علائم الملك:
وللملك علامات ومميزات تميزه عن غيره من الناس. منها "التاج" والعرش والرمح أو الحربة وعربة الملك والحرس الخاص، ووجود محل خاص يخصص له في المعبد ونقد يضرب عليه اسمه وشعاره وصورته. و"قصر" له يحكم منه، أو قبة كبيرة يتخذها قرارًا له ومجلسًا حين يتبدى أو يخرج للصيد إلى غير ذلك من علامات، تكون سيماء للملك، وعلامة فارقة تميزه عن رعيته وعن سواد مملكته.
وقد وصلت إلينا بعض الآثار التي تشير إلى شعار الملوك وعلائمهم ومنها النقود.
فلدى العلماء وفي المتاحف العامة والخاصة اليوم، نقود ضربت في العربية الجنوبية، منها نقود معينية وقتبانية وحميرية. وقد ضرب عليها أسماء الملوك أصحابها. ومن ذلك نقد ظهر الملك "اب يثع" "اب ي ث ع" "ابيشع" فيه وهو جالس على كرسي، لعله يرمز إلى كرسي العرش. أما رأسه، فهو مكشوف بغير غطاء. مما يدل على أنه لم يستعمل "التاج". ولا نجد التاج على رءوس بقية الملوك ممن ضربت صورهم على النقود. ولا على التماثيل التي عثر عليها لبعض ملوك أوسان.
ولما كنا لا نملك في الوقت الحاضر، صور ملوك جاهليين، ولا تماثيل كافية أو كتابات تشير إلى شعار الملوك وعلاماتهم ونوع ملابسهم وأمثال ذلك مما يميز الملوك عن الرعية، لذلك صار الحديث في هذا الموضوع من اختصاص الأجيال القادمة، فلعلها تعثر على آثار هي الآن في باطن الأرض، فيها حديث شيق عنه، فتقدمه لهم لنشره للناس.
ومن علامات الملك "العمارة": رقعة مزينة تخاط في المظلة علامة للرياسة.
و"العمار": ما يضعه الرئيس على رأسه عمارة لرياسته وحفظًا لها، ريحانًا كان أو عمامة. وكانوا إذا استقبلوا ملكًا أو رئيسًا، استقبلوه بالريحان، يرفعونه له،(9/203)
وكانوا إذا جلسوا مجالس شربهم، زينوها بالريحان، فإذا دخل عليهم داخل، رفعوا شيئًا منه بأيديهم وحيوه به. كما كانوا يضعون أكاليل الريحان على رءوسهم كما تفعل العجم1. وإذا سار الملك بين الناس، استقبلوه برمي الريحان عليه، وبنثر الورود عليهم، تحية للملوك.
وذكر أن من علائم الملك، أن يقال للملك أو السيد المطاع: "أبيت اللعن". وقد زعموا أن "حذيفة بن بدر" كان يحيى بتحية الملوك ويقال له: أبيت اللعن.
وقد ترك ذلك في الإسلام2.
__________
1 تاج العروس "3/ 422"، "عمر".
2 الحيوان "1/ 328"، "هارون".(9/204)
مظاهر التتويج:
وكان من عادة الملوك الإعلان عن تتويجهم للناس، والاحتفال بيوم التتويج والإفصاح عنه، وعندئذ يتلقب الملك بلقب يختاره لنفسه، فيعرف به "هملقب".
وكان من عادة ملوك حضرموت مثلًا الاحتفال بحمل اللقب في "محفد أنود" "محفد انودم". وقد انتهت إلينا جملة كتابات تشير إلى هذا المحفد. وقد اختتمت بكلمة "هملقب" أي: "ليتلقب"، واستعملت فيها بعض التعابير والكلمات التي لها صلة بهذه المناسبة، مثل "متلل"، ومعناها "بين" و"شهر" وأظهر، و"علن"، ومعناها أعلن، ليكون ذلك معروفًا بين الناس1.
وقد يدعى إلى هذه الاحتفالات رجال من حكومات أخرى، لمشاركة الملك وحكومته في الأفراح والمسرات، فيأتي رجال من قتبان أو من حضرموت أو من حكومات أخرى إلى سبأ مثلًا، لتهنئة ملكها وحكومتها، يحملون إليه الهدايا والألطاف التي تقدم في أمثال هذه المناسبات. ولا يستبعد استدعاء مندوبين من خارج العربية الجنوبية لحضور هذه المناسبات، غير أننا لم نظفر، ويا للأسف،
بنص يفيد ورود رسل أجانب أو زيارات ملوك إلى اليمن وبقية العربية الجنوبية لهذه المناسبات، إن لمناسبات أخرى مثل الدعوة إلى زيارة العربية الجنوبية ومشاهدتها في الأعياد أو في سائر الأيام، إلا ما رأيناه في عهد "أبرهة" الحبشي.
__________
1 REP. EPIG. VII, P. 418, NUM. 4914, 4915, 4916(9/204)
وقد حافظ ملوك العربية الجنوبية، على اختلاف حكوماتهم، على عادة اتخاذ الألقاب الملكية حين تولي العرش. فالرجل الذي يُملك لا بد له من اتخاذ لقب له، يعرف به. وقد بقوا يحافظون على هذه العادة إلى ما بعد الميلاد. ثم أخذوا يتساهلون في حمل هذه الألقاب ولا سيما بعد تدخل الحبش في شئون العربية الجنوبية ودخول اليهودية والنصرانية إليها. وقد كان فراعنة مصر يتخذون لهم لقبًا ملكيًّا عند توليهم العرش. ونجد هذه العادة، عادة اتخاذ ألقاب ملكية خاصة، عند ملوك آشور وعند غيرهم من الملوك، ليتميزوا بذلك عن أسماء الناس1. ولهذه الألقاب صلة بالآلهة التي كانوا يعبدون.
ومعارفنا في "مراسيم التتويج" مع ذلك ضئيلة جدًّا، ولا سيما ما يخص العرب الشماليين، فلا نعرف اليوم شيئًا يستحق الذكر عن كيفية التتويج وعن المراسيم والحفلات التي كانت تقام عندهم في هذه المناسبات. ولم نعثر حتى اليوم على نص جاهلي يصف أسلوب التتويج وكيفية إجراء المراسيم الخاصة بالتتويج عند الجاهليين عامة. فلا ندري أكانت تلك المراسيم تتم في المعابد وبرئاسة رجال الدين كما كانت الحال عند الأشوريين وعند غيرهم مثلًا، حيث يقوم رجل الدين الأكبر بإجراء الطقوس الدينية وبتلاوة الصلوات والأدعية، ثم يقوم بعد ذلك بوضع التاج على رأس الملك، وأمام تمثال الإله: "آشور". أم كانت تلك المراسيم تتم في القصور الملكية، أم كانت تجري بسذاجة وبغير تكلف، بأن يأتي سادات القوم لتهنئة الملك، ثم تقام المآدب.
ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن عادة اتخاذ الألقاب الملكية لم تكن معروفة عند ملوك الحيرة والغساسنة وملوك كندة وأمثالهم ممن وعت أسماءهم ذاكرتهم، بدليل ورود أسمائهم ساذجة لا تختلف عن تسميات الناس بشيء ليس فيها نعوت ولا صلة بالآلهة على نحو ما نجده في العربية الجنوبية عند المعينيين والسبئيين والقتبانيين، وغيرهم من حكومات ظهرت هناك.
ولم تصل إلينا أخبار في وصف كيفية احتفال ملوك الحيرة أو الغساسنة عند تتويجهم، أو عند وفاة ملوكهم وكيفية دفنهم، ثم كيفية تنصيب خلفائهم من بعدهم. ولا بد بالطبع من أن تكون تلك الحكومات قد احتفلت في هذه المناسبات،
__________
1 Roland de Vaux, Anciuent Israel, P. 107(9/205)
وأن يكون ملوكها قد جلسوا لتقبل التهاني من المهنئين، وأن يكونوا قد أولموا الولائم لكبار الوافدين عليهم. ونجد في أخبار "مكة" أن سادتها مثل "عبد المطلب"، كانوا يقصدون ملوك اليمن عند انتقال العرش إليهم لتهنئتهم ولتقديم التبريكات لهم. ثم يمضون أيامًا هناك حتى تنتهي أيام التهنئة، فيغدق الملك عليهم بالألطاف والطرف، لمناسبة عودتهم إلى ديارهم. وتكون هذه الألطاف من دواعي الفخر عندهم.
ولا نعرف شيئًا عن رسوم "البيعة" عند الجاهليين. وأعني بالبيعة كيفية مبايعة الملوك عند انتقال الملك إليهم. ولكن المألوف بين العرب أن كبار الناس يبايعون الملوك، بوضع أيديهم اليمنى على يد الملك اليمنى، ثم يبايعونه على الإخلاص له والسمع والطاعة وما شاكل ذلك من جمل وعبارات. وقد يقسمون له يمين الطاعة والولاء. وقد ورد في بيعة الناس لرسول الله يوم فتح مكة، ما قد يشرح لنا أصول البيعة في الحجاز. فقد ذكر أن الناس اجتمعوا، فجلس لهم رسول الله على الصفا وعمر بن الخطاب تحت رسول الله، أسفل من مجلسه يأخذ على الناس. فبايعوا رسول الله على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، وكذلك كانت بيعتهم لمن بايع رسول الله من الناس على الإسلام. فلما فرغ رسول الله من بيعة الرجال بايع النساء، واجتمع إليه نساء من نساء قريش، وكانوا قد وضعوا إناء فيه ماء بين يدي رسول الله، فإذا أخذ عليهن العهد وأعطينه غمس يده في الإناء، ثم أخرجها، فغمس النساء أيديهن فيه. وكان بعد ذلك يأخذ عليهن، فإذا أعطينه ما شرط عليهن، قال: اذهبن فقد بايعتكن، لا يزيد على ذلك. وتكون هذه البيعة بغير ماء1.
وتكون المبايعة بمبايعة السادات والأشراف للملك أو لسيد القبيلة. والمبايعة هي المعاقدة والمعاهدة على الطاعة. وبايعه عليه مبايعة عاهده. كأن كل واحد منهما باع ما عنده لصاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره2. ويبدأ أقرب الناس من الملك بمبايعته ثم الأبعد فالأبعد حسب الوجاهة والمكانة. ولا بد وأن يكون للشعراء والخطباء المكان الأول في "البيعة"، فالبيعة هي من المناسبات التي
__________
1 الطبري "3/ 61 وما بعدها".
2 تاج العروس "5/ 285"، "باع".(9/206)
يبحث عنها لسن الناس، لإظهار أنفسهم وللحصول على نوال وعطايا المُبايَعين، ولا تحدث هذه المناسبات إلا في الفترات، لهذا كانوا يتلهفون لسماع أخبارها، لعرض ما عندهم من فنون القول، ولنيل ما عند الملوك من الكرم والبذل.
وكان ملوك الجاهلية يأخذون الوضائع والودائع من السادات والوجوه، لتكون رهائن عندهم بالوفاء بعهود البيعة، لخشيتهم من خيسهم بعهدهم وتنصلهم منه.
وقد فعل "الأكاسرة" مثل ذلك بسادات القبائل، فأخذوا "الوضائع" منهم، وجعلوها رهنًا عندهم. وقد عرفت بـ"وضائع كسرى"1. ووضائع كسرى: هم الرهائن كان يرتهنهم وينزلهم بعض بلاده، حتى يصيروا بها وضيعة. وهم الشحن والمسالح2. وقد بعث رسول الله، إلى وضائع كسرى بهجر، فلم يسلموا، فوضع عليهم الجزية دينارًا على كل رجل منهم3. وكانت "وضائع كسرى" من أبناء أشراف العجم، ومن خضع لحكمه من عجم وعرب.
__________
1 تاج العروس "5/ 545"، "وضع"، فتوح، البلاذري "92".
2 تاج العروس "5/ 545"، "وضع".
