الجاهلية ولم يقصدوه. وما ذكر الدهر في الشعر، إلا كتشكي الناس من الزمان أو من الحظ أو النصيب في هذه الأيام، وشكواهم من ذلك لا يعني تجديد سلطان الله، أو نكرانه، وإنما هو بقية من تصور إنساني قديم بنسبة كل فعل وعمل إلى قوة خفية هي القوة العاملة، وهي ما عبرت عنها بالدهر وبالزمان. وذلك لما يتصورونه من مرور الأيام والسنين وبلاء الإنسان فيه، وبقاء الأرض والكون، ومثل هذه النسبة والشكوى عامة عند جميع الشعوب البدائية والمتطورة المتقدمة، فنراها عند القبائل البدائية ونراها عند الغربيين
ولا يقتصر هذا الاستعمال على الشعر وحده، بل نجد ذلك في النثر وفي كلام الناس الاعتيادي. لذلك لا أرى صحيحًا ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن نسبة الفعل إلى الدهر هو من الاستعمالات الخاصة بالشعر1.
وهناك كلمات أخرى تشير معانيها إلى هذه الفكرة فكرة القدر، وأن الخير والشر وكل ما يصيب الإنسان هو مقدر مكتوب. وهي نظرة لا بد أن تكون قد انبعثت من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن أثر المحيط في الإنسان. ومن شعور الإنسان بأن قوى خفية تلعب به وتوجهه حيث يشاء2.
فنسب كل ذلك إلى غيره، وصير نفسه مسخرًا موجهًا كالريشة في مهب الريح.
وتؤدي عقيدة القدر بصاحبها إلى التشاؤم، وإلى القنوط والاستسلام. والتوجع والتألم، والتشكي من عبث الدهر بالإنسان، وهو ليس له دخل في رده وصده وقد تؤدي بمعتنقها إلى الخمول والكسل، وإلى العجز في هذه الحياة، وإلى رد كل ما يصيبه بسبب كسله وعدم استخدام قابلياته ومواهبه إلى غدر الدهر به وحنق الزمان عليه، وتلاعب الحدثان بأموره. ونجد أكثر شعراء أهل الجاهلية، هم على هذه الشاكلة، يبكون أيامهم، ويتذكرون الماضي، ويتوجعون لأنهم سائرون نحو مستقبل مؤلم موجع، لا حول فيه لإنسان ولا قوة. إنه عالم الشيخوخة أو عالم الموت أو عالم الفقر. وأمثال ذلك من العوالم المفزعة. يستوي في ذلك امرؤ القيس والشعراء المخضرمون. فأنت إذا تصفحت دواوينهم قلما تجد فيهم شاعرًا متفائلًا، أو شاعرًا غير مبال بالأيام، لا يهمه ما يأتي به الدهر، حتى
__________
1 Kaske, S. 54.
2
والمال ما خول الإله فلا ... بد له أن يحوزه قدر
شرح ديوان زهير "ص314".(11/159)
ليخيل إلينا أن هذا طبع. والواقع أننا نجد الشعراء في الجاهلية والإسلام وأكثر الكتاب والخطباء على هذا المنوال، مما يحمل المرء على القول بوجود التشاؤم في طبع العرب.
وموضوع "القدر" من المواضيع التي حيرت المسلمين أيضًا. فانقسموا في ذلك إلى مذاهب. وقد مر الرسول بناس كانوا يتذاكرون في القدر، فقال: إنكم قد أخذتم في شعبين بعيدي الغور. أي يبعد أن تدركوا حقيقة علمه، كالماء الغائر الذي لا يقدر عليه1.
وقد ذكر علماء التفسير أن قريشًا خاصموا الرسول في القدر، وأن رجلًا جاء إلى الرسول فقال: يا رسول الله ففيم العمل؟ أفي شيء تستأنفه، أو في شيء قد فرغ منه؟ فقال رسول الله: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، سنيسره لليسرى، وسنيسره للعسرى2. ويظهر من ذلك أن قريشًا أو جمعًا منهم، لم يكونوا يؤمنون بالقدر، بل كانوا يؤمنون بأن فعل الإنسان منه، وأن لا لأحد من سلطان في تصرفه وفعله.
__________
1 تاج العروس "3/ 457"، "غور".
2 تفسير الطبري "27/ 64 وما بعدها".(11/160)
القدرية:
وذكر أن الشاعر "الأعشى" كان قدريًّا، يرى أن للإنسان دخلًا في فعله، وأن له سلطانًا على نفسه، حيث يقول:
اِستَأثَرَ اللَهُ بِالوَفاءِ وَبِالـ ... ـعَدلِ وَوَلّى المَلامَةَ الرَجُلا1
فالإنسان مسئول عن فعله، ملام على ما يرتكبه من قبيح. فالله عادل، لا يجازي الإنسان إلا على فعله، ولو كان قد قدر كل شيء له، وحتمه عليه كان ظالمًا. وقد أخذ الأعشى رأيه هذا "من قبل العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك".
فنحن أمام عقيدتين. عقيدة تقول: إن الله خالق كل شيء، وإن فعل الإنسان من تقدير الله وأمره، فهو يفعل بفعله وبحسب ما قدره له، ورأي يقول إن الإنسان خالق فعله، فهو حر مختار، ولهذا فهو وحده مسئول عن عمله، من خير أو شر. والرأي الأول أظهر عندهم وأقوى من الرأي الثاني.
__________
1 الأغاني "9/ 112"، "21/ 126".(11/160)
الحظ:
وحظ الإنسان، أي ما يصيبه في حياته، هو جزء من هذا الموضوع أيضًا. مشتبك به، متصل بأجزائه. والحظ في اللغة النصيب والجد. أو خاص بالنصيب من الخير والفضل1. والنصيب، هو ما قدر وما قسم لك، أي حظك والحظ2 وهو "البخت". وقيل: "البخت من المعربات، وقيل من الألفاظ التي تكلمت العرب بها قديمًا3. وذكر علماء اللغة أن الجد البخت والحظ في الدنيا. ويفهم من الأمثلة الواردة في شرح معنى اللفظة، أنها في معنى الحظوة والرزق4. أي في معنى الشيء الحسن المفرح مما يصيب الإنسان.
قالوا: والحظ موجود في المرزوق والمحروم، وفي المحارف، وفي القبائل، فربما سعدت بالحظ، وربما حظيت بالجد. وهو كذلك في الشعر وفي النباهة، ورب عاقل فاهم أديب، لا يكون إلا دائم الصبر على الشدة، لسلطان الحظ على الإنسان5.
ونظرية "القسمة والنصيب"، معروفة في الإسلام، وقد بحث فيها علماء الكلام. فهي من الموضوعات التي بحثت في الجاهلية والإسلام. ونجد أحد الشعراء يقول:
وليس الغنى والفقرُ من حيلةِ الفتى ... ولكن أحاظٍ قُسِّمت وجدود
وهو بيت ينسب لسويد بن حذاق العبدي، ويروى للمعلوط بن بدل القريعي، وصدره:
__________
1 تاج العروس "5/ 249"، "حظ".
2 تاج العروس "1/ 486"، "نصب".
3 تاج العروس "1/ 525"، "بخت".
4 تاج العروس "2/ 313"، "جدد".
5 الحيوان "2/ 102 وما بعدها".(11/161)
متى ما يرى الناسُ الغنيّ وجارُه ... فقير يقولوا عاجز وجَليد
أي "إنما أتاه الغنى لجلادته، وحرم الفقير لعجزه وقلة معرفته، وليس كما ظنوا، بل ذلك من فعل القسام وهو الله سبحانه وتعالى، لقوله {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} 1. وفي هذا المعنى قول الشهاب المقري:
سبحان من قسم الحظو ... ظ فلا عتاب ولا ملامه2
وأهل الجاهلية يرجعون القسمة إلى الدهر والزمان والحظ. فأبطل الإسلام ذلك؛ إذ جعلها بأمر الله وقدره. فالله هو مقدر الأقدار، ومقسم القسم، وموزع الحظوظ والأرزاق.
__________
1 تاج العروس "5/ 249"، "حظ".
2 المصدر نفسه.(11/162)
الطبع والطبيعة:
ومن الموضوعات التي لها صلة بالقضاء والقدر. موضوع الطبع، أي الخليقة والسجية التي جبل عليها الإنسان. فرأي كثير من الجاهليين، أن الإنسان مجبول على طبيعته التي ولد فيها، وكل إنسان على طبيعته، ولن يستطيع تبديل طبعه، ولا تغيير السجايا؛ لأنها مكتوبة على الإنسان مسنونة، ولا تبديل لما طبع المرء عليه1. وطبائع الإنسان لا يغيرها إلا الموت. جاء في شعر لبيد:
فَاِقنَع بِما قَسَمَ المَليكُ فَإِنَّما ... قَسَمَ الخَلائِقَ بَينَنا عَلّامُها2
وهو شعر قد يكون مما قاله في الإسلام.
و"زهير بن أبي سلمى"، ممن يعتقدون بهذه العقيدة، ويأخذون بهذا الرأي. فهو القائل:
وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ ... وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ3
__________
1 اللسان "8/ 232"، "طبع".
2 اللسان "10/ 86"، "خلق".
3 التبريزي، شرح القصائد العشر "240"، "البيت 58 من المعلقة"، "القاهرة 1964".(11/162)
الفصل السادس والستون: الألهة والتقرب إليها
مدخل
...
الفصل السادس والستون: الآلهة والتقرب إليها
لا نملك -ويا للأسف- نصوصًا جاهلية فيها وصف لطبائع الآلهة، ولا أساطير فيها شيء على رأي أهل الجاهلية في أخلاق أربابهم. ولهذا صار مرجعنا وسندنا في تكوين صورة عن طبائع الآلهة وأخلاقها، دراسة وتفسير أسماء الآلهة ونعوتها التي نعتت بها لاستخراج شيء منها يعيننا على تكوين هذه الصورة.
وتفسير أسماء الآلهة ومعرفة أصولها وجذورها، عملية ليست سهلة يسيرة؛ بسبب جهلنا بمعاني بعض تلك الأسماء، وعدم وقوفنا على أصولها التي اشتقت منها؛ لأنه اللهجات التي دونت بها، لا تزال بعيدة عن مداركنا، ولأن قواعد نحوها وصرفها تختلف بعض الاختلاف عن قواعد وصرف عربيتنا، ونحن لا نملك اليوم المؤهلات الكافية، للحكم في تلك اللهجات حكمنا في عربيتنا.
واسم الإله هو صفة في الغالب، ألبسها الزمن بمضي الوقت لباس العلمية، فعدت اسمًا علمًا، فإذا استطعنا الرجوع إلى أصول وجذور هذه الأسماء الصفات، نكون قد استنبطنا شيئًا عن طبائع تلك الآلهة من صفاتها المذكورة ونجحنا بعض النجاح من تكوين رأي عن تلك الديانات الجاهلية.
هنالك أسماء مثل "أل" "إيل" يجد الباحثون صعوبة في الاتفاق على تعيين أصولها وضبط معانيها وهناك أسماء واضحة جلية ظاهرة، تدل على أشياء معروفة محسوسة، مثل "شمس" و"ورخ" بمعنى قمر، و"عثتر"، و"الشعرى العبور" و"نجم"، و"ثريا" وأمثال ذلك من أسماء تشير إلى(11/163)
أشياء مادية، هي كواكب ونجوم، يستدل منها على وجود عبادة الأجرام السماوية عند الجاهليين. وهناك أسماء، هي نعوت في الواقع، لا تدل على ظواهر حسية وإنما تعبر عن أمور معنوية، مثل "ود" بمعنى "حب" و"رضى" و"سعد"، و"حكم"، و"نهي" و"صدق"، و"رحمن"، و"رحم" "ها - رحم" "الرحيم"، و"سمع"، "سميع"، و"محرمم" "محرم"، وأمثال ذلك من ألفاظ، هي نعوت، جرت بين الناس مجرى الأسماء. وعلى هذه الصفات الأسماء سيكون جل اعتمادنا في استنباط الصورة التي نريد تكوينها عن طبيعة آلهة العرب الجنوبيين.
وعلينا أن نضيف على ما تقدم الأعلام المركبة المضافة للأشخاص، مثل "عبد ود"، و"عبد مناف"، و"عبد شمس"، و"عبد يغوث"، و"أمت العزى" "أمة العزى"، فالكلمات الثانية من الاسم، أسماء أصنام. وفي تركيب الاسم على هذا النحو، دلالة على تذلل الإنسان تجاه ربه، واعتبار نفسه عبدًا له، وفيه تعبير عن صلة الأشخاص بربهم، أضف إليها الأعلام المركبة تركيبًا إخباريًّا، مثل "ودم أبم"، أي "ود أب" أو "أب ود"، ففي هذا التركيب دلالة على حنو الإله على المؤمنين به، وإشفاقه عليهم، إشفاق الأب على أولاده.
ودراسة الأمور المذكورة، هي مصدر مهم، بل هي تكاد في هذا اليوم أن تكون المصدر الوحيد لفهم ذات الآلهة وإدراك شخصيتها، ولفهم تطور الدين على مر العصور والأجيال، وكيف تطور الدين عند الجاهليين إلى يوم ظهور الإسلام.
هذا؛ ونجد في النصوص العربية الجنوبية المتأخرة، أسماء آلهة لا نجد لها موضعًا في النصوص العربية الجنوبية المتقدمة، واختفاء لأسماء الآلهة القديمة التي كانت لامعة ساطعة في سماء الألوهية عند العرب الجنوبيين قبل الميلاد. ونجد أسماء آلهة قبائل تعبد عند قبائل أخرى مع معبوداتها القديمة، وأسماء آلهة كانت لامعة شهيرة، تحولت إلى آلهة صغيرة. وفي كل هذه الملاحظات دلالة على حدوث تطور في الحياة الدينية عند الجاهليين، وعلى تأثر العقائد بمؤثرات داخلية وخارجية، فأحدثت هذا التطور الذي نبحث عنه.(11/164)
ومن بين أسماء الآلهة، أسماء مركبة، استهلت بـ"ذ"، أو بـ"ذت". و"ذ"، بمعنى "ذو" في عربيتنا، و"ذت" بمعنى "ذات" و"ذ" للمذكر" و"ذت" للمؤنث، أما الكلمات التالية، فهي صفات. فجملة "عثتر ذ قبضم"، تدل على إله ذكر، اسمه "عثتر ذو القبض" "عثتر ذو قبض" أو "عثتر القابض" بتعبير أصح. وجملة "ذ شقرن"، و"ذ صهرم"1، و"ذ عذبتم"، و"ذ يسرم"2، و"ذامر وشمر"، أي الآمر الناهي3، و"ذ أنبى"، هي جمل تشير إلى إله ذكر، لوجود "ذ" علامة التذكير فيه. وجملة "ذت حمم"، و"ذت بعدن"، و"ذت برن"، و"ذت غضرن"، و"ذت رحبن"، و"ذت صهرن"، و"ذت صنتم"، و"ذت ظهرن"، تشير إلى آلهة إناث، لوجود "ذت" "ذات" في الاسم. ومعنى هذا أن العرب الجنوبيين كانوا قد جعلوا الآلهة كالإنسان إناثًا وذكورًا. وهو ما ورد في القرآن الكريم عن أهل مكة وبعض قبائل الحجاز، من قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 4، ومن قوله:
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} 5، وقوله تعالى {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} 6، و {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} 7، و {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} 8. وقد ذكر علماء التفسير أنه "لا ينبغي أن يكون لله ولد ذكر ولا أنثى. سبحانه نزه جل جلاله بذلك نفسه عما أضافوا إليه ونسبوه من البنات، فلم يرضوا بجهلهم إذ أضافوا إليه ما لا ينبغي إضافته إليه، ولا ينبغي أن يكون له من الولد أن يضيفوا إليه ما يشتهونه لأنفسهم ويحبونه لها ولكنهم أضافوا إليه ما يكرهونه لأنفسهم ولا يرضونه لها من البنات ما يقتلونها إذا كانت لهم"9. وذكروا "أن مشركي قريش كانوا يقولون: الملائكة بنات الله،
__________
1 Rep Eplgr. 504.
2 Rep Epigr, 2831, 4688.
3 Handbuch, I, s. 244
4 النحل، الرقم 16، الآية 57.
5 الصافات، الرقم 37، الآية 149.
6 الصافات، الرقم 37، الآية 153
7 الزخرف، الرقم 43، الآية 16.
8 الطور، الرقم 52، الآية 39.
9 تفسير الطبري "14/ 83" روح المعاني "14/ 156".(11/165)
وكانوا يعبدونها"1. وقد وبخهم القرآن الكريم على قولهم هذا، واستخف بأحلامهم وبما قالوه جهلًا وحماقة.
وذكر علماء التفسير أن كفار قريش قالوا: "الملائكة بنات الله. فسأل أبو بكر من أمهاتهن؟ فقالوا سروات الجن. يحسبون أنهم خلقوا مما خلق منه إبليس"2. وأنهم قالوا: "إن الله وإبليس أخوان"، وأن بين الله وبين الجنة نسبًا3. ولم يذكر علماء التفسير من قال هذا القول من كفار قريش. ولا كيف صارت الملائكة بناتًا لله، أو كيف اصطفى الله له البنات ولِمَ فضلهن على البنين؛ إذ لم يذكروا أن أهل الجاهلية نسبوا له ولدًا ذكرًا، ولم يذكروا هل اختار الله البنات اختيارًا من خلقه، أو من زواج؟ وقد رأيت أن رواية نسبت على قريش قولهم إن أمهات الملائكة سروات الجن، وذلك حين سألهم أبو بكر من أمهاتن4.
ولا نجد في نصوص المسند إشارة إلى زواج الآلهة، وإلى وجود بنات لها وما قلناه من وجود آلهة ذكور، وآلهة أناث هو استنباط من وجود علامة التذكير "ذ" وعلامة التأنيث "ذت" في أسماء الآلهة. أما موضوع زواج القمر بالشمس، وظهور ولد ذكر منه هو عثتر" فهو من استنباط علماء العربيات الجنوبية ومن آرائهم التي استخلصوها من دراستهم للنصوص. فليس في المسند أي شيء عنه. وليس في المسند، أي شيء عن دين العرب الجنوبيين، وعن أساطيرهم في الآلهة وفي الخلق، ولا عن صلواتهم وأدعيتهم وكل ما يتعلق بالدين من أمور.
وكل اسم ورد في المسند استهل بلفظة "ذت"، "ذات" فيراد به الشمس، وهي إلهة، وكل لفظة بدأت بـ"ذ"، "ذي" فإنها تعني إلهًا، هو القمر أو عثتر. فنحن أمام ثالوث سماوي، يمثل عقيدة الجاهليين في الألوهية، كما يمثل عقيدة الساميين عمومًا. والثالوث السماوي هو نواة الألوهية عند جميع الساميين، ومنه أنبثقت عقيدة التوحيد فيما بعد.
__________
1 تفسير الطبري "23/ 67 وما بعدها"، روح المعاني "23/ 135".
2 تفسير الطبري "23/ 69".
3 المصدر نفسه.
4 تفسير الطبري "23/ 69".(11/166)
وعثتر، هو "النجم الثاقب" المذكور في القرآن الكريم1. وقد ذهب المفسرون إلى أن العرب كانت تسمي الثريا النجم. وذكر بعض منهم أن النجم الثاقب هو زحل. والثاقب الذي قد ارتفع على النجوم2. وذكر بعض آخر أن النجم الثاقب هو الجدي3. وأقسم في موضع آخر من القرآن الكريم بـ"النجم"4. وقد ذهب المفسرون إلى أن النجم الثريا5، ونحن لا يهمنا هنا اختلاف علماء التفسير في تثبيت المراد من النجم، إنما يهمنا أن المراد به نجم من النجوم. فنكون أمام ثالوث معبود: هو الشمس والقمر والنجم الثاقب، الذي هو "عثتر" في نصوص العرب الجنوبيين.
وقد ذكر أن العرب تعبدت للشمس وللقمر، وأن طائفة منها، تعبدت لكواكب أخرى مثل الشعرى، حيث تعبدت لها خزاعة وقيس، ومثل "سهيل" حيث تعبدت لها طيء" و"عطارد" وقد تعبد له "بنو أسد" و"الأسد"، وقد تعبد له بعض قريش. و"الدبران" وقد تعبدت له "طسم" و"الزهرة"، وقد تعبد لها أكثر العرب. و"زحل"، وقد تعبد له بعض أهل مكة. حتى إن من الباحثين من زعم أن "الكعبة" كانت معبدًا لزحل في بادئ الأمر. وتعبد للمشترى قوم من لحم وجذام6.
ونجد في الكتابات العربية الجنوبية جملة: "ودم أبم"، أي "ود أب" و"أبم ودم"، أي "أب ود". كما نجد جملة: "ولد ود" و"أولد ود" "أولد هو ود"، أي "أولاد ود" بمعنى "شعب معين" وتعبر الجمل الأولى عن معنى أن الإله "ود"، هو إله شفيق رحيم عطوف على الإنسان، هو بالنسبة له بمنزلة الأب من الابن فهو "أب" للإنسان لا بالمعنى الحقيقي بالطبع، أي بمعنى أن الإنسان انحدر من صلبه، بل بالمعنى المجازي الذي أشرت إليه. وبهذا المعنى نفسر جملة: "أولاد ود" تعبيرًا عن معنى "شعب
__________
1 سورة الطارق، رقم 86، الآية 3.
2 تفسير الطبري "30/ 91".
3 تفسير القرطبي، الجامع "20/ 1".
4 سورة النجم، الرقم 53، الآية 1.
5 تفسير الطبري "27/ 24".
6 Johann Ernest Osiander. Studien uber die Varisilamische Religion der Araber. In ZDMG. 1853. S. 463-505, Grohmann, s. 81.(11/167)
معين"، فالإله "ود" هو أب هذا الشعب يحميه ويدافع عنه ويعطف عليه. وبهذا المعنى وردت أيضًا جملة "ولد عم" عند القتبانيين و"ولد المقه" عند السبئيين. فـ"عم" الذي هو "القمر" في لغة القتبانيين، هو بمنزلة الأب لشعبه، وكذلك "المقه" الذي هو "القمر" في لهجة سبأ1.
وقد عبر عن الشمس بلفظة "هـ إلت"، أي "الإلهة" في النصوص العربية الشمالية2. وقيل لها "نكرح" في النصوص المعينية، و"ذت حمم" ذات حمم" "ذات حميم" في النصوص السبئية، كما قيل لها "ذت بعدن" و"ذت غضرن"، و"ذت برن"، و"ذت ظهرن"، في هذه النصوص كذلك. وقيل لها "ذت صنتم" و"ذت صهرن" و"ذت رحبن" في النصوص القتبانية3.
ومن الممكن التعرف على بعض هذا الأسماء التي أريد بها الشمس. فـ"ذت حمم"، بمعنى "ذات حمم"، و"ذات حميم". وقد وردت لفظة "حميم" و"يحموم" في القرآن الكريم4. والحميم الحار الشديد الحرارة، المتقد من شدة الحر الساخن الشديد السخونة5. وقد ذكر علماء التفسير أن "اليحموم"، دخان حميم، ودخان شديد السواد يخرج من نار جهنم6. فمعنى "ذت حمم" إذن، الإلهة ذات الحرارة الشديدة المتقدة المهلكة، التي تلفح وتحرق. والشمش، نفسها حارة، ملتهبة متقدة. لذلك يكون الناس قد أخذوا صفتها هذه منها. فأطلقوها عليها، وصاروا ينعتونها بها، ويخيفون الناس منها، بانتقامها منهم إن خالفوا أمرها وعملوا عملًا يثير غضبها عليهم.
ويقابل هذه الإلهة ذات الحميم، الإله "الـ حمون" "حمون" و"بعل حمون" عند الساميين الشماليين. فهذا الإله الذكر عند الساميين الشماليين، بسبب أن لفظة "الشمس" نفسها مذكرة عندهم، هو ذو حميم وحما. أي ذو سخونة وحماوة وشدة حرارة7. وقد نعت عندهم بالنعت الذي نعت به عند العرب.
__________
1 Handbuch, I, S. 217, D. Nielse. Der Sabalsche Gott Ilmaukag, S. 61.
2 Handbuch, I, S. 224.
3 Handbuch, I, S. 224, 260.
4 الواقعة، الرقم 56، الآية 43.
5 تاج العروس "7/ 259 وما بعدها"، "حمم".
6 تفسير الطبري "27/ 110 وما بعدها".
7 Handbuch, I, S. 225.(11/168)
الجنوبيين. فهو إله ذو حرارة مفزعة، وحميم لا يوصف. وقد استمد هذا الوصف من الطبيعة بالطبع. فالشمس مبعث الحرارة على هذه الأرض، يدرك الإنسان حرارتها في كل مكان فهي إذن "ذت حمم" حقًّا.
وعرفت الشمس بـ"أثرت" في كتابات قتبانية، ومعناها: "اللامعة"، أو الشديدة اللمعان بعبارة أصح والمتوهجة. فهي في معنى "ذت حمم". وعرفت أيضًا بـ"ذت أثر"، "ذات أثر"، وبـ"ربت أثر"، "ربة أثر"1. ونجد في النصوص النبطية الإلهة الشمس وقد عرفت بـ"ربت الأثر" بمعنى ربة التوهج، مما يدل على أن "أثرت"، و"ذت أثر"، و"ربت أثر"، في القتبانية هذه الإلهة الشمس2.
وقد يعبر عن "الشمس" بـ"الفرس". والفرس من الحيوانات التي قدسها قدماء الساميين. وقد كان العرب الجنوبيون يتقدمون بتماثيل الخيل؛ تقربًا إلى الآلهة. ومنها الإلهة "ذت بعدن" ذات البعد"، أي البعيدة، وهي الشمس3.
وأما "عثتر"، الذي هو "الزهرة"، فيرد اسمه في نصوص عربية جنوبية كثيرة. ولاسمه هذا صلة بأسماء بعض الجاهليين الواردة إلينا، مثل: "أوس عثت" بمعنى "عطية عثتر" و"لحيعثت" "لحى عثت"4.
وفي الكتابات العربية الجنوبية أسماء يظن أنها تخص الإله "عثتر". منها: "ذ قبضم"، و"ذ يهرق"، و"ذ جفت"، و"ذ جرب"، و"جرب"، و"متب نطين"، و"متب قبت"، و"متب مضجب"، و"يهر"، و"بر" وغيرها5.
وقد عرف "عثتر" بـ"الشارق" في الكتابات، فورد "عثتر شرقن" أي "عثتر الشارق" وعرف بـ"شرقن" فقط. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن المراد من "شرقن" بمعنى الطالع من الشرق، أو "عثتر المشرق". وهو تفسير رده بعض آخر من الباحثين؛ إذ رأوا أن "شرقن"، بمعنى
__________
1 Handbuch I, S. 226.
2 Handbuch I, S. 226
3 Handbuch I, S. 227.
4 Handbuch I, S. 228
5 Handbuch I, S. 228.(11/169)
"الشارق" وهي لفظة ترد في اللهجات العربية الشمالية1. وقد سبق لي أن بينت رأي المفسرين في "النجم الثاقب" المذكور في القرآن الكريم، وقلت باحتمال المراد به هذا الكوكب، وإن ذهبوا إلى أنه الثريا أو زحل أو الجدي. و"الشارق" صنم من أصنام الجاهليين تسمى به عدد من أهل الجاهلية، سموا بـ"عبد الشارق"2 قد يكون رمزًا لهذا الإله.
وورد في بعض كتابات المسند: "ذ غريم"، و"عثتر ذ غريم" أي "الغارب" و"عثتر الغارب" ومعنى ذلك "نجمة الغروب"، أو "نجمة المساء"، و"كوكب المساء"، في مقابل "نجمة الصباح" و"كوكب الصباح"3.
وورد "عثتر نورو"، و"نورو"، أي "عثتر نور"، "نور"4. ونور صفة من صفات الله في الإسلام. {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} . ولفظة "نورو" هي نعت من نعوت "عثتر" وورد "سحرن" بمعنى السحر. والسحر، قبيل الصبح وآخر الليل، فيراد بذلك "كوكب السحر"، أي الكوكب الذي يطلع عند طلوع السحر. كما ورد "متب نطين"، أي "الحامل للرطوبة"، وورد "عثتر قهحم"، أي "عثتر القدير" و"عثتر القادر" و"القاهر" و"سمعم"، أي "السميع"، و"نوبم" و"نبعن"5. و"يغل" "يغلن" بمعنى المدمر، والمنتقم. وقد ورد هذا النعت في أحجار القبور بصورة خاصة. وذلك لتذكير من يحاول تغيير الحجر أو أخذه من موضعه أو تدميره أو إلحاق أذى به، أو الاستفادة منه في أغراض أخرى، بأنه في حماية إله قدير منتقم6.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الإله "رضى" "رضو" الذي يرد في النصوص الثمودية والصفوية، هو الإله "عثتر" وهو صنم ذكره أهل الأخبار، لكنهم لم يذكروا شيئًا عن صلته بالكواكب ولا عن المعبود الذي يمثله7.
__________
1 Handbuch, I, S. 228, Fell, in ZDMG, 54, 1900, S. 231-259.
2 تاج العروس "6/ 393"، "شرق".
3 Arabien, S. 245.
4 سورة النور، الآية 35، تفسير الطبري "18/ 104"، "18/ 144".
5 Rep. Epigr. 4194.
6 Arabien, S. 245.
7 Handbuch, I, S. 229.(11/170)
وقد ورد في الأخبار المتعلقة بـ"الرها" أن أهل هذه المدينة، كانوا يعبدون الشمس ويعتقدون بوجود إله يطلع قبلها اسمه "أزيزوس" Azizos، وإله يظهر بعدها، يسمى "مونيموس" Monimos. وذهب الباحثون إلى أن "أزيزوس"، هو "عزيز" وهو نجم الصباح. ويطلع قبل طلوع الشمس. ويمثل "رضى" "رضو"، و"عثتر". ويرد اسم "رضى" في الكتابات التدمرية كذلك1. و"عزيز" "العزيز" من صفات الله في الإسلام.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الصنم المنحوت على شكل طفل هو رمز لـ"عثتر"، أي "رضى" "رضو"، و"عزيز" وقد حفر على شكل طفل عاري الجسم في الكتابات التدمرية. أما الشمس والقمر، فقد مثلا إنسانين كاملين. ونجد هذا التصور للآلهة في الديانات الفطرية، التي استمدت إدراكها لِكُنه الآلهة عن مظاهر الطبيعة2.
ولعل تصور الجاهليين الإله "رضو" على هيئة طفل، هو الذي يحل لنا المشكلة الواردة في أخبار "نيلوس" Nilus" عن تقديم العرب Saracens قرابين أطفالًا لكوكب الصباح. ذكر "نيلوس" أن العرب سرقوا ابنه الجميل الصغير "ثيودولس" Theodulus، وقرروا تقديمه قربانًا لكوكب الصباح. وقد قضى الطفل ليلة تعسة صعبة، فلما طلع الكوكب، وحان وقت تقريب الطفل قربانًا له، نام مختطفوه، ولم يستيقظوا إلا وقد طلعت الشمس، وفات وقت القربان، وبذلك نجا الطفل من الهلاك3. وقد تفسر جملة "إننا نقدم لك قربًا يشبهك" الواردة في دعاء عثر على نصه في "حران" قصة تقديم الأطفال الجميلة قرابين إلى هذا الإله4.
وقد أشار كتاب يونان إلى تعبد العرب إلى الشمس والقمر وكوكب الصباح، وهي أجرام سماوية تراها العين. ذاكرين أن العرب لا يتعبدون لآلهة روحية لا يبصرونها بأعينهم. ولهذا تعبدوا لهذه الأجرام المادية وللأحجار5.
__________
1 Handbuch, I, S. 229.
2 Handbuch, I, S. 231.
3 Handbuch, I, S. 203, Nili Opera, Tomus, 79, 1865, in Migne, Patrologia, Series Graeaca.
4 Handbuch, I, S. 231.
5 المصدر نفسه.(11/171)
وأما "مونيموس" Monimos، فإنه "منعم". و"منعم" من صفات الله في الإسلام. فالله هو "المنعم" المتفضل على عباده العزيز المقتدر.
وذهب بعض الباحثين إلى أن الصنم "ذو الخلصة" المذكور في كتب أهل الأخبار، والذي كان له بيت يدعى: "الكعبة اليمانية" ويقال له: "الكعبة الشامية" أيضًا، والذي هدم في الإسلام، هو تعبير آخر عن الصنم "عثتر"، أي الإله المكون مع القمر والشمس للثالوث1.
ويظن أن "ملك" اسم آخر من أسماء "عثتر" وقد تسمى به رجل عرف بـ"عبد ملك" كما ورد اسم "عبد ملكا" في النصوص النبطية والإرمية، بمعنى "عبد الملك"2. ويرد اسم "ملك أل" "ملك إيل" كثيرًا في الكتابات الثمودية. كما ورد في كتابة من الكتابات القتبانية "مختن ملكن"3. وقد ظن أن لفظة "ملك" تعني ملكًا، أي رئيس حكومة ملكية، فترجمت جملة "مختن ملكن" بـ"مختن الملك" أي ملك قتبان. غير أن هذه الترجمة وإن كانت ترجمة مقبولة. إلا أنها غير دقيقة. ولو ترجمت لفظة "ملكن" بمعنى "الملك" على أنه اسم إله لكانت الترجمة أدق وأصح فنحن نجد النص القتباني الذي وردت فيه جملة" مختن ملكن" يقول: "بنى الملك ورم مبعد ود وأثرن ومختن ملكن"، أي "بنى الملك ورم معبد ود وأثرت ومختن الملك"، ولو ترجمناها على هذه الصورة: "بنى الملك ورم معبد ود وأثرت ومعبد الإله الملك"، كانت الترجمة أنسب وأقبل. ويجب أن نتذكر أن الله هو: الملك، في الإسلام، وأن "عبد الملك" وهو من أسماء المسلمين كذلك يعني: عبد الله. وإن "الملكوت" من الملك مختصة بملك الله. ورد في القرآن: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 4.
ومن الممكن فهم الصلة بين لفظة "ملك" التي تعني إله، وبين لفظة "ملك" المالك على الأرض، أي الملك الدنيوي. فالإله مالك، والملك مالك أيضًا، مالك شعبه. ومن هنا فلا غرابة إذا ما رأينا عقيدة تقديس الملوك عند الشعوب.
__________
1 Handbuch, I, S. 232.
2.Handbuch, I, S. 232
3 HOMMEL, AUFS, 206.
4 تاج العروس "7/ 181"، "مالك".(11/172)
القديمة، واعتبار بعضها ملوكها من نسل الآلهة. فالآلهة قوة خارقة، والملوك قوة مسيطرة مهيمنة، تفعل في القديم ما تشاء بغير حساب، وهي ألسنة الآلهة الناطقة على الأرض، فلا بد وأن تكون للآلهة إذن صلة بالملوك، ولا بد وأن يكون لملوك الأرض نسب وأن تكون لهم قرابة بالآلهة. وقد فسر بعض الباحثين جملة: "ولد ود"، التي نعت بها أحد ملوك قتبان، تفسيرًا بهذا المعنى، تفسيرًا يعبر عن اعتقاد القوم بأن ملوكهم هم من نسل الإله "ود"1. ولكني أرى أننا لو فسرنا لفظة "ولد" بالمعنى المجازي، أي ولد الإله ود على سبيل المجاز، بمعنى أن الإله منه بمنزلة الوالد من الولد، في العطف والود، فإن هذا التفسير يكون مقبولًا أكثر من تفسير المتسلسل من صلب الإله ود.
__________
1 Handbuch, I, S. 233.(11/173)
الآلهة:
توصلنا من دراساتنا المتقدمة، إلى أن الآلهة كالبشر ذكورًا وأناثًا. وتوصلنا منها إلى أن القمر. هو مذكر عند جميع العرب على اختلاف لهجاتهم، وأما "الشمس" فهي أنثى عندهم. وأما "النجم" الذي هو "عثتر" فهو ولد عند العرب الجنوبيين. وعلى ذلك فنحن أمام ثالوث سماوي يتألف من إلاهين ذكرين ومن إلاهة أنثى.
وقد عجزنا عن الاهتداء إلى كيفية ظهور هذا الثالوث. أو العائلة الصغيرة المختارة المكونة من ذكرين وأنثى؛ لأننا لم نعثر على نص جاهلي أو غير جاهلي يتحدث عن كيفية ظهوره. وعجزنا عن التوصل إلى علاقة أعضاء هذا الثالوث بعضهم ببعض، وذلك لسبب مماثل، هو عدم وجود نص لدينا يشرح لنا هذه العلاقة! ولم نتمكن من العثور على أي مورد يشرح لنا كيفية ظهور هذه الآلهة، ولا سيما الإله "عثتر" الذي يعد ابنًا للقمر وللشمس.
ولم نعثر ويا للأسف على نصوص جاهلية فيها بعض الشيء عن كيفية التقاء القمر بالشمس، وفي كيفية طلوع "النجم" "عثتر" فبينما نجد في اللغات اليونانية والهندية واللاتينية تعابير عن التقاء الشمس بالقمر، فيها معنى النكاح.(11/173)
نجد أنفسنا قد عجزنا عن الحصول على مثل هذه المصطلحات في النصوص الجاهلية، ولهذا لم نتمكن من تكوين رأي عن تصور الصلة التي كان يراها الجاهليون بين الشمس والقمر. وفي اليونانية والهندية وأساطير الشعوب الأخرى، أن القمر اقترن بالشمس، وتزوج بها، وتغنت بذلك الزواج1.
وبالنظر لوجود الإله الذكر والإلهة الأنثى في نصوص المسند، وفي مؤلفات أهل الأخبار، فلا يستبعد احتمال مجيء يوم قد نعثر فيه على نصوص قد تتعرض إلى أسطورة زواج القمر بالشمس. وفي عربيتنا لفظة "اقتران" نطلقها على اقتران الشمس بالقمر وعلى اقتران الكواكب بعضها ببعض، وترد في كتب النجوم والأنواء. وفي هذه اللفظة معنى الازدواج.
إن هذه الأسطورة التي جعلت من الأجرام السماوية آلهة، وحصرت الألوهية في ثلاثة أجرام منها في الغالب ثم زوجتها وأولدتها، حولت هذا الزواج إلى زواج حقيقي سماوي يشبه زواج الإنسان على سطح الأرض. زواج تكون من ذكر وأنثى، من أب وأم، أنتج ولدًا عند العرب الجنوبيين، وولدين عند شعوب أخرى غير عربية هما كوكبا الصباح والمساء، أو بناتًا هي الملائكة أو الجن عند فريق من الجاهليين.
ونجد الإله "القمر" يلعب دورًا كبيرًا في الأساطير الدينية عند الجاهليين. دورًا يتناسب مع مقامه باعتباره رجلًا بعلًا أي زوجًا، والزوج هو "البعل"، والرب والسيد وصاحب الكلمة على زوجه وأهله عند العرب. وهو القوي ذو الحق، وعلى الزوجة حق الطاعة والخضوع له. وبناء على هذه النظرية جعل الإله القمر صاحب الحول والصول والقوة في عقيدة أهل الجاهلية في الأرباب. ومن هذا الإله القوي الجبار، جاء "الله" بعد أن تحول الثالوث عند بعض الجاهليين إلى "واحد"، واستخلصوا منه عبادة "الله".
وقد عرف القمر بـ"ثور". ولعل ذلك بسبب قرنيه اللذين يذكران بالهلال. دُعي بهذه التسمية، أي "ثور" في الكتابات2. وقد رمز إلى الإله القمر بـ"ثور". عند شعوب سامية قديمة أخرى3.
__________
1 Handbuch, I, s. 206, ff.
2 Glaser 1546, Wiever Museum 5.
3 Handbuch, I, S. 214, D. Nielsen, altarabische Mondreliglon, s. 110.(11/174)
ونظرًا لأن القمر هو الإله الذكر، صار بمنزلة الأب. فدعي بـ"أبم"، أي "أب". ونعت بمحب" فقيل له "ودم" "ود"؛ لأنه يحب عبيده ويشفق عليهم. وهو "كهلن"، أي القادر والقدير، وهو "حكم"، أي الحاكم والحكيم، وهو "سمعم"، أي السامع والسميع، وهو "علم"، أي العالم والعليم، والبصير المبصر، وهو "نهى"، أي الناهي1، وهو "صدق" الصادق الصديق المتعالي المنعم الكريم إلى غير ذلك من نعوت عرف بها ورمز بها إليه في النصوص.
ويجب أن ننتبه إلى أن الكتابات الجاهلية وكذلك أخبار أهل الأخبار، قد نصَّا على اسم الإلهة الشمس، فدعوها باسمها، أي الشمس. أما القمر، فلا نجد لاسمه الخاص ذكرًا يتناسب مع مقامه. نعم ذكر بـ"شهر" و"سين" في النصوص العربية الجنوبية. و"شهر" القمر في العربيات الجنوبية، ولا زال الناس يسمونه بهذه التسمية في جنوبي جزيرة العرب. لكننا نجد أسماءه المأخوذة من النعوت، أي من صفاته تطغى عليه. فهو "ود" في الغالب في النصوص المعينية. ويظن من لا علم عميق له بالعربيات الجنوبية، أنه اسم إله خاص، بينما هو اسم من أسماء عديدة للإله القمر عند شعب معين، وهو "المقه" أي المنير والنور عند السبئيين، أي صفة للقمر. وهكذا قل عن باقي أسمائه، فهي صفات له في الغالب لا اسم علم خاص به كما في حالة الشمس.
ونحن نجد هذه الظاهرة في روايات أهل الأخبار أيضًا. فبينما تنص أخبار أهل الأخبار على تعبد بعض العرب للشمس وعلى مخاطبتهم لها بـ" الإلاهة" وبـ"لاهة"2. وعلى تعبد بعضهم لزحل أو للمشترى أو لغيرهما من الأجرام السماوية كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر، لا نجد للقمر ذكرًا في أخبار أهل الأخبار. فلم يشيروا إلى اسمه ولا إلى تعبد الجاهليين له، حتى ليذهب الظن بعد تتبع جميع ما ورد في تلك الأخبار واستقصائها استقصاء تامًّا أن الجاهليين لم يعرفوا عبادة القمر. والظاهر أن أهل الأخبار كانوا في جهل من عبادة الجاهليين للقمر؛ بسبب ما شاهدوه من تعبد أهل مكة وغيرهم وكذلك القبائل إلى الأصنام وتقربهم
__________
1 Handbuch, I. S. 215, D. Nielsen, Neue Katabanische Inschriften, s. 15.
2 ابن الأجدابي "79".(11/175)
إليها، وقولهم إنها تقربهم إلى الله، وبسبب نص القرآن الكريم على تعبد الجاهليين وتقربهم للأصنام والأوثان. فذهبوا إلى أنهم كانوا مجرد عبدة أوثان ولم يفطنوا إلى أنهم اتخذوا الأصنام واسطة وشفيعة للآلهة التي هي أجرام سماوية في الأصل. أو لأن أهل الجاهلية القريبين من الإسلام، كانوا قد ابتعدوا عن عبادة الكواكب ولم يعودوا يذكرونها ذكر أجدادهم لها، واختصروا عبادتها، بأن جعلوا من الثالوث إلهًا واحدًا، هو "الله" فتقربوا إليه، وعكفوا يتقربون إليه بالتقرب إلى الأصنام والأوثان. وذلك باتخاذهم إياها رموزًا مشخصة وممثلة للإله على الأرض. فكان لكل قبيلة صنم يقربهم في زعمهم إلى الله.
وإذا أردنا تلخيص ما توصلنا إليه عن آلهة العرب الجنوبيين، قلنا إنهم تعبدوا كما ذكرنا لثالوث سماوي تألف من القمر والشمس ومن عثتر، وهو الزهرة في رأي معظم الباحثين. وقد عرف القمر بـ"ود" عند المعينيين، وبـ"المقه" عند السبئيين، وبـ"عم" عند قتبان، وبـ"سن" "سين" عند حضرموت، وبـ"ود" عند أوسان. وعرفت الشمس بـ"نكرح" عند المعينيين، وبـ"شمس" عند السبئيين، وبـ"أثرت" "أثيرت" عند القتبانيين، وبـ"شمس" عند أهل حضرموت وأوسان. وعرف "عثتر" بـ"عثتر" عند المعينيين والسبئيين وعند قتبان وأهل حضرموت والأوسانيين1.
وقد رمز الفن العربي الجنوبي إلى هذا الثالوث السماوي المقدس برموز. فرمز إلى القمر بهلال نحت أو نقش على الأحجار والأخشاب والمعادن. والهلال، يشير بالطبع إلى مطلع القمر في أول الشهر القمري. كما أشير إليه برأس ثور ذي قرنين أما الشمس فقد صورت قرصًا أو دائرة، أو كتلة أو هالة، والقرص، صورة طبيعية لقرص الشمس، التي تظهر في السماء قرصًا وهاجًا يبعث الحرارة والنور. وأما الزهرة، فرمز إليها بصورة نجمة في النقوش العربية الجنوبية وبثمانية خيوط إشعاعية في النصوص البابلية2. وهي ذكر وولد عند العرب الجنوبيين.
__________
1 A. Jamme, La Religion Sudarabe Preislamique, in M. Brlllant et R. Algrain Histoire des Religions. IV, Paris, 1956, 239-307, G. Ryckmans, Les Religions Arabes Preislamiques. Bibliotheque de Museon, 26, Louvian 1951, 25-64, G. Ryckmans, De Maangod in de boorislami.
2 Handbuch, I. S. 201, Grohmann, Gottersymbole. S 37-44, H. Primy, Altorientalische Symbolik, berlin, 1915, S. 75, 76, 142..(11/176)
وقد هدم الإسلام عبادة الكواكب، وحرم السجود للشمس وللقمر، والصلاة لهما، وحاول اجتثاث كل ما له صلة بتلك العبادة، فلم يبق اليوم من العرب من يتعبد للثالوث السماوي المقدس. ولكننا لا نزال نرى بعض العوام يغضبون إذا سب أحدهم الشمس أو القمر، ويتقرب الأطفال إلى الشمس بأسنانهم التي يخلعونها؛ لتعطيهم أسنان غزال، أي أسنانًا جميلة بيضاء، إلى غير ذلك من أوابد يعرفها الأعراب.
وفي القرآن الكريم: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 1. "فله فاسجدوا وإياه فاعبدوا دونهما، فإنه إن شاء طمس ضوءهما فترككم حيارى في ظلمة لا تهتدون سبيلًا ولا تبصرون شيئًا"2. وقد خاطب الله قريشًا وغيرهم بذلك، مما يدل على أنهم كانوا يسجدون للشمس والقمر. ولعلهم كانوا يفعلون ذلك عند الشروق وعند الغروب. وقد ذكر "ابن كثير" في تفسيره الآية المذكورة، ما يأتي: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي "ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به"3.
والسجود الخضوع، ومنه سجود الصلاة، وهو وضع الجبهة على الأرض، والانحناء، وسجد طأطأ رأسه. وكان النصارى يسجدون لأحبارهم، أي سادتهم من رجال دينهم. و"المسجد" من الألفاظ المعروفة عند الجاهليين. وهو البيت الذي يسجد فيه، وكل موضع يتعبد فيه، فهو مسجد4.
__________
1 فصلت، رقم 41، الآية 37.
2 تفسير الطبري "24/ 77".
3 تفسير ابن كثير "4/ 102".
4 قال حميد بن ثور:
فضول أزمتها أسجدت ... سجود النصارى لأحبارها
تاج العروس "2/ 371" "سجد".(11/177)
صفات الآلهة:
ومعظم أسماء الآلهة هو كما سبق أن ذكرت صفات في الأصل، استعملت(11/177)
استعمال الأسماء الأعلام. وهي كثيرة يتبين من دراستها أن الآلهة كالإنسان، تغضب وترضى، تحب وتبغض، قوية شديدة، رءوفة رحيمة شفيقة، إذا رضيت عن إنسان أسعدته في هذه الدنيا، وإن غضبت عليه أهلكته، سميعة بصيرة حكيمة حليمة. باقية خالدة خلود الدهر، بينما الإنسان هالك.
ومن النعوت الواردة في نصوص المسند: "رحم"، أي "رحيم" فالآلهة رحيمة بعبادها، تغفر ذنوبهم وتصفح عن سيئاتهم، وهي "حليمة" "حلم"، سميعة "سمع"، قديمة "كهلن"، تحمي عبادها حماية الأب لأبنائه "أبحمي"، ترضى عنهم رضاء الأب عن أولاده "أب رضو". شفيقة بهم شفقة الأب بأبنائه "أب شفق" وتهتم بهم "أب شعر"، وهي فخورة "إيل فخر" "الفخر" عالية سيدة العالم "أل تعلى" "إيل تعلي"، "إيل تعالى"، و"بعل" "بعلت"1.
ومن الصفات والنعوت التي أطلقتها النصوص الثمودية على الآلهة: "عم" بمعنى رحيم ورءوف. و"سمع" بمعنى "سميع"، و"رم" بمعنى العظيم، و"الرامي"، والكبير. و"إبتر" "أبتر" بالمعنى المفهوم من اللفظة في عربيتنا، أي، ليس له ولد2. ولهذه الصفة أهمية كبيرة بالنسبة لدارس الحياة الدينية وتطور فكرة الألوهية عند الجاهليين؛ لأنها تشير إلى أن صاحب النص الذي خاطب إلهه بقوله: "هـ أل هـ أبتر"، "ها إله أبتر" بمعنى "فيا الله الأبتر"، أي الإله الذي لم يلد ولا ولد له، كان يعتقد أن إلهه لم يلد أحدًا، فهو فرد واحد أحد. وقد وردت لفظة "أبتر" في نص ختم بهذه الجملة: "هـ أل هـ أبتر بك سر لن"3، أي: "فيا إلاه أبتر بك سرور لنا". أو بتعبير أوضح: "فيا إلهي أو إلاهنا الذي ليس له ولد. بك نسر"، أو "فيا إلهنا أبتر بك سرور لنا"، أو "أنت سرور لنا".
والآلهة تساعد الناس وتعاونهم وتغيثهم. هذا نص ثمودي كتبه رجل من قوم ثمود. توسل فيه إلى إلهه أن يرسل المسرات "ميسر" إلى من نزلت بهم
__________
1 Arabien, 246.
2 Hu, 475, JSA 302, 305, 306, H. Grimme, s 66.
3 السطر الرابع من النص المذكور.(11/178)
الدواهي من الناس. وأن يعاون العاملين. "ذا أتا يعمل"1. وهذا نص آخر، كتبه شخص آخر، وجهه إلى الإله "رضو" يقول فيه: "هـ رضو أت عون عمل"2، أي "يا رضو امنح العون لمن يعمل"، أو "يا إلهي رضو العون للعامل".
والآلهة ضياء للناس، تضيء لهم سواء السبيل تمنحهم نعمة الرؤية وترشدهم إلى النور. هذا نص يقول: "إلى ن أم ت ض ي ل ن "3. فهو يطلب من الإله أو من المعبد، أن يضيء لكاتبي النص السبيل، وأن ينقذهم من الغفوة التي أصيبوا بها؛ ليتجلى لهم الحق. وفي نص آخر: "بك ري نور تمت حيت"4، ومعناه "بك رأينا النور. وتمت الحياة"، أو "بك نور. ضياء.... حياة"، أو ما شابه ذلك. فالإله هو نور لهذه الحياة، وضياء للناس.
والله عالم بكل شيء، ذو المعرفة والعلم. وقد وردت صفة "هـ ع ر ف" "ها عارف" "ها عرف" أي العارف في نص وسم بـ JSA 568 5. وفي نص آخر، وسم بـ Hu 626 6. وهو العالم المحيط بكل شيء، وقد عبر عن هذه الصفة بلفظة "حصى" و"أحصى" بمعنى أحاط وأحصى كل شيء عددًا7، فالله محيط بكل شيء عالم لا يخفى على علمه شيء.
ووصفت الآلهة في النصوص الثمودية بأوصاف أخرى، مثل "عبر" بمعنى "القدير" والقوي والمعتبر، و"ذ عبر"، "ذو عبر" بمعنى ذو الحول والطول، وذو القوة والقدرة. و"ذبر"، وهي بهذا المعنى أيضًا8. وهو "العوذ"، عوذ"، والملجأ لكل إنسان9. وهو "العلي"، وقد وردت جملة "عل رضو" بمعنى "أعل رضو"، وهي جملة تذكرنا بقول "أبو سفيان".
__________
1 Hu 643/6, JSA 409, 504. Grimme, s 33-34.
2 Hu 643/6 Grimme 33.
3 Grimme, s. 35. 41.
4.Grimme, s. 41
5 Grimme, s. 37.
6.Grimme, s. 42
7 تاج العروس "10/ 91".
8 Grimme, s. 44.
9 Grimme, s. 44.(11/179)
يوم معركة "أحد": "اعل هبل، اعل هبل"1. وإني أرجح أن لفظة "عل" في هذا النص، تعني "على" أي حرف جر، فيكون المعنى "على رضو الملجأ"، و"على رضو المعول".
ولم أعثر في النصوص الجاهلية على نعت يشير إلى استخفاف أو حطة بالآلهة. فلم أجد إلهًا نعت فيها باللؤم أو بالسرقة، أو بالاعتداء على الأعراض، أو رمي بالحسد، حسد الناس أو حسد أمثاله من الأرباب. كما لم أجد ما نجده في الأساطير اليونانية من وجود فروق بين الآلهة وتباين بينها في المنزلة والمكانة، بحيث نجد آلهة كبيرة غنية، وآلهة ضعيفة فقيرة تحسد الأولى وتنقم عليها، وآلهة تسرق وتنهب لحاجتها إلى المال ولفقرها، ولم أجد فيها التخصص الذي نجده في الآلهة اليونانية، من وجود آلهة للبحار، وآلهة للهواء، وآلهة للحب، وآلهة للخمر، ونحو ذلك. وكل ما نجده عندهم، هو وجود آلهة شعوب وقبائل، مثل ود إله شعب معين، والمقه إله شعب سبأ، وهبل إله قريش، وهكذا نشأت من الظروف المحلية التي عاش فيها الجاهليون.
ولا أستبعد وجود "ميثولوجيا" أي أساطير عند الجاهليين، تدور حول آلهتهم، فقد تحدثت عن رأي بعضهم في "الشعرى"، ولكني أستبعد وجود أساطير دينية معقدة عندهم على شاكلة الأساطير اليونانية، أو الأساطير المصرية أو الهندية، لما بين الظروف المحيطة بالجاهليين وبين الشعوب المذكورة من فروق. والأساطير هي من حاصل المجتمع والظروف المتحكمة في الإنسان.
وإذا وجدنا آلهة أهل الجاهلية على هذا النحو من الصفات المذكورة، حساسة ذات حس مرهف، تنفعل بسرعة، تغضب وترضى، فيجب أن نعرف أن هذه الصفات، تمثل خلق من أطلقها على أربابه، فأرباب الناس من صنعهم، هو الذي أوجد تلك الأصنام وسواها، فما دام هو موجدها، فلن تكون آلهته إلا على شاكلته، إنها صورة صادقة له.
__________
1 Grimme, s. 44.(11/180)
الثواب والعقاب:
وما يفعله الإنسان من خير أو شر، سيكون ثوابه وجزاؤه في هذه الدنيا.(11/180)
والآلهة، هي التي تثيب وتعاقب. تثيب المتقي المتعبد لها المتقرب إليها بالنذور وبالبر بمعابدها، فتعطيه مالًا وتبارك له في نفسه وفي أهله، وتعطيه ذرية صالحة ذكورًا. وتنجيه من البلايا والآفات ومن الأوبئة والأمراض، وترجعه سالمًا معافًى من الحروب، تشفي جروحه إذا جرح، وتغدق عليه بالنعم من غنائم الحرب فهذا هو الثواب. ثواب في الدنيا وكفى.
أما العقوبة ففي الدنيا وحدها أيضًا، وتكون بإنزال البلاء بمن يستحقه من الخارجين على أوامر الآلهة، المتجاسرين على حرمة المعابد، المارقين على النظام، المخالفين لسلوك المجتمع، المجاوزين على حقوق غيرهم. ومن البلاء الأمراض من عمى وعور، وإصابة عضو من أعضاء الجسم بعطب، والأوبئة. ونجد في النصوص توسلات إلى الآلهة بأن تصيب من يغير النصوص المدونة الموضوعة شواخص على القبور، ومن يتطاول على حرمة المقابر، أو يدفن غريبًا فيها بغير إذن، بالعمى والعور؛ لتجاوزه على حرمة القبور. وكان في روع أهل مكة وما حولها أن من يعرض للسائبة، أو لحرمات الله، أصابته عقوبة في الدنيا1. وعقوبات الدنيا أشد تخويفًا للأعرابي، وأكثر وقعًا في نفسه من العقوبات المؤجلة في العالم الثاني، ثم إن معظم أهل الجاهلية لا يؤمنون باليوم الثاني، ولا بحشر وبعث ونشر.
ولولا الثواب والخوف من العقاب في هذه الدنيا، لما تقدم إنسان وهو فقير بائس، بأعز ما عنده إلى آلهته، على فقره وجوعه؛ ليقدمه قربة إليه، وهو في أشد الحاجة له، ولما بنى الناس المعابد، وتقدموا إليها بالهدايا والنذور، ولما ذكر رجل آلهته وتبرك باسمها، ووضع ملكه في حمايتها ورعايتها، ولعمت الفوضى المجتمع، وأكل بعضهم بعضًا، ونهبوا المال. والخوف من العقوبة في هذه الدينا، ساعد بالطبع كثيرًا في ردع الأشرار عن غيهم، وفي منعهم من الاعتداء على الحرمات، كما أن الإثابة في هذه الدنيا حملتهم على عمل الخير. وعلى التقرب إلى المعابد والعمل بأوامر رجال الدين؛ لتحقيق رضى الآلهة، وفي نيل رضاها كسب مادي وربح ملموس أكيد في هذه الحياة.
ولولا الأمل في الرضى والثواب، والخوف من الآلهة، لما جعل الناس أنفسهم عبيدًا إلى الآلهة. فسموا أنفسهم "عبد ود" و"أمت العزى" "أمة العزى"،
__________
1 تفسير الطبري "7/ 59"، تفسير القرطبي "6/ 336".(11/181)
و"عبد يغوث"، و"عبد مناة" وما شابه ذلك من أسماء دُعي أصحابها بها؛ أملًا في العمر الطويل، وفي التهرب من الموت. فقد كان الآباء والأمهات ينذرون نذرًا، أنه أن ولد لهم مولود، أخدموه إلهًا من الآلهة، ودعوه عبدًا له حتى يعيش. يفعل هذا الفعل من لا يعيش له مولود، ومن يولد له مولود لكنه لا يعمر طويلًا، بل يموت طفلًا أو في مقتبل العمر. فأمل الإنسان في أن يضع الإله حمايته ورعايته للمولود، دفعه على ركوب هذا المركب؛ لإقناع الآلهة بدفع الموت عن أبنائهم وحمايتهم منه.
ولدينا نصوص جاهلية عديدة، تخبر عن تلبية الآلهة توسلات المتعبدين لها، ووفائها لهم بما طلبوه منها. ففي نص ثمودي يخاطب إنسان ربه "منف" "مناف" بقوله: "سمعت منف"، أي "سمعت ندائي يا مناف" أي استجبت لندائي، فوفيت لي يا إلهي مناف. وقد دونه حمدًا له وشكرًا واعترافًا بفضله عليه. وفي نص آخر يخبر صاحبه أنه بريء وأن ربه شفاه مما ألم به من مرض، فيقول: "برات"، أي "برأت"، و"برتن"3، و"برتتن"4. وفي نص آخر يشكر إنسان ربه "صلم"5. ولم يرد في النص السبب الذي حمل صاحب النص على شكر إلهه "صلما" لكننا نستطيع أن نحزر، فنقول إنه طلب منه شيئًا، فصار على نحو ما أراد فشكر إلهه لذلك. وفي نص آخر، توسل من شخص إلى إلهه" صلم" لكي يعينه في الفاجعة التي فجع بها6. وفي نص آخر، توسل إلى إلهه لأن يمنحه: "خلود"، أي الخلود، بمعنى طول العمر7.
ومن التوسلات الجميلة التي وجهها الثموديون إلى آلهتهم، قول أحدهم: "بإلهى أمت"، "بـ إلهى أموت"8، "بإلهي أموت"، أو "في حب إلهي أموت"، أو "في إلهي أفنى". فهو يخاطب ربه. وقد ملأ قلبه العشق نحوه، العشق الإلهي الذي نقرؤه في كتب المتصوفة، ونسمعه في تغاريدهم يخاطبون.
__________
1 Hu. 421, Eu, 775, Hu 505/37, H. Grimme, s. 58.
2 Hu. 504/34.
3 Hu. 497.
4 Jsa 503
5 "صلم شكر" JSA 17.
6 Grimme, S. 34, 40.
7 Grimme, S. 35, 41.
8 Hu 255/20. Eu 250, Grimme, s. 66.(11/182)
بها الله. ونجد هذا الحب الإلهي والهروب إلى الله في نص ثمودي آخر، هذا نصه "بم مرر. ب ل هـ ي جرت. ب ل هـ ي أم ت لبب ذ هـ غ ث ت "1.
أي "من مر. بإلهي استجرت. بإلهي أموت. أعطني لبك. يا مغيث"، وبعبارة أوضح: "من مر" و"مر" اسم صاحب النص، فهو يوجه نداءه إلى ربه "استجرت بإلهي. وبإلهي أموت. اسمع ندائي يا من يغيث"، أو "يا مغيث" ففي هذه التوسلات وأمثالها رقة الشعور الديني، والحس المرهف الذي يكون عند كبار المتصوفة في مناجاتهم الله.
__________
1 Hu 518/27, Grimme, s. 67.(11/183)
التطاول على الأرباب:
وفي روع أهل الجاهلية أن من سب الأرباب أو تطاول في كلامه عليها نزلت به قارعة، فلما أسلم "ضمام بن ثعلبة" السعدي أو التميمي، وقدم على قومه، "فكان أول ما تكلم به، أن قال: بئست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون، قال: إنهما والله ما يضران ولا ينفعنان"1. ولما تحرش الرسول بالأصنام خوفه المشركون من أن يصاب بسوء، وإلى تخويفهم هذا أشير في القرآن الكريم: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 2 يعني: "ويخوفونك "هؤلاء المشركون" يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والآلهة أن تصيبك بسوء، ببراءتك منها وعيبك لها، والله كافيك ذلك"3. و"كانت زنبرة رومية، فأسلمت فذهب بصرها، فقال المشركون: أعمتها اللات والعزى"، "وقالت قريش ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى"4.
__________
1 الاستيعاب "2/ 208" "حاشية على الإصابة".
2 الزمر 29، الآية 36.
3 تفسير الطبري "24/ 5"، تفسير القرطبي "15/ 258".
4 الإصابة "4/ 305"، "رقم 465".(11/183)
الفصل السابع والستون: التقرب إلى الآلهة
مدخل
...
الفصل السابع والستون التقرب إلى الإلهة:
وكما تقوم الصداقة بين الناس على أساس الود والتقرب والاتصال والتذكر بتقديم الهدايا والألطاف ونفائس الأشياء، كذلك تقوم الصلة بين الإنسان وآلهته على أساس من الود والصداقة أيضًا. وإذ كانت الآلهة أقدر من الإنسان، كان من اللازم على البشر التودد إليها بشتى الطرق المعبرة عن معانى التقرب والتحبب والتعظيم لتتذكره، فتمنُّ عليه بالبركة والسعد وبخير ما يشتهيه ويرغب فيه.
والبشر عبيد لآلهتهم، فعليهم أن يؤدوا لها ما يجب أن يؤديه العبد لسيده. إن على العبد واجبات وفروضًا يجب أن يؤديها لصاحبه ومالكه، وعلى الإنسان كائنًا ما كان أن يقوم بأداء ما فرض عليه لآلهته وأربابه في أوقات مكتوبة وفي المناسبات.
ولما كانت عقلية الإنسان القديم وعقلية كل بدائي تقوم على فهم الإدراك الحسي في الدرجة الأولى، كان للهدايا وللنذور والقرابين والشعائر العملية المقام الأول في دياناته؛ لأنها ناحية ملموسة تراها الأعين وتدركها الأبصار، وفيها تضحية تقنع المتدين التقي المتقرب بها إلى آلهته بأنه قد قدم شيئًا ثمينًا لها، وأنها لذلك سترضى عنه حتمًا؛ لأنه قد آثرها على نفسه فقدم إليها أعز الأشياء وأغلاها. إنها سترضى عنه؛ لأنه لم ينسها، ولم يغفل عنها، ولم يفتر حبه لها. وسترضى عنه كلما تذكرها وقام بأداء هذه الواجبات المفروضة أو المستحبة لها، كما يرضى الصديق عن صديقه أو السيد عن عبده بإظهار الإخلاص وبالحرص على أداء الأعمال المرضية.(11/184)
والدين عقيدة، أي "إيمان" Belief وعمل. والعمل أبين وأظهر وأقوى في الديانات القديمة من الإيمان؛ بسبب أن الإيمان بالقلب، وهو لا يكون إلا بين المرء وربه، ولا يمكن لأحد الاطلاع على كنهه. أما العمل فهو تجسيد للإيمان وتعبير عنه بصور عملية واقعية. وهو الناحية المحسوسة الظاهرة للتدين. ولا يفهم البدائي من الدين إلا مظاهره، التي ترتكز على تضحية وبذل مادي لإرضاء الآلهة فعنده أنه متى بذل أعز ما يملكه في سبيل آلهته عد مؤمنًا تقيًّا، ترضى عنه الآلهة وألسنتها الناطقة بلسانها على الأرض: طبقة رجال الدين. ولهذا رأى بعض العلماء، أنه لدراسة دين من الأديان القديمة يجب الاهتمام بشعائره وبالأحكام التي فرضها على أتباعه؛ لأنها هي أساس ذلك الدين وجوهره1.
لقد كانت ديانات الجاهليين ذات حدود ضيقة، آلهتها آلهة محلية، فالإله إما إله قبيلة وإما إله موضع. وطبيعي أن تكون صلة الإنسان بإلهه متأثرة بدرجة تفكير ذلك الإنسان وبالشكل العام للمجتمع. والإله في نظرهم هو حامي القبيلة وحامي الموضع، وهو المدافع عنها وعنه في أيام السلم وفي أيام الحرب، ما دام الشعب مطيعًا له منفذًا لأوامره وأحكامه وللشعائر المرسومة التي يعرفها ويقررها ويقوم بتنفيذها رجال الدين.
ويكون إرضاء الآلهة بالتقرب إليها وبتنفيذ أوامرها التي تعينها وتثبتها خاصتها المختصة بين القبيلة أو الشعب، أعني كهانها ورجال الدين الذين يعرفون أوامرها وأحكامها خير معرفة، وهم الذين يفسرونها ويأمرون بتنفيذها بين الناس. وقد يكون هذا التنفيذ في أيام أو أشهر ثابتة معينة تكون لها قدسية وحرمة خاصة، وقد يكون في مواسم يرى الناس أن آلهتهم تكون في تلك الأوقات حاضرة متهيئة قرينة منهم تسمع شكاواهم وما عندهم من مطالب. ويكون هذا التنفيذ بصور مختلفة أهمها زيارة المعابد والتبرك بأصنامها، وتقديم النذور لها، وإيقاف الحبوس عليها. والحج إليها في الأوقات المفروضة وفي كل وقت آخر ممكن، وأداء الصدقات والزكاة، تزكية للمال، وتطهيرًا للنفس من الذنوب.
ومن أهم ما تقرب به الإنسان إلى آلهته "النذور" و"القرابين" و"المنح"، أي الصدقات والعطايا. وتدخل "الذبائح" في باب النذور والقرابين كذلك.
__________
1 Robertson, p. 16.(11/185)
ويجب أن أضيف "القرى" أي الضيافة عليها أيضًا، لما لها من صبغة أخلاقية دينية، حتى صارت الضيافة من الواجبات المثبتة في نظام "مكة". وهي "الرفادة" أي تقديم الطعام لمن يحتاج إليه.
والمنحة عند العرب أن يعطي الرجل صاحبه المال هبة أو صلة فيكون له، أو أن يمنح الرجل أخاه ناقة أو شاة يحلبها زمانًا وأيامًا ثم يردها. وقد تقع على الأرض، وهي أن يعطي الرجل غيره أرضًا ليزرعها ويستفيد منها، هبة أو عارية1. ويظهر من الإشارة إليها في الحديث، أنها كانت من أعمال البر المعروفة عند أهل الجاهلية، وكانون يتقربون بها إلى آلهتهم.
ولم تحدد الوثنية الأشياء التي كان على الإنسان أن يتقدم بها إلى آلهته قربة إليها أو وفاء لنذر، بل تركت له الأبواب مفتوحة، فله أن يتقرب إلى أربابه بكل ما يختار ويشاء، من أمور بسيطة رخيصة إلى أشياء ثمينة غالية، كل حسب مقدوره وقابلياته. فنجد بين النذور مباخر وتماثيل ومصابيح، وأشياء نفسية من ذهب أو من جواهر. كما كانوا يتبركون بوضع حصونهم وبيوتهم وبساتينهم ومزارعهم في حرساة الآلهة ورعايتها؛ لتحفظها ولتحفظ أصحابها.
ويمكن تقسيم ما تقدم به الجاهليون إلى أربابهم إلى قسمين: قسم إجباري، يجب الوفاء به بسبب "نذر" مثلًا، وقسم تطوعي، أي اختياري مثل "المنح" والذبائح التي تقدم في المواسم وفي سائر الأيام، ويقال لها "ندب" و"ندبت" "ندبة". و"المندوب" في عربيتنا المستحب2. وأدخل في القسم الأول ما يقال له "خطت" "خطات" "خطأه" أي "الخطيئة"3. ويراد بها تقديم "فدية" عن عمل مخالف قام به إنسان، مثل تقديم ذبيحة بسبب دخول إنسان نجس في المعبد.
وإذا كنا في شيء من الجهل بالنسبة إلى الزكاة التي كان الناس يدفعونها في نجد أو العربية الشرقية أو في الحجاز إلى المعابد وإلى رجال الدين؛ لعدم وجود نصوص جاهلية تكشف النقاب عنها، فإن لنا بعض المعرفة عن الزكاة التي كان
__________
1 تاج العروس "2/ 232"، "منح".
2 تاج العروس "1/ 481"، "ندب".
3 Ancient Israel 418-421, 425, 429.(11/186)
يقدمها أهل العربية الجنوبية إلى معابدهم، ظفرنا بها في الكتابات التي عثر عليها هناك، وقد وردت فيها إشارات إليها في نصوص تعرضت لها بالمناسبات.
وهذه الزكاة حصص عينية مقررة تدفع إلى المعبد على شاكلة الحصص التي تدفع إلى أصحاب الأرض والحكومة، تخزن في مخازن المعابد؛ لتصدر إلى الخارج، أو لتباع في الأسواق، أو ليصرف منها على المعابد ورجال الدين والمحتاجين. فكان القتبانيون مثلًا يدفعون عشر حاصلهم إلى المعبد، ويعرف ذلك عندهم بـ"عصم"1، تدفع هذه الضريبة عن حاصلات الأرض، وذلك في كل سنة. وقد عرفت هذه الضريبة بـ"عشر" عند المعينيين. وهي ضريبة تدفع أيضًا عن الحيوان إلى المعبد. وهذه الضريبة هي في الواقع من الضرائب العامة التي كانت تدفعها أمم أخرى عديدة إلى المعابد، وتستند إلى تقاليد تأريخية قديمة وإلى نظرية أن الأرض هي ملك للآلهة، فهي التي تنعم على الإنسان بالحاصل وبالخير وبالبركات، فعلى الإنسان تخصيص جزء من حاصله لتلك الآلهة. فإذا قصر إنسان في أداء ما عليه إلى الآلهة، تعرض للعقاب ولحرمان الآلهة إياه من البركة والخصب2.
ويتبين من نصوص المسند أنه كانت في العربية الجنوبية أرضون واسعة مسماة بأسماء الألهة، أجرتها المعابد للرؤساء أو سلمتها إلى أيدي "الكبراء" لاستغلالها في مقابل أجر يدفعونه إلى المعبد يتفق عليه. وهذه الأرضون هي أوقاف حبست على الآلهة تعرف بـ"وتفم" "وتف"3. ومن غلات هذه الأوقاف ومن "العصم" والنذور والهبات الأخرى ينفق على المعابد وعلى رجال الدين.
وقد ظهر في العربية الجنوبية نظام إقطاعي "كهنوتي"، أسياده رجال الدين، تولوا الإشراف على إدارة أملاك المعبد الواسعة وعلى استغلالها وإدارة شئونها، وجباية الأرضين التي يوقفها المؤمنون أصحابها على الآلهة، وعلى استحصال حقوق المعبد من المتمكنين. وقد أشير في كتابات المسند إلى أرضين واسعة كانت أوقافًا للمعابد، أجرت إلى سادات القبائل لاستغلالها في مقابل أجر اتفق عليه. ويظهر أن بعض أولئك السادات كانوا أقوياء وأصحاب نفوذ فاستولوا على "الحبوس".
__________
1 السطر الثالث من النص الموسوم بـ: Kataba Texte, I, Glaser 1601
2.Hastings, p. 940
3 Katab. Texte, II, s. 30.(11/187)
استيلاء في مقابل أجور زهيدة كانوا يدفعونها للمعبد، ولما لم يكن في وسع المعبد فعل شيء تجاههم، اضطر إلى قبول الأجر الزهيد الرمزي الدال على تملك المعبد للأرض. أما السادات فكانوا يؤجرون الأرض لأتباعهم بأجور عالية، ويربحون من ذلك أرباحًا كبيرة.
وعثر المنقبون على وثائق في خرائب بعض المعابد، تبين منها أنها كانت نصوص عقود إيجار واستئجار لأملاك المعبد، أي للأوقاف المحبوسة على أرباب المعبد. وقد ذكر المستأجرون فيها الشروط التي اتفقوا عليها مع المعبد في مقابل استغلال الوقف. وإذا كان المستأجر غير متمكن من أداء ما عليه للمعبد في مقابل استغلال الأرض، فإن من حقه الاستدانة من غيره أو الاتفاق معه على المساهمة معه في الاستغلال والاستثمار على شرط أخذ موافقة رجال المعبد على ذلك، وإدخال اسم الشخص الثاني في العقد، كي يكون مسئولًا شرعًا عن تنفيذ شروط العقد في حالة عدم تمكن زميله من ذلك1.
وقد اقتضى تضخم أملاك المعابد خلق جهاز خاص لإدارة الأملاك والأوقاف والإشراف على استحصال "الأعشار" عن الدخل وتركات الإرث والمشتريات إلى جانب النذور والقرابين وتوقيع العقد. جهاز رأسه كبار رجال الدين، الذين يمثلون الآلهة على الأرض، وقاعدته صغار رجال الدين ومن عهد إليهم أمر الإدارة من غير رجال الدين. فصار للمعبد بذلك نفوذ كبير في اقتصاد العربية الجنوبية في ذلك الوقت.
وفي المعابد مواضع يرمي الزوار فيها ما يجودون به على المعبد، تكون أمام الأصنام في الغالب. وهي خزائن تتجمع فيها النذور والهبات، فيأخذها السدنة، وأغلب ما يُرمى فيها الحلي والمصوغات المصاغة من الذهب والفضة، والأشياء النفيسة الأخرى. كما كانوا يعلقون السيوف والألبسة الثمينة على الأصنام وعلى الأشجار المقدسة تقربًا إليها، ووفاء بنذور نذروها لها.
ولم يبخل الجاهليون على أصنامهم، فقدموا لها حتى المأكل والمشرب؛ لاعتقادهم أنها تسر بذلك وتفرح. فقد عقلوا على "ذي الخلصة"، وهو صنم نصبه.
__________
1 Die Bodenwirtschaft, S. 22, A. Steinwenter, Beltrage Zum Offentlichen, 1915.(11/188)
"عمرو بن لحي"، القلائد وبيض النعام، والبرد النفيسة، وقدموا له الحنطة والشعير، بل واللبن أيضًا؛ ليشرب منه، وذبحوا له1. فهم يعتقدون أن في الصنم روحًا. وأن في مقدوره التلذذ بهذه النذور. وكان في روعهم أنه يشرب من ذلك اللبن.
وقد أشير إلى الهبات التي تقدم إلى المعابد والآلهة بكلمة "وهبم" في النصوص القتبانية. بمعنى "وهب" و"هبات". ووردت كلمات أخرى تؤدي هذا المعنى أيضًا. منها: "ودم"، و"شفتم"، و"بنتم"2. وتقابل هذه ما يقال له: "منحة" و"المنحة" عند العرب الشماليين.
وفي جملة ما يدخل في هذا الباب "بكرت"، أو "الباكورة" أول كل شيء. مثل الثمر وأول مولود بالنسبة للحيوان، حيث يُهدي للآلهة. وقد كان معروفًا عند العبرانيين وعند غيرهم من الساميين. وذلك أن يجعل صاحب المال ثمرة أول زرعه أو حيوانه نذرًا لآلهته3. وقد أشير إلى هذا النذر أو الهبة في نصوص المسند. ومن "الباكورة" العقيقة التي تحدثت عنها في موضع آخر من هذا الكتاب.
وتلعب النذور دورًا خطيرًا في الحياة الدينية عند الجاهليين، حتى صارت عندهم بمثابة المظهر الأول والوحيد للدين. فالعامة لا تكاد تفهم من الدين إلا تقديم النذور للآلهة؛ لتجيب لها طلباتها وتنعم عليها بنعمائها. والنذور هي وعد على شرط. يتوسل الناذر إلى آلهته بأنها إن أجابت طلبًا عَيَّنَهُ، وحققت مطلبًا نواه، فعليه كذا نذر، يعينه ويذكره. فهنا عقد ووعد بين طرفين في مقابل تنفيذ شرط أو شروط، أحد طرفيه السائل صاحب النذر، أما الطرف الثاني فهو الإله أو الآلهة. وأما الشرط، فهو تنفيذ المطالب التي يريدها الناذر. وأما النذر، فهو أشياء مختلفة، قد تكون ذبيحة، وقد تكون جملة ذبائح، وقد تكون نقودًا، وقد تكون فاكهة أو زرعًا، وقد تكون أرضًا، وقد تكون تمثالًا، وقد تكون حبسًا لإنسان يهب نفسه أو مملوكه أو ابنه لإلهه أو لآلهته، وقد يوهب
__________
1 الأزرقي، أخبار مكة "78"، "لا يبزك".
2 N. Rhodokankis, Katab Texte, I, S. 18, 26.
3 في العبرانية "بكوريم"، Ancient Israel 380, 404, 493.(11/189)
ما في بطن المرأة أو ما في بطن الحيوان، وقد يكون النذر حيوانات حية. وهكذا نجد مادة النذر كثيرة مختلفة متباينة بتباين النذر والأشخاص1.
ولا يشترط في وفاء النذر أن يكون عينًا أي مادة؛ إذ يجوز أن يكون أمرًا معنويًّا، كأن يذكر الناذر في نذره أنه إن أجاب الإله الفلاني طلبه وبارك له ومنحه طفلًا، يخدمه له أو يسميه عبده، أي عبد ذلك الإله الذي نذر له. وكثير من الأسماء المبتدأة بـ"عبد" يليها اسم "صنم"، هي من هذا القبيل، دُعي أصحابها بها ليحمي من سمي به صاحب ذلك الاسم في مقابل تلك التسمية، ومن هذا القبيل عبد مناف وعبد مناة2.
ومن هذا القبيل أيضًا نذر المواهب، كأن ينذر شخص مواهبه لصنم أو لمعبد، بأن يتعهد أن يقوم بترنيم التراتيل الدينية في الأعياد أو في أوقات الصلوات والمناسبات في ذلك المعبد، أو يقوم فيه بأعمال فنية مثل رسم منظر ديني أو تزيين معبد الإله، والنذر بالصيام وبغير ذلك3.
ويعبر عن الابن الذي ينذره أبوه أو أمه بأن يجعله خادمًا للمعبد أو للصنم أو للكنيسة ذكرًا كان أم أنثى "النذيرة"، وذلك لأنه حبس على خدمة الإله أو الصنم أو المعبد وتفرغ، فلا يخدم أحدًا سواها4. وفي التنزيل: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} 5.
ويقال للنذر "النحب"، وهو ما ينذره الإنسان على نفسه فيجعله نحبًا واجبًا. وقيل: إنما قيل للنذر نذرًا؛ لأنه ينذر فيه، أي أوجب على النفس6. ووردت لفظة "نذر" "نذرم" "نذرن" في نصوص المسند، بمعنى "نذر" و"نذور".
__________
1 تفسير الطبري "3/ 91 وما بعدها"، "القاهرة 1954" القاموس "2/ 120"، Encv. Brita, Vol, 25, p. 200, Reste, S. 112, Ency, Religi, 12, p. 644..
2 الروض الأنف "1/ 6".
3 تفسير الطبري "5/ 580 وما بعدها"، "دار المعارف"، تفسير البيضاوي "6/ 154"، القرطبي، الجامع "11/ 97 وما بعدها"، الطبرسي "2/ 345".
4 اللسان "5/ 200"، "نذر"، تاج العروس "3/ 561"، "نذر".
5 آل عمران، الآية 35، تفسير الطبري "3/ 157 وما بعدها"، القرطبي "4/ 65 وما بعدها"، تفسير البيضاوي "3/ 20 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "1/ 358 وما بعدها" روح المعاني "1/ 561".
6 اللسان "5/ 200"، تاج العروس "3/ 561".(11/190)
ومن هذه النذور "الربيط". فقد كان الجاهليون ينذرون أنهم إذا عاش لهم مولود جعلوه خادمًا للبيت، أي لبيت الصنم. ومن هنا لقب "الغوث بن مر" بالربيط "لأن أمه كانت لا يعيش لها ولد، فنذرت لئن عاش هذا لتربطن برأسه صوفة، ولتجعلنه ربيط الكعبة، فعاش ففعلت وجعلته خادمًا للبيت حتى بلغ الحلم، فنزعته فلقب الربيط"1.
ويظهر من بعض الروايات أنهم كانوا يربطون الربيط بالبيت. فقد ذكروا أن أم "الغوث" لما "ربطته عند البيت أصابه الحر، فمرت به، وقد سقط وذوى واسترخى"2، فيظهر أنهم كانوا يربطونه برباط بالموضع المقدس؛ ليكون على اتصال تام به، كما يفعل الناس اليوم من ربط مرضاهم ومن لا يعيش طويلًا من الأولاد بقبور الأولياء بخيط أو حبل، رجاء الشفاء وطول العمر. وقد يعقدون خيطًا أو شريطًا بالقبر، لهذا الغرض.
وقد كان أصحاب النذور يتنسكون ويكثرون من تعبدهم ومن تقربهم للصنم الذي نذروا له؛ ليمنَّ عليهم ويحقق لهم ما طلبوه. وقد أشار "لبيد" إلى الناسكات ينتظرن النذر بقوله:
توجس النبوح شُعثًا غبرًا ... كالناسكات ينتظرن النذرا3
ومن نذورهم في الجاهلية، أنهم كانوا ينذرون بألا تهب الصبا حتى يذبحوا أو ينحروا4. ويظهر أن هذه عادة كانت لها صلة بطقوس دينية جاهلية قديمة، نجدها عند أهل مكة وعند الأعراب.
وتكون النذور في حالات الشدة والضيق في الغالب. فإذا أصيب إنسان بمكروه أو أصيب عزيز له بذلك، نذر إلى آلهته نذرًا، يقدمه لها حالة تحقق الشرط، فإن صادف أن تحقق ما طلبه، وجب على الناذر الوفاء بنذوره. ونظرًا لظروف ذلك الوقت، فقد كانت النذور كثيرة ومتنوعة. منها نذور مادية، ومنها نذور
__________
1 تاج العروس "5/ 142"، "ربط".
2 الروط الأنف "1/ 85".
3 ديوان لبيد "336".
4 الكامل "2/ 52 وما بعدها".(11/191)
معنوية، مثل التعبد والتبتل وخدمة بيوت الأصنام وما شاكل ذلك من نذور1.
وقد كانوا لا يحلون لأنفسهم التملص والتخلص من الوفاء بالنذور؛ لاعتقادهم أنهم إن أكلوها ولم يوفوا بها، غضبت عليهم الآلهة، ولا سيما الإله الذي جعلوا نذرهم له، فيصابون بغضب منها، وينالهم مكروه، فهم لذلك يوفون نذورهم ولا يقصرون في الأداء، إلا لحاجة أو لاستهتار أو لتغلب الشح على النفس، ومع ذلك، فقد كانوا يلجئون إلى الحيل الشرعية في هذا التهرب، بإيجاد الحلول والأعذار.
ونجد في نصوص المسند عددًا كبيرًا من الكتابات تفيد أن صاحب الكتابة قد قدم إلى الإله الفلاني كذا وكذا؛ لأنه أجاب طلبه وأعطاه ما أراد ووفاه بحسب طلبه، فقدم إليه كذا وكذا وفاء لنذره. وتذكر في النص أحيانًا جملة لتنزل اللعنة أو لينزل الهلاك والدمار أو ما شابه ذلك على من يحاول إزالة النذر والأثر عن موضعه أو إلحاق الأذى به أو ما شابه ذلك من عبارات. وقد ورد مثل ذلك في النصوص الثمودية والليانية والنصوص الأخرى. وتفهم فكرة النذر والغاية منه صراحة من هذه الكتابات، فالناذر قدم نذره؛ لأن الإله المذكور أو الآلهة المذكورة أجابت طلبه ووفت له ما أراد، فوفى هو له أو لها ما اشترط على نفسه تقديمه عند عقده صيغة النذر، فالإله أو الآلهة طرف يسمع ويتعاقد ويجيب ويفعل أو تفعل تمامًا كما يفعل الإنسان، وهي تشترط على الطرف الثاني أي على السائل الوفاء بالنذر؛ لأنه دين يجب عليه دفعه في مقابل تنفيذ الآلهة الشروط المذكورة، وإلا فإن الآلهة تغضب عليه وتوقع القصاص عليه، وقد تسحب ما قدمت له حينما عقدت النذر معه.
وكانت القرابين البشرية في جملة الأشياء التي قدمها الإنسان نذرًا إلى آلهته. وكان "عبد المطلب" كما يذكر أهل الأخبار قد نذر إن توافى له عشرة رهط أن ينحر أحدهم. فلما اكتمل العدد، قرر الوفاء بنذره، وذلك بذبح أحدهم. وإذ لم يكن قد عين الولد الذي سيذبحه، ذهب كعادة أهل مكة إلى هبل يستقسم عنده. فلما أصاب النصيب "عبد الله"، ذهب إلى "إساف" ونائلة.
__________
1 طبري "3/ 144 وما بعدها"، روح المعاني "1/ 561 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 561"، "نذر"، تفسير البيضاوي "3/ 20 وما بعدها".(11/192)
وثني قريش اللذين تنحر عندهما، ليذبحه، "فقامت إليه قريش من أنديتها: فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب؟ قال: أذبحه. فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدًا حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه. فما بقاء الناس على هذا؟ ". ثم سألوه أن يذهب إلى عرافة كانت بالمدينة لها "تابع"؛ لترى رأيها في الموضوع وتفتي فيه، فلما ذهب إليها، وجدها بخيبر، فأشارت عليه أن يعود إلى مكة، ثم يضرب بالقداح على ابنه وعلى عشر من الإبل وهو مقدار الدية عندهم، فإن خرجت القداح على عبد الله ضربوا القداح مرة أخرى، فإن خرجت القداح على عبد الله مرة أخرى، أعادوا الضرب حتى يقع على الإبل، فيكون الرب قد رضي عنه، فتنحر الإبل عندئذ. فسمع نصيحتها وفعل، ونحرت الإبل فدية عن ابنه "عبد الله"1. والظاهر أن عادة نحر الأبناء عند الكعبة قد بقيت حتى بعد دخول العرب في الإسلام، بدليل ما ورد عن نذر امرأة أن تنحر ابنها عند الكعبة في أمر إن فعلته، ففعلت ذلك الأمر، فجاءت إلى المدينة تستفتي علماءها في الأمر. فأشار عليها من استفتتهم بوجوب الوفاء بالنذر، ولكنهم ذكروا لها أن الله قد نهى عن قتل أنفسكم، وذكروا لها قصة عبد المطلب المذكورة، ومعنى ذلك تقديم الفداء2.
كذلك كان من عادة الجاهليين النذر في ساعات الشدة والخطر، فكان بعض النساء ينذرون أن يجعلن ولدهن "حمسًا" إن شفى الرب ابنها من مرض ألم به، كما كانوا ينذرون بحلق شعر الرأس أو جز شعر الناصية أو الاعتكاف والانزواء بعيدًا عن الناس3، وهي عادات نجدها عند غير العرب أيضًا4.
وقد أشار المفسرون وأصحاب الحديث والأخبار إلى نذور كانت معروفة في الجاهلية، فمنعها الإسلام، وفي بعضها نوع من التحايل والتلاعب، حيث كانوا يتصرفون بحسب أهوائهم وشهواتهم ومنافعهم وقت استحقاق النذر. ومن ذلك ما أشير إليه في القرآن الكريم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى}
__________
1 الطبري "2/ 172 وما بعدها" ابن الاثير الكامل "2/2".
2 الطبري "2/ 172".
3 الأزرقي "1/ 123".
4 Shorter, Ency, p. 429.(11/193)
اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 1. وقد ذكر المفسرون أن من الجاهليين من كان يزرع لله زرعًا وللأصنام زرعًا، فكان إذا زكا الزرع الذي زرعوه لله ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام، جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه عليها، ويقولون إن الله غني والأصنام أحوج، وإن زكا الزرع الذي زرعوه للأصنام، ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله لم يجعلوا منه شيئًا لله. وقالوا هو غني.
وكانوا يقسمون الغنم، فيجعلون بعضه لله، وبعضه للأصنام، فما كان لله أطعموه الضيفان، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم. وكانوا إذا اختلط ما جعل للأصنام مما جعل لله تعالى ردوه، وإذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه. وقالوا الله أغنى. وإذا هلك ما جعل للأصنام، بدلوه مما جعل لله، وإذا هلك ما جعل لله لم يبدلوه بما جعل للأصنام2.
فهم يتطاولون على ما خصصوه لله من نصيب، ويتصرفون به كما يشاءون، ويحافظون على ما خصصوه للأصنام، بزعمهم أنها شركاء لله، ويقدمونه لها. ولعل ذلك بسبب أن ما كان يخصصونه للأصنام كان يجد له معقبًا وسائلًا، يراجع أصحاب الحرث أي الزرع وأصحاب الأنعام لاستحصال حق الأصنام منهم. وهو حق مفروض، وهم السدنة ورجال الأصنام، فكانوا يستحصلون حقوق الأصنام منهم، على حين كان ما يخصصونه لله نذرًا لا يعرف به غير الناذر، فكان يتلاعب به، ويعطيه أو يعطي جزءًا منه إلى جامعي حق الأصنام، على اعتبار أنها شريكة لله، وبذلك يتهرب من أداء النذر كاملًا بهذه الحيلة الشرعية، فلا يستخرج من ماله الذي خصصه لنفسه شيئًا عن الوفاء بالنذر وفاء تامًّا، أو لاعتقادهم أن الله بعيد عنهم، وهو غفور رحيم، أما الأصنام، فقريبة منهم، وهي منتقمة أشد الانتقام.
ويتبين من دراسات النذور عند الشعوب القديمة أنها كانت نتيجة حاجة، وتصور الإنسان أن بإمكانه التأثير على آلهته بهذه النذور، فيجعلها تميل إلى إجابة طلبه
__________
1 الأنعام، الأية 136.
2 تفسير الطبرسي "8/ 369 وما بعدها"، تفسير الطبري "8/ 30 وما بعدها"، روح المعاني "8/ 28"، تفسير التبيان، للطوسي "النجف 1960"، "4/ 307 وما بعدها"، القرطبي، الجامع "7/ 89"، الكشاف "1/ 471".(11/194)
وحل مشكلاته، وذلك بتقديم مطالب مغرية تطمعها، وهدايا سارة تفرح بها، كما يفرح الإنسان عند تقديم أمثالها إليه، فيهش لصاحب الهدية ويرتاح له ويتقرب إليه، ويعد الهدية نوعًا من التقرب والتودد والتحبب، فمن واجب من أهديت إليه الهدية مقابلة المتودد بالمثل. وأما الحاجات التي كان يرجو الناذرون تحقيقها، فهي في الغالب الحصول على ثروة، أو صحة وعافية أو ذرية أو نصر وتوفيق. والناذر على يقين بالطبع من أن الإله الذي نذر له النذر قادر على تحقيق ذلك، وإلا لم يتقدم إليه بهذا النذر1.
ويدخل في باب النذور ما يأخذه المرء عهدًا على نفسه بتجنب الطيبات واللذيذ من العيش، أو بالابتعاد عن الناس واعتزالهم على نحو ما يفعله الرهبان والناسكون لأمد معين أو لأجل غير معلوم. ونجد أمثلة عديدة من هذا العهد في أخبار الجاهليين، كالذي ذكروه عن "امرئ القيس" من أنه قال حينما بلغه مصرع والده: "الخمر علي والنساء حرام حتى أقتل من بني أسد مائة وأجز نواصي مائة"2، وكالذي رووه عن غيره من الجاهليين. وهي كلها من هذا الطراز. أخذ الشخص عهدًا على نفسه بألا يقرب امرأة أو يشرب خمرًا أو يضع طيبًا أو يقرب اللذائذ حتى يأخذ بثأره أو يتحقق ما نوى عليه، وقد يحدد ذلك بوقت بأن يعين أجل العهد3.
وإذا كان النذر عهدًا، كان من اللازم تنفيذ العهد؟ فإذا مات من أخذ عهدًا على نفسه بأن يفعل شيئًا لم يفعله، فعلى ورثته وقبيلته الوفاء بعهده. فإذا مات شخص كان قد نذر على نفسه الأخذ بثأر قتيل ولم يوفِ بعهده، بسبب موته، فعلى أهله وذوي قرابته وأفراد قبيلته الأخذ بالثأر. ولذلك كانت أحقاد الثأر تنتقل من الآباء إلى الأبناء فالأحفاد، وتستغرق أحيانًا زمنًا طويلًا حتى يؤخذ بالثأر. وقد نشأت عن هذه العهود مشكلات خطيرة في المجتمع الإسلامي في موضوع العهود التي يمكن تنفيذها والعهود التي لا يجوز تنفيذها، أو التي يسمح بعدم تنفيذها وفي مبلغ التبعة التي تترتب على الورثة في تنفيذ العهود4.
__________
1 Ency. Religi. 12, p. 656.
2 الأغاني "8/ 65"، "ذكر امرئ القيس ونسبه وأخباره".
3 ابن هشام "543"، 428.Shorter Ency. P
4 Shorter Ency. P. 429.(11/195)
القرابين:
وتؤلف القرابين جزءًا مهمًّا من عبادة الأمم القديمة، بل تكاد تكون العلامة الفارقة عندهم للدين. والرجل المتدين في عرفهم هو الرجل الذي يتذكر آلهته ويضعها دائمًا نصب عينيه، وذلك بتقديم القرابين لها، ولست أخطئ إذا قلت إنها كانت عندهم أبرز من العبادات العملية كالصلوات؛ لأن الإنسان القديم لم يكن يفهم آنئذ من الحياة إلا مفهومها المادي. وهو يرى بعينيه ويدرك أن ما يقدم إليه من هدايا يؤثر في نفسه كثيرًا، ولذلك كان من الطبيعي أن يتصور بعقله أن القرابين هي أوقع في نفوس آلهته من أي شيء كان، فقدمها على كل شيء، وجعلها عبادة يتقرب بها إلى الآلهة كما يتقرب أهل الأديان السماوية إلى الإله بالدعاء والصلوات، فهي في نظره عبادة تقربه إلى الأرباب.
وقد كان الجاهليون، يعظمون البيت بالدم، ويتقربون إلى أصنامهم بالذبائح، يرون أن تعظيم البيت أو الصنم لا يكون إلا بالذبح، وأن الذبائح من تقوى القلوب. والذبح هو الشعار الدال على الإخلاص في الدين عندهم، وعلامة التعظيم "قال المسلمون: يا رسول الله، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه"1.
ويظهر من قول أحد الشعراء الجاهليين:
فلا لعمر مسحت كعبته ... وما هريق على الأنصاب من جسد
أن الجاهليين كانوا يريقون دم الضحية على الأنصاب، وهي موضوعة في الكعبة، ويمسحون الكعبة2.
وكلمة "قربان" وجمعها "قرابين" هي من أصل "ق ر ب"، وقد استعملت وخصصت بهذا المعنى لأنها تقرب إلى الآلهة. والقربان هو كل ما يتقرب به إلى الله. فليس القربان خاصًّا بالذبائح، وإن صار ذلك مدلوله في الغالب3.
__________
1 تفسير الطبري "6/ 48"
2 الاشتقاق "ص206".
3 تاج العروس "1/ 422"، "قرب" اللسان "2/ 158"، قرب".(11/196)
ومن القرابين ما يقدم في أوقات معينة موقوتة، ومنها ما ليس له وقت محدد ثابت بل يقدم في كل وقت. ومن أمثلة النوع الأول ما يقدم في الأعياد أو في المواسم أو في الأشهر أو في أوقات معينة من اليوم وفي ساعات العبادات، ومن أمثلة النوع الثاني ما يقدم عند ميلاد مولود، أو إنشاء بناء أو القيام بحملة عسكرية أو لنصر وما شابه ذلك من أحوال. ويدخل في النوع الأول الاحتفاء بأعياد الآلهة، حيث تُكسى أصنامها أحسن الحلل، وتزين بأجمل زينة، ثم يوضع أمامها ما لنَّ من الطعام وما حسن من الهدايا، وتذبح لها الذبائح، تذبح على الأنصاب، ويأتي الكهان ليقوموا بتأدية الشعائر الدينية المقررة في هذه الأحوال.
ومعظم نصوص المسند كتابات دونت عند تقديم قربان أو نذر إلى الآلهة في ميلاد مولود، أو شفاء مريض، أو بناء معبد أو بيت، أو حفر خندق أو تشييد برج أو سور، أو حفر بئر أو زواج وما شاكل ذلك. ويظهر منها أن الناس في ذلك العهد كانوا يقدمون القرابين إلى آلهتهم في مناسبات كثيرة؛ تقربًا إليها وإرضاء لها، ولكي تمن على أصحابها بالخير والبركة.
وقد استعملت نصوص المسند لفظة "ذبح"، و"ذبحم" بمعنى "ذبحوا" و"ذبح" و"ذبيحة" و"ذبائح". وقد تسبق بكلمة "يوم"، فتكون "يوم ذبح"، أي "يوم ذبحوا"، ثم يذكر بعدها عدد ما ذبح ونوعه، ثم كلمة "أذبح" بمعنى "ذبائح" في بعض الأحيان. والذبائح التي تقدم إلى الآلهة هي الإبل والبقر والثيران والغنم والمعز، وهي أكثر الحيوانات شيوعًا في الذبح عند الشعوب السامية الأخرى. ولم نجد في نصوص المسند ذكرًا لحيوانات أخرى كالأسماك أو الدجاج مثلًا، ولعل ذلك بسبب ضآلة قيمتها وتفاهتها بالقياس إلى أثمان الحيوانات الأخرى، مما جعل الناس يأنفون من الإشارة إليها في النصوص.
وفي بعض الأديان حرق الذبائح وسكب دمائها على الناس كما يفعل العبرانيون؛ إذ اتخذوا مذبحًا للمحروقات. ويسمى أيضًا بمذبح النحاس. وكانت ناره لا تطفأ، وتقدم إليه الذبائح على الدوام، ويعرف ذلك عندهم بـ"عولاه" Olah، وتفسير الكلمة الشيء الذي يعلو1.
وينفي "ولهوزن" وجود المحارق عند الجاهليين، وعنده أن العرب لم يكونوا
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 458"، Hestings, p. 111.(11/197)
يحرقون الذبائح للأرباب، بل كانوا يكتفون بالذبح وبسكب دم الذبيحة على النصب كله أو بعضه، أو أنهم يتركونه يسيل إلى "الغبغب"، وليس في الذي بين أيدينا من نصوص ما يدل على أن الجاهليين كانوا يحرقون ذبائحهم لأربابهم على نحو ما كان يفعله العبرانيون، غير أن ذلك لا يمكن أن يكون مع ذلك دليلًا قاطعًا وحجة كافية في إثبات أن هذه العادة لم تكن عند جميع الجاهليين.
وهناك ذبائح من نوع آخر قدمها الإنسان إلى آلهته. من نوع لا تشمله كلمة خروف أو شاة أو بقرة أو ثور أو جمل، من نوع آخر لا تشمله أية تسمية من هذه التسميات التي تطلق على هذه الحيوانات التي يأكلها الإنسان في العادة هي ذبائح يعاقب القانون كل من يمارسها في الوقت الحاضر بأشد العقوبات، هي ذبائح بشرية قدمها الإنسان إلى آلهته لاعتقاده أنها زلفى محببة إلى نفوسها، وأنها ستفيا المجموع وتنقذه من كثير من الأوبئة والأمراض وأنواع الشر والضر، إن كان الإنسان الحديث يتبرأ منها في الزمن الحاضر ويتنكر لها ويحاول تبرئة أجداد أجداده من ممارستها قبل مئات من السنين، فالتأريخ لا يستطيع أن يجد دليلًا يثبت تبرئة أكثر أديان شعوب العالم القديمة من تقديم هذا النوع من القرابين، وفي التوراة أمثلة عديدة تتحدث عن تقديم العبرانيين لهذا النوع من القرابين إلى "يهوه" ليرضى عن شعبه، ويعفو عنه، ويتقرب منه1. كذلك نجد هذه العادة عند اليونان والرومان والهنود والفراعنة والصينيين واليابانيين وغيرهم.
أما عند الجاهليين، فذكر "فورفيريوس" Forphyrius أن أهل "دومة" Duma كانوا يذبحون في كل سنة إنسانًا عند قدم الصنم تقربًا إليه2. وذكر "نيلوس" Nilus من عادة بعض القبائل تقديم أجمل من يقع أسيرًا في أيديهم إلى الزهرة، ضحية لها تذبح وقت طلوعها، وقد وقع ابنه "تيودولس" Theodolus أسيرًا حوالي سنة 400م في أيدي الأعراب Saracens، وهُيِّئ ليُذبح قربانًا إلى الزُّهرة غير أن أحوالًا وقعت أفاتت عليهم الوقت المخصص لتقديم
__________
1 الملوك الأول، الإصحاح السادس عشر، الآية 34، الملوك الثاني، الإصحاح السادس عشر، الآية 3، الإصحاح السابع عشر، الآية 17 الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 6، صموئيل الأول، الإصحاح الخامس عشر، الآية 32، الملوك الثاني، الإصحاح الثالث، الآية 21، القضاة، الإصحاح الحادي عشر، الآية 30 وما بعدها، ومواضع أخرى، Hastings, p. 813, Ency, Religi, p. 864.
2 Reste, s. 115.(11/198)
الذبائح، أنقذته من الذبح، فاكتفى آسروه ببيعه في أسواق الرقيق بـ"ألوسة" Elusa، فاستقر هناك إلى أن صار أسقفًا على المدينة1. وذكر أيضًا أن الملك "المنذر" ملك الحيرة قدم أحد أبناء الحارث الذي وقع أسيرًا في يديه ونحو من أربع مائة راهبة قرابين إلى العزى2. غير أننا يجب أن نكون في حذر شديد من قراءة أمثال هذه الروايات؛ لأن مصدرها في الغالب هو الخيال. كذلك يجب أن نمر برواية الأخباريين عن قصة عبد المطلب وعبد الله بشيء من الاحتراس والحذر، بل والشك والريبة، ويخيل إلي أن الأخباريين استفادوا في هذه القصة من حكاية إبراهيم وإسحاق.
وليس في الذي بين أيدينا من نصوص المسند نص ما فيه خبر يشير إلى تقديم شخص ما ملك أو كاهن أو أي إنسان آخر ذبيحة بشرية إلى الآلهة، كذلك لا نجد في النصوص الأخرى مثل النصوص الثمودية أو اللحيانية أو الصفوية مثل هذه الإشارات.
وتلعب "المذابح" التي سبق أن تحدثت عنها، دورًا خطيرًا في العبادة عند الساميين، بل تكاد تكون المظهر الأساسي للدين والتعبد عندهم في ذلك العهد. ولهذا كان المتدين يكثر من ذبح الذبائح لأنها تقربه إلى الآلهة في نظره.
__________
1 Ency. Religi, 6, p. 853.
2 Hastings, A Dictionary, Vol, I, p. 75.(11/199)
الترجيب:
وقد عرف شهر "رجب" بكثرة ما كان ينحر فيه من عتائر للأصنام، فلا بد أن يكون لذلك أصل وسبب، كأن يكون هذا الشهر من الأشهر التي كان لها حرمة خاصة في الجاهلية القديمة. وشهر رجب هو من الأشهر الحرم المعظمة التي لم يكن يحل فيها القتال1. وقد سمي الذبح في هذا الشهر بـ"الترحيب"، وقيل للذبائح التي تقدم فيه "العتائر" جمع "عتيرة". وقد عدت العتائر من شعائر الجاهلية. وأطلق بعض علماء اللغة كلمة "العتائر" على ذبح الحيوانات.
__________
1 تاج العروس "1/ 266"، "رجب".(11/199)
الأليفة، وأطلق لفظة "النافرة" على ذبح الحيوانات الوحشية1. "وفي الحديث: هل تدرون ما العتيرة، وهي التي يسمونها الرجبية؟ كانوا يذبحون في شهر رجب ذبيحة، وينسبونها إليه. يقال هذه أيام ترجيب وتعتار. وكانت العرب ترجب، وكان ذلك لهم نسكًا2".
وذكر بعض أهل الأخبار أن أول من عتر العتائر وسن العتيرة للعرب، هو "بورا"، وهو "بوز"، وهو ابن شوحا، وهو سعد رجب، وهو أول من سن الرجبية للعرب. وهو ابن يعمانا، وهو قموال، وكان في عصر سليمان بن داود3. والظاهر أن أحد أهل الكتاب قصَّ على الأخباريين هذه القصة، فنسبوا هذه السنة الجاهلية إلى هؤلاء الأشخاص.
وكان بعض السادة ينجرون إذا أهلَّ "الشهر الأصم"، أي "شهر رجب". رُوي: أن "حاتمًا الطائي" كان ينحر إذا أهلَّ الشهر، ينحر عشرًا من الإبل ويطعم الناس لحومها، وذلك لحرمته ومنزلته عنده، ولتعظيم "مضر" فهو من شهود مضر الخاصة4.
وعرفت "العتيرة" بـ"الرجبية" عند الجاهليين كذلك؛ لأنها كانت تذبح في شهر رجب، فنسبوها إليها. وعرفت أيام رجب بـ"أيام الترجيب". وورد "أيام ترجيب وتعتار" وقيل للذبائح التي تقدم فيه "النسائل" كذلك5.
وأصل "النُّسك": الدم، وبهذا المعنى ورد من فعل كذا وكذا فعليه نسك، أي دم يهريقه. و"النسيكة": الذبيحة. و"مَنْسك": الموضع الذي تذبح فيه النسيكة، وهذا هو المعنى القديم الأصلي للكلمة. وقد صار من معانيها في العربية الشمالية العبادة والطاعة، وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى، لما كان للذبح من شأن في الديانات القديمة بحيث كان يعد عبادة أساسية عندها،
__________
1 Reste, s. 118.
2 تاج العروس "1/ 226 وما بعدها"، "رجب"، مسند أحمد بن حنبل "2/ 173".
3 الطبري "2/ 274".
4 الأغاني "16/ 94".
5 تاج العروس "1/ 266 وما بعدها"، اللسان "1/ 396"، المعاني الكبير "3/ 1171"، المخصص "13/ 98"، مجمع البيان للطبرسي "2/ 150".(11/200)
ولذلك قيل لمن انصرف إلى التعبد: الناسك1.
وقد فسر علماء التفسير لفظة "نسك" الواردة في الآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 2، بذبح ذبيحة شاة أو ما فوق ذلك3.
والعرف في الذبح عندهم، أنهم كانوا يسوقون ما يريدون تعتاره أي ذبحه إلى النصب الخاص بالصنم أو إلى الصنم نفسه، ثم يذبحونه بعد التسمية باسم ذلك الصنم، وبيان السبب في ذبح هذه العتيرة، ثم يلطخ رأس الصنم بشيء من دم تلك العتيرة4. وقد منع المسلمون من أكل ذبائح المشركين؛ لأنها مما أُهلَّ لغير الله، ولأن المشركين لم يكونوا يذكرون اسم الله عليها، بل كانوا يذكرون اسم الصنم الذي يذبحون له عليها. فحرم ذبائح المشركين لذلك على المسلمين5.
وقد أبطل الإسلام "الرجبية" وهي العتيرة، كما أبطل "الفرع"، وهو ذبح أول نتائج الإبل والغنم لأصنامها، فكانوا يأكلونه ويلقون جلده على الشجر. ويذكر أنهم كانوا إذا أرادوا ذبح الفرع زينوه وألبسوه6؛ ليكون ذلك أوكد في نفوس الآلهة، وتعريفًا للناس. وكانوا يفعلون ذلك تبركًا. وفي الحديث: لا فرع ولا عتيرة7.
وذكر أنهم كانوا إذا بلغت الإبل ما يتمناه صاحبها ذبحوا، أو إذا تمت إبل أحدهم مائة عتر عنها بعيرًا كل عام فأطعمه الناس ولا يذوقه هو ولا أهله، قيل بل قدم بكره فنحره لصنمه. وقد كان المسلمون يفعلون في صدر الإسلام ثم نخ8. وذكروا أن العتيرة الذبيحة التي كانت تذبح للأصنام ويصب دمها على رأسها9. و"العتر" الصنم الذي يصاب رأسه من دم العتر. قال زهير:
فزل عنها وأوفى رأس مرقبة ... كناصب العتر دمى رأسه النسك10
__________
1 تاج العروس "7/ 186 وما بعدها"، "نسك"، اللسان "12/ 389"، "نسك"
2 البقرة، الآية 196.
3 تفسير الطبري "2/ 134 وما بعدها".
4 ديوان زهير، للأعلم الشمنتري "46".
5 تفسير الطبري "8/ 12" وما بعدها" سورة الأنعام، الرقم 6، الآية 118 وما بعدها.
6 بلوغ الأرب "3/ 40 وما بعدها".
7 تاج العروس "5/ 449".
8 تاج العروس "5/ 449".
9 اللسان "4/ 537"، "عتر"، المرزوقي، الأزمنة والأمكنة "1/ 278".
10 اللسان "4/ 537"، "عتر".(11/201)
وكانوا يؤكدون على تلطيخ الصنم الذي يعتر له، أو "النصب" بشيء من دم العتيرة. يفعلون ذلك على ما يظهر؛ ليحس الصنم بالدم فوقه. فيتقبله ويرضى به عنهم، ويتقبل عتيرتهم.
ويظهر من غربلة ما جاء في روايات علماء اللغة والأخبار عن العتيرة والرجبية، أن العتيرة بمعنى الذبيحة، وأن "العتر" الذبح عامة، في رجب وفي غير رجب، و"العتائر" الذبائح التي كانوا يذبحونها عند أصنامهم وأنصابهم في رجب وفي غير رجب، والتي كانوا يلطخون بدمائها الصنم الذي كانوا يعترون له. وأما "الرجبية" فهي العتائر التي تعتر في رجب خاصة، وقد كانت كثيرة. ولذلك نسبت إلى هذا الشهر. ونظرًا إلى كون الرجبية عتيرة، ذهب البعض إلى أن العتيرة الرجبية1. فظن أنهم قصدوا بذلك أن العتيرة هي الرجبية، مع أن الرجبية من العتائر، أي بعض من كل، وليست مساوية لها.
وقد كان بعض أهل الجاهلية إذا طلب أحدهم أمرًا نذر لئن ظفر به ليذبحن من غنمه في رجب كذا وكذا، أو أن يقول: إن بلغت إبلي مائة عثرت عنها عتيرة، فإذا ظفر به، أو بلغت مائة، فربما ضاقت نفسه عن ذلك، وضن بغنمه، فصاد ظبيًا فذبحه، أو يأخذ عددها ظباء، فيذبحها مكان تلك الغنم، وهي "الربيض" وإلى ذلك أشير في شعر للحارث بن حلزة اليشكري:
عننًا باطلًا وظلمًا كما تعـ ... ـتر عن حجرة الربيض الظباء2
فذلك نوع من أنواع التحايل للتخلص من الوفاء بالنذور
وكان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم3، وإنما يأكل لحومها غيرهم. كما كانوا يضرجون البيت بدماء البدن4، ويضرجون أصنامهم بها. وورد في رواية
__________
1 اللسان "4/ 537"، "عنتر"، الأصنام "32"، "مطبعة دار الكتب المصرية"، 1924م"، تاج العروس "3/ 380"، "عنتر"، المخصص "98 وما بعدها".
2 "عننا" اللسان "4/ 537"، "عتر"، "عنتا" تاج العروس "3/ 380"، "عتر"، البيت رقم "51" من المعلقة شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص463 وما بعدها".
3 تفسير القرطبي "12/ 64".
4 تفسير القرطبي "12/ 65".(11/202)
أخرى، أنهم ينحرون هديهم عند الأصنام، فإذا نحروا هديًا قسموه فيمن حضرهم1.
ومن ذبائح أهل الجاهلية "الشريطة" كانوا يقطعون يسيرًا من حلق الشاة ويتركونها حتى تموت ويجعلونه ذكاة لها. وقد نُهي عن ذلك في الإسلام. وقيل ذبيحة الشريطة، هي أنهم كانوا يشرطونها من العلة، فإذا ماتت قالوا قد ذبحناها2.
ومما يلاحظ في تقديم الذبائح، أن الناذر يراعي الجنس في اختيار الذبيحة، فإذا كان مقرب القربان ذكرًا، اختار قربانه حيوانًا ذكرًا، وإن كان المقرب أنثى، اختيرت الذبيحة أنثى. ولا زال الناس يراعون ذلك حتى اليوم. ونجد هذه العادة عند غير العرب أيضًا، فقد كان أهل العراق يقدمون كتف حيوان، في مقابل شفاء كتف إنسان، ورأس ذبيحة في مقابل رأس ناذر، وهكذا وكانوا يجعلون الرأس رمزًا أحيانًا، فينذرون تقديم رأس المريض أو الصبي إلى الإله، إن مَنَّ عليه بالعافية وبالصحة. ويقصدون بذلك بدلًا، رأس حيوان أو رمزًا برمز إليه من ذهب أو فضة3.
__________
1 ابن هشام "1/ 65"، هامش على الروض الأنف.
2 تاج العروس "5/ 167"، "شرط".
3 Ancien Israel, p. 434.(11/203)
البحيرة والسائبة والوصيلة والحام:
ومن النذور والقرابين ما يكون حيوانات حية، تسمى كلها أو بعضها باسم الأرباب، فتحبس عليها، وتكون حرة طليقة لا يجوز مسها بسوء. وقد أشير في القرآن الكريم إلى "البحيرة"، و"السائبة"، و"الوصيلة"، و"الحام"1، وللعلماء في هذه المصطلحات كلام، مهما تضارب واختلف، فإنه يوصلنا إلى نتيجة هي أن الجاهليين كانوا يراعون هذه الأمور مراعاة شديدة، ولهم فيها قواعد وأحكام ترجع إلى تقاليد موروثة قديمة، حافظوا عليها، وظلوا يحافظون عليها إلى أن منعها الإسلام.
__________
1 المائدة، الآية 103.(11/203)
فأما البحيرة، فالناقة أو الشاة تترك فلا ينتفع من لبنها ولا تحمل ولا تركب، وترعى وترد الماء فلا ترد، فإذا ماتت حرموا لحمها على النساء وأباحوه على الرجال، ذلك بعد أن تنتج خمسة أبطن أو عشرة أو ما بين ذلك1. وقيل أيضًا الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فإن كان ذكرًا نحروه، فأكله الرجال والنساء جميعًا، وإن كانت أنثى شقوا أذنها، فتلك البحيرة، فلا يجز وبرها ولا يحمل عليها، وحرم على النساء أن يذقن من لبنها شيئًا وأن ينتفعن بها، وكان منافعها للرجال دون النساء2. وقيل الشاة التي تشق أذنها، وذلك شيء كان لأهل الجاهلية. تشق أذنها أو أذن الناقة بنصفين، وقيل بنصفين طولًا؛ ليكون التبحير علامة لها3.
وقيل: البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس4. قيل لها البحيرة؛ لأنهم بحروا أذنها، أي شقوها، وكان البحر علامة التخلية. وقال بعض العلماء: البحيرة هي ابنة السائبة5. وقال بعض آخر: البحيرة من الإبل يحرم أهل الجاهلية وبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلا على الرجال فما ولدت من ذكر وأنثى، فهو على هيئتها، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها6. وورد أن البحيرة من الإبل، كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نحروا الخامس إن كان سقبًا، وإن كان ربعة شقوا أذنها واستحيوها وهي بحيرة. وأما السقب فلا يأكل نساؤهم منه، وهو خالص لرجالهم، فإن ماتت الناقة أو نتجوها ميتًا فرجالهم ونساؤهم فيه سواء يأكلون منه7. والمرار من "السقب" الذكر من ولد الناقة8.
وورد في الأخبار أن أول من بحر البحائر رجل من "بني مدلج"، كانت لها ناقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورها، وقال هاتان لله، ثم احتاج
__________
1 تاج العروس "3/ 28"، "بحر"، "اللسان "5/ 106".
2 مجمع البيان، للطبرسي "2/ 251"، شمس العلوم "حـ1، ق1، ص133"، المفردات "26".
3 الاشتقاق "118"، اللسان "4/ 16 وما بعدها".
4 الطبري "7/ 59"، القرطبي، الجامع "6/ 335".
5 القرطبي "6/ 363".
6 تفسير الطبري "7/ 58".
7 تفسير الطبري "7/ 59 وما بعدها".
8 اللسان "1/ 468"، "شعب".(11/204)
إليهما، فشرب ألبانهما، وركب ظهورهما1. كما نسب التبحير إلى "عمرو بن لحي"؛ إذ قيل إنه كان أول من بحر البحيرة وسيب السائبة2.
وأما السائبة، فهي الناقة أو البعير أو الدابة تترك لنذر، أو بعد بلوغ نتائجها حدًّا معلومًا، فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تمنع من ماء وكلإ، وتترك سائبة لا يحل لأحد كائنًا من كان مخالفة ذلك3. "وكان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علة، أو نجته دابة من مشقة أو حرب، قال ناقتي سائبة، أي تسيب، فلا ينتفع بظهرها، ولا تحلأ عن ماء، ولا تمنع من كلإ، ولا تركب، وقيل: بل كان ينزع من ظهرها فقارة، أو عظمًا، فتعرف بذلك فأغير على رجل من العرب، فلم يجد دابة يركبها، فركب سائبة، فقيل: أتركب حرامًا؟ فقال: يركب الحرام من لا حلال له، فذهبت مثلًا"4.
و"قيل: هي أم البحيرة، كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن، كلهن أناث سيبت فلم تركب، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت. فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعًا. وبحرت أذن بنتها الأخيرة، فتسمى البحيرة، وهي بمنزلة أمها في أنها سائبة"5. وقيل السائبة: كان الرجل من أهل الجاهلية يسيب من ماله من الأنعام، فلا يمنع حوضًا أن يشرع فيه، ولا مرعى أن يرتع فيه فيهمل في الحمى، فلا ينتفع بظهره، ولا بولده ولا بلبنه ولا بشعره ولا بصوفه، فهو مخلاة لا قيد عليه، ولا راعي له. وكان في روعهم أن من تعرض للسوائب أصابته عقوبة في الدنيا6.
ويذكر أهل الأخبار أن أول من سيب السوائب "عمرو بن عامر الخزاعي"، أي "عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف" أخا بني كعب، وهو أول من غير دين إبراهيم. وقد رجعوا خبرهم هذا إلى رسول الله7. وقيل إن أول من
__________
1 تفسير الطبري "7 / 56".
2 اللسان "4/ 16 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 78"، "البابي".
3 الكشاف "1/ 368"، الطبرسي "2/ 251 وما بعدها" تاج العروس "1/ 305".
4 الاشتقاق "76 وما بعدها".
5 اللسان "1/ 478".
6 تفسير الطبري "7/ 59 وما بعدها" تفسير القرطبي "6/ 336".
7 تفسير الطبري "7/ 56 وما بعدها" القرطبي، الجامع "6/ 337 وما بعدها".(11/205)
ابتدع ذلك "جنادة بن عوف"1 وهو من النسأة، كما سيأتي الكلام عنه فيما بعد.
وأما الوصيلة، فالناقة التي وصلت بين عشرة أبطن، أو الشاة التي وصلت سبعة أبطن. وفي رواية: أن الشاة إذا ولدت ستة أبطن نظروها، فإن كان السابع ذكرًا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرًا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، ولم يذبح، وكان لحمه حرامًا على النساء. وفي رواية: أن لبن أم الوصيلة حلال على الرجال دون النساء2. وقالوا: الوصيلة الشاة إذا أتامت عشر إناث متتابعات في خمس أبطن، ليس بينهن ذكر. فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإناث، إلا أن يموت شيء منها فيشترك في أكله ذكورهم وإناثهم3.
وأما الحام، فالبعير إذا نتج عشرة أبطن من صلبه، قالوا: قد حمى ظهره، فلا يركب ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى4 وقالوا: الحام من الإبل، كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه5. وقالوا بل الحام أن الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى ظهره ولم يركب ولم يجز وبره ويخلى في إبله يضرب فيها لا ينتفع بها بغير ذلك وذكر أن الحام، الفحل يضرب في الإبل عشر سنين، ويقال: إذا ضرب ولد ولده قيل قد حمى ظهره، فيتركونه لا يمس ولا ينحر أبدًا ولا يمنع من كلإ يريده، وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها6.
وذكروا أن أول من حمى الحامي هو "عمرو بن لحي" وذلك في سنن أخرى سنها لأهل الجاهلية7.
وقد أشير في سورة "الأنعام" إلى أشياء كان يفعلها أهل الجاهلية، يتقربون بها إلى آلهتهم، كانوا يحرمون من أنعامهم أشياء لا يأكلونها ويعزلون من حرثهم
__________
1 القرطبي، الجامع "6/ 337".
2 تاج العروس "8/ 155"، الكشاف "1/ 368".
3 القرطبي، الجامع "6/ 337".
4 الكشاف "1/ 368"، تاج العروس "10/ 100"، اللسان "18/ 220".
5 القرطبي، الجامع "6/ 336".
6 تفسير الطبري "7/ 57 وما بعدها".
7 تفسير الطبري "7/ 56 وما بعدها.(11/206)
شيئًا معلومًا لآلهتهم ويقولون لا يحل لنا ما سمينا لآلهتها1. فورد: "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا. فقالوا: هذا لله بزعمهم، وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون" وورد: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 2.
وذكر المفسرون أن من المشركين من حرم ظهور بعض أنعامهم، فلا يربكون ظهورها، وهم ينتفعون برسلها ونتاجها وسائر الأشياء منها غير ظهورها للركوب وحرموا من أنعامهم أنعامًا أخر فلا يحجون عليها. وقد ذكروا أن المراد بذلك البحيرة والسائبة والحام. وأنهم كانوا قد جعلوا ألبان البحائر للذكور دون الإناث. وإن كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تترك فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء3. فالمراد بهذه الآيات ما ذكرته عن الأمور المتقدمة.
وقد كان بعض أصحاب النذور ينذر، فإذا تم النذر وصار وبلغت إبلهم أو غنمهم ذلك العدد، بخل بإبله أو شائه وضاقت نفسه عن الوفاء وضن بإبله وبغنمه فاستعمل التأويل، وقال: إنما قلت إني أذبح كذا وكذا شاة، والظباء شاء، كما أن الغنم شاء، فيجعل ذلك القربان شاء كله مما يصيده من الظباء فلذلك يقول الحارث بن حلزة اليشكري:
عننًا باطلًا وظلمًا كلما تعـ ... ـتر عن حجرة الربيض الظباء4
وكان الرجل من العرب في الجاهلية إذا بلغ إبله ألفًا عار عين بعير منها،
__________
1 تفسير الطبري "8/ 35".
2 الأنعام، الآية 136 وما بعدها.
3 تفسير الطبري "8/ 37 وما بعد".
4 الأصنام "13"، شرح المعلقات للزوزني "ص167"، المعاني الكبير "2/ 1012".(11/207)
وسرحه لا ينتفع به1. وكان من عاداتهم إذا بلغ إبلهم المائة، ترك ركوب ظهر بعير منها، فلا يركب ولا ينتفع به، ويقولون لذلك: الأخلاق2.
وكانوا يتصدقون بمائة من الإبل على الفقراء والمحتاجين والمعابد، وما شاكل ذلك. روي أن "حنيفة" النعم، وهو من أثرياء الجاهلية، لما شعر بدنو أجله، جمع بنيه، ثم أوصى بمائة من إبله على يتيمه صدقة. وكانوا يسمونها "المطيبة"3.
وقد عرف ما كان يحبسه أهل الجاهلية على أصنامهم من السوائب والبحائر والحوامي وغيرها بـ"الحبس" وقد أطلق الإسلام ما حبسوا وحلل ما حرموا، وهو جمع حبيس4.
وكانت لهم مكرمات. فعلوها في الجاهلية عن خلق ودين ورغبة في شهرة وسمعة. منها أنهم كانوا يتصدقون بأموالهم على أبناء السبيل وعلى الفقراء والمحتاجين ذكر أن "الأسود بن ربيعة بن أبي الأسود" اليشكري، قال لرسول الله: "يا رسول الله إن أبي كان تصدق بمالٍ من ماله على ابن السبيل في الجاهلية، فإن تكن لي مكرمة تركتها، وإن لا تكن لي مكرمة، فأنا أحق بها: فقال: بل هي لك مكرمة فتقبلها". وذكر أن رسول الله قال: "ألا إن كل مكرمة كانت في الجاهلية، فقد جعلتها تحت قدمي، إلا السقاية والسدانة"5. وهذه المكرمات هي من مآثر العرب في الجاهلية، مكارمها وتفاخرها التي تؤثر عنها6.
وتحريم أكل لحوم الحيوانات في مثل هذه الحالات على النساء وتخصيصه بالرجال، وجوازه في حالات أخرى، ثم تحريم الانتفاع من لبنها على النساء في بعض الحالات وعلى الرجال والنساء في حالات أخرى إلا الضيوف وعلى جواز ركوبها: كل هذه تشير إلى أنها من شريعة قديمة. وقد رجع بعض العلماء ذلك إلى الطوطمية، غير أن من العسير قبول هذا التفسير:
وقد كان الجزارون المجازون شرعًا يقومون بذبح الذبائح عند العبرانيين، وهم
__________
1 تاج العروس "1/ 97"، "فقأ"، "3/ 428"، "عور".
2 Reste, s. 114.
3 الاستيعاب "1/ 395 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
4 تاج العروس "4/ 125"، "حبس".
5 الإصابة "1/ 59"، "رقم 158".
6 تاج العروس "3/ 5"، "أثر".(11/208)
الذين يقررون صلاح الذبيحة أو عدم موافقتها لأحكام الشرع. أما عند الجاهليين فلا نعرف شيئًا عمن كان يقوم بذبح الضحايا التي تقدم إلى الأصنام، كما أننا لا نستطيع أن نتحدث عن الشروط التي كانوا يشترطونها في الذبيحة ليكون لحمها صالحًا للأكل.
والطيب والبخور من أهم المواد التي كان يتقرب الجاهليون إلى آلهتهم بإهدائها إلى المعابد. ولم تكن هذه عادة خاصة بالجاهليين وحدهم، بل هي عادة معروفة في جميع الأديان، ولا تزال باقية مستعملة. يحرق البخور في المباخر والمجامر؛ لتنبعث روائحه الزكية في أبهاء المعبد. أما الخلوق وأنواع الطيب، فتلطخ بها الأصنام وجدران المعبد، وطالما تقدم المؤمنون إلى آلهتهم بمبخره ليحرق البخور فيها. ومن بين نصوص المسند، نص كتبه مؤمن اسمه "عبد أصدق" وأبناؤه إلى الإله "ود" ذكروا فيه أنهم قدموا إليه مبخرة تعويضًا عن المبخرة التي سرقها اللصوص من معبده1. وقد عثر في اليمن على مباخر كبيرة نحتت من الصخر، أهديت على المعابد؛ ليحرق فيها البخور2.
وبين ما قدم إلى الآلهة، الملابس والأقمشة وأنواع الأطعمة، حتى اللبن قدم إلى الصنم "ود" على رواية الأخباريين.
ووردت لفظة "الهدْي" في القرآن الكريم3. ويراد بها ما أهدي إلى مكة من النعم وغيره من مال أو متاع. والعرب تسمى الإبل هَدْيًا؛ لأنها تُهدى إلى البيت لتنحر، فأطلقت على جميع الإبل، وإن لم تكن هديًا تسمية للشيء ببعضه4. وذكر أن الهدي ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة أو ثياب وكل ما يُهدى فهو عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات. إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه5. وقد ذكر "الهدي" في شعر لزهير بن أبي سلمى:
فلم أر معشرًا أسروا هديًا ... ولم أر جار بيت يستباء
__________
1 Glaser 324, Handbuch, I, S. 216.
2 Ency. Religi, I, P. 352.
3 البقرة، الآية 196، المائدة، الآية 2، 97، الفتح، الآية 25، تفسير الطبري "6/ 37".
4 اللسان "15/ 358" وما بعدها".
5 القرطبي، الجامع "6/ 39".(11/209)
يذكر رجلًا أسر يشبهه في حرمته بالبدنة التي تهدى1.
وعرف الهدى المقلد بقلائد، تشعر أنه مما أهدي إلى بيت الله بـ"القلائد". فلا يجوز لأحد أن يتحرش به، أو أن يفك قلائده؛ لأن ذلك تجاوز على مال الله، وهو مال معلم عليه معروف بقلادته أنه من الهدي المخصص بالبيت. فإذا فكت قلادته سرق وحسب من أموال الناس الخاصة2. والظاهر أن من الجاهليين من كان يتطاول على أموال البيت، فيستولي على الهدى، ويفك القلائد، ويسطو بذلك على الإبل المقلدة والبقر المقلد، وذلك كما يظهر من الآية {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} 3. ومنهم من كان يسطو على الهدي قبل وصوله موضعه من البيت.
وكانوا يهدون الإبل والبقر إلى بيوت أصنامهم. وقيل للناقة أو البقرة أو البعير تُهدى إلى مكة "البدنة". وقد أشير إلى البدن في القرآن، فورد: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} 4. تُهدى إلى بيت الله فلا تركب5. وذكر أن البدن السمان من الإبل والبقر6. ويظهر من غربلة ما ورد في روايات علماء التفسير عن البدن أنها الهدايا التي تقدم إلى الكعبة، تحبس فتبقى حية، لا يجوز لأحد التطال عليها، وكانوا ينحرونها أيضًا والإبل تنحر قيامًا معقولة فكانوا إذا أرادوا نحر البعير، عقلوا إحدى يديه، فيقوم على ثلاث قوائم7، ولم يكونوا يركبون البدن إلا عن ضرورة8. فالبدن إذن ما يُهدى إلى مكة؛ ليحبس على اسمها، أو ليذبح تقربًا إلى رب البيت.
__________
1 تفسير الطبري "2/ 128".
2 تفسير الطبري "6/ 37".
3 المائدة، الرقم 5، الآية 2.
4 الحج، الآية 36، تفسير الطبري "17/ 117".
5 اللسان "13/ 48 وما بعدها"، "بدن".
6 تفسير الطبري "17/ 117" القرطبي الجامع "12/ 60".
7 القرطبي، الجامع "12/ 60"، تفسير الطبري "17/ 117" وما بعدها".
8 اللسان "13/ 48 وما بعدها"، "بدن".(11/210)
حمى الآلهة:
ولحماية الحبوس من أرض ومن حيوان، شددت شرائع الجاهليين في وجوب(11/210)
المحافظة على حرمتها وعدم الاعتداء عليها. وهددت من يتجاسر على مال الأرباب بعقوبة تنزل عليه منها وبغضب الآلهة عليه، وبمصير سيئ يلحق به، فضلًا عن العقوبة التي تنزلها المعابد به، قد تصل حد القتل. فصار من المحظور اعتضاد نبات الحرم وصيد الحيوان فيه، ومن يفعل ذلك يكون آثمًا، وقد يعرض نفسه لغضب الناس عليه. فصار الحرم مرتعًا آمنًا للطيور، ولا زال الناس لا يتحرشون بطيور المعابد ولا يمسونها بأي سوء، بل يقدمون لها من تحبه من المأكول؛ لتعيش عليه.
وجعلت المعابد لحيواناتها وللهدي وللقلائد مواضع خاصة، اختارتها لترعى فيها جعلت "حمى" للأرباب. لا يجوز لأحد رعي سوائهه بها ولا التطاول على دواب تلك الأحمية؛ لأنها مما حبس للأصنام. وتكون هذه المواضع مخصبة معشبة ذات حياة، وقد تزرع. وتكون غلتها للمعبد.(11/211)
الفصل الثامن والستون: رجال الدين
مدخل
...
الفصل الثامن والستون: رجال الدين
أقصد برجال الدين، أولئك الذين خدموا الأصنام، أو زعموا أنهم ألسنة الأرباب الناطقة على سطح الأرض، والذين كانوا يوجهون الناس توجيهًا روحيًّا دينيًّا، ويرعون حرمة المعابد والأماكن المقدسة وشعائر الدين ويحافظون عليها، ويضعون قواعدها للناس.
ومعارفنا عن هذا الموضوع قليلة ضئيلة؛ لعدم وجود نصوص جاهلية تتحدث عن ذلك، ولعدم ورود شيء مهم عنه في روايات أهل الأخبار. وليس لنا من أمل في زيادة علمنا بهذه الناحية، إلا في المستقبل، فلعله يكشف عن نصوص جاهلية جديدة، قد يرد فيها شيء جديد عن رجال الدين عند الجاهليين، أو في موارد أخرى عربية أو غير عربية قديمة، قد تكون مختبئة مطمورة، يأمر الزمن بإخراجها؛ ليقف عليها الباحث عن هذا الموضوع.
ومن الألفاظ الخاصة برجال الدين، لفظة "رشو"، الواردة في النصوص المعينية والقتبانية، أطلقت على من كان يقوم بخدمة الإله "ود" إله معين الرئيس و"عم" إله شعب قتبان الرئيس1. فهي في معنى سادن في لغة أهل الحجاز ووردت لفظة "شوع" في المعينية أيضًا في المعنى نفسه. و"رشوت" "رشوة"
__________
1 Handbuch, I, S. 131. 218. Katab. Texte, II, s. 80(11/212)
بمعنى سادنة وكاهنة. مما يدل على وجود سادنات وكاهنات بين رجال الدين الجاهليين1.
ووردت في المعينية وفي اللحيانية لفظة "إفكل" "أفكل" بمعنى رشو" وسادن، أي القائم بأمر الصنم، والسادن له. فورد: "أفكل ود"، أي سادن ود2. وتقابل هذه اللفظة لفظة "أبكلو" APkalu في الأكادية3. وعرفت السادنة والكاهنة بـ"أفكلت" "أفكلة"4.
والسدنة، قومة الأصنام ومتولو أمرها. وكان أمر فتح البيت بمكة وغلقه وتولي أمره إلى السادن. وهو من "بني عبد الدار"، وقد أقر الرسول السدانة فيهم عام الفتح5. ويعرف السادن بـ"الحاجب" كذلك. فالسدانة والحجابة هما بمعنى واحد6. غير أن الحجابة تخصصت بحجابة الملوك والأحكام، فصارت وظيفة إدارية ذات مدلول خاص. فالحاجب هو الذي يتولى تقديم الناس إلى الملوك أو منعهم من الوصول إليهم، وذلك في الجاهلية وفي الإسلام أما السدانة، فإنها ظلت محافظة على معناها هذا الخاص بالمعابد والمواضع المقدسة ولهذه المنزلة ولصلتها بالآلهة وبالأصنام عدت السدانة من درجات الشرف والجاه. وكانت لأصحابها حرمة ومكانة في النفوس.
والسدانة، تنتقل بالإرث من الآباء إلى أكابر الأبناء وتنحصر في الأسرة فتكون من حقها ومن نصيبها، لا يمكن انتزاعها منها إلا بقوة لا يمكن التغلب عليها ومن واجب العشيرة التي تنتمى هذه الأسرة إليها الدفاع عنها إن حاول غريب انتزاع هذا الشرف منها. ولقد كانت سدانة الكعبة في "بني عبد الدار"، وكانت حجابة "ود" في "دومة" الجندل إلى "بني عامر الأجدار"، "بنو الفرافصة بين الأحوص" من كلب7. وكانت سدنة العزى "من بني
__________
1 Arabien, s. 249.
2 Grahmann, s. 87 Jaussen – Savignac, II, 380.
3 Grohmann. S. 249.
4 راجع النصوص رقم 9، 12، 21، 104، وكتاب W. Caskel. s. 132
5 تاج العروس "9/ 233"، "سدن".
6 Reste, s. 130.
7 المحبر "316" Reste. S. 130.(11/213)
صرمة بن مرة" وكان سدنة "جهار" من "آل عوف" من "بني نصر"1، وكان سدنة "سواع" "بنو صاهلة" من هذيل2، وكان سدنة بيت "الربة" أي الشمس، من "بني أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم"، وكان سدنة "الفلس"، "بنو بولان" وكان سدنة "مناة" "الغطاريف" من الأزد. وسدنة "السعيدة" "بنو العجلان"، وسدنة "ذو الخلصة"، "بنو هلال بن عامر"، وكان سدنة "ذو اللبا"، "بنو عامر"، وسدنة "المحرق"، "آل الأسود" العجليون. وسدنة "مرحب" "ذو مرحب" أي من يتولى أمر الصنم3.
وكان "مسعود" الثقفي، زوج "سبيعة"، وقائد ثقيف في الفجار، من من سدنة اللات4. وهو من سادات ثقيف. ومن أبنائه "عروة بن مسعود، وأمه "سبيعة" بنت "عبد شمس". وذكر أنه الذي ذكر الله عز وجل في التنزيل من القريتين عظيم. وأحد أربعة اتصل سؤددهم في الجاهلية والإسلام5.
وكان لهذه الأسر التي تولت السدانة، مكانة كبيرة في قومها، فعدت من الأسر الشريفة ذات النفوذ عند الجاهليين، وقد استفادت من النذور والقرابين التي تقدم إلى بيوت الأصنام؛ إذ تكون من حقها ونصيبها، وقد ظهر من "بني مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم"، حكام حكموا بعكاظ6. والحكومة من أمارات الشرف والجاه والتقدير، كما ظهر منها أئمة تولوا الإجازة بالمواسم، وهي من علائم التعظيم والتفخيم عندهم.
غير أن هذا الحق لا يستوجب ولا يشترط أن تكون السدانة في أسرة من القبيلة أو الموضع الذي فيه بيت الصنم أو الأصنام، فقد كان كثير من سدنة الأصنام من قبيلة لا تنتمي إليها من يقع بيت الصنم في أرضها. فكانت السدانة مثلًا لبني أنعم في جرش، ولبني الغطريف في قديد، ولبني شيبان في نخلة،
__________
1 المحبر "315".
2 المحبر "316".
3 المحبر "316 وما بعدها".
4 المشرق، السنة 1938م، "الجزء الأول"، "ص7 وما بعدها".
5 الاشتقاق "2/ 186".
6 المحبر "134".(11/214)
ولآل أمامة في تبالة وهكذا1. ويظهر أن هؤلاء توارثوا هذا الحق من عهد سابق، إما لأنهم استوردوا الصنم أو تلك الأصنام إلى هذه المواضع فأقاموا فيها، وإما لأنهم كانوا يسكنون مع قبيلتهم في تلك الأماكن، ثم حدث لسبب من الأسباب أن جلت قبيلتهم عن المواضع. أما السدنة ففضلوا البقاء في الموضع الذي كانوا فيه حيث أصنامهم والبيت. ونجد مثل ذلك أيضًا عند العبرانيين2.
ويظهر من تفسير لفظة "صوفة" و"صوفان"، على رأي بعض العلماء، أن هذه الكلمة كانت تقال لكل من ولي البيت شيئًا من غير أهله، أو قام بشيء من خدمة البيت أو بشيء من أمر المناسك3. ومعنى هذا أن خدمة البيت: بيت مكة أو غيره، لم تكن خاصة بأهل الموضع الذي يكون فيه هذا البيت، بل كان من الجائز أن يتولاها أناس من أهل ذلك الموضع، وأناس من غيرهم أيضًا كأن يقيم أشخاص في ذلك المكان، فتطول إقامتهم به، وتظهر منهم زعامة أو من أولادهم تؤدي بهم إلى الاستحواذ على رئاسة البيت ورئاسة ذلك المكان، كالذي كان من أمر "قصي" مثلًا.
ولا بد من إدخال "النسأة". في رجال الدين فقد كان الناسيء هو الذي ينسئ النسيء يعين موسم الحج ويثبته للناس. فهو إذن فقيه القوم وعالمهم ومفتيهم في أمر الحج4.
وقد كان من أهم واجبات "النسأة"، تثبيت وتعيين الأشهر. فقد كانت لدى الجاهليين أشهر حرم. لها حرمة ومنزلة خاصة في نفوسهم، لما كان لها من علاقة بآلهتهم وبتعبدهم لها. وبالحج فيها إلى معابد الآلهة. مثل شهر "ذ الألت" "ورخن ذ الألت"، وهو شهر خصص بالآلهة، كما يظهر من تسميته بها. يظهر أنه كان شهر تقرب وعبادة للأرباب. ومثل شهر "ذ عم"، "ذو عم"، و"عم" هو إله قتبان الرتيس، فيظهر أنه شهر مقدس خصص بعبادة هذا الإله، أو أن يومًا أو عيدًا خاصًّا به، كان يقع فيه، فدعي لذلك باسمه. ومثل شهر "ذ حجتن"، أي شهر "ذو الحجة"، وهو شهر خصص
__________
1 Reste, S. 130.
2.Reste, S. 31
3 الروض الانف "1/ 85".
4 المحبر "156 وما بعدها" المعاني الكبير "3/ 1171".(11/215)
بالحج. ومثل الأشهر الأربعة الحرم التي تتحدث عنها الموارد الإسلامية.
والإجازة بعرفة من الأعمال التي لها تماس بالدين، فهي من شعائر الحج ومناسكه. ولا بد وأن نعد "المجيز" وهو الذي يجيز الناس من المزدلفة إلى منى من رجال الدين. وممن كانت له منزلة وحرمة في قومه؛ لما لمركزه من أهمية في الحج.
وقد أشار "السكري" إلى "أئمة العرب"، فذكر أنهم الذين تولوا أمر المواسم، وأمر القضاء بعكاظ، والذين كانوا سدنتهم على دينهم وأمناءهم على قبلتهم، وكانوا من قريش، والذين تولوا الإفتاء في دينهم. وهم من "بني مالك بن كنانة"1. ولما تحدث عن "النسأة"، قال: "نسأة الشهور من كنانة وهم القلامسة، وأحدهم قلمس، وكانوا فقهاء العرب والمفتين لهم في دينهم"2. والفقيه العالم "وفقيه العرب عالمهم"3. والفقه العلم، "وقد جعلته العرب خاصًّا بعلم الشرعية" وفقهه تفقيهًا علمه. "ومنه الحديث: اللهم علمه الدين وفقهه في التأويل، أي علمه تأويله"4.
وفي القرآن الكريم: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} 5. والفقه العلم بالشيء والفهم له والفطنة6. وقد خصصت اللفظة بعلم الفقه في الإسلام مما يدل على أن لها صلة منذ أيام الجاهلية بالعلم والدين. وأن "الفقهاء" العلماء بأمور الدين عند الجاهليين كذلك. وفيه ألفاظ يستدل منها على وجود مفهوم العلم والعلماء والتعلم والدين وفهمه والشريعة والأحكام عند الجاهلين، ولا تكون هذه عند قوم ليس لهم علماء ورجال دين يعلمون من هم دونهم أحكام الدين؛ ليتفقهوا فيه وليتعلموا ما هو واجب عليهم وما هو غير واجب ومفروض عليهم.
والإفتاء الإجابة عن مسألة: ومن قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} و"الفتيا" و"الفتوى" ما أفتى به الفقيه في مسألة7. وقد استفتى أصحاب
__________
1 المحبر "181 وما بعدها".
2 المحبر "156".
3 تاج العروس "9/ 402"، "فقه".
4 تاج العروس "9/ 402"، "فقه".
5 التوبة، الرقم 9، الآية 122، تفسير الطبري "11/ 48"، روح المعاني "11/ 43".
6 تاج العروس "9/ 402"، "فقه".
7 تاج العروس "10/ 2375"، "فتى".(11/216)
رسول الله الرسولَ في أمر النساء وإرثهن فنزل الوحي:
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} 1. فقد كان أهل الجاهلية يستفتون فقهاءهم وأهل الفتيا منهم فيما يشكل عليهم من أمور الدين، فيفتون لهم ما يرونه من رأي واجتهاد. فنحن إذن أمام فقه في الدين واجتهاد فيه عند أهل الجاهلية.
والإمام ما ائتم به قوم من رئيس أو غيره، كانوا على دين أو كانوا مشركين فهو الذي يقتدى به2. وقد وردت الكلمة في سبعة مواضع من القرآن الكريم في حالة الإفراد، ووردت خمس مرات في حالة الجمع، أي "أئمة"، أطلقت على أئمة الكفر وعلى الغواة كما أطلقت فيه على المؤمنين الهادين إلى الحق. وأئمة الكفر في قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ، أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان، وهم الذين كانوا يؤذون الرسول، وهمُّوا بإخراجه وعادوه3. فالإمام إمام دين وإمام دنيا: رجل دين يقتدى به، ورئيس قبيلة وشريف قوم وسيدهم. ونظرًا لقلة استعمال اللفظة في الرئاسة الدينية ولاستعمالها في معنى الرئاسة الدينية في الغالب، ولا سيما في الإسلام حيث خصصت برئاسة دينية، من إمامة للمسلمين، وإمامة في الفقه، وإمامة في الصلاة، ولعدم إطلاق الجاهلين لها على سادات القبيلة أو سادة القوم، إلا في القليل. فإن في استطاعتنا القول أنها كانت عندهم في معنى الرئاسة الدينية كما هو الحال في الإسلام.
ونجد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد بوجود رجال دين كان لهم رأي في الخلق وفي الخالق وفي الحياة، منهم من بشر برأيه وحاول نشره: ومنهم من تبتل واعتكف وقنع بإيمانه برأيه وبصحة عقيدته. حتى إن منهم من كان قد تبتل وتنسك وسلك طريق الزهاد في اجتناب الطيبات ولذات الحياة، ومن ذلك أكل اللحم. فقد عرف "عبد الله بن عبد الملك بن عبد الله"4 الغفاري، بـ"أبي اللحم" "آبي اللحم"؛ لأنه كان يأبى أن يأكل اللحم. وكان شريفًا شاعرًا، ينزل "الصفراء"، وشهد "حنينًا" وقتل بها5.
__________
1 النساء، الآية 127، تفسير الطبري "5/ 191"، روح المعاني "5/ 143".
2 تاج العروس "8/ 193"، "أمم".
3 التوبة، الرقم 9، الآية 12، تفسير الطبري "10/ 62".
4 ذكر "ابن الكلبي" أن اسمه "خلف بن عبد الملك"، وقيل اسمه الحويرث،
5 الإصابة "1/ 23"، "رقم 1".(11/217)
وعرف "عثمان بن مظعون" بتبتله، حتى إنه ابتعد عن زوجه، فلم يقربها، وكاد أن يختصى، حتى نهاه عن ذلك رسول الله، وكان على هذا الرأي في جاهليته من شدة التمسك بالزهد عن الدنيا والابتعاد عن ملذاتها، وقد كان نصرانيًّا متأثرًا بالرهبانية، أخذ آراءه هذه من زهاد النصارى، الذين غلب التصوف عليهم، وابتعدوا عن الدنيا، ورأوا أن الخلاص من الخطيئة والإثم، هو بالتقشف والابتعاد عن كل حلو محبوب في هذه الدنيا1.
وقد عرفت الجاهلية رجالًا آخرين كانوا مثل عثمان بن مظعون والرهبان في التأمل والتفكر والابتعاد عن الناس. وهي رهبانية حاربها الإسلام؛ إذ نهى عن الرهبنة. رأى "عمر" رجلًا مطأطئًا رأسه، فقال: ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض. ورأى رجلًا متماوتًا، فقال: لا تمت علينا ديننا، أماتك الله.
ونظرت عائشة إلى رجل كاد يموت تخافتًا، فقالت: ما لهذا؟ قيل: إنه من القراء، فقالت: كان عمر سيد القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع2. وذكر أن عشرة من الصحابة اجتمعوا في بيت "عثمان بن مظعون"، واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش، ولا يأكلون اللحم والودك. ويلبسوا المسوح، فسمع رسول الله بهم فنهاهم عن ذلك3.
و"الصارورة" والصرار الذين تبتلوا وتركوا النكاح. وهذا من فعل الرهبان. وهو معروف عند العرب. والصرورة الرجل في الجاهلية يحدث حدثًا فيلجأ إلى الكعبة. فلا يهج فكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم، قيل له هو صرورة ولا تهجه، تعظيمًا للبيت واحترامًا له4.
ومثل "صرمة" المعروف بـ"أبي قيس"، وكان ترهب في الجاهلية واغتسل من الجنابة، وهمَّ بالنصرانية ثم أمسك. وكان قوالًا بالحق لا يدخل بيتًا فيه جنب ولا حائص إلى أن أدرك الإسلام، فأسلم5. ويظهر من ذلك،
__________
1 إرشاد الساري "8/ 10 وما بعدها".
2 اللسان "2/ 94"، "موت".
3 الطبرسي، مجمع البيان "3/ 236".
4 اللسان "4/ 453"، "صرر"، تاج العروس "3/ 331"، صرر".
5 الإصابة "2/ 176"، "رقم 4061".(11/218)
أن الاغتسال من الجنابة والابتعاد عن الحائض من الشعائر التي راعاها المتدينون من أهل الجاهلية، من الموحدين الذين تأثروا باليهودية، لكنهم لم يدخلوا فيها ولا في النصرانية، بل أمسكوا عن الديانتين، ودعوا إلى عبادة واحد أحد، وماتوا على هذا الدين.
ومثل "وكيع بن سلمة" الإيادي، صاحب الصرح بحزورة مكة، فقد كان كاهنًا ورجل دين، وقالوا كان صديقًا من الصديقين. اتخذ صرحًا يصعد إليه بسلالم، فكان يدعي أنه يناجي ربه من ذلك الموضع1. وكان يعظ الناس وينصحهم بالتدين بدينه وبالابتعاد عن عبادة الأوثان، على شاكلة الأحناف، وهو في الواقع واحد منهم، ويجب اعتباره أحدهم؛ لأن ما ينسب إليه ينسب أيضًا إلى الحنفاء.
والصديق الكثير الصدق، ومن صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله، "قال الله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} . وقال تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} ، أي مبالغة في الصدق والتصديق"2. وهم من آمن بالله وصدق به وبشر بعبادته بين الناس، وكان بارًّا بنفسه وبغيره. وهي بمعنى "بار" في لغة بني إرم3.
وقد نسب أهل الأخبار إلى رجال من الجاهليين فتاوى وأحكام صارت سننًا في قومهم. من ذلك ما نسبوه إلى "قصي" من أمور، زعموا أنها صارت سنة احتذت بها قريش، وأن بعضًا من أحكامه بقيت إلى الإسلام فأقرها4، وما نسبوه إلى "عامر بن الظرب" العدواني من حكم في "الخنثى" جرى حكم الإسلام به5. وما ذكروه من إفتاء "عامر بن جشم بن غنم" المعروف بـ"ذي المجاسد". في التوريث على قاعدة: "أن للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو حُكم حَكَمَ به الإسلام. ومن أمور أخرى، يرد ذكرها في المواضع المناسبة من هذا الكتاب6، مما يدل على أن الحياة الدينية عند الجاهليين، هي آراء وفتاوى، أفتى بها رجال من أهل الدين والمروءة والعقل والعلم من أهل الجاهلية، فأخذ بها قوم من
__________
1 المحبر "136".
2 تاج العروس "6/ 405 وما بعدها". "صدق" تفسير الطبري "16/ 67".
3 غرائب اللغة "192".
4 المحبر "236".
5 المحبر "236".
6 المحبر "236 وما بعدها".(11/219)
أتباعهم، وساروا بموجبها وبقي بعض منها إلى الإسلام. غير أن تلك الفتاوى لم تكن عامة، شملت كل العرب، بل حتى كل قوم ذلك المفتي أو الإمام؛ إذ لم تكن عند العرب سنة واحدة ملزمة لسبب أنهم كانوا شيعًا وقبائل ولكراهتهم الخضوع للقيود العامة إلا كرهًا، وذلك في الأمور التي لا بد لهم من الخضوع لحكمها لأنها من أصول الأعراف التي يقوم عليها وجودهم مثل عرف الأخذ بالثأر.
ومن الصعب تصور وجود طبقة خاصة كبيرة لرجال الدين على نحو ما كان عند المصريين مثلًا أو الآشوريين أو البابليين أو اليونان أو الرومان أو في الكنيسة، بسبب النظام القبلي الذي كان غالبًا على جزيرة العرب. وصغر المجتمعات الحضرية. فالأصنام هي أصنام محلية، أصنام قبلية، لذلك كان عبدتها هم عبدة القبيلة أو القبائل المتعبدة لها. وفي محيط اجتماعي ضيق مثل هذا المحيط، لا يمكن ظهور طبقة خاصة برجال الدين ذات نفوذ واسع، إنما تكون قدرتها بقدرة المحيط الذي تعيش فيه. ولما كانت حياة البداوة حياة بسيطة غير معقدة، تعذر علينا أن نتصور حياة دينية معقدة عند أبناء البادية. وكل ما يمكن وجوده عندهم، هو ما كان له علاقة بمحيطهم وبمعيشتهم البسيطة، مثل السدانة والكهانة وأمثال ذلك مما يحتاج إليه البدوي لحل مشكلات حياته ولجلب السعادة له.
ولم أجد في نصوص الجاهليين ولا في أخبار أهل الأخبار، ما يفيد قيام رجال الدين من أهل الجاهلية. بتلقين الناس أصول الدين وتعاليمه، أو شرح نصوص دينية لهم أو تعليمهم الناس مبادئ القراءة والكتابة في المعابد على نحو ما كان يفعله اليهود والنصارى في ذلك الوقت. ولكن هذا لا يكون دليلًا على نفي وجود شيء من ذلك عندهم. فقد يجوز أن يعثر في المستقبل على نصوص تفيد بوجود ذلك عندهم. ذكر أن رجلًا من "خثعم" قال: "كانت العرب لا تحرم حلالًا ولا تحلل حرامًا. وكانوا يعبدون الأوثان ويتحاكمون إليها"1.
وفي القرآن الكريم آيات مثل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}
__________
1 ابن عساكر، التأريخ الكبير "1/ 317".(11/220)
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 1، وآيات أخرى وكلمات تفيد وجود تشريع ومشرعين لدى الجاهليين، أي رجال دين يبينون لهم الحلال والحرام وأوامر الأصنام، ويشرعون لهم من تشريع كالذي نراه في هذه الآيات وغيرها من أحكام وضعوها للناس باسم آلهتهم، فوبخهم الله في القرآن على افترائهم هذا على الله وعلى الأصنام التي لا تنطق ولا تعقل.
وكان من أهم واجبات رجال الدين والزهاد والمتنسكين، الأشراف على المعابد وصيانة أموالها، وخدمة الأصنام وتنفيذ الأحكام، وتلبية طلبات الناس في التوسط لدى الآلهة برفع الضر والكرب عنهم، أيام الشدة وساعات العسر. من ذلك التوسل إلى الآلهة. بحفظ القوافل، وإنزال الرحمة بالناس سني القحط. ومن ذلك ما يسمونه بالاستسقاء. فقد كانوا يستسقون إذا أجدبوا، فإذا أرادوا ذلك أخذوا من ثلاثة أشجار وهي: سلع وعشر وشبرق، من كل شجرة شيئًا من عيدانها وجعلوا ذلك حزمة، وربطوا بها ظهر ثور وأضرموا فيها الناس، ويرسلون ذلك الثور، فإذا أحس بالنار عدا حتى يحترق ما على ظهره ويتساقط. وقد يهلك ذلك الثور فيسقون2.
وذكر أنهم كانوا إذا أرادوا الاستمطار في الجاهلية اجتمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من البقر ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السلع والعشر، ثم صعدوا بها في جبل وعر، وأشعلوا فيها النيران، وضجوا بالدعاء والتضرع. فكانوا يرون أن ذلك من أسباب السقيا. ولأمية بن أبي الصلت شعر في ذلك3.
وكان من عادة أهل مكة في الاستسقاء، أنهم كانوا إذا أجدبوا وقحطوا، واشتدت بهم الحاجة، خرج من كل بطن منهم رجل، ثم يغتسلون بالماء، ويتطيبون، ثم يلتمسون الركن ويطوفون بالبيت العتق سبعًا، ثم يرقون أبا قبيس، فيتقدم رجل منهم، يكون من خيارهم، ومن رجال الدين فيهم، ممن يتبركون به، فيدعو الله ويستغيث طالبًا الرحمة والغوث بالمتوسلين إليه. ويذكرون أن "عبد المطلب"، كان ممن استسقى لأهل مكة ولغيرهم مرارًا4.
__________
1 الأنعام، الرقم 6، الآية 137 وما بعدها.
2 السيرة الحلبية "1/ 132".
3 الحيوان "4/ 466 وما بعدها".
4 السيرة الحلبية "1/ 132 وما بعدها".(11/221)
التبرك برجال الدين:
ويظهر من أخبار أهل الأخبار، أن رجال الدين من أهل الجاهلية كانوا يباركون أتباعهم ويقدسونهم ويلمسون رءوسهم لمنحهم البركة والشفاء من الأمراض فكان أحدهم يضع يده على رأس مريض، أو يلمس جبهته؛ ليمنحه بركة تشفيه، أو عافية تصيبه، أو تبركًا وتقربًا بذلك إلى الآلهة. وكانوا يتفلون في فم الصبيان؛ لتكون التفلة بركة لهم، وعافية، وشفاء من مرض، أو علمًا يصيب الصبي، حينما يكون رجلًا.
ويظهر من القرآن ومن الحديث النبوي، أن أهل الكتاب من الجاهليين كانوا يبالغون في التقرب من رجال دينهم وفي التبرك بهم، حتى إنهم كانوا يتسابقون في الحصول على قطعة من ملابس أوليائهم ورجال دينهم ورهبانهم ونساكهم للتبرك بها، وفي شعر امرئ القيس، وشعر غيره إشارة إلى هذا التبجيل والتعظيم.(11/222)
تنفيذ الأحكام:
ولم يكن تنفيذ الأحكام الدينية إلزاميًّا، إنما كان عن طاعة وموافقة. ثم إن العرب لم يكونوا على دين واحد يرجع إلى شرائعه، حتى يلزم المرء بتنفيذ ما جاء في حكمه1. فكان أمر إطاعة أحكام. رجال الدين رهنًا بمكانة رجل الدين وبما له من هيبة ونفوذ بين قومه.
وقد رأينا أن من الناس من كان يثور حتى على آلهته إذا وجد أنها لم تلب طلباته، وأنه كان يتوسل إليها ويلوذ بها لمساعدته عند الشدة، ثم يهددها ويتوعدها.
__________
1 اليعقوبي "1/ 227"، "حكام العرب".(11/222)
بالابتعاد عنها وبترك زيارتها وبنبذها إن هي صمت آذانها عنه، ولم تجب ما طلبه منها. وقد قصصنا حكاية امرئ القيس مع صنمه، إذ رمى السهام في وجهه وعنفه وشتمه؛ لأن جواب الاستقسام لم يكن على نحو ما كان يريد. ولم يكن ذلك من عمل أهل الجاهلية وحدهم، بل نجد وقوع مثل هذه الحوادث في الإسلام أيضًا.
وقد رأينا أن في الجاهليين -كما في كل قوم- أناس كانوا لا يقيمون وزنًا لحلال أو حرام، فكانوا يستحلون المظالم، ولا يجعلون للحرمات حرمة، ويعتدون في الأشهر الحرم. كانوا إذا حضروا الأسوق، أباحوا لأنفسهم الاعتداء فيها على أموال الناس فسموا: "المحللون". ومنهم قبائل من أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة، وقوم من بني عامر بن صعصعة1. فهؤلاء لا يعرفون الحلال ولا الحرام، والشهور والأيام عندهم سواء بسواء، يغزون فيها متى شاءوا، حتى في الأشهر الحرم؛ إذ لا حرمة عندهم لشهر.
وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر، فيسمون الذادة المحرمون2. وهم من بني عمرو بن تميم، وبني حنظلة بن زيد مناة، وقوم من هذيل، وقوم من بني شيبان، وقوم من بني كلب بن وبرة، فكانوا يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس. وكان العرب جميعًا بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم.
ولم تكن للجاهليين أحكام في الحلال والحرام بالنسبة إلى المأكول على ما يظهر، بل كان مرجع الحرمة والإباحة عندهم إلى عرف القبائل. فلما نزل الأمر في الإسلام بتحريم أكل الميتة، أي الحيوان الميت، عجبت قريش من ذلك، واحتجوا قائلين: كيف تعبدون شيئًا لا تأكلون مما قتل، وتأكلون أنتم مما قتلتم؟ وكانوا يقولون ما الذي يموت، وما الذي تذبحون إلا سواء. وذكر "أن ناسًا من المشركين دخلوا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال الله قتلها. قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت
__________
1 اليعقوبي "1/ 240"، "أسواق العرب".
2 اليعقوبي "1/ 240"، "أسواق العرب".(11/223)
وأصحابك حلال، وما قتله الله حرام! "1. وذكر "أن فارس أوحت إلى أوليائها من مشركي قريش أن خاصموا محمدًا وقولوا له: إن ما ذبحت فهو حلال وما ذبح الله بشمشار من ذهب، فهو حرام. فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء"2. فقد كانت قريش تأكل كل شيء، من ميتة ومختنقة ومن نطيحة وما أكل السبع وما أهل للصنم، فنزل تحريم ذلك في الإسلام.
وذكر أنهم كانوا يقطعون يسيرًا من حلق الشاة ويتركونها حتى تموت، يجعلون عملهم هذا ذكاة لها، وقيل: ذبيحة الشريطة، هي أنهم كانوا يشرطونها من العلة، فإذا ماتت، قالوا: قد ذبحنانها. وذكر أن الشريطة الشاة أثر في حلقها أثر يسير كشرط المحاجم، لا يستقصى في ذبحها، والشريطة أيضًا المشقوقة الأذن من الإبل؛ لأنها شرطت أذانها، وإذا كان التعريف الأول صحيحًا، فإن معنى هذا أنهم كانوا يراعون بعض الأحكام في الذبح، أي أن لهم أحكامًا دينية في كيفية الذبح، وقد نهى الإسلام عن أكل الشريطة3.
واستباح الجاهليون أكل "النطيحة"، وهي المنطوحة التي ماتت من النطح واستباحوا أيضًا أكل الفريسة والأكيلة والرمية4.
وقد كان رجال الدين وسادات القبائل، يحرمون بعض الأشياء على أنفسهم، إذا شعروا بوجود ضرر بها، وبأن في فعلها إلحاق أذى في الإنسان وخدشًا في الاسم. فحرم بعض رجال الجاهلية الخمر على أنفسهم تكرمًا وصيانة لأنفسهم منهم عامر بن الظرب العدواني، وقيس بن عاصم، وصفوان بن أمية بن محرث الكناني، وعفيف بن معديكرب، وسويد بن عدي بن عمرو بن سلسلة الطائي وغيرهم. لما وجدوا فيها من ضرر على الأبدان، وأثر في العقل. وإضاعة للمال5. وورد في بعض الموارد أن أول من حرم الخمر في الجاهلية "الوليد بن المغيرة"، وقيل: "قيس بن عاصم"، ثم جاء الإسلام بتقريره6.
__________
1 تفسير الطبري "8/ 12 وما بعدها".
2 تفسير الطبري "8/ 13".
3 تاج العروس "5/ 167"، "شرط".
4 تاج العروس "2/ 240"، "نطح".
5 الأمالي، للقالي "1/ 204 وما بعدها".
6 صبح الأعشى "1/ 435".(11/224)
وذكروا أن أول من حرم القمار في الجاهلية "الأقرع بن حابس" التميمي، ثم جاء الإسلام بتقريره. وأن أول من رجم في الزنا في الجاهلية "ربيعة بن جدان"، ثم جاء الإسلام بتقريره في المحصن. وأول من حكم أن الولد للفراش أكثم بن صيفي، حكيم العرب، ثم جاء الإسلام بتقريره. وأن أول من قطع في السرقة في الجاهلية: "الوليد بن المغيرة"، ثم جاء الإسلام بتقريره. وأن أول من سن الدية مائة من الإبل "عبد المطلب" جد النبي، ثم جاء الإسلام بتقريرها. وأن أول من أوقد النار بالمزدلفة، قصي بن كلاب، وأن أول من أظهر التوحيد بمكة "قس بن ساعدة الإيادي"1.
ولكننا نجدهم يتقيدون بعرفهم وعاداتهم تقيدًا شديدًا، والعرف عندهم هو ما استقر في نفوسهم وثبت في ذهنهم، حتى صار في حكم الدين عندهم، فلا يجوز لأحد الخروج عليه وكسر حكمه. وعرف القبيلة، الذي هو دينها، هو الذي يعين لها الحرام والحلال، والمباح والمحرم. وأحكام رجال القبيلة من رؤساء وسادة وحكام، هي منبع التشريع والإفتاء في أمور الدين والحق في القبيلة. وما يلائم طبيعة القبائل، ويناسب عقليتها وينبع من محيطها. يكون دينًا على القبائل إطاعته؛ لأنه في صالحها جميعًا، ولأن في مخالفته ضررًا بالغًا، فصار من ثم في درجة أحكام الشرع عندها.
ومن قبيل الأعراف التي صارت ملزمة عندهم لكل أحد. وفي حكم الأحكام اللزومية، وجوب احترام العقود والعهود وما اتفق عليه من عهود. مثل مراعاة الأشهر الحرم بالنسبة للمحرمين فلا يجوز لأحد القتال فيها ولا الاعتداء على أحد، ولو كان قاتلًا مطلوبًا بدم. ومثل مراعاة حرمة الأماكن المقدس، كالمسجد الحرام، فلا يجوز لأحد التعرض لحيوان لجأ إليه، أو لإنسان لاذ به، ولو كان قاتلًا. وهذا ما حمل البعض على ملازمة "البيت الحرام" وعدم الخروج منه؛ لأنه غير آمن على نفسه، ولأنه مطلوب بدم.
ومثل ما كان يفعله الناس من التمسك بالعهود والمواثيق والأحلاف. وقد عيب رجلان قتلا رجلين كانا تقلدا لحاء شجر الحرم الذي كان أهل الجاهلية يتقلدونه؛
__________
1 صبح الأعشى "1/ 435 وما بعدها".(11/225)
ليأمنوا به على أنفسهم، لأنهما قد خالفا بذلك العهود وما اتفق عليه من وجوب مراعاة الحرمات1.
وقد كان من عرفهم: أنهم كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة، فيقيم الرجل بمكانة، حتى إذا انقضت الأشهر الحرم فأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله. وكان من عرفهم في رواية من روايات أهل الأخبار، أنهم إذا خرجوا من بيوتهم يريدون الحج، تقلدوا من لحاء السمر، وإذا أرادوا العودة إلى ديارهم تقلدوا قلادة شعر، فلم يعرض لهم أحد بسوء2، وذكر أيضًا أن الرجل منهم كان يتقلد قلادة من لحاء شجرة من شجر الحرم، ثم يذهب حيث يشاء، فيأمن بذلك3. وأن أهل مكة كانوا يفعلون ذلك في تجارتهم، فيضعون القلائد في أعناقهم وفي أعناق بهائمهم، فلا يعرض لهم أحد بسوء؛ إذ كانوا يرون الوفاء بالميثاق عهدًا في أعناقهم ودينًا يلزمهم بالوفاء في أحكامه.
__________
1
ألم تقتلا الحرجين إذا أعودا كما ... يمران بالأيدي اللحاء المضفرا
تفسير الطبري "6/ 38".
2 تفسير الطبري "6/ 37 وما بعدها".
3 المصدر نفسه.(11/226)
كسور رجال الدين
...
كسوة رجال الدين:
يقول أهل الأخبار في معرض كلامهم على كسوة العرب: "وما أهل الحضر وسكنة المدر منهم، فكانوا يتفننون في لبوسهم، ويختلفون في كسوتهم، فكان الكاهن لا يلبس المصبغ والعراف لا يدع تبذييل قميصه وسحب ردائه، والحكم لا يفارق الوبر، والشاعر منهم كان إذا أراد الهجاء دهن أحد شقي رأسه، وأرخى إزاره، وانتعل نعلًا واحدة، وكان لحرائر النساء زي. ولكل مملوك زي، ولذوات الرايات زي ... "1. فيظهر من قولهم هذا أنه قد كان لرجال الدين أو لبعض منهم زي يميزون أنفسهم به عن بقية الناس، وهو شيء معروف عند البشر من قديم الأيام إلى اليوم فلا نستبعد وجود زي خاص لرجال الدين عند الوثنيين الجاهليين. أما رجال الدين من أهل الكتاب، فقد كانوا يتزيون بزي خاص يميزهم عن بقية أتباعهم. وقد نص على ذلك أهل الأخبار.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 407".(11/226)
الفصل التاسع والستون: الأصنام
مدخل
...
