وكان الرجل في الجاهلية إذا اطرف دارا ذبح فيها ذبيحة، يتقي بها أذى الجن، لاعتقادهم أن في كل دار جنا يقيمون بها فلترضيتهم وللتقرب إليهم، يذبحون ذبيحة عرفت عندهم بـ "ذبائن الجن"1. ولا تزال عادة الناس ذبح ذبيحة عند الابتداء ببناء دار، وعند الانتقال إليها. وكانوا أيضًا يذبحون ذبيحة عند استخراجهم عينا، أو شرائهم دارا، أو بنياتهم بنيانا، مخافة أن تصيبهم الجن، فأضيفت الذبائح إليهم لذلك. وقد نهى النبي عن ذبائح الجن2.
وكان في اعتقادهم أن الأماكن المذكورة مليئة بالجن، لذلك كانوا يستجيرون برجال من الجن في أسفارهم، إذا نزلوا منازلهم، يقولون: نعوذ بأعز أهل هذا المكان، أو إني أعوذ بكبير هذا الوادي. وإلى ذلك أشير في القرآ الكريم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 3. روي عن "حجاج بن علاط السلمي"، "إنه قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد مخوف موحش، فقال له الركب: قم خذ لنفسك أمانا ولأصحابك، فجعل يطوف بالركب ويقول:
أعيذ نفسي وأعيذ صحبي ... من كل جني بهذا النقب
حتى أأوب سالما وركبي4
فوصل وركبه سالما إلى مكة دون أن يمسه أو أن يمس من كان معه من الركب أحد بسوء5.
وروي أن الرجل منهم كان إذا ركب مفازة وخاف على نفسه من طوارق الليل عمد إلى واد ذي شجر فأناخ راحلته في قرارته وهي القاع المستديرة وعقلها وخط عليها خطا ثم قال: "أعوذ بصاحب هذا الوادي. وربما قال بعظيم هذا الوادي"6. قال أحدهم:
__________
1 اللسان "13/ 213"، "سكن".
2 اللسان "2/ 437"، "ذبح".
3 سورة الجن، رقم 72، الآية 6، تفسير الطبري "29/ 67 وما بعدها".
4 الروض الأنف "1/ 136".
5 الروض الأنف "1/ 136"، الإصابة "1/ 312"، "1622".
6 بلوغ الأرب "2/ 325".(12/296)
قد بت ضيفا لعظيم الوادي ... المانعي من سطوة الأعادي
راحلتي في جاره وزادي
وقالوا إنهم كانوا في الجاهلية إذا نزلوا منزلا يقولون: نعوذ بأعز أهل هذا المكان. يقولون ذلك عند نزولهم واديا في الغالب إذ نجد الرواة يكررون عبارة: "كانوا إذا نزلوا الوادي، قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي"، أو "بعزيز هذا الوادي"2. ويظهر أنهم تخوفوا من الوديان خاصة، لما قد يقع فيها من مهالك، فنسبوا ذلك إلى فعل الجن.
وقال آخر يستجير بجن "عالج" ويتوسل إليهم ألا يرهقوه بغوي هائج، إذ يقول:
يا جن أجزاء اللوى من عالج ... عاذ بكم ساري الظلام الدالج
لا ترهقوه بغوي هائج
وقال آخر:
أعوذ من شر البلاد البيد ... بسيد معظم مجيد
أصبح يأوي بلوى زرود ... ذي عزة وكاهل شديد
وقد استعاذ رجل منهم ومعه ولد، فأكله الأسد فقال:
قد استعذنا بعظيم الوادي ... من شر ما فيه من الأعادي
فلم يجرنا من هزبر عادي3
وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يرون أن الجن تعزف في المفاوز بالليل. والعزف والعزيف صوت الجن، وهو جرس يسمع بالمفاوز. وهو صوت يسمع بالليل كالطبل. وروي عن "ابن عباس" قوله: "كانت الجن تعزف بالليل كله بين الصفا والمروة"4. وقد اشتهر موضع "العزاف"، وقيل "ابرق
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 326".
2 تفسير الطبري "29/ 68 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "2/ 326".
4 تاج العروس "6/ 197"، "عزف".(12/297)
العزاف" بأنه موضع يسمع به عزيف الجن1.
وقد مون القصص الإسرائيلي أهل الجاهلية بشيء مما كان ينقصهم من أساطير الجن، وتوسع وزاد هذا القصص في الإسلام، حتى تولد منه هذا الذي نجده مدونا عن أخبار الجن في المؤلفات الإسلامية.
وتخبر الجن الإنسان تقع في مواضع بعيدة، وهو لا يعلم عنها شيئًا. فلما "هبط نباش بن زرارة بن وقدان"، زوج "خدييجة بنت خويلد" قبل النبي، واديا يقال له "عز"، انتبه في آخر الليل، فإذا شيخ قائم على صخرة، وهو يقول:
ألا هلك السيال غيث بني فهر ... وذو العز والباع القديم وذو الفخر
فقال له نباش:
ألا أيها الناعي أخا الجود والفخر ... من المرء تنعاه لها من بني فهر
وبقيا يقولان الأبيات، حتى أخبره الشيخ بوفاة "عبد الله بن جدعان" في وقت حدده وضبطه له. فلما وصل مكة، علم بوفاته على نحو ما أخبره به ذلك الشيخ. وهو جني من الجن، ينظم الشعر، وقد رثى "ابن جدعان"2.
ونجد في شعر الشعراء الجاهليين أمثال "أمية بي أبي الصلت" و"الأعشى" إشارات إلى الجن. وهم من أهل الجاهلية الذين كان لهم اتصال بأهل الكتاب وبكتبهم، وقد زعم أن بعضًا منهم كان قد قرأ تلك الكتب ووقف على العبرانية أو السريانية. ولهذا ورد في شعرهم شيء من قصص أهل الكتاب. وفي جملته ما ذكرته من إشاراتهم إلى الجن. وتراهم يربطون بينها وبين "سليمان". أخذوا ذلك ولا شك من الأساطير العبرانية، التي صيرت الجن في خدمة "سليمان".
نجد الأعشى يقول:
وسخر من جن الملائك تسعة ... قياما لديه يعملون محاربا
__________
1 تاج العروس "6/ 197، 287"، "برق".
2 الاشتقاق "88 وما بعدها".(12/298)
قصد بذلك "سليمان"1. ونجد أن في جملة ما نسب عمله إلى جن سليمان بعض المواضع مثل تدمر وقصر غمدان.
وقال النابغة الذبياني:
إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
فمن عصاك فاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد2
وفي هذا الشعر إن صح أنه من نظم النابغة حقًّا، دلالة على تأثر الشاعر بالأسطورة اليهودية عن "تامار"، وعن جن سليما.
ونسبوا السيوف المأثورة إلى جن وشياطين "سليمان". ونسبوا إليه وإليهم أشياء عديدة أخرى3.
وقد ادعى إناس من الجاهليين إنهم كانوا يرون الغيلان والجن، ويسمعون عزيف الجان، أي صوت الجن. وقد بالغ الأعراب في ذلك، وأغربوا في قصص الجان، لما كانوا يتوهمونه من ظهور الأشباح لهم في تجوالهم بالفيافي المقفرة الخالية، فتصوروه جنا وغولا وسعالى، وبالغوا في ذلك أيضًا، لما وجدوه في أهل الحضر ولا سيما في الإسلام من ميل إلى سماع قصص الجان والسعالى والغول4. وقالوا إنهم ربما نزلوا بجمع كثير، ورأوا خياما، وقبابا، وناسا، ثم إذا بهم يفقدونهم من ساعتهم، وذلك لأنهم من الجن5.
ونسبوا إلى الجن إحداث كثير من الأمور غير الطبيعية، مثل الأمراض والأوبئة والصرع والاستهواء والجنون خاصة. فالجنون هو تلبس الجن بالإنسان ودخولهم جسمه. لذلك ربطوا بين الجن والجنون. ويرى "نولدكه" أن فكرة أن الجنو من عمل الجن، عقيدة قديمة وجدت عند غير العرب كذلك. فقد كان الإيرانيون
__________
1 تاج العروس "9/ 165"، "جن".
وسخر من جن الملائك تسعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر
اللسان "13/ 97"، "جنن".
2 الحيوان "6/ 223".
3 الحيوان "6/ 178".
4 الحيوان "6/ 172" وما بعدها، 182".
5 الحيوان "6/ 200"، "هارون".(12/299)
يطلقون على المجنو لفظة "ديوانه" "Devana"، أي الذي به "ديو" "Dev" من الأصل "ديوه" "Daiva"، ومعناها "Demon" أي جان. ومن هذه الفكرة دخلت في العهد الجيد من الكتاب المقدس. ومن الفارسية دخلت "ديوان" Daiwan" في الإرمية بينما دخلت إلى الفارسية كلمة "شدها" Shedha" من أصل "شدهان" "Shedhan" الإرمي واستعملت في مقابل "Deo" أي جان و"شيده" "Shedh" في الإرمية الجان1.
وهم يزعمون أن الجن إذا عشقت إنسانا صرعته، ويكون ذلك على طريق العشق والهوى، وشهوة النكاح. وأن الشيطان يعشق المرأ’، وأن نصرته إليها من طريق العجب بها أشد عليها من حمى أيام، وأن عين الجان أشد من عين الإنسان2.
والعرب تزعم أن الطاعون من الجن، ويسمون الطاعون رماح الجن. قال الأسدي للحارث الملك الغساني:
لعمرك ما خشيت على أبي ... رماح بني مقيدة الحمار
ولكني خشيت على أبي ... رماح الجن أو إياك حار3
وللجن حوار مع الإنس وكلام نجده منثورا كما نجده منظوما في شعر ينسب إلى الشعراء الجاهليين. ويروي الإخباريون شعرا ينسبونه إلى "جذع بن سنان" ورد فيه وصف ملاقاته للجن ومحاورته معها ودعوته إياها إلى الطعام وامتاعها عن الأكل، كما رووا شعرا لغيره يصف ملاقاة بين الجن وبين أصحاب هذا الشعر4. وهو قصص لم يبخل على الجن فأعطاها شعرا من هذا الشعر الجاهلي الفصيح! وقد سخر "الخيتعور" أحد "بني الشيصبان" من الجن من الأشعار التي جمعها "المرزباني" "المتوفى سنة 384هـ"، من شعر الشعراء الجن، فما هذا الذي جمعه إلا قطعه من شعرهم، وهل يعرف البشر من النظم كما يعرف الجن.
__________
1 Ency. ReIig, I, p. 670
2 الحيوان "6/ 217 وما بعدها".
3 الحيوان "6/ 219".
4 بلوغ الأرب "2/ 350 وما بعدها".(12/300)
وإنما للبشر خمسة عشر جنسا من الموزون، قل ما يعدوها القائلون، وإن للجن آلاف الأوزان ما سمع بها الإنس1.
__________
1 رسالة الغفران "291"، "بنت الشاطئ".(12/301)
طعام الجن:
وطعام الجن مثل طعام الإنسان، هم يشاركونه أكله في بعض الأحيان. "رووا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنه سأل المفقود الذي استهوته الجن: ما كان طعامهم؟ قال: الفول. قال: فما كان شرابهم؟ قال: الجدف. رووا أن طعامهم الرمة وما لم يذكر اسم الله عليه"1. وقد جاء قوم من الجن إلى نار "شمر بن الحارث الضبي"، فدعاهم إلى الطعام بقوله:
أتوا ناري فقلت منون قالوا ... سراة الجن قلت عموا ظلاما
فقلت إلى الطعام فقال منهم ... زعيم نحسد الإنس الطعاما2
والحوشي من الإبل هي التي قد ضربت فيها فحول إبل الجن. فالحوشية من نسل إبل الجن3. ويقال إنها منسوبة إلى "الحوش" بلاد الجن من وراء رمل يبرين، لا يمر بها أحد من الناس، وقيل هم من بلاد الجن. وقيل الحوشية إبل الجن، أو منسوبة إلى الحوش وهي فحول جن، تزعم العرب إنها ضربت في نعم "بني مهرة بن حيدان" فنتجت النجائب المهرية من تلك الفحول الوحشية، فنسبت إليها، فهي لا يكاد يدركها التعب4.
__________
1 الحيوان "6/ 210 وما بعدها".
2 الحيوان "6/ 197".
3 الحيوان "6/ 216".
4 الحيوان "4/ 302"، "حاش".(12/301)
الحية:
والحية، من أكثر الحيوانات ورودا في القصص الذي يرويه الإخباريون عن الجن. وقد جعلوها فصيلة مهمة من فصائلها، ونوعا بارزا من أنواعها. قال(12/301)
بعض العلماء: الجان، حية بيضاء، وقال بعض آخر: الجان حية، أو ضرب من الحيات1. ولما قام "حرب بن أمية" جد معاوية بن أبي سفيان مع "مرداس بن أبي عمرو" باصلاح "القرية"، وهي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لا يرام، فأضرما النار في الغيضة، فلما استطارت وعلا لهيبها سمع من الغيضة أنين وضجيج كبير، ثم ظهرت منها حيات بيض تطير حتى قطعتها وخرجت منها، فما لبث أن مات الرجلان، أماتهما الجن على ما يزعمه رواة هذا الخبر2. ولعلهما ماتا بعضة حية من تلك الحيات التي كانت ساكنة بين تلك الحيات والحشرات، فابتدعت مخيلة القصاصين هذه القصة عن فزع الجن وطيرانها في صورة ثعابين بيض. ويعلل "نولدكه" وفاتهما بفعل الاختناق من الغاز الذي تصاعد من الاحتراق3.
وذكروا أن الحية لا تموت حتف أنفها، وإنما تموت بعرض يعرض لها. وإنها تصبر على الجوع حتى ضرب بها المثل في ذلك. وإنها إذا هرمت صغرت في بدنها. ولم تشته الطعام4. وإنها تنطق وتسمع. وقد أورد أهل الأخبار شعرا في ذلك، ذكروا أنه للنابغة. ومذهب النابغة في الحيات مذهب أمية بن أبي الصلت، وعدي بن زيد وغيرهما من الشعراء5، الذين تأثروا برأي أهل الكتاب فيما جاء عن الحية في العهدين وفي كتب الشروح والتفاسير والقصص الإسرائيلي القديم.
ولم تنفرد مخيلة الجاهليين وحدها باختراع إسطورة أن الحيات هي من الجن، وإنها جنس منها، فإن غير العرب من الساميين مثل العبرانيين كانوا يقولون أيضًا بهذا القول. وكذلك قال بهذه الأسطورة غير الساميين، مما يدل على إنه من الأساطير القديمة جدا التي انتشرت عند البشر، بسبب ما قاسوه في أيام بداوتهم من هذا الحيوان6. ونجد قصة الحية في سفر التكوين. وهي في هذا السفر أشد
__________
1 تاج العروس "9/ 165"، "جن".
2 الحيوان "2/ 143"، "حاشية"Robertson, p. 233
3 Ency. ReIigi, I, p. 670
4 الحيوان "4/ 118 وما بعدها"، "موت الحية".
5 الحيوان "4/ 203 وما بعدها".
6 Ency. ReIigi, I, p. 669(12/302)
الحيوانات حيلة، فهي التي خدعت حواء خدعتها الشهيرة، وسببت طردها وطرد زوجها آدم من الجنة إلى الأرض1.
ولعقيدتهم هذه في "الحية"، كانوا إذا وجدوا حية ميتة كفنوها ودفنوها، فعلوا ذلك في الإسلام أيضًا. جاء إنه بينما كان "عمر بن عبد العزيز" يمشي في أرض فلاة، فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها. وورد إنه كان جمع من أصحاب رسول الله "يمشون فرفع لهم اعصار، ثم جاء إعصار أعظم منه، ثم انقشع، فإذا حية قتيل، فعمد رجل منا إلى ردائه وكفن الحية ببعضه ودفنها. فلما جن الليل إذا امرأتان تتساءلان أيكمن دفن عمرو بن جابر؟ فقلنا ما ندري ما عمرو بن جابر! فقالتا إن كنتم ابتغيم الأجر، فقد وجدتموه. إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين منهم. فقتل عمرو، وهو الحية التي رأيتم"2.
"وفي الحديث: إنه نهى عن قتل الجنان. هي الحيات التي تكون في البيوت، واحدها جان، وهو الدقيق الخفيف"3. والجان الشيطان أيضًا. وورد في الحديث: ذكر الحيات، فقال: من خشي خبثهن وشرهن واربهن، فليس منا. أي من توقى قتلهن خشية شرهن فليس ذلك من سنتنا. وكانت الجاهلية تقول إنها توذي قاتلها أو تصيبه بخبل4.
وذكر العلماء أن "اللاهة" الحية، أو الحية العظيمة. وأن "اللات"، الصنم المعروف أصله "لاهة" كأنه سمي بها. وأن اسم الجلالة منها5. وفي الأساطير الجاهلية ما يفيد تعبد الجاهليين للحية، وفي هذا التفسير ما يؤيد هذا الرأي.
ويقال للحية: "بنت طبق". و"بنات طبق" الحيات، والحية "أم طبق" وبنت طبق. وهي "الدواهي". ومن أساطيرهم أن بنت طبق سلحفاة تبيض تسعا وتسعين بيضة كلها سلاحف، وتبيض بيضة تنقف عن حية6.
والحيات شياطين، وللعرب شجر يطلقون عليه "الصوم"، كريه المنظر
__________
1 السفر الثالث من تكوين، الآية 1 وما بعدها.
2 الروض الأنف "1/ 136".
3 اللسان "13/ 95"، "جنن".
4 تاج العروس "1/ 145"، "أدب".
5 تاج العروس "9/ 410"، "لاه".
6 تاج العروس "6/ 415"، "طبق".(12/303)
جدا، يقال لثمره "رءوس الشياطين" أي الحيات، وليس له ورق1.
__________
1 تاج العروس "8/ 372"، "صام".(12/304)
الغول:
وقصص الغول هي من أشهر القصص الجاهلي المذكور عن الجن، ومع خطر الغول وشراسته في رأي الجاهليين، ورد في قصصهم تزوج رجال من الإنس منهم. وورد أن الشاعر "تأبط شرا" تعرض بغيلة. فلما امتنعت عليه، جللها بالسيف فقتلها. وهم يروون أن من الممكن قتل الغول بضربة سيف. أما إذا ضربت مرة ثانية، فإنها تعيش ولو من ألف ضربة. وهكذا ترى قصصهم يروي تغلب الإنسان على الغيلة في بعض الأحيان. وأكثر قصص الغول منسوب إلى "تأبط شرا"1. وللقب الذي يحمله هذا الشاعر أو حمل عليه دخل، ولا شك، في ظهور هذا القصص.
ويرى علماء اللغة أن من معاني "الغول" التلون، والظهور بصور مختلفة، والاغتيال. ويرون أن الغول أنثى، وأما ذكرها فيسمى "قطربا"2. ولصفة التلون والظهور بصور مختلفة سموا الغول "حيتمورا"، وهو كل شيء لا يدوم على حالة واحدة، ويضمحل كالسراب3. وذكر في وصف غدرها بالإنسان إنها إذا أرادت أن تضل إنسانا أوقدت له نارًا، فيقصدها، فتدنوا منه، وتتمثل له في صور مختلفة، فتهلكه روعا، وإن خلقتها خلقة إنسان، ورجلاها رجلا حمار4.
وذكروا أن الغول اسم لكل شيء من الجن يعرض للسفار، ويتلون في ضروب الصور والثياب، ذكرا كان أو أنثى. وقد قال "كعب بن زهير" الشاعر الصحابي، الذي مدح الرسول، في وصف تلون الغول:
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 341 وما بعدها"، الأغاني "18/ 209 وما بعدها"، الحيوان "6/ 233، 235".
2 بلوغ الأرب "2/ 346 وما بعدها"، الحيوان "6/ 48"، تاج العروس "8/ 51"، "غال".
3 بلوغ الأرب "2/ 347".
4 بلوغ الأرب "2/ 348"، الحيوان "6/ 214".(12/304)
فما تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول1
وفي تلون الغول يقول "عباس بن مرداس السلمي":
أصابت العام رعلا غول قومهم ... وسط البيوت ولون الغول ألوان2
فالغول تتحول في أي صورة شاءت، وتتمثل في صور مختلفة، إلا رجليها، فلا بد من أن تكونا رجلي حمار3.
وذكر أن "الغول" "السعلاة"، وهما مترادفان، وذكر أن الغيلان جنس من الجن والشياطين، والعرب تسمي الحية الغول. وقيل أن "أنياب أغوال" الواردة في شعر لامرئ القيس، الحيات، وقيل: الشياطين4.
وإلى الشاعر "عبيد بن أيوب" شاعر "بني العنبر"، يعود قسط كبير من القصص الوارد عن "الغول" و"السعلاة". فقد كان يخبر في شعره إنه يرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والأفاعي، ويؤاكل الظباء والوحش. وقد أورد أهل الأخبار شيئًا من شعره في هذا الباب5. وذكر بعض علماء اللغة، أن الغول الذكر من الجن، والسعلاة الأنثى. والغول ساحرة الجن، وتقول إن الغول يتراءى في الفلاة للناس فتضلهم عن الطريق6.
وأما "السعالي"، وواحدتها السعلاة، فذكر أنها سحرة الجن، وقيل: إن الغيلان جنس منها، وأن الغيلان هي إناث الشياطين، وأنها -أي السعالي- أخبث الغيلان، وأكثر وجودها في الغياض، وإنها إذا ظفرت بإنسان ترقصه وتلعب به كما يلعب القط بالفأر، وأن الذئب يأكل السعلاة7. وذكر أن "السعلاة اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغول السفار. وهم إذا رأوا المرأة
__________
1 الحيوان "6/ 158 وما بعدها".
2 الحيوان "6/ 161".
3 الحيوان "6/ 220".
4 تاج "8/ 51"، "غال".
5 الحيوان "4/ 482"، "هارون"، "5/ 123، 138، 241"، "6/ 128، 159، 160، 165، 235، 251، 395",
6 تاج العروس "8/ 51"، "غال".
7 بلوغ الأرب "2/ 346 وما بعدها".(12/305)
حديدة الطرف والذهن، سريعة الحركة ممشوقة ممحصة، قالوا: سعلاة. وقال الأعشى:
ورجال قتلى بجنبي أريك
ونساء كأنهن السعالى1
وذكر أن في الجن سحرة كسحرة الإنس لهم تلبيس وتخييل، وهم السعالى. وهم أقدر من الغيلان في هذا الباب2.
__________
1 الحيوان "6/ 158 وما بعدها".
2 تاج العروس "7/ 375 وما بعدها"، "سعل".(12/306)
الشيطان:
والشيطان هو "Satan" في الإنكليزية، و"DiaboIos" في الإغريقية. ويرجع علماء اللغة كلمة "الشيطان" إلى أصل "شطن"، ويقولون إن من معاني هذه الكلمة الخبث، ولما كان الشيطان خبيثا قيل له "شيطان" ومعنى ذلك أن فكرة خبث الشيطان كانت معروفة لصاحبها قبل التسمية1. فلما بحث عن لفظة مناسبة لها، اختاروا هذا الكلمة التي تدل على الخبث. وهو تعليل من تلك التعليلات المعروفة المألوفة التي كان يرجع إليها علماء اللغة كلما أعيادهم الوصول إلى أصول الأشياء.
و"الشيطان" "ساطان" "سطن" في العبرانية، ومعناه: عدو ومشتك في هذه اللغة2. ومن هذه اللغة جاءت لفظة "Satan" في الإنكليزية.
وذكر "الطبري": "والشيطان في كلام العرب كل متمرد من الجن والإنس والدواب ولك شيء"3، ثم قال: "وإنما سمي المتمرد م كل شيء شيطانا لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله وبعده من الخير. وقد قيل إنه أخذ من قول القائل شطنت داري من دارك، يريد بذلك بعدت. ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان:
نأت بسعاد عنك نوى شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين
__________
1 اللسان "17/ 104"، "شطن"، الحيوان "1/ 153، 291".
2 غرائب اللغة "212".
3 تفسير الطبري "1/ 37 وما بعدها".(12/306)
والنوى الوجه الذي نوته وقصدته، والشطون البعيد. فكأن الشيطان على هذا التأويل شطن. ومما يدل على ذلك كذلك، قول أمية بن أبي الصلت:
أيما شاطن عصاه عكاه ... ثم يلقى في السجن والأكبال
ولم ترد لفظة "الشيطان" في شعر الشعراء الجاهليين، خلا شعر "أمية بن أبي الصلت" و"عدي بن زيد العبادي". والأول شاعر وقف، على ما يظهر من شعره، على شيء من اليهودية والنصرانية. وأما الثاني، فهو نصراني، لذلك يجوز لنا أن نرجع علمهما بالشيطان إلى ما جاء في اليهودية والنصرانية عنه، ولذلك نستطيع أن نقول أن هذ اللفظة جاءت العرب عن طريق أهل الكتاب.
وذكر علماء اللغة، أن "الأزب" اسم من أسماء الشياطين، وذكروا أن "الأزب" شيطان اسمه أزب العقبة، وقيل هو حية1. وأن من أسماء الشيطان: "الحباب". يقع على الحية أيضًا، لأن الحية يقال لها شيطان، وفي حديث: "الحباب شيطان"2. وذكروا أن من أسماء الشيطان "الطاغوت"3.
ومن الشياطين، شيطان اسمه "زوبعة"، وقيل وقيل هو رئيس للجن. ومنه سمي الإعصار زوبعة، ويقال أم زوبعة وأبو زوبعة، وهو الذي يثير الإعصار، حين يدور على نفسه، ثم يرتفع في السماء ساطعا كأنه عمود4.
وأما ما ورد في القصص عن الشياطين عند الجاهليين، فهو يختلف عما جاء عن الشيطان في الكتب اليهودية والنصرانية، مما يدل على أن منبعه منبع آخر، وأن "ألشيطان" عند الجاهليين، هو غير الشيطان المعروف عند اليهود والنصارى الذي دخل إلى العرب قبيل الإسلام وفي الإسلام.
ومن القصص المذكورة، استمد بعض الجاهليين قصصهم عن ذكاء الشيطان وعن حيله. ومن حيله. ومن هذا القصص ولا شك استعمل الناس مصطلح "تشيطن" و"الشيطنة" بمعنى الذكاء والحيلة، لما رسخ في ذهنهم من ذلك القصص عن ذكاء الشيطان وسعة حيله وتلاعبه بأذكى البشر. وهو في التوراة ذو طبع شرير،
__________
1 تاج العروس "1/ 147". "أزب" "1/ 284"، "زبب".
2 اللسان "1/ 295"، "حبب".
3 تفسير الطبري "14/ 71"، "23/ 131 وما بعدها".
4 تاج العروس "5/ 367"، "تزبع".(12/307)
وزعيم العصاة لأوامر الله، يضل الناس ويسلك بهم سبل الخطيئة، ولذلك تعوذوا منه1.
ومن القصص المذكور استمد أيضًا علماء اللغة ما ذكروه من أن كلمة "الشيطان" تعني الحية2، ففي ذلك القصص ظهور الشيطان على صورة "حية" خدعت أبوينا آدم وحواء في الجنة. وتمثل هذا القصص في الأدبين العبراني والنصراني. وسبب ذلك هو ما علق بذهنهم عن هذه الصورة في الشيطان. والحية هي عند أكثر الشرقيين رمز يشير إلى الثورة والعصيان والشر. وهذه الفكرة هي من أسطورة شرقية قديمة عن سقوط البشيرية في الشر، وتتمثل في سقو آدم وحواء وطردهما لذلك من الجنة، وفي تعاليم زرادشت من أن الشرير ظهر في هيأة حية، وأخذ يعلم الناس الشر3.
وزعم أن "شيطان الحماطة" الحية4. وورد "شيطان حماط". ولعل ذلك بسبب لجوء الحيات إلى الحماط، والحماطة شجرة شبيهة بالتين، وهي أحب الشجر إلى الحيات، إذ تألفها كثيرًا5. وفي هذا المعنى ورد في قول الشاعر:
تلاعب مثنى حضرمي كأنه ... تعمج شيطان بذي خروع قفر6
والتعمج التولي. والمراد هنا تلوي شيطان بمكان قفر نبت فيه الخروج. وقصد بالشيطان الحية.
وقد وصف الشيطان بالقبح، فإذا أريد تعنيف شخص وتقبيحه، قيل له: "يا وجه الشيطان" وما هو إلا شيطان، يريدون بذلك القبح، وذلك على سبيل تمثيل قبحه بقبح الشيطان. وقيل: الشيطان حية ذو عرف قبيح الخلقة7.
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 651".
2 اللسان "17/ 104"، تاج العروس "9/ 253"، "شطن"، "والعرب تسمى كل حية شيطانا"، الحيوان "1/ 30".
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 400"، Hastings, p. 829
4 الحيوان "6/ 192".
5 تاج العروس "5/ 121"، "حمط".
6 الحيوان "1/ 153"، "6/ 192".
7 الفاخر "ص238"، الحيوان "1/ 300"، تاج العروس "9/ 253"، "شطن".(12/308)
وقيل إنه كان حية زعم أنها تأتي حول البيت، فلا يطوف أحد. ولما شرعوا ببناء الكعبة في أيام شباب الرسول، جاء طير فالتقط الحية1. ولقبح وجه الشيطان، قالوا للذي به لقوة أو شتر، إذا سب: يا لطيم الشيطان. وقالوا للمتكبر الضخم: ظل الشيطان2. وكانوا إذا أرادوا ضرب مثل بقبح إنسان قالوا: لهو أقبح من الشيطان3. وقالوا لشجرة تكون ببلاد اليمن، لها مظهر كريه "رءوس الشياطين"4. وبهذا المعنى فسرت "رءوس الشياطين"5. "يقول تعالى ذكره كأن طلع هذه الشجرة يعني شجرة الزقوم في قبحه وسماجته رءوس الشياطين في قبحها"، "وذلك أن استعمال الناس قد جرى بينهم في مبالغتهم إذا أراد أحدهم المبالغة في تقبيح الشيء، قال: كأن شيطان، فذلك أحد الأقوال، والثاني أن يكون مثل برأس حية معروفة عند العرب تسمى شيطانا. وهي حية له عرف فيما ذكر، قبيح الوجه والمنظر، وإياه عنى الراجز، بقوله:
عنجرد تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف
ويروي عجيز: "والثالث أن يكون مثل نبت معروف برءوس الشياطين، ذكر إنه قبيح الرأس"6. ويظهر أن العرب في الجاهلية، كانوا يطلقون "رءوس الشياطين" على شجر كريه المنظر جدا، قال علماء اللغة: "والصوم: شجر على شكل شخص الإنسان كريه المنظر جدا، يقال لثمره رءوس الشياطين، يعني الشياطين والحيات، وليس له ورق"7 وقد جمع هذا التفسير بين الشياطين والحيات والقبح. ويمثل الصورة التي رسمها الناس في مخيلتهم للشياطين.
وكانت الشعراء تزعم أن الشياطين تلقى على أفواهها الشعر، وتلقنها إياه
__________
1 الفاخر "ص238".
2 الحيوان "6/ 178".
3 الحيوان "6/ 213"ز
4 الحيوان "6/ 211"، "4/ 39 وما بعدها".
5 الصافات، 37 الآية 63 وما بعدها.
6 تفسير الطبري "23/ 40 وما بعدها".
7 اللسان "12/ 351 وما بعدها"، "صوم".(12/309)
ابن صياد" شيطان يلقي إليه بما خفي من أخبار الأرض، وذكر أن النجوم تقذف الشياطين، وأن الجاهليين كانوا يرون ذلك، وهو موجود في أشعار القدماء من الجاهلية، منهم عوف بن الجزع، وأوس بن حجر، وبشر بن أبي خازم وكلهم جاهلي، وقد وصفوا الرمي بالنجوم1.
و"إبليس" من هذه الأفكار التي نفذت إلى العرب عن طريق أهل الكتاب، والعلماء على أن الكلمة معربة، وهي كذلك2. فأصلها "ديابولس" "DiaboIos" وهي كلمة يونانية استعملت في مقابل لفظة "شيطان"3. وقد أطلقت لفظة "أباليس" في مقابل "شياطين". وقد ورد أن من أسماء إبليس "قترة"، وأن اللفظة علم للشيطان. ومن المجاز أبو قترة: إبليس. "وفي الحديث نعوذ بالله من الأعميين ومن قترة وما ولد. الأعميين الحريق والسيل، وقترة من أسماء إبليس، وكنيته: أبو قترة. وقترة حية صغيرة، لا ينجو سميمها4، ولعل بين التسميتين صلة.
__________
1 الروض الأنف "1/ 135"، "فصل في الكهانة".
2 المعرب، للجواليقي "23"، تاج العروس "4/ 111"، "إبليس".
3 Ency. Religi, 4, p. 600, Geiger, Was hat Mohammed aus der Judenthume Aufgenomen, Leipzig, 1902, S. 107, Weil, Biblische Legenden der Muselmanner, S. 12, Shorter Ency, p. 146, Grunbaum, Beitrage zur Sem. Sagen, S. 60.
4 اللسان "5/ 73"، "إبليس"، تاج العروس "3/ 480"، "قتر"، "4/ 111"، "البلس".(12/311)
وتعينها عليه، وتدعي إن لكل فحل منهم شيطانا يقول الشعر على لسانه، فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود. وبلغ من تحقيقهم وتصديقهم بهذا الشأن أن ذكروا لهم أسماء شياطينهم، فقالوا: إن اسم شيطان الأعشى مسحل، وللأعشى أشعار فيه، يمدحه ويثني عليه، لأنه يعاونه ويساعده في نظم الشعر فيلقيه عليه إلقاء. وقد زعم "حسان بن ثابت" أن شيطانه الذي يلهمه الشعر هو من "بني شيصبان" من فصائل الجن. وقد انتقلت هذه العقيدة في إلهام الشعر للشعراء إلى المسلمين كذلك. وقد دعا "جرير" شيطانه الذي يلقي عليه الشعر "إبليس الأباليس"1.
ويكنى عن الشيطان بالشيخ النجدي2. وقد أشير إليه مرارا في كتب السير والأخبار. أشير إليه في بنيان الكعبة، حين حكموا رسول الله في أمر الركن من يرفعه، فحضر في زي شيخ نجدي بين الحاضرين، وصاح: يا معشر قريش أرضيتم أن يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أسنانكم، وحضر اجتماع "دار الندوة". وأيد قرارهم في قتله. وذكر علماء الأخبار، أنه عرف بالشيخ النجدي، لأنه تمثل نجديا، وتذكر أن الفتن تخرج من المشرق، والمشرق نجد بالنسبة لأهل الحجاز3.
و"قرن الشيطان"، ناحية رأسه، ومنه الحديث: تطلع الشمس بين قرني الشيطان، فإذا طلعت قارنها، وإذا ارتفعت فارقها4. وفي الأساطير أن للشيطان قرنين.
وكان الكهان يستعينون بالشياطين في الأخبار عن المغيبات، يذكرون أن الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيخبرونهم عن أنباء الأرض. وكان للكاهن "صاف
__________
1 الثعالبي، ثمار القلوب "69 وما بعدها"، قال الأعشى:
دعوت خليلي مسحلا ودعوا له ... جهنام جدعا للهجين المذمم
وقال:
حباني أخي الجني نفسي فداؤه ... بأقبح جياش العشيات مرجم
الحيوان "6/ 225 وما بعدها".
2 تاج العروس "2/ 512"، "نجد".
3 الروض الأنف "1/ 291".
4 تاج العروس "9/ 306"، "قرن".(12/210)
شق:
ومن الجن جنس صورة الواحد منهم على نصف صورة الإنسان، واسمه "شق"، وإنه كثيرًا ما يعرض للرجل المسافر إذا كان وحده، فربما هلك فزعا، وربما أهلكه ضربا وقتلا. ورووا في ذلك قصصًا. منه ما زعموه من أن "علقمة بن صفوان بن أمية بن محرث الكناني" جد "مروان بن الحكم"، خرج في الجاهلية، وهو يريد مالا له بمكة، وهو على حمار، وعليه إزار ورداء، ومعه مقرعة، في ليلة اضحيانة، حتى انتهى إلى موضع يقال له "حائط حزمان"، فإذا هو بشق، له يد ورجل، وعين، ومع سيف، وهو يقول:(12/311)
علقم إني مقتول ... وإن لحمي مأكول
أضربهم بالهذلول ... ضرب غلام شملول
رحب الذراع بهلول
فقال علقمة:
يا شقها ما لي ولك ... اغمد عني منصلك
تقتل من لا يقتلك
فقال شق:
عبيت لك عبيت لك ... كما أتبيح مقتلك
فاصبر لما قد حم لك
فضرب كل واحد منهما صاحبه، فخرا ميتين1.
__________
1 الحيوان "6/ 206"، "هارون".(12/312)
والهاتف والرئي
...
الهاتف والرئي:
ويؤمن الأعراب بالهاتف، ويتعجبون ممن يرد ذلك. وهم يزعمون أنهم يسمعون الهاتف يخبرهم ببعض الخبر، فيكون صحيحا. فمن ذلك حديث "الأعشى بن نباش بن زرارة الأسدي"، أنه سمع هاتفا يقول:
لقد هلك الفياض غيث بني فهر ... وذو الباع والمجد الرفيع وذو الفخر
فقال مجيبا له:
ألا أيها الناعي أخا الجود والندى ... من المرء ننعاه لنا من بني فهر
فقال:
نعيت ابن جدعان بن عمرو أخا الندى ... وذا الحسب القدموس والحسب القهر1
__________
1 الحيوان "6/ 202".(12/312)
وزعموا أن لنقل الجن الأخبار، علم بوفاة الملوك وأصحاب النباهة والجاه، وأمثال ذلك من الأمور الخطيرة1.
وتردد في الأخبار كملة "هاتف" و"الهاتف"، بمعنى صوت صادر من مصدر غير مرئي، وردت في مواضع عديدة من القصص الجاهلي، ووردت بعدها الجمل التي قالها الهاتف لمن وجه خطابه إليه. وهي تكهن وأخبار، عن أمر وقع وحدث، أو لتحذير من القيام بعمل ما، أو بإرشاد إلى عمل أو جهة أو ما شابه ذلك من الأمور. وقد تستعمل بمعنى "الرئي" الذي يهتف للكاهن، أو الصوت الذي يزعم أنه يخرج من جوف الصنم2.
__________
1 المصدر نفسه "ص203".
2 تاج العروس "6/ 273"، "هتف".(12/313)
الرئي:
وكانوا يقولون، إذا ألف الجني إنسانا وتعطف عليه، وخبره ببعض الأخبار وجد حسه ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئي من الجن، يخبره بما وقع ويقع وعن الأسرار. وممن يقولون ذلك فيه: عمرو بن لحي بن قمعة، والمأمور الحارث، وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وهم من الرؤساء السادة، وقد كان لكل كاهن وعراف رئي يخبر صاحبه بما يسأل عنه. وذكر إنه قد كان مسيلمة يدعي أن معه رئيا في أول زمانه ولذلك قال الشاعر حين وصفه:
ببيضة قارور وراية شادن ... وخلة جني وتوصيل طائر1
__________
1 الحيوان "6/ 205 وما بعدها"، "هارون".(12/313)
الملائكة:
والملائكة هم روحانيون، أي من أرواح في نظر أهل الجاهلية ويدل ورود الملائكة في مواضع عديدة من القرآن الكريم ومن الآيات التي تشير إلى مجادلة المشركين ومحادثتهم للرسول في الملائكة، أن فكرة الملائكة كانت معروفة شائعة(12/313)
بينهم، وأن بعض العرب كانوا يعبدونها، كما يظهر ذلك من الآية: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 1.
غير أن المفسرين، لم يشيروا إلى أولئك الذين تعبدوا للملائكة، ولم يذكروا أسماءهم، مع أنهم ذكروا اسم من تعبد للجن2. بل يظهر من تفسيرهم للآية المذكورة، أنها وردت على سبيل الاستفهام "كقوله عز وجل لعيسى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . قال النحاس فالمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم، فهو استفهام توبيخ للعابدين"3. ولكنهم أشاروا في مواضع أخرى إلى أن مشركي قريش كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونها، ويقولون أن أمهاتهن بنات سروات الجن، يحسبون أنهم خلقوا مما خلق منه إبليس4.
وقد أشير في القرآن الكريم، إلى أن من الجاهليين من زعم أن الملائكة بنات الله5. وتحدث المفسرون في تفسير ذلك، غير أنهم خلطوا في الغالب بين الملائكة والجن. ولم يأتوا بشيء يذكر عن رأي أهل الجاهلية في الملائكة. وما ذكروه هم عن الملائكة، هو إسلامي، يرجع في سنده إلى أهل الكتاب، ولا سيما القصص الإسرائيلي، ولهذا فهو مما لا يمكن أن يقال عنه إنه يعبر عن رأي الجاهليين. ويظهر أن الجاهليين لم يكونوا يعرفون شيئًا عن الملائكة، لأن الاعتقاد بالملائكة من عقيدة الديانة اليهودية ثم النصرانية، وهم لا يعرفون الكتاب، إلا من كان منهم على دين اليهودية أو النصرانية، أو كان من الحنفاء أو على اتصال بأهل الكتاب، كأمية بن أبي الصلت وأمثاله.
وقد أشير إلى الملائكة، أي "الملائكة" في شعر ينسب إلى "أمية بن أبي الصلت"، هو:
__________
1 سبأ، الآية 40 وما بعدها.
2 راجع تفسير الطبري "22/ 69"، روح المعاني "22/ 139"، القرطبي، الجامع "14/ 309".
3 القرطبي، الجامع "14/ 308 وما بعدها".
4 تفسير الطبري "32/ 67 وما بعدها".
5 الصافات، الآية 149 وما بعدها، الإسراء، الآية 40، الزخرف، الآية 15 وما بعدها، تفسير الطبري "14/ 83".(12/314)
وكأن برقع، والملائك حوله ... سدر تواكله القوائم أجرد1
وورد "ملاك" في شعر رجل من عبد القيس جاهلي يمدح الملوك، قيل هو النعمان. وقيل هو لأبي وجزة يمدح به عبد الله بن الزبير:
فلست لإنسي، ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب2
وقد زعم أن الملائكة تصافح الناس وتناجيهم. زعم ذلك حتى في الإسلام. ذكر "ابن دريد" أن "عمران بن الحصين بن عبيد بن خلف"، وهو من الصحابة، وعرف بـ "أبي نجيد"، "كانت تصافحه الملائكة وتناجيه لداء كانه به، فاكتوى، فذهب عنه ذلك. وذهب ما كان يسمع ويرى"3.
__________
1 اللسان "10/ 496".
2 اللسان "10/ 496".
3 الاشتقاق "2/ 278"، "طبعة أوربة"، "إنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حتى اكتوى"، الإصابة "3/ 27"، "الرقم "6012".(12/315)
السحر:
والسحر من أهم الوسائل التي لجأ إليها البشر وأقدمها منذ أعتق أيامه في التأثير على الأرواح، وقد جعله جزءًا من الدين، لذلك كان من اختصاص رجال الدين، يقومون به في المعابد قيامهم بالشعائر.
وإذ كان معظم الناس في الزمن الحاضر يفرقون بين الدين والسحر، ويعدون السحر شيئًا بعيدا عن الدين، بل هو ضد الدين، فإن قدماء البشر لم يكونوا ينظرون إليه هذه النظرة، كانوا ينظرون إليه كما قلت على إنه جزء مهم من الدين، بل هو أهم جزء فيه وأعظمه، بل ما زلنا نجد ديانات القبائل البدائية تعد السحر جزءًا من الدين1. وهو كذلك في كل دين بدائي.
وعلم الساحر. هو السحر، والسحر في عرف بعض علماء اللغة الإسلاميين هو
__________
1 R. Campell Thompson Semitic Magic its Origins and Development, London, 1908, p. XVII, Smith, P. 90.(12/315)
"عمل يقرب فيه إلى الشيطان"1. وقد فسر بعض العلماء كلمة "الجبت" في القرآن الكريم بمعنى السحر، كما ذكر أنها تعني الساحر والكاهن والصنم وكل ما عبد من دون الله. وفسر "الطاغوت" بمعنى الشيطان2.
وقد وردت كلمة "السحر" و"سحر" و"الساحر" و"الساحرون" و"السحرة" و"مسحورا" و"مسحورون" في مواضع عديدة من القرآن الكريم، ويدل ورودها فيه بهذه الكثرة على مبلغ أثر السحر في عقلية الجاهليين وقد اتهم أهل مكة الرسول أنه ساحر، حينما أخبرهم بنزول الوحي عليه. وقالوا إنه يستمد وحيه من الشياطين.
وقد جمع البخاري بين الكهانة والسحر بأن قدم الكهانة على السحر، لأن مرجع الاثنين شيء واحد هو الشياطين3.
وقد حملت تلك المواضع من القرآن الكريم المفسرين على جمع ما علق بأذهان الناس عن السحر. أما كتب الحديث ففيها مادة مفيدة وردت ضمنا عن عقيدة أهل الجاهلية به. كما وردت في أخبار أهل الأخبار إشارات إليه، تجمل جميعها أن الاعتقاد بالسحر بين الجاهليين كان شائعا معروفا، وأن ممارسيه في جزيرة العرب كانوا عربا ويهودا، إنهم كانوا يرون أن أصوله في بابل وعند يهود.
وقد كان أكثر السحرة في الجاهلية من يهود4. يقصدهم الجاهليون من أنحاء بعيدة، لاعتقادهم بسعة علمهم وباختصاصهم فيه. وكان اليهود يسندون علمهم إلى بابل، ولهذا نجد الأحاديث والأخبار العربية ترجع علم السحر إلى بابل واليهود.
والفرق بين الكهانة والسحر أن الكهانة تنبؤ، فسند الكاهن هو كلامه الذي يذكره للناس. أما السحر، فإنه عمل في الأكثر، للتأثير في الأرواح، كي تقوم بأداء ما يطلب منها. ولا يمكن صنع سحر ما لم يقترن بعمل. ويصحب هذا
__________
1 تاج العروس "3/ 258"، "سحر"، اللسان "4/ 348"،"سحر".
2 النساء، الآية 50، "وسمي الساحر والكاهن جبتا"، المفردات "83"، تاج العروس "1/ 535"، شمس العلوم "جـ1، ق2، ص244".
3 عمدة القاري "21/ 421، 445"، الطبرسي، "1-2"، "384".
4 عمدة القاري "21/ 213"، الطبري "2/ 439"، العقد الفريد "6/ 276"، تفسير الرازي "17-18 "ص9"، سنن ابن ماجة "2/ 1173"، روح المعاني "30/ 283".(12/316)
العمل كلام مفهوم أو غير مفهوم، وإشارات، يدعي الساحر إنه إنما يقوم به وبالإشارات لتسخير الأرواح، وأن ما يفعله مفهوم عند جنوده، وهم الجن والشياطين.
وفن مثل هذا مغر جدا، فمن الناس من لا يريد تسخير القوى الخفية لخيره ولصالحه، وإلحاق الأذى بأعدائه ومبغضيه. ولذلك كان للسحر وللسحرة أثر خطير في التأريخ، بالرغم من مقاومة بعض الأديان له. فما يقوم به السحرة من أعمال وخفة، وما لشخصيات بعض السحرة من تأثير نفسي كبير، تجعل من الصعب على بعض الناس أن تكون للساحر مكانة كبيرة في نفس ذلك الشخص.
وللسحر أغراض عديدة، وقد استخدم في معالجة أمور كثيرة، حتى إدارة الملك والقضاء على الأعداء، للسحر وللسحرة فيها صولات وجولات. ومن الطبيعي أن يكون للحب المكانة البارزة فيه، حتى ليكاد يتخصص بهذا الجانب من حياة الإنسان. ولما كانت العادة أن يتزوج الرجل من جملة نساء صار السحر من أهم الوسائل التي استعانت بها الزوجات للتأثير في قلب الرجل، ولكسب المكانة الأولى عنده، وللتفريق بين الرجل وبين بقية أزواجه. ومصداق ذلك ما ورد في القرآن الكريم عن السحر في هذه الآية: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 1. فالتفريق بين المرء وزوجه، كان ولا يزال من أهم أعمال السحرة. ونجد في الحديث تقريعا ولوما للسحرة لاستخدامهم السحر في هذا الغرض الفاسد.
والساحر في معالجة الحب على طريقين: إشعال جذوة نار الحب في قلب من يقصد إثارته عنده، أو إطفاء نارها وإخمادها وإماتتها في قلب المسحور. ولكل من الطريقين قواعد وأحكام وأصول يجب تطبيقها بعناية، وإلا بطل فعل السحر.
أما إشعال نيران الحب، فيكون بطرق متعددة يتبعها الساحر، فقد يستعين بالنباتات والأعشاب، يستخرج أدوية منها يقدمها إلى المرأة لتوجر الرجل إياها سرا. وقد يستعين بالجمر يقرأ عليه، ثم يرمي في الممرات التي يمر الرجل،
__________
1 البقرة: الآية 102، عمدة القاري "20/ 278 وما بعدها".(12/317)
أو الشخص المراد سحره منها. وقد يدفن السحر في موضع كمقبرة أو محل آخر ليؤثر من ذلك الموضع على المسحور. وقد يستعين بالخرز يسحر عليها، فتحبب المرأة إلى زوجها، وتسمى "التولة"1.
وكما يستعمل السحر لاشعال نيران الحب في القلب، كذلك يستعمل لايقاد البغض والكراهية في النفوس. ففي استطاعة الساحر بما عنده من جنود مجندة أن يلقي البغضاء والكراهية والحقد في نفس أي شخص يود إنسانا آخر، فينقلب مبغضا حاقدا كارها لمن كان يحبه ويعشقه. ومجال هذا الباب واسع جدا للنساء خاصة.
وفي استطاعة الساحر مداواة العاشق وإماتة عشقه بوصفه يعطيها إليه تقضي على حبه الجامح قضاء تاما يسمونها "السلوانة" و"السلوان". وما هذه الوصفة إلا مادة ذات سحر عجيب يغتسل بها الإنسان أو يشربها، فتطفئ في الحال أو بعد أمد كل نيران للحب مؤججة في قلب العاشق. والسلوانة هي شيء من تراب قبرن أو خرزة تسحق ويشرب ماؤها، فيورث شاربها سلوة. وتكون الخرزة شفافة، تدفن في الرمل فتسود، ثم تستخرج لسحقها وشربها، وقد يكتفي بصب ماء المطر على تلك الخرزة لسقي العاشق ذلك الماء الذي يسمونه "السلوان"، ليشفي من العشق2. ولا بد أن يكون لاختيار الماء وتراب القبر أو مسحوق الخرزة في معالجة العشق، سبب يمكن تفسيره بأنه لغسل قلب المحب، وإماتة الحب فيه.
ومن أهم الأعمال التي يعالجها السحرة، إخراج الجن من المجانين. فالجنون هو من عمل الجن. تحل الجنة بالإنسان فتأخذ عقله. ومن هنا قيل لهذا المرض "جنة" و"جنون"3. ومن واجب الساحر إخراج الجن من هؤلاء المرضى، وهو عمل يقوم به الساحر حتى اليوم، ويكون ذلك بضرب المريض بالعصا لإخراج
__________
1 بالكسر وبالضم، "وقيل هي معاذة تعلق على الإنسان"، اللسان "13/ 85".
2
يا ليت أن لقلبي من يعلله ... أو ساقيا فسقاني عنك سلوانا
وورد:
شربت على سلوانة ماء مزنة ... فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو
وجاء:
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد أن هما شفياني
فما تركا من رقية يعلمانها ... ولا سلوة إلا بها سقياني
اللسان "19/ 118 وما بعدها".
3 تاج العروس "9/ 164 وما بعدها"، "جنن".(12/318)
الفصل الخامس والثمانون: في أوابد العرب
مدخل
...
الفصل الخامس والثمانون: في أوابد العرب
وهي أمور كانت العرب عليها في الجاهلية، بعضها يجري مجرى الديانات، وبعضها يجري مجرى الاصطلاحات والعادات، وبعضها يجري مجرى الخرافات، وقد كانت قد هيمنت وسيطرت على عقليتهم، ولا سيما تلك الأمور التي كانت تتصل بحياتهم، كالكهانة والحداسة والرقية والتنجيس والتنجيم، وغير ذلك مما له علاقة بحياة الإنسان حتى قيل إنهم كانوا "بين متكهن وحداس وراق ومنجس ومتنجم"1.
__________
1 إرشاد الساري "8/ 400"، صحيح مسلم "7/ 35 وما بعدها"، عمدة القاري "21/ 275"، اللسان "7/ 244"، الروض الأنف "1/ 136"، مروج الذهب "2/ 82"، "محمد محيي الدين عبد الحميد".(12/331)
"الكهانة" "Divination"، ويقال لمن يقوم بذلك الكاهن. أما الذي يزعم أن في إمكانه التحكم في الأرواح وتوجيهها الوجهة التي يريدها، فيقال له "ساحر" ويقال لعمله "السحر". وتقابل كلمة "السحر" في العربية كلمتا "Magic" و"Sorcery" في الإنكليزية.
والكهانة في اللغة العربية تعاطي الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ومعرفة المغيبات والأسرار، وتقابل بهذا التعريف في العربية كلمة "Soothsayer" في الانكليزية. وتقابل كلمة "كاهن" لفظة "كوهين" "kohen في العبرانية و"كهنا" "kahna" في لغة بني إرم، وكلها من الأصل السامي القديم1.
ومن مرادفات الكاهن: "الطاغوت". وبهذا التفسير فسر العلماء قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} 2. قالوا: الطاغوت: الكاهن. وهم كهان تنزل عليهم شياطين يلقون على ألسنتهم وقلوبهم. والطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها، كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد وهم كهان تنزل عليهم الشياطين3. وذكر بعض علماء التفسير أن الطاغوت: الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه. وقد وردت اللفظة في موضع آخر من القرآن الكريم بعد لفظة "الجبت"، إذ جاء في التنزيل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 4. وقد ذكروا أن الجبت السحر والساحر، بلسان الحبشة والطاغوت الكاهن5. وأن الجبت والطاغوت صنمان، أو أن الجبت الأصنام والطاغوت تراجمه الأصنام، والذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس، أو أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له، كائنا ما كان ذلك الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها كانت معظمة بالعبادة من دون الله، فقد كانت جبوتا وطواغيت،
__________
1 إرشاد الساري "8/ 398"، اللسان "13/ 362 وما بعدها"، "كهن"، مفتاح السعادة، لطاش كبرى زاده "1/ 293 وما بعدها".
Noldeke, Neue Beltrage Semltlschen Sprachwissenschaft, S. 36.
2 البقرة، الرقم الآية 256.
3 تفسير الطبير "3/ 13 وما بعدها".
4 النساء، الآية 51.
5 تفسير الطبري "5/ 84".(12/332)
وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كانا مقبولا منهما ما قالا في أهل الشرك بالله، وكذلك حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف لأنهما كانا مطاعين في أهل ملتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين1.
وذكر علماء التفسير في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدا} 2، أي "الطاغوت" الكاهن الذي كان يحكم بين الناس، ويتحاكمون إليه. وأنها نزلت في حق يهودي اختصم مع مسلم، فكان المسلم أو المنافق يريد الاحتكام إلى الكاهن، وكان اليهودي يدعو إلى النبي أو المسلمين، لأنهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، أو إلى كاهن بالمدينة، أو إلى كعب بن الأشرف، فنزل الوحي بتوبيخ ذلك المسلم أو المنافق3.
والتكهن عن المستقبل والتحدث عن الماضي، موضوع له فروع عديدة. وقد عد علما من العلوم عند كثير من الأمم، وألفوا فيه. وتبؤ الأصنام هو نوع من هذا الأنواع. ويدخل في التكهن التنبؤ بواسطة وسيط: مكالمة صنم، أو "تابع أي "رئي"، وقراءة كبد الشاة وقراءة أعضائها كما كان عند البابليين وعند المصريين. والتكهن بحركات الطيور، وتفسير الأحلام. وتفسير بعض الظواهر الطبيعية وما شابه ذلك ذلك وكل هذه كانت معروفة عند الجاهليين.
وليس من الضروري أن يكون التكهن بتكليم الصنم حتما وفي المعبد بالضرورة، فقد كان من الكهان من يقيم في بيته ويتكهن مع ذلك للناس، ينطق بما يوحى إليه وبما يشعر به. وقاصدوه يرون أن فيه قوة خارقة وقابلية لتلقي الوحي من تلك القوة التي يتصورونها على هيأة شخص غير منظرو يلقي إلى الكاهن الوحي، فينطلق بما يناسب المقام وبما يكون جوابا على الأسئلة التي توجه إليه. ويطلقون على ذلك الشخص الخفي اسم "تابع" أو "صاحب" أو "مولى" و"ولي" و"رئي"، لأنه يكون تابعا وصاحبا للكاهن، يتبعه ويصاحبه ويلقي إليه
__________
1 تفسير الطبري "5/ 83 وما بعدها".
2 سورة النساء، الآية 60.
3 تفسير الطبري "5/ 96 وما بعدها".(12/333)
"الرئي". يكشف له الحجب ويأتيه بالأسرار. فهو "حاز" و"حزاء" و"حازية" و"الراتي" في العهد القديم1.
وكان من رأي الجاهليين أن هناك وحيا يوحى إلى الكاهن بما يقوله، وقد قالوا لذلك المصدر الذي يوحي إليه: "شيطان الشاعر"، ذلك لأن شيطان الكاهن يسترق السمع ويلقي به إلى الكهنة2. يسترقه من السماء، فيأتي به إلى الكاهن ويلقي ما استرقه إليه، فيلقي الكاهن ما ألقي عليه شيطانه إلى الناس، وبذلك يتنبأ لهم3. "سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ناس عن الكهان، فقال: "ليسوا بشيء"، فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانًا بشيء، فيكون حقًّا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق، يخطفها من الجني فيقرها في أذن وليه، فيخلطون معها مائة كذبة" 4.
وقد وردت كلمة" كاهن" في القرآن الكريم في معرض الرد على قريش الذين اتهموا الرسول بأنه "كاهن". وبأنه يقول القرآن على نمط سجع الكهان. فجاء فيه: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} 5، و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 6. فرد عليهم بقوله: "ما هذا القرآن بقول شاعر؛ لأن محمدًا لا يحسن قيل الشعر، فتقولوا هو شعر، قليلا ما تؤمنون. يقول تصدقون قليلا به أنتم، وذلك خطاب من الله لمشركي قريش. ولا بقول كاهن، قليلا ما تذكرو. يقول ولا هو بقول كاهن، لأن محمدا ليس بكاهن، فقولوا هو
__________
1 Reste, S. 134, Shorter Ency. P. 207
2 تاج العروس "9/ 326 وما بعدها" اللسان "17/ 244"، الطبرسي "5/ 349، 367"، بلوغ الأرب "2/ 269"، مروج الذهب "2/ 172 وما بعدها"، مفتاح السعادة، لطاش كبري زاده "1/ 113 وما بعدها"، إرشاد الساري "8/ 398"، مقدمة ابن خلدون "1/ 101 وما بعدها".
3 صبح الأعشى "1/ 398".
4 إرشاد الساري "8/ 400"، صحيح مسلم "7/ 35 وما بعدها"، عمدة القاري "21/ 275"، اللسان "17/ 244"، الروض الأنف "1/ 136"، نهاية الأرب "3/ 128"، "في أخبار الكهان".
5 سورة الطور، الآية 29، تفسير الطبري "27/ 18".
6 الحاقة، الآية 42.(12/334)
ممن سجع الكهان"1. فكان للكهان أسلوب خاص في كلامهم عند التبؤ والتكهن هو أسلوب السجع. ولذلك عرف بـ "سجع الكهان". وقد امتاز سجعهم هذا باستعمال الكلام الغامض، والتعابير العامة الغامضة التي يمكن تفسيرها تفاسير متناقضة ومختلفة. وهو أسلوب تقتضيه طبيعة التكهن، لكي لا يلزم الكاهن على ما يقوله من قول ربما لا يقع، أو قد يقع العكس. ففي مثل هذه الحالة، يمكن أن يكون للكاهن مخرج باستعماله هذا النوع من الكلام.
وقد ورد أن رسول نهى عن محاكاة الكهان في سجعهم، فذكر عنه قوله: "أسجع كسجع الجاهلية"2.
ويذكر أهل الأخبار أن "تابع" الكاهن، وهو شيطانه وجنيه، كان يسترق في الجاهلية الأخبار من السماء، فيلقي بها إلى الكاهن المختص به. فيخبر الكاهن من يأتي إليه للكاهنة. بقوا على ذلك إلى ظهور النبوة، فلما نزل الوحي انقطعت الكهانة، إذ وجد الشياطين الذين كانوا يسترقون السمع لهم شهابا رصدا. وقالوا إن قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} 3، إنما عنى به هذا الحادث. حادث منع الشياطين من استراق السمع4.
ويذكر أهل الأخبار أيضًا أن "القذف بالنجوم قد كان قديما، وذلك موجود في أشعار القدماء من الجهلية. منهم: عوف بن الجزع، وأوس بن حجر، وبشر بن أبي خازم، وكلهم جاهلي. وقد وصفوا الرمي بالنجوم"5. وأن من عقائد أهل الجاهلية أن في تساقط النجوم والشهب دليل على موت عظيم أو ميلاد مولود عظيم6. وذكر أن الرسول كان جالسا مع قوم من الأنصار إذ رمي بنجم فظهر نوره، فقال لهم: "ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في
__________
1 تفسير الطبري "29/ 42".
2 البيان والتبيين "1/ 287".
3 سورة الجن، رقم 72، الآية 8 وما بعدها.
4 تفسير الطبري "29/ 69 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "2/ 10"، "المنيرية"، نهاية الأرب "3/ 124 وما بعدها"، مفتاح السعادة 1/ 293 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 326 وما بعدها"، كهن" مروج الذهب "2/ 152 وما بعدها".
5 الروض الأنف "1/ 135".
6 الروض الأنف "1/ 136 وما بعدها".(12/335)
الجاهلية؟ " قالوا: يا رسول الله كنا نقول حين نراه يرمى به مات ملك، ولد مولود1.
وقد جعل "المسعودي" حدة الأذهان مع نقصان الأجسام وتشويه الخلق، من جملة العوامل التي دفعت على التكهن والإخبار عن الغيب. وضرب مثلا على ذلك: شق، وسطيح، وسملقة، وزوبعة، وسديف بن هوماس، وطريفة الكاهنة، وعمران أخي مزيقياء، وحارثة، وجهينة، وكاهنة باهلة وأشباههم من الكهان2.
وقد يلحق التابع من الجن أشخاصا لم يشتهروا بالكهانة وإنما عرفوا بشدة ذكائهم ومعرفتهم بعواقب الأمور، مثل "أحيحة بن الجلاح" وكان من أشراف المدينة، وقد اشتهر عندهم بكثرة صوابه وسرعة إدراكه للعواقب. فعللوا ذلك بوجود تابع له من الجن كان يعلمه المغيبات3.
قال "الجاحظ": "وكانوا يقولون، إذا ألف الجني إنسانا وتعطف عليه، وخبره ببعض الأخبار، ووجد حسه ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئي من الجن. وممن يقولون ذلك فيه عمرو بن لحي بن قمعة، والمأمور الحارث، وعتيبة بن الحارث بن شهاب.
فأما الكهان، فمثل حارثة جهينة، وكاهنة باهلة، وغزى سلمة، ومثل شق وسطيح وأشباههم4.
والكهان يرون تابعهم، وقد يتجلى لهم في صورة إنسان. ويظهر على صورة رجل للكواهن كذلك. فقد كان للغيطلة، وهي على ما يزعمه أهل الأخبار كاهنة أبوها مالك بن الحارث بن عمرو بن الصعق بن شنوق بن مرة، وشنوق أخو مدلج، تابع يفد إليها، ويدخل غرفتها، ويجلس تحتها. كما كان لفاطمة بنت النعمان النجارية، وهي كاهنة كذلك، تابع من الجن "كان إذا جاءها، اقتحم عليها في بيتها. فلما كان في أول البعث، أتاها، فقد على حائط الدار ولم يدخل، فقالت له: لم لا تدخل؟ فقال: قد بعث نبي بتحريم الزنى"5.
__________
1 السيرة الحلبية "1/ 140".
2 مروج "2/ 154".
3 الأغاني "13/ 115" "ذكر احيحة بن الجلاح".
4 الحيوان "6/ 203 وما بعدها".
5 الروض الأنف "1/ 137".(12/336)
فالكاهن إذن، هو الذي يتنبأ بواسطة تابع، ولا يستطيع غير الكاهن رؤية التابع. وتكون الكهانة كلامًا يلقيه الكاهن نفسه، أو تابعه، جوابًا عن أسئلة الكاهن. ولما كان التابع روحًا، كان من الطبيعي تصور صدور ذلك الكلام من روح لا يمكن لمسها ولا رؤيتها، ترى وتسمع وتعقل، وتجيب ما يطلب منها الإجابة عنه.
ويكون الكاهن في أثناء تكهنه في غيبوبة أو في شبه غيبوبة في الغالب، ذلك بأنه متصل في هذه الأثناء بعالم مجهد صعب لا يتحمله كان إنسان، ولاتصال الروح فيه، واتصال الروح بجسم الكاهن شيء جد عسير، يتصبب العرق منه. خاصة إذا كان المتكلم الكاهن نفسه.
ويكون التكهن، في الغالب، في مكان هادئ تكتنفه ظلمة أو عتمة، لأن للهدوء والظلام أثرًا عظيمًا في النفوس، ويسبقه حرق بخور في الأكثر يستمر إلى ما بعد انتهاء التنبؤ، لأن البخور من الروائح الطبية التي تؤثر في الأرواح، فتجلبها إلى المكان بسرعة. ثم إن له تأثيرًا خاصًّا في الأعصاب، وهو بذلك مادة صالحة في الإيحاء لمن يقصد استشارة الكهان.
ويروي الإخباريون أن الناس كانوا إذا قدموا على الكهان امتحنوهم ليتأكدوا من صدق تكهنهم ومقدار علمهم. وذلك بإخفاء شيء اخفاء لا يمكن الاهتداء إليه، أو بوضع لغز، أو ما شابه ذلك، فيبدؤون الكاهن بالسؤال عنه. فإذا أجاب جوابا دل على معرفة وسعة علم، سألوه عن الأمر الذي عندهم والذي من أجله قصدوه. ويكون لهؤلاء الكهان أجر يدفع إليهم. والعرف الغالب أن الكهانة لا تكون ولا تصح إلا بتقديم شيء للكاهن، لأن التابع لا يرضى بالتنبؤ إلا إذا رأى حلاوة التنبؤ.
ومن قبيل الامتحانات التي امتحن بها الكهان، امتحان "عتبة بن ربيعة" إلى بعض كهان اليمن ليتأكد من صدق تكهنه قبل النظر في أمر اختلاف ابنته "هند" مع زوجها "الفاكه بن المغيرة" في فرية رماها "الفاكه" زوجته بها1. وامتحان "عبد المطلب" للكاهن "ربيعة بن حذار الأسدي" حين اختصم مع "بني كلاب وبني رباب"2، وامتحان "الكاهن الخزاعي"3 وغير ذلك.
__________
1 نهاية الأرب "3/ 131"، صبح الأعشى "1/ 398 وما بعدها".
2 نهاية الأرب "3/ 133".
3 نهاية الأرب "3/ 132.(12/337)
وما يعطاه الكاهن وبجعل له على كهانته، يقال له "الحلوان" و"حلوان الكاهن"، وهو شيء غير معين ولا ثابت، إنما يتفق عليه، والرأي الشائع بين العامة حتى الآن أن الكهانة لا تصدق إذا لم يعط الكاهن أو الساحر "حلوانه"؛ لأن ما يقدم إلى الكاهن لا يخصه ولا يكون له، إنما هو للرئي، والرئي لا يقوم بعمله ولا يحسن أداءه إلا بحلوان، يقبله مهما كان، وعلى الكاهن استشارة "التابع" ومراجعته فيه حتى يقنع، ويوافق على الأجر. ولما كان الإسلام قد منع الكهانة، كان من الطبيعي نهيه عن دفع الحلوان1.
والكهان إنما صاروا كهانا، أي متنبئين بالغيب، لأن "الكهنة قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة، وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه"2. وهذا هو تعليل إسلامي بالطبع لمصدر تنبؤ الكهان، أما رأي الجاهليين عنه، فلا علم لدينا عنه، لعدم ورود شيء منهم إلينا.
وتقدم الكهانة على القدرة الشخصية وعلى ذكاء الكاهن، لذلك لم تكن كالسدانة مثلا إرثا ينتقل من الإباء إلى الأبناء، بل كان في إمكان كل شخص يرى في نفسه القدرة على التنبؤ بالغيب والتحدث عما سيحدث للسائلين أن يدعي الكهانة وأن يعد نفسه كاهنا يتكلم باسم الأرباب، وينطق بالقوة الخفية التي توحي إليه بالتنبؤات، فيتخذ له مكانا في معبد أو في موضع آخر أو في بيته ليقصده من يريد استشارته في عظائم الأمور مهما اختلفت وتنوعت عن المستقبل وعن الأخبار وعن الأسرار والمغيبات وعن القيام بعمل من الأعمال.
وفي الأقوال المنسوبة إلى الكهان، قسم بالكواكب كالشمس والقمر وبالنجوم وبالليل وبالنهار وبالأشجار وبالرياح والكلمات وبالجبال والأنهار والطيور وبما شابه ذلك أمور طبيعة، الغرض منها التأثير في نفوس السامعين والإغراب في الكلام، ليكون بعيدا عن الأسلوب المألوفة. وقد رو الإخباريون نماذج من هذا الكلام،
__________
1 "أعطيت الكاهن حلوانه، أي كراء كهانته"، الاشتقاق "2/ 314"، "نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن"، إرشاد الساري "8/ 400"، اللسان "18/ 211"، تاج العروس "10/ 96"، اللسان "14/ 194"، "صادر" "حلو"، النهاية "3/ 256 وما بعدها"، مفتاح السعادة "1/ 293 وما بعدها".
2 عمدة القاري "21/ 275"، إرشاد الساري "8/ 398 وما بعدها".(12/338)
من هذا السجع المعروف بـ "سجع الكهان"، نسبوه إلى أصحابه من كهان الجاهلية. وهي نسبة مهما حاولوا إثبات صحتها وصدق روايتها، فانهم عاجزون في رأيي عن إقناعنا بصحة ما يقولون. كيف حفظوا ذلك الكلام وتناقلوه بالحرف الواج بوزنه وبأسلوبه وبنصه وبفصه إلى أن أوصلوه إلى أيدي العلماء والمدونين فثبتوه بالتدوين؟ وكيف لم يخطئوا في ذلك ولم ينسوا منه حرفا، حتى لكأنه كلام مقدس وارد عن وحي سماوي، فلا بد من المحافظة على نصه وروايته على نحو ما ورد وحفظ؟ وإذا كان العلماء قد تساهلوا في رواية متن حديث رسول الله فسمحوا بالتصرف فيه بشرط المحافظة على المعنى محافظة تامة، لصعوبة التمسك برواية النص على نحو ما ورد عن الرسول. فكيف يعقل محافظة تامة، لصعوبة التمسك برواية النص على نحو ما ورد عن الرسول. فكيف يعقل محافظة الرواة على حرفية كلام الكهان على نحو ما نسب إليهم. وكلام الكهان ليس بشيء بالقياس إلى كلام الرسول، ثم إنه أقدم منه، ولم يكن مدونا ولا مكتوبا في كتاب على ما يفهم من روايات الإخباريين.
وقد كان للكهان على ما يتبين من قصص الإخباريين أثر كبير في حياة العرب قبل الإسلام. فقد كان الناس يستشيرونهم في إبرام مهمات الأمور، كإعلان حرب أو كشف عن جزيمة أو بحث عن شيء مفقود وما شاكل ذلك. لقد كانوا يستشيرونهم في الحروب، يتبؤون للناس بقرب حدوث غزو أو نزول كارثة أو خير سيقع قريبا. لقد كان هجوم بني أسد على "حجر" بمشورة الكاهن وبرأيه، وكان تركهم تميما وافتراقهم عنهم في يوم جبلة بتحذير من الكاهن كذلك1. وقد استعان النعمان أو يزيد بن عمرو الغساني بالكاهن "الخمس التغلبي"، لأخباره عمن تجاسر على ناقته فقتلها، كما استعان "عتبة بن ربيعة" في إثبات نسب ابنته "هند" منه2.
وقد اشترك الكهان أنفسهم في الغزوات وفي الحروب. كانوا يشجعون قومهم ويحثونهم على القتال، وكان بعضهم من مشاهير الفرسان، مثل "زهير بن جناب"، و"جذيمة" العبسي، وقلطف الكاهن، والمأمور كاهن مذحج.
__________
1 الأغاني "10/ 36"، مروج الذهب "2/ 173 وما بعدها"، نهاية الأرب، للنويري "3/ 124"، صبح الأعشى "1/ 398"، Reste, S. 1367
2 الأغاني "10/ 27"، "ذكر مقتل خالد بن كلاب"، صبح الأعشى "1/ 338 وما بعدها". Reste, S. 136.(12/339)
ولم يكن الكهان من الطبقات الدنيا عند عرب الجاهلية، ولا من سواد الناس. لقد كان منهم من هو من سادة القبيلة ومن الأشراف. ولا بد أن يكونوا من هذه الطبقة، ليكون حكمهم نافذا بين الناس بما لهم من عز ومنزلة وجاه. وقد عد الإخباريون "زهير بن جناب" رئيس كلب في جملة الكهان1. وقد كان للقبائل "كهان" تلتجئ إليهم في الملمات، لتستشيرهم وتعمل برأيهم في الغزو والحرب. يسيرون معها، وقد يقودونها في المعارك.
وقد كان لكل قبيلة كاهن منها أو عدة كهان، تلتجئ القبيلة إليهم لاستشارتهم في كل أمر عظيم يحدث لهم. ولا يشترط أن يكون كاهن القبيلة رجلا، إذ يجوز أن يكون امرأة. وكان كاهن ثقيف "قريش" عند ظهور الإسلام رجل يقال له "خطر"، وكان لجنب كاهنهم كذلك، وكان لقريش حين ظهور الإسلام كاهنة تدعى "سوادء بنت زهرة بن كلاب"، وهكذا كان شأن بقية القبائل. فلما ظهر الإسلام، ودع أولئك الكهان رئيهم وتابعهم، وكهانتهم، إذ نهى الإسلام عنها، وقد كان لبعضهم أثر معهم أثر مهم في إعداد قبائلهم للدخول في الإسلام2.
وقد أشار بعض الكتبة الكلاسيكيين إلى وجود كهان عند العرب، كما إنه ورد في كتابات طور سيناء ما يدل على وجودهم عند القبائل3.
ولم يكن الكاهن، كاهنا، بمعنى المخبر عن المغيبات فقط، بل كان حاكما يحكم بين الناس فيما يقع بينهم من خلاف. فالكاهن حاكم يفصل في الخصومات. وقد كان أكثر حكام العرب كهانا، يقصدهم المتخاصمون من مواضع بعيدة لما عرفوا به من إصالة الرأي، وصحة الحكم.
وقد ذكر أن الكاهن كان لا يلبس المصبغ. أما العراف فإنه لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه4، ويدل ذلك على أنهما كانا يميزان أنفسهما بمميزات وعلامات وأنهما كانا يتجنبان بعض الأمور.
__________
1 الأغاني "8/ 66، "15/ 73"، "21/ 99".
2 الروض الأنف "1/ 137 وما بعدها"، مفتاح السعادة، "1/ 113 وما بعدها"، نهاية الأرب "3/ 124"، صبح الأعشى "1/ 398".
3 Ency. ReIigi, I,p. 667
4 تفسير الطبري "18/ 57"، ثمار القلوب "193"، بلوغ الأرب "3/ 407".(12/340)
وقد اشتهر في الجاهلية عدة كهان ذكر الإخباريون أسماءهم، منهم: شق، وسطيح، وأوس بن ربيعة، والخمس التغلبي، وعزى سلمة الكاهن، ونفيل ابن عبد العزي، وخنافر بن التوأم الحميري، وسواد بن قارب الدوسي، وعمرو بن الجعيد، وابن الصياد، والأبلق الأزدي، والأجلح الدهري، وعروة بن زيد الأزدي، ورباح "رياح" بن عجلة، وهو معروف بعراف اليمامة، والكاهن الخزاعي، ورباح "رياح" بن عجلة، وهو المعروف بعرافة اليمامة، والكاهن الخزاعي، وهو جد "عمرو بن الحمق"، وكان منزله بعسفان، وإليه احتكم هاشم وأمية1، و"كهال"، أحد الكهنة الجاهليين2.
وأشهر الكهان وأعرفهم: شق وسطيح، وللأخباريين عنهما قصص أخرجهما من عالم الواقع، وجعلهما في جملة الأشخاص الخرافيين. فشق في زعمهم إنسان له يد واحدة وعين واحدة، وجعلوه من المتشيطنة صورته صورة نصف آدمي. وذكروا أنه كان معاصرا لمالك بن نصر اللخمي، وأنه استدعاه واستدعى سطيحا مع لتفسير رؤيا رآها أفزعته، وأنهما أخبراه بوقوع غزو الحبشة لليمن وبظهور سيف بن ذي يزن. وقالوا: إنه من بني جليحة، وأنه عمر ثلاثمائة سنة3. وقالوا أن سطيحا كان كتلة من لحم يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة، وأن وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق، وكان في عصر من أشهر الكهان، وأن كسى بعث إليه عبد المسيح بن بقيلة الغساني ليسأله في تأويل رؤيا رآها، فأخبره بظهور أمر رسول الله وبقرب زوال ملك العجم، فأخبر "عبد المسيح" كسرى بذلك4.
وزعم أن سطيحا جسد ملقى لا جوارح له، ولا يقدر على الجلوس، إلا إذا غضب انتفخ فجلس. وكان شق شق إنسان، له يد واحدة، ورجل واحدة، وعين واحدة. وولد سطيح وشق في اليوم الذي ماتت فيه طريفة الكاهنة،
__________
1 تاج العروس "9/ 326"، بلوغ الأرب "2/ 269 وما بعدها"، مروج الذهب "2/ 175 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "2/ 10"، البيان والتبيين "1/ 289"، نهاية الأرب "3/ 132"، الثعالبي، ثمار "105 وما بعدها" Reste, S. 136 f.
2 تاج العروس "8/ 106"، "كهل".
3 الاشتقاق "303"، المستطرف "2/ 80 وما بعدها"، "ربيعة بن نصر اللخمي"، الأزمنة والأمنكة "2/ 193"، الاشتقاق "286".
4 القزويني: عجائب المخلوقات "1/ 371" "طبعة وستنفلد"، الطبري "2/ 99"، نهاية الأرب "3/ 128 وما بعدها"، "في أخبار الكهان" Ency. VoI IV p 370(12/341)
امرأة "عمرو بن عامر"، وهي بنت الخير الحميرية، ودعت بسطيح قبل أن تموت، فأتيت به، فتفلت في فيه، وأخبرت إنه سيخلفها في علمها وكهانتها. وكان وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق، ودعت بشق ففعلت به ما فعلت لسطيح، ثم ماتت وقبرها بالجحفة1.
وقد ذكر "المسعودي"، نسب الكاهن "شق" على هذا النحو: "شق بن مصعب بن شكران بن أترك بن قيس بن عنقر بن أنمار بن ربيعة بن نزار" وذكر نسب "سطيح" على هذه الصورة: "هو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان"2. وعاه بـ "سطيح الغساني" في موضع آخر. وأورد سجعا من سجعه، كما أورد أخبارا لشق المعاصر له3.
وقد دعاه "الجاحظ" بـ "سطيح الذئبي"، كما دعاه "ابن إسحاق" بذلك، لأنه ينسب إلى جد اسمه "ذئب"4.
وإذا كانت رواية أهل الأخبار عن وجود الكاهن "سطيح" صحيحة، فيجب أن يكون قد عاش في القرن السادس للميلاد، إذ هم يذكرون أنه كان معاصرا لكسرى أنو شروان، وللنعمان بن المنذر، ويروون أنه أخبر "عبد المسيح بن حسان" الذي جاء إليه ليستفسر منه عن رؤيا رآها كسرى في منامه فأزعجته، فأخبره بمولد الرسول. وذكروا أيضًا أن كسرى كان يستعين في حكمه بالكهان، فيستشرهم، وإنه لديه ثلثمائة وستون كاهنا وسحرة ومنجمين، وكان من بينهم كهنة من العرب، وأشهرهم: السائب5.
وذكر بعض أهل الأخبار "أن خالد بن عبد الله القسري كان من ولد شق هذا. فهو خالد بن عبد الله بن أسد بن كرز. وذكر أن أن كرزا كان دعيا، وإنه كان من اليهود فجنى جناية، فهرب إلى بجيلة، فانتسب فيهم. ويقال كان عبدًا لقيس، وهو ابن عامر ذي الرقعة. وسمي بذي الرقعة، لأنه
__________
1 الروض الأنف "1/ 18 وما بعدها".
2 مروج الذهب "2/ 160"، "دار الأندلس"، سيرة ابن إسحاق "47"، "طبعة أوربة"، عجائب المخلوقات "310"، الحيوان "3/ 210"، "6/ 204، 206 وما بعدها".
3 مروج الذهب "2/ 175 وما بعدها"، الحيوان "3/ 204"، "6/ 204",
4 الحيوان "3/ 210"، البيان والتبيين "1/ 281"، ابن إسحاق "47"، "كوتنكن".
5 تاريخ الخميس "1/ 322"، نهاية الأرب "3/ 128 وما بعدها".(12/342)
كان أعور يغطي عينه برقعة ابن عبد شمس بن جون بن شق الكاهن بن صب"1. ويظهر أن أعداء "القسري" قد أوجدوا له هذه القصة للحط منه، كما أوجدوا قصصًا شبيهًا بهذه القصة، حكوها عن ثقيف، نكاية بالحجاج المكروه.
وإلى هؤلاء تجب إضافة "الأفعى الجرهمي"، وكان منزله بنجران، وإليه، احتكم ولد نزار في إرث والدهم2.
ورووا أن الكاهن "الخزاعي" كان من الكهان المعروفين وإليه تحاكم "أمية بن عبد شمس" و"هاشم بن عبد مناف" في أمر مفاخرتهمان فحكم لهاشم على أمية، فخرج إلى الشام وأقام بها عشر سنين. وإنه قال في حكمه كلامًا مسجعًا ختمه بقوله: "ولأمية أواخر"، فكانت أول عداوة بين بني هاشم وبني أمية3. وهكذا جعلوه يتنبأ بظهور ملك بني أمية. وربما كان هذا الملك هو الذي أوحى إلى مفتعل القصة بإبداع موضوع اختيار "أمية" الشام لتكون دارًا له أقام بها مدة نزاعة مع هاشم، فحكم أن الملك عليها كان مكتوبا لبني أمية منذ عهد الجاهلية.
وتشبه هذه القصة، قصة شك "الفاكه بن المغيرة" في سيرة زوجه "هند بنت عتبة بن ربيعة"، وتكلم الناس فيها، وذهاب والدها وزوجها بها إلى كاهن من كهان اليمن، فلما امتحنه عتبة، وتبين له أن الكاهن حاذق لا يخطئ قال له: قد جئناك "في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يأتي إلى كل واحدة منهن ويضرب بيده على كتفها، ويقول لها: انهضي حتى بلغ هندًا. فقال: انهضي غير رسحاء ولا زانية وستلدين ملكًا اسمه معاوية، فنهض إليها الفاكه، فأخذ بيدها، فجذبت يدها من يده، وقالت إليك عني، فوالله لأحرص أن يكون ذلك من غيرك! فتزوجها أبو سفيان، فولدت له أمير المؤمنين معاوية"4. وهي قصة تتحدث عن نفسها، ولا حاجة لي إلى إبداء أي تعليق عليها.
وكان "صاف بن صياد" يتكهن ويدعي النبوة. وخبأ له النبي خبيئًا فعلمه.
__________
1 الروض الأنف "1/ 19".
2 مجمع الأمثال "1/ 17 وما بعدها".
3 المستطرف "2/ 81"، نهاية الأرب "3/ 123 وما بعدها".
4 المستطرف "2/ 82"، نهاية الأرب "3/ 131 وما بعدها"، "الباب الثالث من القسم الثاني من الفن الثاني. في أخبار الكهنة".(12/343)
وكان يدعي أن شيطانه كان يأتيه بما خفي من أخبار الأرض1. ويذكر أن الرسول سأله: كيف يأتيك هذا الأمر؟ قال: يأتيني صادقًا وكاذبًا2. وأن رسول الله ذهب إليه ليرى أمره وكان "ابن صياد" في نخل، فكلمه رسول الله. وذكر أنه انطلق مرة مع "عمر بن الخطاب" في رهط قبل ابن صياد، فوجده عند "أطم بني مغالة"3.
وكان في بني لهب كاهن لهم يقال له خطر بن مالك، وكان في أيام الرسول. وكان إذ ذاك شيخًا كبيرًا4. وكان "أبو برزة" الأسلمي من الكهان المعروفين في المدينة أيام الرسول، وقد تحاكم إليه بنو قريظة وبنو النضير في أمر الديات التي كانت بينهما5.
وذكر أن "خطر بن مالك" كان من أعلم كهان "بني لهب"، وأنهم كانوا يأتونه في الملمات، أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة، وقد تنبأ لقومه بانقطاع الكهانة وظهور الرسول بمكة حين سألوه عن سبب تساقط النجوم في السماء6.
وكان في دوس كاهن اسمه سواد بن قارب الدوسي أو السدوسي. وقد وفد مع وفد من قومه على الرسول وأسلم معه أمامه. وكان له رئي يأتي إليه7. وذكر أهل الأخبار أنه كان حاذقا في الكهانة، مصيبا بها، "خرج خمسة نفر من طيء من جور الحمى، منهم: برج بن مسهر، أحد المعمرين وأنيف بن حارثة، ولأم عبد الله بن سعد والد حاتم، وعارف الشاعر، ومرة بن عبد رضا، يريدون سواد بن قارب، ليمتحنوا علمه، فقالوا: ليخبئ كل منا خبيا ولا يخبر أصحابه، فإن أصاب عرفنا علمه، وإن أخطأ ارتحلنا عنه. ثم وصلوا إليه فأهدوا إليه إبلا وطرفا، فضرب عليهم قبة ونحر لهم، فلما مضت ثلاثة أيام دعاهم، فتكلم برج، وكان أسنهم فذكر القصة بجميع ما خبأوه ثم بمعرفته بأعيانهم وأنسابهم فقال فيه عارف الشاعر:
__________
1 الروض الأنف "1/ 137"ز
2 مقدمة ابن خلدون "1/ 95 وما بعدها".
3 زاد المسلم "2/ 104 وما بعدها".
4 الروض الأنف "1/ 138 وما بعدها".
5 تفسير الطبري "5/ 97 وما بعدها".
6 السيرة الحلبية "1/ 139".
7 الروض الأنف "1/ 139 وما بعدها"، نزهة الجليس "1/ 277".(12/344)
الله أعلم لا يجاري ... إلى القالات في حصني سواد
كأن خبيئنا لما انتخبنا ... بعينه يصرح أو ينادي1
ومن الكهان المعروفين "الحصين بن نضلة" وقد عرف بـ "الكاهن"، وقيل: إنه سيد أهل تهامة في أيامه2. و"عمر بن الحمق"، وقد أسلم وصحب النبي، وشهد المشاهد مع علي3.
وكان "ربيعة بن حذار الأسدي" من الكهان المعروفين، وإليه تحاكم "بنو كلاب" و"بنو رباب" لما خاصموا "عبد المطلب" في مال قريب من الطائف فحكم لـ "عبد المطلب"4.
وذكر "المسعودي" اسم كاهنين، دعاهما بـ"سملقة" و"زوبعة"5. وقد أشار "الجاحظ" إليهما في معرض كلامه على الخرافات6.
وأشار "الجاحظ" إلى كاهن ظهر في "بني جهينة"، عرف بـ "حارثة جهينة"7، وإلى "عزى سملة". وقد قال الجاحظ" عن "عزى"، أنه كان من أكهن العرب وأشجعهم. ودعاه بـ "سلمة بن أبي حية"8.
وكان "خنافر بن التوأم الحميري" كاهنا، وكان قد أوتي بسطة في الجسم، وسعة في المال، وكان عاتيا، فلما وفدت وفود اليمن على النبي، وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها وخرج بأهله وماله ولحق بالشحر، فحالف "جودان ابن يحيى الفرضمي"، وكان سيدا منيعا، ونزل بواد من أودية الشحر، ثم جاءه "شصار" رئيه، فنصحه بالعودة إلى اليمن، والدخول في الإسلام. فأسلم على يد معاذ بن جبل بصنعاء، فترك الكهانة وتعلم سورا من القرآن9.
__________
1 الإصابة "2/ 59"، "رقم 3582".
2 الاشتقاق "ص279".
3 الاشتقاق "279"، الإصابة "2/ 526"، "رقم 5820".
4 نهاية الأرب "3/ 133".
5 مروج الذهب "2/ 160، 176".
6 الحيوان "1/ 309".
7 الحيوان "6/ 204"، مروج الذهب "1/ 337"، ثمار القلوب "81".
8 الحيوان "6/ 204"، البيان والتبيين "1/ 195"، رسائل الجاحظ "130".
9 الامالي، للقالي "1/ 134 وما بعدها"، الإصابة "1/ 456"، "رقم "2342"، تاج العروس "3/ 192"، "حنافر".(12/345)
الإسلام ومن الكهان "المأمور"، وهو "الحارث بن معاوية" الكاهن. وكانت مذحج في أمره تتقدم وتتأخر1. و"قلطف"، وهو من طيء2.
وكان "زهير بن جناب الكلبي"، و"جذيمة" العبسي، كهانا3. وزهير من الفرسان، فكان من فرسان كلب، وكان شاعرا4.
ويعد "الافكل" من الكهان الفرسان، وله فرس اسمه هبود5.
ولم تحرم النساء الكاهانة، فكان لهن فيها حصة ونصيب. وقد حفظ الإخباريون أسماء عدد من الكهانات اشتهرت كهانتهن في الجاهلية، منهن طريفة الكاهنة، وزبراء وسلمى الهمدانية، وعفيراء الحميرية، وفاطمة بنت مر الخثعمية، وسجاح، وغيرهن. وقد نسبوا إلى طريفة إخبارها عمرو بن عامر أحد ملوك اليمن بزوال ملكه وبخراب سد مأرب، وذكروا إنها سارت مع القبائل حين خافت سيل العرم6. ونسبوا إلى بقية الكاهنات أمثال هذا القصص عن أمور ستقع قالوا إنها وقعت كما تنبأن به.
وذكر "المسعودي"، أن "طريفة" كانت كاهنة لعمرو بن عامر. وقد نعتها بـ "طريفة الخير". وقد تنبأت له بقرب تهدم السد، وظهور سيل العرم. كما تنبأ بذلك أخ للملك اسمه "عمران"، وكان عقيما كاهنا، فوقع ما تنبآ به7.
وكان من شهيرات الكاهنات أيضًا "الغيطلة"، وهي "أم الغياطل"، وهي من "بني مرة بن عبد مناة بن كنانة"8. وقيل: "الغيطلة بنت مالك بن الحارث بن عمرو بن الصعق بن شنوق مرة. وشنوق أخو مدلج". وقد عرف ولدها بالغياطل، وهم من بني سهم بن عمرو بن هصيص9.
__________
1 الاشتقاق "2/ 238".
2 الاشتقاق "2/ 237".
3 المشرق، السنة 1938م، "الجزء الاول"، "ص7".
4 معجم الشعراء "130"، الشعر والشعراء "223".
5 المشرق، السنة "1938م، "الجزء الأول ""ص9".
6 بلوغ الأرب "2/ 283 وما بعدها"، الأغاني "13/ 105" "ذكر خبر مضاض بن عمرو"، الطبري "2/ 244"، مروج الذهب "2/ 175". Reste, S. 137.
7 مروج الذهب "2/ 167 وما بعدها".
8 الروض الأنف "1/ 138 وما بعدها".
9 الروض الأنف "1/ 137 وما بعدها".(12/346)
ويقال أيضًا أن "سعدي بنت كريز بن ربيعة" كانت قد تكهنت، وهي خالة عثمان بن عفان1.
وكان لفاطمة بنت النعمان النجارية تابع من الجن، وكان إذا جاءها اقتحم عليها في بيتها، وقد أدركت مبعث الرسول2.
وكانت سوداء بنت زهرة بن كلاب، كاهنة قريش. ويذكر أعطاها لحافر قبور ليحفر لها قبرا في الحجون، فيدفنها حية فيه. أي يئدها، لأنها ولدت زرقاء شيماء، وكانوا يئدون من البنات من كان على هذه الصفة، غير أن حافر القبر عاد بها إلى والدها، لأنه لم يشأ دفنها في خبر يرويه أهل الأخبار3.
وكان في "خثعم" كاهنة عرفت بفاطمة4.
ولاستشارة الناس هؤلاء الكهان في الأمور وطلبهم منهم الفصل صارت كلمة "حكم" مرادفة لكلمة "كاهن" في بعض الأحايين. وقد روى الإخباريون أمثلة عديدة من حكم هؤلاء الكهان بين الناس وطريقة فصلهم في الأمور، فهم في هذه الحالة حكام يفصلون في القضايا التي يتفق الجانبان المتخاصمان فيها على إحالتها عليهم. ولم تكن لنفوذ أحكامهم مناطق وحدود. لقد كان حدود أحكامهم المدى الذي وصلت شهرة الكاهن إليه، لذلك كان الناس يقصدون الكاهن من مناطق بعيدة في بعض الأحيان لشهرته الواسعة التي يتمتع بها بين الناس. وتتوقف هذه الشهرة بالطبع على مبلغ ذكاء ذلك الكاهن وقدرته في فهم طبيعة المتخاصمين أو السائلين، ليتمكن من إصدار حكم معقول مقبول. وتكون أحكامهم قطعية، على الطرفين اطاعتها المتخاصمين قبل سماعه الشكوى عهدا بوجوب الامتثال لحكمه وعدم رده مهما كان نوع الحكم.
__________
1 نهاية الأرب "3/ 126"، "3/ 130"، "طبعة وزراة الثقافة والإرشاد القومي في الجمهورية العربية المتحدة".
2 الروض الأنف "1/ 137".
3 الروض الأنف "1/ 141".
4 أنساب الأشراف "1/ 79".(12/347)
العراف:
ويطلق بعض علماء اللغة على الكاهن "العراف" فهو عندهم مرادف للكاهن. غير أن من العلماء من يفرق بين الكلمتين، ويرى بينهما فرقا، فالكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار، والعراف هو الذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما، أو الذي يزعم إنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله1. ومنهم من يذهب إلى أن العراف من اختص بالإنباء عن الأحوال المستقبلة. أما الكاهن فهو الذي اختص بالإخبار عن الأحوال الماضية2. وقد فرق بين الكاهن والعراف في حديث: "من أتى عرافا أو كاهنا ... " 3. وأطلق بعضهم العراف على من يدعي الغيب مطلقا وفي ضمنهم المنجم والحازي4.
وذكر أن "العراف" الكاهن أو الطبيب أو المنجم أو الحازي الذي يدعي علم الغيب5. فللكمة معان عديدة، ولا تختص بمعنى واحد. وقد ذهب "المسعودي" إلى أن العراف دون الكاهن6. ونجد هذه النظرة عند غيره أيضًا.
وخلاصة ما يفهم عن الكهانة والعرافة في روايات الإخباريين أن الكهانة هي التبؤ بواسطة تابع. وأن العرافة تكون بالملاحظات وبالاستنتاجات وبمراقبة الأشياء لاستنتاج أمور منها، يخبربها السائلون على سبيل التنبؤ. وهي على ما يظهر من تلك الروايات، دون الكهانة في المنزلة، ولم يكن للعرافين اتصال ببيوت العبادة والأصنام7، ولم يكن لهم "رئي" أي "تابع"، وإنما كانوايستنبطون ما يقولونه بذكائهم وعلى القياس. فيأخذون بالمشابهة وبالارتباط بين الحوادث، ويحكمون بما سيحدث بموجب ذلك8.
وقد عد العبرانيون العرافة من الحيل الشيطانية كالسحر والتفاؤل، لأنها من
__________
1 النهاية "4/ 43".
2 تاج العروس "6/ 193".
3 النهاية "3/ 98".
4 تاج العروس "6/ 193".
5 تاج العروس "6/ 193".
6 مروج "2/ 154".
7 "وأما العراف، وهو دون الكاهن"، الحيوان "6/ 204".
8 مفتاح السعادة "1131 وما بعدها".(12/348)
رجس المشركي. وتشمل عندهم التنجيم والقرعة والزجر وما شاكل ذلك1. وقد نهي عنها في الإسلام.
وقد اعتمد العراف على الخط. فكان يخط خطوطا، ثم ينظر إليها، ليستنبط شيئًا منها، يتنبأ به للناس. ومن مشاهيرهم "حليس الخطاط الأسدي". وقد ذكر أنهم كانوا يخطون خطوطا، ثم ينظر العراف ويقول: "ابنا عيانن اسرعا البيان، ثم يخبر بما يرى"2.
وتعتمد العرافة -كما تعتمد الكهانة- على الذكاء والتفرس في الأمور والتجارب. وقد خصصها أكثر الناس في الإسلام بالتوصل إلى معرفة الأشياء المفقودة. والعراف بما عنده من الملكات والمواهب المذكورة، يقضي ويتنبأ للناس فيما يراه، ومن أشهر العرافين في الجاهلية: عراف اليمامة، وهو "رباح بن كحلة" "رباح بن عجلة" رياح بن كحلة" المذكور في الشعر، وعراف نجد وهو الأبلق الأسدي3. والأجلح الزهري، وعروة بن زيد الأسدي4.
وفي عراف اليمامة ورد قول الشاعر:
فقلت لعراف اليمامة داوني ... فإنك إن داويتني لطبيب
والأبلق الأسدي، هو عراف نجد، وفيه يقول عروة بن حزام:
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد إن هما شفياني5
وقد كان أهل الجاهلية يعرضون صبيانهم على "العرافين" لإخبارهم عن
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "3/ 93".
2
فأنتم عضاريط الخميس إذا غزوا ... غناؤكم تلك الأخاطيط في الترب
الحيوان "1/ 63".
3 بلوغ الأرب "3/ 306 وما بعدها"، قال عمرو بن حزام العذري:
وقلت عراف اليمامة داوني ... فإنك إن أبرأتني لطبيب
فما بي من سقم ولا طيف جنة ... ولكن عمي الحميري كذوب
تاج العروس "6/ 193"، "فقلت"، الحيوان "6/ 205"، مروج الذهب "2/ 154"، ثمار القلوب "81".
4 الحيوان "6/ 204"، "الازذي"، مروج "2/ 154"، "دار الأندلس".
5 مروج الذهب "2/ 154"، "العرافة وبعض العرافين"، رسائل الجاحظ "130"، مقدمة ابن خلدون "94 وما بعدها"، الحيوان "6/ 204"، "1/ 63".(12/349)
مستقبلهم. وكانت الأسواق مثل سوق عكاظ موئلا لهم. فكان العراف فيها يربه الناس صبيانهم، ويقول عنهم ما يجول بخاطره، وذلك بالتفرس في وجه الصبي، ومفارنة ذلك بما حصل عليه من تجارب في هذا الباب1.
وفي اللغة العربية كلمة قديمة أخرى لها صلة بموضوعنا هذا، هي "القيافة". ويقصد به التنبؤ والإخبار عن شيء بتتبع الأثر والشبه2. وتدخل في ذلك قيافة آثار الأقدام والأخفاف والحوافر للاستدلال مها على أصحابها، وتعيين النسب في حالة الشك فيه. وما زالت القيافة معروفة عند العرب حتى الآن. وقد اشتهرت بها "بنو مدلج" خاصة، حتى قيل للقائف "مدلجي" بسبب هذا الاختصاص3، وبنو لهب4، وأحياء مضر5.
ويرى "المسعودي" أن القيافة من الأمور التي برع بها العرب واختصوا بها، وصار لهم مران وخبرة بها، وذكر أن ممن عرف واشتهر بها "محرز المدلجي"، وقد تعجب الرسول من قيافته وصدقه6.
وذكر أهل الأخبار أن "الحازر"، هو من يحزر الأشياء، وأن "الحزارة" في معنى القيافة.
وأما "الفراسة"، فتكون بالاستدلال بهيأة الإنسان وأشكاله وأقواله على صفاته وطبائعه. وقد ذهب بعض المستشرقين بهيأة الإنسان وأشكاله وأقواله على صفاته وطبائعه. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أنها من الكلمات المعربة التي أخذت من "بني إرم"، وإنها أحدث عهدا من لفظة "القيافة" التي هي من الكلمات العربية الجاهلية7. وقد توسع في معناها وألف فيها الكتب في الإسلام وتبحر فيها بعض أئمة الفقهاء مثل الشافعي8.
وأما "العيافة" فهي التنبؤ بملاحظة حركات الطيور والحيوانات ودراسة أصواتها،
__________
1 السيرة الحلبية "1/ 114".
2 اللسان "11/ 201 وما بعدها"، مروج الذهب "2/ 144".
3 المستطرف "2/ 82", Ency., II, p. 1048, Muh. Stud, I, S. 184.
4 بلوغ الأرب "3/ 262".
5 مروج "2/ 149".
6 مروج الذهب "2/ 150".
7 Ency., II, p. 108.
8 النهاية "3/ 207 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 263 وما بعدها"، نهاية الأرب "3/ 149".(12/350)
وقراءة بعض أحشائها، ولذلك قيل في العبرانية للعائف "الشاق"، لشقه الحيوانات والطيور لدراسة أحشائها واستخراج الخبر مما يراه على تلك الأحشاء من ألياف يرى أن في أوضاعها معاني يذكرها للسائل على شكل نبوءة1. وكانت معروفة خاصة عند الكلدانيين.
وقد اشتهرت "بنو أسد" بالعيافة، فقصدها الناس للأخذ منها، حتى الجن سمعت بعيافتها، وعجبت منها، فجاءت إليها تمتحنها في هذا العلم2.
واشتهرت "بنو لهب" بالعيافة كذلك، ولهب حي من الأرد. ومن هؤلاء "العائف اللهبي"، "لهب بن أحجن بن كعب"، وهو الذي تكهن بموت عمر بن الخطاب قبل وقوعه بعام3.
والزجر العيافة، وهو يزجر الطير يعافها. وأصله أن يرمي الطير بحصاة ويصيح، فإن ولاه في طيرانه ميامنه تفاءل به أو مياسره تطير. وهو ضرب من التكهن. وإنما سمي الكاهن زاجرا، لأنه إذا رأى ما يظن إنه يتشاءم به زجر بالنهي عن المضي في تلك الحاجة برفع صوت وشدة4.
وتطلق لفظة "الحازي" على من يحزر الأشياء ويقدرها بظنه، فهي من الكلمات المستعملة في الكهانة، ويطلق على من يشتغل بالنجوم اسم "حزاء"، لأنه ينظر في النجوم وأحكامها بظنه وتقديره5. وأطلقت أيضًا على من يزجر الطير، ولا سيما الغراب6.
__________
1 تاج العروس "1/ 207"، قاموس الكتاب المقدس "2/ 129".
2 "وبنو أسد يذكرون بالعيافة ويوصفون بها، قيل عنهم أن قوما من الجن تذكروا عيافتهم، فأتوهم، فقالوا: ضلت لنا ناقة، فلو أرسلتم معنا من يعيف. فقالوا: لغليم منهم: انطلق معهم، فاستردفه أحدهم، ثم ساروا، فلقيهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها، فاقشعر الغلام وبكى، فقالوا: مالك؟ فقال: كسرت جناحا ورفعت جناحا، وحلفت بالله صراحا، ما أنت بانسي ولا تبغي لقاحا"، تاج العروس "6/ 307"، اللسان "11/ 167 وما بعدها".
3 الروض الأنف "1/ 118 وما بعدها". قال عبد الرحمن الخزاعي:
تيممت لهبا أبتغي العلم عندهم ... وقدرد علم العائفين إلى لهب
تاج العروس "1/ 475"، "لهب".
4 تاج العروس "3/ 234"، "لهب".
5 الروض الأنف "1/ 118 وما بعدها".
6 النهاية "1/ 257".(12/351)
وقد أشير في كتب أهل الأخبار إلى "حازي" عرف واشتهر بين الجاهليين بـ "حازي جهينة"1.
__________
1 البيان والتبيين "1/ 289".(12/352)
الراقي:
ويقال لمن يعمل الرقية ويرقي: "الراقي". والرقية العوذة التي يرقي بها صاحب الآفة كالحمى والصرع. قال عروة:
فما تركا من عوذة يعرفانها ... ولا رقية إلا بها رقياني1
ويقال لأجرة الراقي: "البسلة" و"بسلة الراقي". و"البسل" الحلال، والبسل أيضًا الحرام، فهو من الأضداد. وبسل الدعاء بمعنى آمين، أي الاستجابة. وكان الرجل إذا دعا على صاحبه، يقول: قطع الله مطاك. فيقول الآخر: بسلا بسلا، أي آمين آمين2.
__________
1 تاج العروس "10/ 154"، "رقى".
2 تاج العروس "7/ 227"، "بسل"، الروض الأنف "1/ 75".(12/352)
الاستقسام بالأزلام:
ومن طرق التنبؤ الاستقسام بالأزلام ويقابل ذلك ما يقال له "كسيم" "كسم" "Gasam" في العبرانية. وهي طريقة معروفة عند البابليين كذلك4. وعند غيرهم من الشعوب. وقد أشير في التوراة إلى أن "نبو ختنصر" "بختنصر" "نبخد نصر" Nebuchadnezzar" أجال السهام حين عزم على فتح "أورشليم "القدس". "فإن ملك بابل قد وقف عند أم الطريق في رأس الطريقين ليباشر عرافة. فأجال السهام وسأل الترافيم ونظر في الكبد"1. وقد خرج السهم الذي كتب عليه "أورشليم"، فعمل به وهاجم القدس وفتحها2.
__________
1 حزقيال، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 21.
2 Hastings, p. 567.(12/352)
وتعني لفظة "كوسيم "Gosem" و"Gesem" "Kosem" العرافة في العبرانية1. من أصل "كسم" "قيسم" وهو التكهن. وهو أصل "سامي". وإليه تعود كلمة "الاستقسام"، لا إلى "قسم" بمعنى تقسيم الشيء وتجزئته. وهو المعنى الذي ذهب إليه أكثر علماء اللغة. وقريب من معنى "قيسم" "كيسم" ما ذكره علماء اللغة من أن القسم هو الحظ والنصيب. فإن للحظ والنصيب علاقة وثيقة بالتكهن، لما فيه من معرفة المستقبل والوقوف عليه.
وقد عرف أهل الأخبار "الأزلام": إنها السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها. وعرفوا "الزلم"، إنه السهم، وإنه القدح المزلم2. وعرفوا القدح: إنه السهم قبل أن ينصل ويراش. وأن القدح: قدح السهم، وجمعه قداح، وصانعه قداح3. وقد فسر بعض العلماء الأزلام بأحجار بيض تشبه أحجار الشطرنج، كما جعل بعض آخر تلك السهام في مقابل "الكعاب" التي يستعلمها الروم والفرس في الاستخارة4. وذكر بعض آخر أن "الأزلام: سهام كانت لأهل الجاهلية مكتوب على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، فإذا أراد الرجل سفرا أو أمرا، ضرب تلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه أمرني ربي مضى لحاجته، وإن خرج الذهي عليه نهاني ربي لم يمض في أمره"5. وذكر أن الأزلام التي كانوا يستقسمون بها غير قداح الميسر، وإنها قداح الأمر والنهي لا قداح الميسر6. وذكر أن أهل الجاهلية، كانوا إذا أرادا أن يخرجوا في سفر، جعلوا قداحا للجلوس والخروج، فإن وقع الخروج خرجوا، وإن وقع الجلوس جلسوا7.
وطريقة الضرب بالقداح، أن الرجل منهم إذا اراد أن يخرج مسافرا، كتب في قدح هذا يأمرني بالمكث، وهذا يأمرني بالخروج، وجعل معهما أزلاما مسحة،
__________
1 العدد، الإصحاح الثالث والعشرون، الآية 23، صموئيل الأول، الإصحاح السادس، الآية2، أشعياء، الإصحاح الرابع والأربعون، الآية 25.
2 اللسان "12/ 270".
3 اللسان "2/ 556" "قدح"، تاج العروس "2/ 202"، "قدح".
4 تفسير الطبري "12/ 478 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 59 وما بعدها".
5 اللسان "12/ 478 وما بعدها"، "قسم"، "صادر".
6 اللسان "12/ 479"، "قسم"، تاج العروس "6/ 417"، "قسم".
7 تفسير الطبري "6/ 42 وما بعدها".(12/353)
أي لم يكتب فيها شيئًا، وثم استقسم بها حين يريد الخروج، فإن خرج الذي يأمر بالمكث، مكث، وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج، وإن خرج الآخر أي المسح، أجالها ثانية يخرج أحد القدحين1. وهكذا يفعلون في سائر أمور الاستقسام.
وقد جمع المفسرون ما تمكنوا من جمعه عما علق في أذهان الناس من الأزلام، لورود الإشارة إليها ف موضعين من سورة "المائدة"2. وأورد علماء الحديث والأخبار ما وصل إلى علمهم أيضًا من "الاستقسام" بالأزلام". ويظهر مما ذكروه أن أهل الجاهلية كانوا يقيمون في أيامهم وزنا كبيرًا للاستقسام بالأزلام لاعتقادهم أن يحكي إرادة الأرباب ويتحدث عن مشيئتها. لذلك كانوا لا يفعلون فعلا ولا يعملون عملا إلا بعد أخذ رأيها بالاستقسام. فإن جاء أمر فعلوا، وإن جاء نهي امتنعوا.
وجاء في سورة المائدة: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ} 3، وذلك مع أمور نهى عنها الإسلام. منها تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أخل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي، وما ذبح على النصب. وجاء ذكر الأزلام في موضع آخر من ذكر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، حيث جعلت رجسا من عمل الشيطان، لذلك، على المسلم اجتنابها والابتعاد عنا4. فالاستقسام بالأزلام من الأمور التي نزل الأمر بالنهي عنها في الإسلام. وقد جاء الأمر بالنهي في شريعة يهود كذلك إذ اعتبرت "رجسا"، ومن أعمال الوثنيين5.
ويكون الاستقسام عند الأصنام في الغالب لاعتقادهم أن النتيجة تمثل إرادة الصنم ومشيئته، غي أن ذلك ليس بشرط، فقد كان أصحاب الأزلام يحملون أزلامهم معهم، ويستقسمون حث يطلب ذلك منه. فهم في ذلك مثل أصحاب
__________
1 تفسير الطبري "6/ 42 وما بعدها".
2 سورة المائدة، الآية 3، 90، تفسير الطبري "6/ 49"، روح المعاني "6/ 59 وما بعدها"، الطبري "2/ 240".
3 الآية4، تفسير البيضاوي "1/ 118"، تفسير الطبرسي "3/ 238 وما بعدها". "3/ 156 وما بعدها".
4 المائدة، الآية 93، تفسير البيضاوي "1/ 132".
5 Hastings, p. 567.(12/354)
"الفأل" والقارئون للرمل والسحرة في الوقت الحاضر، يتنقلون بين الناس عارضين فنهم عليهم في مقابل حلوان يقدم إليهم. وهذا النوع، من أصحاب الأزلام، هم من الطبقة المرتزقة على شاكلة هذه الجماعة المذكورة في هذه الأيام. وقد كان منهم من يستقسم لنفسه بنفسه، وذلك بأن يستقسم بالأزلام التي عنده في بيته، والتي قد يحملها معه، تمامًا كما يفعل أهل "الاستخارة" في الاستخارة بالمسبحة "السبحة" أو بوسائل الاستخارة الأخرى في الوقت الحاضر.
قال أهل الأخبار: "والأزلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها أمر ونهي وافعل ولا تفعل، قد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة، يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد رجل سفرا أو نكاحا أتى السادن فقال: اخرج لي زلما، فيخرجه وينظر إليه، فإذا خرج قدح الأمر مضى على ما عزم عليه، وإن خرج قدح النهي قعد عما أراده، وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابه، فإذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما"1.
و"قالوا": كانوا إذا كانت مداراة أو نكاح أو أمر يريدونه، ولا يدرون ما الأمر فيه ولم يصح لهم أخذوا قداحا لهم فيها: أفعل ولا أفعل لا يفعل، نعم لا خير، شر بطيء سريع، فأما المداراة فإن قداحا لهم فيها بيضا ليس فهم فيها شيء، فكانوا يجيلونها فمن خرج سمهمه فالحق له، وللحضر والسفر سهمان، فيأتون السادن من سدنة الأوثان، فيقول السادن: اللهم أيهما كان خيرًا فأخرجه لفلان، فيرضى بما يخرج له، فإذا شكوا في نسب الرجل أجالوا له القداح وفيها: صريح، وملصق، فإن خرج الصريح ألحقوه بهم، وإن خرج الملصق نفوه، وإن كان صريحا، فهذه قداح الاستقسام"2. "وإن كان بين اثنين اختلاف في حق سمي كل منهما له سهما وأجالوا القداح، فمن خرج سهمه فالحق له"3.
وذكر أن أقداح "هبل" سبعة، وضعت قدامه. فإن أراد أحدهم سفرا أو عملا أو تجارة أو زواجا أو بتا في نسب مشكوك فيه أو دفع دية أو أن
__________
1 اللسان "12/ 270 وما بعدها".
2 نهاية الأرب "3/ 117 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "2/ 6"، الدر المنثور "1/ 319".
3 صبح الأعشى "1/ 402".(12/355)
يخرجوا ماء، أتوا هبل، ومعهم مائة درهم وبجزور فأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم، وكانت أزلامهم سبعة قداح محفوظة عند سادن الكعبة وخادمها، وهي مستوية في المقدار عليها أعلام وكتابة قد كتب على واحد منها "أمرني ربي" وعلى واحد منها "نهاني ربي" وعلى واحد "منكم" وعلى واحد "من شيء، فإذا أرادوا الوقوف على مستقبل الأمر الذي تصدوا له استقسم لهم صاحب القداح بقدحي الأمر والنهي، فإن نجح قدح الأمر ائتمروا وباشروا فيما تصدوا لخ من حرب أو سفر أو زواج أو ختان أو بناء أو نحو ذلك مما يتفق لهم، وإن خرج قدح النهي أخروا ذلك العمل إلى سنة فإذا انقضت أعادوا الاستقسام مرة أخرى.
ويروى أن السؤال إن كان يخص أقداما أو احجامان استعمل صاحب القداح قدحي "نعم" أو "لا" فإذا ظهر للمجيل قد "نعم" عمل به، ومضى إلى ما قصد، وإن جاء "لا" أي النهي توقفوا سنة. أما إذا كان نزاعا في نسب أحد منهم، استقسم بالأزلام الموسومة بـ "منكم" و"من غيركم" و"ملصق"، فإن ظهر "منكم"، اعتبر المتنازع على نسبه منهم، وإن خرج "من غيركم" اجتنبوه ونفروا منه، وإن ظهر "ملصق"، بقي أمره على ما كان عليه قبل الاستقسام، وأما إذا كان السؤال نزاعا في "العقل": أي دية القتيل، بأن اشتبه عليهم القاتل، واستقسم بهما، فمن خرج عليه العقل تحمل الدية، وإن خرج "الغفل" أجالوا ثانيا حتى يخرج الكتوب عليه1.
ولما أراد "أبو سفيان" الخروج إلى "أحد"، استخار هبلز بأن كتب على سهم نعم، وعلى الآخر لا، وأجالهما عند هبل، فخرج سهم نعم، فخرج بقومه إلى "أحد". وقال يقول: أعل هبل. وقال عمر: الله أعلى وأجل، قال أبو سفيان: أنعمت فعال عنها، أي اترك ذكرها، فقد صدقت في فتواها، وأنعمت، أي أجابت بنعم2.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 66 وما بعدها"، الأصنام: ص28"، النهاية "3/ 268"، تاج العروس "8/ 326"، تفسير الطبري "6/ 42 وما بعدها".
2 اللسان "12/ 589".(12/356)
ولصاحب الأزلام وخازنها حق يتقاضه من الطالبين في مقابل علمه. فكان سادن "هبل" يتقاضى مئة درهم أجرا عن الاستقسام، كما سبق أن ذكرت فإ، تكرار ذلك زيد أجره على ما يذكره الرواة. وقد كان غير العرب يدفعون حلوانا إلى صاحب الأزلام ليتبأ لهم. فلما انطلق شيوخ مديان "مدين" و"مؤاب" إلى "بلعام" ليستقسم لهم، حملوا حلوانهم معه، فقدموه إليه مقابل ما قام به من عرافة إليهم1.
وقيل للذين يضربون بالقداح "الضرباء"2. والواحد الضريب والضارب. وهو الموكل بالقداح، وقيل الذي يضرب بالقداح. يقال هو ضريب قداح3.
وقد أشير إلى الاستقسام في شعر الشعراء الجاهليين، وقد ذكرت في قصة الشاعر "امرئ القيس" الكندي حينما جاء إلى الصنم "ذي الخلصة"، ليستقسم عنده بشأن الأخذ بثأر أبيه. فلما خرج النهي عنه ثلاث مرات، غضب على صنمه، وكسر الأزلام ورماها في وجهه، كما يقول الرواة قائلا: "لو كان أبوك المقتول لما نهيتي"، وأنشد:
لو كنت يا ذا الخلص الموتورا ... لم تنه عن قتل العداة زورا
وأشار الخطيئة إلى ذلك بقوله:
لم يزجر الطير، إن مرت به سنحا ... ولا يفيض على قسم بأزلام4
وقال طرفة:
أخذ الأزلام مقتسما ... فأتى أغواهما زلمه5
وهناك طرق عدة عرفت عند الشعوب القديمة في التكهن بالسهام، ومنها رمي السهام في الهواء لمراقبة حركاتها وكيفية سقوطها، ومنها رمي حزمة من السهام أمام الصنم، فالسهم الذي يقع قبل بقية الأزلام، يكون هو السهم الذي
__________
1 العدد، الإصحاح الثاني والعشرين "الآية 7 وما بعدها"، Hastings, p. 567
2 الاشتقاق "278".
3 اللسان "1/ 547 وما بعدها".
4 اللسان "12/ 270"، الأصنام "47"، نهاية الأرب "3/ 67".
5 اللسان "2/ 270".(12/357)
أمر به الصنم في زعمهم، فيعمل بموجب ما كتب عليه1.
ولخص "الألوسي" الأزلام التي كانت عند العرب على ثلاثة أنحاء: أحدها: قداح الميسر العشرة، وثانيها: لكل أحد، وهي ثلاثة على أحدها مكتوب "افعل"، أي أمر، وعلى الثاني "لا تفعل" وعلى الثالث "غفل". فإذا أراد أحدهم الأمر جعلها في خريطة، وهي "الربابة" وأدخل يده فيها وأخرج واحدا، فإن طلع الآمر فعل أو النهاي ترك أو الغفل أعاد. وثالثها: للأحكام وهي لاتي عند الكعبة. وكانوا يتحاكمون عند "هبل" في جوف الكعبة. وكان عند كل كاهن وحاكم للعرب مثل ذلك. وكانت سبعة مكتوب عليها ما سبق2.
و"القرعة" أي "السهمة"، نوع من أنواع التنبؤ بالغيب التابعة للاستقسام بالأزلام. و"السهمة" هي رضاء بحكم "السهم"، أي بحكم وقوع السهام على الأشياء. وهي جواب فصل يمثل إرادة الآلهة للسائل أو للمختصمين في أمر من الأمور. وقد قيل للسهم: الحظ والنصيب3، لأنه يتكلم عن حظ الإنسان ونصيبه.
والتنبؤ بالتفرس في الأشباح التي تظهر على الماء، أو الزيت المصبوب في الأقداح، أو الحركات التي تظهر على سطح السائل بعد رمي شيء فيه، لمعرفة الأسرار والمغيبات والإجرام كالسرقات والقتل، والزنى، ودراسة سطح المرآة: هذه وأمثالها كانت معروفة عد البابليين والعبرانيين، وعند غيرهم من الشعوب. وعقيدتهم أن الأرواح هي التي ترشد إلى إظهار المخفيات، وأن هناك مأمورين من بينهم واجبهم أخبار العراف والعائف والكاهن بما يطلب منهم معرفته ليقوله للسائل4.
ومن ضرب التنبؤ "الطرق"، وهو الضرب بالحصى للكشف عن المستقبل، يقوم بذلك الرجال والنساء. ويقال للقائمين بذلك الطراق والطوارق5. وورد أن الطرق: الضرب بالحصى والخط في التراب، وهما ضربان من التكهن. وقيل أيضًا: الطرق: أن يحط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع، ويقول:
__________
1 Hastings, p. 567.
2 بلوغ الأرب "3/ 67 وما بعدها".
3 تاج العروس "8/ 352"، "سهم".
4 Ency. ReIigi, p. 807.
5 النهاية "3/ 40".(12/358)
ابني عيان اسرعا البيان، وزعم بعضهم أن الطرق أن يخلط الكاهن القطن بالصوف فيتكهن. وقد نهى عنه في الإسلام. ورد في الحديث: إنه قال: الطرق والعيافة من الجبت1.
ويدخل في ضروب التنبؤ "الخط" "وهو الذي يخطه الحازي. يأتي صاحب الحاجة إلى الحازي فيعطيه حلوانا، فيقول له: اقعد حتى أخط لك، وبين يدي الحازي غلام له معه ميل، ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط فيها خطوطا كثيرة بالعجلة لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها على مهل خطين خطين، وغلامه يقول للتفاؤل: "ابني عيان، أسرعا البيان"، فإن بقي خطان فهما علامة النجح، وإن بقي خط واحد فهو علامة الخيبة ... وقيل: الخط هو أن يخط ثلاثة خطوط، ثم يضرب عليهن بشعير أو نوى، ويقول: يكون كذا وكذا. وهو ضرب من الكهانة"2. وكانت العرب تسمي ذلك الخط الذي بقي من خطوط الحازي الأسحم. وكان هذا الخط عندهم مشؤومًا. وقد كان الخط من علوم العرب القديمة3.
وعلم الخط هو علم الرمل. وينسب إلى "ابن عباس" قوله: علم قديم تركه الناس. وخط الزاجر في الأرض، رسم خطا بإصبعه، ثم زجر. وذكر أن "الخطيطة" الرملة التي يخط عليها الزاجر، وأن الأسحم اسم خط من خطوط الزاجر، وهو علامة الخيبة عندهم. وذلك أن يأتي إلى أرض رخوة وله غلام معه ميل، فيخط الأستاذ خطوطًا كثيرة على عجل لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها خطين خطين، فإن بقي من الخطوط خطان، فهما علامة النجح وقضاء الحاجة، ويمحو وغلامه يقول للتفاؤل: ابني عيان أسرعا البيان، وإذا محا الخطوط، فبقي منها خط، فهي علامة الخيبة4.
__________
1 اللسان "10/ 215"، "طرق" تاج العروس "6/ 417"، "طرق".
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع
النهاية "3/ 40"، اللسان "17/ 84"، سنن أبي داود "4/ 16".
2 النهاية "1/ 303، 38"، "خطط"، "3/ 40" "طرق"، تاج العروس "6/ 417"، اللسان "17/ 85".
3 اللسان "7/ 287 وما بعدها"، "خطط".
4 تاج العروس "5/ 131"، "خطط".(12/359)
الأحلام:
والأحلام "Dreams" و"الرؤيا "Visions" باب من أبواب الكهانة كذلك، فهي تفسير لما سيقع في المستقبل من حوادث. وقد تخصص بذلك أناس تعاطوا تعبير الرؤيا والأحلام. وإذ كان اعتقاد الشعوب القديمة أن الأحلام حقيقة، لا كما نتصورها نحن، كان الاهتمام بها كبيرًا، والاعتناء بها شديدا ولا يزال يخصها كثير من الناس بالعناية.
وقد فسرت بعض الشعوب القديمة الأحلام بأنها الآلهة أو الأرواح تتجلى في الإنسان في أثناء منامه، فتطلعه على أشياء كثيرة تتعلق بحياته وبمصيره، وتساعده بذلك على حل مشكلات عديدة عويصة لديه، أو تهديه إلى أمور لم يكن يعرف عنها شيئًا، أو تحذهره بقرب حلول كارثة أو خطر به أو بغيره، أو بحصول خير له أو لغيره. وقد ترجع به إلى أيام ماضية وحوادث قديمة سالفة كان قد نسيها وذهبت من ذاكرته. ونجد في المؤلفات اليونانية واللاتينية والسريانية وفي الكتابات الهيروغليفية والمسمارية أشياء عديدة من القصص المتعلق بالأحلام. وفيها أن كثيرًا من الملك والخاصة كانوا يقيمون وزنا نجح كثير منهم كما خسر كثير منهم أيضًا بسبب تأثير الأحلامفيهم، حتى إن بعضهم اتخذ له مفسرا للأحلام أو جملة مفسرين، ليكونوا في خدمته حتى إذا ما رأى حلما فسروه له.
ولما كانت بعض الأحلام مزعجة، رجع الكهان المتخصصون بالأحلام أسبابها إلى فعل الأرواح الشريرة. أما الأحلام المريحة الطيبة، فقد جعلوها من إلهام الآلهة في الإنسان. ولأهمية الاعتقاد بالأحلام، وضعت قواعد وتعاليم للأشخاص الذين يريدون معرفة مستقبلهم بالرؤيا والأحلام. وقد نصح في بعضها باجتناب الأكل الثقيل، وبشرب بعض الأشربة المعينة وبالنوم في المعابد، للحصول على الرؤيا الصادقة، وبشرب بعض الأشربة المعينة وبالنوم في المعابد. للحصول على الرؤيا الصادقة، والابتعاد عن أضغاث الأحلام. وضع تلك القواعد أناس تخصصوا بهذا الفن، يلجأ إليهم من يرى حلما ليجد تفسيره عندهم. فلكل شيء في الرؤيا والحلم معنى خاص، لا يمكن أن يعرفه إلا ذووو الخبرة والعلم1.
وقد عثر على كتابة لحيانية في موضع "الخريبة"، تبين منها وجود صنم في معبد هذا الموضع تخصص بتفسير الأحلام2.
__________
1 مقدمة ابن خلدون "1/ 103".
2 Jaussen – Sabignac, Mission, II, p. 417, Euting 825, Arabien. S. 98.(12/360)
وفي كتب التفسير والسير والأخبار والأدب أمثلة عديدة من الرؤيا، تشير إلى أن الاعتقاد بالأحلام كان معروفا عند الجاهليين، وأن أثره كان عميقًا في حياتهم. وقد يكون لأهل الكتاب أثر عليهم في كيفية تفسير الأحلام وتوجيه تعبير الرؤيا، غير أن الاعتقاد بالأحلام هو اعتقاد عام، وكان يقوم به متخصصون بتفسير الأحلام. وقد عرف في الإسلام واشتهر به "ابن سيرين"1.
وقد عرف بعض العلماء الإسلاميين الحلم بأنه عبارة عما يراه النائم في نومه من الأشياء المزعجة، وخصصوا الرؤيا بما يراه الإنسان في منامه من الخير والشيء الحسن2. وهم بذلك على طريقة القدماء في جعل الأحلام نوعين: أحلام من فعل الشيطان والأرواح الخبيثة، وأحلام من إلهام الآلهة في الإنسان، وهي التي تنكشف من رؤية أشياء جميلة وعن أشياء يرغب صاحب الحلم في الحصول عليها وتحقيقها.
ويرجع العلماء الرؤيا إلى النفس، تطلع الرؤيا إلى النفس، تطلع على الواقعات فتتذكرها، وتوحي بها إلى صاحبها. وهم يعتقدون بها. وجعلوها جزءًا من النبوة3.
__________
1 "كتاب التعبير"، عمدة القاري "24/ 126"، الفهرست "439"، "الكتب المؤلفة في تعبير الرؤيا".
2 النهاية "1/ 289 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 255"، "حلم".
3 مقدمة ابن خلدون "1/ 102 وما بعدها".(12/361)
الفصل السادس والثمانون: الطيرة
مدخل
...
الفصل السادس والثمانون: الطيرة
وقد كان للطيرة شأن كبير في حياة الجاهليين. وهي معروفة عند جميع الشعوب، ويقال لها في العبرانية: طير "Tayyar"، فهي من نفس الأصل الذي أخذ العرب منه التسمية1. ويقال لها في الإنكليزية "Augury"، ويرى بعض الباحثين أن الطيرة انتقلت إلى العبرانيين من العرب2. وهناك نوع آخر من التطير يقال له "Haruspicy" في الإنكليزية، ويقصد به الطيرة من الحيوانات الميتة، أو مراقبة الحيوان في أثناء لمعرفة المستقبل من حركاته وهو يرتجف رجفة الموت3.
ويقول علماء الأخبار، إن الطيرة من زجر الطيور ومراقبة حركاتها، فإن تيامنت دل تيامنها على فأل، وإن تياسرت دل على شؤم4. فهي إذن تشمل التيمن والتشاؤم، إلا أنها خصصت بالتشاؤم فيما بعد. فصارت تعني هذا المعنى عند الاستعمال. قال "الجاحظ": "وأصل التطير إنما كان من الطير ومن جهة الطير، إذا مر بارحا أو سانحا، أو رآه يتفلى وينتف، حتى صاروا
__________
1 Ency. ReIigi., 4, p. 807.
2 Ency. ReIigi., 4, p. 778, Hastings, p. 568.
3 Ency. ReIigI., p. 778.
4 اللسان "4/ 512 وما بعدها"، مفردات، للأصفهاني "312" صبح الأعشى "1/ 399".(12/362)
إذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم، أو الأعضب أو الأبتر، زجروا عن ذلك وتطيروا، كما تطيروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال. فكان زجر الطير هو الأصل، ومنه اشتقوا التطير، ثم استعملوا ذلك في كل شيء"1.
قال أحدهم:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير
كأن الذي يرى ما يكره أو يسمع يطير
وقد عد العلماء الطيرة والزجر في معنى واحد، لأن أصلهما إنهم كانوا إذا أرادوا فعل أمر أو تركه زجروا الطير حتى يطير، ثم يحكمون من حركاته على ما سيحدث ويقع. فالزجر والطيرة من ثم شيء واحد2. وقد قيل لمن يزجر الطير "زاجر": "لأنه إذا رأى ما يظن إنه يتشاءم به زجر بالنهي عن المضي في تلك الحاجة برفع صوت وشدة"3.
والطيور هي مادة التطير، وذلك بمراقبة حركاتها وسكناتها. وهو ما يقال له في العبرانية: "نيحوش" "نحوش" "Nihush" من أصل "نيحيش" "نحش". وتقابل لفظة "نحش" كلمة "حنش" في العبرانية وتعني "الثعبان". وقد ذهب بعض علماء التوراة أن لكلمة "نحش"، صلة بالثعبان، ذلك لأن الثعبان كان بعض علماء التوراة أن لكلمة "نحش"، صلة بالثعبان، ذلك لأن الثعبان كان من الآلهة القديمة، بينما يرى بعض آخر عدم وجود صلة ما للثعبان بهذا الموضوع، لأن العبرانيين لم يتعبدوا البتة للثعابين، فلا صلة للثعبان به4.
ويدخل في باب الزجر، زجر الطير والوحش. ويذكر بعض العلماء أن الأصل في الطيرة، هو زجر الطير، ثم صار في الوحش، وقد يجوز أن يغلب أحد الشيئين على الآخر فيذكر دونه ويرادان جميعًا5.
وقد يراد بالطيرة "التشاؤم" الذي هو خلاف التيامن، غير أن "التشاؤم"
__________
1 الحيوان "1/ 438"، "هارون"، العمدة "2/ 259 وما بعدها".
2 صبح الأعشى "1/ 399".
3 تاج العروس "3/ 364"، اللسان "5/ 407"، "طير".
4 Ency. ReIigI., 4, p. 807, Hastings, p. 568.
5 العمدة "2/ 260".(12/363)
هو في الواقع أوسع مجالا وأكثر ساحة من الطيرة، لأن التشاؤم طيرة وزيادة، وأعني بالزيادة تشاؤم المتشائمين من أمور أخرى كثيرة مثل التشاؤم من ذوي العاهات أو القبح من البشر، والتشاؤم من سماع الكلام السيء أو الأخبار السيئة عند الصباح أو من رؤية ميت أو سماع نياحة أو مشاهدة مخلوق مشوه أو سماع اسم موضع يدعو للتشاؤم أو اسم شخص فيه معنى التشاؤم وأمثال ذلك، فتكون كل هذه الأمور مدعاة للتشاؤم عند المتشائمين. "حتى صاروا إذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم، أو الأعضب أو الأبتر، زجروا عند ذلك وتطيروا عندها كما تطيروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال"1.
ويقول علماء اللغة: الشؤم: خلاف اليمن. ورجل مشؤوم على قومه2. وأصل ذلك هو أن العرب تتفاءل بالجهة اليمنى، وتتشاؤم من الجهة اليسرى، ولذلك كانت إذا أرادت أن تعمل عملا عمدت إلى "الزجر" وهو رمي الطير بحصاة، ثم يصيح الرامي، ليفزعها ويزجرها، وعندئذ يراقب حركة طيرانها، فإن تيامنت أي جرت يمنة تفاءل به، وإن تشاءمت أي تياسرت، تشاءم به. فالتيمن هو بالتيامن والتشاؤم هو بالتياسر. ولذلك قيل للكاهن "زاجر" أيضًا، "لأنه إذا رأى ما يظن أنه يتشاءوم به زجر بالنهي عن المضي في تلك الحاجة برفع صوت وشدة"3. ولاعتماد الزاجر على الطيور في الغالب في هذا النوع من التكهن قيل له: "الطيرة". قال علماء اللغة: "وقيل للشؤم طائر وطير وطيرة، لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزرجها والتطير ببارحها ونعيب غرابها وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها، فسموا الشؤم طيرا وطائرا وطيرة لتشاؤمهم بها"4.
ولا بد أن يكون للتطير صلة بعقيدة استحالة الأرواح طيورا بعد مفارقتها الأجساد، فقد كان من المتعارف عليه عند كثير من الشعوب القديمة أن بعض فصائل الطيور هي أرواح الموتى بعد مفارقتها الأجساد، وإنها لذلك تعي وتفهم، وأن في استطاعة بعض الناس فهم منطقها وتكليمها، ومن هنا ظهرت فكرة
__________
1 الحيوان، للجاحظ "1/ 438" "تحقيق محمد عبد السلام هارون".
2 اللسان "12/ 314".
3 تاج العروس "3/ 364"، اللسان "5/ 407"، "12/ 314" "شأم".
4 تاج العروس "3/ 364"، "طير".(12/364)
"منطق الطير". وقد كان "سليمان" يحادث الطير1. فإذا كانت الطير على هذه الصفة، ففي حركاتها وسكناتها منطق لمن لا يحسن منطقها، يشير إلى ما يجب على الإنسان أن يفعله أو يتركه من أعمال.
وقد كان للتطير والتفاؤل شأن كبير في حياة الجاهليين. كما كان لهما مثله في حياة شعوب أخرى عديدة: ومن بينهم اليونان والرومان والفرس. والتطير هو نظير التشاؤم في المعنى كما قلت. أما نظير الطيرة وقعت لبعض القبائل عند إقدامها على الحرب، فخسرت لتطيرها، ويحدث من التطير النحس، وأما من التفاؤل فيكون السعد.
وفي الأخبار: "كانت العرب إذا خرج أحدهم من بيته غاديا في بعض الحاجة، نظر: هل يرى طائرا يطير، فيزجر سنوحه أو بروحه، فإذا لم ير ذلك، عمد إلى الطير الواقع على الشجر، فحركه ليطير، ثم نظر إلى أي جهة يأخذ، فزجره. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أقروا الطير على مكناتها: لا تطيروها ولا تزجروها"2. وذكر "إنهم كانوا في الجاهلية إذا خرج أحدهم لحاجة، فإن رأي الطير طار عن يمينه تيمن به واستمر، وإن طار عن يساره تشاءم به ورجع، وربما كانوا يهيجون الطير، ليطير فيعيدون ذلك"3.
وقد أبطل الرسل الطيرة. "وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يتفاءل ولا يتطير. وأصل الفأل الكلمة الحسنة يسمعها عليل، فيتأول منها ما يدل على برئه، كأن سمع مناديا نادى رجلا اسمه سالم، وهو عليل، فأوهمه سلامته من علته، وكذلك المضل يسمع رجلا يقول يا محمد يا واجد، فيجد ضالته. والطيرة مضادة للفأل. وكانت العرب مذهبها في الفأل والطيرة واحد. فأثبت النبي الفأل واستحسنه وأبطل الطيرة ونهى نها"4.
وروي أن أهل الجاهلية كانوا يقولون: "إن الطيرة في المرأة والدار والدابة"5
__________
1 Ency. ReIigi,. 4, p. 808.
2 جامع الأصول "8/ 458".
3 إرشاد الساري "8/ 396".
4 تاج العروس "3/ 364 وما بعدها".
5 أمالي المرتضى "2/ 2020".(12/365)
و"الكدس" التطير، و"الكدسة" عطسة البهائم، وقد تستعمل للإنسان: ومنه الحديث: إذا بصق أحدكم في الصلاة، فليبصق عن يساره أو تحت رجله، فإن غلبته كدسة أو سعلة ففي ثوبه. والكادس ما يتطير به من الفال والعطاس وغيرهما. ومنه قيل للظبي وغيره إذا نزل الجبل وغيره كادس1.
ومن الألفاظ المستعملة في الى "الزجر" "سنح" و"برح". وللفظة "برح" معان عديدة، وهي من الكلمات السامية الواردة والباقية في عدد من لهجاتها. بين يديك من جهة يسارك إلى يمينك، والعرب تتيمن به، لأنه أمنك للرمي والصيد. والبارح ما مر من يمينك إلى يسارك والعرب تتطير به، لأنه لا يمكنك أن ترميه حتى تنحرف"2.
وقد ذكر بعض اللغويين عكس المعنى، كا ذكر أن أهل نجد كانوا يتشاءومون بالبوارح ويتيمنون بالسانح. أما غيرهم من العرب، فقد كانت تتيمن بالبارح، وأن بعضًا منهم لم يكن له رأي في شيء من هذا3.وذكر أن أهل "العالية" يتشاءمون بالسانح ويتيمنون بالبارح4.
قال ذو الرمة وهو من نجد:
خليلي لا لاقيما ما حييتما ... من الطير إلا السانحات وأسوأ
وقال النابغة، وهو نجدي أيضًا، يتشءوم بالبارح:
زعم لا لاقيما البوارح أن رحلتنا غدا ... وبذاك تنعاب الغراب الأسود
وقد عبر "كثير" عن رأي أهل الحجاز بقوله:
أقول إذا ما الطير مرت مخيفة ... سوانحها تجري ولا استثيرها5
وذكر أن هذيلا كانت تتشاؤم بالسنيح. أما غيرها، فكانت تتشاءم بالبارح6.
__________
1 تاج العروس "4/ 230"، "كدس".
2 النهاية "1/ 85" المعاني الكبير "3/ 1187".
3 الأغاني "9/ 157" "أخبار النابغة ونسبه"، Reste, S. 202.
4 العمدة "2/ 263".
5 البرقوقي "ص19 وما بعدها".
6 المعاني "3/ 1186".(12/366)
ويقال للمتطيرين من الرجال "الخثارم"1.
وذكر أن "بني لهب"، "هم أعيف العرب وأزجرهم للطير"2. وهم بطن من العرب يعرفون بالعيافة. ولأهل الأخبار قصص عن عيافتهم وعن زجرهم للطير3.
ومن الطيور التي تطير منها أهل الجاهلية: الغراب وطيور الليل، وهي البومة، والصدى، والهامة، والضوع، والوطواط، والخفاش، وغراب الليل4.
وقاعدتهم في الطيرة، إنهم يشتقون من اسم الشيء الذي يعاينون ويسمعون من ذلك قول سوار بن المضرب:
تغنى الطائران ببين ليلى ... على غصنين من غرب وبان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان
فاشتق الاغتراب من الغرب، والبينونة من البان.
وقال عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى بينهم الغراب الأبقع
حرق الجناح كأن لحيي رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع
فزجرته ألا يفرخ بيضه ... أبدا ويصبح خائفا يتفجع
إن الذين نعبت لي بفراقهم ... هم أسهروا ليلى التمام فأوجعوا
فقال: وجرى بينهم الغراب، لأنه غريب، ولأنه غراب البين، ولأنه أبقع. ثم قال: حرق الجناح تطيرا أيضًا من ذلك. ثم جعل لحيي رأسه جلمين، والجلم يقطع. وجعله بالأخبار هشا مولعا، وجعل نعيبه وشحيجه كالخبر المفهوم5.
وأشأم الطيور عند الجاهليين، "الغراب": "ليس في الأرض شيء يتشاءم
__________
1 المعاني "3/ 1187".
2 الاشتقاق "ص288"، صبح الأعشى "1/ 339 وما بعدها".
3 صبح الأعشى "1/ 399 وما بعدها".
4 الحيوان "2/ 298"، "هارون".
5 الحيوان "3/ 442 وما بعدها"، "هارون".(12/367)
به إلا والغراب أشأم منه"1، ولذلك قالوا إذا تعب: خيرًا خيرًا، وذلك من باب التفاؤل بالأضداد2. "والعامة تتطير من الغراب، إذا صاح صيحة واحدة، فإذا ثنى، تفاءلت به"، "وإذا صاح الغراب مرتين، فهو شر، وإذا صاح ثلاث مرات، فهو خير"3. وورد "غراب البين" و"الغراب الأبقع" و"الغراب الأسود"4. ويراد بذلك التشاؤم بفراق الأحبة، ويقال للغراب الأسود "حاتم"، والحتمة السواد، وهو مشؤوم، لأنه يحتم بالفراق5. "والعرب تتشاءم من الغراب، ولذا اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب"6. "فالغراب أكثر من جميع ما يتطير به في باب الشؤم، ألا تراهم كلما ذكروا ما يتطيرون منه شيئًا كروا الغراب معه؟ وقد يذكرون الغراب ولا يذكرون غيره، ثم إذا ذكروا كل واحد من هذا الباب لم يمكنهم أن يتطيروا منه إلا من وجه واحد، والغراب كثير المعاني في هذا الباب، فهو المقدم في الشؤم"7. وروي أن "ابن عباس" كان إذا صاح الغراب، قال: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك. قال الجاحظ: "وليس في الأرض بارخ ولا نطيح، ولا قعيد، ولا أعضب ولا شيء مما يتشاءمون به إلا والغراب عندهم أنكد منه، يرون أن صياحه أكثر أخبارا، وأن الزجر أعم قال عنترة:
__________
1 تاج العروس "1/ 407"، "عزب"، قال رؤبة:
فأزجر من الطير الغراب الغاربا
اللسان "2/ 438"، الحيوان للجاحظ "2/ 316".
2 الحيوان للجاحظ "3/ 457، 458"، طبعة عبد السلام محمد هارون".
3 الحيوان، للجاحظ "3/ 457 وما بعدها"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 255"
4 قال عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى بينهم الغراب الأبقع
خرق الجناح كأن لجى رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع
اللسان "16/ 210"، القاموس "4/ 204"، "غراب البين"، الحيوان للجاحظ "3/ 431"، البيان والتبيين "1/ 83" "لجنة"، قال النابغة:
زعم البوارح أن رحلتنا غدا ... وبذاك خبرنا الغراب الأسود
الحيوان للجاحظ "3/ 442".
5
إذا ما رأت عبس من الطير جاثما ... شديد سواد الزف ظلت تفزع
الاشتقاق "2/ 166"، اللسان "15/ 3"، الحيوان للجاحظ "3/ 436"، "هارون"، بلوغ الأرب "2/ 338 وما بعدها".
6 الحيوان للجاحظ "2/ 316"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 190".
7 الحيوان للجاحظ "2/ 316"، حياة الحيوان "2/ 244".(12/368)
حرق الجناح كأن لحيي رأسه ... جلمان، بالأخبار هش مولع1
وفي الغراب وشؤمة يقول الأعشى:
ما تعيف اليوم في الطير الروح ... من غراب البين أو تيس برح2
وقد كنوا عنه بكنى عديدة، دلالة على مقدار اهتمامهم به. فقالوا له: أبو حاتم، وأبو جحادف، وأبو الجراح، وأبو المرقال، وأبو حذر، وأبو زيدان، وأبو زاجر، وأبو الشؤم، وأبو غياث. ووضعوا الأمثلة على لسانه وعنه. وقصوا عنه الحكايات. من ذلك، إنه أراد أن يقلد القطاة في مشيها، فحاكاها، لكنه لم يفلح في المشي مشيها، فلما أراد العود إلى مشيته الأولى، أضل مشيته، إذ نسيها، فنسي المشيتين: فلذلك سموه: أبا المرقال3. وضربوا المثل بالغراب الأعصم، فقالوا: أعز من الغراب الأعصم، للشيء القليل الوجود4. وأوردوا له قصصًا مع الديك ومع حيوانات أخرى. ورموه بالفسق والفجور5.
وفي الشعر الجاهلي وشعر المخضرمين إشارات إلى شؤم الغراب. جاء في شعر "حسان بن ثابت".
وبين في صوت الغراب اغترابهم ... عشية أو في غصن بان فطربا
فصوت الغراب، يشير إلى الغربة والاغتراب، لذلك كره6.
وهو من ألأم الطير وأخبثها، وهو من عبيد الطير، وليس من أحرارها، فهو دنئ النفس، إذا صادفته جيفة، نال منها، وهو لا يتعاطى الصيد. فهو حيوان خبث الفعل وخبيث المطعم، لذلك عد العرب أكله عارا يعبر من يقدم
__________
1 الحيوان "2/ 316"، "هارون".
2 العمدة "2/ 260"، تاج العروس "6/ 207"، "عاف"، اللسان "9/ 261"، "عيف".
3 الحيوان، للجاحظ "3/ 129"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 172".
4 حياة الحيوان "2/ 173".
5 الحيوان "3/ 131"، حياة الحيوان "2/ 273 وما بعدها"، "3/ 317"، "هارون"، "فسق الغراب وتأويل رؤياه.
6 البرقوقي "ص19"، بلوغ الأرب "2/ 334 وما بعدها".(12/369)
عليه. وكانوا يتعايرون بأكل لحمه1. وليس ذلك "لأنه يأكل اللحوم ولأنه سبع"، لو كان ذلك منهم "لكانت الضواري والجوراح أحق بذلك عندهم"2 إنما امتنعوا عن أكله، لأنه يأكل الجيف والقاذورات، ولذلك عدة العبرانيون من الحيوانات النجسة، والحيوانات هي في الغالب الحيوانات التي لا يجوز أكل لحومها، والظاهر أنه كان على هذه النظرة عند أغلب الساميين.
ونعت الغراب بـ "الأعور"، قيل إنه نعت بذلك لحدة نظره3، وقيل إنما سموه "الأعور" تفاؤلا بالسلامة4. ووصف بالحذر، فقيل: أحذ من غراب، وقيل إنه نعت بذلك على التشاؤم به، لأن الأعور عندهم مشؤوم، وقيل لخلاف حاله، لأنهم يقولون: أبصر من غراب، ويقال سمي الغراب أعور، لأنه إذا أراد يغمض عينيه5.
ويذكر أهل الأخبار أن غراب البين نوعان: أحدهما صغار معروفة بالضعف واللؤم. أما الآخر، فإنه ينزل في دور الناس، ويقع على مواضع إقامتهم إذا ارتحلوا عنها وبانوا منها، ولذلك سمي بغراب البين6.
وللعرب عادات بالنسبة إلى الغراب، ترى إنه إذا علق منقار الغراب على إنسان، حفظ من العين. اما إذا علق طحاله على إنسان، هيج الشبق. وأن دمه إذا جفف وحشي به البواسير، أبرأها. وإذا أكل مشويا، نفع القولنج. وإذا غمس الغراب الأسود بريشه في الخل، وطلي به الشعر، سوده وإذا طلي بها إنسان مسحور، بطل عنه السحر. وإذا جفف لسان الغراب "الزاغ"، ثم أكله إنسان عطشان، ذهب عشطه7.
__________
1
ما بالعار ما عيرتمونا ... شواء الناهضات مع الخبيص
فما لحم الغراب لنا بزاد ... ولا سرطان أنهار البريص
الحيوان، للجاحظ "2/ 314 وما بعدها"، "2/ 313"، "لؤم الغراب وضعفه".
2 الحيوان للجاحظ "2/ 317"، "التعاير بأكل لحم الغراب".
3 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص258".
4 الحيوان، للجاحظ "2/ 314 وما بعدها".
5 تاج العروس "3/ 428"، "عور".
6 الحيوان، للجاحظ "2/ 315" حياة الحيوان، للدميري "2/ 246".
7 حياة الحيوان، للدميري "2/ 245، 255".(12/370)
ونسب إلى المرقش السودسي، ذكر الغراب في شعره، إذ قيل إنه قال:
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
وإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم1
ويبين هذان البيتان رأي هذا الشاعر في التيامن والتشاؤم.
وكا العرب إذا أرادوا أن يصفوا أرضا بالخصب والسواد، قالوا: وقعوا في أرض لا يطير غرابها، فهذا يعني أن الأرض كلها خصبة مزروعة سوداء، لا ترى فيها قطعة بيضاء، ولا ترى إلا الزرع والخيرات والثمر. وإذا أرادوا التعبير عن انتقال مرحلة الشباب إلى مرحلة الشيخوخة، وعن التهام الشيب لسواد الرأس: قيل: طار غراب البين2.
وقد يكون في جملة أسباب تشاؤم العرب من الغراب، إنه كان يضر بإبلهم. فهم يذكرون إنه إذا وجد دبرة في ظهر البعير، أو قرحة في عنقه، سقط عليها ونقره وعقره. ولذلك كانوا إذا رأوا دبرة بظهر البعير، غرزو في سنامه إما قوادم ريش أسود، وإما خرقا سودا، لتفزع الغربان فلا تتقرب منه ولا تسقط عليه. وقد يضعون الريش في اسنمتها وتغرز فيها3. والعرب تسمي الغراب لذلك "ابن دأية"، لأنه ينقر دبرة البعير أو قرحة عنقه، حتى يبلغ إلى دايات العنق وما اتصل بها من خرزات الصلب، وفقار الظهر4.
والغراب من الطيور التي ورد ذكرها في التوراة. والعبرانيون مثل العرب اعتقدوا بالطيرة منه، أي بتأثير حركاته وسكناته في إحداث الفأل والشؤم5.
وقد ذكر "الجاحظ" جريدة بأسماء الجهات التي يقف عليها "الغراب" فينعب، وما سيقع من وقفته تلك ومن نعيبه، وما يجب أن يفعله أو يتجنبه
__________
1 المعاني "3/ 1187".
2 تاج العروس "1/ 407".
3 الحيوان، للجاحظ "3/ 416 وما بعدها"، "هارون".
4 الحيوان "3/ 415، 439"، "هارون".
5 الملوك الأول، الاصحاح السابع عشر، الآية 6: التكوين، الاصحاح الثامن، الآية 7، Ency. ReIigI, 4 p. 808.(12/371)
الإنسان في هذه الحالات. كما ذكر أمورا أخرى تخص التطير أو التفاؤل من أصوات الحيوانات أو من رؤيتها1.
وكان "أمية بن أبي الصلت" ممن يتطير من الغراب، ويذكر أهل الأخبار أنه بينا كان يشرب مع إخوان له في قصر "عيلان" بالطائف، إذ سقط غراب على شرفة القصر، فنعب نعبة، فقال أمية: "بفيك الكثكث"، أي التراب وتشاءم منه، وقد مات فعلا في مكانه بعد نعيبه للمرة الثالثة2.
وفي شعر أمية قوله:
بآية قام ينطق كل شيء ... وخان أمانة الديك الغراب
وذلك أن من أحاديث العرب، أن الديك كان نديما للغراب، وأنهما شربا الخمر عند خمار ولم يعطياه شيئًا، وذهب الغراب ليأتيه بالثمن حين شرب، ورهن الديك، فخاس به، فبقي محبوسا، وأن نوحا حين بقي في اللجة أياما بعث الغراب، فوقع على جيفة ولم يرجع، ثم بعث الحمامة لتنظر هل ترى في الأرض موضعا يكون للسفينة مرفأ، واستجعلت على نوح الطوق الذي في عنقها، فرشاها بذلك. وفي جميع ذلك وغيره قال "أمية" ذلك البيت وأبياتا أخرى، تطرق فيها إلى قصص إسرائيلي آخر، أخذ علمه به من أهل الكتاب. "فقد كان داهية من دواهي ثقيف، وثقيف من دهاة العرب، وقد بلغ من اقتداره في نفسه أنه قد كان هم بادعاء النبوة، وهو يعلم كيف الخصال التي يكون الرجل بها نبيا أو متنبيا إذا اجتمعت له، نعم وحتى ترشح لذلك بطلب الروايات، ودرس الكتب، وقد بان عند العرب علامة، ومعروفا بالجولان في البلاد، روابة"3.
ومن رأي العرب أن الغراب لا يشيب، وضربوا به المثل في ذلك، فقالوا: "حتى يشيب الغراب ويبيض القار"، ضربوا به مثلا في الاستمرار على العمل
__________
1 نهاية الأرب "3/ 134 وما بعدها".
2 نهاية الأرب "3/ 139"، حياة الحيوان "2/ 173"، الحيوان "3/ 131".
3 الحيوان "2/ 320".(12/372)
وعدم الملل من شيء1. ويقولون: ذهب الغراب يتعلم مشي العصفور أو القطاة، فلم يتعلمها، ونسي مشيته. فلذلك صار يحجل ولا يقفز قفزان العصور، أو مشية القطاة2.
والبوم من الطيور التي يتشاءم منها بعض الناس، ولعل ذلك بسبب منظرها الكئيب ولصوتها الحزين وظهورها في الليل، والليل هو رمز الشر. ويدل وصفها بـ "أم الخراب" و"أم الصبيان" على النظرة السيئة التي كان يراها العرب لها3. ويقال إن من أنواعها الصدى والهامة. ولعل اعتقادهم أن الصدى والهامة أو ذكر البوم منها، هي روح الميت المرفرفة على القبر هو الذي حمل أولئك المتشائمين على التشاؤم منها.
والعاطوس، وهي سمكة في البحر أو دابة من الحيوانات التي كان العرب يتشاءمون منها4. وكذلك "الأخيل" وهو "الشقراق"، "يتطيرون منه ويسمونه مقطع الظهور: يقال إذا وقع على بعير، وإن كان سالما يئسوا منه، وإذا لقي المسافر الأخيل تطير وأيقن بالعقر إن لم يكن موت في الظهر"5. وهم يتشاءمون من الثور الأعضب أي المكسور القرن6. ويتشاءمون من "العراقيب"، الشقراق. وتقول العرب: إذا وقع الأخيل على البعير ليكشفن عرقوباه. وقيل: كل طائر يتطير منه الإبل، فهو طير عرقوب لأنه يعرقبها7.
ويتطيرون بالصرد، ومن أسمائه الأخطب، ويقال "الأخيل" كذلك. و"الواق" أيضًا الصرد8. ويتشاءمون من "الأفكل"، وهو الشقران، فإذا عرض لهم كرهوه وفزعوا منه وارتعدوا9.
__________
1 اللسان "11/ 629"، الحيوان "3/ 131"، حياة الحيوان "2/ 177".
2 الحيوان "4/ 325".
3 حياة الحيوان "1/ 1818 وما بعدها".
4 قال طرفة بن العبد:
لعمري لقد مرت عواطيس جمة ... ومر قبيل الصبح ظبي مصمع
تاج العروس "4/ 192"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 121، 221"، العمدة "2/ 260"، اللسان "6/ 142".
5 بلوغ الأرب "2/ 37"، البرقوقي "348"، ديوان حسان "ص22" "هرشفلد".
6 بلوغ الأرب "2/ 338"، العمدة "2/ 262".
7 تاج العروس "1/ 378"، "عوقب".
8 العمدة "2/ 261".
9 تاج العروس "8/ 65"، "افتكل".(12/373)
والثعلب والأرنب من الحيوانات التي استعان بها الزاجر، في الزجر1. والواقع أن أهل الزجر قد توسعوا في علمهم حتى شمل كل المخلوقات، فحركات الإبل والخيل وسكناتها كلها ذات معان ومفاهيم يعرفها المشتغلون بالطيرة، وكانوا يستعينون بغيرها من الحيوانات.
وقد ذكر بعض الإخباريين أن العرب تتشاءم من الأفراس بالأشقر2. وذكروا أيضًا أنها تطيرت من: "المراة، والدار، والفرس". وفي الحديث: "إن كان الشؤم، ففي الدار والمرأة والفرس"3. وورد: "إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار". وذكر أن "عائشة"، قالت: "وإنما قال: أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك"، أي أن الرسول إنما قال ذلك حكاية عن أهل الجاهلية فقط4.
وكما يتغلب الإنسان على الأمراض بالأدوية والعلاج، كذلك يمكن التغلب على النحس وشؤم ناصية المرأة وعتبة الدار بالذبائح في بعض الأحيان، ولهذا جرت العادة بذبح ذبيحة أو عدة ذبائح عند زفاف العروس إلى بعلها ووصولها عتبة بيته طردا للأرواح الشريرة وإرضاء لها، كما جرت العادة بذبح الذبائح حين الانتقال إلى دار جديدة، أو حين الشعور بوجود أرواح فيها، ويقال لهذه الذبائح "ذبائح الجان"5.
وقد ابتدع الجاهليون طرقا لإبعاد الطيرة من تفكيرهم، من ذلك إنهم تجاهلوا بقدر إمكانهم، المسميات التي تبعث على التشاؤم بتسميتها بضدها من الكلمات التي لا يتشاءم منها، فسموا اللديغ بالسليم، والبرية بالمفازة، وكنوا الأعمى أبا بصير والأعور ممتعا، والأسود أبا البيضاء، وسموا الغرب بحاتم، وذلك لتشاؤمهم من الغراب6. والتسمية بالأضداد لدفع الطيرة عن الأذاه، ليست عادة جاهلية حسب، إنما هي معروفة في الإسلام كذلك. كما إنها معروفة عند غير العرب من الأمم قديما وحديثا.
__________
1 Reste, S. 202.
2 مجمع الأمثال "2/ 86".
3 "لا عدوى ولا طيرة، إنما الشؤم في ثلاث في القرس والمراة والدار"، جامع الأصول "8/ 396"، عمة القارئ "21/ 289".
4 القسطلاني، إرشاد "5/ 73 وما بعدها".
5 تاج العروس "2/ 138".
6 الحيوان "3/ 439"، "عبد السلام هارون"، بلوغ الأرب "2/ 338 وما بعدها".(12/374)
التثاؤب والعطاس:
ويدخل في الطيرة بعض ما يصدر من الإنسان والحيوان من حركات، مثل التثاؤب والعطاس، والتثاؤب عمل من أعماله الشيطان. وأما العطاس، فقد كان أثره في إيجاد الشؤم شديدا، وهو من العادات الجاهلية المذكورة في الشعر المنسوب إلى الجاهليين. ذكر أن امرأ القيس قال:
وقد اغتدي قبل العطاس بهيكل ... شديد منيع الجنب نعم المنطق
وإنه أراد بذلك إنه كان يتنبه للصيد قبل أن ينتبه الناس من نومهم، لئلا يسمع عطاسا فيتشاءم بعطاسه1.
وقيل إن العرب كانت تتطير منه، فإذا عطس العاطس، قالوا: قد ألجمه، كأنها قد تلجمه عن حاجته2.
ويقال الكدسة لعطسة البهائم. وقد تقال لعطسة الإنسان. والكادس ما يتطير به من الفال والعطاس وغيرهما. وقيل الكادس: القعيد من الظباء، وهو الذي يجئ من خلفك، ويتشاءم به، كما يتشاءم بالبارح3.
والعطاس فضلا عن ذلك دواء في نظر أهل الجاهلية، لذلك كانوا يتجنبونه بقدر إمكانهم، ويحاولون جهدهم حبسه وكتمه. فإذا عطس أحدهم وكان وضيعا مغمورا أسمعوه كلاما مرا فيه رد للشؤم على صاحب العطاس، كأن يقولوا له: "وريا وقحابا". والوري هو داء يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب هو السعال، أو: "بك لا بي: أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لا بي". أما إذا كان العاطس معروفا محبوبا شريفا، قالوا له: "عمرا وشبابا". وكلما كانت العطسة شديدة كان التشاؤم منها أشد4. ويقال للدعاء على العاطس "التشميت" و"التسميت"5.
__________
1 العمدة "2/ 260"، إرشاد الساري "9/ 125 وما بعدها".
2 المعاني الكبير "3/ 1185"ز
3 تاج العروس "4/ 230"، "كدس".
4 المعاني الكبير "2/ 1015"، بلوغ الأرب "2/ 332".
5 اللسان "2/ 357"، تاج العروس "1/ 559". "شمت".(12/375)
وقد نهى الإسلام عن التشاؤم بالعطاس، وعكسه، فجعله محبوبا، بحديث: "إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب" 1.
وإذا مات رجل قالوا: عطس الرجل، و"عطست به اللجم"، واللجمة ما تطيرت منه، ويقال للموت: لجم عطوس2.
__________
1 جامع الأصول "7/ 396 وما بعدها".
2 اللسان "6/ 142".(12/376)
بعض من أنكر الطيرة:
وكان بين الجاهليين أناس أنكروا الطيرة، ولم يحلفوا بها. منهم المرقش من بني سدوس، حيث قال:
إني غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
فكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم1
وممن كان ينكر الطيرة ويوصي بذلك، سلامة بن جندل، والحارث بن حلزة. ونجد الشاعر "الخثيم بن عدي" يمدح "مسعود بن بجر الزهري"، بقوله:
وليس بهياب إذا شد رحله ... يقول عداني اليوم واق وحاتم
ولكنه يمضي على ذاك مقدما ... إذا صد عن تلك الهنات الخثارم
فهو يمدحه، ويقول إن ممدوحه لم يكن من الخثارم، أي المتطبرين، بل كان إذا أراد أن يمضي أمرا، صد عن تلك الهنات، فلا يحفل بواق وحاتم2.
وكان النابغة من المتطيرين، خرج مع "زيان بن سيار" يريدان الغزو، فبينما هما يريدان الرحلة، إذ نظر النابغة وإذا على ثوبه جرادة تجرد ذات ألوان، فتطير وقال: غيري الذي خرج في هذا الوجه! فلما رجع زبان من تلك الغزوة سالما. أنشأ يذكر شأن النابغة، فقال:
__________
1 الحيوان "3/ 436، 449"، "هارون".
2 الحيوان ط3/ 437"، "هارون".(12/376)
تخبر طيره فيها زياد ... لتخبره وما فيها خبير
أقام كأن لقمان بن عاد ... أشار له بحكمته مشير
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور
بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا وباطله كثير1
واسم النابغة زياد2.
وهناك نوع آخر من التنبؤ يقال له في الإنكليزية "Hepatscopy"، ويراد به استخراج الغيب من دراسة كبد الأضاحي التي تقدم إلى الآلهة. وقد اشتهر به الكلدانيون على الأخص، وتوسعوا فيه فشمل أيضًا قراءة الرئة أو بقية الأحشاء. وكان معروفا أيضًا عند العبرانيين واليونان والرومان والمصريين وغيرهم3. وللكبد أهمية خاصة عند العرب، وهو ف نظرهم معدن العداوة ومقر الحقد، لذلك يقال للأعداء: سود الأكباد، لأن الحقد قد أحرق أكبادهم حتى اسودت4.
وقد تشاءموا من بعض الأيام، مثل "الأيام النحسات". وهي كل أربعاء يوافق أربعاء من الشهر، مثل أربع خلون، وأربع وعشرين، وأربع بقين. كما تشاءموا من بعض الشهور، مثل شهر شوال، ولذلك كرهت التزوج فيه5. وورد يوم نحس و"أيام نحسات"، وهي المشؤومات. والعرب تسمي الريح الباردة إذا دبرت نحسا. والنحس: الجهد والضر، وخلاف السعد من النجوم وغيرها6. وقد كان أه لنجد يتيمنون بالسانح، ويتشاءمون بالبارح، ويخالفهم أهل العالية، فيتشاءمون بالسانح، ويتيمنون بالبارح7.
ويدخل في هذه الأيام تشاؤم بعض الجاهليين من يوم معين وتفاؤلهم من يوم آخر. فيكون يوم التشاؤم يوم بؤس، يغضب فيه من يتشاؤم منه على كل من يراه أول مرة أو في ذلك النهار، وقد يلحق به سوءا كالذي روي من قصة
__________
1 الحيوان "3/ 447"، "هارون".
2 الحيوان "5/ 555"، "هارون".
3 Ency. ReIigI., 4, p. 808 Hastings, p. 568, Diodorus SicI., II, p. 29.
4 اللسان "4/ 378".
5 مروج الذهب "2/ 108 وما بعدها".
6 اللسان "6/ 227".
7 العمدة "2/ 263".(12/377)
"يومي البؤس والنعيم" عند "المنذر بن ماء السماء أو "النعمان بن المنذر"1. ويكون يوم التفاؤل "يوم نعيم" يفرح فيه صاحبه ويهش لكل من يراه ولا سيما لأول قادم عليه. وعبر عنهما بـ "يوم بؤس"، "يوم نعم"2. وكانت العرب تشاءم من كلبة يقال لها "براقش"3.
__________
1 البلدان "6/ 283 وما بعدها"، الأغاني: 5/ 213"، ابن قتيبة: الشعر "144". القالي، الأمالي "3/ 195".
2 اللسان "12/ 579".
3 الحيوان "5/ 454"، "هارون".(12/378)
بعض من أنكر الطيرة
...(12/3)
الفأل:
والفأل ضد التشاؤم والطيرة. ويكون برؤية شيء أو سماع أمر أو قول أو غير ذلك يتفاءل منه، كأن يسمع مريض رجلا يقول يا سالم فيقع في ظنه إنه يبرأ من مرضه، أو يسمع طالب حاجة رجلا يقول يا واجد فيخال إنه يجد ضالته، فيتوقع صحة هذه البشرى، ويقال لذلك في الإنكليزية Omen. ,I, وهو معروف عند العبرانيين وقد ذكر في التوراة1.
وأصل كلمة "الفأل" على ما يظهر للتشاؤم والتفاؤل، أي إنها كالطيرة أريد بها الحالتان، ثم تخصصت بالحسن، كما تخصصت الطيرة بالشؤم2. وقد نهى في الحديث عن الطيرة. أما الفأل، فقد ورد أن الرسول كان يتفاءل ولا يتطير لما في التفاؤل من أثر طيب في أعمال الإنسان3.
وضد "الشؤم" "اليمن"، ومن معاني اليمن "البركة" و"الميامين" على نقيض "المشائيم"، و"الميمون" ضد المشؤوم"4. وورد "ميمون النقيبة"5 و"ميمون الناصية". ويلاحظ أن للناصية علاقة متينة بالشؤم والتمين، فكما يقال "ميمون الناصية" قيل "شؤم الناصية" كذلك، وهي كناية عن الإنسان فقد كان في رأيهم أن من الناس من هم شؤم. ويجلبون الشؤم على من يراهم،
__________
1 جامع الأصول "8/ 468"، "كتاب الطيرة"، اللسان "14/ 27"، إرشاد الساري "8/ 397، Ency., II, p. 46, Reste, S. 203. ff.
2 في الحديث: "أصدق الطيرة الفأل"، النهاية "3/ 195".
3 النهاية "3/ 195"، جامع الأصول "8/ 467".
4 تاج العروس "9/ 371".
5 تاج العروس "10/ 491".(12/378)
وأن منهم من تجلب رؤيته الخير لمن يراه. ويكون للحسن والقبح ولسيماء الوجه والجسم دخل كبير في تكوين رأي عن الشخص الذي يتشاءم أو يتفاءل منه. وقد قلت إن بعض العاهات التي تكون في بعض الناس، تجعل غيرهم يتشاءمون منهم عند وقوع نظرهم عليهم في الصباح.
وهناك كلمات عديدة في التشاؤم و"الشؤم"، مثل "شائم" و"شؤم" و"مشؤوم" و"مشوم" و"مشائيم" و"تشاءموا"، و"الأشأم" وأمثال ذلك1.
ولا يقتصر استعمال هذه الألفاظ على جنس معين، بل تقال لكل ما يجلب الشؤم على إنسان. فمن البشر -كما قلت- من هم شؤم على غيرهم، يجلبون الشر لمن يتشاءم منهم، يستوي في ذلك الرجال والنساء والأطفال. ولما كان التشاؤم قضية اعتبارية تتعلق بالنفس والمزاج، كان بعض الأشخاص أو الحيوانات أو الأشياء شؤما عند ناس، بينما هم ليسوا كذلك عند جماعة آخرين. ولكن الغالب أن التشاؤم من الأشياء القبيحة أو الناقصة أو الراعبة وما شابه ذلك، فهذه المزعجات تؤثر على النفس، فتجعلها تتشاءم منه، وتتوقع حدوث النحس من رؤيتها، ولا سيما في الصباح، وعند الهم بالشروع في عمل مهم.
وكانوا يحبون أن يأتوا أعداءهم من شق اليمين2. يتفاءلون بذلك. لأن في اليمين اليمن، وفي اليسار العسر.
وللأسماء والكلمات أثرها في الفأل وفي الطيرة، فالأسماء الحسنة الجميلة تبعث على التفاؤل، أما الأسماء الخبيثة والرديئة فإنها تولد التشاؤم. وقد عرف هذا النوع من التفاؤل في الإسلام، ولم ينه عنه. بل قيل إن الرسول كان يتاثر من الأسماء، وكان يقول إذا أعجبته كلمة: "أخذنا فألك من فيك"، وإنه يعجبه إذا خرج لحاجة أن يسمع: يا راشد، يا نجيح، وأنه قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل" 3.
وللطيرة سمت العرب المنهوش السليم، والبرية المفازة، وكنوا الأعمى أبا بصير،
__________
1 تاج العروس "8/ 354".
2 الحيوان "5/ 516"، "هارون".
3 جامع الأصول "8/ 394".(12/379)
والأسود أبا البيضاء، وسموا الغراب بحاتم، إذ كان يحتم الزجر به على الأمور1
وورد أن العرب إذا تطيروا من الإنسان وغيره قالوا: صباح الله لا صباحك2. ولإيمان العرب بباب الطيرة والفأل عقدوا الرتائم، وعشروا إذا دخلوا القرى تعشير الحمار، واستعملوا في القداح الآمر، والناهي، والمتربص، وهن غير قداح الأيسار3.
ومن أبواب الفراسة النظر إلى خطوط الكف للاستدلال بها على طبيعة صاحب الكف وعلى ما سيحدث له من أحداث. وقد أشار إلى الكف وإلى أسرارها الأعشى في قوله:
انظر إلى كف وأسرارها ... هل أنت إن أوعدتني ضائري4
ولمراقبة الكلف الذي يظهر على وجه القمر ودراسة النجوم والظواهر الطبيعية التي تحدث للأجرام السماوية كالكسوف والخسوف، أهمية كبيرة في التكهن. وقد كان الجاهليون يعتقدون أن للكسوف والخسوف أثرًا في حياة الإنسان، فإذا وقعا دلا على موت إنسان عظيم أو حياته، أو ولادة مولود صاحب حظ كبير5. وكذلك كان رأيهم في تساقط النجوم. وقد أشير إليه في أشعار القدماء من الجاهلية، منهم عوف بن الجزع وأوس بن حجر وبشر بن أبي خازم6.