3 البلاذري، فتوح "92"، "البحرين".(9/207)
التيجان:
ويضع الملوك شيئًا فوق رءوسهم، يتوجون به أنفسهم ليميزهم بذلك عن الرعية، يسمى "التاج" في عربيتنا.
ولا نعرف في الزمن الحاضر اسم "التاج" في العربيات الجنوبية. لعدم وروده في نصوص المسند. أما أهل الحيرة والغساسنة وعرب نجد والعربية الشرقية، فقد عرفوه واستعملوه، فورد في نص النمارة من سنة "328م" حيث ورد "ذو أسر التاج" أي: "الذي حاز التاج"1. وهذا النص هو أقدم نص تاريخي مدون وردت فيه هذه الكلمة. وقد وردت الكلمة في الشعر، إذا جاء "تاج آل محرق"2 وفي أخبار "النعمان" حيث عرف "بذي التاج"3. وذكر علماء اللغة أن التيجان للملوك4.
__________
1 Lidzbarski, Ephemeris. II, S. 34, Peiser, Die Arabische Inschrift bon En Nemara, in Orient Literatur Zeitung, VI, 15, 1905, 277-281
2 شعراء النصرانية "ص329".
3 Rothstein, S. 128
4 تاج العروس "3/ 386" "طبعة الكويت".(9/207)
وقد رصع ملوك الحيرة تيجانهم بالأحجار الكريمة على طريقة الفرس. وقد ورد في بيت شعر لمالك بن نويرة اليربوعي إن تاج النعمان بن المنذر كان من الزبرجد والياقوت والذهب1.
ونحن إذا جهلنا اليوم التاج أو أي شعار آخر يشير إلى الملك والحكم، كان يصنعه ملوك العربية الجنوبية على رءوسهم ليكون سمة لهم تميزهم عن الرعية وعمن هم دونهم، فإن ذلك لا يعني أننا ننكر وجودًا لشعار الملك عندهم، بل إني أرى أنه لا بد أن يكون لأولئك الملوك من تاج ومن شعارات أخرى، كانوا يتخذونها لتميزهم عن غيرهم ولتشعرهم بأنهم أصحاب السلطان. وإذا كان لملوك الرومان والروم والحبشة والفرس تيجان، فَلِمَ لا يكون لملوك العربية الجنوبية تيجان، وقد كانوا يحاكون ملوك زمانهم في رسوم الملك وأسلوب الحكم؟
وفي عربيتنا لفظة أخرى استعملت لتمييز شخص عن بقية الناس في المنزلة والدرجات، هي لفظة "الإكليل". فلمن يضع الإكليل على رأسه منزلة رفيعة، إلا أنها لا تبلغ درجة "ملك" ولا تؤدي معنى "تاج" فالتاج لا يكون إلا للملوك. وأما "الإكليل" فلمن دونهم. وقد كان شيئًا يضعه الشخص فوق مفرق رأسه، قد يعلق به خرز وأحجار وقد لا يعلق. وقد ورد في بعض الأخبار أن "هوذة بن علي الحَنَفي"، صاحب اليمامة، كان يضع إكليلًا على رأسه، وإليه أشار الأعشى في شعره:
لَهُ أَكاليلُ بِالياقوتِ زَيَّنَها ... صُوّاغُها لا تَرى عَيبًا وَلا طَبَعا
وقد عرف "الإكليل" أنه شبه عصابة مزينة بالجواهر، ويسمى التاج إكليلًا.
وقيل: إن الإكليل يجعل كالحلقة، ويوضع على أعلى الرأس2.
وقد ورد في روايات أخرى أن كسرى أعطى "هوذة" قلنسوة فيها جوهر، فكان يلبسها، فسمي ذا التاج3. غير أن أكثر الروايات تعارض في حصول
__________
1
لن يذهب اللؤم تاج قد حبيت به ... من الزبرجد والياقوت والذهب
وقد قاله لما عرض عليه الردافة، فأبى، فطلبه، فهرب منه. ومالك بن نويرة شاعر شريف، وأحد فرسان بني يربوع، قتله ضرار بن الأزور الأسدي بأمر خالد بن الوليد، ابن قتيبة، الشعر "ص192 وما بعدها"، الأغاني "14/ 63 وما بعدها"، الجواليقي "ص356"، المرزباني "ص360".
2 اللسان "11/ 595 وما بعدها".
3 الاشتقاق "ص209ح، اللسان "6/ 181"، "قلنسوة".(9/208)
"هوذة" على التاج، وفي بلوغه منزلة ملك. وترى أن تلقيبه بـ"ذي التاج" هو على سبيل المجاز، وأن الذي كان يضعه على رأسه هو إكليل، لا تاج من التيجان.
وذكر بعض الأخباريين أن التيجان كانت لليمن، وذكر أن غيرهم كانوا يتوجون أنفسهم بخرزات تنظم لهم. ويقال: إن الملك كان إذا ملك سنة زيد في تاجه وقلادته خرزة، ليعلم عدد السنين التي ملك فيها. وذلك كالذي ورد في بيت شعر من قصيدة قالها لبيد في رثاء النعمان بن المنذر، وهو قوله:
رَعى خَرَزاتِ المُلكِ عِشرينَ حِجَّةً ... وَعِشرينَ حَتّى فادَ وَالشَيبُ شامِلُ1
وقد ورد في شعر أعشى بكر في هوذة بن علي الحنفي الذي كان يجيز لطيمة كسرى في كل عام:
مَن يَرَ هَوذَةَ يَسجُد غَيرَ مُتَّئبٍ ... إِذا تَعَصَّبَ فَوقَ التاجِ أَو وَضَعا
لَهُ أَكاليلُ بِالياقوتِ فَصَّلَها ... صُوّاغُها لا تَرى عَيبًا وَلا طَبَعا
ويتبين من ذلك أن هوذة كان من أصحاب التيجان. غير أن بعض العلماء ينكرون وجود التيجان عند غير أهل اليمن، ويقولون كما ورد عن أبي عبيدة عن أبي عمرو: "لم يتتوج معدي قط، وإنما كانت التيجان لليمن. ولا سئل عن هوذة بن علي الحنفي، قال: إنما كانت خرزات تنظم له"2.
وذكر أن عادة نظم الخرز في عِقْد يوضع على الرأس، ليكون شعارًا للملك والحكم، عادة كانت معروفة في الحجاز. وقد ورد أن "عبد الله بن أُبي بن سلول" كان رجلًا شريفًا في يثرب لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان، ولم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره، وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم. فما راعه إلا مجيء الإسلام إلى يثرب وقدوم الرسول إليها، فانصرف قومه عنه، فضغن على الإسلام،
__________
1 شرح ديوان لبيد "ص266"، اللسان "5/ 345"، "حرز"، الثعالبي، ثمار القلوب "183".
2 العقد الفريد "2/ 244".(9/209)
ورأى أن الرسول قد استلبه ملكه1
وورد في الحديث أن الرسول: "شكا إلى سعد بن عبادة، عبد الله بن أُبي، فقال: اعف عنه، يا رسول الله، فقد كان اصطلح أهل البُحيرة، على أن يعصبوه العصابة. فلما جاء الله بالإسلام، شَرِق لذلك". ويعصبونه: معناه يسودونه ويملكونه، وكانوا يسمّون السيد المطاع معصبًا، لأنه يعصب بالتاج.
وفي ذلك قال عمرو بن كلثوم:
وَسَيِّدِ مَعشَرٍ قَد عَصَّبُوهُ ... بِتاجِ المُلكِ يَحمي المُحجَرينا
فجعل الملك معصبًا أيضًا، لأن التاج أحاط برأسه كالعصابة التي عصبت برأس لابسها. ويقال: اعتصب التاج على رأسه، إذا استكف به، ومنه قول قيس الرقيات:
يعتصب التاجُ فوق مفرقه ... على جبين كأنه الذهب2
ولا تؤدي لفظة "سموط" معنى "تاج"، بل ولا تبلغ في المنزلة منزلة "إكليل". و"السمط": الخيط ما دام الخرز أو اللؤلؤ منتظمًا فيه. وقد استعملت كلمة سموط في مقام التاج، للتعبير عن تاج ملوك الحيرة3، غير أنني أرى إن ذلك على سبيل التجوز، لا التخصيص. وقد ذكر علماء اللغة أن السمط يشد في العنق والجمع سموط4.
ومن مظاهر الملك "السرير"، ويقال له: "العرش" كذلك. ويعبر بالسرير عن الملك والنعمة5. ويذكر أهل الأخبار أن أول من جلس على السرير من ملوك العرب "جذيمة الأبرش"، وهو أول من وقعت له السمعة من ملوك العرب، وأول من لبس الطوق6. وقد أشير في القرآن إلى عرش ملكة سبأ،
__________
1 نهاية الأرب "16/ 356 وما بعدها".
2 اللسان "1/ 606"، "عصب".
3 Rothstein, S. 129
4 الاشتقاق "2/ 304"، اللسان "7/ 322"، "سمط".
5 الاشتقاق "2/ 304"، اللسان "7/ 322"، "سمط".
6 صبح الأعشى "1/ 416".(9/210)
ويكنى به عن العزّ والسلطان والمملكة. ولذلك يقال: "عرش فلان" و"عرش المملكة" و"ثل عرشه"، و"أصحاب العروش" أي الملوك1.
وذكر أهل الأخبار أن "السرير": الوِثاب. وقيل: السرير الذي لا يبرح الملك عليه، واسم الملك "مُوثبان". والموثبان بلغة حمير: الملك الذي يقعد، ويلزم السرير. والوثاب المقاعد. قال أمية بن أبي الصلت:
بِإِذنِ اللَهِ فَاِشتَدَت قِواهُم ... عَلى مَلكَينِ وَهيَ لَهُم وِثابُ2
وقد كان الملوك يلبسون قلائد عرفت بـ"قلائد الملك" تكون من الذهب والأحجار الكريمة. وربما كان "السمط" قلادة تنظم من اللؤلؤ والأحجار الكريمة، يتقلدها الملك للزينة ولتكون شعارًا للملك.
وذكر علماء اللغة أن كل ما يضعه الملوك والرؤساء على رءوسهم من تاج أو عمامة أو قلنسوة أو غيره، فهو "عمارة" و"العمارة"، رقعة مزينة تخاط في المظلة علامة الرياسة، وهي "التحية" أيضًا3.
ومن عادة الملوك استخدامهم الحراس يمشون معهم إذا ركبوا، دلالة على الملك، ولحراستهم يمشون معهم، وقد تقلدوا سلاحهم ولبسوا ألبسة خاصة تشعر أنهم من حرس السلطان. ويذكر أهل الأخبار أن أول من مشت الرجال معه، وهو راكب، "الأشعث بن قيس الكندي". كانت "بنو عمرو بن معاوية" ملكوه عليهم وتوجوه4. وكان من عادة الأشراف والسادات حتى في الإسلام، أن تسير مع ركابهم حاشية يتناسب عدد أفرادها مع منزلة الشريف ومكانته وغناه. فكان "كريب بن أبرهة" سيد حمير في زمانه، إذا سار بالشام خرج وتحت ركابه خمسمائة نفر من حمير يسعون5.
__________
1 المفردات "332".
2 اللسان "1/ 792"، "وثب".
3 تاج العروس "3/ 422"، "عمر".
4 صبح الأعشى "1/ 416".
5 الإصابة "3/ 296"، رقم"7490"، "كريب بن أبرهة بن الصباح".(9/211)
القصور:
وقد عرفت البيوت التي كان يقطن فيها المكربون وملوك العربية الجنوبية بالقصور، مثل "قصر غندن" أي: "قصر غمدان" و"قصر سلحن"، أي: "قصر سلحين". ولفظة "قصر" من الألفاظ الواردة في العربيات الجنوبية.
وقد أشار علماء اللغة والأخبار إلى "قصور اليمن"، وذلك يدل على اختصاص اليمن بها. وذكر علماء اللغة أن القصر: المنزل، وقيل: كل بيت من حجر1.