الفصل التاسع والستون: الأصنام
نجد في كتاب الأصنام لابن الكلبي وفي المؤلفات الإسلامية الأخرى، أسماء عدد من الأصنام كان الجاهليون يعبدونها، وهي على الأكثر أصنام كان يتعبد لها أهل الحجاز ونجد والعربية الشمالية. وذلك قبيل الإسلام. ومن هذه الموارد الإسلامية استقينا علمنا عن هذه الأصنام1.
وقد ذكر أهل الأخبار أن بعض هذه الأصنام إناث. وهن اللات، والعزى، مناة. وهي أصنام ذكرت في القرآن الكريم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 2. ويجب أن نضيف إليها الشمس.
__________
1 كتاب الأصنام، لابن الكلبي، بتحقيق المرحوم، أحمد زكي باشا، القاهرة 1925م "مطبعة دار الكتب المصرية"، "كتاب الأصنام وما كانت العرب والعجم تعبد من دون الله تبارك اسمه"، الفهرست "125"، "الرد على عبدة الأوثان"، معجم الأدباء "1/ 132"، "كتاب الأصنام"، للجاحظ، وقد نقل منه النويري، نهاية الأرب "16/ 15".
2 سورة النجم، الآية 20.(11/227)
اللات:
واللات من الأصنام القديمة المشهورة عند العرب. ذكر ابن الكلبي أنه كان صخرة مربعة بيضاء، بنت ثقيف عليها بيتًا صاروا يسيرون إليه، يضاهون به(11/227)
الكعبة، وله حجة وكسوة، ويحرمون واديه، وكانت سدانته لآل أبي العاص بن أبي يسار بن مالك من ثقيف، أو لنبي عتاب بن مالك، وكانت قريش وجميع العرب يعظمونه أيضًا، ويتقربون إليه، حتى إن ثقيفًا كانوا إذا ما قدمون من سفر، توجهوا على بيت اللات أولًا للتقرب إليه وشكره على السلامة، ثم يذهبون بعد ذلك إلى بيوتهم1. فيتبين من ذلك أن معبد اللات الشهير كان في مدينة الطائف، مركز قبيلة ثقيف، يقصده الناس للتبرك به. وقد كانت له معابد كثيرة منتشرة في مواضع عديدة من الحجاز.
وذكر ابن كثير أن اللات "صخرة بيضاء منقوشة، عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش"2. فلم تكن صخرة اللات صخرة ملساء حسب، بل كانت إلى ذلك منقوشة، وكانت في داخل بيت له أستار على شاكلة الكعبة والفناء هو حرم معظم عند أهل الطائف، تعظيم قريش لحرم البيت. حرم على الناس قطع شجره، وصيد حيوانه، ومن دخله صار آمنًا3.
وكانت تحب صخرة اللات حفرة يقال لها "غبغب"، حفظت فيها الهدايا والنذور والأموال التي كانت تقدم إلى الصنم. فلما هدم المغيرة الصنم أخذ تلك الأموال وسلمها على أبي سفيان امتثالًا لأمر الرسول4.
ويظهر من وصف أهل الأخبار لبيت اللات أنه كان على طراز البيت بمكة من حيث المنزلة والاحترام والكسوة. فقد كان يكسى في كل عام كسوة. ويظهر أن ثقيفًا اتخذت له سدنة وخدمًا يقومون بحراسة البيت وخدمته وتنظيفه على نحو
__________
1 البلدان "7/ 310" "اللات"، الأصنام "16"، اللسان "2/ 388"، تاج العروس "1/ 580" المحبر "315"، الواقدي "384 وما بعدها" سبائك الذهب "104"، بلوغ الأرب "2/ 203"، قاموس المحيط "1/ 156" تفسير البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي "8/ 160 وما بعدها"، "الطبعة الأولى 1328هـ" تفسير الطبري "27/ 58 وما بعدها" فتح الباري "10/ 235، 253"، "تفسير ابن كثير "4/ 253".
2 تفسير ابن كثير "4/ 253 وما بعدها".
3 العرب في سوريا قبل الإسلام "111 وما بعدها".
4 الطبري "3/ 99 وما بعدها" "دار المعارف"، Reste, s. 31.(11/228)
ما كان في مكة وفي بيوت الآلهة الأخرى1.
ويرى ابن الكلبي أن الصنم "اللات" هو أحدث عهدًا من مناة2. أما نحن فلا نستطيع أن نجرؤ فنقول بهذا القول؛ لأن الصنمين هما من الأصنام القديمة التي ورد ذكرها في كتابات النبط والصفويين. ثم إن "هيرودوتس" أشار إلى "اللات"، كما سأذكر ذلك. وليس من السهل حتى بالنسبة إلى ابن الكلبي أو غيره، ممن تقدم عليه بالزمن الحكم على زمن دخول عبادة الصنمين إلى جزيرة العرب؛ لأن ذلك يعود إلى زمن سابق لا تصل ذاكرة الرواة إليه.
ومكان بيت اللات في موضع مسجد الطائف، أو تحت منارة مسجد الطائف. وقد عرف البيت الذي بني على اللات بيت الربة. ويقصدون بالربة اللات؛ لأنه أنثى في نظر عابديه3. ولا ندري أكان إنشاء مسجد الطائف على موضع معبد اللات رمزًا لحلول بيت الله محل بيت الربة، وبيت الأصنام، وتعبيرًا عن حلول الإسلام محل عبادة اللات والأصنام، أم كان ذلك لسبب آخر، هو وجود أسس سابقة وحجارة قديمة موجودة فاستسهل لذلك إقامة بناء المسجد في هذا المكان؟ وقد فسر بعض المستشرقين إقامة المسجد في هذا المكان، بأنه تخليد لذكرى الوثنية في نفوس بعض من أسلم لسانه وكفر قلبه، فسرهم قيام المسجد في هذا المكان ليبقى أثرًا يذكرهم بذكرى صنمهم القديم اللات4.
وللأخباريين روايات عن صخرة اللات، منها أنها في الأصل صخرة كان يجلس عليها رجل، يبيع السمن واللبن للحجاج في الزمن الأول، وقالوا: إنها سميت باللات لأن عمرو بن لحي كان يلت عندها السويق للحجاج على تلك الصخرة، وقالوا: بل كانت اللات في الأصل "رجلًا من ثقيف. فلما مات، قال لهم عمرو بن لحي: لم يمت، ولكن دخل في الصخرة، ثم أمر بعبادتها، وأن يبنوا بنيانًا يسمى اللات"، وقالوا: "قام عمرو بن لحي، فقال لهم: إن ربكم كان قد دخل في هذا الحجر، يعني تلك الصخرة نصبها لهم صنمًا يعبدونها. وكان فيه وفي العزى شيطانان يكلمان الناس، فاتخذتها ثقيف طاغوتًا، وبنت لها.
__________
1 Das Gotzenbuch, s. 93.
2 الأصنام "16".
3 العرب في سوريا قبل الإسلام "112".
4 العرب في سوريا قبل الإسلام "112".(11/229)
بيتًا. وجعلت لها سدنة، وعظمته، وطافت به". وقيل: "كانت صخرة مربعة. وكان يهودي يلت عندها السويق"1.
وذكر المفسر "أبو السعود" أن هناك رواية تزعم أن حجر اللات كان على صورة ذلك الرجل الذي قبر تحته، وهو الذي كان يلت السويق، فلما مات، عكفوا على قبره فعبدوه2. وقيل إن اللات: الذي كان يقوم على آلهتهم، ويلت لهم السويق3.
فنحن أمام راي يزعم أن "اللات" إنسان في الأصل مات، وكان يخدم الأصنام، فيتقدم إليها يلت السويق ويعطيه للناس، فلما توفي، دفن في موضعه الذي كان يلت السويق عنده ثم اتخذ قبره مزارًا، كما اتخذت قبور أخرى مزارات ينحر عندها ويتبرك بها الناس، ولهذا نهى الإسلام عن اتخاذ القبور مزارات، حتى لا تعظم من دون الله، كالذي حدث عند الجاهليين4.
وذكر بعض أهل الأخبار أن صنم اللات إنما سمي لاتًا، من "لوى؛ لأنهم كانوا يلون عليها، أي يطوفون"5، ويعتكفون للعبادة عنده6. معنى هذا أن عباد هذا الصنم لم يكونوا يكتفون بالذبح عنده، بل كانوا يطوفون حوله طوافهم حول أصنام أخرى. وذكر أنه سمي لاتًا، ومن اللتات، وكل شيء يلت به سويق أو غيره نحو السمن7.
ولدينا رأي آخر في سبب تسمية اللات لاتًا، خلاصته: "أن الناس اشتقوا اللات من اسم "الله" فقالوا "اللات"، يعنون مؤنثه منه"8. وذكر
__________
1 الأصنام "16 وما بعدها" البلدان "7/ 310" "اللات"، النقائص "141"، تاج العروس "1/ 580 وما بعدها"، اللسان "2/ 388"، روح المعاني "27/ 47 وما بعدها" الأزرقي، أخبار مكة "79 وما بعدها" "طبعة لا يبزك"، تفسير الخازن "4/ 194 وما بعدها".
2 تفسير أبي السعود "5/ 112".
3 تفسير الطبري "27/ 35".
4 كان النهي عن ذلك في أول ظهور الإسلام، ثم أذن به، بدلالة الحديث: "كنت نهيتكم عن زياة القبور. ألا فزوروها؛ فإنها تذكركم بالآخرة".
5 تفسير البيضاوي "1/ 199" "سورة النجم".
6 روح المعاني "27/ 37وما بعدها".
7 اللسان "2/ 83" "بيروت 1955".
8 تفسير ابن كثير "4/ 253 وما بعدها".(11/230)
الطبري أن "اللات هي من الله، ألحقت فيه التاء، فأنثت، كما قيل عمرو للذكر وللأنثى عمرة، وكما قيل للذكر عباس ثم قيل للأنثى عباسة"1.
وورد في بعض روايات أهل الأخبار أن الثقفي الذي كان يلت السويق بالزيت ويقدمه للناس، لما توفي قبر في موضع اللات، فعكفوا على قبره، فعبدوه وجعلوه وثنًا، وزعم بعض آخر أنه قبر عامر بن الظرب العدواني2. فترى هذه الروايات أن "بيت الربة"، هو قبر رجل، دفن فيه، فعبد وصير إلهًا. وزعم قوم أنه كان رجلًا من ثقيف، يقال له "صرمة بن غنم"، وكان يسلأ السمن، فيضعه على صخرة، فتأتيه العرب، فلما مات، عبدته ثقيف3.
وتفسير أهل الأخبار لاسم "اللات" هو بالطبع من تفسيراتهم المألوفة الكثيرة التي لا يمكن أن نثق بها، ولا يمكن أن نحملها على محمل الصدق والعلم. فالاسم هو من الأسماء القديمة التي عرفت قبل الميلاد ويرى بعض المستشرقين أنه إدغام وسط بين "الإلاهت" "أل سال هت" Al Alahat والإدغام التام "اللات" "أل لت" Allat، على نحو ما حدث للفظ الجلالة: "الإلاه" "أل- إل هـ" الذي صار "الله"4.
وفي قول أهل الأخبار أن صخرة اللات كانت ليهودي، يلت عندها السويق أو لرجل من ثقيف، غمز وطعن في ثقيف، وقد غمز بها في أمور أخرى أشرت إليها في مواضع أخرى. ويعود سبب هذا الغمز إلى المنافسة التي كانت بين أهل الطائف وأهل مكة، ثم على الكراهية الشديدة التي حملها أهل العراق وأهل الحجاز وغيرهم للحجاج لأعماله القاسية، وعدم مبالاته ومراعاته للحرمات حتى بالنسبة إلى الكعبة، مما حمل الناس على كرهه وكره قومه ثقيف، وعلى وضع قصص عن ثقيف.
ولا يستبعد أن تكون صخرة اللات صخرة من هذه الصخور المقدسة التي كان يقدسها الجاهليون ومن بينها "الحجر الأسود" الذي كان يقدسه أهل مكة ومن
__________
1 تفسير الطبري "27/ 34" تفسير الطبرسي "27/ 48 وما بعدها".
2 روح المعاني "27/ 47 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "4/ 253 وما بعدها". تفسير أبي السعود "5/ 112" "سورة النجم".
3 الخازن "4/ 194 وما بعدها".
4 رينه ديسو: العرب في سوريا قبل الإسلام "114".(11/231)
كان يأتي إلى مكة للحج وفي غير موسم الحج، لذلك كانوا يلمسونه ويتبركون به. وإذا أخذنا برأي ابن الكلبي من أن عمرو بن لحي قال للناس: "إن ربكم كان قد دخل في هذا الحجر"، أو أن الرجل الذي كان عند الصخرة لم يمت، ولكن دخل فيها أو أن روح ميت حلت فيها ونظرنا إلى رأيه هذا بشيء من الجد، فلا يستبعد أن يشير هذا الرأي إلى ما يسمى بـ"الفتيشزم" fetichism أي عبادة الأحجار في اصطلاح علماء الأديان. ويعنون بها عبادة الأرواح التي يزعم المتعبدون لها أنها حالة في تلك الأحجار، وخاصة الأحجار الغريبة التي لم تصقلها الأيدي، بل عبدت على هيئتها وخلقتها في الطبيعة، وهي من العبادات المنحطة بالنسبة إلى عبادة الصور والتماثيل والأصنام1.
وذكر أن قريشًا تعبدت للصنم اللات بموضع نجلة عند سوق عكاظ، وقيل إنه كان بالكعبة2. وذكر أن "اللات بيت كان بنخلة تعبده قريش"3. ويلاحظ أن من أهل الأخبار من جعل العزى بيتًا كان بنخلة4 أي هذا البيت المذكور.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن منهم من رأى أن اللات بيت للصنم، الذي كان بالطائف، وأن منهم من رأى أنه كان بنخلة تعبده قريش. وأما عباد البيت الأول، فهم ثقيف. ولا أستبعد وجود بيوت عبادة أخرى في غير هذين المكانين في الحجاز وفي غير الحجاز.
واللات من الآلهة المعبودة عند النبط أيضًا، وقد ورد اسمها في نصوص "الحجر" و"صلخد" و"تدمر" وهي من مواضع النبط5. وهو "هـ ل ت" "هـ - لت" "ها - لت" في النصوص الصفوية6، ومعناها "اللات"؛ لأن "الهاء" حرف تعريف في اللهجة الصفوية. وقد ذكر أكثر من ستين مرة في الكتابات الصفوية. وهو أكثر آلهة الصفويين ورودًا في نصوصهم، ويدل ذلك على شيوع عبادته بينهم7.
__________
1.Robertson, p. 209
2 الخازن "4/ 194 وما بعدها"، البيضاوي، سورة النجم "1/ 199"، روح المعاني "27/ 47 وما بعدها".
3 تفسير الطبري "27/ 35".
4 تفسير الطبري "27/ 35".
5 Reste, S. 32, Vogue 6, 8, Enting 3, woddington 2203, dussaud – macler, Mission, p. 55.
6 Ency. Religi, I, p. 661.
7 العرب في سوريا قبل الإسلام، "111".(11/232)
ويذكر الباحثون أن النبط عدوا اللات أمًّا للآلهة، وهي في نظر "روبرتسن سمث" الإلهة الأم لمدينة "بطر" وتقابل الإلهة Artemis عند أهل قرطاجة1. وقد عبدت اللات في تدمر، وفي أرض "مدين" عند اللحيانيين2. وقد وصف "أفيفانيوس" Epiphanius معبد الإلهة اللات في مدينة "بطرا"، فذكر أنه معبد الأم العذراء Virggin mother كما أنها كانت معبودة عند أهل "الوسة" "الوس" Elusa كذلك. ويظهر أن عبادتها كانت قد انتقلت من النبط ومن القبائل العربية الشمالية إلى أهل الحجاز3.
وصنم اللات، هو "أليلات" "أللات" Alilat = Alelat المذكور في تأريخ "هيرودوتس" ذكر أنه من آلهة العرب الشهيرة4 والتسمية عربية النجار، وقد غيرت تغييرًا طفيفًا، اقتضته طبيعة اللغة اليونانية، فذكره "هيرودوتس" على النحور المذكور. فهذا الصنم إذن هو أول صنم عربي يرد اسمه في نص مؤرخ يوناني. وهو يقابل الإله Minerva أي "أثينة" Athene عند اليونان5.
وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن "اللات" تمثل "الشمس"، وهي أنثى أي إلهة6 أما "رينه ديسو" فيرى أنها لا تمثل الشمس، وإنما تمثل كوكب الزهرة، وخطأ رأي من يقول إن اللات الشمس7.
وقد انتهت إلينا أسماء رجال أضيفت إلى اللات، مثل: "تيم اللات"، و"زيد اللات"، و"عائذ اللات، و"شيع اللات". و"شكم اللات"، و"وهب اللات" وما شاكل ذلك من أسماء. ومما يلفت النظر أننا لم نلاحظ ورود اسم "عبد اللات" بين أسماء الجاهليين8.
وقد أقسموا باللات، كما أقسموا بالأصنام الأخرى، ونسب إلى أوس بن حجر قوله9:
__________
1 Smith, p. 56, reste, s. 33.
2.Arabien, s. 82
3 Smith, p. 56, das Gotzenbuch s. 91.
4 Herodotes, I, 181, III, 8, Arabien, s. 82..
5.Arabien, s. 82
6.Ency, Religi, I, p. 661.
7 العرب في سوريا قبل الإسلام "115".
8 الأصنام "18"، المحبر "213، 327، 350، 453".
9 الأصنام "11"، روزا".(11/233)
وباللات والعزى ومن دان دينها ... وبالله، إن الله منهن أكبر
وهدم اللات في جملة ما هدم من الأصنام، وأحرق البيت وقوضت حجارته، هدمه بأمر الرسول المغيرة بن شعبة في أغلب الروايات: وكان الناس ينظرون إلى هدمه في خوف وفزع وهلع خشية أن ينالهم شيء من أذى انتقامًا منهم؛ لأنهم لم يدافعوا عن بيت ربتهم، وكانت نساء ثقيف حسرًا يبكين عليه. فلما انتهى الهدم، ولم يحدث لهن شيء، أخذ المغيرة مالها وحليها من الذهب والجزع وأعطاه أبا سفيان، وكان الرسول قد أرسله مع المغيرة في وفد ثقيف الذي جاء إليه عارضًا عليه الإسلام، فأخذه منه أبو سفيان، ليقضي من مال اللات دين عروة والأسود ابني مسعود1.
ولما أصيبت ثقيف بهزيمة، واحتمت بالطائف قال الشاعر:
وفرت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسر2
ويظهر من هذا الشعر الذي ينسب على "شداد بن عارض الجشمي"، وقد قاله حين هدمت وحرقت اللات:
لا تنصروا اللات إن الله مهكلها ... وكيف نصركم من ليس ينتصر؟
إن التي حرقت بالنار فاشتعلت ... ولم تقاتل لدى أحجارها هدر
إن الرسول متى ينزل بساحتكم ... يظعن، وليس بها من أهلها بشر
إن ثقيفًا بقيت مخلصة لصنمها مؤمنة به، حتى بعد هدمه وتحريقه، فقال الشاعر شعره، ينهى ثقيفًا عن العود إليها والغضب لها3.
ويظهر من بيت ينسب إلى كعب بن مالك الأنصاري، هو قوله:
وننسى اللات والعزى وودًا ... ونسلبها القلائد والسيوفا4
__________
1 الطبري "3/ 99 وما بعدها" البلدان "7/ 310" البداية والنهاية "1/ 149" نهاية الأرب "18/ 59 وما بعدها"، ابن سيد الناس، عيون الأثر "2/ 229 وما بعدها" ابن هشام "2/ 326"، الروض الأنف "2/ 326".
2 الأغاني "19/ 80"، المشرق، السنة 1938م "حـ1" "ص4".
3 الأصنام "11" روزا" الإصابة "2/ 139" رقم 3852".
4 ابن هشام "1/ 63" "هامش روض الأنف.(11/234)
إن الناس كانوا يعلقون القلائد والسيوف على تلك الأصنام. وروايات الأخباريين تؤيد هذه الدعوى؛ إذ نذكر أن الجاهليين كانوا يقدمون الحلي والثياب والنفائس وما حسن وطاب في أعين الناس هدية ونذورًا إلى الأصنام، فكانوا يعلقون ما يمكن تعليقه عليها، ويسلمون الأشياء الأخرى إلى سدنة الأصنام.
وقد ذكر الرحالة الإنكليزي "جيمس هاملتون" أن صخرة اللات كانت لا تزال في أيامه بالطائف. وقد شاهدها فوصفها بأنها صخرة من الغرانيت ذات شكل خماسي، وإن طولها زهاء اثنتي عشرة قدمًا1.
ويظهر أنه كان للات بيت وقبة يحملها الناس معهم حين يخرجون إلى قتال، فينصبان في ساحة الجيش؛ ليشجع المحاربون فيستميتوا في القتال، وينادي المنادون بنداء تلك الأصنام مثل: يا للات، وقد كانت لبقية الأصنام بيوت وقباب أيضًا2، وعادة حمل الأصنام إلى المعارك والحروب وإشراكها مع الناس في القتال بإحضارها ساحة المعارك عادة قديمة، معروفة عند العرب وعند غيرهم. وقد سبق أن قلت إن الآشوريين ذكروا أنهم أسروا أصنام "أريبي" العرب في أثناء قتالهم معهم، أسروها مرارًا، وكانوا يثبتون عليها خبر الأسر. كما أن الفلسطينيين والعبرانيين وغيرهم كانوا يحملون معهم أصنامهم في القتال3.
__________
1 James Hamilton sinai, the Hegaz and Soudan, London, p. 150,"1857"".
2 Das Gotzenbuch, s. 83.
3 صموئيل الأول، الإصحاج الرابع، الآية 5 وما بعدها، صموئيل الثاني، الإصحاح الخامس، الآية 21، الإصحاح 11، الآية 11.(11/235)
العزى:
والعزى صنم أنثى كذلك، وهي أحدث عهدًا في نظر ابن الكلبي من اللات ومناة. وأما الذي اتخذ العزى على رواية ابن الكلبي، فهو ظالم بن أسعد. وضعت "بواد من نخلة الشامية، يقال له حراض، بأزاء الغمير، عن يمين المصعد إلى العراق من مكة، وذلك فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، فبنى عليها بسًا "يريد بيتًا"، وكانوا يسمعون فيه الصوت"1 وينسب إليه بيت العزى كذلك.
__________
1 الأصنام "17 وما بعدها"، البلدان "6/ 165" "العزى" سبائك الذهب "104" بلوغ الأرب "2/ 203 وما بعدها" تفسير الطبري "27/ 35"، المحبر "124، 311، 315"، تفسير الطبرسي "27/ 175" "طهران".(11/235)
وقد زعم بعض أهل الأخبار أن "العزى" كان بيتًا بالطائف تعبده ثقيف. ويظهر أن هذا اشتباه قد وقع لهم، وأنهم خلطوا بين اللات والعزى، فتوهموا أن بيت اللات هو العزى فقالوا ما قالوه. ونجد في تفسير الطبري تأييدًا لهذا الرأي1.
وورد في بيت شعر ينسب إلى "حسان بن ثابت" أن بيت العزى كان "بالجزع من بطن نخلة"2.
ويظهر أن العزى كانت "سمرات"، لها حمى، وكان الناس يتقربون إليها بالنذور. وهي بالطبع عبادة من العبادات المعروفة للشجر3. وقد ذكر الطبري روايات عديدة تفيد أن "العزى" شجيرات، ولكنه أورد روايات أخرى تفيد أنها حجر أبيض4، فنحن إذن أمام رأيين: رأي يقول إن العزى شجيرات، ورأي يرى أنها حجر. وذكر "ابن حبيب" أن العزى شجرة بنخلة عندها وثن تعبدها غطفان، سدنتها من بني صرمة بن مرة5. وذكر غيره أنها سمرة لغطفان6.
وقد تسمى العرب وقريش بالعزى، فقالوا: "عبد العزى"7 وقد أقسموا بها، ولها يقول درهم بن زيد الأوسي:
إني ورب العزى السعيدة ... والله الذي دونه بيته سرف8
وأقدم من سمي باسم "عبد العزى" في رأي ابن الكلبي هو عبد العزى بن كعب9. وقد ذكر ابن دريد أسماء عدد من أهل مكة عرفوا بـ"عبد العزى".
__________
1 تفسير الطبري "27/ 35"، "العزى بيت بالطائف تعبده ثقيف".
2 الأزرقي، "ص78 وما بعدها".
3 أخبار مكة، للأزرقي "2/ 74"، اللسان "5/ 378"، "عز" تاج العروس "4/ 55"، تفسير الخازن "6/ 217 وما بعدها" الشوكاني، فتح "5/ 105"، تفسير البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي "8/ 160 وما بعدها" تفسير ابن كثير "4/ 253".
4 تفسير الطبري "27/ 35".
5 المحبر "315" تفسير الطبرسي "27/ 48 وما بعدها، تفسير البيضاوي "1/ 199".
6 مراصد الاطلاع "937".
7 الأصنام "16 وما بعدها".
8 الأصنام "13" "روزا"، مراصد الاطلاع "937".
9 الأصنام "18".(11/236)
منهم بـ"عبد العزى بن قصي"، و"عبد العزى بن عبد مناف"، و"عبد العزى بن عبد المطلب"1.
ويظهر من هذا الشعر المنسوب إلى "زيد بن عمرو بن نفيل":
تركت اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني غنم أزور2
إن عباد العزى كانوا يتصورونها أمًّا، ولها ابنتان، ولعله أراد بـ"ابنتيها" اللات ومناة. وقد نسب بعض أهل الأخبار عبادة العزى إلى عمرو بن لحي جريًا على عادتهم في نسبة عبادة الأوثان إليه، فقالوا إنه قال لعمرو بن ربيعة والحارث بن كعب عن ربكم يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتو بالعزى لحر تهامة3. وفي رواية لابن إسحاق: إن عمرو بن لحي اتخذ العزى بنخلة، فكانوا إذا فرغوا من حجهم وطوافهم بالكعبة، لم يحلوا حتى يأتوا العزى، فيطوفون بها، ويحلون عندها، ويعكفون عندها يومًا، وكانت لخزاعة وكانت قريشًا وبنو كنانة كلها تعظم العزى مع خزاعة وجميع مضر. وكان سدنتها الذين يحجبونها بنو شيبان من بني سليم، حلفاء بني هاشم4.
وتشير رواية من زعم أن عمرو بن لحي قال لقومه: "إن ربكم يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتو بالعزى لحر تهامة"، صحت أو لم تصح، إلى وجود صلة بين اللات والعزى، وقد ذكرى العزى بعد اللات في القرآن الكريم. وكذلك ترد بعد اللات في جميع روايات الأخباريين مما يشير إلى وجود صلة بين اللات والعزى. ولا يستبعد أن تكون هذه الصلة بين الصنمين قد جاءت إلى أهل الحجاز من بلاد الشأم من أهل تدمر وبادية الشام والصفويين، إذ وردا وكأنهما إلهان متقابلان، فحمل ذلك بعض المستشرقين على تصور أنهما يمثلان كوكبين: كوكب الصباح وكوب المساء5.
__________
1 الاشتقاق "348" "الفهرست".
2 الأصنام "14" "روزا".
3 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 74" "باب ما جاء في اللات والعزى".
4 الأزرقي "1/ 74 وما بعدها".
5 العرب في سوريا قبل الإسلام "125".(11/237)
والعزى مثل اللات ومناة من الآلهة المعبودة عند عرب العراق وعرب بلاد الشأم، وعد النبط والصفويين. وقد ذكر اسم العزى مرتين في المصادر المؤلفة بعد الميلاد، وأشار إسحاق الأنطاكي Isaac of Antioch من رجال القرن الخامس للميلاد، إلى اسم العزى في حديثه عن مدينة "بيت حور" Beth – Hur ودعاها بـ Beltis، وسماها "كوكبتا". ويظن أن "كوكبتا" Kawkabta، أي "كوكبة" المذكورة في المصادر السريانية، هي أنثى كوكب، تعني الكوكب الذي يظهر عند الصباح، وهو العزى عند الجاهليين ويراد بها "الزهرة" Venus عند النبط2. حيث اتخذوا لها معبدًا في مدينة "بصرى" في منطقة "رم" عرف بـ"بيت إيل". وقد نص "بروكوبيوس"، Procopius على أنها "أفروديت"3. وهي كناية عن القمر على رأي بعض المستشرقين4.
ولعل العزى هي "ملكة السماء Melekheth Hash – Shama المذكورة في سفر "أرميا"5، وقد جاء فيه: أن أهل "أورشليم" كانوا يصنعون كعكًا، يتقربون به إلى تلك الإلهة: إلهة السماء. وقد كان الجاهليون يتقربون بالخبز والكعك إلى "كوكب السماء"6
ويظهر من ورود اسم امرأة هو: "أمت عزى"، أمة العزى"، في نص عربي جنوبي، أن عبادة العزى كانت معروفة هناك وقد قدم أحد العرب تمثالًا من ذهب إلى هذه الإلهة7.
وقد كان آل لخم، ملوك الحيرة، ينحرون الأسرى قربانًا للعزى. وقد زعم بعض المؤرخين السريان أن "المنذر بن ماء السماء" ضحى بأربع مائة راهبة للعزى8.
__________
1 Reste, s. 40, Ency. Vol. IV, p. 1059, Rothstein, s. 81, 141. Shorter Ency. Of Islam. P. 617.
2 Arabien, s. 82.
3 Procopius, De Bello Persi, II, 28, Arabien, s. 28, 82. Arabien, S. 82, Reste, S. 40, Ryckmans, 15.
4 Arabien, s. 82, Reste, s. 40, Ryckmans, 15.
5 أرميا، الإصحاح السابع، الآية 18 وما بعدها".
6 Hastings, p. 778, Das Gotzenbuch, s. 95.
7 Das Gotzenbuch, S. 94.
8 Malalas, II, 166, Noleke, Sassaniden, s. 171, Ghass, II, Anm. 3. Theophanes, 273, Land. Anecd. Syr, III, 247, Rothstein, s. 81. Paulys-Wissowa, Erster Halband. 1893, S. 12841.(11/238)
وذكر "إسحاق الأنطاكي" أن العرب كانوا يقدمون الأولاد والبنات قرابين للكوكبة "كوكبتا" فينحرونهم لها، ويقصد بـ"كوكبتا" العزى1.
وكانت قريش تتعبد للعزى، وتزورها وتهدي إليها، وتتقرب إليها بالذبائح. وذكر ابن الكلبي أنها كانت أعظم الأصنام عند قريش، وأن قريشًا كانت تطوف بالكعبة وتقول: "واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى. فإنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى". وكانوا يقولون: هن بنات الله، وهن يشفعن إليه. وكانت قريش قد حمت لها شعبًا من وادي حراض، يقال له سقام يضاهون به حرم الكعبة، وكان لها منحر ينحرون فيه هداياهم، يقال له الغبغب، فكانوا يقسمون لحوم هداياهم فيمن حضرها وكان عندها2.
وكانت قريش تستعين بأصنامها حين تحارب، تستجير بها وتستمد منها العون في الحرب3؛ لتبعث الهمة والنشاط في النفوس بذكرها. فلما كان يوم أحد نادى "أبو سفيان" "اعل هبل، اعل هبل" فقال المسلمون: "الله أعلى وأجل". فقال "أبو سفيان": "لنا العزى ولا عزى لكم" فقال المسلمون: "الله مولانا ولا مولى لكم"4.
ويقول ابن الكلبي أيضًا: ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئًا من الأصنام إعظامهم العزى، ثم اللات، ثم مناة. فأما العزى، فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية. وكانت ثقيف تخص اللات كخاصة قريش للعزى وكانت الأوس والخزرج تخص مناة كخاصة هؤلاء الآخرين، وكلهم كان معظمًا لها"، أي للعزى5.
ولابن الكلبي رأي في إقبال قريش على العزى. إذ يقول: "فأما العزى، فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية. وذلك فيما أظن لقربها منها"6. فجعل قرب بيت العزى من قريش هو السبب في إقبال قريش عليها.
__________
1 Isaak von Antiochia, Opera, I, 220. "ed, Bickell" reste, s. 40..
Das Gotzenbuch, s. 96.
2 الأصنام "18" وما بعدها، "12" "طبعة روزا كلينكه روزنبركر" بمدينة "لايبزك 1941م".
3 Arabien, s. 83.
4 تفسير ابن كثير "4/ 253"، الطبري "2/ 526"، "معركة أحد".
5 الأصنام "27".
6 الأصنام "16" "روزا".(11/239)
وهو يرى هذا الرأي نفسه حين تكلم على الأصنام: ود، وسواع، ويعوق، ونسر، وقارن بينها وبين الأصنام اللات والعزى ومناة؛ إذ قال: "ولم يكونوا يرون في الخمسة الأصنام التي دفعها عمرو بن لحي.... كرأيهم في هذه ولا قريبًا من ذلك. فظننت أن ذلك كان لبعدهم منهم"1.
وقال ابن الكلبي في كتابه الأصنام "وقد بلغنا أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذكرها يومًا. فقال: لقد أهديت للعزى شاة عفراء، وأنا على دين قومي"2.
وكان فيمن يتقدم إلى العزى بالنذور والهدايا، والد خالد بن الوليد، ذكر خالد أن والده كان يأتي العزى بخير ما له من الإبل والغنم، فيذبحها للعزى، ويقيم عندها ثلاثة أيام3.
وممن تعبد للعزى بنو سليم وغطفان وجشم ونصر وسعد بن بكر4. وغني وباهلة وخزاعة وجميع مضر وبنو كنانة. وقد ارتبطت قبائل غطفان بعبادة العزى وتقديسها بصورة خاصة، حتى لقد ذكر "ياقوت الحموي" أن "العزى سمرة كانت لغطفان يعبدونها، وكانوا بنوا عليها بيتًا، وأقاموا لها سدنة"5. وقد عرف البيت بـ"كعبة غطفان"6. وذكر "الطبري" أن العزى "صنم لبنى شيبان"، بطن بن سليم حلفاء بن هاشم، وبنو أسد بن عبد العزى، يقولون: هذا صنمنا، وأنها "كانت بيتًا يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومضر كلها"7. وقد تعبدت لها ثقيف، بأن اتخذت لها صنمًا8. والظاهر أن قريشًا كانت تعد العزى حامية وشفيعة لها9.
وكان لحرم العزى شعب حمته قريش للصنم، يقال له سقام في وادي حراض
__________
1 الأصنام "17" "روزا".
2 الأصنام "18" وما بعدها" "12" "طبعة روزا روزنبركر".
3 الأزرقي، أخبار مكة "78 وما بعدها".
4 تفسير الطبرسي، مجمع البيان "5/ 364"، اليعقوبي "1/ 225".
5 البلدان "6/ 166"، "4/ 116" "صادر".
6 Shorter Ency, p. 617, Arabien s. 83.
7 الطبري "3/ 65"، "دار المعارف".
8 Arabien, s. 83, Doughty, Documents Epigraphiques, 35, Traveis in Arabia Deserta, II, P. 511, 515.,
9 Arabien, s. 83.(11/240)
على طريقة قريش في اتخاذ حرم للكعبة. وقد صار هذا الحمى موضعًا آمنًا لا يجوز التعدي فيه على أحد، ولا قطع شجره، ولا القيام بعمل يخل بحرمة المكان1. فذاك قول أبي جندب الهذلي تم القردي في امرأة كان يهواها، فذكر حلفها له بها:
لقد حلفت جهدًا يمينًا غليظة ... بفرع التي أحمت فروع سقام2
وينسب "ابن الكلبي" بناء "بيت العزى" إلى "ظالم بن أسعد"؛ إذ يقول: "بس: بيت لغطفان بن سعد بن قيس عيلان كانت تعبده. بناه ظالم بن أسعد بن ربيعة بن مالك بن مرة بن عوف، لما رأي قريشًا يطوفون بالكعبة ويسعون بين الصفا والمروة، فذرع البيت. ونص العباب: وأخذ حجرًا من الصفا وحجرًا من المروة، فرجع إلى قومه، وقال: يا معشر غطفان، لقريش بيت يطوفون حوله والصفا والمروة، وليس لكم شيء، فبنى بيتًا على قدر البيت، ووضع الحجرين فقال: هذان الصفان والمروة فاجتزئوا به عن الحج فأغار زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة الكلبي، فقتل ظالمًا، وهدم بناءه"3.
وجاء في رواية أخرى أن "بني صداء" قالوا: أما والله لنتخذن حرمًا مثل حرم مكة، لا يقتل صيده، ولا يعضد شجره، ولا يهاج عائذه، فوليت ذلك بنو مرة بن عوف. ثم كان القائم على أمر الحرم وبناء حائطه رباح بن ظالم ففعلوا ذلك، وهم على ماء لهم يقال له بس، فلما بلغ فعلهم هذا وما أجمعوا عليه زهير بن جناب، قال: والله لا يكون ذلك وأنا حي، ولا أخلي غطفان تتخذ حرمًا أبدًا، ثم سار في قومه حتى غزا غطفان، وتمكن منها، واستولى على الحرم، وقطع رقبة أسير من غطفان به، وعطل الحرم وهدمه4.
وذكر بعض أهل الأخبار، أن العزى صنم كان لقريش وبني كنانة، أو سمرة عبدتها غطفان بن سعد بن قيس عيلان. أول من اتخذها منهم "ظالم بن أسعد".
__________
1 البلدان "5/ 91"، "6/ 166".
2 الأصنام "12" "روزا".
3 الأغاني "21/ 63"، تاج العروس "4/ 109"، البلدان "2/ 179"، اللسان "7/ 327"، "بس".
4 الأغاني "21/ 63".(11/241)
فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، بالنخلة الشامية بقرب مكة، وقيل بالطائف، بنى عليها بيتًا وسماه بُسًا، وقيل بساء، وأقاموا لها سدنة مضاهاة للكعبة، وكانوا يسمعون فيها الصوت، فبعث إليها رسول الله خالد بن الوليد، عام الفتح، فهدم البيت وقتل السادان وأحرق السمرة1.
ويظهر مما تقدم أن البيت هدم مرتين: مرة في الجاهلية، على يد زهير بن جناب، وقتل إذ ذاك بانيه ظالم، والمرة الثانية عام الفتح على يد خالد بن الوليد2.
وأما سدنة العزى، فكانوا من بني صرمة بن مرة، أو من بني شيبان بن جابر بن مرة بن عبس بن رفاعة بن الحارث بن عتبة بن سليم بن منصور. فهم من بني شيبان، من بني سليم حلفاء بني هاشم3.
وكان آخر سادن للعزى "دبية بن حرمي السلمى ثم الشيباني"، قتله خالد بن الوليد بعد هدمه الوثن والبيت وقطعة الشجرة أو الشجرات الثلاث4. وفي رواية: أن هدم العزى كان لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان، وكان سادنها أفلح بن النضر السلمي من بني سليم. فلما حضرته الوفاة دخل عليه أبو لهب يعوده وهو حزين، فقال له: مالي أراك حزينًا؟ قال: أخاف أن تضيع العزى من بعدي. قال أبو لهب: فلا تحزن، فأنا أقوم عليها بعدك فجعل أبو لهب يقول لكل من لقي: إن تظهر العزى، كنت قد اتخذت عندها يدًا بقيامي عليها، وإن يظهر محمد على العزى، وما أراه يظهر، فابن أخي فأنزل الله تبارك وتعالى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} 5 وتدل هذه الرواية إن صحت على أن أفلح بن النضر لم يكن آخر سادن للعزى وأن الهدم لم يكن في حياته، وإنما كان بعد وفاته.
وتشبه هذه القصة قصة أخرى وردت في الموضوع نفسه، عن أبي أحيحة.
__________
1 تاج العروس "4/ 55"، "عزز".
2 تاج العروس "4/ 109"، "بس".
3 الطبري "3/ 65"، "دار المعارف"، تاج العروس "4/ 56"، "عزز".
4 البلدان "6/ 167 وما بعدها" بلوع الأرب "2/ 205"، ابن هشام "1/ 65" "هامش الروض الأنف"، الطبري "3/ 123"، "3/ 65"، "دار المعارف"، الأصنام "15" "روزا"، "ودبية بن حرمس السلمي سادن العزى"، تاج العروس "10/ 124"، "دبي".
5 أخبار مكة، للأزرقي "1/76"، البلاذري، أنساب "1/ 121".(11/242)
وأبي لهب. فلما مرض أبو أحيحة، وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، مرضه الذي مات فيه، كان أهم ما شغل باله عبادة العزى وخشيته أن لا تعبد من بعده، فلما أجابه أبو لهب مهونًا عليه الأمر: رد والله ما عبدت حياتك "لأجلك"، ولا تترك عبادتها بعدك لموتك! سره هذا الجواب، وأفرج عنه. فقال: "الآن علمت أن لي خليفة"1.
ويروي ابن الكلبي أن الرسول أمر بالقضاء على العزى، وذلك عام الفتح، فلما افتتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال له: ائت بطن نخلة، فإنك تجد ثلاث سمرات، فاعضد الأولى. فأتاها فعضدها، فلما جاء إليه عليه السلام: هل رأيت شيئًا؟ فقال: لا، قال: فاعضد الثانية؟ فأتاها فعضدها. ثم أتى النبي عليه السلام، فقال: هل رأيت شيئًا؟ قال: لا. قال: فاعضد الثالثة. فأتاها. فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها، تصرف بأنيابها، وخلفها دبية بن حرمي الشيباني ثم السلمي، وكان سادتها. فلما نظر إلى خالد، قال:
أعز شدي لا تكذبي ... على خالد ألقي الخمار وشمري
فإنك إلا تقتلي اليوم خالدًا ... تبوئي بذل عاجلًا وتنصري
فقال خالد:
يا عز كفرانك، لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة. ثم عضد الشجرة، وقتل دبية السادن ثم أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب. أما أنها لن تعبد بعد اليوم2.
__________
1 الأصنام "23".
2 الأصنام "15 وما بعدها" "روزا" ويختلف نص الشعر المذكور المنسوب إلى "دبية" في كتاب الأصنام بعض الاختلاف عن نص تأريخ الطبري "3/ 65". إمتاع الأسماع "1/ 398"، تفسير الطبرسي "27/ 48 وما بعدها" روح المعاني "27/ 47 وما بعدها". الأزرقي "78 وما بعدها".(11/243)
ويظهر من شعر لـ"أبي خراش الهذلي" أن "دبية" كان كريمًا، يطعم الناس، عظيم القدر، له جفنة حين الشتاء، وقد مدحه؛ إذ حذاه نعلين جيدين، كما رثاه يوم قتل بأبيات ذكرها "ابن الكلبي" في كتابه الأصنام1.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "خالد بن الوليد" هدم بيت العزى عام الفتح، وقتل إذ ذاك سادنه "ربيعة بن جرير السلمي"2. وروايات الأخباريين عن العزى يكتنفها شيء من الغموض واللبس، ويدل ذلك على أنهم لم يكونوا على علم تام بالعزى فبينما هم يذكرون أن العزى شجرة أو سمرة3. تراهم يذكرون في روايات أخرى أنها شيطانة تأتي ثلاث سمرات، أي أن العزى هي تلك الشيطانة، لا السمرة أو السمرات الثلاث4، ثم تراهم يذكرون في روايات أخرى أن العزى صنم، وأن الرسول حينما أمر خالد بن الوليد بهدمه، قال له لما هدم العزى، وعاد: "أرأيت شيئًا؟ قال: لا، قال: فارجع فاهدمه، فرجع خالد إلى الصنم فهدم بيته، وكسر الصنم، فجعل السادن يقول: أعزى اغضبي بعض غضباتك. فخرجت عليه امرأة حبشية عريانة مولولة، فقتلها وأخذ ما فيها من حلية، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فقال: تلك العزى، ولا تعبد العزى أبدًا"5. ومعنى هذا أن العزى صنم، كان في داخل بيت العزى، وأن خالد بن الوليد كسره، وهدم بيته ولم يكن شجرة. أما تلك السمرة أو السمرات الثلاث، فلم تكن إلا أشجارًا نبتت في حرم البيت. لذلك صارت محرمة لا يجوز مسها بأي سوء كان.
وقد سمى بعض أهل الأخبار اسم آخر سدنة العزى "دبية" و"دبية بن
__________
1 الأصنام "14 وما بعدها" "روزا".
2 تاج العروس "4/ 109"، "بس"، ابن سعد، حلقات "2/ 146".
3 السمر: شجر صغار الورق قصار الشوك وله برمة صفراء يأكلها الناس، وليس في العضاه شيء أجود خشبًا من السمر، بلوغ الأرب "2/ 304"، تاج العروس "4/ 109"، "بس".
4 البلدان "6/ 167 وما بعدها"، المحبر "315" بلوغ الأرب "2/ 204"، الأصنام "15 وما بعدها" "روزا".
5 الطبري "3/ 65" "دار المعارف"، روح المعاني "27/ 47 وما بعدها".(11/244)
حرمس السلمي"1، وسماه بعض آخر "ربية السلمي"، و"ربية بن جرمي"2، و"ربيعة بن جرير السلمي"3.
والرأي المعقول المقبول، هو أن العزى صنم، له بيت وأمامه غبغب، أي خزانة يضع فيها العباد المؤمنون بالعزى هداياهم ونذورهم لها.
كما كانوا ينحرون لها؛ إذ لا يعقل أن يقال إن خالد كسر الصنم وهدم بيته4. ثم لا يكون العزى صنمًا بل يكون شجرة أو شجرات. وأما الشجيرات، فإنها شجيرات مقدسة أيضًا؛ لأنها في حرم العزى، وشجر الحرم هو شجر مقدس لا يجوز قطعه، ولذلك كان أهل مكة يتجنبون مس شجر الحرم بسوء، فلما أراد "قصي" اعتضاده، هابت قريش عمله وخافت سوء العاقبة، ونهته عن مسه بسوء، ولكنه أقدم على قطعه، لم يبال برأيهم، ولم يحفل بنصائحهم، فقطعه. وكان بيت العزى يسمع فيه الصوت. وقد ذكر الأخباريون أنه كان في كل من اللات والعزى ومناة شيطانة، تكلمهم، وتظهر للسدنة وقد نسبوا ذلك إلى صنع إبليس5. والظاهر أن الحبشية المذكورة التى قتلها خالد، وزعم أنها شيطانة إن صح ما ذكره الرواة عن وجودها، كانت امرأة كان السادن يخفيها في موضع سري، وهي التي تجيب عن أسئلة السائلين فينسب السادن كلامها إلى العزى.
ومما يؤيد رأيي في أن "العزى" صنم، ما ورد في تفسير "الطبري" من قوله: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم" خالد بن الوليد إلى شعب بسقام ليكسر العزى، فقال سادنها، وهو قيمها: يا خالد أنا أحذركها إن لها شدة لا يقوم إليها شيء. فمشى إليها خالد بالفأس فهشم أنفها6. مما يدل على أنها كانت صنمًا أنثى، أي تمثالًا لامرأة؛ لأنها أنثى.
ويظهر من هذا البيت:
أما ودماء مائرات تخالها ... على قنة العزى وبالنسر، عندما7
إن عبَّاد العزى كانوا قد لطخوا قنة الصنم، أي أعلاه ورأسه بدم الأضاحي. وكذلك فعل عبَّاد الصنم نسر بقنة صنمهم.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 204".
2 تاج العروس "4/ 55 وما بعدها"، "عزز".
3 تاج العروس "4/ 109"، "بس".
4 المحبر "123".
5 الأزرقي "1/ 75"، "باب ما جاء في اللات والعزى".
6 تفسير الطبري "24/ 5"، تفسير القرطبي "15/ 258".
7 اللسان "13/ 349"، "قنن".(11/245)
مناة:
ويعد الصنم مناة أقدام الأصنام عند الأخباريين. وهو من الأصنام المذكورة في القرآن الكريم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 1. وهذه الأصنام الثلاثة هي إناث في نظر الجاهليين.
وموضع مناة بالمشلل على سبعة أميال من المدينة2، وبقديد بين مكة والمدينة3، وقيل أيضًا إنه بموضع "ودان" أو في موضع قريب منه4. وذكر اليعقوبي أن مناة كان منصوبًا بفدك مما يلي ساحل البحر5. والرأي الغالب بين أهل الأخبار أنه كان على ساحل البحر من ناحية المشل بقديد6. وذكر "محمد بن حبيب" أنه كان بسيف البحر وكانت الأنصار وأزد شنوءة وغيرهم من الأزد تتعبد له. وأما سدنته، فهم "الغطاريف" من الأزد7. وذكر أن تلبيته كانت على هذه الصورة: "لبيك اللهم لبيك، لولا أن بكرًا دونك، يبرك الناس ويهجرونك، وما زال حج عثج يأتونك. أنا على عدوائهم من دونك"8.
وتسكت أكثر روايات أهل الأخبار عن معبد "مناة" فلم تذكر شيئًا عنه،
__________
1 النجم، الآية 19 وما بعدها.
2 تاج العروس "10/ 351"، تفسير الطبري "27/ 32 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "4/ 253 وما بعدها"، تفسير الخازن "4/ 194 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "5/ 112"، اللسان "20/ 167"، تفسير الطبرسي "27/ 48".
3 مجمع البيان "9/ 176"، البلدان "2/ 944" عمدة القاري "9/ 287".
4 البلدان "8/ 167 وما بعدها".
5 اليعقوبي "1/ 312"، "1/ 225".
6 ابن هشام "1/ 87"، الأصنام "13 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 65"، أخبار مكة "1/ 73 وما بعدها"، البداية والنهاية "2/ 192"، عمدة القاري "9/ 287".
7 المحبر "316".
8 المحبر "313".(11/246)
ولكن "الطبري" يشير في تفسيره إلى أنه كان بيتًا بالمشلل1، وهو كلام منطقي معقول؛ إذ لا يعقل أن يكون هذا الصنم، مجرد صخرة أو صنم قائم في العراء تعبث به الرياح والشمس، ثم إن له سدنة، ولا يعقل أن تكون لصنم سدنة، ثم لا يكون له بيت يؤويه. ولست أستبعد أن يكون له، "جب" يلقي المؤمنون فيه هداياهم ونذورهم. وذكر "الطبري" أيضًا أن معبده كان بـ"قديد". وأما عبدته، فخزاعة، وبنو كعب2.
والأخباريون على خلاف فيما بينهم على هيئة "مناة" وشكله، منهم من يقول إن مناة صخرة، سميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها، أي تراق3. ومنهم من يقول إنه صنم كان منصوبًا على ساحل البحر، فهو على هيئة ومثال، وقد نحت من حجارة4، وجعله بعض الرواة في الكعبة مع بقية الأصنام5.
والذين يذكرون أن مناة صخرة، يرون أن الناس كانوا يذبحون عندها فتمنى دماء النساء عندها، أي تراق، فهي إذن، وبهذا الوصف مذبح تراق عنده الذبائح التي تقدم نسيكة للإلهة. ويذكرون أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك "كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركًا بها"6. ويتبين من ذلك أن هذا الموضع كان مكانًا مقدسًا، وقد خصص بإله ينشر السحب ويرسل الرياح فتأتي بالأمطار لتغيث الناس، وأن لهذا الإله صلة بالبحر وبالماء، ولذلك أقيم معبده على ساحل البحر7. وقد تكون هذه الصخرة مذبحًا أقيم عند الصنم، أو عند معبده لتذبح عليه ما يهل للصنم، فسمي باسمه، ولذلك يمكن التوفيق بين الرأيين: كونه صخرة، وكونه صنمًا.
ويظهر من أقوال ابن الكلبي أن هذا الصنم كان معظمًا، خاصة عند الأوس
__________
1 تفسير الطبري "27/ 35".
2 تفسير الطبري "27/ 35".
3 تفسير الطبري "27/ 32 وما بعدها".
4 تفسير الطبرسي، مجمع البيان "9/ 176"، البلدان "8/ 167 وما بعدها".
5 مجمع البيان "8/ 167 وما بعدها".
6 تفسير الطبري "27/ 32 وما بعدها"، الكشاف "3/ 144 وما بعدها"، تفسير البيضاوي "1/ 199".
7 وكان منصوبًا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، بين المدينة ومكة وما قارب ذلك من المواضيع، البلدان "8/ 167 وما بعدها".(11/247)
والخزرج، أي أهل يثرب ومن كان يأخذ مأخذهم من عرب المدينة والأزد وغسان "فكانوا يحجون ويقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رءوسهم، فإذا نفروا أتوا مناة وحلقوا رءوسهم عنده وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تمامًا إلا بذلك1. ولكن القبائل العربية الأخرى كانت تعظمه كذلك، وفي جملتها قريش2 وهذيل وخزاعة3. وأزد شنوءة، وغيرهم من الأزد. وقيل ثقيف أيضًا، وذكرت رواية أخرى أن العرب جميعًا كانت تعظمه وتذبح حوله4. أما سدنته، فالغطاريف من الأزد5.
وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمون مناة، ويهلون منها للحج إلى الكعبة6.
فمناة إذن من الأصنام المعظمة المقدسة عند الخزرج. وكانوا يحلفون بها ويقفون عندها. وفي ذلك ورد شعر ينسب إلى عبد العزى بن وديعة المزني أو غيره من العرب:
إني حلفت يمين صدق برة ... بمناة عند محل آل الخزرج
فالمحل الذي يقف فيه "آل الخزرج"، هو المحل الذي يحلف به أمام مناة. وكان العرب في الجاهلية يسمون الأوس والخزرج جميعًا: الخزرج، ولذلك يقول الشاعر في بيته: "عند محل آل الخزرج"7.
وترجع بعض الروايات تأريخ مناة إلى "عمرو بن لحي" فتزعم أنه هو الذي نصبه على ساحل البحر مما يلي قديدًا8. وقد أخذت من الرواية التي ترجع أساس عبادة الأصنام وانتشارها بين العرب إلى ذلك الرجل.
__________
1 الأصنام "14"، البلدان" "8/ 169" "مناة" الأزرقي "1/ 73 وما بعدها".
2 الأصنام "13، 15"، البلدان "8/ 169".
3 البلدان "8/ 169"، اللسان "20/ 167".
4 الكشاف "3/ 144 وما بعدها".
5 المحبر "316، البلدان "8/ 167 وما بعدها".
6 تفسير ابن كثير "4/ 253"، اللسان "20/ 167".
7 الأصنام "13 وما بعدها".
8 أخبار مكة "1/ 73 وما بعدها"، البلدان "4/ 653".(11/248)
وكان المتعبدون لهذا الصنم يقصدونه، فيذبحون حوله، ويهدون له. ويظهر من روايات ابن الكلبي عن هذا الصنم، أنه كان من الأصنام المعظمة المحترمة عند جميع العرب. وقد قصد ابن الكلبي بعبارة: "وكانت العرب جميعًا تعظمه وتذبح حوله"1 عرب الحجاز على ما أعتقد. وكان سدنته يجنون من سدانتهم له أرباحًا حسنة من هذه الهدايا التي تقدم إلى معبده باسمه.
وقد بقي سدنة هذا الصنم يرتزقون باسمه، إلى أن كان عام الفتح، فانقطع رزقهم بهدمه وبانقطاع سدانته. فلما سار الرسول في سنة ثمان للهجرة، وهي عام الفتح أربع أو خمس ليال من المدينة، بعث عليًّا إليه، فهدمه وأخذ ما كان له، فأقبل به إلى النبي، "فكان فيما أخذ سيفان كان الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان أهداهما له، أحدهما: يسمى مخذمًا، والآخر رسوبًا. وهما سيفا الحارث اللذان ذكرهما علقمة في بيته:
مظاهر سربالي حديد عليهما ... عقيلًا سيوف: مخذم ورسوب
فوهبهما النبي لعلي، فيقال: إن ذا الفقار، سيف علي أحدهما. ويقال: إن عليًّا وجد هذين السيفين في الفلس، وهو صنم طيء، حيث بعثه النبي فهدمه2.
وفي رواية للواقدي أن الذي هدم الصنم هو سعد بن زيد الأشهلي، هدمه سنة ثمان للهجرة3. وفي رواية أخرى أن الذي هدم الصنم هو أبو سفيان4.
وقد كانت القبائل تتجنب أن تجعل ظهورها على "مناة" إعظامًا للصنم، ولذلك كانت تنحرف في سيرها، حيث لا يكون الصنم إلى ظهرها5. وفي ذلك قال الكميت بن زيد الشاعر، أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة:
وقد آلت قبائل لا تولي ... مناة ظهورها متحرفيا
__________
1 الأصنام "15"، الأصنام "49"، "القاهرة 1914".
2 الأصنام "15"، البلدان "8/ 168".
3 الطبري "3/ 123"، روح البيان، لاسماعيل حقي أفندي، "4/ 551"، تأريخ الخميس، للديار بكري "2/ 107 وما بعدها" إمتاع الأسماع "1/ 398"، البخاري "5/ 18".
4 البداية والنهاية "2/ 192"، الروض الأنف "1/ 65"، ابن هشام "1/ 87".
5 ابن هشام "1/ 90".(11/249)
ويظهر من ورود اسم هذا الصنم في القرآن الكريم، ومن انتشار التسمية به في مثل "عبد مناة" و"عبدة مناة" و"زيد مناة" و"عوذ مناة" و"سعد مناة" و"أوس مناة" بين عدد من القبائل المختلفة، مثل تميم وطيء وكنانة، إن عبادة "مناة" كانت منتشرة انتشارًا واسعًا بين القبائل1. ولهذه الكلمات المتقدمة على كلمة "مناة" شأن كبير في وصف الصورة التي كانت في مخيلة عبدة مناة عنه؛ إذ تمثله إلهًا كريمًا يسعد عباده ويساعدهم في المكاره والملمات ويعطيهم ما يحتاجون إليه.
والصنم مناة هو "منوتن" "منوت" Manavat عند النبط، ويظن أن لاسمه صلة بـ"مناتا" Menata في لهجة بني إرم، و"منا" Mena في العبرانية، وجميعها "مانوت" "منوت" Manot، وباسم الإله "منى" Meni، وبكلمة "منية"، وجمعها "منايا" في عربية القرآن الكريم. وهي لذلك تمثل الحظوظ والأماني، وخاصة الموت2. ولهذا ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه الإلهة هي إلهة المنية والمنايا عند الجاهليين3.
وقد ذكر "مني" Meni مع "جد" Ged في العهد القديم. والظاهر أن كلمة "جد" كانت مصدرًا، ثم صارت اسم علم لصنم. وذكر "منى" مع "جد" له شأن كبير من حيث معرفة الصنمين. فالأول هو لمعرفة المستقبل وما يكتبه القدر للإنسان من منايا ومخبآت لا تكون في مصلحة الإنسان. والثاني، وهو "جد"، لمعرفة المستقبل الطيب والحظ السعيد "fortune" "tyche" في اليونانية، فهما يمثلان إذن جهتين متضادتين4.
__________
1 تاج العروس "10/ 351" Reste, s. 29.
2 Reste, s. 28, Ency. Religi, I, pp. 231, 661.
3 Das Gotzenbuch, S. 87.
4.Hastings, pp. 275, 604(11/250)
هبل:
يقول ابن الكلبي: "وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها، وكان أعظمها هبل. وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة إنسان، مكسور اليد.(11/250)
اليمنى. أدركته قريش فجعلت له يدًا من ذهب. وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. وكان يقال له هبل خزيمة.
وكان في جوف الكعبة قدامه سبعة أقداح، مكتوب في أولها: صريح والآخر ملصق. فإذا شكوا في مولود أهدوا إليه هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج صريح ألحقوه، وإن خرج ملصق دفعوه. وقدح على الميت وقدح على النكاح، وثلاثة لم تفسر لي على ما كانت. فإذا اختصموا في أمر. أو أرادوا سفرًا أو عملًا، أتوه فاستسقوا بالأزلام عنده فما خرج، عملوا به وانتهوا إليه. وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله1.
وتذكر رواية أخرى أن خزيمة بن مدركة كان أول من نزل مكة من مضر، فوضع هبل في موضعه، فكان يقال له صنم خزيمة، وهبل خزيمة. وورث أولاده سدانته من بعده2. وقد ذهب "ابن الكلبي" هذا المذهب أيضًا، إذ قال: "وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة"3.
ولا خلاف بين أهل الأخبار في أن "هبل" كان على هيئة إنسان رجل4. وهناك روايات تنسب هبل إلى عمرو بن لحي، تقول إنه جاء به إلى مكة من العراق من موضع هيت، فنصبه على البئر وهو الأخسف والجب الذي حفره إبراهيم في بطن الكعبة، ليكون خزانة للبيت، يُلقى فيه ما يُهدى إلى الكعبة، وأنه هو الذي أمر الناس بعبادته، فكان الرجل إذا قدم من سفر بدأ به على أهله بعد طوافه بالبيت، وحلق رأسه عنده، وكان على هذه الروايات من خرز العقيق على صورة إنسان، وكانت يده اليمنى مكسورة، فأدركته قريش فجعلت له يدًا من ذهب. وكانت له خزانة للقربان وكان قربانه مائة بعير. وله حاجب يقوم بخدمته5.
__________
1 الأصنام "27 وما بعدها" "تحقيق أحمد زكي باشا"، سبائك الذهب "104". الأزرقي "1/ 68 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 64"، الطبري "2/ 202"، "الاستقامة"، "2/ 240" "المعارف" خزانة الأدب "3/ 244"، سبائك الذهب "101"، ابن الأثير، الكامل "2/ 18" مروج الذهب "1/ 238" محمد محيي الدين عبد الحميد" البداية والنهاية "2/ 187".
2 طبقات ابن سعد "1/ 39".
3 الأصنام "روزا" نهاية الأرب "16/ 12".
4 الطبرسي، مجمع البيان "29/ 68 وما بعدها". "بيوت 1954م".
5 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 27، 68 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 65".(11/251)
وجاء في رواية أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشأم في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق، ويقال عمليق، وجدهم يتعبدون للأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه الأصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنمًا، فأسير به إلى الأرض العرب، فيعبدوه؟ فأعطوه صنمًا يقال له هبل، وأخذه، فتقدم به إلى مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته1.
ولسنا نجد في كتب أهل اللغة أو الأخبار تفسيرًا مقبولًا لمعنى "هبل". وقد ذهب بعضهم إلى أنه من "الهبلة"، ومعناها القبلة. وذكر بعض آخر أنه من "الهبيلي"، بمعنى الراهب، وذكر أن "بني هبل" كانت تتعبد له2. وذكر أنه من "هبل" بوزن "زفر" ومعناها كثرة اللحم والشحم، أو من "هبل" بمعنى غنم، وما شاكل ذلك من آراء3. ويكمن سبب اضطراب العلماء في تسميته في أنه من الأصنام المستوردة من الخارج التي حافظت على تسميتها الأصلية، فوقع لديهم من ثم هذا الاضطراب.
وكانت تلبية من نسك هبل: "لبيك اللهم لبيك". إننا لقاح، حرمتنا على أسنة الرماح، يحسدنا الناس على النجاح"4.
ويذكر أهل الأخبار أن "هبل" كان أعظم أصنام قريش، وكانت تلوذ به وتتوسل إليه؛ ليمنَّ عليها بالخير والبركة، وليدفع عنها الأذى وكل شر. وكانت لقريش أصنام أخرى في جوف الكعبة وحولها. ولكن هبل هو المقدم والمعظم عندها على الجميع. وقد نصب على الجب الذي يقال له "الأخسف"، وهو بئر، وكانت العرب تسميها "الأخشف"5.
وذهب بعض المستشرقين إلى أن "هبل"، هو رمز إلى الإله القمر، وهو
__________
1 سيرة ابن هشام "1/ 62"، "وقد طبعت في هامش كتاب الروض الأنف للسهيلي"، ديوان حسان "تحقيق هرشفلد"، سيرة ابن هشام "1/ 82"، البداية والنهاية "1/ 187 وما بعدها" اليعقوبي "1/ 211"، مروج "2/ 238".
2 اللسان "11/ 686"، تاج العروس "8/ 168"، "هبل".
3 البلدان "8/ 416".
4 المحبر "ص315".
5 أخبار مكة "1/ 66 وما بعدها".(11/252)
إله الكعبة، وهو الله عند الجاهليين1. وكان من شدة تعظيم قريش له أنهم وضعوه في جوف الكعبة. وأنه كان الصنم الأكبر في البيت.
ويرى بعض الباحثين أن صورة الحية أو تمثالها يشيران إلى هبل، أو إلى هبل وود. وقد عثر على صورة لحية في "رم" يظهر أنها رمز إلى "هبل" أو ود2.
وذكر "ياقوت الحموي" أن هبل "صنم" لنبي كنانة: بكر ومالك وملكان، وكانت كنانة تعبد ما تعبد قريش، وهو اللات والعزى. وكانت العرب تعظم هذا المجمع عليه. فتجتمع عليه كل عام مرة3. وقال غيره: "وكان هبل لبني بكر ومالك وملكان وسائر بني كنانة، وكانت قريش تعبد صاحب بني كنانة، وبنو كنانة يعبدون صاحب قريش"4.
وقد ورد اسم هبل في الكتابات النبطية التي عثر عليها في الحجر، ورد مع اسم الصنمين: دوشرا "ذي الشرى" و"ومنوتو" "مناة"5. وقد تسمى به أشخاص وبطون من قبيلة كلب، مما يدل على أن هذه القبيلة كانت تتعبد له، وأنه كان من معبودات العرب الشماليين6. وباسم هذا الصنم سمي "هبل بن عبد الله بن كنانة الكلبي جد زهير بن جناب"7.
ولما أراد النبي الانصراف عن أحد، علا صوت أبي سفيان: أعل هبل، أعل هبل. فقال النبي لعمر: أجبه. قال: ما أقول له؟ قال: الله أعلى وأجل. فقال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي لعمر قل: الله مولانا ولا مولى لكم8.
__________
1 Reste, s. 73, 221, Grohmann, s. 87.
2 Grohmann, s. 87, Jaussen – savignac Mission, I 169.
3 البلدان "7/ 442 وما بعدها".
4 المحبر "318".
5 Ency, II, 327, CIS, I, NR: 189, Jaussen et Savignac, Mission, I, p. 169, Reste, S. 75, 221, L. Krehl, Uber die Religion der Vorislamischen Araber, S. 90, Olsiander, in ZDMG, VII, S. 493.
6 Ency, Religi, I, P. 664.
7 كتاب المعمرين "ص29" "هبل".
8 الأصنام "ص28"، اللسان "11/ 686"، "14/ 212"، تاج العروس "8/ 162"، الاشتقاق "3/ 316".(11/253)
أصنام قوم نوح:
وزعم ابن الكلبي أن خمسة أصنام من أصنام العرب، من زمن نوح، وهي: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر1. وقد ذكرت في القرآن الكريم: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً، وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} 2. ويظهر أن ورود اسمها على هذا النحو في القرآن، هو الذي حمله على رجع هذه الأصنام إلى أيام نوح.
وزعم "ابن الكلبي" أن الأصنام المذكورة كانت في الأصل قومًا صالحين، ماتوا، في شهر، وذلك في أيام "قابيل"، فجزع عليهم بنو قابيل، وذوو أقاربهم، وقام رجل من قومهم، فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم ونصبها لهم، فصار الناس يعظمونها ويسعون حولها، ثم جاء من بعدهم من عبدها وعظم أمرها، ولم يزل أمرها يشتد، حتى أدرك "نوح" فدعاهم على الله وإلى نبذ هذه الأصنام، فكذبوه، فكان الطوفان، فأهبط ماء الطوفان هذه الأصنام من جبل "نوذ" إلى الأرض، وجعل الماء يشتد جريه وعبابه من أرض إلى أرض حتى قدفها إلى أرض جدة، ثم نضب الماء وبقيت على الشط، فسفت الريح عليها حتى وارتها. وبقيت مطمورة هناك أمدًا، حتى جاء "رئي" عمرو بن لحي" وكان يكنى أبا ثمامة، فقال له: عجل بالمسير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة قال عمرو: جير ولا إقامة فقال الرئي: ائت ضف جدة تجد فيها أصنامًا معدة، فأوردها ولا تهاب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجاب. فأتى شط جدة فاستثارها، ثم حملها حتى ورد تهامة. وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة. فأجابه سادات القبائل، ووزع تلك الأصنام عليهم، وأشاعوا عبادتها بين الناس3، ومن ثم عبد العرب هذه الأصنام.
وذكر أيضًا أن الأصنام المذكورة هي أصنام نحتها الشيطان على صورة خمسة بنين من أبناء "أدم"، ماتوا فجزع الناس عليهم؛ لأنهم كانوا عبَّادًا صالحين.
فسول لهم الشيطان أن يصنع لهم تماثيل على هيئتهم وصورهم؛ لتذكرهم بهم فسروا برأيه، وصنعها لهم، فما لبث الناس أن عبدوها، حتى تركوا عبادة الله، وكان "ود" أكبرهم وأبرهم، فصار أول معبود عبد من دون الله4.
__________
1 الأصنام "8" "روزا".
2 سورة نوح، الآية 21 وما بعدها.
3 الأصنام "33 وما بعدها" "روزا".
4 روح المعاني "29/ 77 وما بعدها".(11/254)
ود:
وكان الصنم ود من نصيب "عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحلف بن قضاعة"، أعطاه إياه "عمرو بن لحي" فحمله على وادي القرى، فأقره بدومة الجندل. وسمى ابنه عبد ود، فهو أول من سمي به، وهو أول من سمي عبد ود، ثم سمت العرب به بعد1. وقد تعبد له بنو كلب2.
ومنهم من يهمز فيقول أذ. ومنه سمي "عبد ود" و"أد بن طابخة"، و"أدد" جد معد بن عدنان3.
وجعل عوف ابنه عامرًا الذي يقال له عامر الأجدار سادنًا له، فلم يزل بنوه يسندونه حتى جاء الله بالإسلام.
وقد استنتج "ياقوت الحموي" من هذه الرواية التي يرويها "ابن الكلبي" أن الصنم اللات أقدم عهدًا من ود؟ لأن ودًّا على هذه الرواية قد سلم إلى عوف وعوف هو حفيد زيد اللات الذي سمي بـ"زيد اللات" نسبة إلى الصنم اللات، فود على هذا أحدث عهدًا من اللات4.
وفي رواية لمحمد بن حبيب أن ودًّا كان لبني وبرة، وكانت سدنته من بني القرافصة بن الأحوص من كلب5. ويشك "ولهوزن" Wellhausen في
__________
1 الأصنام "34" "روزا "اللسان "4/ 468" "بولاق" روح المعاني "29/ 77 وما بعدها".
2 اللسان "4/ 468" تفسير أبي السعود "5/ 198"، تفسير الخازن "4/ 314"، تفسير ابن كثير "4/ 426" وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 63"، ابن هشام "1/ 63" "هامش على الروض".
3 اللسان "4/ 455"، "ودد".
4 البلدان "8/ 410" "نهاية مادة ود".
5 المحبر "316"، البلدان "8/ 407" "ود".(11/255)
صحة هذا الرواية، فقد كان الفرافصة بن الأحوص على رأيه نصرانيًّا، وهو الد نائلة زوج الخليفة عثمان. ثم إن "الفرافصة" لم يكن من بني عمرو بن ود، ولا من بني عوف بن عذرة، فلا يعقل أن تكون السدانة إليه وفي نسله1.
وود على وصف "ابن الكلبي" له في كتابه الأصنام "تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال قد ذبر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء، ووفضة فيها نبل"2. وقد أخذ ابن الكلبي وصفه هذا لود من أبيه عن مالك بن حارثة الأجداري.
ومالك بن حارثة الأجداري، هو من بني عامر الأجدار، وهو سدنة ود. وزعم ابن الكلبي أن أباه محمد بن السائب الكلبي حدثه عن مالك بن حارثة أنه قال له: إنه رأى ودًّا، وأن أباه كان يبعثه، وهو صغير. باللبن إليه، فيقول: اسقه إلهك، فيشربه مالك، فيعود وقد شرب اللبن. أما أبوه فيظن أنه قد أعطى ودًّا إياه3.
وذكر "جارية بن أصرم الأجداري"، من بني عامر بن عوف، المعروف بعامر الأجدار، أنه رأى ودًّا بدومة الجندل في صورة رجل4. وورد أن من عبدة "ود" بعض تميم، وطيء، والخزرج، وهذيل، ولخم5.
ويظهر أنه "أدد" عند ثمود. وأدد من الأسماء المعروفة. وقبيلة "مرة"، نسبة إلى "مرة بن أدد" وقد عرف بـ"كهلن"، أي "الكاهل"، "هكهل" "ها - كهل". ويظن أن الإله "قوس" "قيسو" "قوسو"، هو "ود" أي اسم نعت له. وذهب بعض الباحثين على أن "نسرًا" و"ذا غابة "ذ غبت" يرمزان إليه6.
__________
1 Reste s. 17, Ency, Religi, I, p. 662.
2 الأصنام "56"، "35" "روزا" سبائك الذهب "104" البلدان "8/ 904" "ود".
3 الأصنام "55".
4 الإصابة "1/ 219"، "رقم 1044".
5 Reste, 14-18. Ryckmans 16, Grohmann, s. 87.
6 Jaussen – savignac Mission II, 395, 581, Grohmann, s. 87.(11/256)
وقد بقي ود قائمًا في موضعه إلى أن بعث رسول الله خالدَ بن الوليد من غزوة تبوك لهدمه. فلما أراد خالد هدمه، اعترضه بنو عبد ود وبنو عامر الأجدار، وأرادوا الحيلولة بينه وبين هدمه، فقاتلهم وأوجعهم، وقتل منهم، فهدمه وكسره. وذكر ابن الكلبي أنه كان فيمن قتل رجل من بني عبد ود يقال له قطن بن شريح، ورجل آخر هو حسان بن مصاد ابن عم الأكيدر صاحب دومة الجندل1.
ويرى بعض المستشرقين استنادًا إلى معنى كلمة "ود" بأن هذا الصنم يرمز إلى الود، أي الحب، وأنه صنم للإلهين "جيل" Gil , و"بحد" Pahad عند الساميين. ويستندون في رأيهم هذا إلى بيت للنابغة مطلعه: "حياك ود"2، غير أن من العسير علينا تكوين رأي صحيح عن هذا الصنم. ولا أستبعد أن تكون كلمة "ود" صفة من صفات الله لا اسم علم له.
وهناك من يرى وجود صلة بين "ود" و"إيروس" Eros الصنم اليوناني، ويرى أنه صنم يوناني في الأصل استورد من هناك، وعبدته العرب. وهو رأي يعارضه "نولدكه"؛ لانتفاء التشابه في الهيئة بين الصنمين3.
و"ود" هو الإله الأكبر لأهل معين. وسوف أتحدث عنه فيما بعد.
__________
1 الأصنام "55".
2 Reste, s. 17, ency, Religi, VIII, p. 180.
3 Ency, Religi, , I, P. 662.(11/257)
سواع:
أما سواع فكان موضعه برهاط، من أرض ينبع. وذكر أنه كان صنمًا على صورة امرأة، وهو صنم هذيل وينسب ابن الكلبي انتشار عبادته -كعادته- إلى عمرو بن لحي، فذكر أن مضر بن نزار أجابت عمرو بن لحي، فدفع إلى رجل من هذيل "يقال له الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر" سواعًا، فكان بأرض يقال لها رهاط من بطن نخلة، يعبده من يليه من مضر1. وذكر "ابن حبيب" أنه كان بـ"نعمان"، وأن
__________
1 الأصنام "57"، البكري "2/ 697" "رهاط"، اللسان "10/ 34" "بولاق".(11/257)
عبدته: بنو كنانة، وهذيل، ومزينة، وعمرو بن قيس بن عيلان. وكان سدنته بنو صاهلة من هذيل. وفي رواية أن عبدة سواع هم آل ذي الكلاع1. وذكر "اليعقوبي" أنه كان لكنانة2.
وفي رواية أخرى يرجع سندها إلى "ابن الكلبي" كذلك، تزعم أن سوعًا صنم كان برهاط من أرض ينبع، وينبع عرض من أعراض المدينة. وكانت سدنته بنو لحيان. ثم تقول إنه لم يسمع بورود اسم هذا الصنم في شعر هذيل، إنما بورود اسمه في شعر رجل من اليمن3.
وورد في رواية أخرى أن "سواعًا" صنم من أصنام همدان4.
ويرى "نولدكه" أن سواعًا لم يكن من الأصنام الكبرى عند ظهور الإسلام، وهو في نظره من الأصنام التي لم ترد أسماؤها في الأعلام المركبة، ويدل عدم ورود اسمه في هذه الأعلام على خمول عبادته بين الجاهليين5.
وفي السنة الثامنة من الهجرة هدم سوع، وكان الذي هدمه عمرو بن العاص، فلما انتهى إلى الصنم، قال له السادن: ما تريد: قال: هدم سواع، قال: لا تطيق تهدمه، قال له عمرو بن العاص: أنت على الباطل بعد. فهدمه عمرو، ولم يجد في خزانته شيئًا، ثم قال للسادن: كيف رأيت، قال: أسلمت والله6.
و"سواع" من الأصنام التي ورد اسمها في القرآن الكريم: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا} 7. وقد ذكر بعض العلماء، أنه صنم عبد في زمن نوح، فدفنه الطوفان فأشار "إبليس".
__________
1 المحبر "316"، البكري "2/ 679".
2 اليعقوبي "1/ 225".
3 الأصنام "6" "روزا" البلدان "3/ 341"، "رهاط" تاج العروس "5/ 290". اللسان "10/ 24"، القاموس "3/ 42" "سوع".
4 الأصنام "57" الطبرسي، مجمع البيان "5/ 364" الكشاف "4/ 143"، تفسير البيضاوي "1/ 239"، روح المعاني "29/ 77 وما بعدها" تفسير ابن كثير "4/ 426 وما بعدها" تفسير أبي السعود "5/ 198".
5.Ency. Religi, I, P. 663
6 الطبري "3/ 66" "دار المعارف" "حوادث السنة الثامنة"، إمتاع الأسماع "1/ 398".
7 نوح، 71، "الآية 22 وما بعدها" تفسير الطبري "29/ 62"، روح المعاني "29/ 77".(11/258)
على الجاهليين بالتعبد له، فعبدته همدان، ثم صار لهذيل، وكان برهاط وحج إليه. وقال "ابن الكلبي" أنه لم يسمع بذكره في أشعار هذيل. وقد قال رجل من العرب:
تراهم حول قيلهم عكوفًا ... كم عكفت هذيل على سواع
يظل جنابه برهاط صرعى ... عتائر من ذخائر كل راع1
وذكر بعض أهل الأخبار أن سواعًا وبقية الأصنام التي ذكرت معه سورة نوح، "كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم. فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم"2.
ورهاط من بلاد بني هذيل، ويقال وادي رهاط ببلاد هذيل، ذكر أنه على ثلاثة أميال أو ثلاث ليال من مكة3.
ونسب بعض أهل الأخبار هدم الصنم "سواع" إلى "غاوي بن ظالم السلمي" "غاوي بن عبد العزى" ذكروا أن هذا الصنم كان "لبني سليم بن منصور"، فبينما هو عند الصنم، إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى تسنماه، فبالا عليه فقال:
أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب
ثم قال: يا معشر سليم؟ لا والله هذا الصنم لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع! فكسره ولحق بالنبي عام الفتح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ما اسمك؟ فقال: غاوي بن عبد العزى. فقال: بل أنت راشد بن عبد ربه. وعقد له على قومه. وقيل إن هذه الحادثة إنما وقعت لعباس بن مرادس السلمى، وقيل لأبي ذر الغفاري4.
__________
1 تاج العروس "5/ 390"، "ساع".
2 تفسير الطبري "29/ 62".
3 تاج العروس "5/ 145"، "رهط" نوادر المخطوطات، أسماء جبال تهامة وسكانها "409".
4 اللسان "1/ 237"، "ثعلب"، "صادر"، "كان الصنم الذي يقال له سواع بالمعلاة، فذكر قصة إسلامه وكسره إياه"، الإصابة "1/ 482 وما بعدها". "رقم 2517".(11/259)
يغوث:
وأما يغوث، فكان أيضًا على رواية ابن الكلبي، في جملة الأصنام التي فرقها عمرو بن لحي على من استجاب إلى دعوته من القبائل، دفعه إلى أنعم بن عمرو المرادي، فوضعه بأكمة مذحج باليمن، فعبدته مذحج ومن والاها وأهل جرش1. وقد بقي في أنعم إلى أن قاتلتهم عليه بنو غطيف من مراد، فهربوا به إلى نجران، فأقروه عند بني النار من الضباب، من بني الحارث بن كعب واجتمعوا عليه جميعًا2. وفي رواية أن عبدة يغوث هم بئر غطيف من مراد3.
وفي رواية أن يغوث بقي في أنعم وأعلى من مراد. إلى أن اجتمع أشراف مراد وتشاوروا بينهم في أمر الصنم، فقر رأيهم أن يكون فيهم، لما فيهم من العدد والشرف. فبلغ ذلك من أمرهم إلى أعلى وأنعم، فحملوا يغوث وهربوا به حتى وضعوه في بني الحارث بن كعب، في وقت كان النزاع فيه قائمًا بين مراد وبني الحارث بن كعب. فلما أبت بنو الحارث تسليم الصنم إلى مراد، وتسوية أمر الديات، أرسلت عليها مراد جيشًا فاستنجدت بنو الحارث بهمدان، فنشبت بينهما معركة عرفت بيوم الرزم، انهزمت فيها مراد ومنيت بخسارة كبيرة قبيحة، وبقي الصنم في بني الحارث. وقد وافق يوم الرزم يوم بدر4.
وذكر "الطبرسي" أن بطنين من طيء أخذا يغوث، فذهبا به إلى مراد،
__________
1 الأصنام "10/ 57"، اللسان "2/ 480" "غوث" تاج العروس "1/ 337" "غوث" قال الشاعر:
وسار بنا يغوث إلى مرد ... فناجزناهم قبل الصباح
البلدان "8/ 511" "يغوث" الروض الأنف "1/ 63" سبائك الذهب "104"، بلوغ الأرب "2/ 201" القاموس "1/ 171"، روح المعاني "29/ 77 وما بعدها"، تفسير البيضاوي "1/ 239".
2 المحبر "317".
3 الطبرسي "5/ 364"، الكشاف "4/ 143"، تفسير أبي السعود "5/ 198"، تفسير الخازن "314"، تفسير ابن كثير "4/ 426".
4 البلدان "8/ 511"، يغوث".
Reste, s. 20, Ency. Religi, I, p. 663, A. Fischer, In ZDMG, 58, 869, Noldeke, in ZDMG, 40, 161, 168, Das Gotzenbuch, s. 28.(11/260)
فعبدوه زمانًا، ثم إن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم، ففروا به إلى بني الحارث بن كعب1.
ويظهر من غربلة هذه الروايات أن الصنم يغوث كان في جرش أو على مرتفع قريب من هذه المدينة. أما سدنته، فكانوا من بني أنعم بن أعلى من طيء، وكانوا في جرش. وفي حوالى سنة 623، أي السنة التي وقعت فيها معركة بدر، حدث نزاع على الصنم: أراد بنو مراد أن يكون الصنم فيهم وسدنته لهم، وأراد بنو أنعم الاحتفاظ بحقهم فيه. فهرب بنو أنعم بصنمهم إلى بني الحارث، واحتفظوا به بعد أن وقعت الهزيمة في مراد2.
وفي الحرب التي وقعت بين "بني أنعم" و"غطيف" حمل عبدة "يعوث" صنمهم معهم وحاربوا، مستمدين منه العون والمدد. وفي ذلك يقول الشعر:
وسار بنا يغوث إلى مراد ... فناجوناهم قبل الصباح3
ويظهر أن "بني أنعم"، وسائر عبدة هذا الصنم، كانوا يحملون صنمهم معهم في غالب الأحوال عند قتالهم القبائل الأخرى4.
ولا يستبعد أن تكون لاسم هذا الصنم علاقة بفكرة المتعبدين له عنه، بمعنى أن المتعبدين له كانوا يرون أنه يغيثهم ويساعدهم. وقد ظن بعض الباحثين أنه يمثل الإله الأسد. وأنه كان "طوطم" قبيلة مذحج، يدافع عنها ويذب عن القبيلة التي تستغيث به، على نحو ما فعله الإسرائيليون من استغاثتهم بـ"حية النحاس" المسماة "نحشتان" Nehushtan 5، التي كانت "طوطمًا" في الأصل على رأي "سمث"6.
ونجد بين أسماء الجاهليين عددًا من الرجال سموا بـ"عبد يغوث"، منهم
__________
1 الطبرسي "5/ 364".
2 Reste, s. 21, A Fischer Der Gotze Jaguth, In ZDMG, BD, 58, s. 869, Leipzig, 1904.
3 البلدان "8/ 511".
4 Reste, s 20, Das Botzenbuch, s, 83.
5 الملوك الثاني، الإصحاح الثامن عشر الآية 4.
6 Das Gotzenbuch, S. 82, Smith, The Religion of the Seltes, London 1927, p. 227, Journal of Philo, IX, 99.(11/261)
من كان في مذحج، ومنهم من كان في قريش، ومنهم من كان في هوازن. وقد كان قائد بني الحارث بن كعب على تميم في معركة "الكلاب" عبد يغوث، كما كان لدريد بن الصمة أخ اسمه "عبد يغوث". ومن مذحج: "عبد يغوث" ابن وقاص بن صلاءة الحارثي، الذي قتلته "التيم" يوم الكلاب الثاني1. ومن بني زهرة: عبد يغوث بن وهب، وعبيد يغوث، وأمهما صفية بنت هشام بن عبد مناف2. ويدل ذلك على أن عبادته كانت معروفة بين مذحج وأهل جرش وقربش وهوازن، وقبائل أخرى مثل تغلب3.
ولم يرد اسم هذا الصنم في الكتابات4. وقد ذهب "روبرتسن سمث" إلى أنه "يعوش" ye.htm'ush المذكور في سفر التكوين، وهو أحد أجداد أدوم5. ويمثله الأسد في نظر "روبرتسن سمث"6.
__________
1 المحبر "251"، "عبد يغوث بن الحارث بن وقاص، قتل يوم الكلاب وكان على مذحج يومئذ"، الاشتقاق "239".
2 الاشتقاق "95".
3 Ency, Religi, I, P. 663.
4 Ency, Religi, I, P. 663.
5 التكوين الإصحاح 36، الآية 5، 14، 18، وأخبار اليوم الأول، الإصحاح الأول، الآية 25.
6 Robertson, p. 226.(11/262)
يعوق:
ويعوق أيضًا في جملة هذه الأصنام التي فرقها عمرو بن لحي على القبائل. لقد سلمه عمرو إلى مالك بن مرثد بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيوان بن نوف بن همدان فوضعه في موضع خيوان، حيث عبدته همدان وخولان ومن والاها من قبائل، وكان في أرحب1.
وذكر "ياقوت الحموي" أن ابن الكلبي قال: "واتخذت خيوان يعوق، وكان بقرية لهم يقال لها خيوان من صنعاء على ليلتين مما يلي مكة، ولم أسمع لها
__________
1 الأصنام "57" القاموس "3/ 270"، الطبرسي "5/ 364"، سبائك الذهب "104" الإكليل "10/ 56"، الكشاف "4/ 134"، الاشتقاق "253"، البلدان "5/ 438"، روح المعاني "29/ 27 وما بعدها" تفسير ابن كثير "4/ 426 وما بعدها" تفسير الخازن "4/ 314" تفسير أبي السعود "5/ 198".(11/262)
ولا لغيرها شعرًا فيه. وأظن ذلك لأنهم قربوا من صنعاء واختلطوا بحمير، فدانوا معهم باليهودية أيام تهود ذي نواس، فتهودوا معه"1. ونسب "الطبرسي" عبادة يعوق إلى كهلان، وذكر أنهم توارثوه كابرًا عن كابر، حتى صار إلى همدان2. وذكر في رواية أخرى أن يعوق اسم صنم كان لكنانة3.
وذكر بعض أهل الأخبار: "يعوق" صنم كان لكنانة، "وقيل كان لقوم نوح عليه السلام، كما في الصحاح. أو كان رجلًا من صالحي أهل زمانه. فلما مات جزعوا عليه فأتاهم الشيطان في صورة إنسان. فقال: أمثله لكم في محرابكم حتى تروه كلما صليتم، ففعلوا ذلك به وبسبعة من بعده من صالحيهم، ثم تمادى بهم الأمر إلى أن اتخذوا تلك الأمثلة أصنامًا يعبدونها"4.
وتشير ملاحظة "ابن الكلبي" من أنه لم يسمع بأن همدان أو غير همدان سمت "عبد يعوق"5 إلى أن يعوق لم يكن من الأصنام المهمة بين العرب عند ظهور الإسلام، وأن عبادته كانت قد تضاءلت، وانحصرت في قبائل معينة.
وهناك بيت ينسب إلى مالك بن نبط الهمداني الملقب بذي المعشار، وهو من بني خارف أو من يام بن أصي، هذا نصه:
يريش الله في الدنيا ويبري ... ولا يبري يعوق ولا يريش6
__________
1 البلدان "8/ 510" "يعوق"، Reste, s. 22, Ency, Religi, I, P, 663.
2 الطبرسي "5/ 365".
3 اللسان "10/ 281" "صادر" تاج العروس "7/ 29"، اللسان "12/ 154"، "بولاق".
4 تاج العروس "7/ 29"، "عوق".
5 الأصنام "7"، "روزا"، البلدان "4/ 102".
6 الروض الأنف "1/ 63"، ابن هشام "1/ 63"، "هامش الروض".(11/263)
نسر:
وأما نسر فكان من نصيب حمير، أعطاه عمرو بن لحي قيل ذي رعين المسمى "معديكرب" فوضعه في موضع بلخع من أرض سبأ، فتعبدت له حمير إلى أيام(11/263)
ذي نواس، فتهودت معه، وتركت هذا الصنم1. وكان عباد نسر آل ذي الكلاح من حمير على رواية من الروايات2. وذكر "محمد بن حبيب"، أن حمير تنسكت لنسر، وعظمته ودانت له، وكان في غمدان قصر ملك اليمن3. وذكر اليعقوبي أنه كان لحمير وهمدان منصوبًا بصنعاء4.
ونسر هو "نشر" Nasher في العبرانية5. وهو صنم من أصنام اللحيانيين كذلك، ويجب أن يكون من أصنام العرب الشماليين لورود اسمه في الموارد العبرانية والسريانية على أنه اسم إله عربي6.
وأشير في التلمود إلى صنم ذكر أن العرب كانوا يعبدونه اسمه "نشرا" Neshra و"نشرا" هو "نسر" وقد ورد اسم الصنم "نسر" عند السبئيين كذلك، وكان من الآلهة المعبودة عند كثير من الساميين وقد عبد خاصة في جزيرة العرب7.
ولم يشر ابن الكلبي إلى صورة الصنم نسر، ولكننا نستطيع أن نقول استنادًا إلى هذه التسمية أنه كان على هيئة الطائر المسمى باسمه، وقد وجدت أصنام على صورة نسر منحوتة على الصخور خاصة في أعالي الحجاز8. ويؤيد هذا الرأي رواية ذكرها الطبرسي في أشكال الأصنام، أسندها إلى الواقدي، قال فيها: "كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير"9.
__________
1 الأصنام "57 وما بعدها"، البلدان "8/ 286" "نسر" ابن هشام "1/ 63"، "هامش الروض"، سبائك الذهب "104"، الكشاف "4/ 143" بلوغ الأرب "2/ 201"، القاموس "2/ 141".
2 الطبرسي "5/ 364" تاج العروس "3/ 563"، اللسان "7/ 60 وما بعدها" "نسر".
3 المحبر "317".
4 اليعقوبي "1/ 225".
5.Hastings, p. 200
6 Handbuch, I, s. 44.
7.Ency. Religi,, I, p. 663.
8 XXIX, S. 600. Robettson, p. 226, Noldeke, In ZDMG, 1886, 186.
9 الطبرسي "5/ 364".(11/264)
عميأنس:
وعميأنس "عم أنس"، هو صنم خولان، وموضعه في أرض خولان. وكان يقدم له في كل عام نصيبه المقرر من الأنعام والحروث1. وذكر ابن الكلبي أن الذين تعبدوا له من خولان هم بطن منهم يقال لهم" الأدوم" وهم الأسوم وفيهم نزلت الآية: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 2. وكانوا "يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسمًا بينه وبين الله بزعمهم. فما دخل في حق الله من حق عميأنس، ردوه عليه، وما دخل في حق الصنم من حق الله الذي سموه له، تركوه له"3.
وقد ورد ذكر هذا الصنم في خبر "وفد خولان" الذي قدم على رسول الله في شعبان سنة عشر؛ إذ ذكر أن رسول الله قال لهم: "ما فعل عم أنس"، فقالوا: بشر وعر، أبدلنا الله به، ولو قد رجعنا إليه هدمناه4. "وقد بقيت منا بعد بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به"5.
وقد كانوا يقدمون له القرابين حتى في أيام الضيق وأوقات المحنة؛ تقربًا إليه. لقد قالوا للرسول حين سألهم: "ما أعظم ما رأيتم من فتنته" "لقد رأيتنا وأسنتنا حتى أكلنا الرمة، فجمعنا ما قدرنا عليه، وابتعنا مائة ثور، ونحرناها لعم أنس قربانًا في غداة واحدة، وتركناها تردها السباع، ونحن أحوج إليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا، لقد رأينا العشب يواري الرجال، ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس"6 وذكروا له أنهم يقتسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم. وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءًا له7.
__________
1 سبائك الذهب "101"، خزانة الأدب "3/ 245"، سيرة محمد "1/ 53"، "طبعة فرانكفورت"، ابن خلدون "2/ 169"، الأغاني "30/ 124".
2 الأنعام، الآية 137.
3 الأصنام "44".
4 نهاية الأرب "18/ 82"، ابن سعد "1/ 324" "صادر".
5 عيون الأثر "2/ 253".
6 عيون الأثر "2/ 253 وما بعدها".
7 المصدر نفسه.(11/265)
إساف ونائلة:
وللأخباريين قصص في إساف ونائلة، وهما في زعم بعضهم إنسانان عملا عملًا قبيحًا في الكعبة، فمسخا حجرين، ووضعا عند الكعبة ليتعظ الناس بهما. فلما طال مكثهما، وعبدت الأصنام، عبدا معها. وكان أحدهما بلصق الكعبة، والآخر في موضع زمزم. فنقلت قريش الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر، فكانوا ينحرون ويذبحون عندهما1. وفي رواية أن إسافًا كان حيال الحجر الأسود. وأما نائلة، فكان حيال الركن اليماني2. وفي أخرى أنهما "أخرجا إلى الصفا والمروة فنصبا عليهما ليكونا عبرة وموعظة، فلما كان عمرو بن لحي، نقلهما إلى الكعبة ونصبهما على زمزم: فطاف الناس بالكعبة وبهما حتى عبدا من دون الله"3.
وذكر "اليعقوبي"، أن "عمرو بن لحي" وضع "هبل" عند الكعبة، فكان أول صنم وضع بمكة ثم وضعوا به إساف ونائلة كل واحد منهما على ركن من أركان البيت. فكان الطائف إذا طاف بدأ بإساف فقبله وختم به. ونصبوا على الصفا صنمًا يقال له مجاور الريح وعلى المروة صنمًا. يقال له مطعم الطير4. فاليعقوبي ممن يرون إن إسافا ونائلة كانا عند الكعبة، لا على الصفا والمروة.
وتذكر رواية أخرى أن إساف صنم وضعه عمرو بن لحي الخزاعي على الصفا، ونائلة على المروة وكانا لقريش وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة أو هما رجلان من جرهم، إساف بن عمرو ونائلة بنت سهل فجرا في الكعبة، وقيل أحدثا فيها، فمسخا حجرين، فعبدتهما قريش5. وورد أن موضع إساف ونائلة عند الحطيم6. وورد أن إسافًا رجل من جرهم، يقال له إساف بن يعلى، ونائلة
__________
1 الأصنام "18" "روزا" الروض الأنف "1/ 64"، سبائك الذهب "104"، ابن هشام "1/ 86" الطبري "2/ 284"، المحبر "311، 318"، اليعقوبي "1/ 224"، الطبري "2/ 241"، "المعارف".
2 الطبرسي "5/ 364" روح المعاني "2/ 41".
3 الروض الأنف "1/ 56"، ابن هشام، تاج العروس "6/ 40"، اللسان "9/ 6" "أسف" البلدان "1/ 170".
4 اليعقوبي "1/ 224".
5 تاج العروس "6/ 40 وما بعدها" اللسان "10/ 348"، الروض الأنف "1/ 64"، بلوغ الارب "2/ 205"، ابن هشام "1/ 64"، اللسان "9/ 6"، "أسف"، "صادر".
6 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 70".(11/266)
امرأة من جرهم يقال لها نائلة بنت زيد، وكان إساف يتعشقها في أرض اليمن، فأقبلا حجاجًا، فدخلا الكعبة، فوجدا غفلة من الناس وخلوة في البيت، ففجر بها في الكعبة، فمسخا حجرين، فأصبحوا فوجدوهما ممسوخين، فوضعوهما موضعهما فعبدتهما خزاعة وقريش، ومن حج البيت بعد من العرب1.
وذكر "محمد بن حبيب" أن إسافًا كان على الصفا. وأما نائلة، فكان على المروة. "وهما صنمان وكانا من جرهم. ففجر إساف بنائلة في الكعبة، فمسخا حجرين، فوضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما، ثم عبدا بعد"2. وكان نسك قريش لإساف: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك"3.
وورد اسم إساف في بيت شعر ينسب إلى بشر بن أبي خازم الأسدي، هو:
عليه الطير ما يدنون منه ... مقامات العوارك من إساف4
وورد أن نائلة حين كسرها الرسول عام الفتح، خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها وتنادي بالويل والثبور5.
ويظهر أن مرد هذا القصص الذي يقصه علينا أهل الأخبار عن الصنمين، إنما هو إلى شكل الصنمين. كان "إساف" تمثال رجل على ما يظهر من روايات الأخباريين، وكان "نائلة" تمثال امرأة. يظهر أنهما استوردا من بلاد الشأم، فنصبا في مكة. فتولد من كونهما صنمين لرجل وامرأة، هذا القصص المذكور ولعله من صنع القبائل الكارهة لقريش، التي لم تكن ترى حرمة للصنمين.
وكانت قريش خاصة تعظم ذينك الصنمين وتتقرب إليهما، وتذبح عندهما وتسعى بينهما. أما القبائل الأخرى، فلم تكن تقدسهما، لهذا لم تكن تتقرب إليهما، ومن هنا لم يكن الطواف بهما من مناسك حج تلك القبائل.
__________
1 الأصنام "6" "روزا"، "9" القاهرة 1914".
2 المحبر "311".
3 المحبر "311". صبح الأعشى "4/ 462" أخبار مكة، للأزرقي "72"، "طبعة لايبزك"، "نائلة بنت وهب" "إساف بن عمر، ونائلة بنت سهل"، تفسير الطبري "2/ 43"، "1954م".
4 ديوان بشر بن أبي خازم، ملحق الديوان رقم 11،"صفحة 233".
5 الروض الأنف "1/ 65".(11/267)
وكانت قريش تحلف عند هذين الصنمين. ولهما يقول "أبو طالب" وهو يحلف بهما حين تحالفت قريش على بني هاشم:
أحضرت عند البيت رهطي ومعشري ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
وحيث ينخ الأشعرون ركابهم ... بمغضي السيول من إساف ونائل
فكانا على ذلك إلى أن كسرهما الرسول يوم الفتح فيما كسر من الأصنام1.
ويظهر من الشعر المتقدم، أن إسافًا ونائلة كانا في موضعين مكشوفين، وعندهما كان ينيخ الأشعرون. ويؤيد ذلك هذا الشعر المنسوب إلى بشر بن أبي خازم الأسدي:
عليه الطير ما يدنون منه ... مقامات العوارك من إساف2
حيث يظهر أن الطير كانت تقف مكتظة عليه، لا تخاف من أحد، ولا تفزع من قادم؛ لأنها في حرمة صنم.
__________
1 تاج العروس "6/ 40"، "أسف".
2 ابن الكلبي "29 وما بعدها" ديوان بشر بن أبي خازم، ملحق الديوان، رقم 11، "ص233".(11/268)
رضى:
ورضى، ويكتب رضاء في بعض الأحيان، هو صنم آخر. وذكر ابن الكلبي أنه كان لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فهدمه المستوغر، وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم هدمه في الإسلام1. وتعبدت لهذا الصنم قبيلة تميم وقد ورد اسم "عبد رضى" بين أسماء الجاهليين ويظهر أن قبيلة طيء كانت قد تعبدت له كذلك2.
و"رضى" من الأصنام المعروفة عند قوم ثمود. وقد ورد اسمه في كتابات
__________
1 الأصنام "30"، "19"، "روزا"، الروض الأنف "1/ 67"، تاج العروس "10/ 151"، "رضو".
2 الأغاني "7/ 147"، "9/ 16، 47".(11/268)
ثمودية عديدة1. وكانت عبادته منتشرة بين العرب الشماليين. وورد في نصوص تدمر وبين أسماء بني إرم2، كما ورد في كتابات الصفويين. وورد على هذا الشكل: "رضو" و"رضى"3، و"هرضو" "ها – رضو". ويظن أنه يرمز إلى كوكب.
ويظهر من بيت شعر ينسب إلى المستوغر في كسره رضى في الإسلام، هو:
ولقد شددت على رضاء شدة ... فتركتها تلا تنازع أسحما4
إن الصنم "رضى" "رضاء" هو أنثى، بدليل استعمال ضمير التأنيث في لفظة "فتركتها" فهو إلهة. ويرى بعض الباحثين، أنه إلهة أيضًا عند العرب الصفويين.
__________
1 Reste, S. 58, Ency, Religi, I, p. 662, Hubert Grimme, Die Losung des Sinai, s. 43, 44.
2 Vogue, 6, 84, Reste, S. 59.
3 العرب في سوريا قبل الإسلام "135 وما بعدها".
4 الأصنام "19"، "روزا"، "30" "أحمد زكي"، الروض الأنف "1/ 67". "فتركتها قفرًا بقاع أسحما"، سبائك الذهب "104"، ابن هشام "1/ 66". "حاشية على الروض"، تاج العروس "10/ 151" ابن كثير، البداية "1/ 192".(11/269)
مناف:
و"مناف" صنم من أصنام الجاهلية، قال عنه ابن الكلبي: "وكان لهم مناف، فيه كانت تسمي قريش "عبد مناف" ولا أدري أين كان، ولا من نصبه؟ "1. وسُمي به أيضًا رجال من هذيل2. و"به سمي عبد مناف. وكانت أمه أخدمته هذا الصنم"3.
وفيه يقول بلعاء بن قيس:
وقرن وقد تركت الطير منه ... كمعتبر العوارك من مناف4
__________
1 الأصنام "32"، "20"، "روزا"، تاج العروس "6/ 263". "ناف".
2 Reste, S. 57.
3 تاج العروس "6/ 263"، "ناف"، الأصنام "322"، البلدان "8/ 166"، النقائض "141"، بيفان، بلوغ الأرب "2/ 206".
4 تاج العروس "6/ 263"، "ناف".(11/269)
ويتبين من ورود اسم "مناف" بين عرب الشأم أنه كان إلهًا معبودًا عندهم كذلك. وقد عثر على اسمه في كتابة دَوَّنها شخص اسمه: "أبو معن" على حجر توجه بها إلى الإلهة مناف، ليمن عليه بالسعد والبركة، وحفرت على الحجر صورة الإله "مناف" على هيئة "رجل لا لحية له" يتحدر على عارضيه شعر رأسه الصناعي المرموز به على الإلهة الشمس، وحول جفنيه وحدقتيه خطان ناعمان، ويزين جيده قلادة، كما ترى غالبًا في تصاوير الآلهة السوريين، وعلى صدره طيات ردائه، ويرى طرف طيلسانه الإلهي الذي ينعطف من كتفه الأيسر فيتصل إلى الأيمن ويعقد به1. وقد ذهب المتخصصون الذين فحصوا هذه الكتابة إلى أنها من حوران.
وقد عثر على كتابة وجدت في حوران، ورد فيها اسم "مناف" مع إله آخر، ورد اسم مناف فيها على هذا الشكل "MN, PHA". وقد عثر على كتابة أخرى وجد فيها الاسم على هذه الصورة: "منافيوس" Manaphius، مما يدل على أن المراد بالاسمين شيء واحد، هو الإله مناف2.
__________
1 المشرق، السنة الرابعة والعشرون، العدد3، أذار 1923م "ص198 وما بعدها".
2 المشرق، السنة 24، أذار 1933، العدد 3، "ص198 وما بعدها".
Ency Religi, I,P. 662, Ephem Epigr, II, 390. No 22, Mordtmann, In ZDMG, XXIX, 1875, s. 106.(11/270)
ذو الخلصة:
أما ذو الخلصة، فكان صنم خثعم وبجيلة ودوس وأزد السرة ومن قاربهم من بطون العرب من هوزن، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة1، والحارث بن كعب وجرم وزبيد والغوث بن مر بن أد وبنو هلال بن عامر، وكانوا سدنته2. وذكر ابن الكلبي أن سدنته بنو أمامة من باهلة بن أعصر3.
__________
1 الأصنام "35، 47، "22" "روزا"، ابن هشام "1/ 30"، الأزرقي "1/ 256"، الروض الأنف "1/ 66" بلوغ الأرب "2/ 207"، اليعقوبي "1/ 225".
2 المحبر "317".
3 الأصنام "22" "روزا".(11/270)
وصفته أنه "كان مروة بيضاء منقوشة، عليها كهيئة التاج" وكان بتبالة بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة1. وله بيت يحج إليه. وجعل "ابن حبيب" موضع البيت في العبلاء على أربع مراحل من مكة2.
وفي رواية لابن إسحاق أن عمرو بن لحي نصب ذا الخلصة بأسفل مكة، فكانوا يلبسونه القلائد، ويهدون إليه الشعير والحنطة، ويصبون عليه اللبن، ويذبحون له، ويعلقون عليه بيض النعام3.
وهناك رويات جعلت ذا الخلصة "الكعبة اليمانية" لخثعم، ومنهم من سماه كعبة اليمامة. وأظن أن هاتين الروايتين هما رواية واحدة في الأصل، صارت روايتين من تحريف النساخ. ومنهم من جعل ذا الخلصة بيتًا في ديار دوس4. ويستنتج من كل هذه الروايات أن ذا الخلصة بيت كان يدعى كعبة أيضًا، وكان فيه صنم يدعى الخلصة، لدوس وخثعم وبجيلة وغيرهم5.
ويظهر من حديث: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة، والمعنى أنهم يرتدون ويعودون إلى جاهليتهم في عبادة الأوثان، فتسعى نساء بني دوس طائفات حول ذي الخلصة، فترتج أعجازهن"6. ويستنتج من ذلك أن بني دوس وغيرهم كانوا يطوفون حول كعبة ذي الخلصة التي في جوفها صنم الخلصة.
وكان "بيت ذي الخلصة" من البيوت التي يقصدها الناس للاستقسام عندها.
__________
1 الأصنام "22" "روزا" "34" "أحمد زكي"، الأزرقي "1/ 73".
2 المحبر "317" بلوغ الأرب "2/ 207"، صفة جزيرة العرب "127".
3 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 73" "باب ما جاء في الأصنام التي كانت على الصفا والمروة"، تاج العروس "4/ 389" "خلص" البلدان "8/ 434".
4 ابن هشام "1/ 30"، الأغاني "9/ 7" الإكليل "8/ 84"، بلوغ الأرب "2/ 329"، وقد أجمل السيد رشدي الصالح ملحس الروايات الواردة عن ذي الخلصة في نهاية الأول من تأريخ مكة للأزرقي. وهو يرى أن البجلي لم يهدم بنيان بيت ذي الخلصة تهديمًا تامًّا، وأنه بقي إلى أيام الملك عبد العزيز آل سعود، فأزاله، وأحرقت الشجرة التي كانت بجانب البيت وهي شجرة العبلاء. وذهب أيضًا أن ذلك البيت لم يكن بتبالة، إنما كان في تروق وقد عرف البيت بالولية كذلك. الأزرقي "1/ 256 وما بعدها" ابن هشام "1/ 64" "حاشية على الروض الأنف، تاج العروس "2/ 378"، الروض الأنف "1/ 65 وما بعدها".
5 اللسان "7/ 29" "خلص" "صادر".
6 اللسان "7/ 29" "خلص".(11/271)
بالأزلام. وكانت له ثلاثة أقدح: الآمر: والناهي، والمتربص1.
وفي ذي الخلصة قال أحد الرجاز:
لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا ... مثلي وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العداة زورا
وكان سبب قوله إنه قتل أبوه، فأراد الطلب بثأره، فأتى ذا الخلصة فاستقسم عنه بالأزلام، فخرج السهم ينهاه عن ذلك، فقال تلك الأبيات. ومن الناس من ينحلها امرأ القيس2. وذكر "ابن الكلبي" أيضًا أنه لما أقبل امرؤ القيس بن حجر يريد الغارة على بني أسد، مر بذي الخلصة، فاستقسم عنده ثلاث مرات. فخرج الناهي. فكسر القداح وضرب بها وجه الصنم، ثم غزا بني أسد، فظفر بهم3.
وقد هدم البيت في الإسلام، "فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وأسلمت العرب ووفدت عليه وفودها، قدم عليه جرير بن عبد الله مسلمًا. فقال له: يا جرير: ألا تكفيني ذا الخلصة؟ فقال: بلى.... فوجهه إليه فخرج حتى أتى بني أحمس من بجيلة، فسار بهم إليه. فقاتلته خثعم وباهلة دونه. فقتل من سدنته من باهلة يومئذ مائة رجل، وأكثر في خثعم، وقتل مائتين من بني قحافة بن عامر بن خثعم. فظفر بهم وهزمهم، وهدم بنيان ذي الخلصة، وأضرم فيه النار فاحترق4. وورد في رواية أن هدمه كان قبل وفاة الرسول بشهرين أو نحوهما5.
ويذكر "ابن الكلبي" أن موضع بيت ذي الخلصة عند عتبة باب مسجد تبالة6 أما "ابن حبيب" فذكر أنه صار بيت قصار في العبلاء7. وذكر أن موضعه
__________
1 الأصنام "22/ 29" "روزا".
2 الأصنام "35" "22" "روزا" الروض الأنف "1/ 65"، ابن هشام "1/ 65" "هامش على الروض الأنف" بلوغ الأرب "2/ 207".
3 الأصنام "29" "روزا".
4 الأصنام "23" "روزا" الطبري "3/ 158" دار المعارف".
5 الروض الأنف "1/ 66".
6 الأصنام "23" "روزا".
7 المحبر "317".(11/272)
مسجد جامع لبلدة يقال لها العبلات من أرض خثعم1.
ويظهر من رثاء امرأة من خثعم لذي الخلصة حين هدمه جرير بن عبد الله، وأحرق بيته، وهو قولها:
وبنو أمامة بالولية صرعوا ... ثملا يعالج كلهم أنبوبا2
إن "الخلصة" كان صنمًا أنثى، أي إلهة، ولذلك قيل له" الولية"، كما ترى ذلك في البيت المذكور، ونجد في مواضع أخرى من روايات أهل الأخبار ما يؤيد هذا الرأي، فقد استعملوا ضمير التأنيث للتعبير عنها3، كما قالوا فيه "المروة البيضاء" وأما تعبيرهم عنه بضمير التذكير، مثل قولهم "وكان" فإنهم أرادوا بذلك لفظ "صنم" فذكروه".
__________
1 الروض الأنف" 1/ 65".
2 الأصنام "23" "روزا".
3 الأزرقي "1/ 73"، تاج العروس "4/ 389".
4 قال خداش بن زهير العامري:
وبالمروة البيضاء يوم تبالة ... ومحبة النعمان حيث تنصرا
الأصنام "22" "روزا".(11/273)
سعد:
وكان لمالك وملكان، ابني كنانة، بساحل جدة وتلك الناحية صنم يقال له سعد. كان صخرة طويلة1. وذكر "اليعقوبي" أنه كان لبني بكر بن كنانة2. وذهب "ابن إسحاق" إلى أنه في موضع قفر، وقيل إنه قرب اليمامة. وقد أورد الأخباريون عنه هذه القصة: "أقبل رجل منهم بإبل له ليقفها عليه، يتبرك بذلك فيها. فلما أدناهامنه نفرت منه، وكان يهراق عليه الدماء، فذهبت في كل وجه وتفرقت عليه، وأسف فتناول حجرًا فرماه به، وقال: لا بارك الله فيك إلهًا. أنفرت علي إبلي". ثم خرج في طلبها حتى جمعها، وانصرف عنه، وهو يقول:
__________
1 الأصنام "36 وما بعدها" "23" "روزا" ابن هشام "1/ 64" "حاشية على الروض" تاج العروس "2/ 378".
2 اليعقوبي "1/ 225".(11/273)
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد، فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا يدعي لغي ولا رشد1
وذكر "ابن قتيبة" أن سعدًا صنم على ساحل البحر بتهامة، تعبده عك ومن يليها، ويقال كانت تعبده هذيل2.
وقد ورد اسم "سعد" في أسماء الأشخاص المركبة المضافة، مثل "عبد سعد"، وهو مما يدل على أن الناس كانوا يتبركون به بتسمية أبنائهم باسمه3.
وقد ورد اسم هذا الصنم في كتابات النبط، فدعي بـ"سعدو"4. كما ورد في كتابات الصفويين مما يدل على أنه كان بين الأصنام التي تعبد لها أولئك القوم5. ويظن أنه يرمز إلى كوكب.
__________
1 الأصنام "37"، "23" "روزا" ابن هشام "1/ 64" "حاشية على الروض الأنف" الروض الأنف "1/ 64" تاج العروس "2/ 378" اللسان "3/ 202" "سعد" بلوغ الأرب "2/ 208"، اللسان "3/ 218" "صادر".
2 الاشتقاق "25" تاج العروس "3/ 378"، "سعد".
3 الأغاني "11/ 171".Reste, s. 60.
4 O. Eissfeldt, 150, Arabien , s. 85. Handbuch, I,S. 234.
5 Ency. Religi, , I, P. 662.(11/274)
ذو الكفين:
وهناك صنم عرف عند الأخباريين بـ"ذي الكفين" وكان لدوس، ثم لبني منهب بن دوس. فلما أسلموا بعث النبي صلى الله عليه وسلم، الطفيل بن عمرو الدوسي، فحرقه وهو يقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أكبر من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا6
ويظهر من هذا الرجز أنه أحرقه بالنار. ومعنى هذا أنه لم يكن صنمًا من حجر، وإنما كان من خشب، أو أنه أراد بيت الصنم. وذكر أن هذا الصنم كان صنم "عمرو بن حممة الدوسي" أحد حكام العرب2.
__________
1 الأصنام "37"، "22" "روزا" الأزرقي "1/ 78، 269"، تأريخ الخميس "2/ 109" تاج العروس "6/ 235"، "كف"، اليعقوبي "1/ 225"، "أقدم" الروض الأنف "1/ 235".
2 إمتاع الأسماع "1/ 398".(11/274)
ذو الشرى:
وكان لبني الحارث بن يشكر بن مبشر من الأزد، صنم يقال له ذو الشرى1. وورد في رواية للأخباريين أن "ذا الشرى" صنم لدوس كان بالسراة"2. وقد ورد اسم هذا الصنم في الحديث النبوي، وورد بين أسماء الجاهليين اسم "عبد ذي الشرى"3.
ويرى بعض اللغويين أن الشرى ما كان حول الحرم، وهو أشراء الحرم4، فإذا كان هذا التعريف صحيحًا، فإنه يكون في معنى "ذات حمى" عند السبئيين5. وكان له حمى، به ماء يهبط من جبل، حمته دوس له6.
و"ذو الشرى" إله ورد اسمه في كتابات "بطرا" و"بصرى"، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد.
__________
1 الأصنام "38"، "24" "روزا" بلوغ الأرب "2/ 209".
2 تاج العروس "10/ 197".
3 Ency, Religi, I, P. 663, Reste, S. 48.
4 "وأشراء الحرم: نواحيه، والواحد شرى" اللسان "14/ 428" "صادر".
5 Reste, s. 51.
6 نهاية الأرب "18/ 14 وما بعدها".(11/275)
الأقيصر:
أما الأقيصر: فكان صنم قضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان، وكان في مشارف الشأم. وقد ذكر اسمه في شعر لزهير بن أبي سلمى، ولربيع بن ضبع الفزاري، وللشنفرى الأزدي1. وكانوا يحجون إليه ويحلقون رءوسهم عنده، ويلقون مع الشعر قرة من دقيق2. وهي عادة كانت متبعة عند بعض قبائل اليمن كذلك.
__________
1 الأصنام "38 وما بعدها"، "24" "روزا" تاج العروس "3/ 497"، اللسان "6/ 416" الأغاني "21 / 141".
2 البلدان "1/ 341 وما بعدها" "الأقيصر" الأصنام "18".(11/275)
ويذكر "ابن الكلبي" أن هوازن كانت تنتاب حجاج الأقيصر، فإن أدركت الموسم، قبل أن يلقي القرة، أي قبضات من دقيق، قال أحدهم لمن يلقي: "أعطنيه. فإني من هوازن ضارع"، وإن فاته، أخذ ذلك الشعر بما فيه من القمل والدقيق، فخبزه وأكله. وقد عبرت هوازن في ذلك، فقال معاوية بن عبد العزى بن ذراع الجرمي، في "بني جعدة" وكانوا قد اختصموا مع بني جرم في ماء لهم إلى النبي يقال له العقيق، فقضى به رسول الله لجرم، شعرًا منه:
ألم تر جرمًا أبحدت وأبوكم ... مع القمل في جفر الأقيصر شارع؟
إذا قرة جاءت بقول: أصب بها ... سوى القمل؟ إني من هوازن ضارع1
ويظهر من بيت شعر رواه "ابن الأعرابي"، هو:
وأنصاب الأقيصر حين أضحت ... تسيل على مناكبها الدماء
ومن بيت لزهير بن أبي سلمى، هو:
حلفت بأنصاب الأقيصر جاهدًا ... وما سحقت فيه المقاديم والقمل2
إنه كان عند الصنم الأقيصر أنصاب ينحر الناس عليهم ذبائحهم التي يتقربون بها إلى هذا الإله. وكانت أكثر من نصب واحد، وقد تلطخت بالدماء من كثرة ما ذبح عليها.
وأشير إلى "أثواب الأقيصر" في بيت للشنفرى الأزدي3. ويظهر أن عباده كانوا يطوفون حوله، وهم يلبون ويغنون4.
__________
1 الأصنام "30" "روزا".
2 الأصنام "30" "روزا" تاج العروس "3/ 497"، اللسان "6/ 416" الأغاني "21/ 141".
3
وأن امرءا أجار عمرا ورهطه ... علي، وأثواب الأقيصر يعنف
الأصنام "25" "روزا".
4 البلدان "1/ 340.(11/276)
نهم:
وكان لمزينة صنم يقال له: نهم، كسره سادنه خزاعي بن عبد نهم، وهو من مزينة من بني عداء، وأعلن إسلامه1. ويظهر من أبيات لأمية بن الأسكر أن أتباع الصنم كانوا يقدمون الذبائح له، ويقسمون به. وقد سمى منهم جملة رجال عرفوا بـ"عبد نهم" من بني هوازن وبجيلة وخزاعة2. وهذا مما يدل على انتشار عبادة هذا الصنم بين هذه القبائل أيضًا.
__________
1 "وكان سادن نهم يسمى خزاعي بن عبد نهم، من مزينة ثم من بني عداء. فلما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثار إلى الصنم فكسره. وأنشأ يقول:
ذهبت إلى نهم لأذبح عنده ... عتيرة نسك كالتي كنت أفعل
فقلت لنفسي حين راجعت عقلها ... أهذا إله أبكم ليس يعقل؟
أبيت فديني اليوم دين محمد ... إله السماء الماجد المتفضل
الأصنام "39 وما بعدها" "25" "روزا" معجم الشعراء "328"، بلوغ الأرب "2/ 210 ".
2 Reste, s. 58.(11/277)
عائم:
وكان لأزد السراة صنم يقال له عائم. ورد اسمه في شعر لزيد الخير، المعروف أيضًا بزيد الخيل1.
__________
1 الأصنام "4" و"25" "روزا" الأغاني "16/ 57"، بلوغ الأرب "2/ 210".(11/277)
سعير:
ما سعير، فهو صنم عنزة1. وكان الناس يحجون إليه ويطوفون حوله، ويعترون العتائر له، وقد ورد في شعر لجعفر بن خلاس الكلبي، وكان راكبًا ناقة له، فمرت به، وقد عترت عنزة عنده، فنفرت ناقته منه، فأنشأ يقول:
نفرت قلوصي من عتائر صرعت ... حول السعير تزوره ابنا يقدم
وجموع يذكر مهطعين جنابه ... ما إن يحير إليهم بتكلم2
وبين أسماء الرجال أناس عرفوا بـ"سعير"3. والسعير النار واللهب، ولا أستبعد وجود صلة بين هذا المعنى وبين هذا الصنم. بأن يكون هذا الصنم ممثلًا للشمس4.
__________
1 الأصنام "41"، "25" "روزا" بلوغ الأرب "2/ 210".
2 الأصنام "25" "روزا" "41" "أحمد زكي باشا".
3 Reste, s. 61.
4 تاج العروس "3/ 268"، "سعر".(11/277)
الفلس:
وكان لطيء صنم يقال له الفلس، وكان أنفًا أحمر في وسط جبلهم الذي يقال له أجأ، أسود، كأنه تمثال إنسان. وكانوا يعبدونه، ويهدون إليه، ويعترون عنده عتائرهم، ولا يأتيه خائف إلا أمن عنده، ولا يطرد أحد طريدة فيلجأ بها إليه إلا تركت له ولم تخفر حويته أي حوزته وحرمه1. ذكر "ابن حبيب" أنه كان بنجد، وكان قريبًا من فيد وسدنته بنو بولان2.
وبولان جد بني بولان هو الذي بدأ بعبادته على رواية ابن الكلبي. وكان آخر من سدنه منهم رجل يقال له صيفي" فأطرد ناقة خلية لامرأة من كلب من بني عليم، كانت جارة لمالك بن كلثوم الشمجي، وكان شريفًا، فانطلق بها حتى وقفها بفناء الفلس. وخرجت جارة مالك، فأخبرته بذهابه بناقتها، فركب فرسًا عريًا وأخذ رحمه، وخرج في أثره، فأدركه وهو عند الفلس، والناقة موقوفة عند الفلس، فقال له: خل سبيل ناقة جارتي. فقال: إنها لربك. قال: خل سبيلها. قال: أتخفر إلهك؟ فبوأ له الرمح. فحل عقالها، وانصرف بها مالك، وأقبل السادن على الفلس، ونظر إلى مالك ورفع يده وقال، وهو يشير بيده إليه:
يا رب إن مالك بن كلثوم ... أخفرك اليوم بناب علكوم
وكنت قبل اليوم غير مغشوم
__________
1 الأصنام "59 وما بعدها"، "37" "روزا" الروض الأنف "1/ 65" نهاية الأرب "18/ 77"، البلدان "3/ 911"، جمهرة "3/ 38".
2 المحبر "316"، اليعقوبي "1/ 225".(11/278)
يحرضه عليه. وعدي بن حاتم يومئذ قد عثر عنده وجلس هو ونفر معه يتحدثون بما صنع مالك. وفزع لذلك عدي بن حاتم وقال انظروا ما يصيبه في يومه هذا. فمضت له أيام لم يصبه شيء فرفض عدي عبادته وعبادة الأصنام وتنصر فلم يزل متنصرًا حتى جاء الله بالإسلام، فأسلم.
فكان مالك أول من أخفره. فكان بعد ذلك السادن إذا أطرد طريدة، أخذت منه. فلم يزل الفلس يعبد حتى ظهرت دعوة النبي عليه السلام، فبعث إليه علي بن أبي طالب، فهدمه، وأخذ سيفين كان الحارث بن أبي شمر الغساني، ملك غسان قلدة إياهما، يقال لهما مخذم ورسوب، فقدم بهما علي بن أبي طالب على النبي، فتقلد أحدهما، ثم دفعه إلى علي بن أبي طالب، فهو سيفه الذي كان يتقلده"1. وجاء في بعض الروايات ذكر ثلاثة سيوف، هي: مخذم، ورسوب، واليماني2.
وقد عرف "مالك بن كلثوم بن ربيعة" الشمجي المذكور، بـ"مخفر الفلس"؛ لأنه أخفر ذمته، وكان لا تخفر ذمته3.
و"الفلس" هو "هفلس" "ها – فلس"، عند لحيان. وقد تعبدوا له مع أصنام أخرى، وردت أسماؤها في نصوصهم4.
ويلاحظ أن "ابن الكلبي" الذي يروي هذا الخبر، كان نفسه قد روى قبل ذلك أن السيفين مخذمًا ورسوبًا، كان على الصنم مناة، صنم الأوس والخزرج، وأن الذي أهداهما له هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وأن علي بن أبي طالب لما هدم مناة، أخذ السيفين معه، فجاء بهما إلى الرسول. فيظهر من ذكره للخبر مع صنمين أنه وقع في هفوة أو نسي، فجعل من القصة الواحدة قصتين
__________
1 الأصنام "37 وما بعدها" "روزا"، نهاية الأرب "18/ 77"، تاج العروس "4/ 210"، "الفلس".
2 Das Gotzenbuch, s. 140.
3 الاشتقاق "2/ 235".
4 Jaussen – Savignac, Mission, II 484, Grohmann, s. 948.(11/279)
أصنام أخرى:
وكانت لطيء أصنام أخرى، منها اليعبوب، وهو صنم لجديلة طيء، وكان(11/279)
لهم صنم أخذته منه بنو أسد، فتبدلوا اليعبوب بعده. وقد ورد ذكره في شعر لعبيد:
فتبدلوا اليعبوب بعد إلههم ... صنمًا، فقروا، يا جديل، وأعذبوا
أي: لا تأكلوا على ذلك، ولا تشربوا1.
وأما باجر، فكان صنمًا للأزد ومن جاورهم من طيء وقضاعة2.
ولم يذكر ابن الكلبي في كتابه الأصنام اسم الصنم الجلسد. وهو صنم كانت كندة تتعبد له، وكذلك تعبد له أهل حضرموت. وكان سدنته بنو شكامة من السكون، وهم من كندة. وكان للصنم حمى، ترعاه سوامه وغنمه، فإذا دخلته هوافي الغنم، حرمت على أربابها، وصارت ملكًا للصنم3.
وقد وصف بأنه كان كجثة الرجل العظيم، من صخرة بيضاء، لها كالرأس أسود، إذا تأمله الناظر رأى فيه كصورة وجه الإنسان، وكانوا يكلمون منه، وتخرج منه همهمة، ويقربون القرابين إليه، ويلطخون بدمه، ويكترون ثياب السدنة يلبسونها حينما يقربون قربانًا إليه ويريدون مكالمته4. ويلاحظ أن تغيير الملابس وإبدالها للتطهر، له مثيل عند العبرانيين5.
__________
1 الأصنام "39" "روزا"، "63" "أحمد زكي باشا"، المشرق، السنة 1938"م. الجزء الأول "ص5".
2 الأصنام "63" "39" "روزا".
3 البلدان "3/ 122" قال المثقب العبدي، وقيل عدي بن وداع:
فبات يجتاب شقارى كما ... يبقر من يمشي إلى الجلسد
تاج العروس "2/ 324" "جلسد".
4 البلدان "3/ 122" وما بعدها".
5 التكوين، الإصحاح الخامس والثلاثون، الآية2.(11/280)
المحرق:
وكان المحرق "محرق" صنمًا لبكر بن وائل وبقية ربيعة في موضع سلمان. وأما سدنته، فكانوا أولاد الأسود العجلي. وقد نسب إليه بعض الرجال فورد.(11/280)
"عبد محرق"1. ويطن بعض المستشرقين أنه عرف بـ"محرق" لأن عبدته كانوا يقدمون إليه بعض القرابين البشرية محروقة2. وكان بنو بكر بن وائل وسائر ربيعة، قد جعلوا في كل حي من ربيعة له ولدًا. "وكان في عنزة بلج بن المحرق. فكان في عميرة وغفيلة عمرو بن المحرق وكان سدنته آل الأسود العجليون"3.
__________
1 الأصنام "111" تكملة الأصنام "البلدان "7/ 393" "المحرق" تاج العروس "6/ 133" "حرق".
2 Reste, s. 57, Ency, Religi, I,p. 660.
3 المحبر "317".(11/281)
الشمس:
والشمس صنم كان لبني تميم وله بيت. وكانت تعبده بنو أد كلها ضبة وتميم، وعدي، وعكل، وثور. وأما سدنته فكانوا من بني أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم فكسره هند بن أبي هالة وصفوان بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن1. وقد قيل لها: الإلاهة2. وذكر "اليعقوبي" أن قومًا من "عذرة" تعبدوا لصنم يقال له: شمس3.
وقد ذكر بعض أهل الأخبار، أن الشمس صنم قديم. وأول من تسمى به سبأ بن يشجب4. وذكر "اليعقوبي" أنه صنم قوم من عذرة"5.
وقد وردت جملة أسماء منسوبة إلى الشمس، عرف أصحابها بعبد شمس، منهم من قبائل أخرى من غير تميم. ويدل ذلك على أن عبادتها كانت معروفة في مواضع مختلفة من جزيرة العرب. وعرف بعض الأشخاص بـ"عمرو شمس" عند العرب الشماليين6.
__________
1 المحبر "316"، البلدان "6/ 293" "شمس".
2 شمس العلوم "حـ1 ق ص93".
3 اليعقوبي "1/ 225".
4 تاج العروس "4/ 172"، "شمس"
5 اليعقوبي "1/ 225".
6 Ency. Religi, I, 660.(11/281)
وفي جملة أصنام تميم الأخرى، الصنم تيم وبه سمي رجال من تميم ومن غيرهم، مثل "عبد تيم" و"تيم الله"1.
وهناك أسماء أصنام أخرى لم ترد في كتاب الأصنام، إنما وردت في كتب أخرى. وقد ذكرها "ابن الكلبي" نفسه في بعض مؤلفاته. ومن هذه الأصنام: الأسحم، والأشهل، وأوال، والبجة، وبلج، والجبهة، وجريش، وجهار، والدار، وذو الرجل، والشارق، وصدا، وصمودا، والضمار، والضيزن، والعبعب، وعوض، وعوف، وكثرى، والكسعة، والمدان، ومرحب، ومنهب، والهبا، وذات الودع، وياليل2، وذريح3، وباجر، والجد، وحلال، والحمام، وذو اللبا، والسعيدة، وغنم، وفراض، وقزح، وقيس، والمنطبق، ونهيك4.
أما أوال، فإنه إيال، وهو صنم بكر وتغلب5.
وأما جهار، فقد كان من أصنام هوازن وموضعه بعكاظ، وسدنته آل عوف النصريون، ومعهم محارب فيه. وكان في أسفل أفطح6. وكانت تلبية من نسك لجهار: "لبيك، اللهم لبيك، لبيك، اجعل ذنوبنا جبار. وأهدنا لأوضح المنار. ومتعنا وملنا بجهار"7.
وأما الدار، فصنم سمي به عبد الدار بن قصي بن كلاب8.
وأما الدوار، فصنم كانت العرب تنصبه يجعلون موضعًا حوله، يدورون به واسم ذلك الصنم والموضع الدوار، ومنه قول امرئ القيس.
فعن لنا سر كأن نعاجه ... عذارى دوار في ملاء مذيل9
وقد ذكر "ابن الكلبي" أن العرب تسمي الطواف حول الأصنام والأوثان.
__________
1 الأغاني "18/ 168" كتاب المعمرين "31".
2 الأصنام "107 وما بعدها" "تكملة".
3 المجبر "314، 318".
4 Reste, s. 64.
5 الأصنام "107".
6 المحبر "315".
7 المحبر "312"
8 الأصنام "108" تاج العروس "3/ 216" الاشتقاق "56، 97".
9 اللسان "5/ 384".(11/282)
الدوار1. وعرف بعض أهل الأخبار الدوار أنه "نسك للجاهلية يدورون فيه لصنم أو غيره"2.
ويظهر من دراسة ما ورد في كتب أهل الأخبار وفي كتب اللغة عن "الدوار" أن الدوار لم يكن صنمًا، وإنما هو طواف حول صنم من الأصنام، أي عبادة من العبادات لا تختص بصنم معين. وقد كان من عادة الجاهليين الطواف حول الأصنام. فظن بعض أهل الأخبار أن الدوار صنم معين، أو أنه صنم ينصب، فيدور الناس حوله.
وأما ذو الرجل، فهو صنم من أصنام أهل الحجاز3. ويظهر أن هذا الصنم، وكذلك الصنم "ذو الكفين"، هما من الأصنام التي تغلبت صفاتها على أسمائها، فنعتت بهذه النعوت، كأن تكون لرجل أحد الصنمين، ولكفى الصنم الآخر ميزة خاصة وعلامة فارقة مثل كسر أو دقة صنعة، جعلت الناس يدعون الصنمين بالنعتين البارزين. ويرى "نولدكة" احتمال كون هذين الصنمين حجرين في الأصل من الأحجار المقدسة Fetish التي كان يعبدها الناس في القديم، ثم تحولت إلى صنمين بعد أن رسمت عليها بعض التصاوير صيرتهما على شكل إنسانين4.
وسمي بالصنم "الشارق" جملة رجال عرفوا بعبد الشارق5. ولكلمة الشارق علاقة بالشروق. وقد ذهب "ولهوزن" إلى أن المراد به الشمس لشروقها6. و"الشريق" اسم صنم أيضًا7. وعندي أن الشارق وشريقًا نعتان للآلهة، وليسا اسمين لصنمين، وأنهما في معنى "شرقن" الواردة في نصوص المسند، وتعني "الشارق" أي اللفظة المذكورة تمامًا. وقد وردت نعتًا في نصوص عربية جنوبية كثيرة، مثل جملة: "عثتر شرقن"، أي "عثتر الشارق". فالشارق إذن نعت من نعوت الآلهة، أو اسم من أسماء الله الحسنى، بالتعبير.
__________
1 الأصنام "21" "روزا".
2
تركت الطير عاكفة عليه ... كما عكف النساء على دوار
شرح ديوان لبيد "ص44"، المعاني الكبير "1/ 105".
3 الأصنام "109".
4 Ency. Religi,I, 663.
5 الأصنام "109"، تاج العروس "6/ 392"، القاموس "3/ 248".
6 Reste, S. 65.
7 اللسان "11/ 46".(11/283)
الإسلامي، وقد يقابل لفظة "نور" الذي هو نعت من نعوت الله في الإسلام، كما ورد في القرآن الكريم: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1.
وأما صدا وصمودا والهبا، فإنها من أصنام قوم عاد على رواية الأخباريين2.
وأما الضمار، فكان صنمًا عبده العباس بن مرداس السلمي3، وبنو سليم4. ولما حضرت مرداس الوفاة، أوصى به إلى ابنه العباس، وطلب منه العناية به؛ لأنه يضر وينفع. فلما ظهر الإسلام، أحرق العباس ضمارًا، وأتى النبي فأسلم5. والعبعب، هو صنم لقضاعة ومن داناهم. وقد يقال بالغين المعجمة، فيخلط بينه وبين الغبغب6. ورأيي أن الكلمتين أصلهما كلمة واحدة، حرفها النساخ فصارت كلمتين.
وأما "عوض" فهو صنم كان من أصنام بكر بن وائل. وقد ذكر مع الصنم سعير في بيت شعر نسب إلى الأعشى، أو إلى رشيد بن رميض العزى7.
وكان "جد "الجد" صنمًا معروفًا عند عدد من الشعوب السامية، وليس من المستبعد أن يكون لاسم القبيلة الإسرائيلية "جد" "جاد" علاقة باسم هذا الصنم8. وقد ورد في النبطية "جدا". وورد في الأسماء العربية "عبد جد".
__________
1 سورة النور، السورة رقم 24، الآية 35.
2 الأصنام "110"، "وصمود كزبور: اسم صنم كان لعاد يعبدونه. قال يزيد بن سعد، وكان آمن بهود عليه السلام:
عصمت عاد رسولهم فأمسوا ... عطاشا لا تمسهم السماء
لهم صنم يقال له صمود ... يقابله صداء والهباء
وأن إله هود هو إلهي ... على الله التوكل والرجاء
وهو مذكور في كتب السير، تاج العروس "2/ 402".
3 الأصنام "110"، "وضمار: صنم عبده العباس بن مرداس ورهطه"، تاج العروس "3/ 353"، "ضمر"، الروض الأنف "2/ 283".
4 البكري "881" "ضمار".
5 البلدان "5/ 440"، ابن هشام "832"، "ضماد" الأغاني "13/ 62"، "أخبار العباس بن مرداس".
6 الأصنام "110"، تاج العروس "1/ 363"، اللسان "2/ 64"، "عب".
7 الأصنام "110" "وبه فسر ابن الكلبي قول الأعشى:
حلفت بمائرات حول عوض ... وأنصاب تركن لدى السعير
قال: "والسعير: اسم صنم كان لعنزة خاصة، كما في الصحا"، قال الصاغاني: "ليس البيت للأعشى، وإنما هو لرشيد بن رميض العنزي"، تاج العروس "5/ 5". اللسان "9/ 56"، Reste, s. 66
Robertson smith, Marr, p. 43, Kinship, p. 261, Noldeke in ZDMG, XXXI, 86, CIS, IV, P. 20, Ency, Religi, I,P. 661.(11/284)
و"عبد الجد"1.
و"كثرى" من الأصنام المنسوبة إلى طسم وجديس، ظل باقيًا معروفًا إلى أيام الرسول، فكسره نهشل بن عرعرة ولحق بالنبي2. وقد ورد بين أسماء الجاهليين من دُعي بـ"عبد كثرى". ويرى "نولدكه" في عدم ورود أداة التعريف "أل" مع "كثرى" في "عبد كثرى"، دلالة على أن هذا الصنم هو من الأصنام القديمة. ويرى أيضًا أن كلمة "كثرى" هي مجرد لقب من ألقاب "العزى"، نسي فظن أنه اسم صنم مستقل3.
وأما المدان، فصنم يظهر أنه كان من أصنام أهل الحجاز. وقد سمي به جملة رجال عرفوا بـ"عبد المدان"، وكان له بيت4.
وأما "مرحب"، فصنم من أصنام حضرموت، وبه سمي "ذو مرحب" سادن هذا الصنم5. وكانت تلبية من نسك له: "لبيك. لبيك، إننا لديك. لبيك، حببنا إليك"6.
وللأخباريين جملة آراء في معنى ذات الودع، وهي أنثى. وقد ورد اسمها في الشعر، وكانت العرب تقسم بها. قيل إنها وثن بعينه، وقيل هي مكة لأنه كان يعلق الودع في ستورها، وقيل سفينة نوح، كانت العرب تقسم بها، فتقول بذات الودع، قال عدي بن زيد العبادي:
كلا يمينًا بذات الودع لو حدثت ... فيكم وقابل قبر الماجد الزارا7
__________
1.Ency, Religi, I, p. 662
2 الأصنام "110"، "وكثرى كسكري: صنم كان لجديس وطسم، كسره نهشل بن الربيس بن عرعرة ولحق بالنبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، وكتب له كتابًا. قال عمرو بن صخرة بن أشنع:
حلفت بكثرى حلفة غير برة ... لتستلبن أثواب قيس بن عازب
تاج العروس "3/ 513".
3 الاشتقاق "235"، Reste, s. 67. Ency, Religi, I, P. 660.
4 الأصنام "111"، تاج العروس "9/ 342 وما بعدها"، اللسان "17/ 289"، الاشتقاق "2/ 237".
5 الأصنام "111"، تاج العروس "1/ 269"، "رحب"، المحبر "318".
6 المحبر "314".
7 الأصنام "111"، اللسان "10/ 267" "ودع" تاج العروس "5/ 535".(11/285)
وياليل، اسم صنم كذلك، أضيف إليه فقيل "عبد ياليل"، كما قيل "عبد يغوث" و"عبد مناة" و"عبد ود"1.
وأما "ذريح" "ذرح" فكان لكندة بالنجير من اليمن ناحية حضرموت، يظهر أنها كانت تحج إليه، وأن له بيتًا يقصد، بدليل ورود تلبية من نسك إليه، وهي: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، كلنا كنود، وكلنا لنعمة جحود. فاكفنا كل حية رصود" ويظن "ولهوزن" أنه يمثل الشمس. "وذرح" اسم من الأسماء، ويرد في الأعلام العربية الجنوبية المركبة، مثل "ذرح إيل".
وذهب "نولدكه" إلى أن "ذرح" هو مثل الشارق، و"محرق" صنم يمثل الشمس. والظاهر أن عبادة هذا الصنم لم تكن منتشرة خارج حدود العربية الجنوبية2.
وأما باجر، فإنه من أصنام الأزد ومن داناهم من طيء. وقد سمي به رجال عرفوا بـ"عيد باجر"3.
وحلال، هو صنم فزارة. أما الحمام، فإنه صنم بنو هند من بني عذرة. وكان في المشقر صنم لبني عبد القيس يسمى ذا اللبا، سدنته بنو عمرو4. وكانت تلبية من نسك له: "لبيك اللهم لبيك. لبيك رب فاصرفن عنا مضر. وسلمن لنا هذا السفر. إن عما فيهم لمزدجر. واكفنا اللهم أرباب حجر"5.
وكان المنطبق صنمًا، للسلف وعك والأشعريين، وهو من نحاس، يكلمون من جوفه كلامًا لم يسمع بمثله. فلما كسرت الأصنام، وجدوا فيه سيفًا، فاصطفاه الرسول. وسماه "مخدمًا"6. وذكر "ابن حبيب" أن تلبية من نسك لمنطبق: "لبيك اللهم لبيك، لبيك". ويلاحظ أن الأخباريين ذكروا أن السيف "مخدم" "مخذم" كان سيفًا على الصنم مناة أو "الفلس" صنم طيء، كما ذكروا أن السيف "رسوب" كان على الصنم "مناة. أو الفلس كذلك.
وأما الصنم نهيك، فقد كان من الأصنام الموضوعة في مكة. وذكر "الأزرقي أن عمرو بن لحي نصب هذا الصنم عند الصفا، وأنه كان يعرف بـ"مجاود
__________
1 الأصنام "111".
2 Reste, S. 65, Ency. Religi, I, P. 660.
3 Reste, S. 64.
4.Resdte, S. 65
5 المحبر "314".
6 البلدان "8/ 179" "المنطبق" المحبر "318".(11/286)
الريح" "مجاور الريح"، وأنه نصب الصنم: مطعم الطير عند المروة1، فكان الناس في موسم الحج يحجون إلى الصنمين.
ولعل هذين الصنمين كانا من الأصنام التي خصصت بالسماء، وأن الناس كانوا يضعون الحبوب عندها لتأكلها الطيور. ولذلك قيل لنهيك "مجاود الريح"، ولصنم المروة "مطعم الطير".
وغنم، ذكر أنه كان في جملة الأصنام الموضوعة بمكة. وقد ورد اسم رجال، واسم أسر2.
وفراض، صنم كان بأرض سعد العشيرة3. وقد حطمه رجل منهم اسمه "ذباب"، وهو من "بني أنس الله بن سعد العشيرة". حطمه. ثم وفد إلى النبي فأسلم، وقال شعرًا في ذلك، أشار فيه على هدمه ذلك الصنم4. وكانوا يذبحون له ويلطخونه بالدم5.
أما قزح "قزاح"، فالظاهر أنه صنم، كان الناس يتصورون أنه يبعث الرعد والعواصف. وقد نسي على ما يظن. ولا بد أن يكون لقوس قزح علاقة ما بهذا الصنم القديم. وقد يكون لاسم قزح. وهو من مواضع الحرم بمكة، علاقة باسم هذا الوثن العتيق. وقد تعبد بنو أدوم لصنم اسمه "قزح" Koze مما يدل على أنه هو الصنم العربي الذي نتحدث عنه. والظاهر أنه كان من الأصنام القديمة المعروفة، غير أنه فقد منزلته وقلت أهميته، فلم يكن من الأصنام الكبرى عند ظهور الإسلام6. ويخالف "نولدكه" رأي بعض المستشرقين الذين ذهبوا إلى أن المراد بقزح الشيطان، لا صنم من الأصنام.
و"قيس" اسم صنم قديم. نسيت عبادته، وصار اسم أشخاص. ودليل كونه صنم قديم وروده في الأعلام المركبة، مثل "عبد القيس"، فإن في هذه
__________
1 المحبر "313"، الأزرقي "1/ 73".
2 ابن هشام "145"، "بنو غنم"، المحبر "288".
3 في نهاية الأرب "فراص"، نهاية الأرب "18/ 18".
4
تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلفت فراضا بدار هوان
شددت عليه وشدة فتركته ... كأن لم يكن والدهر ذو حدثان
نهاية الأرب "18/ 18".
5 نهاية الأرب "18/ 151".
6 Josephus, Antiq, XV, 253.
7 Ency, Religi, I, P. 661.(11/287)
التسمية دلالة على أن قيسًا اسم إله. ولقيس علاقة بـ"قوس" Quas، وهو إله من آلهة أدوم1.
وقد ورد اسم "قيس" "قس" و"قوس" في الكتابات. وهما اسم إله واحد. عثر على معبد له في مدائن صالح2.
وأما "عوف"، فقد استدل من التسمية بـ"عبد عوف" على أنه اسم صنم، غير أننا لا نعرف من أمر عبادته شيئًا، فلعله من الأصنام التي ذهب ذكرها قبل الإسلام بزمن طويل. وقد ذكر أهل الأخبار أنه "صنم"، ولم يذكروا اسم عبدته3.
وذكر "اليعقوبي" أن للأزد صنم، يقال له "رئام"4.
والسعيدة، صنم أنثى وعلامة تأنيثه وجود تاء التأنيث بآخره. وكان لسعد هذيم وسائر قضاعة إلا "بني وبرة"، وعبدته الأزد أيضًا. وكان سدنته "بنو عجلان". وموضعه بأحد5 "وورود أن "السعيدة" بيت كان يحجه ربيعة في الجاهلية"6.
وورد في جملة أسماء أهل الجاهلية اسم "سعد العشيرة". وقد ذهب أهل الأخبار إلى أن "مذحجًا" كان يعرف بذلك الاسم7. و"العشيرة" اسم صنم من الأصنام القديمة، وله علاقة بعبادة الساميين فقد كان الكنعانيون يضعون وثنًا في محلات العبادة يسمونه العشيرة"، كما كانوا يتعبدون له لأنه من آلهتهم القديمة وهو إلهه. أي أنثى عند الكنعانيين. ويظهر أن "العشيرة" من الآلهة السامية القديمة التي كانت تعبد بصورة خاصة عند الساميين الغربيين، كما عبر بلفظة "العشيرة" عن "المذبح" "المزبح"8. واسم عبد عشيرة" مرتبط بالطبع باسم هذا الإله.
__________
1 Reste, s. 67.
2 "بت قسو"، "بيت قيسو"،
Reste, 67, Ryckmans 18, Grohmann. S. 85, Jaussen –Sabignae. Mission, I, 501, 520, I 528, I, 169, 200, CIS. II, 209, Doughty, Documents Epigraphiques, 38, CIS, II, 198. J. Euting, Tagebuch, II, 262.
3 تاج العروس "6/ 206"، عوف".
4 اليعقوبي "1/ 225".
5 المحبر "316 وما بعدها".
6 اللسان "3/ 215" "صادرة"، تاج العروس "2/ 378"، "سعد".
7 الاشتقاق "2/ 237".
8 Encyclopaedia Biblica, By, Cheyne, Vol, I, 3330.(11/288)
ومن دلائل عبادة "الأشهل"، ورود الأشهل في الأعلام المركبة، مثل "عبد الأشهل". وقد ذكر "ابن دريد" أن الأشهل صنم1.
وأشار "محمد بن حبيب" إلى صنم قال له: "زائدة"، لم يذكر من كان يتعبد له2.
وذكر علماء اللغة اسم صنم قالوا له: "الضيزن". وقال بعضهم: "والضيزنان صنمان للمنذر الأكبر، كان اتخذهما بباب الحيرة ليسجد لهما من دخل الحيرة امتحانًا للطاعة"3.
وأدخل بعض علماء اللغة "الغري" في عداد الأصنام. فقال: "والغري: صنم كان طلي بدم". وذكر بعض آخر أن الغري: نصب كان يذبح عليه النسك. وذكروا أن الغريين بناءان طويلان، يقال هما قبر مالك وعقيل نديمي جذيمة الأبرش، وسميا الغريين لأن النعمان بن المنذر كان يغريهما بدم من يقتله في يوم بؤسه4.
ومن الأصنام صنم اسمه "عير" قيل إنه كان لعبد عمرو المعروف بـ"بكر بن جبلة الكلبي"، كان قومه يعظمونه5. وصنم اسمه "جريش"، إليه نسب: "عبد جريش"6.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "كعبًا" و"كعيبًا" المذكورين في قصة "القليس" التي أقامها "أبرهة" بصنعاء، هما صنمان7.
__________
1 الاشتقاق "263"، تاج العروس "7/ 402"، "شهل".
2 الاشتقاق "ص13".
3 اللسان "13/ 254"، "ضزن"، تاج العروس "9/ 264"، "ضزن".
4 اللسان "15/ 122"، "غرا" تاج العروس "10/ 264"، الجوهري، تاج اللغة "2/ 526"،
5 الإصابة "1/ 166".
6 تاج العروس "4/ 288". "جرش".
7 البداية، لابن كثير، "2/ 170 وما بعدها".(11/289)
الفصل السبعون: أصنام الكتابات
أقصد بـ"أصنام الكتابات" الأصنام التي عرفنا خبرها وأمرها من الكتابات الجاهلية ومن الكتابات الآشورية ومن كتب الكتبة "الكلاسيكيين"، وذلك تمييزًا لها عن الأصنام التي أخذنا علمنا بها من روايات الأخباريين في الغالب.
وقد سبق لنا أن وقفنا على أسماء بعض آلهة الأعراب، وذلك أثناء حديثنا عن الآشوريين والعرب. وقد ذكرت تلك الأسماء في الكتابات الآشورية لمناسبة سقوط أصنامها أسيرة في أيدي الآشوريين. وكان الأعراب الذين حاربوا الآشوريين قد حملوها معهم، إما تبركًا وتيمنًا بها، وتفاؤلًا من وجودها معها بالنصر والغنائم، وإما لأنها كانت معهم في خيمتها المتخذة معبدًا لها فسقطت في أيدي الآشوريين باكتساح الآشوريين لمنازل أولئك الأعراب. فأخذها الآشوريون معهم وحملوها إلى عاصمتهم أسيرة كما يؤسر البشر، وسجنوها عندهم؛ إذلالًا لعبادها وإهانة لهم، وازدراء بشأن تلك الآلهة المغلوبة السيئة الحظ التي لم تتمكن من مساعدة عبادها في القتال والتي لم تتمكن حتى من تخليص نفسها من الأسر، فوقعت هي نفسها أسيرة ذليلة في أيدي عبدة آلهة أخرى، وبقيت في أسرها هذا، حتى وجد الأعراب إلا مناص لهم من استردادها من الآشوريين إلا باسترضائهم وبإعلان خضوعهم لهم. فذهبوا إلى نينوى، وقدموا طاعتهم لملك آشور، وأمر عندئذ بإعادة أصنامهم إليهم، وكتب الآشوريون فوقها كتابة تشير إلى سقوطها في أسرهم، وإلى تغلب آلهة الآشوريين على آلهة الأعراب وتفوق إله آشور على(11/290)
تلك الأصنام، وبعد أن نقش عليها اسم الملك. ثم أعيدت وهي على هذه الصورة إليهم1.
ومن هذه الأصنام دلبت "دلبات" Dilbat2، و"عتر سماين" "عشتر السماء" "Atarsamain "A- tar- sa- ma- a- in و"عتر قرمية" "عتر قرمي "Atar Kurmiaa"، و"ديه" "دايا" "Dija" = Diya"، و"نوهيا" "نخيا" "نهيا" "نهى" Nuhaia"، و"إبيريلو" "Ebirillu". وهي الأصنام التي كتب عليها أن تسجن فأعيدت إلى أصحابها، ووضعت في أماكنها وسر أتباعها ولا شك بهذه العودة3.
وقد حرفت أسماء هذه الأصنام، حتى صار من الصعب علينا تشخيصها. ولعل اسم الصنم "دلبت" هو تحريف "ذات بعل"، أي الشمس" والشمس إلهة عند العرب، تعبدت لها قبائل عديدة، كما تكلمت عنها في موضع آخر، وقد عرفت به الإلهة عندها. أما "عتر سمين"، فهو "عثتر السماء"، و"عثتر" من الآلهة المعبودة عند العرب، وقد ورد اسمه في نصوص المسند، ويرى بعض الباحثين أنه إلهة، أي أنثى4. ويرمز إلى "الزهرة" في رأي غالب العلماء5. وقد أشير في النصوص القتبانية إلى قبيلة عرفت بـ"عتر سمين"، أي باسم هذا الصنم6، لعلها من عبدته، فنسبوا إليه.
وأما "نوهيا" "نخيا" "نهى" "نهيا"، فهو الإله "نهى". وقد ورد في الكتابات الثمودية، اسم صنم بهذا الاسم7. فلعل له صلة بالصنم المذكور.
__________
1 جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام "2/ 320"، المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 591"، "1/ 600"، Pritchard, p. 291.
2 Reallexi, I, s. 125, Winckier, AOF, I, S. 526, Schell, Le Prism D'Assaraddon, 1914, p. 18, British Museum Tablests, K 3087, Smith, History of Sennacherib, 1878, p. 138.
3 Pritchard, P. 291, D.J. Wixman, The Vassal-Treaties of Esarhaddon, p. 4.
4 Schrader, KAT, s. 434.
5 Handbuch, I, S. 228.
6 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "2/ 332".
7 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "5/ 151".(11/291)
وحدثنا "هيرودوتس" -في أثناء كلامه على حملة "قمبيز" على مصر- عن إلهين من آلهة العرب، هما "باخوس" Bacchus و"أوزانيا" "Urania". وذكرت أن العرب تسمي "باغوس" "أوراتل" Oratal، وتسمي "أورانيا" "أليلات" Alilat1. و"إليلات"، هو الصنم "اللات"، الذي يرمز إلى الشمس، فهو إلهة، أي أنثى. ويقابل "أثينة" Athene التي ظهرت عبادتها متأخرة بعض التأخر بالنسبة على الآلهة الأخرى2. و"اللات" من الأصنام العربية المعروفة التي ذكرت في القرآن، وفي النصوص النبطية والصفوية، كما سأتحدث عن ذلك في المواصع المناسبة. وأما Oratal، فهو تحريف على ما يظهر لاسم صنم من الأصنام العربية، صار من الصعب، إرجاعه إلى صنم من الأصنام التي نعرفها الآن3.
وقد حفظت النصوص الجاهلية أسماء عدد لا بأس به من الأصنام، كان الناس يقضون الليالي سهرًا في عبادتها والتودد إليها؛ لتنفعهم ولتدفع الأذى وكل سوء عنهم، وكانوا يتقربون إليها بالنذور والقرابين. ثم ذهب الناس وذهبت آلهتهم معهم. وبقيت أسماء بعض منها مكتوبة في هذه النصوص، وبفضل هذه الكتابات عرفنا أسماءها، ولولاها لكانت أسماؤها في عداد المنسيات، كأسماء الآلهة التي نسيت لعدم ورود أسمائها في النصوص.
وبين هذه الأسماء أسماء يجب اعتبارها من "الأسماء الحسنى"، أي "أسماء الله الحسنى" في المصطلح الإسلامي لأنها نعوت وصفات للآلهة التصقت بها حتى صارت في منزلة الأسماء العلمية. وهي تفيد المؤرخ كثيرًا؛ إذ إنها تعينه في فهم طبيعة تلك الآلهة، وفي فهم رأي المؤمنين بها، في ذلك الوقت.
وفي طليعة أسماء الآلهة المدونة في نصوص المسند، اسم الإله "ود"، إله معين الكبير، وإله قبائل عربية أخرى، منها "ثمود"، حيث ورد اسمه في كتاباتهم، و"لحيان"، حيث ذكر في كتاباتهم أيضًا. كما كان من الأصنام الكبرى في الحجاز عند ظهور الإسلام. وقد ذكر في القرآن الكريم مع أسماء.
__________
1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "2/ 343" و Herodotus, I, P. 213.
2 Ency, Religi,, I, p. 661.
3 المصدر نفسه.(11/292)
أصنام أخرى عبدت في عهد نوح1. وقد ظن بعض المستشرقين أن هذا الصنم لم يكن معبودًا في الجاهلية القريبة من الإسلام وعند ظهور الإسلام، وهو رأي غير صحيح؛ إذ ورد ذكره في شعر للنابغة، وكان له معبد في دومة الجندل، وسدنة وأتباع، ولدينا أسماء جملة رجال جاهليين عرفوا بـ"عبد ود". وقد ذكر أن قريشًا كانت تتعبد لصنم اسمه ود، ويقولون له أد أيضًا2.
ونعت "ود" بالإله "أل هن" "الهن" في بعض الكتابات جاء في أحد النصوص "ودم الهن"، أي "ود الإله"، و"كهلن"، أي "الكاهل" بمعنى القدير والمقتدر3. وهما من صفات هذا الإله التي كان يراها المعينيون فيه.
ويرمز "ود" إلى القمر، عند المعينيين، وهو الإله الرئيس عندهم. وقد وردت لفظة "شهرن"، أي "الشهر" بعد كلمة "ود" في بعض الكتابات فورد: "ودم شهرن"، أي "ود الشهر". وتعني لفظة "شهر" القمر في عربية القرآن الكريم4. و"ود" هو الإله "القمر" عند بقية العرب الجنوبيين. ومتى ورد اسمه في نص، قصد به القمر.
وقد نعت "ود" بـ"الأب"، تعبيرًا عن عطفه على المتعبدين له وعن رحمته بهم. فورد في النصوص المعينية: "ودم أبم"، و"أبم ودم" أي "ود أب"، و"أب ود"، فهو بمثابة الأب للإنسان. والأب من كان سببًا في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره. وقد عثر على أخشاب وأحجار حفرت عليها أسماء ود أو جمل "ودم أبم" أو "أبم ودم"، وذلك فوق أبواب المباني؛ لتكون في حمايته ورعايته، وللتبرك باسمه وللتيمن به، كما وجدت كلمة "ود" محفورة على أشياء ذات ثقوب، تعلق على عنق الأطفال لتكون تميمة وتعويذة يتبرك بها5. فعلوا ذلك كما يفعل الناس في الزمن الحاضر في التبرك بأسماء الآلهة والتيمن بها لمنحها الحب والبركة والخيرات.
ويظن أن لفظة "ود" ليست اسم على القمر، بل هي صفة من صفاته، تعبر عن الود والمودة. فهي من الأسماء الحسنى للقمر إذن.
__________
1 سورة، نوح، الآية 23.
2 البلدان "8/ 407"، "ود"
3 Hommel, Grundriss, I, S. 136, Glaser 284, Halevy 237, ChRestom, 91, 97.
4 Galser 324, Handbuch I, s. 37.
5 Halevy 534, 535, 586, 578, 591, 685, Glaser 80, 84.(11/293)
وقد ورد اسم "ود" في كتابة ثمودية دَوَّنها أحد المؤمنين الفانين في حب "ود"، جاء فيها: "أموت على دين ود"، "بدين ود أمت"، وجاء في كتابة أخرى: "يا إلهي احفظ لي ديني، يا ود أيده"1.
وورد اسم "ود" في النصوص اللحيانية2. فتكون عبادة هذه الإله قد انتشرت في العربية الغربية من أعالي الحجاز إلى العربية الجنوبية وذلك منذ ما قبل الميلاد إلى ظهور الإسلام.
وقد اقترن اسم "ود مع "أل" "إيل" في بعض الكتابات العربية الجنوبية و"إيل" هو الإله السامي القديم. ولعل في "ود أل" "ود إيل" معنى "حب إيل"، فتكون "ود" هنا صفة من صفات الإله. وأما "إيل"، فإنها قد تعني ما تعنيه كلمة "إله" في عربيتنا، وقد تعني إلهًا خاصًّا في الأصل هو إله الساميين المشترك القديم3.
وقد وردت في نص قتباني جملة: "بت ودم" أي "بيت ود"4. ومعناها معبد خصص بعبادة الإله "ود". ولا بد أن تكون هناك جملة معابد خصصت بعبادة هذا الإله.
ويرى بعض المستشرقين استنادًا إلى معنى كلمة "ود" أن هذا الصنم يرمز إلى الود، أي الحب وأنه صنو للإلهين "جيل" Gil و"بحد" Pahad عند الساميين. ويستندون في رأيهم هذا إلى بيت للنابغة هو:
حياك ود فأنا لا يحل له
لهو النساء وأن الدين قد عزما5
__________
1 Herbert Grimme, Die Losung des Sinatinschrirten, Die Altthamudische Schrift, Munster, 1926, S. 40.
2 Handbuch, I, s. 616.
3 Handbuch, I, s. 217, H. Bauer, in ZDMG, Bd, 69, 1915, S. 561.
4 Hommel, Die Sudarabische Alterthumer, S. 2.
5 البلدان "408"، "ود"
قالت أراك أخا رحل وراحلة ... تغشى متالف لن ينظرنك الهرما
حياك ود فأنا لا يحل لنا ... لهو النساء وأن الدين قد عزما
مشمرين على خوض مزممة ... نرجو الإله ونرجو البر والطعما
شعراء النصرانية "ص705".
Reste, S. 17, 31, 42, 53, Ency, Religi, VIII, p 180.(11/294)
وهناك من يرى وجود صلة بين "ود" و Eros الصنم اليوناني، ويرى أنه صنم يوناني في الأصل استورد من هناك، وعبد عند العرب، وهو رأي يعارضه "نولدكه" لعدم وجود تشابه في الهيئة بين الصنمين1.
ومن آلهة المعينيين الإله: "كهلن"، أي "الكهل" و"الكاهل". وقد ورد اسمه في النصوص التي عثر عليها في الأقسام الشمالية من العربية الغربية كذلك2. وهو يرمز مثل "ود" إلى "القمر".
وعرف "ود" بـ"نحس طب" "نحسطب". "ونحس" بمعنى "نحش"، أي الحية، و"طب" بمعنى طيب، فيكون المعنى "الحية الطيبة". والحية رمز لود. فيكون المراد من "نحس طب" الإله ود3.
ومن بين أسماء الآلهة التي ورد اسمها في النصوص المعينية، اسم الإله "نكرح"، ويرى بعض الباحثين أنه إله البغض والحرب. وأن "نكرح" في معنى "كره" في عربيتنا. وأنه "نكرو" أو "مكرو" Makru- Nakru عن البابليين. وهو "العدو" فهو على طرفي نقيض مع الإله "ود"4. ويرون أنه يرمز إلى الشمس، وأنه في منزلة "ذت حمم" "ذات الحميم" عند السبئيين5.
وقد وجد من دراسة الكتابات المعينية أن آلهة المعينيين ترد مرتبة على هذه الصورة في بعض الأحيان: "عثتر" يليه "ود" ثم "نكرح"، وتذكر بعدها جملة "أل ل أت معن"، بمعنى "آلهة معين"6.
وهناك آلهة أخرى وردت أسماؤها في كتابات المعينيين، لا نعرف من أمرها شيئًا يذكر. منها: "بلو" إله البلاء والنوازل والموت، و"حلفن" "حلفان"، وهو خاص بالقسم، و"ورفو"، وهو حارس الحدود، و"منضح" "منضحت" "منفحة"، إله الماء والري والحدود، و"متبقبط" إله الحصاد7. غير أن من الجائز في رأيي ألا تكون هذا الأسماء أسماء آلهة، وإنما.
__________
1 Ency. Religi, I, p. 662.
2 Handbuch, I, s. 215.
3 Grohmann, Gottersymbole, S. 71.
4 Ency, Religi, 10, P. 882, Handbuch, I, S. 20, 40,
5 Ilmukah. S. 55, Glaser 1089, 1660, Halevy 208, N Rhodokanakts.
6 Stud. Lexi, II, S. 26, Glaser 1144, Halevy 353.
7 Arabien, S. 246.(11/295)
هي مجرد مصطلحات يراد بها أمور أخرى.
وتعبد السبئيون للإله "المقه"، إلههم الكبير. ويعد في منزلة "ود" عند المعينيين، ويرمز إلى "القمر". وهو المقدم عندهم على سائر الآلهة. إليه تقرب "المكربون" والملوك بالأدعية والهدايا، وإليه توسل الشعب في كل ملمة تنزل به وتجد اسمه مدونًا في كثير من النصوص السبئية. بل تعبد له أهل الحبشة كذلك، فنجد له معبدًا عند، نجا" "يها". انتقلت عبادته إليهم من السبئيين الذين كان لهم نفوذ سياسي وثقافي على الساحل الإفريقي المقابل لليمن، ويظهر أثر ذلك في الخط الحبشي حتى اليوم.
وليس للعلماء رأي واضح صحيح في معنى "المقه"، ويرى "إيوالد" Ewald أن الكلمة من أصل "لمق"، وهي بمعنى "لمع"، فيكون للاسم -على ذلك- معنى اللمعان1، ويمكن أن تكون كلمة "المقه" إذن، بمعنى "الثاقب" و"اللامع" وقد كان الجاهليون يقسمون بالنجوم الثاقبة، أي النجوم التي يتوقد ضياؤها ويتوهج ورد في القرآن الكريم: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ} وقال المفسرون: "النجم الثاقب، يعني يتوقد ضياؤه ويتوهج". وذكروا أن العرب كانت "تسمي الثريا: النجم. ويقال إن الثاقب: النجم الذي يقال له زحل. والثاقب أيضًا الذي قد ارتفع على النجوم"2. وقد ذهب "هومل" إلى أن "المقه"، إنما تعني "سيده"3. وذهب بعض الباحثين إلى أن اللفظة من "أل" "إيل"، اسم الإله "إيل" الشهير، المعروف عند جميع الساميين. ومن "مقهو" بمعنى قوي. فيكون الاسم "إيل قوي"، "أل مقهو"4
وتدل روايات الأخباريين عن "المقه" على عدم وقوفهم على حقيقة هذه التسمية، فقد حاروا فيها. واضطربوا في أمرها, ولم يظهر أحد من بينهم من عرف حقيقتها. فصيرها بعضهم اسمًا من أسماء الملكة "بلقيس" وصيرها بعض آخر مصنعة من مصانع الجن التي بنتها على عهد "سليمان"، وجعلها
__________
1 سورة الطارق، رقم 86.
2 تفسير الطبري "30/ 90 وما بعدها".
3 Handbuch, I, s. 40.
4.Arabien, s. 244(11/296)
"الهمداني" الزهرة؛ "لأن اسم الزهرة في لغة حمير: يلمقه والمق" ذكروا أن بناء "يلمقه" ظل قائمًا باقيًا إلى أيام غزو الحبشة لليمن، فهدموه1. وإذا صحت رواية الهدم هذه، فلا يستبعد حينئذ أن يكون ذلك بسبب كونه معبدًا وثنيًّا خصص بعبادة الأوثان، والأحباش نصارى سعوا لطمس الوثنية ونشر النصرانية في البلاد. ولعله أراد به معبد "المقه" بمأرب، فهدمه الحبش للاستفادة من أحجاره لبناء كنيستهم التي بنوها بهذه المدينة. وقد كان ذلك المعبد قد خصص بعبادة "المقه" إله سبأ الكبير، فعرف بـ"المقه"، و"يلمقه" عند سواد الناس.
وقد حفظت لنا نصوص المسند أسماء جملة معابد خصصت بعبادة المقه، وللتمييز بينها ذكرت أسماء المواضع التي شيدت عليها تلك المعابد. ومن أشهرها معبد "المقه" الكبير بمدينة "مأرب"، المعروف بمعبد "المقه بعل أوم" "المقه بعل أوام" وهو معبد لا تزال آثاره باقية، زارته ونقبت فيه بعثة "وندل فيلبس" الأمريكية إلى اليمن2. وتعرف بقايا هذا المعبد عند أهل اليمن باسم "حرم بلقيس" و"محرم بلقيس" فأحل الدهر اسم امرأة محل اسم إلة قديم كبير.
ووردت في بعض النصوص هذه الجملة: "المقه ثور بعل ... "، ومعناها: "المقه ثور رب"3. أي "المقه الثور هو رب....." كما وردت جمل مثل: "المقه ثهون"، بمعنى: "المقه المتكلم". ومثل "المقه ثهون بعل أوم"، أي "المقه المتكلم رب أوم"، "أوام". ويظن أن المراد بذلك الكاهن المتكلم باسم الرب "المقه". فقد كان لبعض المعابد كهنة، يزعمون أن الآلهة تتكلم فيها، ويقومون أنفسهم بدور الوساطة والترجمة. فإذا أراد شخص سؤال إلهه عن مشكلة يريد حلًّا لها، أو عن قضية عويصة، أو عن سرقة وما شاكل ذلك، يذهب إلى المعابد المختصة التي يزعم أن الآلهة تجيب فيها، فيتقدم على الكاهن بنذر وبهدايا مناسبة، ثم يلقي سؤاله، فيظهر عندئذ صوت مسموع، يزعم أنه
__________
1 البكري "1398".