وقد كان في زعم الكهان من صنف المنجمين أن في استطاعتهم التأثير في الأجرام السماوية وفي أحداث الضباب والعواصف والرياح، وقد نهي عن التصديق بها في الإسلام، لتعارضها مع الإيمان بسيطرة الله وهيمنته وحده على الكون.
كان للجاهليين اعتقاد بأثر فعل النجو في الإنسان، ولهذا كانوا يراقبون السماء لتفسير ما يرون فيه من تساقط نجوم، ومن أخبار الشياطين عما يستعون إليه من وحي السماء. وذكر أنهم كانوا يفزعون إذا تساقطت الشهب بكثرة غير
__________
1 الحيوان "3/ 439"، "هارون، "4/ 253".
2 اللسان "2/ 502".
3 الحيوان "3/ 440"، "هارون".
4 المعاني الكبير "3/ 1185".
5 اللسان "11/ 208"، الروض الأنف "1/ 135".
6 الرض الانف "1/ 135".(12/380)
معهودة، وقد حدث أن تساقطت النجوم بكثرة ففزعوا وجزعوا وقالوا: "هلك من في السماء. فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا، وصاحب البقر يذبح كل يوم بقرة، وصاحب الغنم كل يوم شاة حتى أسرعوا في اتلاف أموالهم. فقالت ثقيف بعد سؤال كاهنهم.. امسكوا عن أموالكم، فإنه لم يمت من في السماء. ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي. والشمس والقمر كذلك"1. فكأنهم تصوروا أن تساقط النجوم هذا بكثرة معناه اختلال نظام السماء وموت من فيه، واحتمال فناء العالم تبعا لذلك.
وكانوا إذا خافوا من شيء وأرادوا الاستعاذة، كأن يكون الإنسان مسافرا فرأى من يخافه قال: حجرا محجورا، أي حرام عليك التعرض بي. وقد ترك هذا الاستعمال في الإسلام2.
وقد ورد الحديث في النهي عن التطير. جاء: "الطيرة شرك. ولكن الله يذهبه بالتوكل" 3.
__________
1 السيرة الحلبية "1/ 141 وما بعدها".
2 الصاحبي "93".
3 جامع الأصول "8/ 467"، "كتاب الطيرة"، سنن أبي داود "4/ 17 وما بعدها"، "باب في الطيرة"، عمدة القاري "21/ 273"، "باب الطيرة"، اللسان "10/ 450"، "شرك".(12/381)
الفصل السابع والثمانون: من عادات وأساطير الجاهليين
مدخل
...
الفصل السابع والثمانون: من عادات الجاهليين
ولأهل الجاهلية عادات وأساطير كثيرة، وقد اختص العرب بقسم منها، أما القسم الثاني فهو عام معروف، عرف عند الساميين والعجم، وهي مما يقال له "الشعبيات" أو "الفلولكلوريات" في مصطلح الإفرنج لهذا العهد.
فمن ذلك ما كانوا يفعلونه في أسفارهم إذ كان أحدهم إذا خرج إلى سفر عمد إلى شجرة من "الرتم"، فعقد غصنا منها، فإذا عاد من سفره ووجده قد انحل، قال: قد خانتني امرأتي، وإن وجده على حالته قال لم تخني1. ويقال لذلك العقد "الرتم"و "الرتمة". وذكر أن الرجل منهم كان إذا سافر عمد إلى خيط فعقده في غصن شجرة أو في ساقها، فإذا عاد نظر إلى ذلك الخيط، فإن وجده بحاله علم أن زوجته لم تخنه، وإن لم يجده أو وجده محلولا قال: قد خانتني. ويقال: بل كانوا يعقدون طرفا من غصن الشجر بطرف غصن آخر2.
وتستعمل "الرتمة" لتذكير الإنسان بشيء. يستعلمها من يكثر نسيانه. وهي خيط يعقد في الأصبع للتذكير. وقد يعقد على الخاتم3.
ومن اعتقادهم في السفر أن من خرج في سفر والتفت وراءه لم يتم سفره.
__________
1 المستطرف "2/ 78".
2 بلوغ الأرب "2/ 316 وما بعدها"، نهاية الأرب "3/ 125"، اللسان "15/ 116". صبح الأعشى "1/ 408".
3 تاج العروس "8/ 303"، "رتم".(12/382)
فإن التفت تطير، وفسره بالعودة. فلذلك لا يلتفت إلا العاشق الذي يريد العود1.
ومنها التصفيق: كانوا إذا ضل الرجل منهم في الفلاة، قلب ثيابه، وحبس ناقته، وصاح في أذنها كأنه يومئ إلى إنسان، وصفق بيديه: الوحا الوحا، النجا النجا، هيكل، الساعة الساعة، إلي إلي، عجل، ثم يحرك الناقة فيهتدى. قال الشاعر:
وأذن بالتصفيق من ساء ظنه ... فلم يدر من أي اليدين جوابها2
وذكر إنه كان يقلب قميصه ويصفق بيديه كأنه يومئ بهما إلى إنسان فيهتدي3.
وكان أحدهم إذا أراد دخول قرية، فخاف وباءها أو جنها، وقف على بابها قبل أن يدخلها، فنهق نهيق الحمار، ثم علق عليه كعب أرنب، كأن ذلك عوذة له ورقية من الوباء والجن. ويسمون هذا النهيق التعشير.
وروي أن "عروة بن الورد" خرج إلى "خيبر" ليمتار، فلما قربوا منها، عشر من معه، وعاف "عروة" أن يفعل فعلهم. فيقال: إن رفقته مرضوا، ومات بعضهم، ونجا "عروة" من الموت والمرض4.
وكان مسافرهم إذا ركب مفازة وخاف على نفسه من طوارق الليل، عمد إلى واد ذي شجر، فأناخ راحلته في قرارته، وهي القاع المستديرة وعقلها، وخط عليها خطا، ثم قال: أعوذ بصاحب هذا الوادي5. وإلى ذلك أشار القرآن {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 6. وذكر أنهم كانوا إذا نزلوا الوادي، قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه، فتقول الجن: ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضرا ولا نفعا7.
ومن عادات بعض العرب أنهم إذا خافوا شر إنسان وأرادوا عدم عودته إليهم، أوقدوا خلفه نارًا، إذا تحول عنهم، ليتحول ضبعه معه، أي شره. وكانوا يقولون: أبعد الله دار فلان وأوقد نارًا أثره، والمعنى لا رجعه الله ولارده8.
__________
1 المستطرف "2/ 80"، بلوغ الأرب "2/ 328".
2 نهاية الأرب "3/ 122"، صب الأعشى "1/ 405".
3 المستطرف "2/ 80"، بلوغ الأرب "2/ 316".
4 بلوغ الأرب "2/ 315 وما بعدها".
5 بلوغ الأرب "2/ 325".
6 الجن، الآية 6.
7 تفسير الطبري "29/ 68".
8 اللسان "3/ 466". "وقد".(12/383)
وإذا غاب الإنسان، فلم يقفوا على أثره، ففي الوسع الاهتداء إليه، وذلك بأن يذهبوا إلى بئر قديمة أو حفر قديم، ثم ينادوا في البئر أو الحفر اسم الغائب ثلاث مرات، فإن سمعوا صوتا علموا أنه حي معافى، وإن لم يسمعوا شيئًا علموا أنه قد مات1.
وإذا أراوا ضمان عدم رجوع الثقلاء ومن لا يرغب في عودتهم، فإن الثقيل إذا غادر المحل، عمد صاحب البيت والمكان إلى كسر شيء من الأواني أو رمى حجرا خلفه، وفي ذلك ضمان بألا يعود2.
ومن خرافاتهم أن أحدهم كان إذا اشترى دارا أو استخرج ماء عين أو بنى بنيانا وما أشبهه، ذبح ذبيحة للطيرة. وقد عرفت عندهم بـ "ذبائح الجن". وكانوا يفعلون ذلك مخافة أن تصيبهم الجن وتؤذيهم. وقد نهي في الإسلام عن ذبائح الجن3.
وأوجدوا لدوام الحب علاجا، هو شق الرداء والبرقع. زعموا أن المرأة إذا أحبت رجلا أو أحبها ثم لم تشق عليه رداءه، ويشق عليها برقعها، فسد حبهما، فإذا فعل ذلك دام حبهما4.
وإذا صعب على المرأة العثور على خاطب لها، فإن في الإمكان تيسير ذلك بنشر جانب من شعرها، وتكحيل إحدى عينيها، وتحجيل إحدى رجليها، ويكون ذلك ليلا، ثم تقول: "يا لكاح، أبغي النكاح، قبل الصباح"، فيسهل أمرها، وتتزوج عن قريب5.
ومن آرائهم أن الرجل منهم إذا عشق ولم يسل وأفرط عليه العشق، حمله رجل على ظهره كما يحمل الصبي، وقام آخر فأحمى حديدة أو ميلا وكوى به بين إليتيه فيذهب عشقه6.
ولدوام الحب بين الرجل والمرأة، يشق الرجل برقع من يحبها وتشق المرأة رداءه، فيصلح حبهما ويدوم، فإن لم يفعلا ذلك فسد حبهما7.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 3 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "2/ 330".
3 اللسان "2/ 437"، "ذبح"، ثمار القلوب "ص69".
4 نهاية الأرب "3/ 126".
5 بلوغ الأرب "2/ 330".
6 بلوغ الأرب "2/ 321".
7 بلوغ الأرب "2/ 322".(12/384)
وإذا غاب عن النساء من يحببنه أخذن ترابا من موضع قدمه وموضع رجله، ليرجع سريعا1.
وإذا أرادت المقلاة أن يعيش ولدها، ففي إمكانها ذلك إذا تخطت القتيل الشريف سبع مرات، وعندئذ يعيش ولدها. وإنما كانوا يفعلون ذلك بالشريف يقتل غدرا. وقد ذكر ذلك في شعر لبشر بن أبي خازم2.
ومن عقائدهم أن صاحب الفرس المهقوع إذا ركبه فعرق حته اغتلمت امرأته، وطمحت إلى غيره. والهقعة: دائرة بالفرس، وربما كانت على الكتف في الأكثر3.
وكان الصبي إذا بترت شفته، حمل منخلا على رأسه ونادى بين بيوت الحي: "الحلاء الحلاء، الطعام الطعام" فتلقي له النساء كسر الخبز والتمر واللحم في المنخل، ثم يلقى ذلك للكلاب، فتأكله فيبرأ من المرض فإن أكل صبي من الصبيان من ذلك الذي ألقاه للكلاب تمرة أو لقمة، بتر شفته4.
وتعالج "الخطفة" و"النظرة" عند الصبيان بتعليق سن ثعلب، أو من هرة على الصبي، فإن تلك الأسنان تهرب الجن. ويهربها كذلك تنقيط شيء من صمغ "السمرة" "حيض السمرة"، وهي شجرة من شجر الطلع، بين عيني النفساء، وخط شيء منه على وجه الصبي خطا، فلا تجرؤ الجنية على التقرب من الصبي، ويقال لذلك "النفرات"، فإذا قال لها صواحباتها في ذلك، قالت:
كانت عليه نفره ... ثعالب وهرره
والحيض حيض السمره5
ومن عاداتهم في إبعاد الجن عن الصبيان، تنفير المولود، وذلك أن يسميه باسم غريب منفر، فينفر الجن منه، ولا يتقربون منه6.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 239 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "2/ 317 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "2/ 323".
4 بلوغ الأرب "2/ 328".
5 نهاية الأرب "3/ 124"، بلوغ الأرب "2/ 325"، تاج العروس "3/ 578 وما بعدها".
6 بلوغ الأرب "2/ 325".(12/385)
وعادة أخذ الغلام إذا ثغر، السن الساقط ووضعه إياه بين السبابة والإبهام، واستقبال الشمس، وقذف السن في عينها، لا تزال معروفة حتى الآن، وهم يقولون في ذلك: "ابدليني بسن أحسن منها، ولتجر في ظلمها إياتك"1، أو "أبدليني أحسن منها، أمن على أسنانه العوج، والفلج، والثعل". قال طرفة:
بدلته الشمس من منبته ... بردا أبيض مصقول الأشر2
واعتقد قوم منهم أن من ولد في القمراء، تقلصت غرلته، فكان كالمختون3. واعتقدوا أن طول الغرلة من تمام الخلقة وأقرب ما يكون إلى السؤدد4.
ومن عقائدهم، أن المولود إذا ولد يتنا، كان ذلك علامة سوء، ودليلا على الفساد، واليتن خروج رجل المولود قبل رأسه5.
ومن عقائدهم أن الرجل كان إذا ظهرت فيه القوباء عالجها بالريق، وإذا أصيب أو أصيبت دابته بالنملة، وخط عليها ابن المجوسي إذا كان من اخته تبرأ وتنصلح وترأب6.
وزعموا أن من أصيب بـ "الهدب"، وهو "العشا" يكون في العين، عمد إلى سنام فقطع منه قطعة، ومن الكبد قطعة، وقلاهما، وقال عند كل لقمة يأكلها بعد أن يمسح جفنه الأعلى بسبابته:
فيا سناما وكبد ... ألا اذهبا بالهدبد
ليس شفاء الهدبد ... إلا السنام والكبد
ويزعمون أن ذلك بالعشا بذلك7.
وقد زعم الجاهليون أن الطاعون الذي كان يقع كثيرًا في الجاهلية فيحصد الناس
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 318".
2 نهاية الأرب "3/ 122".
3 بلوغ الأرب "2/ 331".
4 تاج العروس "8/ 41"، "غرل"، بلوغ الأرب "2/ 331"ز
5 الحيوان "1/ 286"، "هارون".
6 بلوغ الأرب "2/ 329"، وتعرف "القوباء بـ"كوباية" بلغة العمامة لهذا العهد.
7
إنه لا يبرئ داء الهدبد ... مثل القلايا من سنام وكبد
تاج العروس "2/ 545"، "الهدبد"، بلوغ الأرب "2/ 340".(12/386)
حصدا، هو من وخز الجن، وأنه من فعلهم في الإنسان ودعوه "رماح الجن"، وذكر ذلك في الشعر فقال أحد الشعراء:
لعمرك ما خشيت على عدي ... رماح بني مقيدة الحمار
ولكني خشيت على عدي ... رماح الجن أو إياك جار1
وكانوا يرون أن أكل لحوم السباع يزيد في الشجاعة والقوة2.
وفي حركات الإنسان دليل ومعان تنبئ عن أشياء. فإذا اختلجت العين دل، ذلك على توقع قدوم شخص غائب محبوب. ولا تزال هذه العادة باقية عند الناس اليوم3.
ومن عاداتهم أن أحدهم إذا خدرت رجله، ذكر أحب الناس إليه، فتنبسط4.
وكانوا يعقدون الرتم للحمى، ويرون أن من حلها انتقلت الحمى إليه. قال أحد الشعراء:
حللت رتيمة فمكثت شهرا ... أكابد كل مكروه الدواء5
وقد زعموا أن في البطن حية، إذا جاع الإنسان، عضت على شرسوفه وكبده. وقيل: هو الجوع بعينه، ليس أنها تعض بعد حصول الجوع6.
وكان من عادة الجاهليين حمل ملوكهم على الأعناق إذا اشتد بهم المرض. وهم يعتقدون أنهم بذلك سيتغلبون على المرض، ويعللون ذلك بأنه أسهل على المريض، وأكثر راحة له من وضعه على الأرض7.
واعتقدت العرب أن دم الملوك والرؤساء يشفي من عضة الكلب8. وزعموا أن الكلب جنون الكلاب المعتري من أكل لحم الإنسان. وأجمعت العرب أن
__________
1 ثمار القلوب "68".
2 بلوغ الأرب "2/ 323".
3 بلوغ الأرب "2/ 321 وما بعدها".
4 تاج العروس "3/ 170"، "خدر".
5 بلوغ الأرب "2/ 317".
6 بلوغ الأرب "2/ 313 وما بعدها".
7 بلوغ الأرب "3/ 20 وما بعدها".
8 بلوغ الأرب "2/ 319".(12/387)
دواءه قطرة من دم ملك يخلط بماء فيسقاه، وقيل إن الرجل الكلب يعض إنسانا فيأتون رجلا شريفا، فيقطر لهم من دم إصبعه، فيسقون الكلب فيبرأ1.
ومن عقائدهم إنهم كانوا إذا قتلوا الثعبان خافوا من الجن أن يأخذوا بثأره، فيأخذون روثة، ويفتونها على رأسه، ويقولون: روثة راث ثائرك. وقد يذر على الحية المقتولة يسير رماد، ويقال لها: فتلك العين ثائر لك. وفي أمثالهم لمن ذهب العين دمه هدر: هو قتيل العين2.
واعتقد الجاهليون بـ "السفعة"، و"السفعة" العين تصيب الإنسان: عين إنسية وعين جنية، "والسفعة" النظرة من الجن3.
وإذا طالت علة الواحد منهم، وظنوا أن به مسا من الجن، لأنه قتل حية أو يربوعا أو قنفذا، عملوا جمالا من طين، وجعلوا عليها جوالق وملؤوها حنطة وشعيرا وتمرا، وجعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس، وباتوا ليلتهم تلك، فإذا أصبحوا، نظروا إلى تلك الجمال الطين، فإذا رأوا إنها بحالها، قالوا: لم تقبل الهدية، فزادوا فيهان وإن رأوها قد تساقطت وتبدد ما عليها من الميرة قالوا: قد قبلت الدية، واستدلوا على شفاء المريض، وفرحوا، وضربوا بالدف4.
ومن أوابدهم تعليق الحلي والجلاجل على اللديغ، يرون أن يفيق بذلك، ويقال إنه إنما يعلق عليه، لأنهم يرون أنه إن نام يسري السم فيه فيهلك، فشغلوه بالحلي والجلاجل وأصواتها عن النوم. وذهب بعضهم إلى إنه إذا علق عليه حلي الذهب برأ، وإن علق الرصاص أو حلي الرصاص مات5.
ومن آرائهم في إطفاء نار الحرب إنهم كانوا بما أخرجوا النساء فبلن بين الصفين، يرون أن ذلك يطفئ نار الحرب ويقودهم إلى السلم6.
__________
1 تاج العروس "1/ 460"، "كلب".
2 بلوغ الأرب "2/ 358".
3 بلوغ الأرب "2/ 265".
4 بلوغ الأرب "2/ 359".
5 وإلى هذه العقيدة أشار النابغة الذبياني بقوله:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
يسهد من ليل التمام سليمها ... بحلي النساء في يديه قعاقع
بلوغ الأرب "2/ 304".
6 بلوغ الأرب "2/ 4".(12/388)
ومن وسائل إبعاد الجن عن الناس، وإبعاد عيونهم عنهم، تعليق كعب الأرنب. يقولون إن من فعل ذلك لم تصبه عين ولا سحر، وذلك لأن الجن تهرب من الأرنب، لأنها ليست من مطايا الجن، لأنها تحيض. وذكر أيضًا أن من علق على نفسه كعب أرنب، لم يقربه "عمار الحي" "جنان الحي" و"جنان الدار"، و"عمار الدار" ولا "شيطان الحماطة" وجان العشرة "جار العشيرة" وغول العقر "غول القفر"، كل الخوافي وأن الله يطفئ نار السعالي1. و"الحماطة" شجرة شبيهة بالتين تأوي إليها الحيات2.
وكانوا إذا خافوا على الرجل الجنون وتعرض الأرواح الخبيثة له، نجسوه بتعليق الأقذار عليه، كخرقة الحيض وعظام الموتى. وذكروا أن أنفع من ذلك أن تعلق طامث عظام موتى ثم لا يراها يومه ذلك. ويشفي التنجيس من كل شيء. إلا من العشق3.
ومن مذاهبهم قولهم في الدعاء: "لا عشت إلى عيش القراد". يضربونه مثلا في الشدة والصبر على المشقة يزعمون أن القراد يعيش ببطنه عامًا وبظهره عامًا4.
وكانوا يتبركون بأشياء منها المدمى من السهام، الذي ترمى به عدوك ثم يرميك به. وكان الرجل إذا رمى العدو بسهم فأصاب، ثم رماه به العدو وعليه دم، جعله في كنانته تبركًا به. ذكر أن "سعدًا" قال: "رميت يوم أحد رجلا بسهم فقتله، ثم رميت بذلك السهم أعرفه، حتى فعلت ذلك وفعلوه ثلاث مرات، فقلت: هذا سهم مبارك مدمى فجعلته في كنانتي، فكان عنده حتى مات"5.
كان أحدهم يلقي الرجل يخافه في الشهر الحرام، فيقول: حجرًا محجورًا، أي حرام محرم عليك هذا الشهر، فلا يبدؤه بشر6. وكانوا يقولون ذلك إذا نزلوا مكانا وخافوا فيه من الجن.
وكان من عاداتهم أنهم كانوا إذا أرادوا أن تورد البقر الماء، فعافته قدموا ثورا، فضربوه، فورد، فإذا فعلوا ذلك، وردت البقر. وفي ذلك قال الأعشى:
__________
1 نهاية الأرب "3/ 123 وما بعدها".
2
عنجرد تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف
بلوغ الأرب "2/ 324"، اللسان "9/ 146".
3 بلوغ الأرب "2/ 319".
4 بلوغ الأرب "2/ 339".
5 اللسان "14/ 270"، "دمى".
6 تاج العروس "3/ 123"، "حجر".(12/389)
وما ذنبه إن عافت الماء باقر ... وما أن تعاف الماء إلا لتضربا1
ويقولون إن الجن تصد البقر عن الماء، وأن الشيطان يركب قرني الثور2.
ويظهر أن هذا الاعتقاد من الاعتقادات التي كانت شائعة بين الجاهليين، بدليل وروده في أشعار عدد من الشعراء. وكانوا يزعمون أن الجن هي التي تصد الثيران عن الماء حتى تمسك البقر عن الماء حتى تهلك3.
ومن عاداتهم أيضًا أنهم كانوا إذا وقع العر في إبلهم، اعترضوا بعيرا صحيحا لم يقع ذلك فيه، فكووا مشفره وعضده وفخذه. يرون أنهم إذا فعلوا ذلك ذهب العرب عن إبلهم4.
وذكر أن العر قروح مثل القوباء، تخرج بالإبل متفرقة في مشافرها وقوائمها يسيل منها مثل الماء الأصفر، فتكوى الصحاح لئلا تعديها المراض. تقول منه: عرت الإبل، فهي معرورة. قال النابغة الذبياني:
فحملتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكون غيره وهو راتع5
وفي المعنى المذكور قول الشاعر:
فألزمتني ذنبا وغيري جره ... حنانيك لا تك الصحيح بأجربا
وقول آخر:
كمن يكوي الصحيح يروم برءا ... به من كل جرباء الإهاب6
وذكر أن الفصيل كان إذا أصابه العر، عمدوا إلى أمه فكووها، فيبرأ فصيلها7.
__________
1 كتاب المعاني الكبير "2/ 928 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "2/ 303".
3 وفي ذلك قال أنس بن مدركة في قتله سليك بن سلكه:
إني وقتلي سليكا ثم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر
الدميري، حياة الحيوان "1/ 182"، الحيوان "1/ 18 وما بعدها"، "هارون".
4 كتاب المعاني الكبير "2/ 928"، اللسان "6/ 230 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 398 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 305 وما بعدها"، الحيوان "1/ 17"، "هارون".
5 تاج العروس "3/ 390"، "العر"، اللسان "4/ 555"، "عرر".
وكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوي غيره وهو راقع
بلوغ الأرب "2/ 305".
6 بلوغ الأرب "2/ 305 وما بعدها".
7 بلوغ الأرب "2/ 306".(12/390)
ومن ذلك إنهم كانوا يفقأون عين فحل الإبل، لئلا تصيبها العين. وكانوا إذا كثرت إبلهم فبلغت الألف، فقئوا عين الفحل، فإن زادت الإبل على الألف فقئوا العين الأخرى. وذلك المقفأ والمعمى1.
وكانت العرب إذا أجدبت، وأمسكت السماء عنهم، وتضايقوا من انحباس المطر، وأرادوا أن يستمطروا، عمدوا إلى السلع والعشر، فحزموهما، وعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيها النيران، وأصعدوها في موضع وعر، واتبعوها، يدعون الله ويستسقون، وإنما يضرمون النار في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار. وكانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات2. ويقال لهذا الفعل "التسليع".
وذكر أن التسليع في الجاهلية إنهم كانوا إذا أسنتوا، أي أجدبوا، علقوا السلع مع العشر بأذناب البقر وحدروها من الجبال وأشعلوا في ذلك السلع والعشر النار يستمطرون بذلك. ونجد من الرواة من يقول: حدروها من الجبال وأشعلوا في ذلك السلع والعشر النار، ومنهم من يقول: ثم يضرمون فيها النار، وهم يصعدونها في الجبل، فيمطرون3.
وقد أشير إلى هذا الفعل في الشعر، قال أمية بن أبي الصلت:
سلع ما ومثله عشر ما ... عائل ما، وعالت البيقورا
وقال الورك الطائي "وداك الطائي":
لا در در رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لدى الأزمات بالعشر
أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر4
ومن السلع "المسلعة"، كان العرب في جاهليتها تأخذ حطب السلع والعشر في المجاعات وقحوط القطر، فتوقر ظهر البقر منها، وقيل: يعلقون ذلك في أذنابها، ثم تلعج النار فيها يستمطرون بلهب النار المشبه بسنى البرق. وقيل:
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 306"، "وذلك المقفأ والمعمى"، الحيوان "1/ 17"، "هارون".
2 بلوغ الأرب "2/ 301 وما بعدها".
3 اللسان "8/ 161"، "سلع"، تاج العروس "5/ 1384"،"سلع".
4 اللسان "8/ 161"، "سلع"، تاج العروس "5/ 385"، بلوغ الأرب "2/ 302"، "الورك الطائي"، اللسان "8/ 161"، "وداك الطائي"، تاج العروس "5/ 385"، "سلع"، ابن فارس، رسالة النيروز "18"، "الورل الطائي"، "18"، "الورك الطائي"، "اللسان "4/ 73".(12/391)
يضرمون فيها النار، وهم يصعدونها في الجبل، فيمطرون"1.
وقد تعرض "أبو الحسين أحمد بن فارس" لموضوع "البيقور"، فقال: "كانت العرب إذا أمسكت السماء قطرها، استمطروا، فعمدوا إلى شجرتين يقال لهما السلع والعشر، فعقدوهما في أذناب البقر فأضرموا فيها النار، وأصعدوها في جبل وعر وتبعوا آثارها، يدعون الله عز وجل ويستسقونه. قال ابن الكلبي: وإنما يضرمون النار تفاؤلا للبرق"، "كانوا إذا فعلوا ذلك توجهوا نحو المغرب من بين الجهات كلها قصدا إلى العين، والعين قبلة العراق. قال الحجاج:
سار سرى من قبل العين فجر ... غر السحاب والمرابيع البكر2
__________
1 اللسان "8/ 161"، "سلع".
2 ابن فارس، رسالة النيروز "18 وما بعدها".(12/392)
عقيدتهم في الحيوان:
وللجاهليين عقائد في الحيوان. فمنهم من كان يعتقد أن للجن بهذه الحيوانات تعلقا، ومنهم من يرى أنها نوع من الجن، ومنهم من كان يرى أن لبعضها، مثل الورل والقنفذ والأرنب واليربوع والنعام، صلة بالجن، وأنها مراكب لها، يمتطونها كما يمتطي الإنسان الخيل والبغال والإبل والحمير1.
ومن مواكب الجني، "العضرفوط"، قال الشاعر:
وكل المطايا قد ركبنا فلم نجد ... ألذ وأشهى من وخيد الثعالب
ومن فارة مزمومة شمرية ... وخود برد فيها أمام الركائب
ومن عضرفوط حط بي من ثنية ... يبادر سربا من عظاء قوارب2
والعضر فوط دويبة من دواب الجن3، ويقال: العضرفوط ذكر العظماء، وقيل: دويبة تسمى العسودة، بيضاء، ناعمة4.
واعتقدوا أن السموم لما فرقت على الحيوانات، احتسبت العظاية "العظاءة"
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 360".
2 تاج العروس "5/ 183"، "العضرفوط".
3تاج العروس "5/ 183"، "العضرفوط.
وكل المطايا قد ركبنا فلم نجد ... ألذ وأشهى من ركوب الأرانب
ومن عضرفوط عن لي فركبته ... أبادر سربا من عظاء قوارب
بلوغ الأرب "2/ 360".
4 اللسان "7/ 351"، "عضرفوط".(12/392)
عند التفرقة حتى نفد السم، وأخذ كل حيوان قسطا منه على قدر السبق إليه، فلم تنل العظاية نصيبا منه، فخسرته. لذلك صارت تمشي مشيا سريعا ثم يقف، لما يعرض لها من التذكر والأسف على ما فاتها من السم1.
و"الظباء" ماشية الجن، في زعم بعضهم وهي تسمع وتكلم، ولهم قصص عنها2.
وتزعم العرب أن "الهديل"، فرخ على عهد "نوح" مات عطشا، وضبعه أو صاده جارح من جوارح الطير، فما من حمامة إلا وهي تبكي عليه3.
وللخرز عند الجاهليين وعند الأعراب حتى اليوم، شأن كبير في السحر وفي دفع أذى الأرواح والعين، وفي النفع والحب، وأمثال ذلك. وسأتحدث عنها في المكان المخصص بالسحر.
وضرب المثل ببخل "أبي حباحب". ومن محارب خصفة، وكان بخيلا، فكان لا يوقد ناره إلا بالحطب الشخت لئلا ترى، ,وقيل: "اسمه "حباحب"، فضرب بناره المثل، لأنه كان لا يوقد إلا نارًا ضعيفة، مخافة الضيفان، فقالوا: نار الحباحب4.
وأم حباحب: دويبة، مثل الجندب، تطير، صفراء خضراء، رقطاء برقط صفرة وخضرة، ويقولون إذا رأوها: أخرجي بردي أبي حباحب، فتنشر جناحيها، وهما مزينان بأحمر وأصفر5.
وللعرب أساطير عن الكواكب، من ذلك ما ذكروه من أن "الدبران" خطب "الثريا" وأراد القمر أن يزوجه منها، فامتنعت وأعرضت، وقالت للقمر: ما أصنع بهذا السبروت الذي لا مال له؟ فجمع الدبران قلاصه، ووضعها قدامه، وأخذ يتبعها يريد اقناعها بالزواج منه. ومن ذلك قولهم في "المرزم"، وهو "الشعري"، يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدة لحر. تقول العرب: إذا
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 360 وما بعدها"، الدميري، حياة الحيوان "2/ 122"، "العظاءة".
2 بلوغ الأرب "2/ 361 وما بعدها"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 102 وما بعدها"، "الظباء".
3 الدميري، حياة الحيوان "2/ 382"، تاج العروس "8/ 164"، "هدل"، بلوغ الأرب "2/ 264".
4 اللسان "1/ 297"، "حبحب".
5 اللسان "1/ 298"، "حبحب".(12/393)
طلعت الشعرى جعل صاحب النحل يرى، وهما الشعريان: "العبور" التي في "الجوزاء" و"الشعرى الغميصاء" التي في الذراع. تزعم العرب أنهما أخت "سهيل". وقد عبدت طائفة من العرب "الشعرى العبور". قالوا: إنها عبرت السماء عرضا، ولم يعبرها عرضا غيرها، فأنزل الله: "وإنه هو رب الشعرى"، وسميت الأخرى "الغميصاء"، لأن العرب قالت في حديثها إنها بكت على أثر العبور حتى غمصت1.
وزعموا أن "سهيلا" كان عشّارًا على طريق اليمن ظلوما فمسخه الله كوكبا. وعرف بأنه نجم يماني عند طلوعه تنضج الفواكه وينقضي القيظ2.
و"الشمس" إلهة عند كثير من الجاهليين، فتعبدوا لها، وعدت صنما عندهم3.
ومن أساطيرهم ما تحدثوا به عن "برد العجوز". حدثوا أن عجوز دهرية كاهنة من العرب كانت تخبر قومها ببرد يقع في أواخر الشتاء وأوائل الربيع فيسوء أثره على المواشي، فلم يكترثوا بقولها، وجزوا أغنامهم، واثقين بإقبال الربيع، فلم يلبثوا إلا مديدة حتى وقع برد شديد، أهلك الزرع والضرع، فقالوا هذا برد العجوز. يعنون العجوز التي كانت تنذر به.
وحدثوا: أن عجوزًا كانت بالجاهلية، ولها ثمانية بنين، فسألتهم أن يزوجوها وألحت عليهم، فتآمروا بينهم، وقالوا: إن قتلناها لم نأمن عشيرتها، ولكن نكلفها البروز للهواء ثماني ليال، لكل واحد منا ليلة. فقالوا لها: إن كنت تزعمين أنك شابة، فابرزي للهواء ثماني ليال، فإننا نزوجك بعدها، فوعدت بذلك، وتعرت تلك الليلة والزمان شتاء كلب، وبرزت للهواء. وفعلت مثل ذلك في الليل الآخر، فلما كانت الليلة السابعة، ماتت.
ونسب العرب إليها برد الأيام الثمانية، وأسماؤها: الصن، والصنبر، والوبر، وآمر، ومؤتمر، ومعلل، ومطفئ الجمر، ومكفئ الظعن4.
ومن الأمور التي تداولوها قولهم في "زمن الفطحل". وضربهم المثل به. قالوا: أيام كانت الحجارة رطبة. وإذ كل شيء ينطق5. وهو دهر لم يخلق
__________
1 تاج العروس "3/ 305"، "شعر".
2 تاج العروس "7/ 384"، "سهل".
3 تاج العروس "4/ 172"، "شمس".
4 الثعالبي، ثمار "1/ 313 وما بعدها".
5 الثعالبي، ثمار "642 وما بعدها".(12/394)
فيه الناس بعد1.
وكانوا يعتقدون بالمسخ. وهو تحويل صورة إلى أخرى أقبح منها، وتحويل إنسان إلى حيوان أو حجر. ولهم اعتقادات في مسخ الأطفال، وتبديل "الجن" لهم بأولادهم من ذوي العاهات. وقد زعموا أن "اللات" صنم ثقيف، كان في الأصل يهوديا يلت السويق في "الطائف" فمسخ حجرا، عبد فصار "اللات".
وللعرب قصص وضعوه على ألسنة الحيوانات نجده في كتب الأدب. ولهم أمثلة وراءها قصص في سبب ضربها. ونجد في كتب الأمثال والأدب أشياء كثيرة من ذلك. وقد صوروا بعض الحيوانات ناطقة عاقلة، ونسبوا لها الحكمة والقول الحسن. وصوروا بعضها بليدة غبية. ونجد في كتب الأمثال والأدب أشياء كثيرة من ذلك2.
واتخذوا من بعض الناس مثلا على أمر من أمور الحياة. وضربوا بهم الأمثال. فضربوا المثل ببلاغة "سحبان وائل" وبقدرته على الخطابة3. وبفصاحة "قس بن ساعدة الإيادي"4. وجعلوهما المثل الأعلى في البلاغة والفصاحة عند العرب.
ووضعوا "باقل" مثلا للعي والبلادة5. فمما رووه عنه، أنه اشترى ظبيا بأحد عشر درهما، فمر بقوم فقالوا: بكم أخذت الظبي؟ فمد يديه، وأخرج لسانه، يريد بأصابعه عشرة دراهم ,بلسانه درهما فشرد الظبي حين مد يديه، وكان الظبي تحت إبطه، فجرى المثل بعيه، وقيل: أشد عيا من باقل، وأعيا من باقل، كما قيل أبلغ من سحبان وائل6. وذكر أنه كان من ربيعة7.
واتخذوا "بيهس" الفزاري، الملقب بنعامة، مثلا للحمق، فقالوا: أحمق من بهيس. وهو أحد الأخوة السبعة الذين قتلوا، وترك هو لحمقه8. زعموا أنه هو القائل:
ألبس لكل حالة لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها
وإنما لقب بيهس بنعامة لأنه كان شديد الصمم، وإذا دعا الرجل من العرب
__________
1 تاج العروس "8/ 63"، "الفطحل".
2 راجع كتاب الحيوان للجاحظ، وكتاب كليلة ودمنة وكتب الأدب الأخرى.
3 الثعالبي، ثمار "102 وما بعدها"، الدينوري، المعارف "611".
4 الثعالبي، ثمار "60، 98، 222، 124 وما بعدها، 142".
5 الثعالبي، الأمثال "2/ 43"، الثعالبي، ثمار "102".
6 الثعالبي، ثمار "127".
7 تاج العروس "7/ 234"، "بقل".
8 تاج العروس "4/ 113". "بهس".(12/395)
على صاحبه بالصمم، قال: اللهم اصنجه كصنج النعامة. والصنج أشد الصمم1.
وضرب المثل بحمق "هبنقة"، واسمه "يزيد بن ثروان" أحد بني قيس بن ثعلبة، الملقب بـ "ذي الودعات". لقب به لأنه جعل من عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف مع طول لحيته. فسئل عن ذلك، فقال: لئلا أضل، أعرف بها نفسي، فسرقها أخوه في ليلة وتقلدها، فأصبح هبنقة ورآها في عنقه، فقال: أخي أنت أنا، فمن أنا؟ فضرب بحمقه المثل. فقيل أحمق من هبنقة2.
وضربوا المثل بحمق دغة. وهي بنت منعج، زوجت وهي صغيرة في بني العنبر، فحملت، فلما ضربها المخاض ظنت أنها تحتاج إلى الخلاء، فبرزت إلى بعض الغيطان ووضعت ذا بطنها، فاستهل الوليد، فجاءت منصرفة وهي لا تظن إلا إنها أحدثت، فقالت لأمها: يا أماه، هل يفتح الجعر فاه؟ قالت: نعم ويدعو أباه، فسب بها بنو العنبر، فسموا بني الجعراء3.
وقيل هي امرأة من بني عجل بن لجيم. وقيل هي: دغة بنت معيج بن إياد بن نزار. ولدت لعمرو بن جندب بن العنبر4. وذكر أن اسمها: مارية بنت ربيعة، من عجل، وكانت عند "جندب بن العنبر" فولدت له "عدي بن جندب"، وكانت حمقاء حسناء5.
وضربوا المثل بـ "جوف حمار". وقالوا: هو أكفر من حمار، وأخلى من جوف حمار. وهو رجل من عاد، يقال له حمار بن مويلع، وجوفه واد له طويل عريض. لم يكن ببللاد العرب أخصب منه، وفيه من كل الثمرات، فخرج بنوه يتصيدون: فأصابتهم صاعقة فهلكوا، فكفر. وقال: لا أعبد من فعل هذا ببني، ودعا قومه إلى الكفر فمن عصاه قتله، فأهلكه الله تعالى وأخرب واديه، فضرب العرب به المثل في الخراب والخلاء. قال الأفوه الأودي:
وبشؤم البغي والغشم قديما ... قد خلا جوف ولم يبق حمار6
__________
1 الثعالبي، ثمار "445".
2 قال الفرذدق:
فلو كان ذا الودع بن ثروان لالتوت ... به كفه أعني يزيد الهبقا
تاج العروس "5/ 534"، "ودع".
3 الثعالبي، ثمار "309".
4 تاج العروس "10/ 128"، "الدغية".
5 الدينوري، المعارف 620".
6 الثعالبي، ثمار "84"، الميداني "1/ 257".(12/396)
وذكر أن الجوف واد بأرض عاد، فيه ماء وشجر، حماه رجل اسمه حمار وكان له بنون فأصابتهم صاعقة فماتوا، فكفر كفرًا عظيمًا وقتل كل من مر به من الناس. فأقبلت نار من أسفل الجوف فأحرقته ومن فيه وغاض ماؤه فضربت العرب به المثل. فقالوا: أكفر من حمار، وواد كجوف الحمار وكجوف العير وأخرب من جوف حمار1.
وورد إنه "حمار بن مالك"، وهو رجل من عاد وقيل من العمالقة. كان مسلمًا أربعين سنة في كرم وجود، فخرج بنوه عشرة للصيد، فأصابتهم صاعقة فهلكوا. فكفر كفرًا عظيمًا. وقال لا أعبد من فعل ببني هذا. وكان لا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه وإلا قتله. فأهلكه الله وخرب واديه2.
وإذا وعد إنسان وعدًا، فعليه الوفاء به، لأن من شمائل الكريم الوفاء بالوعود والعهود. قالت العرب: "خلاف الوعد من أخلاق الوغد". وكانت العرب تستعيبه وتستقبحه. وضد ضربوا المثل برجل من العرب في مخالفته المواعيد، فقالوا: "مواعيد عرقوب". وعرقوب صاحب المواعيد3، قيل: إنه من الأوس، كان أكذب أهل زمانه. فضربت به العرب المثل في الخلف، فقالوا: مواعيد عرقوب. وذلك إنه أتاه سائل، وهو أخ له، يسأله شيئًا. فقال له عرقوب: إذا أطلع نخلي، "وفي رواية: إذا أطلعت هذه النخلة"، فلما أطلع، أتاه على العدة، قال: إذا أبلح، فلما أبلح أتاه، قال: إذا أزهى، فلما أزهى أتاه، قال: إذا أرطب، فلما أرطب أتاه، قال: إذا أتمر. فلما أتمر، عمد إليه عرقوب وجده ليلا، ولم يعطه منه شيئًا فصارت مثلا في إخلاف الوعد. وورد:
وأكذب من عرقوب يثرب لهجة ... وأبين شؤما في الحوائج من زحل
وورد "مواعيد عرقوب أخاه بيترب"، بالتاء وهي اليمامة، ويروى بالمثلثة، وهي مدينة الرسول نفسها. ويقال: هو أرض بني سعد. والأول أصح، وبه فسر قول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل
__________
1 تاج العروس "3/ 156"، "حمر" 6/ 63"، "الجوف".
2
فبشؤم الجور والبغي قديما ... ما خلا جوف ولم يبق حمار
تاج العروس "3/ 156"، "حمر".
3 تاج العروس "2/ 536 وما بعدها"، "وعد".(12/397)
وورد: "هو أكذب من عرقوب يترب"، وتقول: "فلان إذا مطل تعقرب وإذا وعد تعقرب". ومن أمثالهم: "الشر ألجأه إلى مخ عرقوب" "وشر ما أجأك إلى مخة عرقوب"، أي: عرقوب الرجل لأنه لا مخ له. يضرب هذا عند طلبك من اللئيم أعطاك أو منعك. وهو لغة بني تميم. ومن المستعار: ما أكثر عراقيب هذا الجبل. العراقيب خياشيم الجبال وأطرافها وهي أبعد الطرق، لأنك تتبع أسهله أين كان. والعراقيب من الأمور كالعراقيل عظامها وصعابها1.
وضربوا المثل في الإقامة على الذل برجل من ضببة، زعموا أنه عرف عندهم بـ "قضيب" فقالوا: أصبر من قضيب. و"قضيب" رجل آخر تمار بالبحرين، كان يأتي تاجرًا فيشتري منه التمر، ولم يكن يعامل غيره2.
وضربوا المثل بـ "حديث خرافة". زعموا أنه كان رجلا من "بني عذرة" أو من "بني جهينة" سبته الجن، فكان يكون معهم، فإذا استرقوا السمع أخبروه فيخبر أهل الأرض، فيجدونه كما قال. وقيل: "استهوته الجن واختطفته ثم رجع إلى قومه، فكان يحدث بما رأى، يعجب منها الناس، فكذبوه، فجرى على ألسن الناس وقالوا: هذه خرافة. ويقال أيضًا للخرافات الموضوعة من حديث الليل: حديث خرافة. وذكر أن "عائشة" قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حدثيني": قلت ما أحدثك حديث خرافة. قال: "أما إنه قد كان"3 وذكر أيضًا أنه قال لها: "إن أصدق الأحاديث حديث خرافة " 4.
__________
1 تاج العروس "1/ 378"، "عرقب".
2 ومنه قولهم:
أقيمي عند غنم لا تراعي ... من القتل التي تلوى الكثيب
لأنتم حين جاء القوم سيرا ... على المخزاة أصبر من قضيب
أي: لم تطلبوا بقتلاكم، فأنتم في الذل كهذا الرجل، تاج العروس "1/ 433"، "قضيب".
لأنتم يوم جاء القوم سيرا ... على المخزاة أصبر من قضيب
اللسان "1/ 680"، "قضب".
3 تاج العروس "6/ 83"، "خرف".
4 ابن قتيبة، المعارف "610 وما بعدها"، "حديث خرافة".(12/398)
فهرس الجزء الثاني عشر
الفصل الرابع والسبعون
الكعبة 5
الفصل الخامس والسبعون
الحنفاء 25
الفصل السادس والسبعون
اليهودية بين العرب 87
الفصل السابع والسبعون
اليهود والإسلام 119
الفصل الثامن والسبعون
شعر اليهود 145(12/399)
الفصل التاسع والسبعون
النصرانية بين الجاهليين 158
الفصل الثمانون
المذاهب النصرانية 199
الفصل الحادي والثمانون
التنظيم الديني 214
الفصل الثاني والثمانون
أثر النصرانية في الجاهلية 238
الفصل الثالث والثمانون
المجوس والصابئة 267
الفصل الرابع والثمانون
تسخير عالم الأرواح 281(12/400)
الفصل الخامس والثمانون
في أوابد العرب 331
الفصل السادس والثمانون
الطيرة 362
الفصل السابع والثمانون
من عادات وأساطير الجاهليين 382
الفهرست 399(12/401)
المجلد الثالث عشر
الفصل الثامن والثمانون: أثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين
...
الفصل الثامن والثمانون: أثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين
للوقوف على أسس اقتصاد أمة من الأمم، لا بد من الوقوف على طبيعة إقليمها من جو وأرض، فللطبيعة أثر كبير في تحديد خيرات تلك الأمة وفي تكوين سماتها وعاداتها وانتاجها: من ناتج زراعي أو حيواني أو صناعي، ثم في فقرها وغناها.
فالجو البارد ذو الأمطار الغزيرة، لا يمكن أن يكون أثره في الأحياء أثر الجو الحار الرطب، أو الجو الحار الجاف، أو الجو المعتدل. الجو البارد يدفع الإنسان إلى العمل ويبعث فيه الحيوية والنشاط، ويجبره على العمل، ويقدم له الماء هدية من السماء، ثم هو يكره الأرض أن تتلقح بماء المزن، لتولد خضرة تكسو الأرض ببساط جميل يخلب الألباب، ولتولد للماشية علفًا طريًّا شهيًّا، وللإنسان أرضًا طيعة لا تحتاج إلى سقي باليد أو بالآلة، ثم هو يوفر له كثيرًا من الجهد الذي يجب على الإنسان أن يبذله في البلاد الحارة الجافة لاستصلاح التربة ولمكافحة الحشرات التي تبارك فيها الحرارة إلى غير ذلك من صعوبات، لا تقاس بها الصعوبات التي تواجه سكان البلاد الباردة الممطرة.
أما الجو الحار الرطب، فيغيث الإنسان بمطر، قد ينهمر انهمارًا، وقد ينزل بمواسم، لكن حرارته الشديدة المتشبعة بالرطوبة، تهد الجسم، وتعطيه رخاوة في بدنه وفي عقله، تجعله يميل إلى الخمول والكسل والدعة، وإلى الاسترسال في العواطف، ثم تحرمه من نشاط إنسان الجو البارد، وتجعله دونه في العمل وفي السعي في هذه الحياة والضرب في هذه الأرض وفي استغلال التربة وما فيها وما(13/5)
عليها، وأما الجو الحار الجاف، فيحرم سكانه من نعمة "الغيث" في الغالب، ويلبس سطح الأرض أكسية غبراء من رمال تذروها الرياح، ثم هو يجعل من الصعب على الإنسان أو الحيوان أن يجد قوته في هذه القفار الواسعة المغبرة، أو أن يعيش فيها عيشة مستقرة، دائمة، في مجتمعات كثيفة كمجتمعات الأجواء الباردة أو المعتدلة أو الحارة الرطبة، فاضطر إلى التنقل والارتحال بحثًا عن الكلأ والماء، اللهم إلا في مواطن الماء، وهي عزيزة ثمينة؛ لأنها في أرض غلب على طبعها الجفاف، فتصير هذه المواطن القليلة هدفًا لهجمات العطاشى عليها في سني القحط وانحباس المطر، وأيام الضيق والشدة، لسد الرمق وللمحفاظة على ما في الجسم الذابل النحيل من عروق لتعينه على البقاء، حتى يفنى بطعنة، أو بموت حتف أنفه.
تبلغ مساحة جزيرة العرب حوالي مليون وربع مليون ميل من الأميال المربعة. إذا ثبتنا مواضع المياه على "خارطتها"، نجد أنها قليلة، لا يتناسب توزيعها ووجودها مع هذه المساحة الشاسعة، ثم أنها مياه ضيقة المعين، لا يتسع صدرها لإرواء بقاع واسعة على نحو ما نجده في مياه الأنهار الكبيرة، وفي هذه المواضع انحصر السكن، فصار من ثم عدد سكانها قليلًا جدًّا في كل وقت. وإذا قسنا مساحة الأرضين الخصبة منها القابلة للزرع والإنبات ذات الماء بالأرضين المجدبة، نجد أنها قلة إلى كثرة، وإن ما لا يصلح منها للزرع أكثر بكثير مما يصلح له. وإن مساحة البراري والبوادي تزيد على مساحة الأرض الطيبة الخصبة، وإن هنالك أرضين ذات طبقات ثخينة من الرمال، أكرهت الناس على الابتعاد عنها، ترفعًا من أن يطأ وجهها خف جمل أو نعل إنسان، أو أن تدوسها الأقدام.
وقد نشأ عن هذا الوضع ضيق في مساحة الأرضين المزروعة، لشح الماء وعدم كفايته لإرواء الإنسان ولإرواء ماشيته وإسقاء أرضين واسعة، ضيق أثر في شكل تكوين المجتمع العربي، فلم يسمح بظهور المجتمعات الكثيفة الكبيرة في جزيرة العرب، والمجتمعات الكثيفة الكبيرة، هي المجتمعات الخلاقة، التي تتعقد فيها الحياة، وتظهر فيها الحكومات المنظمة للعمل وللانتاج وللتعامل بين الناس. جعل المجتمعات المذكورة مجتمع مستوطنات، رزقها من زراعتها الصغيرة ومن رعاية الماشية، وصار اقتصادها من ثم اقتصادًا بدائيًّا لا تعقيد فيه ولا تطوير يحول المواد الأولية إلى مواد أخرى أفيد منها وأكثر ربحًا تفيد المجتمع، وتعود عليه بأرباح طائلة من بيع المنتجات في الأسواق.(13/6)
وهو ضيق صير العرب قومًا يكرهون الزراعة وينفرون منها، ويرون المزارع موطنًا من الدرجة الدنيا، ولا سيما ذلك المزارع الذي يزرع الخضر والبقول وعلف الحيوان، فهو عندهم "خضار". ولو كانت للعرب مياه فائضة، وأمطار غزيرة لما كرهوا الزراعة، ولما ازدروا شأنها، فحرمانهم من الماء جعلهم يستحقرون شأن الزراعة؛ لأنهم لم يتذوقوا ثمرتها ولم يشعروا بخبراتها، ولهذا اختلف عنهم أهل اليمن وبقية العربية الجنوبية ومن جد عندهم الماء، فغرسوا وزرعوا واعتبروا الزراعة نعمة، وتقدموا إلى آلهتهم لكي تبارك في زرعهم وتنعم في حصادهم وتعطيهم غلاث وافرة كثيرة.
وجو جزيرة العرب جو من أجواء البلاد الحارة الجافة. وأمطاره على العموم قليلة، ولا سيما في أواسط جزيرة العرب. وقد تنحبس في بعض السنين انحباسًا تامًّا، فيسبب انحباسها هذا كارثة ومصيبة، يجف في أثنائها العشب، وييبس كل أخضر، فلا تجد الإبل لها طعامًا، ولا يكون في وسع أهلها تقديم طعاما لها لعدم وجوده عندهم، وقد ينفق مالهم من العطش والجوع، فيصاب أصحابها بخسائر كبيرة، وقد يهلك عدد من الناس قبل بلوغهم موضع ماء، إما من شدة الحر والعطش والجوع، وإما من السيف الذي لا بد لهم من استعماله لاجبار أهل الماء على السماح لهم بمشاركتهم لهم إياه، أو بالاستحواذ عليه ونزلهم به، وطردهم أصحابه عنه إلى أماكن أخرى، أو بهروبهم من هذا الموضع لقوة أصحابه ولتمكنهم من رد الطامعين عنه.
وتتساقط الأمطار في العربية الغربية والعربية الجنوبية، ولكن سقوطها ليس منتظمًا وعلى طول أيام السنة. وقد تثور السماء فجأة على الأرض، فترسل عليها سيلًا مدرارًا، يكتسح ما يجده أمامه من إنسان وحيوان وكل عائق، ليجد له سبيلًا إلى أرض منخفضة أو إلى أودية، ثم لا يلبث أن يختفي ويزول؛ لأن عمره قصير في الغالب، إذ تبتلعه أرض رملية، فيغور إلى باطنها ليكون مياهًا جوفية، وقد تبتلعه البحار، إذ يسيل بشدة إلى الأودية المنحدرة الشديدة الانحدار فيتوجه مسرعًا نحو البحر، فيذهب فيها هباءً من غير أن يفيد أحدًا من الناس أو أن يغيثهم بشيء. وفي كتب أهل الأخبار قوائم بسيول كثيرة مهلكة مدمرة وقعت قبل الإسلام وبعده.
والأمطار في جزيرة العرب هي قليلة على العموم، مقدار ما يتساقط منها(13/7)
لا يسد رمق الزرع ولا يغني الزراع ولا يكفي في بعض السنين لانبات الخضرة ولظهور الكلأ، وقد يستمر هذا المعدل سنين، فيتضايق الناس، وقد ترد بعدها سنين ينهمر فيها المطر انهمارًا، فيسقط من السماء وكأنه ماء انهمر من أفواه قرب، فيسبب سيولًا تؤذي الناس ولا تنفعهم، وقد يستمر هطول المطر على هذا المعدل من الشدة عدة سنين، ثم يقف فيشح، وتبخل السماء، فلا تعطي الأرض من غيثها إلا قليلًا، وقد تبخل بخلًا شديدًا فلا تعطيها منه شيئًا يذكر، فيتضايق الناس، ويعيشون عندئذ عيشة صعبة قاسية، قد تضطرهم إلى الارتحال إلى مواضع أخرى بحثًا عن الكلأ والماء.
وقد يكون انحباس المطر، ظاهرة موضعية، تصيب موضعًا، ولا تصيب مواضع أخرى، وقد يكون عامًا، يصيب أكثر جزيرة العرب أو كلها. وتكون شدته عندئذ في هذه الحالة أعم وأشد، وضرره في الناس أكثر، فأينما ترحل القبائل لا تجد أمامها إلا القحط والمحنة، وقلة الماء والغذاء، أي "القحط" والجدب والمحل. و"القحط" الجدب من أثر احتباس المطر، فيتأذى الناس، ويقل الطعام وترتفع أسعاره. ويعيشون في شدة1. ويلازم القحط في الغالب، اختفاء الطعام وارتفاع ثمنه. فالقحط ملازم إذن لانحباس المطر، ويلازمه الجوع وارتفاع السعر، وقلة الطعام، واختفاؤه من السوق، بسبب الخزن أملًا في الحصول على ربح ومكسب، أو بسبب قلة حاصل الموسم. ويقال أقحط القوم، أي أصابهم القحط، وكان ذلك في إقحاط الزمان.
وقد يعقب انحباس المطر ظهور الملح في طعم مياه الآبار والعيون2، حتى قد يصير الشرب منها صعبًا، والزرع عليها غير ممكن. فيضطر أصحابها عندئذ إلى تركها والارتحال عنها إلى مواضع أخرى، يحفرون فيها آبارًا جديدة، تكلفهم مالًا وجهدًا، وقد لا يجدون في الأرض الجديدة، ماءً عذبًا سائغًا فراتًا للشاربين، وقد لا يجدون فيها ما يكفيهم لشربهم ولشرب أموالهم، مما يحملهم على الارتحال إلى أرض أخرى، أو على التشتت والتبعثر، بسبب عدم وجود الماء أو عدم سده حاجتهم.
__________
1 تاج العروس "5/ 201"، "قحط".
2 تاج العروس "2/ 229"، "ملح".(13/8)
ويقال للسنة وللأرض التي لم يصبها المطر، "الجماد"، وسنة جامدة لا كلأ فيها ولا خصب ولا مطر. وأرض جماد، يابسة لم يصبها مطر ولا شيء فيها1. وهي من السنين الحرجة في حياة العرب، المؤذية المهلكة للأنفس وللمال. ويقال للمحل "الجدب". والجدب نقيض الحصب2. و"المحل" الجدب وانقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ، وتعد أيام المحل من شر الأيام، يقال: "زمان ماحل"، و"مكان ماحل"، و"بلد ماحل"، و"أرض محل"، وأرض محلة ومحول، يريدون بالمحل الشدة والجوع الشديد وإن لم يكن جدب، على سبيل المجاز
؛ لأن المحل الجدب ويبس الأرض وانقطاع المطر، فتشتد حالة الناس، ويطهر الجوع ويعيش الناس في ضنك شديد3.
ويقال لمثل هذه السنين الشديدة، التي تجف فيها المراعي، ويصاب الناس فيها بأزمة شديدة، سنة جرداء، وسنة الجمود لجمود الرياح فيها وانقطاع الأمطار وذهاب الماشية وهزالها وثبات الغلاء، ويقال لها الحطمة والأزمة واللزبة والمجاعة والرمد، وكحل والقصر والشدة والحاجر، وما شاكل ذلك من ألفاظ فيها معاني الشدة والفقر والجوع4.
وكان منهم من يتصور أن نجوم الشتاء هي سبب نزول الغيث، ولذلك كانوا إذا لم يمطروا، وانحبست السماء عندهم يقولون: "أحجرت النجوم". قال الراجز:
إذا الشتاء أجحرت نجومه ... واشتد في غير ثرى أزومه
ومن المجاز أجحر القوم، إذا دخلوا في القحط. والجحرمة الضيق5. ولبس أشد على العرب وأضيق في انحباس المطر عنهم.
__________
1 تاجر العروس "2/ 324 وما بعدها"، "جمد".
2 تاج العروس "1/ 176"، "جدب".
3 تاج العروس "8/ 113"، "محل".
4 الصفة "214".
5 تاج العروس "3/ 88"، "جحر". قال زهير بن أبي سلمى:
إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت
ونال كرام المال في الجحرة الأكل
يريد بكرام المال الإبل، يقول: إنها تنحر وتؤكل؛ لأنهم لا يجدون لبنا يغنيهم عن أكلها، تاج العروس "3/ 88"، "جحر".(13/9)
وإذا أمطرت السماء، واستبشر الناس خيرًا، فالمطر خير وبركة ونعمة. يعقبه ربيع مفرح مبهج، تسمن فيه إبلهم ومواشيهم، ويكثر ولدها، فتنمو أموالهم، وكانوا يقولون إذا ألبنوا وسمنت إبلهم: "كان ربيعنا مملوحًا"1.
وقد تهب بعض الرياح فتنكب الناس بأنفسهم وبأموالهم وتؤذيهم، لذلك يسمونها "النكباء"، و"النكباء" ريح انحرفت ووقعت بين ريحين. وهي تهلك المال وتحبس القطر. ذكر أنها تهب بين الصبا والشمال، والجربياء التي بين الجنوب والصبا، وذكر بعضهم أن نكب الرياح أربع: الأزيب، وهي نكباء الصبا والجنوب، مهياف ملواج ميباس للبقل، وهي التي تجيء بين الريحين، وذكر بعض آخر أن الأزيب، هو الجنوب لانكباؤها. والثانية الصابية، وتسمى النكيباء أيضًا، وهي نكباء الصبا والشمال، معجاج مصراد لا مطر فيها ولا خير عندها. والثالثة الجربياء، وهي نكباء الشمال والدبور، وهي قرة وربما كان فيها مطر قليل، وهي نيحة الأزيب. والرابعة الهيف، وهي نكباء الجنوب والدبور، وهي نيحة النكيباء2.
وقد تأتي السماء بسحب كثيفة من جراد، فلا تهبط مكانًا إلا جردته. والجراد من شر الآفات والنوازل التي تنزل بالزرع، يجرده جردًا وينزل الخسائر بأصحابه، أضف إلى ذلك الأوبئة والأمراض التي كانت تهب بين الحين والحين، فتصيب الإنسان أو الحيوان أو الزرع، وهو عاجز إذ ذاك عن مقاومتها وعن التغلب عليها، نضيف إليها الحميات التي كانت قد عششت في مواضع المياه، كالعيون، فكانت تصيب الناس، ولا يكاد يسلم منها إنسان، فقد عرفت "خيبر" بالحمى، حتى قيل لها "حمى خيبرية" أو "خيبرية"، وعرفت يثرب بالحمى أيضًا، وعرفت مواضع من وادي القرى، بالحمى كذلك، كما عرفت "هجر" في العربية الشرقية بهذا الوباء كذلك.
ويتضايق الإنسان في التهائم من أثر الحرارة المتشبعة بنسب عالية من الرطوبة. ودرجات الحرارة فيها وإن كانت دون درجتها في الأماكن الأخرى في الأغلب، غير أن اقترانها بالرطوبة العالية جعلتها حرارة تضايق الإنسان إلى حد مزعج، تبعث على الاسترخاء والكسل، حتى صيرت الجسم خاملًا، خال من الحيوية
__________
1 تاج العروس "2/ 228"، "ملح".
2 تاج العروس "1/ 494"، "نكب".(13/10)
والنشاط. غير فعال لا يستطيع أن يعمل بنشاط وهمة أهل الأجواء المعتدلة أو الحارة الجافة، وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الرطوبة في هذه التهائم وتشبع هوائها ببخار الماء، فإنها لم تحظ بدرجة عادلة من المطر، يخفف من شدة وطأة الحرارة فيها. ويسقي أرضها سقيًا كافيًا لتنبت لسكانها ما ينبته الجو الاستوائي المشبع بالرطوبة المذابة في الحرارة المشابه لجو هذه التهائم في البلاد الأخرى. فحرمت من الغابات ومن الأشجار الضخمة ذات الخشب الصلد، ومن الأدغال التي تؤوي الوحوش، ومن المياه الفوارة المتدفقة، ومن الحشائش، ومن
أمثال ذلك مما يرى في البلاد ذات المناخ المتشابه، مما يكون ثروة لسكانها، قد تعوض عن حرمانهم من الجو المعتدل، أو الجو البارد المنشط.
وتخف الرطوبة ويقل شأنها وتذهب حدتها كلما ابتعد الإنسان عن الساحل، فيزداد الجفاف في الجو حتى يبلغ أقصاه في البواطن، فيشعر الإنسان عندئذ بانطلاق في جسمه وبشيء من النشاط في حركته، وبحدة في ذهنه؛ لأنه يجد أمامه مناخًا أصح وأصفى من مناخ السواحل، هواؤه جاف في الشتاء وفي الصيف، البرودة فيه في موسم الشتاء أظهر وأبرز من برودة الأشتية في التهائم، والحر فيه في الصيف أخف على الجسم بكثير من حر صيف السواحل. أما المطر، فنسبة سقوطه في الباطن أقل من نسبة هطوله على التهائم وفي العربية الجنوبية. وقد عوضت الطبيعة أهل البواطن عن شح مطرها هذا، بإرسال ألوان وأشكال من الأهوية والرياح والعواصف عليهم، تحمل بعضها في أمواجها سحرًا عجيبًا ينعش الروح والبدن، إذا مس إنسانًا أنساه شظف عيشه وغلظ الجو الذي يعيش فيه، وصيره يحس وكأنه ملك الملوك، وصاحب خزائن الأرض، وإذا مست عصاه أحدًا من أصحاب الحس المرهف، أثارت فيه قريحته، فصيرته شاعرًا ينظم إحساسه بكلم موزون مقفى، وبشعر غزلي، يتغزل فيه، يتغزل بتلك الأهوية، التي لمست جسمه، وأغرقت فمه ووجهه بقبلاتها الحبيبة المثيرة، التي أنسته أشجانه وما يلاقيه في حياته من ضيق وشح، وهو ما يكاد يفيق من حلم حبه هذا، حتى يفاجأ بأعاصير ورياح الواقع، تعصف به وبخيمته الخفيفة، وبماله، تتلاعب به، وقد ترشق وجهه بموجات متعاقبة من سموم مشبع برمال، تجعله يغمض عينيه ويسد فمه، ويبرقع وجهه يبرقع ليقيه من هذه الرياح العاتية التي تحرشت به من غير سبب، مع أنه إنسان مسكين قنوع، لا دخل له في وجوده في هذا المكان،(13/11)
ولد فيه عن غير عمد ولا اختيار، وسيموت فيه وهو لا يدري لم يموت، ولم عاش، وإلى أين ذاهب، فإذا ذهبت وولت، وركد الجو واستقر، جلس تحت خيمته التي لا تقيه من حر ولا من برد، ولا من شمس ولا من مطر: إلا بقدر، ليستجم ويستريح، أو ليستلقي على أرضها، وليتناول أكله، وهو أبسط أكل يأكله إنسان في هذه الحياة من غير شك.
والسعيد في جزيرة العرب من ولد في مستوطنة ذات ماء، فهو في عيشة هنيئة راضية، في بيت مهما كان نوعه، فإنه أحسن حالًا على كل حال من بيوت الوبر أو الشعر، يستطيع أن يشرب فيه ماءً يتناوله له من منبعه، لا من قرب خزن الماء فيها أيامًا، وأن يرى نخلًا وشيئًا من شجر وخضرة وزرع، وصوت رجال ونساء وأطفال، وبعض بائعين وبائعات. أي حياة جماعة. وهو أكثر سعادة وحضارة إن كانت مستوطنته على ملتقى طرق، تمر بها القوافل لتمتار منا ميرة الطريق، ولتأخذ منها الماء ولتسقي إبلها وترويها، ولشتري منها ما تجده من حاجات ضرورية ومن منتوجات موضعية، تحتاج إليها، أو يمكن بيعها في مواضع أخرى. وفي هذه المواضع نجد الحضارة الجاهلية ومن آثارها نستنبط التأريخ الجاهلي، وفيها نرى معدن الرقة وموطن اللين والدماثة، لما فيها من ظرف
تهدأ النفس وتريح الأعصاب، فصار أصحابها من ثم ألين عريكة وأسهل انقيادًا من الأعراب الذين ولدوا في محيط خشن، ونشأوا من خشونة، فصار طبعهم من ثم غليظًا خشنًا، وهو لا يمكن أن يكون إلا كذلك، وليس له دخل في ظهور هذا الطبع عنده.
ومن هنا صار أهل اليمن من ألين العرب عريكة، ومن أكثرهم تعاونًا فيما بينهم. جاء في الحديث: "أن رجلًا من أهل اليمن قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: إنا أهل قاه، فإذا كان قاه أحدنا دعا من يعينه فعملوا له، فأطعمهم وسقاهم من شراب يقال له المزر، فقال: أله نشوة؟ قال: نعم. قال: فلا تشربوه. قال أبو عبيدة: ألقاه سرعة الإجابة وحسن المعاونة، يعني أن بعضهم يعاون بعضًا، وأصله الطاعة. وقيل المعنى: إنا أهل طاعة لمن يتملك علينا، وهي عادتنا لا نرى خلافها، فإذا أمرنا بأمر أو نهانا عن أمر أطعناه، فإذا كان قاه أحدنا، أي ذوقاه أحدنا دعانا إلى معونته. وقال الدينوري: إذا تناوب أهل الجوخان، فاجتمعوا مرة عند هذا ومرة عند هذا وتعاونوا على(13/12)
الدياس، فإنه أهل اليمن يسمون ذلك القاه، ونوبة كل رجل قاهة، وذلك كالطاعة له عليهم"1. وجاء في الحديث: "أهل اليمن هم أرق قلوبًا، أي ألين، وأقبل للموعظة، والمراد ضد القسوة والشدة"2.
ومن هنا صار الأعرابي جلفًا صعبًا خشنًا، يكره كل شيء لا يجده عنده، لا يخضع لسلطان، ولا يستسلم لقيادة أحد إلا لقيادة قبيلته المتمثلة في سيدها إلى غير ذلك من صفات وسمات تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وفي مواضع أخرى من الأجزاء الباقية.
والماء في أغلب أجزاء جزيرة العرب مقنن قدر بقدر، ليس فيه فيض، ولا زائد يحمله إلى الجري إلى مسافات بعيدة وبكميات كبيرة عن منبعه، ثم هو بين عيون وحسى وآبار محفورة، ومدى موارد هذه المياه مقدر محدود، وهي لا تفيض فيض مياه الأنهار. فلم يتسع زرعها، ولم تتحمل نشوء مجتمعات كبرى عندها، وإنما ساعدت على ظهور مستوطنات، لم تكن حضرية تمامًا ولا بدوية تمامًا، بل كانت منزلة بين المنزلتين، ودرجة وسطى بين الحضارة والبداوة، تمكنت من إعالة نفسها، بما توفر فيها من مواد أولية، وبما زرعته من نخيل وحب وخضر، ومن بيع ما زاد عن حاجتها إلى من حولها وإلى من كان يقصدها من الأعراب. وأوجدت فيها حرفًا، ولكنها لم تكن حرفًا متطورة ذات انتاج واسع، لضآلة الموارد، ولصغر المجتمع، ولعدم وجود رؤوس الأموال الكبيرة لتشغيلها في استغلال ما قد يكون فيها من موارد طبيعية كامنة أو ظاهرة. وفي تغرير الناس للعمل في استثمارها وفي استثمار الأرض استثمارًا واسعًا، ينتج غلة وافرة، وفي مجتمعات صغيرة، ذات موارد محدودة، لا يمكن أن تظهر فيها رؤوس أموال كبيرة، وكيف تبرز رؤوس الأموال في مستوطنات فقيرة، مواردها محدودة، وخيراتها مقننة، وهي في محيط فقير، تتناولها الرياح من كل وجهة، وأعين الأعراب الجياع الفقراء لها بالمرصاد.
وقد انتشرت هذه المستوطنات وتناثرت وتبعثرت في أرضين واسعة غلب على طبعها اليباس والجفاف، كيست بطبقات متفاوتة السمك من الرمال، فحالت بينها
__________
1 تاج العروس "9/ 407"، "القاه".
2 اللسان "10/ 122"، "رقق".(13/13)
وبين تكوين المجتمعات الكبيرة، وبين ظهور حكومات كبيرة قوية في جزيرة العرب. وجعلت من العرب شعوبًا وقبائل، متناثرة متشاحنة، ذات لهجات، تشعر كل قبيلة منها، أنها أمة قائمة بذاتها، ولها كيان خاص، ونسب وجد، ولاء أبناؤها للقبيلة، ولرمزها: سيد القبيلة ولرؤسائها المتزعمين لفروعها ولأغصانها، أو للمكان الذي أقامت فيه. ومجتمع مثل هذا، حضره في مستوطنات متباعدة صغيرة، وبدوه متباعدون متنافرون متشاحنون، لا أمان فيه للأفراد وللتجار وللمسافرين إلا بعقود وبعهود، لا يمكن أن يظهر فيه اقتصاد متين متطور، ذو انتاج متطور متقدم، يفيض على حاجة أهله، فيصدره إلى الخارج، فتخلف اقتصاده، ولم ينتج إلا المواد الأولية البسيطة المتورفرة لديه، مثل التمور والحبوب والخمور والجلود، وهي سلع استهلكت في الداخل، ولم يصدر منها إلى الخارج إلى القليل مثل الجلود، ثم هو أخر الزراعة وعاق أهل المال من البحث عن الماء لخوفهم من تعرضهم لغارات الأعراب الفقراء، وخطر الأعراب على الزرع لا يقل عن خطر الجراد عليه. لذلك لم يقبل المتمكن المتمول استنباط الماء ومن الزرع عليه، إلا إذا وجد نفسه في مكان مأمون وفي موضع محمي له فيه أهل وعشيرة وجوار.
أما السلع المعدنية، فهي من حاصل مواطن الحضر، وهي من حديد، في الغالب، صنعت من حديد استخراج من معادن جزيرة العرب، ومن حديد استورد من الخارج، ومن سلع حديد استوردت من الخارج، إذا استهلكت أعيد سبكها، ثم استعملت من جديد. وأغلبها صناعة سيوف وخناجر، ومساحي ومناجل وما شابه ذلك من مواد ضرورية للحياة في جزيرة العرب. ولم نسمع بتصدير شيء منها إلى الخارج؛ لأنها لم تكن بانتاج واسع ولا باتقان لتنافس السلع المماثلة لها في الخارج، بل نجد أن أهل جزيرة العرب كانوا يستوردون أمثالها من الخارج أيضًا، لرخص ثمنها بالنسبة إلى المنتوج المحلي، ولتفوقها على المنتوج العربي في نقاوة المعدن وفي الصنعة والاتقان.
والمعادن في جزيرة العرب، محدودة وبقدر وبشح في الغالب، وقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن وجود ذهب وفضة وخامات حديد ونحاس في مواضع من جزيرة العرب. وسأتحدث عنها أيضًا في أثناء حديثي عن الصناعة عند الجاهليين. وهي في العربية الغريبة وفي العربية الجنوبية في الغالب. وقد(13/14)
عرفت المواضع التي استخرج المعدن منها بـ"المعدن" و"معدن"1. والمعدن مكان كل شيء يكون فيه أصله ومبدؤه2. ولكن استخراج المعدن من منجمه وخامه، يحتاج إلى مال وعلم وأيد عاملة فنية، لها مران وخبرة في الاستخراج وفي التنقية، ليمكن استخراجه بكميات وافرة، وبسعر اقتصادي مناسب، منافس للأسعار العالية في الأسواق الأخرى. وهذه الشروط لم تكن متوفرة عند أهل الجاهلية، لذلك لم نسمع بتصديرها من المعادن، إلا الذهب، حيث قدمه السبئيون للآشوريين وللعبرانيين، رشوة وجزية كما تقول الموارد. أما المعادن الأخرى، فلم نسمع في كتب المتقدمين على الإسلام من الأعاجم، ولا في كتابات الجاهليين ولا في أخبار أهل الأخبار، أنها صدرت إلى الخارج.
وأما الأخشاب الصلدة الثقيلة القوية مثل الساج، وهو خشب رزين قوي3، ومثل الآبنوس، والصندل، وأمثالها، فغير موجودة في جزيرة العرب، وإنما كانت تستورد من الهند في الغالب لعمل السفن وللأغراض الأخرى؛ لأنها من أشجار تحتاج إلى أمطار وحرارة ورطوبة، وهي شروط غير متوفرة في أكثر أنحاء بلاد العرب. وفي بلاد العرب أشجار ذات خشب، نمت في الجبال بصورة خاصة، لذلك عرفت بـ"شجر الجبال"4، سأتحدث عنها في أثناء بحثي عن الشجر، أمدت أهل العربية الغربية والجنوبية، بشيء من حاجتهم إلى الخشب، حيث استعملوه في البناء وفي الأثاث، لكن أخشابها لم تكن قوية صلدة مثل الأخشاب المذكورة، ثم إن الناس كانوا يقتطعون شجرها ولا يزرعون غيرها في مواضعها، فقلت، وقل الخشب نتيجة لذلك، حتى إن أهل الأخبار ليذكرون أن أهل مكة لما أرادوا تسقيف الكعبة، لم يجدوا خشبًا يصلح للتسقيف، فلما سمعوا بخبر تحطم سفينة رومية عند "الشعيبة"، ذهبوا إلى هناك، وجاءوا بالخشب اللازم للتسقيف من ذلك الميناء، وخشب السراة، وخشب المواضع المرتفعة الأخرى، خشب لا يضاهي خشب الهند أو أفريقية في الصلابة وفي المتانة والصلادة، لذلك لم يستعمل في بناء السفن ولم يساعد في تطوير وسائل النقل في البحار.
__________
1 كمجلس.
2 تاج العروس "9/ 275"، "عدن".
3 تاج العروس "2/ 61"، "ساج".
4 تاج العروس "8/ 335"، "الساسم".(13/15)
أما الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، فلم يكن شجرها من النوع المنتج للخشب الصلد المتين الصالح لصناعة السفن أو لأعمال البناء ولصنع أثاث البيت وغيره، وإذا وجد شجر ذو خشب أنبتته الطبيعة، أو كان من زرع الإنسان، فإنه لم يكن كثيرًا ولا كافيًا لسد حاجات الناس. ثم أن شجر الطبيعة -ما نبت منه في الجبال، وما أنبت منه في السهول والمنخفضات- مشاع بين أهل المنطقة، يقطعه من يريد، لا يجبر قاطعه على زرع غيره في محله، لذلك قضي عليه هذا القطع والإهمال، وصار الخشب اللازم للنجارة وفي الأعمال الأخرى قليلًا في جزيرة العرب، مع أنه من الوسائل المهمة الداخلة في تنمية الاقتصاد وفي الترفيه عن الناس، وفي رفع مستواهم الحضاري.
ولم تعرف بلاد العرب بتصدير الخضر والأثمار والحبوب. فلم نعثر في الأخبار على خبر يفيد تصدير شيء منها إلى العراق أو بلاد الشأم، أو أي بلد آخر خارج حدود جزيرة العرب. بل نجد أنها كانت تستورد الحبوب والدقيق والزيوت من بلاد الشأم، وذلك؛ لأن موارد الماء فيها لم تمكنها من زرع زراعة كثيفة واسعة، فصارت زراعتها زراعة محلية في الغالب، عمادها الاستهلاك المحلي، أو التصدير إلى الأرضين المجاورة للمزارع في داخل الجزيرة وفي المواسم الجيدة وعند ظهور فيض في الحاصل، فصارت اليمامة ريفًا لأهل مكة تمونهم بالحبوب، وكانت سوقًا للأعراب، تمدهم بالتمور. وكانت الطائف، مزرعة تمد أهل مكة بالأثمار والزبيب.
والجمل في طليعة حيوان جزيرة العرب من حيث الفائدة والشهرة، هو رمز البداوة وعنوان الصحاري، والحيوان الوحيد الذي رضي بمصادقة الأعرابي وبتمضية حياته معه، قاطعًا للفيافي والبراري معرضًا نفسه للجوع وللعطش، ولتحمل الحياة الشاقة الخشنة في البادية، مع الأعراب الغلاظ الجفاة، الذين استصعب إخوانهم أهل الحضر للعيش معهم، وهو لولاه لما تمكن الأعراب من اختراق البوادي ومن التنقل بها، ولما طابت لهم الحياة فخيامهم من وبره، وشربهم وكسر حدة جوعهم من لبن نياقه، ثم هو طعامهم عند الحاجة، ورأس مالهم، إذا احتاجوا إلى مال. تليه الخيل والضأن والمعز والحمير وغيرها، وهي كلها دونه بكثير في تحمل العطش والجوع ومشقات الحياة، ثم هي لا تستطيع تحمل غلظ الأعراب وصعوبة حباتهم؛ لأنها أكثر رقة من الجمل، لذلك اجتنبت البوادي،(13/16)
وعاسشت على المراعي الخضراء وعند مشارف الحضارة، وشاركت الحضر في بيوتهم، فهي من أموال العرب في الغالب، أي الحضر والرعاة الملازمين للمراعي المتصلة بمشارف الحضارة.
ودولة الحيوان في جزيرة العرب دولة صغيرة، إذا قيست بما يجب أن تكون عليه بالنسبة إلى المساحة السطحية. وسبب صغرها أن المراعي الغنية بالعلف اللازمة لتربية الحيوان ولإكثار نسله، لم تكن متوفرة عند أهل الجاهلية، وأن أصحاب الماشية كانوا عالة على الطبيعة، لعسر أحوالهم وعدم تمكنهم من الأنفاق على الماشية وتهيئة العلف الصحي اللازم لنمو الحيوان ولإكثار نسله، ثم إن الأحوال الاقتصادية لم تكن حسنة وعلى ما يرام، بل كانت منخفضة، وهذا ما حد من الاستهلاك المحلي، وحد من عدد الذين كانوا يمتهنون حرفة تربية المواشي، إلى أسباب أخرى لا مجال للبحث عنها في هذا المكان.
والعدد العام لسكان جزيرة العرب، في الجاهلية وحتى الآن هو قليل بالنسبة إلى ما يجب أن يكون عليه إذا قسنا العدد بعدد الأميال المربعة التي تكون المساحة السطحية لبلاد العرب. وسبب ذلك أن المسكون المعمور منها، قليل بالنسبة إلى المهجور القفر، والبوادي فيها أوسع وأكثر من الأرضين الصالحة للزرع وللرعي وللسكن وإن الموارد المعاشية التي تعيش الإنسان وحيوانه، لا تكفي في معظم أنحاء جزيرة العرب لاعاشة المجتمعات الكثيفة المكتظة، والمستوطنات الضخمة. فالحسي أو العيون أو الآبار أو البرك، أو ما أشبهها من موارد ماء، لا يمكن أن تستضيف مجتمعًا كبيرًا مع توابعه من المواشي، وهي لا تتمكن أيضًا من توفير الماء اللازم لزرع كثيف، ولتهيئة كلأ تعلفه المواشي، لذلك صار حجم مستوطناتهم يتناسب مع حجم الماء المتوفر فيها، وانتاجها انتاج محدود، هو حاصل زراعي في الغالب، يختلف قلة وكثرة باختلاف حجم المساحات المزروعة، أي سعة الماء الموجود في المستوطنة.
وفي هذه المستوطنات وفي الأرياف والقرى، نجد الملكية الفردية، بصورة متباينة ملكية دور ثابتة، وملكية مزارع وآبار، فالذي يحضر بئرًا وينفق من ماله على حفرها تكون البئر بئره، في إمكانه بيع الماء منها للمحتاج إليه، وفي إمكانه الزرع عليها، فيكون الزرع زرعه بالطبع، وله بيع حاصله من ثمر أو خضر، أو(13/17)
حب. والذي أقام على مقربة من الحضر، ولا سيما من حضر العراق وبلاد الشأم استطاع الاتجار مع تلك البلاد، ببيع ما عنده من ماشية وجلود وبشراء ما كان يحتاج إليه من مواد ضرورية، أو من مواد يتاجر بها مع المستوطنات ومع الأعراب. فتولد رأس المال في هذه المستوطنات، ولا سيما في الكبيرة منها، ذات الماء الغزير، وجاء الرأس المال بالبعيد، لتشغيلهم في الزرع.
أما البوادي وديار الأعراب، فالأرض فيها للقبيلة، ما خلا الإحماء. وأما الماء والكلأ فللجميع، لا يمنع أحد من أبنائها من وروده، وحق الرعي فيها للجميع. لصاحب الإبل حق رعي إبله في أي موضع شاء من حيه، وله أن ينقل بيته في "ديرته"، ليجد لإبله الكلأ اللازم لها، وأن يذهب إلى البرك ومواضع الماء، لأخذ ما يحتاج إليه من الماء، الذي يكون في الغالب على ساعات أو أيام من بيته. وإذا جف الكلأ واختفى خير الأرض، اضطر للانتقال إلى مواضع أخرى، ليجد فيها ما يعلف إبله. وفي هذا المجتمع الأعرابي، ملكية فردية، هي ملكية الخيام وما فيها من أشياء بسيطة وملكية إبل، وبعدد ما يملكه الإنسان من جمال ونوق، تقدر ملكية الأفراد. وفيه شيوع: شيوع في الماء والكلأ والنار، الماء للجميع، ما لم يكن محميًّا ولا مملوكًا، والنار للجميع، أي حق الاحتطاب، فلكل حق قطع الشجر وما يراه من زرع نابت غير محمي ولا مملوك.
ومجتمع على هذا النوع من البساطة في الحياة، يكون اقتصاده بالطبع بسيطًا، الجمل والناقة فيه، المال ورأس المال. وكل شيء يقاس فيه على عدد من الناحية الاقتصادية، ما يملكه الإنسان من أباعر ونوق. فهو اقتصاد إبل، الإبل فيه في محل الدراهم والدنانير أو الفضة والذهب، وهو عالم استهلاكه قليل وتصديره قليل كذلك قليل كذلك، ليس فيه استهلاك سلع متطورة، وليس فيه انتاج متطور، كل انتاجه الإبل ومشتقاتها وكفى.
وقد حالت البراري بين العرب وبين تكوين المجتمعات الكبيرة، وعرقلت الاتصال بين المستوطنات التي بعثرتها ونشرتها هنا وهناك، وبعثرت الأعراب في البوادي على شكل قبائل وعشائر، تغزو بعضها بعضًا طمعًا في رزق هي في حاجة إليه، وتعقد أحلافًا فيما بينها للدفاع عن نفسها، ثم هي توجه كل أنظارها نحو(13/18)
المستوطنات ومواضع الحضر، لتجد فيها غفلة أو موضع ضعف تدخل منه إلى ديارهم لتأخذ منها كل ما يمكن أخذه، وكل شيء يقع في أيديهم هو ثمين بالنسبة لهم؛ لأنهم لا يمكلون شيئًا، والذي لا يملك شيئًا ويجهل قيم الأشياء بحسب كل شيء يقع في يديه ثمينًا له قيمة، وهكذا صارت البوادي والأعرابية من عوامل القلق وعدم الاستقرار في جزيرة العرب، ومن عوامل التحاسد والتباغض والتناحر فيما بين سكانها لأتفه الأسباب، حتى صارت من الأمراض المستعصية عند العرب، التي لا تزال باقية حية. وفي ظروف من هذا النوع، لا يمكن أن يظهر فيه اقتصاد متطور وانتاج كبير، وأن يرتفع مستوى حياة الناس، فتأخر اقتصاد سكان جزيرة العرب، وغلب على سواد الناس. وهبط بينهم مستوى المعيشة، حتى اضطر إلى وأد بناتهم خشية إملاق، أو بيع أولادهم من جوع وفقر.
وقد وجدت هذه الروح الأعرابية بين الحضر كذلك، تجسمت في العصبية للحي وللقرية، وفي تناحر الزعماء على الزعامة والملوك على الملكية، حتى في اليمن التي تمثل النموذج الحسن للإنسان الحضري الطيع الهادئ، تجد الملوك يحاربون بعضهم بعضًا، والزعماء يثورون على ملوكهم لأخذ عروشهم، مما حمل الحبش والفرس والروم على التدخل في شئوونها، فدمرت المدن والقرى والمستوطنات، وأحرق الزرع، وتباهى الملوك والثوار بعدد ما أحرقوه من مدن وقرى وزرع، ومحيط تسوده الفتن والقلاقل والحروب لا بد وأن يتأثر اقتصاده بها، وأن يتأخر زرعه وعمله، وكيف يعمل الإنسان ويجازف بماله، وهو غير مطمئن على حياته ولا واثق من يومه ولا مما سيأتيه به الغد من مصائب وأحزان!
لقد حالت البوادي بين العرب وبين ظهور اقتصاد متقدم متطور عندهم، يقوم على تحويل المواد الأولية، أي المواد الخام إلى مواد أفيد منها وأهم، وإلى انتاج كبير راق، يجلب لهم دخلًا طيبًا يرفع من مستواهم. فساءت أحوالهم وغلب الفقر عليهم، وصار معاشهم ضيقًا، وحياتهم الاقتصادية متأخرة، أغلب منتجاتهم بسيطة، ليس فيها تطوير ولا تنويع، ولا تصنيع، وليس في أسواقهم مشترون جيوبهم منتفخة بالعملة، ليجازف التاجر بجلب سلع متنوعة إليها، فصارت سلعهم قليلة، اقتصر على السلع الضرورية، جدًّا للبيت، وعلى الناتج الطبيعي المستحصل من الزرع أو من الحيوان ومن الحاصل المحلي في الغالب.(13/19)
وقد أوجد عدم التناسق والتناسب والاتزان بين نسب توزيع الخصب إلى الجدب تباينًا كبيرًا في كيفية توزيع الناس، فجعل السكان ثلاث طبقات: أهل مدر، وهم حضر مستقرون، وهم أرقى أهل جزيرة العرب. وأهل وبر، وهم أعراب يقطنون البوادي. وطبقة ثالثة، كانت بين بين، ووسط بين الحضر وبين البدو، عاشت على اتصال ومقربة من الحضر، لم تبتعد عنهم، ولم تفارق الماء والحضارة، بل لازمتها، ولم تمعن في البادية إلا في أيام الربيع عند نزول الغيث واخضرار الأرض، فتبتعد عندئذ بماشيتها إلى البادية لتنعم هناك بنعمة الربيع، وهي جماعة الرعاة. والرعاة قوم بين الحضر وبين الأعراب. كانوا متنقلة في الأصل، فلما قاربوا الماء والحضر، تأثروا بالظروف الجديدة، فاستقروا بعض الاستقرار، وأضاقوا إلى رعاية الإبل، رعاية البقر والغنم والخيل. وكان هؤلاء مادة الحضر في الغالب، والجرثومة التي كونت المجتمع الحضري.
واقتصاد الأعراب اقتصاد واحد، وأن تنوع أصحابه قلوا أو كثروا، قبائل كانوا أم عشائر أم أفخاذ؛ لأن جذوره وأسسه واحدة، هي البادية وتربية الإبل، وليس في البادية غير كلأ وعشب وشجيرات أو أشجار، تعلف أوراقها وأغصانها الإبل، ويحتطبها البدو لبيع حطبها من أهل الحضر إن كانوا على مقربة منهم، أو لاستعماله وقودًا لهم، أو فحمًا يبيعونه للحضر، وليس فيها غير "وبر"، وشيء من الملح، يحلمونه إلى أهل الحواضر لبيعه منهم. وأما مشترياتهم، فبسيطة، تمور ودقيق وأبسط أنواع الثياب وما يحتاج البيت إليه من مواد. واقتصاد من هذا النوع، لا يساعد على ظهور رأس مال كبير، وعلى حدوث تطوير في الصناعة، لذلك تخلف اقتصاد الأعراب عن اقتصاد المستوطنات والقرى بدرجات ودرجات.
أما اقتصاد أهل الحضر، فإنه اقتصاد متطور بالقياس إلى اقتصاد الأعراب: اقتصاد البداوة، أو اقتصاد بدوي إن شئت تسميته بذلك. اقتصاد الحضر متفاوت في الدرجات، أبسطه اقتصاد المستوطنات الصغيرة المنتشرة في بواطن جزيرة العرب وأعلاه اقتصاد المدن الواقعة في أطراف الجزيرة وعلى سواحل البحر وفي أرضين خصبه غنية بالماء والمزارع وقد برز بعض أهل تلك المستوطنات في التجارة، وبرز بعض آخر بالزراعة، وجمع بعض آخر بين الزراعة والحرف اليدوية القائمة على أساس تحويل المنتجات الزراعية إلى منتجات أخرى، أو تحويل الجلود إلى(13/20)
أدم، أو تحويل المواد الأولية المتيسرة إلى مواد ذات ضرورة للمجتمع، وهي إما استهلاكية، توجر بها في الأسواق الداخلية، وإما انتاجية، صنعت للاستهلاك المحلي وللتصدير.
ومن أبرز المستوطنات التي ظهرت في باطن جزيرة العرب، مستوطنات اليمامة، والمستوطنات التي ظهرت على الأودية ومواضع الماء، وقد عاشت على الزراعة وتربية الماشية، ومونت الأعراب بالتمور، ومونت الحجاز بالحبوب. ومنها ما كانت ملتقى طرق برية، ربطت العربية الجنوبية بالعراق، ومنها ما ربط بين العربية الشرقية وبلاد الِشأم، وأنا آسف، لأن أقول إن معارفنا عن المستوطنات قليلة، لعدم وصول شيء في النصوص الجاهلية عنها، ولعدم تطرق أهل الأخبار إليها، إلا عندما يكون لذكرها صلة بالأيام أو بالشعر أو بالحوادث البارزة جدًّا التي وقعت قبيل الإسلام، أو التي كان لها اتصال بظهور الإسلام.
وأما المستوطنات التي برزت وظهرت في أطراف الجزيرة، فهي عديدة، أشهرها وأعرفها وأعرضها ذكرًا مكة والمدينة. مكة في التجارة، والمدينة في الزراعة. ولا يعني ذلك، أن المدينتين المذكورتين كانتا أعظم المستوطنات المذكورة، وأبرزهما في التجارة والزراعة عند ظهور الإسلام، وأن البقية الباقية، لم تكن لاحقة بهما في الناحيتين. فقول مثل هذا لا يمكن أن يجزم به مؤرخ حصيف، وانما جاءتهما هذه الشهرة بفضل الإسلام، فقد ظهر الإسلام في المدينتين المذكورتين، ونزل القرآن الكريم فيهما، وأِشير فيه إلى أمور عديدة وقعت بهما، وعاش الرسول فيهما، فمن هنا صار اهتمام العلماء وأهل الأخبار بهما أكثر من سائر مواضع جزيرة العرب، ولا سيما المواضع البعيدة النائية عن المدينتين، والتي لم يكن لها اتصال متين بظهور الإسلام، ومن هنا كثرت أخبارهما، حتى ظن الناس أن مكة قبل الإسلام، كانت أرض التجارة والتجار، وقبلة جميع العرب، ومجمع أصنام كل العرب، وموضع تكدس الأموال، وبلد الربا والمرابين، وهو استنتاج أخذ من الروايات التي قصها أهل الأخبار عنها دون نقد ولا تحليل، ولكننا لو استعرضنا ما ذكره أهل الأخبار أنفسهم عن هجر وعن البحرين وبقية العربية الشرقية، فإنه يرينا على قلته، أن مدن وقرى هذا الجزء من جزيرة العرب، لم تكن أقل درجة في المال والتجارة والانتاج من مكة أو المدينة، إن لم تكن قد تفوقت عليهما بالفعل، بدليل ما جاء في أخبارهم عن مقدار الزكاة والصدقات التي أرسلها عمال(13/21)
الرسول والخلفاء إلى المدينة، فإنها تدل على وجود تجارة وأعمال في هذه الأرضين ربما كانت قد فاقت أرباح وأعمال أهل مكة، لكننا لا نعرف عنها شيئًا، بسبب عدم اهتمام المؤرخين والأخباريين بأخبارها في الجاهلية، لعدم وجود صلة لها بتأريخ الإسلام، أو بسبب عدم وقوفهم على أخبارها، فلم يتطرقوا لذلك إلى شيء من أحوالها بصورة مفصلة، فظهرت وكأنها قد تأخرت عن مكة من النواحي الاقتصادية بكثير، وصارت مكة، بذلك، الموطن المتفوق الأول في المال وفي الزعامة وفي كل شيء في جزيرة العرب.
لقد أثر الجو إذن على اقتصاد جزيرة العرب، كما أثر عليهم في كل شيء، حتى صيرهم على النحو المعروف، لهم خصائصهم وصفاتهم المميزة لهم عن غيرهم، ولو كان للعرب جو مثل أجواء أوروبية، لكان شأنهم ولا شك في التأريخ شأن آخر. على كل، فقد كتب عليهم أن يعيشوا في الجو المذكور، وكان من نصيبهم في هذه الحياة حرارة وجفاف، وحرارة ورطوبة، وأرضون غلب عليها اليبس والجفاف، فصارت موارد رزقهم شحيحة في الجاهلية، وتخلفوا عن غيرهم في الانتاج وفي الإبداع، وغلب على سوادهم الفقر، والفقر كافر لا يرحم، ولولا "النفط" اليوم، الذي جاء على عرب القرن العشرين بالمال، لما تضخمت جيوب الأسياد، وبنيت القصور الشاهقة الضخمة بالملايين من الجنيهات، وأملي أن يكون هذا المال سببًا في استغلال العرب أنفسهم لمواردهم الظاهرة والباطنة، وأن يكون سببًا من أسباب التعمير، لا الإنفاق والتبذير، وأن يحول الطاقات المهملة إلى طاقات منتجة، قبل أن يأتي يوم تنضب فيه آبار النفط، أو أن يموت النفط فيه أو يهمل، بسبب العثور على موارد تكون أحسن نوعية وأقل كلفة منه.
لقد جعل هذا الجو العرب -كما سبق أن ذكرت- قبائل وشعوبًا متنابذة متخاصمة، متحالفة متعاقدة متآخية، متطرفة في كل شيء، متطرفة في حبها وفي إخلاصها، متطرفة في الوقت نفسه في بغضها وفي حقدها، تميل إلى المادة إلى درجة العبادة، ثم تنطرف في أمور عاطفية بعيدة عن المادة والماديات بعدًا كبيرًا، تمجد العقل والتعقل، وتقيم وزنًا كبيرًا للحكمة ولضرب الأمثال، حتى ليخيل إليك أن كل أفعال الناس وأعمالهم إنما تصدر منهم عن عقل وحكمة، لكنك سرعان ما تصطدم بوجود واقع آخر، هو واقع تغلب العواطف على العقل، وانصياعهم إلى الانفعال وسرعة التأثر وفقدان الوزن بين الأمور بميزان العقل،(13/22)
وتركهم أنفسهم فريسة لهذه العواطف، تعبث بهم في حياتهم، ولا تزال تعبث بهم الآن، تراهم كرماء، يقدمون أعز شيء عندهم لضيوفهم، بإسراف وتبذير، ثم تراهم بخلاء يحرصون على أتفه الأشياء أحيانًا حرصًا يدفعك على الاستغراب من وجود هذا التضاد في الأخلاق، أو ما نسميه بازدواج الشخصية في اصطلاح المحدثين على نحو ما تحدثت عن ذلك في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب.
لقد أثرت الطبيعة إذن في تكييف اقتصاد الجاهليين وفي تعيين موارده، وفي توجيههم توجيهًا تجاريًّا في المواضع التي قل فيها الزرع، مثل مستوطنات الأطراف حيث نجد أهلها يميلون إلى التجارة، ويرون فيها مهنة من أشرف المهن، وتوجيهًا زراعيًّا في المواضع التي توفرت فيها شروط الزراعة، وتوجيهًا رعويًّا في المواضع الأخرى، لا سيما بين الأعراب. فلندخل الآن في استعراض هذا التوجيه وفي دراسة الموارد الطبيعية لجزيرة العرب، وفي دراسة كيفية تعامل أهل الجاهلية في الأسواق، بعد أن قدمنا مقدمتنا القصيرة عن أثر الطبيعة في الاقتصاد.(13/23)
الفصل التاسع والثمانون: الزرع والمزروعات
مدخل
...
الفصل التاسع والثمانون: الزرع والمزروعات
والزراعة هي عماد ثروة اليمن وبقية العربية الجنوبية، والمواضع التي تتوفر فيها المياه في جزيرة العرب، وهي رأس مالها الأكبر في حياتها، والمورد الأول الذي يتعيش عليه الناس وقد انحصرت في المواضع الخصبة، أي في المواضع التي جادت عليها الطبيعة بالأمطار أو بالينابيع والجعافر والعيون وبالماء الجوفية القريبة من سطح الأرض وبالحسي وما أشبه ذلك. وحيث أن أغلب أرض بلاد العرب هي أرض صحراوية موات، لهذا فإن الزراعة فيها معدومة، ويمكن في المستقبل إحياء قسم منها، وذلك باستخدام الوسائل الحديثة التي استنبطها العقل والتي سيستنبطها في استخراج الماء وفي إصلاح التربة، وسيتحول شكل جزيرة العرب عندئذ عما هو عليه الآن كثيرًا ولا شك، وقد حولت في هذه الأيام مناطق موات، إلى أرض عمار، تسقى بالمياه المنبعثة من الآبار "الارتوازية" ومن السدود التي حبست مياه السيول، وصارت تنتج في مواضع عديدة من جزيرة العرب غلة زراعية وافرة بفضل استعمال الفن الحديث في استنباط الماء وفي كيفية الاستفادة من التربة وفي إدخال أساليب الزراعة الحديثة إلى هذه الأماكن. وقد يأتي يوم، تتحول فيه معظم أرض جزيرة العرب الفارغة المهملة التي يخشى الإنسان من ولوجها إلى أرض خصبة منتجة، إذا ما زرعت زراعة حديثة، تناسب جو بلاد العرب وتركيب تربتها، واستنبطت المياه الكافية من جوفها للزراعة وللشرب ونحن وإن كنا لا نملك مراجع جاهلية مكتوبة واسعة تتحدث عن الزراعة في(13/24)
جزيرة العرب قبل الإسلام وعن أنواعها وتفاصيلها وأساليبها وطرقها وضرائبها وعن كيفية استغلال الأرض وطرق الاستفادة منها وواجب الفلاح تجاه صاحب الأرض، وعن الحاصلات السنوية ومقدار ما تأخذه الحكومة من المزارعين من ضرائب، وأمثال ذلك من أمور متصلة بالزراعة، لكنا قد تمكنا من تكوين رأي فيها من مراجعتنا للكتابات الكثيرة التي وصلت إلينا، وفيها أمور متعددة لها علاقة بهذه الموضوعات، كما أن آثار الأقنية والسدود الجاهلية المنتشرة في مختلف نواحي اليمن، هي في حد ذاتها شاهدة على مقدار توسع اليمانيين في الزراعة في ذلك العهد، ونجد مثل هذه الآثار الجاهلية في مواضع أخرى من جزيرة العرب، وهي دليل واضح على أنها كانت مزروعة معمورة، لا مغمورة مهملة كما هو شأنها في الوقت الحاضر.
أما بخصوص الزراعة واستغلال الأرضين وإيجارها وجباية الضرائب عنها والعقود التي كان يعقدها الملوك مع كبار الاقطاعيين وتنظيم المياه وأمثال ذلك، فقد وصلت إلينا كتابات وأوامر عامة فيها، كان يصدرها الملوك و"الكبراء"، يعلنونها على الناس، ليطلعوا عليها، وليعملوا يموجبها، تكتب على الحجارة، وتوضع في محلات عامة، أو في خزانات المسؤولين بموجبها، وذوي الشأن، ليرجع إليها حين الحاجة.
وهنالك كتابات كتبها رؤساء عشائر وأصحاب أملاك، عن حدود أملاكهم، أو عن تأجيرها لغيرهم، أو عن إنشاء سدود لضبط المياه وتوزيعها، أو عن حفر آبار، وأمثال ذلك، وهي كلها على صفتها الشخصية ذات قيمة بالقياس إلى هذا، لما ورد فيها من أفكار ومصطلحات فنية، تمكننا من تكوين رأي في الزراعة والنظم الاقتصادية في العربية الجنوبية في ذلك العهد.
وإذا كنا قد حصلنا على فكرة ما عن الزراعة في اليمن، وفي بعض أقسام العربية الجنوبية استنادًا إلى الألفاظ والمصطلحات الزراعية في الكتابات الجاهلية وإلى الوثائق الخاصة بالأرض وبالضرائب وبالتأجير وبعقود البيع والشراء، وإلى بعض الصور المنقوشة على هذه الكتابات، فإننا لم نعثر، ويا للأسف، على كتابات جاهلية تتحدث عن هذه الأمور في الحجارة وفي أواسط جزيرة العرب وفي الأقسام الشرقية منها، وآراؤها عنها مستمدة في الدرجة الأولى من المراجع الإسلامية ومن مشاهدات السياح لمناطق الآثار ووصفهم آثار الزراعة في المناطق التي مروا بها، ومن تقارير الخبراء "الجيولوجيين" وغيرهم من موظفي شركات النفط العاملة في جزيرة العرب.(13/25)
وفي لغة المسند مصطلحات زراعية تعبر عن معان خاصة، وفيها مسميات لآلات وأدوات استخدمت في الزراعة, ولا بد أن تكون لهجات أهل العربية الجنوبية أوسع ألفاظًا في الزراعة من لهجات العرب الآخرين القاطنين في الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، بسبب تنوع الأجواء في العربية الجنوبية، وما أعقب ذلك من تنوع الزرع وطرق الزراعة فيها، أضف إلى ذلك خصب التربة ووجود الماء فيها، وجودًا لا يماثله أي مكان آخر في جزيرة العرب، فظهرت فيها ألفاظ زراعة ومصطلحات زراعية لم تعرفها عربيات بقية جزيرة العرب، اضطرت اللهجات الأخرى إلى أخذها منها، لعدم وجودها عندها، ونجد في معجمات اللغة وفي كتب النبات والأدب ألفاظًا زراعية، نص العلماء على أنها من لغات أهل اليمن.
وقد حفظت الأيام بعض الحجارة المكتوبة بالمسند، وعليها صور، أفادتنا في تكوين فكرة عن ملامح المزارع قبل الإسلام، وفي تبيين طراز معيشته، وشكل بعض ملابسه، وما شابه ذلك، وبين هذه الحجارة المصورة المكتوبة، حجر حفرت عليه صورة حراث حافي القدمين وقد ارتدى ثوبًا بلغ ركبتيه وشد وسطه بحزام وأمسك بيده اليسرى الحبل أو النطاق المتصل بالمحراث، وباليمين آلة على هيئة فأس من خشب، ربما استعملها في ضرب ثوري المحراث، أو استعملها في حفر الأرض أيضًا وفي تفتيت التراب المحفور. وقد ربط الثوران بالمحراث، وأخذا يحرثان الأرض، والفلاح يوجههما. ورسمت تحت الصورة صورة ثلاثة رجال، يظهر من ملامحهم ومن شكل ملابسهم أنهم كانوا من أصحاب الأرض.
ولأهل اليمن سبق على غيرهم من أهل جزيرة العرب في الزراعة، وهم حتى الآن على ما كانوا عليه من ميل إليها، ويشتغل عدد منهم اليوم في المملكة العربية السعودية أجراء لغيرهم في زراعة الأرض، أو مشاركون لأصحاب الأرض في الحاصل، أما الأعراب، فكانوا يزدرون شأنها، وينقصون من قدر المزارع "الخضار". ونجد هذه النظرة الازدرائية إلى المزارع عند أهل الحضر أيضًا، حتى أن بعض الصحابة كرهوا تعاطي العمل في الأرض، حتى بعد الفتح، تارركين ذلك إلى أهل الذمة. روي عن "أبي أمامة الباهلي" أنه قال، إذ رأى سكة وشيئًا من آلة الحرث، فقال: سمعت النبي يقول: لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الذل. قالوا في تفسيره: "لما يلزمهم من حقوق الأرض التي يزرعونها، ويطالبهم بها الولاة، بل ويأخذون منهم الآن فوق ما عليهم بالضرب والحبس،(13/26)
سبل ويجعلونهم كالعبيد أو أسوأ من العبيد، فإن مات أحد منهم، أخذوا ولده عوضه بالغضب والظلم، وربما أخذوا الكثير من ميراثه ويحرمون ورثته، بل ربما أخذوا من ببلد الزارع فجعلوه زراعًا، وربما أخذوا ماله"1. وهو تفسير فيه شيء من التكلف، يفصح عن كراهية القوم للزراعة أكثر من المعنى المذكور، وأما الحديث نفسه، من حيث الصحة أو الضعف، فللعلماء كلام فيه، وفي كتب الحديث أحاديث أخرى تحث على الزراعة والزرع.
وورد في الحديث أن الرسول كان يحدث جمعًا من الصحابة عن الجنة، وعن رجل زرع في الجنة فاستوى نباته، وعنده رجل من أهل البادية، فلما انتهى الرسول من كلامه، قال الأعرابي: "والله لا تجده إلا قرشيًّا أو أنصاريًّا، فإنهم أصحاب زرع. وأما نحن، فلسنا بأصحاب زرع"2.
وكراهة الزرع، كراهية نشأت من عدم توفر الماء والأرض لأكثر الناس، فصاروا يكرهونها، أما الذين ملكوهما فلم يزدروها ولم يغضوا من شأنها، والأعرابي لا يملك شيئًا، فصار يكره كل شيء لا يملكه ولا يقدر عليه، من زراعة ومن حرف ومن قيود اجتماعية ومن تنظيم، ومن كل ما يخالف مألوفه من عرف وتقاليد. ولذلك صارت الزراعة من عمل أهل المدر، وعمل كل من وجد لديه الماء الوافر، ليأخذ منه ما يلزمه للزرع، وسادت القبائل، الذين توفر الماء عندهم، أو كان لديهم المال لتشغيله في البحث عن الماء، زرعوا مثل أهل الحضر، وشغلوا العبيد وأتباعهم في الزراعة، لما وجدوا فيها من مكسب وربح، وكان للكثير منهم زرع وحوائط.
ونظرًا لتغير الحال عند العرب في الإسلام، وظهور الدعوة فيه إلى الأمة والجماعة، فقد حث الرسول المسلمين على الزرع، وظهر من روى عن الرسول أنه قال الزراعة أفضل المكاسب، وذلك لما فيها من عموم الانتفاع، حتى أن منهم من فضلها على التجارة للتوسعة على الناس، ولما للقوت الذي يأتي منها من صلة بحياة الناس3. ومع ذلك، فقد بقي العرف الجاهلي مسيطرًا على عقلية السادة
__________
1 إرشاد الساري "4/ 172".
2 إرشاد الساري "4/ 190".
3 إرشاد الساري "4/ 171"، "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو انسان أو بهيمة إلا كان به صدقة"، صحيح البخاري "كتاب المزارعة وفي كتاب الأدب في باب رحمة الناس والبهائم"، صحيح مسلم "كتاب البيوع في باب فضل الغرس والزرع"، زاد المسلم "2/ 333 وما بعدها".(13/27)
الكبار، من افتخارهم بحيازة الأرض، ومن ازدرائهم من الاشتغال بأنفسهم بها، فكانوا يستخدمون العبيد والأجراء وكراء الأرض في استغلالها، فهؤلاء وأمثالهم خلقوا للعمل في الأرض، أما هم فقد خلقوا ليكونوا سادة، عملهم امتلاك الأرض، وقد ظهر من هؤلاء جبل امتلك أرضين واسعة في البلاد المفتوحة شغل فيها أهل الذمة، والنبط وسكان الأرضين المفتوحة، ومئات وآلافًا من الرقيق والعبيد، كان عليهم العمل، ولسيدهم الكسب الوفير والمغنم.
وقد يزرع أهل الحضر في جوف القرية من النخيل والأشجار، أو داخل ما طاف به سور المدينة، ويقال لذلك "الضامنة"؛ لأن أربابها قد ضمنوا عمارتها وحفظها، فهي ذات ضمان، محروسة آمنة، وتحت رعاية وعيون أصحابها، وقد يزرعون خارج قريتهم، وخارج العمارة في البر، أي في الضاحية، ويقولون لذلك "الضاحية"، وفي كتاب النبي لأكيدر: إن لنا الضاحية من البعل، وإن لكم الضامنة من النخل1. وقد كان زرع أهل الطائف وأهل يثرب وقرى اليمامة واليمن وغيرها بين ضاحية وضامنة. والضاحية أوسع وأكثر بالطبع، لاتساع العين ووفرة الماء.
ولم يكن من الممكن بالنسبة لأيام الجاهلية، زرع مساحات واسعة بالحبوب أو الخضر والنخيل وبقية الشجر، لصغر حجوم المياه، وقلة المطر، وعدم كفايته لإرواء الزرع منذ بذر بذوره حتى حصاده، وللظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت مهيمنة على مجتمع ذلك العهد، من عدم وجود حكومات قوية كبيرة ترعى الأمن وتحمي حقوق المزارع وزرعه من العبث به، ثم تشجيعه وتقديم المعونة له، لذلك كان من الصعب ظهور مزارع كبيرة تنتج غلات عظيمة تعرض للاستهلاك المحلي وللتصدير. ولم يكن في وسع أحد إنشاء مثل هذه المزارع إلا إذا كان متمكنًا ذا مال ونفوذ، وصاحب عشيرة قوية، تحمي حقه ممن يريد الاعتداء عليه.
وزرع، بمعنى طرح البذر. وقيل الزرع نبات كل شيء يحرث. ويقال زرعت الشجر كما يقال زرعت البر والشعير. والزريعة الشيء المزروع، والزرعة البذر2. فالزراعة إذن، هي التي تكون بفعل إنسان، يطرح بذرًا أو يغرس
__________
1 تاج العروس "9/ 266"، "ضمن".
2 تاج العروس "5/ 368"، "زرع".(13/28)
غرسًا، أو ينبت نبتًا، وأزرع الزرع طال. وموضع المزروع المزرعة. وقد غلب على المكان الذي يزرع برًّا وشعيرًا1.
ويكون "الغرس" بفعل إنسان، يقوم بغرس الغرس، وغرس الشجر يغرسه غرسًا، أثبته في الأرض، والغرس الشجر، والغراس وقت الغرس2. فلا يكون الغرس ببذور، وإنما بغرس غرس، ينمو ويكبر، فيصير غرسًا، ولا تعبر لفظة "غرس" عن ظهور النبات بفعل الطبيعة، وإنما تعبر عن غرس "فسيل" ليصير شجرًا. من ذلك فسيل النخل، وقضبان الكروم والأوراد، وأمثال ذلك3. ويعبر عن صغار الفسيل بـ"الودي". وفي حديث أبي هريرة، لم يشغلني عن النبي غرس الودي4. و"التغاريز" ما حول من فسيل النخل5.
وغرسوا الشجر سككًا. والسكة السطر المصطف من الشجر والنخيل. وقد كانت بساتين يثرب سككًا مسطرة بسطور النخل. ومنه الحديث: خير المال: سكة مأبورة ومهرة مأمورة. المأبورة المصلحة الملقحة من النخل، والمأمورة الكثيرة النتاج والنسل6. وغرسوا النخل أسطرًا على جانبي مسايل الماء والجداول والسواقي. والسطر، الصف من الشيء كالكتاب والشجر والنخل. يقال بني سطرًا من نخل، وغرس سطرًا من شجر، أي صفًّا7.
وغرسوا "الكرم" سككًا كذلك. وقد يتخذون له "عريشًا" يعترش العنب. و"العريش"، ما عرش للكرم من عيدان تجعل كهيأة السقف، فتجعل عليها قضبان الكرم فتعترشها8.
ويعبر بلفظة "نبت" عن كل ما نبت من نفسه، أي بدون فعل فاعل، وإنما بفعل الطبيعة في التربة، وذلك في الغالب المألوف. وذلك بتأثير المطر عليها، أو بتأثير السيول والطوفان والرطوبة والمياه الجارية, وأمثال ذلك، مما يكون سببًا
__________
1 تاج العروس "5/ 368"، "زرع".
2 تاج العروس "4/ 201"، "غرس".
3 تاج العروس "8/ 58"، "فسل".
4 تاج العروس "10/ 387"، "ودي".
5 تاج العروس "4/ 64"، "غرز".
6 تاج العروس "7/ 143"، "سك".
7 تاج العروس "3/ 266 وما بعدها"، "سطر".
8 تاج العروس "4/ 322"، "عرش".(13/29)
لنبت النبات، يقال: نبتت الأرض وأنبتت"، و"نبت الكلأ"1.
وترد لفظة "سقح" بمعنى زرع وغرس في لغة المسند2. رقد فسرها بعض علماء العربيات الجنوبية بمعنى هيأ الماء وجمعه وأجرى السواقي والأرض وحفر القنوات ومهدها للزرع، وبعبارة مختصرة التمهيد لكي شيء ولكل عمل3.
__________
1 تاج العروس "1/ 588"، "نبت".
2 كما في هذه الجملة: "وسقح كل اسررس وجروبس"، أي "وزع كل الأودية والجروب"، Mordatmann Und O. Mittwoch, Alt Sud. Inchr., S. 9.
3 وذلك كما في هذه الجملة: "صير وبقر وجرب وبقل وسقح كل اسررم وجربم"، ومعناها "صير وحرث وعمل المدارج وزرع البقول ومهد كل الأودية والجرب"، Rep. Epiger 3856, Rhodokanakls, Stud. Lexi., Ii, S. 35.(13/30)
التربة:
وللتربة عند العرب أسماء، وذلك لأهميتهما بالنسبة إلى حياتهم. فنجد في كتب المعاجم ألفاظًا كثيرة لها، من حيث لونها ومن حيث خصبها ومن حيث نوعها ومن حيث وجود الماء فيها إلى غير ذلك. وهم يقولون للأرض الطيبة السهلة التي لا يعلوها السيل "الأبهر"، وقيل الأبهر ما بين الأجيل1. ويقولون: "السخاخ" للأرض اللينة الحرة2. ويقولون أرض حلاوة، تنبت ذكور البقل3. و"الخصب" نقيض الجدب، وأرض خصبة منبتة، قابلة للزرع، و"العثعث" ما لان من الأرض ومن مكارم المنابت: وقيل الكثيب من السهل أنبت أو لم ينبت4. و"الجادسة"، الأرض لم تعمر ولم تعمل ولم تحرث، ورد في الحديث: من كانت له أرض جادسة، قد عرفت له في الجاهلية حتى أسلم، فهي لربها. أي الأرض التي لم تزرع قط5.
والسبخة، أرض ذات نزو وملح. والسباخ الأرض التي تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر9.
__________
1 تاج العروس "3/ 63"، "بهر".
2 تاج العروس "2/ 261"، "سخ".
3 تاج العروس "10/ 96"، "حلو".
4 تاج العروس "1/ 633"، "عث".
5 تاج العروس "4/ 118"، "جدس".
6 تاج العروس "2/ 261"، "سبخ".(13/30)
والبلوقة، المفازة، وهي الأرض المستوية اللينة، أو التي لا تنبت إلا "الرخامي" على رأي آخر، والثيران تولع به وتحفر أصوله فتأكل عروقه. وهي من الأرضين التي ليس بها شجر ولا تنبت شيئًا البتة على بعض الآراء. وقد يكون قفرها هذا، وعدم إنباتها سبب قول الأعراب أنها مساكن الجن. ويظهر من أقوال بعض علماء اللغة أن البلوقة أرض واسعة مخصبة، أي على عكس ما ذكره بعض آخر، من أنها الأرض التي لا تنبت شيئًا1.
ويعبر عن الأرضين الزراعية بلفظة "أرض" "أرض" في جميع اللهجات العربية الجنوبية. وهي من أصل يرد بهذا المعنى في جميع اللهجات السامية، وهي تشير في الغالب إلى الأرضين المعدة لزراعة الخضر والحبوب، وقد. يراد بها الأرضين المزروعة بالخضر والحبوب. ولذلك فلفظه "أرض"، قد تعني أرضًا صالحة للزرع، غير أنها غير مزروعة، وقد تعني أرضًا مزروعة، ويرادف هذا المعنى معنى لفظة "المزرعة".
والقراح: الأرض لا ماء بها ولا شجر، وقيل الأرض المخلصة للزرع والغرس، وقيل: القراح المزرعة التي ليس عليها بناء ولا فيها شجر2.
و"الجربة"3، المزرعة، ومنه سميت الجربة المزرعة المعروفة بوادي زبيد. والجربة: القراح من الأرض المصلحة لزرع أو غرس، واستعارها "امرؤ القيس" للنخل، فقال:
كجربة نخل أو كجربة يثرب4
والركيب: المزرعة والقراح الذي يزرع فيه، والمشارة، أو الجدول بين الدبرتين، أو ما بين الحائطين من النخل والكرم، وقيل ما بين النهرين من الكرم. قال تأبط شرًّا.
فيومًا على أهل المواشي وتارة لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل وأهل الركيب، هم الحضار5.
__________
1 تاج العروس "6/ 299"، "بلق".
2 تاج العروس "2/ 205"، "قرح"، المخصص "10/ 148".
3 بالكسر.
4 تاج العروس "1/ 179"، "جرب".
5 تاج العروس "1/ 278"، "ركب".(13/31)
فالركيب إذن أرض زراعة، تكون محددة، معينة المعالم، يمتلكها مالك أو ملاك، تزرع أشجارًا مثمرة في الغالب، لا حبوبًا.
والحقل، قراح طيب يزرع فيه، وقيل هو الموضع الجادس أي البكر الذي لم يزرع فيه قط. يقال أحقلت الأرض، صارت ذات حقل. والمحاقل المزارع1.
والمبقلة: الأرض التي يزرع البقل فيها. وأما المبطخة، وتجمع على مباطخ، فالأرض التي يزرع فيها البطيخ. والمرج: الأرض الواسعة ذات كلأ وماء. تمرج فيها الدواب حيث شاءت2.
والسبخة أرض ذات نز وملح، وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض النبات، ولهذا لا يزرعها الفلاح، وتترك لعدم صلاحها للزرع، ولصعوبة استصلاحها بغسلها من الأملاح3. وفي جزيرة العرب سباخ رخوة قد تغوص فيها الأقدام، لذلك ابتعد عنها المسافرون.
ويعبر في المسند عن الأرض المزروعة نخيلًا بلفظة "انخل"، أي "نخيل". ويراد بذلك الأرض المغروسة نخلًا. ويعبر عن الأرض المزروعة أشجارًا بلفظة "أثمر"، أي أشجارًا مثمرة، وعن الأرض المخصصة بزراعة الحبوب بكلمة "مذرا" "مذري"4. وعن الأرض التي تزرع أعنابًا بـ"أعنب"، أي بساتين الكروم.
وفسر بعض الباحثين في العربيات الجنوبية لفظة "موفرن" "موفر"، الواردة في نصوص المسند، بمعنى الأرض الصالحة للزراعة بصورة عامة، كما فسرها بعضهم بمعنى المزرعة والحديقة5. وهي في مقابل لفظة "الوفراء" في عربيتنا، والوفراء الأرض التي لم ينقص من نبتها شيء، والأرض التي في نباتها فرة، أي كثرة. يقال أرض وفراء، وهذه أرض نباتها فر، وفرة6.
__________
1 تاج العروس "7/ 281"، "حقل"، القاموس "2/ 358"، جامع الأصول "11/ 478".
2 عمدة القارئ "11/ 214 وما بعدها".
3 تاج العروس "2/ 261"، "سبخ".
4 Ref. Epigr., Tome, V, P.196.
5 Rhodokananakis, Stud. Lwxt., I, S. 58.
نقوش خربة معين "ص25"، النقش رقم 17.
6 تاج العروس "3/ 605"، "وفر".(13/32)
وقد حول بعض أصحاب الأرض والمزارعين الأرضين الزراعية إلى بساتين وحدائق، غرست بالنخيل والشجر الملتف درت عليهم أرباحًا حسنة، من بيع ثمارها. واكتسبت بعضها شهرة، بسبب وقوع أحداث فيها، مثل: "الحديقة" من أعراض المدينة، كانت بها رقعة بين الأوس والخزرج1، ومثل "حديقة الرحمان"، بستان كان لمسيلمة بفناء اليمامة، فلما قتل عندها سميت: "حديقة الموت"2.
والحديقة، الروضة ذات الشجر، والبستان عليه الحائط، وخص بعضهم من النخل والشجرالملتف، وخص بعضهم الشجر بالمثمر، وقال بعضهم بل هي الجنة من نخل وعنب، والقطعة من النخل3، و"المخرف" مثل "الخروفة" النخلة أو النخيل دون البستان4. و"المخرفة" سكة النخل والبستان من النخل5.
وقد وردت الجنة مفردة ومجموعة ومنكرة ومعرفة في القرآن الكريم، وتقابل "كن" "Gan" و"كنه" "Gannah" = "Gehenne" في العبرانية، وهي في معنى "فردوس" الفارسية الأصل، وParadise"" في الإنكليزية6. ويراد بها موضع للأشجار الجميلة التي تسر الناظرين والأشجار المثمرة والورد والزهر والمياه. والحديقة ذات النخيل والشجر، أو ذات النخل والعنب، وهي البستان عند بعض اللغويين7. وأما "الجنينة"، فتصغير جنة.
و"البستان" من الألفاظ المعربة. ذكر علماء اللغة أنها "معرب بوستان. فبو بمعنى الرائحة، وستان -بالكسر- الجاذب" بالفارسية8 و"الروضة" و"الريضة"، مستنقع الماء من قاع فيه جراثيم ورواب سهلة صغار في سرار الأرض. وقيل الأرض ذات الخضرة، وقيل البستان الحسن، وقيل الروضة عشب وماء، ولا تكون روضة إلا بماء معها أو إلى جنبها، وقيل أرض ذات مياه وأشجار وأزهار
__________
1 تاج العروس "6/ 309"، "حدق".
2 تاج العروس "6/ 310"، "حدق".
3 تاج العروس "6/ 309"، "حدق".
4 الروضة الأنف "2/ 291"،
5 تاج العروس "6/ 81"، "خرف".
6 Ency., I, P.1014,.Hastings, P.282, 681.
7 القاموس "4/ 211"، تاج العروس "9/ 166"، "جنن".
8 تاج العروس "9/ 140"، "البستان".(13/33)
طيبة. وإن كانت الرياض في أعالي البراق والقفاف. فهي السلقان، واحدها سلق، وإن كانت في الوطاآت فهي رياض. ورب روضة فيها حرجات من السدر البري، وربما كانت الروضة ميلًا في ميل، فإذا عرضت جدًّا فهي قيعان. ورياض "الصمان" والحزن بالبادية أماكن مطمئنة مستوية يستريض فيها ماء السماء، فأنبتت ضروبًا من العشب ولا يسرع إليها الهيج والذبول1.
ويقال للبستان إذا كان محاطًا بجدار "الحائط"، وتجمع على حوائط، وقد وردت هذه اللفظة في كتب الحديث2. وهناك لفظة أخرى تؤدي هذا المعنى هي "الحظار". ويراد بها الأرض التي فيها الزرع المحاط عليها. وقد ذكرت في كتب الحديث3. وذكر علماء اللغة أن من معاني "الحظار"، الحائط وكل ما حال بينك وبين شيء، وما يعمل للإبل من شجر ليقيها البرد والريح، والجدار من الشجر يوضع بعضه على بعض ليكون ذري للمال يرد عنه برد الشمال في الشتاء4.
ويعبر في المسند عن الحقول والبساتين وكل المزارع التي تكون داخل حدود القرى و"الهكر" "الهجر" أي المدن، أو في ضواحيها وأطرافها، بلفظة "اقنى"، التي تعني الممتلكات، أي المزارع المملوكة المغروسة بالشجر. أما لفظة "أرض" فتطلق بمعنى المزارع والأرضين المزروعة خارج حدود القرى والمدن، وتزرع عادة بالمزروعات الواطئة، أي: "الخضر"5.
وتحدد الأرضين بحدود تعين معالمها وتثبتها. ويقال للحدود "وثن" أي حد، ويجمع على "اوثين". وهناك لفظة أخرى تطلق على الحد هي "زنن". وتعني الخط الفاصل الذي يعين الحدود6. وتجمع اللفظة على "ازنن".
والدبر مشارات المزرعة، أي مجاري مائها. وقيل: الدبار الكردة من
__________
1 تاج العروس "5/ 38"، "روض".
2 القاموس "2/ 355"، "حوط"، جامع الأصول "11/ 477"، تاج العروس "5/ 123".
3 جامع الأصول "11/ 229".
4 تاج العروس "3/ 150"، "حظر".
5 Rhdokanankis, Stud. Lexi., Ii, S. 8.
6 Rhodokanankis, Stud. Lexi., Ii, S. 69, 72, Glaser 1061, Hofmus. 12.(13/34)
المزرعة، والدبار: الأنهار الصغار التي تنفجر في أرض الزرع1. و"الكردة"، الدبرة من المزارع، وهي المشارات أي سواقيها. وهي من الألفاظ المعربة عن الفارسية2. و"المشارة"3، الكردة، وهي من الألفاظ المعربة4.
ويعرف حافظ الكرم والنخل والزرع بـ"الناطر" و"الناطور". ذكر علماء اللغة أن اللفظة من كلام أهل السواد، ليست بعربية محضة، ومنهم من جعلها من الألفاظ الأعجمية5. و"النطار" الخيال المنصوب بين الزرع6.
وقد استغل أهل اليمن الجبال والمناطق المرتفعة. فزرعوها بمختلف المزروعات التي تلائم طبيعتها، ففي المحلات التي يكون الجو فيها باردًا في الشتاء ولطيفًا في الربيع والصيف غرست الأشجار تلائم ذلك، وزرعت في المناطق الوسط المعتدلة النباتات التي تحب هذا الجو. أما في التهائم والمناطق المنخفضة الحارة، فقد زرعت النباتات التي تحب هذا الجو، وبذلك تنوعت المزروعات، وتكاثرت ألوانها، وصار في الإمكان الحصول في موسم الشتاء على المزروعات التي تزرع في الصيف ببعض البلاد الباردة، والحصول في موسم الصيف على المزروعات التي تزرع في الشتاء.
ولتحقيق غرس الجبال والمناطق المرتفعة، لا بد من تمهيدها للزرع، وذلك يجعلها مدرجات عريضة، تسند جوانبها الظاهرة بالصخور والحجارة منعًا من انهيار تربتها والمزروع فيها، ويقال لهذه المدرجات في المسند "جروب" "جرب" جمع "جربت" "جربة". وتحمي الجربة بحائط من الحجارة، وهي تعني الحجارة
المقطوعة، على سبيل المجاز المرسل من باب تسمية الكل باسم الجزء علاقة7.
وأهل اليمن لا يزالون يتبعون هذه الطريقة، وفي كثير من المناطق الجبلية والهضاب المهملة الآن آثار تلك المدرجات. تتحدث عن زرع يانع في الأيام
__________
1 تاج العروس "3/ 197"، "دبر".
2 تاج العروس "2/ 485"، "كرد".
3 بالفتح.
4 تاج العروس "3/ 542"، "هشر".
5 تاج العروس "3/ 572"، "نطر".
6 تاج العروس "3/ 573"، "نطر".
7 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 43, 124, Kat. Texte, Ii, S. 32.(13/35)
القديمة، وهي تناجي أهل البلاد لعلهم ينتبهون إليها فيعيدون إليها الحياة، وقد كانت زراعة الكروم ولا تزال من أهم المزروعات التي تعتمد على هذه الطريقة. وهي تتحمل جوًّا باردًا بعض البرودة ومعتدلًا، ولهذا تجود بالثمر الكثير الطيب في هذه المدرجات.
وقد أشار "بطلميوس"، إلى اتخاذ أهل النجود والجبال في بلاد العرب المدرجات لزرعها وتشجيرها. وأطلق على الجبال المكونة للقسم الجنوبي من "السراة" اسم "Climax Mons" ومعناه الجبال المدرجة، فترى وكأنها ذات سلالم. وهذه الطريقة شائعة في اليمن حتى اليوم، ولا سيما في جبل حضور نبي شعيب وفي الأقسام الغربية من السراة. فجبال "القليمس" "Climax Mons" التي يشير إليها "بطلميوس"، إذن هي القسم الجنوبي من السراة الممتد في اليمن وعسير1.
وزرع أهل "السراة" على هذه الطريقة أيضًا، وكذلك أهل الجبال والمرتفعات، ففي استطاعة المزارع في المواضع المرتفعة الاستفادة من ماء المطر وبالتحكم فيه، وبحصره في "الركيب" أي المشارة المزروعة، أعني المزرعة التي يزرع بها، والتي قد تكون ما بين ساقيتين أو الجدول بين الدبرتين، أو المزرعة بصورة عامة. كما جاء في قول تأبط شرًّا:
فيومًا على أهل المواشي وتارة ... لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل2
لقد تبين من نتائج الفحص العام الذي قام به الباحثون لمواضع من العربية الجنوبية، أن الزراعة كانت متقدمة تقدمًا كبيرًا في اليمن بالنسبة إلى بقية أنحاء جزيرة العرب، وأن العربي الجنوبي حرص حرصًا شديدًا على الاستفادة من الأمطار في إرواء أرضه، كما تبين ذلك من آثار السدود التي تلاحظ في كل واد تقريبًا. وهي سدود أقيمت لا لكي تتحكم في سير "السيول" وفي ضبطها خشية إغراق المدن والقرى والزرع فقط، بل لكي يمكن خزنها في أحواض وتوجيهها الوجهة التي يريدونها في أوقات الحاجة إليها، وذلك بواسطة أبواب
__________
1 Glaser, Skizze, Ii, S. 215, D.G. Hogarth, The Penetration Of Arabia, P.20, Forstet\R, Ii, P.270. F.
2 تاج العروس "1/ 278"، "ركب".(13/36)
تفتح وتغلق حسب الحاجة، وقنوات ومجاري للماء توصل إلى مواضع الزرع والحاجة إلى الماء.
وقد درس بعض الباحثين ومنهم "بوون" "R. Le Baron Bowen" حالة الإرواء والزراعة في العربية الجنوبية دراسة علمية قيمة وقدم لنا معلومات ثمينة عن هذا الموضوع، جعلتنا نأخذ فكرة عن أسلوب الزراعة والري عند العرب الجنوبيين منذ الألف الثانية قبل الميلاد إلى ما بعد الميلاد1. ودرس غيره من الباحثين بعض أساليب الزراعة واستغلال الأرض عند العرب الجنوبيين، ولا سيما القتبانيين وعند غيرهم أيضًا، وفي تقارير خبراء الزراعة والنفط والمعادن الذين سبروا أرض جزيرة العرب في مواضع مختلفة منها، بعض المعلومات المفيدة عن الزراعة وعن أمور الري عند الجاهليين.
والأودية هي من أهم مناطق الزراعة في اليمن وفي العربية الجنوبية وفي بقية أنحاء جزيرة العرب، ففيها الخصب والنماء والماء، ويقال للوادي "سرن" "السر" و"سرم" "سر"، والجمع "أسرار"، في العربيات الجنوبية. "والسر" في قول علماء اللغة بطن الوادي وأطيبه، وأفضل موضع فيه، وأخصب الوادي، والذي كتم نداه ولم ييبس2. ويقال له "تخل" في اللهجة الصفوية، وقد وردت في الكتابات الصفوية أسماء جملة أودية، زرعوا بها3.
ونجد أطراف الأودية وجروفها وقد ظهرت المستوطنات بها، كما ظهرت عند مصباتها، وذلك لاستفادتها من السيول التي قد تهطل فتملأ بطونها، وهي تشبه المستوطنات التي تظهر على شواطئ الأنهار، حيث تستفيد من المياه الجارية في النهر. وهي مستوطنات زراعية، جل زراعتها النخيل ثم الحبوب وبعض الأشجار المثمرة والحضر والبقول.
وقد عثر على كتابات عديدة بالمسند وباللهجات العربية الأخرى، تتحدث عن حفر آبار وعن زرع وعن تملك لهذه الآبار، وأسماء تلك الأودية والمواضع التي
__________
1 The Bible And The Ancient Near East, P.317, 321, 325, R. Le Baron Bowen, Irrigation In Ancient Qataban, Archaeological Discoveries In South Arabia, P.43.
2 تاج العروس "3/ 263"، "سر".
3 Cis 269, Parsquinta, P.44, Dunand 1330 A.(13/37)
حفرت بها تلك الآبار. وهي وثائق تملك، تبين حق صاحبها في تلك البئر.
ونجد في كتاب صفة جزيرة العرب وصف مواضع كانت غنية بالأغيال والمآجل والعيون، وقد نبتت حولها الأشجار المثمرة والزروع، وأنواع الخضر والبقول والأزهار، مما يشير إلى ما للماء من أهمية في إحياء هذه الأرضين وفي استنباتها، فلولا الأمطار الموسمية التي غذت اليمن بالماء الذي أولد الحياة في الأرض، لكانت أهلها قفراء مثل أكثر أرجاء جزيرة العرب، ليس فيها نبت ولا زرع، يكره أهلها الزراعة ويستهجنونها، ويرون في الاشتغال بها خسة ودنية، وقد أقبل أهل هذه الأرضين التي توفرت بها مصادر الماء، على استغلالها استغلالاً طيبًا، يدل على أن العرب لو تهيأ له لهم الماء لما كرهوا الزراعة وازدروا شأن المزارعين.
واليمامة من الأرضين الخصبة في جزيرة العرب، قال عنها أهل الأخبار: "وكانت أحسن بلاد الله أرضًا، وأكثرها خبرًا وشجرًا ونخيلاً من سائر الحجاز"1. وقد نعتت بـ"ريف مكة"، إذ كانت تمون مكة بالحبوب، ولولاها لما تمكنت مكة من العيش برخاء. فلما أسلم "ثمامة بن أثال بن النعمان" الحنفي سيد أهل اليمامة، أراد العمرة، فلما سمع به المشركون جاءوه، فقالوا: يا ثمامة صبوت وتركت دين آبائك! قال: لا أدري ما تقولون إلا أني أقسمت برب هذه البنية لا يصل إليكم من اليمامة شيء مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمدًا من آخركم.. وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة، ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم، فلما أضر بهم كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها، وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا فافعل. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن خل بين قومي وبين ميرتهم"2. وبذلك استراحوا وعادت أقواتهم إليهم.
ويجب أن نحمل ما جاء في الشعر من "جوع قديم" لبني حنيفة، وهم من أهل اليمامة، محمل الأقوال التي يقولها الشعراء عند استهزائهم بخصومهم، أو عند
__________
1 تاج العروس "9/ 115"، "يمم".
2 الاستيعاب "1/ 206 وما بعدها"، الإصابة "1/ 204"، رقم "961"، صحيح البخاري "كتاب الصلاة، باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير في المسجد"، صحيح مسلم "كتاب الجهاد"، زاد المسلم "2/ 278 وما بعدها".(13/38)
حنقهم على قوم لم ينالوا منهم خيرًا، أو محمل العصبيات القبلية. ورد في الشعر قول أحد الشعراء:
أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحم والمجاعة
لم يحذروا من ربها ... سوء العواقب واتباعه
وروي بهذه الصورة:
أكلت ربها حنيفة من جو ... عٍِ قديم بها ومن أعواز1
وقد ذكروا أن "بني حنيفة" كانوا قد اتخذوا إلهًا من حيس، فأصابتهم سنة، فعمدوا إليه فأكلوه فعيرهم الشاعر به. والحيس في تفسير علماء اللغة: تمر يخلط بالسمن وأقط فيعجن، أو هو التمر البرني والأقط يدقان ويعجنان بالسمن عجنًا شديدًا ثم يندر منه نواه، ثم يسوى كالثريد، وهي الوطبة، وربما جعل فيه سويق أو فتيت عوض الأقط2.
وذكر أن اسم اليمامة القديم هو "الجوف"، وأن الجوف المطمئن من الأرض وهو أوسع من الشعب تسيل فيه التلاع والأودية وله جرفة3. فالجوف أرض خصبة ذات مياه قد تسيل وقد تكون قريبة من سطح الأرض. ولما كانت اليمامة على هذه الصفة، لا يستبعد أن تكون قد سميت بهذه التسمية.
وباليمامة أودية خصبة، صارت من أهم مواضع الخصب فيها، لوجود الماء فيها على مقربة من سطح الأرض ولوجود العيون العذبة بها، من هذه الأودية: "العرض"، والعرض الوادي يكون فيه قرى ومياه، أو كل واد فيه نخل، وقال بعضهم: كل واد فيه شجر4، ومن أعراض اليمامة، عرض شمام، وعرض حجر، فالأول يصب في "برك" وتلتقي سيولهما بـ"جو" في أًسفل "الخضرمة"، فإذا التقيا سميا "محقفًا"، وهو قاع يقطع الرمل. قال الأعشى:
__________
1 الأعلاق النفيسة "217".
2 تاج العروس "4/ 135"، "حاس".
3 تاج العروس "6/ 62"، "جوف".
4 تاج العروس "5/ 45"، "عرض".(13/39)
ألم تر أن العرض أصبح بطنه ... نخيلًا وزرعًا نابتًا وفصافصا
وقال المتلمس وبه لقب:
وذاك أوان العرض جن ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس1
وفي الشعر المتقدم على خصب "العرض"، وكثرة زرعه ونخله، وعلى اشتغال أهله بالزراعة.
وفي اليمامة مرتفع يقال له "عارض اليمامة". والعارض الجبل وقد جاء ذكره في الحديث2. وإلى ذلك أشار "عمرو بن كلثوم" بقوله:
وأعرضت اليمامة واشمخرت ... كأسياف بأيدي مصلتينا3
ومن أودية اليمامة "العقيق"، وهو واد واسع مما يلي "العرمة" تتدفق فيه شعاب العارض وفيه عيون عذبة الماء4. وبه معدن.
ومن مواضع اليمامة الخصيبة "قرّان"، موضع به ماء ونخيل، وهو لبني سحيم من بني حنيفة، ويذكر مع "ملهم"5. و"ملهم" موضع كثير النخل، به ماء، ويوم "ملهم" حرب نسبت لهذا المكان بين تميم وحنيفة6.
وكانت في الحجاز، ولا سيما ما وقع منه شمال المدينة، عند ظهور الإسلام، مواضع كثيرة ذات عيون ومياه جارية، غرست بالنخيل، واشتغل أهلها بالزراعة. وقد كان وادي القرى كثير المياه بصورة خاصة، بالنسبة إلى باطن جزيرة العرب، وعلى مواضع المياه أقيمت مستوطنات وقرى عديدة، عاشت على النخيل والزرع وعلى القوافل التي تسلك هذا الوادي تحمل التجارات. وقد وردت أسماء مواضع عامرة آهلة بالسكان في غزوات النبي، تقع كلها في شمال "يثرب" إلى فلسطين، وبين مكة ويثرب بعض مواضع مياه، عاش سكانها على النخيل والقوافل والرعي
__________
1 تاج العروس "5/ 46"، "عرض".
2 تاج العروس "5/ 43"، "عرض".
3 تاج العروس "5/ 49"، "عرض".
4 تاج العروس "7/ 15"، "عق".
5 تاج العروس "3/ 488"، "قرر"، "9/ 309"، "قرن".
6 تاج العروس "9/ 68"، "لهم".(13/40)
وبعض الزرع. وكذلك وجدت بعض مواضع مياه "مكة" والعربية الجنوبية، ومن الأماكن الخصبة "وادي الغرس"، قرب "فدك" بينها وبين "معدن النقرة"، وكانت فيه منازل بين النضير1.
ومن المواضع التي استغلت في الزراعة الجرف، وهو موضع قرب المدينة على ثلاثة أميال منها، بها كانت أموال "عمر". ومنه حديث "أبي بكر" أنه مر يستعرض الناس بالجرف فجعل ينسب القبائل حتى مر ببني فزارة2. وكان "عبد الرحمن بن عوف" يزرع به على عشرين ناضحًا، فكان يدخل منه قوت أهله سنة3. أي أنه كان يسقي زرعه نضحًا. والناضح البعير أو الحمار أو الثور الذي يستقي عليه الماء، والنضيح من الحياض ما قرب من البئر حتى يكون الإفراغ فيه من الدلو، ويكون عظيمًا، وهي ناضحة وسانية4.
وأرض يثرب وما تبعها من أطراف، هي من الأرضين الخصبة، وقد حفر أصحابها آبارًا بها، وسقوها منها، وغرسوا عليها النخيل وزرعوا بها. واتخذوا لهم بها "الحوائط" و"البساتين". ويظهر أن بعضها كانت واسعة تسقي بآبار غنية بالماء، لها جملة نواضح، وهي تظهر أن أهل المدينة كانوا مزارعين، وأن مزارعهم كانت تأتي عليهم بمال طيب، جعل بعضهم من الأثرياء، وقد استفيد من شراج الحرة في سقي المزارع، وكانت تستمد ماءها من الحرة، وقد كانت للزبير بن العوام مزرعة على هذه الشراج، كما كان لأنصاري مزرعة عليها كذلك، وقد ورد ذكرها في كتب الحديث بسبب اختلافهما على السقي5.
وتنافي هذه الأخبار المتحدثة عن اشتغال الأنصار بالزراعة، الأخبار الأخرى، التي يرويها أهل الأخبار أيضًا، الذاكرة أن الأنصار، أهل المدينة لم يكن لهم علم بالزراعة ولم يكونوا يقبلون عليها، إقبال يهود خيبر وفدك ووادي القرى على الفلاحة. ويظهر أن رواياتهم هذه إنما نشأت من الوضع السيء الذي كان فيما بين الأوس والخزرج ومن تقاتلهم بعضهم مع بعض، على الرئاسة والزعامة، وبسبب العصبية القبلية الضيقة، فأثر كل ذلك على الزراعة في يثرب وفيما حولها
__________
1 تاج العروس "4/ 201"، "غرس".
2 تاج العروس "6/ 56"، "جرف".
3 الاستيعاب "2/ 388"، "حاشية على الإصابة".
4 تاج العروس "2/ 240"، "نضح".
5 إرشاد الساري "4/ 197 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 63"، "شرج".(13/41)
فجعلها متأخرة لاعتداء كل جانب منهما على زرع خصمه، وقد ألهاهم عن الزرع.
وبالمدينة وأطرافها مواضع عرف الواحد منها بـ"البقيع". والبقيع الموضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى، والمكان المتسع ولا يسمى بقيعًا إلا وفيه الشجر، ومنه "بقيع الغرقد"، وقد ورد في الحديث، وهو مقبرة مشهورة بالمدينة. سمي بالغرقد، بشجر له شوك فذهب وبقي الاسم لازمًا للموضع، وبقيع الخيل، وبقيع الخبجبة، وبقيع الزبير، وبقيع الخضمات، موضع عند خرم بني النبيت1.
وبيثرب ثلاثة أودية مهمة هي: العقيق، وبطحان، وقناة2. وفي وادي العقيق عيون ونخيل، وقد ذكر في الحديث3. والأودية المذكورة من المواضع الخصبة المنبتة في هذه المنطقة، ومياهها قريبة من سطح الأرض، ومن الممكن العثور عليها بسهولة بحفر الآبار بها.
ومن الأودية التي استفيد منها في الزراعة "وادي مهزور"، وقد ذكر في الحديث، ذكر أنه وادي بني قريظة، وأن الرسول قضى في سيله أن يحبس حتى يبلغ الماء كعبين. وذكر بعضهم أنه يذكر مع "مذينيب" يسيلان بماء المطر خاصة، وهو من أودية المدينة. ومن مهزور إلى مذينيب شعبة تصب فيها4.
وقد كان من الممكن استصلاح الأرض المحيطة بيثرب، بحفر الآبار بها، فالماء فيها غير بعيد عن سطح الأرض، وهو عذب أو مج لكنه يصلح للشرب ولسقي الزرع. ولما نعمت يثرب بالهدوء في عهد الرسول، أقبل بعض المهاجرين على الزراعة فيها، فحفروا الآبار وزرعوا عليها، وحوطوها، وجنوا منها ثمرًا طيبًا، ولولا الفتوحات الإسلامية التي اجتلبت إليها المهاجرين والأنصار على السواء للخيرات الكثيرة التي كانت في الأرضين المفتوحة، لتحولت يثرب إلى بساتين ومزارع منتجة، تمون الأماكن البعيدة عنها بالتمور وبالفواكه والخضر.
وقد زرع أصحاب الأرض بيثرب أرضهم بقولًا وحبوبًا، ومنهم من زرع تحت النخيل، ورد أن مولى من موالي "عثمان بن مظعون" كانت في يده أرض
__________
1 تاج العروس "5/ 280"، "بقع".
2 تاج العروس "2/ 125"، "بطح".
3 تاج العروس "7/ 15"، "عق".
4 تاج العروس "3/ 620"، "هزر".(13/42)
لآل مظعون بالحرة، فكان يزرعها قثاءً وبقلًا1. ولما صارت أرض "بني النضير" خالصة لرسول الله، كان يزرع تحت النخل في أرضهم فيدخل من ذلك قوت أهله وأزواجه سنة، وما فضل جعله في الكراع والسلاح2. وقد كان بنو النضير قد استغلوا أرضهم، وأقاموا بها "الحوائط"، ولما أسلم "مخيريق"، وهو أحدهم، جعل للرسول ما له وهو سبعة حوائط، فجعلها الرسول صدقة2.
وذكر في بعض الروايات أن "أحيحة بن الجلاح"، وكان من أصحاب الأملاك بيثرب، كانت له بساتين وأرضين يزرعها ويسقيها بالسواني فلا يعبأ بتأخر المطر وانقطاعه. ونسب بعض أهل الأخبار له هذه الأبيات:
إذ جمادي منعت قطرها ... إن جناني عطن معصف
معروف أسبل جباره ... أسود كالغابة مغدودف
يزخر في أقطاره مغدق ... بحافتيه الشوع والغريف4
ويظهر من وجود المصطلحات الآرامية والفارسية والنبطية في لغة زراع يثرب، أنهم استعانوا في الجاهلية بالرقيق المستورد من العراق ومن بلاد الشأم في زراعة الأرض وفي إنباتها، حتى أنهم أخذوا مسمياتهم منهم، مثل "الخربز" الذي هو البطيخ في لغة أهل مكة، كانوا يسمونه "الخربز"، و"الخربز" لفظة عربية معربة، من أصل فارسي، وقد وردت في الحديث5.
ونجد في مواضع من بقية جزيرة العرب مياهًا صارت مواطن لسكن، اختلفت كثافة سكانها باختلاف مقدار الماء. وهي رحمة وغوث بالنسبة للرحل ولأهل القوافل ولذلك صارت ملاذًا استليذ به في هذه البوادي البعيدة الأبعاد الجافة القاسية، وقد اضطرت القوافل إلى الاتجاه نحوها للوصول إلى أهدافها، لذلك صارت عقدًا، تجتمع في بعض منها جملة طرق برية، إذ كانت ذات مياه غزيرة وعلى مفترق طرق، تختصر الأبعاد والمسافات، وفي هذه الأماكن، ظهرت زراعة النخيل، وهي زراعة تقنع بالقليل من الماء، لامتصاصها الرطوبة من باطن الأرض وبعض.
__________
1 البلاذري، فتوح "22".
2 البلاذري، فتوح "31".
3 البلاذري، فتوح "31".
4 تاج العروس "5/ 404"، "شوع".
4 تاج العروس "4/ 33"، "الخربز".(13/43)
النباتات الأخرى، التي لا تحتاج على سقي كثير، وظهرت البيوت المعدة لاستقبال التجار والمسافرين وأصحاب القوافل.
وفي العربية الشرقية مواضع قرب فيها الماء العذب من وجه الأرض، أو ظهر على وجهها وفار على شكل عيون، وفي هذه المواضع صار سكن وزرع تناسبت كثافته مع كثافة الماء ومدى وصوله، حيث توقف عند ذلك المكان الذي انتهى إليه. فالماء هو الذي يحدد الزرع ويعين نوعه، وهو الذي يقرر السكن ويثبت حده. ومن هذه المواضع التي وجد فيها سكن وزع "هجر"، وقد اشتهرت بنخيلها، فقصدها الأعراب لامتيار التمر منها، حتى ضرب بها المثل في كثرة التمر، فقيل: كمبضع تمر إلى هجر. ويظهر أن مياهها كانت راكدة متجمعة، فتسببت في ظهور الأوبئة فيها. قال "عمر" "عجبت لتاجر هجر، وراكب البحر، وإنما خصها لكثرة وبائها، أي تاجرها وراكب البحر سواء في الخطر"1.
والأحساء من المواضع المشهورة بالزراعة في العربية الشرقية، وقد عرفت بزراعة النخيل وبعض الأشجار والخضر، وهي لا تزال على مكانتها، فلا تزال عيون مائها تمون الناس بماء شربهم وزرعهم. و"قطر" موضع قديم يعود عهده إلى ما قبل الميلاد، وقد أشير إليه في الكتب اليونانية واللاتينية، وأسس به المبشرون كنائس، وقد ساهم أساقفته في المجامع الكنسية التي انعقدت للنظر في أمور الجدل بين المذاهب النصرانية، كما اشتهرت بثياب جيدة نسبت إليها، أشير إليها في الحديث، كما أشرت إلى ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب.
و"كاظمة" اسم قديم معروف، يرد في الشعر الجاهلي وفي القصص، جو من سيف البحر من البصرة على مرحلتين. وفيه ركايا كثيرة وماؤها شروب. وقد أشير إلى قطاها في شعر لامرئ القيس2. و"المرائض" في ديار "تميم" بين "كاظمة" و"النقيرة" فيها أحساء3.
__________
1 تاج العروس "3/ 614"، "هجر".
2 تاج العروس "9/ 47"، "كظم".
3 تاج العروس "5/ 39"، "روض.(13/44)
الفصل التسعون: الزرع
مدخل
...
الفصل التسعون: الزرع
ولابد من حرث الأرض وتنقيتها من الشوائب الضارة بالزرع، ومن تليينها، وذلك قبل الشروع بالبذر أو بالغرس. وقد كان بعضهم يحرق الأدغال والأعشاب وما يجده على الأرض المراد زرعها من زوائد وأوساخ، وذلك للتخلص منها، وللاستفادة منها في تقوية التربة وزيادة نمائها. ثم يقومون بحراثتها فيندمج رمادها في التربة ويصير جزءًا منها. وقد يقتلون أصول الزرع السابق وما يكون قد نبت على الأرض من نبات غريب مؤذ للزرع، قبل حراثة التربة. فإذا تم ذلك، ونظفت التربة، سقوها بالماء ليكون من السهل على الأكار حرث الأرض وتعزيقها، وربما لا يسقونها، بل يحرثونها مباشرة. وذلك بالنسبة للأرضين التي تسقى بماء السماء، حيث لا يتوفر الماء الجاري، أو ماء الآبار. ومتى تمت الحراثة وقلبت التربة، تهيأت للزرع ونظمت وفقًا لنوع الزرع الذي سيكون فيها، على هيأة ألواح طويلة دقيقة، أو مربعات تتخللها السواقي والقني، أو غير ذلك، ثم يشرع بعد ذلك في الزرع والغرس. ويقوم الزارع نفسه في العادة بحرث أرضه وإصلاحها وتمهيدها للزرع. وقد يقوم بالحراثة أشخاص مقابل أجر يدفع لهم.
والحرث والحراثة العمل في الأرض زرعًا كان أو غرسًا. وقد يكون الحرث نفس الزرع. وذكر أن الحرث قذفك الحب في الأرض للازدراع، والحراث الزراع1. و"الكراب" في مرادف الحراث، والكرابة الحراثة. والكراب
__________
1 تاج العروس "1/ 614"، "حرث".(13/45)
والكرب إثارتك الأرض. و"الفلاح" في معنى الحراث والأكار؛ لأنه يفلح الأرض، وحرفته الفلاحة. ورد: "أحسبك من فلاحة اليمن، وهم الأكرة؛ لأنهم يفلحون الأرض يشقونها". والفلاحة الحراثة، وهي حرفة الأكار1.
و"الجوار" الأكار، وقيل: هو الذي يعمل لك في كرم أو بستان2.
و"الأكار" الحراث والزراع، والمؤاكرة المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع في الأرض. وهي المخابرة. ويعد الأكار من الطبقات المحتقرة عند العرب. وفي حديث قتل أبي جهل، فلو غير أكار قتلني. أراد به احتقاره وانتقاصه، كيف مثله يقتل مثله3، فهو رجل شريف غني ثري، فكيف يقتله من هو دونه في المنزلة والمكانة، فكان يتمنى وهو مقتول، لو كان قاتله مثله في المنزلة والمكانة.
وقد اشتهرت اليمن بالفلاحة، ورد: "وأحسبك من فلاحة اليمن. وهم الأكرة؛ لأنهم يفلحون الأرض، يشقونها"4. وقد بقيت شهرة أهل اليمن بالفلاحة إلى هذا اليوم، ومنهم قوم هاجروا إلى العربية السعودية للاشتغال بالفلاحة في أرضها.
وأساليب الحراثة تكاد تكون واحدة عند جميع شعوب الشرق الأدنى. وبعض الأساليب بدائي جدًّا، يستعمل في حراثة الأرضين الصغيرة بصورة خاصة. فتستعمل الحجارة أو الأخشاب أو الفؤوس على اختلاف أنواعها، وبعضها متقدم نوعًا ما اعتمد على المسحاة وعلى آلات الحراثة التي تجرها الحيوانات، وتستعمل هذه الطريقة في حراثة المزارع الكبيرة، ومنها سكة الحراث حديدة الفدان التي يحرث بها الأرض. وينسب إلى الرسول قوله: ما دخلت السكة دار قوم إلا ذلوا. إشارة إلى ما يلقاه أصحاب المزارع من عسف السلطان وإيجابه عليهم بالمطالبات وما ينالهم من الذل عند تغير الأحوال بعده. وقد ذكرت السكة في ثلاثة أحاديث بثلاث معان مختلفة5. وورد في بعضها ما يفيد العكس، أي مدح
__________
1 تاج العروس "2/ 200"، "فلح".
2 تاج العروس "3/ 113"، "جار".
3 تاج العروس "3/ 17"، "أكر".
4 تاج العروس "2/ 199"، "فلح".
5 تاج العروس "7/ 143"، "سكك".(13/46)
للزراعة والزراعة وحث عليها.
وتشبه آلات حراثة الجاهليين الآلات التي يستعملها الفلاحون في بلاد العرب اليوم. وقد استعملوا "الفدان" في الفدن. و"الفدان" الثوران اللذان يفدن عليهما، ولا يقال للواحد فدان1. وذكر أن "الهيس" الفدان، أو أداته كلها بلهجة أهل اليمن، أو بلغة أهل عمان2.
ومن الآلات التي استعملت في حراثة التربة: المحفار، وهي المسحاة وغيرها مما يحفر به3. والمخدة، حديدة تخد بها الأرض4. والمعول، لتكسير الحجارة والحفر. والمسحاة، وهي من حديد، وصانعها سحاء، وحرفته السحاية5، وهي لا تزال تستعمل في الحراثة وفي سد المياه وفتحها في السواقي لسقي المزارع والبساتين، ولقلع الأعشاب والأشجار. و"المر"، المسحاة أو مقبضها، وقيل هو الذي يعمل به في الطين6.
ومن المصطلحات المستعملة في الحراثة، العزق، وهو تشقيق الأرض بفأس، والأداة المعزق والمعزقة7. والكور الحفر، ومنها كرت الأرض كورًا أي حفرتها8. والجوار الأكار، والأكار الحفار9. والتربيك في الحرث رفع الأعضاد بالمجنب10. والكرم من الأرض التي عدنوها بالمعدن حتى نقوا صخرها وحجارتها، فتركوا مزارعتها لا حجر فيها، وهي أفضل أرضهم. والأرض الكرم يحرث فيها البر، وهي سهلة لا تحتاج إلى العدن11. والمعدن الصاقور. ويقال عدنت الأرض أي أصلحتها12. وأما قولهم نخنختُ الأرضَ فبمعنى شققتها
__________
1 القاموس "4/ 255"، "فدن"، المخصص "10/ 152 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 299"، "فدن".
2 المخصص "10/ 152"، القاموس "2/ 260"، تاج العروس "4/ 276"، "الهيس".
3 القاموس "2/ 42"، تاج العروس "3/ 151"، "حفر".
4 المخصص "10/ 47".
5 تاج العروس "10/ 170"، "سحا".
6 تاج العروس "3/ 538"، "مرر".
7 القاموس "2/ 264"، تاج العروس "7/ 12".
8 تاج العروس "3/ 531"، "كور".
9 القاموس "1/ 265، 294"، تاج العروس "3/ 113"، "جاد".
10 المخصص "10/ 148" وما بعدها"، القاموس "1/ 49".
11 المخصص "10/ 148"، تاج العروس "9/ 41 وما بعدها"، "كرم".
12 المخصص "10/ 148"، تاج العروس "9/ 247 وما بعدها"، "عدن".(13/47)
للحرث. والنخة البقر العوامل1. ويقال رضت الأرض إذا أثرتها2. وأما وطدت الأرض فبمعنى ردمتها لتصلب، والميطدة خشبة يوطد بها المكان من أساس بناء وغيره ليصلب3. ويقال شحبت الأرض شحبًا وأشحبها. إذا قشرت وجهها بمسحاة وغيرها، وهي يمانية4. ويقال لكل واحد من أخاديد الأرض تلم والجمع التلام. وهو مشق الكراب في الأرض بلغة أهل اليمن5. والخرق بمعنى شق الأرض للحرث. وخضضت الأرض بمعنى قلبتها6.
والحيوانات المستخدمة في الحراثة هي الثيران والحمير والخير والجمال، وذلك بحسب كثرة هذه الحيوانات وقلتها، ويستعمل في الحرث حيوان واحد حينًا وحيوانات حينًا آخر. وقد وصلت إلينا بعض النصوص الجاهلية محفورًا فيها صور حيوانات تحرث، تجر المحراث ويسوقها الفلاح. ويكون الكراب على البقر، وهو الغالب، وفي المثل: "الكراب على البقر"7.
ويظهر من كتب الحديث أن اعتماد أهل الحجاز في الحراثة كان على البقر. وقد ورد في الحديث: "بينما رجل راكب على بقرة، التفتت إليه، فقالت: لم أخلق لهذا، خلقت للحراثة"8. ويظهر أنهم كانوا يستعملون الكلاب في الحراثة كذلك. ففي الحديث: "كلب حرث". وقد ورد أيضًا "كلب غنم" و"كلب ماشية"، و"كلب صيد"، و"كلب زراعة"9.
ويشتغل الفلاح بعد حراثة الأرض بإصلاحها ونثر الحب فيها نثرًا متساويًا منتظمًا، ويستعمل لذلك بعض الآلات، مثل "المالق"10 و"المملقة".
__________
1 تاج العروس"2/ 282"، "نخخ".
2 تاج العروس "8/ 313"، "رضم".
3 القاموس "1/ 345 وما بعدها".
4 المخصص "10/ 148"، القاموس "1/ 85 وما بعدها".
5 المخصص "10/ 148"، القاموس "4/ 83".
6 المخصص "10/ 248".
7 المخصص "10/ 150".
8 عمدة القارئ "12/ 159 وما بعدها"، "باب استعمال البقر للحراثة".
9 عمدة القارئ "12/ 157 وما بعدها"، جامع الأصول "7/ 461 وما بعدها"، "في ذكر الكلاب واقتنائها"، إرشاد الساري "4/ 172 وما بعدها"، "باب اقتناء الكلب للحرث".
10 كهاجر.(13/48)
وهي خشبة عريضة، تجرها الثيران، وقد أثقلت لتستوي السنة واللؤمة فتتلما على الحب، وتملس التربة المثارة1. و"المجز"، وهي شبحة فيها أسنان وفي طرفها نقران يكون فيهما حبلان وفي أعلى الشجة نقران فيهما عود معطوف، وفي وسطها عود يقبض عليه ثم يوثق بالثورين فتغمز الأسنان في الأرض حتى تحمل ما قد أثير من التراب حتى يأتيا به المكان المنخفض2. "والمجنب" وهي شبحة مثل المشط، إلا أنها ليست لها أسنان، وطرفها الأسفل مرهب يرفع بها التراب على الأعضاد والفلجان3.
ويعبر في عربية القرآن الكريم عن طرح البذر في الأرض بلفظة "زرع" ويقال أيضًا: زرعت الشجر كما يقال زرعت البر والشعير. والزرع الإنبات. ومن هذا الأصل لفظة الزرع والزراعة4.
وتثار الأرض وتقلب على الحب، لضمان طمر الحب في التربة، فلا يظهر على سطحها، فتلتقطه الطيور، ويتعرض للعوارض الجوية التي تفسده وتتلفه. ثم تسقي الأرض، ويقال للسقية الأولى العفر، ثم تسقى بعد ذلك بحسب الحاجة حتى ينمو الزرع وينضج ويجمع، فيقطع عندئذ السقي5.
والحبة6، بزور البقول والرياحين، أو بزر العشب، أو جميع بزور النبات، وبزر كل ما نبت. والحبة أيضًا يابس البقل، تقول العرب: رعينا الحبة، وذلك في آخر الصيف، إذا هاجت الأرض ويبس البقل والعشب وتناثرت بزورها وورقها، فإذا رعتها النعم سمنت عليها. ويسمون الحبة بعد الاندثار: القميم والقف7.
والبزر كل حب يبذر للنبات. والبزور: الحبوب الصغار، مثل بزور البقول وما أشبهها8.
__________
1 المخصص "10/ 154"، القاموس "3/ 284"، تاج العروس "7/ 73"، "ملق".
2 المخصص "10/ 154"، تاج العروس "4/ 16"، "جز".
3 المخصص "10/ 154"، تاج العروس "1/ 191"، "جنب".
4 تاج العروس "5/ 368"، "زرع".
5 تاج العروس "3/ 410"، "عفر".
6 بالكسر.
7 تاج العروس "1/ 198"، "حبب".
8 تاج العروس "3/ 40"، "بزر".(13/49)
و"البذر"، ما عزل للزراعة من الحبوب. و"البذر" زرع الأرض1.
وتزرع بعض الزروع على السواقي وأطراف مسايل الماء، وذلك بوضع "البذر" أو "البصل" في حفر، ثم يوضع فوقها قليل من التراب، لمن الطيور من التهامها، وللمحافظة عليها من أثر الجو فيها. وقد يزرع البزر، فإذا نبت، تقلع النبتة الواحدة، لتزرع في موضع آخر.
وإذا أصاب الزرع الخصب والنماء، عبر عن ذلك بلفظة "خصب" في المسند2. اللفظة التي نستعملها نحن في الزراعة، بمعنى كثرة العشب والزرع والنماء والوفرة3.
ولا بد لنمو الزرع ونضوجه من إسقاء، ويعبر عن السقي بلفظة أخرى هي "المكر". والمكر سقي الأرض. يقال أمكروا الأرض إذا سقوها4.
ولتقوية الأرض وإعادة الحيوية إليها. استخدم الجاهليون التسميد. وبالسماد تعاد إلى الأرض بعض قوتها، وينمو الزرع. وقد استعملوا في ذلك جملة وسائل كما يفعل المزارعون في الزمن الحاضر الذين لا يزالون يسيرون على طريقة القدماء في التسميد، فاستعملوا فضلات الإنسان والحيوانات، كما استعملوا الزبل أيضًا. وذكر أن من أسمدتهم عذرة الناس والسرقين برماد، يسمد به النبات ليجود5. والسرجين، والسرقين، الزبل تدبل به الأرض6. والمزبلة موضع الزبل، وزبل زرعه يزبله، سمده، أي أصلحه بالزبل وكذلك الأرض7. ويقال لتسميد الأرض بالزبل "عدن الأرض" أي أصلحها بالزبل8. ويقال دبل الأرض دبولًا، بمعنى أصلحها بالسرقين ونحوه لتجود، فهي مدبولة9.
ولحماية الزرع من عبث الطيور وبقية الحيوانات به، اتخذوا وسائل عديدة لحمايته. منها: اللعين. ما يتخذ في المزارع كهيأة رجل، أو الخيال تذعر به.
__________
1 تاج العروس "3/ 35"، "بذر".
2 Rep. Epigr. 4646.
3 تاج العروس "1/ 235"، "خصب".
4 تاج العروس "3/ 548"، "مكر".
5 تاج العروس "2/ 381"، "سمد".
6 تاج العروس "9/ 234"، "سرجن".
7 تاج العروس "7/ 354"، "زبل".
8 تاج العروس "9/ 274"، "عدن".
9 تاج العروس "7/ 317"، "دبل".(13/50)
الطيور والسباع والوحوش1. و"الخيال"، كساء أسود ينصب على عود يخيل به للبهائم والطير فتظنه إنسانًا، وقيل خشبة توضع فيلقى عليها الثوب للغنم. إذا رآها الذئب ظنها إنسانًا. و"الخيلان"، ما ينصبه الراعي عند حظيرة غنمه. وقيل: الخيال، ما نصب في أرض ليعلم أنها حمى، فلا تقرب2.
__________
1 تاج العروس "9/ 335"، "لعن".
2 تاج العروس "7/ 315"، "خيل".(13/51)
الحصاد:
ويحصد الزرع بعد نضجه، يحصد بالمنجل. وأكثر ما يستعمل في البر والشعير ونحوهما من الزرع. والمحصد، المنجل1. والحصاد هو "فقل" في المسند2. وقد فسر بعض العلماء لفظة "خرفت" بمعنى الحصاد كذلك3. ولا يقصد بالحصاد هنا حصاد الحبوب وحدها، كالحنطة والشعير، كما نفهم من معنى اللفظة في عربيتنا، وإنما يقصد بها هذا ومعنى آخر هو جني الثمار وقطف الأعناب، عند نضوجها.
ويقال لمن يحصد الحصاد بالأجرة "المحاين"، وللعمل "المحاينة"، يقال استأجره محاينة، أي على الحصاد4.
وترد لفظة "افقل" من أصل "فقل" في النصوص الزراعية، وهي من الألفاظ اليمانية القديمة التي وعتها كتب اللغة، فذكرت أن "الفقل" التذرية بلغة أهل اليمن، وأن أهل اليمن يذرون بالمفقلة، وهي الحفراة ذات الأسنان، يرفعون بها الدق ثم ينثرونه ويذرونه لاستخلاص الحب منه. و"الدق" ما قد ديس ولم يذر5. و"افقل" في نصوص المسند، هي البيادر التي تتجمع من
__________
1 تاج العروس "2/ 336"، "حصد".
2 Mordtmangn Und Mittwoch, Sab. Inschr., S. 117.
3 Glaser 181, Cih 197, Rep. Epigr. 3966, Mordttmann Und Mittwoch, Sab. Inschr., S. 113.
4 تاج العروس "9/ 188"، "حين".
5 تاج العروس "8/ 65"، "فقل".
Rep. Epigr., Vii, P.285, Num, 4636, Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 157.(13/51)
هذه الحبوب بعد التذرية.
وترد لفظة "خرف" في عربية القرآن الكريم بمعناها الوارد في نصوص المسند. فذكر علماء اللغة، أن "خرف" بمعنى صرم واجتنى، وأن الاختراف بمعنى لقط النخل بسرًا كان أو رطبًا، وأنها تعني قطف الثمر، كما وردت لفظة "المخرفة" بمعنى البستان والنخل والسكة بين صفين من النخل، يخترف المخترف من أيهما شاء، والمخترف هو القاطف للثمر، وأن "المخرف" بمعنى زنبيل صغير يخترف فيه من أطايب الرطب، أو الآلة التي تخترف فيها الثمار و"الخارف" حافظ النخل، والخراف النظار، والخرافة ما خرف من النخل1.
وقد وردت لفظة "نحقل" بمعنى الناتج والمحصور. و"حقل" بمعنى الحاصل أي الحاصر الزراعي المجموع من الحقل والمزرعة، وذلك كما في هذه الجملة: "نحفل ثمنيت الفم بقلم لس". ومعناها: "الحاصل ثمانية آلاف لس من البقول". و"لس" نوع من الكيل أو الوزن، أو الكومات، أو الحزم.
ويعبر عن الدراسة بلفظة "علص" في المسند. وفسر بعض علماء المسند لفظة "معلصت"، بمعنى المزرعة والحقل2. ولا استبعد كونها آلة من آلات الدراسة أيضًا.
وإذا ديس الزرع قيل لذلك العمل الدق والدياس والدراس. والإكادة كالإداسة3. وأما الدقوقة، فالبقر والحمر التي تدوس الزرع لاستخراج حبه وتهشيم سيقانه4. وقد تستعمل بعض الآلات لقطع سوق الزرع وتهشيمه وتهشيم السنبل، تجرها الثيران أو الحمير، ويجلس عليها شخص ليثقلها، وهي مثل العجلة، التي تقطع الجل، يقال لها "الحيلان". وهي آلة من خشب لها محالتان كمحالة العجلة، قد أنعلتا بحديد مضرس إذا دارتا على الجل قطعتاه، فتجعلان في طرفي عارضة
__________
1 تاج العروس "6/ 81 وما بعدها"، "خرف".
2 Mordtmann Und Mittwoch, Sab. Inschr., S. 155, Nr. 84, Rw 125, Cih 197, Glaser 181.
3 "أكد الحنطة داسها ودرسها"، تاج العروس "2/ 291"، "أكد".
4 تاج العروس "6/ 346"، "دق".(13/52)
ضخمة، ويقعد عليها رجل ليثقلها، ثم يجرها الثور على الجل1. وأما "المقحفة" فالخشبة المتقفعة التي يقحف بها الحب، أي يذرى2.