وترد في لغة بني إرم على هذه الصورة: "قصرو"2.
ويقطن القصور حرم الملوك، أي: أزواجه. وقد يكون للملك زوج واحدة، وقد تكون له جملة أزواج، إذ كانت العادة أن يتزوج الملوك بجملة نساء، ليتمتع بهن، وقد يتزوج لعوامل سياسية، فيأخذ الملك ابنة سيد قبيلة كبير، أو ابنة رجل من أصحاب الجاه والسلطان ليقوي مركزه وليحصل على مؤازرة أصحاب البنت له.
وربما لا يكتفي الملك أو سيد القبيلة بالزوجة أو الزوجات، فيضيف إليها أو إليهن عددًا من "الجواري" والسراري، ممن وقعن في الأسر وعرفن بالجمال وبحسن الذوق، ممن يشتريه من سوق النخاسة، وإذا ولد لهن مولود عد المولود من أبناء الملك أو سيد القبيلة إن قرر الملك أو سيد القبيلة ذلك، ويعامل معاملة أبناء الأسرة المالكة، غير أن الناس لم يكونوا ينكرون عليه نظرتهم إلى ابن ملك ولد من أم من بنات الأسر المالكة أو من أسرة شريفة معروفة.
ولملوك الحيرة قصور ذكر أهل الأخبار أسماء بعض منها. مثل: الخورنق والسدير، كما كان لملوك الغساسنة قصور في مواضع مختلفة من مملكتهم وقصور في دمشق، يمضون فيها أيامًا عند زيارتهم لها، وعند وجود مراجعات لهم مع حكامها من الروم. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء بعض القصور التي بناها الغساسنة في مواضع متفرقة من الأرضين التي خضعت لحكمهم، تحدثت عنها في أثناء كلامي على الغساسنة في الجزء الثالث من هذا الكتاب: كما تحدثت عن قصور ملوك الحيرة في الجزء نفسه.
__________
1 اللسان "5/ 100"، "قصر".
2 غرائب اللغة "201".(9/212)
وكان للملك "النعمان" قصر بالحيرة عرف بـ"القصر الأبيض"، لبياضه، يظهر أن جدرانه كانت مجصصة، فظهرت بيضاء. ويذكر أهل الأخبار أن النعمان، كان عنده دواوين شعر فيها ما مدح به، أو ما مدح به آله. ثم أمر فدفنها في قصره هذا، فلما كان "المختار" قيل له: إن تحت القصر كنزًا فأمر به فحفر، فاستخرج الكنز ثم صار إلى آل مروان أو ما صار منه. وكان هذا القصر دار ملكه ومقره في الحيرة، إذ لم يذكروا له قصرًا آخر له فيها.
وكان للأكاسرة القصر الأبيض بالمدائن، ذكر أنه كان من العجائب، ولم يزل قائمًا إلى أن نقضه "المكتفي بالله" العباسي في حدود سنة 290هـ. وبني بشرفاته أساس التاج الذي بدار الخلافة وبأساسه شرفاته. وقد ذكره البحتري1.
وذكر "الزبيدي"، اسم قصر دعاه "لحيان"2، زعم أنه "قصر النعمان بن المنذر بن ساوى" بالحيرة3. فهل قصد بذلك شخصًا آخر من أهل الحيرة؟
أم إنه وهم من أوهام عديدة نجدهم في "تاج العروس" في أمور تاريخية، قد يكون المسئول عنها نساخ الكتاب في بعض الأحيان.
ونسب بعض أهل الأخبار إلى "النعمان بن المنذر"ن دارًا، قالوا لها: "الزوراء"، ذكروا أن "أبا جعفر المنصور" هدمها4.
__________
1 تاج العروس "5/ 10"، "بيض".
2 بالفتح.
3 تاج العروس "10/ 324"، "لحى".
4 تاج العروس "3/ 246"، "زور".(9/213)
الحكم وأخذ الرأي:
ولم يكن الملوك في العربية الجنوبية أو في العربية الغربية ملوكًا مطلقين لهم سلطان مطلق وحق إلهي في إدارة الدولة على نحو ما يريدون، ولكن كانوا ملوكًا يستشيرون الأقيال والأذواء وسادات القبائل والناس وكبار رجال الدين فيما يريدون عمله، واتخاذ قرار بشأنه. وهو نظام تقدمي فيه شيء من الرأي والمشورة وحكم الشعب "الديمقراطية" بالقياس إلى حكم الملوك المطلقين الذي حكموا آشور وبابل ومصر وإيران1.
__________
1 A. Grohmann. S. 128(9/213)
أما الطبقات الضعيفة وبقية السواد من السوقة والفلاحين وما شاكلهم، فليس لهم رأي في تسيير الأمور، ولا يستثارون في البت في أي شيء حتى في المسائل الصميمة المتعلقة بمصيرهم، ولم يكن عالم ذلك اليوم يحفل بسواد الناس، أي: بالغالبية؛ لأن الرأي لأصحاب الوجاهة والسيادة والسلطان إذ ذاك، وفي كل مكان من أمكنة العالم.
وترينا الكتابات المعينية أن ملوك معين كانوا مقيدين في حالات معينة بأخذ رأي "المزود" عند اتخاذ قرار خطير، ولذلك يذكر "المزود" عند صدور التشريعات والقرارات الخطيرة في نص القوانين والقرارات، للتعبير عن موافقته عليها وعلى أنها صدرت بعد وقوفه عليها وأخذ الملك رأيه فيها1. ويؤخذ رأي المعبد أيضًا، فقد ذكر في قرار بشأن الضرائب، وذلك يدل على أن المعبد كان يستشار في المسائل الخطيرة أيضًا2.
وقد تبين من بعض الكتابات أن ملوك العربية الجنوبية، قد أخذوا برأي الجمعيات وأصحاب الحرف والعمل، حتى لا يبرموا أمرًا يظهر بعد تنفيذه أنه غير واقعي ولا عملي، وأنه سيلقى معارضة من بعض الفئات والطبقات. كما أخذوا برأي المستشارين وأصحاب الرأي من جماعة الـ"فقضت" والـ"بتل" و"طبنن" "الطبن"، وهم الملّاكون، عند وضع القوانين3.
وقد تبين من النص: Rep. Epigr. 2771 أن ملك معين استشار "المزود" في فرض ضريبة. وتبين من النص: Rep. Epigr. 2774 أنه استشاره في فرض ضرائب خصصت بالمعبد. ولكننا نجد في نصوص أخرى، مثل النص: Rep. Epigr. 3699 أن الملك لم يستشر "المزود" حين أصدر أمره في موضوع زواج المعينين بأهل "ددن" "ددان" "ديدان". ولعله فعل ذلك لأن موضوع الزواج موضوع إداري ولا علاقة له بالسياسة العامة أو بفرض الضرائب أو بالمسائل الداخلية الخطيرة، وهي الأمور التي يأخذ فيها الملك رأي المجلس. كما نجد الملك يصدر قانونًا باسم "معن" "معين" أي: شعب "معين" دون أن يذكر اسم "المزود"4.
__________
1 A. Grohmann, S. 128, REP. EPIG. 2771
2 REP. EPIG. 2774, 2458, A. Grohmann, S. 128
3 Glaser 1606, Grohman, S. 126. ff
4 REP. EPIGR. 2952, Grohmann, S. 128(9/214)
وقد تبين من بعض الكتابات أن ملوك معين أصدروا تشريعات في أمور لم يأخذوا فيها رأي المزود، لعدم ورود إشارة فيها إليه. فلدينا قرار في تنظيم أمور الزواج بين المعينين وأهل "ددن" "ديدان"، لم يرد فيه ذكر للمزود1.
ولدينا قرار آخر لم يذكر فيه اسم المزود أيضًا، غير أنه يشير إلى أنه صدر باسم شعب معين2، مما قد يبعث على الظن بأن الملوك لم يكونوا ملزمين دائمًا بالرجوع إلى رأي المزود ووجوب أخذ موافقته في كل قضية، بل في القضايا العامة الخطيرة التي تخص مصير الشعب.
ويتبين من الكتابات السبئية أن ملوك سبأ ولا سيما قدماؤهم كانوا يتبعون سُنَّة "معين" في الرجوع إلى رأي المزود في القضايا الخطيرة للدولة وإصدار القوانين.
فكان الملك إذا أراد إصدار تشريع، أحاله على المزود ليبدي رأيه فيه، وفي طليعة هذه المسائل القوانين الخاصة بالأرضين وبالزرع وبحصص الحكومة من الضرائب لما لها من صلة بمصالح رجال المزود. ومتى وافق المزود على القانون أحيل على الملك لتصديقه ولإعلانه.
وهنالك شبه كبير في موضوع التشريع بين القوانين القتبانية والقوانين السبئية العامة، الصادرة في سبأ، ولا سيما في أيام حكم قدماء الملوك، حتى ذهب بعض الباحثين إلى وجود ما يشبه حد الاتفاق بين قوانين المملكتين، إلا في القوانين الخاصة التي تتعلق بالتشريعات المحلية للمخاليف والمدن. فإنها شرعت على وفق الأحوال الملائمة لتلك الأمكنة3.
وقد يشار في التشريعات إلى قصور الملوك، مثل "قصر سلحن" "قصر سلحين"، كما أشير إليها في كتابات مختلفة، تتعلق بأخبار الحروب والجباية، وذلك كناية عن مقر الحكم، على نحو ما يستعمل في الزمن الحاضر من قولهم: "صدر من قصرنا العامر" أو "صدر من قصر ... " وذلك رمز إلى مقر الحكم وكناية عن الملك الذي يقيم في ذلك القصر. ومن تلك القصور: "قصر غمدن" أي: "قصر غمدان" و"قصر وعلن" "قصر وعلان" و"قصر ريدن".
أي "قصر ريدان" ومن هذه القصور تصدر الأوامر بالموافقة على القوانين والمراسيم، وفيها يوقع على ما يراد نشره ليكتسب صبغة رسمية مقررة.
__________
1 REP. EPIG. 3699, a. Grohmann, S. 128
2 REP. EPIGG. 2952, A. Grohmann, S. 128
3 Handbuch I, S. 128, Bodenwirtschaft, S. 180, A. Grohmann, S. 129(9/215)
في أخلاق الحكام:
ليس لدينا وثائق جاهلية في أخلاق الحكام والصفات التي يجب أن يتصف بها الحاكم، ليتمكن بها من حكم الناس ومن الحكم بينهم. وكل ما لدينا، نتف ومقتبسات في أصول الحكم تنسب إلى الجاهليين، مدونة في المؤلفات الإسلامية، يظهر أن بعضها أخذ من حكم الفرس ومن آداب اليونان في السياسة، فنسب إلى الجاهليين، وبعضه إسلامي خالص وضع ليكون وعظًا وإرشادًا وإشارة هادية إلى الخلفاء والحكام في كيفية حكم الرعية وفي تنبيههم إلى واجباتهم وإبعادهم عن الظلم والاتعاظ بمصير الحكام الطغاة الماضين حتى لا يكون مصيرهم مصير أولئك الملوك.
وفي كتاب "تاريخ ملوك العرب الأولية من بني هود وغيرهم"، لأبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي، وصايا وعظات في أصول الملك والحكم، نسبها إلى ملوك العرب الماضين قبل الإسلام، دوّنها للخليفة "المأمون" لتكون له هاديًا ومرشدًا في كيفية الحكم. وقد استهله بوصية نسبها إلى "قحطان بن هود" أوصى بها بنيه أن يتعظوا بما نزل بقوم عاد حين عتوا على ربهم، وعصوا أمر نبيهم، فحثهم على التآلف والتعاضد والتناصر وعلى الطاعة للحكام، ثم حث ابنه "يعرب" كبير أولاده على العمل بسيرته ومنهجه، وأن يصل ذوي القربى، وأن يحفظ لسانه ويصونه، وأن يكون كاظمًا للغيظ، يقظًا من الأعداء، حليمًا، لأن الذين سادوا لم يسودوا إلا بالعلم، وأن يكون كريمًا، لأن البخل يبعد الأتباع من الحاكم1.