2 D. H. Muller, Burgen, II, S. 972, Nlelsen, Der Sabaische Gott Ilmukah, S. I. Wendall Philips, Qataban and Sheba, 1955.
3 D. Nielsl Die Altarabische Mondreligion, s. 107.(11/297)
صوت الإله الذي لا يرى، يجيب على السؤال أو على الأسئلة، بما يناسب السؤال، وقد كُفي عن "المقه" بـ"ثور" في بعض الكتابات. ومما يؤيد أن المراد "بثور" هذا الإله، هو صورة رأس الثور في كثير من الكتابات، وهي ترمز إليه، كذلك رمز إليه بنسر وبصور الحيات. وهذه الصور من الرموز الدالة على الإله القمر عند قدماء الساميين1. وقد صور العبرانيون "يهوه" على هيئة عجل2.
ويلاحظ أن أكثر الأوثان والصور "صلمن" التي كان الناس يقدمونها إلى معابد "المقه" وفاء لنذور نذورها لها، اشتملت على صور ثيران، ويلاحظ كذلك أن الثيران، كانت من أكثر الحيوانات التي كان المتعبدون يقدمونها ذبائح لهذا الإله. وقد استنتج "دتلف نلسن" من هاتين الملاحظتين ومن تسمِّي أشخاص وأسر وعشائر وقبائل باسم "ثور"، أن الثور رمز يراد به هذا الإله "المقه"، أي القمر3.
وورد في النصوص السبئية اسم إله هو "هوبس" "هبس"، ورد منفردًا، وورد مع الإله "المقه"4. وقد قصد به الإله القمر. ومعنى "هوبس" على رأي "فرسنل" Fresnel اليابس والجاف، وهو وصف للقمر5. ويعلل ذلك بفعل القمر البارز في إحداث الجزر حيث تنسحب المياه من الساحل مسافة إلى البحر. وقد أشار الهمداني إلى أن اسم القمر "هيبس"، والظاهر أن هذه التسمية للقمر ظلت معروفة في اليمن بعد الإسلام6.
ووردت جملة "المقه ذ قِلم" في بعض النصوص ووردت "هوبس"، و"المقه ذ هوبس"7. بمعنى اليابس. وذكر بعض العلماء أن معنى ذلك "المقه" الذي يؤثر في المد والجزر، وذلك لما لاحظه المتعبدون له من وجود أثر له في إحداث المد والجزر.
__________
1 Ilmukah, s. 51.
2 الملوك الأول، الإصحاح الثاني عشر، الآية 28، الخروج، الإصحاح 32، الآية4.
3 Ilmukahi, s. 52.
4 Hommel, Grundriss, I, S. 85. Altertumer, 1899, S. 28.
5 Handbuch, I, S. 40.
6 Burgen dun Schlosser, II, S. 20-22 Hommel, Sudarabische Altertumer, S. 30.
7 Rep. Epigr. 4921, 4963.
8 Arabien, s. 244.(11/298)
وقد أشير إليه بـ"هلل" بمعنى هلال، وبـ"ربع"، أي الربع الأول من الشهر، وبـ"حول"، بمعنى تمام الشهر، أي القمر كاملًا. ومن صفاته "سمع"، أي سميع1.
و"عم" هو إله شعب قتبان الرئيس. وقد ورد اسمه مقرونًا مع الإله "أنبي" في نصوص قتبانية عديدة. وهو يقابل الإله ود عند المعينيين، والإله "المقه" عند السبئيين، والإله "سن" "سين" عند أهل حضرموت. فهو الإله القمر
إذن عند القتبانيين.
وكلمة "عم" من الكلمات السامية القديمة الواسعة الانتشار عند الساميين. وقد ذكرت في نص يقدر أنه كتب حوالي سنة "4500" قبل الميلاد، وهي من كلمات عهد الأمومة، ثم صارت من المصطلحات الدينية مثل "أل" "إيل" EL، و"بعل" Baal، و"أدون" Adon، و"ملك" Malke وما شابهها من أسماء الألوهية: كانت نعتًا في الأصل من جملة النعوت التي كان يطلقها الساميون على آلهتهم، ثم جعلت علمًا لإله2.
وترد لفظة "أنبي" في الكتابات القتبانية علمًا على إله ذكر هو القمر. وقد وردت بعد اسمه كلمة "شيمن"، ومعناها "الحامي" والحافظ، فورد "أنبي شيمن"، أي "أنبي المحامي" و"أنبي الحافظ"، والمدافع عن المؤمنين به. فهو إذن في معنى "عم"3. ولا بد أن يكون لهذا النعت صفات بصفات هذا الإله، أي أنه اسم من أسماء الله الحسنى.
ومن آلهة قتبان التي ذكرت مع "عم" الإله "حوكم" و"آثرت" و"نسور" و"أل فخر". ويرى "هومل" أن الإله "آثرت" هو إلهة أنثى. هي في نظره زوج الإله "عم"4. ويظن أن "آثرت" هي الشمس، ويظن أيضًا أن هذه الكلمة قريبة في المعنى من كلمة "عشيرة" "عشيرات" العبرانية، و"عشرتو" الآشوية البابلية، وأنها تعني في القتبانية الشروق أو الشارقة والشرقة الشديدة.
__________
1 REP. EPIGR. 3945, 4067, 4225, 4991, 4992, 4993, CIH 282, ARabie s. 244.
2 Ency. Religi, I, p. 387, Glaser, Mitteilungen, II, S. 21.
3 Glaser 1902, SE 84, Iimukad, S. 56, D. Nielsen. Neue Katabanissche Inschriftten, S. 14.
4 Sudar. S. 22, Glaser 160. "شفتم لعم وآثرت".(11/299)
من "عثر" بمعنى" شرق وإشراق. أضيف إلى نهاية الكلمة حرف التأنيث؛ لأن الشمس مؤنثة، كما فعل في عثتر إذ عد مؤنثًا عند الساميين الشماليين، فصار "عثترت" "عشترت" "عشتروت" أي أنثى. وكما فعل في "كوكب" و"ملك"، و"ذي الخلصي"، و"ذي الشرى"، حيث أضيفت إليها التاء. فصارت "كوكبت" "كوكبة"، و"ملكت" "ملكة"، و"الخلصت" و"شربت"1.
ويحتمل على رأي "هومل"، أن يكون "حوكم" "حوك" إله السماء، ويظهر أنه من الآلهة الخاصة بشعب قتبان2. أما "دتلف نلسن"، فيرى احتمال كون الكلمة من "حكم"3.
وقد عبر عن الإلهة "الشمس" بـ"ذت حمم"، أي "ذات حميم"، "ذات حمم"، "ذات الحميم" أي ذات الحرارة الشديدة والأشعة المتوهجة التي تشبه الحميم من شدة الحر. وهذا المعنى قريب من "أل حمون" El – Hamon و"بعل حمون" Ba'al Hammon في العبرانية، ويراد بها الشمس. و"حمت" "حمه" Hamma في العبرانية هي الشمس. وورد في بعض النصوص التدمرية اسم الإله "حمن" Hamman، وورد هذا الاسم في بعض النصوص النبطية التي عثر عليها في حوران. وهذا الإله هو الشمس. وقد كني عنها بالأشعة الحارة المحرقة التي ترسلها خاصة في أيام الصيف4.
وهناك من فسر "ذت حمم" بـ"ذات حمى" "ذات الحمى"، والحمى الموضع الذي يحمي، ويخصص بالإله أو المعبد أو الملك أو سيد قبيلة، والمكان الذي يحيط بالمعبد. فيكون حرمًا آمنًا لا يجوز لأحد انتهاك حرمته5. وفي جزيرة العرب جملة مواضع يقال لها "حمى" ذكر أسماءها الأخباريون.
__________
1 Handbuch, I, S. 237, Glaser 1335, 1604, SE 84, Rhodokanakis, Katabanlsche
Inschriftten, II, 8. 121.
2 Hommel, Grundrtss, I, S. 140.
3 D. Nielsen. Neue Katabanische Inschriftten, S. 15.
4 Handbuch, I, 8. 225, Hommel, Aufsatze und Abhandlungen, II, S. 177,
Ilmukah, S. 53, Oslander, In ZDMG., Bd., 20, S. 282.
5 Handbuch, I, S. 225, Oslander, in ZDMG., Bd., 20, 1866, S. 282, Hommel,
Aufsatze, II, S. 177, Mordtmann, Himjarlsche Inschriftten, S. 27, ZDMG.,
Bd.., 31, S. 88, Saba, Denkmaler, S. 258, Fell, in ZDMG., Bd., 54, S. 250.(11/300)
وعبر عن الشمس بـ"ذت بعدن" "ذات بعدان" كذلك، أي ذات البعد. وهي كنية قصد بها الشمس حينما تكون بعيدة عن الأرض أي في أيام الشتاء. وقد استدل على ذلك بجملة وردت في نصوص المسند، هي: "بعلمن بعدن وقرين"، أي "بالعالم البعيد والقريب"، بمعنى في الماضي والحاضر1. وقصد بذلك الشمس في هذا الوقت من السنة حيث تكون أشعتها غير محرقة ولا شديدة مؤذية للناس2. وأنا لا أستبعد أن يكون المراد من ذات البعد، الآلهة التي تشمل برحمتها وبركتها الأبعاد، أي المسافات الواسعة والأماكن البعيدة فضلًا عن القريبة أو الآلهة البعيدة عن الناس التي لا يمكن أن يصل إليها أحد.
وكني عن الشمس في النصوص القتبانية بكنى أخرى، منها: "ذت صنتم"، "ذات صنتم"، "ذات صنت"، و"ذت رحبن"، "ذات رحبان" "ذات الرحاب"، و"ذت صهرن" "ذات الصهر"3. و"ذت غدرن" أي "ذات الغدر" و"ذات الغدران"، و"ذت برن"، "ذات بران"، "ذات البر"، و"ذت ضهرن"، "ذات ضهران"، و"ذ محرضو ومشرقتن"، أي ذات اللون الذهبي المشرق، و"مشرقتن"، بمعنى الغروب والشروق، و"تدن" "تدان" "تدون"، و"تنف" وذلك في الكتابات السبئية، و"ذت حسولم" "ذات حسول" أي شمس الشتاء، وذلك في النصوص المعينية4.
وقد عرف إله حضرموت الرئيس بـ"سن" "سين"، وهو القمر. وهو إله شعب حضرموت الخاص. وقد نعت بنعوت، مثل "ذ علم"، أي "ذو العلم"، بمعنى العالم، وبنعوت أخرى. وورد اسمه في كتابات عثر عليها في "يحا" بالحبشة5.
و"عثر" من الآلهة التي ورد اسمها في نصوص كثيرة من نصوص المسند.
__________
1 Glaser 618, CIS, 541.
2 Handbuch, I, S. 226.
3 W. Fell, SUdarabische Studien, in ZDMG.. Bd.. 54, S. 238, 1900, Neue Katabanische Inschriftten, S. 15.
4 Arablen, S. 245.
5 Rep. Eplgr., 3616, Grohmann, S. 245.(11/301)
ورد في نصوص معينية وسبئية وحضرمية وقتبانية. ويقابله Atargatis المدون اسمه في كتب "الكلاسيكيين"، و"عتر" Atar عند السريان، و"عشتر" "عشتار". وقد ذكر في نصوص الآشوريين والبابليين والكنعانيين والعبرانيين والحبش وغيرهم، مما يدل على أنه كان من الآلهة التي كانت عبادتها شائعة في منطقة واسعة، وأنه كان من الآلهة الكبرى قبل الميلاد1.
وقد ورد "أم عثتر"، و"أبم عثتر" في بعض النصوص. وقصد بالجملة الأولى: "أم عثتر"، وبالجملة الثانية "أب عثتر" "عثتر أب". وقد استنتج "دتلف نلسن" من ذلك أن "عثتر" هنا هو بمثابة الإله الرئيس، فهو أب وأم للآلهة يليه القمر في الترتيب ثم الشمس2. وذهب في بحث آخر له عن ديانة العرب إلى أن المراد بـ "أم عثتر" الشمس، باعتدادها أنثى إلهة أمًّا. أما ولدها فهو "عثتر"3. وليس بمستبعد أن يكون المراد من "أم عثتر" أن "عثتر" بمنزلة الأم للمتعبدين لها، تريد لهم الخير والبركة وتعطف عليهم وتحبهم عطف الأم على ولدها. وأن المراد من "عثتر أبم" "عثتر أب"، أن "عثتر" هو بمنزلة الأب للمتعبدين له، يشفق عليهم ويحبهم، ويمنحهم الخير والصحة والبركة. وذهب بعض الباحثين إلى أن المراد من عبارة "أم عثتر"، الإلهة الشمس؛ لأنها أم "عثتر"، وأن المقصود من "أبم عثتر" "أب عثتر" لإله القمر، الذي هو زوج الشمس، ومن زواجهما ولد الابن "عثتر".
وقد جاء في نص سبئي وجد في مدينة "صرواح" أن صاحبة النص قدمت إلى الإلهة "أم عثتر" "أم عثتر" أربعة تماثيل من ذهب؛ لأنها وهبت لها أربعة أطفال، هم ولد واحد وثلاث بنات، كلهم أحياء يرزقون. ولأنها سرت قلبها بهذه الذرية. وهي لذلك قدمت هذه التماثيل، ولترجو منها أن تستمر في الإنعام عليها، وعلى ابنها وبناتها بالصحة والعافية4. وقد قصد بـ"أم عثتر" هنا
__________
1 Wlnckler, Altorlent. Forschungen, I, S. 528, Hilprecht, Baby., Exped., IX, 51, 76. Ency. Religi., Vol., II, p. 165.
2 D. Nielsen, Mondreligion. 8. 42.
3 Handbuch, I, S. 228.
4 Handbuch, I, 8. 228, Derenbourg, Etudes Sur L'Epigraphic du Jemen, Paris, 1884, NO: II.(11/302)
الإلهة الشمس. ويتبين من هذا النص أن السبئيين كانوا ينظرون على "أم عثتر"، نظرة البابليين إلى عشتار على أنها إلهة الخصب1.
وقد عثر في النصوص النبطية، على اسم إلهة هي "ربة العثر" "ربت عثر"، أي الشمس2.
وورد اسم "عثتر" في عدد كبير من نصوص المسند على هذا النحو: "عثتر شرقن"، و"عثتر ذ قبضم"، و"عثتر ذ يهرق"، و"عثتر ذ يهر" وهكذا. وتعني جملة "عثتر شرقن"، عثتر الشارق. وقد ذكر أهل الأخبار أن "الشارق" صنم كان في الجاهلية وبه سموا عبد الشارق. مثل "عبد الشارق بن عبد العزى" الجهني شاعر من شعراء الحماسة2. فلفظة "شرقن". إذن، نعت لـ"عثتر"، معناه "الشارق".
ويرى بعض الباحثين أن "عثتر شرقن"، هو الإله الحارس للمعابد والمقابر إليه يُصلى ويُدعى أن تصل الهبات إلى المعابد4. وإليه توسل المتوسلون لحفظ قبورهم من عبث العابثين بها المعيرين لأحجارها الطامعين في كنوزها، ولهذا نعت بـ"عثتر يغل"، أي "عثتر المنتقم"5.
وأما جملة "عثتر ذ قبضم"، فقصد بـ"قبضم" معنى "القابض" أو "الجالس"، أو اسم موضع يقال له "قبض" فيكون المعنى. "عثتر رب موضع قبض"6. وأما "يهرق" و"يهرق" "يهريق" فهو اسم مدينة من مدن معين. كان بها معبد لعبادة "عثتر"7.
وورد أيضًا "عثتر غربن"، أي "عثتر الغارب"، كناية عن غروبه، أو عن طلوعه عند الغروب، فهو إذن نجم الشروق ونجم الغروب، أو النجم الشارق والنجم الغارب. كما ورد "عثتر نورو" "عثتر نورن"، أي "عثتر
__________
1 D. Nielslen, AJtarabische Mondreiigion, S. 41.
2 Littmann, NO: 24, LidzbarsUl. Ephem.. Bd., 3. S. 292. Handbuch, I. S. 227.
3 تاج العروس "6/ 392"، "شرق".
4 Ency. Religi., 10, p. 883.
5 Arabien, S. 245.
6 Rhodokanakis, Stud. Lexi., II. S. 27. Ency. ReligL, 10. p. 882, Glaser 1089,1660, Halevy 208.
7 Handbuch, I, S. 228, Hommel, Grundriss, I, S. 85, W. Fell, in ZDMG. Bd.,
54, S. 231-259.(11/303)
نور" و"عثتر المنير"، تعبيرًا عن لمعانه وعن النور الظاهر عليه، وجاء "عثتر سحرن"، أي "عثتر السحر"، بمعنى عثتر الذي يظهر عند السحر، وعبر عنه بـ"متب نطين"، أي الحامل للرطوبة، تعبيرًا عن الرطوبة التي تكون عند ظهوره، فنسبوها إليه1.
وقد تكرر ذكر اسم "عثتر" في بعض النصوص، على سبيل التوكيد والتشديد في القسم وفي الدعاء، كما نفعل نحن أحيانًا من إعادة اسم الله في الإيمان المغلظة وفي التوسلات عند ساعات المحنة والشدة. ورد: "بعثتر شرقن، وبعثتر ذ قبضن، وود ونكرحم، وبعثتر ذ يهرق، وبكل أل ل أت معن"2. أي: "بعثتر الشارق وبعثتر ذو قبضن وبود، ونكرح، وبعثتر ذو يهرق، وبكل آلهة معين"، أو "وبحق عثتر الشارق، وبحق عثتر القابض أو رب موضع قبض، وبحق ود، ونكرح وعثتر رب يهرق، وبحق كل آلهة معين".
ولدينا جملة أسماء مركبة ورد فيها اسم "عثتر"، مثل "أوس عثتر" "أو سعثت" و"هوف عثت" "هو فعثت"، و"لحي عثت" "لحيعثت" و"عثت" هنا هو اختصار "عثتر"3.
ومن آلهة العرب الجنوبيين الإله "قينن" "قينان" وهو إله قبيلة "سخيم". النازلة بـ"شبام"، "شبام سخيم"4.
ومن بين أسماء آلهة العرب الجنوبيين اسم الإله: "أل" "إيل" ذكر اسمه مستقلًّا كما ورد مقرونًا باسم الإله "عثتر" كما في الكتابتين الموسومتين بـHalevy 144، وبـ Halevy 150 وقد قدم ذكره فيها على اسم الإله "عثتر"5. وقد ورد بكثرة في الأعلام المركبة.
ومن بين أسماء الآلهة التي ورد اسمها في النصوص العربية الجنوبية، اسم الإله "تلب ريم" "تالب ريام" وهو إله خاص بقبيلة "همدان". كما أن "المقه" هو إله "سبأ" و"سين" "سن" إله حضرموت، و"عم" إله قتبان.
__________
1 Arabien, S. 245.
2 الفقرة الخامسة من النص: Glaser 1150, Halevy 192.
3 Handbuch, I, s. 228.
4 Arabien, S, 245.
5 Handbuch. I, s. 218, Halevy, in Journal Asiatique, 1872, Tmoe 19, p. 152.(11/304)
و"ود" إله معين. وقد ظهر بظهور نجم "بني بتع" واشتهر بهم. وكان ظهوره حوالي الميلاد بصورة خاصة. ففي ذلك العهد اشتد أمر أقيال همدان، فاستأثروا بالحكم، ودعوا أنفسهم ملوكًا، ورفعوا إله قبيلتهم فوق الآلهة الأخرى، فنحروا له الذبائح، وقدموا له النذور، وتنافسوا في بناء معبده. ودام عزيزًا مكرمًا ما دام نقوذ ملوك همدان1.
وقد كانت لهذا الإله مثل سائر الآلهة الأخرى جملة معابد، غير أن معبده الأكبر هو المعبد المعروف بمعبد "تلب ريم بعل ترعت" أي: "تألب ريام رب ترعت"2. ويظهر أن كلمة "ترعت" هي اسم موضع، أقيم المعبد عليه. وهو معبد كانت تقدم إليه أقيال "سمعى" وقبائل همدان الأخرى النذور والقرابين والهدايا، وتحبس له الأرضين.
ومن الآلهة التي ورد اسمها في الكتابات العربية الجنوبية، الإله "حول" "حويل"، والإله "جلسد" "الجلسد". وتدل لفظة "حول" على الحول والقوة. فلعل معنى اسم هذا الإله هو "الحويل"، أي صاحب الحول والقوة. بمعنى القوي. وهو من آلهة حضرموت3.
وورد اسم الإله "حلفن" في جملة أسماء الآلهة المذكورة في الكتابات العربية الجنوبية. وقد ورد في جملة نصوص تتعلق بحبس أموال وبعقد عقود. ويلاحظ أن أصحابها استعانوا بهذا الإله لإنزال النقمة والعذاب وأشد الجزاء بكل من يحاول أن يغير أو يبدل تلك العقود والنصوص، أو يتجرأ فيستولي على الأموال والحبوس المقررة، كما رجوا منه أن يشملهم هم وجماعتهم برحمته وبلطفه وكرمه لإخلاصهم له ولفنائهم في حبه4.
ومن بين الآلهة إله عرف بـ"ذ سموي"، أي "رب السماء"، وهو إله ظهر اسمه قبل الميلاد بقليل5. وقد بقي اسمه متألقًا في سماء اليمن، يقدم إليه الناس النذور والقرابين إلى ما بعد الميلاد. ويرى بعض الباحثين، أن عبادته تدل
__________
1 Ilmukah, S. 68.
2 Hommel, grundriss, I, s. 143.
3 Handbuch, I. S. 188
4 Halevy, 147, 148. Rhodokanais rlddoka S. 22.
5 Handbuch, I, 88.(11/305)
على ظهور عقيدة التوحيد عند العرب الجنوبيين؛ إذ تدعو إلى عبادة إله واحد، هو "رب السماء"1.
ولدينا كتابة مخرومة أسطرًا، لكنها لا تزال مع ذلك مفهومة، تفيد أن جماعة من الأشرار المارقين تطاولوا على حرم "أوثن ذ سموي" أي "الوثن رب السماء"، فسرقوه، ونهبوا ما كان فيه، واستولوا على ما كان حبس له. ولكن عبدته عادوا، فجمعوا ما سرق، وأصلحوا ما أفسد، وتقربوا إلى الإله "رب السماء" بطلب التوبة والغفران، وختموا نصهم بهذه الجملة: "وذ سموي ليزامتعن شعبهو"، أي "وليمتع رب السماء شعبه"2. ويقصد النص بشعبه أتباع هذا الإله وعبدته.
وإلى هذا الإله، الإله: "ذ سمي" "ذ سموي"، إله السماء تعبدت قبيلة "أمر" "أمر". ويعد "بعل سمن" "بعل سمين" "بعل السماوات" إلهًا للبركة والخصب؛ إذ يرسل المطر فينشر الخير للناس3.
ونقرأ في النصوص العربية الجنوبية اسم إله جديد، هو الإله "رحمنن"، أي "الرحمن". وهو إله يرجع بعض المستشرقين أصله إلى دخول اليهودية إلى اليمن وانتشارها هناك. وهذا الإله هو الإله "رحمنه" Rahman-a "رحمنا" في نصوص تدمر4.
وورد في نص: "رحمنن بعل سمين" "رحمنن بعل سمن"، أي "الرحمن رب السماء"، أي أنه إله السماء. فصار في منزلة الإله "ذ سموي". ثم لقب بـ"رحمنن بعل سمين وأرضن"، أي "الرحمن رب السماء والأرض" في نصوص أخرى5. فصار إله السماوات والأرضين.
وقد نشر نص بالمسند، وردت فيه جملة: "الرحمن الذي في السماء وإسرائيل رب يهود"6. وهو نص، إن صح نقله عن الأصل بدقة وعناية، وإن صح
__________
1Handbuch, I, 8 104, Rivsta, 1955. Fasc, I, II. p. 109, Le Museon, 1954, Tome,
LXVn, p. 118.
2REP. EPIGR. 850, Rhodokanakls, Stud., S. 162, Mordtmann, Beitrage, S. 188.
3 REP. EPIGR., 4142. Aratrien, S. 245.
4 Handbuch, I, S. 104, 248.
5 Le Museon, 1954, Tome, LXVII, p, 103.
6 Margoliouth, Relations, p. 68.(11/306)
أنه نص صحيح غير مزيف، يشير إلى تأثر صاحبه باليهودية وبعبارة الرحمن. وقد استشهد به من قرأه على تهود صاحبه.
ويرد اسم الإله "بعل سمن" "بعل السماء" "بعل السماوات" في الكتابات الصفوية، وفي كتابات تدمر، حيث ورد "بعل شمن" "بعل شمين"، وفي كتابات بعلبك، وفي كتابات اللحيانيين. وقد ظهرت عبادته قبل الميلاد1. ويظهر لذلك أنه من الآلهة المعروفة عند الساميين وعند العرب الشماليين قبل الميلاد، ومن الجائز أن يكون قد انتقل إلى العرب الجنوبيين من العرب الشماليين.
ووردت في الكتابة الموسومة بـ Se 48 أسماء آلهة هي: "م ح ر ض و" "محرضو"، و"م ش ر ق ي ت ن" "مشرقيتن" و"نسور" و"أل فخر"2. وقد ذهب "رودو كناكس" إلى أن المراد من محرضو ومشرقيتن الشمس. وذهب آخرون إلى أن المراد بهما القمر والزهرة. وذهب فريق آخر إلى أن المراد بذلك غروب الشمس وشروقها3. أما "نسور"، فاسم إله لعل له صلة بـ"نسر". وقد وردت في نص سبئي هذه الجملة: "بت نسور وبت أل" "بيت نسور وبيت أل" ويقصد بـ"بت" "بيت" معبد لعبادة هذين الإلهين: "نسور" و"أل" و"أل" هو "إيل" "إيلو" إله الساميين القديم4.
وورد في أحد النصوص السبئية هذا التعبير: "أهل نسور" مؤديًا معنى "قوم نسور" و"ملة نسور"، وبراد بهم جماعة هذا الإله التي كانت تتعبد له. وعرف أحد أشهر السنة في النصوص السبئية المتأخرة بـ"ذ نسور"، ولعله أريد بذلك نسبة الشهر المذكور على هذا الإله5.
و"نسور" هو "نسر" على رأي بعض الباحثين. ويرمز إلى القمر"6. وقد حصل المنقبون على أحجار حفرت عليها صورة النسر، فعلوا ذلك على سبيل التيمن والتبرك بهذا الإله.
__________
1 Arabien, S. 86, Ryckmans 20.
2 الجملة الخامسة والسادسة من النص Rhodokanakis, Katabanische, II, S. 28.
3 Katabanische, II. S. 38, Homel. Grundriss, S. 689, 719, Sab. Denkm, S. 80, Sudarabisch, S. 22.
4 Glaser 418, 419.
5 Glase 418, 419, 1549, Katabanische, II, S. 36.
6 D. Nielsen, Neue Katabanische Inschriftten, S. 14.(11/307)
وورد اسم إله دعي بـ"نسر"، يظن أنه إله "ذ قلع"، "ذو قلاع"، اسم موضع أو قبيلة. ويرى الباحثون أنه الإله "نسور" الذي نتحدث عنه1.
و"نسر" هو اسم صنم من الأصنام التي عرفها أهل الأخبار. فقد زعموا أنه أحد أصنام نوح الخمسة، وأن "عمرو بن لحي" جاء به إلى حمير، فأشاع عبادته بينهم2.
وأما اسم الإله "أل فخر"، فيظهر أنه مؤلف من كلمتين، هما: "أل" اسم الإله "إيل" المعروف عند الساميين، و"فخر"، وهي نعت من نعوت الآلهة. كما في كلمة "أل تعلي" في النصوص القتبانية، وهي بمعنى "الله تعالى" في لهجتنا. و"فخر" العربية، هي مثل "بخرو" في الآشورية، ومنها العلم المركب: "نبخر بلو"3.
وورد اسم الإله: "يعوق" أي الصنم يعوق المعروف، في نص متأخر، يعود عهد إلى ما بعد الميلاد، وورد معه اسم: "رحمنن بعل سمن"، أي "الرحمن رب السماء". وقد أرخ النص بشهر "ذ دون" "ذ داون" "ذي دوأن" لسنة "574" من التأريخ الحميري. المقابلة لسنة "459" للميلاد4.
وهناك أسماء آلهة لا نعرف من أمرها في الوقت الحاضر شيئًا كثيرًا، من بينها الإله "بلو" وقد عبر عنه بأنه إله البلاء والموت والمنون. وإله يقال له "حلفن" "حلفان"، ويقال إنه إله القسم والحلف واليمين، والإله "ورفو"، وهو إله الحدود، أي الإله المختص بالمحافظة على الحدود، و"منضح" "منضحت"، وهو إله الماء والري، و"متبقبط"، وهو إله الحصاد عند المعينيين ثم الإله "يهرهم"، وهو إله المطر5.
ولا بد من الإشارة إلى اسم إله ورد في كتابات عثر عليها في "شبام سخيم".
__________
1 راجع النص Rep. Epigr, 4725, Arabien. S. 246.
2 Reste, s. 23. Ryckmans 16. winckler. Arabisch-Semitisch Orientalisch.
3 Katabanische, II, S. 38.
4 Ryckmans, in Le Museon, 1954, Tmoe, LXVII, pp. 100. A. Fakhry, An Archaelohy, Journey To Yemen. III, p. 195, PL: XXLX, XXX.
5 Arabien. S. 246.(11/308)
وهو الإله "قينن" "قينان"، وهو إله "بني سخيم"1.
لقد تجمع لدى علماء العربية الجنوبية من أسماء آلهة العرب الجنوبيين ما ينيف على مائة اسم إله، غير أن أكثر هذه الأسماء ليست في الواقع أعلامًا. وإنما هي صفات ونعوت للآلهة ذكرت بدلًا من ذكر اسم الإله الخاص. أو كناية تشير إلى أسماء المواضع التي كانت فيها معابد تلك الآلهة، فقد كان لبعض المدن معابد خصصت بعبادة إله، ربما كان إله المدينة أوجملة آلهة لها بالطبع صلة بالمدينة وبالشعب الذي تنتمي المدينه إليه. غير أن هذه الآلهة جميعها يمكن رجعها إلى ثلاثة، هي القمر والشمس والزهرة، أي إلى ثالوث يرمز إلى هذه الكواكب الثلاثة2.
وهناك أسماء مثل "يثعم" في السبئية، و"ككون" في المعينية، و"أرن يدع"3. و"سميهت"، و"ذ أينت"، و"نقين" و"نوشو" و"هروم"، يظن أن لها صلة بالآلهة.
وكما حفظت نصوص المسند أسماء بعض آلهة العرب الجنوبيين حفظت النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية والنبطية كذلك أسماء بعض آلهة تلك الشعوب. وهي كما يظهر من دراستها وتحليلها خليط من آلهة ترد أسماؤها في روايات الأخباريين، ومن آلهة ترد أسماؤها في النصوص العربية الجنوبية. كما أن بينها أسماء آلهة لم ترد لا في أخبار الأخباريين ولا في نصوص المسند. ولاتصال مواطن هذه الشعوب بمواطن الساميين الغربيين بمواطن الساميين الشرقيين ومتاخمتها لعرب العراق ونجد والقبائل العربية في الحجاز ولصلاتها التأريخية القديمة بالعرب الجنوبيين، كان لدراسة الناحية الدينية عند هذه الأقوام أهمية كبيرة في معرفة التطورات الدينية قبل الإسلام، وهذا الخليط الذي أشرت إليه هو في حد ذاته دراسة قيمة تشير إلى التقاء التيارات الدينية واتصالها بهذه البقاع.
وحفظت النصوص الثمودية أسماء جملة آلهة، تعبدوا لها وتقربوا إليها بالقرابين والنذور. منها الإله: "ود" و"جد هدد" و"شمس" و"عزيز".
__________
1 Arabien, s. 245.
2 Ency Britani, Vol, 19, p. 486.
3 Arabien, s. 246.(11/309)
و"نعرجد" و"عمى شجا" و"رضو" و"منت" و"كهل" و"نهي" و"إيل" "أل" و"لت" "اللات" و"عتر سم" "عتر سمن" و"صلم" و"منف" "مناف".
و"جد" هو إله عرف عند بني إرم وعند العرب الشماليين وفي المقاطعات السورية، وهو إله "السعد" في اليونانية، يسعد الأشخاص والبيوت. وقد سمي به موضع "بعل جد" وموضع "مجدل جد"، وأسماء مواضع أخرى فيها كلمة "جد"1.
وقد وجدت جملة "الإله أزيزوس الفتي الطيب" مدونة على جدران أحد المعابد باللغة اللاتينية، ووجدت جملة أخرى فيها: "الإله الطيب الفتي فوسفورس"2، وفي وصف الإلهين بـ"الفتى" وبـ"الطيب" دلالة على أن المتعبدين لهما كانا يتصوران أنهما كانا فتيين طيبين خيرين يمثلان الطيب والمودة. ونجد في نص تدمري وصفًا للإلهين: "أرصو" و"أزيزو" أي "رصو" و"عزيز"، يشبه الوصف المتقدم؛ إذ ورد: "لأرصو ولأزيزو": الإلهان الخيران المجزيان"، و"أزيزو: الإله الطيب والرحيم". فوصف الإلهان بأنهما خيران، ويجزيان الناس خيرًا. وهي نعوت تمثل وجهة نظر القوم إلى هذين الإلهين.
وقد عثر في "تدمر "على نص ورد فيه: "لأرصو ولأزيزو" الإلهان الخيران المجزيان. قد عمله بعكي "بعلي؟ " بن ير حيبولا أفكل أزيزو الإله الطيب والرحيم. لسلامته ولسلامة إخوته. في شهر أكتوبر من سنة 25. فليذكر الناس يرحى النحاس"3. فنحن أمام إلهين: "أرصو" و"أزيزو"، من آلهة تدمر.
وورد اسم الإله "أزيزوس" والإله "مونيموس" في كتابات عثر عليها في "الرها" وفي حوران وتدمر. وقد ظهر الإلهان في نقش، حفر عليه موكب عربة الشمس. نقش "أزيزوس"، وهو يتقدم العربة، و"مونيموس"، وهو يتبعها4.
__________
1 Hastings, p. 276.
2 رينه ديسو: العرب في سوريا قبل الإسلام "140".
3 رينه ديسو "135 وما بعدها".
4 رينه ديسو "134 وما بعدها".(11/310)
و"إرصو" "أرصو"، هو الإله "رضو" على ما يظن. وأما "أزيزوس" "أزيزو"، فهو اسم إله لعله "عزيز"، تحرف فصار على النحو المذكور في الكتابات اللاتينية: والإرمية. وأما مونيموس"، فهو "منعم" وأرى أن عزيزًا ورضيًّا ومنعمًا هي من الأسماء الحسنى، أي نعوت من نعوت الآلهة لا أسماء علم. وذلك على نحو ما نسمي اليوم بـ: "عبد الرضا"، وبـ"عبد العزيز"، وبـ"عبد المنعم".
و"هدد" هو اسم إله تعبدت له شعوب عديدة من شعوب الساميين، منهم بنو إرم والعرب الجنوبيون والشماليون، كما تعبد له الآشوريون. وقد اقترن اسمه عند الآشوريين والبالبيين بـ"رمان"، ودخلت عبادته إليهم من بني إرم الغربيين ويمثل "هدد" مثل "رمان" "رمون" Rimmon = Rammon = Ramman إله الهواء والرعد والعواصف، ويظهر أنه من أصل عربي هو "هد". ومن اسم هذا الصنم الاسم "بنهدد" "بن هدد" "بنحدد" المذكور في التوراة1.
ولا بد أن تكون لهذا الإله صلة بالإله "جد" ومن هذا الاقتران ظهر "جد هدد" في كتابات قوم ثمود.
و"رضو" هو الصنم "رضى" عند الأخباريين، وهو صنم بقي حيًّا تتعبد له القبائل العربية حتى الإسلام، فكسر2. ويرى "دتلف نيلسن"، أنه يمثل الزهرة عند قوم ثمود والصفويين، وأنه في منزلة "عثتر" عند العرب الجنوبيين3. وقد تعبدت له "بنو ربيعة بن كعب"، كما تعبد له أهل تدمر والنبط وأهل الصفاة، وعرف بـ"هـ - رضو" "هارضو"، أي بإدخال "هـ" "ها" أداة التعريف على الاسم. وقد انتشرت عبادته بين قبائل نجد والحجاز4.
ويرى "رينه ديسو" أن "رضى" إلهة عند الصفويين، وأنها كانت إلهة كذلك عند بقية العرب. أما "أرضو"، فإنه مذكر عند أهل تدمر5.
__________
1 Hastings, p. 323.
2 الأصنام "ص30".
3 Handbuch, I, S. 229.
4 E. Osiander, 499, Reste. S. 58. Ryckmans 18. Jaussen-Savignac, Mission, II, 565, 583, 598, Arabien, S. 84.
5 رينه ديسو "136".(11/311)
أما "عزيز"، فإنه الإله "عزيزو" Azizo المعروف عند أهل "الرها"، الذي تحدثت عنه. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه يمثل كوكب الصباح، أي الزهرة، وقد وصف في كتابة مدونة باليونانية أنه Deus Bonus Puer Phosphorus أي الإله الجميل اللماع ذو الأشعة البراقة التي تشبه في لمعانها لمعان الفوسفور1.
و"كهل" أو "كاهل"، هو "كهلن" المذكور في كتابة معينية. وقد ورد الاسم مقرونًا في نص ثمودي بأداة التعريف "هـ" "ها"، أي "هـ ك هـ ل" "ها – كهل" "هكهل". وتعني لفظة "كهل" المعنى المفهوم منها في عربيتنا، كما تعني "القدير"2.
وتعني كلمة "نهي" في الثمودية ما تعنيه لفظة "حكم" في العربية الجنوبية، أي "حاكم" وحاكم و"حكيم" في بعض الآراء، ولعلها تعني "الناهي" وتكون بذلك صفة للإله. وقد ورد اسم هذا الإله في مواضع عديدة من الكتابات الثمودية3.
وأما "منف"، فإنه الصنم "مناف" المذكور عند أهل الأخبار4. وقد تعبدت له قريش ولحيان، كما تحدثت عنه في موضعه.
وقد ورد اسم "صلم" في عدد من الكتابات الثمودية. ويظهر أن الثموديين كانوا قد أخذوا عبادة هذا الإله من أهل "تيماء". فقد كانت تيماء من أهم الأماكن المتعلقة بعبادة هذا الصنم في حوالي السنة "600" قبل الميلاد". وقد جاءت عبادته إليهم من "بني إرم" ومنهم انتقلت عبادته إلى العرب. وتدل بعض الأسماء المركبة الواردة في الكتابات اللحيانية مثل اسم "صلم يهب" "صلميهب" على أنه كان معبودًا عند اللحيانيين كذلك5. ومن لفظة "صلم" جاءت كلمة "صنم" على رأي بعض المستشرقين.
وقد ورد اسم "عترسم" "هـ - عترسم" في عدد من الكتابات الثمودية.
__________
1 Handbuch, I, S. 220.
2 Handbuch, I, S. 215. Glaser 299, Halevy 237, Hommel, Grundriss, s. 163, E. Littmann, Zur Entzifferung der Thamudischen Inschriftten, 1904, S. 75.
3 Handbuch, I, S. 215.
4 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 78" Ryckmans 16, Reste, S. 18, Arabien, S. 84.
5 Hubert Grimme, Die Losung des Sinaischriftproblems. Die Altthamudische Schrift, Munster, 1926, S. 23, Arabien, S. 86.(11/312)
وقد توسل فيها أصحابها منه أن يمن عليهم بالبركة والخير والصحة والسلامة1. وقد جاء اسم هذا الصنم من "عثتر سمن" "عتر سماء"، أي "عثتر السماء".
والإله "ود" هو إله معروف عند الثموديين كما سبق أن ذكرت. وقد تودد إليه عباده والمؤمنون به، فذكروه في كتاباتهم، ورمزوا إليه بصورة حية، كما رمز إليه العرب الجنوبيون بصورة رأس ثور، وقد تعبر صورة الحية عن الروح التي في بدن الإنسان2.
وذهب "دتلف نلسن" إلى أن من بين آلهة ثمود إله اسمه "ملك"، وهو يرى أن الاسم المركب "عبد ملكن"، أي "عبد الملك"، لا تعني كلمة "ملك" الواردة فيه بالمعنى السياسي الذي نفهمه منها، وإنما المراد بها اسم إله. وذهب أيضًا إلى أن لفظة "ملكن" الواردة في النص القتباني الموسوم بـ Glaser 1600 لم يقصد بها ملكًا من ملوك قتبان، بل أريد بها إله اسمه ملكن، أي "الملك". وذكر أيضًا أن اسم "عبد الملك" من الأسماء المعروفة في الجاهلية. ورد في نصوص الثموديين والصفويين3.
وفي الكتابات الثمودية أسماء مركبة مثل "يعذر أل" "يعذر إيل"، و"صلم أل" "صلم إيل"، و"عزر أل" "عزر إيل"، و"سعد أل" "سعد إيل"، و"ود أل" "ود إيل". اختتمت باسم الإله "أل" "إيل" مما يدل على أن "أل" إيل كان من الآلهة التي تعبد لها قوم ثمود.
ومن الأسماء الثمودية المركبة الأخرى "بعثتر" وفيه اسم الإله "عثتر" الذي عرفناها في المسند، و"يثع إمر" "يثع أمر" وفيه اسم الإله "يثع" وهو من الأسماء المستعملة بكثرة في العربية الجنوبية. و"صلم دع" و"صلمن دعم"، فـ"صلمن" اسم الإله "صلم" من آلهة قوم ثمود المعروفة. و"تيم يغث" "تيم يغوث"، وهو اسم مركب من اسمي إلهين هما: "تيم" و"يغوث"4.
__________
1 Hubert Grimme, S. 43.
2 Arabien, s. 269.
3 Handbuch, I, S. 232, D. Nielsen Studier Over Oldarabiske Indskrifter, Kobenhava. 1906, p. 136. O. Weber Studien zur Sudarabischen Altertumskunde, in MVAG. 1917, S. 26-31.
4 Grimme, s. 33.(11/313)
ووردت في الكتابات اللحيانية، أسماء جملة آلهة. منها: "ذ غابت" "ذو غابة" و"عوض"، و"ود"، و"بعل سمن"، و"سلمان" "سلمن"، و"العزي"، و"منف" "مناف"، و"جدت"، و"أل" "إيل"، و"إله"، و"لت" ألت" و"سمع"، و"نصر"، و"منت"، و"هفلس"، و"عجلبون" "عجلبن"، وأكثر هذه الآلهة كما نرى معروفة، وردت أسماؤها في الكتابات وفي مؤلفات أهل الأخبار.
والإله "ذ غبت" "ذو غابة"، هو من أشهر آلهة اللحيانيين. ولعله إلههم الأول والأكبر. ومع ذلك، فإننا لا نعرف عنه شيئًا كثيرًا. وقد كان له معبد في "الديدان"1. وخوطب بكلمة "قدست"، أي القدس أو المقدس في كتابة من كتاباتهم، وقيل إنه في جملة ما قدم إليه من قرابين، قرابين من البشر2.
وليست كلمة "ذ غبت" "ذو غابة"، اسم علم للإله. بل هي صفة له، تعني: "صاحب الغابة"، أو "صاحب غابة". وقد وردت لفظة "ذ غبت" في الأعلام المركبة، مثل "عبد ذ غبت" "عبد ذو غابة" و"فلح ذ غبت" "فالح ذو غابة"، و"خرج ذغبت" "خرج ذو غابة". و"مر ذغبت"، أي "مرأ ذو غابة"، و"زيد ذ غبت" أي "زيد ذو غابة". وورد "عرر ذ غبت" أي "عرر ذو غابة" والعرو والعر، الجرب، وهو مرض جلدي معروف. فكأن صاحب الكتابة أراد بها أن الإله "ذو غابة" يرسل هذا المرض إلى مخالفيه ومن يعارض أحكامه أو يعتدي على غيره3.
وأما "عوض"، فقد ورد اسمه في الأعلام المركبة مثل: "عبد عوض"، و"جد عوض"، وقد تعبد له الصفويون كذلك4.
وأما ود، فهو إله عام له شهرة عند العرب، وقد عمت عبادته كل جزيرة.
__________
1 Ryckmans 19, Jausseu-Savignac. Mission. II. 368, 371, 375, W. Caskel, Lihyan, S. 45, Arabien, S. 85.
2 Histoire Generale des Religins Tome IV. P. 312, Preislamiq, p. 19.
3 W. Caskel, Lihyan, S. 44.
4 Hisroire, IV p. 312.Preislamiq, p. 19. Handbuch, I, s. 193.(11/314)
العرب، والظاهر أنه كان من الآلهة العربية القديمة، وقد بقي معبودًا حتى الإسلام: وهو من الأصنام المذكورة في القرآن1. وقد نعت بـ"أفكل" وورد اسمه في الأعلام اللحيانية المركبة2. وتعبد له تميم، وطيء، والخزرج، وهذيل ولخم، وقريش، وأقيم له صنم في دومة الجندل، صنع على هيئة إنسان. ويرى البعض أنه الإله "أدد" عند ثمود. ويظن أن الصنم "قوس" يرمز إليه، ويرى بعض الباحثين أن "نسرًا" والصنم "ذو غابت" يرمزان إليه كذلك3.
وقد نعت "ود" في بعض النصوص العربية بـ"نحسطب" "نحس طب"، ومعناه "الحية الطيب" "الحية الطيبة"؛ لأن الحية رمز للإله "ود"4.
ويظن أن اللحيانيين كانوا يتعبدون لهذا الإله منذ كانوا في مواطنهم الأولى، فلما هاجروا إلى "ديدان" لم ينسوه، ولكنهم بقوا يتعبدون له ويتقربون إليه؛ لأنه إله الآباء والأجداد وإله لحيان الأكبر، كما تفعل بقية القبائل في اتخاذ إله الآباء والأجداء الإله الأول للقبيلة، والصنم الأكبر بين الأصنام5.
وأما "بعل سمن" أي "رب السماء"، فقد تحدثت عنه، ووجدنا أنه كان معبودًا عند العرب الجنوبيين، والغالب أنهم أخذوا عبادته من العرب الشماليين. وقد كان له معبد في "ديدان" وقد نعت معبده بـ"أحرم" "أحرام" بمعنى "الحرم" أي حرم الإله "بعل سمين" "رب السماء"6 وتعبد له "النبط" وكانوا قد أقاموا له مبعدًا في "سيع"، وذلك فيما بين السنة 33/ 32-12/ 12 قبل الميلاد7.
والظاهر أن اللحيانيين قد أخذوا هذا الإله من النبط، وقد تشرف أحدهم بتسمية نفسه بـ"عبد سمن" أي "عبد السماء"8. وقصد بـ"سمن" الإله.
__________
1 سورة نوح، رقم 71، الآية 23.
2 Histoire, IV, p. 312.
3 Arabien. S. 87, Reste, S. 14, Ryckmans, 16, Jaussen-Savignac, Mission, II, p. 395, 581.
4 Grohmann, Gottersymbole, s. 71.
5 Lihyanish, S. 44.
6 Hisroire, IV. P. 312, Preislamiq, p. 20.
7 W. Caskel, Lihyan, S. 45.
8 W. Caskel, Lihyan, S. 124.(11/315)
"بعل سمن"، أي "رب السماء". وقد اختصر الاسم، فصار "سمن" "سمين".
والعزى من الأصنام المعروفة عند أهل الأخبار. وقد بقيت عبادته معروفة إلى الإسلام. وقد أشير إليه في القرآن. وقد ذكر اسمه في كتابات عثر عليها في "العلا"1. وتعبد له النبط كذلك، وصنعت له معبدًا في "بصرى" دعي "بيت إيل"، وعبر عنه بـ"كوكبتا"، أي "الكواكب"، وهو أنثى، أي إلهة2.
وقد ورد اسم "العزى" على هذه الصورة: "هنعزى" في كتابة لحيانية، دوَّنها رجل اسمه "أوس بن حجر"3" ويظن بعض الباحثين، أن العزى تمثل كوكب الصباح. ويظهر أن اللحيانيين قد أخذوا عبادتها من نبط بلاد الشام4. وأنها لم تكن من آلهة اللحيانيين في الأصل، بدليل عدم ورود اسمها كورود "ذو غابة" أو الآلهة اللحيانية الأخرى في النصوص اللحيانية5.
وورد اسم العزى في الأعلام المركبة، مثل: "بل عزيني" "بال عزيني" وبـ" إيل عزيني"، أي بـ "العزيني"، وذلك في الكتابات الثمودية. و"تيم العزي" و"عبد العزى" و"أمت العزى"، وفي كتابات أخرى تعود إلى ما بين القرن الخامس قبل الميلاد، والقرن الرابع بعد الميلاد6.
ويظهر من بعض الأعلام اللحيانية المركبة، مثل "أوس يه" "أوس يهو"، و"عزريه" "عزر يهو"، أن القسم الثاني من الاسم، وهو "يه" "يهو"، قريب من "يهوه"، وهو الإله الكبير المعروف عند العبرانيين. فـ"يه" "يهو" هو اسم إله من آلهة اللحيانيين.
وأما الإله "جدت"، فالغالب أنه إلهة، أي إلهًا أنثى بدليل وجود تاء التأنيث في آخر الاسم. والأصل هو جدن وهو اسم إله تكلمت عنه7.
__________
1 Histoire. IV, p. 312, Prelslamiq., p. 20.
2 Doughty, ravels In Arabia Deserta, II, p. 511, 515.
3 W. Caskel, Llhyan., S. 82.
4 Llhyan., S. 262.
5 Llhyan., S. 45.
6 Littmann, Thamud und Safa, S. 29.
7 Ryckmans, Prel^amiques, p. 19, Histoire, IV, p. 312.(11/316)
وأما "هفلس" "ها - فلس"، فإنه "الفلس"، عند أهل الأخبار. وقد ذكروا أنه كان على هيئة حجر أسود تعبدت له "سليم"، أو على صورة إنسان قد من حجر عند طيء1.
و"قيس" و"قيسو" من أسماء الآلهة المذكورة في الكتابات اللحيانية. وقد كان له معبد عرف بـ"بت قس" "بيت قيس" في مدائن صالح2.
ويدل وجود اسمه في الأعلام العربية المركبة. مثل "عبد قيس" و"عبد القيس"، أنه كان من الأصنام المعروفة المعبودة عند بقية العرب في مختلف أنحاء جزيرة العرب.
وورد في كتابة لحيانية اسم إله هو: "محر" "هـ - محر" "همحر" وبعده اسم إله آخر، هو "هنا كتب" ويظهر أنه من الآلهة التي كانت تعبد في العربية الجنوبية وعند المعينيين الشماليين، وتعني لفظة "محر" شريعة، أو قانون أو أمر، أو سُنة. وهو من الآلهة التي اختفى اسمها في الكتابات اللحيانية المتأخرة3.
وأما "هنا كتب" "هانئ كاتب" "هني" "هاني"، و"هنى كتب" "هاني كتب" المذكور مع "هـ - محر" "همحر" "هامحر"، فيرى "كاسكل" W. Caskel أنه الإله "توت" thot4 و"توت" هو إله مصري، ويرمز إليه بصورة قرد. ويمثله الإله "نبو" عند البابليين. ويمثل "توت" "هرمس" و"المريخ" Markur فهو الإله الكاتب. ولعل اللحيانيين أخذوا إلههم هذا من المصريين5. ولكننا لا نستطيع أن نجزم أن اللحيانيين قد تصوروا إلههم هذا على صورة "قرد" محاكاة للمصريين لأنهم أخذوه منهم؛ إذ لا دليل لدينا نستدل به على أنهم تصوروا ذلك الإله بصورة قرد6.
__________
1 E. Osiander, 501, Reste, S. 51. Preislamirjues, p. 17 AraWen, 84, Jaussen-
Savlgnac, Mission, II, p. 84.
2 Reste, S. 67. Preislamiques, p. 48, Arabien, 85. Jaussen-Savignac. Mission, II. 501, 520, 528, I, 169, 200. CIS, II. 209, Daughty. Documents EpfgrapWques.p. 38. CIS. II, 19S. J. Euting. Tagebuch., II, S. 262.
3 Llhyan, S. 45.
4 Preislamiques, p. 20, Arabien, S. 86.
5 Lihyan, S. 45.
6 Lihyan. S. 45.(11/317)
ووردت في بعض الكتابات اللحيانية أعلام مركبة، جاء فيها اسم هذا الإله، مثل "جرم هنا كتب"، و"زيد هنا كتب". ومعنى "جرم" و"زيد" خادم أو عبد. فيكون الاسم "عبد هنا كتب" "عبد هنا كاتب"1.
وما "سلمن" "سلمان"، فإنه من الآلهة التي ظهرت عبادتها عند اللحيانيين المتأخرين. ويرى بعض الباحثين أنه والإله "أب ألف" "أبو أيلاف" من الآلهة التي كان واجبها حماية القبور. وقد رمز عن "أبي أيلاف" بصورة أسد يوضع عند جانب القبر ليحميه2.
وقد ورد اسم الإله "أبا لف" "أبو أيلاف" اسم علم لشخص كان كبيرًا على قومه، وذلك في أيام الملك "عبدان بن هانواس"3.
وورد اسم إله هو "شمس"، وقد عبد عند أهل تدمر أيضًا، كما تعبدت له تميم. ونجد بين أسماء رجال قريش وقبائل أخرى أسماء تدل على تعبد الناس للشمس، ومن هذه الأسماء: "عبد شمس"4.
وأما الإله "عجلبن" "عجلبون" "عجل بن"، فإنه من الآلهة اللحيانية المتأخرة. ويظهر أن اسمه الأصلي هو "عجل بل" "عجل بول" "عجلي بل" أي "عجل" و"بول" ونجد اسمه مع "يرحى بول" "يرح بل" "يرحبل"، و"بل" في الكتابات التدمرية. ويظهر أن تاجرًا جاء به إلى اللحيانيين، وأدخل عبادته عندهم. ويظهر أنه جاء به من العراق5.
ولدينا أسماء ونعوت آلهة تعبد لها اللحيانيون من غير شك، وإن لم نعثر عليها في كتاباتهم، توصلنا إلى معرفتها والوقوف عليها من دراستنا للأسماء اللحيانية المركبة، مثل "كبر أل" "كبر إيل"، و"متع أل" "متع إيل"، و"ذرح أل" "ذرح إيل" "ذر حال"، و"عذر أل" "عذر إيل"، وأمثال ذلك، فإن اللفظة الثانية وهي "أل" "إيل"، هي الإله "إيل".
__________
1Llhyan, 8. 45.
2Uhyan, S. 45.
3Llhyan., S. 113.
4 PalmjTe, 37, 80, O. Eissfeldt, 95, 101, Arabien, S. 87.
5 Lihyan, S. 45.(11/318)
"إيلو"، وهو من الآلهة السامية القديمة1.
وبين الأسماء التي وصلت إلينا اسم رجل عرف بـ"عبد قني" "عبد قاني"2، مما يدل على أن لفظة "قني"، هي اسم إله أو نعت من نعوت الآلهة.
وورد في الكتابات اللحيانية المتأخرة اسم رجل عرف بـ"عبد غث بن زد له سمم"3، أي "عبد غوث بن زيد لاه بن سمم" "سموم"، كما ورد "زد غث"، أي "زيد غوث"4، وذلك يدل على أن لفظة "غوث" اسم إله. وعندي أن "غوثًا" نعت من نعوت الآلهة، أي اسم من أسماء الله الحسنى لا اسم علم لإله خاص.
و"خرج" من الآلهة التي تعبد لها اللحيانيون، بدليل ورود اسمه في أسماء الأعلام المركبة مثل: "زيد خرج" و"عبد خرج"5.
ويعد "رعن" من آلهة اللحيانيين كذلك؛ إذ ورد في الأعلام المركبة، مثل: "رعنا مر"، أي "رعن أمر"، وهو اسم رجل من "ديدان". فـ"رعن" من آلهة الديدانيين أيضًا، ومثل: "رعنا مد" "رعن أمد"، ومعنى "أمد" أغضب، و"رعنلثع"، "رعن لثع"، أي "رعن أحاط" و"رعن أدرك". فـ"رعن" إذن اسم إله من آلهة اللحيانيين والديدانيين6.
والإله "يثع" و"يثعن"، من الآلهة التي تعبد لها اللحيانيون، فقد ورد في النص الذي وسمه الباحثون برقم "73" وبـ 73 J S و M 26، اسم امرأة عرفت بـ"أمتيثعن بنت دد"، أي "أمة يثعن بنت داد"، "أمة اليثع بنت داد"، وورد في الكتابات اسم رجل عرف بـ"يثع حيو"7، واسم رجل آخر هو
__________
1 "جرم أل" "جرم إيل" "عز أل، "عز إيل" "عم أل"، "عم إيل"، "أيس أل" "أيس إيل"، "سعد أل" "سعد إيل"، "يمسك أل" "يمسك إيل"، Lihyan, s 46.
2Lihyan, S. 47, 143, JS 214.
3JS 41, Lihyan. S. 109.
4JS 298. Lihyan, g. 47, 154.
5Lihyan, S. 47.
6hyan, S. 47, JS 108, JS 116, JS 142.
7hyan, S. 100.(11/319)
"يثعحن"، مما يدل على أن "يثع" كان إلهًا معبودًا ومعروفًا عند بني لحيان". وقد ورد في كتابة من كتابات "ديدان" اسم رجل عرف بـ"يثع أمر" "يثع أمر"، فقد ورد في النص الموسوم بـ"2" من الكتابات القبورية: "كهف: يثعامر"، أي "قبر: يثعامر" "قبر يثع أمر"1. واسم "يثع أمر" هو من الأسماء الشائعة المعروفة عند العرب الجنوبيين، وقد تسمى به ملوك من ملوك "سبأ فالظاهر أنه من الأسماء التي أخذها الديدانيون واللحيانيون عن العرب الجنوبيين، ومن الجاليات العربية الجنوبية التي كانت قد استقرت في أيام عز الحكومات العربية الجنوبية في هذه الأماكن. فـ"يثع" إذن، هو إله من آلهة العرب الجنوبيين في الأصل، انتقلت عبادته منهم إلى أهل ديدان واللحيانيين.
ومن الآلهة التي نجد لها أثرًا في عبادة اللحيانيين من دراستنا لأسمائهم، الإله: "حمد" "حميد" فقد ورد في اسم امرأة عرفت بـ"أمتحمد بنت عصم"2. وأرى أن "حمد" أو "حميد ليس اسم إله، أي اسم علم، وإنما هو نعت من نعوت الآلهة، أي اسم من الأسماء الحسنى، التي يسم الإنسان بها آلهته، على سبيل التأدب والاحترام.
ونرى أثر عبادة الإله "مناة عند اللحيانيين من دراستنا للأعلام المركبة أيضًا. مثل: "عبد مناة" "عبد منت"3، و"أسمنت" "أوس منت"، أي "أوس مناة"4، و"عبمنت" اختصار "عبد مناة" و"عبدة مناة"، و"عذ منت"، أي "عوذ مناة"، و"عابذ مناة"، و"هون منت" "هون مناة"، و"نعم منت" "نعمت" أي "نعم مناة"، و"نسمنت" "نسأ مناة"، و"قن منت" "قنمنت"، أي "قين مناة"، و"سنفمنت" "سنف مناة"، و"تهنمنت" "تهنأ مناة"، إلى غير ذلك من أعلام مركبة، ورد فيها اسم ذلك الإله5 الذي هو إلهه، أي أثنى عند العرب. وقد ذكرت.
__________
1.Lihyan s. 78
2 راجع السطر الأول من النص المرقم بـ: 78، المنشور في كتاب: Lihyan s 115.
3 Lihyan s. 103.
4 JS 10, Lihyan, s. 143,
5 Dihyan, s. 46.(11/320)
في القرآن الكريم. ولا أستبعد أن يكون أنثى عند اللحيانيين أيضًا. ولعل لأصل الكلمة التي أخذ اسم هذه الإلهة منه، وهو "منوتو" Manotu في النبطية، وتعني "منية" في عربيتنا صلة، بجعل الإله إلهة، أي تحويلها إلهة أنثى.
والصنم "اللات" من الأصنام النبطية، المعبودة عند النبط، والمعبودة عند ثمود كذلك، والظاهر أن عبادته انتقلت إلى عرب الحجاز ونجد من العرب الشماليين، الذين تأثروا بعبادة النبط1.
ووردت لفظة "هتهم "في كتابة لحيانية، وردت بمعنى "إلاهتهم" أي تعبيرًا عن إلهة أنثى2. ويظن "كاسكل" أنها تصغير "لات" "لث". و"اللات"، من الآلهة المعروفة المعبودة عند النبط، وكذلك عند العرب الشماليين، وعند عرب الحجاز. وقد ذكرت في القرآن الكريم، وهي إلهة، أي أنثى. وترد اللفظة عندهم في الأعلام المركبة مثل: "تيم اللات" "تيم لات"3.
وقد وردت لفظة "هله" "هـ - لاه" في كتابة لحيانية، وردت بصيغة التوسل والنداء والخطاب، أي بمعنى: "اللهم" و"يا الله"4. ووردت لفظة "لله"، أي "إلى الإله" أو "لله"، في كتابة أخرى5. وهي لا تعني في كلتا الحالتين إلهًا خاصًّا معينًا، وإنما تؤدي المعنى الذي تؤديه لفظة "إله" و"الإله" في عربيتنا، و God في الإنكليزية، وربما قصد بها إله لحيان الأكبر "ذو غابة"، كما يقصد المسلمون بإطلاقها لفظة "الله"، وذلك للتعبير عن اسم الله بأسلوب مؤدب مهذب6.
ومثل: "هنا له" "هنا لاه" "هني لاه"، و"نساله" "نسألاه" "نسي لاه"، و"ودع لاه" "ودع له"، و"مرا له" "مرأ لاه"، و"تيم له" "تيم لاه"، و"وهب له" "وهب لاه"، و"زيد له" "زيد لاه"، و"جرم له" "جرم لاه"، و"سعد له" "سعد لاه"7.
__________
1 Lihyan s. 46.
2 Lihyan s.89
3 Lihyan s. 46
4 103 Lihyan s.
5 Lihyan s.104
6 Lihyan s.46
7 Lihyan s. 46(11/321)
فإن الجزء الأخير من الاسم وهو "له" "لاه"، هو "إله". وإله من الألفاظ الدالة على الله، وترد في أكثر اللغات السامية.
ويلاحظ أن أكثر استعمال "أل" "إيل" في العبرانية في الشعر وفي أسماء الأعلام المركبة، ولم يستعمل في النثر إلا قليلًا1. أما في اللهجات العربية وفي اللغات السامية الأخرى، فقد استعملت اللفظة في الأعلام المركبة في الغالب، وفي اللغات السامية الأخرى، فقد استعملت اللفظة في الأعلام المركبة في الغالب، وفي معنى "إله" مثل "أل تعلى" أي "الإله تعالى"، وما شاكل ذلك، أي بمعنى اسم من أسماء الله الحسنى وإله.
وعلى الرغم من ورود "أل" "إيل" El بصورة يستنبط منها أنها قصدت إلهًا معينًا خاصًّا، أي اسم علم، لا نستطيع أن نقول إن "أل" اسم علم لإله معين مخصوص، مثل الآلهة الأخرى التي ترد أسماؤها في الكتابات، ذلك لأن الذين ذكروا "أل" "إيل" في الأعلام المركبة، أو في مواضع أخرى من كتاباتهم لم يقصدوا كما يتبين من الاستعمال إلهًا معينًا اسمه "أل" "إيل"، وإنما أرادوا ما نعبر عنه بقولنا "إله" والجمع آلهة. فلفظة "إله" عندنا ليست اسم علم، وإنما تعبر عن اسم الجلالة دون ذكر اسمه. وهي كذلك عندهم وعند بقية الساميين بمعنى "رب"، وإله و"بعل" عند الأقدمين.
ولا يعرف العلماء معنى لفظة "أل" "إيل" على وجه علمي دقيق. ولكنهم يفسرونها عادة بمعنى "القدير" و"الحاكم" ومعنى ذلك أن "أل" نعت من نعوت الآلهة، أو اسم من أسماء الله الحسنى بحسب التعبير الإسلامي" ويرى بعض العلماء احتمال عدم وجود صلة له بـ"إلوهيم" Elohim الكلمة العبرانية التي تطلق على الإله2.
وأما آلهة الصفويين، فهي "اللت" "لت" "هلت"، و"دين" "ديان"، و"هله" "هـ ل هـ"، و"جد عوذ"، و"بعل سمن"، و"شيع هـ - قوم" "شيع القوم"، و"أثع"، و"صالح"، و"ذا الشرا" "ذو الشرى"، و "رضا"
"رضى"، و"جد ضيف"، و"رحم" "رحيم"3.
__________
1 Hastings, p. 299, Lihyan, s. 46, Le Museon 1954.
Tome , LXVII, p. 106.
2 Hastings, p. 299.
3 Ryckmans, p. 21.(11/322)
و"الت"، أي "اللات" إلهة أي أنثى، ويراد بها الشمس، وقد مثلت في بعض النصوص الصفوية بقطعة من الشمس رسمت بصوة بدائية، ورسمت في بعض النصوص السامية الشمالية بشكل امرأة عارية1، رمز إليها بصورة فرس في النصوص العربية الجنوبية، والفرس من الحيوانات المقدسة التي ترمز إلى الشمس عند قدماء الساميين وعند غيرهم من الشعوب، ولذلك كان الناذرون لها يقدمون لها تماثيل مصنوعة على هيئة فرس2.
ولفظة "ديان" "ديان"، ليست اسم صنم على ما يظهر، وإنما هي صفة من صفات الآلهة. وهي معروفة في عربيتنا وعند المسلمين، تطلق على الله. وقد استعمل الصفويون "جد عوض" اسمًا لإله، كما استعملوا اسمًا آخر قريبًا منه هو "جد ضيف".
وقد ورد اسم الإله: "جد عوض" "هجد عوض" في نص محفوظ في متحف دمشق، وسم بـ Damas 1312 وورد بعده اسم الإلهين: "شع هقوم" "شيع هقوم"، و"هلت" "اللات"3.
وتقابل لفظة "جد" معنى الحظ في اللغة اليونانية، وقد صار في الأقاليم السورية المتحضرة الإله الحارس للمدينة. و"جد عوذ" هو إله معروف مشهور عند الصفويين، وورد اسمه في كتاباتهم. وقد ذهب "رينه ديسو" إلى أن لفظة "عوذ" "عويذ" هي اسم عشيرة أو قبيلة كانت تتعبد للإله "جد"، وكانت سدنته منهم، فنسب إليهم وعرف بـ"جد عوذ" "جد عويذ" على طريقة العرب في ذلك العهد من نسبة الأرباب إلى القبائل أو العشائر أو السدنة التي يخدمونها أو على الأشخاص الكبار4.
وقد ورد اسم الإله "جد ضيف" "جد ضف" في عدد من الكتابات الصفوية التي عثر عليها في المملكة الأردنية الهاشمية. كما ورد فيها اسم إله آخر هو الإله: "هجد عوذ" "ها – جد عوذ"5.
__________
1 ndbuch, I, S. 214.
2 Handbuch, I, 8. 227. Grohmann, Gottersymbole und Symboltiere auf Sud-
arabischen Denkmaler, Wlen, S. 70.
3 Ryckmans, Inscriptions Bafaitlques, Louvain, 1951, p. 87.
4 رينه ديسو "137".
5 Annual of the Department of Antiquities ol Jordan, 1951, Vol.. I, p. 27.(11/323)
أما الإله "شيع القوم"، فقد ورد اسمه في النصوص النبطية في "بطرا" وفي "تدمر"، وهو إله القوافل في نظر بعض المستشرقين1.
وهو إله يحمي قومه. ولد احتمى به أهل القوافل خاصة من الأعراب، وقطاع الطرق. ولذلك كان النجار وأصحاب القوافل يذكرون اسمه وربما يحملون وثنه معهم لحمايته لهم في أثناء السفر حتى بلوغهم ديارهم سالمين.
وقد نعت في كتابة نبطية دوَّنها أحد نبط "تدمر". بأنه "الذي لا يشرب خمرًا"2 وهذا يعني أن هذا الإله كان يكره الخمور. ويكره شاربيها. ولعل في ذلك فكرة تحريم الخمر عند جماعته. وقد كان في الجاهليين من حرموا الخمر على أنفسهم. كما نعت بـ"الإله الطيب المجازي"3. وهو نَعْت نُعِت به وبمثله آلهة أخرى. وقد ذهب بعض الباحثين إلى احتمال وجود جماعة من النبط ومن غير النبط كانت تحرم شرب الخمر، بدليل ما جاء في النص النبطي من نعته بأنه "الإله الطيب المجازي الذي لا يشرب الخمر"4. و"يثع" هو في جملة الآلهة التي تعبد لها الصفويون، كما تعبد لهم غيرهم أيضًا. وقد قلت سابقًا باحتمال انتقال عبادته إلى هذه الأرضين من العرب الجنوبيين الذين كانوا قد نزحوا إليها واستولوا عليها وذلك قبل الميلاد. وتعني لفظة "يثع" الحامي والناصر والمساعد، وقد حرف في اليونانية إلى "أيثاؤس" و"يشع". وقد ورد "يثع" في نص توسل فيه صاحبه إلى هذا الإله أن يعينه على المكاره، وتوسل آخر إليه أن يثأر ممن يتبعه، وطلب إليه آخر أن يشفيه من المرض5.
و"رحم" "رحيم" مثل "رحمن"، أي "الرحمن"، لعلهما اسمان من أسماء الله الحسنى في الأصل، ثم صارا اسمين علمين. وينطبق هذا القول على لفظة "صالح" الواردة في نصوص الصفويين6.
__________
1 Histoire, IV, P. 14.
2 Littmann, Semitic Inscriptions, 1904, p. 70. Montgomery, p. II, Cooke, North Semetic Inscriptions, p. 304.
3 رينه ديسو "145".
4 رينه ديسو "145".
5 رينه ديسو "143 وما بعدها".
6 Preisiamiques,p. 23.(11/324)
وقد قرأ بعض "الباحثين لفظة "حم": "رحام". أما "نولدكه"، فقد قرأها بتشديد حرف الحاء1. ولعدم وجود علامات لحركات الحروف، يجوز أن تقرأ الكلمة "رحيم"، كما ذكرت آنفًا. وقد ورد اسم هذا الإله في نص تدمري أيضًا؛ لأنه كان معبودًا عندهم أيضًا2.
وقد ذكرت "الشمس" في نص أو نصين أو أكثر من ذلك بقليل من النصوص الصفوية. وعبادة الشمس، هي عبادة قليلة الانتشار بين الأعراب، على عكس الحضر الذين كانوا يتعبدون لها. ولهذا كان أكثر الذين عبدوها من الحضر، أو من الأعراب الذين تطوروا بأن ركنوا إلى حياة الحضر، أو توسطوا بين الحياتين3.
وفي جملة النصوص الصفوية التي ورد فيها اسم "الشمس"، نص سجله رجل اسمه "خالص بن شهم4 بن عمرة بن عم"5. وقد توسل إلى "شمس وجد عوذ واللات" أن تنزل العمى بمن يتطاول على الكتابة فيمحوها ويطمس معالمها6.
و"شمس" من هذه الآلهة التي ذكرت في الأعلام المركبة؛ إذ ورد "عمشمس" "عم شمس"7. وهي إلهة معروفة. تعبد لها العرب الجنوبيون وغيرهم من العرب، كما أنها من الآلهة المعبودة عند بقية الساميين. ويرى "كاسكل" أن الشمس كانت تعد إلهًا ذكرًا عند أكثر العرب الشماليين في هذا العهد، أي في القرن الأول قبل الميلاد، والقرن الأول للميلاد8.
ونجد اسم الإله "بعل سمن" في الكتابات الصفوية كذلك9. والصفويون.
__________
1 رينه ديسو "144".
2 رينه ديسو "144".
3 رينه ديسو "144 وما بعدها".
4 "شهم" "شهيم" على هذه الصورة: "شوهيم" دونها مترجم: رينه ديسو، أما الأصل الصفوي، فهو "شهم" راجع رينه ديسو "142".
5 في الأصل "عمرت"، "عمرة" في الترجمة "عميرت" رينه ديسو "142". و"عم" في الأصل، في الترجمة "عوم" رينه ديسو "142". ربما "عوام".
6 رينه ديسو "142".
7 Lihyan, s. 47, 144.
8 Lihyan, s. 48.
9 Littmann, Safa, s. 58.(11/325)
هم كما ذكرت قبائل عديدة طافت في هذه الأرضين التي عثر على الكتابات الصفوية بها، وهم من مواضع متعددة، ولم يكونوا من موطن ثابت، لذلك كانوا يعبدون آلهة مختلفة، آلهة قبائلهم، وآلهة قبائل سبقتهم، وآلهة قبائل اختلطوا بها فأخذوا عنها معبوداتهم، مثل هذا الإله "بعل سمين"، أي بعل السماء، أو رب السماء.
وتعد اللات من أهم الآلهة عن الصفويين، بدليل كثرة ورود اسمها في كتاباتهم. فقد ورد اسمها في أكثر من ستين مرة في الكتابات1.
و"هـ ل هـ"، "هله" هي بمعنى" "اللهم". فلفظة "له" هي بمعنى "إله" و"لاه" وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أنها تعني "الله". وإذا صح هذا الرأي، دل على أن لفظة الجلالة "الله" كانت معروفة عند العرب الجاهليين قبل الإسلام بقرون. وقد وردت في عدد من النصوص الصفوية مسبوقة بحرف "الهاء" في الغالب، وهو حرف النداء، كالذي ورد في نص صفوي سجله شخص اسمه "سني بن سني بن محنن"، ذكر فيه أنه عثر على أثر عمه، ثم توسل إلى "له" إذ خاطبه بقوله: "فهله سلم لذ ساد وغيرت"، أي: "فيا الله امنح السلامة لمن سار بمعنى سافر وساعده"2.
و"رضى" "رضا" هو من الآلهة التي تعبد لها الصفويين كذلك، وقد تحدثت عنه في مواضع عدة، إذ كان معبودًا عند غيرهم أيضًا. وهو "أرصو" "أرضو" في الغالب، الذي يرد في نصوص تدمر. وقد ورد اسم "رضى" في عدد من الكتابات الصفوية، يتوسل فيها أصحابه إليه أن يمنَّ عليهم بالسلامة والنعم، وأن يبعد عنهم شر الأعداء وكيدهم، وأن ينزل النقمة وغضبه على أعدائهم، إلى أمثال ذلك من توسلات وأدعية3.
وورود "عبد حت"، أي "عبد حوت"، في الكتابات المتأخرة4، يدل على أن "حوتًا" من أسماء الآلهة التي تعبد لها اللحيانيون.
__________
1 العرب في سورية قبل الإسلام "111".
2 رينه ديسو "134".
3 رينه ديسو "134".
4 Lihyan, s. 47, 143, Js 89.(11/326)
و"حمل" اسم إله أيضًا، لورود اسمه في الأعلام المركبة مثل: "عبد حمل"1، وهو من الأسماء التي وردت في الكتابات اللحيانية المتقدمة2.
وكثيًرا ما نجد أناسًا يتوسلون إلى هذه الآلهة بأن تمنحهم السلام والرحمة، وأن تنكل بأعدائهم، بل نجد شواخص القبور، ترجوها أن تصيب بالعمى من يطمس كتابة الشاخص، الذي يحمل اسم صاحب القبر المدفون فيه وأن تنزل به الأمراض والآفات3. ومعنى هذا أن المؤمنين بها كانوا يعتقدون أنها تثيب وتعاقب، تمنح السلام والخير، وتنفع وتضر وتنزل الأذى بمن تريد وتشاء، ولهذا التوسل الناس إليها وخاطبوها، إما لرجاء وإما لإيذاء.
أما آلهة النبط، نبط "بطرا"، فهي: "ذو الشرى" Dushara، و"اللات"، وهو إلهة، "أم الآلهة"4، و"منوتو"، أي "مناة"5، و"قشح"، و"هبلو"، أي "هبل"، و"شيع القوم" حامي القوم، وإله القوافل6.
وأما "ذو شرا" Dausarys = Dousares "دوسرا"، فإنه "ذو الشرى" الذي يرد اسمه عند أهل الأخبار. وهو من آلهة "بطرا"، وقد زعم أنه في منزلة "ديونيسوس" Dionysos. وعرف بـ Deos Arabikos = Dieu Arabiques في بعض الكتابات اليونانية التي عثر عليها في الأردن، والتي يعود عهدها إلى سنة "116-117" أو "126-127" للميلاد، مما يدل على أنه كان من الآلهة المعروفة بين العرب، وأنه إلههم الخاص بهم7.
وذكر أن Dusares هو في منزلة Dionysus، وقد عرف عند اليونان بأنه إله العرب، كما ذكرت. وأنه الإله Pakades عند النبط، وله مبعد في "جرش" Gerash8.
__________
1 Lihyan, s. 47.
2 Lihyan , s. 143.
3 راجع النصوص في رينه ديسو "ص126" فما بعدها".
4 CIS, II, 85, 98, NSI, 80, Ency. Religl., 9, p. 112.
5 CIS. II, 97, 98, NSI. 79. Ency. Religl., 9, p. 22.
6 Ency. Religl., 9, p. 22.
7 R. De Vaux, Une Nouvelle Inscription au dien Arabikue, ADAJ, I, 1951,
p. 23. Arabien, S. 86.
8 BASOR, NUM: 83, 1941. p. 8.(11/327)
وورد اسم "دشر" "دوشرا" Dushares, في عدد من النصوص الصفوية. ورد في هذه الجملة مثلًا: "فهلت وهدشر ثار لمن حولت"1. أي "فيا اللات ويا ذو الشرى، إثأرا ممن يحول" ويقصد بـ"يحول"، يحول شاهد القبر الذي كتبت عليه هذه الكتابة كما ورد في عدد من الكتابات يرجو فيها أصحابها من هذا الإله أن ينعم عليهم بالسلامة وأن يتقبل منهم أعمالهم.
وقد ورد مع اسم "ذي الشرى" في بعض الكتابات النبطية، اسم الإله "هبل" واسم "مناة". و"هبل" هو صنم قريش الرئيس. وهو إله الكعبة ويرمز إلى القمر. وقد وضع في الكعبة على هيئة إنسان وأمامه حفرة عبر عنها بلفظة "بغبغ"، وكانت يده اليمنى مكسورة، فعوضته قريش بيد من ذهب، والظاهر أن الحية ترمز إليه، أو إلى ود، وأن الحية التي قيل إنها كانت في بئر زمزم، هي رمز هبل2.
وورد اسم "اللات" مدونًا في نصوص نبطية عديدة، فقد عثر بـ"صلخد" على كتابات من سنة "40" قبل الميلاد، وسنة "50" بعد الميلاد، وسنة "95" للميلاد، وعلى نصوص أخرى، وقد ذكر فيها اسم هذه الإلهة، وأشير فيها إلى تشييد معبد خصص بعبادتها، وإلى سدنة كانوا يقومون بخدمتها. ووجدت كتابات في مواضع نبطية أخرى. ورد فيها اسم "اللات" ويدل كل ذلك على أن اللات كانت من المعبودات المقدرة عند نبط هذه الديار3.
أما الكتابات النبطية المدونة في أماكن أخرى من بلاد الشأم وفي أعالي الحجاز، فقد ورد فيها اسم "اللات". ورد فيها على أنه من الآلهة الكبيرة، التي يخدمها سدنة، ولها معابد خصصت بعبادتها فقد جاء في نص مؤرخ بسنة "47" للميلاد أن شخصًا اسمه "ملكو بن قصيو" "مالك بن قصي" أو "مليك بن قصي"، كان كاهنًا "للات" في موضع "حبرن" "حبران"، وهو من جبل حوران4.
__________
1 Annual of the Department of Antiquities of Jordan Vol, II, P. 28, 1935.
2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 68 وما بعدها".
3 رينة ديسو "ص116 وما بعدها".
4 رينه ديسو "115" Jaussen – Savignac, Mission, II, p. 506.(11/328)
وأما آهلة "تدمر" فهي "بل"، "أي "بعل" و"عزيزو"، و"أرصو" "أرضو"، و"شيع القوم"، و"شمش" "شمس" و"اللات"، و"إيل"، و"بعل شمين"، و"سعدو" ويلاحظ أن الكتابات التدمرية تستعمل في الغالب الكنايات والنعوت الإلهية بدلًا من أسماء الآلهة، فاستعملت "تبارك اسمه"، و"رب العالم"، و"الله المحسن"، و"رب العالمين"، وأمثال ذلك كناية عن آلهة تدمر. وهي تشير إلى وجود فكرة التوحيد عند التدمريين، وإلى أغرب أهل تدمر عن التصريح بأسماء الآلهة، والاكتفاء بذكر نعوتها وأسمائها الحسنى، على طريقة العبرانيين في تجنب ذكر اسم الإله، والتكنية عنه بنعوته. وقد يكون لآراء الفلاسفة اليونان أثر في معتقدات أهل تدمر في آلهتهم1.
ويرى "ليدزبارسكي" Lidzbarski أن "بل" هو إله تدمر الأكبر. وهو "بعل". ولمركزه الخطير عند أهل تدمر، دعاة اليونان "زيوس" zeus أما "ملك بل"، فإنه الشمس، وأما "عجلى بل"، فهو القمر. ويقدم عادة على "ملك بل" في الكتابات. وتقدم القمر على الشمس عادة قديمة عند أهل تدمر لا بد أن يكون لها سبب بالطبع2.
أما الإله "عزيزو" فهو العزى. ويؤيد ذلك ما ذكره أحد الكتبة اليونان من أنه كان كوكب الصباح عند العرب، وأنه الإله الرءوف الرحيم الذي عبدته العرب قبل الإسلام. ويلاحظ أن هذا النعت وارد في نص تدمري، مما يثبت كون "عزيزو" هو "العزى" الإله الشهير3.
وأما "أرصو" "أرضو"، فيظن "ليدزبارسكي" أنه Oratal الذي ذكر المؤرخ "هيرودوتس"، أنه أحد آلهة العرب الكبرى مع الإله "اللات" ويظن أن "أرصو" هو "رضا" "رضى" الإله الذي أشار إليه الأخباريون.
وأما اللات، فقليل الورود في النصوص التدمرية مع شيوع الأسماء المركبة
__________
1 Ency, Religi, 9, p. 592.
2 Ency, Religi, 9, p. 593.
3 Ency, Religi, 9, p. 594.(11/329)
المؤلفة منها ومن كلمات أخرى عندهم1.
وأما "منوتو" فإنه "مناة" المذكور في القرآن2. وكان له معبد في "فديد" بين مكة والمدينة، وقد صنع من حجر، وتعبدت له الأوس والخزرج، وهذيل، وخزاعة. وتعبد له النبط كذلك، وأقاموا له معبدًا أشير إليه في كتابات "مدائن صالح"، كما تعبدت له ثمود ولحيان ونبط تدمر4. وهو أنثى في نظر أهل الأخبار، والظاهر أن بينه وبين المنية صلة، كما بينت ذلك قبلًا.
وقد عبد الإله "بعل شمن" "بعل شمين" في تدمر. وقد رأينا أنه عبد عند اللحيانيين والصفويين، وعند غيرهم أيضًا. وقد وجد اسمه في كتابة تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، تبين منها أنه كان معبودًا في "بعلبك" وهو كما قلت الإله "بعل سمن"4.
وأما "سعدو" فقد رأى بعض المستشرقين أنه الإله "القمر" وأنه الصنم "سعد" وهو من الأصنام التي ذكرها أهل الأخبار. وقد تعبد له بعض كنانة، ويقال هذيل، كما تحدثت عنه5.
وورد في بعض كتابات "حوران" اسم إله دعي بـ"قصي" وإليه تنسب بعض الأعلام المركبة التي ورد فيها اسمه، مثل "عبد قصي" ويظن أنه الإله المسمى بـ"زيوس كاسيوس" Jupiter Casius وبـ Zeus Kasio = Jupiter casiu , في الكتابات اليونانية6. وفي جملة هذه الأسماء المركبة المعروفة التي وردت إلينا، اسم "وهب لث"، أي "وهب اللات"، وهو اسم ابن الملك "أذينة" من زوجه "زنوبيا"، أي "الزباء"7.
__________
1 Ency. Rellgi., 9, p. 594.
2 سورة 53، الآية 20.
3 Jaussen-Savignac, Mission, I, p. 169, 192, CIS, II, No: 224, J. Starcky,
Palmyre, 85, Arablen, S. 84.
4 Arablen, S. 86, Ryckmans, JO.
5 O. Elssfeldt, 150, Arabien, S. 85, Handbuch, I, B. 234.
6 Arablen, S. 86.
7 رينه ديسو "122".(11/330)
وقد ذهب "رينه ديسو"، إلى أن العنصر العربي كان مهمًّا في تدمر، وله أثر في حياة المدينة، وأنه هو الذي أدخل عبادة اللات إلى تدمر، وقد عبر عنها بـ"أثنيا" ولهذا ترجموا اسم ابن الزباء أي "وهب اللات"، بـ"أثينودور" Athenodore1.
وجاء في كتابات نبط "مدائن صالح" اسم إله عرف بـ"شيع هقوم" "شع هقم" "هشع هقم" "شيع هاقوم" "شيع القوم"، وهو إله القوافل والمحاربين يدافع عن القوافل وعن رجالها ويصد عنها لصوص الطرق وقطاعها، ولهذا كان يتقرب إليه التجار بالنذور وبالدعوات لينزل بمن يتحرش بتجارتهم العذاب الأليم2. وهو أيضًا من آلهة قوم ثمود والصفويين3، كما تحدثت عن ذلك.
وقد بني للعزى معبد في "بصرى"، عرف بـ"بت أل"، أي "بيت إيل"4.
وأما آلهة "ديدان"، فلا نستطيع التحدث بإفاضة عنها؛ لعدم وصول كتابات ديدانية إلينا، فيها ذكر لتلك الآلهة، وفي الأسماء الديدانية المركبة أسماء آلهة، على رأسها "أل" "إيل" الذي ورد في "كبر - أل" "كبر إيل"، و"منع أل" "متعال" "متع إيل"، و"ذرحال" "ذرح إيل"، و"وسقال" "وسق إيل"، و"أل - بر" "إيل - بر" و"العم" "إيل - عم" و"شيمال" "شيم - إيل"، و"الأب" "أل أب"، "إيل أب"، فإن "إيل" "أل" في هذه الأسماء هو الإله "إيل"5.
ثم" إله"، و"يثع"، و"خرج"، و"رعن"، و"دد" "داد"، و"نعر"، و"قس" "قوس" "قيس". وبعض هذه الألفاظ نعوت للآلهة، لا أسماء أعلام، وبعضها من أصل عربي جنوبي، مثل "يثع" فإنها نعت من نعوت الآلهة، معناه: "المساعد" "الناصر" "المؤيد".
__________
1 رينه ديسو "122"
2 Arabien, S. 86.
3 F. V. Wineth, Safaitic Inscriptions from Jordan. University of Toronto Press, 1957, p. 20.
4 Arbien, S. 82.
5 Lihyan, s. 37.(11/331)
وقد عرف عند السبئيين. وبعض آخر من أصل شمالي مثل "دد" "داد"، فإنه من معبودات الكنعانيين والنبط1.
ويرى "كاسكل" أن "خرجا" هو إله، والخرج في العربية أول ما ينشأ من السحاب، وبه سمي "الخرج". وقد ورد في الأعلام المعينية المركبة: "عبد خرج"، و"زيد خرج"2. ويحتمل أن يكون قد جاء إلى الديدانيين من المعينيين الذين كانوا أصحاب ديدان قبل الديدانيين.
ويرد "دد" "داود" في الأسماء المركبة كذلك، وكذلك بصيغة التأنيث أي "ددت" "دادت"، أي إلهة ويعني "دد" عم2" فقد ورد "حي- دد" "حي داد" وورد "عبد ددت" أي "عبد دادت"، يدل على أن "داد" إله من الآلهة المعبودة. وأن ددت إلهة".
و"قس" أي "قوس" هو أيضًا من أسماء الآلهة، إذ ورد مكونًا لاسم رجل، عرف بـ"جلتقس"، أي "جلت قوس"4. وورد اسم آخر في الأعلام المركبة كذلك، هو "قس" في اسم "عبد قس" ويمكن أن يقرأ "قوسًا" كما يمكن أن يقرأ "قيسًا" أي "عبد قيس"، و"عبد قيس" و"عبد القيس" من الأسماء المعروفة عند العرب. فـ"قوس" و"قيس" من الآلهة المعروفة عند العرب.
و"قوس" هو من آلهة بني أدوم" أي الأدوميين إذ كان يعبد عندهم. وقد ذهب "بروي" Braeu إلى أن الإله "قيس" هو إله واجبه حماية الحدود5.
ووردت لفظة "صلم" في الأعلام المركبة كذلك، مثل "صلمجد" أي "صلم جد" ومثل "صلميحب" "صلم يحب"6. ومعنى ذلك أن "صلما" هو اسم إله.
يلاحظ أن بين الآلهة المذكورة أسماء هي في الواقع ليست أسماء. وإنما هي
__________
1 Lihyan, S. 38.
2 Lihyan, S. 38.
3 Lihyan, S. 38. Lihyan, s. 47. 145.
4 Lihyan, s. 47. 146.
5 Lihyan, S. 47. Brau, In WZKM, XXXII, 56.
6 Lihyan. S. 47. 152, JS 314, 382.(11/332)
صفات، أو ما يقال له "أسماء الله الحسنى" في الإسلام، استعملت وأطلقت على الآلهة حتى صارت في منزلة الأسماء. كما نجد صفات وضعت قبلها لفظة "ذ" أي "ذو" أو "ذت"، أي "ذات"، وأطلقت على الآلهة إطلاق الأسماء على المسميات. ومن هذا القبيل "ذ عقل" أي "ذو عقل"، و"ذ شرى"، أي "ذو الشرى"، و"ذ قبض"، أي "ذو قبض"، و"ذت أنوط"، أي "ذات أنواط"، و"ذت حمم"، أي "ذات حميم"، و"ذت بعدن"، أي "ذات البعد"، فليست هذه أسماء في الأصل، وإنما هي على ما ذكرت، وقد عبر بها عن آلهة معينة، حتى صارت عندهم في منزلة الأسماء.(11/333)
الفصل السبعون: أصنام الكتابات
مدخل
...(11/33)
الآلهة التي ورد ذكرها في النصوص:
وأود أن أدون هنا أسماء ونعوت الآلهة التي أشير إليها في نصوص المسند، وفي النصوص الأخرى باختصار؛ ليحيط بها القارئ، وهي: "ود" إله معين الكبير. وقد ورد في نصوص أخرى عثر عليها في أعالي الحجاز. و"المقه" إله سبأ الكبير، و"سن" "سين" إله حضرموت الكبير، و"روخ" و"شهر"، و"عم" إله شعب قتبان. وهي كلها في معنى واحد؛ إذ قصد بها الإله القمر.
ومن الأسماء الأخرى: "إنبي" "أنبي"، و"شرقن" "الشارق"، و"رحم" "الرحيم" "رحيم"، و"رحمنن" "الرحمن"، و"عثتر"، و"آثرت" "آثيرت"، و"بعل"، و"بعلت"، و"ذات أنوت" "ذات أنوات"، و"ربت أثر"، و"بعدن"، و"ذت بعدن"، و"برن"، و"ذت برن"، و"غضرن"، و"ذت غضرن"، و"حمم" "حميم"، و"ذت حمم" "ذات حميم" "ذات حمم"، و"نشقم" "نشق"، و"رحبن" "رحاب" "الرحاب"، و"ذت رحبن"، "ذات الرحاب"، و"صهرن" "الصهر"، و"ذت صهرن" "ذات الصهر"، و"صنم"، و"ذت صنتم"، و"ضهرن"، و"عم ذ دون"، أي "عم رب دأون" "عم صاحب داوان"، و"أل" "إيل"، و"كهلن" "الكاهل"، و"حرمن" "الحرم"، بمعنى الإله، و"حرمت" "حرمة"،(11/333)
بمعنى الإلهة. و"هوس"، و"حلم" "حليم"، و"حكم" "حوكم"، و"مت قبط"، و"متب نطين"، و"نهي"، و"نكرح"، و"نسر"، و"نسور"، و"رب شهر"، و"رب ثون"، و"صدق" "صديق" "صادق"، و"شمس"، و"سموي"، و"شرقن"، و"سمع" "سميع" "سامع"، و"تالب" "تلب"، و"تلب ريمم" "تالب ريام"، أي الإله "تالب" رب موضع "ريام" لوجود معبد كبير له به. و"عثرت"، "عزي"، و"تلب سمعى" "تالب سمعى"1، و"حول" "حويل"، و"ذ جريم" "ذو جرب"، و"ذ قبضم" "ذو قبض" "ذو القبض" "القابض"، و"سمعى"، و"شريت" "شرى"، و"عثتر شرقن"، و"عزين"، و"قزح"، و"متب مذجب"، و"نرو"2.
ومن أسماء آلهة ثمود: "ود"، و"جد هدد"، و"شمس"، و"عزيز"، و"نعرجد"، و"عمى شجا"، و"رضو" و"منت"، و"كهل"، و"نهي"، و"إيل" "أل"، و"لت" "لات"، و"عثرسم" "عثر سمن"، و"صلم"، و"منف"، و"عثتر"، و"يثع"، و"يغث"، "يغوث"، و"بعلت"، و"يهو"، و"فلس"، و"عوذ".
وتمكن الباحثون من الحصول على أسماء عدد من آلهة لحيان، منها: "أبلف" "أب ألف" "أبالف"، بمعنى "أبو أيلاف"، و"عجلبن"، و"بدع سمع" "بدعسمع"، و"بعلسمن"، "بعل السماء"، و"ذ عبت" "ذو غابة"، و"هنا كتب" "هانئ كتب"، و"له" "لاه"، و"لهت" "إلهات"، و"لت" "لات"، و"همحر" "هامحر"، و"سلمن" "سلمان"، و"هنعزي" "هانعزي"، و"ود"3.
__________
1 Handbuch, I, S. 260–261.
2.Handbuch, I, S. 260
3 W. Caskel, Lihjan S. 141.(11/334)
وحصلنا من الكتابات الصفوية على أسماء بعض الآلهة، مثل: اللات" "لت"، و"العزى"، و"مناة" "منات"، و"رصا" "رضو" و "هـ له" "هالاه" "الله"، و"جد عوذ"، و"شمس"، و"رحم"، و"شيع هقوم" "شيع القوم"، و"أثع" "أثاع"، و"بعل سمين" "بعل سمن"، و"دو شر" "ذو الشرى" "د شر"، و"جد ضف"، "جد ضيف"1.
__________
1 Annual of the Department of Antiquities of Jordan, Vol, I, 1951, p. 27. والعدد الثاني الصادر سنة 1953 ص23، 24، 31، 36، 39، 41، 42، 43.(11/335)
الفصل الحادي والسبعون: شعائر الدين
مدخل
...
الفصل الحادي والسبعون: شعائر الدين
ولكن دين شعائر تكون له سمة وعلامة تميزه عن غيره من الأديان. ولما كنا قد ذكرنا أن الجاهليين كانوا شعوبًا وقبائل، لم تجمع بينهم وحدة فكر ولم تضمهم دولة واحدة، أو عقيدة مشتركة، فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن شعائر واحدة لجميع عرب الجاهلية.
وما سأذكره عن ديانات أهل الجاهلية، مستمد إما من نصوص جاهلية، وذلك فيما يخص العربية الغربية والعربية الجنوبية، وإما من موارد إسلامية، وهو ما يتناول أهل الحجاز، قبيل ظهور الإسلام، وبعض أنحاء نجد. وهو مما جاء عنهم في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي وفي كتب التفسير والسير والأخبار مما له صلة بأيام الجاهلية المتصلة بالإسلام وبظهور الإسلام.
وفي مقدمة شعائر الدين عند أهل الجاهلية: الأصنام وبيوتها والتقرب إليها بالصلاة وبالسجود وبالطواف حولها، وبالنذور، وبالحبوس وبالقسم بها، وذلك لتمنَّ على عبدها الإنسان فتمنحه ما يرجوه في هذه الحياة من صحة وعافية ومال ونسل وذكور، وتكاد تنحصر الكتابات الجاهلية1 التي عثر عليها حتى الآن بهذه الأمور؛ إذ لا تكاد نجد فيها شيئًا له علاقة بالآلهة يخرج عن حدود ما ذكرت ويكاد يقتصر ما جاء في روايات أهل الأخبار عن ديانة أهل الجاهلية بهذه الأمور
__________
1 Grohmann, s. 89, Jaussen-Savignac, Mission, II, 379, 401, 452.(11/336)
أيضًا، فلا تتجاوز ما ذكرته من تقرب إلى صنم أو توسل إليه وطواف به، لنيل شيء منه يتمناه ويرجوه في هذه الحياة الدنيا.
أما الصلاة إلى الآلهة على نحو ما يفهم من الصلاة في الإسلام فلا نجد لها ذكرًا في النصوص الجاهلية، ولا نكاد نجد لها صورة واضحة صحيحة في روايات أهل الأخبار، اللهم إلا فيما يخص صلوات اليهود والنصارى والعرب فقد كان هؤلاء يصلون في كنائسهم في أوقات معينة، وقف بعض أهل الجاهلية عليها، فأشاروا إليها في أشعارهم وفي حديثهم عن أهل الكتاب.
وقد ذُكر أن عبدة "الشمش" كانوا قد "اتخذوا لها صنمًا بيده جوهر على لون النار، وله بيت خاص قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث مرات في اليوم، ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعونه ويستشفعون به. وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها، وإذا غربت وإذا توسطت الفلك. ولهذا يقارنها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة؛ لتقع عبادتهم وسجودهم له. ولهذا نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، عن تحري الصلاة في هذه الأوقات قطعًا لمشابهة الكفار ظاهرًا، وسدًّا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام"1. وذكر "اليعقوبي" أن العرب كانت "إذا أرادت حج البيت الحرام، وقفت كل قبيلة عند صنمها وصلوا عنده ثم تلبوا"2. وفي هذين الخبرين دلالة على وجود الصلاة عند الجاهليين، ولا سيما في خبر عبدة الشمس، حيث كانوا يصلون ثلاث كرات لها في اليوم.
وذكر أن التسبيح" بمعنى الصلاة والذكر، روي أن "عمر" جلد رجلين سبحا بعد العصر، أي صليا. وأن قول الأعشى:
وسبح على حين العشيات والضحى ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
يعني الصلاة بالصباح والمساء. وعليه فسر قوله: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، يأمرهم بالصلاة في هذين الوقتين3.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 215 وما بعدها".
2 اليعقوبي "1/ 225".
3 اللسان "2/ 473"، "سبح".(11/337)
وذكر أنهم كانوا يصلون على موتاهم، وكانت صلاتهم أن يحمل الميت على سرير، ثم يقوم وليه، فيذكر محاسنه كلها ويثني عليه. ثم يقول: عليك رحمة الله. ثم يدفن1.
وقد أشير إلى سجود الناس للشمس والقمر في القرآن الكريم: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} 2. "يقول تعالى ذكره: فإن استكبر يا محمد هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم من مشركي قريش وتعظموا عن أن يسجدوا لله الذي خلقهم وخلق الشمس والقمر، فإن الملائكة الذين عند ربك لا يستكبرون عن ذلك ولا يتعظمون عنه"3. كما أشير إلى سجود أهل "سبأ" إلى "الشمس" في الآية: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} 4. وفي هذه الآية وصف لتعبد أهل سبأ للشمس وسجودهم لها. وقد ذكر المفسرون أن ملكة سبأ "كانت لها كوة مستقبلة الشمس، ساعة تطلع الشمس تطلع فيها، فتسجد لها"5. فسجودهم للشمس، هو عبادة لها وتعظيمًا لشأنها.
__________
1 المحبر "320 وما بعدها".
2 سورة فصلت، الرقم 41، الآية 37 وما بعدها.
3 تفسير الطبري "24/ 77".
4 النمل، الرقم 27، الآية 24.
5 تفسير الطبري "19/ 94 وما بعدها"، تفسير القرطبي "13/ 190 وما بعدها".(11/338)
الصوم:
وأما "الصوم"، فنحن لا نجد له ذكرًا في الكتابات الجاهلية بالمعنى المفهوم منه عند أهل الكتاب أو المسلمين. وهو في اللغة الإمساك عن الشيء والترك له. وقيل للصائم صائم لإمساكه عن المطعم والمشرب والمنكح، وقيل للصامت صائم لإمساكه عن الكلام. "وقوله عز وجل: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} . قيل:(11/338)
معناه صمتًا، ويقويه قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} 1. والصوم: الصبر كذلك.
وقد ذكر "الصوم" في السورة المدنية، أما في السور المكية، فقد ذكر مرة واحدة، في "سورة مريم": {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} 2. وقد حددت السور المدنية أصول الصيام في الإسلام.
والصوم المعروف عند اليهود والنصارى معروف عند أهل الجاهلية الذين كان لهم اتصال واحتكاك بأهل الكتاب. فقد كان أهل يثرب مثلًا على علم بصوم اليهود؛ بسبب وجودهم بينهم. وكان عرب العراق وبلاد الشأم على علم بصوم النصارى؛ بسبب وجود قبائل عربية متنصرة بينهم. وكان أهل مكة، ولا سيما الأحناف منهم والتجار على معرفة بصيام أهل الكتاب. وبصيام الرهبان، المتمثل في السكوت والتأمل والجلوس في خلوة؛ للتفكير في ملكوت السماوات والأرض. ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن من الجاهليين من اقتدى بهم، وسلك مسلكهم. فكان يصوم، صوم السكوت والتأمل والامتناع عن الكلام والانزواء في غار حراء وفي شعاب جبال مكة.
ويذكر أهل الأخبار أن قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء. وفي هذا اليوم كانوا يحتفلون، ويعيدون، ويكسون الكعبة، وعللوا ذلك بأن قريشًا أذنبت ذنبًا في الجاهلية، فعظم في صدورهم، وأرادوا التكفير عن ذنبهم، فقرروا صيام يوم عاشوراء، فصاموه شكرًا لله على رفعه الذنب عنهم3. وذكر أن رسول الله كان يصوم عاشوراء في الجاهلية، ولما قدم المدينة واظب عليه وأمر الناس بصيامه حتى نزل الأمر بصيام رمضان. وقد ذكر العلماء أنه يحتمل أن قريشًا اقتدت بصيامه في الجاهلية، بشرع سالف، ولذا كانوا يعظمونه بكسوة البيت الحرام فيه4. وذكر بعضهم: كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية؛ اقتداء بشرع سابق، وكان النبي يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه على عادته وأمر أصحابه بصيامه في أول السنة الثانية، فلما نزل رمضان، كان من
__________
1 اللسان "/ 350"، "صوم".
2 سورة مريم، رقم 19، الآية 26.
3 بلوغ الأرب "2/ 288".
4 إرشاد الساري "3/ 421"، "باب حكم صيام عاشوراء".(11/339)
شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء لا يصومه. وعللوا سبب صيام "قريش" هذا اليوم، أنه كان أصابهم قحط ثم رفع عنهم، فصاموه شكرًا1. وورد "أن قريشًا كانت تعظم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه". وذكر أن رسول الله، كان يتحرى صوم يوم عاشوراء على سائر الأيام، وكان يصومه قبل فرض رمضان. فلما فرض رمضان، قال: من شاء صامه، ومن شاء تركه. وبقي هو يصومه تطوعًا، فقيل له: "يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال صلى الله عليه وسلم: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله"2.
وذكر أيضًا أن قريشًا كانوا إذا أصابهم قحط ثم رفع عنهم صاموا شكرًا لله وحمدًا له على إجابة دعوتهم3.
وقد أشار أهل الحديث إلى صيام "يوم عاشوراء"، فجعله بعضهم الصيام الذي كان في الإسلام قبل فرض صيام شهر رمضان، وذكر بعضهم أنه كان مفروضًا إلى السنة الثانية من الهجرة، ثم نسخ بصوم رمضان4.
وقد أشير إلى الصيام في السور المكية من القرآن الكريم كما أشير إليه في السور المدنية، ويدل نزول الوحي به في مكة وفي المدينة أنه كان من الشعائر الدينية القديمة، وأن قريشًا كان لها علم به. ويظهر من بعض الآيات أن المراد من الصوم لم يكن الامتناع من الأكل والشرب حسب، بل كان يعني في أول عهد النبوة الامتناع عن الكلام كذلك5.
ورواية أن قريشًا كانت تصوم في يوم "عاشوراء"، لا تتفق مع الروايات الأخرى في كيفية فرض صيام شهر رمضان. ففي هذه الروايات أن النبي "حين قدم المدينة رأى يهود تصوم يوم عاشوراء، فسألهم: فأخبروه أنه اليوم الذي غرق الله فيه آل فرعون، ونجى موسى ومن معه منهم. فقال: نحن أحق بموسى منهم، فصام، وأمر الناس بصومه. فلما فرض صوم شهر رمضان.
__________
1 إرشاد الساري "6/ 174"، "باب أيام الجاهلية".
2 زاد المعاد "1/ 164 وما بعدها".
3 إرشاد الساري "6/ 174".
4 راجع كتب الحديث: باب الصوم.
5 سورة مريم "الآية 26. وهي سورة مكية، رقمها 58 حسب نزول السور بمكة.(11/340)
لم يأمرهم بصوم يوم عاشوراء، ولم ينههم عنه"1. وورد أن يهود خيبر والمدينة كانوا يعظمون صيام عاشوراء ويتخذونه عيدًا"2.
ويقصدون بصوم اليهود يوم عاشوراء، ما يقال له "يوم الكفارة"، وهو يوم صوم وانقطاع، ويقع قبل عيد المظال بخمسة أيام، أي في يوم "10 تشرى" وهو يوم "الكبور" Kipur. ويكون الصوم فيه من غروب الشمس إلى غروبها في اليوم التالي، وله حرمة كحرمة السبت، وفيه يدخل الكاهن الأعظم قدس الأقداس لأداء الفروض الدينية المفروضة في ذلك اليوم3.
ومما يلاحظ أن علماء التفسير والحديث، قد اختلفوا اختلافًا كبيرًا في موضوع الصيام قبل نزول الأمر به وفرضه. فقال بعضهم كان المسلمون يصنعون كما تصنع من صيامهم خمسين يومًا "حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب ما كان، فأحل لهم الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر"4. وقال بعض آخر، كان صيام الناس قبل فرض رمضان صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وذكر أن ذلك كان تطوعًا لا فرضًا، ولم يأت خبر تقوم به حجة بأن صومًا فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان5. ولم أتمكن من العثور على خبر قاطع يفيد بأن المسلمين كانوا يصومون بمكة قبل الهجرة إلى المدينة.
ولا صلة لقصة "أبي قيس بن صرمة الأنصاري" "أبو صرمة الأنصاري" و"عمر بن الخطاب" بصيام عاشوراء ولا بعدد أيام الصوم. وكل ما ورد فيها أن المسلمين كانوا في أول ما افترض عليهم في رمضان إذ أفطروا وكان الطعام والشراب وغشيان النساء لهم حلالًا ما لم يرقدوا، فإذا رقدوا حرم عليهم ذلك إلى مثلها من القابلة، فلم يزل المسلمون على ذلك، حتى نام "أبو قيس بن صرمة" بعد إفطاره وكان يعمل في حيطان المدينة بالأجر، فلما أفاق أبى أن يأكل شيئًا وأصبح صائمًا، وكان "عمر" قد وقع على جارية له، فنزل الوحي
__________
1 الطبري "2/ 265"، "ذكر بقية ما كان في السنة الثانية من الهجرة"، إرشاد الساري "3/ 421".
2 إرشاد الساري "3/ 423".
3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 260".
4 تفسير الطبري "2/ 75 وما بعدها".
5 تفسير الطبري "3/ 76 وما بعدها".(11/341)
بنسخ ذلك عنهم في آية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} 1. فلا صلة لقصتيهما بموضوع الصوم.
ويظهر أنه خبر صيام قريش يوم "عاشوراء"، هو خبر متأخر، ولا يوجد له سند يؤيده. ولا يعقل صيام قريش فيه، وهم قوم مشركون. وصوم "عاشوراء"، هو من صيام يهود. وهو صيام كفارة واستغفار عندهم، فلمَ يستغفر قريش ويصومون هذا اليوم؟ وماذا فعلوا من ذنب، ليطلبوا من آلهتهم العفو والغفران؟ وإذا كان هناك صوم عند الجاهليين، فقد كان بالأحرى أن يصومه الأحناف، ولم يرد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد صيامهم في "عاشوراء" ولا في غير عاشوراء. ثم إن علماء التفسير والحديث والأخبار، يذكرون أن الرسول صام "عاشوراء" مقدمه المدينة على نحو ما ذكرت قبل قليل. وأنه بقي عليه حتى نزل الأمر بفرض رمضان. ويظهر أن الرواة أقحموا اسم قريش في صيام "عاشوراء"؛ لإثبات أنه كان من السنن العربية القديمة، التي ترجع إلى ما قبل الإسلام وأن قريشًا، كانت تصوم قبل الإسلام2.
ويظهر من روايات أهل الأخبار، أن صوم أهل الجاهلية: صوم امتناع عن الأكل والشرب وإتيان النساء. وهو صوم الإسلام، وصوم امتناع عن الكلام وحبس اللسان، إما لأمد معين قصير، مثل يوم أو أسبوع، وإما لأمد طويل. وقد أشير في القرآن الكريم أن هذا الصوم في قوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} 3. وروي أن رجالًا من زهاد أهل الجاهلية كانوا يصومون هذا الصوم.
وقد اتخذ الصوم نذرًا، روي أن "أبا بكر" دخل على امرأة من "أحمس" يقال لها "زينب" فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تكلم؟ قالوا: حجت مصمتة، قال لها: تكلمي. فإن هذا لا يحل. هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت.
__________
1 البقرة، الآية 187 تفسير الطبري "2/ 94 وما بعدها".
2 Sprenger, Leben, III, S. 54.
3 سورة مريم، الرقم 19، الآية 26، تفسير الطبري "16/ 56"، روح المعاني "16/ 79".(11/342)
فقالت له: من أنت: قال امرؤ من المهاجرين: قالت: أي المهاجرين؟ قال لها: من قريش: قالت له: من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسئول. أنا أبو بكر. قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم. قالت: وما الأئمة؟ قال لها: كان لقومك رءوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى. قال: فهم أولئك على الناس1.
فالتصميت، وهو الصوم عن الكلام، من فعل أهل الجاهلية. وهو معروف عندهم، ولعله وقع لهم بتأثرهم بأهل الكتاب.
__________
1 إرشاد الساري "6/ 175 وما بعدها"، "إنها مصمتة، إنها نذرت أن لا تتكلم. فقال: تكلمي إنما هذا من فعل الجاهلية"، الإصابة "4/ 315 وما بعدها"، "رقم 513، 515"، اللسان "2/ 55".(11/343)
التحنث:
ومن طرق عبادة أهل الجاهلية: التحنث، أي التعبد والتقرب إلى الآلهة، ومن ذلك حديث "حكيم بن حزام": "أرأيت أمورًا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صلة رحم وصدقة، أي أتقرب إلى الله تعالى بأفعال في الجاهلية"1. وكان رسول الله "يجاور في حراء من كل سنة شهرًا، وكان مما تحنث به قريش في الجاهلية. والتحنث: التبرر". "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به -إذا انصرف من جواره- الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعًا"، ثم يرجع إلى بيته. وذكر أن ذلك الشهر هو شهر رمضان2.
__________
1 تاج العروس "1/ 616"، حنث".
2 الطبري "2/ 300".(11/343)
الاختتان:
ومن شعائر الدين عند الجاهليين الاختتان، وهو من الشعائر الفاشية بينهم،(11/343)
حتى إنهم كانوا يعيرون "الأغرل"، وهو الشخص الذي لم يختتن. وكان منهم ولا سيما أهل مكة من يختن البنات أيضًا، بقطع "بظورهن" وتقوم بذلك "الختانة" "الخاتنة" وقد كانوا يعيرون من تكون أمه "ختانة" نساء، فإذا أرادوا ذم أحد قالوا له: يابن مقطعة البظور، وإن لم تكن أم من يقال له: خاتنة1.
وأما الاغتسال من الجنابة وتغسيل الموتى، فمن السنن التي أقرت في الإسلام، وقد أشير إلى غسل الميت في شعر للأفوه الأودي. وأشير إلى تكفين الموتى والصلاة عليهم في أشعار منسوبة إلى الأعشى وإلى بعض الجاهليين2. وورد أن قريشًا كانت تغسل موتاها وتحنطهم، ولكننا لا نستطيع تعميم هذه الأمور على كل العرب، ولا الإدعاء بأنها كانت من شعائر الدين عندهم، لما ذكرته مرارًا من اختلاف العرب بأمور دينهم، وعدم خضوعهم لدين واحد. بل ورد أن المشركين لم يكونوا يغتسلون من الجنابة، وقد ذهب المفسرون إلى أن لفظة "نجس" الواردة في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 3. فإنما قصد بها أجناب، "سماهم بذلك لأنهم يجنبون فلا يغتسلون. فقال: هم نجس ولا يقربوا المسجد الحرام؛ لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد"4. ولما نزل الأمر بمنع المشركين من دخول مكة، "شق ذلك على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقالوا: من يأتينا بطعامنا ومن يأتينا بالمتاع؟ فنزلت {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاء} . و"كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام ويتجرون فيه. فلما نهوا أن يأتوا البيت قال المسلمون من أين لنا طعام؟ فأنزل الله {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاء} 5.
والقرابين والنذور وزيارات المعابد والحج، هي من أبرز الشعائر الدينية عند
__________
1 تاج العروس "3/ 52"، "بظر"، نهاية الأرب "17/ 100".
2 المحبر "319 وما بعدها".
3 سورة التوبة: الآية 28.
4 تفسير الطبري "10/ 74".
5 تفسير الطبري 10/ 75".(11/344)
سواد الناس. وتكاد تكون مفهوم الدين عندهم، وذلك لما فيها من تماس مباشر بأمور حياتهم ومصالحهم. فهم يفعلون ذلك لغايات استرضاء الآلهة والتوسل إليها بأن تعطيها غلة وافرة ومالًا، فكانوا إذا تقربوا إلى صنم أو دعوا ربهم أو أدوا مناسك حجهم "فلا يسألون ربهم" إلا متاع الدنيا "فمن الناس من يقول: ربنا آتنا في الدنيا. هب لنا غنمًا، هب لنا إبلًا"، "وكانوا -يعني في الجاهلية- يقفون -يعني بعد قضاء مناسكهم- فيقولون: اللهم ارزقنا إبلًا، اللهم ارزقنا غنمًا"، وفي هؤلاء نزلت الآية: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 1.
والفقر هو الذي حمل هؤلاء على أن يتقربوا إلى آلهتهم بالنذور والقرابين وبالحج على فقرهم وجوعهم، على أمل أن تعطف الآلهة عليهم. فتمن عليهم بالمال واليسر والبركة والصحة، تمامًا كما يفعل شراء أوراق "النصيب" أو أوراق سباق الخيل من الفقراء والمحتاجين على أمل الربح والكسب.
وهذه النظرة المادية الساذجة، هي التي حملت عوامهم على تهديد آلهتهم وإخبارها أنهم سيمتنعون عن تقديم أي نذر أو أداء أية زيارة لها، إن لم تمن عليهم وتستجيب لأدعيتهم، فتنفذ طلباتهم وما طلبوه منها. وهي التي تحملهم بعد ذلك على التراجع عن تهديداتهم هذه وعلى الاستغفار وإظهار الندم لها، لما بدر منهم من سوء أدب، على أمل استرضائها من جديد، بعد أن فشلت وسائل التهديد من تخويف تلك الآلهة.
__________
1 البقرة، الآية 200، تفسير الطبري "2/ 174 وما بعدها".(11/345)
الحلال والحرام:
يقول "ابن عساكر" في رواية تنسب إلى رجل من خثعم: "كانت العرب لا تحرم حلالًا ولا تحل حرامًا. وكانوا يعبدون الأوثان ويتحاكمون إليها"1. ومعنى هذا أنهم كانوا يحللون ويحرمون. وأن أمر الحلال والحرام إلى رجال الدين منهم، وهم سدنة الأوثان.
وقد تعرض "اليعقوبي" لموضوع "أديان العرب" وشعائرها، فقال:
__________
1 التاريخ الكبير، لابن عساكر "1/ 317".(11/345)
"وكانت أديان العرب مختلفة بالمجاورات لأهل الملل، والانتقال إلى البلدان، والانتجاعات. فكانت قريش وعامة ولد "معد" بن عدنان على بعض دين إبراهيم، يحجون البيت ويقيمون المناسك، ويقرون الضيف ويعظمون الأشهر الحرم، وينكرون الفواحش والتقاطع والتظالم، ويعاقبون على الجرائم"1. فأدخل في الدين أمورًا نعدها اليوم من الأعراف وقواعد الأخلاق والسلوك، وجعلها من سنة إبراهيم، أي دين العرب القديم قبل إفساده بالتعبد للأصنام.
وذكر "السكري"، أن العرب كانت "دون من سواها من الأمم. تصنع عشرة أشياء منها: في الرأس خمسة. وهي المضمصة والاستنشاق والسواك والفرق وقص الشارب. وفي الجسد خمسة. هي: الختانة وحلق العانة ونتف الأبطين، وتقليم الأظفار والاستنجاء، خصت بهذا العرب، دون الأمم"2. فهذه الأمور العشرة هي من شعائر العرب في نظر "السكري". وهي شعائر، لا يمكن أن نجارية في رأيه، فنقول إنها كانت في جميع العرب، وإنها كانت فيهم خاصة، دون غيرهم من الأمم وفي كلام "السكري" أمور كثيرة لا يمكن التسليم بصحتها بل نجده هو يناقض نفسه في مواضع أخرى من كتابه. من ذلك قوله: "وكانوا يؤمنون بالحساب"3 "ولا يأكلون الميتة"4، فعمم رأيه، وجعله شاملًا كل العرب، بينما هو رأي طائفة من الجاهليين، وليس جميع أهل الجاهلية وللقرآن الكريم دليل ذلك، فقد حمل عليهم لنكرانهم البعث والحساب، وحرم على المسلمين أكل لحم الميتة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 5. وكانوا يأكلونها في الجاهلية.
وورد أن ممن حرم أكل الميتة على نفسه "حارثة بن أوس" الكلبي، وهو جاهلي، يقول:
لا آكل الميتة ما عمرت ... نفسي وإن أبرح إملاقي
والعقد لا أنقض منه القوي ... حتى يواري القبر أطباقي6
__________
1 اليعقوبي "1/ 224"، "أديان العرب".
2 المحبر "329".
3 المحبر "322".
4 المحبر "329".
5 المائدة، الآية رقم 3، تفسير الطبري "6/ 44"، روح المعاني "6/ 51".
6 المحبر "329".(11/346)
الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة
مدخل
...
الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة
والحج الذهاب إلى الأماكن المقدسة في أزمنة موقوتة؛ للتقرب إلى الآلهة، وإلى صاحب ذلك الموضع المقدس. وتقابل هذه الكلمة Pilgrinage في الإنكليزية1. والحج بهذا المعنى معروف في جميع الأديان تقريبًا، وهو من الشعائر الدينية القديمة عند الساميين.
وكلمة "حج" من الكلمات السامية الأصيلة العتيقة، وقد وردت في كتابات مختلف الشعوب المنسوبة إلى بني سام2. كما وردت في مواضع من أسفار التوراة3. وهي تعني قصد مكان مقدس وزيارته.
وفي روع الشعوب السامية القديمة وغيرها أن الأرباب لها بيوت تستقر فيها، قيل لها في الأزمنة القديمة "بيوت الآلهة"، ولذلك يرى المتعبدون والمتقون شد الرحال إليها؛ للتبرك بها وللتقرب إليها، وذلك في أوقات تحدد وتثبت، وفي أيام تعين تكون أيامًا حرمًا لكونها أيامًا دينية ينصرف فيها الإنسان إلى آلهته، ولذلك تعد أعيادًا، يعمد فيها الناس، بعد إقامتهم الشعائر الدينية المفروضة.
__________
1 تفسير الطبري "2/ 44"، "البابي"، اللسان "2/ 226"، الإقناع "1/ 334"، الكشاف، للزمخشري "1/ 389 وما بعدها".
Ency. Brita, Vol, 17, p. 925, Ency, Religi, Vol, 10, p. 10.
2 تاج العروس "1/ 16 وما بعدها"، اللسان "3/ 48 وما بعدها". Ency. Religi, 10, p. 23.
3.Shorter Ency of Islam p. 123(11/347)
وبعد أدائهم القواعد المرسومة، إلى الفرح والسرور والرقص؛ ليدخلوا السرور إلى قلوب الأرباب. ففي الحج إذن مناسك وشعائر دينية وعبادة تؤدى، واجتماع وسرور وحبور.
ويكون الحج بأدعية وبمخاطبة إلى الآلهة وبتوسلات لتتقبل حج ذلك الشخص الذي قصدها تقربًا إليها. وهذا هو الشائع والمعروف عن الحج، غير أن من الجاهليين من كان يحج حجًّا مصمتًا، أي دون كلام، فلا يتكلم الحاج طيلة أيام حجه. وقد كان ذلك من عمل الجاهلية1.
وقد ميز الشهر الذي يقع فيه الحج عن الأشهر الأخرى بتسميته بـ"شهر ذي الحجة" وبـ"شهر الحج". وذلك لوقوع الحج فيه. وهذه التسمية المعروفة حتى الآن في التقويم الهجري، هي تسمية قديمة، كانت معروفة في الجاهلية، وردت في نصوص الجاهلية. فبين أسماء الأشهر الواردة في نصوص المسند اسم شهر يعرف بـ"ذ حجتن" أي "ذي الحجة"، ويدل ذلك على أنه الشهر الذي يحج فيه. وقد وردت كلمة "حج" في نصوص المسند كذلك2.
وقد ذكر "أفيفانيوس" Epiphanius أن من أسماء الأشهر عند العرب شهرًا اسمه Aggathalbaeith، "حج البيت" 3، أراد به شهر "ذي الحجة" والعرب الذين قصده هذا الكاتب هم عرب "الكورة العربية"، ومعنى هذا أن العرب الشماليين كان لهم شهر يسمى بـ"ذي الحجة" كذلك 4.
ولفظة Aggathalbaeith، هي لفظة عربية النجار حرفت على لسان "أفيفانيوس" وقومه؛ لتناسب منطقهم، فصارت على هذا النحو، وهي من كلمتين عربيتين في الأصل، هما "حجة البيت"، أو "حج البيت" ويكون نص "أفيفانوس" هذا من النصوص المهمة بالنسبة لنا، التي تساعدنا في الرجوع بتأريخ استعمال هذا المصطلح إلى أيامه، ولا بد أن يكون ذلك المصطلح قد استعمل قبل أيام ذلك الكاتب ولا شك.
ويقع شهر الحج "ذي الحجة" -على رواية "أفيفانيوس"– في "تشرين"
__________
1 إرشاد الساري "6/ 175".
2 D. Nielsen, Mondreligion, S. 86, Glaser 1054, Wiener Mus. No. 7.
3 Shorter Ency. Of Islam, p. 124.
4 Reste, s. 85, Ency. Religi, 10, p. 10.(11/348)
الثاني"1، وأشار "بروكوبيوس" إلى أن العرب كانوا قد جعلوا شهرين من السنة حرمًا لآلهتهم لا يغزون ولا يهاجم بعضهم بعضًا2، كما أشار "فوتيوس" إلى الأشهر الحرم عند العرب3. والشهران اللذان أشار إليهما "بروكوبيوس"، هما شهرا ذو القعدة وذو الحجة في نظر "ونكلر"، وهما يمثلان -في رأيه- "جولاي" و"أغسطس" أي تموز وآب4"
إننا لا نستطيع في الوقت الحاضر أن نقول إن شهر "ذ حجتن" المذكور في المسند، أو Aggathalbaeith الذي ذكره "أفيفانيوس"، هو شهر "ذو الحجة" الشهر المعروف الذي كان من شهور أهل مكة. فمن الجائز أن يكون حج العرب الشماليين أو حج العرب الجنوبيين في وقت آخر يختلف عن وقت حج أهل مكة، فيكون شهرهم المذكور شهر آخر يقع في موسم آخر من السنة، ولا ينطبق مع شهر "ذي الحجة".
ويرى "ونكلر" أن ما ذكره "فوتيوس" من احتفال العرب مرتين في السنة بالحج إلى معبدهم المقدس: مرة في وسط الزبيع عند اقتران الشمس ببرج الثور، وذلك لمدة شهر واحد، ومرة أخرى في الصيف وذلك لمدة شهرين، إنما يراد بذلك شهر رمضان لاقتران الشمس فيه ببرج الثور، وأما الشهران الآخران فهما ذو القعدة وذو الحجة5.
ويظهر من غربلة ما أورده أهل الأخبار من روايات عن موسم الحج في الجاهلية، أن الحج إلى مكة كان في موسم ثابت، هو الربيع على رأي كثير من المستشرقين، أو الخريف على رأي "ولهوزن"6. وذلك بسبب ما ذكر عن النسيء ومن رغبة قريش وغيرها من أن يكون في وقت واحد، كما تحدثت عن ذلك في باب النسيء. وقد ذهب "ولهوزن" إلى أن "الشهر الحرام" المذكور في القرآن الكريم، هو "شهر الحج"، وهو الشهر الأول من السنة،
__________
1 Reste, s. 100, Epiphantus, Haer, 51. 24.
2 Procopius, II, 16.
3 Reste, 101.
4 Winekler, ALF. II, Reihe, Ib, S. 336.
5 Winckler, ALF, II, Reihe. Ibd, S. 336.
6 Shorter, p. 124.(11/349)
أي شهر محرم، بينما يرى المفسرون أن رجب أو ذو القعدة أو ذو الحجة1. والأصح أنه أي شهر من الأشهر الحرم.
وقد ورد في القرآن الكريم "الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج"2. وقد قال "الطبري" "اختلف أهل التأويل في قوله: الحج أشهر معلومات. فقال بعضهم: يعني بالأشهر المعلومات: شوالًا وذو القعدة، وعشرًا من ذي الحجة"، "جعلهن الله سبحانه للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج. والعمرة يحرم بها في كل شهر"3، وذكر أن الله لم يسم أشهر الحج في كتابه؛ لأنها كانت معلومة عندهم4، وأن المراد بذلك أنه لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج5. وبناء على ذلك، فلا يكون المراد من الآية أن الحج يقع في كل وقت من أوقات هذه الأشهر، وإنما هو في وقت معين، ولكن الإحرام للحج، أي العزم عليه يكون في أي وقت من هذه الأشهر المذكورة، وليس في الأشهر الأخرى. وذكر "المسعودي" أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة6. ومعنى ما تقدم أن الجاهليين كانوا يتهيئون للحج من دخول شهر شوال، فيصلحون أمورهم، ويحضرون ما يحتاجون إليه من لوازم السفر، فإذا أراد أحدهم تجارة وكسبًا ذهب إلى الأسواق، حتى يهل شهر ذو الحجة، وإن لم يرد تجارة، ذهب في أي وقت يراه مناسبًا له. فبدء موسم الحج إذن والتهيؤ له يكون من شهر شوال.
ويظهر من شعر نسب إلى "عوف بن الأحوص" أنه سمى شهر "ذي الحجة" "شهر بني أمية" إذ يقول:
وإني والذي حجت قريش ... محارمه وما جمعت حراء
وشهر بني أمية والهدايا ... إذا حبست مضرجها الدماء7
__________
1 Shorter, P. 409.
2 البقرة، الآية 197.
3 تفسير الطبري "2/ 105.
4 القرطبي "الجامع "2/ 405".
5 تفسير الطبرسي "الجزء الثاني" "ص292 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "1/ 235".
6 مروج "2/ 189"، الكشاف "1/ 245".
6 مروج "2/ 189"، الكشاف "1/ 254".
7 شرح ديوان لبيد "21".(11/350)
وقد ذهب "ولهوزن" وجماعة آخرون من المستشرقين إلى تعدد بيوت الأرباب التي كان يحج إليها الجاهليون في شهر "ذي الحجة" وإلى عدم حصر الحج عند الجاهليين بموضع واحد1. ومعنى هذا أن حج أهل الجاهلية لم يكن إلى "مكة" وحدها، بل كان إلى محجات عديدة أخرى. بحيث حج كل قوم إلى "البيت" الذي قدسوه وكانوا يتقربون إليه ووضعوا أصنامهم فيه. ويتفق هذا الرأي مع ما يراه أهل الأخبار من وجود بيوت للأصنام، وكان الناس يزورونها ويتقربون إليها ويذبحون عند أصنامها ويطوفون حولها ويلبون تلبية الصنم الذي يطوفون حوله.
والحج إلى مكة وإلى البيوت المقدسة الأخرى، مثل بيت اللات في الطائف وبيت العزى على مقربة من عرفات وبيت مناة وبيت ذي الخلصة وبيت نجران وبقية البيوت الجاهلية المعظمة، إنما هو أعياد يجتمع الناس فيها للاحتفال معًا بتلك الأيام وهم بذلك يدخلون السرور على أنفسهم وعلى أنفس آلهتهم بحسب اعتقادهم وتقترن هذه الاحتفالات بذبح الحيوانات، كل يذبح على قدر طاقته ومكانته، فيأكل منها في ذلك اليوم من لم يتمكن من الحصول على اللحم في أثناء السنة لفقره، فهي أيام يجد فيها الفقراء لذة ومتعة وعبادة.
ويذكر أهل الأخبار أن الحج إلى مكة كان في الجاهلية كذلك، وأن الجاهليين كانوا يحجون إلى البيت منذ يوم تأسيسه، وأنهم كانوا يقصدون مكة أفواجًا من كل مكان. وأن ملوكهم كانوا يتقربون إلى "بيت الله" بالهدايا والنذور، وأن منهم من حج إليه. وأن الناس كانوا يقسمون بالبيت الحرام لما له من مكانة في نفوس جميع الجاهليين.
غير أننا نجد في روايات بعض أهل الأخبار ما ينافي تعظيم كل العرب للبيت وحجهم إليه واحترامهم للحرم وللأشهر الحرم. فقد ورد أن من العرب من "كان لا يرعى للحرم ولا للأشهر الحرام حرمة"، ومنهم "خثعم" و"طيء"2، وأحياء من قضاعة ويشكر والحارث بن كعب3. وورد أن ذؤبان العرب وصعاليكها.
__________
1 Reste, s. 84.
2 تاج العروس "8/ 241"، "حرم".
3 الجاحظ، الحيوان "7/ 216 وما بعدها"، النجيرمي، أيمان العرب "12"، المحبر "319".(11/351)
وأصحاب التطاول، كانوا لا يؤمنون على الحرم، ولا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدرًا. وقد كانوا خطرًا يهدد البيت وأهله لذلك، ألف "هاشم بن قريش وسادات القبائل ألفة ليحمي بهم البيت. قال "الجاحظ" في تفسيره للإيلاف: "وقد فسره قوم بغير ذلك. قالوا: إن هاشمًا جعل على رءوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة. فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب التطاول. كانوا لا يؤمنون على الحرم. لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدرًا، مثل طيء وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب"1. ورءوس القبائل الذين جعل هاشم عليهم ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة، هم رؤساء مكة ولا شك، ومن كانت له مصلحة تجارية مباشرة بمكة، فكان يأخذ من هؤلاء ما يأخذه ثم يجمعه ويعطيه إلى "المؤلفة قلوبهم" من سادات القبائل النازلين حول مكة وعلى مقربة منها، كما ألف بين مكة وبين سادات القبائل الذين تمر قوافل مكة بأرضهم في طريقها إلى الشأم أو العراق أو اليمن. بروابط "الإيلاف"، أي العقود التي عقدها معهم، بإعطائهم جعلًا معينًا، أو حقوقًا تبين وتكتب، أو ربحًا يدفع مع رءوس المال عن البضائع التي تدفع لقريش لتقوم قوافلها ببيعها في الأسواق. وبذلك أمنت مكة وسلمت تجارتها. ودانت بعض القبائل بدين قريش في الأشهر الحرم، لما فيها من فائدة ومنفعة مادية بينة ظاهرة، فاحترمتها، وبهذا أمن الحج واستراح التجار من قريش ومن غيرهم في ذهابهم بحرية وبأمان في هذه الشهور إلى الأسواق.
وليست لدينا ويا للأسف أخبار مدونة عن مناسك الحج وشعائره عند الجاهليين. لعدم ورود شيء من ذلك في النصوص الواردة إلينا، ما خلا الحج إلى "بيت الله الحرام" بمكة، حيث حفظت الموارد الإسلامية لنا شيئًا من ذلك؛ بسبب فرض الحج في الإسلام، وإقرار الإسلام لبعض شعائره التي لم تتعارض مع مبادئه ولولا ذلك لما عرفنا شيئًا عن الحج إلى مكة عند الجاهليين. ولهذا فسأقتصر في كلامي هنا على الحج إلى مكة فقط. إلا إذا وجدت خبرًا أو نصًّا عن حج غير
__________
1 رسائل الجاحظ "70"، Kister, p. 119. 143. طبقات الشعراء، لابن سلام "61"، الثعالبي، المضاف والمنسوب "89" النقائض "2/ 671"، ابن هشام "1/ 603"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 166"، الأغاني "21/ 42".(11/352)
أهل مكة من الجاهليين إلى مكة أو إلى بيوت أخرى فسأتكلم عنه حينئذ.
ويظهر من غربلة ما جاء في روايات أهل الأخبار عن "حج البيت"، أن مناسك الحج لم تكن واحدة بالنسبة للحجاج، بل كانت تختلف باختلاف القبائل. فقد انفردت "قريش" بأمور من أمور الحج، واعتبرتها من مناسك حجها، وانفردت قبائل أخرى بمناسك لم تعتبرها "قريش" موجبة لها، ولم تعمل بها ووقفت قريش في مواقف، اعتبرتها مواقف خاصة بها. وأوجبت على من يفد إلى مكة للحج، مناسك معينة سنتحدث عنها. فلما ظهر الإسلام وجد مناسك الحج وثبتها وأوجب على كل مسلم اتباعها.
ويبدأ الحج الحج في الإسلام بلبس "الإحرام" حين بلوغه "الميقات" المخصص للجهة التي جاء منها. و"ميقات" الحج موضع إحرامهم1. وقد عين الرسول أكثر "المواقيت" وثبتها، فجعل "ذا الحليفة" ميقاتًا لأهل "يثرب"، و"الجحفة" ميقاتًا لأهل الشأم، و"يلملم" ميقاتًا لأهل اليمن، و"قرن المنازل" لأهل نجد ومن يأتي من الشرق نحو الحجاز. وأما "ذات عرق"، فميقات أهل العراق، قيل إن الرسول ثبته، وقيل إنه ثبت بعد فتح العراق، أما أهل مكة، فكانوا يحرمون من بيوتهم2. ويجوز أن تكون هذه المواقيت من مواقيت أهل الجاهلية كذلك، وقد ثبتها الإسلام.
ويستعد الجاهليون للحج عند حضورهم موسم "سوق عكاظ" فإذا انتهت أيام السوق، وأراد منهم من أراد الحج، ذهب إلى "مجنة"، فأقام بها إلى هلال ذي الحجة، ثم ارتحل عنها إلى "ذي المجاز"، ومنه إلى "عرفة"، فإن كان يوم التروية، تزودوا بالماء وارتفعوا إلى عرفة. هذا بالنسبة إلى التجار، الذين كانوا يأتون هذه المواضع للتجارة، أما بالنسبة إلى غيرهم، فقد كانوا يقصدون الحج في أي وقت شاءوا، ثم يذهبون إلى "عرفة" للوقوف موقف عرفة، يقصدها "الحلة"، أما الحمس" فيقفون بـ"نمرة"، ثم يلتقون جميعًا بمزدلفة للإفاضة3.
__________
1 تاج العروس "1/ 594"، "وقت".
2 شرح النووي على صحيح مسلم "5/ 190 وما بعدها"، حاشية على إرشاد الساري"، إرشاد الساري "3/ 97 وما بعدها".
3 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 121 وما بعدها".(11/353)
ويبدأ حج أهل الجاهلية بالإهلال، فكانوا يهلون عند أصنامهم، ويلبون إليها، فإذا انتهوا من ذلك قدموا مكة، فكان الأنصار مثلًا يهلون لمناة في معبده، أي أنهم كانوا يغادرون "يثرب" على معبد الصنم، فيكونون فيه لمراقبة هلال ذي الحجة فإذا أهلوا لبوا، ثم يسير من يسير منهم إلى مكة، لحج البيت1.
والطواف بالبيوت وبالأصنام، ركن من أركان الحج، ومنسك من مناسكه. وكانوا يفعلونه كما دخلوا البيت الحرام، فإذا دخل أحدهم الحرم، وإذا سافر أو عاد من سفر، فأول ما كان يفعله الطواف بالبيت. وقد فعل غيرهم فعل قريش ببيوت أصنامهم، إذ كانوا يطوفون حولها كالذي كان يفعله أهل يثرب من طوافهم بـ"مناة"2.
وقد ذكر الأخباريون أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون حول الرجمات، وهي حجارة تجمع فتكون على شبه بيت مرتفع كالمنارة، ويقال لها الرجمة3. وكان الجاهليون يطوفون حول الأصنام والأنصاب كذلك. وذكر "نيلوس" Nilus أن الأعراب كانوا يطوفون حول الذبيحة التي يقدمونها قربانًا للآلهة4. وكانوا يطوفون حول القبور أيضًا: قبور السادات والأشراف من الناس.
وطافوا حول "الأنصاب" ويسمون طوافهم بها "الدوار". فكانوا يطوفون حول حجر ينصبونه طوافهم بالبيت، وسموا تلك الأحجاب الأنصاب5.
وللطواف كلمة أخرى هي "الدوار" من "دار" حول موضع من المواضع، وطاف حوله الشيء، وإذا عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه. ونجد هذا المعنى في شعر الشاعرين الجاهليين: امرئ القيس، وعنترة بن شداد العبسي6. وقد ذكر علماء اللغة أن "الدوار" صنم كانت العرب تنصبه، يجعلون موضعًا حوله يدورون به، واسم ذلك الصنم والموضع الدوار. ومنه قول امرئ القيس:
فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار، في ملاء مذيل7
__________
1 صحيح مسلم "4/ 68 وما بعدها".
2 شرح صحيح مسلم، للنووي "8/ 21 وما بعدها".
3 تاج العروس "3/ 422 وما بعدها"، "عمر" اللسان "6/ 282".
4 Reste, s. 108.
5 الأصنام "33، 42".
6 اللسان "4/ 296 وما بعدها". Shorter Ency, of Islam , p 585.
7 اللسان "4/ 297 وما بعدها".(11/354)
وقيل إنهم كانوا يدورون حوله أسابيع كما يطاف بالكعبة. وقيل حجارة كانوا يطوفون حولها تشبهًا بالكعبة1
وتلعب عبادة الحجر دورًا بارزًا في "الدوار" فقد كان قوم من أهل الجاهلية يقيمون الأحجار، ثم يطوفون حولها، يتخذون الدوار عبادة لهم. وقد تكون الأحجار أصنامًا، وقد تكون حجارة تنتقى فيطاف حولها، و"عن أبي رجاء العطاردي، قال: لما بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب، فلحقنا بالنار، وكنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجرًا هو أحسن منه، ألقينا ذلك وأخذناه، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ثم طفنا به، وكنا إذا دخل رجب قلنا جاء منصل الأسنة، فلا ندع سهمًا فيه حديدة، ولا حديدة في رمح إلا نزعناها وألقيناها"2.
ويلاحظ أن الجاهليين كانوا يقيمون وزنًا للحليب في أمور العبادة فقد كانوا يسكبونه على الأصنام، كما رأينا في باب الأصنام وفي القصة المتقدمة. ويلاحظ أن الرواية قد خصصت حليب الغنم، ولم تشر إلى حليب الإبل، أو حليب أية ماشية أخرى، مما قد يدل على وجود رابطة بين هذا الحليب وبين "الدوار" وأن له علاقة بالأساطير، وذلك في حالة صدق الخبر بالطبع.
والطواف من أهم طرق التعبد والتقرب إلى الآلهة. يؤدونه كما يؤدون الشعائر الدينية المهمة مثل الصلاة، وليس له وقت معلوم، ولا يختص ذلك بمعبد معين ولا بموسم خاص مثل موسل الحج، بل يؤدونه كلما دخلوا معبدًا فيه صنم، أو كعبة أو ضريح، فهم يطوفون سبعة أشواط حول الأضرحة أيضًا: كما يطوفون حول الذبائح المقدمة إلى الآلهة. فالطواف إذن من الشعائر الدينية التي كان لها شأن بارز عند الجاهليين.
وكانوا يطوفون بالبيت في نعالهم، لا يطئون أرض المسجد تعظيمًا له3. إلا أن يكون الحاج فقيرًا حافيًا. فقد كان منهم من لا يملك نعالًا ولا خفًّا ولا
__________
1 تاج العروس "3/ 216" "دار".
2 زاد المعاد" 3/ 32"، "فصل في قدوم وفد بني حنيفة"، إرشاد الساري "6/ 435"، "باب وفد بني حنيفة".
3 اليعقوبي "1/ 226"، "أديان العرب".(11/355)
سائر ما يلبس بالرجل لفقره. وذكر أن رسول الله قال: "من لم يجد نعلين، فليلبس خفين" 1. وقد ذكر "السكري"، أن "الحمس" كانوا "لا يطوفون بالبيت إلا في حذائهم وثيابهم ولا يمسون المسد بأقدامهم تعظيمًا لبقعته"2.
وذكر أن "الحلة" كانوا على العكس منهم. "فإذا دخلوا مكة بعد فراغهم تصدقوا بكل حذاء وكل ثوب لهم، ثم استنكروا من ثياب الحمس تنزيهًا للكعبة أن يطوفوا حولها إلا في ثياب جدد. ولا يجعلون بينهم وبين الكعبة حذاء يباشرونها بأقدامهم"3.
وكانوا يدخلون جوف الكعبة بنعالهم، لا يتأثمون من ذلك. وذكر أن "الوليد بن المغيرة" كان أول من خلع نعليه لدخول الكعبة، تعظيمًا لها، فخلع الناس نعالهم4.
وعدة الطواف حول الكعبة عند الجاهليين سبعة أشواط، ولا أستبعد أن يكون هذا العدد ثابتًا بالنسبة إلى الطواف حول البيوت الأخرى أو حول الرجمات والأنصاب والقبور أيضًا. فقد كان الطواف سبعة أشواط مقررًا عند غير العرب أيضًا، وقد ذكر في "التوراة"؛ إذ كان العبرانيون يمارسونه5. والعدد سبعة هو من الأعداد المقدسة المهمة عند الشعوب القديمة. ولهذا أرى أن غير قريش من العرب كانوا يطوفون هذا الطواف أيضًا حول محجاتهم في ذاك الوقت.
وقد ورد أن من الجاهليين من كان يطوف ويده مربوطة بيد إنسان آخر، بحبل أو بسير، أو بزمام أو منديل، أو خيط أو أي شيء آخر، يفعلونه نذرًا أو حتى لا يفترقا. وقد نُهي عن ذلك في الإسلام. فقد روي أن الرسول رأى أحدهما وقد فعل ذلك، فقطع بيده ذلك الرباط6.
__________
1 صحيح مسلم "4/ 2 وما بعدها"، "كتاب الحج"، إرشاد الساري "3/ 313 وما بعدها"، "باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين".
2 المحبر "180".
3 المحبر "180 وما بعدها".
4 ابن رستة، الأعلاق "191".
5 Shorter Ency, of Islam , p. 585.
6 صحيح البخاري "2/ 179" إرشاد الساري "3/ 173 وما بعدها"، "باب الكلام في الطواف".(11/356)
الحمس والطلس والحلة:
والأخباريون يذكرون أن الطائفين بالبيت كانوا على صنفين: صنف يطوف عريانًا، وصنف يطوف في ثيابه. ويعرف من يطوف بالبيت عريانًا بـ"الحِلة". أما الذين يطوف بثيابهم، فيعرفون بـ"الحمس"1. وأضاف بعض أهل الأخبار إلى هذين الصنفين، صنفًا ثالثًا قالوا له: "الطلس"2.
وقبائل الحلة من العرب: تميم بن مر كلها غير يربوع، ومازن، وضبة، وحميس، وظاعنة، والغوث بن مر، وقيس عيلان بأسرها ما خلا ثقيفًا وعدوان، وعامر بن صعصعة، وربيعة بن نزار كلها. وقضعة كلها ما خلا علافًا وجنابًا. والأنصار وخثعم، وبجيلة، وبكر بن عبد مناة بن كنانة، وهذيل بن مدركة، وأسد وطيء، وبارق. وقد ذكر هذه الأسماء "محمد بن حبيب"3. وذكرها "اليعقوبي" على هذا النحو: تميم وضبة ومزينة والرباب وعكل وثور وقيس عيلان كلها ما خلا عدوان وثقيف وعامر بن صعصعة وربيعة بن نزار كلها، وقضاعة وحضرموت وعك وقبائل من الأزد4.
وهم يذكرون أن "الحلة" ما عدا الحمس وأنهم كانوا يطوفون عراة إن لم يجدوا ثياب أحمس، وكانوا يقصدون من طرحهم ثيابهم طرحهم ذنوبهم معها5. ويذكرون أنهم كانوا يقولون: "لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب"، "ولا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها"، "ولا نطوف في ثياب عصينا الله فيها"، وذكر أنهم "كانوا إذا طافوا خلعوا ثيابهم وقالوا لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فيلقونها عنهم، ويسمون ذلك الثوب اللقى"6. وفي رواية أن من يطوف
__________
1 تفسير الطبري "2/ 170"، البخاري، "كتاب الحج، الباب 91"، "كتاب التفسير، الباب 35"، البلدان "4/ 620 وما بعدها"، الأزرقي "1/ 113" اليعقوبي "1/ 226"، "النجف 1964م"، المحبر "178"، ابن هشام "1/ 212"، الكشاف "1/ 256"، شرح حماسة أبي تمام، للتبريزي "1/ 7"، شرح المفضليات، للأنباري "259"، ابن رشيق، العمدة "2/ 188"، ابن الفقيه، مختصر كتاب البلدان "18".
2 المحبر "178 وما بعدها".
3 المحبر "179".
4 اليعقوبي "1/ 226"، "النجف 1964م".
5 الروض الأنف "1/ 133".
6 الأزرقي "1/ 117"، اللسان "20/ 122"، الكشاف "2/ 60".(11/357)
من "الحلة" بثيابه يضرب وتنتزع منه ثيابه1. فجعلت هذه الرواية خلع الثياب واجب على الحلة محتم عليهم، لا يجوز مخالفته، وإلا تعرض المخالف للعقاب.
وتخضع النساء لهذه القاعدة أيضًا إذا كن من الحلة، فكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة2. وقيل تضع إحداهن ثيابها كلها إلا درعًا مفرجًا عليها ثم تطوف فيه3. وقيل كانت تقف على باب المسجد، فتقول: من يعير مصونًا؟ من يعير ثوبًا؟ من يعيرني تطوافًا؟ فإن أعارها أحد ثوبًا أو كراه لها طافت به وإلا طافت عريانة كما يطوف الرجال على حد زعم الروايات. لا يستر عورتها لباس أو قماس، بل كانت تضع إحدى يديها على قبلها واليد الأخرى على دبرها وتطوف حول البيت على هذا النحو. وهم يروون في ذلك بيتًا ينسبونه لامرأة جميلة، قيل هي: ضباعة بنت عامر بن صعصعة بالبيت عريانة وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله4
وشاءت بعض الروايات أن تخفف من وقع طواف النساء على هذه الصورة في النفوس، فذكرت أن بعض النساء كانت تتخذ سيورًا فتعلقها في حقوتها تستتر بها5، وذكرت روايات أخرى أنهن كن يطفن ليلًا، وبذلك يتخلصن من وقوع سترهن في أعين الرجال؛ لأن طواف الرجال في النهار6.
وقد وصفت بعض الروايات طواف العريان فقالت: "يبدأ بإساف فيستلمه، ثم يستلم الركن الأسود، ثم يأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه، فإذا ختم طوافه سبعًا، استلم الركن ثم استلم نائلة فيختم بها طوافه، ثم يخرج فيجد ثيابه كما تركها لم تمس، فيأخذها فيلبسها ولا يعود إلى الطواف بعد ذلك.
__________
1 الكشاف "2/ 60"، الأزرقي "1/ 112 وما بعدها".
2 صحيح مسلم "18/ 162".
3 سيرة ابن هشام "1/ 133" "حاشية على الروض"
4 الأزرقي "1/ 115، 117"، اللسان "11/ 129"، "طوف" الروض "1/ 133"، صحيح مسلم "18/ 162"، تفسير الطبري "8/ 118"، تفسير القرطبي، الجامع "7/ 189".
5 الأزرقي "1/ 117".
6 الأزرقي "1/ 117"، الطبرسي "3/ 414".(11/358)
عريانا"1. هذا هو طواف أهل الجاهلية قبل الإسلام على رواية أهل الأخبار. وجاء في بعض الروايات: "كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة، إلا أن تعطيهم الحمس ثيابًا، فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء"، "فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبًا ولا يسار يستأجر به، كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانًا، وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرع من طوافه ألقى ثوبه عنه، فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى"2. وجاء أيضًا أن "الحمس" كانوا "يقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا"3.
وورد أنهم "كانوا يطوفون بالبيت عراة، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون"4.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن طواف الطائف عريانًا إنما يكون للمرة الأولى، فإذا عاد فطاف بعد ذلك، لبس ملابسه، وطاف بملابسه كالحمس لا يلقيها خارج حدود الحرم.
والتفسير الذي ذكره الأخباريون لطواف العري، هو رغبة الطائف حول البيت أن يكون نقيًّا متحررًا عن ذنوبه وآثامه بعيدًا عن الأدران. واعتقاده أن طوافه بملابسه طواف غير صحيح؛ لأن ملابسه شاركته في آثامه، فهي ملوثة نجسة، ولذلك هاب من لبسها، فإذا أتم طوافه تركها في موضعها، ولبس ملابس أخرى جديدة5.
ويذكر الأخباريون أن تلك الملابس التي يلقيها المحرم تبقى في مكانها، لا يمسها أحد، ولا يحركها حتى تبلى من وطء الأقدام ومن الشمس والرياح. ويقال لهذه الثياب التي تطرح بعد الطواف "اللقى" وقد أشير إليها في شعر
__________
1 الأزرقي "1/ 114".
2 تفسير القرطبي "7/ 189".
3 المصدر نفسه".
4 تفسير النيسابوري "9/ 157"، "حاشية على تفسير الطبري" تفسير الطبري "9/ 157 وما بعدها".
5 الأزرقي "1/ 117"، اللسان "20/ 122"، الكشاف "2/ 60".(11/359)
لـ"ورقة بن نوفل"1. ولعل اعتقاد القوم بأن تلك الملابس ملوثة بالأدران، هو الذي منع الناس الآخرين من لمس تلك الملابس والاستفادة منها، فتركوها لذلك للأرض وللشمس والرياح تعبث بها إلى أن تتمزق وتهرى2.
ولكننا نجد الأخباريين يعودون فيروون روايات تناقض ما ذكروه عن "اللقى". إذ يقولون: كان الحلة إذا ختموا طوافهم وأتموه بنائلة، خرجوا إلى ثيابهم التي ألقوها خارج باب المسجد، فلبسوها، فإذا أرادوا الطواف مرة أخرى طافوا بملابسهم3. فهم يقرون في هذه الرواية طواف العري، ولكنهم ينكرون ترك "اللقى" على الأرض لتدوس عليها الأقدام ولتلعب بها الرياح وتعبث بها الأهوية والأتربة، ويجعلون أصحابها يعودون إليها فيلبسونها تارة أخرى.
ونقرأ في كتبهم رواية أخرى تذكر أن أحدًا من الحلة إذا لم يجد ثياب أحمسي يطوف فيها ومعه فضل ثياب يلبسها، غير ثيابه التي عليه فطاف في ثيابه ثم جعلها لقى يطرحها بين إساف ونائلة فلا يمسها أحد ولا ينتفع بها منتفع حتى تبلى من وطء الأقدام والشمس والرياح والأمطار4.
وقد ذكر "محمد بن حبيب" أن "الحلة" كانوا إذا دخلوا مكة "تصدقوا بكل حذاء وكل ثوب لهم ثم استكروا لهم من ثياب الحمس تنزيهًا للكعبة أن يطوفوا حولها إلا في ثياب جدد. ولا يجعلون بينهم وبين الكعبة حذاء يباشرونها بأقدامهم. فإن لم يجدوا ثيابًا طافوا عراة. وكان لكل رجل من الحلة حرمي من الحمس يأخذ ثيابه. فمن لم يجد ثوبًا طاف عريانًا. وإنما كانت الحلة تستكري الثياب للطواف في رجوعهم إلى البيت لأنهم كانوا إذا خرجوا حجاجًا لم يستحلوا أن يشتروا شيئًا ولا يبيعوه حتى يأتوا منازلهم إلا اللحم. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حرمي عياض بن حمار المجاشعي: كان إذا قدم مكة طاف في ثياب رسول الله"5.
__________
1
كفى حزنا كري عليه، كأنه ... لقى بين أيدي الطائفين حريم
الأزرقي "1/ 112، 114" اللسان "20/ 122"، النهاية في غريب الحديث "4/ 29"، تفسير القرطبي، الجامع "7/ 189".
2 Robertson smith, p. 751.
3 الأزرقي "1/ 114".
4 الأزرقي "1/ 114".
5 المحبر "ص180 وما بعدها".(11/360)
فالذي يطوف بالبيت عريانًا، هو ضعيف "الحلة"، ممن لا قبل له على استكراء ثياب له من أحمسي، وممن لا صاحب له من الحمس، يعطيه ثيابًا ليلبسها. أما المتمكن من "الحلة" ومن له صديق من الحمس، فلا يطوف عريانًا، وإنما يطوف بثياب أحمسي.
ويرى "روبرتسن سمث" أن الذي أوحى إلى الجاهليين وجوب طرح ملابس الحلة إذا أحرم فيها. واعتقادهم بتقدس تلك الملابس في أثناء الإحرام مما يجعلها في حاكم الـ"تابو" Tabu عند الأقوام البدائية، ولذلك لا يجوز استعمالها مرة أخرى، وهم أنفسهم قوم غير مقدسين1.
وقد منع الإسلام طواف "العري" في أي وقت كان، وحتم على الجميع قريش وغيرهم لبس "الإحرام"2. وقد ذكر علماء التفسير في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. أن هذه الآية نزلت في حق المتعرين الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، "فإذا قيل لهم: لِمَ تفعلون ذلك؟ قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها"، "فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون، ونقتدي بهديهم ونستن بسنتهم. والله أمرنا به فنحن نتبع أمره فيه"4. فنحن إذن أمام سنة جاهلية قديمة، ترجع طواف العري إلى أمر سابق وشريعة سابقة.
وأما "الحمس"، فهم الذين كانوا يطوفون بثيابهم، ثم يحتفظون بها فلا يلقونها، فلهم من هذه الناحية ميزة امتازوا بها على الحلة، ولهم على الحلة ميزة أخرى، هي أنهم كانوا يقفون الموقف في طرف الحرم من "غرة": يقفون به عشية عرفة، ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة، ويفيضون منه إلى المزدلفة5. ولا يقفون موقف غيرهم بعرفة، فقصروا عن مناسك الحج والموقف من عرفة وهو من الحل. وحجتهم أنهم أهل الحرم فلا يخرجون منه مثل سائر.
__________
1 R. Smith, p. 751.
2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 111".
3 الأعراف، الرقم 27 الآية 28".
4 تفسير الطبري "8/ 114"، تفسير القرطبي، الجامع "7/ 187".
5 الأزرقي "1/ 116 وما بعدها" "2/ 158 وما بعدها"، النهاية "1/ 233"، شرح النووي، "8/ 180" وما بعدها"، Enci, II, p. 335.(11/361)
الناس. ويقولون: "نحن أهل الحرمة وولاة البيت وقطان مكة وساكنها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا ولا تعرف له العرب مثل ما نعرف"1.
وتفسير كلمة "الحمس" في رأي علماء اللغة التشدد في الذين، سموا حمسًا لأنهم كانوا يتشددون في دينهم، فكانوا إذا زوجوا امرأة منهم لغريب عنهم، أي لمن كان من الحلة اشترطوا عليه أن كل من ولدت له، فهو أحمسي على دينهم. وكانوا إذا أحرموا لا يأتقطون الأقط، ولا يأكلون السمن ولا يسلئونه ولا يمخضون اللبن، ولا يأكلون الزبد، ولا يلبسون الوبر ولا الشعر ولا يستظلون به ما داموا حرمًا، ولا يغزلون الوبر ولا الشعر ولا ينسجونه، وإنما يستظلون بالأدم، ولا يأكلون شيئًا من نبات الحرم. وكان يعظمون الأشهر الحرم ولا يخفرون فيها الذمة ولا يظلمون فيها، ويطوفون بالبيت وعليهم ثيابهم. وكانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية وأول الإسلام، فإن كان من أهل المدر نقب نقبًا في ظهر بيته فمنه يدخل ومن يخرج ولا يدخل من بابه. وكانوا يقولون: لا تعظموا شيئًا من الحل، ولا تجاوزوا الحرم في الحج فلا يهاب الناس حرمكم، ويرون ما تعظمون من الحل كالحرم، فقصروا عن مناسك الحج والموقف من عرفة وهو من الحل، فلم يكونوا يقفون به ولا يفيضون منه، وجعلوا موقفهم في طرف الحرم من نمرة: يقفون به عشية عرفة، ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة، ويفيضون منه إلى المزدلفة. فإذا عممت الشمس رءوس الجبال دفعوا. وكانوا يقولون: نحن أهل الحرم، لا نخرج من الحرم، ونحن الحمس. وكانوا إذا أرادوا بعض أطعمتهم ومتاعهم، تسوروا من ظهر بيوتهم وأدبارها حتى يظهروا على السطوح، ثم ينزلون في حجرتهم، ويحرمون أن يمروا تحت عتبة الباب2. فهم يحرمون إذن أشياء لم تكن العرب تحرمها3.
__________
1 ابن هشام "1/ 132" "هامش على الروض".
2 الأزرقي "1/ 116 وما بعدها"، النهاية "1/ 233، 293" الاشتقاق "153"، ابن هشام "1/ 211"، الكامل، لابن الأثير "1/ 391"، الطبرسي "2/ 411".
Caetani, Annali, I, s, 121, Ency, II, p. 335, Snouck Hurgounje, Het, Mek-kaanische, feest, p. 21. 77, 111, 130.
3 المعاني "2/ 998".(11/362)
والحمس: قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة على رواية1. تضاف إليهم خزاعة والأوس والخزرج وجشم وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة وأزد شنوءة وجذم زبيد وبنو ذكوان من بني سليم وعمرو اللات وثقيف وغطفان والغوث وعدوان وعلاف وقضاعة على رواية للأزرقي2. وهم: "قريش" وكنانة وجديلة قيس، وفهم، وعدوان، وثقيف، وعامر بن صعصعة على رواية أخرى3. وقد ذكر "ابن سعد"، أن الحمس هم: قريش وكنانة وخزاعة ومن ولدته قريش من سائر العرب. أو حليف قريش. وذكر بعض الرواة أنهم قريش وعامر بن صعصعة، والحارث بن كعب4. وذكرهم بعض آخر على هذا النحو: قريش، وكنانة، وخزاعة، وثقيف، وخثعم، وعامر بن صعصعة، ونصر بن معاوية. وأضاف "القرطبي" جشمًا إليهم5. وورد أن "الحمس لقب قريش ومن ولدت قريش، وكنانة وجديلة قيس. وهم: فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس عيلان، وبنو عامر بن صعصعة، ومن تابعهم في الجاهلية. هؤلاء الحمس. وإنما سموا لتحمسهم في دينهم أي تشددهم فيه، وكذا في الشجاعة فلا يطاقون، أو لالتجائهم بالحمساء وهي الكعبة"6.
وأورد "ابن حبيب" أسماء الحمس من العرب، فقال: "قبائل الحمس من العرب: قريش كلها. وخزاعة لنزولها مكة، ومجاورتها قريشًا. وكل من ولدت قريش من العرب وكل من نزل مكة من قبائل العرب.
فممن ولدت قريش: كلاب، وكعب، وعامر، وكلب بنو ربيعة بن عامر بن صعصعة، وأمهم مجد بنت تيم بن غالب بن فهر. وإياها عنى لبيد بن ربيعة بقوله:
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرًا والقبائل من هلال
__________
1 النهاية في غريب الحديث "1/ 293"، تاج العروس "4/ 132 وما بعدها"، "حمس"، اللسان "7/ 257 وما بعدها"، حمس، إرشاد الساري "3/ 200"، البلخي، البدء والتأريخ "4/ 32 وما بعدها".
2 البلدان، "مكة"، Kister, p. 138.
3 الطبقات "1/ 72"، "صادر".
4 ابن هشام "1/ 212"، ابن قتيبة، المعارف "269" المعاني "989"، المرزوقي، شرح الحماسة "31"، Kister, p 132.
5 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "2/ 345"، أبو حيان، البحر المحيط "2/ 63"، kister, p. 132.
6 تاج العروس "4/ 132"، حمس".(11/363)
والحارث بن عبد مناة بن كنانة. ومدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة، بنزولهم حول مكة وعامر بن عبد مناة بن كنانة. ومالك، وملكان، ابنا كنانة، وثقيف، وعدوان، ويربوع بن حنظلة. ومازن بن مالك بن عمرو بن تميم. وأمهما جندلة بن فهر بن مالك بن النضر. ويقال: إن بني عامر كلهم حمس لتحمس أخوتهم من بني ربيعة بن عامر، وعلاف، وهو ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وجناب بن هبل بن عبد الله من كلب. وأمه آمنة بنت ربيعة بن عامر بن صعصعة. وأمها مجد بنت تيم الأدرم بن غالب بن فهر"1.
ويتبين مما تقدم أن "الحمس"، لم يكونوا قريشًا وحدهم وسكان الحرم، وأنهم لم يكونوا جماعة قامت وظهرت على رابطة الدم والنسب، كما هو الحال بالنسبة إلى القبيلة. بل هم قريش وكل من نزل الحرم وسكن مكة، وطوائف من العرب شاركت قريشًا في مناسك حجها، وسارت على نهجها في الحج، وشاطرتها الرأي في دينها. قد ذكر "الجاحظ" أن "عامربن صعصعة"، و"خزاعة"، و"ثقيفًا"، والحارث بن كعب، كانوا ديانين، أي على رأي ودين2. وكانوا على دين قريش. وقال غيره: "وصارت بنو عامر من الحمس وليسوا من ساكني الحرم لأن أمهم قرشية. وهي مجد بنت تيم بن مرة. وخزاعة إنما سميت خزاعة؛ لأنهم كانوا من سكان الحرم فخزعوا عنه، أي خرجوا. ويقال إنهم من قريش انتقلوا ببنيهم إلى اليمن. وهم من الحمس"3.
وقد ميز بعض العلماء بين "الحمس" وهم نزلاء الحرم وبين المتحمسين الذين دخلوا في الحمس؛ لأن أمهاتهم من قريش، بأن أطلقوا عليهم لفظة "الأحامس". فقالو: "والأحماس من العرب الذين أمهاتهم من قريش"4.
وجاء في بعض الأخبار أن "غطفان"، لما اتخذت لها بيتًا أرادت به مضاهاة الكعبة، وجعلت له حرمًا كحرمة مكة. أغار "زهير بن جناب الكلبي" عليه.
__________
1 المحبر "178 وما بعدها"، ابن دريد، الاشتقاق "540"، ابن عبد البر، إنباه "87" المفضليات، شرح الأنباري "259".
2 Kister, p. 136.
3 تاج العروس "4/ 132"، "حمس".
4 تاج العروس "4/ 133"، "حمس".(11/364)
وهدامه1. وكان زهير من الحمس.
وقد وصف "ابن سعد" "التحمس" بقوله: "والتحمس أشياء أحدثوها في دينهم تحمسوا فيها، أي شددوا على أنفسهم فيها، فكانوا لا يخرجون من الحرم إذا حجوا، فقصروا عن بلوغ الحق، والذي شرع الله، تبارك وتعالى، لإبراهيم وهو موقف عرفة، وهو من الحل، وكانوا لا يسلئون السمن ولا ينسجون مظال الشعر، وكانوا أهل القباب الحمر من الأدم، وشرعوا لمن قدم من الحاج أن يطوف بالبيت وعليه ثيابه ما لم يذهبوا إلى عرفة، فإذا رجعوا من عرفة لم يطوفوا طواف الإفاضة بالبيت إلا عراة أو في ثوبي أحمسي، وإن طاف في ثوبيه لم يحل له أن يلبسهما"2.
وللجاحظ ملاحظات قيمة عن قريش لها صلة بالتحمس، وقد تفسر لنا معنى التحمس وسبب شموله أناسًا هم من غير قريش.
ذكر أن الإسلام لما ظهر، لم تكن هنالك أية امرأة قرشية، كانت مسبية عند غير قريش، ولم تكن هنالك أية امرأة مسبية في أيدي القبائل وأمها من قريش. ويذكر أيضًا أن قريشًا لم تكن تزوج بناتها من أبناء أشراف القبائل حتى تشترط عليهم أن من تلد منهن، فيكون من يلدن من الحمس. أما هم، فكانوا إذا تزوجوا من بنات قبائل أخرى، فإنهم لم يشترطوا على أنفسهم أي شرط، وكان من هذه القبائل عامر بن صعصعة وثقيف وخزاعة والحارث بن كعب، "وكانوا ديانين" وكانوا على دين قريش في أمورها. وكانت قريش كريمة، ولم ترض بالغارات والغزو ولا بالظلم ولم تقبل بالوأد ولا بالدخول بمن يقع في أيديهم أسرى من النساء. وكان من فضائلهم أن منَّ الله عليهم بالإيلاف. فأغناهم وجعلهم "لقاحًا". فلم يخضعوا لملك ولم يستعبدهم سلطان أجنبي3. ولم يدفعوا أي شيء عنهم الملك من الملوك. بل كانت الملوك تأتي إلى مكة وتعظم البيت وتحترم سكانه. وهم قريش الحمس4.
__________
1 الأغاني "12/ 121"، "21/ 63".
2 ابن سعد، الطبقات"1/ 72"، "صادر".
3 أخذت هذه الملاحظات من "كستر" KISTER لعدم وجود مخطوطة الجاحظ التي نقل منها عندي. وهي: مختارات فصول الجاحظ، الموجودة في المتحف البريطاني برقم 3183.
4 ابن الفقيه، كتاب البلدان "18".(11/365)
ويظهر من ملاحظات الجاحظ المذكورة، أن من أهم مبادئ الحمس، نبذ الغارات أي الغزو، حتى جعلته قريش ركنًا من أركان دينها. كما تمسكت بركن آخر، هو عدم الدخول بمن يقع في أيدهم من النساء السبايا في حالة ما إذا أغارت قبيلة عليهم، واعتدت عليهم، فانتصرت قريش عليهم، وأخذت منها سبايا. أما الحمس الآخرون، مثل عامر بن صعصعة وثقيف والحارث بن كعب، وأمثالهم ممن تحمسوا، فلم يتمسكوا بهذه الأصول. وذكر "ابن الفقيه" أن القبائل المذكورة لم تكن في الأصل حمسًا، على دين قريش، وإنما تحمست وصارت من الخمس بتأثير قريش عليها1. وقريش تمسكوا وحدهم بالحمس، "وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"2. وقد عرفت مكة بـ"دار الحمس"، كما جاء ذلك في شعر ينسب إلى "الكاهن اللهبي"3. وعرفت قريش بـ "أهل الله"4.
ونجد بين "الحمس" والحرم صلة متينة، تشير إلى الأصل الديني للحمس وإلى ارتباطهم بالكعبة. فذهب "الزمخشري" إلى أن "حمس" من "حرم"5، ومن دلائل هذه الصلة أيضًا ما ورد في كتب أهل الأخبار من أن الكعبة كان قد عرفت بـ"الحمساء" سميت بذلك "لأن حجرها أبيض إلى السواد"6.
ومن أن الحمس هم نزلاء الحرم7. فبين الحمس والحرم، صلة متينة إذن حتى قيل أن المنسوب إلى الحرم من الناس "حرمي"8. و"أن عياض بن حمار المجاشعي، كان حرمي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان إذا حج طاف في ثيابه. وكان أشراف العرب الذين يتحمسون على دينهم، أي يتشددون إذا حج أحدهم لم يأكل إلا طعام رجل من الحرم: ولم يطف إلا في ثيابه.
__________
1 Kister, p. 137.
2 الثعالبي، ثمار القلوب "8"، أهل الله" Kister, p. 137.