وبعد الدياسة والدراسة يذرى الطعام لفصل الحب عن التبن. ويستعملون في ذلك آلات التذرية، وهي آلات يدوية ما زال الفلاحون يستعملونها كما كانت قبل آلاف السنين، تتألف من مقبض طويل وأصابع في رأسه يذرى بها الهشيم في الهواء، ليحمل الهواء التبن، وهو خفيف الوزن إلى مكان والحب إلى مكان آخر. وقد ذكر العلماء جملة أسماء لآلة التذرية، منها "المذرى" و"المذرة"3 و"المروح" و"المرواح" و"المثار"4 و"الحفراة"، وهي "الرفش" أيضًا5.
ويتولى الفلاحون دوس الحاصل بأنفسهم، لهشم السيقان والحصول على التبن والحب. يستعملون في ذلك أرجلهم وآلات الدياسة. أما إذا كان الحاصل كبيرًا، فيستعملون عندئذ الحيوان يمشي عليه، أو يجر آلات الدياسة الثقيلة لهشم السيقان وفصل الحب عنها.
ومن عادات أهل اليمن في الدرس والدياسة التناوب، وذلك بأن يجتمعوا مرة عند هذا ومرة عند هذا، فيتعاونوا على الدياس، ويسمون ذلك "القاه". وذلك كالطاعة له عليهم؛ لأنه تناوب قد ألزموه على أنفسهم، فهو واجب لبعضهم على بعض. وقد وصف أحد أهل اليمن ذلك للرسول بقوله: "أنا أهل قاه، فإذا كان قاه أحدنا دعا من يعينه، فعملوا له، فأطعمهم وسقاهم من شراب يقال له المزر"6. وكان أهل "الجوخان" يتناوبون ويتعاونون على الدياس، يجتمعون مرة عند هذا ومرة عند هذا، يرون التعاون فيما بينهم لزامًا عليهم، وكالطاعة لهم، ونوبة كل رجل قاهة7.
__________
1 المخصص "11/ 55".
2 تاج العروس "6/ 216"، "قحف".
3 المخصص "11/ 55"، تاج العروس "3/ 224"، "ذر".
4 المخصص "11/ 55".
5 تاج العروس "3/ 152"، "حفر".
6 تاج العروس "9/ 407"، "القاه"، المخصص "11/ 55".
7 تاج العروس "9/ 407".(13/53)
ويجمع الفلاحون الحاصل ثم يقسمونه بحسب الإنفاق، إن كان هناك فلاح ورب أرض، ليأخذ كل واحد منهما نصيبه، أو يوزع حسب نصيب كل من الشركاء، إن كان الزرع شركة. أو يسلم إلى صاحب الزرع، إن كان الزرع زرعه، وكان الفلاحون عبيدًا له. ويخزن الحاصل في مخازن مبنية، وفي بيادر وبيدر الطعام كومه. والبيدر الموضع الذي يداس فيه الطعام، والمكان الذي يجمع الطعام فيه. وهو "الأندر"، و"الكدس"1. و"الأندر"، كدس القمح خاصة2. والكدس: الحب المحصود المجموع وهو العرمة من الطعام والتمر والدراهم ونحو ذلك، مما يكدس بعضه فوق بعض3.
وذكر علماء اللغة أن "الجرين" للحب، والبيدر للتمر. وذكروا أيضًا أن الجرين موضع البر، بلغة أهل اليمن، وأن "الجرد" الطحن شديدًا بلغة هذيل4.
وينقل الطعام بأوعية إلى المخازن، ومنها نوع يقال له "العيبة"، وهو زنبيل من أدم، ينقل فيه الزرع المحصود إلى "الجرن" في لغة همدان5. وهناك أسماء أوعية أخرى استعملت في نقل الحاصل من أرض الحصاد وكوم التذرية إلى المخازن. ويعبر عن حمل الزرع بعد الحصاد إلى البيدر بلفظة "رفع" كأن يقال: رفع الزرع"، و"الرفاع" اكتناز الزرع ورفعه بعد الحصاد6. وأما "الغبوط" فالقبضات المصرومة من الزرع. و"الغبوط" هي القبضات التي إذا حصد البر وضع قبضة قبضة، الواحد غبط7. وأما "المكتل"، فزنبيل يحمل فيه التمر أو العنب إلى "الجرين"، وقيل هو شبه الزنبيل يسع خمسة عشرة صاعًا. وفي حديث خيبر: فخرجوا بمساحيهم ومكاتلهم8. وكان "عمال خيبر" قد خرجوا بمساحيهم
__________
1 تاج العروس "3/ 35"، "بدر".
2 تاج العروس "3/ 560"، "ندر".
3 تاج العروس "3/ 230"، "كدس".
4 تاج العروس "9/ 160"، "جرن".
5 تاج العروس "1/ 402"، "عاب".
6 تاج العروس "5/ 358"، "رفع".
7 تاج العروس "5/ 190"، "غبط".
8 تاج العروس "8/ 94"، "كتل".(13/54)
ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم والجيش، قالوا: محمد والخميس معه، فأدبروا هرابًا"1.
و"الحنوان"، هما الخشبتان اللتان عليهما الشبكة ينقل عليها البر2. و"الوشيجة"، ليف يفتل ثم يشبك بين خشبتين ينقل بها البر المحصود3.
ويعبر عن جمع المحصولات في مواضع معينة لتحسينها، أو لخزنها، أو لتجفيفها وللمحافظة عليها بجملة ألفاظ، منها: "الكدس"، ويراد بها الحب المحصود المجموع، وهو العرمة من الطعام والتمر والدراهم ونحو ذلك4. ومنها "المربد"، والمربد كل شيء حبست به الإبل والغنم. ولهذا قيل مربد النعم الذي بالمدينة. وهو أيضًا الجرين الذي يوضع فيه التمر بعد الجداد لييبس، وهو "الأندر" بلغة أهل الشأم، والبيدر بلغة أهل العراق5. وأما "المسطح" فمكان مستو يبسط عليه التمر ويجفف، ويسمى "الجرين" يمانية6. وأما "الصبرة"، فما جمع من الطعام بلا كيل ووزن بعضه فوق بعض. يقال اشتريت الشيء صبرة، أي بلا وزن ولا كيل، والصبرة الكدس7.
وللمحافظة على الحبوب وغيرها من التلف، اتخذت مخازن تحت الأرض تحفظ فيها سميت "مدفنن" "المدفن" في المسند8. ولا تزال هذه الطريقة معروفة في مواضع من جزيرة العرب حيث يخزنون القمح وسائر الحبوب في حفر تحفر في الأرض. ويعرف "المدفن" بـ"قنت"، أي الحفرة في لغة المسند كذلك. وهي مخزن يخزن فيه الحب. وذكر "الهمداني"، أن أهل اليمن كانوا في أيامه يحفرون حفرًا في الأرض ويدفنون الذرة فيها، ويسع المدفن خمسة آلاف قفيز إلى ما هو أقل. ويسد عليه، ويبقى على ذلك مدة طويلة. فإذا كشف المدفن ترك
__________
1 سيرة ابن هشام "2/ 236 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف".
2 المخصص "11/ 55".
3 المخصص "11/ 55"، تاج العروس "2/ 111"، "وشج".
4 تاج العروس "4/ 230"، "كدس".
5 تاج العروس "2/ 349"، "ربد".
6 تاج العروس "2/ 163"، "سطح".
7 تاج العروس "3/ 234"، "صبر".
8 Rhodokanakis, Stud. Lexl., Ii, S. 73.(13/55)
أيامًا حتى يبرد ويسكن بخاره، ولو دخله داخل عند كشفه لتلف بحرارته1.
ويعبر عن قطف الثمار وجزها، ولا سيما النخل بلفظة "الصرام"، و"صرم" و"اصطرام"2. و"اصطرام" النخل اجترامه. وجرم النخل جرمًا، خرصه وجزه، والجرام صرام النخل3. وتؤدي لفظة "الجداد" معنى "الصرام" كذلك، وقيل: الجداد بمعنى الحصاد والقطاف4.
__________
1 الصفة "108".
2 تاج العروس "8/ 365"، "صرم"، جامع الأصول "11/ 477".
3 تاج العروس "8/ 224"، "جرم".
4 تاج العروس "2/ 313"، "جدد".(13/56)
الفصل الحادي والتسعون: المحاصيل الزراعية
الحبوب:
يطلق علماء اللغة على الحنطة والشعير لفظة: "الحب"1. وهما عماد الخبز في جزيرة العرب حتى الآن. وتقابل اللفظة كلمة "ميرس" في المسند.
والحنطة من أهم المواد الضرورية التي يتاجر بها، وهي "بر" في المسند2. والبر3، الحنطة في لغة القرآن الكريم كذلك. وهي "قمح" أيضًا. وقد تكلم بها أهل الحجاز، ووردت في الحديث. وذكر أنها شامية وقيل قبطية4. وهي آرامية الأصل، من "قمحو" "Gamho"5. وهي غذاء الطبقة المترفة والموسرة في الأكثر لغلاء ثمنها بالنسبة إلى الفقراء. وقد تباهى الناس وافتخروا بتقديمهم "البر" إلى الضيوف6. و"الحنطة" من الألفاظ التي كانت شائعة عند العرب أيضًا، فهي
__________
1 تاج العروس "1/ 198"، "حبب".
2 راجع السطر: "97"، من النص الموسوم بـ: Cih 241, Glaser 618.
3 بالضم.
4 تاج العروس "2/ 208"، "قمح".
5 غرائب اللغة "202".
6 قال المتنخل "الهذلي:
لا در دري أن أطعمت نازلكم
قرف الحتى وعندي البر مكنوز
تاج العروس "3/ 38"، "بر".(13/57)
"حطاه" "خطاه" "Chittah" في العبرانية مثلًا1. وقد قيل لها "بر" في العبرانية كذلك2.
ويقال للحنطة: "البيضاء"، وهي "السمراء" أيضًا3. و"البثنية"، الحنطة الجيدة4.
وذكر "ابن المجاور" اسم موضع يقال له "بحرى"، ذكر أنه اشتهر بزرع الحنطة، وأن سكانه يزرعون الحنطة مرتين في السنة، في كل ستة أشهر مرة5. واشتهرت "الطائف" بزراعة نوع من الحنطة الجيدة6. وأشير إلى نوع من الحنطة عرف بـ"المهرية"، قيل إنها حنطة حمراء، وكذلك سفاها، وهي عظيمة السنبل غليظة القصب مربعة7.
والشعير، أرخص من الحنطة، ولذلك كثر استعماله في الأكل، فمنه كان خبز أكثر الناس8. ولا زال خبز أهل القرى وبعض الأعراب، وقد كان يهود المدينة يتاجرون به وبدقيق الشعير: يبيعونه في مواطنهم، وفي الأسواق ولا سيما سوق "بني قينقاع". وقد استدان الرسول من أحد اليهود صاعين من دقيق الشعير.
ويقال للطحين في كتابات المسند "دققم" أي "دقيق"9. ويصنع بطرق مختلفة، أشهرها "الرحى"، التي تدار باليد، والتي يديرها الحيوان، والتي تدار بالقوى المائية. و"الطحانة" التي تدور بالماء10. ومع أن معظم الأسر تصنع الطحين في بيوتها، فإن كثيرًا من الناس يشترون الطحين من الأسواق، ويستوردونه من الخارج من بلاد الشأم في الغالب، ويبيعونه في الأسواق المحلية ويقال للدقيق "طحنم" في لغة المسند كذلك، أي "طحين"11.
__________
1 Hastings, P.972, The Bible Dictionary, Ii, P.549.
2 Encyclopaedia Biblica, By Cheyne, Vol., Ii, P.908.
3 تاج العروس "5/ 10"، "بيض".
4 تاج العروس "9/ 135"، "بثن".
5 ابن المجاور "1/ 26".
6 ابن المجاور "1/ 25".
7 تاج العروس "3/ 551". "مهر".
8 البخاري "5/ 47".
9 راجع السطر الـ"120" من النص الموسوم بـ: Cih 241, Glaser 618.
10 تاج العروس "9/ 268"، "طحن".
11 Handbuch, I, S. 137.(13/58)
ويظهر أن "الرز" لم يكن من الحبوب المعروفة عند أهل الحجاز، أو الأماكن الأخرى من جزيرة العرب. وهو من طعام الحضر.
وقد تعود الناس استعمال حبوب أخرى بدلًا من الحنطة والشعير والذرة، وذلك في سي الفاقة والعوز. وبعض هذه الحبوب هو من الحبوب التي تنبت بالطبيعة. ومن جملة هذه الحبوب "الطهف"، حب يؤكل في المجهدة ضاو دقيق. لونه أحمر، ويختبز1. و"العلس"، وهو حبة سوداء، إذا أجدبوا طحنوها وأكلوها. وقيل هو ضرب من الحنطة، يكون بناحية اليمن، وقيل هو طعام أهل صنعاء. ويقال إنه العدس2. و"البيقية"، وهو حب أخضر يؤكل مخبوزًا ومطبوخًا، حبه أكبر من الجلبان ينبت في الحروث3. و"السلت"، وهو حب بين الشعير والبر، إذا نقي انجرد قشره، فكان مثل البر. وقيل شعير لا قشر له أجرد، كأنه الحنطة يكون بالغور والحجاز4. ويقال للرطب من السلت: "البيضاء"5.
وقد عرفت زراعة الذرة باليمن بصورة خاصة، كانوا يخبزونها ويستخرجون منها شرابًا يقال له: "المزر". أشير إليه في كتب الحديث والفقه، وقد نهى الرسول عن شربه6. وذكر أن المزر نبيذ الذرة والشعير والحنطة والحبوب، وقيل نبيذ الذرة خاصة، وقيل المزر من الذرة، والبتع نبيذ العسل، والجعة نبيذ الشعير، والسكر من التمر، والخمر من العنب7.
__________
1 تاج العروس "6/ 186"، "أطهف".
2 تاج العروس "4/ 195"، "علس"، المخصص "11/ 64".
3 تاج العروس "6/ 302"، "بيقية".
4 تاج العروس "1/ 554"، "سلت".
5 تاج العروس "5/ 10"، "بيض".
6 الإصابة "1/ 137"، "رقم 567"، "أوس بن بشير".
7 تاج العروس "3/ 541"، "مزر".(13/59)
القطنية:
ويطلق علماء اللغة على حبوب الأرض التي تدخر كالحمص والعدس والباقلاء والترمس والدخن والأرز والجلبان: "القطنية"، وأطلقها بعض آخر على ما سوى(13/59)
الحنطة والشعير والزبيب والتمر، أو على الحبوب التي تطبخ. وجعلها بعضهم: العدس والخلر، وهو الماش، والفول، والدجر، وهو اللوبياء، والحمص وما شاكلها. وقد ذكر أن الخليفة "عمر" كان يأخذ من القطنية العشر1.
و"الحمص" معروف عند العرب، وهو بري، أي وحشي، ينبت من نفسه، وبستاني، أي ينبت بزرع الإنسان. وقد علفوا به فحول الدواب والجمال. وقد عالجوا به وبدقيقه وبنقيعه أمراضًا عديدة2. و"العدس"، معروف عندهم أيضًا، ويقال له "العلس"، و"البلس" أيضًا3. وذكر أن "العلس"، ضرب من البر جيد، تكون حبتان منه في قشر، يكون بناحية اليمن. وهو طعام معروف عند أهل صنعاء4.
والجلبان من "القطنية" "القطاني"، نبت يشبه الماش، أو هو حب أغبر أكدر على لون الماش إلا أنه أشد كدرة وأعظم جرمًا يطبخ5. و"الماش"، معروف عند العرب كذلك، يأكله الحضر. ويداوون به6.
وقد أشير في القرآن الكريم إلى البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل7. ولفظة "بقلن"، و"بقلت"، الواردة في نصوص المسند، هي في مرادف "بقل"، و"البقل" في عربيتنا، وأما لفظة "تبقلت"، فتقابل لفظة "تبقيل"، ويراد بها زرع الأرض بالبقول.
والسلق من البقول، وهو نبت، له أوراق طوال، وأصل ذاهب في الأرض، يطبخ ورقه، وقد ذكر أن أهل المدينة كانوا يأخذون ورق السلق، فيجعلون فيه حبات من شعير، ويطبخونه، فيكون من ذلك أكل لذيذ8.
و"القثاء"، الخيار، ويقال إنه اسم جنس لما يقول له الناس الخيار، والعجور والفقوس، وبعض الناس يطلقه على نوع يشبه الخيار. ويقال هو أخف
__________
1 تاج العروس "9/ 311 وما بعدها"، "قطن"، اللسان "13/ 344".
2 تاج العروس "4/ 383"، "حمص".
3 تاج العروس "4/ 186"، "عدس".
4 تاج العروس "4/ 195"، "علس".
5 تاج العروس "1/ 186"، "جلب".
6 تاج العروس "4/ 352"، "ماش".
7 البقرة 22، الآية 61.
8 عمدة القارئ "12/ 182"، صحيح البخاري "2/ 109"، تاج العروس "6/ 382"، "سلق".(13/60)
من الخيار1. ويطلق العرب لفظة "الشعارير" على القثاء الصغير2. وذكر بعض علماء اللغة أن الخيار شبه القثاء، وأن اللفظة ليست بعربية أصيلة3. وهي من أصل فارسي، هو "خيار"، ولهم نوع آخر من الخيار اسمه "خيار جنبر"4. وأما لفظه "القثاء"، من المعربات كذلك، عربت من أصل آرامي5. و"القثد" نبت يشبه القثاء، وقيل ضرب منه، وهو القثاء المدور، أو هو الخيار. وفي الحديث أنه كان يأكل القثد بالمجاج6. والمجاج العسل.
ويقال للقثاء "قشّايم" "قشّائيم" "Kishshu.htm'im" في العبرانية، و"قثوتو"، في لغة بني إرم. ويظهر أن لفظة "قثّاء" من الألفاظ القديمة. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها من الألفاظ الإرمية في الأصل7. أما لفظة "خيار" فيرون أنها من أصل فارسي8.
وذكر علماء اللغة أن "الفقوس"، هو البطيخ الشامي، والذي يقال له البطيخ الهندي، بلغة أهل مصر، والحبحب بلغة أهل اليمن9.
وقد اختلف علماء التفسير واللغة في معنى "الفوم"، فذهب بعضهم إلى أنه الثوم، وقال بعض آخر الحنطة، وهو لغة قديمة فيها. وذهب بعض آخر، إلى أنه الحنطة وسائر الحبوب التي تخبز، كما ذهب جماعة إلى أن الفومة هي كل عقدة من بصلة أو ثومة أو لقمة عظيمة10.
والثوم، بقلة معروفة كثيرة بأرض العرب، يأكلونها ويداوون بها نيئة ومعجونة، ومسحوقة، ومطبوخة، ومسلوقة11.
والبصل معروف وواحدته بصلة. وذكر أنه "الفراريس"، أو "الفراديس"12.
وهم يداوون به، ويضرب به المثل، فيقال: أكسى من البصل13.
__________
1 تاج العروس "1/ 100"، "أقثأ".
2 تاج العروس "3/ 304"، "شعر".
3 تاج العروس "3/ 195"، "خير".
4 غرائب اللغة "226".
5 غرائب اللغة "200".
6 تاج العروس "2/ 459"، "قثد".
7 Encyclopaedia Biblica, By Cheyne, Vol., I, 965, Hastings, P.271, Hastings, A Dictionary, Vol., I, P.531.
8 غرائب اللغة العربية "ص226".
9 تاج العروس "4/ 209"، "فقس".
10 تاج العروس "9/ 15"، "فوم".
11 تاج العروس "8/ 220"، "الثوم".
12 تاج العروس "9/ 15"، "فوم".
13 تاج العروس "7/ 228"، "بصل".(13/61)
الكمأ:
والكمأ نبات معروف في جزيرة العرب، يخرج من غير زرع كما يخرج الفطر. والعرب تسميه "جدري الأرض"، ويقال لبائعه "الكمّاء". وقد استعمل العرب ماءه لشفاء العين. وقد أشير إليه في الحديث، وهو من النبات الذي يقتات به في أوقات ظهوره1. والكمأة السوداء خيار الكمأة. وأما "الجبأة"، فالكمأة الحمراء، وقال بعض علماء اللغة الجبأة هنة بيضاء كأنها كمأة2.
وأما "الفطر"، فهو ضرب من الكمأة. وقد ذكر علماء اللغة أنه قتال3. وقد أخذو هذه الفكرة من وجود فصائل سامة منه. إلا أن بينه ما هو غير سام.
وذكر علماء اللغة أسماء أنواع عديدة لنباتات تشاكل الكمأة، منها: العرجون، والطرثوث، نبت رملي طويل مستدق كالفطر، يضرب إلى الحمرة وييبس، يؤكل منه حلز، وهو الأحمر، ومنه مر وهو الأبيض، وذكر بعض علماء اللغة أن الطرثوث نبت على طول الذراع، لا ورق له، كأنه من جنس الكمأة4 و"الطرنوث" و"الضغبوس"5. وذكر بعض علماء اللغة، أن "الضغابيس" صغار القثاء، جمع ضغبوس. وقيل: هي أغصان شبه العراجين تنبت بالغور، في أصول الثمام والشوك طوال حمر، وهي التي تؤكل، أو نبات كالهليون، ينبت في أصل الثمام يسلق بالخل والزيت ويؤكل6.
وهناك بقول برية، منها "القلقلان"، و"البسباس"7، و"الذرق"8، و"النفل"9، و"الملاح"10.
__________
1 تاج العروس "1/ 112"، "كمأ"، المخصص "12/ 2 وما بعدها".
2 تاج العروس "1/ 50"، "جبأ".
3 تاج العروس "3/ 470"، "فطر".
4 تاج العروس "1/ 631"، "طرثوث".
5 المخصص "12/ 2 وما بعدها".
6 تاج العروس "4/ 176"، "الضغابيس".
7 تاج العروس "4/ 109"، "بس".
8 تاج العروس "6/ 351"، "ذرق".
9 تاج العروس "1/ 141"، "نفل".
10 تاج العروس "2/ 229"، "ملح".(13/62)
فصيلة اليقطين:
و"اليقطين" في تعريف علماء العربية: ما لا ساق له من النبات ونحوه، أو كل شيء ذهب بسطًا في الأرض، نحو القرع، والبطيخ، والشريان، والدباء، والحنظل، ونحوها1. فكل هذا النبات هو من اليقطين.
واليقطين، مذكور في القرآن الكريم2. وقد ذهب بعض علماء التفسير إلى أن المراد من اليقطين في القرآن الكريم، القرع، وذهب بعض آخر، إلى أنه الدباء، وذهب بعض آخر إلى أنه البطيخ. وذهب قوم إلى أن اليقطين شجرة غير ذات أصل من الدباء ونحوه أو غيره. وقد ذكروا أن أمية بن أبي الصلت أشار إلى قصة "يونس"، وكيف أن الله أنبت عليه شجرة من يقطين، أظلته وعاش عليها، وذلك قبل الإسلام، إذ قال:
فأنبت يقطينًا عليه برحمة ... من الله لولا الله ألفي ضاحيا3
وذكر أن "القرع"، حمل اليقطين، وكان النبي يحبه. وأكثر ما تسميه "الدباء"، وقل من يستعمل القرع4.
والبطيخ من المزروعات المعروفة في بلاد العرب5. وعرف أيضًا بـ"الخربز". وهي لفظة معربة من أصل فارسي هو "خربوزة"6. وقد وردت لفظة "الخربز".
__________
1 تاج العروس "9/ 311"، "قطن".
2 الصافات، 37، الآية 146.
3 تفسير الطبري "23/ 64 وما بعدها".
4 تاج العروس "5/ 462"، "قرع".
5 القاموس "1/ 257، تاج العروس "2/ 253"، "البطيخ".
6 القاموس "2/ 125"، تاج العروس "4/ 33"، "الخربز".(13/63)
في الحديث، مما يدل على أنها كانت معروفة في الجاهلية. والظاهر أنها وردت من العراق بواسطة التجار العرب أو التجار الفرس الذين كانوا يتاجرون مع الحجاز، أو بواسطة الرقيق المستورد من هناك، والذي استخدم في الزراعة في هذه الديار.
وذكر علماء اللغة أن "الحبحبة" البطيخ المعروف بالبطيخ الشامي، الذي يسميه أهل العراق: "الرقي" والفرس تسميه: "الهندي" لما أن أهل العراق يأتيهم من جهة "الرقة"، والفرس من جهة الهند، وأن أصل منشئه من هناك، وذكر بعض علماء اللغة أنه يسمى "الجوح"، ويسميه المغاربة: "الدلاع"1.
والحنظل، معروف جدًّا عند العرب، وهم يداوون به، ويعالجون به أمراضًا كثيرة، ولا زال الأعراب يقيمون له وزنًا كبيرًا في طبهم. ويأكلون حبه أيضًا.
__________
1 تاج العروس "1/ 199"، "حبب"، "2/ 134"، "جوح".(13/64)
النبات الشائك:
ومن فصائل النبات عند العرب، النبات الشائك، أي ذو الشوك. وهو كل نبات به شوك، وأرض شاكة كثيرة الشوك. وشجرة مشوكة كثيرة الشوك، وأرض مشوكة فيها السحاء والقتاد والهراس، وذلك؛ لأن هذا كله شاك. والسحاء، نبت شائك، له زهرة حمراء في بياض تسمى "البهرمة"، يرعاه النحل عسله غاية1. و"القتاد"، شجر صلب له شوكة كالإبر. وجناه كجناة السمر، ينبت بنجد وتهامة. قال بعض علماء اللغة، إنه من العضاه، وهو ضربان. فأما القتاد الضخام، فإنه يخرج له خشب عظام، وشوكة حجناء قصيرة. وأما القتاد الآخر، فإنه ينبت صعدًا لا ينفرش منه شيء. وهو قضبان مجتمعة، كل قضيب منها ملآن ما بين أعلاه وأسفله شوكًا. وفي المثل: من دون ذلك خرط القتاد. وقد ذكر أن الإبل لا تأكل القتاد إلا في عام جدب، فيجيء الرجل ويضرم فيه النار حتى يحرق شوكه ثم يرعيه إبله، ويسمى ذلك التقتيد. والتقتيد هو أن تقطع القتاد، فتحرقه، أي شوكه، فتعلفه الإبل، فتسمن عليه، وذلك عند الجدب2.
__________
1 تاج العروس "10/ 171"، "سحا".
2 تاج العروس "2/ 458"، "قتد".(13/64)
و"الهراس"، شجر شائك، شوكه كأنه حسك، ثمره كالنبق، قال بعض علماء اللغة: أنه شجر، وقال بعض آخر أنه بقل، أو شوك من أحرار البقول1. و"الحسك"، نبات له ثمرة خشنة تعلق ثمرته بصوف الغنم ووبر الإبل في مراتعها، وعند ورقه شوك ملزز صلب ذو ثلاث شعب، لا يكاد أحد يمشي في أرض حسكة، إلا أحد في رجليه حذاء2. و"النفل"، نبت من أحرار البقول، ومن سطاحه، ينبت متسطحًا وله حسك، قيل: هو قت البر، تأكله الإبل والخيل وتسمن عليه3.
والعوسج، شجر من شجر الشوك، له ثمر أحمر مدور، كأنه خرز العقيق. وقيل: هو شجر كثير الشوك، وهو ضروب، منه ما يثمر ثمرًا أحمر يقال له المقنع فيه حموضة. والعوسج المحض، يقصر أنبوبه ويصلب عوده ولا يعظم شجره، فذلك قلب العوسج، وهو أعتقه4. وذكر أن "المصعة" ثمرة العوسج وحمله، وهو قدر الحمصة حلو طيب يؤكل، أحمر، ومنه قولهم: هو أحمر كالمصعة، ومنه أسود لا يؤكل على أردأ العوسج وأخبثه شوكًا5.
__________
1 تاج العروس "4/ 272"، "هرس".
2 تاج العروس "7/ 119 وما بعدها"، "حسك".
3 تاج العروس "8/ 141، "نفل".
4 تاج العروس "2/ 74"، "عسج".
5 تاج العروس "5/ 512"، مصع".(13/65)
الفصل الثاني والتسعون: الشجر
مدخل
...
الفصل الثاني والتسعون: الشجر
الشجر في تعريف علماء اللغة: ما قام من النبات على ساق، أو ما سما بنفسه دق أو جل، قاوم الشتاء، أو عجز عنه1. وتطلق اللفظة على كل الشجر، مهما كان أصله، شجر زرعه إنسان بغرس، أو بحب. أو شجر أنبتته الطبيعة. شجر الحضر، أي الشجر الذي يعيش بين أهل المدر، وشجر وحشي، نبت على الجبال أو في البوادي، دون أن تتعهده يد إنسان.
والشجر: شجر مثمر، وشجر غير مثمر. ثم هو أهلي، أي من غرس وزرع الإنسان، وبري أي من إنبات وغرس الطبيعة. والعادة أن ثمر الشجر الأهلي أطيب وألذ من ثمر الشجر البري، لاعتناء الإنسان به ورعايته له. ويستعمل الشجر الذي لا ثمر له، حطبًا أو في أعمال البناء إن كان ذا خشب جيد، وفي أعمال أخرى. وفي جبال "السراة" أنواع من أشجار الجبال. ومن الأشجار المثمرة النخيل وسائر أشجار الفواكه.
وقد وجد النخل في كل مكان من جزيرة العرب فيه ماء ولو كان قليلًا. وهو شجر صبور، يصبر على العطش طويلاً، ومن أجل ذلك صار مثل الجمل رمزًا للصحراء. ولم ينفر العربي من زراعة النخيل نفوره من زراعة أشجار الفواكه والخضر بوجه خاص. وقد تخصص بزراعة النخل المستقرون بالطبع.
__________
1 تاج العروس "3/ 291"، "شجر".(13/66)
أما الأعراب، فإنهم لاضطرارهم إلى التنقل من مكان إلى مكان، ولعدم استقرارهم في موضع واحد استقرار أهل الحضر، لم يكن ميسورًا لهم غرسه. ثم إنهم كانوا يزدرون الزراعة بجميع أنواعها، وفي ضمنها زراعة النخيل، وأية زراعة أخرى بلا استثناء.
والنخل، هو شجر التمر، وهو "ن خ ل" "نخل" في المسند كذلك1. وقد صورت النخلة ونحتت على بعض الصخور وعلى كثير من نصوص المسند، وجعلت رمزًا للشمس. وكان السومريون يجعلونها رمزًا للشمس كذلك2. والظاهر أن تحمل النخلة لحر الشمس، ووجودها في مناطق دافئة، ومنظر رأسها الذي هو على شكل كرة مكونة من السعف، الذي يشبه خيوط أشعة الشمس، حمل الناس على تصور قيام صلة لها بالشمس، فجعلوها رمزًا لها وعلامة عليها.
وتعني لفظة "انخل" "أنخل"، "النخيل" وبساتين النخيل ومزارعها2. ومن "نخل" أخذت لفظة "منخل" بمعنى مزرع النخيل، أي الموضع المزروع نخلاً. وقد عني العرب الجنوبيون بزراعة النخيل، وكونوا بساتين واسعة منها, وكانت "نجران" من أهم المناطق المشهورة بزراعة النخيل4.
وإذا استقام فسيل النخل وثبت في الأرض، صبر على العطش، وتحمل السكوت عن طلب الماء، أمدًا طويلًا، لاعتماده على رطوبة الأرض ولامتصاص جذوره للمياه الجوفية. ويقال للنخلة التي لا تحتاج إلى سقي: "الغامرة"5.
وقد ورد عن الرسول قوله: "خير المال سكة مأبورة"، قيل أراد النخل المصطف، والسكة أيضًا: السنة وهي الحديدة التي يشق بها الفدان الأرض، ويقال لها أيضًا المان6. وقد اعتبر العرب النخل من الشجر المبارك الذي بورك فيه لما فيه من فوائد.
__________
1 Rw 155, Bu Jemen 1907, 286, C 1514, Burchard 4, Mordtmann Und Mittwoch, Sab, Inschr., S. 234.
2 Carl Rathjens, Sabaeica. S. 140.
3 Rep. Epigr. 4626, Vii, Ii, P.278.
4 Wissmann – Hofner, S. 9.
5 تاج العروس "3/ 148"، "غمر".
6 الروض الأنف "2/ 207".(13/67)
والنخيل، هي مثل الجمال ثورة ورأس مال تدر على صاحبه ربحًا وافرًا، ومن كان له نخل وافر كان غنيًّا ثريًّا. وقد ربح أصحاب النخيل أرباحًا طائلة من اشتغالهم بزراعة النخيل. فالتمر هو مادة ضرورية يعيش عليها أكثر العرب ويتأدمون بها. يأكلونه بدلًا من اللحم. وكان الأعراب يأتون أهل الريف، بما عندهم من وبر ومن حاصل البوادي، ليبادلوه بالتمر وبالدقيق وبما يحتاجون إليه في حياتهم البدوية من حاجات ضرورية. فكسب أصحاب النخيل أرباحًا طيبة من بيعهم التمور. ولا يوجد مكان في جزيرة العرب فيه ماء، إلا والنخلة هي سيدة المزروعات فيه، بل تكاد تكون النبات المتفرد بالزرع في أكثر الأمكنة، لا يزاحمها نبات آخر من النبات.
ويقال للنخل المرتفع طولًا مجنون1، وهو نخل يقل تمره، وتقل فائدته لذلك وإذا غرس النخل سطرًا على جدول أو غير جدول، قيل: "نخل ركيب"2.
و"الجباب" تلقيح النخل. وزمن الجباب زمن التلقيح للنخل، و"الأبر" تلقيح النخل أيضًا3. وكانوا يلقحون النخلة بدس شمراخ الفحال في وعاء الطلع4.
ويؤكل التمر رطبًا، ويؤكل يابسًا جافًّا. ويقال لنضيج البسر قبل أن يتمر "رطبًا" وواحدته "رطبة"5. وإذا كان التمر يابسًا قيل له "القسب6. ويستعمل "القسب" بعد انتهاء موسم التمر وذهابه، وهو أكثر تمر الأعراب، لسهولة المحافظة عليه من التلف ومن الفساد وتغير الطعم.
وقد لجأ الجاهليون إلى طريقة كبس التمر، للمحافظة عليه زمنًا طويلًا، ولسهولة نقله والاتجار به من مكان إلى مكان. ومن طرقهم في ذلك، أنهم كانوا ينزعون نواة التمر، ثم يكنزونه في قرب وظروف من الخوص، ويقولون
__________
1 تاج العروس "9/ 166"، "جنن".
2 تاج العروس "1/ 179"، "كب".
3 تاج العروس "1/ 171"، "جب".
4 تاج العروس "2/ 217"، "لقح".
5 تاج العروس "1/ 271"، "رطب".
6 تاج العروس "1/ 438". "قسب".(13/68)
لذلك التقليف، والقلف التمر الذي نزع نواه وكنز في القرب وظروف الخوص1. ولا تزال طريقة التقليف معروفة، ويقال لما يخصف من التمر في "الخصاف"، تمر مخصوف2، وللتمر المكبوس في الخصافة مع ظرفه "الخصافة"، أما القربة التي يكبس في داخلها التمر، فيقال لها مع تمرها المكبوس بها "الكيشة" في لغة أهل العراق في الوقت الحاضر، و"تمر كيشة"، هو التمر الذي يستخرج من "الكيشة".
وقد يحفظ التمر في "القراب"، وعاء شبه جراب من أدم: "وفي كتابه لوائل بن حجر: لكل عشرة من السرايا ما يحمل القراب من التمر"3.
ويكنز التمر في وعاء من خوص يقال له: "جلة" و"الجلة"4، وهو "القفعة"، ويسمى بالعراق "القفة"، و"جلة التمر" في لغة أهل اليمن5.
وللنخل فوائد كثيرة جعلها بعضهم نحوًا من "360" فائدة، مثل استعمال سعفه وخوصه وجذوعه وليفه في حاجات الإنسان، حيث يصنع منها مختلف الأشياء، ويباع بعضها في الأسواق، فتكون دخلًا لأصحابها. وصارت منها صناعة تعيش عليها أناس، ولا زالت الصناعات المستندة على استغلال النخلة وأجزائها وسعفها باقية، وإن أخذت في الأفول والاندثار، بسبب منافسة الجديد للقديم، وانصراف الناس عن الوسائل البدائية القديمة إلى الجديد المريح الرخيص.
والنخل في كل موضع من جزيرة العرب فيه ماء. وهو أنواع وفصائل كثيرة. وقد اشتهرت "هجر" بكثرة تمرها. وبزيادته عن حاجة أهلها، فكان الأعراب يأتونها للامتيار، ولشراء التمر منها. وفيها ضرب المثل: كمبضع تمر إلى هجر، و"كجالب التمر إلى هجر". وكانت تصدره إلى البوادي وإلى اليمامة، حين يقل تمرها. وقد عرفت بكثرة وبائها. قال "عمر": "عجبت لتاجر هجر وراكب البحر"، كأنه أراد لكثرة وبائها وخطر البحر، فتاجرها وراكب البحر في الخطر سواء6.
__________
1 تاج العروس "6/ 127"، "قلف".
2 تاج العروس "6/ 88"، "خصف".
3 تاج العروس "1/ 423"، "قرب".
4 اللسان "13/ 156"، "جلل"، تاج العروس "7/ 260"، "جلل".
5 تاج العروس "5/ 478"، "قفع".
6 تاج العروس "3/ 614"، "هجر".(13/69)
واشتهرت خيبر بكثرة تمورها كذلك، حتى ضرب بها المثل في كثرته كما ضرب المثل بكثرة تمر هجر، قال "حسان بن ثابت":
فأنا ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضع تمرًا إلى أهل خيبرا
وقال "خارجة بن ضرار المري":
فإنك واستبضاعك الشعر نحونا ... كمستبضع تمرًا إلى أهل خيبرا1
ولا تزال أرض خيبر تحتضن النخيل وتتعهدها بالعناية والرعاية، وقد وصف "فلبي" موضعها في الوقت الحاضر، وذكر أن الذي يعتني بالنخيل، هم قوم من "العبيد"، يقومون بفلاحة الأرض وبالعناية بالشجر، مقابل الحصول على نصف الحاصل، فإذا حل موسم القطاف، أخذت الحكومة حصتها قبل اقتسام الحاصل، ثم قسم الباقي بين الأعراب الذين يدعون ملكية الأرض وبين العبيد الذين يسهرون طيلة أيام السنة على رعاية الشجر وعلى الزرع، والمفروض أن تكون القسمة قسمة عادلة، قسمة مناصفة، غير أن الأعراب يشتطون في القسمة فيأخذون لهم أكثر مما يأخذ العبيد2. وينطبق هذا الوصف على حالة قسمة الحاصل في المواضع الأخرى من جزيرة العرب في الجاهلية، ولا سيما في العربية الجنوبية. فقد كان جباة الحكومة أول من يأخذ حصة الحكومة، أو حصة الحاكم المهيمن على المكان، ثم يأتي دور صاحب الأرض، الذي يحاول الاستئثار بالحاصل حتى لا يترك للفلاح الذي يفلح ويتعب ويكد إلا أقل ما يمكن إعطاؤه له.
وبأرض خيبر جملة عيون ومسايل ماء، لا زال الناس يزرعون عليها. وتوجد آثار نقوش وكتابات تشير إلى سكن كان بهذا الموضع يعود إلى أيام الجاهلية. وقد عثر "فلبي" على نقود قديمة، ومن الممكن استصلاح أرض خيبر وتحويلها إلى أرض زراعية منتجة.
و"تيماء" من المناطق الخصبة كذلك. وتشاهد آثارها ظاهرة للعيان. وقد حصل المنقبون على مجموعات أثرية منها، في جملتها قطع من النقود تعود إلى
__________
1 تاج العروس "5/ 278"، "بضع".
2 عبد الله فلبي، أرض الأنبياء "ص38".(13/70)
القرن الأخير قبل الميلاد1. وهناك آثار آبار ومسايل ماء تدل على أن الأرض كانت مخصبة مزروعة، ومن أشهر آبارها بئر "خداج"2. يستقي منها الأعراب ويزرعون عليها في الوقت الحاضر3. وقد وجد "فلبي" صورًا وصخورًا منحوتة تمثل رأس الإله "صلم" إله ثمود وإله هذه المنطقة، وأمامها أرض ممهدة كانت موضع تقديم القرابين لذلك الإله4.
وقد وجد "فلبي" وغيره من السياح ممن زار هذه الأرضين الواقعة شمال "يثرب"، آثار مستوطنات جاهلية كثيرة وآثار قنوات وآبار ومسايل مياه، تدل على أنها كانت عامرة مزروعة، وأن في الإمكان إحياءها، وأن آفة اندثارها هو كثرة الغزو الذي وقع عليها وعدم وجود حكومات تدافع عنها وتحميها من غزو الأعراب، الذين كانوا وباءً بالنسبة للحضر، ينهبون ما يجدونه أمامهم ويحرقون الزرع ثم يهربون.
وعرفت اليمامة بتمورها أيضًا، وهو أنواع عديدة، وكان الأعراب يأتونها لشراء التمر منها، وقد عرف الذين يردون اليمامة لامتيار التمر بـ"السواقط"، و"السقاط" ما يحملونه من تمر5.
وعرفت يثرب وما حولها وما وقع أعلاها إلى بلاد الشأم بكثرة نخلها، وهو نخل زرع سككًا في بساتين على طريقة الأنباط في أمصارهم، لا يخافون عليها كيد كائد. تتخلله السواني والسواقي لتسقيه، فيثرب حوائط وآطام، عاش أهلها على الزرع والغرس والجلاد6. وقد أشير إلى كثرة نخل يثرب في شعر ينسب إلى الشاعر "امرئ القيس"، فنعتها بـ"جنة يثرب":
علون بأنطاكية فوق عقمة ... كجرمة نخل أو كجنة يثرب7
__________
1 أرض الأنبياء "111".
2 أرض الأنبياء "115".
3 أرض الأنبياء "116".
4 المصدر نفسه "ص121".
5 تاج العروس "5/ 156"، "سقط".
6 الروض الأنف "2/ 207"، تاج العروس "5/ 123"، "حوط"، جامع الأصول "11/ 177".
7 تاج العروس "8/ 224"، "جرم".(13/71)
وقد افتخر "كعب بن مالك" يوم الخندق على قريش بأن قومه غرسوا النخل حدائق تسقى بالنضح من آبار ثقبت من عهد "عاد" أي من آبار قديمة جدًّا، فهي تسقي النخيل المغروسة عليها، ولهم رواكد فيها "الغاب" و"البردي" يزخر فيها نهر "المرار"، ولهم الزرع الذي يتباهى بسنبله الجميل، لا سيما إذا أصابته أشعة الشمس، لم يجعلوا تجارتهم اشتراء الحمير لأرض دوس أو مراد، بل أثاروا الأرض وحرثوها وغرسوها على نحو ما تفعل النبط في أمصارها، لا يخافون عليها كيد كائد، دلالة على عز أهل يثرب ومنعتهم وأنهم لم يغلبوا على بلادهم من قديم الدهر كما أجليت أكثر الأعاريب عن محالها وأزعجها الخوف عن موطنها1.
ومن أنواع التمور: "الصرفان"2، و"البرني"، تمر أصفر مدور، من أجود التمور. وقيل: ضرب من التمر أحمر مشرب بصفرة كثير اللحاء عذب الحلاوة3. و"التعضوض" ضرب من التمر، والعمر نخل السكر، وهو معروف عند أهل البحرين4. و"البحون"، ضرب من التمر5، والصفرى، وقد نعت بأنه سيد التمور، ثم "السرى"، ثم "اللصف"، ثم "الفحاحيل"، ثم "المجتنى"، ثم "الجعادى"، ثم "الشماريخ"، ثم "المشمرخ"، ثم "البياض"، ثم "السواد" وهما ألوان كثيرة6.
__________
1 سيرة ابن هشام "2/ 207 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف" الروض الأنف "2/ 207".
2 تاج العروس "6/ 164"، "صرف".
3 تاج العروس "9/ 137"، "برن".
4 تاج العروس "3/ 420"، "عمر".
5 اللسان "16/ 190 وما بعدها"، "بحن"، تاج العروس "9/ 135"، "البحون".
6 الصفة "161".(13/72)
أجناس عديدة، بعض أصيل أي من نابت جزيرة العرب ومن تربتها، وبعض مستورد استورد من بلاد الشأم بصورة خاصة ومن أماكن أخرى، فغرس في بلاد العرب ونبت نباتًا حسنًا، وأجاد إجادة طيبة، جعل زراع الكروم يكثرونه من زراعته.
والعنب، هو "عنبم"، أي "عنب" في لغة المسند كذلك1.
وإذا يبس العنب دعي "زبيبًا". ويعرف الزبيب بـ"فصمم"، أي "فصم" "فصيم" في اللهجة الحميرية. وقد وردت هذه اللفظة في نص أبرهة، بمناسبة توزيع أبرهة الزبيب على العمال الذين ساهموا في بناء سد مأرب2.
وقد كان أهل اليمن كما يظهر من نصوص المسند يكثرون من زراعة الأعناب ويربحون من زراعتها كثيرًا، بدليل ورود كثير من النصوص الزراعية، وفيها: أن أصحابها قد غرسوا أعنابًا في المناطق الفلانية والفلانية، أو ورثوا المزرعة الفلانية وفيها أعناب كثيرة وبدليل حفر صور أغصان العنب وعناقيد العنب في الأحجار وإبرازها على الألواح المصنوعة من الجبس، أو حفرها على الأخشاب للزينة والزخرفة، وتفننهم في ذلك، حتى صارت هذه الزخرفة من مميزات الفن اليماني. وما كانوا يفعلون ذلك لو لم يكن للأعناب وجود في اليمن، ولو لم تكن زراعته منتشرة كثيرًا في تلك البلاد.
ومن أنواع العنب: العنب "الجرشي"، وهو عنب طيب، يقول علماء اللغة: هو أطيب العنب كله، وهو أبيض إلى الخضرة، رقيق صغير الحبة، وهو أسرع العنب إدراكًا، عناقيده طويلة، ينسب إلى جرش، مخلاف باليمن3. والعنب "الكلافي"، وهو نوع من أنواع أعناب أرض العرب، وهو عنب أبيض فيه خضرة، وزبيبة أدهم أكلف، ولذلك سمي: الكلافي. وقيل: هو منسوب إلى الكلاف بلد بشق اليمن4. والعنب التربي نسبة إلى "تربة"، والعنب التبوكي نسبة إلى تبوك. و"الرمادي"، ضرب من العنب بالطائف أسود
__________
1 Halevy 360, 362.
2 راجع السطر 128 من نص أبرهة، جواد علي، مجلة المجمع العلمي العراقي، الجزء الأول من المجلد الرابع "ص218".
3 تاج العروس "4/ 287 وما بعدها"، "جرش".
4 تاج العروس "6/ 238"، "كلف".(13/73)
أغبر1. و"الغربيب"، ضرب من العنب بالطائف شديد السواد، وهو من أجود العنب وأرقه وأشده سوادًا2. و"الحمنان"، عنب طائفي، أسود إلى الحمرة صغير الحب3. والدوالي نوع من الكروم4.
و"العنجد"، الزبيب، أو ضرب منه، أو الأسود منه، أو الرديء منه5. و"الفرصد"، عجم العنب، أو عجم الزبيب6.
وقد اشتهرت قرية "ثافت" باليمن بكثرة كرومها، ويقال لها "أثافت" و"أثافة" أيضًا. وقد عرفت بخمرها المصنوع من هذه الكروم. وكان الأعشى كثيرًا ما يتجر فيها، وكان له معصار للخمر يعصر فيها ما جزل له أهل أثافت من أعنابهم7.
ويقال "الأكار" لمن يشتغل في بستان عنب. ويقال للأكار "الجوار"8. والأكار الزراع والحراث9.
والتين هو من الأشجار المعروفة في الحجاز وفي اليمن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد أشير إليه في القرآن الكريم10. وهو كثير في أرض العرب، وأجناسه كثيرة، برية، وريفية، وسهلية، وجبلية. ويكون أخضر اللون، أو أصفر، وأحمر وأسود. وهو كثير بالسراة مباح، يؤكل رطبًا ويزبب ويدخر11. وذكر بعض علماء اللغة أنه "البلس"، وقال بعض آخر: البلس: ثمر كالتين يكثر باليمن، وقيل هو التين نفسه إذا أدرك12. ومنه "الطبار"، قيل هو تين كبير من أكبر أنواع التين، كميت أنى تشقق، وإذا أكل قشر لغلظ لحائه،
__________
1 المخصص "11/ 22".
2 تاج العروس "1/ 410"، "غرب".
3 تاج العروس "9/ 183"، "الحمن".
4 اللسان "11/ 254".
5 تاج العروس "2/ 433"، "عنجد".
6 تاج العروس "1/ 451"، "الفرصد".
7 تاج العروس "1/ 534"، "أثث".
8 تاج العروس "3/ 113"، "جار".
9 تاج العروس "3/ 17"، "أكر".
10 سورة التين.
11 تاج العروس "9/ 154"، "تين".
12 تاج العروس "4/ 111"، "بلس".(13/74)
فيخرج أبيضن ويزبب. وذكر بعض علماء اللغة، أنه من شجر الضرف، وهو على صورة التين، إلا أنه أدق1. و"الضرف"، شجر التين، يقال لثمره البلس. أو هو من شجر يشبه الأتأب في عظمه وورقه، إلا أن سوقه غبر مثل سوق التين، وله تين. وقيل: له جني أبيض مدور مفلطح كتين الحماط الصغار، مر يضرس يأكله الناس والطير والقرود2.
والرمان من الفواكه المعروفة في الحجاز وفي اليمن، وقد ذكر في القرآن الكريم3. ومنه أنواع برية، ذكر بعض علماء اللغة منها "المظ". وهو ينبت في جبال السراة، وفي بقية الجبال. وذكر بعض آخر، أنه شجر الرمان4. و"الجشب" قشور الرمان عند أهل اليمن5.
والتفاح بأرض العرب كثير6. والموز معروف عندهم، ولا سيما في العربية الجنوبية وفي التهائم7. و"الخوخ" معروف عند العرب8. ويقال له "الفرسك"9. و"الفرصاد"، التوت أو حمله أو أحمره. و"التوت" من الألفاظ المعربة10. ويربون على ورقه ديدان الحرير.
و"الزيتون"، شجر معروف في بلاد العرب، استخرجوا منه زيت الزيتون. وقد ذكر في القرآن الكريم11.
و"السدر"، من الأشجار المعروفة في كل مكان من جزيرة العرب. ورد ذكره في القرآن. واستعمل ورقه في مقام الصابون، كما استفيد من ثمره ومن أغصانه وأخشابه. وهو يتحمل الصبر على العطش لعمق جذوره في باطن الأرض. وبذلك لاءم جو جزيرة العرب هذا النوع من الشجر، وما زال الناس يزرعونه في كثير من المواضع. وقد استعمل مظلة يجلسون تحتها في أيام الحر الشديد ومجلسًا
__________
1 تاج العروس "3/ 355"، "طبر".
2 تاج العروس "6/ 171"، "الضرافة".
3 سورة الأنعام، الآية 99، 141.
4 تاج العروس "5/ 264"، "مظظ".
5 المخصص "11/ 140"، تاج العروس "1/ 183"، "خشب".
6 تاج العروس "2/ 128"، "التفاح".
7 تاج العروس "4/ 83"، "موز".
8 تاج العروس "2/ 256"، "الخوخة".
9 تاج العروس "7/ 168"، "الفرسك".
10 تاج العروس "2/ 451"، "الفرصد".
11 سورة التين.(13/75)
يجلسون فيه لتمضية الوقت والتسلي والترويح عن النفس.
والسدر من العضاه، هو لونان، فمنه عبري ومنه ضال. فأما العبري، فما لا شوك فيه إلا ما لا يضير. وأما الضال، فذو شوك. وذكر أهل الأخبار: أن أجود نبق يعلم بأرض العرب. نبق هجر. وهو أشد نبق حلاوة وأطيبه رائحة يفوح فم آكله وثياب ملابسه كما يفوح العطر1.
__________
1 تاج العروس "3/ 261"، "سدر".(13/76)
الجوز:
والجوز معروف بأرض العرب، ويربى باليمن. وبالسروات شجر جوز لا يربى، وخشبه موصوف بالصلابة والقوة، وينبت الجوز في الجبال والمرتفعات. وقد أشير إلى صلابة وقوة خشب الجوز في شعر للأعشى. وقد زعم أن سفينة "نوح" كانت من خشب الجوز1. والجوز نوعان: جوز يربى، أي يزرعه الإنسان بنفسه ويرعاه، وجوز وحشي، نبت على الطبيعة، دون أن تزرعه يد إنسان. وهو أنواع عديدة، لها أسماء ترد في كتب اللغة.
__________
1 قال الجعدي:
كأن مقط شرا سيفه ... إلى طرف القنب فالمنقب
لطحن بترس شديد الصفا ... ق من خشب الجوز لم يثقب
وقال في وصف سفينة نوح:
يرفع بالقر والحديد من الجوز طوالاً جذوعها عمما
تاج العروس "4/ 20"، "جوز".(13/76)
اللوز:
واللوز ثمر معروف في بلاد العرب، ومن أسمائه القمروص. وهو على نوعين: حلو ومر. وقد استعملا في المعالجة: في معالجة أمراض عديدة، من باطنية وجلدية. واستعمل الحلو منه في الطعام، وفي الحشو. والثمر الملوز، هو الثمر المحشو به. وبذلك أن ينزع منه نواه، ويحشى فيه اللوز1. واللوز، صنف من المزج، والمزج ما لم يوصل إلى أكله إلا بكسر، وقيل هو ما دق من المزج. أو المر من اللوز2.
__________
1 تاج العروس "4/ 79"، "اللوز".
2 تاج العروس "2/ 100"، "مزج" "4/ 79"، "اللوز".(13/76)
الثمر:
والثمر، حمل الشجر1. وهو "ثمر" في نصوص المسند كذلك، ويجمع عندهم على "أثمر"، أي "أثمار". و"الفاكهة" الثمر كله2. وفي القرآن الكريم: "وفاكهة وأبًّا". قال العلماء الأب الكلأ، وما تأكله الأنعام، والمرعى كله. والفاكهة ما أكله الناس. فالأب من المرعى للدواب كالفاكهة للإنسان3.
ويحتاج الشجر المثمر إلى رعاية وعناية وحماية من أذى الطبيعة ومن أذى الإنسان والحيوان فعلى صاحبه حمايته من الشمس المحرقة، ومن البرد الشديد ومن الأهوية والعواصف، ومن الحشرات التي قد تصيبه فتأتي عليه، ومن الأمراض والآفات الزراعية، ومن تطاول إنسان غريب عنه عليه، بقطعه أو بسرقة ثمره، ثم حمايته من أذى الحيوان، بأكله أو بأكل ورقه أو ثمره، وكسر أغصانه، وأمثال ذلك مما يلحقه من أذى بالشجر وبثمره.
ولحماية الشجر، أحاطوا الأرض المشجرة بحائط مرتفع قدر الإمكان، ليمنع الإنسان أو الحيوان من دخولها، ومن الاعتداء على شجرها أو ثمرها، ويقال لها "الحائط"، و"الحائط" البستان. وقد أطلقت اللفظة على البستان من النخل في الغالب وكانت "يثرب"، ذات "حوائط". وقد أشير إليها في الحديث: ورد: "على أهل الحوائط حفظها بالنهار. يعني البساتين"4.
وقد عني أهل الجاهلية بتحسين وبتنويع وبتطعيم أشجارهم المثمرة، وكان منهم مثل أهل الطائف واليمن من استورد الشجر المثمر الجيد من الخارج. من بلاد الشأم ومن أفريقية والهند ومن المواضع التي اشتهرت بصنف جيد من أصناف الشجر من جزيرة العرب، وبذلك نوعوا ثمرهم وحسنوا أصناف شجرهم، ويظهر أثر
__________
1 تاج العروس "3/ 77"، "ثمر".
2 تاج العروس "9/ 402". "فكه".
3 تاج العروس "1/ 142"، "أب".
4 تاج العروس "5/ 123"، "حوط".(13/77)
استيراد الشجر من خارج جزيرة العرب، من الأسماء الأعجمية التي عرفت بها في الجاهلية، والتي تتحدث عن المكان الذي استوردت منه.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من الأشجار نبتت ونمت نموًّا طبيعيًّا، منها ما نبت على الجبال والمرتفعات، ومنها ما نبت في البوادي وفي التهائم. فهي من الأشجار الوحشية التي لم تزرعها يد إنسان. بعض منها مثمر، يستفاد من ثمره، وبعض منها مثمر، غير أنه لا يمكن الاستفادة من ثمره، ولا ينتفع به إنسان أو حيوان. وبعض منه عقيم، غير مثمر.
ومن الأشجار المعروفة: التين الوحشي، أو التين البري. ويكثر وجوده في الجبال والمرتفعات. وقد عرفت جبال السراة بكثرة وجود هذا التين بها، والزيتون الوحشي "العتم". ذكر علماء اللغة أن "العتم" شجر الزيتون البري، وقيل هو ما ينبت منه في الجبال، ويوجد شجر يشبهه ينبت بالسراة1. ويستخرج الأهلون اليوم منه دهنًا قائم السواد يسمى "القطران"، لطلاء الأبواب والنوافذ في أرض "شمران" المحاذية للسراة في المملكة العربية السعودية2. واتخذت منه الأسوكة. ورد: الأسوكة ثلاثة: أراك، فإن لم يكن فعتم أو بطم3.
والحماط، شجر شبيه بالتين، خشبه وجناه وريحه، إلا أن جناه هو أصغر وأشد حمرة من التين، ومنابته في أجواف الجبال، وقد يستوقد بحطبه ويتخذ خشبه لما ينتفع به الناس، ويبنون عليه البيوت والخيام. وقيل هو في مثل نبات التين، غير أنه أصغر ورقًا وله تين كثير صغار من كل لون أسود وأملح وأصفر، وهو شديد الحلاوة، ويحرق الفم إذا كان رطبًا، فإذا جف ذهب ذلك عنه، وهو يدخر، وله إذا جف متانة وعلوكة، وهو أحب شجر إلى الحيات، تألفه كثيرًا، ولذلك قيل: شيطان حماط، وهو شجر التين الجبلي، أو هو الأسود الصغير المستدير منه، أو هو شجر "الجميز"4. و"الجميز" التين الذكر، يكون بالغور، وهو حلو، وهو الأصفر منه والأسود يدمي الفم5.
__________
1 تاج العروس "8/ 388"، "عتم".
2 جريدة البلاد السعودية "العدد 164، السنة الأولى، 12 أغسطس 1959". "الزراعة ومشاكلها في شمران".
3 تاج العروس "8/ 388"، "عتم".
4 تاج العروس "5/ 121"، "حمط".
5 تاج العروس "4/ 18"، "جمز"، عرام "415".(13/78)
والتألب، وينبت بجبال اليمن، وله عناقيد كعناقيد البطم، فإذا أدرك وجف اعتصر للمصابيح، وهو أجود لها من الزيت. وتقع السرفة في التألبة فتعريها من ورقها. ويتخذ من عيدان التألب القسي1. و"الألب" شجرة شاكة كالاترج، ومنابتها ذرى الجبال، وهي سم، يؤخذ خضبها وأطراف أفنانها فيدق رطبًا ويقشب به اللحم ويطرح للسباع كلها، فلا يلبثها إذا أكلته، فإن هي شمته ولم تأكله عميت عنه2.
و"الشوحط"، ضرب من شجر الجبال، تتخذ منه القسي. ويكثر وجوده في جبال السراة، فإنها هي التي تنبته. وله ثمرة مثل العنبة الطويلة، إلا أن طرفها أدق، وهي لينة تؤكل3. و"النبع"، شجر من أشجار الجبال، أصفر العود رزينه ثقيله في اليد، وإذا تقادم أحمر، تتخذ منه القسي، وكل القسي إذا ضمت إلى قوس النبع كرمتها قوس النبع؛ لأنها أجمع القسي للأرز واللين، ولا يكون العود كريمًا، حتى يكون كذلك، أي شديدًا لينًا. وتتخذ السهام من أغصانه. وله ذكر في شعر الشعراء الجاهليين4.
ومن أشجار الجبال: "الرنف"، و"الحثيل"، و"البان"، و"الظيان"، و"الرنف"، شجر ينضم ورقه إلى قضبانه إذا جاء الليل وينتشر بالنهار. وفي مقتل "تأبط شرًّا"، أن الذي رماه لاذ منه برنفة، فلم يزل "تأبط شرًّا" يجدمها بالسيف حتى وصل إليه فقتله، ثم مات من رميته5. و"الحثيل" شجر جبلي يشبه الشوحط، ينبت مع النبع وأشباهه6. و"البان"، شجر، ولحب ثمره دهن طيب. وتعالج بحبه جملة أمراض جلدية وداخلية. وهو يطول
__________
1 المخصص "11/ 142"، عرام "407، رقم 10".
2 تاج العروس "1/ 149"، "ألب".
3 قال الأعشى:
وجيادا كأنها قضب الشو ... حط يحملن شكة الأبطال
تاج العروس "5/ 165"، "شحط"، عرام، أسماء جبال تهامة "ص396"،
4 تاج العروس "5/ 518"، "نبع".
5 تاج العروس "6/ 122"، "أرنف"، عرام، أسماء جبال تهامة "ص396".
6 قال أوس بن حجر:
تعلمها في غيلها وهي حظوة ... بواد به نبع طوال وحثيل
تاج العروس "7/ 273"، "حثل".(13/79)
باستواء مثل نبات الأثل، وورقه له هدب كهدب الأثل، وليس لخشبه صلابة، وعدة بعض العلماء من العضاه، وله ثمرة تشبه قرون اللوبياء، إلا أن خضرتها شديدة. فهو من النبات الذي تطبب به1. و"الظيان"، ياسمين البر، وهو نبت يشبه النسرين، وضرب من اللبلاب. وقد دبغ بورقه، ويلتف بعضه على بعض2. وهو على هذا التعريف، ليس من الأشجار التي تعطي الخشب. وبعض ما ذكرته ينبت في الهضاب والأودية3. وذكر أن للظيان، ساق غليظة، وهو شاك، ويحتطب. وله سنفة كسنفة العشرق. والسنفة: ما تدلى من الثمر وخرج عن أغصانه. والعشرق: ورق يشبه الحندقوقا منتنة الرائحة4.
والقرظ، شجر عظام لها سوق غلاظ، أمثال شجر الجوز وورقه أصغر من ورق التفاح، وله حب يوضع في الموازين. وهو ينبت في القيعان، واحدته قرظة. ويستعمل حبه للتداوي. ويدبغ به، ويستخرج صبغ منه، يصبغ به الأديم. والقرظ من أشهر مواد الدباغة وصبغ الجلود عند الجاهليين5.
و"الضهياء"، وهو شجر يشبه العناب تأكله الإبل والغنم6. و"العرعر" شجر يعمل به القطران، وهو شجر عظيم جبلي لا يزال أخضر، يسميه البعض "السرو"، وقيل: الساسم، وقيل الشيزى، وله ثمر أمثال النبق، يبدو خضر، ثم يبيض، ثم يسود حتى يكون كالحمم، ويحلو فيؤكل واحدته عرعرة7. و"البشام"، شجر عطر الرائحة طيب الطعم، يدق ورقه ويخلط بالحناء يسود الشعر وقيل: هو شجر ذو ساق وأفنان وورق صغار، أكبر من ورق الصعتر، ولا ثمر له، وإذا قطعت ورقته أو قصف غصنه هريق منه لبن
__________
1 تاج العروس "9/ 147"، "البون".
2 تاج العروس "9/ 273"، "ظن"، "10/ 233"، "ظني".
3 قال أوس بن حجر:
بواد به نبع طوال وحثيل ... وبان وظيان ورنف وشوحط
ألف اثيث ناعم متغيل
"أنف" تاج العروس "6/ 122"، "أرنف".
4 عرام، أسماء جبال تهامة "399".
5 تاج العروس "5/ 258"، "قرظ"، عرام، أسماء جبال تهامة "396".
6 عرام "396، 403، 411"، تاج العروس "10/ 222"، "ضهي".
7 تاج العروس "3/ 292"، "عرر".(13/80)
أبيض. قيل: ويستاك بقضبه. وفي حديث "عتبة بن غزوان"، ما لنا طعام إلا ورق البشام1.
و"الدلب"، شجر "الصنار"، معرب "جنار" الفارسية، واحدته "دلبة"، شجر عظيم، ورقه يشبه الخروع إلا أنه أصغر منه، ومذاقه مر عصف، وله نوار صغار، يتخذ منه النواقيس، تقول العرب: هو من أهل الدربة بمعالجة الدلبة، أي هو نصراني2. و"التنضب"، شجر ضخام ليس له ورق، وهو يسوق ويخرج له خشب ضخام وأفنان كثيرة، وإنما ورقه قضبان تأكله الإبل والغنم. وقال بعض العلماء: التنضب شجر له شوك قصار، وليس من شجر الشواهق، تألفه الحرابى. وذكر بعض آخر، أن التنضبة شجرة ضخمة يقطع منها العمد للأخبية، وتتخذ منها السهام. وذكر بعض آخر: التنضب شجر حجازي، وليس بنجد منه شيء إلا جزعة واحدة بطرف "ذقان" عند التقيدة، وهو ينبت ضخمًا على هيئة السرح، وعيدانه بيض ضخمة، وهو محتظر وورقه منقبض ولا تراه إلا كأنه يابس مغبر وإن كان نابتًا. وشوكه كشوك العوسج، وله جني مثل العنب الصغار يؤكل. وهو أحيمر. ودخان التنضب أبيض مثل لون الغبار، ولذلك شبهت الشعراء الغبار به. وقد قطعت منه العصي الجياد3. وذكر أن للتنضب ثمرًا يقال له "الهمقع" يشبه المشمش يؤكل طيبًا4.
والأيدع، شجر يشبه الدلب، إلا أن أغصانه أشد تقاربًا من أغصان الدلب، له وردة حمراء، وليس له ثمر، نهى الرسول عن كسر شيء من أغصانه وعن السدر والتنضب والشبهان؛ لأن هؤلاء جميعًا ذوات ظلال يسكن الناس فيها من البرد والحر5.
__________
1 تاج العروس "8/ 203"، "بشم".
2 تاج "1/ 247"، "دلب".
3 قال عقيل بن علقمة المري:
وهل أشهدن خيلاً كأن غبارها ... بأسفل علكد دواخن تنضب
وقال النابغة الجعدي:
كأن الدخان الذي غادرت ... ضحيا دواخن من تنضب
تاج العروس "1/ 489"، "نضب".
4 عرام "40"، تاج العروس "5/ 561"، "همقع".
5 عرام، أسماء جبال تهامة "400".(13/81)
والشبهان والشبه، نبت كالسمر شائك له ورد لطيف أحمر، وحب كالشهدانج يشرب للدواء، وترياق لنهش الهوام، نافع للسعال، ويفتت الحصى ويعقل البطن. وذكر أنه شجر من العضاه1. فهو من النباتات التي تطبب بها. و"السرح" شجر كبير عظيم طويل لا يرعى وإنما يستظل فيه وينبت بنجد في السهل والغائط، ولا ينبت في السهل والغلظ، ولا ينبت في رمل ولا جبل، ولا يأكله المال إلا قليلًا. له ثمر أصفر، أو هو كل شجر لا شوك فيه، وقد ورد ذكره في الشعر الجاهلي2.
و"السلم"، شجر من العضاه، وورقه القرظ الذي يدبغ به الأديم. وهو سلب العيدان طولًا شبه القضبان، وليس له خشب، وإن عظم، وله شوك دقاق طوال حاد، وله برمة صفراء فيها حبة خضراء طيبة الريح وفيها شيء من مرارة، وتجد بها الظباء وجدًا شديدًا3. والسماق في جملة الشجر الذي ينبت في جزيرة العرب، ذكر بعض العلماء أنه يسمى "الظمخ" في الحجاز، و"العرتن" في نجد. وهو من شجر القفاف والجبال. وله ثمر حامض عناقيد فيها حب صغار، وهو من النبات الذي يداوى به، في جملة أمراض4 وورد أن "الظمخ"، هو شجر السماق، ويقال فيه الظنخ، والزمخ، والطنخ. وأن الظمخ، شجرة على صورة الدلب، يقطع منها خشب القصارين التي تدفن، وهي العرن، وهي أيضًا شجرة التين في لغة طيء5. وذكر أن "العرنة" عروق "العرنتن"، و"العرنة" خشب الظمخ، واحدتها ظمخة. شجرة على صورة الدلب، يقطع منها خشب القصارين التي تدفن. وقيل هو شجر يشبه العوسج، إلا أنه أضخم منه، وهو أثيث الفرع وليس له سوق طوال. وسقاء معرون دبغ به6.
و"الخزم"، شجر كالدوم سواء، وله أفنان وبسر صغار يسود إذا أينع مر عفص لا يأكله الناس. تتخذ من لحائه الحبال. والخزام بائعه7. وذكر
__________
1 تاج العروس "9/ 393"، "أشبه".
2 تاج العروس "2/ 161"، "سرح".
3 تاج العروس "8/ 337"، "سلم".
4 عرام "402 وحاشية رقم 2"، تاج العروس "6/ 385"، "سحق".
5 تاج العروس "2/ 270"، "الظمخ".
6 تاج العروس "9/ 277"، "عرتن".
7 تاج العروس "8/ 274"، "خزم"، عرام، أسماء جبال تهامة "402".(13/82)
أنه شجر يشبه ورقه ورق البردي، وله ساق كساق النخلة يتخذ منه الأرشية الجياد1. وأما "الدوم"، فشجر ثمره "المقر". تعبل شجرته وتسمو ولها خوص كخوص النخل. وتخرج أفناء كأفناء النخلة2. وذكر أن "المقل" صمغ شجرة شائكة كشجرة اللبان، وهو الذي يسمى "الكور"، أحمر طيب الرائحة، ينبت بعمان، في جبل يدعى "قهوان" مطل على البحر. وهو من الأدوية المعروفة عند العرب. و"المقل المكي"، ثمر شجر الدوم، الشبيه بالنخلة في حالاتها ينضج ويؤكل، ويستعملونه لمعالجة المعدة. ويتدخن اليهود بالمقل، الذي هو الكندر، وحبه يجعل في الدواء3.
و"الشقب"، شجر ينبت كنبتة الرمان وورقه كورق السدر، وجناه كالنبق وفيه نوى. وذكر أنه شجر من شجر الجبال ينبت في جبال اليمن على أفواه الأودية، له أساريع كالشطب التي في السيف، يتخذ منها القسي4. و"الإثرار" وله ورق يشبه ورق الصعتر وشوك نحو شوك الرمان، ويقدح ناره إذا كان يابسًا فيقتدح سريعًا، وقد يتخذ من "الإثرار" القطران، كما يتخذ من العرعر5.
و"المرخ" من شجر النار عند العرب، أي من الأشجار التي تورى بسرعة وتعطي نارًا طيبة، سريع الورى كثيره، حتى قالوا: في كل شجرة نار، واستمجد المرخ والعفار. وقيل هو من العضاه، وهو ينفرش ويطول في السماء حتى يستظل فيه، وليس له ورق ولا شوك، وعيدانه سلبة قضبان دقاق، وينبت في شعب وفي خشب، ومنه يكون الزناد الذي يقتدح به. ذكروا أنه ليس في الشجر كله أورى نارًا من المرخ، وربما كان المرخ مجتمعًا ملتفًّا وهبت الريح وجاء بعضه إلى بعض فأورى فأحرق الوادي. ولم ير ذلك في سائر الشجر6.
__________
1 عرام "ص402 وحاشية رقم 2".
2 تاج العروس "8/ 297"، "دوم".
3 تاج العروس "8/ 118"، "مقل".
4 تاج العروس "1/ 323"، "شقب"، عرام "403".
5 عرام "402، 408".
6 قال الأعشى:
زنادك خير زناد الملو ... ك خالط فيهن مرخ عفارا
ولوبت تقدح في ظلمة ... حصاة بنبع لاوديت نارا
تاج العروس "2/ 278"، "مرخ".(13/83)
و"العفار"، من شجر النار كذلك. وهو شجر يتخذ منه الزناد، يسوى من أغصانه فيقتدح به. شبيه بشجرة الغبيراء الصغيرة، وهو شجر خوار. وقيل في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} إنها المرخ والعفار. وهما شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر1.
و"الأراك" من الحمض، وقيل الحمض نفسه، له حمل كحمل عناقيد العنب، يستاك به، أي بفروعه، وهو أفضل ما استيك بفروعه، وأطيب ما رعته الماشية رائحة لبن. تتخذ المساويك من الفروع ومن العروق، وأجوده عند الناس العروق2. ويقال للغصن من ثمر الأراك "المرد"، والنضيج منه "الكباث"، و"البرير" ثمر الأراك أيضًا3. و"الطلح"، شجر عظيم حجازي جناته كجنات السمرة، وهو شوك أحجن ومنابته بطون الأودية، وهو أعظم العضاه شوكًا وأجودها صمغًا. وذكر بعض علماء اللغة، أن الطلح شجرة طويلة لها ظل يستظل بها الناس والإبل وورقها قليل ولها أغصان طوال عظام، ولها شوك كثير مثل سلاء النخل، ولها ساق عظيمة لا تلتقي عليها يدا الرجل، وهي أم غيلان، تنبت في الجبل، الواحدة طلحة. وذكر بعض آخر، أن الطلح أعظم العضاه وأكثره ورقًا، وأشده خضرة، وله أشواك ضخام طوال وشوكه من أقل الشوك أذى، وليس لشوكته حرارة في الرجل، وله برمة طيبة، وليس في العضاه أكثر صمغًا منه ولا أضخم ولا ينبت إلا في أرض غليظة شديدة خصبة. وقد فسر بعض العلماء قوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} ، بأنه الطلع، "والطلع" لغة في الطلح. وذكروا أن الطلع الموز، وهذا في نظر بعض آخر، غير معروف؛ لأن شجر الموز غير شجر الطلح4.
و"النشم"، شجر جبلي، تتخذ منه القسي، وهو من عتق العيدان5.
__________
1 تاج العروس "3/ 412"، "عفر".
2 تاج "7/ 99 وما بعدها"، "أرك".
3 تاج العروس "2/ 500"، "مرد".
4 تاج العروس "2/ 190"، "طلح".
5 تاج العروس "9/ 76"، "نشم".(13/84)
و"الغرب"، شجر، يسوى منه الأقداح البيض1. و"العرفط"2، شجر من العضاه، وهو فرش على الأرض لا يذهب في السماء، وله ورقة عريضة وشوكة حديدة حجناء، وهو مما يلتحى لحاؤه وتصنع منه الأرشية التي يستقى بها، وتخرج في برمه العلفة كأنها الباقلاء، تأكله الإبل والغنم. وقيل لبرمته الفتلة، وهي بيضاء كان هيادبها القطن. وهو من خرج العيدان، وليس له خشب ينتفع به فيما ينتفع من الخشب وصمغه كثير، وربما قطر على الأرض حتى يصير تحت العرفط، مثل الأرحاء العظام. وذكر بعض علماء اللغة: العرفط، شجرة قصيرة متدانية الأغصان، ذات شوك كثير طولها في السماء كطول البعير بأركالها وريقة صغيرة. تنبت في الجبال، تأكل الإبل بفيها أعراض غصنتها. وذكر أن لصمغها رائحة كريهة، فإذا أكلته النحل حصل في عسلها من ريحه. وقد أشير على رائحته هذه في كتب الحديث3.
و"الغرف" شجر يدبغ به، ويعمل منه القسي، وذكر أنه لا يدبغ به، وقيل يدبغ بورقه، وإن كانت القسي تعمل من عيدانه، وذكر أنه إذا جف فمضغ شبهت رائحته رائحة الكافور. وجعله بعضهم ثمامًا. فقالوا: الثمام أنواع، منه: الغرف، وهو شبيه بالأسل، وتتخذ منه المكانس، ويظلل به المزاد فيبرد4. و"الشث" شجر من أشجار الجبال، وقيل ضرب من الشجر ونبت طيب الريح مر الطعم يدبغ به، ينبت في جبال الغور وتهامة ونجد. وقيل شجر مثل شجر التفاح القصار في القدر، ورقه شبيه بورق الخلاف، ولا شوك له، وله برمة موردة صغيرة، فيها ثلاث حبات أو أربع سود، ترعاه الحمام إذا انتثروا5.
وذكر أن "الغريف" شجر خوار مثل الغرب أو البردي6. و"الضرو"
__________
1 تاج العروس "1/ 407"، "غرب".
2 بالضم.
3 تاج العروس "5/ 182"، "اعرنفط".
4 تاج العروس "6/ 209"، "غرف".
5 تاج العروس "1/ 627 وما بعدها"، "شث".
6 قال حاتم في صفة نخل:
رواء يسيل الماء تحت أصوله ... يميل به غيل بأدناه غريف
وقال أحيحة بن الجلاح:
يزخر في حافاته مغدق ... بحافتيه الشوع والغريف(13/85)
شجرة الكمكام، وهو شجر طيب الريح يستاك به، ويجعل ورقه في العطر، وأكثر منابت الضرو باليمن، وهو من شجر الجبال كالبلوط العظيم له عناقيد كعناقيد البطم، غير أنه أكبر حبًّا، ويطبخ ورقه فإذا نضج صفي ورد ماؤه إلى النار فيعقد. يتداوى به1. وذكر أن الكمكام قرف شجر الضرو، وقيل صمغ شجرة تدعى الكمكام تجلب من اليمن، وقيل هو علك الضرو. وقرف شجرة الضرو أو لحاؤها من أفواه الطيب. وقد يستاك به2.
و"المظ"، شجر الرمان أو بريه، ينبت في جبال السراة ولا يحمل ثمرًا وإنما ينور نورًا كثير. ومنابته الجبال. وفي نوره عسل كثير ويمص وتأكله النحل فيجود عسلها، ولها حطب أجود حطب وأثقبه نارًا يستوقد كما يستوقد الشمع. وقيل هو الرمان البري الذي تأكله النحل، وإنما يعقد الرمان البري ورقًا ولا يكون له رمان. وقيل هو: دم الأخوين، وهو دم الغزال، الذي يعرف بالقاطر المكي، وهو عصارة عروق الأرطى، وهو حمر، والإرطاة خضراء، فإذا أكلتها الإبل احمرت مشافرها3.
و"السماق" من الأشجار التي تنبت بجبال تهامة، وأهل الحجاز يسمونه "الضمخ"، وأهل نجد يسمونه "العرتن"4.
و"الشوع". شجر البان، أو ثمره. قيل شجر طوال وقضبانه طوال سمجة، ويسمى ثمره أيضًا الشوع. وهو يريع ويكثر على الجدب وقلة الأمطار، والناس يسلفون في ثمره الأموال. وأهل الشوع، يستعملون دهنه كما يستعمل أهل السمسم دهن السمسم. وهو جبلي، وقيل ينبت في الجبل والسهل5. و"الضبر"، شجر جوز البر، يكون بالسراة في جبالها ينور ولا يعقد. وذكر بعض علماء اللغة، أن "الضبر"، "جوز بويا"، و"جوز بوا"، كما يسميه البعض. وذكر بعض آخر، أنه جوز صلب. و"الضبار"، شجر يشبه شجر البلوط، وحطبه جيد، مثل حطب المظ. فإذا جمع حطبه رطبًا،
__________
1 تاج العروس "6/ 210"، "غرف".
2 تاج العروس "10/ 219"، "ضرى".
3 تاج العروس "5/ 264"، "مظظ".
4 عرام أسماء جبال تهامة "402".
5 تاج العروس "5/ 404"، "شوع".(13/86)
ثم أشعلت فيه النار، فرقع فرفعة المخاريق، ويفعل ذلك بقرب الغياض التي فيها الأسد. فتهرب1.
و"الطباق"، شجر ينبت متجاورًا، لا تكاد ترى منه واحدة منفردة، وهو نحو القامة، وله ورق طوال دقاق خضر تتزلج، إذا غمزت يضمد بها الكسر فيجبر. وله نور أصفر مجتمع، ولا تأكله الإبل ولكن الغنم، ومنابته الصخر مع العرعر، والنحل تجرسه والأوعال أيضًا. وينبت بجبال نواحي مكة، وقد استخدم في معالجة أمراض جلدية وداخلية2. و"السراء" ضرب من شجر القسي3. و"الصوم"، شجرة بلغة هذيل، قيل إنها على شكل الإنسان، كريهة المنظر جدًّا، يقال لثمرها رءوس الشياطين، يعني بالشياطين الحيات، وليس لها ورق. وقيل لها هدب ولا تنتشر أفنانها بنبت نبات الأثل، ولا تطول طوله، وأكثر منابتها بلاد "بني شبابة"4.
و"القتاد" شجر ضخم ينبت بنجد وتهامة. وهو شجر صلب له شوك كالأبر. وهو من العضاه. وهو ضربان، فأما القتاد الضخام، فإنه يخرج له خشب عظام وشوكة حجناء قصيرة، وأما القتاد الآخر، فإنه ينبت صعدًا لا ينفرش منه شيء وهو قضبان مجتمعة، كل قضيب منها ملآن ما بين أعلاه وأسفله شوكًا، وفي المثل: من دون ذلك خرط القتاد. وإبل قتادية تأكل شوك القتاد5.
و"الأشكل"، السدر الجبلي، وقيل: شجر مثل شجر العناب في شوكه وعقف أغصانه، غير أنه أصغر ورقًا وأكثر أفنانًا، وهو صلب جدًّا، وله نبيقة حامضة شديدة الحموضة، ومنابته شواهق الجبال تتخذ منه القسي6.
و"الصاب" و"السلع" ضربان من الشجر مران، والمصاب قصب السكر7. و"السرح" من الأشجار، له ثمر يقال له "آلاء"، يشبه الزيتون على قول
__________
1 تاج العروس "3/ 347"، "ضبر".
2 تاج العروس "6/ 415"، "طبق".
3 تاج العروس "1/ 77"، "سرأ".
4 تاج العروس "8/ 372"، "صام".
5 تاج العروس "2/ 458"، "قتد".
6 تاج العروس "7/ 393"، "شكل".
7 تاج العروس "1/ 340"، "صوب".(13/87)
أو الموز على قول آخر، يأكله الناس ويرتبون منه الرب1. و"الغضور" شجر أغبر ينبت في كل جبال تهامة2. وذكر أن "السرح" شجر كبار عظام طوال لا ترعى وإنما يستظل فيه، وينبت بنجد في السهل والغلظ، ولا ينبت في رمل ولا في جبل ولا يأكله المال إلا قليلًا له ثمر أصفر، وقيل السرحة، دوحة محلال واسعة يحل تحتها الناس في الصيف ويبنون تحتها البيوت3.
و"الغاف" شجر عظام ينبت في الرمل ويعظم، وورقه أصغر من ورق التفاح، وهو في خلقته، وله ثمر حلو جدًّا، وهو غلف كأنه قرون الباقلى وخشبه أبيض أو هو شجر الينبوت يكون بعمان. وذكر أن الغاف من العضاه، وهي شجرة نحو القرظ شاكة حجازية تنبت في القفاف4.
__________
1 تاج العروس "2/ 162"، "سرح"، عرام، أسماء جبال تهامة "ص400".
2 عرام، أسماء جبال تهامة "401"، تاج العروس "3/ 450"، "غضر".
3 تاج العروس "2/ 161"، "سرح".
4 تاج العروس "6/ 214"، "غيف".(13/88)
الأشجار العادية:
ونجد في كتب اللغة والأخبار ألفاظًا تعبر عن قدم الأشجار وضخامتها، فاستعملوا "العادي"، و"العدمل"، و"العدملة"، و"العدملي" للقديم من الشجر. وقد رأينا أنهم استعملوا "العادي"، بمعنى الشيء القديم، ولا شيء قديم لا يعرف أصله1. ومنه "العيدانة"، للشجرة الصلبة القديمة، التي لها عروق نافذة إلى الماء2. و"العدمل"، كل مسن قديم وقيل هو الضخم القديم من الشجر3. و"العدولي"، الشجرة القديمة الطويلة4. و"الربوض"، الشجرة العظيمة الضخمة الغليظة5. والدوائح، العظام من الشجر6. و"الهيكل"،
__________
1 تاج العروس "2/ 437"، "عود".
2 تاج العروس "2/ 438"، "عود".
3 تاج العروس "8/ 12"، "العدمل".
4 تاج العروس "8/ 11"، "عدل".
5 تاج العروس "5/ 30"، "ربض".
6 تاج العروس "2/ 137"، "الداح".(13/88)
النبات الطويل البالغ العبل، أي العظيم، وكذلك الشجر1. أما الشجرة الطويلة، فيقال لها "سحوق"، و"سهوق". والنخلة السحوق، الطويلة التي بعد ثمرها على المجتني. وقيل هي الجرداء الطويلة التي لا كرب لها2. و"السمق" من الشجر، هو الشجر الطويل المرتفع3. والقراح، النخل الطويل الذي زال كربه وصار أملس4.
__________
1 تاج العروس "8/ 170"، "هيكل".
2 تاج العروس "6/ 377"، "سحق".
3 تاج العروس "6/ 384"، "سحق".
4 تاج العروس "2/ 205"، "قرح".(13/89)
جماعة الشجر:
وفي دواوين اللغة ألفاظ كثيرة أطلقت على جماعة الشجر من حيث كثافتها في أرض تنبت بها، ومن هذه الألفاظ: "الدخل"، الشجر الملتف، كالدغل1. و"الدغل"، الشجر الكثير الملتف، وقيل هو اشتباك النبت وكثرته، وأعرف ذلك في الحمض، والجمع أدغال2. و"الشجراء"، اسم لجماعة الشجر3. و"الغيضة"، مجتمع الشجر في مغيض ماء، والمراد بالشجر، أي شجر كان، أو خاص بالغرب لا كل شجر4، و"الأجمة"، الشجر الكثيف الملتف5. وأما "الغيطلة"، فهي الشجر الكثيف الملتف، وجماعة الشجر والعشب وكل ملتف مختلط، وقيل جماعة الطرفاء6. و"الحرجة"، اسم لمجتمع الشجر، وقيل الشجر الملتف. وقيل الحرجة تكون من السمر والطلح والعوسج والسلم والسدر. وقيل هو ما اجتمع من السدر والزيتون وسائر الشجر7. و"العيص"، الشجر الكثير الملتف، وقيل هو الشجر الملتف النابت بعضه في أصول بعض. وقيل ما اجتمع بمكان وتدانى والتف من السدر والعوسج والنبع والسلم من العضاه كلها
__________
1 تاج العروس "7/ 320"، "دخل".
2 تاج العروس "7/ 322"، "دغل".
3 تاج العروس "3/ 291"، "شجر".
4 تاج العروس "5/ 65"، "غيض".
5 تاج العروس "8/ 180"، "أجم".
6 تاج العروس "8/ 46"، "غطل".
7 تاج العروس "2/ 20"، "حرج".(13/89)
وهو من الطرفاء الغيطلة، ومن القصب الأجمة. وقيل العيص ما التف من الشجر وكثر مثل السلم، والطلح، والسيال، والسدر، والعرفط، والعضاه1. وأما "الرمخ"، فالشجر المجتمع كذلك2.
وأما "الغيل"، فالشجر الكثير الملتف الذي ليس بشوك يستتر به. وقيل جماعة القصب والحلفاء3 وأما "الغريف"، فالشجر الكثير الملتف من أي شجر كان، أو الأجمة من البردي والحلفاء، وقد يكون من الضال والسلم4. وأما "الأبأة"، فالقصبة، أو أجمة الحلفاء والقصب خاصة، وماؤها شر المياه5. وأما "الزأرة"، فالأجمة ذات الحلفاء والماء والقصب، و"الزأرة" قرية كبيرة بالبحرين، وبها عين معروفة، يقال لها عين الزأرة، وقيل "مرزبان الزأرة" كان منها. و"المرزبان" الرئيس، أي رئيس الأجمة6. و"الخيس" و"الخيسة": فالشجر الكثير الملتف، والمجتمع من كل الشجر، أو ما كان حلفاء وقصبًا، وقيل الملتف من القصب والأشاء والنخل. وقيل: منبت الطرفاء وأنواع الشجر، والخيسة، الأجمة7. و"الربض"، جماعة الطلح والسمر، وقيل: جماعة الشجر الملتف8. و"الوهط"، ما كثر من العرفط، وقيل: وهط من عشر، كما يقال عيص من سدر. وقيل: الوهط: المكان المطمئن من الأرض المستوى، تنبت فيه العضاه، والسمر، والطلح، والعرفط9. ويقال للغملى من النبات، وهو ما التف بعضه على بعض "الشربب"10.
و"الأيكة"، الشجر الملتف الكثير، وقيل: الغيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما، أو الجماعة من كل الشجر حتى من النخل، وخص بعضهم به منبت الأثل ومجتمعه. وقال بعض علماء اللغة: الأيك الجماعة الكثيرة من الأراك تجتمع
__________
1 تاج العروس "4/ 411"، "العيص".
2 تاج العروس "2/ 259"، "رمخ".
3 تاج العروس "8/ 53"، "الغيل".
4 تاج العروس "6/ 210"، "غرف".
5 تاج العروس "1/ 39"، "أباءة".
6 تاج العروس "3/ 230"، "زأر".
7 تاج العروس "4/ 144"، "الخيس".
8 تاج العروس "5/ 30"، "ربض".
9 تاج العروس "5/ 243"، "وهط".
10 تاج العروس "1/ 315"، "شرب".(13/90)
في مكان واحد، وقد ذكرت الأيكة في القرآن الكريم1. قيل أن شجر أصحاب الأيكة كان الدوم، وقيل: أثل ورهط من عشر، وقصيمة من غضى2. وأما "العيكة"، فلغة في الأيكة3.
و"الغابة"، الأجمة ذات الشجر المتكاثف؛ لأنها تغيب ما فيها، وقيل الغابة: الأجمة التي طالت ولها أطراف باسقة، يقال: ليث غابة. وقيل الغابة أجمة القصب. وفي الحديث: كان منبر الرسول من أثل الغابة، وفي رواية من طرفاء الغابة، والغابة غيضة ذات شجر كثير، وهي على تسعة أميال من المدينة. وقيل: "موضع قريب من المدينة. والعرب تسمي ما لم تصبه الشمس من النبات كله: الغيبان4.
و"الصور"، جماع النخل، وقيل النخل المجتمع الصغار. قيل: ويقال لغير النخل من الشجر صور5. و"العقدة"، المكان الكثير الشجر، يرعونه من الرمث والعرفج، وقيل الحائط الكثير النخل6.
وتنبت القصباء والحلفاء في الماء الراكد أو الهادئ، وعلى حواشي الأنهار حيث يظهر الماء في المنخفضات. جاء في شعر للأعشى:
كبردية الغيل وسط الغريف ... إذا ما أتى الماء منها السديرا7
والقصباء جماعة القصب، وقيل منبتها. وقد أقصب المكان، وأرض قصبة ومقصبة، أي ذات قصب8. وينبت في المواضع التي يكثر وجود الماء الراكدة أو الهادئة بها، مثل المستنقعات والبطائح، مثل بطائح العراق، حيث تعد من أهم منابت القصب والبردي في العراق حتى اليوم.
والقصب مادة مهمة لأهل الريف، ولمن يعيش على الماء، مثل أهل البطائح
__________
1 القرآن الكريم في سورة الحجر، والشعراء، وص، وق.
2 تاج العروس "7/ 104 وما بعدها"، "الأيك".
3 تاج العروس "7/ 165"، "عيكة".
4 تاج العروس "1/ 416 وما بعدها"، "غبب".
5 تاج العروس "3/ 343"، "صور".
6 تاج العروس "2/ 427"، "عقد".
7 تاج العروس "6/ 210"، "غرف".
8 تاج العروس "1/ 430"، "قصب".(13/91)
والأهوار، والمستنقعات، والأجم التي تتخللها المياه. إذ اتخذوا منها بيوتًا صنعوها من القصب، ولا زال سكان "الأهوار" في العراق يصنعون بيوتهم من القصب. واتخذوا منها فراشًا يجلسون عليه، وهو "البارية"، ويقال لها "البوري"، و"البورية"، و"البورياء"، و"الباري"، و"البارياء". الحصير المنسوج من القصب. وقد أشير إلى "البوري" في الحديث1.
والحلفاء نبت من الأغلاس، قلما تنبت إلى قريبًا من ماء أو بطن واد، وهي سلبة غليظة المس، وقد يأكل منها الإبل والغنم أكلًا قليلًا، وهي أحب شجرة إلى البقر. وقد كانت الأسود تأوي إليها. ومن مآوي الأسود والآجام ومنابت الحلفاء. وقد تجف، إذا قل الماء2.
والبردي من النبات الذي يحتاج مثل القصب والحلفاء إلى ماء. فهو لا ينبت إلا قريبًا من ماء أو في مستنقع أو هور، أو منخفض فيه ماء، ويؤلف أجمة في وسط ماء3.
و"الجليل"، نبت ضعيف يحشى به خصاص البيوت، وهو "الثمام" في رأي بعض علماء اللغة4. و"الثمام"، نبت ضعيف له خوص، أو شبيه بالخوص، وربما حشي به وسد به خصاص البيوت. وهو أنواع. فمنها: الضعة ومنها الجليلة، ومنها الغرف، وهو شبيه بالأسل وتتخذ منه المكانس، ويظلل به المزاد فيبرد الماء، يقال: "بيت مثموم" مغطى به، وقد يستعمل لإزالة البياض من العين5.
__________
1 تاج العروس "3/ 60 وما بعدها"، "بار".
2 تاج العروس "6/ 76"، "حلف".
3 تاج العروس "2/ 298"، "برد".
4 تاج العروس "7/ 261"، "جلل".
5 تاج العروس "8/ 219"، "ثمم".(13/92)
الفحم وقطع الشجر:
وقد صنع أهل الجاهلية من النباتات البرية والأشجار الجبلية الفحم، وهم لا يزالون يصنعونه من هذه المواد. وذلك بإشعالها أولاً ثم بإطفاء جمرها،(13/92)
للاستفادة من الفحم الحاصل من ذلك في أغراض شتى. ويحمله أصحابه إلى أهل المدر، لبيعه لهم، أو لمقايضته من الباعة بمواد أخرى يحتاجون إليها، وقد أدى الإسراف في ذلك وفي قلع الأشجار البرية النابتة بالطبيعة دون التعويض عنها بزراعة غيرها في مكانها، إلى تحول الأرضين الشجراء إلى أرض جرداء، وإلى إلحاق ضرر كبير بمصدر ثروة مهمة من الثروات الطبيعية.
وتشاهد في كثير من المناطق الجبلية والنجود بقايا أشجار قديمة وأصول أشجار ممتدة بين الصخور تدل على أن هذه المناطق الجرد كانت ذات أشجار باسقة، ولكنها أصابها الدمار بفعل جهل الإنسان واعتدائه عليها، وعدم عنايته بها، فتلفت وبادت، حتى استحالت تلك البقاع الشجراء قفارًا جردًا.
وكان مما ضيق من مساحة الأرضين المشجرة، التي شجرتها الطبيعة بنفسها، قطع الإنسان للشجر من عروقه أو من موضع اتصال الساق بالأرض، للاستفادة من المقطوع إلى أقصى حد ممكن، مما أهلك النبت، فأمات عروقه، وقطع عنه مادة الحياة، ولم يحفل بغرس آخر في مكانه، ليأخذ محله؛ لأن الأرض ليست أرضه، وإنما هو يريد بيع الخشب والحطب ليستفيد من الثمن، فقلت مساحة الأرض المشجرة بالطبيعة، بهذا التجاوز الفظيع، ولم تعوض الطبيعة الإنسان عن الضرر الذي ألحقه بنتاجها، فقد أعطته كثيرًا، وكان من الواجب عليه أن يعينها في الإنبات، لا أن يعمل على إفساد ما زرعته.(13/93)
آفات زراعية:
ويفهم من بعض النصوص الجاهلية أن الزراعة كانت تتعرض لآفات زراعية خطيرة تقضي على المزروعات في بعض الأحيان. وطالما وجدنا أصحابها يسألون الآلهة وقاية مزروعاتهم وحمايتها وإنزال البركة عليها ومنحهم غلات وافرة كثيرة. وقد يكون من بين هذه الآفات: الحشرات والجراد وانحباس المطر. ومن طرق هذه الحماية في نظرهم تسمية الزرع باسم إله، ليكون في حمايته ورعايته. وقد يخصص نصيب منه لذلك الإله، في مقابل حمايته له.
وفي كتب اللغة ألفاظ عديدة في معاني الآفات التي تصيب الزروع، مثل: البثق، وهو داء يصيب الزرع من ماء السماء1، و"الغمل"، وهو مرض
__________
1 تاج العروس "6/ 283"، "بثق".(13/93)
يغمل النبات، فيجعله يركب بعضه بعضًا ويذبل ويعفن1. و"الخناس"، داء يصيب الزرع فيتجعثن منه فلا يطول2. و"الشفران"، و"اليرقان"، آفة للزرع تصيبه فيصفر منها، وقيل دود يكون في الزرع فيتلفه3، و"الأرقان"4، والرصع، والوصم، وهو العيب في العود، والقادح، أكال يقع في الشجر وفي الخشب فيأكله، والقادح أيضًا العفن، ويقع القادح في الأسنان، وهو السواد الذي يظهر فيها5. والسوس، داء يصيب الزرع، لوقوع السوس فيه، بسبب حشرة تعبث فيه، ويقال مثل ذلك بالنسبة إلى الصوف والثياب والطعام، إذا عبثت العثة فيها6. و"العثة"7 سوسة، أو الأرضة التي تلحس الصوف فتؤذيه، وقيل: دويبة تعلق الإهاب فتأكله. والجدجد أيضًا دويبة تعلق الإهاب فتأكله8. والأرضة ضربان، ضرب صغار، مثل كبار الذر، وهي آفة الخشب خاصة، وضرب مثل كبار النمل، ذوات أجنحة، وهي آفة كل شيء من خشب ونبات، غير أنها لا تعرض للرطب، وهي ذوات قوائم. وقيل: هي دودة بيضاء شبه النملة تظهر في أيام الربيع. وقيل دودة بيضاء سوداء الرأس، وليس لها أجنحة، وهي تغوص في الأرض وتبني لها كنًّا من الطين، وهي تأكل الخشب وغيره9. والنخر، دار يصيب الأغصان والسيقان، والخشب، فيسبب جفافها وتفتتها10. و"القادحة"، دودة تأكل الشجر11.
و"القتع"، دود حمر تأكل الخشب، أو هي الأرضة، وقيل الدود مطلقًا. وقيل هي السرقة، والقتعة، والهرنصانة، والحطيطة، والبطيطة، واليسروع، والعوانة، والطحنة12.
__________
1 تاج العروس "8/ 50"، "غمل".
2 تاج العروس "4/ 143"، "خنس".
3 تاج العروس "7/ 97"، "يرق".
4 تاج العروس "6/ 278"، "أرق".
5 تاج العروس "2/ 203"، "قدح".
6 تاج العروس "4/ 168"، "سوس".
7 بالضم.
8 تاج العروس "1/ 632"، "عث".
9 تاج العروس "5/ 4"، "أرض".
10 المخصص "11/ 56"، تاج العروس "3/ 559"، "نخر".
11 المخصص "11/ 12 وما بعدها".
12 تاج العروس "5/ 458"، "قتع".(13/94)
و"السرفة"، دويبة تؤذي الزرع، تثقب الشجر ثم تبني فيها بيتًا من عيدان دقاق تجمعها بمثل العنكبوت، وقيل دودة تنسج على بعض الشجر وتأكل ورقه وتهلك ما بقي منه بذلك النسج1. وذكر أن "الهرنصانة"، السرفة2، وأن "البطيطة" السرفة كذلك3. وأن "الحطيطة" السرفة أيضًا4.
ومن الأمراض والآفات التي تصيب النخيل، الدمان، ويقع على التمر، فيفسد، وتصيبه العفونة قبل إدراكه حتى يسود5. والمراض، داء للثمار يقع فيها فيهلكها6. و"القشام"7، وهو أن ينتفض تمر النخل قبل أن يصير بلحًا8. وذكر بعض العلماء أن الدمان فساد النخل قبل إدراكه، وإنما يقع ذلك في الطلع يخرج قلب النخلة أسود معفونًا، وذهب آخرون إلى أنه فساد الطلع وتعفنه وسواده. وقال بعضهم: الدمان التمر المتعفن، وأنه فساد التمر وعفنه قبل إدراكه حتى يسود من الدمن. وأما المراض، فذكر بعض العلماء أنه اسم لجميع الأمراض. وأما القشام، فهو أكال يقع في التمر9.
ومن الآفات التي كانت تصيب الزرع فتؤذي الناس وتلقي بأصحاب الزرع خسائر كبيرة "الجراد"، فقد كان يكتسح الزرع في بعض السنين اكتساحًا، فيأتي في موجات كثيفة، ويلتهم كل ما يجده أمامه، حتى يجرد الأرض جردًا، ولا يترك من نبتها شيئًا. ونجد في كتابات المسند إشارات إليه. ويقال له: "اربى" في العربيات الجنوبية10. وفي العربية: "جراد سد"، أي كثير سد الأفق. ويقال جاءنا سد من جراد، إذا سد الأفق من كثرته 11.
وللجراد أسماء تمثل مراحل نموه، ذكرها علماء اللغة. مما يدل على مدى اتصاله
__________
1 تاج العروس "6/ 137"، "سرف".
2 تاج العروس "4/ 447"، "الهرنصانة".
3 تاج العروس "5/ 109"، "بط".
4 تاج العروس "5/ 119"، "حطط".
5 القاموس "4/ 223"، تاج العروس "9/ 203"، "دمن".
6 تاج العروس "5/ 86"، "مرض".
7 بالضم كغراب.
8 القاموس "4/ 165"، "قشم".
9 عمدة القارئ "12/ 3".
10.South Arabian Inscriptions, P.427.
11 تاج العروس "2/ 373"، "سدد".(13/95)
بحياة الناس، وما كان يحدثه من أذى وأثر في زرعهم. وإذا أكل الجراد نبت أرض، قيل: أرض مجرودة، وجرد الجراد الأرض جردًا1، ومن أسماء الجراد "الجندب". وقيل أنه الصدى يصر بالليل ويقفز ويطير. وقيل هو أصغر من الصدى يكون في البراري، وقيل هو الصغير من الجراد2.
وكان الجراد يغزو المزارعين فيأتي على ما زرعوه، لا يترك لهم منه شيئًا، وهم عاجزون عن الاتيان عليه. وهو أنواع عديدة من حيث اللون والجسم. وكان إذا انتقل من مكان إلى مكان ظهر في السماء، وكأنه سحابة من كثرته. وقد صار طعامًا لهم، يأكلونه كما يأكل هو زرعهم. ذكر أن "ابن أبي أوفى" قال: غزونا مع النبي سبع غزوات أو ستًّا كنا نأكل معه الجراد3.
__________
1 تاج العروس "2/ 319"، "جرد".
2 تاج العروس "1/ 176"، "جدب".
3 إرشاد الساري "8/ 271"، "باب جواز أكل الجراد".(13/96)
الأسوكة:
السواك سوك الفم بالعود. والعود مسواك. ويتخذ من الأراك، فإن لم يكن فعتم أو بطم1. ويستاك بالبشام كذلك، وهو شجر ذو ساق وأفنان وورق صغار أكبر من ورق الصعتر ولا ثمر له2.
__________
1 تاج العروس "8/ 388"، "عتم".
2 تاج العروس "8/ 203"، "بشم".(13/96)
الفصل الثالث والتسعون: المراعي
مدخل
...
الفصل الثالث والتسعون: المراعي
وفي جزيرة العرب مراعي، منها الخاص، ومنها العام. والمراعي الخاصة ما تكون ملكًا لرجل أو أسرة أو قبيلة تفرض سلطانها على المرعى، مثل الإحماء، حيث لا يسمح لأحد غير مأذون بالرعي في "الحمى"، أما المراعي العامة، فهي التي لا تدخل في ملك أحد، وإنما يرعى فيها كل أبناء الحي، وجميع أبناء القبيلة؛ لأن أرض القبيلة ملك للقبيلة ما دامت عزيزة فيها مالكة لرقبتها، يرعى فيها كل أبنائها، فإذا ذلت واستخذت طمعت فيها القبائل المجاورة القوية، فشاركتها في أرضها، وربما أجلتها عنها. وإذا ارتحلت القبيلة عن أرضها، وتركتها، ونزل بها نازل جديد، صارت الأرض ملكًا له، ما لم يدفع عنها بالقوة، أو يتركها هو رضاءً، فإذا ارتحل عنها، ونزل في مكان جديد، سقط حقه فيها، وانتقلت رقبة الأرض إلى النازل الجديد. وهكذا تكون المراعي عامة مشاعة بين جميع أبناء القبيلة، ما خلا الحمى، ينتفع بها جميع أبنائها، بما في ذلك سادة القبيلة وأصحاب الإحماء، الذين ترعى إبلهم في إحمائهم، كما ترعى مع إبل الناس في مراعي القبيلة، ولا يجوز لأحد من القبيلة أن يأخذ من أرباب المواشي عوضًا عن مراعي القبيلة؛ لأنها للجميع. وقد أخذ بهذا الحكم في الإسلام بالنسبة للمراعي الموات، بقول الرسول: "الناس شركاء في ثلاث: الماء، والنار، والكلأ"1.
__________
1 الأحكام السلطانية: "208".(13/97)
و"الرعي" الكلأ، وهو ما ترعاه الراعية. والراعي، هو الذي يتولى أمر الماشية التي ترعى، ويقال للذي يجيد رعية الإبل "تر عاية" و"ترعى"، أو هو الحسن الارتياد للكلأ للماشية، أو صناعته وصناعة آبائه رعاية الإبل. و"الرعاوى" الإبل التي ترعى حوالي القوم وديارهم؛ لأنها الإبل التي يعتمل عليها1.
ويقال للمرعى في المسند "مرعم"، "مرعيم"، "مرعى"2. والمرعى موضع الرعي. والرعي الكلأ. والمرعى والرعي ما ترعاه الراعية. ورعيان، ورعاء، رعاة الغنم على الأكثر. ويقال "ترعى" و"ترعاية" و"تراعية" للرجل يجيد رعية الإبل، أو هو الحسن الارتياد للكلأ للماشية، أو صناعته وصناعة آبائه رعاية الإبل، و"الرعاوى"3، الإبل التي ترعى حوالى القوم وديراهم؛ لأنها الإبل التي يعتمل عليها4. ويقال للمرعى "الأب"، وهو الكلأ جميعه الذي تعتلفه الماشية، رطبه ويابسه5.
ويعبر عن الإبل إذا رعت بـ"سامت المال"، و"سامت الإبل"، يقال سامت الراعية والماشية والغنم تسوم سومًا، رعت حيث شاءت، فهي سائمة والسوام والسائمة الإيل الراعية، وقيل كل ما رعى من المال في الفلوات إذا خلى وسومه يرعى حيث شاء، والسائم الذاهب على وجهه حيث يشاء. وذكر أن السوام والسائمة كل إبل ترسل ترعى ولا تعلف في الأصل. وورد في الحديث: سائمة الغنم6. و"السرح" المال السائم. وذكر بعض علماء اللغة أن المال لا يسمى سرحًا إلا ما يفدى به ويراح7.
وتؤدي لفظة "مرتع" معنى "مرعى". ورتع بمعنى أكل وشرب للبهائم. ولا يكون الرتع إلا في خصب وسعة8. وتؤدي لفظة "النجعة"، معنى طلب الكلأ في موضعه. و"والنجعة عند العرب المذهب في طلب الكلأ في موضعه،
__________
1 تاج العروس "10/ 152"، "رعى".
2 Rhodokanakis. Stud. Lexi., I, S. 57, Halevy 147.
3 كسكارى ويضم.
4 تاج العروس "10/ 152"، "رعى".
5 تاج العروس "1/ 142"، "أب".
6 تاج العروس "8/ 350"، "سوم".
7 تاج العروس "2/ 160"، "سرح".
8 تاج العروس "5/ 347". "رتع".(13/98)
والبادية تحضر محاضرها عند هيج العشب ونقص الخرف وفناء ماء السماء في الغدران، فلا يزالون حاضرة يشربون الماء العد حتى يقع ربيع بالأرض خرفيًّا كان أو شتيًّا، فإذا وقع الربيع توزعتهم النجع وتشبعوا مساقط الغيث يرعون الكلأ والعشب، إذا أعشبت البلاد، ويشربون الكرع وهو ماء السماء، فلا يزالون في النجع إلى أن يهيج العشب من عام قابل وتنش الغدران فيرجعون إلى محاضرهم على أعداد المياه"1.
ويقال أرض معرضة، للأرض التي يستعرضها المال ويعترضها، أي هي أرض فيها نبات يرعاه المال إذا مر فيها2.
وإذا أقامت الإبل في المرعى، قيل: "عدنت الإبل"، وخص بعضهم به الإقامة في "الحمض"، وقيل يكون في كل شيء3.
وقد تكون المراعي عند مشارف أهل الحضر، لا تبعد عن القرى وعن مستوطناتهم كثيرًا، وذلك بالنسبة لرعي الغنم. فيؤدي أهل البيوت أغنامهم إلى الراعي، ليأخذها إلى الخارج فيرعى بها وتتجمع عند الراعي أغنام لمختلف الناس، في مقابل أجر يدفع له. وقد كان الرسول راعي غنم، يرعى غنم قريش، وغنم أهله بـ"أجياد" بالقراريط4.
وكان بين أصحاب الغنم، وبين أصحاب الإبل تنازع، وقد كان يستطيل أصحاب الإبل على أصحاب الغنم5.
و"المنقل" النجعة يتنقلون من المرعى إذا احتفوه إلى مرعى آخر، وذلك إذا رعوا فلم يتركوا فيه شيئًا. والناقلة ضد القاطنين، والجمع النواقل. والنقل الطريق المختصر6. والنجعة طلب الكلأ في موضعه. والبادية تحضر محاضرها عند هيج العشب ونقص الخرف وفناء ماء السماء في الغدران، فلا يزالون حاضرة يشربون الماء العد حتى يقع ربيع بالأرض خرفيًّا كان أو شتيًّا، فإذا وقع الربيع توزعتهم النجع وتتبعوا مساقط الغيث يرعون الكلأ والعشب إذا أعشبت البلاد
__________
1 تاج العروس "5/ 519"، "نجع".
2 تاج العروس "5/ 49"، "عرض".
3 تاج العروس "9/ 274"، "عدن".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 125 وما بعدها".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 126".
6 تاج العروس "8/ 144".(13/99)
ويشربون الكرع وهو ماء السماء، فلا يزالون في النجع إلى أن يهيج العشب من عام قابل، وتنش الغدران، فيرجعون إلى محاضرهم على أعداد المياه1.
وإذا أمطرت السماء مطرًا كافيًا، كان ذلك خيرًا للعرب وفرحة عظيمة. إذ تغيث الأرض وتكسوها حلة سندسية جميلة، وتزول الغبرة عن وجهها. وتظهر الأرض فرحة مستبشرة بعد عبوس وكآبة. فتهيج الأرض وتنبت نبتًا أخضر، يكون بهجة للناظرين وطعامًا شهيًّا للإبل ولبقية حيواناتهم، تقبل عليه إقبالًا شديدًا، فتشبع وتصح أجسامها، ويكثر نسلها. ويقال للخضرة التي تكسو وجه الأرض "الكلأ"، وهو العشب، رطبه ويابسه. وأرض كليئة ومكلأة، كثيرة الكلأ2. وذكر أن العشب الكلأ الرطب، والرطب من البقول البرية، ينبت في الربيع، وهو سرعان الكلأ في الربيع يهيج ولا يبقى. ويدخل في العشب، أحرار البقول وذكورها، فأحرارها ما رق منها وكان ناعمًا. وذكورها ما صلب وغلظ منها. وذكر بعضهم أن العشب كل ما أباده الشتاء وكان نباته ثانية من أرومة أو بذر3.
وفي ذلك يقول الأعشى:
ألم تر أن الأرض أصبح بطنها ... نخيلًا وزرعًا نابتًا وفصافصا
والفصافص الرطب من علف الحيوان، ويسمى "القت". وقيل هو رطب القت. وفي الحديث: ليس في الفصافص صدقة4.
و"البقل" ما نبت في بزره لا في أرومة ثابتة. وذكر أنه كل ما اخضرت به الأرض. والفرق بين البقل ودق الشجر، أن البقل إذا رعي لم يبق له ساق، والشجر تبقى له سوق وإن دقت. وقال بعض علماء اللغة: البقل ما لا يثبت أصله وفرعه في الشتاء. والبقلة، بقل الربيع خاصة. وبقلت الأرض إذا أنبتت5. وذكر أن من أسماء بقل الربيع: الجشر6.
__________
1 تاج العروس "5/ 519"، "نجع".
2 تاج العروس "1/ 111"، "كلأ".
3 تاج العروس "1/ 383"، "عشب".
4 تاج العروس "4/ 416"، "فصص".
5 تاج العروس "7/ 231"، "بقل".
6 تاج العروس "3/ 101"، "جشر".(13/100)
وترد لفظة "لسن"، "لسس"، الواردة في نصوص المسند في معنى "لساس"1 في عربيتنا2. ويراد بها أول البقل، وقيل هو من البقل ما استمكنت منه الراعية وهو صغار. وقيل: البقل ما دام صغيرًا لا تستمكن منه الراعية، وذلك؛ لأنها تلسه بألسنتها لسًا3.
والحشيش الكلأ اليابس، ولا يقال وهو رطب حشيش. والطاقة منه حشيشة. والعشب يعم الرطب واليابس. وقال بعض علماء اللغة: الحشيش أخضر الكلأ ويابسه، وقال بعض آخر العرب إذا أطلقوا اسم الحشيش عنوا به الخلي خاصة، وهو أجود علف يصلح الخيل عليه. وهو من خير مراعي النعم. وقال بعض آخر: البقل أجمع رطبًا ويابسًا حشيش وعلف وخلي4. والخلي: الرطب من النبات. وقال بعض علماء اللغة: هو النبات الرقيق ما دام رطبًا5.
وترد في المسند لفظة "جمست" "جمسة"، بمعنى الحشائش عند جفافها والنبت إذا ما ذهبت غضاضته6. وهي بهذا المعنى في عربية القرآن الكريم. فالجامس من النبات ما ذهبت غضوضته ورطوبته فولى وجسًا7.
وتنبت الأمطار ما دق من الشجر، وبعض أنواع الشجر، وقد تثمر ثمرًا يستفيد منه الإنسان. كما يستفيد من عوده ومن حطبه وخشبه. أما ورقه فيكون طعامًا شهيًّا للإبل. ونجد في كتب اللغة أسماء عدد كبير من هذه النباتات. وقد استعان الأعراب بالنبات وبالشجر في مداواة أنفسهم، علمتهم تجاربهم الطويلة القديمة، ما ينفع منها في معالجة ما يصابون به من مرض، فصار لهم طب خاص بهم، يقوم على الفراسة وعلى الملاحظة وعلى التجارب في استخدام النبات في مداواة الإنسان وفي معالجة ماله، ولا زال هذا الطب معمولًا به في البوادي، عند الأعراب.
__________
1 كغراب.
2 القاموس "2/ 249".
3 تاج العروس "4/ 241"، "لس"، Rep.Epigr., Tome, V, P.196
4 تاج العروس "4/ 298"، "حشش".
5 تاج العروس "10/ 120"، "خلى".
6 Rep.Epigr., Tome, V, P.196.
7 القاموس "2/ 205"، تاج العروس "4/ 122 وما بعدها"، "جمس".(13/101)
ويعد الأراك من أطايب أكل الإبل، إذا أصابت منه شيئًا، ظهر طعمه في اللبن، وهم يستحسنون هذا اللبن. وقد كان الرعاة إذا مروا به اجتنوا ثمرته، و"الكباث"، هو أحسن ثمره، ولونه أسود، وهو أطيب ثمر الأراك. وقد اجتناه الرسول يوم كان راعيًا1. وهو النضيج من ثمر الأراك. وما لم ينضج فهو "برير". وقيل: الكباث هو ما لم ينضج منه، وقيل حمله إذا كان متفرقًا2.
وتكتسي الأرض بعد ظهور الكلأ ثوبًا سندسيًّا جميلًا، فتظهر خضراء، لكثرة ما عليها من "الخضر"، وهو الزرع والنبات الذي نبت عليها. و"الخضر"، المكان الكثير الخضرة، ويراد بالخضرة "البقلة الخضراء"، وهي بقلة خضراء خشناء ورقها مثل ورق الدخن وكذلك ثمرتها وترتفع ذراعًا، وهي تملأ فم البعير. و"الخضر" ضرب من الجنبة، والجنبة من الكلأ ما له أصل غامض في الأرض، مثل النصي والصليان. وليس الخضر من أحرار البقول التي تهيج في الصيف. وجيدها الذي ينبته الربيع بتوالي أمطاره فتحسن وتنعم، ولكنه من البقول التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويبسها حيث لا تجد سواها، وتسميها العرب الجنبة، فلا ترى الماشية تكثر من أكلها ولا تستمريها3.
والجنبة، عامة الشجر التي تتربل في زمان الصيف. واسم لنبوت كثيرة، وهي كلها عروق. سميت جنبة؛ لأنها صغرت عن الشجر الكبار وارتفعت عن التي لا أرومة لها في الأرض. فمن الجنبة: النصي والصليان والحماط والمكر والحذر والدهماء. صغرت عن الشجر ونبلت عن البقول4. والنصي: نبت ما دام رطبًا، فإذا ابيض، فهو الطريفة، فإذا ضخم ويبس، فهو الحلي. وهو من أفضل المرعى5. وذكر أن "الطريفة" من النصي، إذا ابيض ويبس، أو هو منه إذا اعتم وتم وكذلك من الصليان. وذكر أيضًا أن الطريفة من النبات، أول الشيء، يستطرفه المال، فيرعاه كائنًا ما كان. وسميت طريفة؛ لأن المال يطرفه
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 126".
2 تاج العروس "1/ 640"، "كبث".
3 تاج العروس "3/ 179"، "خضر".
4 تاج العروس "1/ 189"، "جنب".
5 تاج العروس "10/ 370"، "أنصى".(13/102)
إذا لم يجد بقلًا. وقيل لكرمها وطرافتها واستطراف المال إياه. وقيل الطريفة خير الكلأ، إلا ما كان من العشب. ومن الطريفة النصي والصليان والهلتي والشحم والثغام1.
و"الحلي" ما ابيض من يبيس النصي والسبط، وقيل: هو كل نبت يشبه نبات الزرع، أو اسم نبت بعينه. وقيل هو من خير مراتع أهل البادية للنعم والخيل2.
والحماط، شجر شبيه بالتين، خشبه وجناه وريحه، إلا أن جناه هو أصغر وأشد حمرة من التين، ومنابته في أجواف الجبال، وقد يستوقد بحطبه، ويتخذ خشبه لما ينتفع به الناس، يبنون عليه البيوت والخيام. وقيل: هو في مثل نبات التين، غير أنه أصغر ورقًا، وله تين كثير صغار من كل لون أسود وأملح وأصفر، وهو شديد الحلاوة يحرق الفم إذا كان رطبًا، فإذا جف ذهب ذلك عنه. وهو يدخر وله إذا جف متانة وعلوكة. وهو أحب شجر إلى الحيات، أي أنها تألفه كثيرًا. يقال: شيطان حماط3.
والصليان، نبت من الطريفة، ينبت صعدًا وأضخمه أعجازه وأصوله على قدر نبت الحلي، ومنابته السهول والرياض. وقيل الصليان من الجنبة لغلظه وبقائه4.
والمكرة نبتة غبراء مليحاء تنبت قصدًا. كأن فيها حمضًا حين تمضغ، تنبت في السهل والرمل، لها ورق وليس لها زهر. وقد تقع المكور على ضروب من الشجر كالرغل5. و"الدهماء"، عشبة عريضة ذات ورق وقضب، كأنها القرنوة، ولها نورة حمراء يدبغ بها، ومنبتها قفاف الرمل6.
__________
1 تاج العروس "6/ 177 وما بعدها"، "طرف".
2 تاج العروس "10/ 98"، "حلى".
3 تاج العروس "5/ 121"، "حمط".
4 تاج العروس "7/ 406"، "صلل".
5 تاج العروس "3/ 548"، "مكر".
6 تاج العروس "8/ 299"، "دهم".(13/103)
الحمض والخلة:
ويقسم بعض العلماء المرعى كله إلى حمض وخلة. فالحمض ما فيه ملوحة،(13/103)
والخلة ما سواه. وكل أرض لم يكن بها حمض، فهي خلة، وإن لم يكن بها من النبات شيء. وخلل الأرض التي لا حمض بها، وربما كانت بها عضاه، وربما لم تكن. ولو أتيت أرضًا ليس بها شيء من الشجر وهي جرز من الأرض قلت أنها خلة1.
والحمض ما ملح وأمر من النبات، كالرمث والأثل والطرفاء ونحوها. وذكر أن الحمض من النبات كل نبت مالح أو حامض يقوم على سوق ولا أصل له. ومن الحمض النجيل، والخذراف، والاخريط، والقضة، والقلام، والهرم، والحرض، والدغل، وما أشبهها. وذكر أن الحمض كل نبات لا يهيج في الربيع ويبقى على القيظ وفيه ملوحة، إذا أكلته الإبل شربت عليه، وإذا لم تجده رقت وضعفت. وهي كفاكهة الإبل، والخلة ما حلا، وهي كخبزها، تقول العرب: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها ويقال لحمها2.
والرمث، مرعى للإبل، وهو من الحمض، وشجر يشبه الغضى، لا يطول ولكنه ينبسط ورقه، وهو شبيه بالأشنان، وله هدب طوال دقاق، وهو مع ذلك كله كلأ تعيش فيه الإبل والغنم وإن لم يكن معها غيره، وربما خرج فيه عسل أبيض كأنه الجمان، وهو شديد الحلاوة وله حطب وخشب ووقوده حار وينتفع بدخانه من الزكام. ويرتفع دون القامة فيحتطب3.
والطرفاء جماعة الطرفة، شجر. قيل إنها أربعة أصناف من الأثل، وقيل الطرفاء شجر من العضاه، هدبه مثل هدب الأثل، وليس له خشب، وإنما يخرج عصيًّا سمحة في السماء، وقد تتحمض به الإبل إذا لم تجد حمضًا غيره. وقيل إنه من الحمض4.
والأثل: شجر، عده بعضهم نوع من الطرفاء، وقال بعض آخر: الأثلة سمرة أو عضاهة طويلة قويمة يعمل منها الأقداح5. والنجيل، ضرب من دق الحمض، وقيل هو خير الحمض كله وألينه على السائمة. وذكر أنه إذا أخرج
__________
1 تاج العروس "7/ 307"، "خلل".
2 تاج العروس "5/ 22"، "حمض".
3 تاج العروس "1/ 625"، "رمث".
4 تاج العروس "6/ 177"، "طرف".
5 تاج العروس "7/ 202"، "أثل".(13/104)
عن الحمض أربع شجرات، فسائره نجيل. هي الرمث والغضى والسلج. ومن النجيل: الخذراف، والرغل، والغولان، والهرم، والفذا، والقلام والطمحاء1. والخذراف، نبات ربعي إذا أحس بالصيف يبس، أو هو ضرب من الحمض له وريقة صغيرة يرتفع قدر الذراع2. والرغل، نبت، أو حمضة تنفرش وعيدانها صلاب وورقها نحو من ورق الجماجم إلا أنها بيضاء ومنابتها السهول، والإبل تحمض به3.
والغولان، حمض كالأشنان، وقيل شبيه بالعنظوان، إلا أنه أدق منه. وهو مرعى4. و"الهرم"، نبت ضعيف ترعاه الإبل، وقيل ضرب من الحمض فيه ملوحة. وقيل هو يبيس الشبرق، وهو أذله وأشده انبساطًا على الأرض واستبطاحًا. وقيل شجر، وأن الهرمة البقلة الحمقاء5. و"الغذام"، نبت من الحمض6. و"القلام" من الحمض هو كالأشنان إلا أنه أعظم7 و"القضاض"8. شجر من الحمض، وقيل هو دقيق ضعيف أصفر اللون9.
والأراك من الحمض، وقوم مؤركون نازلون بالأراك يرعونها، ويقال أطيب الألبان ألبان الأوارك. وفي الحديث أتى بلبن الأوارك وهو بعرفة، فشرب منه10.
و"الحرض"، من النجيل. وذكر أنه الأشنان، تغسل به الأيدي على أثر الطعام. وشجرته ضخمة، وربما استظل بها، ولها حطب، وهو الذي يغسل به الناس الثياب، وأنقى وأبيض حرض هو حرض ينبت باليمامة، بواد منها يقال له جو الخضارم11. و"الحيهل"، شجرة قصيرة من دق الحمض
__________
1 تاج العروس "8/ 128"، "نجل".
2 تاج العروس "6/ 80"، "خذرف".
3 تاج العروس "7/ 348"، "رغل".
4 تاج العروس "8/ 52"، "غال".
5 تاج العروس "9/ 102"، "هرم".
6 تاج العروس "9/ 3"، "غذم".
7 تاج العروس "9/ 31"، "قلم".
8 وورد بالصاد.
9 تاج العروس "5/ 79".
10 تاج العروس "7/ 100"، "أرك".
11 تاج العروس "5/ 18 وما بعدها"، "حرض".(13/105)
لا ورق لها، وقيل إنه "الهرم"، وهو إذا أصابه المطر نبت سريعًا، وإذا أكلته الإبل، فلم تبعر ولم تسلح مسرعة ماتت، وبذلك فسروا تسمية "الهرم" هرمًا1.
وقد يضطر أصحاب الماشية إلى إطعامها ما ينبت في الأرض السبخة، أي ذات الملح. يقال "ملح الماشية"، بمعنى أطعمها سبخة الملح2. و"السبخة"، أرض ذات نز وملح، وهي لا تكاد تنبت إلا بعض الشجر والنبات3. وتوجد السباخ في مواضع من جزيرة العرب، في الأماكن الوطئة، حيث تنز الأرض، ويعلوها الملح، وتكون رخوة.
ولفظة "رعى" من الألفاظ التي كثر ورودها في الكتابات الصفوية، وهي كتابات أصحابها رعاة، كانوا يتنقلون مع ماشيتهم من مكان إلى آخر في طلب المرعى، فكانوا يكتبون خواطرهم على الحجارة والصخور، تخليدًا لنزولهم هاتيك المواضع. وهم من عشائر مختلفة امتهنت الرعي، فكانت تتنقل من مكان إلى مكان. تتوغل في الربيع في البوادي، فإذا انتهى الموسم ويبس الكلأ، عادت إلى مواضع قريبة من الحضر، حيث يتوفر فيها الماء، فترعى ماشيتها بكلأ هذه الأرضين، وتبيع إلى أهل المدر، ما يكون عندها من وبر وأصواف ومنتوج ألبان.
وتثبت النصوص الصفوية أن أصحابها كانوا جماعة من الرعاة، يتنقلون من مكان إلى مكان، بدليل الإشارة إلى المرعى "همرعى" "هـ مرعى"، "ها مرعى"، أي "المرعى" وإلى الماء وإلى البقر والإبل والشياه "شهى" "شاهي"، والأودية "هنخل" "هـ - نخل" "ها نخل" وغير ذلك من الألفاظ التي ترد على ألسنة الرعاة. فكان هؤلاء الصفويون يتنقلون مع الكلأ والماء لرعي ماشيتهم4.
__________
1 تاج العروس "7/ 298"، "الحيهل".
2 تاج العروس "2/ 229"، "ملح".
3 تاج العروس "2/ 261"، "سبخ".
4 ديسو، العرب في سورية قبل الإسلام "ص94 وما بعدها".(13/106)
أصناف الرعاة:
والرعاة على صنفين: رعاة الإبل، وهم الممعنون في البوادي، والذين يبيتون مع الإبل في المرعى لا يأوون إلى بيوتهم، ولا يرعون غيرها، وهم: الجشر" أو هم الذين يرعون الإبل، ويقيمون معها في المرعى، ولا يرعون معها غيرها من بقية الحيوانات1. وهم جل الأعراب، بل كلهم؛ لأن حياة الأعرابي هي حياة رعي إبل، يرعاها عند بيته أو على مبعدة منه. بات مع الإبل بعيدًا عن بيته أو أهله أيامًا أو موسم الربيع، أو أقام عند خيمته مع إبله، فهو راعي إبل في الحالتين.
وراعي الإبل، هو الأعرابي الأصيل، ابن البادية جواب بيداء، لا يأكل البقل والخضر، هو كما قال الراجز:
جواب بيداء بها غروف ... لا يأكل البقل ولا يريف
ولا يرى في بيته القليف2
ويقال للأعرابي الذي ينشأ في البدو والفلوات لم يزايلها: المقحم3.
ويكون هؤلاء الرعاة الأعراب من أبعد الرعاة عن "المصانع"، أي القرى والحضر، ومن أهلها، لا يذهبون إليها ولا يتصلون بها4. فهم يعيشون في عالم خاص بهم بعيد عن القيود والتكاليف، والتنويع في المأكل والمشرب.
ورعاة يرعون إبلًا ويرعون غيرها معها من بقر وخيل وغنم. وهم لعدم استطاعة البقر والغنم من التوغل في البادية والتعمق في طياتها، لا يستطيعون الابتعاد عن الماء كثيرًا، لعدم استطاعة تلك الحيوانات الصبر على العطش كثيرًا ولهذا فهم على اتصال بالحضر وبالحضارة، وهم مرحلة وسطى بين الحضارة وبين
__________
1 تاج العروس "3/ 100 وما بعدها"، "جشر"، قال الأخطل:
تسأله الصبر من غسان إذ حضروا ... والحزن كيف قراه الغلمة الجشر
"وإنما قالوا له ذلك؛ لأنه كان يقول لهم: أنتم جشر، أي رعاة إبل"، تاج العروس "9/ 174"، "حزن".
2 تاج العروس "6/ 123"، "تريف"، "6/ 227"، "قلف".
3 تاج العروس "9/ 17"، "قحم".
4 تاج العروس "5/ 422"، "صنع".(13/107)
الأعرابية، وهم الجرثومة التي نبتت منها المجتمعات العربية الحضرية في العراق وفي بلاد الشأم وفي جزيرة العرب، وهم من أهل الخيام السود المنسوجة من شعر الماعز، أو من صوف الأغنام، وقد أشير إليهم في التوراة، وقد كانوا يسكنون شرق العبرانيين وفي أرض فلسطين.
وكانوا يتنجعون أيام الكلأ فتجتمع منهم قبائل شتى في مكان واحد، فتقع بينهم ألفة، فإذا افترقوا ورجعوا إلى أوطانهم ساءهم ذلك، وقد عرف هؤلاء بـ"الخلطاء". كما كانوا يتشاركون في الرعي، وذلك أن يستأجروا راعيًا أو رعاة، ويقدم كل واحد من الشركاء ما يريد تقديمه من الإبل أو الشياه، ويحتمل كل واحد من المتشاركين أجر الرعي، حسب عدد إبله أو شياهه1.
ولا يشترط في الراعي، أن يكون أجيرًا لغيره يرعى إبل وماشية غيره، فقد يكون راعيًا، وهو مالك لإبله ولبقية الماشية التي يرعاها، وهو إنما سمي راعيًا؛ لأنه اتخذ الرعي وسيلة للحياة يعيش عليها، ويجوز أن يكون قد ورثها عن آبائه وأجداده، ويجوز أن يكون قد اختارها هو حرفة له، كما يجوز أن يكون راعيًا لمال غيره من أهل قبيلته أو من الأبعدين، وقد يكون هؤلاء من أهل الحواضر المستقرين، يسلمون ما لهم للرعاة، لترعى في البوادي، وليكثر نسلها وتصح أجسامها، فإذا أرادوا بيعها طلبوا من الرعاة إعادتها إليهم.
ويقوم الأبناء في العادة برعي إبل الأب والعائلة، ونجد في القصص إشارات إليهم، لطمع الرجال في الإبل، وازدراءهم شأن الراعي لصغر سنه، فيستاقون إبله، مما يتسبب عن ذلك تعقب السراق، ووقوع حوادث بينهم وبين أرباب الإبل.
ولا يربي الرعاة الدجاج والبط والحمام والأوز والطيور المختلفة والخنازير، إنما يربيها أهل الريف. والريف ما قارب الماء من أرض العرب وغيرها، وأرض فيها زرع وخصب، أو حيث تكون الخضر والمياه والزروع2. وتربية الدجاج حرفة ينظر العربي إليها نظرة ازدراء واستهجان، فلا يليق برجل حر يحترم نفسه، أن يخدم طيرًا أو حيوانًا صغيرًا كالدجاجة، ولذلك كانت من حرف
__________
1 تاج العروس "5/ 132"، "خلط".
2 تاج العروس "6/ 123"، "تريف".(13/108)
"النبط" والعرب المتنبطة، أي أهل الريف ممن خالط النبط، أي بني إرم، ومن تأثر بهم. وقد ربى أهل القرى الدجاج والطيور، لأكلهم، إذ كانوا يأكلون لحم الدجاج، ذكر أن الرسول والصحابة أكلت لحومها1، ونجد الشعراء يشيرون إلى صياح الديكة عند دنوهم من الأرياف، لتربيتهم الدجاج واعتنائهم بها، واعتبارهم لحومها من ألذ اللحوم.
وترعى الماشية في القرى وفي المزارع بما يظهر من أخضر على وجه الأرض بعد الحصاد، ويقال لذلك: المحشرة2.
__________
1 تاج العروس "2/ 38"، "دج".
2 تاج العروس "3/ 142"، "حشر".(13/109)
الرعاة والحضارة:
وقد حدث في الجاهلية ما يحدث اليوم: يتنقل الأعراب بمواشيهم وبيوتهم وكل ما يملكون من باطن جزيرة العرب في الجفاف، فيتجهون نحو الشمال، نحو بلاد الشأم والعراق للرعي والاكتيال. ينزلون هناك جماعات حيث يجدون الماء والكلأ، في مواضع مختلفة قد تكون بعيدة عن القرى والمدن ممعنة في البادية، وقد تكون في أطراف القرى وبين الحضر، وقد يدخلون بين الحضر للاكتيال والامتيار وللري في مواضع العشب والكلأ المحيطة بهم. وهم على هذه الحالة ما دامت بهم حاجة إلى كل أولئك، فإذا انتهت أو شح ما قصدوه انتقلوا إلى مواضع أخرى، وهكذا كانت سنة البدوي في الحياة.
وقد كانوا يفدون دومًا من باطن الجزيرة، فيتوغلون في بادية الشأم ومنهم من كان يمعن في التوغل في تلك البادية حتى يصل أقصاها، أي أعاليها في الشمال، فيدخل الأرضين الجنوبية من "تركية" في الوقت الحاضر، وأعالي العراق وبلاد الشأم. ومنهم من كان يجد له طيب العيش والمقام، في هذه المهابط والمواطن الجديدة، فيقيم بها، وقد يتحضر قوم منهم، ومن هؤلاء تولد حضر العرب في هذه الديار.
ولما كان في مجيء الأعراب على هذه الصورة محاذير وأخطار على الحضر وعلى الحكومات، اضطرت الحكومات المسيطرة على العراق وبلاد الشأم إلى اتخاذ وسائل(13/109)
الحماية المختلفة لحماية أرضها منهم، فبنت المسالح ووضعت الحرس في المواضع المشرفة على البوادي الممسكة بعنان طرقها، لمراقبة القادم والخارج ولإبلاغ رجال الأمن بدنو الخطر، وحذرت من الأعراب، فأشرفت على حركاتهم وسكناتهم خشية انتهازها فرص الضعف، فتعبث على عادتها بالأمن، وقد أنشأ الرومان واليونان بركًا واتخذوا صهاريج لخزن مياه الأمطار ليستفيد منها الأعراب وليجدوا فيها ما يحتاجون إليه، فلا يتوغلوا عميقًا في بلاد الشأم، كما أقاموا حصونًا في أطراف البادية لمراقبة حركات الأعراب.
وهكذا أمن حكام الشأم من خطر الأعراب، بعد أن اتبعوا معهم سياسة الترضية والتهدئة للاستفادة منهم في حفظ الحدود، وأقام قسم من الأعراب في المواضع التي تتوافر فيها المياه، وزرعوا، واشتغلوا ببعض الحرف مثل غزل الأصواف ونسجها، والتوسط في التجارة بين الأعراب وسكان المدن والقرى البعيدة عن البادية من بلاد الشأم، وزرع الحبوب وأشجار الزيتون والكروم. واستفادوا من هذا الحاصل الزراعي ببيعه للأعراب المحتاجين إليه.
ولا حاجة بي إلى الإشارة إلى أثر المراعي في حياة جزيرة العرب، وفي حياة الأعراب بصورة خاصة. فعلى المراعي تتوقف حياة الماشية عماد الثروة والمال لأهل البادية، وهي من أهم المشكلات العويصة بالنسبة إليهم وإلى الحكومات حتى الآن. والأعرابي ومعه ماشيته وراء المراعي يفتش عنها في كل مكان، وينتقل إليها ليجد فيها الكلأ لماشيته. وسبب هذه المشكلة هو قلة وجود الماء في جزيرة العرب، وقلة الأمطار وانحصارها في مواسم ضيقة لا تمتد طويلًا، وانحباسها في بعض السنين، مما يسبب قصر زمن الرعي، وجفاف الكلأ والتأثير في حياة الماشية بحيث تتعرض للهلاك والموت، وهذا مما يحمل القبائل على التنقل من مكان إلى مكان، فتتزاحم وتتطاحن للاستيلاء على المراعي.(13/110)
الفصل الرابع والتسعون: الثروة الحيوانية
مدخل
...
الفصل الرابع والتسعون: ثروة الحيوانية
والحيوان ثروة مهمة وخاصة لتلك البلاد الفقيرة التي لا تملك صناعة، والتي تكون مواردها الطبيعية محدودة. فتعوض عن الصناعة بتربية الحيوان وبالزراعة إن توفر الماء. والإبل مصدر ثروة عظيمة في الجاهلية، لاستفادتهم منها في أمور كثيرة عديدة. وبعدد الإبل تقاس الثروات. والإبل المال عند العرب، وأساس التعامل بينهم. قال بعض العلماء: "المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان. وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم"1. وفي الحديث نهي عن إضاعة المال. قيل أراد به الحيوان، أي يحسن إليه ولا يهمل2.
ويطلق العرب على الإبل والبقر والشاء "النعم"، وزاد بعض علماء اللغة المعز والضأن. وذكر بعض آخر، أن النعم، إنما خصت بالإبل، لكونها عندهم أعظم نعمة. وقيل إن العرب إذا أفردت النعم، لم يريدوا بها إلا الإبل، فإذا قالوا الأنعام: أرادوا بها الإبل والبقر والغنم3.
ويراد بـ"الماشية"، الإبل والغنم، وقيل الإبل والبقر والغنم، وقال بعض العلماء، وأكثر ما يستعمل في الغنم، وقيل: كل مال يكون سائمة للنسل والقنية
__________
1 تاج العروس "8/ 121"، "مول".
2 تاج العروس "8/ 121"، "موّل".
3 تاج العروس "9/ 79 وما بعدها"، "نعم".(13/111)
من إبل وشاء وبقر، فهي ماشية. وأصل المشاء النماء والكثرة. ومشت الماشية مشاءً كثرت أولادها1.
و"الشاة"، الواحدة من الغنم، تكون للذكر والأنثى، أو يكون من الضأن، والمعز، والظباء، والبقر، والنعام، وحمر الوحش. وفي الحديث: فأمر لها بشياه غنم، إنما أضافها إلى الغنم؛ لأن العرب تسمي البقرة الوحشية شاة، فميزها بالإضافة لذلك، وشاء، وشياه، وشواه، وأشاوه، وشوي، وشيه، في حالة الجمع2.
و"السوام" و"السائمة"، الإبل الراعية، وقيل كل ما رعي من المال في الفلوات، إذا خلى وسومه يرعى حيث شاء. والسائم الذاهب إلى وجهه حيث شاء، يقال سامت السائمة، وأسأمها هو، أي أرعاها أو أخرجها إلى الرعي، وذكر أن السوام والسائمة كل إبل ترسل ترعى ولا تعلف في الأصل. وسوم الخيل، أرسلها إلى المرعى، ترعى حيث شاءت3.
والجمل هو الحيوان الوحيد الذي رضي بمرافقة الأعراب وبمشاطرتهم حياتهم في البوادي. ألفهم وعاشرهم وشاركهم في مسراتهم وفي أحزانهم، صابرًا راضيًا، يحملهم ويحمل أثقالهم، لا يسألهم على ذلك أجرًا، وهو مع ذلك طعامهم إذا جاعوا، أو شعروا أنه قد مرض مرضًا لا يرجى شفاؤه، أو أنه قد كبر وأسن، فصار لا يصلح للعمل، ومن وبره صنعوا خيامهم. وهو قنوع يقنع بالقليل ولا يطالب بالكثير. ويصبر على العطش والجوع، لا يباريه في هذا الصبر أي حيوان من الحيوانات التي ألفت الإنسان وقاسمته حياته. إذا اخضرت الأرض، وجد طعامه هبة، لا يكلف مالكه شيئًا عن اقتضامه له، وإذا يبست الأرض قنع بالتهام اليابس، وبتناول العوسج ونباتات البر، التي يكون عمرها أطول من عمر الكلأ، وإذا بعد الماء صبر على العطش حتى يجده، لا يلح على صاحبه بوجوب تقديم الماء له، كما تفعل الخيل والحمير والبغال.
وتعد لحوم الإبل من اللحوم اللذيذة الطيبة عند العرب. وتنحر عند قدوم شخصية كبيرة تقديرًا لها، وتنحر تقربًا إلى الأصنام وفي المناسبات الدينية، وتعقر
__________
1 تاج العروس "10/ 343"، "مشى".
2 تاج العروس "9/ 395 وما بعدها"، "شوه".
3 تاج العروس "8/ 350"، "سوم".(13/112)
القبور إكرامًا لصاحب القبر، ويبيع الجزارون لحومها وسائر اللحوم الأخرى. ونظرًا إلى أهمية الإبل بالنسبة إلى حياة الأعراب، ولغلاء ثمنها، ولعدم تمكنهم من شراء عدد كثير منها، إلا بالنسبة للموسر منهم، اقتصدوا في ذبحها، إلا لعلة قاتلة ومرض مهلك؛ لأنها أصول أموالهم، فهم يريدون إكثارها، وفي إكثارها إكثار لأموالهم، ولا سيما في إكثار الإبل النجيبة التي لا توازى عندهم بثمن، والتي تعد مقياس الثراء والجاه والغنى عند العرب.
وإذا مات فصيل الناقة أو ذبح، سلخ برأسه وقوائمه ثم حشي جلده تبنًا لتزأمه أمه وتشم رائحته، فتدر عليه ولا ينقطع لبنها، فتحلب. ويقال للجلد المحشو بالتبن "البو"1.
و"الأشراط" الإبل أو الغنم تعزل للبيع. و"الشريطة"، الجماعة المعزولة منها، المعدة للبيع2.
والجمل، هو الحيوان الوحيد الذي لم يجد الأعرابي في تربيته بأسًا ولا غضاضة، ولا حطة لقدر ومنزلة. فاجتناه وتباهى به وافتخر، وجعله مقياس ثرائه وماله، وأعز شيء عنده في حياته، وما الذي يملكه الأعرابي في دنياه غير هذا الجمل! أما البقر والغنم والحمير والبغال، فهي دون الجمل في المكانة والمنزلة عنده، فترفع لذلك عن تربيتها، واعتبر تربيتها وخدمتها وبيعها عملًا من أعمال "النبط" والخدم والعبيد والأعاجم، وكيف يقبل أن ينظف تلك الحيوانات وأن يجمع روثها، ويتحمل سقوط أبوالها عليه، وأن يشم رائحة أرواثها وبولها، وهي حوله أو في بيته، والروث قذارة. وكيف يرضى أن يحشها ,أن يقدم لها العلف والقت، ثم تروث له. جاء في المثل: أحشك وتروثني3؟.
والجمل قليل الكلفة، لا يكلف أكله صاحبه كثيرًا، يعيش على ما تنبته الأرض، وعلى ما يجده على وجهها من يابس النبات، ومن عوسج ونبات ذي شوك، ومن نباتات أخرى تتبطر عليها بقية الماشية. وهو لا يطلب من صاحبه علفًا غاليًا، أو متنوعًا، كما تفعل بقية الماشية، مثل البقر والخيل والغنم
__________
1 الفاخر "249".
2 تاج العروس "5/ 167"، "شرط".
3 تاج العروس "1/ 626"، "راث".(13/113)
والحمير، مع أنها ليست في صبر الجمل ولا في قدرته على تحمل المشقات وحمل الأثقال على مسافات طويلة في البوادي، وفي الرمال التي تفزع منها بقية الماشية، وتهلك إن أجبرت على السير بها.
والإبل من حيث الأصالة والعرق أجناس وأصناف، فيها الإبل الأصيلة التي يفتخر أصحابها بها، ويظنون على غيرهم بها. ولا يعطون منها لأحد، وفيها الإبل الرخيصة، من الصنف الواطيء المعدود للبيع، لخساسة جنسه، ولعدم نجابته. وكان الملوك وسادات القبائل يجنون الأصيل من الإبل، فكان "النعمان بن المنذر"، وهو من أصحاب الهوايات في حيازة النادر من الأشياء، يمتلك الإبل الجيدة، ومنها إبل عرفت بـ"عصافير النعمان". وقد أمر للنابغة بمائة ناقة من عصافيره بريشها وحسام وآنية من فضة، أعطاها بريشها ليعلم أنها من عطايا الملوك. وكان للملك "المنذر" ملك الحيرة إبل نجائب منهن إبل عرفت بـ"عصافير المنذر"1.
ومن الإبل الجيدة الشهيرة، النجائب القطريات. نسبت إلى قطر وما والاها من البر2. و"المهرية"، وقد نالت حظًّا واسعًّا من الشهرة حتى زعم أنها من إبل الجن3. وقد اشتهرت "جرش"، باليمن بإبلها، فقيل "ناقة جرشية" وبعير جرشي4. والأرحبيات من نجائب الإبل الكريمة، منسوبة إلى بني أرحب من همدان5، والصدفية، والجرمية، والداعرية6.
وكانوا لا يبيعون الإبل النجيبة، إلا عن اضطرار. ويسمونها "الحرائز". ذكر علماء اللغة أن الحرائز من الإبل التي لا تباع نفاسة. ومنه المثل: لا حريز من بيع، أي إن أعطيتني ثمنًا أرضاه لم أمتنع من بيعه. والحرزة خيار المال؛ لأن صاحبها يحرزها ويصونها، ومنه الحديث في الزكاة: لا تأخذوا من حرزات أموال الناس شيئًا، أي من خيارها7.
__________
1 تاج العروس "3/ 408"، "عصفر".
2 تاج العروس "3/ 500"، "قطر".
3 تاج العروس "3/ 551"، "مهر".
4 تاج العروس "4/ 387"، "جرش".
5 تاج العروس "1/ 268"، "رحب".
6 الصفة "201".
7 تاج العروس "4/ 24"، "حرز".(13/114)
وللعرب مصطلحات يقولونها في الإبل إذا كثر عددها. منها "الهجمة" القطعة الضخمة منها، قيل: أولها أربعون إلا ما زادت، و"الهنيدة"، المائة فقط، وقيل: هي ما بين الثلاثين والمائة، أو ما بين السبعين والمائة، أو ما بين السبعين إلى دوينها، أو هي ما بين التسعين إلى المائة. وقال بعض علماء اللغة: إذا بلغت الإبل ستين، فهي "عجرمة"، ثم هي "هجمة" حتى تبلغ المائة1.
وتطلق لفظة "الكور" على الجماعة الكثيرة من الإبل2.
والعارض الناقة المريضة أو الكسير، وهي التي أصابها كسر أو آفة، وكانوا ينحرون العوارض، ومن عادتهم أنهم لا ينحرون الإبل إلى من داء يصيبها، وتقول العرب للرجل إذا قدم إليهم لحمًا أعبيط أم عارضة. فالعبيط الذي ينحر من غير علة. والعرب تعير من يأكل العوارض، ومن ينحر الإبل المريضة للضيوف3.
ويقال للإبل وللبقر "العوامل"4، ويظهر أن ذلك بسبب تشغيل أهل القرى لها في كثير من الأعمال في مثل الحمل وسحب الماء من الآبار والحراثة وأمثال ذلك من أعمال. وأطلقت اللفظة على بقر الحراثة والدياسة. وفي حديث الزكاة: ليس في العوامل شيء ... العوامل من البقر، هي التي يستقي عليها ويحرث وتستعمل في الأشغال5.
وذكر "الهمداني" أن بالعربية الجنوبية من البقر الجندية والخديرية والجبلانية، وهي قوية6. وقد استخدم أهل العربية الجنوبية البقر في الحراثة، وكذلك غيرهم في معظم أنحاء جزيرة العرب.
والخيل جماعة الأفراس7. و"الفرس" للذكر والأنثى، ولا يقال للأنثى فرسة8. و"الحصان" الفرس الذكر، أو هو الكريم المضنون بمائه، حتى
__________
1 تاج العروس "9/ 99"، هجم"، "2/ 547"، "هند".
2 تاج العروس "3/ 530"، "كور".
3 تاج العروس "5/ 42"، "عرض".
4 تاج العروس "8/ 34"، "عمل".
5 تاج العروس "8/ 35"، "عمل".
6 الصفحة "201".
7 تاج العروس "8/ 315"، "خيل".
8 تاج العروس "4/ 206"، "فرس".(13/115)
سموا كل ذكر من الخيل حصانًا1. و"الحجر"، الأنثى من الخيل2. و"الطحون" الكتيبة من الخيل3.
لم تكن الخيل كثيرة في الحجاز عند ظهور الإسلام. ففي معركة "بدر" لم يكن مع المسلمين سوى فرسين، فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد4، ولم يكن مع قريش سوى مائة فرس5. فقد كانت غالية الثمن، وتكاليفها عالية، فعسر على من لا مال له شراؤها والإنفاق عليها. وقد ورد في بعض الروايات أن "المقداد بن عمرو"، كان فارس يوم بدر، حتى أنه لم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره. وكان اسم فرسه "سبحة"6.
والأخدرية من الخيل منسوبة إلى "أخدر" فحل أفلت فتوحش، ذكر أهل الأخبار أنه كان لسليمان، أو لأزدشير "أردشير". وهناك حمر عرفت بالأخدرية كذلك، ذكروا أنها منسوبة إليه أيضًا. والخدري، الحمار الأسود، والأخدري وحشيه، ويقال للأخدرية من الحمر بنات الأخدر7.
والأغنام عند الحضر وأشباههم، يربونها للاستفادة من لحومها وألبانها وأصوافها، ولحاجتها إلى الماء والكلأ والعلف بصورة دائمة، صارت من ماشية أهل الحضر والمراعي. وهي مصدر ثروة لأصحابها، تصدر إلى أسواق العراق وبلاد الشأم لبيعها هناك. ومن أنواعها المشهورة: الكباش العوسية. والعوس، ضرب من الكباش البيض8، ويكون صوفها أبيض، وهو مرغوب مطلوب.
و"المعز" خلاف الضأن من الغنم، والمعز ذوات الشعور، والضأن ذوات الصوف، و"الماعز" واحد المعز9. ويستفاد من لحوم المعز ومن ألبانها وشعرها. وكان أعراب بادية الشأم الساكنين على مقربة من فلسطين، يتخذون بيوتهم من
__________
1 تاج العروس "9/ 180"، "حصن".
2 تاج العروس "3/ 125"، "حجر".
3 تاج "9/ 368"، "طحن".
4 الطبري "2/ 478".
5 الطبري "2/ 477".
6 الإصابة "3/ 434"، "رقم 8185".
7 تاج العروس "3/ 171"، "خدر".
8 تاج العروس "4/ 199". "العوس".
9 تاج العروس "4/ 82"، "معز".(13/116)
شعر الماعز، كما تتخذ البسط والسجاجيد منها. و"العنز" الأنثى من المعز. ويكثر وجود المعز البري في جبال السراة وفي المناطق الصخرية، حيث يعيش على الأشجار والأعشاب البرية. ويربي الرعاة المعز، حيث يأخذون قطعانها إلى المواضع المعشبة القريبة من الماء لترعى هناك، وتربى بصورة خاصة في الأرضين الجبلية والمتوجة، حيث يتسلق المعز المرتفعات، فيأكل ما يجده أمامه من شجر وحشائش.(13/117)
الطيور:
وقد عني أهل المدر وأهل الريف، بتربية الطيور، وعلى رأسها الدجاج. وقد عد أكله من طعام المترفين المتمكنين، لارتفاع ثمنه بالنسبة إلى الفقراء، وكانوا يتفننون في طبخه. وقد أكله النبي والصحابة1.
والأوز عند العرب البط، صغاره وكباره2. ويعدونه من طير الماء، ويذكر علماء اللغة أن "بطة" و"بط" من الألفاظ المعربة3. واللفظة إرمية أصلها في لغة بني إرم "بطو"4.
ويربي الزراع الحيوانات للاستفادة منها في الخدمات الزراعية وفي معاشهم، كالجمال للنقل والحراثة ومتح الماء من الآبار العميقة، والبقر للانتفاع بألبانها ولحومها وللحراثة ومنح الماء، والضأن والمعز والدجاج وغير ذلك من الحيوانات الأخرى الأليفة، مثل البط والأوز، وغيرها مما يربيه الحضر وأهل الريف.
__________
1 تاج العروس "2/ 38"، "دجّ".
2 تاج العروس "4/ 5"، "الأوز".
3 تاج العروس "5/ 108"، "بطّ".
4 غرائب اللغة "174".(13/117)
تربية النحل:
والنحل ذباب العسل، يقع على الذكر والأنثى1 و"اليعسوب" أمير النحل
__________
1 تاج العروس "8/ 129"، "نحل".(13/117)
وذكرها والرئيس الكبير1. والعسل من الأغذية الثمينة عند أهل الجاهلية، وقد استعملوه في المعالجة من أمراض عديدة، نص عليها في كتب الحديث والطب، وقد أطلق العرب لفظة "العسل" على ما يشبه العسل في الحلاوة أو في الشكل، فقالوا: عسل العرفط، وهو صمغ العرفط لحلاوته، وعسل اللبنى، صمغ ينضح من شجرة، يشبه العسل لا حلاوة له، ويتبخر به، وعسل الرمث، شيء أبيض يخرج منه كالجمان2. ويعسل النحل في "الخلى"، وقد يتخذ النحل خليته بنفسه، في الجبال وفي البساتين، فتكون خلايا طبيعية، وقد يعمل الإنسان بيده خلية النحل، كما يفعل من يربي النحل، فيتخذ لها ما يشبه الراقود من طين، ويقال لها "كوارة"، أو خشبة تنقر ليعسل فيها، وأشياء أخرى3. وهي خلايا أهلية. و"الكور" موضع الزنابير، و"كوارة النحل"، شيء يتخذ للنحل من القضبان والطين، ضيق الرأس تعسل فيه، وقد يراد باللفظة العسل في الشمع4. و"الشمع" الموم كذلك5. و"الجزع" خلية النحل6.
وتعزل للنحل مواضع منتبذة عن البيوت يقولون لها: "المصانع"، واحدتها مصنعة7.
والنحل من الجوارس في اصطلاح أهل الأخبار، ويعنون بذلك أنه يلحس الشجر والنور للتعسيل. فهو من الجوارس8.
وقد عد "سترابون" العسل من جملة المحصولات التي اشتهرت بها العربية السعيدة، وذكر أنه كثير جدًّا فيها9. وهو كثير في اليمن، ولا تزال اليمن على شهرتها به10.
وقد كانت الجبال والهضاب المنعزلة، من مواطن النحل الوحشي، وهناك
__________
1 تاج العروس "1/ 381"، "عسب".
2 تاج العروس "8/ 17"، "عسل".
3 تاج العروس "10/ 118"، "خلا".
4 تاج العروس "3/ 531"، "كور".
5 تاج العروس "9/ 70"، "الموم".
6 تاج العروس "5/ 301"، "جزع".
7 تاج العروس "5/ 423"، "صنع".
8 تاج العروس "4/ 118"، "جرس"، "3/ 78"، "ثمر".
9 مجلة المجمع العلمي العراقي "2/ 247".
10 أحمد فخري، اليمن ماضيها وحاضرها "23".(13/118)
"معيدون"1، حذقوا الرقي والنزول من الجبال، يذهبون إلى الجبال للبحث بين صخورها عن خلايا للنحل لاستخلاص العسل منها، وقد اشتهرت جبال "بني سليم"، بكثرة ما بها من عسل، وبقيت على شهرتها هذه في الإسلام2.
وقد عني الحضارمة بتربية النحل ودر العسل عليهم ربحًا طيبًا. ونجد في كتاب رسول الله لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي وإخوته وأعمامه "أن لهم أموالهم ونحلهم ورقيقهم وآبارهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشراجعهم بحضرموت"3. وفي ذكر النحل بعد الأموال، إشارة إلى أهميته وكونه من مصادر الرزق عندهم في ذلك الوقت.
__________
1 المخصص "8/ 180".
2 ابن المجاور "1/ 14".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 266".(13/119)
الأسماك:
وقد أشير في القرآن الكريم إلى صيد البحر، فورد فيه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 1 وصيد البحر، ما يصطاد من البحار من حيوانات تعيش فيه. وقد كان العرب يعتاشون من البحر، ولا سيما سكان السواحل حيث يسد هذا الصيد جزءًا مهمًّا من معيشتهم، فيستعملون ما يحتاجون إليه، ويبيعون الفائض منه، أو يتقاضون به. وقد كان سكان السواحل يخرجون بالوسائل المتيسرة لهم لصيد السمك، ومنهم من يصطاد عند السواحل فيجمع ما يقع تحت يديه ليستفيد منه.
ويقال لصياد السمك "العركي" كذلك، ولهذا قيل للملاحين "عرك"؛ لأنهم يصيدون السمك. وفي الحديث أن النبي كتب إلى قوم من اليهود على ساحل خليج العقبة عليكم ربع ما أخرجت نخلكم، وربع ما صادت عروككم، وربع المغزل. والعروك جمع عرك. وهم الذين يصيدون السمك2.
__________
1 المائدة، الآية 99.
2تاج العروس "7/ 161"، "عرك"، القاموس "3/ 213"، المخصص "1/ 28".(13/119)
وقد عاش على صيد البحر خلق كثير من سكنة السواحل، في ذلك الزمن، حيث كانت سبل العيش عندهم قليلة ضيقة. وقد استفادوا من الحيتان والأسماك الأخرى الكبيرة بصورة خاصة للحمها الغزير، ولاستعمال عظامها وهي كبيرة في حاجات متعددة، حتى جلودها استفادوا منها. والحيتان معروفة في البحر الأحمر وفي البحر العربي والخليج. وهي لضخامتها يحتاج في صيدها إلى آلات وإلى أيدي متعددة. وقد أشير إليها وإلى ضخامتها في القرآن الكريم.
والحوت، في رأي بعض علماء اللغة السمك كله. ولكن الغالب أنه ما عظم منه، والسمك في العرف أصغر من الحوت.
ويجفف السمك في الشمس، ويملح أحيانًا، ويجفف في الهواء ليؤكل وقت الحاجة إليه. وقد يستعمل علفًا للحيوانات. وقد يطحن السمك المجفف ويؤكل طحينه، ويجعل علفًا للحيوانات، وقد يحفظ السمك في ماء مملح أو في خل، ويقال للسمك المملح ما دام طريًّا "القريب"1. وأما السمك الممقور في ماء وملح، فهو "النشوط"2، والمقر السمكة المالحة أو المنقعة في الخل3. و"الحساس"، سمك يجفف ويسمى "قاشعًا" كذلك4.
ومن حيوان البحر "التامور"5، و"الاطوم" سلحفاة بحرية غليظة الجلد، يشبه بها جلد البعير الأملس وتتخذ منها الخفاف للجمالين، وتتخذ منها النعال. وقيل: إنها سمكة عظيمة، يقال لها المصلة والزالحة، تحذى من جلدها النعال6. و"النكيع" دابة من دواب البحر7، و"الزجر"، سمك عظام8، و"اللخم" سمك بحري، ضخم لا يمر بشيء إلا قطعه، وهو يأكل الناس. وقيل هو الكوسج، وقيل القرش9. و"الجمل"، كاللخم من السمك الضخم، ويقال
__________
1 القاموس "1/ 115"، "قرب"، تاج العروس "1/ 425"، "قرب".
2 القاموس "2/ 388"، "نشط"، تاج العروس "5/ 232"، "نشط".
3 القاموس "2/ 136"، "مقر"، تاج العروس "23/ 548"، "مقر".
4 المخصص "10/ 20"، القاموس "2/ 207".
5 المخصص "10/ 20 وما بعدها".
6 القاموس "4/ 75"، تاج العروس "8/ 187"، "أطم".
7 المخصص "10/ 20 وما بعدها".
8 القاموس "2/ 38"، تاج العروس "3/ 234"، "زجر".
9 تاج العروس "9/ 58"، "لخم".(13/120)
له "البال"، قيل إن طول السمكة منه ثلاثون ذراعًا، ويقال هي "الكبع"1. و"الكبع"، جمل البحر، وقيل سمك بحري وحشي الهيئة، ومنه يقال للمرأة الدميمة: يا وجه الكبع2. و"الكنعد"، و"الكنعت" ضرب من سمك البحر3. و"سابوط" دابة من دواب البحر4. و"قضاعة" اسم كلب الماء، وقيل كلبة الماء5. و"قبع" دويبة بحرية6، و"الدوع" ضرب من الحيتان بلهجة أهل اليمن، وسمكة حمراء صغيرة كأصبع7. و"العنز"، ويقال لها "عنز الماء" أيضًا، سمكة كبيرة، لا يكاد يحملها بغل8.
و"الجريث" سمك يقال له "الجري". ويظهر أن اليهود كانوا لا يأكلونه، ولما جاء الإسلام، سألوا عن أكله، فاختلف الناس فيه، فمنهم من أباحه ومنهم من نهى عنه. وذكروا اسم نوع آخر من السمك اسمه "الصلور"، قالوا إنه "الجريث"، وأما "الانقليس"، فإنه "مار ماهي" بالفارسية، أي حية الماء9. وقد ذكر أحد الشعراء أن الأزد كانوا يأكلون: "الشيم"، والجريث، والكنعد10، و"الشيم" نوع من السمك أيضًا11. فقال:
قل لطغام الأزد لا تبطروا ... بالشيم والجريث والكنعد12
وقد كان أهل البحرين يحملون "الكنعد" المالح في الجلال البحرانية. يستخرجونه من البحر. وذكر الشاعر "جرير" هذا السمك أيضًا، وذكر أنهم كانوا يشوونه ويأكلونه مع البصل13.
__________
1 تاج العروس "7/ 263"، "جمل".
2 تاج العروس "5/ 490"، "كبع".
القاموس "1/ 156، 234"، تاج العروس "2/ 487"، "كنعد".
4 القاموس "2/ 263"، تاج العروس "5/ 149"، "سبط".
5 القاموس "3/ 69"، "تاج العروس "5/ 470"، "قضع".
6 القاموس "3/ 65"، تاج العروس "5/ 457"، "قبع".
7 تاج العروس "5/ 333"، "داع".
8 تاج العروس "4/ 61"، "عنز".
9 تاج العروس "1/ 609"، "جريث".
10
قل لطغام الأزد لا تبطروا ... بالشيم والجريث والكنعد
تاج العروس "2/ 487"، "كنعد".
11 تاج العروس "8/ 363"، "شيم".
12 تاج العروس "2/ 487"، "كنعد".
13 تاج العروس "2/ 487"، "كنعد"، "9/ 135"، "البحون".(13/121)
الفصل الخامس والتسعون: الأرض
مدخل
...
الفصل الخامس والتسعون: الأرض
والأرض هي مصدر الثراء والغنى للإنسان، وعلى مقدار ما يملكه الإنسان من أرض، تكون ثروته ويكون غناه، وعلى قدر ما يبذله صاحب الأرض من جهد في استغلالها وفي تطويرها وفي استنباط ما في باطنها من خيرات يتوقف دخله منها وغلته التي تأتيه من أرضه هذه.
ولا تعرف ملكية الأرض والماء، إلا بين الحضر، أما الأعراب، فإن هذه الملكية تكون عندها للقبيلة ولساداتها، حيث يحمون بعض الأرضين، أو يستنبطون الماء من أرض موات لا ماء فيها، فتتحول الأرض بذلك إلى أرض نافعة ذات ماء، يبسط حافرها حمايته عليها ويجعلها ملكًا له، وقد يزرع عليها، فتصير الأرض التي يزرعها ملكًا له. وبهذه الطريقة تكونت الملكية بين القبائل. ولا يستطيع أن ينال من هذه الملكية بالطبع إلا المتمكن من أبناء القبيلة ومن ساداتها، ممن يتمكن بما لديه من مال وإمكانيات من استنباط الماء ومن إحياء الأرض واستغلالها بما عنده من موال وعبيد.
ويكتسب هذا التملك صفة شرعية، إذ يعتبر ملكًا صرفًا لصاحبه، ليس لأحد حق منازعته عليه. ولمالكه أن يتصرف به كيف يشاء، له أن يبيعه، وله أن يهبه، وإن مات انتقلت ملكيته إلى ورثته.
فالأرض في معظم جزيرة العرب، حق عام مشاع لا تعود ملكيته لأحد.(13/130)
إلى أن صار الرعي، وأخذت القبائل تنتقل من مكان إلى مكان، ففرض سادتها حق الحمى، وهو نوع من التملك المتولد من حق الاستيلاء بسبب الزعامة والقوة والاغتصاب، فصار الحمى ملكًا لسادات القبائل، وصارت الأرض المتبقية التي دخلت في حوزة القبيلة بسبب بسطها سلطانها عليها، ملكًا لها. ملكًا مشاعًا بين جميع أبناء القبيلة، ليس لأحد صد أحد من أبناء قبيلته عن ارتياد أرضها، إلا بقانون القوة والعزة والتجبر، أو بفرض سلطانه على الأرض باستنباط مائها، وهو حق لا يعمل به إلا القوي المتمكن.
ومن هذا الإحياء للأرض الموات تكونت بعض المستوطنات في البوادي، جلب ظهور الماء فيها الناس إليها، فسكنوا حولها، وجاءوا من أطرافها للاستقاء من مائها، وشجع العثور عليه في هذا الموضع المتمكنين الآخرين على الحفر أيضًا، فكان إذا ظهر ماء عذب، جذب الناس إليه، وسحرهم بسحره، وأناخهم حوله، فتوسعت بذلك تلك المستوطنات، وتعددت، وظهرت فيها الملكية الفردية، والحياة الحضرية القائمة على الحيازة والتملك الفردي، بصورة أوسع مما نجدها عند البدوي الاعتيادي الذي لا يملك إلا بيته، وهو خيمته وأهله، وما قد يكون عنده من الإبل.(13/131)
ظهور القرى:
وصار بعض هذه المستوطنات قرى، توسع قسم منها حتى صار بمنزلة المدن، منها ما كان يضاهي "يثرب" أو مكة في الحجم، غير أنه لم يشتهر ولم يذكر، لعدم وجود تماس له وصلة مباشرة بتأريخ الإسلام. وهي مستوطنات سكن وماء وأسواق وتجارة، ذكرها أهل الأخبار بقولهم: "قرية كانت عظيمة الشأن" وبقولهم: "قرى". وصار بعض منها "قرى وزروع ونخيل"1، أي قرى غلبت الزراعة على أهلها. فظهرت الزراعة بها. زراعة نخيل، إن كانت زراعة النخيل هي الزراعة المتغلبة عليها. وزراعة نخيل وزروع أخرى، إن شاركت
__________
1 الصفة "147"، "حائط بني غير: قرية عظيمة بها سوق. وكذلك جماز قرية عظيمة أيضًا"، الصفة "142".(13/131)
الزروع الأخرى النخيل في ذلك. وهذا هو سبب نص "الهمداني" وأمثاله ممن كتب عن مواضع جزيرة العرب، على القرى، بأنها قرى، أو قرى سكن، أو قرى نخيل1. أو قرى زراعة ونخيل، أو نخل وقرية2.
وأما القرى التي غلب التعدين عليها، فقد نص عليها بأنها "معدن"، لتمييزها عن القرى الأخرى3.
وهكذا ظهرت في البوادي مستوطنات زراعية رعوية، كفت نفسها بنفسها، توقف حجمها على كمية الماء فيها، وتوقف إنتاجها على مقداره وكميته، وظهرت فيها نتيجة لذلك الملكية الفردية، تملك المقيم فيها الأرض التي استقر بها وبنى بيته عليها، وتملك زرعه وحاصله إن كان له زرع، وتملك ماشيته إن كان صاحب ماشية. وتولد نتيجة لكل ذلك مجتمع مستقر، تعاون فيما بينه في الدفاع عن نفسه وعن ماله، وفي جلب السلع التي يحتاج إليها الإنسان والميرة، وتولد فيها تعامل وبيع وشراء، توقف حجمه بالطبع على حجم ذلك المكان وعلى مقدار وجود الماء به.
فالبحث عن الماء والحصول عليه بالمال وبالخدم والعبيد، كون الملكيات الفردية في البوادي بين الأعراب، وأوجد المستوطنات الحضرية والمستقرات، وصير من بعض البدو حضرًا أو أشباه حضر، وغير بعض التغيير من معاييرهم ومقاييسهم الاجتماعية، بجعلهم زراعًا وفلاحين، بعد كره واستهجان للمزارع وللزراعة. وهذه المستوطنات هي مستوطنات نشأت وظهرت بجهد الإنسان وبعمله وجده، وباستثمار عقله وماله وفي تسخير أتباعه في استنباط الماء، وتحويل الأرض البكر إلى أرض زراعة وسكن، وفي جزيرة العرب مستوطنات عديدة من هذا القبيل، ومعظم مستوطنات يثرب، هي من هذا النوع، مستوطنات قامت على الآبار التي احتفرها المتمكنون من أهلها، فزرعوها وأقاموا الأطم بها لحماية الزرع والناس من الأخطار. والأطم القصور، وكل حصن بني بالحجارة أطم. وقيل هو
__________
1 "وفي ثنية الحفير نخل"، الصفة "148"، "روضة الحازمي، وبها النخيل وحصن منيع"، الصفة "142".
2 "والعذيب نخل وقرية"، الصفة "149".
3 "وقرية عظيمة يقال لها: العوسجة. وهي معدن. وكذلك شمام: معدن ... "، الصفة "149".(13/132)
كل بيت مربع مسطح. وقد اشتهرت يثرب بآطامها. وذكر "الأعشى" آطام جو بقوله:
فلما أتت آطام جو وأهله ... أنيخت فألقت رحلها بفنائكا1
وأقيمت الحصون لحماية هذه المستوطنات، واتخذت وسائل التحصن الأخرى لحماية النفس والزرع من الأعراب الجياع. ولا تزال في اليمامة آثار حصون وآطام عادية، تعود إلى ما قبل الإسلام بأمد، وكانت حماية ومنعة للساكنين حولها، وتشاهد آثار السكن في أطرافها، وآثار آبار مندرسة، وآثار زرع، هي مزارع القوم. فنجد في الإفلاج حصونًا، ونجد في "ملهم" حصونًا كان يتحصن بها "بنو يشكر"، ونجد في أرضين أخرى حصونًا بنيت كلها لدرء النفس من الأخطار2. واليمامة حصون متفرقة ونخل ورياض، وفيها بتل، والبتيل، هن مربع مثل الصومعة مستطيل في السماء من طين، ويرجع أهل الأخبار زمانها إلى "طسم" و"جديس"، وذكروا أن طول بعضها خمسمائة ذراع3.