وذكر "الأصمعي" أن يعرب أوصى أبناءه بخصال وبما وصاه به أبوه. أوصى بأن يتعلم العلم ويعمل به، وأن يترك الحسد، وأن يتجنب الشر وأهله، وأن ينصف الناس، وأن يبتعد عن الكبرياء، لأن الكبرياء تبعد قلوب الرجال عن
__________
1 تاريخ ملوك العرب، "ط. الشيخ محمد حسن آل يسين"، سنة 1959م ببغداد "ص3 وما بعدها".(9/216)
المتكبر، وأوصى بالتواضع، فإنه يقرب المتواضع من الناس ويحببه إليهم، وأن يصفح عن المسيء، وأن يحسن إلى الجار، ولأن يسوء حال أحدهم، خير له من أن يسوء حال جاره، وأن يوصي بالمولى، لأن المولى منكم وإليكم، وأن يخلص بالاستشارة والنصيحة، وأن يتمسك الإنسان باصطناع الرجال1.
ونجد في الوصايا التي ذكرها "الأصمعي" وصايا بوجوب التعاضد والتآزر، والابتعاد عن الفرقة، والطاعة من غير خوف2، والعدل في الرعية، والتجاوز عن المسيء، والكف عن أذى العشيرة3، والأخذ بالرأي لأنه لا بد للملك ممن يعينه في الرأي والأمر والنهي، ولا بد له من مشير يحمل عنه بعض ما يثقله من ذلك4. والملك صانع، فإن قام الصانع حق قيامه على صنعته، استجاد الناس له، فكسب المال والجاه؛ وإن استهان بها، ذهبت الصنعة من يده، وكسب الندم والحرمان5.
واستمر "الأصمعي" يذكر الوصايا التي ذكر أن ملوك العرب الماضين وضعوها في كيفية الحكم حذر الزلل، ولتجنب الوقوع في الخطأ، وهي نثر وشعر، قد تكون من وضعه وصنعته، صنعها للخليفة ليتعظ بها في الحكم على نسق ما كان يفعله أدباء الفرس والهند في وضع الوصايا والمواعظ والقصص على ألسنة الملوك الماضين والحكماء ليتعظ بها الحكام في أثناء حكمهم للناس. ونجد أمثلة كثيرة من هذا النوع دبجت في كتب السياسة والأدب، على ألسنة أرسطو أو الإسكندر أو أكاسرة الفرس6.
ونجد في شعر ينسب إلى "لقيط الإيادي"، أن الحاكم الذي يقلد الأمر يجب أن يكون رحب الذراع، مضطلعًا بأمر الحرب، لا مترفًا ولا إذا عض به مكروه خشع وخضع، يحلب دَرَّ الدَّهْر، يكون مُتَّبِعا طورًا ومُتَّبعًا، متسحصد الرأي لا قحمًا ولا ضرعًا7.
__________
1 "ص9 ومابعدها".
2 "ص17 وما بعدها".
3 "ص20 وما بعدها".
4 "ص25".
5 "ص33، وما بعدها".
6 نهاية الأرب "6/ 16" "في وصايا الملوك".
7 نهاية الأرب "6/ 17".(9/217)
وكان الملوك على استبدادهم أحيانًا بآرائهم يستشيرون من يرون فيه الأصالة في الرأي، ولا سيما المتقدمون في السن، فقد "كانت العرب تحمد آراء الشيوخ لتقديمها في السن، ولأنها لا تُتبع حسناتها بالأذى والمنّ، ولما مرّ عليها من التجارب التي عرفت بها عواقب الأمور، حتى كأنها تنظرها عيانًا، وطرأ عليها من الحوادث التي أوضحت لها طريق الصواب وبينته تبيانًا، ولما منحته من أصالة رأيها، واستفادته بجميل سعيها"1.
ويظهر أن الملوك الغساسنة والمناذرة كانوا قد تطبعوا بطباع الروم والفرس، وأخذوا عنهم أبهة الحكم، فحجبوا أنفسهم عن رعيتهم، مخالفين بذلك العرف العربي، وحصروا أنفسهم في قصورهم وفي قبابهم، حتى أن من كان يريد الوصول إليهم من ذوي الحاجات كان عليه أن يقف أيامًا أمام باب الملك، حتى يأتيه الإذن بالدخول عليه، وهذا ما أزعج الوافدين عليهم كثيرًا، وسبب إلى تجاسر الشعراء وذوي الألسنة الحادة عليهم. وكان على أكثر الوافدين التقرب إلى "الحاجب" والتذلل إليه ورشوته ليعجّل لهم بالدخول على الملوك، ومنهم من كان يتعهد له بأن يجعل له نصيبًا فيما قد يناله من جوائز الملك وهداياه، فيسرع الحاجب عندئذ إلى الملك، لطلب أخذ الإذن منه بدخول ذلك الوافد عليه.
وتوصف أخلاق الملوك بالتلون والتغير، لأن الملوك لهم بَدَوات. حتى ضرب بتلون أخلاقهم المثل. فقيل:
ويومٍ كأخلاق الملوك ملوّنٍ ... فشمسٌ ودجنٌ ثم طلٌّ ووابلُ2
ولهذا حذر أصحاب المكانة والجاه من الوصول إليهم في أيام غضبهم وبؤسهم. خشية صدور شيء منهم قد يزعجهم فيغضبوا عليه، أو يتفوهوا بعبارات قد تخدش من كرامتهم، وتسبب لهم الألم والأذى. وقد ورد في الحكم: اتقوا غضب الملوك ومدّ البحر3. وقد ضرب المثل بيومي البؤس والنعيم.
وقد وردت في الكتابات الجاهلية مصطلحات تعبر عن تقدير الناس لملوكهم،
__________
1 نهاية الأرب "6/ 74".
2 الثعالبي، ثمار القلوب "184"، "أخلاق الملوك. رقم263".
3 الثعالبي، ثمار القلوب "186".(9/218)
مثل مصطلح "أمرهم"، أي: "آمرهم" و"أميرهم" أو سيدهم، ونجد الكتابات العربية الجنوبية تطلق لفظة "مراهمو" و"مراسهمو" بمعنى "آمرهم" أو "أميرهم" و"سيّدهم" على من هو فوقهم، كالملوك أو الأقيال أو السادات، احترامًا واعترافًا بسيادتهم عليهم.
أما في كتابات "تدمر"، فقد وردت لفظة "مرن"، أي: "سيدنا". وقد أطلقت على الملوك، كما استعملت للأشخاص الكبار من أصحاب السلطان. وتقابل هذه اللفظة كلمة Exarkos في اليونانية1.
وفي الشعر ذمّ للحكام وشعر في هجاء السادة، لظلمهم وتنمرهم في حق رعيتهم، حتى ذهب الظن بهم أن كل مطاع يظلم، وأن المسوّد ظالم غشوم2.
__________
1 Die Araber II, S. 255
2 الحيوان "3/ 80"، هارون".(9/219)
الراعي والرعية:
الراعي هو الوالي، أي: الذي يلي أمور قوم ويرعى شئونهم، فهو بمنزلة الراعي للماشية المرعية. أما القوم فهم الرعية، أي: العامة1. والملك هو راعي مملكته، وراعي رعيته، وهم من هم دونه، يتبعونه ويخضعون لرأيه وحكمه.
ويعبر عن الرعية بالسوقة كذلك. سموا سوقة لأن الملوك يسوقونهم فينساقون لهم، والسوقة من الناس من لم يكن ذا سلطان. والسوقة خلاف الملك. قال نهشل بن حري:
ولم تَرَ عيني سوقةً مثل مالك ... ولا ملكًا تجبى إليه مرازبه
وفي البيت المنسوب إلى "بنت النعمان بن المنذر"، وهو:
فبينا نسوس الناسَ والأمر أمرُنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف2
تعبير عن فكرة التعالي والترفع التي كانت عند أهل الحكم والملك بالنسبة إلى
__________
1 اللسان "14/ 327"، "رعي".
2 اللسان "س، و، ق"، "10/ 170".(9/219)
المحكومين. وفي حديث المرأة الجَوْنية التي أراد النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يدخل بها، فقال لها: "هبي لي نفسك"، فقالت: "هل تَهَبُ الملكة نفسها للسوقة؟ "1 ما ينم عن هذه الروح.
ويعبر عن السواد الأعظم بـ"سواد الناس" وبـ"سواد القوم" أي: عوامهم وكل عدد كثير. وهو مصطلح يقرب معناه من معنى "السوقة". والسواد الأعظم من الناس، هم الجمهور الأعظم والعدد الكثير2 وهم "الغوغاء" الذين لا يفقهون شيئًا من أمور دنياهم وإنما هم تبع وغنم يتبعون أي راع. وقد برزت أهميتهم في صدر الإسلام، إذ عرفت الفائدة منهم فيما لو وجهوا توجيهًا حسنًا.
قال الخليفة "عمر": "استوصوا بالغوغاء خيرًا، فإنهم يطفئون الحريق، ويسدّون البثوق"3.
وقد عرف الجاهليون قيمة وأهمية السواد؛ لأنه الكثرة والرماح التي يعتمد عليها ذوو السؤدد، والجماعة التي تدافع عن سيدها وتحمي حماه. وقد استطاع "أبو سلمى" أن يعبر عن أهمية العوام وأصحاب الحناجر القوية من غوغاء الناس في جبل السؤدد إلى الأشخاص في هذا الرجز:
لابد للسؤدد من رماحِ ... ومن عديد يتقي بالراح
ومن كلاب جمة النباح4
وعلى الرعية حق الطاعة، طاعة من بيده الحكم والسلطان، وليس عليها الخروج على أوامره وأحكامه؛ لأن من حق الراعي تأديب رعيته إذا خرجت عن طاعته. فإذا خرجت الرعية على حكم الملك، حق عليه تأديب رعيته بالصورة التي يراها. ولا يتمكن من الخروج على طاعة السلطان إلا الأشراف وسادات القبائل، ففي استطاعة هؤلاء بما لهم من أتباع ورعية، تهديد الملوك، أو من ينوب عنهم في الحكم.
ولهذا كانت لهذه الطبقة مكانة وكلمة عند الملوك.
__________
1 اللسان "س، و، ق"، "10/ 170".
2 اللسان "3/ 224"، "سود".
3 رسائل الجاحظ "1/ 366"، "كتاب فصل ما بين العداوة والحسد".
4 رسائل الجاحظ "1/ 366"، كتاب فصل ما بين العدواة والحسد"، "أرماح"، الحيوان "1/ 351"، "3/ 79"، "هارون".(9/220)
ولم يكن من السهل على أبناء القبائل تقديم واجب الطاعة للملوك إذا كانوا من غير قبيلتهم، فالملوك الغرباء وإن كانوا عربًا مثلهم، لكنهم في نظرهم غرباء عنهم، ومن قبيلة بعيدة عنهم. والعربي بحكم طبيعة ظروفه ومحيطه القبليّ، لا يرى الخضوع إلا لمن تربطه به رابطة العصبية. ومعنى هذا أنه لا يخضع إلا لسيد قبيلته، أو لمن يخضع سيد قبيلته لحكمه أو للملك إذا كان من قبيلته.
وسيد القبيلة لا يخضع هو نفسه لأحد إلا إذا أكره على ذلك إكراهًا، أو وجد في خضوعه لحكم حاكم آخر منفعة ما تأتيه من هذا الحكم. فإن زالت القوة التي أكرهته على الخضوع لغيره، أو ذهبت المنفعة التي كان يحصل عليها، أعلن انفصاله واستقلاله بشئون قبيلته أو انضمامه إلى حاكم قوي آخر ليصير حليفًا له.
لذا صار تاريخ القبائل صراعًا ونزاعًا بين قبائل طامعة في حكم قبائل أصغر منها، وقبائل أخرى تريد أن تعيش وحدها مستقلة بإدارة أمورها، أو منافسة غيرها في حكم قبائل أخرى، لتكوين حكومة كبيرة منها ومن القبائل التي استسلمت لها.