3 الروض الأنف "1/ 118". ابن دريد. الاشتقاق "491". Wellhausen, Reste, s. 134. Kister, 138.
4 Kister, p. 139.
5 الزمخشري، الفائق، "حمس"، kister, p. 138.
6 تاج العروس "4/ 132"، "حمس".
7 تاج العروس "4/ 132"، حمس".
8 بالكسر.(11/366)
فكان لكل رجل من أشرافهم رجل من قريش. فيكون كل واحد منهما حرمي صاحبه"1. ويفسر لنا هذا المعنى أيضًا قولهم: "رجل حرام: داخل في الحرم"، و"الحرم بالكسر الرجل المحرم. يقال: أنت حل وأنت حرام"2.
وقد أنجب الزواج المشروط بين قريش وبين من يتزوج منها حمسًا جددًا، انتقل الحمس إليهم عن طريق "شرط عقد الزواج" من جهة الأمهات. أما نسل هؤلاء الحمس الجدد، الذين هم في الواقع أنصاف أحماس، فقد صار حمسًا مثل قريش؛ لأنهم ولدوا من والد حسب من الحمس ومن والدة أحمسية. وبذلك لم يعد الحمس أهل مكة وحدهم، بل شمل أهل مكة ومن تزوج مكيات فأنجبن ولدًا، عدوا حمسًا بشرط العقد.
وتذكر بعض الروايات أن عقيدة "الحمس" لم تكن قديمة، بل ظهرت قبيل الإسلام: "قال ابن إسحاق" كانت قريش لا أدري قبل الفيل أو بعده، ابتدعت أمر الحمس رأيًا. فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم. ونحن الحمس. والحمس أهل الحرم. قالوا: ولا ينبغي للحمس أن يتأقطوا الأقط ولا يسلئوا السمن، وهم حرم، ولا يدخلوا بيتًا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرمًا، ثم قالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجًا أو عمَّارًا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس"3. ولم تذكر هذه الرواية سبب ظهورها، ولا من أوجدها من رجال قريش.
ويتبين من غربلة ما ذكره أهل الأخبار عن الحمس، أن الحمس هم أهل مكة الأحرار في الأصل، ثم من دان بدينهم. وجدوا أنفسهم في ضنك شديد، في واد غير ذي زرع، لا شيء عندهم غير "البيت"، فتحمسوا في دينهم وتشددوا وتعاونوا فيما بينهم على العمل معًا، وعلى الدعوة إلى عبادة رب البيت وإقراء الضيف والامتناع عن غزو غيرهم. وعن التحرش بأحد، إلا إذا تحرش بهم، وعلى إغاثة الملهوف ومساعدة من يأت البيت حاجًّا أو معتمرًا أو قاصدًا.
__________
1 تاج العروس "8/ 243"، "حرم".
2 تاج العروس "8/ 243"، حرم".
3 إرشاد الساري "3/ 200".(11/367)
تجارة، وتقديم الرفادة له. ونصرة الغريب. وحافظوا على الحرمات: حرمة البيت وحرمة الحج وحرمة الأشهر الحرم، ووضعوا لأنفسهم قواعد صارمة في آداب السلوك في موسم الحج وفي غيره، تشعر أنهم كانوا ينظروا إلى أنفسهم كأنهم "جنس" فضله الله على بقية أجناس العرب، لهم مناسكهم، ولبقية العرب مناسكهم، ولهم قباب خاصة يضربونها لأنفسهم في سوق عكاظ وفي المواضع الأخرى تميزهم عن سائر من يفد إلى هذه المواضع، وترفعوا عن مصاهرة سائر الناس إلا إذا وجدوا أنهم أكفاء لهم، والكفاءة: القوة والمال. وأقاموا مجتمعهم الخاص هذا على قواعد دينية تعاونية اقتصادية "صاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"1. شعارهم أنهم "أهل الله"2، دينهم "التحمس والتشدد في الدين، فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال، فلما زهدوا في الغصوب لم يبق مكسبة سوى التجارة: فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم، والنجاشي بالحبشة، والمقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"3. وكان أن تفردوا بالإيلاف، وللإيلاف ارتباط بالحمس، وتوجهوا إلى التجارة والاتجار، وجمعوا بين الدين والمال، وأفسحوا المجال لمن به نشاط وهمة أن يجمع مالًا وأن يكون غنيًّا على أن يساهم بنصيبه في تحمل أعباء مجتمعهم، للدفاع عن "بيت الله" ولكسب المتحالفين معهم وتوزيع العدل فيما بينهم توزيعًا يخفف من حدة التفاوت فيما بين الغني والفقير، حتى لا يقع اختلال في التوازن بين طبقات المجتمع، يحمل الفقراء على انتزاع المال من الأغنياء كرهًا وقسرًا. وجعلوا ذلك واجبًا من واجباتهم، فحثوا على رفع الظلم، واتخذوا السقاية والرفادة، وعقدوا "حلف الفضول" للدفاع عن المحتاج، وجعلوا "الإيلاف" الذي سأتكلم عنه في الجزء الخاص بالحياة الاقتصادية، سببًا من أسباب إشاعة الرحمة ومساعدة الفقراء وتخفيف وطأة الفقر في هذه القرية: "أم القرى"، وفي ذلك يقول "مطرود بن كعب الخزاعي". في رثائة عبد المطلب.
__________
1 الثعالبي، ثمار القلوب "18"، "أهل الله"، "ص11"، "تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم".
2 ثمار "ص10".
3 ثمار "ص11 وما بعدها"، سيرة ابن دحلان "1/ 140" حاشية على السيرة الحلبية".(11/368)
يا أيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد مناف
هبلتك أمك لو نزلت عليهم ... ضمنوك من جوع ومن إقراف
الآخذون العهد من آفاقها ... والراحلون لرحلة الإيلاف
والمطعمون إذا الرياح تناوحت ... ورجال مكة مسنتون عجاف
والمفضلون إذا المحول ترادفت ... والقائلون هلم للأضياف
والخالطون غنيهم بفقيرهم ... حتي يكون فقيرهم كالكافي
كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصة لعبد مناف1
قام رجال من رجال مكة بالإنفاق على المحتاجين فعدوا ذلك دينًا ومروءة وشهامة فكان "نعيم بن عبد الله" العدوي، ينفق على أرامل بني عدي وأيتامهم2. وكان "حكيم بن حزام" ينفق من أرباحه على المحتاجين من آله وذويه3. وكان صديق النبي قبل المبعث4. وتذكر كتب السير والتراجم أسماء رجال آخرين عرفوا بتصدقهم على الفقراء والمحتاجين، اعتبروها منقبة وقربة لهم في الجاهلية، وقد أقرهم الرسول عليها.
فالحمس "أهل الله"، وأمته، تجمعهم عبادة الله والأصنام، والمناسك والشعائر التي وضعوها لهم، والتجارة التي جعلوها مثل شعائر دينهم، ينفقون من أرباحهم منها في سبيل "الله". أي بيت الله وأهله المستضعفون، حتى جعلوا الصدقة وإطعام المحتاج من أمور الدين. فمجتمعهم مجتمع جمع بين الدين والتجارة، وبين الدين والمال. حثهم على التعاون بخلط رءوس أموالهم والاتجار معًا بقوافل، وفيه ربح كبير مضمون، وحثهم على إنصاف من ليس له شيء حتى يصير.
__________
1 أخذت هذه الأبيات من أمالي المرتضى "2/ 268" وتختلف بعض الاختلاف عن أمالي القالي "1/ 241 وما بعدها"، التي فيها:
منهم علي والنبي محمد ... القائلان هلم للأضياف
وعن سيرة ابن هشام "1/ 117"، "حاشية على الروض الأنف"، وعن معجم الشعراء "375" وشرح ابن أبي الحديد "3/ 453"، والعيني "4/ 140" والبكري، سمط "547 وما بعدها" وعن تفسير الطبرسي "حـ30 ص545"، "طبعة طهران"، تفسير سورة لإيلاف قريش، وعن ابن العربي، محاضرات الأبرار "2/ 119"، والبلاذري، أنساب "1/ 58"، والدياربكري، تأريخ الخميس "1/ 156".
2 الإصابة "3/ 527"، "رقم 8778".
3 نسب قريش "1/ 367" "رقم 644"، Kister, p. 125.
4 الإصابة "1/ 348 وما بعدها" "رقم 1800".(11/369)
مكتفيًا غير محتاج لا يوجه عينه نحو غيره حسدًا وحقدًا. شعار هذا المجتمع الله والأصنام والحج والتجارة، مجتمع لم يكن يخلو بالطبع من أحامس بخلاء شذوا عن الطريق، واغتصبوا أموال الفقراء، كما هو الحال في كل مجتمع بشري.
وقد اقتصرت "قريش" وهم من الحمس، على استعمال القباب المصنوعة من الأدم لا يضربها غيرها بـ"منى"1. لأنهم "كانوا لا ينسجون مظال الشعر، وكانوا أهل القباب الحمر من الأدم"2. وقد استعمل الرسول في حجة هذا النوع من القباب3. ولا بد أن يكون لاقتصار قريش على استعمال هذا النوع من القباب دون غيرها في هذا الموضع، سبب ما، الأرجح أنه عامل ديني واجتماعي4. ويلاحظ أنه كان للقباب الحمر ذكر خطير، وجاه عظيم في نظر الجاهليين، فكان أصحابها يفتخرون على غيرهم بأنهم "أهل القباب الحمر"5، وقد كان الملوك والسادة يضربون لأنفسهم القباب الحمر. فهي من إمارات الجاه والمكانة والنفوذ.
ويظهر من بعض الأسماء أو الجمل التي وردت فيها كلمة "أحمس" و"حمس" أن هذه الكلمة هي نعت أو اسم من أسماء الآلهة عند الجاهليين في الأصل، ثم تغير معناها بعد ذلك فصارت على النحو الذي ذكره علماء اللغة نقلًا عن الروايات التي ترجع ذلك المعنى إلى الجاهلية المتصلة بالإسلام. ففي الأسماء الواردة إلينا: "أحمس الله"، و"بنو أحمس"، و"أبو أحمس"، و"الأحامس"6، ما يفيد أن الأصل بعيد جدًّا عن المعنى فهمه وذهب إليه أهل الأخبار، وأن للكلمة معنى دينيًّا خاصًّا قديمًا، هو التشدد في الدين والتمسك به، وبعبادة الصنم، والمحافظة على سنة الآباء والأجداد مع تصلب وتقشف.
__________
1 "كانت قباب قريش من الأدم. لا يضربها غيرهم بمنى" المشرق، السنة السابعة والثلاثون كانون الثاني - آذار 1939 "ص95".
2 ابن سعد، الطبقات "1/ 41".
3 ابن سعد، الطبقات "2/ 88"، أسد الغاية "1/ 251".
4 المشرق، السنة السابعة والثلاثون، كانون الثاني - آذار، 1939 "ص95".
5
أهل القباب الحمر ... والنعم المؤبل والمدامه
ديوان عبيد الأبرص "29"، "طبعة لايل".
6 الأغاني "2/ 46"، الاشتقاق "153"، تاج العروس "4/ 132 وما بعدها"، "حمس".(11/370)
والأحماس من العرب الذين أمهاتهم من قريش1، صاروا من الحمس بسبب أمهاتهم.
هذا وقد نزل الوحي بتنظيم الحج وفق مبادئ الإسلام، فأباح للحجاج ما كانت الحمس حرمته على نفسها من طعام الحج إلا طعام أحمسي" على نحو ما ذكرت قبل قليل. وما ذكر من أن قومًا كانوا قد حرموا على أنفسهم ما يخرج من الشاة لبنها وسمنها ولحمها، إذا حجوا أو اعتمروا2. كما نزل بوجوب ستر العورة ولبس الإحرام في الحج، وذلك بالنسبة إلى المحلين، وأغلبهم من الأعراب ومن الفقراء، حيث كانوا يطوفون عراة، وفي ضمنهم النساء3. فنزل الوحي بـ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 4. ونهوا عن ذلك5. وذكر عن أبي هريرة أنه قال: "بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر، لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان"6.
كما نزل الوحي بجواز دخول الحجاج بيوتهم وخيامهم وما يأوون إليه من بيوتها، من أبوابها، لا كما كان يفعل بعضهم في الجاهلية وفي أول الإسلام، من أنه إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطًا ولا بيتًا ولا دارًا من بابه، فإنه كان من أهل المدن نقب نقبًا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج أو يتخذ سلمًا فيصعد فيه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يدخل من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك ذمًّا، إلا أن يكون من الحمس. وهم: قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخثعم وبنو عامر بن صعصعة، وبنو النضر بن معاوية. نزل الوحي بذلك في الآية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَْ} 7.
__________
1 تاج العروس "4/ 133"، "حمس"
2 تفسيير الطبري "8/ 121".
3 تفسير الطبري "8/ 118".
4 الأعراف، الآية 31.
5 تفسير الطبري "8/ 118 وما بعدها"، أسباب نزول "168 وما بعدها".
6 صحيح مسلم "4/ 107"، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وبيان الحج الأكبر".
7 البقرة، الآية 189.(11/371)
وقد ذهب بعض أهل الأخبار والسير إلى أن الآية المذكورة، نزلت في أمر الحمس، "لأن الحمس لا يدخلون تحت سقف ولا يحول بينهم وبين السماء عتبة باب ولا غيرها، فإن احتاج أحدهم إلى حاجة في داره تسنم البيت من ظهره، ولم يدخل من الباب"1. وذهب المفسرون إلى أنها نزلت في الأنصار، فقد كانوا إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل فدخل من قبل بابه، فكأنه عير بذلك، فنزلت هذه الآية. وورد: "كانت قريش تدعى الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بستان، إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وإنه خرج معك من الباب! فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: فإن ديني دينك! فأنزل الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} 2. وقد أغفلت بعض الروايات اسم من كان لا يدخل البيوت من أبوابها، بأن قالت: "كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرونه برًّا"، أو "كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيوت من ظهورها، ولم يأتوا من أبوابها" أو "إن ناسًا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطًا من بابه ولا دارًا من بابها أو بيتًا" أو "كان ناس من أهل الحجاز، إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوها من ظهورها"3. وذكر أن من كان يفعل ذلك، فإنما يفعله؛ لأنهم كانوا يتحرجون من أن يكون بينهم وبين السماء حائل4.
وقد جعل "اليعقوبي" العرب في الجاهلية على دينين: دين الحمس ودين الحلة. وذلك بالنسبة للمشركين. وذكر أن منهم من دخل في دين اليهودية وفي النصرانية، ومنهم من تزندق وقال بالثنوية، وبهذه الفرق حصر "اليعقوبي" أديان أهل الجاهلية. إذ قال: "فهاتان الشريعتان اللتان كانت العرب عليهما. ثم دخل قوم من العرب في دين اليهود، وفارقوا هذا الدين. ودخل آخرون.
__________
1 الروص الأنف "1/ 134 وما بعدها".
2 أسباب النزول "ص35 وما بعدها".
3 تفسير الطبري "2/ 108" وما بعدها.
4 المصدر نفسه.(11/372)
في النصرانية، وتزندق منهم قوم، فقالوا بالثنوية"1.
والتعميم الذي يطلقه "اليعقوبي" وبقية المؤرخين والأخباريين في قولهم "وكانت العرب في أديانهم" لا يمكن التسليم به، إلا بالنسبة لأهل مكة ولمن كان يقصدهم من العرب. أما بالنسبة لجميع العرب، فهذا ما لا يمكن التسليم به.
وأما "الطلس" فقد وصفهم "محمد بن حبيب" بقوله إنهم: "بين الحلة والحمس: يصنعون في إحرامهم ما يصنع الحلة، ويصنعون في ثيابهم ودخولهم البيت ما يصنع الحمس. وكانوا لا يتعرون حول الكعبة، ولا يستعيرون ثيابًا، ويدخلون البيوت من أبوابها، وكانوا لا يئدون بناتهم، وكانوا يقفون مع الحلة ويصنعون ما يصنعون"2. وهم سائر أهل اليمن، وأهل حضرموت، وعك وعجيب، وإياد بن نزار3.
وذكر أن من الحجاج من كان يحج بغير زاد، وأن منهم من كان إذا أحرم رمى بما معه من الزاد، واستأنف غيره من الأزودة، وأن "قبائل من العرب يحرمون الزاد إذا خرجوا حجاجًا وعمَّارًا"، فنزل الوحي: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 4، فأمر من لم يكن يتزود منهم بالتزود لسفره، ومن كان منهم ذا زاد أن يحتفظ بزاده فلا يرمي به5. وقد عرف هؤلاء بـ"المتوكلة"؛ لتوكلهم على "رب البيت" في أطعام أنفسهم، واعتمادهم في ذلك على السؤال.
وقد ذكر علماء التفسير أن الآية: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} نزلت "في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالزاد. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في مسيره راحلة عليها زاد، وقدم عليه ثلاثمائة رجل من مزينة فلما أرادوا أن ينصرفوا قال: يا عمر زود
__________
1 اليعقوبي "1/ 226".
2 المحبر "ص181".
3 المحبر "ص179"، الروض "1/ 133".
4 البقرة الآية "197.
5 تفسير الطبري "2/ 162"، "أن قومًا كانوا يرمون بأزوادهم ويتسمون بالمتوكلة، فقيل لهم تزودوا من الطعام، ولا تلقوا كلكم على الناس"، تفسير الطبرسي "1/ 294.(11/373)
القوم ... كما روى البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس"1.
ويظهر مما تقدم أن "المتوكلة" لم يكونوا جميعًا من الفقراء المحتاجين، بل كان منهم قوم أغنياء فضل الله عليهم، بدليل أنهم كانوا إذا حجوا رموا زادهم، أو أعطوه للمحتاج إليه، يفعلون ذلك ديانة وتقربًا إلى الله، كما فعل "المتوكلة" من بعدهم في الإسلام. فهم إذن طائفة من الطوائف الجاهلية المتدينة، ترى أن التقشف في الحج، يزيد في ثوابه، ويقرب أصحابه إلى رب البيت.
ويريد أهل الأخبار بالثياب "الإحرام" على ما يظهر. وهو قديم وقد عرف عند غير العرب أيضًا. وهو محاكاة لملابس رجال الدين الذين يخدمون المعابد، ويتقربون إلى الآلهة. وهو يتكون من قطعتين من: إزار ومن وشاح. ويكون أبيض اللون. واللون الأبيض من الألوان التي تعبر عن معان دينية. فقد كان رجال الدين والكهنة يلبسون الثياب البيض. كما أنه شعار الحزن عند بعض الشعوب، وفي جملتهم عرب الحجاز2. ويظهر أن أهل مكة وهم قريش، كانوا يلبسون الإحرام، أو يكرهونه لغيرهم من العرب أو يعيرونه لهم إن كانوا من حلفائهم فيحرمون كإحرام قريش. أما من لم يتمكن من الحصول على الإحرام، فقد كان يضطر بحكم الضرورة إلى الطواف عريانًا على نحو ما يقصه علينا أهل الأخبار.
أما بالنسبة إلى أهل العربية الجنوبية من معينيين وسبئيين وقتبانيين وحضرميين، فإننا لا نستطيع أن نتحدث عن سنة الطواف حول المعابد عندهم؛ لعدم ورود شيء عن ذلك في النصوص الواصلة إلينا. ولكني لا أستبعد احتمال طوافهم حول بيوت أصنامهم على نحو ما كان يفعله أهل الحجاز؛ لأن الطواف حول بيوت الأصنام أو حول الصنم من السنن الشائعة بين العرب وعند جماعات من بين إرم والنبط.
__________
1 تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن "2/ 411"، تفسير بن كثير "1/ 239".
2 Shorter Ency, of Islam, p. 160.(11/374)
التلبية:
وذكر "محمد بن حبيب" أن طواف أهل الجاهلية بالبيت أسبوعًا، وذكر أنهم كانوا يمسحون الحجر الأسود، ويسعون بين الصفا والمروة. وكانوا يلبون وذكر أن نسك قريش كان لإساف، وأن تلبيتهم" "لبيهم اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك"1. وأن تلبية من نسك للعزى: "لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، ما أحبنا إليك". وأن تلبية من نسك للات: "لبيك اللهم لبيك، لبيك كفى ببيتنا بنية، ليس بمهجور ولا بلية، لكنه من تربة زكية أربابه من صالحي البرية". وكانت تلبية من نسك لجهار: "لبيك، اللهم لبيك لبيك، اجعل ذنوبنا جبار، واهدنا لأوضح المنار، ومتعنا وملنا بجهار". وكانت تلبية من نسك لشمس: "لبيك، اللهم لبيك، لبيك، ما نهارنا نجره، إدلاجه وحره وقره، لا نتقي شيئًا ولا نضره، حجًّا لرب مستقيم بره"، وكانت تلبية من نسك لمحرق: "لبيك، اللهم لبيك، لبيك حجًّا حقًّا، تعبدًا ورقًا"، وكانت تلبية من نسك لود: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، معذرة اليك". وكانت تلبية من نسك ذا الخلصة: "لبيك، اللهم لبيك، لبيك، بما هو أحب إليك". وكانت تلبية من نسك لمنطبق: "لبيك اللهم لبيك، لبيك". وتلبية عك، أنهم كانوا إذا بلغوا مكة، يبعثون غلامين أسودين أمامهم، يسيران على جمل. مملوكين قد جردا فهما عريانان، فلا يزيدان على أن يقولا: "نحن غرابا عك" وإذا نادى الغلامان بذلك صاح من خلفهما من عك: "عك إليك عانية، عبادك اليمانية، كيما نحج الثانية، على الشداد الناجية"1.
وكانت تلبية من نسك مناة: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، لولا أن بكرًا دونك يبرك الناس ويهجرونك، ما زال حج عثج يأتونك، إنا على عدوائهم من دونك". وتلبية من نسك لسعيدة: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لبيك، لم نأتك للمياحة، ولا طلبًا للرقاحة، ولكن جئناك للنصاحة". وكانت تلبية من نسك ليعوق: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، بغض إلينا الشر، وحبب إلينا الخير، ولا تبطرنا فنأشر ولا تفدحنا بعثار". وكانت تلبية من نسك ليغوث:
__________
1 المحبر "313".(11/375)
"لبيك، اللهم لبيك، لبيك، أحبنا بما لديك، فنحن عبادك، قد صرنا إليك" وكانت تلبية من نسك لنسر: "اللهم لبيك، اللهم لبيك، لبيك، أننا عبيد، وكلنا ميسرة عتيد، وأنت ربنا الحميد، اردد إلينا ملكنا والصيد". وكانت تلبية من نسك ذا اللبا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، رب فاصرفن عنا مضر، وسلمن لنا هذا السفر، إن عما فيهم لمزدجر واكفنا اللهم أرباب هجر". وكانت تلبية من نسك لمرحب: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، إننا لديك لبيك، حببنا إليك". وكانت تلبية من نسك لذريح: "لبيك، اللهم لبيك، لبيك، كلنا كنود، وكلنا لنعمة جحود فاكفنا كل حية رصود". وكانت تلبية من نسك ذا الكفين: "لبيك، اللهم لبيك لبيك، إن جرهمًا عبادك، الناس طرف وهم تلادك، ونحن أولى منهم بولائك"، وتلبية من نسك هبل: "لبيك اللهم لبيك، إننا لقاح حرمتنا على أسنة الرماح، يحسدنا الناس على النجاح"1.
وقد تعرض "اليعقوبي" لموضوع التلبية فقال: "فكانت العرب، إذا أرادت حج البيت الحرام، وقفت كل قبيلة عند صنمها وصلوا عنده، ثم تلبوا حتى يقدموا مكة. فكانت تلبياتهم مختلفة. وكانت تلبية قريش: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، تملكه وما ملك. وكانت تلبية كنانة. لبيك اللهم لبيك، اليوم يوم التعريف، يوم الدعاء والوقوف. وكانت تلبية بني أسد: لبيك اللهم لبيك، يا رب أقبلت بنو أسد، أهل التواني والوفاء والجلد إليك، وكانت تلبية بني تميم: لبيك اللهم لبيك، لبيك عن تميم، قد تراها قد أخلقت أثوابها وأثواب من وراءها، وأخلصت لربها دعاءها. وكانت تلبية قيس عيلان: لبيك الله لبيك، لبيك أنت الرحمن أتتك قيس عيلان، راجلها والركبان. وكانت تلبية ثقيف لبيك اللهم إن ثقيفًا قد أتوك: وأخلفوا المال وقد رجوك. وكانت تلبية هذيل: لبيك عن هذيل قد أدلجوا بليل، في إبل وخيل. وكانت تلبية ربيعة: لبيك ربنا لبيك، لبيك إن قصدنا إليك. وبعضهم يقول: لبيك عن ربيعة، سامعة لربها مطيعة، وكانت حمير وهمدان يقولون: لبيك عن حمير وهمدان والحليفين من حاشد والهان. وكانت تلبية الأزد: لبيك رب الأرباب،
__________
1 المحبر "311-315".(11/376)
تعلم فصل الخطاب، لملك كل مثاب. وكانت تلبية مذحج: لبيك رب الشعرى، ورب اللات والعزى. وكانت تلبية كندة وحضرموت: لبيك لا شريك لك، تملكه، أو تهلكه، أنت حكيم فاتركه. وكانت تلبية غسان: لبيك رب غسان، راجلها والفرسان. وكانت تلبية بجيلة: لبيك عن بجيلة في بارق ومخيلة، وكانت تلبية قضاعة: لبيك عن قضاعة، لربها دفاعة، سمعًا له وطاعة، وكانت تلبية جذام: لبيك عن جذام، ذوي النهى والأحلام، وكانت تلبية عك والأشعريين.
نحج للرحمن بيتًا عجبا ... مستترًا مضببًا محجبا1
و"التلبية" إجابة المنادي، أي إجابة الملبي لربه. وقولهم: لبيك اللهم لبيك، معناه إجابتي لك يا رب، وإخلاصي لك2. وقد كان الجاهليون يلبون لأصنامهم تلبيات مختلفة. وقد ذكر "أبو العلءا المعري" أن تلبيات العرب جاءت على ثلاثة أنواع: مسجوع لا وزن له، ومنهوك، ومشطور. فالمسجوع كقولهم:
لبيك ربنا لبيك ... والخير كله بيديك
والمنهوك على نوعين: أحدهما من الرجز، والآخر من المنسرح: فالذي من الرجز كقولهم:
لبيك إن الحمد لك ... والملك لا شريك لك
إلا شريك هو لك ... تملكه وما ملك
أبو بنات بفدك
وكقولهم:
لبيك يا معطي الأمر ... لبيك عن بني النمر
جئناك في العام الزمر ... نأمل غيثًا ينهمر
يطرق بالسيل الخمر
__________
1 اليعقوبي "1/ 225 وما بعدها".
2 اللسان "1/ 732"، "لبيب".(11/377)
والذي من المنسرح جنسان: أحدهما في آخره ساكنان كقولهم:
لبيك رب همدان ... من شاحط ومن دان
جئناك نبغي الإحسان ... بكل حرف مذعان
نطوي إليك الغيطان ... نأمل فضل الغفران
والآخر لا يجتمع فيه ساكنان كقولهم:
لبيك عن نجيله ... الفخمة الرجيله
ونعمت القبيله ... جاءتك بالوسيله
تؤمل الفضليه
وربما جاءوا على قوافٍ مختلفة، من ذلك تلبية بكر بن وائل:
لبيك حقًّا حقا ... تعبدًا ورقا
جئناك للنصاحة ... لم نأت للرقاحة
وروي في تلبية "تميم" قولها:
لبيك لولا أن بكرًا دونكا ... يشكرك الناس ويكفرونكا
ما زال منا عثج يأتونكا
ورووا أن من تلبيات همدان:
لبيك مع كل قبيل لبيك ... همدان أبناء الملوك تدعوك
قد تركوا أصنامهم وانتابوك ... فاسمع دعاءً في جميع الأملوك
ومن تلبياتهم قولهم:
لبيك عن سعد وعن بنيها ... وعن نساء خلفها تعنيها
سارت إلى الرحمة تجتنيها
وختم "أبو العلاء المعري" رأيه عن التلبية بقوله: "والموزون من التلبية يجب أن يكون كله من الرجز عند العرب، ولم تأت التلبية بالقصيد. ولعلهم قد لبوا به ولم تنقله الرواة"1.
__________
1 رسالة الغفران "ص535-537. "بنت الشاطئ".(11/378)
والتلبية هي من الشعائر الدينية التي أبقاها الإسلام، غير أنه غير صيغتها القديمة بما يتفق مع عقيدة التوحيد، فصارت على هذا النحو: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لله، والملك لا شريك لك"1. كما جعلها جزءًا من حج مكة، بعد أن كانت تتم خارج مكة؛ إذ كانت كل قبيلة تقف عند صنمها، وتصلي عنده ثم تلبي، قبل أن تقدم مكة2. وذلك بالنسبة لمن كان يحج مكة. فأبطل ذلك الإسلام، وألغى ما كان من ذلك من حج أهل الجاهلية. وقد رأينا صيغ التلبيات، وكيف كانت تلبيات القبائل خاصة بها، تلبي كل قبيلة لصنمها، وتوجه نداءها إليه.
وتردد جمل التلبية بصوت مرتفع، ولعل ذلك لاعتقاد الجاهليين أن في رفع الصوت إفهامًا للصنم الذي يطاف له بأن الطائف قد لبى داعيه، وأنه استجاب أمره وحرص على طاعته. وقد أشار بعض الكتاب "الكلاسيكيين" إلى الصخب والضجيج الذي كان يرتفع في مواضع الحج بسبب هذه التلبية.
وهناك مواضع أخرى غير متصلة بالبيت الحرام، كانت مقدسة وداخلة في شعائر الحج، منها عرفة ومنى والمزدلفة والصفا والمروة، ومواضع أخرى كان يقصدها الجاهليون لقدسيتها أو لوجود صنم بها، ثم حرمها الإسلام، فنسيت وأهملت فذهبت معالمها مع ما ذهب من معالم الجاهليين.
وتقف الحمس في حجها على أنصاب الحرم من نمرة على نحو ما ذكرت أما الحلة والطلس، أي غير الحمس من بقية العرب فيقفون على الموقف من عرفة، عشية يوم "عرفة"، فإذا دفع الناس من عرفة وأفاضوا أفاضت الحمس من أنصاب الحرم حتى يلتقوا بمزدلفة جميعًا. وكانوا يدفعون من عرفة إذا طفلت الشمس للغروب وكانت على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم. فيبيتون بمزدلفة حتى إذا كانت في الغلس وقفت الحلة والحمس على "قزح"، فلا يزالون عليه حتى إذا طلعت الشمس وصارت على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في
__________
1 البخاري، كتاب الحج، الحديث 31 وما بعده، عمدة القاري "9/ 172 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 288"، إرشاد الساري "3/ 197"، "باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة".
2 اليعقوبي "1/ 225"، "أديان العرب".(11/379)
وجوههم دفعوا من مزدلفة، وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير1.
ومن مناسك الحج الطواف بالصفا والمروة، وعليها صنمان: إساف ونائلة: وكان الجاهليون يمسحونهما2. وكان طوافهم بهما قدر طوافهم بالبيت، أي سبعة أشواط. تقوم بذلك قريش، أما غيرهم فلا يطوفون بهما، وذلك على أغلب الروايات. ويظهر أن الصفا والمروة من المواضع التي كان لها أثر خطير في عبادة أهل مكة. ففي حج أهل مكة طوافان: طواف بالبيت، وطواف بالصفا والمروة.
وبين الصفا والمروة يكون "السعي" في الإسلام، ولذلك يقال للمسافة بين المكانين "المسعى" وكان إساف بالصفا، وأما نائلة فكان بالمروة3. ولا بد أن يكون لاقتران الاسمين دائمًا سبب، و"المسعى" هو الرابط المقدس بين هذين الموضعين المقدسين عند الجاهليين.
وكان أهل مكة يتبركون بلمس الحجر الأسود، ثم يسعون بين الصفا والمروة ويطوفون بإساف أولًا ويلمسونه، كل شوط من الطواف ثم ينتهون بنائلة ويلبون لهما. وكانت تلبيتهم لهما: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك"4. وذكر أن "الأنصار"، لما قدموا مع النبي في الحج، كرهوا الطواف بين الصفا والمروة لأنهما كانا من مشاعر قريش في الجاهلية، وأرادوا تركه في الإسلام. وذكر أن قومًا من المسلمين قالوا: يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شرك كنا نصنعه في الجاهلية. فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بين الصفا والمروة مسحوا الوثنيين، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام، كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} 5. ويتبين من غربلة الأخبار أن الذين كانوا يطوفون بالصنمين المذكورين ويسعون بينهما. هم من عباد الصنمين وهم قريش
__________
1 الأزرقي "2/ 226"، مسند ابن حنبل "1/ 39، 42، 50، 52"، الأم للشافعي "2/ 180"،
2 البلدان "5/ 365"، "8/ 38"، إرشاد الساري "3/ 187".
3 Rest, s. 77.
4 المحبر "311"، الأزرقي "1/ 112".
5 البقرة، الآية 158، أسباب النزول "30 وما بعدها"، تفسير الطبري "2/ 43"، "طبعة البابي 1954م".(11/380)
خاصة، وليس كل من كان يحج إلى مكة من الغرب، ولذلك كرهوا الطواف في الإسلام بالصفا والمروة. وقد استبدل الإسلام بالطواف السعي؛ لهدم الصنمين اللذين كان الناس يطوفون حولهما واكتفى بالسعي بين الموضعين.
وذكر بعض العلماء أن العرب عامة كانوا لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ولا يطوفون بينهما فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} 1، أي لا تستحلون ترك ذلك2. وذكر أن الأنصار كانوا يهلون لمناة في الجاهلية، فلما جاء الإسلام قالوا: يا نبي الله إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما، فأنزل الله الآية المذكورة. وكان أهل "تهامة" ممن لا يطوفون أيضًا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام ونزل الأمر بالطواف بالبيت، ولم ينزل بالطواف بين الصفا والمروة، قيل للنبي: إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة وإن الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بين الصفا والمروة فهل علينا من جناح أن لا نطوف بهما. فنزل الوحي: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، فصار الطواف بين الصفا والمروة لجميع الحجاج، لا كما كان في عهد الجاهلية. من اقتصاره على قريش وبعض العرب المتأثرين بهم. فكانوا يطوفون بهما ويمسحون بالوثنين إساف ونائلة، فلما جاء الإسلام تحرج بعض الناس وفيهم قوم من قريش من الطواف بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية، فنزل الأمر به3.
وذكر أهل الأخبار أن السعي بين الصفا والمروة. شعار قديم من عهد هاجر أم إسماعيل. وأما رمل الطواف، فهو الذي أمر به النبي، أصحابه في عمرة القضاء ليُري المشركين قوتهم، حيث قالوا: وهنتهم حمى يثرب4.
__________
1 البقرة، الآية 158.
2 تاج العروس "3/ 304"، "شعر"، روح المعاني "2/ 41"، تفسير القرطبي، الجامع "2/ 114"، الأزرقي "74"، تفسير ابن كثير "1/ 198"، صحيح البخاري "1/ 414"، الموطأ "1/ 373"، إرشاد الساري "3/ 187".
3 تفسير الطبري "2/ 27 وما بعدها"، الطبرسي "2/ 45"، ابن كثير "1/ 181، 200"، البخاري "1/ 414"، "باب 79"، الموطأ، "1/ 653"، "1/ 371"، "باب 40".
4 اللسان "11/ 295 وما بعدها"، "رمل".(11/381)
وورد في خبر عن "عائشة" أنها قالت: "إن الأنصار كانوا يلهون في الجاهلية لصنمين على شط البحر، يقال لهما: "إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة ثم يحلقون، فلما جاء الإسلام، كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية، فأنزل الله عزل وجل: إن الصفا والمروة من شعائر الله إلى آخرها. قالت فطافوا". وهو خبر يناقض أخبارًا أخرى يتصل سندها بـ"عائشة"، تجمع على أنها قالت: إن الأنصار أو الأنصار وغسان كانوا قبل أن يسلموا يصلون لمناة، فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سُنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة1، ولم أجد في خبر آخر شيئًا يفيد أن إسافًا ونائلة كانا على ساحل البحر.
و"السعي" في الإسلام سبعة أشواط، تبدأ بالصفا، وتختتم بالمروة. وعندما يصل الحاج حد "السعي" يسعى ويهرول، فإذا جاز الحد مشى. وكان الجاهليون يبدأون بـ"الصفا" وينتهون بـ"المروة" كذلك2.
ومن مناسك حج أهل الجاهلية الوقوف بـ"عرفة"، ويكون ذلك في التاسع من ذي الحجة ويسمى "يوم عرفة" ومن "عرفة" تكون "الإجازة" للإفاضة إلى "المزدلفة"، ومن "المزدلفة" إلى "منى". وقد كان الجاهليون من غير قريش يفيضون في عرفة عند غروب الشمس، وأما في المزدلفة فعند شروقها. وكان الذي يتولى الإجازة رجلًا من تميم يقال له "صوفة"، ثم انتقلت إلى "صفوان" من تميم كذلك3. ولم يكن "الحمس" يحضرون عرفة، وإنما يقفون بالمزدلفة، وكان سائر الناس يقف بعرفة. ولما رأى أحد الصحابة رسول الله واقفًا بعرفة عجب من شأنه وأنكر منه ما رأى لأنه من الحمس، وما كان يظن أنه يخالف قومه في ذلك، فيساوي نفسه بسائر الناس، فأنزل الله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5،
__________
1 صحيح مسلم "4/ 68"، "باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به".
2 راجع باب الحج في كتب الحديث والفقه.
3 ابن هشام "77، 82"، اللسان "7/ 191"، تاج العروس "6/ 193"، الروض الأنف "1/ 86"، الصحاح "3/ 1099"، البلدان "4/ 104".
4 إرشاد الساري "3/ 200"، تفسير الطبرسي "2/ 296"، تفسير ابن كثير "1/ 242 وما بعدها"، أسباب النزول "42".
5 البقرة، الآية 199.(11/382)
فشمل ذلك الحمس وغيرهم. فأخذوا يقفون كلهم موقف عرفة، ووضع عن قريش ما فعلوه من تمييز أنفسهم عن الناس1.
وورد في روايات أخرى، أن قريشًا وكل حليف لهم وبني أخت لهم، لا يفيضون من عرفات، إنما يفيضون من المغمس، وورد أن قريشًا وكل ابن أخت وحليف لهم، لا يفيضون مع الناس من عرفات، يقفون في الحرم ولا يخرجون منه. يقولون: إنما نحن أهل حرم الله، فلا نخرج من حرمه، وأنهم قالوا "نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت، وقاطنوا مكة وساكنوها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلنا، ولا تعرف له العرب مثل ما نعرف لنا، فلا تعظموا شيئًا من الحل، كما تعظمون الحرم. فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها"2.
وذكر أن قريشًا ومن دان بدينها تفيض من "جمع" من المشعر الحرام3" و"جمع" المزدلفة4.
و"عرفة" أو "عرفات" موضع على مسافة غير بعيدة عن مكة5. لا بد وأن يكون من المواضع التي كان يقدسها أهل الجاهلية، وأن يكون له ارتباط بصنم من الأصنام، وإلا لما صار جزءًا من أجزاء مناسك الحج وشعائره عند الجاهليين. ويقف الحجاج موقف عرفة من الظهر إلى وقت الغروب. وقد يكون لموقف الجاهليين في عرفة وقت الغروب علاقة بعبادة الشمس. فإذا غربت الشمس اتجه الحجاج إلى "المزدلفة".
__________
1 تفسير الطبري "2/ 166 وما بعدها".
2 تفسير الطبري "2/ 170".
3 أسباب النزول "42".
4 قال أبو ذؤيب:
فَباتَ بِجَمعٍ ثُمَّ تَمَّ إِلى مِنىً ... فَأَصبَحَ رَأدًا يَبتَغي المَزجَ بِالسحلِ
تاج العروس "5/ 305"، "جمع".
5 "وعرفات، موقف الحاج ذلك اليوم على اثني عشر ميلًا من مكة"، تاج العروس "6/ 193"، تفسير الطبري "4/ 114 وما بعدها"، أخبار مكة "1/ 115 وما بعدها".(11/383)
الإفاضة:
ومن "عرفة" تكون الإفاضة إلى "المزدلفة". و"المزدلفة"، موضع يكاد يكون على منتصف الطريق بين عرفة و"منى". وفيه يمضي الحجاج ليلتهم، ليلة العاشر من "ذي الحجة". ومنه تكون الإفاضة عند الشروق إلى "منى". وقد نعت بـ"المشعر الحرام" في القرآن الكريم1. ويذكر أهل الأخبار أن "قصي بن كلاب"، كان قد أوقد نارًا على "المزدلفة" حتى يراها من دفع من عرفة، وأن العرب سارت على سنته هذه، وبقيت توقدها حتى في الإسلام2. ولا بد وأن يكون من المواضع الجاهلية المقدسة كذلك، التي كان لها صلة بالأصنام. وقد ذكر علماء اللغة اسم جبل بالمزدلفة دعوه "قزحًا". قالوا إنه "هو القرن الذي يقف عنده الإمام"3، وذكروا أن "قزح" اسم شيطان4. ونحن نعرف اسم صنم يقال له "قزاح"، قد تكون له صلة بهذا الموضع.
ويفيض الحجاج في الجاهلية عند طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة من "المزدلفة" إلى "منى"؛ لرمي الجمرات ولنحر الأضحي. و"منى" موضع لا يبعد كثيرًا عن مكة. ولعلماء اللغة آراء في سبب التسمية، من جملتها أنها عرفت بذلك لما يمنى بها من الدماء5. وذكر بعض أهل الأخبار أن "عمرو بن لحي" نصب بمنى سبعة أصنام، نصب على "القرين" القرن الذي بين مسجد منى والجمرة الأولى صنمًا، ونصب على الجمرة الأولى صنمًا، وعلى الجمرة الوسطى صنمًا، وعلى شفير الوادي صنمًا6. ولا بد أن يكون لهذا الموضع صلة بالأصنام، نظرًا لما له من علاقة متينة بمناسك الحج. وقد يكون لرمي الجمرات ولنحر الذبائح صلة بتلك الأصنام.
__________
1 سورة البقرة، الآية 198، تفسير الطبري "2/ 164"، روح المعاني "2/ 74"، تفسير ابن كثير "1/ 242".
2 نهاية الأرب "1/ 109"، "ذكر نيران العرب" صبح الأعشى "1/ 409"، الأزرقي "36، 130، 411، 415"، "وستنفلد" ابن هشام "77"، ابن سعد 1/ 72" "صادر" اللسان "9/ 138"، البلدان "4/ 519"، تاج العروس "6/ 131".
3 تاج العروس "2/ 207"، "قزح".
تاج العروس "2/ 207"، "قزح".
5 تاج العروس "10/ 348"، "منى".
6 الأزرقي "2/ 142".(11/384)
وقد ذكر العلماء "أن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير"1. وأن النبي خالفهم، فأفاض حين أسفر قبل طلوع الشمس"2. وفي فعل المشركين ذلك، ووقوفهم انتظارًا للإفاضة عند طلوع الشمس، دلالة على عبادة الشمس عندهم، ولهذا غيَّر الرسول هذا الوقت.
و"رمي الجمرات" بمنى من مناسك الحج وشعائره. وهو من شعائر الحج كذلك المعروفة في المحجات الأخرى من جزيرة العرب. كما كان معروفًا عند غير العرب أيضًا. وقد أشير إليه في التوراة3. وهو معروف عند "بني إرم"4. وكلمة "رجم" من الكلمات السامية القديمة. وقد وردت في حديث "عبد الله بن "مغفل": لا ترجموا قبري، أي لا تجعلوا عليه الرجم، وهي الحجارة، على طريقة أهل الجاهلية، ولا تجعلوه مسنمًا مرتفعًا5. وقد فعله أهل الجاهلية على سبيل التقدير والتعظيم. فكان أحدهم إذا مر بقبر، وأراد تقدير صاحبه وتعظيمه وضع رجمة أو رجامًا عليه.
"والجمرات"، أي مواضع "رمي الجمرات" عديدة عند الجاهليين، يطاف حولها، ويحج إليها6 منها مواضع أصنام، وأماكن مقدسة، ومنها قبور أجداد. وقد ورد قسم بها في بيت ينسب إلى شاعر جاهلي7. وتُرمى الجمرات على مكان عرف بـ"جمرة العقبة" وبـ"الجمار" وبـ"موضع الجمار" وهو بـ"منى"، وتتجمع وتتكوم عنده الحصى. وهي جمرات ثلاث: الجمرة
__________
1 إرشاد الساري "3/ 210".
2 المصدر نفسه.
3 التكوين، الإصحاح الحادي والثلاثون، "وقال لابان ليعقوب: هوذا هذه الرجمة، وهو ذا النصب الذي وضعت بيني وبينك" الآية 51.
4 Shorter Ency, p. 464, Reste, s. 112.
5 النهاية "2/ 74" اللسان "15/ 117 وما بعدها" تاج العروس "8/ 304 وما بعدها"، "رجم".
6 المشرق: السنة: السنة التاسعة والثلاثون تموز – أيلول 1941م، "246"، Reste, s. 111.
7
فأقسم بالذي قد كان ربي ... وأنصاب لدى الجمرات مغر
ابن هشام "534"، المشرق، الجزء المذكور، قال حذيفة بن أنس الهذلي:
لأدركهم شعث النوامي كأنهم ... سواشق حجاج توافي المجمرا
اللسان "5/ 217".(11/385)
الأولى، والجمرة الوسطى، وجمرة العقبة1.
ويرجع أهل الأخبار مبدأ رمي الجمرات إلى "عمرو بن لحي" يذكرون أنه جاء بسبعة أصنام فنصبها بـ"منى"، عند مواضع الحجرات، وعلى شفير الوادي، ومواضع أخرى، وقسم عليها حصى الجمار، إحدى وعشرين حصاة، يُرمى كل منها بثلاث جمرات، ويقال للوثن حين يُرمى: أنت أكبر من فلان الصنم الذي يُرمى قبله2.
وكان إفاضة الجاهليين على هذا النحو: كان أمر الإفاضة بيد رجل من أسرة تناوبت هذا العمل أبًا عن جد. وقد اشتهر منهم رجل عرف بـ"عميلة بن خالد العدواني"، واشتهر بين الناس بـ"أبي سيارة". كان يجيز الناس من المزدلفة إلى منى أربعين سنة. يركب حمارًا أسود، وينظر إلى أعالي جبل "ثبير"، فإذا شاهد عليها أشعة الشمس الأولى نادى: أشرق ثبير، كيما نغير! ثم يجيز لهم بالإفاضة وفيه يقول الشاعر:
خلوا الطريق عن أبي سيَّاره ... وعن مواليه بني فزاره
حتى يجيز سالمًا حماره ... مستقبل القبلة يدعو جاره
فقد أجار الله من أجاره3.
وضرب به المثل، فقيل: أصح من عير أبي سيَّارة4.
وذكر "الجاحظ" أن اسم "أبي سيارة" "عميلة بن أعزل"، دفع بأهل الموسم أربعين عامًا، ولم يكن عيره عيرًا وإنما كان أتانًا، ولا يعرفون حمارًا وحشيًّا عاش وعَمَّر أطول من عير "أبي سيارة"5.
__________
1 تاج العروس "3/ 107"، "حجر"، "10/ 348"، "منى".
2 الأزرقي، أخبار، "ص402"، لا يبزك".
3 اللسان "7/ 191"، الروض الأنف "1/ 86"، الميداني "1/ 421 وما بعدها"، البلدان "3/ 6"، "ثبير"، "البكري" "1/ 335"، "طبعة السقا"، "وأبو سيارة: عميلة بن أعزل"، الحيوان "7/ 215"، "عبد السلام محمد هارون"، إرشاد الساري "3/ 210".
4 تاج العروس "3/ 287"، "سير"، نهاية الأرب "16/ 36 وما بعدها".
5 الحيوان "1/ 139".(11/386)
وورد أن الذين كان لهم أمر الإجازة بالحجاج، وهي الإفاضة، هم "صوفة". وهم حي من مضر من نسل "الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر"، وقد سموا "صوفة" و"آل صوفة"؛ لأن "الغوث" أبوهم جعلت أمه في رأسه صوفة وجعلته ربيطًا للكعبة يخدمها. وكانوا يخدمون الكعبة ويجيزون الحاج، أي يفيضون بهم، فيكونون أول من يدفع. وكان أحدهم يقوم فيقول: أجيزي صوفة، فإذا أجازت، قال: أجيزي خندف، فإذا أجازت أذن للناس كلهم في الإجازة. وكانت الإجازة بالحج إليهم في الجاهلية. وكانت العرب إذا حجت وحضرت عرفة لا تدفع منها حتى تدفع بها صوفة، وكذلك لا ينفرون من "منى" حتى تنفر "صوفة"، فإذا أبطأت بهم، قالوا: أجيزي صوفة. وورد أن "صوفة" قوم من "بني سعد بن زيد مناة" من تميم1.
ويفهم من رواية أن كلمة "صوفة" لم تكن اسم علم، وإنما هي لفظة أطلقت على من كان يتولى البيت أو قام بشيء من خدمته، أو بشيء من أمر المناسك2. فهم من رجال الدين، تخصصوا بالإجازة بالناس في مواسم الحج. ولعلهم كانوا يضعون على رأسهم صوفة على هيئة عمامة أو عصابة، أو عطر؛ لتكون علامة على أنهم من أهل بيت دين وشرف. فعرفوا بـ"صوفة" وبـ"آل صوفة"، وبـ"صوفان". وفي ذلك قال: مرة بن خليف الفهمي"، وهو شاعر جاهلي قديم:
إذا ما أجازت صوفة النقب من منى ... ولاح قتار فوقه سفع الدم3
و"يظهر" من الروايات الواردة عن "ثبير" أنه كان من المواضع المقدسة عند الجاهليين، أو أن على قمته صنمًا أو بيتًا كانوا يصعدون إليه لزيارته وللتبرك به4. ومن الشعائر المتعلقة بمنى نحر الذبائح، وهي الأضحية في الإسلام و"العتائر".
__________
1 تاج العروس "6/ 169"، "صوف"، معجم الشعراء "382"، ابن هشام "1/ 77، 82".
2 الروض الأنف "1/ 85".
3 معجم الشعراء "382".
4 المشرق، السنة التاسعة والثلاثون "1941م"، "ص259".(11/387)
في الجاهلية. ولذلك عرف هذا العيد: عيد الحج بـ"عيد الأضحى". وعرف اليوم الذي تضحى به الأضحية بـ"يوم النحر" وبـ"الأضحى" وبـ"يوم الأضحى". وكانوا ينحرونها على الأنصاب وعلى مقربة من الأصنام، فتوزع على الحاضرين ليأكلوها جماعة أو تعطى للأفراد. وقد تترك لكواسر الجو وضواري البر فلا "يصد عنها إنسان ولا سبع"1. وتبلغ ذروة الحج عند تقديم العتائر؛ لأنها أسمى مظاهر العبادة في الأديان القديمة.
وكان الجاهليون يقلدون هديهم بقلادة، أو بنعلين، يعلقان على رقبتي الهدي، أشعارًا للناس بأن الحيوان هو هدي، فلا يجوز الاعتداء عليه، كما كانوا يشعرونه. والإشعار الإعلام. وهو أن يشق جلد البدنة أو يطعن في أسنمها في أحد الجانبين بمبضع أو نحوه، وقيل في سنامها الأيمن حتى يظهر الدم ويعرف أنها هدي والشعيرة البدنة المهداة2.
وكان بعض أهل الجاهلية، يسلخون جلود الهدي؛ ليأخذوها معهم. ويتفق هذا مع لفظة "تشريق" التي تعني تقديم اللحم. ومنه سميت أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر؛ لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها، أي تشرر في الشمس3. وقيل سمي التشريق تشريقًا؛ لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس4. ويظهر أن الجاهليين كانوا ينحرون قبيل شروق الشمس وعند شروقها. بدليل ما ورد في الحديث من النهي عن ذلك. ومن حديث: "من ذبح قبل التشريق فليعد". أي قبل أن يصلي صلاة العيد. وهو من شروق الشمس وإشراقها لأن ذلك من وقتها5.
ولا يحل للحجاج في الجاهلية حلق شعورهم أو تقصيرها طيلة حجهم، وإلا بطل حجهم. ويلاحظ أن غير العرب من الساميين كانوا لا يسمحون بقص الشعر في مثل هذه المناسبات الدينية أيضًا، لما للشعر من أهمية خاصة في الطقوس.
__________
1 ابن هشام "100"، المشرق: السنة السابعة والثلاثون، كانون الثاني - أذار 1939م، "92".
2
نُقَتِّلُهم جِيلًا فجِيلًا نَرَاهُمُ ... شَعَائِرَ قُربانٍ بِهِم يُتقَرَّبُ
تاج العروس "3/ 303 وما بعدها"، "شعر".
3 تاج العروس "6/ 393"، "شرق".
4 المصدر نفسه.
5 تاج العروس "6/ 393"، "شرق".(11/388)
الدينية عندهم، ولا سيما اللحية لما لها من علاقة بالدين. ولهذا نجد رجال الدين والزهاد والأتقياء الورعين يحافظون عليها ويعتبرونها مظهرًا من مظاهر التدين1.
وقد كانت القبائل لا تحلق شعورها في مواسم حجتها إلا عند أصنامها، فكان الأوس إذا حجوا وقفوا مع الناس المواقف كلها ولا يحلقون رءوسهم، فإذا نفروا أتوا صنمهم مناة فحلقوا رءوسهم عنده، وأقاموا لا يرون لحجهم تمامًا إلا بذلك2. وكانت قضاعة ولحم وجذام تحج للأقيصر وتحلق عنده3.
وكان من عادة بعض القبائل، مثل بعض قبائل اليمن، إلقاء قرة من دقيق مع الشعر4. وذلك أن أهل اليمن كانوا إذا حلقوا رءوسهم بمنى وضع كل رجل على رأسه قبضة دقيق، فإذا حلقوا رءوسهم سقط الشعر مع ذلك الدقيق، ويجعلون ذلك الدقيق صدقة، فكان ناس من أسد وقيس يأخذون ذلك الشعر بدقيقه، فيرمون بالشعر وينتفعون بالدقيق. وفي ذلك يقول معاوية بن أبي معاوية الجرمي:
ألم تر جرمًا أنجدت وأبوكم ... مع الشعر في قص الملبد شارع
إذا قرة جاءت تقول أصب بها ... سوى القمل إني من هوازن ضارع5
وكان من يقصد العزى يذبح عند شجرة هناك ثم يدعون، وكان من يقصد مناة يهدي لها كما كان غيرهم يهدي للكعبة ويطوفون بها ثم ينحرون عندها، وكان عبدة ذي الخلصة في أسفل مكة يذبحون عنده كذلك6. وكذلك كانت بقية القبائل تطوف في أعيادها حول أصنامها، وتهدي إليها، ثم تنحر عندها عند إكمالها هذه الشعائر دلالة على إكمالها شعائر الحج إلى هذه المواضع وانتهائها منها على أحسن وجه.
وتميز الحيوانات التي يهيئها أصحابها أو مشتروها للذبح في الحج بعلامات، بأن توضع عليها قلائد تجعلها معروفة، أو أن يحدث لها جرح ليسيل منه الدم ليكون ذلك علامة أنها هدي، ويقال لذلك إشعار، ومنه إشعار البدن، وهو أن يشق.
__________
1 Smith, p. 323.
2 الأصنام "ص14"، البلدان "8/ 169"، الأزرقي "1/ 73".
3 الأصنام "ص48"، البلدان "1/ 314"، Reste, s. 62.
4 الأصنام "ص48"، البلدان "1/ 314 وما بعدها"، Reste, s. 62. ff.
5 تاج العروس "3/ 486"، "قرر".
6 بلوغ الأرب "1/ 344 وما بعدها".(11/389)
أحد جنبي سنام البدنة حتى يسيل منه الدم ليكون ذلك علامة الهدي1. وقد كان من أهل مكة من يتخذ من لحاء شجر الحرم قلادة يضعها في عنق البدن؛ لتكون دلالة على أنها هدي، فلا يعترضها أحد.
ويجوز للحجاج مغادرة "منى" في اليوم العاشر من ذي الحجة، أي في اليوم الأول من العيد، ففي هذا اليوم يكمل الحجاج حجهم، ولكن منهم من يمكث في هذا الموضع حتى اليوم الثالث عشر، وذلك ابتهاجًا بأيام العيد، ومشاركة لإخوانه فيه. ويقال لذلك "التشريق". وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر3.
وكان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم وفرغوا من الحج، وذبحوا نسائكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فيقول بعضهم لبعض: كان أبي يطعم الطعام، ويقول بعضهم: كان أبي يضرب بالسيف، ويقول بعضهم: كان أبي جز نواصي بني فلان. يقولون ذلك عند "الجمرة"، أو عند البيت، فيخطب خطيبهم ويحدث محدثهم. أو أنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم وأقاموا بمنى قعدوا حلقًا، فذكروا صنيع آبائهم في الجاهلية وفعالهم به، يقوم الرجل، فيقول: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عظيم القبة كثير المال، وما شاكل ذلك، فنزل الوحي: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} 4.
وكانوا إذا خرج أحدهم من بيته يريد الحج، تقلد قلادة من لحاء السمر؛ دلالة على ذهابهم إلى الحج، فيأمن حتى يأتي أهله. وذكر أنه كان يقلد نفسه وناقته، فإذا أراد العودة عادوا مقلدين بلحاء السمر. وروي أنهم إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة يتقلدون من لحاء السمر، وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها، تقلدوا قلادة شعر فلا يعرض لهم أحد بسوء. بقي ذلك شأنهم حتى نزل الأمر بمنع دخول المشركين مكة وبوجوب قتلهم حيث وجدوا5.
__________
1 النهاية "2/ 442".
2 اللسان "4/ 369"، "6/ 81 وما بعدها"، الموطأ "1/ 249"، مسند ابن حنبل "1/ 216، 254، 280، 249، 334، 339"، "6/ 35، 82، 87".
3 تاج العروس "6/ 393"، "شرق".
4 البقرة، الآية 200، تفسير الطبري "2/ 172 وما بعدها". تفسير الطبرسي "2/ 296 وما بعدها".
5 تفسير الطبري "6/ 37 وما بعدها"، اللسان "3/ 367" "قلد".(11/390)
التجارة في الحج:
قال علماء التفسير: كان متجر الناس في الجاهلية: عكاظ وذو المجاز، فكانوا إذا أحرموا لم يتبايعوا حتى يقضوا حجهم. ويقولون أيام الحج أيام ذكر. وقالوا: "كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا ضالة ليلة النفر. وكانوا يسمونها ليلة الصدر، ولا يطلبون فيها تجارة ولا بيعًا". وقالوا: "كان بعض الحاج يسمون الداج. فكانوا ينزلون في الشق الأيسر من منى وكان الحاج ينزلون عند مسجد منى، فكانوا لا يتجرون حتى نزلت ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم. هي التجارة. قال: اتجروا في الموسم"1. والصدر الإفاضة. ومنه طواف الصدر. وهو طواف الإفاضة2.
والداج: الأجراء والمكارون والأعوان ونحوهم الذين مع الحاج3. وذكر أن قومًا جاءوا إلى "عبد الله بن عمر"، فقالوا: "إنا قوم نكرى، فيزعمون أنه ليس لنا حج. قال: ألستم تحرمون كما يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون؟ " قالوا بلى. قال فأنتم حاج4. ومن يكري لخدمة الحاج، فهو من الداج.
__________
1 تفسير الطبري "2/ 164 وما بعدها".
2 تاج العروس "3/ 328"، "صدر".
3 تاج العروس "2/ 39"، "دج".
4 تفسير الطبري "2/ 164 وما بعدها".(11/391)
العمرة:
و"العمرة" هي بمثابة "الحج الأصغر"، في الإسلام، وكان أهل الجاهلية يقومون بأدائها في شهر "رجب". وللعمرة في الإسلام شعائر ومناسك، وتكون بالطواف بالبيت وبالسعي بين الصفا والمروة. ولا بد أن يكون لها عند الجاهليين شعائر ومناسك. وهي في الإسلام فردية اختيارية، وهي تختلف بذلك عن الحج الذي هو فرض عين على كل مسلم مستطيع، وجماعي، أي أن المشتركين فيه يؤدونه جماعة1 أما بالنسبة إلى الجاهليين، فيظهر من ذكر العمرة في القرآن.
__________
1 Shorter Ency, of Islam, p. 604. ff(11/391)
الكريم أنهم كانوا يؤدونها كما كانوا يؤدون الحج، ولوقوعها في شهر رجب، وهو شهر كان الجاهليون يذبحون العتائر فيه، لعلنا لا نخطئ إذا قلنا إنهم كانوا يذبحون ذبائحهم في العمرة، حينما يأتون أصنامهم فيطوفون حولها، أما في الإسلام، فالعمرة دون الحج. وإذا كانت في شهر رجب في الجاهلية، كانت حجًّا خاصًّا مستقلًّا عن الحج الآخر الذي يقع في شهر ذي الحجة. حرص الجاهليون على ألا يوافق موعدها موعد مواسم الحج، لما كان لها من أهمية عظيمة عندهم قد تزيد على الطواف المألوف في شهر الحج1.
وورد أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن العمرة من أشهر الحج: شوال وذي القعدة وتسع من الحجة وليلة النحر، أو عشر أو ذي الحجة من الفجور في الأرض، أي من الذنوب2، ولكن بعضًا آخر كان يعتمر في كل شهر، ولا سيما في رجب، حيث كانوا يحلقون رءوسهم ويجيئون إلى محجاتهم للعمرة. وورد أن أهل الجاهلية "كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر. ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر"3.
وذكر أن الأشهر الحرم ثلاثة سردًا وواحدًا فردًا، وهو رجب. أما الثلاثة، فليأمن من الحجاج واردين إلى مكة وصادرين عنها، شهرًا قبل شهر الحج، وشهرًا بعده، قدر ما يصل الراكب من أقصى بلاد العرب، ثم يرجع وأما رجب، فللعمَّار يأمنون فيه مقبلين وراجعين نصف الشهر للإقبال ونصفه للإياب؛ إذ لا تكون العمرة من أقاصي بلاد العرب كما يكون الحج. وأقصى منازل المعتمرين بين مسيرة خمسة عشر يومًا4.
ويلبس المعتمر "الإحرام" أيضًا. وقد كان الجاهليون يكتفون في عمرتهم بالطواف بالبيت، أما "السعي" بين الصفا والمروة، فأغلب الظن أن العرب لم يكونوا يقومون به. بدليل ما ورد في القرآن الكريم من قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا
__________
1 المشرق، الجزء 39 "1941"، "ص250"، Reste, s. 84,
2 إرشاد الساري "6/ 174".
3 الروض الأنف "1/ 351".
4 الروض الأنف "2/ 60".(11/392)
وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} 1. ففي هذا النص دلالة على أن الجاهليين من غير قريش لم يكونوا يدخلون السعي بينهما في شعائر الحج أو العمرة، وأن الله أمر بإدخاله فيهما. أما موقف الجاهليين بالنسبة لطواف العمرة، فهو نفس موقفهم بالنسبة للطواف بالبيت في أثناء الحج، والفرق بين الحج والعمرة، أن الحج هو الإحرام ثم الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وقضاء مناسك عرفة والمزدلفة والوقوف بالمواضع التي أمر بالوقوف بها، بينما العمرة الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة2، فلا يكون موقف عرفة من العمرة، وكان الجاهليون يحلقون رءوسهم للعمرة، ويكون حلق الرأس علامة لها. فإذا وجدوا رجلًا وقد حلق رأسه علموا أنه من "العمار"، فلا يمسونه بسوء، إلا إذا مس أحدًا بسوءٍ احترامًا للعمرة ولشعائر الدين3.
والفرق بين العمرة والحج في الإسلام، أن العمرة تكون للإنسان في السنة كلها، والحج في وقت واحد في السنة. وتمام العمرة أن يُطاف بالبيت، ويُسعى بين الصفا والمروة، والحج لا يكون إلا مع الوقوف بعرفة يوم عرفة وإجراء بقية المناسك4.
وتقبيل الأحجار والأصنام واستلامها في أثناء الطواف أو في غير الطواف من الشعائر الدينية عند الجاهليين. كان في روعهم أن هذا التقبيل مما يقربهم إلى الآلهة، ويوصلهم إليها، فتقربوا إليها ونصبوها في مواضع ظاهرة، ومسحوا أجسامهم بها تبركًا وكلمة "تمسح" من الكلمات التي لها معانٍ عند الجاهليين، وكذلك كلمة "استلم" و"استلام" عند أهل مكة خاصة حيث استعملت بالنسبة للحجر الأسود. وطريقتهم أن يمر الإنسان يده على الحجر المقدس أو أن يمسه بها إن صعب استلامه كله. وقد يعوض عن ذلك بعصا يمدها الإنسان إلى الحجر حتى
__________
1 البقرة، الآية 158.
2 تفسير الطبري "2/ 120 وما بعدها".
3 "وقد كان حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عمار فلا بأس علينا منهم"، تفسير الطبري "2/ 202".
4 اللسان "6/ 282"، تاج العروس "3/ 422 وما بعدها"، اللسان "4/ 604"، "صادر"، البلدان "4/ 154"، الإقناع "1/ 334، 397 وما بعدها".(11/393)
تلمسه، وإذا تعذر الوصول إليه بسبب ما، فيجوز أن يفعل ذلك راكبًا على جمل1.
ومن هذا القبيل أيضًا طرق مطارق أبواب البيوت المقدسة طرقات خفيفة، وإمرار بعض الأشياء مثل الملابس على الأصنام والصخور والمواضع المقدسة لاكتساب البركة، والتمسح بجدران البيت او استلام أركانه أو التعلق بأطراف الكسوة. وتلطيخ الأحجار بدماء الضحية التي تقدم للأوثان وذلك بصب الدماء عليها، أو بتلطيخها وتلويثها كلها أو جزء منها بدم الضحية، توكيدًا بإراقة دم الضحية في نفس من ضحيت الضحية من أجله2.
وقيل إن من شعائر الجاهليين في الحج أن الرجل منهم كان إذا أحرم، تقلد قلادة من شعر، فلا يتعرض له أحد. فإذا حج وقضى حجه، تقلد قلادة من "إذخر"، والإذخر نبات زكي الرائحة، وأن الرجل منهم يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم، فلا يخاف من أحد، ولا يتعرض له أحد بسوء3. وتذكرنا هذه العادة بما يلبسه بعض الحجاج عند إتمامهم حجهم وعودتهم إلى بلادهم من لباس "كوفية" خاصة بأهل مكة ومن عقال حجازي وذلك بالنسبة للرجال، وخمار أبيض بالنسبة للنساء، وذلك طيلة الأيام السبعة الأولى من احتفالهم بالعودة من الحج.
ولم يكن الجاهليون القريبون من مكة أو البعيدون عنها يقصدونها في حج "عرفة" وعمرة "رجب" حسب، بل كانوا يقصدونها في أوقات مختلفة وفي المناسبات، للطواف حول الأصنام، واستلام الحجر الأسود، والتقرب إلى الآلهة المحلية. وقد ساعد ذكاء سادة قريش الذي تجلى في جمعهم أكثر ما أمكنهم جمعه من أصنام القبائل في "البيت الحرام"، على اجتذاب القبائل إليها، وبذلك نشطوا في استغلال مواسم الحج والعمرة بالاستفادة من القادمين بالاتجار معهم، وببيع ما
__________
1 وفي الحديث أن الرسول طاف وسعى بين الصفا والمروة، وهو على ظهر جمل، البخاري "1/ 66، 211"، السنن "2/ 37، 39"، مسلم "1/ 486، 488"، الأغاني "13/ 166"، المشرق، السنة السابعة والثلاثون، كانون الثاني – أذار 1939م "ص87 وما بعدها".
2 Reste, S. 109.
3 بلوغ الأرب "2/ 289".(11/394)
يحتاجون إليه من طعام وزاد، فحصلوا على مال، حسدهم عليه الآخرون. فكان الفضل في ذلك للبيت. وإلى ذلك أشير في القرآن، في سورة "قريش": {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} 1.
هذا ما عرفناه عن شعائر الحج إلى مكة وعن مناسكه في الجاهلية المتصلة بالإسلام. أما عن الحج إلى البيوت الأخرى وعن شعائره ومناسكه، فلا نكاد نعرف من أمرها شيئًا يذكر. ولكننا نستطيع أن نقول إن من أهم أركان الحج عند جميع الجاهليين، وجوب مراعاة النظافة، نظافة الجسم ونظافة الثياب. ولذلك، كانوا إذا حجوا لبسوا ملابس خاصة بالحج هي "الإحرام" أو ملابس جديدة، أو ملابس مستعملة نظيفة مغسولة، وذلك لحرمة هذه المواضع وقدسيتها، فلا يجوز دخولها بملابس وسخة دنسة، وإذا كانوا يلبسون أحسن ما عندهم عند ذهابهم إلى مقابلة عظيم أو سيد قبيلة أو رجل محترم؛ احترامًا له وإجلالًا لشأنه، أفلا يجب إذن لبس خير ما عند الإنسان من ثياب لدخول بيوت الآلهة، ولا سيما في مواسم الحج؟. وكان منهم من يوجب على نفسه الغسل وتنظيف جسده حين دخوله المعبد أو اعتزامه الحج.
وتقبيل الأصنام والأحجار واستلامها في أثناء الطواف والتمسح لها من الشعائر الدينية اللازمة في الحج وفي غير مواسم الحج عند الزيارات. كان في روعهم أن هذا التقبيل مما يقربهم إلى الآلهة، ويوصلهم إليها، فتجعلها ترضى عنهم وتشفيهم مما هم فيه من سقم وأمراض، فتقربوا إليها ومسحوا أجسامهم بها تبركًا وتقربًا. و"التمسح" بالصنم أو الحجر المقدس، التبرك به لفضله وعبادته، كأنه يتقرب إلى الآلهة بالدنو منه ولمسه2. وقد كان رجال الدين يمسحون بأيديهم أجسام المرضى وثيابهم؛ لإزالة السوء عنهم. وقد ذكر أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يتمسحون بأصنامهم، ويمسحون ظهورهم بها؛ لاعتقادهم أنها تشفيهم من كل ألم وسوء.
واستلام الصنم أو الحج المقدس، هو نوع من أنواع التقدير والتعظيم والتقرب. ويراد بذلك تقبيل الحجر ولمسه وتناوله باليد ومسحه بالكف. وإذا صعب الوصول
__________
1 سورة قريش، الرقم 106، رقم الآية 3 وما بعدها، تفسير الطبري "30/ 197"، روح المعاني "30/ 241".
2 تاج العروس "2/ 226"، "مسح".(11/395)
إليه لشدة الازدحام، فقد يمد أحدهم قصبة أو عودًا أو عصًا إليه لمسه، فيكون لمس هذه الأشياء له، كأنه لمس حقيقي، يجلب لصاحبه ما تمناه وطلبه ورجاه من ذلك الصنم أو الحجر1.
وقد أشار بعض "الكلاسيكيين" إلى وجود غابة من النخيل في ركن من البحر الأحمر، كان يؤمها النبط للتبرك بها؛ إذ كانت في نظرهم أرضًا مقدسة، عليها معبد من الحجر عليه كتابة، وصفوها بأنها كتابة لا يستطيع اليوناني قراءتها، وبه كهَّان وكاهنات يقضون عمرهم في خدمة ذلك المعبد، قالوا: وفي كل خمس سنين يحج الناس إليه، ويتجمعون عنده، ويحضر معهم من في جوار المعبد من ناس، فيذبحون، ويتقربون إلى آلهتهم. فإذا عادوا أخذوا معهم ماء من ذلك المكان؛ للتبرك به، لاعتقادهم أنه يمنحهم الصحة والعافية. وذكر بعض آخر أن الحج إلى هذا البيت كان مرتين في السنة: الحج الأول في مطلع السنة، ويستغرق شهرًا واحدًا. أما الحج الثاني فيكون في نهاية الصيف، ويستغرق شهرين وتكون هذه الأشهر الثلاثة أشهرًا حرمًا لا يحل فيها قتال، يعمها سلم أوجبته الآلهة على الإنسان والحيوان.
ونرى في هذا الشعائر مشابهة كبيرة لشعائر الحج في مكة. ولولا تعيين هؤلاء الكتبة المكان، ونصهم على أنه على البحر الأحمر، وأنه غابة نخيل، لانصرف الذهن إلى مكة؛ إذ نجد أن شعائر الحج فيها تشبه هذه الشعائر، واستقاؤهم من ماء "زمزم" للتبرك به، يشبه استقاء هؤلاء من بئر معبدهم هذا، وقد أهمل أولئك الكتبة أسماء الأشهر الحرم الثلاثة، فأضاعوا علينا فرصة ثمينة كانت تساعدنا كثيرًا في الوقوف على تثبيت الأشهر عند الجاهليين.
ويلاحظ أن النبط كانوا يعقدون في أثناء هذه الأشهر الحرم سوقًا، تذكرنا بسوق عكاظ التي كان يعقدها أهل الحجاز. ولا شك أن موسم الحج في المعبد المذكور، الذي يتحول إلى سوق للبيع والشراء، يشبه موسم الحج في مكة حيث ينقلب أيضًا إلى سوق.
__________
1 اللسان "12/ 297"، "سلم".
2 Die Araber in der Alten welt, I, S. 32. f.(11/396)
الأعياد:
والأعياد من جملة مظاهر الأديان وشعائرها. والحج في حد ذاته عيد من أعياد الجاهليين. وقد كانت للجاهليين أعياد لها صلة بأديانهم. غير أننا لا نستطيع أن نتحدث بالطبع عن وجود أعياد عامة يعيِّد فيها جميع الجاهليين عبدة الأصنام، لأن الأعياد العامة تستدعي وجود ديانة واحدة وعبادة إله أو آلهة مشتركة يعبدها جميع القوم، وإذ كانت العرب لا تعبد إلهًا واحدًا أو آلهة مشتركة يقدسها أهل الوبر وأهل المدر منهم جميعًا، فلا يمكن أن نتصور وجود أعياد عامة لجميع العرب، في عهود ما قبل الإسلام.
ولفظة العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد على رأي علماء اللغة1. وهو بالمعنى المعروف الذي يخص الاحتفالات الدينية من الألفاظ المعربة المأخوذة عن لغة بني إرم على رأي المستشرقين. فـ"عيدا" في الإرمية هي "العيد" في العربية2.
__________
1 تاج العروس "2/ 438"، اللسان "4/ 313"، بلوغ الأرب "1/ 344".
2 Ency, II, p. 444.(11/397)
الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة
مدخل
...
الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة
والمعبد هو الموضع المخصص للعبادة. وقد وردت في النصوص الجاهلية وفي عربية القرآن الكريم ألفاظ تؤدي هذا المعنى، فقد كان الجاهليون قد اتخذوا معابد ثابتة ومعابد منتقلة مثل بيوت الوبر، تعبدوا بها إلى معبوداتهم قبل الإسلام وقبل الميلاد.
فقد كانت القبائل في حركة دائمة؛ بحثًا عن الغزو والكلإ والماء. وكانت آلهتها في حركة دائمة أيضًا، ترحل مع المتعبدين لها، وتستقر عند استقرارهم بمكان ما. وعند نزول القبيلة في موضع ما توضع الأصنام في قبتها. وهي خيمة تقوم مقام المعبد الثابت عند أهل المدر، وتكون للخيمة بسبب ذلك قدسية خاصة، وللموضع الذي تثبت عليه حرمة ما دامت الخيمة فوقه، وقد كانت معابد القبائل المتنقلة كلها في الأصل على هذا الطراز1. ولم يكن من السهل على أهل الوبر تغيير طراز هذا المعبد، واتخاذ معبد ثابت؛ لخروج ذلك على سنن الآباء والأجداد. ولذلك لم يرض العبرانيون عن المعبد الثابت الذي أقامه سليمان، لما فيه من نبذ للخيمة المقدسة التي كانت المعبد القديم لهم وهم في حالة تنقل من مكان إلى مكان ثم إن أهل الوبر قوم رحل، ولا يمكن لمن هذا حاله اتخاذ معبد ثابت له، لما كان عليه من وجوب نقل أصنامه معه حيث يذهب.
__________
1 Die Araber, III, s. 132.(11/398)
ولبيوت الأصنام سدنة، يحفظون الأصنام بها ويرعونها، وينقلونها معهم حيث ترحل القبيلة، فإذا نزلت نزلوا بها، ليقيموا لها الواجبات الدينية المفروضة في الخيمة المقدسة. حيث فرضت طبيعة البداوة على أصحابها هذا النوع من أنواع البيوت المقدسة، وهذه الطقوس الدينية التي تلائم حياة الأعراب.
وبيوت العبادة عند الجاهليين ثلاثة أنواع: بيوت عبادة خاصة بالمشركين عبدة الأصنام، وهم الكثرة الغالبة، وبيوت عبادة خاصة باليهود، وبيوت عبادة خاصة بالنصارى. أما بيوت عبادة المجوس، فقد عرفت في العربية الشرقية وفي العربية الجنوبية، ولكن عبادها هم من المجوس، أي العجم، فالمجوسية لم تنتشر بين العرب، ولم تدخل بينهم إلا بين عدد قليل من الناس.
وما ذكرته عن بيوت العبادة، خاص بالمعابد العامة، وهناك مواضع عبادة خاصة، جعلت في البيوت، وضع أصحابها أصنامهم في ركن من أركانها، وتقربوا إليها. روي أن العباس، كان قد أقام الصنمين إسافًا ونائلة في ركن داره، وكانا حجرين عظيمين1. واحتفظ غيرة بأصنام في بيوتهم للتبرك بها، ولحماية البيت، وكانوا إذا سافروا حملوا أصنامهم الصغيرة معهم للاحتماء بها، وأخذ بعض شباب المدينة ما وجده من أصنام في البيوت، تعبَّد لها آباؤهم فحطمها، ومنهم من رماها في مواضع العذرة والقاذورات.
وقد استطعنا اليوم بفضل جهود السياح والمنقبين والباحثين من الحصول على بعض المعلومات عن معابد جاهلية كانت عامرة يومًا ما. وذلك بعثور المذكورين على ألواح مكتوبة وجدت في خرائب تلك المعابد. ولكن ما عثر عليه، لا صلة له بالدين في الغالب. فليس فيه أدعية أو صلوات أو كتابات تفصح عن عقائد القوم وعن أمور دينهم. ولهذا فإن علمنا بديانات الجاهليين لا يزال ضحلًا، لم يتقدم تقدمًا مرضيًا، وأملنا الوحيد في زيادته هو في المستقبل، فلعله يخرج من صناديق سره المكتومة ما يفصح عن عقائد القوم.
وقد اتخذ بعض العرب، وهم المتمكنون، بيوتًا وكعبات لعبادة أصنامهم، وضعوا أصنامهم في أجوافها، ومنهم من اتخذ صنمًا، فلم بين عليه بناءً؛ لعدم استطاعته ذلك. ومن لم يقدر عليه، ولا على بناء بيت نصب حجرًا أمام
__________
1 الأزرقي "1/ 112"، "2/ 188".(11/399)
الحرم، وأمام غيره، مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وسموها الأنصاب1.
وذكر أن "وكيع بن سلمة بن زهير الإيادي"، كان قد اتخذ له صرحًا بالحزورة، سوق كانت بمكة، يرتقيه بسلالم يتعبد فيه، فعرف بصاحب الصرح2.
والبيت، مأوى الإنسان ومسكنه في الأصل، ثم تجوز الناس فأطلقوا اللفظة على المعبد، باعتبار أنه بيت الآلهة أو الإله؛ لاعتقادهم أن الآلهة تحل به3.
وقد كانوا يضعون الصنم أو الأصنام فيه. ويقال للبيت عندئذ "بيت الله" أو "بيت ريام" وهو بيت يذكر "ابن الكلبي" أنه كان لحمير بصنعاء، وأن الناس كانوا يعظمونه ويتقربون عنده بالذبائح4، أو "بيت الربة" وما شاكل ذلك، بحسب اختصاص البيت بالصنم.
كذلك أطلقت كلمة "بيت" بمعنى معبد في نصوص المسند، فورد،: "وقدسو بيت مرب"، أي "وقدسوا بيت مأرب" أو "وبيت مأرب المقدس"5.
فلفظة بيت هي اللفظة التي استعملت لمواضع العبادة، أي المعبد، أطلقت قبل اسم الإله أو الموضع لتدل على التخصيص، وهي ترد في لغات سامية أخرى في هذا المعنى نفسه.
وأما "الكعبة" فالبيت المربع، وكل بيت مربع كعبة عند العرب. وقد خصصت في الإسلام بالبيت الحرام بمكة. والكعبة الغرفة أيضًا. وقد كان لربيعة بيت يطوفون به، يسمونه الكعبات، وقيل: ذو الكعبات، وقد ذكره الأسود بن يعفر في شعره، فقال:
والبيت ذي الكعبات من سنداد6
والمسجد كل موضع يتعبد فيه7. وقد استعملها الجاهليون بهذا المعنى أيضًا.
__________
1 الأصنام "21" "روزا".
2 تاج العروس "2/ 139"، "صرح".
3 المفردات "64".
4 الأصنام "7" "روزا".
5 CIH 541, Le Museon, 1934, LXVII, p. 103.
6 اللسان "1/ 718"، المفردات "446".
7 اللسان "3/ 204 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 371"، "سجد".(11/400)
وقد وردت اللفظة في نصوص بني إرم وفي النصوص النبطية والصفوية. ورد على هذه الصورة "مسجدا" في نصوص بني إرم. وورد على هذه الصورة في النصوص الصفوية أيضًا، وقد عنت به معبدًا1.
وقد عبر عن المعبد بلفظة "مكربن"، أي "المكرب" أو "المكراب" في بعض نصوص المسند؛ إذ ورد "مكربن يعق"، بمعنى "معبد يعوق"2. ومن هذا الأصل أخذت كلمة "مكراب" في الحبشية، ومعناها "معبد"3. ولهذا ذهب "كلاسر" وغيره إلى أنه "مكربة" Mocoraba المدينة المذكورة في "جغرافيا" "بطلميوس" هي "مكة"؛ لأنها "مقربة" إلى الأصنام، فهي بمعنى "البيت" و"الكعبة" في لهجتنا4.
وتقابل كلمة المعبد كلمة Templum اللاتينية التي تعني موضعًا مربعًا، فهي بمعنى "الكعبة"، و"كعبة" في اللغة العربية. ويلاحظ توافق تام بين معنى الكلمتين في هاتين اللغتين5. ولا بد أن يكون لاتخاذ هذا الشكل للمعبد سبب؛ إذ لا يعقل أن يكون قد جاء ذلك عفوًا، ولا سيما أننا نلاحظ أن الكلمتين: اللاتينية والعربية، قد جاءتا من شكل البناء ونوعه وطرازه.
وذكر علماء اللغة أن في جملة الألفاظ التي تطلق على بيوت الأصنام والعبادة والتصاوير، لفظة "البد". وهي تؤدي معنى "صنم" كذلك. وذكروا أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية، عربت من "بت"6، وأنها تعني البيت إذا كان فيه أصنام وتصاوير7.
وذكروا أن في جملة الألفاظ التي أطلقت على بيوت الأصنام لفطة "الطاغوت" والجمع "الطواغيت". ورد أن العرب "كانت قد اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي إليها، كما
__________
1 العرب في سورية قبل الإسلام "119".
Shorter Ency, of Islam , p. 330. Cooke, North, Semitic Inscriptions, p. 238.
2 Le Museon, 1954, LXVII, p. 100
3 Ency, II, p. 586.
4 Glaser skinzze, II, S. 235.
5 Ency, Religi, Vol, 12, p. 236.
6 تاج العروس "2/ 295"، "بدد".
7 شمس العلوم "جـ1، ق1، ص119"، غرائب اللغة "218".(11/401)
تهدي إلى الكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر، عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده"1. وورد أن "الطاغوت" الصنم، وكل معبود من دون الله، ولما تقدم سُمي الساحر والكاهن والمارد من الجن والصارف عن طريق الخير طاغوتًا"2. واللفظة تعني في لغة "بني إرم": رئيس عقيدة ضلال، وشيطان وصنم3.
و"الهيكل" من الألفاظ الدالة على موضع العبادة، استعملت لبيوت الأصنام مجازًا، ولمعابد النصارى4. والظاهر أن استعمالها كان عند العرب الشماليين في الغالب. مثل عرب العراق وعرب بلاد الشأم، ولا سيما عند النصارى منهم. أخذوها من الآراميين، إذ هي بمعنى بيت الصنم، أي معبد الوثنيين عندهم5. وقد وردت في لغة المسند كذلك، وردت بمعنى قصر "6"، ومعبد في أيام دخول النصرانية على اليمن.
وقد أطلق "الديدانيون" على بيت "بعل سمن"، لفظة: "أحرم" بمعنى "الحرم" تعظيمًا وتمجيدًا له. فهو ذلك الإله7. وترد لفظة "محرم" -التي لا زالت حية معروفة يطلقها أهل اليمن على محرم "بلقيس"- في لغة المسند، بمعنى المعبد، والمسجد الحرام. وقد وردت في عدد من النصوص8.
وبيوت العبادة أنواع. بيوت عبادة كبيرة، يحج إليها في أوقات معينة، ومواسم محددة، من مواضع قريبة أو بعيدة، هي محجات يحج إليها في وقت معين ثابت، يتقرب بها المتعبدون إلى رب المحجة أو أربابها بأداء واجب الخضوع والطاعة. وتكون محجة واحدة في الغالب، اختارها الإله أو الآلهة من بين سائر أماكن الأرض لتكون موضعًا مقدسًا وحرمًا آمنًا، فهي أقدس بقعة وأعز مكان في نظر المتعبدين لها على وجه هذه الدنيا. فلا تدانيها المعابد الأخرى ولا تبلغ منزلتها في الحرمة والمكانة.
__________
1 ابن هشام "1/ 86 وما بعدها"، هامش على الروض الأنف "1/ 64".
2 المفردات، للأصفهاني "307"، الأصنام "6"، تاج العروس "10/ 225"، "طغا".
3 غرائب اللغة "194"، Hughes, Dictionary, of Islam, p. 625.
4 تاج العروس "8/ 170"، "هيكل".
5 غرائب اللغة "209".
6 Jamme, South, Arab, Inscriptions, p. 433.
7 Histoire, IV, P. 312, Preislamiques, p. 20
8 Jamme, South, Arabi, Inscriptions, p. 440.(11/402)
وهناك بيوت عبادة أخرى تكون دون المحجات في الأهمية والدرجة؛ لأن الآلهة لم تخترها لنفسها ولم تنص على اسمها، وإنما هي دور عبادة أقامها الناس تقربًا إلى تلك الآلهة. وهي متفاوتة في الدرجة أيضًا، فيها المعابد الكبيرة التي صرف على إقامتها مال كثير، وفيها معابد بسيطة، يقيمها الناس تقربًا إلى أربابهم.
والناس في ذلك العهد، كالناس في أيامنا هذه، لا يكتفون بتشييد معبد واحد في المدينة، بل نجدهم يقيمون جملة بيوت للعبادة، وقد خصص بعضها بعبادة جملة آلهة، وخصص بعضها بعبادة إله واحد معين، يذكر اسمه على باب المعبد. وقد تبنى في الموضع الواحد جملة معابد لإله واحد؛ لأن المعابد من الأعمال الخيرية التي يقوم بها المؤمنون تقربًا إلى الآلهة، لذلك يصادف قيام جملة أسر ببناء معابد لذلك الإله، تسميها باسمه وتنقش اسم الأسرة أو المتبرع بالبناء على موضع بارز من المعبد. وبفضل هذه الطريقة القديمة، التي لا تزال البشرية تتبعها، تمكنا من الحصول على معلومات عن تلك المعابد وعن الآلهة التي خصصت لها وعن أسماء المؤمنين الذين أقاموها.
وقد اتخذ الإنسان من الكهوف بيوتًا للعبادة، كما اتخذ من الجبال والمواضع المرتفعة أمكان بنى عليها معابده؛ ليكون في رأيه ونظره أقرب إلى السماء، حيث تقيم الآلهة، فتسمع دعاءه، وتصل إليها كلمته، وتستجيب له أكثر من استجابتها له لو كان على سطح الأرض. وبنى الحضري معبده في المواطن التي يقيم فيها، وحاول جهده الإنفاق عليها، والتفنن في بنائها وزحرفتها؛ لتكون بيوتًا تليق بسكنى الأرباب. أما البدو، فكانت معابدهم في الخيام، تحفظ فيها أصنامها، فتنتقل معها، وتضرب في الموضع الذي تحل القبيلة فيه، ينظرون إليها نظرة تقديس وإجلال؛ لأنها حرم الآلهة وأماكنها وبيوتها المقدسة، فلا يجوز تدنيسها ولا انتهاك حرمتها. لهذا لم يكن يسمح لأحد بالدخول إليها إلا إذا كان من رجال الدين.
ولهذه الخيام المقدسة سدنة، يضعون الصنم أو الأصنام في جوفها، ويسهرون على خدمتها، وينقلونها معهم حيث تنتقل القبيلة. وهم يتوارثون خدمتها. وإذا استقرت القبيلة وتحضرت، تحضر معبد صنمها بتحضرها كذلك. ووجد الصنم(11/403)
عندئذ له مستقرًّا دائمًا ومقامًا ثابتًا، ويصير عندئذ في عداد الأصنام الثابتة. ويكون للصنم عندئذ معبد تتناسب قيمته وأهميته ودرجة عمرانه مع مكانة القبيلة وعدد رجالها وغناها وما عندها من مال.
وللعين أهمية كبيرة في تقييم المعبد وفي نشر العبادة وفي تكوين شخصية الإله رب المعبد فيما بين الناس فكما أن قيمة الإنسان بملبسه وبأناقته وبحسن مظهره، كذلك تكون قيمة المعبد بضخامته وبما يزين به من نقوش وزخارف وبما يعلق على الموضع المقدس منه من ذهب وفضة وأحجار كريمة فالمعبد الضخم، يدل على قوة الإله وقدرته في نظر من ينظر بعينه لا بعقله إلى قيم الأمور، أي في نظر السواد، وهم الكثرة الغالبة، ولذلك يجلبهم إليه، وتلقى ضخامته في نفوسهم تأثيرًا كبيرًا يجعلهم يشعرون أنهم أمام بيت إله حقًّا، لما فيه من روعة ولما تفوح في داخله من روائح البخور والطيب، لذا حرص رجال الدين على جعل معابدهم ضخمة فخمة؛ لتجلب لها أكبر عدد ممكن من المتعبدين.
ومن أشهر المواضع المرتفعة التي حج إليها المتعبدون للتبتل والتعبد، والتي ورد ذكرها في قصص أهل الأخبار: حراء، وأبو قبيس، وثبير.
أما "حراء" فقد ورد في بيت منسوب إلى شاعر جاهلي:
فإني والذي حجت قريش ... محارمه، وما جمعت حراء1
وجعل أحد الأجبل الخمسة التي بُني من حجارتها البيت2. وإليه كان يلجأ كبار قريش لدعوة آلهتهم في الملمات، وإليه أيضًا كان يأتي بعض المتحنثين النساك الزاهدين في عبادة الأوثان للتفكير والتأمل. وفيه غار تحنث فيه النبي، ويعرف بـ"جبل النور"3. وورد أن أبا طالب أرسل عقيلًا ليأتي بالرسول إليه، فذهب إلى "كبس"، وأخرجه منه. والكبس الغار4. ويظهر أنه أراد به غار حراء.
__________
1 البكري "2/ 432"، "حراء" هو "عوف بن الأعوص"، العامري، شرح ديزان لبيد "21".
2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 26"، "ما ذكر من بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة".
3 تاج العروس "10/ 87"، "حرو".
4 تاج العروس "4/ 239"، "كبس".(11/404)
وأما "أبو قبيس"، فيظهر من غربلة أخبار الأخباريين أنه كان من المواضع المقدسة الداخلة في شعائر الحج، يرتقي الحجاج ظهره؛ ليتموا بذلك مناسك حجهم، وليدعوا آلهتهم بما يطلبون ويرغبون. وكان مقصودًا عند نزول الشدة والبلاء. فالمظلوم يجد محله فوق هذا الجبل للدعاء عند انحباس المطر، لنزول الغيث1.
وقد زعم بعض أهل الأخبار، أنه سمي "أبا قبيس" برجل من مذحج حداد؛ لأنه أول من بنى فيه، أو بقبيس بن شالخ، رجل من جرهم، كان قد وشى بين عمرو بن مضاض وبين ابنة عمه "مية"، فنذرت أن لا تكلمه، وكان شديد الكلف بها فحلف ليقتلن قبيسًا، فهرب منه في الجبل المعروف به وانقطع خبره. فإما مات وإما تردى منه، فسمي الجبل أبا قبيس. "وله خبر طويل ذكره ابن هشام في غير هذا الكتاب، وكان أبو قبيس الجبل هذا يسمى الأمين؛ لأن الركن، أي الحجر الأسود، كان مستودعًا فيه"2. "وكان الله عز وجل استودع للركن أبا قبيس حين غرق الله الأرض زمن نوح"، فلما أقام "إبراهيم" قواعد البيت، "جاءه جبريل بالحجر الأسود"3. والظاهر أن بيتًا للعبادة كان عليه، وأنه كانت له صلة بالبيت، فتجسمت هذه الصلة في الذي ذكروه عن الحجر الأسود ووجوده فيه.
وأما "ثبير"، فقد كانوا يفيضون منه في الحج على نحو يذكر في شعائر الحج.
ويلاحظ أن أهل العربية الجنوبية وأهل السراة قدسوا قمم الجبل، فجعلوا فيها معابد لعبادة الآلهة، مثل معبد "أوم" "أوام" في "ألو". وقد أزيلت معالم تلك المعابد في الإسلام، ولكن بعضها أخذ طابعًا إسلاميًّا فصير مثلًا قبًرا من قبور الأنبياء مثل: "حضور نبي شعيب"، الذي يقع على قمة جبل تعد من أعلا قمم جبال العربية الجنوبية، و"نبي أيوب" و"مقلى" على محر "مبلقة"4.
__________
1 المشرق: السنة التاسعة والثلاثون، تموز- أيلول 1941، "ص252 وما بعدها".
2 تاج العروس "4/ 212"، "قبس".
3 الأزرقي "1/ 27"، "ما ذكر من بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة".
4 تاج العروس "3/ 148"، "حضر"، Beitrage, S. 85, Ency, II, p. 222(11/405)
وترجع قدسية المواضع المقدسة وحرمتها إلى الاعتقاد بنزول الآلهة في هذه المواضع، وإلى وجود قوى خارقة فيها، أو إلى وجود مقدسين فيها قبروا في باطنها، فقدست تلك المواضع لهذه الأسباب. وتعرف هذه المواضع المقدسة بأسماء من تقدست بهم، وبأسماء المواضع التي تقع فيها.
وإنا لنرى كثيرًا من الأماكن المقدسة قد أقيمت في جزيرة العرب عند الينابيع والآبار المقدسة حيث تروى الأرض بالماء فتنمو به المزروعات ويستقي منها الناس. وقد صوَّر هذا الخصب لسكان تلك المناطق وجود قوى خارقة كامنة في تلك الأرضين كانت السبب في نظرهم في بعث الحياة للإنسان ولهذه الأرض1.
وقدست بعض المواضع وأقيمت المعابد بها؛ بسبب وجود أشجار مقدسة بها، ونجد في أخبار أهل الأخبار أن بعض المعابد مثل معبد العزى، كان المتعبدون يتقربون بها إلى سمرات، أي شجرات ثلاثة، أو إلى شجرة واحدة، فكانوا يعلقون عليها الحلى ويزينونها، ومثل معبد "ذات أنواط"، وهي شجرة كانت تعبد في الجاهلية، وهي سمرة كان المتعبدون لها ينوطون بها سلاحهم ويعكفون حولها2.
وقدست مواضع أخرى لوجود أحجار مقدسة بها، كانوا يطوفون حولها، من هذه المواضع: "عكاظ" فكان الناس يأتون الموضع في الموسم، فينصبون فيه خيامهم، ويقيمون سوقهم، ويطوفون بأحجار عكاظ، يقيمون على ذلك أيام الموسم. فهي أيام عبادة وتجارة وفرح.
ولهذه القدسية والحرمة، لم يسمح للسواد الأعظم من الناس بدخول الغرف المقدسة المخصصة بالآلهة؛ لأنها بيوت الآلهة، وعوض لهم عن هذا التحريم بالطواف حولها أو بلمس جدرانها، وللسبب نفسه، حتم على القاصدين لها غسل أجسامهم وتنظيفها ولبس ملابس طاهرة نظيفة، كان سدنة بعض تلك المعابد، أو أهل المواضع التي تقع فيها المعابد يؤجرونها للناس بأجر معين مرسوم، إن كانت تلك المعابد من المعابد الكبيرة وفي مواسم الحج. كذلك لم يكن يسمح لأحد بالدخول إلى المعابد والأحذية في أرجلهم فلا بد من خلعها والدخول بغير أحذية.
__________
1 Ency, Religi, 6, p. 753. Robertson, p. 115.
2 تاج العروس "5/ 236"، "نوط".(11/406)
احترامًا لقدسية المكان وخشية التدنيس1. وقد حتم الجاهليون على من يريد دخول الكعبة من المتمكنين خلع نعليه؛ احترامًا للبيت. ذكر أهل الأخبار أن أول من خلع نعليه لدخول الكعبة "الوليد بن المغيرة"، فخلع الناس نعالهم في الإسلام2.
وقد عثر على كتابات جاهلية تبين منها، أن الجاهليين كانوا يعدون طهارة الملابس وطهارة الجسم من الأمور الملازمة لمن يريد دخول المعبد، فإذا دخل إنسان معبدًا وهو نجس عدَّ آثمًا، وقد ورد أن رجلًا اتصل بامرأة، ثم دخل المعبد بملابسه التي كان يلبسها حين اتصل بها، فعدَّ آثمًا، ودفع فدية عن إثمه إرضاءً للآلهة3. وورد أن رجلًا دخل معبد الإله "رب السماء" "ذ سموى" بمعطف نجس، فدفع فدية عن ذلك، جزاء ما ارتكبه من إثم4. فدخول المعابد بملابس نجسة، نجاسة: مادية أو معنوية، إثم، تعاقب الآلهة عليه، لهذا اشترطت ديانتهم عليهم عدم دخول بيوت الآلهة، إلا بملابس طاهرة نظيفة حرمة وتقديرًا لهذه البيوت.
وللسبب المذكور اشترط سدنة الصنم "الجلد" على من يريد من عباده تقديم قربان إليه، أو تكليمه كراء ثياب مسدنة، للبسها بدلًا من ملابسهم؛ لأنها ملابس نظيفة طاهرة، لم تمسها أدران مادية أو معنوية5. وهو شرط نجده عند غير العرب أيضًا كالعبرانيين6. وقد كانت المعابد تدخر ملابس تكريها لمن يريد أداء شعائر زيارة بيوت الأصنام.
وورد في كتب أهل الأخبار، أن الجاهليين حتموا على المرآة الحائض ألا تمس الصنم ولا تتمسح به، وألا تدخل بيته لنجاسة الحيض7. وورد أن "فاختة" أم "حكيم بن حزام بن خويلد"، كانت دخلت الكعبة وهي حامل متم بحكيم.
__________
1 Ency, Rengi,6, p. 53.
2 ابن رسته، الأعلاق "191"، صبح الأعشى "1/ 428".
3 Glaser, 1052, Hofmus, 6, CIH, 523, Grohmann,s. 251. f.
4 Rep, Epigr, 3956, Grohmann, s. 252.
5 البلدان "3/ 122".
6 "ثم قال الله ليعقوب: قم فاصعد إلى بيت إيل، وأقم هناك، واصنع هناك مذبحا لله الذي ظهر لك عند هربك من وجه عيسو أخيك. فقال يعقوب لأخيه وسائر من معه: أزيلو هذه الآلهة الغريبة التي بينكم وتطهروا وابدلوا ثيابكم. وهلموا تصعد إلى بيت إيل"، التكوين، الفصل "35"، الآية 1 وما بعدها.
7 الأصنام "33"، خزانة الأدب "3/ 245".(11/407)
ابن حزام فأجاءها المخاض، فلم تستطع الخروج من الكعبة، فوضعته فيها فلفت في الأنطاع هي وجنينها، وطرح مثبرها وثيابها التي كانت عليها، فجعلت لقى لا تقرب1. فيظهر من هذا الخبر أن أهل كانوا يعتبرون دم المخاض والولادة نجسًا، ولهذا اعتبرت الأنطاع التي وضعت "فاختة" جنينها عليها بل اعتبرت هي نجسة أيضًا فلفت بالأنطاع وألقيت، وجعلت لقى لا يمسها أحد.
وعثر المنقبون على أحواض داخل المعابد في العربية الغربية يظهر أنها كانت للوضوء؛ لتطهير الجسم قبل الدخول إلى المسجد، موضع الصنم ... وذلك بغسل الوجه واليدين والقدمين وربما الأبدان كذلك، قبل الدخول إلى بيت الصنم، ولكون هذا الوضوء تطهيرًا للجسم، عرفت "الميضأة" بالمطهرة؛ لأنها تطهر من الأدران2. ولهذا السبب، حفرت الآبار في المعابد؛ لتموين هذه الأحواض بالماء، وللتبرك أيضًا بالماء المقدس، ولاستعماله في أغراض أخرى، منها تنظيف الجسم من الأدران بعد قضاء الحاجة.
ولهم آداب اتبعوها حين دخولهم بيت الصنم وحين خروجهم منه. من ذلك أن القبائل كانت تتجنب أن تجعل ظهورها على مناة إعظامًا للصنم. فكانت تنحرف في سيرها، حتى لا يكون الصنم إلى ظهرها. وفي ذلك قال الكميت بن زيد، أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة:
وَقَد آلَت قَبَائِلُ لاَ تُوَلِي ... مَنَاةَ ظُهُورِهَا مُتَحَرِّفِينَا3
وقد تطورت أشكال المعابد وهندستها بتطور الحضارة، وبشكل طبيعة الأرض التي يقام المعبد عليها. وهي تتناسب مع درجة تطور الشعوب ودرجة رقيها وطراز تفكيرها واختلاطها بالأمم المجاورة. ولذلك نجد معابد "تدمر" مثلًا قد تأثرت بطراز البناء الإغريقي؛ لتغلغل الثقافة اليونانية فيها، ولتأثر سكان المدينة باليونان. كذلك نجد هذا الأثر والأثر الروماني في معابد بلاد الشأم وفلسطين فالمعبد إذن
__________
1 الروض الأنف "1/ 134"، الإصابة "1/ 348"، "رقم 1800" كتاب نسب قريش "231".
2 تاج العروس "1/ 134"، "وضوء".
3 ابن هشام "1/ 900"، المشرق، السنة 1938م، "الجزء الأول"، "ص11". ابن هشام "1/ 65"، "حاشية على الروض الأنف"، "قصة عمرو بن لحي، وذكر أصنام العرب".(11/408)
هو نموذج معبر عن نفسية الناس وعن حضارتهم ودرجة تفكيرهم وعن هندستهم، ومدى تأثر فن البناء عندهم بالمؤثرات الداخلية الأصيلة أو المؤثرات الدخيلة في الزمن الذي قام فيه البناء.
ومن هنا نجد معابد اليمن اتخذت لها الحجارة الضخمة المتقطعة من الصخور في بناء الجدار والأرض وفي الأعمدة، ونجد المعمار قد تفنن في تزويق الجدر والأعمدة والسقوف وفي زخرفتها، فصارت المعابد ضخمة جميلة، لا تضاهيها المعابد التي أقيمت في مواضع سهلة من جزيرة العرب؛ لعدم وجود المواد الصالحة للبناء فيها، ولأن الطبيعة لم تهب للمعمار فيها ما يدفعه إلى بناء أبنية ضخمة فيها تضاهي معابد أهل اليمن.(11/409)
الاستفسار عن المغيبات:
ولم تكن المعابد مواضع عبادة وتقرب إلى الأصنام حسب، بل كانت مواضع استفسار عن المغيبات كذلك، يقصدها أهل الحاجات لسؤال الآلهة عما عندهم من مشكلات، أو عما سيخبئه لهم المستقبل من أمور، أو عن أعمال يريدون القيام بها، أو عن سرقة، وما شابه ذلك من طلبات. ومن هذه البيوت بيت رئام، وقد كانوا يكلمون منه وينحرون عنده1. وبيت العزى، وكانوا يسمعون فيه الصوت2، والمنطبق وكان صنمًا من نحاس يكلمون من جوفه، فيأتيهم الجواب3. وبيت "الجلسد"، صنم كندة وأهل حضرموت4. وقد ذكر "الجاحظ: "أنهم كانوا يسمعون في الجاهلية من أجواف الأوثان همهمة، وأن خالد بن الوليد حين هدم العزى رمته بالشرر حتى احترق عامة فخذه، حتى عاده النبي، صلى الله عليه وسلم". وهو ممن يشكون في صدور مثل هذه الأمور إذ يقول: "وهذه فتنة لم يكن الله ليمتحن بها الاعراب وأشباه الأعراب من العوام. وما أشك أنه كان للسدنة حيل وألطاف لمكان التكسب"5.
__________
1 الأصنام "ص12"، الطبري "2/ 97".
2 الأصنام "ص18".
3 المجد "ص318".
4 البلدان "3/ 122 وما بعدها".
5 الحيوان "6/ 201".(11/409)
تكليم الأصنام:
ويقوم الكهان بتكليم الصنم، وهم الذين يفسرون للسائلين الهمهمة أو الأصوات الصادرة من تلك الأصنام ويتكلمون على ألسنتها بما يلائم السائل مقابل نذر وهدايا وألطاف يقدمونها إلى السدنة. وهذا النوع من التنبوء، معروف عند اليونان والرومان، مشهور ومعروف عند غيرهم من الأمم كالبابليين والآشوريين والعبرانيين. بل هو يؤلف جزءًا مهمًّا من أركان الديانات القديمة، ويطلق عليه Oracle في الإنكليزية من Oraculum اللاتينية، ومعناها التكلم. ولهذا النوع من التنبوء صلة كبيرة بالسحر Magic وبالكهانة في الديانات القديمة والديانات البدائية عند بعض الشعوب الإفريقية والأسترالية في الزمن الحاضر. وقد اكتسبت بعض معابد اليونان شهرة كبيرة في هذا النوع من التنبوء بالغيب، وأشهرها معبد "دلفي" Delphi" الذي كسب شهرة عظيمة في هذا الباب1.
وقد ورد في بعض النصوص، أن قومًا كلموا آلهتهم في شهر "ذ أجبى ذ عثر" و"ذ فرعم ذ عثتر"، فأجابهم الإله "عثتر" على ما سألوا عليه. وورد أن جماعة من المؤمنين بـ"عم"، كلموه، فأجابهم على ما سألوا عنه. وكانوا إذا كلموا الآلهة، فوجدوا أن الأجوبة غير منسجمة مع الأسئلة، أعادوا الأسئلة عليها وقدموا قرابين جديدة لها، أو وزادوا في الحلوان، يفعلون ذلك حتى يسمعوا الجواب المناسب لأسئلتهم2.
ولم أسمع بوجود تكليم في مكة. فلم يذكر أحد من أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يأتون الكعبة لسماع أجوبة الأصنام عن أسئلة يوجهونها إليها، ولا عن وجود سدنة كانوا يقومون بأي نوع من التكليم. وإنما ذكروا أنهم كانوا يسألون الأصنام النصح والإرشاد، والأمر والنهي بفعل فعل أو تركه، ويكون ذلك بالاستقسام بالأزلام. وقد خصص الصنم "هبل" بهذا النوع من الإرشاد. وكانت عنده سبعة قداح، كل قدح منها فيه كتاب: قدح فيه العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة عليهم، فإن خرج العقل، فعلى
__________
1 Ency, Brita, Vol, 16, p. 830 , T. D. Dempsey, The Delphic Aracle, 1918, L. R. Farnell, Cults of the Greek States, Vol..Iv, p. 179.
2 Grohmann, s. 251.(11/410)
من خرج حمله: وقدح فيه "نعم" للأمر، إذا أرادوه يضرب به في القداح، فإن خرج قدح فيه نعم، عملوا به، وقدح فيه "لا"، فإذا أرادوا الأمر ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح. لم يفعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه "منكم"، وقدح فيه "ملصق"، وقدح فيه "من غيركم"، وقد فيه "المياه" فإذا أرادوا أن يحفرون للماء ضربوا بالقداح، وفيها ذلك القدح، فحيثما خرج به، عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلامًا أو ينكحوا منكحًا أو يدفنوا ميتًا أو شكوا في نسب أحدهم، ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا فلان، أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه. ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فإن خرج عليه "منكم" كان منهم وسيطًا، وإن خرج عليه من "غيركم" كان حليفًا، وإن خرج عليه "ملصق"، كان ملصقًا على منزلته فيهم لا نسب له ولا حليف، وإن خرج عليه شيء مما سوى هذا مما يعملون به "نعم" عملوا به، وإن خرج "لا" أخروه عامه ذلك، حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون في أمرهم ذلك إلى ما خرجت به القداح1.
وهكذا كانت قريش والقبائل التي تحج إلى مكة تأتي على هبل لاستشارته في قضايا تهمها. فما يخرج في القداح مما هو مكتوب، يكون الجواب. غير أن بعض الأجوبة قد يأتي على خلاف رغبة السائلين، ولذلك كانوا يغرون الضارب على القداح بالضرب إلى أن يخرج القداح الذي فيه يريدون ويشتهون وقد يؤخرون ذلك بعض الوقت. وهم يفسرون النتيجة التي تظهر أنها رغبة الصنم وإرادته بوحيها، فتظهر بالقداح.
وذو الخلصة من الأصنام التي كان يستقسم عندها كذلك. وإلى هذا الصنم ينسب قول أحد الشعراء لهذه الأبيات:
لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا ... مثلي وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العُداة زورا
__________
1 الأزرقي "1/ 68 وما بعدها"، الطبري "2/ 172 وما بعدها".(11/411)
وهي أبيات ينسبها بعض الرواة إلى امرئ القيس. وكان أبوه قتل، فأراد الطلب بثأره، فأتى ذا الخلصة، فاستقسم عنده بالأزلام، فخرج السهم ينهاه عن ذلك، فقال هذه الأبيات التي تتحدث عن غضب الشاعر على هذا الصنم، لنهيه إياه عن الأخذ بالثأر. ولو كانت النتيجة كما يشتهي، لما قال الشاعر هذه الأبيات بالطبع، وتجاسر على الصنم1.
ولما كانت الحروب والغزوات من القضايا المهمة، كانت استشارة الأصنام والاستقسام بشأنها من الأمور المألوفة، فكان أهل مكة إذا أرادوا الحرب أو عقد هدنة أو إبرام أمر خطير أتوا "هبل" يستقسمون عنده ليعطيهم الرأي المصيب في هذا الموضوع.
والغالب أن يكون الاستقسام أمام الصنم؛ ليقع في روع طالب الاستقسام أن ما يجري إنما هو بعلم الصنم وبوحيه، فيكون ذلك أوكد في نفسه وأعمق تأثيرًا.
__________
1 الأصنام "35، 47".(11/412)
أشكال المعابد:
هذا ولا بد لي أن أشير إلى أننا لا نملك حتى الآن رأيًا واضحًا قاطعًا في شكل المعابد عند الجاهليين. ولا يمكن تكوين رأي واضح عن هذا النحو إلا بعد قيام علماء الآثار المتخصصين بدراسة آثار المعابد والكشف عنها ورسم مخططات صحيحة لقواعدها وأسسها. ولذلك لا بد من مرور زمن، حتى يتمكن العلماء من تكوين رأي في أصول المعابد وكيفية إقامتها من الوجهة الدينية الأصولية عند العرب قبل الإسلام.
وإذا كان في استطاعتنا تجديد شكل "بيت الله" بمكة، و"كعبة نجران" و"كعبة سنداد"، أو "كعبات سنداد"، كما يسميها البعض، فإن من الصعب علينا تحديد هيئة بيوت الأصنام في المعابد الأخرى، لعدم ورود نص يعين صفة تلك البيوت في أخبار أهل الأخبار. فلا ندري أكانت مكعبات، أم على أشكال أخر.
ولما كانت المعابد بيوت الأرباب، صارت لها حرمة خاصة وقدسية في كل(11/412)
دين، فلا يجوز انتهاك حرمتها، ولا القيام بأعمال شائنة دنسة فيها، خاصة بالقياس إلى الأماكن المقدسة جدًّا التي تعد محجة للناس، وقد اتخذت حول البيوت مواضع عدت جزءًا من المعبد حددت بحدود، فما كان داخلًا عد حرمًا آمنًا، وما كان خارج الحد كان خارجًا عن المعبد، فليست له تلك الحرمة التي عينتها شريعة القوم للمعابد.
وأقدس مكان في المعبد هو "البيت"، أي الغرفة التي تضم الصنم أو الأصنام. فقد كانت البيت، وهو المسمى الكعبة في مكة، أقدم موضع عند قريش وعند غيرهم من عبدة الأصنام الذين كانوا يقدسون "البيت الحرام"، وذلك بسبب وجود الأصنام فيه.
ويعبر في العربية الجنوبية عن البيت الذي توضع فيه الأصنام، بـ"مختن"1. فهو إذن بمثابة الكعبة بمكة.
ويقال للأرض الحرام المقدسة التي تحيط بـ"البيت"، "الحرم" قيل سمي "الحرم" حرمًا لتحريم الناس فيه كثيرًا مما ليس بمحرم في غيره من المواضع2. وقد وردت اللفظة في الكتابات النبطية. فوردت في كتابة نبطية عثر عليها في "بطرا" علمًا لحرم الإله ذي الشرى، قصد به الأرض المقدسة المحيطة ببيت ذلك الصنم، والمعبد كله؛ لأنه مرحم ومقدس: "حرم ذي الشرى الإله ربنا"3.
ولا يجوز لأحد انتهاك حرمة الحرم والاعتداء عليه. وإذا دخل إنسان الحرم صار آمنًا منطمئنًا، لا يجوز أن يُعتدى عليه، ولا أن يمس بسوء، وإن كان قاتلًا، وحدود الحرم أنصابه، وهي علاماته، فمن اجتازها وصار في داخلها، دخل في حرمة الحرم.
وما كان خارج الحرم، هو من الحل، أي من المنطقة الخارجة عن حرمة المعبد. فلا تشملها الأحكام المفروضة على الحرم.
وكان الرجل في الجاهلية إذا أحدث حدثًا ولجأ إلى الكعبة، لم يهج، فكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم، قيل له: هو صرورة ولا تهجه4.
__________
1 Grohmann, s. 249.
2 المفردات "113".
3 Lidzbarski, nord semi, Epigra, s. 280. CIS, II, p. 350. G. A. Cooke, North Semi, Inscriptions, Oxford, 1903.p. 79. Ency. Religi, 6.p. 753.
4 تاج العروس "3/ 331"، "صرر".(11/413)
ولمكانة الحرم في نفوس الجاهليين ولأنه موطن آمن من دخل فيه صار آمنًا، كان لا بد من تحديده ووضع معالم تشير إلى نهايته، إما بوضع أنصاب على أطرافه من تجاوزها إلى داخله صار آمنًا فلا يخاف على نفسه، وإما ببناء حائل كجدار أو سياج أو أمثال ذلك ليكون إشارة على حرمة ما وراءه في الداخل. وقد جعل أهل مكة حدود حرم البيت أنصابًا من تجاوزها إلى الداخل صار في حرمة الحرم وفي حماية رب البيت.
وكانت أرض المعابد، أي حرمها، واسعة في الأصل، ذات ماء وأشجار وحمى، ثم تقلصت وضيقت وحددت بحدود، بسكن الناس حولها، وبتقربهم من المعبد، وبزيادة عدد عبَّاده فعندما يتألق نجم معبد ويكثر المؤمنون بصاحبه، يكثر زواره، ويتسابق الناس إلى السكن بجواره والتقرب منه جهد إمكانه، إذ يكون ذلك شرفًا لهم. شرف مجاورة البيت، كما يكون مكسبًا وموردًا طيبًا للمال، لرغبة الزوار في مجاورة المعبد، فيدفع هذا الطمع، أصحاب النفوذ والجاه على اختلاس الأرض والتجاوز على حدود الحروم فتضيق. كالذي حدث بمكة، إذ كان الحرم واسعًا كبيًرا، يشمل الوادي كله، فلما هبط "قصي" به وابتنى البيوت، اعتدى من جاء بعده على الحرم حتى صغر، مما دفع الخلفاء على شراء البيوت المجاورة وهدمها لإعادة أرضها إلى الحرم ليتسع صدره للناس.
وتلحق بالمعابد أرضون، يقال لها "حمى" لأنها في حماية الأرباب والأصنام ورعايتها، فلا يُعتدى عليها، ولا يُقطع شجرها ولا يُرعى فيها ولا يُسمح بصيد الحيوان فيها والاعتداء عليه في أرض الحمى1. فكان في الطائف "حمى"، وهو "حمى اللات"، وقد خصص به، وكان حمى في جرش2. بل كان وادي مكة الذي أقيم البيت به "حمى" لرب البيت، ولم يكن يسمح لأحد قبل "قصي" بقطع شجره، ولا التجاوز على ما فيه من نبت. وقد كان "قصي" كما يقول أهل الأخبار أول من اقتطع شجره، وأقام البيوت لسكناه وسكنى قريش في ذلك الوادي.
ويفهم من كلام "نيلوس" Nilus أن العرب لم يكونوا يحيطون مواضعهم.
__________
1 اللسان "14/ 199"، العرب في سوريا قبل الإسلام "111".
2 Ency, Religi, 6, p. 753.(11/414)
المقدسة التي فيها أصنامهم بأسوار، وإنما كانوا يجعلون لحرمها حجارة تكون حدًّا وعلامة للحرم. ويتبين من كلام هذا المؤرخ الذي أسر العرب ابنه وأرادوا تقديمه إلى الزهرة قربانًا على حد قوله، أنه قصد بالعرب الأعراب، ولا سيما أعراب طور سيناء، وقد كانوا أشداء غلاظًا يلقون الرعب في النفوس، وكانوا يتاجرون بالرقيق يقبضون على من يقع في أيديهم ويبيعونه في أسواق الرقيق. وجماعة هذا شأنها لا تستقر في مكان، لا يمكن بالطبع أن يكون لها معبد ثابت، وإنما يكون معبدها الموضع الذي يوضع صنم القبيلة فيه. ولتعيين الأرض الحرام توضع تلك الحجارة.
إلا أن هذا لا يعني أن معابد أهل المدر كانت مسورة أو ذات حائل دائمًا، فقد ذكرت أن حرم بيت الله بمكة لم يكن مسورًا، بل كان معلمًا بأنصاب ومكة موضع حضر. أما حرم معبد "المقه" بمأرب وكذلك أكثر معابد أهل اليمن، فقد كانت مسورة بأسوار عالية قوية، لها أبواب يدخل المتعبدون منها، تفتح وتغلق كما نفعل هذا اليوم في دور العبادة عندنا.
ومن المعابد الشهيرة: "البيت الحرام"، أي "الكعبة" بمكة، وسأتكلم عليه في موضع خاص. ومعبد "ذو الشرى" Dushare بمدينة "بطرا"، و"كعبة سنداد"، و"كعبة نجران"، ومعابد عديدة في مواضع أخرى من جزيرة العرب، ولا سيما اليمن.
والفضل في ظفرنا ببعض المعارف عن "بيت الرب" بمدينة "بطرا"، يعود إلى الكتابات النبطية، وإلى ما كتبه بعض الكتبة اليونان والسريان عنه. وقد خصص هذا البيت بعبادة الإله "ذي الشرى"، الذي هو "رب البيت"1 التي أطلقها النبط على إلههم، تذكرنا بجملة أخرى معروفة في الجاهلية عند أهل مكة، كما هي معروفة عند المسلمين حتى اليوم، هي جملة: "رب البيت"، التي تعني إله البيت، وهو الكعبة، وقد أقرها وثبتها الإسلام. وقد نعت "رب البيت"، "رب بيت ذي الشرى" بـ"الذي يفرق الليل عن النهار"2 وهو نعت له أهمية كبيرة في تكوين فكرة عن وجهة نظر عباده إليه.
__________
1 CIS, II, 235, Res, 1088.
2 RES, 1102. Ency. Religi, p. 122.(11/415)
وقد نصب في هذا المعبد الصنم "ذو الشرى" على قاعدة مكسوة بالذهب، في بيت موشى بالذهب وبالصور التي تمثل مشاهد تقديم القرابين إليه. وهو في موضع مرتفع على صخرة عالية، يحج إليه الناس من مواضع بعيدة؛ للتقرب إلى ذلك الإله الذي يقابل الإله "باخوس" و"ديونسيوس" "Dionysos- Bacchus" في رأي الكتبة اليونان واللاتين1.
وكان لهذا المعبد حج يقع في اليوم الخامس والعشرين من شهر كانون الأول من كل عام، فيفد إليه الناس من أماكن بعيدة للتقرب إلى "رب البيت"، فينحرون ويقضون الأيام المعينة، ثم يعودون إلى ديارهم. والظاهر أن هذه الكعبة لم تكن خاصة بأهل "العربية النبطية"، إنما كانت محجة لغيرهم من العرب، كما يتبين ذلك من تصريحات بعض الكتبة "الكلاسيكيين" عنها.
وقد عرف بعض معابد الجاهليين بـ"الكعبات" ويدل ذلك على أن بناءها كان على هيئة مكعب كشكل بناء الكعبة، وعلى أن العرب كانوا يبنون بيوت الأصنام الكبرى على هذا النحو. من هذه كعبة "سنداد" على ما يذكره الأخباريون، وهي قصر كانت العرب تحج إليه فيطوفون حوله، وقد عرف بـ"الكعبات" جمع كعبة وهو البيت المربع والمرتفع، وبـ"ذات الكعبات" و"ذي الكعبات" وكان مركز حج قبائل بكر بن وائل وإياد2. ولكن الأخباريين لم يتحدثوا بشيء من التفصيل عن هذا المعبد وعن كيفيته وشكله وعن الأصنام التي كانت فيه. وقد ذكر "ابن الكلبي" أن هذا البيت لم يكن بيت عبادة، إنما كان منزلًا شريفًا3.
وذكر أن "ذات الكعبات" بيت كان لبكر وتغلب ابني وائل وإياد، وذكر أنه بيت كان لربيعة، كانوا يطوفون به. وذكر أنه كان لإياد، وكان كعبة.
__________
1 Ency, Religi, 9, p. 122, Epiphanius, Hoer, LI, 22.
2 البلدان "5/ 150"، "سنداد"، "7/ 255"، اللسان "1/ 718"، "كعب"، تاج العروس "1/ 456 وما بعدها"، Ency, II, p. 590.
3 الأصنام "ص45"، "وكان لربيعة بيت يطوفون به، يسمونه الكعبات. وقيل: ذا الكعبات، وقد ذكره الأسود بن يعفى في شعره، فقال: والبيت ذي الشرفات من سنداد".
اللسان "1/ 718"، "كعب".(11/416)
بسنداد بين الحيرة والإبلة1. وهو من منازل إياد أسفل سواد الكوفة، وكان عليه قصر تحج العرب إليه2.
وكان بنجران بيت عبادة عرف بـ"كعبة نجران". وهو بناء بُني على هيئة الكعبة. وفي رواية تنسب لابن الكلبي أنها كانت قبة من أدم من ثلاث مائة جلد، كان إذا جاءها الخائف أمن. أو طالب حاجة قضيت، أو مسترفدًا رفد3. ويستخلص من الأخبار الواردة عن هذه الكعبة ومن أسماء أصحابها ومن كونهم أساقفة أنها كانت بيعة أسسها النصارى في مركز النصرانية في اليمن، وهو موضع نجران، وأنه لا علاقة له بالوثنية. ويذكر الأخباريون أن بني عبد المدان بن الديان الحارثي أقاموها هناك، مضاهاة للكعبة4. وقد ذكر "ابن الكلبي" أن كعبة نجران لم تكن كعبة عبادة، وإنما كانت غرفة يعظمها القوم من بني الحارث بن كعب5. وبنو الحارث بن كعب هم رؤساء نصارى نجران.
وذكر بعض أهل الأخبار أن كعبة نجران وكانت لمذحج وبني الحارث بن كعب، عرفت بـ"الربة"6.
وقد ذكر "ابن الكلبي" أن رجلًا من جهينة يقال له عبد الدار بن حُديب أراد بناء بيت بأرض من بلادهم يقال لها الحوراء ليضاهي به الكعبة حتى يستميل به العرب، فأعظم قومه ذلك، وأبوا عليه7. ونجد في كتاب "الأصنام" لابن الكلبي وفي كتب أهل الأخبار أسماء مواضع ذكر أنها كانت بيوت عبادة حج إليها العرب حجهم لمكة. وذكر أن قريشًا بَنَتْ للعزى بيتًا بوادي حراض بإزاء الغمير، وحمت له شعبًا من وادي حراض يقال له سقام، يضاهون به.
__________
1 تاج العروس "1/ 457"، "كعب"، الأصنام "45"، البلدان "5/ 149"،
2 تاج العروس "2/ 383"، "سند".
3 البلدان "8/ 262 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 556"، "نجر".
4 البلدان "8/ 262".
5 الأصنام "ص45".
6 تاج العروس "1/ 262"، "ربب" قال الأعشى:
وَكَعبَةُ نَجرانَ حَتمٌ عَلَيكِ ... حَتّى تُناجي بِأَبوابِها
يزورُ يَزيدَ وَعَبدَ المَسيحِ ... وَقَيسًا هُمُ خَيرُ أَربابِها
تاج العروس "3/ 556"، "نجر"
7 الأصنام "45".(11/417)
الكعبة، وقد حجت إليه، وكانت تنحر عنده، ويتقربون إلى العزى بالذبائح1. وقد ذكر الأخباريون أنه كان بعكاظ صخور يطوف الجاهليون بها ويحجون إليها2. وإذا تذكرنا "دومة الجندل" ومعبدها الكبير، فلا يستبعد أن تكون الأسواق الأخرى مواضع مقدسة قديمة كانت محجة للناس عامرة تفد إليها القبائل في مواسم الحج، ثم فقدت خطورتها قبيل الإسلام، ولم يبق عليها إلا طابع الأسواق التجارية.
وتكون في المعابد مواضع يلقي فيها العباد وأصحاب النذور هداياهم ونذورهم التي يتقربون بها إلى آلهة المعبد. وقد أشار أهل الأخبار إلى وجودها في الكعبة وفي المعابد الجاهلية الأخرى. ويظهر من وصفهم لها أنها كانت على شكل حفر تلقى فيها تلك الهدايا والنذور. فذكر الأخباريون أنه كان على يمين الداخل إلى البيت "جب"، اتخذ خزانة للبيت يلقى فيه ما يُهدى إلى الكعبة، وهو الجب الذي نصب عليه عمرو بن لحي "هبل" وهو صنم كانت قريش تعبده. وقد عرف علماء اللغة الجب بأنه البئر3، ووصفها "الأزرقي"، فقال: إنها كانت في جوف الكعبة على يمين من يدخلها، وكان عمقها ثلاث أذرع، وأن اسمها "الأخسف"، وكانت العرب تسميها "الأخشف"4.
__________
1 الأصنام "ص16، 18 وما بعدها".
2 البلدان "6/ 203"، المشرق، السنة 37، نيسان – حزيران، 1939م "ص220".
3 اللسان "1/ 250" "صادر".
4 أخبار مكة "1/ 27، 68"، البلدان "7/ 258"، وما بعدها".(11/418)
السقاية:
وفي المعابد سقايا، يُستقى منها الماء للشرب وللتطهر، كأن تغسل الأوجه والأيدي والأرجل بالماء ليسمح للزائر بدخول المعبد، أو لتحل له إقامة الشعائر الدينية. ويعد الماء ماءً مقدسًا؛ لأنه من أرض مقدسة، ولذلك يتبرك به أيضًا ويُستشفى بالشرب منه. وقد عثر المنقبون على آثار آبار وأحواض مطمورة في حرم المعابد، كان المتعبدون يستفيدون من مياهها عند زيارتهم بيوت أربابهم، وعند أدائهم الشعائر الدينية. وبئر زمزم، هي البئر الوحيدة الباقية من آبار بيوت الله التي كانت في الجاهلية.
وقد كانت سقاية الحاج من المآثر الكبيرة عند أهل مكة، وهي تسقية الحجاج من الزبيب المنبوذ بالماء. وكان يليها في أيام الرسول العباس بن عبد المطلب1. وكان بعضهم يسقى الحاج اللبن بالعسل.
__________
1 اللسان "14/ 392". "سقى"، الإصابة "2/ 263"، "رقم 4507".(11/418)
المذابح:
وتلحق بالمعابد مذابح تذبح عليها القرابين التي يتقرب بها المؤمنون إلى آلهتهم، ويقال للواحد منها، مذبح" و"نصب" و"مصب" و"غبغب". وقد وردت لفظة "مذبح" و"مذبحت"، أي "المذبحة"، في طائفة من الكتابات. وهي مواضع الذبح، حيث يكون تقريب القرابين إلى الآلهة.
وقد ذهب علماء اللغة مذاهب في تحديد معنى "النصب" فرأى بعضهم أن النصب كل ما عبد من دون الله، وذهب بعض آخر إلى أن النصب صنم أو حجر كانت الجاهلية تنصبه، وتذبح عنده، فيحمر للدم، وذهب آخرون إلى أن الأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب، ويذبح عليها لغير الله تعالى1. وعرفها بعضهم بقوله: "النصب الأوثان من الحجارة، جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض، فكان المشركون يقربون لها وليست بأصنام"، "قال ابن جريج: النصب ليست بأصنام. الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب ثلاثمائة وستون حجرًا. منهم من يقول ثلاثمائة منها بخزاعة. فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت وشرحوا اللحم وجعلوه على الحجارة. فقال المسلمون: يا رسول الله؟ كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه"2. ولو أخذنا برواية "ابن جريج". خلصنا إلى أن هذه
__________
1 اللسان "1/ 760" "صادر"، "2/ 259" "بولاق" القاموس "1/ 132"، تاج العروس "1/ 486"، الأصنام "97" تفسير الطبري "6/ 44"، الأصنام "33"، "المطبعة الأميرية 1964".
2 تفسير الطبري "6/ 48".(11/419)
الأنصاب، كانت بعدد أصنام الكعبة، أي أنهم كانوا قد خصصوا بكل صنم نصبًا، يذبحون عليه ما يتقربون به إليه من عتائر. فقد كان عدد أصنام الكعبة ثلاثمائة وستون حجرًا عام الفتح على ما يذكره أهل الأخبار، إلا إذا اعتبرنا ما ذكروه عن عدد الأصنام وهمًا، وأخذنا برواية "ابن جريج" التي هي دون الرواية الأخرى في الشهرة والذكر.
وأشير إلى "النصب" في شعر ينسب على "الأعشى"، يقال إنه قاله في مدح الرسول. هو:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... لعاقبة والله ربك فاعبدا1
وعلى كل، فنحن لو أخذنا بالروايتين، أو برواية واحدة منهما، فإن العدد "360" يلفت النظر حقًّا. فلمَ خصص رواة الخبرين عدد الأصنام أو الأنصاب بهذا الرقم، وهل يمثل ذلك شيئًا له صلة بالفلك، أو بأسطورة دينية قديمة كانت عند أهل مكة؟
وقد وردت كلمة "النصب" في آية اللحوم المحرمات التي لا يجوز أكلها في القرآن الكريم: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} 2. فجعلت الذبائح التي تذبح على النصب للأصنام في جملة التي لا يحل للمسلم أكلها، فيفهم من هذه الآية أن النصب مواضع تذبح عليها القرابين. كما وردت في موضع آخر من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} 3. وقد ذكر علماء التفسير، أن الأنصاب التي يذبحون عندها4.
وقد ذكر علماء التفسير، أن أهل الجاهلية كانوا قد وضعوا حول الكعبة
__________
1 تاج العروس "1/ 486"، "نصب".
2 المائدة، الآية 3.
3 المائدة، الرقم "5"، الآية 90.
4 تفسير الطبري "7/ 21".(11/420)
أنصابًا، أي حجارة كانوا يذبحون عليها، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت وشرحوا اللحم: وجعلوه على الحجارة. وكانوا يبدلونها إذا شاءوا بحجر هو أحب إليهم منها1. كما كانوا قد وضعوا الأنصاب في بيوت الأصنام الأخرى، يذبحون عليها ذبائحهم لهما. وقد أشير إلى "المائرات"، أي الدماء، دماء الذبائح لـ"رشيد بن رميض العنزي":
حلفت بمائات حول عوض ... وأنصار تركن لدى السعير2
و"عوض" صنم لبكر بن وائل، و"السعير" صنم لعنزة خاصة. و"نصب" هي "نصب" و"مصب" في اللهجات العربية الجنوبية، و"نصب" و"مصبت" في الفينيقية، و"مصبه" Masseba في العبرانية ويراد بها مذبح، تذج عليها القرابين والضحايا التي يقدمها المتعبدون إلى معبودهم Deity ويعرف بـ Altar أي مذبح في الإنكليزية. وهو من حجر واحد في الأصل، قد يذبح عليه، فيسيل الدم فوقه ويتلطخ به، وقد يكون في نظرهم بمثابة المعبود الذي تقدم الضحية إليه. وقد يذبح عليه. فيسيل الدم من فتحة تكون فيه إلى بئر تتجمع فيها دماء الذبائح، تكون عند قاعدة النصب.
وقد تخصص المذابح بحرق لحم الذبيحة كله أو بعضه عليها؛ تقربًا إلى الأصنام، كالذي كان يفعله العبرانيون3.
وقد عثرالمنقبون على أحجار عديدة اتخذت أنصابًا لذبح القرابين عليها أو عندها، عثر عليها في العربية الجنوبية بصورة خاصة. وفي بعضها فتحة على هيئة ثقب تسيل منه دماء القرابين إلى موضع تتجمع فيه. وفي بعض آخر مسايل جانبية، تسيل الدماء منها إلى الخارج. وهذه الأنصاب هي "مذابح" ويقال للواحد منها "مذبحم" في العربيات الجنوبية أي "مذبح". ولذبح القرابين "ذبحن" و"ذبحم"، أي "الذبح" و"ذبح".
__________
1 تفسير الطبري "6/ 48 وما بعدها"، "وهي أحجار كانت حول الكعبة يذبحون عليها للأصنام"، إرشاد الساري "6/ 172".
2 تاج العروس "3/ 268"، "سعر"، "3/ 550"، "مور".
3 Hastings, p. 23.(11/421)
فالنصب إذن، الأحجار التي تذبح عليها القرابين وما يهل للأصنام. والعادة أن تكون أمام الصنم، وعلى مقربة منه فإذا ذبح القربان سال دمه على النصب إلى ثقب يؤدي إلى حفرة يتجمع فيها الدم. هي "الغبغب". و"النصب" هو "مصبه" Massebah في العبرانية، حيث كانوا يذبحون عليها القرابين. ولكثرة ما كان يذبح عليها صارت تبدو حمراء من لون الدم، وقد أشير على الحمرة في حديث إسلام "أبي ذر الغفاري"، إذ ذكر أنه وصف تعذيب قريش له بقوله: "فرماني الناس حتى كأني نصب أحمر"1.
وليس لأهل الأخبار رأي واحد في "الغبغب"، وإنما ذهب بعضهم على أن الغبغب هو المنحر، وذهب بعض آخر إلى أنه خزانة المعبدة، يلقي الناذرون فيها ما عندهم من نذور وقربان، وذهب فريق آخر إلى أنه بيت كان الناس يحجون إليه كما يحج إلى البيت بمكة2. وقيل إنه كان لمعتب بن قيس بيت يقال له غبغب كانوا يحجون إليه3.
والذي عليه أكثر أهل الأخبار أن "الغبغب" المنحر. وقد صرح بذلك "ابن الكلبي" في كتاب "الأصنام": وهو يتحدث عن "العزى" فقال: "ولها منحر ينحرون فيها هداياها، يقال له الغبغب"4. كما صرح بذلك علماء اللغة إذ عرفوا الغبغب بأنه المنحر، أو نصب كان يذبح عليه في الجاهلية، أو كل مذبح بمنى. وقد خصصه بعضهم بمذبح منى5. أو هو حجر ينصب بين يدي صنم، وكان لمناف مستقبل ركن الحجر الأسود غبغب، وقيل كانا اثنين ويظهر من شرح علماء اللغة للمثل: "رب رمية من غير رامٍ"، ينسب قوله إلى الحكم بن عبد غوث أن الغبغب هو المذبح، أي المنحر الذي ينحر عليه6.
__________
1 الإصابة "4/ 93"، "الرقم "384"، "فخررت مغشيًّا علي، ثم ارتفعت كأني نصب أحمر"، الأصنام "111".
2 مراصد الاطلاع "2/ 983"، البلدان "4/ 185"، اللسان" 1/ 637"، تاج العروس "1/ 403"، البلدان "6/ 112"، الأصنام "111"، ابن هشام "1/ 55".
3 ابن هشام "1/ 55"، البلدان "6/ 122".
4 الأصنام "13" "روزا".
5 اللسان "1/ 637".
6 اللسان "1/ 637" "صادر"، "2/ 128 وما بعدها" "بولاق"، تاج العروس "1/ 403"، "غب"، البلدان "6/ 265"، "الغبغب".(11/422)
ويظهر من روايات أهل الأخبار عن "بيوت" الآلهة أنه كان لكل "بيت" "غبغب"، تذبح فيه هداياها، أي ما يهدى إلى تلك البيوت من قرابين وقيل: الغبغب: المنحر، وهو جبيل بمنى، فحصص. وقيل كل منحر بمنى غبغب. قال الشاعر:
والراقصات إلى منى فالغبغب1
ويذكر علماء اللغة أن "الغبغب" "العبعب" كذلك2. وأن العبعب موضع الصنم. وصنم لقضاعة ومن داناهم3. وبيت كان لمعتب بن قيس، كانوا يحجون إليه كما يحجون إلى البيت4. ويظهر من هذا الشرح أن "الغبغب" و"العبعب"، كلمة واحدة، لشيء واحد.
و"الغبغب" "الحب" كذلك وهو حفرة يجمع فيها دم البدن، والجمع "الجباجب" قال "الزبير بن بكار: الجباجب جبال مكة حرسها الله تعالى، أو أسواقها أو منحر. وقال البرقين حفر بمنى كان يلقى به الكروش، أي كروش الأضاحي في أيام الحج، أو كان يجمع فيها دم البدن والهدايا، والعرب تعظمها وتفخر بها"5.
ويفهم أحيانًا أن "الغبغب"، حفرة أو بئر، كان المتعبدون للاصنام يرمون بها نذورهم وهداياهم وما يتقربون به إلى أصنام من نذور نفيسة، من ذهب أو فضة أو حجارة كريمة فكانت تحت صخرة "اللات" حفرة عرفت بـ"الغبغب" حفظت فيها الهدايا والنذور والأموال التي كانت تقدم إلى الصنم. فلما هدم الصنم أخذت من الغبغب تلك الأموال6. ويرادف الغبغب "الجب"، الذي يقال له "الأخسف" و"الأخشف"، وهو بئر في جوف الكعبة نصب "هبل" عليه. كان الناس يرمون فيها نذورهم وهداياهم. وتقع على يمين من يدخل البيت، وكان عمقها ثلاث أذرع7.
__________
1 تاج العروس "1/ 404"، "غب".
2 تاج العروس "1/ 403"، "غب".
3 تاج العروس "1/ 363"، "عب" البلدان "6/ 112"، الأصنام "111".
4 البلدان "4/ 185".
5 تاج العروس "1/ 174"، "جبب".
6 الطبري "3/ 99" وما بعدها".
7 أخبار مكة، للأرزقي "1/ 66 وما بعدها".(11/423)
و"الغري" مذبح على ما يظهر من تفسير علماء اللغة لهذه اللفظة. يظهر أنه كان صخرة تذبح عندها الذبائح وتطلى بدمها، أو نصب تذبح القرابين عليه1.
ويعبر عن المذبح الذي تذبح عليه الحيوانات الكبيرة، مثل البقر بلفظة "حردن"2.
ومن الألفاظ التي تطلق على المذبح، "منطف" و"منطفت"، أي "المنطقة"، وهي المذبحة3. والمذبح، هو "مذبحت" في نصوص المسند، أي موضع الذبح.
__________
1 اللسان "15/ 122"، "غرا"، تاج العروس "10/ 264".
2 Grohmann, Arabien, s. 247
3 Grohmann, Arabien, s. 249(11/424)
المحارق:
وتلحقب بالمعبد محارق، تحرق فيها القرابين، يقال لها "مصرب"1. وقد كان العبرانيون يحرقون قرابينهم، في محارق تلحق بالمعبد، وتكون جزءًا منه. أما العرب، فإننا لا نستطيع أن نقول إنهم كانوا يحرقون قرابينهم في كل جزيرة العرب؛ لأننا لا نملك أدلة آثارية على ذلك، إلا معابد اليمن وأعالي الحجاز، حيث عثر على آثار المحارق في معابدها مما يدل على أنهم كانوا يحرقون القرابين.
و"المصرب"، المحرقة، الموضع الذي يحرق به الخشب ذي الرائحة الطيبة أو البخور، وهو مبخرة، تكون في المعابد، يحرق بها؛ لتفوح منها روائح طيبة، أثناء العبادة. وقد أشير إليها في نصوص المسند.
__________
1 Grohmann, Arabien, s. 247(11/424)
البخور والمباخر:
وللتبخير شأن كبير في أداء الفروش في المعابد، إذ لا بد من حرق البخور فيها، فيبخر بها المذبح والأصنام كما يبخر القائمون بأداء تلك الفروض. وتسمى المبخرة بـ"مسلم"، وبـ"مقطر" وذلك في لغة بعض الجاهليين1.
__________
1 Grohmann, Arabien, s. 247(11/424)
و"المجمرة" والمجمر، الموضع الذي يوضع فيه الجمر بالدخنة للتجمير1.
وقد أشير إلى المجمرات والمباخر في كتابات المسند. وعثر المنقبون على نماذج منها، قدمها الناذرون نذورًا إلى آلهتهم، وقد وضعوها في معابدها، وهي في جملة الهدايا المرموقة التي تقدم إلى المعابد من أحجار وبعضها من معدن بذل جهدًا في صنعته وفي زخرفته حيث يكون هدية قيمة تكون خليقة بوضعها في المعابد
وقد كان الناس يأتون بالمجامر ليجمروا بها الكعبة تقربًا بعملهم هذا إلى الأصنام، وذكر أن حريقًا أصاب الكعبة؛ بسبب تطاير شرر من مجمرة امرأة جمرت البيت، فأصاب ستار الكعبة، فاحترق. والتجمير هو من شعائر التقدير والتعظيم. وهو مما يدخل في الطقوس، وقد صرفت المعابد القديمة أموالًا على شراء "العود" وغيره لإحراقه في المجامر؛ لتطييب المذبح والمعبد به. وكان البخور مما يبخر به في المعابد أيضًا. وقد استعمله الجاهليون في بيوتهم المعظمةكذلك.
وتلحق بالمعابد مواضع يخزن فيها ما يقدم إلى المعبد من هدايا ونذور، وما يرد إليه من غلات أوقافه. وإذا كانت النذور والهدايا ماشية، فقد تحفظ في مواضع بعيدة عن المعبد، أو توضع في إحماء المعابد لترعى بها. ولا يجوز التعرض لها بسوء. وتعلم بعلامات تشير إلى أنها مما حبس على الأصنام. وكانت لهبل خزانة للقرابين. وكان قربانة مائة بعير، وله حاجب يقوم بخدمته2. وفي جملة ما أهداه الناس إلى أصنامهم السيوف والملابس، وكانوا يعلقونها أحيانًا على الأصنام3.
__________
1 تاج العروس "3/ 108" "جمر".
2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 68 وما بعدها".
3 نهاية الأرب "16/ 19".(11/425)
سدنة الآلهة:
ولبيوت العبادة سدنة وحجبة وخدم، يقومون كلهم بخدمة البيت وما فيه من أصنام. ويعبر في عربيتنا عن الذي يتولى أمر الصنم بـ"السادن" و"سادن الصنم".(11/425)
فهرس الجزء الحادي عشر:
الفصل الحادي والستون
أديان العرب 5
الفصل الثاني والستون
التوحيد والشرك 34
الفصل الثالث والستون
أنبياء جاهليون 83
الفصل الرابع والستون
الله ومصير الإنسان 102
الفصل الخامس والستون
الروح والنفس والقول بالدهر 136(11/429)
الفصل السادس والستون
الآلهة والتقرب إليها 163
الفصل السابع والستون
التقرب إلى الآلهة 184
الفصل الثامن والستون
رجال الدين 212
الفصل التاسع والستون
الأصنام 227
الفصل السبعون
أصنام الكتابات 290
الفصل الحادي والسبعون
شعائر الدين 336(11/430)
الفصل الثاني والسبعون
الحج والعمرة 347
الفصل الثالث والسبعون
بيوت العبادة 398
الفهرست 429(11/431)
المجلد الثاني عشر
الفصل الرابع والسبعون: الكعبة
مدخل
...
الفصل الرابع والسبعون: الكعبة
وكعبة مكة، هي الكعبة الوحيدة التي بقيت محافظة على اسمها ومقامها حتى اليوم، من بين الكعبات التي كانت في الجاهلية. فقد اندثر أثر الكعبات الأخرى وزالت معالمها، ولم يبق لها مكان. وإلى الإسلام يعود ولا شك فضل بقاء "البيت الحرام". وبفضل الإسلام أيضًا جمع العلماء ما تمكنوا من جمعه من تاريخ المدينة القديم والمعالم المتصلة بها، ومن أخبار قريش، لما لهذا التاريخ من صلة بظهور الإسلام1.
ويذكر أهل الأخبار أن الكعبة كانت معروفة عند العرب خارج الحجاز كذلك، وأنهم كانوا يحجون إليها ويقدسونها ويقسمون بها. وأن ممن أقسم بها وذكر البيت
__________
1 آل عمران، الآية 96، تفسير الطبري "ذ/ 6 وما بعدها"، "دار المعارف"، الطبرسي "2/ 476"، سورة الحج، الرقم 22، الآية 26، تفسير الطبري "3/ 47 وما بعدها، 66 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "7/ 78 وما بعدها"، سورة إبراهيم، الرقم 14، الآية 37، تفسير الطبري "13/ 152"، روح المعاني "13/ 212"، تفسير الطبرسي "6/ 317 وما بعدها"، البقرة، الآية 158 تفسير الطبري "2/ 43"، تفسير الطبرسي "1/ 238 وما بعدها"، سورة المائدة، الآية 97، تفسير الطبري "7/ 76 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "3/ 246 وما بعدها"، سورة الأنفال، الآية 34، تفسير الطبري "3/ 238"، تفسير الطبرسي "3/ 539"، سورة الإيلاف، الآية 3، تفسير الطبري "30/ 307 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "10/ 543".(12/5)
في شعره "زهير"1 و"النابغة"2. وقد عرفت بـ "البيت العتيق"، وبـ "البيت المعمور"3. ورووا أن "عدي بن زيد العبادي" قصدها بقوله:
كلا يمينًا بذات الودع لو حدثت ... فيكم وقابل قبر المساجد الزارا
دعاها "ذات الودع" لأنه كان يعلق الودع في ستورها4.
وقد أقسم بها شاعر جاهلي آخر، هو "عوف بن الأحوص" إذ قال:
وإني والذي حجت قريش ... محارمه وما جمعت حراء
وشاعر عامري آخر، إذ قال:
فأقسم بالذي حجت قريش ... وموقف ذي الحجيج إلى إلاله5
يريد بذلك مكة. وبمكة بيت الله.
ومعارفنا عن "البيت الحرام" ضئيلة، وفي الذي يذكره أهل الأخبار عنه ما لا يمكن قبوله ولا الأخذ به، لأنه لا يدخل في حدود التاريخ، ولغلبة الطابع القصصي عليه. ثم إن بعضه يناقض بعضًا، وفي بعضه تحيز وتعصب لبيت قرشي على بيت آخر. وحتى القسم الذي يتناول الأيام القريبة من الإسلام، لا يخلو من اضطراب ومن تناقض، وفيه شعر نحل على أناس، أقحمت أسماؤهم في قصص مكة، لتثبيته على طريقتهم في تثبيت الأخبار برواية شعر يتعلق بها.
ولم يعثر حتى الآن على كتابة جاهلية تكشف القناع عن تاريخ "البيت الحرام". ولذلك انحصر علمنا بتاريخه بما ورد في الموارد الإسلامية عنه.
وقد نصّ في القرآن الكريم، على أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذان رفعا القواعد من البيت {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى،
__________
1
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم
ديوان زهير "15"، الثعالبي، ثمار القلوب "16".
2
فلا ورب الذي قد زرته حججا ... وما هريق على الأنصاب من جسد
"فلا لعمر الذي مسحت كعبته" في رواية أخرى، ديوانه "25"، الثعالبي، ثمار "17".
3 البلدان "1/ 521"، "بيروت 1955".
4 تاج العروس "5/ 534"، "ودع".
5 المحبر "319"، شرح ديوان لبيد "21".(12/6)
وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 126 وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1. وقد كان تأسيس البيت في أيام العرب الأولى، في أيام 01:35 م 27/ 09/ 2006جرهم، على روايات أهل الأخبار، وفيهم تزوج. وفي عهده ظهر ماء بئر زمزم2.
ويذكر أهل الأخبار أن مكة حرم آمن، لا يحل فيه قتال. ولم يكن أهله يقاتلون فيه، وأن أول بغي وقع فيه. كان حرب وقعت بين "بني السباق بن عبد الدار" وبين "بني علي بن سعد بن تميم"، حتى تفانوا. ولحقت طائفة من "بني السباق" بعك، فهم فيهم. وقيل أول بغي كان في قريش: بغي "الأقايش"، وهم "بنو أقيش" من بني سهم، بغى بعضهم على بعض، فلما كثر بغيهم على الناس، أرسل الله عليهم فأرة تحمل فتيلة، فأحرقت الدار التي كانت فيها مساكنهم فلم يبق لهم عقب3.
وقد بقي البيت معبودًا مقدسًا عند أهل مكة وعند غيرهم، غير أن المشركين حولوه إلى بيت لعبادة الأصنام والأوثان والشرك حتى عام الفتح، حيث أزال الرسول عنه آثار الجاهلية، وأمر بطمس معالم الوثنية. وصار حرمًا آمنًا خاصًّا بالإسلام لا يدخله مشرك ولا تطأ أرضه أقدام غير مسلم مؤمن بالله وبرسوله.
ويذكر أهل الأخبار أن أهل مكة كانوا يعظمون البيت، وأن من سنن تعظيمهم له، أن من علا الكعبة من العبيد فهو حرّ، لا يرون الملك من علاها، ولا يجمعون بين عز علوها وذل الرق4.
__________
1 البقرة، السورة رقم 2، الآية 125 وما بعدها.
2 الطبري "1/ 275"، قصص الأنبياء، "69".
Shorter Ency. Of Islam, p. 178. ff, Grunbaum, Neue Beitage zu sem. Sogenkunde, S. 102, Goldziher, Die Richtungen der Islamischen Koranauslegung, S. 79, J. Harovitz, Koranische untersuchungen, S. 91.
3 الروض الأنف "1/ 28".
4 الثعالبي. ثمار "18".(12/7)
8
وأنهم لم يكونوا يبنون بنيانًا مربعًا بمكة تعظيمًا للكعبة1. وأن أول من بنى بها بيتًا مربعًا، "بديل بن ورقاء" الخزاعي، وهو أول من اتخذ بمكة روشنًا، وكانوا قبل ذلك يتحامون التربيع في البناء كيلا يشبه بناء الكعبة2 وأن أول من سقف بمكة سقفًا "قصي بن كلاب"، وكان الناس قبل ذلك إنما ينزلون في العريش وأن أول من بوب بمكة بابًا "حاطب بن بلتعة"3.
و"بديل بن ورقاء"، هو "بديل بن ورقاء بن عبد العزى"، شريف كتب إليه النبي يدعوه إلى الإسلام، وكان له قدر في الجاهلية بمكة4. فلو أخذنا برواية من قال أنه كان أول من بني بيتًا مربعًا بمكة، وأول من اتخذ بها روشنًا. وجب جعل حدوث ذلك في أيام النبي، أو بسنين قليلة قبل المبعث، فهل يعقل ذلك؟ والروشن الرف، و "الرشن" الكوة، من الألفاظ المعربة عن الفارسية5.
وأما "حاطب بن أبي بلتعة" فهو "حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو بن سلمة بن صعب بن سهل اللخمي"، حليف بني أسد بن عبد العزى، من الصحابة وممن شهد بدرًا، كان حليفًا للزبير، وكان قد كتب كتابًا إلى قريش يخبرهم بتجهيز رسول الله إليهم، فضبط الكتاب قبل وصوله مكة، واعتذر.
فهو من الصحابة6، وذكر أن الرسول أرسله إلى "المقوقس" صاحب الإسكندرية7. فهل يعقل أن يكون أول من بوب بابًا بمكة، وقد كانت البيوت قبله بمكة منذ وجدت، فكيف كان يدخل الناس إليها، وقد رأينا قصصًا لأهل الأخبار يروونه عن امتناع "الحمس" عن دخول البيوت من أبوابها، والحمس هم قريش وأهل مكة قبل دخول "حاطب" إليها!
ويذكر أهل الأخبار أن البيت قد تهدم مرارًا، وأن السيول قوضت قواعده عدة مرات، لذلك لم يتمكن "بيت إبراهيم وإسماعيل" من البقاء، ولكن
__________
1 الثعالبي، ثمار القلوب "16".
2 صبح الأعشى "1/ 426".
3 صبح الأعشى "1/ 426".
4 الاشتقاق "280".
5 تاج العروس "9/ 216"، "رشن".
6 الإصابة "1/ 300"، "1538"، المحبر "72".
7 المحبر "76".(12/8)
الجاهليين حرصوا على المحافظة على أسسه وشكله وموضعه. وإنهم كانوا بعد كل هدم أو تصدع يصيبه يحاولون إرجاعه إلى ما كان عليه في أيام آبائهم وأجدادهم جهد إمكانهم، لا يحدثون فيه تغييرًا ولا يدخلون على صورة بنائه تبديلًا.
و"البيت الحرام" بناء مكعب، ولذلك قيل له "الكعبة". وصفه أهل الأخبار، فقالوا: كانت الكعبة قبل الإسلام بخمسة أعوام صنمًا، أي حجارة وضعت بعضها على بعض من غير ملاط، فوق القامة، وقيل كانت تسع أذرع من عهد إسماعيل، ولم يكن لها سقف، وكان لها باب ملتصقة بالأرض. وكان أول من عمل لها غلقًا هو تبع1. ثم صنع "عبد المطلب"، لها بابًا من حديد، حلاها بالذهب من ذهب الغزالين. وهو أول ذهب حليت به الكعبة2.
ووصف أهل الأخبار لها على النحو المذكور، يجعلنا نتصورها وكأنها خربة بدائية بسيطة، هي ساحة تكاد تكون مربعة أحيطت بجدار من أحجار رضمت بعضها فوق بعض من غير مادة بناء تمسك بينها، تحط في فنائها الطيور وسباع السماء، ولا يحول بين أرضها وبين أشعة الشمس المحرقة والأمطار التي تنزل على مكة أحيانًا على شكل مياه خارجة من أفواه قرب، أي حائل. إنها في الواقع حائط من أحجار لا يزيد ارتفاعه على قامة إنسان.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن أول من بنى جدار الكعبة، "عامر" الجادر من الأزد. فقيل له: "الجادر"3. وكان أول من جدر الكعبة بعد إسماعيل4.
وأول تسقيف لها كان –كما يذكر أهل الأخبار- في التعمير الذي أجرى عليها في النصف الأول من القرن السابع للميلاد، وذلك قبل الإسلام بخمس سنين، وعمر الرسول يومئذ خمس وثلاثون سنة. وسبب ذلك حريق أصابها –كما يزعمون- فقرروا إعادة بنائها، واجتمعوا وعملوا رأيهم فكان قرارهم تسقيفها بخشب، وقد أقيم السقف على ستة أعمدة من الخشب، وزعت في صفين. وزادوا فيها تسع أذرع، فصارت ثماني عشرة ذراعًا، ورفعوا بابها عن الأرض، فكان لا يصعد إليها إلا في درج أو سلم. ورفعوا من جدرانها التي بنوها بساف
__________
1 الروض الأنف "1/ 127"، الطبري "2/ 283 وما بعدها".
2 الروض الأنف "1/ 101".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 64"، "صادر".
4 الاشتقاق "25".(12/9)
من حجر وساف من خشب، حتى زادت على ما كانت عليه في الأصل1.
وورد في الأخبار أن رسول الله لما دخل الكعبة عام الفتح/ قام عند سارية فدعا، وفيها ست سوار2.
وذكر أهل الأخبار، أن سبب بنيان الكعبة، هو أنها كانت رضمة فوق القامة، وأنها كانت قد تصدعت حتى تداعت جدرانها وتساقطت أحجارها، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرًا من قريش وغيرهم سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، فأجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها3.
ولم يكن هذا البناء الجديد بناءً فخمًا، كما يظهر من الوصف الوارد في كتب أهل الأخبار. كل ما فيه أنه غرفة سقفت الآن بخشب، أقيم سقفها على صفين من أعمدة، كل صف ذي ثلاثة أعمدة. وأما حيطانها، فقد زيد ارتفاعها فصار ثماني عشرة ذراعًا، بعد أن كانت تسع أذرع، أو ارتفاع قامة أو أعلى من ذلك بقليل. وقد بنيت هذه المرة من مادة بناء قوية، جعلت مدماكًا من حجارة ومدماكًا من خشب، فكان الخشب خمسة عشر مدماكًا، والحجارة ستة عشر مدماكًا. وجعلوا سقفها مسطحًا له ميزاب، يسيل منه ماء المطر. وهو على الجملة لا يقاس بشيء بمعابد العربية الجنوبية مثل معبد "المقه" بمدينة مأرب أو المعابد الأخرى التي تمكن الباحثون من الوقوف على أسسها ومعالمها، من حيث مساحة البناء أو الفن أو الروعة والعظمة.
ويذكر أهل الأخبار أن أهل مكة استعانوا بتسقيف البيت بخشب سفينة رجل من تجار الروم رمى البحر بسفينته إلى الساحل إلى "الشعيبة"، وهو مرفأ السفن من ساحل الحجاز، وكان مرفأ مكة، ومرسى سفنها قبل "جدة". فجاءوا بالخشب إلى مكة، وكان بها نجار "قبطي"، استعين به في تسقيف البيت بذلك الخشب. وذكر أن الذي سقف البيت علج كان في السفينة، يحسن النجارة اسمه
__________
1 الروض الأنف "1/ 127 وما بعدها"، الطبري "2/ 283 وما بعدها"، "دار المعارف"، البلدان "7/ 259"، "الكعبة"، مروج الذهب "1/ 169"، "محمد محيي الدين عبد الحميد".
2 صحيح مسلم "4/ 97"، "باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره والصلاة فيها والدعاء في نواحيها كلها".
3 الطبري "2/ 283".(12/10)
"باقوم"، فجيء به مع الخشب، وسقف الكعبة. وقد سألهم عن كيفية تسقيفها هل يجعل السقف قبة أو مسطحًا، فأمروه أن يكون مسطحًا، فعمله على ما أمروه به1. ويذكرون أن قريشًا حين أرادوا بناء الكعبة أتى "عبد الله بن هبل بن أبي سالم"، ومعه مال، فقال: دعوني أشرككم في بنائها، فأذنوا له فبنى الجانب الأيمن، فـ "لبني كلب يد بيضاء في نصرتهم لقريش حين بنوا الكعبة"2. وصاحب هذا الخبر هو "ابن الكلبي"، ولا أستبعد أن يكون خبره هذا من وحي العاطفة نحو قومه الكلبيين.
وذكر أن "باقوم" الرومي، كان يتجر إلى "المندب"، فانكسرت سفينته بالشعيبة، فخرجت إليه قريش فأخذوا خشبها. وقالوا له ابنها على بنيان الكنائس، وقال لقريش: هل لكم أن تجروا عيري في عيركم، يعني التجارة، وأن أمدكم بما شئتم من خشب ونجار فتبنوا به بيت إبراهيم3.
ويذكر الإخباريون أنه كان في بطن البيت قرنا كبش معلقان في الجدار تلقاء من دخلها يخلّقان ويطيّبان إذا طيب البيت، وقد علق عليهما معاليق من حلي كانت تهدى إلى الكعبة. ويرمز القرنان إلى قرني الكبش الذي ذبحه إبراهيم الخليل4. وقد بقيا في الكعبة إلى أيام "عبد الله بن الزبير" فاحترقا مع الكعبة5.
وقد زوقت الكعبة بعد هذا الحريق، زوق سقفها وجدرانها من بطنها ودعائمها، وجعلت "في دعائمها صور الأنبياء وصور الشجر وصور الملائكة، فكان فيها صورة إبراهيم خليل الرحمان، شيخ يستقسم بالأزلام، وصورة عيسى بن مريم وأمه، وصورة الملائكة عليهم السلام أجمعين. فلما كان يوم فتح مكة، دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، البيت، فأرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب، فجاء بماء زمزم، ثم أمر بثوب فبل بالماء، وأمر بطمس تلك الصور فطمست. ووضع كفيه على صورة عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام. وقال:
__________
1 الأزرقي "1/ 104"، ابن هشام "1/ 130 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "1/ 130".
2 تاج العروس "4/ 109"، "بس".
3 الإصابة "1/ 140 وما بعدها"، "رقم 583".
4 الأزرقي "1/ 100".
5 القاسمي، شفاء الغرام "19".(12/11)
امحُ جميع الصور، إلا ما تحت يدي، فرفع يديه عن عيسى ابن مريم وأمه. ونظر إلى صورة إبراهيم، فقال: قاتلهم الله جعلوه يستقسم بالأزلام، ما لإبراهيم والأزلام"1. وقد بقيت صورة عيسى ابن مريم وأمه، إلى أيام عبد الله بن الزبير، فلما تهدم البيت، تهدمت الصورة معه2.
وأعاد الجاهليون –كما يذكر أهل الأخبار- الصنم هبل إلى مكانه، نصبوه أمام "الغبغب"، وأعادوا معه بقية الأصنام، التي كانت تتعبد لها بعض القبائل. ووضعوا حول الكعبة أصنامًا أخرى، يجب أن تكون من الدرجة الثانية في المنزلة أي أصنام قبائل ضعيفة، لذلك وضعت خارج البقعة المقدسة. وقد أوصلت الروايات عدة أصنام الكعبة عام الفتح إلى "360" صنمًا، كان بعضها منحوتًا من الحجارة، وبعضها معمولًا من النحاس، وبعضها قوارير، وكان صنم خزاعة قوارير صفر. ولما دخل الرسول مكة، أمر بها أفزيلت وحطمت، فلم يبق من يومئذ بها صنم3. وذكر أن النبي دخل مكة "وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نُصبًا. فجعل يطعنها بعود كان بيده. ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} 4.
وذكر في بعض الروايات أن رسول الله بعد أن طاف بالبيت سبعًا على راحلته دخل الكعبة فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها5. وأنه لما طاف بالبيت وجد حولها أصنامًا مشدودة بالرصاص، فحطمت، وأعظمها "هبل" صنم قريش6.
ويتبين من الروايات الواردة عن بناء الكعبة وعن اختلاف أهل مكة وتشاحنهم وتنافسهم فيما بينهم على شرف وضع "الحجر الأسود" في مكانه أنه كان لهذا الحجر أهمية خاصة في نظرهم، وأنه كان أقدس شيء عندهم. وإلا لما اختلفوا
__________
1 الأزرقي "1/ 104 وما بعدها"، السيرة الحلبية "3/ 87"، ابن الأثير "2/ 105"، نهاية الأرب "17/ 313".
2 الأزرقي "1/ 104".
3 السيرة الحلبية "1/ 144"، ابن الأثير "2/ 105".
4 صحيح مسلم "5/ 173"، "باب إزالة الأصنام من حول الكعبة"، إرشاد الساري "7/ 210"، "باب وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا"
5 الروض الأنف "2/ 274"، نهاية الأرب "17/ 312".
6 الروض الأنف "2/ 276"، نهاية الأرب "17/ 314".(12/12)
هذا الاختلاف على وضعه، حتى ليمكن أن يقال إنه كان فوق أصنام الكعبة منزلة، بدليل عدم ورود إشارة ما إلى وقوع اختلاف بشأن إعادة صنم من تلك الأصنام إلى مواضعها. ولو كانت الأصنام أقدس منه، لكان الاختلاف على شرف وضع تلك الأصنام لا الحجر الأسود بالطبع. وهذا التقديس الزائد يحملنا على التفكير في أسبابه وفي الميزة التي ميزت هذا الحجر على الأصنام وهي في طبيعتها حجارة مثله. لقد ذهبت "ولهوزن" إلى أن قدسية البيت عند أهل الجاهلية، لم تكن بسبب الأصنام التي فيه، بل كانت بسبب هذا الحجر. لقد كان هذا الحجر مقدسًا في ذاته، وهو الذي جلب القدسية للبيت، فصار البيت نفسه مقدسًا، مقدسًا في حد ذاته، بحجره هذا الذي هو فيه، ولعله شهاب "نيزك"، أو جزء من معبود مقدس قديم1.
وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن البيت لم يكن إلا بمثابة إطار للحجر الأسود الذي كان من أهم معبودات قريش، لأنه يمثل بقايا حجر قديم كان مقدسًا عند قدماء الجاهليين، غير أنه لم يكن معبود قريش الوحيد2.
ويلاحظ أن التقرب إلى الأحجار في بيوت العبادة كانت شائعة بين الجاهليين. وقد ذكر أن في "غيمان" موضع عبادة وفيه "حجر قحمم" "حجر قاحمم" "حجر قاحم"، وهو يشبه الحجر الأسود الذي كان يتقرب إليه الجاهليون في مكة. والحجر الذي كان في كعبة نجران وفي "تسلال"، وفي مواضع أخرى عديدة ذكرها "الهمداني". وقد عثر على مقابر جاهلية عديدة تبين للذين نقبوا فيها أن لها صلة بعبادة الأحجار، وأن تلك المقابر أقيمت عند موضع مقدس لوجود حجر مقدس فيه3.
وقد كان الجاهليون يلمسون الحجر الأسود للتبرك به، وهو مبني في جدار الكعبة، فيكون اللمس بالطبع للجانب البارز منه. وبين موضع "الحجر الأسود" وباب البيت يكون "الملتزم"، وفي الناحية الشمالية الغربية "الحجر" أو "الحطيم".
__________
1 Reste, S. 74.
2 المشرق: "1941"، تموز-أيلول، "ص 247".
3 Beitrage, S. 84.(12/13)
وكانت الجاهلية تتحالف وتحلف عنده1. ويقال للجهة التي فيها الحجر الأسود "الركن". وذكر أن العرب في الجاهلية كانت تطرح بموضع الحطيم ما طاقت به من الثياب، فيبقى حتى يتحطم بطول الزمان، فسمي الموضع حطيمًا2.
وقد كانت الجاهلية تتحالف عند "الملتزم" بالأيمان، وتدعو على الظالم، وتعقد الحلف3.
وذكر "اليعقوبي" أن الجاهليين كانوا قد وضعوا "إسافًا" و"نائلة"، داخل المسجد الحرام. وضعوا كل واحد منهما على ركن من أركان البيت، فكان الطائف إذا طاف بدأ بإساف فقبله وختم به. وذكر أنهم نصبوا على الصفا صنمًا، يقال له "مجاور الريح"، وعلى المروة صنمًا يقال له "مطعم الطير"4.
وفي روايات أهل الأخبار عن تزويق الكعبة بالصور لبس وغموض: وهي روايات عديدة، يفهم من بعضها أن هذه الصور كانت بالزيت، رسمت على دعائم السقف. ويفهم من بعض آخر أنها كانت قد رسمت على أشياء متنقلة، وأنها كانت معلقة على جدران البيت. ويفهم من بعض الروايات أن الرسول أمر فطمست معالم جميع الصور، ويفهم من بعض آخر، أنه استثنى منها صورة مريم وابنها عيسى، وأنها بقيت كما ذكرت إلى أيام عبد الله بن الزبير. فلما تهدم البيت: تهدمت الصورة معه. أما رسم شجر أو صور ملائكة أو أشباه ذلك في الكعبة، فأمر لا اعتراض عليه، إذ يجوز أن يكون ذلك في معبد وثني، يضم الأصنام. ولكن ما للوثنية والأنبياء، وما شأن الشرك بمريم وبابنها وببقية الرسل حتى ترسم صورهم على جدران أو أعمدة البيت؟ ثم هل كانت الكعبة مزوقة قبل هذا التزويق بالرسوم والصور؟ وهل كانت هذه الصور من بقايا صور قديمة؟ أم هي صور حديثة رسمت بعد أن أعادت قريش بناء البيت؟ ورأيي أن هذه الصور هي من عمل عمال نصارى أراهم الروم الذين جلبهم أهل مكة مع "باقوم" بعد تحطم سفينتهم عند الساحل للاتجار معهم ولبناء الكعبة.