وقد أشار أهل الأخبار إلى قرى ومستوطنات قديمة في مواضع متعددة من جزيرة العرب، نسبوها إلى "عاد" وإلى "طسم" و"جديس" لبعض منها حصون وآبار. فالقرية، موضع قديم به ماء عادي، أي ماء قديم، إلى جنبه آبار عادية وكنيسة منحوتة في الصخر4. والقصر العادي بالأثل من عهد طسم وجديس5، و"القرية": القرية الخضراء، خضراء حجر، هي حضور لطسم وجديس، وفيها حصونهم وبتلهم. والبتيل: هن مربع مثل الصومعة مستطيل في السماء من طين. بناء بعضه مائتا ذراع أو خمسمائة ذراع مرتفعًا سامقًا في السماء6. وبقرية بني سدوس، قصر مبني بصخر منحوت، نسبه أهل الأخبار إلى "سليمان بن
__________
1 تاج العروس "8/ 187"، "أطم".
2 العقد الفريد "5/ 190"، البلدان "2/ 537".
3 الصفة "140 وما بعدها".
4 الصفة "152".
5 الصفة "160".
6 الصفة "141".(13/133)
داوود"1. و"تر" نخيل وحصون عادية وغير عادية2.
إلى غير ذلك من قرى وقصور وحصون قديمة ذكرها أهل الأخبار، أشرت إلى بعض منها في مواضع من هذا الكتاب، نشأت ونبتت في البوادي، في المواضع التي أمكن للإنسان بفنه البدائي وبعلمه في ذلك الوقت من استنباط الماء فيها. وبظهور ذلك الماء نبتت مستوطنات وزروع ونخيل وملكيات في أرض كانت ميتة ليس لها مالك، فأحياها استنباط الماء منها، وجعلها ملكًا لأصحاب الماء.
وقد كانت هذه الآطام والحصون معاقل لأصحاب الأرض ومنازل لهم، ومخازن يخزنون بها حاصل أرضهم وماشيتهم عند دنو الخطر، وقد يحتمي بها عبيدهم وأتباعهم، فهي مثل قلاع الأشراف النبلاء في أوروبة أيام الإقطاع، ومثل المحافد والقصور في اليمن. وهي تختلف في الحجم والسعة باختلاف درجة ومنزلة المالك للأرض، من حيث تملكه للمال وللخدم والعبيد وما عنده من ثراء، وقد صارت سببًا في تحويل أصحابها إلى حضر أو شبه حضر، ولو أنهم كانوا وسط بواد وبين أعراب، فإقامتهم في أبنية مستقرة وحرثهم الأرض وزرعها، واستخدامهم للعبيد في الفلاحة، طورتهم بعض التطوير، حتى صاروا على شاكلة الحضر، يتركون منازلهم لزيارة القرى والأرياف، ويتصلون بالحضر وقد يقيمون بينهم على نحو ما يفعله كثير من سادات "شيوخ" القبائل في الوقت الحاضر، وكان جل سادات القبائل الكبار من أصحاب الأبنية الثابتة، لهم منازلهم ومزارعهم وأعرابهم الذين لم تمكنهم أحوالهم المادية من تملك الأرض والزرع، فاشتغلوا برعي الإبل.
وقد تتعرض مزارع هذه المستوطنات إلى الأخطار مع وجود الحصون وأبنية الحماية الأخرى، فالمزارع الكبيرة لا يمكن حمايتها إلا إذا حميت بحصون عديدة من جميع جهاتها، وحمايتها على هذا النحو عمل مكلف باهظ، لذلك كان المهاجم يهاجم الزرع ليحرق قلوب أصحاب المتحصنين في الحصن، فلما هاجم "بنو يربوع" "بني يشكر"، تحصن "بنو يشكر" بحصنهم بقرية "ملهم"،
__________
1 الصفة "141".
2 الصفة "141".(13/134)
فأحرق "بنو يربوع" بعض زرعهم، وعقروا بعض نخلهم، فلما رأى القوم ذلك نزلوا إليهم فقاتلوهم1.
وقد اتخذ المزارعون ملاجئ لهم عند أماكن زرعهم يأوون إليها لحماية أنفسهم من أشعة الشمس ومن المطر والعواصف، وكانوا يسكنون بها، كانت هذه سنتهم في الجاهلية وفي الإسلام. وقد ذكر مؤلف "بلاد العرب" أن بروضة السويس قبتين مبنيتين يسكنها الزارعون2.
وقد أولد هذا المجتمع تباينًا في منازل الناس، جعل من أصحاب الأرض الكبيرة ملاكًا كبارًا لهم أطم وحصون، يأوون إليها، ولهم خدم يخدمونهم ويخدمون زرعهم وماشيتهم، هم العنصر المنتج، والآلة التي تساعد على الإنتاج وعلى تكثيره، وعلى تزييد أموال الملاك، أما هم أنفسهم فمجرد خدم ورقيق، خلقوا لخدمة سادتهم ووجدوا لرعاية أموالهم والعناية بزرعهم وتكثير رزقهم. وإلى جانب هؤلاء الناس أحرار، كان في رزقهم شح، وفي حياتهم عسر، وقوتهم قليل، قاموا بمختلف الأعمال والحرف لإعالة أنفسهم وسد رمقهم.
وقد تمكنت بعض هذه المستوطنات من إنتاج حاصل زراعي سد حاجة أهل المستوطنة، ومن بيع الفائض منه إلى الأعراب. وبينها مستوطنات زرعت الحبوب، مثل الحنطة وصدرتها إلى أماكن أخرى. فقد ذكر أن قرى اليمامة كانت تمون مكة بالحب، وتمون الأعراب بالتمور. وما هذه القرى سوى مستوطنات، ظهرت في البوادي بسبب وجود الماء فيها، وبسبب استنباطه من الأرض بحفر الآبار، فنمت وتوسعت، لاتساع صدر الماء بها، ولتفضل الأرض على من نزل بها بإعطائهم ماءً كافيًا، كفاية تساعد على توسع المستوطنة، فيما لو عمل النازلون بها على استنباطه من باطنها، واستعملوا عقولهم وأيديهم في استغلال التربة للحصول على موارد الرزق منها.
وتحدد الأرض المملوكة بحدود، وقد توضع على أطرافها علامات، لتكون حدودها معلومة، فلا يتجاوز عليها. ويقال للحد بين الدارين، أو بين الأرضين "الجماد"، وقد أشير إلى "الجوامد"، أي الحدود في الحديث. ورد: إذا
__________
1 النويري، نهاية الأرب "15/ 385"، "يوم الحائر وهو يوم ملهم".
2 بلاد العرب "304".(13/135)
وقعت الجوامد فلا شفعة في الحدود1.
والأرض عامر أو غامر، والعامر المأهول والمزروع والمستغل، والغامر خلاف العامر، وهو الخراب. وقد قسم "عمر" السواد إلى عامر وغامر، أي عامر وخراب. والغامر الأرض ما لم تستخرج حتى تصلح للزراعة والغرس، وقيل: هو ما لم يزرع مما يحتمل الزراعة, وإنما قيل له غامر؛ لأن الماء يبلغه فيغمره2 ويقال للأرض العامرة: "السوداء"، وأرض سوداء، أرض مغروسة، والأرض في عرف العرب إذا غرست اسودت واخضرت، و"البيضاء" الخراب من الأرض؛ لأن الموات من الأرض يكون أبيض3.
والبور: الأرض قبل أن تصلح للزرع، وقيل: هي الأرض التي لم تزرع، أو الأرض كلها قبل أن تستخرج حتى تصلح للزرع أو الغرس، وفي كتاب النبي لأكيدر دومة: ولكم البور والمعامى وأغفال الأرض، فالبور الأرض الخراب التي لم تزرع، أو هي التي تجم سنة لتزرع من قابل4. وذكر أن المعامي الأعلام من الأرض ما لا حد له. والأغفال ما لا يقال على حده من الأرض5. والمعامى على حد قول بعض العلماء: أغفال الأرض التي لا عمارة بها، أو لا أثر للعمارة بها6. والغفل: ما لا عمارة فيه من الأرضين، وقيل الموات، وأرض غفل لا علم بها ولا أثر عمارة، وأرض سبسب ميتة لا علامة فيها، وكل ما لا علامة فيه ولا أثر عمارة من الأرضين والطرق ونحوها غفل، وبلاد أغفال لا أعلام فيها يهتدى بها7. وقد ورد في كتاب الرسول إلى الأكيدر: "أن له الضاحية والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور"8.
__________
1 تاج العروس "2/ 325"، "جمد".
2 تاج العروس "3/ 454"، "غمر".
3 تاج العروس "5/ 10"، "بيض".
4 تاج العروس "3/ 60"، "بدر".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 289".
6 تاج العروس "10/ 255، "عمى".
7 تاج العروس "8/ 47"، "غفل".
8 ابن سعد، طبقات "1/ 288 وما بعدها".(13/136)
والضاحية ما كان خارج السور من النخل، والضاحية البادية، وضواحي قريش النازلون بظواهر مكة1.
والعامر، إما ملك للحكومة، وإما ملك للملوك ولذويهم، وإما ملك للمعبد، أي أوقاف حبست على المعابد، وإما ملك لأسر وأفراد، وذلك بالنسبة للحضر، وفي العربية الجنوبية بصورة خاصة. وأما بالنسبة إلى الأعراب، سكنة البوادي، فأرض القبيلة –كما سبق أن قلت- ملك لها، إلا ما حمى منها، فهو من حق أصحاب الإحماء. فالأرض إذن مشاعة بين أبناء القبيلة، ويدخل في ذلك الماء والكلأ.
وقد عبر في أحد النصوص عن الأرض التي آلت إلى صاحبها بطريق التملك بـ"مقبلت قنيو"، أي الأرض التي أقبلت إلى الشخص بطريق الملكية2. ومعناها الأرض المقتناة أي الملك. وهي أرض ملكها صاحبها إرثًا من أهله. وذلك تمييزًا لها عن الأرض التي يتملكها صاحبها شراء، وقد عبر عنها بـ"شامتهو"، أي الأرض المشتراة3.
وتعد كل الأرضين التي لا تملكها الجهات المذكورة ملكًا للدولة. ورقبتها بيد الحكومة، وتسجل باسم الشعب الحاكم. فإذا كانت الحكومة حكومة معين، تسجل الأرض باسم شعب معين، وإذا كانت الأرض في سبأ، تسجل باسم شعب سبأ، وقد توسعت رقعة الأرضين الحكومية بالفتوحات الواسعة التي تمت في عهد الملك "كرب ايل وتر"، وفي عهود الملوك المحاربين مثل "شمر يهرعش" الذين إذا انتصروا على خصومهم جعلوا أرضهم وما يملكونه غنيمة لحكومتهم، تابعة لبيت المال. وذلك على نحو ما فعله المسلمون في الفتوحات من تسجيلهم الأرضين التي فتحوها باسم "بيت مال المسلمين".
وقد تؤجر أرض التاج للقبائل والعشائر بعقد يتفق عليه، تذكر فيه شروطه في الوثائق التي تدون لهذه الغاية، ويتم الدفع بموجبها، فيكون إما عينًا، وإما نقدًا. وقد يقوم سادات القبائل باستغلال الأرضين المؤجرة على حسابهم، وقد
__________
1 تاج العروس "10/ 218"، "ضحو".
2 Rep. Epigr. 2876, Tome, V, P.209.
3 الفقرة الثالثة من النص المذكور.(13/137)
يؤجرونها أو يؤجرون أجزاءً منها إلى حاشيتهم أو أتباعهم في مقابل جعل يدفع لهم. فيكون دخلهم من هذه الأرض المؤجرة من العوائد التي اتفقوا على استحصالها من المستأجرين الثانويين ومن صغار الفلاحين.
وقد كان الفلاح مغبونًا في الأكثر؛ لأنه بحكم فقره واضطراره إلى استئجار الأرض بشروط صعبة في الغالب، مضطر إلى الاستدانة في أغلب الأحيان، لضمان معيشته في مقابل تعهده بدفع ما استدانه في آخر موسم الحصاد وقطف الثمر فإذا حل الأجل، اضطر إلى دفع ديونه وما ترتب عليها من ربا فاحش، وما عليه من حق للحكومة ولصاحب الأرض، فلا يتبقى لديه ما يكفيه في عامه الجديد، فيضطر إلى تجديد الاستدانة، والغالب أن أصحاب الأرض هم الذين يقومون بتقديم الديون إلى الفلاحين، لربطهم طول حياتهم بالأرض، فلا يتمكن الفلاح من الهروب منها بسبب ثقل ما عليه من الديون، ووجوب دفعها مع فائضها كاملة إنْ أراد تركها، وهو حل لا يتمكن من تنفيذه، فيظل لذلك مرتبطًا مع عائلته بأرض المالك صاحب الديون.
وكانت حكومة سبأ تستغل أرضها الخاضعة للخزينة العامة، أي "أرض السلطان"، إما بإدارتها نفسها وباستغلالها بتشغيل المزارعين بها على حساب الدولة، وإما ببيعها، وإما بتأجيرها في مقابل "أجر" يقال له "اثوبت" في لغتهم1.
وامتلكت المعابد أرضين واسعة شاسعة، استغلتها باسم الآلهة، ودرت عليهم أرباحًا كثيرة. وهي أرضين سجلت باسمها منذ نشأت المعابد وظهرت، فارتبطت بها، وصارت وقفًا عليها. منها ما سجل في عهد "المكربين" أي حكومات رجال الدين في العربية الجنوبية، يوم كان "المكرب" هو رجل الدين والحاكم الدنيوي، فكانت نظرتهم أن الأرض وما عليها ملك للآلهة، ورجال الدين الحكام هم خلفاء الآلهة على الأرض، وهم وحدهم لهم حق الحكم والفصل بين البشر، وما يقرونه حق، وما يخالفونه ويحرمونه فهو باطل. وهم الذين يفصلون بين الحرام وبين الحلال، ويقررون ما يوافق حكم الآلهة وما يخالفه. فهم حكام الشرع والقانون.
__________
1 Glaser 904, Haevy 51, 1571, Handbudh, I, S. 137. Rhodokanakis, Katab. Texte, I, S. 70.(13/138)
وكانت للمعابد الأخرى أحباس خصصت بها، وحميت للمعبد ولما ينذر له ويحبس عليه من حيوان يرعى فيه، فلا يتطاول عليه أحد، وقد سبق أن تحدثت عن حرم "العزى"، وهو شعب حمته قريش للصنم، يقال له "سقام" في وادي حراض، وقد كان حرمًا آمنًا، لا يجوز قطع شجره ولا الاعتداء على ما يكون فيه من إنسان وحيوان1. وهو قرب مكة بين "المشاش" و"الغمير" فوق ذات عرق، إلى البستان، وقيل بالنخلة الشامية2. كما كان للبيت الحرام، حرم واسع به شجر وزرع، سبق أن تحدثت عنه.
وقد وجدت في بعض المناطق، مثل أرض قبيلة "بكل" "بكيل"، أملاك واسعة حبست على "المقه"، كانت تديرها وتتصرف بها عشيرة "مرثد"، ووجدت أرضون واسعة في مناطق أخرى، جعلت المعبد من أكبر ملاك الأرض. وقد استغل المعبد بنفسه بعض أملاكه، وأجر بعضًا آخر للأسر المتنفذة ولسادات القبائل، بموجب اتفاقات دونت وحفظت في خزائن المعابد. وقد كان المتنفذون قد استولوا على بعض حبوس المعابد، واستغلوها، ولما كانوا أقوياء، والأوقاف في مناطق نفوذهم، ولا يمكن للمعبد أن ينتزعها منهم، اضطر إلى تأجيرها لهم ببدل إيجار رمزي، ليحافظ بذلك على اسم وقفه، فلا يستبد أولئك السادة به، ويسجلونه ملكًا باسمه. فصارت هذه الأملاك من أملاك المعبد بالاسم، ومن أملاك الملاك الأقوياء بالفعل.
ولا نجد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد بوجود حبوس كبيرة وكثيرة، على المعابد في العربية الغربية أو العربية الوسطى أو العربية الشرقية، على نحو ما وجدناه في اليمن، ويعود سبب ذلك في رأيي إلى صغر مساحات الأرضين الخصبة المزروعة في هذه الأقسام، وإلى قلة الماء فيها، مما جعل من الصعب على الناس التخلي عن أرضين كبيرة للمعبد. بل ترينا أخبارهم أن أهل هذه المناطق كانوا لا يتأثمون أحيانًا من التطاول على "حرم" المعابد، فكانوا يقطعون شجره ويستقطعون قطعًا من أرضه لاتخاذها منازل لهم كالذي حدث لـ"حرم" بيت الله.
وقد كان الملوك وكبار الملاك يقطعون أرضهم إقطاعات لاستغلالها. ويعبر عن
__________
1 البلدان "5/ 91"، "6/ 166".
2 تاج العروس "5/ 19"، "حرض".(13/139)
ذلك بلفظة "بضع" في المسند، أي القطعة. وقد يراد بها الأرض المعطاة لجماعة لاستغلالها في الزراعة1.
وفي أواخر عصور الملكية في سبأ، نجد طبقة الأشراف وسادات "الأعراب" "أعربم" والقبائل وقد ازداد نفوذها وقوي سلطانها، فنازعت الملك على صلاحياته في بعض الأحيان. وصار لرؤساء القبائل نفوذ قوي في المملكة، حتى قلصت حكم الـ"مزود" واستأثرت بالأرض، واحتكرتها، فاضطر الملوك إلى النزول عن حقهم في الأرضين إلى أولئك الرؤساء في مقابل اتفاقيات تحدد الواجبات والمبالغ التي يجب على رئيس القبيلة أن يقدمها إلى الملك في مقابل استغلاله للأرض، ويقوم الرئيس بإيجار أرضه لأتباعه المتنفذين في القبيلة أو لأفراد قبيلته الاعتياديين، يتقاضى على ذلك أجرًا يتفق عليه، باهظًا مرهقًا للفلاح المسكين الذي لا يملك في العادة أرضًا، فتحولت العربية الجنوبية بذلك إلى دولة إقطاعية، أرباحها وحاصلها وناتجها وقف وإقطاع لطبقات معينة متنفذة.
وفي جملة تلك الواجبات تقديم عدد يتفق عليه من أتباع من حصل على أرض حكومية للقيام بالخدمات العسكرية، ووجوب الدفاع عن الحكومة عند ظهور خطر عليها. فيقوم المقتطع للأرض بإرسال رجاله على حسابه للدفاع عن الملك. وبذلك صارت جيوش الملك مؤلفة من جنود مرتزقة وجنود أرسلوا إلى القتال إرسالًا بأمر سادتهم تنفيذًا لالتزاماتهم التي ألزموا أنفسهم بها مع الملوك.
ويمكن حصر الأشخاص الذين تمتعوا بنعم الإقطاع وامتيازاته بالملوك وبذويهم، والملك هو الراعي الشرعي للحق العام، وهو الناظر والوصي لأرض الدولة، وهو بهذه الصفة يصطفي لنفسه ولأولاده ولأهله خيرة الأرضين، ثم يليه من بعده رجال الدين الناطقون باسم الآلهة، وهم في نظر الشرع، أي الدين أصحاب الأرض؛ لأن الأرض ملك الآلهة. ثم يليهم قادة الجيش وصفوة الملوك وكبار الحكام، والسادات. سادات الحضر وسادات القبائل. أما السواد، وهم غالبية الناس، فليس منهم من يملك إلا المساحات الصغيرة من الأرض، وإلا البيوت، وأغلب الباقين عالة على غيرهم، يتعيشون باستعمال أيديهم في كسب قوتهم.
__________
1 راجع الفقرة الثانية من النص:
Glaser 1000, A, B, 1693, Rhodokanakis, Kataba. Texte, Ii, S. 41.(13/140)
وقد يؤجر سيد القبيلة أو سادات الأرض ما استحوذوا عليه من الحكومة من أرضين إلى أناس غرباء أجراء أم إلى قبائل أخرى، في مقابل شروط يعينها، فيستغلون الأرض بموجبها، ويكونون عندئذ في حمايته وفي رحمته ورعايته، فيعاملون عندئذ وكأنهم فرع من فروع قبيلة صاحب الأرض. وإذا استمر العقد، فقد يدمجهم الزمن في قبيلة سيد الأرض فيعدون منها، وينسبون إليها، مع أنهم غرباء عنها. ومن هنا نرى أن القبائل في العربية الجنوبية، لم تكن على نحو ما نفهمه من معنى القبيلة، من أنها بنوا أب واحد، وأصحاب نسب واحد يصعد حتى يتصل بجد، بل قد تكون من قبائل وعشائر مختلفة ومن جماعات عمل، تمثل مختلف الحرف، انضمت إلى قبيلة كبيرة1، أو إلى ملاك كبير، للعمل في أرضه أو لأداء خدمات له، فلما طال بها المقام اندمجت في القبيلة الكبيرة، أو في قبيلة الملاك الكبير، فعدت منها، أو في آل وأتباع صاحب الأرض، فعدوا من أتباعه، ونسبوا إليه، حتى إذا طال الزمن وتقادم العهد، صار ذلك الرئيس جدًّا لهم، وعد نسبهم منه.
ولما ظهر الإسلام. كان الأقيال وسادات القبائل قد استبدوا بالأمر وتحكموا في رقاب الأرض، وأقطعوها فيما بينهم. ولقب بعضهم كما سبق أن تحدثت عن ذلك أنفسهم بألقاب الملوك. ومن هؤلاء "بنو وليعة" ملوك حضرموت: "حمدة"، و"مخوس"، و"مشرح"، و"أبضعة"2. و"الحارث بن عبد كلال"، و"نعيم بن عبد كلال"، و"النعمان" قيل ذي دعين "ذي يزن" ومعافر وهمدان3 وشريح بن عبد كلال، وزرعة ذي رعين4. و"جيفر بن الجلندي" و"عبد بن الجلندي" وهما من الأزد. وكان "جيفر"، يلقب نفسه بلقب ملك عمان5. و"ذو الكلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تبع"، و"ذو عمرو"6، و"معدي كرب بن أبرهة" صاحب
__________
1 J. Rychmans, L’institution Monarchique, P.178.
2 ابن سعد، طبقات "1/ 349".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 356".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 264 وما بعدها".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 262".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 266".(13/141)
خولان1. و"ربيعة بن ذي مرحب" الحضرمي، وآل ذي مرحب، وكانوا يملكون الأموال والنحل والرقيق والآبار والمياه والسواقي والشراجع بحضر موت2. و"وائل بن حجر"، من كندة حضرموت، وكان يملك الأرضين والحصون والأودية، وكان "الأشعث" وغيره من كندة ينازعونه في واد3.
ويقال لتقديم الفلاح أو المستأجر لأرض ما، ما عليه من حقوق تجاه الحكومة، التي استأجر الأرض منها، أو صاحب الملك، الذي استأجر أرضه لزراعتها، "دعتم" "دعت"4، أي "غلة"، تسلم إلى وكلاء الحكومة أو صاحب الأرض عن حقهم المتفق عليه.
وتعرف الأرضون الحكومية التي تعطى باللزمة والإجارة لمن لا يملكها بـ"مقبلت" و"قبلت"، و"مقبل"، ومن أصل "قبل"5. تعطى في مقابل تعهد يتعهد الملتزم والمؤجر بدفع مبلغ معين أو حصة معينة إلى الملك أو ممثليه من الموظفين أو أصحاب الأرض، وذلك في مقابل استغلاله للأرض. وقد تدون شروط الاتفاق وتثبت ليرجع إليها إذا حدث اختلاف.
وقد صالح الرسول أهل خيبر، على حقن دمائهم، وعلى أن يقوموا على النخل والزرع؛ لأن لهم علمًا بإصلاح الأرض وخدمة الزرع، ولم يكن لرسول الله وأصحابه غلمان يقومون بذلك، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما6. فبقوا يستغلونها على نصف ما خرج منها، فكان "الخارص" يأتي إليهم عند الموسم يخرص ما يخرج منها، فيأخذ النصف، ويترك النصف الآخر لليهود7. وصالح الرسول أهل "فدك" على نصف الأرض بتربتها، وعلى نصف النخل8.
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 266".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 266".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 287".
4 Handbuch, I, S. 137.
5 Rep. Epigr. 2876, Tome, V, P.209.
6 البلاذري، فتوح "37".
7 البلاذري، فتوح "39 وما بعدها".
8 البلاذري، فتوح "42 وما بعدها".(13/142)
عقود الوتف:
وقد وصلت إلينا وثائق مهمة تتضمن عقودًا في استغلال الأرضين، عرفت باسم "وتفم" "وتف". وهي عقود تبين أن الحكومة كانت تؤجر الأرض لمن يريدها في مقابل حقوق يقدمها إليها. وتشمل عقود الوتف، العقود التي عقدت بين المعبد والوجهاء وسادات القبائل أيضًا، والعقود التي عقدها كبار أصحاب الأملاك الذين فاضت أملاكهم عن حاجتهم إلى المحتاجين إليها في مقابل شروط اتفق عليها دونت في "الوتف".
وقد عثر على نصوص "وتف" ورد فيها اسم "مرثد". مما يدل على أن "بني مرثد" هؤلاء كانوا يستأجرون الأرضين لاستغلالها، في مقابل تعهدات خاصة يقدمونها إلى أصحاب الأرض. وتتناول معظم هذه العقود "الوتف" استئجار أرضين خاضعة للحكومة وأرضين هي من أوقاف المعابد. وجدت المعابد أن من الصعب عليها إدارتها فأجرتها إلى "بني مرثد" لاستغلالها، وقد قام "بنو مرثد" بتأجير قسم منها إلى غيرهم من العشائر التابعة لهم في مقابل جعل يقدمونه لهم، يزيد على مقدار بدل الإجارة المتفق عليه مع المعبد، وبذلك استفادوا من الفرق بين بدل الإجارتين.
ولدينا جملة نصوص "وتف" يفهم منها أن بعض المتعاقدين من مستأجري أملاك المعبد قد قدموا نذورًا وذبائح إلى الآلهة التي أوقفت عليها الأرض المستأجرة؛ لأنها أعطتهم غلة طيبة وحاصلًا وافرًا طيبًا بعد فقر وجوع. ويظهر من بعضها أن أولئك المستأجرين المتعاقدين كانوا قد تهاونوا في تنفيذ ما ورد في العقد، أو أنهم أخلوا بها عمدًا، فلم ينفذوا ما جاء فيها، واتفق أن نزلت آفات طبيعية بزروعهم، مثل جفاف أتلف معظم حاصلهم، ففشا الجوع بينهم، ففسروا ذلك على أنه غضب حل بهم من آلهتهم، وانتقام نزل بهم من منها. ولهذا كفروا عن ذنوبهم وتابوا عما ارتكبوه من آثام، بعدم تنفيذهم تلك الاتفاقيات، وعاهدوا آلهتهم على ترضيتها وتقديم الذبائح إليها في كل عام بانتظام، إن هي غفرت لهم قبح أعمالهم، وباركت في زروعهم، وهم في مقابل ذلك سيوفون بالعهد، ويؤدون ما فرض عليهم من "الوتف" كاملًا غير منقوص1.
__________
1 Osiander 10, Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 158.(13/143)
وقد استغلت الأرض في العربية الجنوبية، ولا سيما في اليمن استغلالًا حسنًا بالنسبة إلى باقي أنحاء جزيرة العرب، وذلك لسقوط المطر الموسمي بها بكميات مناسبة للزراعة، ولوجود موارد طبيعية للمياه بكثرة فيها بالقياس إلى المواضع الأخرى من جزيرة العرب، ثم لوجود فجوات ومنخفضات بين الجبال والهضاب ساعدت على خزن مياه الأمطار بها، كما ساعدت على إقامة السدود في أفواه الأودية لحصر المياه في المنخفضات ومنعها من السيلان في البحر. وبسبب هذه الميزات ظهر في اليمن اقتصاد زراعي وحاصل زراعي، أمكن استغلاله في الداخل وتصدير الفائض منه إلى الخارج.(13/144)
الإقطاع:
الإقطاع في الإسلام يكون تمليكًا ويكون غير تمليك. والقطائع إنما تجوز في عفو البلاد التي لا ملك لأحد فيها ولا عمارة فيها لأحد، وفيما ليس بمملوك كبطون الأودية والجبال والموات، فيقطع الإمام المستقطع منها قدر ما يتهيأ له عمارته بإجراء الماء إليه أو باستخراج عين منه، أو بتحجر عليه للبناء فيه. ومن الإقطاع إقطاع أرفاق لا تمليك كالمقاعدة بالأسواق التي هي طرق المسلمين، فمن قعد في موضع منها كان له بقدر ما يصلح له ما كان مقيمًا فيه، فإذا فارقه لم يكن له منع غيره منه، كأبنية العرب وفساطيطهم، فإذا انتجعوا لم يملكوا بها حيث نزلوا منها، ومنها إقطاع السكنى. وفي الحديث: لما قدم النبي المدينة أقطع الناس الدور، معناه أنزلهم في دور الأنصار يسكنونها معهم، ثم يتحولون عنها. ومنه الحديث، أنه أقطع الزبير نخلًا، يشبه أنه إنما أعطاه ذلك من الخمس الذي هو سهمه؛ لأن النخل مال ظاهر العين حاضر النفع، فلا يجوز إقطاعه، وأما إقطاع الموات، فهو تمليك1.
وهو ضربان: إقطاع تمليك. وإقطاع استغلال. فأما إقطاع التمليك فتنقسم فيه الأرض المقطعة ثلاثة أقسام: موات وعامر ومعادن. فأما الموات، فعلى ضربين أحدهما ما لم يزل أمواتًا على قديم الدهر فلم تجر فيه عمارة ولا يثبت
__________
1 تاج العروس "5/ 474"، قطع"، إرشاد الساري "4/ 206"، صبح الأعشى "13/ 113 وما بعدها".(13/144)
عليه ملك، فهذا الذي يجوز للسلطان أن يقطعه من يحييه ومن يعمره، والضرب الثاني من الموات ما كان عامرًا، فصار مواتًا عاطلًا. وذلك ضربان: أحدهما ما كان جاهليًّا، فهو كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة، ويجوز إقطاعه. والضرب الثاني ما كان إسلاميًّا جرى عليه ملك المسلمين ثم خرب حتى صار مواتًا عاطلًا وقد اختلف فيه الفقهاء.
وأما العامر فضربان: أحدهما ما تعين مالكه فلا نظر للسلطان فيه، والضرب الثاني من العامر ما لم يتعين مالكوه ولم يتميز مستحقوه، وهو على ثلاثة أقسام: تكلم فيها الفقهاء.
وأما إقطاع الاستغلال فعلى ضربين: عشر وخراج. فأما العشر: فإقطاعه لا يجوز. وأما الخراج، فيختلف حكم إقطاعه باختلاف حال مقطعه، وله ثلاثة أحوال، ذكرت في كتب الفقه.
وأما إقطاع المعادن، فهو ضربان، ظاهرة وباطنة، فأما الظاهرة، كمعادن الكحل والملح والقار والنفط، وهو كالماء الذي لا يجوز إقطاعه والناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه. وأما المعادن الباطنية، ففي جواز إقطاعها قولان: أحدهما لا يجوز كالمعادن الظاهرة، وكل الناس فيها شرع. والقول الثاني: يجوز إقطاعها. وفي حكمه قولان: أحدهما أنه إقطاع تمليك يصير به المقطع مالكًا لرقبة المعدن كسائر أمواله في حال عمله وبعد قطعه يجوز له بيعه في حياته وينتقل إلى ورثته بعد موته. والقول الثاني أنه إقطاع أرفاق لا يملك فيه رقبة المعدن ويملك به الارتفاق بالعمل فيه مدة مقامه عليه، وليس لأحد أن ينازعه فيه ما أقام على العمل، فإذا تركه زال حكم الإقطاع عنه وعاد إلى حال الإباحة. فإذا أحيا مواتًا بالإقطاع أو غير إقطاع فظهر فيه بالإحياء معدن ظاهر أو باطن ملكه المحيي على التأييد كما يملك ما استنبطه من العيون واحتفره من الآبار1.
وما الإقطاع عند أهل الجاهلية، فكان معروفًا عندهم، وقد أشير إليه في نصوص المسند. وقد كان إقطاع تمليك، وإقطاع استغلال.
فأما إقطاع التمليك، فيشمل الموات والعامر والمعادن. وقد أقطع الحكام في كل هذه الأقسام الثلاثة. فكان الملوك، يهبون الموات أو العامر إلى من يريدون
__________
1 الأحكام السلطانية، للماوردي "190 وما بعدها".(13/145)
من أقربائهم أو قواد جيوشهم أو سادات القبائل، أو كبار الموظفين ومن يرضون عنه. يعطونهم أرضًا مواتًا لا أصحاب لها، أو أرضًا عامرة لها أصحاب وملاك فقد كانوا يحاربون، فإذا انتصروا اصطفوا لأنفسهم ما أحبوا من أرض مملوكة للدولة أو للأشخاص، فسجلوه ملكًا باسمهم، وأعطوا ما شاءوا إلى خاصتهم وذوي رحمهم وقواد جيشهم، ملكًا لهم، يملكون رقبته وكل ما عليه من شجر ونبات وماء ومعادن ورقيق وأناس، لا ينازعهم في ذلك منازع، لهم حق بيعه إن شاءوا، أو حق إيجاره، أو إعطائه لأي شخص آخر لاستغلاله، وإن وجدت فيه معادن، فهي لهم أيضًا.
وقد يغضب ملك أو أي حاكم متفرد بأمره على من هو من تبعته، فينتزع منه ملكه، ويستولي عليه وعلى كل ما عليه، وقد يقطعه كله أو جزءًا منه أحد خاصته، أو يقطعه إقطاعًا، لجملة أشخاص هبة أي تمليكًا، أو غير تمليك، أي عارية، رقبته للحاكم ومنفعته لمن أقطع له إلى أجل معين أو إلى أجل غير محدود، يكون له ولورثته حق الانتفاع منه. والحاكم الذي يقطع الإقطاع لمن يشاء ويهب الأرض لمن يحب، لا يعجز عن استعادة ما أقطعه تمليكًا أو استغلالًا متى أحب، فهو الآمر بأمره والناهي، لا يعارضه معارض، متى أراد الاستيلاء على أرض أو على إقطاع أقطعه أحدًا، أمر بالاستيلاء عليه، فيطاع أمره وينفذ ما دام قويًّا له الحول والطول.
ولا يعني الإقطاع عند الجاهليين وجوب وجود العبيد أو الأقنان في الأرض لاستغلالها ولإعمارها، فقد يتعامل الإقطاعي، مع أجراء أو أحرار يتفقون معه على استثمارها في مقابل حقوق يدفعونها له. أما إذا كان متمكنًا غنيًّا له خدم ورقيق وأتباع، فقد يستخدمهم في خدمة ملكه بأجر ملكه بأجر أو بغير أجر، حسب مبلغ هيمنته عليهم ومقدار نفوذه بين قومه وأهله.
وقد عرف إقطاع المعادن عند الجاهليين، ما ظهر من المعادن، وما بطن. ويظهر أن أهل اليمن لم يكونوا يفرقون في الإقطاع بين النوعين من المعدن. فكانوا يقطعون المعادن الظاهرة، مثل الذهب والملح، كما كانوا يقطعون المعادن الباطنة، أي المعادن التي يكون جوهرها مستكنًا فيها، لا يوصل إليه إلا بالعمل، كمعادن الذهب والفضة والصفر والحديد، فهذه معادن باطنة سواء احتاج المأخوذ(13/146)
منها إلى سبك وتخليص أو لم يحتج، في حين أن المعادن الظاهرة، ظاهرة على سطح الأرض، ولا يبذل لإخراجها ما يبذل في إخراج المعادن الباطنة. أما الإسلام، فقد جعل حكم المعادن الظاهرة حكم الماء العد من ورده أخذه، لا يجوز إقطاعه والناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه1.
وفي كتب السير والتأريخ أن الرسول أقطع بعض سادات القبائل ورؤساء الوفود إقطاعًا، وأمر فكتبت لهم كتب التملك. فأعطى "الزبير بن العوام" "ركض فرسه من موات النقيع "البقيع"، فأجراه، ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطوه منتهى سوطه"2. وفي حديث "أسماء" بنت "أبي بكر"، أنه أقطع الزبير أرضًا من أموال بني النضير ذات نخل وشجر3.
وقد سأل "الأبيض بن حمال" رسول الله، أن يستقطعه ملح مأرب، فأقطعه. "فقال الأفرع بن حابس التميمي، يا رسول الله إني وردت هذا الملح في الجاهلية، وهو بأرض ليس فيها غيره، من ورده أخذه، وهو مثل الماء العد بالأرض. فاستقال الأبيض في قطيعة الملح. فقد أقلتك على أن تجعله مني صدقة. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هو منك صدقة، وهو مثل الماء العد من ورده أخذه"4. و"الأبيض بن حمال"، سبأي من أهل مأرب، وكان من سادة قومه. وفد على أبي بكر، لما انتقض عليه عمال اليمن، فأقره أبو بكر على ما صالح عليه النبي، من الصدقة، ثم انتقض ذلك بعد أبي بكر وصار إلى الصدقة. وكان مصابًا بـ"حزازة" في وجهه، وهي القوباء، فالتقمت أنفه5.
وأقطع الرسول "بلال بن الحارث، المعادن القبلية جلسيها وغوريها وحيث
__________
1 الأحكام السلطانية، للماوردي "197".
2 الأحكام السلطانية "190"، "في أحكام الإقطاع".
3 إرشاد الساري "4/ 210"، البلاذري، فتوح "24، 42"، "موات البقيع"، صبح الأعشى "13/ 105".
4 الأحكام السلطانية "197"، "في أحكام الإقطاع"، صبح الأعشى "13/ 105".
5 الإصابة "1/ 29"، "رقم 19".(13/147)
يصلح الزرع من قدس، ولم يقطعه حق مسلم"1. وذكر أن المراد من الجلسي والغوري: أعلاها وأسفلها، وذكر أن الجلسي بلاد نجد والغوري بلاد تهامة2.
وذكر أن "القبلية"، ناحية من ساحل البحر، بينها وبين المدينة خمسة أيام، وقيل: ناحية من نواحي الفرع بين نخلة والمدينة، وهي التي أقطعها الرسول، بلال بن الحارث. وورد أيضًا: "معادن القلبة"3. ولم يذكر العلماء أسماء المعادن التي كانت في هذه الأرض. وقد باع بنو "بلال" "عمر بن عبد العزيز" أرضًا منها، فظهر فيها معدن أو معدنان، فجاءوا إليه، وقالوا: إنما بعناك أرض حرث ولم نبعك المعادن. فقال "عمر" لقيمه: أنظر ما خرج منها وما أنقفت وقاصهم بالنفقة ورد عليهم الفضل4.
وأقطع الرسول "وائل بن حجر" أرضًا بحضرموت5. وكان أبوه من أقيال اليمن، وفد على النبي واستقطعه أرضًا فأقطعه إياها وكتب له عهدًا6. وأقطع "زيد الخيل" الشاعر الفارس لما وفد عليه في سنة تسع من الهجرة أرضين. هي "فيد" وكتب له بذلك7. فلم وصل موضع "قردة"، توفي بها فدفن هناك، وأقام عليه "قبيصة بن الأسود بن عامر" المناحة سنة8.
وأقطع الرسول "حمزة بن النعمان بن هوذة" "جمرة" العذري، أرضًا من وادي القرى، وكان سيد "بني عذرة"9، وكان "جمرة" أول من قدم بصدقة "بني عذرة" إلى النبي، وقدم في وفد قومه. وقد نزل أرضه التي أقطعها الرسول له إلى أن مات10. وأقطع الرسول "ساعدة التميمي العنبري"
__________
1 الأحكام السلطانية "198"، "في أحكام الإقطاع"، تاج العروس "9/ 275"، "عدن".
2 الأحكام السلطانية "198".
3 تاج العروس "8/ 73"، "قبل".
4 البلاذري، فتوح "27".
5 إرشاد الساري "4/ 210".
6 الإصابة "3/ 592"، رقم "9102".
7 تاج العروس "7/ 315"، "خيل".
8 الإصابة "1/ 555"، "رقم 2941".
9 البلاذري، فتوح "48"، "حمزة". وضبطه الآخرون "جمرة"، الإصابة "1/ 244"، "رقم 1184"، "1/ 396"، "رقم 2110".
10 الإصابة "1/ 244"، "رقم 1184".(13/148)
بئرًا في الملاة1. وأقطع "مجاعة بن مرارة" الحنفي اليمامي، وكان من رؤساء "بني حنيفة" أرضًا باليمامة يقال لها "العورة"، وكتب له بذلك كتابًا2 وكانت خصبة منتجة ذات ماء.
وأقطع الخلفاء القطائع كذلك، فأقطع "أبو بكر" "الزبير" ما بين "الجرف" إلى "قناة". وأقطع "عمر" "الزبير" "العقيق"، وأقطع "خوات بن جبير" الأنصاري أرضًا تتصل بالعقيق، فعرفت بقطيعة خوات، فباعها، وأقطع "عليا" "ينبع"3.
__________
1 الإصابة "2/ 4"، "رقم 3027".
2 الإصابة "3/ 342"، "7724".
3 البلاذري، فتوح "26".(13/149)
الحمى:
وتفرد العزيز من أهل الجاهلية بالحمى لنفسه، كالذي كان يفعله "كليب بن وائل"، فإنه كان يوافي بكلب على نشاز من الأرض، ثم يستعديه ويحمي ما انتهى إليه عواؤه من كل الجهات، وتشارك الناس فيما عداه حتى كان ذلك سبب قتله1. والحمى، موضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعى. وذكر أن الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلدًا في عشيرته استعوى كلبًا فحمى لخاصته مدى عواء الكلب، لا يشركه فيه غيره، فلم يرعه معه أحد، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله2.
وقد نهى النبي أن يحمي على الناس حمى كما كانوا في الجاهلية يفعلون إلا ما يحمى لخيل المسلمين وركابهم التي ترصد للجهاد ويحمل عليها في سبيل الله، وابل الزكاة كما حمى عمر "النقيع" لنعم الصدقة والخيل المعدة في سبيل الله3.
وكان الرسول قد حماه، وهو موضع على عشرين فرسخًا من المدينة، وقدره
__________
1 قال العباس بن مرداس:
كما كان يبغيها كليب بظلمه ... من العز حتى طاح وهو قتيلها
على وائل إذ يترك الكلب نابحًا ... وإذ يمنع الأقناء منها حلولها
الأحكام السلطانية "186".
2 تاج العروس "10/ 99"، "حمى"، إرشاد السناري "4/ 206".
3 تاج العروس "10/ 99"، "حمى".(13/149)
ميل في ثمانية أميال1. وقد جعل بعض العلماء هذا النقيع: نقيع الخضمات، وجعله بعضهم غرز النقيع. وذهب بعضهم مذهبًا آخر في تعيين موضع المكان2.
وقد حمى عمر "السرف" "الشرف" أيضًا3. وفي الشرف حمى "ضربة"، وضرية بئر وفي الشرف الربذة، وهي الحمى الأيمن. وفي الحديث أن عمر حمى الشرف والربذة4. ويقال لحمى الربذة "حمى الحناكية" في الوقت الحاضر. وهناك حمى آخر، يسمى "حمى النير"5. وذكر أن بالنير قبر "كليب وائل"، الذي تنسب إليه بدعة الإحماء، وهو قريب من "ضرية"6.
ومن أشهر الأحماء وأكبرها في جزيرة العرب، حمى "ضرية". يذكر أهل الأخبار أنه سمي بـ"ضرية بنت ربيعة بن نزار". وقد حماه "عمر" لإبل الصدقة وظهر الغزاة، وكان ستة أميال من كل ناحية من نواحي ضرية، وضرية في وسطها7. وحمى "فيد"، ذكر أنه فلاة في الأرض بين "أسد"، و"طيء"، في الجاهلية. فلما قدم "زيد الخيل" على رسول الله أقطعه "فيد"8. وقد أشير إلى هذا الحمى في الشعر9. و"فيد" قلعة وبليدة بطريق مكة، في نصفها من الكوفة في وسطها حصن عليه باب حديد وعليها سور دائر،
كان الناس يودعون فيها فواضل أزوادهم إلى حين رجوعهم، وما ثقل من أمتعتهم، وهي قر أجأ وسلمى جبلي طيء. وقد ذكرت في شعر لزهير10، وفي شعر للبيد بن
__________
1 إرشاد الساري "4/ 206".
2 تاج العروس "5/ 530"، "نقع"، "8/ 280" "خضم".
3 بين العلماء اختلاف في ضبط الاسم، فمنهم من ضبطه "السرف"، ومنهم من ضبطه بحرف الشين، أي "الشرف"، والصحيح أنه "الشرف" إرشاد الساري "4/ 206".
4 تاج العروس "6 "152"، إرشاد الساري "4/ 206".
5 الصفة "408".
6 تاج العروس "3/ 593"، "نير".
7 تاج العروس "10/ 219"، "ضرى".
8 تاج العروس "2/ 457"، "فاد".
9
سقى الله حيا بين صارة والحمى ... حمى الفيد صوب المدجنات المواطر
تاج العروس "2/ 457"، فاد.
10
ثم استمروا وقالوا إن مشربكم ... ماء بشرقي سلمى فيد أو ركك
تاج العروس "2/ 457"، "فاد"، و"رك ماء شرقي سلمى، أحد جبلي طيء. له ذكر في سرية علي، رضي الله عنه، إلى العلس"، تاج العروس "7/ 136"، "رك".(13/150)
ربيعة1، وفي شعر لآخرين2. وقد زعم بعض أهل الأخبار أنها سميت بـ"فيد بن حام" أول من نزلها3. وقد يشير هذا الزعم إلى وجود جالية من العبيد في هذا المكان، عهد إليها زراعة الأرض. وذكر أنها عرفت بكعكها حتى ضرب به المثل:
وتلك فيد قرية والمثل ... في كعك فيد سائر لا يجهل4
وقد أعطى الرسول "بني قرة بن عبد الله بن أبي نجيح" النبهانيين المظلة كلها أرضها وماءها وسهلها وجبلها حمى يرعون فيه مواشيهم5.
ولا تزال عادة الإحماء متبعة حتى الآن. فـ"سجا" مثلًا وهو ماء يعد في حمى الأمير "فيصل آل سعود" خص به إبله وخيله6.
وقد عرف الإحماء عند العرب الجنوبيين، وقد ذكر "الحمى" بلفظة "محمت" و"محميم" في نصوص المسند. أي "المحماة" و"المحمى"، ومعناها الأرض المحماة، أي "الحمى"7.
وذكر علماء اللغة أن "الحمى" "المحجر". والمحجر: "الحديقة"، والمرعى المنخفض والموضع فيه رعي كثير وماء، وما حول القرية، ومنه محاجر أقيال اليمن، أي ملوكها، وهي الإحماء. كان لكل واحد منهم حمى لا يرعاه غيره. وذكر أن محجر القيل من أقيال اليمن حوزته وناحيته التي لا يدخل عليه فيها غيره8. وورد أن "بني عمرو بن معاوية" لما امتنعوا عن دفع الصدقات خرجوا على "المحاجر"، وهي أحماء حموها، فنزلوا بها وتحصنوا، وقاوموا منها
__________
1
مرية حلت بفيد وجاورت ... أرض الحجاز فأين منك مرامها
تاج العروس "2/ 457"، "فاد".
2
لقد أشمتت بي أهل فيد وغادرت ... بجسمي صبرا بنت مصان باديا
3 تاج العروس "2/ 457"، "فاد".
4 تاج العروس "2/ 457"، "فاد".
5 ابن سعد، الطبقات "1/ 267".
6 محمد بن عبد الله بن بليهد النجدي، صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار "1/ 18".
7 Rhodokanakis, Stud. Lexi, Ii, S. 120, Mordtmann, Himj. Inschri, S. 42.
8 تاج العروس "3/ 126". "حجر".(13/151)
جيش المسلمين1. ويظهر أن المحاجر، هي أبنية حصينة من حجارة، اتخذت في أملاك أهل المحاجر، للدفاع عنها أيام الخطر.
ولم يستعمل الحمى كما يظهر من كتب الحديث والفقه في غير الرعي، رعي الكلأ الذي ينبت فيه. ولم أعثر حتى الآن على نص يفيد أنهم استعملوه لأغراض زراعية. ويظهر أن لفظة "الحمى" قد خصصت بهذا النوع من المراعي، لتمييزها عن المراعي العامة التي يتساوى فيها الجميع في حقوق الرعي، فهي مراعي مشاعة لا يجوز منع إبل أحد من الرعي فيها، وتساهم في الرعي فيها إبل السادة أصحاب الأحماء.
__________
1 الطبري "3/ 334"، "ذكر خبر حضرموت في ردتهم".(13/152)
الموات:
والأرض الموات التي لا مالك لها ولا ينتفع بها ولا ماء بها، والموتان من الأرض ما لم يستخرج ولا اعتمر، وأرض ميتة وموات من ذلك1. وقد يستصلح الموات ويعمر، ويكون من خيرة الأرضين المثمرة، فتكون رقبته بيد مصلحه؛ لأنه أحياه بعد أن كان مواتًا، وصرف عليه مالاً وجهدًا، فيكون له.
ويكون إحياء الموات، بجمع التراب المحيط به حتى يصير حاجزًا بينه وبين غيره، أو سوق الماء إليه إن كان يبسًا وحبسه عنه إن كان بطائح أو مغمورًا بماء، أو بحرثه لزرعه أو لتعديله وتسويته لإعداده للزراعة أو للسكن أو لأي انتفاع آخر، أو بحفر آبار فيه لاسقائه أو لزرعه، أو للاستفادة من البئر، ببيع مائها، فتكون البئر ملكًا لصاحبها، ليس لأحد محاججته فيها، فقد صرف عليها وأنفق جهدًا في استنباط الماء منها. وفي التأريخ الجاهلي أمثلة عديدة لآبار حفرها أصحابها في أرض موات، فصارت ملكًا لهم، وصارت الأرض المحيطة بها ملكًا له قدر وصول الماء إليها.
__________
1 تاج العروس "1/ 587"، "موت"، اللسان "2/ 93".(13/152)
إحياء الموات:
وقد أثبت إقدام سادات القبائل وأعزة أهل القرى على إحياء الموات، باستنباط(13/152)
الماء من جوف التربة وبالاستفادة من ماء السماء المنهمر قربًا، على أن من السهل تحويل الغامر من الأرض إلى أرض عامرة حية منتجة، وإلى تكوين قرى ومستوطنات في المفاوز والبوادي، كما وقع ذلك في اليمامة وفي الحجاز وفي مواضع أخرى، حيث حفر رجال آبارًا واستنبطوا عيونًا، أحيت الأرض بعد موت، وأولدت قرى عليها. غير أن عقلية البداوة، وأعني بها الروح الفردية ونزعة الغزو بسبب الجهل والفقر، وعدم وجود حكومة تحمي الأمن وتدافع عن هذه المستوطنات وعن مشاريع الأفراد، تشعر أن من واجبها البحث عن الماء في كل مكان، قد كانت من أهم العوائق في عدم إحياء الأرض وإنباتها، وفي تأخر سكان جزيرة العرب وفي تفقيرهم فكان على من يحيي أرضًا حماية ما أحياه بنفسه والدفاع عنه بأهله وبماله وبنفوذه وقوته، وإلا عرض نفسه وما أحياه للخطر، وهذا عمل مجهد شاق، جعل أكثر المتمكنين يحجمون عنه، ولا يقبلون عليه، ولم يقبل عليه إلى المجازف القوي المتمكن من القيام به بما له من جاه ونفوذ.
وأهم ما تعرض له إحياء الموات من خطر، هو خطر الغزو ومحاولات الاستيلاء عليه. وحماقة البحث عن العامر لأخذه أو لأخذ ما يوجد فيه بدلًا من إحياء موات وتعميره. وذلك لما قلته من وجود الفقر وفقدان الأمن والحماية، فتحول قسم كبير من العامر بسبب هذا المرض إلى غامر، إذ خربت مصادر الحياة فيه وهو المياه وطمرت، فماتت، وماتت المستوطنات التي كانت عليها بسبب ذلك.(13/153)
الماء والكلأ والنار:
الماء إذا كان عامًا، فإنه لا يمتلك. والماء العام مثل عيون الماء التي لا تكون في حيازة مالك، بل تكون مشاعة بين الجميع، لا يملكها أحد من أهل الحي، وليس لرقبتها مالك، فماؤها للجميع. مثل أن تكون العين في قرية أو في مدينة أو في أرض قبيلة، فلكل إنسان حق الانتفاع منها، لا يمنعه أحد منها، ولا يستوفى بدل عن ذلك الماء. وقد ورد أن الناس شركاء في الماء، ماء الأرض وماء السماء، إذا كانا في أرض عامة، أي مشاعة، ينتفع منها كل إنسان1.
__________
1 تاج العروس "10/ 99"، "حمى".(13/153)
وإذا كان الكلأ في أرض عامة، فإنه يكون أيضًا ملكًا للجميع، أي مشاعًا بينهم. فلا يجوز لأي أحد منع آخر من الاستفادة منه؛ لأنه مشترك بين الجميع، فلا يكون أحد أخص به من أحد، ولو أقام عليه وبنى عليه. وباستثناء الأحماء فإن الكلأ النابت في موطن قبيلة هو لكل أبناء القبيلة، ليس لأحد صد أحد عنه إلا إذا كان غريبًا عن القبيلة دخل أرضها بغير إذن من أبنائها وهو ليس في حماية أحد منها. فالكلأ في البادية لا يعود لمالك فرد، وإنما هو ملك القبيلة، أبناء القبيلة فيه شركاء، يرعون فيه سواء1.
وقد ورد في الحديث، أنه قال: الناس شركاء في ثلاث: الكلأ والماء والنار. ومعنى النار الحطب الذي يستوقد به، فيقلع من عفو البلاد. وكذلك الماء الذي ينبع، والكلأ الذي منبته غير مملوك والناس فيه مستوون. وذهب بعضهم إلى أن الماء ماء السماء والعيون والأنهار التي لا مالك لها، وأراد بالكلأ المباح الذي لا يخص به أحد، وأراد بالنار الشجر الذي يحتطبه الناس من المباح فيوقدونه2. فكل هذه الموارد الثلاثة، موارد مشاعة للجميع، يشترك في الانتفاع بها كل الناس. وهو مذهب أهل الجاهلية أيضًا، ما لم يبسط أحد من الملوك أو سادة القبائل سلطانه عليها، وبعلن أنها في حمايته، إذ تكون حينئذ ملكًا له.
__________
1 تاج العروس "10/ 99"، "حمى".
2 اللسان "10/ 449"، "شرك".(13/154)
الأرض ملك الآلهة:
الأرض كما سبق أن بينت ملك للآلهة. وكل شيء على هذه الأرض هو ملك لها كذلك. والناس أنفسهم عبيد لها "ادم"1. ورأيهم هذا يطابق رأي الإسلام بالنسبة إلى الملك. فالله في الإسلام مالك الملك، وهو مالك كل شيء. والمال مال الله والناس عبيد له. وعندهم أن ممثلي السلطة الإلهية على هذه الأرض هم الذين ينظمون الملك ويقيمون العدل بين الناس ويحقون الحق كما تأمرهم الآلهة به. وكما شرعته لهم وأوصت به. فهم في ذلك مثل الإسلام أيضًا في أن أولي الأمر
__________
1 "ادم"، "ادوم" "ادومت"، "أوادم"، "عبيد"، "عبدات"،
Grohmann, S. 126.(13/154)
أي "السلطان" يحكمون بين الناس بالقسط والعدل وبما أنزله الله على رسوله من أحكام وأوامر ونواه فهم ظل الله وخلفاء رسول الله على العباد.
هذا هو المبدأ العام بالنسبة إلى الملكية والتملك عند العرب الجنوبيين. ويتمثل هذا الرأي في عقود التملك "شامت" "شمت" بالشراء المدونة باللهجات العربية الجنوبية، حيث يذكر المتعاقدون أنهم باعوا أو تملكوا ملكًا مثل أرض أو دار أو بستان أو غير ذلك، بموافقة "الإله الفلاني"، وبرضاه. وأنهم أجروا ذلك وفقًا لأوامره ونواهيه يكتبون ذلك على حجر يضعونه على حد الملك أو باب الدار، ليكون بمثابة شهادة تمليك. أو صك بيع أو شراء وسند "طابور"، أي سند تملك كما يعبر عن ذلك في لغة أهل العراق في الوقت الحاضر.
وحكم أن الملك ملك الآلهة، لا يعني أن الملكية هي مجرد انتفاع إلى أجل يحدد أو لا يحدد. أو أن من حق السلطان انتزاع الملك من صاحبه والاستيلاء عليه أو إعطائه لآخر باعتباره ممثل سلطة الآلهة على الأرض، بل الملكية تملك دائم، لا يجوز لأحد منازعة صاحب الملك على ملكه؛ لأن انتزاع الملك من صاحبه ومن دون رضاه تعسف وظلم. ولا ترضى الآلهة بظلم أحد، حتى وإن صدر ذلك الظلم من "السلطان" أي الملك أو من خوله الملك الحكم نيابة عنه. وقد خولت القوانين المالك الذي يغتصب ملكه حق مقاضاة المغتصب عند ذوي الرأي، "أولي الأمر" وعند المعابد وإن كان ذلك المغتصب ملكًا. صحيح أن بعض الملوك ظلموا الناس، بمصادرة أملاكهم وأموالهم، وبالاستيلاء على كل ما ملكه أفراد رعيتهم من دون دفع تعويض عنه. غير أن هذا عمل شاذ، وقد وقع لظروف شاذة، كأن يكون الشخص الذي صودر ملكه من أعداء الملك أو قد قام بعمل معاد للحكومة، أو قاوم "أولي الأمر" بطريقة من الطرق، أو خالف أوامر المعبد وأحكام دينه إلى غير ذلك من أمور. فهذه أمور شاذة لا تكون قاعدة حكمية عامة؛ لأن الأصل القانوني هو: أن الملكية حق مقدس لا يجوز مسه ولا الاعتداء عليه؛ لأن الآلهة لا ترضى بذلك، وهي تنتقم من المعتدين مهما كانوا.
والملك هو كل ما تملكه يمينك ويكون في حوزتك احتواءً قادرًا على الاستبداد به. وكل ما صار في ملكك إما شراءً وإما إرثًا أو لقطة لم يظهر مالكها ولم ينازعه عليها منازع ولم يعارض في تملكه لها قانون، وأما هبة أو ما شاكل ذلك.(13/155)
وذلك بالنسبة إلى الملك الدائم الذي لا يمكن انتزاعه من صاحبه؛ لأن الآلهة أمرت به وأقرته. خلاف الملكية المؤقتة، التي تمنح الإنسان حق التصرف بالملك ولكن لأجل وبشروط تعين وتثبت لا يجوز تخطيها والعمل بخلافها. مثل التملك بعقد، أي بشروط وبعبر عن ذلك بـ"شامت" "شمت". ويكون ذلك شراءً، أو بعقد خاص أو بإيجار1.
ولا نجد في الحجاز أو نجد أو العربية الشرقية ملاكًا مزارعين كبارًا على نحو ما نجده في اليمن أو في بقية العربية الجنوبية، وذلك لصغر مساحة الأرضين المسقاة بالمطر أو بالمياه الأرضية في هذه البلاد. نتيجة شح الأرض وبخلها على الناس بالماء. ولهذا لم يظهر في الحجان أو في نجد أو أرض العروض مزارعون كبار، لهم عدد كبير من الفلاحين والرقيق يستغلونهم في استغلال الأرض. ومع ذلك فإننا لا نجد حتى في اليمن أو في العربية الجنوبية أناسًا أصحاب أرضين واسعة أي من نسميهم اليوم بـ"إقطاعيين" على نحو ما نجده في أرض السواد، أي العراق، حيث كان الإقطاعيون يملكون مساحات واسعة من الأرض، تسقيها الأنهار دون كبير عناء، ويعمل فيها الفلاحون بأجور بخسة ورقيق الأرض والخول فتأتي لأصحابها بالمال والثراء.
__________
1 Grohmann, Arabien, S. 126.(13/156)
الخليط:
ويعرف المشارك في حقوق الملك كالشرب والطريق ونحو ذلك بـ"الخليط". والخليط الشريك المشارك في الشيوع. وقد حدثت خصومات في موضوع هذه الشركة. وقد بحث فيها الإسلام. جاء في الحديث: "ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية". وورد أيضًا: "الشريك أولى من الخليط. والخليط أولى من الجار". وأراد بالشريك المشارك في الشيوع1.
__________
1 تاج العروس "5/ 132"، "خلط".(13/156)
الفصل السادس والتسعون: الإرواء
مدخل
...
الفصل السادس والتسعون: الإرواء
تعطي الديانات السامية الماء أهمية كبيرة. وقد أثابت الأشخاص الذين يتقربون إلى آلهتهم بتقديم الماء إلى العطاشى، وفرضت عليهم تقديم الماء إلى العطشان لإغاثته وإنقاذه من الهلاك. وفي الأسفار القديمة أمثلة عديدة على ذلك، كما أشادت تلك الأديان بقيمة الماء في الحياة.
ولا بد أن تكون للوثنية العربية النظرة ذاتها التي نراها في الأديان الأخرى بالنسبة إلى الماء، بأن أعطته شيئًا من التقديس والأهمية، وجعلت له مكانة في عقائدها، وذلك قياسًا على ما قلته من تقديس الأديان الأخرى له. وإن كنا نجهل ذلك لعدم ورود شيء عن ذلك في المسند. ولكن عدم ورود شيء من ذلك في المسند لا يكون دليلًا على عدم تقديس العرب الجاهليين له؛ لأن نصوص المسند لم تختم بعد، وما وصل إلينا ليس إلا شيئًا قليلًا بالنسبة إلى ما قد يعثر عليه في المستقبل ولا شك.
وفي الأخبار المروية عن الجاهليين وغيرهم من تقديس بعض الآبار والعيون، والتبرك بشرب الماء منها، دليل على نظرة التقديس التي نظرتها الشعوب السامية وغيرها إلى الماء. فالماء هو الحياة. وفي القرآن الكريم: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 1. ولا بد أن تكون هذه النظرة التقديسية هي التي حملت الجاهليين
__________
1 الأنبياء، الرقم 21، الآية 30.(13/157)
على تقديس بئر زمزم. ولا يقدر أهمية البئر حق قدرها إلا قطان هذا البلد الكائن في واد غير ذي زرع وماء، ولولا زمزم والآبار الأخرى التي احتفرها أهله، والآبار والعيون الواقعة في أطرافه، يحملون منها الماء إلى بلدهم حملًا، لهلك أهله، أو هجروه. ولا يدرك المرء قيمة الماء إلا إذا كان في صحراء فقرة لا ماء فيها ثم نفد ماؤه. ولهذا كان الغيث رحمة عظمى للأعراب، يغيثهم بعد أن يتعرضوا للجدب والهلاك.
ولا غرابة بعد ذلك، إذا رأينا العرب تقول في دعائها على الإنسان: ما له أحر الله صدره، أي أعطشه. وفي الدعاء: سلط الله عليه الحرة تحت القرة! يريد العطش مع البرد، ورماه الله بالحرة والقرة، أي بالعطش والبرد. وقالوا: أحر الرجل، فهو محر: عطشت إبله1. وأي شيء أعظم مصيبة وخطرًا على الإنسان من العطش في أرض حارة!
وتعد بقاع جزيرة العرب من الأرضين الجافة، فالأمطار فيها، ولا سيما أقسامها البعيدة عن البحر شحيحة، والأنهار الكبيرة معدومة فيها، والعيون قليلة أيضًا، وجوها جاف لا نكاد نستثني منها إلى سواحلها، وهذا لجفاف صير القسم الأكبر من أرضها صحاري قاحلة تكسوها طبقة غليظة من الرمال في بعض الأماكن مثل الربع الخالي، كما جعلها غير قابلة للزرع. على أن من الممكن أن تبعث الحياة في مناطق واسعة شاسعة من هذه الأرضين، فتجعل أرضين منتجة مخصبة نافعة، إذا اتبعت الأساليب العلمية في معالجة الأرض، وفي استنباط الماء، وفي السيطرة على الأمطار والسيول التي تنشأ منها في بعض الأحيان وتغور في الرمال دون أن يستفاد منها، بإقامة السدود والحياض الصناعية التي تخزن فيها إلى وقت الحاجة، وذلك كما فعل الجاهليون في بعض الأماكن، وخاصة في العربية الجنوبية، من إقامة سدود تحجز السيول وتحبسها، فإذا انقطعت الأمطار وحل الجفاف استفيد منها في الإرواء.
ونجد في بطون الكتب أسماء مواضع عديدة كبيرة كانت ذات عيون ومياه وآبار ونخيل وأناس عند ظهور الإسلام2. وهي اليوم صحاري خالية أو مواضع صغيرة لا أهمية لها. وذلك بسبب إهمال الإنسان لها واعتدائه عليها، وتحول
__________
1 اللسان "4/ 178 وما بعدها". "حرر".
2 ابن المجاور "1/ 9، 16 وما بعدها، 132".(13/158)
الطرق التجارية عنها. ويظهر أن لاشتراك القبائل في الفتوح، ونزولها في العراق وفي بلاد الشأم والأماكن الغنية الأخرى بعد دخول هذه الأماكن في الإسلام أثرًا في هجرة الناس عن مواضع العيون والآبار في الحجاز وفي بقية جزيرة العرب، لقلة خيراتها وحاصلاتها وعدم تعلق الفلاح بالأرض في تلك الأماكن. أما في الوطن الجديد الذي حمله الفتح إليه، فقد وجد فيه خيرًا كثيرًا وأرضًا وماءً وجوًّا ألطف وأرق من الجو الذي كان يعيش فيه، وبذلك خسرت جزيرة العرب عددًا كبيرًا من سكانها، ممن فضل الهجرة على القعود.
ومن يقرأ كتاب "صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز" وكتبًا أخرى من هذا القبيل، يعجب من التدهور الذي أصاب الزراعة في جزيرة العرب بعد الإسلام، إذ يجد أسماء مواضع عديدة كانت تكفي نفسها، أو تصدر الحاصل الزراعي إلى الأسواق المجاورة، ثم قل حاصلها كثيرًا بإهمال الزراعة. وإعراض الناس عنها، حتى بعض النواحي القريبة من مكة والمجاورة لها، كانت مشهورة بالخضر والفواكه والأزهار والرياحين، ثم فقدت شهرتها من بعد. وذكر "ابن المجاور" أن موضع "الزهران" كان معروفًا بزراعة "الزعفران"، وكان الموظفون يجبون جباية لا بأس بها منه ومن الزرع والضرع وسقي الأنهار. "فلما دار الدهر، نقص جميع ما ذكرناه، لاختلاف النيات مع قلة الأمانات"1. وفي هذا الكتاب أمثلة عديدة على هذا التدهور المؤسف الذي حل بالزرع وبالماء وبالأيدي العاملة المشتغلة بإصلاح الأرض، والذي كان من جملة أسبابه ما قلته من هجرة المتمولين والمثرين والسادة الكبار من الحجاز وبقية جزيرة العرب إلى العراق وبلاد الشأم، لوجود مجال واسع للإثراء، لا مثيل له في جزيرة العرب.
وللعرب مصطلحات كثيرة في الإرواء وفي سقيهم وسقي إبلهم، لارتباط حياتهم بالماء، ولأثر الحر والعطش والجفاف فيهم وفي أموالهم، وفي جملة هذه المصطلحات "الشريعة"، "مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون. وربما شرعوها دوابهم، فشرعت تشرب منها. والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عدًّا لا انقطاع له، ويكون ظاهرًا معينًا لا يستقى بالرشاء. وإذا كان من السماء والأمطار، فهو الكرع. وقد أكرعوه إبلهم فكرعت فيه وسقوها بالكرع. وهو مذكور في موضعه كالمشرعة"2. وتقابل هذه اللفظة لفظة "مشترعن" في
__________
1 ابن المجاور "1/ 9".
2 تاج العروس "5/ 395"، "شرع".(13/159)
لغة المسند، أي "المشترع"، والمشرعة1.
وقد تخصص أناس باستنباط المياه وتقدير حفر الآبار، كما تخصص آخرون بالسيطرة عليها وحصرها بالسدود. وسمى علماء اللغة المقدر لمجاري المياه "القناقن" وهو مثل المهندس في هذا الفن2. وذكر بعضهم أن "القناقن" البصير بحفر المياه واستخراجها، والمهندس الذي يعرف موضع الماء تحت الأرض، أو هو الذي يسمع فيعرف مقدار الماء في البئر قريبًا أو بعيدًا3.
وقد قسم بعض العلماء المياه المستخرجة إلى ثلاثة أقسام: مياه أنهار، ومياه آبار، ومياه عيون.
وقسموا مياه الأنهار إلى ثلاثة أقسام: أنها كبار لم يحفرها الآدميون، وأنها صغار، لم يحتفرها إنسان، وأنهار احتفرها الناس. فتكون ملكًا لمن احتفرها، لا حق لغيرهم في الانتفاع منها.
وأما الآبار، فآبار تحفر للسابلة، فيكون ماؤها مشتركًا، وآبار تحفر للارتفاق بمائها. كالبادية إذا انتجعوا أرضًا وحفروا فيها بئرًا لشربهم وشرب مواشيهم. كانوا أحق بمائها ما أقاموا عليها في نجعهم، فإذا ارتحلوا عنها صارت البئر سابلة. وآبار مملوكة. وتكون ملكًا لمالكها لا ينازعه عليها منازع.
وقسموا العيون إلى ثلاثة أقسام: عيون لم يستنبطها الآدميون. وعيون استنبطها إنسان، فتكون ملكًا لمن استنبطها، ويملك معها حريمها. وعيون يستنبطها الرجل في ملكه، فتكون ملكًا له4.
واليمن مثل سائر أقسام جزيرة العرب، خالية من الأنهار الكبيرة كدجلة والفرات والنيل، وخلوها من أمثال هذه الأنهار أثرت كثيرًا –ولا شك- في وضع الزراعة فيها. ولكن الطبيعة عوضتها بعض التعويض عن هذه الخسارة، فصار حالها أحسن كثيرًا من حال الأقسام الشرقية أو الوسطى من جزيرة العرب. فجعلت لها رياحًا تحمل إليها الأمطار في مواسم معروفة، وجعلت لها أمكنة ملائمة لخزن هذه الأمطار الهاطلة، استبدت بها أيدي الإنسان، وتحكمت فيها بأن جعلت
__________
1 Rhodokanakis, Stud., Lexi., I, S. 113.
2 المعاني الكبير "المجلد الثاني"، "ص640".
3 تاج العروس "9/ 315"، "قنن"، المخصص "10/ 33".
4 الأحكام السلطانية "197 وما بعدها".(13/160)
لها أبوابًا ومنافذ، وسدودًا في بعض المواضع، وتمكنت بذلك من خزن هذه الأمطار للاستفادة منها في أيام الحاجة. ثم جعلت لها تربة حسنة طيبة أريضة تنبت كل ما يبذر فيها، وتنبت ما يتساقط عليها من بذور متطايرة مع الهواء، حتى شاع صيتها وانتشر خبرها بين الناس، فعرفت باليمن الخضراء.
وقد ساعدت هذه الأمطار أهل اليمن كثيرًا في تطوير أحوالهم من النواحي الاجتماعية، فمال كثير منهم إلى الاستقرار وإلى الاشتغال بالزراعة والتعيش منها. وساعد ذلك على سكناهم في المدر وفي القرى والمدن، على عكس ما يحدث في الأرضين التي غلبت عليها الطبيعة الصحراوية لانحباس المطر عنها، وهي حالة اضطرت أصحابها إلى التنقل فيها من مكان إلى مكان طلبًا للكلأ والماء، وجعلت من أصحابها أناسًا فقراء، يعيشون عيشة شظف وضنك وفقر، مع ما وهبتهم الطبيعة من ذكاء مفرط واستعداد للتطور إن تهيأت لهم الظروف الملائمة وساعدتهم الأحوال.
والأمطار قليلة بصورة عامة في جزيرة العرب، فلم تعتمد الزراعة فيها على الأمطار كما تعتمد في البلاد الأوروبية، وإنما تعتمد على الجعافر والحسي والعيون والآبار. ولهذا السبب انحصرت الزراعة في الأماكن التي توجد فيها هذه الموارد المائية. ويختلف عمق الآبار باختلاف المواقع، وباختلاف سطوح المياه الجوفية عن سطح الأرض. ولما كانت بعض الآبار عميقة جدًّا بسبب بعد سطح مائها عن سطح الأرض، لم يستفد منها في الزراعة كثيرًا، وإنما استفيد منها في شرب الإنسان والحيوان فقط.
وفي العربية الغربية مواضع عديدة كانت ذات ماء، ورد اسمها في كتب اللغة وفي كتب "الجغرافيا" والبلدان والرحلات. تكونت من سقوط الأمطار على الجبال والمرتفعات. وبعضها ماء عذب، وبعض منها ماء مج أو مالح، وقد استفيد منها في السقي وفي الزرع. ويظهر من دراسة ما ذكره العلماء عنها، أنه قد كان في الإمكان الاستفادة منها واستغلالها لأغراض زراعية، لو كان لأهل هذه الأرضين علم بكيفية السيطرة على الماء، وكيفية استنباطه من باطن الأرض، وكيفية الهيمنة عليه بحفر مجار له. فقد كانت لبني الحارث بن بهثة بن سليم. عيون ماء في صخور، لم يتمكنوا من الانتفاع بها؛ لأنهم لم يتمكنوا أن يجروها(13/161)
إلى حيث ينتفعون بها1. وكان في "يليل" عين كبيرة تخرج من جوف رمل من أعذب ما يكون من العيون وأكثرها ماء، لم يزرعوا عليها إلا في مواضع يسيرة؛ لأنها تجري في رمل2، ولم يكن علم على ما يظهر في كيفية استخراج هذا الماء من ذلك الرمل. وكان في إمكانهم مسك مسايل الماء من الجري نحو البحر، وحبسها في أحباس، بصنع سدود لها، لو كان لهم علم ومال وحكومة كبيرة تكون عندها المؤهلات والإمكانيات لعمل السدود، للاستفادة من مياه بعض المنابع التي كانت تجري طيلة أيام السنة، فتحول بينها وبين الذهاب عبثًا على البحر، فتحيي بذلك أرضين مواتًا وعدم وجود حكومات كبيرة تقوم بمثل هذه الأعمال بضبط الأمن. وإشاعة الاستقرار، هو من أهم العوامل التي كانت سببًا في عدم الاستفادة من المياه وفي تأخر الزراعة في جزيرة العرب، فلو كانت هنالك حكومات كبيرة، لكان في وسعها الاستفادة من المياه الظاهرة والباطنة ومن مياه السماء، فتحيي بذلك أرضين كثيرة خصبة، وتحمي الزرع من عبث العابثين وتشيع الأمن والطمأنينة في النفوس فيقبل الناس على الزرع والعناية بالضرع.
وقد ذكر "عرام" اسم موضع دعاه "ذا مجر"، ذكر أنه غدير كبير في بطن وادي قوران، وبأعلاه ماء يقال له "لقف"، وهو آبار كثيرة، عذبة المياه، ليس عليها مزارع ولا نخل، لغلظ موضعها وخشونته، وفوق ذلك ماء يقال له "شسي" ماء آبار عذاب3. وذكر اسم جبل يقال له "مغار" في جوفه أحساء، منها حسي يقال له "الهدار" يفور بماء كثير، لم يستفد منها فائدة تذكر4، فكانت المياه تذهب عبثًا إلى سباخ لعدم وجود من يتغلب عليها بعقله وبعلمه وبماله ويستروضها لتخدمه في إحياء الأرض وفي إعاشته وإعاشة ماشيته.
أما العربية الشرقية والعربية الوسطى، فإنهما أقل مياهًا من العربية الغربية، لقلة ما يسقط عليهما من الأمطار. ولذلك صارت مواضع الماء فيها متباعدة، والمسافات التي يجب أن يقطعها المسافرون من موضع إلى موضع أطول من المسافات التي تقطع بين منازل العربية الغربية، لتباعد مواضع المياه. ومن أهم موارد الماء
__________
1 عرام، أسماء جبال تهامة "407".
2 عرام، أسماء جبال تهامة "398".
3 عرام، أسماء جبال تهامة "433".
4 عرام، أسماء جبال تهامة "433 وما بعدها".(13/162)
في العربية الشرقية نهر "محلم" بهجر البحرين. ذكر بعض أهل الأخبار أنه في أرض العرب بمنزلة نهر بلخ في أرض العجم، وأن "تبعًا" نزل عليه فهاله. وأن مياهه الجوفية متصلة بسيح الأطلس الذي يكون مخرج مائه من عين الناقة1.
إن قلة الأمطار أو شحها وانحباسها في بعض السنين وعدم وجود الماء في أكثر أنحاء جزيرة العرب، أثر أثرًا كبيرًا في حياة أهلها الاجتماعية، فحول قسمًا كبيرًا منهم إلى بدو رحل، يتنقلون من مكان إلى مكان طلبًا للكلأ والماء، هدفهم في هذه الحياة الحصول على الكلأ والماء. والكلأ والماء هما العز والجاه والثراء وأغلى شيء في هذه الدنيا، فقاتل بعضهم بعضًا من أجل الحصول عليهما، وقطعوا مسافات شاسعة بحثًا عنهما. ولم يتمكن الروم والرومان من منعهما من دخول بلاد الشأم بحثًا عن الكلأ والماء، ولم يتمكن الساسانيون من منعهم من الوصول على هذه الثروة العظيمة كذلك. هذه الثروة التي سببت اقتتال القبائل فيما بينها من أجل الحصول عليها.
ولحماية الماء ولا سيما مياه الآبار من اعتداء الطبيعة أو الإنسان عليه أقاموا أبنية فوقه، في أيام الجاهلية وفي الإسلام. وقد أشار العلماء إلى قباب بنيت فوق المياه، فقد اتخذ أهل بطن "السيدان" قبابًا على كل ماء به، ومياهه تسمى الجرور والجراير، لبعد قعرها؛ ولأنها لا تخرج إلا بالغروب والسواني لبعد الماء فيها عن سطح الأرض2.
__________
1 الصفة "160".
2 بلاد العرب "318".(13/163)
انحباس المطر:
يؤدي انحباس المطر إلى كوارث ومصائب تترك أثرًا كبيرًا في أحوال السكان. تهلك أموالهم وهي كل ما عندهم في هذه الحياة، وقد يموت الكثير منهم من العطش والجوع. ولهذا عمد الناس في جزيرة العرب، كما عمد غيرهم إلى استرضاء آلهتهم بالتقرب إليها بتقديم الهدايا والقرابين، وبالتوسل إليها لإنزال المطر، وبالصلاة لها صلاة خاصة يقال لها صلاة الاستسقاء، هي صلاة أقرتها الأديان السماوية أيضًا،(13/163)
لم يرد في نصوص المسند ويا للأسف شيئًا عنها، غير أننا نملك نصًّا جاء فيه أن شخصًا قدم قرابين إلى الإله "عثتر" وإلى معابده كلها؛ لأنه من على سبأ وأتباعهم، فأرسل عليهم "سقي خرف ودثا"1، أي "مطر الخريف ومطر الربيع". ومعنى ذلك أن القوم كانوا قد توسلوا إلى هذا الإله ليرسل عليهم الغيث الذي انحبس عنهم في موسميه المعروفين في اليمن، ونذروا له نذرًا إن استجاب لهم، وقد استجاب لدعوتهم فأرسله عليهم، فقدمت إليه تلك الذبائح والقرابين.
وقد تحدثت في أثناء كلامي على الحياة الدينية عن عادة أهل الجاهلية في الاستمطار، وعن هذه النار التي كانوا يولعونها والتي يسمونها "نار الاستمطار". وهي عادة قد تكون مألوفة بين أهل مكة وأهل الحجاز، وهي من العادات التي أبطلها الإسلام، إذ أحل محلها صلاة الاستسقاء2.
وقد تهطل الأمطار أحيانًا هطولًا شديدًا مؤذيًا، فتكون سيولًا عارمة تجرف الزروع والبيوت والمواشي وتنكب الناس بعيشهم الضيق الذي هم فيه. ونجد في كتب أهل الأخبار إشارات إلى سيول عديدة حدثت في الجاهلية والإسلام، في الحجاز واليمن وفي أمكنة أخرى، فأصابت الناس بأضرار كبيرة، حيث تنحدر بشكل سريع وشديد وبقوة كبيرة من الجبال والهضاب والمرتفعات إلى الأودية والسهول فتغمرها بالمياه، وفي كتب الأخبار أن السيول قد أصابت مكة مرارًا في الجاهلية وفي الإسلام. وهي في جملة المصائب والكوارث التي تنزل بالناس، فلا عجب إذا ما رأينا المثل العربي يقول: "سال بهم السيل، وجاش بنا البحر، أي وقعوا في أمر شديد، ووقعنا نحن في أشد منه؛ لأن الذي يجيش به البحر أسوأ حالًا ممن يسيل به السيل"3.
ولفظة "سقى" من الألفاظ الواردة في المسند، بمعنى "مطر" و"إرواء"
__________
1 Rhodokanakis, Katab. Texte, Ii, S. 53, Glaser 1752.
2
ألا در رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لدى الأزمات بالعشر
أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر
تاج العروس "3/ 54"، "5/ 385"، بلوغ الأرب "2/ 164، 302".
3 تاج العروس "7/ 386"، "سال".(13/164)
و"سقي"1. ولفظة "مسقت" و"مسقيت" بمعنى "مسقى" و"مسقية". ووردت لفظة الإرواء في النصوص العربية الجنوبية كذلك: وردت في نص معيني على هذه الصورة "رويم" "روي" بمعنى "إرواء"2، وذلك كما في هذه الجملة: "رويم لا نخلهمى"، أي "لإرواء نخيلهم"3، وفي هذا المعنى جملة: "رويم وسقيتم لنخلهمو"4، أي "إرواء وإسقاء نخيلهم".
و"المكر" سقي الأرض، وأرض ممكورة، مسقاة، ومكر أرضه، سقاها5.
__________
1 Rhodokanakis, Stud., Lexi., Ii, S. 115, 119.
2 Halevy 174.
3 Rhodokanakis, Ii, S. 129.
4 Glaser 423, Rep. Epigr. 852.
5 تاج العروس "3/ 548"، "مكر".(13/165)
أنواع السقي:
ويسقى الزرع في جزيرة العرب، إنا بالسيح، والسيح الماء الجاري الظاهر على وجه الأرض1. ويقال له: "المسقوي"2. وأما بماء المطر، أي بما تسقيه السماء، ويقال له: "المظمى"3، وإما من الآبار، أي بالدلاء، وقد تستخدم النواعير في رفع الماء من الأنهار إلى السواقي لتجري إلى المزارع، أي بالطرق الفنية التي يستخدمها الإنسان في تسخير الماء في خدمته.
ويقال لما سقته السماء من النخل "العثري". وقيل "العثري" هو من الزرع ما سقي بماء السماء والمطر وأجري إليه الماء من المسايل، وقيل النخيل التي تشرب بعروقها من ماء المطر4. وفي هذا المعنى "العذي"، والعذي أيضًا الموضع الذي ينبت في الشتاء والصيف من غير نبع ما، وقيل العذي: الزرع الذي لا يسقيه إلا المطر5. وقد اتخذت المرتفعات وذرى الجبال قرى ومزارع، صارت زراعها أعذاء، لا تسقى6. و"عمد" الأرض التي تسقى بماء السماء في لغة المسند7. ونقرأ لفظة "أعذاء" في كتب من وصف جزيرة العرب ومواضعها وزروعها8، وقد قصدوا بها زروع نبتت على ماء السماء.
__________
1 تاج العروس "2/ 168"، "السيح".
2 تاج العروس "10/ 179"، "سقى".
3 تاج العروس "10/ 179، 232"، "سقى"، "الضمياء".
4 تاج العروس "3/ 382"، "عثر"، اللسان "3/ 382"، "عثر".
5 تاج العروس "10/ 239"، "عذى".
6 عرام، أسماء جبال تهامة "407".
7 Jamme, South Arabian Inscriptions, P.445.
8 بلاد العرب "305".(13/165)
المطر:
ويقال للمطر في المسند "ذ ن م م" "ذنمم"، وقد وردت هذه اللفظة في عدد من النصوص1، ويقال له "دثن" أيضًا2. وهي "الدث" في عربية القرآن الكريم، يقال دثت السماء إذا نزل منها الدث، والدث هو المطر الضعيف3. ويراد بـ"دثن" "الدث" في المسند، المطر الذي يتساقط بعد الحر الشديد وفي نهاية القيط.
ويقال للمطر الغيث كذلك. وذكر بعض علماء اللغة أن الغيث هو المطر الخاص بالخير الكثير النافع، ومن المجاز: الغيث بمعنى الكلأ ينبت بماء السماء، وكذا السحاب. ورأى بعض العلماء أن الغيث اسم المطر كله. وأما السبل، فالمطر أيضًا، أو المطر بين السحاب والأرض حين يخرج من السحاب ولم يصل إلى الأرض ومثله العثانين. وأما الودق، فالمطر أيضًا. ومنه النزل والرجع في كلام هذيل. وكذلك الخرج والقطر والخدر. وقيل: النصر، الغيث. والذهاب اسم المطر كله ضعيفه وشديده4. و"الديمة"، مطر يدوم أي يطول زمانه أيامًا. وأرض مديمة، أصابتها الديم، والمدام المطر الدائم5. و"الديمن" و"الديم"، هو الزرع الذي يسقى بماء المطر، في اصطلاح أهل العراق اليوم.
وإذا بكر الغيث في أول الوسمي، قيل له "باكور"6. أما آخر أمطار السنة
__________
1 Mordtmann Und Mittwoch, Sab. Inschr., S. 101, Num. 76, S. 238, Num. 171.
2 Cih 540.
3 تاج العروس "1/ 621"، القاموس "1/ 166".
4 تاج العروس "1/ 632"، "9/ 120 وما بعدها"، المخصص "11/ 5".
5 تاج العروس "8/ 296"، "دوم".
6 تاج العروس "3/ 57"، المخصص "11/ 8".(13/166)
الذي يأتي في وقت الخراف، أي أواخر الخريف1، فإنه "خرفن" في نصوص المسند، أي "الخراف".
ويقال للمطر الذي ينزل في فصل الخريف: "الخريف"، ويقال له: "الخرفي" كذلك، أو هو أول المطر في أول الشتاء، وهو الذي يأتي عند صرام النخل، ثم الذي يليه الوسمي. وهو عند دخول الشتاء، ثم يليه الربيع، ثم يليه الصيف، ثم الحميم، وقال بعض علماء اللغة: أول المطر الوسمي، ثم الشتوي، ثم الدفيء، ثم الصيف، ثم الحميم، ثم الخريف، ولذلك جعلت السنة ستة أزمنة. وقال أبو حنيفة: ليس الخريف في الأصل باسم للفصل، وإنما هو اسم مطر القيظ، ثم سمي الزمن به. والحجاز كله يمطر بالخريف، ونجد لا تمطر به2.
والمزن السحاب. وقد وردت اللفظة في القرآن الكريم. ويقول علماء اللغة أن المزن جمع مزنة، وهي السحاب الأبيض. وقد كان جل اعتماد أهل جزيرة العرب في الشرب، وفي الإرواء على ماء المطر. كما نجد ذلك في الآية: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} 3.
ولارتباط حياة العرب بالمطر، كثرت الألفاظ المتعلقة به في لغتهم. ففي معاجم اللغة ألفاظ كثيرة في معنى المطر وفي أمور تتعلق به، في مثل السحاب، وأنواعه وأسماء قطعه، وما شاكل ذلك من ألفاظ وأسماء، تمثل لك مدى عناية العرب بالمطر، لشدة حاجتهم إليه.
وللعرب علامات إذا ظهرت دلت عندهم على أنها أمارات الغيث وعلاماته، منها الهالة التي تكون حول القمر، إن كانت كثيفة مظلمة، كانت من دلائل المطر، ولا سيما إن كانت مضاعفة. ومنها "الندأة"، وهي الحمرة التي تكون عند مغرب الشمس أيام الغيوث. والمبشرات، وهي عدة علامات تتوالى، تدل عندهم على نزول الغيث. ومنها الرعد والبرق، ومنها أن ترى القمر أو الكواكب في الصحو يحيط بها لون يخالف لون السماء، وكذلك إن رأيت القمر في الغيم
__________
1 المخصص "11/ 5".
2 تاج العروس "6/ 82".
3 تاج العروس "9/ 345". "مزن".(13/167)
وإن كان قزعًا كأنه تحيط به خطوط كخطوط قوس المزن، وهي القسطانية. وبعض الرواة يجعل قوس الغيم أيضًا بدأة1.
وهم يعتبرون الغيث نعمة ورحمة، ولهذا كانوا يفرحون بنزوله ويستبشرون، لا سيما إذا كان نزوله بعد قحط وجدب. ويهنأ أحدهم الآخر بانصبابه لما سيصيبهم جميعًا من خير عميم. ولكنه قد يصير نقمة إذا نزل سيلًا مدرارًا، يكتسح كل شيء يجده أمامه، وقد تمتلئ به بطون الأودية، فتغرق سيولها القرى والمستوطنات. مثل ما كانت تصاب به مكة من السيول. فمكة في واد على طرفيه جبال، إذا نزلت عليها الأمطار سالت إلى باطن الوادي، فتؤذي البلدة والحرم، وقد أقيمت الردم لمنع السيول من إغراق الحرم، والبيوت، غير أن السيول تكون قاهرة جبارة في بعض الأحيان، فلا يقف أمامها ردم ولا سكر. وقد أشار أهل الأخبار إلى المهم من هذه السيول2.
وقد هددت السيول يثرب بالغرق أيضًا، مع أنها ليست في واد، وذلك من سيل "مهزور". وقد أقام "عثمان" ردمًا لمنع سيل هذا الوادي من إغراق المدينة3.
__________
1 "قوس المزن"، تاج العروس "5/ 206"، القاموس "2/ 279".
2 البلاذري، فتوح "65".
3 البلاذري، فتوح "24".(13/168)
الاستفادة من مياه الأمطار:
وقد اضطر سكان جزيرة العرب أن يلجئوا إلى الوسائل الصناعية للاستفادة من المياه، وذلك لقلتها وشحها، سواء أكانت مياه أمطار أم مياه أرض، متدفقة من أجواف الأرض على هيئة عيون أو جعافر. وفي جملة ما اتخذوه إقامة السدود في الأرضين التي تساعد طبيعتها على إقامة السدود، وحفر الآبار للاستفادة منها في السقي وفي الزراعة بمقياس يتناسب بالطبع مع كميات مياه الآبار.
وقد اتخذ أهل المواضع المرتفعة مثل الأماكن الجبلية التي يصعب نقل الماء إليها كل الوسائل الممكنة للمحافظة على ماء المطر والسيطرة عليه وجمعه لئلا يذهب(13/168)
سدى، فحفروا الصهاريج العميقة في البيوت وفي أماكن أخرى ليسيل إليها، وسلطوا مياه الميازيب على أماكن تسيل منها إلى هذه الصهاريج. ولا يزال بعض الميازيب الجاهلية في حالة جيدة يستعمل في الأغراض التي صنع من أجلها. وهي مصنوعة من الصخور، وبعضها من المرمر الأبيض الجميل. وفي مسجد "حصن غيمان"، صهريج جاهلي قديم، يستعمل لخزن المياه. وهناك صهاريج عديدة في هذا الموضع، كلها من أيام الجاهلية. وبعضها مفتوح على هيأة حوض، وأكثره من النوع المغطى والمنقور في الصخر. وقد تساقطت سقوف بعض هذه الصهاريج أو أصيبت بتلف في بعض أقسامها وظهرت هيآتها للعيان، فعرفت أشكالها وأعماقها، ولبعضها ممرات توصل بعضها ببعض، فتجعلها كأنها شبكة تربط مساحة واحدة تملأ بالماء تحت سطح الأرض. ولهذه الصهاريج فتحات تستخرج منها المياه للإرواء1.
ولهذه الصهاريج أهمية خاصة في أيام الحروب، إذ تمنع العدو من قطع الماء عن المحاصرين، وبذلك يستطيعون البقاء مدة طويلة يدافعون عن أماكنهم خلف الأسوار.
وقد استخدمت الصهاريج لخزن الماء، حتى البيوت استخدمتها لذلك، فكان إذا وقع الغيث سال إلى هذه الصهاريج فخزنته. وقد اتخذ أهل المدن الصهاريج الكبيرة لتموين الناس بالماء، وبنوا الصهاريج في المعابد ليستفيد منها المتعبدون القادمون إليها ورجال الدين.
وقد عثر على صهاريج عديدة في حضرموت وفي اليمن، عرفت عند الحضرميين بـ"نقب". وهي عبارة عن حفر نقرت في الصخور وفي المواضع الحجرية وفي مواضع أخرى، يبلغ قطر أفواهها وفتحاتها زهاء المتر في الغالب. أما أعماقها فهي مختلفة وكذلك أقطارها السفلى أي من جهة قواعدها، فقد عثر على بعضها، وأعماقها تتراوح من ثلاثة أمتار إلى أربعة، وأقطارها السفلى تتراوح من خمسة أمتار إلى ستة. ويقال لعملية الحفر "نقب" كما في هذه الجملة: "نقبو نقب"2 أي "نقبوا نقبًا"، ومعناها "حفروا نقبًا"، و"حفروا صهريجًا".
__________
1 Sabaeica, I, S. 76.
2 Ry 63, Wissmann Und Hofner, Beitrage, S. 56.(13/169)
وتوصل هذه الصهاريج بمجاري تحت الأرض قد يبلغ أطوالها جملة كيلومترات لإيصال الماء منها إلى مواضع السكن أو الزرع. وتكون الصهاريج مرتفعة عن مسايل المياه الأرضية، ليسيل منها الماء إلى الجهات التي تريدها. ويكون معينها هو ماء المطر1. ويظهر أن طريقة توزيع الماء من النقاب بمسايل للمياه أرضية كانت شائعة قبل الإسلام في المدن والقرى المرتفعة البعيدة عن الغيول والنهيرات والآبار والتي تتساقط فيها الأمطار، فلجأت إلى هذه الطريقة الفنية لحبس مياه الأمطار للاستفادة منها في الشرب والاستعمال وفي الزراعة أيضًا.
__________
1 Beitrige, S. 54. Ff.(13/170)
الذهب:
ويقال لموضع تجمع مياه الأمطار ومسيلها "ذهبن"، أي "الذهب". ويستخدم هذا الماء المتجمع لإسقاء الحيوان وللشرب ولإسقاء الزرع، قال "الهمداني": "والذهب.. يمتلئ من السيل، فإذا امتلأ نف فيه الطهف والدخن، فنضب الماء، ثار نبته"1. وقد كانوا يستفيدون من أمثال هذه "الذهب" بتسويرها وحصر الماء فيها ثم توجيهها إلى الأحواض الكبرى للاستفادة منها عند انحباس الأمطار.
وكانت أشراج الحرة بيثرب من مسايل الماء، فإذا هطلت الأمطار انحدرت إليها وامتلأت بها فتسيل إلى الأرضين المزروعة ترويها بالماء2. وقد تحبس الشراج فتكون أحواضًا يستفاد منها في السقي والزرع.
وهناك حفر تتجمع فيها المياه فيستفاد منها في الشرب. وقد ذكر علماء اللغة ألفاظًا عديدة تتعلق بالحفر على اختلاف أنواعها، وفي جملتها الحفر التي تتجمع فيها المياه. وذلك لكثرتها ولأهميتها في حياتهم العملية، إذ كانت على ضآلة بعضها ووسخ مائها، غوثًا للمسافرين العطاشى الذين هم ودوابهم في آخر رمق من الحياة. فهي تكون في مثل هذه الظروف هبة ولقطة لا تقدر بثمن.
ومن مواضع تجمع الماء في الحفر الأوقة، وهي حفرة يجتمع فيها الماء، وجمعها
__________
1 الهمداني، صفة "199".Rhodokanakis, Stud., Lexi., Ii, S. 113.
2 البلاذري، فتوح "25 وما بعدها".(13/170)
أوق1. والوجيل والموجل، حفرة يستنقع فيها الماء يمانية2. والمرهة، حفيرة يجتمع فيها ماء السماء3. والهوقة، وهي حفرة كبيرة يجتمع فيها الماء، وتألفها الطير4. و"الركية" البئر. وقد كانوا يتبردون بها في أيام الحر5. و"المركو"، الحوض الكبير وقيل الحويض الصغير يسويه الرجل بيديه على رأس البئر إذا أعوزه إناء يسقي فيه بعيرًا أو بعيرين6.
والنقر، الغائر في الأرضين، وهي موارد الماء في جزيرة العرب. إذا احتفرت، ظهر الماء بسهولة في آبارها، وقد تظهر البرك فيها. ومن هذه النقر، موضع "معدن النقرة"، منزل لحاج العراق بين أضاخ وماوان. فيه بركة، وثلاث آبار، بئر تعرف بالمهدي، وبئران تعرفان بالرشيد، يظهر أنها حفرت في أيام الخليفتين: المهدي والرشيد، وآبار صغار للأعراب. وعندها تفترق الطرق، فمن أراد مكة نزل المغيثة، ومن أراد المدينة أخذ نحو العسيلة، ذكر أن هذا الموضع إنما سمي نقرة؛ لأن النقرة كل أرض متصوبة في هبطة فهي نقرة7.
__________
1 "الأوقة بالضم: الركية مثل البالوعة في الأرض، خليقة في بطون الأودية، وتكون في الرياض أحيانًا. تسمى إذا كانت قامتين أوقة. فما زاد وما كان أقل من قامتين، فليست بأوقة. وفمها مثل الركية وأوسع أحيانًا. وهي الهوة"، تاج العروس "6/ 282".
2 تاج العروس "8/ 153".
3 تاج العروس "9/ 411".
4 المخصص "10/ 47 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 97".
5 تاج العروس "10/ 155"، "ركا"، جامع الأصول "9/ 321".
6 تاج العروس "10/ 155"، "ركا".
7 تاج العروس "3/ 582"، "نقر".(13/171)
الحياض:
وقد ترك الجاهليون حياضًا واسعة كانوا أنشأوها في مواضع كثيرة من اليمن وبقية العربية الجنوبية لخزن الماء فيها للاستفادة منها أيام الجفاف. فإذا ما تساقطت الأمطار، سالت إلى هذه الحياض، وبعضها عميق واسع لا تنضب منها مياهها طوال السنة. وقد أحيطت هذه الحياض بجدران متينة من الصخور صفت ورتبت على هيأة مدرجات، حتى إذا انخفض الماء أمكن لمن يريد الاستسقاء منها أن(13/171)
ينزل على هذه الدرجات حتى يبلغ الماء ولا يزال بعض هذه الحياض موجودًا يستعمله الناس. وقد وصف السواح الذين زاروا اليمن بعضها وتحدثوا عنها وعن أبعادها وعن طرق بنائها وهندستها1.
ولمنع تسرب الماء من الحوض، يسد ما بين الحجارة من منافذ بالمدرة المعجونة، وتطلى أوجه الجدر بمادة تغطيها مثل الصهريج لمنع تسرب الماء وخروجه إلى الخارج، كما يبلط قاع الحوض ويطلى كذلك. وتوضع حجارة تنصب حول الحوض، ويسد ما بينها بالمدرة، ويقال لذلك النصيبة. ويمدر الحوض إذا طين وسد خصاص ما بين حجارته، كما يعبر عن ذلك بلفظة اللوط. ويوضع الإباد حول الحوض، أي التراب، لدعمه وتقويمه. وقد ترفع جدر الحوض فوق الأرض، وتعمل فيه صنابير لخروج الماء فيها، وقد تنشأ فيها حنفيات لأخذ الماء منها، تعمل من المعدن أو الحجارة2.
وقد عثر على ميازيب ومثاعب حجر نحتت نحتًا جميلًا، وضعت في جدران الأحواض، ليسيل منها الماء3. وقد صنعت مواضع مسايل بعضها على هيأة رؤوس حيوانات فتحت أفواهها، ومن هذه الأفواه المفتوحة يتساقط الماء. ولا يزال بعضها في هيأة حسنة ومستعملة حتى الآن. واستعملت بعضها في السطوح لسيلان الأمطار منها، كما عثر على صخور منحوتة نحتًا جميلا جدا كانت تكون الواجهة الظاهرة من جدران الحياض، وقد نحت بعضها على شكل صور حيوانات بارزة أو أوجه حيوانات، ونحت بعضها على صور أوراق نبات وأغصان أعناب أو عناقيد أعناب وما شابه ذلك من أجزاء النبات.
وثعب الماء سال، ومنه اشتق مثعب المطر. والثعب مسيل الوادي، ومنه مثاعب المدينة، أي مسايل مائها. والمثعب المرزاب4.
وتعمل الأحواض لشرب الإبل وغيرها. وقد يوضع في وسطها حجر، يكون مقياسًا للماء، يقال له "القداس" إذا غمره الماء رويت الإبل، أو هو حجر يطرح في حوض الإبل، يقدر عليه الماء، يقتسمونه بينهم. وقيل هو حصاة،
__________
1 Carl Rathjens, Sabaeica, I, Teil, Hamburg, 1953, 113.
2 المخصص "10/ 49 وما بعدها".
3 تاج العروس "1/ 147"، "أزب".
4 تاج العروس "1/ 163"، "ثعب".(13/172)
توضع في الماء قدر الري للإبل، أو يقسم بها الماء في المفاوز1.
وفي كتب اللغة ألفاظ عديدة أطلقت على الحوض، بحسب شكله واتساعه وعمقه منها الحوض المركو. أما المقراة، فالحوض العظيم، وأما الجرموز، فالحوض الصغير، وقيل هو حوض مرتفع الأعضاد. والنضيج الحوض، وخصه بعضهم بالحوض الصغير. والجابية الحوض كذلك. وأما الشربة فالحوض يجعل حول النخلة يملأ ماء، فيكون ري النخلة. والحضج الحوض2.
ويقال لموضع تجمع الماء، والمكان الذي يخزن فيه فيكون على هيأة بحيرة صغيرة أو حوض "بحرت"، "البحرة"3. ولا يزال أهل الشأم يطلقون لفظة "بحرة" على حوض الماء الذي يقيمونه في أفناء دورهم، للتمتع بمنظره وبمنظر الماء الذي يتدفق منه. وقد يضعون الأسماك فيه. وقد وردت اللفظة في هذه الجملة: "وصرح ثبرن وبحرت بموثب احلين"4، ومعناها: "وأعلى حصن ثبر، والبحرة الكائنة في أسفل السلالم". ويظهر أن أصحاب الحصن كانوا قد أقاموا "بحرة" عند قاعدة السلالم التي ترتقي إلى الحصن، وذلك من أجل نقل الماء منها إلى أعلى للاستفادة منه، ولإحمائه وسكبه على المحاصرين في أثناء الحصار5.
والمقرى والمقراة كل ما اجتمع فيه الماء من حوض وغيره، وخصه بعضهم بالحوض. وذكر بعضهم، أن المقراة المسيل، وهو الموضع الذي يجتمع فيه ماء المطر من كل جانب. وقيل المقراة شبه حوض ضخم يقرى فيه من البئر، ثم يفرغ في المقراة. وقري الماء مسيله من التلاع، أو مجرى الماء في الروض6.
ويقال للموضع الذي يستنقع فيه الماء، أي يجتمع: "النقيع"، فإذا نضب الماء نبت فيه الكلأ7. و"المنقع" الموضع الذي يستنقع فيه الماء، أي
__________
1 تاج العروس "4/ 213".
2 المخصص "10/ 49".
3 "والبحرة مستنقع الماء"، تاج العروس "3/ 28 وما بعدها".
Glaser 1144, Halevy 353, Rep. Epigr. 647, Ii, P.75.
4 راجع نهاية الفقرة الثالثة من النص: Glaser 1144, Halevy 353.
5 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 73.
6 تاج العروس "10/ 290"، "قرى".
7 إرشاد الساري "4/ 206".(13/173)
يجتمع1. و"الحيل" الماء المتنقع في بطن واد2.
ويقال لموضع تجمع المياه في خزانات صغيرة لخزنها فيها وتوزيعها على السواقي "مزف". تأتي المياه إليها من خزانات أخرى أكبر منها, فتخزن فيها لإعادة توزيعها. والفعل هو "زف" من "زفف". وتطلق لفظة "زف" على مواد عمل ما. وأما العمل نفسه فيقال له "فعل"3.
وقد أشير في نص إلى وجود "هور" أمام "محفد"، أي حصن: "بقنو هور محفدهمو ذ معينن"4، ومعناها: "أمام هور محفدهم "حصنهم" ذي المعين". وهو "هور" في هذه الجملة هو "الهور" في عربيتنا، وهو "بحيرة تغيض فيها مياه. فتتسع ويكثر ماؤها"، ويجمع على أهوار5. أما في النص، فلا يراد به هذا المتسع الواسع من الماء، بل يراد به حوض أو متجمع من الماء أوسع من البحرة، كان أمام الحصن6.
وقد وردت لفظة "بركتن" أي البركة في اللهجات العربية الجنوبية كذلك، ووردت لفظة أخرى هي "عسن" يظهر أنها تعني بركة كبيرة أو صهريج ماء تحت الأرض، أو جملة برك تتصل بمأخذ أو مآخذ، تتجمع فيها المياه7. وقد ذكر علماء اللغة أن البركة مثل الحوض يحفر في الأرض لا يجعل له أعضاد فوق صعيد الأرض. ويسمي العرب الصهاريج التي سويت بالآجر وصرجت بالنورة في طريق مكة ومناهلها بركًا. ورب بركة تكون ألف ذراع وأقل وأكثر. وأما الحياض التي تسوى لماء السماء، ولا تطوى بالآجر، فهي الأصناع واحدها صنع8.
وقد طليت جدران البرك الجاهلية بمادة متماسكة قوية، ترى اليوم وكأنها قد فرغ منها من عهد قريب. فلم تتشقق ولم تصب بتلف إلا قليلًا. فيها فتحات عملت لمرور الماء منها إلى السواقي. وقد استعمل مثل هذه البرك لخزن الماء وللإرواء
__________
1 تاج العروس "5/ 530"، "نقع".
2 تاج العروس "7/ 298"، "حيل".
3 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 100.
4 Langer I, Rhodokanakis, Stud, Lexi., Ii, S. 37.
5 تاج العروس "3/ 624"، "هور".
6 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 37.
7 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 114.
8 تاج العروس "7/ 106"، "برك".(13/174)
في الوقت نفسه. وتمكن الاستفادة منها إذا ما نظفت من المواد الزائدة التي تراكمت فيها وأدخلت عليها بعض الإصلاحات1.
و"الأضاة" الغدير، والماء المستنقع من سيل أو غيره2. والغدير مستنقع الماء، ماء المطر صغيرًا كان أو كبيرًا، غير أنه لا يبقى إلى القيظ إلا ما يتخذه الناس من عد ووجد أو وقط أو صهريج أو حائر. والعد الماء الدائم الذي لا انقطاع له. ولا يسمى الماء الذي يجمع في غدير أو صهريج أو صنع عدا؛ لأن العد ما يدوم مثل ماء العين والركية3. ويعبر عن "الغدير" بـ"النهي"، وقيل النهي الغدير حيث يتحير السيل فيوسع. وكل موضع يجتمع فيه الماء أو الذي له حاجز ينهى الماء أن يفيض منه4.
وفي كتب اللغة ألفاظ عديدة أطلقت على النهيرات والسواقي المتفرعة منها. ومنها الشراج، جمع شرج، وهي مسايل الماء من الحزن إلى السهل. والأربعاء، وهي مسايل ومساقي يسقى منها النخيل والبساتين، ويزرع على جانبيها5. وأما "الجعافر"، فقيل: "الجعفر" النهر، وقيل هو النهر الصغير، وقيل هو النهر الكبير الواسع: وقيل النهر الملآن، أو فوق الجدول6.
ويقال للجدول الربيع في عربية القرآن الكريم، ويجمع على "أربعاء"7. وأهل المدينة يغرسون الشجر على جانبيه. ويقال له أيضًا "السعيد". ويراد به النهير الذي يسقي المزرعة، وقد ورد في الحديث: "كنا نزارع على السعيد"8، و"الجدول" النهر الصغير9. ويقال لأوائل الجداول "أقبال الجداول"10. وأما السواقي بين الزروع، فتسمى "دبار"11.
__________
1 Sabaeica, I, S. 84.
2 عرام، أسماء جبال تهامة "436".
3 تاج العروس 3/ 441"، "غدر".
4 تاج العروس "10/ 381"، "نهى".
5 عمدة القارئ "11/ 200 وما بعدها".
6 تاج العروس "3/ 104"، "حفر".
7 تاج العروس "5/ 342"، "ربع"، جامع الأصول "11/ 370 وما بعدها".
8 تاج العروس "2/ 378"، "سعد".
9 تاج العروس "7/ 254"، "جدل".
10 جامع الأصول "11/ 478".
11 تاج العروس "3/ 200"، "دبر".(13/175)
ويطلق أهل اليمن على ساقية الماء والجدول الصغير "الغيل"، وهي من الألفاظ القديمة المستعملة في الري. وفي اليمن جملة أغيال، يقل ماؤها عند انحباس المطر، ويزداد عند هطوله في مواسمه. ويشرب أهل صنعاء من مياه الغيل المسمى "الغيل الأسود"، ويزرعون عليه1. وذكر علماء اللغة أن الغيل الماء الجاري على وجه الأرض، وقال بعضهم ما جري من المياه في الأنهار والسواقي. وأما الذي يجري بين الشجر، فهو "الغلل". "وفي الحديث ما سقي بالغيل ففيه العشر، وما سقي بالدلو، ففيه نصف العشر"2.
__________
1 تاج العروس "8/ 53"، "العظم "1/ 85، 103".
2 تاج العروس "8/ 53"، "غيل".(13/176)
في جزيرة العرب، حضارة تمثل مرحلة متقدمة بالنسبة إلى الحياة الأعرابية، عمادها الزراعة وتربية الحيوان. وهي تثبت للمرء بجلاء أن سبب انتشار الأعرابية في جزيرة العرب، هو الجفاف الذي غلب عليها وندرة وجود الماء بها، وأن الماء لو توفر بها، لكان نصيبها في الحضارة مثل نصيب غيرها من البلاد التي تقدمت في أيامها وازدهرت، فلما ظهر الماء في هذه المواضع، ظهر السكن والاستقرار، ولو رزق العرب سكان جزيرة العرب ما رزق غيرهم من جو طيب، ومن أرض خصبة ذات أنهار وماء، كان شأنهم غير هذا الشأن ولا شك.
ويقال للوادي "العقيق". وذكر أن العقيق كل مسيل شقه ماء السيل فأنهره ووسعه1. أي في معنى وادي. والأعقة من مواضع الخصب والزرع في جزيرة العرب، إذ تكون المياه فيها قريبة من سطح الأرض. منها عقيق اليمامة، وهو واد واسع مما يلي العرمة، تتدفق فيه شعاب "العارض"، وفيه عيون عذبة الماء، وموضع بتهامة، وموضع بنجد، يقال له عقيق القنان، تجري إليه مياه قلل نجد وجباله، والعقيق، ستة مواضع أخر، وهي أودية شقتها السيل عادية منها عقيقان في بلاد بني عامر من ناحية اليمن. ومن الأودية المشهورة: وادي العتيق بالحجاز2. و"العرمة" أرض صلبة تتاخم الدهناء ويقابلها عارض اليمامة3.
والأودية هي من أخصب المواضع في جزيرة العرب، حتى إن كانت جافة في معظم أيام السنة، وذلك لخصب تربتها، ولقرب الماء فيها من سطح الأرض، ولوجود العيون والبرك في بعض منها. وهي قبلة أنظار الأعراب والرعاة بعد نزول الغيث وامتلائها بالسيول، إذ يظهر فيها الكلأ: وتبقى في حفرها المياه، فتكون بركًا للشرب.
وقد زرع أهل وادي "مهزور" على مياهه، ويستمد هذا الوادي ماءه من السيل، وكذلك وادي "مذينيب". ومن "مهزور" إلى "مذينيب" شعبة يصب فيها4. ويسيلان بماء المطر خاصة، و"مهزور" هو وادي "بني قريظة"، وقد كان يحدث اختلاف فيما بين المزارعين في حقوقهم في الماء، ولا سيما في
__________
1 تاج العروس "7/ 15"، "عق".
2 تاج العروس "7/ 15"، "عق".
3 تاج العروس "8/ 395"، "عرم".
4 البلاذري، فتوح "23 وما بعدها".(13/177)
أيام انحباس المطر أو أيام نزوله بشح، واستغلال أهل الأرضين العالية للماء، مما يسبب انقطاعه عن الأرضين الواطئة الواقعة على مسايله. وقد كان "مهزور" يهدد المدينة بالغرق عند سقوط الأمطار بشدة وتكوينها سيولًا طاغية، ولما هدد المدينة بالغرق في خلافة "عثمان" اتخذ له ردمًا1. وقد هدد المدينة مرارًا بالغرق، ولما كاد أن يغرقها سنة "156هـ" حفرت الحكومة له منسوبًا، غاص منه الماء إلى وادي بطحان2. وقد قضى الرسول في سيل "مهزور" أن لأهل النخل إلى العقبين، ولأهل الزرع إلى الشراكين، ثم يرسلون الماء إلى من هو أسفل منهم3.
و"بطحان" هو أحد أودية المدينة الثلاثة، وهي العقيق وبطحان وقناة4.
__________
1 البلاذري، فتوح "24".
2 البلاذري، فتوح "24".
3 تاج العروس "3/ 620"، "هزر"، البلاذري، فتوح "24".
4 تاج العروس "2/ 125"، "بطح".(13/178)
الأنهار:
وليس في جزيرة العرب أنهار كبيرة بالمعنى المعروف من لفظة نهر، مثل نهر دجلة أو الفرات أو النيل، بل فيها أنها صغيرة أو جعافر. وهي لذلك لم تستفد من نعم الأنهار الكبيرة التي نعمت بها البلاد الأخرى، ولم تسعد بسبب ذلك بظهور المجتمعات الكبيرة بها، ولا بظهور الحضارة فيها؛ لأن الحضارة الراقية لا تكون ولا تنمو إلا في المجتمعات الكبيرة، حيث تتوفر بها بذور الحضارة والثقافة، ولا تظهر هذه البذور مع وجود الجفاف وفقدان الماء أو قلته.
ومن الأنهار الصغيرة التي نجدها في اليمن نهر الخارد. وكان السهل الذي عاش فيه المعينيون، وبنوا فيه عاصمتهم يسقى بهذا النهر، وتنبت فيه مختلف النباتات والزروع، وكان يصل إلى مقربة من العاصمة وربما تجاوزها إلى مواضع أخرى ولا تزال هذه المنقطة تعد من المناطق الزراعية الجيدة، وقد تحول قسم منها بسبب الجفاف الذي حل بها إلى مناطق تعلوها كثبان رملية، ومناطق قاحلة، بعد ما كانت من أجود الأرضين لأهل معين1.
__________
1 محمد توفيق، آثار معين في جوف اليمن "ص4 وما بعدها"، من منشورات المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، سنة 1951م.(13/178)
ومن أنهار اليمن الأخرى، مور هو من أغزر أنهار اليمن ماءً وأكبرها، وهو بالقرب من وادي "صبيا". ينبع من جبال الهضبة إلى جنوبي صعدة، وتصب فيه أودية من "عمران" و"حجة"، ويمر من جبال "حجة" وجبال "حجور" في اتجاه البحر الأحمر حيث يصب به شمال "اللحية". وتجري الأقسام الشرقية من هذا النهر في أكثر أيام السنة1.
وسردد، واد متسع بتهامة اليمن، مشتمل على قرى ومدن وضياع2. ويتألف من فروع تنبع من جبال "كوكبان" ومن جبال حضور وحراز، ويصب في البحر الأحمر شمال "الحديدة"3. ووادي سهام واد ينبع من جبال خولان وآنس، مارًا بجنوبي جبال حراز، ثم يصب في البحر الأحمر جنوبي الحديدة4. وبه مياه حارة5. ووادي "أذنة" من أودية سبأ، وهو الذي كان يمون سد مأرب بالماء. ومن أودية اليمن الأخرى: رزان، و"رمع" "رماع"، وهو متصل بوادي سهام ووادي مور، مشتمل على عدة قرى6. وشرس، و"ريمة" و"زبيد". وتعرف هذه الأنهار بـ"وادي" في اصطلاح أهل اليمن7.
و"الدبل" الجدول من جداول الأنهار. وإنما سميت الجداول دبولًا؛ لأنها تدبل، أي تصلح وتجهز وتنقى. ومنه الحديث أنه غدا إلى النطاة، وهي من حصون خيبر، وقد دل على مشارب كانوا يسقون منها دبول. كانوا ينزلون إليها بالليل فيتروون من الماء، فقطعها، فلم يلبثوا إلا قليلًا حتى أعطوا بأيديهم8.
وتكرى الأنهار وموارد المياه الأخرى، لاستخراج الطمي منها ولتعميقها حتى
__________
1 تاج العروس "3/ 550"، "مار"، زيد بن علي عنان، تأريخ اليمن القديم "ص10"، "المطبعة السلفية"، "القاهرة".
2 تاج العروس "2/ 375"، "سرد".
3 تأريخ اليمن القديم "11".
4 تأريخ اليمن القديم "11".
5 الصفة "105".
6 تاج العروس "5/ 362"، "رمع".
7 الدكتور أحمد فخري، اليمن ماضيها وحاضرها "ص5".
8 تاج العروس "7/ 317"، "دبل".(13/179)
لا يسيل الماء على حافات مورد الماء1. وكانوا يكرونها بالمساحي، ويرمون الطمي على الجانبين.
وإذا جرى الماء على وجه الأرض قيل له "السيح". وباليمامة ثلاثة أودية بأقصى العرض، عرف كل واحد منها بسيح، ونسب إلى أهله أو مكانه2. وقد أشار "الهمداني" إلى "السيح يجري تحت النخل والآبار"3. وقصد به الماء الجوفي. وأشار إلى "سيح الغمر"4. وإلى سيح دعاه سبح بن مربع، ذكر أنه كان غزيرًا ثم انقطع بضعف أهله5. وذكر اسم سيح آخر دعاه سيح قشير، ويسمى أيضًا بسيح إسحاق6.
__________
1 تاج العروس "10/ 312"، "كرى".
2 تاج العروس "2/ 168"، "السيح".
3 الصفة "159".
4 الصفة "150".
5 الصفة "148".
6 الصفة "160".(13/180)
الحسي:
وينتفع من الأحساء والرحاب في الزراعة، وذلك باستنباط مياهها الجوفية المنحسرة عن قشرة الأرض بمسافة غير بعيدة، والتي قد تظهر على سطح الأرض وتسيل. والحسي سهل من الأرض يستنقع فيه الماء أو غلظ فوقه رمل يجمع ماء المطر. وفي جزيرة العرب أحساء كثيرة، منها أحساء بني سعد بحذاء هجر بالبحرين، وأحساء خرشاف، بسيف البحرين، وأحساء بني وهب، على خمسة أميال من المرتمى فيه بركة، وتسعة آبار كبار وصغار بين القرعاء وواقصة على طريق الحاج، والأحساء ماء لغنى، والأحساء ماء باليمامة، وأيضًا ماءة لجديلة طيء بأجأ1. والأحساء التي على الخليج، هي من أهم هذه الحسي في الوقت الحاضر. وهي وحدة إدارية في المملكة العربية السعودية، بها عيون تفيض ماءً، تروي بساتين النخيل والأشجار الأخرى.
و"البثر" يشبه الأحساء، يجري تحت الحصى على مقدار ذراع أو ذراعين
__________
1 تاج العروس "10/ 89"، "حسي".(13/180)
ودون الذراع، وربما أثارته الدواب بحوافرها1. والباثر من الماء البادي من غير حفر. والبثر أرض سهلة رخوة. وذكر بعض علماء اللغة أن البثور الأحساء وهي الكرار2. وذكر بعضهم أن "الكرار" البثر، أو الحسي، أو موضع يجمع فيه الماء الآجن3.
وقد تنبع العيون في مواضع رملية، فلا تمكن الناس من الاستفادة من الماء فائدة كبيرة تخرج من جوف رمل من أعذب ما يكون من العيون وأكثرها ماءً، تجري في رمل فلا تمكن الزراعين عليها إلا في مواضع يسيرة من أحناء الرمل، فيها نخيل، وتتخذ البقول والبطيخ. وتسمى هذه العيون "البحير"4.
وتكون تربة الرحبة خصبة، ولهذا صارت مواطن صالحة للزراعة لو استنبطت مياهها التي في جوف الأرض القريبة من السطح، لأفادت في توطين الأعراب. والرحبة في تعريف علماء اللغة "من الوادي مسيل مائه من جانبيه فيه. جمعه رحاب. وهي مواضع متواطئة يستنقع الماء فيها، وهي أسرع الأرض نباتًا، تكون عند منتهى الوادي وفي وسطه، وقد تكون في المكان المشرف يستنقع فيها الماء وما حولها مشرف عليها، ولا تكون الرحاب في الرمل، وتكون في بطون الأرض وفي ظواهرها"5. والرحبة الأرض الواسعة المنبات. ومن الرحاب المشهورة: "الرحبة" حذاء القادسية، وواد قرب صنعاء، وناحية بين المدينة وبلاد الشأم قرب وادي القرى، ورحب باليمامة، تعرف برحبة الهدار، وصحراء بها أيضًا فيها ماء وقرى6. وقد وجدت كتابات جاهلية في بعض هذه الرحاب، تشير إلى سكن أناس فيها ونزولهم هناك قبل الإسلام.
والنقرة الوهدة المستديرة في الأرض ليست بكبيرة يستنقع فيها الماء7.
و"الحفر" الموضع فيه ركايا محفورة، يستقى منها الماء. منها "حفر ضبة"، وهي ركايا بناحية "الشواجن" بعيدة القعر عذبة الماء8. والشواجن، واد
__________
1 عرام. أسماء جبال تهامة "410، 421"، "تاج العروس "3/ 25"، "بثر".
2 تاج العروس "3/ 25"، "بثر".
3 تاج العروس "3/ 519"، "كر".
4 عرام. أسماء جبال تهامة "398".
5 تاج العروس "1/ 268"، "رحب".
6 تاج العروس "1/ 268"، "رحب".
7 تاج العروس "3/ 581"، "نقر".
8 تاج العروس "3/ 152"، "حفر".(13/181)
كبير بديار ضبة في بطنه أطواء كثيرة، منها الصاف واللهابة وثبرة، ومياهها عذبة1. ومنها "حفر سعد بن زيد مناة بن تميم"، بحذاء "العرمة" وراء الدهناء يستقي منها بالسانية2.
و"القلت" النقرة في الجبل تمسك الماء، وقيل كل نقرة في أرض يستنقع فيها الماء. وإذا سالت السيول ملأت القلات. وفي الحديث ذكر لقلات السيل3. ومثلها "الوقب". وهي نقرة في الجبل أو في الصخر يجتمع فيها الماء كالوقبة، أو هي نحو البئر في الصفا تكون قامة أو قامتين يستنقع فيها ماء السماء4.
__________
1 تاج العروس "9/ 251"، "شجن".
2 تاج العروس "3/ 152"، "حفر".
3 تاج العروس "1/ 572"، "قلت".
4 تاج العروس "1/ 505"، "وقب".(13/182)
الآبار:
وفي الأماكن التي تكون المياه الجوفية فيها غير بعيدة عن سطح الأرض، ويكون من السهولة حفر الآبار فيها، يحفر الناس آبارًا في بيوتهم وفي أملاكهم للشرب والزرع إن كانت عذبة وللتنظيف والاستعمال. ويستعان بالخدم وبالسقائين في جلب مياه الشرب من الآبار العذبة والعيون والنهيرات. كما حفروا الآبار في الحصون. وقد كانت في حصن الهجوم بئر عظيمة عميقة، عذبة الماء، وقد بني الحصن من حجارة ضخمة ذكر أن طول الحجر منها سبع أذرع في عرض ثلاثة أذرع، وأقام أصحابه عليه الأسوار والأبراج. وقد فتح في أيام الرسول1.
و"البئر" هي "بار" في كتابات المسند. والجمع "ابار" أي "آبار". وقد وصلت إلينا نصوص عديدة في حفر آبار أو في شرائها وبيعها، وفي تعميرها، وإصلاحها. وهي ثروة ورأس مال كبير في جزيرة العرب، تحيي الأرض وتميتها، وتفني الناس وتميتهم، ولذلك كانوا إذا حفروا بئرًا أو إذا ظهرت لهم مياه عذبة غزيرة، يقدمون إلى آلهتهم الشكر والحمد والنذور. وقد أقامت الآبار الكبيرة العميقة العذبة مدنًا. وأماتت مدنًا بسبب نضوب مياهها وجفافها، وهي على هذه الأهمية الخطيرة إلى الآن.
__________
1 ابن المجاور "1/ 21".(13/182)
وللأهمية المذكورة للآبار في حياة العرب، كثرت في لغتهم المصطلحات الخاصة بها، من أسماء لأنواع الآبار ومن مصطلحات للحفر ولوسائل الحفر، ومن ألفاظ للمواد التي تستعمل في بناء البئر وفي استخراج الماء منها، ومن كلمات تشير إلى أبعاد البئر، ومقدار ما فيها من ماء، وأبعاد أفواهها. ومن أسماء البئر "الطوى" و"الطوية"، إذا بنيت بالحجارة1. و"الجب"، البئر، وقيل البئر الكثيرة الماء البعيدة القعر، ولا تكون جبًّا حتى تكون مما وجد، لا مما حفره الناس2. و"القليب" البئر ما كانت. وقيل: البئر قبل أن تطوى، فإن طويت فهي الطوي، أو العادية القديمة منها التي لا يعلم لها رب ولا حافر يكون في البراري3. وقد عرفت بـ"الرس" كذلك4.
ومن أنواع الآبار التي ذكرها علماء اللغة: الشبكة، ويراد بالشبكة الآبار المتقاربة والأرض الكثيرة الآبار. وأما "الفقر"، فهي ركايا تحفر ثم ينفذ بعضها إلى بعض حتى يجتمع ماؤها في ركي. وإذا اجتمعت ركايا ثلاث فما زاد إلى ما بلغ من العدة قيل له "فقير"، ولا يقال ذلك لأقل من ثلاث. وورد أن الفقير فم القناة، والمكان السهل تحفر فيه ركايا متناسقة، وفم القناة التي تجري تحت الأرض، ومخرج الماء منها5. وأما "الكظامة"، فإنها بئر إلى جنبها بئر بينهما مجرى في بطن الأرض. وقيل: كل ما سددت من مجرى ماء أو باب أو طريق، فهو كظم، والذي يسد به الكظامة. وقيل: هي آبار متناسقة تحفر ويباعد ما بينها، ثم يخرق ما بين كل نهرين بقناة تؤدي الماء من الأولى إلى التي تليها تحت الأرض فتجتمع مياهها جارية ثم تخرج عند منتهاها فتسيح على وجه الأرض6.
و"الجفر" البئر التي ليست بمطوية، وتجمع على جفار. وأما "الجد", فالبئر الجيدة الموضع من الكلأ، والجمع أحداد، والملك البئر ينفرد بها الرجل،
__________
1 تاج العروس "10/ 229"، "طوي".
2 تاج العروس "1/ 172"، "جبب".
3 تاج العروس "1/ 437 وما بعدها"، "قلب".
4 المخصص "10/ 24".
5 تاج العروس "3/ 474"، "فقر".
6 تاج العروس "9/ 47"، "كظم"، المخصص "10/ 34 وما بعدها".(13/183)
والبود البئر كذلك1. والسهبرة من أسماء الركايا2. و"القليب" البئر ما كانت، والبئر قبل أن تطوى، فإذا طويت فهي "الطوي"، أو العادية منها التي لا يعلم لها رب ولا حافر يكون في البراري3. و"الطوي" البئر المطوية بالحجارة4.
ومن المواضع التي عرفت بأطوائها موضع "الأطواء" باليمامة، قرب "قر قرى"، ذو نخل وزرع كثير5.
وقد تكون الآبار ذات مياه غزيرة كبيرة، تخص المدينة بأسرها، أو القبيلة بأسرها، وقد تكون ملك أسرة تستغلها الأسرة لحسابها، أو ملك فرد يستفيد منها مباشرة أو يبيع مياهها للناس، لإسقاء الأرضين أو الماشية. وقد تباع لأشخاص آخرين، وقد تؤجر. وطالما كانت الآبار مصدر نزاع خطير بين القبائل وسببًا في إثارة الحروب.
و"العد" البئر لها مادة من الأرض، فهي كثيرة الماء دومًا ولا تنزح. وأما "المفهاق" فإنها البئر الكثيرة الماء، و"الغروب" الدلاء، واحدها "غرب" وهي التي تجرها الإبل، و"الاسجل" الواسع من الدلاء بمائها، والغلل الماء الجاري يجري تحت النخيل، و"اليعبوب" النهر الجاري وتسلسله مضيه في جريته. و"الخسف" البئر ذات الماء الكثير6.
وقد اشتهرت بعض الآبار بغزارة مياهها، ذكر "الهمداني" أن "بئر النقير" بناحية البحرين "على عشر قبم لا تنكش، ويجتمع عليها كثير من وراد العرب وربما سقى عليها عشرة آلاف بعير"7. وهناك آبار أخرى عرفت بغزارة مياهها.
وقد يحفرون سلسلة آبار يخرق أسافلها، ليفرغ بعضها في بعض من موضع الماء. مثل "الهباءة". وكانوا يزرعون عليها الحنطة والشعير وما أشبه8.
__________
1 تاج العروس "2/ 307"، "البود".
2 تأريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي "8/ 323 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 285"، "السهبرة".
3 تاج العروس "1/ 437 وما بعدها"، "قلب".
4 تاج العروس "1/ 229"، "طوى".
5 تاج العروس "10/ 229"، طوى".
6 العمدة "94".
7 الصفة "163".
8 عرام، أسماء جبال تهامة "435".(13/184)
ولم يكن من السهل في ذلك الزمن حفر الآبار، لعدم توفر الآلات والأدوات الفنية. فإن حفر البئر على عمق بعيد الغور كما تتطلبه الأماكن المرتفعة يحتاج إلى آلات كثيرة وإلى علم وتدبير وفن وذكاء في محافظة جدران البئر من الانهيار على الحفارين، وعلى الماء بعد الانتهاء من الحفر، فتندثر ويذهب المجهود في حفرها عبثًا. هذا ولا بد لمهندس الآبار من معرفة بطبيعة الأرض ومظنة وجود الماء فيها أو عدمه ومدى عمقه، فلا يعقل إقدام شخص على حفر بئر في أرض لا يعرف من أمرها شيئًا. وحفر البئر في النجاد عمل مكلف باهظ، فلا بد إذن من تخصص أناس بهندسة الآبار، ليقوموا بهذا العمل الذي لا يمكن القيام به ما لم يسنده علم وفهم.
وقد تخصص أناس بحفر الآبار واختيار المواضع التي يحتمل وجود المياه العذبة بها. ولهم في ذلك علم ودراية وخبرة. وكانوا إذا قربوا من الماء احتفروا بئرًا صغيرة في وسط البئر بقدر ما يجدون طعم الماء، فإن كان عذبًا حفروا بقيتها، ولذلك يقال "التعاقب" و"الاعتقام"1. فالاعتقام "إذن عملية تجريبية لاختبار طعم ماء البئر وتجربته من حيث العذوبة والملوحة وعليها تتوقف عملية الحفر.
ومتى حفرت البئر ووصل إلى الماء، قيل: أمهت البئر، وأموهت، وأمهيت، ويقال ابتأرت بئرًا، أي حفرتها. ويقال أيضًا: حفرت البئر حتى نهرت، أي بلغت الماء. وإذا بلغ الحفارون الأرض الغليظة قيل: بلغت الكدية. وإذا وصلوا موضعًا صعبًا فصعب الحفر، قيل: بلغ مسكة البئر. ويقال أجبلت، أي انتهيت إلى جبل. ويقال الصلود، وهي الأرض التي تحفر فيغلب جبلها الحافر. فيصلد الحفر على الحافر لصعوبة الأرض. وإذا حفر الحفارون حتى يبلغوا الطين، فيقال عندئذ: أثلجت، فإذا بلغ الماء، قيل: أنبط ونبط. والنبط أول ما يظهر من ماء البئر حين تحفر. وإن بلغ الرمل، قيل: أسهب، وإن انتهى إلى سبخة، قيل: أسبخت. ويقال: تأثل البئر إذا حفرت البئر، وهزمت البئر حفرتها2.
ويتحايل الحفارون في الحفر إذا فوجئوا بصخرة أو أرض صلدة، تمنعهم من
__________
1 تاج العروس "8/ 403"، المخصص "10/ 41".
2 المخصص "10/ 40 وما بعدها".(13/185)
الاستمرار في الحفر. خاصة إذا كانوا قد بلغوا عمقًا بعيدًا في باطن الأرض. وقد كلفهم الحفر صرف مال كثير، فإذا تركوه أصيب صاحب البئر بخسارة، لذلك يتحايل الحفارون على الأرض بالتعاريج في الحفر، يمنة ويسرة، للعثور على موضع ينزلون منه إلى موضع وجود الماء، ويقولون لذلك: "التلجيف". ويراد به الحفر في جوانب البئر1.
وقد تنقر آبار صغيرة ضيقة الرؤوس في نجفة صلبة، لئلا تهشم، ويقال لمثل هذه الآبار المناقر. وأما المنقر، فيراد بها البئر التي يكثر فيها الماء2. وفي بعض المناطق الصخرية والجبلية آبار منقورة تتجمع فيها مياه جوفية تنحدر إليها من المواضع المرتفعة أو من مياه الأمطار التي تتساقط على المواضع المرتفعة فتسيل إلى أفواه تلك الآبار وتدخل إليها وتتجمع فيها، فيستفيد منها الناس.
وفي جملة الألفاظ الواردة في الكتابات العربية الجنوبية والمستعملة في حفر الآبار وتوسيعها وتعميقها، لفظة "حفر"، وهي بالمعنى المفهوم منها في عربيتنا. ولفظة "سنبط"، ويقصد بها معنى "استنبط"، من "نبط" ويراد بها ظهور الماء واستخراجه من باطن الأرض وأما لفظة "سبحر"، فتعني "استبحر"، من أصل بحر، بمعنى التعميق. ولا يزال حفرة الآبار في العراق يستعملون لفظة تبحير البئر بمعنى تعميقها3. وفسرت لفظة "ضفر"، بمعنى الدعم بالحجارة، أي كسوة جدار البئر بالحجارة4.
وللمحافظة على البئر من الانهيار بسبب رخاوة جدرانها وتساقط المياه الممتوحة منها، عمدوا إلى ربرها من قعرها إلى أعلاها بالحجارة، ويعبر عن هذا الجدار بلفظة "كولم" "كول" في المسند. وبـ"جول" في عربيتنا. ورد في كتب اللغة: "الجول: جدار البئر"5. ويقال لمثل هذه البئر "المزبورة" أي المطوية
__________
1 تاج العروس "6/ 243"، "لجف"، المخصص "10/ 41".
2 المخصص "10/ 46"، تاج العروس "3/ 581"، "نقر".
3 "يوم حفر وسنبط وسبحر"، بمعنى "يوم حفر واستنبط وعمق"، أو "حين حفر واستنبط وعمق"، النقش رقم16 المنشور في "ص23" من كتاب "نقوش خربة معين".
4 نقوش خربة معين "ص23".
5 تاج العروس "7/ 267". Rhodokanakis, Stud., Lexi., Ii, S. 28.(13/186)
بالزبر. وأما "المعروشة"، فالتي تطوى قدر قامة من أسفلها بالحجارة، ثم يطوى سائرها بالخشب وحده, وذلك الخشب هو العرش، فإن كانت كلها بالحجارة، فهي مطوية، وليست معروشة. وهناك تعابير أخرى تشير إلى تبطين البئر وكساء جدرانها بمواد مقوية تمنعها أن تنهار. فإذا بنيت البئر بالحجارة، قيل بئر مضروسة وضريس، وهو أن يسد ما بين خصاص طيها بحجر، وكذلك سائر البناء. ويقال الأعقاب للخزف الذي يدخل بين الآجر في الطي لكي يشتد. والوسب خشب يطوى به أسفل البئر إذا خافوا أن تنهال، والجمع الوسوب1. والحامية الحجارة تطوى بها البئر2.
وهناك ألفاظ عديدة ذكرها علماء اللغة للآبار التي تكثر مياهها أو تقل. فورد: بئر غزيرة بمعنى كثيرة الماء، وورد بئر ميهة وماهة إذا كثر ماؤها، والعيلم البئر الكثيرة الماء. والخسيف التي تحفر في حجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة، وهي التي خسفت إلى الماء الواتن تحت الأرض، ويقال بئر سجر ومسجورة بمعنى مملوءة، وبئر ذات غيث أي مادة. والقيلذم، البئر الكثيرة الماء، وبئر مقيضة كثيرة الماء قد قيضت عن الجبال. والبئر الماكدة التي يثبت ماؤها على قرن واحد لا يتغير، وإن كثر منها، وأن وضع عليها قرنان أو أكثر، غير أن ذلك إنما يكون على قدر ما يوضع عليها من القرون بقدر مائها، وبئر مكود وماكدة لا تنقطع مادتها، والهزائم الآبار الكثيرة الماء، وبئر زغربة كثيرة الماء، وبئر ذمة وذميم وذميمة كثيرة الماء كذلك، والنقيع البئر الكثيرة الماء3.
ويقال حبض ماء البئر، وذلك إذا انحدر ونقص، ونكزت البئر أي قل ماؤها، وبئر نزح ماء فيها، وبئر مكول وهي التي يقل ماؤها فيستجم حتى يجتمع الماء في أسفلها، واسم ذلك الماء المكلة، وبئر قطعة وبئر ذمة قليلة الماء، وبئر ضهول قليلة الماء، والخليقة البئر التي لا ماء فيها، وقيل هي الحفيرة في الأرض المخلوقة، والضغيط بئر تحفر إلى جنبها بئر أخرى فيقل ماؤها، وبئر فروع قليلة الماء وهي كالضنون سميت بذلك؛ لأنها تقرع قرعًا كلما فني ماؤها،
__________
1 تاج العروس "1/ 503"، "وسبب".
2 المخصص "10/ 42 وما بعدها".
3 المخصص "10/ 27 وما بعدها".(13/187)
وبئر رشوح وبروض وبضوض قليلة الماء1.
وتستخرج المياه من الآبار بالدلاء، تربط بالحبال إلى الأعمدة المثبتة فوق البئر. ويقال للعمود "عمد" "عامود" والجمع "عُمُد" و"أعمد"2. وأما "الدلو" وهو الوعاء أو القربة المصنوعة من الجلد في الغالب، فيقال له "علبت" و"علبم" في المسند3، تمتلئ بالماء حين دخولها في ماء البئر، فتسحب وهي مملوءة به، فإذا بلغت موضع سكب الماء سحبت إلى ذلك المكان لتفريغ مائها فيه، فيسناب إلى "مسقيت" أي "مسقية"، بمعنى الساقية لإروارء المزرعة، أو لإيصاله إلى المدينة أو البيوت.
وأما الآلة التي تعلق عليها الدلاء والمتصلة بالأعمدة فتعرف بـ"اعزر" في المسند4. ويقال للدولاب الذي يستقى عليه: المنجنون، وذلك في عربيتنا5.
ويقال لتفريغ الركية وأخذ ما فيها من ماء "حبض" في لغة المسند. وهي بهذا المعنى أيضًا في عربية القرآن الكريم. والاحباض أن يذهب ماء الركية فلا يعود، و"أحبض الركية" احباضًا، فلم يترك فيها ماء6.
ولا بد للدلاء من حبال قوية متينة تتحمل الاحتكاك بينها وبين البكرة وتساعدها في حمل الدلو. وهذه الحبال تتخذ من مواد مختلفة، تفتل وتبرم، والعادة أن يقوى الحبل بحملة حبال تبرم بعضها فوق بعض وتشد شدًّا قويًّا لئلا تتهرأ بسرعة فينقطع. وقد يتكون الحبل الواجد من مجموع عشرة حبال. أما مادة الحبل فالليف والخوص والجلود ولا سيما جلود الإبل والابق والمصاص، وهو نبات، ولحاء الشجر والقنب، ومشاقة "السلب"، وهو ضرب من الشجر ينبت متسلقًا فيطول. ويؤخذ فيحل ثم يشقق فتخرج منه مشاقة بيضاء كالليف يتخذ منها أجود ما يكون من الحبال. وقد تصنع من القطن ومن ليف جوز الهند7.
__________
1 المخصص "10/ 39 وما بعدها".
2 Rhodokanakis, Stud. Lexi, Ii, S. 115, 152.
3 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 132.
4 Cih 303, Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 131.
5 تاج العروس "9/ 166"، "جنن".
6 تاج العروس "5/ 18"، "حبض".
7 المخصص "9/ 170 وما بعدها".(13/188)
ولفتل الحبال تستعمل المغازل والمبارم، لغزل الألياف وبرمها بعضها فوق بعض، كما تستعمل بعض المواد المقوية للألياف مثل الزيوت لتحافظ على قوة الحبل وعلى تماسكه فتبقيه طريًّا، فلا ينقطع بسهولة. وقد تخصص أشخاص بصناعة الحبال وعاشوا عليها، وقد كانت ذات أهمية بالنسبة لذلك الزمن.
ويقال للدلو العظيمة: "الغرب". ويتخذ من مسك ثور، والغرب الراوية1, و"السانية" الغرب وأداته، والناقة إذا سقت الأرض، وسنيت الدابة، إذا استقى عليها، والقوم يسنون لأنفسهم إذا استقوا2. والسناية والسناوة السقي، وهو سان. والساني، يقع على الرجل والجمل والبقر، كما أن السانية على الجمل والناقة. والمسنوية، البئر التي يسنى منها، وركية مسنوية، إذا كانت بعيدة الرشاء لا يستقى منها إلا بالسانية من الإبل3.
وتستخدم الثيران والجمال والحمير والبغال في متح الماء بالدلاء من الآبار الكبيرة الواسعة لسقي المزارع والبساتين والناس، ويشرف على ذلك العبيد أو الفلاحون أو أصحاب البئر. أما الآبار الصغيرة الخاصة بشرب الناس، فيستخرج الماء منها الإنسان، وتصب الدلاء المياه في أحواض أعدت لذلك، لها منفذ يسيل منه الماء إلى السواقي.
وقد تحمى البئر من الأدران ومن الأتربة ومن أخذ الماء منها، بإقامة بناء فوقها على هيأة غرفة، فإذا أقيم ذلك على البئر عرف بـ"منشا" في المسند. وقد تؤدي هذه اللفظة معنى أخذ الماء وتوجيهه إلى الجهة المراد إرسال الماء إليها بمجرى يأخذ ماءه من "فنوت"4. وفسرت لفظة "ثقول" بمعنى تعليق. وتعليق شيء فوق
بئر، أو إنشاء سقف فوقها لحماية البئر ولتعليق الأدوات التي يمتح بها الماء من البئر عليها، وذلك كما في هذه الجملة: "ابارسم وثقولسم"، ومعناها: "وكل آبارهم وسقوفها" أو "كل آبارهم والأعمدة المقامة فوقها للاستقاء بها"5.
__________
1 تاج العروس "1/ 405"، "غرب"، الخراج "96"، المبرد، الكامل "2/ 732".
2 تاج العروس "10/ 185"، "سني".
3 تاج العروس "10/ 186"، "سني".
4 Rhodkanakis, Stud. Lexi., I, S. 113.
5 Kat. Texte, Ii, S. 28.(13/189)
وتتعرض الآبار لسقوط الأتربة والرمال فيها، وقد تنهار جدرانها فينضب ماؤها، ولا تمكن الاستفادة منها إلى بنزحها. ويقال لنزح البئر جهرت البئر واجتهرت، أي نزحت. وقيل المجهورة المعمورة منها عذبة كانت أو ملحة1. ولا بد من نزح هذه الآبار دائمًا، إذا أريد بقاء الماء فيها، وإلا ذهب ماؤها وانتفت فائدتها، فتترك وتهمل.
وتنظف الآبار بنزول الرجال فيها فيشد الرجل وسطه بالحبل، ويترك طرفه في يد رجل، أو مشدودًا بشيء ثابت قوي. ويقال لهذا الحبل "الجعار"2. وذكر أن "الجعار" حبل يشد به المستقي وسطه إذا نزل في البئر لئلا يقع فيها، وطرفه في يد رجل، فإن سقط مده به. وقيل هو حبل يشده الساقي إلى وتد ثم يشده في حقوه3. وتعمل في جدر الآبار في العادة مواضع للأقدام متقابلة يضع النازل في البئر رجليه عليها، تمكنه من النزول لمتح البئر، واستخراج ما قد يتساقط فيها من أتربة ورمال، أو لحفر قاعها لزيادة الماء فيها.
ويعبر عن انهيار البئر وسقوطها بألفاظ، مثل: "صقعت"، وانقاصت، وانقاضت، وانهارت، وتنقضت، وتجوخت، وانقارت. والهدم ما تهدم من نواحي البئر في جوفها، وانخسفت البئر، تهدمت4.
وتنظف الآبار بالجبجبة، تملأ بالأتربة وبالطين وبالأوساخ المتراكمة في قاع البئر وترفع، وتصنع من جلود وأدم، وهي نوع من الزبيل. ويستعمل في التنظيف "الثوج" كذلك، وهو زبيل، يعمل من خوص، يحمل فيه التراب وغير ذلك. ويستعمل القفير كذلك، وهو الزبيل بلغة أهل اليمن، ومن أسماء الزبيل أيضًا "الصن" وهو زبيل كبير، والحفص زبيل صغير من أدم، والعرق نوع من أنواع الزبيل. ويقال للخشبتين اللتين تدخلان في عروتي الزبيل إذا أخرج به التراب من البئر "المسمعان". وقيل المسمع العروة التي تكون في وسط المزادة5.
__________
1 المخصص "10/ 39 وما بعدها".
2 المخصص "9/ 171".
3 قال أحدهم:
ليس الجعار ما نعي من القدر
ولو تجعرت بمحبوك ممر
تاج العروس "3/ 102"، "جعر".
4 المخصص "10/ 44".
5 المخصص "10/ 45 وما بعدها".(13/190)
وتسحب الزبيل بحبال أعلى لاستخلاص ما فيها من تراب وطين ووسخ حتى تنظف.
ومن الألفاظ المعبرة عن تنقية البئر ونزولها وتنظيفها من الأوساخ والأتربة قولهم: نثلت البئر، أي أخرج ترابها، واسم ذلك التراب النثيلة والنثالة والثلة والنبيثة. ويقال نبيثة النهر كذلك. وأما خمامة البئر، فيراد بها ما كنس منها. ويقال جهرت البئر، بمعنى أخرجت ما فيها من الحمأة. وأما الشأو، فما يخرج من ترابها، وقد شأوت البئر نقيتها، ويقال للذي يخرج به المشآة، ويقال أخرجت من البئر شأوًا أو شأوين، وهو ملء الزبيل من التراب. وجششت البئر أجشها جشًا، أي كنستها. ونكشت البئر، أخرجت ما فيها من الحمأة والجيئة والطين1.
وقد يتغير طعم مياه الآبار وألوانها لعوامل عديدة. وهناك مصطلحات عديدة ذكرها علماء اللغة للدلالة على فساد ماء البئر ونتنه. مثل: المسيط والضغيط، والحمأة الطين الأسود المنتن، وقد يحمئ ماء البئر فيكدر وتخالطه الحمأة فتتغير رائحته. وتنزع حمأة الآبار وتنظف ليمكن الاستفادة منها2. والجيئة والجيأة: البئر المنتنة3.
وقد كان أهل المدن والقرى يشربون من العيون ومن موارد المياه الطبيعية الأخرى إن كانت في قراهم عندها أو على مقربة منها، كما كانوا يحتفرون الآبار في بيوتهم أو في خارجها للاستفادة من مياهها، فإن كانت. عذبة فرحوا بها وشربوا منها. وكانت قريش قبل جمع قصي إياها وقبل دخولها مكة تشرب من حياض ومصانع على رؤوس الجبال، ومن بئر حفرها "لؤي بن غالب" خارج الحرم تدعى "اليسيرة"، ومن بئر حفرها "مرة بن كعب" تدعى "الروي"، وهي ما يلي "عوقة" ثم حفر "كلاب بن مرة" خم ورم، و"الجفر" بظاهر مكة4. وورد أن الذي حفر بئر "خم" هو "عبد شمس بن عبد مناف"، حفرها بمكة5. وأن الذي حفر بئر "رم" هو "مرة بن كعب" أو "كلاب بن مرة" حفرها بمكة6. وذكر أن "الجفر" بئر بمكة كانت لبني تميم بن
__________
1 المخصص "10/ 45"، تاج العروس "4/ 359", "نكش".
2 تاج العروس "1/ 58"، "حمئ".
3 المخصص "10/ 47".
4 البلاذري، فتوح "60".
5 تاج العروس "8/ 283"، "خم".
6 تاج العروس "8/ 318"، "رمم".(13/191)
مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي1.
ثم إن "قصي بن كلاب" حفر بئرًا سماها "العجول" واتخذ سقاية، ثم إنه سقط في العجول بعد ممات "قصي" رجل فعطلت2. وورد أن الذي احتفرها "قصي" أو "عبد شمس"3. وحفر "هاشم بن عبد مناف" "بذر"، وهي البئر التي عند حطم الخندمة على فم شعب أبي طالب، وهي لبني عبد الدار4. وحفر "هاشم" أيضًا "سجلة"، وقد دخلت في المسجد5. وحفر "عبد شمس بن عبد مناف" "الطوى" وهي بأعلى مكة، و"الجفر"، وحفر "ميمون بن الحضرمي" "بثرة"، وهي آخر بئر حفرت في الجاهلية بمكة. وعندها قبر "المنصور". وورد أن "عبد شمس" حفر أيضًا بئرين وسماهما "خم" و"رم"، على ما سمى "كلاب بن مرة" بئريه6. فأما "خم" فهي عند "الردم". وأما "رم"، فعند دار "خديمة بنت خويلد"7.
وحفرت بنو أسد بئر "شفية"8. وحفر "بنو عبد الدار" "أم أحراد"، وقد أشير إليها في الحديث9. وحفر "ينو جمح" "السنبلة". وذكر أن الذي حفرها "بنو جمح" و"بنو عامر"10. وحفر "بنو سهم" "الغمر"، وهي بئر "العاص بن وائل". وحفرت "بنو عدي" "الحفير". وحفرت "بنو مخزوم" "السقيا"، و"بنو تيم" "الثريا"، وهي بئر "عبد الله بن جدعان". وحفرت "بنو عامر بن لؤي" "النقيع"، وكانت لجبير بن مطعم بئر، وهي بئر بني نوفل، وكان عقيل بن أبي طالب، حفر في الجاهلية بئرًا،
__________
1 تاج العروس "3/ 105"، "جفر".
2 البلاذري، فتوح "60".
3 تاج العروس "8/ 8". "عجل".
4 تاج العروس "3/ 36"، "بذر"، البلاذري، فتوح "61".
5 البلاذري، فتوح "61".
6 البلاذري، فتوح "61".
7 وقال عبد شمس:
حفرت خما وحفرت دما ... حتى أرى المجد لنا قد تما
البلاذري، فتوح "61".
8 البلاذري، فتوح "61"، تاج العروس "10/ 201"، "شفى".
9 البلاذري، فتوح "61"، تاج العروس "2/ 335"، "حرد".
10 البلاذري، فتوح "62"، تاج العروس "7/ 383"، "سنبل".(13/192)
وهناك آبار أخرى غيرها، ذكرها "البلاذري" في كتابه "فتوح البلدان"1.
وقد اشتهرت بعض الآبار وعرفت، ولا تزال معروفة نقرأ أسماءها في الكتب، ومن أشهرها "بئر زمزم"، ذات الشهرة البعيدة، بسبب مكانتها من الكعبة، وبئر "طوى". وهي بئر حفرها عبد شمس بن مناف2. وبئر "ذروان"، وهي لبني زريق، جاء ذكرها في حديث سحر النبي3. و"بئر رومة"، وهي ليهودي كان يبيع الماء منها للناس، وقد حصل على مال كثير منها، وكان إذا غاب، قفل عليها بقفل، فلا يستطيع أحد أخذ الماء منها. فشكا المسلمون ذلك إلى الرسول، فقال: "ومن يشتريها ويمنحها للمسلمين ويكون نصيبه كنصيب أحدهم. فله الجنة". فاشتراها "عثمان" بخمسة وثلاثين ألف درهم، فوقفها4.
وبيثرب وأطرافها آبار عديدة، كان يستقي منها أهلها للشرب، منها بئر "غرس". ويظهر أنها كانت من أجود وأحسن آبار يثرب. وقد ورد ذكرها في الحديث، حيث ورد: نعم البئر بئر غرس، هي من عيون الجنة. وغسل رسول الله منها5. وذكر أنها كانت بقباء، وأنه برك فيها6. ويستقى منها على حمار7. ومنها بئر "مالك بن النضر بن ضمضم"، وهي التي يقال لها بئر "أبي أنس"8. ولما نزل الرسول منزل "أبي أيوب"، كان أبو أيوب يخدمه ويستعذب له هذه البئر9. ولما صار الرسول إلى منزله، كان خدمه يحملون قدور الماء إلى بيوت نسائه من بئر السقيا، ومن بئر غرس10.
وبئر "بضاعة" بئر معروفة بالمدينة، قطر رأسها ستة أذرع، وهي في بستان، وكان أهل يثرب يطرحون فيها خرق الحيض ولحوم الكلاب والمنتن11.
__________
1 "من ص26 فما بعدها".
2 تاج العروس "10/ 229"، "طوى".
3 تاج العروس "10/ 126"، "ذرو".
4 المعارف "ص83".
5 تاج العروس "4/ 201"، "غرس".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 503".
7 ابن سعد، طبقات "1/ 503".
8 ابن سعد، طبقات "1/ 503".
9 ابن سعد، طبقات "1/ 504".
10 ابن سعد، طبقات "1/ 504".
11 تاج العروس "5/ 278"، "بضع".(13/193)
وكان أهل العربية الغربية يحفرون حفرًا، يجعلونها كالبئر، يلقون بها الجيف وما شاكلها. وذكر أن "الجباجب"، حفر بمنى كان يلقى بها الكروش، كروش الأضاحي في أيام الحج، أو كان يجمع فيها دم البدن والهدايا، والعرب تعظمها وتفخر بها1. وقد ورد أن الرسول كان يشرب من بئر "بضاعة" وأنه بصق فيها وبرك2. وأن خيل رسول الله كانت تسقى منها، وأن أهل المدينة كانوا يغسلون مرضاهم بمائها، لاعتقادهم أنه يشفي من المرض3. ولعل قصة رمي الجيف والمنتن بها من القصص الموضوع المصنوع، أو أن ذلك حدث فيما بعد، حين أهمل شأنها، فلم يعد الناس يستقون منها، فاتخذت موضعًا يرمى فيه الجيف.
ومن بقية الآبار "البقع" وقيل هي السقيا التي بنقب بني دينار، وبئر "جنب"، وبئر "جاسم"، بئر أبي الهيثم بن التيهان براتج4، وبئر "العبيرة، بئر "بني أمية بن زيد"، وقد شرب منها الرسول وسماها "اليسيرة"5. وبئر "رومة" بالعقيق، وكانت لرجل من مزينة يسقى عليها بأجر، فقال رسول الله: نم صدقة المسلم هذه من رجل يبتاعها من المزني فيتصدق بها6. وكان المزني، قد ضرب خيمة إلى جنب البئر، يأخذ أجوز الدلاء، وله جرار بها ماء بارد، مر الرسول به مرة فشرب منها ماءً باردًا، فقال: هذا العذب الزلال7.
ويرد في كتب السير مصطلح "بئر السقيا"، و"بيوت السقيا"، و"السقيا" ورد أن الرسول كان يشرب من بيوت السقيا8، وورد أن خدمه كانوا يحملون قدور الماء إلى نسائه من "بئر السقيا"، وأنه شرب حين خرج إلى "بدر" من "بئر السقيا"9. وقد ذكر بعض العلماء، أن "بيوت السقيا" موضع في
__________
1 تاج العروس "1/ 174"، "جبب".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 503".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 505".
4 تاج العروس "5/ 280"، "بقع".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 503 وما بعدها".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 506".
7 ابن سعد، طبقات "1/ 506".
8 ابن سعد، طبقات "1/ 503".
9 ابن سعد، طبقات "1/ 504، 506".(13/194)
بلاد "عذرة"، يقال له "سقيا الجزل"، قريب من وادي القرى1. وهناك بئر قيل لها "السقيا" بنقب بني ديار، ورد ذكرها في الحديث2. وهناك مواضع أخرى عرفت بـ"السقيا"، و"سقيا"، منها سقيا غفار، و"السقيا الجزل"، "سقيا يزيد"، والسقيا للعنبر3.
وقد ذكر أن الرسول قد شرب من الآبار المذكورة، وبصق فيها وبرك4، ليبارك في مائها.
ولأبي عبيدة، معمر بن المثنى كتاب في الآبار، جمع فيه ما ورد ذكره من الآبار5.
وقد اتخذ النبط وغيرهم من القبائل آبارًا لشربهم ولشرب مواشيهم، لها فتحات تسد بالحجارة، فلا يمكن لأحد غريب الوقوف عليها، فإذا داهمهم عدو، أو أرادوا النقلة إلى أماكن أخرى، سدوا بها فتحاتها، ووضعوا فوقها من التراب ما يخفي معالمها. وقد أشار إليها الكتبة اليونان واللاتين.
ولا تزال بعض الآبار القديمة مستعملة ينتفع بمائها وهناك آبار طمرت، أو جفت مياهها، وقد عثر عند أفواهها على كتابات تشير إليها وإلى أسماء أصحابها. وهناك آبار أخرى عديدة عثر عليها في مواضع متعددة من جزيرة العرب، وبعضها عميقة جدًّا، وهي كلها "عادية" من أيام الجاهلية. والبئر العادية البئر القديمة التي لا يعرف لها مالك.
وقد استغلت بعض الآبار الجاهلية المندثرة، بتنظيفها وتطهيرها واستغلالها. ذكر "فؤاد حمزة" أن آبارًا عديدة جاهلية نظفت وأصلحت، فعادت إليها الحياة، واستغلت مياهها في إحياء الأرضين التي كانت خصبة مثمرة ثم تحولت إلى موات6. ولا يزال الناس يستغلون في اليمن وفي غير اليمن بعض الآبار القديمة للشرب، وذلك لصعوبة استخراج مياهها للزراعة لعمقها، واقتصار الناس هناك في استخراج
__________
1 تاج العروس "10/ 180"، "سقى".
2 تاج العروس "5/ 280"، "بقع".
3 بلاد العرب "29، 330، 331، 396"،
4 ابن سعد، طبقات "1/ 503 وما بعدها".
5 "كتاب الآبار"، تاج العروس "3/ 36"، "بذر".
6 فؤاد حمزة "ص190".(13/195)
الماء على الدلاء1. ويظهر من وجود بعض الآبار "العادية" في البراري أن تلك المواضع كانت في محلات مأهولة، ثم تركها أهلها فعميت، وبقيت آثارها تتحدث عن وجود سكن قديم في هذه المواضع. وفي اليمامة آبار عديدة عادية، لا تزال على وضعها، وهي من آبار ما قبل الإسلام. وأشار العلماء إلى مياه عادية، فقد ذكروا أن "لبينة" ماءة عادية، أي من المياه القديمة التي يعود عهدها إلى الجاهلية2.
وقد عثر المنقبون على نصوص جاهلية مدونة بالمسند، تتعلق بتملك الآبار وبحفرها وبإصلاحها. وقد أرخ بعض منها بأيام ملك، أو برجل عظيم كان معروفًا مشهورًا في زمانه، أو بحادث وقع لهم ذي بال. وقد أمدتنا هذه النصوص ببعض المعلومات عن الآبار وعن أصحابها وأسماء المواضع التي حفرت بها.
ويكون نضوب الماء من البئر، أو تحول مائها العذب إلى ماء ملح، نكبة بالنسبة لأهل البئر، ففي تبدل طعم الماء هذا خسارة كبيرة لأهل الماء، وعليهم البحث عن مورد آخر لسد رمقهم، وإطفاء ظمأ أموالهم، وحفر بئر أخرى في مكان آخر. ونقرأ في كتب أهل الأخبار واللغة أمثلة كثيرة عن هذا التبدل الذي حدث في طعم الماء، وسببه، هو انحباس المطر، وتحول مجاري المياه العذبة الجوفية من مكان إلى مكان، مما يسبب نضوب ماء الآبار والعيون التي كانت على المجاري القديمة، أو تقليل كمياته، فتظهر عندئذ ملوحة التربة، وقد تتغلب على طعم الماء العذب، فتحوله إلى ماء ملح3.
وقد هجرت مستوطنات عديدة بسبب وقوع هذه الظواهر المحزنة في موارد مياهها كانت تستمد مياهها من حوض ماء جوفي، فلما قلت المياه فيهما، أو تحولت إلى موضع آخر، لعوامل "جيولوجية"، تأثرت المنطقة التي فيها الماء، بهذا التحول، واضطر سكانها إلى تركها، نتيجة انقطاع موارد المياه عنها، أو تبدل طعمها، تبدلًا لا يطاق.
__________
1 نزيه مؤيد العظم، رحلة في بلاد العرب السعيدة "ص45".
2 بلاد العرب "211".
3 تاج العروس "2/ 228 وما بعدها"، "ملح".(13/196)
العيون:
ويقال لينبوع الماء "العين". وعيون الماء معروفة مشهورة في مواضع كثيرة من جزيرة العرب، وهي مواضع الخصب والنماء والزرع. ويستفاد منها في سقي المزارع وإرواء الأشجار المغروزة في هذه الأماكن، على أن كثرة مياه بعض العيون قد صار سببًا في انتشار الأوبئة مثل "الملاريا" كما في واحة خيبر ذات العيون العديدة. ويقال لمجاري الماء من العيون القصّب، وقيل قصبة كل مخرج ماء. ويقال للعين التي لا ينقطع ماؤها عين حشد. أما إذا كانت العين كثيرة الماء فيقال لها عين غزيرة، وعين زغربة، وعين غدقة، وعين ثرة، وكذلك ثرثارة1. وقد ذكر العلماء أسماء عيون عديدة كانت ذات مياه عذبة، هي رحمة للناس تنقذ حياتهم وحياة ماشيتهم من العطش والحر الشديد، وقد أقيمت حولها قرى، مثل "ينبع"، قرية وحصن، ذكر أنها كانت ذات عيون كثيرة، زرعت عليها نخيل وزروع2.
وبعض العيون عيون معدنية، بعضها بارد، وبعضها حار يستشفى فيه. ويقال للعين الحارة: الحمة3. وذكر علماء اللغة أن الحمة كل عين فيها ماء حار ينبع يستشفى بالغسل منه. وقد أشير إليها في الحديث4. وكان أهل الجاهلية يستشفون بالاغتسال في العيون الحارة، وخاصة عند إصابتهم بأمراض الجلد.
والعيون: هي مما استنبطته الطبيعة في الغالب، فلا يد للإنسان في وجودها، وهي تكون عامة لأهل المنطقة التي تقع فيها، يشربون منها سواء، وقد تكون مما استنبطه الآدميون، فتكون ملكًا لمستنبطها ولورثته من بعده، لهم تملكها ولهم حق بيعها، تسقي ملكهم لا ينازعهم عليها منازع، وإذا سال ماء العين فيعبر عن ذلك بلفظة "ثج"، أي سال5.
ونقرأ في كتب الأخبار واللغة لفظة "الغمر" علمًا لمواضع فيها مياه غزيرة، قد تكون آبارًا وقد تكون عيونًا. ومنها "الغمر"، بئر قديمة بمكة حفرها بنو سهم، و"غمر ذي كندة" بينه وبين مكة يومان، و"الغمر" باليمامة، موضع ماء6. وأما لفظة "الركايا"، فتعني الآبار7.
__________
1 المخصص "10/ 33".
2 تاج العروس "5/ 517"، "نبع".
3 المخصص "10/ 33".
4 تاج العروس "8/ 260"، "حمم".
5 تاج العروس "2/ 13"، "ثجَّ".
6 تاج العروس "3/ 453 وما بعدها"، "غمر".
7 تاج العروس "10/ 155"، "ركا".(13/197)
الكراف:
وترد لفظة "كرفن"، أي "الكرف"، و"الكريف"، في النصوص المتعلقة بالإرواء والإسقاء والزراعة. وقد فسرها بعض العلماء بـ"صهريج". وفسر "الهمداني" لفظة "كريف" بقوله: "كريف جوبة عظيمة في صفا يكون فيها الماء السنة وأكثر"1. والكرف صهاريج، نقرت في الصخر، ومنها كريف "درداع"، وهو كريف "وحاظة" واسمها "سباع"، ذكر أن مساحته "600" ذراع في مثلها، وكريف "الوفيت"، منقور في الصخر الأسود، عمقه في الأرض خمسون ذراعًا، وعرضه عشرون، وطوله خمسون. محجوز على جوانبه يمنع السقوط فيه2.
ويقال للموضع الذي يجتمع فيه ماء كثير، أو للماء الجاري الدائم الذي له مادة لا تنقطع كماء العين والبئر "العد". وقد وردت اللفظة في كتب الحديث. وقد نهى الرسول عن اقطاع "الأعداد"3. وقد ذكر علماء اللغة أن من معاني العد: الماء القديم الذي لا ينتزح، وأنه الماء الكثير بلغة تميم، والماء القليل بلغة بكر بن وائل، والركي في لهجة بني كلاب، ومن الماء العد: كاظمة، جاهلي إسلامي، لم ينزح قط. وفي الحديث نزلوا أعداد مياه الحديبية، أي ذوات المادة كالعيون والآبار4.
__________
1 الهمداني "ص80". Rhodokanakis, Ii, S. 95, Hartmann, Arab. Frage, S. 400.
2 زيدان، العرب قبل الإسلام "168".
3 جامع الأصول "11/ 228".
4 تاج العروس "2/ 416"، "عدّ".(13/198)
القنى:
والقناة كظيمة تحفر في الأرض تجري بها المياه، وهي الآبار التي تحفر في(13/198)
الأرض متتابعة ليستخرج ماؤها ويسيح على وجه الأرض1. ويكثر وجودها في العربية الجنوبية، ولا تزال آثارها باقية، وقد استفيد من بعضها في الشرب والسقي. والقنا والفقر، واحد2، و"الفقرة" الحفرة في الأرض3.
__________
1 تاج العروس "10/ 304"، "قنو".
2 عرام، أسماء جبال مكة وتهامة "ص413".
3 تاج العروس "3/ 475"، "فقر".(13/199)
التلاع:
وقد تنحدر المياه من عيون في الإسناد والنجاف والجبال حتى تنصب في الأودية وفي الأماكن المنحدرة، مكونة تلاعًا. و"التلعة" مسيل الماء من أعلى الوادي إلى أسفله. والتلاع مجاري أعلى الأرض إلى بطون الأودية. وتلعة الجبل أن الماء يجيء فيخد فيه ويحفره حتى يخلص منه. وربما جاءت التلعة من أبعد من خمسة فراسخ إلى الوادي، فإذا جرت من الجبال فوقعت في الصحاري حفرت فيها كهيأة الخندق، وإذا عظمت التلعة حتى تكون مثل نصف الوادي أو ثلثيه، فهي ميثاء. وقد تجري التلاع عند سقوط المطر وتكوين السيول، فيجري الماء بسرعة جارفة، تجرف ما قد يقف أمامها من مانع. ولذلك كانوا يخافون نزول التلعة، خشية خطر مجيء السيل فيجرف من قد يكون فيها. وللعرب أمثلة في التلاع، منها: "لا يمنع ذنب تلعة"، يضرب للذليل الحقير، و"لا أثق بسيل تلعتك"، يقال لمن لا يوثق به، "ما أخاف إلى من سيل تلعتي"، أي من بني عمي وأقاربي؛ لأن من نزل التلعة، وهي مسيل الماء، فهو على خطر إن جاء السيل جرف به1. ومما يدل على غرق أناس في هذه التلاع.
ويقال لمسيل ما بين التلعتين "المذنب"، وذنب التلعة. والمذنب مسيل في الحضيض ليس بخد واسع. وأذناب الأودية ومذانبها أسافلها. وقال بعض علماء اللغة: المذنب: مسيل ما في الحضيض والتلعة في السند، والجدول يسيل عن الروضة بمائها إلى غيرها، فيتفرق ماؤها فيها، والتي يسيل عليها الماء مذنب أيضًا. قال امرؤ القيس:
__________
1 تاج العروس "5/ 391"، "تلع"، "1/ 648"، "ميث".(13/199)
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... وماء الندى يجري على كل مذنب1
وإذا انحدر المطر إلى موضع واطئ، قيل إنشل، وانشل السيل وانسل ابتدأ في الاندفاع قبل أن يشتد2.
و"الوشل": ماء يخرج من شاهقة، فيسقط إلى منحدر3. وتوجد الأوشال في الجبال، وفي الشواهق وذكر علماء اللغة أن الوشل الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة، يقطر منه قليلًا قليلًا، أو الماء الكثير، فهو من الأضداد. وفي تهامة جبل يقال له الوشل فيه مياه كثيرة. وقد يقال للقطرات التي تنزل من سقف كهف أو لحف جبل فتجتمع في أسلفه الوشل4.
__________
1 تاج العروس "1/ 255"، "ذنب".
2 تاج العروس "7/ 395"، "شلل".
3 عرام، أسماء جبال تهامة وسكانها "ص397"، "نوادر المخطوطات".
4 تاج العروس "8/ 154"، "وشل".(13/200)
التحكم في الماء:
وللسيطرة على المياه، ولا سيما مياه الأمطار، عمد أهل الجاهلية إلى اتخاذ مختلف الوسائل في التحكم فيها. بعضها بدائية وبعضها راقية تدل على براعة وعلم وفن. منها اتخاذ السدود للهيمنة على الماء، وخزنه للاستفادة منه عند الحاجة، وتوجيهه الجهة التي يريدونها. وقد أظهر العرب الجنوبيون مقدرة كبيرة في الاستفادة من الأمطار ومن مياه الينابيع والأنهار لاستعمالها في الإرواء والشرب والسقي. وتحكم مهندس الإرواء عندهم في الماء وسيطر عليه، لكيلا يذهب هباء، فاستخدم لضبطه الأبواب والفتحات والحواجز والرحاب، ونوع في المجاري وفي مسايل المياه، ليستفيد من الماء قدر إمكانه فلا يفلت منه شيء.
ولم يكن من السهل على حكومات ذلك الزمن السيطرة على مياه السيول والاستفادة منها، فكانت تذهب سدى، بعد أن كانت تصيب الأرض والناس بالأضرار وحين تنحدر هذه السيول من النجاد والجبال والأمكنة المرتفعة، تتحول الأودية فجأة وبسرعة أنهارًا عريضة كبيرة، تسيل مياهها مندفعة هدارة، لكنها لا تلبث(13/200)
طويلًا، بل تزول وتذهب وتجف الأودية ولا يبقى فيها من الماء شيء، إذ يسيل إلى البحر أو يغور في التربة. وقد اجتهد الجاهليون أن يستفيدوا من هذه السيول فأقاموا السدود على قدر إمكانهم كما فعلوا في سد مأرب وفي سدود أخرى كما يظهر من الآثار، ولكن قدرتهم الفنية والمالية لم تكن من الاتساع والقوة بحيث تساعدهم على السيطرة على السيول.
وقد عثر على آثار سدود في مختلف أنحاء جزيرة العرب. وقد أنشئت في المواضع التي يزورها الغيث وتنهمل عليها الأمطار. وقد تقام لضبط مياه النهيرات والينابيع، لجمعها، ثم إعادة توزيعها. وبعض هذه السدود المندثرة هو اليوم في مناطق صحراوية لا ماء فيها لا بشر، مما يشير إلى أنها كانت مأهولة، ثم عفى على أهلها الدهر، فأهملت وتهدمت.