فالممالك التي تكونت والتي تحدثت عنها، لم تكن إذن ممالك مكونة من مواطنين آمنوا بمبدأ المواطنة واعتقدوا بعقيدة طاعة سلطان الدولة. بل كانت مملكة قبائل اتحدت طوعًا أو كرهًا، وكونت حلفًا كبيرًا ترأسه ملك. يظل قائمًا ما دامت هنالك قوة قائمة ومصلحة وفائدة، فإن انتفت المصلحة، عادت طبيعة الأنانية القبلية إلى لعب دورها في الانفصال. وهي عقلية تعرقل وتقاوم تكوّن الدول الكبرى. ولهذا قاومها الإسلام؛ لأنه جاء بمبدأ "الجماعة"، وعقيدة "الأمة" و"الملة"، فورد في الحديث: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية" 1.
وللشعراء وأهل البيان كلام في أصول سياسة الحكم وإدارة أمور الرعية. قال "الجاحظ": "ومتى أحب السيد الجامعُ، والرئيس الكامل قومه أشد الحب وحاطهم على حسب حبه لهم، كان بغض أعدائهم له على حسب حبه قومه له.
هذا إذا لم يتوثب إليه ولم يعترض عليه من بني عمه وإخوته من قد أطمعته الحال باللحاق به. وحسد الأقارب أشد، وعداوتهم على حسب حسدهم.
وقد قال الأولون: رضا الناس شيء لا ينال.
__________
1 نهاية الأرب "6/ 12 وما بعدها".(9/221)
وقد قيل لبعض العرب: من السيد فيكم؟ قال: الذي إذا أقبل هبناه، وإذا أدبر اغتبناه.
وقد قال الأُول: بغضاء السوق موصولة بالملوك والسادة وتجري في الحاشية مجرى الملوك.
وليس في الأرض عمل أكدّ لأهله من سياسة العوام1.
وقد دفعت الروح الفردية والنزعة القبلية سادات القبائل وقادة الجيش على الثورة بملوكهم وبحكامهم، فامتلأ تاريخ الجاهلية بها وبالمكايد والانتفاضات. وقد أثرت أثرًا خطيرًا في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وصارت في جملة عوامل تدهور الحضارة في اليمن. ونقرأ في كتابات المسند بعض الألفاظ المعبرة عن الفوضى وعدم الاستقرار بسبب حركات العصيان. منها لفظة "كيد"، وتؤدي معنى ثورة وعصيان2. و"ثبر" و"مثبر" بمعنى "ثبور"، ويراد بها ثورة أيضًا3. و"نزع" وتؤدي معنى ثورة كذلك4. و"نقم" وتؤدي معنى "نقمة" وعدم رضى عن الأوضاع. و"قسدت" و"قسد" بمعنى ثورة وثار. فالثورة هي "قسدت" في العربية الجنوبية. و"قرن" وهي في المعنى نفسه5. و"تحسبن" بمعنى عنف واستخدام العنف6. ولفظة "هرج" بمعنى الفوضى والقتل والهرج7. و"مخر" بمعنى مخالفة وقتال8.
ونجد في كتابات المسند ألفاظًا أخرى، لها صلة وعلاقة بالأوضاع المذكورة.
مثل لفظة "هبعل" في معنى الاعتراف بسيادة قوم على قوم. وبالتسليم بسيادة الرؤساء بعد أن ثاروا عليهم وحاولوا التخلص منهم. ولفظة "هوبل" في معنى النجاح في المطاردة والتوفيق في القضاء على العصيان، وعودة الأمر إلى ما كان عليه. ولفظة "همسر" بمعنى أحبط وكسر. و"هسحت"، بمعنى تحطيم والقضاء على شيء، كحركة عصيان. و"هضرع" بمعنى أخضع و"حلفي"
__________
1 الحيوان "2/ 94 وما بعدها"، "هارون".
2 South Arabian Inscriptions, P. 437
3 المصدر نفسه "ص441".
4 "ص442" من المصدر المذكور.
5 "ص447" من المصدر المذكور.
6 "ص450" من المصدر نفسه.
7 "ص433" من المصدر نفسه.
8 "ص439" من المصدر المذكور.(9/222)
بمعنى ضغط واستعمل العنف. و"حف" بمعنى أحاط. و"خرط" بمعنى الاستيلاء على شيء. و"نحت" بمعنى ضرب. و"نكى" في معنى قاسى وكابد من الألم والعذاب. و"نقيذ" بمعنى استولى على مكان وفتحه. و"سبط" بمعنى أحبط وقضى على ثورة. و"سحت" في معنى هزيمة. و"قمع" في المعنى المعروف منها في لهجتنا. و"رتضح" بمعنى ذبح. و"توشع" في معنى هزيمة. و"تشكر" في معنى هزيمة أيضًا. فلكل هذه الكلمات ولغيرها مما في معناه صلة بالأوضاع السياسية والعسكرية التي كانت سائدة في ذلك العهد. وهي دليل على سوء الحال.(9/223)
تحية الملك:
وكانت لملوك الحيرة وملوك الغساسنة وغيرهم من ملوك الجاهلية تحيات تختلف عن تحيات سائر الناس. لأن الملك يحيا بتحية الملك المعروفة للملوك التي يباينون فيها غيرهم. ومن تحياتهم: أبيت اللعن، وأسلم وأنعم، وأنعم صباحًا، وعش ألف سنة. "وكانت تحية ملوك العجم نحوًا من تحية ملوك العرب، كان يقال لملكهم: زه هزار سال؛ المعنى: عش سالمًا ألف عام"1.
وذكر بعض علماء اللغة أن "أبيتَ اللعن: كلمة كانت العرب تحيي بها ملوكها في الجاهلية، تقول للملك: أبيت اللعن، معناه أبيت أيها الملك أن تأتي ما تلعن عليه. واللعن: الإبعاد والطرد من الخير"2. وذكروا أن أول من حييي بتحية الملوك: "أبيتَ اللعن" و"أنعم صباحًا" يعرب بن قحطان3. وقد وردت تحية "أبيت اللعن" في شعر للنابغة الذبياني، يعتذر فيه للنعمان بن المنذر:
أَتاني أَبَيتَ اللَعنَ أَنَّكَ لُمتَني ... وَتِلكَ الَّتي تَستَكُّ مِنها المَسامِعُ4
وذكر أيضًا أن أول من قيل له ذلك قحطان. وقيل: أول من حيي بها يعرب بن قحطان5.
__________
1 اللسان "14/ 217"، "حيا".
2 اللسان "13/ 387"، "لعن".
3 العمدة "2/ 225".
4 الصاحبي "ص91".
5 تاج العروس "9/ 335"، "لعن".(9/223)
وذكر أن تحية الناس فيما بينهم: "أنعم صباحًا" أو "أنعم مساء" أو "أنعم ظلامًا"، و"عموا صباحًا" و"عموا مساء"، وذلك حسب المناسبات.
أما إذا حيوا الملك، قالوا له: "أنعم صباحًا أيها الملك"، لهيبة الملك ولتعظيمه1.
وقد أبطل الإسلام تلك التحية: بأن أحل السلام محلها. فلما دنا "عمير بن وهب" من رسول الله قال: "أنعموا صباحًا"، فقال رسول الله: "قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير؛ بالسلام تحية أهل الجنة" 2. وقد صار السلام من العلامات الفارقة بين الشرك والإسلام.
وذكر أن التحيّة الملك. وفي هذا المعنى قولهم: حيّاك الله وبيّاك، أي: اعتمدك بالملك. وفي هذا المعنى قول زهير بن جناب الكلبي:
ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلى التحيّة
أي: إلا الملك، وذكر أن المراد بها هنا البقاء، لأنه كان ملكًا في قومه3.
والتحية في قول "عمرو بن معد يكرب":
أسير به إلى النعمان حتى ... أنيخ على تحيته بجندي
تعني: ملكه، فالتحية الملك4
ويظهر أن بعض الجاهلين كانوا يحيون بتحية "حيّاك وبيّاك"، أو "حياك الله"، أو "حيّاك الله وبيّاك"5. ولا أستبعد استعمالهم اسم صنم من الأصنام في موضع "الله" عند عبّاد ذلك الصنم، كأن يقولون: "حيّاك هبل"، وقد بقيت هذه التحية إلى الإسلام، ثم صارت: "حيّاك الله". وقد يخاطبون بها الملوك فيقولون: "حيا الله الملك" وذكر أن تحيات أهل الشام لملوكهم:
__________
1 الصاحبي "91".
2 الطبري "2/ 473"، "دار المعارف".
3 اللسان "14/ 216"، "صادر"، "حيا"، تاج العروس "10/ 106 وما بعدها"، "حيي".
4 المصدر نفسه، بلوغ الأرب "3/ 203".
5 تاج العروس "10/ 107"، "حيي".(9/224)
"يا خير الفتيان"1.
والمعروف عن العرب أنهم لم يكونوا يسجدون للملوك ولساداتهم كما كان يفعل العجم. غير أن رواية وردت في "كتاب فتوح الشام" للواقدي تذكر أن "الياس"، وهو عم ملك الحيرة وصاحب حرسه، لما أدخل "سعد بن أبي عبيد القاري"، على الملك "النعمان بن المنذر"، "صاح به الحجاب والغلمان قَبّل الأرض للملك، فلم يلتفت إليهم"2. وفي هذا الخبر دلالة على أن أهل الحيرة كانوا إذا دخلوا على الملوك سجدوا لهم: كما كان يفعل ذلك غيرهم من الغرباء ممن يدخل على الملوك ولا سيما الفرس. وتتحدث هذه الرواية المنسوبة إلى الواقدي، بأن الملك النعمان، كان له كلام وجدل في موضوع الدين ورسالة الإسلام مع "سعد بن أبي عبيد القاري" رسول "سعد بن أبي وقّاص" إليه. وأنه لما طرد الرسول، قال "سعد بن أبي وقاص":
سأحمل فيهم حملة عربية ... ولا أنثي والله عنهم بعسكري
فإما أرى النعمان في القيد موثقًا ... وإما طريحًا في الدماء المعفر
ثم أمر سعد بن أبي وقاص جمعه بالمسير نحو النعمان، فالتقى القعقاع بن عمرو التميمي أو بشر بن ربيعة التميمي بالنعمان في كبكبة من الخيل، فحمل القعقاع أو بشر على الكبكبة أو الكتيبة فمزقها، ورمى النعمان بطعنة في صدره، فلما رأت جيوش الحيرة الملك مجندلًا، ولت الأدبار تريد القادسية نحو جيش الفرس3.
والذي أجمع عليه المؤرخون وأهل الأخبار، أن المنذر كان قد ذهب إلى العالم الثاني قبل الفتح، بزمن على نحو ما تحدثت عنه في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
وقد ذكرت ما قيل في موته من شعر نظمه شعراء معاصرون له، وما وقع من اصطدام بين العرب والفرس بسبب مطالبة "كسرى" بتركته على ما يذكره أهل الأخبار. لذلك لا يمكن التصديق بهذه الرواية مع وجود ذلك الإجماع، ثم إن فيها معالم الصنعة والتزويق، ولا سيما في موضوع الحوار بين النعمان وبين رسول "سعد" إليه في موضوع الإسلام، مما يحملنا على القول بأن هذا الخبر قد أدخل فيما بعد
__________
1 أيام العرب "ص42".
2 الواقدي، فتوح الشام "2/ 185 وما بعدها".
3 فتوح الشام "2/ 187 وما بعدها".(9/225)
في هذا الكتاب المنسوب إلى الواقدي، وهو لمؤلف متأخر عنه، جمع مؤلفه من روايات أخذها من "فتوح الواقدي" ومن كتب أخرى ومن روايات متأخرة، فألف منها هذا الكتاب.
ومن قواعد ملوك الحيرة في مخاطبة من هم دونهم من أصحاب المنازل قولهم لهم: "يا عام"، وقولهم "إنك هابل"1.