__________
1 تاج العروس "3/ 125"، "8/ 251"، اللسان "4/ 166"، "15/ 29"، البلدان "2/ 223 وما بعدها"، "5/ 190"، أخبار مكة، للأزرقي "246"، تاج العروس "9/ 59".
2 اللسان "12/ 139"، "حطم"، تاج العروس "8/ 251".
3 البلدان "8/ 146" "الملتزم".
4 اليعقوبي "1/ 224".(12/14)
و "باقوم" كما يقول الإخباريون هو الذي أشرف على إقامة البناء وهندسته. وهو الذي سقف البيت وأقامه على عمد. ولا أستبعد أن يكون هو الذي رسم تلك الصور وحده أو بالاستعانة بإخوانه من بني جنسه الروم. وقد كان هؤلاء نصارى، فرسموا على جدران البيت أو أعمدته صور قصص كتابي، ومنه صور الأنبياء، للزينة والزخرف. لم يجد أهل مكة فيها ما يناقض عقيدتهم في الأصنام. ومن يدري، فلعله رسم لهم ذلك على أن له صلة بعقيدتهم التي كانوا عليها، فلم يعترضوا لذلك عليه. أما طمس الإسلام لتلك الصور، فللعلماء في ذلك كلام. وقد أشير إليه في كتب الحديث، وأكثرهم على أن الرسول لم يستثن من ذلك الطمس صورة1.
وفي الحرم بئر "زمزم"، وهناك مقام إبراهيم، وبين زمزم ومقام إبراهيم كان موضع الذبح، ذبح القرابين. ويرى "ولهوزن" احتمال كون موضع المقام هو المكان الذي كان الجاهليون يذبحون فيه2.
ويرجع الإخباريون تاريخ بئر "زمزم" إلى يوم بناء الكعبة وعهد إسماعيل. ويقال لها "بئر إسماعيل" أيضًا. وهي في الحرم في جهة الجنوب الشرقي من الكعبة في الجهة المقابلة للركن. ولا نعرف من أمرها شيئًا يذكر. ويظهر من روايات أهل الأخبار عنها أنها دفنت في أيام جرهم، وأن أهل مكة صاروا يستقون الماء من آبار أخرى احتفروها، ويستوردونه من الخارج إليها، حتى إذا كانت أيام عبد المطلب، ألقي في قلبه أن يحتفرها، فحفرها واستخرج منها كنزًا، وظهر الماء بها منذ ذلك اليوم3. ولأهل الأخبار تفاسير عديدة للفظة "زمزم"، تدل على أنهم لم يكونوا على علم بأصل التسمية، مما جاء فيها أن الملك "سابور" لما حج البيت أشرف عليها وزمزم فيها، فقيل لها "زمزم"4. وهكذا جعلوا "سابور" من المؤمنين الحجاج للبيت الحرام، المتبركين بماء زمزم!
__________
1 الأزرقي "1/ 104" "تعليقات السيد رشدي الصالح ملحس على الأزرقي".
2 Reste, S. 76.
3 الطبري "2/ 251" "دار المعارف"، الروض الأنف "1/ 80، 98 وما بعدها"، الأزرقي "1/ 24، 280 وما بعدها"، البلدان "2/ 643"، Shorter Ency. of Islam, P. 657.
4 البلدان "3/ 147"، الصحاح "5/ 1945"، اللسان "12/ 275"، البكري، معجم "2/ 700"، عمدة القاري "9/ 277"، البلدان "2/ 940 وما بعدها".(12/15)
وكان حرم "الكعبة" كما يظهر من روايات أهل الأخبار واسعًا شاسعًا ذا نبت وشجر. ولم يجرؤ أحد على احتطاب شجره أو قطعه لحرمة المكان ولحرمة ما فيه، فبقيت أشجاره على ما هي عليه، حتى إذا ما كانت أيام "قصي"، ضاقت مكة بمن وفد عليها من قريش، ممن جاء بهم "قصي" إليها، وقطعها "قصي" رباعًا، وأرادوا البنيان، ولكنهم هابوا قطع شجر الحرم للبنيان، وتذكر رواية أنهم قالوا لقصي: كيف نصنع من شجر الحرم؟ فحذرهم قطعها وخوفهم من العقوبة في ذلك. فكان أحدهم يحوف بالبنيان حول الشجرة حتى تكون في منزله1. وتذكر روايات أخرى العكس. تذكر أن قريشًا هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه2. وبذلك تقلصت أرض الحرام وقلت أشجاره بالتدريج.
وتذكر رواية أن أهل مكة كانوا يهابون حتى في الإسلام قطع شجر الحرم. وقطع كل شجرة دخلت من أرض الحرم في دور أهل مكة. وأن "عمر" لما قطع "دوحة" كانت في دار "أسد بن عبد العزى"، وكانت تنال أطرافها ثياب الطائفين بالكعبة، وذلك قبل أن يوسع المسجد، وداها بقرة. وتذكر أيضًا أن "عبد الله بن الزبير" حين ابتنى دورًا بـ "قعيقعان" ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان، وجعل دية كل شجرة بقرة. وذكر أن "أبا حنيفة"، قال إن كانت الشجرة التي في الحرم مما يغرسها الناس ويستنبتونها فلا فدية على من قطع شيئًا منها، وإن كان من غيرها ففيه القيمة بالغًا ما بلغت3.
وفي الحديث أن الله حرم مكة، وحرم شجر الحرم في جملة ما حرمه على الناس4.
ويظهر أن أرض مكة كانت كلها في الأصل قبل أيام "قصي" حمى للكعبة، على عادة الجاهليين في تخصيص "حمى" لأربابهم تكون حول بيوتها، ولهذا كانت أشجار هذا الحمى أشجارًا مقدسة لا يجوز قطعها ولا احتطابها، سوى أخذ بعض أغصانها أو لحائها لعمل قلائد منها للاحتماء منها. فلما استباح أهل مكة لأنفسهم
__________
1 الروض الأنف "1/ 87 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 258" "دار المعارف".
3 الروض الأنف "1/ 87 وما بعدها".
4 الروض الأنف "1/ 128".(12/16)
التطاول على الحرم، أي على هذا الحمى، بقطع شجره وتحويل أرضه إلى بناء، أو بإبقاء بعض أشجاره في داخل الدور، بقوا ينظرون إلى ذلك الشجر الباقي في البيوت نظرة هيبة وتقدير، باعتبار أنه من بقايا الحرم القديم. وبذلك صغرت مساحة الحرم، وقلت مساحته، حتى اضطر الخليفة "عمر" إلى توسيعه بشراء البيوت التي أقامها الناس عليه وإدخالها في الحرم من جديد، وذلك حين ضيق الناس على الكعبة وألصقوا دورهم بها، فقال: "إن الكعبة بيت الله، ولابد للبيت من فناء، وأنكم دخلتم عليها ولم تدخل عليكم"، فاشترى بعض الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها، ثم اشترى عثمان دورًا أخرى وأغلى في ثمنها1 ثم زاد في المسجد من جاء بعدهما حتى وصل إلى النحو الذي هو عليه الآن.
ولم يكن للحرم في الجاهلية سور، إنما كانت تحدد معالمه وحدوده أنصاب نصبت على أطرافه. لتكون علامة على ابتدائه وانتهائه. أما ما نراه في الوقت الحاضر من وجود سور مرتفع له، أي حائط به غرف، فإنه مما حدث في الإسلام. وذكر أهل الأخبار أن الحرم قد ضرب على حدوده بالمنار القديمة التي بَيَّنَ إبراهيم مشاعرها، وكانت قريش تعرفها في الجاهلية والإسلام، لأنهم كانوا سكان الحرم، ويعلمون أن ما دون المنار إلى مكة من الحرم، وما وراءها ليس من الحرم. فما كان دون المنار، فهو حرم لا يحل صيده ولا يقطع شجره، وما كان وراء المنار، فهو من الحل يحل صيده، إذا لم يكن صائده محرمًا2.
__________
1 الروض الأنف "1/ 129 وما بعدها".
2 تاج العروس "8/ 239"، "حرم"، اللسان "12/ 122"، "حرم".(12/17)
الكسوة:
وكسوة البيت عادة قديمة، كان يقوم بها الجاهليون. ينسبها الإخباريون إلى "تبع أسعد الحميري"، فيذكرون أنه كساها بالأنطاع، ثم كساها بثياب جدة من عصب اليمن، أغلى ثياب معروفة في تلك الأوقات1. ولا يستبعد أن يكون الإكساء من بقايا المنشأ القديم للبيت، حيث كان خيمة في الأصل. وقد
__________
1 الأزرقي "1/ 165"، الروض الأنف "1/ 24".(12/17)
ورد في الأخبار أنه كان في موضع البيت خيمة قبل أن تكون الكعبة1. وكذلك كان معبد بني إسرائيل خيمة في الأصل قبل أن يبنى الهيكل.
ويذكرون أن التبع الذي كسا البيت، هو التبع الذي أتى به "مالك بن عجلان" إلى يثرب لطرد اليهود عنها. وذكروا أن ذلك التبع هو "أسعد أبو كرب الحميري"2. وقد كساها الوصايل، ثياب حيرة من عصب اليمن. وكانت الكعبة تكسى بالحبرة والبرود وغيرها من عصب اليمن، تكسى بها ويوضع ما يفضل منها في خزانة الكعبة. فإذا تمزقت الكسوة، تستبدل بكسوة أخرى تؤخذ من الخزانة. تكسى من الداخل والخارج، وتطيب بالحلوق وتبخر بالمجامر3.
وقد سبق لي أن تحدثت عن "التبع أسعد"، وذكرت ما قاله رواة الأخبار عنه، وما جاء عنه في نصوص المسند. وكان قد علق في ذاكرة أهل الأخبار أشياء عنه وعن بعض من جاء بعده، زوقت ونمقت. على طريقتهم في رواية أكثر أخبار اليمن. ولعل ما ذكروه عن إكسائه البيت، هو من مصنوعاتهم التي وضعوها في الإسلام ليجعلوا لأهل اليمن فضلًا على الكعبة، فضل يسبق فضل العدنانيين عليها، وقد رأينا أنهم أوجدوا لهم جملة أنبياء نسبوهم إلى قحطان، ووضعوا أشياء أخرى كثيرة، في إظهار فضل القحطانيين على الإسماعيليين المتعربين يوم فات الحكم من قحطان وصار في أهل مكة في الإسلام. فكان النزاع القحطاني العدناني المعروف.
ولو جارينا أهل الأخبار، وأخذنا بروايتهم في أن التبع "أسعد أبو كرب الحميري"، كان أول من كسا الكعبة، نكون قد رجعنا بمبدأ تاريخ إكساء الكعبة إلى نهاية القرن الرابع وأوائل القرن الخامس للميلاد. وقد سبق أن تحدثت عن هذا الملك في الجزء الثاني من هذا الكتاب4.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن كسوة الكعبة لم تكن كسوة واحدة، ولا من نسيج واحد، بل كانت أنطاعًا، أي أبسطة من أدم، وحبرة وبرودًا، وغيرها من عصب اليمن. وهي برود يمنية يعصب غزلها ثم يصبغ وينسج، فيأتي
__________
1 الأزرقي "1/ 6" "ذكر هبوط آدم إلى الأرض".
2 البلدان "4/ 463".
3 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 173 وما بعدها".
4 "ص 569 فما بعدها".(12/18)
موشى، وقيل هي برود مخططة1. وذكر أن النبي كساها الثياب اليمانية، وأن عمر وعثمان كسواها بالقباطي2.
وذكر أن أول من كسا البيت الحرير "نتيلة بنت جناب بن كليب" وهي من "بني عامر" المعروف بالضحيان، وكان من ملوك ربيعة. وكان العباس بن عبد المطلب ابنها، قد ضاع وهو صغير، فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فكسته، فهي أول من كساه ذلك3. وقيل أول من كسا البيت الديباج خالد بن جعفر بن كلاب. أخذ لطيمة من البر وأخذ فيها أنماطًا فعلقها على الكعبة4.
وروي أنهم كانوا يكسون الكعبة يوم "عاشوراء"، وذكر أن "بني هاشم" كانوا يكسونها يوم التروية بالديباج، لتظهر في أحسن حال، ويراها الناس على ذلك. أما إذا حل يوم عاشوراء، فأنهم يعلقون الأزار عليها. وورد أنهم كانوا يكسون الكعبة بالديباج يوم التروية، فيعلق عليها القميص ولا يخاط، حتى إذا ما انصرف الناس من "منى" خيط وترك الإزار، ثم تكسي بالقباطي يوم عاشوراء، ويعلق عليها الإزار، ويوصل الديباج5.
ولا نستبعد احتمال كون يوم "عاشوراء" من الأيام التي كانت لها حرمة وقدسية عند أهل الجاهلية، وإن كنا نجهل كل شيء عنه وعن سبب احتفال أهل مكة به، وصومهم فيه. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى احتمال تأثر قريش بعاشوراء اليهود، كأن يكون أحد سادة مكة قد أخذ ذلك اليوم عنهم فعظمه، فأخذه أهل مكة عنه وجعلوه سنة لهم. غير أن من الجائز ألا يكون لهذا اليوم صلة بعاشوراء اليهود، وإنما كان من تقاليد أهل مكة القديمة المعروفة عند غيرهم أيضًا، ولا صلة له بيود يهود6.
ويظهر أنهم كانوا يضعون الأكسية الجديدة فوق الأكسية القديمة، فلا يرفعونها
__________
1 اللسان "1/ 604"، "عصب".
2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 173 وما بعدها".
3 الإصابة "2/ 263"، "رقم 4507"، كتاب نسب قريش "18"، الروض الأنف "1/ 77".
4 الروض الأنف "1/ 77".
5 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 173 وما بعدها".
6 Shorter Ency., P. 47(12/19)
عنها، فكانت تتراكم بعضها فوق بعض، فلما جاء الإسلام، استمروا على ذلك أمدًا، ثم رأى "شيبة بن عثمان" سادن البيت، تجريدها من أكسية الجاهلية، لأنها رجس من عمل الجاهليين فأزيلت. ثم رأى الخليفة المهدي، أن الأكسية قد اثقلت الكعبة، فأمر بتجريدها، تخفيفًا عنها، واكتفى بثلاث كسي من القباطي والخز والديباج1.
وذكر أهل الأخبار أن أول من حلل البيت "عبد المطلب"، جد النبي، لما حفر "بئر زمزم"، وأصاب فيه من دفن جرهم غزالين من ذهب، فضربهما في باب الكعبة2.
__________
1 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 173 وما بعدها"، الإصابة "2/ 157"، "شيبة بن عثمان".
2 البلدان "4/ 463 وما بعدها".(12/20)
المال الحلال:
وقد تجنب أهل الجاهلية بناء معابدهم بمال حرام، فلما أرادت قريش بنيان الكعبة نادى مناديهم: لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبًا. لا تدخلوا فيه مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس1. هذا ما يذكره أهل الأخبار ويروونه عن بناء البيت الحرام.
__________
1 الروض الأنف "1/ 130 وما بعدها".(12/20)
بقية محجات العرب:
ومن محجات العرب وبيوتها المعظمة: بيت عرف بـ "بس" لغطفان، كانت تعبده. بناه "ظالم بن أسعد بن ربيعة بن مالك بن مرة بن عوف"، لما رأى قريشًا يطوفون بالكعبة ويسعون بين الصفا والمروة، فذرع البيت، وأخذ حجرًا من الصفا وحجرًا من المروة، فرجع إلى قومه، فبنى بيتًا على قدر البيت ووضع الحجرين، فقال: هذان الصفا والمروة فاجتزئوا به عن الحج، فأغار "زهير بن جناب الكلبي"، فقتل ظالمًا وهدم بناءه. وورد في رواية أخرى أن "العزى" سمرة عبدتها غطفان. أول من اتخذها "ظالم بن أسعد"، فوق ذات(12/20)
عرق إلى البستان بتسعة أميال، بنى عليها بيتًا وسماه بسًا، وأقام لها سدنة، فبعث إليها رسول الله "خالد بن الوليد"، فهدم البيت وأحرق السمرة1.
وفي أخبار أهل الأخبار عن بيت "العزى"، أوهام وتناقض. فتراهم يجعلون "العزى" صنمًا مرة ويجعلونها "سمرة" أو "شجرة" أو ثلاث سمرات مرة أخرى، ثم تراهم يخلطون بين البيت وبين الحرام الذي كان حوله، كما بينت ذلك في أثناء حديثي عن "العزى"2. والذي أراه، أنه كان للعزى بيت هو "بس"، فيه صنم العزى، وكان حوله حرم، كحرم مكة، به "سمرة" أو ثلاث سمرات، كان الناس يقدسونها أيضًا ويتقربون إليها بالنذور. وهي جزء متمم لبيت العزى. فلما أمر الرسول خالد بن الوليد، بهدم العزى، هدم البيت وحطم الصنم، فرجع، فلما سأله الرسول عنه، واستفسر منه عن السمرة أو السمرات الثلاث، وعلم منه أنه لم يقطعها، أمره بالعودة إليها وقطعها اجتثاثًا لكل علامة من علائم عبادة هذا الصنم. فقطعها. فقطع عن عُبّادها كل صلة لهم كانت تربطهم بذلك الصنم.
ومن محجات الجاهليين، بيت الصنم "ذو الخلصة"، ذكر أنه كان بتبالة، وكان يسمى بـ "الكعبة اليمانية"، تمييزًا له عن الكعبة التي عرفت بـ "الكعبة الشامية". وذكر أنه نفسه عرف بـ "الكعبة الشامية"، كما دعي بـ "كعبة اليمامة"، وقد تحدثت عنه في أثناء كلامي على هذا الصنم. ولما هدم البيت والصنم بأمر الرسول، صار مكانه موضع عتبة باب مسجد تبالة. وذكر أن البيت هو "ذو الخلصة"، والصنم "الخلصة"، وقيل "ذو الخلصة: الصنم نفسه"3 وقد عرف البيت بـ "الكعبة" كذلك، لأنه كان بناءً مكعبًا. وكان بيتًا في خثعم باليمن، وكانت بجيلة تعظمه كذلك. به صنم، هو "ذو الخلصة" ونصب يذبحون عليه4. ويظهر أنه كان من البيوت المعظمة الكبيرة، بدليل ما ذكره العلماء من أن الرسول قال لجرير بن عبد الله البجلي: "ألا تريحني من ذي الخلصة"؟ فذهب إليه وأحرق البيت وهدم الصنم وكسر النصب. وذكر
__________
1 تاج العروس "4/ 109"، "بس"، مراصد الإطلاع "937".
2 البلدان "1/ 412"، "بساء".
3 تاج العروس "4/ 389"، "خلص".
4 إرشاد الساري "6/ 424 وما بعدها".(12/21)
أن موضع "ذي الخلصة"، صار مسجدًا جامعًا لبلدة يقال لها: العبلات من أرض خثعم1.
وقد ذكر "أبو العلاء المعري" أن فدك كانت في الجاهلية ذات أصنام. وكانوا يقصدونها للحج، وذكر تلبيتهم لها2.
وكان بيت "اللات" من البيوت المعظمة عند ثقيف. كانوا إذا عاد أحدهم من سفر، فأول ما يفعله أن يأتي "الربة"، وهي اللات ليتبرك بها. وهي الصخرة التي كانت تعبدها ثقيف.. ولما أسلم "عروة بن مسعود الثقفي"، وعاد إلى قومه دخل منزله، فأنكر قومه عليه دخوله قبل أن يأتي الربة، يعني اللات. وفي حديث وفد ثقيف: كان لهم بيت يسمونه الربة. يضاهون بيت الله3. وكانت ثقيف تضاهي أهل مكة، وتنافسهم على الزعامة. وكان لبيت اللات أستار وسدنة وحوله فناء معظم، يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب4.
ولأهل اليمن بيوت تعبدوا لها، وبقيت معظمة عندهم إلى الإسلام. من ذلك بيت عرف بـ "بيت رئام"ز ذكر "ابن اسحاق" أن أهل اليمن كانوا يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون. وكانوا يعتقدون أن رئامًا كان فيه شيطان، وكانوا يملأون له حياضًا من دماء القربان، فيخرج فيصيب منها، ويكلمهم، وكانوا يعبدونه5. وبيت غمدان، وقد ذكروا أن الضحاك بناه باليمن على اسم الزهرة6، فجعلوه بيتًا، أي موضع عمادة، بينما هو دار حكم وبيت الملوك بصنعاء، كما سبق أن تحدثت عنه.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "ريام" بيت بصنعاء كان لحمير، وكان به كلب أسود، وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه وهدما البيت7.
وكان "ذو الكعبات" لبكر ولتغلب ابني وائل وإياد بسنداد، وله يقول الأعشى:
__________
1 إرشاد الساري "6/ 423 وما بعدها".
2 رسالة الغفران "535"، "بنت الشاطئ".
3 تاج العروس "1/ 262"، "دبب".
4 تفسير ابن كثير "4/ 253".
5 الروض الأنف "1/ 28".
6 نهاية الأرب "1/ 62".
7 تفسير ابن كثير "4/ 254".(12/22)
بين الخورنق والسدير ويارق ... والبيت ذو الكعبات من سنداد1
وذكر أنه بيت كان لربيعة، كانوا يطوفون به، وقد ذكره الأسود بن يعفر في شعره، فقال:
والبيت ذي الكعبات من سنداد2
فالبيت للأسود لا للأعشى على هذه الرواية.
وقد تعرض "ابن كثير" لموضوع بيوت الأصنام: اللات والعزى ومناة، فقال: "وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر، تعظمها العرب كتعظيم الكعبة، غير هذه الثلاثة التي نصَّ عليها في كتابه العزيز ... قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب وتهدي لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها وتنحر عندها"3. وما فات من أسماء المحجات في العربية الجنوبية والشرقية وفي نجد، قد يزيد عدده على ما ذكرنا. فات عنا، لأن أهل الأخبار لم يذكروا شيئًا عنها، لانصراف اهتمامهم إلى الحجاز وما كان له صلة بالإسلام، من أرضين، فحرمنا بذلك من الوقوف على أخبار المحجات في المواضع الأخرى من جزيرة العرب.
ويحج الناس إلى هذه البيوت في أشهر معينة من السنة، هي الأشهر الحرم، وهي أشهر مقدسة لا يحل فيها قتال ولا اعتداء على أحد، فهي أشهر هدنة وسلام، أشهر خصصت بالآلهة، فلا يجوز انتهاك حرمتها. وفي شهر الحج الذي حج فيه الناس إلى أصنامهم، يجتمع الناس في المعبد لأداء الفروض المكتوبة المعينة، فيكون الاجتماع اجتماعًا دينيًّا وسياسيًّا وتجاريًّا يتعامل فيه الناس. ويتبادلون به السلع، ويعود على أهل الموضع الذي فيه المعبد بأرباح كبيرة ولا شك. وقد ذكرت أن هذه الحرمة لم تكن عامة، فقد كان من العرب من لا يراعيها ولا يحترمها، ثم إننا لا ندري إذا كان أهل العربية الجنوبية أو العربية الشرقية كانوا يعرفونها أم لا!
__________
1 تفسير ابن كثير "4/ 254".
2 تاج العروس "1/ 457"، "كعب"، اللسان "1/ 718"، "كعب".
3 تفسير ابن كثير "4/ 253 وما بعدها".(12/23)
وليست كل المعابد محجة للناس، يقصدونها في الأيام أو المواسم. فقد كان في الموضع الواحد جملة معابد في بعض الأحيان، ولا يحج إليها، بل كانت المعابد التي يحج إليها معدودة معينة. لا بد أن تكون لها ميزة شرفتها على سائر دور العبادة الأخرى. ولهذه الميزة قصدت في المواسم من أماكن بعيدة. وإذا استثنينا ما ورد عن مكة، فإننا لا نكاد نعرف شيئًا ذا بال عن المعابد الكبيرة الأخرى. ثم إن في أكثر ما ذكره أهل الأخبار عن مكة غموض ومجال واسع للنقد، لأنه منقول عن أفواه رجال يظهر أنهم نقلوا ما قيل لهم دون تحفظ أو تمحيص.(12/24)
المزارات:
وقد عظم بعض أهل الجاهلية قبور ساداتهم ورؤسائهم واتخذوها أضرحة يزورونها ويتقربون إليها ويتبركون بها، وقد بلغ من بعضهم أن جعلها حمى وملاذًا من دخل إليها آمن، ومن لجأ إليها وكان محتاجًا أغيث، ومن طلب العون واستغاث بصاحب القبر أغيث، حتى صارت في منزلة المعابد. ومنها أضرحة السدنة والكهان وسادات القبائل، فقد كان قبر "تميم" جد قبيلة "تميم" مزارًا معظمًا عند أبناء القبيلة من احتمى به من "بني تميم" ومن غيرهم صار آمنًا.
ولم أجد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد بوجود أضرحة في مكة، اتخذت مزارًا وموضعًا يتبرك به. يعظمونه ويتقربون إليه بالنذور والذبائح. لقد كان قبر قصي معروفًا عند أهل مكة، ولكنهم لم يتخذوه مزارًا ومصلى على ما يتبين من رويات الإخباريين.(12/24)
الفصل الخامس والسبعون: الحنفاء
مدخل
...
الفصل الخامس والسبعون: الحنفاء
وقد أشار القرآن الكريم إلى جماعة من العرب لم يتعبد الأصنام، ولم تكن من اليهود ولا النصارى، وإنما اعتقدت بوجود إله واحد عبدته1. وقد ذكر المفسرون وأهل الأخبار أسماء جماعة من هؤلاء، غير أن ما ذكروه عنهم غامض لا يشرح عقائدهم، ولا يوضح رأيهم في الدين، فلم يذكروا عقيدتهم في التوحيد، ولا كيفية تصورهم لخالق الكون.
وقد عرف هؤلاء بالحنفاء وبالأحناف، ونعتوا بأنهم على دين إبراهيم، ولم يكونوا يهودًا ولا نصارى، ولم يشركوا بربهم أحدًا. سفهوا عبادة الأصنام وسفهوا رأي القائلين بها2.
__________
1 "وقالوا: كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا. قل: بل ملة إبراهيم حنيفًا، وما كان من المشركين"، البقرة، رقم2، الآية 125، تفسير الطبرى "1/ 404"، روح المعاني "1/ 352"، تفسير المنار"1/279 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 196"، اللسان "10/ 402 وما بعدها"، النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير "1/ 265" الطبرسي، مجمع البيان "1/ 467" "1/ 215 وما بعدها"، "طبعة طهران"، تفسير القرطبي، الجامع "2/ 128"، الطبري، جامع البيان "11/ 177"، للزمخشري "1/ 236"، اللسان "9/ 56" "صادر"، تاريخ الخميس، للديار بكري "2/ 177"، الكامل، لابن الأثير "1/ 244"، تفسير القرطبي، الجامع "10/ 198"، "حنيفا"، سورة النحل، رقم 16، الآية 120.
2 النهاية "1/ 299".(12/25)
وقد أشير إلى "الحنيفية" و"الحنفاء" في كتب الحديث1. وقد بحث عنها شراح هذه الكتب. ومما نسب إليه حديث: "لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة" 2. وحديث: "بعثت بالحنيفية السمحة السهلة" 3. وحديث "أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة" 4.
ويذكر أهل الأخبار أن الجاهليين جميعًا كانوا قبل عمرو بن لحي الخزاعي على دين إبراهيم. كانوا موحدين يعبدون الله جل جلاله وحده، لا يشركون به ولا ينتقصونه. فلما جاء عمرو بن لحيي، أفسد العرب، ونشر بينهم أضاليل عبادة الأصنام، بما تعلمه من وثني بلاد الشام حين زارهم، وحل بينهم، فكان داعية الوثنية عند العرب والمبشر بها ومضلهم الأول. وهو على رأيهم موزع الأصنام بين القبائل، ومقسمها عليها. فكان من دعوته تلك عبادة الأوثان، إلى أن جاء الإسلام فأعاد العرب إلى سواء السبيل، إلى دين إبراهيم حنيفًا، وما كان إبراهيم من المشركين5.
ولقد فشت دعوة عمرة بن لحي وانتشرت، حتى دخل فيها أكثرهم، والضلال سريع الانتشار، وقل عدد من حافظ على دين إبراهيم والمراعي لأحكام دين التوحيد الحنيف: من اعتقاد بوجود إله واحد أحد، وطواف بالبيت، وحج إليه، وعمرة، ووقوف على عرفة وهدي للبدن، وإهلال بالحج والعمرة، وغير ذلك. فلم يبق منهم إلا عدد محدود في كل عصر إلى زمن البعثة المحمدية6.
ولسنا نملك ويا للأسف شيئًا من الجاهلية يعيننا في الوقوف على عقائد الأحناف ودينهم، فليس في كتابات المسند ولا في الكتابات الجاهلية الأخرى، بل ولا في كتب اليونان واللاتين شيء عن عقيدتهم وعن آرائهم، لذلك اقتصر علمنا بأحوالهم على ما جاء في المؤلفات الإسلامية وحدها، والفضل في حفظ أخبارهم للقرآن
__________
1 راجع ونسنك: المعجم المفهرست لألفاظ الحديث النبوي الشريف، حيث تجد الإشارة إلى تلك الأحاديث.
2 مسند أحمد بن حنبل "4/ 116"، "6/ 33".
3 اللسان "9/ 56 وما بعدها".
4 مجمع البيان، للطبرسي "1/ 215 وما بعدها"، "أحب الدين إليَّ الحنيفية السمحة"، الإصابة "1/ 51"، "رقم 114".
5 اللسان "10/ 403"، بلوغ الأرب "2/ 195".
6 بلوغ الأرب "2/ 196".(12/26)
الكريم، فلولا إشارته إليهم وذكره لهم، لما اهتم المفسرون وأصحاب الأخبار بجمع ما كان عالقًا في ذهن الناس عنهم. وللحديث وكتب السير والأدب فضل في جمع أخبارهم يجب ألا ينسى كذلك.
وللعلماء الإسلاميين آراء وتفسيرات في أصل لفظة "حنيف" وحنفاء وأحناف وفي معانيها. فهم يقولون أن الأصل "حنف"، وحنف بمعنى مال. وحنف القدمين ميل كل واحدة منهما نحو الأخرى. والحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال. والحنيف هو المائل. ومن هذا المعنى أخذ الحنف. وأما الحنيف، فالذي يميل إلى الحق، وقيل الذي يستقبل البيت الحرام، أو الحاج أو من يختتن، والحنيف من أسلم في أمر الله فلم يلتو في شيئ، والحنيف المستقيم الذي لا يلتو في شيء1.
وقد وردت لفظة "حنيفًا" في عشر مواضع من القرآن الكريم2. ووردت لفظة "حنفاء" في موضعين منه3. وبعض الآيات التي وردت فيها آيات مكية، وبعضها آيات مدنية. وقدنصَّ في بعض منها على إبراهيم، وهو على الحنيفية، ولم ينص في مواضع منها على اسمه. وقد وردت لفظة "حنفاء" في سورتين فقط. هما: سورة الحج وسورة البينة، وهما من السور المدنية.
وذكر بعض أهل الأخبار أن الحنيف عند أهل الجاهلية من اختتن وحج البيت فكل من اختتن وحج البيت هو الحنيف4. وقد رأي الطبري أن ذلك لا يكفي،
__________
1 المفردات، للأصفهاني "ص 133"، اللسان "10/ 44"، "9/ 56 وما بعدها" "صادر"، تاج العروس "6/ 77 وما بعدها"، النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير "10/ 265"، تفسير الطبري "1/ 258 وما بعدها"، القاموس المحيط للفيروز آبادي "3/ 130". تفسير الطبري "1/ 563"، "1954"، "3/ 105" "دار المعارف"، الملل والنحل، "2/ 52"، الأغاني "3/ 113 وما بعدها" "دار الثقافة بيروت 1955م"، روح المعاني للآلوسي "3/ 173 وما بعدها"، تفسير الخازن "1/ 98".
2 البقرة، رقم 2 الآية 135، آل عمران، 3 الآية 67، 95، النساء، الرقم 4، الآية 125، الأنعام 6، الآية 79، 161 يونس، الرقم 10، الآية 105، النحل 16، الآية 120، الروم، الآية 30.
3 الحج الآية 31، البينة، الآية5.
4 اللسان "10/ 402 وما بعدها"، الكشاف "1/ 178، 236، 407"، الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن "1/ 467 وما بعدها"، "3/ 109 وما بعدها"، تفسير الفخر الرازي "13/ 57 وما بعدها"، "14/ 10 وما بعدها"، "17/ 171 وما بعدها"، تفسير الطبري "3/ 104 وما بعدها".(12/27)
بل لا بد من الاستقامة على ملة إبراهيم وأتباعه عليها1. والذين يذكرون أن الحنيف هو من اختتن وحج البيت، يذكرون أن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان وحج البيت، ولهذا فكل من اختتن وحج البيت، قيل له حنيف. وقد أضاف بعضهم اعتزال الاصنام والاغتسال من الجنابة إلى ما ذكرت، وجعلوا ذلك من أهم العلامات الفارقة التي ميزت الحنفاء عن المشركين2، لأن الحنيفية على حد قولهم لو كانت حج البيت والاختتان لوجب أن يكون الذين كانوا يحجون ويختتنون في الجاهلية من أهل الشرك حنفاء، وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفًا بقوله: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3.
وينسب أهل الأخبار إلى الأحناف بالإضافة إلى ما ذكرت، امتناعهم عن أكل ذبائح الأوثان وكل ما أهل إلى غير الله. فقد ذكروا عن كل واحد من الأحناف أنه كان قد امتنع عن أكل الذبائح التي تذبح للأوثان والأصنام، لأنها ذبحت لغير الله. كما نسبوا إليهم تحريم الخمر على أنفسهم، والنظر والتأمل في خلق الله، ونسبوا إليهم أداء شعائر الحج وغير ذلك4.
وقد لخص "الفخر الرازي" و"الطبرسي"، آراء العلماء في "الحنيفية" وأجملاها في تفسيرهما للآية: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . فقالا: "وفي الحنيفية أربعة أقوال: أحدها أنها حج البيت، عن ابن عباس والحسن ومجاهد. وثانيها أنها أتباع الحق، عن مجاهد، وثالثها أنها أتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إمامًا للناس بعده من الحج والختان وغير ذلك من شرائع الإسلام،
__________
1 تفسير الطبري "3/ 105 وما بعدها"، "3/ 306"، "5/ 297"، "7/ 251"، تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "2/ 128".
2 اللسان "9/ 56" "صادر"، القاموس "3/ 130"، تاج العروس "6/ 77 وما بعدها"، "حنف".
3 الطبري، جامع البيان "1/ 564 وما بعدها".
4 الأصنام "6" "1914م"، القرطبي، الجامع لاحكام القرآن، "4/ 109" "1937م" "مطبعة دار الكتب المصريةط، ابن خلدون "القسم الأول من المجلد الثاني" "ص 707 وما بعدها" "بيروت 1956م" الخازن، لباب التأويل في معاني التنزيل "1/ 238 وما بعدها، 251"، تفسير الرازي "8/ 150 وما بعدها".(12/28)
والرابع أنها الأخلاص لله وحده والإقرار بالربوبية والإذعان للعبودية"1.
ترى مما تقدم، وسترى فيما بعد أن أهل الأخبار لم يكونوا على بينة تامة وعلم واضح بأحوال الحنيفية وبآرائها وقواعد أحكامها وأصولها، وأنهم خلطوا في بعض الأحيان فيما بينها وبين الرهبنة، ولا سيما رهبنة النصرانية. فأدخلوا فيها من يجب إخراجهم عنها، لأنهم كانوا نصارى على ما يذكره نفس أهل الأخبار في أثناء تحدثهم عنهم، ومن هؤلاء: قيس بن ساعدة الأيادي وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، فقد نصوا نصًّا صريحًا على أنهم كانوا من العرب المتنصرة، ثم نجدهم مع ذلك يدخلونهم في جملة الأحناف.
وللمستشرقين بحوث في أصلها ومعناها وفي ورودها عند العرب قبل الإسلام. ومنهم من يرى أن اللفظة من أصل إرمي، وقد كانت معروفة عند النصارى، وأخذها الجاهليون منهم، وأطلقت على القائلين بالتوحيد من العرب، على أولئك ظهرت بتأثير اليهودية والنصرانية، غير أن أصحابها لم يكونوا يهودًا ولا نصارى، وإنما كانوا فرقة مستقلة تأثرت بآراء الديانتين2.
وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن اللفظة من أصل عبراني، هو: "تحينوت" tchinoth، أو من "حنف" Hnef، ومعناه التحنث في العربية، وذلك لما لهذه اللفظة من صلة بالزهد والزهاد3. وقال "نولدكه" إنها من أصل عربي هو "تحنف"، على وزن تبرر، وهي من الكلمات التي لها معان دينية. ويلاحظ أن السريان يطلقون لفظة "حنفة" Hanfa على الصابئة4. وقد وردت لفظة "حنف" في النصوص العربية الجنوبية، وردت بمعنى "صبأ"، أي مال وتأثر بشيء ما5.
__________
1 مجمع البيان "1/ 215 وما بعدها"، التفسير الكبير، للفخر الرازي "4/ 89 وما بعدها".
2 Ency, II, p. 259.
3 Abraham I. Katsh, Judaism in Islam, New York, 1954, p. 108, f, J.A. Montgomery, Acetic Strains in Early Judaism, in, JBL. Vol. LI, 1932, PP. 183, Tar Andrae, Der ursprung der Islam und des CHristentum, Uppala, 1926, p. 40. Charles Lyall, The Ward Hanif and Muslim, in JRAS, 1903, p. 772, Sprenger, Das Leben, Bd. I, S. 45. ff.
4 Ency., II, 259, Barhebraeus, Chronic., P. 176.
5 Rhodokanakis, Stud., II, S. 40.(12/29)
أي بالمعنى الذي فهمه علماء اللغة. فاللفظة إذن من الألفاظ المعروفة أيضًا عند العرب الجنوبيين.
عندي أن لفظة "حنيف"، هي في الأصل بمعنى "صابئ" أي خارج عن ملة قوم، تارك لعبادتهم. ويؤيد رأيي هذا ما ذهب إليه علماء اللغة، من أنها من الميل عن الشيء وتركه، ومن ورودها بهذا المعنى في النصوص العربية الجنوبية. وبمعنى "الملحد"، و "المنافق"، و"الكافر" في لغة بني إرم، ومن إطلاق "المسعودي" و "ابن العبري" لهذه اللفظ على "الصابئة". ومن ذهاب "المسعودي" إلى أن اللفظة من الألفاظ السريانية المعربة. وقد اطلقت على "المنشقين" على عبادة قومهم الخارجين عليها، كما أطلق أهل مكة على النبي وعلى أتباعه "الصابئ" و "الصباة"، فصارت علمًا على من تنكر لعبادة قومه، وخرج على الأصنام. ولهذا نجد الإسلام يطلقها في بادئ الأمر على نابذي عبادة الأصنام، وهم الذين دعاهم بأنهم على "دين إبراهيم". ولما كان التنكر للأصنام هو عقيدة الإسلام لذلك صارت مدحًا لمن أطلق الجاهليون عليهم تلك اللفظة لا ذمًا1.
وليست الصورة التي رسمها المفسرون وأهل الأخبار عن عقيدة الحنفاء واضحة، فهي صورة غامضة مطموسة في كثير من النواحي، تخص الناحية الخلقية أكثر مما تخص الناحية الدينية. فليس فيها شيء عن عقيدتهم في الله، وكيفية تصورهم وعبادتهم له، وليس فيها شيء عن كتاب كانوا يتبعونه أو كتب كانوا يسيرون عليها. نعم، إن نفرًا منهم كما ذكر الرواة كانوا قد قرءوا الكتب ووقفوا عليها، ولكن ما تلك الكتب التي قرءوها، وما أسماؤها. وهل هي التوراة والإنجيل؟ ولكن أي توراة وإنجيل؟ التوراة والإنجيل التي كانت بين أيدي الناس أو غيرها؟ فالذي يفهم من كلام الرواة أن الحنفاء كانوا يرون تحريفًا في الكتابين، وأن هناك تباين قليلًا أو كثيرًا بين الأصل الذي أوحاه الله وبين الذي كان بين أيدي الناس، وأنهم لذلك مالوا عن اليهودية والنصرانية إلى دين إبراهيم الحنيف، فقرءوا كتبه وتعبدوا بعبادة إبراهيم. ولكن ما هي كتب إبراهيم وما هي عبادته؟
__________
1 راجع أيضًا: Ency., II, P. 259(12/30)
وليس في إمكاننا في الوقت الحاضر وضع حد صريح واضح لمفهوم الأحناف و "الدين الحنيف" عند الجاهليين، لما ذكرته من عدم وجود موارد واضحة صريحة عن الأحناف، ولعدم ورود أي شيء عنهم في نصوص جاهلية، ولأن في الكثير من الذي يذكره المفسرون وأهل الأخبار عنهم غموض وإبهام أو صنعة وتكلف، لذلك فليس أمامنا سوى الانصراف إلى البحث عن جمع كل ما ورد عن الحنيفية في الشعر وفي النثر وتنقيته وغربلته لإستخراج المادة الصافية منه التي تفيدنا في الوقوف. على تلك الحركة الدينية التي. كانت بارزة عند المذكورين قبيل ظهور الإسلام. والوقوف عليها يفيدنا كثيرًا ولا شك في فهم الإسلام الذي أثنى على الحنيفية وأرجعها إلى ديانة إبراهيم، وفي فهم اتجاهات الأحناف ودعوتهم التي وجهوها إلى قومهم في نبذ عبادة الأصنام والأحجار والمعبودات المادية الأخرى، والالتجاء إلى عبادة إله أعلى لا يشبه المادة، هو إله واحد لطيف خبير.
والحنفاء، كما يفهم من روايات أهل الأخبار، كانوا طرازًا من النساك، نسكوا في الحياة الدنيا، وانصرفوا إلى التعبد للإله الواحد الأحد إله إبراهيم وإسماعيل، ساحوا في البلاد على نحو ما يفعله السياح الزهاد بحثًا عن الدين الصحيح دين إبراهيم، فوصل زيد بن عمرو بن نفيل إلى الشام والبلقان ووقف على اليهودية والنصرانية، فلم ير في الديانتين ما يريد1. ومنهم من أخذ على قومه هدايتهم بحثهم على ترك عبادة الأصنام، لذلك لاقوا منهم غشًّا ونصبًا شديدًا. ومنهم من كان يتأمل في هذا الكون، لذلك تجنب الناس واعتزلهم، والتجأ إلى الكهوف والمغاور البعيدة ابتعادًا عن الناس للتأمل والتفكر، وقد تجنبوا الخمرة والأعمال المنكرة، وقول الفحش، وساروا على مثل الإسلام، وإن عاشوا قبل الإسلام، لأن الإسلام دين إبراهيم.
والذي يفهم من القرآن الكريم، هو أن الحنفاء هم أولئك الذين رفضوا عبادة الأصنام، فلم يكونوا من المشركين، بل كانوا يدينون بالتوحيد الخالص، وهو فوق توحيد اليهود والنصارى، فلم يكونوا يهودًا ولا نصارى، و {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 247 وما بعدها"، الطبرسي، مجمع البيان "3/ 110" "7/ 252"، "11/ 107" "14/ 137".(12/31)
الْمُشْرِكِينَ} 1، وأن قدوتهم في ذلك إبراهيم. ويلاحظ أن لفظة "مسلم" استعملت في مرادف ومعنى لفظة "الحنيف"، وإن إبراهيم هو أبو وأول المسلمين. وقد وصف الإسلام بأنه دين الله الحنيف، والدين الحنيف، وأن الشريعة الإسلامية، هي الحنيفية السمحة السهلة، وذلك تمييزًا لها عن الرهبانية المتعصبة2.
وقد عد بعض المستشرقين الحنفاء شيعة من شيع النصرانية، وعدوهم نصارى عربًا زهادًا كيفوا النصرانية بعض التكييف؛ وخلطوا فيها بعض تعاليم من غيرها. وقد استدلوا على ذلك بما ورد من تنصر بعضهم، وبما ورد في بعض الأشعار الجاهلية من مواضع يفهم منها على تفسيرهم أن المراد بهم شيعة من شيع النصرانية3. غير أن القرآن الكريم قد نصَّ نصًّا صريحًا على أن الحنفاء لم يكونوا يهودًا ولا نصارى، وأنهم ينتمون في عقيدتهم إلى إبراهيم. ثم إن الإخباريين وإن أدخلوا في الأحناف أناسًا نصوا على أنهم كانوا نصارى، إلا أنهم نصوا في الوقت نفسه نصًا صريحًا على أن البقية الباقية، كانت واقفة، لم تدخل في يهودية ولا نصرانية، إذ وجدت في كل ديانة من الديانتين أمورًا جعلتها تتريث، فلم تدخل في إحداهما، وبقيت مخلصة لسنة إبراهيم، لذلك فلا يمكن اعتبار الأحناف نصارى خلصًا، أو شيعة من الشيع النصرانية.
وقد كان من الحنفاء نفر من النصارى، أخلصوا لنصرانيتهم وماتوا عليها. فهؤلاء هم نصارى من غير شك، ويجب إخراجهم من طائفة الحنفاء، وإدخالهم فهؤلاء هم نصارى من غير شك، ويجب إخراجهم من طائفة الحنفاء، وإدخالهم في النصارى، مثل "بحيرا" الراهب، وأمثاله ممن سأتحدث عنهم فيما بعد.
ويلاحظ أن جميع من حشرهم أهل الأخبار في الحنيفية، كانوا من القارئين، الكاتبين. وكانوا يشترون الكتب ويراجعونها ويتسقطون أخبار أهل الآراء والمذاهب والديانات. ولبعض منهم –كما يروي أهل الأخبار- علم باللغات الأعجمية مثل السريانية والعبرانية، كما كان لهم علم ووقوف على تيارات الفكر في ذلك الوقت. وقد اضافوا إلى علمهم الذي أخذوه من الكتب، علمًا حصلوا عليه من
__________
1 آل عمران، الآية 67 وما بعدها، البقرة، الآية 35، آل عمران، الآية 95، النساء، الآية 124، الأنعام، الآية 79، 162، يونس 105.
2 ابن سعد "1/ 128"، قال عبد الله بن أنيس:
فقلت له خذها بضربة ماجد ... حنيف على دين النبي محمد
3 Reste, S. 238, J.A. Montgomry, Ascetic Strains in Eariy Judaism , JBL, vol, LI. 1932, p. 183, Abraham J. Katsch, Judaism in Islam, p. 108.(12/32)
أسفارهم إلى الخارج مثل العراق وبلاد الشام ومن اتصالهم بالرهبان وبرجال الكنائس واليهود. فهم بالنسبة لذلك الوقت الطبقة المثقفة من الجاهليين نادت بالإصلاح وبرفع مستوى العقل وبنبذ الأساطير والخرافات وبتحرير العقل من سيطرة العادات والتقاليد فيه، وذلك بالدراسات والتأمل وبقراءة الكتب وبالرجوع إلى دين الفطرة، الذي لا يقر عبادة الشرك ولا عبادة الناس.
لذلك نستطيع أن نقول عن هؤلاء إنهم كانوا أناسًا من النوع الذي نطلق عليهم كلمة "مصلحين" في الوقت الحاضر. من هذا الطراز الذي يريد إصلاح الأوضاع ورفع مستوى العقل. فهم جماعة ضد الأوضاع الإجتماعية السائدة في أيامهم. لأنها في نظرهم أوضاع مؤخرة تمنع الإنسان من التقدم ومن إدراك الواقع. وقد رأت أن العقل لا يقر التقرب إلى أحجار وإلى التبرك بها والذبح لها، لأنها حجارة لا تعي ولا تفهم وليس في إمكانها أن تسمع أو تجيب لذلك نفرت منها. ومنهم من آمن بدين كالنصرانية، ولكنه لم يكن على نصرانية قومه، لأن عقله لا يقر التقرب إلى المادة مثل الصليب والصور والتماثيل، ومنهم من أبعدته مثل هذه العبادة عن النصرانية، فصيرته حائرًا في أمره من الديانات، يعتقد بإله، ولكنه لم يستقر على دين. عائب على قومه من المشركين ما هم عليه من جهل ومن عبادة أحجار ومن كل تقرب إليها.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر ذكروا أنهم كرهوا عبادة الأوثان وسخفوا أحلام المتعبدين لها، إذ وجدوا أن من الحمق التقرب إلى حجر لا يضر ولا ينفع، وهو جماد، فلما سمع بعضهم بالإسلام أسلموا. ولكنهم لم يدخلوهم في عداد الأحناف. وقد رأينا أن من أهل الأخبار من جعل "مسيلمة" يدعو إلى عبادة "الرحمن"
قبل مبعث النبي. وقد ذكروا أن "عمرو بن عبسة بن عامر بن خالد" السلمي، كان قد رغب عن آلة قومه في الجاهلية، رأي أنها باطلة، وأن الناس في ضلال إذ يعبدون الحجارة، والحجارة لا تضر ولا تنفع، فكان حائرًا، حتى اهتدى إلى الإسلام1.
وليس في أيدينا اليوم مورد يفيد بوجود تكتل وتنظيم لمن أطلق الإخباريون
__________
1 الإصابة "3/ 5 وما بعدها"، رقم "5905"، الاستيعاب "2/ 491 وما بعدها"، حاشية على الإصابة.(12/33)
عليهم لفظة: "الحنفاء"، تكتل وتنظيم مع مظاهر خارجية وداخلية تميزهم عن غيرهم من أهل الأديان. لذلك، فنحن لا نستطيع أن نقول إن الحنيفية كانت فرقة تتبع دينًا بالمعنى المفهوم من الدين، كدين اليهودية أو النصرانية، لها أحكام وشريعة تستمد أحكامها من كتب منزلة مقدسة ومن وحي نزل من السماء، على نحو ما نفهمه من الأديان السماوية. لذلك، فأنا لا أستطيع إقرار رأي من ذهب إلى أنهم كانوا جماعة دينية منظمة، كرأي المستشرق "شبرنكر"، الذي ذهب إلى هذا المذهب1.
وجل هؤلاء الأحناف، هم من أسر معروفة، وبيوت يظهر أنها كانت مرفهة أو فوق مستوى الوسط بالنسبة إلى تلك الأيام، ولهذا صار في إمكانهم الحصول على ثقافة وعلى شراء الكتب، وقد كانت غالية الثمن إذ ذاك، لنيل العلم منها. كما صار في إمكانهم الطواف في خارج جزيرة العرب لامتصاص المعرفة من البلاد المتقدمة بالنسبة إلى تلك الأوقات، مثل العراق وبلاد الشام. وقد اتصلوا كما يزعم أهل الأخبار فعلًا برجال العلم والدين فيها، وتحادثوا معهم وأخذوا الرأي منهم. ومن يدري فلعلهم قرءوا عليهم الكتب وفي جملتها كتب اليونان، أو ترجمات كتبهم بالسريانية، فحصلوا نتيجة لذلك على علم بمقالات اليونان وبآرائهم في الفلسفة والدين والحياة. وقد تكون بعض الآراء المنسوبة إليهم، والتي ترجع إلى أصل يوناني، قد قالوها من أخذهم لها من تلك الكتب ومن دراستهم على من اتصلوا بهم من العلماء في أثناء وجودهم في العراق وفي بلاد الشام.
ونجد في الأخبار أن الرسول كان يعد الرهبانية مخالفة للحنيفية، إذ ورد أن أبا عامر بن صيفي –المعروف بالراهب لأنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح- قدم المدية ورأى الرسول، وسأله: ما هذا الذي جئت به؟ -فقال الرسول: "جئت بالحنيفية دين إبراهيم"، قال: فأنا عليها، فقال الرسول: "لست عليها، ولكن أدخلت فيها ما ليس منها". وقد سماه الرسول الفاسق.
فذهب مغاضبًا للرسول كما تقول الروايات، متوجهًا إلى قيصر، ليحمله على توجيه جيش إلى المدية للقضاء على الإسلام، غير أنه مات وهو في بلاد الشام2.
__________
1 Sprenger, Das Leben, Bd., I, S. 4, Ency., II, S. 259
2 مجمع البيان "9/ 64 وما بعدها"، "3/ 500" "طبعة طهران".(12/34)
وقد خرج "أبو عامر" واسمه "عيد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان بن أمية"1 الراهب أحد "بني ضبيعة" إلى مكة مباعدًا لرسول الله، معه خمسون غلامًا من الأوس، منهم "عثمان بن حنيف". "فكان يعد قريشًا أن لو قد لقي محرمًا لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما كان يوم أحد، كان أول من لقي أهل المدينة أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى يا معشر الأوس، أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عينًا يا فاسق، وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية "الراهب" فسماه رسول الله الفاسق، فلما سمع ردهم عليه، قاتلهم ثم راضخهم بالحجارة". ثم رجع مع قريش إلى مكة ثم خرج إلى الروم يوم فتحت مكة فمات بها سنة تسع، ويقال سنة عشر. وأعطى "هرقل" ميراثه لكنانة قائلًا لعلقمة: هما من أهل المدر وأنت من أهل الوبر.
وكان له ولد اسمه "حنظلة" أسلم، واستأذن رسول الله في قتل أبيه، فنهاه عن ذلك. فلما كان يوم أحد شهده، والتقى هو وأبو سفيان، فلما استعلى حنظلة رآه "شداد بن شعوب" فعلاه بالسيف حتى قتله، وقد كاد يقتل أبا سفيان. فقال النبي: "إن صاحبكم تغسله الملائكة"3، فعرف بـ "غسيل الملائكة"4. فكان الابن مع المسلمين في هذا اليوم، وكان الأب مع المشركين.
وروي أنه كان يتزهد في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين بإتخذا مسجد الضرار، وأتى قيصر فاستنجده على النبي5. وروي أنه هو الذي حزب الأحزاب لقتال الرسول: فلما خذل لحق بالروم يطلب النصر منهم، وقال لأناس من الأنصار ابنوا مسجدكم واستعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح،
__________
1 تاريخ الطبري "2/ 512"، "معركة أحد"، المحبر "470"، سيرة ابن هشام "2/ 129"، "حاشية على الروض"، أبو عامر بن صيي بن مالك بن أمية بن ضبيعة بن زيد بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، الأوسي، الإصابة "1/ 360"، "رقم 1863"، مروج الذهب "1/ 88"، "دار الأندلس".
2 الإصابة "1/ 360"، "رقم 1863".
3 الإستيعاب "1/ 279 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
4 الإصابة "1/ 360"، "رقم 1863"، الاستيعاب "1/ 279 وما بعدها"، حاشية على الإصابة".
5 تفسير النيسابوري "9/ 76"، "حاشية على تفسير الطبري"، روح المعاني "9/ 111".(12/35)
فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدًا وأصحابه، وكان قد خرج معه كنانة بن عبد يا ليل الثقفي وعلقمة بن علاثة. فأما علقمة وابن ياليل "ابن بالين"، فرجعا فبايعا النبي وأسلما، وأما "أبو عامر" فتنصر وأقام1.
ويظهر أن "أبا عامر الراهب"، كان قد وضع مع جماعة من الأنصار الحاقدين على الرسول وعلى المهاجرين الذين صاروا يزاحمونهم في أعمالهم، واستحوذوا على التجارة واستغلوا أرض يثرب فقام قوم منهم بزراعتها، خطة لعمل مكيدة يخرجون بها الرسول من المدينة، يساعدهم في ذلك الروم. غير أنها لم تنجح، وهدم المسجد، الذي تواعدوا على أن يكون موضع التآمر وملتقى الحاقدين على الرسول، وقضي على المؤامرة، وبقي "أبو عامر" عند الروم. فلما مات عاد "كنانة بن عبد يا ليل" الثقفي، وكان رئيس ثقيف في زمانه، وكان يقول: "لا يرثني رجل من قريش"، مما يدل على أنه كان من الكارهين لقريش المتحاملين عليها وعلى الإسلام، ففر إلى "نجران" ثم توجه إلى الروم. فلما مات "أبو عامر" عاد فأسلم2. وعاد "علقمة" أيضًا. وهناك روايات أخرى، تذكر أنه ارتد في أيام "عمر"، والتحق بالروم، ثم عاد إلى الإسلام3.
ولاشتهار أبي عامر بالراهب، ولما ورد في بعض الأخبار من أنه كان حنيفًا، ذهب "ولهوزن" إلى أن الأحناف هم من النصارى، وأن حركتهم حركة نصرانية، وأنهم كانوا القنطرة التي توصل بين النصرانية والإسلام4. غير أن ما لدينا من معارف عن الأحناف، لا يكفي لا بداء رأي كهذا الرأي، وللتسليم بمثل هذا القول ينبغي لنا الوقوف على آرائهم وقوفًا دقيقًا ومقارنة ما لدينا بما نعرفه من النصرانية لنتمكن من التوصل إلى رأي علمي في هذا الشأن.
وفي بيت منسوب إلى أمية إشارة إلى الحنيفية، ذكر فيه أن كل دين زور عند الله إلا دين الحنيفية. وقد رأينا أن أهل الأخبار يدخلون أمية في جملة
__________
1 تفسير الطبري "11/ 17 وما بعدها"، تفسير القرطبي "7/ 320"، "8/ 253 وما بعدها".
2 الإصابة "3/ 305"، "رقم 7532".
3 الإصابة "2/ 496"، "5677".
4 Wellhausen, Reste, S. 239. f.(12/36)
الحنفاء، ويقولون: أنه لبس المسوح تعبدًا، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل وحرم الخمر1. ويلاحظ أن الإخباريين ينسبون إلى عدد من هؤلاء الأحناف لبس الموح، مما يشير إلى أنهم كانوا قد تأثروا بالرهبان المتقشفين وبالزهاد النصارى الناسكين، فأخذوا عنهم هذه الطريقة التي أشير إلهيا في القرآن الكريم وفي الحديث، والتي عدت من البدع الممقوتة في الإسلام.
وقد أورد أهل الأخبار كلامًا ذكروا أن الأحناف قالوه، هو من نوع كلام الكهان المرتب على طريقة السجع، أوردوه بنصه على ما ذكروه. غير أن من الصعب تصور صدور ذلك الكلام المنمق من أناس عاشوا قبل الإسلامن ومحافظة الناس عليه محافظة تامة إلى ما بعد الإسلام. ويظهر على كل حال من دراسة روايات أهل الأخبار عن الكهان والأحناف أن كلام رجال الدين قبل الإسلام كان على هذا النمط من السجع، ومن جمل مكررة معادة عامة. وقد ظل الجسع الطريقة المحببة في الكتابة إلى أيامنا هذه عند بعض الكتاب.
ويفهم من كلام الرواة أن بعض هؤلاء الحنفاء كانوا نصارى مثل ورقة بن نوفل، أي على عكس ما يذكره الرواة أنفسهم من أن هؤلاء كانوا قد تجنبوا اليهودية والنصرانية متبعين ديانة إبراهيم2. والظاهر أن الرواة قد اشتبه عليهم الأمر، فخلطوا في بعض الأحيان بين النصرانية وبين هؤلاء الذين أنكروا عبادة الأصنام واعتقدوا التوحيد.
ولدينا أمثلة أخرى على هذا الوهم. وسنرى من تراجم عدد من الأحناف أن منهم من يحب إدخاله في عداد النصارى. لا الأحناف. وقد نص أهل الأخبار أنفسهم على تنصرهم، غير أنهم أدخلوهم مع ذلك في جملة الأحناف حين تكلموا عنهم. فكأنهم عنوا بالأحناف من كان على حياة الرهبنة والتقشف.
وقد أدخل "المسعودي" بعض الأحناف في جماعة أهل الفترة ممن كان بين المسيح ومحمد، ومن أهل التوحيد، ممن يقر بالبعث. ثم قال: "وقد اختلف الناس فيهم، فمن الناس من رأى أنهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك"3.
__________
1
كل دين يوم القيامة عند اللـ ... ـه إلا دين الحنيفة زور
الأغاني "4/ 122" "طبعة دار الكتب المصرية".
2 بلوغ الأرب "2/ 270".
3 مروج "1/ 78"، "دار الأندلس".(12/37)
وقد ذكر من بينهم "حنظلة بن صفوان"، و"خالد بن سنان العبسي"، و "رئاب الشني"، و "أسعد أبو كرب الحميري"، و "قس بن ساعدة الإيادي"، و "أمية بن أبي السلط الثقفي"، و "ورقة بن نوفل"، و "عداس" مولى "عتيبة بن ربيعة الثقفي"، وطورقة بن نوفل"، و "عداس" مولى "عتيبة بن ربيعة الثقفي، و "أبو قيس" "صرمة بن أبي أنس" الأنصاري، و "أبو عامر الأوسي"، و "عبد الله بن جحش الأسدي"، و "بحيرا الراهب"1. ومن هؤلاء من كان على النصرانية، وقد نص "المسعودي" نفسه على ذلك.
والذين ذكر الرواة أسماءهم من الحنفاء هم أناس عاشوا في الجاهلية المتصلة بالإسلام، ومنهم من أدرك الرسول، ولا عبرة بالطبع لما زعمه الإخباريون من طول عمر أولئك الأشخاص وبلوغ بعضهم مئين عدة من السنين، وادخالهم في المعمرين2، فإن من عادة الإخباريين إطالة عمر هؤلاء وأمثالهم من الرجال البارزين الظاهرين، ليكون ذلك مناسبًا لما يجيء في أخبارهم من الحكم المنسوبة إليهم، وهي فكرة عامة نجدها عند غير العرب أيضًا، ولذلك نجد صورة الحكماء والفلاسفة في الغالب على صورة شيوخ أصحاب لحى طويلة بيض ورأس جلله الشيب أو قضى في الغالب على شعره الزمن والتفكير، فصلع، لأن هذه من علامات الحكمة والتفكير.
وعندي أن الحنفاء جماعة سخرت من عبادة الأصنام، وثارت عليها وعلى المثل الأخلاقية التي كانت سائدة في ذلك الزمن، ودعت إلى إصلاحات واسعة في الحياة وإلى محاربة الأمراض الاجتماعية العددية التي كانت متفشية في ذلك العهد، دعاها إلى ذلك ما رأته في قومها من إغراق في عبادة الأصنام ومن أسفاف في شرب الخمر ولعب الميسر وما شاكل ذلك من أمور مضرة، فرفعت صوتها كما يرفع المصلحون صوتهم في كل زمن ينادون بالإصلاح، وقد أثارت دعوتهم هذه المحافظين وأصحاب الجاه والنفوذ وسدنة الأوثان شأن كل دعوة إصلاحية. ويجوز أن يكون من بين هؤلاء من مال إلى النصرانية، غير أننا لا نستطيع أن نقول أنهم كانوا نصارى أو يهودًا، أنما أستطيع أن أشبه دعوة هؤلاء بدعوة الذين دعوا إلى عبادة الإله رب السماء "ذو سموى" أو عبادة الرحمن في اليمن،
__________
1 مروج "1/ 78 وما بعدها".
2 جعل السجستاني عمر قس بن ساعدة الأيادي، وهو من الحنفاء، ثمانين وثلاث مئة سنة، بلوغ الأرب "2/ 246".(12/38)
متأثرين بمبادئ التوحيد التي حملتها اليهودية والنصرانية إلى اليمن. ولكنهم لم يكونوا أنفسهم يهودًا أو نصارى، إنما هم أصحاب ديانة من ديانات التوحيد.
ولا يعني قولي هذا أن الحنفاء كانوا على رأي واحد ودين واحد كالذي يفهم مثلًا من قولنا يهودي ونصراني ويهود ونصارى، بمعنى أنهم كانوا طائفة معينة تسير على شريعة ثابتة كالذي ذهب "شبرنكر" إليه1. إنما كان أولئك الأحناف نفرًا من قبائل متفرقة لم تجمع بينهم رابطة، إنما اتفقت فكرتهم في رفض عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الإصلاح. وهذا المعنى واضح في آيات القرآن الكريم التي أشارت إلى الحنفاء.
والرجال الذين قال أهل الأخبار عنهم إنهم كانوا على دين، وكانوا من الأحناف، هم: قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت وأرباب بن رئاب، وسويد بن عامر المصطلقي، وأسعد أبو كرب الحميري، ووكيع بن زهير الإيادي، وعمير بن جندب الجهني، وعدي بن زيد العبادي، وأبو قيس صرمة بن أبي أنس، وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، وعامر بن الظرب العدواني، وعبد الطانحة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة، وعلاف بن شهاب التميمي، والملتمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سلمى وخالد بن سنان العبسي، وعبد الله القضاعي، وعبيد بن الأبرص الأسدي، وكعب بن لؤي بن غالب2.
وبعض هؤلاء مثل: "قس بن ساعدة الإيادي" و"عثمان بن الحويرث" و "عدي بن زيد العبادي" نصارى، وبعض منهم مثل "أسعد أبو كرب الحميري"، "أبو كرب اسعد الحميري"3 و"عبيد بن الأبرص"، و"زهير بن أبي سلمى"، مشكوك في أمرهم، لا نستطيع أن نذكر شيئًا عن دينهم. ولهذا فأنا أذكرهم هنا بحذر، مجاراة لمن أدخلهم في أهل الدين من الجاهليين. ولا أعني أنهم كانوا على الحنيفية، أي على شريعة التوحيد التي ينص عليها أهل الأخبار.
__________
1 Sprenger, Das Leben, Bd., I, S. 4.
2 بلوغ الأرب "2/ 244 وما بعدها"، مروج الذهب "1/ 78"، "دار الأندلس".
3 بلوغ الأرب "2/ 244"، مروج "1/ 52 وما بعدها".(12/39)
وقد اقتصر "محمد بن حبيب" على ذكر بعض من تقدم، حين تكلم عن "أسماء الذين رفضوا عبادة الاصنام"، فذكرهم على هذا النحو: عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب الأسدي. وذكر أن منهم من تنصر ومات على النصرانية، مثل: عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب الأسدي1.
فأما قس بن ساعدة الأيادي، فقد رفعه الإخباريون من مصاف أسوياء البشر، ووضعوه في صف المعمرين الذين عاشوا مئين من السنين قبل سبع مئة سنة، وقيل ست مئة سنة، أو أقل من ذلك بكثير، غير أنه لا يقل عن ثلاث مئة سنة على كل حال2.
وأما مولده، لمجهول. وأما وفاته، فيكاد يحصل الاتفاق على أنه كان قبيل البعثة. وقد ورد في رواية إن الرسول أدركته ورآه يخطب في سوق عكاظ خطبته الشهيرة المعروفة، غير أنه لم يحفظها، وأن أبا بكر، وكان من جملة من حضر السوق وسمع الخطبة، كان قد حفظها، فأعادها على الرسول. وهي الخطبة الشهيرة المتداولة بين الناس والمحفوظة في الكتب. وهناك رواية تذكر أن الرسول كان يحفظها، وقد تلاها على من حضر عنده، وتلا بعضًا منها على وفد عبد العقيس3.
__________
1 المحبر "171 وما بعدها".
2 وخيل: قس بن ساعدة بن حذافة بن زفر، وقيل: حذافة بن زهر بن نزار. وقيل: قسبن ساعدة بن عمرة بن عدي بن مالك بن ايدعان بن النمر الخ ... وقيل: هو ابن ساعدة بن عمرو بن شمر بن عدي بن مالك، وهكذا. بلوغ الأرب "2/ 246"، البيان والتبيين "1/ 50" "طبعة السندوبي"، "1926"، شعراء النصرانية "2/ 211"، "قس بن ساعدة الأيادي بن عمرو بن عدي بن مالك بن ابدطان "ايدعان" بن النمر بن وائلة بن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أفصى، المحبر "ص 136"، الأغاني "14/ 40"، البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 230" الميداني، مجمع الأمثال "1/ 117".
3 وفي نصها بعض الاختلاف، راجع:
الإصابة "5/ 285"، "وقدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل منهم: هل تعرف قس بن ساعدة؟ فقال رسول الله: "ليس هو منكم. هذا رجل من إياد، تحنف في الجاهلية، فوافى عكاظ والناس مجتمعون، فيكلمهم بكلامه الذي حفظ عنه"، طبقات ابن سعد: الجزء الأول: القسم الثاني "ص 55"، "وفد بكر بن وائل"، محاضر الأبرار "ص 48 وما بعدها"، البداية والنهاية "2/ 230".(12/40)
ومما يلفت النظر في الروايات الواردة عن حفظ الرسول لخطبة "قس"، هو إشاراتها إلى أن النبي كان يحفظ نص الخطبة، ولم يكن يحفظ الشعر الملحق بها. مع أن حفظ الشعر أيسر من حفظ النثر. ولعل الرواة رووا ذلك لإظهار أن الرسول كان لا يقول الشعر، وإنما كان يسمعه. ولكننا نجدهم من ناحية أخرى يروون أنه كان يتلو من الشعر المناسب ما شاء أن يتلو، وأنه كان يستشهد به في كلامه، وأنه كان يحفظ شيئًا من شعر الماضين والحاضرين. ولن يضير النبوة من حفظ الشعر شيئًا.
والنص المحفوظ لخطبة "قس" نص مختلف لم يتفق الرواة عليه. مما يدل على أنه لم يكن مدونًا، وإنما روي بروايات مختلفة، ثم دونت فيما بعد.
وأوصل بعض الإخباريين قسًا إلى القيصر، فزعموا أنه ذهب إليه واتصل به، وأن القيصر أكرمه وعظمه. وأنه سأله عن العلم قائلًا له: ما أفضل العلم؟ قال: معرفة الرجل بنفسه. قال: فما أفضل العقل؟ قال: وقوف المرء عند علمه. قال: فما أفضل الأدب؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المروءة؟ قال: قلة رغبة المرء في اختلاف وعده. قال: فما أفضل المال؟ قال: ما قضي به الحق1. وهو كلام ينبئك أسلوبه وطبيعته عن أصله وفصله، وله أصل يرجع إلى الفلاسفة اليونان. ونسبوا له قبرًا جعلوه في موضع "روحين" على مقربة من حلب في لحف جبل ينذر له2.
ونجد حديث قيصر المزعوم مع "قس"، في رواية أخرى على شكل آخر. وقد أهملت هذه الرواية اسم قيصر. فلم تشر إليه، واكتفت بلفظة "قيل"، فقالت: "قيل لقس بن ساعدة: ما أفضل المعرفة؟ قال: معرفة الرجل بنفسه. قيل له: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه! قيل له: فما أفضل المروءة؟ قال استبقاء الرجل ماء وجهه"3.
وقس هو مخترع أوجد للعرب أشياء عديدة على زعم أهل الأخبار. أحدث لهم أمورًا كثيرة. فهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ
__________
1 شعراء النصرانية "2/ 211"، الأمالي، للقالي "3/ 37" "دار الكتب"، العقد الفريد "2/ 254 وما بعدها، 290 وما بعدها".
2 شعراء النصرانية "2/ 216"، الأغاني "14/ 40 وما بعدها".
3 العقد الفريد "2/ 290 وما بعدها".(12/41)
عند خطبته على سيف أو عصا وأول من علا على شرف وخطب عليه، وأول من قال: "أما بعد"، وأول من كتب "إلى فلان بن فلان"1. وأول من قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، فكل ما عرفه العرب من هذه الأمور، هو من صنعة قس وعمله. ثم أنه كان أحد حكماء العرب، وكان أسقف نجران، وخطيب العرب كافة2. وذكروا أن له ولقومه فضيلة ليست لأحد من العرب، لأن الرسول روى كلامه وموقفه على جمله الأورق بعكاظ وموعظته، وعجب من حسن كلامه، وأظهر تصويبه3، وأنه قال فيه: "يحشر أمة وحده" 4.
وجاء في رواية في تفسير قول الرسول: "يحشر أمة وحده"، أو "يرحم الله قسًا، إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة واحدة"، أن وفدًا من إياد قدم على النبي: فسألهم عن قس، فقالوا: هلك. فقال: "رحمه الله، كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق "أحمر" وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أوجدني أحفظه". فقال رجل من القوم، أنا أحفظه يا رسول الله. سمعته يقول: أيها الناس اسمعوا وعوا ... إلى آخر الخطبة، وما جاء بعدها من شعر، فقال رسول الله عندئذ قوله المذكور فيه5.
ويختلف هذا الخبر بعض الاختلاف مع خبر آخر أشرت إليه قبل قليل، فقد وردت في ذلك الخبر أن رسول الله كان يحفظ تلك الخطبة، غير أنه لم يكن يحفظ الأبيات الملحقة بها، وكان "أبو بكر" يحفظها، فأعادها على مسامعه6. كما يختلف عن رواية أخرى، جاء فيها أن الوفد الذي قدم على الرسول كان وفد "عبد القيس"، وأن الذي قرأ الشعر عليه هو أحد بني عبد القيس7.
__________
1 المؤتلف والمختلف، للمرزباني "338"، بلوغ الأرب "2/ 246"، الأغاني "14/ 40 وما بعدها" مروج الذهب "1/ 82"، "2/ 102"، "دار الأندلس"، البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها".
2 اللسان "8/ 58"، شعراء النصرانية "2/ 211".
3 بلوغ الأرب "2/ 246".
4 الأغاني "14/ 40".
5 الأغاني "14/ 40 وما بعدها"، المعارف "61"، البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها".
6 البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها"، مجمع الأمثال، للميداني "1/ 117".
7 البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها".(12/42)
ويذكر بعض أهل الأخبار، أن "الجارود"، وكان في ضمن رجال وفد "عبد القيس"، قال للرسول حين سأل عن "قس": "فداك أبي وأمي كلنا نعرفه وإني من بينهم لعالم بخبره، وأقف على أمره. كان قس يا رسول الله سيطًا من أسياط العمر عمر ستمائة سنة، تقفر منها خمسة أعمار في البراري والقفار". ثم أخذ في وصفه وفي ذكر عقائده، وفي لقياه لـ "سمعان" رأس الحواريين. وخلص بعد ذلك إلى ذكر نص خطبته بسوق عكاظ، ومطلعها: "شرق وغرب"، حتى انتهى منها، ثم ألحق بها شعرًا1. وهي خطبة تختلف تمامًا عن الخطبة المعروفة التي تنسب إليه، وإن كانت على نمطها من حيث الأسلوب والأفكار، وفيها مصطلحات إسلامية ترد في القرآن الكريم. ولا أستبعد أن تكون من وضع شخص آخر غير الجارود. وضعها في العصور العباسية، للحث على الزهد.
والجارود من سادات عبد القيس، وكان نصرانيًّا، قدم على النبي سنة عشر في وفد عبد القيس الأخير، وسر الرسول بإسلامه، وكان حسن الإسلام صلبًا على دينه، وقتل بأرض فارس في خلافة عمر، وقيل بقي إلى خلافة عثمان2.
ولو صح ما ذكروه من أنه كان أسقفًا على نجران، لوجب إخراجه إذن من الحنيفية وإدخاله في عداد النصارى. ولكن ليس مؤكدًا أنه كان أسقفًا على ذلك الموضع، ويرى الأب "لامانس" احتمال كونه نصرانيًّا، لأن ما نسب إليه يبعث على هذا الظن3. وقد أدخل الأب "لويس شيخو" قسًا في جملة النصارى الجاهليين، وأورد أكثر ما نسب إليه في ترجمته4. غير أن كثيرًا من هذا المنسوب إليه منسوب إلى غيره. وقد أشار إلى من نسب إليهم من العلماء.
وذهب "شبرنكر" إلى أن قسًا كان من "الركوسية"، وهم فرقة عرفهم أهل اللغة بأنهم بين النصارى والصابئين، شملت جماعة من الحائرين في أمر دينهم، ولذلك عمدوا إلى السياحة والترهب والانزواء5. وقد حسبهم العرب نصارى، فأدخلوهم فيهم في أثناء كلامهم على هؤلاء6.
__________
1 البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها".
2 الإصابة "1/ 217 وما بعدها"، "رقم 1042".
3 Ency., II, P, 1161, Sprenger, Leben, I, S. 45.
4 شعراء النصرانية "2/ 211 وما بعدها".
5 تاج العروس "4/ 163".
6 Sprenger, Leben, I, S. 43.(12/43)
ويرى "لامانس" أنه لو كان قيس شخصية تاريخية حقًّا، فإن زمانه لا يمكن أن يكون في أيام الرسول أو في أيام مقاربة من أيامه. إذ لا يعقل عنده أن يتكون هذا القصص الذي صير قسًا شخصية من الشخصيات الخرافية، لو كان من المعاصرين أو المقاربين له. ثم إن ايادًا لم تكن في أيام الرسول كتلة واحدة، حتى ينسب قس إليها. فلا بد اذن أن تكون أيام هذا الرجل بعيدة بعض البعض عن أيام الرسول1.
غير أن حجج "لامانس" المذكورة لا يمكن أن تكون سندًا يؤيد ادعاءه في ان قسًا كان شخصية خرافية، أو أنه كان رجلًا حقًّا، ولكنه كان بعيد العهد عن الرسول. فقد روى الإخباريون قصصًا كثيرًا عن سلمان الفارسي وعن غير سلمان من الصحابة، لا يقل نسيجًا عن نسيج قصص قس، فهل يتخذ هذا القصص حجة لإنكار شخصية سلمان وغيره ممن وزد هذا القصص عنهم؟ وهل يجوز أن نقول إن سلمان إن كان شخصًا حقًّا فوجب أن تكون أيامه بعيدة عن أيام الرسول.
ولدى الرواة أبيات ينسبونها إلى بعض الشعراء الجاهليين، هم: الاعشى، والحطيأة، ولبيد، ذكر فيها اسم قس. وقد أشيد فيها بفصاحته وببلاغته وحكمته، حتى جعل لبيد لقمان دون قس في الحكم2.
وورد اسم "قس" في هذا الشعر وفي أمثاله إن صح أنه من شعر الجاهليين حقًّا، وورود اسمه في الحديث وفي الأخبار، هو تعبير عن رأي أهل الجاهلية في خطيب مفوه عد في نظرهم المثل الأعلى في الخطابة وممثل البلاغة عندهم فهو كشيوخ الخطباء عند اللاتين.
__________
1 Ency., II, P. 1161.
2 قال لبيد:
وأخلف قسا ليتني ولعلني ... وأعيا على لقمان حكم التدبر
الإصابة "5/ 285" "قس"، قال الأعشى:
وأحلم من قس وأجرى من الذي ... بذى الغيل من خفان أصبح حاردا
وفي رواية أخرى:
وأحلم من قيس وأجرء مقدمًا ... لذى الدرع من ليث إذا راح حاردا
ديون الأعشى "ص 49" "تحقيق R. Geyer". المؤتلف والمختلف "ص 338"، وقال الحطياة:
وأقول من قس وأمضى إذا مضى ... من الرمح إذ مس النفوس نكالها
المؤتلف والمختلف "ص 338".(12/44)
وجميع هذا القصص المروي عن قس، هو من النوع الذي يحتاج إلى تمحيص. وقد نسبوا إليه شعرًا، زعموا أنه قاله وهو يبكي بين قبرين بني بينهما مسجدًا، هما قبرا أخويه، على حين أن أكثر الرواة يقولون إن هذا الشعر لغيره، وأن قصة القبرين لا تخص قسًا، بل تخص أناسًا آخرين، وقد كانا في إيران وأصحابهما قبرا فيهما في الإسلام. ورواة هذا الخبر، هم رواة خطبة قس الشهيرة، وهم محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح بن عباس وجماعة آخرون أشار "ابن حجر" إلى بعضهم في كتابه: "الإصابة في تمييز الصحابة"، وقد ضعف ابن حجر هذه الطرق، فقال: "وقد أفرد بعض الرواة طريق حديث قس، وفيه شعره وخطبته، وهو في الطوالات للطبراني وغيرها. وطرقه كلها ضعيفة"1. ثم عرج بعد ذلك إلى ذكر بعض الطرق التي وردت فيها خطبة قس.
وأما "زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر"، فهو من قريش من بني عدي، لم تعجبه عبادة قومه، فانتقدها وسخفها وهزي منها ووقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان، ونهى عن قتل الموؤودة، وامتنع من الذبح للأنساب ومن أكل الميتة والدم وما ذبح للأصنام. فكان في آرائه هذه مثل نفر آخر من قريش منهم: ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش، لاموا قومهم على عبادتهم الأصنام، واتخاذ الأنصاب وعبادة ما لا يضر ولا ينفع2. وهم طائفة من المفكرين، رأى بعضهم بلاد الشام، واتصل ببعض المبشرين النصارى، ووقف على التطورات الفكرية في الخارج، ولعله كان يقرأ ويكتب، وله اطلاع على مؤلفات في الفلسفة والدين.
وترجع إحدى الروايات سبب خروج "زيد" على عبادة قومه، أنه حضر يومًا وحضر معه في ذلك اليوم "ورقة بن نوفل"، و "عبد الله بن جحش" و "عثمان بن الحويرث"، عيدًا من أعياد قريش، عند صنم من أصنامهم،
__________
1 الأغاني "14/ 40 وما بعدها"، الإصابة "5/ 286".
2 ابن هشام "1/ 244 وما بعدها"، ارشاد اساري "6/ 190"، أسد الغابة "2/ 236"، طبقات الشعراء "ص 66" "طبعة ليدن"، البداية والنهاية "2/ 237"، ابن خلدون، القسم الأول، المجلد الثاني "ص 707"، المسعودي، مروج "1/ 70" "محمد محيي الدين عبد الحميدي" الأغاني "3/ 113"، البخاري "5/ 50" المعارف "27".(12/45)
كانوا يعظمونه، ويعكفون عنده، أو يديرون به، وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يومًا، وكانوا ينحرون له، فلما خلد بعضهم إلى بعض وتصادقوا، قالوا ليكتم بعضكم على بعض، واتفقوا على ذلك، ثم قال قائلهم: تعلمون والله ما قولكم على شيئ، لقد أخطئوا دين إبراهيم وخالفوه. ما وثن يعبد؟ لا يضر ولا ينفع فابتغوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء. فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب"1.
وقد زار زيد الشام والبلقاء، وعاش على خمس سنين قبل البعث، فهو من أولئك الرهط الثائرين على قومهم، والذين أدركوا أيام الرسول. وقد نسبوا إليه شعرًا في تسفيه عبادة قومه، وفي فراقة دينهم وما لقيه منهم. وكان قد أوذي لمقالته هذه في دين قومه، حتى أكره على ترك مكة والنزول بـ "حراء"، وكان "الخطاب بن نفيل" عمه، وقد وكل به شبابًا من شباب قريش وسفهاء من سفائهم كلفهم ألا يسمحوا له بدخول البلدة وبمنعه من الإتصال بأهلها، مخافة أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراق ما هم عليه. واضطر زيد إلى المعيشة في هذا المحل، معتزلًا قومه، إلا فترات، كان يهرب خلالها سرًا، ليذهب إلى موطنه ومسكنه، فكانوا إذا أحسوا بوجوده هناك، آلموه وآذوه2.
وورد في رواية، يرجع رواتها سندها إلى "هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل"، أي إلى حفيد "زيد"، تذكر أن "زيد" خرج مع "ورقة بن نوفل" يلتمسان الدين، حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فسأله عن الدين، فلم يقتنع بالنصرانية، أما "ورقة"، فاقتنع بها وتنصر3. وتذكر رواية أخرى أن "زيد بن عمرو" خرج إلى الشام ومعه: "ورقة بن نوفل"، و"عثمان بن الحويرث"، و "عبيد الله بن جحش"4. ويذكر الرواة أن زيدًا كان
__________
1 البداية "2/ 238"، ابن هشام، سيرة "1/ 242".
2 ابن هشام "1/ 240 وما بعدها" "البابي"، بلوغ الأرب "2/ 251 وما بعدها"، ابن سعد، الطبقات "1/ 162" "طبعة دار صادر"، مروج الذهب "1/ 70" "القاهرة 1958م"، البداية "2/ 238".
3 البداية "2/ 238".
4 البداية "2/ 243".(12/46)
نديمًا لورقة بن نوفل، فمات ورقة، وخرج زيد إلى الشام، فقتله لخم وجذام1.
ويذكر أهل الأخبار أن حرصه على الحنيفية وتمسكه الشديد بها، حمله على السفر إلى بلاد شاسعة بحثًا عنها وعن مبادئها الصحيحة، مبادئ إبراهيم الأصيلة الخالية من كل درن وشائبة. فذهب إلى الموصل والجزيرة، ثم طاف في بلاد الشام حتى انتهى إلى راهب بـ "ميفعة"2 "ببيعة"3 من أرض البلقاء أو "أيلة"، فسأله عما قدم من أجله، فأرشده إلى أن ما يبتغيه ويراه لا يجده في النصرانية، فغادره وتركه، وعاد يريد مكة موطنه. فلما توسط بلاد لخم أو جذام، عدوا عليه وقتلوه. وقالوا أيضًا أنه التقى في أثناء أسفاره هذه بأحبار اليهود وبعلماء من النصارى، ولكنه لم يجسد عندهم ما يطمئن نفسه، وما يرى فيه التوحيد الخالص، ومبادئ إبراهيم، لذلك لم يدخل في ديانة ما من تلك الديانتين، حتى قتل4.
وتذكر رواية من الروايات، أن "زيد بن عمرو بن نفيل" مات بالسم في بلاد الشام، سمة بعض ملوك غسان5. وتجعل رواية أخرى مقتله بمكان يقال له "ميفعة" من أرض البلقاء بالشام، وتذكر. أن قتلته هم من بني لخم6. وتذكر رواية أن "ورقة بن نوفل"، لما سمع بخبر وفاته بكاه في شعر له7.
وهناك روايات أخرى تفيد رجوع زيد إلى قومه بعد عودته من الشام، ووفاته وفاة طبيعية لا قتلًا بيد إنسان. "توفي وقريش تبني الكعبة قبل أن ينزل الوحي على رسول الله بخمس سنين"، ودفن بأصل حراء8.
__________
1 المحبر "175".
2 ابن هشام "1/ 249".
3 "ببيعة"، البداية "2/ 238".
4 ابن هشام "1/ 249 وما بعدها"، طبقات ابن سعد: الجزء الثالث: القسم الأول "ص 276 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 251 وما بعدها"، "فلما توسط أرض جذام عدوا عليه فقتلوه" المحبر "ص 172"، سير أعلام النبلاء، للذهبي "1/ 90 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 707 وما بعدها"، المسعودي، مروج "1/ 70"، إرشاد الساري "6/ 172 وما بعدها".
5 المسعودي، مروج "2/ 56".
6 البداية "2/ 241".
7 ابن هشام "1/ 249 وما بعدها".
8 طبقات ابن سعد: الجزء الثالث: القسم الأول "ص 277"، البداية "2/ 241".(12/47)
وفي رواية تظهر عليها سيماء الصنعة، أن الذي أرشد "زيد بن عمرو" إلى الحنيفية، حبر التقى به في بلاد الشام، وعالم نصراني، وذلك أنه كان قد سألهما عن دين صحيح قويم، فأرشداه إلى الحنيفية دين إبراهيم. فدخل فيها وصار يرفع يديه إلى الله ويقول: اللهم إني أشهدك إني على دين إبراهيم1. ونجد في هذه الرواية أسئلة وجهها "زيد" إلى الحبر في البحث عن الله وعن دينه الحق، وأجوبة الحبر عليها. كما نجد أسئلة أخرى ذكر أنه وجهها إلى العالم النصراني، ونجد أجوبة ذلك العالم عليها. وكيف أنهما دلاه على الحنيفية2.
وذكر "ابن حبيب" أن زيدًا "أول من عاب على قريش ما هم عليه من عبادة الأوثان"3. وقال عنه "ابن دريد"، وكان قد "ترك دين العرب في الجاهلية وقلاه"4. وقصد بـ "دين العرب" الوثنية ولا شك. وزعم أنه "كان يحيى الموؤودة. يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته مهلًا: لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها"5. وقيل أنه كان يقول: "اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب إليك سجدت إليه. ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحته"6. وأنه كان "يقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم. وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله تعالى! إنكارًا لذلك وإعظامًا له"7. أو "يا معشر قريش: أيرسل الله قطر السماء، وينبت بقل الأرض، ويخلق السائمة فترعى فيه، وتذبحونها لغيره! والله ما أعلم على ظهر الأرض أحدًا على دين إبراهيم غيري"8. ويستقبل القبلة ثم يقول:
__________
1 الطبري، تفسير "3/ 306"، صحيح البخاري "5/ 50"، "مطبعة الأزهر بمصر".
2 الأغاني "3/ 126 وما بعدها" "دار الكتاب المصرية"، البداية "2/ 238".
3 المحبر "ص 171".
4 الاشتقاق "ص 103".
5 طبقات ابن سعد، الجزء الثالث: القسم الأول "ص 276 وما بعدها".
6 المحبر "ص 171".
7 أسد الغابة "2/ 236"، طبقات الشعراء "66" "طبعة ليدن"، بلوغ الأرب "2/ 248"، البداية والنهاية "2/ 237"، إرشاد الساري "6/ 171 وما بعدها".
8 الأغاني "3/ 119 وما بعدها".(12/48)
أنفي لرب البيت عان راغم ... مهما يجشمني فإني جاشم
عذت بما عاذ به إبراهيم ... مستقبل القبلة وهو قائم1
وروي أن أسماء بنت أبي بكر "قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندًا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري. ثم يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به. ولكني لا أعلم. ثم يسجد على راحته"2. ثم يصلي إلى الكعبة ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم3.
وذكر "ابن دريد" أن "زيد بن عمرو بن نفيل"، أدرك أيام الرسول، ثم قال: "وكان النبي عليه الصلاة والسلام قبل الوحي قد حبب إليه الانفراد، فكان يخلو في شعاب مكة، قال: فرأيت زيد بن عمرو بن نفيل في بعض المشاعب، وكان قد تفرد أيضًا، فجلست إليه وقربت إليه طعامًا فيه لحم، فقال لي يابن أخي إني لا آكل من هذه الذبائح"4.
وذكر "ابن دريد"، أن زيد بن عمرو قال شعرًا في تجنبه الأصنام، هو:
فلا عزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور
أربًا واحدًا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور5
ويفهم من هذا الشعر أن "عزى"، إلهة، أي انثى، وأن لها ابنتين اثنتين. ولم يشر "ابن دريد" إلى اسميهما.
وقد صيغت الرواية المتقدمة التي تشير إلى التقاء الرسول بزيد في شكل آخر. صيغت بهذه الصورة: "أتى زيد بن عمرو بن نفيل على رسول الله صلى الله
__________
1 كتاب نسب قريش، للزبيري "ص 364".
2 البداية "2/ 237"، الذهبي، تاريخ الإسلام "1/ 54". البغدادي، خزانة "3/ 99".
3 المصدر نفسه.
4 الاشتقاق "84"، إرشاد الساري "6/ 171 وما بعدها".
5 الاشتقاق "84"، وورد:
أربًا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعًا ... كذلك يعقل الجلد الصبور
فلا عزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور(12/49)
عليه وسلم، ومعه زيد بن حارثة، وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعواه لطعامهما، فقال زيد بن عمرو: يابن أخي: أنا لا آكل مما ذبح على النصب"1.
وورد خبر التقاء "زيد" مع رسول الله في رواية أخرى. يرجع رواتها سندها إلى "زيد بن حارثة". يذكرون أنه قال: خرجت مع رسول الله في يوم حار من أيام مكة، وهو مردفي، فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل، فحيا كل منا صاحبه. فقال النبي: "يا زيد مالي أرى قومك قد شنقوك؟ " فأجابه زيد، بأنه لا يهتم بذلك، وأنه خرج يبتغي دين الله، حتى قدم على أحبار خيبر، فوجدهم يعبدون الله ويشركون به. ثم سأل أحد الأحبار، وهو شيخ منهم عن الدين الذي يبتغيه، فقال له: ما نعلم أحد يعبد الله به إلا شيخًا بالحيرة، فخرج إليه. فلما كلمه قال له: إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك قد بعث نبي، قد طلع نجمه. فعاد إلى مكة2. ولو صح هذا الخبر لوجب أن يكون زيد قد أدرك مبعث الرسول. ولكن أهل الأخبار مجمعون على أنه توفي قبل المبعث. وأن الرسول نفسه قال عنه: "يبعث يوم القيامة أمة واحدة". وعلى الخبر سيماء الصنعة والتزويق.
ومروي عنه أن قومه كانوا إذا دعوه إلى وليمة، كان يأبى أن يأكل منها قائلًا: "إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه"3. وهكذا كان يقاطع أكل لحوم الحيوانات التي تذبح للأصنام. ويشاركه في الامتناع عن أكل لحوم هذه الذبائح الأحناف الآخرون، فقد روي أن ورقة بن نوفل كان لا يأكل من لحوم هذه الذبائح أيضًا للسبب المذكور4.
ويذكر أهل الأخبار أن "زيد بن عمرو بن نفيل" كان إذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال: لبيك حقًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا، البر أرجو لا الحال، وهل مهجر لمن قال. ثم يقول:
عذت بما عاذ به إبراهيم ... مستقبل الكعبة وهو قائم5
__________
1 البداية "2/ 238، 240".
2 أسد الغابة "2/ 231".
3 البخاري "5/ 50".
4 الأغاني "3/ 119".
5 الأغاني "3/ 117".(12/50)
أو "لبيك حقًّا، تعبدًا ورقًّا، عذت بما عاد به إبراهيم"1.
وذكر أنه كان يأمر بالتوحيد وبعبادة إله واحد. ومن ذلك قوله:
لا تعبدن إلها غير خالقكم ... وإن دعيتم فقولوا دونه حدد2
وزعم إنه كان يراقب الشمس، فإذا زالت استقبل الكعبة، فصلى وسجد سجدتين، ثم يقول: هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل لا أعبد حجرًا ولا أصلي له ولا آكل ما ذبح له، ولا أستقسم بالأزلام، إنما أصلي لهذا البيت حتى أموت. وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي، فيقول: لبيك لا شرك لك، ولا ند لك، ثم يدفع من عرفة ماشيًّا، وهو يقول: لبيك متعبدًا مرقوقًا3.
ويروي أهل الأخبار أقوالا أخرى لزيد، كما رووا له أشعارًا زعموا أنه قالها، وهي في هذه الأمور التي ينسبونها إلى الأحناف من ذكر لديانة إبراهيم وللتوحيد ومن ذم إلى الأصنام ومن إصلاح لحال مجتمع ذلك اليوم4. كما رووا له أبياتا من شعر زعموا أنه نظمه يعاتب فيه زوجته "صفية بنت الحضرمي"، لأنها كانت تمانع في خروجه عن مكة وفي سفره إلى الخارج التماسا لهذا الدين5.
وتفيد رواية من روايات أهل الأخبار بأن "زيد بن عمرو بن نفيل"، كان في جملة من اشترك في "حرب الفجار"، تقول إنه كان على رأس "بني عدي" وذلك في يوم شمطه6.
وروي أن رسول الله سئل عن "زيد بن عمرو"، فقال: "يبعث أمة وحده يوم القيامة" 7، بل روي أنه ترحم عليه، وأنه قال: "رأيته في الجنة يسحب ذيولا" 8.
__________
1 الأغاني "2/ 238".
2 تاج العروس "2/ 331"، "حدد".
3 البداية "2/ 239".
4 الأغاني "3/ 117".
5 ابن هشام، سيرة "1/ 247".
6 البلاذري، أنساب "1/ 102".
7 البخاري "5/ 50"، المعارف "27"، البغدادي، خزانة "3/ 100".
8 ابن سعد، طبقات "3/ 273.(12/51)
وينسب أهل الأخبار لزيد شعرا، هو من هذا الشعر الذي ينسبوه إلى الأحناف، ذي الطابع الديني، من بحث عن توحيد، وحث على عبادة إله واحد، وإقرار بحساب وكتاب. وأمثال ذلك1. وقد نسب بعض منه إلى "أمية بن أبي الصلت"، ونسب بعض منه إلى شعراء آخرين. كما أن الرواة يروون هذا الشعر بقراءات مختلفة.
ومن ولد زيد رجل كان له سبق وقدم في الإسلام، هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. كان من السابقين الأولين ومن المهاجرين، شهد المشاهد والأحداث المهمة، إلا بدرًا، فإنه لم يكن حاضرًا بالمدينة إذا ذاك. وهو أحد العشرة المبشرة. ذكر أنه أسلم قبل دخول رسول الله دار الأرقم، ولا بد أن يكون لرأي والده في دين قومه وما أبداه من ثورة صريحة جامحة على عقائدهم أثر في نشوء هذا الابن وفي إقدامه مع السابقين على الدخول في الإسلام، بعد أن كان والده قد سبق إسلامه برحيله إلى الآخرة بسنين. وأمه "فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خويلد بن خالد بن اليعمر" من خزاعة، ولسعيد أخت اسمها عاتكة بنت زيد2.
وذكر "ابن هشام" أن زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، اتفقوا في الرأي والعقيدة، وتعاهدوا على نبذ عبادة قومهم، وما كانوا عليه من ضلال، وتصادقوا، وكونوا عصبة خرجت على عبادة قريش، فلم يشتركوا معهم في أعيادهم، ولم يشاركوا في عبادتهم، وظلوا حتى ماتوا عن عبادة قومهم صابئين3.
أما عبيد الله بن جحش بن رئاب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، فقد بقي مرتابا في دين قومه، بعيدا عنهم وعن عبادتهم، حتى إذا ظهر الإسلام دخل فيه، ثم هاجر مع من هاجر إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مسلمة كذلك. فلما صار في الحبشة، فارق الإسلام
__________
1 البداية "2/ 241 وما بعدها".
2 كتاب نسب قريش "365"، الاستيعاب "4/ 365"، الإصابة "2/ 44"، "رقم 3261".
3 ابن هشام "1/ 242" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، المحبر "171، 175،237"، الروض الأنف "1/ 145".(12/52)
وتنصر، وهلك هناك1.
وأما عثمان بن الحويرث، فقد بقي مغاضبًا قومه في دينهم، ثم رأى الذهاب إلى الروم، فذهب إليهم، وتقرب إلى قيصر، وحسنت منزلته عنده، وتنصر ومنحه لقب "بطريق"، وأراد تنصيبه ملكًا على مكة، ولكن قومه أبوا عليه ذلك، فلم يتم له مراده، ومات بالشام مسمومًا، سمه عمرو بن جفنة الغساني2.
وذكر "الزبيري"، أن والدة "عثمان بن الحويرث"، هي "تماضر بنت عمير بن أهيب بن حذاقة بن جمح"3. وأنه خرج إلى "قيصر فسأله أن يملكه على قريش، وقال: أحملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل، وكتب له عإدًا وختمه بالذهب، فهابت قريش قيصر، وهموا أن يدينوا له، ثم قام الأسود بن المطلب أبو زمعة، فصاح، والناس في الطواف: إن قريشًا لقاح، لا تملك ولا تملك، فاتسعت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان مما جاء له، فمات عند ابن جفنة، فاتهمت بنو أسد بن جفنة بقتله"4. وكان ابن جفنة حبس أبا ذئب عنده، وأبا أحيحة بسبب عثمان بن الحويرث5. ويقصدون بابن جفنة: عمرو بن جفنة الغساني6.
وتذكر إحدى الروايات، إن وفاة "عثمان بن الحويرث" كانت بالشام، وقد مات عند قيصر، وكانت وفاته قبل المبعث بثلاثين سنة، أو نحوها. وقد رثاه "زيد بن عمرو بن نفيل"7، وورقة بن نوفل8.
ويعد "عثمان بن الحويرث" من أشراف "بني أسد" من قريش9. وقد كان مع "خويلد بن أسد" على رأس "بني أسد" في "حرب الفجار"10.
__________
1 ابن هشام "1/ 243"، المحبر 76، 88، 172، 173"، البداية "2/ 243".
L KrehI Das Leben Muhammad
2 ابن هشام "1/ 243"، الاشتقاق "ص59"، المحبر "165، 170، 171، 175، 307" الروض الأنف "1/ 146".
3، 4 كتاب نسب قريش "209 وما بعدها"، وذكر صاحب "المحبر" أن أمه من الحبشيات "307".
5 الحبشيات "307",
6 جمهرة ابن حزم "190".
7 البداية "2/ 243".ط
8 كتاب نسب قريش "210".
9 المحبر "165".
10 المحبر "170".(12/53)
وكان ينادمه "شيبة بن ربيعة بن عبد شمس". وقد تنصرا جميعًا، وقتل شيبة يوم بدر كافرًا1.
وأما "أمية بن أبي الصلت"، فهو أحسن الحنفاء حظًّا في بقاء الذكر، بقي كثير من شعره، وربما وضع كثير منه على لسانه، وحفظ قسط لا بأس به من أخباره. وسبب ذلك بقاؤه إلى ما بعد البعث، واتصاله بتاريخ النبوة والإسلام اتصالا مباشرًا وملاءمة شعره بوجه عام لروح الإسلام، لم يكن مسلمًا ولم يرض أن يدخل في الإسلام، لأنه كان يأمل أن تكون النبوة فيه، وأن ينزل الوحي عليه، فيكون نبي العرب والعالم أجمعين، فلما رأى النبوة في الرسول، حسده، وأثار المشركين عليه، ورثى قتلاهم في معركة بدر، وحرض قريشًا عليه، حتى مات على حسده وعناده سنة تسع للهجرة بالطائف قبل أن يسلم قومه الثقفيون. ولم يمت مسلمًا، ولم يمت على دين الوثنيين من قومه: بل مات كافرًا بالديانتين2.
وقد جاء في بعض الروايات، إن وفاة "أمية"، كانت في السنة الثانية من الهجرة3. وورد في روايات أخرى أنه توفي سنة تسع للهجرة، كافرًا قبل أن يسلم الثقفيون4.
ورثاؤه قتلى معركة بدر، محفوظ في قصيدة حائية. مطلعها:
ألا بكيت على الكرا ... م بني الكرام أولى الممادح
كبكا الحمام على فرو ... ع الأيك في الغصن الصوادح
__________
1 المحبر "175".
2 الأغاني "4/ 120 وما بعدها"، "طبعة دار الكتب المصرية"، ابن هشام "1/ 11، 48،61، 63، 68"، "2/ 16،321، 401،406"، "3/ 65" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، شرح السيرة النبوية، لأبي ذر بن محمد بن مسعود الخشني "1/ 23،24"،"تحقيق بولس بروفله" نسب قريش "98"، جمهرة الأنساب "257"، ابن قتيبة، الشعراء "429"، شعراء النصرانية "2/ 219 وما بعدها"، الأغاني "16/ 69"،الحيوان للجاحظ "2/ 320"، خزانة الأدب "1/ 119"، الشعر والشعراء "176"، النووي، تهذيب الأسماء "1/ 126"، Ency IV p 997"
3 تاريخ الخميس "1/ 412"، الأغاني "4/ 124، 129"، الشعر والشعراء "1/ 369".
4 الإصابة "1/ 134"، "رقم 552".(12/54)
وهي قصيدة يتوجع فيا أمية لسقوط قتلى المشركين، ودفنهم بالقليب، وفيهم "عتبة" و"شيبة" ابنا "ربيعة بن عبد شمس"، وهما ابنا خالة أمية، وقد ذكر بعض الرواة أن الذي حمله على قول هذا الشعر، هو أنه لما وصل إلى القليب موضع مدفن قتلى قريش بدر، وكان ذاهبا إلى المدينة يريد الدخول في الإسلام، قال له بعض من كان معه من غلاط الأكباد من المشركين: هل تدري ما في هذا القليب؟ قال: لا. قيل: فيه شيبة وربيعة وفلان وفلان. فجدع أنف ناقته، وشق ثوبه، وبكى، وعاد إلى الطائف1.
وذكر أن أمية نال في بيتين من هذه القصيدة من أصحاب رسول الله، ولذلك أهملهما "ابن هشام" صاحب السيرة2. وذكر أيضًا أن النبي نهى عن روايتهما3. ولكن الرواة رووها وحفظوها ودونوها في الكتب، فكيف تجرؤوا على حفظها وتدوينها لو صح أن النبي نهى عن روايتها على نحو ما يزعمه أهل الأخبار.
وأمية مثل سائر المتألهين الآخرين من طبقة الحنفاء، سافر إلى الشام، واتصل بأهلها، وأوى إلى الأديرة ورجال الدين يسأل منهم عما يهمه من مشكلات دينية وعما كان يجول في خاطره من عبادة قومه وحقيقة العالم، وكان تاجرًا، يذهب مع التجار في قوافلهم إلى تلك الديار التي كانت في أيدي الروم. ثم إنه كان على ما يظهر من الروايات التي وردت في ترجمته وسيرته قارئًا كاتبًا، قرأ الكتب، ووقف عليها، ومنها ومن اتصاله برجال الدين وبأهل الكتاب تكونت عنده فكرته عن الدين، وشكه في عبادة قومه وفيما كانوا عليه من عقائد وعبادات. وقد بدا هذا التأثر في الكلمات والمصطلحات الأعجمية والغربية المستعملة في شعره وفي الأمثلة والقصص المنتزع من الكتابين: للعهد القديم والعهد الجديد ومن موارد
وأمية مثل سائر المتألهين الآخرين من طبقة الحنفاء، سافر إلى الشام، واتصل بأهلها، وأوى إلى الأديرة ورجال الدين يسأل منهم عما يهمه من مشكلات دينية وعما كان يجول في خاطره من عبادة قومه وحقيقة العالم، وكان تاجرا، يذهب مع التجار في قوافلهم إلى تلك الديار التي كانت في أيدي الروم. ثم إنه كان على ما يظهر من الروايات التي وردت في ترجمته وسيرته قارئا كاتبا، قرأ الكتب، ووقف عليها، ومنها ومن اتصاله برجال الدين وبأهل الكتاب تكونت عنده فكرته عن الدين، وشكه في عبادة قومه وفيما كانوا عليه من عقائد وعبادات. وقد بدا هذا التأثر في الكلمات والمصطلحات الأعجمية والغربية المستعملة في شعره وفي الأمثلة والقصص المنتزع من الكتابين: للعهد القديم والعهد الجديد ومن موارد
__________
1 ابن هشام "2/ 401 وما بعدها"، راجع القصيدة في "ص20"، من ديوان أمية، بيروت 1934، بلوغ الأرب "2/ 256"، خزانة الأدب "1/ 119"، الحيوان، للجاحظ "2/ 329"، الشعر والشعراء "176"،البيان والتبيين "1/ 291" المسعودي، مروج "1/ 73" محمد محيي الدين عبد الحميد" "1958م"، الأغاني "119 وما بعدها"، خزانة الأدب "2/ 39 وما بعدها"، الأغاني "4/ 122"، الإصابة "1/ 134"، "رقم 552".
2 ابن هشام "2/ 405".
3 الأغاني "4/ 123" "ذكر أمية بن أبي الصلت ونسبه وخبره"، بروكلمان، تاريخ الأدب العربي "1/ 113".(12/55)
أخرى عديدة من الموارد الشائعة المستعملة عند أهل الكتاب1.
وقد ورد في بعض الأخبار أن أمية سافر مرة مع أبي سفيان والد معاوية في تجارة إلى بلاد الشام، فكان كلما نزل منزلا أخذ فيه سفرا له يقرأه على من معه، كما كان يزور علماء النصارى ويتباحث معهم، وكان يلبس ثوبين أسودين حينما يقابلهم2. ولم تذكر الرواية شيئًا عن السفر أو الأسفار التي كان يقرأ منها أمية ويشرحها لمن معه من التجار. وتذكر رواية أخرى أنه كان قد بلغ مع "أبي سفيان" غزة أو "إيلياء"3.
ولأمية في هذا اليوم ديوان ضم أكثر ما نسب إليه من شعر. كما أن في بطون كتب الأدب والأخبار أشعار أخرى لم يرد لها ذكر في هذا الديوان. ومعظم شعره هو عن الدين والآخرة وعن الجنة والنار، والحساب والكتاب، وقد تضمن إشارات إلى حوادث وقعت في أيامه، أو في أيام قريبة من أيامه مثل قصة الفيل، كما تضمن بعض قصص الأنبياء، ولتعرض شعره إلى هذه النواحي نعت بشاعر الآخرة4.
ومما ذكره الإخباريون ورواة شعر أمية من أمثلة على استعماله للكلم الغريب، أنه استعمل "الساهور" للقمر، وهي كلمة لا تعرفها العرب، وإنه ذكر "السطيط"، أسماء لله تعالى. وأنه أطلق كلمة "التغرور" على الله تعالى في موضع آخر من شعره، وأنه سمى السماء "صاقورة" و"حاقورة" وأنه استعمل أشياء أخرى من هذا القبيل. ولولعه هذا باستعمال الغريب، رفض علماء اللغة الاحتجاج بشعره5.
__________
1 الأغاني "4/ 121 وما بعدها" "طبعة دار الكتب المصرية"، "وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب، يأخذها من الكتب المتقدمة، أو بأحاديث أهل الكتاب" الشعر والشعراء "1/ 369".
2 البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 220"، الأغاني "4/ 123 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية".
3 البداية والنهاية "2/ 224".
4 تاريخ الأدب العربي، لبروكلمن "1/ 113" "الترجمة العربية"، عيون الأخبار، لابن قتيبة "6/ 374"، الحيوان "7/ 321" "عبد السلام محمد هارون"، البيان والتبيين "1/ 291".
5 الأغاني "4/ 121 وما بعدها"، شعراء النصرانية "2/ 219"، ديوان أمية فحول الشعراء "جمع بشير يموت" "بيروت 1934م""ص5 وما بعدها".
سيرة ابن هشام "1/ 48".(12/56)
والساهور، كلمة آرامية الأصل من أصل "سهرو" SahroK بمعنى القمر، أي تمامًا بالمعنى الوارد في شعر أمية1.
وهذا الشعر المنسوب إلى أمية وغريبه خاصة مادة مهمة جدًّا تجب دراستها بعناية، لمعرفة مبلغ صحة ما جاء في أخبار الرواة عن هذه الكلمات وعن أصولها ومواردها الأولى، إن صح إنها من أشعار تلك الأيام حقًّا، إذ ترشدنا أمثال هذه الدراسات إلى معرفة المنابع التي استقى منها هذا الشاعر علمه وإلهامه ومدى تأثره وتأثره أمثاله من الجاهليين بالآراء والتيارات الفكرية التي كانت في مكة وفي خارج جزيرة العرب قبيل الإسلام.
وقد روى الإخباريون قصصًا عن التقاء أمية بالرهبان، وعن توسمهم معالم النبوة فيه، فكانوا يسألونه أسئلة تستخرج من أجوبتها في نظرهم معالم النبوة. فلما كانوا يقفون على الأجوبة، يقولون له: كادت النبوة تكون فيه، لولا بعض النقص في علاماتها عنده، كما رووا قصصًا عن شق طيرين لقلب هذا الشاعر، لتنظيفه، وتهيئة النبوة فيه. ولكنهما عندما وقفا عليه لم يجدا أن النبوة خلقت له2. وقد حاكى أهل الأخبار قي قصصهم هذا ما رواه رجال السير عن علامات النبوة عند الرسول3. كذلك رووا أنه كان يتفرس في لغات الحيوانات، فيعرف ما تقوله وما تريده ويقصه على الناس وإنه كان يسخر الجن، وكانت تطيعه، وأنه تنبأ بموته حينما نعب عليه الغراب4. فجعلوه بأخبارهم هذه في مرتبة تضاهي سليمان في علمه بمنطق الطير وبقية الحيوانات5. وذكر "ابن دريد": "كان بعض العلماء يقول له لولا النبي صلى الله عليه وسلم، لادعت ثقيف أن أمية نبي، لأنه قد درس النصارى وقرأ معهم، ودارس اليهود وكل الكتب قرأ"6.
وتشبه قصة تنظيف الطيرين لقلب أمية، وهي القصة التي أشرت إليها قبل
__________
1 غرائب اللغة العربية "ص189".
2 الأغاني "4/ 123 وما بعدها"، شعراء النصرانية، الجزء الثاني "ص219". ابن سلام، طبقات فحول الشعراء "220 وما بعدها" "دار المعارف
Sprenger, Leben, I, s. 119, M. cl. Huart, Le Livre de La Creation Et de L'histoir, I, pp. 55, 153, 155, 156, 190, 191, 195.
4 البداية والنهاية "2/ 227 وما بعدها".
5 النمل، الآية 15 وما بعدها.
6 الاشتقاق "ص184".(12/57)
قليل، خبر "حليمة السعدية" مرضعة الرسول لصدر النبي. ورواة قصة شق صدر أمية وتنظيف قلبه هي من أهل الطائف، ويرجعون سند قصتهم إلى أخت أمية المسماة "الفارعة"، "وكانت ذات لب وعقل وجمال، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم بها معجبا"1، وقد وفدت عليه، فلما سألها عن شعر أخيها كما يقول الرواة، قصت عليه قصة الطيرين، كما قصت عليه قصة وفاته" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها"2.
ويشير القصص الوارد عن التقاء "أمية" بالأحبار وبالرهبان وباتصاله بهم، إلى أن أمية كان يرجو أن يكون نبيا، وأنه كان يعتقد بقرب ظهور نبي وتأمله أن يكون هو ذلك النبي المرتجي:
ألا نبي منا فيخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس مجرانا3
وقد كسف وتألم كثيرًا وأكل الحسد قلبه، حين فلت الأمر منه، إذ سمع بإعلان الرسول رسالته، ودعوة الناس إلى دين الله، الذي كان أمية نفسه يدعو إليه. وقد ورد أنه لما سمع بنبوة الرسول قال: "إنما كنت أرجو أن أكونه"4.
ويروي أهل الأخبار أن أمية كان قد مات وهو معتقد بأن الحنيفية حقٌّ إذ رووا أنه قال في مرض موته، "قد دنا أجلي، وهذه المرضة فيها منيتي وأنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد. وقال: لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر".
وفي جملة ما رووه عنه، أنه عرف مجيء يومه من نعيب غراب، نعب على مقربة منه. فحدث القوم بما سمعه من الغراب، وكان يعرف منطقه، وقال لهم
__________
1 البداية والنهاية "2/ 224 وما بعدها".
2 البداية والنهاية "2/ 224 وما بعدها"، تهذيب ابن عساكر "3/ 127"، مروج "1/ 57 وما بعدها"، الطبرسي، مجمع "7/ 63 وما بعدها"، الطبري، تفسير "9/ 121" "طبعة البابي"، تفسير ابن كثير "2/ 264"، شرح الشهاب على البيضاوي "4/ 236".
3 البداية والنهاية "2/ 227" تهذيب ابن عساكر "3/ 127"، تاريخ الخميس، "1/ 412.
4 الأغاني "4/ 123 وما بعدها".(12/58)
أنه سيموت وذكر علامة ذلك، فكان أن مات على نحو ما قال للقوم1. وذكر أيضًا أنه لما كان على فراش الموت محتضرًا أفاق عدة مرات، وكان يتلو في كل مرة: "لبيكما لبيكما"، ها أنذا لديكما"، ثم يتلو هذا الكلام بكلام آخر فيه توسل وتضرع إلى الإله، إلى أن أفاق للمرة الأخيرة، فقال شعرًا بين فيه أن الموت أمر لا بد منه، وأنه هالك في هذه المرة لا محالة، ثم هلك، دون أن يؤمن بالرسول2.
وهذا القصص الوارد عن أمية، وهو -بالطبع- من القصص المصنوع الموضوع، مثل كثير من أخباره وأخبار غيره، قص على ذوي القلوب الطيبة من الرواة والإخباريين، فأخذوه ونقلوه كما نقلوا ما شاء الله من الإسرائيليات والأساطير، وروي على أنه مما كان يعلمه الأحبار والرهبان والخاصة من أهل الكتاب.
ولا أستبعد أن يكون هذا القصص قد ظهر في أيام الحجاج عصبية وتقربًا إليه، فقد كان الحجاج من ثقيف، وكان أمية من ثقيف كذلك. وقد أنتج الوضاعون في أيامه شيئًا كثيرًا من الأخبار في قبيلة ثقيف، كما أنتجوا شيئًا في ذمها وفي ذم رجالها نكاية به.
وقد يكون في قول "الحجاج" حين سئل عن شعر أمية، شيء من التوجع والتألم أو المبالغة في تقديره حين قال: "ذهب قوم يعرفون شعر أمية، وكذلك اندراس الكلام". وقد يكون كلام الحجاج غير ذلك، لو كان أمية من قبيلة أخرى.
ونحن نستطيع إدخال قول من قال عن "أمية" "قيل أنه كان نبيا"3 في جملة هذه الدعاوي التي وضعت في هذا العهد، للرفع من شأن "ثقيف" ومن الرد على المتهجمين عليها الطاعنين حتى في نسبها الذين جعلوا "ثقيفًا" من بقية "ثمود"، وأيدوا قولهم هذا بحديث زعموا أن الرسول قاله: "ثقيف من
__________
1 البداية والنهاية "2/ 227".
2 الأغاني "4/ 125 وما بعدها"، ابن سلام، طبقات فحول "ص220 وما بعدها".
الإصابة "1/ 134"،"رقم 552".
3 تهذيب ابن عساكر "3/ 115".(12/59)
ثمود"1، وجعلوه من عبد لأبي رغال، وأبو رغال نفسه الذي نسب عبده إليه، أي جد ثقيف، هو في نظر العرب وقريش خاصة سبة2.
ويذكرون عنه أنه بعد أن صبأ عن قومه وتحنف، لبس المسوح على زي المترهبين الزاهدين في هذه الدنيا، ورافق الكتب ونظر فيها، ليستلهم منها العلم والحكمة والرأي الصحيح، ثم حرم الخمر على نفسه مثل بقية المتألهين، وتجنب الأصنام، وصام، والتمس الدين، وذكر إبراهيم وإسماعيل، وأنه كان أول من أشاع بين قريش افتتاح الكتب والمعاهدات والمراسلات بجملة: "باسمك اللهم، وهي الجملة التي نسخت في الإسلام بجملة: "بسم الله الرحمن الرحيم"3.
ويذكر أهل الأخبار أن أمية أخذ جملة: "باسمك اللهم" من شيخ كان منطويًا على نفسه في برية نائية، وذلك حينما ألح عليه قوم كانوا معه من قريش في عير لهم، كانت قد نفرت، بأن يجد طريقة لطرد حية كانت تظهر بين إبلهم فتنفرها، فذهب إلى ذلك الشيخ واستشاره في طريقة تبعد عنهم أذى تلك الحية، فأشار عليه باستعمال تلك الجملة، فهربت الحية ونفرت منهم، وقد كان سبب ظهور تلك الحية كما يذكر أهل الأخبار، هو أن رجلا من القوم هو: "حرب بن أمية بن عبد شمس" كان قد قتل حية فقررت زميلتها الانتقام من قتلتها، فقتلته الجن انتقامًا منه بثأر تلك الحية. وهربت الجن عند سماعها تلك الجملة. وإليه أشير كما يقول أهل الحجاز الأخبار بقولهم:
وقبر حرب بمكان فقر ... وليس قرب قبر حرب قبر
فحرب هذا المذكور في هذا البيت، هو حرب بن أمية، وأما الشيخ فكان رجلا من الجن4.
__________
1 الأغاني "4/ 307" "دار الكتب".
2 الأغاني "4/ 302" "دار الكتب".
3 المسعودي، مروج "1/ 571 وما بعدها"، ديوان، أمية "المقدمة" لبشير يموت "بيروت 1934"، ابن خلدون "1/ 177 وما بعدها"، "بيروت 1961م"، التنبية والإشراف "359"، "مكتبة الخياط".
4 الحيوان للدميري "2/ 195"، الأغاني "4/ 122 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية".(12/60)
ويذكر أنه لم يكن يرتضي من الأديان غير دين الحنيفية دينا. وأنه قال ذلك في شعر له:
كل دين يوم القيامة عند الله ... إلا دين الحنيفية زور1
وأنه كان يعظم الله في شعره ويكبره ويحمده، ويرى أنه إله واحد لا شريك له، وأن من يشرك به أحدا فقط ظلم نفسه:
الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنقسه ظلما2
وهناك من يروي أن "النابغة الجعدي"، كان يدعي أن هذا البيت وما بعده هو من نظمه. قال ذلك أمام "الحسن بن علي بي أبي طالب"3.
1ويروى أن النبي كان يسمع شعر أمية، وأن "الشريد بن سويد" "الشريد بن عمرو" الثقفي، كان ينشد له شيئًا منه، في أثناء أحد أسفاره، فكان كلما أنشد له شيئًا منه، طلب منه المزيد، حتى إذا ما أنشده مئة بيت، قال النبي له: كاد ليسلم، أو كان ليسلم في شعره. وذكر أن الرسول قال في حديث له عنه: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه4. وأنه لما سمع شعره في الدين والحنيفية ومطلعه:
الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبحنا ربي ومسانا
قال: "إن كاد أمية ليسلم"5.
__________
1 الأغاني "3/ 112"، البغدادي، خزانة الأدب "2/ 39"، شيخو، شعراء النصرانية، الجزء الثاني "912"، ابن هشام، السيرة "1/ 40" "2/ 982"، الأغاني "4/ 123" "دار الكتب"، الإصابة "1/ 130" "طبعة السعادة".
2 المسعودي، مروج "1/ 70".
3 طبقات ابن سلام "106 وما بعدها"، الأغاني "5/ 10".
4 صحيح مسلم "كتاب الشعر"، "7/ 48" "طبعة محمد علي صبيح" طبقات ابن سعد: "5/ 376"، "الشريد بن سويد" "الرشيد بن سويد"، بلوغ الأرب "2/ 253 وما بعدا"، المعارف، لابن قتيبة "28"، المزهو "2/ 309"، خزانة الأدب "1/ 227"، ابن سعد "5/ 376"، الشعر والشعراء "1/ 369" الإصابة "1/ 134"، "رقم 552".
5 الأغاني "4/ 132 وما بعدها" "دار الثقافة"، شرح الشهاب على البيضاوي "4/ 236"، تفسير ابن كثير "2/ 264"، ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري "1/ 26".(12/61)
وروي عن "ابن عباس"، إن الرسول لما سمع شعر "أمية":
زحل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصدا1
قال: صدق أمية.
وفي رواية أنه: "كان قرأ الكتب القديمة، وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فاتفق أن خرج إلى البحرين، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام هناك ثماني سنين. ثم قدم، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جماعة من أصحابه، فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه سورة يس، حتى إذا فرغ منها، وثب أمية يجر رجليه، فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية؟ فقال: أشهد أنه على الحق. قالوا: فهل نتبعه؟ قال: حتى أنظر في أمره. فخرج إلى الشام، وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم، فلما أخبر بها، ترك الإسلام. وقال: لو كان نبيًّا ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات"2.
وفي هذه الرواية المنسوبة إلى الزهري، عن سماع أمية بن أبي الصلت بنبوة النبي وهو في البحرين، ثم مجيئه إلى مكة والتقائه بالرسول ومحاجته له في ظل الكعبة، ثم انكسافه وتراجعه وذهابه إلى الشام، ثم عودته منها3، تكلف ظاهر، وفي تفاصيلها ما يناقض بعضه بعضًا.
وورد في رواية أخرى، أن أمية بن أبي الصلت قدم المدينة فقال للنبي: ما هذا الذي جئت به؟ فقال الرسول: الحنيفية دين إبراهيم. قال: فأنا عليها. فقال عليه الصلاة والسلام لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال: أمات الله تعالى الكاذب منا طريدًا وحيدًا، ثم خرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا للسلاح، ثم أتى قيصر، وطلب منه جندًا، ليخرج النبي
__________
1 الإصابة "1/ 129"، الإصابة "1/ 134"، "رقم 552". "القاهرة 1939م".
2 اروح المعاني "9/ 112 وما بعدها"، تاريخ الخميس، للديار بكري "1/ 412"، مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي "7/ 63 وما بعدها"، "بيروت 1957م".
3 راجع البداية والنهاية "2/ 220".(12/62)
من المدينة، فمات بالشام طريدا وحيدا، وهي قصة ينسب وقوعها إلى "أبي عامر" الراهب، كما سبق أن تحدثت عن ذلك1.
وتخالف هذه الرواية الروايات المألوفة الواردة إلينا عن وفاة "أمية" بالطائف. وتزعم إحدى الروايات، أن أمية كان قد أخذ ابتيه وهرب بهما إلى أقصى اليمن، وذلك حين بعث النبي. ثم عاد إلى الطائف، فبينما هو يشرب مع إخوان له في قصر بالطائف، إذ سقط غراب على شرفة في القصر فنعق، وأدرك أمية أنه ميت، لأنه عرف منطق الغراب، وحدث القوم بذلك في قصة مفصلة تجدها في الكتب ثم مات2. وقصة الشرب هذه تناقض ما يذكر عنه أهل الأخبار من إنه كان لا يقترب من الخمر، ومن إنه كان قد حرمها على نفسه، شأنه في ذلك شان بقية الأحناف. كذلك يناقض خبر تحريمة الخمر على نفسه، خبر آخر، خلاصته إنه كان يشرب يوما مع عبد الله بن جدعان، فأخذ الشراب برأس "ابن جدعان"، وأصاب عين أمية، فلما كان اليوم الثاني وجلس أيضًا للشرب معه، سأل "عبد الله" أمية عن سبب الألم البادي على عينه، فلما أخبره بأنه كان هو سببه، ترك "ابن جدعان" الخمر استحياء مما فعله وقال شعرا في سبب تركه الخمر. ويقول أهل الأخبار: "ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية، إلا ترك الخمر استحياء مما في من الدنس"3.
وتؤيد قصة ذهاب "أمية" إلى اليمن وسكنه أمدا هناك قصة ينتهي سندها بـ "أبي سفيان"، خلاصتها إنه كان قد ذهب في ركب من قريش إلى اليمن في تجارة، فمر بأمية، وقال له كالمستهزئ به: يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته؟ فأجابه أمية: إما إنه حق فأتبعه، وقال له قولا يتنبأ فيه بمصير أبي سفيان وكيف سيؤتى به إلى الرسول، فيحكم فيه كما يريد4. ففي هذه القصة توكيد بخروج أمية إلى اليمن حين بعث الرسول وبمكوثه زمانا هناك.
وذكر أنه الشخص الذي نزلت في حقه الآية: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ
__________
1 روح المعاني "9/ 111"، تفسير الطبرسي "3/ 500"، "طبعة طهران".
2 الأغاني "4/ 130 وما بعدها"، الإصابة "1/ 129".
3 الأغاني "8/ 332".
4 البداية والنهاية "2/ 224".(12/63)
آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} 1، وهي آية قيل أيضًا إنها نزلت في "بلعام بن باعور" "بلعم بن أبر"، "بلعام بن باعرا"، أو في زوج البسوس،، أو في "النعمان بن صيفي الراهب"2.
وأمية كأكثر الشعراء له شعر في المدح وله تعريض. وأكثر مدحه في "ابن جدعان" من أجود العرب المعروفين المشهورين في الجاهلية3. وهو في المدح أو في الرثاء أو في كل مناسبة أخرى، مستعمل لكلمات ذات صلة بالدين وبالأفكار الدينية ولمصطلحات لا ترد إلا نادرًا في الأشعار المنسوبة إلى الشعراء الجاهليين، مما يدل على غلبة التفكير الديني عليه، وتأثير ما قرأه أو أخذه من غير العرب فيه. سئل الأصمعي عن شعر أمية، فقال: "ذهب أمية في شعره بعامة ذكر الآخرة وذهب عنترة بعامة ذكر الحرب، وذهب عمر بن أبي ربيعة بعامة ذكر الشباب"4.
ووالد "أمية"، هو "عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف الثقفي" أو "ربيعة بن وهب بن علاج بن أبي سلمة" الثقفي على رواية "الزبيري"5. أما أمه فهي "رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف". وقد كان والده شاعرًا. ذكر أنه مدح "سيف بن ذي يزن"6.
ومن الرواة من ينسب القصيدة التي تنسب إلى والد أمية، والتي هي في مدح "سيف بن ذي يزن"، إلى أمية نفسه. وفي القصيدة إشارة إلى ذهاب "سيف بن ذي يزن"، إلى هرقل، فلما لم يجد منه أية مساعدة أو اهتمام، عافه، وذهب إلى كسرى، حيث وجد منه مساعدة، فجاءت إليه بعد سنين
__________
1 الأعراف، الآية 175، الأغاني "4/ 125 وما بعدها" "بيروت"، تفسير الطبري "9/ 82 وما بعدها".
2 روح المعاني "9/ 111"، تفسير الطبرسي "3/ 499 وما بعدها".
3 المحبر "ص138"، ديوان أمية بن أبي الصلت: تحقيق "فريدرش شولتس" FrIedrich SchuIthere المطبوع بمدينة "لايبزك" سنة 1911، وكذلك ديوانه المطبوع ببيروت سنة 1934م. جمع بشير يموت التبريزي، شرح ديوان الحماسة "4/ 145"، الأغاني "8/ 328"، تهذيب ابن عساكر "3/ 123"، ابن هشام "3/ 141.
4 الإصابة "1/ 129"، الأغاني "4/ 130 وما بعدها".
5 نسب قريش "98".
6 الأغاني "4/ 120 وما بعدها، الشعر والشعراء "1/ 369"، "بيروت"، تهذيب ابن عساكر "3/ 115"، اليعقوبي "1/ 22" "4/ 120 وما بعدها"، الأزرقي، تاريخ مكة "1/ 93". جمهرة الأنساب "257".(12/64)
من تعب ومواظبة1.
وينسب إلى أمية شعر، ذكر أنه افتخر فيه بـ نزار" وبـ"معد"، وبقبيلة "إياد"، حيث نعتهم بـ "قومي إياد"2.
ويتلخص ما جاء في شعر هذا الشاعر من عقائد وآراء في الاعتقاد بوجود إله واحد، خلق الكون وسواه وعدله، وأرسى الجبال على الأرض، وأنبت النبات فيها، وهو الذي يحيي ويميت، ثم يبعث الناس بعد الموت ويحاسبهم على أعمالهم، وليجازيهم بما كسبت أيديهم، فريق في الجنة وفريق في النار، يساق المجرمون عراة إلى ذات المقامع والنكال مكبلين بالسلاسل الطويلة وبالأغلال، ثم يلقى بهم في النار يصلونها يوم الدين، يبقون فيها معذبين بها، ليسوا بميتين، لأن في الموت راحة لهم، بل قضى الله أن يمكثوا فيها خالدين أبدًا3.
أما المتقون، فإنهم بدار صدق ناعمون تحت الظلال، لهم ما يشتهون، فيها عسل ولبن وخمر وقمح ورطب وتفاح ورمان وتين وماء بارد عذب سليم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وحور لا يرين الشمس فيها، نواعم في الأرائك قاصرات، على سرر ترى متقابلات، عليهم سندس وجياد ريط وديباج، وحور بأساور من لجين ومن ذهب وعسجد كريم، لا لغو فيها ولا تأثيم، ولا غول ولا فيها مليم، وكأس لا تصدع شارييها، يلذ بحسن رؤيتها النديم، تحتهم نمارق من دمقس، فلا أحد يرى فيهم سئيم.
أما المتقون، فإنهم بدار صدق ناعمون تحت الظلال، لهم ما يشتهون، فيها عسل ولبن وخمر وقمح ورطب وتفاح ورمان وتين وماء بارد عذب سليم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وحور لا يرين الشمس فيها، نواعم في الأرائك قاصرات، على سرر ترى متقابلات، عليهم سندس وجياد ريط وديباج، وحور بأساور من لجين ومن ذهب وعسجد كريم، لا لغو فيها ولا تأثيم، ولا غول ولا فيها مليم، وكأس لا تصدع شارييها، يلذ بحسن رؤيتها النديم، تحتهم نمارق من دمقس، فلا أحد يرى فيهم سئيم.
وللوقوف على آراء "أمية"، وعلى معتقداته الدينية يجب الرجوع بالطبع إلى أشعاره وما نسب إليه من كلام. ففي هذا التراث الذي تغلب عليه النزعة الدينية والحكمية، تتمثل آراء ذلك الشاعر الجاهلي الذي أدرك أوائل المبعث، وهي آراء قريبة جدًّا من الإسلام، وبعضها يكاد يكون قولا إسلاميا في لفظه وفي معناه مسبوكا في شعر. وفي هذا الشعر قصص الرسل والأنبياء: آدم ونوح وقصة
__________
1 كتاب التيجان، لوهب، "307"، الشعراء والشعراء لابن قتيبة "1/ 369"، بروكلمان "1/ 114"، Schuthesi OrIent Studien
2 الأغاني "4/ 120"، "8/ 327 وما بعدها" شعراء النصرانية "2/ 234".
3
وسيق المجرمون وهم عراة ... إلى ذات المقامع والنكال
ديوان أمية "49".
جهنم تلك لا تبقي بغيًّا ... وعدن لا يطالعها رجيم
ديوان أمية "53"، "بشير يموت".(12/65)
طوفانه، والغراب والحمامة1، وقصة ذي القرنين وبلقيس وحكاية الهدهد2، وقصة إبراهيم وتقديم ابنه للذبح، وداود، وفرعون، وموسى، وابن عاد3. وعيسى وأمه مريم وكيفية حملها به، فوصف ذلك بانيا وصفه على نحو ما جاء في القرآن الكريم عن تكون عيسى، مضيفا إلى ذلك زيادات في حديث مريم مع الملائكة وجواب الملائكة لها4. كما أورد في الشعر قصة "لوط أخي سدوم"5. وهي من القصص المذكور في التوراة، وأشياء أخرى عديدة من هذا القبيل6.
وفي أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من آراء ومعتقدات دينية، ووصف ليوم القيامة والجنة والنار، تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلا لما ورد عنها في القرآن الكريم. بل نجد في شعر أمية استخدامًا لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله وفي الحديث النبوي، فكيف وقع ذلك؟ وكيف حدث هذا التشابه؟ هل حدث ذلك على سبيل الاتفاق أو أن أمية أخذ مادته من القرآن الكريم، أو كان العكس، أي أن القرآن الكريم هو الذي أخذ من شعر أمية فظهرت الأفكار والألفاظ التي استعملها أمية في آيات الله وسوره؟ فكتاب الله إذن هو صدى وترديد لآراء ذلك الشاعر المتأله، أو أن هذا التشابه مرده شيء آخر هو تشابه الدعوتين واتفافهما في العقيدة والرأي، أو اعتماد الاثنين على مورد أقدم، هما الكتابان المقدسان: التوراة والإنجيل، وما لهما من شروح وتفاسير، أو كتب أو موارد عربية قديمة كانت معروفة ثم بادت وبقي أثرها في القرآن الكريم وفي شعر أمية بن أبي الصلت، أو أن كل شيء من هذا الذي نذكره ونفترضه
__________
1 جزى الله الأجل المرء نوحًا
جزاء البر ليس له كذاب
ديوان أمية "18 وما بعدها، 58"، "بشير يموت" الحيوان، للجاحظ "2/ 117"، البدء والتاريخ "1/ 24".
2
قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا ... ملكا علا في الأرض غير معبد
من قبله بلقيس كانت عمتي ... حتى تقضى ملكها بالهدهد
ديوان أمية "ص26"، "بشير يموت".
3
حي داود وابن عاد وموسى ... وقريع بنيانه بالثقال
إنيي زارد الحديد على النا ... س دروعًا سوابغ الأذيال
ديوان أمية "50 وما بعدها" "بشير يموت".
4 وفي دينكم من رب مريم آية
منبئة بالعبد عيسى ابن مريم
ديوان أمية "58"، "بشير يموت".
5
ثم لوط أخو سدوم أتاها ... إذ أتاها برشدها وهداها
ديوان أمية "69"، "بشير يموت".
6 راجع التوراة، ومادة "Lot" في معجمات التوراة.(12/66)
افتراضًا لم يقع، وإن ما وقع ونشاهده، سببه أن هذا الشعر وضع على لسان أمية في الإسلام، وأن واضعيه حاكوا في ذلك ما جاء في القرآن الكريم فحدث لهذا السبب هذا التشابه.
أما الاحتمال الأول، وهو فرض أخذ أمية من القرآن، فهو احتمال إن قلنا بجوازه ووقوعه، وجب حصر هذا الجواز في مدة معينة، وفي فترة محدودة تبتدئ بمعث الرسول، وتنتهي في السنة التاسعة من الهجرة، وهي سنة وفاة أمية بن أبي الصلت، أما ما قبل المبعث، فلا يمكن بالطبع أن يكون أمية قد اقتبس من القرآنن لأنه لم يكن منزلا يؤمئذ، وأما ما بعد السنة التاسعة، فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضًا، لأنه لم يكن حيا، فلم يشهد بقية الوحي. ولن يكون هذا الفرض مقبولا معقولا في هذه الحالة، إلا إذا أثبتنا بصورة جازمة أن شعر أمية الموافق لمبادئ الإسلام ولما جاء في القرآن قد نظم في هذه المدة المذكورة، أي بين المبعث والسنة التاسعة من الهجرة، وأن أمية كان يتتبع نزول الوحي، ويجمعه، وإنه كان يملك نسخة مما نزل على الرسول، رجع إليها واقتبس منها، وإلا سقط العرض. فإذا أثبتنا ذلك وثبتنا تاريخ نظم هذا الشعر، أمكنت المقابلة عندئذ بين شعر أمية وما جاء في معناه وفي موضوعه من آيات نزلت بين ابتداء نزول الوحي على الرسول وبين السنة التاسعة، أما الآيات التي نزلت بعد هذه السنة، فلا تكون شاهدا على أخذ أمية منها: لأنه كان قد توفي في السنة التاسعة، فلا يقع هذا الافتراض.
ولكن من استطاعته تثبيت تواريخ شعر أمية وتعيينه، وتعيين أوقات نظمه؟ إن في استطاعتنا تعيين بعضه من مثل الشعر الذي قاله في مدح عبد الله بن جدعان أو معركة بدر. ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بالغالبية منه، وهي غالبية لم يتطرق الرواة إلى ذكر المناسبات التي قيلت فيها. ثم إن بعض هذا الكثير مدسوس عليه، مروي لغيره، وبعضه إسلامي، فيه مصطلحات لم تعرف إلا في الإسلام، فليس من الممكن الحكم على آراء أمية الممثلة في شعره هذا بهذه الطريقة. ثم أحدا من الرواة لم يذكر أن أمية كان ينتحل معاني القرآن الكريم، وينسبها إلى نفسه. ولو كان قد فعل، لما سكت المسلمون عن ذلك، ولكان الرسول أول الفاضحين له.(12/67)
بقي لدينا افتراض، هو أخذ القرآن الكريم من أمية، وهو افتراض ليس من الممكن تصوره، فعلى إثبات أن شعر أمية في هذا الباب هو أقدم عهدا من القرآن الكريم، وتلك قضية لا يمكن إثباتها أبدا. ثم إن قريشًا ومن لف لفها ممن عارض الرسول لو كانوا يعلمون ذلك ويعرفونه، لما سكتوا عنه، ولقالوا له إنك تأخذ من أمية، كما قالوا له: إنك تتعلم من غلام نصراني كان مقيمًا بمكة، وإليه أشير في القرآن الكريم بقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1. ولقد أشار المفسرون إلى اسم الغلام، كما سأتحدث عن ذلك في الفصل الخاص بالنصرانية عند العرب قبل الإسلام، ولم يشيروا إلى أمية بن أبي الصلت2. ثم إن أمية نفسه لو كان يعلم ذلك أو يظن أن محمدًا إنما أخذ منه، لما سكت عنه وهو خصم له، منافس عنيد، أراد أن تكون النبوة له، وإذا بها عند شخص آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمنون بدعوته. أما هو فلا يتبعه أحد. آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمون بدعوته. أما هو فلا يتبعه أحد. هل يعقل سكوت أمية لو كان قد وجد أي ظن وإن كان بعيدا يفيد أن الرسول قد أخذ فكرة منه، أو من المورد الذي أخذ أمية نفسه منه؟ لو كان شعر بذلك، لنادى به حتما، ولأعلن للناس أنه هو ومحمد أخذا من منبع واحد، وأن محمدا أخذ منه، فليس له من الدعوة شيء، ولكانت قريش وثفيف أول القائلين بهذا القول والمنادين به.
نعم، لقد ورد في الحديث، كما قلت قبل قليل، إن الشريد بن سويد كان قد أنشد الرسول شعر أمية، وإنه كان كلما أنشده شيئًا منه طلب منه المزيد، حتى إذا ما أنشه مئة بيت، قال له الرسول: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، ولكننا هنا بحاجة إلى تثبيت تاريخ هذا الإنشاد، وإثبات صحة الرواية وتدقيق رجال السند، لإثبات أن ما أنشد لم يكن قد نزل في مثله الوحي.
وممن ذهب إلى افتراض أخذ الرسول من أمية من المستشرقين "كليمان هوار" و"بور" "Power. زغم "بور" إنه حيث يوجد تشابه بين شعر أمية والقرآن
__________
1 النحل، الآية 103.
2 سيرة ابن هشام "1/ 420".(12/68)
الكريم، فإن ذلك يدل على أن الرسول أخذ من "أمية"، لأن أمية أقدم من الرسول1. وهذا الافتراض مقبول كما لو أثبتنا أن هذا النظم شعر أصيل صحيح، وإنه نظم قبل نزول مشابهه في القرآن الكريم، وإنه لم يضف إليه في الإسلام، فإن أثبتنا إنه له، جاز لهما مثل هذا الادعاء.
وأما الرأي الثالث -وأعني به رأي من يرجع التشابه بين شعر أمية وما ورد من مثل معانيه في القرآن الكريم إلى أخذ الاثنين من التوراة والإنجيل وتفاسيرهما، وإلى بعض "الصحف" و"المجلات" التي أشير إلى وجودها عند العرب- فهو رأي قديم، وليس بجديد. رأي قيل عن الوحي كله، لا عن القرآن وشعر أمية أو غير أمية، قبل أن يخلق المستشرقون بأكثر من 1300 سنة، فقد زعم "إن النبي يتعلم من غلام نصراني اسمه جبر!! ". وقد أشير إلى هذا الزعم في كتاب الله، وجاء الرد عليه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . فلم يخف القرآن الكريم ذلك الطعن والمغمز، ولم يتجاهل المفسرون اسم من قيل إنه كان يعلمه، فذكروا جبرا هذا، وكان غلاما مقيما بمكة، وقال بعضهم بل هو رجل رومي اسمه غير ذلك.
ولو كان الرسول وأمية قد أخذ من منهل واحد، واستقيا من مورد واحد، لما سكتت قريش عن القول به، ولما سكت أمية نفسه وهو الغاضب الحاقد على الرسول عن الجهر به. وكيف يعقل سكوته عن هذا، وهو أمر مهم جدًّا بالنسبة إليه. وسيف يحارب به الإسلام؟ ولما سكت مسيلمة ومن كان على شاكلته من المتنبئين من الإشارة إليه في أثناء حروب الردة، وقد كانت فرصة سانحة لإطهار هذه المقالة. ولما سكت "يوحنا الدمشقي" وأمثاله من التلميح إلى ذلك، وقد لمح بأمور كثيرة في طعنه في الإسلام.
ثم إن هذا التشابه، على ما يتبين من نقده وتمحيصه، ليس من نوع ما يحصل عن أخذ شخصين مستقلين من مورد معين، إنما هو من قبيل ما يحدث من اعتماد أحد الشخصين على الآخر، بدليل ورود أمور في القرآن الكريم،
__________
1 ديوان أمية "ص7"، "المقدمة الألمانية" "تحقيق فردرش شولثيس"، بروكلمن "1/ 113". CI Huatrt GA X VoI IV 1904 P1225(12/69)
لم ترد في التوراة ولا في الإنجيل، ولكنها وردت في شعر أمية، وبدليل ورود أكثر قصص الأنبياء والآراء والمعتقدات في شعر أمية على شكل إسلامي، لا على النحو الوارد عند أهل الكتاب. واستعمال هذا الشعر لجمل وألفاظ وتراكيب إسلامية واردة في القرآن الكريم وفي الحديث لا في الكتب السماوية المذكورة. فلو كان مرد هذا التشابه الأخذ من مورد واحد، لوجب انحصار هذا التشابه في الأمور المشتركة التي ترد في الكتب المقدسة: التوراة والإنجيل والقرآن، وفي شعر أمية فحسب، لا في المسائل التي ترد في شعر أمية وفي القرآن الكريم، ولا ترد في الكتابين المقدسين أو في الكتب الأخرى.
ثم إن المقابلة بين نصين لمعرفة صلة أحدهما بالآخر، وأخذ أحدهما من الآخر، تستوجب التأكد من صحة نسبة الشعر إلى أمية. ففي هذا الشعر مقدار لا يمكن أن يشك في وضعه وصنعه، ومقدار نص العلماء نصا على أنه لغيره، وهم إنما ذكروه في شعر أمية، لأن بعض أهل الأخبار نسبه إليه. ولذلك استدركوا هذا الخبر، بالإشارة إلى اسم قائله الصحيح. فلم يبق من هذا الشعر ما يصلح للمقابلة غير القليل منه، وهو القليل الذي له صلة بعقيدة ودين. وهذا القليل هو، في الغالب أيضًا، تبع لما ورد في القرآن وحده، لا لما ورد في الكتابين المقدسين. ولما كان القرآن محفوظا ثابتا، فلم يرتق إليه الشك. أما شعر أمية، فليس كذلك، وهو غير معروف من حيث تعيين تاريخ النظر. فهذه المقابلة إن جازت، فإنها تكون حجة على القائلين بالرأي المذكور، لا لهم. وقد كان عليهم أن يثبتوا أولا إثباتا قاطعا صحة رأيهم في أصالة هذا الشعر، لا أن يفترضوا مقدما أنه شعر أصيل صحيح، وأن يذهبوا رأسا إلى أنه هو والقرآن الكريم من وقت واحد، بل إنه على حد قول بعضهم أقدم منه، فكتاب الله منتزع منه.
وممن قال باحتمال أخذ القرآن وأمية من مورد مشترك واحد، "فردرش شولثيس" Friedrich SchuIthetz ناشر ديوان أمية. وقد زعم أيضًا احتمال أخذ أمية من بعض آيات الله التي كانت منزلة يومئذ، ونظمها في شعره. استند في زعمه القائل باقتباس الرسول من مورد مشترك إلى ورود بعض كلمات في القرآن الكريم وفي الحديث وفي كتب السير، يفهم منها على زعمه أن الرسول كان قارئًا كاتبًا، ولكنه لم يشترط في هذه المؤلفات كونها الإنجيل والتوراة، بل ذهب إلى أنها(12/70)
"مجلة" و"صحيفة"، تتضمن أحاديث وتفاسير وقصصًا دينيا قديما1. أما دليله، فافتراض واحتمال، وليس له غير هذين. ولا يقوم علم إلا على دليل ملموس.
أما أنا، فأرى أن مرد هذا التشابه والاتفاق إلى الصنعة والافتعال. لقد كان أمية شاعرا، ما في ذلك شك، لإجماع الرواة على القول به. وقد كان ثائرا على قومه، ناقما عليهم، لتعبدهم للأوثان. وقد كان على شيء من التوحيد والمعرفة باليهودية والنصرانية، ولكني لا أظن أنه كان واقفا على كل التفاصيل المذكورة في القرآن وفي الحديث من العرش والكرسي وعن الله وملائكته وعن القيامة والجنة والنار والحساب والثواب والعقاب ونحو ذلك. إن هذا الذي أذكره شيء إسلامي خالص، لم ترد تفاصيله عند اليهود ولا النصارى، ولا عند الأحناف. فوروده في شعر أمية وبالكلمات والتعابير الإسلامية، هو عمل جماعة فعلته في عهد الإسلام: وضعته على لسانه، كما وضعوا أو وضع غيرهم على ألسنة غيره من الشعراء والخطباء، لاعتقادها أن ذلك مما يفيد الإسلام، ويثبت أن جماعة من الجاهليين كانوا عليه، وأنه لم يكن لذلك غريبا، وأن هؤلاء كانوا يعلمون الغيب، يعلمون بقرب ظهور نبي عربي، وأنهم لذلك بشروا به، وأنهم كانوا يتمنون لو عادوا فولدوا في أيامه، أو لو طال بهم العمر حتى يدركوه فيسلموا، وأمثال ذلك من قصص راج وانتشر، كما راج أمثاله في كل دين من الأديان.
ولا بد وأن يكون هذا الوضع قد صنع في القرن الأول للإسلام، لأن أهل الأخبار القدامى يذكرون بعض هذا الشعر2. وقد يكون قد وضع أكثره في عهد الحجاج تقربا إليه، لأنه من ثقيف، وفي ذلك العهد وضع الوضاع أخبارا كثيرة في الغض من شأن قوم الحجاج، نكاية به فتقدم قوم آخرون إليه بالرفع من شأنها وبإضافة ذلك الشعر إلى أمية وغيره، ليكون ردا على كارهي ومبغضي الحجاج.
وتتبين آية الوضع في شعر أمية في عدم اتساقه وفي اختلاف أسلوبه وروحه.
__________
1 Ency, IV, p. 998, Tar Andrae, Die Entstehung des Islams und des Christentums, upsale, 1926, S. 48.
2 بروكلمان "1/ 113".(12/71)
فبينما نجد شعره المنسوب إليه في المدح أو في الرثاء أو في الأغراض الأخرى مما ليس لها صلة مباشرة بالدين، في ديباجة جاهلية على نسق الشعر المنسوب إلى شعراء الجاهلية، نجد القسم الديني منه والحكمي في أسلوب يجعله قريبا من شعر الفقهاء والصوفيين المتزمتين، ونساك الصارى، فهو بعيد جدًّا من أسلوب الجاهليين، حتى أسلوب مثل "عدي بن زيد" العبادي والأعضى وبقية من نسب إلى النصرانية من شعراء الجاهلية القريبين من الإسلام1. يضاف إلى ذلك ما ذكره الرواة وأهل الأخبار من نشبة بعض ذلك الشعر إلى غيره من الشعراء.
وقد يقال إن أسلوب "أمية" في نظم الشعر الديني والحكمي، هو أسلوب صحيح لا يمكن إلا أن يكون على هذا الحال، هو أسلوب بعيد عن أسلوب الجاهليين في النظم، لأن الشعر الجاهلي المعروف نظم في أغراض أخرى لا صلة لها بالحكم وبالدين، وما جاء منه إلينا في الحكم وفي الدين هو على أسلوب آخر أيضًا، بدليل أن بعض الشعراء منهم حين نظموا في الحكم، رق شعرهم وبان عن نظمهم المألوف. وبدليل أن نظم "حسان بن ثابت" في الإسلام، هو دون نظمه في الجاهلية من حيث الجزالة والفخامة في النظم، وأن شعر "لبيد" في الإسلام، هو دون ما نظمه في الجاهلية، بسبب تغير الظروف واختلاف الموضوع. وهو اعتذار صحيح، ولكن أسلوب أمية في تعبيره عن الجنة والنار والبعث والحساب، أسلوب آخر، لا يفصح عن عقلية دينية جاهلية، وإنما عن عقلية إسلامية. ومن هنا جاء شكنا في صحة هذا الشعر وفي اصالته، وليس من أسلوب النظم.
ولكن من الذي وضع هذا الشعر، ثم أنكره على نفسه وأسنده إلى أمية؟ ومن الذي رضع شعر أمية بأبيات من وزنه وقافيته، ولكنها أبيات إسلامية؟ ومن كان أول من جمع شعر ذلك الشاعر في ديوان نسبه إليه؟ هذه أسئلة يجب أن توجد لها أجوبة، ولكن أجوبتها كتاب يؤلف في حياة هذا الشاعر وفي شعره وديوانه، عندئذ يكون هناك مجال للتنقيب عن هذه الأمور، روي أن الحجاج قال، وهو على المنبر: "ذهب قوم يعرفون شعر أمية"2. فهل ذهب العالمون
__________
1 Ency IV p 998
2 الأغاني "4/ 123".(12/72)
به حقًّا قبل أيام الحجاج؟ وهل كان شعره ضخما واسعا؟ أو هوقول من أقوال الحجاج، وهو ثقفي من قوم أمية، أو هو قول وزعم من زعم الرواة. وما أكثر مزاعم الرواة وحملة الأخبار.
وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيدا. فالقصيدة التي مطلعها:
لك الحمد والمن رب العبا ... د أنت المليك وأنت الحكم
هي قصيدة إسلامية، لا يمكن أبدا أن تكون من نظم شاعر لم يؤمن بالإسلام إيمانا عميقًا من كل قلبه ولسانه. خذ هذا البيت منها مثلا:
محمدا أرسله بالهدى ... فعاش غنيا ولم يهتضم
ثم خذ الأبيات التالية له وفيها:
عطاء من الله أعطيته ... وخص به الله أهل الحرم
وقد علموا أنه خيرهم ... وفي بيتهم ذي الندى والكرم
يعيبون ما قال لما دعا ... وقد فرج الله إحدى البهم
به وهو يدعو بصدق الحدي ... ث إلى الله من قبل زيغ القدم
أطيعوا الرسول عباد الإله ... تنجون من شر يوم ألم
تنجون من ظلمات العذاب ... ومن حر نار على من ظلم
دعانا النبي به خاتم ... فمن لم بجبه أسر الندم
نبي هدى صادق طيب ... رحيم رءوف بوصل الرحم
به ختم الله من قبله ... ومن بعده من نبي ختم
يموت كما مات من قد مضى ... يرد إلى الله باري النسم
مع الأنبياء في جنان الخلود ... هم أهلها غير حل القسم
وقدس فينا بحب الصلاة ... جميعًا وعلم خط القلم
كتابا من الله نقرأ به ... فمن يعتريه فقدما أتم
اقرأ هذه المنظومة، ثم احكم على صاحبها، هل تستطيع أن تقول إنه كان(12/73)
74
شاعرا مغاضبا للرسول، وإنه مات كافرًا، وإن صاحبها رثى كفار قريش في معركة بدر وأنه قال ما قال في الإسلام وفي الرسول؟ اللهم، لا يمكن أن يقال ذلك أبدا فصاحب هذا النظم رجل مؤمن عميق الإيمان، هو واعظ مبشر، يخاطب قومه فيدعوهم إلى الإسلام وإلى طاعة الله والرسول. إنه مؤمن قلبا ولسانا، مع أنهم يذكرون أن الرسول قال فيه: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، وإنه مات وهو على كفره وعناده وحسده للرسول، ثم إن صاحب المنظومة رجل يتحدث عن وفاة الرسول، مع أن أمية، كان قد توفي في السنة التاسعة من الهجرة، فهل يعقل أن يكون إذن هو صاحبها وناظمها؟
أليست هذه المنظومة وأمثالها إذن دليلا على وجود أيد لصناع الشعر ومنتجيه في شعر أمية. نحمد الله على أن صناعها لم يتقنوا صنعتها، ففضحوا أنفسهم بها، ودلوا على مقاتل النظم.
ثم خذ قصيدة أخرى من القصائد المنسوبة لأمية، وهي في وصف الجنة والنار استهلت بهذا البيت:
جهنم تلك لا تبقي بغيا ... وعدن لا يطالعها رجيم
ثم استمر في قراءتها، وفي ما جاء فيها من وصف للجنة والنار، ثم أنعم النظر في هذه الأبيات:
فذا عسل وذا لبن وخمر ... وقمح في منابته صريم
ونخل ساقط الأكتاف عد ... خلال أصوله رطب قميم
وتفاح ورمان وموز ... وماء بارد عذب سليم
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم
وحور لا يرين الشمس فيها ... على صور الدمى فيها سهوم
نواعم في الأرائك قاصرات ... فهن عقائل وهم قروم
على سرر ترى متقابلات ... ألا، ثَمَّ النضارة والنعيم
عليهم سندس وجياد ريط ... وديباج يرى فيها قتوم
وحلوا من أساور من لجين ... ومن ذهب وعسجده كريم
ولا لغو ولا تأثيم فيها ... ولا غول ولا فيها مليم(12/74)
وكأس لا تصدع شاربيها ... يلذ بحسن رؤيتها النديم
تصفق في صحاف من لجين ... ومن ذهب مباركة رذوم1
ثم احكم بعد ذلك على صاحب هذه الأبيات. لقد حاول ناظمها إدخال بعض الكلمات الجاهلية فيها، لإلباسها ثوبا جاهليا، ولإظهارها بمظهر الشعر الجاهلي الأصيل، ولكنه لم يتمكن من ذلك، بل صيرها في الواقع نظما لوصف الجنة والنار في الإسلام، وما بي حاجة إلى أن أحيلك على الآيات التي أخذ منها صاحب هذا الشعر وصفه من القرآن الكريم.
ومن الغريب أن بعض الإخباريين اتخذ هذا النظم وأمثاله حجة لتبيان عقائد الجاهليين، فذكر مثلا أن العرب في جاهليتها كانت تؤمن بالجزاء، وأن منهم من نظر في الكتب وكان مقرا بالجنة والنار. وحجته في ذلك هذه المنظومة المنسوبة إلى أمية2. وقد نسي أن ما قاله على سبيل التعميم أو التغليب، يناقض ما جاء في القرآن الكريم وما أورده الإخباريون عن الجاهليين.
ثم خذ قصيدته في عيسي بن مريم وحمل أمه به3، وسائر قصائده الأخرى، تجد عليها هذه المسحة الإسلامية بارزة ظاهرة، ولكن هذا لا يمنع مع ذلك من القول بوجود أبيات قد تكون من نظم أمية حقًّا، في هذا المنظوم الديني، غير أن هذا الموجود، هو على كل حال مما لا يتعارض مع عقائد الإسلام. ومن الممكن إدراكه بدراسة ألفاظه وأسلوبه وأفكاره، وبهذه الطريقة نتمكن من استخلاص الأصيل من شعره من الهجين.
ولأمية بن أبي الصلت أخت، اسمها "فارعة"4. قدمت على النبي بعد فتح الطائف، وكانت ذات لب وعفاف وجمال، وكان يعجب بها. وقال لها يوما: هل تحفظين من شعر أخيك شيئًا؟ فأخبرته خبره وقصت في شق جوفه
__________
1 تجد اختلافا في كلمات هذه القصيدة وأبياتها، وكذلك في قصائد هذا الشاعر الأخرى، فارجع في ذلك إلى طبعات ديوانه وإلى كتب الأدب لمعرفة مواضع الاختلاف: كتاب البدء والتاريخ "1/ 202 وما بعدها"، ديوان أمية "طبعة بشير يموت"، "ص53" ديوان أمية "ص51 وما بعدها"، "طبعة فريدرش شولثيس".
2 كتاب البدء والتاريخ "1/ 202"، "طبعة كليمان هوار"، "النص العربي".
3 ديوان أمية "ص58"، "طبعة بشير يموت".
4 اللسان "1/ 792"، "وثب".(12/75)
وإخراج قلبه ورده مكانه وهو نائم وأنشدته شعره1، على ما يزعمه أهل الأخبار. وذكر أهل الأخبار أسماء أربعة بنين لأمية، هم: القاسم، ووهب، وعمرو "عمر"، وربيعة. فأما" القاسم"، فكان شاعرا، وله مرثية في عثمان بن عفان2. وأسلم "وهب بن أمية" كذلك. وذكر أن رجلا من ثقيف مات في عهد النبي عن غير ولد، فاختصموا في ميراثه، فأعطى النبي ميراثه لوهب3. وأما "ربيعة" فأسلم كذلك، وله شعر4. وقد ذكر أهل الأخبار أن "حقة" بنت وهب بن أمية بن أبي الصلت"، تزوجت "عبد الله بن صفوان"، فولدت له صفوان بن عبد الله بن صفوان5. وذكر أن "ربيعة"، قد ولي بعض الوظائف في الإسلام. وأنه صاحب "ربيعتان"، نهر بقرب الأبلة، وأن من ولده "كلدة بن ربيعة"، وكان شريفًا شاعرًا، وقد ذكر أن بغلا قتل "ربيعة" على باب دار "عبد الله بن عباس"6.
وكل ما يعرف عن سويد بن عامر المصطلقي أنه كان على دين الحنيفية وملة إبراهيم، وأنه قال شعرا، وصلت منه بضعة أبيات في "المنايا" وفي المقدر على الإنسان، وأن المنايا محتومة لا مفر منها، وأن الخير والشر مكتوبان على النواصي، وليس لامرئ يد فيما يصيبه من مقدور. فهي في هذه المشكلة المعضلة التي شغلت بال الإنسان ولا تزال تشغله مشكلة: "الجبر والاختيار"، أو "القدر"، المشكلة التي احتلت منزلة الصدارة في "علم الكلام". والتي صارت من أهم موضوعات الجدل في الإسلام. ويقال إنها أنشدت للرسول، فلما سمعها، قال: "لو أدركته لأسلم" 7.
وأما ورقة بن نوفل فهو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يلتحم نسبه بنسب الرسول في جد جده. ذكروا أنه ساح على شاكلة من شك في
__________
1 الإصابة "4/ 363"، "رقم "824".
2 الإصابة "3/ 213"، "رقم 7052".
3 الإصابة "3/ 604"،"رقم 9157.
4 الإصابة "1/ 493"،"رقم 2950".
5 الإصابة "3/ 604"، "رقم 9157".
6 كتاب البغال للجاحظ "2/ 258"، "من رسائل الجاحظ" "الأغاني "3/ 179"، الاشتقاق "304 وما بعدها"، "4/ 120"، الشعر والشعراء "1/ 369"، الإصابة "2/ 197" أنساب العرب "269".
7 بلوغ الأرب "2/ 259".(12/76)
دين قومه، وتتبع اليهود والنصارى، وقرأ الكتب، وعد في جملة المتنصرين في أغلب الروايات، فقد ذكر أنه "تنصر واستحكم في النصرانية، وقرأ الكتب ومات عليها"1. وهذا هو رأي أكثر أهل الأخبار.
ونسب إليه شعر ذكر إنه قاله في رثاء زيد بن عمرو بن نفيل، وفيه إشارة إلى النار وإلى الثواب والعقاب بعد الموت وإلى فكرة التوحيد والإيمان برب ليس رب كمثله وإلى التنديد بالأوثان2.
وله أبيات من الشعر يحث فيها على مساعدة الضعيف ونصر المظلوم، وعلى فعل الخير للناس3.
ولا نعلم عن حياة ورقة في أيام شبابه شيئًا، ولعله كان يعين أهله أو أقربائه في اتجارهم مع بلاد الشام أو اليمن شأن أكثر شبان أسر مكة المعروفة في ذلك الوقت. فتعلم بذلك سلوك الطرق الموصلة إلى العراق أو بلاد الشام، ومن هنا اندفع نحو خارج الجزيرة يلتمس الحكمة والوصول إلى رأي يقنعه في الحياة. ويظهر إنه لم يكن في شبابه من أولئك الشباب الخاملين الذين كانوا يصرفون وقتهم في فراغ دائم، دون عمل ولا تفكير، متوسدين الأرض يقتلون فراغهم في ترهات الكلام، كما إنه لم يكن من أولئك الطائشين النزقين الذين يقضون وقتهم في النزاع والخصومة وشرب الخمر والاعتداء على الناس، والحصول على المال للانفقا على اللهو بأية طريقة كانت، بل كان شابا متأملا مفكراا منكمشا على نفسه، مكنه علمه بالكتابة والقراءة من قراءة الكتب والاطلاع على آراء الماضين والحاضرين، حتى جاء يوم، دفعه اجتهاده الذي وصل إليه على الخروج على تقاليد قومه وانتقاد الأوضاع التي كانوا عليها، مما حمله على ترك مكة طوعا أو قهرا، والتجول للبحث أو فرارا من غضب قومه عليه.
وهو ابن عم خديجة الكبرى زوج الرسول. وقد أشير إليه في خبر "مجيء جبريل إلى النبي في حراء"، وله كلام مع الرسول على ما ورد في بعض الروايات.
__________
1 اليعقوبي "1/ 298" "2/ 22" "ليدن" البداية لابن كثير "2/ 238".
2 المحبر "171"، ابن هشام "1/ 243،256"، الأغاني "3/ 113 وما بعدها" "1/ 73"،الذهبي، تاريخ الإسلام "1/ 68".
3 خزانة الأدب "2/ 39 وما بعدها".(12/77)
يقال إنه قال للرسول وكان قد ذهب إليه مع زوجته خديجة ليسأله رأيه فيما رآه من الرؤيا: "ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قوم؟ " وأن الرسول قال له: "أمخرجي هم؟ " قال: نعم، إنه لم يجئ رجل قط بما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا"1. وأشير إليه في خبر آخر، حيث ورد أن "خديجة" ذهبت وحدها إلى ابن عمها لتسأله عن الرؤيا التي رآها الرسول وعن هذا "الناموس الأكبر" الذي تجلى له. فلما قصت عليه القصة قال: "لئن كنت صادقة، إن زوجك لنبي، وليلقين من أمته شدة، ولئن أدركته لأومنن به"2.
وذكر في خبر آخر أن الرسول قد رأى "ورقة" في منامه، وكان لابسًا ثيابًا بيضًا. وأن الرسول ذكر ذلك لم سأله عنه، وبين لهم أنه لو كان من أهل النار لما ظهر له في منامه وهو بهذه الملابس. لأن أهل النار لا يلبسون ثيابًا بيضًا3. ويروى أن الرسول قال: "لا تسبوا ورقة بن نوفل، فإني رأيته في ثياب بيض" 4. قيل إن شخصًا تساب مع أخ لورقة بن نوفل، فسب ورقة ليحرق قلب أخيه، فبلغ ذلك الرسول، فنهى عن سبه5.
وجاء في خبر أن "ورقة" كان يمر بمكة فيرى بلالا وهو يعذب، يعذبه المشركون برمضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء، ويضربونه يريدون منه أن يشرك بالله، فلا يشرك به. ويأبى إلا أن يقول: أحد أحد، فيرثى ورقة لحاله ويقول: أحد أحد والله يا بلال. والله لئن قتلتموه فأنتم من الخاسرين6. أو "والله لئن قتلتموه، لأتخذن قبره حنانًا"7.
__________
1 الطبري "2/ 299""دار المعارف"، ابن هشام "1/ 254 وما بعدها"، المسعودي مروج "2/ 59"، "1/ 73" "محمد محيي الدين عبد الحميد" "1958م"، الكامل، لابن الأثير "2/ 31" الذهبي تاريخ الإسلام "1/ 75" القسطلاني، شرح صحيح "1/ 66"، الإصابة "3/ 633".
2 الطبري "2/ 300" "دار المعارف"، ابن سعد، الطبقات "1/ 194" "بيروت 1957م" شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني "1/ 66 وما بعدها".
3 الأغاني "3/ 113 وما بعدها" "بيروت 1955م".
4 كتاب نسب قريش "ص207"، الترمذي "3/ 251" الإصابة "6/ 318 وما بعدها" مجمع الزوائد "9/ 416".
5 الإصابة "3/ 633".
6 الأغاني "3/ 113 وما بعدها".
7 النهاية، لابن الأثير "1/ 226"، الإصابة "6/ 318"، كتاب نسب قريش "208".(12/78)
ويظهر من الأخبار المتقدمة أن "ورقة بن نوفل"، كان قد أدرك أيام الرسول وعاش إلى يوم نزول الوحي عليه. بل يظهر من خبر رؤيته لبلال وهو في حالة تعذيبه، إنه عاش مدة بعد نزول الوحي. غير أن الأخبار المذكورة لا تنص على إسلامه، ولم نجد أحدا قد نص على ذلك. أما خبر رؤيا الرسول له في منامه، فإنه يدل على عدم إسلمه، وعلى إنه كان قد توفي قبل نزول الوحي على الرسول. وهو الرأي الراجح. وهذا ما حمل أحد المؤرخين على القول: وقد اختلف فيه، فمنهم من زعم إنه مات نصرانيا ولم يدرك ظهور النبي. ومنهم من رأى إنه مات مسلمًا وإنه مدح النبي1. وقد ورد في بعض الأخبار إن الرسول قال لما توفي ورقة: "لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير، لنه آمن بي وصدقني"2. وورد مثل ذلك من أحاديث زعم أن الرسول قالها في حق ورقة، وهي كلها تشير إلى وفاة ورقة قبل المبعث، وعلى دينه، إذ لم يدرك الإسلام.
وورد في بعض الروايات أنه "كان يكتب الكتاب العربي، فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب"3. وورد في رواية أخرى أنه "كان يكتب الكتاب العبراني، فكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب"4. والخبران هما خبر واحد، كما يظهر من وحدة النص، غير إن اسم اللغة التي زعم أنه كان يكتب بها قد حرف، فقرأه بعضهم العربي، وقرأه بعض آخر العبراني. ولما كان الإنجيل باليونانية وبلغة بني إرم، فقد أخطأ الرواة بجعل لغة الإنجيل هي العبرانية، وهم يتوهمون كثيرًا فيخلطون بين العبرانية والسريانية. والغالب أنهم كانوا يريدون بالعبرانية لغة بني إرم التي كانت لغة العلم والأدب والدين في العراق وفي بلاد الشام، بل وبين مثقفي اليهود ورجال دينهم في ذلك الوقت.
وذكر أهل الأخبار أنه لم يعقب5. ولم يذكروا سبب ذلك، هل كان قد
__________
1 المسعودي، مروج "2/ 59".
2 القسطلاني، شرح صحيح "1/ 65"، الذهبي، تاريخ الإسلام "1/ 68".
الذهبي، سير النبلاء "80"، خزانة الأدب "2/ 41".
3 النصرانية "1/ 119".
4 الأغاني "3/ 113"، الاشتقاق "164".