وبعض هذه السدود، سدود بسيطة، صنعت من تراب أو من تراب وحجارة لمنع ماء المطر من الذهاب عبثًا, فيسد طريقه ويحبس في منخفض أو حوض ليستفاد منه. وقد أمر الرسول بسد ماء السماء في موضع ليستفاد من الماء، فعرف بـ"سد". ويطل جبل "شوران" على السد1. وأمر "معاوية" بسد الوادي الذي يمر بحرة المدينة، فحبس سيله بسد، عرف بسد معاوية فهو يحتبس فيه الماء، يرده الناس بمواشيهم يسقونها2. ويمر على طرف "قدوم" ويصب في "أحد"3. و"قدوم" جبل على ستة أميال من المدينة4.
وتتخذ "المُسُك" لمسك الماء وحبسه، تمنعه من الذهاب عبثًا. كأن تمنعه من أن ينصب في البحر5.
ويقال للسد "عرمن" في العربيات الجنوبية، أي "العرم". فلفظة "العرم" تعني السد عند اليمانيين القدماء، ولم تكن علمًا على سد معين. أعني سد مأرب. وقد وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} 6.
__________
1 عرام، أسماء جبال تهامة "ص425".
2 بلاد العرب "401".
3 البلاذري، فتوح "26".
4 تاج العروس "9/ 20"، "قدم".
5 تاج العروس "7/ 177 وما بعدها"، "مسك"، عرام، أسماء جبال تهامة "397".
6 سورة سبأ، الآية 16.(13/201)
وفي هذه الآية إشارة إلى حادث انفجار سد مأرب كما يذهب إلى ذلك المفسرون.
وتولت الحكومات في اليمن إنشاء السدود وحفر القنوات والسواقي، وأنفقت على الأعمال من أموالها، وقدمت المواد الغذائية وبعض الأجور إلى العمال. وكانت تطلب إلى سادات القبائل والقرى تقديم الرجال للعمل وتقوم هي بإعاشتهم طوال أيام عملهم، كالذي ورد في نص "أبرهة" عامل الحبشة على اليمن، فقد كان يقدم الطعام إلى العمال لقاء اشتغالهم ببناء السد. وقد ذكر مقدار ما قدمه وما صرفه عليهم من طحين وبر وتمر ولحم وقد يشغل العمال سخرة، فلا تدفع الحكومة أو سيد القبيلة أو الموضع إليهم شيئًا. وقد كانت السخرة شائعة في ذلك العهد، لا في اليمن حسب، بل في العالم القديم كله، فيسخر العمال بتكسير الحجارة واقتلاعها من المحاجر ونقلها إلى الأماكن التي يراد إقامة السدود أو منشآت البناء فيها أو غير ذلك، ثم بإصلاحها وببقية أعمال البناء اللازمة، إلى أن تنجز، وعندئذ يسمح لهم بالانصراف إلى حيث يشاؤون.
وفي الحالات الاضطرارية يحشر الناس حشرًا، كما في الفيضانات المفاجئة التي تنشأ عن السيول. فتحشر الحكومة ورؤساء المدن والعشائر كل من يجدونه أمامهم للعمل على إنشاء الحواجز والسدود وفتح المجاري لمرور المياه لإنقاذ الأرواح والأموال من الكوارث والأضرار.
وقد تتولى المعابد هذه الأعمال، فتصرف عليها من واردها، تعد ذلك هبة أو دينًا تتقاضاه من أصحاب الأرض ومن المستأجرين في المدن والقرى، كما يتولاها أيضًا رؤساء القبائل، بأن يكلفوا القبيلة القيام بذلك العمل، مقابل تعهدهم بتقديم الطعام للمشتغلين به، وقد يكلفونهم ذلك سخرة مستخدمين حق القوة التي يتمتعون بها إن كانوا رؤساء أقوياء.
وفي كتب أهل اللغة والأخبار تعابير عديدة عن سيل السيول، وأثرها في الأرض وجرفها التربة وما عليها، وتفتيتها أشفار الأودية والأماكن التي تنحدر منها وكيفية قلعها الأشجار والصخور1. يظهر منها كلها أن أثر السيول كان شديدًا مؤذيًا، وهو ما زال على أذاه إلى هذا اليوم.
__________
1 المخصص "9/ 126 وما بعدها".(13/202)
المسايل:
وللسيطرة على المياه، ولا سيما مياه الأمطار، عمد العرب الجنوبيون إلى الوسائل الصناعية الفنية في التحكم فيها، فأنشأوا المجاري الصناعية لترجي فيها المياه وتسيل فلا تذهب عبثًا ولا تجري في القنوات إلا بقدر. ومن هذه المجاري ما يقال له "ماخذ" و"ماخذت" في لغة المسند. أي "مأخذ" و"مأخذة". ويراد بالمأخذ المجرى المحفور المعمق لمرور المياه إلى الحقول والبساتين أو المعابد1.
ويقال للقناة أي الممر الذي تمر منه المياه "عبرن" في اللهجات العربية الجنوبية، أي المعبر. ذلك؛ لأن المياه تعبرها وتجري فيها وتسيل منها إلى الأماكن التي كان يقصد وصولها إليها2. وترد بكثرة في النصوص المتعلقة بتنظيم الإرواء وفي النصوص المتعلقة بشؤون الزراعة. وأما لفظة "امررن" فتعني "المرور"، والإمرار و"الممرات"، وقد وردت في النصوص الزراعية بمعنى الممرات المائية التي تجري فيها المياه، فهي بمعنى سواقٍ لإسقاء الأرض3. وأما الممر الواحد أو الوادي، فيقال له "سرن"4.
وترد كثيرًا في النصوص المتعلقة بشؤون الإرواء لفظة "حرت". وورودها فيها يدل على وجود علاقة لها بالإسقاء والإرواء. ويظهر أن لهذه اللفظة صلة بلفظة "خر" العربية التي تعني ما خده السيل من الأرض، والشق، فيقال خر الماء الأرض خرًّا إذا شقها، والهوى من علو إلى أسفل. وإذا تدهدى الشيء من علو5. وهي بهذا المعنى وبمعنى ثقب وفتحة في لغة بني إرم وفي العبرانية المتأخرة، وتؤدي لفظة "خرو" Harru معنى قناة في الأشورية. وهذا يدل على أن للفظة "حرت" معنى قناة أو فتحة تفتح في السد، أو في مجرى ماء، لإسالة الماء من الفتحة إلى القناة أو المجرى المخصص بجري الماء6.
وقد عثر السياح الذين زاروا اليمن ودرسوا آثار السدود على "حرات"
__________
1 Rw 59, Bu. San’a 1909, Jemen, Ii, 431, Mordtmann Und Mittwoch, Sab. Inschr., S. 17.
2 Rep. Epigr. 4351, Vii, Ii, P.210.
3 Rep. Epigr. 4351, Vii, Ii, P.209.
4 Rep. Epigr. 4351.
5 تاج العروس "3/ 172"، "خرّ".
6 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 81, 85, 115.(13/203)
كثيرة تتخلل جانبي السد. وهي عبارة عن فتحات مستديرة، تختلف أقطار فتحتها بحسب كميات المياه المراد إمرارها منها إلى "القنوات". وهذه الفتحات هي الحرات "حررتن". والفتحة الواحدة هي "حرت" "حرة"1. ويعبر عن أحداث فتحة أو ثغرة في جدار أو جبل أو في صخرة لإسالة الماء منها أو فتح شيء ما، بلفظة "بلق". وتؤدي لفظة "مخض" معنى "بلق" أيضًا، فهي أيضًا بمعنى إحداث ثغرة أو فتحة، غير أنها تستعمل للتعبير عن معان أخرى مثل فتح الطرق وشقها في الجبال في الغالب، أو إحداث طريق فوق "منقلن". ويراد بالمنقل معنى "نقيل" أي ممر.
ولما كانت العربية الجنوبية ذات جبال ومرتفعات، تصطدم بها الرياح المتشبعة بالأبخرة، فتتساقط مطرًا، عمل المهندسون على الاستفادة من هذه الأمطار بالتحكم فيها وبتوجيهها الجهة التي يريدونها، وذلك بإحداث فتحات في الصخور وعمل قنوات وأنفاق لإكراه الماء على المرور منها إلى المواضع التي يريدون خزنها فيها للاستفادة منها عند الحاجة، ولتكوين مسايل كبيرة تتجمع فيها المياه فتجري كالأنهار.
وتؤدي لفظة "قلح" معنى سال وجرى وصب، ولها معان أخرى ذات صلة بالحركة. وبهذا المعنى ترد لفظة "سفح" كذلك2. ولسفح في عربيتنا معنى قريب من معناها في المسند، فمن معاني السفح، عرض الجبل حيث يسفح فيه الماء، وسفح بمعنى سال وأراق وصب3. وهي معان لها صلة بجريان الماء.
وأما لفظة "منفخت" "منفخة"، و"منفخ"، من أصل "نفخ"، فإنها تعني فتح الماء وإسالته، وذلك بفتح الفتحات الماسكة له ليسيل منها إلى المجاري المخصصة بمسيله. وهي في معنى لفظة "منفس" التي هي من أصل "نفس". ويراد بها خروج الماء وجريانه من الفتحات الحابسة له وارتفاعه نتيجة لفتح الماء. وهي من ألفاظ الإرواء الواردة في الكتابات العربية الجنوبية4. ويستعمل العراقيون جملة "تنفس الشط" بمعنى ارتفع ماء النهر وزاد، وذلك
__________
1 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 118.
2 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 62.
3 تاج العروس "2/ 164"، "سفح".
4 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 82.(13/204)
في أيام الفيضان. و"تنفس الموج" و"تنفس دجلة". فالمنفخ والمنفس إذن في معنى واحد، ويطلقان على عملية رفع مستوى الماء بزيادة كمياته من الفتحات التي تضبطه وتسيطر عليه، لأجل رفع مستواه في الأنهار أو في المجاري والسواقي لإرواء الأرضين في يسر وسهولة، ولا سيما الأرضين المرتفعة بعض الارتفاع.
ويقال لمجرى الماء الصغير المتفرع من مجرى أوسع منه "مسبا". وذهب بعض الباحثين إلى أن المراد بهذه اللفظة الصهريج. وقد عرف علماء اللغة "المسبا" بأنه الطريق في الجبل1.
أما السواقي ومجاري الماء الصغيرة التي تستعمل في إسقاء المزارع والحدائق، فيقال لها "مسقيت"، أي "مسقية", "ساقية"2. وذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة "مسفحة" "المسفحة"، تعني الساقية أيضًا3.
ويعبر عن خروج الماء وسيلانه ونزوله بلفظة "فجر"4. و"الفجر" في عربيتنا تفجير الماء، يقال انفجر الماء وتفجر: سال وانبعث. والمفجر والمفجرة منفجر الماء من الحوض وغيره. وفجرة الوادي، متسعه الذي ينفجر إليه الماء5. و"الشرج" مسيل ماء من الحرة إلى الوادي، ومنفسح الوادي6، فلها علاقة بمسير الماء وسيلانه. وبهذا المعنى وردت لفظة "سفح" في المسند7.
__________
1 "والمسبأ كمقعد الطريق في الجبل". تاج العروس "1/ 76"، "سبأ".
Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 112, Hommel, Aufs. Und Abbadlungen, S. 126.
2 Glaser 1150, Halevy 193, 199.
3 Muller, Wzkk, Ii, S. 189, Rhodokanakis, Stud. Lexi, Ii, S. 89.
4 Halevy 149, Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 59.
5 تاج العروس "3/ 464"، "فجر".
6 تاج العروس "2/ 63"، "شرج".
7 Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 59, Alt. Sab. Inschr., S. 77.(13/205)
المصانع:
وللاستفادة من ماء المطر استعملوا المصانع، جمع مصنعة. مساكات لماء السماء، يحتفرها الناس فيملؤونها ماء السماء يشربونها. والمصنعة كالحوض أو شبه(13/205)
الصهريج، وذكر أن الحبس مثل المصنعة1. وذكر أن المصانع مساكات لماء المطر يحتفرها الناس، وأن العرب تسمي القرى مصانع، تقول هو من أهل المصانع، أي القرى والحضر، والمصانع أيضًا المباني من القصور والآبار وغيرها والحصون. والصنع، مصنعة الماء، وهي خشبة يحبس بها الماء وتمسكه حينًا، وسمت العرب أحباس الماء الأصناع، وبهذا المعنى: الصناع والصناعة2. و"الرصف" السد المبني للماء3. ويكون من حجارة مرصوف بعضها إلى بعض في مسيل فيجتمع فيها المطر4.
__________
1 تاج العروس "5/ 422"، "صنع"، المخصص "10/ 52 وما بعدها".
2 تاج العروس "5/ 422"، "صنع".
3 المخصص "9/ 153".
4 تاج العروس "6/ 117"، "رصف".(13/206)
السكر:
ويعبر في لهجة أهل الحجاز بلفظة "سكر" و"سكر الأنهار" عن سد الماء وحبسه، وذلك لضبط الماء، فلا يتسرب إلى المزرعة أو إلى مكان فيغرقه، أو لحبس الماء للاستفادة منه في الإسقاء1. وقد يكون السكر ثابتًا دائمًا، مبنيًّا له فتحات تغلق وتفتح وقت الحاجة إليه، وقد تكون مؤقتة تزال وتسد بحسب الحاجة، وتكون هذه في السواقي والنهيرات. وتؤدي لفظة "حبس الماء" معنى سده ومنعه من السيلان والجري، وذلك بواسطة السكر والحاجز المقام. وتؤدي لفظة "السكر"، أيضًا معنى سد النهر و"العرم" أي السد، والمسناة2.
__________
1 عمدة القارئ "11/ 200 وما بعدها"، "باب سكر الأنهار"، تاج العروس "3/ 274"، "سكر".
2 تاج العروس "3/ 274"، "سكر".(13/206)
الأحباس:
و"الحبس" خشبة أو حجارة تبنى في مجرى الماء لتحبسه، كي يشرب القوم ويسقوا أموالهم. والجمع أحباس. وقيل ما سد به مجرى الوادي في أي(13/206)
موضع حبس. وقيل الحبس كالمصنعة تجعل للماء1. و"العرمة" سد يعترض به الوادي ليحتبس به الماء، والأحباس تبنى في أوساط الأودية2. و"الرجيع" محبس الماء، و"الخرنق" مصنعة الماء، والسرج والقرى والحافشة. وهذه مسايل الماء3. و"الخربق" مصنعة الماء واسم حوض4. و"الردم" السد5. و"الحواجر" و"الحاجر" ما يمسك الماء من شفة الوادي ويحيط به6. ومن الأحباس: حبس ضعاضع. جبيل عنده حبس كبير يجتمع عنده الماء. وهو حجارة مجتمعة وضعت بعضها على بعض7.
وتكون على السواقي ومسايل الماء والسدود، مسايل جانبية، تفتح عند الحاجة لمرور الماء منها إلى المزارع، تخرج من المسيل الأعظم يمنة ويسرة، يقال لها: "النواشط". وطريق ناشط، إذا كان ينشط من الطريق الأعظم يمنة ويسرة8.
وقد كان نضوب الماء من الآبار والغدران ومواضع الماء الأخرى من المشكلات التي جابهت الجاهليين. ومن المشكلات التي ما برح سكان جزيرة العرب يواجهونها اليوم أن بعض الآبار يغور ماؤها، فيضطر الناس إلى ترك أماكنهم، أو قد يتبدل طعم الماء، فلا يكون مستساغًا للشرب ولا مجديًا في الزراعة. وحفر الآبار في مواضع متقاربة يؤدي إلى انخفاض مستوى الماء أو نضوبه في كثير من الأحيان، وقد أدى إهمال الناس للآبار إلى تراكم الأتربة فيها، وانهيار جدرانها، ونضوب الماء منها، وارتحال الناس عنها.
__________
1 تاج العروس "4/ 124"، "حبس"، اللسان "6/ 45"، "حبس".
2 تاج العروس "8/ 395"، "عرم".
3 تاج العروس "6/ 331"، "خرنق".
4 تاج العروس "6/ 327"، "خربق".
5 تاج العروس "8/ 309"، "ردم".
6 تاج العروس "3/ 125"، "حجر".
7 قال الشاعر:
وإن التفاتي نحو حبس ضعاضع ... وإقبال عيني في الظبا لطويل
عرام، أسماء جبال تهامة "410".
8 تاج العروس "5/ 232"، "نشط".(13/207)
السدود:
السد في اللغة الحاجز، والوادي فيه حجارة وصخور يبقى الماء فيه زمانًا.(13/207)
وقد كان الجاهليون يقيمون حواجز عند مخارج السيول، لحبس الماء في المنخفضات لتكوين أحواض لحفظ الماء فيها، للاستفادة من مائها عند انقطاع السيول وظهور الجفاف. ولما كان بناء سد ضخم بحجارة وبجدر مرتفعة طويلة، عمل يحتاج إلى مهارة وخبرة وإلى مال، وإلى وجود حكومة كبيرة متمكنة من الناحية المادية، وهي شروط لم تكن متوفرة في معظم أنحاء جزيرة العرب، ما خلا اليمن، صارت السدود في معظم أنحاء جزيرة العرب سدودًا صغيرة بدائية في أغلب الأحيان، هي مجرد حواجز من تراب أو من صخور كدست بعضها فوق بعض لحبس الماء في المنخفض ومنعه من الجريان. وقد شاهد السياح آثار سدود جاهلية في أنحاء جزيرة العرب، ووصفوها، وذكروا أن من الممكن الاستفادة من بعض تلك السدود ومن مواقعها، وأشادوا بمقدرة من شيدها وأقامها وبقابلياته الهندسية وبفطنته في حسن اختيار المواقع، بالرغم من ضعف القدرة الفنية وبدائية الأساليب التي استعملت في ذلك الزمن1.
ومن السدود: "السد" ماء سماء في "حزم بني عوال"، جبيل لغطفان أمر الرسول بسده. وسد "أبي جراب" أسفل من عقبة منى دون القبور عن يمين الذاهب إلى منى، منسوب إلى "أبي جراب عبد الله بن محمد بن عبد الحاراث بن أمية الأصغر"، وسد قناة2، وسد "العياد"، وقد أقيم في موضع يبعد عن الطائف زهاء ستة أميال، كتب عليه بالخط الكوفي المحفور على الحجر: "هذا سد عبد الله بن معاوية أمير المؤمنين. بناه عبد الله بن إبراهيم". وكان ذلك سنة "58" للهجرة. وقد أقيم بالحجارة وحدها، فلم يضع مهندسه، عبد الله بن إبراهيم مادةً من مواد البناء مثل الملاط أو الطين وما شابه ذلك بين الحجارة لتثبيتها وضمها بعضها إلى بعض حتى تتماسك، فتكون كأنها قطعة واحدة. وهي طريقة معروفة في اليمن، استعملها المهندسون الجاهليون كما يظهر ذلك من فحص الخرائب العتيقة الباقية من الأبنية والسدود الجاهلية. ولا يزال هذا السد في حالة ممتازة يتحدث عن نفسه وعن قدرة المهندس الذي أقامه في هذا المكان.
__________
1 تويتشل، المملكة العربية السعودية "ص50".
2 تاج العروس "2/ 373"، "سدد".(13/208)
سد مأرب:
واستبد سد مأرب من بين سائر سدود جزيرة العرب بالاسم والذكر، ونال مكانة كبيرة في كتب التفسير والسير والأخبار. ولذكر القرآن لـ"سيل العرم"، نصيب كبير في توجيه أنظار علماء التفسير واللغة والأخبار إليه، وفي خلود اسمه إلى الآن. وقد روى أهل الأخبار قصصًا عنه وعن كيفية خرابه، وتشتت شمل سبأ بسببه، ونزوحهم إلى مواضع بعيدة عن ديارهم القديمة.
ويعد سد "مأرب" من أهم السدود التي أقيمت في اليمن وفي جزيرة العرب. وقد بني من أجل السيطرة على مياه الأمطار والسيول التي تتدفق منها لوقاية المزارع والقرى منها، وللاحتفاظ بهذه السيول للاستفادة منها إذا انقطعت الأمطار، وإرواء مناطق واسعة من الأرضين، جيدة التربة، خصبة مثمرة، لكن بها حاجة شديدة إلى الماء، وما كان في الإمكان إنباتها لولا السيطرة على السيول وإنشاء هذا السد.
وتأتي السيول إلى السد من أماكن عديدة، من "ذمار"، و"جهران"، و"الحدي"، و"حولان"، وبلاد مراد، وقيفة، وعروش، وجوانب ردمان، وشرعة، وكومان وغيرها، وذلك إذا أمطرت السماء وتجمعت فيها السيول وانحدرت. حتى تنتهي إلى وادي "أذنة"، فتسير فيه المياه حتى تنتهي إلى مضيق بين جبلين، يقال لكل منهما "بلق"، ويسميهما "الهمداني" مأزمي مأرب، تسير المياه فيه حتى تدخل منخفضًا من الأرض واسعًا، هو حوض هذا السد. تدخر مياه الأمطار فيه. وله سدود وأبواب لحجز المياه وحبسها، أو لتصريفها حسب الحاجة. فتمر من أبواب تفتح وتغلق، لتمر المياه منها في قنوات توزع إلى الأماكن التي يراد توجيه الماء إليها1.
ولا توجد لدينا نصوص عن أول رجل أقام هذا السد، وعن العهد الذي تم فيه البناء. وكل ما لدينا اليوم عن وقت بنائه لأول مرة هو لذلك حدس وتخمين.
__________
1 زيدان، العرب قبل الإسلام "170 وما بعدها"، العظم "2/ 88 وما بعدها"، البلدان "4/ 383"، حمزة "126"، الأغاني "16/ 72"، الصفة "80".
Muller, Burgen, Ii, S. 83. F.(13/209)
ويرى "كلاسر" أن عهده يعود إلى السنة السبعمئة قبل الميلاد1. وقد بقي قائمًا يؤدي واجبه إلى حوالي السنة "575" بعد الميلاد2. ويظهر من بعض الكتابات المحفورة على جدرانه بالمسند أن جملة تحسينات وتعميرات أدخلت عليه في أوقات مختلفة قبل الميلاد وبعدها، وآخرها هو إصلاح أبرهة له الذي تم على أثر تصدعه سنة 542 للميلاد. ويظهر أن تصدعًا آخر وقع للسد في أيام طفولة الرسول، وذلك في حوالي السنة "575" للميلاد، لم يكن من الممكن التغلب عليه، بسبب التدهور الاقتصادي الذي حدث في هذا العهد في اليمن وارتباك الأوضاع السياسية واضطراب الأمن وانتشار الثورات في كل مكان وتدخل الأجانب في شؤون البلاد فتصدع قسم كبير منه، ولم يهتم أحد من الحاكمين في إعادته إلى أصله بإصلاحه وترميمه، وتحولت بذلك الأرضين الخصبة التي كانت تروى بمائه والتي كانت واسعة إلى أرضين موات، غطتها الطبيعة بطبقة من الرمال والأتربة وألبستها أكسية الصحراء الحزينة، حدادًا على فراقها لذلك السد العتيد.
وتعود أقدم الكتابات الباقية إلى أيام "المكربين". وتأتي كتابة "سمه علي ينف" "سمهعلي ينوف" مكرب سبأ على الرأس. ويظهر منها أن هذا المكرب قد أقام سد "رحاب"، وقد اشتغل به ابنه "يثع أمر بين" وقواه، كما بنى سدًّا آخر عند "حبابض"، ويقع في المنطقة الشمالية من سد مأرب3.
وقام المكرب "كرب ال بين بن يثع امر"، ببناء جزء من السد وتقوية أجزائه الأخرى. كما قام الملوك بإضافة أجزاء جديدة إليه، وتقوية الأجزاء القديمة منه. ومن هؤلاء الملك "ذمر علي ذرح" ملك سبأ، والملك "يدع ال وتر" "يدع ايل وتر"4.
كذلك أصلح الملك "شمر يهرعش" هذا السد، ورممه الملك "شرحبيل يعفر" في سنة "449" للميلاد. ولكن المياه جرفت أقسامًا منه سنة "450" للميلاد، أي
__________
1 Ency., Iii, P.290.
2 A Grohmann, Sudarabien Ais Wirtschaftsgebiet, Ii, 23-28, A. Grohmann. S. 151.
3 Ency., Iii, P.290, Muller, Burgen, Ii, S. 13, F.
4 Muller, Burgen, Ii, S. 15.(13/210)
بعد سنة من الترميمات، فاضطر إلى إعادة إصلاحه وتقويته1.
وقد أقام المهندسون في الجهة الضيقة التي تسيل منها السيول إلى المجاري ثم إلى حوض واسع سدًّا قويًّا طوله نحو من "577" مترًا ونصف المتر، عرف بـ"رحاب" في المسند. أقيم في المنطقة التي تضيق فيها الشقة بين جزءي جبل "بلق"، حيث يمر بينهما واد يفصل بين الجزءين المعروفين بـ"بلق القبلي" و"بلق الأوسط". فسد الوادي بذلك وتحكم السد بمسير ماء السيول. وصار يجري من خلال فتحة، هي باب يتحكم الإنسان فيها كيف يشاء إلى "وادي أذنة" "وادي ذنة"، حيث يملأ الحوض2. وينتهي الحوض بسدين آخرين أقيما لتنظيم تصريف الماء المخزون عند الحاجة وتوجيهه إلى الأرضين المحتاجة إليه، بهما منافذ هي أبواب تفتح وتغلق للتحكم في توزيع الماء.
وقد استخدمت في بناء السد والحواجز حجارة اقتطعت من الصخور، وعولجت بمهارة وحذق حتى توضع بعضها فوق بعض، وتثبت وتتماسك وتكون وكأنها قطعة صلدة واحدة. ونحتت الصخور، بحيث صارت تتداخل بعض في بعض، بأن يدخل رأس من صخرة في فتحة مقابلة لها، فتكون كالمفتاح في القفل، وبذلك تتماسك هذه الصخور، وترتبط ارتباطًا وثيقًا، وتكون كأنها صخرة واحدة. وقد وجد أن بعض الأحجار قد ربطت بعضها ببعض بقطع من قضبان اسطوانية من المعدن المكون من الرصاص والنحاس يبلغ طول الواحد منها حوالي "16"، سنتمترًا، وقطرها حوالي الثلاثة سنتمترات ونصف. وذلك بصب المعدن في ثقب الحجر، فإذا جمد وصار على شكل "مسمار" يوضع الحجر المطابق الذي صمم ليكون فوقه في موضعه بإدخال "المسمار" في الثقب المعمول في الجهة السفلى من ذلك الحجر، وبذلك يرتبط الحجران بعضهما ببعض برباط قوي محكم. وقد اتخذت هذه الطريقة لشد أزر السد، وليكون في إمكانه الوقوف أمام ضغط الماء وخطر وقوع الزلازل3. أما المادة التي استعملت في البناء لربط الأحجار بعضها ببعض فهي من أحسن أنواع الجبس Gips، وقد تصلب هذه الجبس الذي طليت
__________
1 Glaser 554, Ency., Iii, P.290.
2 "وادي أذنة"، الصفة "80، 94".
3 العظم "2/ 92". A. Grohmann, S. 152.(13/211)
به واجهات السد أيضًا حتى صار كأصلب أنواع السمنت1.
وقد أقام المهندسون أبوابًا لدخول المياه منها وخروجها، كما أنشأوا فتحات لتقسيم المياه وتوزيعها على المجاري والسواقي تفتح وتقفل بحسب حاجة المزارع والأماكن إلى المياه. ولا يزال بعض جدر السد قائمًا، وآثار السواقي والمجاري التي كانت تجري فيها المياه من الحوض باقية، وهي تدل على مهارة منهدسي الري في ذلك العهد وعلى براعتهم في كيفية الاستفادة من الأرض ومن الطبيعة لخدمة الإنسان.
وبنيت في اليمن سدود أخرى، منها "قصعان"، و"ربوان"، وهو سد قتاب، وشحران، وطمحان، وسد عباد، وسد لحج، وهو سد عرايس، وسد سحر، وسد ذي شهال، وسد ذي رعين، وسد نقاطة، وسد نضار وهران، وسد الشعباني، وسد النواسي، وسد الخانق بصعدة، وسد ريعان، وسد سيان، وسد شبام، وسد دعان وغيرها2. وذكر "الهمداني" أن في مخلاف "يحضب العلو" ثمانين سدًّا3.
وسد "الخانق" سد ينسب إلى "نوال بن عتيك" مولى سيف بن ذي يزن، ومظهره في "الخنفرين" من رحبان. وقد خربه "إبراهيم بن موسى العلوي" بعد هدم صعدة4.
وهناك آثار سدود جاهلية أخرى أقيمت في مواضع متعددة من العربية الجنوبية. منها آثار سد قتباني أقيم عند موضع "هجر بن حميد" بوادي بيحان. وقد درسه ووصفه "بوون"5. كان يسقي بمائه منطقة واسعة من أرض مملكة قتبان.
__________
1 A. Grohmann, S. 152.
2 زيدان، العرب قبل الإسلام "169"، Muller, & Sudarabische, S. 88.
3 الصفة "101"، زيدان "169".
4 زيدان، "169".
5 A. Grohmann, S. 153, Hamilton, Archaeological Sites In The Western Aden Protectorate, In G.J., 101, “1943”, 116. Philby, The Land Of Sheba, G. J., 92 “1938”, 113, 119.(13/212)
وآثار سد "مرخة"1، وآثار سد آخر أقيم عند "شبوة"، وسد آخر عند "الحريضة"، تفرعت منه شبكة من القنوات والمجاري لإيصال الماء إلى المزارع والأرضين الخصبة التي تعيش عليها.
وقد ظهرت من الصور "الفوتغرافية"، التي أخذت من الجو لبعض مواضع من جزيرة العرب آثار شبكات للإرواء تتصل بأحواض مياه وسدود أقيمت لخزن مياه الأمطار فيها للاستفادة منها وقت الحاجة، ففي "وادي عديم" آثار جدر سدود وقنوات ومجاري مياه متصلة بعضها ببعض تمتد إلى مسافات بعيدة كانت تمدها بإكسير الحياة. وكذلك تشاهد آثار الإرواء عند "حصن العر" و"ثوبة" في القسم الجنوبي من "وادي حضر موت". وقد نحتت الصخور عند "نجران" لعمل ممر منها للماء ليذهب إلى حوض واسع أحيط بسد وجدار حيث يمكن خزن مئة مليون "غالون" من الماء فيه2.
__________
1 G. Gaton Thompson – E.W. Gardner, Climate, Irrigation And Early Man In The Hadhramut, G.J., 93 “1939”, 34. F, A. Grohmann, S. 153.
2 A. Grohmann, S. 153, Philby, The Land Of Sheba, G.J., 92 “1938”, 16.(13/213)
توزيع الماء:
وقد يوزع الماء الجاري من العيون والأنهار، بالنصيب. بأن تعين أوقات تفتح فيها المياه على مزرعة ما، فإذا انتهى الوقت سد الماء، وحول إلى مزرعة أخرى، وذلك لقلة الماء وعدم كفايته في اسقاء المزارع كلها دفعة واحدة، فيوزع بالحصص، في أوقات تثبت وتعين. وقد تقع الخصومات من جراء التجاوز وعدم التقيد بضبط الأوقات، كما يحدث في أيامنا في كثير من الأماكن الزراعية. ونجد في كتب الأخبار أمثلة عديدة من أمثلة هذه النزاع. ويقال للنصيب من السقي "سقي"1 أي الحظ من الشرب2.
__________
1 المفردات، للأصفهاني "235".
2تاج العروس "10/ 180"، "سقي".(13/213)
حقوق الري:
وللجاهليين أعراف محلية قامت مقام القوانين في الاستفادة من الماء. والمياه عندهم، أما مياه طبيعية لا دخل ليد الإنسان في استنباطها، مثل مياه الأمطار والعيون والأنهار. وإما مياه وجدت باستنباط الإنسان لها، باستخدام ماله ويده في تذليلها، كمياه الآبار والعيون التي يفجرها الإنسان ومياه الصهاريج والكهاريس والمياه التي تتجمع من إقامة السدود وما شاكل ذلك مما للإنسان يد وعمل في الاستفادة منها.
وطبيعي أن تختلف هذه الأعراف باختلاف مواضع جزيرة العرب. فالمياه في العربية الجنوبية من أمطار ومن مياه مستخرجة أو نابعة هي أكثر بكثير من مياه أي منطقة أخرى من جزيرة العرب. ولهذا نجد لها ذكرًا في الكتابات العربية الجنوبية، حيث نجد فيها إشارات إلى أحكام وإلى كيفية السقي وحقوق أصحاب الأرض في الماء وحقوق المستأجرين للأرض في الماء وإلى خصومات وقعت بينهم في موضوع حقوق التصرف بالماء.
ولدينا في الوقت الحاضر كتابات، هي قوانين صدرت من حكومات العربية الجنوبية في تنظيم حقوق السقي والاستفادة من الماء ومن حق الانتفاع من الآبار، كما تعرضت لموضوع حقوق شراء الأرض، وكيفية بيعها وما إلى ذلك مما يتعلق بالري والزراعة.
وأما في الحجاز، فقد استخدمت الآبار المحفورة، يحفرها أهلها ليستفيدوا من مياهها في الشرب وفي إسقاء الزرع والمواشي، وقد يكرونها لغيرهم مقابل كراء يعين. لهذا وضعوا أعرافًا خاصة بالنسبة إلى الاستفادة من حقوق ملكية الآبار.(13/214)
الخصومات بسبب الماء:
وطالما وقعت مشاحنات وخصومات بين أصحاب المزارع بسبب اشتراكهم في الماء، في مثل الشراج والجعافر والأنهار وأمثالها، إذ كان يستأثر بعضهم به، ولا يدع الماء يسيل إلى غيره إلا بعد أن يسقي زرعه سقيًا كاملًا، وكان أصحاب(13/214)
المزارع الذين تقع مزارعهم في أعالي منابع الماء يستأثرون به، بتوجيهه إلى مزارعهم، أو بوضع سكر يحبس الماء عن البساتين الواقعة خلف السكر، فيذهب الماء إلى مزارعهم ولا ينال المزارع الأخرى إلا القليل منه ونجد مثل هذه الخصومات في العربية الجنوبية وفي منطقة يثرب وفي مواضع الحسي وعيون الماء. وقد خاصم أنصاري "الزبير بن العوام" عند النبي في شراج الحرة، وهي مسايل الماء التي يسقون بها النخل، فقضى النبي، أن يسقى الأعلى ثم الأسفل1.
__________
1 إرشاد الساري "4/ 197 وما بعدها".(13/215)
الفصل السابع والتسعون: معاملات زراعية
المحاقلة
...
الفصل السابع والتسعون: معاملات زراعية
وقد تطرقت كتب الحديث والفقه إلى ذكر معاملات زراعية، كان المزارعون في الجاهلية يمارسونها. وهي عبارة عن عقود ومواثيق كانوا يأخذونها على أنفسهم بالقيام بأعمال زراعية معينة، مثل: المحاقلة، والمخابرة، والمزارعة، والمساقاة.
المحاقلة:
ولم ترد في نصوص المسند معلومات مسهبة عن المحاقلة عند العرب الجنوبيين. ولكن في استطاعتنا أن نقول إنها لم تكن تختلف في أسلوبها عن المحاقلة عند أهل الحجاز قبيل الإسلام. والمحاقلة عندهم اكتراء الأرض بالحنطة أو الذهب أو شيء آخر، والمزارعة على نصيب معلوم يتفق عليه بالثلث أو الربع أو أقل من ذلك أو أكثر، أو على الأوسق من التمر والشعير، أو على الدينار والدرهم1. ويقال للمحاقلة "نحقل" في المسند2.
__________
1 القاموس "3/ 359"، جامع الأصول "11/ 478"، تاج العروس "7/ 281"، "حقل"، عمدة القارئ "12/ 180 وما بعدها"، إرشاد الساري "4/ 187"، صحيح مسلم "5/ 26".
2 Rhodokanakis, Katab. Texte, I, S. 84.(13/216)
والمخابرة هي المؤاكرة، وهي المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع في الأرض1. وقيل: المخابرة المزارعة على النصف ونحوه، أي الثلث والمزارعة على نصيب معين كالثلث والربع وغيرهما وقيل المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض2. والمؤاكرة المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع. وهي المخابرة3. وفي الحديث كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى أخبر رافع أن رسول الله نهى عنها. وقد اختلف علماء اللغة في أصل اللفظة، فقال بعضهم: هي من خبرت الأرض خبرًا كثر خبارها، وقال بعض آخر من خيبر؛ لأن النبي أقرها في أيدي أهلها على النصف من محصولها، فقيل خابرهم، أي عاملهم في خيبر4. و"الخبر" في قول علماء اللغة الزرع، ومن هذه اللفظة يجب أن يكون أصل المخابرة. ويظهر من اختلاف العلماء في تعريف المراد من لفظة المخابرة، التي تعني المزارعة أنهم لما أرادوا وضع حد لمعناها، وجدوا المخابرين أي المزارعين أنماطًا وأشتاتًا في تثبيت حصص المخابرة ونصيبها، فحفظ كل ما سمعه، وظن أن ما وعاه وسمعه هو المخابرة، فجاءت تعاريفهم من ثم على هذا النحو. ولو أخذناها ودققناها، وجدنا أنها كلها شيء واحد، هو: المخابرة المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع في الأرض. أما تثبيت الأنصبة، فلا دخل له بالتعريف؛ لأنه مجرد تعامل أشخاص واتفاق أفراد، منهم من كان يزيد في النصيب ومنهم من كان ينقص منه، حسب الحاجة، على نحو ما يقع في كل تعامل مثل البيع والشراء.
والمزارعة المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها ويكون البذر من مالكها5. فإن كان من العامل، فهي مخابرة6.
وقد كانوا يتعاملون مع المزارعين أو الأجراء على "القصارة". وهي ما يبقى في المنخل بعد الانتخال، أو ما بقي في السنبل من الحب، مما لا يتخلص بعدما
__________
1 جامع الأصول "11/ 472"، شرح النووي "6/ 406 وما بعدها".
2 تاج العروس "3/ 167"، "خبر".
3 تاج العروس "3/ 17"، "أكر".
4 تاج العروس "3/ 167"، "خبر".
5 تاج العروس "5/ 368"، "زرع".
6 إرشاد الساري "4/ 170"، "ما جاء في الحرث".(13/217)
يداس، أو ما يبقى على الأرض من حب بعد التذرية1. فيشترط بعضهم أن تكون القصارى للمذري، وقد لا يوافق على ذلك صاحب الزرع، فتكون له. وقد يحدث الاختلاف بين صاحب الزرع وبين المذري، بسبب اتهامه للمذري، باستغلال الشرط، والإفراط في إسقاط الحب على الأرض للاستفادة منه.
وذكر أن أحدهم كان يشترط في المزارعة ثلاثة جداول والقصارة، أي ما سقى الربيع. وقد نهى النبي عن ذلك2. والجدول النهر الصغير، ونهر الحوض ونحو ذلك من الأنهار الصغار3.
ولما جاء المهاجرون إلى يثرب، وكان بينهم قوم يحسنون الزراعة، وكانوا يريدون عملًا يعتاشون منه، حاقلوا أصحاب الأرض على زرع أرضهم في مقابل نصيب معلوم، كانوا يتفقون عليه. وقد نجح بعض منهم في استغلال الأرض، وكسبوا منها. غير أن قسمًا منهم اختصموا مع الملاك، بسبب توزيع الحاصل أو الماء، فكان الرسول يتداخل بنفسه لحسم الخلاف. وقد صار الصحابة من أهل مكة بين تاجر وبين زراع، ورد في حديث "أبي هريرة": "لم يشغلني عن النبي غرس الودي، أي صغار النخل"4. وورد أن الأنصار قالوا للمهاجرين: تكفونا المؤونة في النخل بتعهده بالسقي والتربية ونشرككم في الثمرة، واتفقوا على ذلك5.
وقد نهى الإسلام عن المحاقلة والمزارعة والمؤاكرة، وذلك لما كان يقع بسببها من خلاف بين المالك والفلاح، وما كان يقع من ظلم في القسمة أو اختلاف على توزيع الحاصل. فلما جاء الرسول إلى "يثرب"، ورأى هذه الخصومات، نهى عن إيجار الأرض وكرائها بقوله: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها، فإن لم يفعل فليمسك أرضه"6. وفي رواية أخرى أنه لم "يحرم المزارعة، ولكن قال أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئًا معلومًا،
__________
1 اللسان "5/ 100 وما بعدها"، "قصر".
2 اللسان "5/ 101"، "قصر".
3 اللسان "11/ 106"، "جدل".
4 تاج العروس "10/ 387"، "ودى".
5 إرشاد الساري "4/ 175".
6 عمدة القارئ "12/ 180 وما بعدها"، تاج العروس "5/ 368"، "زرع".(13/218)
لأنهم كانوا يتنازعون في كراء الأرض حتى أفضى بهم إلى التقاتل بسبب كون الخراج واحدًا لأحدهما على صاحبه، فرأى أن المنحة خير لم من المزارعة التي توقع بينهم مثل ذلك"1.
وقد ذكر العلماء أن هذا النهي إنما وقع بسبب المنازعات التي كانت تقع فيما بين الطرفين المتعاقدين لاتفاقهما على شيء مجهول، وذكروا مثلًا آخر على ذلك هو كري المزارع على الأربعاء وبشيء من التبن. والربيع هو النهر الصغير. فتقع المنازعة ويبقى المزارع أو رب الأرض بلا شيء2. وقد كانوا يتعاقدون على ما ينبت على ربيع الساقي، أي النهر الذي يسقي الزرع. فيقع اختلاف بين المزارع والمالك، أو بين صاحب الماء والمزارع3. أما إذا كان الاتفاق على شيء واضح معلوم، في مثل استئجار الأرض البيضاء من السنة إلى السنة، أو في آجال يتفق عليها بالذهب والفضة، أي بالدنانير والدراهم، فقد جاز كذلك كما ورد في كتب الحديث4.
__________
1 إرشاد الساري "4/ 187 وما بعدها".
2 عمدة القارئ "12/ 183"، شرح النووي، "6/ 400"، "حاشية على إرشاد الساري".
3 تاج العروس "5/ 342"، "ربع".
4 تاج العروس "12/ 184".(13/219)
المساقاة:
وكما مارس أصحاب الأملاك والمزارعون الجاهليون طريقة المحاقلة والمزارعة، مارسوا "المساقاة" كذلك. وتكون بالاتفاق بين طرفين على قيام أحدهم بتوجيه الماء إلى صاحب أرض أو ملتزم لها أو غير ذلك، وهو محتاج إلى ماء مقابل تعهد يقدمه الطرف الثاني إلى صاحب الماء بعوض، مثل جزء من حاصل أو عين وما شابه ذلك، مقابل ذلك الماء. وذكر أن المساقاة، أن يستعمل رجلًا في نخيل أو كرم ليقوم بإصلاحها مقابل أن يكون له سهم معلوم مما تغله. وأهل العراق يسمونها معاملة1 وذكر العلماء أن أهل المدينة كانوا يقولون للمساقاة المعاملة،
__________
1 تاج العروس "10/ 180"، "سقى"، "8/ 36"، "عمل"، اللسان "11/ 476".(13/219)
وللمزارعة المخابرة، وللإجارة بيع، وللمضاربة مقارضة، وأن لهم لغات اختصوا بها1.
وقد يخصص الماء كله بالزرع، أي يكرى كله لمؤجره، وقد يكرى لما يسد حاجة الزرع، أي لإرواء الزرع الذي اتفق على إسقائه بالماء، في كل وقت، في النهار أو في الليل، وفي أي لحظة يشاء المستأجر لذلك الماء. وقد يكون على حظ من الماء، مثل ربع يوم أو ليلة، أو يوم معين، أو وقت يثبت. ويقال لهذا الماء "ربيع"، أي حظ2.
وطالما وقعت الخصومات بين المزارعين بسبب اختلافهم على الماء. فالماء هو رأس مال المزارع، فإذا انقطع عن زرعه، تأثر زرعه، وتعرض للهلاك، وزرعه هو رأس ماله وحياته. ومن هذا القبيل الخصومات التي تقع بسبب اشتراك جملة مزارعين في مورد ماء واحد، ومحاولة كل واحد منهم الحصول على أكبر مقدار من الماء، أو أخذه قبل غيره. والخصومات التي تقع من سيل الماء في الشرائج. والجداول التي تمر في عدة مزارع والينابيع والعيون التي تروي جملة أحواط ومحاقل. وقد أشير إلى جملة أنواع من هذه الخصومات في كتب الحديث3.
ومن عادة أهل "يثرب" أنهم كانوا يكرون الأرض، لأجل قصير أو لأجل طويل. فإذا كان الأجل طويلاً فربما غرسوا شجرًا، على نصيب معلوم من الثمر، وذلك؛ لأن أكثرهم لم يكونوا يملكون كثيرًا من الذهب والفضة، فكانوا يتعاملون على الشطر مما تغله الأرض. ولما جاء المهاجرون زارعوا الأنصار بالشكر على الثلث والربع، حتى ما كان بالمدينة بيت هجرة، إلا وزرع على الشطر4. أو على التبن أو على أوسق من تمر أو بر أو غير ذلك. وكرى بعضهم أرضه بالدراهم والدنانير وبالفضة وبالذهب. وقد أشير إلى ذلك في كتب الحديث5.
__________
1 جامع الأصول "11/ 172"، شرح النووي "6/ 406 وما بعدها".
2 تاج العروس "5/ 342"، "ربع".
3 عمدة القارئ "12/ 188 وما بعدها"، "كتاب المساقاة".
4 إرشاد الساري "4/ 176 وما بعدها".
5 إرشاد الساري "4/ 188 وما بعدها".(13/220)
إكراء الأرض:
وإكراء الأرض، بمعنى إيجار أرض ما لمدة معينة محدودة، أو بدون حد بشروط وفي مقابل بدل. ويقال لهذا البدل الذي يدفع عن ثمرة استغلال الأرض أو أي كراء "اثوبت"، أي "الثواب" "ثواب". ثواب أجر الانتفاع من الشيء الذي أجر. وقد يكون هذا الشيء أرضًا وقد يكون دارًا وقد يكون حيوانًا. فورد في بعض النصوص العربية الجنوبية أن أختين استأجرتا أرضًا على ساحل نهر "عبرت"، وبقرًا لتقوما بإيجارها إلى الفلاحين لاسغلالها بزرعها، وبتنمية البقر بشروط معينة، تنتهي بأجل نص عليه، في مقابل بدل إيجار "اثوبت" يدفع إلى أصحاب المال. وقد أشير في الكتابة إلى أن الإله "المقه"، قد وافق على العقد وباركه1. ومعنى ذلك أن العقد عقد شرعي وقد سجل رسميًّا وصار عقدًا معترفًا به قانونًا من الحكومة ومن المعبد.
ويراد بلفظة "عبرت"، لفظة "عبرة" و"العبرة" في لغتنا. والعبرة شاطئ النهر وناحيته، قال النابغة الذبياني يمدح النعمان بن المنذر:
وما الفرات إذا جاشت غواربه ... ترمي أواذيه العبرين بالزبد
يومًا بأطيب منه سيب نافلة ... ولا يحول عطاء اليوم دون غد2
وورد في أحد النصوص، أن ناسًا "ادم"، استأجروا أرضًا من الآلهة، على أن يدفعوا أجرها سنة بعد سنة، وحسبما اتفقوا عليه مع الآلهة3، مما يدل على أن هذه الأرض المؤجرة هي من أوقاف المعبد. وقد أجرها أولئك الناس، من رجال الدين الذين بيدهم أمر حبوس الآلهة.
ومن حق المؤجر، أي المالك إبطال العقد، إذا أخل المستأجر بشرط العقد أو أظهر كسلًا وتباطؤًا أو عدم مبالاة في استغلال الشيء المؤجر4. ويعني هذا أن
__________
1 Glaser 862 = Cih 290, 1064, 1572, Halevy 49, Sd 13, Glaser 131, Cih, 99, Grohman, 126, Handbuch, I, S. 124.
2 تاج العروس "3/ 376"، "عبر".
3 Halevy 49, Sd 13, Glaser 131, Cih 99, Grohmann, S. 126.
4 Grohmann, S. 126, Sd 21.(13/221)
الاتفاق كان على دفع نصيب معين من الغلة أو من ثمرة العمل. وبما أن هذا النصيب متوقف على مقدار الجهد الذي يبذل في استغلال الملك المؤجر، بحيث إذا زاد، زاد نصيب المؤجر عن إيجار ملكه، وإذا قل، قل نصيبه أيضًا، ومن حيث أن من مصلحة المؤجر أن يزداد وارد "اثوبت" ملكه، لذلك صار من حقه إبطال العقد، إذا رأى تهاونًا في تطبيق ما جاء فيه.
وقد كان أهل الحجاز، يكرون أرضهم، يكرونها بالثلث والربع والطعام المسمى وبالذهب وبالورق. وكانوا يدفعون الأرض على من يزرعها ببذر من عنده على أن يكون لمالك الأرض ما ينبت على مسايل الماء ورؤوس الجداول أو هذه القطعة والباقي للعامل. وقد نهى رسول الله عن أكثر أنواع هذه الكراء، ذكر أنه قال: " من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها "1.
__________
1 صحيح مسلم "5/ 18 وما بعدها"، "باب كراء الأرض".(13/222)
بيوع زراعية:
وتضطر الظروف الاقتصادية المزارعين إلى بيع الثمار وخضر البقول قبل بدو صلاحها، وقد يفعلون ذلك تخلصًا من معاملات جني الثمر وحراسته من اللصوص، وحمله إلى الأسواق، وأمثال ذلك من معاملات تحتاج إلى مال وجهد. ويقال لذلك "المخاضرة". وقد عرفت بأنها بيع الثمار قبل بدو صلاحها، سميت بذلك؛ لأن المتبايعين تبايعًا شيئًا أخضر بينهما، مأخوذ من الخضرة، ويدخل في ذلك بيع الرطاب والبقول وأشباهها1 فكان صاحب الأشجار والمزرعة يبيع ثمار زرعه لغيره، فيبيع الثمار قبل أن تطعم، ويبيع الزرع قبل أن يشتد ويفرك منه. وقد نشأت عن هذا البيع خصومات ومنازعات بسبب وقوع عاهات في الحاصل، تفسد على المبتاع ربحه، فيطلب عندئذ من البائع استرجاع ما دفعه له كله أو بعضه، وتقع عندئذ الخصومات. وقد بقيت سنتهم على ذلك حتى مجيء الرسول إلى المدينة، فكانوا يأتونه للمقاضاة، فوقع النهي منه على هذا النوع من البيوع،
__________
1 تاج العروس "3/ 180"، "خضر".(13/222)
ولم يسمح به إلا أن يبدو صلاح الثمر، فيتبين صلاحه ونوعه. وعندئذ لا يحق لمبتاع التذمر من شرائه؛ لأنه شاهد ما ينوي شراءه ورآه، فلا غبن فيه1.
ومن بيع المخاضرة شراؤها مغيبة من الأرض، كالفجل، والبصل، واللفت، والثوم وشبهه، وللفقهاء في ذلك جملة آراء2.
وورد أن "المحاقلة" نوع من البيوع. وهي بيع الطعام في سنبله بالبر، وقيل اشتراء الزرع بالحنطة. وقد نهي عنها في الإسلام3.
ومن أنواع البيوع التي تعرض لها الفقهاء "المزابنة". وهي بيع الثمر في رؤوس النخل بالتمر كيلًا، وبيع الزبيب بالكرم كيلًا. وذكر بعض العلماء أن المراد بذلك بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، وبيع التمر في رؤوس النخل بالتمر. وذكر أيضًا أن من المزابنة بيع التمر بكيل جزاف، وكل تمر بيع على شجره بتمر كيلًا، وقد نهي عنه في الحديث؛ لأنه بيع مجازفة من غير كيل ولا وزن. وقد نهي عنه لما يقع فيه من الغبن والجهالة. وذكر أن المزابنة كل جزاف لا يعرف كيله ولا عدده ولا وزنه بيع بمسمى من مكيل وموزون ومعدود. أو هو بيع معلوم بمجهول من جنسه، أو هو بيع مجهول بمجهول من جنسه، أو هو بيع المغابنة في الجنس الذي لا يجوز فيه الغبن؛ لأن البيعين إذا وقفا فيه على الغبن، أراد المغبون أن يفسخ البيع وأراد الغابن أن يمضيه فتزابنا فتدافعا فاختصما4.
__________
1 عمدة القارئ "12/ 2 وما بعدها".
2 عمدة القارئ "12/ 14".
3 إرشاد الساري "4/ 180".
4 عمدة القارئ "11/ 290 وما بعدها"، "12/ 13 وما بعدها"، القاموس "4/ 230"، تاج العروس "9/ 224"، "زبن".(13/223)
جمعيات زراعية:
ويظهر من بعض الكتابات أن بعض المقاطعات الزراعية كانت في إدارة مجلس يتألف من ثمانية أشخاص عرفوا بـ"ثمنيتن"، أي "الثمانية"، أداروا شؤون المقاطعة من إشراف على العمل، ومن إدارة لأمور الزروع، ومن تهيئة للبذور وما يحتاج إليه الزرع، ومن دفع حصص الحكومة والمعبد، ومن خزن وبيع(13/223)
وتصريف1. فهم هيأة مجلس زراعي لمشروع تعاوني يضم أهل تلك المقاطعة، واجبهم تمشية أمور هذه المؤسسة الزراعية والإشراف عليها، وإعطاء كل ذي حق حقه ونصيبه في هذه الجمعية الزراعية التعاونية.
ويظهر أن شيئًا من التخصص، كان قد وجد في هذه الجمعيات، فعهدت أمر الإدارة إلى رجل عرف بـ"سمخض"، كان بمثابة مدير للجمعية، واجبه الإشراف على الأرض التي أوكل أمر إدارتها إليه. أما وظيفته، فعرفت بـ"سمخضت" أي إدارة أرض أو إدارة مقاطعة، أو "إدارة" بتعبير أصح.
وعرف من تولى أمر جباية الضرائب والإشراف على الموظفين الذين يوكل أعمل الجباية إليهم، بـ"نحل"، ويقال لوظيفته "نحلت"2. ولا استبعد أن تكون "نحلت"، جماعة جمعت بين أعضائها روابط فكرية واقتصادية. فتعاونت فيما بينها على العمل معًا والاشتراك في استغلال حاصل هذا العمل. ودليل ذلك أننا نجد معاجم اللغة تفسر "النحلة" بالديانة3، ولهذا التفسير صلة بما ذهبت إليه من معنى للفظة "نحلت"، وعلى ذلك يكون الـ"نحل" رئيسًا للنحلة، يشرف عليها ويدفع بالنيابة عنها حق الحكومة والمعبد.
وقد ورد في أحد النصوص أن جمعية من هذه الجمعيات الثماني، كانت تدير أرضين في ضواحي مدينة "هرم". وقد نعت أعضاؤها بـ"ابعل"، أي سادة ورؤساء4. فهم سادة هذه الجمعية وأصحاب الإرادة فيها.
__________
1 النص الموسوم بـHakevy 147
2 Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 56, Hartmann, Arab. Frage, S. 208, 401, Rhodokanakis, Stud. Lexi, Ii, S. 67.
3 تاج العروس "8/ 130"، "نحل".
4 راجع السطر الأول من النص الموسوم بـ: Hakevy 147.(13/224)
الهروب من الأرض:
وقد جابهت حكومات العربية الجنوبية المشكلة التي تجابه كل حكومة. مشكلة هرب المزارعين من الأرض والالتجاء إلى المدن. ففي بعض نصوص المسند الخاصة بالزراعة نجد تهديدًا للمزارعين الذين يفرون من المزارع ويجلون عنها، فيلحقون بذلك الأذى بالزراعة وبالحاصل. والواقع أن حياة الفلاح في المزرعة كانت صعبة(13/224)
قاسية، فلا يكاد دخل الفلاح يكفيه مؤونته ومؤونة عياله، ولا سيما أيام الشدة حين يقل الزرع أو يتعرض للتلف لعوامل عديدة ليس في طاقة الفلاح مكافحتها، فضلًا عن الضرائب الباهظة التي عليه أن يدفعها إلى صاحب الأرض والحكومة والمعبد. فلاذ بأذيال الهرب من الأرض إلى المدن للاشتغال فيها، بالرغم من تشديد الحكومة في منع الهجرة وترك المزارع من غير موافقة أصحاب الأرض. وقد عرف الهارب من الأرض والمجلي عنها بـ"مهسجلت" في نصوص المسند1.
ويقال للأرض التي يهاجر المهاجر إليها، وللمكان الذي يفر إليه المزارع من الحضر ليجد فيه رزقًا يبحث عنه "مهجرت" في لغة المسند. أي "المهجرة"، بمعنى: "المهجر"2.
__________
1 السطر التاسع والعاشر من النص: Rep. Epigr. 4646
2 Halevy 147, Rhodokanakis, Stud. Luxi., I, S. 57.(13/225)
العمري والرقبى:
ومن عقود أهل الجاهلية: "العمري" و"الرقبى". والعمري ما يجعل لك طول عمرك أو عمره، أو هو أن يدفع الرجل إلى أخيه دارًا، فيقول له: هذه لك عمرك أو عمري أينا مات دفعت الدار إلى أهله. وقد عمرته إياه وأعمرته جعلته له عمرة أو عمري، أي يسكنها مدة عمره، فإذا مات عادت إلي1. و"الرقبى"2 أن يعطي الإنسان إنسانًا ملكًا كالدار والأرض ونحوها، فأيهما مات رجع الملك لورثته. أو أن يجعله لفلان يسكنه، فإن مات ففلان يسكنه، فكل واحد منهما يرقب موت صاحبه. وقد أرقبه الرقبى، وأرقبه الدر جعلها له رقبى3. وللفقهاء كلام في الاثنين4.
ويكون "العمري" و"الرقبى" في الأرض كذلك، كأن يعطي الرجل رجلًا أرضًا يستغلها طول حياة أحدهما، فأيهما مات طبقت بحق الأرض ما اتفق عليها من شروط. وقد كانوا يفعلون ذلك بالنسبة للأقرباء والأصدقاء والمقربين لمساعدتهم.
__________
1 إرشاد الساري "4/ 364"، تاج العروس "3/ 421"، "عمر".
2 كبشرى.
3 تاج العروس "1/ 275"، "رقب".
4 إرشاد الساري "4/ 364 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 421"، "عمر".(13/225)
العرية:
العرية النخلة المعراة. وأعراه النخلة وهب له ثمر عامها1. والعرية أيضًا التي تعزل عن المساومة عند بيع النخل، والتي يعريها صاحبها رجلًا محتاجًا، وأن يشتري الرجل النخل ثم يستثني نخلة أو نخلتين، يقال أعرى فلان فلانًا ثمر نخلة، إذا أعطاه إياها يأكل رطبها، وليس في هذا بيع، وإنما هو فضل ومعروف. فالعرية إذن النخلة عزلتها من المساومة، والإعراء أن تجعل ثمرتها لمحتاج أو لغير محتاج عامها ذلك، وقد رخص الرسول في العرايا، وللفقهاء كلام في ذلك2.
__________
1 قال سويد بن الصامت الأنصاري:
ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوانح
اللسان "15/ 49"، "عرا".
2 اللسان "15/ 50"، "عرا".(13/226)
الفصل الثامن والتسعون: الحياة الاقتصادية
مدخل
...
الفصل الثامن والتسعون: الحياة الاقتصادية
وأقصد بالحياة الاقتصادية كل ما يتعلق بمفهوم الاقتصاد من معنى، ما يتعلق منه بالحكومة أو ما يتعلق منه بالشعب. وما يتعلق منه بالتجارة والمال، أو ما يتعلق منه بالزراعة أو بالصناعة والحرف.
واقتصاد أية أمة، حاصل أمور عديدة: الجو، من حر وبرد، ومن مطر وجفاف، ومن ثروات طبيعية، تستنبط من الماء أو التربة، ومن نشاط وجهد وظروف اجتماعية، هي من حاصل تأثير المحيط في أهله.
وأدخل هنا في الحياة الاقتصادية ما يشمل التجارة بنوعيها تجارة البر وتجارة البحر، وما يشمل الزراعة، ثم ما يشمل الحرف والصناعات.
وتشمل التجارة: الاتجار داخل جزيرة العرب، أي تعامل أبناء بلاد العرب بعضهم مع بعض، والاتجار مع الخارج، أي مع الحكومة الغربية مثل الهند وحكومات أفريقيا والفرس والروم.
لقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الشعوب السامية نشطون في عالم التجارة. والتجارة تكاد تكون الحرفة الوحيدة عند العرب التي لم ينظر العربي إليها وإلى المشتغل بها نظرة استهجان وازدراء وانتقاص. بل اعتبرت عندهم من أشرف الحرف قدرًا ومنزلة. ونظر إلى التاجر نظرة تقدير وتجلة، مع أنها حرفة مثل سائر الحرف، فيها من الحيل والخداع واللعب على الناس ما في أية حرفة أخرى(13/227)
وفيها عمل وجهد على نحو ما نجد في الزراعة أو في الصناعة, ولكنها نظرة واجتهاد إلى الحياة، وظروف طبيعية، جعلت العرب تجارًا في الغالب، فشرفوا التجارة على غيرها من الحرف، وقدموها عليها في المنازل والدرجات. وقد بقيت على هذه المنزلة والدرجة في الإسلام كذلك. وأشير إلى شرفها وسمو منزلتها في كتب الحديث، مما يدل على ما كان للتجارة من منزلة في نفوس الناس.
والتاجر الذي يبيع ويشتري. ومن المجاز التاجر الحاذق بالأمر، لما تحتاجه التجارة من ذكاء وحذق في مساومات البيع والشراء. وذكر علماء اللغة أن العرب تسمي بائع الخمر تاجرًا، وأن أصل التاجر عندهم الخمار، يخصونه من بين التجار1. والتجارة صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشتري للربح2. و"التاجر" هو "مكر" في لغة المسند، و"تمكرو" في الآشورية3.
كان الملوك تجارًا يبيعون ويشترون، وكان رؤساء المعبد تجارًا يتاجرون باسم معابدهم، ويكسبون من الضرائب التي تقدم للمعابد كسبًا فاحشًا، وكان أصحاب الأملاك ورؤساء العشائر تجارًا كذلك، يتاجرون بما يقدمه إليهم من هو دونهم في المنزلة من حاصل وغلة، ويتاجرون بما يستوردونه من الخارج، من إفريقية أو من الهند، من حاصلات ثمينة غالية في نظر تجار ذلك اليوم، لبيعه في الداخل أو نقله إلى بلاد الشأم أو العراق لتصريفه في أسواق تلك الجهات.
وفي اللهجات العربية ألفاظ ومصطلحات كثيرة لها صلة بالتجارة وبالتعامل، وهي من اللغات العالمية الغنية في هذه المادة، ويلاحظ بصورة عامة أن اللهجات السامية غنية كلها تقريبًا بالألفاظ المستعملة في البيع والشراء والتعامل والتجارة، وفيها مترادفات كثيرة في هذا الباب، وكثرة هذه الألفاظ دليل على حذق الساميين عمومًا بالتجارة وافتتانهم بها، وعلى وجود عقلية تجارية لديهم. والتأريخ يؤيد ذلك، فترى الساميين عمومًا، وهم أنشط من غيرهم، يتنقلون من مكان إلى مكان طمعًا في ربح، وركضًا وراء تجارة، وهم من أحذق الناس يومئذ في التحكم في الأسعار وفي التعامل وفي البيع والشراء.
__________
1 تاج العروس "3/ 66"، "تجر".
2 إرشاد الساري "4/ 13".
3 Grhomann, S. 124.(13/228)
وفي القرآن الكريم لفظة "تجارة" و"تجارتهم" ومصطلحات أخرى عديدة ذات صلة بالاتجار والتجارة والمعيشة والكسب. كما أن فيه إشارات كثيرة إلى تجارة قريش وإلى أثر التجارة في حياة الناس في ذلك الوقت. وفيه تحريم للربا وتوبيخ وتقريع و {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 1. وفيه أمور أخرى توحي إلينا بما كان للتجارة من أثر كبير في حياة أولئك الجاهليين. بل نجد القرآن الكريم يحاججهم ويناقشهم ويخاطبهم بلغتهم التي يفهمونها لغة الربح والخسارة والكسب والثواب والعقاب، والتأجيل والتعجيل، وما أشبه ذلك من كلام له أبلغ الوقع والإدراك في نفس التاجر، الذي يعي الناحية المادية من ربح وخسارة وكسب وتوفير، أكثر من وعيه وإدراكه للأمور الروحية التي لا يفهمها كثيرًا؛ لأنها ليست من صميم حياته ومحيطه العملي.
والتجارة أنواع كثيرة، تشمل كل أنواع البيع والشراء. والتاجر، هو الذي يتاجر في الأسواق. غير أن منهم من تخصص في نوع خاص من أنواع التجارة مثل بيع الحبوب، وقد يتخصص ببيع نوع خاص من الحبوب، مثل الحنطة، فيقال له: "حنّاط" وحرفته "الحناطة"2. وقد يتخصص ببيع وشراء "البز"، فيقال له "البزاز" وحرفته "البزازة"3. وقد يتخصص ببيع "الزيت"، فيقال لبائعه "الزيات" وللذي يعتصره "الزيات" كذلك4.
وتكون التجارة بالمقايضة، وهي المعاوضة، إذا عارض التاجر أو أي شخص متاعًا بمتاع آخر، وبادل سلعة بسلعة أخرى5. وهي الطريقة القديمة في الاتجار، قبل أن يتعامل بالذهب والفضة وزنًا، في تقييم قيم الأشياء، وقبل أن تعرف النقود، التي ولدت من التعامل بالذهب والفضة. وطريقة المقايضة أو المبادلة أو المعاوضة، لا تزال طريقة قائمة معروفة، تتبعها الدول، في تصريف منتجاتها بمنتوجات أخرى عوضًا عن النقد، لحاجتها إلى النقد وإلى تصريف حاصلاتها
__________
1 سورة المطففين، الآية 1 وما بعدها.
2 تاج العروس "2/ 121"، "حنط".
3 إرشاد الساري "4/ 13، تاج العروس "4/ 8، "بزز".
4 تاج العروس "1/ 547"، "زيت".
5 تاج العروس "5/ 81"، "قيض".(13/229)
الفائضة عليها. وقد اتبع الجاهليون هذه الطريقة، فكانوا يبادلون الجلود بسلع أخرى، ويبادلون التمر بالحنطة1. وقد اتبع الجاهليون طريقة التعامل بالذهب والفضة وزنًا كذلك، كما تعاملوا بالنقود.
ويتبين لنا من دراسة كتب التفسير والحديث وكتب الأدب والأخبار والسير أنه كان لأهل مكة عرف وضعوه في أصول التجارة يمكن أن نسميه "قانون التجارة" بالنسبة لأهل تلك المدينة، تكون من تجاربهم في الاتجار ومن تعاملهم بعضهم مع بعض، ومن تجاربهم وتعاملهم مع الخارج، مثل تعاملهم مع الفرس والروم والحبش، حيث أخذوا من هؤلاء الأعاجم النظم والقواعد التجارية التي كانوا يسيرون عليها والتي لم تكن معروفة عند أهل مكة، بسبب اختلاف المحيط وطريقة التعامل التجاري بين الدول. فتجار مكة وأصحاب المال، هم الذين وضعوا أصول التعامل في التجارة فيما بينهم، وهم الذين كونوا بأنفسهم قوانينهم، إذ لا حكومة منظمة لهم تضع التشريع وتقوم بالتنفيذ على نحو ما كان في العربية الجنوبية أو عند الفرس أو الروم.
ويتبين لنا من دراسة الموارد المذكورة كذلك، أن أهل مكة كانوا خبراء في أصول تنمية الأموال وفي كيفية استثمارها واستغلالها، فكانت لهم مرابحات وكانت لهم شراكات وتعامل ومراسلات مع غيرهم من أصحاب المال في مختلف أنحاء جزيرة العرب، وكان لهم ربا، للحاجة، أي للشدة والعسر والضيق. أو للتعامل بالمال المقترض بالربا لإنمائه في مشاريع اقتصادية تعود بالفائدة على المقترض أكثر من فائدة الربا التي يدفعها للمرابي، حتى ظهر في مكة أناس كانوا يعدون من كبار الأغنياء بالنسبة لأهل تلك المدينة وبالنسبة لجزيرة العرب في ذلك الوقت.
وفي المسند ألفاظ كثيرة ذات معاني تجارية تتعلق بالبيع والشراء والامتلاك والعقود وهي دليل على أن العرب الجنوبيين كانوا قومًا تجارًا يجنون من التجارة أرباحًا طائلة، ويعيش الكثير منهم عليها. فكانوا يبيعون ويشترون ويصدرون ويستوردون في الداخل والخارج، يقصدون الأسواق الشهيرة القريبة منهم، كما يقيمون الأسواق في بلادهم في المواسم أو في أيام معينة من الأسبوع للبيع والشراء، ولسد حاجاتهم
__________
1 تقويم البلدان "99".(13/230)
بما يفيص عليهم من حاصل زراعة أو منتوج حيوان يبلدونه مقايضة بما يعوزهم من ضرورات وحاجات.
والتجارة هي "ش ت ي ط" "شتيط" في لغة قتبان. وقد وردت هذه اللفظة في عدد من النصوص القتبانية، في أوامر أصدرها ملوك قتبان لتنظيم التجارة وتنظيم الجباية، وفي كيفية جباية "المكس" عن البضائع التي تباع في الأسواق، وفي العقوبات التي تفرض على المخالفين وعلى المتهربين من دفع جباية السوق. وقد حددت القواعد التي يسمح بموجبها للغرباء في الاتجار بأسواق مملكة قتبان، وفي كيفية اتجار القتبانيين في الأسواق الخارجية.
وفي جملة هذه النصوص نص أصدره الملك "شهر هلال بن يدع اب" "شهر هلل بن يدع اب" في تنظيم التجارة وفي كيفية الاتجار. وقد نشر على شكل إعلان أو مرسوم ملكي موجه من الملك إلى التجار من أهل قتبان، وإلى الغرباء الوافدين عليها للاتجار، وقد كتب ونشر ليطلع عليه الناس كما تفعل الدول في الوقت الحاضر.
وقد وردت في النص جملة مصطلحات وألفاظ، لها معان تجارية، مثل "يشط" أي يتاجر، و"يعرب" من "عرب" بمعنى يقدم عربونًا ويضع عربونًا1. ومن أصل "عرب" العرابة والعربون في العربية الشمالية2. و"خدر" بمعنى أقام ومقيم ومقيمين ونازلين. وقد ورد في المعجمات اللغوية أن من معاني هذه اللفظة الإقامة بالمكان3. ويقصد بذلك النازلون في مكان ما. ولما كان هذا النص أمرًا وقانونًا في تنظيم التجارة، فقد حدد ما جاء فيه من أوامر، بالنسبة إلى سكان المدينة "تمنع" وخارجها، وكذلك مملكة قتبان، والمقيمين بها، والوافدين من خارج قتبان للعمل بالأسواق والاتجار. ولذلك وردت هذه الجملة: "ومن يتجر تجارة بتمنع وبخارج تمنع، فعليه أن يقدم عربونًا إلى تمنع، وأن يكون مقيمًا بشمر، وإن آثر قتبان محلًّا لاتجاره، وأراد أن يتجول ليشتري، فعليه أن يشتري من شمر ... "، فحدد بذلك كيفية الاتجار وحق الاتجار والموضع
__________
1 راجع السطر الثاني من النص: Rep. Epigr. 4337.
2 القاموس "1/ 102"، تاج العروس "3/ 333 وما بعدها"، "الكويت"، "3/ 170 وما بعدها"، "خدر".
3 القاموس "2/ 18".(13/231)
الذي يجب أن يشتري منه بالنسبة إلى تجار قتبان وإلى التجار الغرباء عن تمنع.
وقد حدد هذا القانون حقوق الـ"خدر"، أي التاجر النازل والمقيم في إمارة "شمر"، والذي يتجول فيذهب إلى قتبان للاتجار فيها والتسوق من أسواقها، ويذهب إلى قبائلها لبيع ما عنده إليها أو لشراء ما يحتاج إليه من تجارة منها، وعليه أن يفعل ذلك، ولكنه ملزم بأخبار "عهر شمر"، وبذلك، وذلك لتسوية المشكلات والحسابات التي تتولد من المعاملات التجارية. وقد تطرق النص إلى الأضرار التي قد تصيب الأجانب أو القتبانيين، وإلى إحقاق الحقوق، ولهذا وضع الملك هذا الأمر. وجاءت في آخر النص هذه الجملة: "وخمسي ورقم" أي "خمسين ورق"، وقد سقطت كلمات قبلها، فلم يعرف المراد من ذكر هذا الرقم، أقصد وضع تأمينات بهذا القدر المذكور، أم قصد جزاءً يفرض على المخالفين، أو غير ذلك.
وهذه القوانين القتبانية، هي من أقدم وأشهر القوانين التي وصلت إلينا باللهجات العربية القديمة في كيفية تنظيم الاتجار والتعامل في السوق وفي تعيين حقوق الحكومة ونصيبها من الأرباح المتأتية من التجارة. وهي دليل ناطق على مقدار عناية القتبانيين بأمور التجارة بالنسبة لذلك الوقت.(13/232)
التجارة البرية:
والتجارة البرية، هي عماد تجارة الجاهليين، ولا سيما الجاهليين القريبين من الإسلام وسندهم الأول في رخائهم وفي كسب ثرواتهم. وعماد هذه التجارة وسندها القوافل. فقد كان الملوك وسادات القبائل والأشراف يرسلون تجارتهم بقوافل إلى مواضع اتجارهم، فتبيع ما تحمل وتشتري ما تحتاج إليه من تجارة، لتبيعها في مكان آخر بثمن غال، ويكسب أصحاب هذه القوافل كسبًا حسنًا من هذا الاتجار.
والتجارة البرية: إما تجارة داخلية، أي داخل قطر من أقطار جزيرة العرب وبين أقطارها، وإما تجارة خارجية، كانت تتم مع بلاد الشأم والعراق، أي خارج حدود جزيرة العرب في اصطلاح الجغرافيين المسلمين.
وقد أشير في التوراة وفي الكتابات الآشورية والمؤلفات اليونانية واللاتينية إلى(13/232)
اتجار العرب مع الخارج، كما أشير إلى اتجار الآشوريين والفرس والرومان والروم مع العرب، وإلى طمع الدول الكبرى لعالم ذلك الوقت في جزيرة العرب، نظرًا لما كانوا يسمعونه عن ثرائها وغناها، ولموقعها الجغرافي المهم الذي يقع بين أفريقية وآسية. ويهيمن على المياه الدافئة ذات المنافع الكبيرة بالنسبة للتجارة العالمية في كل وقت وزمان.
والعربية الجنوبية في كتب اليونان والرومان وفي التوراة، بلاد غنية ذات خيرات وثروات وتجارات وأموال، قوافلها تخترق جزيرة العرب إلى بلاد الشأم والعراق، وفي بلادها الذهب والفضة والحجارة الكريمة، تتاجر مع الخارج فتربح بتجارتها هذه كثيرًا، وبذلك اكتنزت المعادن الثمينة المذكورة والأموال النفسية حتى صارت من أغنى شعوب جزيرة العرب.
وفي "المزامير" أن "شبا" ستعطي "الذهب" لملك العبرانيين في جملة الشعوب التي ستخضع له، تقدم له الجزية1. وورد في "أرميا" أن "شبا" كانت ترسل "اللبان" إلى إسرائيل2. وقد ذكروا في سفر "حزقيال" في جملة كبار التجار. كانوا يتاجرون بأفخر أنواع الطيب وبكل حجر كريم وبالذهب3. وأشير في "أيوب" إلى قوافل "شبا" التي كانت تسير نحو الشمال حتى تبلغ إسرائيل4.
وفي هذه الإشارات دلالة على الصلات المستمرة التي كانت بين العبرانيين والسبئيين، وعلى أن السبئيين كانوا هم الذين يذهبون إلى العبرانيين، يحملون إليهم الذهب والأحجار الكريمة والطيب واللبان. فتبيع قوافلهم ما عندها في أسواق فلسطين، ثم تعود حاملة ما تحتاج إليه من حاصلات بلاد الشأم ومصر وفلسطين.
ويظهر من سفر "يوئيل" أن السبئيين كانوا يشترون السبي من فلسطين، من "بني يهوذا"، حيث جاء فيه تهديد لأهل صور وصيدا بأن رب إسرائيل سينتقم منهم جزاء اعتدائهم على الإسرائيليين ونهبهم ذهبهم وفضتهم. وسيجعلهم عبيدًا يباعون في الأسواق إلى السبئيين: "وأبيع بنيكم وبناتكم بيد بني يهوذا
__________
1 المزامير، المزمور الثاني والسبعون، الآية 15.
2 أرمياء، الإصحاح السادس، الآية 20.
3 حزقيال، الإصحاح السابع والعشرون، الآية 22 وما بعدها.
4 أيوب، الإصحاح السادس، الآية 19.(13/233)
تبيعونهم للسبئيين، لأمة بعيدة؛ لأن الرب قد تكلم". مما يدل على أنهم كانوا من المشترين للرقيق، ينقلونه إلى بلادهم للاستفادة منهم في مختلف نواحي الحياة، يتخذون النساء الجميلات زوجات لهم، ويتخذون البشعات والقويات للخدمة، ويعهدون للرجال بالأعمال المختلفة التي تحتاج إلى ذكاء ومهارة وفن وإتقان، وبأعمال أخرى صناعية وزراعية، وأمثال ذلك.
وقد أشير إلى ثراء السبئيين وامتلاكهم للذهب والفضة في بعض الكتابات الآشورية، فذكر "تغلاتبليزر" الثالث مثلًا أنه أخذ الجزية من السبئيين، أخذها ذهبًا وفضة وإبلًا: جمالًا ونوقًا ولبانًا وبخورًا من جميع الأنواع، كما ذكر "سرجون" أنه أخذ الجزية من "يثع أمر" ملك سبأ، أخذها ذهبًا وخيلًا وجمالًا ومن مصنوعات الجبال1.
وقد سبق لي أن تحدثت عن هذا الموضوع في أثناء حديثي عن صلات الآشوريين مع العرب، وعندي أن هذه الجزية التي دفعت إلى الآشوريين، قد تكون جزية بالمعنى المفهوم من اللفظة، أي نتيجة قهر وإكراه وخضوع لحكم الآشوريين وهزيمة لحلقت بالسبئيين في حرب أو حروب وقعت مع الآشوريين، وقد تكون بمعنى ضريبة دفعها السبئيون إلى الآشوريين في مقابل السماح لهم بالاتجار في أسواق الحكومة الآشورية، فهي ضرائب يدفعها التجار أو تدفعها الحكومات إلى الحكومات الأخرى في مقابل السماح لها بالاتجار معها، وفتح أبواب أسواقها لرعاياها، للبيع والشراء.
وفي كتب اليونان واللاتين تأييد واتفاق تام على ما جاء في التوراة عن ثراء السبئيين، وعن امتلاكهم الذهب والفضة والأحجار الكريمة. وقد بالغت في ذلك مبالغة أخرجتها من حدود الواقع إلى الخيال. فنسبوا لهم استعمال الأثاث المصنوع من الذهب والأواني المستعملة من الذهب والفضة، وغير ذلك مما أخرج وصفهم من حدود المعقول وأدخله في عالم القصص والأساطير.
وقد بالغ "سترابو" في وصف ثراء السبئيين بسبب اتجارهم بنوع من العطور الزكية، دعاها باسم "اللاريم" Larimum وبالمواد الأخرى النفيسة، وذكر أنه كانت "لديهم كميات كبيرة من مصوغات الذهب والفضة، كالأسرة والموائد
__________
1 Hastings, P.842.(13/234)
الصغيرة، والآنية والكؤوس، أضف إليها فخامة منازلهم الرائعة، فإن الأبواب والجدران والسقوف مختلفة الألوان بما يرصع فيها من العاج والذهب والفضة والحجارة الكريمة"1.
وقد كانت هذه الشهرة من أهم العوامل التي دفعت بالقيصر "أغسطس" إلى إرسال حملته المشهورة المخفقة على اليمن. وهاك ما كتبه المؤرخ "بلينيوس" Pliny عن ثروة العرب وعن تجارتهم، لترى ما كان ماثلًا في مخيلة الرومان واليونان عن العرب. قال: ومن الغرابة أن نقول: إن نصف هذه القبائل التي تفوق الحصر، يشتغل بالتجارة، أو يعيش على النهب وقطع الطرق. والعرب أغنى أمم العالم طرًّا، لتدفق الثروة من روما وبارثيا إليهم، وتكدسها بين أيديهم. فهم يبيعون ما يحصلون عليه من البحر ومن غاباتهم. ولا يشترون شيئًا مقابل ذلك"2.
وقد أشار "بلينيوس" إلى أن المعينيين كانوا يملكون أرضًا غنية خصبة، يكثر فيها النخيل والأشجار، وكان لهم قطعان كثيرة من الماشية، وأن السبئيين كانوا أعظم القبائل ثروة بما تنتجه غاباتهم الغنية بالأشجار من عطور وبما يملكونه من مناجم الذهب والأرضين المزروعة المرواة، وما ينتجونه من العسل وشمع العسل. كما كانوا ينتجون العطور3.
وقد عد "سترابو" العسل في جملة المحصولات التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، وذكر أنه كثير جدًّا فيها4.
وقد كان العرب الجنوبيون يتاجرون مع بلاد الشأم، فيرسلون إليها قوافلهم مارة بالحجاز إلى أسواق بلاد الشأم بالطرق البرية التي لا يزال الناس يسلكونها حتى اليوم مع شيء من التحوير والتغيير. وقد عثر على كتابة دونها كبيران شكرا فيها الإله "عثتر"؛ لأنه نجاهما مع قافلتهما من الحرب التي كانت قد وقعت بين "مصر" وبين "مذي"، فوصلا معها سالمين إلى مدينة "قرنو"، أي
__________
1 مجلة المجمع العلمي العراقي "2/ 262"، "1952".
2 مجلة المجمع العلمي العراقي "ج1 م3 ص129".
3 مجلة المجمع العلمي العراقي "الجزء الأول: المجلد الثالث"، "1954م" "ص139".
4 مجلة المجمع العلمي العراقي "2/ 247".(13/235)
عاصمة "معين". وقد ورد أنهما كانا يتاجران مع "مصر" و"ااشر"، أي "آشور"، و"عبر نهرن" "عبر نهران"1. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه الكتابة تشير إلى حرب وقعت فيما بين السنة "220" والسنة "205" قبل الميلاد. أي في عهد "البطالمة"، وأن تلك الحرب كانت بين "الميديين" الذين أشير إليهم بـ"مذى" وبين "البطالمة" الذين أشير إليهم بـ"مصر"؛ لأنهم حكام مصر، أو الحرب التي وقعت فيما بين "السلوقيين" وبين "البطالمة"، والتي أدت إلى الاستيلاء على "غزة" سنة "217" قبل الميلاد. وقد كان العرب الجنوبيون يتاجرون مع هذه المدينة التي تعتبر الميناء الذي يؤدي بالتجار إلى موانئ مصر2.
وقد كانت "البتراء" أي "سلع" Sela، أهم عقدة طرق يمر بها المعينيون والسبئيون. ومنها يتجه طريق نحو البحر الميت، لمن يريد الاتجار مع بلاد الشأم وطريق آخر ينتهي بغزة، لمن يريد الاتجار مع هذا الميناء المهم، الذي بقي العرب يتاجرون معه إلى أيام الرسول. وقد كان "هاشم بن عبد مناف" ممن يتاجر معه، وبه توفي كما تذكر الأخبار.
وقد كان الذهب في رأس السلع التي حملها تجار العرب إلى الآشوريين وحكومات العراق وبلاد الشأم، وفي التوراة ذكر للذهب الذي كان يجلبه العرب إلى العبرانيين، وقد أشرت إلى ما ذكره الكتبة اليونان عن الذهب عند العرب، ولعلهم كانوا يحملون الفضة إليهم كذلك. فقد كانت للفضة مناجم في جزيرة العرب. وقد ورد في أخبار أهل الأخبار أن "أبا سفيان" كان قد حمل فضة كثيرة معه لبيعها في أسواق بلاد الشأم، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد، فلا يستبعد تصدير العرب للفضة لبيعها في تلك الأسواق في ذلك العهد.
أما منتوجات الحديد أو مصنوعات معادن أخرى، فلا نجد لها ذكرًا في قائمة السلع التي كان يحملها التجار العرب إلى الخارج، بل يظهر أن أهل جزيرة العرب، كانوا هم الذين يستوردون مصنوعات المعادن من الخارج إلى جزيرتهم،
__________
1 Rep. Epigr. 3022, J. Pirenne. Paleographie Des Inscriotions Sud-Arabes, I, “1956”, P.211.
2 Die Araber, I, S. 74. F.(13/236)
فنجد في الأخبار أنهم كانوا يفتخرون بالسيوف الهندوانية، أي المصنوعة بالهند، أو المعمولة من حديد هندي، أو المعمولة على طراز سيوف الهند، وقد عثر المنقبون على مصنوعات معدنية، تبين لديهم أنها من مصنوعات الرومان والروم، مما يدل على أنها قد استوردت من الخارج، أو أن العمال والمشتغلين في الصناعات المعدنية، كانوا قد رأوا تلك النماذج فعملوا على محاكاتها وصنع أمثالها. ونظرًا لتأخر الصناعة عند الجاهليين، وإلى نظرتهم الازدرائية إليها واحتقارهم لمن كان يشتغل بها، فلا يعقل أن تجد مصنوعاتهم المعدنية مكانة لها بين المنتوجات المماثلة لها في الأسواق الخارجية. لهذا اقتصرت صادرات جزيرة العرب إلى الخارج على المواد الخام، المتيسرة في بلاد العرب، أو المستوردة من أفريقية أو من الهند ومن وراء بلاد الهند، وأهما العطور والطيب والجلود.
وكان "الطيب"، من أهم المواد التي تاجر بها العرب الجنوبيون. تاجروا بتصديره إلى خارج العربية الجنوبية إلى بلاد الشأم ومصر والعراق وتاجروا به في الداخل أي في العربية الجنوبية. وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد عرف "الطيب" بـ"طب" "طيب" في لغة المسند1. ويستخرج الطيب من أنواع متعددة من الأشجار، ويجلب بعضه من الخارج من الهند وأفريقية، ويصدر إلى مصر وأسواق بلاد الشأم والعراق.
والبخور من المواد الثمينة ذات السعر العالي بالنسبة لتجارة ذلك الوقت. والبخور ما يتبخر به، وثياب مبخرة مطيبة2. وقد كانوا يحرقون البخور في المباخر، ويبخرون به المعابد والأصنام، كما كانوا يبخرون الضيوف، ويطيبون ثيابهم به. ومنه "القسط"، وهو عود هندي يتبخر به، يجاء به من الهند، يجعل في البخور والدواء. ويوجد قسط عربي. وورد "قسط أظفار"، قيل هو ضرب من الطيب، وقيل من العود3. وعندي أنه "قسط ظفار"، نسبة إلى "ظفار" قرب مرباط بالعربية الجنوبية، وتعرف بـ"ظفار الساحل"، نسب إليه العود الذي يتبخر به؛ لأنه يجلب إليها من الهند، ومنها إلى اليمن، كنسبة الرماح إلى "الخلط"، فإنه لا ينبت به، وإنما تجلب من الهند4. وقد أشير
__________
1 Muller, Biblische Studien, Iii, S. 85.
2 تاج العروس "3/ 32"، "بخر".
3 تاج العروس "5/ 205"، "قسط".
4 تاج العروس "3/ 370"، "ظفر".(13/237)
إلى "العود" في الحديث. ورد: عليكم بالعود الهندي. وقيل هو القسط البحري1.
و"المسك" من أنواع الطيب التي ورد ذكرها في القرآن الكريم2، ويحفظ عادة في قوارير، وهو من الطيب الثمين الذي يباع بأثمان غالية. وكانت العرب تسميه "المشموم"، ويذكر علماء اللغة أن اللفظة معربة، عربت من أصل فارسي هو "مشك"3، ورد في الحديث أطيب الطيب المسك. واستعملوه في الطب، عالجوا به جملة أمراض4.
والعنبر من المواد التي تذكر بعد المسك في العربية، وللأخباريين آراء في أصل العنبر، وأجوده ما يجلب من شحر عمان5.
و"المر"، وهو "امرر" في المسند، من المواد الثمينة الغالية في قائمة المنتجات العربية التي تباع داخل البلاد العربية وخارجها، وقد أقبل العبرانيون والمصريون على استيراده وشرائه لاستعماله في الأغراض الدينية، فاستعمل في المعابد وفي التحنيط، واستعمل في جملة الأجزاء التي تدخل في الدهن المقدس6. وذكر علماء اللغة أن "المر" كالصبر، دواء سمي به لمرارته. وقد عالجوا به جملة أمراض7.
و"الصبر" عصارة شجر مر، وأجوده "السقطرى"، ويعرف أيضًا بالصبارة8.
وأما "القرفة"، فإنها من المواد الثمينة كذلك، وتنبت في جزيرة "سيلان" بصورة خاصة. وتقشر ويستعمل قشرها، أو يستعمل دهنها الحاصل من ثمرها في بعض الأحيان9. ويرى علماء اللغة أن "القرفة" ضرب من "الدار الصيني"، وهو أنواع، منه "الدار صيني" الحقيقي، ومنه المعروف بـ"قرفة القرنفل"10.
__________
1 تاج العروس "2/ 437"، "عود".
2 سورة المطففين، الآية 26.
3 تاج العروس "7/ 176"، "مسك".
4 تاج العروس "7/ 176 وما بعدها"، "مسك".
5 تاج العروس "3/ 126"، "العنبر"، الإشارة إلى محاسن التجارة. "ص19 وما بعدها".
6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 326"، Hastings, P.639.
7 تاج العروس "3/ 537"، "مرر".
8 تاج العروس "3/ 325"، "صبر".
9 قاموس الكتاب المقدس "2/ 212"، Hastings, P.786.
10 تاج العروس "6/ 219"، "قرف".(13/238)
و"القرنفل" من المواد المستوردة من الهند وما وراءها. وقد استعملوه طيبًا، كما عالجوا به، وطيبوا به الأكل. وقد أشير إليه في شعر لامرئ القيس، حيث أشار إلى رائحته الطيبة، وأشير إليه في شعر لعمرو بن كلثوم1.
وقد ذكر "الكافور" في القرآن الكريم: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} 2. وفي ذلك دلالة على معرفة العرب به ووقوف قريش عليه واستعمالها له. وذكر أن الكافور، طيب، أو أخلاط من الطيب تركب من كافور الطلع، وقيل يكون من شجر بجبال بحر الهند والصين3.
وأما "قصب "الذريرة""، فهو "قليمتن"، أي "القليمة" في المسند، وهو "قصب الطيب"4. و"الذرور" عطر يجاء به من الهند، كالذريرة، وهو ما انتحت من قصب الطيب، وقيل هو نوع من الطيب مجموع من أخلاط. وبه فسر حديث عائشة: طيبت رسول الله لإحرامه بذريرة5.
و"السليخة" نوع من الـCassia، أي قشرة تؤخذ من شجرة القرفة، أو من أشجارها6، وذكر علماء اللغة أن السليخة عطر، وكأنه قشر منسلخ، ودهن ثمر البان قبل أن يربب بأفاويه الطيب، فإذا ربب بالمسك والطيب ثم اعتصر، فهو منشوش، أي اختلط الدهن بروائح الطيب7.
و"الكندر" ضرب من العلك، وقيل هو اللبان، وقد عولج به8. و"اللبان"، مشهور في العربية الجنوبية، وهو من حاصل الهند والعربية الجنوبية وأفريقية، وهو ضرب من الصمغ، وذكر أنه الكندر، وانه يصنع من عصير جملة أنواع من الشجيرات، ويستخرج من عصير يستنبط بشق قشر الشجيرة،
__________
قال عمرو بن كلثوم:
كأن المسك نكهته بفيها ... وريح قرنفل والياسمينا
تاج العروس "8/ 79"، "القرنفل".
2 سورة الدهر، الآية5.
3 تاج العروس "3/ 527"، "كفر".
4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 216"، Hastings, P.786.
5 تاج العروس "3/ 223"، "ذر".
6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 262"، Hastings, P.119.
7 تاج العروس "2/ 262"، "سلخ".
8 تاج العروس "3/ 529"، "الكندر".(13/239)
وتجفيف العصير. وقد استخدم في المعابد. وأشير في سفري "أشعياء"1، و"أرمياء"2، إلى أن العبرانيين كانوا يستوردونه من "شبا"، أي من أرض "سبأ"، وأشهره من شحر عمان. وأحسنه ما يجمع من موضع تجمعه قبل سقوطه على الأرض، أو تلوثه بمادة غريبة قد تتساقط عليه3.
ولفظة "الكندر" من أصل أعجمي هو Cunduru، وهو من الألفاظ "السنسكريتية"، فيظهر أن الكلمة دخلت العربية من الهند4.
وقد كانت في المعابد مخازن تجمع فيها أصناف الطيب والمر والبخور، وذلك للتصدير والبيع. وقد كانت تقوم بمهمة وسيط في البيع والشراء، تبيع ما تخزنه وتحصل بذلك على عمولة تستفيد منها وتدر عليها أرباحًا طائلة جدًّا، تثري منها وهكذا نجد المعابد وهي تكاد تحتكر تلك المواد وتنفرد ببيعها إلى التجار5.
ويقسم الطيب إلى ذكور الطيب وإلى إناثه. وذكور الطيب ما يصلح للرجال دون النساء نحو المسك والعنبر والعود والكافور والغالية والذريرة. وعرف هذا النوع بـ"ذكارة الطيب". والمؤنث طيب النساء، كالخلوق والزعفران6. وورد أن "الغالية"، طيب عرف في زمن "معاوية"، وذلك أن "عبد الله بن جعفر" دخل عليه ورائحة الطيب تفوح منه، فقال له ما طيبك يا عبد الله؟ فقال: مسك وعنبر جمع بينهما دهن بان. فقال معاوية: غالية أي ذات ثمن غال، وقيل أول من سماها بذلك "سليمان بن عبد الملك"، وإنما سميت؛ لأنها أخلاط تغلي على النار مع بعضها7. والخلوق من طيب النساء، يتخذ من الزعفران وغيره، وتغلب عليه الحمرة والصفرة. وقد نهي عنه؛ لأنه من طيب النساء8.
__________
1 أشعياء، الإصحاح 60، الآية 6.
2 أرمياء، الإصحاح6، الآية2.
3 تاج العروس "9/ 329"، "لبن"، الإشارة إلى محاسن التجارة "ص22".
4 W. Smith, A Dictionary Of The Bible, I, P.633.
5 Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 6.
6 اللسان "4/ 310"، "ذكر".
7 تاج العروس "10/ 270"، "غلى".
8 تاج العروس "6/ 337"، "خلق".(13/240)
قوافل سبأ:
وقد أشير في التوراة إلى قوافل سبأ، وهي قوافل كانت تسير من العربية الجنوبية مخترقة العربية الغربية إلى فلسطين، فتبيع ما تحمله من سلع هناك. وقد كان السبئيون يسيطرون على العربية الغربية، حتى بلغت حدود مملكتهم أرض فلسطين. ولم تشر التوراة إلى وجود قوافل بحرية وسفن للسبئيين في البحر الأحمر، تتاجر مع فلسطين ومصر، ولم نعثر على كتابات بالمسند تشير إليها، لذلك، فليس في استطاعتنا التحدث عن التجارة البحرية للسبئيين مع بلاد الشأم.
سارت حكومة سبأ على سياسة التوسع التجاري، وهذا التوسع يقتضي السيطرة على الطرق، فبذلت جهدها لبسط سلطانها على الطرق والمسالك وجعلها تحت نفوذها وحكمها. وبعد استيلائها على بقية الحكومات العربية الجنوبية الأخرى وضعت الطرق الجنوبية المؤدية إلى أرض اللبان والمواد الأخرى التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، وإلى الموانئ والمرافئ التي تتاجر مع إفريقية والهند وتستورد منها السلع النفيسة الثمينة تحت نفوذها وحكمها، وحسنتها وشقت طرقًا جديدة لأغراض حربية واقتصادية، وبلطت بعض مواضع منها لتقاوم السيول والأمطار، وأحكمت جوانبها وحصنتها بالحجارة الصلدة حتى تقاوم السيول التي تنحدر من المرتفعات على هذه الطرق فلا تلحق الأذى بها. ولا تزال آثار تلك الطرق باقية، وقد كتب عنها السياح.
واتجهت نحو السيطرة على الطرق البرية المؤدية إلى بلاد الشأم. ولهذه الطرق أهمية كبيرة بالنسبة إلى اليمن والعربية الجنوبية. وهي طرق موازية للطريق البحرية الممتدة في البحر الأحمر، ولها شأن خطير في التجارة العالمية. وقد أسست مواضع حراسة، لحراسة القوافل من قطاع الطرق ومن تحرش القبائل بها، ولعل أهل يثرب الذين يرجعون نسبهم إلى اليمن، هو من الرجال الذين غرسهم السبئيون في هذا المكان لحماية قوافلهم التي تذهب إلى بلاد الشأم.
ووجه السبئيون أنظارهم نحو العراق وموانئ الخليج العربي كذلك، فاستخدموا الطريق الممتدة من نجران إلى "السليل" ومن هناك إلى الخليج والعراق1.
__________
1 Rhodokanakis, Altsab. Texte., S. 9, W. H. Irvine Shakespear, In The Geogr. Journal, Lix., No. 5, “1922”, P.321.(13/241)
وتوجد آثار طرق جاهلية مبلطة تبليطًا حسنًا وأخرى ممهدة تمهيدًا فنيًّا. وقد أنشئ بعضها في أرض جبلية وفي أرضين وعرة، وذلك باستعمال الآلات بمهارة فائقة في قطع الصخور لإنشاء هذه الممرات. وقد زفت بعض هذه الطرق وغطي بطبقة من الأسفلت، ووضعت عليها صوى ترشد المارة، ولما كانت الطرق الطويلة المبلطة تبليطًا فنيًّا تحتاج إلى نفقات طائلة وإلى أيد عاملة كثيرة وإلى حكومة كبيرة غنية، لم يكن من الممكن يومئذ فتح طرق طويلة ممهدة تخترق جزيرة العرب، على شكل الطرق التي أنشأها الرومان في انبراطوريتهم، لسير القوات العسكرية عليها والتجارات فاقتصر على إقامة الطرق الضرورية القصيرة التي توصل المدن والقرى بالمواضع المهمة1.
وقد كان اعتماد التجار على الحيوانات ولا سيما الجمل في نقل تجارتهم. أما العربات فلم تكن مستخدمة في أغراض تجارية في جزيرة العرب، ولم ترد إشارات إليها في نصوص المسند، ولا في النصوص الجاهلية الأخرى، ولا في أخبار أهل الأخبار. وقد ظل اعتماد التجار وأصحاب القوافل على الحيوانات طوال العهود الإسلامية إلى أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، ففيه أخذ في تمهيد الطرق لسير وسائل النقل الحديثة عليها، فأخذت تنافس تلك الوسائل القديمة، وستقضي عليها في المستقبل بالبداهة.
والتجارة هي التي نقلت بعض الكتابات الشمالية إلى العربية الجنوبية، وأدخلت الكتابة الثمودية والكتابة النبطية إلى اليمن. وأصحاب الكتابتين من الشعوب المقيمة في العربية الشمالية كما هو معروف فكتاباتهم لم تأت إلى هنا قافزة متخطية المسافة، بل جاءت مع أصحابها التجار الذين قصدوا هذه الأماكن للاتجار، ومن بينهم من سكن فيها واختلط بأهلها ومات فيها. وقد كتبوا فيها الكتابات التي عثر عليها بعض العلماء في أماكن متعددة من خرائب اليمن، وقد يعثر على عدد منها وعلى كتابات أخرى، قد يكون من بينها كتابات بلغات أعجمية في المستقبل بعد قيام بعثات الحفر بالتنقيب هناك.
__________
1 Sabaeica, I, P.78.(13/242)
الفصل التاسع والتسعون: ركوب البحر
والبحر في رأي علماء العربية الماء الكثير، ملحًا كان أو عذبًا. وقد غلب على الملح فقط، حتى قل في العذب، وهو خلاف البر1. وأطلق أهل العربية الجنوبية على البحر اللفظة نفسها التي نطلقها عليه، فيقولون "بحرم" أي بحر. وقد ذكر البحر في معاهدة التآخي والأخوة "تاخين" التي عقدت في القرن الرابع للميلاد بين ملك الحبشة "جدرت" والملك "يدع اب غيلان" ملك حضر موت، لمقاومة ملك سبأ وذي ريدان2. وذكر في النص المعروف بنص "أبنة"، حيث ورد: "وكل الت ذ بحرم ويبسم ومشرقم ومغربم": ومعناه الحرفي "وكل آلهة البحر واليابسة والمشرق والمغرب". وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة البحر تعني الجنوب، وأن لفظة "يبسم" "يابس" "يبس" "يابسة" تعني الشمال، وأن معنى الجملة المذكورة: "وكل آلهة الجنوب والشمال والمغرب"3. وقد وردت اللفظة بمعنى "بحر" في نص "Glaser 830"، حيث جاء: "ببحرم ويبسم وكل تشعث وزبد"4، أي "ببحر ويابسة وكل العطايا والهدايا".
__________
1 تاج العروس "3/ 27"، "بحر".
2 السطر الخامس عشر والسادس عشر من النص: Glaser 850
3 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 10, 166.
4 السطر الخامس عشر من النص،
Rhodokanakis, Ii, S. 10. Mordtmann, Himj. Inschi., S. 21.(13/243)
ووردت لفظة "اليم" في القرآن الكريم1، ويراد بها البحر. وقد ذكر بعض علماء اللغة أنها لغة سريانية2. وفي اللغة العربية ألفاظ أخرى مرادفة للبحر أيضًا، منها "القلمس"، و"الدأماء"، و"الكافر"، و"الحنبل"، و"الخضم"، و"العيلم"، وغير ذلك من ألفاظ ترد في كتب اللغة3. ولجزيرة العرب سواحل طويلة تحيط بها من جميع جهاتها الثلاث، أما حدها الشمالي فهو أرض تتصل بالعراق وببلاد الشأم. وقد عرف أهل السواحل البحر وعركوه، وعملوا على استغلال ثرواته قدر طاقتهم، وتعاملوا مع أهل السفن الذين كانوا يقصدونها من مسافات بعيدة، وركب جمع منهم السفن، للاتجار مع السواحل المقابلة لهم. فباعوا في أسواقها واشتروا، وقد أظهر أهل السواحل العربية الجنوبية والشرقية نشاطًا في ركوب البحر، لا نجده عند أهل السواحل الغربية، على ما يتبين من روايات أهل الأخبار.
ولتكوين رأي عن مدى وقوف الجاهليين على البحار وعلى مدى توغلهم فيها، وركوبهم أمواجها للتجارة أو للاستيطان في مواطن جديدة غريبة، لا بد لنا من الرجوع إلى مراجع لتستحلب منها مادة نكون منها علمنا عن هذا الموضوع. والآثار هي أول ما يجب الرجوع إليه لاستخلاص هذه المادة، ولكنا ويا للأسف شحيحة، ليس فيها شيء كاف منها. وأما الموارد الأعجمية، مثل الموارد المدونة باليونانية واللاتينية والسرياينة، فلم تتحرش بموضوع العرب والبحار وبتجارتهم في البحر. وأما الموارد الإسلامية، فهي بخيلة، ليس فيها ما يفيدنا عن العرب والبحر غير نزر يسير يفيد، أن أهل الجاهلية، كانوا يكرهون ركوب البحر، ويتهيبون منه، وأنهم لم يكونوا يملكون سفنًا لعبوره، حتى أن المهاجرين الأولين من المسلمين، لما هربوا من مكة إلى الحبشة، ركبوا سفنًا بدائية حبشية، أوصلتهم إلى الحبشة، وأن الخليفة "عمر" كان يتهيب ركوب البحر، وكان يوصي قواده بتجنيب جيوشهم مخاطره، والابتعاد عنه قدر الإمكان. وبضرورة وضع أرض آمنة وراء الجيش ليكون في وسعهم الرجوع إليها عند المهالك والمآزق4.
__________
1 طه، الآية 39، 78، 92، القصص، الآية 7، الأعراف، الآية 135.
2 المخصص "10/ 163"، تاج العروس "9/ 114"، "يمم"، اللسان "4/ 42"، "بحر".
3 راجع الألفاظ المذكورة في كتب اللغة والمعجمات.
4 إرشاد الساري "4/ 14 وما بعدها".(13/244)
وأنه لما كتب إلى "عمرو بن العاص"، يسأله عن البحر، فقال: خلق عظيم يركبه خلق ضعيف، دود على عود. كتب إليه "عمر" أن لا يركبه أحد طول حياته، فلما كان بعد "عمر" لم يزل يركب حتى كان زمن "عمر بن عبد العزيز"، فاتبع فيه رأي "عمر". وكان منع عمر شفقة على المسلمين1.
وقد عرف العربي عند الأعاجم ببغضه للبحر وبخوفه منه وبابتعاده عنه. ورد في حكم "أحيقار": "لا تر العربي البحر، ولا تر الصيدوني "الصيداني" الصحراء"2. وذلك لاشتهار العربي عندهم بسكنه في البوادي وبابتعاده عن البحر ولاشتهار أهل "صيدا" بركوبه وبقهر أمواجه.
وإذا كنا قد فشلنا في الحصول على صورة مفصلة واضحة عن العرب والبحر من الموارد التي أشرت إليها، وهي مادة المؤرخ في حصوله على مادته التأريخية، فليس لنا من سبيل لتكوين صورة ولو باهتة عن الموضوع، سوى الرجوع إلى اللغة نستلهم من ألفاظها المتعلقة بالبحر وبوسائل ركوبه، ما فات وروده في تلك المصادر. فاللغة كما نعلم مظهر من مظاهر الحياة العقلية والعملية لكل أمة، وهي لم تخلق دفعة واحدة، ولم يأخذها الخلف عن السلف كاملة، وإنما خلقت بالتدريج وعلى قدر الحاجة، فإذا ظهرت أشياء جديدة خلق المتكلمون بها لها ألفاظًا جديدة وإذا اندثرت أشياء، فقد تندثر ألفاظها. واللغة مثل الناطقين بها في حياة وموت مستمرين. وإذا حصرنا الألفاظ التي أطلقها الجاهليون على البحر وعلى وسائل ركوبه وعلى ما فيه، نستطيع إذن أن نعرف ماذا كانوا يعرفونه عنه وماذا كانوا يجهلون من أمره.
فنأخذ الألفاظ المتعلقة بالبحر إذن سندًا لنا، من لغتنا العربية نستنبط منها علم الجاهليين به، مع العلم بأن هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم لا يمكن أن تؤدي المهمة على أحسن وجه؛ لأنها لغة أهل بر، وليس لأهل البر علم أهل الساحل به. والأحرى بنا الاستعانة بلغات أهل السواحل في مثل هذه الدراسة، لكننا لا نملك نصوصًا جاهلية مدونة بها، حتى نستنبط منها ما نريد، وليس في لهجات المسند عن البحر سوى نزر يسير، ولكنا ما دمنا لا نملك وسيلة للإحاطة
__________
1 إرشاد الساري "4/ 15".
2 A. T. Olmstead, History Of The Persian Empire, P.326.(13/245)
بعلم الجاهليين بالبحر سوى دراسة هذه اللغة، فما علينا إلا أن نتتبع ما جاء فيها عنه، وفي هذا الذي سنقف عليه تصوير لرأي المتكلمين بها بالبحر، وهو تصوير يمثل رأي أهل البر عنه.
يقال لشاطئ البحر "الساحل" في عربية القرآن الكريم، وهو بمعنى ريف البحر وشاطئه1. وقد وردت اللفظة في كتاب الله2. وقد خصصت هذه اللفظة بالبحر، أما شط النهر، فقد عرف بـ"الشاطئ"3. ويقال للساحل أيضًا "السيف" و"سيف البحر"4. وذكر علماء اللغة أن "العيقة" ساحل البحر وناحيته5. وأن "العدان"، موضع كل ساحل. وقيل هو الساحل نفسه6. وذكر أن "السيف ساحل الوادي، أو لكل ساحل سيف، وإنما يقال ذلك لسيف عمان"7. وورد أن "الطف" و"الطفطاف" ساحل البحر8.
و"القاموس"، بمعنى معظم ماء البحر، أو البحر، أو أبعد موضع فيه غورًا، ووسط البحر9، ولجة البحر، معظم البحر، ومنه بحر لجي10، و"الشرم"، لجة البحر، وقيل موضع، وقيل هو أبعد قعره، أو الخليج منه. وقد ذكر "أمية بن أبي الصلت "الشروم" في وصفه جهنم".
فتسمو لا يغيبها ضراء ... ولا تخبو فتبردها الشروم
والشرم، مرسى من مراسي خليج السويس، بينهما ستة مراحل11.
و"العوطب"، لجة البحر، أو المطمئن بين الموجتين، أو أعمق موضع
__________
1 القاموس "3/ 294"، "سحل"، تاج العروس "7/ 371"، "سحل".
2 سورة طه، الآية 39.
3 المخصص "10/ 20"، القاموس "3/ 368"، تاج العروس "1/ 80"، "شطأ".
4 القاموس "3/ 156"، المخصص "10/ 20".
5 القاموس "3/ 275"، تاج العروس "7/ 275"، تاج العروس "7/ 31"، "عيق".
6 القاموس "4/ 247"، تاج العروس "9/ 275"، "عدن".
7 تاج العروس "6/ 149"، "سيف".
8 تاج العروس "6/ 182"، "طفف".
9 القاموس "2/ 243"، تاج العروس "4/ 223"، "قمس".
10 القاموس "1/ 205"، تاج العروس "2/ 92"، "لج".
11 تاج العروس "8/ 357"، "شرم".(13/246)
في البحر1، و"الدردور" موضع في البحر يجيش ماؤه، قلما تسلم منه السفينة، ويخاف منه الغرق2. و"الخليج"، وهو من البحر، سمي بذلك؛ لأنه يجذب من معظم البحر3، والحور الخليج من البحر، وقيل مصب الماء في البحر، وقيل مصب المياه الجارية في البحر إذا اتسع وعرض، وقيل: عنق من البحر يدخل في الأرض4. والغب الضارب من البحر حتى يمعن في البر5.
وذكر علماء اللغة أن الجزيرة إنما سميت جزيرة لانقطاعها عن معظم الأرض أو لما جزر عنه6. و"البضيع"، الجزيرة في البحر، والبحر نفسه7. وأما "الدبر"، فقطعه تغلظ في البحر كالجزيرة يعلوها الماء وينضب عنها8.
والسفينة هي واسطة النقل على وجه الماء في الأنهار وفي البحار. وهي من الكلمات المعروفة في عربيتنا، وقد أشير إليها في شعر عمرو بن كلثوم:
ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وموج البحر نملؤه سفينا9
وقد وردت لفظة "سفينة" و"السفينة" في القرآن الكريم10، ويدل ذلك على أنها من الألفاظ التي كانت معروفة ومستعملة بهذا المعنى في أيام ظهور الإسلام.
وعبر عن السفينة بلفظة أخرى هي "الفلك"، وتقع على الواحد والاثنين والجمع. وقد وردت في مواضع متعددة من القرآن الكريم11. كما يعبر عنها
__________
1 القاموس "1/ 106"، تاج العروس "1/ 387"، "عطب".
2 تاج العروس "3/ 205"، "در".
3 القاموس "1/ 186"، تاج العروس "2/ 34"، "خلج".
4 تاج العروس "3/ 192"، "خار".
5 القاموس "1/ 109"، تاج العروس "1/ 403"، "غب".
6 المخصص "10/ 11"، القاموس "1/ 389"، تاج العروس "3/ 89"، "جزر".
7 القاموس "2/ 6"، تاج العروس "5/ 278"، "بضع".
8 القاموس "2/ 26"، تاج العروس "3/ 198"، "دبر".
9 اللسان "13/ 209 وما بعدها"، "سفن"، تاج العروس "9/ 236"، "سفن".
10 الكهف، الآية 72، 80، العنكبوت، الآية 15.
11 المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم "526"، اللسان "10/ 479".(13/247)
بـ"مركب"، والجمع مراكب1. ولو أن المركب كلمة عامة تطلق على كل ما يركب عليه، فالدواب هي مركب أيضًا لمن يركبها، غير أن "المركب" السفينة على سبيل التغليب والاصطلاح, وقد عبر القرآن الكريم عن السفن والمراكب بلفظة "الجاريات" و"الجوار"، و"الجارية" كما في هذه الآية: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} ، وكما في هذه الآية: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} ، وفي مواضع أخرى2. و"الجارية" المركب أيضًا، صفة غالبة؛ لأنها تجري على الماء3.
وقد وردت لفظة "الفلك" بصورة خاصة تعبيرًا عن سفينة نوح الواردة في الطوفان. ويذكر بعض المفسرين أن السفينة، أي "الفلك"، كانت مصنوعة من خشب الساج، وكانت "ذات أرواح ودسر"، أي أن ألواحها قد التصقت بعضها ببعض بـ"دسر" وهي المسامير4.
وورد في القرآن الكريم: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} 5. وورد في الشعر:
جوافل في السراب كما استقلت ... فلوك البحر زال بها الشرير
والفلوك هنا جمع "الفلك"، وأما الشرير، فشجر البحر6. ويظهر من هنا أن "الفلك" هي سفينة من سفن البحر. وهي من السفن الكبيرة. وقد ورد في القرآن أيضًا {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي السفينة المشحونة المملوءة كما ورد: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيْحٍ طَيِّبَةٍ} . وفي هذه الآية معنى مهم، يدل على إحاطة الجاهليين بالبحر وركوبهم فيه، وتسييرهم لها بفعل الرياح. وقد وردت في القرآن الكريم إشارات إلى صنع الفلك وإلى سيرها مواخر في البحر.
__________
1 اللسان "8/ 292".
2 سورة الشورى، الآية 32، والرحمن، الآية 24، والحاقة، الآية 11، اللسان "8/ 292"، شمس العلوم "حـ1 ق7 ص318"، القاموس "4/ 312".
3 تاج العروس "10/ 72"، "جرى".
4 قصص الأنبياء "ص34"، تاج العروس "3/ 316"، "دسر" Ency., Ii, P.117.
5 البقرة, الآية 164.
6 المخصص "10/ 23"، القاموس "2/ 57".(13/248)
ويقال للسفينة: "البارجة" أيضًا، والجمع "البوارج". وذكر أنها السفن الكبار، وأنها سفينة من سفن البحر تتخذ للقتال1.
و"القرقور": ضرب من السفن، وقيل: هي السفينة العظيمة أو الطويلة والقرقور من أطول السفن. وجمعه قراقير. وفي الحديث: "فإذا دخل أهل الجنة الجنة ركب شهداء البحر في قراقير من در"2.
و"الخلية" العظيمة من السفن، والجمع خلايا. قال طرفة:
كأن حدوج المالكية، غدوة ... خلايا سفين بالنواصف من دد
وقال الأعشى:
يكب الخلية ذات القلاع ... وقد كان جؤجؤها ينحطم3
وقيل: هي التي يتبعها زورق صغير4.
وذكر أن من أسماء السفن الكبيرة "الخلج". وقيل: إنها دون العدولية. وأما "الصلفة" فسفينة كبيرة، و"الزنبرية" نوع من أنواع السفن الكبيرة5. و"القادس": السفينة العظيمة، وقيل صنف من أصناف المراكب، أو لوح من ألواحها6.
وقد ضرب "لبيد بن ربيعة العامري" مثلًا بسفينة "الهندي" في طولها وعرضها وفي إحكام عملها، عملها صانعها من صفائح مشبوحة ودهنها وسد المسافات التي تكون بين صفائح الخشب حتى لا ينفذ منها ماء البحر7. مما يدل بالطبع على وقوفه عليها وعلى شهرة تلك السفن في تلك الأيام.
__________
1 اللسان "2/ 213"، القاموس "1/ 178"، تاج العروس "2/ 7"، "برج"، المخصص "10/ 26".
2 اللسان "5/ 91".
3 اللسان "14، 241"، تاج العروس "10/ 119"، "خلا".
4 تاج العروس "10/ 119"، "خلا"، القاموس "4/ 325".
5 المخصص "10/ 25 وما بعدها".
6 القاموس "2/ 239"، تاج العروس "4/ 213"، "قدس".
7 شرح ديوان لبيد "ص142".(13/249)
وقد أشار بعض الكتبة من اليونان واللاتين إلى نوع من السفن دعوه "Madarata"، ذكروا أن ميناء "عمانه" "Omana" كان قد اشتهر ببنائه. وقد صنعت هذه السفن من الألواح المشدودة بالليف. وقد رأى بعض الباحثين أن هذه اللفظة من أصل عربي، هو "مدرعات"، ويراد بها السفن المشدودة بدروع النخل. ورأى آخرون أنها من أصل "Mabarata"، جمع "معبر" من أسماء السفن في لغة بني "إرم"1.
وذكر علماء اللغة أن "المعبر" ما عبر به النهر من فلك أو قنطرة أو غيره، والمعبرة سفينة يعبر بها النهر2. فالمعابر إذن من الوسائل المستعملة في عبور النهر على ما يظهر من شرح أولئك العلماء.
وقريب من هذا الوصف وصف نوع من السفن عرف بـ"العمائم". ذكر علماء العربية أنه: عيدان مشدودة تركب في البحر ويعبر عليها3. وهو نوع بدائي بالطبع لا يمكن أن يقارن بالسفن التي كانت عند الرومان واليونان. و"الطوف" قرب ينفخ فيها ويشد بعضها إلى بعض، فتجعل كهيئة السطح يركب عليها في الماء ويحمل عليها الميرة والناس، ويعبر عليها، وهو الرمث. وربما كان من خشب والجمع أطواف. وذكر بعض العلماء أن الطوف التي يعبر عليها الأنهار الكبار تسوى من القصب والعيدان يشد بعضها فوق بعض، ثم يقمط بالقمط حتى يؤمن انحلالها ثم تركب ويعبر عليها، وربما حمل عليها الحمل على قدر قوته وثخانته، ويسمى: "العامة"4.
والرمث خشب يضم بعضه إلى بعض كالطوف ويركب عليه في البحر، وفي الحديث أن رجلًا أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا نركب أرماثًا لنا في البحر ولا ماء معنا، أفنتوضأ بماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته. قال أبو صخر الهذلي:
__________
1 العرب والملاحة في المحيط الهندي في العصور القديمة وأوائل القرون الوسطى، تأليف جورج فضلو حوراني، وترجمة الدكتور السيد يعقوب بكر "ص60 وما بعدها".
2 اللسان "4/ 530"، "عبر".
3 اللسان "12/ 425"، القاموس "4/ 154"، تاج العروس "6/ 184"، المخصص "10/ 79".
4 تاج العروس "6/ 184"، "طوف"، القاموس "3/ 170".(13/250)
تمنيت من حبي علية أننا ... على رمث في الشرم ليس لنا وفر1
وذكر علماء العربية اسم نوع من السفن قالوا له: "البوصي". وقالوا أنه فارس معرب، وأن الكلمة وردت في شعر للأعشى2. وذكر أن "البوصي" الملاح، وقيل الزورق، وأن الكلمة معربة "بوزي"3.
وذهب بعض علماء اللغة إلى أن "العدولية" الواردة في قول طرفة بن العبد:
عدولية أو من سفين بن يامن ... يجور بها الملاح طورًا ويهتدي
سفنًا منسوبة إلى قرية بالبحرين يقال لها "عدولي"، أو إلى قوم كانوا ينزلون هجر، أو إلى عدول، رجل كان يتخذ السفن4. ولا يستبعد أن يكون مراد الشاعر من السفن "العدولية"، السفن القادمة من ميناء "أدولس"، "عدولي" ميناء تجاري على ساحل الحبشة اشتهر بالتجارة قبل الإسلام.
ويظهر من شعر طرفة المذكور، أن رجلًا اسمه "ابن يامين" كان تاجرًا يملك سفنًا، وأن سفنه كانت تمخر العباب. وذكر أيضًا أنه كان بحارًا، وورد "ابن نبتل" بدلًا من "ابن يامين"5.
وذكر علماء اللغة أن من أسماء المراكب المائية الصغيرة: الزورق والقارب والركوة. والزورق، السفينة الصغيرة، وقيل هو القارب الصغير6. و"الركوة" زورق صغير7.
وقد عرفت السفن المستعملة في القتال بأسماء خاصة، منها البارجة، وهي سفينة من سفن البحر تتخذ للقتال8.
__________
1 تاج العروس "1/ 625"، "رمث"، القاموس "1/ 162"، "رمث".
2
مثل الفراتي إذا ما طما ... يقذف بالبوصي والماهر
تاج العروس "4/ 376"، القاموس "2/ 296"، المخصص "10/ 23"، بلوغ الأرب "2/ 367".
3 تاج العروس "4/ 376"، اللسان "7/ 9".
4 القاموس "4/ 14"، تاج العروس "8/ 11"، "عدل"، بلوغ الأرب "3/ 365".
5 بلوغ الأرب "3/ 265 وما بعدها".
6 تاج العروس "6/ 369"، "زرق".
7 تاج العروس "10/ 155"، "ركا".
8 المخصص "10/ 26"، القاموس "1/ 178"، تاج العروس "2/ 7".(13/251)
والشراع هو "ماكنة" السفينة وقوتها المحركة الدافعة لها. ويقال له "القلع" أيضًا1، وجل كذلك2. وقد ذكر علماء اللغة، أن الشراع كالملاءة الواسعة فوق خشبة من ثوب أو حصير مربوع وتر على أربع قوى، تصفقه الريح فيمضي بالسفينة3. ويظهر من هذا الوصف أن أشرعة أهل الجاهلية كانت بسيطة، ولم تكن متداخلة كأشرعة الروم. والشراع البسيط على النحو المذكور، يكون ضعيفًا فاتر الهمة لا يتمكن من دفع السفن الكبيرة، بل وقد لا يتمكن حتى من دفع السفن الصغيرة بسرعة، بسبب صغر حجمه، ثم إنه لا يتمكن من الاستفادة من قوة الريح، ومن استخدام هذه القوة في توجيه السفينة بسرعة نحو هدفها، والسير بها في عرض البحر، بينما يتمكن الشراع المكون من عدة أقلعة، من الاستفادة من الريح، ومن دفع السفينة دفعًا سريعًا، ومن حملها إلى عرض البحر، فيقلص من المسافات ويبعدها عن أخطار لصوص البحر، ولذلك لم تتمكن سفن أهل الجاهلية من مواجهة سفن الروم ومن تحديها، حين دخلت سفنهم البحر الأحمر والبحر العربي والمحيط.
والدقل: سهم السفينة، وهو خشبة طويلة تشد في وسط السفينة، يمد عليها الشراع4. والجؤجؤ: صدر السفينة5، و"المرنحة": صدر السفينة كذلك6. وعرف "الدقل" بـ"الدوقل" كذلك، وتسميه البحرية "الصاري"7. و"الصاري" الملاح أيضًا، لحفظه السفينة8. و"القب"، رأس الدقل، و"القرية" خشبة مربعة على رأس القب9.
وأما الذي يعدل اتجاه السفن ويغير من اتجاهها، فهو "السكان"، وهو "الكوثل" أيضًا. وذكر أيضًا أن "السكان" ما تسكن به السفينة تمنع به
__________
1 بالكسر، اللسان "8/ 292"، القاموس "3/ 74".
2 اللسان "11/ 121"، "والجل بالفتح: الشراع"، تاج العروس "7/ 260"، "جلل".
3 تاج العروس "5/ 395"، "شرع".
4 تاج العروس "7/ 323"، "دقل".
5 تاج العروس "1/ 49"، "جأجأ".
6 تاج العروس "2/ 147"، "رنح".
7 اللسان "11، 246"، تاج العروس "7/ 323"، "دقل".
8 تاج العروس "10/ 209"، "صرى".
9 اللسان "2/ 455"، تاج العروس "2/ 147"، "رنح".(13/252)
من الحركة والاضطراب1. وذكر بعض علماء العربية أن "الكوثل" مؤخر السفينة، وفيه يكون الملاحون ومتاعهم2, والأغلب أنه "السكان"، ويعبر عنه بـ"الخيزرانة" كذلك3. وبلفظة أخرى هي "الدويطرة". وقد عرفت بأنها كوثل السفينة4.
ويعرف سكان السفينة بـ"الخيزرانة" وبـ"الخيزران". قال النابغة يصف الفرات وقت مده:
يظل من خوفه الملاح معتصمًا ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد5
ويستعمل الملاحون "المجاديف" "المجاذيف" في تجديف السفينة6. و"المجداف" خشبة رأسها لوح عريض تدفع بها7. ويقال له "المقذف" و"المقذاف" أيضًا8. ولم يتطرق علماء اللغة ولا أهل الأخبار إلى عدد "مجاديف" السفينة الواحدة، أي إلى عدد رجالها الذين كانوا يجدفون بالمجاديف، فالسفن الكبيرة الضخمة تحتاج إلى عدد من المجدفين، قد يبلغون العشرات، وقد كانت سفن الروم، ذات طابقين بالنسبة للمجدفين، فيجلس عدد منهم في الطابق الأسفل، ويجلس فوقهم عدد آخر من المجدفين، لتسير السفينة بسرعة، وقد استخدموا هذه الطريقة في سفنهم الحربية بصورة خاصة؛ لأنها سفن، يجب أن تعتمد على السرعة وعلى خفة الحركة لتتمكن من التغلب على سفن الأعداء.
وأما "المردي"، فخشبة يدفع بها الملاح السفينة. وذلك كي يحركها عند
__________
1 اللسان "13/ 211"، قال طرفة:
كسكان بوصي بدجلة مصعد
2 اللسان "11/ 583 وما بعدها".
3 قال الأعشى:
من الخوف كوثلها يلتزم
اللسان "11/ 584".
4 اللسان "11/ 584"، "2/ 455".
5 اللسان "4/ 238".
6 بالدال والذال جميعًا، لغتنان فصيحتان.
7 اللسان 9/ 23".
8 اللسان "9/ 277، القاموس "3/ 122"، تاج العروس "6/ 54"، "جدف"، "6/ 218"، "قذف".(13/253)
الشواطئ والسواحل حيث تكون المياه ضحلة1. والقيقلان خشبة يدفع بها السفينة أيضًا2.
ويقال للذي يشتغل في السفينة ويعمل على تسييرها "الملاح"، ويقال له "صار" و"الصاري" أيضًا3. وحرفته "الملاحة". ويقال للملاح: "السفان" كذلك، وهو الذي يشتغل في السفن، ويعبر عنه بـ"النوتي"4. والجمع "نوتية" و"نواتين". "وفي حديث علي، كرم الله وجهه: كأنه قلع داري عنجه نوتية". وورد أن "النوتي" البحار، وهو من كلام أهل الشأم5. واللفظة من أصل يوناني6.
و"الربان"، أو "ربان السفينة"، هو قائدها الذي يجريها. ويرى علماء اللغة أنها دخيلة معربة7.
ويقال للموضع الذي ترفأ إليه السفن "المرفأ". من أصل "رفأ" بمعنى أدنى. وورد في حديث "تميم الداري": "أنهم ركبوا البحر ثم أرفأوا إلى جزيرة"8. ويعبر عن "المرفأ" بلفظة "الكلاء" و"المكلا" أيضًا؛ لأنه يكلأ السفن من الريح، وذلك بحبس السفن فيه لحمايتها من الريح ولإنزال ما فيها، وأخذ ما فيه من تجارة وناس9. ويقال للمرفأ "الميناء" كذلك، وعرفوه بأنه الموضع الذي ترفأ فيه السفن10. كما يقال له: "فرضة"
__________
1 اللسان "3/ 402"، القاموس "4/ 334"، تاج العروس "10/ 148".
2 بلوغ الأرب "3/ 366".
3 اللسان "11/ 121"، "14/ 460".
4 اللسان "2/ 600 وما بعدها".
5 اللسان "2/ 101".
6 غرائب اللغة "271".
7 اللسان "13/ 175".
8 اللسان "1/ 87"، "وفي حديث أبي هريرة في القيامة، فتكون الأرض كالسفينة المرفأة في البحر تضربها الأمواج"، تاج العروس "1/ 71"، "رفأ".
9 اللسان "1/ 146"، تاج العروس "1/ 112"، "كلأ"، "سوق الكلأ"، بالبصرة، موضع يكلئون سفنهم به، أي يحبسونها.
10 اللسان "13/ 426"، "ميني"، كل مرسى السفن، تاج العروس "9/ 355"، "مان".(13/254)
و"فرضة البحر"1 و"المرساة"، البقعة التي ترسو فيها السفينة2.
ومن مصطلحات السفن في العربية، الشحن، فيقال شحنت السفينة شحنًا بمعنى ملئت، ومخرت السفينة، أي جرت3 وحبت السفينة، أي جرت4، وجنحت السفينة جنوحًا إذا انتهت إلى الماء القليل فلزقت بالأرض فلم تمض، وجمحت جموحًا إذا تركت قصدها فلم يضبطها الملاحون، ويقال ماهت السفينة إذا دخل فيها الماء، ورست وأرست، إذا بلغ أسفلها القعر فثبتت، وإذا أرسيت وسخرت أطاعت وطاب لها السير، وحدرت السفينة أحدرها، وتقاذفت في البحر جرت، وشجت البحر قطعته5. وهناك مصطلحات عديدة أخرى يشير ورودها في اللغة إلى معرفة في البحر وفي استخدام السفن في البحار.
وعند دنو السفينة من الأماكن التي تريدها، ترسو في مرفأ لتفرغ حمولتها أو لتحميلها أو لتزود بما تحتاج إليه من زاد وطعام، فتلقي بمراسيها في المرفأ تثبيتًا لها فلا تتحرك ولا تأخذها الأمواج ولا الرياح. ويسمى الملاحون المرساة "الأنجر"، ويكون من الخشب الصلب الثقيل أو حديدًا أو حجرًا كبيرًا، وقد يكون على شكل كرة، وقد يكون على شكل مربع أو مستطيل، أو على شكل "خطاف" أو حديد محجن6. فإذا أرادت السفينة الرسو أنزل إلى الماء ليستقر على القاع فتثبت السفينة7. وقد وصف "الأنجر"، أنه خشبات يخالف بينها وبين رؤوسها وتشد أوساطها في موضع واحد، ثم يفرغ بينها الرصاص المذاب فتصير كصخرة، ورؤوس الخشب ناتئة تشد بها الحبال وترسل في الماء إذا رست السفينة، تعريب لنكر من أصل فارسي8.
وقد ذكر علماء اللغة أن "السبابجة"، هم قوم من السند يستأجرون ليقاتلوا، وكانوا قومًا جلاوزة وحراس السجن في البصرة أيام الإسلام. وكان رئيس السفينة
__________
1 اللسان "7/ 206".
2 القاموس "4/ 334"، تاج العروس "10/ 149"، "رسا".
3 القاموس "2/ 131"، "نحر".
4 تاج العروس "10/ 81"، "حبو".
5 المخصص "10/ 23 وما بعدها".
6 تاج العروس "3/ 557"، "نجر".
7 تاج العروس "10/ 149"، "رسا".
8 تاج العروس "3/ 557"، "نجر".(13/255)
البحرية يستأجرهم ليكونوا معه يبذرقونها، أي يخفرونها ويقاتلون من يتصدى لها بسوء1. وقد كانت بالأبلة التي عاشت قبل البصرة جاليات جاءت إليها من الهند، فقد كان الاتجار بين الهند وجنوبي العراق وسواحل جزيرة العرب اتجارًا قديمًا، وقد أقامت جاليات أخرى منها في مواضع من هذه السواحل، وقد أشرت إلى عثور العلماء على هياكل بشرية بأرض عمان، تمثل "الدرافيديين"، أي سكان الهند القدامى، وإلى وجود أثر لملامح هندية في سكان ساحل عمان تظهر عليهم حتى اليوم.
وصناعة السفن الكبيرة تحتاج إلى أخشاب صلدة قوية وإلى مسامير من حديد تستعمل في ربط الألواح والأخشاب بعضها ببعض، وإلى أيدي فنية عاملة، وعلم بهندسة بناء السفن. ولم تتيسر هذه الأشياء في جزيرة العرب. فالخشب الصالح لبناء السفن غير موجود في أكثر أنحائها، ولهذا اقتصرت صناعة السفن على السفن الصغيرة في الغالب، وهي سفن ليس في مقدورها اختراق آفاق البحار الكبيرة والمحيطات، والتجول بحرية في أية ناحية كانت من نواحي البحر الواسعة. ولم يكن لها إلا السير في محاذاة السواحل، وهو سير يكلفها كثيرًا، فعلى السفن أن تقطع مسافات طويلة معرضة نفسها لمخاطر الاصطدام بالصخور الكامنة في المياه ولهجمات لصوص البحر الجائعين وللجوء إلى مراسي كثيرة طلبًا للماء العذب والزاد، ولتمضية وقت طويل، على حين لا تحتاج السفن الكبيرة إلى كل ذلك، فهي قادرة بفضل متانتها وقوة صنعها من اختصار المسافات وتقصير الوقت وحماية نفسها من هجمات لصوص البحر باستخدام الرياح البحرية، وقطع البحر باستقامة وبحرية إلى أي ميناء يريده الربان.
وكان على أصحاب معامل السفن العرب استيراد الخشب القوي الصالح لبناء السفن من الخارج، أو شراء السفن جاهزة من الأسواق الخارجية، وفي كلتا الحالتين يتكلف المشتغلون بالتجارة البحرية تكلفًا باهظًا، ويكونون عالة في قوتهم وفي أعمالهم على الخارج. وهذا ما سهل للرومان واليونان والفرس مزاحمة الدول العربية الجنوبية في البحر الأحمر وفي المحيط الهندي، ومن إنزال خسائر فادحة في ثروة العرب، أثرت أثرًا كبيرًا في الأوضاع السياسية والاقتصادية لجزيرة العرب،
__________
1 اللسان "2/ 294"، "10/ 14".(13/256)
كما أثرت عليها من الناحية العسكرية إذ جعلت السواحل مكشوفة مفتوحة من الوجهة الحربية فأنزلت الدول الكبرى في مواضع منها قواتًا لحماية مصالحها التجارية وقوافلها البحرية وذلك قبل الميلاد وبعد الميلاد إلى ظهور الإسلام.
والساج من أثمن الأخشاب وأنفسها في صناعة السفن، فهو خشب مقاوم صلب، وقد استورد من الهند1. ويظهر أنه هو الخشب الذي ذكر "ثيوفراستسوس" "Theophrastus"، أنه كان بجزيرة "تيلوس" "Tylus"، ويقصد بها البحرين، والخشب الذي كان في ميناء "عمانة" عمان الذي أشار إليه صاحب مؤلف "الطواف حول البحر الأريتري"، والذي ذكر أنه خشب مستورد من ميناء "بريجازا" بالهند2.
وقد صنع الجاهليون سفنهم وقواربهم بأيديهم، مستعينين بالخشب المستورد وبالخشب المحلي. صنعوها في مواضع متعددة من سواحل جزيرة العرب، ولا سيما على سواحل الخليج، حيث تيسر لسكانها استيراد الخشب الصالح لبناء السفن من الهند. وهي صناعة لا تزال حية، إلا أن الهرم بدأ يظهر عليها، وأخذت تتقلص، وأوشكت على توديع الدنيا، لتراكم الأمراض عليها، ولعجزها عن مد نفسها بمقومات الحياة الملائمة لعصر السرعة.
وتتكون السفن الكبيرة الجدية من سقائف، وهي ألواح السفينة. وكل لوح سقيفة3. وقيل إن اللوح من ألواح السفينة، هو القادس4. وأما ما بين كل خشبتين من السفينة، فيقال له الطائق5. وتخرز السفن بالليف، ويجعل في خللها القار6. والجلفاظ الذي يجلفظ السفن، وهو أن يدخل بين مسامير الألواح، وخروزها مشاقة الكتان، ويمسحه بالزفت والقار7. وقد تطلى السفن بالقار، وتدسر. ويراد بالدسر المسامير لغاية التسمير والتدسير8. ويقال للموضع الذي يجتمع
__________
1 القاموس "1/ 195"، تاج العروس "2/ 61".
2 حوراني "ص244" وما بعدها".
3 القاموس "3/ 152".
4 القاموس "2/ 239"، تاج العروس "4/ 213".
5 القاموس "3/ 260"، "طوق".
6 المخصص "10/ 25 وما بعدها"، القاموس "2/ 124"، تاج العروس "3/ 512".
7 القاموس "2/ 394"، القاموس "2/ 353".
8 القاموس "2/ 29"، تاج العروس "3/ 206".(13/257)
فيه الماء الراشح جمة المركب1.
ولم ترد في نصوص المسند المصورة صورة سفينة نهتدي بها إلى معرفة أشكال السفن عند العرب الجاهليين. كذلك لم يعثر المنقبون حتى الآن على صورة لها في النصوص التي ظفر بها في أماكن أخرى من جزيرة العرب. ولا يستبعد أن تكون سفن العرب أنواعًا متعددة، بحسب أغراضها ووفرة الخشب الصالح لبناء السفن، وعلى قدر اختلاط سكان سواحل الجزيرة بغيرهم من أصحاب السفن. ولا أستبعد أن يكون أهل العربية الجنوبية والعربية الشرقية قد تأثروا بصناعة السفن اليونانية والساسانية والهندية والإفريقية لاختلاطهم بهم، ومجيء سفن هؤلاء إلى مراسي السواحل العربية، ولتمكنهم من شراء الخشب الصلد الصالح لبناء السفن من إفريقية والهند.
ولم تتمكن سفن ذلك اليوم، وحتى أعظمها وأكبرها من مناطحة عواصف البحار ومقاومة أمواجها، فكثرت أمراضها وعللها، وفي جملتها الخروق التي كانت تصيب مواضع اتصال ألواحها، فتفكك أوصالها فتهلك، ويتعرض أصحابها إلى خسائر كبيرة، أضف إلى ذلك تعرضها إلى تحرش لصوص البحر بها، الذين كانوا يترصدون السفن، فإذا وجدوا فرصة مناسبة، هاجموها لأخذ ما قد يقع في أيديهم من حمولتها النفيسة. ولهذا كانت أجور نقل التجارة بالسفن عالية، لتعوض عن خسائر السرقة والغرق، ثم إن أجواف تلك السفن كانت صغيرة، لا تتحمل حملًا كثيرًا، فصار أصحابها لا يحملونها إلا السلع الغالية التي لا تحتاج إلى مكان كبير والتي تتحمل أرباحها دفع الأجور الغالية عن نقلها إلى المواضع التي يراد إيصالها إليها.
ولا يتسع هذا المكان لذكر كل الألفاظ والمصطلحات التي لها علاقة بالبحر، فهناك أسماء لمختلف أنواع السفن، وأسماء أدوات كثيرة استعملت في السفن، وأسماء للساحل وللجزر وللنباتات البحرية وغير ذلك وردت في كتب اللغة، وإليها يجب أن يرجع من يريد المزيد من هذه الألفاظ والمصطلحات، غير أن علينا أن ننتبه إلى أن في هذه المصطلحات، مصطلحات عديدة دخلت العربية في الإسلام.
وتفيدنا هذه الألفاظ والمصطلحات فائدة كبيرة في الوقوف على مدى تأثر البحرية
__________
1 القاموس "4/ 91".(13/258)
العربية الجاهلية بالبحرية الأجنبية، وذلك بدراسة أصول هذه الألفاظ، والمصطلحات لمعرفة المكان الذي جاءت منه والشعب الذي مون البحارة العرب بها.
ونجد في مصطلحات البحر ألفاظًا يونانية، وألفاظًا لاتينية، وألفاظًا فارسية، وألفاظًا حبشية، ودخول هذه الألفاظ اللهجات العربية دليل على تأثر البحرية العربية ببحرية تلك الأمم واتصالها بها وأخذها منها. وقد أشار علماء اللغة إلى أصول بعض هذه الألفاظ، فذكروا أنها أعجمية. ولما كان علمهم باللغات الأعجمية غير الفارسية محدودًا، لم يتمكنوا من تشخيص أصول بعض المصطلحات المعربة عن اليونانية أو اللاتينية أو الحبشية أو الهندية، فرجعوها إلى أصل فارسي في الغالب، وهي ليست من الفارسية في شيء.
ولم يرد في الكتابات الجاهلية ما يفيد بدخول أهل العربية الغربية البحار، والأخبار الإسلامية لا تشير إلى ذلك أيضًا، بل الذي يفهم منها أن أهل الحجاز لم يكن لهم نصيب في البحر، وأنهم كانوا يركبون البحر في سفن حبشية توصلهم إلى السواحل الإفريفية للاتجار هناك. ولما خرج المسلمون الأولون مهاجرين إلى الحبشة، انتهوا إلى "الشعيبة"، فوجدوا سفينتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار1. و"الشعيبة"، مرسى السفن من ساحل بحر الحجاز، وكان مرسى مكة قبل جدة2.
ونجد في خبر عودة المهاجرين من الحبشة، أنهم حملوا في سفينتين، حملهم عليهما النجاشي. أي أن السفينتين كانتا من سفن الحبش3. ولم يرد في الخبر، اسم الموضع الذي أبحروا فيه منه إلى الحجاز، ولا اسم المرسى الذي رست السفينتان فيه، واتجه المسلمون منه إلى يثرب.
ويظهر أن تلك السفن كانت صغيرة مكشوفة الجوانب ولم تكن تتسع لعدد كبير من المسافرين، حتى أن حركات المسافرين كانت تؤثر فيها. روي أن "جعفر بن أبي طالب"، سأل رسول الله كيف نصلي في السفينة إذا ركبنا في البحر، لقال: صل قائمًا إلا أن تخاف الغرق، أو يصلي قائمًا إلا أن يضر بأهلها. وصلى أنس في السفينة جالسًا4.
__________
1 الطبري "2/ 329".
2 تاج العروس "1/ 321"، "شعب".
3 الروض الأنف "2/ 250 وما بعدها".
4 الروض الأنف "1/ 215".(13/259)
ومما يؤسف له أن أهل الأخبار لم يذكروا أسماء المواضع التي كان يتاجر معها العرب على السواحل الإفريقية المقابلة، ولم يذكروا حتى أسماء المرافئ التي نزل بها المهاجرون المسلمون الأولون من مكة على ساحل الحبشة، ولا اسم الموضع الذي نزل به وفد "قريش" إلى الحبشة، الذي جاء لتحريض الحبش على من هاجر إليهم من المسلمين، ولم يذكروا كذلك اسم الموضع الذي أبحر منه المسلمون للعودة إلى الحجاز، يوم أرسل الرسول "عمرو بن أمية الضمري" ليعود بهم إلى يثرب، ولا اسم الموضع الذي نزلوا به من ساحل الحجاز1.
__________
1 الروض الأنف "2/ 250 وما بعدها".(13/260)
الفصل المائة: التجارة البحرية
...
الفصل المئة: التجارة البحرية
وليس في كتابات المسند التي وصلت إلينا شيء عن التجارة البحرية. ولا يعقل بالطبع ألا يكون لسكان سواحل جزيرة العرب علم بالبحر، وإلا تكون لهم سفن مهما كان حجمها، كانوا يركبونها في اتجارهم مع إفريقية ومع بلاد الهند وإيران. فقد علمنا أن العرب الجنوبيين كانوا قد أقاموا دولة "اكسوم" في الحبشة. وقد رأينا أن من المستشرقين من يرى أن أصل كلمة "حبشت" "حبشة"، من أصل عربي، وأن "الحبشة" أرض في العربية الجنوبية في الأصل، منها هاجر الحبش، سكان تلك الأرض، وهم من العرب فنزلوا بالأرض التي سميت باسمهم في إفريقية، وقد رأينا أيضًا أن العرب امتلكوا السواحل الإفريقية المقابلة للعربية الجنوبية أمدًا طويلاً، كما امتلكوا بعضًا منها في الإسلام إلى عهد غير بعيد، ولا يعقل بالطبع ذهابهم إلى تلك السواحل ونزولهم بها بغير ركوب سفن، ولا يعقل أن يكونوا قد ذهبوا إليها بسفن أجنبية، بل لا بد وأن يكونوا قد عبروا إلى تلك السواحل بسفن كانت تعود لهم، ولا بد وأن لهم أسطول تجاري كانوا يمخرون به عباب البحار للاتجار.
وقد رأينا من كتب بعض الكتبة اليونان واللاتين أن الصومال كان يحكمه حكام عرب، وأن التجار العرب كانوا يشاهدون بكثرة في "رهابتا" "Rahapta" على مقربة من "زنجبار". وأن مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"،(13/261)
كان قد ذكر أن رئيس "معافر" كان يحكمها بموجب حق قديم. وأن أهل مدينة "Muza" يحكمونها باسمه، ويبعثون إليها بسفن تجارية يديرها ربابنة ووكلاء عرب ألفوا أهل البلاد، واختلطوا بهم، وصاهروهم، وخبروا الساحل، واطلعوا على لغتهم1.
إن خلو كتابات المسند من كل إشارة إلى البحر وإلى السفن وإلى الاتجار مع الأقطار الواقعة على السواحل، لأمر يؤسفنا كثيرًا، فقد حرمنا الكلام على البحرية العربية وعلى علم العرب الجنوبيين بالبحار، وبات علمنا بالتجارة علمًا ضئيلًا محدودًا، وليس لنا إلا التطلع إلى المستقبل، فهو وحده الكفيل بزيادة علمنا في هذا الموضوع.
وقد كان أكثر ثراء العربية الجنوبية من التجارة، التجارة البرية والتجارة البحرية، والاتجار بالمواد الناتجة في جزيرة العرب ذاتها، والاتجار بالمواد المستوردة من الخارج ولا سيما السواحل الإفريقية أو الهند.
وقد كان الاتجار مع إفريقية سهلًا يسيرًا بالنسبة إلى تجار العربية الجنوبية، ولا سيما تجار اليمن. فإن الشقة بين سواحل إفريقية وسواحل اليمن ليست واسعة كبيرة، ولهذا كان في استطاعة السفن الشراعية أن تقطعها بدون مشقات وصعوبة كبيرة. تذهب إلى أفريقية تحمل إليها حاصلات اليمن، ثم تعود إليها وهي محملة بالبضائع الإفريقية الثمينة، مثل الأخشاب والعاج، وببضاعة ثمينة أخرى: بضاعة حية تتحرك وتنطق، هي الزنوج. يستوردونهم شراء من أسواق النخاسة، أو اقتناصًا من السواحل، لحاجة البلاد إلى استخدامهم في الإنتاج وفي أداء الخدمات التي يأنف العربي عادة من القيام بها. وقد كان هذا الوارد عصبًا حساسًا في الإنتاج في ذلك العهد.
ولم ترد في كتابات المسند التي عثر عليها في جزيرة العرب وياللأسف معلومات عن أسفار العرب البحرية، لا إلى سواحل أفريقية ولا إلى سواحل الهند وجنوب إيران. ولكن وجود السبئيين في الساحل الإفريقي وتكوينهم حكومة هناك، ثم احتلال الحبش للعربية الجنوبية الغربية مرارًا، وذهاب المسلمين الأوائل مهاجرين إلى الحبشة، وحث الرسول لهم على الذهاب إلى أرض الحبشة؛ لأن بها ملكًا
__________
1 Periplus, 7, 10, 14, 17.(13/262)
لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق1. وذهاب المسلمين إلى مرسى "الشعيبة" للسفر منه بسفن التجار إليها، كل ذلك دليل على وجود اتصال بحري بين إفريقية واليمن.
وقد أشرت في الجزء الثاني من هذ الكتاب، إلى عثور العلماء على كتابات معينة في جزيرة "ديلوس" Delos من جزر اليونان، وهي نصوص ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى بحثنا هذا، فإنها ترينا وصول المعينيين إلى هذه الجزيرة وإقامتهم فيها، واتجارهم مع اليونان، ومن يدري، فلعلهم كانوا قد توغلوا شمالًا أيضًا، ونزلوا بلاد اليونان، وتاجروا هناك، ومع شعوب أوروبة في ذلك العهد. وقد ورد في نص من هذه النصوص: "هنا" أي "هانئ"، و"زيد ايل" من "ذي خذب"، نصبا مذبح ود وآلهة معين بـ"دلث"، أي بـ"ديلوس" وقد كتب بالمسند، وباليونانية، وقد جاء في النص اليوناني: "يا ود إله معين يا ود". وفي هذا النص والنصوص الأخرى دلالة على وجود جالية معينية في هذه الجزيرة وسكناها فيها، وعلى تعلقها بدينها وبآلهتها وعدم تركها لها حتى في هذه الأرض البعيدة عن وطنها. ومن يدري؟ فلعلها كانت على اتصال ببلادها، وكانت تتجر معها، فترسل إليها حاصلات اليونان ومنتوجات أوروبة، وتستورد منها حاصلات اليمن والعربية الجنوبية وأفريقية والهند.
وقد أشرت في ذلك الجزء أيضًا إلى عثور العلماء على كتابة معينية بمصر، كتبت حوالي سنة "263"، قبل الميلاد، وذلك بالجيزة. وهي كتابة قصيرة، ولكنها ذات أهمية كبيرة؛ لأنها تشير إلى وجود المعينيين بمصر في ذلك العهد. وعن وجود صلات تجارية ربطت بين مصر وجزيرة العرب من البر والبحر. وهي تتحدث عن رجل اسمه "زيد بن زيد ايل" من "آل ظبرن"، اعترف بوجود دين عليه وواجب هو توريد وتزويد "ابيتت الالت مصر"، أي "بيوت آلهة مصر"، أو "معابد آلهة مصر" بـ"امررن وقلمتن" "قليمتن"، أي بـ"المر والقليمة". ويقصد بلفظة "قليمتن" "قلمتن"، ما يقال له "Calamus" في الانكليزية و"Kalamus" في الألمانية، ويراد به ما يقال له قصب الذريرة أو قصب الطيب. و"امررن"، بمعنى "المر"، وهو معروف مشهور
__________
1 الروض الأنف "1/ 204".(13/263)
عند العرب، ودواء كالصبر مر، استعمل في معالجة أمراض عديدة1. وقد كان ذلك في شهر "كيحك" من السنة الثانية والعشرين من حكم الملك "بطلميوس"2.
وقد ذهب "رودوكناكس" "Rhodokanakis" ناشر النص المذكور ومترجمه إلى احتمال كون "زيد ايل" كان كاهنًا في معابد مصر، ولو كان من أصل غير مصري، فقد كان المصريون قد تساهلوا في هذا العهد –كما يرى- فسمحوا للغرباء بالانخراط في سلك الكهان وخدمة المعابد، وتساهلوا مع "زيد ايل" هذا فأدخلوه في طبقة "اويب" "Ueeb" وانتخبوه كاهنًا ليضمن لهم الحصول على المر والقليمة بأسعار رخيصة لاستيراده إياها باسمه ومن موطنه مباشرة من غير وساطة وسيط3.
وقد ذهب "رودوكناكس" أيضًا إلى أن "زيد ايل"، كان يستورد المر والقليمة لا لحسابه الخاص ومن ماله، بل لحساب المعابد المصرية ومن أموالها. فلم يكن هو إلا وسيطًا وشخصًا ثالثًا يتوسط بين البائع والمشتري، يشتري تلك المادة ويستوردها باسمه، ولكنه يستوردها للمعابد ولفائدتها، وهو لا يستبعد مع ذلك احتمال اشتغاله هو لنفسه وعلى حسابه في التجارة، يستوردها لنفسه ويبيعها في الأسواق، ويتصرف بالأرباح التي تدرها كما يريد. وهو لا يستبعد أيضًا احتمال مساعدة المعابد له بتجهيزه بالمال لتقوية رأس ماله، أو انتشاله من خسارة قد تصيبه.
وقد أصيب هذا التاجر كما يظهر من هذا النص بخسارة كبيرة في شهر "حتحر" ربما أتت على كل ما كان يملكه، فهبت المعابد المصرية لإنقاذه، وإعادة اعتباره المالي إليه، بإسناده بتقديم أقمشة الـ"بص" "بوص" إليه. وقد أخذها وصدرها في سفينته التي يستورد بها المر والقليمة إلى الأسواق، فربح منها. واستورد المر والقليمة وأعاد إلى المعابد ثمن ما أخذه منها من تلك السلعة، وأدى ديونه في شهر "كيحك". وقد عاد إليه اعتباره وأنقذ من تلك الضائقة المالية التي حلت
__________
1 تاج العروس "3/ 537"، "مرر".
2 Rep. Epigr. 3427, Tome, V, P.151, Rhodokanakis Die Sarkophaginschrift Von Gizeh, S. 113, In Zeitschrift Fur Semitistik, Bd., Ii, 1924, Conti Rossini, Chrest. Ar. Merid., 1931, P.86.
3 Zeitschrift Fur Semitistik Und Verwandte Gebiete, Bd., 2, 1924, S. 116. Ff.(13/264)
به بمدة قصيرة لا تتجاوز شهرًا كما يرى ذلك "رودوكناكس"1.
ولم يذكر النص اسم الجهة التي ذهبت السفينة إليها، ولا اسم الموضع الذي أرسل "البوص" إليه، ولا اسم المكان الذي استوردت القليمة وكميات المر منه.
و"البص" "البوص"، هو "البز" في عربيتنا. والبز: الثياب، وقيل ضرب من الثياب، وبائعه البزاز2. ويظهر أنه كان من الأصناف الجيدة، التي امتازت مصر به، فاشتهر في الخارج، فكان يصدر إلى الأسواق الخارجية، وهي لفظة معربة، عربت من أصل يوناني هو "Vissas"، ومعناه نسيج كتان، ونسيج من كتان هندي رقيق جدًّا3.
لقد كانت حكومة البطالمة قد احتكرت صناعة نسيج الكتاب وتجارة البز "بوص"، وبيع المر والبخور والعطور والصبر وغير ذلك. وكانت تنتهج في خطتها الاقتصادية نهج احتكار الدولة بين السلع الرائجة المهمة. نعم، سمحت للتجار المستوردين باستيراد ما يشاءون من المر والبخور واللبان والصمغ والصبر وما شاكل ذلك من الخارج، ولكنها لم تسمح لهم ببيعها أو تحويلها أو تغيير شكلها من غير استئذان الحكومة وموافقتها، ذلك؛ لأنها تعدها من المواد الداخلة في دائرة الانحصار والاحتكار "Statesmonopol"، والتابعة لمراقبة الحكومة.
أما نسج "البوص" "البص" البز، فقد أودع أمره إلى المعابد، تشرف عليه وتدير صناعته، ورثت ذلك من عهود سبقت أيام البطالمة، وذلك في مقابل السماح لها بأخذ ما يحتاج إلى استعماله في المعابد أو لحاجات رجال الدين الخاصة، وتسليم بقية ما ينسج إلى دوائر الحكومة المختصة لبيعه للناس4.
ويظهر من المؤلفات اليونانية واللاتينية أن العرب كانوا يملكون سفنًا في البحر الأحمر وفي البحر العربي وفي الخليج، إلا أن سفنهم لم تكن ضخمة، ولهذا لم تتمكن من مجابهة السفن الرومانية والسفن اليونانية حين نزلت تلك البحار؛ لأنها كانت أضخم منها، وكانت ذات أربعة صفوف من المجاذيف، كما أنها كانت سريعة الحركة وذات مرونة في الاستدارة وفي الالتفاف وفي الرجوع والانتقال،
__________
1 Zeitschrift Fur Semitistik Und Verwandte Gebiete, Bd. 2, 1924, S. 117.
2 تاج العروس "4/ 7"، "بز".
3 غرائب "256".
4 المصدر نفسه "ص115 وما بعدها".(13/265)
وذلك بفضل أشرعتها التي طورت تطويرًا كبيرًا ليناسب تطورها هذا فعل الرياح بها، ولتتمكن من السير مع الأهوية أو ضدها، وبسبب آخر هو تطوير هندستها بصورة مستمرة، لتجاري التيار ولتقطعه بكل سهولة، دون أن يعيقها أو يلحق أذى بها، وبفضل هذا التطوير تمكنت تلك السفن من التغلب على السفن العربية، ومن ملاحقة لصوص البحر "القرصان" الذين كانوا يتحرشون بالسفن ليأخذوا ما فيها، بسفنهم الصغيرة البدائية، وبذلك صار في مستطاع السفن اليونانية والرومانية دخول الموانئ العربية والموانئ الإفريقية ومن الوصول إلى الهند.
وقد أشار "أغاثرشيدس" إلى هذا التفوق، كما أشار إليه "سترابو" في أثناء كلامه على حملة "أوليوس غالوس" وعن خطأه في تقدير موقفه من البحرية العربية. فقد ذكر "سترابو" أن "أوليوس غالوس" ظن أن للعرب سفنًا كبيرة في البحر وأنها ستظهر أمام سفنه وستقاومه، لهذا أمر ببناء سفن طويلة لمجابهة تلك السفن، مع أن العرب قوم تجارة وبيع وشراء، ولم يكونوا أمة حرب، لا في البحر وحده، بل في البر أيضًا. ومع ذلك بنى ما لا يقل عن ثمانين سفينة حربية، منها سفن ذوات صفين من المجاذيف ومنها ذوات ثلاثة، ومنها ذوات صف واحد ... ولما أدرك خطأه ابتنى مئة وثلاثين سفينة للحمل، ركب فيها نحو من عشرة آلاف من المشاة ... وبعد أن خسر كثيرًا من سفنه، غرق عدد منها وغرق من فيها من بحارة، وذلك بسبب صعوبة الملاحة لا بمقاومة من عدوّ1.
ولا نجد في كتب أهل الأخبار ما يشير إلى وجود قوى بحرية عربية، بل نجد فيها أن سفن الروم كانت هي التي تمخر عباب البحر الأحمر وكانت هي المهيمنة عليه وأنها كانت تصل إلى سواحل أفريقية وتذهب إلى الهند، ونجد فيها أن سفن الحبشة كانت تأتي "الجار" و"الشعيبة"، وموانئ عربية أخرى لتتاجر معها، وأن سفن الساسانيين كانت تهيمن على مياه الخليج العربي والبحر العربي، ثم نجد في روايات أهل الأخبار عن كيفية احتلال الحبش لليمن واحتلال الفرس لها وعن هجرة المهاجرين الأولين من مكة إلى الحبشة ووصفهم لكيفية بناء الكعبة وأخذهم لخشب سفينة رومية ما يؤيد أن الجاهليين لم يكونوا يملكون سفنًا
__________
1 مجلة المجمع العلمي العراقي "2/ 264"، لسنة 1952م.(13/266)
كثيرة كبيرة قوية في ذلك العهد، وأنهم كانوا قد تركوا البحر إلى غيرهم منذ عهد قبل الإسلام.
ويعود تفوق سفن اليونان والرومان على السفن العربية في البحار إلى ما قبل الميلاد. لا بل نستطيع أن نرجع هذا التفوق إلى ما قبل أيام اليونان والرومان، نستطيع أن نرجعه إلى أيام المصريين. فقد ورد في أخبارهم أنهم أرسلوا سفنهم إلى البحر الأحمر فوصلت إلى السواحل الإفريقية، وأنهم كانوا قد حفروا قناة لتصل بين نهر النيل والبحر الأحمر، فيكون في وسع السفن القادمة من البحر الأبيض من اليونان أو من إيطاليا أو من أي مكان آخر دخول نهر النيل والمرور من القناة إلى البحر الأحمر ثم إلى المحيط للاتجار مع أسواق البلاد الحارة، والعودة من تلك الأسواق بحاصلات آسيا وإفريقية إلى أوروبة. وهو مشروع يدل على ذكاء وحنكة في السياسة، مهد الدرب لمشروع قناة السويس الحديث.
ولما استولى "دارا" "داريوس" على مصر، قرر إعادة ذلك المشروع المصري القديم، الذي كان قد اندثر وأكلته الرمال، بأن أمر بشق قناة تصل النيل بالبحر الأحمر عن طريق الفرع البلوزي أحد فروع النيل القديمة، بالقرب من الزقازيق، مخترقة وادي الطميلات ثم البحيرات إلى السويس. وهو مشروع يدل على ذكاء ذلك الملك وإدراكه لأهمية ربط البحرين بطريق مائي، وإلى ما فيه من فوائد في السياسة وفي الاقتصاد وفي الناحية العسكرية.
ووضع "الإسكندر" الأكبر مشروعًا خطيرًا آخر يفوق كل ما وضع من قبله من مشاريع. فقد وضع خطة السيطرة على المياه الدافئة بالسيطرة على سواحل جزيرة العرب، وذلك بالاستيلاء عليها، ويكون بذلك ملك أكبر انبراطورية عرفت حتى ذلك اليوم تمتد من الهند إلى مصر وما وراء مصر من أرضين1. وقد كلف قواده بالالتفاف حول جزيرة العرب، وباشروا بتنفيذ الأمر بالفعل، وقد رأينا قائده "نيرخوس" "Nearchus" على رأس أسطول ضخم، لعله أعظم أسطول شاهده الخليج والبحر العربي حتى ذلك العهد. وقد رأينا كيف قرر الإحاطة بجزيرة العرب من الجنوب والغرب بالسيطرة على سواحلها وإنشاء أسطول يمخر المياه المحيطة بها، بعد أن هيمن على السواحل الشرقية. وقد استعان
__________
1 Arrianus, Anabasis, Vii, 19, 20.(13/267)
نفسه بخبرة الفينيقيين وعلمهم بالبحر. نقلهم إلى هذه المياه وكلفهم بناء السفن له، وبإدارتها له. ولو قدر للإسكندر أن يعيش طويلًا لتحقق مشروعه الضخم، ولكن القدر قضى عليه مبكرًا، فمات مشروعه معه، ولم يكن لخلفائه ما كان لسيدهم من عزم، فتركوا المشروع، ولم يتحمسوا له1.
وقد أدرك البطالمة قيمة القناة القديمة التي كانت تربط النيل فالبحر المتوسط بالبحر الأحمر، فأمر "بطلميوس الثاني" "185-146ق. م" بإعادتها، ومكن بذلك تجاره من دخول البحر الأحمر ومن نقل التجارة من أسواقها الأصلية إلى مصر، ومنها إلى أسواق اليونان والرومان وسائر بلاد أوروبة بالطرق المائية، وضبط بذلك الممر المائي العالمي القديم، هذا الممر الذي فتح ذهن "دلسبس" فيما بعد فجعله يفكر في موضع أصلح رآه في المكان الحالي المعروف بـ"قناة السويس"، القناة العالمية التي تلعب اليوم دورًا خطيرًا في الاقتصاد العالمي وفي السياسة الدولية والموقف الحربي للدول. وعين البطالمة موظفين خاصين مهمتهم الإشراف على إدارة التجارة البحرية وسير السفن. فنجد في كتابة تعود إلى سنة "130" قبل الميلاد إشارة إلى موظف كان مسؤولًا عن سير السفن وعن الطريق الصحراوية الممتدة إلى قفط، ونجد أخبارًا تعود إلى ما بين سنتي 120 و110 قبل الميلاد تتحدث عن سفن كانت تسير بين مصر والهند، كما نجد فيها وفي نصوص تعود إلى عهود متأخرة عن هذه إشارات إلى وجود موظفين مسؤولين عن البحرين الأحمر والهندي2.
وقد كان لوقوف "هيبالس" "Hippalus"، وهو أحد اليونان أو الرومان على سر الاستفادة من الرياح الموسمية في تسيير السفن وفي تقصير الوقت في قطع المسافات، وفي تمكينها من الابتعاد عن أخطار السير في محاذاة السواحل أهمية كبيرة في تطوير فن الملاحة الأوروبية بالنسبة لذلك العهد3. ويمكن اعتبار وقوف هذا الملاح على هذا السر من أهم الأحداث البارزة التي حدثت في ذلك العهد والتي مكنت الغربيين من التوفق في البحر بالنسبة لتلك الأيام. أضف إلى
__________
1 Arrianus, Anabasis, Vii, 19, 20.
2 حوارني "ص66".
3 Pliny, Vi, 26, Tarn, The Greeks In Bactria And
India, P.366.(13/268)
ذلك أن الذين خبروا البحر وعركوه من بعده أضافوا ما استفادوه من فنه ومن علم من تقدم عليه علمًا آخر مكن البحارة البطالسة ثم الرومان الذين جاؤوا من بعدهم فحكموا مصر، ثم اليونان من السيادة على البحار ومن انتزاع المغانم من التجار العرب ومن غيرهم ومن إلحاق ضرر بالغ بهم، وبذلك وضعوا لمن جاء بعدهم من دول أوروبة خطط السيطرة على البحار وعلى العالم القديم.
ويعد القيصر الروماني "أغسطس قيصر" من أهم القياصرة الذين وجهوا أنظارهم نحو الشرق، ونستطيع أن نقول أنه خليفة "الإسكندر الأول" في هذا الباب، ومن أستاتذة "نابليون" في خططه العسكرية الرامية إلى السيطرة على الشرق، لقد نوى الاستيلاء على بلاد العرب، وربما على ما وراء بلاد العرب من أرضين، وكانت غايته من هذه النية –كما قال سترابو- "إما أن يسترضي العرب، وإما أن يخضعهم، كما أنه فعلت في نفسه الروايات الشائعة منذ القدم أن العرب قوم واسعوا الثراء، وأنهم يستبدلون الفضة والذهب بعطرهم وحجارتهم الكريمة، دون أن ينفقوا مع الغرباء ما يحصلون عليه في مقايضاتهم التجارية. فأمل أحد أمرين: إما أن يحصل على أصدقاء موسرين، وإما أن يتغلب على أعداء موسرين"1.
وإذا كان "أغسطس" قد أخفق في تحقيق مشروعه في احتلال جزيرة العرب، فإنه لم يهمل ناحية الاستفادة من البحار، فشجع الملاحين وزاد عدد السفن الذاهبة إلى الهند، وقد كان عددها لا يزيد على عشرين سفينة في السنة الواحدة قبل أيامه، فارتفع عدد ما يصل إلى الهند منها إلى ما لا يقل عن "120"، سفينة في السنة الواحدة2. وقد أقام اليونان والرومان معبدًا في موضع "Mauziris" على ساحل الـ"مالابار" في أيام "أغسطس"، ووجود هذا المعبد في هذا الموضع دليل على المدى الذي وصل إليه التجار اليونان والرومان في بلاد آسية، وعلى مقدار تشجيع القيصر لأولئك التجار3.
وبدلًا من أن ينتظر التاجر الروماني أو اليوناني البضائع الثمينة، تأتي إليه إلى أسواق مصر أو بلاد الشأم محملة بسفن عربية أو على ظهور جمال القوافل كما كان
__________
1 الصفحة "264"، من المجلد الثاني من مجلة المجمع العلمي العراقي لسنة "1952م".
2 حوراني "ص75"، Strabok, 17, I, 13.
3 حوراني "ص75".(13/269)
ذلك في الغالب، وهي بأسعار عالية، ارتاد هو البحر الأحمر، ومنه المحيط الهندي إلى سواحل إفريقية أو سواحل العربية الجنوبية أو الهند فما وراءها، يشتري من موانئها وأسواقها ما يريد، بأسعار رخيصة جدًّا بالقياس إلى تلك الأسعار التي كانت يدفعها للتجار الموردين في أسواق مصر أو أسواق بلاد الشأم، فاستفاد هو، واستفادت حكومته منه، وخسر التجار العرب بوصول هؤلاء التجار إلى تلك الأسواق ومنافستهم لهم خسائر فادحة، أوجدت خللًا في الحياة الاقتصادية للدول العربية، وضررًا عامًّا في جميع نواحي الحياة الأخرى.
وطالما تشكى الرومان واليونان من فداحة الأرباح والضرائب التي كان يفرضها التجار العرب على البضائع المرسلة إليهم، والتي كانوا يحتاجون إليها ويشترونها بأي ثمن كان. وقد ذكر "سترابون" الجغرافي الشهير في جملة الأسباب التي حملت القيصر "أغسطس" على إرسال حملته الشهيرة، هو ثراء أهل تلك البلاد، وحصولهم على أرباح مفرطة من الغرباء وفي ضمنهم الرومان واليونان من اتجارهم معهم، ومن تحكمهم في وضع الأسعار، دون أن يعطوا أولئك التجار والبلاد التي يحملون تجارتهم إليها شيئًا1.
وقد كان للأحداث السياسية، في الامبراطوريتين الرومانية واليونانية أثرًا كبيرًا في حالة الملاحة في البحر الأحمر والمحيط الهندي. ففي أيام الفتن والاضطرابات وحدوث القلاقل، لم يكن في وسع أصحاب السفن الرومان أو اليونان التوغل في البحار البعيدة عن مناطق نفوذ الانبراطوريتين، لضعف وسائل حماية السفن التجارية وحماية التجار والمستعمرات العديدة المقامة على السواحل. ولهذا نجد "سترابو" يذكر أنه قبل أيامه لم تكن هنالك سفن كثيرة تجتاز البحر الأحمر، فقد كان كل ما يرسله الرومان من السفن لا يزيد على العشرين سفينة، تجتاز هذا البحر، فتصل إلى ما وراءه في المحيط2.
وأخذ التجار اليونان والرومان يقصدون سواحل أفريقية وبلاد العرب والهند، ويقيمون في موانئها للاتجار، وقد عثر على نقود يونانية ورومانية في مواضع متعددة من هذه السواحل، كما عثر فيها على آثار معابد ومباني تشير إلى أصل يوناني
__________
1 راجع الترجمة المنشورة في مجلة المجمع العلمي العراقي "2/ 763"، "1952م".
2 Strabo, 17, I, 13.(13/270)
وروماني، كذلك نجد أخبارًا لأشخاص يونانيين ورومانيين ذهبوا إلى أرض سبأ للاتجار.
ولم يجد الرومان ولا اليونان مقاومة تذكر حينما ولجوا البحر الأحمر والمحيط الهندي. لقد كانت سفنهم أكبر وأقوى من سفن العرب، وأحدث منها، وأقدر على الحركة والمقاومة. تتحمل صعاب البحر، وتقاوم الأعاصير والظروف القاسية الشديدة، وتتسع لاستيعاب أعداد كبيرة من الرجال، وتحمل حملًا كبيرًا بالقياس إلى السفن العربية. وهذا مما يقلل بالطبع من أجور النقل، ومن أخطار الغرق والاصطدام بصخور السواحل، ومن التعرض للصوص البحر، ويخفض من أثمان البضائع في الأسواق، ويزيد في عدد المستهلكين.
وقد رأى البحر الأحمر سفنًا أقوى وأضخم من السفن العربية الصغيرة ومن سفن سكان سواحل أفريقية: رأى سفنًا تسير بقوة أربعة صفوف من المجاذيف Quadriremes"1 أخذت تتعقب لصوص البحر، وتحمي سفن اليونان والرومان، وتحمي المستعمرات التي أنشئت على سواحل البحر الأحمر لإيواء تلك السفن، وتقديم المساعدات إلى أصحابها، وشراء السلع من القبائل الساكنة على مقربة منها، وسرعان ما صارت أسواقًا للبيع وللشراء، يبيع فيها هؤلاء التجار الأجانب ما يأتون به من تجارة من حوض البحر المتوسط، ويشترون منهم ما عندهم من مواد أولية، يقبل عليها أهل مصر واليونان والرومان وسكان البحر المتوسط. وقد أثرت هذه الأسواق بالطبع في مصالح التجار العرب الذين كانوا يقومون بمثل هذه الأعمال، ألحقت بهم ضررًا ولا شك.