وللملوك عادات في مكالمة الناس ومحادثتهم. وهم يراعون بصورة عامة منزلة ودرجة من يتحدثون معه. فإذا كان المخاطب من ذوي المكانة كأن يكون سيد قبيلة ووجيه قوم، كلّموه بما يليق به، وإن كان من سواد الناس القادمين للحصول على صدقة وحسنة، أو على إنصافه ومساعدته كلموه بأسلوب آخر.
ثم إنهم كانوا يستعملون الكلام الغليظ الشديد مع مخاطبهم، إذا أزعجهم أو إذا كانوا غاضبين عليه. وهكذا يكون لكل موقف كلام.
ويظهر من شعر للأعشى هو:
فَلَمّا أَتانا بُعَيدَ الكَرى ... سَجَدنا لَهُ وَرَفَعنا العَمارا
أن العرب، أو بعضًا منهم، كانوا يسجدون لملوكهم. و"العمار" ريحانة كان الرجل يحيي بها الملك مع قوله: عمرك الله. وقيل: هي رفع الصوت بالتعمير، أي: بالدعاء. وقولهم: عمرك الله. وروي: ووضعنا العمارا، والعمار العمامة، أي: وضعناها من رءوسنا إعظامًا له. ومن العمار قولهم: عش ألف سنة لعمرك2. والذين فعلوا ذلك هم عرب الحاضرة، تأثروا بما فعله الأعاجم بالنسبة لملوكهم، فعملوا بهذه المراسيم.
__________
1 النوادر "ص177 وما بعدها".
2 تاج العروس "3/ 422"، "عمر".(9/226)
دور الندوة:
وللدول العربية الجنوبية مجالس استشارية تسمى "مزودًا"1، من واجبها النظر
__________
1 الحرف الثاني لا وجود له في أبجديتنا، وهو بين الزاي والسين، وقد عبرت عنه بحرف الزاي لأنه أقرب الحروف نطقًا إليه.(9/226)
في المشكلات التي تتعرض لها الدولة، والبت في القضايا المهمة وفي موضوع فرض الضرائب. وقد عرف هذا المجلس في دولة معين بـ"مزودن معن" "مزود معين"1. وكان للسبئيين مجالسهم الخاصة بهم، تنظر في المسائل التي يحتاج ملوك سبأ إلى أخذ الرأي فيها والوقوف على رأي عقلاء الأمة للاستنارة برأيهم عند اتخاذ رأي وإقرار قرار.
ولا يعني وجود هذه المجالس أن النظام هناك كان نظامًا نيابيًّا انتخابيًّا، يجتمع الأحرار والوجهاء فينتخبون من يريدون أن يمثلهم أو يتكلم باسمهم انتخابًا على النحو المفهوم من الانتخاب في الزمن الحاضر. وإنما كانت عضوية المجالس بالوجاهة والمنزلة والمكانة، وتلك قضايا اعتبارية للعرف فيها الرأي والقرار، وأعضاء المجلس هم أعضاء فيه، لأنهم من رجال الدين أو سادات قبائل أو من كبار الموظفين، أو من أصحاب الأرض والمال، فهم في عرف ذلك اليوم الصفوة والخيرة، وعندهم العقل والرأي والسداد. وعلى هذا النحو من التمثيل تكون المزاود، أي: مجالس الأمة.
وقد عرف أعضاء المزود بـ"أسود"، أي: "أسواد" "أسياد"، بمعنى سادة، وهم بالطبع من علية القوم وسادتهم. وفي ضمن هؤلاء الـ"منوت" "منوات"2.
وكما تطلق الشعوب في الزمن الحاضر نعوت التفخيم والاحترام على مجالسهم التمثيلية، كذلك أطلقت الشعوب الماضية مثل هذه النعوت على مجالسهم. فأطلق العرب الجنوبيون لفظة "منعن" مثلًا على المزود، فورد: "مزود منعن" في بعض الكتابات، بمعنى "المزود المنيع"3. وربما أُطلقت اللفظة على العضو في هذا المجلس كذلك4. ولكننا لا نعرف ذلك في هذا اليوم معرفة أكيدة، وربما كانوا يطلقون نعوت تفخيم وتعظيم أخرى على أعضاء هذا المجلس.
وحصلنا من الكتابات على اسم مجلس يسمى "طبنن"، وذلك في الكتابات
__________
1 REP. EPIG. 2771, 3458, Grohmann, S. 128
2 REP. EPIG. 3562, a. Grohmann, s. 128
3 Glaser 1150, Halevy, 192, 199
4 RHODOKANAKIS, Stud, II, S. 66. ff(9/227)
القتبانية. وقد رأى بعض الباحثين أنه مجلس كبار الملاكين1. ورأى آخرون أنه بمنزلة "المزود" بالنسبة إلى القبيلة، وأنه مجلس أصحاب الأملاك، ورؤساء أفخاذ القبيلة المالكين، وأنه يأتي بعد "المزود" في الأهمية عند القتبانيين2، وأنه كان ينظر في المسائل الخاصة بالملك والأرض وفي الضرائب التي تجبى عن الزراعة وفي تأجير الأرض، وما شاكل ذلك من موضوعات تخص الأرض والزرع. ويقول علماء اللغة: إن "الطبن"، هو الرجل الفطن الحاذق العالم بكل شيء3، ولعلهم أخذوا هذا التفسير من العرب الجنوبيين. فـ"طبنن"، هو مجلس عقلاء القوم وحذاقهم والمتكلمين باسم القوم.
ولم يكن لسواد الناس ولا للطبقات الوسطى منهم، رأي ولا تمثيل في "الطبنن" ذلك لأن هذا المجلس هو مجلس كبار الملاكين للأرض فقط. وكانوا يشتركون في الـ"المزود". ونجد ذكر هذا المجلس في كتابات يرى بعض الباحثين أنها من أواسط القرن الخامس قبل الميلاد4.
ويقابل مجلس الملّاكين "طبنن" القتباني مجلس عرف بـ"مسخنن" "المسخن" في اللهجة السبئية. وقد أشير إليه في الكتابات السبئية القديمة وفي كتابات عهد "ملوك سبأ وذي ريدان"5. وأعضاؤه من الوجهاء وكبار الملاكين الذين ورثوا ملكهم من عقار وأرض6.
وترد في الكتابات السبئية لفظة لها علاقة بمجلس يمثل طبقة خاصة في سبأ.
عرف بـ"عهرو" "عهر". ونجد هذا الاسم في الكتابات التي هي من القرن الثاني قبل الميلاد فما بعده. ويظهر أنه كان مجلس الأشراف من أهل الحسب والنسب من أمثال الأشراف والنبلاء الذين عاشوا في أوروبا في القرون الوسطى. ولا يشترط في الطبقة المسماة بهذه التسمية أن تكون من كبار المالكين وأصحاب العقار. وإلى
__________
1 A. Grohmann, S. 128
2 راجع السطر الرابع من النص: Glaser 1606
3 اللسان "17/ 132"، القاموس "4/ 244".
4 A. Grohmann, S. 127, Rhodokanakis, Grundsatz, 33, Handbuch, I, S. 125. Glaser 1606
5 CIS, 60, Grohmann, Sudarabien als Wirtcshaftgebiet, I, 95, Handbuch, I, S. 122
6 Handbuch, I, S. 122(9/228)
هؤلاء يضاف من يقال لهم: "ذا عذر" "ذو أعذر". وهم طبقة من أشراف لا يربط بينهم دم، ولا تجمع بينهم وبين القبيلة التي ينزلون بينها أو بين الناس الذين يعشون بينهم، صلة رحم. ولا يملكون أرضًا، وإنما هم حلفاء وجيران، نزلوا بين قوم فصاروا مثلهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، يؤدّون ما يؤدّيه حليفهم من القبيلة من واجب وعمل، وعلى حليفهم مراعاتهم، لأنهم في جواره وفي حلفه1.
هؤلاء هم أصحاب الرأي والاستشارة في الحكومات العربية الجنوبية، والمجالس المذكورة تنظر في مصالح المنتمين إليها وكلهم كما رأينا من أصحاب الجاه والسيادة والسلطان.
وإذا أقر "المزود" موضوعًا ووافق عليه، رفع القرار إلى الملك لإصدار أمره بتنفيذ ما توصل إليه، وتصدر القرارات بصورة مراسيم تشريعية ملكية تعلن للناس وتبلغ للقبائل لإقرارها وتنفيذها، وقد حفظت الكتابات جملة قرارات من هذا النوع2. وتوقع المحاضر في الغالب بلفظة "مثبت" من أصل "ثبت"، وذلك دلالة على الموافقة والتأييد بصحة صدور القرار3. وأن القرار قد ثبت وصار أمرًا إلزاميًّا واجب التنفيذ.
واصطفى الملوك لهم حاشية من ذوي الرأي والعقل والتجربة، جعلوها هيئة استشارية، تقدم الرأي لهم، وقد عرفت بـ"فقضت"، وبـ"بتل"4.
فنحن في اليمن إذن بإزاء نظام يمكن أن نسميه نظامًا تمثيليًّا، وإن لم يكن يمثل رأي الشعب تمثيلًا تامًّا، فلم تكن للأغلبية المكونة للأمة إرادة في اختيار ممثليهم للمجالس، كما هو المفروض والمطلوب من المجالس، فمن هنا لم يكن نظام الحكم في هذه البلاد نظامًا تمثيليًّا صحيحًا، ولكنه كان تمثيليًّا من ناحية ضمه أصحاب الرأي والجاه والسلطان في الدولة، لمجالس "المزود" وإبدائها رأيها لحاكم البلاد، ولا سيما في المسائل الكبرى التي يتوقف عليها المصير، مثل إعلان حرب، أو عقد صلح، إو إقرار ضرائب. نظام نستطيع أن نسميه نظام الأخذ بمبدأ استشارة ذوي الرأي.
__________
1 A. Grohmann, S. 125, Handbuch, I, S. 124, 133
2 Handbuch, I, S. 122
3 Rhodokanakis, Stud, II, S. 85
4 Glaser 1606, Grohmann, S. 128(9/229)
والوجاهة والسلطان في المسائل الخطيرة التي تخص الدولة أو المجتمع وحدهم، فهو نظام شورويّ بالنسبة لأهل الرأي والمشورة، وهؤلاء وحدهم هم الذين يشاورون في الأمور. أما السواد، فلا رأي له. ومع ذلك، فهو أفضل من الحكم المطلق الذي يكون الملك فيه هو "الكل في الكل" يفعل ما يشاء من غير حساب. وهو بالقياس إلى نظم الحكم عند الأشوريين أو البابليين أو الفراعنة، نظام فيه "ديمقراطية" لا نجدها في قواعد حكم الشعوب المذكورة.
ولكن الدنيا لا تدوم على حال واحد، فأخذ حكم المزاود يتقلص، وصار عدد من يأخذ بالرأي والمشورة من الملوك يقل حتى إذا جاءت الأيام المتأخرة من حكومة سبأ، صار الأمر للأقيال والأذواء وسادات القبائل، واضطر الملوك إلى النزول عن حقهم في الأرضين إلى أصحاب السلطان في مقابل اتفاقيات تحدد الواجبات والحقوق التي يترتب على هؤلاء الأقوياء الذين اغتصبوا الأرض اغتصابًا أداؤها للدولة، ويقوم صاحب السلطان الملاك بإيجار الأرض لأتباعه من آله أو من أهل قبيلته، مقابل أجر يدفعونه له، وهؤلاء يؤجرونها أيضًا لمن هم دونهم في المنزلة والدرجة. فتحولت الملكية بذلك إلى دولة إقطاع، أرباحها وحاصلها وناتجها وقف على طبقة ذوي الجاه والسلطان.