5 كتاب نسب قريش "ص207".(12/79)
تزوج، ولكنه كان عقيمًا، فلم يعقب؟ أو أنه عاش أعزب ولم يتزوج طول حياته؟
وكان "أبو قيس صرمة بن أبي أنس" "صرمة بن أنس" وهو من بني النجار، قد ترهب ولبس المسوح، وهجر الأوثان، ودخل بيتًا واتخذه مسجدًا لا تدخله طامث ولا جنب، وقال: أعبد رب إبراهيم، فلما قدم النبي المدينة أسلم وهو شيخ كبير، وحسن إسلامه. وفيه نزلت الآية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 1. ورووا له شعرا2. وزعم أنه اغتسل من الجنابة، وهم بالنصرانية، ثم أمسك عنها. وذكر أن "ابن عباس" كان يختلف إليه يأخذ عنه الشعر3.
وأما "وكيع بن سلمة بن زهير الإيادي"، فهو من إياد، زعم "ابن الكلبي" إنه ولي البيت بعد جرهم، فبنى صرحًا بأسفل مكة، وجعل فيه أمة يقال لها "حزورة"، وبها سميت "حزورة مكة"، وجعل في الصرح سلمًا، فكان يرقاه ويزعم أنه يناجي الله. وكان ينطق بكثير من الخبر، ويزعم الناس أنه صديق من الصديقين، وقالوا كان كاهنًا4. وذكروا له كلمات مسجعة، ليس فيها ما يشرح لنا معتقده الديني وضوحًا تامًّا5.
والصرح كما يقول علماء اللغة، بيت يبنى منفردًا ضخمًا طويلا في السماء
__________
1 البقرة، الآية 187، مروج، "1/ 52 وما بعدها"، تفسير الطبري "2/ 97" "بولاق".
2 بلوغ الأرب "2/ 266".
3 بلوغ الأرب "2/ 266"، أسد الغابة "3/ 18"، الإصابة "2/ 176"، "رقم 4061"، الاستيعاب "2/ 149"، "حاشية على الإصابة".
4 المحبر "136"، بلوغ الأرب "2/ 260".
5 "وقال الإيادي صاحب الصرح، الذي اتخذ سلمًا لمناجاة الرب، وهو القائل: مرصعة وفاطمة، القطيعة والفجيعة، وصلة الرحم وحسن الكلم، زعم ربكم ليجزين بالخير ثوابًا، وبالشر عقابًا، وإن من في الأرض عبيد لمن في السماء، هلكت جرهم وربلت إياد، وكذلك الصلاح والفساد. من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه كل شاة معلقة برجلها.
واياه عنى الشاعر بقول:
ونحن إياد عبيد الإله ... ورهط مناجيه في السلم
ونحن ولاة حجاب العتيق ... زمان الرعاف على جرهم
البيان والتبيين "2/ 109" الأمثال للميداني "2/ 81".(12/80)
وكل بناء عال مرتفع1. والحزورة الرابية الصغيرة والتل الصغير2. ويظهر إنه كان بنى صرحه فوق تل في محل منفرد، ليختلي هناك على طريقة الرهبان والنساك.
وكان ما عرفه أهل الأخبار عن "عمير بن جندب" الجهني، إنه كان من جهينة، وإنه كان موحدا لم يشرك بربه أحدا، وإنه مات قبيل الإسلام3.
وكان عامر بن الظرب العدواني من الحكماء، نسبت إليه أقوال في الحكم والدين. منها "إني ما رأيت شيئًا خلق نفسه، ولا رأيت موضوعا إلا مصنوعا، ولا جائيا إلا ذاهبا، ولو كان يميت الناس الداء، لأحياهم الدواء". ثم قال: "إني أرى أمورا شتى وحتى. قيل له: وما حتى؟ قال: حتى يرجع الميت حيا، ويعود اللاشيء شيئًا، ولذلك خلقت السماوات والأرض، فتولوا عنه ذاهبين"4.
وقد نسبوا إليه جملة أحكام، منها حكمه في "الخنثى"، وقد ذكروا أن حكمه هذا قد أقره الإسلام. وقالوا إن العرب كانت إذا أشكل عليها أمر في قضاء، أو حارت في أمر معضل ترى وجوب الحكم فيه برأي صائب وعقل وتدبير، ذهبت إليه، فإذا حكم كان حكمه الحكم الفصل، فلا راد له5.
ونسبت إلى كل من عبد الطانجة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة وعلاف بن شهاب التميمي أبيات، فيها إقرار بوجود إله واحد خالق لهذا الكون، وبوجود الحساب والثواب والعقاب6.
وأما "المتلمس بن أمية" الكناني، فذكروا إنه كان قد اتخذ من فناء الكعبة موضعا يخطب فيه، ويعظ قومه عظات دينية، فكان في جملة ما قاله لهم:
__________
1 تاج العروس "2/ 178 وما بعدها"، "صرح".
2 تاج العروس "3/ 138"، "حرز".
3 بلوغ الأرب "2/ 261 وما بعدها".
4 المحبر "135، 181، 236،236، 239" بلوغ الأرب "2/ 275 وما بععدها"ز
5 الروض الأنف "1/ 86"، ابن هشام "1/ 134"، "محمد محيي الدين عبد الحميد" المعمرون "44 وما بعدها"، عيون الأخبار "1/ 266" البيان والتبيين "1/ 264، 365، 401"، "2/ 72، 199"، ط3/ 38، 39، 299، 369".
6 الأغاني "3/ 113"، "طبعة بيروت" مروج "2/ 60".(12/81)
"إنكم قد تفردتم بآلهة شتى، وإني لأعلم ما الله راض به. وإن الله تعالى رب هذه الآله، وإنه ليحب أن يعبد وحده". فنفرت كلماته هذه وأمثالها القوم منه وتجنبته، وقالوا عنه إنه على دين بني تميم1.
وفي أبيات منسوبة إلى زهير بن أبي سلمة الشاعر المعروف إقرار بوجود إله عالم بكل ما في النفوس، هو "الله"، لا تخفى عليه خافية، فلا يجوز كتمان شيء عنه، وبوجود يوم حساب يحاسب فيه الناس على ما قاموا به من أعمال، وقد ينتقم الله من الظالم في الدنيا قبل الآخرة، فلا مخلص له2.
ونسب الإيمان بالله واليوم الآخر إلى أشخاص آخرين، منهم: عبد الله القضاعي والشاعر عبيد بن الأبرص الأسدي، وكعب بن لؤي بن غالب، والأول منهم هو ابن تغلب بن وبرة بن قضاعة، كان من الحكماء الخطباء، يتبع الحنيفية، وينهج على نهجها مثل الحنفاء3.
وأما الثاني، وهو عبيد بن الأبرص، فشاعر جاهلي شهير له في قتله قصة، هي من ذيول قصة "الغريين" للمنذر بن ماء السماء. نجد في الشعر المنسوب إليه اسم "الله" يتردد في كثير من المواضع، ونراه من المتشائمين المؤمنين بالمنايا وبالمحتم المكتوبن ونراه افي القصيدة البائية يتوكل على الله، ويدعو الناس إلى الاعتماد عليه فيقول:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
بالله يدرك كل خير ... والقول في بعضه تلغيب
والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب4
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 277".
2
فلا تكتمن الله ما في صدوركم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيودع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم
شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، للإمام ثعلب "ص12"، "طبعة الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "القسم الرابع ص518"، بلوغ الأرب "2/ 277 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "2/ 280".
4 البيان والتبيين "1/ 226"، شعراء النصرانية "القسم الرابع ص607 وما بعدها"، أسماء المغتالين "211"، "نوادر المخطوطات".(12/82)
ونراه يقول في المنايا:
فأبلغ بني وأعمامهم ... بأن المنايا هي الوارده
لها مدة فنفوس العباد ... إليها وإن كرهت قاصده
فلا تجزعوا الحمام دنا ... فللموت ما تلد الوالده1
وفي كثير من مواضع شعره يذكر المنايا ويتذكر الموت، ثم هو يتجلد ويتصبر في ملاقاة الشدائد والأهوال، وينصح الناس بالسير على هذا المنوال. والذي يقرأ شعره، يشعر أنه أمام رجل حضري رقيق عاطفي المزاج، ذي نفس ميالة إلى التقشف والتصوف، مؤمن بالعدل، كاره للظلم، فهل كان عبيد على هذه الشاكلة؟ وهل هذا الشعر وخاصة ما جاء منه في البائية هو نظم من منظومه؟ أو هو من نظم من عاش بعده في الإسلام؟
وأما "كعب بن لؤي بن غالب". فهو من أجداد النبي. وقد كان على الحنيفية، وإليه كانت تجتمع قريش في كل جمعة، فكان يعظهم ويوجههم ويرشدهم يأمرهم بالطاعة والتفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وتقلب الأحوال والاعتبار بما جرى على الأولين والآخرين، ويحثهم على صلة الأرحام وإفشاء السلام وحفظ العهد ومراعاة حق القربة والتصدق على الفقراء والأيتمام2.
هذه خلاصة موجزة لسير من حشرهم أهل الأخبار في زمرة الحنفاء، تريك آراء الجماعة تكاد تكون واحدة: كفر بالأصنام وبالشرك كله، وإعراض عن عادات قومهم، وثورة على عقائدهم، وترقب لحدوث تطور وإصلاح يقضي على الجهالة، وقد مهدوا له بدعوتهم تلك التي أشاعوها بين بني قومهم فجلبت عليهم السخط والغضب الشديد، مما حمل أكثرهم، وهم في الغالب من مكة وأطرافها، على الفرار من بلدتهم إلى أطرافها المنعزلة الآمنة وغيرها من الأماكن الخالية، ليكونوا في أمان من إيذاء قومهم لهم، وفي وسط يفكرون فيه في خلق السماوات والأرض تفكيرا هادئا، فلا يزعجهم مزعج، ولا ينغص حياتهم هناك مختص.
__________
1 شعراء النصرانية "القسم الرابع ص604 وما بعدها".
2 ابن سعد، الطبقات "الجزء الأول، القسم الأول ص39"، بلوغ الأرب "2/ 282".(12/83)
لقد جعل أهل الأخبار معظم من تحدثنا عنهم إن لم نقل كلهم من القارئين الكاتبين، ونسبوا إلى بعضهم قراءة الكتب والصحف والزبور ومجلة لقمان. يريدون بذلك الكتب المقدسة. ويفهم من كلامهم في بعض الأحيان أن منهم من كان يحسن فهم العبرانية أو لغة بني إرم. ولكن الإخباريين عفا الله عنهم لم يتبسطوا لنا في الحديث عن ماهية تلك الصحف وعن محتويات مجلة لقمان وعن الكتب المنزلة، ولم يأتوا بنماذج مفصلة طويلة أو قطع ترشد إلى المظان، التي نقلت منها. فأضاعوا علينا، بإهمالهم الإشارة إلى هذه الأمور، أشياء كثيرة كهمة، بنا حاجة ماسة إلى معرفتها، للوقوف على الحالة الدينية في جزيرة العرب قبيل الإسلام وإبان ظهوره.
ويؤكد أهل الأخبار أن بعض أولئك الحنفاء كانوا يسيرون على سنة إبراهيم وشريعته، وأن بعضًا آخر منهم كان يلتمس كلماته ويسأل عنها، وأنهم في سبيل ذلك تحملوا المشاق والأسفار والصعاب. وقد جعلوا وجهة أكثرهم أعالي الحجاز وبلاد الشأم وأعالي العراق. أي المواضع التي كانت غالبية أهلها على النصرانية يومئذ، وجعلوا أكثر كلامهم وسؤالهم مع الرهبان. وقد أضافوا إليهم الأحبار أحيانًا، وذكروا أن الرهبان والأحبار أشاروا عليهم بوجوب البحث والتأمل، فليس عندهم ما يأملونه ويرجونه من دين إبراهيم وإسماعيل، ولذلك لم يدخلوا في يهودية ولا نصرانية، بل ظلوا ينتظرون الوعد الحق، ومنهم من مات وهو على هذه العقيدة. مات معتقدا بدين إبراهيم حنيفا، غير مشرك بربه أحدا.
أما كيف كانت شريعة إبراهيم، وعلى أي نهج سار الحنفاء، وهل كان لهم كتاب أو كتب أو نحو ذلك؟ فأسئلة لم يجب عنها أهل الأخبار إجابة صريحة واضحة. لذلك صرنا في جهل بأمر تلك الشريعة: شريعة إبراهيم، شريعة التوحيد الحق.
ويذكر أهل الأخبار أنه كان الأتباع إبراهيم من العرب علامات وعادات ميزوا أنفسهم بها عن غيرهم، منها: الختان، وحلق العانة، وقص الشارب. وهي علامات جعلها بعض المفسرين من "كلمات إبراهيم" التي ذكرت في القرآن الكريم، في الآية: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} 1. ذهب القائلون
__________
1 البقرة، الآية 124.(12/84)
بهذا الرأي إلى أن تلك الكلمات هي عشر: "خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فأما التي في الرأس، فالمضمضة والاستنشاق وقص الشارب وفرق الرأس والسواك. وأما التي في الجسد، فالاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان"1.
ومن سنن شريعة إبراهيم الاختتان. وهو من العادات القديمة الشائعة بين العرب الجاهليين الوثنيين. أما العرب النصارى، فلم يكونوا يختتنون. فالحنفاء في هذه العادة والوثنيون سواء. وفي أخبار معركة "حنين" أن الأنصار حينما أجهزوا على قتلى ثقيف ممن سقط في المعركة مع هوازن وجدوا عبدا، عندما كشف ليستلب ما عليه وجد أغرل. فلما تبين ذلك للأنصار، نادى أحدهم بأعلى صوته: يعلم الله أن ثقيفا غرل ما تختتن. فقام إليه المغيرة بن شعبة، وهو من ثقيف، فأخذ بيده، وحشي أن يذهب ذلك عن قومه في العرب، فقال له: لا تقل ذلك فداك أبي وأمي، إنما هو غلام لنا نصراني، ثم جعل يكشف له قتلى قومه ويقول له: ألا تراهم مختتنين2؟
ويتبين من هذا الخبر أن العرب كانوا يعدون الغزل شيئًا معيبًا، ومقبضة تكون حديث الناس. وهناك خبر آخر يفيد أن العرب جميعًا كانوا يختتنون، وأن الاختتان كان من السمات التي تميزهم عن غيرهم، وأنهم في ذلك كاليهود3. وقد ورد في الموارد اليهودية ما يفيد اختتان العرب. ولعل التوراة التي ذكرت قصة اختتان إسماعيل، أخذت خبرها هذا من تقاليد العرب الشماليين التي كانت شائعة بينهم في ذلك العهد4.
__________
1 تفسير الطبري "1/ 414 ومابعدها"، روح المعاني "1/ 374"، بلوغ الأرب "2/ 287"، المحبر "329".
2 الطبري "3/ 130"، "ذكر الخبر عن غزوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هوازن بحنين.
3 الأغاني "6/ 91"، "ذكر أبي سفيان وأخباره ونسبه.
4 Reste S175(12/85)
الاعتكاف:
وقد نسب الاعتكاف في الكهوف وفي البراري وفي الجبال إلى عدد من هؤلاء الحنفاء. فقد ذكر أهل الأخبار أنهم كانوا قد اعتكفوا في المواضع الخالية البعيدة(12/85)
عن الناس، وحبسوا أنفسهم فيها، فلا يخرجون منها إلا لحاجة شديدة وضرورة ماسة1. يتحنثون فيها ويتأملون في الكون، يلتمسون الصدق والحق. والتحنث التعبد. فكانوا يتعبدون في تلك المواضع الهادئة الساكنة، مثل غار "حراء" وقد ذكر أن الرسول كان يتحنث فيه الليالي، يقضيها في ذلك الغار2.
ويعبر عن التعبد ليلا بـ "التهجد" أيضًا. وذكر أن التهجد الصلاة ليلا. وقد كان الرسول يتهجد3. والتهجد التيقظ والسهر بعد نومة من الليل. والهجود النوم عند العرب. ويظهر أن تفسير التهجد بالتعبد ليلا، إنما ورد من تفسيرهم لما ورد في القرآن الكريم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} 4. فخص العلماء التهجد بالتعبد ليلا.
ويعبر عن التعبد بالنسك، والنسك: العبادة والطاعة وكل ما يتقرب به إلى الآلهة. والنساك: المتعبدون. وقد كان الحنفاء من النساك أي المتعبدين. وعدوا الذبائح من النسك. وجعلوا النسيكة: الذبيحة5. والذبائح، أي النسائك، هي من أهم مظاهر التعبد والزهد عند الجاهليين.
وممن نسب إلى النسك والرهبنة من الجاهليين "أبو عمر عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان"، أحد "بني ضبيعة بن زيد". وكان في الجاهلية يسمى "الراهب"، لأنه كان مترهبا، وقد كان من المقدمين بيثرب، إذ كان رأس الأوس فيها، فلما جاء رسول الله إلى المدينة، خاصمه، ثم خرج إلى مكة مباعدا له، ومعه خمسون غلاما من الأوس، واشترك مع قريش يوم أحد6.
__________
1 تاج العروس "6/ 203"، "عكف".
2 تاج العروس "1/ 616""حنث".
3 تاج العروس"2/ 543" "هجد".
4 الإسراء، الآية 79، تفسير الطبير "15/ 95"، روح المعاني "15/ 127".
5 اللسان "10/ 498 وما بعدها" "نسك".
6 نهاية الأرب "17/ 89"، "ذكر غزوة أحد"، امتاع الإسماع "1/ 115".(12/86)
الفصل السادس والسبعون: اليهودية بين العرب
مدخل
...
الفصل السادس والسبعون اليهودية بين العرب
والحديث عن اليهودية بين العرب، وعن وجود يهود في أنحاء من جزيرتهم، لا يمكن أن يكون حديثا تأريخيا مبنيا على العلم إذا ارتفعنا به إلى الميلاد وإلى ما قبل الميلاد. ولا يعني كلامي هذا عدم وصول يهود إلى جزيرة العرب، وعدم إقامتهم في أماكن منها. فهذا كلام لا يمكن أن يقال، ولا يمكن قبوله. إنما أريد أن أقول أننا لا نملك نصوصا تأريخية تخولنا أن نتحدث عن اليهود في جزيرة العرب قبل الميلاد حديثا علميا، بأن نعين المواضع التي نزلوا فيها، والأماكن التي وصولا إليها، وما فعلوه هناك، وفي أي عهد كان ذلك، ومن قادهم إلى تلك الأنحاء، ومن استقبلهم استقبالا حسنا، أو استقبلهم استقبالا سيئًا من الجاهليين؟
وقد عرف اليهود عند الجاهليين، وورد ذكرهم في الشعر الجاهلي. ولا بد من وقوف الجاهليين على أحوالهم، لأنهم كانوا كما سنرى يسكنون في مواضع عديدة معروفة تقع ما بين فلسطين ويثرب، كما سكنوا في اليمن وفي اليمامة وي العروض. وكان تجار منهم يقيمون في مكة وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب للاتجار وإقراض المال بربا فاحش للمحتاجين إليه.
ومعارفنا عن يهود جزيرة العرب مستمدة من الموارد الإسلامية. والسبب في ورود خبرهم في هذه الموارد، هو اصطدامهم بالإسلام، ومقاومتهم له حينما دعاهم الرسول إلى الدخول فيه، فنزل فيهم الوحي، وأشير إليهم في الحديث،(12/87)
وذكروا في كتب التفسير والسير والتواريخ والأدب. ومن هنا تجمعت معارفنا عن يهود الجاهلية. ولهذا تجد الحديث عن يهود الجاهلية لا يرتقي كثيرًا عن عصر النبوة، ولا يبتعد عنه ولكني لا أستبعد احتمال تغير الحال، إذا ما عثر المنقبون في المستقبل على كتابات جاهلية قد تكون مطمورة في الوقت الحاضر في باطن التربة، يكون لها صلة بيهود جزيرة العرب، أو إذا ما عثر على مؤلفات ووثائق مكتوبة عبرانية أو غير عبرانية قد تكون مجهولة عن ذوي العلم في الوقت الحاضر، تكون لها صلة وعلاقة بأمر يهود جزيرة العرب قبل الإسلام.
وقد وردت لفظة "يهود" معرفة في القرآن الكريم. أي على هذا الشكل: "اليهود". وردت في مواضع من سورة البقرة1. ومن سورة المائدة2 ومن سورة التوبة3. وكلها سورة مدنية. ولم ترد في سورة من السور المكية. كما وردت لفظة "يهوديا" في سورة آل عمران، وردت في شرح ديانة "إبراهي": {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} 4. وهي من السور المدنية كذلك.
وعبر القرآن الكريم عن اليهود وعن معتنقي اليهودية بـ {الذين هادوا} 5، وبـ {من كان هودا} 6 و {كونوا هودا} 7 و {كانوا هودا} 8. وسورتي الأنعام والنحل من السور المكية. وبناء على ذلك تكون جملة "الذين هادوا" قد نزلت قبل نزول لفظة "اليهود" في القرآن الكريم.
وقد عبر عن العبرانيين عامة ب"بني إسرائيل" في القرآن الكريم. عبر عنهم في سورة مكية وفي سورة مدنية. ويلاحظ أن ورود هذا التعبير في القرآن الكريم، هو أكثر بكثير من ورود لفظة "اليهود" فيه.
__________
1 البقرة: الآية 113، 120.
2 المائدة، الآية 18، 51، 64،82.
3 التوبة، الآية30.
4 آل عمران، الآية 67ز
5 البقرة، الآية 62،النساء، الآية 46، 160،المائدة الآية 41، 44، 69
الأنعام الآية 146، النحل، الآية 188، الحج، الآية 17، الجمعة، الآية 9.
6 البقرة، الآية 111.
7 البقرة، الآية 135.
8 البقرة، الآية 140.(12/88)
ولما كانت فلسطين امتدادا طبيعيا للحجاز، كان من الطبيعي اتصال سكانها بالحجاز، واتصال سكان الحجاز بفلسطين، وذهاب جاليات يهودية إلى العربية الغربية، للاتجار وللإقامة هناك، خاصة بعد فتوح الدول الكبرى لفلسطين واستيلائها عليها، وهجرة اليهود إلى الخارج. فكانت العربية الغربية لاتصالها بفلسطين من الأماكن الملائمة المناسبة لهجرة اليهود إليها، وإقامتهم فيها، ولا سيما عند مواضع المياه وفي الأرضين الخصبة الغامرة، غير إننا لا نستطيع، كما قلت، التحدث عن هجرة اليهد هذه إلى هذه الأنحاء حديثا علميا معززا بالكتابات وبالتواريخ.
ولم يترك يهود جزيرة العرب لهم أثرًا مكتوبا يتحدث عن ماضيهم فيها. وكل ما عثر عليه منهم، نصوص معدودة، وجدت في اليمن، لا تفصح بشيء ذي بال عن اليهود واليهودية. كذلك لم يصل إلينا أن أحدا من المؤلفين والكتبة العبرانيين ذكر شيئًا عن يهود الجاهلية. وليس لنا من تأريخ اليهود في جزيرة العرب إلا ما جاء في القرآن الكريم وفي الحديث وكتب التفسير والأخبار والسير. فمادتنا عن تأريخ اليهودية في العربية، لا ترتقي إلى عهد بعيد عن الإسلام.
لقد ذهب بعض المؤرخين المحدثين إلى أن اليهود كانوا في جملة من كان في جيش "نبونيد" يوم جاء إلى تيماء. فأقاموا بها وبمواضع أخرى من الحجاز بلغت "يثر". وأن هؤلاء اليهود أقاموا منذ ذلك الحين في تلك الأماكن واستوطنوا وادي القرى وأماكن أخرى إلى مجئ الإسلام. غير أن "نبونيد" لم يشر في أخباره المدونة إلى وجود اليهود في جيشه وإلى إسكانه لهم في هذه الأرضين كما أننا لم نعثر على كتابات تتحدث عن هذا العهد أو عن العند الذي سبقه أو الذي جاء من بعده، لذلك فإننا لا نستطيع أن نعزز هذا الكلام بنصوص وكتابات. وإن كنا لا نريد نفي احتمال مجئ اليهود إلى هذه الديار في عهد "نبونيد"، أو في عهد "بخت نصر"، أو قبل العهدين.
نعم، لقد عثر على عدد من الكتابات النبطية في الحجر وفي مواضع أخرى من أرض النبط وردت فيها أسماء عبرانية تشير إلى أن أصحابها من يهود، ويعود بعضها إلى القرن الأول للميلاد، ويعود بعض آخر إلى ما بعد ذلك مثل الكتابة التي يعود عهدها إلى سنة 307 ميلادية، وصاحبها رجل اسمه "يحيى بر شمعون" أي "يحيى بن شمعون"1. غير أن هذه الكتابات شخصية، ولا تفصح بشيء
__________
1 Islamic culture, vol, III, No. 2, April 1929, Judaeo-Arabic Relations in Pre-Islames Times, By Josef Horovity, P. 170.(12/89)
ذي بال عن عقيدة أصحابهان ولا عن تأريخهم في هذين الأرضين.
وقد ذهب اليهود إلى العربية الشرقية، ذهبوا إليها من العراق، فسكنوا في مواضع من سواحل الخليج، وتاجروا مع أهل هذه البلاد ومع باطن الجزيرة. وقد ساعدتهم بعض الحكومات على الذهاب إليها. وقد كانت ليهود العراق تجارات مع أهل الخليج، كما يفهم ذلك من مواضع من التلمود.
ويتبين من روايات المؤرخ اليهودي "يوسفوس فلافيوس Iosephos Fiavius أن اليهودية كانت قد وجدت لها سبيلا بين العرب. وأن بعض ملوك مملكة "حدياب" Adiabene كانوا قد دخلوا فيها1. ويذكر المؤرخ "سوزومين" Souzomenos أن اليهود كانوا ينظرون إلى العرب الساكنين شرق الحد العربي Iimes Arabicus على أنهم من نسل إسماعيل، وأنهم كانوا يرون أنهم من نسل إسماعيل وإبراهيم، فهم من ذوي رحمهم، ولهم بهم صلة قربى. وكانوا يرجون لذلك دخلوهم في دينهم، واعتناقهم دين إبراهيم جد اليهود والعرب. وقد عملوا على تهويد أولئك العرب2.
ويظهر من مواضع من التلمود أن نفرا من العرب دخلوا في اليهودية، وأنهم جاءوا إلى الأحبار، فتهودوا أمامهم3. وفي هذه المرويات "التلمودية"، تأييد لروايات أهل الأخبار التي تذكر أن اليهودية كانت في حمير، وبني كنانة، وبني الحارث بن كعب، وكندة4، وغسان. وذكر "اليعقوبي" أن ممن تهود من العرب "اليمن بأسرها. كان تبع حمل حبرين من أحبار يهود إلى اليمن. فأبطل الأوثان، وتهود من باليمن، وتهود قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من غسان وقوم من جذام"6.
وقد ذكر علماء التفسير في تفسيرهم الآية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ
__________
1 Die Araber, II, S. 65. ff.
2 Sozomenos, 6 38 10-13, 299, 17, Die Araber, II, S. 74.
3 Y bamot, 16, Abooda Zara 27a, Die Araber, II, S 74.
4 المعارف "621"، الأعلاق النفيسة "217".
5 البدء والتأريخ "4/ 31".
6 اليعقوبي "1/ 226 وما بعدها".(12/90)
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 1، أنها نزلت في الأنصار. كانت المرأة المقلات في الجاهلة تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده فتهود قوم منهم. فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام. أو أنهم لما بقوا على يهوديتهم، وأمر اليهود بالجلاء، وفيهم منهم، شق على آبائهم ترك أبنائهم يذهبون مع اليهود، فقالوا: "يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم.. فسكت عنهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} ... فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد خير أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم"2. وذكر العلماء أيضا أن ناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني قريظة وغيرهم من يهود، فتهودوا، وأن من الأنصار من رأي في الجاهلية أن اليهودية أفضل الأديان، فهودوا أولادهم، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه، أرادوا إكراه أبنائهم الذين تهودوا على الدخول فيه، فنزل الوحي بالآية المذكورة3. فقد كان إذن بين يهود جزيرة العرب، عرب دخلوا في دين يهود.
وذكر أهل الأخبار أن "جبل بن جوال بن صفوان" الثعلبي، من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، كان يهوديا فأسلم، فهو عربي، يظهر أنه أو أهله قبله قد تهودوا، فكان على دين يهود، وعاش مع "بني قريظة"، حتى اعتنق الإسلام4. وذكروا أسماء آخرين كانوا من متهودة الجاهليين.
ويرى بعض المؤرخين اليهود أن يهود جزيرة العرب كانوا في معزل عن بقية أبناء دينهم وانفصال، وأن اليهود الآخرين لم يكونوا يرون أن يهود العربية مثلهم في العقيدة، بل رأوا أنهم لم يكونوا يهودًا، لأنهم لم يحافظوا على الشرائع الموسوية ولم يخضعوا لأحكام التلمود5. ولهذا لم يرد عن يهود جزيرة العرب شيء في أخبار المؤلفين العبرانيين.
وعندي أن عدم ورود شيء عن يهود الحجاز في أخبار المؤلفين العبرانيين
__________
1 البقرة، رقم 2، آية 256.
2 تفسير الطبري "3/ 10 وما بعدها.
3 تفسير الطبري "3/ 10 وما بعدها"، تفسير القرطبي "3/ 280، وما بعدها".
4 الإصابة "1/ 223 وما بعدها" "رقم 1071".
5 إسرائيل ولفنسون: تأريخ اليهود في بلاد العرب "ص13"، "القاهرة 1927".(12/91)
لا يمكن أن يكون دليلا على عزلة يهود الحجاز عن بقية اليهود. فقد أهمل غيرهم أيضًا ولم يشر إليهم، لأن التأليف الفكري عند العبرانيين كانا قد تركزا في هذه العهود على المستوطنات اليهودية في العراق وعلى فلسطين، وعلى "طبريا" بصورة خاصة، ولم تشتهر الجاليات اليهودية التي انتشرت في مواضع أخرى بالتأليف، فكان من الطبيعي أن تنحصر أخبار اليهود في هذا العهد في هذين القطرين. ولهذا لم يشر إلى يهود الحجاز وإلى يهود بقية جزيرة العرب. ثم إن الحجاز على اتصال بفلسطين، وفلسطين جزء من الحجاز متمم له جغرافيا، وهو متصل بفلسطين منذ القدم، وفلسطين منفذه التجاري، وميناء "غزة" من المواضع التي كان يقصدها تجار الحجاز للاتجار، والحركة مستمرة دوما بين فلسطين والحجاز، وقد كان تجار اليهود من أهل الحجاز يتاجرون مع بلاد الشام وفي وجملتها أرض فلسطين، وإلا يكون بين اليهودين اتصال. أما من ناحية الآراء الدينية والاعتقادية، فقد يكون بين اليهودين بعض الاختلاف، فقد وقع اختلاف في الآراء بين أحبار يهود العراق وبين أحبار يهود فلسطين، فلا يستبعد إذن رأي من يقول بوجود اختلاف في وجهة نظر يهود فلسطين بالنسبة ليهود الحجاز، إذ قد يكون بوجود اختلاف في وجهة نظر يهود فلسطين بالنسبة ليهود الحجاز، إذ قد يكون بوجود اختلاف في وجهة جزيرة العرب قد تأثروا بالعرب الذين نزلوا بينهم فاضطروا إلى التخفيف من التمسك بشعائر دينهم، لا سيما وأن من بين يهود جزيرة العرب يهود متهودون، كانوا في الأصل من أدوم ومن النبط ومن العرب، دخلوا في اليهودية لعوامل متعددة، فلم يكونوا لذلك على سنة اليهود الأصيلين في المحافظة على شريعتهم محافظة شديدة تامة.
وقد انتشر اليهود جماعات استقرت في مواضع المياه والعيون من وادي القرى وتيماء وخيبر إلى يثرب، فبنوا فيها الآطام لحماية أنفسهم وأرضهم وزرعهم من اعتداء الأعراب عليهم. وقد أمنوا على أنفسهم بالاتفاق مع رؤساء القبائل الساكنة في جوارهم على دفع إتاوة لهم، وعلى تقديم الهدايا إليهم لاسترضائهم. وكان من شأنهم أيضًا التفريق بين الرؤساء وإثارة الشحناء بين القبائل حتى لا تصفوا الأحوال فيما بينها وتلتئهم ولئلا يكون اتفاقها والتئامها خطرًا يتهدد اليهود.
وليس الذي يرويه أهل الأخبار عن إرسال موسى جيشًا إلى الحجار، واستقرار ذلك الجيش في يثرب بعد فتكه بالعماليق وبعد وفاة موسى، ثم ما يذكرونه عن(12/92)
هجرة داود مع سبط يهوذا إلى خيبر وتملكه هناك ثم عودته إلى إسرائيل1 وأمثال هذا إلا قصصًا من النوع الذي ألفنا قراءته في كتب أهل الأخبار، لا أستبعد أن يكون مصدره يهود تلك المنطقة أو من أسلم منهم، لإثبات أنهم ذوو نسب وحسب في هذه الأرضين قديم، وأنهم كانوا ذوي بأس شديد، وأن تاريخهم في هذه البقعة يمتد إلى أيام الأنبياء وابتداء إسرائيل، وأنهم لذلك الصفوة المختارة من العبرانيين.
وقد زعم أهل الأخبار، أن العمالقة كانوا أصحاب عز وبغي شديد، وكانوا ينزلون الحجاز في جملة ما نزلوا من أماكن في أيام موسى، وكان منهم: بنو هف وبنو سعد وبنو الأزرق وبنو مطروق. وملكهم إذ ذاك رجل منهم اسمه "الأرقم"، ينزل ما بين تيماء وفدك. وكان سكان يثرب من العمالقة وكذلك سكان بقية القرى. فلما تغلب عليه العبرانيون انتزعوا منهم مساكنهم، وأقاموا في مواطنهم في الحجاز2.
وقد أخذ أهل الأخبار ما رووه عن دخول اليهود إلى يثرب في أيام موسى، وما ذكروه عن إرساله جيشًا إلى هذه المنطقة، ثم ما رووه عن سكنهم القديم في أطراف المدينة وفي أعالي الحجاز، من سفر "صموئيل الأول" من التوراة3. وقد حسب أهل الأخبار العمالقة من سكان يثرب القدماء، ومن سكان أعالي الحجاز، فزعموا أن تلك الحروب قد وقعت في هذه المنطقة، وأن اليهود قد سنوها لذلك منذ أيام موسى. وقد أخذ الإخباريون رواياتهم هذه من اليهود، وممن دخل منهم في الإسلام4.
ويرى بعض الإخباريين أن ابتداء أمر اليهود في الحجاز ونزولهم وادي القرى وخيبر وتيماء ويثرب إنما كان في أيام "بخت نصر"، فلما جاء "بخت نصر"
__________
1 الأغاني "19/ 94 وما بعدها"، "أخبار أوس ونسب اليهود بيثرب وأخبارهم"، ابن خلدون "2/ 88"، "2/ 594"، "دار الكتاب اللبناني، بيروت 1956"، أبو الفداء "1/ 123"، ابن الأثير، الكامل "1/ 401 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 594" "بيروت 1956"، ابن هشام "2/ 17".
2 الأغاني "19/ 94"، ابن هشام "2/ 17".
3 صموئيل الأول: الاصحاح الخامش عشر، الآية 5 وما بعد.
4 NoIdeke BeItrage S 52(12/93)
إلى فلسطين، هرب قسم منهم إلى هذه المواضع واستقروا بها إلى مجيء الإسلام1. وليس في هذا الخبر ما يحملنا على استعباده، فهروب اليهود إلى أعالي الحجاز ودخولهم الحجاز أمر سهل يسير، فالأرض واحدة وهي متصلة والطرق مفتوحة مطروقة، ولا يوجد أي مانع يمنع اليهود أو غير اليهود من دخول الحجاز. لا سيما وأن اليهود كانوا خائفين فارين بأنفسهم من الرعب، فهم يبحثون عن أقرب ملجأ إليهم يحميهم من فتلك ملك بابل بهم. وأقرب مكان مأمون إليهم هو الحجاز.
أما ما ورد في روايات أهل الأخبار عن هجرة بعض اليهود إلى أطراف يثرب وأعالي الحجاز على أثر ظهور الروم على بلاد الشام وفتكهم بالعبرانيين وتنكيلهم بهم مما اضطر ذلك بعضهم إلى الفرار إلى تلك الأنحاء الآمنة البعيدة عن مجالات الروم، فإنه يستند إلى أساس تاريخي صحيح2. فالذي نعرفه أن فتح الرومان لفلسطين أدى على هجرة عدد كبير من اليهود إلى الخارج، فلا يستبعد أن يكون أجداد يهود الحجاز من نسل أولئك المهاجرين.
وكان يقيم "بـ "مقنا" عند ظهور الإسلام قوم من اليهود اسمهم "بنو جنبة"، وقد كتب إليهم الرسول وإلى أهل "مقنا" يدعوهم إلى الإسلام، أو إلى دفع الجزية3. وكتب إلى قوم من يهود اسمهم "بنو غاديا"4، وإلى قوم آخرين اسمهم "بنو عريض"5.
ومن هؤلاء المهاجرين على رأي الإخباريين بنو قريظة وبنو النضير وبنو بهدل. ساروا إلى الجنوب في اتجاه يثرب، فلما بلغوا موضع الغابة، وجدوه وبيا، فكرهوا الإقامة فيه، وبعثوا رائدا أمروه أن يلتمس لهم منزلا طيبا، وأرضا عذبة، حتى إذا بلغ "العالية"، وهي بطحان ومهزور واديان من حرة على تلاع أرض عذبة. بها مياه وعيون غزيرة، رجع إليهم بأمرها، وأخبرهم بما
__________
1 الأغاني "19/ 94"، ابن خلدون "2/ 594" "دار الكتاب"، أبو الفداء "1/ 123".
"الكامل" "1/ 401" Rdony Die IsraeIiten zu Mekka S 135
2 ابن خلدون "2/ 594" "بيروت 1956".
3 ابن سعد "طبقات "1/ 276".
4 ابن سعد "طبقات" "1/ 278".
5 ابن سعد طبقات "1/ 279".(12/94)
رآه منها، فقر رأيهم على الإقامة فيها. فنزل بنو النضير ومن معهم على بطحان، ونزلت قريظة وبهدل ومن معهم على مهزور، فكانت لهم تلاعة وما سقى من بعاث سموات1.
وسكن اليهود يثرب. سكنها منهم بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو القصيص وبنو ماسلة، سكن هؤلاء المدينة وأطرافها، وكان يسكن معهم من غير بني إسرائيل بطون من العرب، منهم: بنو الحرمان حي من اليمن، وبنو مرثد حي من بلي، وبنو نيف وهم من بلي أيضًا، وبنو معاوية حي من بني سليم ثم من بني الحرث بن بهثة، وبنو الشظية حي من غسان. وظل اليهود أصحاب يثرب وسادتها، حتى جاء الأوس والخزرج، فنزلوها واستغلوا الخلافات التي كانت قد وقعت بين اليهود، فتغلبوا عليهم، وسيطروا على المدينة، وقسموها فيما بينهم، فلم يبق من يومئذ عليها سلطان2.
وتذكر روايات أهل الأخبار أن مجئ الأوس والخزرج إلى يثرب كان بعد حادث سيل العرم. جاءوا إليها لفقر حالهم، والتماسا لوطن صالح جديد، وأنهم حينما نزلوها لم يكن لهم حول ولا قوة. ولذلك قنعوا بالذي حصلوا عليه من أرض ضعيفة موات، ومن رزق شحيح. أما المال والثروة والملك والجاه، فلليهود. بقوا على ذلك أمدا حتى إذا ما ذهب مالك بن العجلان، وهو منهم، إلى أبي جبيلة الغساني رئيس غسان يومئذ، ونزل عند، شكا لأمير غسان سوء حال قومه وما هم عليه من بؤس وضنك. فوعده أبو جبيلة أن يأتي على رأس جيش من قومه لمساعدته، على أن يقوم بعد عودته ببناء حائر عظيم، يعلن أنه بناه لاستقبال الأمير فيه، وأن يطلب من اليهود الخروج لاستقباله والتشرف بزيارته في ذلك الحائر، فإن فعلوه، فتل بهم وأبادهم. فلما تم البناء, ووصل الأمير في الأجل الموقوت، ودخل المدعوون رؤساء اليهود الحائر، فتكت عساكر أبي جبيلة بهم أهلكتهم، وتمت الغلبة من يومئذ للأوس والخزرج، وعاد
__________
1 الأغاني "19/ 94 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 594"، تأريخ أبو الفداء "1/ 123" "مطبعة التقدم".
2 الأغاني "19/ 95"، الكامل، لابن الأثير "1/ 401".(12/95)
أبو جبيلة إلى مقر مكله1.
غير أن اليهود ظلوا مع هذه الغلبة يتهاترون مع الأوس والخزرج ويعترضونهم ويتناوبونهم، فعمد مالك بن العجلان إلى الحيلة، فتظاهر أنه يريد الصلح معهم، وإنه عزم على تسوية العداوات وطمس الحزازات، وإنه لذلك يدعو رؤساءهم إلى طعام، ليتفاوضوا مع سادات قومه في أمر الصلح. فلما حضر رؤساء يهود، فتك بعشرات منهم ممن استجاب لدعوته، وفر أحدهم ليخبر قومه بما حدث، وحذر أصحابه الذين بقو، فلم يأت منهم أحد.
"فلما قتل مالك من يهود من قتل، ذلوا، وقل امتناهم، وخافوا خوفًا شديدًا، وجعلوا كلما هاجمهم أحد من الأوس والخزرج بشيء يكرهونه لم يمش بعضهم لبعض كما كانوا يفعلون قبل ذلك، ولكن يذهب اليهودي إلى جيرانه الذين هو بين أظهرهم، فيقول: إنما نحن جيرانكم ومواليكم، فكان كل قوم من يهود لجئوا إلى بطن من الأوس والخزرج يتعززون بهم" ومنذ ذلك الزمن لم يبق لليهود على هذه الأرضين سلطان2.
وورد في رواية أخرى أن "مالك بن عجلان"، كان من الخزرج، وكان سيد قومه يومئذ، وكان على اليهود رجل منهم اسمه "الفطيون" ملك عليهم، واستبد بأمر الناس، وكان يهوديا ومن بني ثعلبة، وكان أمر سوء فاجرا، قرر ألا تدخل امرأة على زوجها إلا بعد دخولها عليه. فاغتاظ مالك من فعل الفطيون ومن استذلاله للعرب، ولما كان زفاف أخته لزوجها، وكان لا بد من ادخالها على "الفطيون" أولا ليستمتع بها، كبر ذلك عليه، فدخل معها في زي امرأة، فلما أراد "الفطيون" الخلو بها، وثب مالك عليه وعلاه بسيفه وقتله، وخلص قومه منه، وفر عندئذ إلى أبي جبيلة ملك غسان3.
وتذكر هذه الرواية أن "جبيلة" لم يكن من غسان، بل كان من الخزرج، وكان عظيمًا ذا منزلة كبيرة في الناس، حتى صار ملكا على الغساسنة، ويرجح
__________
1 الأغاني "19/ 97 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 596"، أبوالفداء "1/ 123"، الكامل "1/ 401".
2 الأغاني "19/ 95 وما بعدها"، ابن الأثير الكامل "1/ 401 وما بعدها".
3 ابن الأثير، الكامل "1/ 401"، وفي بعض الكتب "القطيون" بحرف القاف، وهو تحريف، المحبر "113" جمهرة أشعار العرب "243"، "القاهرة 1926م".(12/96)
رواتها أنه لم يكن ملكا على آل غسان، بل كان مقربا عند ملكهم، عظيم الحظوة لديه. ودليلهم على ذلك عدم اعتراف الغساسنة بوجود ملك عليهم اسمه "عبيد بن سالم بن مالك بن سالم"، وهو اسم "أبو جبيلة" المذكور. ويذكرون أن "الرمق بن زيد الخزرجي" مدحه بشعر قاله فيه1.
وتذكر رواية أن الفطيون اسم عبراني، واسمه "عامر بن عامر بن ثعلبة بن حارثه"، وكان تملك بيثرب. فلما قتل خرج مالك بن العجلان، حتى قدم على "أبي جبيلة" ملك غسان، فأعلمه غلبة يهود على يثرب فعله بهم، فقدم "أبو جبيلة" ملك غسان، فأعلمه غلبة يهود على يثرب وفعله بهم، فقدم "أبو جبيلة" يثرب، ثم صنع طعاما، ومكن الأوس والخزرج ممن دعاهم إلى الطعام من قتل مائة من أشراف اليهود، فقويت الأوس والخزرج عليهم2.
وجاء في رواية أخرى، أن "مالك بن العجلان"، إنما فر إلى "تبع"، بعد قتله "الفطيون" فاستصرخه على اليهود، فجاء حتى قتل ثلثمائة وخمسين رجلا غيلة من سادات يهود بـ "ذى حرض"، ولما أدبهم رجع إلى أرضه اليمن3.
أما مالك بن العجلان، فقد صوره اليهود شيطانا ملعونا، وصوروه في بيعهم وكنائسهم ليلعنوه كما دخلوا ورأوه، وذكروه في شعرهم في أقبح هجاء قالوه4.
وقد كان بين يهو يثرب قو يقال لهم "بني الفطيون" بقوا حتى جاء الرسول إلى يثرب. فأجلاهم في السنة الثالثة من الهجرة5. وذكر "ابن دريد" أن بعضًا من "بني الفطيون" الذين هم من نسل "الفطيون" ملك يثرب، قد شهد "بدرا" واستشهد بعضهم بوم اليمامة. وذكر أن نسب "الفطيون" في غسان. أن من ولد الغطيون: "أبو المقشعر" واسمه "أسيد بن عبد الله"6.
__________
1 ابن الأثير، الكامل "1/ 401 وما بعدها".
2 نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "136 وما بعدها".
3 البدء والتأريخ "3/ 179".
4 الأغاني "19/ 69"، الاشتقاق "ص270".
Graetz, Geschichte der Juden, V, S. 431, Hirschfeld, Essai de I'histoire des Juives de Medine, in Revue Etudes Juives, VII, 1883, p. 173, Caussin de Perceval, Essai, II, p. 652, Wellhausen, Skizze, IV, S. 33, Nallino, Reccolta, III, p. 111
5 المحبر "112".
6 الاشتقاق "2/ 249"، "وستنفلد".(12/97)
وقد فسر أهل الأخبار كلمة "الفطيون" بـ"مالك"، وقالوا إنها تقابل "النجاشي" عند الحبشة، و"خاقان" عند الترك. وذكروا أسماء نفر ممن كانوا يلقبون بالفطيون1.
ويفهم من روايات الإخباريين أن يهود الحجاز كانوا قبائل وعشائر وبطونا، منهم: بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع، وبنو عكرمة، وبنو محمر، وبنو زعورا، وبنو زيد، وبنو الشظية، وبنو جشم، وبنو بهدل، وبنو عوف، وبنو القصيص "العصيص"، وبنو ثعلبة2. غير أنهم لم يكونوا أعرابا، أي بدوا يتنقلون من مكان إلى مكان، بل كانوا حضرا استقروا في الأماكن التي نزلوا فيها، ومارسوا مهن أهل المدر، كل جماعة مستقلة تحمل اسما من تلك الأسماء التي ذكرها الإخباريون.
وقد عرف بنو قريظة وبنو النضير من بين اليهود بـ "الكاهنين"، نسبوا ذلك إلى جدهم الذي يقال له "الكاهن". و"الكاهن" هو الكاهن بن هارون بن عمران على زعم بعض أهل الأخبار3. فهم على هذه النسبة من أصل رفيع ومن نسب حسيب، يميزهم عن بقية طوائف يهود ولهذا كانوا يفتخرون بنسبهم هذا، ويرون لهم السيادة والشرف على من سواهم من إخوانهم في الدين.
ويرى "نولدكه" احتمال كون بني النضير وبني قريظة من طبقة الكهان في الأصل: هاجروا من فلسطين على أثر الحوادث التي وقعت فيها، فسكنوا في هذه الديار. وهناك جملة عشائر وأسر يهودية تفتخر بإلحاق نسبها بالكاهن هارون شقيق موسى النبي4.
كذلك يرجع "أوليري" كأمثاله من المستشرقين أصل بني قريظة وبني النضير إلى اليهود، ويرى أنهم غادروا ديارهم وجاءوا إلى هذه المنطقة في الفترة الواقعة ما بين خراب الهيكل في عام 70 للميلاد وتنكيل "هدريان" باليهود في عام 132 للميلاد5.
__________
1 الاشتقاق "2/ 259".
2 الأغاني "19/ 95 وما بعدها"، سيرة ابن هشام "2/ 147 وما بعدها".
NoIdike BeItage
3 الأغاني "19/ 95"، تاج العروس "5/ 259" "قرظ".
Margoliouth, p. 59, Graetz, History of the Jews, III, p. 56.
4 Noldeke, Bitrage, S. 55.
5 O'beary, p. 173.(12/98)
ويرجع بعض بقية يهود جزيرة العرب نسبهم إلى الكاهنين وإلى الكاهنين وإلى الأسباط العشرة كذلك، فيدعون إنهم من تلك الأسباط المفقودة، وإنهم من نسل قدماء اليهود1.
وقد كانت منازل بني النضير حينما غزاهم الرسول في وادي بطحان وبموضع البويرة2. ووادي بطحان، هو أحد أودية يثرب الثلاثة، هي: العقيق وبطحان وقناة، وهو واد فيه مياه غزيرة وعيون، اتخذ به اليهود الحدائق والآطام. وقد كان غزاهم الرسول بعد ستة أشهر من غزوة أحد، فأحرق نخلهم وقطع زرعهم وشجرهم لتطاولهم على المسلمين. ومن ساداتهم: حي بن أخطب، وأخوه ياسر بن اخطب، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع، وهو أبو رافع الأعور، والربيع بن أبي الحقيق3. وعمرو بن جحاش.
ومن بني النضير، كعب بن الأشرف، وكان معاصرا للرسول، وكان صاحب لسان ونفوذ. أبوه من طئ على رواية، ومن بني النضير على رواية أخرى. أما أمه فهي من بني النضير بإجماع الرواة. توفي أبوه -على رأي من يقول إنه من طئ- وهو صغير، فحملته أمه إلى أخواله، فنشأ فيهم، وقال الشعر عندهم، وساد. ولما جاء الرسول إلى يثرب، كان كعب فيمن ناصب الرسول العداء فعلا وقولا، فهجا الرسول، وهجا أصحابه، وظل هذا شأنه بالرغم من محاولة المسلمين استصلاحه واسترضاءه، حتى جنى عليه لسانه، فأهدر النبي دمه، فذهب إليه نفر من المسلمين، فاقتحموا داره وقتلوه. وقد كانت له مناقضات مع حسان بن ثابت وغيره في الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج4.
__________
1 Nallino, Raccolta, III, p. 99, Friedlander, The Jews of Arabia and the Rechabites, in Jews Quarteriy Review, 1910-1911.p. 254
2 بالضم ثم السكون، وقيل بفح أوله وكسر ثانيه وبفتح أوله وسكون ثانية، البلدان "2/ 216"، "1/ 512 وما بعدها"، "السعادة".
3 البلدان "2/ 310 وما بعدها"، البكري، معجم "1/ 285" "طبعة مصطفى السقا" "بويرة" شرح ديوان حسان، للبرقوقي "ص193 وما بعدها، الطبري "2/ 224"، "الاستقامة" فتوح البلدان، للبلاذري "1/ 32"، "1932م"،
"القاهرة".
4 الأغاني "19/ 106 وما بعدها"، المحبر "ص117،282،390"، ديوان حسان "ص46" "طبعة هرشفلد، شرح ديوان حسان "ص272 وما بعدها" "للبرقوقي"، الكامل، لابن الأثير "2/ 99"، الطبري "2/ 177"، معجم الشعراء، للمرزباني "343"، ابن خلدون "2/ 757"، ابن هشام "2/ 548"، البداية والنهاية "4/ 74".(12/99)
وكان قد ذهب إلى مكة، فحرض قريشًا على الرسول، ولما عاد إلى موضعه، ألب المشركين من أهل يثرب عليه. ومرثا قتلى القليب، فقتله المسلمون كما ذكرت1.
وكانت لبني قريظة حصون، يتحصنون بها وقت الخطر، ولهم آبار، ومنهم "محمد بن كعب القرظي"2. والزبير بن باطان بن وهب، وعزال بن شمويل، وكعب بن أسد، وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو بن سكينة.
وكان بنو قينقاع أول اليهود الذين ناصبوا الرسول العداء، وكانوا يسكنون في أحياء يثرب، وكانوا أغنياء على غير وفاق ووئام مع بقية أبناء قومهم قريظة وبني النضير. وقد اشتركوا في يوم بعاث: ووقعت بينهم وبين بني النضير وبني قريظة معارك فتك فيها ببني قينقاع، وأصيبوا بخسائر كبيرة اضطرتهم على ما يظهر إلى الالتجاء إلى يثرب والإقامة فيها في حي واحد من المدينة3.
ويرى "أوليري" احتمال كون بني قينقاع من أصل عربي متهود، أو من بني أدوم4.
وقد تكون بعض القبائل اليهودية التي ذكر أسماءها الإخباريون قبائل يهودية حقًّا، أي من الجماعات اليهودية التي هاجرت من فلسطين في أيام القيصر "طيطوس" Titus" أو "هدريان" Hadrian، أو قبل أيامهما، أو بعدها. ولكن بعضًا آخر منها، لم يكن من أصل يهودي، إنما كانت قبائل عربية دخلت في دين يهود، ولا سيما القبائل المسماة بأسماء عربية أصيلة. ولبعض هذه
__________
1 التنبية "243"، والمصادر المذكورة، السيرة الحلبية "2/ 94 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 401 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 608"، ابن عساكر "1/ 40"، البداية والنهاية "4/ 74 وما بعدها".
2 تاج العروس "5/ 259"، "قرظ"، البداية والنهاية "4/ 116" الأغاني "19/ 94"، فتوح البلدان، للبلاذري "1/ 23، 35"، الطبري "2/ 245"، "الاستقامة"، السيرة الحلبية "2/ 145 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 777".
3 البداية والنهاية "4/ 3"، الطبري "2/ 172"، "الاستقامة" البدء والتأريخ "4/ 195"، البلدان "7/ 199"، ولفنسون "128 وما بعدها" السيرة الحلبية "2/ 2 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 608".
4 Obeary 173 f(12/100)
101
الأسماء، صلة بالوثنية تشعر أنها كانت على الوثنية قبل دخولها في دين يهود1. والظاهر إنها تهودت إما بتأثير التبشير، وإما باختلاطها ودخولها في عشائر يهودية جاورتها فتأثرت بديانتها. وقد ذكر البكري إن "بني حشنة بن عكارمة"، وهم من بليّ قتلوا نفرًا من بني الربعة، ثم لحقوا بتيماء "فأبت يهود أن يدخلوهم حصنهم وهم على غير دينهم، فتهودوا، فأدخلوهم المدينة، فكانوا معهم زمانًا، ثم خرج نفر إلى المدينة، فأظهر الله الإسلام، وبقية من أولادهم بها"2. وهنالك بطون أخرى عربية الأصل كانت على دين يهود3.
وقد اشتهر يهود خيبر من بين سائر يهود الحجاز بشجاعتهم. وخيبر موضع غزير المياه كثيره، وقد عرف واشتهر بزراعته وبكثرة ما به من نخيل. وعند إجلاء اليهود عن خيبر، تفرقوا فذهب بعض منهم إلى العراق، وبعض آخر إلى الشام، وبعض منهم إلى مصر. وقد بقوا في كل هذه المواضع متعصبين لوطنهم القديم خيبر، ينادون بشعارهم الذي كانوا ينادون به قبل الإسلام، وهو: "يا آل خيبر"4.
وقد اشتهرت "خيبر" وعرفت بالحمى. حتى نسبت إليها، فقيل لها حمى" خيبرية". وكان من أساطيرهم إذ ذاك، أن من أراد دخولها فعليه بالتعشير ليتخلص منها. وكان من أوبداهم فيما يزعمون أن الرجل إذا ورد أرض وباء ووضع يده خلف أذنه، فنهق عشر نهقات نهيق الحمار، ثم دخلها أمن من الوباء5.
وزعم أن يهود خيبر هم من نسل "ركاب" المذكور في التوراة6، وأن "يونادب" Jonadab "جندب" ابنه: تبدى مع أبنائه ومن اتبعه، وعاش
__________
1 Margoilouth, p. 60, Noldeke, Beitrage, S. 52, Wustenfeld, Geschichte von Medina, S. 28.
2 البكري "1/ 29" "طبعة السقا"، IsIamic III VoI 2 p 177
3 NoIdk BeItrage S 55
4 المشرق: السنة السادسة والثلاثون، 1938 "ص152 وما بعدها.
5 قال عروة بن الورد:
وإني وإن عشرت من خشية الردى ... نهاق حمار إنني لجزوع
6 الملوك الثاني: الاصحاح العاشر، الآية 15-28 Hastings 784(12/101)
عيشة تقشف وزهد وخشونة، وأن نسلهم هاجر بعد خراب الهيكل الاول إلى الحجاز حتى بلغوا خيبر، فاستقروا بها، واشتغلوا بزراعة النخيل والحبوب، وأنهم أقاموا فيها قلاعا وحصونا تحميهم من غارات الأعراب عليهم. ذكر بعض الإخباريين أنها ولاية من سبعة حصون، منها: حصن ناعم، والقموص حصن ابن أبي الحقيق وهو أقواها وأعزها وقد أقيم على مرتفع من الأرض حماه وعزز دفاعه، وحصن الشق، وحصن النطاة، وحصن السلالم، وحصن وجده، وحصن الوطيح، وحصن الكتيبة "الكثيبة". وقد أخرجوا منها وأجلوا عنها زمان عمر الخطاب1.
وقد زعم بعض الإخباريين إن خيبر لفظة عبرانية، وأن معناها الحصن في عربيتنا2. وزعم بعض آخر إنها نسبة إلى رجل اسمه "خيبر بن فاتية بن مهلاييل"، سميت خيبر باسمه، لأنه كان أول من نزلها3. وذهب "وايل" WeiI، إلى أن اللفظة لفظة عبرانية، وهي بمعنى مجموعة مستوطنات4، أما "دوزي"، فقد أخذ بالرواية العربية، فزعم أن "خيبر"، كناية عن جماعة من اليهود هاجرت في أيام السبي من فلسطين إلى هذا الموضع، وهي من نسل "شفطيا بن مهللئيل" من "بني فارص"5. وأن "فاتيه"، هو تحريف "شفطيا" Shaftja المذكور في سفر "نحميا" من أسفار التوراة، وهو ابن "مهللئيل"، الذي هو "مهلاييل" عند أهل الأخبار. وزعم أن زمان هجرة هذه الجماعة يتناسب تمامًا مع الرواية القائلة أن هجرة اليهود إلى جزيرة العرب كانت في أيام "بخت نصر"6.
وذهب المستشرقون أن كلمة "خيبر"، كلمة عبرانية الأصل "خيبر" Kheber"
__________
1 البلدان "3/ 495 وما بعدها"، البكري، معجم "1/ 521" تاج العروس "3/ 168"، "خبر"، اد المعاد "2/ 133"، تاريخ الإسلام "1/ 294 وما بعدها".
Graetz, III, p. 56, Ency, II, p. 869, Caetani, Annali, II, I, 8-33.
2 أبو الفداء، "ص89"، البلدان "3/ 495"، البكري، معجم "2/ 521 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 168"، "خبر"
3 R Dozy Mekka S 136
4 Mohammed der Propht S 185
5 نحميا، الاصحاح الحادي عشر، الآية 4 وما بعدها.
6 R Dozy Mekka S136 f(12/102)
ومعناها الطائفة والجماعة1. وذهب بعضهم إلى أن معناها الحصن والمعسكر2. وهي من أقدم المواضع التي لجأ إليها اليهود في الحجاز.
ومن الصعب تعيين الزمن الذي هاجر فيه اليهود إلى هذا الموضع. لقد رجع بعضهم ذلك إلى أيام هجوم الرومان على فلسطين. غير أن من الجائز أن تكون هجرتهم إليها قد وقعت قبل ذلك، من الجائز أن تكون في أثناء السبي واستيلاء البابليين على القدس، وقد يجوز أن يكون قوم منهم قد جاءوا مع "نبونيد" ملك بابل إلى تيماء حين اتخذ "تيماء" عاصمة له. فهاجر قسم منهم إلى خيبر وإلى نواح أخرى من الحجاز3.
وأقدم إشارة كتابية ورد فيها اسم خيبر، نص: حران اللجاة، ويرجع تأريخه إلى سنة مئة وستين من الأندقطية الأولى، وتقابل سنة 568 للميلاد، وقد ورد فيه: بعد مفسد خيبر بعم"4. أي بعد خرب خيبر بعام. وهو يشير إلى غزو لهذا الموضع أنزل به خسائر كبيرية، ولأهميته وفداحته في نفوس أهله أرخوا بوقوعه. ويعود النص المذكور المدون باليونانية والعربية إلى "شرحيل بن ظلمو" "شراحيل بن ظالم"، وقد دونه لمناسبة بنائه "مرطولا"، فأرخ بتاريخ خيبر المذكور. وهو يشير إلى غزوة قام بها أحد أمراء غسان على خيبر5.
وقد وجدت كتابات بحروف المسند وكتابات نبطية في خيبر، هي أقدم عهدا من نص "حران اللجاة"، يفهم منها بوجود سكن في هذه الأرضين يعود بعضه إلى ما قبل الميلاد، ولم تكشف تربة خيبر حتى الآن، وكل ما عثر من عاديات فيها هو من النوع الذي وجد ظاهرا على سطح الأرض، وليس بمستبعد أن يعثر على كتابات قد تكشف عن تأريخ هذه البقية.
ولما بلغ أهل تيماء ما حدث لإخوانهم في خيبر ووادي القرى، وفدك، قبلوا
__________
1 Charles Cutler Torrey, The Jewish Foundations of Islam, New York, 1933, p. 13.
2 Ency II p 879
3 Torret P 17 MuIIer Der IsIam IS 36 ff
4 جواد علي العرب قبل الإسلام "1/ 195 وما بعدها".
5 المصدر المتقدم، المعارف "313"، ولفنسون، السامية "192".(12/103)
الجزية، وصالحوا الرسول في سنة تسع للهجرة، فضمن بذلك لهم حرية بقائهم في دينهم، وعلى تيماء كان يشرف حصن السموأل "الأبلق الفرد". وقد نعتت تيماء في بعض الأشعار بتيماء اليهود1.
وتيماء من المواضع القديمة. وقد مر الحديث عنها في أماكن من هذا الكتاب. وقد سبق أن قلت بأن الملك "نبونيد" قد أقام فيها، حيث اتخذها عاصمة له، وهي في موقع حسن، وملتقى طرق هامة يسلكها التجار، وقد استبد بها اليهود فأقاموا بها وجعلوها من أهم مستوطناتهم في الحجاز. استغلوا أرضها فزرعوها، واستنبطوا الماء من الآبار بالإضافة إلى واحتها ذات المياه العذبة الغزيرة التي كان لها الفضل في تكوين هذا الموضع وإعماره. وقد ذكرت في شعر "امرئ القيس"، وفيها كان حصن السموأل بن عادياء المذكور في قصص امرئ القيس الشاعر.
ويرى بعض المستشرقين أن "شمعون التيماني" Simeon of TemanIte المذكور في التلمود والمدراش، هو من أهل "تيماء"2. ولا يستبعد أن يكون من بين أهل هذه المدينة من حصل على شهرة في العلم بفقه اليهود وبأحوال دينهم. فإن مركزها وموقعها يجعل من السهل على سكانها الوصول إلى فلسطين وبقية بلاد الشام وأخذ العلم من علماء تلك البلاد.
وقد عثر الرحالة "أويتنك" Euting" على كتابة مدونة بقلم بني إرم تعود إلى عهد كان الفرس قد استولوا فيه على هذا المكان، تتحدث عن أهمية تيماء ورقيها في هذا العهد3. ولا يستبعد العثور على كتابات عديدة إذا ما قام العلماء بالتنقيب عنها في باطن الأرض، فإن موضعا مثل هذا الموضع لا بد أن يكون غنيا بالكتابات والآثار. وقد وجد "أويتنك" آثار معبد قديم، وآثار مواضع عتيقة أخرى ترجع إلى ما قبل الإسلام4. ووجد "جوسن" Jaussen" و"سافينه" Savignac آثار مقابر على تلال من النوع الذي يطلق عليه الآثاريون اسم
__________
1 البلدان "2/ 442" "تيماء"، فتوح البلدان "1/ 29".
2 Mishna Yadayim, I, 3, Yebamoth, 4, 13, Tosephta Berachoth, 4, 24, Sanhedr, 12, 3, Besa, 2, 19, Bab. Talmud, Zebachim, 32 b. Baba Gamma, 90, b. Besa, 21a Tarrey, pp. 26 Margoliouth, p. 68.
3 Ency, IV. P. 622.
4 Euting, Tagebuch Einer Reise in innerarabien, II, 148. 199.(12/104)
"تمولي" TumuIi ومرقاة مدرجة تؤدي إلى بناء مربع لعله معبد من معابد القوم بني على هذا التل1.
ولا توجد اليوم بقية للأبلق الفرد، الذي افتخر السموأل وآل السموأل به، وكذلك يهود تيماء. وليس بمستبعد أن يكون ذلك الحصن من بقايا قصر "نبونيد" أو من بقايا قصور رجاله، أو من بقايا أبنية غيره ممن نزل هذا المكان. وقد يكون بناء أقامه السموأل وبناه بحجر تلك الأبنية القديمة. وقد أكسب قصر السموأل هذا الموضع شهرة، وأكسبه خبر وفاء السموأل شهرة كذلك على النحو المذكور في كتب الأدب والأخبار2.
وفدك موضع آخر من المواضع الذي غلب عليه اليهود. وسكانه مثل أغلب يهود الحجاز مزارعون عاشوا على الزراعة كما اشتغلوا بالتجارة وببعض الحرف التي تخصص فيها اليهود مثل الصياغة والحدادة والنجارة3. والموضع من المواضع القديمة التي يعود عهدها إلى ما قبل الإسلام، وقد ذكره الملك "نبونيذ" في جملة المواضع التي زارها والتي خضعت لحكمه في الحجاز. وكان رئيس فدك عند ظهور الإسلام وهجرة الرسول إلى يثرب يوشع بن نون4.
ووادي القرى، هو من من المواضع التي غصت باليهود، فكان أكثر أهله منهم. وقد كان يهوده من المزارعين5، وقد حفروا به الآبار، وتحالفوا مع الأعراب، وعاشوا معهم متحالفين. يعملون بالزرع. وقد غزاهم الرسول مرجعه من خيبر سنة سبع للهجرة، على أثر إصابة "مدعم الأسود" مولى الرسول بسهم غارب قتله. وهو مولى مولد من "حسمي"، كان أهداه "رفاعة بن زيد الجذامي" أو "فروة بن عمرو الجذامي" إلى الرسول6.
__________
1 Jaussen and Savignac, Mission Archeologique, II, pp. 133, 163.
2 أبو الفداء، تقويم البلدان "86"، البكري، معجم "1/ 329"، البلدان "2/ 67"، اللسان "12/ 76""صادر"، ابن حوقل، صورة الأرض "30"، ابن خلدون "2/ 574"، دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية" "6/ 130".
3 البكري، معجم "1/ 327"، تقويم البلدان "78".
4 الطبري "3/ 98" حوادث السنة السابعة" ابن الأثير "2/ 93"، "ذكر فدك"، البلاذري، فتوح "36 وما بعدها"، NaIIino RaccoIta I 198 III 97
5 زاد المعاد "2/ 146".
6 الطبري "3/ 16"، "ذكر غزوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وادي القرى" الإصابة "3/ 374"، "رقم 7858".(12/105)
وكان من بين أهل مقنا وأيلة في أيام الرسول قوم من اليهود كذلك، وكذلك أهل بقية القرى الواقعة في أعالي الحجاز وعلى ساحل البحر، وقد صالحوا الرسول على الجزية، وبذلك ضمنوا لهم البقاء في هذا الأنحاء1. ومن هؤلاء اليهود "بنو جنبة"، وهم يهود بـ"مقنا"2، و"بنو غاديا"3، و"بنو عريض"4.
وكان بالطائف قوم من اليهود طردوا من اليمن ويثرب، فجاءوا إليها، ولم تكن قد أسلمت بعد، فأقاموا بها للتجارة. فلما صالح أهل الطائف الرسول -على أن يسلموا ويقرهم على ما في أيديهم من أموالهم وركازهم، واشترط عليهم ألا يربوا ولا يشربوا الخمر وكانوا أصحاب ربا- وضعت الجزية على يهودها، وبقوا فيها، ومن بعضهم ابتاع معاوية أمواله بالطائف5.
ويظهر إنه لم تكن لليهود جاليات كبيرة في جنوب المدينة حتى اليمن، لعدم إشارة أهل الأخبار إليهم، وإن كنت لا أستبعد وجود أفراد وأسر منهم في مكة وفي عدن وفي المدن التي اشتهرت بالتجارة كبعض موانئ البحر الأحمر وموانئ سواحل العربية الجنوبية. غير أن وجودهم في هذه المواضع، لم يكن له أثر واضح مهم، فلم يتجاوز محيط التجارة والاتجار.
وقد ذهب بعض المستشرقين، استنادًا إلى دراسة أسماء يهود الحجاز عند ظهور الإسلام، إلى أن أولئك اليهود لم يكونوا يهودا حقًّا، بل كانوا عربا متهودين، تهودوا بتأثير الدعاة اليهود6. ولكن الاستدلال من دراسة الأسماء على أصول الناس، لا يمكن أن يكون حجة للحكم على أصولهم وأجناسهم. فالفرس والروم والهنود وغيرهم ممن دخل في الإسلام، تسموا بأسماء عربية، وبعضها أسماء عربية خالصة. وتسمياتهم هذه لا تعني أن من تسمى بها كان عربي الأصل. ثم إن كثيرًا من اليهود في الغرب وفي أمريكا وفي البلاد العربية والإسلامية، سموا أنفسهم بأسماء غير عبرانية، ولكنهم كانوا وما زالوا على دين يهود،
__________
1 البلدان "8/ 128" "مقنا"، البلاذري، فتوح "66"، زاد المعاد "2/ 117"، الطبري "2/ 232 وما بعدها".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 276".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 279".
4 ابن سعد "طبقات" "1/ 279".
5 البلاذري، فتوح "63".
6 W CaskeI Das attarabIsche koningreich Lihyan S 19(12/106)
فالأسماء وحدها لا تكفي في إعطاء رأي علمي في تعيين الأصول والأجناس، ولا سيما في المواضع الكائنة على طرق التجارة والمواصلات وفي الأماكن التي يكثر فيها الاختلاط.
وللمستشرق "ونكلر" رأي في هذا الموضوع، خلاصته: أن أولئك اليهود لو كانوا يهودا حقًّا هاجروا من فلسطين إلى هذه المواضع، لكانت حالتهم وأوضاعهم ومستواهم الاجتماعي على خلاف ما كان عليه هؤلاء اليهود. كانت حالتهم أرقى وأرفع من الحالة التي كانوا عليها، إذ لا يعقل، على رأيه، وصول جماعة إلى ذلك المستوى الاجتماعي الذي كان عليه يهود جزيرة العرب لو كانوا من بلاد مستواها الثقافي والمدني أرقى من مستوى من هو دونهم كثيرًا في شؤون الحياة. ومستوى الحياة في جميع نواحيها، فلسطين، أرقى وأرفع من مستواها في الأماكن التي وجد فيها اليهود من بلاد العرب. فهم على رأيه عرب متهودون، لا يهود مهاجرون1.
غير أن هنالك من يؤاخذ ونكلر على هذا الرأي، لأن رأيه لا يمكن أن ينطبق على من ترك دياره وهاجر، واستقر في موطن جديد لأمد طويل، لأن الأوضاع المحيطة بالوطن الجديد سرعان ما تؤثر في المهاجرين، ولا سيما إذا كانوا جماعات صغيرة أو جماعات ليست ذات بأس شديد، فتجعلها تنصاع للمحيط الذي نزلت به بعض الإنصياع، فتفقد بعض خصائصها، لتكتسب خصائص المجتمع الجديد. ثم إن اليهود الذين نزلوا في الحجاز، كانوا يختلفون مع ذلك عمن كان في جوارهم أو بينهم، إذ كانوا يشتغلون بالزراعة ويمتهنون بعض المهن التي يأنفها العربي الأصيل، كما أنهم يشتغلون بالزراعة ويمتهنون بعض المهن التي يأنفها العربي الأصيل، كما أنهم كانوا لا يرغبون في القتال، ولا يميلون إلى الغزو والحروب، ولم يشتركوا إلا اضطرارا وإلا بإلحاح المصالح الضرورية فيها، وهم يختلفون في هذه الناحية من الأعراب2.
ويلاحظ أن يهود الجاهلية لم يحافظوا على يهوديتهم وعلى خصائصهم التي يمتازون بها ويحافظون عليها محافظة شديدة، كما حافظوا عليها في الأقطار الأخرى. فأكثر أسماء القبائل والبطون والأشخاص، هي أسماء عربية، والشعر المنسوب إلى شعراء منهم، تحمل الطابع العربي، والفكر العربي، وفي حياتهم الاجتماعية والسياسية
__________
1 winkIer Mett Var Asai Ges VI S 222
2 MargoIiouth P62(12/107)
لم يكونوا يختلفون كبيرا عن العرب، فهم في أكثر أمورهم كالعرب فيما سوى الدين1. ولعل هذا بسبب تأثير العرب المتهودة عليهم، وكثرتهم بالنسبة إلى من كان من أصل يهودي، مما سبب تأثيرهم، وهم ذوو أكثرية، في اليهود الأصيلين الذين أثروا فيهم فأدخلوهم في دينهم، فأثروا هم فيهم، وطبعوهم بطابع عربي.
وقد عاش اليهود في جزيرة العرب معيشة أهلها، فلبسوا لبساهم، وتصاهروا معهم، فتزوج اليهود عربيات، وتزوج العرب يهوديات، ولعل كون بعض يهود من أصل عربي، هو الذي ساعد على تحطيم القيود التي تحول بين زواج اليهود بالعربيات وبالعكس. والفرق الوحيد الذي كان بين العرب واليهود عند ظهور الإسلام هو الاختلاف في الدين. وقد تمتع اليهود بحرية واسعة لم يحصلوا عليها في أي بلد آخر من البلاد التي كانوا بها في ذلك العهد2.
ومن الأسماء قد تكون من أصل عبراني "زعورا"، وهم اسم عبراني متأثر بلهجة بني إرم، "يساف"، وقد يكون من "يوسف"، و"نبتل" وقد يكون من "نفتالي" NaftaeIi، وأسماء أخرى لم تتمكن من المحافظة على أصلها العبراني، فتأثرت بخواص اللسان العربي. وليس بين أسماء البطون اليهودية الأحد عشر، التي كانت في الحجاز في أيام ظهور الإسلام، اسم تظهر عليه الملامح العبرانية غير الاسم الذي ذكرته وهو "زعوراء"3.
وكانت يثرب عند هجرة الرسول إليها، في أيدي أصحابها الأوس والخزرج، لهم السيطرة والسلطان، ولليهود آطامهم وقلاعهم في خيبر وفي تيماء وفي بعض قرى وادي القرى وفي أعالي الحجاز، يتاجرون، ويزرعون، ويقرضون الأموال بالربا الفاحش للأعراب، ويحترفون بعض الحرف مثل الصياغة، وهي حرفة اشتهروا بها منذ القديم، ويعقدون الأسواق ليقصدها الأعراب للامتياز.
ولكن اليهود مع ما كان لهم من قلاع وآطام وقرى عاشوا فيها متكتلين مستقلين لم يتمكنوا من بسط نفوذهم وسلطانهم على الأرضين التي أنشئوا مستوطناتهم
__________
1 NoIdeke Beirage S55 f
2 Graetz III p58 f 60
3 Margoliouth, P. 60, Nallino, Raccolta, III, P. 104, H. Hirschfeld, Essal Sur I'histoire des Juifs de Medine, in Revue des Etudes Juifs, X, 1885. P. 11. f.(12/108)
فيها، ولم يتمكنوا من إنشاء ممالك وحكومات يحكمها حكام يهود، بل كانوا مستقلين في حماية سادات القبائل، يؤدون لهم إتاوة في كل عام مقابل حمايتهم لهم ودفاعهم عنهم ومنع الأعراب من التعدي عليهم. وقد لجئوا إلى عقد المحالفات معهم، فكان لك زعيم يهودي حليف من الأعراب ومن رؤساء العرب المتحضرين.
وقد كان اليهود يخضعون في نظامهم السياسي والاجتماعي لرؤسائهم وساداتهم، يدفعون لهم ما هو مفروض عليهم أداؤه في كل سنة، وهؤلاء السادة هم أصحاب الآطام والحصون والأرض. ولمن يشتغل في الأرض تسديد ما عليه لصاحبها في مقابل استغلاله لها. وقد اعتنوا عناية خاصة بزراعة النخيل. وعرفت القطعة من الأرض المزروعة نخلا عندهم بالصورين" "الصور"1، ولما كانت الأرضون المزروعة واسعة، كانت خارج الآطام والحصون، يحميها حراسها والمشتغلون بها أيام ثمرتها. وأما في أيام الغزو والحروب، فقد كانت معرضة لهجوم المهاجمين. وهذا ما كان يعرض أعظم غلة لليهود للخطر، ولهذا شق عليهم كثيرًا، وانهارت مقاومتهم حين أمر الرسول بقطع النخل وتحريقه، وأخذوا يلتمسون منه وقف ذلك.
ويتولى الأحبار الأمور الدينية وتنفيذ الأحكام والنظر فيما يحدث بين الناس من خصومات. يقيمون لهم الصلوات وبقية شعائر دينهم، ويعلمونهم في بيوت المدارس.
وقد أدى التنافس بين سادات يهود إلى نشوب معارك بينهم في الجاهلية. وقد أشار إليها القرآن الكريم وأنبهم على ذلك. واضطرت بنو قينقاع بسبب ذلك وبضغط بني النضير وبني قريظة إلى الالتجاء إلى أحياء يثرب وإلى محالفة الخزرج، وفي مقابل ذلك تحالفت بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس، فصاروا فرقتين: فرقة مع الخزرج، وفرقة مع الأوس.
وفي تأنيب يهود، لتخاصمهم وتنابذهم وإخراجهم بعضهم بعضًا من ديارهم وأسر بعضهم بعضًا وافتداء الأسرى كالذي وقع بين بني قينقاع وبني النضير، نزل الوحي: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ
__________
1 الروض الأنف "2/ 194"، ابن هشام "2/ 195"، "حاشية على الروض"، "الصورة: أصل النخل"، "الصورة: النخلة"، تاج العروس "3/ 343"، "صور".(12/109)
مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1 أَنَّبَهُم لأنهم فعلوا فعل المشركين والأعراب، مع أنهم أهل دين واحد وكتاب. أما المشركون فلا لوم عليهم، لأنهم لم يكونوا على دين، وليس لهم كتاب يأمرهم وينهاهم.
وفي المعارك والخصومات التي تقع بين يهود، كانوا يؤدون الدية. وهي على ما يظهر من روايات أهل الأخبار مختلفة، وغير متكافئة. فكان بنو النضير يؤدون الدية كاملة لشرفهم في يهود، أما بنو قريظة، فكانوا يؤدون نصف الدية. وفي خلاف في أداء الدية وقع بينهم، التجئوا إلى الرسول للحكم بينهم، فذكروا له هذا الاختلاف، فحكم بالدية متساوية. وفي هذا الحكم نزلت الآية: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2. ذكر علماء التفسير عن "ابن عباس" أنه قال: "كانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق من تمر، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي، صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} النفس بالنفس ونزلت أفحكم الجاهلية يبغون"3.
وذكر علماء التفسير في تفسيرهم للآيات المتقدمة، أن أحبار اليهود لم يكونوا يحكمون بالحق فيما بين الناس، كانوا يحابون ويتحزبون ويحكمون بالباطل ويأكلون "السحت" أي الرشا، جزاء حكمهم بالباطل. وكانوا يتساهلون في تطبيق أحكام
__________
1 البقرة: الآية 84 وما بعدها، روح المعاني "1/ 309"، ابن هشام "2/ 23" "حاشية على الروض".
2 المائدة، الآية 42.
3 تفسير القرطبي، الجامع "6/ 187"، تفسير الطبري "6/ 157".(12/110)
الشريعة مع الشريف لشرفه، ويتشددون مع الدنيء لدناءته وفقر حاله، ولا يراعون التساوي في أخذ النيات. "كان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي وحموا وجه الشريف وحملوه على البعير، أو جعلوا وجهه من قبل ذنب البعير. وإذا زنى الدنيء بالشريفة، رجموه".
وكان هذا شأنهم "إلى أن زنى شاب منهم ذو شرف، فقال بعضهم لبعض لا يدعكم قومه ترجمونه، ولكن اجلدوه ومثلوا به، فجلدوه وحملوه على حمار أكاف وجعلوا وجهه مستقبل ذنب الحمار. إلى أن زنى آخر وضيع ليس له شرف، فقالوا ارجموه. ثم قالوا فكيف لم
ترجموا الذي قبله، ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا بهذا"، واختلفوا فذهب فريق منهم إلى الرسول، فحكم بينهم بما جاء بحكم التوراة1.
وذكر أن "حيي بن أخطب" كان قد حكم أن للنضري ديتان وللقرظي دية، لأنه كان من النضير2.
وذكر أهل الأخبار إنه كان لليهود حكام يحكمون بينهم، ويقيمون حدودهم عليهم. فلما جاء الرسول إلى يثرب، صار اليهود يعترضون على عدالة حكم بعضهم، ولا يرضون بتنفيذ أحكامهم عليهم. فكان الحكام أو هم يذهبون إلى الرسول لكي يحكم بينهم
فيما هم فيه مختلفون وفق شريعتهم3.
وكان جل اعتماد اليهود في هذه المنطقة عند ظهور الإسلام على التجارة، ومعاطاة الربا والزرع، وبعض الصناعة: كالصياغة، وتربية الماشية والدجاج، وصيد الأسماك في أعالي الحجاز على ساحل البحر الأحمر. واشتهروا بالاتجار بالبلح وبالبر والشعير والخمر، وكانوا يجلبون الخمر من بلاد الشام. وكانوا يبيعون بالرهن، يرهن المشترون بعض أمتعتهم عندهم ليستدينوا منهم ما يحتاجون إليه. وقد ورد أن الرسول رهن درعًا له عند يهودي من أهل يثرب في مقابل شعير كان به حاجة شديدة إليه4.
ومن الصناعات التي اشتغل بها اليهود، النسيج وهو من اختصاص نسائهم على
__________
1 تفسير الطبري "6/ 157".
2 تفسير الطبري "6/ 157".
3 تفسير القرطبي، الجامع "6/ 187".
4 البخاري "2/ 16، 45"، فتوح البلدان "60"، ولفنسون "ص18".
IsIamic CuIture 1929 III No 2 p 187(12/111)
الأكثر، والصياغة وقد اختص بها بنو قينقاع، والحدادة، وهي صناعة يأنف منها العرب ويزدرونها ويرونها من الحرف الممقوتة الحقيرة.
ولم يكن من مصلحة اليهود، وهم أهل زرع وضرع ومال وتجارة وأرض ثابتة وقصور وآطام، أن يشتركوا في الحروب أو يشجعوا وقوعها في ديارهم وفي جوارهم، بل كان من مصلحتهم أن يعم الاستقرار البلاد التي يقيمون فيها، ليعيشوا عيشة هنيئة، وليبيعوا ما عندهم من الأعراب وليشتروا منهم ما عندهم من سلع وليقبضوا أموالهم منهم والأرباح التي استحقت على تلك الأموال.
وفي النزاع الذي يقع بين القبائل، لم يكن من مصلحتهم تأييد حزب على حزب، خوفًا من الوقوع في أخطاء تجر عليهم أخطارا ومهالك هم في غنى عنها وفي مأمن من شرها. ثم إنهم بتحزبهم لطرف يغضبون الطرف الآخر، فيضمر عندئذ شرًّا لهم، فيخسرون بذلك مشتريًا وبائعًا. وهم أناس أصحاب سوق وتجارة. غير أن الظروف كانت تكرههم في بعض الأحيان على الاشتراك في الحرب، وعلى إثارة الحرب أيضًا متى وجدوا في إثارتها فائدة لهم ومصلحة ترتجى كأن ينهكوا العدو بحرب مع عدو آخر بإيقاع الفتنة وإشعال النيران، كما أوقعوا بين الأوس والخزرج، لإضعاف الطرفين معًا، حتى لا تبقى لهم قوة تهددهم وتكون خطرًا عليهم.
وفي يوم بعاث استعان الأوس ببني قريظة والنضير، فبلغ ذلك الخزرج فأرسلوا إليهم يحذرونهم من سوء عاقبة الاشتراك في هذا النزاع، فتوقفوا، غير أنهم عادوا فعاونوا الأوس، وانضم إليهم بنو النبيت، فلما كسب الأوس الحرب، كسب بنو قريظة والنضير والنبيت غنائم من الخزرج، وخرجوا في هذا اليوم منتصرين بانتصار الأوس1.
ويذكر أهل السير والأخبار: أن يهود يثرب كانوا إذا تضايقوا من الأوس والخزرج هددوهم بقرب ظهور نبي يستعلون به عليهم. ففي رواية عن بعض الصحابة إنهم قالوا: "كنا قد علوناهم في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون لنا: إن نبيا يبعث الآن نتبعه، قد أطل زمانه،
__________
1 ابن هشام "3/ 94"، اليهود "ص62 وما بعدها".(12/112)
نقتلكم معه قتل عاد وإرم"1. ولما ذكرهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور ونفر آخرون بدعواهم تلك، وبظهور النبي العربي بقولهم لهم: "يا معشر يهود، اتقوا الله، واسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل شرك، وتخبروننا إنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته"، فكان جواب يهود لهم ما جاء على لسان سلام بن مسكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره لكم، وقد أشير إلى ذلك في القرآن الكريم {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 2.
واستفتاح اليهود على المشركين، هو للتفريج عن أنفسهم ولتخويف الأوس والخزرج ولاعتقادهم حقًّا بظهور مسيح منهم، أي من بني إسرائيل. ولهذا أنكروا نبوة الرسول، وأبوا التسليم بها، لأنه لم يكن منهم، ولأن النبوة لا تكون -على رأيهم- إلا في بني إسرائيل. فكيف يصدقون بنبي عربي من الأميين "نبي أموت ها عولام "Nebie Ummot ha Oiam.
__________
1 ابن هشام "2/ 166"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، تفسير الطبري "1/ 324".
2 البقرة، الآية 89، تفسير الطبري "1/ 324"، روح المعاني "1/ 289".(12/113)
يهود اليمن:
والموضع الثاني الذي عششت فيه اليهودية وباضت، هو اليمن. ففي هذه الأرض من جزيرة العرب ظهر التهود فيها ظهورا واضحا، وصارت اليهودية ديانة البلاد الرسمية. أما كيفية مجيئها وانتشارها هناك، ومتى كان ذلك، فليس لدينا علم واضح دقيق عن ذلك. ويزعم أهل الأخبار أن تبعا، وهو التبع "تبان أسعد أبو كرب"، اهتدى إلى هذه الديانة عند اجتيازه بيثرب وهو عائد إلى اليمن من حرب قام بها في الشمال وفي إيران، وذلك بتأثير بعض الأحبار عليه، ومنذ ذلك الحين صارت هذه الديانة ديانة رسمية للبلاد1.
وتجعل بعض روايات الإخباريين اسم هذا التبع "تبع بن حسان" أو "حسان"،
__________
1 الطبري "2/ 105 وما بعدها"، "طبعة دار المعارف بمصر".(12/113)
وهو "تبع الأصغر"، أو "أبو كرب بن حسان بن أسعد الحميري" أو غير ذلك. وتزعم أن حبرين من أحبار اليهود من بني قريظة عالمين راسخين في العلم، هما اللذان هديا التبع إلى اليهودية، وأبعداه عن عبادة الأوثان1.
وقد يكون لهذه الروايات شيء من الصحة، غير إني أرى أن دخول اليهودية إلى اليمن مرده أيضًا إلى اتصال اليمن من عهد قديم بطرق القوافل التجارية البحرية والبرية ببلاد الشأم. وفي قصة سليمان وملكة سبأ إشارة إلى تلك الصلات، وإلى هجرة جماعات من اليهود إلى هذا القطر عن طريق الحجاز، بعوامل متعددة، منها: التجارة والهجرة إلى هذا القطر عن طريق الحجاز بعوامل متعددة، منها: التجارة والهجرة إلى الخارج، وهروبهم من اضطهاد الرومان لهم، وعوامل أخرى جعلتهم يتجهون من الحجاز إلى اليمن، فأقاموا هناك.
وأما يهود اليمن المحدثون فإن أخبارهم ورجال العلم والفهم منهم يرجعون وجودهم في اليمن إلى أيام السبي، أي إلى أيام "بخت نصر"، وهم يزعمون أنهم بقوا في اليمن منذ ذلك اللحين ولم يعودوا إلى فلسطين2. وقد غادروا اليمن بعد التقسيم.
وقد أشار حبر يسمى "ربي عاقبة" "رباي عقيبة" Rabbi Aqiba، في حوالي سنة "130م"، إلى زيارته لملك عربي كوشي "مليخ عرابيم" كانت زوجته كوشية كذلك، وإلى تحدثه معه. ويراد بـ"كوشي" الأحباش غير أن بعضهم كان يقصد بها العربية الجنوبية كذلك. ولا يستبعد أن يكون مراد الحبر بذلك اليمن، أو منطقة أخرى من العربية الجنوبية كان الحبش قد استولوا عليها3. وربما قصد منطقة ساحلية كان يحكمها ملك عربي في ذلك الوقت.
وتدل رحلة "ربي عقيبة" Raqiba هذه إلى اليمن على وجود يهو فيها، إذ لا يعقل سفره هذا إلى تلك البقعة النائية وتجشمه مشقته، لو لم تكن هناك
__________
1 الأغاني "1/ 109 وما بعدها"، "13/ 120 وما بعدها".
Caussin de Perceval, Essai, I, 91, Nallino, Raccolta, III, p. 88.
2 Travels and adventure of the Rev. Poseph Walf. London, 1861, p. 509, R. dozy, Die Israeliten zu mekka von David Zeit Bis In's Funfte Jakrhundert unsrer Zeirechung, 1864, s. 135.
3 Islamic Culrure, III, 2, p. 190 1929, Josephus, Antiqultate, XV, 3, 29, Die Araber, III, s. 22. Talmud Babli, in Rosh Hashnah, 26a, Kraus, in ZDMG, S. 331, 1916.(12/114)
جالية يهودية فيها. وقد يجوز أن تكون سفرته إلى اليمن مجرد سفرة استطراق وعبور، لغاية الذهاب من اليمن إلى الحبشة، ولكني لا أستبعد مع ذلك وجود اليهود في اليمن في هذا العهد، إذ كان "أوليوس غالوس" قد جاء بجمع منهم معه في حملته على اليمن، فيجوز أن يكون بعضهم قد فضل البقاء في اليمن والسكن فيها لطيبها ولخصب أرضها وتعبهم من السفر، ففضلوا لذلك البقاء على الرجوع وتحمل المشقات والجوع والعطش والهلاك. وقد هلك بالفعل القسم الأكبر من رجال الحملة بسبب صعوبة الطريق والحر الشديد والجوع والعطش1.
وقد عثر على كتابة من كتابات في "بيت شعا ريم" Beth She arim في جنوب شرقي حيفا، ورد فيها: "منحم قولن حميرن" Mnhm Kwin hmyrn أي "مناحيم قيل حمير". والموضع الذي وجدت هذه الكتابة فيه، هو مقبرة من مقابر كبار الأحبار، وقد وجدت معها كتابات أخرى، تشير إلى أسماء أحبار معروفين قبروا فيها. لذلك فإن "مناحيم" "قيل حمير" هو يهودي، قد كان جاء إلى فلسطين للزيارة أو للاتصال بعلماء اليهود الذين كانوا قد تجمعوا في "بيت شيعا ريم"، فمرض ومات هناك. ودفن في مقبرة هذا الموضع. ويرجع الباحثون تأريخ الكتابة المذكورة إلى حوالي سنة "200م"2.
واستدل بعض المستشرقين بنص دونه "شرحبيل يعفر بن أبي كرب أسعد" على سد مأرب، وردت فيه جملة "بعل سمن وارضن"، أي" رب السماء والأرض"، على تهوده بحجة أن هذه العبارة تشير إلى التوحيد الخالص، والتوحيد الخالص هو عقيدة يهود3.
وقد ذكر المؤرخ النصراني "فيلوستورجيوس" PhiIostorgius في حوالي سنة 425م، أن أهل سبأ كانوا يتبعون في "السبت" سنة "إبراهيم"، ولكنه ذكر أيضًا أنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر ومعبودات أخرى، وأن بعضًا منهم كان على دين يهود، وإنه قاوم رسالة "ثيوفيلس" TheophiIus في حوالي سنة 425/، أن أهل سبأ كانوا يتبعون في "السبت" سنة "إبراهيم"، ولكنه ذكر أيضًا أنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر ومعبودات أخرى، وأن بعضًا منهم كان على دين يهود، وإنه قاوم رسالة "ثيوفيلس" TheophiIus الذي أرسله القيصر
__________
1 Uliendorff, in Journ of Sem. Stud, Vol, I, Num. 3, July 1956, p. 221
2 S. D. Goitein, Jew and Arabes, New York, 1955, p. 47, Die Araber, III, S. 16 ff, Corp. Inscript, Iudaic, 2, 1952, 207, Nr. 1137, Driver, in Hebrew and Semific Studies, 1963, 151. F.
3 Islamic Culture, 1929, III, 2, p. 191, Margoliouth, Relations. P 68.(12/115)
قسطنطين "340-361م" للتبشير بين الحميريين. وذكر المؤرخ "ثيودور لكتور" Theodorus Lector، وهو من رجال النصف الأول للقرن السادس للميلاد، أن الحميريين كانوا في بادئ أمرهم على دين يهود، دخلوا فيه في أيام ملكة سبأ المعروفة بقصتها مع سليمان، بدعوتها إياهم إلى هذا الدين. ولكنهم كما يقول هذا المؤرخ عادوا فارتدوا إلى الوثنية، ثم دخلوا بعدئذ في النصرانية في أيام القيصر "أنسطاس" Anastasius "491-518م". ولم يشر ها المؤرخ إلى وجود اليهودية بين الحميريين، كما إنه لم يشر ولا المؤرخ الآخر إلى تهود أحد من ملوك حمير1.
ويفهم من الجمل: "وأن اليهود الكائنين في طبرية يرسلون سنة فسنة ووقتًا فآخر كهنة منهم إلى هناك لإثارة الحس بين نصارى الحميريين. فلو كان الأساقفة نصارى وليسوا بشركاء لليهود، ويودون أن تستقيم النصرانية، لرغبوا إلى الملك وعظمائه، ليلقوا القبض على رؤساء كهنة طبرية وبقية المدن، ويلقوهم في السجن. ولا نقول هذا لنجازي سيئة بسيئة، بل ليتوقفوا منهم بكفلاء حتى لا يعودوا يرسلون رسائل وأشخاصا وجيهين إلى ملك الحميريين، فيصب صاعقة الأرزاء على شعب المسيح في حمير ... "، وهي جمل أقتبسها من رسالة "شمعون" عن تعذيب نصارى نجران، أن يهود اليمن لم يكونوا بمعزل عن يهود فلسطين، بل كانوا على اتصال بهم، وأن أحبار طبرية كانوا يرسلون رجالا منهم إلى اليمن ومعهم أمال ووجوه إلى يهودها وملكها وكبارها للتأثير فيهم ولتوثيق صلاتهم وروابطهم بهم. وقد نسب شمعون إلى أحبار طبرية، إنهم كانوا يحرضون ملك حمير ويهود حمير على الضغط على نصارى اليمن وعلى اضطهادهم انتقاما منهم، فطالب الحكومة والنصارى على الضغط على يهود فلسطين وعلى أحبار طبرية بصورة خاصة، ليكتبوا إلى يهود حمير بالكف عن التحرش بنصارى اليمن، وعن تهديدهم بانزال العقوبات بهم انتقاما منهم إلى لم يسدوا لهم النصح.
وورد في أخبار الشهداء الحميريين: أن أحبارا من فلسطين من "طبريا" Tiberias كانوا قد جاءوا إخوانهم في الدين يهود اليمن وسكنوا معهم2. ومعنى
__________
1 Margoliouth, P. 62 F, Migne, Partologia Graeca, XXXV, P. 211, Islamic Culture, 1929, III, 2, p. 190, Philostorgius, Hist. Eccl, III, 5.
2 MargIiouth p 68.(12/116)
هذا أن الصلات بين يهود اليمن ويهود فلسطين كانت موجودة، وأن يهود اليمن لم يكونوا بمعزل عن يهود فلسطين، ويجب أن يقال مثل ذلك عن يهود الحجاز، إذ لابد وأن يكون ليهود الحجاز اتصال بيهود فلسطين وبيهود اليمن. وكيف لا يكون لهم اتصال بهم، وهم جيران فلسطين ولهم تجارات معهم، ثم إنهم على طريق اليمن وفلسطين، فإذا أراد يهود فلسطين الذهاب إلى اليمن، أو يهود اليمن الذهاب إلى فلسطين فلا بد من المرور بأرض يهود الحجاز والنزول بهم.
وقد عثر في اليمن على نص مكتوب بالمسند، وردت فيه كلمة "يسرائيل" و"رب يهود". ويدل هذا على أن صاحبه كان على دين يهود. عتر عليه المستشرق "كلاسر" ونشره المستشرق "ونكلر"، وهذا هو: "تبرك سم رحمنن ذ بسمين" سمن" ويسر ال والهمو رب يهود. ذ هرد عبد همو وشحرم وامهوبم "؟ " وحشكهتو شمسم واولهمو ذمم "ظ" وابشعر ومار وكل ابه"1.
وأما كتابته بلهجتنا، فعلى هذا المنوال: "تبارك اسم الرحمان الذي في السماء وإسرائيل وإلهه رب يهود الذي ساعد عبده شحرًا وأمه بم"؟ " وزوجته شمسًا وأولاده ذمم "؟ " وأبشعر ومئارًا وكل أهل "بيته".
غير أن من الباحثين من يشك في صحة نقل هذا النص نقلا صحيحًا تامًّا، ولم يتأكد من صحة نقل كلمة "إسرائيل"2.
واليهودية وإن ضعفت في اليمن بدخول الحبشة فيها، بقيت مع ذلك محافظة على كيانها، فلم تنهزم، ولم تجتث من أصولها، وبقيت قائمة في هذه البلاد في الإسلام كذلك فلم يجل أهلها عنها كما أجلي أهل خيبر، وظلت بقيتهم هناك إلى سنيات قريبة حيث غادروها على أثر حوادث فلسطين.
وقد كانت "نجران" من المستوطنات المهمة التي نزل بها اليهود في اليمن3. وهي مكان خصب، وقد عاش اليهود فيها مع غيرهم من العرب من نصارى وعبدة أصنام.
ووجد اليهود في مواضع أخرى من جزيرة العرب. وجدوا في العربية الشرقية
__________
1 Glaser 394-395, Revue des Etudes Juives, 1891, VOl., 23, P. 122, Winckler AOF, I, S. 337
2 MargIiouth p 68
3 معجم "1/ 327".(12/117)
وفي نجد وفي مواضع من العربية الجنوبية، ولما ارتد "بنو وليعة" والأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية الكندي، وتحصن "الأشعث" في النجير"، وهو حصن لهم، كانت فيه امرأة من يهود، عرفت بشماتتها بوفاة الرسول، اسمها "هند بنت يامين" اليهودية1. مما يدل على وجود اليهود في هذا المكان. وكان بالبحرين قوم من اليهود، صالحوا المسلمين مثل النصارى على دفع الجزية عن رءوسهم2. وقد كتب "المنذر بن ساوى" العبدي، يخبر الرسول أن بأرضه يهود ومجوس، فكتب إليه الرسول: "من أقام على يهودية، أو مجوسية فعليه الجزية"3.
__________
1 البلاذري، فتوح "111"، "ردة وليعة والأشعث بن قيس ين معد يكرب بن معاوية الكندي.
2 البلاذري، فتوح "89، 91" "البحرين".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 263".(12/118)
الفصل السابع والسبعون اليهود والإسلام
ويتبين من القرآن الكريم، أن اتصال الرسول باليهود اتصالا مباشرًا إنما كان في يثرب. أما في مكة، فلم يكن لليهود فيها شأن يذكر، لذلك لا نجد في الآيات المكية ما نجده في الآيات المدنية، ولا سيما المتأخر منها، من تقريع لليهود وتوبيخ لهم، لوقوفهم موقفا معاديا من الإسلام، واتفاقهم مع المشركين في معارضة الرسول ومقاومته. وقد بدأ اليهود يعارضون الرسول والإسلام، حينما طلب إليهم الدخول في الإسلام والإيمان برسول الله، وحينما تبين لهم أن الأمر سيفلت من أيديهم، وأن الرسول ليس كبقية رجال قريش أو غير قريش سهل الانقياد مطواعا لهم، وأن تعاليم الإسلام ستفسد العرب عليهم، ولا سيما بعد تحريم الربا. والربا مورد مهم كان يدر ربحًا عظيمًا على يهود، لهذا وجدوا مصلحتهم في معارضته ومقاومته وفي الاتفاق وفي الاتفاق مع المشركين عليه.
ويظهر أنه لم يكن لليهود نفوذ كبير ولا جاليات كبيرة في مكة. فلو كان لهم نفوذ فيها أو رأي مسموع، لسمعنا به كما سمعنا بخبرهم في يثرب، ولكان لهم حي خاص بهم، ومكانة بين رجال قريش، كالذي كان عليه يهود يثرب في اتصالهم بالأوس والخزرج، ولأشير إليهم في السور المكية، على نحو ما أشير إليهم في السور المدنية، ثم لما اضطر رجال قريش للذهاب إلى يثرب مرارا، لاستشارتهم في أمر سلوكهم مع المسلمين، ولما جاء سادات يهود يثرب إلى مكة، لتحريض أهلها على مقاومة الرسول، ولعقد حلف معهم عليه.(12/119)
وقد أمل المسلمون أن يساعد اليهود الإسلام على الوثنة وأن يقفوا منه موقف ود أو حياد، ذلك بأنهم أصحاب كتب منزلة ودين توحيد، والإسلام قريب منهم، وقد اعترف بالأديان السابقة له، ونزه الأنبياء والمرسلين، وهو دين توحيد كذلك. ثم إن الرسول تودد إليهم حين دخوله يثرب، وأمنهم على أموالهم وأنفسهم، وزراهم وطمأنهم، ثم تعاهد معهم في صحائف كتبت لهم، فيها العهد بالوفاء لما اشترط لهم، ما داموا موفين بالوعد وبالعهد وقد طلب إلى جميع المسلمين الوفاء بما جاء فيها، ومنعوا من التجاور والتطاول على من في يثرب من يهود1. وجعل لليهود نصيبا في المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين كما شرط عليهم النفقة معهم الحرب.
ولم تكن علاقات اليهود مع المسلمين سيئة في الأيام الأولى من مجئ الرسول إلى يثرب. رأت جمهرة يهود أن الإسلام دين اعترف بالأنبياء، وأنه دين توحيد وإنه في جملة أحكامه قريب من أحكام ديانتهم وقواعدهم، وأنه يناهض الأوثان، وقد أشاد بفضل بني إسرائيل وبتفوقهم على غيرهم بظهور الأنبياء من بينهم، ثم إن قبلته إلى القدس، وقد تسامح معهم فأباح للمسلمين طعام أهل الكتاب2. وهو دين اعترف بأبوة إبراهيم للعرب، وجعل سنته سنة له. وقد تسامح معهم وحفظ ذممهم، فلم تر في انتشاره بين أهل يثرب ما يضيرهم شيئًا أو يلحق بهم أذى، ولذلك أظهرت استعدادها لعقد حلف سياسي مع ووقوفها موقف ود منه أو موقف حياد على الأقل، على ألا يطلب منها تغيير دينها وتبديله والدخول في الإسلام.
ولما دخل أهل يثرب في الإسلام أفواجا، وتوجه المسلمون إلى اليهود يدعونهم إلى الدخول فيه وإلى مشاركتهم لهم في عقيدتهم باعتبار أنهم أهل دين يقول بالوحي ويؤمن بالتوراة، وبرسالة الرسل، فهم لذلك أولى بقبول هذه الدعوة من الوثنيين، أدركت جمهرتهم أن الإسلام إذا ما استمر على هذا المنوال في المدينة من التوسع والانتشار ومن توجيه دعوته إلى اليهود أيضًا، فسيقضي على عقيدتهم التي ورثوها وهي عقيدة لا تعترف بقيام نبي من غير بني إسرائيل ولا بكتب غير التوراة
__________
1 ابن هشام "3/ 74، 197"، الروض الأنف "2/ 16"، "كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين اليهود".
2 المائدة، الآية 48.(12/120)
والكتب التي دونها علماؤهم، ثم هم يرون أن النبوة قد ختمت ولن يكون المسيح إلا منهم، فكيف يعتقدون بنبي عربي وهو من الأميين؟
وقد رفض اليهود الدخول في الإسلام، وأبوا تغيير دينهم، ودافعوا عن عقيدتهم وتمسكوا بها، ورفضوا التسليم بما جاء في رسالة الرسول من أن الرسول نبي أرسل للعالمين كافة وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن القرآن كتاب مصدق من الله، وأن أحكامه مؤيدة لما جاء في التوراة ناسخة لبعضها. وقد جادلوا في ذلك، وانبرى أحبارهم للدفاع عن عقيدتهم ولمجادلة من يأتي إليهم من المسلمين لأقناعهم في الدخول في الإسلام. وفي القرآن الكريم صور من جدلهم هذا ومن محاجتهم الرسول في دعوته، كما نجد مثل ذلك في الحديث النبوي وفي كتب السير.
ويتبين من نتائج دراسة صور هذا الجدل والخصام الذي وقع بين اليهود والمسلمين، وهو خصام مهم خطر، أن الخصومة كانت في مرحلتها الأولى رفضا لدعوة الرسول إياهم للدخول في الإسلام، وتمسكا شديدًا بعقيدتهم وبدينهم وبما ورد عندهم من أن النبوة قد بدأت وانتهت في بني إسرائيل، ثم تطورت واشتدت عنفا وقوة لما تبين لهم أن الإسلام يرفض نظريتهم هذه، وأنه قد حرم أمورا ستؤثر في مستقلبهم، وقد ألف بين قلوب أهل يثرب وأوجد منهم كتلة واحدة، وأنه سيحد من سلطانهم لا محالة، وأن ملكهم سيزول، فوسعوا مقاومتهم له، واتصلوا بمن وجدوا فيه حقدا وبغضا للرسول، وبمن تأثر سلطانه بدخول الإسلام في يثرب من أهلها، ثم لما وجدوا أن كل ذلك غير كاف، تراسلوا مع أعداء الرسول في خارج يثرب من قريش، لتوحيد خططهم معهم، ولجملهم على مهاجمة المسلمين في مدينتهم ومعقلهم قبل أن يستفحل أمرهم ويقوى مركزهم، فيعجزون ميعا هم وأهل مكة عن التغلب عليهم والقضاء على الإسلام.
وهكذا بدأت خصومة اليهود للإسلام خصومة فكرية، هم يرفضون الاعتراف بنبوة الرسول، وبأن دعوته موجهة إليهم، ويرفضون نبوة في غير بني إسرائيل، والرسول يدعوهم إلى الإيمان بالله وإلى الدخول في دعوته المبنية على الإيمان بالله رب العالمين، رب العرب وبني إسرائيل والعجم، وعلى الإيمان بنبوته وبنبوة الأنبياء السابقين، ثم تطورت هذه الخصومة إلى معارك وحروب، والحروب كما نعلم تبدأ نزاعا في الآراء والأفكار ثم تتحول إلى صراع ونزاع وقتال.(12/121)
ومن أشهر سادات يهود الذين وقفوا موقفا معايدا من الرسول، وعارضوه معارضة شديددة، وصمموا على الايقاع به، حيي بن أخطب، وأخواه ياسر بن أخطب وجدي بن أخطب1، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقق، وسلام بن الربيع بن أبي الحقيق، وهو أبو رافع الأعور الذي قتله أصحاب الرسول بخيبر، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الأشرف، والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، وكردم بن قيس حليف كعب بن الأشرف، وكل هؤلاء من بني النضير، وعبد الله بن صوري الأعور2، وابن صلوبا، وهما من بني "ثعلبة بن الفطيون"، وزيد بن اللعيث "اللعيب"3، وسعد بن حنيف، ومحمود بن سيحان "سبحان"، وعزير بن أبي عزير، وعبد الله بن صيف "ضيف"، وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص، وأشيع، ونعمان بن أضنا "أمنا؟ "، وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي، وشاس بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمرو، وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد، ونعمان بن أبي أوفى أبو أنس، ومحمود بن دحية، ومالك بن الصيف "الضيف"، وكعب بن راشد، وعازر، ورافع بن أبي رافع، وخالد، وإزار بن أبي إزار "آزر بن أبي وعازر، ورافع بن أبي رافع، وخالد، وإزار بن أبي إزار "آزر بن أبي آزر"، ورافع بن حارثة، ورافع بن حريملة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وكل هؤلاء من يهود بني قينقاع4.
أما الذين حاربوا الإسلام من بني قريظة، فكانوا: الزبير بن باطا بن وهب، وعزال بن شمويل "سموال"، وكعب بن أسد، وهو صاحب عقد بني قريظة الذي نقض عام الأحزاب، وشمويل بن زيد، ونافع بن أبي نافع، وأبو نافع، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن رميلة "زميلة"، وجبل بن أبي قشير، ووهب بن يهوذا.
أما من بقية بطون يهود، فكانوا: لبيد بن أعصم، وهو من يهود بني زريق،
__________
1 "جد بن أخطب"، "جدي بن أخطب"، "حدى بن أخطب"، الروض الأنف "2/ 24".
2 الروض الأنف "2/ 24".
3 "ابن اللعيب"، ابن هشام "2/ 136".
4 ابن هشام "2/ 136 وما بعدها"، الروض الأنف "2/ 24"،"تسمية اليهود الذين نزل فيهم القرآن".(12/122)
وكنانة بن صورياء "صوريا"، وهو من بني حارثة، وفردم "قردم" بن عمرو، وهو من يهود بن عمرو بن عوف، وسلسلة بن برهام، وهو من يهود بني النجار1.
ويظهر من أقوال علماء التفسير في تفسير لفظة "الطاغوت" الواردة في القرآن الكريم، أن "كعب بن الأشرف"، كان من أبرز سادات اليهود في أيام الرسول2. فقد كانوا يتحاكمون إليه ويأخذون برأيه، وكان المقدم عندهم وعند الأوس والخزرج، حتى أن الأنصار كانوا يتحاكمون إليه.
ونجد في القرآن أمثلة من أسئلة وجهها اليهود إلى الرسول لإحراجه ولإظهار فساد دعوته بزعمهم. سألوه أن يأتي لهم بمعجزة، إذا قالوا له: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} 3، فنزل الرد عليهم: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 4. "نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وفنحاص بن عازورا، وجماعة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: له: أتزعم أن الله أرسلك إلينا، وأنه أنزل علينا كتابا عهد إلينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإذا جئنا به صدقناك، فأنزل الله هذه الآية"5. وسألوه "أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدعيه على صدقة دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة"6.
وسألوه أسئلة عن أشياء مذكورة في التوراة، وسألوه عن أشياء أخرى محرجة عديدة، وأوحوا إلى غيرهم من المشركين بأسئلة مماثلة ليلقوها على الرسول لامتحانه وإحراجه، وقد نزل الوحي بالرد عليهم، وبتأنيبهم على أقوالهم هذه، وبتذكيرهم
__________
1 وتختلف الموارد في ضبط هذه الأسماء، ابن هشام "2/ 137" وما بعدها"، الروض الأنف "2/ 24".
2 تفسير الطبري "5/ 97 وما بعدها".
3 سورة آل عمران، الآية 183.
4 الآية نفسها.
5 تفسير القرطبي "4/ 295"، روح المعاني "4/ 128 وما بعدها" تفسير الطبري "4/ 131 وما بعدها".
6 سورة النساء، الآية 153، تفسير القرطبي "6/ 6"، تفسير الطبري "6/ 6 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 5"، ابن هشام "2/ 198".(12/123)
بما قام به أجدادهم وأسلافهم في مقام أنبيائهم من عدم التصديق برسالتهم ومن الطعن بهم ومن إصرارهم على عبادة الأوثان والكفر بالتوحيد1.
ووقع جدل بين المسلمين وبين سادات يهود، أثار نزاعا بين الطرفين. دخل أبو بكر "بيت المدارس، فوجد من يهود ناسا كثيرًا قد اجتمع إلى رجل منهم يقال له "فنحاص" كان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر يقال له: أشيع. فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. قال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه، كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء. ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك"2. ووقع مثل ذلك في مناسبات أخرى، جعل اليهود يحقدون على المسلمين.
وعمد اليهود إلى استغلال الأحقاد والبغضاء الكمينة التي كانت كامنة في نفوس أهل يثرب من الأوس والخزرج من أيام الجاهلية، فأثاروها، كما استفادوا مما كان بينهم وبين رجال من المسلمين من الحلف والجوار في الجاهلية للاحتماء بهم وللاتقاء بهم مما قد يلحق بهم من أذى في إثارة الفتنة.
وفي عهد "عمر" أمر بإجلاء اليهود ممن لم يكن لديهم عهد من رسول الله. أما من كان له عهد منه، فقد بقي في وطنه وعلى دينه بالشروط التي ذكرت في الصحف. وقد كان في يثرب نفر من اليهود عاشوا فيها في زمن الرسول حتى بعد إجلاء بني النضير وبني قريظة وبعد غزوة خيبر. وقد ورد في رواية أن النبي لما أمر أصحابه بالتهيؤ لغزوة خيبر، شق ذلك على من بقي بالمدينة من يهود3. ولما مرض عبد الله بن أبي، كان اليهود في جملة من التفَّ حول سريره في مرضه الذي هلك فيه، ثم كانوا في جملة من شيعه إلى قبره ومن
__________
1 سورة البقرة، الآية 101، ابن هشام "2/ 167، 171، 201".
2 آل عمران، الآية 181، تفسير الطبري "4/ 129 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "1/ 548"، "طهران".
3 الطبقات، لابن سعد "الجزء الثاني من القسم الأول "ص77".(12/124)
نثر التراب على رأسه حزنًا على فراقه1. وقد بقيت أسر يهودية في وادي القرى وفي تيماء قرونًا عديدة بعد صدور أمر عمر بالإجلاء، بل ورد أن عددًا منهم عاش في المدينة أيضًا.
وقد كانت اليهودية قانعة بما أوتيت، وبم كسبته من مواطن وتجارة، إن وجدت سبيلا إلى إقناع سادات القبائل والأمراء والملوك بالتهود وبالدخول في دعوتها، فذلك خير وتوفيق. وإن لم تجد في هؤلاء ميلا إلى اليهودية، رضيت منهم باكتساب العطف والحماية ورعايتهم في تحصيل ديونهم والأرباح التي يحصلون عليها من الربا، وبالسماح لهم بالتجارة والبيع والشراء، وهو ما يصبو إليه كل يهودي.
لذلك نستطيع أن نقول أن اليهودية كانت من ناحية التبشير عند ظهور الإسلام جامدة خامدة، لا يهمها نشر الدين بقدر ما تهمها المحافظة على الحياة وعلى المركز الذي وصلت إليه وعلى تجارتها التي تعود عليها بمال غزير. فكانت لهذا لا تهتم بحركة إلا إذا وجدت فيها فائدة لها، ومنفعة ترتجى منها، ولا تحارب رأيا إلا إذا وجدت أنه سيكون خطرًا عليها، فحاربت النصرانية في اليمن لما وجدت الروم يسيرون على سياسة معايدة لليهود، وأن النصرانية مهما كانت كنيستها هي فرع من شجرة واحدة هي الشجرة التي يقدسها الروم، فامتداد أي فرع منها إلى اليمن، كفيل بالحاق الأذى الذي لاقاه إخوانهم من البيزنطيين بهم. وحاربت الإسلام بعد هجرة الرسول إلى المدينة، لما تبين لها إنه يدعو إلى رب العالمين، وإنه لم يكن على ما ظنته حينما سمعت بدعوة الرسول وهو في مكة، من إنه سيخضع لها، أو سيميل إليها، فتستفيد منه على الأقل، فلما وجدت الأمر غير ما ظنت، عندئذ خاصمته وانضمت إلى المشركين في محاربة الإسلام.
ولسنا نجد بين القبائل العربية يهودا وفدوا إليها وأحبارا سكنوا بينها لاقناعها بمختلف الوسائل والطرق للدخول في دين يهود. نعم لم يفعل اليهود هذا كما فعله النصارى، ولهذا انحصرت سكنى اليهود عند ظهور الإسلام في هذه المواضع الخصبة وطرق المواصلات والتجارة البرية والبحرية من جزيرة العرب، وانحصر عملهم في التجارة وفي الربا في الزراعة وفي بعض الصناعات التي تخصصوا بها. وهي أمور جعلت لهم نفوذا عند سادات القبائل والأمراء والملوك.
__________
1 الواقدي "415"، اليهود "177".(12/125)
وقد كانت لليهود مواضع يتدارس فيها رجال دينهم أحكام شريعتهم، وأيامهم الماضية، وأخبار الرسل والأنبياء، وما جاء في التوراة والمشنا، وغير ذلك. عرفت بين الجاهليين بـ "المدارس" و"بيت المدارس" "والمدارش". وأطلق الجاهليون عن الموضع الذي يتعبد اليهود فيه "الكنيس" و"كنيس اليهود" تمييزا لهذه الكنيسة عن "الكنيسة" التي هي لفظة خاصة بموضع عبادة النصارى1.
وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الكنيسة كلمة معربة من "كنشت" وهي لليهود، والبيعة للنصارى. وذهب بعض آخر إلى أنها متعبد الكفار مطلقا2.
وقد أخذ الجاهليون مصطلح "المدارس" من العبرانيين، من لفظة "مدارش" Midrash التي هي من أصل "درش" Darash التي تقابل "درس" في العربية، وتؤدي هذه الكلمة المعنى المفهوم من لفظة "درس" العربية تمام الأداء. ويقصد بالمدارش درس نصوص التوراة وشرحها وتفسيرها وإيضاح الغامض منها وأسرارها وأمثال ذلك، وينهض بذلك المفسر الشارح "درشن" Darshan، ولكل طريقة وأسلوب. وقد نجمت عن هذه الدراسة ثروة أدبية ودينية طائلة للعبرانيين. نتجت من اتباع جملة طرق في الشرح والتفسير، منها "مدارش هلاخه" Midrash HaIachah و"مدراش هاكاده" Midrash Haggaddah، وتختلف هذه في كيفية اتباع طرق العرض والشرح والتفسير3.
ولم يكن المدارس "المدارش" موضع عبادة وصلوات حسب، بل كان إلى ذلك دار ندوة ليهود يجتمعون فيه في أوقات فراغهم لاستئناس بعضهم ببعض وللبحث في شؤونهم، وللبت في القضايا الجسيمة الخطيرة على اختلاف درجاتها. فهو إذن مجمع الأحبار ومجمع الرؤساء والسادات وأصحاب الشرف فيهم، وإليه كان يقصد الجاهليون حين يريدون أمرا من الأمور أو الاستفهام عن شيء يريدون الوقوف عليه، وإليه ذهب الرسول وكبار المسلمين لمحادثة يهود ومجادلتهم فيما
__________
1 اللسان "7/ 382"، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي "2/ 120"، صحيح مسلم "5/ 122"، البخاري "كتاب الجزية والموادعة من أهل الذمة والحرب"، الحديث6، غرائب اللغة "ص213" النهاية "2/ 20"، محيط المحيط "1/ 643"،القاموس "2/ 215".
2 اللسان "8/ 83"، المعرب "81"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الأول "201".
3 Ecny-Brita, 15, p. 458, Moore, Judaism, I, 125, Jew. Ency, VII, p. 538. f.(12/126)
كان يحدث بينهم من خلاف أو من أمر يريدون البت فيه. ويقال إنهم عرضوا أمام الرسول كتبهم، فكان يقرأها له بعضهم ممن دخل في الإسلام كعبد الله بن سلام أو بعض المسلمين ممن كان له علم وفهم في العبرانية لغة يهود.
قال "ابن عباس": "دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيت المدارس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم ودينه. فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديا. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلموا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم، فأبوا عليه"1. ويظهر أن هذا المدارس كان من بيوت مدارسهم بيثرب.
وعرفت مساجد اليهود، أن المواضع التي كان يصلون بها، بالمحاريب جمع محراب. وقد جاءت الإشارة إليها في بيت شعر منسوب إلى "قيس بن الخطيم"2. أما في النصرانية، فقد خصصت الكلمة بصدر الكنائس، وذلك على ما يفهم من الكلمة في الإسلام3.
وعرف علماء اليهود ورجال دينهم بـ "الأحبار" جمع "الحبر" وبـ "الربانيين" وقد وردت الكلمتان في القرآن الكريم4. وللإسلاميين آراء في أصل "الحبر"، وهم يذكرون أن من معانيها العالم، والرجل الصالح5. واللفظة من الألفاظ المعربة عن العبرانية أصلها "حبر" Haber وجمعها حبريم، Habarim، ومعناها "الرفيق" camradeو associate، وكانت ذات مدلول خاص ومعنى معين. وقد أطلقت في العهد التلمودي على العضوية في جمعية معينة، فأطلقت في العصر الأول والثاني للميلاد على من كان من "الفروشيم"، وهم شيعة يهودية أقسمت على نفسها بمراعاة النصوص الدينية "اللاوية" على نحو ما نزلت وعلى نحو ما يفعله اللاويون.
__________
1 الطبري "7/ 145".
2 Margobiuuth p 73
3 النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني "ص174"ز
4 حبر بالضم وبالكسر، المائدة، الآية 44، 63ن التوبة، الآية 31، 34.
5 تاج العروس "3/ 120"، "حبر"، اللسان "5/ 228"، المفردات، للأصفهاني "ص104".(12/127)
وللفظة "حبر" أهمية كبيرة عند اليهود، فإنها تشير إلى العلم والمعرفة، وإن كانت لا تصل إلى درجة "رابي" "ربي" Rabbi ولا تزال مستعملة عندهم فيمن درس الشريعة اليهودية والعلوم وتقدم فيها وأتقن الأحكام، وقضى بين الناس، غير أنها دون درجة1 Rabbi. فهي في العبرانية بمعنى عالم ولكن دون المعنى المفهوم في العربية عند علماء اللغة الإسلاميين، فهذا المعنى هو في مقابل لفظة Rabbi أي "ربان" لا "حبر".
وقد وردت لفظة "حبر" في شعر للشماخ:
كما خط عبرانية بيمينه ... بتيماء حبر ثم عرض أسطرا2
أما "الربانيون"، فهم العلماء بالحلال والحرام والأمر والنهي، على رأي بعض العلماء الإسلاميين. وقال بعض آخر: الربان العالم الراسخ في العلم والدين، أو العالم العامل المعلم، أو العالي الدرجة في العلم. وفرق بعضهم بين الربانيين وبين الأحبار بأن جعل الأحبار أهل المعرفة بأنباء الأمم وبما كان ويكون، وذهبوا إلى إنها من الألفاظ المعربة العبرانية أو السريانية3. وهي من الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم في أثناء الكلام على علماء يهود4.
ويتبين من القرآن الكريم إنه قد كان للأحبار والربانيين نفوذ عظيم على اليهود، فكانوا يطيعون أوامرهم ويفعلون ما يأمرونهم به، وأن غالبيتهم لم تكن تفقه شيئًا ولا تعرف من أحكام دينها إلا ما يقوله لهم أولئك الأحبار5. وبعض هؤلاء الأحبار هم من المقيمين في جزيرة العرب في المواطن التي أقامت فيها يهود، وبعض منهم كان يأتي إلى يهود العرب من فلسطين: ولا سيما من "طبرية" التي اكتسبت شهرة عظيمة بعد خراب القدس "أورشليم" حيث استقر فيها "السنهدريم" وغدت مركزًا عظيمًا للعلوم عند اليهود، وفيها جمعت "المشنة" "المشنا" Mishna و"الماسورة" الكتاب الذي بين كيفية تحريك كلمات التوراة6.
__________
1 اليهود "ص20"، The UnIversaI Jewish Ency VoI VP 1445
2 تاج العروس "3/ 117"، "حبر".
3 تاج العروس "1/ 260"، "9/ 211"، المعرب، للجواليقي "ص161"، سيرة ابن هشام "1/ 395".
4 المائدة: الآية 44، 63، آل عمران، الآية 79، تفسير الطبري "6/ 251".
5 التوبة، الآية 31.
6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 46".(12/128)
وقد ذكر أهل الحجاز أسماء عدد من رجال يهود ممن أدركوا الإسلام، ذكر عنهم إنهم كانوا أحبارا، وإنهم كانوا أصحاب علم بالتوراة وبكتب الأنبياء وفي مقدمة من ذكروا، عبد الله بن صورى الأعور، قالوا: إنه لم يكن بالحجاز في زمانه من كان أعلم بالتوراة منه، وإنه كان من بني ثعلبة بن الفطيون. ويقولون: إن الفطيون كلمة تقال لمن يلي أمر اليهود وملكهم، كما أن النجاشي تقال لمن يلي ملك الحبشة1.
وذكر "القلقشندي" أن المشهور من ألقاب أرباب الوظائف عند اليهود ثلاثة ألقاب: الأول الرئيس، وهو القائم فيهم مقام البطرك في النصارى، والثاني الحزان، وهو فيهم بمثابة الخطيب يصعد المنبر ويعظهم، والثالث الشيلحصبور، وهو الإمام الذي يصلي بهم2.
وقد أطلق القرآن الكريم على أسفار اليهود، أي كتبهم المقدسة "التوراة"3. وعرفت بهذه التسمية في الحديث وفي كتب التفسير، وصارت علمًا لها في الإسلام. كذلك أطلقت هذه اللفظة على معابد اليهود، ولم يعرف ورودها في الشعر الجاهلي خلا بيتا ينسب إلى شاعر جاهلي يهودي اسمه "سماك"4.
ولعلماء اللغة الإسلاميين آراء في أصل كلمة "التوراة"، حتى ذهب بعضهم إلى أنها عربية، ولكن ذوي أكثريتهم ترى أنها عبرانية، لأن لغة موسى كانت العبرانية، وبهذه اللغة نزلت التوراة5. ثم هم يختلفون في تعيين حدود التوراة، فيرى بعضهم أنها خمسة أسفار، ويرى بعض آخر أنها أكثر من ذلك، وأنها تشمل الزبور ونبوة أشعياء وسائر النبوات، لا يستثنى إلا الأناجيل6.
__________
1 ابن هشام "2/ 136" "محمد محيي الدين عبد الحميد".
2 صبح الأعشى "5/ 474".
3 آل عمران الآية 3، 48، 50، 65، 93، المائدة، 46 وما بعدها، 49، الصف، الآية6، الفتح، الآية 29، الجمعة، الآية5.
4 Ency IV p 706
5 اللسان "20/ 365 وما بعدها" ورى"، تاج العروس "10/ 389"، القراءون والربانون "179"، المفردات، للأصفهاني "ص74".
Uni Jew Ency 10 p 267 katsh p191
6 صبح الأعشى "13/ 254 وما بعدها" Katsh 191.(12/129)
وليس في القرآن الكريم تحديد لأسفار التوراة، ولكن اقتران اسم موسى بها في بعض الموارد منه يشير إلى أن المراد بها ما يقال له بـ "الأسفار الخمسة" Pentateuch عند الغربيين. وهذه الأسفار الخمسة هي الأسفار المنزلة المكتوبة التي نزلت على موسى على رأي قدماء العبرانيين. ثم توسعوا في مدلول اللفظة فيما بعد، فأطلقوها على جميع الأسفار التي يقال لها العهد القديم. وأطلقتها بعض الفرق على غيرها من الأسفار مثل الأنبياء "نبيم" Nebiim، والكتب "كتوبيم1" Kettubim.
وقد أورد القرآن في مخاطبة يهود وتقريعهم قصصًا عن الأنبياء والمرسلين والأمم القديمة، منه ما هو مذكور عندهم في الأسفار الخمسة، ومنه ما هو وارد عندهم في "الهكاده" وفي "المشنه". ولما كان في احتكاك الإسلام بيهود كان لأول مرة في منطقة يثرب، صارت معظم الإشارات الواردة في القرآن الكريم إلى التوراة في السورة المدنية لمخاطبة الوحي لهم، وتوجيه الكلام مباشرة إليهم، ولم ترد تلك التسمية في الآيات المكية إلا في موضع واحد هو في سورة الأعراف2.
والمراد من "الكتاب" الذي أنزل على موسى، والمذكور في مواضع من القرآن الكريم التوراة، أي هذه الأسفار الخمسة التي نتحدث عنها3. وهو تعبير قرآني لا نستطيع أن نقول إنه كان من مصطلحات الجاهليين، كما أننا لا نستطيع نفي ذلك، إذ يجوز أن يكون الجاهليون قد أطلقوه على تلك الأسفار، أو على العهد القديم كله، بمعنى هذه الأسفار وبقية ما ورد فيها من أخبار الأيام والملوك والأنبياء.
وقد ورد في الأخبار عن "أبي هريرة"، أنه "كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله" 4.
__________
1 Uni-Jew. Ency., 10, P. 688, Katsh., P. 191.f
2 الأعراف: الآية 157 Ency IV p 706
3 "ولقد آتينا موسى الكتاب"، البقرة، الآية 78، ورح المعاني "1/ 316"، تفسير الطبرسي "1/ 15"،المفردات للأصفاني" 437"
4 "كتاب تفسير القرآن"، سورة البقرة: 2رقم 11، البخاري "3/ 198""طبعة ليدن".(12/130)
وقصد بعبارة أهل الكتاب، اليهود، لأنهم أصحاب كتاب موسى، وبينهم كان نزوله، ولذلك عرفوا به. ويظهر من خبر أبي هريرة هذا ومن أخبار أخرى في هذا المعنى أن اليهود كانوا يقرءون على المسلمين كتبهم وهي بالعبرانية، ثم يفسرونها لهم بالعربية، وذلك في أيام حياة الرسول.
أما الزبور والزبر فقد وردتا في القرآن الكريم. ويراد بـ"الزبر" في بعض الآيات مثل: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} الكتب المنزلة القديمة1. وقد وردت الكلمتان في بعض الشعر المنسوب إلى الجاهليين كامرئ القيس2 والمرقش الأكبر3 وأمية بن أبي الصلت4. وذكر علماء اللغة أن معنى "زبر" كتب ونقش. ويرى بعض المستشرقين احتمال. كونها من الكلمات العربية الجنوبية. ويرى بعض آخر أنها من أصل "مزمور" Mazmor العبراني. و"مزمور" Mazmor في اللهجة السريانية، و"مزمور" Mazmur في الحبشية. أخذت الكلمة وأجري عليها بعض التغيير حتى صارت على هذا الشكل5.
وقد وردت لفظة "الزبور" مفردة في موضعين من القرآن الكريم، في سورة النساء6 وفي سورة الأنبياء7. أما في الموضع الأول، فقد ورد فيه: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} ، ومعنى هذا أن زبورا أو كتابا من الكتب المنزلة نزل على داود. أما الموضع الثاني. فقد أشير فيه إلى "زبور" معرفة بأداة التعريف
__________
1 الشعراء: الآية 196.
2
أتت حجج بعدي عليها فأصبحت ... كخط زبور في مصاحف رهبان
وينسب إليه أيضًا هذا البيت:
لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبور في عسيب يماني
شرح ديوان أمرئ القيس، تأليف السندوبي "ص184"، قصيدة رقم 86، النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص184".
3
وكذاك لا خير ولا ... شيء على أحد بدائم
قد خط ذلك في الزبو ... ر الأوليات القدائم
اللسان "3/ 16"، النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص184".
4
وأبرزوا بصعيد مستوى جرز ... وأنزل العرش والميزان والزبر
كتاب البدء "2/ 146"، النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني "ص184".
5 اللسان "4/ 314 وما بعدها". Ency IV p 1184
6 الآية 163.
7 الآية 105.(12/131)
"ال": {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} . ولكن لم يضف إلى اسم نبي من الأنبياء، كما رأينا في الموضع السابق. وقد فسر بعض المفسرين كلمة "الزبور" في الموضع بمعنى الكتاب وكتب الله المنزلة، أي على التعميم لا التخصيص1.
ويراد بالزبور ما يقال له "المزامير" في الترجمات العربية للتوراة، PsaIms في الإنكليزية، من أصل PsaImos اليونانية التي هي ترجمة لفظة "مزمور" Mizmor العبرانية، ومعناها المدائح والأناشيد. وهي أناشيد شعرية ترنم في حمد الإله وتمجيده، ولذلك قيل لهذه المزامير "تحليم" tehiIIim في العبرانية. وtiIIim على سبيل الاختصار، وtiIIim في لهجة بني إرم2.
وقد "قال أبو هريرة: الزبور ما أنزل على داود، من بعد الذكر من بعد التوراة"3. وذكر بعض العلماء أن الزبور خص بالكتاب المنزل على داود4. وقد ذهب الشعبي إلى أن الزبور، الكتاب المنزل على داود، أما الذكر فما نزل على موسى. وذهب آخرون مذاهب أخرى في تفسير المراد من الزبور ومن الذكر. ولكن الرأي الغالب أن المراد من الزبور، مزامير داود. وذلك لنص القرآن على ذلك.
وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود اختلاف بين بني إسرائيل في فهم كتاب الله وتفسيره، وأنهم انقسموا لذلك شيعا وأحزابا. ولا يستبعد أن يكون هذا الاختلاف شاملا ليهود الحجاز أيضًا، كأن يكون أحبارهم قد ساروا في اتجاهات مختلفة في التفاسير وفي شرح الأحكام وكان أصحابهم يتعصبون لهم ويتحزبون، وعلى نمط الأعراب في عصبيتهم لقبائلهم، وفي اتباع أقوال ساداتهم دون تعقل وتفكير. أما مواضع الاختلاف ومواطن الفرقة التي كانت تفرق فيما بينهم، فلا نعرف اليوم من أمرها شيئًا، لأنها لم تدون ولم تذكر، ولم يشر القرآن إليها، ولكنها على كل لا تخرج ولا شك عما نعرفه من خلاف في أوجه النظر في المسائل المعروفة حتى اليوم في أمور الفروع.
__________
1 تفسير الجلالين "2/ 33".
2 Uni Jew Ency 9p 13
3 اللسان "4/ 315" "صادر".
4 المفردات "ص210".(12/132)
ونحن لا نستطيع أن نتصور أن سواد يهود الجاهلية كانوا على علم بالكتابة وبالقراءة ثم بأحوال دينهم وأموره. وفي القرآن الكريم أن هذا السواد كان جاهلا ليس له علم ولا خبر بأمور دينه وشريعته، وأنه مقلد تابع لما تقوله له أحباره وربانيوه. فكل ما كانوا يقولونه له، كانوا يرونه حقًّا وعلمًا1. مع أن من بين أولئك من كان دجالا ليس على درجة من دراية وعلم، ومن كان ينطق بالباطل ولا يخشى الكذب، لينال بذلك كسبا ومالا، وأنه كان لهؤلاء على أتباعهم ومقلديهم سلطان عظيم.
وقد تعرض "ابن خلدون" لموضوع علم اليهود العرب وثقافتهم، فقال: "إذا تشوقت العرب إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم. وهم أهل التوراة من اليهود، ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك"2. فغالبية يهود جزيرة العرب في الجاهلية، هم في مستوى، يعد، دون مستوى يهود البلاد الأخرى، بسبب تبديهم وانقطاعهم عن غيرهم من اليهود.
وقد كانت لليهود مدارس تدارسوا فيها أحكام شريعتهم، وكان لهم أحبار وحاخامون علموهم أمور دينهم. ذكر أهل الأخبار إنهم كانوا يكتبون بالعبرانية أو بالسريانية، وذلك لاختلاف أهل الأخبار في تعيين تلك اللغة، وعدم تمكنهم من التمييز بينهما. وفي كتب الأخبار والتواريخ إشارات إلى اتصال بعض رجال مكة ويثرب باليهود والاستفسار منهم عن أمور الرسل والأنبياء والماضيين وعن بعض الأحكام. وفيها قصص إسرائيل وجد له سبيلا إلى العربية، يرويه القصاصون عن الرسل والأنبياء، وأساطير لا يشك في كونها إسرائيلية الأصل. كما نجد ألفاظا
__________
1 "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني. وإن هم إلا يظنون"، البقرة، الآية 87، تفسير القرطبي، الجامع "1/ 296 وما بعدها".
2 ابن خلدون "1/ 439".(12/133)
عبرانية لا شك في أصلها وجدت لها سبيلا إلى عربية الجاهليين بسبب اتصال اليهود بهم، واستعمالهم إياها، فتأثر بهم الجاهليون وأخذوها منهم واستعملوها أيضًا فصارت من المعربات.
وينسب إلى الشاعر "الأسود بن يعفر" بيت شعر هو:
سطور يهوديين في مهرقيهما ... مجيدين من تيماء أو أهل مدين1
وإذا صحت نسبة هذا البيت إليه، يكون قد تعرف على يهوديين اثنين، وجدهما يجيدان الكتابة، وقد كتبا على المهارق. ولم يكن الشاعر على علم أكيد بموطنهما، فلم يدر إذا كانا من أهل تيماء أو من أهل مدين.
ولتعبير "مجيدين" أهمية خاصة، إذ يشير إلى تمييزه بين الكتابة الجيدة والكتابة الرديئة، وإلى وجود مصطلح "مجيد" عند الجاهليين، يطلقونه كما نطلقه اليوم على من يجيد الكتابة ويتقنها.
ولما كانت اللغة العبرانية لغة الدين عند العبرانيين، وبها نزل الوحي على موسى، فلا بد أن يكون لعلمائهم ورجال دينهم في جزيرة العرب علم بتلك اللغة وفقه بها. ولكن هذا لا يعني ضرورة كونهم كعلماء طبرية أو قيصرية في فلسطين أو بعض المواضع التي اشتهرت بعلمائها في التلمود بالعراق، ولست أستبعد أن يكون لهم علم بلغة بني إرم أيضًا، لأن هذه اللغة كما نعلم كانت لغة العلم والثقافة قبل الميلاد وبعده، وبها كتبت كتب عدة من التلمودين، ثم إنها انتشرت بين سواد الناس حتى صارت لغة سواد يهود يتكلمون بها ولو برطانة وبلهجة خاصة هي اللهجة التي يمتاز بها سواد اليهود في كل قطر يعيشون فيه.
أما سواد يهود جزيرة العرب في الجاهلية: فلا أظن أنهم كانوا يتلكمون العبرانية أو لغة بني إرم، إنما أرى أنهم كانوا يتكلمون لهجة من هذه اللهجات العربية. أعني لهجة العرب الذين كانوا يعيشون بينهم وينزلون بين أظهرهم، ولم يرد في الأخبار ما يفيد أنهم كانوا يتحادثون بالعبرانية، بل الذي ورد أن عامتهم لم تكن تعرف تلك اللغة، وأن الخاصة منهم والمزاولين لحرفة الكتابة
__________
1 ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التأريخية، "ص82".(12/134)
والسحر كانوا يعرفونها ويكتبون بها، وبها يعوذون أنفسهم وغيرهم من الناس، وكانوا يفسرون التوراة والتلمود والكتب المقدسة لسواد الناس من العبرانية إلى العربية، لأنهم لم يكونوا يعرفون العبرانية، لا سيما وقد كان بينهم عرب متهودة.
ولم يظهر في يهود جزيرة العرب من حاز على شهرة في العلم والفقه والتأليف والخطابة على نحو ما ظهر بين يهود العراق أو فلسطين أو مصر، وإلا لاشتهر أمره وذاع خبره، كما ذاع خبر علماء يهود بابل وفلسطين ومصر. ولا يمكن أن تكون عزلتهم عن بقية يهود الأقطار المذكورة سببا كافيا في تعليل عدم شيوع اسم أحد من هؤلاء، إن قضية عزلتهم عن بقية إخوانهم في الدين، هي نفسها تحتاج إلى سند يثبت وجود تلك العزلة. فمواضعهم في أعالي الحجاز، على اتصال ببلاد الشام، وهي لا تبعد كثيرًا عن مساكن إخوانهم في فلسطين. ثم إنهم كانوا على اتصال مستمر بهم بالتجارة، وقد كانوا يشترون حاصل بلاد الشام من خمور وحبوب وما شاكل ذلك، وينقلونه إلى يثرب، يذهبون إليها للتعامل والاتجار، فكيف يكون يهود جزيرة العرب في معزل عن غيرهم مع وجود الأسفار والتجارة لا سيما أن أحبار "طبرية" كانوا يأتون إلى يهود اليمن ليلقنوهم أمور الدين، ولا يستبعد أن يكون من بين أولئك الأحبار من ذهب إلى يهود يثرب أو خيبر أو تيماء.
فالقضية على ما يظهر، ليست قضية عزلة يهود جزيرة العرب عن بقية يهود وانفصالهم بذلك ثقافيا وعلميا عن بني دينهم انفصالا يؤثر في مستواهم الثقافي والعلمي، فيجعلهم دون غيرهم من إخوانهم في العلم والثقافة، إنما يظهر أن هنالك جملة عوامل حالت دون نبوغ أحد فيهم. فيهود جزيرة العرب مهما قيل عنهم وعن رقيهم وارتفاع مستواهم عن مستوى من كان في جوارهم، لم يكونوا في ثقافتهم وفي مستواهم الاجتماعي أرقى من الفلاحين وسكان القرى وما إليها في العراق أو فلسطين أو مصر، كما أن حالتهم المادية لم تكن على مستوى عال بحيث يمكن أن تقاس بالأحوال المادية التي كان عليها اليهود الآخرين في الأرضين المشار إليها، أو أصحاب تلك الأرضين من غير يهود. ثم إن عددهم مهما قيل فيه، لم يكن كبيرا. وقد راينا أن رجالهم المحاربين لم يكونوا يتجاوزون كلهم في الحجاز كله بضعة آلاف، وفي مثل هذا العدد والظروف والأحوال لا يمكن بالطبع أن تتوفر الإمكانيات المساعدة على البحث والتتبع والتعمق في العلم.(12/135)
وقد عرف يهود يثرب بمعرفتهم السحر والاتقاء منه، وبعلمهم بالتعاويذ، فكان المشركون يلجؤون إليهم إذا احتاجوا إلى السحر أو إذا اعترضتهم مشكلات يرون أنها لا تحل إلا بقراءة التعاويذ عليها. وقد ذكر المفسرون أن اليهود عملوا السحر للنبي، علمه رجل اسمه "لبيد بن الأعصم" أو بناته وهو من يهود يثرب1.
وقد أشير إلى سحر اليهود في الحديث2.
وقد لجأ العرب إلى اليهود يأخذون منهم الرقى والتعاويذ. فقد ورد في الأخبار "أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: ارقيها بكتاب الله. يعني: بالتوراة والإنجيل ... "3.
وقد حافظ يهود جزيرة العرب على حرمة السبت، ويوم السبت من الأيام المقدسة التي يجب مراعاة حرمتها مراعاة تامة، فلا يجوز ليهودي الاشتغال فيه، والقيام ببعض الأعمال. ومن خالف حرمة هذا اليوم ودنسه بالاشتغال فيه يكون قد ارتكب جرمًا عظيمًا.
وقد وردت إشارات إلى يوم السبت في مواضع من القرآن الكريم، في معرض الكلام على بني إسرائيل، وأشير في بعضها إلى أخذ موسى العهد منهم بوجوب مراعاة حرمة هذا اليوم، وإلى نقضهم له وعدم مراعاتهم جميعًا لهذا العهد، وإلى أنهم اعتدوا فيه4. وفي هذه الإشارات دلالة على أن من اليهود عامة من خالف حرمة هذا اليوم، فلم ينفذ ما ورد في أحكام شريعته عنه. ولكن هذا عام غير خاص بيهود العرب الجاهليين، وإنما يشير إلى خروج بعض بني إسرائيل على أحكام دينهم وعدم مراعاتهم لها، وهذا اليوم من أقدس الأيام في نظرهم.
__________
1 تفسير الطبير "31/ 226"، تفسير الطبرسي "5/ 568"، روح المعاني "30/ 282"،
2 البخاري: باب سحر، عمدة القاري "21/ 279 وما بعدها"، "الحديث رقم 77 وما بعده".
3 عمدة القاري "21/ 262".
4 الأعراف: الآية 162، النحل: الآية 124، البقرة: الآية 65، النساء: الآية 46، 153، أو الثناء الألوسي، روح المعاني "1/ 256 وما بعدها"، اللسان "2/ 37" "صادر" محيط المحيط "3/ 9121 وما بعدها" الطبري، تفسير "9/ 65"، الطبرسي، مجمع البيان "1/ 129 وما بعدها"، الزمخشري، الكشاف "1/ 218" الطبرسي "5/ 391" "طهران" الطبرين تفسيير "14/ 124"، الكشاف "2/ 178".(12/136)
وقد وقف العرب الذين كانوا على اتصال باليهود على بعض أحكام دينهم مثل: الرجم بالنسبة للزنا، واعتزال النساء في المحيض. فذكر العلماء أن حكم الإسلام في الحيض "اقتصاد بين إفراط اليهود الآخذين في ذلك بإخراجهن من البيوت، وتفريط النصارى. فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض"1، ومثل الدعاء إلى الصلاة عند اليهود بالنفخ في "الشبور"2، وذلك كما تحدثت عنه في موضع، ومثل صوم "عاشوراء" وأعيادهم، ومثل الصلاة وأوقاتهم عندهم.
واستعمل يهود يثرب "القرن" في معابدهم، لإعلان صلواتهم وأعيادهم وإعلان احتفالاتهم والحوادث المهمة التي قد تقع لهم. وقد كانوا يستعملون آلتين، يقال لأحداهما الـ "شوفار" Shophar ومعناها القر، ويقال للأخرى القرن، وتصنع من القرون كذلك. ولذلك اختلط الأمر بينهما. والظاهر أنهما كانتا تختلفان في نوع قرون الحيوانات التي تتخذان منها3.
وقد اختلف يهود جزيرة العرب عن الجاهليين في الأمور التي حرمتها شريعتهم عليهم في مثل المأكولات، كما اختلفوا عنهم في عبادتهم وفي اعتقادهم بوجود إله واحد، هو "إله إسرائيل"، وفي أمور عقائدية أخرى، واختلفوا عنهم في بعض العادات والمظاهر الخارجية، فكان اليهود مثلا يسدلون شعورهم، أما المشركون فكانوا يفرقون رءوسهم. ورد عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه"4. ولا يستبعد اختلافهم عنهم في لبس بعض الملابس التي لم تكن مألوفة عند الجاهليين.
وقد ظهر بين اليهود شعراء، نظموا الشعر بالعربية وعلى طريقة العرب في نظم الشعر. منهم السموأل المشهور، و"كعب بن الأشرف" وسماك اليهودي، وسأتكلم عنهم في أثناء حديثي عن الشعر.
__________
1 إرشاد الساري "1/ 340"، "كتاب الحيض".
2 إرشاد الساري "2/ وما بعدها" "كتاب الآذان".
3 AreIig Ency VoI III p 1599
4 عمدة القاري "17/ 71".(12/137)
لم يسلم من يهود في أيام الرسول غير عدد قليل من المتبينين منهم. مثل: عبد الله بن سلام، ولم يتعاون معه غير عدد قليل منهم مثل يامين بن عمير بن كعب النضري، ويامين بن يامين الإسرائيلين ومخيريق، وكان رجلا غنيا صاحب نخيل، وهو أحد بني ثعلبة بن الفطيون، حث قومه على مساعدة الرسول ومعاونته في غزوة أحد. وكان الرسول قد طلب مساعدتهم لوجود صحيفة بينه وبينهم. فلما اعتذروا له بالسبت، خالفهم مخيريق قائلا لهم: لا سبت لكم، وقاتل معه حتى قتل، فقال الرسول: مخيريق خير اليهود. وقد وصف بالعلم، وذكر إنه كان حبرا عالما فيهم1. آمن بالرسول وجعل ما له له، وهو سبعة حوائط فجعلها الرسول صدقة2.
أما عبد الله بن سلام، فكان يدعي، وهو في يهوديته، الحصين بن سلام بن الحارث. وسلام اسم والده. فلما أسلم سماه رسول الله "عبد الله"، وهو من بني قينقاع، أسلم والرسول في مكة لم يهاجر بعد، وذلك في رواية من الروايات. وأسلم بعد الهجرة على أكثر الروايات. ذكر إنه كان شريفا في قومه، سيدا، صاحب نسب وحسب، وإنه كان حبرا عالما. فلما أسلم، نبذه قومه، وتحدثوا فيه3. وقد نزلت فيه بضع آيات4.
أما أنه كان حبرا من الأحبار، عالما في شريعتهم، فلا يمكن البت فيه، فقد جرت عادة أهل الأخبار على إطلاق كلمة "الحبر" على نفر ممن أسلم من يهود في أيام الرسول، كما أطلقت على نفر ممن أسلم بعده، مثل كعب الذي عرف بكعب الأحبار. ولا يمكن في نظري البت في درجات علم أمثال هؤلاء وفي مقدار فهمهم للتوراة ولكتب يهود إلا بجمع ما نسب إليهم من قول، ودراسته. عندئذ نستطيع أن نحكم على علمهم إن كان لهم علم بأحكام ديانة يهود وبالعالم وبما كان يتدارسه علماء ذلك العهد. ورأيي أن هذه الدرجات إنما منحها لهم
__________
1 ابن هشام "2/ 140"، "3/ 38"، "محمد محيي الدين عبد الحميد".
Graetz VoI III p75
2 البلاذري، فتوح "24"، الإصابة "3/ 373"، "رقم 7852"، "من بني النضر ... ويقال إنه من بني قينقاع، ويقال من بني الفطيون".
3 ابن هشام، سيرة "2/ 137"، أسد الغابة "3/ 176"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 270 وما بعدها" الروض الأنف "2/ 25".
4 تهذيب الأسماء "1/ 271"، الإصابة "3/ 116"، "2/ 212"، "رقم 4725". "1939م".(12/138)
بعض ذوي القلوب الطيبة من المسلمين الأولين، لما رأوه فيهم، ولما سمعوه منهم من أقوال نسبوها إلى الأنبياء والعلماء وإلى كتب الله القديمة، ولم يكن لهم بطبيعة الحال علم بها، لعدم وقوفهم على ما كان يتداوله الأخبار، فعجبوا من علمهم هذا، ومن إحاطتهم بأحوال الماضين، فعد وهم أحبارا لهم في قومهم علم ورأي. وقد تساهل بعضهم في ذلك لظنه أن في منح هؤلاء أمثال هذه النعوت مما يفيد الإسلام، إذ يعني هذا تقدير أولئك الأحبار أصحاب العلم الأول له، وأن تقديرهم هذا شهادة مزكية له. وقد يكون لهم نصيب أيضًا في منحهم هذه الدرجة لأنفسهم للتباهي وللتصدر بذلك بين المسلمين.
وقد نسب أهل الأخبار أقوالا لابن سلام، تجد بعضها في كتب التفسير والحديث، وتجد بعضها في كتب السير والأخبار. لبعضها طابع إسرائيل، فهو من القصص المعروفة بالإسرائيليات، ولبعضها طابع الأقاصيص. قد يكون "ابن سلام" صاحبها ومرجعها، وقد يكون غيره قد نسبها إليه1.
وقد كان له ابنان، هما يوسف ومحمد، رويا عنه الحديث2. وقد كنى باسم ولده يوسف، فعرف بأبي يوسف3. ويعد يوسف من الصحابة، وله حديث عن الرسول، ويقال إن الرسول هو الذي سماه يوسف، وقيل ليست له صحبة. وقد روى عن جماعة من الصحابة4.
وقد أسلم يامين بن يامين الإسرائيلي، على أثر إسلام عبد الله بن سلام5.
وأما يامين بن عمير بن كعب، أبو كعب، أو كعب النضري، فهو من بني النضير. وقد ساعد اثنين من فقراء أصحاب رسول الله على تجهيزهما بشيء من التمر ليتمكنا بذلك من الالتحاق بالجيش الذي سار في السنة التاسعة من الهجرة لغزوة تبوك6. أسلم فأحرز ماله من بني النضير، ولم يحرز ماله من بني النضير غيره وغير أبي سعيد بن عمرو بن وهب، فأحرزا أموالهما. وذكر أن النبي قال
__________
1 Ency, I, p. 30-31, Gaetani, Annali, I, p. 413, Harovitz, in ZDMG, IV, 524.
2 أسد الغابة "3/ 176".
3 تهذيب الأسماء واللغات "1/ 271".
4 تهذيب الأسماء "2/ 166".
5 الإصابة "6/ 333"، "3/ 612"،"رقم "9214".
6 الطبري "3/ 143"، "حوادث السنة التاسعة"، الإصابة "6/ 333"، "القاهرة 1907م"، "3/ 611"، "رقم "92123".(12/139)
ليامين: ألم تر إلى ابن عمك عمرو بن جحاش وما هم به من قتلي؟ وكان أراد أن يلقى على النبي رحى فيقتله. فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله.
وكان فيمن أسلم من بني قريظة "كعب بن سليم القرظي"، وهو من سبيهم في الإسلام، ويعد في الصحابة، ولكن لا تعرف له رواية. وهو والد محمد بن كعب القرظي المعروف بروايته عن أحداث يهود مع النبي، وعن بعض أخبار بني إسرائيل1. وله روايات في حديث الرسول، وتوفي ما بين سنة ثمان ومئة وسنة عشرين ومئة. وقد عده علماء الحديث في طبقة الثقات الورعين2.
وفيمن أسلم من يهود بني قريظة رفاعة القرظي، وهو رفاعة بن سموأل "سموال"، وقيل: رفاعة بن رفاعة القرظي من بني قريظة، وهو خال صفية زوجة النبي، لأن أمها برة بنت سموأل "سموال"، أما أبوها، فهو "حيي بن أخطب" من رؤساء يهود، وكان من كبار المعارضين له، وهو من بني النضير3.
ويعد "زيد بن سعية" "سعنة" في طبقة الصحابة، ويقال إنه كان أحد أحبار اليهود الذين أسلموا، وإنه كان أكثرهم علما ومالا، وقد شهد مع النبي مشاهد كثيرة، وتوفي في غزة تبوك مقبلا إلى المدينة4.
ويعد "عطية القرظي" من الصحابة كذلك، كان صغيرا حين غزا النبي بني قريظة، ولذلك لم يقتل، فأسلم، وصحب النبي5.
ولم يظهر من يهود اليمن في الإسلام ممن عرفوا برواية الإسرائيليات سوى رجلين، هما: كعب الأحبار، ووهب بن منبه. فأما كعب الأحبار، فقد أدرك زمن الرسول، غير أنه لم يره، ولم يدخل في الإسلام إلا في أيام أبي بكر أو عمر. وهو أبو إسحاق كعب بن ماتع بن هينوع "هيسوع"، وقد عرف
__________
1 تهذيب الأسماء "2/ 676"، أسد الغابة "4/ 242".
2 الطبري "3/ 44"، "السنة الخامسة"، تهذيب الأسماء "1/ 90".
3 الإصابة "1/ 504" "رقم 2668"، تهذيب الأسماء "1/ 171 وما بعدها، 191"، "2/ 348 وما بعدها".
4 تهذيب الأسماء "1/ 204"، الإصابة "3/ 28"، "1/ 548"، "رقم 2904"، "التجارية 1939م"، "واستشهد في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر".
5 تهذيب الأسماء "1/ 235"، الإصابة "2/ 479"، "رقم 5581".(12/140)
بين المسلمين بكعب الأحبار وبكعب الحبر من باب التعظيم والتقدير لعلمه. وقد أتاه هذا اللقب من علمه بالشريعة وبكتب الأنبياء وبأخبار الماضين، وهو علم لا نستطيع أن نحكم على درجته ومقدار بعده أو قربه من العلم الذي كان منتشرا بين أحبار ذلك العهد ما لم نقف على الأقوال الصحيحة التي صدرت عن ذلك الحبر. أما هذا المروي عنه والمذكور في تفسير الطبري وفي تأريخه وفي كتب من كان يعني بجمع القصص ولا سيما قصص الرسل والأنبياء فليس في استطاعتنا التصديق بأنه كله صادر من فم كعب، إذ يجوز أن يكون من رواية أناس آخرين ثم حمل على كعب.
ولم ينسب أحد إلى كعب مؤلفا، وكل ما نسب إليه فهو مما ورد عنه بالمشافهة والسماع. وهو بين صحيح يمكن أن يكون قد صدر عنه، وبين مشكوك في أمره وضع عليه، وفيه ما هو إسرائيلي صحيح، أي إنه مما هو وارد في التوراة أو في التلمود أو في الكتب الإسرائيلية الأخرى وفيه ما هو قصص إسرائيلي نصراني، وما هو محض افتعال وخلط. وبالجملة، إن هذا الوارد عنه يصلح أن يكون موضوعا لدراسة، لمعرفة أصوله وموارده والمنابع التي أخذت منه. وعندئذ يمكن الحكم على درجة أصله ونسبه في علم بني إسرائيل، وإمكان صدوره من كعب أو من غيره، ومقدار علم كعب ووقوفه على الإسرائيليات.
وأما وهب بن منبه، فيعد من التابعين، ويعد مرجعا مهما في القصص الإسرائيلي. ويقال إنه حصل على علمه من كتب الأولين، وإن أخا له كان يذهب إلى الشام للتجارة فيشتري له الكتب ليطالعها، وإنه كان على علم غزير بأحوال الماضين، وكان ملما بجملة لغات1. وإذ كان وهب من المتأخرين وكان نشاطه في الحركة الفكرية في الإسلام لا في الجاهلية، لم نجعل له في هذا الموضع مكانا، إنما مكانه في الأجزاء المتعلقة بتاريخ الإسلام.
هذه قصة يهود جزيرة العرب قبل الإسلام، قصة لا تستند إلى مؤلفات تأريخية كتبت في تلك الأيام، ولا إلى نصوص جاهلية عربية أو أعجمية لها علاقة بيهود كتبت في ذلك العهد، ولكن تستند، في أكثر ما حكيناه إلى موارد إسلامية، ذكرتهم وأشارت إليهم لمناسبة ما وقع بينهم وبين الرسول من خلاف، وقد ورد
__________
1 لي مقال عنه في مجلة المجمع العلمي العراقي، الجزء الأول والثاني منها.(12/141)
شيء كثير بحقهم في القرآن الكريم وفي الحديث وفي الأخبار ولا سيما أخبار الغزوات، يتعلق معظمه بأمر الخصومة التي وقعت بينهم وبين النبي عند قدومه يثرب، فهو لا صلة له لذلك إلا بما له علاقة بهذه الناحية. وما ورد عنهم إذن هو من مورد واحد وطرف واحد. أما الطرف الثاني من أصحاب العلاقة بهذا التأريخ والشأ، وأعني بهم اليهود، فلا صوت لهم فيه، ولا رأي. فلم تصل إلينا منهم كتابة ما عنهم في علاقتهم بالإسلام. كذلك لم تصل إلينا كتابة أو رواية أو خبر عن أولئك اليهود في الموارد التأريخية التي دونها غيرهم من مؤرخي يهود وكتابهم عن علاقة يهود جزيرة العرب بالإسلام، وعن اجلاء يهود الحجاز من مواضعهم إلى بلاد الشام، لا في العربية ولا في العبرانية ولا في بقية اللغات، مع ما لهذا الحادث من خطر في تأريخ اليهود في جزيرة العرب. ولعل الأيام تكشف لنا عن موارد في العبرانية أو في لغة بني إرم تذكر أحوال يهود جزيرة العرب قبيل الإسلام وعند ظهوره، وتكشف عن آثار يهود في المواضع التي كانوا يسكنونها في الحجاز، فتبت في أمور كثيرة عن حياة هؤلاء. وليس احتمال عثورنا على مثل هذه الآثار ببعيد، فلا بد أن يعثر على حجر من الحجارة المكتوبة التي توضع فوق القبور، فتعرف منه ما لغة الكتابة التي كان يستعملها أولئك اليهود، أهي العبرانية، أو العربية، أو لغة بني إرم، أو أبجدية من الأبجديات المشتقة من القلم المسند؟ وقد يعثر على نصوص أطول من هذه النصوص التي توضع على القبور، تكشف النقاب عن أمور أخرى مهمة تفيدنا في معرفة أحوال اليهود ببلاد العرب قبل الإسلام.
وما دمنا لا نملك نصوصا يهودية جاهلية، ولا نصوصا عربية جاهلية تتعرض ليهود، فليس في وسعنا إذن أن نتحدث باطمئنان عن أثر اليهود في الجاهليين أو أثر الجاهليين في اليهود. لقد تحدث عدد من المستشرقين عن أثر اليهود في الجاهليين، فزعموا أن اليهود أثرًا عميقًا فيهم، فالختان مثلا هو أثر من آثار يهود في العرب. وشعائر الحج عند الوثنيين أكثرها هي من إسرائيل، فالطواف حول البيت يرجع أصله إلى بني إسرائيل، ذلك أن قدماءهم كانا يطوفون حول خيمة الإله "يهوه" إله إسرائيل، ومنهم تعلمه الجاهليون واتبعوه في طوافهم بالبيت. والإجازة بعرفة يهودية كذلك، لأن الذي كان يجيز الحجاج بعرفة فيأمر الحج بالرمي بعد أن يلاحظ الشمس وقت الغروب يعرف بـ "صوفة"، وصوفة(12/142)
تسمية عبرانية لها علاقة وصلة بهذه الوظيفة مراقبة غروب الشمس وتثبيت وقته، فالإجازة إذن عبرانية الأصل. و"منى" صنم من أصنام إسرائيل، ووادي منى على اسم هذا الصنم الإسرائيلي، وأسماء أيام الأسبوع هي تسميات أخذت من يهود، ولفظة "المدينة" التي تطلق على يثرب، أطلقها اليهود، على هذا الموضع قبل الإسلام، وقد أخذوها من الإرمية، لتميز هذا المكان عن "وادي القرى". وأشياء أخرى عديدة من هذا القبيل1.
وقد غالى بعض اليهود في تقدير يهود جزيرة العرب، فذهب إلى أن أولئك اليهود جلهم إن لم يكونوا كلهم كانوا يحسنون قراءة الكتاب المقدس، بدليل إطلاق القرآن الكريم عليهم "أهل الكتاب". وقد فاته أن عبارة "أهل الكتاب" لا تعني أهل الكتابة، بمعنى أنهم كانوا أصحاب علم بالكتابة، وإنما المراد من ذلك أهل كتاب منزل سماوي. ويدخل في ذلك النصارى أيضًا لوجود كتاب سماوي لديهم كذلك هو الإنجيل. وقد رأيت أن القرآن الكريم قد وصف بعض الأحبار بالعلم. كما رمى أكثرهم بالجهل. أما السواد الأعظم منهم، فقد جعلهم عامة تتبع أقوال رجالها، فلا علم لها ولا معرفة بأمور الماضين أو الحاضرين.
وأنا لا أريد هنا أن أجادل في نفي هذه الأمور، أو إثباتها، فأخذ الشعوب واقتباسها بعضها عن بعض، من القضايا التي لا يمكن أن ينكرها إلا المعاندون الجاهلون المتعصبون. وقد رأيت أن ابن الكلبي وغيره من قدامى الإخباريين قد أشاروا إلى أن أصل بعض الأصنام عند العرب هو من الشمال، استورد في مناسبات أشاروا إليها، كما أن التنقيبات الأثرية قد أثبتت وجود صلات فكرية بين جزيرة العرب وبين العالم الخارجي، وأن ما يزعمه القائلون بعزلة الجاهليين عن بقية العالم هو هراء لا يستند إلى دليل. ولكني في هذه الأمور من الحذرين. أكره الجزم بشيء من غير برهان قاطع ودليل محسوس. فلكلام أهل الأخبار، أكثره مما لا يمكن الاعتماد عليه، وقد رأينا طبيعة أكثره ونوعه. ثم إن الكثير مما له علاقة بيهود وبالدين هو مما أخذ من أهل الكتاب في سلام أو من أفواه مسلمة أهل الكتاب. فهو متأخر عن الجاهلية، فلا يمكن أن يشمل الجاهليين من أهل الكتاب ومن وثنيين. وعلينا الآن التمييز بين هذا الذي أدخل بين العرب بعد أيام الجاهلية
__________
1 اليهود "78 وما بعدها" Graetz VoI p 60(12/143)
وبين ذلك الذي كان معروفا عند الجاهليين وقد ورد عنهم، وذلك لنتمكن من أبداء راي في هذه القضايا المعقدة.
ثم إن العرب كانوا شعبا ساميا، كاليهود في اصطلاح العلماء وتشترك البطون السامية في كثير من أصول التفكير والعقيدة، ومعنى هذا أن ما نجده عند يهود قد يكون عند العرب وعند غيرهم ممن يدخلهم المستشرقون في هذه الزمرة. فلم كل شيء ليهود، ونحكم على أن الجاهليين قد أخذوه منهم، ولا نقول إن هذا من ذلك التراث القديم الموروث؟ أنا لا أقول ذلك متأثرًا بدافع من العصبية، إنما أقول ذلك لأني أدين بفكرة هي أن الاستعجال في إصدار الأحكام بغير دليل خطأ فاحش لا يجوز لإنسان بإنسانيته أن يوقع نفسه فيه.
هذا ولا بد بالطبع من أن يتأثر الجاهليون المجاورون لليهود بعض التأثر بهم، بأن يأخذوا منهم بعض الأشياء ويتعلموا منهم بعض الأشياء التي تنقصهم والتي هم في حاجة ماسة إليها. فذلك أمر لا بد منه. كما ولا بد وأن يكون اليهود قد أقتبسوا من جيرانهم العرب، وعملوا على محاكاتهم في حياتهم الاجتماعية، لا سيما وبينهم يهود من أصول عربية.(12/144)
الفصل الثامن والسبعون شعر اليهود
واللغة التي كان يتكلم بها اليهود، هي اللهجات العربية التي كان يتكلم بها أهل المناطق التي ينزلونها. ولتكلم اليهود في كل قطر يحلون فيه بشيء من الرطانة، لا يستبعد أن تكون لغتهم العربية التي كانوا يتكلمون بها عربية تشوبها الرطانة العبرانية. ولكن هذا لا يمنع من وجود أناس فيما بينهم كانوا يتكلمون ويكتبون بالعبرانية، ولا سيما أنهم كانوا يستعملون العبرانية في دراسة أمورهم الدينية وفي كتابة النشرات والتعاويذ، كما كانوا يستعملونها في السحر. وقد وردت إشارات إلى ذلك في كتب الحديث. وقد ورد أيضًا أنهم كانوا يعلمون أطفالهم العبرانية في الكتاب.
ويروي رواة الشعر شعرا جاهليا زعموا أن قائليه هم من يهود، وأكثره أبيات لشعراء لا نعرف من أمرهم شيئًا، لعلها بقايا قصائد. أما القصائد، فينسب أكثرها إلى السموأل بن عادباء صاحب حصن الأبلق في تيماء، وصاحب قصة الوفاء المشهورة1. وهذا الشعر المنسوب إلى اليهود، لا يختلف في طريقة نظمه وفي تراكيبه ونسقه عن شعر الشعراء الجاهليين، ولا نكاد نلمس فيه أثرًا لليهودية ولا للعبرانية، فألفاظه عربية صافية نقية مثل ألفاظ أهل الجاهلية، وأفكاره على
__________
1 تأريخ الأدب العربي، لكارل بروكلمان "1/ 121"، "طبعة دار المعارف بمصر"، "طبعة ثانية"، "تعريب الدكتور عبد الحليم النجار".(12/145)
نمط أفكار الجاهليين. ويصعب أن تجد فيه أثرًا للتوراة والتلمود، مما يحملنا على التفكير في صحة هذا الشعر وفي درجة تعمق صاحبه وتفهمه لدين يهو.
ومن الشعراء الذين روى الإخباريون شيئًا من شعرهم بعد السموأل: "أوس بن دنن"، وهو من بني قريظة، و"كعب بن سعد القرظي"، و"سارة القريظية"، و"سعية بن غريض بن عادياء" "شعية بن غريض بن عاديا"، و"الربيع بن أبي الحقيق"، و"أبو الديال" "أبو الزناد"، وله شعر في رثاء يهود تيماء الذين أجلاهم الرسول، و"شريح بن عمران"، و"كعب بن الأشرف"، و"أبو رافع اليهودي"1.
وروي أن "جعفر بن محمد الطيلسي" جمع أشعار اليهود في ديوان، ويظهر أنه أخذ ذلك من كتاب للسكري، ويقال إن الموفق بالله أخا الخليفة المعتمد العباسي طلب من الوزير "إسماعيل بن بلبل" أن يقدم إليه ديوانا في شعر اليهود، فطلب الوزير من العالم اللغوي الأديب "المبرد" أن يقدم إليه ديوانا في شعر يهود، فأخبره المبرد أنه لا يعرف شعرا لليهود. فطلب الوزير من العالم "ثعلب" أن يقدم إليه ما عنده من شعره لليهود، فأجابه أن لديه ديوانا من شعرهم، فقدمه إليه2.