ولوعورة الساحل العربي على البحر الأحمر ولكثرة صخوره المؤذية للسفن، ولكثرة لصوص البحر فيه، ولأسباب أخرى تجنبت السفن الرومانية واليونانية هذا الساحل قدر إمكانها، فلم ترس به إلا في المواضع الآمنة التي أمنت النزول بها، وسيطرت عليها بوضع حاميات عسكرية بها، أو بعقد محالفات وعهود ومواثيق مع سكانها. وقد كان ميناء "مخا" "Muza" الميناء المفضل لها. قصدته للاتجار
__________
1 حوراني "ص59"، Agatarchides, I, 83, 85, 88.(13/271)
ولتموين نفسها بالماء والغذاء1. وقد كان في استطاعة سفن تلك الأيام السير على مبعدة من ذلك الساحل ودون توقف حتى تصل إلى الميناء المذكور، أو إلى ميناء عدن "Arabia Eudaemon"، وبذلك تجنبت السفن المخاطر والمهالك التي كانت ستتعرض لها فيما لو سارت في محاذاة الساحل العربي.
ويظهر أن موضع "لويكه كومه"، أي "القرية البيضاء" كان ميناءً معروفًا في القرن الأخير قبل الميلاد، ففيه هبط "أوليوس غالوس" سنة "25 أو 24" قبل الميلاد في حملته التي أمر القيصر "أغسطس" بإرسالها على اليمن. ولو لم يكن من المرافئ الحسنة الصالحة لرسو السفن لمن نزل به الجيش الروماني. ويكتنف تأريخه الغموض، فلم يرد اسمه كثيرًا في كتب اليونان والرومان ولا في كتب الإسلاميين. ويقال إنه ظل قائمًا حتى نهاية القرن الثالث بعد الميلاد2. ولعله "الحوراء"، مرفأ سفن مصر قديمًا، وقد ذكره أصحاب الرحل3.
و"الجار"، فرضة أهل المدينة، ترفأ إليها السفن من أرض الحبشة ومصر وعدن والصين والبحرين، وبحذائها جزيرة في البحر ميل في ميل يسكنها التجار4. فهي من الموانئ التي كان يقصدها التجار من السواحل المقابلة ومن سواحل إفريقية الشرقية والمحيط الهندي. وذكر أن الناس كانوا لا يعبرون إلى الجزيرة إلا بالسفن، وهي مرسى الحبشة خاصة. وأن بينها وبين المدينة يوم وليلة، وبين أيلة نحو من عشر مراحل، وإلى ساحل "الجحفة" نحو ثلاث مراحل5، وقد عرفت تلك الجزيرة بـ"قراف"، وسكانها تجار كنحو أهل الجار6.
و"الشعيبة" من المراسي القديمة في الحجاز، وهي أقدم من جدة. وهي خور أمين تقصده السفن لتتزود بما تحتاج إليه من زاد وماء، ولتفرغ فيه ما تأتي
__________
1 "المخا: موضع باليمن بين زبيد وعدن، بساحل البحر. وهو مقصود"، البلدان "7/ 202"، "ومخا: مقصورة، بساحل بحر اليمن تجاه باب المندب ... قال الصاغاني: ترفأ بمكلئها السفن"، تاج العروس "10/ 328".
2 Handbuch, I, S. 114.
3 تاج العروس "3/ 161"، "حور".
4 تاج العروس "3/ 112"، "جار".
5 البلدان "3/ 35".
6 عرام، أسماء جبال تهامة وسكانها "ص398 وما بعدها"، "نوادر المخطوطات"، تاج العروس "6/ 220"، "قرف".(13/272)
به من شحن من أفريقية إلى الحجاز. وهو مرفأ مكة ومرسى سفنها قبل جدة. وإليه جنحت سفينة "باقوم"، التي تحطمت بدفع الريح لها، فاستعانت قريش في تجديد عمارة الكعبة بخشب تلك السفينة على نحو ما تحدثت عنه في أثناء كلامي على تجديد بناء الكعبة قبل المبعث بقليل1. ومنه هاجر المسلمون إلى الحبشة في السنة الخامسة من المبعث، حيث وجدوا سفينتين للتجار حملوهم فيها إلى الحبشة2. ومنه كان يذهب تجار مكة إلى أفريقية للتجارة قبل الإسلام.
وميناء "Muza" = "Muza" من موانئ اليمن المهمة على البحر الأحمر3، وكان مقصودًا، وتصل إليه السفن البيزنطية والسفن الواردة من مصر، ومن هنا كانت تتزود تلك السفن بضائع البلاد العربية، أو تبيع فيه ما استوردته من مصر أو من سواحل حوض البحر المتوسط. وقد تتزود ما تحتاج إليه من ماء وزاد، ثم تتجه إلى أفريقية أو إلى سواحل الهند. وقد كانت به جاليات من اليونان أو من غيرهم مقيمة هناك للاتجار والتعامل مع الوطنيين. وهو ميناء "مخا" المشهور4. ويذكر أهل الأخبار، أن بين "مخا" وبين "باب المندب"، أي الساحل الأفريقي المقابل للساحل العربي يومين أو أكثر، وأن باب المندب، مرسى ببحر اليمن، وهو اسم ساحل مقابل لزبيد اليمن، وهو جبل مشرف ندب بعض الملوك إليه الرجال حتى قدوه بالمعاول؛ لأنه كان حاجزًا ومانعًا للبحر عن أن ينبسط بأرض اليمن، فأراد بعض الملوك أن يغرق عدوه، فقد هذا الجبل وأنفذه إلى أرض اليمن، فغلب على بلدان كثيرة وقرى أهلك أهلها وصار منه بحر اليمن الحائل بين أرض اليمن والحبشة والآخذ إلى عيذاب وقصير إلى مقابل "قوص"، والملك هو "الإسكندر"5. وبهذه الطريقة أوجد أهل الأخبار لهم تأريخًا لباب المندب، وحلوا مشكلة كيفية انفصال أفريقية عن اليمن!
وميناء "Arabia Eudaemon"، هو ميناء "عدن"، وهو ميناء مهم في ذلك الوقت أيضًا، ولا يزال يحافظ على مركزه وأهميته من الوجهة العسكرية
__________
1 البلدان "5/ 276"، ابن المجاور، صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز، "القسم الأول ص42"، وما بعدها".
2 الطبري "2/ 329".
3 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "8/ 97".
4 البلدان "7/ 202"، تاج العروس "10/ 338"، "مخى".
5 تاج العروس "1/ 482"، "ندب".(13/273)
والاقتصادية1. وقد ذكره "بطلميوس" باسم "Rabia Emporion". وقد كان مركزًا لتبادل السلع الإفريقة والهندية والمصرية، ومكانًا تبحر منه السفن إلى الهند، كما تلتجئ إليه السفن الواردة من تلك البلاد. وقد استولى عليه الرومان في فترات.
ويذكر أنه في حوالي سنة "345"، أسس أحد المبشرين واسمه "ثيوفيلوس" "Theophilus" المعروف بالهندي، كنيسة في "عدن2 "Adane".
وجزائر "فرسان"، من الجزر التي كان يتاجر أهلها مع الحبشة، ويذكر "الهمداني" أن سكانها كانوا يعملون في التجارة إلى بلاد الحبش، ولهم في السنة سفرة3.
وميناء "Cana" "قنا"، هو موضع "حصن غراب" "حصن الغراب". وهو سوق اللبان الذي يزرع داخل البلاد، يؤتى به إلى ذلك الميناء على ظهور الجمال، أو في الأرماث المصنوعة من الجلد، وفي القوارب. وهو ميناء تجارة كذلك مع مدن الساحل البعيد، مع بعض مدن الهند، وميناء "عمانه" "Umana" "عمان" والموانئ التي على الخليج4. وتقع "قنا" على مرتفع، قريب من "ميفع"5، و"ميفع"، قرية على الساحل، و"ميفعة"، بلدة بين "ميفع" و"أحور"، إلا أنها ليست على الساحل، بل بينهما مرحلة6.
وأما ميناء "Moscha"، فهو "ظفار" من أعمال الشحر، قريب من صحار. وبجبال ظفار "اللبان"، وإليه يحمل، وبه يقسم ويوزع، ولا يسمح بحمله إلى غيره7. وقد ذكر عدد من المؤلفين اليونان واللاتين. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه "مسقط" وأنه "Mosca Portus".8 ويذكر أهل الأخبار،
__________
1 البلدان "6/ 127"، ابن المجاور "1/ 106 وما بعدها".
2 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام، 8/ 98 وما بعدها".
3 الصفة "53".
4 Periplus, 20. F., 27.
5 تاج العروس "10/ 305"، "قنا".
6 تاج العروس "5/ 566"، "يفع".
7 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 342"،
Glaser, Skizze, Ii, S. 180, Ptolemy, Vi, 7, 10.
8 Geography, Ii, S. 757.(13/274)
أن "ظفار" قرب مرباط، وتعرف بـ"ظفار" الساحل، وإليها ينسب القسط، وهو العود الذي يتبخر به؛ لأنه يجلب إليها من الهند، ومنها إلى اليمن، كنسية الرماح إلى "الخلط"، فإنه لا ينبت به، وهي قريبة من "الشحر"1.
وكان أهل "جرها" "Gerrha" على ساحل الأحساء من أنشط الناس في التجارة، يتاجرون في البر والبحر، ويتاجرون مع الهند وسواحل إيران الجنوبية، كما كانوا يتاجرون مع العربية الجنوبية وأرض العراق. وكانوا قومًا مسالمين لا يرغبون في الحروب. فلما أراد "أنطيوخس" "Antiochus" الثالث الاستيلاء على المدينة وذلك في حوالي سنة "205"، قبل الميلاد، سألوه الصلح والمهادنة، "وألا يقضى على ما أعطتهم الآلهة من سلام وحرية أزليين"2.
وأما مدينة "أبولوكس" "Apologus"، فهي الأبلة في الكتب الإسلامية و"Uubulum" في الكتابات الأكادية. وقد كانت من أهم موانئ أعالي الخليج في أيام فتح المسلمين للعراق. تصدر إلى الهند حاصلات العراق وبلاد الشأم وآسية الصغرى وأوروبة، وتستورد منها أخشاب الصندل والآبنوس ومنتجات الهند وسيلان والصين3. وقد عرفها أهل الأخبار، فذكروا أنها كانت أقدم من البصرة؛ لأن البصرة، مصرت في أيام "عمر"، وكانت الأبلة حينئذ مسالح من قبل كسرى، وقد كان تجارها يربحون ربحًا عظيمًا، وهي أرض واسعة. قال "خالد بن صفوان": "ما رأينا أرضًا مثل الأبلة مسافة، ولا أغذى نطفة، ولا أوطأ مطية، ولا أربح لتاجر، ولا أحفى بعابد"4.
وهناك مواني عديدة أخرى، ذكر المؤلفون اليونان واللاتين أسماءها، وقد تحدثت عنها في الجزء الثالث من كتابي: "تاريخ العرب في الإسلام"، وشخصت مواقعها قدر الإمكان. وقد كان لا بد من أن يكثر عدد الموانئ في تلك الأيام، فسفن ذلك العهد لم تكن ضخمة كسفن هذا اليوم، ولم يكن في استطاعتها لهذا الابتعاد عن السواحل كثيرًا، ولا السير إلى مسافات شاسعة، إذ كان لا بد لها
__________
1 تاج العروس "3/ 370"، "ظفر".
2 Polybius, Historia, Book, 13, Chapter 9.
3 Pliny, Iv, 31, 32, Dio Casius, Roman History, 68, 28, 29.
جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "8/ 100".
4 تاج العروس "7/ 200"، "ابل".(13/275)
من التزود دومًا بالماء والغذاء، ولا سيما بالنسبة إلى السفن الصغيرة، فأخذت ترسو في مراسي كثيرة لتموين نفسها ولإراحة أصحابها، من عناء البحر، ولم تتخلص السفن من تعدد الرسو في المواني إلا بعد تحسن صناعة بناء السفن، وظهور السفن البخارية، فانتفت حاجتها إليها، وقد قضى هذا التحسن على أكثر المواني، فماتت وذهبت مع العصور التي ولدت فيها.
وقد تتجه السفن من ميناء "مخا" إلى السواحل الإفريقية مخترقة مضيق المندب، وقد تتجه إلى "عدن"، ثم تواصل سيرها نحو السواحل الإفريقية، بعد أن تتمون بما تحتاج إليه من ماء وزاد، أو تتجه إلى ميناء "أكيلا" "Acilla"، الواقع على مقربة من "رأس الخيمة" "Massandum"، للإقلاع منه إلى الهند1. وهو أقرب طريق يوصل العرب الجنوبيين وعرب سواحل عمان إلى تلك البلاد.
ولما تحسنت هندسة بناء السفن صار في إمكانها قطع مسافات أبعد من دون حاجة إلى الرسو في موانئ عديدة، وصارت السفن القادمة من مصر ترسو في ميناء "عدن" رأسًا، وبعد أن يستريح أصحابها يتجهون إلى سواحل أفريقية أبعد مما كانوا يصلون إليها في السابق، أو يتجهون نحو الهند. وبذلك قصر الوقت وقلت كلفة الأسفار، وصار في وسع اليونان والرومان دخول الأسواق الأصلية رأسًا، يأخذون منها ما يريدون ويبيعون فيها ما عندهم دون حاجة إلى وسيط. وكانت السفن اليونانية والرومانية تتحمل من صعاب البحر، وتقاوم الأعاصير والظروف القاسية الشديدة، وتتسع لاستيعاب أعداد كبيرة من الرجال، وتحمل حملًا كبيرًا بالقياس إلى السفن العربية. وهذا ما قلل بالطبع من أجور النقل، وخفض من أثمان البضائع في الأسواق، وزاد في عدد المستهلكين.
ولكن السفن اليونانية والرومانية جوبهت مع ذلك بلصوص البحر الذين كانوا يتعقبون السفن، ويغيرون عليها عند تقربها من السواحل. كان هؤلاء اللصوص قد ابتنوا سفنًا لهم، فإذا رأوا سفنًا يونانية أو رومانية أو غيرها وقد وقعت في قبضة الأعاصير، أو اصطدمت بالصخور البحرية أو كانت على مقربة منهم وفي مناطق يمكن وصولهم إليها، أغاروا عليها وأخذوا منها كل ما تقع أيديهم عليه.
__________
1 Pliny, Vi, 32, Glaser, Skizze, Ii, S. 186.(13/276)
ولا ينجو منها أحد، حتى أصحابها يؤخذون أسرى، فيباعون في الأسواق خولًا.
ولحماية السفن والتجار، أنشأ الرومان واليونان قوة بحرية حربية، تولت حراسة السفن التجارية وحماية المستعمرات التي أقاموها على سواحل هذه الطرق المائية العالمية المهمة. ولم تكن المسافات بين المستعمرات الساحلية قصيرة، ليكون في الإمكان الدفاع عنها والتعاون فيما بينها. وللتغلب على هذا الضعف ولحمايتها حماية قوية زودوها بما تحتاج إليه من مياه عذبة ومن أطعمة ومن جنود لصد غارات المعتدين. وبذلك هيمنوا على البحار: وضبطوا البحر الأحمر بصورة خاصة، ولم يبق للعرب من مجال في التجارة العالمية إلى بسلوك الطرق البرية الموصلة إلى بلاد الشأم والعراق.
وقد تكون في إشارة "بليني" "Plinus" إلى وجود جاليات يونانية على سواحل بلاد العرب في مواضع غير بعيدة عن موضع "Attevae" الذي هو "عدن"، إيماءة إلى وجود مستعمرات يونانية على سواحل جزيرة العرب أنشئت قبل أيامه لضبط الأمن في البحار وللاتجار مع العرب وبسط نفوذ. الروم عليهم وفي جملة تلك الأماكن التي ذكرها: "Arethusa" و"Larisa" و"Chalcis"، ذكر أنها كلها كانت قد خربت بسبب الحروب، مما يدل على أنها كانت قد أقيمت قبل أيامه بزمان1.
وقد ضمنت تلك القوة البحرية الضخمة للرومان السيطرة على البحر الأحمر وعلى البحر العربي، واستطاعت احتلال "عدن". ففي أيام "كلوديوس" "Claudius" "41-54م" كان هذا الميناء في قبضة الرومان2. وكانت به حامية رومانية. وتمكن هذا القيصر الذي كانت عدن خاضعة له في أيام مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"، أو أي قيصر آخر، قد يكون "Coligula" وقد يكون "طبريوس" "Tiberius"، من عقد معاهدة مع الملك "كرب ايل" "Charibael" "ملك سبأ وذو ريدان" في ذلك الوقت. ولم يشر مؤلف
__________
1 Pliny, 6, 159, Die Araber, I, S. 120.
2 Wissmann, Geogr. Grundlagen, 107, Grohmann, Arabien, S. 28, Periplus Maris Erythraei., 26.(13/277)
الكتاب المذكور الذي لا نعرف اسمه اليوم إلى اسم القيصر، بل اكتفى بذكر اللقب فقط، وهو "قيصر"، وهو كما نرى لقب عام، يطلق على كل من يحكم انبراطورية الرومان. وقد ذهب بعض الباحثين إلى عدم إمكان التفكير في القيصر "أغسطس"، وإلى احتمال كونه قيصرًا آخر، وقد يكون بالإضافة إلى ما ذكرته "نيرو" أو "تراجان"، أو "سبتيموس سويرس" "سبتيميوس سفيروس" "Septimius Severus"1.
واهتم "تراجان" بأمر التجارة البرية والبحرية، جعل أرض النبط ولاية خاصة دعاها: "الكورة العربية" أو "المقاطعة العربية" "Arabia Provincia" وذلك سنة "106" للميلاد. واهتم بالطرق البرية، فأصلح طريقًا مهمة تمر من دمشق إلى أيلة فبصرى والبتراء، وهي طرق قديمة ومعروفة، بالنسبة للاتجار مع بلاد العرب، وكانت في حاجة إلى عناية وإصلاح ووضع معالم. واعتنى بميناء "أيلة" فعمره ووضع إدارة "كمركية" فيه، وجعله من الفرض المهمة في خليج العقبة، بل والبحر الأحمر، وأصلح القناة القديمة بعد أن تراكمت فيها الأتربة حتى سدت مجراها، وحفر قسمًا جديدًا من طرفها الغربي، أوصلها بالنيل عند "بابلون" "Babylon"، موضع مصر القديمة. وبذلك سهل الاتصال بالفرع الغربي للنيل المؤدي إلى الأسكندرية، وبرز ميناء "القلزم" "Clysma" حيث التقت قناة تراجان بالبحر الأحمر2.
وعثر على كتابة دونها قوم من أهل تدمر، اشتغلوا بالملاحة في البحر الأحمر، أشادوا بفضل القيصر "هدريان" هدريانوس" "117-138م" عليهم3. وتدل هذه الكتابة على اشتراك التدمريين في الملاحة، مع أنهم من أهل مدينة صحراوية، عماد حياتها التجارة بالبضائع الواردة إليها بالطرق البرية.
وقد توغل الملاحون في أيام أسرة "انطونينوس" "Antonines" "98-192م". حتى أدركوا موضع "رهابتا" على مقربة من "زنجبار" في السواحل الإفريقية، ووصلوا إلى سواحل الصين في آسية. وهذا هو سر وجود أسماء مواضع في جغرافيا
__________
1 Die Araber, I, S. 43.
2 حوراني "86".
3 Dio Casius, 68, 14, Ptolemy, Iv, 5, 14.(13/278)
"بطلميوس" "في حوالي 150-160 للميلاد" لم ترد في كتب المؤلفين السابقين الذين عاشوا قبل هذا الجغرافي اليوناني الشهير. وفي جملة ما ذكره هذا الجغرافي أسماء مواضع عديدة في جزيرة العرب، لم يشر إليها المؤلفون اليونان والرومان السابقون، وأوصاف أدق وأصدق من الأوصاف التي ذكروها، وفي ذلك دلالة على زيادة علم اليونانيين والرومان في هذه الأيام بأحوال الشرق نتيجة زيادة اختلاطهم واتصالهم بالشرقيين.
ومعارفنا بأخبار الملاحة في البحر الأحمر وفي المحيط الهندي في العهد البيزنطي، أي العهد الذي أصبحت فيه القسطنطينية فيه عاصمة بدلًا من روما "330م"، قليلة ضحلة؛ لأن أكثر المؤرخين الذين عاشوا في هذه الحقبة ثم ما بعدها إلى ظهور الإسلام إنما اهتموا بالأمور الدينية، وكانوا إذا ما تطرقوا إلى النواحي الجغرفاية أو التاريخية المعاصرة للبلاد الخارجة عن نطاق الانبراطورية البيزنطية أو نفوذها السياسي، أوجزوا القول إيجازًا لا يعطي القارئ رأيًا في الأحوال العامة وفي ضمنها التجارة والملاحة في البحر الأحمر والمحيط الهندي.
لقد أثرت الأوضاع السياسية القلقة التي حدثت في الدولة البيزنطية، والحروب المتوالية بين الساسانيين والبيزنطيين، أثرًا خطيرًا على البحرية البيزنطية في البحر الأحمر وفي المحيط الهندي، إذ حدت من توسعها، وقلصت من عدد سفنها، ولم تجد بسبب انشغال الحكومة في تلك الحروب عناية ورعاية، ولهذا اقتصر نشاطها على البحر الأحمر وعلى السواحل الإفريقية التي كانت على صلات حسنة بالبيزنطيين. فكانت تصل إلى ميناء "أدولس"، ومنه يصل التجار إلى أسواق الحبشة الداخلية، أو إلى مواني "سقطرى"، وقد كان بها مستوطنون يونانيون، أقاموا فيها منذ أمد طويل، وبنوا بها كنائس ومستوطنات للإقامة فيها، وظل بعضهم بها إلى أيام الإسلام.
وكانت السفن اليونانية تمون نفسها بما تجده في "ادولس" وفي "سقطرى" من تجارات، بعضها من نفائس تجارة الهند جاءت بها السفن الساسانية إلى هذه المواضع، فيشتريها التجار اليونان ويأخذونها إلى بلادهم.
ويذكر أهم الأخبار أن "سقطرى" كانت مركزًا هامًّا من مراكز التجارة في البحر، وكان بها قوم من اليونان يحفظون أنسابهم محافظة شديدة. وقد كانوا بها(13/279)
من أيام ما قبل الميلاد، وربما كانوا بها قبل أيام "الإسكندر". ولما ظهرت النصرانية تنصر من كان بها من اليونانيين. ويذكرون أن قومًا منهم طرحهم "كسرى" في هذه الجزيرة. وكانت بوارج الهند تأوي إليها. وقد اشتهرت بالصبر الجيد الذي لا يوجد مثله في غيرها، وبدم الأخوين، وهو صمغ شجر يسمونه "القاطر"، وهو "الأيدع"، وقد ساكن العرب اليونان1. ويذكر أهل الأخبار أن "أرسطو"، هو الذي أشار على "الإسكندر"، بإجلاء أهل "سقطرى"، وإسكان طائفة من اليونان بها، لحفظ "الصبر" لعظيم منفعته. وذكروا أن بينها وبين "المخا" ثلاثة أيام مع لياليها، وأن من مدنها: "بروه" و"ملتده"، و"منيسة"، وهي مسكن ملك الزنج2.
أما البحرية والتجارة البحرية الساسانية، فإننا لا نعرف عنها في هذا العهد معرفة واسعة، ولا نستطيع أن نتحدث عن وجود قوة بحرية ساسانية، أو نشاط بحري في البحر الأحمر في كل العهود، وإنما كان أقصى ما وصل إليه نفوذ الساسانيين في البحر، هو باب المندب، أي مدخل البحر الأحمر، حيث وقفوا عنده. وقد صار البحر الأحمر، منذ استيلاء اليونان والرومان على مصر، بحرًا يونانيًّا رومانيًّا بيزنطيًّا، حرسوه بأساطيل قوية، ضمنت لهم التفوق فيه، فلم يكن في وسع الفرس ولوجه أو التوغل فيه.
وقد ذكر أن "أردشير" الأول "225-241م" بنى جملة مواني بحرية وأن "نرسي" "292-302م" عقد صلات ودية مع ملك الزنوج في شرق الصومال، وأن "سابور" الثاني حوالي سنة "310م" هاجم البحرين، وأقام حامية بها، وفتك بقبائل عديدة، وذلك ردًّا على هجوم تلك القبائل على سواحل فارس.
وصار للفرس نشاط ملحوظ في الخليج وفي المحيط الهندي. وقد أنشأ الفرس جملة كنائس في سواحل الهند وسقطرى، أنشأها الفرس النساطرة، وكانوا تجارًا، نزلوا في هذه المواضع للاتجار، كما كانت هنالك سفن فارسية في "أدولس". وكان الساسانيون يستغلون الظروف الحرجة، والأوضاع القلقة التي
__________
1 البلدان "5/ 93 وما بعدها".
2 تاج العروس "3/ 273"، "السقطري".(13/280)
تقع في انبراطورية الروم، فيزيدون من نشاطهم في البحر، ويمنعون في مطاردة التجار البيزنطيين في البحر العربي وفي الخليج وفي الهند، حتى قل عدد سفن الروم، في المحيط، واكتفت بالوصول إلى باب المندب والسواحل الإفريقية في بعض الأحيان، عند اشتداد الأزمات، ووقوع قلاقل داخلية، أو نزول كوارث بالروم في الحروب.
وقد وجد الساسانيون أن من الأصلح لهم نقل التجارة الآتية التي تجارهم من الصين والهند وسيلان إلى الخليج حيث لا يزاحمهم أحد، ومنه إلى العراق، أو من الهند والصين إلى فارس، ثم العراق ومنه إلى "نصيبين"، أو إلى بلاد الشأم، لبيعها إلى البيزنطيين، وفي جملة مواد هذه التجارة "الحرير" الذي كان مطلوبًا عند البيزنطيين؛ لأنه من الألبسة الفاخرة بالنسبة للطبقة الحاكمة ولرجال الكنيسة وللطبقة المترفة المرفهة، فكان يباع بأغلى الأثمان1.
وقد دخل الأحباش البحر، فكانوا يسيرون سفنهم بين السواحل الإفريقية والسواحل العربية الغربية والجنوبية. ولو لم تكن لهم قوة بحرية ما تمكنوا من الاستيلاء على اليمن وعلى مواضع من العربية الجنوبية جملة مرات. آخرها فتحهم اليمن سنة "525" للميلاد. وقد تولت سفنهم نقل حاصلات الحبشة والسواحل الإفريقية إلى بلاد العرب، وكان التجار العرب ينقلون هذه السلع إلى بلاد الشأم أو العراق. وقد ذكر أهل الأخبار أن "الجار"، وهي مدينة على ساحل بحر القلزم بينها وبين المدينة يوم وليلة وبينها وبين أيلة نحو من عشر مراحل، وإلى ساحل الجحفة نحو ثلاث مراحل، كانت فرضة، ترفأ إليها السفن من الحبشة ومصر وعدن والصين وسائر بلاد الهند، وبحذاء الجار جزيرة في البحر تكون ميلًا في ميل لا يعبر إليها إلا بالسفن، وهي مرسى الحبشة خاصة2.
ولكن قوة الحبشة البحرية لم تكن قوة قوية ضخمة، ولم تكن مكونة من سفن كبيرة ذات مرونة وقابلية على الحركة، بل كانت سفنًا صغيرة لا تضاهي السفن اليونانية في الضخامة وفي الفن. ولم تكن كثيرة العدد، ولا سيما في الجاهلية القريبة من الإسلام، بدليل ما ورد في بعض الروايات من أن السفن التي حملت
__________
1 Runciman, Byzantine Civilization, P.164.
2 البلدان "3/ 35".(13/281)
جيش ملك الحبشة إلى اليمن لاحتلالها سنة "525" للميلاد، وذلك في عهد "ذي نواس" كانت سفنًا يونانية أمر القيصر بإرسالها إلى الحبشة لحمل الجيش إلى اليمن1. وبدليل ما ورد في روايات إخراج الحبش وطردهم من اليمن، من أن السفن التي حملت الفرس إلى اليمن كانت ثماني سفن، غرق منها سفينتان، وبقيت ست سفن فقط، وقد تغلب من كان بها مع ذلك على الحبش. فلو كان للحبش أسطول بحري قوي، ولو كانت لهم هيمنة على البحر، لما كان في إمكان هذه السفن الفارسية الست الوصول إلى مياه اليمن، وإنزال ما فيها من جنود، ومن التغلب على الحبش والقضاء على حكمهم هناك.
وضعف بحرية الحبشة، هو الذي جعلها لا تستطيع الوفاء بوعدها للقيصر "جستنيان" "Justinian" في شراء الحرير من الهند ومن وراء الهند، وبيعه للروم. فقد كان هذا القيصر قد أرسل في عام "531م" وفدًا إلى "أكسوم"، ليفاوض الحبش في هذا الموضوع لحرمان الساسانيين من ربح كبير كانوا يجنونه من الاتجار بالحرير المستورد من الهند ومن وراء الهند، فوافقوا على ذلك، لكنهم لم يتمكنوا في النهاية من الوفاء بالوعد، لعدم تمكن سفنهم البحرية من الوصول إلى الهند ومن منافسة التجار الفرس الذين كانوا قد استقروا في سيلان وفي الهند وفي مواضع أخرى منذ عهد طويل2.
ولم يتمكن الأحباش أن يفيدوا فائدة تجارية كبيرة من فتحهم لليمن. ولم يحصل البيزنطيون على ما كانوا يتوقعون الحصول عليه من الاتصال بالحبش من البر، وذلك عن طريق "المقاطعة العربية" في جنوب بلاد الشأم فالحجاز إلى اليمن. فلم يتمكن الحبش من احتلال الحجاز، للاتصال بالروم. وأخفق "أبرهة" في الاستيلاء على مكة على نحو ما تحدثت عنه في موضعه. وتمكن الفرس من طردهم من اليمن بكل سهولة، دون أن يقوم الحبش ولا حلفاؤهم البيزنطيون بإرسال قوات بحرية لمقاتلة السفن الساسانية القليلة التي جاءت بمقاتلين من المساجين المجرمين، لا بجيش نظامي مدرب، وقد تمكنوا من ذلك من التغلب على الحبش، بمساعدة كبيرة بالطبع من اليمانيين أنفسهم الذين كانوا قد أعلنوا
__________
1 الطبري "2/ 127".
2 Procopius, Persian Wars, I, 29, 9-13, Malalas, 18, 456-459.(13/282)
ثورة عامة على الحبش. ولو كان للحبش أو لحلفائهم البيزنطيين أساطيل من السفن المحاربة القوية، لما تمكن الفرس من الاستيلاء على اليمن بتلك القوة الضعيفة!
ولم يكن الساسانيون أقوياء في البحر عند ظهور الإسلام، وآية ذلك وأن عاملهم على اليمن، كان يرسل ألطاف اليمن وما يجمعه منها إلى "كسرى" عن طريق البر، وقد تحدثت عن تعرض "بني تميم" بقافلة كسرى التي كانت قادمة من اليمن في طريقها إلى "المدائن"، ولو كان للفرس أسطول قوي من سفن ضخمة على نمط سفن البيزنطيين، لاستخدموه واسطة للنقل بين اليمن والعراق، ولسمعنا بوجوده في البحر. وقد يقال إن الفرس استخدموا البر؛ لأنه أسهل عليهم من البحر، وأقصر مسافة وأسرع من حيث الوقت، ثم هو يمر بأرضين صديقة للفرس أو موالية لهم، أو تابعة لأمراء موالين لهم، خاضعين لسيادتهم، وليس في ذلك دليل على عدم وجود أسطول قوي لهم في البحر، ولكننا مع موافقتنا على هذا التعليل، فإننا لا نسمع في أخبار أهل الأخبار المنقولة من روايات فارسية أصلية، ما يفيد بوجود فعل وأثر لأسطول ساساني ما وراء عمان إلى السواحل الإفريقية، ثم إن الفرس كانوا قد تحكموا في السواحل العربية الجنوبية قبل فتحهم لليمن، ولكنا لا نجد في هذا العهد أثرًا لحكم فارسي على السواحل العربية الجنوبية، مما يدل على زوال حكمهم عنها وعدم وجود أسطول ساساني في مياه السواحل، فتخلصت منهم، واستقلت بأمرها وإدارتها.
وقد استفاد أهل مكة، من الأحداث التي وقعت في اليمن، ولا سيما بعد موت أبرهة وموت مشروعه في الاستيلاء على مكة قبل وفاته. وإني أرى أن حملة "أبرهة" على مكة، لم تكن حملة غايتها هدم الكعبة، ونقض قواعدها، كما يذكر ذلك أهل الأخبار، وإنما كانت لدوافع اقتصادية وسياسية، فقد كانت مكة قد برزت وظهرت إلى الوجود، قبل أبرهة، واستغل أهلها مواهبهم وذكاءهم في كيفية جمع المال، حتى صاروا تجارًا ووسطاء في التجارة، يتاجرون بين بلاد الشأم واليمن، وبين الحبش والعراق، وصاروا أصحاب مال، لهم نقود: دنانير، ودراهم، وذهب، وفضة، وغير ذلك مما يسيل له لعاب التاجر وصاحب المال، أضف إلى ذلك وقوع مكة في موقع مهم، والاستيلاء عليه يمهد للسير نحو بلاد الشأم، للاتصال بالروم، أصحاب مشروع الحملة الأصليون،(13/283)
كما تحدثت عن ذلك. فالعوامل إذن اقتصادية سياسية، وليست العوامل التي ذكرها أهل الأخبار.
وقد ساهم أهل الهند في تسخير البحر كذلك، فكانت سفنهم تمخره ما بين الهند وساحل الخليج إلى "الأبلة"، كما كانت تتجه نحو "سقطرى" وسواحل إفريقية الشرقية، فقد ذكر أهل الأخبار أن "بوارج الهند" كانت تتاجر مع هذه الجزيرة1. وقد مونت الهند جزيرة العرب بالحديد الجيد، الذي صنعت منه السيوف الهندوانية، نسبة إلى الهند. و"التهنيد"، عمل الهند. كما مونتهم بالعود الطيب، وبالخشب الصلد2.
وبظهور الإسلام، وباستيلاء المسلمين على مصر وعلى شمالي إفريقية، وبفتح بلاد الشأم والعراق وإيران وما وراء إيران تغير الحال بالطبع، فماتت الإنبراطورية الساسانية، ومات أسطولها معها، وانقطعت صلة البحرية البيزنطية بالبحر الأحمر وبالمحيط الهندي، وأبعد الأوروبيون من البحار الدافئة إلى أن تبدلت الدنيا مرة أخرى، فظهر المكتشفون الأوروبيون وفي مقدمتهم البرتغال، فعاد التفوق البحري للغرب، وانتزع البحر من البحرية الإسلامية؛ لأنها ظلت جامدة محافظة لم تحدث تغييرًا في هندسة السفن، ولا في أسلوب القوى المحركة لها وفي قابليتها على الحركة، فصارت عاجزة عن مقاومة العقل الحديث، وغلبت على أمرها نتيجة جمود العقلية وعدم التطور مع عقلية الزمن.
هذا ولا بد لي هنا من لفت نظر القارئ إلى ورود شيء في كتب أهل الأخبار عن حملات الروم على بلاد العرب وعلى البحر الأحمر، ولو أن هذا المذكور المدون في كتبهم، هو من نوع القصص المعروف المألوف الذي ألفنا قراءته في كتب أهل الأخبار، فيه مبالغة وغرابة وخيال، وفيه سذاجة تنم عن عقلية سطحية تروي كل ما يقال لها من غير نقد ومناقشة. وقد أخذ من أهل الكتاب وفي الإسلام في الغالب. ولكنه قصص يستند –على كل حال- إلى أصل وسبب وإن كان بعيدًا. ثم إنه قصص طريف يريك مبلغ علم القوم بأحوال الماضين، وكيف يروون قصص الحوادث المتقدمة وينقلونه على أنه تأريخ للماضين ويكاد يكون أكثر تأريخ من تقدم زمن الإسلام من هذا النوع.
__________
1 البلدان "5/ 93".
2 تاج العروس "2/ 547"، "هند".(13/284)
الفصل الواحد بعد المائة: تجارة مكة
مدخل
...
الفصل الواحد بعد المائة: تجارة مكة
وكان أهل مكة من أبرع التجار ومن أنشطهم في العربية الغربية عند ظهور الإسلام. وقد أشير إلى تجارتهم في القرآن الكريم1. وسبق أن تحدثت عن تجارتهم في أثناء كلامي على مجمل الحالة السياسية لجزيرة العرب عند ظهور الإسلام.
وقد استفاد أهل مكة، ولا شك، من الوضع السيئ الذي طرأ على اليمن بدخول الحبش إليها، ومن تردي الأوضاع السياسية فيها والاضطرابات المستمرة التي وقعت بتصادم الوطنيين والغزاة الأحباش. فانحسر كل نفوذ سياسي أو عسكري كان لحكومات اليمن في الحجاز أو على بعض القبائل، ووجدت قريش نفسها حرة مستقلة وفي وضع يمكنها من استغلال مواهبها في التجارة، فقامت بمهمة الوسيط، تنقل تجارة أهل اليمن والعربية الجنوبية إلى أسواق فلسطين، وتنقل تجارة بلاد الشأم وحوض البحر المتوسط إلى الحجاز ونجد واليمن، وبذلك حصلت على أرباح طائلة عظيمة، جعلتها من أغنى العرب عند ظهور الإسلام، وصيرت مكة مركزًا خطيرًا من مراكز الثروة والمال في جزيرة العرب في ذلك الحين.
وقد وصف أهل الأخبار أهل مكة بترفعهم عن البخل والشح، فقال "الجاحظ" وهو يصفهم: "ومن العجب أن كسبهم لما قل من قبل تركهم الغزو، ومالوا إلى الإيلاف والجهاد، لم يعتريهم من بخل التجار قليل ولا كثير، والبخل خلقة
__________
1 سورة قريش.(13/285)
في الطباع، فأعطوا الشعراء كما يعطى الملوك، وقروا الأضياف، ووصلوا الأرحام، وقاموا بنوائب زوار البيت. فكان أحدهم يحيس الحيسة في الأنطاع فيأكل منها القائم والقاعد والداخل والراكب، وأطعموا بدل الحيس الفالوذج"1. فمرود الكسب الأول عند العرب في الجاهلية هو الغزو على رأي أهل الأخبار، وقد ترفعت قريش عنه، وصرفت نفسها إلى التجارة. ومن طبع التجار البخل ومسك اليد، أما قريش، فخالفتهم في البخل، ووصلت الشعراء وقرت الأضياف. ونسب "الجاحظ" سبب تركهم الغزو إلى كونهم أهل حمس ديانين، فقال: "وكانوا ديانين، ولذلك تركوا الغزو، لما فيه من الغصب والغشم واستحلال الأموال والفروج من العرب"2. ويعتقد "الجاحظ"، بأن للدين أثرًا كبيرًا على سلوك الإنسان وعلى كره الحرب، إذ تراه يقول: "ثم جاء ما هو أعجب من هذا وأهم، وذلك أنا قد علمنا أن الروم قبل التدين بالنصرانية كانت تنتصف من ملوك فارس، وكانت الحروب بينهم سجالًا فلما صارت لا تدين بالقتل والقتال والقود والقصاص، اعتراهم مثل ما يعتري الجبناء حتى صاروا يتكلفون القتال تكلفًا، ولما خامرت طبائعهم تلك الديانة وسرت في لحومهم ودمائهم، فصارت تلك الديانة تعترض عليهم، خرجوا من حدود الغالبين إلى أن صاروا مغلوبين"3. فالنصرانية قد أثرت على الروم حتى جعلتهم يكرهون الحروب، وصاروا مغلوبين بعدما كانوا غالبين، ثم جاء بدليل آخر على إثبات رأيه في أن الدين ينقص من شهوة الحرب، هو أن "التغزغز" من الترك، نقصت عندهم الشجاعة وهبت عنهم الشهامة بعد أن دانوا بالزندقة4. فالدين إذن مخفف من شهوة الحرب مبرد من التعطش إلى القتال، لكنه على رأيه أيضًا، يحول المتدينين إلى أسود في المعارك، فقريش التي تركت الغزو بتة، كانوا مع طول ترك الغزو، إذا غزوا، غزوا كالأسود مع الرأي الأصيل والبصيرة النافذة، والخوارج
__________
1 كتاب البلدان "ص468"، "نشر الدكتور صالح أحمد العلي"، "مستلة من مجلة كلية الآداب سنة 1970".
2 كتاب البلدان "468"، "وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشديد في الدين، فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال واستحسان الغصوب"، كتاب البلدان "472".
3 كتاب البلدان "471".
4 كتاب البلدان "471".(13/286)
على اختلافهم من أحرار وعبيد وموالي يقاتلون قتال الباسل المستميت مع اختلاف أنسابهم وبلدانهم، و"في هذا ليل على أن الذي سوى بينهم التدين بالقتال"، وأن استبسال قريش والخوارج وغيرهم من المتدينين "إنما هو بسبب الديانة"1 ووحدة العقيدة وعامل الدفاع عنها والجهاد في سبيلها.
وقد نسب "الجاحظ" ميل قريش إلى التجارة واشتغالهم بها إلى تحمسهم في دينهم وتشددهم في الدين، فقال: "وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشديد في الدين فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال واستحسان الغصوب، فلما تركوا الغزو لم تبق مكسبة سوى التجارة فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم وإلى النجاشي بالحبشة وإلى المقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"2.
فتحمس قريش في دينهم، حملهم على ترك الغزو، وترك الغزو حملهم على التكسب بالتجارة، فاتجار قريش في مكة وضربهم في الآفاق، هو بسبب البحث عن رزق يعوضهم عن رزق الغزو، الذي أبعده الدين عن قلوبهم، فكان ما كان من أمر تجارتهم. هذا هو رأي الجاحظ في السبب الذي حمل قريشًا على الانصراف إلى التجارة.
وفي القرآن: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 3. فمكة بلد بواد قفر غير ذي زرع ولا ماء، ليس لأهلها ما لسكان الأرياف والقرى التي تملك المياه والأنهار من ثمرات النبات والأشجار، فصارت الطائف مصيفًا لهم، وموردًا يمدهم بثمر النبات والأشجار4، واستغل أهلها فقر واديهم، وموقع مدينتهم الذي تمر به القوافل، وشجعوا من كان يسكن حولهم على الحج إلى معبدهم وعلى قصده أيام السنة وموسم الحج، فاستفادوا من الحجاج. وعلوا الموسم سوقًا يتعاطون فيه البيع والشراء، فربحوا وصار لهم مال استثمروه وشغلوه، في سوق مكة وفي الأسواق الأخرى، وتعاملوا مع الأعراب، وعقدوا الإيلاف مع ساداتهم ومع الفرس والروم والحبش، فصاروا
__________
1 كتاب البلدان "472".
2 كتاب البلدان "472".
3 إبراهيم، الرقم 14، الآية 37، تفسير الطبري "13/ 152".
4 تفسير الطبري "13/ 155".(13/287)
يخرجون إلى خارج مكة بأمان بفضل العقود والعهود التي عقدوها مع سادات الأعراب، وهي أهم في نظري من أي عقد آخر عقدوه مع حكام العراق وبلاد الشأم أو اليمن، إذ كان في استطاعة الأعراب نهب قوافل مكة وسلب أموالها، وهي ذاهبة أو آيبة محملة، فلا يستطيع أهل مكة فعل شيء، ولا تبقى أية فائدة عندئذ لعقود الإيلاف المعقودة مع الحكام المذكورين. وقد علم سادة مكة ذلك، فتعاقدوا مع سادات الأعراب، وأدو لهم نصيبًا من الربح، وبذلك أمنوا جانب أعرابهم، فكانوا إذا تحرش بهم متحرش، أدبه سادة قبيلته، واستعادوا منه ما أخذه من نهب وسلب.
وقوم هم أهل قرار، لهم بيت مقدس، ولهم تجارة، لا يفكرون في غزو، ولا يرتاحون من وجود أهل شغب وفتن بينهم. فالغزو سواء أكان منهم أو كان عليهم مضر بهم. ولا يعود عليهم بفائدة، بل هو يبعد القاصدين لهم عنهم، وفي ابتعادهم عنهم خسارة ثم هو يعرقل تجارتهم ويحول دون اتجارهم، والتجارة مورد رزقهم وعليها معاشهم. وقريش من المستقرين، ومن التجار، ولهم معبد، فكان من صالحهم إشاعة الأمن والابتعاد عن التشاحن وفض كل خلاف يقع فيما بينهم، أو فيما بينهم وبين غيرهم بالتي هي أحسن، وجر الناس إليهم، والعمل على اكتساب صداقة أهل الحضر وأهل الوبر أيضًا، وعلى إنصاف الغريب الذي قد لا يجد له مجيرًا من بين أهل مكة فيظلم، وعلى تقديم الرفادة للحجاج الضعفاء، وإسقائهم الزبيب المنبوذ بالماء في أيام الحج، وعلى شراء الألسنة، ألسنة الشعراء خاصة، لما كان لها من أثر في النفوس.
وللمنافع المادية التي كانوا يحصلون عليها من تآلفهم مع القبائل، حرصوا على ألا يؤذي أحد منهم أحدًا من الغرباء، فيثير قوم الغريب عليهم، لا سيما إذا كان ذلك الغريب من قبيلة تمر تجارة قريش بها، فلما عذب أهل "مكة" "أبا ذر الغفاري"، أقبل "العباس" عليهم، وقال: "ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأنه من طريق تجارتكم إلى الشام؟. فأنقذه منهم"1. فزهد قريش وعدم ميلهم إلى الاعتداء على الغرباء، لم يكن كما رأى "الجاحظ" عن "تحمس" وعن دين، وإنما كان عن طمع في المال وفي الكسب وفي الحصول على كسب
__________
1 الإصابة "4/ 64"، "رقم 382".(13/288)
من تجارة تمر بطرق يجب أن تكون آمنة بالنسبة لها أمينة، ولا يكون ذلك الأمان ممكنًا، إلا بتأليف قلوب سادات القبائل، والحرص على منع أهل مكة من الاعتداء على الغرباء.
بل نجد أهل مكة يجيرون كل غريب حتى إن كان صعلوكًا أو خليعًا أو مستهترًا بالعرف والأخلاق، أو قاتلًا غادرًا، أملًا في الاستفادة منهم، وفي عدم التحرش برجالهم إن خرجوا متاجرين يحملون أموالهم لبيعها في الأسواق البعيدة، ولاستخدامهم في حمايتهم ممن قد يتحرش بهم من الأعداء والأعراب، ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء عدد من أمثال هؤلاء، كانوا قد لجأوا إلى مكة وأقاموا بها واستقروا وعاشوا بها مجاورين لسادتها، آمنين على حياتهم؛ لأنهم في جوار سيد من قريش.
وفي القرآن الكريم آيات تدل على وجود مستوى راق في مكة، وفي أماكن أخرى للتجارة والاقتصاد، وتدل على تنسيق وعمل منظم بين التجار. وقد وردت فيه إشارات إلى "رؤوس الأموال"، وهي الأموال الخالصة التي تشغل في التجارة والتي تعطي أيضًا المحتاجين إليها لتربو ولتعطي صاحبها الربا، كما وردت فيه إشارات إلى البيع والشراء والقروض والرهون والشركات والتكاتب والتعامل التجاري وأمثال ذلك. وكل ذلك قد نظم وهذب وفقًا لقواعد الإسلام وصار أساسًا لنظم التجارة والمال في الإسلام. ولهذا تستدعي دراسة النظم الاقتصادية والتجارة في الإسلام الرجوع إلى السناد، وسنادها هو نظمها وقواعدها قبل الإسلام.
ويظهر من كتب التفسير والسير أن أهل مكة كانوا يسهمون في رؤوس أموال قوافلهم التي يبعثون بها إلى بلاد الشأم واليمن، وفي الأعمال التجارية الأخرى. يسهم أفارد أسرة تجارية واحدة أو جملة أسر، بل معظم أفراد مكة الأحرار في تلك القوافل، كل بحسب نصيبه لينعموا بالأرباح. وقد ساعدت هذه الشركة على إعانة أصحاب السهام وعلى مساعدة أهل مكة في رفع مستواهم المعاشي. وإذا كنا لا نملك موارد تتحدث عن أنظمة تلك الشركة أو الشركات وقوانينها، وعن كيفية توزيع الأرباح بين المساهمين، وعن أنواع تلك الشركات وأصول حساباتها ووكلائها في الخارج، فمن الميسور أن نظفر بقدر كبير من جذورها وأصولها في(13/289)
فصول الشركات والقضايا المتعلقة بتنظيم التجارة في الإسلام في كتب التفسير والحديث والفقه خاصة، ففي هذه الفصول إشارات كثيرة إلى شؤون التجارة والاقتصاد عند الجاهليين.
ويظهر مما ذكره أهل الأخبار وأوردوه عن قوافل مكة، أن مال القافلة، لم يكن مال رجل واحد، أو أسرة معينة، بل كان يخص تجارًا من أسر مختلفة وأفرادًا وجد عندهم المال، أو اقترضوه من غيرهم فرموه في رأس مال القافلة أملًا في ربح كبير. فقد ذكروا أن قافلة قريش التي كانت في خفارة "أبي سفيان" والتي أثارت معركة "بدر"، كان رأس مالها مختلطًا، ساهم فيه كل متمكن من أهل مكة. حتى "لم يبق بمكة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدًا إلا بعث به في العير"1.
ويظهر من سورة "قريش" أن قريشًا كانت ترحل رحلتين في السنة: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى بلاد الشأم. وهما رحلتان تجاريتان، تشتري فيهما وتبيع، وتبرح منهما ربحًا صيرها في وضع مالي حسن. وقد صارت مكة لذلك العهد مركزًا ماليًّا خطيرًا في الحجاز، وسوقًا لتبادل السلع. ولم تكن قريش تستورد التجارة لتخزنها في مكة، أو لتصرفها في أسواق مكة وحدها. فمكة وحدها بلدة صغيرة لا تستوعب أسواقها هذه التجارة، بل كانت تستوردها من الشمال والجنوب، لتصرف ما يمكن بيعه في أسواق مكة وهو القليل، ولتصدر وهو الغالب ما استوردته من الجنوب إلى الشمال أعني بلاد الشأم، ولتصدر ما استوردته من بلاد الشأم، إلى اليمن ومنها إلى بقية العربية الجنوبية والسواحل الإفريقية المقابلة، فتربح من هذه الصفقات ربحًا حسنًا.
وتروي كتب أهل الأخبار أن قريشًا كانوا لا يخرجون عيرًا فيرحلون إلا من "دار الندوة"2. فكأنها كانت منطلق التجار والتجارة. ولعلهم كانوا يفعلون ذلك لكونها ندوة مكة ودار الرأي والحكم في هذه المدينة ومجلس أهل المال فيها. وكذلك كان يفعل أهل المدن المتاجرة، تتحرك قوافلهم من ساحة مجالسها ليشاهدوا الناس، وإذا عادت أناخت في هذه الساحات أيضًا، ليراها أهل البلد، فتكون
__________
1 إمتاع الأسماع "1/ 66".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 70"، "ذكر قصي بن كلاب".(13/290)
لهم فرحة تشبه أفراح العيد.
والرحلتان المذكورتان، هما من قوافل قريش الكبيرة التي كانت القافلة الواحدة منها تتألف من أكثر من ألف بعير، والتي يساهم فيهما كل من شاء ممن له مال من أهل مكة، ويريد الاتجار به، تشترك فيهما الأسر المعروفة بالغنى والتجارة من قريش ويساهم معها من له مال في ذلك الوقت، رجاء الربح والكسب. وقد كانت قافلة "أبو سفيان" التي أهاجت وقعة بدر من قبائل قريش كلها، وأخصها "بطون كعب بن لؤي". ليس فيها من "بني عامر"، إلا ما كان من "بني مالك بن حسل"، ولذلك عرفت نفرة قريش إلى "بدر" بـ"نفرة بني كعب بن لؤي"1.
وكانت قافلة "أبو سفيان" المذكورة، قد تاجرت ببلاد الشأم وهمت بالعودة إلى مكة، فما سمع رسول الله بأبي سفيان مقبلًا من الشأم، بألف بعير، محملة بأموال عظيمة، ندب المسلمين إليه، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم فأخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها، فانتدب الناس، وكان أبو سفيان يتحسس الأخبار، فبلغه خبر استنفار الرسول أصحابه، فأرسل "ضمضم بن عمرو" الغفاري إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشًا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه. فخرج إليها، فلما بلغها، وقف على بعيره ببطن الوادي، وقد جدع بعيره وحول رحله، وشق قميصه، ثم صرخ: يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث، الغوث. فتجهز الناس سراعًا، وساروا حتى بلغوا "بدرًا"، وكان "أبو سفيان"، قد غير طريقه حين سمع خبر خروج رسول الله بأصحابه، فساحل بقافلته وترك بدرًا يسارًا، وانطلق حتى أسرع فبلغ مكة، وكانت قريش قد نزلت "الجحفة"، فكتب إليها: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا. وأصر بعض رؤساء قريش على ورود "بدر"، وكان بدر موسمًا من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام. وفيه ماء، وعلى الإقامة ثلاثًا، ينحرون الجزور، ويطعمون الطعام، ويسقون الخمر، وتعزف عليهم القيان حتى تسمع بهم العرب
__________
1 الطبري "2/ 422".(13/291)
وبمسيرهم ويجمعهم، فلا يزالون يهابونهم أبدًا بعدها. ومضوا إلى بدر، فوقعت معركة بدر1.
وما كان إصرار رؤساء قريش على المسير إلى المسلمين لملاقاتهم في الطريق، أسلوبًا من أسلوب التجار في الحفاظ على السمعة وفي الظهور بمظهر القوي المتمكن حتى لا يطمع بهم الطامعون ويتجاسرون عليهم. فكان خروجهم هذا نوعًا من التحدي ومظهرًا من مظاهر إظهار القوة، لتخويف الغير، لعلمهم بقوتهم، فكأنهم أرادوا إنزال ضربة بمن خرج مع الرسول لملاقاة القافلة، معتمدين على عددهم وقوتهم، حتى يتهيب المسلمون في المستقبل من التحرش بقوافلهم، وليكون ذلك درسًا لهم. ولعلهم كانوا لا يريدون في الواقع الاشتباك مع المسلمين في قتال، وإنما كانوا أرادوا مجرد تخويفهم وإظهار أنفسهم مظهر القوي العزيز المهاب، كما يظهر ذلك من قول أهل الأخبار من أنهم كانوا أرادوا الإقامة ببدر ثلاثة أيام، ينحرون الجزور، ويطعمون الطعام، ويسقون الخمر، وتعزف عليهم القيان حتى تسمع بهم العرب وبمسيرهم وبجمعهم، فلا يزالون يهابونهم أبدًا بعدها. ولكن أبت الأقدار إلا أن يقع الاصطدام فوقع على نحو ما هو مذكور.
وكانت "بصرى" سوق قريش في رحلتهم إلى بلاد الشأم، عندما تقف قوافلهم وتحط رواحلهم، فيشترون ويبيعون ويمكثون حتى ينتهوا من تجارتهم ثم يعودون إلى مكة. وكان منهم من يصل إلى "غزة" ويتاجر في أسواقها، حيث تبيع أسواقها منتوجات حوض البحر المتوسط وما يرد إليها من "أوروبة" من تجارة. ويبيع التجار العرب فيها ما يحملونه من بلاد العرب من سلع مستطرفة مطلوبة في أسواق البحر المتوسط. وبها مات "هاشم بن عبد مناف" جد النبي، حين كان توجه للشأم بالتجارة، فأدركته منيته فمات بغزة وبها قبره، فقيل غزة هاشم2.
__________
1 ابن هشام "2/ 61 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "2/ 61 وما بعدها"، الطبري "2/ 421 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 98"، القاموس "4/ 176"، تفسير ابن كثير "4/ 553 وما بعدها"، تفسير الطبري "30/ 197 وما بعدها".
2 وقد رثاه "مطرود بن كعب" الخزاعي بقوله:
وهاشم في ضريح عند بلقعة ... تسفى الرياح عليه وسط غزات
وقيل "بين غزات"، وورد:
ميت بردمان، وميت بسلمان، وميت عند غزات
تاج العروس "4/ 65".(13/292)
والأدم، هي في رأس قائمة السلع التي كان يحملها أهل مكة إلى بلاد الشأم، كانوا يجمعونه من اليمن ومن الطائف ويحملونه إلى بلاد الشأم والعراق. ومنه ما كان معمولًا مصقولًا معتنى به، زخرف بالذهب، لذلك عرف بـ"المذاهب". و"المذاهب" الجلود المذهبة1. وهي من أرقى الجلود وأغلاها، يشتريها الأغنياء لاستعمالها في الأشياء الغالية الثمينة.
وتعد اليمن من أهم الأماكن المصدرة لجلود البقر في جزيرة العرب، وقد كانت تحمل إلى مكة وإلى مواضع أخرى لبيعها في أسواقها منها البصرة في الإسلام، حيث كان التجار يحملون جلود البقر من اليمن إليها2. واشتهرت أيضًا بعطورها لجودتها. روي أن "عبد الله بن أبي ربيعة" كان يبعث بعطر اليمن من اليمن إلى أمه "أسماء بنت مخربة"، أم "أبي جهل"، فكانت تبيعه إلى الأعطية، وكانت تضع العطور في قوارير، وتزنها، فتبيع نقدًا، أو دينًا. فإذا باعت دينًا كتبت مقدار الدين في كتاب3. ولعل شهرة مكة بعطورها، إنما جاءتها من العطور المستوردة التي تأتي إليها من اليمن ومن أماكن أخرى.
وكان الزيت على رأس السلع التي كان يشتريها أهل مكة وتجار يثرب من بلاد الشأم، لصفائه ولنقاوته وجودته، وكان "دحية بن خليفة الكلبي" يتجر مع بلاد الشأم بالزيت والطعام، وصادف رجوعه من الشأم وقت صلاة الجمعة، والرسول يخطب، فلما سمع المصلون خلف الرسول صوت أجراس القافلة جعلوا يتسللون إليها، خشية أن يسبقوا إليها، فتباع، حتى بقيت منهم عصابة اثني عشر رجلًا وامرأة. فوبخهم الله بالآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 4.
__________
1 تاج العروس "1/ 258"، "ذهب".
2 قال الشاعر:
والله للنوم بجرعاء الحفر ... أهون من عكم الجلود بالسحر
بلا العرب "ص308".
3 ابن سعد، طبقات "8/ 220"، الواقدي، مغازي "65".
4 الجمعة، الآية 9، تفسير الطبري "28/ 66 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "4/ 366 وما بعدها"، الواحدي أسباب النزول "320"، مسند الإمام أبي حنيفة "73 وما بعدها".(13/293)
وقد عرف الزيت المستورد من الشأم بالزيت الركابي؛ لأنه كان يحمل على الإبل من الشأم1.
ولم يشر أهل الأخبار إلى رحلة على شاكلة رحلتي الشتاء والصيف إلى العراق. وإنما أشاروا إلى تجار منهم كانوا يتاجرون مع الحيرة. ومعنى هذا ذهاب قوافل صغيرة إلى العراق، لم تكن بحجم قوافل قريش إلى بلاد الشأم أو اليمن. ولم يشر القرآن الكريم أيضًا إلى رحلة جماعية إلى العراق أو إلى موضع آخر، مما يدل على أن قريشًا كانت ترحل رحلتين جماعيتين كبيرتين في السنة إلى بلاد الشأم في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء فقط. أما رحلاتهم الأخرى، فلم تكن كبيرة ضخمة وجماعية، بل كانت قوافل دون القافلتين في الحجم، وكانت خاصة أصحابها أغنياء، لهم رؤوس أموالهم، يبعثون بقوافلهم على حسابهم، في كل وقت شاؤوا، وتكون أرباحها لهم: لا يشاركهم فيها مشارك، وقد يرأسون بأنفسهم قوافلهم، فيذهبون بها إلى العراق، ولهم فيه تجار وأصحاب، فإذا باعوا عادوا ببضاعة جديدة وبما كسبوه إلى مكة.
فقد رووا أن "أبا سفيان" كان يذهب بنفسه إلى العراق للاتجار، يحمل معه حاصلات اليمن والحجاز، ويعود بحاصلات العراق وبما يحتاج إليه أهل الحجاز واليمن ممن بضاعة. بل ذكروا أنه كان يفد على "كسرى"، يحمل إليه الهدايا تقربًا إليه، ذهب إليه مرة، ومعه خيل وأدم، فقبل "كسرى بن هرمز" الخيل ورد الأدم وأعطاه هدايا وألطافًا2. وكان من مصلحة كسرى التقرب إلى أهل مكة، فقد كانوا تجارًا، وكانوا على طريق مهم وفي مركز خطير من الناحية السياسية والتجارية، كما كان نفسه يتاجر مع العرب ويتبايع معهم، لذلك كان من مصلحته مجاملة أهل مكة والاتصال بهم.
وذكر أنه قد كانت له صلات برؤساء وتجار الحيرة، وبملوكها أيضًا، يحمل إليهم الهدايا، ويأخذ منهم ألطافهم، ثم يعود بهما يجده في أسواق الحيرة من تجارات. قدم مرة على عمرو بن هند، أو النعمان بن المنذر، فوجد عنده "مسافر بن عمرو بن أمية القرشي"، وكان قد ترك مكة ونزل الحيرة، وهو
__________
1 تاج العروس "1/ 277"، "ركب"، كتاب البلدان "488".
2 الأغاني "12/ 46"، العقد الفريد "2/ 21"، "اللجنة".(13/294)
في قبة من أدم حمراء، أمر الملك بضربها له، إكرامًا له، وكان الملك إذا فعل ذلك برجل، عرف قدره مكانته، فالتقى بـ"مسافر"1.
وكان أبو سفيان –كما يقول أهل الأخبار- تاجرًا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشأم وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحيانًا بنفسه، وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكان لا يحبسها إلا رئيس، فإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعت تلك الراية بيد الرئيس. وكان صديقًا للعباس ونديمه في الجاهلية2.
وكان "مسافر بن أبي عمرو بن أمية"، وهو من رجال قريش جمالًا وجودًا وشعرًا، ومن فتيانها، ممن يتاجرون مع العراق، ويربح من تجارته هذه ربحًا طيبًا، وكان هلاكه بالعراق. فقد كان قد خرج في تجارة إلى الحيرة، فهلك بها عند "النعمان بن المنذر"، ورثاه "أبو طالب"3.
وكان "عبد الله بن جدعان" من أثرياء مكة ومن تجارها. ذكر أنه تاجر مع الحيرة. ويظهر مما ذكرها أهل الأخبار عنه، أنه كان ثريًّا جدًّا، وربما عد أثرى قريش في أيامه، وإليه تنسب قصة إدخال "الفالوذج"، إلى أهل مكة، حيث يذكرون أنه تعلمها من أهل العراق، وجاء ومعه طباخ خاص ليطبخ له طبيخ الحيرة وأهل فارس.
وكان "العاص بن وائل بن هاشم" السهمي من تجار مكة، الذين رحلوا بتجارتهم إلى خارج مكة. وكان من أشراف قريش. وقد مات بالأبواء4. ولعله كان خارجًا في تجارة له فمات هناك. ومن ولده "عمرو بن العاص". وقد أسلم هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة معًا5. وكان تاجرًا كذلك ويذكر "ابن كثير" أن "عمرو بن العاص" وفد على "مسيلمة"، وذلك بعد ما بعث رسول الله وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال:
__________
1 الأغاني "8/ 46 وما بعدها".
2 الاستيعاب "4/ 86"، "حاشية على الإصابة".
3 كتاب نسب قريش "135 وما بعدها"، الاشتقاق "103".
4 كتاب نسب قريش "408".
5 كتاب نسب قريش "409".(13/295)
وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال: وقد أنزل علي مثلها، فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر، وإنما أنت أذنان وصدر وسائرك حفر نقر، ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو، والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب1. والرواية موضوعة، فسورة "العصر" من السورة المكية ورقمها "27" حسب ترتيب نزول السور بمكة على رأي العلماء، أي قبل الهجرة، وقبل إسلام "عمرو" بزمن، وقبل مجيء "مسيلمة" إلى المدينة مع وفد حنيفة، وبعد مجيئه إليها بدأت دعوته بمعارضة الرسول. ثم إن جملة: "ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ "، جملة تشعر أن "عمرو بن العاص" كان مسلمًا إذ ذاك، بينما كان هو من المشركين في ذلك العهد. ثم إن ما نسب إلى "مسيلمة" من آيات، وضع على وزن آيات القرآن ومحاكاة لها، وليس في: "يا وبر يا وبر إلخ" أي شيء يضاهي: "والعصر" في النسق أو في المعنى، وعندي أن الخبر من الأخبار الموضوعة. وقد يكون "عمرو بن العاص" قد زار اليمامة, فهذا شيء غير مستبعد، فقد كان تاجرًا وكان تجار مكة يسافرون إلى اليمامة وإلى غيرها للاتجار، أما أنه ذهب خاصة لزيارة "مسيلمة" ومكالمته على نحو ما يرد في الخبر، فأسلوب يدل على وجود الصنعة فيه أكثر مما يدل على الصحة وصدق الرواية.
وقد عرف أهل الحيرة بنشاطهم في الأسواق وباتجارهم مع أسواق جزيرة العرب وغيرها، حتى قيل: "إنك لا ترى بلدًا في الأرض ليس فيه حيري"2. وقد كانت الحيرة نفسها سوقًا مقصودة، تشتري وتبيع، يأتيها التجار من مختلف الأمكنة، وموضع تجاري على هذه الشاكلة لا بد أن يذهب أهله إلى الأسواق الأخرى للبيع والشراء. وقد عرف أهل الحيرة بحذقهم في الصيرفة وفي بيع الفلوس. قيل لأحد أهل الحيرة ممن يتعاطى الطب: "ما لأهل الحيرة والطب. عليك ببيع الفلوس في الطريق"3.
__________
1 تفسير ابن كثير "4/ 547"، البداية والنهاية "6/ 326".
2 مختصر كتاب البلدان "ص51".
3 ابن العبري: تأريخ مختص الدول "ص250".(13/296)
وكان تجار الحيرة يزورون مكة للاتجار بها، ولهم مع تجارها عقود وجوار وتجارة، فإذا ذهب أحدهم إلى مكة نزل على حليفه وجاره، ثم باع ما عنده من تجارة، واشترى ما يجده بمكة من سلع مطلوبة مرغوبة ثم يعود إلى الحيرة. وكان منهم من كون مع حلفائه من أهل مكة تجارة مشتركة تتعامل بالحيرة وبمكة وبمواضع أخرى، وتسوي أشغالها بالمراسلة، يدير الحيريون منهم أعمال الشركة بالحيرة، ويدير المكيون منهم أعمالها بمكة، ثم يتراجعون في الحساب، ويقتسمون الأرباح والخسائر على وفق ما اتفقوا عليه.
وقد كانت تجارة قريش تجارة واسعة، وقد أقام تجارهم وكالات ومتاجر في مواضع متعددة، لتتولى أمر البيع والشراء. ولعلهم كانوا يمثلون مصالح مكة السياسية في الحبشة كذلك، كأن يتولى هؤلاء التفاوض مع الحكومة هناك في عقد عهود سياسية واقتصادية وما شابه ذلك. وقد كن اتصال أهل مكة بالحبشة وثيقًا ودائمًا، ويظهر أنهم كسبوا منافع مهمة من أعمالهم واشتغالهم في تلك البلاد1.
وقد عهدت قريش إلى أناس آخرين من رجالها بقيادة قوافلها، إلى بلاد الشأم أو إلى اليمن. كما قام رجال منها بتجهيز قوافل لهم لتتاجر بأموالهم. ولما هاجر الرسول إلى "يثرب" استاؤوا من خبر هجرته استياءً كبيرًا، لعلمهم بأهمية موضع "يثرب"، وبما سيقوم به المسلمون من التعرض بقوافلهم ومن تحرشهم بتجارهم وفي هذا العمل نكبة عظيمة تصيب تجارتهم وأرباحهم ومنافعهم المادية. فتشاوروا في أمرهم وتناقشوا، وقالوا: "قد عوّر علينا محمد متجرنا وهو طريقنا "وقال "أبو سفيان" و"صفوان بن أمية": "إن أقمنا بمكة أكلنا رءوس أموالنا"2، وقال أيضًا: "كنا قومًا تجارًا، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حضرتنا حتى نهكت أموالنا"3، وقال غيره مثل ذلك من كلام، يشعر بمقدار الأضرار والخسائر التي منيت بها تجارة قريش بسبب هجرة الرسول إلى يثرب واعتراضه طرق القوافل. لا سيما بعد أن تبين لها أن جميع السبل التي فكرت في سلوكها لتسيير قوافلها عليها، هي غير أمينة ولا سالمة، وأن المسلمين
__________
1 الأغاني "8/ 50".
2 الطبري "2/ 491 وما بعدها".
3 الطبري "2/ 646".(13/297)
قد أخذوا يباغتون قوافلهم حتى في الطرق الجنوبية المؤدية إلى اليمن والطرق البعيدة التي تؤدي إلى العراق.
وقد وقف المسلمون لقريش بالمرصاد، وأخذوا باعتراض قوافلهم، فما كادت تمضي سبعة أشهر من مقدم الرسول المدينة، حتى أمر "حمزة" بالتوجه إلى ساحل البحر من ناحية العيص، للتحرش بعير لقريش كانت قد جاءت من الشأم تريد مكة، فيها أو جهل في ثلاثمائة راكب1، فكان خبر هذه السرية أول خبر سيئ يبلغ مسامع قريش، وقد نجت القافلة، إلا أن الخبر جعل قريشًا تشعر أنه سيكون مقدمة لأخبار سيئة ستصيب مصالحها التجارية وحياتها الاقتصادية، ولن يكون لها من نجاة، إلا بالتهيؤ للقضاء على الرسول والإسلام، كما فكرت في وضع خطط لتغيير طرقها التي تسلكها في ذهابها إلى الشأم باتباع طرق بعيدة سالمة، تكون بعيدة عن المسلمين، وقد سلكتها فيما بعد، حين ضيق المسلمون على قوافلها التي كانت تسير على الطرق المألوفة، فتبين أنها لم تكن سالمة أيضًا وأن المسلمين أخذوا يهاجمونها على كل طريق، مهما كان.
وكان من غيظهم على الرسول، ومن تأثرهم بما أصاب تجارتهم من خسارة وضرر، أن لقبوا الرسول بـ"القاطع". ولما ذهب "الحجاج بن علاط"، إلى مكة، وكان تاجرًا له مال بمكة أودعها زوجته، ومالًا متفرقًا في تجار أهل مكة، وكان مسلمًا يكتم إسلامه، قالوا له: أخبرنا بأمر محمد، فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر، وهي بلدة يهود وريف الحجاز2. فنعتوا الرسول بـ"القاطع"؛ لأنه قطع عليهم تجارتهم وهدد طرقهم التي يسلكونها للوصول إلى أسواق الشأم وبلاد العراق.
ولما كان الشهر الثامن من مقدم الرسول المدينة، أرسل سرية إلى بطن "رابغ" بلغت "ثنية المرة"، وهي بناحية الجحفة، لتقابل عيرًا لقريش، اختلف في أميرها، فقيل: كان "أبو سفيان"، وقيل بل "مكرز بن حفص"، وقيل "عكرمة بن أبي جهل". فكان بين المسلمين والمشركين رمي، ونجت القافلة.
__________
1 الطبري "2/ 402"، إمتاع الأسماع "1/ 51".
2 الطبري "3/ 18".(13/298)
وكانت كبيرة على ما يظهر، إذ كان عدد رجالها، أي حراسها مائتين1. ورجع المسلمون دون أن يغنموا شيئًا، وقد كانت السرية إنذارًا آخر لقريش بالخطر الذي سيحيق بتجارتها وبمصالحها المادية وبأن ما كانت تربحه من أرباح لن يدوم لها فيما بعد.
وقد تمكن "أبو بصير" من إنزال ضربات موجعة بتجارة قريش، اختار "العيص"، وهو ناحية على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى الشأم موضعًا ينقض منه على قوافل قريش، فيسلب ما فيها من مال ويقتل من يقتل من المارة، حتى ضيق عليها، وهرب إليه من كان بمكة محبوسًا من المسلمين، حتى تجمع عنده قريب من سبعين مسلمًا، أغار بهم مرة على ركب كان يريد الشأم، معهم ثمانون بعيرًا، فأخذوا ذلك وأصاب كل رجل منهم قيمة ثلاثين دينارًا. فغاظ قريش تضييق "أبو بصير" عليهم، حتى كتبوا إلى رسول الله يسأله بأرحامهم إلا أدخل أبا بصير إليه ومن معه. فكتب إليه أن يعود ومن معه2.
ولما عقد صلح "الحديبية" وكانت الهدنة بين قريش والرسول، استراحت "قريش"، وإن بقيت خائفة من أن لا تجد أمنًا لها، فأرسلت قافلة في نفر من قريش فيها "أبو سفيان"، إلى "غزة" متجرها في بلاد الشأم، فوصلت سالمة إلى هناك، وتاجرت ثم عادت3.
وذكرت كتب التأريخ والأخبار أسماء عدد من رجال مكة كانوا يخرجون إلى التجارة بأموالهم وأموال غيرهم من أمثال أبي العاص زوج زينب بنت رسول الله، وكان يخرج تاجرًا إلى الشأم. وكان رجلًا مأمونًا، يخرج بماله وأموال رجال من قريش أبضعوها معه4. وقد عرف "بالأمين"، وكان من رجال مكة المعدودين مالًا وأمانة وتجارة، يخرج بماله وبمال غيره تاجرًا، يأتمنون به، ثم يعود فيؤدي إلى كل ذي مال من قريش ماله الذي كان أبضع معه. وكان آخر خروجه تاجرًا بأمواله وبأموال قريش قبل الفتح، خرج إلى الشأم فلما انصرف قافلًا لقيته سرية لرسول الله، أميرهم "زيد بن حارثة"، وكان أبو العاص
__________
1 الطبري "2/ 402"، إمتاع الأسماع "1/ 52".
2 إمتاع الأسماع "1/ 305".
3 الطبري "2/ 646"، "ذكر خروج رسل رسول الله إلى الملوك".
4 الطبري "2/ 292".(13/299)
في جماعة عير، وكان زيد في نحو سبعين ومائة راكب، فأخذوا ما في تلك العير من الأثقال وأسروا منهم ناسًا، فاستجار "أبو العاص" بزينب، فأجارته، ورد الرسول الأموال والأسرى إليه، وعاد مع القافلة إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله الذي كان أبضع معه، ثم أعلن أمام قريش شهادة الإسلام، وتركهم فقدم يثرب مسلمًا، ورد رسول الله ابنته عليه1.
ومن تجار قريش "صفوان بن أمية بن خلف"، ذكر أنه كان أحد العشرة الذين إليهم شرف الجاهلية ووصله لهم الإسلام من عشرة بطون. وكان أحد المطعمين في الجاهلية والفصحاء، وأحد أشراف قريش، وإليه كانت الأيسار، وهي الأزلام، فكان لا يسبق بأمر حتى يكون هو الذي يجري يسره على يديه. وكان يقال له: "سداد البطحاء"، وهو أحد المؤلفة قلبوهم. وكان غنيًّا، وكذلك كان أولاده2. ورد في الحديث: أن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية، وقنطر أبوه، أي صار لهما مال كبير، كأنه يوزن بالقنطار3. فهما من أسرة ثرية ثقيلة الثراء.
وتعد أيام مغادرة القوافل وأيام عودتها سالمة، من الأيام المشهودة في مكة، يخرج فيها أهل البلدة لتوديع القافلة متمنين لها النجاح والفلاح والعودة سالمة بربح وافر كثير، داعين آلهتهم أن تبارك في رجالها وتمنحهم العون والفلاح في البيع وفي وقايتها من شر السفر ومن أذى الأشرار قطاع الطريق. ويخرج فيها أهل مكة فرحين مستبشرين، لاستقبال القافلة قادمةً من سفرتها البعيدة وهي محملة بسلع جديدة وبثمن ما باعته من سلع وما ربحته من فروق الأسعار: سعر الشراء وسعر البيع، حتى إذا ما بلغت القافلة مكة، كان أول واجبها زيارة رئيسها وأصحابها "البيت الحرام" لرفع الحمد والشكر إلى رب البيت على ما أنعمه عليها من الأمن والسلامة وما رزقها من ربح، ثم يعود مع أصحابه إلى بيوتهم ليستريحوا وليقوموا بتصفية حسابهم، وإعطاء كل واحد من المساهمين في رأس مال القافلة نصيبه من الربح.
وقد ذكر أن قريشًا كانوا يربحون في تجارتهم للدينار دينارًا. وأن قافلة
__________
1 الإصابة "4/ 121"، "رقم 692"، الاستيعاب "4/ 125"، "حاشية على الإصابة".
2 الإصابة "2/ 181 وما بعدها"، الاستيعاب "2/ 179 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
3 تاج العروس "3/ 509"، "قنطر".(13/300)
"أبي سفيان" التي كانت سبب وقعة بدر، كانت ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، فسلم أبو سفيان على أهل العير رؤوس أموالهم، وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار دينارًا1.
وقد اشتهرت بعض الأسر من قريش بالتجارة مع الأقطار البعيدة عن مكة. وقد ذكر أهل الأخبار أن بني "عبد مناف" المعروفين بـ"أصحاب الإيلاف" كانوا أسرة ثرية غنية اختصت بالاتجار مع الخارج، وكانوا أربعة أخوة، هم: هاشم، وكان يؤالف الروم، فأمن في تجارته إلى الشأم. أما الأخ الثاني، فعبد شمس، وكانت تجارته مع الحبشة، وأما الثالث فكان المطلب، وكان يرحل إلى اليمن. وأما الرابع، فهو نوفل، وكان يرحل إلى فارس. وقد عرف هؤلاء بـ"المتجرين"2 وبـ"المجبرين" وبـ"المجيرين"3.
ولم يكن الإيلاف إيلافًا مع الروم أو الفرس أو الحبشة، وإنما كان إيلافًا مع سادات القبائل. فبفضل العقود والعهود التي عقدها "هاشم" وإخوته مع سادات العرب أمكن مرور قوافل مكة بأمن وسلام نحو العراق وبلاد الشأم واليمن والحبشة. ولولا هذه العقود التي جبرت قلوب سادات القبائل بتقديم حقوق مرور لهم، أو بإشراكهم في مال القافلة، بحمل تجار مكة ما عندهم من سلع لبيعها على حسابهم، وتقديم ثمنها مع الربح الذي جاؤوا به على سعر البيع المقدر، لما كان في إمكان قريش ضبط أولئك الأعراب ومنعهم من التحرش بقوافلهم ومرورها إلى الأسواق بأمن وسلام.
ويرجع أهل الأخبار مبدأ "الإيلاف" وخروج قريش من مكة بالقوافل إلى بلاد الله الأخرى إلى "هاشم بن عبد مناف"، فهم يذكرون أن قريشًا كانوا تجارًا "وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب، فكانوا كذلك حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشأم فنزل بقيصر، فكان يذبح كل يوم شاة ويصنع جفنة ثريد ويجمع من حوله فيأكلون، وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم،
__________
1 نهاية الأرب "17/ 81"، "ذكر غزوة أحد".
2 بلوغ الأرب "3/ 285".
3 تاج العروس "6/ 44"، "الف".(13/301)
فذكر ذلك لقيصر فقيل له: ها هنا رجل من قريش يهشم الخبز ثم يصب عليه المرق ويفرغ عليه اللحم، وإنما كانت العجم تصب المرق في الصحاف ثم تأتدم بالخبز، فدعا به قيصر، فلما رآه وكلمه أعجب به، فكان يبعث إليه في كل يوم فيدخل عليه ويحادثه، فلما رأى نفسه تمكن عنده قال له: أيها الملك، إن قومي تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابًا تؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه فتباع عندكم فهو أرخص عليكم! فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم، فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من العرب بطريق الشأم أخذ من أشرافهم إيلافًا –والإيلاف: أن يأمنوا عندهم في أرضهم بغير حلف إنما هو أمان الطريق- وعلى أن قريشًا تحمل إليهم بضائع فيكفونهم حملاتها ويؤدون إليهم رؤوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك الإيلاف بينهم وبين أهل الشأم حتى قدم مكة فأتاهم بأعظم شيء أتوا به بركة، فخرجوا بتجارة عظيمة وخرج هاشم معهم يجوزهم يوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب حتى أوردهم الشأم وأحلهم قراها، ومات في ذلك السفر بغزة. وخرج المطلب بن عبد مناف إلى اليمن فأخذ من ملوكهم عهدًا لمن تجر إليهم من قريش، وأخذ الإيلاف كفعل هاشم، وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف، وكان يسمى "الفيض" وهلك بردمان من اليمن. وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى الحبشة، فأخذ إيلافًا كفعل هاشم والمطلب، وهلك عبد شمس بمكة فقبره بالحجون، وخرج نوفل بن عبد مناف وكان أصغر ولد أبيه فأخذ عهدًا من كسرى لتجار قريش وإيلافًا ممن مر به من العرب، ثم قدم مكة ورجع إلى العراق فمات بسلمان. واتسعت قريش في التجارة في الجاهلية وكثرت أموالها، فبنو عبد مناف أعظم قريش على قريش منة في الجاهلية والإسلام"1. وبهذا القصص، أوجد أهل الأخبار مبدأ الإيلاف، ومبدأ خروج قريش بالتجارة إلى الأقطار المذكورة. ويكون عمل "آل عبد مناف" وفق هذه القصة، عملين: أخذهم أمانًا من الملوك المذكورين بمعاملة قريش معاملة حسنة وحمايتهم لهم في أرضهم من كل تعد قد يقع عليهم، ومراعاتهم مراعاة خاصة حين مجيئهم إليهم للاتجار، معاملة الأحسن حظوة بين التجار الذين يتجارون في أسواقهم، والعمل الثاني، هو عقدهم الإيلاف مع
__________
1 ذيل الأمالي "199 وما بعدها".(13/302)
سادات القبائل الذين يمرون بهم في ذهابهم وإيابهم إلى الشأم والعراق واليمن والحبشة، بأن يأمنوا عندهم في أرضهم، ولا يعتدى على أحد منهم.
وموضوع ذهاب هاشم وإخوته إلى الشأم أو العراق أو اليمن أو الحبشة، موضوع طبيعي لا داعي إلى إثارة الشك حوله، فقد وجدنا أن غيرهم من تجار مكة كانوا يتاجرون مع الأماكن المذكورة، تاجروا معها قبلهم وتاجروا معها بعدهم، أما أنهم التقوا بقيصر وبكسرى وبالنجاشي وبتبابعة اليمن، وتعاقدوا وتعاهدوا معهم، فقضية أخرى فيها نظر، وقد عودنا أهل الأخبار على سماع مثل هذا القصص. ولك ما نستطيع أن نتصوره فيما لو صدقنا بالخبر، هو أن أولئك الأخوة قد قابلوا بعض موظفي الحدود وتصادقوا معهم وقدموا لهم بعض الهدايا، فصاروا يتساهلون معهم في جباية الأعشار وفي أخذ حقوق المرور، فشاع بين قومهم أنهم تعاقدوا مع أولئك الملوك.
والإيلاف، العهد والذمام وشبه الإجازة بالخفارة، من ألف بينهما تأليفًا، أوقع الألفة وجمع بينهما بعد تفرق ووصلهما، ومن ذلك المؤلفة قلوبهم، أمر النبي بتألفهم، أي بمقاربتهم وإعطائهم من الصدقات ليرغبوا من وراءهم في الإسلام، ولئلا تحملهم الحمية مع ضعف نياتهم على أن يكونوا مع الكفار على المسلمين1. وصار أهل مكة، بفضل الإيلاف، آمنين امتيارهم وتنقلاتهم شتاءً وصيفًا والناس يتخطفون من حولهم، فإذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله فلا يتعرض لهم أحد. فالإيلاف العهود التي أخذتها قريش من سادات القبائل إذا خرجت في التجارات فتأمن بها2.
وقد عرف أصحاب الإيلاف، وهم الأخوة الأربعة أبناء عبد مناف بـ"المجيرين"، إذا كانوا يؤلفون الجوار يتبعون بعضه بعضًا، يجيرون قريشًا بميرهم ويجبرون فقيرهم، ولذلك قيل لهم "المجبرين".
وذكر أن كل واحد من الأخوة المذكورين أخذ حبلًا من ملك. فأما هاشم فإنه أخذ حبلًا من ملك الروم، وأما عبد شمس، فإنه أخذ حبلًا من النجاشي، وأما المطلب، فإنه أخذ حبلًا من أقيال حمير. وأما نوفل، فإنه أخذ حبلًا من
__________
1 تاج العروس "6/ 44"، "ألف".
2 تاج العروس "6/ 44"، "ألف".(13/303)
كسرى، فكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هؤلاء1.
و"الحبل" العهد والذمة والإيمان، يقال كانت بينهم حبال فقطعوها، أي عهود وذمم. وذلك أن العرب كانت تخيف بعضها بعضًا فكان الرجل إذا أراد سفرًا أخذ عهدًا من سيد قبيلة فيأمن بذلك ما دام في حدودها حتى ينتهي إلى أخرى فيأمن بذلك2. والحبل الحلف أيضًا والعصم3. فالحلف بمعنى العهد بين القوم والمعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق. وقد كانت الأحلاف كما سبق أن تحدثت عنها من أهم سمات الجاهلية، وقد نهي عنها في الإسلام، لما كانت توقعه من أضرار في المجتمع بسبب التكتلات والتحزبات والعصبية التي تؤدي إلى القتال. فورد: لا حلف في الإسلام وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه الرسول: "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة". يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق. وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام4.
وكانت للعرب تعابير ومصطلحات في إعطاء العهد والأمان، ومنها مصطلح: "لا بأس". والبأس العذاب والشدة والخوف، وإن قال الرجل لعدوه لا بأس عليك، فقد أمنه؛ لأنه نفى البأس عنه. وهو في لغة "حمير" "لبات"5.
وبفضل اتباع سياسة تأليف قلوب القبائل، بإشراك ساداتها في تجارة قريش، أو إعطاء سادتها جعالة مرور، أو هدايا، أو بالتصاهر معها، أو بإكراء إبلها لنقل تجارة قريش، تمكنت قريش من تأليف قلوب سادات القبائل، فأمنت على نفسها، وصارت قوافلها تخرج في أي وقت شاءت من أوقات السنة في الشهور
__________
1 تاج العروس "6/ 44"، "ألف".
2 تاج العروس "1/ 269 وما بعدها"، "حبل".
3 ابن سعد، الطبقات "1/ 75 وما بعدها"، المحبر "162"، الطبري "2/ 12"، Kister, P.126.
4 تاج العروس "6/ 75"، "حلف".
5 قال شاعرهم:
تنادوا عند غدرهم لبات ... وقد بردت معاذر ذي رعين
تاج العروس "4/ 104"، "بؤس"، "1/ 580"، "لبت"، اللسان "6/ 20 وما بعدها"، "بؤس".(13/304)
الحل أو في الشهور الحرم. لا تخشى بأسًا، حتى أنها صارت تعطي أمانها لغيرها، وبذلك ألفت القبائل الأخرى التي لم تكن لها عقود وإيلاف وحبال مع القبائل المحالفة لقريش، فصارت تحمل كتاب أمان قريش وشعارها، وهو ما عضد من شجر الحرم، يوضع حول العنق، على ما يزعمه أهل الأخبار، فيكون جواز سفر وكتاب مرور.
والإيلاف، أي عقد "الحبال" مع سادات القبائل، عمل مهم جدًّا بالنسبة لكل صاحب عمل وتاجر. إذ يتمكن التاجر به من حماية نفسه وماله ومن المرور بأمن وسلام، دون أن يتعرض لخطر النهب والسلب، وهو حتى إذا تعرض للخطر، فإن سيد القبيلة بنفوذه وبسيادته على قبيلته كفيل بأن يعيد إليه ما انتهب منه. ولهذه الأهمية، عقدت قريش الحبال مع سادات القبائل الذين تمر تجارة تجارها بأرضهم. عقدتها قريش، أو أمضاها تجار من تجارها، بما لهم من صداقة وصلات زواج وروابط بسادات القبائل. ولا سيما بسادات قبيائل المناطق التي تمر الطرق التجارية بأرضها، فلهذه القبائل بالذات أهمية كبيرة بالنسبة على كل تاجر، وللحكومات بصورة خاصة بالطبع، ولهذا تنافست على الاستحواذ عليها حكومات اليمن وحكومة الحيرة، والساسانيون. وقد رأينا "امرأ القيس" المتوفى سنة "238" للميلاد يصل بجيشه إلى "نجران" مدينة "شمر"، ورأينا في خبر سجل بالمسند وصول جيوش اليمن إلى أرض الخليج. فلهذه الأرضين، كاليمامة ونجد والبحرين أهمية كبيرة بالنسبة للتجارة في جزيرة العرب لمرور الطرق البرية التي تربط العربية الجنوبية بالعربية الشمالية وبالعراق وسواحل الخليج بها، ولمرور الطرق التي تربط العربية الغربية بالعربية الشرقية وبالعراق بأرضها، وقد رأينا كيف تعرضت قافلة "كسرى" التي قدمت من اليمن، قاصدة المدائن إلى السلب والنهب، وكيف تعرضت "لطيمة" النعمان إلى النهب في هذه الطرق.
ويذكر أهل الأخبار، أن تجار اليمن والحجاز، كانوا يتحفزون بقريش، إذا كانوا بأرض مضر. وأن قريشًا استفادوا من عقدهم الإيلاف مع تميم وأسد، و"بني عمرو بن مرثد" من "بني قيس بن ثعلبة"، ومع قبائل "ربيعة" عامة. و"مضر" و"ربيعة"، هي من قبائل نزار، و"قريش" نفسها من ولد "مضر بن نزار" في عرف النسابين، فإذا أخذنا بذلك علمًا، استطعنا القول إن هذا النسب، إنما هو مصالح تجارية وروابط سياسية مصلحية، جمعت(13/305)
هذه القبائل في "بوتقة" مصالح مشتركة، فأوجدت منها هذا النسب الذي أفاد أهل مكة كما أفاد القبائل الأخرى المشتركة فيه، والتي كانت تتاجر في أسواق مشتركة فتبيع وتشتري وتنتفع بفضل هذا النسب السياسي.
وللنسب أهمية كبيرة في تأليف القبائل وفي المحافظة على الأمن في البوادي. والتصاهر هو من أهم الروابط التي كانت تربط بين القبائل وبين الأفراد. ومن هذه الأهمية ظهر التصاهر السياسي والتصاهر الاقتصادي، عند الملوك وعند سادات القبائل والأشراف، فصاهر رجال من قريش قومًا من "تميم" ومن "بني عامر بن صعصعة" ومن يثرب واليمن، وصاهر ملوك الحيرة سادات القبائل المعروفة، للاستفادة من المصاهرة لمآرب سياسية واقتصادية، بالحصول على تأييد قبائل أولئك السادة: ولمرور تجارتهم من أرضهم بأمن وسلام. وقد كانوا يعرفون كيف يختارون من يصاهرونه بالطبع، يختارونه لكثرة عدد أبناء قبيلته ولمنزلتها ولمكانتها بين القبائل، ليتخذوا منه قوة في تأديب القبائل الأخرى. وهو عمل لم يكن سادات القبائل في جهل من أسبابه، وفي غفلة عن إدراك كنهه، لذا كانوا يتاجرون به، كما تاجر به الملوك، أو سادات القبائل، فيشترطون فيه شروطًا فيها مكاسب ومنافع لهم. كأن يطعمهم الملوك "الطعم" ويعطونهم الآكال، ويجعلون لهم جباية الطرق، وبعض الامتيازات على القبائل الأخرى، ويجعلونهم على مقربة منهم في مجالسهم، ويقربونهم بذلك على غيرهم من السادات.
وقد كان لهذا التقديم الحضري أهمية كبيرة في نفوس القبائل، فهو عندهم أمارة من أمارات التشريف والتقدير. والأعرابي وإن ازدرى الحضر والحضارة، يقر مع ذلك في نفسه بتفوق الحضري عليه، إن لم يكن بالسلاح وبالقتال، فبالحيل والغش والخداع كما يرى الأعرابي ذلك، أي باستعمال الحضري ذكاءه المبني على التجارب والتقدم في مستوى الحياة في التغلب على الأعراب البسطاء الذين وإن كانوا أذكياء بالبديهة، لكن ذكاءهم لا يكافئ ذكاء الحضر في التخلص من المتاعب والورط المعقدة التي تحتاج إلى خداع.
وقد افتخر سادات القبائل الذين كان مستواهم العقلي فوق مستوى قبائلهم بكثير –بفضل اتصالهم بالحضر، وزياراتهم "الأرياف" وبيوت الملوك، بل البلاد الأعجمية المتقدمة أيضًا- بهذا التقديم، واعتبروه شرفًا وتعظيمًا، فأكثروا من زيارة الملوك، وانتهزوا المناسبات للاتصال بهم، وافتخروا بما كانوا ينالونه منهم(13/306)
من عطايا وصلات وخلع، وهو تكريم كان يؤدي أحيانًا إلى نتائج محزنة، بسبب مبالغة بعض الملوك في تكريم سيد قبيلة، وتقديمه على غيره من السادات، مما كان يثير حقد بقية السادات، الذين قد تتهيج عواطفهم عندئذ لهذا التقديم، وقد يعتبرونه إهانة خاصة قصد توجيهها إليهم، فينتقمون ممن قدم عليهم، أو ينتقمون من الملك، بالإغارة على أرضه وأمواله. ونجد تأريخ الحيرة مليئًا بحوادث سببها إسراف بعض الملوك في الانصياع لعاطفتهم بتقديم سيد قبيلة، وتأخير آخر بإجلاسه في مكان هو دون المكان الذي كان من اللازم إجلاسه فيه من مجلس الملك ولقرب المكان وبعده من الملك ومن صدر المجلس أهمية كبيرة عند سادات القبائل وفي عرف المجتمع آنذاك، حتى صار ذلك سنة لهم، اتبعوها في مجالسهم أيضًا، فإذا دخل الناس مجلس سيد القبيلة جلسوا حسب منازلهم وأقدارهم في مجتمعهم، على الرغم من مظاهر "الدمقراطية" والمساواة التي تظهر عليهم، والتي تبدو عندهم في مخاطبة بعضهم بعضًا.(13/307)
السلع:
والأدم والزبيب والصمغ والطيب والتبر والبرد واليمانية والثياب العدنية والأسلحة ومصنوعات الحديد والمعادن الأخرى، هي من أهم السلع الرئيسية التي تتكون منها تجارة قريش. وبعض هذه السلع مهم وغال ومطلوب. فكان تجار مكة يشترونه من معادنه ومواضعه، ويبيعونه في الأماكن التي تبحث عنها، وتربح من ذلك ربحًا كبيرًا. وقد كانت "الأدم" على رأس الأموال التي تاجرت بها، حتى أن قريشًا كانت قد جعلتها على رأس الهدايا والألطاف التي كانت تهديها إلى الملوك والرؤساء وأكابر الناس. فلما ذهب "أبو سفيان" إلى العراق، ووصل إلى "كسرى" كما يزعم أهل الأخبار، أهدى إليه أدمًا وخيلًا، فقبل "كسرى بن هرمز" الخيل ورد الأدم1. ولما أرسلت "قريش" "عبد الله بن أبي ربيعة" و"عمرو بن العاص بن وائل" إلى النجاشي ومعهما هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، جمعت له أدمًا كثيرًا، ولم تترك من
__________
1 الأغاني "12/ 46"، العقد الفريد "2/ 21"، "لجنة".(13/307)
بطارقته بطريقًا إلا وله هدية، فكانت الأدم على رأس ألطاف مكة وهداياها1.
ومن العطور التي كان معروفة بمكة: "الذرور"، عطر يجاء به من الهند كالذريرة، وهو ما أنتجت من قصب الطيب، وقيل هو نوع من الطيب مجموع من أخلاط، وبه فسر حديث عائشة: طيبت رسول الله لإحرامه بذريرة2.
وأغلى سلع قريش التي كانت تحملها لبيعها في أسواق بلاد الشأم، هي "الفضة" ولما أرسل الرسول "زيد بن حارثة" على عير لقريش كان فيها "أبو سفيان"، وكانت قد غيرت طريقها الذي يسلك إلى الشأم، وسلكت طريق العراق، كانت مع "أبي سفيان" فضة كثيرة، وهي أعظم تجارتهم، فالتقى بها "زيد بن حارثة" فأصاب العير، وبلغ خمس الرسول من الغنيمة عشرون ألفًا، ومعنى هذا أن قيمة الغنائم، كانت مائة ألف3. وقد ذكر في خبر هذه السرية أن الفضة كانت آنية كثيرة، وسكت خبر آخر عن نوع الفضة، وإنما ذكر أن "أبا سفيان" كان يحمل معه فضة كثيرة4.
والأسلحة من أهم مواد التجارة التي كان يتاجر بها التجار. فالسلاح أداة ضرورية جدًّا بالنسبة إلى الأعرابي، فبه يدافع عن نفسه، وهو لا ينام إلا وسلاحه إلى جانبه، حتى إذا ما شعر بأقل حركة، نهض وهو بيده ليدافع به عن نفسه. والتاجر نفسه مع أنه إنسان مسالم لا يميل بطبيعة عمله إلى حمل السلاح والتقاتل كان مضطرًّا مع ذلك إلى حمله معه وإلى استخدام العبيد والأعوان للدفاع عن نفسه وعن أمواله. ولهذا كان يحرض على شرائه من أي مكان يجده فيه ليدافع به عن نفسه، كما كان يتاجر به؛ لأن الاتجار به من أربح الأعمال في السوق، لإقبال الناس عليه، فكان يشتريه من صناعة ومن أسواقه، ليبيعه لمن يطلبه بسعر أعلى، فيربح بذلك كثيرًا من الفرق بين السعرين.
وكان لأهل مكة خاصة حس مرهف نحو التجارة. كانوا إذا سمعوا أجراس
__________
1 الروض الأنف "1/ 211 وما بعدها".
2 تاج العروس "3/ 223"، "ذر".
3 الطبري "2/ 492 وما بعدها".
4 الطبري "2/ 492 وما بعدها".(13/308)
عير، هرعوا نحوها يلتمسون خبرها. فلما أقبلت من الشأم عير لدحية بن خليفة الكلبي، أو لعبد الرحمن بن عوف، تحمل زيتًا أو طعامًا، وكان رسول الله يخطب يوم الجمعة، والناس خلفه صفوفًا، فلما سمعوا بها، جعلوا يتسللون ويقومون إليها، خشية أن يسبقوا إليها، فتباع، حتى بقيت منهم عصابة اثني عشر رجلًا وامرأة. وكانوا إذا أقبلت العير، استقبلوها بالطبل والمزامير والكبر والتصفيق. فلما نظر رسول الله إلى المصلين وقد انفضوا من حوله، عنفهم ووبخهم، ونزل في حقهم ما نزل في الآية من ترك البيع حالة صلاة الجمعة1.
ويتبين من كتب الحديث أن الصحابة كانوا يتعاطون التجارة، ويتكسبون في الأسواق، وقد كانوا نشطين جدًّا في ذلك، وكان أهل مكة أكثر نشاطًا من أهل المدينة في هذا الباب، فلا يكاد بعضهم يصل المدينة مهاجرًا من مكة حتى يسأل عن السوق، ويبحث عن رزق، فذهب بعضه إلى سوق بني قينقاع، وهي من أسواق يهود، فنجحوا فيها وحصلوا على ربح ومال أعالوا به أنفسهم. وقد كان في جملة ما أجاب به أبو هريرة، وقد قيل فيه: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله، وإن المهاجرين والأنصار لا يحدثون عنه بمثل حديث أبي هريرة: "إن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق الأسواق، وكنت ألزم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءًا مسكينًا من مساكين الصفة أعي حين ينسون"2. فالأنصار كانوا أصحاب زرع وأموال. والمهاجرون كانوا أصحاب تجارات.
وكانوا إذا التهوا في السوق وانصرفوا في التجارة ونسوا أمورهم الأخرى، قالوا ألهانا الصفق بالأسواق، يعني الخروج إلى تجارة وبيع وشراء، وقد أدى
__________
1 سورة الجمعة، الآية 9 وما بعدها، تفسير الطبري "28/ 66 وما بعدها"، تفسير النيسابوري "28/ 68 وما بعدها"، "حاشية على تفسير الطبري"، تفسير ابن كثير "4/ 366 وما بعدها"، الواحدي، أسباب النزول "320"، مسند الإمام أبي حنيفة "73 وما بعدها"، إرشاد الساري "4/ 12 وما بعدها"، آثار السنن "2/ 88"، تيسير الوصول "1/ 182".
2 صحيح البخاري "3/ 52 وما بعدها"، "كتاب البيوع"، عمدة القارئ "11/ 161 وما بعدها"، إرشاد الساري "4/ 15 وما بعدها".(13/309)
انصراف بعض الصحابة إلى السوق وتعلقهم بالتجارة إلى انفضاضهم أحيانًا عن الرسول وهم حوله، فورد في الحديث: "بينما نحن نصلي مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إذ أقبلت من الشأم عير تحمل طعامًا فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إلا اثنا عشر رجلًا، فنزلت: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} 1.
وكان "العباس بن عبد المطلب" من أغنياء قريش، ومن المقرضين للمال بفضل يأخذه من المدين يضعه على رأس ماله. وقد بقي على ماله وثرائه في الإسلام كذلك. وكان الرسول قد أبطل ربا العباس في أول ما أبطل من ربا في الإسلام. وكان العباس يتاجر كذلك، له محل يتاجر فيه، ويستقبل التجار الغرباء. وقد ذكر أن "عفيف الكندي" كان في جملة من تاجر معه في الجاهلية، وقد جاء إليه ليبتاع منه بعض التجارة2.
ولما آخى الرسول بين الأنصار والمهاجرين، آخى بين "عبد الرحمن بن عوف"، وهو من المهاجرين، وبين "سعد بن الربيع" وهو من أكثر الأنصار مالًا، فقال "سعد بن الربيع": "أقاسمك مالي نصفين وأزوجك". قال "عبد الرحمن": بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق. فدلوه على سوق قينقاع، فغدا إليه، ثم تابع الغدو، فما لبث أن جمع مالًا من تعامله بالسوق وصار من المثرين3.
وقد كان "عبد الرحمن" تاجرًا بمكة قبل هجرته إلى يثرب، وصاحب مال. فلعل الرسول أراد من مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، أن يساعد المهاجرون الأنصار وأن يتعاونوا معًا، كما كان شأن عبد الرحمن وسعد بن الربيع، وهما من أصحاب الخبرة والتجربة في العمل، فيفيدوا بذلك الإسلام بما يحصلون عليه من مال.
وقد ذكر أهل الأخبار، أن عبد الرحمن، تصدق على عهد رسول الله، بشطر ماله، ثم تصدق بعد بأربعين ألف دينار، ثم حمل خمسمائة فرس في سبيل
__________
1 البخاري "3/ 55"، إرشاد الساري "4/ 14 وما بعدها، 55".
2 الإصابة "2/ 480"، "رقم 5588".
3 إرشاد الساري "4/ 4 وما بعدها".(13/310)
الله وخمسمائة راحلة، وكان أكثر ماله من التجارة. وذكروا أنه أعتق ثلاثين ألف نسمة وأنه أوصى لكل من شهد بدرًا بأربعمائة دينار، فكانوا مئة رجل1. وذكروا أنه كان تاجرًا مجدودًا في التجارة، وكسب مالًا كثيرًا، وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا فكان يدخل منه قوت أهله سنة. وذكروا أنه صالح امرأته التي طلقها في مرضه من ثلث الثمن بثلاثة وثمانين ألفًا، وقيل عن ربع الثمن من ميراثه. ورووا أنه أعتق في يوم واحد ثلاثين عبدًا. وأنه كان يقول: "قد خشيت أن يهلكني كثرة مالي. أنا أكثر قريش كلهم مالًا"2.
وكان "أبو بكر" تاجرًا معروفًا بالتجارة بمكة قبل الإسلام، ولقد بعث النبي وعنده أربعون ألف درهم، ولما أسلم كان يعتق منها ويعول المسلمين، حتى قدم المدينة بخمسة آلاف3.
وكان "طلحة بن عبيد الله بن عثمان" القرشي التيمي، من تجار مكة، ولما قدم المدينة مهاجرًا، أخذ يتاجر مع "الشأم"، وذكر أنه اشترى مالًا بـ"بيسان"، وأن غلته تبلغ ألفًا وافيًا كل يوم. والوافي في وزنه وزن الدينار، وعلى ذلك وزن دراهم الفرس التي تعرف بالبغلية. وقد ساهم في حرب الجمل، التي وقعت سنة ست وثلاثين4.
والزبير من رعيل التجار كذلك، وكان تاجرًا مجدودًا في التجارة، كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج5، وله أرضون واسعة وأموال طائلة.
__________
1 الإصابة "2/ 408"، "رقم 5181".
2 الاستيعاب "2/ 385 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
3 الإصابة "2/ 333"، "رقم 4817".
4 الاستيعاب "2/ 210 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
5 الاستيعاب "1/ 563"، "حاشية على الإصابة".(13/311)
تجار يثرب:
ولم يشتهر أهل "يثرب" في كتب أهل الأخبار بالتجارة، وإنما اشتهروا فيها بالزراعة، ولا سيما بزراعة النخيل. ولكننا نجد أن من بينهم من كان يتاجر مع(13/311)
بلاد الشأم واليمن، وله أموال شغلها في التجارة، كما أن من بينهم من كان يعطي فضل ماله بالربا للمحتاج إلى المال، وكان منهم من حصل على مال كثير فابتنى له "الأطم" و"الحصون" ليحصن نفسه وماله بها، ولما هاجر المهاجرون إليها، فتعاظم شأن التجارة بها، إذ أخذ المهاجرون والأنصار يتاجرون مع الشأم، فيبيعون ويشترون ويستوردون التجارة إلى المدينة، بقوافل تأتي محملة بالزيوت وبتجارة الشأم إليها، حتى أمر الرسول باتخاذ سوق بها، يتاجر فيه التاجر دون أن يدفع خراجًا، بقوله: هذا سوقكم لا خراج عليكم فيه1. فرفع عن تجار يثرب ما كان يدفعه تجار الأسواق الأخرى من خراج الأعشار.
ويظهر من دراسة وتشريح كتب التفسير والحديث والسير والأخبار. أنه قد كان بين أهل "يثرب" وأهل مكة فروق في أصول التعامل التجاري، فوزن أهل يثرب يختلف عن وزن أهل مكة، وكيلهم يختلف عن كيلهم أيضًا، وتعاملهم في السوق يختلف بعض الاختلاف عن تعامل أهل مكة. ثم هم فوق ذلك يختلفون عن أهل مكة في أنهم أصحاب زرع، وأهل مكة أصحاب تجارة، ولما جاء الرسول إلى المدينة، وجد لهم معاملات تخص أكثرها الزراعة لم تكن معروفة بمكة، فسألهم عنها، وحدد لهم موقف الإسلام منها.
وسبب هذا الاختلاف، هو اختلاف طبيعة المكانين. فمكة بلد غير ذي زرع فقل عندهم التعامل الزراعي، لعدم احتياجهم إليه. أما "يثرب"، فبلد زراعة عيشة أهله على الزراعة واستغلال الأرض، لذلك صار أكثر تعاملهم بأعمال تتعلق بالزراعة وباستغلال الأرض، وبالاشتراك والتعاون في استغلال الملك الفائض على حاجات صاحبه، فظهرت عندهم أعراف زراعية، لم تعرف بمكة. وكانت عندهم بعض حرف، لم تشتهر بمكة. ومن هنا راعى التشريع الإسلامي في التجارة أعراف أهل مكة فيها، وراعى في التشريع الزراعي وفي الحرف، أعراف أهل يثرب في الاثنين.
واقتصاد يثرب اقتصاد زراعي، الإنتاج فيه إنتاج زراعي، ثم حيواني، عماد الإنتاج فيه التمور والخضر، أما اقتصاد مكة، فهو اقتصاد تجاري عماده التجارة القائمة على أساس شراء السلع من الأسواق ونقلها إلى مكة، وتصريفها من هناك
__________
1 البلاذري، فتوح "28".(13/312)
على أهل مكة ومن حولهم، ونقل الفائض إلى الأسواق الموسمية وأسواق العراق وبلاد الشأم والعربية الجنوبية. فهو اقتصاد لا يعتمد على الإنتاج المحلي ولا على حرف محلية، إنما يقوم على أساس شراء المنتجات الأجنبية من مصادرها بأسعار أعلى، للحصول على الأرباح عن طريق الفرق بين السعرين: سعر الشراء وسعر البيع، أو عن ثمن التوسط في معاملات البيع والشراء.
ويظهر أن أهل يثرب لم يكونوا قد أقبلوا على الزراعة إقبالًا كافيًا، وأن الأرض لم تكن قد استغلت استغلالًا جيدًا، لهذا نجد الرسول بعد هجرته إلى هذه المدينة يحث المسلمين على الإقبال على الزراعة وعلى العمل بها، وعلى استغلال الأرض؛ لأن فيها قوت المسلمين، فأراد بذلك سد النقص الذي كان يجابه أهل المدينة وغيرها في الحبوب وفي أقواتهم الأخرى، وهذا مما أدى إلى إحياء بعض أرضها في أيامه، أحياها أهل يثرب وأحياها بعض المهاجرين.
وكان بعض تجار مكة يمرون بيثرب في طريقهم من مكة إلى بلاد الشأم، وفي عودتهم منها إلى مكة. ولما خرج "هاشم" في عير لقريش فيها تجارات، كان طريقه على المدينة، ثم نزل بسوق النبط، وهي سوق تقوم بها في السنة يحشدون لها، يبيعون ويشترون1. وهي سوق يظهر أنها كانت تقام في موسم معين من السنة، فيتجمع فيها التجار للبيع والشراء. ولما خرج "عبد الله" والد الرسول إلى الشأم إلى غزة في عير من عيرات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجارتهم ثم انصرفوا، مروا بالمدينة، وبها توفي فدفن هناك، في دار النابغة، وهو رجل من بني عدي بن النجار2.
وقد كان الأنباط يتاجرون مع المدينة، يأتون إليها بـ"الدرمك"، وهو الدقيق الحواري، وهو دقيق أبيض، وبالزيت. وكانوا يأتون إليهم بأخبار الروم3. ولعلهم كانوا يتاجرون في موضع معين من أسواق يثرب، فعرف لذلك بسوق النبط.
وقد نافست "يثرب" مكة في التجارة بعد هجرة الرسول إليها، إذ أخذ المهاجرون يتاجرون منها مع بلاد الشأم والعراق، وصارت القوافل ترد إليها محملة
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 78".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 99".
3 إمتاع الأسماع "1/ 445 وما بعدها".(13/313)
ببضائع بلاد الشأم, وأخذ الأنصار والمهاجرون يتاجرون معًا في الأسواق، وقد تضخمت هذه التجارة بعد فتح مكة، ودخول القبائل في الإسلام ووصول الصدقات إلى بيت المال في المدينة، فتحسن حال أهل المدينة وصار لهم رأس مال مكنهم من تشغيله في التجارة وفي الزراعة، فاستغلوا أرض يثرب بزرعها زروعًا مختلفة، ثم استغلوا أموالهم هذه في الخارج بعد الفتوح.
وقد نشأت يثرب وتوسعت لوجود الماء بها، وهذا الماء هو الذي صيرها مستوطنة زراعية، كما صير غيرها من المستوطنات العديدة التي تقع في شمالها وتمتد حتى تتصل في فلسطين مستوطنات زراعية منتجة ذات بساتين ومزارع يعتمد في زرعها على العيون والآبار. وكان عماد حاصلها التمر. وقد أحاطت بيثرب هالة من "الحوائط" المغروسة بالنخيل، غرسها سادات يثرب، فصارت من أهم موارد رزقهم، وقد زرعوا بعض الخضر والبقول تحت النحيل، لسد حاجتهم وبيع الفائض منه في الأسواق. ولكبار الملاكين فيها "أطم" يعيشون فيها ويخزنون بها ميراتهم وحاصلهم، ويحتمون بها عند الخطر. وأما سواد الناس، فلهم بيوتهم، وبعضها بيوت ذات طابقين. ولم تكن المدينة مسورة ولا محاطة بخندق على ما يظهر من روايات أهل الأخبار، بل كانت مدينة مكشوفة، إذا داهمها خطر، قام أهلها بسد منافذ طرقها، وبالدفاع عنها من السطوح، وبمقاومته في الأزقة.
وأرض يثرب أرض خصبة كان من الممكن زرعها لو أقبل أهلها على الزراعة، ولكنهم لم يقبلوا عليها إقبالًا تامًّا، بل قام المتمكنون منهم بغرس الأرضين الغنية بالماء، والأرضين التي كان الماء فيها قريبًا من سطح الأرض بحفر الآبار بها، وتركوا الأرضين الأخرى مواتًا لم تزرع. وشغلوا الموالي والرقيق في الزراعة، ولو أجهدوا أنفسهم في استصلاح التربة وفي استنباط الماء، وحبس مياه السيول، لأحيوا بذلك أرضين واسعة. وبدليل أن بعض المهاجرين ممن كانت عندهم رغبة في الزراعة وأموالًا، عملوا في استصلاح أرضين مواتًا حتى أحيوها، وصارت تأتي إليهم بغلات وافرة.
ومن أثرياء يثرب "أحيحة بن الجلاح"، وهو من سادة الأوس1. وهو
__________
1 تاج العروس "2/ 119"، "أحّ".(13/314)
من أصحاب الأرض، وكان شريفًا في قومه، مات قبل الإسلام. وكانت تحته "سلمى بنت عمرو الخزرجية"، وتزوج "سلمى" بعده "هاشم بن عبد مناف" فولدت له "عبد المطلب" جد النبي1.
وسعد بن عبادة بن دليم، سيد الخزرج، هو من أغنياء يثرب ومن أصحاب الأطم فيها. وكان سيدًا كريمًا مضيافًا، جفنته تدور مع النبي في بيوت أزواجه وكان يأخذ كل ليلة جماعة من أهل الصفة يعيشهم، وكان أهل الحاجة يذهبون إلى أطمه ينالون الشحم واللحم2.
والطائف مصيف أهل مكة ومتمونها من الفواكه والزبيب والعسل والخضر. وقد اشترى أغنياء قريش بها الأملاك والبساتين وشاركوا أهل الطائف في التجارة. وهي بلاد "ثقيف". وثقيف من المتحضرين النشطين الأذكياء. وللطائف قرى، أولها "لقيم"، وآخرها "الوهط". وكان اسمها القديم "وج". ويذكر أهل الأخبار، أن "الطائف"، كانت في الأصل قرية بالشأم، أو قطعة من الجنة التي كانت لأصحاب الصريم، أو باليمن بنواحي صنعاء، فنقلت بدعوة "إبراهيم" إلى الحجاز، لتكون مصيفًا وجنة لأهل مكة. وكانت بغير سور، فلما جاء "الصدف بن الدمون" من حضرموت إلى "وج"، وكان قد أصاب دمًا في قومه، لحق بثقيف وأقام بها، وأقام لهم طوفًا أطاف بوج، فسميت بالطائف منذ ذلك الوقت. ومنهم من يزعم، أنها إنما سميت بذلك؛ لأن "جبريل" لما نقلها من موضعها، طاف بها بالبيت سبعًا، ثم وضعها بموضعها، فعرفت بالطائف3.
وكان أهل الطائف مزارعين، عاشوا على الزراعة، واتخذوها تجارة لهم. زراعة الكروم والفواكه والحبوب. وكسبوا من ذلك مالًا، وكان منهم من اشتغل بدبغ الجلود، وبيع "الأدم" أي الجلود المدبوغة أو تصديرها إلى الخارج، ومنهم من تاجر، وساهم مع تجار مكة في تجارتهم. فتجمع من كل ذلك رأس مال شغله أصحابه في الربا، فكانوا يقرضون المال لمن يحتاج إليه من أهل الطائف ومن غيرهم، لوجود مال فائض عندهم.
__________
1 الإصابة "1/ 37 وما بعدها"، "رقم 55"، المحبر "456".
2 الإصابة "2/ 27 وما بعدها"، "رقم "3173".
3 تاج العروس "6/ 184"، "طوف".(13/315)
ووجد التجار في كل مكان وجدت فيه أسواق وسلع وتجارة من بلاد العرب في الجاهلية وفي الإسلام، لم تكن تخلو منهم مدينة من المدن أو قرية كبيرة. فسوق الفلج كان سوقًا لبني نزار واليمن1. وبـ"العوسجة" وهي معدن، تجار2. من الجائز أن يكونوا قد تجمعوا في هذا المكان للاتجار بالمعدن الذي يستخرج منه، فكانوا يتعاطون الاتجار بالمعادن.
__________
1 الصفة "160".
2 بلاد العرب "368".(13/316)
فهرس الجزء الثالث عشر:
الفصل الثامن والثمانون.
أثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين 5
الفصل التاسع والثمانون.
الزرع والمزروعات 24
الفصل التسعون
الزرع 45
الفصل الحادي والتسعون.
المحاصيل الزراعية 57
الفصل الثاني والتسعون.
الشجر 66(13/317)
الفصل الثالث والتسعون
المراعي 97
الفصل الرابع والتسعون.
الثروة الحيوانية 111
الفصل الخامس والتسعون.
الأرض 130
الفصل السادس والتسعون.
الإرواء 157
الفصل السابع والتسعون.
معاملات زراعية 216
الفصل الثامن والتسعون.
الحياة الاقتصادية 227(13/318)
الفصل التاسع والتسعون.
ركوب البحر 243
الفصل المائة.
التجارة البحرية 261
الفصل الواحد بعد المائة.
تجارة مكة 285
الفهرست 317(13/319)
المجلد الرابع عشر
الفصل الثاني بعد المئة: القوافل
مدخل
...
الفصل الثاني بعد المائة: القوافل
وتنقل التجارة البرية بطرق القوافل؛ وذلك لضمان حماية الأموال والتجارة والأرواح. و"القافلة": الرفقة القفال والمبتدأة في السفر1, وذكر علماء اللغة أن "القافلة": العير كذلك. وذكر بعض منهم أن "العير": الإبل التي تحمل الميرة، أو كل ما امتِيرَ عليه إبلًا كانت أو حميرًا أو بغالًا2. وقد أطلق أهل السير والتأريخ ومن تحدث عن وقعة بدر: لفظة "العير" على قافلة قريش التي كان يرأسها "أبو سفيان"، كما أطلق بعضهم "ركبان قريش" على من كان مع "أبي سفيان" من تجار قريش، معهم أموالهم وتجارتهم من بلاد الشام3. ونجد كتب السير والتواريخ تطلق لفظة العير على قوافل قريش بغير حصر، مهما كان حملها, فلما تحدثوا عن سرية "حمزة" إلى العيص استعملوا لفظة "عير" لقريش، واستعملوا هذه اللفظة في مناسبات أخرى، مما يدل على أنهم أرادوا بها قافلة، أي: جماعة من جماعات السفر، مهما كان حملها.
والركبان والركب: ركاب الإبل. وقال بعض علماء اللغة: الركب: ركبان
__________
1 تاج العروس "8/ 83"، "قفل".
2 تاج العروس "3/ 433"، "عير"، تفسير الطبري "13/ 11 وما بعدها"، تفسير القرطبي "9/ 230 وما بعدها"، اللسان "4/ 624"، "عير".
3 الطبري "2/ 421"، "ذكر وقعة بدر الكبرى".(14/5)
الإبل في السفر دون الدواب، وهم العشرة فصاعدًا، وذكر أن من الجائز استعمال "الركب" للخيل وللجيش1.
و"القيروان": الجماعة من الخيل, والقفل: جمع قافلة, وهو معرب "كاروان". وقد تكلمت به العرب, قال امرؤ القيس:
وغارة ذات قيروان ... كأن أسرابها الرعال2
وورد في الحديث أنهم كانوا يترصدون عيرات قريش، أي: إبلهم ودوابهم التي كانوا يتاجرون عليها3.
ويقال للعير التي تحمل الطيب: "اللطيمة", وذكر أن اللطيمة: العير التي تحمل الطيب وبز التجارة4, فاللطيمة: قافلة تحمل تجارة نفيسة إلى الأسواق. وقد كان ملوك الحيرة يرسلون لطائمهم إلى الأسواق؛ لتتاجر بالطيب، ومنهم "النعمان بن المنذر"، وكان يبعث إلى "سوق عكاظ" في وقتها بلطيمة يجيزها له سيد مضر، فتبتاع وتشتري له بثمنها الأدم والحرير والوكاء والمغراء والبرود من العصب والوشي والمسير والعدني5.
ويقال لقافلة الإبل التي تخرج ليُجاء عليها بالطعام، "ركابًا" حين تخرج، وبعدما تجيء, وتسمى عيرًا على هاتين المنزلتين. والتي يسافر عليها إلى مكة أيضا ركاب تحمل عليها المحامل، والتي يكترون ويحملون عليها متاع التجار وطعامهم كلها ركاب، ولا تسمى عيرًا، وإن كان عليها طعام، إذا كانت مؤاجرة بكرى. وليس العير التي تأتي أهلها بالطعام، ولكنها ركاب. يقال: هذه ركاب بني فلان, ويقال: زيت ركابي؛ لأنه يحمل من الشام على ظهور الإبل6.
وذكر أن العسجدية: ركاب الملوك التي تحمل الدق من المتاع7. فهي عير
__________
1 تاج العروس "1/ 276"، "ركب".
2 تاج العروس "9/ 309"، "قرن".
3 اللسان "4/ 624"، "عير".
4 تاج العروس "9/ 60"، "لطم"، اللسان "12/ 543"، "لطم".
5 الأغاني "19/ 75"، شرح ديوان لبيد "48"، الأمثال للميداني "2/ 34"، الكامل، لابن الأثير "1/ 359 وما بعدها".
6 تاج العروس "1/ 277"، "ركب"، إرشاد الساري "4/ 74".
7 تاج العروس "1/ 60"، "لطم".(14/6)
إذن تحمل متاعًا ثمينًا، كالذهب والجوهر. وذكر أن العسجدية: الإبل تحمل الذهب، وهي ركاب الملوك التي تحمل الدق الكثير الثمن، والسوق يكون فيها العسجد وهو الذهب، وركاب الملوك، وهي إبل كانت تزين للنعمان بن المنذر1.
و"السابلة" "الواطئة"، وهم المارة. سموا بذلك لوطئهم الطريق2, وهم الذين يسلكون الطرق. والسابلة من الطرق: المسبولة، المسلوكة، وابن السبيل هو ابن الطريق، والذي قطع عليه الطريق، والمنقطع3.
ويسمى كل طريق يكثر الاختلاف عليه محجة، ويسمى الطريق المدروس "الأيتار المليكي"، ويسمى الطريق الضيق الحبل شركًا، وحبال الطريق: أيتاره. وطريق جادة، أي: مجدودة بالوطء، وقارعة الطريق في معنى مقروعة، والريع: الطريق4.
وكلما كانت الأموال ثمينة وكثيرة، كانت القافلة كبيرة, يحرسها عدد كبير من الحراس؛ لحمايتها من لصوص الطرق وقطاع السبل الذين كانوا يعيشون على السلب والنهب. ونقل التجارة بالقوافل طريقة عالمية قديمة، أشير إليها في الكتابات وفي الكتب المقدسة.
ولم يكن من السهل على التجار في ذلك الزمن التوسع في تجارتهم والمجازفة بالمتاجرة مع أماكن أخرى بعيدة؛ فالتاجر محتاج إلى حماية حياته وأمواله، ولم تكن الحماية ممكنة إلا في ظل حكومة مدنية قوية، تحمي أبناءها وكل من يفد على أرضها وعلى الأرض الخاضعة لها من اعتداء المعتدين.
لهذا صار لزامًا على التجار الالتجاء إلى نظام القوافل، ولا سيما القوافل القوية الكبيرة معتمدة على حماية نفسها بنفسها أولًا، ثم على حماية الحكومة ثانيًا. وقد عمدت في الدرجة الأولى إلى استرضاء سادات القبائل؛ وذلك لتأمين حمايتهم في المناطق التي تمر بها القافلة ولبذل العون والمساعدة لها, بتقديم حق مرور للرؤساء وهدايا وعطايا مناسبة وعقد عقود ومواثيق، وإلا تعرضت أموال القافلة للأخطار.
__________
1 تاج العروس "2/ 422"، "العسجد".
2 تاج العروس "1/ 135"، "وطئ".
3 تاج العروس "7/ 396"، "سبل".
4 الصفة "183".(14/7)
ولطول الطرق وبُعد المسافات، كان على القوافل استرضاء كبار سادات القبائل للحصول على حمايتهم، ومعنى هذا دفع إتاوات لهم، وتحميل المشترين تلك الإتاوات. وهذا مما زاد في الأسعار وجعل الأثمان عالية، وقد أضر ذلك بالتجارة العربية ولا شك، كما أضر بالمنتجين الذين كانوا يبيعون إنتاجهم اليسير, وأكثره مواد خام يتعيشون عليها, بأسعار بخسة لسد رمقهم في هذه الحياة.
وقد عمد تجار مكة -كما ذكرت ذلك في مواضع من هذا الكتاب- إلى أساليب مختلفة في استرضاء سادة القبائل الذين تمر بأرضهم قوافلهم، منها استرضاؤهم بالمال، وإشراكهم معهم في رأس المال، بتقديم ما عندهم من سلع يتوسطون لهم ببيعها في الأسواق، أو بشراء ما يريدون شراءه من تلك الأسواق وتقديمه لهم، ومنها التصاهر معهم، ودعوتهم لزيارة مكة وتقديم الهدايا لهم، ثم ضبط كل ذلك بعقود "الإيلاف"، التي وضعت قواعد وأصول وحقوق مرور قوافل مكة وقوافل تجارها الخاصة في كل الأيام والمواسم بأمن وسلام، في مقابل تعهدات وعقود عينت بعقود الإيلاف.
وكان كل تاجر يخرج من اليمن والحجاز يتخفر بقريش ما داموا في بلاد مضر؛ "لأن مضر لم تكن تعرض لتجار مضر، ولا يهيجهم حليف لمضري, وكان ذلك بينهم. فكانت كلب لا تهيجهم لحلفهم بني تميم، وطيء أيضا لا تهيجهم لحلفهم بني أسد. وكانت مضر تقول: قضت عنا قريش مذمة ما أورثنا إسماعيل من الدين, فإذا أخذوا طريق العراق، تخفروا ببني عمرو بن مرثد، من بني قيس بن ثعلبة، فتجيز ذلك لهم ربيعة كلها"1. وهكذا تمكنت قريش من تأمين مصالحها التجارية بعقد الأحلاف مع سادات القبائل، وصار تجارها يتنقلون في مختلف أنحاء جزيرة العرب بحرية وأمان.
والجمال هي واسطة النقل في جزيرة العرب، هي قطار القوم وسياراتهم في ذلك العهد. وليس في استطاعة حيوان آخر القيام بمثل تلك المشاق من قطع المسافات البعيدة في أماكن لا ماء فيها إلا في مواضع متباعدة, وفي أماكن يتغلب عليها الجدب والشظف. كان على ذلك الحيوان أن يتحمل ثقل ما يوضع على ظهره، وأن يسير به مسافات طويلة، ثم عليه أن يتحمل العطش والجوع. ولولا الخواص الجسمية
__________
1 المحبر "ص264".(14/8)
التي امتاز بها عما عداه من الحيوانات، لما كان في إمكانه احتمال هذه المشقات ولعجز عنها حتمًا. وقد أشير في التوراة إلى قوافل الإبل الضخمة التي كانت تأتي من جزيرة العرب إلى بلاد الشام، وهي محملة بالبضائع الثمينة النفيسة لتبيعها هناك1.
ولا تحتاج الإبل إلى شرب الماء كل يوم؛ لذلك غدت الحيوان المثالي الملائم لحياة الأعرابي وللبادية. والجمل صبور على الجوع وفي استطاعته مكافحة جوعه بأكل العوسج والنباتات التي تنبتها البادية. وللعرب أسماء في أظماء الإبل؛ ومنها "الخمس": أن ترد الإبل الماء يومًا فتشربه، ثم ترعى ثلاثة أيام، ثم ترد الماء اليوم الخامس، فيحسبون اليوم الأول والآخر اليومين اللذين شربت فيهما. وقيل: أن ترعى ثلاثة أيام وترد اليوم الرابع2. ومن الأظماء "الغب"، وذلك أن ترد الإبل يومًا وتصدر، فتكون في المرعى يومًا، وترد اليوم الثالث, وما بين شربتيهما ظمأ طال أو قصر3, وعرف "الغب" أنه ورد يوم وظمأ آخر. وقيل: هو ليوم وليلتين، وقيل: هو أن ترعى يوما وترد من الغد4. ومن أمثال العرب المتعلقة بهذا الموضوع: يضرب أخماسًا لأسداس، أي: يسعى في المكر والخديعة. وأصله من إظماء الإبل، فقد كان الرجل إذا أراد سفرا بعيدا عوَّد إبله أن تشرب خمسا سدسا، حتى إذا دفعت في السير صبرت، ثم ضرب مثلا للذي يراوغ صاحبه ويريه أنه يطيعه، وقيل: يضرب لمن يظهر شيئا ويريد غيره، أو الذي يقدم الأمر يريد به غيره، فيأتيه من أوله، فيعمل رويدًا رويدًا5.
وإذ كانت هذه القوافل في حياة القوم على جانب من الخطورة، كما كانت المصدر المهم من مصادر الثروة، وضعها أصحابها في حماية آلهتهم، واتخذ بعضهم إلها خاصا واجبه حماية القافلة وإيصالها سالمة إلى المحل المقصود. وقد عرف الإله "شيع هـ - قوم" "شيع القوم"، بأنه إله القوافل، الساهر على حمايتها
__________
1 الملوك، الأول، الإصحاح العاشر، الآية 2, أشعياء، الإصحاح 60، الآية 6، Hastings, P. 946..
2 تاج العروس "4/ 140"، "خمس".
3 تاج العروس "1/ 93"، "ظمئ".
4 تاج العروس "1/ 403"، "غب".
5 تاج العروس "4/ 140"، "خمس".(14/9)
وحماية أصحابها التجار. وعرف الإله "أبو إيلاف" "إيلف" "إيلاف"، بأنه إله القوافل والتجار وأرباب القوافل كذلك. وكان أصحاب القوافل يقدمون إلى آلهتهم النذور والقرابين بعد انتهاء رحلة القافلة، برًّا بنذرهم لها، وتقربًا إليها؛ كي تستمر في بذل حمايتها لهذه القوافل ورعايتها لها، كما كانوا يأتون إلى المعابد والمحجات فيطوفون بها، ويقصدون أصنامهم فينحرون عندها شكرًا وتقربًا إليها؛ لما أنعمت عليهم من نعم الحماية والربح الوافر الذي كسبوه في رحلاتهم هذه. وفي الذي يذكره أهل الأخبار عن طواف رؤساء قوافل مكة بالكعبة قبل بدئهم الرحلة وبعد انتهائهم منها، الكفاية للدلالة على أهمية هذه الرحلات التجارية في نفوس القوم.
والغالب أن تعهد حراسة القوافل منذ يوم مغادرتها مكانها, إلى حراس أشداء أقوياء يحملون سلاحهم معهم، لمقاومة المعتدين. أما رئاسة القافلة، فلا تعطى إلا للمعروفين بشجاعتهم وبقوتهم وببأسهم وبالحيل وبمعرفتهم للطرق، ولأهل البيوتات والجاه العريض والسمعة بين القبائل. فرئيس القافلة وكبيرها، هو دماغها المفكر وقلبها النابض، وعلى حركاته وأعماله يتوقف مصير القافلة ومصير الأموال الثمينة التي توضع تحت يديه، فإذا أظهر الرئيس جبنًا أو عدم مقدرة في قيادة القافلة وفي الدفاع عنها، حين تعرضها للخطر، فقد تقع فريسة سهلة بأيدي لصوص الطرق، وتنتهب أموالها، فتكون هذه النتيجة طامة كبرى للمساهمين في أموال القافلة.
ولأهمية قادة القوافل المذكورة، عملت لهم تماثيل لتخليد ذكراهم، وكرّموا في الكتابات. وقد عثر على عدد من هذه التماثيل والكتابات في مدينة "تدمر", وحمل الكثير منهم ألقاب الشرف التي كانت لا تُمنَح إلا لمن يؤدي خدمات ممتازة للمدينة في ذلك العهد، ووصل بعضهم إلى درجة عضو في مجلس المدينة الحاكم. وقد نال بقية قادة القوافل مثل هذا الاحترام من أصحابها, ولقب قائد القافلة في الكتابات الجاهلية بـ"زعيم القافلة" وبـ"زعيم السوق"1.
حتى رؤساء الحكومات مثل كسرى وملوك الحيرة، كانوا لا يسلمون زمام قوافلهم إلا للأشداء المعروفين من الرجال. كانوا يتاجرون في الأسواق, يشترون
__________
1 CooKe, North - Semitic, pp. 274-279(14/10)
ويبيعون، فإذا أقبل الموسم أرسلوا قافلتهم إلى السوق برئاسة رجل مشهور معروف بالشجاعة لا يهاب الموت ليوصلها إلى السوق المقصود, أو المكان المراد وصول البضاعة إليه؛ ذلك لأن مجال حكمهم أو نفوذهم لا يصل إلى الأنحاء البعيدة، فاضطروا إلى استئجار الشجعان المعروفين بقيادتهم للقوافل؛ لحماية تجارتهم وأموالهم من اعتداءات المعتدين.
وتعتمد القوافل على الأدلاء الخبراء بطرق البوادي؛ لإيصالها إلى أهدافها بأمن وسلام وبأقصر الطرق، ولتجنيبها أخطار الأعداء وشر قطاع الطرق، عند شعورها بوجود خطر عليها إذا ما سلكت الطريق العام، أو طريقها الذي قررت السير به نحو المكان الذي تريده. فلما أبلغ جواسيس "أبي سفيان" أن النبي قد خرج يترصده نحو "بدر"، أسرع فاستعان بالأدلاء فانحاز عن بدر، وساحل, وتخلص بعلم أدلائه وعلمه بالطرق من وقوعه ووقوع قافلته بأيدي المسلمين. وإلى الدليل والأدلاء أُشير في قول الشاعر:
شدوا المطيَّ على دليل دائب ... من أهل كاظمة بسيف الأبحُر1
وقد استعان قادة الجيش وأمراء السريا والغارات بالأدلاء أيضا؛ لإرشادهم إلى المواضع التي كانوا يقصدونها. وكان الرسول يستعين بالأدلاء، ويسأل الخبراء أصحاب العلم بطرق البادية حين يغزو، أو حين يرسل سراياه على قوم, وفي غزوة "بئر معونة" كان "المطلب السلمي" دليلها على الطريق2.
ويذكر أهل الأخبار, أن "قريش بن بدر بن يخلد بن النضر" كان دليل "بني كنانة" في تجارتهم، فكان يقال: "قدمت عير قريش"، فسميت قريش بذلك, وأبوه "بدر" صاحب "بدر" الموضع الذي لقي فيه رسول الله قريشًا3. فقريش بن بدر, إذن هو على هذه الرواية، هو أول دليل يصل إلينا خبره من أدلاء قوافل قريش، وهو مؤسس تجارتها.
ولا بد للقوافل من منازل تنزل بها لتستريح ولتريح دوابها من التعب ولتتموَّن
__________
1 تاج العروس "7/ 325"، "دلل".
2 الإصابة "3/ 405"، "رقم 8032".
3 كتاب نسب قريش "12".(14/11)
بالماء وبالزاد إن احتاجت إليه. ونظرًا إلى بطء الحيوان في سيره وعدم تمكنه من السير مسافات طويلة دون توقف وراحة، كانت "منازل" ذلك الوقت غير متباعدة. ويقال للمكان الذي تنزل به القوافل: "المنزل", والمنزل: المنهل والدار1، وهو في معنى "الخان"، و"الخان" لفظة معربة معناها: المنزل والحانوت2. وقد اشتهرت اللفظة في الإسلام، وأطلقت على منازل المسافرين في الطرق وفي القرى والمدن, وتعني المنزل المخصص لنزول المسافر. وهو منزل يكون كبيرًا في الغالب، يستريح فيه المسافر، تاجرًا كان أو غير تاجر، ويضع فيه مطاياه.
وأما "الفندق"، فبمعنى المنزل الذي ينزل به التجار والمسافرون، وهي من الألفاظ المعربة عن اليونانية من أصل Pandhokiyon3. وقد استعملها عرب بلاد الشام, ويظهر أنها من الألفاظ التي شاع استعمالها في الإسلام. وقد ذكر بعض علماء العربية، إن الفندق بلغة أهل الشام: الخان والسبيل من هذه الخانات التي ينزلها الناس مما يكون في الطرق والمدائن، وهو فارسي4.
ولم تكن منازل أهل الجاهلية منازل مبنية بالضرورة، فقد كان المسافرون يضربون لهم خياما يأوون إليها، أو يلجئون إلى ظل مثل شجرة, يحتمون به من أشعة الشمس، وقد يفترشون الأرض وينامون جنب إبلهم، وكل ما يلزم في المنزل أن يوجد به ماء. فالماء هو إكسير الحياة بالنسبة للمسافر، وهو أهم لهم من الطعام، فطعامهم في ذلك الوقت طعام قليل بسيط؛ تمرات مع لبن، أو سويق، وما شاكل ذلك. ثم هم لا يأكلون كثيرًا ولا يقيمون لوجبات الطعام وزنًا، وقد يكتفي أحدهم بأكلة واحدة من هذه الأكلات الجافة التي يحملها، وقد يقتاتون بما يجدونه من نابت في طريقهم, من ثمر شجر بري أو بقل أو أعشاب؛ ولهذا صارت المنازل على مواضع الماء.
ولم تكن الأبعاد بين هذه المنازل متساوية، بل كانت مختلفة، تتوقف أبعادها على الماء. فإذا وجد الماء في مواضع متقاربة، قامت على مستوطنات متقاربة،
__________
1 تاج العروس "8/ 134"، "نزل".
2 تاج العروس "9/ 194"، "خان".
3 غرائب اللغة "263".
4 تاج العروس "7/ 51"، "الفندق".(14/12)
وصارت المسافات فيما بينها غير بعيدة، وإذا كان الماء بعيدًا، صارت المنازل متباعدة، وقد لا يهم الماء القوافل إذا كانت مزودة به. وكل ما تلاحظه في سفرها هو تعب الإنسان ومقدار تحمل دابته مشقة السفر والبعد؛ ولهذا كانوا يقطعون طرقهم بمراحل، و"المرحلة": المنزل بين المنزلين، يقال: بيني وبين كذا مرحلة أو مرحلتان1, فهم يقطعون طرقهم على قدر طاقتهم ومقدار تحمل إبلهم على السير. وقد علمتهم تجاربهم مقدار ما يقطعون، فإذا شعروا بالتعب وبتعب دوابهم، نزلوا منزلًا قد يكون مأهولًا به ماء، وقد يكون خاليًا في عراء؛ للاستراحة به، فإذا ارتاحوا استمروا في سيرهم نحو جهتهم المقصودة.
و"الفرسخ" في تفسير علماء العربية: الراحة، و"فرسخ" الطريق هو ثلاثة أميال هاشمية، أو ستة، أو اثنا عشر ألف ذراع، أو عشرة آلاف ذراع. سمي بذلك؛ لأن صاحبه إذا مشى قعد واستراح من ذلك, كأنه سكن, واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية. وقيل: الفرسخ: الساعة من النهار2.
و"الميل": مقياس تقاس به الأبعاد، يقال: قطع كذا ميلًا. وهو منار يبنى للمسافر في أنشاز الأرض، ومنه الأميال التي في طريق مكة، وهي الأعلام المبنية لهداية المسافرين3.
ونظرًا إلى وجود إمارات وعشائر وقبائل عديدة تمر بأرضها القوافل، فقد كان على أصحاب القوافل وأرباب المال إرضاء هؤلاء المتنفذين, بإعطاء إتاوات مرور لهم، وهدايا لحمايتهم وللسماح لهم بالمرور، على نحو ما تفعله حكومات هذا اليوم من استيفاء حق المرور "ترانزيت" "ترانست" عن التجارة والسيارات. فإذا تحرش بهم متحرش، وحاول قطاع الطرق الاعتداء عليهم، كان من واجب سيد القبيلة والرئيس المتنفذ في تلك الأرض تعقب المعتدين وتأديبهم وإعادة ما استولوا عليه إلى أصحابه. وبهذه الطريقة أمنت القوافل على أموالها، وأخذت تقطع البوادي والطرق البعيدة الطويلة، وهي في حمى هؤلاء المتنفذين.
__________
1 تاج العروس "7/ 341 وما بعدها"، "رحل".
2 تاج العروس "2/ 272"، "الفرسخ".
3 تاج العروس "8/ 123"، "ميل".(14/13)
وقد كان الملوك وسادات القبائل والمتنفذون الذين تمر قوافل التجارة بمناطق نفوذهم، أو الذين تقع الأسواق في أرضهم أو في مناطق نفوذهم، يشتطون في الإتاوة، ويشتدون في جباية المكس، ويبالغون في رفع حق المرور والحقوق الأخرى المكتسبة بالعرف والعادة, أو بقانون القوة والكيف، فيؤذون بذلك التجار والتجارة ويضطرون التجار إلى رفع أسعار البيع؛ للحصول على أرباح لهم، فتضررت التجارة بذلك ضررًا كبيرًا, وقلَّ الإقبال على شراء السلع المستوردة من جزيرة العرب إلا ما كان ضروريا ولا مناص من شرائها، وارتفع على المشتري سعر المواد المستوردة، واضطر التجار إلى التحكم في أسعار الشراء من الأسواق المحلية في جزيرة العرب, بشرائها بأسعار متهاودة لضمان تصريفها في الأسواق الخارجية. وفي كل هذه الأحوال ضرر عام للبائع وللمشتري وللمستهلك وللاقتصاد العربي بوجه عام.
وقد كانت القوافل تقصد الأماكن التي تريد البيع والشراء فيها, في مواسم معينة في الغالب؛ وذلك لاجتماع التجار فيها, وهذا مما يهيئ للتاجر أكبر عدد ممكن من التجار. كما كان التجار يقصدون الأسواق المؤقتة التي تقام في الأعياد وفي المناسبات الدينية لبيع ما عندهم من بضاعة ولشراء ما يأتي به الناس من أموال، ولم يكن ذلك خاصًّا بجزيرة العرب، فقد كان العبرانيون وغيرهم من بقية الشعوب السامية يفعلونه أيضًا. ونرى أن الأسواق التي كانت تقام في جزيرة العرب، كانت تقام في مواسم معينة تقع في الأشهر الحرم؛ وذلك لضمان مرور التجار بأمان، فلا يتحرش بهم إلا مستهتر طريد. والغالب أن سادات القبائل, التي تحرش المستهترون بالقافلة التي مرت بأرضهم, ينتقمون بأنفسهم منهم.
وقد كان الجاهليون يضعون أعلامًا على الطريق ليُهتدَى بها، يقال لها: "الصُّوى" و"الثوة". ويقول علماء اللغة: إن الصوى: الأعلام المنصوبة من الحجارة في المفازة المجهولة يستدل بها على الطرق. والثوة كالصوة، وربما نصبت فوقها الحجارة ليهتدى بها، وإن العوة كالصوة التي هي العلم. وفي الحديث: "إن للإسلام صُوى ومنارًا كمنار الطريق"1. وذكر أن "الصوة": حجر يكون علامة في الطريق2.
__________
1 المخصص "10/ 81"، اللسان "14/ 127"، "صادر".
2 تاج العروس "10/ 215"، "الصوة".(14/14)
وذكر أن "الثوة": حجارة ترفع فتكون علمًا بالليل للراعي إذا رجع، وأخفض علم يكون بقدر قعدتك، وارتفاع وغلظ, وربما نصبت فوقها الحجارة ليهتدى بها1.
والمنار: العلم يجعل للطريق أو الحدّ للأرضين والعلامة التي توضع على الحدود لتوضح معالمها2. وقد كان أهل العربية الجنوبية يضعون علامات على الطرق لتشير إلى معالمها، فلا يضل عنها من يسلكها من الرجال والقوافل. وقيل في الإسلام للأعلام المبنية في طريق مكة: أميال؛ لأنها بنيت على مقادير مدى البصر من الميل إلى الميل، وكل ثلاثة أميال منها: فرسخ3. والمنار: محجة الطريق، قال الشاعر:
لعك في مناسمها منار ... إلى عدنان واضحة السبيل4
والعلامة: شيء منصوب في الطريق يهتدى به. ويقال لما يبنى في جواد الطريق من المنازل يستدل بها على الأرض: أعلام, والأعلام: الحدود, والمعلم: ما يستدل به على الطريق من الأثر5, فقد كان من الصعب حتى على خبراء البادية الاهتداء إلى الطرق بدون وضع علامات تشير إليها.
والنعامة: المفازة، وقيل: علم من أعلام المفاوز يهتدى به6. و"المنقل": الثنية في الجبل وكل طريق في الجبل: نقيل، في لغة أهل اليمن7.
والآجام: علامات وأبنية يهتدى بها في الصحاري. و"الوجم": حجارة مركومة بعضها فوق بعض على رءوس القور والآكام، وهي أغلظ وأطول في السماء من الأروم. وحجارتها عظام، لا يحركها الإنسان ولو اجتمع جمع منهم بصعوبة، ينسبها الناس إلى صنعة عاد8. و"الآرام": الأعلام تنصب في المفاوز
__________
1 تاج العروس "10/ 64"، "ثوى".
2 اللسان "5/ 240 وما بعدها".
3 اللسان "11/ 639".
4 تاج العروس "3/ 588"، "نور".
5 تاج العروس "8/ 406"، "علم".
6 تاج العروس "9/ 79"، "نعم".
7 تاج العروس "8/ 145"، "نقل".
8 قال رؤبة:
وهامة كالصمد بين الأصماد ... أو وجم العادي بين الأجمادِ
تاج العروس "9/ 89"، "وجم".(14/15)
يهتدى بها، أو خاص بعاد، أي: بأعلامهم، و"الأروم": الأعلام في المفاوز. وكان من عادة الجاهلية، أنهم إذا وجدوا شيئًا في طريقهم لا يمكنهم استصحابه, تركوا عليه حجارة يعرفونه بها, حتى إذا عادوا أخذوه. وقيل: قبور عاد1.
وقد كان الجاهليون قد مهدوا الطرق وكسوا بعضها بمادة قوية مثل "الأسمنت" ووضعوا عليها العلامات. وقد أطلق العرب لفظة "العود" على الطريق القديم العادي2.
وسن الطريق سنًّا: إذا ساره، ويقال: ترك سنن الطريق، أي: جهته3. وقد كان القادة يتنكبون عن سنن الطريق؛ ليباغتوا العدو، أو ليتجنبوا تعقبهم لهم.
وقد كان لرؤساء القوافل علم بالأبعاد والمسافات, وبالأماكن التي يجب النزول بها والتمون منها بالماء والطعام. ونجد في كتب أهل الأخبار أخبارًا بأسماء منازل القوافل وبأبعادها, وقد استقيت من أفواه رجال القوافل في الجاهلية. كما نجد أن للأعراب دراية مدهشة بمواضع الماء وبالطرق مع مرورها في بوادٍ يصعب السير فيها، وقد ورثوا علمهم هذا عن أسلافهم ومن تجاربهم الخاصة التي تعلموها من كثرة أسفارهم وتنقلاتهم.
وقد كان التجار وأصحاب القوافل يقطعون أسفارهم بمراحل، ينزلون في كل مرحلة بمنزل يستريحون فيه ويمونون أنفسهم بما يحتاجون إليه من ماء وزاد. ويعبرون عن المسافات التي تقطعها القافلة بين منزل ومنزل آخر بـ"مسيرة"، فيقولون: "مسيرة يوم" أو "مسيرة نهار" وما شابه ذلك, كما عرفوا الأبعاد بالفرسخ والميل4. و"النزل": المنزل، وما هيئ للضيف أن ينزل عليه, ومنه: منازل الطريق5.
وتراعي القوافل في سيرها إلى أهدافها الأخذ بأقصر الطرق الآمنة المطمئنة, التي تتوفر فيها المياه، وقد تعدل من سيرها فتسلك طرقًا بعيدة أو وعرة إذا أحست بعدو يتربص لها في الطريق المسلوك، أو بلصوص ظهروا فيها، أو بقوم يريدون الاستيلاء على قافلتهم، كالذي فعله "أبو سفيان" مقفله من الشام يريد مكة، حيث بدل طريقه، فحوَّله عن "بدر"، وساحل، فأضاع بذلك الفرصة على المسلمين ووصل سالمًا بقافلته إلى مكة.
__________
1 تاج العروس "8/ 184"، "أرم".
2 تاج العروس "2/ 437"، "عود".
3 تاج العروس "9/ 242 وما بعدها"، "سَنَّ".
4 اللسان "11/ 639"، "صادر".
5 تاج العروس "8/ 124"، "نزل".(14/16)
قوافل الميرة:
وقد يجتمع نفر للذهاب إلى سوق للامتيار منه، وقد يذهب أصحاب البيوت إلى الأسواق ليمير أهله بما يحتاجون إليه من طعام ولباس، وكان "الأعشى" المازني الشاعر, في جملة من يمتار من سوق "هجر". وقد خرج مرة يمتار في شهر "رجب" من "هجر", فهربت امرأته بعده ناشزةً عليه، فعاذت برجل منهم يقال له: "مطرف بن نهصل". فلما قدم الأعشى أخبر أنها نشزت، وأنها عاذت بـ"مطرف" فأتاه، فقال له: يابن عم, عندك امرأتي معاذة فادفعها إليَّ, فامتنع مطرف وكان أعز منه، فخرج حتى أتى النبي فعاذ به وأنشده شعرًا، فكتب الرسول إلى "مطرف" أن يدفع زوجة الأعشى إليه، فدفعها إليه1.
وقد استغل بعض الناس هذه الطرق للتعيش منها، فعمل على حفر آبار بها، وعلى تهيئة ما يمكن تهيئته من وسائل الراحة للمسافرين؛ لينزلوا بها وليخففوا بذلك عنهم عناء السفر, وليتزودوا بالماء الطيب العذب. فنشأت عشرات المنازل، التي أراحت المسافرين وأصحاب القوافل، وجعلتهم في مأمن من الجوع والعطش وإمكانية التيه في البوادي والقفار. كما حفظت لهم حياتهم وأموالهم بضمان أصحاب تلك المنازل للمسافرين حياتهم وأموالهم من تحرش أحد بهم, ما داموا في جوارهم وفي حماهم، وضمان قبائلهم لهم حق الحماية والجوار، والقيام معهم بمعاقبة من يتطاول على المسافرين وينتهك حرمة الجوار.
وقد صارت الطرق موردًا من موارد العيش لمن لا عيش له ولا رزق من الصعاليك والذؤبان. فتجمعوا، وكونوا عصابات أخذت تتربص بالقوافل، حتى إذا جاءت قافلة انقضت عليها وسلبتها، ثم فرت بما غنمته إلى مواضع نائية قصية
__________
1 الإصابة "2/ 267"، "رقم 4535"، الاستيعاب "2/ 256"، "حاشية على الإصابة".(14/17)
بعيدة عن أي حكم؛ لتعيش على ما غنمته, وقد عرف هؤلاء بـ"لصوص الطرق". وكان المطرود من قبيلته ومن غضب أهله عليه فنفوه عنهم وتبرءوا منه، والعبيد الآبقون، يتجمعون في المواضع الحصينة وفي المراقي الصعبة التي تشرف على الطرق، ويهاجمون منها المارة والسابلة والقوافل. ولما ظهر الإسلام, كان قوم من هؤلاء, جماعهم من: كنانة، ومزينة، والحكم، والقارة، ومن اتبعهم من العبيد، قد اعتصموا في "جبل تهامة"، وآذوا الناس، فكتب لهم رسول الله، أنهم إن آمنوا وأسلموا، فعبدهم حر، ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها، وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رُدَّ إليهم, ولا ظلم عليهم ولا عدوان1.
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 278".(14/18)
الفصل الثالث بعد المئة: طرق الجاهليين
...
الفصل الثالث بعد المائة: طرق الجاهليين
لا أملك نصًّا جاهليًّا فيه أخبار عن الطرق التي كان يسلكها الجاهليون في تنقلاتهم من مكان إلى مكان؛ لأغراض خاصة، أو للرعي, أو للاتجار، وما سأذكره عن الطرق مأخوذ من الموارد الإسلامية فقط. وهي موارد تعرضت لموضوع "المسالك" والطرق التي كان يسلكها الحجاج والمسافرون والتجار في أيام الخلافة، داخل أرض الخلافة وخارجها. وعلى رأس هذه الموارد كتب "المسالك والممالك"، وبقية كتب "الجغرافيا" والسياحات ووصف جزيرة العرب. ففي هذه الموارد وصف للمسالك والطرق ولسكك البريد التي كانت في بلاد العرب, وهي وإن كانت طرقا إسلامية، إلا أنها بنيت على الطرق الجاهلية القديمة في الأغلب، وما فعله المسلمون هو أنهم اختصروا بعضًا منها، أو أقاموا مستوطنات جديدة عليها، أو حفروا آبارًا بين منازلها التي كانت متباعدة، بدليل أن المنازل والمواضع الجاهلية التي ترد أسماؤها في الشعر الجاهلي ترد كذلك في وصف الإسلاميين لطرق جزيرة العرب على النحو الوارد في ذلك الشعر، أو في أخبار أيام العرب, أو في كتب السير والتواريخ.
ولهذا فسيكون اعتمادي في وصف طرق القوافل عند أهل الجاهلية، على هذه الموارد الإسلامية، مع العلم بأن بعض المسالك الجاهلية قد ماتت وذهب أثرها، وأن بعضًا منها بقي على حاله، وأن بعضًا من الطرق المسلوكة في الوقت الحاضر، والتي مهدت وعمرت تعميرًا حديثًا بالوسائل الفنية المعروفة في هذا اليوم، هي طرق(14/19)
جاهلية قديمة، كانت مسلوكة قبل الإسلام. وهي طرق طبيعية كانت مسلوكة لوجود الماء فيها في مواضع متقاربة، وقد أُقيمت عندها مستوطنات، وبقيت على حالها لم تذهب فائدتها، ولم تتغير مواضع الاستيطان فيها؛ لذلك صارت السبل التي تسلك بين أجزاء جزيرة العرب إلى هذا اليوم.
ومما يؤسف له كثيرًا، هو أن الموارد الإسلامية التي تحدثت عن غزوات الرسول وسراياه وعن الوفود التي قصدته من مختلف أنحاء جزيرة العرب، والعمال والرسل الذين أرسلهم الرسول إلى سادات القبائل أو لجمع الصدقات، ثم عن حروب الردة وعن عمال الخلفاء على أقاليم جزيرة العرب -سكتت عن ذكر الطرق التي سلكت والمنازل التي نزلت، ولم تفصل في ذكر المنازل والمراحل؛ فأضاعت علينا بذلك معرفة الطرق الجاهلية التي كان يسلكها الجاهليون في تجاراتهم وفي أسفارهم. ثم إن الذين بحثوا في الإسلام عن المسالك والطرق, وذكروا المنازل مع أبعادها بالأميال, أو بالفراسخ، أو بالمراحل -لم يهتموا بالإشارة إلى ذكر تواريخ هذه الطرق أو المنازل وإلى أصلها؛ هل هي جاهلية, أم هي إسلامية، أم معدلة، ولمثل هذه الملاحظات التي أهملوها أهمية كبيرة بالنسبة للبحث بالطبع.
وسأبدأ بالطرق التي سلكها أهل الجاهلية فيما بين العراق وبلاد الشام, وقد كان منهم من يحاذي الفرات؛ حتى لا يبتعد عن الماء والغذاء وأهل الحضر, ثم يسلك الطرق الشمالية التي مهدها الروم؛ لدخول بلاد الشام، وهي في أيدي الروم في الغالب, غير أن الفرس استولوا عليها في بعض الأحايين. ونظرا إلى ما لهذه الطرق من الأهمية من الناحية الاقتصادية والعسكرية، فقد تشدد الروم في مراقبة القوافل التي تقصد بلاد الشام، أو تخرج منها للذهاب إلى العراق، وتصعبوا في السماح لها وللتجار بالمرور.
ومن التجار من كان يخرج من الحيرة إلى بلاد الشام، فيسلك طريق "القطقطانة". وهو موضع سبق أن تحدثت عنه في أثناء كلامي على نهاية الملك "النعمان بن المنذر"، إذ جاء في رواية أن "كسرى" أمر به فسجن به. وهو موضع غير بعيد عن الكوفة من جهة البرية بالطف1, ثم يسلك الطريق إلى "البقعة"،
__________
1 البلدان "7/ 125"، الأغاني "2/ 28"، تاج العروس "5/ 209"، "قطط"، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام "3/ 268".(14/20)
ثم إلى "الأبيض"، ثم إلى "الحوشي"، ثم إلى "الجمع"، ثم إلى "الخطى"، ثم إلى "الجبة"، ثم إلى "القلوفي"، ثم إلى "الأعناك"، ثم إلى "أذرعات"، ثم إلى "دمشق"1.
وطريق آخر سلكه الناس من العراق إلى بلاد الشام يبدأ من "عين التمر"، وهو موضع تحدثت عنه في مواضع من هذا الكتاب، ويتجه نحو "الأخدمية"، ثم إلى "الخفية"، ثم إلى "الخلط"، ثم إلى "سوى"، ثم إلى "الأجيفر"، ثم إلى "الغربة"، ثم إلى "بصرى"2.
وقد سبق لي أن تحدثت عن بصرى في مواضع من هذا الكتاب. وهي المدينة التي وصل إليها الرسول مع عمه "أبي طالب"، وبها كان "بحيرا" الراهب على ما جاء في كتب السير، وإليها كان يقصد تجار مكة، حيث يتاجرون بأسواقها. وبها قبر "بحيرا"، وهو يزار3.
وأما طرق العربية الشرقية مع العراق، فقد كان من الجاهليين من يسلك الطرق المائية, فيتجه نحو سواحل الخليج عن طريق الأبلة، فيحاذي الساحل. ومنهم من كان يتجه إلى الشرق نحو جزر الخليج، ثم يتجه منها إلى ساحل "عمان"، ومنهم من كان يسلك طرق البر. وقد ذكر "ابن خرداذبة"، أن الطريق من البصرة إلى عمان على الساحل، يمر إلى "عبادان"، ثم إلى "الحدوثة"، ثم إلى "عرفجا"، ثم إلى "الزابوقة"، ثم إلى "المقر"، ثم إلى "عصى"، ثم إلى "المعرس"، ثم إلى "خليجة"، ثم إلى "حسان"، ثم إلى "القرى" "القرنتين"، ثم إلى "مسيلحة" "مسلحة"، ثم إلى "حمض"، ثم إلى ساحل "هجر"، ثم إلى "العقير"، ثم إلى "قطر"، ثم إلى "السبخة"، ثم إلى "عمان"4.
ومن الطرق المهمة التي تربط اليمامة بجنوب العراق، طريق يأخذ من الأبلة "البصرة"، ثم يتجه نحو "كاظمة"، ثم إلى منازل ثلاثة لم يذكر أسماءها "ابن خرداذبة"، ثم إلى "القرعاء"، ثم إلى "طخفة"، ثم إلى "الصمَّان"،
__________
1 ابن خرداذبة، المسالك والممالك "99"، "وسيكون رمزه: المسالك".
2 المسالك "97".
3 صبح الأعشى "4/ 108".
4 المسالك "60"، قدامة "193"، صبح الأعشى "5/ 57".(14/21)
ثم منازل ثلاثة لم يشر إلى اسمها "ابن خرداذبة"، ومنها إلى "جب التراب"، ثم إلى منزلين آخرين، ومنهما إلى "سليمة"، ثم إلى "النباك"، ومنه إلى "اليمامة"1. ويتفق وصف هذا الطريق، وأسماء المواضع مع ما ذكره "قدامة بن جعفر" في كتابه "الخراج", سوى أن "ابن خرداذبة" يبدأ بالبصرة، ثم ينتهي باليمامة، أما "قدامة" فيبدأ باليمامة وينتهي بالبصرة.
ونجد في كتاب بلاد العرب، للحسن بن عبد الله الأصفهاني, وصفًا لطريق آخر يتجه من "حجر" اليمامة حتى ينتهي بالبصرة, ذكر فيه أسماء المواضع ووصف الأرض والمياه، وينتهي طريقه بـ"سفوان"، "صفوان"، المعروف اليوم في العراق. وقد ذكر "كاظمة"، وذكر أنها على ساحل البحر، وبها حصن وتجار ودور مبنية، ثم ذكر أسماء مواضع تقع بينها وبين "سفوان"2. ولما كانت البصرة إسلامية بُنيت في زمن "عمر"، فإن الجاهليين كانوا يسافرون من "الأبلة" التي حلت البصرة محلها, إلى جزيرة العرب.
ويبدأ هذا الطريق بالحرمليَّة، وهو ماءة في قف في شُعبة عليه نخلات، ثم تركب القف، فنأخذ على وادٍ يقال له: "ذو جراف"، فتجزعه عرضا، ثم تنتهي إلى "المديدان"، ثم تجزع "الحرملية" ثم وادي "بنبان" حتى تصل "سويسًا"، ثم "البديع"، ثم "الطنب"، ثم "الجرداء"، وهي روضة تشرب من وادي جراف, ثم "الراح". فإذا جزته وقعت في العرمة، ثم تخترق وادي حرج حتى تنتهي إلى "الجرباء", وعلى يسار الجرباء في العرمة ماء يقال له: "الرداع"، فإذا فصلت من العرمة من حيال الجرباء صرت إلى وادٍ يقال له: "مجمع الأودية", ثم تصير إلى "ذات الرّئال"، ثم تنتهي إلى "الحفر" حفر سعد، ثم تفوز إلى "الدهناء"، فتصل "خشاخِش" فتقع في معبر، فتعبر جبال الدهناء, فتصل إلى أبرق يقال له: "القنفذ", ثم تستقبل "الصمان", فتمضي فيه حتى تنتهي إلى "المعا"، ثم ترد "طويلعا" وهو وسط الطريق بين حجر وبين البصرة, وهو موضع فيه ماء وفيه تجار، وحصن يتحصنون به من اللصوص3.
__________
1 المسالك "151"، كتاب الخراج، لقدامة "193"، "نبذ طبعت مع المسالك".
2 بلاد العرب "301-324".
3 بلاد العرب "301-314".(14/22)
ثم تجوز "طويلعا" إلى وادٍ يقال له: "الشيط"، فإذا انحدرت من عقبة الشيط تأتي "الوريعة"، فإذا جزته تأتي "الدو". فإذا فصلت في "الدو" صرت إلى "كفة العرفج"، وفي منقطع "الدو" حين تجوزه وادٍ يقال له: "وادي السيّدان"، وعلى الطريق ماء "النحيحة"، تخرج منه إلى "تياس"، وقريب منه ثمد يقال له: "الفارسي"، ثم تجوز ثمادًا أخرى حتى تصل "المخارم"، فتهبط "كاظمة". ثم تخرج من "كاظمة" إلى "النجفة"، ثم تمضي إلى "الصليف" "الصليب"، ثم تهبط إلى "أيرمى" "أيرمى الركبان"، وهو علم مبني من حجارة للطريق، وهو شبه شخص إنسان. ثم تصل "الحزيز"، ثم تهبط "سفوان"، تم تخرج حتى تهبط "الأحواض"، وهو ماء للسانية، ثم تصل البصرة1.
وهناك طريق يوصل "حجرًا" بالكوفة، يبدأ بالحبل، وهو ماء في ناحية القف لراعية اليمامة، ثم تخرج منه فترد القف، ثم تمضي حتى ترد "البالدية"، فإذا خرجت منها وردت ماء يقال له: "الغميم", ثم ترد واديًا يقال له: "العتك"، ثم "مبايض"، ثم تجوزه إلى "تعشار"، فـ"مويهة"، ثم "تلعة"، ثم "السقيا"، ثم تجوز الدهناء، فتعلو قفا يوصلك إلى "المجازة", وهي من طريق مكة الذي يأخذ عليه البصريون، عليه المنار من بطن فلج. وهي منهل، ثم تجوزها فتقع في "اللوى" ثم تصير إلى "لينة"، وهي ماءة كبيرة، ثم تسير فترد "زبالة"، وهي سوق من أسواق طريق الكوفة المؤدي إلى مكة. فإذا خرجت من "زبالة" وردت "القاع"، ثم تخرج منه إلى "العقبة", ثم ترد "الشقوق"، ثم "واقصة"، ثم "العذيب"2.
ويذكر علماء اللغة أن العرب أطلقت "القعقاع" على الطريق من اليمامة إلى الكوفة، وذكر بعضهم إلى مكة3.
وكان بين أهل "الحيرة" وبين أهل مكة اتصال تجاري وثيق، بل واتصال ثقافي أيضا، فمنها حُمِلَ الخط العربي إلى مكة على رواية أهل الأخبار. وكان
__________
1 بلاد العرب "301-324".
2 بلاد العرب "327-335".
3 تاج العروس "5/ 477"، "قع".(14/23)
التجار يرحلون منها إلى "القادسية"، وهو موضع معروف سبق أن تحدثت عنه، وبه كانت وقعة القادسية1. ومنه إلى "العذيب"، وهو مسلحة بين العرب وفارس في حد البرية، وبها حائطان متصلان من القادسية إلى العذيب ومن الجانبين كليهما نخل2. وبالعذيب أحساء غزيرة الماء، يخرج الماء خريرًا من قوة اندفاعه على ما يفهم من شعر ورد على لسان بعض الضبيين3. ويخرج الإنسان من العذيب فيدخل المفازة، ويكون بنجد حتى يبلغ موضع "ذات عرق"4. والعذيب بين القادسية ومغيثة، وفي الحديث ذكر العذيب, وهو ماء لبني تميم, وهو طرف أرض العرب5.
ويتجه الطريق من "العذيب" إلى المغيثة، وفيها برك6, وماؤها ماء السماء. ثم يتجه إلى "وادي السباع"، ثم إلى "القرعاء"7 وفيه آبار، ثم إلى "واقصة"8، ثم إلى "العقبة" وبها آبار9، ثم إلى "القاع"، ومن "القاع" إلى "زبالة"، ومن "زبالة" إلى "الشقوق"، ومن "الشقوق" إلى "البطان"، وهو قبر العبادي10, ثم إلى "الثعلبية"، وهو ثلث الطريق
__________
1 المحبر "14, 261، 292، 302".
2 المسالك "185"، بلاد العرب "334، 337"، تاج العروس "1/ 370"، "عذب"، المفصل "4/ 225 وما بعدها".
3 المحبر "248".
4 المسالك "125".
5 تاج العروس "1/ 370"، "عذب".
6 المسالك "125-128"، قدامة "186"، بلاد العرب "335".
7 المسالك "126"، قدامة "186"، بلاد العرب "296، 351، 353، 355"، تاج العروس "5/ 463"، "قرع".
8 المسالك "126"، قدامة "186"، بلاد العرب "334، 335"، تاج العروس "4/ 445"، "وقص".
9 المسالك "126"، قدامة "186"، بلاد العرب "334، 335".
10 "البطان"، "البطانية"، ابن رستة، الأعلاق "175"، المسالك "126"، قدامة "186"، وبطان بين الشقوق والثعلبية في طريق الكوفة. وأنشد نصر:
أقول لصاحبي من التآسي ... وقد بلغت نفوسهم الحلوقا
إذا بلغ المطي بنا بطانا ... وجزنا الثعلبية والشقوقا
وخلفنا زبالة ثم رحنا ... فقد وأبيك خلفنا الطريقا
تاج العروس "9/ 142"، "بطن".(14/24)
فيها برك1، ثم إلى "الخزيمية"، وهي مدينة سميت "خزيمة"؛ لأن خزيمة صير فيها سواني، وكانت تسمى "زرود"2، ثم إلى "الأجفر"3، ثم إلى "فيد"، وهي نصف الطريق، وبها منزل العامل في الإسلام, وبها أسواق وقناة وزروع، وبرك وآبار وعيون جارية, وقد عظم شأنها في الإسلام. ذكر أن بها حصنًا عليه باب حديد وعليها سور دائر، وكان الحجاج يودعون فيها فواضل أزوادهم إلى حين رجوعهم وما ثقل من أمتعتهم، وهي قرب "أجأ" و"سلمى" جبلي طيء. وقد ذكرت في شعر "زهير بن أبي سلمى"، إذ قال:
ثم استمروا وقالوا: إن مشربكم ... ماء بشرقيّ سلمى فيد أو ركك4
وتقع في فلاة الأرض بين أسد وطيء، أقطعها الرسول إلى "زيد الخيل"5.
ثم إلى "توز"، فيها برك وآبار وحصن بناه "أبو دلف"6, ثم إلى "سميراء"7، ثم الحاجز8، فمعدن القرشي، وهو "معدن النقرة"9, وعنده تفترق الطريق؛ فمن أراد مكة نزل "المغيثة"، ومن أراد "المدينة" أخذ نحو العسيلة فهبطها. وهو منزل حاج العراق بين "أضاخ" و"ماوان", وفيه بركة وثلاثة آبار: بئر تعرف بالمهدي، وبئران تعرفان بالرشيد, وآبار صغار للأعراب تنزح عند كثرة الناس, وماؤها عذب10.
فمن أخذ على المدينة، فمن المعدن إلى العسيلة، ثم إلى بطن نخل، ثم إلى
__________
1 المسالك "127"، قدامة "186"، "الثعلبية بطريق بكة -حرسها الله تعالى- على جادتها, من الكوفة حتى منازل أسد بن خزيمة"، تاج "1/ 165"، "ثعلب".
2 قدامة "186"، المسالك "127"، "والخزيمية: منزل للحاج بين الأجفر والثعلبية"، تاج العروس "8/ 275"، "خزم".
3 المسالك "127"، قدامة "186"، تاج العروس "3/ 106"، "جفر".
4 المسالك "127"، قدامة "186".
5 تاج العروس "2/ 457"، "فيد".
6 المسالك "127"، قدامة "186"، تاج العروس "4/ 12"، "توز".
7
يا رب جار لك بالحزيز ... بين سميراء وبين توز
تاج العروس "3/ 278"، "سمر".
8 تاج العروس "3/ 126"، "حجر".
9 المسالك "127"، قدامة "186".
10 تاج العروس "3/ 582"، "نقر".(14/25)
الطرق، ثم إلى المدينة1, وهي "يثرب". وذكر بعض أهل الأخبار أن "مرزبان البادية" كان قد عيَّن على المدينة في الجاهلية عاملًا يجبي خراجها، وكانت قريظة والنضير ملوكًا ملكوها على المدينة, على الأوس والخزرج. وفي ذلك يقول شاعر الأنصار:
تؤدي الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج من قريظة والنضير2
ومن المدينة إلى "السيالة"، ومنها إلى "الروحاء"، ثم إلى "الرويثة"، ومنها إلى "العرج"، ثم إلى "السقيا"، ثم إلى "الأبواء"، ثم "الجحفة"، ثم إلى "قديد"، ثم إلى "عسفان"، ثم إلى "مر الظهران"، ثم إلى مكة3.
ومن أراد "مكة" قصد "مغيثة الماوان"4، ومن "مغيثة" إلى "الربذة", وماؤها كثير, وإليها هاجر "أبو ذر" الغفاري، وبها مدفنه. وقد خربت سنة "319" للهجرة بالقرامطة5. ومن الربذة إلى معدن بني سليم، ومن معدن بني سليم إلى العمق، ومنه إلى "أُفاعية"6 "الأفيعية" إلى "المسلح"، ثم إلى "الغمرة"، ومنه يعدل إلى اليمن، ومن الغمرة إلى "ذات عرق"، ومنه يقع الإحرام7، ثم إلى "أوطاس"، ثم إلى بستان بني عامر "بستان ابن عامر"، ثم غمر ذي كندة، ثم مشاش، ثم مكة8.