وفقد "المزود" مكانته، إذ انتزع الأقيال "أقول" منه السلطان، حتى قدموا أسماءهم في النصوص على اسم المزاود. فنجد أقيال "سمعي" "أقول سمعي" يقدمون اسمهم على اسم المزود، دلالة على خطر شأنهم وقوتهم، وعلى أن حكم "المزود" صار في الدرجة الثانية من خطر الشأن في هذه الأيام1.
وقد تضاء حكم "المزود"، بل زال من الوجود منذ القرن الثالث للميلاد فما بعده، فلا نكاد نجد له حكمًا أو ذكرًا في الكتابات، إذ انفرد الملوك والإقطاعيون الكبار بالحكم، وصار رأيهم هو الرأي الحق المقبول، وبيئة ينفرد فيها الأفراد بالحكم، وينتزع فيها من الأشخاص حق التعبير عن الرأي، هي بيئة لا يمكن أن يعمر فيها "المزود" أو أي مجلس كان من قبيلة يقوم بالتعبير عن رأي الناس، وإن كان بصورة رمزية شكلية. لذلك نستطيع أن نقول: إن العربية الجنوبية فقدت أهم نعمة كانت عندها، نعمة التعبير عن الرأي، والنظم اللامركزية
__________
1 Glaser 1210(9/230)
بعد الميلاد. وزاد في تقليص حكم تلك المجالس تدخل الحبش بصورة مستمرة في شئون العربية الجنوبية، وانتزاعهم الحكم بالقوة من أصحابه الشرعيين وانفراد حكامهم وحدهم بالحكم، ثم اضطرار الملوك والأقيال والأذواء إلى مقاومة الحبش الغزاة وحشد كل الطاقات البشرية لطرد الحبش من بلادهم، وأحوال مثل هذه لا تسمح بإبداء رأي، فكان فيها موت تلك المجالس التي لم تكن كما قلت تمثل الشعب، لأنها لا تمثل السواد الأكبر، وإنما كانت تمثل أصحاب الوجاهة والسلطان ولكن وجود شيء فيه وقوف إزاء الملوك وتحد لسلطانهم إن أرادوا توسيعه، هو مهما كان نوعه خير من لا شيء ومن انفراد الملوك بالأمر دون خوف ولا رهبة من اعتراض أحد ومن نقد ناقد.
هذا، ولم نعثر على نص بالمسند، ورد فيه ذكر لعدد أعضاء المزاود أو المجالس التمثيلية الأخرى. أما ما ذكره "الهمداني" من أنه كان لحمير مجلس ينظر في أمور الملك واختيار الملك إذا مات الملك ولم يترك من يرثه، وأن عدد أعضاء ذلك المجلس ثمانون قيلًا، لا ينقص ولا يزيد، وأنهم إذا انتخبوا قيلًا منهم ليكون ملكًا عند عدم وجود من يخلف الملك، أو عدم رضائهم عن الملك لسبب من الأسباب، فإنهم كانوا ينتخبون قيلًا جديدًا ليكمل العدد المقرر1، فإننا لا ندري أكان ذلك حكاية عن وضع الحكم في اليمن في قبيل الإسلام، أم كان مجرد رواية من هذه الروايات الواردة عن الجاهلية، مما يرويه أهل الأخبار.
وقد نحمل روايته محمل الصدق بالنسبة إلى مجمل الخبر. أما بالنسبة إلى ثبات العدد فأمر لا نستطيع أن نأخذ به ونقطع بصحة ما ورد فيه.
وظهرت في القرن الثاني قبل الميلاد فما بعده ظاهرة جديدة أخرى، قد تدل على ضعف شخصية الملوك، وتقلص سلطانهم، هي ظاهرة ذكر اسم ولي العهد مع اسم الملك، وتلقيبه بلقب ملك تمامًا كما يلقب الملوك. فجاء اسم نهفان مع ابنه "شعرم اوتر" "شعر أوتر"، دلالةً على أنهما حكما حكمًا مشتركًا، وجاء اسم ملك، وجاء مع اسمه اسم أخيه يحكم معه ويحمل لقب الملك، وجاء اسم ملك ومعه اسم ابنين أو ثلاثة أبناء، يشاركونه في اللقب
__________
1 الإكليل "2/ 114".(9/231)
وفي الحكم، بل ورد اسم ملك ومعه حفدته يحملون لقب الملك1.
وظاهرة أخرى نراها تظهر، فيها دلالة أيضًا على تناحر الأسر وتقاتلها على الجاه والحكم والسلطان، تتجلى في حكم أسرتين مختلفتين، إحداهما من "حاشد" وأخرى من "بكيل"، وكلتاهما من هَمْدان، وقد حمل كل واحد من رجلي الأسرتين اللقب الرسمي لملوك سبأ. فقد حكم "علهان نهفان" وابنه "شعر أوتر" وهما من "حاشد"، وحكم في الوقت نفسه "فرع ينهب"، وابنه، وهما من "بكيل"، وكان كل واحد منهما يلقب نفسه بألقاب ملوك سبأ. ثم نجد من ذيول هذه الظاهرة منافسة "ظفار" لمأرب، ومبارزة قصر ملوك "ظفار" وهو "ذو ريدان" لقصر ملوك سبأ القديم وهو "سلحن" "سلحين". وفي هذه المنافسة دلالة على تنافس أسرتين على الحكم، كل أسرة تدعي أنها حاكمة سبأ ومالكة مملكة سبأ2.
وكان من نتائج هذا التطور ظهور حكم لا أود تسميته بـ"حكم لا مركزي"، ولكن أرى تسميته: حكمًا إقطاعيًّا، أو حكم "أمراء الطوائف"، أو حكم رءوس الطوائف. فقد صار الأمر والنهي للأقيال وللأذواء، وللسادات وقادة الجيش، حتى تكاثر عددهم، وحتى صارت لهم كلمة في اختيار الملوك وفي إسقاطهم. ونجد في الكتابات المتأخرة أسماء عدد كبير من هؤلاء الإقطاعيين، دلالة على مكانتها، وخطر شأنها في السياسة العامة، ولم تختف هذه الظاهرة حتى بعد احتلال الحبش لليمن، وحتى بعد طرد الحبش عنها ودخولها في حكم الفرس إلى أيام الإسلام3.
وكان مما قوى سلطان الإقطاعيين الحروب التي أعلنها الملك "شمر يهرعش" على جيرانه. لقد تمكن من توسيع رقعة سبأ ومن إضافة أرضين جديدة واسعة لها، ومن إحاطتها بهالة من العظمة، ولكنه اضطر من ناحية أخرى إلى إرضاء الإقطاعيين الذين ساعدوه وخدموه في حروبه وأدوا له خدمات كبيرة، فوسع سلطانهم، وقوّى مركزهم، وصيرهم قوة ذات شأن لها سلطان في الدولة،
__________
1 Ryckmans, L'Institution, 207, Grohmann, S. 130, CIH 314, 398, 934, Ryckmans, 203
2 Ryckmans, L'Institution, P. 207, Grohmann, S. 129
3 Grohmann, S. 130(9/232)
فأضعف بعمله مركز الحكومة، ووضع من جاء بعده من الملوك في "مركز حرج" أمام كبار الإقطاعيين الذين أخذوا يتدخلون في أمور الدولة، وينافسونها في سلطانها.
وهكذا زالت معالم الحكم "الاستشاري" للأقيال، وحل محله حكم الملوك المستند إلى تأييد عدد من كبار رجال الإقطاع وسادات القبائل، وهو حكم راعى بالطبع مصالح هؤلاء، ولم يهتم بمصالح سواد الناس، بل حتى مصالح الإقطاعيين الذي لم يكن لهم سلطان كبير، فأصيبوا بضرر بالغ من هذا التغيير الدستوري في أصول الحكم.
وقد كان ملوك العربية الغربية، مثل ملوك العربية الجنوبية، يأخذون بالرأي ويعملون بمشورة المجالس. ويعرف مجلس الشورى في الكتابات اللحيانية بـ"هجبل" "الجبل" و"جبل"1. وقد نعت المجلس بجملة "العالي الشأن" في إحدى الكتابات2، تعظيمًا له، وتقديرًا لشأنه. ومما يؤيد أخذ الملوك برأي المجلس "جبل" هو ورود لفظة "براي"، أي: "برأي" في الكتابات، دلالة على أخذ الملوك برأي المجلس3.
بل ذهب بعض الباحثين إلى احتمال وجود أحزاب سياسية في مملكة لحيان4.
غير أننا لم نتمكن من الحصول على كتابات لحيانية فيها شيء عن الحزبية والأحزاب في ذلك العهد.
أما أصول الحكم عند "آل لخم"، فإننا لا نملك نصوصًا لها مدونة، كذلك لا نملك نصوصًا فيها شيء عن أصول الحكم عند الغساسنة. ولم يشر أهل الأخبار إلى وجود مجالس على نمط "المزود" أو دار الندوة" عند المناذرة أو الغساسنة، لذلك لا نستطيع أن نتحدث بأي حديث عن الشورى وأخذ الرأي عند اللخميين، أو عند آل غسان.
بل يستنبط من بعض روايات أهل الأخبار، أن ملوك "آل نصر" و"آل غسان" و"آل آكل المرار"، كانوا ملوكًا غلب على حكمهم
__________
1 Caskel, Lihyanisch, No. 71, 77, 87, 91
2 JS41, Caskel, Lihyanisch, S. 109
3 Arabien, S. 50
4 Euting 51, Grohmann, S. 50, Caskel, Lihyanisch, 40, 42. Jaussen-Savignag, Missin, II, 731(9/233)
الاستبداد بالرأي، إذ لم يعملوا برأي أحد، ولم يأخذوا بمشورة مستشار إلا إذا كانت المشورة موافقة لهواهم ومن شخص قريب منهم، وله أثر فعلي عليهم.
كما يستنبط منها أيضًا أن المقربين من الملوك، لم يكونوا مخلصين لهم في تقديم النصيحة، بل كانوا يبتغون من ورائها الحصول على منفعة وفائدة، أو ضررًا يلحق بأعدائهم، وبالقبائل المعادية لقبائلهم في كثير من الأحايين. وأن بعض الملوك، ولا سيما المتأخرون منهم، كانوا قد تأثرو بآرائهم فعملوا بها، فأوجدت لهم مشكلات خطيرة، كان الملوك في غنى عنها، لو أنهم كونوا مجالس استشارية، وأخذوا برأيها في تسيير النابه من أمور المملكة.
أما القرى والمدن إن جازت هذه التسمية، فقد حكمها وجهاؤها وساداتها رؤساء الشعاب والبيوتات الكبيرة. فإذا حدث حادث في شِعْب حلّه رؤساء ذلك الشعب، وإن عرض للقرية أو للمدينة عارض اجتمع سادتها للنظر فيه وحله، وإليهم يكون تسيير أمور القرية أو المدينة. يجتمعون في "نادي" القرية أو المدينة، وهو مجتمعها للنظر في الأمر والبت فيما يرون اتخاذه من قرارات. وقد ورد في القرآن الكريم: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} 1. والنادي هنا المجلس، ومجتمع القوم، وموضع اتخاذ القرارات والبت في الأمور.
وكان لأهل "تدمر" "مجلس" على غرار مجلس "الشيوخ" في "رومة" مؤلف من سادات المدينة من أصحاب الجاه والسلطان له سلطة من القوانين والتشريع، وله رئيس وكاتب.
__________
1 العنكبوت، السورة رقم29، الآية29.(9/234)
دار الندوة:
وقد تحدث أهل الأخبار عن دار قالوا: إنها كانت بمكة سموها "دار الندوة" ونسبوها إلى جد قريش ومجمعها "قصي"، قالوا: إن قريشًا كانت إذا همت بأمر أو أرادت رأيًا، أو قررت اتخاذ قرار، اجتمعت فيها، ونظرت في أمرها واتخذت فيها قرارها. فهي إذن مجلس يشبه "المجالس" التي كانت في مدن اليونان، وقد كونوها لتكون حكومة المدينة المشرفة على شئونها المدبرة لأمورها الناظرة فيما يقع فيها من خصومات وخلاف.(9/234)
وذكر بعض أهل الأخبار، أنه لم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصي إلا ابن أربعين سنة للمشورة، وكان يدخلها ولد قصي كلهم أجمعون وحلفاؤهم1 والظاهر أن هذا كان خاصًّا بالمشورة وأخذ الرأي. لما كان قد قرّ في نفوس أكثر الناس من أهمية السن في تقديم الرأي، ومن أن النضوج العقلي يبدأ في الأربعين من العمر.