وقد كانت بين المبرد وثعلب خصومة شديدة ومنافسة عنيفة، فلعل هذا الخبر هو من مرويات الجماعة المتعصبة لأحد الطرفين في الطعن في أحدهما والحط من شأنه، فقد تحزب طلاب العلم وانقسموا جماعتين، كل جماعة كانت تنتصر لصاحبها، إذ لا يعقل إلا يكون للمبرد علم بشعر لليهود، وقد ذكر من سبقه مثل أبي تمام في حماسته والجمحي في طبقات الشعراء كما ورد في الأصمعيات شعرا لهم3، كما أن في كتابة الكامل نتفا من شعرهم، أو لعل إنكاره لشعرهم بمعنى أن أكثر ما نسب إليهم من شعر هو في نظره مزيف مصنوع، ولهذا لم يعن بجمع ما ورد عنهم، ولا يمكن أن يكون ديوانا في شعر يهود4.
__________
1 الأغاني "19/ 94 وما بعدها" الميداني "2/ 276"، المشرق، السنة الثانية عشرة "1909"، "162" MargiIiouth p 76
2 rgiIiouth p 75
3 طبقات الشعراء للجمحي "70/ وما بعدها".
4 MargoIioutgth p 74(12/146)
والشعراء اليهود الذين ذكرهم الجمحي في كتابه "طبقات الشعراء"، هم: السموأل بن عادياء، والربيع بن أبي الحقيق، وهو من "بني النضير"، وكعب بن الأشرف، وشريح بن عمران، وشعبة بن غريض "شعبة بن غريض" وأبو قيس بن رفاعة، وأبو الذيال، ودرهم بن زيد. وقد ذكر لهم أبياتا مما قالوه من الشعر1.
والسموأل، وهو من سادات يهود الحجاز ومن أثريائهم وملاكهم، أحسن الشعراء اليهود حظًّا في الخلود. بقيت أشعاره، وحفظت قصائده، ولم يبخل علماء الشعر عليه، فجمعوا شعره في ديوان. ولم يشأ الزمان أن يبخل عليه، فهيأ له من طبعه. ولا تزال تلك القصة: قصته مع مخلفات امرئ القيس مضرب الأمثال. وصير هذا الشاعر الملاك المرابي مثلا وقدوة للأوفياء، فضرب به المثل وقيل: أوفى من السموأل، ولعل القصيدة المبتدئة بهذه الأبيات:
وفيت بأدرع الكندي، إني ... إذا ما ذم أقوم وفيت
وأوصى عاديا يوما بألا ... تهدم يا سموأل ما بنيت
بنى ليه عاديا حصينا ... وماء كلما شئت استقيت
هي التي خلدت هذه القصة، وصيرت لها فروعا وذيولا، وهي قصة تجعل الكندي المقصود بها هو الشاعر الشهير امرأ القيس، وهي التي خلدت اسم صاحب ذلك الحصن.
ونجد هذه القصة في قصيدة للأعشى، يقال إنه قالها مستجيرا بابن السموأل شريح، ليفكه من أسره، وكان قد وقع أسيرا في يد رجل كلبي كان الأعشى قد هجاه، ثم ظفر به الكلبي، فاسره وهو لا يعرفه، فنزل بشريح بن السموأل وأحسن صيافته، فلما مر بالأسرى، قال الأعشى أبياتا يمحده فيهان ويمدح أباه، ويذكر كيف أن أباه اختار أدراع الكندي، وأبي إلا أن يسلمها إلى آله وذويه، على أن يسلمها إلى آسري ابنه إذا أطلقوه. وهي أبيات نجته من أسر الكلبي، ففر منه بعد أن وهبه لشريح وهو لا يعرف به. فلما عرف به، ندم. ولكن ندمه هذا لم يفده شيئًا لأنه جاء بعد فوات الوقت2.
__________
1 "ص70 وما بعدها".
2 الأغاني "19/ 99 وما بعدها".(12/147)
ويروي الإخباريون ورواة الشعر أشعارا أخرى للأعشى قالها في مدح السموأل وفي وصف حصنه وفي سرد قصة وفائه، نجد فيها مصطلحات وجملا وكلمات ترد أيضًا في الشعر المنسوب إلى السموأل. وهذا ما يحملنا على التفكير في كيفية حدوث ذلك ووقوعه. هل حدث ذلك لوقوف الأعشى على شعر السموأل واقتباسه منه، باعتبار أن السموأل أقدم عهدا منه، أم حدث بتوارد الخواطر والمعاني فهو من قبيل المصادفة ليس غير، أم صنع فيما بعد على لسان السموأل بعد شيوع هذا الشعر المنسوب إلى الأعشى صاحب الأبلق الفرد، أم الشعران مصنوعان صنعا في الإسلام ووضعا على لسان الرجلين؟ وبالجملة أن أكثر ما ينسب إلى السموأل، هو من النوع المصنوع الذي شك فيه، وبعضه مما نسب إلى غيره من الشعراء.
أما جامع شعر السموأل في ديوان، فهو إبراهيم بن عرفة الملقب بنفطويه "323- 32هـ"، من مشاهير علماء العربية: وبعض ما هو مذكور في هذا الديوان1، مثل قصيدته الشهيرة:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
مذكور في حماسه أبي تمام، وبعضه من مرويات الأصمعي. ولم يذكر نفطويه جامع الديوان سنده في رواية هذا الشعر. وهذا السند مهم جدا عند المؤرخ للوقوف على كيفية حصول هذا العالم على شعر السموأل، ولمعرفة صحة نسبته إليه.
وفي الشعر المنسوب إلى السموأل جزء منحول مصنوع، وضع عيه، وجزء منسوب إلى غيره، وقد أشار إليه العلماء، ونحن إذا قمنا بغربلته وتنقيته نجد أقله له وأكثره لغيره، قد يكون من صنعة شاعر آخر، وقد يكون من وضع وضعة الشعر ومفتعليه. ثم إذا فحصنا هذا القليل الذي يتفق أهل الأخبار على أنه له، لا نجد فيه ما يشير إلى وجود أثر لدين يهود في الشعر.
وقد استدل الأب "شيخو" على نصرانية ذلك الشاعر، من قصيدة نسبت إلى السموأل، ورد فيها شيء من القصص الديني، والأب شيخو لا يكتفي بنصرانية
__________
1 طبع هذا الديوان في بيروت "سنة 1909م" في مجلة المشرق للسنة المذكورة "ص161 وما بعدها" كما نشره عيسى سابا بعنوان شعر السموأل ببيروت كذلك. وأعاده نشره الشيخ محمد حسن آل حسن آل ياسين بعنوان: "ديوان السموأل" صنعة أبي عبد الله نفطويه وطبع ببغداد سنة 1955م.(12/148)
السموأل وحده، بل يرى أن النصرانية هي ديانة جميع الشعراء الجاهليين، ولهذا ألف فيهم كتابه "شعراء النصرانية" وتحدث فيه عنهم على أنهم نصارى مؤمنون بدين المسيح1. وقد فاته شيء واحد لا أدري كيف عزب عن باله، عفا الله عنه، هو: تعيينه مذهبهم في النصرانية، ونصه على ترهبهم وتنسكهم ولبسهم المسوح على طريقة الرهبان.
ومن القصائد المنسوبة إلى السموأل، قصيدة مطلعها:
ألا أيها الضيف الذي عاب سادتي ... ألا اسمع جوابي لست عنك بغافل
ختمها بهذا البيت:
وفي آخر الأيام جاء مسيحنا ... فأهدى بني الدنيا سلام التكامل2
وهي قصيدة تختلف في أسلوب نظمها وفي العرض العام عن طرق النظم المألوفة في الشعر قبل الإسلام، والشعر المنسوب إلى السموأل. وقد وردت فيه كلمة "رحمانهم" وأشير فيها إلى قصة إبراهيم الخليل، والذبيح ابنه، وإلى تسميته بإسرائيل، ثم إلى الأسباط. وقصة بني إسرائيل مع فرعون مصر. وقد أغرق الله فرعون في البحر. وإلى القدس والطور، وأمثال ذلك.
وهذه القصيدة هي رد لأقوال رجل يظهر أنه عاب بني إسرائيل، وتهجم عليهم، فأثار هذا التطاول صاحب هذه الأبيات فنظمها في الرد عليه، وفي الفخر بقومه، مستشهدا على ذلك بالقصص الوارد في التوراة عن بني إسرائيل وعن الأنبياء: إبراهيم وإسحاق ويوسف، وختمها بالبيت الذي رويته منها عن مجئ المسيح، وقد دعا بـ "مسيحنا"؛ لأن المسيح من اليهود. ذكر المسيح فيها بعد حديثه عن موسى وتكليم الرب له على جبل الطور، وهو انتقال فجائي غريب ليست له صلة ما بالأبيات المتقدمة.
__________
1 Nalino Raccolta, III, p. 105, Noldeke, Sammaual, in Zeitschrift Fur Assyriologie, XXVI, 1912, S. 177, Welhausen, Zum Koran in ZDMG, LxVII, 1913, A. 630, Eisenburg, Zu Samaw'al, in ZDMG, LXVIII, 1914, S. 644, Al-Samaw'al, in ZDMG, LXVIII, 1914, s. 644, Al-Samaw'al Ivn Adiya, in Zeitschrift fur Asyriologie, XXVI, 1912, S. 318.
2 شعر السموأل "ص53"، "وعيسى سابا"، "بيروت 1951م".(12/149)
والحوادث المذكورة في هذه القصيدة، والاستشهادات التي استشهد بها الشاعر، وإن كانت مما هو مذكور في "الكتاب المقدس" بجزءيه، تدل على أن ناظمها قد استعان في نظم المصطحات التي استعلمها وطريقة تعبيره عن الحوادث بالقرآن الكريم، وبالقصص الوارد في كتب سير الرسل والأنبياء، وأن الغاية من نظمها هو إثبات مجئ المسيح، وقد جاء. وشهادة شاعر يهودي مفيدة ولا شك في هذا الباب.
ولم ترد هذه القصة في ديوان ولا في كتب الأدب القديمة. وعدم ورودها في تلك الموارد، دليل على أنها مما وضع بعد تدوين شعر السموأل في الديوان المنسوب إليه وفي كتب الأدب القديمة، وأن هذه القصيدة هي من الشعر المصنوع المتأخرة بالنسبة إلى بقية ما نسب إليه.
وللسموأل آراء دينية تراها في هذا الشعر المنسوب إليه، في بعضه إقرار بالبعث والحساب، وأن المليك وهو الرب بجازي الإنسان على ما قام به وما فعله من خير أو شر1، وأن الله قد قدر كل شيء وقضى به، وإن كل ما قدره كائن ولكل رزقه2، أن الإنسان ميت من يوم يولد، وفيه جرثومة الموت، ولد من ميت، ثم يموت، ثم يبعث تارة أخرى للحساب والكتاب، ولكل أجل3.
وفي قصيدة تائية:
نطفة ما منيت يوم منيت ... أمرت أمرها وفيها بريت
كنها الله في مكا خفي ... وخفي مكانها لو خفيت
وهي في كيفية نشوء الإنسان من منى يمنى، وهي فكرة يظهر أن صاحب هذا الشعر اقتبسها من القرآن الكريم، نظرا لمظهر التأثر به في تعبيره عن كيفية خلق الإنسان. وقد تطرق في هذه القصيدة إلى ما ذكرته من اعتقاده بالموت وبالبعث بعده وبالحساب والثواب والعقاب، وإلى سليمان والحواري يحيى وبقايا
__________
1 شعر السموأل "بيروت 1951"، "عيسى سابا" "ص26".
2
ليس يعطى القوي فضلا من الرز ... ق ولا يحرم الضعيف الشخيت
بل لكل من رزقه ما قضى الـ ... ـه وأن حز أنفه المستميت
شعر السموأل "28".
3 شعر السموأل "ص29 وما بعدها".(12/150)
الأسباط أسباط يعقوب دارس التوراة والتابوت1. وإلى انفلاق البحر لموسى وأشار إلى طالوت وجالوت. والإشارات الموجزة هذه، وإن كانت لقصص موجود في التوراة، لم يعتمد الشاعر عليها، بل اعتمد في القرآن الكريم. وهو اسم الملك "شاؤول" في التوراة3. وفي أخذ الشاعر بهذه التسمية القرآنية التي لا وجود لها في التوراة دليل على أنه وضع شعره بعد نزول القرآن، أي في الإسلام. وأما "جالوت" فلفظة وردت في كتاب الله كذلك، وهي تقابل "GoIiath" في العهد القديم4. ويلاحظ أن صاحب القصيدة قد أخذ مصاب "جالوت" من القرآن الكريم، كما أنه سار على نهجه في ذكر طالوت جالوت، وهو ينفرد بذلك عن التوراة.
وشعر فيه هذه المصطلحات وهذا المعاني، لا يمكن أن يكون شعرا يهوديا جاهليا، بل لا بد أن يكون من الشعر المصنوع المنظوم في الإسلام.
فليس في شعر السموأل إذن شيء خاص من الأشياء التي انفردت بها يعود، وهذا الفخر الذي نراه في إسرائيل وفي الأسباط هو فخر يقوم على نمط فخر القبائل بقبائلهم، وليس شيئًا من دين. ثم إن بنا حاجة إلى إثبات أنه من نظم السموأل حقًّا، وأنه ليس من نظم إنسان آخر قاله على لسان السموأل في مدح اليهود وفي الفخر بهم. ولا عجب أن يقوم إنسان بوضع شعر على لسال السموأل أو غيره من الشعراء الجاهليين، فكتب الأدب مليئة بشواهد تذكر أسماء قصائد منتحلة، وضعت على ألسنة شعراء جاهليين، وأسماء من انتحل ذلك الشعر. ولم يكن انتحال ذلك الشعر عملا سهلا، إذ لا بد له من قدرة وعلم ومعرفة بأساليب شعر الماضتين. وقد كان حماد الرواية، وهو أديب كبير وراوية شهير، على رأس طبقة المنتحلين الوضاعين للشعر.
__________
1
وبقايا الأسباط أسباط يعقو ... ب دارس التوراة والتابوت
وانفلاق الأمواج طورين عن مو ... سى وبعد المملك الطالوت
ومصاب الأفريس حين عصى الل ... ـه وإذ صاب حينه الجالوت
شعر السموأل "ص27"، ديوان السموأل "ص25".
2 سورة البقرة، الآية 246 وما بعدها.
3 Ency IV p 642
4 Ency Ip 1008 Hastinrs 303(12/151)
وأشهر القصائد والأشعار المنسوبة إلى السموأل، القصيدة المقولة في الفخر التي مطلعها:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
وهي قصيدة شهيرة معروفة تعد نموذجا في الفخر والحماسة وفي حسن النظم، ولذلك تحفظ في المدارس حتى اليوم اليوم، ويضيف إليها بعض العلماء هذا البيت:
هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... يعز على من رامه ويطول
وبعض العلماء يزيد عليها وينقص منها أبياتا أخرى. وهي مع ذلك مما يعزوه بعض العلماء إلى شعراء آخرين، فعزاها بعضهم إلى عبد الملك بن عبد الرحيم الأزدي، وهو شاعر شامي إسلامي1.
وينسب بعض الرواة القصيدة المذكورة إلى شاعر إسلامي آخر يسمى "دكين" الراجز2 فترى من هذا مبلغ الاختلاف في صحة نسبة هذه القصيدة إلى السموأل.
ولم يرد في ديوان السموأل ولا في بعض الكتب الأخرى البيت المتقدم، وأعني به قوله:
هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... يعز على من رامه ويطول
ولعدم وروده في ديوانه أهمية بالطبع، إذ يجوز أن تكون هذه الزيادة متعمدة لإثبات إنها من شعر السموأل حقًّا، وآية ذلك ورود "الأبلق الفرد" في هذه القصيدة، وليس هناك حصن اشتهر وعرف بهذه التسمية غير هذا الحصن.
وينسب إلى السموال قوله معتذرا لرجل من ملوك كندة:
وإن كنت ما بلغت عني فلامني ... صديقي وحزت من يدي الأنامل
__________
1 ديوان السموأل "ص10 وما بعدها"، الحماسة "ص49"، العيني "2/ 77"، الأمالي "1/ 272".
2 الأغاني "9/ 262"، "طبعة دار الكتب المصرية".(12/152)
وقد ذكر هذا البيت، وكذلك بيت آخر معه في ديوانه. غير أن بعض العلماء ينسبها إلى معدان بن جواس بن فروة السكوني1.
وللأخباريين روايات تختلف بعض الاختلاف في اسم والد السموأل، فمنهم من جعله عادياء، ومنهم من دعاه أوفى، ومنهم من سماه حيان، "حسان"، ومنهم من قال له "السموأل بن غريض بن عاديا"2. وهم يقولون إنه يهودي، ويقولون أحيانًا أنه من غسان، وغسان بالطبع ليست من يهود. ومنهم من قال أن والده من يهود، أما أمه فكانت من غسان3. فهو إذن ذو نصفين -إذا صح التعبير- نصف يهودي، ونصف آخر عربي. ثم هم يذكرون إنه كانت له صلات وثيقة بأمراء غسان، ولصلته هذه بهم قصده امرؤ القيس، طالبا وساطته له عند الحارث بن أبي شمر الغساني، ليوصله إلى قيصر، فينال بمساعدته حقه من خصومه4. أما نحن، فلا يهمنا من أمر السموأل في هذا المكان شيء، وكل ما يهمنا هو ما له صلة بدين اليهود، وعقيدة يهود الجاهلية في الحجاز.
ويستشهد الذين يذكرون أن اسم والد السموأل هو "عاديا" ببيت شعر نسبوه إلى السموأل هو:
بني له عاديا حصنا حصينا ... وعينا كلما شئت استقيت
فقالوا أن أباه "عاديا" اليهودي، وهو باني ذلك الحصن5.
وقد جعل "ابن دريد" نسب السموأل" في "بني غسان"، وجعل عمود نسبه على هذا النحو: "السموأل بن حيا بن عادياء بن رفاعة بن الحارث بن ثعلبة بن كعب"6.
__________
1 ديوان السموأل "ص43 وما بعدها"، سمط الآلئ "457".
2 الأغاني "3/ 12"، "9/ 98"، الميداني "2/ 276"، تاج العروس "7/ 382"، "السموأل بن أوفى بن عادياء بن رفاعة بن جفنة" التاج "7/ 382"، المشرق، السنة الثانية عشرة "1909"، "ص176"، "دار الأندلس".
3 الأغاني "19/ 98"، المشرق، العدد المذكور.
4 الأغاني "19/ 98".
5 تاج العروس "6/ 298".
6 الاشتقاق "2/ 259" "وستنفلده".(12/153)
ولا يستبعد بعض المستشرقين احتمال كون السموأل من أصل عربي، هو من غسان. تهود في جملة من تهود من العرب، لا سيما أن في منطقة يثرب أحياء نص على أصلها العربي، دخلت في هذا الدين. وقد ذهب بعضهم إلى احتمال وجود رجلين بهذا الاسم: رجل غساني عربي، وآخر يهودي1.
وفي هذا البيت المنسوب إلى الأعشى:
أرى عاديا لم يمنع الموت ما له ... وفرد بتيماء اليهودي أبلق
ما يشير على يهودية السموأل، وهو يشير أيضًا إلى غنى عادياء وكثرة ماله.
وقد عرف حصن السموأل بالأبلق، وبالأبلق الفرد، وهو حصن مشرف على تيماء، وقد ذكر الإخباريون أنه إنما دعي بالأبلق، لأنه كان في بنائه بياض وحمرة. وكان أول من بناه عادياء أبو السموأل. وقد ذكر ياقوت الحموي أن موضعه على رابية فيها آثار أبنية من لبن لا تدل على ما يحكى عنه من العظمة والحصانة، وهو خراب2 ولست أرى ان الأبلق أو الأبلق الفرد هي تسمية ذلك الحصن، إنما هي صفة له، أخذت من البيت:
هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... يعز على من رامه ويطول
وهو بيت ينسب قوله إلى السموأل ومن أبيات أخرى تنسب إلى الأعشى.
وورد في أبيات منسوبة إلى الأعشى أن باني الأبلق هو "سليمان"، قال:
ولا عاديا لم يمنع الموت ما له ... وحصن بتيماء اليهودي أبلق
بناه سليمان بن داود حقبة ... لا أزج علا وطئ موثق
يوازي كبيدات السماء ودونه ... بلاط ودارات وكلس وخندق
ولكن هذا البيت يناقض ما ينسب إلى السموأل من شعر فيه أن باني ذلك
__________
1 Zeitschrift fur Assyioiogie 1912 S 174
2 البلدان "1/ 86"، القزويني، آثار البلاد "48"، المشرق "1909"، "163"، تاج العروس "6/ 298"، "بلق".
3 البلدان "1/ 87"، تاج العروس "6/ 298".(12/154)
الحصن، هو أبوه "عاديا" "عادياء". ولست استبعد أن يكون أكثر هذا الشعر من الشعر المصنوع في الإسلام. وأما نسبة بناء الحصن إلى سليمان، فهي من الأمور المألوفة التي رواها أهل الأخبار عن أبنية سليمان في جزيرة العرب. وردت من أساطير روجها اليهود بين العرب في الجاهلية وفي الإسلام عن عظمة سليمان وبنائه الأبنية العظيمة. وقد خصصوا سليمان دون سائر رجال اليهود بالبناء، لبنائه الهيكل الذي أدهش العبرانيين ولا شك، ولم يكن لهم عهد بمثل هذا العهد من قل. ومن يدري، فلعل هذه الأبيات المنسوبة إلى الأعشى هي من عمل أناس في الإسلام كلفهم اليهود صنعها، للتفاخر والتباهي بمآثرهم الماضية، أو أنها حقًّا من قول الأعشى، صنعها لليهود بعد أن فك شريح أسره وأعطاه شيئًا من المال، والمال مالك لكل لسان.
وزعم أهل الأخبار أن الملكة "الزباء" قصدت هذا الحصن، وحصن مارد، فعجزت عنهما، فقالت: "تمرد مارد وعز والأبلق"، فسيرته العرب مثلا لكل عزيز ممتنع1. و"مارد" حصن بدومة الجندل2.
ونحن إذا تتبعنا الشعر المنسوب إلى السموأل، نجد معظمه كما قلت منتحلا موضوعا، صنع فيما بعد. وإذا تتبعنا سيرة هذا الشخص وما قيل فيه، نجد أكثره مما لا يستطيع الثبات للنقد. ولعل هذا هو الذي حمل بعض المستشرقين على الشك لا في شعر السموأل وحده، بل في شخصية السموأل نفسها، فذهبوا إلى أنها من اختراع أهل الأخبار، اخترعوها لما سمعوه من قصص مذكور في التوراة عن "صموئيل"3.
وقد نسب بعض المستشرقين بقاء شعر السموأل وعد ذهابه في الإسلام إلى أهله الذين دخلوا في الإسلام، وبقوا في أماكنهم من تيماء، فلم يكن من الهين عليهم نبذ شعره وتركه، ولهذا حافظوا عليه، فكانت محافظتهم هذه عليه سبب بقائه حتى اليوم4.
__________
1 تاج العروس "6/ 298"، "بلق".
2 تاج العروس "2/ 500".
3 MargoIiouth p 72 Winckier in MVAG Bd VI S262
4 IsImec CuIture III 2 p 190 "1939"(12/155)
وقد ذكر الإخباريون أسماء ثلاثة أولاد للسموأل. أولهم شريح الذي مر ذكره. وثانيهما حوط، وثاليهما منذر. ولا نعرف من أمرهما غير الاسم. ويظن أن حوطا هو الذي وقع في الأسر فذبح1.
أما "سعية بن غريض" "شعية بن غريض بن السموأل" "شعبة"، فهو أخو السموأل على رواية لأبي الفرج الأصبهاني، جعلت اسم والد السموأل: "غريض بن عادياء"2، وهو حفيده على رواية أخرى. وقد أورد له الأصبهاني جملة أبيات في أثناء كلامه على السموأل3. ويذكر أنه كان غنيا صاحب أملاك وأموال، يعقد المجالس، وينادمه قوم من الأوس والخزرج، وأن بعض ملوك اليمن أغار عليه فانتف من ماله حتى افتقر ولم يبق له مال، ثم عاد إليه حاله، وأنه عاش عليه فانتسف من ماله حتى افتقر ولم يبق له مال، ثم عاد إليه حاله، وأنه عاش طويلا إلى أيامه معاوية، وإنه دخل في الإسلام، وأن معاوية رآه يصلي في المسجد الحرام، فطلب حضوره، وسأله عن شعر أبيه الذي يرىثي به نفسه، فأنشده قصيدته:
يا ليت شعري حين أندب هالكا ... ماذ تؤبني به أنواحي
ويذكر رواة هذا الخبر أن "سعية" كان شيخا طاعنا في السن يومئذ. وإنه لم يكن يرى حقًّا لمعاوية في الخلافة، ولذلك لم يقبل أن يسلم عليه بالخلافة، وإنه أجاب أجوبة فيها خشونة وجفاء، وإن الخليفة كف أصحابه من الإساءة إليه قائلا لهم: قد خرف الشيخ، فأقيموه. فأخذ بيده فأقيم.
والقصيدة المذكورة ينسبها بعض الرواة إلى السموأل، وهذه النسبة تجعل السموأل أبا لسعية لا أخا له. أما إذا جعلناها من شعر غريض "عريض"، والد سعية، فلا يكون هناك إشكال ما من ناحية نسبة القصيدة، غير أن علينا حينئذ جعل "سعية" "شعية" حفيدا للسموأل، في رواية من جعله "شعية بن غريض بن السموأل". بإضافة ولد آخر على أولاد السموأل، اسمه "غريض" "الغريض".
__________
1 المشرق، السنة "1909"، "ص163".
2 الأغاني "19/ 100"، طبقات الشعراء، لابن سلام "111"، "اليهود "31".
3 NoIdeke Betrage(12/156)
وذكر البحتري في "حماسته" اسم شاعر يهودي آخر، هو: عريض بن شعبة، ونسب إليه هذا الشعر:
ليس يعطي القوي فضلا من الرز
ق ولا يحرم الضعيف الخبيث
بل لك رزقه ما قضى اللـ
ـه ولو كد نفسه المستميت1
وهو من شعر السموأل نفسه على رواية بعض الإخباريين يروونه له مع شيء من الاختلاف2.
أما "الربيع بن أبي الحقيق"، فهو من بني قريظة على رواية، أو من بني النضير على رواية أخرى. وقد اشترك في يوم بعاث، وعاصر النابغة الشاعر الشهير، وخلف جملة أولاد ناصبوا الرسول العداء3.
ومن بقية شعراء يهود: "أوس بن دنى" من قريظة4، و"كعب بن الأشرف"5، و"سماك اليهودي". وهو شاعر قوي في رده على المسلمين عنيف6.
وكان "كعب بن الأشرف" رجلا شاعرا يهجو النبي وأصحابه ويحرض عليه ويؤذيهم. خرج إلى مكة ونزل على "المطلب بن أبي وداعة السهمي"، بعد معركة بدر" وجعل يحرض على رسول الله وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب. فكان حاصل هجائه القتل7.
وكان "أو دعفك" اليهودي من يحرض على رسول الله ويقول الشعر، وكان شيخا كبيرا. فقتل لتحريضه على رسول الله وقوله الشعر فيه8.
__________
1 NoIdeke Beitrage s 71
2
ليس يعطي القوي فضلا من الرز ... ق ولا يحرم الضعيف الشخيت
بل لكل من رزقه ما قضى اللـ ... ـه وأن حز أنفه المستميت
3 الأغاني "21/ 61"، NoIdke BeIrage s 72
4 الأغاني "19/ 94".
5 الأغاني "19/ 106"، ابن هشام "2/ 123"، "حاشية على الروض".
6 نهاية الأرب "2/ 179"، "حاشية على الروض".
7 نهاية الأرب "17/ 72 ومابعدها".
8 نهاية الأرب "17/ 66 وما بعدها".(12/157)
الفصل التاسع والسبعون: النصرانية بين الجاهليين
مدخل
...
الفصل التاسع والسبعون النصرانية بين الجاهليين
ولم تكن اليهودية، الديانة السماوية الوحيدة التي وجدت لها سبيلا إلى جزيرة العرب، بل وجدت ديانة الوحيدة التي وجدت لها سبيلا إلى جزيرة العرب، بل وجدت ديانة سماوية أخرى طريقا لها إلى العرب، هي الديانة النصرانية، وهي ديانة أحدث عهدا من الديانة الأولى، لأنها قامت بعدها، ونشأت على أسسها ومبادئها، ولكنها كانت أوسع أفقا وتفكيرا من الأولى. فبينما حبست اليهودية نفسها في بني إسرائيل، وجعلت إلهها إله بني إسرائيل شعب الله المختار، جعلت النصرانية ديانتها ديانة عالمية جاءت لجميع البشر. وبينما قيدت اليهودية أبناءها بقيود تكاد تضبط حركاتهم وسكناته، وفرضت عليهم فروضا ثقيلة، نجد النصرانية أكثر تساهلا وتسامحا، فلم تقيد أبناءها بقيود شديدة، ولم تفرض عليهم أحكاما اشترطت عليهم وجوب تنفيذها. وقد قام رجال الدين النصارى منذ أول نشأتها بالتبشير بها، وبنشرها بين الشعوب، وبذلك تميزت عن اليهودية التي جمدت، واقتصرت على بني إسرائيل.
ولفظة "النصرانية" ,"نصارى" التي تطلق في العربية على أتباع المسيح، من الألفاظ المعربة، يرى بعض المستشرقين أنها من أصل سرياني هو: "نصرويو" Nosroyo، "نصرايا" Nasraya1، ويرى بعضآخر أنها من Nazereneds التسمية العبرانية التي أطلقها اليهود على من اتبع ديانة المسيح. وقد وردت في
__________
1 غرائب اللغة "ص207"، Ency III p 848(12/158)
العد الجديد في "أعمال الرسل" حكاية على لسان يهود1، ويرى بعض المؤرخين أن لها صلة "بالناصرة" التي كان منها "يسوع" حيث يقال: "يسوع الناصري" أو أن لها صلة بـ "الناصريين" "Nazarenes= Nasarenes إحدى الفرق القديمة اليهودية المتنصرة. وقد بقي اليهود يطلقون على من اتبع ديانة المسيح "النصارى"، وبهذا المعنى وردت الكلمة في القرآن الكريم، ومن هنا صارت النصرانية علما لديانة المسيح عند المسلمين.
ولعلماء اللغة الإسلاميين آراءب في معنى هذه الكلمة وفي أصلها، هي من قبيل التفسيرات المألوفة المعروفة عنهم في الكلمات الغريبة التي لا يعرفون لها أصلا. وقد ذهب بعضهم إلى أنها نسبة إلى الناصرة التي نسب إليها المسيح2. وزعم بعض منهم أنها نسبة إلى قرية يقال لها "نصران"، فقيل نصراني وجمعه نصارى3. وذكر أن "النصرانة" هي مؤنث النصراني4.
ولم أعثر حتى الآن على نص جاهلي منشور وردت فيه هذه التسمية. أما في الشعر الجاهلي، وفي شعر المخضرمين، فقد ذكر أن أمية بن أبي الصلت ذكرهم في هذا البيت:
أيام يلقى نصاراهم مسيحهم ... والكائنين له ودا وقربانا5
وذكر أن شاعر جاهليا ذكر النصارى في شعر له، وهو:
إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها
__________
1 أعمال الرسل: الإصحاح 24، الآية 5 "فإننا إذا وجدنا هذا الرجل مفسدا، ومهيج فتنة بين جميع اليهود الذين في المسكونة ومقدام شيعة الناصريين".Ency ReIig Ethic Ethic IIIp574
2 اللسان "7/ 68"، تاج العروس "3/ 568"، "نصر".
3 المفردات، للأصفهاني "ص514".
4
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما أسجدت نصرانة لم تحنف
اللسان "7/ 68"، "نصر"، و"النصرانية وأحدة النصارى"، تاج العروس "3/ 569"، "نصر".
5 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص187".(12/159)
وذكر أن جابر بن حنى قال:
وقد زعمت بهراء أن رماحنا ... رماح نصارى لا تخوض إلى دم1
وأن حاتما الطائي قال في شعر له:
وما زلت أسعى بين ناب ودارة ... بلحيان حتى خفت أن أتنصرا2
وأن "طخيم بن أبي الطخماء" قال في شعر له في مدح بني تميم:
وإني وإن كانوا نصارى أحبهم ... ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق3
وأن حسان بن ثابت قال:
فرحت نصارى يثرب ويهودها ... لما توارى في الضريح الملحد4
غير أن هذه الأبيات وأمثالها إن صح إنها لشعراء جاهليين حقًّا، هي من الشعر المتأخر الذي قيل قبل الإسلام. أما قبل ذلك، فليس لنا علم بما كان العرب يسمون به النصارى من تسميات.
والذي نعرفه أن قدماء النصارى حينما كانوا يتحدثون عن أنفسهم كانوا يقولون: "تلاميد" Discipies، "تلاميذ المسيح"، ذلك أنهم كانوا ينظرون إلى المسيح نظرتهم إلى معلم يعلمهم5 وكذلك نظروا إلى حوارييه، فورد "تلاميذ يوحنا" وقصدوا بذلك النصارى6. وهذه التعابير من أقدم التعابير التي استعلمها النصارى للتعبير عن أنفسهم.
كذلك دعا قدماء النصارى جماعتهم بـ "الأخوة" وبـ"الأخوة في الله" Brethren in Lord للدلالة على الجماعة، وبـ "الأخ" للتبعير عن الفرد،
__________
1 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص171، 225"، شعراء النصرانية "190"، المشرق، السنة السابعة "1904، "620 وما بعدها".
2 الأغاني "16/ 104" النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "171، 225".
3 المشرق، السنة السابعة "1904 "602 وما بعدها".
4 ديوان حسان "24".
5 Hastings p 192
6 انجيل مرقس: الإصحاح الثاني، الآية 18.(12/160)
ذلك لأن العقيدة قد آخت بينهم، فصار النصارى كلهم إخوة في الله وفي الدين1. ثم تخصصت كلمة "الأخ" برجل الدين2. ودعوا أنفسهم "القديسين" Sainte3 والمؤمنين4 والمختارين الأصفياء والمدعوين، ويظهر أنها لم تكن علمية، وإنما وردت للإشارة إلى التسمية التي تليها.
وقد كنى عن مجتمع النصارى بـ "الكنيسة" EccIesia وتعني "المجمع" في الإغريفية، بمعنى المحل الذي يجتمع فيه المواطنون. فكنى بها عن المؤمنين وعن الجماعة التابعة للمسيح. كما عبر عن النصارى بـ "الفقراء وبـ "الأصدفاء"5.
وقد عرف النصارى بـ Christians نسبة إلى Christos اليونانية التي تعني "المسيح" Messiah، أي المنتظر المخلص الذي على يديه يتم خلاص الشعب المختار. ويسوع هو المسيح، أي المنتظر المخلص الذي جاء للخلاص كما جاء في عقيدة أتباعه، ولذلك قيل لهم أتباع المسيح. فأطلقت عليهم اللفظة اليونانية، وعرفوا بها، تمييزا لهم عن اليهود. وقد وردت الكلمة في أعمال الرسل وفي رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتوس6.
أما في القرآن الكريم وفي الأخبار، فلم ترد هذه اللفظة اليونانية الأصل. ولهذا نجد أن العربية اقتصرت على إطلاق "نصارى" و"نصراني" و"نصرانية" على النصارى تمييزا لهم عن أهل الأديان الأخرى. أما مصطلح "عيسوي" و"مسيحي"، فلم يعرفا في المؤلفات العربية القديمة وفي الشعر الجاهلي، فهما
__________
1 Hastings p 104
2 أعمال الرسل، الإصحاح الأول، الآية 15 وما بعدها.
Ency ReIi Ethic 3 p 573
3 رسالة بولس الرسول، الأولى إلى أهل كورنتوس، الإصحاح الأول، الآية الأولى وما بعدها.
4 أعمال الرسل: الإصحاح الخامس، الآية 14، رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس، الإصحاح الأول: الآية الأولى وما بعدها.
5 Ency ReIi Ethic 3 p 574
6 أعمال الرسل: الإصحاح الحادي عشر: الآية 26، الإصحاح 26، الآية 28، رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتوس: الإصحاح الرابع، الآية 16،
Hastings p 127(12/161)
من المصطلحات المتأخرة التي أطلقت على النصارى1. وقد قصد في القرآن الكريم بـ "أهل الإنجيل"2 النصارى، إذ لا يعترف اليهود بالإنجيل. وقد أدخل علماء اللغة اللفظة في المعربات3.
وأهم علامة فارقة ميزت نصارى عرب الجاهلية عن العرب الوثنيين، هي أكل النصارى للخنازير، وحملهم للصليب وتقديسه. ورد أن الرسول قال لراهبين أتياه من نجران ليبحثا فيما عنده: "يمنعكما عن الإسلام ثلاث: أكلكما الخنزير، وعبادتكما الصليب، وقولكما الله ولد"4. وورد أنه رأى "عدي بن حاتم الطائي" وفي عنقه صليب من ذهب، لأنه كان على النصرانية5.
وورد في شعر ذي الرمة:
ولكن أصل امرئ القيس معشر ... يحل لهم أكل الخنازير والخمر6
يريد إنهم نصارى في الأصل، فهم يختلفون عن المسلمين في أكلهم لحم الخنزير وفي شربهم للخمر.
وقد أقسم النصارى بالصليب. هذا "عدي بن زيد" يحلف به في شعر ينسب إليه، فيقول:
سعى الأعداء لا يألون شرا ... عليك ورب مكة والصليب7
ليس في استطاعتنا تعيين الذي دخلت فيه النصرانية إلى جزيرة العرب. وتحاول مؤلفات رجال الكنائس رد ذلك التاريخ إلى الأيام الأولى من التأريخ النصراني8، غير أننا لا نستطيع أقرارهم على ذلك، لأن حججهم في ذلك غير
__________
1 Hughes Dictionary of IsIam p 431
2 المائدة، الآية 47.
3 النهاية في غريب الحديث "4/ 136"، المعرب، للجوالقي "23".
4 البلاذري: 71".
5 اللسان "13/ 443"، و"ثن" السيوطي، الدر المنثور "10/ 75".
6 النصرانية "75".
7 شيخو، شعراء النصرانية "451".
8 النصرانية وآدابها، القسم الأول، تأليف لويس شيخو، بيروت 1912م.(12/162)
كافية للاقناع. ولذلك فليس من الممكن تثبيت تأريخ لانتشارها في هذه الأماكن في الزمن الحاضر، وليس لنا إلا التفتيش عن أقدم الوثائق المكتوبة للوقوف عليها بوجه لا يقبل الشك ولا التأوي. ونحن أمام بحث علمي، يجب أن تكون العاطفة بعيدة عنه كل البعد.
وإذا كانت اليهودية قد دخلت جزيرة العرب بالهجرة والتجارة، فإن دخول النصرانية إليها كان بالتبشير وبدخول بعض النساك والرهبان إليها للعيش فيها بعيدين عن ملذات الدنيا، وبالتجارة، وبالرقيق ولا سيما الرقيق الأبيض المستورد من أقطار كانت ذات ثقافة وحضارة. أما هجرة نصرانية كهجرة يهود إلى الحجاز أو اليمن أو البحرين، فلم تحدث، ذلك لأن النصرانية انتشرت في إمبراطورية الروم والساسانيين بالتدريج، ثم صارت ديانة رسمية للقياصرة والروم وللشعوب التي خضعت لهم، فلم تظل النصرانية أقلية هناك، لتضطر إلى الهجرة جماعة وكتلة إلى بلد غريب. لذلك كان حديثنا عن نصارى العرب من حيث الأصل والأرومة، يختلف عن حديثنا عن أصل يهود اليمن أو الحجاز.
وبفضل ما كان لكثير من المبشرين، من علم ومن وقوف على الطلب والمنطق ووسائل الإقناع وكيفية التأثير في النفوس، تمكنوا من اكتساب بعض سادات القبائل فأدخلوهم في دينهم، أو حصلوا منهم على مساعدتهم وحمايتهم. فنسب دخول بعض سادات القبائل ممن تنصر إلى مداواة الرهبان لهم ومعالجتهم حتى تمكنوا من شفائهم مما كانوا يشكون منه من أمراض. وقد نسبوا ذلك إلى فعل المعجزات والبركات الإلهية، وذكر بعض مؤرخي الكنيسة أن بعض أولئك الرهبان القديسين شفوا بدعواتهم وببركات الرب نساء العقيمات من مرض العقم فأولدن أولادا، ومنهم من توسل إلى الله أن يهب لهن ولدا ذكرا، فاستجاب دعوتهم، فوهب لهم ولدا ذكرا، كما حدث ذلك لضجعم سيد الضجاعمة، إذ توسل أحد الرهبان إلى الله أن يهب له ولدا ذكرا، فاستجاب له. فلما رأى ضجعم ذلك، دخل في دينه وتعمد هو وأفراد قبيلته1. ومنهم من شفي بعض الملوك العرب من أمراض كانت به مثل "مارايشوا عزخا" الراهب. ذكروا أنه شفى النعمان ملك الحيرة من مرض عصبي ألم به، وذلك بإخراجه الشيطان
__________
1 النصرانية وآدابها "1/ 35"، Sozomene Hist EccI VI 38(12/163)
من جسده1.
وفي تواريخ الكنيسة قصص عن أمثال هذه المعجزات المنسوبة إلى القديسين، كالتي نسبوها إلى القديس "سمعان العمودي" "المولود نحو سنة 360م" يذكرونها على أنها كانت سببا في هداية عدد من الأمراء وسادات القبائل إلى النصرانية، وبفضل تنصرهم دخل كثير من أتباعهم في هذا الدين2. وكالتي نسبوها إلى القديس "أفتميوس" الذي نضر بفضل هذه المعجزات جمعا من الأعراب وأسكنهم في أماكن خاصة أنشأ فيها كنائس أطلق عليها في اليونانية ما معناه "المحلة" أو "المعسكر"3.
ولم يعبأ المبشرون بالمصاعب والمشقات التي كانوا يتعرضون لها، فدخلوا مواضع نائية في جزيرة العرب، ومنهم من رافقوا الأعراب، وعاشوا عيشتهم، وجاروهم في طراز حياتهم، فسكنوا معهم الخيام، حتى عرفوا بـ "أساقفة الخيام" وبـ "أساقفة أهل الوبر"، وبأساقفة القبائل الشرقية المتحالفة وبأساقفة العرب البادية. وقد ذكر أن مطران "بصرى" كان يشرف على نحو عشرين أسقفا انتشروا بين عرب حوران وعرب غسان وقد نعتوا بالنعوت المذكورة، لأنهم كانوا يعيشون في البادية مع القبائل عيشة أهل الوبر4.
وقد دخل أناس من العرب بالنصرانية باتصالهم بالتجار النصارى وبمجالستهم لهم. روي أن رجلا من الأنصار، يقال له "أبو الحصين"، كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا، أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية فرجعا إلى الشام معهم5.
ودخلت النصرانية جزيرة العرب مع بضاعة مستوردة من الخارج، هي تجارة الرقيق من الجنسين، فقد كان تجار هذه المادة الرابحة يستوردون بضاعتهم من أسواق عالمية مختلفة، ولكن أثمن هذه البضاعة وأغلاها هي البضاعة المستوردة من إمبراطوريةي الروم والفرس، لمميزات كثيرة امتازت بها أنواع المستوردة
__________
1 الديورة في مملكتي الفرس والروم، للقس بولس شيخو "ص32، 47".
2 النصرانية وآدابها "1/ 81 وما بعدها".
3 المشرق: السنة الثانية عشرة، الجزء5. آذار "1909م"، "ص344 وما بعدها".
4 النصرانية "1/ 37".
5 تفسير الطبري "3/ 10"، تفسير القرطبي "3/ 280 وما بعدها".(12/164)
من إفريقية مثلا. فقد كان صنفها من النوع الغالي الممتاز بالجمال والحسن والاتقان ثم بالابتكار وبالقيام بأعمال لا يعرفها من هم من أهل إفريقية. ومن الروميات والصقلبيات والجرمانيات من صرن أمهات لأولاد عدوا من صميم العرب. وقد كان أكثرهن، ولا سيما قبيل ظهور الإسلام، على النصرانية. ومن بينهن من خلدت أسماؤهن لتتحدث للقادمين من بعدهم من الأجيال عن أصولهن في العجم وعن الدين الذي كن عليه.
وقد كان في مكة وفي الطائف وفي يثرب وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب رقيق نصراني كان يقرأ ويكتب للناس ويفسر للناس ما جاء في التوراة والأناجيل، ويقص عليهم قصصًا نصرانيا ويتحدث إليهم عن النصرانية، ومنهم من تمكن من إقناع بعض العرب في الدخول في النصرانية، ومنهم من أثر على بعضهم، فأبعده عن الوثنية، وسفه رأيها عندهم، لكنهم لم يفلحوا في أدخالهم في دينهم، فبقوا في شك من أمر الديانتين، يرون أن الحق في توحيد الله وفي اجتناب الأوثان، لكنهم لم يدخلوا في نصرانية، لأنها لم تكن على نحو ما كانوا يريدون من التوحيد وتحريم الخمر وغير ذلك مما كانوا يبتغون ويشترطون.
وقد أثرت الأديرة تأثيرا مهما في تعريف التجار العرب والأعراب بالنصرانية. فقد وجد التجار في أكثر هذه الأديرة ملاجئ يرتاحون فيها ومحلات يتجهزون منها بالماء، كما وجدوا فيها أماكن للهو والشرب: يأنسون بأزهارها وبخضرة مزارعها التي أنشأها الرهبان، ويطربون بشرب ما فيها من خمور ونبيذ معتق امتار بصنعة الرهبام. وقد بقيت شهرة تلك الأديرة بالخمور والنبيذ قائمة حتى في أيام الإسلام. ومن هؤلاء الرهبان ومن قيامهم بشعائرهم الدينية، عرف هؤلاء الضيوف شيئًا عن ديانتهم وعما كانوا يؤدونه من شعائر. وقد أشير إلى هؤلاء الرهبان الناسكين في الشعر الجاهلي، وذكر عنهم أنهم كانوا يأخذون المصابيح بأيديهم لهداية القوافل في ظلمات الليل1.
وقد كانت هذه الأديرة، وهي بيوت خلوة وعبادة وانقطاع إلى عبادة الله والتفكير فيه، مواطن تبشير ونشر دعوة. وقد انتشرت حتى في المواضع القصية من البوادي. وإذا طالعنا ما كتب فيها وما سجله أهل الأخبار أو مؤرخو الكنائس
__________
1 WeIhausen Reste S 232(12/165)
عن أسمائها، نعجب من هذا النشاط الذي عرف به الرهبان في نشر الدعوة وفي إقامة الأديرة للإقامة فيها مواضع لا تستهوي أحدا. وهي متقاربة عديدة في بلاد العراق وفي بلاد الشام. بل نجد لها ذكرا حتى في الحجاز ونجد وفي جنوبي جزيرة العرب وشرقيها: تتلقى الاعانات من كنائس العراق والشام ومن الروم، حتى تمكنت من التبشير بين أكثر القبائل. ولولا ظهور الإسلام ونزول الوحي على الرسول في الحرمين، لكان وجه العالم العربي ولا شك غير ما نراه الآن. كان العرب في الحرمين، لكان وجه العالم العربي ولا شك غير ما نراه الآن. كان العرب على دين النصرانية وتحت مؤثرات ثقافية أجنبية، هي الثقافة التي اتسمت بها هذه الشيع النصرانية المعروفة حتى اليوم.
وقد ذكر "ابن قتيبة الدينوري": أن النصرانية كانت في ربيعة، وغسان، وبعض قضاعة1 وقال "اليعقوبي": "واما من تنصر من أحياء العرب، فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى، منهم عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وورقة بن نوفل بن أسد. ومن بني تميم: بنو امرئ القيس بن زيد مناة، ومن ربيعة: بنو تغلب، ومن اليمن: طئ ومذحج وبهراء وسليح وتنوخ وغسان ولخم"2.
وطبيعي أن يكون انتشار النصرانية في العرب ببلاد الشام واضحا ظاهرا أكثر منه في أي مكان آخر. وأقصد ببلاد الشام ما يقصده علماء الجغرافيا العرب من هذا المصطلح. فقد كان لعرب هذه الديار علاقة مباشرة واتصال ثقافي بغيرهم من سكان هذه الأرضين الذين دخل أكثرهم في الديانة النصرانية، والذين صارت هذه الديانة ديانة بلادهم الرسمية بعد دخول الروم فيها واتخاذهم النصرانية دينا رسميا للدولة منذ تنصير الشعوب الخاضعة لهم، لا تقربا إلى الله وحده، بل لتمكين سلطانهم عليهم، واخضاعهم روحيا لهم. ولهذا كان من سياسة البيزنطيين نشر النصرانية بين أتباها وفي الخارج وإرسال المبشرين والأغداق عليهم ومدهم بالأموال لنشر الدعوة وتأسيس مكاتب للتبشير، وبالفعلة لبناء الكنائس الفخمة الجميلة على طراز في أنيق جميل غير معروف بين من سيبشر بهذا الدين بينهم. وبذلك تبهر عقولهم، فتشعر أن الدين الجديد مزايا ليست في دينهم، وأن معابده أفخم من
__________
1 المعارف "621"، البدء والتأريخ "4/ 31"، الأعلاق النفيسة "217".
2 اليعقوبي "1/ 227".(12/166)
معابدهم، ورجال دينه أرقى من رجال دينهم، وبذلك يأتون إليها. وللبهرجة والفخفخة أثر عظيم في كثير من الناس, فالعين عند أكثر البشر، تقوم مقام العقل. وقد يكون ما قام به الأحباش في اليمن من إنشاء الكنائس العظيمة فيها وتفننهم في تزويقها وتجميلها وفي فرشها بأفخر الرياش والفراش لصرف الناس عن الكعبة كما يزعم أهل الأخبار دليلا على ما أقول.
وقد وجدت النصرانية لها سبيلا بين عرب بلاد الشام وعرب بادية الشام والعراق. فدخلت بين "سليح"، و"الغساسنة"، و"تغلب"، و"تنوخ"، و"لخم"، و"إياد"1. وقد انتشرت بين عرب بلاد الشام بنسبة تزيد على نسبة انتشارها بين عرب بلاد العراق، وهو شيء طبيعي، فقد كانت بلاد الشام تحت حكم البيزنطيين، وديانتهم الرسمية، هي الديانة النصرانية، وكانوا يعملون على نشرها وترويجها بين شعوب "إمبراطوريةهم"، وبين الشعوب الأخرى، لا سيما الشعوب التي لهم مصالح اقتصادية معها. ففي نشر النصرانية بينهم وادخالهم فيها، تقريب لتلك الشعوب منهم، وتوسيع لنفوذهم السياسي بينهم، وتقوية لمعسكرهم المناهض لخصومهم الفرس، أقوى دولة معادية لهم في ذلك الوقت. ولهذا سعت القسطنطينة لإدخال عربهم في النصرانية، وعملت كل ما أمكنها عمله للتأثير على سادات القبائل لإدخالهم في دينهم، بدعوتهم لزيارة كنائسهم وبإرسال المبشرين اللبقين إليهم، لاقناعهم بالدخول فيها، وبإرسال الأطباء الحاذقين إليهم لمعالجتهم، وللتأثير عليهم بذلك في اعتناق النصرانية، كما دعوهم لزيارة العاصمة، لمشاهدة معالمها ولأنهار عقولهم بمشاهدة كنائسها، والاتصال بكبار رجال الدين فيها، لتعليمهم أصول النصرانية. وأظهروا لهم مختلف وسائل المعونة والمساعدة إن دخلوا في ديانتهم، وبذلك أدخلوهم في النصرانية فصاروا إخوانا للروم في الدين.
نعم، دخل سادات القبائل والحكام العرب التابعون لهم في هذه الديانة، فصاروا نصارى، ولكنهم لم يأخذوا نصرانية الروم، بل أخذوا نصرانية شرقية مخالفة لكنيسة "القسطنطية"، فاعتنقوها مذهبا لهم. وهي نصرانية عدت "هرطقة" وخروجا على النصرانية الصحيحة "الأرثوذكسية" في نظر الروم. نصرانية متأثرة
__________
1 اليعقوبي "1/ 227"، "أديان العرب".(12/167)
بالتربة الشرقية، وبعقلية شعوب الشرق الأدنى، نبتت من التفكير الشرقي في الدين، ولهذا تأثرت بها عقلية هذه الشعوب فانتشرت بينها، ولم تجد لها إقبالا عند الروم وعند شعوب أوروبة. وكان من جملة مميزاتها عكوفها على دراسة العهد القديم، أي التوراة، أكثر من عكوفها على دراسة الأناجيل1.
والنصرانية التي شاعت بين عرب بلاد الشام، هي النصرانية اليعقوبية، أو المذهب اليعقوبي بتعبير أصح. وهو مذهب اعتنقه أمراء الغساسنة وتعصبوا له، ودافعوا عنه، وجادوا رجال الدين في القسطنطنية وفي بلاد الشام في الذب عنه. فزعم مثلا أن "الحارث بن جبلة" "ملك العرب النصارى" تغلب في مناظرة جرت له مع "البطريرك بن جبلة" "526- 545م" على "البطريرك" وأفحمه في جوابه. وكان إفرام، وهو على مذهب "المكيين"، قد قصده لإقناعه بترك المذهب "المنوفيزيتي" والدخول في مذهبه2. ونسبوا إلى "المنذر بن الحارث" دفاعًا شديدًا عن "المنوفيزيتية"، أي المذهب الذي كان عليه الغساسنة من مذاهب النصرانية، وذكروا أنه أَنَّبَ "البطريرك دوميان" وهو في القسطنطنية على تهجمه على "المنوفيزيتين"، وعمل جهده في التقريب بين مذهبه ومذهب القيصر، واتصل بالقيصر "طيباريوس" "578-5682م" ليعمل على بث روح التسامح بين المذاهب النصرانية وترك الحرية للأفراد في دخول المذهب الذي يريدونه والصلاة في أية كنيسة يريدها النصراني2.
ويظهر أن بعض الضجاعمة الذين كانوا يتولون حكم عرب الشام قبل الغساسنة كانوا على دين النصرانية. غير إننا لا نستطيع أن نحكم على أي مذهب من مذاهب النصرانية كانوا. فذكروا أن "زوركوموس"، وهو "ضجعم" جد الضجاعمة تنصر على يد أحد الرهبان، وذلك أن هذا الرئيس كان متهلفًا إلى مولود ذكر، فجاءه هذا الراهب، وتضرع إلى الله أن يهبه ولدًا ذكرًا، فلما استجاب الله له تعمد وتبعته قبيلته3.
__________
1 NoIdeke Geschichte des goraus Is7
2 المشرق، السنة الرابعة والثلاثون، كانون الثاني -آذار، 1936 "ص61 وما بعدها".
3 النصرانية "1/ 35".(12/168)
وقد كان مشهد القديس "سرجيوس" في "الرصافة"، من أهم المزارات التي تقصدها المتنصرة من عرب الشام، مثل الغساسنة وتغلب. وقد تقرب إليه بعض ملوك الغساسنة بتقديم الهدايا والنذور إليه وبتزيينه وبزيارته، وبالاعتناء بالمدينة وبصهاريجها تكريمًا له، وتقربًا إليه، وظل هذا المزار مقصودًا مدة في الإسلام. وقد عد التغلبيون هذا القديس شفيعهم، جعلوا له راية حملوها معهم في الحروب، وكانوا يحملونها مع الصليب تبركًا وتيمنًا بالنصر1.
وكان حاضر "قنسرين" لتنوخ. أقاموا في طرفها هذا منذ زمن قديم، مذ أول نزولهم بالشام. نزلوا في طرفها وتنصروا. فلما حاصر "أبو عبيدة" المدينة، دعاهم إلى الإسلام، فأسلم بعضهم، وأقام على النصرانية بنو سليح. كذلك كان في طرف قنسرين عشائر من طيء، نزلوا بها في الجاهلية على أثر الحروب التي وقعت فيما بينهم، واستدعت تفرقهم، فأقاموا عند قنسرين مع القبائل العربية الأخرى التي جاءت إلى هذا المكان2.
وكان بقرب مدينة "حلب" حاضر يدعى "حاضر حلب" يجمع أصنافًا من العرب من تنوخ وغيره. فلما جاء "أبو عبيدة" إلى المدينة، صالح من فضل البقاء منهم على دينه على الجزية، ثم أسلم الكثير منهم فيما بعد3.
وتعد بهراء في جملة القبائل العربية المتنصرة عند ظهور الإسلام. تنصرت كما تنصرت غسان وسليح وتنوخ وقوم من كندة، وذلك لنزولها في بلاد الشام ولاتصالها بالروم4.
__________
1 قال الأخطل:
لما رأونا، والصليب طالعا ... ومار سرجيس وسما ناقعا
وأبصروا راياتنا لوامعا ... خلوا لنا راذان والمزارعا
فأجابه جرير:
أفبالصليب ومار سرجيس تتقي ... شهباء ذات مناكب جمهورا
وقال:
ستنصرون بمارسرجيس وابنه ... بعد الصليب ومالهم من ناصر
المشرق، السنة الرابعة والثلاثون، نيسان - حزيران، 1936، "ص246 وما بعدها".
2 البلاذري، فتوح "150 وما بعدها"، "أمر جند قنسرين والمدن التي تعدى العواصم".
3 البلاذري، فتوح "151"ز
4 اليعقوبي "1/ 298"، الخراج "146"، النصرانية"125".(12/169)
وقد سكن قوم من "إياد" السواد والجزيرة، وسكن قوم منهم بلاد الشام، فخضعوا للغساسنة وللروم وتنصروا. وهم في جملة القبائل التي لم يأخذ علماء العربية اللسان عنها لمجاورتها أهل الشام، ولتأثرها بهم، وهم قوم يقرءون ويكتبون بالسريانية، فتأثروا بهم، لروابط الاحتكاك والثقافة والدين1.
وقد ترك لنا رجل من نصارى الشام نصًّا قصيرًا مؤرخا بسنة "463" المقابلة لسنة "568" للميلاد، وهي غير بعيدة عن ميلاد الرسول جاء فيها: "نا شرحيل بر ظلمو بنيت ذا المرطول سنت 463 بعد مفسد خيبر بعم"، أي "أنا شراحيل بن ظالم بنت ذا المرطول بعد مفسد "خيبر" بعام". هو على قصره ذو أهمية عظيمة من الناحية اللغوية، إذ هو النص الجاهلي الوحيد الذي وصل إلينا مكتوبا باللهجة التي تزل بها القرآن الكريم. وهو على ما أعلم النص الجاهلي الوحيد أيضًا الذ وصل إلينا مكتوبا بصيغة المتكلم، فالنصوص الأخرى التي وصلت إليها والمكتوبة بمختلف اللهجات العربية مدونة كلها بضمير الغائب. وهو أيضًا من النصوص العربية القليلة التي تركها النصارى العرب لمن بعدهم في بلاد الشام.
وقد استغل الروم العرب المتنصرة بأن أثاروا في نفوسهم العواطف الدينية على المسلمين، حينما عزم المسلمين على فتح بلاد الشام وطرد البيزنطيين منها، وأغروا سادات القبائل بالمال وبالهدايا وبالوعود حتى اشتروهم فصاروا إلى جانبهم. والمصالح الشخصية هي فوق كل مصلحة عند سادات القبائل، لا يعلوها عندهم مصلحة، فانضموا إليهم، وجاءوا بقبائلهم لتحارب معهم. ومن هذه القبائل العربية التي حاربت مع الروم، غسان. حاربوا معهم في معارك عديدة. ففي يوم اليرموك كانوا في صفوف الروم، وكان رئيسهم "جبلة بن الأيهم الغساني" في مقدمة الجيش الذي أرسله هرقل لمحاربة المسلمين. كان على رأس مستعربة الشام من غسان ولخم وجذام2. وقد اشترك مع الروم في حروب أخرى ضد المسلمين.
وكانت "سليح" في جملة القبائل العربية المتنصرة التي حاربت المسلمين. ولما تقهقر الروم وانهزموا، دفعوا الجزية لاحتفاظهم بدينهم. وكذلك كانت عاملة ولخم وجذام في جملة القبائل المتنصرة التي ساعدت الروم، وآزرتهم. كانوا مع
__________
1 المزهر "1/ 105"، النصرانية "124".
2 البلاذري، فتوح "140"، "يوم اليرموك".(12/170)
الروم مثلا حين مجئ الرسول إلى "تبوك"1. وظلوا إلى جانبهم يؤيدونهم، حتى تبين لهم أن النصر قد تحلو للمسلمين، وأن الهزائم قد حالفت الروم، عندئذ انضمت في جملة من انضم من منتصرة العرب إلى المسلمين لمحاربة الروم2.
وكادت قبيلة "تغلب" الساكنة غرب الفرات، أن تفر إلى بلاد الروم وتلحق بأرض الروم، لما غلب البيزنطيون على أمرهم وفتحت بلاد الشام والعراق أمام المسلمين. ولما خيرت بين البقاء على دينها ودفع الجزية وبين الدخول في الإسلام، أنفت من دفع الجزية، ورضيت بدفع ضعف الصدقة التي تؤخذ من المسلمين في كل سائمة وأرض3.
وقد نزحت "إياد" إلى بلاد الروم وبقيت بهان ثم عاد جمع منها لإخراج القيصر إياهم، فنزلوا بلاد الشام والجزيرة وانضموا إلى إخوانهم في الجنس4.
ويلي هؤلاء عرب العراق، لاحتكاكهم بالنصارى ولانتشار النصرانية في العراق بالرغم من أن ديانة الحاكمين لهذا القطر كانت ديانة أخرى، وأن النصرانية لم تكن في مصلحة الفرس. غير أن الفرس لم يكونوا يبشرون بدينهم، ولم يكن يهمهم دخول الناس فيه، إذ عدت المجوسية ديانة خاصة بهم، وهذا مما صرف الحكومة عن الاهتمام بأمر أديان الخاضعين لها من غير أبناء جنسها، إلا إذا وجدتها تتعارض مع سياستها، وتدعوا إلى الابتعاد عنها. ثم إن النصرانية إلا إذا وجدتها تتعارض مع سياستها، وتدعو إلى الابتعاد عنها. ثم إن النصرانية التي انتشرت فيما لم تكن من النصرانية المتشيعة بالأخطار، فغضت النظر عنها، وأن قاومتها مرارا واضطهدتها، وفتك ملوكها بعدد من الداخلين فيها، أشارت إليهم كتب مؤرخو الكنيسة في تواريخم عن الشهداء القيسين5.
وقد أشار أهل الأخبار إلى تنصر بعض ملوك الحيرة، ونسبوا إليهم بناء الأديرة
__________
1 البلاذري "71"، "تبوك وإيلة وأذرح ومقنا والجرباء".
2 الخراج "138"، "فصل في الكنائس والبيع والصلبان".
3 البلاذري "185"، "أمر نصارى بني تغلب بن وائل"، السنن الكبرى "9/ 216".
الخراج "120 وما بعدها".
4 الطبري "4/ 197 وما بعدها"، "الجزيرة".
5 هنالك عدة مؤلفات في هذا لموضوع راجع منها:
Georg Hoffmann, Aszuge Aus Syrischen Akten Persicher Martyrer, Leipzig, 1880.(12/171)
والكنائس، كما أشار إلى ذلك بعض مؤرخي الكنيسة. كالذي ذكروه عن المنذر" وعن "النعمان بن المنذر". غير أننا لا نستطيع إقرار ذلك بوجه عام، ولا بد من التريث، إذ يظهر أن أكثر ملوك الحيرة كانوا على الوثنية. وإذا كان كثير من ملوك الغساسنة قد دخلوا في النصرانية فإن ظروفهم تختلف عن ظروف ملوك الحيرة. فقد كان الروم، وهم سادة بلاد الشام، على هذه الديانة، وكانوا يشجعون انتشار النصرانية ويسعون لها، ولهذا كان لهذه السياسة أثر في الغساسنة أصحاب الروم، وهم على اتصال دائم بهم بطبيعة حكمهم لبلاد الشام. أما في العراق، فلم تكن هذه الديانة ديانة رسمية للحكومة، إنما انتشرت بفضل المبشرين، ولهذا انتشرت بين سواد الشعب، ولم تنتشر بين الملوك. ولم تضغط الحكومة الساسانية على ملوك الحيرة للدخول في هذه الديانة التي لم يكونوا أنفسهم داخلين فيها، فهي بالإضافة إليهم ديانة غريبة، لا يعنيهم موضوع انتشارها، ولا يهمهم موضوع انتشارها، ولا يهمهم شأنها ما دامت لا تتعارض وحكمهم في العراق.
وقد كان "هانئ بن قبيضة الشيباني" ممن كان على النصرانية، وهو من سادات "بني شيبان"، ومات وهو على هذا الدين. وكان في جملة من فاوض "خالد بن الوليد" باسم قومه على دفع الجزية للمسلمين.
ومن متنصرة العراق بنو عجل بن لجيم من قبائل بكر بن وائل. وقد عرف منهم "حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي" الذي سادهم في معركة ذي قار. وقد حاربت "خالد بن الوليد"، وكان قائدها بن بجير وعبد الأسود. وكان منها في أيام بني أمية أبجر بن جابر. وهو والد حجار. وقد بقي على نصرانيته في الإسلام1.
وكان في الحيرة سراة نصارى اشتركوا مع سراة قريش في الأعمال التجارية مثل "كعب بن عدي التنوخي"، وهو من سراة نصارى الحيرة، وكان أبوه أسقفا على المدينة، وكان هو يتعاطى التجارة، وله شركة في التجارة في الجاهلية مع "عمر بن الخطاب" في تجارة البز، وكان "عقيدا"، قدم المدينة في وقد من أهل الحيرة إلى النبي ورأى الرسول، فأسلم في رواية، ولم يسلم في رواية أخرى. ولما توفي الرسول، ثبت على الإسلام على رواية من صيره مسلمًا في
__________
1 الأغاني "13/ 46 وما بعدها"، النصرانية "136".(12/172)
أيام الرسول. واشترك في جيش اليمامة الذي أرسله "أبو بكر"، ووجهه "أبو بكر" في رسالة إلى "المقوقس"، ثم وجهه "عمر" برسالة إليه في أيامه. وشهد فتح مصر1.
وقد أخرجت مدينة الحيرة عددا من رجال الدين، مثل مار إيليا وأصله من الحيرة، والقديس والقديس حنا نيشوع، وهو من عرب الحيرة ومن عشيرة الملك النعمان2، والقديس مار يوحنا3 و"هوشاع" الذي حضر مجمع إسحاق الجاثليق عام 410م، وشمعون الذي أمضى أعمال مجمع "يهبالا" الذي انعقد سنة 486م، وشمعون الذي حضر مجمع "أقاق"، و"إيليا" المنعقد سنة 486م وأمضى في سنة 497م مجمع "اباي" و"افرام" و"يوسف"، وقد حضر مجمع "أيشوعياب الأرزني" الذي انعقد سنة 585م، وشمعون بن جابر الذي نصر الملك النعمان الرابع في سنة 594 على ما يذكره مؤرخو الكنيسة4.
وقد كان "مار يشوعياب الأرزوني" Jesujab I Arzunita المتوفى سنة 596م من أصل عربي. درس الديانة في "نصيبين" Nisibis ثم تقدم فصار أسقفا على "أرزون" Arzun، ثم ترقى حتى صار "بطريكا" بطريقا" على النساطرة سنة 580م. وقد زار الملك "النعمان". وتوسط عند الروم لمساعدة خسرو ابرويز" Chosroes Abruizus ضد "بهرام" Beheram Varames وقد توفي في خيم "بني معد" "المعديين" Maadenes، ونقل إلى الحيرة فدفن في دير "هند" ابنة النعمان5.
وقد عثر على آثار كنائس في خرائب الحيرة، وأشار أهل الأخبار إلى وجود الكنائس والبيع والأديرة في الحيرة. وذكر "ياقوت الحموي" أسماء عدد من الأديرة كانت بالحيرة أو بأطرافها وبالبادية، منها: "دير ابن براق" بظاهر الحيرة، "دير ابن وضاح" بنواحي الحيرة، وديارات الأساقف، وهي
__________
1 الإصابة "3/ 282"، "رقم 7422".
2 الديورة في مملكتي الفرس والعرب "32 وما بعدها".
3 الديورة "47".
4 أدى شير "2/ 208".
5 W// Smith, A Dicrionary, II, p. 370, John of Ephesus, Eccl. Histo, II, 40 ff.(12/173)
جملة أديرة كانت بالنجف ظاهر الكوفة بحصريها نهر الغدير، ودير الأسكون "وهو بالحيرة راكب على النجعف وفيه قلالي وهياكل وفيه رهبان يضيفون من ورد عليهم". ودير الأعور، بظاهر الكوفة بناه رجل من إياد يقال له الأعور من بني حذافة بن زهر بن إياد، ودير بني مرينا، بظاهر الحيرة عند موضع جفر الأملاك، ودير حنظلة، منسوب إلى حنظلة بن أبي عفراء بن النعما، وهم عم إياس بن قبيصة، وكان من رهط "أبي زبيد" الطائي، وكان من شعراء الجاهلية، ثم تنصر وفارق قومه، ونزل الجزيرة مع النصارى حتى فقه دينهم وبلغ نهايته، وبنى ديرا عرف باسمه، هو هذا الدير، وترهب حتى مات1. ودير حنظلة بالحيرة، وهو منسوب إلى حنظلة بن عبد المسيح بن علقمة، ودير حنة، وهو بالحيرة كذلك بناه المنذر لقوم من تنوخ يقال لهم بنو ساطع، تقابله منارة عالية كالمرقب تسمى القائم، لبني أوس بن عمرو بن عامر، ودير السوا بظاهر الحيرة يتحالفون عنده، ودير الشاء، ودير عبد المسيح وهة بظاهر الحيرة بموضع الجرعة بناه عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة، ودير علقمة بالحيرة منسوب إلى علقمة بن عدي بن الرميك بن توب بن أسس بن دبي بن نمارة بن لخم، ودير قرة وهو دير بإزاء دير الجماجم بناه رجل اسمه قرة من بني حذافة بن زهر بن إياد في أيام المنذر بن ماء السماء، ودير اللج وهو بالحيرة بناه النعمان بن المنذر أبو قابوس، و"كان يركب في كل أحد إليه، وفي كل عيد، ومعن أهل بيته، خاصة من آل المنذر، عليهم حلل الديباج المذهبة، وعلى رءوسهم أعلام فوقها صلبان، وإذا قضوا صلاتهم، انصرفوا إلى مستشرفه على النجف، فشرب النعمان وأصحابه فيه بقية يومه، وخلع ووهب، وحمل ووصله وكان ذلك أحسن منظر وأجمله"2.
ودير مارت "مارة" مريم. هو دير قديم من أبنية آل المنذر بنواحي الحيرة بين الخورنق والسدير وبين قصر أبي الخصيب مشرف على النجف، ودير مار فايثون بالحيرة أسفل النجف، ودير مر عبدا بذات الأكيراح من نواحي الحيرة منسوب إلى مر عبدا بن حنيف وضاح اللحياني كان مع ملوك الحيرة،
__________
1 البكري، معجم "2/ 567"، "دير حنظلة".
2 البكري، "معجم "5/ 596"، "دير الج".(12/174)
ودير ابن المزعوق، وهو دير قديم بظاهر الحيرة، ودير هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر المعروفة بالحرقة، وكانت به قبور أهلها، بنته هند في أيام "خسرو أنو شروان" في زمن مار افريم الأسقف. وأما الدير المعروف بدير هند الأقدم، فنسب بناؤه إلى هند الكبرى، أم عمرو بن هند1.
هذه أسماء اخترتها من بين أسماء أديرة أخرى كثيرة ذكرها "الشابشي"2، وياقوت الحموي والبكري، لأن لها صلة بالحيرة وبما جاورها وبالعرب سكان هذه الأرضين. ونجد في بلاد الشام أديرة أخرى بناها عربها في تلك الديار قبل الإسلام. ونجد على تسميات بعضها الصبغة الإرمية كما في تسمية "مار افريم" "مار افرايم" و"مار عبدا" و"مار فايثو"، وغيرها. وكلمة "مار" من كلمات بني إرم، كما نجد الصبغة النصرانية للأعلام واضحة على بعضها كما في عبد المسيح وحنة ومارت مريم وأمثال ذلك، وهي من الأعلام التي اختصت بالنصارى. وذلك بسبب أن النصرانية كانت متأثرة بثقافة بني إرم، وكانت تستعمل اللغة الإرامية في الصلوات وفي تأدية الشعائر الدينية الأخرى. ولغة بني إرم هي لغة العلم عند النصارى الشرقيين، فكان من الطبيعي استعمال نصارى العرب لهذه اللغة في كنائسهم وبيعهم وأديرتهم وفي دراستهم للدين وما يتصل باللاهوت من علوم. ومن هنا استعمل كتابهم قلم بني إرم في كتاباتهم، ومن هذا القلم تولد القلم النبطي المتأخر الذي تفرع منه القلم العربي الذي كتب به أهل الحجاز عند ظهور الإسلام، فصار القلم الرسمي للمسلمين.
وقد نعت الرواة وأهل الأخبار العرب التي دانت بالنصرانية بـ "العرب المتنصرة"، تمييزا لها عن العرب الآخرين الذين لم يدخلوا في هذه الديانة، بل بقيت على إخلاصها ووفائها لديانة آبائها وأجدادها، وهي عبادة الأوثان. ومن القبائل التي يحشرها أهل الأخبار في جملة "العرب المتنصرة" غسان وتغلب وتنوخ ولخم وجذام وسليح وعاملة. وبلاحظ أن الإخباريين يطلقون على هذه القبائل أو على أكثرها "العرب المستعربة"، وهم لا يصدقون بذلك نسبها، لأن من بينها كما نعلم من هو من أصل قحطاني على حسب مذهب أهل الأنساب في نسب
__________
1 البكري "2/ 606"، البلدان "4/ 119 وما بعدها"، "القول في ذكر الأديرة".
2 مطبعة المعارف، بغداد، تأريخ كلدو وأثور "2/ 29"، ذخيمة الأذهان "317".(12/175)
القبائل. وإنما يريدون من هذا المصطلح التي كانت قد سكنت ببلاد الشام والساكنة في أطراف الإمبراطورية البيزنطية وفي سيف العراق من حدود نهر الفرات إلى بادية الشام، فهو يشمل إذن القبائل النازلة على طرفي الهلال الخصيب وفي طرفي القوس التي تحيط بحدود الإمبراطوريةين. وخاصة تلك القبائل التي دانت بالنصرانية وتأثرت بثقافة بني إرم وبلهجتها، وذلك لظهور هذا الأثر فيها، وعلى لهجتها خاصة، مما حدا بعلماء اللغة أن يتحرجوا في الاستشهاد بشعرها في قواعد اللغة. والاستشهاد بشعر قبيلة لإثبات القواعد هو أوثق شاهد في نظر العلماء على التسليم بنقاوة لغة القبيلة التي يستشهد بشعرها وأصالتها.
ووجدت النصرانية بعد بلاد الشام والعراق لها مواضع أخرى دخلت إليها، هي أطراف جزيرة العرب، كالعربية الغربية والجنوبية والشرقية. وتفسير دخولها إلى هذه الأرضين واضح، هو اتصالها بطرق القوافل البرية والبحرية في البلاد التي انتشرت فيها النصرانية، ومجئ التجار النصارى والمبشرين مع القوافل إليها. وتجار النصارى، لم يكونوا على شاكلة تجار يهود: كانوا يرون أن التجارة هي كسب والآخرة، فكانوا يغتنمون فرصة وجودهم في البلاد التي يطرقونها كسبا لهم ولبلادهم، وأكثرهم من الروم. فإنهم يجدون بتنصر الغرباء، إخوانا هلم يرون رأيهم، ويعطفون عليهم. ثم إنه سيفضلونهم في تعاملهم معهم على غيرهم، وسيتساهلون معهم ولا شك. ثم إنهم سيقربنهم بتنصيرهم من العالم النصراني، وممثل هذا العالم وحماته هم الروم.
وكان أهل دومة الجندل خليط، فيهم نصارى، قال عنهم أهل الأخبار إنهم "من عباد الكوفة"1. ويظهر من خبر أسر خالد للأكيدر ومجيئه به على رسول الله، ومن مصالحة الرسول له على الجزية، إنه كان على النصرانية، إذ لا تؤخذ الجزية من مشرك2؟
__________
1 البلاذري، فتوح البلدان "74". "دومة الجندل".
2 "ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته" الطبري "3/ 109". "دار المعارف"، "ذكر الخبر عن غزوة تبوك".(12/176)
أما "أيلة"، فكان اسم صاحبها في أيام الرسول "يحنة بن رؤبة" "يوحنا بن رؤبة". وهو نصراني كما يدل اسمه عليه، جاء إلى تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، وكا الرسول بها، فصالحه على الجزية وبقي في محله1. وقد دعاه المسعودي "أسقف أيلة"2. وورد في محاضر بعض المجامع الدينية "أسقف أيلة والشراة"3.
وكان في وادي القرى نفر من الرهبان، كما ورد ذلك في شعر جعفر بن سراقة أحد بني قرة، وهو:
فريقان رهبان بأسف ذي القرى ... وبالشام عرافون فيمن تنصرا4
وتعد طئ من القبائل التي وجدت النصرانية سبيلا إليها. وقد ورد أن "أحودما" "المغريان" تنقل بين طئ في سنة "870" لليونان المقابلة لسنة "559" للميلاد5. وقد كان عدي بن حاتم الطائي في جملة الداخلين في النصرانية من طئ. ويذكر إنه كان "ركوسيا"، وفد على الرسول، وأعلن إسلامه6. غير أن هذا لا يعني أن النصرانية كانت هي الغالبة على هذه القبيلة، فقد كان قوم منها يتعبدون للصنم "الفلس"، أي على الشرك.
ولم يذكر أهل الأخبار شيئًا يستحق الذكر عن النصرانية في يثرب. وقد أشار القرآن الكريم في مواضع عديدة من الآيات المدنية إلى النصارى، غير أن تلك الإشارات عامة في طبيعة المسيح وفي النصرانية نفسها لا في نصارى يثرب وفي صلاتهم بالإسلام. ثم إن أهل السير لم يشيروا إلى تصادم وقع بين النصارى والمسلمين ولا إلى مقاومة نصارى يثرب للرسول كالذي وقع بين يهود يثرب والرسول، مما يدل على أن النصرانية لم تكن قوية في المدينة، وإن جاليتها لم تكن
__________
1 البلاذري "66"، السنن الكبرى "9/ 185 وما بعدها".
2 التنبيه "272"، النصرانية "448".
3 النصرانية "448".
4 الأغاني "7/ 96" "نسب جميل وأخباره".
5 النصرانية وآدابها، القسم الأول "132 وما بعدها".
Barhebraei Chrinion EccI III100
6 الإصابة "2/ 461"، "رقم 5477"، المشرق، السنة الثامنة، العدد 11، "1905" "507"، النصرانية "133".(12/177)
كثيرة العدد فيها. غير أن هذا لا يعني عدم وجود النصارى في هذا الموضع الزراعي المهم1. فكما كان في مكة رقيق وموالي يقومون بخدمة ساداتهم، كذلك كان في المدينة نفر منهم أيضًا يقومون بمختلف الأعمال التي يعهد أصحابهم إليهم القيام بها. ولا بد أن تكون لهذه الطبقة من البشر مكانة في هذه المدينة وفي أي موضع آخر من جزيرة العرب. فقد كانت هذه الطبقة عمودا خطيرا من الأعمدة التي يقوم عليها بنيان الاقتصاد في ذلك العهد، فهي بالنسبة لذلك العهد الآلات المنتجة والمعامل المهمة لأصحاب الأموال وللسادة الأثرياء، تؤدي ما يطلب منها القيام به وما يراد منها انتاجه بأجور زهيدة وبدقة ومهارة لا تتوفر عند الأحرار من العرب. ثم إن الأحرار مهما بلغ حالهم من الفقر والفاقة كانوا يأنفون من الأعمال الحرفية ونحوها مما يوكل إلى هذه الطبقة القيام به، لأنها في نظرهم من المهن المنحطة التي لا تليق بالرجل الحر مهما كان عليه من فقر وبؤس، ولهذا كان لا بد من الاستعانة بالموالي والرقيق للقيام بأكثر متطلبات حياة الإنسان.
ويفهم من بيت للشاعر حسان بن ثابت في قصيدة رقى بها النبي، وهو:
فرحت نصارى يثرب ويهودها ... لما توارى في الضريح الملجد2
أنه كان في يثرب نفر من النصارى كما كان يها قوم من يهود. وذكر أن النصارى كانوا يسكنون في يثرب في موضع يقال له: سوق النبط3.
ولعل هذه السوق هي الموضع الذي كان ينزل فيه نبط الشام الذين كانوا يقصدون المدينة للاتجار في الحبوب، فصارت موضعا لسكنى هؤلاء النصارى، وسب إليهم4. وقد ورد أن عمر بن الخطاب استعمل أبا زبيد الشاعر النصراني على صدقات قومه، وأن أبا زبيد هذا كان مقربا من الخليفة عثمان بن عفان من بعده5.
وقد كان "أبو عامر" الراهب الذي تحدثت عنه أثناء حديثي عن الأحناف،
__________
1 السنن الكبرى "9/ 182 وما بعدها".
2 ديوان حسان "59" "تحقيق هرشفلد".
3 IIio RaccoIta p 140
4 البخاري "3/ 41 وما بعدها"، النصرانية "449".
5 النصرانية "449".(12/178)
ممن اعتنق النصرانية، ومن أهل يثرب. ويظهر أنه كان قد تمكن من إقناع بعض شباب الأوس من اعتناق دينه، بدليل ما ذكره علماء التفسير من أنه لما خرج من يثرب مغاضبا للرسول، وذهب إلى مكة، مؤيدا إياهم ومحرضا لهم على محاربة الرسول أخذ معه خمسين أو خمسة عشر رجلا من الأوس، على ما ذكره علماء التفسير، فلما أيس من نجاح أهل مكة في القضاء على الرسول فر إلى بلاد الشام على نحو ما ذكرت، ليطلب مددا من الروم يعينه في زحفه على المدينة. وأنا لا أستبعد احتمال وجود أناس آخرين من أهل يثرب كانوا قد دخلوا في النصرانية ودعوا إليها، واحتمال وجود مبشرين فيها، كانوا يسعون لإدخال أهلها في دين عيسى، يؤيدهم ويمدهم بالمال والمعنة الروم حكام بلاد الشام.
وكان بين سكان مكة عند ظهور الإسلام جماعة من النصارى هم من الغرباء النازحين إليها، لأسباب، منها: الرق، والاتجار، والتبشير، والحرفة. فأما الرقيق، فمنهم الأسود والأبيض: الأسود من إفريقية، والأبيض من أوروبة، أو من أقطار الشرق الأدنى، وهم أعلى في المنزلة وفي السعر من النوع الأول، وهم بحكم قانون ذلك العهد وعرفه تبع لسادتهم وفي ملك يمنيهم، يقومون بالأعمال التي توكل إليهم، ليس لهم التصرف إلا بأمرهم، فهم في الواقع بضاعة يتصرف بها صاحبها كيف يشاء، ليس لها صوت ولا رأي، إن أبق المملوك قتل، أو أنزل به العقاب الذي يراه ويختاره صاحبه ومالكه.
وبين الرقيق الأبيض خاصة نفر كانوا على درجة من الفهم والمعرفة، يعرفون القراءة والكتابة، ولهم اطلاع في شئون دينهم ومعارف ذلك العهد. ولهذا أوكل إليهم القيام بالأعمال التي تحتاج إلى مهارة وخبرة وذكاء. وقد كان حالهم لذلك أحسن من حال غيرهم من الأرقاء. ومنهم من كان يشرح لسادتهم أمور دينهم وأحوال بلادهم، ويقصون عليهم ما حفظوه ووعوه من أخبار الماضين وقصص الراحلين، وأكثرهم ممن كانت ألسنتهم لم تتروض بعد على النطق بالعربية، فكانوا يرطنون بها، أو يتلعثمون، ومنهم من كان لا يعرف شيئًا منها، أو لا يعرف منها إلا القليل من الكلمات.
ومن هؤلاء رجل نصراني كان بمكة قيل إن اسمه: سلمان، أو يسار، أو جبر، أو يعيش، أو بلعام، ادعى أهل مكة أنه كان هو الذي يلقن الرسول(12/179)
ما كان يقوله للناس من رسالته، وأنه هو الذي كان يعلمه، وقد أشير إلى قول قريش هذا في الآية: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1. ومن روى من المفسرين أن اسمه جبر، قال: إنه كان غلامًا لعامر بن الحضرمي، وأنه كان قد قرأ التوراة والإنجيل2، وكان الرسول يجلس إليه عند المروة إلى مبيعته، "فكانوا: والله ما يعلم محمدًا كثيرًا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام الحضرمي"3.
ومن هؤلاء من زعم إنه كان قينًا لبني الحضرمي، وإنه كان قد جمع الكتب، وهو رومي، فكان رسول الله يأتي إليه ويجتمع به، فكان المشركون يقولون: إنه يتعلم من هذا الرومي! وذكر بعض الرواة أن "آل الحضرمي" كانوا يملكون عبدين، هما: جبر ويسار، فكانا يقرآن التوراة والكتب بلسانهما، فكان الرسول يمر عليهما فيقوم يستمع منهما. وقيل إنهما كانا من أهل "عين التمر"، وإنهما كانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل، فربما مر بهما النبي، وهما يقرآن فيقف ويستمع. وأما من قال أن اسمه "يعيش"، فذكر أنه كان مولى لحويطب بن عبد العزى. وأما من ذكر أن اسمه "بلعام"، فقال إنه كان قينا روميا بمكة وكان نصرانيًّا أعجمي اللسان، "فكان المشركون يرون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين يدخل عليه وحين يخرج من عنده، فقالوا إنما يعلمه بلعام"4. ومهما اختلف المفسرون في اسم هذا الرجل فإنهم اتفقوا على أنه كان أعجمي الأصل، نصرانيًّا، يقرأ الكتب، وإنه كان بمكة نفر من الموالي كانوا على دين النصرانية يقرأون ويكتبون.
وإلى هذا الشخص أو هؤلاء الأشخاص، أعني: يعيش ويقال عائش أو عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وجبر مولى عامر، أشير في القرآن الكريم، في الآية: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا
__________
1 سورة النحل: الرقم 16، الآية 103.
2 تفسير الطبري "14/ 119"، "وكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدًا كثيرًا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام ابن الحضرمي" روح المعاني "14/ 212 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 420".
3 تفسير الطبري "14/ 120"، روح المعاني "14/ 212"، ابن هشام "260".
4 تفسير الطبري "14/ 119"، روح المعاني "14/ 233"، تفسير الطبرسي "المجلد الثالث 386".(12/180)
إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} 1 وقد ذكر المفسرون أن هؤلاء "كانوا كتابيين يقرأون التورأة، أسلموا، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يتعهدهم، فقيل ما قيل"2.
وعرفت أسماء جملة رجال ونساء من هذا الرقيق الذي جيء به إلى مكة وإلى مواضع أخرى من جزيرة العرب. من هؤلاء نسطاس، ويقصد بذلك أنستاس، وكان من موالي صفوان بن أمية. و"مينا" "ميناس"، و"يوحنا" عبد "صهيب الرومي"، و"صهيب" نفسه لم يكن عربيًّا، إنما كان من بلاد الشام في الأصل، وهو رومي الأصل ولذلك قيل له "صهيب الرومي". وكان قد جاء مكة فقيرًا لا يملك شيئًا، فأقام بها، ثم اتصل بعبد الله بن جدعان الثري المعروف، وصار في خدمته، ولذلك قيل إنه كان مولى من موالي عبد الله بن جدعان. وفي رواية إنه كان من "النمر بن قاسط"، سقط أسيرا في الروم فباعوه فاشتري منهم. وقد ورد في حديث: "صهيب سابق الروم"، فهذا يدل على إنه من أصل رومي. وهو من أوئل المسلمين، يذكر إنه حينما هم بترك مكة والذهاب إلى المدينة بعد هجرة الرسول إليها "قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك!! والله، لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني جعلت لكم مالي"3، وترك قريشًا ليذهب إلى الرسول.
وكان لبني مخزوم الأثرياء جملة يونانيات، كما كان لدى العباس عم النبي جوار يونانيات، وأشير إلى وجود جوار فارسيات. وكان هذا الرقيق الأبيض ذكورًا وإناثًا من جنسيات متعددة، منهم من كان من أصل رومي، ومنهم من كان من عنصر أوروبي آخر، ومنهم من كان من الفرس أو من أهل العراق مثل نينوى وعين التمر، ومنهم من كان من بلاد الشام أو من أقباط مصر، وهم على النصرانية في الغالب4.
__________
1 الفرقان، الرقم 25، الآية 4.
2 تفسير الطبير "18/ 137 وما بعدها"، روح المعاني "18/ 234 وما بعدها"، مجمع البيان "7/ 161"، "طهران"، "الجزء الثامن عشر"، "سورة الفرقان".
3 ابن هشام "2/ 89"، الإصابة "2/ 188"، "الرقم 4104".
4 المشرق، السنة الخامسة والثلاثون 1937 "ص88 وما بعدها".(12/181)
وقد كانت في مكة عند ظهور الإسلام جالية كبيرة كثيرة العدد من العبيد، عرفوا بـ "الأحابيش". وبين هؤلاء عدد كبير من النصارى، استوردوا للخدمة وللقيام بالأعمال اللازمة لسراة مكة. وقد ترك هؤلاء الأحابيش أثرًا في لغة أهل مكة، يظهر في وجود عدد من الكلمات الحبشية فيها في مثل المصطلحات الدينية والأدوات التي يحتاج إليها في الصناعات وفي الأعمال اليدوية التي يقوم بأدائها العبيد. وقد أشار العلماء إلى عدد من هذه الكلمات ذكروا أنها تعربت، فصارت من الكلام العربي. وقد أشاروا إلى ورود بعضها في القرآن الكريم وفي الحديث1.
ويشير أهل الأخبار إلى ورود بعض الرهبان والشماسة إلى مكة. وقد كان من بينهم من يقوم بالتطبيب. وقد ذكر الإخباريون أن شماسا كان قد قصد مكة، فعجب الناس به، وقد سموا أحدهم به، هو عثمان بن الشريد بن سويد بن هرمي بن عامر بن مخزوم، فقالوا له: "شماس"2.
وذكر "اليعقوبي"، أن ممن تنصر من أحياء العرب، قوم من قريش من بني "أسد بن عبد العزى"، منهم "عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى"3. وقد ورد في بعض الأخبار إنه قدم على قيصر، فتنصر، وحسنت منزلته عنده. وأن قيصر ملكه على مكة. ومنحه براءة بذلك، واعترف به. وقد سبق أن تحدثت عنه في أثناء كلامي على مكة. وقد ذكرت أن من الصعب تصور بلوغ نفوذ القيصر هذا الحد من جزيرة العرب, فلم يتجاوز نفوذ الروم الفعلي في وقت ما من الأوقات أعالي الحجاز. ولكن ذلك لا يمنع من تقرب السادات وتزلفهم إلى عمال الروم وموظفيهم في بلاد الشام، بإظهار إنهم من المخلصين لهم المحبين للروم، وإنهم من كبار السادات ذوي المكانة والنفوذ، للحصول على مكاسب مادية ومعنوية منهم، تجعل لهم مكانة عند أتباعهم وجاها ومنزلة ونفوذا على القبائل الأخرى. وقد كان الروم يعرفون ذلك معرفة جيدة، بفضل دراستهم لنفسية الأعراب، ووقوفهم على طبائع سادات القبائل، فكانوا يشجعون هذا النوع من التودد السياسي لكسب العرب وجرهم إلى جانبهم.
__________
1 "فقال: يا أم خالد، هذا سناه وسناه بالحبشية حسنة"، أسد الغابة "5/ 579"، المعرب "202، 303، 352"، صحيح مسلم "2/ 189".
2 ابن هشام "2/ 329"، "من حضر بدرا من بني مخزوم"، المشرق، السنة الخامسة والثلاثون "1937 "ص90 وما بعدها"، كتاب نسب قريش "342".
3 اليعقوبي "1/ 227"، "أديان العرب".(12/182)
وعد "ورقة بن نوفل" في جملة المتنصرين في بعض الروايات، فقد ذكر إنه "تنصر واستحكم في النصرانية، وقرأ الكتب، ومات عليها"1.
وقد استدل "شيخو" من الخبر المروي عن الصور التي قيل إنها صور الرسل والأنبياء وبينها صورة المسيح ومريم، والتي ذكر إنها كانت مرسومة على جدران الكعبة، على إنها هي الدليل على أثر النصرانية بمكة. استدل على فكرته هذه بخبر خلاصته أن الرسول حينما أمر فطمست تلك الصور، استثنى منها صورة عيسى ابن مريم، وبخبر ثان ورد عن تمثال لمريم مزوق بالحلي وفي حجرها عيسى، باد في الحريق الذي شب في عصر "ابن الزبير"، وبخبر ثالث عن امرأة من غسان قيل إنها "حجت في حاج العرب، فلما رأت صورة مريم في الكعبة، قالت: بأبي أنت وأمي: إنك العربية. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمحو تلك الصور، إلا ما كان من صورة عيسى ومريم"2.
وكان في الطائف نفر من الموالي كانوا على دين النصرانية، لم يتعرض سادتهم كسائر رجال الأماكن الأخرى من الحجاز لدينهم، فتركوهم على دينهم يقيمون شعائرهم الدينية على نحو ما يشاؤون. من هؤلاء "عداس"، وكان من أهل نينوى، أوقعه حظه في الأسر، فبيع في سوق الرقيق، وجي به إلى الطائف فصار مملوكا لعتبة وشيبة ابني ربيع. وعند مجئ الرسول إلى الطائف عارضا نفسه على ثقيف أهلها، كان هو في جملة من تكلم إليه3. ومنهم الأزرق، ذكر أنه كان عبدا روميا حدادا، وإنه هو أبو نافع الأزرق الخارجي الذي ينتمي إليه الأزراقة. وهناك روايات تنفي وجود صلة لهذا الأزرق بالأزرق والد نافع المذكور4.
وأما الحديث عن النصرانية في اليمن، فهو حديث غامض أوله، مبهم أصله، لا نعرف متى نبدأ به على وجه التحقيق. فليس لدينا نص بالمسند يشير إلى مبدأ
__________
1 اليعقوبي "1/ 298"، "ليدن" "المحبر "171"، ابن هشام "1/ 243، 250 وما بعدها "، النصرانية "1/ 119"، المشرق، السنة الخامسة والثلاثون، 1937 "ص272".
2 النصرانية "ص117".
3 ابن هشام "2/ 30"، أسد الغابة "3/ 289"، الإصابة "2/ 459"، "الرقم 5470" النصرانية "452".
4 البلاذري "62".(12/183)
دخول النصرانية العربية الجنوبية. وما لدينا من كتابات مما له بعض العلاقة بالنصرانية إنما دون في الحقبة المتأخرة من تأريخ اليمن، وفي أيام الحبشة في اليمن، وهو ساكت في الجملة عن المبدأ وعن المبشرين بالنصرانية في العربية الجنوبية. فليس لدينا من بين نصوص المسند في هذا الباب عو ولا سند.
وليس لنا إذن إلا أن نفعل ما فعلناه بالنسبة إلى اليهودية، فنرجع إلى الموارد الإسلامية والنصرانية لنرى رأيها في هذا الباب.
وتزعم الموارد الإسلامية أن الذي نشر النصرانية في اليمن رجل صالح من بقايا أهل دين عيسى اسمه "فيميون1" Faymiyion= Phemion، وكان رجلا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة سائحا ينزل القرى لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف فيها، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان بناء يعمل الطين وكان يعظم الأحد: إذا كان الأحد لم يعمل فيه شيئًا. ففطن لشأنه في قرية من قرى الشام رجل من أهلها اسمه "صالح"، وفأحبه واتبعه على دينه ورافقه. وانصرف ومعه صالح من ضواحي الشام حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدا عليهما، فاختطفتهما سيارة من بعض العرب، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران. وأهلها من بني الحارث بن كعب من بني كهلان. وكانوا يعبدون العزى على صورة نخلة طويلة بين أظهرهم. فابتاع رجل من أشرافهم "فيميون"، وابتاع رجل آخر صالحا، وقد أعجب صاحب فيميون به، لما رآه فيه من صلاح وورع، فآمن بدينه، وآمن أهل نجران منذ ذلك الحين بالنصرانية لمعجزة قام بها "فيميون"، حينما دعا الله يوم عيد العزى أن يرسل عليها ريحا صرصرا عاتية تختى عليها. فأتت الريح عليها فجعفتها من أصلها فألقتها، فآمن بدينه أهل نجران. فمن هنالك كانت النصرانية بنجران2. ويذكر الطبري أن أهل نجران كانوا يعيدون كل سنة، "إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه، وحلي النساء. ثم خرجوا، فعكفوا عليها يوما"3.
ويظن أن "فيميون" كلمة يونانية في الأصل حرفت من أصل Euphemion
__________
1 "فيميون" "قميون" "ميمون".
2 الطبري "2/ 103 وما بعدها"، ابن هشام "20 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 171"، البيضاوي "2/ 395"، ابن خلدون "2/ 59".
3 الطبري "2/ 120 وما بعدها"، "دار المعارف".(12/184)
وزعم أن "فيميون" عين أحد النجرانيين واسمه "عبد الله بن الثامر" رئيسا عليهم، وجعلهم تحت رعاية أسقف اسمه "بولس"1.
وقد ذكر "الأزرقي" أن أهل نجران كانوا من أشلاء سبأ "وكانوا على دين النصرانية على أصل حكم الإنجيل، وبقايا من دين الحواريين، ولهم رأس يقال له: عبد الله بن ثامر"2.
وتذكر رواية إسلامية أخرى أن أهل نجران كانوا أهل شرك، يعبدون الأوثان وكان في قرية من قراها قريبا من نجران يعلم غلمان أهل نجران السحر، وكان أحد رجال نجران واسمه "الثامر" يرسل ابنه "عبد الله" مع غلمان أهل نجران إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فكان يمر على صاحب خيمة بين نجران وتلك القرية، وقد أعجبه ما رآه من صلاته وعبادته وتقواه، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى دخل في دينه، وصار يدعو إليه بين أهل بلده. فمن ثم انتشرت النصرانية في نجران، وظهرت على الوثنية3.
وتذكر هذه الرواية، أن "عبد الله بن الثامر"، أخذ من ثم يبشر بالنصرانية، ويأتي بالمعجزات إذ يشفي المرضى "حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره، ودعا فه فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران. فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك! قال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح عن رأسه فيقع على الأرض، ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران، بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه، قال عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت بشهادة عبد الله بن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرةن فقتله، فهلك الملك مكان÷ واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر"4.
ولم تصرح هذه الرواية التي يرجع سندها إلى "محمد بن كعب القرظي"
__________
1 FeII in ZDMG 35 1881 anm I Oeary p 143
2 أخبار مكة "1/ 81".
3 الطبري "2/ 121 وما بعدها" "دار المعارف"-
4 الطبري "2/ 122" "دار المعارف".(12/185)
وبعض أهل نجران، باسم الرجل الصالح الذي أخذ منه "عبد الله بن الثامر" نصرانيته. وقد نبه إلى ذلك الطبري، في أثناء سرده لها، فقال: "ولم يسموه باسمه الذي سماه به وهب بن منبه"1.
وقد صيرت بعض الروايات "عبد الله بن الثامر" في جملة من قتلهم "ذو نواس" من النصارى، غير أن "الطبري"، نبه إلى خطل هذا البعض، وبين أن "عبد الله" كان قد قتل قبل ذلك، قتله ملك كان قبله، هو كان أصل ذلك الدين2.
وهناك قصة ذكرها "ابن إسحاق"، تزعم أن رجلا حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجاته، فوجد عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعدا واضعا يده على ضربة في راسه ممسكا عليها بيده، فإذا أخرت يده عنها انثعبت دما، وإذا أرسلت يده ردها عليها، فأمسك دمها، وفي يده خاتم، فأقر على حاله وردوا عليه الدفن الذي كان عليه، وكان ذلك بأمر عمر بن الخطاب3.
والظاهر أن النجرانيين، لم ينسوا رئيسهم "عبد الله بن الثامر" حتى بعد إسلامهم، فرووا عنه هذا القصص وصيروه على هذه الصورة التي روتها القصة. ويظهر أنه قتل، فصير شهيدا من الشهداء، لأنه قتل في سبيل دينه وفي سبيل نشره بين النجرانيين.
وزعم بعض الإخباريين أن الذي أدخل النصرانية ونشرها في الحميريين، هو التبع عبد كلال بن مثوب: أخذ التبع نصرانيته بزعمهم من رجل من غسان ذكروا أنه كان قد قدم عليه من الشام، فلما علمت حمير بتنصر التبع وبتغيير دينه وإعراضه عن عبادتها، وثبت بالغساني فقتلته4. وقد أشير إلى تنصره في القصيدة الحميرية5.
__________
1 الطبري "2/ 121 وما بعدها" "دار المعارف"ز
2 الطبري "2/ 123" "دار المعارف".
3 الطبري "2/ 124".
4 الطبري "2/ 86": "ذكر ما كان من الأحداث في أيام يزدجرد بن بهرام وفيروز بين عمالها على العرب وأهل اليمن"، النصرانية "1/ 55 وما بعدها".
NaIIino RaccoIta III p 124
5
أم أين عبد كلال الماضي على ... دين المسيح الطاهر المساح
النصرانية "1/ 55".(12/186)
أما الرواية الأولى فتنسب إلى "وهب بن منبه". وأما الرواية الثانية فتنسب إلى "محمد بن كعب القرصي" إلى بعض أهل نجران لم يصرح "ابن إسحاق" بذكر أسمائهم، فالروايتان أذن من مورد واحد هو أهل الكتاب1. فوهب بن منبه من مسلمة يهود. وأمه محمد بن كعب بن أسد القرظي المتوفى بين سنة 118-120للهجرة، فهو من أصل يهودي كذلك، من قريظة حلفاء الأوس، وقريظة يهود. وكان مثل وهب قاصا من القصاص يقص في المسجد. وقد جر قصصه هذا عليه البلايا، فكان يقص في المسجد فسقط عليه السقف فمات2.
وجدت أقوال محمد بن منبه القرظي سبيلها إلى تأريخ الطبري عن طريق سيرة ابن إسحاق، وهو طريق ابن حميد عن سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق صاحب السيرة الذي أخذ منه بلا واسطة كما أخذ منه بالواسطة. أما الأخبار المروية عنه، فهي في سير الرسل والأنبياء، وفي انتشار اليهودية والنصرانية في اليمن، وفي الأمور التي تخص اليهود والأنبياء، وفي انتشار اليهودية والنصرانية في اليمن، وفي الأمور التي تخص اليهود في الحجاز3. وكان من المقربين إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز، لأنه كانت له به معرفة سابقة قبل توليه الخلافة. فلما ولي الخلافة، كان يذهب إليه ويتحدث معه في الزهد وفي القصص الذي يحمل طابع الإسرائيليات وفي التفسير الذي اشتهر به4.
فناقل النصرانية إلى نجران إذن رجل غريب جاء إلى البلد من ديار الشام على رواية "وهب بن منبه". ويرجع "أوليري" هذه الرواية إلى أصل يرى جذوره في السريانية. واسم هذا الرجل الصالح غير عربي بالطبع. فلعله من المبشرين الذين كانوا يطوفون بين ديار العربب للتبشير.
__________
1 الطبري "2/ 104"، تفسير الطبري "30/ 85".
NaIIino RaccoIta Di Scritti III 1941 p 124
2 راجع ما كتبته عنه في مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الأول "1950، "ص198"، وتهذيب التهذيب "9/ 420"، عيون الأخبار "1/ 201، 264" "1/ 14،343"، "3/ 4".
3 الطبري "1/ 138"، "2/ 104"، ورد اسمه في "29" موضعا من تأريخ الطبري.
4 ابن سعد "طبقات "5/ 272 وما بعدها"، مجلد 7 قسم 2 ص194، عيون الأخبار "2/ 343"، "3/ 4".
5 O Ieary(12/187)
فقد كانوا يتنقلون بين العرب لنشر هذا الدين. وليس بمستبعد أيضًا أن يكون قد دخل عن طريق الساحل أيضًا مع السفن. فقد كان المبشرون يتنقلون مع البحارة والتجار لنشر النصرانية، وقد تمكنوا بمعونة الحكومة البيزنطية من تأسيس جملة كنائس على سواحل جزيرة العرب وفي سقطرى والهندز كا لا يستبعد أن يكون للمبشرين الذين جاؤوا من العراق كما تذكر بعض الموارد النصرانية السريانية دخل في نشر النصرانية في اليمن. ولا سيما نشر النسطورية في تلك البلاد.
وأما الموارد النصرانية، فإنها مختلفة فيما بينها في أول من أدخل النصرانية إلى، اليمن فالموارد اليونانية ترى رأيا، والموارد السريانية ترى رأيا، والموارد الحبشية ترى رأيا آخر، يختلف عن الرأيين. وكل رأي من هذه الآراء الثلاثة يرجع شرف النصرانية في اليمن إليه.
يحدثنا كتبة التواريخ الكنسية من اليونان أن القيصر "قسطنطين" الثاني أرسل في عام "354" للميلاد "ثيوفيلوس اندس" TheophIius Indus، أي "ثيوفيلوس الهندي"، من جزيرة سرنديب أي سيلان إلى العربية الجنوبية للتبشير بالنصرانية بين الناس. وقد تمكن من إنشاء كنيسة في عدن وأخرى في ظفار وثالثة في هرمز، وعين للمتنصرين رئيسا ثم رحل. وصارت ظفار في سنة 356م مقرا لرئيس أساقفة يشرف على شؤون نصارى نجران وهرمز وسقطرى1. وقد عثر على مقربة من خرائب ظفار على أعمدة من الطراز "الكورنثي" وعلى بقايا تيجانه وعليها نقوش صلبان يظهر أنها من مخلفات تلك الكنائس القديمة التي شيدت بمساعدة البعثات التبشيرية وفي أيام الحبشة في اليمن2.
وزعم "فيلوستورجيوس" PhiIstorgius أن هذا الشعب الذي بشر "ثيوفيلوس" بين أفراده بالنصرانية، شعب هندي، وكان يدعى سابقا باسم شعب "سبأ" نسبة إلى عاصمته سبأ ويعرف اليوم باسم حمير3 Honeritae. وقد توهم
__________
1 "تاوفيل الهندي" النصرانية: 1/ 56".
Alt Kult, S. 148, Philostorgius, Historia Eccleslastica, III, 46, Hugh Scott, in The High Yemen, 1947, p. 211, Mordtmann, Miscellen zur Himjarischen Alterthumskunde, in ZDMG, 1877, XXXI, S. 64, ff, Migne, Petr. Grea, LXV, cl, 459-637, Conti Rossini, un Documento, p. 710.
2 Alt. Kult, S. 148, Nallino, Raccolta, III, p. 133, Bury, History of the Roman Empire, II, p. 322.
3 Philostorgius, I, II, 6, ZDMG, 31, 1877, S. 65.(12/188)
عدد من الكتبة "الكلاسيكين" فحسبوا الحميريين من الهنود، كما أن بعضًا منهم ظنوا أن السبئيين من "الكوشيين" الحبش، والذي أوقعهم في هذا الوهم هو صلات هؤلاء بإفريقية وبالهندن ولوقوع بلادهم على المحيط الهندي وعلى مقربة من إفريقية1.
وجاء في رواية أخرى أن القيصر "قسطنطين" الثاني أرسل "ثيوفيلوس" إلى ملك حمير Homeritae ونجاشي الحبشة Axume وذلك في عام "356" للميلاد. برسائل كتبها القيصر إلى الملكين. فلما أنهى مهمته لدى ملك حمير، انتهز هذه الفرصة فزار وطنه الهند، ثم عاد فذهب إلى الحبشة، وعاد منها فذهب إلى أنطاكية Antiochia ومنها إلى القسطنطنية2. ويظهر من هذه الرواية أن مهمته هذه لم تكن مهمة دينية، إنما كانت ذات طابع سياسي، الغاية منها ضم حمير والأحباش إلى معسكر البيزنطيين.
وقد كان من مصلحة الحكومة البيزنطية بعد دخول القيصر "قسطنطين" في النصرانية عام "313" للميلاد واتخاذها ديانة رسمية للدولة، أن ينشر هذا الدين ويكثر أتباعه، لما في ذلك من فوائد سياسية ومصالح اقتصادية، فضلا عن الأثر العميق الذي يتركه هذا العمل في نفوس أتباعه المؤمنين مما يرفع من مكانة القياصرة في نفوس الشعب ويقوي من مراكزهم ونفوذهم على الكنيسة والرعية. وبمساعدة هؤلاء القياصرة تمكن المبشرون من إنشاء ثلاث كنائس في "ظفار" و"عند" و"هرمز"3.
ولم يكن يقصد "قسطنطين" كما يرى المستشرق "روسيني" من إرسال الوفد الذي ترأسه "ثيوفيلوس" إلى ملك حمير، هدفا دينيا محضا، وإنما أراد أن يعقد معاهدة تجارية مع الحميريين ويحقق له منافع اقتصادية وسياسية، بأن يحقق له التجارة البحرية، ويحرض اليمانيين على الفرس ويدخلهم في معسكره بدخلوهم
__________
1 النصرانية "1/ 53 وما بعدها.
2 Paluys-Wissowa, Zweite Reiuke, Halbbnd, S. 2167, Philostorgius, Hist. Eccli, II, 6, Kidd, A History of the church, I, 161, III, 429, Bury, History of the Later Roman Empire, II, p. 322.
3 Ency. F Relig. And Ethi, III, p. 589, Franz Stuhlmann, Der Kampf um Arabien, S. 12.(12/189)
في النصرانية التي تجمع عندئذ بينهم وبين الروم1.
وورد في رواية أن الحميريين HomerItae دخلوا في عهد "انسطاس" "انسطاسيوس" "491-518م" في النصرانية. وذكر أيضًا أنه كان في جملة من قصدوا القديس "سمعان العموي" رجال من عرب حمير، وقد رآهم "تاودوريطس" في القرن الخامس للميلاد2.
وأما الموارد السريانية، ومنها الموارد النسطورية، فتزعم أن تاجرا من أهل نجران اسمه "حنان" أو "حيان"، قام في أيام "يزدجرد الأول "399-420للميلاد" بسفرة تجارية إلى القسطنطنية، ثم ذهب منها إلى الحيرة، وفيها تلقن مبادئ النصرانية ودخل فيها. فلما عاد منها نجران، بشر فيها بالنصرانية حتى تمكن من نشرها بين حمير. وترجع تواريخ البطارقة هذه الحادثة إلى ايام بطرقة "معنى" Mana الموافقة لحوالي سنة "420" بعد الميلاد3. وذكر أنه ي عهد البطريق "سيلاس" SiIas "505-423"، هرب لاجئون من اليعاقبة Jakobiten إلى الحيرة، غير أن النساطرة أجلوهم عنها، فذهب قسم منهم إلى نجران، فنشروا مذهبهم بين السكان4.
وتشير الأخبار الكنسية أيضًا إلى أن رسولي الكلدان الأولين: "ادي"و"ماري" كانا قد سارا إلى بلاد العرب سكان الخيام، وإلى نجران وجزائر بحر اليمن. وجاء في المصحف الناموسي: "وبشر الجزيرة والموصل وأرض السواد كلها وما يليها من أرض التيمن كلها وبلاد العرب، سكان الخيام وإلى ناحية نجران والجزائر التي في بحر اليمن مارى الذي من السبعين"5.
وللحبش قصص عن انتشار النصرانية في نجران، خلاصتها: أن قديسا اسمه
__________
1 النصرانية "1/ 59".
Conti Rossini, un Documento Sul Cristlanesimo nello Iemen, p. 710.
2 النصرانية "1/ 57 وما بعدها".
Mordtmann, in ZDMG, XXXI, 1877, S. 65, Theodorus, Lector, Histo. Eccl, I, II, p. 567, ed. Valesius and Nicephorus Callistus.
3 Chronik von Seert, II, 149, ABM, 22, Eduard Sachau, zur ausbreitung des Christentums in Asien, Berlin, 1919, S. 68.
4 Chronik von Seert, II, 144.
5 النصرانية "1/ 58".(12/190)
"ازقير" Azker، أقام كنيسة ورفع الصليب وبشر بالنصرانية في نجران، وذلك في أيام الملك "شرحبيل ينكف" ملك حمير، فاستاء من ذلك "ذو ثعلبان" و"ذو قيفان"، وأرسلا رجالهما إلى المدينة لهدم الكنيسة وانزال الصليب والقبض على القديس، ففعلوا وألقوا به في غياهب السجن. وفي أثناء إقامته فيه هدى قوما من السجناء إلى النصرانية بفعل المعجزات التي قام بها، فغضب الملك "شرحبيل" عليه، وأرسل إلى القيلين اللذين كانا في نجران أن يرسلا إليه هذا الرجل الذي فتن الناس، فأرسل مخفورا إليه. وفي أثناء اجتيازه الطريق إلى عاصمة الملك ظهرت منه معجزات خارقة، آمن بها عدد ممن رافقوه أو وقفوا على أحواله وتعمدوا على يديه. فلما وصل إلى "ظفار" عاصمة "شرحبيل"، انتهره الملك وحاجه في دينه وعرض عليه كتب "يهود"، ثم أغراه بالذهب والمال، فقال له القديس: "الذهب والفضة فانيان، أما كرستس ساكن السماء فباق". وقد حرضه عليه أحد الأحبار، فأمر الملك عندئذ بإرساله إلى نجران لقتله. فلما بلغ المدينة، قتله اليهود، قمات شهيدا في سبيل دينه1.
وتزعم الرواية الحبشية أن نصارى اليمن كانوا يرسلون بهداياهم إلى النجاشي وبالضرائب يدفعونها إليه2.
وذكر أن أحد الأساقفة ممن كان في اليمن، كان قد اشترك في أعمال مجمع "نيقية" الذي انعقد سنة 325 للميلاد3. وإذا صح هذا الخبر، فإنه يعني أن النصرانية كانت قد وجدت لها سبيلا إلى اليمن في القرن الرابع للميلاد.
يتبين من هذه الأخبار أن النصرانية لم تدخل العربية الجنوبية من طريق واحد، وإنما دخلتها من البر ومن البحر، دخلتها من البر من ديار الشام إلى الحجاز فاليمن، ومن العراق أيضًا مع القوافل التجارية المستمرة التي كانت بين اليمن والعراق. ودخلتها من البحر بواسطة السفن اليونانية ودخلتها مع الحبشة كذلك الذين كانوا على اتصال دائم باليمن وببقية العربية الجنوبية منذ أيام ما قبل الميلاد.
__________
1 Winckler, AOF, IV, 1896, S. 329. ff, Britisch Museom Orient, 686, 687, 688, 689.
2 FeII in ZDMG 35 1881 S 50
3 النصرانية "1/ 57".
NaIIino RaccoIta III p 122 Caetani AnnaII I p 125(12/191)
وقد كانت نجران أهم موطن للنصرانية في اليمن، ولعلها الموطن الوحيد الذي رسخت هذه الديانة فيه في هذه البلاد. وقد اشتهرت نجران بالحادثة التي وقعت فيها، حادثة تعذيب النصارى، وبما ذكره أهل الأخبار عن الكنيسة التي أنشاها الأحباش فيها وعرفت بـ"كعبة نجران" عند الإخباريين كما عرفت بـ "بيعة نجران" أيضًا. وفي رواية تنسب إلى ابن الكلبي "أنها كانت قبة من أدم من ثلاث مئة جلد، كان إذا جاءها الخائف أمن، أو طالب حاجة قضيت، أو مسترفد أرفد. وكانت لعظمتها عندهم يسمونها كعبة نجران، وكانت على نهر نجران، وكانت لعبد المسيح بن دارس بن عدي بن معقل، وكان يستغل من ذلك النهر عشرة آلاف دينار، وكانت القبة تستغرقها"1. وكان يتفق عليها من غلة ذلك النهر.
وورد في رواية أخرى أنها كانت بناء بني على بناء الكعبة. وقد بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي، بنوها على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة لها. وكان فيها أساقفة معتمون، وهم الذي جاءوا إلى النبي، ودعاهم إلى المباهلة2.
وتذكترنا قصة "ابن الكلبي" عن أصل كعبة نجران، وأنها كانت من أدم، بما نعرفن عن خيمة "يهوه" إله العبرانيين، وتعبد الإسرائليين له فيها قبل بناء الهيكل، واعتقادهم أنها خيمة مقدسة، وبما نعرفه من خيم القبائل المقدسة، وذلك لأنها كانت بيوتا توضع فيها الأصنام ويتعبد أفراد القبيلة بها، فإذا ارتحلوا إلى مكان جديد نقلوا خيمتهم معهم. والظاهر أن كعبة نجران المذكورة، إن صحت رواية ابن الكلبي، كانت من هذا النوع، خيمة مقدسة في الأصل وذلك قبل دخول أهل نجران في النصرانية، فلما دخلوها، لم تذهب عنها قدسيتها، بل حولوها إلى كنيسة، ثم بنوا بيعة في موضعها فيما بعدز
وفي رواية أن قس بن ساعدة الأيادي كان أسقفا على نجران3، وهي رواية تحتاج إلى سند موثوق به، وقد أخذ بها "شيخو" وأمثاله ممن يرجع كل شيء
__________
1 البلدان "8/ 193"، تاج العروس "1/ 457"، "3/ 556"، ديوان الأعشى "122"،"طبعة كاير" Geyer، ابن قتيبة، الشعر والشعراء "283".RaccoIta III p 127
2 البلدان "8/ 623" "نجران" تاج العروس "3/ 556".
3 RaccoIta III p 128 Lammens CaIifat p 332(12/192)
من هذا القبيل في الجاهلية إلى النصرانية.
وقد كانت نجران المركز الرئيسي للنصرانية في اليمن عند ظهور الإسلام، لها نظام سياسي واداري خاص تخضع له، وعليها: "العاقب"، وهو كما يقول أهل السير: "أمير القوم، وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه"، و"السيد"، وهو "ثمالهم، وصاحب رحلهم ومجتععم", و"الأسقف"، وهو "حبرهم، وإمامهم، وصاحب مدارسهم"1. ويقصدون به رئيس نجران الديني الذي إليه يرجعون في أمور الدين. أما العاقب والسيد، فإليهما إدارة الجماعة، والإشراف على شؤونهم السياسية والمالية، وتدبير ما يحتاج المجتمع إليه من بقية الشؤون2.
وقد صالح أهل نجران خالد بن الوليد، في زمن النبي، في السنة العاشرة من الهجرة، وبذلك دخل أكثر سكان المدينة في الإسلام. أما من بقي على دينه من النصارى، فقد فرضت عليه الجزية3.
ويذكر أهل السير أن اسم عاقب نجران في أيام النبي، هو "عبد المسيح" رجل من كندة. وقد قدم على رأس وفد من أهل نجران إلى يثرب، فقابل الرسول، وتحدث معه. وكان معه "الأيهم" وهو سيد نجران يومئذ، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم يومئذ، وله مقام عظيم عندهم، "وقد شرف فيهم، ودرس كتبهم حتى حسن علمه بدينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه، واخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينه"4.
وإذا صح ما رواه أهل الأخبار من أن يعاقب نجران كان كنديا، وأن أسقفها كان من "بكر بن وائل"، فإن ذلك يدل على أن الرئاسة عند النصارى العرب،
__________
1 ابن هشام "2/ 204"، تاج العروس "1/ 389"، "عقب"، "6/ 141"، "سقف"، اللسان "11/ 57"، "صاحب مدارسهم"، ابن سعد "1/ 357"،
2 RaccoIta III p 128
3 الطبري "3/ 157"، "حوادث السنة العاشرة"، البلدان "8/ 261 وما بعدها".
4 ابن هشام "3/ 204"، تاج العروس "1/ 389"ن اللسان "2/ 105"، ابن سعد "1/ 358"، نهاية الأرب "18/ 121".(12/193)
لم تكن تتبع العرف القبلي في الزعامة، وإنما كانت عن تنسيب واختيار، وأنا لا أستبعد احتمال وجود مراجع دينية عليا، كانت هي التي تتولى النظر في إدارة الكنائس وفي تعيين رجال الدين وفي النظر في المشكلات التي تقع بين النصارى، أو بين النصارى وغيرهم، وفي أمر مساهمة النصارى العرب في المجامع الكنسية التي تنظر في المسائل العامة للطوائف.
ويرى بعض أهل الأخبار أن "السيد والعاقب أسقفي نجران اللذين أرادا مباهلة رسول الله" هما من ولد الأفعى بن الحصين بن غنم بن رهم بن الحارث الجرهمي، الذي حكم بين بني نزار بن معد في ميراثهم، وكان منزله بنجران1.
ويذكر علماء اللغة، أن "العاقب" من كل شيء آخره، والعاقب السيد، وقيل الذي دون السيد، وقيل الذي يخلف السيد، وقيل: الذي يخلف من كان قبله في الخير كالعقوب2. والذي أوحى إليهم بهذا التأويل والتفسير، ظاهر لفظة "عقب" في عربيتنا التي منها اشتقت لفظة "العاقب" على رأسهم. والصحيح أنها لفظة عربية جنوبية وردت في المسند، بمعنى "رئيس" وممثل قوم، أي رسول قوم، فورد "عقبت نشقم"، أي "رئيس" مدينة "نشق"3، وبمعنى ممثل مدينة "نشق"4.
وذكر أن نصارى نجران، أرسلوا العاقب والسيد في نفر لمحاججة رسول الله فيما نزل عليه في المسيح، من إنه عبد الله، حيث كبر ذلك عليهم سماعه، فأخذوا يخاصمونه ويجادلونه فيه، وألحوا عليه بالجدل والخصومة، فدعاهم إلى الملاعنة، فامتنعوا ودعوا إلى المصالحة، فصالحهم5. وإنه إلى ذلك أشير في القرآن الكريم: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} 6.
__________
1 المحبر "131".
2 تاج العروس "1/ 389"، "عقب".
3 Jamme 619 Mb 178 Mahrm p 120
4 Jamme South Arabian Inscription p 445
5 إرشاد الساري "6/ 437".
6 آل عمران، الآية رقم 61، تفسير الطبري "3/ 209 وما بعدها"، روح المعاني "3/ 165"، امتاع الأسماع "1/ 502"،الواحدي، أسباب ""74"، ابن سعد "1 قسم 2 ص84" إرشاد الساري "6/ 437".(12/194)
وورد أيضًا إنه بعث رسول الله وسمع به أهل نجران أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم منهم العاقب والسيد، و"مار جرجس"، و"ماريخر"، "فسألوه ما يقول في عيسى. فقال: هو عبد الله وروحه وكلمته. قالوا هم: لا، ولكنه هو الله نزل من ملكه، فدخل في جوف مريم، ثم خرج منها، فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط إنسانا خلق من غير أب؟ فأنزل الله، عز وجل، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1.
وقد كان لنصارى اليمن كنائس أخرى غير كنيسة "نجران": فقد كانت لهم كنيسة عظيمة في "صنعاء"، هي "القليس" التي اكتسبت شهرة عظيمة في كتب الأخبار والتورايخ وهي كنيسة "أبرهة"، من أصل "اكلسيا" EccIysia اليوناني بمعنى الكنيسة، وموضعها الآن جامع "صنعاء" على ما يظن. وقد أبدع الأحباش في تزيينها وتجميلها، وأنفقوا عليها مبالغ طائلة.
كما كانت لهم كنائس في "مأرب" و"ظفار". وقد عهد الأحباش بتدبير شؤون كنيسة "ظفار" إلى أسقف شهير يقال له "جرجسنيوس" جورجيسيوس" "جرحيسوس". وهو مؤلف كتاب شرائع الحميرين. وله مناظرات مع اليهود2.
وقد بقيت النصرانية قائمة في اليمن في أيام الإسلام، ففي الأخبار الكنسية أن رئيس البطارقة النساطرة "طيموثاوس"، نصب في أواخر القرن الثامن للميلاد أسقفا لنجران وصنعاء، اسمه "بطرس"3. وفي "الفهرست" لابن النديم، أنه التقى براهب من نجران يدعى حسان، كان قد أنفذه الجاثليق إلى الصين، ليتفقد مع خمسة أناسي من النصارى أحوال نصاراها، فعاد منها سنة "377" للهجرة، وأخبره بعجائب تلك الميلاد4. وذكر أنه في حوالي سنة 1210 للميلاد كان في منطقة صنعاء خمسة أساقفة، وأسقف في مدينة زبيد وأسقف في نجرانن وأنه كان في حوالي سنة 1250 للميلاد أسقف في عدن5.
__________
1 تفسير الطبري "3/ 19 وما بعدها".
2 النصرانية "1/ 64". Migne pane patr Grae 86 567 620
3 النصرانية "1/ 67".
4 الفهرست "504" "مطبعة الاستقامة".
5 النصرانية "1/ 67".(12/195)
إن بقاء النصرانية في نجران وفي مواضع من اليمن وأنحاء أخرى من جزيرة العرب، وبقاء اليهود في اليمن إلى زمن غير بعيد، يشير إلى أن ما ذهب إليه كثير من المؤرخين من إجلاء أهل الكتاب بأمر الخليفة "عمر" عن جزيرة العرب ثم بقية الخلفاء الذين ساروا على حكم: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فيه مبالغة1. والظاهر أن الإجلاء كان قاصرا على الموضع التي تعرضت فيها جاليات أهل الكتاب فيها للإسلام بسوء. فطبق على جاليات يهود يثرب ومن كان يسكن إلى الشمال منهم، لوقوفهم موقفا معاديا شديدا من الإسلام، ولعملهم في إثارة الفتن على المسلمين. ومن يدري فلعلهم ولعل أهل الكتاب عمومًا ساعدوا في قيام الردة وتشجيع المتنبين والمرتدين للقضاء على الخطر الذي زعموه، خطر ظهور الإسلام وانتشاره في جزيرة العرب وفي خارجها، وقيام دولة موحدة كبيرة فيها ومن يدري أيضًا، فلعل الروم والأحباش كانوا أيضًا في جملة من كان يحرض أهل الكتاب على الدس للإسلام، وأن بعض من أعلن الردة مثل "النعمان بن الغرور" وهو نصراني، وغيره ما حمل الخليفة على اتباع قاعدة إجلاء الدساسين من أهل الكتاب مهما كان نوعهم عن جزيرة العرب لحماية الإسلام من خطر الفتنة ومن الردة، ولم تكن قواعده قد تركزت واستقرت استقرارًا تامًّا بعد.
إن الذي افهمه من سياسة إجلاء "عمر" لأهل الكتاب، هو أن ذلك الإجلاء كان خاصًّا بالجاليات اليهودية التي كانت تقيم فيها بين فلسطين ويثرب، وقاصرا عليها، بسبب وقوفعها موقفا معاديا من الإسلام، أما النصارى فلم تكن لهم جاليات هناك، فلم يقع إجلاء لهم فيها. ولكن "عمر" ومن جاء بعده لم يطيقوا الإجلاء على الأسر والأفراد، بدليل ما نجده في أخبار أهل الأخبار من وجود أسر وأفراد من يهود ونصارى في يثرب وفي مكة وفي الطائف بعد وفاة عمر.
أما في غير الحجاز من بقية أنحاء جزيرة العرب، فلم يطبق قانون "عمر" على أهل الكتاب، بدليل دفع جالياتهم "الجزية" عن رءوسهم في أيامه إلى وفاته، ثم في أيام من جاء بعده من الخلفاء. فكأن الخليفة، قد طبق أمر الإجلاء على
__________
1 "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأخرجن اليهود والنصارى عن جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا"، البلدان "8/ 263".(12/196)
يهود الحجاز لخوفه من خطر بقائهم في مقر الإسلام وفي مدينة الرسول ومن احتمال عودة من هاجر منهم إلى أرضهم وتكتلهم من جديد، وإثارتهم من لم يكن قد تمكن الإسلام من قلبه بعد، فيقع للإسلام ما وقع في أيام الرسول من اتصالهم سرا بكفار قريش، ومن حدوث ردة جديدة، فقرر إجلاءهم جماعة عن تلك الديار.(12/197)
النصرانية في بقية مواضع جزيرة العرب:
وكان التجار الروم ينزلون سواحل العربية الجنوبية للتزود منها بالماء وبالطعام وللاتجار مع سكانها، ومهم من أقام بها وقضى حياته فيها، وتعرب. وكان منهم من بشر بالنصرانية وعمل على نشرها بين السكان. ولعل الحكومة البيزنطية كانت ترسل المبشرين إلى هذه المواضع للتبشير، كذلك أرسل نصارى الحيرة المبشرين لنشر نصرانيتهم في العربية الجنوبية1. وبعد دخول هذه البلاد في الإسلام احتفظ قوم من النصارى بدينهم، مقابل دفع الجزية للمسلمين2.
وأما اليمامة، فكانت النصرانية قد وجدت لها سبيلا بين قراها وقبائلها. ويظهر من شعر للأعشى مدح به "هوذة بن علي" حاكمها عند مبعث الرسول، إنه كان نصرانيا من على قوم من "تميم" ففك وثاقهم يوم أسروا، ويوم قتلوا وسط "المشقر"، ومن عليهم "يوم الفصح"، يرجو الإله بما سدى وما صنعا3.
وأما العربية الشرقية، فقد دخلت النصرانية إليها من الشمال، من العراق في الغالب. ولكن بعض الروم كانوا قد وجدوا سبيلهم إليها، فدخلوها من البحر أيضًا. فعشت في مواضع منها مثل البحرين، وقطر، وهجر، وبعض جزر الخليج. وكانت غالبية نصارى هذه الأرضين على مذهب نسطور آخذين هذا المذهب من نصارى الحيرة الذين كانوا على اتصال وثيق بهم، كما كان رجال دينهم يسافرون إلى هذه المنطقة للتبشير بها، فزرعوا فيها بذور مذهبهم، ونشروه بين من أقبل على النصرانية من العرب.
__________
1 النصرانية "70".
2 البلاذري "84".
3 ديوان الأعشى "86"، جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "5/ 211".(12/197)
ومن رجال البحرين النصارى "الجارود بن عمرو بن حنش المعلى"1، قدم على النبي بالمدينة، فأسلم وأسلم معه أصحابه. وكان حسن الإسلام صلبا حتى هلك، وقد لام قومه ممن انضم إلى "المنذر بن النعمان بن المنذر" الغرور، فارتد عن الإسلام وعاد إلى دينه الأول2. وقد بقي إلى أيام عمر" في أغلب الروايات وغلى خلافة عثمان في رواية. واشترك في حروب فارس، فقتل بها بـ "عقبة الطين"، التي عرفت باسمه، فقيل لها عقبة الجارود، وذلك سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، وقيل قتل بنهاوند مع النعمان بن مقرن. وقد رووا له شعرا. وكان ولده "المنذر بن الجارود" من رؤساء "عبد القيس" بالبصرة. وحفيده "الحكم بن المنذر" الذي مدحه "الأعشى الحرمازي" بشعر حسده الحجاج عليه3.
__________
1 ويقال ابن عمرو بن المعلي، وقيل الجارود بن العلاء، وورد الجارود بن عمرو بن حنش، "والجارود لقب بشر بن عمرو بن حنش بن المعلى من بني عبد القيس العبيد الصحابي، رضي الله عنه. كنيته أبو المنذر، وقيل أبو غياث، وهو أصح" تاج العروس "2/ 318"، "جرد".
2 الطبري "3/ 136 وما بعدها" "قدم الجارود في وفد عبد القيس".
3 الإصابة "1/ 217"، "رقم 1042".(12/198)
الفصل الثمانون المذاهب النصرانية
لقد أصيبت النصرانية بما أصيبت به أكثر الأديان من تشقق وتصدع وانفصام، فظهرت فيها شيع وفرق، تخاصمت فيها بينها وتجادلت. وكان أكثر جدالها في موضوع طبيعة المسيح وعلاقة الأم بالابن، وفي موضوع النفس، وقد عقدت لذلك جملة مجامع كنسية للنظر في هذه الآراء والحكم على صحتها أو فسادها، وفي أمر أصحابها، اجتمع فيها مندوبون من مختلف الأماكن وبينهم بعض الأساقفة العرب. غير إنها لم تتمكن من القضاء على النزعات المختلفة، فظهرت فيها جملة مذاهب، حرمت المجامع أصحابها، وحكمت ببدعتهم وبخروجهم على التعاليم الصحيحة، وطلبت من بعضهم الرجوع إلى الدين الصحيح، غير أن منهم من أصر على رأيه، وتحزب له، وبشر به، فوجد أنصارا وأعوانا انتموا إليه وتسموا به.
والواقع إنه لم يكن من السهل على الداخلين في النصرانية فهم قضية معقدة كهذه القضية، وهي قضية فلسفية جدلية أكثر منها عقيدة دينية. ولذلك كان من الطبيعي وقوع الاختلاف فيها، وتشتت آراء النصرانية بالقياس إليها، خاصة وهي حديثة عهد، وأكثر الداخلين فيها هم ممن دخلوا حديثا في هذا الدين، وليس لهم الإدراك العميق والخيال الواسع لفهم موضوع كهذا الموضوع. ثم إن النصرانية ديانة عالمية، لم توجه لأمة خاصة من الأمم، وقد جاءت ككل الأديان بأحكام لا بد وأن يختلف الناس في فهمها، لاختلاف المدارك والثقافات، وهذا(12/199)
الاختلاف في الفهم، يؤدي إلى ظهور المذاهب والشيع، وإلى تناحر هذه المذاهب، وادعاء كل واحد منها إنه وحده على الحق، وإن ما دونه على الباطل والهرطقة والكفر.
لقد فتح "بولس الرسول" وأتباع المسيح الآخرون ميدانا واسعا من الجدل في موضوع المسيح: هل المسيح إنسان، أو هو رب، أو هو من خلق الرب؟ وهل هو والرب سواء، أو هو منفصل عن الرب؟ هذه الأسئلة وأمثالها مما يتصل بطبيعة المسيح شغلت رجال الكنيسة، وكتلتهم كتلا: كل كتلة ترى أن رأيها في الطبيعة هو الرأي الصواب، وأنه هو الدين الحق القويم، وأن ما دونه ضلال وباطل. فظهرت المذاهب: شرقية وغربية، وانقسمت الكنيسة على نفسها، فظهرت من الكنيسة الواحدة كنائس. ولا تزال تنشق، ويزيد عددها وتظهر أسماء جديدة لمذاهب لم تكن معروفة في النصرانية القديمة.
لقد كان الناصريون الأولون، وهي التسمية القديمة التي عرف بها النصارى، في فوضى فكرية. فلم تكن تعاليم المسيح مفهومة عندهم ولا مهضومة، وكانت تفاسير تلاميذه غير منسقة ولا مركزة تركيزا يكفي لتوجيه الناصريين وجهة معينة واحدة. ثم إن تعقب اليهود والرومان للنصارى وتنكيلهم بهم، وخوف الناصري على حياته وعلى ماله إذا تظاهر بدينه: كل هذه كان لها أثر خطير في المجتمع النصراني الأول. ولولا جلد بعض التلاميذ وتفانيهم في الدعوة، وتركيزهم لتعاليمها وتبويبها وصقلها، لما كان للنصرانية ذكر باق حتى الآن.
وليس في استطاعة أحد الزعم بأن هذه النصرانية التي تركزت وتثبتت على هذه الصورة التي نشهدها، هي النصرانية التي جاء بها المسيح وكان عليها الناصريون، أي أقدم أتباع عيسى. فالنصرانية هي سلسلة تطورات وأفكار وآراء وضعها البارزون من الآباء، ثم إنها كأكثر الأديان تأثرت بمؤثرات عديدة لم يكن من الممكن على الداخلين فيها التخلص منها. فدخلت فيها وصارت جزءًا منها، مع أن بعضها مناهض ومناقض لمبادئ هذا الدين.
وتولد عن هذا الجدل ظهور "الآريوسية" أتباع "آريوس" و"السبيلية" SabiIIians وأتباع "الثالوث" Trinitarians ومذاهب أخرى نبعث من تلك البلبة الفكرية التي أظهرها الاختلاف في طبيعة المسيح. ونظرا إلى ما أحدثته هذه الآراء(12/200)
الفصل الحادي والثمانون: التنظيم الديني
مدخل
...
الفصل الحادي والثمانون التنظيم الديني
وكان لنصارى العرب تنظيمهم الخاص بدور العبادة وبالتعليم والإرشاد، وهو تنظيم أخذ من تنظيم الكنيسة العام، ومن التقاليد التي سار عليها آباء الكنيسة منذ أوائل أيام النصرانية حتى صارت قوانين عامة. فللكنيسة درجات ورتب، وللمشرفين عليها منازل وسلالم، وقد اقتبست هذه التنظيمات من الأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشت فيها النصرانية منذ يوم ولادتها، والتي وضعها رؤساؤها لنشر الديانة ولتنظيم شؤون الرعية، حتى صارت الكنيسة وكأنها حكومة من الحكومات الزمنةي، لها رئيس أعلى، وتحته جماعة من الموظفين، لها ملابس خاصة تتناسب مع درجاتهم ومنازلهم في مراتب الحكومة، ولهم معابد وبيوت وأوقاف وسيطرة على أتباعهم، جاوزت أحيانًا سيطرة الحكومات.
ومن الألفاظ التي لها علاقة بالدرجات والرتب الدينية عند النصارى لفظة "البطرك" و"البطريق". وقد وردت لفظة "البطريق" في شعر ينسب إلى "أمية بن أبي الصلت"1.
__________
1 من كل بطريق لبطريق نقى الوجه واضح - تاج العروس "6/ 296"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزءالثاني، القسم الأول "ص191"، تاج العروس "7/ 111" "الطبعة الأولى بمصر، مطبعة مصر"، اللسان "10/ 212، 401"، "دار صادر" "بيروت 1956"، البستان "11/ 157"، "بيروت 1927"، محيط المحيط "1/ 102" بيروت 1868/"، مروج "2/ 199"، صبح الأعشى "5/ 472"، "القاهرة 1915م"" المطبعة الأميرية".(12/214)
وقد ذهب علماء اللغة إلى أن "البطرك"، هو مقدم النصارى، وهو في معنى "البطريق" أيضًا. وقالوا أيضًا إن البطريق مقدم جيش الروم. و"البطرك" من أصل يوناني هو "Patriakhis" "بثريارخيس"، ومعناه "أبو الآباء"، وذلك لأنه الأب الأول والأعلى للرعية، فهو أب الآباء ورئيس رجال الدين. أما لفظة البطريق، فإنها من أصل لاتيني، هو Patrikios، وهو يعني وظيفة حكومية وتعني درجة "قائد" في المملكة البيزنطية1. فلا علاقة لها إذن بالتنظيم الديني للنصرانية.
وبين البطريق "البطرك" والأسقف منزلة يقال لشاغلها "المطران"، وقد عرف بأنه دون البطرك وفوق الأسقف. وقد وسمه "القلقشندي"، بأنه القاضي الذي يفصل الخصومات بين النصارى2. واللفظة من الألفاظ المعربة عن اليونانية، أخذت من "متروبوليتيس "MitropoIitis" أي مختص بالعاصمة، أو المدينة3. وقد ذكر علماء اللغة أن لفظة "المطران"، ليست بعربية محضة4.
والأسقف من الألفاظ التي تدل على منزلة دينية عند النصارى، وقد وردت في كتب الحديث. وقد ذكر بعض علماء اللغة إنه إنما سمي أسقف النصارى أسقفا لأنه يتخاشع5. واللفظة من الألفاظ المعربة المأخوذة عن اليونانية، فهي "ابسكوبوس" Episkopos" في الإغريقية، وقد نقلت منها إلى السريانية، ثم نقلت منها إلى العربية6. وقد وردت في كتب التواريخ والسير، حيث ورد في شروط الصلح التي عقدها الرسول مع أهل نجران، شرط هو: "لا يغير أسقف عن أسقفيته ولا راهب عن رهبانيته".
__________
1 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص190 وما بعدها"، غرائب اللغة "ص255".
2 صبح الأعشى "5/ 472".
3 محيط المحيط "2/ 1987"، غرائب اللغة "ص269".
4 تاج العروس "3/ 546"، "مطر"، النصرانية "191"، البلدان "4/ 122" "ديارات الأساقفة".
5 اللسان "11/ 56"، البلدان "4/ 122"، تاج العروس "6/ 141"، صبح الأعشى "5/ 472"، مقدمة ابن خلدون "234"، تأريخ ابن خلدون "27، القسم الأول ص297" اللسان "9/ 156" "صادر".
6 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص119"، غرائب اللغة "ص252" محيط المحيط "1/ 970"، البستان "1/ 111"، النهاية في غريب الحديث "4/ 237".(12/215)
والقس من الألفاظ الشائعة بين النصارى، ولا تزال مستعملة حتى الآن. ويقال لها "قسيس" في الوقت الحاضر أيضًا. وهي من أصل آرامي هو "Gachecho" ومعناه، كاهن وشيخ1. وقد جمعها "أمية بن أبي الصلت" على "قساقسة"2. وذكر بعض علماء اللغة أن "القس والقسيس العالم العابد من رءوس النصارى" وأن "اصل القس تتبع الشي وطلبه بالليل. يقال تقسست أصواتهم بالليل، أي تتبعتها"3. وقد وردت لفظة "قسيسين" في القرآن الكريم: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} 4. ويدل ذلك على أن موقف النصارى تجاه الإسلام كان أكثر مودة من موقف يهود. وقد نسب ذلك إلى القسيسين والرهبان.
وترد لفظة "شماس" في جملة الألفاظ التي لها معان دينية عند نصارى الجاهلية. وهي من الألفاظ الحية التي لا تزال تستعمل في هذا اليوم أيضًا. وتعد من الألفاظ المعربة عن السريانية. وهي "Chamocho" في الأصل، وتعني خادم، ومنها البيعة. فهي إذن ليست من الوظائف الدينية الكبيرة، وإنما هي من المراتب الثانوية في الكنيسة5. وقد ذكر بعض العلماء بأن الشماس يحلق وسط رأسه ويجعل شعره من جوانب رأسه على شكل دائرةن وهو الذي يكون مسؤولا عن الكنيسة، ويكون مساعدا للقسيس في أداء واجباته الدينية، وفي تقديس القداس أيام الآحاد والأعياد. يعمل كل ذلك للتعبد. وليس لأخذ المال والتكسب6.
__________
1 غرائب اللغة "ص201"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص192".
2
لو كان منفلت كانت قساقسة ... يحييهم الله في أيديهم الزبر
تاج "4/ 207".
3 تاج العروس "4/ 216"، محيط المحيط "1/ 1221"، تأريخ ابن خلدون "جـ2 قسم 1 ص297".
المفردات، للأصفهاني "ص412"، اللسان "6/ 174" "صادر" صبح الأعشى "5/ 472"، مقدمة ابن خلدون "233".
4 المائدة، الآية 85، أسباب النزول "152"، تفسير الطبري "7/ 2".
5 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص193"، غرائب اللغة "ص191".
6 اللسان "6/ 114" "صادر محيط المحيط "1/ 1221"، صبح الأعشى "5/ 472"، ابن خلدون "29، القسم الأول، ص297"، البستان "1/ 1259".(12/216)
وورد في كتاب رسول الله إلى سادة نجران: "لا يغير أسقف عن سقيفاه، ولا راهب عن رهبانية، ولا واقف عن وقفانيته"1. ويظهر من هذا الكتاب أن الواقف منزلة من المنازل الدينية التي كانت في مدينة نجران. والظاهر إنها تعني الواقف على أمور الكنيسة، أي الأمور الغدارية والمالية والمشرف على أوقافها وأملاكها. فهو في الواقع مسؤول إداري، اختصاصه الإشراف على الأمور المتعلقة بسير غدارة الكنيسة وأموالها. إذ لا يعقل أن يكون الواقف بمعنى خادم البيعة الذي يقوم بالخدمة بمعنى التنظيف والأعمال البسيطة الأخرى، إذ لا يعقل النص على مصل هذه الدرجة في كتاب صلح الرسول مع سادة نجران. وقد ذكر بعض علماء اللغة: "الواقف خادم البيعة، لأنه وقف نفسه على خدمتها"2. ولا يعني هذا التفسير بالضرورة الخدمة على النحو المفهوم من الخدمة في الاصطلاح المتعارف. فقد كان الملوك والسادات يلقبون أنفسهم بـ "خادم الكنيسة" و"خادم المعبد"، أي بالمعنى المجازي. ولا يكون خادما صارفا وقته كله في تنظيف الكنيسة وفي القيام بالأعمال التي يقوم بها الخادم الاعتيادي.
وهناك لفظة أخرى لها علاقة بالكنيسة وبالبيعة وبالنواحي الإدارية منها، هي لفظة "الوافه" و"الواقه". وقد عرفوا صاحبها بـ "قيم البيعة التي فيها صليب النصارى"، وفي هذا المعنى أيضًا لفظة "الواهف"، حيث قالوا: "الواهف سادن البيعة التي فيها صليبهم وقيمها، كالوافه وعملها الوهافة"، والوهفية والهفية. والظاهر إنها كلها في الأصل شيء واحد، وإنما اختلف علماء اللغة في ضبظ الكلمة، فوقع من ثم هذا الاختلاف بينهم3. فالوظيفة إذن، هي بمنزلة الخازن القيم على شؤون الصليب، يحفظه من السرقة، ويضعه في خزانة أمينة، فإذا حانت أوقات العبادة وضعه في موضعه. فالصليب ثمين، وفيه ذهب
__________
1 ابن سعد، الطبقات "1/ 358" "طبعة صادر"، "لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا وافه من وفاهيته"، النهاية في غريب الحديث "4/ 237"، "واقه من وقاهيته"، البلاذري "فتوح "72"، "صلح نجران"، اللسان "17/ 459"، تاج العروس "9/ 421"، الفائق "2/ 317"، النهاية "4/ 240".
2 تاج "6/ 269"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص193" اللسان "9/ 360"، "صادر".
3 تاج "6/ 373"، "9/ 421"، المخصص "13/ 600"،اللسان "13/ 561" "صادر.(12/217)
في الغالب، لذلك يكون هدفا للسراق1.
ويلاحظ أن علماء الحديث والتأريخ والسير، ليسوا على اتفاق فيما بينهم في تدوين نص كتاب الصلح الذي أعطاه الرسول لأهل نجران، إذ تراهم يختلفون في ضبط نصه: وفي جملة ما اختلفوا فيه جملة: "ولا واقه من وقاهيته"، فقد كتبوها بصور شتى كما رأيت، كما كتبوا النص بأشكال متباينة، مما يدل على أن الرواة قد اعتمدوا على نسخ متعددة للكتاب، وعلى أن أهل نجران كانوا قد نسخوا منه نسخا، تحرفت نصوصها بالاستنساخ، لعدم تمكن الناسخ من ضبط العبارات ضبطا صحيحا. فلما دون العلماء صورة النص تباينوا في تدوينه، وأوجدوا لهم تفاسير للفظة "واقف" و"وافه"و"واقه"، وهي لفظة واحدة في الأصل، قرأها النساخ ثلاث قراءات، فظهرت وكأنها ألفاظ مختلفة. وحاروا في تعليل المعنى، فقال بعضهم الوافه: قيم البيعة بلغة أهل الجزيرة، وقال بعض آخر بلغة أهل الحيرة، وقال بعض: كلها في معنى واحد2.
وهناك مصطلحات دينية أخرى استعملها النصارى للدلالة على درجات رجال دينهم، مثل "بابا"، وهي كلمة "رومية" وهو أعلى مرجع في نظر النصارى "الكاثوليك"3، و"الجاثليق"، وهو رئيس أساقفة بلد ما، والأعلى مقاما بينهم، وقد أطلقت اللفظة على رئيس نصارى بغداد في العهد العباسي4، وهي من أصل يوناين هو "كاثوليكوس" KathoIikos ومعناه عام5.
والساعي من الألفاظ التي تتناول المنازل والدرجات عند النصارى، وتشمل اليهود أيضًا. ويقصد بها الرئيس المتولي لشؤون اليهود أو النصارى، فلا يصدرون رأيا إلا بعد استشارته، ولا يقضون أمرا دونه. وقد ورد في حديث حذيفة في الأمانة: "إن كان يهوديا أو نصرانيا ليردنه على ساعيه"6.
__________
1 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص194".
2 اللسان "17/ 459"، تاج العروس "9/ 421", النهاية "4/ 240".
3 صبح الأعشى "5/ 472"، تأريخ ابن خلدون "جـ2 القسم الأول، ص297". مقدمة ابن خلدون "ص234"، غرائب اللغة "ص277".
4 تاج العروس "6/ 305"، صبح الأعشى "5/ 472"، محيط المحيط "1/ 214"، البستان "1/ 309".
5 غرائب اللغة "ص256".
6 تاج العروس "10/ 178" "سعى"، اللسان "14/ 387"، محيط المحيط "1/ 960"، النصرانية"192".(12/218)
ولفظة "بابا" وما بعدها، هي من الألفاظ التي شاع استعمالها في العربية في الإسلام، وليس لدينا ما يفيد استعمالها بين الجاهليين.
وذكر علماء اللغة أن من الألفاظ المعروفة بين النصارى لفظة "العسطوس"، ويراد بها القائم بأمور الدين، وهو رئيس النصارى1.
أما "الراهب"، فهو المتبل المنقطع إلى العبادة، وعمله هو الرهبانية. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الرهبانية غلو في تحمل التعبد من فرط الرهبة2. وقد ذكرت الرهبانية في القرآن الكريم3، وذكرت في الحديث. وقد نهى عنها الإسلام: "لا رهبانية في الإسلام". وقد ندد القرآن الكريم في كثير من الأحبار والرهبان، فورد: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 4. ويظهر من ذلك أن جماعة منهم كانت تتصرف بأموال الناس التي تقدم إلى الأديرة والبيع، فيعيشون منها عيشة مترفة، لا تتفق مع ما ينادون به من التقشف والزهد والعبادة. كما أن منهم من عاش عيشة رفيهة وبطر، فتكبر عن الناس وترفع، حتى جعلوا أتباعهم يحيطونهم بهالة من التقديس والتعظيم، إلى درجة صيرتهم أربابا على هذه الأرض. فتقربوا إليهم وقدسوهم قدسية لا تليق إلا للخالق. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5. ذلك إنهم كانوا يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ويحرمون ما أحل الله لهم فيحرمونه. "أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه وإذا حرموا شيئًا أحله الله لهم حرموه، فتلك
__________
1 تاج العروس "4/ 192"، اللسان "6/ 141"، محيط المحيط "1/ 1396".
2 المفردات، للأصفهاني "ص203"، اللسان "جـ1/ 437" "صادر القاموس "1/ 76"، تاج العروس "1/ 281"، الصحاح، للجوهري "1/ 140".
3 المائدة، الآية 82،التوبة، الآية 31، 34، سورة الحديد، الرقم 57، الآية 27، مجمع البيان "7/ 158"، تفسير الفخر الرازي "12/ 66 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 8 وما بعدها"، النهاية، لابن الأثير "2/ 120".
4 التوبة، الرقم 9، الآية 34، مجمع البيان "10/ 48"، تفسير الطبري "7/ 8 وما بعدها" تفسير الخازن "7/ 233 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "4/ 141 وما بعدها"، المقريزي، السلوك من معرفة سير الملوك "1/ 182"، "دار الكتب المصرية "1936"، السيوطي، الدر المنثور "10/ 75".
5 التوبة، الرقم9، الآية 31، جامع البيان "10/ 80"، الكشاف "2/ 31" روح المعاني "10/ 75"، تفسير الخازن "2/ 216".(12/219)
كانت ربوبيتهم"1. وكانوا يطيعونهم طاعة عمياء، ويأخذون عنهم، ويقدسونهم، ويقبلون أيديهم ولا يعصون أمرا لهم. وذكر أن "عدي بن حاتم" الطائي، قال لرسول الله لما سمعه يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، "يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم. فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله، فتحلونه! قال: قلت بلى: قال فتلك عبادتهم"2.
ويظهر من روايات أهل الأخبار، أن من الرهبان من بالغ في الترهيب وفي التزهد، فخصى نفسه ووضع السلاسل في عنقه أو في يديه أو رجليه ليحبس نفسه، وامتنع عن المآكل والأطايب، مكتفيا بقليل من الماء وبشيء من الخبز الخشن، وأن منهم من امتنع عن الكلام وصام معظم أوقاته، وابتعد عن الناس متخذا من الكهوف والجبال والمواضع النائية الخالية أماكن للتأمل والتعبد. وذلك كما يظهر من نهي الرسول عن الرهبة والرهبانية، وحمل الإسلام عليها. لأنها تبعد الناس عما أحل الله وقد عوض الإسلام عنها بالجهاد في سبيل الله3.
ومن عادات الرهبان وتقاليدهم التي وقف عليها أهل الجاهلية، الامتناع عن أكل اللحوم والودك، أبدا أو أمدا، وحبس النفس في الأديرة والصوامع، والكهوف، والاقتصاد على أكل الصعب من الطعام والخشن من الملبس، ولبس السواد والمسوح. وهي عادة انتقلت إلى الأحناف أيضًا وإلى الزهد من الجاهليين الذين نظروا نظرة زهد وتقشف إلى هذه الحياة4. كما كانوا لا يهتمون بشعورهم فكانوا يطلقونها ولا يعتنون بها ولذلك كانت شعروهم شعثا، وعبر عن الراهب
__________
1 تفسير الطبير "10/ 80 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "5/ 142"، تفسير الطبرسي "5/ 22".
2 تفسير الطبري "10/ 80 وما بعدها"، "بولاق".
3 النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير "ص163" "2/ 120" "المطبعة الخيرية"، اللسان "1/ 437 وما بعدها"، تاج العروس "1/ 280 وما بعدها"، القاموس المحيط "1/ 76"، محيط المحيط "1/ 806" مجمع البيان "7/ 158"، "6/ 176"، جامع البيان "27/ 238"، "10/ 117"، الكشاف، للزمخشري "4/ 69". "2/ 31"، "1/ 43"، روح المعاني "27/ 165"، "10/ 75"، "7/ 3"، الدر المنثور "10/ 75"، صحيح مسلم "8/ 229" "كتاب الزهد"، اللسان "1/ 437" "صادر".
4 تفسير الطبري "7/ 8" "الطبعة الثانية 1957م"، تفسير أبي السعود، "4/ 141 وما بعدها"، تفسير الرازي "12/ 67 وما بعدها".(12/220)
بالأشعث، لأنه كان يطلق شعر رأسه ولا يحلقه ولا يعتني به1.
ومن الرهبان من ساح في الأرض، فطاف بلاد العرب وأماكن أخرى، وهام على وجهه في البوادي وبين القبائل، لا يهمه ما سيلاقيه من أخطار ومكاره، ومنهم من ابتنى له بناء في الفيافي وفي الأماكن النائية، واحتقر الآبار وحرث البقول، وعاش عيشة جماعية، حيث يعاون بعضهم بعضًا في تمشية أمور الدير الذي يعيشون فيه2. ومنهم من عاش في قلل الجبال، بعيدا عن المارة والناس. قال الشاعر:
لو عاينت رهبان دير في القلل ... لانحدر الرهبان يمشي ونزل3
وقد وقف بعض أهل الجاهلية على أخبار هؤلاء الرهبان وعرفوا بعض الشيء عنهم، وبهم تأثر بعض الحنفاء على ما يظهر فأخذوا عنهم عادة التحنث والتعبد والانزواء والانطواء في الكهوف والمغاور والأماكن النائية البعيدة للتنسك والتعبد مبتعدين بذلك عن الناس منصرفين إلى التأمل والتفكر في خلق هذا الكون دون أن يدخلوا النصرانية.
وقد نهى الرسول بعض الصحابة مثل "عثمان بن مظعون"، وهو من النصارى في الأصل من تقليد الرهبان في الإخصاء وفي الامتناع عن الزواج ومن التشدد في أمور أحلها الله للناس4. ويظهر أن هذا التشدد إنما جاء إليه وإلى أمثاله من وقوفهم على حياة الرهبان وعلى رأيهم وفلسفتهم بالنسبة لهذه الحياة. وفي حق هؤلاء نزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
__________
1 تاج العروس "1/ 638".
2 تفسير الطبري "27/ 124"، روح المعاني "6/ 8 وما بعدها"، تفسير الطبري "7/ 9وما بعدها"، تفسير الخازن "7/ 233 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "4/ 141 وما بعدها".
3 تفسير الطبري "7/ 4".
لو أبصرت رهبان دير في الجبل
لانحدر الرهبان يسعى ويصل
تفسير القرطبي، الجامع "6م 258".
4 الدر المنثور "2/ 307"، مجمع البيان في تفسير القرآن "7/ 6 وما بعدها"، تفسير القرطبي "6/ 260 وما بعدها"، مجمع البيان "27/ 158"، "طبعة دار الفكر. بيروت"، الدر المنثور، للسيوطي "2/ 307"، روح المعاني "7/ 3"، "27/ 165".(12/221)
وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1. وذكر أن الرسول لما سمع بابتعاد "عثمان" من أهله، دعاه، فنهاه عن ذلك. ثم قال: "ما بال أقوم حرموا النساء والطعام والنوم! ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني". فنزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} . يقول لعثمان لا تجب نفسك، فإن هذا هو الاعتداء"2.
وورد في الحديث: "لا صرورة في الإسلام"، والصرورة التبتل وترك النكاح، أي ليس ينبغي لأحد أن يقول لا أتزوج، لأن هذا ليس من أخلاق المسلمين، بل هو من فعل الرهبان. وهو معروف في كلام العرب. ومنه قول النابغة:
لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متعبد
يعني الراهب الذي ترك النساء3.
وقد أشير إلى الرهبان في شعر امرئ القيس، إذ أشار فيه إلى منارة الراهب التي يمسي بها يتبتل فيها إلى الله، وعنده مصباح يستنير بنوره4. كما أشار فيه إليه وهو في صومعته يتلو الزبور ونجم الصبح ما طلعا5، دلالة على تهجده وتعبده في وقت يكون الناس فيه نياما. كما أشير إليهم في شعر شعراء جاهليين آخرين مثل "النابغة الذبياني"، الذي أشار إلى ركوع الراهب يدعو ربه فيه ويتوسل إليه6. كما أشار إلى موقف الراهب من رؤية امرأة جميلة، وكيف سيرنو إليها
__________
1 المائدة، الآية 87.
2 تفسير الطبري "7/ 6"، روح المعاني "7/ 7".
3 تاج العروس "3/ 331"، "صور".
4
تضئ الظلام بالعشاء كأنها ... منارة ممس راهب متبتل
النصرانية "الجزء الثاني، القسم الأول، ص175".
5
كأنه راهب في رأس صومعة ... يتلو الزبور ونجم الصبح ما طلعا
النصرانية "جـ 2، قسم2، ص392".
6 سيبلغ عذراء أو نجاحا من امرئ
إلى ربه رب البرية راكع
دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية" "10/ 9"،النصرانية "الجزء الثاني، القسم الثاني "ص394".(12/222)
حتى وإن كان راهبا اشمط1. وقد أشار إلى "ثوبي راهب الدير" وإلى الحلف بثوبيه2.
وورد في الشعر ما يفيد بانقطاع الرهبان في الأماكن الصعبة القصية مثل قلل الجبال وذراها، حيث لا يأتيهم الناس، فيعيشون في خلوة وانقطاع عن البشر3. ومن الأماكن التي اشتهرت بوجود الرهبان فيها أرض مدين4. ووادي القرى ومنازل تنوخ وصوران وزبد5.
وقد سبح الرهبان ورجال الدين، الله، في الكنائس وفي الأديرة بألحان عذبة جميلة، ورتلوا الزبور والأسفار المقدسة الأخرى. وقد عرف الجاهليون ذلك عنهم، وأشاروا إلى ذلك في شعرهم، وربما كان بعضهم يحضر تلك التراتيل ويستأنس بها على الرغم من وثنيته وعدم اعتقاده بالنصرانية.
ويقال للراهب الزاهد، الذي ربط نفسه عن الدنيا: الربيط. وقيل له: الحبيس. وذكر أن الربيط، هو المتقشف الحكيم6، وأن الحبيس هو الذي حبس نفسه في سبيل الله، فقبعوا في الأديرة وابتعدوا عن الناس. فصاروا كالحبساء7.
__________
1 تفسير القرطبي، "6/ 258".
لو أنها عرضت لاشمط راهب ... عبد الإله صرورة متعبد
كرنا لرؤيتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد
2 تاج العروس "1/ 281".
3 لو كلمت رهبان دير في القلل
لانحدر الراهب يسعى فنزل
اللسان "1/ 437" "صادر"، تاج العروس "1/ 281"، المقريزي، السلوك في معرفة سير الملوك "1/ 182" تفسير الطبري "27/ 158"، "البابي"، الكشاف "2/ 31"، الدر المنثور "6/ 177"، تفسيرالخازن "2/ 216". "4/ 232".
لو أنها عرضت لاشمط راهب ... في رأس مشرفة الذرى متبتل
الأغاني "19/ 92" "دار الثقافة بيروت"، وقد نسب هذا الشعر إلى ربيعة بن مقروم الصيفي. وقد مر النصف الأول من هذا البيت من شعر نسب إلى النابغة الذبياني في تفسير القرطبي "6/ 258"ز
4 قال جرير:
رهبان مدين، لو رأوك تنزلوا ... والعصم، من سعف العقول، الغادر
اللسان "1/ 437" "صادر"، تفسير الطبري "7/ 4".
5 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "196 وما بعدها".
6 تاج العروس "5/ 143"، القاموس المحيط "2/ 361"، المقريزي، سير "1/ 182" البلدان "2/ 213" "صادر".
7 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "197"، البلدان "2/ 213".(12/223)
ويقال للراهب: المقدسي. والمقدس الراهب. وصبيان النصارى يتبركون به، ويتمسحون بملابسه تبركا1. كما قيل له: المتعبد، والأعابد2 ونسب إلى "امرئ القيس" هذا البيت:
فأدركنه يأخذن بالساق والنسا ... كما شبرق الولدان ثوب المقدسي
ويروي المقدسي، وهو الراهب ينزل من صومعته إلى بيت المقدس، فيمزق الصبيان ثيابه تبركا به3.
وأما "النهامي"، فهو صاحب الدير، أو الراهب في الدير4.
ومن الألفاظ التي شاعت بين النصارى ووصل خبرها إلى الجاهليين، لفظة: "الأبيل"، وقد اتخذوها للدلالة على رئيس النصارى. وذكر بعض أهل الأخبار أنها تعني أيضًا "المسيح". وقد كانوا يعظمون الأبيل فيحلفون به كما يحلفون بالله. وهي من الألفاظ المعربة عن السريانية "ابيلو" AbiIo"، ومعناها في السريانية الزاهد والناسك والراهب. وكانوا يتخذون عادة رؤساءهم من الرهبان المتبتلين5. وقد وردت لفظة "الأبيل" في الشعر الجاهلي، في شعر: الأعشى وفي شعر عدي بن زيد. وورد "أبيل الأبيلين"، وأريد بذلك المسيح6. وذكر أن "الأبيل" هو صاحب الناقوس، والراهب أيضًا7. وأن "الأبيلي"، هو ضارب الناقوس. و"الأيبل"، العصا التي يدق بها الناقوس8. قال الأعشى:
__________
1 اللسان "6/ 169" "صادر".
2 اللسان "3/ 272".
3 تاج العروس "6/ 390"، "شبرق".
4 تاج العروس "9/ 88"، نهم"، المخصص "13/ 100".
5 النصرانية، الجزء الثاني: القسم الأول "190"، غرائب اللغة "172".
6 قال ابن عبد الجن، وقيل عمرو بن عبد الحق:
أما ودماء ماثرات تخالها ... على قنة العزى أو النسر عندما
وما قدس الرهبان في كل هيكل ... أبيل الأبيلين، المسيح بن مريما
لقد ذاق منا عامر يوم لعلع ... حساما، إذا ما هز بالكف صمما
اللسان "11/ 6 وما بعدها"، "أبل"، صادر".
7 اللسان "11/ 6 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 199". الأب مرمرجي، معجميات عربية سامية "131 وما بعدها"، شعراء النصرانية، لشيخو "453"، المخصص "13/ 100".
8 ديوان الأعشى "53" "المطبعة النموذجية"، 1950م".(12/224)
وما أيبلي على هيكل ... بناه وصلب فيه وصارا
يراوح من صلوات المليك ... طورا سجودا وطورا جؤارا
يعني بالجؤارالصياح. إما بالدعاء وإما بالقراءة1.
والساعود من أسماء المسيح وهو من أصل "سوعورو" So ouro، بمعنى زائر. وتطلق اللفظة على من يزور القرى ويطلع على أحوالها وذلك بأمر من الأسقف2. وذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن السريانية، وأن الأصل "ساعورا"، ومعناه متفقد المرضى، وتطلق اللفظة على مقدم النصارى في معرفة علم الطلب3.
ويقال لخادم البيعة: الجلادي4. وذكر أن "الجلذي" الراهب والصانع والخادم في الكنيسة. قال ابن مقبل:
صوت النواقيس فيه ما يفرطه ... أيدي الجلاذي جون ما يغضبنا5
و"الكنيس" و"الكنيسة" موضع عبادة اليهود والنصارى، فهما في مقابل "المسجد والجامع" عند المسلمين. والكلمة من الألفاظ المعربة عن الآرامية، وتعني لفظة "Knouchto" "كنشتو" "كنشت" في السريانية، اجتماع، ومجمع وأطلقت بصورة خاصة على كنيس اليهود6. ولهذا نجد العرب يطلقونها على معبد اليهود كذلك. ويقال في العبرانية للكنيس "كنيستا"، بمعنى محل الصلاة. ونجد الكتب العربية تفرق بين موضع عبادة اليهود وموضع عبادة النصارى، فتطلق "الكنيس" على موضع عبادة اليهود و"الكنيسة" على موضع عبادة الأصنام. وقد ذهب بعض علماء اللغة، إلى أن الكنيسة، هي متعبد اليهود، وأما "البيعة"،
__________
1 تفسير الطبري "14/ 82".
2 غرائب اللغة "187".
3 تاج العروس "3/ 468" "الخيرية"، النصرانية، القسم الأول "194"،القاموس "2/ 48".
4 اللسان "5/ 14" "المطبعة الأميرية"، "3/ 483" "صادر"، تاج العروس "2/ 557".
5 تاج العروس "2/ 557"، "ما يعفينا"، اللسان "3/ 482"، "صادر".
6 غرائب اللغة "ص204"، النصرانية وآدابها، شيخو "2/ 201 وما بعدها"، "الطبعة الثانية بيروت 1933".(12/225)
فهي متعبد النصارى1. وقد عرف علماء اللغة العرب، إنها من الألفاظ المعربة، فقالوا: وهي معربة، أصلها كنست2.
وقد زوق النصارى كنائسهم، وجملوها، وزينوها بالصور وبالتماثيل، ووضعوا الصلبان على أبوابها وفي داخلها. ووضعوا بها المصابيح لإنارتها في الليل، وكانوا يسرجون فيها السرجن وجعلوا بها النواقيس، لتقرعن فترشد المؤمنين بأوقات الصلوات، ولتشير إليهم بوجود مناسبات دينية، كوفاة، أو ميلاد مولود، أو عرس وأمثال ذلك. ومن الكنائس التي اكتسبت حرمة كبيرة عند النصارى العرب: كنيسة القيامة، وكنيسة نجران، وكنيسة الرصافة. وقد أشير في شعر للنابغة إلى "صليب على الزوراء منصوب"، أي على كنيسة.
والتمثال الشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله، أي من إنسان أو حيوان أو جماد3. وأدخل العلماء الصور في التماثيل. وقد كانت الكنائس مزينة بالتماثيل والصور، تمثل حوادث الكتاب المقدس وحياة المسيح. ونظرا إلى محاربة الإسلام للأصنام، وإلى كل ما يعيد إلى ذاكرة الإنسان عبادة الأصنام والصور، ورد النهي عنها في الإسلام. جاء في الحديث: "أشد الناس عذاب يوم القيامة المصورون" 4.
وقد كان الروم يمدون الكنائس والمبشرين بالمال وبالفعلة وبالمساعدات المادية لبناء الكنائس والأديرة. والكنائس والأديرة وإن كانت بيوت تقوى وعبادة، كانت بيوت سياسة ودعوة وتوجيه. ونشر النصرانية مهما كان مذهبها ولونها، مفيد للروم، فالنصراني مهما كان مذهبه لا بد أن يميل إلى إخوانه في العقيدة والدين، ففي انتشار النصرانية فائدة من هذه الناحية كبيرة للبيزنطيين.
وفي العربية لفظة أخرى للكنيسة، إلا أنها لفظة خصصت بكنيسة معينة، هي الكنيسة التي بناها أبرهة بمدينة صنعاء، واللفظة هي: "القليس". وللأخباريين آراء في معناها وفي أصلها، بنيت على طريقتهم الخاصة في إيجاد التفاسير للكلمات القديمة من عربية ومن معربة، التي لا يعرفون من أمرها شيئًا. وهي لذلك
__________
1 تاج العروس "4/ 235".
2 اللسان "6/ 199"، تاج العروس "4/ 235".
3 تاج العروس "8/ 111"، "مثل".