ويلاحظ أن هذا الطريق هو من أقصر الطرق المؤدية من "الحيرة" إلى "المدينة"، وهو يمر بجبلي "طيء"، أي: "جبل شمر" في الوقت الحاضر. ويمر على "حائل" بجبلي طيء، وهو مدينة في الوقت الحاضر ورد ذكرها في شعر "امرئ القيس", إذ يقول:
__________
1 المسالك "128"، قدامة "187".
2 المسالك "128".
3 الصفة "184 وما بعدها".
4 قدامة "186"، "بين معدن النقرة والعمق عند ماوان"، تاج العروس "1/ 637"، "غوث".
5 تاج العروس "2/ 562"، "ربذ".
6 تاج العروس "10/ 282"، "فعا".
7 قدامة "186".
8 المسالك "132".(14/26)
يا دار ماوية بالحائل ... فالفرد فالجبتين من عاقل1
وبجبل "سلمى" مدينة اسمها "أُرك", عرفت بمدينة "سلمى"، وأصحابها من "طيء", وقد انحاز إليها "خالد بن الوليد"، لما أرسله "أبو بكر" من "ذي القصة" لمحاربة المرتدين2. وقد نزل "خالد" بأجأ، ثم تعبأ لملاقاة "طليحة الأسدي"، فالتقى به على "بزاخة"3.
ويسلك هذا الطريق في الوقت الحاضر, الحجاج الذين يقصدون الحج عن طريق النجف بالسيارات.
و"الربذة" من القرى القديمة في الجاهلية، وهي عن المدينة من جهة الشرق على طريق حاج العراق على نحو ثلاثة أيام, سميت بـ"خرقة الصائغ"، بها مدفن "أبي ذر"4.
ومعدن بني سليم، هو لبني سليم الذين غزاهم الرسول غزوة "قرارة الكدر"، ويقال: "قرقرة بني سليم وغطفان", لما بلغه أن بقرارة الكدر جمعًا من غطفان وسليم يريد الكيد للمسلمين5, و"الكدر": ماءة لبني سليم في ديار غطفان ناحية المعدن6. وإلى هذا الموضع أيضًا وصل الرسول في غزوته المعروفة بغزوة السويق، وسببها أن "أبا سفيان" نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدًا؛ انتقامًا لبدر، فسلك النجدية حتى نزل بصدور قناة إلى جبل يقال له: "تيت"، من المدينة على بريد أو نحوه، ثم خرج إلى "بني النضير"، ثم خرج فأرسل رجالًا من قريش إلى ناحية من المدينة يقال لها: "العُريض"، فحرقوا في أصوار من نخل لها، وقتلوا رجلين، ثم انصرفوا راجعين، فخرج رسول الله في طلبهم حتى بلغ "قرقرة الكدر"، فوجد أن "أبا سفيان" قد فاته وأصحابه، وكان أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب الدقيق ويتخفون، وكان
__________
1 تاج العروس "7/ 295"، "حول".
2 الطبري "3/ 254 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 101"، "أرك".
3 الطبري "3/ 255"، تاج العروس "2/ 253"، "بزخ".
4 ابن رستة "179"، تاج العروس "2/ 562"، "ربذ".
5 إمتاع الأسماع "1/ 107".
6 تاج العروس "3/ 518"، "كدر"، "3/ 490 وما بعدها"، "قرر"، الطبري "2/ 482".(14/27)
ذلك عامة زادهم؛ فلذلك سميت غزوة السويق1.
وقد غزا الرسول "بني سليم" مرة أخرى, فسار إليهم حتى بلغ موضع "بحران" معدنًا بالحجاز من ناحية الفرع، فلما لم يجد أحدًا منهم، وكانوا قد تفرقوا, رجع عنهم. ويظهر أن قريشًا كانوا قد جاءوا إليهم، واتفقوا معهم على مهاجمة المدينة، بدليل ما ورد في خبر هذه الحملة من أنه "غزا يريد قريشًا وبني سليم"2.
و"بحران": موضع بناحية الفرع من الحجاز، به معدن للحجاج بن علاط البهري3. و"الفرع" بالحجاز من أضخم أعراض المدينة4.
وهذا الطريق هو الطريق الذي كان أهل مكة في الجاهلية يسلكونه إلى العراق. ولما خافت قريش طريقها الذي كانت تسلكه إلى الشام حين كان من وقعة "بدر" ما كان، قررت سلوك طريق العراق، أي: هذا الطريق، واستأجرت لها دليلا خريتا بالطرق عالما بها، هو "فرات بن حيان"، وخرجت القافلة تحمل مالًا كثيرًا، فيه فضة كثيرة وهي معظم تجارتهم، سلكت طريق "ذات عرق"، ثم خرج الدليل بهم إلى "غمرة"، وانتهى إلى النبي خبر العير وفيها المال الكثير، فأرسل "زيد بن حارثة" على سرية، التقت بالقافلة بموضع "القردة"، فظفر بالعير, وأفلت أعيان القوم, وأتى بدليلها أسيرًا، وخمست الغنائم، فبلغ الخمس عشرين ألف درهم5.
وقد ذكر "الهمداني" أسماء منازل طريق الكوفة -يثرب، والكوفة- مكة على هذا النحو: الكوفة، فالقادسية، فالمغيثة، ثم القرعاء، ثم واقصة، ثم العقبة, ثم القاع، ثم زبالة، ثم الشقوق, ثم البطان، ثم الخزيمية، ثم الأجفر، ثم فيد، ثم توز، ثم سميراء، ثم الحاجر، ثم معدن النقرة، ثم العسيلة، ثم بطن نخل، ثم الطرف، ومنه إلى المدينة.
__________
1 الطبري "2/ 483 وما بعدها"، ابن هشام "2/ 119"، "حاشية على الروض"، إمتاع الأسماع "1/ 106".
2 الطبري "2/ 487"، ابن هشام "2/ 120"، إمتاع الأسماع "1/ 111 وما بعدها".
3 تاج العروس "3/ 31"، "بحر".
4 تاج العروس "5/ 449"، "فرع".
5 الطبري "2/ 492"، إمتاع الأسماع "1/ 112"، ابن هشام "2/ 121 وما بعدها"، "حاشية على الروض".(14/28)
ومن الطرف يؤدي الطريق إلى مكة، فيمر بالسيالة، ثم الروحاء، ثم الرويثة، ثم العرج، ثم السقيا، ثم الأبواء، ثم الجحفة، ثم قديد، ثم عسفان، ثم مرّ الظهران، ثم مكة1.
ومن أخذ الجادة من مكة إلى معدن النقرة، فمن مكة إلى البستان، ثم ذات عرق، ثم الغمرة، ثم المسلح، ثم الأفيعية، ثم حرة بني سليم، ثم العمق، ثم السليلة، ثم الربذة، ثم ماوان، ثم معدن النقرة, وهو ملتقى الطريقين2.
وقد عرف طريق العراق من الكوفة إلى مكة بـ"المثقب", يقال: سلكوا المثقب, أي: مضوا إلى مكة, وقيل: إنه طريق ما بين اليمامة والكوفة. وذكر بعض العلماء أنه طريق كان بين الشام والكوفة, وكان يسلك في أيام بني أمية. ويظهر أن الاسم من الأسماء القديمة، بدليل اختلاف العلماء في تعليل التسمية؛ فقال بعضهم: سمي لمرور رجل به يقال له: مثقب، وقال بعض آخر: سمي بذلك؛ لأن بعض ملوك حمير بعث رجلًا يقال له: مثقب, على جيش كثير إلى الصين, فأخذ ذلك الطريق فسمي به3.
وكان حاج البصرة إذا أرادوا الحج، اتجهوا إلى "المنجشانية" على ستة أميال من البصرة، تنسب إلى "منجش" مولى "قيس بن مسعود"4، ثم إلى "الحفير"، وهو ركايا ما بين "ماوية" و"المنجشانيات"5، ثم إلى "الشجى"، ثم إلى "الخرجاء"، وهو ماءة احترفها "جعفر بن سليمان" على طريق حاج البصرة6، ثم إلى "الحفر"7، ثم إلى "ماوية"، ثم إلى ذات العشر، ثم إلى "الينسوعة" ينسوعة القف، منهل من مناهل طريق مكة على جادة البصرة، بها ركايا كثيرة عذبة الماء عند منقطع رمال الدهناء بين ماوية النباج8. ثم إلى
__________
1 الصفة "183 وما بعدها".
2 الصفة "185".
3 تاج العروس "1/ 166"، "ثقب"، ابن دريد، جمهرة اللغة "1/ 203"، الصفة "173، 176"، البلدان "4/ 414".
4 تاج العروس "4/ 348، 354"، "م/ ج/ ش"، "نجش".
5 تاج العروس "3/ 152"، "حفر".
6 تاج العروس "2/ 32"، "خرج".
7 تاج العروس "3/ 152"، "حفر".
8 تاج العروس "5/ 523"، "نسع".(14/29)
"السُّمَيْنة": أول منزل من النباج لقاصد البصرة1، ثم إلى "النباج"، ويقال له: نباج بني عامر بن كريز، وهو بحذاء "فيد", وبه يوم من أيام العرب مشهور لتميم على بكر بن وائل. وقد استنبط ماءه "عبد الله بن عامر بن كريز"، شقق فيه عيونًا وغرس نخلًا، وسكن به رهطه بنو كريز2, و"عامر بن كريز بن ربيعة" القرشي العبشمي, والد "عبد الله"، وهو من المحمقين في قريش، ذكر أنه أسلم يوم الفتح، وكان ابنه "عبد الله" أميرًا على البصرة زمن عثمان3، كما كان صهرًا لمعاوية ومن أغنياء المسلمين4.
ومن النباج إلى "العوسجة"، ثم إلى "القريتين"، ثم إلى "رامة"، ثم إلى "إمرة"، ثم إلى "طخفة"، ثم إلى "ضرية"، ثم إلى "جديلة"، ثم إلى "فلجة"، ثم إلى "الدثينة" "الدفينة", ثم إلى "قبا", ثم إلى "مران", ثم إلى "وجرة"، ثم إلى "أوطاس"، ثم إلى "ذات عرق"، ثم إلى بستان ابن عامر، ثم إلى مكة5.
ويلاحظ أن مبدأ هذا الطريق قد عمر في الإسلام؛ وذلك بسبب تأسيس البصرة، ولكنه يسلك أيضا الطريق الجاهلي القديم في مواضع كثيرة منه.
و"بستان ابن عامر" عند مكة، ويرى بعض العلماء أن هذه التسمية مغلوطة وأنها من أقوال سواد الناس وأن الصحيح بستان ابن معمر، وهو مجتمع النخلتين اليمانية والشامية6. بينما يرى بعضهم العكس، إذ قال: "وبستان ابن عامر بنخلة, هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة. ولا تقل: بستان ابن معمر؛ فإنه قول العامة"7. وورد أيضا "بستان ابن عامر لعمر بن عبد الله بن معمر بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤي، ولكن الناس غلطوا فيه، فقالوا: بستان ابن عامر، وبستان بني عامر، وإنما
__________
1 تاج العروس "9/ 242"، "سمن".
2 تاج العروس "2/ 103"، "نبج".
3 الإصابة "2/ 248"، "رقم 4418".
4 المحبر "47، 57، 150، 346، 363، 387، 440، 450".
5 المسالك "146 وما بعدها"، قدامة "190"، بلاد العرب "371".
6 بلاد العرب "374"، تاج العروس "3/ 424"، "عمر".
7 تاج العروس "3/ 424"، "عمر".(14/30)
هو بستان ابن معمر، وقوم يقولون: نسب إلى ابن عامر الحضرمي، وآخرون يقولون: نسب إلى ابن عامر بن كريز"1. وذكر أنه على مقربة من هذا البستان موضع يقال له: "المسدّ"، وهو مأسدة2.
ويقع موضع "السّيّ"، وهو ماء من ذات عرق إلى "وجرة", على ثلاث مراحل من مكة إلى البصرة وخمس من المدينة. فهو من منازل طريق البصرة - مكة, وإليه أرسل الرسول "شجاع بن وهب" الأسدي، على "بني عامر" بناحية "ركبة"3, ووجرة في طريق البصرة. وأما "ذات عرق" فحد يفصل في عرف علماء جزيرة العرب بين الحجاز ونجد, فمن ذات عرق إلى الغرب الحجاز، ومن ذات عرق مشرقًا فهو نجد4. وإذا جزت "وغرة" ووجرة فأنت في نجد إلى أن تبلغ "العذيب"، و"غمرة" في طريق الكوفة5, وهي تفصل ما بين تهامة ونجد6.
وعلى مقربة من "ذات عرق"، يقع قبر أبي رغال في موضع يقال له: "الغُمَيْر"7، بين ذات عرق وبين البستان8.
وقد ذكر "القلقشندي" طريقًا يبدأ بالبصرة ويتجه نحو "اليمامة"، على هذا النحو: "البصرة"، ثم "المنجشانية"، ثم إلى "الكفير" "الحُفير"، ثم إلى "الرحيل"، ثم إلى "الشجى"، ثم إلى "الحفر"، ثم إلى "ماوية"، ثم إلى "ذات العشر"، ثم إلى "الينسوعة"، ثم إلى "السمينة"، ثم إلى "النباج"، ثم إلى "العمومية" "العوسجة"، ثم إلى "القريتين"، ثم إلى "سويقة"، ثم إلى "صداة"، ثم إلى "السد"، ثم إلى "السقي"،
__________
1 البلاذري، فتوح "63".
2 تاج العروس "2/ 374"، "سدد".
3 إمتاع الأسماع "1/ 344".
4 بلاد العرب "15، 178، 336".
5 بلاد العرب "336".
6 تاج العروس "3/ 455"، "غمر".
7 كزبير.
8 قال امرؤ القيس:
كأثل من الأعراض من دون بَيْشَةٍ ... ودون الغُمَيْر عامدات لِغَضُورا
تاج العروس "3/ 455"، "غمر".(14/31)
ثم إلى "المنبية"، ثم إلى "السفح"، ثم إلى "المريقة"، ثم إلى "اليمامة"1.
وذكر "الهمداني" أسماء بعض المواضع التي كان يسكنها المسافرون من الكوفة إلى العراق، وهي الطرق السالكة التي عرفت بـ"المحجة"؛ لأنها طرق الحج2.
وقد ذكر "الهمداني" أسماء مواضع يمر بها الطريق من "نجران" إلى البصرة, وهي: نجران, ثم كوكب، ثم الحفر، ثم العقيق وهو معدن ذهب، ثم "الفلج"، ثم "الخرج"، ثم "الخضرمة"، ثم "الفقى"، ثم البصرة3.
وإذا أراد أهل اليمامة السفر إلى مكة، سافروا إلى العرض وهو بطن العرض، عرض بني حنيفة، الوادي المعروف اليوم باسم الباطن، وفيه مياه وقرى4، ثم "الحديقة"، ثم إلى "السيح"، وهو سيح "آل إبراهيم بن عربي" والي اليمامة في عهد "عبد الملك" و"هشام"5، ثم إلى "الثنية"، ثم إلى "سقيراء"، ثم إلى "السد"، ثم إلى صداة، ثم إلى "شريفة"، ثم إلى "القريتين" من طريق البصرة، فيتصل الطريق بطريق البصرة، ويسلكها على نحو ما مر6. وقد ذكر "قدامة" منازل هذا الطريق على هذا النحو: "العرض"، ثم "حديقة"، ثم "السيح"، ثم "الثنية العقاء"، ثم "سقيراء"، ثم "السد"، ثم "مرارة"، ثم "سويقة"، ثم "القريتين"، ثم طريق البصرة7.
ونجد في "بلاد العرب" وصف طريق يبدأ بـ"حجر" اليمامة وينتهي بمكة, ويبدأ بـ"بطن العرض"، ثم "السيح"، ثم "ثنية الأحيسى"، ثم ناحية من "قرقرى" اليمامة، ثم "المنفطرة"، ثم "الغُزيز"، ثم "الوركة"، ثم "أهوى"، و"أضيمر"، ثم "العفافة"، ثم "عكاش"، ثم "المروت"، ومنه إلى "السحامة" وعليها طريق المنار، وإذا جزت "أهوى"، فمن ورائها مويهة
__________
1 صبح الأعشى "5/ 61".
2 الصفة "131".
3 الصفة "166".
4 بلاد العرب "361".
5 بلاد العرب "361".
6 المسالك "146 وما بعدها".
7 قدامة "191".(14/32)
يقال لها: "الأسودة"، ثم تعبر رملة يقال لها: "جراد"، ثم تصل "الهلباء" بحايل، فإذا جزت "الهلباء" وقعت في وادٍ تجوزه فترد "عكاشا"، ثم ترد "العيصان" وهو معدن، ثم ترد معدن الأحسن وهو من أول عمل المدينة، ثم تجوزه إلى "العلكومة"، ثم ترد "الدثينة" "الدفينة": قرية على طريق البصرة إلى مكة1, ثم يسلك هذا الطريق المواضع التي ذكرتها عند حديثي على طريق البصرة - مكة.
وكان لأهل اليمامة طرق توصلهم إلى اليمن، منها طريق يؤدي إلى "الخرج"2، ثم إلى "نبعة"، ثم إلى "المجازة"، و"المعدن"، و"الشفق" "الشقق"، ثم "الثور"، ثم "الفلج"، وهو قرية كبيرة بها نخيل ومزارع وعين يقال لها: "الذّبا", يخرج منها سبعة عشر نهرًا، وهي من الأفلاج3. ثم "الصفا"، وبئر الآبار, ونجران، ثم الحمى, وبرانس، ومريع، والمهجرة4. ثم يسلك طريق المهجرة المؤدي إلى صنعاء5.
وذكر "الهمداني" طريقًا يصل نجران باليمامة ثم ينتهي بالبصرة, ومعنى ذلك طريق يوصل البصرة باليمن، فنجران من أهم عقد الطرق المؤدية إلى اليمن. ويبدأ الطريق بنجران، ومنها إلى "كوكب"، ثم إلى "الحفر"، ثم "العقيق" وهو معدن يعق عن الذهب، وهو لجرم وكندة، ثم "المقترب"، ثم "الفلج"، ثم "الخرج"، ثم "الخضرمة"، ثم "الفقى" وهو طرف اليمامة، ثم البصرة6.
وذكر "الهمداني" أن من يريد التوجه من "الفلج" إلى اليمامة، سلك طريق "العقيمة" أو "مخمسة"، ومن أخذ "الثفن" من الفلج إلى اليمامة أخذ أسافل أودية جعدة، فيأخذ الغادي على أسفل الغيل من الثفن، ثم يقطع "غلغل" و"الثجة" و"النضج"، فإن أحب شرب بدلاميس, ثم نسلة
__________
1 بلاد العرب "361-371".
2 تاج العروس "2/ 29"، "خرج"، بلاد العرب "3، 233".
3 بلاد العرب "221 وما بعدها"، الصفة "159 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 86 وما بعدها".
4 قدامة "193".
5 المسالك "152 وما بعدها"، الخراج "193".
6 الصفة "166".(14/33)
إلى الخرج، وإن أحب شرب بالمرَّاء، ثم برك ثم بريك1.
وإذا أراد أهل البحرين التوجه إلى اليمامة صعدوا الطريق، فيكون عن يمينهم "خرشيم"، وهي هضاب وصحراء مطرحة إلى "الحفرين" وإلى "السلحين"، ثم "الحابسية"، ثم "مُزَلَّقَة"، ثم "الموارد", ثم الفروق الأدنى, ثم الفروق الثاني، ثم الخوار، خوَّار الثلع، ثم الصليب, وعن يمينك الصلب: صلب المِعَى والبرقة: برقة الثور. ثم الصمان، ثم ترجع إلى طريق "زَرْي"، فعن يسارك "الدُّبيب", وعن يمينك "الدحرض", ثم تقطع بطن "قو", ثم السمراء، ثم تأخذ في الدهناء وتأخذ على الشجرة، ثم إلى "الخل" خل الرمل، ثم قَلْت هبل، ثم "النظيم" نظيم الجفنة، ثم شباك العرمة والغرابات، ثم تقطع العرمة و"شيعًا"، ثم تسير في "السهباء"، ثم تقطع جبيلًا يقال له: "أنقد"، ثم الروضة، ثم ترد "الخضرمة" جو الخضارم, وهي أول اليمامة قبل البحرين2.
وكان لأهل نجد جملة طرق يسلكونها في اتجاههم نحو "مكة" أو المدينة أو اليمن, وقد عرف طريق نجد إلى مكة بـ"الجلال" وبـ"مثقب" وبـ"القعقاع"3. وذكر أن "المثقب": طريق العراق من الكوفة إلى "مكة"، وكان فيما مضى طريقًا بين اليمامة والكوفة يسمى "مثقبا"، وذكر أنه طريق العراق إلى مكة. وقد أوجدوا لذلك جملة تعاليل لحل مشكلة التسمية, فقالوا: إنه سمي مثقبًا؛ لمرور رجل به يقال له: مثقب. وقالوا: بل لأن بعض ملوك حمير بعث رجلًا يقال له: مثقب, على جيش كثير إلى الصين, فأخذ ذلك الطريق فسمي به. وذكر بعض آخر, أنه طريق كان بين الشام والكوفة، وكان يسلك في أيام بني أمية4.
وذكر أن "القعقاع": الطريق لا يسلك إلا بمشقة, وهو طريق من اليمامة إلى الكوفة، وقيل: إلى مكة5.
__________
1 الصفة "150".
2 الصفة "138 وما بعدها".
3 تاج العروس "7/ 260"، "جلل".
4 تاج العروس "1/ 166"، "ثقب".
5 تاج العروس "5/ 477"، "قعقع".(14/34)
ويكون طريق نجد إلى المدينة ومكة جزءًا من طريق العراق إلى المدينتين، وقد ذكرت أسماء بعض المواضع التي يسلكها القادمون من الكوفة أو الحيرة ثم من البصرة إلى المدينة أو مكة، وهي تمرّ بعد اجتيازهم حد العراق بنجد. ومن هذه المواضع: "القَرْدة" "الفَردة"، الذي كانت إليه سرية "زيد بن حارثة" للتعرض بقافلة لقريش, تنكبت طريق الشام خوفًا من تحرش المسلمين بها وسلكت طريق العراق في الشتاء، فالتقى بها "زيد بن حارثة" بهذا الموضع فظفر بالعير1.
ومن مواضع طرق نجد "قطن"، وهو جبل بناحية "فيد"، به ماء لبني أسد ابن خزيمة بنجد. وإليه أرسل الرسول "أبا سلمة بن عبد الأسد"، لما بلغه أن "طليحة" و"سلمة" ابن خويلد، قد استعدا لحرب رسول الله. وقد نكب بالسرية عن الطريق وسار بها ليلا ونهارا حتى يعجل بها إلى ملاقاتهما، فنذر بهم القوم وتفرقوا، ثم عاد بعد أن وجد سرحًا ومعه ثلاثة رعاء مماليك2. و"قطن": جبل في غرب "القصيم" من نجد لا زال معروفًا بقرب بلدة "الفوارة"3.
ونجد في اصطلاح بعض العلماء, ما بين "العذيب" إلى "ذات عرق" وإلى اليمامة وإلى اليمن وإلى جبلي طيء، ومن المربد إلى "وجرة", وذات عرق أول تهامة إلى البحر. وذكر أن الأعراب يقولون: إذا خلفت "عجلز" مصعدًا، فقد أنجدت, و"عجلز" فوق "القريتين"، فإذا أنجدت عن ثنايا ذات عرق فقد أتهمت، فإذا عرضت لك الحرار بنجد قيل: ذلك الحجاز. وذكر أن نجدًا: الأريضة التي تقع جنوب العراق والشام، وشمال تهامة واليمن. وذكر أن كل ما وراء الخندق على سواد العراق، فهو نجد, والغور كل ما انحدر سيله مغربيا وما أسفل منها مشرقيا فهو نجد. وتهامة ما بين ذات عرق إلى مرحلتين من وراء مكة، وما وراء ذلك من المغرب فهو غور، وما وراء ذلك من مهب الجنوب فهو السراة إلى تخوم اليمن4.
وأما طرق العربية الغربية، فأهمها الطرق الممتدة من بلاد الشام إلى اليمن، وتتصل بها الطرق الآتية من مصر. وقد كان الجاهليون يقصدون دمشق للاتجار
__________
1 إمتاع الأسماع "1/ 112"، تاج العروس "2/ 450"، "فرد".
2 إمتاع الأسماع "1/ 170"، تاج العروس "9/ 312"، "قطن".
3 العرب "1968"، "ج11 ص977".
4 تاج العروس "2/ 509"، "نجد".(14/35)
بها وللاصطياف، ولزيارة أمراء الغساسنة الذين كانوا قد امتلكوا قصورًا بها، غير أن بعضًا منهم كان يقف عند "بصرى"، يتاجر في أسواقها ثم يعود. ومنهم من كان يتوجه إلى "غزة"؛ للاتجار بها لوجود تجار بها قصدوها من سواحل البحر الأبيض، معهم تجارة ساحل البحر. وقد كان "هاشم" ممن قصد هذه المدينة.
ويبدأ طريق دمشق بـ"الكسوة" ومن "الكسوة" إلى "جاسم"، وهو موضع ورد ذكره في شعر لحسان بن ثابت، إذ قال:
قد عفا جاسم إلى بيت رأس ... فالجوابي فحارث الجولان1
ومن "جاسم" إلى أفيق"، وأفيق من أعمال حوران، وهو عقبة طويلة، وأفيق في أول العقبة ينحدر منها إلى غور الأردن ومنها يشرف على طبرية2, ومن "أفيق" إلى "طبرية". وتعد "سرغ"، في آخر الشام وأول الحجاز، بين "المغيثة" و"تبوك"، وفيها لقي "عمر" أمراء الأجناد3، ثم "تبوك" وهي قرية مهمة يرد خبرها في أخبار غزوات الرسول، إذ عرفت بغزوة "تبوك". وبها صالح رسول الله "يحنة بن رؤبة", صاحب أيلة، وأهل جرباء وأذرح4.
ومن "تبوك" يتجه الطريق إلى "المحدثة" ثم إلى "الأقرع"، ثم إلى "الجنينة"5، ثم إلى "الحجر"، وهي في نظر أهل الأخبار ديار ثمود وبلادهم، وقد أشير إليها في القرآن: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} 6، وقد مر بها رسول الله في غزوته لتبوك، ونهى عن دخول مساكنها وعن الشرب من مائها، واستحث راحلته، وأسرع حتى خلفها7. وذكر "أن بيوتها منحوتة في الجبال مثل المغاور، كل جبل منقطع عن الآخر، يطاف حولها، وقد نقر فيها بيوت
__________
1 المسالك "78"، تاج العروس "8/ 228"، "جسم".
2 تاج العروس "7/ 54"، "فوق".
3 تاج العروس "6/ 16"، "سرغ".
4 الطبري "3/ 100 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 113"، "باك"، ابن سيد الناس "2/ 215 وما بعدها".
5 تاج العروس "9/ 166"، "جنن".
6 الحجر، الرقم 15، الآية 80.
7 تفسير الطبري "14/ 34", ابن سيد الناس "2/ 218".(14/36)
تقل وتكثر على قدر الجبال التي تنقر فيها. وهي بيوت في غاية الحسن, فيها بيوت وطبقات محكمة الصنعة, وفي وسطها البئر التي كانت تردها الناقة1. وهي قرية لا تزال معروفة مسكونة"2.
ثم إلى "وادي القرى"، فتمر القوافل في قرى عديدة، ثم إلى "الرحيبة"، ثم إلى "ذي المروة"، وهو قرية بين "ذي خشب" و"وادي القرى"3، ثم إلى "المر"، ثم إلى "السويداء"4، ثم إلى "ذي خشب"5، وهو وادٍ على مسيرة ليلة من المدينة، ذكر في الأحاديث والمغازي ويقال له: "وادي خشب"، فيه عيون6، ثم إلى المدينة7.
ولما سار الرسول إلى "تبوك" نزل "ذا خشب"، ثم "ثنية الوداع"، ثم مرَّ بوادي القرى، ثم بالحجر، ثم تبوك8.
وهناك طريق يمتد من "أيلة" إلى "حقل"، ثم "مدين", ثم إلى الأغواء، ثم إلى "الكلابة"، ثم إلى "شغب"، ثم إلى "بدا". وشغب: موضع ذكر في حديث الزهري، أنه كان له مال بشغب وبدا، وهما موضعان كانا في الشام، وبه كان مقام "علي بن عبد الله بن عباس" وأولاده إلى أن وصلت إليهم الخلافة. وبشغب مات الزهري، وهو "أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري"، المدني, مات سنة "124هـ" في أمواله بها. وذكر أنه قبر بأداما، وهي خلف شغب وبدا، وهي أول عمل فلسطين وآخر عمل الحجاز، وبها ضيعة "الزهري" التي كان فيها9.
ومن "بدا" يتجه الطريق إلى "السرحتين"، ثم إلى "البيضاء"، ثم إلى "وادي القرى"، ثم إلى "الرحيبة"، ثم إلى "ذي المروة"، ثم إلى "المر"، ثم إلى "السويداء"، ثم إلى "ذي خشب"، ثم إلى المدينة،
__________
1 تاج العروس "3/ 124 وما بعدها"، "حجر".
2 بلاد العرب "397 وما بعدها".
3 بلاد العرب "395، 396، 413، 414".
4 تاج العروس "2/ 385"، "سود".
5 بلاد العرب "406، 414".
6 تاج العروس "1/ 235"، "خشب".
7 المسالك "150"، قدامة "191".
8 الطبري "2/ 100 وما بعدها"، إمتاع الأسماع "1/ 445 وما بعدها".
9 تاج العروس "1/ 322"، "شغب"، "10/ 33"، "بدى".(14/37)
ومنها إلى مكة. وقد كان حجاج مصر يسلكون هذا الطريق, إذا جاءوا من البر1.
وهناك طريق ساحلي سلكه حجاج مصر أيضًا، يبدأ بشرف البعل، ثم إلى "الصلا"، ثم إلى "النبك"2، ثم إلى "ظبة"، ثم إلى "عونيد"، ثم إلى "الوجه"، ثم إلى "منخوس"، ثم إلى "الجرة"، ثم إلى "الأحساء"، ثم إلى "ينبع"، ثم إلى "مسئولان"، ثم إلى "الجار"، ثم إلى المدينة3. و"الجار" على ساحل البحر، وهو فرضة المدينة، ترفأ إليه السفن من أرض الحبشة ومصر وعدن، وبحذائه جزيرة في البحر, ميل في ميل, يسكنها التجار4. و"ينبع" حصن له عيون فوَّارة، ذكر بعضهم أنها مائة وسبعون عينًا، ونخيل وزروع، بطريق حاج مصر عن يمين الجائي من المدينة إلى "وادي الصفراء"، وقد جفت عيونه فيما بعد، كما ذكر من زارها من الباحثين5.
وأما طريق المدينة المؤدي إلى مكة، فيمر بـ"الشجرة"، وهو ميقات أهل المدينة، ثم إلى "ملل"، ثم إلى "السيالة". وقد ذكر أنها أول مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة، وأنها بين "ملل" والروحاء6. ثم إلى "الرويثة", ثم إلى "السقيا", فيها نهر جارٍ بين المدينة ووادي الصفراء7, ثم إلى "الأبواء"، وهي قرية من أعمال "الفرع" بين المدينة والجحفة8، ثم إلى "الجحفة" وهي من تهامة، وفيها آبار، وهي ميقات أهل الشام، وكانت تسمى "مهيعة"، فنزل بها "بنو عبيل" وهم إخوة عاد, وكان أخرجهم العماليق من يثرب, فجاءهم سيل جحاف فاجتحفهم فسميت الجحفة. وهكذا فسر
__________
1 المسالك "149 وما بعدها"، قدامة "190".
2 "موضع بين ضجوة ومضيق جبة من منازل حاج مصر"، تاج العروس "7/ 186"، "بنك".
3 قدامة "191".
4 تاج العروس "3/ 112"، "جار".
5 تاج العروس "5/ 517"، "نبع".
6 تاج العروس "7/ 385 وما بعدها"، "ملل".
7 تاج العروس "10/ 180"، "سقى".
8 تاج العروس "10/ 6"، "أبى".(14/38)
"ابن الكلبي" سبب تسمية هذه القرية القريبة من البحر بهذه التسمية1.
والأبواء من المنازل التي كان يطرقها المسافرون إلى بلاد الشام، فهي على طريق التجارة القديم. وللرسول غزوة عُرفت بغزوة الأبواء وبغزوة ودان، وصل فيها إلى موضع "ودان"، وكان يريد اعتراض عير لقريش مرت بهذا المكان، وهي أول غزوة غزاها الرسول. وقد وادع فيها "بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة" على ألا يكثروا عليه ولا يعينوا أحدًا عليه2, مما يدل على أن هذا الموضع كان لبني ضمرة في ذلك العهد. وورد أنه كان لبني ضمرة ولغفار وكنانة3.
وودان قرب الأبواء والجحفة من نواحي "الفرع"، بينها وبين "هرشى" ستة أميال, وبينها وبين "الأبواء" نحو من ثمانية أميال، وكانت قرية سكنها "الصعب بن جثامة" الليثي من أصحاب الرسول، فنسب إليها4.
و"هَرْشى" ثنية قرب "الجحفة" في طريق مكة يرى منها البحر، ولها طريقان فكل من سلكهما كان مصيبًا، وهي على طريق الشام وطريق المدينة إلى مكة في أرض مستوية، وأسفل منها "ودَّان" على ميلين مما يلي المغرب. ويتصل بها من الغرب خبت رمل, في وسط هذا الخبت جبل أسود شديد السواد صغير, يقال له: طفيل5.
ومن الجحفة يتجه المسافر إلى "قُديد"6، ثم إلى "عسفان"، ثم إلى بطن مر، ثم إلى مكة7. و"بطن مر": قرية كبيرة، وعلى أربعة أميال منها قبر "ميمونة" زوجة النبي، وعلى مسافة منها مسجد عائشة، ومنها يحرم أهل مكة، وهو حد الحرم8.
والجحفة من منازل طريق تجارة مكة إلى الشام؛ ولذلك صارت هي والمواضع التي تقع على هذا الطريق من الأهداف التي قصدها المسلمون للتحرش بقوافل
__________
1 تاج العروس "6/ 53"، "جحف".
2 إمتاع الأسماع "1/ 53"، الطبري "2/ 403".
3 تاج العروس "2/ 530"، "ودد".
4 تاج العروس "2/ 530"، "ودد".
5 تاج العروس "4/ 367"، "هرش".
6 تاج العروس "2/ 461"، "قدد".
7 المسالك "131".
8 قدامة "187".(14/39)
قريش. ومن نواحي الجحفة "ثنية المرة"، ومنها سار "عبيدة بن الحارث بن المطلب" إلى عير لقريش يحرسها مائتان من المشركين بقيادة "أبي سفيان" أو غيره, وذلك في السنة الأولى من الهجرة، فالتقى بها على ماء يقال له: "أحياء" من بطن "رابغ" على عشرة أميال من الجحفة، وأنت تريد قديدًا عن يسار الطريق1.
و"رابغ": وادٍ عند الجحفة قرب البحر بين "البزواء" و"الجحفة" دون "عزور"، وقرية لا تزال معروفة, بينها وبين "بدر" خمس مراحل؛ الأولى "قاع البزواء"، ثم عقبة وادي السويق، ثم آخر ودان، ثم شقراء، ثم رابغ2. وهي اليوم قرية، مياهها عذبة ذات مزارع ونخيل.
وأرسل الرسول سرية أخرى إلى "الخرَّار" للتعرض لعير قريش التي كانت تسلك الجحفة، فلما وصلت "الخرار" من الجحفة قريبًا من "خم"، وجدت عير قريش قد سبقتها ونجت3. و"خم": غدير دون الجحفة وقيل: بالجحفة4.
وعلى مسيرة يوم من "ينبع"، يقع جبل "رضوى" الذي يبعد سبع مراحل عن المدينة5, ومن نواحي هذا الجبل ناحية "بواط"، وإليها خرج الرسول غازيًا معترضًا عير قريش التي كانت مارة بهذا المكان. وكانت قافلة كبيرة تتألف من ألفين وخمسمائة بعير، يحرسها مائة رجل من قريش، فيها "أمية بن خلف"، وقد أفلتت ونجت، دون أن يقع أي قتال6.
وببطن ينبع موضع يقال له: "ذو العشيرة" "ذات العشيرة"، إليه كانت غزوة "العشيرة" "غزوة ذات العشيرة"، حين بلغ الرسول خبر خروج عير لقريش إلى بلاد الشام، وقد جمعت قريش أموالها في تلك العير، ولكن القافلة نجت، فوصلت سالمة إلى بلاد للشام، وهي التي خرج الرسول في طلبها
__________
1 الطبري "2/ 402"، إمتاع الأسماع "1/ 52".
2 تاج العروس "6/ 10"، "ربغ".
3 الطبري "2/ 403"، إمتاع الأسماع "1/ 53"، تاج العروس "3/ 113"، "خرر".
4 تاج العروس "8/ 283"، "خم".
5 تاج العروس "10/ 151"، "رضو"، عرام "396".
6 الطبري "2/ 405، 407"، إمتاع الأسماع "1/ 54"، تاج العروس "5/ 112"، "باط".(14/40)
لما عادت، وكانت وقعة بدر. فرجع الرسول إلى المدينة، بعد أن صالح "بني مدلج" وحلفاءهم "بني ضمرة"1.
ولما هاجر الرسول من مكة إلى المدينة, سلك به الدليل طريقًا لا تسلكه القوافل، أي: طريقًا لا يسلكه المسافرون عادة إلى المدينة؛ ليتجنب من ملاحقة قريش له. سلك به وبصاحبه "أبي بكر" أسفل مكة، ثم مضى بهما حتى حاذى بهما الساحل، وعارض الطريق أسفل من "عسفان"، ثم سلك بهما إلى أسفل "أمج"، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعدما جاوز "قديدًا"، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك بهما "الخرار"، ثم سلك بهما "ثنية المرة" "ثنية المرأة"، ثم أجاز بهما "مدلجة لفف" "لقف"، ثم استبطن بهما "مدلجة مجاج" "مجاج"، طريقًا يقال له: "المدلجة" بين طريق "عمق" وطريق الروحاء2. ثم سلك مرجحًا من مجاج، ثم بطن "مرجح ذي العضوين" ثم "بطن ذي كشد" "بطن ذات كشد" "ذي كشد"، ثم أخذ بهما على "الجداجد"، ثم على "الأجرد"، ثم سلك بهما "ذا سلم"3 "ذا سمر"4 من بطن أعداء "مدلجة تعهن"، ثم على "العبابيد"، ويقال: "العبايب" ويقال: "الغيثانة"5 "العتبانة"6، ثم أجاز بهما "الفاجة"، ويقال: "القاحة"7, ثم هبط بهما "العرج"، ثم خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بهما ثنية "العاثر"8 "الغابر"9 "الأعيار"10، ويقال "ثنية الغاثر"11، عن يمين
__________
1 الطبري "2/ 408 وما بعدها"، إمتاع الأسماع "1/ 54 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 403"، "عشر"، "ويقال فيه: العشير بغير هاء أيضًا".
2 الطبري "2/ 377"، "لقف"، نهاية الأرب "16/ 238".
3 سيرة ابن هشام "1/ 9"، "حاشية على الروض".
4 المسالك "129 وما بعدها".
5 ابن هشام "1/ 9"، "حاشية على الروض".
6 المسالك "129 وما بعدها".
7 ابن هشام "1/ 9"، "حاشية على الروض"، "المسالك "129".
8 ابن هشام "1/ 10"، "حاشية على الروض".
9 الطبري "2/ 377".
10 المسالك "129".
11 ابن هشام "1/ 10"، "حاشية على الروض".(14/41)
"ركوبة"، ثم هبط "بطن رئم"1 "بطن ريم"2، ثم قدم بهما "قباء"، ثم "يثرب"3.
ولما سمع الرسول بقدوم "أبي سفيان" مقبلًا من الشام في غير لقريش عظيمة, فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم، خرج لملاقاتها في موضع "بدر", وكان بدر طريق ركبان قريش من أخذ منهم طريق الساحل إلى الشام4, فخرج من المدينة على نقب المدينة، فنزل بالبقع, ويقال: بئر أبي عتبة، وهي على ميل من المدينة، ثم اتجه نحو "بيوت السقيا"، فضرب عسكره هناك. ثم أمر أصحابه أن يستقوا من "بئر السقيا"، وصلى عند بيوت السقيا، وسلك من السقيا بطن العقيق حتى نزل تحت شجرة بالبطحاء، ثم سلك "ذا الحليفة"، ثم إلى "أولات الجيش" "ذات الجيش"، ثم إلى "تربان"، ثم إلى "ملل"، ثم إلى "غميس الحمام" من "مريين"، ثم إلى صخيرات اليمام، ثم إلى "السيالة"، ثم إلى "فج الروحاء"، ثم إلى "شنوكة"، وهي الطريق المعتدلة، ثم إلى "عرق الظبيَّة" "الظبية"، ثم إلى "سجسج" وهي بئر الروحاء، حتى إذا كان بالمنصرف ترك طريق مكة بيسار, وسلك ذات اليمين إلى "النازية" يريد "بدرا"، فسلك في ناحية منها، حتى جزع واديًا يقال له: "وحقان" بين "النازية" وبين مضيق الصفراء, ثم إلى المضيق ثم انصب منه إلى "الصفراء" وهي قرية بين جبلين، ثم سلك إلى وادٍ يقال له: "ذو فران"، ثم سلك إلى ثنايا يقال لها "الأصافر"، ثم انحط منها إلى بلد يقال له: "الدبة" "الدية"، وترك "الحنان" بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل، ثم نزل بدرًا5.
__________
1 الطبري "2/ 377"، المسالك "129 وما بعدها".
2 ابن هشام "1/ 10"، "حاشية على الروض".
3 ابن هشام "1/ 10"، "حاشية على الروض"، الطبري "2/ 377"، المسالك "129 وما بعدها"، نهاية الأرب "16/ 338 وما بعدها".
4 الطبري "2/ 422"، "ذكر وقعة بدر الكبرى".
5 ابن هشام "2/ 63 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الطبري "2/ 433 وما بعدها".(14/42)
و"السقيا": موضع به ماء، بين المدينة ووادي الصفراء1، يعرف اليوم بـ"أم البرك"2.
و"شنوكة": جبل جمع على "شنائك" في شعر لكثير؛ لأنه ثلاثة أجبل صغار منفردات من الجبال، يمر منها الطريق إلى بدر والصفراء وإلى النازية ورحقان، ويدع المنصرف إلى يساره3. وتقع بين "المنصرف" وبين الروحاء, ولا تزال معروفة4.
و"المنصرف": موضع يقال له "المسيجد" في الوقت الحاضر، وهو قرية كبيرة5, وتقع على طريق المدينة المتجه إلى "الصفراء" فالساحل والذي يتصل بجدة. وهو غير بعيد عن "النازية", و"النازية": عين ثرة على طريق الآخذ من مكة إلى المدينة قرب الصفراء، وهي إلى المدينة أقرب6.
و"بدر" أسفل وادي الصفراء، وهو إلى المدينة أقرب، يقال: إنه هو منها على ثمانية وعشرين فرسخًا، وبينه وبين "الجار"، وهو على ساحل البحر, ليلة. وبه بئر حفرها رجل من غفار اسمه "بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة", وقيل: بدر بن قريش بن يخلد بن النضر بن كنانة، وقيل: بدر رجل من "بني ضمرة" سكن ذلك الموضع فنسب إليه, ثم غلب اسمه عليه، وقيل: بدر رجل من جهينة كان يملك البئر فسميت به, ولهم تفاسير أخرى من هذا القبيل في تعليل سبب تسمية بدر بدرا7. وبدر قرية كبيرة في الوقت الحاضر أسفل "وادي الصفراء"، يتجه منها طريق إلى "ينبع"، ومن ينبع إلى مكة8.
وكان "أبو سفيان" لما بلغ "الزرقاء" من بلاد الشام وهو منحدر إلى مكة، أخبره أحدهم أن محمدًا كان قد عرض لعيرهم في بدأتهم، وأنه تركه
__________
1 تاج العروس "10/ 180"، "سقى".
2 العرب "1968"، "ج11, ص977".
3 تاج العروس "7/ 151"، "شنوكة"، العرب "1968"، "ج11, ص977".
4 العرب "1968"، "ج11, ص977".
5 العرب "ج11"، "السنة الثانية" "1968"، "ص62".
6 تاج العروس "10/ 365"، "نزا".
7 تاج العروس "3/ 34"، "بدر".
8 العرب "1968"، "ج11, ص978".(14/43)
مقيمًا ينتظر رجعتهم، فخرج خائفًا من الرصد، فلما بلغ الساحل أرسل رسولًا استأجره بعشرين مثقالًا، وأمره أن يخبر قريشًا أن محمدًا قد عرض لعيرهم، فذهب إليهم وأخبرهم، فتجهزوا وأسرعوا لإنقاذ قافلة "أبي سفيان" الذي خاف خوفا شديدا حين دنا من المدينة، فلما أصبح "أبو سفيان" ببدر، ضرب وجه عيره فساحل بها، وترك بدرًا يسارًا وانطلق سريعًا، حتى بلغ مكة. وكان أهل مكة قد خرجوا من مكة على طريق "مر الظهران"، ثم "عسفان", ثم "قديد"، ثم إلى "مناة" من البحر، ثم "الجحفة"، ثم "الأبواء"، ثم "بدر"1، حيث التقوا برسول الله، فوقعت معركة بدر.
وكانت قريش تأخذ الساحل: ساحل البحر, حين تأخذ إلى الشام2. وهو طريقها إلى متجرها هناك، وقد عرف بالمعرقة، وفيه سلكت عير قريش حين كانت وقعة "بدر". ومن هذا قول "عمر" لسلمان: أين تأخذ إذا صدرت؟ أعلى المعرقة أم على المدينة؟ 3. ويقع طريق المعرفة بين "عزور" وبين "رضوى" تختصره العرب إلى الشام وإلى مكة وإلى المدينة, وهو بين الجبلين4.
ومن مواضع هذا الطريق: العيص، وهو عرض من أعراض المدينة، وموضع على مقربة من ساحل البحر5، ومن "ذي المروة"6. وهو موضع على طريق تجارة قريش مع الشام، وبه كان يمر طريق الشام ومصر إلى المدينة ومكة7. وإلى سيف البحر ناحية العيص أرسل الرسول "حمزة"، حين بلغه أن "أبا جهل" قد جاء بعير لقريش من الشام يريد مكة في ثلاثمائة راكب8, فقد كان هذا الموضع من الساحل مسلك قوافل قريش. ولا يزال اسم العيص معروفا, وفي مقابله "الحوراء"، مرفأ سفن مصر في القديم9.
__________
1 إمتاع الأسماع "1/ 66 وما بعدها"، الطبري "2/ 437 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 639".
3 تاج العروس "7/ 11"، "عرق".
4 عرام "396".
5 تاج العروس "4/ 411"، "عيص".
6 الطبري "2/ 639".
7 بلاد العرب "395، 396، 413، 414".
8 إمتاع الأسماع "1/ 51 وما بعدها"، ابن هشام "2/ 56"، "حاشية على الروض".
9 تاج العروس "3/ 161"، "حور".(14/44)
ولم يذكر علماء السير والأخبار أسماء المراحل التي قطعتها قريش عند زحفها على "أُحُد" بتفصيل, وكل ما ذكروه أن قريشًا جاءوا فنزلوا "عينين" بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة1, وذكر أنه الجبل الذي أقام عليه الرماة يوم أحد؛ ولذلك قيل ليوم أحد: يوم عينين2. وكانوا قد قدموا من "ذي طوى" على طريق "الأبواء" حيث همت وهي هناك أن تنبش قبر "آمنة" أم النبي. وسلكوا "العقيق" حتى نزلوا ظاهر المدينة3, ثم التقوا بالمسلمين عند أحد.
ويظهر من هذه الأسماء، أن قريشًا سلكت في سيرها على المدينة الطريق المألوف الذي يمر بالأبواء. و"ذو طوى": موضع قرب مكة عرف بالزاهر، به بئر حفرها "عبد شمس بن عبد مناف"4.
ولما سار الرسول للعمرة، سلك طريق "الفرع" "الفروع" نحو "مر الظهران"، ثم "بطن يأجج"، وحبس الهدي بـ"ذي طوى" ودخل مكة من الثنية5. و"مر الظهران"، وادٍ به عيوان ومياه غير بعيد عن مكة، وبه "مجنة"، ويعرف الآن بوادي فاطمة6.
وخرج الرسول من المدينة, فسلك حرة بني حارثة، ثم "الشوط" بين المدينة وأحد، ثم "الشيخين" حتى نزل الشعب من "أحد" في عدوة الوادي إلى الجبل7. ولما عاد الرسول إلى المدينة، بلغه أن "أبا سفيان" كان بموضع "ملل" يقرر الرجوع إلى المسلمين، وأن رجلًا أخبره أنه رأى "أبا سفيان" بالروحاء، وهو مجمع مع قريش على السير إلى المدينة. وسأل الرسول عن موضع قريش فقيل له: إنه بالسيالة، فخرج من المدينة حتى وصل "حمراء الأسد", فبلغه رجوع قريش إلى مكة وذهاب شرها, فرجع إلى يثرب8.
__________
1 الطبري "2/ 502"، "غزوة أحد".
2 تاج العروس "9/ 291"، "عين".
3 إمتاع الأسماع "1/ 115 وما بعدها".
4 تاج العروس "10/ 229"، "طوى".
5 إمتاع الأسماع "1/ 337 وما بعدها"، الطبري "3/ 23 وما بعدها".
6 بلاد العرب "24، 32".
7 الطبري "2/ 504 وما بعدها".
8 الطبري "2/ 534"، إمتاع الأسماع "1/ 167 وما بعدها".(14/45)
ولما عاد "عمرو بن أمية الضمري" من مكة، وكان قد وجهه الرسول لقتل أبي سفيان، خرج إلى "التنعيم"، ثم أخذ طريق "الصفراء"، ثم "غليل ضجنان"، ثم أخذ المحجة، ثم "النقيع" حتى وصل المدينة1. و"التنعيم" على ثلاثة أمثال أو أربعة من مكة، وهو أقرب أطراف الحل إلى البيت، على يمينه جبل نعيم وعلى يساره جبل ناعم، والوادي اسمه "نعمان"2. و"الصفراء" وادٍ بين مكة والمدينة، وراء بدر مما يلي المدينة3, و"ضجنان" غليل يظهر من وصف خبر رجوع "عمرو بن أمية" إلى المدينة، أنه بعد الصفراء، ذكر أنه موضع أو جبل بين مكة والمدينة، ويظهر أن العلماء كانوا قد اختلفوا في تعيين مكانه4. و"النقيع" هو "نقيع الخصمات" الذي حماه "عمر" لنعم الفيء وخيل المجاهدين, فلا يرعاها غيرها. وورد في الحديث: "أول جمعة جمعت في الإسلام بالمدينة في نقيع الخضمات"5. ويظهر من شعر لمعبد بن أبي معبد الخزاعي، أن ماء "ضجنان" بعد ماء "قديد"6.
ولما سار الرسول إلى "بني لحيان"، خرج من المدينة فسلك على "غراب" جبل بناحية المدينة على طريقة إلى الشام، ثم على "مخيض"، ثم على "البتراء", ثم صفق ذات اليسار، ثم على "يين"، ثم على "صخيرات اليمام"، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة، حتى نزل على "غُران" وهي منازل بني لحيان, و"غران": وادٍ بين "أمج" و"عسفان" إلى بلد يقال له "ساية". ثم سار الرسول حتى نزل "عسفان"، ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كُراع "الغميم"، ثم "كرا"، ثم قفل الرسول راجعًا إلى المدينة7.
__________
1 الطبري "2/ 543 وما بعدها".
2 تاج العروس "8/ 84"، "نعم".
3 تاج العروس "3/ 335 وما بعدها"، "صفر".
4 تاج العروس "9/ 263"، "ضجن".
5 تاج العروس "5/ 530"، "تقع".
6
تهوى على دين أبيها الأتلد ... قد جعلت ماء قديد موعدي
وماء منجنان لها ضحى الغد
الطبري "2/ 560".
7 الطبري "2/ 595".(14/46)
ويظهر من هذا الوصف أن الرسول أراد إعماء خبر غزوته عن "بني لحيان"، فسلك طريق الشام, ثم غير اتجاهه فتوجه نحو "يين" وصخيرات اليمام، فبلغ الجادة، ثم أسرع حتى بلغ "غران"، منازل "بني لحيان" بين "أمج" و"عسفان", فتكون منازل "بني لحيان" في هذه المنطقة.
ولما سار الرسول إلى مكة عام الفتح، سلك طريق "العرج"، و"العرج": جبل بين مكة والمدينة يمضي إلى الشام1، وواد يقع بين أم البرك، الموضع المعروف بالسقيا قديمًا، وبين الجيّ، الوادي الذي يقطعه المسافرون مع طريق السيارات القديم إلى "المسيجد"2, وذكر أنه على أربعة أميال من المدينة3. وكان الرسول قد نزل "السقيا"، وهي "أم البرك" الآن4، وذكر أنه بين المدينة والصفراء، وفي الحديث أنه كان يستعذب من بيوت السقيا5, و"الصفراء" وراء "بدر" مما يلي المدينة6. كما مر بثنية العقاب7, وبالأبواء، وبذي الحليفة، وبالجحفة، وبالكديد، وهو موضع على اثنين وأربعين ميلًا من مكة بين "عسفان" و"رابغ"، وقيل: بين عسفان وقديد بينه وبين مكة ثلاث مراحل، أو بين ثنية غزال وأمج8, وبـ"قديد"9، وبمر الظهران10.
ولما حج الرسول حجة الوداع، سار من المدينة فصلى الظهر بـ"ذي الحليفة"، ثم استوى بالبيداء، ومر إلى "القاحة"، وهو موضع على ثلاث مراحل من
__________
1 المسالك "172".
2 بلاد العرب "29، 338".
3 تاج العروس "2/ 72"، "عرج".
4 بلاد العرب "29، 330، 396".
5 تاج العروس "10/ 180"، "سقى".
6 تاج العروس "3/ 335"، "صفر".
7 الطبري "3/ 52".
8 تاج العروس "2/ 483"، "كد".
9 تاج العروس "2/ 461"، "قد".
10 إمتاع الأسماع "1/ 357 وما بعدها"، الطبري "3/ 42 وما بعدها"، "ذكر الخبر عن فتح مكة".(14/47)
المدينة وعلى ميل من "السقيا"، وهو بين "الجحفة" و"قديد"1. ثم سار إلى "ملل" "يلملم"2، وهو موضع به آبار على مسافة اثني عشر ميلًا من "الشجرة"3، أو سبعة عشر ميلًا من "المدينة"، وقيل: عشرين ميلًا4، ثم شرف السيالة وهو موضع بين "ملل" و"الروحاء" في طريق مكة5، ثم "عرق الظبية" بين "الروحاء" و"السيالة"، وهو دون "الروحاء"، ثم نزل "الروحاء"، ثم راح من "الروحاء" فصلى العصر بالمنصرف6. و"المنصرف" على أربعة بُرُد من "بدر" مما يلي "مكة"7، وصلى المغرب بالمُتعشى وتعشى به، وصلى الصبح بالأثاية. و"أثاية" بطريق "الجحفة" إلى مكة، فيه مسجد نبوي، قيل: بينه وبين المدينة خمسة وعشرون فرسخًا، أو بئر دون العرج8, وأصبح بالعرج يوم الثلاثاء9.
ونزل "السقيا" يوم الأربعاء، وأصبح بالأبواء، ثم راح إلى "الجحفة"، ثم راح منها إلى "قديد، ثم "عسفان"، ثم "الغميم", ثم "مر الظهران"، ثم نزل موضع "سرف". ولما انتهى إلى "الثنيتين" بات بينهما، بين "كداء" و"كدى"، ودخل مكة من "كداء"10.
وأما الطريق من مكة إلى الطائف، فمن مكة إلى بئر ابن المرتفع، ثم إلى قرن المنازل وهي ميقات أهل اليمن والطائف، ثم إلى الطائف. ومن أراد من مكة إلى الطائف على طريق العقبة, يأتي عرفات، ثم بطن نعمان، ثم يصعد عقبة حراء، ثم يشرف على الطائف ويهبط ويصعد عقبة خفيفة، تسمى "تنعم
__________
1 تاج العروس "2/ 210"، "قاح"، إمتاع الأسماع "1/ 512"، "حاشية رقم 3".
2 "يلملم" هكذا في إمتاع الأسماع "1/ 513"، وهو خطأ؛ فـ"يلملم": ميقات أهل اليمن، والصواب: "ملل".
3 المسالك "130، 187".
4 تاج العروس "8/ 120"، "ملل".
5 تاج العروس "7/ 385 وما بعدها"، "سال"، "6/ 152"، "شرف".
6 إمتاع الأسماع "1/ 513".
7 تاج العروس "6/ 165"، "صرف".
8 تاج العروس "10/ 10"، "أثى".
9 إمتاع الأسماع "1/ 513".
10إمتاع الأسماع "1/ 516 وما بعدها".(14/48)
الطائف"، ثم يدخل الطائف1.
وبين مكة والطائف موضع يقال له: "بطن نخلة" "نخلة"2، إليه أرسل الرسول "عبد الله بن جحش" على رأس سرية؛ ليرصد بها عير قريش. فسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له "بحران", سلك طريقه نحو "نخلة" حتى بلغها، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارةً من تجارة قريش وخمرًا، فاستولت على العير وأخذت أسيرين ممن كان يحرس العير، ورجعت إلى المدينة. وذكر أن "عبد الله بن جحش" كان يحمل كتابًا من الرسول يعين له الهدف، أمره ألا يفتحه إلا بعد أن يسير ليلتين، فلما سار وصار ببطن "ملل" أو عند "بئر ابن ضميرة" فتح الكتاب، فإذا فيه أن يذهب إلى "بطن نخلة" ليتحسس أخبار قريش3.
وقد سلك أهل مكة في ذهابهم إلى اليمن وفي إيابهم منها جملة طرق، منها ما تمر بالساحل، ومنها ما تمر شرقًا عنه. ومن هذه الطرق: طريق يبدأ بمكة، ثم إلى "قرن المنازل", قرية كبيرة, وهو ميقات أهل اليمن والطائف، واسم وادٍ4. ثم إلى "الفتق"5، وهو قرية، ثم إلى "صفن" "صفر" "صقر"، ثم إلى "تربة"، ثم إلى "كرى" "كرا" "كدا" "كدى"، ثم إلى "رنية"، ثم إلى "تبالة"، ويرد اسمها في تأريخ "الحجاج"، فقد استعمل عبد الملك "الحجاج" عليها، فلما أتاها استحقرها ولم يدخلها، فقيل: "أهون من تبالة على الحجاج"6. ثم إلى "بيشة بعطان"، ثم إلى "جسداء"، ثم إلى "بنات حرب" "بنات حرم"، ثم إلى "يبمبم"، وهو منزل في صحراء فيه بئر واحدة عذبة، وليس به أهل، وحوله أعراب من خثعم، وبينه وبين
__________
1 المسالك "134"، قدامة "187 وما بعدها".
2 وقد ذكر في شعر لامرئ القيس:
فريقان منهم سالك بطن نخلة ... وآخر منهم جازع نجد كبكب
تاج العروس "8/ 131"، "نخل".
3 الطبري "2/ 410 وما بعدها"، ابن هشام "2/ 59"، "حاشية على الروض"، إمتاع الأسماع "1/ 55 وما بعدها".
4 تاج العروس "9/ 306"، "قرن"، صبح الأعشى "5/ 43".
5 تاج العروس "7/ 41"، "فتق".
6 تاج العروس "7/ 239"، "تبل".(14/49)
"جرش" نحو أربعة عشر ميلًا، ومنه إلى "كتنة" "كثبة"، ثم إلى "الثجة"، ثم "سروم راح" "شروم راح"، ثم إلى "المهجرة"، وفيما بين "سروم راح" والمهجرة طلحة الملك، شجرة عظيمة تشبه الغرب غير أنها أعظم منه، وهي الحد ما بين عمل مكة وعمل اليمن1, وكان النبي حجز بها بين اليمن ومكة2.
ومن "المهجرة" يتجه الطريق إلى "عرقة", وهو أول عمل اليمن، ثم إلى "صعدة"، وهي مدينة يدبغ فيها الأدم، واشتهرت بالنعل3, ولصعدة مخاليف، وقرى كثيرة. وقد ذكر "قدامة" أن أكثر تجار "صعدة" من أهل البصرة، وطريق منها للبصريين يرجع إلى "ركبة" "الركيبة", مما يدل على أن التجارة كانت متينة بين أهل اليمن وبين أهل البصرة في الإسلام. ومن يدري، فلعل هذه التجارة تعود إلى ما قبل تأسيس البصرة، أي: إلى ما قبل الإسلام.
ومن صعدة، يتجه الطريق إلى "الأعمشية"، ومن الأعمشية إلى خيوان، قرية جبلية الماء من السماء، وفيها كروم، ومن خيوان إلى "أثافت"، وهي قرية عظيمة وفيها زروع وكروم، وماء الشرب من بركة4. ثم إلى صنعاء5.
والطريق المذكور، هو الطريق الذي عليه الأميال، وهو طريق العوامل والعمال6. فهو الطريق المسلوك الذي يمر به البريد.
وذكر العلماء أن أهل "صنعاء" كانوا إذا أرادوا مكة قصدوا "الرحابة"، ثم إلى "رافدة"، ثم إلى "خيوان"، ثم إلى "صعدة"، ثم إلى "النضج"، ثم "القصبة"، ثم "الثجة", ثم كثبة "كتنة"، ثم بنات حرم "بنات حرب", ثم جسداء، ثم بيشة، ثم تبالة، ثم رنية، ثم الزعراء، ثم صفر، ثم الفتق، ثم بستان ابن عامر، ثم مكة7.
__________
1 المسالك "134 وما بعدها".
2 قدامة "189".
3 المسالك "135"، تاج العروس "2/ 398".
4 المسالك "136"، قدامة "189"، صبح الأعشى "5/ 43 وما بعدها".
5 المسالك "136".
6 قدامة "190".
7 قدامة "192"، الصفة "186".(14/50)
و"تربة" بناحية "العبلاء"، على أربع ليالٍ من "مكة" طريق صنعاء ونجران, وإليها أرسل الرسول "عمر بن الخطاب" على رأس سرية في شعبان سنة سبع, وأصحابها من "عجز هوازن"1.
وذكر "الهمداني" محجة "صنعاء" إلى مكة على هذا النحو: ريدة، ومنها إلى "أثافت"، ثم خيوان، ثم العمشية، ثم صعدة، ثم إلى "العرقة"، في المحجة اليسرى القديمة، ثم بقعة في المحجة اليمنى المحدثة، ثم إلى مهجرة، ثم إلى أرينب، ثم سروم الفيض، ثم إلى الثجة، ثم إلى كتنة، ثم إلى الهجيرة، ثم إلى يَبَمبم، ثم إلى بنات حرب، ثم إلى الجسداء, ثم إلى بيشة بعطان، ثم تبالة، ومنها إلى كرى، ثم تربة، ثم إلى الصفن، ثم الفتق، ثم إلى رأس المناقب، ثم قرن المنازل، ثم رمة، ثم الزيمة، ثم مكة2.
وذكر "الهمداني" أن هنالك طريقًا يمر بتهامة، هو محجة صنعاء إلى مكة, فقال: "من صنعاء صليت من البون، ثم المربد، ثم أسفل العرقة وأخرف، ثم الصرجة، ثم رأس الشقيقة، ثم حرض، ثم الخصوف من بلد حكم, ثم الجوينية من قنونا وتسمى القناة، ثم دوقة وهي للعبديين من بقايا جرهم، ثم إلى السرين، ثم المعجر، ثم الخيال، ثم إلى يلملم, ثم ملكان, ثم مكة. هذه طريق الساحل". "والمحجة القديمة ترتفع إلى حلي العليا وتسمى حَلْية، وإليها ينسب أسود حلية ... ثم إلى عشم، ثم على الليث ومركوب إلى يلملم"3.
وأما محجة "عدن"، فمن عدن إلى المخنق، ومن المخنق الحُجار، ومن الحجار المسيل، ومن المسيل عبرة، ومن عبرة إلى كهالة بئر ذي يزن، ومن كهالة الماجلية، ثم المقعدية، ثم إلى زبيد، ثم إلى المعقر، ثم الكدراء، ثم المهجم، وبالمهجم تفضي محجة صنعاء إلى وادي سهام، ثم بلحة من وادي مور، ثم الحسارة، ثم العباية، ثم الشرجة، ثم العُرش، ثم عثر4.
وذكر "ابن خرداذبة" طريقا ساحليا ربط "عمان" بمكة، وهو الطريق الذي سلك في الإسلام. وقد كان جاهليًّا ولا شك؛ لأن الجاهليين والروم وغيرهم كانوا يساحلون العربية الغربية والجنوبية والشرقية، ويهبطون بعض المواضع التي
__________
1 إمتاع الأسماع "1/ 333"، تاج العروس "1/ 159"، "ترب".
2 الصفة "186 وما بعدها".
3 الصفة "188".
4 الصفة "188".(14/51)
يذكرها المسلمون كمراحل لهذا الطريق. ويبدأ الطريق بعمان، ثم يمر إلى "فرق"، ثم إلى "عوكلان"، ثم إلى ساحل "هباة" "هماة"، ثم إلى "الشحر"، وهي بلاد "الكندر"1، ثم إلى مخلاف "كندة"، ثم إلى مخلاف "عبد الله بن مذحج"، ثم إلى مخلاف "لحج"2، ثم إلى "عدن أبين"، ثم إلى "مغاص اللؤلؤ"، ثم إلى "مخلاف بني مجيد"، ثم إلى "المنجلة"، ثم إلى مخلاف الركب، ثم إلى المندب، ثم إلى مخلاف زبيد، ثم إلى غلافقة، ثم إلى مخلاف عك، ثم إلى الحردة، ثم إلى مخلاف حكم، ثم إلى عثر، ثم إلى مرسى ضنكان، ثم إلى مرسى حلي، ثم إلى السرين، ثم إلى أغيار، ثم إلى الهرجاب، ثم إلى الشعيبة، ثم إلى منزل لم يذكر "ابن خرداذبة" اسمه، ثم إلى "جدة" وهي إسلامية لم تكن في الجاهلية، وإنما ذكرت هنا؛ لأن هذا الطريق كان يسلك في الإسلام، ومن جدة إلى مكة3.
ويوجد طريق بري بين مكة وحضرموت يمر بـ"نجران" و"الضحيان" و"تثليث"، وهو طريق مختصر يكون الجادة إلى حضرموت4.
وذكر "الهمداني" أن محجة حضرموت من العبر إلى الجوف، ثم صعدة، وتنضم معهم في هذه الطريق أهل مأرب، وبيحان، والمسّروين، ومرخة، وهذه محجة حضرموت العليا. وأما محجتها السفلى، فمن العبر في شئز صيهد إلى نجران، ثم من نجران حبونن، ثم الملحات، ثم لوزة، ثم عبالم, ثم مريع، ثم الهجيرة، ثم تثليث، ثم جاش، ثم المصامة، ثم مجمعة ترج، والتقت بمحجة صنعاء بتبالة5.
__________
1 قال الشاعر:
اذهب إلى الشحر ودع عمانا ... ألا تجد تمرًا تجد لبانا
المسالك "147 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 293"، "شجر".
2 "ولَحْج -بفتح فسكون-: بعدن أبين, سُمي بلحج بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميع بن حمير بن سبأ"، تاج العروس "2/ 94".
3 المسالك "147 وما بعدها"، قدامة "192 وما بعدها"، صبح الأعشى "5/ 57".
4 تاج العروس "10/ 217"، "ضحا".
5 الصفة "188 وما بعدها".(14/52)
الفصل الرابع بعد المئة: الأسواق
مدخل
...
الفصل الرابع بعد المائة: الأسواق
والسوق: المحل الذي يتسوق منه, وهي إما ثابتة مع أيام السنة، يبيع فيها الباعة ويقصدها المشترون للشراء، وإما موسمية، تعقد في مواسم معينة، فإذا انتهى الموسم رُفِعَتْ. ويقال للسوق: القسيمة كذلك1.
وتكون الأسواق الثابتة في مواضع السكن، كالقرى والمدن والمستوطنات، أي: بين "الحضر"، حيث القرار والاستقرار والإقامة، فيجلس الناس في السوق يبيعون ما عندهم من سلع يبسطونها على الأرض، أو على "الدكة" المبنية للجلوس عليها، ولعرض البضاعة فوقها، أو على مائدة أو ما شابه ذلك، وهم من صغار الباعة ممن لا تكون عندهم سلع كثيرة. أما الباعة الكبار فيجلسون في "حوانيت"، وهي "الدكاكين"، يبيعون فيها سلعهم التي توضع فيها، ولها أبواب، فإذا انتهوا من البيع، أغلقوها ليعودوا إليها في اليوم الثاني. ويقال للحانوت: "المبيعة" كذلك.
ولم يكن كل الباعة يملكون حوانيتهم، أو ما يعرضونه من سلع للبيع. فبينهم
__________
1 "والقسيمة، وهي السوق أيضا"، القاموس "4/ 165"، والقسيمة كسفينة, وبه يفسر قول عنترة:
وكأن فأرة تاجر بقسيمة ... سبقت عوارضها إليك من الفم
وعلى قول ابن الأعرابي أصله القسمة, فأشبع الشاعر ضرورة، وهي السوق"، تاج العروس "9/ 27"، "قسم".(14/53)
من كان يشتغل لغيره، كأن يكون مملوكًا أقامه سيده في "مبيعته"، ليبيع عنه، وليأتي بثمن ما باعه إليه. ومنهم من كان أجيرًا اتفق مع صاحب الحانوت ومالكه على أن يشتغل عنده في مقابل أجر يقدمه إليه، فهو لا ينال من الدكان إلا أجر عمله.
والبيع في العربية من الأضداد، يقال: باع فلان إذا اشترى، وباع من غيره. والبائع هو كل من البائع والمشتري، والبياعة: السلعة، والتبايع: المبايعة، والبيعة: الصفقة على إيجاب البيع وعلى المبايعة، والمبيعة: الدكان، أي: موضع البيع1.
وقد تخصص بعض الجاهليين في عمله، فمنهم من كان حدادًا، حرفته معالجة الحديد، ومنهم من كان نجارًا، ومنهم من كان بزَّازًا، ومنهم من كان عطارًا، ومنهم من كان "جزارًا" حرفته "الجزارة". وقد يجتمع صنف واحد من الباعة في مكان واحد، يكوِّنون سوقًا خاصة بهم، فتسمى سوقهم باسم ذلك الصنف.
وهناك مصطلحات تطلق على السوق من حيث الرواج والكساد. فإذا نشطت السوق وراج عمل أصحابها قيل: نفقت السوق2، وإذا كسدت قيل: انحمقت3.
و"الصفقة": البيعة, يقال: صفقة رابحة وصفقة خاسرة، أي: بيعة. وإنما قيل للبيعة صفقة؛ لأنهم إذا تبايعوا تصافقوا بالأيدي، ويقال لمن لا يشتري شيئًا إلا ربح فيه: إنه لمبارك الصفقة, والصفقة تكون للبائع والمشتري, والصفق: التبايع. وفي حديث "ابن مسعود": "صفقتان في صفقة ربا"، أراد بيعتان في بيعة، وهو على وجهين، أحدهما: أن يقول البائع للمشتري: بعتك عبدي هذا بمائة درهم على أن تشتري مني هذا الثوب بعشرة دراهم، والوجه الثاني: أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرين درهمًا على أن تبيعني سلعة بعينها بكذا وكذا درهمًا4.
و"الصفاق": الكثير الأسفار والتصرف في التجارات5.
__________
1 تاج العروس "5/ 284 وما بعدها"، "بيع".
2 القاموس "3/ 286"، تاج العروس "7/ 79".
3 القاموس "3/ 224"، تاج العروس "6/ 324".
4 تاج العروس "6/ 409"، "صفق".
5 تاج العروس "6/ 409"، "صفق".(14/54)
وقد يشهد الأسواق للتجارة قوم لا رأس مال عندهم ولا نقد لديهم، فإذا اشترى التجار شيئًا دخلوا معهم فيه, ويقال لهؤلاء: "الصعافقة"1.
وقد ترد التجارة من الخارج لبيعها في السوق, ويقال للذين يجلبون الإبل والغنم للبيع: الأجلاب والجلب, وذكر أن الجلب: ما يجلب من إبل وغنم وخيل ومتاع وسبي. وفي المثل: النفاض يقطر الجلب، أي: إذا نفض القوم، بمعنى: نفدت أزوادهم, قطروا إبلهم للبيع، كالجليبة و"الجلوبة"2. ويقال لموضع بيع النعم: "المربد"3.
وتمتار القبائل ميرتها من أسواق الحضر، والميرة: الطعام يمتاره الإنسان، وجلب الطعام. فكان رجالها يقصدون الأسواق في المواسم وعند الحاجة لشراء ما فيها من طعام يحتاجون إليه، ومن حاجيات أخرى يحتاجون إليها، ثم يعودون إلى منازلهم. و"الميار": جالب الميرة, ويقال للرفقة التي تنهض من البادية إلى القرى لتمتار: "ميارة"4.
و"السواقط": الذين يردون اليمامة لامتيار التمر، و"السقاط": ما يحملونه من التمر5.
ويقال لكل سوق يجلب إليها غير ما يؤكل من حر الطيب والمتاع غير الميرة: "ليمة", والميرة لما يؤكل. وذكر أن اللطيمة سوق فيها أوعية من العطر ونحوه، وربما قيل لسوق العطارين: لطيمة6.
ويقال للإبل التي تخرج ليجاء عليها بالطعام "ركابًا", حين تخرج وبعدما تجيء, وتسمى عيرًا على هاتين المنزلتين. والتي يسافر عليها إلى مكة أيضا ركاب تحمل عليها المحامل والتي يكثرون ويحملون عليها متاع التجار وطعامهم كلها ركاب، ولا تسمى عيرًا، وإن كان عليها طعام إذا كانت مؤاجرة بكرى, وليس العير التي تأتي أهلها بالطعام ولكنها ركاب. ويقال: زيت ركابي؛ لأنه
__________
1 تاج العروس "6/ 407"، "الصعفوق".
2 تاج العروس "1/ 184"، "جلب".
3 تاج العروس "2/ 349"، "ربد".
4 تاج العروس "3/ 552"، "ماير".
5 تاج العروس "5/ 156"، "شقط".
6 تاج العروس "9/ 60"، "لطم".(14/55)
يحمل من الشام على ظهور الإبل1.
ويباع في الأسواق كل شيء: سلع مختلفة الأصناف والألوان ومنها البشر والحيوان. وقد ذكر العبيد والإماء مع الحيوانات في بعض الأوامر والأنظمة التي أصدرها الملوك في تنظيم البيع والشراء، وفي كيفية جباية حصة الحكومة من البيع والشراء، كما في هذه الجملة المقتبسة من أمر ملكي أصدره الملك "شمر يهرعش ملك سبأ وذي ريدان" في تنظيم التجارة والجباية: "بن إنسم وإبلم وثورم وبعرم وشامت بمنمو ذ يشامتم عبدم فعو أمتم وبعرم"2, ومعناها: "من إنس "بشر" وإبل وثيران وبعر تشتري, ومن يشتري عبدًا أو أمتًا أو بعرًا". فذكر "إنسم" أي: "إنسًا" وذكر بعدهم الإبل والثيران والبعر وغير ذلك. وكيف يميز بين الإنسان والحيوان, والإنسان في ذلك الوقت سلعة مثل سائر السلع تباع وتشترى؛ ليكون عبدا وخادما ومملوكا لمشتريه!.
والبضاعة: القطعة من مال يتجر فيه, وأبضعه البضاعة: أعطاه إياها3. وهي من الألفاظ التجارية التي لا زالت رائجة جارية على كل لسان في الأسواق.
ويقال لثمن الشيء: "القيمة"، وهو ثمن الشيء بالتقويم, وقومت السلعة: ثمَّنتها. ويقول أهل مكة: "استقمتها"، أي: ثمَّنتها، ويقولون: استقمت المتاع: أي: قوَّمته4.
و"العينة": خيار المال, وعين التاجر: إذا باع من رجل سلعته بثمن معلوم إلى أجل معلوم, ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن الذي باعها به. وقد كره العينة أكثر الفقهاء ورُوِيَ فيها النهي5.
وقد كانت بالقرى والمدن أسواق محلية، فكان بمكة والمدينة أسواق بها مبيعات, ويظهر أن "ملأ" القرى كانوا يشرفون عليها ويأخذون ضرائب البيع والشراء منها. وقد ورد أن "عمر" استعمل على سوق المدينة "السائب بن يزيد" وسليمان بن أبي خيثمة وعبد الله بن عتبة بن مسعود6, ولم تشر الرواية إلى الأعمال
__________
1 تاج العروس "1/ 277"، "ركب".
2 REP. EPIGR. 3910
3 تاج العروس "5/ 279"، "بضع".
4 تاج العروس "9/ 36"، "قوم".
5 تاج العروس "9/ 291"، "عين".
6 الإصابة "2/ 12"، "رقم 3077".(14/56)
التي أناطها "عمر" بهؤلاء. ولكني لا أستبعد احتمال كون هذا التعيين استمرارًا لعادة قديمة كانت متبعة بيثرب قبل الإسلام؛ لمراقبة السوق، ولمنع التلاعب به وأخذ الحقوق من التعامل بالسوق.(14/57)
أسواق العرب الموسمية:
وللعرب أسواق يقيمونها شهور السنة وينتقلون من بعضها إلى بعض ويحضرها سائر العرب بما عندهم من حاجة إلى بيع أو شراء1, وتقع هذه الأسواق في مواضع مختلفة متناثرة من جزيرة العرب, فهي إذن أسواق عربية. وهناك أسواق أخرى قصدها العرب للاتجار في مواسم وفي أوقات مختلفة كانت خارج جزيرة العرب؛ في العراق أو في بلاد الشام أو في الحبشة، وقد كان العرب يقصدونها أيضا للاتجار والامتيار.
وقد ذكر "اليعقوبي"، أن أسواق العرب كانت عشر أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم ويجتمع فيها سائر الناس ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم2, ويظهر من قول "اليعقوبي" هذا من أنهم كانوا يأمنون فيها على دمائهم وأموالهم أثناء التقائهم بها. إن من دين أهل الجاهلية، اعتبار هذه الأسواق أماكن حرمًا، يأمن الإنسان فيها دمه وماله ما داموا في ضيافة السوق وحرمته؛ ولهذا كان لكل سوق "قومة" يقومون بأمر السوق وبالمحافظة على الأرواح والأموال فيه؛ فقد "كان في العرب قوم يستحلون المظالم إذ حضروا هذه الأسواق، فسموا "المحلّون"3. وهؤلاء "المحلون" هم مثل "المحلين" الذين كانوا لا يقيمون وزنًا لحرمة "الحرم" و"الحرمات" مثل حرم مكة، ولا يقيمون للأشهر الحرم قدرًا، فكانوا يعتدون فيها وفي كل شهر؛ ولذلك قيل لهم: "المحلون".
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 264"، المرزوقي، الأزمنة والأمكنة "2/ 161 وما بعدها"، المفضليات "208"، البكري، معجم "3/ 959"، النقائض "1/ 139"، العقد الفريد "5/ 208"، البيان والتبيين "3/ 100"، الأغاني "5/ 23"، "11/ 6، 82"، "12/ 16"، "15/ 240"، أسد الغابة "2/ 224"، الأغاني "14/ 145".
2 اليعقوبي "1/ 239"، "النجف 1964م".
3 اليعقوبي "1/ 240"، "النجف 1964م".(14/57)
ومن المحلين قبائل من أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة, وقوم من بني عامر بن صعصعة1.
ولحماية الأسواق والمجتمع من "المحلّين"، الذين أباحوا لأنفسهم استحلال المظالم، ظهر قوم من أهل المروءة والمعروف، تواصوا فيما بينهم على رد السفيه عن سفهه والغاوي عن غيِّه، ونصبوا أنفسهم حماةً على الأسواق، يحملون سلاحهم فيها في الأشهر الحل وفي الأشهر الحرم للذود عن الحرمات, وقد عرف مثل هؤلاء بـ"الذادة المحرمين". وقد تحدث عنهم "اليعقوبي"، فقال: "وكان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق، فسموا المحلين، وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر، فيسمون الذادة المحرمين. وأما المحلون، فكانوا قبائل من أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة وقومًا من بني عامر بن صعصعة. وأما الذادة المحرمون، فكانوا من بني عمرو بن تميم, وبني حنظلة بن زيد مناة، وقوم من هذيل، وقوم من بني شيبان, وقوم من بني كلب بن وبرة, فكانوا هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس، وكان العرب جميعًا بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم"2.
والذود في اللغة: السوق والطرد والدفع, فالذادة هم المدافعون الذابون عن المظلومين، والواقفون أمام الظالمين. وقد ورد "ذادة" بمعنى: يذودون عن الحرم3.
ولم تكن هذه الأسواق محصورة في موضع معين, إنما كانت تعقد في مواضع مختلفة متعددة من جزيرة العرب, وقد خصصت في الغالب بامتيار الأعراب وبشراء ما عندهم من سلع فائضة عليهم. ولا يستبعد بالطبع ورود التجار الأجانب إليها من غير العرب، فقد كان الروم مثلا يتوغلون إلى مسافات بعيدة في هذه الأرضين الشاسعة للبيع والشراء.
وبحكم ورود أناس إلى هذه الأسواق لا يسهل الاجتماع والاتصال بهم في الأوقات الأخرى، فقد قصدها أناس من أماكن بعيدة بحثًا عن طلب أو ترويجًا لرأي،
__________
1 اليعقوبي "1/ 240"، العقد الفريد "2/ 206"، البيان والتبيين "3/ 100".
2 اليعقوبي "1/ 240"، "النجف 1964م".
3 تاج العروس "2/ 374"، "ذود".(14/58)
فقصدها المبشرون للاتصال بالقبائل وللتأثير في بعض أفرادها لإدخالهم في دينهم. وفي كتب السير, أن الرسول نفسه كان يخرج في المواسم؛ لعرض نفسه على القبائل، ولهدايتهم إلى الإسلام.
ومن أشهر أسواق العرب عند ظهور الإسلام: "سوق دومة الجندل"، و"سوق هجر"، و"سوق عمان"، و"سوق المشقر"، و"سوق عدن أبين"، و"سوق صنعاء"، و"سوق حضرموت"، و"سوق ذي المجاز"، و"سوق مجنة"، و"سوق عكاظ"، و"سوق حباشة"، و"سوق صحار"، و"سوق بدر"1، و"سوق بني قينقاع"، و"سوق الشحر"، و"سوق عثر"، وأسواق محلية أخرى تأتيها القبائل والعشائر للامتيار. وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن أسواق العرب الكبيرة كانت في الجاهلية ثلاث عشرة سوقًا، وأولها قيامًا: دومة الجندل2.
وذكر "الهمداني"، أن من أسواق العرب القديمة: عدن، ومكة، والجند، ونجران، وذو المجاز، وعكاظ، وبدر، ومجنة، ومنى، وحجر اليمامة، وهجر البحرين3, وسوق "همل" من الخارف ببلد حاشد4. وهناك أسواق أخرى عديدة وردت أسماؤها عرضًا في روايات أهل الأخبار.
أما "دومة الجندل"، فكانوا ينزلونها أول يوم من شهر ربيع الأول، يجتمعون في أسواقها للبيع والشراء والتبادل. وكان أكيدر صاحب دومة الجندل يرعى الناس ويقوم بأمرهم أول يوم، وتدوم سوقهم إلى نصف الشهر, وكان "أكيدر" يعشر الناس. وربما يتولاها بنو كلب الذين يأتونهم متأخرين، فيتولونها، وتدوم عندئذ إلى آخر الشهر، ويتولون هم حينئذ تعشير الناس5. ويعرف البيع فيها بـ"بيع الحصاة"، وهو نوع من أنواع المقامرة أبطله
__________
1 الطبري "2/ 276"، صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها".
2 المرزوقي، الأزمنة والأمكنة "2/ 161".
3 الصفة "179 وما بعدها".
4 الصفة "113".
5 البلدان "4/ 106 وما بعدها"، "2/ 628 وما بعدها"، "طبعة طهران" "سنة 1965"، اليعقوبي "1/ 226" "طبعة النجف"، ابن خلدون "2، القسم الأول ص773" "بيروت 1956م".(14/59)
الإسلام1. وكانت تقصدها قبائل الشام والحجاز والأقسام الشمالية والغربية من أعالي نجد، وتقيم بالقرب منها كلب وجديلة طيء.
وكان الذي يشرف على هذه السوق سادات العرب من كلب أو من غسان، يتنافسون عليها ويتزايدون، فأي الحيين فاز خضع ودان له الآخر. وكان مكس هذه السوق لمن يتولى الإشراف عليها, وهم جميعًا يأخذون الإذن بالإشراف على السوق من الملك الذي يحكم الموضع في ذلك الوقت2. وكان الإشراف على هذه السوق عند ظهور الإسلام بين "الأكيدر" وبين "قنافة الكلبي" الذي كان ينافسه على الملك3.
وذكر "ابن حبيب" أنه "كان لكلب فيها قنّ كثير في بيوت شعر، فكانوا يكرهون فتياتهم على البغاء ويأخذون كسب أولئك البغايا، ولما كان الإسلام حرَّم هذه العادة بالآية: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 4.
ودومة الجندل في غائط من الأرض خمسة فراسخ، ومن مغربه عين تثج فتسقي ما به من النخل والزرع، ودومة ضاحية بين غائطها واسم حصنها مارد5, وهو حصن قديم، ورد ذكره في الشعر الجاهلي وفي كتب الأدب. وقد اكتسب شهرة كبيرة بين الجاهليين حتى ضربوا به وبـ"الأبلق" حصن السموءل المثل في العز والمنعة، فقالوا: "تمرد مارد وعزّ الأبلق"، قالوا: قصدتهما الزباء فعجزت عن قتالهما، فقالت: "تمرد مارد وعز الأبلق"، وذهب مثلًا لكل عزيز ممتنع6. ويظهر أن حصن "مارد" كان من الحصون الحصينة القديمة التي
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 264 وما بعدها"، المسعودي، التنبيه "214"، الطبري "2/ 578" "مطبعة الاستقامة"، تأريخ الخميس "2/ 1 وما بعدها"، فتوح البلدان "1/ 68 وما بعدها"، جمهرة أنساب العرب "403"، فتوح البلدان "223" "دار النشر للجامعيين, بيروت 1957".
2 البلدان "4/ 106"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 161 وما بعدها"، المحبر "264"، البكري "2/ 564 وما بعدها"، مراصد الاطلاع "2/ 542 وما بعدها"، التأريخ الكبير "1/ 89 وما بعدها"، المسالك والممالك "115", الكامل "2/ 192".
3 الأزمنة والأمكنة "2/ 161".
4 النور، الرقم 24، الآية 33، المحبر "264"، الأزمنة والأمكنة "2/ 161 وما بعدها"، البلدان "4/ 106".
5 تاج العروس "8/ 297"، "دوم".
6 تاج العروس "2/ 500"، "مرد".(14/60)
بنيت بـ"الجندل"، أي: الحجر1.
ولم تكن دومة الجندل سوقًا يقصدها التجار في موسم واحد معين، بل كانت مفرقًا مهمًّا من مفارق الطرق، وموضعًا يقصده أصحاب القوافل الذاهبون من جزيرة العرب إلى العراق وإلى الشام وبالعكس؛ لوجود الماء العذب بها، وما يحتاج المسافر إليه من زاد وماء. وهي اليوم "الجوف" في المملكة العربية السعودية.
ويقصد سوق المشقر الأعراب الساكنون في العربية الشرقية والأعراب القريبون إلى هذا الموضع، ويرد إلى هذه السوق تجار فارس ببياعاتهم يقطعون البحر، فيتاجرون مع من يقصد هذه السوق من القبائل والحضر, وكانت بنو تميم وعبد القيس جيرانها. أما المشرف عليها فرؤساء تميم من بني عبد الله بن زيد رهط المنذر بن ساوى، وكانوا يتلقبون بألقاب الملك, ويسيرون في معاملتهم في هذه السوق سيرة الملوك بدومة الجندل، ويأخذون العشر. وكان من يؤمها من التجار يتخفرون بقريش؛ لأنها لا تؤتي إلا في بلاد مضر, وكان بيعهم فيها الملامسة والهمهمة, وتقوم سوقها أول يوم من جمادى الآخرة إلى آخر الشهر2.
وقد قصد هذه السوق أحياء من العرب من مختلف أنحاء جزيرة العرب، كما وفدت إليها اللطائم. وطالما أعجبت أرض هجر وموضع المشقر منها، بعض هؤلاء الأعراب فيبقون فيها ولا يرتحلون عنها، فمن هناك صارت بهجر طوائف من كل حي من العرب وغيرهم3.
ويحمي المشقر حصن قديم قويم، يقال: ورثه "امرؤ القيس"، وقد أشير إليه في الشعر. قال عنه "المخبل":
__________
1 تاج العروس "7/ 266"، "الجندل".
2 المحبر "ص265"، اليعقوبي "1/ 226"، البكري، معجم "4/ 1193"، البلدان "5/ 134"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 162 وما بعدها"، آثار البلاد وأخبار العباد "ص73"، مراصد الاطلاع "3/ 1275"، البكري "3/ 1232".
3 الأزمنة والأمكنة "2/ 163".(14/61)
فلئن بنيت لي المشقر في ... صعب تقصر دونه الهمم
لتنقبن عني المنيَّة ... إن الله ليس كعلمه علم1
وكان من الحصون التي تحمي قرى ساحل الخليج من الأعراب, به حامية كبيرة، تغلق عليها الأبواب عند دنو الخطر. ويظهر من قصة فتك المكعبر بتميم، أنه كان ذا بابين، وكان قد بُني لحماية المنطقة من الأعراب وللمحافظة على الأمن. وقد كان حصنًا كبيرًا ادخر فيه الفرس الميرة والأرزاق لتوزيعها على الأعراب أيام المجاعة, وبه جنود من الفرس يحكمهم قوَّاد منهم، يقومون بضبط الأمن ومراقبة حركات الأعراب.
وتعقد سوق هجر في شهر ربيع الآخر، وكان الذي يتولى تعشير التجار بها "المنذر بن ساوى" أحد بني عبد الله بن دارم, وهو ملك البحرين2. وهجر اسم لجميع أرض البحرين، وقصبة بلاد البحرين, وقد عرفت بكثرة تمرها، ومنه المثل: كمبضع تمر إلى هجر. وذكر أن "عمر" تذكرها فقال: عجبت لتاجر هجر وراكب البحر، كأنه أراد لكثرة وبائها، فتاجرها وراكب البحر في الخطر سواء3, ويظهر أنها كانت موبوءة.
ثم يرتحلون نحو عمان من البحرين أيضًا، فتقوم سوقهم بها. ثم يرتحلون فينزلون "إرم" وقرى الشحر، فتقوم أسواقهم بها أيامًا. ثم يرتحلون فينزلون سوق عدن4.
أما "سوق عدن"، فكانت تقوم أول يوم من شهر رمضان إلى عشر يمضين منه, وكانت الأبناء هي التي تعشر التجار بها، والأبناء هم أبناء الفرس الذين فتحوا اليمن مع وهرز وقتلوا الحبشة. وكان التجار لا يتخفرون فيها بأحد؛ لأنها أرض مملكة وأمرها محكم5، أما ما قبل حكم الأبناء، فقد كان يعشر هذه
__________
1 وقال عنه "لبيد":
وأفنى بنات الدهر أرباب ناعط ... بمستمع دون السماء ومنظر
وأنزلن بالدومي من رأس حصنه ... وأنزلن بالأسباب رب المشقر
تاج العروس "3/ 311"، "شقر".
2 صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها".
3 تاج العروس "3/ 613 وما بعدها"، "هجر".
4 صبح الأعشى "1/ 411".
5 المحبر "ص266".(14/62)
السوق ملوك حمير، ثم من ملك اليمن من بعدهم. وأشهر ما يباع فيها الطيب, ولم يكن أحد يحسن صنع الطيب من غير العرب، حتى إن تجار البحر ترجع بالطيب المعمول تفخر به في السند والهند، ويرحل به كذلك تجار البر إلى فارس والروم1.
وأما سوق صنعاء، فكانت تقوم في النصف من شهر رمضان إلى آخره, وكانت الأبناء تعشرهم, وكان بيعهم بها الجس؛ جس الأيدي2. وقد اشتهرت ببيع الخرز والأدم والبرود, وكانت تجلب إليها من معافر3, والقطن والكتان والزعفران والأصباغ وأشباهها مما يتفق بها، ويشترون بها ما يريدون من البُرِّ والحديد وحاصلات اليمن وما يأتي إلى اليمن من تجارات البحار4.
وسوق ذي المجاز قريبة من عكاظ، وتقوم أول يوم من ذي الحجة إلى يوم التروية, ثم يصيرون إلى منى5. وقد كانت لهذيل, وكانت مبايعة العرب بها بإلقاء الحجارة، وذلك أنهم كانوا يجتمعون حول السلعة يساومون بها صاحبها، فأيهم أراد شراءها ألقى حجرًا، وربما اتفق في السلعة الرهط، فلا يجدون بدًّا من أن يشتركوا وهم كارهون, وربما ألقوا الحجارة جميعًا فيوكسون صاحب السلعة إذا تظاهروا عليه. وكانت قريش تخرج قاصدة إليها من مكة، فإن أخذت على حزن لم تتخفر من القرب حتى ترجع، وذلك أن مضر عامتهم لا تتعرض لتجار قريش ولا يتهجَّمهم حليف لمضري مع تعظيمهم لقريش ومكانتهم في البيت6.
وأما سوق حُباشة فمن أسواق العرب المشهورة القديمة في الجاهلية, في العربية الغربية, وهي سوق بتهامة، يتاجر فيها أهل الحجاز، وأهل اليمن. وكان
__________
1 الأزمنة والأمكنة "2/ 165"، اليعقوبي "1/ 236".
2 المحبر "ص266".
3 صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها".
4 الأزمنة والأمكنة "5/ 165"، اليعقوبي "1/ 236".
5 المحبر "ص267".
6 الأزمنة والأمكنة "2/ 161".(14/63)
في جملة من حضرها وتاجر فيها الرسول1, وكانت تقام في شهر رجب2. وحباشة سوق أخرى كانت لبني قينقاع3.
وكان الجلندي بن المستكبر، هو الذي يعشر تجار سوق صُحار بعمان، وكذلك تجار سوق "دبا". وكان يقصد سوق "دبا" تجار السند والهند والصين ومواضع أخرى، فهي سوق عظيمة كبيرة, ذات تجارة مع العالم الخارجي. إحدى فرضتي العرب, ويقوم سوقها آخر يوم من رجب, وكان بيعهم فيها المساومة. وتقوم سوق صُحار أول يوم من رجب, تقوم خمس ليالٍ4. ويذكر بعض أهل الأخبار أن البيع في سوق صحار هو بإلقاء الحجارة5.
وقد اشتهرت "صحار" بثيابها، فعرفت باسمها، كما كانت سوقًا للتجارات المستوردة من اليمن والصين والبحرين والهند؛ ولذلك كانت سوقا نشطة، وبها أصحاب حرف وصناعة6.
وأما "بدر"، فكان موضعًا فيه ماء وفيه وقعت معركة بدر الكبرى, وكان موسمًا من مواسم العرب، تجتمع لهم بها سوق كل عام، يجتمعون فيه للتجارة وللتنزه، فكانوا ينحرون ويطعمون ويشربون ويسمعون الغناء7. وذكر أن موضع "بدر" بئر حفرها رجل من غفار, ثم من "بني النار" اسمه بدر, وذكر أنه "بدر بن قريش بن يخلد"8، وبه سمي الموضع بدرًا، وقيل: بدر رجل من "بني ضمرة" سكن المكان فنسب إليه9، وهو بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء، وهو إلى المدينة أقرب، وبينه وبين "الجار"، وهو ساحل
__________
1 بالضم والشين معجمة، البلدان "3/ 206"، شرح القاموس "4/ 293"، وقد كان هذا الموضع هو السبب الباعث لياقوت الحموي على تأليف كتاب معجم البلدان، راجع مقدمة الجزء الأول من معجم البلدان.
2 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 194 وما بعدها".
3 تاج العروس "6/ 263"، البلدان "3/ 206".
4 المحبر "ص265 وما بعدها".
5 اليعقوبي "1/ 236" "النجف"، الأزمنة والأمكنة "2/ 163".
6 راجع دائرة المعارف الإسلامية مادة "صحار".
7 الطبري "2/ 279"، البلدان "2/ 88".
8 الروض الأنف "2/ 61".
9 تاج العروس "3/ 34"، "بدر".(14/64)
البحر ومرفأ ليلة1. ويظهر أنه كان من المواضع المقدسة على شاكلة "سوق عكاظ", به أحجار يتقرب إليها الناس وبه ماء, فصار سوقًا في موسمه المخصص له، يقصده الناس من مكة ومن المواضع القريبة؛ لبيع ما عندهم من ناتجهم فيه، ولشراء ما يحتاجون إليه منه.
وأما سوق بني قينقاع فسوق لليهود, يذهب إليها الناس للاتجار وابتياع ما عند يهود من سلع، ولبيع ما عندهم ليهود.
أما "سوق الشحر" شحر مهرة، فتقوم السوق تحت ظل الجبل الذي عليه قبر هود, ولم تكن بها عشور؛ لأنها ليست بأرض مملكة. وكانت التجار تتخفر فيها ببني محارب بن هرب من مهرة, وكان قيامها للنصف من شعبان, وكان بيعهم بها إلقاء الحجارة2. وكان غالب ما يعرض فيها الأدم والبز وسائر المرافق, ويشترون بها الكندر، والمرّ، والصبر، ويقصدها تجار من البر والبحر3.
وأما سوق الرابية بحضرموت، فلم يكن يصل إليها أحد إلا بخفارة؛ لأنها لم تكن أرض مملكة. وكان من عز فيها بزّ صاحبه, فكانت قريش تتخفر فيها ببني آكل المرار، وسائر الناس يتخفرون بآل مسروق بن وائل من كندة4.
وتقوم سوق نطاة بخيبر, وسوق حجر باليمامة يوم عاشوراء إلى آخر المحرم5.
وأشهر الأسواق المتقدمة وأعرفها "سوق عكاظ"، وهي سوق تجارة وسوق سياسة وسوق أدب. فيها كان يخطب كل خطيب مصقع، وفيها علقت القصائد السبع الشهيرة افتخارًا بفصاحتها على من يحضر الموسم من شعراء القبائل, على ما يذكره بعض أهل الأخبار. وكان يأتيها قريش وهوازن وسليم والأحابيش وعقيل والمصطلق وطوائف من العرب, وكانت تقوم للنصف من ذي القعدة إلى آخر الشهر. ولم تكن فيها عشور ولا خفارة, وكان بيعهم السرار: إذا وجب البيع
__________
1 تاج العروس "3/ 34"، "بدر".
2 المحبر "ص266".
3 الأزمنة والأمكنة "2/ 163"، اليعقوبي "1/ 226"، تاج العروس "6/ 293".
4 المحبر "ص267"، الأزمنة والأمكنة "2/ 165"، اليعقوبي "1/ 236".
5 المحبر "ص268".(14/65)
وعند التاجر فيها إلف ممن يريد الشراء ولا يريده, أشركه في الربح1.
وذكر أن عكاظ: نخل في وادٍ بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليالٍ، وبه كانت تقام سوق العرب. وقيل: عكاظ: ماء ما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال له: الفنق، كانت موسمًا من مواسم الجاهلية, تقوم هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يومًا. وكانت تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون، أي: يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر، يقيمون على ذلك شهرا، يتبايعون ثم يتفرقون. فلما جاء الإسلام هدم ذلك2.
وذهب فريق من أهل الأخبار إلى أن انعقاد سوق عكاظ إنما كان يقوم بهلال شهر ذي القعدة ويستمر لمدة عشرين يومًا3. وهم يخطئون رأي من يذهب إلى أن انعقاد السوق كان في شهر شوَّال، وحجتهم أن انعقاد السوق كان في الأشهر الحرم؛ ليراعي الناس حرمة تلك الأيام فلا يعتدون على من يقصد السوق, وشهر شوال لا يدخل في جملة الأشهر الحرام؛ لذلك فلا يمكن أن يكون انعقاد السوق فيه. ويستدلون بدليل آخر، هو تقاتل بعض العرب في أيام عكاظ، ونظرًا لوقوع ذلك القتال في شهر حرام، أطلقوا على تلك الأيام أيام الفجار، وهي أربعة أيام: يوم شمطة، ويوم العبلاء، ويوم الحريرة، ويوم شرب، وهذه الأسماء هي أسماء أماكن في عكاظ. وما كان العرب ليطلقوا على تلك الأيام أيام الفجار, لو لم تكن قد وقعت في أيام حرم4.
__________
1 الحيوان, للجاحظ "7/ 215"، البكري، معجم "3/ 959 وما بعدها"، المحبر "ص267"، "وكانت تقوم هذه السوق في قول: أول ذي القعدة إلى عشرين منه، ثم يتوجهون إلى مكة فيقفون بعرفات ويقضون مناسك الحج ثم يرجعون إلى أوطانهم. وفي قول آخر: إنهم كانوا يقيمون به جميع شوال إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة, ولعل ذلك لاختلاف العادة في السنين، أو لاختلاف القبائل في الإقامة في هذا الموسم. والذي عليه صاحب قبائل العرب، أنهم كانوا يقيمون في هذه السوق من نصف ذي القعدة إلى آخره ... " بلوغ الأرب "1/ 270".
3 مراصد الاطلاع "2/ 953"، القاموس المحيط "2/ 396"، أخبار مكة، للأزرقي "129"، صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها"، البلدان "3/ 704"، الأزمنة والأمكنة "2/ 165"، اليعقوبي "1/ 236".
4 أخبار مكة "132"، الأغاني "9/ 176"، "10/ 9"، العقد الفريد "3/ 377"، أخبار مكة "1/ 66"، الكامل, لابن الأثير "1/ 358 وما بعدها".(14/66)
وجاء في بعض الأخبار أن أشراف العرب كانوا يتوافون بتلك الأسواق مع التجار من أجل أن الملوك كانوا يرضخون للأشراف، لكل شريف بسهم من الأرباح؛ فكان شريف كل بلد يحضر سوق بلده، إلا عكاظ، فإنهم كانوا يتوافون بها من كل أوب1. فسوق عكاظ إذن سوق حرة، لا عشور فيها ولا خفارة, وهي تختلف بذلك عن بقية الأسواق التي كان يعشرها الملوك؛ إذ كانت في حكم "ملك"، أو في حكم الأمراء وسادات القبائل، على أن يؤدوا سهمًا من الأرباح المتجمعة من العشور والخفارات إلى أشراف العرب، أي: سادات القبائل الذين تقام تلك الأسواق في أرضهم. فأشراف "تميم" وإن أشرفوا على هذه السوق، وحكموا بها، ونظموا أمورها، إلا أنهم لم يكونوا يجبون شيئًا من التجار, ولعل ذلك كان بتأثير قريش عليهم، فقد كان رجال مكة هم المستأثرون الأثيرون من عكاظ, وكانوا يشجعون العرب على حضورها؛ لما لهم فيها من منافع اقتصادية، وقد كان لهم أنفسهم إشراف على نواحٍ من أمور السوق. ويظهر أنه لأجل تشجيع القبائل على حضور "عكاظ" وجمع أكثر من يمكن جمعه من التجار، اتفقوا مع سادات تميم ولا سيما مع "بني دارم", على أن يتركوا السوق حرة؛ ليقصدها أي تاجر، فلا يكلف أحد منهم بكلفة العشور والخفارة، ولا يهان أو يعتدى عليه، وهو بالطبع في شهر حرام؛ ليضمنوا بذلك حضور أكبر عدد ممكن من الناس، وليضمنوا مجيئهم بعد ذلك إلى مكة. وقد كانوا يسعون جهد طاقتهم لجلب العرب إليها من الأماكن البعيدة؛ ليستفيدوا منهم في موسم الحج، وليكوِّنوا معهم صلات طيبة وعلاقات وثيقة تؤمن لهم ولقوافلهم ولتجارتهم حق المرور بأمن وسلام، وتقديم كل ما يحتاج إليه رجال القوافل من ماء وطعام ومأوى وحماية.
ويعرض للبيع وللشراء في سوق عكاظ وفي الأسواق الأخرى كل أنواع البضاعات، من أدم ومن حبوب وأقمشة إلى بضاعة حية ناطقة هي الحيوان أو الإنسان، حيث يعرض الرقيق في السوق, وقد كان شراء "خديجة" زوجة الرسول لـ"زيد بن حارثة" من سوق عكاظ2. وقد اشتهرت سوق عكاظ
__________
1 المرزوقي، الأمكنة "2/ 166".
2 المعارف "ص144".(14/67)
بأديمها حتى عُرِفَ بين تجار الأديم بـ"الأديم العكاظي"1 مع أنه لم يكن من حاصل عكاظ، بل كان يورد إلى السوق من مختلف الأنحاء.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "سوق عكاظ" موسم عظيم من المواسم، وقد اتخذت سوقًا بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة. وهي من أعظم أسواق العرب على الإطلاق في الجاهلية وفي الإسلام, ثم تضاءل شأنها وخربت بعد سنة "129" للهجرة، عندما ظهر الخوارج الحرورية مع المختار بن عوف في مكة، فنهبت هذه السوق، وخاف الناس على أنفسهم من الذهاب إليها، فتُرِكَتْ2.
ولو أخذنا بهذه الرواية، نكون قد جعلنا مبدأ هذه السوق سنة "585" أو "586" للميلاد تقريبًا, أي: إن تأريخ سوق عكاظ لم يكن بعيد عهد عن الإسلام, فهو قبله بنحو ربع قرن. وقد أقيمت وعمر الرسول آنذاك "15" عامًا.
ويذهب الناس بعد سوق عكاظ إلى سوق أخرى هي سوق مجنة، فيقيمون بها عشرة أيام. فإذا رأوا هلال ذي الحجة في نهاية هذه الأيام العشرة قصدوا ذا المجاز، وهي سوق جاهلية، فيقيمون فيها ثمانية أيام يبيعون ويشترون، ثم يخرجون يوم التروية من ذي المجاز إلى عرفة، فيأخذون ذلك اليوم من الماء ما يرويهم من ذي المجاز. وقد سمي هذا اليوم باسم يوم التروية؛ لترويهم من الماء بذي المجاز, حيث كان ينادي بعضهم على البعض الآخر أن يترووا من الماء؛ لأنه لا يوجد ماء بعرفة, كذلك لا يوجد ماء بالمزدلفة يومئذ. ويعتبر يوم التروية نهاية أسواقهم, وكان العرب لا يتبايعون في يوم عرفة ولا في أيام منى. فلما جاء الإسلام أحل لهم ذلك3.
وذكر أن "ذا المجاز" موضع بمنى، وذكر أنه سوق كانت في الجاهلية على فرسخ من عرفة, بناحية كبكب، سمي به لأن إجازة الحج كانت فيه4. و"كبكب": جبل بعرفات خلف ظهر الإمام إذا وقف، وقيل: هو ثنية5.
__________
1 البلدان "3/ 704"، تاج العروس "5/ 254"، "عكظ".
2 الأزرقي، أخبار مكة "129 وما بعدها"، البكري، معجم "3/ 959 وما بعدها"، اللسان "7/ 447".
3 أخبار مكة، للأزرقي "129 وما بعدها".
4 تاج العروس "4/ 21"، "جوز".
5 تاج العروس "1/ 444"، "كب"، "ك/ ب/ ب".(14/68)
ويذكر علماء التفسير أن متجر الناس في الجاهلية كان سوقي عكاظ وذي المجاز، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك. وكانوا لا يتجرون في أيام الحج، فكانوا لا يبيعون أو يبتاعون في الجاهلية بعرفة، ويبتاعون ويبيعون قبل وبعد أيام الحج، إذ كانوا يتأثمون من الاتجار في أيام الحج1.
وقد كان الحج من أكبر مواسم الربح لقريش، تبيع قريش ما عندها للأعراب القادمين إليها من البادية ولأهل القرى البعيدة عن مكة، وتشتري منهم ما يحملونه معهم من مواد وسلع، ثم تقوم قوافلهم بنقل الفائض مما اشترته إلى الأسواق الخارجية في بلاد الشام أو العراق، وتشتري في مقابل ذلك ما يحتاج إليه الحجاز وأعراب البادية من سلع ومواد.
ومكة في مواسم الحج وفي المناسبات الأخرى سوق تجارية مهمة، لا تقل شأنًا في الواقع عن الأسواق الأخرى. وقد تمكن أهلها النشطون في جمع المال من اكتناز الأموال ومن استثمار ما يحصلون عليه من أرباح, حتى صاروا من أغنى الناس في الحجاز.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن حظ المفاخرة والمباهاة والتمدح والذم، لم يكن بأقل من حظ البيع والشراء في سوق عكاظ, فقد كان الشعراء يعرضون أجود وأحدث ما عندهم من شعر على الحاضرين2. وكان كثير من هؤلاء الحاضرين إنما يفدون إليها للوقوف على أحدث ما يقال من صنوف الشعر، وهو صنف رائج أكثر من رواج النثر بالطبع, لما فيه من إيقاع وموسيقى ووزن وسهولة في الحفظ وأثر في النفس؛ لذلك كان للشاعر في هذه السوق مكانة تزيد كثيرًا على مكانة التاجر فيها؛ لما لشعره من أثر في الحياة العامة لمجتمع ذلك اليوم.
ويقال: إن الشاعر الشهير "النابغة الذبياني" كان يحضر سوق عكاظ، فتُضرَب له قبة من أدم، يجلس تحتها، فيفد إليه من الشعراء من يريد أن يفتخر
__________
1 تفسير الطبري "2/ 165 وما بعدها".
2 تاج العروس "5/ 254 وما بعدها"، اللسان "9/ 447"، "وقد كانت قبائل العرب تجتمع فيها كل سنة، يتفاخرون فيها ويحضرها شعراؤهم ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر ثم يتفرقون"، البلدان "6/ 203"، ابن خلدون، المجلد الثاني "ص642".(14/69)
بشعره على غيره؛ لينشد أمامه شعره، فيحكم على شعره برأيه؛ لما لرأيه من أثر في الناس. وكان الشاعران الأعشى وحسان بن ثابت ممن احتكما إليه وكذلك الشاعرة الخنساء1.
وممن حضر عكاظ: الخطيب الجاهلي الشهير "قس بن ساعدة الإيادي" "شيشرون" العرب، وعمرو بن كلثوم التغلبي, الشاعر المعروف2. ويذكر أهل الأخبار أن الرسول رأى "قس بن ساعدة الإيادي" يخطب في هذه السوق, وقد قصد الرسول سوق عكاظ وسوقي مجنة وذي المجاز، يدعو من كان يحضر المواسم إلى دين الله. وقيل: إنه مكث سبع سنين يتبع الناس في مواسمهم في سوق عكاظ، وكان فيمن كلمهم ودعاهم إلى الإسلام "بنو عامر بن صعصعة"3.
وحال الأسواق الأخرى مثل حال سوق عكاظ, من حيث ورود الشعراء إليها لعرض ما عندهم من شعر جديد، والظاهر أن قرب سوق عكاظ من مكة، وورود الحجاج إليها قبل البدء بالحج، ثم ورود اسمها في أخبار الرسول، ولكونها سوق مكة وتجار قريش، ووقوعها في أرض يتكلم أهلها باللغة التي نزل بها الوحي، هذه الأسباب وغيرها هي التي خلدت اسم هذه السوق، وربطت بينها وبين الشعر والنثر، أكثر من الأسواق الأخرى التي كانت بعيدة عن مكة، وبعيدة لذلك عن ذاكرة أهل الأخبار.
هذا, وإن للباحثين في موضع سوق عكاظ آراء متباينة فيه, ولا زالت هذه الآراء متباينة فيه حتى اليوم4.
هذا، وقد كان موضع عكاظ في الأصل مكانًا مقدسًا على ما يظهر من أخبار أهل الأخبار؛ فقد ذكروا أن العرب كانت تطوف بصخور كانت هناك ويحجون إليها، وكانوا يذبحون وينحرون إلى تلك الأصنام والأنصاب, حتى تلطخت تلك
__________
1 الأغاني "9/ 156" "مطبعة التقدم"، شعراء النصرانية "5/ 640".
2 الأغاني "9/ 176".
3 البكري "5/ 259 وما بعدها"، ابن كثير, البداية "3/ 141".
4 لسان العرب "7/ 447"، معجم، البكري "3-4/ 196"، البلدان "3/ 704"، القاموس "2/ 396"، تاج العروس "5/ 255"، مراصد الاطلاع "2/ 953"، شرح ديوان الحماسة "3/ 1514 وما بعدها".(14/70)
الأنصاب والأرض التي تحيط بها بدماء البدن1. ويظهر أن أهمية ذلك المكان الدينية كانت قد قلَّت بالتدريج؛ إذ غطت قدسية مكة عليه. ولما جاء الإسلام وأزال الأنصاب والأصنام, ذهبت كل أهمية لمحجة عكاظ, واختفت أهمية السوق معه حتى ماتت على نحو ما ذكرت.
ويتقدم سادات الناس في مثل هذه المناسبات إلى آلهتهم بإطعام الفقراء وإضافة الناس. وكان "خويلد بن فضيل بن عمرو بن كلاب" المعروف بـ"الصعق"؛ لأن صاعقة نزلت عليه فأحرقته، ممن يطعم بعكاظ, وكان من سادات قومه2. ويترك هذا الكرم أثرًا في نفوس من يحضر السوق، ويكون سببًا للحصول على ثناء ومديح الشعراء لأولئك الكرماء.
والظاهر من روايات أهل الأخبار عن هذه الأسواق، أنها كانت كلها في الأصل مواضع مقدسة، لها أصنام تعبدها القبائل، وتأتي للتقرب إليها في مواسم معينة هي مواسم حجها، فتتحول تلك المواسم إلى أسواق للبيع والشراء. فقد ذكروا أن "بني وبرة" كانوا يفدون إلى "دومة الجندل" للتقرب إلى "ودّ"، وكان سدنته من "بني الفرافصة بن كلب"3، وأن "بني عبد القيس" كانوا يتقربون إلى صنم لهم اسمه "ذو اللب" وكان بالمشقر، وسدنته "بنو عامر"4.
ويجب ألا ننظر إلى هذه الأسواق نظرتنا إلى السوق بالمعنى المفهوم من اللفظة في الوقت الحاضر, فقد كانت أسواق الجاهلية أوسع مجالًا من ذلك بكثير. كانت مجامع لأهل اللسان من شعراء ومن خطباء، ومن مرموقين معروفين ومن مغمورين طلاب شهرة، قصدوا هذه الأسواق للحصول على اسم وسمعة، كما هو شأن سوق عكاظ. كما كانت مجتمعات تعقد فيها العقود والمعاهدات والاتفاقات القبلية والعائلية، ومواضع يعلن فيها عن التبني وعن الخلع، أي: خلع الأفراد،
__________
1 البلدان "6/ 203"، البكري "3/ 959 وما بعدها".
2 جمهرة، ابن حزم "ص269".
3 جمهرة أنساب العرب، لابن حزم "ص458".
4 جمهرة، ابن حزم "ص460".(14/71)
لجرائم يرتكبونها، وهي ساحات محاكم، يجلس فيها المتخاصمون للاستماع إلى قرار حاكم مهاب محترم، اتفقوا على تحكيمه في نزاعهم. وقد كانت الحكومة في هذه السوق إلى "بني تميم"، وكان آخر من حكم منهم فيها: الأقرع بن حابس التميمي1.
ويروي أهل الأخبار أن فرسان العرب كانوا إذا حضروا موسم عكاظ تقنعوا إلا "أبا سليط" "طرفة بن تميم"، فارس عمرو بن تميم في الجاهلية؛ فإنه كان لا يتقنع ولا يبالي أن تقع عيون الفرسان عليه, وذلك اعتمادًا على نفسه وازدراءً لشأن أعدائه ومن يريد إلحاق الأذى به2. وقد كانت سوق عكاظ وبقية الأسواق، من أهم المواضع التي تجلب أنظار الفرسان إليها، إذ كان الكثير منهم يتصيدون فرص الأخذ بالثأر بعد انفضاض موسم السوق، أو الحصول على غنائم بمهاجمة التجار ومن يحمل تجارة دسمة أو حمولة ثمينة؛ ولهذا كان لا بد للفرسان ومن يريد الحصول على مغنم أو تنفيذ مأرب ما من التحفظ والاحتراز حذر انكشاف أمره، فيكون عرضة للغدر.
وإذا وقعت في هذه الأسواق خصومات في مثل اختلاف في سعر أو اختلاف في تجارة، فهناك حكَّام يلجأ المتخاصمون إليهم للنظر في خصوماتهم وللنظر في كل خصومات أخرى قد تقع على الحاضرين, فيقوم هؤلاء الحكام بفض ذلك النزاع. وقد اشتهر سادات بني تميم بالنظر في الخصومات التي تقع في الأسواق القريبة منهم أو التي تقع في ديارهم، وكان من أواخر حكامهم "الأقرع بن حابس"3.
__________
1 صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها".
2 الاشتقاق "ص131"، اليعقوبي "1/ 226"، العقد الفريد "2/ 206"، البيان والتبيين "3/ 100".
3 صبح الأعشى "1/ 410".(14/72)
سوق عكاظ في الإسلام:
كانت سوق عكاظ عامرة مقصودة في الجاهلية، "فلما جاء الإسلام هدم(14/72)
ذلك"1. وورد في كتب الحديث: "عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، أسواقًا في الجاهلية. فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها، فأنزل الله: "ليس عليكم جناح في مواسم الحج", قرأ ابن عباس كذا"2. وورد في تفسير الطبري: "قال ابن عباس: كانت ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية, فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم في مواسم الحج""3. وورد: "كانوا يحجون ولا يتجرون، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} "4. وتفسير ذلك كما جاء في كتب التفسير والحديث، وكما سبق أن تحدثت عن ذلك في الجزء الخاص بالحياة الدينية عند أهل الجاهلية، أن الجاهليين كانوا يتأثمون من الاتجار في الحج، فلا يحجون ولا يتجرون، وتكون تجارتهم في الأسواق المذكورة قبل الحج أو في مكة بعد الحج، وبقوا على ذلك حتى رفع عنهم الحرج بنزول الوحي: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} 5، فرخَّص لهم في المتجر والركوب والزاد، وأحل الله لهم الاتجار في الحج6، فصاروا يتبايعون بمكة، فأثر ذلك على الأسواق المذكورة.
وكان تحديد مواقيت الحج, وانتشار الإسلام، ومنع التعرض والتحرش بالناس طيلة أيام السنة، في جملة العوامل التي قللت من أهمية تلك الأسواق، فلم يعد الحجاج في حاجة إلى الذهاب قوافلَ إليها؛ استغلالًا لحرمة الأشهر، بل صاروا يتجهون إلى المواقيت المعينة للحج رأسًا، فيتجرون بمكة ويعودون إلى ديارهم، فقلت بذلك أهمية تلك الأسواق حتى ماتت.
وسبب آخر, هو في نظري أهم من كل ما ذكرت, هو أن هجرة الرسول إلى يثرب، وانتصار الإسلام على مكة، ثم وفاته بيثرب، واتخاذ الخلفاء الثلاثة الأول إياها قاعدة لهم ولبيت مال المسلمين، ثم خروج سادات مكة إليها في
__________
1 تاج العروس "5/ 254"، "عكظ".
2 إرشاد الساري "4/ 37".
3 تفسير الطبري "2/ 164، 165".
4 تفسير الطبري "2/ 164".
5 سورة البقرة، رقم 2 الآية 198.
6 تفسير الطبري "2/ 164 وما بعدها".(14/73)
حياة الرسول، وانتقالهم إلى الأمصار المفتوحة لإدارتها سياسيًّا وعسكريًّا، أو للاشتغال بها بالزراعة والتجارة وبالأعمال الأخرى المربحة، كل هذه العوامل وأمثالها جعلت مكة في الدرجة الثانية بعد "يثرب"، حتى إن من بقي بالمدينة من الصحابة ولم يغادرها كما غادرها غيرهم إلى الأمصار المفتوحة، وجدوا أن من أدب الصحبة ملازمة قبر الرسول، والثوى بها في الحياة وفي الممات، ولم يقيموا بمكة إلا فترات؛ لحج أو لزيارة، فأثر ذلك على وضعها المالي، وأزال مكانها القديم في التجارة، فتغير بذلك كل شيء.(14/74)
الفصل الخامس بعد المئة: البيع والشراء
أنواع البيع
...
الفصل الخامس بعد المائة: البيع والشراء
أنواع البيع:
وقد تعرض أهل الأخبار لبعض أنواع البيع وطرقها التي كان يستعملها الجاهليون، وهي لا تختلف في طبيعتها عن طبيعة ما يسمى بـ"الحظ والنصيب" في العهد الحاضر. ونظرًا إلى ما قد كانت تسببه هذه الأنواع من خصومات ومنازعات بين المشتري وبين البائع، من بيعهم شيئًا مجهولًا غير معلوم، وإلى ما في كثير من هذه البيوع من غرر، نهى الإسلام عنها، وجاء ذكرها لذلك في كتب الحديث والفقه.
والبيع والشراء، إما أن يكونا بشروط يشترطها أحدهما أو كلاهما عند عقد الصفقة، ويتم التوافق والتعاقد عليها برضى البائع والمشتري، أي: الطرفين, وإما ألا يكونا بشروط. فإذا اشترط المشتري على البائع شرط حق إرجاع السلعة إليه إن وجد فيها شيئا مخالفا للوصف، ورضي البائع بذلك، فللمشتري حق إرجاع السلعة إليه في حدود معقولة، وقد يعين زمن ذلك الحق وهو ما يحدث في الغالب.
ومن جملة طرق البيع: "بيع الحصاة", وهو بيع ذكر أهل الأخبار أنه كان متبعًا في سوق "دومة الجندل" المنعقدة في أول يوم من شهر ربيع الأول, وقد ذكروا أن هذه المبايعة من بيوع الجاهلية التي أبطلها الإسلام. وتفسير ذلك أن يقول أحد المتبايعين للآخر: ارم هذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو لك(14/75)
بدرهم، أو أن يبيع أحد المتبايعين من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة، أو أن يقبض على كف من حصى ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع، أو يبيعه سلعة ويقبض على كف من الحصى ويقول: لي بكل حصاة درهم، أو أن يمسك أحدهما حصاة في يده، ويقول: أي وقت سقطت الحصاة وجب البيع، أو أن يتبايعا ويقول أحدهما: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع، أو أن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ الحصاة ويقول: أي شاة أصابتها فهي لك بكذا1، أو هو أن يقول: بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا رميت بها، أو بعتك من الأرض إلى حيث تنتهي حصاتك, أو أي ثوب من هذه وقعت الحصاة التي أرمي بها فهو لي بكذا، فيقول البائع: نعم, فيقع البيع لوجود شروط الإيجاب والقبول2.
ومن طرق البيع: بيع الملامسة، والمراد بالملامسة: المس باليد، وأن يجعل عقد البيع لمس المبيع. وذكر أن بيع الملامسة: أن تشتري المتاع بأن تلمسه ولا تنظر إليه, وذلك كأن يقول: "لمستَ ثوبي أو لمستُ ثوبك أو إذا لمست المبيع، فقد وجب البيع بيننا بكذا وكذا، ويقال: هو أن يلمس المتاع من وراء الثوب ولا ينظر إليه، ثم يوقع البيع عليه", و"قيل: معناه: أن يجعل اللمسَ باليد قاطعًا للخيار"3.
وقيل: هو أن يأتي البائع بثوب مطويّ، ثم يطلب من المشتري أن يلمسه، ثم يقول له: "بعتك إياه بثمن كذا, بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك", أو أن يقول له: "إذا لمست هذا الشيء, فهو بيع لك", فيكون اللمس نهاية خيار المشتري. وهو يحل بذلك محل النظر إلى الشيء الذي سيباع وتدقيقه وتمحيصه للوقوف على مقدار جودته أو بما فيه من عيوب. فهو بيع شرطه اللمس ولا خيار
__________
1 جامع الأصول "1/ 441"، بلوغ الأرب "1/ 261"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 164"، زاد المعاد "4/ 266".
2 صحيح مسلم "5/ 3"، الجصاص "1/ 530"، اللسان "14/ 183"، تاج العروس "10/ 92"، "حصا"، زاد المعاد "4/ 266".
3 اللسان "6/ 210"، صحيح مسلم "5/ 2 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 340"، "لمس"، زاد المعاد "4/ 266".(14/76)
فيه1. ومن بيع الملامسة، أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر، ولكن يلمسه لمسًا2.
واختلف الفقهاء في تفسير الملامسة على ثلاث صور: إحداها: أن يكتفي باللمس عن النظر ولا خيار له بعده؛ بأن يلمس ثوبًا لم يره ثم يشتريه على أن لا خيار له إذا رآه. الثانية: أن يجعل اللمس بيعًا، بأن يقول: إذا لمسته فقد بعتكه، اكتفاءً بلمسه عن الصيغة. الثالثة: أن يبيعه شيئًا على أنه متى لمسه لزم البيع وانقطع خيار المجلس وغيره, اكتفاءً بلمسه عن الإلزام بتفرق أو تخاير. وبطلان المبيع المستفاد من النهي؛ لعدم رؤية المبيع، واشتراط نفي الخيار في الأولى ونفي الصيغة في عقد البيع في الثانية، وشرط نفي الخيار في الثالثة3.
ومن البيوع: بيع المنابذة, وهو أن يجعلا النبذ بيعًا. وهو أن تقول لصاحبك: انبذ إليَّ الثوب أو غيره من المتاع، أو أنبذه إليك، وقد وجب البيع بكذا وكذا, أو هو أن ترمي إليه بالثوب ويرمي إليك بمثله, وهو أن يجعلا النبذ بيعًا بغير صيغة، أو أن يجعلا النبذ قاطعًا للخيار, ويقال له: بيع الإلقاء4. وقيل: هو أن تقول: إذا نبذت الحصاة إليك, فقد وجب البيع, أو أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه, وينبذ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراضٍ, فيكون النبذ وحده هو البيع5.
و"النجش": أن يبيع الإنسان بياعة, فتساومه بثمن كثير لينظر إليك ناظر
__________
1 صحيح البخاري "2/ 87"، تاج العروس "4/ 340"، "لمس"، بلوغ الأرب "1/ 265".
2 إرشاد الساري "4/ 64".
3 إرشاد الساري "4/ 64"، "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن لبستين وعن بيعتين، نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار, ولا يقبله إلا بذاك"، زاد المسلم "5/ 517 وما بعدها"، صحيح البخاري "كتاب البيوع، باب بيع الملامسة"، "وفي كتاب اللباس، في باب اشتمال الصماء"، "باب الاحتباء في ثوب واحد"، صحيح مسلم "كتاب البيوع، باب إبطال بيع الملامسة".
4 تاج العروس "2/ 581"، بلوغ الأرب "1/ 264 وما بعدها"، صحيح البخاري "2/ 87"، إرشاد الساري "4/ 64 وما بعدها".
5 صحيح مسلم "5/ 3"، الشوكاني، نيل الأوطار "5/ 147 وما بعدها"، اللسان "3/ 512".(14/77)
فيقع فيها، وكذلك في الأشياء كلها. وقيل: النجش في البيع: أن يزيد الرجل ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، ولكن ليسمعه غيره فيزيد بزيادته. وقيل: أن تمدح سلعة غيرك ليبيعها، أو أن تنفر الناس عن الشيء إلى غيره. والغاية من كل ذلك هو غش المشتري وجرّ النفع؛ لذلك نهي في الإسلام عنه. و"التناجش" في البيع المنهي عنه، هو التزايد في البيع وغيره1, وأن يقول الرجل للرجل: بيعٌ فيقول: نظر، أي: أنظرني حتى أشتري منك2. والنجش في الشرع، أن يزيد في ثمن السلعة من غير رغبة ليوقع غيره فيها, فهو بيع غش وخداع3.
ويقال للنجش: الفلح، قالوا: الفلح: النجش في البيع، وذلك أن يطمئن إليك، فيقول لك: بع لي عبدًا أو متاعًا أو اشتره لي، فتأتي التجار فتشتريه بالغلاء وتبيع بالوكس وتصيب من التاجر، وهو الفلاح. وذكر أنه زيادة المشتري ليزيد غيره فيغريه4.
ومن طرق البيع أيضًا: البيع ناجزًا بناجز, أي: يدًا بيد5. ومن بيوعهم قول أحدهم: بعتك هذا الثوب نقدًا بدينار ونسيئةً بدينارين، وقد ورد في الحديث: "لا يجوز شرطان في بيع"، أي: مثل هذا البيع6.
والبيعُ مُزابنة، وهو بيع التمر في رءوس النخل بالتمر, وبيع الرطب في رءوس النخل بالتمر, أو بيع كل ثمر على شجرة بتمر كيلًا, أو بيع التمر على رءوس النخل بالذهب والفضة. وقد نهي عنه في الإسلام إلا إذا أنضج, ولا يباع منه إلا بالدرهم والدينار؛ وذلك لأنه بيع مجازفة، ولما يقع فيه من الغبن والجهالة7. ورُوِيَ عن الإمام "مالك" أنه قال: المزابنة: كل جزاف لا يعرف كيله ولا عدده ولا وزنه, بِيعَ بمسمى من مكيل وموزون ومعدود, أو هي
__________
1 تاج العروس "4/ 354"، "نجش". "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النجش"، البخاري "3/ 69 وما بعدها"، "كتاب البيوع"، عمدة القاري "11/ 258 وما بعدها"، اللسان "6/ 351"، القسطلاني "4/ 62"، زاد المسلم "5/ 485".
2 المخصص "12/ 254".
3 تاج العروس "4/ 354"، "نجش"، عمدة القاري "11/ 258 وما بعدها".
4 تاج العروس "2/ 199"، "فلح".
5 المخصص "12/ 254".
6 تاج العروس "5/ 166"، "شرط".
7 صحيح البخاري "2/ 94"، "كتاب البيوع"، القاموس "4/ 230"، صحيح مسلم "5/ 13"، زاد المسلم "5/ 477 وما بعدها".(14/78)
بيع معلوم بمجهول من جنسه أو بيع مجهول بمجهول من جنسه، أو هي بيع المغابنة في الجنس الذي لا يجوز فيه الغبن؛ لأن البيعين إذا وقفا فيه على الغبن، أراد المغبون أن يفسخ البيع، وأراد الغابن أن يمضيه، فتزابنا فتخاصما فتدافعا1, وتكون المزابنة في النخل غالبًا. وذكر أن سبب ورود النهي عن هذا البيع، هو أنه يؤدي إلى ربا الفضل، إذ الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة من حيث إنه لم يتحقق فيها المساواة المشروطة في الربوي بجنسه2.
وكان هذا البيع معروفًا عندهم, وذلك أن يبيع رجل ثمر نخله بتمر كيلًا أو بغير كيل، أو أن يبيع كُرْمه بزبيب، فورد النهي عنه في الإسلام. وإنما نهى عن ذلك لجهل المبيع3, واعتبر هذا البيع نوعًا من أنواع الربا4.
ومن البيوع الجاهلية: المخاضرة، بيع الثمار خضرًا قبل أن يبدو صلاحها, ويدخل فيه بيع الرطاب والبقول وأشباهها على قول بعض. سمي مخاضرة؛ لأن المتبايعين تبايعا شيئًا أخضر بينهما، مأخوذ من الخضرة5.
وقد نهي عن "المعاومة" في الإسلام, وهي بيع النخل معاومة, وأن تبيع زرع عامك بما يخرج من قابل, أو أن تبيع ثمر النخل أو الكرم أو الشجر سنتين أو ثلاثًا فما فوق6, فهو بيع السنين. ولما فيه من غرر ومن بيع لمجهول، لم يصح هذا البيع في الإسلام7.
و"الطني": شراء الشجر، أو بيع ثمر النخل خاصة8. ونهي في الإسلام عن بيع صبرة التمر المجهولة القدر، أي: بيع المبيع بالكومة، ولا يعلم مكيلته بالكيل9.
__________
1 تاج العروس "9/ 224 وما بعدها"، البخاري "كتاب البيوع، في باب بيع المزابنة"، صحيح مسلم "كتاب البيوع، في باب كراء الأرض".
2 زاد المسلم "5/ 477".
3 زاد المسلم "5/ 482".
4 "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الثمر بالتمر، وقال: "ذلك الربا تلك المزابنة, إلا أنه رخص في بيع العرية، النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا يأكلونها رطبًا"، زاد المسلم "5/ 494 وما بعدها".
5 تاج العروس "3/ 180"، "خضر"، القاموس "2/ 21"، صحيح مسلم "5/ 11".
6 تاج العروس "8/ 412"، "عام".
7 صحيح مسلم "5/ 17 وما بعدها".
8 القاموس "4/ 358"، تاج العروس "10/ 228"، "طنى".
9 صحيح مسلم "5/ 9".(14/79)
ومن ذلك أيضًا البيع المعروف بـ"المجر"، وهو من بياعات الجاهلية. والمجر: بيع ما في بطون الحوامل من الإبل والغنم، وهو أن يباع الشيء بما في بطن الناقة، وأن يباع البعير أو غيره بما في بطن الناقة، ولا يقال لما في البطن مجرا إلا إذا ثقلت الحامل. فالمجر: اسم للحمل الذي في بطن الناقة، وحمل الذي في بطنها1.
ونهى الإسلام عن بيع "حبل الحبلة"، وهو بيع نتاج النتاج، وبيع الأجل، فكان الرجل في الجاهلية يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها، أو بيع حبل الكرم قبل أن يبلغ، ومنه بيع الملاقيح والمضامين. والملاقيح: ما في البطون من الأجنة, والمضامين: ما في أصلاب الفحول، وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة وما يضربه الفحل في عام أو أعوام. وسبب النهي عنه أنه من بيوع الغرر، وهو بيع مجهول2.
ومن بيوع أهل الجاهلية: "الغَدَوى"، وذلك أن تبيع الشاة بنتاج ما نزا به الكبش ذلك العام. وقيل: كل ما في بطون الحوامل، وقوم يجعلونه في الشاة خاصة. أو هو أن يباع البعير أو غيره بما يضرب الفحل، أو أن تباع الشاة بما نزا به الكبش, وكان الرجل منهم يشتري بالجمل أو العنز أو الدراهم ما في بطون الحوامل3.
وأما بيع "الغذى" فهو كالسابق: أن يباع بنتاج ما نزا به الكبش, وقيل: بل يكون الغذى من الإبل والبقر والغنم4. وأظن أن "الغدى" و"الغذى" شيء واحد, وقد أخطأ بعض النساخ في حرفي الدال أو الذال، فصارت الكلمة كلمتين.
وقد نهي في الحديث عن بيع الملاقيح والمضامين. رُوِيَ عن سعيد بن المسيب
__________
1 اللسان "5/ 158"، زاد المعاد "4/ 267"، القاموس "2/ 131"، تاج العروس "3/ 533"، "مجر".
2 عمدة القاري "11/ 262 وما بعدها"، جامع الأصول "1/ 441 وما بعدها"، زاد المعاد "4/ 266"، صحيح البخاري "2/ 87"، اللسان "11/ 139"، صحيح مسلم "5/ 3".
3 المخصص "10/ 251"، القاموس "4/ 269"، تاج العروس "10/ 263"، "غدا".
4 تاج العروس "10/ 263"، "غذا".(14/80)
أنه قال: "لا ربا في الحيوان، وإنما نهي عن الحيوان عن ثلاث؛ عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة"، فالملاقيح: ما في ظهور الجمال، والمضامين: ما في بطون الإناث. وورد العكس، أي: الملاقيح: ما في بطون الإناث، والمضامين: ما في أصلاب الجمال, وكانوا يتبايعون أولاد الشاء في بطون الأمهات وأصلاب الآباء1.
و"الرجع": أن تباع الذكور ويشترى بثمنها الإناث, وقيل: بيع الإبل بعد الارتجاع منها. و"الرجعة: إبل تشتريها الأعراب ليست من نتاجهم, وليست عليها سماتهم", و"الراجعة: الناقة تُباع ويُشترى بثمنها مثلها", والرَّجِيعة: بعير ارتجعته، أي: اشتريته من أجلاب الناس، ليس هو من البلد الذي هو به. وكانوا يربحون من بيع الذكور وشراء الإناث بثمنها؛ لأن الإناث تلد، فيكثر عندهم المال. "قيل لقوم من العرب: بِمَ كثرت أموالكم؟ فقالوا: أوصانا أبونا بالنجع والرجع", فالنجع: طلب الكلأ، والرجع: أن تباع الذكور ويشترى بثمنها الإناث2, وبذلك يكثرون أموالهم.
وتدخل في البيوعات الجاهلية بيع الرجل ما ليس عنده، وهو يتضمن نوعًا من الغرر، فإنه إذا باعه شيئًا معينًا وليس في ملكه, ثم مضى ليشتريه ويسلمه له كان مترددًا بين الحصول وعدمه، فكان غررًا يشبه القمار فنهى الإسلام عنه3. وبيع المعدوم لا يدري يحصل أو لا يحصل ولا ثقة لبائعه بحصوله بل يكون المشتري منه على خطر، فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه ولا له قدرة على تسليمه ليذهب ويحصله ويسلمه إلى المشتري كان ذلك شبيهًا بالقمار والمخاطرة من غير حاجة بهما إلى هذا العقد ولا تتوقف مصلحتهما عليه؛ لهذا منع الشارع بيعه، لا لكونه معدومًا بل لكونه غررًا4.
وقد نهى الإسلام عن بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه, فورد أن الرسول نهى عن أن يستام الرجل على سوم أخيه5. وكان أهل الجاهلية يستامون بعضهم على بعض بما في ذلك استيام الإخوة، فنهى عنه، لما قد يحدث هذا الاستيام من فرقة واختلاف بين الإخوة.
__________
1 تاج العروس "2/ 216"، "لقح"، "9/ 266"، "ضمن".
2 المخصص "10/ 252"، تاج العروس "5/ 352"، "رجع".
3 زاد المعاد "4/ 262".
4 زاد المعاد "4/ 263".
5 صحيح مسلم "5/ 3 وما بعدها".(14/81)
ونهى الإسلام عن التلقي للركبان، أي: عن تلقي البيوع والسلع حتى تبلغ الأسواق. وقد ورد في الحديث: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقَّاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار"؛ وذلك لأن من تلقاهم يكذب في سعر البلد ويشتري بأقل من ثمن المثل وهو تغرير1. وقد نهي عن بيع الحاضر للبادي, وذلك بأن يكون له سمسار ليكسب منه، أو أن يطلب الحاضر من البادي أن يترك متاعه عنده حتى يبيعه بسعر أغلى؛ وذلك لما في هذا البيع من تغرير ومن ضرر يصيب الناس2.
ونهى الإسلام عن بيوع أخرى من بيوع الجاهلية، منها بيع "الغرر"، ويراد به البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان، وهو بيع المخاطرة, وهو الجهل بالثمن أو المثمن أو سلامته أو أجله. ومن ذلك بيع العبد الآبق الذي لا يقدر على تسليمه والفرس الشارد والطير في الهواء وبيع السمك في الماء، وكبيع ضربة الغائص وما تحمل شجرته أو ناقته وما يرضى له به أو يهبه له أو يورثه إياه ونحو ذلك مما لا يعلم حصوله أو لا يقدر على تسليمه أو لا يعرف حقيقة مقداره، فهو بيع شيء مجهول3. وقد كانت من البيوع الشائعة بين الجاهليين تفنّنًا في الغش، وفي الكسب من أي طريق كان.
وقد عرفوا بيعة الغائص، بأن يقول الغائص في البحر للتاجر: أغوص غوصةً، فما أخرجت فهو لك بكذا، فيتفقان على ذلك. وقد نهي عنه؛ لأنه غرر4.
ومن البيوع الجاهلية: "الجس"، وهو بيع عُرف بسوق صنعاء. فإذا تعاقد شخصان على سلعة، ووافقا على البيع، جس أحدهما يد الآخر، علامةً على صحة البيع5.
ومنها: "السرار", فإذا وجب البيع وعند التاجر إلف ممن يريد الشراء ولا يريده، أشركه في الربح6.
__________
1 صحيح مسلم "5/ 5".
2 صحيح مسلم "5/ 6".
3 عمد القاري "11/ 262 وما بعدها"، جامع الأصول "1/ 441 وما بعدها"، زاد المعاد "4/ 266"، صحيح البخاري "2/ 87"، "كتاب البيوع".
4 تاج العروس "1/ 350"، "ضرب".
5 المحبر "ص266"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 164".
6 المحبر "ص267"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 164".(14/82)
وهناك نوع من البيوع يقال له: "الجزاف"، وهو أخذ الشيء بالحدس, بلا كيل ولا وزن ولا عدد1.
وقد عرف "بيع المزايدة" عند الجاهليين كذلك2. وهو أن يعرض ما يراد بيعه للبيع فيتزايد من يريد شراءه على ثمنه، حتى يقف على آخر من يقدم أكبر سعر له3.
ومن البيوع بيع "العينة"، أن يشتري التاجر بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم ويقبضه ثم يبيعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى، ثم يبيعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن الذي اشتراها به، فهذه عينة, وسميت عينة لحصول النقد لطالب العينة. وذكر أن العينة، إذا باع التاجر من رجل سلعته بثمن معلوم إلى أجل معلوم، ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن الذي باعها به, وللفقهاء كلام في هذا البيع4. وقد كانوا يربحون من "العينة"، قال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام, وكان من سادة قريش: "اغد غدًا إلى السوق، فخذ لي عينة"، فغدا ابنه فتعين من السوق عينة لأبيه, ثم باعها، فأقام أيامًا، ما يبيع في السوق طعاما ولا زيتا غير ابنه من تلك العينة, وربح منها ربحًا طيبًا5.
وقد كان في جملة البيوع التي نهى عنها الرسول، بيع حاضر لبادٍ، والبادي هو الذي يكون في البادية، مسكنه المضارب والخيام، والحاضر ساكن الحضر، وصورة البيع للبادي أن يقدم غريب من البادية بمتاع ليبيعه بسعر يومه، فيقول له بلدي: اتركه عندي؛ لأبيعه لك على التدريج بأغلى منه, أو أن تشتري السلع من الأعراب الوافدين على القرى وهم في طريقهم إلى السوق وأماكن البيع بأثمان بخسة، ثم عرضها في السوق وإغلاء أثمانها فيها، أو تشرى السلع منهم وهي في السوق, وعرضها مرة أخرى للبيع؛ لكسب الفرق بين السعرين. وقد نهى الإسلام عن هذا البيع؛ لما فيه من احتكار وإضرار بالمصلحة العامة، ليكتسب
__________
1 شمس العلوم "ج1 ق2 ص330".
2 القسطلاني "4/ 61 وما بعدها".
3 اللسان "3/ 199".
4 تاج العروس "9/ 291"، "عين".
5 كتاب نسب قريش "304".(14/83)
بذلك نفر محدود من الناس. وللفقهاء في هذا لبيع كلام وآراء1.
وقد كان الناس يلجئون إلى أساليب غير حميدة من أساليب التلاعب بالأسعار, وغش المشترين والتحايل بالبيع، كأن يأتي البائع بجماعة من أصحابه يتظاهرون بالشراء وبالتكالب على السلعة لرفع السعر، حتى يدفع الحاضرين على رفع السعر، فيرسو البيع عليهم, وبذلك يغش البائع المشتري. وهو بيع نهي عنه في الإسلام.
ومن البيوع التي تتضمن الغش والخداع بيع التصرية. وكان من عادة العرب إذا أرادوا بيع شاة أو ناقة تركوها أيامًا لا يحلبونها، فيبقى اللبن في ضرعها، فيكبر، فيعرضها البائع للبيع، ويظن المشتري أن كبر ضرعها ووجود اللبن بغزارة فيه، هو بسبب أن تلك الشاة أو الناقة حلوبة، فيشتريها، فيغش. ونظرًا إلى ما في هذا البيع من غش وخداع نهي عنه في الإسلام2، وجعل خيار البيع ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها صاعًا من تمر، وإن شاء أمسكها. ويقال لهذا البيع أيضًا: بيع المصراة3.
وقد يشتري الشركاء سلعة رخيصة، ثم يتزايدون بينهم حتى يبلغوا غاية ثمنها، فيشتريها من يرسو الثمن عليه ويأخذها, ويقال لذلك: "التقاوي", ولم يرَ الإسلام بأسًا بذلك. وفي حديث ابن سيرين: لم يكن يرى بأسًا بالشركاء يتقاوون المتاع بينهم فينمو ويزيد4.
ومن البيوع التي نهي عنها في الإسلام "الإعراب", أن يقول الرجل للرجل: إن لم آخذ هذا البيع بكذا، فلك كذا وكذا من مالي5.
__________
1 عمدة القاري "11/ 258"، إرشاد الساري "4/ 72 وما بعدها".
2 صحيح البخاري "2/ 87"، "وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: من اشترى مصراة، فهو بخير النظرين؛ إن شاء ردها ورد معها صاعًا من تمر ... لا تصروا الإبل والغنم"، اللسان "14/ 458".
3 صحيح مسلم "5/ 4"، تاج العروس "10/ 209"، "صري".
4 تاج العروس "10/ 307"، "قوو".
5 تاج العروس "1/ 372"، "عرب".(14/84)
الخلابة:
ومن البيوع الفاسدة الخلابة. وتقوم على المخادعة، والخلابة: المخادعة. وفي الحديث: "إن بيع المحفلات خلابة، ولا تحل خلابة مسلم", والمحفلات: التي جمع لبنها في ضرعها. وفي حديث النبي، أنه قال لرجل كان يخدع في بيعه: "إذا بايعتَ، فقل: لا خلابة", أي: لا خداع1؛ وذلك لأن بعض الباعة كانوا يخادعون المشتري في بيوعهم.
ومن بيوع أهل الجاهلية: بيع المواصفة، وهو أن تواصف الرجل بالسلعة ليست عندك. وقد أبطل هذا البيع بعض الفقهاء، وأجازه بعض آخر، إذا وافقت السلعة الصفة2.
وقد يتفق في السلعة الرهط، فلا يجدون بدًّا من أن يشتركوا وهم كارهون. وربما اتفقوا فألقوا الحجارة جميعًا إذا كانوا عددا على أمر بينهم فوكسوا صاحب السلعة إذا طابقوا عليه3.
ومن بيوع أهل الجاهلية بيعهم الذهب بالذهب, والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح, وقد نهي عنه في الإسلام، إلا سواء بسواء، أي: إلا متساويين، ويدًا بيد. ويسمى هذا البيع "مراطلة" إن كان بالوزن، ومبادلة إن كان بالعدد4. وأما بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، فقد أبيح ذلك في الإسلام كيف شاء المتبايعون، بتفاضل أو بتساوٍ، لأن بيع الذهب بالفضة والعكس يسمى "صرفًا" ويجوز فيه التفاضل، لكن يشترط فيه التقابض يدًا بيد5.
ويظهر من منع الإسلام لبيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا أن يكونا متساويين ويدًا بيد، أي: مقبوضين، أن أهل الجاهلية كانوا يبيعون الذهب بذهب
__________
1 اللسان "1/ 363"، "خلب".
2 تاج العروس "5/ 39"، "روض".
3 المحبر "264". "أسواق العرب المشهورة في الجاهلية ومبايعتهم فيها".
4 قال ابن عاصم في تحفة الحكام:
والجنس بالجنس هو المراطلة ... بالوزن أو بالعد فالمبادلة
5 زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم "5/ 470 وما بعدها"، "القاهرة 1956م".(14/85)
يزيد عليه حين يؤديه في أجله المحدود، فاعتبر الإسلام ذلك علة من علل الربا، وعلته هنا الثمنية، ولو تبايع الناس بالجلود لنهى عن التفاضل فيها. والعلة في الأربعة الأخرى الادخار للقوت أو ما يصلح للقوت, وعلة الربا هي النقدية أو الطعم أو الاقتيات1.
ومن بيوع أهل الجاهلية بيع حق الانتفاع، مثل أن يبيع بائع لمشترٍ حق الانتفاع من ظهر دابة، بأن يستفيد من ركوب ظهر الدابة التي اشتراها، ولكن الدابة تكون مع ذلك لصاحبها. ومن ذلك اشتراط البائع على المشتري ظهر الدابة إلى مكان معين2.
وقد كان الباعة الجاهليون يفعلون في أسواقهم ما يفعله باعة أيامنا من صخب في السوق ومن لغط ومن قسم على جودة السلع ورخص أسعارها، يريدون التأثير على المشترين وحملهم على الشراء. وقد لاحظ الرسول ما في هذا الصخب من ضرر، وما في هذا النوع من الدعاية للبضاعة من غش، فنهى عنه3.
وقد لخصت بعض كتب الحديث والفقه البيوع, وعرفتها على النحو الآتي: البيع المطلق إن كان بيع العين بالثمن، والمقايضة إن كان عينًا بعين، والسلم إن كان بيع الدين بالعين، والصرف إن كان بيع الثمن بالثمن، والمرابحة إن كان بالثمن مع زيادة، والتولية إن لم يكن مع زيادة, والوضيعة إن كان بالنقصان، واللازم إن كان تامًّا، وغير اللازم إن كان بالخيار، والصحيح والباطل والمكروه4.
والبيع نقدا، وهو خلاف النسيئة, وهو أن يشتري الرجل شيئًا، فيعطي البائع نقدًا معجلًا5. أما بيع النسيئة، فهو البيع المؤخر، أي: الذي يدفع ثمنه مؤخرًا6.
وقد اتخذ الإسلام قاعدة عامة في البيوع، هي: بطلان بيع المبيع الذي يقوم على بيع المجهول كمًّا وكيفية وقبل التأكد منه، أي: بيع المجهول؛ لما في ذلك
__________
1 زاد المسلم "5/ 472".
2 إرشاد الساري "4/ 433".
3 عمدة القاري "باب كراهية الصخب "السخب" في السوق"، "10/ 242".
4 عمدة القاري "11/ 159، 175"، "كتاب البيوع".
5 تاج العروس "2/ 516"، "1/ 454"، "طبعة الكويت"، "نساء"، البخاري "3/ 59"، "كتاب البيوع"، عمدة القاري "11/ 182"، "كتاب البيوع".
6 تاج العروس "1/ 454"، "نسأ"، "طبعة الكويت".(14/86)
من التغرير، أي: الخداع في البيع والغبن، ولما يقع من هذه البيوع من أضرار ولما تحدثه من خصومات ومجادلات ومن تلاعب في الأسعار ومن تأثير ذلك في الناس المنتفعين. فأبطل بيع المبيع قبل القبض، إذ كان الجاهليون يتبايعون بالذهب والطعام وهو مرجأ، يشترون الطعام من الركبان جزافًا، ثم يبيعونه في مكانه، للكسب، فنهى الرسول عن هذا النوع من البيع، حتى يؤووه إلى رحالهم ويحولوه، وفي رواية: ويكتالوه، وأمر الرسول بضرب من يبتاع الطعام جزافًا1، كما نهى عن معظم البيوع المذكورة واعتبرها باطلة، لا تعتبر عقدًا صحيحًا مشروعًا لمن عقده.
والبيوع المذكورة وإن كانت بيوعًا بنيت في الواقع على إيجاب وقبول في البيع وتراضٍ من الطرفين وبموافقة بحصول البيع من المتعاقدين: البائع والمشتري، غير أن هذه البيوع كانت تحدث منازعات أحيانا بين الطرفين، وتنتج ضررًا لذلك نهي عنها في الإسلام, وقيد بعضها بقيود حتى تحدّ من وقوع المخاصمات قدر الإمكان, ومن وقوع الغلط في السلعة، من حيث الجنس والنوع أو من حيث الصفة، ومن وقوع الغبن والتغرير.
__________
1 صحيح مسلم "5/ 7 وما بعدها".(14/87)
الحكرة:
الحكرة وتعرف أيضا بالاحتكار، ويراد بها: حبس الطعام ليتربص به الغلاء؛ وذلك للحصول على كسب زائد. وقد كان أهل المال من الجاهليين يقصدون الأسواق، فيشترون ما يرون فيه ربحًا في المستقبل من طعام أو ما شابه ذلك من مواد ضرورية، ثم يختزنونها ويبيعونها عند حلول الموسم أو وقوع مجاعة أو فرص مواتية بسعر مرتفع، غير مبالين بما في ذلك من ضرر ومن استغلال لأحوال الناس. وقد ورد النهي عن هذا البيع في الإسلام1.
ومن التجار المتمكنين من كان يشتري حمولة قافلة كاملة، ثم يحتكرها ليبيعها
__________
1 "في الاحتكار والتسعير"، جامع الأصول "2/ 22 وما بعدها"، اللسان "4/ 208"، "حكر"، تاج العروس "3/ 154"، "حكر".(14/87)
وقت الحاجة، أو يدخرها ويبيع منها على التفريق بغية الربح، فلا ينافسه على ربحها أحد1, ويجعل لما اشتراه السعر الذي يشاء.
ومن التجار من كان يتلقى "الركبان" ليشتروا ما معهم من طعام، وذلك قبل وصولهم السوق2؛ فيتضرر بذلك تجار الأسواق والمستهلكون، أي: المشترون. ومن هذا القبيل، خروج الحضر لاستقبال البدو، أي: الأعراب الذين يقصدون الحواضر؛ لبيع ما عندهم من سلع، فكان أصحاب المال يستقبلونهم قبل وصولهم السوق، وقبل اتصالهم بالتجار ووقوفهم على السعر، فيشترون منهم ما يحملونه من سلع، لبيعها في السوق3.
__________
1 اللسان "4/ 624"، "عير".
2 إرشاد الساري "4/ 74".
3 إرشاد الساري "4/ 72 وما بعدها".(14/88)
شهود البيع:
وقد كان من الجاهليين من يشهد "شهودًا" على التبايع، أي: يجعل له شهودا يشهدون على صحة المعاملة، ومنهم من كان يكتب التبايع وشروطه بكتاب، حتى لا ينكل أحد المتبايعين عن البيع ويلحق الضرر بالطرف الآخر؛ إذ يكون الكتاب حجة وشاهدًا, وإلى ذلك أشير في القرآن الكريم: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} 1؛ وذلك منعًا لما قد يحدث من خلاف ونزاع بين المتكاتبين، فيرجع عندئذٍ إلى ما هو مكتوب ويعمل بموجبه.
__________
1 البقرة، الآية 282، تفسير الطبري "3/ 88".(14/88)
فسخ البيع:
والبيع عقد فيه إيجاب وقبول، فلا يجوز فسخه والتخلص منه من غير سبب مخل بعقد شرط البيع. أما إذا حصل تراضٍ على فسخ الصفقة فذلك مباح؛ لأنه قد حصل عن رضا وموافقة واختيار، دون إكراه ولا إجبار. ويعبر عن تفاسخ الصفقة بـ"تقايل البيع", يقال: تقايلا بعدما تبايعا أي: تتاركا, وأقلته البيعَ إقالة: فسخه, وعاد المبيع إلى مالكه والثمن إلى المشتري، إذا كان قد ندم أحدهما أو كلاهما1.
__________
1 اللسان "11/ 579 وما بعدها"، "قيل".(14/88)
العربون:
و"العربون": ما عقد به البيع1, ويعبر عنه بـ"عربن" في المسند, وتقابل هذه اللفظة لفظة "العربان" في عربية القرآن الكريم2. وهو ما يقدمه المشتري للبائع لعقد البيع، إذا كان البيع نسيئة، حتى يسلم تمام الذي اتفق عليه. ولهذا لا يكون عربونا إذا تم البيع يدا بيد، أي: إذا دفع الثمن كاملا في مجلس البيع، وتم البيع والاستلام، إذ لا حاجة عندئذ إليه؛ لأن العربون وديعة تقدم للائتمان، لتكون وثيقة للبيع، ولقبول المشتري السلعة، فلا يحق له النكول عن البيع وإلا خسر عربونه، وليكون ضمانًا للبائع على البيع، فإذا نكل المشتري وامتنع عن الشراء خسر عربونه، وصار حقه للبائع بدل النكول. ولهذا يكون العربون في الغالب مبلغًا يرضي البائع، أي: متناسبًا مع قيمة البيع3.
وكما يكون "العربون" في البيع يكون في الإجارة، وفي العمل. وذلك أن يقدم الرجل رب العمل أو المال إلى الصانع أو التاجر ليرتبط العقد بينهما حتى يتوافيا بعد ذلك4. فإذا أخلف رب العمل أو المال في وعده وخاس في عهده، صار العربون من حق الصانع أو التاجر.
ويعبر عن العربون بلفظة "ودعت" في المسند, ويراد بها الوديعة5, والوديعة في عربيتنا: ما استودع. يقال: استودعه مالًا وأودعه إياه: دفعه إليه ليكون عنده وديعة6. فالوديعة في هذه العربية قد تؤدي معنى العربون، وقد تؤدي معنى الرهن والرهينة، وقد تؤدي معنى الاستيداع مطلقًا، أي: إيداع شيء عند شخص
__________
1 تاج العروس "9/ 277"، "عربن".
2 تاج العروس "1/ 372"، "عرب".
3 تاج العروس "1/ 376"، "عرب".
4 تاج العروس "1/ 376"، "عرب".
5 REP,EPIGR. 3911
6 اللسان "8/ 386"، "ودع".(14/89)
وحفظه لديه. وأنا لا أستبعد أن يكون هذا المعنى هو معناها في لغة المسند أيضا.
ويقال للعربون: الأربون كذلك, وهو ما عقد به المبايعة، أو البيعة من الثمن. وفي الحديث: أنه نهى عن بيع العربان، وهو أن يشتري السلعة ويدفع إلى صاحبها شيئًا، على أنه إن أمضى البيع حسب من الثمن، وإن لم يمضِ البيع كان لصاحب السلعة، ولم يرتجعه المشتري. وذكر هو القليل من الثمن أو الأجرة يقدمه الرجل إلى الصانع أو التاجر ليرتبط العقد بينهما حتى يتوافيا بعد ذلك, فكما أنه يكون في البيع يكون في الإجارة. وللعلماء الفقهاء آراء في جواز أو عدم جواز البيع بالعربون1.
و"الكُلأة": النسيئة والعربون، أي: السلفة. وفي الحديث نهي عن الكالئ بالكالئ، يعني: النسيئة بالنسيئة2.
و"المسكان" العربون كذلك. وجاء في الحديث النهي عن بيع المسكان، وهو أن يشتري شيئًا فيدفع إلى البائع مبلغًا على أنه إن تم البيع احتسب من الثمن، وإن لم يتم كان للبائع ولا يرتجع منه3.
__________
1 "وفي حديث عمر أن عامله اشترى دارًا للسجن بأربعة آلاف، وأعربوا فيها أربعمائة، أي: أسلفوا"، تاج العروس "1/ 376"، "عرب".
2 تاج العروس "1/ 111"، "كلأ".
3 تاج العروس "7/ 177"، "مسك".(14/90)
الخيار في البيع:
والخيار في البيوع: طلب خير الأمرين: إما الإمضاء وإما البيع أو فسخه1. فقد يرى البائع أو المشتري في السلعة المشتراة رأيًا، لم يكن له حين عقد صفة البيع. وللفقهاء كلام عليه، وهو أنواع عندهم، منها خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار الرؤية وهو شراء ما لم يره على أنه بالخيار إذا رآه، وخيار العيب، وخيار تلقي الركبان، وخيار تفريق الصفقة وتفريقها بتعددها بالابتداء، وخيار العجز عن الثمن، وخيار فقد الوصف المشروط في المبيع، والخيار فيما رآه
__________
1 تاج العروس "3/ 195"، "خير".(14/90)
قبل العقد إذا تغير عن صفته، وغير ذلك1. وقد جعل بعضهم الخيار ثلاثة أضرب: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار النقيضة2.
وقد يشترط في البيع ألا يضمن عهدته, ويقال لهذا النوع من البيع: "الملسى", و"الملسى" هي البيعة التي لا يتعلق بها تبعة ولا عهدة. يقال: أبيعك الملسى لا عهدة, أي: تتملس وتنفلت ولا ترجع إليَّ, ويقال في البيع ملسى لا عهدة، أي: قد انملس من الأمر لا له ولا عليه3.
__________
1 إرشاد الساري "4/ 42".
2 تاج العروس "3/ 195"، "خير".
3 قال الراجز:
لما رأيت العام عامًا أعبا ... وما ربيع ما لنا بالملسى
تاج العروس "4/ 249"، "ملس"، اللسان "6/ 221"، "ملس".(14/91)
صفات البيع:
وإذا تم عقد بيع بين بائع ومشترٍ، يضع أحدهما يده في يد الآخر، دلالة على قبول البيع وتمامه, ومن هنا قيل للتبايع: الصفق. وورد: تصافقوا، أي: تبايعوا1, وبذلك يتم البيع ويكون في عرفهم بيعًا صحيحًا.
وكانت عادتهم أنهم إذا تبايعوا تصافقوا بالأيدي، دلالة على عقد البيع وحصول الرضا به، ووقوع الإيجاب والقبول من البائع والمشتري، ومن هنا قيل للبيعة: صفقة، والصفقة تكون للبائع والمشتري2. ومتى تم التصافق فلا يجوز لأحدهم النكول عن البيع؛ لأنه عقد عقدًا وأمضى أمرًا، وكان عليه أن يعمل رأيه قبل المصافقة، وإذا كانت البيعة على شيء مجهول، كأن تكون السلعة المباعة قد خبئت في خباء وبيعت مجهولة، ووافق المشتري على شرائها على تلك الحالة، ثم تبين أنها دون الثمن بكثير، فلا حق للمشتري برد البيع؛ لأنه حين شرائه تلك السلعة كان يعلم أنها مخبأة, وأنها تباع بيع الشيء المجهول. وقد رضي بالبيع بالمصافقة، فلا حق له إذن برفض السلعة.
__________
1 اللسان "10/ 200 وما بعدها"، "صفق".
2 تاج العروس "6/ 409".(14/91)
الدَّيْن:
وقد لعبت الديون دورًا خطيرًا في الحياة العامة في الجاهلية وفي الحياة الاقتصادية بصورة خاصة؛ لاضطرار التجار إلى التعامل بالدين، وكذلك الباعة والمشترون. وتلعب الحاجة الدور الأول في التداين، فلولاها لما استدان مدين.
وقد استدان أصحاب المال بعضهم من بعض أيضًا؛ لتمشية أمورهم المالية، ولتوسيع رأسمالهم بالدين، بتشغيله للحصول على ربح كبير منه. وذلك على نحو ما يفعل التجار في هذا اليوم من التداين من البنوك، لتشغيل ما يستقرضونه منها في أعمال تجارية, تأتي إليهم بأرباح تزيد كثيرًا على مقدار الفائدة التي ستدفع للبنوك.
وقد أشير إلى الدَّيْن في القرآن الكريم. ورد في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} 1, يعني: "يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إذا تداينتم, يعني: إذا تبايعتم بدين أو اشتريتم به أو تعاطيتم أو أخذتم به إلى أجل مسمى, يقول: إلى وقت معلوم وقَّتموه بينكم. وقد يدخل في ذلك القرض والسلم في كل ما جاز السلم شرى أحل بيعه، يصير دينًا على بائع ما أسلم إليه فيه، ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة. كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه. كان ابن عباس يقول: نزلت هذه الآية في السلم خاصة"2.
و"السلم" الذي يشير "ابن عباس" إليه، هو "السلف", وأسلم وأسلف بمعنى واحد3. والسلف: القرض الذي لا منفعة فيه للمقرض غير الأجر والشكر، وعلى المقترض رده كما أخذه4.
والدين في تعريف العلماء ما له أجل، وما لا أجل له فقرض, وبينهما وبين
__________
1 الآية "282".
2 تفسير الطبري "3/ 76".
3 تاج العروس "8/ 337"، "سلم".
4 تاج العروس "6/ 143"، "سلف".(14/92)
السلم فروق عرفية1, والقرض: ما تعطيه من المال لتقضاه2.
وقد كان من الصعب دفع الديون أو استحصالها؛ للأحوال الاقتصادية السيئة التي قد تحيط بالمدين, فإذا أخذ الرجل الدين أكله، فإذا أراد صاحب الدين حقه لواه به، أي: مطله, ومنه المثل: الأخذ سلجان, والقضاء ليان3.
__________
1 تاج العروس "9/ 207"، "دين".
2 تاج العروس "5/ 76"، "قرض".
3 تاج العروس "2/ 59"، "سلج".(14/93)
المنحة:
والمنحة: العطيَّة. وقد تقع المنحة على الهبة مطلقًا، لا قرضًا ولا عارية، فتكون له, وقد تكون إعارة للاستفادة من منفعة، ثم تعاد. ومن هذا القبيل منحة الأرض؛ فقد تمنح هبة، فتكون لمن وهبت له، يستغل منفعتها، وله أن يبيعها متى شاء؛ لأنها هبة وهبت له، فصارت في حكم ملكه، وقد تستغل إعارة لأجل يتفق عليه، أو بغير أجل، يستردها صاحبها متى شاء وأحب. ومن المنح، منح الإبل؛ للاستفادة من وبرها وألبانها وولدها، والسفر عليها، وإكرائها للقوافل وللأشخاص. والمنحة المعارة مردودة, وقد ورد في الحديث: "المنحة مردودة، والعارية مؤداة"1. وورد أن المنحة عند العرب على معنيين: أحدهما أن يعطي الرجل صاحبه المال هبة أو صلة فتكون له, وأما لمنحة الأخرى، فأن يمنح الرجل أخاه ناقة أو شاة يحلبها زمانًا وأيامًا ثم يردها, وهو تأويل ما ورد في الحديث من قوله: "المنحة مردودة, والعارية مؤداة"2.
__________
1 تاج العروس "2/ 232"، "منح".
2 تاج العروس "2/ 232"، "منح".(14/93)
الفصل السادس بعد المئة: الشركة
مدخل
...
الفصل السادس بعد المائة: الشركة
والشركة في البيع معروفة عند الجاهليين، فقد كان الناس يشتركون في البيع, بالمساهمة بمال الشركة مناصفة أو على نصيب يعين أو بنسب يتفقون عليها، وبالمساهمة بمال يقدم من جهة وبعمل يقوم به الطرف الآخر وفق شروط يتفق عليها المشاركون بالنسبة إلى الربح أو إلى الخسارة. وقد كان من عادة أهل مكة مساهمة معظم أهلها في مال تجارتهم التي يرسلونها إلى اليمن وإلى بلاد الشام؛ ولهذا كانت القافلة التي يرسلونها تكون كبيرة ضخمة، يزيد عدد جمالها على الألف. ومعنى هذا أن المال الذي تحمله القافلة يكون كبيرًا غاليًا؛ وذلك لأن أكثر أهل مكة من الأغنياء والموسرين والمتوسطين قد ساهموا فيه.
ويقال للشريك "الجار", و"الجار": الشريك في العقار والشريك في التجارة1.
وقد يتكاتب الشركاء فيما بينهم، بأن يكتبوا ما اتفقوا عليه في صحيفة تحفظ نسخ منها عند الشركاء. وقد يتكاتبون، وإنما يرضون بالوفاء على ما اتفقوا عليه، معتمدين على إخلاصهم في النية وعزمهم على الوفاء بما اتفقوا عليه بكل أمانة وإخلاص. ونجد في كتب أهل الأخبار أمثلة على تشارك أشخاص للقيام بأعمال تجارية في مختلف أنحاء جزيرة العرب. فهي تبين أن الشركاء كانوا يقدمون من أموالهم كذا وكذا من المال للعمل شركة, فيخلطون المال المقدم من الشركاء
__________
1 تاج العروس "3/ 111"، "جار".(14/94)
حتى يصير شيئًا واحدًا، وبعد إخراج رأس المال بعد الحساب، والمؤن, والكلف يقسم الربح نصفين إن كانا شريكين، أو أكثر حسب عدد الشركاء ومقدار ما ساهم به كل واحد من الشركاء في رأس المال. وتوزع الخسائر، إن كانت هنالك خسائر على عدد المساهمين، وبنسب ما ساهم كل واحد من المساهمين في رأس المال1.
وقد ورد في الأخبار أن "نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم" كان في الجاهلية شريكًا "للعباس بن عبد المطلب"، وكانا شريكين متفاوضين في المال متحابين, ولما وقع في الأسر في "بدر"، فداه العباس. وقد كان غنيًّا، أسلم, وأعان رسول الله يوم بدر بثلاثة آلاف رمح2. وكان "السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ" يشارك الرسول في تجارته، ويتاجران مع بلاد اليمن3, وذكر أن "السائب بن عبد الله" المخزومي، كان هو شريك الرسول وصاحبه في الجاهلية4. وورد أن "السائب بن الحارث بن صبرة" كان شريكًا للنبي بمكة5. ويظهر أن اشتراك الثلاثة في الاسم، صير ثلاثتهم شركاء للرسول في تجارته، والصحيح أن واحدًا منهم كان شريكًا له.
وكان "مرداس بن أبي عامر" والد "العباس بن مرداس" الشاعر، شريكًا لحرب بن أمية والد أبي سفيان6. وكان "العباس بن أنس" شريكًا لعبد المطلب7.
وقد شارك "البرَّاء بن عازب" "زيد بن أرقم" بالصرف، وهو بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة. ثم راجعا رسول الله فيه، فقال لهما: "ما كان يدًا بيد فخذوه، وما كان نسيئة فذروه"8.
وقد تشارك أهل مكة فيما بينهم في تكوين الشركات، كما تشاركوا مع غيرهم
__________
1 نهاية الأرب "9/ 18".
2 البرقوقي "ص72".
3 إمتاع الأسماع "1/ 8 وما بعدها"، الإصابة "2/ 10"، "رقم 3064".
4 الإصابة "2/ 10"، "رقم 3066".
5 الإصابة "2/ 10"، "رقم 3057".
6 الإصابة "2/ 263"، "رقم 4511".
7 الإصابة "2/ 262".
8 إرشاد الساري "4/ 290".(14/95)
في تكوين شركات، أسست لها فروعًا في المحال التي أقام فيها الشركاء الغرباء. فقد شاركوا بعض أهل اليمن، وجعلوا من مواضع شركائهم فروعًا لهم هناك، يبيعون ويشترون شراكة، ويقتسمون الأرباح والخسائر على حسب ما اتفقوا عليه. فشاركوا أهل الحيرة؛ كانوا يرسلون تجارتهم إليهم؛ لبيعها في أسواق الحيرة، ويرسل شركاؤهم من أهل الحيرة بضائعهم إلى مكة؛ لتصريفها بها، ثم يتحاسبون ويقسمون الأرباح أو الخسائر حسب ما اتفقوا عليه. وكان "كعب بن عدي" التنوخي الحيري، شريك "عمر" في التجارة؛ يتاجر معه في البز. وقد أسلم قبيل وفاة الرسول، وكان قد ذهب في وفد من أهل الحيرة إلى المدينة، فعرض الرسول عليهم الإسلام فأسلموا، فلما انصرفوا إلى الحيرة، جاءتهم أنباء وفاة الرسول، فارتاب أصحابه، وقالوا: لو كان نبيًّا لم يمت، وقال كعب: فقد مات الأنبياء قبله، وثبت على الإسلام, ثم خرج إلى المدينة ورأى "أبا بكر"، فلما بعث أبو بكر جيشًا إلى اليمامة ذهب معه، ثم أرسله "عمر" إلى "المقوقس" وقدم الإسكندرية سنة خمس عشرة رسولًا من "عمر" إلى المقوقس, وشهد فتح مصر.