4 تفسير الطبري "22/ 49"، تفسير القرطبي "4/ 273 وما بعدها".(12/226)
لا تفيدنا شيئًا. والكلمة أعجمية الأصل، عربت، وشاع استعمالها، حتى ظن إنها اسم تلك الكنيسة. أخذت هذه اللفظة من أصل يوناني هو "أكليسيا" "EkkIesia"، ومعناه في اليونانية المجمع، أي الكنيسة، فصيروها اسم علم على هذه الكنيسة، ولم يدروا أنها تعني الكنيسة، أي موضع عبادة1.
والصوامع والبيع هما من الألفاظ التي استعملها الجاهليون للدلالة على مواضع العبادة عند النصارى. وقد ذهب العلماء إلى أن البيعة من الألفاظ المعربة2. أخذت من السريانية. وأصل اللفظة في السريانية، هو "بعتو" بمعنى بيضة، وقبة، لأنها كانت قبة في كثير من الكنائس القديمة3. وقد استعملت في الحبشة كذلك ولذلك ذهب بعضهم إلى أنها من الحبشة4. وقال علماء اللغة العرب: الصومعة كل بناء متصمع الرأس، أي متلاصقة، والأصمع اللاصقة إذنه برأسه5. وقد أشير إلى "البيع" في القرآن: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} 6. وقد ذهب بعض علماء اللغة، إلى أن البيعة متعبد اليهود7.
ولكن أغلبهم على أنها متعبد النصارى.
وقد وردت لفظة "بيعة" في نص "أبرهة" الشهير الذي دونه على سد مأرب. ففي هذا النص جملة: "وقدس بعتن"، أي "وقدس البيعة"8.
وذكر أن لفظة "البيعة" قد وردت في شعر ينسب إلى ورقة بن نوفل، حيث زعم إنه قال:
أقول إذا صليت في كل بيعة ... تباركت قد أكثرت باسمك داعيا9
__________
1 "القليس"، "القليسة"، اللسان "6/ 180"، "قلس".
Ency II p 144 RacciIta III p 127
2 المعرب "ص81".
3 معجميات "ص109 وما بعدها"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص213"، غرائب اللغة "175".
4 النصرانية "الثاني"، القسم الأول "213" ""طبعة ثانية".
5 المفردات "288"، اللسان "8/ 208"، تاج العروس "7/ 411"
6 الحج: الآية 40.
7 تفسير الطبري "15/ 175" "البابي"، اللسان "8/ 26" "صادر".
8 رجع النص في مجلة المجمع العلمي العراقي "4/ 215".
9 الأغاني "3/ 16".(12/227)
كما ذكر إنها وردت في كلام أناس من الجاهليين والمخضرمين1.
وقد أشير إلى ورودها في الشعر الجاهلي وفي بعض الأخبار المنسوبة إلى الجاهليين. وردت في شعر منسوب إلى "عبد المسيح بن بقيلة"، وهو كما يظهر من اسمه من النصارى2. ووردت في بيت منسوب إلى لقيط بن معبد3. وفي شعر ينسب إلى الزبرقان بن بدر التميمي4. ولا بد أن تكون هذه الكلمة من الكلمات المألوفة عند الجاهليين المتنصرين، وعند غيرهم ممن كانوا على الوثنية، غير إنهم كانوا على اتصال بالنصارى، ذلك لأنها من الألفاظ الشائعة المعروفة عند النصارى.
وقد كانت البيع منتشرة في المدن وفي القرى والبوادي، وطالما قصدها الأعراب للاحتماء بها من الحر والبرد وللاستعانة برجالها لتزويدهم بما عندهم من ماء أو زاد أو للتنزه بها واحتساء الشراب.
والصومعة من أصل حبشي هو "صومعت" على رأي بعض المستشرقين. وقد خصصت بـ "قلاية" الراهب5. أي مسكن الرهبان. وبهذا المعنى وردت في القرآن. ويقول علماء اللغة، أنها على وزن فوعلة، سميت صومعة، لأنها دقيقة الرأس. وهي صومعة النصارى6. وذكر بعض منهم أن الصومعة كل بناء متصمع الرأس، أي متلاصقة7. وقد سميت صومعة لتلطيف أعلاها8. ويدل ورود هذه اللفظة بصورة الجمع في القرآن الكريم، على وقوف الجاهليين على
__________
1 ابن هشام "935" "طبعة ليدن"، تاج العروس "5/ 285"، النصرآنية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص201 وما بعدها".
2
كم تجرعت بدير الجرعة ... غصصا كبدي بها منصدعه
من بدور فوق أغصان على ... كثب زرن احتسابا بيعه
البلدان "4/ 120" "دير الجرعة"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "202 وما بعدها".
3
تامنت فؤادي بذات الخال خرعبة ... مرت تريد بذات العذبة البيعا
تاج العروس "5/ 285"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "202".
ابن هشام "1/ 935"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "202".
4
نحن الكرام، فلاحي يعادلنا ... منا الكرام، وفينا تنصب البيع
ابن هشام "1/ 935"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "201".
5 معجميات "ص109 وما بعدها"، RaccoIta III P 127
6 اللسان "10/ 76"، معجميات "ص153"، تاج العروس" 7/ 411"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "174، 213".
7 مفردات، الأصفهاني "ص288".
8 اللسان "8/ 208" "صادر".(12/228)
الصوامع ووجوها بينهم1. وقد كان الرهبان قد ابتنوا الصوامع وأقاموا بها للعبادة بعيدين في مختلف أنحاء جزيرة العرب، ومنها الحجاز. وقد وقف الجاهليون عليها، ودخلوا فيها. أما تجارهم ممن قصد بلاد الشام والعراق، فقد رأوا في طريقهم إلى تلك الأرضين، وفي تلك الأرضين بالذات، حيث انتشرت فيها النصرانية صوامع كثيرة. ونجد في كتب الأخبار أمثلة عديدة تشير إلى دخول تجار مكة الصوامع في بلاد الشام وفي وادي القرى، للحصول على ملجأ أو عون.
والقلاية، وهي كالصومعة، يتعبد فيها الرهبان، وهي من الألفاظ المعربة، عربت من أصل يوناني هو "KeIIiyon"، ومعناه غرفة راهب أو ناسك2. ومن هذا الأصل انتقلت اللفظة إلى السريانية فصارت "قليتا"، فانتشرت بين نصارى بلاد الشام بصورة خاصة ثم بقية النصارى، منها دخلت العربية. وقد عرف علماء العربية إنها من الألفاظ المعربة، فقالوا: هي تعريب كلاذة، وهي من بيوت عباداتهم، أي عبادات النصارى. وقد وردت في الحديث، كما ورد ذكرها في صلح عمر مع نصارى الشام، حيث كتبوا له كتابا: إنا لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا قلية3. والظاهر أن النصارى توسعوا في المعنى، فأطلقوها على المنازل التي يسكنها الرهبان، ثم توسعوا فيها فأطلقوها على دور المطارنة والبطارقة، وأصلها بمعنى الأكواخ4.
ولفظة "الدير" شيء من الألفاظ النصرانية الشهيرة المعروفة بين العرب. وهي أكثر اشتهارا من الألفاظ الأخرى التي لها علاقة بمواضع العبادة أو السكن عند النصارى، وذلك لانتشارها ووجودها في مواضع كثيرة من العراق وبلاد الشام وجزيرة العرب, ولمرور التجار وأصحاب القوافل والمارة بها، واضطرارهم إلى الاستعانة بأصحابها وباللجوء إليها في بعض الأحيان. كما كانت محلا ممتازا للشعراء ولأصحاب الذوق واليكف، حيث كانوا يجدون فيها لذة ومتعة تسر العين والقلب، من خضرة ومن ماء بار عذب ومن خمر يبعث فيهم الطبر والخيال، ولذلك
__________
1 سورة الحج، الرقم22، الآية 40، النهاية، لابن الأثير "2/ 120"، تفسير الطبري "15/ 175".
2 غرائب اللغة "ص265"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "ص213".
3 النهاية "3/ 309"، البكري، معجم "2/ 583"، اللسان "20/ 63"، تاج العروس "8/ 86"، "قل".
4 معجميات "ص180 وما بعدها".(12/229)
أكثر الشعراء في الجاهلية والإسلام من ذكر الأديرة في شعرهم. حتى الشعراء النصارى مثل "عدي بن زيد العبادي"، يترنم في شعره بذكر الدير، لأنه نادم فيه "بني علقما"، وعاطاهم الخمر ممزوجة بماء السماء1.
ولفظة "الدير" هي مثل أكثر الألفاظ النصرانية من الألفاظ المعربة. عربت من أصل سرياني، هو "دير" Dayr "، بمعنى دار، أي بيت الراهب2. ومسكنه، ولا سيما المحصن، ثم خصوا بها مسكن الرهبان3. وقد عرف علماء العربية أن الدير هو مسكن النصارى، يتعبد فيه الرهبان ويسكنون به، وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن الدير يتعبد فيه الرهبان، ولا يكاد يكون في المصر الأعظم، وإنما يكون في الصحاري ورءوس الجبال، فإن كان في المصر الأعظم فإنه كنيسة أو بيعة4 غير أن الأديرة تكون في كل مكان، تكون في القرى وتكون في المدن كما تكون في البوادي وفي رءوس الجبال5.
و"الديراني"، صاحب الدير، وقد ذكر بعض العلماء أن الديراني صاحب الدير الذي يسكنه ويعمره. نسب على غير قياس. ويقال للرجل إذا رأس أصحابه هو رأس الدير6.
ولا تقتصر الأديرة على الرجال، فللراهبات أديرة أيضًا. ويقضي أصحاب الأديرة وقتهم في الزهد والتقشف والعبادة. والقيام بالأعمال اليدوية التي يوكلها رئيس الدير إليهم7. وقد عرف الراهب المعتكف بالدير بـ "الديراني" و"الديرانية"، هي الراهبة8. وقد عرفت أديرة الراهبات بـ "أديرة العذارى" كذلك.
__________
1
نادمت في الدير بني علقما ... عاطيتهم مشمولة عندما
كأن ريح المسك من كأسها ... إذا مزجناهما بماء السما
البلدان "2/ 639، 680"، "2/ 449" "بيروت"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"، المخصص "13/ 100 وما بعدها".
2 غرائب اللغة "ص182".
3 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212".
4 معجم البلدان "2/ 639"، "6/ 639".
5 اللسان "5/ 287"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"ز
6 اللسان "5/ 387"، تاج العروس "3/ 231"ز
7 البلدان "2/ 639"، "4/ 451".
8 النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"، الشعر، لابن قتيبة "229".(12/230)
وإذ كان لهذه الأديرة حرمة في نفوسهم، فقد كانوا يعقدون فيها عقودهم ويحلفون بها على ما كان يفعله الوثنيون في معابدهم حيث كانوا يقسمون الإيمان ويعاقدون أمام الأوثان، فكان للنصارى في الحيرة دير السوا، وفي هذا الدير كانوا يتناصفون ويحلفون بعضهم لبعض على الحقوق1.
وفي الآرامية لفظة هي "عمرو" Oumro"، وقد صارت "العمر" في العربية. ويراد بها البيعة والكنيسة والدير ودار2. وقد وردت في شعر "المتلمس"، حيث جاء:
ألك السدير وبارق ومبايض ولك الخورنق ... والعمر ذو الأحساء واللذات من صاع وديسق3
وعرفت العربية لفظة "الكرح"، و"الأكيراح"، وقد عرفها علماء العربية بقولهم: "الأكيراح: بيوت ومواضع تخرج إليها النصارى في بعض أعيادهم"4. واللفظة من أصل سرياني هو "كرحو" "Kourho"، بمعنى كوخ، ومسكن حبيس، وبيت ناسك وراهب5. وذكر ياقوت الحموي: أن الأكيراح بيوت صغار تسكنها الرهبان الذين لا قلالي لهم"6 وهناك دير اسمه "الأكيراح"، ورد في شعر لأبي نؤاس، ويقع بظاهر الكوفة كثير البساتين والرياحين، وبالقرب منه ديران، يقال لأحدهما دير عبد، وللآخر دير هند7.
والمحراب من الألفاظ التي استعملها النصارى في أمور دينهم كذلك، إذ أطلقوها على صدر كنائسهم. وقد استعملت في الإسلام أيضًا، حيث يشير إلى القبلة، ويؤم الإمام فيه المصلين، وقد ذكر بعض علماء اللغة، أن محاريب
__________
1 البلاذري، فتوح: 292".
2 غرائب اللغة "ص196".
3 البكري، معجم "696"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص213"، تاج العروس "3/ 320".
4 سا دير حنة من ذات الأكيراح
من يصح عنك فإني لست بالصبح
اللسان "3/ 405"، البكري، معجم "4/ 575"، المخصص "13/ 102".
5 غرائب اللغة "ص203"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212،214".
6 البلدان "1/ 345".
7 البلدان "1/ 345".(12/231)
بني إسرائيل مساجدهم التي كانوا يصلون فيها1. وقد وردت لفظة المحراب في أشعار بعض الجاهليين2. كما وردت في القرآن الكريم3. وفي الشعر الجاهلي4.
وذكر علماء التفسير أن المحراب كل موضع مرتفع. وقيل للذي يصلي فيه: محراب، وذكروا أن المحاريب دون القصور، وأشرف بيوت الدار. قال عدي بن زيد العباد:
كدمى العاج في المحاريب أو كالـ ... ـبيض في الروض زهره مستنير5
وذكر علماء العربية لفظة "التامور" التأمور"، في جملة الألفاظ المتعلقة بالرهبان والرهبنة، وقد عرفها بعضهم بأنها صومعة الراهب وناموسه6.
وذكر أن "القوس"، بمعنى الدير والصومعة أو موضع الراهب. أو معبد الراهب7. وذكر أن أصل الكلمة من الفارسية8.
وذكر أن "الغربال"، هو مكان أيضًا من أمكنة الرهبان، وأنه كهيئة الصومعة في هندسة بنائه وارتفاعه، وأنه كان بناء مرتفع. ويظهر أنها من الألفاظ المعربة9.
والإسطوانة، وهي السارية من الألفاظ النصرانية التي وقف عليها الجاهليون. وقد اتخذها العرب بمعنى العمود الذي كان يتعبد فوقه بعض الرهبان المعروفين بالعموديين StyIites. وقد أشير إلى "أسطوان" في شعر نسبوه إلى "ذي الجدن". وفسرت لفظة "الاسطوان" و"الاسطوانة"، بأنها موضع الراهب المرتفع10.
__________
1 النصرانية، الجزء الثاني القسم الأول "174".
2 اللسان "1/ 305"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "174"، اللسان "7/ 17".
3 آل عمران، الآية 37، 39، مريم، الآية 11، ص، الآية 21.
4 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "174".
5 تفسير الطبري "22/ 48" تفسير القرطبي "14/ 271".
6 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"، تاج العروس "3/ 20"، "أمر".
7 اللسان "8/ 69"، معجم البلدان "4/ 200".
8 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول، "ص214".
9 تاج العروس "7/ 416"، البلدان "3/ 525"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "213".
10 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "211"، البلدان "1/ 345"، المخصص "13/ 100 وما بعدها".(12/232)
و"المنهمة" مسكن النهام، والنهامي، هو الراهب. وأما المنهمة فموضع الراهب1.
ووردت في شعر للأعشى لفظة "الهيكل". إذ قال:
وما أيبلى على هيكل ... بناه وصلب فيه وصارا2
ويذكر علماء اللغة، أن الهيكل: بيت النصارى فيه صورة مريم وعيسى، وربما سمي به ديرهم. وأن الهيكل العظيم واستعمل للبناء العظيم، ولكل كبير، ومنه سمي بيت النصارى الهيكل3. واللفظة المعربة، وهي ترد في العبرانية "هيكل" وفي الآرامية "هيكلو". وتعني في اللغتين المعبد الكبير ومعبد الوثنيين4.
وقد كان الرهبان وبقية رجال الدين وكذلك الأديرة والكنائس يستعملون المصابيح. والقناديل للاستضاءة بهما. ويعبر عن المصباح بالسراج كذلك5. وقد تركت مصابيحهم وقناديلهم أثرًا ملحوظا في محلية الشعراء فأشير إليها في شعر "مزرد بن ضرار الذبياني" حيث قيل إنه قال:
كأن شعاع الشمس في حجراتها ... مصابيح رهبان زهتها القنادل6
وذكر علماء اللغة أن الزيت الذي له دخان صالح ويوقد في الكنائس، هو "السليط"7.
ولفظ: قنديل من الألفاظ المعربة، أصلها يوناني هو "CandeIa"، أي شمعة8. وقد دخلت إلى العربية قبل الإسلام، عن طريق الاتصال التجاري بين جزيرة العرب وبلاد الشام.
__________
1 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "214".
2 اللسان "6/ 144"، الاضداد "24"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "203"
3 المخصص "13/ 100 وما بعدها"، اللسان "14/ 225"، العقد الثمين "18"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "202".
4 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "202"، غرائب اللغة "209".
5 المفردات، للأصفهاني "ص674".
6 تاج العروس "5/ 158"، اللسان "7/ 320"، "سلط".
8 غرائب اللغة "279".(12/233)
وكان النصارى العرب يتقربون إلى رجال دينهم ويتبركون بهم ويحترمونهم حتى قيل إن الصبيان منهم كانوا إذا رأوا الراهب ينزل ليذهب إلى بيت المقدس أو غيره خرجوا له فتمسحوا به ولثموا ثيابه، حتى يمزقوا أثيابه. وإلى ذلك أشير كما يقول أهل الأخبار - في شعر امرئ القيس:
فأدركنه يأخذن بالساق والنسا ... كما شبرق الولدان ثوب المقدس1
ولبس رجال الدين ملابس خاصة لتميزهم عن غيرهم، غلب عليها السواد. وقد اختصت لفظة "المسح" و"المسوح" بالملابس التي كان يلبسها الزهاد والرهبان.
ومن أهم العلامات الفارقة التي ميزت معابد النصارى عن معابد اليهود والوثنيين: "الناقوس"، الذي ينصب فوق سطح الكنائس وفي منائرها، للإعلان عن أوقات العبادات ولأداء الفروض الدينية، وهو عند الجاهليين خشية طويلة يقرع عليها بخشبة أخرى قصيرة يطلقون عليها لفظة "الوبيلة" و"الوبيل". وهو في مقابل البوق عند يهود يثرب، إذا أرادوا الإعلان عن موعد العبادة. وقد عرف هذا البوق بين عرب يثرب بـ "القنع" أيضًا2، وبـ"الشبور"3. وقد ذكر علماء اللغة أن الشبور "شيء يتعاطها النصارى بعضهم لبعض كالقربان يتقربون به". وقال بعضهم: هو القربان بعينه، وذكروا أن الشبور شيء ينفخ فيه، فهو البوق عند اليهود، وهو معرب وأصله عبراني4.
وقد وردت كلمة "الناقوس" في الشعر الجاهلي: وردت في بيت للشاعرالمتلمس5،
__________
1 المعاني الكبير "2/ 764".
2 القنع، وورد القبع والقتع والقثع، اللسان "10/ 131"ز
3 عمدة القاري "5/ 102 وما بعدها"، اللسان "8/ 126".
4 اللسان "6/ 59"، تاج العروس "3/ 289"، "شبر"، وقد نقس بالوبيل الناقوس"، تاج العروس "4/ 262 وما بعدها".
5
حنت قلوصي بها والليل مطرق ... بعد الهدو وشاقتها النواقيس
ديوان المتلمس "178"، "طبعة فولرس" "لايبزك 1903".(12/234)
وفي شعر للمرقش الأكبر1، وللأعشى2، وللأسود بن يعفر3. وقد أشير في هذه الأبيات إلى قرع النواقيس بعد الهدوء إيذانا بدنو الفجر وحلول وقت الصلاة. وقد كانت هذه النواقيس في القرى وفي الأديرة، يقرعها الرهبان والراهبات والقسيسون4. وقد أدخل بعض علماء اللغة هذه الكلمة في جملة الألفاظ المعربة التي دخلت العربية من أصول أعجمية5. واللفظة من أصل "سرياني" هو "ناقوشا"6.
__________
1
وتسمع تزقاء من البوم حولنا ... كما ضربت بعد الهدوء النواقس
المفضليات "564"، النصرانية "207".
2
وكأس كعين الديك باكرت حدها ... بفتيان صدق والنواقيس تضرب
تاج العروس "2/ 331"، "حد"، ويروى لعنترة، العقد الثمين في دواوين الشعراء الجاهليين "179"، "طبعة الوردت"، "AhIwardt"، "باريس 1913"، النصرانية "207".
3
وقد سبأت لفتيان ذوي كرم ... قبل الصباح ولما تقرع النقس
اللسان "8/ 126"، "نقس"، تاج العروس "4/ 263".
4 النصرانية "207".
5 عمدة القاري "5/ 103"، المعرب "339".
6 Shorter Ency p 436(12/235)
أعياد النصارى:
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء أعياد نصرانية ترجع أصول تسميتها في الأكثر إلى لغة بني إرم، ويظهر أن أولئك الإخباريين تعرفوا عليها في الإسلام باختلاطهم وباتصالهم بالنصارى، إذ لم يشيروا إلى ورود أكثرها في الشعر الجاهلي، ومن عادتهم أنهم إذا عرفوا شيئًا كان معروفا عند الجاهليين جاؤوا ببيت أو أبيات يستشهدون بها على ورودها عند الجاهليين.
ومن الأعياد التي ورد فيها شاهد في الشعر الجاهلي، "السباسب"، وهو "يوم السعانين" ,"الشعانين". وقد ورد كلمة السباسب في بيت للنابغة قاله في عيد السعانين عند بني غسان، هو:(12/235)
رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب1
و"السعانين" و"الشعانين" من أصل عبراني "هو شعنا". وقد وردت هذه الكلمة في صحيفة صلح "عمر" مع نصارى الشام، وردت معها لفظة أخرى من الألفاظ النصرانية كذلك هي "الباعوث"2، وهي رتبة تقام في اليوم الثاني من عيد الفصح3، وصلاة لثاني عيد الفصح في بعض الطوائف4. وقد ذكرها علماء اللغة في جملة الألفاظ المعربة، والإرمية الأصل، وجعلها بعضهم "الباغوث". وذكروا إنها "استسقاء النصارى"، وأن "عمر" لما صالح نصارى الشام، كتبوا له أن لا نحدث كنيسة ولا قلية ولا نخرج سعانين ولا باعوثا5.
و"خميس الفصح" من أعياد النصارى كذلك. وهو بعد السعانين بثلاثة أيام، وكانوا يتقربون فيه بالذهاب إلى الكنائس والبيع6.
وقد أشير إلى عيد "الفصح" في بيت للأعشى يمدح فيه "هوذة بن علي" لتوسطه لدى الفرس بالإفراج عن مئة أسير من أسرى بني تميم همم الفرس بقتلهم، وذلك لمناسبة يوم الفصح. وقد كان نصارى الجاهلية يحتفلون به، فيوقدون المشاعل، ويعمرون القناديل، ويضيئون الكنائس بالمسارج ويقصدونها للاحتفال بها، حتى قيل للقنديل الذي يعمر لهذا اليوم "قنديل الفصح"7.
__________
1 "والسباسب أيام السعانين. في الحديث أن الله تعالى أبدلكم بيوم السباسب يوم العيد. يوم السباسب عيد النصارى، ويسمونه يوم السعانين"، تاج العروس "1/ 293"، النصرانية "215"، غرائب اللغة "212"، عن "أحد الشعانين" راجع المشرق: السنة الثامنة، الجزء8، السنة 1905م، "ص337 وما بعدها".
2 "أن لا يحدثوا كنيسة ولا قلية، ولا يخرجوا سعانين ولا باعوثا"،"ويوم السعانين عيد للنصارى. وفي حديث: شرط النصارى ولا يخرجوا سعانين. قال ابن الأثير: هو عيد لهم معروف. قبل عيدهم الكبير بأسبوع. وهو سرياني معرب. وقيل: هو جمع واحده سعنون"، اللسان "17/ 71". "سعن" "13/ 209"، "صادر".
3 النصرانية "217".
4 غرائب اللغة "173".
5 اللسان "13/ 209"، تاج العروس "1/ 903"، "بعث"، اللسان" "2/ 118"، "بعث".
6 الأغاني "3/ 32"، النصرانية "216".
7 قال عدي بن زيد العبادي:
بكروا علي بسحرة فصحبتهم ... باناة ذي كرم كعقب الحالب
بزجاجة ملء اليدين كأنها ... قنديل فصح في كنيسة راهب
الأغاني "9/ 53"، اللسان "3/ 378"، النصرانية "216". وورد في شعر لأوس بن حجر:
عليه كمصباح العزيز يشبه ... لفصح ويحشوه الذبال المفتلا
شعراء النصرانية "494"، النصرانية "216".(12/236)
وقيل لاجتماع النصارى واحتفالهم "الهنزمن"، وذكر أن هذه اللفظة من أصل فارسي هو "هنجمن" أو "أنجمن"، ومنها دخلت إلى السريانية فأطلقت على اجتماع النصارى واحتفالهم وتعييدهم1.
وقد أشار امرؤ القيس في بعض شعره إلى عيد النصارى، ولبس الرهبان فيه ملابس طويلة ذات أذيال2.
وكانت الكنائس والأديرة والأضرحة والمقابر الأماكن التي يقصدها النصارى في أعيادهم. فتكون موضع تجمع ولقاء. كانوا يقصدونها للتقرب إلى الرب وللصلوات له. وللتوسل إليه بأن يمن عليهم ويبارك فيهم. وكانوا يقصدون المقابر إظهارا لشعورهم بأن موتاهم وإن فارقوهم وابتعدوا عنهم، غير أنهم لا زالوا في قلوبهم. وأيام الأعياد من أعز الأيام على الإنسان، لذلك فهي أجدر الأيام بأن تخصص لزيارة بيوت الأرباب، وبيوت الموتى: القبور.
__________
1 قال الأعشى:
إذا كان هنزمن ... ورحت مخشما
اللسان "17/ 329"، تاج العروس "9/ 368"، النصرانية "217".
2
فآنست سربا من بعيد كأنه ... رواهب عيد في ملاء مهدب
النصرانية "173".(12/237)
الفصل الثاني والثمانون: أثر النصرانية في الجاهليين
وإذا كنا قد حرمنا من الموارد الأصلية التي يجب أن نستعين بها في معرفة أثر النصرانية عند نصارى الجاهلية والجاهليين، فإن في الشعر المنسوب إلى بعض نصارى الجاهلية مثل عدي بن زيد العبادي وإلى بعض الشعراء ممن كان لهم اتصال بالنصارى مثل الأعشى، فائدة في تكوين صورة يتوقف صفاؤها ووضوحها وقربها أو بعدها من الواقع والحق على مقدار قرب ذلك الشاعر من الصدق والصواب والواقع والافتعال.
وعدي بن زيد هو أشهر من وصل إلينا خبره من شعراء النصارى الجاهليين. هو من العباديين، أي من نصارى الحيرة، ولذلك عرف بالعبادي. كان من أسرة اكتسبت نفوذا واسعا ونالت حظًّا كبيرًا عند الفرس وعند ملوك الحيرة، فكان لها أثر خطيرًا في سياسة عرب العراق في ذلك الزمن. ولما كانت السياسة ارتفاعا وهبوطا، سعادة وشقاء، لاقى عدي منها الاثنين: ارتفع حتى بلغ أعلى المنازل، ثم انخفض حتى تلقاه قابض الأرواح وهو في سجنه فقضى عليه بعد أن ترك أثرًا خطيرًا في سياسة الحيرة وفي تقرير مصير الملك فيها. وعدي، على ما يذكر أهل الأخبار، من أهل اليمامة في الأصل: هاجر أحدا أجداده من اليمامة إلى الحيرة بسبب دم أهرقه هناك، فخاف على نفسه من الثأر، ولم يجد محلا أصلح له وآمن مقاما من الحيرة، لوجود "أوس بن قلام" أحد رؤساء بني الحارث بن كعب فيها، وهو من أصحاب الجاه والنفوذ، وبينه وبين أوس(12/238)
نسب من النساء، وهو من نسب يضمن له الحماية والعيش بسلام، فجاء إلى الحيرة وأقام بها حيث أكرمه أوس وقربه إلى آل لخم، واكتسب منزلة عالية عند ملوك الحيرة، انتقلت من بعده إلى أبنائه الذين كونوا لهم صلات وثيقة مع آل لخم ومع ملوك الفرس، بما كان لهم من علم وذكاء وحسن سياسة، ويذكر الإخباريون أن جد عدي قد تعلم الكتابة في الحيرة، فصار من أكتب الناس فيها، وأنه لذلك انتخب كاتبا لملك الحيرة، واتصل بحكم وظيفته المهمة هذه بدهاقين الفرس، وأنه لما توفي أوصى بابنه زيد والد عدي إلى واحد منهم يعرف بـ "فروخ ماهان" فأخذه هذا إلى بيته، ورباه مع ولده. فتعلم عندهم الفارسية، وحذقها وكتب بها وبرز، وكان قد حذق الكتابة بالعربية كذلك، فأوصله الدهقان إلى كسرى، لعلمه هذا باللغتين ولذكائه، فعينه في وظيفة مهمة لم يكن الفرس يعينون لها أحدا من غيرهم هي وظيفة البريد. وقد مكث في هذه الوظيفة زمانا جعلته يكتسب منزلة محترمة عند عرب الحيرة والفرس.
وعني زيد بتربية ولده عديا: أرسله إلى الكتاب ليتعلم به العربية. فلما برع فيها، أرسله إلى كتاب الفارسية حيث تعلم مع أبناء المرازبة فنون القول والكتابة، ثم تعلم الرماية ولعب الفرس حتى صار من المبرزين فيها. وقد قربه علمه وعقله من آل لخم ومن الفرس حتى وصل إلى مناصب عالية جعلت لقوله أهمية كبيرة حتى في تثبيت ملك ملوك الحيرة.
وقد أرسله "هرمز بن أنو شروان" في سفارة مهمة إلى القيصر "طيباريوس" فأداها على خير وجه. وعاد فأقام أمدا بالشام، ووقف على ما كان فيها من علم ومعالم. وقد زادت هذه الأسفار بالطبع في سعة أفقه وفي ثقاقته. ثم عاد إلى الحيرة. فوجد والده قد توفي بعد أن صار المهيمن الحقيقي على البلاد. وزار كسرى ليقدم إليه هدايا قيصر. وارتفع نجمه في البلاطين. وتزوج هندا بنت الملك النعمان. غير أن تقدمه هذا أوجد له خصومة شديدة من منافسيه "بني مرينا" وهم نصارى مثله ومن أهل الجاه والحسب، فأغرى خصمه ومنافسه العنيد "عدي بن مرينا" قلب النعمان عليه. وكان عدي بن زيد صاحب الفضل في حصول النعمان على تاج. وظل "ابن مزينا" يعمل في الخفاء للقضاء على عدي،(12/239)
حتى تمكن من ذلك، إذ سجنه النعمان، ثم أمر فاغتيل وهو في السجن1.
وذكر أن "كسرى" جعله كاتبا على ما يجتبى من الغور، وكان هو سبب ملك النعمان بن المنذر2.
والذي يهمنا في هذا الموضع من أمر عدي هو مدى وقوف عدي على النصرانية ومبلغ تسربها في نفسه وفي نفوس أهل الحيرة. أما النواحي الأخرى من حياته، فليس لها محل في هذا المكان. وشعر عدي وأضرابه من العباديين هو سندنا الوحيد الذي نستخرج منه رأينا في النصرانية عند عدي وعند إخوانه العباديين.
والشعر المنسوب إلى عدي أقرب إلى نفوسنا وأسهل علينا فهما من الشعر المنسوب إلى بقية الجاهليين، معانيه وألفاظه حضرية متحررة من الأساليب البدوية التي تميل إلى استعمال الجزل من الكلمات، وهو يخالف مذاهب أولئك الشعراء في كثير من الأمرو. ولهذا "كانت الرواة لا تروي شعر أبي دواد ولا عدي بن زيد لمخالفتهما مذاهب الشعراء"3، و"لأن ألفاظه ليست بنجدية"4. وقد ورد في شعره بعض المعربات مما يدل على أثر الفارسية والإرامية فيه5. وكثير من شعره هو في الزهد، وفي التذمر من هذه الدنيا التي لا تدوم حالها على حال، وفي تذكير الأحياء بنهاية الأموات بالرغم مما أقاموه وشيدوه من أبنية ضخمة وقصور شاهقة. وهذا الشعر يتناسب مع ما يذكره أهل الأخبار عن حياة هذا الشاعر وتألق نجمه وبلوغه أعلى المراتب ثم سقوطه فجأة ودخوله السجن واغتياله فيه. وفي شعره قصائد في القيان وفي الخمر تتحدث عن الحياة التي قضاها قائلها، وهي حياة لذيذة ولكنها لا تدوم بالطبع إلى الأبد، ولا بد لها أن تزول ثم تنتهي بما.
__________
1 المشرق، الجزء الأول، كانون الأول 1944، "ص39 وما بعدها"، شعراء النصرانية "436 وما بعدها"، كارلو كانينو، تاريخ الآداب العربية في الجاهلية حتى عصر بني أمية "ص71"، "القاهرة 1954",
Ency, I, p. 137, Brockelmann, I, S. 29, Rothstein, S. 109, Noldeke, Geschlchte der Perser und Araber zur Zeit der Sassaniden, s. 512, Islamic Culture, IV, p. 31, ff.
2 نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "140".
3 الأغاني "15/ 93", "مطبعة التقدم"، "ذكر أخبار أبي دؤاد الأيادي ونسبه"، نالينو "74".
4 ابن قتيبة، الشعر "115".
5 نالينو "74".(12/240)
يوجب الأسف عليها والألم والتوجع من فنأئها ومن ذهاب تلك الأيام.
أما صميم الديانة والآراء النصرانية الخاصة، وهي ضالتنا في هذا الفصل وهدفنا الذي نقصده، فلا نجد منها في شعره الموثوق بصحته شيئًا كثيرًا. ونحن لا نستطيع بالطبع أن نلوم عديا على ذلك، فعدي كما نعلم رجل شعر وسياسة، وليس برجل دين ولا كهانة فيتعمق في شعره بإيراد تواريخ الأنبياء والأوامر والنواهي الإلهية الواردة في التوراة والإنجيل. ولم يذكر أحد من الإخباريين عنه إنه كان كاهنا أو قسيسا فنأمل منه التطرق في شعره إلى موضوعات اللاهوت والكهنوت. فما نجده في شعره عن النصرانية هو من حاصل المناسبات والظروف، وليس من حاصل بحث متعمد قصد به البحث في الدين من أجل الدين.
ولو كان عدي قد تعرض للنصرانية عنده وبين قومه لأفادنا ولا شك كثيرًا. وما زلنا في الواقع فقراء في ناحية علمنا بمبلغ فهم أهل الحيرة وغير أهل الحيرة من نصارى العرب في الجاهلية لأحكام النصرانية وقواعدها، ومقدار رسوخها في نفوس أولئك النصارى ولا سيما الأعراب منهم. ولكن عذره كما قلت بين واضح، وليس لنا أن نلومه. وما جاء به عن النصرانية في شعره على كل حال مفيد، أفادنا ولا شك. فلنكن قنوعين غير طامعين، مكتفين بما أورده عدي عنها في شعره، ولننظر إلى المستقبل، فهو أملنا الوحيد، فلعله يكشف عن مصادر كتابية مطمورة، يبعثها من قبورها المغمورة بالأتربة المتراكمة، وعندئذ تكون أمام المؤرخ ثروة تغنيه، يستطيع أن يظهرها العشاق للمولعين بمعرفة أحوال الماضين.
وقد ورد في قصيدة قيل إنه نظمها في معاتبة النعمان على حبسه بيت فيه قسم برب مكة والصليب:
سعى الأعداء لا يألون شرا ... عليك ورب مكة والصليب1
وهذا البيت يدعو إلى التأمل والتفكير، فرجل نصراني يؤمن بعيسى وبالصليب، لا يمكن أن يقسم برب مكة. فمكة كما نعلم مجمع الأصنام والأوثان وكعبة الوثنية في الجاهلية، فكيف يقسم بربها رجل نصراني يرى الأوثان والوثنية رجسًا من عمل الشيطان وكفرًا. بل لو فرضنا أنه أقسم بمكة وبرب مكة على سبيل مجاراة
__________
1 شيخو، شعراء النصرانية "451".(12/241)
العرب الوثنيين وتقربا إلى الملك النعمان، فليس لدينا دليل مقنع يفيد أن وثني الحيرة كانوا يؤمنون برب مكة. ولم يذكر أحد من أهل الأخبار أن أصنام أولئك الوثنيين كانت بمكة، وأن أهل الحيرة كانوا يزورون مكة ويحجون إلى "رب البيت" في جملة من كان يحج إليه من العرب. ولم يرد في روايات أهل الأخبار أن الملك "النعمان" كان وثنيا مؤمنا بقدسية مكة وأنه حج إليها حتى نذهب إلى الفرض بأن عديا، إنما أقسم بمكة، مجاراة لهذا الملك، بل الوارد فيها أنه كان على دين النصرانية، وإنه كان مؤمنا بهذا الدين، يزور الأديرة ويحضر الصلوات ورجل على هذا النحو من التدين لا يمكن بالطبع أن يحفل بقسم ببيت من بيوت الأصنام. ثم إن مصطلح "رب مكة"، هو مصطلح إسلامي، أخذ من عقيدة التوحيد في الإسلام، فقيل: "رب البيت" ,"رب هذا البيت"1.
لقد اتخذ الأب "شيخو" هذا البيت دليلا على انتشار النصرانية في مكة وعلى تنصر أحياء منها، وعلى أن النصرانية قديمة فيها، بل يكاد يفهم من قوله أن البيت هو في الأصل كنيسة بنيت بعد المسيح بعهد قليل: بناها النصارى الذين جاءوا إلى هذه المدينة وسكنوها، وأن صور الأنبياء وصورة عيسى وأمه مريم التي ذكر الإخباريون أنها كانت مرسومة على جدار الكعبة والتي أمر الرسول بطمسها ومحو معالمها هي دليل على أثر النصرانية في مكة، ولهذا كان النصارى الجاهليون يحجون إليها ويقدسونها، ولهذا السبب أقسم2 عدي بها، وأقسم الأعشى بها كذلك حيث قال:
حلفت بثوبي راهب الدير والتي ... بناها قصي والمضاض بن جرهم
وذكر أن من شعر "عدي" هذا البيت:
كلا يمينا الودع لو حدثت ... فيكم وقابل قبر الماجد الزارا3
وقد اختلف العلماء في مراده بـ"ذات الودع"، فذهب بعض منهم إلى
__________
1 "فليعبدو رب هذا البيت" سورة قريش، الآية 3.
2 "النصرانية "ص118"، وفي الديوان:
فإني وثوبي راهب اللج والتي ... بناها قصي وحده وابن جرهم
ديوان الأعشى "95".
3 تاج العروس "5/ 534"، "وعد".(12/242)
أن "ذات الودع" الأوثان، أو وثن بعينه، وقيل سفينة نوح، وكان يحلف بها، وكانت العرب تقسم بها، وتقول: بذات الودع. وقيل الكعبة، لأنه كان يعلق الودع في ستورها1.
ولم يرد في شعر عدي شيء ما يتحدث عن عقيدة التثليث، أي الإيمان بالثالوث. وكل ما ورد فيه هو الإشارة إلى عقيدة بوجود رب واحد هو "الله". وهو رب مستجيب مسبح خلاق2. وهذا الرأي إسلامي كما هو معلوم، وقريب من عقيدة الحنفاء.
ووردت في بيت شعر وجهه إلى النعمان كلمة "أبيل"3، وأبيل اسم للمسيح، ويطلق على حبر النصارى أيضًا، ومعناها الناسك والزاهد. وهي من أصل سرياني، من فعل "ابل" بمعنى ناح وبكى على خطاياه، ولذلك قصد بها الناسك والراهب4. وقد دعا الأعشى ضارب الناقوس: الأبيل5.
ونسب لعدي هذا البيت:
وأهبط الله إبليسا وأوعده ... نارًا تلهب بالأسعار والشرر6
__________
1 المصدر نفسه
2
فإني قد وكلت اليوم أمري ... إلى رب قريب مستجيب
أجل أن الله قد فضلكم ... فوق من أحكا صلبا بازار
واذهبي يا أميم إن يشا اللـ ... ـه بنفسي من أزم هذا الخناق
أو تكن وجهه فتلك سبيل النـ ... ـاس لاتمنع الحتوف الرواقي
ليس شيء على المنون بباق ... غير وجه المسيح الخلاق
شعراء النصرانية "452، 454"، النصرانية "194".
4 تاج العروس "7/ 199"، "ابل"، اللسان "13/ 6"، مرمرجي، معجميات عربية سامية "131 وما بعدها".
5 فإني ورب الساجدين عشية
وما صك ناقوس الصلاة أبيلها النصرانية "208".
6 النصرانية "168".(12/243)
ولم ترد كلمة "إبليس" في شعر منسوب لشاعر جاهلي آخر، إنما وردت كلمة "شيطان" في شعر منسوب إلى أمية بن أبي الصلت.
ونسب إلى عدي هذا البيت:
ناشدتنا بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله تقنع1
ويظهر من دراسة الشعر المنسوب لعدي أنه كان على مذهب القائلين بالقضاء والقدر. فكل كائن خاضع لحكم القدر، يفعل به ما يشاء، ليس في إمكانه رد شيء مقدر كائن عليه. وقد رسخت هذه العقيدة في نفس عدي ولا شك بعد أن زج به في السجن، وأصبح وحيدا لا يدري ما الذي سيصنع به. وهي عقيدة يسلم بها أكثر من يقع في مثل هذه الظروف، لأنها تفرج عن النفس، وتخفف بعض التخفيف عما ينتاب المرء وهو في هذه الحالة من هموم وأحزان. والإيمان بالقدر وبأن الإنسان مسير مجبر، عقيدة لها صلة كبيرة بالظروف الاجتماعية وبالأحوال التي تحيط بالإنسان، وهي ليست من الآراء الدينية الخالصة.
ونسبت لعدي أبيات فيها حكايات من العهد العتيق، مثل هذه الأبيات وهي في مبدأ الخلق:
اسمع حديثا لكي يوما تجاوبه ... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا
أن كيف أبدي إله الخلق نعمته ... فينا وعرفنا آياته الأولا
كانت رياحا وماء ذا عراثيه ... وظلمة لم يدع فتقا ولا خللا
فأمر الظلمة السوداء فانكشفت ... وعزل الماء عما كان قد شغلا
وبسط الأرض بسطا ثم قدرها ... تحت السماء سواء مثل ما فعلا
وجعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا
قضى لستة أيام خلائقه ... وكان آخر شيء صور الرجلا2
دعاه آدم صوتا فاستجاب له ... بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا3
__________
1 شعراء النصرانية "472".
2
قضى لستة أيام خليقته ... وكان آخرها أن صور الرجلا
الحيوان "4/ 19"، "عبد السلام محمد هارون".
3 البدء والتأريخ "1/ 150 وما بعدها"، النصرانية "254"، وتجد في النص بعض الاختلاف عن النص الذي تجد في كتاب النصرانية، وفي المراجع الأخرى.(12/244)
وطابع هذا النظم وأسلوبه يفصحان إنه نظم من النوع التعليمي الديني، لا أدري أكان شاعرنا يعترف به وينسب إلى نفسه؟ أما أنا، فلا أرى إنه لشاعر عربي عاش قبل الإسلام.
ونجد في "شعر "عدي" نزعة من نزعات التصوف والتأمل، جاءت إليه من الأوضاع التي أحاطت به، من وشايات، ومن غضب الملك عليه ومن سجن، بعد أن كان السيد المهيمن. حتى صار الدهر عنده حالا بعد حال. لا يدوم صفاؤه لأحد، فلا يركن أحد إليه، ولا يغتر إن وجد نفسه في أعلى عليين، فقد يسقط غدا إلى أسفل سافلين1.
وهناك شاعر آخر اسمه "الملمس بن عبد المسيح" يدل اسم أبيه على أنه كان نصرانيا، غير أن هناك رواية أخرى تذكر أن اسم والده "عبد العزى"2. وعبد العزى من أسماء الوثنيين كما هو معروف. ثم إننا لا نجد في شعره ما يشير إلى آراء وعقائد نصرانية يمكن أن يستنبط منها أن كان نصرانيا. ورجل يحلف في شعره باللات والأنصاب لا يعقل أن يكون نصرانيا3.
أما الأعشى، فهو شاعر عاش في الجاهلية، وأدرك أيام الرسول. ومدحه بقصيدة جميلة مشهورة، جعلت أبا سفيان يحرض قومه على إرضائه خوفًا من أن يسلم ومن أن ينظم شعرا آخر في مدح الرسول وفي ذم قريش، فجعل له مائة من الإبل جمعها من قومه على أن يرجع ويؤجل أمر إسلامه عاما. فرجع إلى بلدته "منفوحة" باليمامة. وكان قد ولد بها، فمات بها بعد حين وعرف قبره بين الناس أمدا.
وكان الأعشى كما يروي أهل الأخبار جوابا في الآفاق، عرف الحيرة ونادم ملوكها، وزار النجاشي في أرضه، وتجول في أرض النبيط وأرض العجم. وتنقل في أرجاء اليمن وفي حضرموت وعمان وبلاد العراق وبلاد الشام ومتع نظره
__________
1 العمدة "1/ 223".
2 VoIIers, Die Gedichte des MutaIammis, Leibzig, 1903, S. 149.
3
أطردتني حذر الهجاء ولا ... واللات والأنصاب لا تثل
ديوان المتلمس "171" "طبعة "فولرس"، النصرانية "404"(12/245)
بالآثار القديمة واتخذها عبرة للمعتبرين1. وقد وسعت هذه الأسفار آفاق نظره وعرفته على شعوب متعددة وعلى آراء ومعتقدات متنوعة. ومنها هذه النصرانية التي نبحث فيها.
وقد حمله اختلاطه بالنصارى العرب على الإشارة إلى بعض طقوسهم وأحوال عباداتهم في شعره. وإلى أن يشير إلى قصص معروف بين أهل الكتاب، وارد بينهم، فذكره في شعره. فتراه يتحدث عن حمامة نوح وعن أخبار سليمان وعن جن سليمان وعن المباني القديمة العادية المنسوبة إليه، كما تراه يشير إلى عادة النصارى في الطواف حول الصليب أو تمثال المسيح2. ثم تراه يشير إلى الصليب نصبه الراهب في الهيكل بعد أن زينه بالصور3.
وفي الشعر المنسوب إليه إقرار بإله واحد كريم4، ونهي عن عبادة الأوثان ومن التقرب منها5، وفيه أن الرب يكفي الإنسان ويرعاه ويساعده في حله وفي ترحاله6،
__________
1
وقد طفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأوري شلم
أتيت النجاشي في أرضه ... وأرض النبيط وأرض العجم
فنجران فالسرو من حمير ... فأي مرام له لم أرم
ومن بعد ذاك إلى حضرموت ... فأوفيت همي وحينا أهم
ألم ترى الحضر إلا أهله ... بنعمي، وهل خالد من نعم
أقام به سابور الجنود ... حولين يضرب فيه القدم
فما زاده ربه قوة ... ومثل مجاورة لم يقم
ديوان الأعشى "طبعة رودولف كاير"، "ص33 وما بعدها".
قد طفت ما بين بانقيا إلى عدن ... وطال في العجم ترحالي وتسياري
ديوان الأعشى "126".
2 قال في مدحه "قيس بن معديكرب الكندي":
تطوف العفاة بأبوابه ... كطوف النصارى ببيت الوثن
ديوان الأعشى "19"، اللسان "17/ 334"، "وثن".
3
وما أيبلى على هيكل ... بناه وصلب فيه وصارا
ديوان الأعشى "40"، النصرانية "204"، بروكلمان، تاريخ الأدب العربي "1/ 147 وما بعدها".
4
ربي كريم لا يكدر نعمة ... فإذا تنوشد في المهارق أنشدا
النصرانية "162".
5
وذا النصب المنصوب لا تسكنه ... ولا تعبد الأوثان، والله فاعبدا
النصرانية "159".
6
ولكن ربي كفى غربتي ... بحمد الآله فقد بلغن
ديوان الأعشى "17".(12/246)
وأن الإنسان عبده1. وأن الفناء واقع على كل امرئ، وليس أحد في هذه الدنيا بخالد، ولو كان الخلود لأحد لكان لسليمان2. وفيه حديث عن البعث والحساب يوم الدين.
ونجد في شعره معرفة بنوح وبسفينته، أشار إلى نوح في مدحه إياسا حيث خاطبه بقوله:
جزى الإله إياسا خير نعمته ... كما جزى المرى نوحا بعدما شابا
في فلكه إذ تبداها ليصنعها ... وظل يجمع ألواحا وأبوابا3
فهل أخذ الأعشى رأيه هذا عن نوح من أهل الجيرة؟ وهل كان في ذلك قاصدا متحدثا مخاطبا رجلا نصرانيا يعرف الحكاية والموضوع؟ أو كان متحدثا عن نوح حديث من يدين به ويعتقد، فهو رأيه ودينه. الواقع أن البت في ذكل أمر لا أراه ممكنا ما لم تتجمع لنا موارد تأريخية كثيرة، ليتمكن المرء من استنتاج رأي واضح في أمثال هذه الموضوعات المعقدة، التي لم تدرس مظانها المدونة، ولم تنتقد حتى الآن.
وقد ذهب "كاسكل" "CaskeI" إلى أن "الأعشى" كان نصرانيا. وذهب الأب "شيخو" هذا المذهب أيضًا، وجوز "بروكلمن" تنصره، لكنه ذهب إلى إنه لم يكن متعمقا في النصرانية4. وقد استدل "كاسكل" على نصرانيته من بيتين في ديوانه، ومن بيت آخر ورد في قصيدة أخرى، لا يمكن في الواقع أن يكون دليلا على نصرانية قائلة5.
وذكر إنه كان قدريا، روى روايته "يحيى بن متى" وهو من عباد الحيرة،
__________
1
فأقسم بالذي أنا أعبده ... لتصطفقن يوما عليك المآتم
ديوان الأعشى "58".
2
ولو كان شيء خالدا ومعمرا ... لكان سليمان البرئ من الدهر
رآه الهي فاصطفاه عبادة ... وملكه ما بين ثريا إلى مصر
وسخر من جن الملائكة تسعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر
ديوان الأعشى "243".
3 شعراء النصرانية "389"، النصرانية "261".
4 تأريخ الأدب العربي لبروكلمن "1/ 147 وما بعدها".
5 انظر البيتين 12-13 من القصيدة رقم 43 بديوانه، والبيت 9 من القصيدة 13 بالديوان، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 147"، "الترجمة العربية".(12/247)
أنه أخذ مذهبه هذا في القدر من العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك. وقد استشهدوا على قوله هذا في القدر بهذا البيت:
استأثر الله بالوفاء وبالعد ... ل وولى الملامة الرجلا1
وقد راجعت شعر "الأعشى"، فلم أتمكن من استنباط شيء منه يدلني على مقدار علمه بالنصرانية وعلى مدى تعمقه أو تعمق غيره من النصارى بدينهم. فما ذكره مما له علاقة بالنصرانية، هو شيء عام، يأتي بخاطر كل شاعر ذكي جواب في الآفاق، له احتكاك واتصال بالنصارى أو بغيرهم، وهو لا يصلح أن يكون دليلا على عقيدة ودين وفهم لذلك الدين.
وفي شعر "الجعدي" كلام عن سفينة نوح، ذكر أنه قال:
يرفع، بالقار والحديد من الـ ... ـيجوز، طوالا جذوعها، عما2
والنابغة الجعدي، مخضرم، يقال إنه كان مثل الحنفاء، أنكر الخمر والميسر، وهجر الأزالام والأوثان، وكان ممن فكر في الجاهلية، وأنكر الجمر والسكر، وهجر الأزلام واجتنب الأوثان، وذكر إبراهيم. وقد لقي الرسول، وأسلم وأنشده من شعره. وذكر أنه هو القائل القصيدة التي فيها:
الحمد لله ربي لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما
على نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وقد قيل إنها لأمية، لكن صححها حماد الراوية3.
ونجد في شعر آخرين من غير من ذكرت ألفاظا وكلمات كانت معروفة عند النصارى وإشارا إلى عباداتهم وعاداتهم، وردت في شعر "النابغة الذبياني" ولبيد، وامرئ القيس، وأوس بن حجر وآخرين غيرهم ممن طافوا في الأرضين وارتحلوا فوقفوا على بعض أحوال النصارى فأشاروا إليها في شعرهم.
__________
1 الأغاني "8/ 79"، نالينو "17".
2 اللسان "12/ 425"، "عمم".
3 الإصابة "3/ 508" "رقم 8641"، أمالي المرتضي "1/ 263 وما بعدها"، المرزباني "321".(12/248)
ونجد في شعر "الأفوه الأودي"، وهو صلاءة بن عمرو، تسجيلا لأبناء نوح. سجلهم مع سجل أسماءهم من ملوك التابعة ممن دانت لهم الأنام، فنجده يقول:
ولما يعصها سام وحام ... ويافث حيثما حلت ولام1
ولا أدري إذا كان هذا البيت من نظم شاعر جاهلي، وهو الأودي، أو من نظم شخص آخر نظمه على لسانه في الإسلام. ولكني لا أستبعد بالطبع أن يكون خبر أولاد نوح الثلاثة. وهم: سام ويافث وحام، قد عرف عند العرب النصارى وعند من كان على احتكاك واتصال بهم.
ونجد في بيت شعر ينسب لأفنون التغلبي ذكرا لولد آدم2. وورود آدم في هذا البيت، إن صح إنه من شعر ذلك الشاعر الجاهلي، دليل على وقوف هذا الشاعر على قصة آدم وانحدار البشر من نسله. ولا يستبعد أن يكون أذن قد وقف عليها باختلاطه ببني قومه تغلب، وقد كان قسم كبير منهم قد دخلوا في النصرانية. ولا يستبعد أيضًا أن يكون بعض الوثنيين قد وقفوا أيضًا على قصة الخلق كما وردت في الديانتين من اختلاطهم بأهل الكتاب واتصال بهم.
وقد وردت، في بيت آخر من قصيدة يقال إنه قالها في رثاء نفسه، لفظة "الله" في شكل يفهم منه إنه كان يدين بالتوحيد، وأن الآجال كلها بيد الله3، وأشار في بيت آخر إلى عاد وإرم ولقمان وجدن4.
وأشير في أشعار بعض الجاهليين إلى تعبد النصارى وصلواتهم سجدا وقياما، وهؤلاء الذين أشير إليهم من الرهبان والناسكين الذين كانوا قد اعتكفوا في الصوامع وفي
__________
1 النصرانية "266"، عن الأفوه الأودي راجع الأغاني "11/ 41 وما بعدها"، ابن قتيبة، الشعر "10"، ديوان الأفوه، "القاهرة 1937"، "تحقيق عبد العزيز الميمني".
2
قد كنت أسبق من جاروا على مهل ... من ولد آدم ما لم يخلعوا رسني
المفضليات "524"، النصرانية "261"، شعراء النصرانية "193".
3
لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
شعراء النصرانية "193".
4
لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... ربيت فيهم ومن لقمان أو جدن
شعراء النصرانية "193".(12/249)
البيع والأديرة النائية يعبدون الله، ويدعون إلى الرب تقربا وخشية1، ومنهم من ترك السجود أثرًا في جباهم. وقد أطلقوا على صلواتهم هذه اسم "الصلاة". وهي من الألفاظ التي أخذها أولئك النصارى من "بني إرم". وعرفت المواضع التي كانوا يسجدون فيها بالمساجد، والمسجد هو الموضع الذي يتعبد فيه2.
وقد كان الركوع من العادات المعروفة عند الأحناف والنصارى3، و"كانت العرب في الجاهلية تسمى الحنيف راكعا إذا لم يعبد الأوثان، ويقولون: ركع إلى الله"4. وأما إحناء الرءوس، فكان للتعظيم، ولذلك حنوا رءوسهم في الكنائس ولرؤسائهم على سبيل الاحترام والتعظيم5. وقد كانوا يبجلون رءوسهم وسادتهم كثيرًا، ولذلك نزل الوحي بتأنيبهم وتقريعهم، إذ جعلهم هذا الاحترام في مصاف الآلهة والأرباب.
وتلحق بالصلاة التسابيح، أي ذكر الله وتقديس اسمه، وقد كان من عادة الرهبان التسبيح بعد الصلاة، ولا سيما في الضحى والعشي6.
__________
1 قال منظور الأسدي:
كأن مهواه على الكلكل ... موقع كفي راحب يصلي
في غبش الصبح أو التتلي
الألفاظ، لابن السكيت "412"، النصرانية "177".
وقال البعيث:
على ظهر عادي كأن أرومه ... رجال يتلون الصلاة قيام
تاج العروس "10/ 53"، اللسان "18/ 111"، وقال الأعشى:
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها ... وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
ببابل لم تعصر فسالت سلافة ... تخالط قنديدا ومسكان مختما
وقال المضرس الأسدي:
وسخال ساجية العيون خواذل ... بجماد لينة كالنصارى السجد
النصرانية "177".
2 اللسان "5/ 187"، "سجد".
3 النصرانية "178".
4 "5/ 363":
5 قال النابغي الذبياني:
سيبلغ عذرا أو نجاحا من امرئ ... إلى ربه رب البرية راكع
النصرانية "178".
6 قال أمية بن أبي الصلت:
سبحانه ثم سبحانا يعود له ... وقبلنا سبح الجودي والجسد
وقال الأعشى:
وسبح على حين العشيات والضحى ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
"2/ 157"، "سبح"، اللسان "3/ 210"، النصرانية "178".(12/250)
وقد كان رجال الدين، ولا سيما الرهبان منهم، يقومون بالفروض الدينية فرادى وجماعةن فيرتلون المزامير والأدعية بنغمات وألحان شجية. وقد عرف ترتيل القسيسي "الهينم"، وذلك في حالة النغم بخفوت الصوت1. وإذا طرب القس في صوته خفيا قيل لذلك "الزمزمة"2. أما إذا تغنى، فيقال لذلك الشمعلة. وقد قيل للمتغنين في تلادة الزبور "المتشمعل". وورد: "شمعلة اليهود: قراءتهم، إذا اجتمعوا في فهرهم"3. وأما إذا أطلق صوته بالدعاء فيقال لذلك الجأر4. واللحون من الكلمات التي أطلقت على ترتيل أهل الكتاب لكتبهم المقدسة. فقد كانوا يقرؤون التوراة والإنجيل في المحافل باللحن. وقد أشير إلى ذلك في بعض الأحاديث5. أما إذا ردد الشخص نغمات الإنجيل في حلقه، فكانوا يقولون له الترجيع، ومنه قولهم: رجع الإنجيل6.
و"التصبيغ" من الألفاظ التي كانت تدل على معنى خاص عند النصارى، هو التعميد. وقد عرفه الجاهليون. وذكر علماء اللغة أن الصبغة الدين والملة والشريعة والفطرة والختانة. "اختتن إبراهيم، صلوات الله عليه، فهي الصبغة.
__________
1 "الهيمنة: الصوت. وهو شبه قراءة غير بينة". وأنشد لرؤبة:
لم يسمع الركب بها رجع الكلم ... إلا وساويس هيانيهم الهنم
وفي حديث إسلام عمر، رضي الله عنه. قال: ما هذه الهينمة؟ قال أبو عبيدة: الهينمة: الكلام الخفي لا يفهم ... وفي حديث الطفيل بن عمرو: هينم في المقام. أي قرأ فيه قراءة خفية. وقال الليث:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
أي فادع الله"، اللسان "16/ 108"، تاج العروس "9/ 111".
2 "قال الجوهري: الزمزمة كلام المجوس عند أكلهم. وفي حديث عمر، رضي الله عنه، كتب إلى أحد عمال في أمر المجوس: وإنههم عن الزمزمة. قال: هو كلام يقولونه عند أكلهم بصوت خفي. وفي حديث قباث بن أشيم: والذي بعثك بالحق ما تحرك به لساني ولا تزمزمت به شفتاي. الزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم"، اللسان "15/ 165".
3 تاج العروس "7/ 399"، "اشمعل".
4 "جأر يجأر جأرا وجؤرا: رفع صوته مع تضرع واسغاثة ... وقال ثعلب: هو رفع الصوت إليه بالدعاء. وجأر الرجل إلى الله عز وجل إذا تضرع بالدعاء. وفي الحديث: كأني أنظر إلى موسى له جؤار إلى ربه بالتلبية. ومنه الحديث الآخر: لخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله"، اللسان "5/ 181".
5 النهاية في غريب الحديث "4/ 57"، معجميات "42 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 330"، اللسان "17/ 263".
6 اللسان "9/ 172"، النصرانية "356".(12/251)
فجرت الصبغة على الختانة. وصبغ الذمي ولده في اليهودية أو النصرانية صبغة قبيح، أدخله فيها"1. و"كانت النصارى تغمس أبناءها في ماء المعمودية ينصرونهم"2. وقد صالح عمر بني تغلب بعدما قطعوا الفرات قاصدين اللحاق بأرض الروم، على ألا يصبغوا صبيا ولا يكرهوه على دينهم، وعلى أن عليهم الصدقة مضعفة3. وعرفوا "المعمودية" بقولهم: "لفظ معمودية معرب معموذيت بالذال المعجمة، ومعناها الطهارة. وهو ماء أصفر للنصارى يقدس بما يتلى عليه من الإنجيل، يغسمون فيه ولهم معتقدين إنه تطير له كالختان لغيرهم"4.
وقد كان نصارى الجاهلية يعمدون أولادهم، يأخذونهم أطفالا إلى الكنائس لتعميدهم على نحو ما يفعل سائر النصارى. وقد قيل له: التغميس والتصبيغ5.
والصوم من الأحكام الدينية المعروفة عند اليهود والنصارى، وقد أشير إليه في شعر لأمية بن أبي الصلت وفي بيت ينسب إلى النمر بن تولب6. وقد عرف أهل الجاهلية أن اليهود كانوا يصومون، وقد أشير إلى صومهم في عاشورا في أثناء الكلام على فرض الصوم على المسلمين بصيامهم شهر رمضان. ولا بد أن يكون للجاهليين علم بصوم النصارى كذلك، وذلك نتيجة لاتصالهم بهم واختلاطهم معهم.
ومن المصطلحات النصرانية "الحواريون"، وقصد بها رسل المسيح. وقد وردت اللفظة في مواضع من القرآن الكريم7. ووردت لفظة "الحواري" في بيت ينسب إلى "ضابئ بن الحارث بن أرطاة البرجمي"8. وقد رجع بعض الباحثين
__________
1 تاج العروس "6/ 19"، "صبغ".
2 المصدر المذكور.
3 "قال الأزهري: وسمعت النصارى غمسهم أولادهم في الماء صبغا، لغمسهم إياهم فيه"، اللسان "10/ 319"، فتوح البلدان "190".
4 تاج العروس "2/ 432"، "عمد".
5 السنن الكبرى "9/ 216"، "ومنه صبغ النصارى أولادهم في ماء لهم. قال الفراء: إنما قيل صبغة لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد المولود جعلوه في ماء لهم كالتطهير. فيقولون هذا تطهير له كالختانة"، اللسان "10/ 320".
6
صدت كما صد عما لا يحل له ... ساقي نصارى قبيل الصبح صوام
النصرانية "179".
7 آل عمران، الآية 52، المائدة الآية 114 وما بعدها، الصف، الآية 14.
8
وكر كما كر الحواري يبتغي ... إلى الله زلفى أن يكر فيقتلا
المشرق، المجلد 1929 "ص575 وما بعدها"، النصرانية "189".(12/252)
أصل هذه اللفظة إلى لغة بني إرم ورجعها اللغويون إلى أصل عربي هو "حور"، وذهب آخرون إلى أنها من أصل حبشي1.
والصليب، من أهم المصطلحات المعروفة عند النصارى، لاعتقادهم بصلب المسيح عليه، حتى صار رمزا للنصرانية. وصاروا يعلقونه على أعناقهم تبركا وتيمنا به، وينصبونه فوق منائر كنائسهم وقبابها، ليكون علامة على متعبد النصارى. وقد أقسموا به. وقد عرف المسلمون تمسك النصارى به، واتخاذهم له شعارا، حتى كان بعضهم يرسمه على جبهته، وكانوا يلثمونه ويتمسحوون به تبركا، ويزينون صدورهم به2.
وذكر علماء اللغة "الشبر" على أنه من المصطلحات الشائعة بين النصارى. وهو على حد تعريفهم له: "شيء يتعاطاه النصارى بعضهم لبعض كالقربان، يتقربون به، أو القربان بعينه". وذكروا أيضًا أن "الشبر" الإنجيل والعطية والخير.
ومن ذلك قول عدي:
لم أخنه والذي أعطى الشبر3
ويظهر من كتب الحديث أن أهل الكتاب كانوا يخالفون المشركين في بعض عاداتهم، كالذي ورد عن عبد الله بن عباس من "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يحب موافقة أهل الكتاب
__________
1 المشرق، السنة السابعة "1904 "620"، النصرانية "189"، معجميات "139".
2 قال الأخطل:
لما رأونا والصليب طالعا ... خلوا لنا راذان والمزارعا
ديوان الأخطل "309". وقال حجار بن أبجر:
هددني عجل وما خلت إنني ... خلاة لعجل والصليب لها بعل
الأغاني "13/ 47". وقال الأقيشر:
في قتية جعلوا الصليب الههم ... حاشاي أني مسلم معذور
النصرانية "204".
ونسم إلى عبد المطلب بن هاشم قوله:
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم، عدوا، محالك
اللسان "11/ 619"، "محل".
3 تاج العروس "3/ 289"، "شبر".(12/253)
فيما لم يؤمر فيه بشيء. ثم فرق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه"1. وكالذي ورد من أن أهل الكتاب كانوا يخالفون الجاهليين في كيفية التحية عند ملاقاة أحدهم الآخر، وأن الرسول أقر المصافحة.
وقد أطلقت لفظة "المصاحف" في شعر ينسب إلى امرئ القيس على أسفار النصارى، وهو قوله: "كخط زبرو في مصاحف رهبان"2. والكلمة على رأي بعض علماء الساميات والنصرانيات من أصل حبشي، ومفردها "مصحف"3. وصحف بمعنى كتب. وقد وردت لفظة "صحيفة" في بيت ينسب إلى "لقيط الإيادي"4.
والمجلة من الألفاظ المعروفة بين الجاهليين. وقد اشتهرت في العربية باقترانها باسم "لقمان"، فقيل: "مجلة لقمان"5. وأطلقت عند العبرانيين على أسفار الكتاب المقدس على سبيل التخصيص أحيانًا وعلى باب التعميم في بعض الأحيان6.وقد وردت في شعر للنابغة، هو:
مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب7
وقصد بها كتاب النصارى، فقد مدح به الغساسنة، وهم على دين المسيح.
وقصد بالسفر وبالأسفار الكتاب والكتب من التوراة والإنجيل، وكلمة "سفر" بمعنى كتاب8. وكانت النصارى تقرأ كتبها من المصحف9، وتفسر للمستمعين ما جاء من مشكل.
ولفظة "جهنم" من الألفاظ المعروفة عند اليهود والنصارى. وهي تعني
__________
1 عمدة القاري "17/ 71".
2
أتت حجج بعدي عليه فأصبحت ... كخط زبور في مصاحف رهبان
العقد الثمين "161".
3 النصرانية "181".
4
كتاب في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد
الأغاني "20/ 34"، النصرانية "181".
5 النصرانية "181".
6 معجميات "167 وما بعدها".
7 "محلتهم" في بعض الروايات، ديوان النابغة "8".
8 اللسان "6/ 35"، الاشتقاق "103"، النصرانية "18".
9 النهاية "4/ 136".(12/254)
الموضع الذي يكون فيه العذاب بعد الحشر، فيخلد فيه أصحاب الآثام والمعصية. واللفظة من أصل عبراني على رأي المستشرقين وعلماء الساميات هو "جحينوم" "جهينوم" "Gehinnom"، أي "وادي حينوم1" "Hinnom". وهو واد يدور حول القدس نحو أربعة كيلو مترات، ويعرف اليوم باسم "وادي الربابي"، وقد كان اليهود الوثنيون يقربون في موضع منه يسمى "توفيث" "Topheth"، الصبيان قرابين للإله "ملوخ" MoIech=MoIoch" يقدمونها ذبائح محروقة إكراما له، ثم صار هذا الموضع محلا ترمى فيه أقذار المدينة وجثث الحيوانات، وتحرق هناك لئلا تنتشر منها الأوبئة، وصار الموضع رمزا للجحيم، ومنه أخذت لفظة "جهنه" "Gehenna" التي هي جهنم2، الموضع الذي يعاقب فيه المجرمون بعد الموت. وهو موضع يقع تحت الأرض، واسع جدا، وأكبر حجما من الأرض. يلقى فيه الآثمون جزاء إثمهم في الدنيا ومخالفتهم شريعة الرب فيبقون فيه فيعذبون. وقد اختلف في موضوع أبدية التعذيب وبقاء وجهنم، فمنهم من رأى جهنم خالدة، وأن العذاب أبدي، ومنهم من ذهب إلى أنها ترفع بعد انتهاء التعذيب3.
وقد وردت لفظة جهنم في مواضع متعددة، من شعر أمية بن أبي الصلت، كما ورد فيه وصفها وكيفية التعذيب فيها4. ولمعرفة أصل هذا الشعر: هل هو
__________
1 Ency I P 998 Shorter Ency p 81
2 Hastings p 285
3 متى، الاصحاح الخامس، الآية 29، الاصحاح العاشر، الآية 28،
Hastings p 285
4 "ورد في تأريخ دمشق لابن عساكر "3/ 124": قال عبد الله بن مسلم الدينوري: سئلت هل وجدتم لجهنم ذكرا في الشعر القديم، فقلت: هذا يحتاج إلى تتبع وطلب. وقد أتذكر فلم أذكر إلا شيئًا وجدته في شعر أمية بن أبي الصلت، فإنه قال:
فلا تدنو جهنم من برئ ... ولا عدن يطالعها أثيم
إذا شبت ثم وارت ... وأعرض عن قوانسها الجحيم
وروي البيت في المخصص "9/ 6":
جهنم لا تبقى بغيا ... وعدن لا يطالعها رجيم
وذكر للعديل بن الفرخ "ياقوت "4/ 117" قوله في نار جهنم وجنة الخلد:
أما ترهبان الدار في ابني أبيكما ... ولا ترجون الله في جنة الخلد
وقد ورد اسم جهنام في شعر الأعشى. قال "التاج 7/ 372":
دعوت خليلي مسحلا ودعوا له ... جهنام جدعا للهجين المذمم
النصرانية "462 وما بعدها".(12/255)
من شعر أمية حقًّا، أو من شعر آخرين وضعوه على لسانه، لا بد من دراسته ومقارنته بما جاء في الإسلام عن وصف جهنم وكيفية التعذيب فيها. وهناك رواية تنفي ورود لفظة جهنم في أي شعر جاهلي خلا هذا الشعر المنسوب إلى أمية بن أبي الصلت، ويلاحظ أنه ذكر "عدن" مع جهنم.
ولم أجد في أشعار الجاهليين ذكرا للإنجيل، إلا في الشعر المنسوب إلى "عدي بن زيد العبادي"1. وربما في شعر عدد قليل آخر من الجاهليين، لم أقف عليه. غير أن عدم ورود اللفظة كثيرًا في هذا الشعر، لا يدل على عدم معرفة الجاهليين لها، ودليلنا على ذلك ورودها ف مواضع من القرآن الكريم. وورودها فيه دليل على وقوف الجاهليين عليها واستعمالهم إياها، وأصلها من اليونانية، وقد وقف العرب عليها من السريانية أو من الحبشية2. وقد ذكرت فيما سبق أن نفرا من أهل الكتاب كانوا قد أقاموا بمكة وكانوا يقرأون التوراة والإنجيل بألسنتهم، فلا يستبعد إذن وقوف بعض الجاهليين، ولا سيما المثقفين منهم وأصحاب التجارات الذين كانوا يقصدون الحيرة وبلاد الشام ونجران للتجارة وكان لهم اتصال وثيق بنصارى هذه الأرضين على الإنجيل وعلى الكتب الأخرى التي كان يستعملها رجال الكنيسة لإفهام الناس أمورالدين.
ويظهر من بعض روايات الإخباريين أن بعض أهل الجاهلية كانوا قد اطلعوا على التوراة والإنجيل، وأنهم وقفوا على ترجمات عربية للكتابين. أو أن هذا الفريق كان قد عرب بنفسه الكتابين كلا أو بعضًا، ووقف على ما كان عند أهل الكتاب من كتب في الدين. فذكروا مثلا أن "ورقة بن نوفل" "كان يكتب الكتاب العبراني، ويكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب": وقالوا: "وكان امرؤ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب"3. وذكروا مثل ذلك عن "أمية بن أبي الصلت"، فقالوا إنه كان قد قرأ الكتب المقدسة4، وقالوا مثل ذلك عن عدد من الأحناف.
__________
1
وأوتينا الملك والإنجيل نقرؤه ... نشفي بحكمته أحلامنا عللا
الحيوان "4/ 64"، النصرانية "185".
2 اللسان "13/ 171"،النصرانية "185" Shorter Ency p 168
3 راجع ما كتبته عنه في فصل الأحناف Spenger Leben I S128
4 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "176".(12/256)
وإذا كانت هذه الروايات صحيحة، فإنها تدل على أن الجاهليين كانوا قد وقفوا على ترجمة العهدين. ويرى بعض المستشرقين احتمال ترجمة العرب للكتاب المقدس قبل الإسلام وعند ظهوره، ترجمة من اليونانية على الأرجح. وقد استندوا في ذلك إلى خبر ذكره "ابن العبري" "Barkebraeus" يفيد أن البطريق "المنوفيزيتي" المدعو "يوحنا" "Monophysite Patriarch Johannes" كان قد ترجم الكتاب المقدس إلى أمير عربي اسمه "عمرو بن سعد"، وذلك بين سنتي "631","640" للميلاد، وإلى أخبار تفيد أن بعض رجال الدين في العراق كانوا قد ترجموه إلى العربية وذلك قبيل الإسلام وعند ظهوره1.
ولا يستبعد وجود ترجمات للكتاب المقدس في الحيرة، لما عرف عنها من تقدم في الثقافة وفي التعليم، ولوجود النصارى المتعلمين فيها بكثرة. وقد وجد المسلمون فيها حينما دخلوها عددا من الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة وتدوين الأناجيل، وقد برز نفر منهم، وظهروا في علوم اللاهوت، وتولوا مناصب عالية في سلك الكهنوت في مواضع أخرى من العراق، فلا غرابة إذا ما قام هؤلاء بتفسير الأناجيل وشرحها للناس للوقوف عليها. وقد لا يستبعد تدوينهم لتفاسيرها أو لترجمتها، لتكون في متناول الأيدي، ولا سيما بالنسبة إلى طلاب العلم المبتدئين. وقد لا يستبعد أيضًا توزيع بعض هذه الترجمات والتفاسير إلى مواضع أخرى لقراءتها على الوثنيين وعلى النصارى للتبشير2.
ونجد في كتب الإخباريين وفي كتب قصص الأنبياء وفي الفصول المدونة عن الماضين قصصًا وأمثلة وكلاما يرجع أصله إلى بعض أسفاره التوراة أو إلى الأناجيل، غير أننا لا نستطيع أن نؤكد أن هذا المدون قد نقل عن الجاهليين، وأن أهل الجاهلية كانوا يعرفونه، وإنه ليس مما قصه أهل الكتاب أو مسلمة أهل الكتاب مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه على المسلمين، فدخل بينهم. ثم إن القصص أكثره من "التلمود"، "المشنا" والكتب غير القانونية، روي بشكل فيه بعد في بعض الأحيان عن هذا المدون المعروف، وهو يفيدنا من هذه الناحية كثيرًا في الحكم على مدى معرفة العرب بعلم أهل الكتاب.
__________
1 Sprenger I S 131
2 Ency II p 504(12/257)
وللأسماء أهمية كبيرة في تعيين مبلغ أثر اليهودية والنصرانية في الجاهليين. وإذا كانت أسماء الوثنيين قد ساعدت "ولهوزن" في الكشف عن أسماء أصنام وأوثان لم ترد في كتاب الأصنام لابن الكلبي ولا في كتب الإخباريين الأخرى، وساعدت في الكشف عن مدى تغلغل الوثنية في نفوس أهل الجاهلية، فإن للأسماء اليهودية أو الأسماء النصرانية التي تسمى بها أهل الجاهلية والتي وصل خبرها إلينا أهمية كبيرة في الافصاح عن مدى تأثر الجاهليين بالديانتين. وليس من اللازم أن تكون هذه الأسماء أسماء أناس كانوا على دين يهود، أو على دين النصرانية، فالأسماء وإن كان لها ارتباط في الغالب بأديان حامليها غير أنها لا تكون دائمًا دليلا على دين أصحابها، فللبيئة ولبعض العادات والاعتقادات دخل في اختيار الأسماء. وعلى ذلك فإن ما سنذكره من أسماء لا نذكرها على أن أصحابها كانوا يهودا أو نصارى حتما، وإنما نذكرها على سبيل الإشارة إلى أن بعض الجاهليين كانوا يحملون أسماء هي في الغالب من أسماء اليهود والنصارى.
وفي طليعة هذه الأسماء التي يجب أن نذكرها، الأسماء الواردة في التوراة والإنجيل، فهي أسماء عبرانية ونصرانية معروفة، وبها تسمى. كثير من اليهود والنصارى. ودخولها بين الجاهليين العرب دليل على وجود بعض تلك المسميات بينهم، وتسمى أهل الجاهلية بتلك الأسماء.
ومن جملة تلك الأسماء: آدم وقد دعي به آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. قتل في الجاهلية، وهو الذي وضع النبي دمه يوم فتح مكة. وقد جاء "ابن دريد" بتفسير لهذه التسمية فذكر أنها من الأدمة أو بمعنى الطويل القامة ذي العنق الناصع، ولم يشر إلى وجود علاقة لها باسم آدم أبي البشر1. غير أني لا أستبعد احتمال أخذها من التسميات التي كانت بين اليهود أو النصارى عند الجاهليين. غير أننا لا نعرف من أمثال هذه التسميات غير عدد قليل محدود بحيث لا يمكن أن نتخذها قاعدة لبناء حكم عليها في ورود هذه التسمية عند الجاهليين.
وأكثر من هذه التسمية شيوعا اسم "إبراهيم"، ومن جملة من تسمى بها: إبراهيم جد عدي بن زيد بن حمان بن زيد بن أيوب من بني امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم. فولد أيوب إبراهيم وسلم وثعلبة وزيد. منهم عدي بن زيد
__________
1 الاشتقاق "44"،النصرانية "228".(12/258)
ابن حمان بن زيد بن أيوب بن مجروف الشاعر. ومنهم مقاتل بن حسان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم بن أيوب، الذي نسب إليه قصر مقاتل. وقال ابن الكلبي: لا أعرف في الجاهلية من العرب أيوب وإبراهيم غير هذين، وإنما سميا بهذين الإسمين للنصرانية1.
وممن سمي بإبراهيم: الحارث بن كتيف النبهاني، وهو شاعر قديمن وإبراهيم الأشهلي، وإبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي القرشي، وابو رافع إبراهيم القبطي، وهو من موالي الرسول، وإبراهيم بن عباد الأوسي، وإبراهيم بن قيس بن حجر بن معديكرب الكندي، وإبراهيم النجار وهو الذي صنع المنبر لرسول الله. وأكثر هؤلاء هم من الذين عاصروا الرسول وكانوا من صحابته2. ويجب ألا ننسى أن الرسول سمى ابنه توفي صغيرا في حياته إبراهيم3.
وعرف من الصحابة رجل اسمه "إسحاق الغنوي"4، وعرف ثلاثة صحابيين باسم "إسماعيل"5. وأما "أيوب"، فقد عرف به "أيوب بن مجروف" جد عدي بن زيد العبادي، وأيوب بن مكرز، كما تكنى به أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري من الصحابة، وهو الذي نزل عليه الرسول يوم مقدمه إلى يثرب مهاجرا من مكة6.
واسم "داود" من الأسماء التي وردت في جملة أسماء ملوك بني سليح، فذكر منهم "داود اللثق"7. وأظن أن لفظة "دؤاد" التي كني بها الشاعر الجاهلي أبو دؤاد الإيادي هي من داود8، وإن ذهب المفسرون فيها مذهبا آخر فقالوا أنها من الدود والدوادة والدودة وأمثال ذلك9. وعرف شاعر آخر باسم
__________
1 تاج العروس "1/ 151"، "أوب"، النصرانية "229".
2 أسد الغابة "1/ 40 وما بعدها"، الإصابة "1/ 25 وما بعدها"، النصرانية "329".
3 ابن هشام "1/ 206".
4 أسد الغابة "1/ 68"، الإصابة "1/ 47"، "رقم 49"، النصرانية "229".
5 أسدالغابة "1/ 79"، الإصابة "1/ 55 وما بعدها"، النصرانية "230".
6 ابن هشام "2/ 66، 125، 144، 150، 305"، "3/ 347، 392"، الاشتقاق "266".
7 الاشتقاق "319"، النصرانية "532".
8 النصرانية "232".
9 الاشتقاق "104".(12/259)
داود بن حمل الهمداني1، ومن الأنصار رجل اسمه داود بن بلال2 وصحابي اسمه داود بن سلمة الأنصاري3.
وقد عرف داود في الشعر بنسجه الدروع حتى ضربت بدروعه عندهم المثل. وهي في نظرهم دروع قوية ممتازة، صنعها من الحديد الذي كان يلين بين يديه4. وقد تكرر ورود ذلك في أشعار جملة شعراء، مما يدل على أنها كانت معروفة بين الجاهليين مشهورة. هذا ولا بد أن يكون لذلك أصل بعيد ظهر من قصص بني إسرائيل عن داود وعن ملكه وحروبه وتغلبه على خصومه. هذا القصص الذي جعل من داود رجلا لا يستطاع عليه بفضل الحديد الذي لان بين يديه، فصار دروعا لا تمضي فيه سيوف المقاتلين.
__________
1 النصرانية "232".
2 أسد الغابة "2/ 129"، الإصابة "1/ 463"، "رقم 2287و228"، الإصابة "4/ 169"، "988".
3 الإصابة "1/ 463".
4 قال طرفة:
وهم ما هم إذا ما لبسوا ... نسج داود لباس محتضر
النصرانية "272"، شعراء النصرانية "309"، ديوان طرفة "58".
وقال حصين بن الحمام المري:
صفائح بصرى أخلصتها قيونها ... ومطردا من نسج داود بهما
الحماسة لأبي تمام "189"، النصرانية "273".
وقال حسيل بن سجيع الضبي:
وبيضاء من نسج ابن داود تثرة ... تخيرتها يوم اللقاء ملابسا
الحماسة لأبي تمام "284"، النصرانية "273".
وللبيد:
ونزعن من داود أحسن صنعه ... ولقد يكون بقوة ونعيم
صنع الحديد لحفظه أسراده ... لينال طول العيش غير سروم
ديوان لبيد "83"، "طبعة الخالدي"، النصرانية "273".
وللأعشى:
ومن نسج داود يجدي بها ... على أثر العيس عيرا فعير
النصرانية "273"، شعراء النصرانية "388".
ولسلامة بن جندل:
مداخلة من نسج داوو شكلها ... كحب الجنا من أبلم متفرق
وله أيضًا:
من نسج داود وآل محرق ... غال غرائبهن في الآفاق
النصرانية "273".(12/260)
ولم يخل شعر الأعشى من اسم داود، فورد في مناسبة التحدث عن حوادث الزمان واعتداء الدهر على الإنسان، وتبدل الأيام، كما في موضع آخر في كلامه على الدروع1. أما عبيد الأبرص، فقد ذكره في أثناء كلامه على طول العمر2.
وعرف "سليمان" في أبيات للنابغة قالها في مدح النعمان ملك الحيرة بتسخيره الجن لبناء تدمر3. وعرف بمثل ذلك وببنائه الأبنية الفخمة وبسعة ملكه في شعر شعراء آخرين4. وإذا كان ما نسب إلى أولئك الشعراء صحيحا، كان رأيهم هذا في سليمان بتأثير ما كان يقصه أهل الكتاب على الجاهليين من قصص وارد في العهد الجديد، في سفر الملوك الثالث وأخبار الأيام الثاني عن ملكه وعجيب أبنيته5.
وقد ورد اسم سليمان علما لجملة رجال عاشوا في الجاهلية وفي أيام الرسول، فهناك حاكم من حكام العرب المعروفين في الجاهلية اسمه "سليمان بن نوفل"6.
__________
1
ومر الليالي كل وقت وساعة ... يزعزعن ملكا أو يباعدن دانيا
وردن على داود حتى أبدنه ... وكان يغادي العيش أخضر صافيا
الحماسة، للبحتري "90"، النصرانية "272".
2
وطلبت ذا القرنين حتى فاتني ... ركضا وكدت أن أرى داؤودا
خزانة الأدب "1/ 323"، النصرانية "272".
3
ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ... ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمان، إذا قال الإله له: ... قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
فمن أطاعك فاخضعه بطاعته ... كما أطاعك وأدلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تعقد على أحد
العقد الثمين "7"، شعراء النصرانية "663"، النصرانية "274".
4 قال الأعشى:
فلو كان حيا خالدا ومعمرا ... لكان سليمان البري من الدهر
براه الهي واصطفاه عبادة ... وملكه ما بين سرفي إلى مصر
وسخر من جن الملاك شيعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر
البدء والتأريخ "3/ 108"، النصرانية "274"، وله أيضا:
فذاك سليمان الذي سخرت له ... مع الإنس والجن الرياح المراخيا
الحماسة، للبحتري "86 وما بعدها"، النصرانية "275".
5 النصرانية "273".
6 اليعقوبي "1/ 299"، النصرانية "232".(12/261)
وهناك جملة من الصحابة عرفوا بسليمان1. ومن هذه اللفظة نشأت الأسماء: سلمان وسلام، وسليم، كما يتبين ذلك من أبيات للأسود بن يعقر2 والخطيئة3 والنابغة4. وعرف بسلمان رجل من نصارى بني عجل اسمه سلمان العجلي.
وهناك طائفة لأسماء نصرانية خالصة تسمى بها نفر من الجاهليين قبل الإسلام، مثل: عبد المسيح، وعبد ياسوع، وعبد يسوع، وعبد يشوع، وايشوع، وأبجر، وقد عرف بأبجر عدد من ملوك الرها، كما عرف بها أبجر بن جابر سيد بين عجل، وأفريم، وبولس وجرحس، وجريج، ورومان، ورومانوس، وسرجس، وسمعان، وشمعون، ونسطاس، وحنين، و"حنيناء"و"يحنة"5. ومن أسماء النساء: مارية، ومريم، وحنة6،ومن بين هذه الأسماء ما كانت خاصة بطبقة الموالي الذين جلبوا من الخارج وبيعوا في أسواق النخاسة، فحافظوا على أسمائهم القديمة التي تشير إلى أصولهم في النصرانية.
ونرى ورود "عبد المسيح" بين أسماء أهل الحيرة بصورة خاصة، ورد علما لأناس معروفين جدا بينهم، وكانوا عليهم زعماء، مثل عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة، وكان في جملة من خرج لملاقاة خالد بن الوليد
__________
1 مثل سليمان بن الحارث، الاشتقاق "2/ 318" وسليمان الليثي بن أكيمة، وسليمان بن أبي حتمة القرشي، وسليمان بن صرد الخزاعي، وسليمان بن عمرو بن حديدة، وسليمان بن مسهر، وسليمان بن هاشم بن عتبة القرشي، أسد الغابة "2/ 350 وما بعدها"، الإصابة "2/ 128 وما بعدها"، النصرانية "232"، تاج العروس "8/ 344".
2
ودعا بمحكمة أمين سكها ... من نسج داود أبي سلام
تاج العروس "8/ 344".
3
فيه الرماح وفيه كل سابغة ... جدلاء محكمة من نسج سلام
النصرانية "232".
4
وكل صموت نثلة تبعية ... ونسج سليم كل قضاء ذائل
ديوان النابغة "99"، النصرانية "233"، "أراد نسج داود، فجعله سليمان ثم غير الاسم، فقال سلام وسليم. ومثل ذلك في أشعارهم كثير. قال ابن بري: وقالوا في سليمان اسم النبي، صلى الله عليه وسلم: سليم وسلام فغيروه ضرورة"، اللسان "15/ 192 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 344".
5 البكري: معجم "4/ 580"، تاج العروس "9/ 186".
6 النصرانية "239"، وقد أورد قائمة بالأسماء النصرانية، وأورد أمثلة لمن تسمى بها قبل الإسلام من الجاهليين، الكبري، معجم "4/ 578"، "دير حنة".(12/262)
للاتفاق معه على شروط الصلح1. وعادة جعل المرء نفسه عبدا لإله أو لشخص مقدس، كما في هذه التسمية، لم تكن من العادات الخاصة بالنصارى، فقد رأينا أن أكثر الجاهلين كانوا يجعلون أنفسهم عبدا لإله من الآله، ثم يتخذون ذلك تسمية لهم، مثل عبد العزى، وعبد يغوث، وعبد ود، وأمثال ذلك. فلما كانت النصرانية، تبرأ من تنصر من اسم الآلهة الوثنية، وأحلوا محلها اسم المسيح.
وكان اسم والد حنظلة صاحب دير حنظة الذي بأرض بني علقمة بالحيرة "عبد المسيح"، ويذكر الإخباريون أنهم وجدوا على صدر الدير كتابة مكتوبة بالرصاص على ساج محفور: "بني هذا الهيكل المقدس، محبة لولاية الحق والأمانة، حنظلة بن عبد المسيح، يكون مع بقاء الدنيا تقديسه، وكما يذكر أولياؤه بالعصمة، يكون ذكر الخاطئ حنظلة"2.
غير أن هذه الأسماء اليهودية الأصل أو النصرانية قليلة الاستعمال، فلم تكن مستعملة بنطاق واسع. وأكثر من تسمى بها، هم من الموالي والأرقاء، أو من العرب الذين كانوا على أطراف العراق وبلاد الشام، وممن تأثر بالمؤثرات الثقافية الأعجمية، أو ممن كان على يهودية أو نصرانية، فتسمى بأسماء محببة أو مباركة في هاتين الديانتين.
وأهل نجران، هم الذين كانوا يجادلون الرسول في طبيعة المسيح، فلم يكن بمكة أو بيثرب قوم منهم يستطيعون مجادلته في أمور الدين. وقد ذكر بعض المفسرين أن أهل نجران كانوا أعظم قوم من النصارى جادلوا الرسول في عيسى. جاءوا إلى الرسول، فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسى. تزعم إنه عبد الله. فقال: أجل إنه عبد الله. قالوا: فهل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به، ثم خرجوا من عنده غاضبين. وقالوا إن كنت صاقدا، فأرنا عبدا يحيي الموتى ويبرئ الأكمه، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، فلما عادوا قال رسول الله: "مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون" 3.
__________
1 البلاذري، فتوح "252"، المعمرون، للسجستاني "38"، "طبعة كولدتزيهر". المشرق، السنة السابعة عشرة، "1914"، "ص132"، البلدان "2/ 677".
2 البكري، معجم "2/ 572"، "دير حنظلة".
3 تفسير الطبري "3/ 207 وما بعدها.(12/263)
وقد جادل بعض النصارى رسول الله في أمور الدين، ثم أسلموا. ونظرا لقلة عددهم بيثرب، لم يقاوموه هنا كما قاومه اليهود.
وطبيعي أن يتأثر نصارى الجاهلية بلغة بني إرم، فيستعملوا المصطلحات التي كانت شائعة في الكنيسة، وهي مصطلحات إرمية الأصل في الغالب: فقد كانت لغة بني إرم لغة العلم والدين عند النصارى الشرقيين. بها يقيمون طقوسهم الدينية، ومنها يترجمون الأناجيل إلى أتباعهم النصارى العرب، فدخلت بذلك إلى العربية ألفاظ إرمية ذات معان خاصة. ومنها الألفاظ التي تكلمنا عنها وألفاظ أخرى عديدة لم نتطرق إليها، لعدم وجود صلة لها بهذا الموضوع، وخشية الإطالة والخروج على صلب الموضوع. وهناك مصطلحات يونانية ولاتينية وحبشية، لها صلة بالدين والمجتمع دخلت العربية أيضًا عن طريق النصرانية، ظهر أثرها في نصارى بلاد الشام والعربية الغربية خاصة، بتأثير الاحتكاك المباشر والتبشير.
وقد عني بعض الباحثين بجمع المصطلحات الدينية المعروفة عند أهل الكتاب في الجاهلية والتي أقرها الإسلام على نحو ما كانت تعرف به، أو أعطاها معنى خاصًّا، ومن بينها عدد كبير ورد في القرآن الكريم1. ولما كانت غالبية العرب على الوثنية، وهي ديانة بسيطة قليلة الشعائر بالنبة إلى اليهودية والنصرانية، لذلك كانت هذه المصطلحات شائعة معروفة بين أهل الكتاب من الجاهليين، وقد نقلوها من اللغات الدينية التي كتب بها علماء أهل الكتاب، فهي في الغالب من أصل سرياني أو عبراني أو يوناني أو حبشي.
وقد جمع الأب "شيخو" في كتابه: "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية" الألفاظ الخاصة بأهل الكتاب من الأبيات الواردة في دواوين شعراء الجاهلية وفي كتب الأدب، وهي أبيات منها ما أجمع الرواة وأهل الأخبار على نسبتها إلى أولئك الشعراء، ومنها ما ورد عند بعض الرواة والإخباريين ولم يرد في دواوين أولئك الشعراء، ليجعل من تلك الألفاظ دليلا على أثر النصرانية في الجاهليين، وعلى مدى تغلغلها بينهم. وهو حكم لا يمكن أن يكون سليما، إلا بعد ثبوت صحة نسبة تلك الأبيات إلى الجاهليين.
__________
1 Noldeke, Neue Beitrage zur Semit. Sparad, s. 1. ff, J. Horovitz, Jewish Proper Names and Derivatives in Koran, 145, R. Bell, The Grigin of Islam in Its Christian Environment, London, 1926.(12/264)
وقد كان للنصرانية أثر مهم في نشر الكتابة العربية، المأخوذة عن الإرمية، بين الجاهليين، الكتابة التي تولد منها قلمنا الذي نكتب به في الوقت الحاضر. وقد وجد المسلمون في فتحهم للعراق مدارس عديدة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، كما أن تجار مكة ويثرب الذين كانوا يقصدون الشام والعراق وجدوا الضرورة تحتم عليهم تعلم هذا الخط، فتعلموه. ولما نزل الوحي كتب كتابه به، فصار قلم المسلمين. كما سأتحدث عن ذلك في موضوع الخط عند الجاهليين.
ولم يترك رجال الدين من النصارى العرب لنا أثر كتابيا بنبئ عن مدى اشتغالهم في علم اللاهوت وفي العلوم الأخرى، غير أن هذا لا يعني أن النصارى العرب لم يخرجوا علماء دين منهم، ولم يعطوا النصرانية رجلا منهم يخدمها ويقف حياته الروحية عليها، ففي قوائم أسماء من حضروا المجامع الدينية التي عقدت للنظر في الأمور الجدلية وفي القضايا التي تخص مبادئ الدين أسماء رجال تنبئ أنهم كانوا عربا، وقد دونت في محاضر تلك المجالس أسماء المواضع التي مثلوها من بلاد العرب، كما أن بين رجال الدين الكبار الذين نبغوا في العراق من كان أصله من الحيرة، وإذ كانت غالبية سكان هذا المدينة من العرب، فلا يستبعد أن يكون من بين هؤلاء العلماء النصارى الحيريين من كل من أصل عربي.
لقد كانت النصرانية عاملا مهما بالطبع في إدخال الآراء الإغريقية والسريانية إلى نصارى العرب، فقد كانت الكنيسة مضطرة إلىدراسة الإغريقية ولغة بني إرم، لما للغتين من قدسية خاصة نشأت من صلتهما بالأناجيل. وقد كان أثر الإرمية أهم في الكنيسة الشرقية من الإغريقية، لكونها لغة الثقافة في الهلال الخصيب في ذلك العهد. ولهذا وجدنا معظم التعابير والمصطلحات الدينية عند نصارى الشرق هي من هذه اللغة، ومنها أخذها النصارى العرب، فصارت عربية. وقد كان السريان قد نقلوا بعض مؤلفات اليونان واللاتين إلى لغتهم، ولا أستبعد نقلهم بعض تلك المؤلفات، ولا سيما الدينية منها، من هذه اللغة إلى اللغة العربية، وذلك قبل الإسلام، أو ترجمتها ترجمة شفوية لطلاب العلم من العرب ممن كانوا لا يفقهون لغة بني إرم، أو لا يلمون بها إلماما صحيحا. وإذ كانت هذه اللغة لغة مقدسة لغة بني إرم، أو لا يلمون بها إلماما صحيحا. وإذ كانت هذه اللغة لغة مقدسة ولغة الكنيسة الرسمية، وكان أكثر رجال الدين من بني إرم، فقد كانت هذه اللغة المقررة في الكنيسة، بها يدرس ويتباحث رجال الدين وإن كانوا عربا، على نحو ما يفعله رجال الدين المسلمين الأعاجم الذين يدرسون العربية بعلومها المختلفة(12/265)
ليتفقهوا بذلك في الدين، والعربية هي لغة الدين الإسلامي، وكما يفعل رجال الدين الكاثوليك أيضًا في دراستهم اللاتينية وتبحرهم بها لأن الاتينية هي لغة النصرانية عند الكاثوليك.
وكان للنصرانية أثر آخر في نصارى عر الجاهلية، هو أثرها فيهم من ناحية الفن، إذ أدخلت النصرانية بين العرب فنا جديدا في البناء، هو بناء الكنائس والأديرة والمذابح والمحاريب والزخرفة، كما أدخلت النحت والتصوير المتأثرين بالنزعة النصرانية، ولدخول أكثر هذه الأشياء لأول مرة بين الجاهليين، استعملت مسمياتها الأصلية اليونانية أو الآرامية في اللغة العربية، بعد أن صقلت وهذبت، حتى اكتسبت ثوبا يلائم الذوق العربي في النطق. وستكشف الحفريات في المستقبل عن مدى تأثر النصارى العرب الجاهليين بالفن النصراني المقتبس عن الروم أو عن بني إرم والأحباش.(12/266)
الفصل الثالث والثمانون: المجوس والصابئة
مدخل
...
الفصل الثال والثمانون المجوس والصابئة
يقصد الإخباريون بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة: الخير والشر، فيزعمون أن الخير من فعل النور وأن الشر من فعل الظلمة1. وهم يعلمون أن المجوس من الفرس وأنهم عبدة النيران.
وفي القرآن الكريم ذكر للمجوس. وقد ورد ذكرهم في موضع واحد منه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 2. وفي ذكرهم في القرآن الكريم دليل كاف على معرفة أهل الحجاز بهم، ووقوفهم عليهم. وكيف لا يكون لهم علم بهم ووقوف عليهم، وقد كان لأهل مكة اتصال وثيق بالحيرة كما كان لأهل الحجاز اتصال باليمن؟ وقد كان المهيمن على اليمن الفرس عند ظهور الإسلام، حيث طردوا الأحباش وأخذوا محلهم، وقد كان هؤلاء الفرس على المجوسية، ثم إنه كان في حضرموت وفي العربية الشرقية أناس منهم أقاموا هناك. وقد كان وكلاء الأكاسرة على هذه الأماكن منهم، وهم على دين
__________
1 النهاية "4/ 85"، اللسان "8/ 98" "مجس"، تاج العروس "4/ 345" "مجس"، الملل والنحل "2/ 57"، الحيوان "1/ 190"، "4/ 59، 479، 481"، المسعويد، مرج "1/ 252، 253،273"، "بيروت"، عمدة القاري "15/ 78".
2 الحج، الآية 17، عمدة القاري "15// 78 وما بعدها" الطبرسي، مجمع البيان "13/ 88 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "4/ 8"، تفسير الطبري "6/ 201"، روح المعاني "6/ 179"، تاج العروس "4/ 245". "مجس".(12/267)
المجوسية. وقد أشير إلى وجودهم في أخبار الفتوح، حيث دفع الجزية من أبي منهم الدخول في الإسلام. والظاهر أن هؤلاء كانوا مقيمين فيها من أمد طويل بدليل ورود جملة في أخبار الفتوح تفيد ذلك، وهي: "وأسلم معهما جميع العرب وبعض العجم. فأما أهل الأرض من المجوس واليهود والنصارى، فإنهم صالحوا العلاء"1.
ويروي أهل الحديث حديثين يذكرون أن الرسول قالهما هما: "كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يمجسانه"، أي يعلمانه دين المجوسية. وحديث "القدرية مجوس هذه الأمة"2. وفي هذين الحديثين ذكر للمجوس. ولعلماء الحديث كلام عليهما. ولا سيما على الحديث الثاني، وفيه تعريض بالقدرية، أسلاف المعتزلة.
وكلمة "مجوس" من الكلمات المعربة، عربت عن لفظة "مغوس" "Maghos" الفارسية التي تعني "عابد النار"3. وهي من الألفاظ التي دخلت إلى اليونانية كذلك، حيث وردت لفظة "Magi" فيها. وهي جمع "مجوس" "Magus"4. وقد دخلت إلى لغة "بني إرم" أيضًا. ولا ندري اليوم على وجه صحيح من أي طريق دخلت لفظة "مجوسي" و"مجوس" إلى العربية، عن الفرس أنفسهم، أو عن اليونانية أو عن طريق لغة "بين إرم"5!
وقد عرف علماء اللغة بأن لفظة "مجوس" من الألفاظ المعربة. وقد ذهبوا إلى إنها معربة عن الفارسية القديمة. ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في أصل اللفظة وفي بيان معناها، وذهبوا في ذلك مذاهب6، وبعض هذه التفسيرات والتأويلات مفتعل يدل على عدم وقوف أصحابها على جلية الموضوع.
__________
1 البلدان "2/ 74"، "ومن أبي فعلية الجزية. فصالحهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أن على المجوس الجزية"، "وأخذ الجزية من المجوس"، الطبري "3/ 29".
2 اللسان "6/ 213 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 345"، اللسان "8/ 98" "مجس" "طبعة بولاق".
3 غرائب اللغة "ص269".
4 Hastings p 565
5 Shorter Ency of IsIam p 98 Ency III p 97
6 اللسان "8/ 98" "طبعة بولاق"، محيط المحيط "2/ 250"، تاج العروس "4/ 345" "مجس"، الحيوان، للجاحظ "5/ 69" "عبد السلام هارون"، المعرب، للجواليقي "320".(12/268)
ويريد الإخباريون بالمجوسية عبادة النار. وإذا صح ما ورد في شطر بيت منسوب إلى الشاعر الجاهلي "التوأم اليشكري" المعاصر لامرئ القيس، هو: "كنار مجوس تستعر استعارا"1، فإن فيه دلالة على أن هذا الشاعر هو وامرأ القيس كانا على علم بنار المجوس، وإنها كانت تستعر دائمًا، وربما كانا على علم ببعض تعاليمها أيضًا.
وفي أخبار أهل الأخبار ما يفيد بعض العرب، فورد أن "المزدكية والمجوسية في تميم"2. وورد أن "زرارة بن عدس" وابنه "حاجب بن زرارة"، وهما من سادات تميم كانا قد اعتنقا المجوسية، واعتنقها أيضًا "الأقرع بن حابس" و"أبو الأسود"، جد "وكيع بن حسان"3. وقيل إن أشتاتا من العرب عبدت النار، سرى إليها ذلك من الفرس والمجوس4.
وكان مجوس اليمن، من الفرس الذين أرسلهم كسرى لطرد الحبش من اليمن، فهم وأبناؤهم كانوا على هذا الدين، دين الإمبراطورية الفارسية، ولما ظهر الإسلام، نبذ هؤلاء المجوسية واعتنقوا الإسلام5.
وأما مجوس عمان وبقية أنحاء العربية الجنوبية، فقد كانوا من الفرس كذلك: من تجار ومن مقيمين من بقية الفرس الذين كانوا قد استولوا على هذه الأرضين. وعند ظهور الإسلام لم يكن لهم نفوذ سياسي، فقد كان سادات القبائل قد كونوا مشيخات فيها، واستقلت في إدارة شئونها، غير أن المجوس بقوا فيها، وعند دخول أهلها في الإسلام، ودخول البلاد في دين الله، دفع بعض أولئك المجوس الجزية، ودخل الباقون في الإسلام. شأنهم في ذلك شأن اليهود والنصارى المقيمين في هذه الأرضين.
وأما مجوس البحرين، فقد كانوا أكثر عددا وأكبر نفوذا من إخوانهم في عمان، لقرب هذه الأرضين من إمبراطورية الساسانيين، ولهجة الفرس من السواحل المقابلة ومن طريق الأبلة الساحلي، وقد عثر المنقبون على قبور عديدة
__________
1 اللسان "6/ 213 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 245"، "مجس".
2 البدء والتأريخ "4/ 31".
3 المعارف "266" "الصاوي"، البدء والتأريخ "4/ 31"، الأعلاق النفيسة "217".
4 بلوغ الأرب "2/ 233".
5 Ency VoI III p 99(12/269)
تعود إليهم؛ وعلى آثار لمعابدهم في العربية الشرقية. وكان على "هجر"، حين أبلغ الرسول دعوته إليها، رجل من الفرس اسمه "سيبخت مرزبان"، وقد أسلم واسلم معه قوم من قومه، ودفع الجزية من فضل البقاء منهم على دينه، شأنهم في ذلك شأن أهل الكتاب1. وذكر أن الرسول كتب إلى "مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا أخذت منهم الجزية، وبأن لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم"2.
وكان باليمامة قوم من المجوس، عاشوا في قراها ومواضعها، اشتغلوا بالزراعة وبالتعدين. وأرض اليمامة أرض غنية، وهي "ريف" أهل مكة، وعليها اعتمادهم في الحصول على الحبوب. كما عرفت بوجود المعادن بها، فسهل أهلها دخول المجوس إليها، للاستفادة منهم في استغلال الأرض وفي التعدين.
هذا ولم نسمع بدخول أحد من ملوك الحيرة، أو الأمراء الذين عينهم الفرس على العرب في المجوسية مع علاقتهم بالفرس واتصالهم الوثيق بهم، ووجود الفرس في أرضهم وفي عاصمتهم، بينما نجد بعضًا منهم وقد دخل في النصرانية. ولعل ذلك بسبب عدم ميل الفرس إلى إدخال أحد من الغرباء عنهم في دينهم وإلى عدهم المجوسية ديانة قومية خاصة بهم، فلا يهمهم دخول أحد من غيرهم فيها.
هذا ولا أجد صلة بين "الأسبذية" التي زعم أنها ديانة قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين، عرفوا بـ "الأسبذيين"، وبين "بني دارم"، وكونهم كانوا على هذا الدين. فقد كان أحدهم وهو "المنذر بن ساوى" أسبذيا، ولم يكونوا كلهم. قيل إنه نسب إلى قرية بهجر يقال لها "الأسبذ"، وقيل إلى الأسبذيين3. ولا صلة لهذه الأسبذية بالمجوسية، أو إلى ديانة دخلت من فارس إلى البحرين. وقد تحدثت في مكان آخر عن وجود قوم من العرب قدسوا "الحصان". ورأي أن المراد من "الأسبذية" الفرسان. وأن "المنذر بن ساوى" كان "أسبذا" أي بدرجة فارس، وهي من درجة الشرف والرفعة في الجيش الساساني.
__________
1 البلاذري "85 وما بعدها"، البلدان "2/ 73 وما بعدها".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 263"، "صادر".
3 فتوح البلدان "98"، "89" "طبعة المكتبة التجارية"، محاضرات للدكتور صالح أحمد العلي "171".(12/270)
ويذكر علماء اللغة في معرض كلامهم على معنى لفظة "الزمزمة" أن من عادة المجوس الزمزمة عند الابتداء بالأكل، أي قراءة شيء من كتبهم الدينية قراءة خافته على المأكول تقديسا وشكرا لهز وقد نهى الخليفة عمر عن الزمزمة، لأنها من علائم المجوس1.
وقد عرف عالم المجوس ورئيسهم الروحي عند العرب بـ "الموبذ" و"الموبذان"، وعرف كبيرهم بـ "موبذان موبذ"؛ وجعل بعض العلماء "الموبذان" بمنزلة قاضي القضاة للمسلمين، والموبذ بمنزلة القاضي2. وتعني "موبذان موبذ" الموبذ الأعظم. وقد اكتفى أحيانًا بلفظة "موبذان" للتعبير عن "موبذان موبذ". وقد فسر المسعودي لفظة "الموبذ" بمعنى حافظ الدين. ورجع أصلها إلى "مو" بمعنى "دين" في رأيه، و"بذ" بمعنى "حافظ"3. ورأى "اليعقوبي" أن "الموبذان" بمعنى عالم العلماء4. والموبذ هي من الألفاظ المعربة عن الفهلوية، فهي من أصل فهلوي هو Magupat، بمعنى عظيم المجوس. ويتمتع هذا الرئيس الديني الأعظم بسلطات دينية واسعة5. وقد أطلق السريان على الموبذ جملة "ريش مكوشي" "Resh Magushi" و "Resh damgushi، أي "رئيس المجوس"، و"مكوش" تعني "المجوس"6.
وترد في العربية لفظة أخرى، لها صلة بالمجوسية، هي "الهربذ" و"الهرابذاة". ذكر علماء اللغة أن "الهرابذية: المجوس، وهم قومة بيت النار التي للهند ... وقيل عظماء الهند أو علماؤهم". وذكروا أن "الهربذي مشية فيها اختيال، كمشي الهرابذة، وهم حكام المجوس. قال امرؤ القيس:
مشى الهربذي في دفه ثم فرفرا"7
__________
1 اللسان "15/ 165"، تاج العروس "8/ 165"، تاج العروس "8/ 328".
2 اللسان "3/ 511"، "موين"، النهاية في غريب الحديث "4/ 119"، تاج العروس "2/ 513".
3 مروج الذهب "1/ 268"، "ذكر ملوك الغساسنة".
Ency III p 453>
4 تأريخ اليعقوبي "1/ 207".
5 Ency III p 453
6 اللسان "3/ 517 وما بعدها"، "هربن".
7 Ency III p 453(12/271)
واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية. من أصل "هور" و"بت"، بمعنى رئيس خدام النار. والموكل على خدمة النار في المعبد1.
وقد ذكر "الألوسي"، أن صنفا من العرب عبد النار، وقال عنهم: "وهم أشتات من العرب، وكأن ذلك سرى إليهم من الفرس والمجوس"2. ولم يذكر أسماء هؤلاء الأشتات. ولم يتحدث عن طريقة تعبدهم للنار. ولكننا نستطيع أن نجد في "نار الاستمطار" وفي "نار التحالف" وفي النيران الأخرى التي يذكرها أسماءها أهل الأخبار دلالة على وجود فكرة تقديس بعض العرب للنار. وقد حبب الإسلام هذه النيران.
فقد ذكر أهل الأخبار أن العرب كانت في الجاهلية الأولى، إذا احتبس عنهم المطر، ويئسوا من نزوله، يجمعون البقر ويعقدون في أذنابها وعراقبيها السلع والعشر ويصعدون بها في الجبل الوعر، ويشعلون فيها النار، ويزعمون أن ذلك من أسباب المطر، قال الشاعر "الورل" الطائي:
أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... وسيلة منك بين الله والمطر3
وقد أشير إلى هذه النار في شعر ينسب إلى أمية بن أبي الصلت4. ويسمونها بنار الاستسقاء وبنار الاستمطار5.
وذكروا نارًا أخرى قالوا لها: "نار التحالف" ,"نار المهول". وقالوا أن العرب كانوا لا يعقدون حلفا إلا عليها، وكانوا إذا اختصموا في شيء، واتفقوا على اليمين، حلفوا على النار. ولهذا قيل لها "نار التحالف". وطريقتهم في ذلك أن المتحالفين أو المتخاصمين يحفرون أمام نار يوقدونها، ثم يلقون عليها
__________
1 غرائب اللغة "248".
2 بلوغ الأرب "2/ 233".
3 "الوديل الطائي"، صبح الأعشى "1/ 409"، بلوغ الأرب "2/ 164"، خزانة الأدب "3/ 212"، الحيوان "4/ 468".
لا در در رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لدى الازمات بالعشر
أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر
اللسان "4/ 73"، "بقر".
4 نهاية الأرب، للنويري "1/ 109 وما بعدها"، الحيوان "4/ 466 وما بعدها".
5 نزهة الجليس "2/ 406".(12/272)
ملحا وكبريتا. وعندئذ يذكرون منافع هذه النار ويدعون بالحرمان من خيرها على من ينقض العهد ويحل العقد وفي حالة الحلف واليمين يقول صاحب النار للحالف: "هذه النار قد تهددتك"، فإن كان مبطلا نكل، وإن بريئًا حلف، ولذلك قيل لها "نار المهول"1. وذكروا أيضًا أن هذه النار كانت معروفة في اليمن، مستعرة دائمًا، ولها سادة سدنة وقيمون يطرحون الملح والكبريت في النار، أما السدنة فيقومون بأخذ اليمين. وكان سادتها إذا أتي برجل ليحلف، هيبوه من الحلف بها، وخوفوه من الكذب. وقد عرفت هذه النار بـ "نار التحاليف" كذلك. وقد أشار إليها الكميت بقوله:
هم خوفوني بالعمى هوة الردى ... كما شب نار الحالفين المهول
كما أشار إليها شاعر آخر هو أوس، إذ قال:
إذا استقبلته الشمس صد بوجهه ... كما صد عن نار المهول حالف2
وذكر "الجاحظ" أن العرب "يقولون في الحلف: الدم، الدم، والهدم الهدم، لا يزيده طلوع الشمس إلا شدا، وطول الليالي إلا مدا، ما بل البحر صوفة، وما أقام رضوى في مكانه، إن كان جبلهم رضوى.
"وكل قوم يذكرون جبلهم، والمشهور من جبالهم. وربما دنوا منها حتى تكاد تحرقهم"3.
بل زعم بعض أهل الأخبار أن حمير كانت تحتكم إلى نار كانت باليمن تحكم بينهم فيما كانوا يختلفون به. تأكل الظالم ولا تضر المظلوم. فلما اعتنق التبع "تبان أسعد"، ديانة يهود، وطلب من قومه الدخول فيها، أبوا عليه ذلك، وطلبوا منه الاحتكام إلى تلك النار في قصة يذكرونها في سبب تهود بعض حمير4.
وللعرب نار السعالي والجن والغيلان5. ذكروا أن الغيلان توقد بالليل النيران
__________
1 اللسان "5/ 234"، "نور"، "نزهة الجليس "2/ 406".
2 اللسان "7/ 102"، صبح الأعشى "1/ 409"، خزانة الأدب "3/ 212"، "خوفونا"، نهاية الآرب "1/ 109 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، الحيوان "45/ 470".
3 الحيوان "4/470 وما بعدها".
4 سيرة ابن هشام "1/ 27".
5 الحيوان "4/ 481".(12/273)
للعبث والتخييل واضلال السابلة. وإنها ترفع للمثقفر فيتبعها فتهوى به الغول. وأورد أهل الأخبار شعرا في ذلك منه شعر لـ "عبيد بن أيوب"، المعروف بـ "أبي مطراب"، وكان يزعم أنه يؤاكل الظباء والوحش ويرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والأفاعي1.
وذكر أهل الأخبار قصة عن "خالد بن سنان العبسي" النبي العربي الذي منحه بعضهم في الإسلام جملة "عليه السلام" باعتبار أنه من أنبياء الله، قد يكون لها صلة بعقيدة عبادة النار عند العرب. إذ ذكروا أن نارًا ظهرت "بالبادية بين مكة والمدينة في الفترة، فسمتها العرب بدًا، وكادت طائفة منهم أن تعبدها مضاهاة للمجوس. فقام خالد هذا، فأخذ عصاه، واقتحم النار يضربها بعصاه، حتى أطفأها الله تعالى. ثم قال: إني ميت، فإذا أنا مت، وحال الحول، فارصدوا قبري. فإذا حمار عند قبري، فارموه واقتلوه، وانبشوا قبري، فإني أحدثكم بكل ما هو كائن. فمات. فلما حال الحول، رأوا الحمار فقتلوه، وأرادوا نبشه، فمنعهم أولاده، وقالوا: لا نسمى بني المنبوش"2. وقد عرفت تلك النار بـ "نار الحرتين"3. وذكر إنها كانت ببلاد عبس، فإذا كان الليل تضيء نار تسطع وفي النار دخان مرتفع. وربما بدر منها عنق فأحرق من مر بها. فحضر خالد بن سنان النبي، فدفنها، فكانت معجزة له4. ويظهر أن حرة، كانت في تلك المنطقة، ثم خمدت فنسب الناس خمودها إلى "خالد بن سنان".
وللجاهليين استعمالات أخرى للنار، فكانوا إذا خافوا شر رجل، وتحول عنهم أوقدوا خلفه نارًا، ليتحول شره معه5. ويقولون: "أبعده الله وأسحقه وأوقد نارًا في أثره"، يقولون ذلك لكراهيتهم له، ويتمنون الموت له. وتعرف هذه النار بـ "نار الطرد"6. وذكر أن العرب تدعو على العدو فتقول:
__________
1 الحيوان "4/ 481 وما بعدها"، معجم الشعراء "182"، مروج الذهب "1/ 328"، الحيوان "5/ 123"، صبح الأعشى "1/ 410".
2 محاضرات الأبرار "1/ 77"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406
3 الحيوان "4/ 476 وما بعدها".
4 صبح الأعشى "1/ 409 وما بعدها".
5 اللسان "7/ 102"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".
6 خزانة الأدب "3/ 212"، الحيوان "4/ 474"، صبح الأعشى "1/ 409".(12/274)
أبعد الله داره وأوقد نارًا أثره1.
ولا بد أن يكون للنار الموقدة على المزدلفة صلة ما بعقائد الجاهليين القديمة في النار. وينسب الإخباريون هذه النار إلى "قصي بن كلاب"، يقولون إنه أوقدها على المزدلفة حتى يراها من دفع من عرفة في أيام الحج. وقد بقي الناس يوقدونها إلى الإسلام2.
ومن نيران العرب، نار الغدر، وتوقد بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين، جبلي مكة: أبي قبيس وقعيقعان، أو أبو قبيس والأحمر. فإذا استعرت، صاح موقدها: هذه غدرة فلان، ليحذره الناس، وليعلموا أن فلانا قد غدر بجاره3.
وأما "نار السلامة"، فهي التي توقد للقادم من سفر سالما غانما، وقد عرفت لذلك بـ نار المسافر" أيضًا4. و"نار السليم"، هي النار التي توقد للملدوغ وللمجروح ولمن ضرب بالسياط ولم عضه الكلب الكلب، ويقولون إنها إنما توقد لكي لا يناموا، فيشتد بهم الأمر ويؤدي إلى الهلالك5.
وأما "نار الحرب"، فهي النار التي كانوا إذا أرادوا حربًا، وتوقعوا جيشًا عظيمًا، وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلا على جبلهم نارًا، ليبلغ الخبر أصحابهم. وإذا جدوا في جمع عشائرهم إليهم أوقدوا نارين6.
ونار الصيد، هي نار توقد للظباء وللحيوانات الأخرى، فتغشاها إذا نظرت إليها7.
__________
1 قال الشاعر:
وجمة أقوام حملت، ولم آكن ... كموقد نار أثرهم للتندم
اللسان "5/ 243"، "نور".
2 صبح الأعشى "1/ 409"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب "462" الكامل، لابن الأثير "2/ 17"، نزهة الجليس "2/ 406".
3 بلوغ الأرب "2/ 162"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406".
4 الحيوان "4/ 473"، نزهة الجليس "2/ 406.
5 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 410".
6 الحيوان "4/ 474 وما بعدها"، "5/ 133"، صبح الأعشى "1/ 409"، نزهة الجليس "2/ 406".
7 صبح الأعشى "1/ 410"، نزهة الجليس "2/ 406".(12/275)
ونار الأسد، وهي نار توقد إذا خافوا الأسد، لينفر عنهم، فإن من شأنه النفار عن النار، يقال إنه إذا رأى النار حدث له فكر يصده عن قصده، ويشغله عن السابلة. ويقولون إن الضفدع إذا رأى النار تحير وترك النقيق1.
ونار الفداء، وكان الملوك منهم، إذا أسروا نساء قبيلة، خرجت إليهم السادة منهم للفداء أو الاستيهاب، فيكرهون أن يعرضوا النساء نهارا فيفتضحن أو في الظلمة فيخفى قدر ما يحسونه لأنفسهم من الصفي، فيوقدون النار لعرضهن2.
ونار القرى، هي من أعظم مفاخر العرب، وهي النار التي ترفع للسفر، ولمن يلتمس القرى، فكلما كان موضعها أرفع كان أفخر. وهي نار مذكورة على الحقيقة لا على المثل3. وعرفت عندهم بـ "نار الضيافة" وبـ "نار الأضياف" أيضًا. وقد ذكر أهل الأخبار إنهم ربما يوقدونها بـ "المندلى"، ليهتدي إليها العميان. فالمندلى خشب ذو رائحة طيبة، تفوح منه إذا أحرق، فتشم من مسافة بعيدة4. وذكر إنهم كانوا يوقدونها في ليالي الشتاء، خاصة لحاجة الناس إلى القرى في ذلك الوقت. وكلما كانت النار مرتفعة ضخمة، كانت أفخر لصاحبها. وقد أشير إليها في الشعر5.
ويطلق العرب على كل نار تراها العين لا حقيقة لها عند التماسها، نار الحباحب، ونار أبي الحباحب. وقد ذكر "الجاحظ" أنه لم يسمع في أبي حباحب شيئًا6. ولهم قصص عن شخص زعموا أنه كان يعرف بـ "أبي حباحب"، وان رجلا في سالف الدهر بخيلا لا توقد له نار بليل، مخافة أن يقتبس منها نار، أو يراها الضيفان فيفدون إليه، فإن أوقدها ثم أبصرها مستضئ أطفأها، فضربت العرب به المثل في البخل، فقالت: "أخلف من نار أبي حاجب". وذكر
__________
1 صبح الأعشى "1/ 410"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، خزانة الأدب "3/ 212"، "نزهة الجليس "2/ 406".
2 صبح الأعشى "1/ 410"، بلوغ الأرب "1/ 161 وما بعدها"، خزانة الأدب "3/ 212"، نزهة الجليس "2/ 406".
3 الحيوان "5/ 134"، خزانة الأدب "3/ 212"، نزهة الجليس "2/ 406".
4 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".
5 بلوغ الأرب "2/ 161"، صبح الأعشى "1/ 410".
6 الحيوان "4/ 486 وما بعدها"، المخصص "11/ 28"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها".(12/276)
أن "أبا الحباحب" رجل كان لا ينتفع بماله لبخله فنسبوا إليه كل نار لا ينتفع بها1.
ومن النيران الأخرى: نار البرق، ونار البراعة، ونار الخلعاء والهراب، ونار الوسم، وهي النار يسم بها الرجل منهم أبله. فيقال له: ما سمة إبلك؟ فيقول كذا2.
وقد ذكر علماء اللغة ان العرب استعملوا النار في معنيين: معنى حقيقي، ومعنى مجازي. وقصدوا بالنيران الحقيقة، النيران التي كان يوقدها العرب حقًّا، وحصروها في أربعة عشر نارًا أو أكثر من ذلك، أو أقل3. وقصدوا بالنيران المجازية، استعمال الكلمة في معان مجازية، مثل قولهم نار الحب ونار المعدة، ونار الحمى، ونار الشوق4.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها".
2 الحيوان "4/ 486 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 410"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، خزانة الادب، للبغدادي "3/ 212"، "بولاق"، نهاية الأرب "1/109 وما بعدها"، الحيوان "5/ 107 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406".
4 نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".(12/277)
الصابئة:
ونجد في القرآن الكريم إشارة إلى الصابئين، وقد ذكروا بعد اليهود والنصارى في موضع من سورة البقرة1، وذكروا وسطا بين اليهود والنصارى في موضع من سورة المائدة وفي سورة الحج2. ويظهر أن معارف أهل الأخبار عنهم نزرة، فليس لديهم شيء مهم مفيد يفيدنا عن عقائد أولئك الصابئة وآرائهم.
وقد ربط أهل الأخبار بين هؤلاء الصابئة المذكورين في القرآن وبين صابئة حران وصابئة العراق، وجعلوها طائفتين في الأصل: طائفة هم صابئة حنفاء
__________
1 البقرة، الآية 62.
2 المائدة، الآية 69، الحج، الآية 17، تفسير الطبري "2/ 144"، "دار المعارف"، مجمع البيان، الطبرسي "1/ 278"، الملل والنحل، للشهرستاني "2/ 98"، نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، للدمشقي "1/ 44" "بطرسبورغ"، ابن خلدون "2/ 32""دار الكتاب اللبناني 1959م"، المسعودي، مروج "2/ 247"، الفهرست "332"، رسوم دار الخلافة "5".(12/277)
وهم في نظرهم أصحاب إبراهيم ممن كان بحران وممن كان على دعوته، وصابئة مشركون وهم من فسدوا من الصابئة فأشركوا واعتقدوا بالكواكب1.
ولكن الذي يفهم من القرآن الكريم أن الصابئة جماعة كانت على دين خاص، وإنها طائفة مثل اليهود والنصارى، أي أن الكلمة مصطلح ولها مدلول معين مفهوم. فما ذهب إليه المفسرون من هذا الترعيف للصابئة ومن هذا التقسيم، إنما تكون عندهم في الإسلام، بعد وقوفهم على أحوال الصابئة واتصالهم بهم.
ويفهم من المواضع التي ورد فيها ذكرهم في القرآن الكريم، ومن ورود اسمهم مع اليهود والنصارى فيه، إنهم كانوا يعبدون إلها، ويتوجهون في دينهم إليه2.
ولا استبعد أن يكون من بين سكان مكة أناس كانوا من الصابئة، جاءوا إليها تجارا من العراق، أو جاء بهم الحظ إليها، حيث أوقعهم في سوق النخاسة، فاشتراهم تجار مكة وجاءوا بهم إلى مدينتهم، وعرفوا منهم أنهم صابئة.
ونحن إذا ما تتبعنا ما ورد عن لفظة صبأ وصابئ في الموارد الإسلامية نرى أن هذه الموارد تفسر ما ورد عن لفظة صبأ وصابئ في الموارد الإسلامية نرى أن هذه الموارد تفسير لفظة صبأ بمعنى خرج من شيء إلى شيء، وخرج من دين إلى دين غيره. وتذكر أن قريشًا كانت تسمي النبي صابئا، والصحابة الصباة3. أي الخارجين على دين قومهم. وهي تستعمل لفظة الصابئة في كثير من الأحوال في معنى حنفاء، كالذي نراه في ربطهم إبراهيم بهاتين الديانتين، وعدهم قدماء الصابئة في جملة الحنفاء، فإن هذا يدل على أن المراد من الصابئة بين العرب عند ظهور الإسلام هم المنشقون الخارجون على ديانة قومهم، أي على عبادة الأوثان والمنادين بالتوحيد. وأما ما نراه من إطلاق الصابئة على الصابئة المعروفين في الإسلام، فإنما حدث في الإسلام.
واطلاق قريش لفظة الصابئ والصباة على المسلمين بدلا من تسميتهم بمسلمين قضية مهمة جدا، يجب الاهتمام بها، وفي الأخبار أمثلة كثيرة على ذلك. فقد
__________
1 التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون "1/ 887"، بلوغ الأرب "2/ 223 وما بعدها".
2 Dicttonary of IsIam
3 النهاية "2/ 369"، اللسان "1/ 102"، "وكانت العرب تسمي النبي صلى الله عليه وسلم الصابئ، لأنه خرج من دين قريش إلى الإسلام، ويسمون من يدخل في دين الإسلام مصبوا.. ويسمون المسلمين الصباة"، تاج العروس "1/ 306"، "طبعة الكويت"، القاموس المحيط "1/ 20".(12/278)
ذكرت كتب الحديث والسير واللغة أن قريشًا دعت النبي صابئا، وفي جملة من دعاه بذلك عمر قبل إسلامه، ثم رمي عمر بها بعد إسلامه أيضًا. ولما أسلم أبو ذر الغفاري، انهال عليه أهل مكة بالضرب، لأنه صبأ وفتن وخرج عن دينهم. ولما أرادت زوج مطعم بن عدي خطبة ابنة أبي بكر إلى ابنها، ذكرت له أنها تخشى أن يؤثر على ولدها، فيكون من الصباة. وقد كانت لفظة الصباة والصباء بمعنى مسلمين عند المشركين، ففي معركة حنين نجد "دريد بن الصمة" يخاطب أحد رءوس القوم ويقول له في جملة ما قاله: "ثم ألق الصباء على متون الخيل"1. ولما أرسل بنو عامر لبيدا إلى النبي ليرى خبره وعلمه، أسلم، وأصابه وجع شديد من حمى، فرجع إلى قومه بسبب تلك الحمى، وجاءهم بذكر البعث والجنة والنار، فقال صرافة بن عوف بن الأحوص:
لعمر لبيد إنه لابن أمه ... ولكن أبوه مسه قدم العهد
دفعناك في أرض الحجاز كأنما ... دفعناك فحلا فوقه قرع اللبد
فعالجت حماه وداء ضلوعه ... وترنيق عيش مسه طرف الجهد
وجئت بدين الصابئين تشوبه ... بألواح نجد بعد عهدك من عهد
وإن لنا دارا زعمت ومرجعا ... وثم إياب القارضين وذي البرد
فكان عمر يقول: "وايم الله إياب القارضين وذي البرد2". فقصد الشاعر بجملة "دين الصابئين" الإسلام، فالصابئون في نظر المشركين هم المسلمين.
ولما ذهب سعد بن معاذ إلى معركة، أنبه أبو جهل على قدومه إليها بعد أن دخل في دين الصابئين. ولما قدم خالد بن الوليد على بني جذيمة، نادوه بأنهم صبئوا، أي دخلوا في الإسلام3. ويلاحظ أن الوثنيين أطلقوا هذه التسمية على كل من أسلم، وعلى كل من شكوا فيه ورأوا أنه ميال إليهم، فكانوا يرمونه بهذه التهمة. أما المسلمون، فلم يرتاحوا إليها. والظاهر إنها كانت سبة بالنسبة إليهم في ذلك العهد، بدليل إنهم كانوا يكذبون من كان يطلقها من المشركين عليهم ويرد عليهم ردا شديدا، فلما نادى جميل بن معمر الجمحي في قريش:
__________
1 الطبري "1/ 126"، "معركة حنين".
2 الأغاني "15/ 131 وما بعدها" "خبر لبيد في مرثية أخيه".
3 لقد جمع "ولهوزن" أكثر المواضع التي أطلق الوثنيون فيها هذه اللفظة على المسلمين، راجع كتابة: Reste S 236(12/279)
ألا، إن ابن الخطاب قد صبأ، وذلك حين دخل في الإسلام، وشهد بذلك أمام النبي، نادى عمر من خلفه: كذب، ولكني أسلمت، وقالت قريش: صبأ عمر1. ولا بد أن يكون لتكذيب عمر وغيره الوثنيين لتسميتهم المسلمين بهذه التسمية من سبب. وهو سبب يشعر أن أهل مكة إنما أطلقوها عليهم إهانة لهم وازدراء لشأنهم وعلى سبيل السبة، لأنها كانت سبة عندهم وذلك قبل الإسلام. وإلا لما انزعج المسلمون منها، وردوا على قريش بسببها ردا قبيحا. وقد رأيت أن المسلمين كانوا يفتخرون باطلاق الحنيفية عليهم، وإنهم كانوا يرون أن الحنفاء هم سلف المسلمين، وأن إبراهيم كان حنيفا وكان أول المسلمين.
فالصابئون إذن هم أولئك الخارجون على عبادة قومهم المخالفون لهم في ديانتهم شأنهم في ذلك في نظر قريش شأن من يسميهم المسلمون في أيامنا بالملحدين أو الهدامين، أو أي مصطلح آخر يراد به الرمي بالخروج على مثل المجتمع القائم وتقاليده، وذلك ازدراء بهم، وتنفيرا للناس عنهم.
__________
1 ابن الأثير "2/ 34 وما بعدها" "ذكر إسلام عمر بن الخطاب".(12/280)
الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح
مدخل
...
الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح
للعالم الخفي، وأقصد به عالم الأرواح وكل ما لا تراه العين ويدركه الحس من قوى طيبة أو خبيثة، أثر خطير في عقائد أهل الجاهلية، وفي عقائد الشعوب القديمة، وفي أنفس كثير من الناس حتى اليوم، إذ يشغل ذكل العالم في الواقع جزءًا خطيرًا من الدين ومن حياة الناس عامة. فهناك صلوات وشعائر وأدعية مكتوبة وغير مكتوبة تنلى وتقال وتقرأ للسيطرة على ذلك العالم، وللانتفاع منه، ولتسخيره في سبيل خير الإنسان ومصلحته، ولتجنب أذى النوع الخبيث منه. وإذا تتبعنا هذه الاعتقادات عند الجاهليين، وجدنا إنها قد كونت الجزء الأكبر من عقيدتهم وديانتهم، وإنها والذبائح من الأصول التي ارتكزت عليها ديانات العرب قبل الإسلام.
والواقع أن الاعتقاد بالأرواح يشغل حيزًا كبيرًا من فناء الدين عند الجاهليين، وإن بدا لنا إنه شيء لا علاقة له بالدين. فنحن حين البحث في موضوع العقيدة والدين عند أهل الجاهلية، لا نتحدث بالطبع عن العقيدة والدين بالنسبة إلى معتقداتنا وبالنسبة إلى تفكير الإنسان في القرن العشرين، وإنما نتحدث عن رأي أناس عاشوا قبل الإسلام، وعن جماعة أدركت العشرين، وإنما نتحدث عن رأي أناش عاشوا قبل الإسلام، وعن جماعة أدركت الإسلام، كانت الأرواح في نظرها أكثر أثرًا في حياة الفرد من أثر الآلهة فيه. فتقرب وتوسل إليها أكثر من تقربه وتوسله إلى آلهته التي كان يرى أن بيدها مفتاح سعادته وشقائه. وآية ذلك كثرة الكلمات والمصطلحات الجاهلية المتعلقة بها، وما ورد في القرآن الكريم وفي(12/281)
الحديث النبوي والأخبار من أثر الجن في نفوس القوم، حتى تصوروهم آلهة وشركاء للأرباب في إدارة دفة هذا الكون.
هذا، ونحن إن ذكرنا الأرواح، فإننا لا نقصد المعنى المفهوم منها في رأينا، بل نقصد هذا المعنى وشيئًا آخر أعم وأوسع منه، معنى يشمل أيضًا بعض الأحجار والأشجار والآبار والكهوف وأمثال ذلك من أشياء تصور أهل الجاهلية إ، ما تكمن فيها قوة خارقة تستطيع التأثير في حياة الناس، فتقربوا إليها بالزيارات والقرابين وبالتضرع والتوسل والأدعية لقدسيتها ولتلك القدرة العجيبة التي فيها، فهي من حيث النفع أو الضرر كالأرواح: لوجود قوى خارقة غير منظورة فيها، هي من الأرواح، فتقرب إليها الإنسان لذلك، لغرض الاستفادة منها أو دفع أذاها.
وطبيعة الأرواح، طبيعة غير مرئية ولا منظورة، هي لطيفة خفية مستورة. إنما يجوز لبعضها الظهور في سورة أشباح، والتجسم على هيأة الأجساد. ثم إنها على طبيعتين: شريرة وخيرة، خبيثة وصالحة. من الطبيعة الأولى الشياطين وبعض أنواع الجن، ومن الطبيعة الثانية الملائكة والشطر الثاني من الجن. وأثر الخبيث من الأرواح أوضح وأكثر في عقلية أهل الجاهلية من أثر الفريق الصالح. وهو شيء منطقي مفهوم، فالإنسان إلى الشر أقرب منه إلى الخير، ذلك أن من طبع الخير عدم إلحاق الأذى بالغير، فلا يخشى منه. أما الشرير، ففي طبعه إلحاق الضرر والأذى بكل واحد، وفي كل لحظة يراها، لذلك التفتت إليه الأنظار حذار منه، وخشية من مكره، وتقربت وتوددت إليه، لا حبا له، ولا تقربا إليه لا، جدير به، بل إنما تملقا وتزلفا لإبعاد شره، وأمن جانبه على نمط ما يفعله الناس تجاه الأقوياء من الأشرار حيث يتقربون إليهم أو يبتعدون عنهم طمعا ورهبة، تمشية لأمور معاشهم، لا حبا لهم وإخلاصا لاستحقاقهم ذلك الحب والاخلاص.
وقد ذكر "الجاحظ" أن الأعراب تجعل الخوافي والمستجنات جنسين. يقولون جن وحن1. وقصد بـ "الخوافي" الأرواح، لأنها لا ترى. وذكر غيره أن "الحن"، حي من الجن، كانوا قبل آدم، يقال منهم الكلاب السود البهم، يقال كلب حتي، أو سفله الجن وضعفاؤهم أو كلابهم، "ومنه حديث
__________
1 الحيوان "6/ 193".(12/282)
ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، الكلاب من الحن، وهي ضعفة الجن، فإن كان عندكم طعام فألقوا لهن، فإن لهن أنفسا، أي تصيب بأعينها"1. وذكر أن "الحن" خلق بين الجن والإنس2.
وذكر "الجاحظ" أيضًا أن بعض الناس يقسم الجن على قسمين، فيقول: هم جن و"حن" ويجعل "الجن" أضعفها3. وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى أن "الحن"، هم كلاب الجن وسفلتهم، وشر أنواع الجن4. ويجعلون الجن فوق الجن5.
ويقال للجن الجان، و"الجِنة" كذلك. و"الجان" اسم جمع للجن على رأي بعض علماء اللغة6. وقد ورد في مقابل "الإنس" في القرآن الكريم، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} 7. وصيره اسم أبي الجن بعض العلماء، أي في مقابل آدم أبي البشر8. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن كلمة "الجن" من الكلمات المعربة، وذهب بعض آخر إلى إنها عربية9. وأرى إنها من الكلمات السامية القديمة، لأن الإيمان بالجن من العقائد القديمة المعروفة عند قدماء الساميين وعند غير الساميين كذلك. والجن قوم مستترون، وكلمة "جنون" من هذا الأصل، ومن معاني أصل الكلمة الاستتار.
ولم يتوصل الباحثون حتى الآن إلى رأي ثابت في أصل كلمة "الجن". فمنهم من رأى اسم صنم من أصنام العرب القديمة، ومنهم من رأى أنها من أصل
__________
1 تاج العروس "9/ 185"، "حنن".
2 المصدر نفسه.
3 الحيوان "7/ 177"، "هارون" "6/ 193".
4 بلوغ الأرب "2/ 351".
5 قال الأعشى سليم:
فما أنا من جن إذا كنت خائفا ... ولست من النسناس في عنصر البشر
وقال آخر:
أبيت أهوى في شياطين ترن ... مختلف نجواهم حن وجن
الحيوان "6/ 193".
6 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، روح المعاني "14/ 34 وما بعدها".
7 الرحمن، الآية 74.
8 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، "والجان: أبو الجن.. كما أن آدم أبو البشر"، اللسان "13/ 95 وما بعدها"، "جنن" Reste S 148
9 Ency., I, P. 1045, Smith, P. 121, Lane, Laxicon, P. 492(12/283)
أعجمي، ومنهم من وجد لها صلة بالحبشية1. أما علماء العربية، فرأوا أن معنى الكلمة الأصلي هو الاستتار، وأنها من الاجتنان، ولعدم إمكان رؤية ذلك العالم أطلقت عليه كلمة "الجن"2. وتقابل لفظة "الجن" و"جن" لفظة "Demonw" في الإنكليزية.
ويرى "نولدكه" أن فكرة "الجن" فكرة استوردها العرب من الخارج، بدليل قولهم أن الجنة من عمل الجن، ومن تلبس الجن بالإنسان. وهي في نظره عقيدة قديمة دخلت العرب من جيرانهم الشماليين، فقد كان الإيرانيون يطلقون على المجنون لفظة "ديوانه" "Devana"، أي جان. ومن هذه الفكرة دخلت العهد الجديد من الكتاب المقدس. ويأتي "نولدكه" بدليل آخر على إثبات نظريته في أن فكرة الجن فكرة مستوردة من الخارج شيوع قصص بناء جن سليمان مدينة "تدمر" بين الجاهليين، وهو قصص ورد من قصة بناء "سليمان" لـ "تامار" في العهد القديم، وتفسير "تامار" بتدمر عند المفسرين العبرانيين3.
ورأى "روبرتسن سمث" وجوه شبه كبير بين فكرة العرب عن الجن وبين فكرة بعض القبائل البدائية عن الحيوانات. إن رأي الجاهليين في الجن في رأيه يشبه رأي المتوحشين الطوطميين في الحيوانات الوحشية. وفي القصص الذي يرويه البدائيون عن الحيوانات الوحشية وعن أرواحها وإمكان إحداثها الأمراض والأذى بالإنسان شبه بهذا القصص المروي عن الحيوانات الوحشية، مما جعله يتصور أن فكرة الجن عند الجاهليين هي تطور لهذه النظرية القديمة التي تكون عند الطوطميين. انتقلت إليهم من عقيدة سابقة تطورت من عهد عبادة الطوطم. وأن الجن "طوطمية" دون أن يكون لها قوم يشعرون بوجود صلة نسب وقربى بها4.
ولكن من الصعب تصور ظهور فكرة الجن عند عرب الجاهلية برمتها من
__________
1 Ency. Religi, I, p. 669, Noldeke, Moallakat, I, 69, 78, Shorter Ency, p. 91. Ency, I, p. 1045.
2 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، اللسان "13/ 95 وما بعدها"، "جنن".
3 Ency. Religi, I, p. 670.
4 Robertson Smith, Marriage, p. 128.(12/284)
الطوطمية، لأن هناك أمورا عديدة لا يمكن تفسيرها على وفق هذه النظرية. ولكننا نستطيع أن نقول إنها نوع من أنواع1 الـ"Animism". وقد وجدت عند العبرانيين في عهودهم القديمة، كما كانت عند البابليين وغيرهم.
وإذا سكن الجني مع الناس، قالوا: عامر، والجمع عمار، وإن كان ممن يعرض للصبيان، فهم أرواح، فإن خبث أحدهم وتعرم، فهو شيطان. فإن زاد على ذلك، فهو مارد. فإن زاد على ذلك في القوة، فهو عفريت. فإن طهر الجني ونظف ونقي وصار خيرًا كله فهو ملك. وهم في الجملة جن وخوافي2.
لقد لعب الإيمان بالجن عند بعض الجاهليين دورا فاق الدور الذي لعبته الآلهة في مخيلتهم، فنسبوا إليها أعمالا لم ينسبوها إلى الأرباب، وتقربوا إليها لاسترضائها أكثر من تقربهم إلى الآلهة. إنها عناصر مخيفة راعبة. تؤذي من يؤذيها ويلحق به الأذى والأمراض، ولذلك كان استرضاؤها لازما لأمن تلك الآفات. وهذه العقيدة جعلت الجن في الواقع آلهة، بل أكثر سلطة ونفوذا منها، وصيرت عمل الآلهة سهلا يسيرا تجاه الأعمال التي يقوم بها الجن. ولا زال أثر هذه العقيدة باقيا في نفوس الناس حتى الأيام، مع تقليل أهمية عمل الجن على الإنسان في الإسلام.
وليست هذه العقيدة عقيدة أهل الجاهلية حسب، بل هي عقيدة أكثر من اعتقد بأثر الأرواح في العالم وفي عمل الإنسان، إذ صيرتها آلهة مقرها الأرض، أو آلهة من الدرجة الثانية. والغريب أننا نرى بعض الشعوب تخصص أعمال الآلهة الكبيرة بناحية معينة، وتعتبرها آلهة رئيسية كبرى، بينما تجعل عمل الجن عملا واسعا يشمل كل الأرض والإنسان، أي أن عملها أوسع جدا من عمل تلك الألهة وأهم.
وفي القرآن الكريم أن قريشًا جعلت بين الله وبين الجنة نسبا: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} 3، وإنها جعلت الجن شركاء له: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 4. أي جعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم
__________
1 المصدر نفسه.
2 الحيوان "6/ 190 وما بعدها".
3 الصافات، الآية "158.
4 الأنعام، الآية 100.(12/285)
اياه، وخرقوا له بنين وبنات، وتخرصوا لله كذاب، فافتعلوا له بنين وبنات جهلا وكذابا1. وورد أن الله تزوج الجن، وأن الملائكة هم بناته من هذا الزواج. "قال كبار قريش: الملائكة بنات الله. فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: بنات سراة الجن"2.
ويفهم من القرآن الكريم أيضًا أن من العرب من كان يعبد الجن: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3. وذكر "ابن الكلبي" أن "بني مليح" من خزاعة رهط طلحة الطلحات، كانوا ممن تعبد الجن من الجاهليين4. ويزعمون أن الجن تتراءى لهم5. وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} 6. وذكر أن قبائل من العرب عبدت الجن، أو صنفا من الملائكة يقال لهم الجن. ويقولون هم بنات الله7، فأنزل الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 8.
وليس لدى المفسرين أو أهل الأخبار علم واضح عن كيفية اعتقاد بعض العرب بألوهية الجن وبمصاهرتها للآلهة أو الإله. وما ورد عن ذلك في القرآن، مجمل. والظاهر أن ذاكرة الإخباريين لم تتمكن من حفظ تفاصيل هذه العقيدة والعقائد المماثلة الأخرى، ولا بد وأن تكون لها أسطورة قديمة، يظهر أنها ماتت قبل الإسلام، أو أن المسلمين تركوا روايتها لمعارضتها للإسلام ولأنها كانت في نظرهم خرافة تتعلق بأصنام، فلم يروا الاهتمام بها، وتركوها، ولولا ورود ذكرها مقتضبا في القرآن، فلربما صرنا في جهل تام بأمر تلك العبادة.
ويرى "نولدكه" أن الجاهليين لم يتعبدوا للجن، ولم يتخذوها آلهة على نحو
__________
1 تفسير الطبري "7/ 197".
2 لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطي "2/ 81 وما بعدها"، حاشية على تفسير الجلالين.
3 سبأ، الآية 41.
4 الأصنام "34"، الاشتقاق "276".
5 تفسير القرطبي "14/ 309".
6 الأعراف، الآية "193.
7 تفسير الطبري "15/ 72".
8 الإسراء، الرقم "17،الآية 57.(12/286)
ما نفهم من معنى الآلهة، وأن "عبد الجن"، وإن دل على التعبد للجن، إلا أن هذه التسمية لا تدل حتما على عبادة للجن1.
وتتألف الجن من عشائر وقبائل، تربط بينها رابطة القربى وصلة الرحم. وهي كعشائر وقبائل جزيرة العرب، تتقاتل فيما بينها، ويغزو بعضها بعضًا. ولها أسماء ذكر بعضًا منها أهل الأخبار، كما أن لها ملوكا وحكاما وسادات قبائل. فهي في حياتها تحيا على شكل نظام حياة الجاهليين. وإذا اعتدى معتد على جان انتقمت قبيلته كلها من المعتدي أو المعتدين. وبين قبائل الجن عصبية شديدة، كعصبية القبيلة عند الجاهليين، وهي تراعي حرمة الجوار، وتحفظ الذمم والعقود وتعقد الأحلاف. فنحن إذن أمام حياة جاهلية مستترة غير منظورة، هي حياة جن جاهليين، ومن الجن "بنو غزوان"2، "بنو "غزوان"3.
وقد تتقاتل طوائف من الجن، فيثير قتالها عواصف الغبار، ولذلك فسر الجاهليون حدوث العواصف والزوابع بفعل الجن. ونجد هذه الفكرة فكرة إحداث الجن للرياح والعواصف في المزامير من أسفار التوراة4.
وهم مثل البشر، فيهم الحضر، أهل القرار، وفيهم المتنقلة وهم أعراب الجن، وفيهم من يسير بالنهار، وفيهم من يسير بالليل، وهم "سراة الجن"، و"السراة". قال الشاعر:
أتوا ناري فقلت منون قالوا ... سراة الجن، قلت: عموا ظلاما5
وللجن كما للإنس ورؤساء وعظماء، نذكر منهم: الشنقناق والشيصبان. وقد ذكر الأول في شعر "بشار بن برد" وفي شعر لأبي النجم، وفي شعر حسن بن ثابت6. و"دحرش" أبو قبيلة من الجن7.
وعقد الجاهليون أحلافا مع الجن على التعاون والتعاضد، فقد ذكر أن قوما
__________
1 Ency. ReIigI I, p. 670
2 اللسان "5/ 89"، "وبنو غزوان، حي من الجن"، "قرر".
3 تاج العروس "10/ 241"،"عزا".
4 المزمور104، الآية الرابعة Reste,S.151
5 تاج العروس "10/ 174"، "سرى".
6 الحيوان "1/ 308"، "6/ 228، 231"، ثمار القلوب "55".
7 تاج العروس "4/ 310"، "دحرش".(12/287)
من العرب، كانوا قد تحالفوا مع قوم من الجن من "بني مالك بن أقيش"1.
ويذكر الرواة قصصًا عن الجن مع الإنسان. يذكرون أن "تأبط شرا" رفع كبشا تحت إبطه، وأخذه معه إلى الحي، فصار يبول عليه في الطريق، حتى إذا قرب من مكانه، ثقل عليه، فرمى به، فإذا هو الغول2. ويذكرون أن ابن امرأة من الجن أراد الحج في الجاهلية، فخافت عليه أمه من سفهاء قريش، ولكنه ألح عليها بأن تسمح له بالذهاب. فلما أكمل الطواف، وصار ببعض دور بني سهم، عرض له شاب منهم فقتله، فثارت غيرة شديدة بمكة، ومات من بني سهم خلق كثير قتلهم الجن انتقاما منهم لمقتل الجان، فنهضت بنو سهم وحلفاؤها ومواليها وعبيدها، فركبوا الجبال والشعاب بالثنية، فما تركوا حية ولا عقربا ولا عظاية ولا خنساء ولا شيئًا من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه، حتى ضجع الجن، فصاح صائحهم من على أبي قبيس يطلب وساطة قريش بينهم وبين بني سهم الذين قتلوا منهم أضاف ما قتله الجن من بني سهم، قتوسطت قريش، وأنهي النزاع، وتغلب بنو سهم على الجن3.
والجن مثل البشر، يعتدون كذلك، ولا يردعهم من اعتدائهم إلا بالقوة. هذا رجل من "بني سهم" يقص علينا في الإسلام إنه كان بـ "تبالة" يراجع نخلا له، وبين يديه جارية له، فصرعت، فأدرك أن الجن هم الذين صرعوها، فوقف عليها قائلا: يا معشر الجن! أنا رجل من بني سهم، وقد علمتم ما كان بيننا وبينكم في الجاهلية من الحرب وما صرنا إليه من الصلح والعهد والميثاق أن لا يغدر بعضنا ببعض، ولا يعود إلى مكروه صاحبه، فإن وفيتم وفينا، وإن غدرتم عدنا إلى ما تعرفون. فخافت الجن من هذا التهديد، وأفاقت الجارية، ولم يصبها بعد ذلك مكروه4.
وذهب الجاهليون إلى جواز قتل الجن للإنسان. وقد بقي هذا الاعتقاد
__________
1 الطبري "2/ 349"،"دار المعارف".
2 الأغاني "18/ 210 وما بعدها".
3 الأزرقي "2/ 11 وما بعدها"،"المطبعة الماجدية بمكة".
4 الأزرقي "2/ 12 وما بعدها".(12/288)
في الإسلام. فلما قتل "سعد بن عبادة بن دليم"، زعم أن الجن قتلته1. ولما قتل المغني المعروف "الغريض"، وهو من الموالي، وكان نشأ خياطا ثم أخذ الغناء بمكة عن "ابن سريج"، زعم أن الجن نهته أن يغني لحنه الذي يقول فيه:
تشرب لون الرازقي بياضه ... أو الزعفران خالط الملك رادعه
فلما لم ينته قتلته الجن في ذلك خنقا2.
وزعم أن الجن خنقت "حرب بن أمية"، وقالت الجن في ذلك شعرا3. وقتلت "مرداس بن أبي عامر"، أبا "عباس بن مرداس"، واستهوت "سنان بن حارثة"، ليستفحلوه، فمات فيهم. واستهووا "طالب بن أبي طالب"، فلم يعثر أهله له على أثر، واستهووا "عمرو بن عدي" اللخمي الملك، ثم ردوه على خاله "جذيمة بن الأبرش"، بعد سنين وسنين. واستهووا "عمار بن الوليد بن المغيرة"، ونفخوا في أحليه؛ فصار مع الوحش4.
ويروي أهل الأخبار أن الجن تتصادق مع الإنسان وتتباغض معه، وقد تقتله، ورووا في ذلك قصصًا، وذكروا أنها قد تتألم لوفاة رجل طيب أو شهير محبوب. وقد تعطف على المحتاجين والمعوزين. وفي جملة ما قالوه عن الجن أن "أبا هالة" كان قد خرج في الجاهلية في عير لقريش يريد الشام، فنزل واديا يقال له: "عز"، وانتبه آخر الليل فإذا شيخ قائم على صخرة، وهو ينشد شعرا في رثاء عبد الله بن جدعان، وكان ذلك الشيخ جان من الجن. وقد ذكر أهل الأخبار محاورة من الشعر قالوا إنها جرت بين "أبي هالة"، وبين ذلك الشيخ
__________
1 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 373"، المعارف 112، الحيوان "6/ 209"، الاشتقاق"456". وسمعوا الهاتف يقول:
قد قتلنا سيد الخزر ... ج سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين ... فلم نخط فؤاده
الحيوان "6/ 209"، "هارون"، "1/ 308".
2 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 373"، الأغاني "2/ 136، 143"، الحيوان "6/ 208""، "هارون" الحيوان "1/ 307".
3 الحيوان "1/ 302"، "هارون". وقالت الجن:
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر
الحيوان "6/ 207"، "هارون".
4 الحيوان "6/ 209 وما بعدها"، "هارون"(12/289)
الجني الذي عين وقت وفاة "عبد الله بن جدعان"، وثبته بالضبط، فكان كما قال1.
وقد يقع الحب بين الجن والإنس. فقد ذكر أن الجنية قد تتبع الرجل تحبه، ويقال لها: تابعة. ومن ذلك قولهم: معه تابعة، أي من الجنن والتابعة جنية تتبع الإنسان. كما يكون للمرأة تابع من الجن، يتبع المرأة يحبها2. وقد يعشق الجني امرأة ويتصادق معها. هذا "منظور" الجني، عشق امرأة اسمها "حبة"، وتصادق معها، فكانت "حبة" تتطبب بما يعلمها منظور3.
وقد يسرق الجن الأطفال والرجال والنساء، وللأخباريين قصص يروونه في ذلك. وينسب فقدان الأشخاص في البوادي إلى الجن في الغالب. غير إنها قد تنفع الناس أيضًا، لأن من الجن من هو طيب النفس، مفيد نافع، ولا سيما إذا ما تقرب إليها الإنسان وأحسن إليها. رأى الشاعر عبيد بن الأبرص حية، فسقاها. فلما ضل جمل له وتاه، نادى هاتف بصوت مسموع سمعه عبيد بن الأبرص مشيرا إلى الموضع الذي ذهب الجمل إليه. فذهب عبيد إلى المكان، وجاء بمجملة4. وكان هذا لهاتف هو صوت الحية التي هي جان من الجن.
وقد يتصاهر الإنسان مع الجن، فقد كان لعمرو بن يربوع بن حنظلة التميمي زوج من الجن: ولكنها لم تبق معه، بل اختفت بعد ذلك عند ظهور البرق5. ونسبت بعض الأسر والقبائل مثل "بني مالك"، و"بني شيصيان"، و"بني يربوع بن حنظلة" وعرفوا ببي السعلاة إلى الجن6. ونسب بعض الإخباريين نسب بلقيس وذي القرنين إلى الجن7. وذكر أيضًا أن زوج "عمرو بن يربوع التميمي" كانت سعلاة، أقامت مع زوجها في "بني تميم": فلما رأت برقا يلمع من شق بلاد السعالي، حنت وطارت إليهم، فقال شاعرهم:
__________
1 الاشتقاق "ص88 وما بعدها".
2 اللسان "8/ 29"، تبع".
3 تاج العروس "1/ 198"، "حب".
4 الأساطير العربية "79"، Reste, 154 ff.
5 الحماسة "1/ 561"، "طبعة فرايتاغ"، بلوغ الأرب "2/ 340"، الحيوان "1/ 185 وما بعدها، 188"، "هارون". Reste, S 154.
6 الأساطير العربية "75".
7 بلوغ الأرب "2/ 349"، الحيوان "1/ 180 وما بعدها".(12/290)
رأى برقا فأوضع فوق بكر ... فلا بك ما أسأل وما أغاما1
وفي ذلك قال "علباء بن أرقم":
يا قاتل الله بني السعلاة ... عمرو بن يربوع شرار النات2
وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع زواج الإنس بالجن وبالعكس، أي زواج الجن بالإنس. وتعرض لقول من قال إن "بلقيس" كانت من امرأة جنية. وذكر آراء الناس في هذا الزواج المختلط، الذي شك في إمكان انجاب نسل منه. وقال: "وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية والقحطانية، ونقرؤه في كتب السيرة، قص به القصاص، وسمروا به عند الملوك"3. وقد كان لأهل اليمن قصص وأساطير، بدليل ما نلاحظه من أن معظم رواة القصص القديم كانوا من أهل اليمن في صدر الإسلام. ويظهر أنهم حذقوا به وتفوقوا به على بقية العرب الذين نسميهم العدنانيين بسبب دخول كثير منهم في اليهودية وفي النصرانية وشرائهم الكتب، وفيها قصص من قصص أهل الكتاب والأساطير القديمة، فمزوجوه مع ما كان لهم من قصص وثني قديم.
وقد أطلق "الجاحظ" على قول الناس بزواج الإنس بالجن وبالعكس "الزواج المركب"، وأشار إلى قول الشاعر علباء بن أرقم:
يا قاتل الله بني السعلاة ... عمرا وقابوسا شرار النات
إنه الدليل على أن السعلاة تلد الناس. هذا سوى ما قالوا في الشق وواق واق ودوال باي وفي الناس والنسناس4.
وذكر أيضًا أن أعراب بني مرة تزعم أن الجن استهوت سنانا بي أبي حارثة المري، وهو والد هرم بن سنان، لتستفحله إذ كان منجبًا، وكان سنان قد
__________
1 الحيوان "1/ 186"، "هارون"، "6/ 197".
2 الحيوان "6/ 161"، اللسان "2/ 407"، نوادر أبي زيد "104، 147"، المخصص "3/ 26" "13/ 283"، الأمالي، للقالي "2/ 68"، محاضرات الراغب "2/ 281"، الخصائص "451"، الفصول والغايات "210".
3 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 371".
4 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 374"، الحيوان "1/ 189". "هارون".(12/291)
هام على وجهه1.
وقد وجه الإنسان جميع مواهبه منذ أقدم أيامه لتسخير عالم الأرواح، وجعله في خدمته وتحت تصرفه، أو لتحويله بحسب رغباته، وتجنب ضرره وأذاه. قام بذلك رجال الدين خاصة، ورجال الدين بحكم اتصالهم بالآلهة وبالعالم غير المنظور، هم خلفاء الآلهة على وجه الأرض، وألسنة الأرواح الناطقة بين الناس. فكانوا حكاما ورجال دين وسحرة وأطباء وعلماء، كما قام بذلك المنجمون والسحرة والكهان وغيرهم ممن تكهن وتحدث عن الغيب، وأظهر أن في قدرته التأثير على حياة الإنسان ونفعه وضره بالاستعانة بعالم الأرواح وبما عنده من قدرات خارقة في إمكانها اختراق حجب الأسرار والتحكم في العالم الخفي لتحويله إلى صالح إنسان إلى إلى الاضرار به.
وليس الجاهليون بدعا في هذه الأمور، بل كان غيرهم من الشعوب كالعبرانيين والبابليين والأغريق والرومان والمصريين والهنود وكل الشعوب الأخرى تعتقد بذلك. ولها رجال ادعوا العلم.
وقد كان الجاهليون يعلقون الحلي والجلاجل على "اللديغ"، يفعلون ذلك لاعتقادهم إنه يفيق بذلك، فلا تنام، ولو نام، سرى السم في جسمه، فمات. وذهب بعضهم إلى أن تعليق الحلي على اللديغ يبرئه من أمله. أما إذا علق الرصاص عليه، أو حلي به، فإنه يموت2.
وتقوم الجن بأعمالها بشكل غير منظور في الغالب، لأنها أرواح. وهي قد تحذر الإنسان أو ترشده إلى شيء يريده بصوت جمهوري مسموع، يقال له: الهاتف، دون أن يرى الشخص أو الأشخاص صاحب ذلك الصوت. وهي تنبئ عن المستقبل كما تتحدث عن الماضي3. وقد ذكر "الجاحظ" أن "الأعراب وأشباه الأعراب لا يتحاشون عن الإيمان بالهاتف، بلد يتعجبون ممن رد ذلك". ثم قال: "قالو: ولنقل الجن الأخبار علم الناس بوفاة الملوك، والأمور المهمة، كما تسامعوا بموت المنصور بالبصرة وفي اليوم الذي توفي فيه بقرب مكة. وهذا الباب أيضًا كثير"4.
__________
1 المصدر نفسه "ص375"، الحيوان "7/ 24"، الميداني "1/ 202".
2 بلوغ الأرب "2/ 304".
3 الحيوان "6/ 202".
4 الحيوان "6/ 202 وما بعدها".(12/292)
والجن وإن كانت من الأرواح، أي أنها غير منظورة، إلا أن في استطاعتها أن تتجسم متى شاءت. فتظهر على هيئة جسم من الأجسام. إذ أن للجن قدرة على التشكل بالشكل الذي تريده، تظهر في صورة حيوان أو في صورة إنسان أو غير ذلك. ومن هنا نجد قصص مصاهرة الإنسان للجن، وظهور نسل وأسر من هذا الزواج. وفي استطاعتها أيضًا تغيير الشكل الذي ظهرت به بشكل آخر حيث تشاء1. كما ورد ذلك في قصة الشاعر "تأبط شرا" والكبش الذي حمله، بينما هو جني. ومن هنا تختلف طبيعتها عن طبيعة البشر والحيوان.
وقد تتمثل الجن في صور حيوانات مشعرة، أي ذات شعر كثيف. فالجن عند الشعوب السامية ذات شعر كثيف، لذلك قيل لها "سعريم" "Sa,hirim" في العبرانية. وهي تختار الأماكن الموحشة المقفرة في الظلام، مثل رهبان الليل "ليليت" LiIith"، وتذهب مع الحيوانات التي تنفر من الإنسان مثل النعامة2.
وفي الأساطير الجاهلية أن البقر إذا أوردت "فلم ترد، ضربوا الثور ليقتحم الماء، فتقتحم البقر بعده، ويقولون إن الجن تصد البقر عن الماء، وأن الشيطان يركب قرني الثور"3. وقد ذكرت هذه الأسطورة في أشعار جاهلية، يظهر من نقدها ودراستها إنها من آثار العقائد الجاهلية في الجن. وقد اتخذت مثلا لمن ينزل عليه يركب قرني الثور، هو الذي جعلهم يتصورون أن الثور يتقدم البقر في شرب الماء، ذلك لأن الشيطان ركب قرنيه، فلا يخشى الثور إذن من الجن، والشيطان أخبث أنواع الجن وأذكاها. فتخافه الجن، وتفسخ المجال للبقر في ورود الماء. أما ضرب الثور لتوجيهه إلى الماء، فلأجل أن الشيطان ركب قرنيه، فبضربه وبتقدمه الشيطان نحو الماء فتخافه الجن وتفزع منه، وتسمح للبقر بورود الماء، ولهذا ضرب، ليستفيد بذلك غيره4.
__________
1 Robertson Smith, Lectures on the Religion of the Semite, p. 120.
2 Robertson, p. 120, B.C. Thompson, Semitic Magic, London, 19089, p. 57.
3 قال الأعشى:
لكالثور والجني يضرب وجهه ... وما ذنبه إن عافت الماء باقر
ولغيره:
إني وقتلى سليكا حين أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر
4 بلوغ الأرب "2/ 303 وما بعدها".(12/293)
وأهم مواطن الجن في نظر الجاهليين، هي المواضع الموحشة، والأماكن المقفرة التي لا تطرق إلا نادرا والمحلات التي لا تلائم الصحة، والمقابر والأماكن المظلمة والمهجورة. ففي مثل هذه المواطن تنزل الجن، وتفضل الإقامة بها، وسبب ذلك، هو أن الإنسان يخشى هذه المواضع، ويحس بشيء من الخوف والوحشة من الدخول إليها، فقد يتعرض فيها إلى التهلكة، فأوحى هذا الأحساس إليه أنها "مسكونة"، وأن سكانها هم الجن. وأنهم قد يتعرضون له بسوء إن لم يعرف كيف يسلك سلوكان طيبا معها، ولذلك صار يتحاشى ولوج هذه المواضع، لا سيما في الليالي المظلمة، وإذا دخلها مضطرا، تخيل الأشباح والأرواح وهي تلعب به كيف تشاء، وتحوم حوله. ومن هنا ظهر عنده القصص المروي عن مواطن الجن.
وسكنت الجن المواضع المظلمة والفجوات العميقة فيها وباطن الأرض، ولذلك قيل لها: ساكنوا الأرض. كما سكنت المقابر1. والمقابر هي من المواضع الرئيسية المهمة المأهولة بالجن. ولذلك يخشى كثير من الناس ارتيادها ليلا. وهي لا بد أن تكون على هذه الصفة، فهي مواطن الموتى، وأرواح الموتى تطوف على القبور، والموت نفسه شيء مخيف، والجن أنفسها أرواح مخيفة، فهل يوجد موضع أنسب من هذا الوضع لسكن الجن؟
وتزعم الأعراب أن الجن سكنت "وبار". وحمتها من كل من أرادها؛ وهي بلاد من أخصب بلاد العرب، وأكثرها شجرا، وأطيبها ثمرا، وأكثرها حبا وعنبا. فإن دنا إنسان من تلك البلاد، متعمدا أو غالطا، حثوا في وجهه التراب، فإن أبى الرجوع خبلوه، وربما قتلوه. فليس في تلك البلاد إلا الجن، والإبل الحوشية2.
وقد زعم أن "يبرين" من مواطن الجن. وكانت في الأصل مواضع عاد. فلما هلكت، سكنتها قبائل الجن. وقد روى أهل الأخبار قصصًا عنها وعن اتصالها بالإنسان. وزعم بعض منهم أن "النسناس"، هم قوم من الجن3.
__________
1 Reste S 151
2 الحيوان "6/ 215 وما بعدها".
3 تاج العروس "4/ 257"، "نس".(12/294)
وقد ورد مثل هذه الأقوال عن مواضع أخرى كانت عامرة آهلة، ثم أقفرت، مثل الحجر موضع ديار ثمود1، مما يدل على أن من اعتقادات العرب قبل الإسلام هو أن المواضع التي تصيبها الكوارث تكون بعد هلال أصحابها مواطن للجن. ونجد مثل هذه الأساطير عند العبرانيين وعند غيرهم من الشعوب2.
وأشير في شعر "لبيد" إلى "جن البدي". قيل: "والبدي: البادية، أو موضع بعينه" وقيل واد لبني عامر3. وأشار "النابعة" إلى "جنة البقار". وذكر أن البقار واد، أو رملة، أو جبل، سكنته الجن، فنسبت إليه4. وأشير إلى "جنة عبقر" في شعر "زهير" و"لبيد" و"حاتم"5. وعبقر أرض بالبادية كثيرة الجن، وذكر بعضهم إنها باليمن6، قال لبيد:
ومن فاد من إخوانهم وبنيهم ... كهول وشبان كجنة عبقر
وقال بعض العلماء: عبقر قرية الجن فيما زعموا، فكلما رأوا شيئًا فانقا غريبا مما يصعب عمله ويدق أو شيئًا عظيمًا في نفسه نسبوه إليها. ولهذا قالوا: العبقري للسيد الكامل من كل شيء، وللذكي الممتاز7.
والمواضع المذكورة هي المواضع المفضلة المختارة لسكنى الجن. غير أن مواطن الجن غير محدودة ولا معينة، إنها تسكن كل موضع ومكان، حتى بيوت الناس لا تخلو منها، بل حتى البحار والسماء لا تخلو منها كذلك، فدولتها إذن على هذا الوصف أوسع من دولة الإنسان. وعلى من سكنت الجن بيته ألا يمسها بأذى ولا يلحق بها أي سوء، وأن يقوم بترضيتها بالبخور وبما شاكل ذلك مما تحبه الجن، وإلا أساءت إليه، وجعلت بيته مؤذيا شؤما، لا يرى من يسكن فيه أي خير.
__________
1 Reste, S. 150
2 Robertson, p. 120
3 الحيوان "6/ 189"، "هارون".
4 الحيوان "6/ 189"، اللسان "6/ 47"، "12/ 330".
5 الحيوان "6/ 189"، اللسان "6/ 209"، البلدان "6/ 113"، ثمار القلوب "188".
6 تاج العروس "3/ 379"، "عبقر"، اللسان "4/ 53
7 تاج العروس "/ 379"، "عبقر".(12/295)