وورد في رواية أخرى، أنه أسلم بعد وفاة الرسول، في خلافة "أبي بكر". وورد في رواية أخرى, أنه كان أحد وفد الحيرة إلى الرسول، وكان شريك النبي في الجاهلية1, وكان عقيدًا أي: حليفًا لعمر2.
وقد أشرك أهل مكة سادات القبائل معهم في الاتجار؛ تأليفًا لقلوبهم، وحماية لتجارتهم ولقوافلهم من التعرض للسلب والنهب، وكانوا يعطونهم نصيبهم من الأرباح. وهو عمل حكيم جعل سادات القبائل يفدون إلى مكة، ويعقدون العقود مع تجارها للاتجار معهم, وبذلك توسعت تجارة مكة وزادت رءوس أموال قريش.
وقد كان أهل اليمن يتشاركون في الأرض، وهو أن يدفعها صاحبها إلى آخر بالنصف أو الثلث أو نحو ذلك, وقد أشير إلى هذا التشارك في نصوص المسند. وفي حديث معاذ: أنه أجاز بين أهل اليمن الشرك، أي: الاشتراك في الأرض3.
__________
1 الإصابة "3/ 282"، "رقم 7422".
2 الإصابة "3/ 282"، "رقم 7422"، تاج العروس "2/ 482"، "عقد".
3 اللسان "10/ 449"، "شرك"، تاج العروس "7/ 148"، "شرك".(14/96)
أنواع الشركات:
ويقسم الفقهاء الشركة في التجارة إلى شركة عنان وشركة مفاوضة، أو شركة عنان وشركة تفويض1. وجعلها بعضهم أنواعًا أربعة: شركة الأبدان كشركة الحمَّالين والجمَّالين وسائر المحترفة؛ ليكون كسبهما متساويًا أو متفاوتًا مع اتفاق الصنعة واختلافها، وشركة الوجوه، كأن يشترك وجيهان عند الناس ليبتاع كل منهما بمؤجل ويكون المبتاع لهما، فإذا باعا كان الفاضل عن الأثمان بينهما، وشركة المفاوضة، بأن يشترك اثنان, بأن يكون بينهما كسبهما بأموالهما وأبدانهما وعليهما ما يعرض من مغرم. وسميت مفاوضة من: تفاوضا في الحديث؛ شرعا فيه جميعًا، وشركة العنان. وكلها باطلة إلا شركة العنان؛ لخلو الثلاث الأولى من المال المشترك ولكثرة الغرر فيها, بخلاف الأخيرة فهي الصحيحة2.
فأما "شركة العنان" أو "العنان" "شركة عنان"، فهي أن يخرج كل واحد من الشريكين دنانير أو دراهم مثل ما يخرج صاحبه ويخلطاها، ويأذن كل واحد منهما لصاحبه بأن يتجر فيه؛ فإن ربحا في المالين فبينهما، وإن وُضِعَا فعلى رأس مال كل واحد منهما. وسميت هذه الشركة شركة عنان لمعارضة كل واحد منهما صاحبه بمال مثل ماله, وعمله فيه مثل عمله بيعًا وشراءً. وقد أشير إلى هذه الشركة في شعر ينسب إلى النابغة الجعدي، حيث يقول:
وشاركنا قريشًا في تقاها ... وفي أحسابها شِرك العنان3
وهناك شركة أخرى عرفت بـ"شركة المفاوضة" "فوضى"، وهي أن يشتركا في كل شيء في أيديهما أو يستفيداه من بَعْدُ، وقيل: هو أن يعارض الرجلُ الرجلَ عند الشراء فيقول له: أشركني معك، وذلك قبل أن يستوجب العتق. ورد: "الشركة شركتان: شركة العنان، وشركة المفاوضة"4.
__________
1 تاج العروس "3/ 111"، "جار"، تاج العروس "9/ 28"، "عنّ".
2 إرشاد الساري "4/ 281"، "باب الشركة".
3 اللسان "13/ 292"، "صادر"، تاج العروس "7/ 148"، "شرك"، "وفي أنسابها"، تاج العروس "9/ 282"، "عنّ".
4 اللسان "13/ 292"، "صادر".(14/97)
وذكر أن شركة المفاوضة، وهي العامة في كل شيء, وشركة العنان في شيء واحد, يقال: شاركته شركة مفاوضة, وذلك أن يكون مالهما جميعًا من كل شيء يملكانه بينهما. وقيل: شركة المفاوضة أن يشتركا في كل شيء في أيديهما أو يستفيآنه من بعد, يقال: تفاوض الشريكان في المال إذا اشتركا فيه أجمع, والمفاوضة: المساواة. ويقال: متاعهم فوضى بينهم, إذا كانوا فيه شركاء, كما يقال أيضا: فوضى فضا. قال الشاعر:
طعامهم فوضى فضا في رحالهم ... ولا يحسنون السر إلا تناديا1
__________
1 تاج العروس "5/ 71"، "فوض".(14/98)
المشاركة:
ويعبر عن "الشريك" بـ"الخليط", والخليط: المشارك في حقوق الملك, كالشرب والطريق ونحو ذلك. وقيل: الخليط والمخالط، لا يكون إلا في الشركة. وفي الحديث، أي حديث الشفعة: "الشريك أولى من الخليط، والخليط أولى من الجار", أراد بالشريك: المشارك في الشيوع، والخليط: المشارك في حقوق الملك. ومنه الحديث: "ما كاد من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية"1.
وقد أشير إلى "الخلطاء" في القرآن، ورد: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 2. والخلطاء: الشركاء الذين خلطوا أموالهم، وقد تغلب الخلطة في الماشية3.
وقد أشار أهل الأخبار إلى أن تجار قريش صاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء4، جابوا البلاد وضربوا في الأرض إلى قيصر بالروم وإلى النجاشي بالحبشة وإلى المقوقس بمصر. فهم شركاء يكسبون عيشهم بالتجارة بعد أن حرموا من خيرات الأرض في واديهم القفر.
__________
1 تاج العروس "5/ 132"، "خلط".
2 سورة ص، الرقم 38، الآية "24".
3 تفسير الطبري "23/ 92"، تفسير النيسابوري "23/ 92"، "حاشية على تفسير الطبري"، تفسير القرطبي "15/ 179".
4 الثعالبي، ثمار القلوب "11 وما بعدها"، البلدان "472".(14/98)
والخلطاء: الشركاء الذين خلطوا أموالهم، وقد تغلب الخلطة في الماشية1, وذلك أن يتخالطوا في الماشية، فيقدم كل واحد عددًا من الماشية ترعى معًا، ويقال لذلك: "الخلاط". وقد أشير إليه في كتب الحديث2. وذكر بعض العلماء أن الخليطين: الشريكان لم يقتسما الماشية وتراجعهما بالسوية. وقد يكون الخليطان الرجلين يتخالطان بماشيتهما وإن عرف كل واحد ماشيته، ولا يكونان خليطين حتى يريحا ويسرحا ويسقيا معًا، وتكون فحولهما مختلطة، وإن تفرقا في مراح أو سقي أو فحول فليسا خليطين، ولا يكونان خليطين حتى يحول عليهما حول من يوم اختلطا. وللفقهاء بحث في هذا الموضوع3.
والتراجع بين الخليطين: أن يكون لأحدهما مثلًا أربعون بقرة وللآخر ثلاثون ومالهما مشترك، فيأخذ العامل عن الأربعين مسنة وعن الثلاثين تبيعًا، فيرجع بأذل المسنة بثلاثة أسباعه على خليطه، وبأذل التبيع بأربعة أسباعه على خليطه؛ لأن كل واحد من السنين واجب على الشيوع، كأن المال ملك واحد4.
والخلاطة شركة في الواقع، تختلف عن الشركة المعروفة في كونها شركة بالمال، وتلك شركة برأس المال, وكل واحد من الخليطين يتصرف بما عنده من مال، ثم يتراجعان عند الحساب؛ لإخراج ما فيه من ربح أو غرم، وبذلك تختلف الخلاطة عن الشركة5.
__________
1 تفسير النيسابوري "23/ 92"، "حاشية على تفسير الطبري".
2 تاج العروس "5/ 132"، "خلط".
3 تاج العروس "5/ 133"، "خلط".
4 تاج العروس "5/ 351"، "رجع".
5 إرشاد الساري "4/ 284".(14/99)
السفتجة:
وعرفت "السفتجة" بين الجاهليين, وهي كتاب صاحب المال لوكيله أن يدفع مالًا قراضًا يأمن به من خطر الطريق. وقيل: هو قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق، بأن يقرض ماله عند الخوف ليرد عليه في موضع أمن. أو أن يعطي رجل مالا لآخر، وللآخر مال في بلد المعطي، فيوفيه إياه فيستفيد(14/99)
أمن الطريق وفعله السفتجة، والجمع: السفاتج. وقد كان أهل الجاهلية يعطون مالًا لشخص محتاج إليه، على أن يوفيه في بلده لوكيل صاحب المال أو لمن يثق به، في مقابل نفع يعين، أو قرض لا نفع له. وقد نهى النبي عن قرض يجرُّ نفعًا1.
__________
1 تاج العروس "2/ 59"، "السفتجة".(14/100)
الوكالة:
وعرفت الوكالة عند الجاهليين. والوكيل: هو الذي يقوم بأمر الإنسان، سمي به؛ لأن موكله قد وكل إليه القيام بأمره، فهو موكول إليه الأمر1, وحكم الوكيل حكم الأصيل، والتاجر الوكيل في البيع والشراء وفي كل تعامل، هو بمنزلة التاجر الأصيل صاحب المال، وما يعقده من عقود يكون ملزمًا بحق التاجر الأصيل. وقد عرف العلماء الوكالة أنها تفويض شخص أمره إلى آخر فيما يقبل النيابة2.
ولا يشترط في الوكالة, أن تكون وكالة تجارة، بل يجوز أن تكون وكالة في كل شيء، كأن تكون إشرافًا على أهل أو بيت لحمايته أثناء غياب صاحبه، كما تكون وكالة حراسة أموال والتصرف بها. فقد كاتب "عبدُ الرحمن بن عوف" "أميةَ بن خلف" أن يحفظه في صاغيته بمكة، وأن يحفظ "عبد الرحمن" صاغية "أمية" بالمدينة3.
وكانوا يوكلون وكلاء عنهم في إجراء العقود والتوقيع على العهود، وعلى شروط السلم، إذا كانوا مخولين. ولما جاء وفد "هوازن" إلى رسول الله، يسأله المنَّة عليه برد أموالهم وسبيهم، سأل رسول الله من كان عنده من أصحابه من الناس من المقاتلين في أمر رد السبي، فتنازلوا عن حقهم فيه طيبةً لرسول الله، فقال رسول الله: "إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع لنا عرفاؤكم أمركم"، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا، وقد طيبوا وأذنوا لرسول الله أن يرد السبي إليهم؛ لتوكيل الناس لهم ذلك4.
__________
1 تاج العروس "8/ 159"، "وكل".
2 إرشاد الساري "4/ 155"، "كتاب الوكالة".
3 إرشاد الساري "4/ 156".
4 إرشاد الساري "4/ 161".(14/100)
السمسرة:
والسمسار: المتوسط بين البائع والمشتري لإمضاء البيع, وهو الذي يسميه الناس: الدلال، فإنه يدل المشتري على السلع ويدل البائع على الأثمان. واللفظة من الألفاظ المعربة، وقد ذكرت في شعر للأعشى:
فأصبحت لا أستطيع الكلام ... سوى أن أراجع سمسارها1
والسمسار: الرجل الحاذق المتبصر، وسمسار الأرض: العالم بها، والحاذق المتبصر بأمورها2. وقد ذهب علماء اللغة إلى أنها لفظة عُرِّبت عن الفارسية، وذهب بعض الباحثين إلى أنها من أصل إرمي3.
والسمسار الذي يبيع البُرَّ للناس. وفي حديث "قيس بن أبي عروة": "كنا قومًا نسمى السماسرة بالمدينة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمانا النبي -صلى الله عليه وسلم- التجار"4. والسمسرة: هو أن يتوكل الرجل من الحاضرة للبادية فيبيع لهم ما يجلبونه, قيل: القيم بالأمر الحافظ له5. ويظهر أنهم كانوا يطلقون لفظة "السمسير" على الوكيل والقيم بالأمر الحافظ له في الأصل، ثم غلب استعمالها فيمن يدخل بين البائع والمشتري. كما استعملوها خاصة فيمن يدخل بين البائع البادي والمشتري الحاضر، أو عكسه6.
ومن طريقتهم في السمسرة أن يقول صاحب السلعة للسمسار: بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك، فما زاد على ما اتفق عليه يكون أجرة سمسرة. أو أن يقول: بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك7, أو أن يترك السعر للسمسار، يبيعه حسب خبرته وقدرته على السوم، فإن باع الشيء دفع صاحب السلعة له
__________
1 تاج العروس "3/ 280"، "سمسر"، اللسان "4/ 380"، "سمسر".
2 تاج العروس "3/ 280"، "سمسر".
3 غرائب اللغة "189".
4 اللسان "4/ 380"، "سمسر".
5 اللسان "4/ 380"، "سمسر".
6 إرشاد الساري "4/ 72 وما بعدها".
7 إرشاد الساري "4/ 136".(14/101)
أجر سمسرته. وقد يأخذها من المشتري, وقد يأخذها من صاحب السلعة ومن المشتري.
ولا تنحصر السمسرة بالبيع في السوق، ويحمل السمسار السلعة معه يعرضها على من يريد الشراء، فقد تكون السمسرة عن طريق بيع ملك ثابت، مثل دار أو أرض أو بئر، فيراجع السمسار من يرغب في الشراء في بيته أو في أي مكان آخر مناسب، فلا ينادي المتساومين المتنافسين لشراء الملك، وقد يقف عند الدار أو الأرض أو البئر، في يوم يعين ووقت يثبت، ثم ينادي على السعر فيزايد الراغبون في الشراء السعر، حتى يقف على أعلى المتزايدين. ويدخل في هذه المزايدات بيع الحيوان, من نعم وماشية وغير ذلك.
ومن السماسرة من كان يربح ربحًا حسنًا، ولا سيما أولئك الذين كانوا يرعون أمور "الركبان" من الأعراب، ويبيعون لهم على الأمانة والتصريف, ويكونون لهم وكلاء، إذ كانوا يبخسون الأعراب حقهم ويتناولون منهم أكثر مما يجب أخذه عن أتعابهم؛ لجهلهم بمعاملات السوق والبيع والشراء.(14/102)
الفصل السابع بعد المئة: المال
مدخل
...
الفصل السابع بعد المائة: المال
المال في اللغة: ما ملكته من كل شيء، وهو في الأصل: ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يُقتنَى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم. وفي الحديث نُهي عن إضاعة المال، قيل: أراد به الحيوان1. ويشمل المال الصامت وهو العين2, والورق وسائر المصوغ منها3, والعرض ويشمل الأمتعة والبضائع والجواهر والمعادن والأخشاب وسائر الأشياء المصنوعة منها، والعقار من مسقف ومن مزروع مثل البساتين والكروم والمراعي والغياض والآجام وما يحويه من العيون والحقوق في مياه الأنهار، والحيوان بأنواعه. ويدخل الرقيق أيضًا في أصناف المال بالنسبة إلى ذلك العهد؛ لأن له قيمة وثمنًا، وهو ثروة لصاحبه وملك، وهو بوجه عام كل ما تملكه مما له ثمن.
و"العين": الدينار والذهب عامة4, و"الوَرِق": الدراهم المضروبة، وقيل: الفضة، كانت مضروبة أولًا5. ويلاحظ أن الكلمتين تعبران عن الذهب
__________
1 اللسان "11/ 11/ 635 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 121"، "مول".
2 القاموس "4/ 52"، كتاب الإرشاد إلى محاسن التجارة "ص2 وما بعدها".
3 القاموس "3/ 288 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 86 وما بعدها".
4 تاج العروس "9/ 288"، "عين".
5 تاج العروس "7/ 85"، "ورق".(14/103)
والفضة، وعن الدنانير والدراهم, والدنانير من ذهب، والدراهم من فضة. ويعبر عن الذهب بلفظة "الصفراء" للونه1, وعبروا عن الفضة بـ"البيضاء" وبالأبيض لبياض الفضة، ومنه الحديث: "أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وهما الذهب والفضة"2.
ويقال للمال: "النشب"، والنشب: المال والعقار، وأكثر ما يستعمل في الأشياء الثابتة التي لا براح بها كالدور والضياع. والمال أكثر ما يستعمل فيما ليس بثابت كالدراهم والدنانير، وربما أوقعوا المال على كل ما يملكه الإنسان، وربما خصصوه بالإبل، والعروض اسم للمال3.
والذهب والفضة، هما مقياس الثراء عند الحضر, ويكون ذلك بحيازتهم سبائك من ذهب أو فضة، أو مصوغات، أو دنانير ودراهم. و"الثري": الكثير المال -والثروة: كثرة المال4- وهو الذي يملك الذهب والفضة أو الأموال الأخرى. والغني: ذو الوفر، أي: المال الكثير5.
وكان الذهب والفضة مقياسي الثراء عند الإنسان قبل أن تضرب النقود وتسكّ السكك، بل بقيا على ذلك حتى بعد ضرب النقود؛ بسبب ندرة الدنانير، وقلة الدراهم، وتفضيل البعض الذهب على الدينار والفضة على الدرهم؛ لهذا نجد أهل الجاهلية يتعاملون بالذهب والفضة وزنًا في تعيين الأسعار وفي شراء الحاجات وفي المهور مع وجود الدنانير والدراهم، بل بقي التعامل بهما في الإسلام أيضًا. ولما أرسل الرسول "شجاع بن وهب الأسدي" إلى "الحارث بن أبي شمر" الغساني، أمر له "الحارث" بمائة مثقال ذهب6. وأجاز رسولُ الله "مسعودَ بن سعد" الجذامي رسول "فروة بن عمرو الجذامي" إليه، باثنتي عشرة أوقية ونشّ، وذلك خمسمائة درهم, وكان "فروة" عامل قيصر على "عمان" من أرض البلقاء, فأرسل "مسعودًا" إلى الرسول ليخبره بإسلامه، وأرسل معه هدية إلى الرسول7.
__________
1 تاج العروس "3/ 335"، "صفر".
2 تاج العروس "5/ 9"، "بيض".
3 تاج العروس "1/ 484 وما بعدها"، "نشب".
4 تاج العروس "10/ 56"، "ثرو".
5 تاج العروس "10/ 271"، "غنى".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 261".
7 ابن سعد، طبقات "1/ 262".(14/104)
ونظرًا لوجود أناس كانوا يتلاعبون في نوعية الذهب والفضة، بغش المعدنينِ ومزج معادن خسيسة فيهما، فقد ظهر أناس تخصصوا بفحص الذهب والفضة وبتعيين درجتهما من حيث الجودة والنقاوة، وبتعيين سعر السبائك, وما يباع منهما وفقًا لذلك, ثم تخصص هؤلاء بدراسة النقود، وتعيين درجة نقاوتها وتثبيت وزنها؛ وذلك لوجود الغش فيها بالنسبة لذلك العهد. فإذا اشتروا نقدًا أو باعوه، أو صرفوه بنقد آخر، فحصوه فحصًا دقيقًا وتأكدوا منه قبل الشراء أو التصريف لكي لا يكون مغشوشًا, فصار هؤلاء هم صيارفة النقود، وخبراء السكة في ذلك العهد. وقد كان الصيارفة يجلسون أمام باب "الهيكل" في القدس، يبيعون ويشترون ويصرفون النقود, وقد أشير إليهم في "الأناجيل", ووبَّخهم "المسيح" وقلب موائد صيرفتهم1. وكانوا يصرفون الدنانير بالدراهم, والدراهم بنقود النحاس، والعملات الأجنبية بالعملة الرومانية الدارجة في فلسطين، تمامًا كما يفعل صيارفة هذا اليوم في بلاد الشرق الأدنى.
ويظهر من الأناجيل، أن أولئك الصيارفة كانوا يجلسون عند موائدهم التي يصرفون عليها النقود. أما كبارهم، أي: الأغنياء منهم من أصحاب المال، فقد كانوا يتعاملون بالقروض, يقرضون المال للمحتاج إليه, في مقابل دفع فوائد عنها هي الربا، وفي تشغيل أموالهم في مشاريع تعود عليهم بالأرباح2.
وقد تاجر أهل الجاهلية في "الصرف"، وهو بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، أو أحدهما بالآخر. وقد أقر الرسول الصرف، إذا كان يدًا بيد، أي: متقابضين في المجلس، ونهى إذا كان نَساءً3. والصيرفي، والصيرف، والصراف: صراف الدراهم ونقادها من المصارفة, وهو من التصرف على ما يذكره علماء اللغة4. وقد جاءت لفظة "الصرف" والصيرفة في رأيي من "الصرف" أي: الفضة، فالصرف: الفضة في لغة العرب الجنوبيين. و"الصريف"5: الفضة
__________
1 إنجيل متى، الإصحاح 21، الآية 12.
2 Hastings, p. 630
3 إرشاد الساري "4/ 13".
4 تاج العروس "6/ 164"، "صرف".
5 كأمير.(14/105)
أيضًا في لغة القرآن الكريم، كما يذكر ذلك علماء اللغة. قال الشاعر:
بني غدانةَ حقًّا لَسْتُم ذهبًا ... ولا صريفًا, ولكن أنتم خزف1
وذلك أنهم كانوا يتعاملون بالفضة في الغالب؛ لكثرتها بالنسبة إلى الذهب، حتى غلب اسمها على هذا التعامل, فقيل: الصرف والصيرفة والصراف، وهو الذي يتعامل بالصرف, فصارت كلمة "الصرف" التي تعني الفضة مرادفة للنقود، كما صارت لفظة "الفلوس" التي هي جمع: "فلس" أصغر عملة من العملات وهي من النحاس، مرادفة للنقود. وفي العبرانية شبه لذلك, فالنقود، أي: العملة "Money" هي "Keseph" في العبرانية، و"Keseph" الفضة، وقد استعملها العبرانيون في معنى العملة؛ لأنهم كانوا يتعاملون بها في حياتهم اليومية، فكانت مشترياتهم وأجورهم ومعاملاتهم بالفضة وبالعملة المعمولة منها، حتى صارت في معنى النقود2.
ومن تعامل الصيارفة، شراء الدنانير بالدراهم والدراهم بالدنانير؛ بأن يساوم رجلٌ رجلًا على بيع مائة دينار بدراهم، فيتراوض الطرفان على ذلك ويتساوما حتى يتفقا على عدد ما يدفع من الدراهم3؛ وذلك لاختلاف نوع الدراهم وأوزانها وجودة فضتها, ويكون العكس، بأن يبيع شخص دراهم في مقابل دنانير. وقد يتبايعون على بيع الذهب بالذهب، مضروبًا كان أو غير مضروب، أو بيع الفضة بالفضة. وكانون يتلاعبون في تصريف النقود, ويتحكمون في أسعار صرفها؛ لاحتكارهم الصرافة في الأسواق، ويربحون خاصة من فروق تصريف العملة الأجنبية بالعملة الرائجة في السوق.
وقد عرف الصراف بالحيلة والخداع والغش في الصرف؛ ولهذا السبب لعنوا في الأناجيل، وقلب "المسيح" موائد صيرفتهم, و"الصيرفي": المحتال المتصرف في الأمور والمجرب لها كالصيرف. قال سويد بن أبي كاهل اليشكري:
ولسانًا صيرفيًّا صارمًا ... كحسام السيف ما مس قطع4
__________
1 تاج العروس "6/ 163"، "صرف"، وورد: "بني غدانة ما إن أنتم ذهبًا".
2 Hastings, p. 627
3 إرشاد الساري "4/ 79".
4 تاج العروس "6/ 164"، "صرف".(14/106)
ولا زال الناس يومنا هذا يطلقون لفظة "صراف" على المحتال الذكي الذي يعرف كيف يتعامل مع الناس.
ومن مصطلحات الصيارفة المذكورة في كتب اللغة "الشوقل", يقال: شوقل الدينار: إذا عايره وصححه ووزنه، واستعملوا الشاقل أيضا في المعايير. ويظهر من مراجعة كتب اللغة، أن علماء اللغة لم يكونوا على علم واضح بأصل لفظة "شقل"، فاكتفوا بقولهم: شقل الدينار: وزنه1. وترد هذه اللفظة في الآرمية كذلك بمعنى الوزن، أي: وزن الدنانير والدراهم2، وترد بهذا المعنى أيضا في العبرانية. وقد أخذ هذا الوزن من الأوزان البابلية، وقد كانت الأوزان البابلية أساسًا لجميع الأوزان التي استعملت في الشرق الأدنى، بل وفي أوروبا أيضًا, و"الشقل" "Shekel" هو جزء من ستين جزءًا من "المن" Manu""3. فمن هذا الوزن ورد اصطلاح "شقل" و"شوقل" بمعنى وزن العملة بالميزان في لغات أهل الشرق الأدنى؛ لأنهم كانوا يصححون العملة ويعايرونها بوزنها بالميزان، لتظهر صحة وزنها، فيتبين به الزائف منها من الصحيح.
وقد برع قوم من "الصيارفة" بتنقاد الدراهم، أي: بتمييز الدراهم وإخراج الزائف منها. وقد برع في ذلك نفر من أهل مكة؛ لأنهم تجار يتعاملون في الأسواق ويتعاطون الربا والصيرفة وتبديل العملة.
وكان اليهود من الصيارفة، يتعاطون بيع الذهب والفضة وتبديل النقود والربا, وكان الأعراب يحفظون عندهم ودائعهم، ذهبًا وفضة ونقودًا, ذكر أن رجلًا من قريش استودع "عبد الله بن سلام" ألفًا ومائتي أوقية ذهبًا4. وذكر علماء التفسير، أن من اليهود من كان يأكل الأمانات ويجحدها فلا يؤديها إلى أصحابها، إلا بالتهديد والقوة، وقد استحل أكل أموال العرب، ذلك أنهم قالوا: لا حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب ولا إثم؛ لأنهم على غير الحق وأنهم مشركون5.
__________
1 التاج "7/ 392"، "شقل".
2 غرائب اللغة "191".
3 Hastings, p. 627.
4 تفسير النيسابوري "3/ 225"، "حاشية على تفسير الطبري".
5 تفسير الطبري "3/ 226 وما بعدها".(14/107)
وكان الصيارفة يعتبرون النقود الطيبة اللينة نقودًا صحيحة، والنقود الصلبة نقودًا زائفة، فالدرهم القسي هو درهم زائف؛ لذلك كانوا إذا قالوا: "درهم قسي"، عنوا بقولهم درهمًا زائفًا مغشوشًا، فضته صلبة رديئة ليست بلينة. وفي الحديث: "كانت زيوفًا وقسيانًا"1. قال مزرد:
وما زوَّدوني غير سحق عمامة ... وخَمْسِمِئٍ منها قسيّ وزائف2
__________
1 الروض "1/ 95"، تاج العروس "10/ 293"، "قسا".
2 تاج العروس "10/ 293"، "قسا".(14/108)
رأس المال:
ورأس المال: أصله, يقال: أقرضني عشرة برءوسها، أي: قرضا لا ربح فيه إلا رأس المال1. وقد أشير إليه في القرآن الكريم في تحريم الربا: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون} 2. فأوجب الإسلام على المرابين الذين دخلوا فيه التوبة من الربا, وأن يأخذوا رءوس أموالهم التي أعطوها من غير زيادة عليها، مهما كان قدرها، فهذه الزيادة هي الربا3.
وما يضعه التاجر من مال ليتاجر به، هو رأس ماله الذي يتاجر به. وما يتجمع من مال يقدمه المساهمون في تكوين شركة، هو رأس مال الشركة الذي تشتغل به ليأتي عليها بأرباح توزع على المساهمين، حسب نسب حصصهم في رأس المال، وما يقدم من مال قراضًا، فهو رأس مال، وكل مال يتخذ أساسًا لعمل هو رأس مال ذلك العمل.
__________
1 تاج العروس "4/ 157"، "رأس".
2 البقرة، الرقم 2، الآية 279.
3 تفسير الطبري "3/ 71"، روح المعاني "3/ 46".(14/108)
استثمار الأموال:
وقد أبدع أصحاب الأموال بمكة وأجادوا في تشغيل رءوس أموالهم وفي استثمارها،
--(14/108)
فزادت ونمت. شغلوها في التجارة، وشغلوها في أعمال نستطيع أن نسميها أعمالًا مصرفية بلغة هذا اليوم، مثل إعطائها للمحتاج إليها بفائض هو "الربا"، أو "مضاربة"، أو مسالفة، وشغلوها باستثمارها بمشاريع زراعية وصناعية وما شابه ذلك، مشاركة أو على ربح ثابت معين، أو مساهمة في الأرباح دون الخسائر. وكان بعض منهم قد ساهم في أعمال عديدة، واستثمر أمواله بها، فإذا خسر في عمل، عوض عن خسارته تلك بربح يأتيه من عمل آخر.
ولم يكتفِ تاجر مكة بالاتجار على حسابه، بل ساهم مع غيره من أهل مكة في تكوين رءوس أموال القوافل، بحيث صارت القوافل تجارة شركاء، أو شركة عامة يساهم فيها من يشاء من أصحاب المال. وساهم تاجرهم أيضًا بتوزيع أمواله على التجار الآخرين؛ ليشاركهم بذلك في أرباحهم، فكان "أبو سفيان" يتاجر بتجارته وعلى حسابه، يذهب بنفسه على رأس قافلته إلى العراق للاتجار بالحيرة، وكان من المساهمين في قوافل قريش كذلك، كما كان يقدم ماله للتجار؛ للاتجار به مع أموالهم، فيشاركهم بذلك في أرباحهم، ويأخذ منهم ما يقع له من نصيب في الأرباح. وكان "العباس" قد وزع مالًا من ماله على التجار لاستثماره، وكان للحجاج بن علاط السُّلمي مال متفرق في تجار أهل مكة1.
وكانوا يتعاملون مع غير تجار قريش كذلك، يقرضونهم المال ويستقرضون الأموال منهم، ويتاجرون على الأرباح والخسائر، ونجد في الأخبار أسماء رجال من الطائف أو من الحيرة أو من أهل اليمن، كانت لهم شراكة مع تجار من تجار مكة, خلطوا أموالهم مع أموال أولئك الغرباء عنهم, فهم "خلطاء"، أي: شركاء, و"الخليط": الشريك2. فأهل مكة خلطاء فيما بينهم، وخلطاء مع غيرهم أيضا, يتاجرون بأموالهم ويتاجرون بأموال غيرهم كذلك, "وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"3.
__________
1 الطبري "3/ 17".
2 تاج العروس "5/ 132"، "خلط".
3 الثعالبي، ثمار القلوب "11 وما بعدها"، البلدان "472".(14/109)
الربا:
وفي جملة وسائل استثمار المال: الربا، وقد كان شائعًا بين أهل الجاهلية،(14/109)
كما كان شائعًا معروفًا بين غير العرب. وقد عرفه العلماء بأنه: "الزيادة على رأس المال"1 "وهو في الشرع: الزيادة على أصل المال من غير عقد تبايع"2, والإرباء: الزيادة على الشيء، والزيادة: هي الربا3. وكل قرض جر منفعة فهو ربا4، ويقال له: "اللياط"، وهو الربا الذي كانوا يربونه في الجاهلية إلى أن يأخذوا رءوس أموالهم ويدعوا الفضل عليها5.
وقد كان أهل الجاهلية يزيدون على الدين شيئا ويؤخرونه, كأن يحل دينك على رجل فتزيده في الأجل ويزيدك في الدين, وقد نهي عنه في الإسلام6. وهو في الواقع ربا؛ لأنه استغلال ووجود منفعة بغير جهد, ويقال لذلك: المعاومة.
وقد اشتطَّ أهل المال في الاستفادة من المقترضين، فتقاضوا منهم الربا الفاحش، وألحفوا في زيادته، وتشددوا في المطالبة برأس المال ورباه، ولم يمهلوا معسرًا، ولم يتساهلوا في الأداء إلى وقت الميسرة، إلا إذا زادوا في الربا، وأخذوا ربا المال وربا الربا. وكان اليهود من أشهر المرابين في الحجاز، كما اشتهرت بذلك مكة والطائف ونجران، ومواضع المال الأخرى من جزيرة العرب. وكان من عادة هؤلاء أنهم كانوا يحتسبون الربا الذي يستحق في آخر السنة ولا يدفع للمرابي جزءًا من رأس المال، أي: من المبلغ المقترض، فيؤدي الربا للسنة التالية على أساس المبلغ المقترض مع رباه، وإذا أجل دفع ربا هذا المبلغ الجديد المكون من المبلغ الأصل ورباه، أضيف إليه فصار المبلغ المقترض ورباه ثم ربا المبلغين جزءًا من القرض، ويطلب من المدين دفع الربا على هذا الأساس.
والربا هو "نشك" "نشق" "Neshec" في العبرانية, وتعني اللفظة: الزيادة التي تؤخذ عن كل دين يعطى لمدين، سواء كان ذلك الدين نقودًا أو عينًا، بضاعة أو ملكًا، أو أي شيء آخر يستدان من مدين في مقابل زيادة تؤدى عليه عند
__________
1 المفردات "ص185".
2 اللسان "14/ 305".
3 تفسير الطبري "3/ 67".
4 اللسان "9/ 159"، "سلف".
5 اللسان "7/ 396 وما بعدها"، "لوط، ليط"، الروض الأنف "1/ 62".
6 تاج العروس "8/ 412"، "عام".(14/110)
استحقاق الأجل المعين, وقد أشير إليه في التوراة1. وعرفت الزيادة التي تؤخذ على المبلغ بـ"تربيث" أيضًا، أي: ربا, غير أن ربا "النشق"، استعمل في ربا المال، أي: الربا المأخوذ عن النقد من دنانير ودراهم، فهو في مقابل "ربا النسيئة" في الإسلام. وأما "التربيث" فهو الربا المأخوذ عن الطعام مثل: الحنطة والشعير والتمر وما شابه ذلك من طعام, وهو ما يقال له: "ربا الفضل" في الإسلام. وقد تطلق لفظة "نشق" على الربوين: ربا الدنانير والدراهم، وربا الفضل. وقد حرمت التوراة على اليهود تعاطي الربا فيما بينهم، وأحلته بالنسبة للغرباء؛ فجوزت لليهودي أخذه ممن لم يكن على دينهم, ولكنهم لم يتقيدوا بما جاء في التوراة من تحريم الربا عليهم، فتعاطوه فيما بينهم، لا سيما بعد عودتهم من السبي، وصار الربا من أهم المنافع بالنسبة لأرباب المال عندهم2.
وقد كان الرومان واليونان قد كونوا "بنوكًا" أي: مصارف تعاملت بالمال، وتعاطت قرضه مقابل ربح هو رباه. وقد حدد بنسبة واحد في الشهر، و"12" في السنة، وذلك في مقابل الاعتماد "Creditum". وقد تعاطت المعابد أعمال الربا كذلك، ومن هذه معابد "بابل"3.
وأصل "الربا" هو وجود حاجة لدى إنسان إلى مال، ووجود أناس ذوي مال يريدون استغلال أموالهم وتكثيرها، فيقرضونها إلى المحتاج إليها مقابل زيادة يتفق عليها, تدفع عن المال المقترض للأجل المتفق عليه. ويستغل المرابي في الغالب حاجة الشخص الذي يريد المال، فيشتط عليه ويتعسف في شروطه، ويضطر المدين إلى قبول ما تُملَى عليه من شروط لحاجته إلى المال، وإلى دفع الربح العالي الذي فرضه المرابي عليه. ومن الربا أنهم "كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا"4.
__________
1 الخروج، الإصحاح الثاني والعشرون، الآية 25، اللاويون، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 36.
2 W. Smith, A dictionary of the Bible vol, III, p. 1606, Beetons, Illustrated Dictionary of Religion, Philosophy, Politics, and Law, p. 523, John, Babylonian and Assyrian Laws, Contracts, and Letters, 211, Hastings, A. Dictonary of Christ and the Gospels, I, 837, The Bible Dictionary, vol, II, p. 540
3 Hastings, A Dictionary of Christ and the Gospels, I, p. 837
4 تفسير القرطبي "4/ 202".(14/111)
ويدخل في الربا, الربا في الطعام، وقد كان شائعًا بين أهل العمود والبوادي بصورة خاصة، إذ ليس عندهم دراهم ولا دنانير، فكانوا يأخذون الصاع الواحد مقابل صاع وزيادة، والزيادة رباه، حتى يكون قفزانًا كثيرة, فاستغل المرابون أهل الحاجة وضايقوهم بالطلب. ورد أن أحدهم في الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه, فهو ربا مثل الربا في النقد1. كما فعلوا ذلك في الدنانير والدراهم، فكان أحدهم يبيع الدينار بدينارين، والدرهم بدرهمين، وفي الذهب والفضة، فكانوا يعطون مثقالًا مقابل مثقالين أو أكثر أو أقل من المثقالين، فالزيادة هي الربا. ومعنى هذا أن الربا كان يعادل المبلغ المقترض، فالدرهم بدرهمين والدينار بدينارين، وهو ربا فاحش، استغل فيه المرابي حاجة المدين إلى المال؛ ولهذا نهي عنه في الإسلام بتحريم كل أنواع الربا في القرآن وفي الحديث, حيث ورد: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين, ولا الدرهم بالدرهمين"2، و"الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما"3.
أما رباهم بالذهب والفضة، فكانوا يأخذونه وزنًا فإذا أعادوه زادوا عليه وزن الربا المتفق عليه؛ ولهذا ورد في الحديث: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل, ولا تشفوا بعضها على بعض, ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز"4. فمنع الرسول الزيادة، وجعل الربا قرضًا يعاد إلى صاحبه وزنًا بوزن، أي: متساويين في الوزن. كما منع الزيادة في البيع، فجعل الزيادة على ثمن البيع، الذي يدفع بأجل ربا؛ لأنه زيادة على المبلغ، واستغلال لحاجة المشتري، وهو بيع غرر.
وورد في الحديث أنهم كانوا يشترون الصاع بالصاعين أو أكثر، كأن يعرض أحدهم سلعة، فيبيعها بسلعة مثلها، ولكن بضعف وزنها أو أكثر، فقد اشترى غلام لمعمر بن عبد الله صاعًا وزيادة من شعير بصاع من قمح، فلما عاد بما اشتراه أمره سيده برده؛ لأنه سمع أن الرسول قال: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل". وورد أن بعضًا من الصحابة كانوا يشترون صاعًا من التمر الجيد بصاعين من الجمع،
__________
1 أعلام الموقعين "2/ 138 وما بعدها"، تفسير الطبري "3/ 67".
2 البخاري "5/ 42"، "كتاب البيوع، باب الربا".
3 البخاري "5/ 45"، "كتاب البيوع، باب الربا".
4 البخاري "5/ 42"، "كتاب البيوع، باب الربا".(14/112)
أي: من تمر مختلط من أنواع متفرقة وليس مرغوب فيه، وما يخلط إلا لرداءته. فلما سمع بذلك الرسول، قال: "لا تفعلوا ولكن مثلًا بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا" وكذا الميزان1.
وسبب هذا التوسع في هذا النوع من الربا، أن العرب كانوا أهل تجارة وأهل زراعة ورعي، ولم تكن العملة من دنانير ودراهم، منتشرة بين المزارعين وأهل البوادي، فكانت المقايضة تقوم عندهم مقام العملة. فمن احتاج إلى طعام، أخذ من بائعه أو مالكه أو مكتنزه كيلًا بكيل مثله لأجل معلوم, على أن يعطيه زيادة عليه، يتفق على مقدارها. فيأخذ قفيص تمر بقفيص ونصف أو قفيصين، أو أكثر من ذلك، على نحو ما اتفق عليه، يؤديه له من جنس التمر المسلف ومن جودته، فإذا حل الأجل، ورأى المستحق أن يؤخر دينه، على أن يزيد في المال فعل، وكلما أخره زاد في المال حتى يصير أضعافا مضاعفة، وذلك بسبب الحاجة والفقر. فهذا هو ربا مثل ربا الدنانير والدراهم، نشأ من الحاجة والظروف التي كان عليها أهل الجاهلية في ذلك العهد. ونجد هذا النوع من الربا عند غير العرب من الشعوب أيضًا، وهو ربا الفقراء والمحتاجين في الغالب، أما ربا الدراهم والدنانير فكان ربا التجار، ومن كان يريد تنمية ثروته وزيادة تجارته، فكان يقترض بالربا لهذه الغاية.
والربا المذكور هو الأصل، وأما ربا الدراهم والدنانير أي: ربا العملة، فمتأخر بالنسبة إليه؛ لأن الإنسان مارس التجارة قبل أن تكون لديه دراهم ودنانير، كانت تجارته مبادلة سلع بسلع، وذلك قبل ضرب العملة. فكان الربا ربا سلع ومواد عينية, يقدم المرابي طعامًا إلى تاجر آخر أو إلى محتاج، إلى أجل معين، على أن يزيده في الكمية عند حلول أجل الربا، وفقًا لما اتفق عليه، فإن أخره زاد في المال، وكلما أخره زاد في المال حتى يتضاعف أضعافًا مضاعفة، فهذه أصل الربا الأول. فلما أوجد الإنسان العملة وتعامل بها، وأقبل عليها، ظهرت تجارة جديدة أساسها التعامل بالعملة، وظهر بذلك ربا العملة، الذي غلب على الربا الأول، حتى صار وكأنه هو الربا وحده ولا ربا سواه.
ووجهة نظر المرابين إلى الربا، أنه نوع من أنواع البيوع، وأن الربا مثل
__________
1 البخاري "5/ 47"، "كتاب البيوع، باب بيع الطعام مثلًا بمثل".(14/113)
البيع, ففيه إيجاب وقبول. ولما نزل الأمر بتحريمه عجب المرابون من التحريم، عجبوا كيف أحل البيع وحرم الربا، مع أن الاثنين في نظرهم واحد, وذلك كما يظهر من الآية: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 1, فنظموا البيع والربا في سلك واحد، لإفضائهما إلى الربح، فاستحلوه استحلاله. وكانت شبهتهم أنهم قالوا: لو اشترى الرجل ما لا يساوي إلا درهمًا بدرهمين جاز، فكيف إذا باع درهمًا بدرهمين؟ 2. فكان التاجر والمرابي عندهم سواء بسواء، فكلاهما يعامل المشتري أو المدين معاملة كسب ونهب، والحصول منهما على أكثر ما يمكن الحصول عليه من ربح ومكسب, والإثراء بأية طريقة كانت. ولهذا عجبوا من تحريم الإسلام للربا، وهو كسب يأتي عن إيجاب وقبول، ومن تحليله للبيع، وهو كسب أيضًا، مبني على إيجاب وقبول.
وقد اشتهر اليهود بمعاطاة "الربا"، وقد أشير إلى ذلك في القرآن الكريم3. كما عرف به أهل مكة والطائف ونجران وسائر من كان لديه فضل من المال وأراد استغلاله؛ وذلك للظروف الاقتصادية التي كانت سائدة في ذلك العهد, من عدم وجود صناعة يشغل أصحاب المال بها أموالهم، فيكثرونها باستغلالها بإنشاء صناعات أو توسيع حرف، ومن عدم وجود مياه غزيرة وأرضين خصبة تسقي سيحًا بصورة دائمة، حتى يشغل صاحب المال ماله في استغلال الأرض؛ ولهذا عمد أصحاب المال إلى تكثير أموالهم بطريق إقراضه والاستفادة من رباه.
وكان ربا الجاهلية أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أَخِّرْ عني دينك وأزيدك على مالك, فيفعلان ذلك, فذلك هو الربا أضعافًا مضاعفة. وروي عن "عطاء" أنه قال: "كانت ثقيف تداين في بني المغيرة في الجاهلية, فإذا حل الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون"، فكان يكون أضعافا مضاعفة4. وروي
__________
1 البقرة، الآية 275.
2 إرشاد الساري "4/ 26 وما بعدها".
3 سورة النساء، الرقم 4، الآية 161، تفسير الطبري "6/ 17 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 13".
4 تفسير الطبري "4/ 59"، تفسير الآلوسي "4/ 49".(14/114)
أيضا أن الذين كانوا يأكلون الربا من أهل الجاهلية، كان إذا حل مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحق: "زدني في الأجل وأزيدك في مالك"1. وذكر "أن ربا أهل الجاهلية: يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء, زاده وأخر عنه"2. وذكر أيضًا أنهم "كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين, فيقول: لك كذا وكذا، وتؤخر عني، فيؤخر عنه"3, أو أن يقول أحدهم لمدينه إذا حل الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي4. وذكر أن "الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرضه, على ما يتراضون به", و"أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلا من الأجل"5.
وروي عن "ابن زيد" أنه كان يقول: إنما كان الربا في الجاهلية وفي التضعيف وفي السن, يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل، فيقول له: تقضيني أو تزيدني، فإن كان عنده شيء يقضيه قضى وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك. إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم حقة، ثم جذعة, ثم رباعيا, ثم هكذا إلى فوق. وفي العين يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن يكن عنده أضعفه أيضًا، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة يضعفها له كل سنة أو يقضيه, فهذا قوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة} 6.
ومن أغراض الربا وأسبابه الحاجة, الحاجة إلى المال لسد دين أو عجز وللتغلب على فاقة أو ما شاكل ذلك من ضرورات، فيضطر المحتاج إلى اللجوء إلى المرابي ليستدين منه في مقابل زيادة يؤديها إليه عند حلول الأجل. وقد يأخذ المدين المال ليشتغل به فيربح منه، فيؤدي المال ورباه، ويستفيد من الربح الذي حصل عليه
__________
1 تفسير الطبري "3/ 69".
2 تفسير الطبري "3/ 67".
3 تفسير الطبري "3/ 67".
4 عمدة القارئ "11/ 202".
5 أحكام القرآن، للجصاص "1/ 465 وما بعدها".
6 تفسير الطبري "4/ 59".(14/115)
من تشغيله لذلك المال في تجارة أو في أعمال إنتاجية أخرى. ورد عن "إبراهيم النخعي" أنه قال: "كان هذا في الجاهلية، يعطي أحدهم ذا القرابة المال يكثر به ماله"1. وورد أنهم كانوا يعطون الرجل المال ليكثر به ماله، وذلك عن طريق تشغيله لذلك المال2.
وقد قسم العلماء الربا إلى نوعين: ربا النسيئة وربا الفضل. أما الأول، فهو الذي كان يتعارفونه في الجاهلية, كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا، ثم إذا حل الدين طالب الدائن المدين برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل3. "وفي الحديث: إنما الربا في النسيئة هي البيع إلى أجل معلوم"، يريد أن بيع الربويات بالتأخير من غير تقابض هو الربا، وإن كان بغير زيادة. وكان "ابن عباس" "يرى بيع الربويات متفاضلة مع التقابض جائزًا، وأن الربا مخصوص بالنسيئة"4. وقد ورد في الحديث: "إنما الربا في النسيئة, وما كان يدًا بيد فلا بأس"5.
وكان بيع النسيئة بيعًا معروفًا، ولما قدم الرسول المدينة كانوا يتبايعون بهذا البيع, فقال: "ما كان يدًا بيد فلا بأس به, وما كان نسيئة فهو ربا"6. والنسيئة: التأخير إلى أجل هو الموسم، أو أي أجل يتفق عليه.
وقسم بعض الفقهاء الربا إلى ثلاثة أنواع: ربا الفضل، وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر، وربا اليد، وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما، وربا النساء، وهو البيع لأجل, وكل منها في الإسلام حرام7.
وعرفوا ربا الفضل، بأنه الربا الذي يباع فيه الشيء بضعفه، مثل أن يباع من الحنطة بمَنَوَيْنِ مثلًا8، وأن يباع الدرهم بدرهمين. وقد خصص العلماء ربا
__________
1 تفسير الطبري "1/ 30 وما بعدها".
2 تفسير الطبري "21/ 30".
3 تفسير الطبري "3/ 67".
4 اللسان "1/ 167"، تاج العروس "1/ 457"، "طبعة الكويت".
5 مسند الإمام أبي حنيفة "ص158"، عقود الجواهر "2/ 30".
6 البخاري "5/ 45"، "كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الورق بالذهب دينًا".
7 إرشاد الساري "4/ 26 وما بعدها".
8 تفسير النيسابوري "3/ 79"، "حاشية على تفسير الطبري"، تفسير القرطبي "3/ 348".(14/116)
الفضل في ستة أعيان، وهي: الذهب، والفضة، والبُرّ، والشعير، والتمر، والملح، فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها1. وقد منع هذا الربا في الإسلام, فإذا باع رجل رجلًا دينارًا بدينارين إلى أجل، أو درهمًا بدرهمين، أو كيلة حنطة بكيلتين أو أكثر كما كان يفعل أهل الجاهلية، فالزيادة هي ربا؛ ولذلك نهي عنه في الإسلام2.
ولما نزل الأمر بتحريم الربا، وذلك في آخر ما نزل من الوحي، وقبل وفاة الرسول بتسع ليالٍ على بعض الروايات3, صعب ذلك على الأغنياء الذين كانوا يعيشون على الربا ويقولون: إنما البيع مثل الربا4. وذكر علماء التفسير أن الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5، إنما نزلت في "العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانوا شريكين في الجاهلية، سلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو, وهم بنو عمرو بن عمير. فجاء الإسلام، ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله ذروا ما بقي من فضل كان في الجاهلية من الربا"6. وذكر أيضًا "أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال في خطبته يوم الفتح: "ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله, وأول ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب"7.
ولما جاء وفد "ثقيف" إلى المدينة؛ لمفاوضة الرسول في أمر دخولهم في
__________
1 إعلام الموقعين "2/ 136 وما بعدها".
2 مسند الإمام أبي حنيفة "ص159"، صحيح مسلم "5/ 42"، "باب الربا"، "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا وزنًا بوزن, مثلًا بمثل, سواء بسواء"، صحيح مسلم "5/ 42 وما بعدها".
3 تفسير الطبري "3/ 76"، "وعن ابن عباس, قال: آخر ما أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آية الربا"، "وعن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه} "، تفسير الطبري "3/ 75".
4 البقرة، الآية 282، تفسير الطبري "3/ 68"، "وقد قيل: إن هذه الآيات في أحكام الربا هن آخر آيات نزلت من القرآن", "إن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا, وإن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قبض قبل أن يفسرها"، تفسير الطبري "3/ 75 وما بعدها".
5 البقرة، الآية 282.
6 تفسير الطبري "3/ 71".
7 تفسير الطبري "3/ 72"، تفسير ابن كثير "1/ 330".(14/117)
الإسلام، قال "عبد ياليل" وهو لسانهم الناطق باسمهم: "أرأيت الزنى! فإنا قوم عُزَّاب لا بد لنا منه، ولا يصبر أحدنا على العُزبة قال: "هو مما حرم الله"؛ قال: أرأيت الربا! قال: "الربا حرام! " قال: فإن أموالنا كلها ربا! قال: "لكم رءوس أموالكم", قال: أفرأيت الخمر! فإنها عصير أعنابنا ولا بد لنا منها! قال: "فإن الله حرمها! "1.
وكانت ثقيف قد صالحت النبي "على أن ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا، فهو موضوع, فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة. وكانت بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة, وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية, فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد. فكتب عتاب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... } إلى: { ... وَلا تُظْلَمُونَ} . فكتب بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عتاب, وقال: "إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب" 2. وذكر أن "بني عمرو بن عوف"، الذين كانوا يأخذون الربا من "بني المغيرة"، هم: "مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة بنو عمرو بن عمير. وهم كبار الملاكين والأثرياء في ثقيف"3.
وأسقط النبي عن أهل نجران كل ربا كان عليهم في الجاهلية، إلا رءوس أموالهم فإنهم يردونها وأسقط عنهم كل دم كانوا يُطلَبون به4.
وق كان إرغام ثقيف وغيرهم من الذين كانوا يتاجرون بالربا على ترك الربا، والاكتفاء بأخذ رءوس أموالهم إن كان لهم ربا في الجاهلية، خسارة كبيرة لهم، أرغموا عليها إرغامًا، لتحريم القرآن له, وإحلال "القرضة الحسنة" محله. والقرض الحسن، هو إقراض المال للمحتاج إليه من غير اشتراط زيادة عليه حين إعادته، أي: من غير ربا لذلك المال.
__________
1 الطبري "3/ 492".
2 تفسير الطبري "3/ 71"، البلدان "6/ 10 وما بعدها".
3 تفسير الطبري "3/ 71".
4 اللسان "14/ 305".(14/118)
واضطر من كان له فضل ربا من ربا الجاهلية وهو في الإسلام, على تركه والتنازل عنه, وعلى أخذ خالص ماله فقط الذي أقرضه للمدين من غير أي ربح. وفرض الإسلام على هؤلاء الدائنين أيضًا وجوب التساهل مع المدينين وتأجيل الدفع إن كان المدين في عسر وضيق حال, حتى يتحسن حاله فيتمكن من الدفع1.
وقد ذكر الفقهاء أن الربا ربوان: فالحرام كل قرض يؤخذ به أكثر منه أو تجرّ به منفعة فحرام، والذي ليس بحرام أن يهبه الإنسان يستدعي به ما هو أكثر أو يهدي الهدية ليهدى له ما هو أكثر منها2. وقد دعا بعض العلماء الربا الأول بـ"ربا البيع", وقال عنه: إنه هو الربا المحرم3.
وأول إشارة وردت في القرآن الكريم إلى الربا، هي الإشارة الواردة في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 4, وسورة الروم من السورة المكية. أما المواضع الأخرى التي أشير فيها إلى الربا ففي سورة البقرة5, وسورة آل عمران6, وسورة النساء7، وهي من السور المدنية. ويظهر من دراسة هذه المواضع أن حرمة الربا إنما نزلت في المدينة، أما في مكة فلم يكن قد حرّم، وإنما حث الأغنياء على قرض المال للمحتاج إليه لوجه الله، مساعدة له، ويكون ثوابه عند الله.
وفي سورة "المزمل"، وهي من السور المكية وتعد السورة الثالثة في ترتيب سور القرآن: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} 8، وفي سورة التغابن: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} 9.
__________
1 تفسير الطبري "3/ 72، 74 وما بعدها".
2 القرطبي "14/ 305" "صادر"، تفسير الطبري "21/ 30 وما بعدها"، تفسير القرطبي "14/ 36".
3 تفسير ابن كثير "3/ 434".
4 سورة الروم، الآية 39.
5 البقرة، الآية 275 فما بعدها.
6 آل عمران، الآية 130.
7 النساء, الآية 161.
8 المزمل، الرقم 73، الآية 20.
9 التغابن، الرقم 64، الآية 17.(14/119)
وهذه السورة هي من السور المكية كذلك, ولم يكن الربا قد حرم في هذا العهد كما ذكرت. فيكون الإسلام قد وضع مبدأ القرضة الحسنة، وهو القرض لله وفي سبيله، بغير زيادة، والتبرع في سبيل الله، في موضع الربا في ذلك الوقت. فلما نزل الأمر بتحريمه، جعلت القرضة الحسنة، من أعمال البر والتقرب إلى الله, وصار كل قرض يؤخذ عليه ربح ربًا محرمًا، يعاقب الله الإنسان يوم القيامة عليه, ولعن آكل الربا ومُؤكله وكاتبه وشاهديه1.
وقد ذكر علماء التفسير في تفسيرهم الآية: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 2, أن هذا كان في الجاهلية يعطي أحدهم ذا القرابة المال يكثر به ماله, أو أن الرجل يقول للرجل: لأموِّلنك فيعطيه، فهذا لا يربو عند الله؛ لأنه يعطيه لغير الله ليثري ماله، أو أن الرجل يلزق بالرجل، فيخف له ويخدمه ويسافر معه، فيجعل له ربح بعض ماله ليجزيه، وإنما أعطاه التماس عونه ولم يرد وجه الله، أو هو ما يعطي الناس بينهم بعضهم بعضًا، يعطي الرجلُ الرجلَ العطية ليثيبه، يريد أن يعطي أكثر منها3.
ويذكر العلماء أن رسول الله لما ظهر على مكة وضع يومئذٍ الربا كله، وحتَّم على المرابين أخذ رءوس أموالهم من غير زيادة عليها، وذكر بعض العلماء أن التحريم نزل في ربا "بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف, وفي بني المغيرة من بني مخزوم"، أو "في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان، وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر: لا يبقى لي ما يكفي عيالي إذا أنتما أخذتما حظكما كله، فهل لكما أن تأخذا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا، فلما حل الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنهاهما وأنزل الله تعالى هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رءوس أموالهما"4. وقيل: "نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا, فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. فقال
__________
1 البخاري "5/ 50"، "كتاب البيوع، باب لعن آكل الربا ومؤكله".
2 الروم، الرقم 30، الآية 39.
3 تفسير الطبري "21/ 29 وما بعدها"، روح المعاني "21/ 40 وما بعدها".
4 أسباب النزول "ص65".(14/120)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب" 1.
فنحن إذن أمام أفراد وأمام شركاء كانوا يتعاملون بالربا، أي: قرض المال في مقابل جر مغنم منه, وقد حصل هؤلاء المرابون على أموال طائلة منه. أضف إلى ذلك أنهم كانوا تجارًا، يسافرون إلى الخارج ويربحون من تجارتهم هذه ربحًا حسنًا.
ولضبط المدين الآخذ بالربا، كانوا يكتبون الدين ورباه في صحيفة، يكتب كاتبها اسمه فيها، ويكتب فيها اسم المدين وإقراره بدينه للدائن، وبمقدار الزيادة. والغالب أنهم كانوا لا يذكرون أصل الدين، بل يذكرون الرقم الذي يبلغه هذا المبلغ مع فائضه مضافا إليه، حتى يظهر الفائض وكأنه جزء من رأس المال. ويشهد على صحة العقد شاهدان؛ ولهذا لعن الرسول آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه2.
وكان "أبو لهب" من أصحاب المال بمكة ومن المرابين, ذكر أنه كان قد لاط "العاصي بن هشام" بأربعة آلاف درهم، فلما وقعت معركة بدر استأجره بها على أن يجزئ عنه بعثه، فلم يخرج "أبو لهب" مع من خرج من رجال قريش. وكان "العاصي" قد أفلس، فلم يتمكن من دفع المبلغ ورباه، فتنازل "أبو لهب" عنه على أن يخرج إلى بدر في مكانه3. وفي سورة "تبت" إشارة إلى أن "أبا لهب" كان ملَّاكًا ذا مال وقد كسب كثيرًا.
وقد كان أهل يثرب يقترضون المال والطعام من اليهود في مقابل ربا فاحش. فورد أن أنصاريًّا اقترض ثمانين دينارًا من يهودي، وقد أعطاه ربا بلغ خمسين في المائة من المبلغ لسنة واحدة4. وقد وبخهم القرآن لأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل5.
__________
1 المصدر نفسه.
2 البخاري "5/ 50"، الترتيب والبيان عن تفصيل آي القرآن "2/ 234"، عقود الجواهر "2/ 33"، تيسير الوصول "1/ 68"، مسند الإمام أبي حنيفة "ص158".
3 الروض الأنف "2/ 62".
4 البخاري، بيوع "34/ 14"، Watt, Muhammad at Medina, p. 297
5 تفسير الطبري "1/ 17 فما بعدها".(14/121)
القراض:
وفي جملة وسائل تنمية المال وزيادته: القراض، وهو المضاربة في كلام أهل الحجاز، ويراد به تقديم مال إلى شخص يتجر به على ربح معين. وكان معروفًا بين أهل مكة، فكانوا يضاربون بأموالهم مساهمة منهم في الأرباح, ومنه حديث الزهري: "لا تصلح مقارضة من طُعمته الحرام". فكانوا يعطون المال مضاربة إلى شخص يتجر به، على جزء يأخذه من ربح المال1، وذلك كأن يعطي رب مال رجلًا مالًا يعمل فيه ويأذن له أن يشتري ما يشاء، وأن يبيع بالسعر الذي يشاء، ويدير هذا المال على يديه، وبعد إخراج رأس المال وما صرف على التجارة من أتعاب وأجور وضرائب، يوزع الربح نصفين، أو أثلاثًا: لرب المال الثلثان، وللعامل بحق عمله الثلث، أو حسب ما تعاقدا عليه2. وقيل: القراض: أن يدفع إليه مالًا ليتجر به والربح بينهما على ما يشترطان, والوضيعة على المال3.
وذكر أن المضاربة أن تعطي إنسانًا من مالك ما يتجر فيه على أن يكون الربح بينكما، أو يكون له سهم معلوم من الربح. والمضارب صاحب المال والذي يأخذ المال, كلاهما مضارب, ويقال للعامل: ضارب؛ لأنه هو الذي يضرب في الأرض. وجائز أن يكون كل واحد من رب المال ومن العامل يسمى مضاربًا؛ لأن كل واحد منهما يضارب صاحبه، وكذلك المقارض4.
فنحن إذن أمام نوع من الاتجار بالمال، يقدم فيه صاحب المال مالا إلى شخص آخر ليعمل به رأس مال التجارة، على أن يكون الربح بينهما على نحو ما اتفقا عليه. وقد عرف بالقراض وبالمضاربة.
و"الوضيعة": الخسارة، وفي حديث "شريح" الوضيعة على المال والربح على ما اصطلحا عليه، يعني أن الخسارة من رأس المال5؛ وذلك لاشتراط بعض الجاهليين أن القراض على جزء من الربح، على ألا يتحمل صاحب المال، أي: المقرض له, أية خسارة إذا خسرت التجارة, وعلى المقترض إرجاع المال كاملًا إلى المقرض.
__________
1 اللسان "7/ 217" "صادر", "قرض".
2 نهاية الأرب "9/ 19".
3 تاج العروس "5/ 77"، "قرض".
4 اللسان "1/ 544"، "ضرب"، تاج العروس "1/ 349"، "ضرب".
5 تاج العروس "5/ 544".(14/122)
التسليف:
وفي جملة وسائل الاستفادة من المال: التسليف. وهو تسليف المال لمزارع أو لأصحاب الإبل والماشية في مقابل شيء يتفق عليه، يدفع بعد البيع أو الحصاد؛ يدفع نقودًا أو عينًا أو إبلًا أو ماشية أو أي شيء آخر يتفق عليه. والسلف: هو أن يعطي مالا في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلف، وذلك منفعة للمسلف, وقيل: كل مال قدمته في ثمن سلعة مضمونة اشتريتها للصفقة، فهو سلم وسلف. والسلف: القرض الذي لا منفعة فيه للمقرض غير الأجر والشكر, وعلى المقترض رده كما أخذه1.
وذكر العلماء أن السلف في المعاملات له معنيان: أحدهما القرض الذي لا منفعة للمقرض فيه غير الأجر والشكر وعلى المقترض رده كما أخذه, والعرب تسمي القرض سلفًا. والمعنى الثاني في السلف، هو أن يُعطي مالا في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلف، وذلك منفعة للمسلف2.
ولما قدم النبي المدينة، وجدهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، أي: يعطون الثمن في الحال ويأخذون السلعة في المآل, فقال لهم: "من أسلف فلا يسلف إلا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"3. ويظهر من ذلك أنهم كانوا يسلفون المزارع مالا، ويشترطون عليه أن يعطيهم في مقابل ذلك حاصلًا، أو يبيع زرعه عندهم أو بواسطتهم، وذلك على نحو ما يفعل المزارعون في هذا الوقت, فيكسب المسلف, ويربط المزارع به، بحيث يرغمه على أن يكون مرجعه الوحيد في بيع حاصله. فجوَّز الرسول السلف، على أن يكون بيعًا شرعيًّا صحيحًا: كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم.
و"القرض" الذي لا منفعة للمقرض فيه غير الأجر والشكر، هو ما يقال
__________
1 تاج العروس "6/ 143"، "سلف".
2 اللسان "9/ 159"، "سلف".
3 البخاري "5/ 55 وما بعدها"، "كتاب البيوع، باب السلم".(14/123)
له "قرض حسن" في الإسلام، وهو ما تعطيه لتقضاه، أي: ما يعطي قرضًا، فيُعَاد إلى صاحبه1.
وقامت المعابد في العربية الجنوبية بتسليف المال للمحتاج إليه, ولا أعني بالمال النقود، بل كل شيء له ثمن وقيمة, وكانت تتقاضى فائضًا في مقابل الاستفادة منه. وقد كانت معظم معابد ذلك الوقت تقوم مقام "بنوك التسليف" في هذا اليوم, بتسليف الأموال إلى المحتاج لها؛ لما كان عندها من فائض يأتيها من أملاكها ومن حقوقها المفروضة على أتباعها، فتاجرت في الأسواق, وسلفت الفائض إلى المتسلفين.
ولهذه المعابد بيوت وضعت بها أموال المعبد، وهي خزائن المعابد، وبيوت المال عند المسلمين. وقد كانت في المعابد في الغالب؛ ليكون في وسع أصحاب النذور طرح نذورهم بها, أما الزروع والمواشي التي تكون من حقوق المعبد فتحفظ في المخازن المخصصة لهذه الغاية وفي "حرم" الآلهة المحماة باسمها لرعي ماشيتها. وقد تحدثت عن "الغبغب" الذي كان بمكة في الجزء السادس من هذا الكتاب، وقد كان خزانة للكعبة، وأشرت إلى وجود خزائن لبيوت الأرباب الأخرى. وسدنة الأصنام هم حفاظها وأمناؤها، ولا أستبعد احتمال قيام هؤلاء السدنة بالاتجار باسم المعابد، وبتسليف ما في خزائنها من مال إلى المحتاجين إليه.
وقد عرف الاستلاف من بيت المال في الإسلام. استلف منه بعض الخلفاء والعمال وكبار الرجال لحاجتهم إلى المال أو لتشغيله وللاستفادة منه تجارة أو لاستخدامه في مشاريع زراعية مثل إحياء موات، أو تحويل مجرى ماء إلى غير ذلك من سلف وقروض نص عليها أهل التواريخ والأخبار.
__________
1 تاج العروس "5/ 76"، "قرض".(14/124)
الإفلاس:
والإفلاس ذهاب المال، وإذا لم يبقَ للتاجر مال1. فقد كان التاجر يصاب بخسارة فادحة، تتغلب على أرباحه وعلى ما عنده من مال، أو تتعرض أمواله
__________
1 اللسان "6/ 166"، "فلس".(14/124)
للنهب، فلا يستطيع إعادة اعتباره، فلا يكون في وسعه دفع ما بذمته من قروض أو رأس مال إلى دائنيه، فيعلن عندئذ عدم تمكنه من دفع ما عليه، ويشهر إفلاسه, وهذا ما يقال له الإفلاس.
والمفلس مسئول عن وفاء ديونه, وعليه إرضاء خصومه بدفع ما بذمته لهم دفعًا كاملًا, أو حسب ما يتفق معهم عليه، أو تقسيطًا. ويكون الشركاء مسئولين عن إفلاسهم أيضًا، وعليهم تحمل المسئولية, كل حسب حصته في الشركة.(14/125)
الفصل الثامن بعد المئة: أصحاب المال
مدخل
...
الفصل الثامن بعد المائة: أصحاب المال
وصاحب المال عند أهل الجاهلية، من له تجارة وجمع منها مالًا، أو من له زرع ونخيل، جاء إليه بربح طيب، أو من له إبل، والإبل هي "المال" عند العرب" ومقياس ثراء الإنسان؛ لأنهم لا يعرفون مالًا غيرها، أو من له حرفة رائجة، وذلك بين أهل المدن والقرى، حيث يستطيع صاحبها الحصول منها على ربح طيب إذا عرف كيف يستغل مواهبه في اختيار حرفته, وفي تشغيل الأيدي العاملة لزيادة الإنتاج.
وقد أشار أهل الأخبار إلى رجال جاهليين ومخضرمين كان يملك كل واحد منهم عشرات الألوف من الدراهم، أي: النقود، عدا الإبل والمزارع والأملاك, من هؤلاء: "عبد الله بن جدعان". ويظهر أنه كان واسع الثراء، لم يبلغ أحد مبلغه في كثرة ماله بمكة، حتى ذكر أنه كان يأكل بصحاف من ذهب، ويشرب بآنية من فضة وبكئوس من البلور، وأنه كان قد امتلك قيانًا ليغنين له. وللجرادتين، وهما قينتان من قيانه، شهرة واسعة في كتب الأدب، تغنيان له ولمن يحضر مجلس شرابه ليلًا، وكان بيته دارًا للضيفان.
وكان استعمال الأغنياء لآنية من الفضة والذهب في أكلهم وشربهم معروفًا بمكة, وقد كان ذلك يترك أثرًا في نفوس الفقراء الذين لا يملكون قوتًا لهم؛ ولهذا السبب نُهِيَ عن استعمالها في الإسلام، ونُهِيَ أيضا عن استعمال ثياب الحرير. وقد كانت ثياب الحرير والملابس المقصبة بالذهب، وحلل الديباج من ألبسة(14/126)
الأغنياء، الذين كانوا يعتنون بملابسهم وينفقون في شرائها مالًا، وهي تستورد من الخارج؛ من اليمن ومن بلاد الشام والعراق.
ويفهم من القرآن الكريم أن بين الجاهليين من كان يكتنز الذهب والفضة، ولا يعطي مما جمعه للفقراء والمحوجين شيئًا. وقد بشر هؤلاء بعذاب أليم؛ لاكتنازهم المال وعدم إخراج شيء منه من حق مفروض عليهم، لينفق في موضعه ومكانه الذي وضعه الله له1, وأشار إلى أناس حبب إليهم جمع القناطير المقنطرة من الذهب والفضة2. وكان أغنياؤهم يعيشون عيشة مترفة؛ يحتسون الماء بآنية من ذهب، حتى قيل لأحدهم: "حاسي الذهب" و"شارب الذهب"3, ويستخدمون الأثاث الفاخر، والمذهبات وهي الأشياء المطلية بالذهب، والبرد المذهبة, والملابس المذهبة، والحلي المصوغة من الذهب، على حين يعيش بعضهم عيشة كفاف، وبعض منهم عيشة فقير معدم.
وقد عرف "عثمان بن عمرو بن كعب"، وهو من "بني تميم بن مرة" بـ"شارب الذهب"؛ لغناه وكثرة ماله، حتى كان يشرب بآنية من ذهب، وقد عد في أجواد قريش4.
ويظهر من سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} 5 أن "أبا لهب" كان رجلًا ثريًّا كسب مالًا وذرية ذكورًا. وهو عم من أعمام النبي، واسمه "عبد العزى"، وكان يرى نفسه لكثرة ماله وولده، أنه من رجال قريش وسادتهم، فلا يليق به اتباع ابن أخيه، وهو أصغر منه سنًّا وأقل منه مالًا. يقال: إنه قال للنبي: "ماذا أُعطَى يا محمد إن آمنت بك؟ قال: "كما يعطى المسلمون! " فقال: ما لي عليهم فضل! قال: "وأي شيء تبتغي؟ " قال: تبًّا لهذا من دين, تبًّا أن أكون أنا وهؤلاء سواء"6.
وقد تحدثت عن "أبي سفيان" في مواضع من هذا الكتاب، وكان تاجرًا
__________
1 سورة التوبة، الرقم 9، الآية 34.
2 سورة آل عمران، الرقم 3، الآية 14.
3 المحبر "137".
4 المحبر "137".
5 سورة تبت، الرقم 111، الآية 1 وما بعدها.
6 تفسير الطبري "30/ 217".(14/127)
يجهِّز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحيانا بنفسه1. وقد عهدت إليه قريش بقيادة قوافلها إلى الشام، وبسبب قيادته قافلتها إلى الشام وقعت معركة بدر. ويظهر أنه كان يدفع أمواله إلى كبار تجار قريش ممن كانوا يتاجرون مع الشام والعراق؛ للاتجار بها، فإذا عادوا يصيب من أرباحها.
ويتبين من خبر وقوع ابنه "عمرو" أسيرًا يوم بدر، ومن امتناعه من تخليصه من أسره بتقديم فدية عنه، ومن قوله لمن ألحَّ عليه بإفدائه: "أيجمع عليَّ دمي ومالي! قتلوا حنظلة وأفدي عمرًا، دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم"، أنه كان شحيحًا حمله شحه على تفضيل المال على ابنه, حتى حمله شحه هذا على مخالفة دين قريش، وعرفهم في عهدها ألا تعترض لأحد حاجا أو معتمرا إلا بخير. فلما جاء "سعد بن النعمان بن أكال"، وكان شيخًا مسلمًا كبيرًا, إلى مكة معتمرًا، عدا عليه "أبو سفيان", فحبسه بمكة بابنه "عمرو"، مما حمل الرسول على فك أسر ابنه بـ"سعد بن النعمان بن أكال"2.
وكان يتاجر بالفضة وبالأدم، والأدم من تجارة قريش المهمة. ويظهر أنه كان يشتري الأدم من الطائف ومن اليمن، ثم ينقله إلى بلاد الشام, وقد أشير إلى أدم قريش، وهو أديم عرف في الأسواق بجودته وبنفاسته.
وكان "العباس بن عبد المطلب" من أثرياء قريش, كانت له ثروة واسعة من نقود ومن ذهب وفضة, وقد استغل ماله في التجارة وفي إقراضه بالربا. قيل عنه: إنه "كان ذا مال كثير متفرّق في قومه"3, كان يقرضهم ويسلفهم ويشاركهم في تجارتهم. ولما انتهى إلى المدينة قال الرسول له: "يا عباس, افدِ نفسك, وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عروة ابن عمرو بن جحدم, أخا بني الحارث بن فهر؛ فإنك ذو مال ". فقال: يا رسول الله؛ إني كنت مسلمًا، ولكن القوم استكرهوني، فقال: "الله أعلم بإسلامك، إن يكن ما تذكر حقًّا فالله يجزيك به, فأما ظاهر أمرك فقد كان
__________
1 الاستيعاب "4/ 86"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "2/ 172"، "رقم 4046".
2 الطبري "2/ 466 وما بعدها".
3 الطبري "2/ 461".(14/128)
علينا، فافدِ نفسك" -وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أخذ منه عشرين أوقيةً من ذهب- فقال العباس: يا رسول الله، احسبها لي في فدائي، قال: "لا؛ ذاك شيء أعطاناه الله عز وجل منك"، قال: فإنه ليس لي مال, قال: "فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند أم الفضل بنت الحارث، ليس معكما أحد, ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا, فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا، ولعبيد الله كذا وكذا! " قال: والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله، ففدى العباس نفسه وابني أخيه وحليفه"1, وكان ذلك عند وقوعه في الأسر ببدر2.
وكانت أم العباس غنية على ما يظهر، ذكر أنه ضاع وهو صغير، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول من كساه ذلك3. وكان له مال في الطائف، فإذا كان الموسم جيء إليه بالزبيب لينتبذه للحجاج، فقد كان المتولي لأمر السقاية بمكة. وذكر أنه كان يملك "مكوكًا" مصوغًا من فضة مموهًا بالذهب, يشرب به4.
وقد نجح بعضهم في الزراعة نجاحًا باهرًا، وأظهر مقدرة في إحياء الأرض الموات, ومن هؤلاء: "عبد الله بن عامر بن كريز". وكان صغيرا في أيام النبي، وولي "البصرة" في أيام "عثمان", وكان ابن خال "عثمان". وله "النباج" الذي يقال له: نباج ابن عامر، وله "الجحفة"، وله بستان ابن عامر بنخلة على ليلة من مكة، وله أرضوان أخرى، تمكن من معالجتها ومن إظهار الماء فيها، حتى جمع ثروة طائلة من الزراعة5.
ونجح "عبد الله بن عمرو بن العاص" في الزراعة أيضًا، فقد كان له مال بالطائف على ثلاثة أميال من "وج"، هو كرم فاخر موصوف، "كان يعرش على ألف ألف خشبة شراء كل خشبة درهم", وقد كان يحصل منه على أكوام كبيرة من الزبيب6.
__________
1 الطبري "2/ 466".
2 الإصابة "2/ 263"، "رقم 4507".
3 الإصابة "2/ 263"، "رقم 4507"، الاستيعاب "3/ 94"، "حاشية على الإصابة".
4 تاج العروس "7/ 179"، "مك".
5 كتاب نسب قرش "148"، الاستيعاب "2/ 251"، "حاشية على الإصابة".
6 تاج العروس "5/ 243"، "وهط".(14/129)
وعرف "آل مخزوم" بالثراء في الجاهلية وفي الإسلام. مرَّ "عثمان بن عفان" بمجلس لبني مخزوم، فسلم عليهم، ثم قال: "إنه ليعجبني ما أرى من جمالكم ونعمة الله عليكم". "وزعموا أن قومًا قعدوا يذكرون الأغنياء من قريش، فقال أحدهم: "المغيرة بن عبد الرحمن", فقال له القوم: "وهل لمغيرة من مال؟ " فقال الرجل: أليس له أربع بنات وأربع أخوات؟ وكان المغيرة يقول: لا أزوج كفؤًا إلا بألف دينار! فكان إذا خطب إليه الكفؤ، قال له: قد علمت قولي؟ فيقول له الخاطب: قد علمتُ وقد أحضرت المال, فيزوجه ويقبض المال منه؛ ثم يقول له: اختم عليه بخاتمك، فإذا أدخل زوجته، بعدما يجهزها بما يصلحها، ويخدمه خادمين، ويدخل بيتها نفقة سنة دفع إليها صداقها مختومًا بخاتم زوجها، ثم يقول لها: هذا مالك، وما جهزناك به صلة منا لكِ"1. وهي قصة مهما قيل فيها فإنها تشير إلى ثراء وغنى آل مخزوم.
وعكرمة بن أبي جهل من أغنياء قريش كذلك، ولما ندب "أبو بكر" الناس لغزو الروم، خرج معهم غازيًا، فبصر "أبو بكر" بخباء عظيم، حوله ترابط ثمانية أفراس ورماح وعدة ظاهرة، فجاء إليه، فإذا خباء "عكرمة"، فعرض أبو بكر عليه المعونة، فقال: "أنا غني عنها, معي ألفا دينار، فاصرف معونتك إلى غيري"2.
وكان "الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس" من تجار مكة، وكان يخرج بتجارته إلى الخارج، فيذهب إلى الحيرة للاتجار بسوقها. ومر "الحكم" بحاتم الطائي فسأله الجوار في أرض طيء حتى يصل إلى "الحيرة", فأجاره ونحر له وأوصله إلى الحيرة.
ومن أغنياء الطائف "مسعود بن معتب الثقفي"، قيل: إنه كان له مال عظيم, وإنه أحد من قيل فيه: إنه المراد من الآية: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . وكانت له مزارع بها أشجار كروم وفواكه، وله عبيد، وقصر ضخم3.
ومن رجال الطائف الأغنياء "مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي"، كان غنيًّا
__________
1 كتاب نسب قريش "308 وما بعدها".
2 كتاب نسب قريش "311".
3 تاج العروس "6/ 184"، "طوف".(14/130)
يرابي بماله, ولإخوته ربا عند "بني المغيرة بن عبد الله"، فلما أسلموا طالبوهم، فقالوا: ما نعطي الربا في الإسلام، واختصموا إلى "عتاب بن أسيد"، فكتب به إلى النبي، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1.
ولا توجد لدينا قوائم بمقدار ما كان يملكه الأغنياء في الجاهلية من مال، وأقصد بالمال هنا: النقود من دنانير ودراهم؛ لعدم وصول موارد مدونة فيها مثل هذه القوائم، إلا أن الموارد الإسلامية قد تطرقت إلى ذكر ما قدمه بعض من أسلم من النقود في سبيل الله، وبعض ما قدمه المشركون من أجل الدفاع عن مصالحهم، كما أشارت إلى أمور أخرى وردت فيها أعداد وأرقام، قد ترسم لنا صورة عن أموال بعض الأغنياء عند ظهور الإسلام. فقد ورد في كتب السير والتواريخ مثلًا أن الرسول استسلف من "عبد الله بن أبي ربيعة" أربعين ألف درهم، فأعطاه, واستقرض من "صفوان بن أمية" خمسين ألف درهم فأقرضه, واستقرض من "حويطب بن عبد العُزى" أربعين ألف درهم, فكانت ثلاثة ومائة ألف قسمها بين أهل الضعف، فأصاب الرجل خمسين درهمًا وأقل وأكثر، وبعث من ذلك إلى بني جذيمة2.
وورد أن "المطلب بن أبي وداعة"، فدى أباه يوم بدر بأربعة آلاف درهم3, وهو مبلغ يمكن أن يتحدث عما كان لدى آل "أبي وداعة" من مال.
واستعان الأغنياء بخزنة يخزنون لهم أموالهم، ويكتبون لهم حساباتهم، فكان لـ"طلحة بن عبيد الله" خازن يحفظ له ماله، ويشرف على أملاكه ونخله وزروعه4, والخازن، هو الذي يحافظ على المال وخزنه، والخزانة مكان الخزن5. وقد كانت الخزائن معروفة عند الجاهليين، وقد أشير إليها في مواضع من القرآن الكريم6, وكان "بلال المؤذن" خازنًا لأبي بكر، ثم صار خازنًا للرسول،
__________
1 الإصابة "3/ 392"، "رقم 7958".
2 إمتاع الأسماع "1/ 395".
3 كتاب نسب قريش "406".
4 إرشاد الساري "4/ 79".
5 تاج العروس "9/ 191".
6 غافر، الآية 49، الزمر، الآية 71، 73، الملك، الآية 8، الأنعام، الآية 50، هود، الآية 21، الإسراء، الآية 100، يوسف، الآية 55، ص، الآية 9، الطور، الآية 37، المنافقون، الآية 7، الحجر، الآية 21.(14/131)
لما أعتقه "أبو بكر"، يقوم بحفظ ما يأتي إلى الرسول من بيت المال، ويعطي منه من يأمره بإعطائه منه1.
واتخذوا لهم محاسبين يحسبون لهم حسابهم. وتجار لهم قوافل ولهم شركات مساهمة، يساهم فيها كل من أراد من أهل مكة، كان لا بد لهم من استخدام المحاسبين؛ لحساب رءوس أموالهم ومصاريفهم وتقدير أرباحهم وخسائرهم. وقد "استعمل الرسول رجلًا من الأسد على صدقات "بني سليم"، يدعى "ابن اللتيبة"، فلما جاء حاسبه، فقد صح أن رسول الله حاسب. وبكتاب الحساب تحفظ الأموال"2. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال آخرين عيَّنهم الرسول لأخذ صدقات المسلمين ومحاسبتهم عليها.
وقد استغل أهل مكة "الطائف"، فكانت لقريش أموال بها يأتونها من مكة فيصلحونها، فلما فتحت مكة وأسلم أهلها طمعت ثقيف فيها، حتى إذا فتحت الطائف أقرت في أيدي المكيين, وصارت الطائف مخلافًا من مخاليف مكة. وممن كان له مال بالطائف "العباس بن عبد المطلب"، كانت له بها أرض, بها كروم، فكان الزبيب يحمل منها فينبذ في السقاية للحجاج3.
والتجارة من أهم موارد الثراء عند الجاهليين، وقد كان أكثر أغنياء مكة تجارًا. وأهم ما يمتاز به ثراء التاجر عن ثراء غيره من الأغنياء، هو أن ثراءه ثراء نقود، وتعامله بالدنانير والدراهم في الغالب، وأن ما يبيعه ويشتريه هو من منتوج ومحصول غيره، فهو وسيط، يكسب ربحه من البيع والشراء، أي: من فرق السعر الذي يكون بين سعر شرائه وسعر بيعه، وقد يخسر بالطبع. أما ثراء الأغنياء المزارعين، فمن بيع حاصلهم، ويزيد كسبهم كلما ارتفع سعر البيع، فتزيد به ثروتهم وتتوسع أرضهم. وأما ثراء سادة القبائل، فمن المال أي: الإبل، ومن الجباية والتعامل مع التجار, ومن الجهود الشخصية التي يبذلونها في الحصول على المال، مثل حفر الآبار واستنباط الماء في الأرض الموات وغير ذلك.
ومن وسائل الثراء العثور على "الرِّكاز"4، دفين أهل الجاهلية، أي: الكنز
__________
1 الاستيعاب "1/ 145 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "1/ 169"، "رقم 736".
2 نهاية الأرب "8/ 192".
3 البلاذري، فتوح "68".
4 الركاز ككتاب.(14/132)
الجاهلي، والمال العادي يوجد مدفونًا. و"الركزة" واحدة الركاز: القطعة من جواهر الأرض المركوزة فيها، وقطع عظام مثل الجلاميد من الذهب والفضة تخرج من الأرض أو من المعدن, وأدخل بعض العلماء المعادن في الركاز. وخصص أهل الحجاز الركاز بالمال المدفون خاصة مما كنزه بنو آدم قبل الإسلام، وأما المعادن فليست بركاز1. وعرف الركاز بـ"السيوب", وذكر أن السيوب المعادن، وذكر أنها عروق من الذهب والفضة تسيب في المعدن، أي: تتكون فيه وتظهر، سميت سيوبًا لانسيابها في الأرض, وذكر أنها المال المدفون في الجاهلية أو المعدن. وقد وردت اللفظة في كتاب الرسول لـ"وائل ابن حجر", إذ ورد: "وفي السيوب الخمس"2.
وقد اعتبر الجاهليون "الركاز" مالًا يأخذه من يعثر عليه، ونصيبًا حلالًا حكمه حكم اللقطة التي لا صاحب لها، أما الإسلام، فقد فرض الخُمس في الركاز, وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه. فما استخرج من الركاز، فلمستخرجه أربعة أخماس ولبيت المال الخمس3.
ونجد السور المكية الأولى من سور القرآن، تصور أغنياء قريش أناسًا متغطرسين غلاظ الأكباد يرون أنفسهم فوق الناس؛ لغناهم ولمكانتهم بسبب ذلك في قولهم، وكان ضعف حال الرسول بالنسبة لهم، وصغر سنه من أهم العوامل التي دفعت أولئك السادة إلى مقاومته ومقاومة ما جاء به، خاصة في دعوته إنصاف الفقير وإخراج حق الله المكتوب للفقراء من أموالهم صدقة وزكاة، تزكية لأموالهم، وإسعافًا لفقرائهم. قال أبو لهب للرسول: "ماذا أعطى يا محمد إن آمنت بك؟ قال: "كما يعطى المسلمون! " فقال: ما لي عليهم من فضل! قال: "وأي شيء تبتغي؟ " قال: تبًّا لهذا من دين، تبًّا أن أكون أنا وهؤلاء سواء"4.
ويصورهم القرآن الكريم قومًا ألهاهم التكاثر والتفاخر، تفاخروا بأموالهم وبوجاهتهم في قومهم، بل تفاخروا حتى بمن توفي منهم من سادتهم5. لا يرحمون
__________
1 تاج العروس "4/ 39"، "ركز".
2 تاج العروس "1/ 305"، "سيب".
3 تاج العروس "4/ 39"، "ركز".
4 تفسير الطبري "30/ 217".
5 سورة التكاثر، الرقم 102.(14/133)
فقيرًا، ولا يعطفون على يتيم، بل كانوا يأكلون أموال اليتامى ويقهرونهم، ولا يعطونهم حقوقهم1. إذا جاءهم سائل انتهروه وطردوه طردًا قبيحًا، وإذا طلب محروم منهم عونًا أبعدوه عنهم, وإذا وزن بائعهم أنقص في الميزان، وإذا كال قصر في الكيل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} 2.
ونجد هذه الصور البشعة المعبرة عن جشع بعض الأغنياء في كتب السير والحديث والأخبار أيضا، إذ صورت بعضها بعضهم وقد اعتدى على أموال رجل غريب جاء يتاجر بمكة، فتلقاه تاجر من تجارها، عامله على سلعة له، ثم بايعه، فلما قبضها ماطله الثمن، ثم أكله. هذا "أبو جهل" ابتاع إبلًا لرجل من "إراش" "إراشة" بمكة، فمطله بأثمانها، فأقبل "الإراشي" حتى وقف على نادٍ من قريش، ورسول الله في ناحية من المسجد جالس, فقال: يا معشر قريش, من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام، فإني رجل غريب ابن سبيل, وقد غلبني على حقي. فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس -يشيرون إلى رسول الله، وهم يهزءون به لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة- اذهب إليه فإنه يؤديك عليه. فذهب به إلى أبي جهل، وأخذ منه حقه، وأعاده عليه3. وهذا رجل من "زبيد" قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه "العاصي بن وائل"، وكان ذا قدر بمكة وشرف فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف، فأبوا أن يعينوه على "العاصي بن وائل" وزبروه. فلما رأى الزبيدي الشر, أوفى على أبي قبيس وقريش في أنديتهم، فصاح بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرم أشعث لم يقضِ عمرته ... يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن تمت كرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
__________
1 الأنعام، الرقم 6، الآية 152، الإسراء، الرقم 17، الآية 34، الفجر، الرقم 89، الآية 17، الضحى، الرقم 93، الآية 9، ومواضع أخرى، المعجم المفهرس "770".
2 الرحمن، الآية 9، المطففين، الآية 1 وما بعدها، تفسير الطبري "30/ 57 وما بعدها"، تفسير النيسابوري "30/ 44"، "حاشية على تفسير الطبري".
3 ابن هشام، سيرة "1/ 237 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف".(14/134)
فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُؤدَّى إليه حقه. وعرف حلفهم هذا بحلف الفضول، ثم مشوا إلى "العاصي بن وائل"، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه1. فكان حلف الفضول نتيجة لما كان يقع بمكة من اعتداء على حقوق وأموال الغرباء والمستضعفين من الناس.
وذكر أن منهم من كان يأكل أجر العامل الأجير، ومنهم من كان يشتط على عبده، فيشغله في أشغال صعبة، ثم يطلب منه أجره، وقد يستقل أجره فيضربه ليحمله على أن يشتغل له أكثر من شغله، ليجيء إليه بمال زائد. ومنهم من كان يحمل إماءه على البغاء ليأخذ أجرهن، كما أشير إلى ذلك في القرآن الكريم، وكما أشرت إلى ذلك في مواضع أخرى من هذا الكتاب. ومنهم من كان لا يبالي للحصول على المال بسلوك أي سبيل يؤدي إليه.
وهي صورة تعارض ما نقرؤه في أخبار أهل الأخبار عن تعاطف أغنياء مكة مع فقرائهم، وعن إخراجهم جزءًا من أموالهم لمساعدة البائس والفقير والصعلوك والغريب، حتى صار الفقير عندهم كالكافي وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء إلى غير ذلك من نعوت وأوصاف2، وكما جاء في شعر ينسب إلى "مطرود بن كعب الخزاعي"3, وما ذكروه عن الذادة الذين أخذوا على أنفسهم الذود عن الضعيف والمظلوم.
ونجد أناسًا بين الأعراب كانوا يشعرون بما كان يعانيه الفقراء من شدة الفقر، ومن شدة ما أصاب بعضهم من إملاق، ومن اضطرار بعضهم إلى وأد بناته من شدة الفقر، كما أشير إلى ذلك في القرآن الكريم، وهذا مما حمل بعض أصحاب القلوب الرحيمة الشفيقة على ودي البنات، وحمل مئونتهن وبذل الرعاية لهن حتى يكبرن فيتزوجن. وقد ذكر أن من هؤلاء الذين وهبوا الشعور بالمسئولية الإنسانية وبالشفقة والرحمة والحنان: "صعصعة بن ناجية بن عقال"، فقد أحيا الموءودات فبعث الرسول, وعنده مائة جارية وأربع جوارٍ أخذهن من آبائهن لئلا يوأدن4.
__________
1 ابن هشام، سيرة "1/ 90 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "1/ 90 وما بعدها".
2 ثمار القلوب "10 وما بعدها".
3 الروض الأنف "1/ 117".
4 المحبر "141".(14/135)
عادات وأعراف:
ويظهر من بعض الأخبار أن الوأد لم يكن عن إملاق فحسب، بل كان لسبب آخر أراه متصلًا بعقيدة ودين. فقد ذكر أن وفد "جعفى"، قال لرسول الله: يا رسول الله! إن أمنا مُليكة بنت الحلو، كانت تفك العاني وتطعم البائس وترحم المسكين، وإنها ماتت وقد وأدت بنية لها صغيرة, فما حالها؟ قال: "الوائدة والموءودة في النار" 1. فلم يكن الوأد هنا بسبب الفقر والإملاق، بل لسبب آخر، قد يكون له صلة بدين أو بعرف اجتماعًا, ويلاحظ أن "جعفى" كانوا يحرمون القلب في الجاهلية ولا يأكلونه. ولما قدم وفدهم إلى يثرب، قال رسول الله: "بلغني أنكم لا تأكلون القلب؟ " قال: نعم. قال: "فإنه لا يكمل إسلامكم إلا بأكله". ودعا له بقلب فشوي، ثم ناوله أحد رجال الوفد، فلما أخذه أرعدت يداه، فقال له رسول الله: "كُلْهُ"، فأكله وقال:
على أني أكلت القلب كرهًا ... وترعد حين مسته بناني2
وقد حمل الأعشى على أولئك الذين ينامون وهم متخمون ملاء البطون، وجيرانهم جياع يتضورون من الجوع، إذ يقول:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وفي هذا المعنى يقول بشر بن المغيرة:
وكلهم قد نال شبعًا لبطنه ... وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه
ولعل هذا الشعور هو الذي حمل "عروة بن الورد" على أن يكون سيد الصعاليك ومجمعهم ومغيثهم، حتى قيل له: "عروة الصعاليك"؛ لأنه كان يجمع الصعاليك في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه3.
وفي القرآن الكريم أن "ملأ" نوح، وهم الأعزة أصحاب الحول والطول،
__________
1 ابن سعد، الطبقات "1/ 325".
2 ابن سعد، الطبقات "1/ 324 ما بعدها".
3 تاج العروس "7/ 153"، "صعلك".(14/136)
يقولون لنوح: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} 1، وفيه أنهم قالوا له: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} 2. وقول ملأ نوح هذا، هو تعبير عن رأي ملأ قريش الذين كانوا يقولون: لو كان محمد رسولا حقا، لكان رجلا من رجال قريش أو الطائف الأغنياء أصحاب المال، فالرئاسة ولو كانت نبوة لا تكون إلا في رجل عظيم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 3. وكانوا يسخرون من المسلمين ويستهزئون بهم حينما يرونهم خلف الرسول يدخلون المسجد الحرام، وهم من الأراذل الضعفاء والفقراء، فيضحكون ويقولون: جاءكم ملوك الأرض كسرى وهرقل, فدين يكون أتباعه ومعتنقوه من الرقيق والضعفاء دين ليس له شأن، ولا يمكن أن يكون مقبولًا حتى يكون أتباعه من الأغنياء ملأ القوم.
وقضى أغنياء مكة وسادتها لياليهم في مجالسهم ونواديهم، وعادتهم أنهم كانوا يتنادمون، يشربون ويسمعون القيان، ويتنادرون ويسمعون القصص والنكات، ثم يعودون إلى بيوتهم، ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء ندماء قريش.
وأكثر الأغنياء من التدهن، فالتدهن من النعيم، وهم يتدهنون بالدهون الجيدة المطيبة. ويقال لكثرة التدهن: "التورن"4, و"التودن": كثرة التدهين والتنعيم5.
وفي مقابل هذه الطبقة الغنية، كان السواد فقيرًا، ومنهم معدمون تمامًا لا يملكون شيئًا، إذا عجزوا عن الحصول على قوت، عمدوا إلى الشجر فأكلوا ورقه أو ثمره إن كان بريًّا لا يملكه أحد، أو إلى الأعشاب فأكلوها -ورد في حديث "عتبة بن غزوان": ما لنا طعام إلا ورق البشام6- أو إلى "العلهز" فأكلوه. وهو طعام من الدم والوبر كان يتخذ في أيام المجاعة، وذلك أن يخلط الدم بأوبار الإبل ثم يشوى في النار، قيل: وكانوا يخلطون فيه القردان، وذكر أنه الصوف ينقش ويشرب بالدماء ويشوى ويؤكل. ورد في حديث "عكرمة":
__________
1 سورة هود، الرقم 11، الآية 27.
2 سورة الشعراء، الرقم 26، الآية 111.
3 الزخرف، الرقم 43، الآية 31.
4 تاج العروس "9/ 360"، "التورن".
5 تاج العروس "9/ 360"، "ودن".
6 تاج العروس "8/ 203"، "بشم".(14/137)
كان طعام أهل الجاهلية العلهز1. أو إلى "القرف"، لحاء الشجر، فأكلوه2, وأكلوا "الوزين"، وهو الحنظل يؤكل باللبن أيام الحاجة3.
وقد كان الناس يصابون بالشدة والعسر، ويعبر عن ذلك بـ"الحشر", والحشر: إجحاف السنة الشديدة بالمال. وإذا أصابت الناس سنة شديدة فأجحفت بالمال وأهلكت ذوات الأربع قيل: حشرتهم السنة، بمعنى: أصابهم الضرر والجهد4.
وفي العربية ألفاظ عديدة تعبر عن الشدة والضيق والفقر وضنك الحياة وسوء الحال، من ذلك "القشف" والضعف والشظف وغير ذلك5. وفي كثرة هذه الألفاظ تعبير عن سوء الأحوال وعن تبرم الناس من الحياة ومن شدتها عليهم في ذلك الوقت، حيث كانت حياتهم في عسر وضيق.
__________
1 تاج العروس "4/ 61"، "العلهز".
2
وإن قرى قحطان قرف وعلهز ... فأقبح بهذا ويح نفسك من فعل
تاج العروس "4/ 16"، "العلهز".
3 تاج العروس "9/ 361"، "وزن".
4 تاج العروس "3/ 142"، "حشر".
5 تاج العروس "6/ 221"، "قشف".(14/138)
سرقة أموال الآلهة:
وقد ورد في نص من نصوص المسند، وعيد بأن ينزل الإله رب السماء "ذسموي" غضبه ولعناته وكل سوء، وأن يلحق البؤس "يباس" بكل "نفس" إنسان لا يبالي بأوامر ذلك الإله، فيسرق "ذ يسرقن" محرمه، ويسرق من أموال محرمه "بقرم" بقرًا أو غير ذلك, كما أشير إلى العقوبات التي ستنزل بذلك الإنسان المتطاول المخالف لأوامر الآلهة1؛ عقوبات العذاب "عذبن" تنزلها الآلهة على أولئك الأشخاص2.
ولهذا النص أهمية كبيرة بالنسبة إلينا؛ لأنه شاهد ناطق على أن الإنسان عند الحاجة وعند تصوره وجود منفعة وفائدة له لا يعبأ بسرقة آلهته وبالسطو على ما في معابدها من أموال وحلال، وأنه لا يتردد من السطو على أوقاف تلك الآلهة
__________
1 REP. EPIGR. 820
2 الفقرة السادسة من النص: REP. EPIGR. 820. Rhodokanakis, Stud. Lexi. II, S. 162.(14/138)
وأخذ ما فيها, لا فرق في ذلك بين إنسان قديم، كان للدين عليه وعلى مجتمعه نفوذ وسلطان، وبين مجتمع حديث تهذب فيه الإنسان وارتفعت فيه مداركه ومزاياه, فها نحن أمام جماعة سرقت معبد "محرم" إلهها "ذو سموي" رب السماء، ولم تكتفِ بسرقة ذلك المعبد، بل سرقت البقر في الأرض المحبوسة على ذلك الإله. ولهذا أمر رجال ذلك المعبد الناطقين باسم ذلك الإله بكتابة ذلك النص ليقرأه الناس وليروا ما فيه من لعنات ستنزل على من يتجاسر على مخالفة أوامر ذلك الإله، فيسرق معبده ويسرق بقره.
ويلاحظ أن التشريع قد اعتبر القبيلة والجماعة وحدة اجتماعية مسئولة أمام الإله عن كل ما اقترفه أفرادها من سرقات وآثام. فإذا سرق أحدهم من معبده أو ألحق أضرارًا بأملاكه، صارت القبيلة مسئولة قانونًا وكلها أمامه، وعليها إنزال عقابها بالفاعل، بالإضافة إلى العقاب الذي يفرضه المعبد عليه. وبإيقاع المسئولية على القبيلة كلها، يكون المعبد قد أمن بذلك من غدر الأفراد المجهولين، ومن تطاول السراق المتسترين على أموال المعابد والآلهة، ومتى وجدت القبيلة أنها مسئولة عن ذلك بالتضامن، فإنها تكن حذرة وعينًا على السراق والمفسدين، لا سيما إذا ما علمت أن الآلهة تغضب عليها فتصيبها بالكوارث، فتقل بذلك حوادث السرقات بالنسبة إلى أموال المعابد والأوقاف.
ويجب أن نتذكر هنا القصة التي يرويها أهل الأخبار عن سرقة "كنز الكعبة" وذلك قبل بنيانها بقليل، ووضع السراق ما سرقوه عند "دويك" مولى لبني "مليح بن عمرو" من خزاعة، وقطع أهل مكة يده لذلك. وما ذكروه أيضًا من أن سارقًا سرق من مالها زمن جرهم، فانتزع المال منه1.
كذلك يجب أن نتذكر أن سارقًا سرق من بيت "عائشة" شيئًا، فدعت عليه، فقال لها النبي: "لا تسبخي عنه بدعائك عليه"، أي: لا تخففي عنه إثمه الذي استحقه بالسرقة بدعائك عليه2. سرق بيت رسول الله مع أنه مسلم مؤمن بالله وبرسوله، لم يردعه عن السرقة دينه، وقد تكون الحاجة قد دفعته إلى تلك السرقة.
ووصلت إلينا نصوص أخرى يفهم منها أن أشخاصًا استدانوا من أموال المعبد فلم يؤدوها له، وأن قومًا أكلوا حقوق الآلهة المفروضة عليهم من أعشار ونذور،
__________
1 ابن هشام "1/ 130"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "1/ 130".
2 تاج العروس "2/ 260"، "سبخ".(14/139)
وفي بعض منها إقرار من أصحابها بأنهم أكلوا حق الآلهة، أو لم يتمكنوا من الوفاء بديونهم أو بنذورهم لها، فهي تتوسل إليها بأن تغفر لأصحابها ما اقترفوه بسبب ذلك من إثم، وأن تمن عليهم بالصحة والعافية. ويظهر أنهم أصيبوا بسوء ومرت بهم أوقات عصيبة, جعلتهم ينسبون ما حل بهم إلى فعل الآلهة، وإلى غضبها عليهم بسبب أكلهم أموالها وحقوقها، فكتبوا ما كتبوه يستغفرون ويتوبون، يرجون الصفح والعفو، وقد وعد بعضهم بالوفاء بل ما أخذه ولواه.(14/140)
دفن الذنوب:
ومن عادة العرب في الجاهلية، أن أحدًا منهم إذا جنى جناية، أو نهب شيئًا, أو أكل مالًا، أو غش أحدًا في تجارة، أو أكلها بالباطل، وأراد المجني عليه العفو عما وقع، فالتعويل في الصفح فيها على الدفن. وطريقتهم فيه أن تجتمع أكابر قبيلة الذي يَدْفن الذنب بحضور رجال يثق بهم المدفون له، ويقوم منهم رجل، فيقول للمجني عليه: نريد منك الدفن لفلان، وهو مقر بما أهاجك عليه، ويعدد ذنوبه التي أُخذ بها ولا يبقي منها بقية، ويقر الذي يدفن ذلك القائل على أن هذا جملة ما نقمه على المدفون له، ثم يحفر بيده حفيرة في الأرض، ويقول: قد ألقيت في هذه الحفيرة ذنوب فلان التي نقمتها عليه، ودفنتها له دفني لهذه الحفيرة، ثم يرد تراب الحفيرة إليها حتى يدفنها بيده. ولا يطمئن خاطر المذنب منهم إلا به، إلا أنه لم تجر للعرب فيه عادة بكتابة، بل يُكتفَى بذلك الفعل بمحضر كبار الفريقين، ثم لو كانت دماء أو قتلى عفيت وعفيت بها آثار الطلائب1.
__________
1 صبح الأعشى "13/ 252".(14/140)
الفصل التاسع بعد المئة: الطبقة المملوكة
مدخل
...
الفصل التاسع بعد المائة: الطبقة المملوكة
وأدنى الطبقات منزلةً في المجتمع، هي الطبقة التي تحترف الحرف، وطبقة الرقيق، أي: الطبقة المملوكة, التي تساوي الحيوان في كونها مخلوقات حية مملوكة لغيرها، ليس لها في هذه الحياة حرية ولا رأي ولا اختيار. فقدت حريتها بالرق، وصارت ملك سيدها، وهي وما تنتجه ملك للمالك، ويدخل في ذلك نسلها إلى الأبد، إذ إذا منَّ المالك على عبده بفك رقبته، فيصير حرًّا، وتنتقل الحرية إلى نسله كذلك.
والرقيق سلعة من سلع السوق، تباع وتشترى كما تباع وتشترى أية سلعة أخرى. وليس لها سعر ثابت معين، إنما يتوقف ثمنها على عمر تلك السلعة وعلى درجتها من الجمال وعلى نوع جنسها وعلى حذق ومهارة ودرجة فطنة وذكاء تلك السلعة الآدمية وعلى الأعمال التي تتمكن من القيام بها. ولم نعثر على نصوص جاهلية فيها أسعار الرقيق، أما أخبار أهل الأخبار، فقد ذكرت في بعض المناسبات أسعار بعض الرقيق، فساعدتنا بذلك على تكوين رأي عن سعر هذه البضاعة الحية عند ظهور الإسلام.
فقد ذكرت كتب السير والتواريخ والصحابة، أن "خديجة" ملكت "زيد بن حارثة" اشتراه لها "حكيم بن حزام بن خويلد"، بسوق عكاظ بأربعمائة درهم1. وذكرت أن "أبا بكر" اشترى "بلال بن رباح" مؤذن الرسول
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "185".(14/141)
وهو من الحبش، أي: من الزنوج بخمس أواقٍ، وقيل: بسبع أواقٍ، وقيل: بتسع أواقٍ، ثم أعتقه, وكان خازنًا له1, كما كان خازنًا للرسول2. وبيع "يعقوب" المدبر والمعروف بـ"القبطي"، من "نعيم النحام" بثمانمائة درهم، وقيل: بسبعمائة أو تسعمائة3.
__________
1 الاستيعاب "1/ 145"، "حاشية على الإصابة".
2 الإصابة "1/ 169"، "رقم 736".
3 إرشاد الساري "4/ 111"، الإصابة "3/ 630"، "رقم 9359".(14/142)
الاتجار بالرقيق:
وكان الرقيق إذا ذاك تجارة نشطة مربحة، يكسب صاحبها منها ربحا طيبا، وكان المتاجر بالرقيق يشتري تجارته من الأسواق الخارجية، ثم يأتي بسلعته إلى أسواق جزيرة العرب لبيعها فيها؛ في الأسواق الموسمية وفي الأسواق المحلية الدائمة، مثل: سوق مكة ويثرب والطائف ونجران وغيرها. ففي كل هذه الأسواق وأمثالها طلب شديد على الرقيق؛ لأنه وسيلة من وسائل تأدية الأعمال والإنتاج. وأسواق العراق وبلاد الشام من أهم الأسواق التي موَّنت جزيرة العرب بالرقيق الأبيض, أما السواحل الإفريقية، فقد مونتها بالرقيق الأسود, وهو أرخص ثمنًا من الرقيق الأبيض، وكفاءته محدودة، وقابلياته للعمل معينة، وهو لا يجاري الرقيق الأبيض في كثير من الأمور.
والرقيق المملوك: بين الرق, والرق: الملك والعبودية, ورق: صار في عبودية, واسترق المملوك فرق: أدخله في الرق، والرقيق: العبد، والرق: العبودة, سُمي العبيد رقيقًا لأنهم يرقون لمالكهم ويذلون ويخضعون1, و"المملوك": العبد. وقيل الذي سبي ولم يملك أبواه، أو إذا ملك ولم يملك أبواه، فهو عبد مملكة. "وفي الحديث: أن الأشعث بن قيس خاصم أهل نجران إلى عمر في رقابهم وكان قد استعبدهم في الجاهلية، فلما أسلموا أبوا عليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين, إنا كنا عبيد مملكة ولم نكن عبيد قن". المملكة: أن يغلب عليهم فيستعبدهم
__________
1 اللسان "10/ 124"، "رقق"، تاج العروس "6/ 359"، "رق".(14/142)
وهم في الأصل أحرار. والقنّ: العبد، ويقال: المشتري1.
والعبد: المملوك خلاف الحر، و"العِبِديّ": جماعة العبيد الذين ولدوا في العبودية. "وفي حديث عامر بن الطفيل: أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما هذه العبدي حولك يا محمد؟ أراد فقراء أهل الصفة، وكانوا يقولون: اتبعه الأرذلون"2.
و"القِن": عبد مملك هو وأبواه، أو هو الخالص العبودة، أو الذي وُلد عندك ولا تستطيع إخراجه عنك3.
ومن الرقيق، رقيق تبع الأرض، فهو دائمًا بها، يُباع معها، ويُشترى بشرائها, ويقال له: "أمتى" في لغة العرب الجنوبيين. وأما "الأدم"، فيمثلون الطبقات الدنيا من عمال يشتغلون بالأرض أو بالحرف، فهم أحرار من حيث التنقل وامتهان الحرف، غير أنهم من الطبقات الدنيا، وكذلك الـ"غبر"، وهم من الفقراء المعدمين، وطبقة "مي" "أمي"، وهم الأوباش غير المثقفين4. ولعل لفظة "الأمي"، قد جاءت من هذا الأصل.
ونظرًا لصغر مساحة الأرضين التي كانت تزرع في الحجاز، فإننا لا نستطيع أن نجد إقطاعًا فيه على نمط الإقطاع الذي نراه في العربية الجنوبية، ولا نجد فيه تذمرًا بين الفلاحين على نحو ما وجدناه في اليمن، كما لا نجد سادة أملاكًا في الحجاز لهم نفوذ واسع، على نحو ما نجده في اليمن من تحكم الأقيال والأذواء وبقية الملاكين في الحكم وفي المجتمع وفي شئون رقيقهم المستخدم في استغلال الأرض. وكل ما نجده أن أشخاصًا كانوا يمتلكون ينابيع أو عيونا أو آبارًا، وقد زرعوا بمائها. وزراعة تعتمد على هذا النوع من الري لا يمكن أن تكون زراعة كثيفة تدر على أصحابها ربحا طائلا؛ لذا فهي لا تحتاج إلى تشغيل عدد كبير من العبيد والأرقاء.
وكانت الغزوات والحروب أهم مورد لتجارة الرقيق, وهو مورد قديم معروف. فالغالب المنتصر يأخذ من يقع في قبضته من أسرى، ويعده ملكًا له, وقد كان
__________
1 اللسان "10/ 493"، "ملك".
2 اللسان "3/ 271"، "عبد"، تاج العروس "2/ 409"، "عبد".
3 تاج العروس "9/ 314"، "قن".
4 Grohmann, S. 124(14/143)
في إمكان الأسرى فك أسرهم بـ"الفداء". أما من لم يتمكن من دفع الفدية منهم، فيعد بحسب القانون ملكًا لآسره أو للدولة بحسب القوانين النافذة، فيجوز في هذه الحالة امتلاك الأسير وتشغيله في الأعمال التي يكلفه إياها سيده، ويجوز له إطلاق حريته وعده حرًّا معتق الرقبة وبيعه في أسواق النخاسة. وقد كان تجار العبيد يفدون إلى هذه الأسواق؛ ليبتاعوا منها العبيد الذين يحتاجون إليهم, ويأخذونهم معهم إلى بلادهم، ليبيعوهم مرة ثانية في أسواق النخاسة لمن هو في حاجة إليهم.
والحروب مورد من موارد الرزق للمحاربين الشجعان الذين يتمكنون من أسر من يبرز لهم، والأسر خير للآسر من محارب يقتله، فقتله لا يفيده من الناحية المادية شيئا، سوى ما قد يقع في يديه من أسلابه. أما أسره، فإنه يفيده فائدة مادية، فعلى الأسير ترضيته بدفع فدية مرضية، إن أراد فك أسره وتحرير رقبته، وإلا صار عبدًا مملوكًا لآسره، له أن يمتلكه وله أن يبيعه، والغالب أنه يبيعه في حالة عجزه عن تقديم فدية، أو عجز أهله عنها، كي يتخلص بذلك آسره من أخطار هروبه منه، فيأخذه إلى الأسواق ويبيعه فيها.
وقد يقع القريب أسيرًا في يدي قريب له، فيكون مملوكًا له, ولا تسقط صلة الرحم حق التملك. وللأسير فداء نفسه حتى إن كان أخًا لآسره أو عمًّا له1. ولكن الأغلب أن يتوسط الناس بين الآسر وأسيره؛ لفك أسره، وأن تتغلب عاطفة الدم على المطالبة بالمال.
ومن أسباب الرق الفقر، ونجد في كتب الحديث والأخبار أن عوائل باعت أولادها من ذكور وإناث، من الفقر. وكان بعض من باع أولاده يشترط أن يكون الولاء لهم, والولاء سبب من أسباب الإرث. جاءت "بريرة" إلى "عائشة"، وكانت مكاتبة، ولم تكن قضت من مكاتبتها شيئا، وكانت كاتبتهم على تسع أواقٍ في كل سنة أوقية، فقالت: يا أم المؤمنين اشتريني فإن أهلي يبيعونني، فأعتقيني. قالت عائشة: نعم. قالت بريرة: إن أهلي لا يبيعونني حتى يشترطوا ولائي. قالت: لا حاجة لي فيك. فسمع ذلك النبي، فقال: "ما شأن بريرة؟ " فذكرت له شأنها، فقال: "اشتريها فأعتقيها, وليشترطوا ما شاءوا ".
__________
1 إرشاد الساري "4/ 315"، "باب إذا أسر أخو الرجل أو عمه, هل يفادى؟ ".(14/144)
فاشترتها وأعتقتها. فقال النبي: "الولاء لمن أعتق, وإن اشترطوا مائة شرط" 1.
وقد وجد الرقيق في كل مكان من جزيرة العرب، لا سيما في المستوطنات الزراعية والقرى ومواضع التجار والتعدين؛ لحاجة هذه المواضع إلى الأيدي العاملة وإلى من يدافع عنها، حتى إنهم كانوا يقذفون بعبيدهم في الحروب للدفاع عنهم. ولما أراد "مجاعة" مصالحة "خالد بن الوليد" على "الصفراء والبيضاء ونصف السبي والحلقة والكراع وحائط من كل قرية ومزرعة"، قال "سلمة بن عمير الحنفي": "لا والله لا نقبل، نبعث إلى أهل القرى والعبيد فنقاتل ولا نقاضي خالدًا، فإن الحصون حصينة والطعام كثير، والشتاء قد حضر"2, فجعل "سلمة بن عمير" أهل القرى والعبيد في جملة من يتكل عليهم في قتال "خالد". ولما كان القتال بين "خالد" وبين "مسيلمة" واستحرَّ القتل، "قال أهل القرى: نحن أعلم بقتال أهل القرى يا معشر أهل البادية منكم. فقال لهم أهل البادية: إن أهل القرى لا يحسنون القتال، ولا يدرون ما الحرب! فسترون إذا امتزنا من أين يجيء الخلل! فامتازوا"3. ونجد في رواية أخرى أن "خالدًا" صالح "مجاعة" على "الصفراء والبيضاء والحلقة وكل حائط رضانا في كل ناحية ونصف المملوكين"4, بدلا من جملة: "ونصف السبي" التي ترد في روايات أخرى, والمملوك العبد ومن دخل في الرق. وهذا مما يدل على وجود عدد كبير من العبيد في اليمامة في ذلك العهد؛ لحاجة أهل اليمامة وهم أهل زرع في الغالب إليهم، لتشغيلهم في الأعمال الزراعية وفي التعدين والحرف.
ونجد إشارة إلى الموالي في بعض كتب الرسول إلى سادات القبائل. فلما كتب الرسول عهده لقيس بن سلمة الجعفي، جاء فيه: "كتابٌ من محمد رسول الله لقيس بن سلمة بن شراحيل: إني استعملتك على مران ومواليها، وحريم ومواليها, والكلاب ومواليها"5, وفي النص على ذكر الموالي في هذا العهد دلالة على أنهم كانوا يكوّنون طبقة ظاهرة في "جعفى".
__________
1 إرشاد الساري "4/ 439".
2 الطبري "3/ 298"، "ذكر بقية خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة".
3 الطبري "3/ 292".
4 الطبري "3/ 299".
5 ابن سعد، الطبقات "1/ 325".(14/145)
وأما "أهل القرى"، فهم المستوطنون الذين أغراهم عثورهم على الماء, على السكن حوله وعلى الاشتغال بالزراعة، كما استقروا حول مواضع المعادن وفي المستوطنات القديمة التي نسبت إلى "طسم وجديس". فهم طبقة خاصة من أهل اليمامة، وهم حضر اليمامة، وأصحاب العمل والثراء ولهم العبيد لحاجتهم إليهم. أما الطبقة الثانية، فأهل البادية, ممن سكن بيوت الوبر، ولم يقم في بيوت من طين, ولم يفلح ولم يزرع، بل كان رزقه على الإبل.
وكان لأهل القرى حصونهم، يحتمون بها من الأعراب ومن كل من يريد بهم سوءًا، ولهم مخازنهم يخزنون بها طعامهم، ولهم آبارهم في داخل قراهم وحصونهم، فإذا حُوصِروا كان لديهم الماء، فلا يحتاجون إلى مصالحة المحاصر لهم لعطشهم ولعدم وجود الماء عندهم، وتكون حصونهم عند الحصار قد امتلأت بهم، وقد أغلقوا أبوابها، وقد احتلوا أبراجهم وسطوحها لرمي المحاصر بالسهام وبالماء الحارّ وبالحجارة، وحولها خنادق تمنع العدو من الدنو من حائط الحصن، وقد رفعوا جانب الخندق المقابل للحصن حتى يصعب على من يريد تسلقه وتسوره الوصول إلى الحصن. وبعض هذه الحصون عالية سميكة الجدران، ذكر "الهمداني" أن جدر "الهيصمية"، وهي لبني "صُهيب" من "بني قشير", يركض عليها أربعة من الخيل، وكان من الصعب أن ينال رأسها السهم. وذكر عن "القصر العادي" بالأثل، أنه قصر منيف من عهد "طسم" و"جديس"، أُقيم على حصن من طين ثلاثين ذراعًا دكّة، ثم بني الحصن. ووصف حصونًا كثيرة بعضها من حصون ما قبل الإسلام، بنيت لحماية أهلها من الغارات1.
و"القصب" دون الحصون، ذكرها "الهمداني" بقوله: "وبالمذارع وغيرها قصب دون الحصون لطاف, تسمى الثنية"2. والقصبة: القصر أو جوفه، يقال: كنت في قصبة البلد والقصر والحصن، أي: جوفه. والقصب من البلد: المدينة والقرية3.
وورد في خبر مصالحة "خالد بن الوليد" "بني حنيفة"، أنه صالحهم
__________
1 الصفة "159 وما بعدها".
2 الصفة "159".
3 تاج العروس "1/ 131"، "قصب".(14/146)
"على الرقيق ولم يصالحهم على أنفسهم"، وأنه أخذ منهم رقيقًا، كان فيه أمة سندية سوداء، لم تكن من بني حنيفة، وإنما كانت من رقيقهم، فصارت إلى "علي بن أبي طالب"1. وفي وجود هذه السندية في اليمامة دلالة على وجود الرقيق المستورد من الهند في جزيرة العرب في الجاهلية، وقد كانت أسواق البحرين وبقية أسواق العربية الشرقية تشتري الرقيق الوارد عليها من الهند، فلا يستبعد وصول رقيق السند وغير السند من بلاد الهند إلى اليمامة وإلى أماكن أخرى من جزيرة العرب قبل الإسلام.
ويعرف بائع الرقيق بالنخاس، والنخاسة حرفته، والنخاس في الأصل بياع الدواب2.
وقد كان تجار الرقيق يشترون الرقيق ويزوِّجونه؛ ليجنوا نسله لهم، فيبيعوه في الأسواق. يفعلون ذلك فعل من يربي الخيل أو الإبل أو البقر، لتكثير نسله وبيعه, وبذلك يكثر مال صاحبه. وينسب المولد إلى الأرض التي ولد بها، والتي يكون سيده مقيمًا بها، وإلى قبيلة سيده أيضا، فيقال: هو من مولدي السراة، وهو من مولدي هذيل.
ويعرف "العبد" المولود في الرق بالوليد, قال بعض علماء اللغة: الوليد: من يولد في الرق3, و"المولدة": الجارية المولودة بين العرب كالوليدة. وورد عربية مولدة ورجل مولد: إذا كان عربيا غير محض4, وترد لفظة "مولد" ومن "مولدي" في تراجم بعض الأشخاص. فقد كان "أبو كبشة" مولى رسول الله من مولدي "مكة"، وقيل: من مولدي أرض دوس5, وكان "أنسة" مولى الرسول من مولدي "السراة"6, وكان "أبو مويهبة" وهو من موالي الرسول كذلك، مولدًا من مولدي "مزينة"7.
__________
1 المعارف "210".
2 تاج العروس "4/ 255"، "نخس".
3 تاج العروس "2/ 540"، "ولد".
4 تاج العروس "2/ 542"، "ولد".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، الإصابة "4/ 164"، الاستيعاب "4/ 164"، "حاشية على الإصابة".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 497".
7 ابن سعد، طبقات "1/ 398"، "ويقال: أبو موهبة وأبو موهوبة"، الإصابة "4/ 188"، "رقم 1105".(14/147)
وتطلق لفظة "غلام" على الولد إلى أن يشب، ويطلق على الغلام الذي يكون مملوكًا، أو يخدم غيره, وقد يطلق أيضًا على الكهل1. وكان "شقران"، واسمه "صالح بن عدي", غلامًا للرسول، وكان حبشيًّا2, وكان "سفينة" غلامًا للرسول، وهو من أصل فارسي3, وكان "مدعم" غلاما للنبي، وكان من مولدي "حسمى"4, وهبه له "رفاعة بن زيد الجذامي"، ويظهر أنه كان من الزنج، إذ عرف بالأسود5. وكان "كركرة"، غلامًا للنبي6, وكان نوبيًّا، أهداه له "هوذة بن علي الحنفي اليمامي" فأعتقه7, وكان "رباح" غلاما للرسول8, وكان أسود، وكان يستأذن عليه، ثم صيره الرسول مكان "يسار" بعد قتله، فكان يقوم بلقاحه, وكان يؤذن له9.
وتطلق لفظة "خادم" و"خادمة" على من يقوم بالخدمة؛ خدمة البيت، أو السفر، وكل خدمة أخرى يطلبها المالك, وفي حديث فاطمة وعلي: "اسألي أباك خادمًا تقيك حر ما أنت فيه"10. ويخدم الخدم في البيوت، يقومون بتنظيفها وبالطبخ والخبز وما شاكل ذلك من أعمال. وكان "أنس بن مالك بن النضر" الأنصاري خادمًا لرسول الله, وكان يخرج معه يخدمه، وهبته أمه للنبي11 ولم يكن عبدا بل كان حرا من الأنصار، نذرت أمه أن تجعله خادما لرسول الله، ووفت بنذرها، وكان كثير المال.
ومن خدم رسول الله "سلمى" أم رافع، امرأة أبي رافع12، و"خضرة"13،
__________
1 تاج العروس "9/ 5"، "غلم".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، ابن سعد، إصابة "2/ 150"، "رقم 3916".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 498"، ابن سعد، إصابة "2/ 56"، "رقم 3335".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 498".
5 الإصابة "3/ 374"، "رقم 7858".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 498".
7 الإصابة "3/ 277"، "رقم 7402".
8 ابن سعد، طبقات "1/ 498".
9 إصابة "1/ 490"، "رقم 2565".
10 تاج العروس "8/ 269"، "خدم".
11 الإصابة "1/ 84"، "277"، ابن سعد، طبقات "1/ 497".
12 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، الإصابة "4/ 326".
13 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، الإصابة "4/ 277"، "رقم 344".(14/148)
و"رضوى"1، و"ميمونة بنت سعد"2, و"مارية" جدة المثنى بن صالح بن مهران، مولى "عمرو بن حريث"3, و"مارية" المكناة بـ"أم الرباب"4, و"موهبة"5.
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، الإصابة "4/ 295"، "رقم 421".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، الإصابة "4/ 399"، "رقم 1027".
3 الاستيعاب "4/ 398"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "4/ 392"، "رقم 986".
4 الاستيعاب "4/ 399"، "حاشية"، الإصابة "4/ 391"، "رقم 985".
5 الإصابة "4/ 397"، "رقم 1025".(14/149)
الموالي:
ويعد المولى في طبقة المملوكين، وللفظة "مولى" معانٍ عديدة، منها المعنى الذي نقصده منها في هذا المكان، وهو "العبد"1. ولا يشترط في المولى أن يكون أعجميا، أي: من أصل غير عربي، فيقع الولاء على العرب كذلك؛ كأن يؤسر، أو يقع في غنيمة قطاع طرق، فيكون ملكًا لهم، يبيعونه في الأسواق، أو يطلبون فداءه من إله، وإلا بيع مع الرقيق. وقد كان بمكة وسائر الأمكنة الأخرى عدد كبير من هؤلاء، ومن جملتهم "زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي"، مولى خديجة بنت خويلد، زوج الرسول، ثم مولى الرسول. فقد كان من كلب, أصابته خيل من "بني القين بن جسر"، وكان قد خرج مع أمه لتزيره أهله، فباعوه بسوق حباشة من أسواق العرب، وهو يومئذ ابن ثمانية أعوام، ثم أعتقه الرسول2.
وكان "ثوبان" مولى رسول الله من العرب من أهل اليمن، وقيل: من السراة، ابتاعه النبي بالمدينة فأعتقه، ويظهر أنه مات ولم يكن يملك شيئًا3. وكان "فضالة" مولى رسول الله من أهل اليمن4.
وقد يكون للعبد مالكان أو أكثر, كأن يقع في أسر رجلين أو أكثر،
__________
1 تاج العروس "10/ 399"، "ولى".
2 الروض الأنف "1/ 164".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 498"، الإصابة "1/ 205"، "رقم 967".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 498"، الإصابة "3/ 202".(14/149)
فيصير عبدًا لهما أو لهم, أو أن يتشارك رجلان أو أكثر في شراء عبد، فيكون مملوكًا لمشتريه, وكان بعضهم يتشاركون في شراء العبيد. وقد يبيع بعضهم حصصهم من العبيد لشركائهم أو لغيرهم، وقد يمنُّ بعض منهم على عبده أو عبيده؛ فيتنازل عن حقه فيه أو فيهم، ويبقى العبد مملوكا للشريك الآخر أو لبقية الشركاء، لحقهم فيه. وكان منهم من يرضى بعتقه على أن يدبر له ما بذمته من حق1.
ومن حق سيد العبد بيعه متى شاء، أو إهداؤه إلى من يريد. فهو ملكه، ومن حق المالك أن يفعل بما يملكه ما يشاء ويريد2.
وقد تضخم عدد الموالي بين أهل الحضر وبين أهل المدر، حتى صار لهم شأن يذكر، ولما ظهر الإسلام كان الموالي من العوامل المؤثرة في التوازن السياسي عند الحضر وعند القبائل، حتى ذكروا في العقود لكثرة عددهم وللحقوق المترتبة لسادتهم عليهم، فلما عقد الرسول عقده مع وفد "جعفى" من قبائل اليمن، واستعمل الرسول "قيس بن سلمة" من بني "مرَّان بن جعفى"، كتب له كتابا فيه: "إني استعملتك على مران ومواليها، وحريم ومواليها، والكلاب ومواليها"3. و"الكلاب": أود، وزبيد، وجزء سعد العشيرة، وزيد الله بن سعد، وعائذ الله بن سعد، وبنو صلاءة من بني الحارث بن كعب. ولما عقد الرسول عهده مع "وفد همدان"، وكتب لقيس بن مالك بن سعد بن لؤي الأرجي كتابا، ولاه فيه على قومه، جاء فيه أنه ولاه "على قومه همدان: أحمورها وغربها وخلائطها ومواليها أن يسمعوا له ويطيعوا"4. وذكر الموالي مع همدان والأحمور والغرب والخلائط يشير بالطبع إلى أهميتهم وإلى كثرة عددهم في ذلك العهد.
والأحمور: هم قُدم، وآل ذي مران، وآل ذي لعوة، وأذواء همدان. والغرب: أرحب، ونِهم، وشاكر، ووادعة، ويام، ومرهبة، ودالان، وخارف، وعذر، وحجور5.
__________
1 إرشاد الساري "4/ 303".
2 الإصابة "3/ 374"، "رقم 7858".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 325".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 341".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 341".(14/150)
ولما كتب الرسول إلى "ربيعة بن ذي مرحب" الحضرمي وآله، يدعوه إلى الإسلام، أشار إلى "رقيقهم" في الكتاب، مما يدل على أن عددهم كان كبيرًا1.
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 266".(14/151)
بيع الولاء:
وقد نهى الإسلام عن بيع الولاء وعن هبته. وهو أنه إذا مات "المُعْتَق" ورثه شرعًا "مُعْتِقه" حسب قوانين أهل الجاهلية، وكانت العرب تبيعه وتهبه مع أنه كالنسب فلا يزول بالإزالة. وقد كانوا في الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره، فإذا أعتق رجل عبده، صار له حق ولائه، وله ولورثته حق بيع ذلك الولاء، على نحو ما كان لهم من حق الحصول على إرثه، فنهى الشارع عن ذلك1.
__________
1زاد المسلم "5/ 503 وما بعدها".(14/151)
رزق المملوك:
وما يحصل عليه العبد من عمل يديه، يكون لسيده؛ لأنه ملك يمينه، مملوك الرقبة. وإذا شهد غزوًا أو حربًا فلا يسهم له بسهم في الغنائم؛ لكونه مملوكا1, وإذا حارب سيده حارب معه، وإذا أمر بالاشتراك في غزو أو حرب وجبت عليه الطاعة وبذل النفس في القتال، دون أن يصيب من غنائمه أي شيء.
وإذا عهد السيد إلى مملوكه القيام بتجارة، فإن التجارة وأرباحها تكون لسيد العبد, وكان الرسول قد أعطى "العباس" عمه عشرين غلامًا، تجروا بماله2. وكان لـ"تميم الداري" خمسة غلمان يتاجرون بالخمر؛ اسم أحدهم "فتحا"، وكان من بيت المقدس، فلما رآهم الرسول مع "تميم" قال له: "بعني غلمانك لأعتقهم"، فقال له تميم: قد أعتقتهم يا رسول الله. و"فتحا" هو الذي
__________
1 الإصابة "2/ 150"، "رقم 3916".
2 المقريزي، إمتاع الأسماع "1/ 61".(14/151)
أسرج مسجد النبي, وكان يسرج بسعف النخل. فقدم "فتحا" بالقناديل والزيت والحبال وأسرج المسجد، فسماه الرسول "سراجًا"1.
وإذا أجاز مالك عبد لعبده الاشتغال بالتجارة، صار من حقه الاتجار حسب ما اتفق عليه. ويقال للعبد المأذون له في التجارة: "المجيز"2.
وقد يقرر السيد ضريبة يفرضها على عبده، يدفعها إليه في كل يوم، وعلى العبد أداؤها له3, فيشتغل العبد في السوق أو يقوم بأي عمل يتمكن منه لأداء ما فرضه سيده عليه. ونظرًا إلى عدم تمكن بعضهم من الوفاء بما فرض عليه، فقد عمد بعضهم إلى السرقة ليسد مبلغ ما فرض عليه. وفرض بعض منهم على إمائه أن يزنين؛ ليأتين إليهم بما فرضوه عليهن من ضريبة، فقد ذكر علماء التفسير أن "عبد الله بن أبي بن سلول" كان يكره فتياته على البغاء، ليأخذ أجورهن. وروي عن "عبد الله بن عباس" أنه قال: "كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنى, يأخذون أجورهن، فقال الله: لا تكرهوهن على الزنى من أجل المنالة في الدنيا"4. وفي منع ذلك وتحريمه نزل في القرآن الكريم: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} 5.
وتكون المسبية ملكًا لسابيها، له أن يصيبها متى شاء، وله أن يبقيها عنده حتى تموت أو يموت هو، فتنتقل إرثًا لورثته، وله أن يبيعها متى أراد. وكان منهم من يصيب المسبيات، غير أنه يعزل، فلا ينزل فيها، حتى لا يحصل لها الولد المانع من البيع, وذلك لحبهم للأثمان6.
ومن الحرف التي شاعت بين الرقيق الحجامة، وقد كان سادتهم يأخذون أجورهم منها. ومن الحجامين الذين ورد اسمهم في الكتب "سالم الحجام"، وقد حجم الرسول وشرب دم المحجمة التي فيها دم الرسول تبركًا به7.
__________
1 الإصابة "2/ 17"، "3103".
2 تاج العروس "4/ 21"، "جوز".
3 إرشاد الساري "4/ 139".
4 تفسير الطبري "18/ 103 وما بعدها"، الاستيعاب "4/ 401"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "4/ 394"، "رقم 1003".
5 سورة النور، الرقم 24، الآية 23، أسباب النزول "ص245 وما بعدها".
6 إرشاد الساري "4/ 110".
7 الإصابة "2/ 6"، "رقم 2051".(14/152)
العتق:
العتق خلاف الرق، وهو الحرية, يقال: عتق العبد، أي: خرج عن الرق, ويقال: هو مولى عتاقة، ومولى عتيق، إذا كان عبدًا فعتق، فصار مولى لسيده، تربطه به رابطة الولاء، فهو في حمايته ورعايته1. ولما فتح الرسول مكة عفا عن أهلها وأطلقهم فلم يسترقهم، فعرفوا بالطلقاء. "وفي الحديث: الطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة, وفي رواية: بعضهم أولى ببعض. وفي حديث حنين، خرج ومعه الطلقاء، وهم الذين خلى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم فلم يسترقهم، واحدهم طليق"2. والطليق: الأسير الذي أُطلق إساره وخُلِّيَ سبيله؛ لمنة أراد الآسر أن يمن بها على أسيره3.
وقد ينجح العبد المعتق في حياته بعد نيله حريته، فيصير من ملاك العبيد. ومن بين الصحابة جماعة كانت من الرقيق في الجاهلية، فلما أسلمت عتقت وتحسن حالها فاشترت لها الرقيق.(14/153)
المكاتبة:
فالعتق هو فك الرقبة، وعودة الحرية إلى العبد. ومن أبواب فك الرقبة وتحريرها من العبودية المكاتبة، وهو أن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على كذا منجمًا, إذا أديته فأنت حر، ويبين عدد النجوم، وقسط كل نجم, فإذا أدى العبد ما عليه، صار حرًّا, وقد عرف ذلك في الإسلام أيضا. وقد كان "سيرين" والد "محمد بن سيرين" المشهور، من سبي "عين التمر" فاشتراه "أنس بن مالك" الأنصاري، وكان كثير المال، فأراد "سيرين" فك نفسه من العبودية، وسأل أنسًا المكاتبة, فأبى، فانطلق "سيرين" إلى "عمر"، فأمره أن يكاتبه، وتلا عليه: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} . وذكر في رواية أخرى، أن أنسًا كاتبه على عشرين ألف درهم، فأتاه بكتابته، فأبى أن
__________
1 تاج العروس "7/ 3"، "عتق".
2 تاج العروس "7/ 4"، "عتق".
3 تاج العروس "6/ 425"، "طلق".(14/153)
يقبلها منه إلا نجومًا، فأتى "عمر" فذكر ذلك له، فقال: أراد أنس الميراث، وكتب إلى أنس: أن اقبلها من الرجل، فقبلها. وورد في صحيفة المكاتبة: هذا ما كاتب أنس غلامه سيرين؛ كاتبه على كذا وكذا ألفًا، وعلى غلامين يعملان مثل عمله1. وكاتب "عبد الله بن عمر" غلامًا له يقال له: شرف, على خمسة وثلاثين ألف درهم، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف2.
وذكر "الدميري" أن "المكاتبة" لفظة إسلامية3. ولكني أشك في صحة هذا الرأي؛ لأن التكاتب كان معروفا عند الجاهليين، وهو عقد من العقود، يؤدي العبد بموجبه ما فارقه عليه من أداء المال، فإذا أداه استحق العتق، وإن عجز عن أداء نجم يحل عليه، فلسيده تعجيزه4. ودليل ذلك ما ورد عن المكاتبة في القرآن الكريم من قوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} 5. فنسق الآية يدل على وجود التكاتب عند الجاهليين، وإذا وجد، فلا يستبعد استعمالهم لفظة "المكاتبة" قبل الإسلام.
أما "التنجيم"، فمن "نجم المال": إذا أداه نجومًا، أي: يؤديه عند انقضاء كل شهر منها نجمًا، حتى إنهم كانوا يؤدون الديات نجوما. قال زهير في ديات جعلت نجومًا على العاقلة:
ينجمها قوم لقوم غرامة ... ولم يهريقوا بينهم ملء محجم
"وفي حديث سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة. تنجيم الدين: هو أن يقدر عطاؤه في أوقات معلومة متتابعة مشاهرة أو مساناة, ومنه تنجيم المكاتب"6. ويظهر من ذلك أنهم كانوا في الجاهلية ينجمون حق العتق، ويكتبون بذلك كتابًا.
__________
1 إرشاد الساري "4/ 329"، "باب المكاتب"، تفسير الطبري "18/ 98 وما بعدها".
2 تفسير الطبري "18/ 101 وما بعدها".
3 تاج العروس "1/ 445"، "كتب".
4 تاج العروس "1/ 445"، "كتب".
5 سورة النور، الرقم 24، الآية 33، تفسير الطبري "18/ 98 وما بعدها".
6 تاج العروس "9/ 72"، "نجم".(14/154)
وكان منهم من يوصي بفك رقبة عبد له، أو أمة بعد وفاته. وللفقهاء آراء في بيع "المدبر"، وهو العبد الذي علق سيده عتقه على الموت1.
__________
1 إرشاد الساري "4/ 313".(14/155)
سوء حالة العبيد:
ونظرًا إلى ما كان يعانيه الرقيق من معاملة غليظة شديدة قاسية، ومن قسوة ينزلها بهم أصحابهم عند صدور أي شيء منهم لا يرضى عنه أصحابهم، فقد فر كثير منهم من ساداتهم، وخرجوا على أمرهم، فأبقوا مع علمهم بما في الإباق من عقوبة صارمة يدخل فيها قتل الآبق. وانضم بعض منهم إلى الخارجين على عرف قبيلتهم؛ من الضلال والصعاليك والخلعاء وألفوا عصابات أخذت تعتدي على المارة وتغزو العشائر، فتصيب منها مغنمًا. وقد تكتل قوم من كنانة ومزينة والحكم القارة ومن اتبعهم من العبيد في جبل تهامة، وأخذوا يغتصبون المارة، وقد كتب إليهم الرسول، أنهم إن آمنوا بالله وبرسوله وعملوا بسنة الإسلام، فعبدهم حر ومولاهم محمد, ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها، وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم1. ويظهر أنهم كانوا قد هددوا الأمن في ذلك الوقت، وقطعوا السبيل؛ مما أدى بالرسول إلى الكتابة إليهم بالدعوة إلى الإسلام وبترك الفتنة.
وقد فر بعض الرقيق من ساداتهم، ودخلوا في الإسلام، وقد خاف سادات قريش والطائف من هذه الظاهرة؛ لما قد تتركه من أثر عليهم وعلى أوضاعهم الاقتصادية. والعبيد ركن قويم في نظمهم الاقتصادية، فحسنوا بعض الشيء من أحوال رقيقهم، وشددوا على من شعروا أن في نفسه ميلًا إلى الإسلام.
وقد أمر الإسلام بالعطف على الرقيق, ففي القرآن: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} 2.
__________
1 ابن سعد "1/ 278".
2 النساء، الرقم 4، الآية 36، تفسير الطبري "5/ 50".(14/155)
وفي كتب الحديث أحاديث في الحث على إنصاف المماليك، أي: الرقيق؛ منها حديثه: "إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم"1, وحث في أحاديث أخرى على إنصاف الجواري والإحسان إليهن، وعتقهن وتزويجهن إن أمكن2. كما حث العبيد على خدمة سادتهم بإخلاص, ونهى سادة الإماء من إكراههن على الزنى؛ لأخذ أجورهن3.
__________
1 إرشاد الساري "4/ 320 وما بعدها".
2 المصدر نفسه.
3 المصدر نفسه كذلك.(14/156)
تعرب العبيد والموالي:
وقد أشار أهل الأخبار إلى أقوام من العبيد، تعربوا واستقروا فصاروا من العرب. كما أشار الكَتَبَة اليونان واللاتين إلى أقوام من الأعاجم نزلت سواحل جزيرة العرب، لأغراض تجارية وعسكرية، فأقامت بها واستقرت، وتعربت ونسيت أصلها، واتخذت نسبًا عربيًّا. وقد عثر الباحثون والمنقبون المحدثون على بقايا هياكل بشرية، وبقايا عظام بشر، في مواضع متعددة من السواحل والبواطن، تدل على أن أصحابها من الأعاجم ومن الإفريقيين الوافدين على جزيرة العرب، وقد أقاموا واستقروا بها وماتوا فيها, كما سبق أن تحدثت عن ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب.
ومن المتعربة قوم عرفوا بـ"الصعافقة". قال أهل الأخبار: إن آباءهم كانوا عبيدًا استعربوا, أو إنهم كانوا قومًا من بقايا الأمم الخالية ضلت أنسابهم. وقد ذكروا أن مساكنهم كانت في اليمامة في موضع يقال له: "صعفوق"، به قناة يجري منها نهر كبير، أو أنهم بالحجاز. وقيل: أن "الصعافقة" خول لبني مروان، أنزلهم اليمامة، ومروان بن أبي حفصة منهم1.
__________
1 تاج العروس "6/ 407"، "الصعفوق".(14/156)
السخرة:
السخرة: تكليف شخص وقهره على ما لا يريده, وسخره تسخيرًا: أذله وكلفه ما لا يريد وقهره وأجبره على عمل بلا أجرة ولا ثمن1. وقد عرفت السخرة في العربية الجنوبية، إذ كانت تلك الحكومات تقوم بإنشاء الأبنية العامة والطرق والجسور والسدود, وبتشييد القصور على طريق "السخرة", وهي طريقة كانت معروفة في كل أنحاء العالم في ذلك الوقت، وكانت معروفة إلى عهد قريب؛ وذلك بأن تطلب إلى الموظفين وإلى المدن والقرى وسادات القبائل تقديم ما يتمكنون من تقديمه من أتباعهم لتشغيلهم قسرًا بأعمال تريد القيام بها, فيقدم كل منهم ما يتمكن من جمعه، ويساقون سوقًا إلى مكان العمل للعمل هناك حتى ينتهي العمل.
وتتكلف الحكومة الإنفاق على العمال الذين تكلفهم القيام بالأعمال العامة، تدفع إليهم عطاياهم، وتعرف بـ"شبو"، وتعني "الرزق" عينًا، وذلك بأن تقدم إليهم الطعام اللازم لعيشهم في مقابل اشتغالهم بتلك الأعمال، كما يقوم المعبد بتقديم ذلك إذا كان المعبد هو صاحب العمل2. وترد لفظة "أشبى" بمعنى أعطى في عربية القرآن الكريم3، وهو معنى قريب من معنى لفظة "شبو" في لغة المسند.
والسخرة عمل مرهق، يقوم به المسخر المسكين دون مقابل، فهو لا يحصل وهو في موقع العمل حتى على أكل بطنه إلا بشق الأنفس، من الإهمال وسرقة القوت وسوء الاستعمال، ثم إنه قد يحبس أياما وأشهرا وهو في هذا الوضع، لا يدفع له شيء ليستعين به في تمشية أموره، أو في إعالة عائلته البعيدة عنه، إذا كان متزوجا، أو معيلا لأهله، وطالما تعرض للمرض، ومنهم من كان يموت من الإرهاق والجوع؛ ولذلك كان الهرب من السخرة شيئا مألوفا، على الرغم من تشديد الحراسة على معسكرات العمل ومواضع تجمع المسخرين، وعلى الرغم من العقوبات الشديدة التي تفرض على الهارب في حالة القبض عليه.
__________
1 تاج العروس "3/ 260"، "سخر".
2 Glaser 1150, Halevy 192, 199
3 القاموس "4/ 316"، تاج العروس "10/ 192"، "شبا".(14/157)
وكانت الحكومات تسرف في استخدام السخرة وتشتطّ، فتنجز بالسخرة كثيرًا من الأعمال التي هي من صميم عملها وواجبها, ولن يتأثر بالسخرة إلا الطبقات الفقيرة التي لا تملك دفاعًا عن نفسها، ولا تجد من يساعدها ويعاونها. أما سادات القبائل ووجوه البلد والأشراف وأصحاب الأرض، فلا تقع السخرة عليهم، وإنما يرسلون ما يطلب منهم من أتباعهم للقيام بالأعمال المطلوبة، وقد يسخرونهم لأداء أعمال خاصة بهم، لا صلة لها ولا علاقة بالأعمال العامة وبالنفع العام. ثم إن مفهوم القيام بالأعمال العامة وبالاشتغال بمشاريع النفع العام، لا يطبق لدى هذه الحكومات ولدى بعض الحكومات حتى في هذه الأيام إلا على هذه الطبقات الفقيرة، فعليها وحدها القيام بهذه الواجبات. ومثل هذه النظرة إلى السواد الأعظم من الأمة، جعل هذا السواد يكره حكوماته، ويكره الحاكمين، ويتهرب من الخدمة ما أمكنه ذلك؛ لأنه لا يشعر بحكومة تعطف عليه، ولا بحاكمين ينظرون إلى مصالحه، وإنما هم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم هم الناس، وأما أبناء الشعب فإنما خُلِقُوا لخدمتهم ليس غير.
ولما قام أبرهة بإصلاح سد "مأرب"، طلب من الأقيال وسادات القبائل وأصحاب الأرض مده بالمسخرين، فأرسلوا إليه ما طلب منهم، واشتغلوا في إصلاح السد وفي العمل على رتق ما صدع منه. فقاموا بنقل الحجارة الصلدة من مواضع مقالع الحجر، وعملوا مسخرين في أعمال البناء، ولم يدفع لهم شيئًا سوى الأكل، وقد بقوا هناك حتى تم العمل، فسمح لهم بالعودة إلى ديارهم.
والمفروض في أخذ المسخرين من المدن والقرى والقبائل، أن يكون ذلك متناسبًا مع عدد السكان، وعدد رجال القبيلة. فالمدينة الكبيرة تقدم عددًا يزيد على ما تقدمه المدينة الصغيرة أو القرية, والقبيلة الكبيرة تقدم عددًا يزيد على عدد ما تقدمه القبيلة الصغيرة، غير أن ذلك لا يطبق بصورة عملية، فالعادة أن تفرض الأعمال الشاقة على الضعفاء والفقراء، ورُبَّ قرية تقدم من المسخرين ما يزيد على ما تقدمه مدينة كبيرة. وهكذا الحال بالنسبة إلى القبائل الضعيفة والقبائل القوية.(14/158)
وقد كان الرقيق في أوائل من استجاب إلى الإسلام؛ تخلصًا من رق العبودية، كان العبد إذا استطاع التخلص من سيده ودخل في الإسلام, صار حرًّا طليقًا؛ وهذا مما أغضب سادة قريش وغيرهم من الملَّاك أصحاب العبيد، وجعلهم يقولون: إن محمدًا قد أفسد علينا عبيدنا. ولما حاصر الرسول "الطائف" نزل إليه رقيق من رقيق أهل الطائف، فأسلموا وأعتقوا1، وجعل الرسول ولاء هؤلاء العبيد لسادتهم حين أسلموا2.
__________
1 البلاذري، فتوح "67".
2 الإصابة "2/ 454"، "رقم 5445".(14/159)
الفصل العاشر بعد المئة: الاتاوة والمكس والاعشار
مدخل
...
الفصل العاشر بعد المائة: الإتاوة والمكس والأعشار
والإتاوة: الرشوة والعطاء والخراج، يقال: أدى إتاوة أرضه أي: خراجها، وضربت عليهم الإتاوة، أي: الجباية1. وهي ما كان يفرضه الملوك وأصحاب الأرض وسادات القبائل من حقوق على رعاياهم وأتباعهم، ويجبرونهم على أدائها لهم. وهي بالطبع جباية مكروهة، كان الناس يتهربون منها كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ويتهربون من رؤية وجوه عمالها الذين كانوا يكرهونهم كرهًا شديدًا لاشتطاطهم عليهم، وتعسفهم بهم، وأخذهم أكثر مما يجب أخذه في أغلب الأحوال؛ ليأكلوا منها ما يتمكنون من أكله، فقد كانت الجباية من موارد الرزق الحرام والكسب غير المشروع للجباة.
ويقال للخراج والإتاوات: "الطعم"، يقال: فلان تجبى له الطعم، أي: الخراج والإتاوات, ويقال: جعل السلطان ناحية كذا طعمة لفلان، أي: مأكلة له, وفسر بعضهم الطعمة بشبه الرزق وبالمأكلة2. وفي هذا التفسير تفسير لوجهة نظر الجاهليين والإسلاميين بالنسبة إلى الإتاوة وكل أنواع الجباية، كانوا يرون أنها مأكلة للحكام ورزقًا يأخذونه من أتباعهم؛ ليعتاشوا به مع ما يعتاشون عليه من أرزاق، مثل الاتجار في السوق واستثمار الملك، بينما لا ينال الأتباع منه أي شيء، إلا بتوسل واستعطاف ودعاء ومدح وتمرغ على أعتاب أبواب الحكام.
__________
1 تاج العروس "10/ 7"، "أتوا".
2 تاج العروس "8/ 378"، "طعم".(14/160)
و"المكس" هو ما يأخذه الماكس من جباية, من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، أو الدراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق. والمكوس: هي الضرائب التي كان يأخذها العشارون، والمكس: النقص، وبين المكس والنقص صلة وعلاقة، فتأدية المكس هو نقص يصيب مال المؤدي للمكس. وقد أشير إليه في شعر "جابر بن حني" التغلبي، الذي يقول:
أفي كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم1
ومعنى هذا أن الناس كانوا يدفعون إتاوة في أسواق العراق، يدفعون عن كل ما يبيعونه مكسًا هو درهم. وهو مكس يزيد بزيادة ثمن البيع، فإذا كان ثمن المباع كثيرًا، زاد مكسه ليتناسب مع الثمن.
وتقابل لفظة "مكس" لفظة "Telos" في اليونانية، و"Toll" في الإنجليزية, ويقال للموضع الذي تمكس البضائع والسلع فيه: Telonion""2. ويجب أن نميز بين هذه الضريبة وبين لفظة "Tribute" التي هي في مقابل "Mas"؛ لأن المكس ضريبة تؤخذ عن السلع وعن حق مساهمة الحكومة في الأرباح، بينما الثانية ضريبة إجبارية تؤخذ من الناس3, وقد ترجمت لفظة "Tribute" بـ"جزية" وجباية وإتاوة في اللغة العربية, يقال: جبى الخراج جباية. وورد في شعر للجعدي:
دنانير يجبيها العباد وغلة ... على الأزد من جاه امرئ قد تمهلا4
ونجد علماء اللغة يجعلون لفظة "الماكس" في مرادف لفظة "العشار", وعرفوا المكس، بأنه ما يأخذه العشار, وهو ماكس، فالعشار هو الماكس. وورد في الحديث: "لا يدخل صاحب مكس الجنة", قيل: صاحب مكس هو العشار5. والعشار هو قابض العشر، والعشر أخذ واحد من عشرة. فالماكس إذن هو الجابي القابض للمكس، وهو العشر، أي: عشر ما يباع، وقد غلبت عليه
__________
1 تاج العروس "4/ 249"، "مكس"، المخصص "12/ 253".
2 Hastings, p. 948
3 Hastings, p. 948
4 تاج العروس "10/ 65 وما بعدها"، "جبى".
5 تاج العروس "4/ 249"، "مكس".(14/161)
لفظة "العشار" لأنه يأخذ العشر، عشر أموال الناس، ولأنه يعشرهم. وقد كان "العشر" من أهم سمات الجاهلية ومعالمها، "وفي الحديث: "إن لقيتم عاشرًا فاقتلوه"، أي: إن وجدتم من يأخذ العشر على ما كان يأخذه أهل الجاهلية مقيمًا على دينه، فاقتلوه؛ لكفره أو لاستحلاله لذلك إن كان مسلمًا وأخذه مستحلًّا وتاركًا فرض الله، وهو ربع العشر"1.
فالمكس، إذن هي الضرائب التي تؤخذ عن المبيعات والمشتريات، أي: عن التجارة، يجبيها جباة المكس، أي: العشارون من الأسواق ومن المواضع المخصصة لمرور التجار بها على الحدود، ولا صلة لهذا العمل بعمل جباية الجزية والخراج.
ولفظة "الإتاوة" و"العشر" و"المكس" والجزية من الألفاظ التي لا يشك في كونها كانت معروفة عند الجاهليين. وقد أشرت إلى ورود لفظة "الإتاوة" في شعر "جابر بن حني التغلبي", ووردت في شعر للجعدي, هو:
موالي حلف لا موالي قرابة ... ولكن قطينًا يسألون الأتاويا
أي: هم خدم يسالون الخراج2. وكانت الكلمة على ما يظهر عامة، بمعنى: ضريبة من غير تعيين.
وأما "الخراج"، فللعلماء في أصلها ومعناها كلام. وقد وردت لفظة "خرجًا" في القرآن الكريم؛ وردت في سورة الكهف: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} 3, وقد قرأها بعض المفسرين: "خراجًا"، وذهبوا إلى أنها بمعنى الأجر، وقال بعض منهم: إن الخراج عند العرب هو الغلة4. ووردت في سورة "المؤمنون": {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 5, وفسر العلماء اللفظتين بمعنى الأجر6.
__________
1 تاج العروس "3/ 400"، "عشر".
2 تاج العروس "1/ 7"، "أتو".
3 الكهف، الرقم 18، الآية 94.
4 تفسير الطبري "16/ 19".
5 المؤمنون، الرقم 23، الآية 72.
6 تفسير الطبري "18/ 33"، روح المعاني "18/ 48".(14/162)
وذهب علماء اللغة إلى أن الخرج بمعنى الإتاوة تؤخذ من أموال الناس كالخراج، وهما واحد لشيء يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم, وقال بعضهم: الخراج الفيء والخرج الضريبة والجزية. وذكروا أن الخراج الذي وظفه "عمر" على السواد وأرض الفيء، فإن معناه الغلة أيضًا؛ لأنه أمر بمساحة السواد ودفعها إلى الفلاحين الذين كانوا فيه على غلة يؤدونها كل سنة، ولذلك سمي خراجًا، ثم قيل بعد ذلك للبلاد التي فتحت صلحًا. ووظف ما صُولحوا عليه على أراضيهم خراجية؛ لأن تلك الوظيفة أشبهت الخراج الذي ألزم به الفلاحون وهو الغلة, لأن جملة معنى الخراج الغلة. وقيل للجزية التي ضربت على رقاب أهل الذمة خراج؛ لأنه كالغلة الواجبة عليهم، وفي الأساس: ويقال للجزية الخراج، فيقال: أدى خراج أرضه والذمي خراج رأسه, وعن ابن الأعرابي: الخرج على الرءوس والخراج على الأرضين. وقال الرافعي: أصل الخراج ما يضربه السيد على عبده ضريبة يؤديها إليه، فيسمى الحاصل منه خراجًا, وقال القاضي: الخراج اسم ما يخرج من الأرض, ثم استعمل في منافع الأملاك كريع الأرضين وغلة العبيد والحيوانات1.
والخراج، هو "طسقا" "Tasqa" في التلمود، و"Maddata" "مدَّاثا" في الموارد السريانية النصرانية2, ولفظة "طسقا"، هي من الألفاظ الآرمية الأصل. وتعرف ضريبة الأرض بـ"Halk" و"Halak" وبـ"Minda" "ميندا" وبـ"Midda" في لغة بني إرم, ووردت باسم "طسقا" وبـ"مناثا ذ - ملكا" "Mnata d-Malka" في التلمود، وباسم "طسقا" و"مدثا" "Maddata" في السريانية3.
ولفظة "طسقا" معروفة في العربية كذلك، فهي عندهم "الطسق"، وتؤدي المعنى ذاته المفهوم منها في التلمود. ذكر علماء العربية أن الطسق، ما يوضع من الخراج المقرر على الجربان, وكتب "عمر" إلى "عثمان بن حنيف" في رجلين من أهل المدينة أسلما: ارفع الجزية عن رءوسهما وخذ الطسق من أرضيهما, وذكر بعض علماء اللغة أنها لفظة معربة أو مولدة4. فهي ضريبة الأرض, وتقابل
__________
1 تاج العروس "2/ 28"، "خرج".
2 Die Araber, I, S. 632, G. Widengren, The Status of the Jews in the Sassanian Empire, p. 149
3 Die Arabe, I, S. 632, Brockelmann, Lexi. Syriac, 374
4 تاج العروس "6/ 423"، "الطسق".(14/163)
"فورس" "Phoros" في اللغة اليونانية, وتؤخذ عينًا في الغالب، أي: غلة1.
وأما الجزية، فقد ذكر العلماء أنها خراج الأرض، وما يؤخذ من الذمي. ورد في الحديث: "ليس على مسلم جزية"، وورد: "من أخذ أرضًا بجزيتها"2، وورد في القرآن الكريم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 3. وقد ذكر المفسرون أن الجزية: الخراج عن الرقاب4, ويظهر من الحديث ومن كتب الفقه، أن المراد بها ضريبة الرأس. ولما كتب الرسول إلى "المنذر بن ساوى"، بشأن أتباعه، قال له: "ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية"5, وقد أمر الرسول عماله بأخذ الجزية من أهل الكتاب، ممن يريد البقاء في دينه. فهي إذن بهذا المعنى, ضريبة تؤخذ من غير المسلمين، في مقابل الزكاة التي تؤخذ من المسلمين.
وضريبة الرءوس معروفة، وهي تؤخذ من المغلوب على أمره، ولا سيما بعد الحروب, فتفرض على المغلوب ضريبة على رأس كل إنسان بالغ؛ ولذلك أنفت تغلب من أدائها، ولم تقبل بتأديتها؛ لأن في أدائها مذلة وصغارًا. وهي ضريبة دائمة، تلازم من فرضت عليه ما دام في حكم من فرضها، وهي تختلف عن الفدية التي تفرض على الأسر لفك أسره، وعن المبلغ الجماعي الذي يفرض على المغلوب في مقابل التصالح معه، وهو ما يعبر عنه في العربية بـ"وصالحهم على كذا وكذا", يؤدونه جزاء العفو عنهم.
وعبر عن الجزية بلفظة "Keraga" في التلمود, وبـKesef Rexa" "Kesef Resha"، أي: ضريبة الرأس في الموارد النصرانية السريانية، وبـ"Belo" "بلو" في لغة بني إرم وبـ""kesap Gulgulta في التلمود أيضا6. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن لفظة "الجزية" و"جزية" من أصل سرياني هو "Gzita"، وذهب بعض آخر إلى أنها
__________
1 Hastings, p. 948
2 تاج العروس "10/ 73"، "جزى".
3 التوبة، الرقم 9، الآية 29.
4 تفسير الطبري "10/ 77".
5 ابن سعد، الطبقات "1/ 263".
6 Die Araber, I, S. 632, Die Aramaische Sprache, I, 149(14/164)
من أصل فارسي هو "Gazitak" و"كزيد" بمعنى ضريبة يدفعها الذمي، أي: الذي أمنته الحكومة على حياته وماله وعرضه, وذهب بعض آخر إلى أنها من أصل عربي1. وتقابل هذه الضريبة ما يقال له: "Kensos" في اليونانية، وهي ضريبة كان يأخذها الرومان من اليونان عن رءوسهم، وهي لا تدفع غلة أو سلعة وإنما تؤخذ منهم نقودًا، أي: بالعملة الرومانية2.
وقد كانت الحكومات العربية الجنوبية تتقاضى العشر أيضًا عن البيوع وتوسعت حكومة "قتبان" في العشر، فجعلته إتاوة كل وارد أو ربح يصيبه الرجل، سواء أكان ذلك من البيع والشراء أم من الإجارة والإرث والزرع وكل عمل آخر3. ويظهر أن العشر، قد أخذ عن الزرع أيضًا في حكومة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت", وأيضًا في حكم الحبش على اليمن. وقد وردت لفظة "عشر" و"عشورت" في كتابات المسند، وتعني العشر الذي نبحث عنه4.
وأشار "بلينيوس" إلى العشر، فذكر أن العرب الجنوبيين كانوا يعشرون اللبان وما تنتجه بلادهم من بخور، يعشرهم رجال الدين باسم الإله "سن" "سين"5. ومعنى هذا أن المعبد كان يعشر المتمكنين من أصحاب الحاصل، فيأخذ منهم عشر غلتهم من هذه المواد. وأعتقد أنهم كانوا يعشرون كل مال يدخل إليهم, ولا يقتصر هذا التعشير على المواد المذكورة، أي: على الغلة الزراعية، بل يشمل ذلك كل ربح مهما كان نوعه، جاء عن الزراعة أو التجارة, وهذا التعشير لكل شيء، كان متبعًا عند غير العرب كذلك6. ونجد "صموئيل" يهدد شعبه بأنه سيعشر زرعه وكرومه وغنمه، ويأخذ جواريه وعبيده وشبانه وبناته، فيجعلهم عبيدًا له، يسخرهم كالحمير إن لم يستجيبوا له، ويسمعوا لما طلبه منهم7.
__________
1 Die Araber, I, s. 633, C. Brockelmann, Lexi. Syriac, 1928, 111, G
2 Hastings, p. 948. غرائب اللغة 223.
3 راجع الفقرة الخامسة من النص الموسوم بـ: Glaser 1601. Rhodokanakis, Katab. Texte, I, S. 7
4 Rhodokanakis, Stud. Lexi., II, S., 58
5 Pliny XII, 65.
6 صموئيل الأول، الإصحاح الثامن، الآية 11-17، Hastings, p. 944
7 صموئيل الأول، الإصحاح الثامن، الآية 1 وما بعدها.(14/165)
والعشر معروف عند غير العرب أيضًا، وهو يقابل "إش، رو، و" "Isch-ru-u" في الآشورية، أي "عشر"، وهو ما يدفع عن الأموال والذهب عندهم، و"مَعَشير" "Ma asher" في العبرانية، وقد جرى التعشير عندهم قبل أيام موسى، ونص عليه في التوراة. فكانوا يقدمون عشر أموالهم صدقة تزكيهم، يدخل فيه البقر وبقية الماشية، وتوسع "الفريسيون" في ذلك، فأدخلوا في العشر، عشر النعناع والشبث والكمون1.
وقد أشير في نصوص المسند إلى الضرائب التي كان على المتبايعين في الأسواق أداؤها إلى الحكومة, فعلى كل متعامل في السوق دفع "همد" إلى جباة السوق. والـ"همد" ما يؤخذ من المتعاملين في السوق عن اتجارهم بها, فهي ضريبة البيع والشراء2. وقد حذرت تلك النصوص المخالفين المتهربين من دفع ما عليهم من الـ"همد" بإنزال أقصى العقوبات عليهم بما في ذلك مصادرة أموالهم، إن حاولوا أكل حق الحكومة، والتهرب من دفع حصتها من الربح.
وهناك ضريبة أخرى ذكرت في النصوص كذلك، هي "فرعم"، أي: "فرع". يظهر أنها كانت عندهم تطوعية, لا يجبر الإنسان على أدائها، وإنما هي صدقة يتصدق بها من يشاء.
وقد كانت الحكومات العربية الجنوبية قد عينت جباة يجلسون في الأسواق وعند مدخل الحدود لجمع الضرائب المفروضة على البيع والشراء والاتجار وحق المرور. أما ضرائب غلات الأرض، فلها جباتها، كما كان يلتزمها كبار أصحاب الأرض وأصحاب الأقطاع، فيدفعون للحكومة حصتها من الزرع، وهم يجبون تلك الحصة من صغار المزارعين التابعين لهم أو المستأجرين لأرضهم، فيأخذون منهم كل ما يمكنهم أخذه للاستئثار به، وإعطاء القليل منه إلى الحكومة. وبذلك كان صغار المزارعين والمستأجرين للأرض يلاقون عنتًا شديدًا من الضرائب المفروضة عليهم.
وقد كان المتولون لأمر الأسواق يأخذون عشور التجار, لهم جباة يجوبون السوق؛ ليأخذوا عُشر ما يباع. فكان "الأكيدر" يعشر سوق دومة الجندل،
__________
1 راجع سفر التكوين، الإصحاح 14، الآية 20، والإصحاح 28، الآية 22، قاموس الكتاب المقدس "2/ 103"، "عشر عشور أعشار".
2 REP. EPIGR. 4337(14/166)
وربما يتولاها سادة "كلب"، أو بعض الغساسنة، وكان "قنافة" الكلبي ممن ينافس الأكيدر على دومة, يتولى جباية العشر كذلك. وكذلك كان المتولون لأمر الأسواق الأخرى يأخذون العشر. فالعشر، الجباية المألوفة التي يدفعها التجار عن تجارتهم في كل ما يبيعون ويشترون، وعن مكس السلع التي تنقل لبيعها في الأسواق الخارجية. فقد كان التجار العرب إذا دخلوا حدود بلاد الشام، عشرهم رجال المكس على الحدود, وإذا تاجروا في أسواق بلاد الشام عشرهم العشارون في هذه الأسواق.
وكان "زنباع بن روح" ممن يعشر من يمر به بمشارف الشام1, وهو من "جذام", وكان يعمل للحارث بن أبي شمر الغساني. ذكر أن "عمر" خرج تاجرًا في الجاهلية مع نفر من قريش، فلما وصلوا إلى فلسطين، قيل لهم: إن "زنباع بن روح" يعشر من يمر به، فعمدوا إلى إخفاء ما معهم من ذهب، فلما وجده، أغلظ عليهم في العشر ونال من عمر، فقال "عمر" في ذلك:
متى ألق زنباع بن عمرو ببلدة ... لي النصف منه يقرع السن من ندم
ويعلم أن الحي حي ابن غالبٍ ... مطاعين في الهيجا, مضاريب في الهيم2
ويقال لعمال العشور والجزية: "الحُشَّار"، وفي حديث وفد ثقيف اشترطوا ألا يعشروا ولا يحشروا، أي: لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل: لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم، بل يأخذها في أماكنهم3.
وورد في كتاب الرسول لعبد يغوث بن وعلة الحارثي: "ولا عشر ولا حشر"، وورد في كتابه إلى "يزيد بن المحجل الحارثي": "إن لهم نمرة ومساقيها ووادي الرحمن من بين غابتها، وإنه على قومه من بني مالك وعقبة, لا يغزون ولا يحشرون"، وجاء مثل ذلك في كتابه لقيس بن الحصين ذي الغصة: "لا يحشرون ولا يعشرون"4، ووردت هذه الجملة في كتابه لبني جُعيل من
__________
1 تاج العروس "5/ 461"، "قرع".
2 الإصابة "1/ 533"، "رقم 2817".
3 تاج العروس "3/ 142"، "حشر".
4 ابن سعد "1/ 268".(14/167)
بليّ1، وقد فسر "ابن سعد" جملة: "وأنهم لا يحشرون"، بقوله: "لا يحشرون من ماء إلى ماء في الصدقة"، وعبارة: "لا يعشرون" بقوله: "ولا يعشرون -يقول- في السنة إلا مرة", وفسر "السعاية" الواردة في الكتاب بالصدقة2. وعندي أن الحشر يجب أن يكون في معنى له صلة بالجلاء، أو بالجمع لسخرة وتكليف بقيام عمل إجباري. وقد ورد في كتب اللغة أن الحشر الجلاء؛ ولذلك قيل في بني النضير عندما أجلوا: إنهم أول حشر حشر إلى أرض المحشر، كما قالوا: يوم المحشر وأرض المحشر, والحشر أيضا بمعنى إجحاف السنة الشديدة بالمال3. فللفظة إذن علاقة بالإجلاء وبالسخرة وبالندبة إلى الحرب أو للقيام بعمل إجباري جماعي, ولا زال أهل العراق يستعملون لفظة "الحشور" في معنى جمع الناس للسخرة، ولأي عمل تريده الحكومة إجبارًا.
و"العشر" كما يتبين من النصوص الجاهلية ومن الموارد الإسلامية، أقدم ضريبة معروفة عند العرب، وهي ضريبة عامة تشمل أرباح التجارة كما تشمل أرباح الزراعة, وقد عرفت في جميع أنحاء جزيرة العرب. وهي في الواقع من أقدم الضرائب المعروفة في التاريخ, فرضتها الحكومات والأديان على الأتباع منذ أقدم العصور.
ولم أقف على وجود "العُشَّار" في مكة أو في يثرب أيام الجاهليين، ولكن هذا لا يعني نفيًا لوجود هذه الضريبة عند أهل المدينتين. ولا أستبعد وجودها عندهم، وذلك أنهم كانوا يأخذونها من المتبايعين في الأسواق لصرفها في الشئون العامة المتعلقة بمجتمعهما، فقد كان لكل سوق في الجاهلية عشارون يجمعون العشر, فلا داعي لاستثناء سوقي مكة والمدينة من العشر.
وقد سبق لي أن ذكرت أن سادات مكة كانوا قد اتفقوا فيما بينهم على أن يقدموا من أموالهم مالًا للرفادة ولتحمل الأشناق ونفقات الدفاع عن المدينة, يدفعها كل إنسان حسب قابليته المالية وإمكانياته. ولعلهم كانوا يأخذون من أرباحهم التي يحصلون عليها من القوافل نصيبًا معلومًا قبل توزيعها على المساهمين؛ ليكون عونًا للمدينة في تمشية أعمالها وفي الدفاع عن شئونها.
__________
1 "وأنهم لا يحشرون ولا يعشرون"، ابن سعد "1/ 270".
2 ابن سعد "1/ 270 وما بعدها".
3 تاج العروس "3/ 141 وما بعدها"، "حشر".(14/168)
الطعمة:
وترد في كتب أهل الأخبار لفظة "طعمة"، بمعنى المأكلة، ورد أن النعمان بن المنذر جعل لبني لأم من طيء ربع الطريق طعمة لهم لصهر كان لهم عنده, أي: إن النعمان جعل حق الطريق لهم، يجبون من المارة جبايتهم فيأخذونها لهم، ولا يعطونها للملك؛ لأنه كان قد تنازل عن حقه فيها إليهم. يقال: فلان تجبى له الطعم، أي: الخراج والإتاوات1. وكان من عادة الملوك، التنازل عن حق جباية الإتاوة, عن بعض الأرضين أو الطرق لسادات القبائل؛ تأليفًا لقلوبهم، وإسكاتًا لألسنتهم، ولأنهم يعلمون أن نفوذهم على تلك الأرضين أو القبائل لم يكن ثابتا قويا، بل كان بالاسم فقط، وأنهم لا يتمكنون من أخذ جبايتها؛ لذلك كانوا يتظاهرون أمام الناس بالتنازل عن حقهم في تلك الضرائب.
__________
1 تاج العروس "8/ 378"، "طعم".(14/169)