وإذا صحت الرواية، نكون أمام شرط مهم فيمن يحق له حضور دار الندوة لإبداء المشورة والرأي. لكننا نسمع من رواة الأخبار أيضًا، أنهم يذكرون أن قريشًا كانت تتساهل في موضوع السن أحيانًا، فكانت تتساهل في قبول دخول من هو دون الأربعين من العمر إذا كان الشخص سديد الرأي. فقد "تحاكم العرب في الجاهلية في النفورة، وفي غير ذلك من المخايرة والمشاورة، إلى أبي جهل ابن هشام في أيام حداثته وفتائه، ولذلك أدخلوه دار الندوة، ودفع مع ذوي الأسنان والحنكة من بين جميع الشبان، ومن بين جميع الفتيان.
ولذلك قال قطبة بن سيّار حكم فزارة حين تنافر إليه عامر بن الطفيل وعلقمة ابن علاثة: عليكم بالحديد الذهن، الحديث السن. يعني: أبا جهل"2.
__________
1 الأزرقي "1/ 65".
2 رسائل الجاحظ "1/ 300"، "رسائل في نفي التشبيه".(9/235)
الملأ:
وفي القرآن الكريم لفظة: "ملأ" بمعنى جماعة يجتمعون على رأي1. وتعبر هذه اللفظة عن الغالبية، أي: عن الرأي العام الغالب لمكان ما، أو لجماعة من الجماعات.
ومعنى ذلك اتخاذ "أهل الحل والعقد" من الملأ رأيًا يكون ملزمًا للآخرين وأهل الرأي والحل والعقد، هم السادة أصحاب الجاه والعقل والسن، ولذلك كانوا يفضلون في أخذ الرأي، أخذ رأي أصحاب العقل والخبرة، وهم المتقدمون في السن في الغالب، ففي صغر السن طيش وتسرع، والبت في الأمور يحتاج إلى نضج وصبر وأناة وحلم. لهذا كان أكثر رجال "دار الندوة" من البالغين المتقدمين في السن2.
__________
1 المفردات، للأصفهاني "ص490".
2 الأزرقي "1/ 61".(9/235)
وعرف علماء العربية "الملأ" أنه الرؤساء والجماعة وأشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى قولهم، "يروى أن النبي، صلى الله عله وسلم، سمع رجلًا من الأنصار وقد رجعوا من غزوة بدر، يقول: ما قتلنا إلا عجائز صلعًا، فقال عليه السلام: أولئك الملأ من قريش، لو حضرت فعالهم، لاحتقرت فعلك" أي: أشراف قريش. فالملأ إنما هم القوم ذوو الشارة والتجمع للإدارة1.
وورد أن "الملأ" التشاور والعلية. ويظهر من المواضع العديد التي وردت فيها هذه الكلمة في القرآن الكريم، أن المراد بها في أكثر تلك المواضع، علية القوم من ذوي الرأي والمكانة، والأشراف من القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى قولهم. وذكر أن "الملأ": التشاور تشاور الأشراف والجماعة في أمر ما2.
فرؤساء مكة إذن، هم حكومها وحكامها، وليس هناك ملك أو حاكم انفرد بالحكم والسلطان. فالحكم فيها إذن، حكم مدينة، لا حكم ملك أو فرد، وقد كان الحكم في الطائف وفي يثرب وفي نجران، وفي وادي القرى على مثل هذه الطريقة، غير أن الأخباريين لم يتحدثوا عن مجلس يشبه دار الندوة في هذه المدن.
وفي القرآن الكريم: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 3، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 4. وفي هاتين الآيتين دلالة على الأخذ بمبدأ المشورة، وأن الحكم شورى. وحكم قريش في مكة، هو حكم المشاورة وأخذ الرأي، لهذا كانوا يتشاورون فيما بينهم حينما كانوا يعتزمون اتخاذ قرار تجاه الرسول. وقد بينت أن أصحاب الرأي والمشورة هم "الملأ" وعِلية القوم ومن عرف بجودة الحكم والفطنة والذكاء.
وكانت القرى الأخرى تستشير ذوي الحل العقد. وكذلك فعلت القبائل.
فقد كان سيد القبيلة يطلب من وجوه قبيلته إبداء رأيهم في القضايا المهمة من أمور الحرب والسلم. وكان سادات القبيلة، يجتمعون للنظر في أمر اختيار رئيس،
__________
1 اللسان "م/ ل/ أ"، "1/ 159".
2 تاج العروس "1/ 119"، "ملأ"، تفسير الطبري "2/ 373".
3 آل عمران، الرقم2، الآية159.
4 الشورى، الرقم42، الآية 38.(9/236)
إذا مات رئيس وليس له وريث، أو وقع خلاف فيما بين أعضاء بيت الرئيس في الرئاسة. وقد حث العرب على الأخذ بالرأي والمشورة، حتى لا يقع المرء في الخطأ والتهلكة. والرأي: النظر والتدبير والتفكير1. وقد قدمه العرب على الشجاعة، فجعلوه قبلها، لأن الشجاعة لا تنجح ما لم يكن للشجاع رأي ونظر في كيفية التغلب على خصمه.
__________
1 تاج العروس "10/ 140"، "رأي".(9/237)
المشاورة:
وقد كرهت العرب والحكماء مشاورة من اعترته الشواغل، وألمت به النوازل، مع وفور عقله وحزمه، فقال "قس بن ساعدة الإيادي لابنه: لا تشاور مشغولًا وإن كان حازمًا، ولا جائعًا وإن كان فهمًا، ولا مذعورًا وإن كان ناصحًا، ولا مهمومًا وإن كان عاقلًا، فالهمّ يُعقِل العقلَ فلا يتولد منه رأي ولا تصدق به روية". و"قال الأحنف بن قيس: لا تشاور الجائع حتى يشبع، ولا العطشان حتى يروى، ولا الأسير حتى يطلق، ولا المقل حتى يجد، ولا الراغب حتى ينجح"1.
وكانت العرب تحمد الأناة في الرأي، وإجالة الفكرة فيه وعدم التسرع. "وكان عامر بن الظرب حكيم العرب يقول: دعوا الرأي يغب حتى يختمر، وإياكم والرأي الفطير"2.
واجتمع رؤساء بني سعد إلى أكثم بن صيفي يستشيرونه فيما دهمهم يوم الكلاب، فقال: إن وهن الكبر قد فشا في بدني، وليس معي من حدة الذهن ما أبتدئ به الرأي، ولكن اجتمعوا وقولوا، فإني إذا مر بي الصواب عرفته"3.
__________
1 نهاية الأرب "6/ 76".
2 نهايةالأرب "6/ 77".
3 نهاية الأرب "6/ 80".(9/237)
حكم سادات القبائل:
وحكم سيد القبيلة حكمًا يتوقف على شخصيته ومكانته، فإذا كان السيد قويًّا(9/237)
حازمًا مهيبًا رفع مكانة القبيلة، وصيّر لها منزلة بين القبائل، وقد يفرض إرادتها على القبائل الأخرى. أما إذا كان ضعيفًا فاتر الهمة باردًا بليدًا، طمع فيه الطامعون، وقد يكون سببًا في تشتت كلمة القبيلة وفي تجزئتها وهبوط مكانتها بين القبائل. فالرئيس هو الذي يخلق القبيلة ويعز مكانتها، وهذا هو سر ظهور قبائل كبيرة بصورة مفاجئة، ثم اختفاء أمرها وهبوط منزلتها بعد أمد. وسر ذلك أن الذي يرفع من شأن القبائل أو يخفض من منزلتها هو "سيد القبيلة"، فهو روحها، وهو الذي يمنحها إكسير الحياة.
وليس حكم سيد القبيلة، حكمًا مطلقًا، لا مشورة فيه ولا أخذ رأي، بل الحكم في القبائل حكمًا مستمدًا من رأي وجهاء القبائل وعقلائها وفرسانها وألسنتها المتبينة، فهو حكم "ملأ القبيلة". وقد يكون بيت رئيس القبيلة، هو مجلسها وموضع حكمها. وإذا حدث حادث اجتمع عقلاء القوم في مجلس الرئيس وتباحثوا في الأمر. ويقال لمجلس القبيلة "عهرو" "ع هـ ر و" في اللهجة القتبانية1، يعقد للنظر فيما يقع للقبيلة من أمر جليل، مثل فرض ضرائب أو زيادتها، أو إعلان حرب، أو ما شاكل ذلك من أمور.
ونجد مثل هذه المجالس عند جميع القبائل. فإذا حدث للقبيلة حادث، تجمع سادتها للتباحث في الأمر، ولاتخاذ ما يرون اتخاذه من رأي. ولما كانت القبيلة منتشرة لا تستقر في واحد، صارت مضارب سادات الأحياء أندية تلك الأحياء، يجتمع فيها وجوه المضرب للسمر وللبت فيما قد يقع بين الحي من خلاف. وبهذه الطريقة يفصل في الخصومات وفي كل ما يحدث للحي من أمر.
ويروي أهل الأخبار شعرًا زعموا أن "لقيطًا الإيادي"، قاله في كيفية الحكم وسياسة الرعية، فيه هذه الأبيات:
فَقَلِّدوا أَمرَكُمُ لِلَّهِ دَرُّكُمُ ... رَحبَ الذِراعِ بِأَمرِ الحَربِ مُضطَلِعا
لا مُترِفاً إِن رَخاءُ العَيشِ ساعَدَهُ ... وَلا إِذا عَضَّ مَكروهٌ بِهِ خَشَعا
ما زَالَ يَحلُبُ دَرَّ الدَهرِ أَشطُرَهُ ... يَكونُ مُتَّبِعًا طَورًا ومُتَّبَعا
حَتّى اِستَمَرَّت عَلى شَزرٍ مَريرَتُهُ ... مُستَحكِمَ السِنِّ لا قَحمًا وَلا ضَرَعا2
__________
1 Katab. Texte.. I, S. 78, Anm. 3, S. 79, Handb
2 نهاية الأرب "6/ 17".(9/238)
حكم الملوك:
وتتلخص نظرة الجاهلية بالنسبة إلى حكم الملوك فيما يأتي: الملك مالك والتابع مملوك، واجبه تقديم حقوق الملك للملوك وحق الملك الطاعة وفي ضمن الطاعة: الإخلاص له، والعمل بما يفرضه على التابع من حقوق وواجبات. وليس للرعية الامتناع عن دفع ما في عنقها من حقوق لملوكها أو ساداتها: سادات القبائل.
وليس لأحد حق مطالبة ملكه بدفع مال له، لا بصورة ثابتة معينة مقررة، ولا بصور أخرى. إنما الملوك والسادات أحرار، لهم أن يعطوا ولهم أن يمسكوا، وما يدخل خزانتهم وما يأتيهم من ربح من تجارة أو مغنم من حروب أو من عشور ومكوس وضرائب أخرى، هو من حقهم وهو من ملكهم الخاص بهم. وكل ما يعود للحكومة، هو لهم. لأنهم هم الحكومة، والحكومة الرؤساء.
وفي الحديث: "ومأكول حمير من آكلها" المأكول: الرعية، الآكلون الملوك جعلوا أموال الرعية لهم مأكلة، أراد أن عوام أهل اليمن خير من ملوكهم1.
و"الآكال: مآكل الملوك. وآكال الملوك: مأكلهم وطعمهم: والأكل: ما يجعله الملوك مأكلة"2. والمأكولون إذن هم الرعية، يأكلهم ملوكهم، بما يأخذونه منهم من حقوق وبما يفرضونه عليهم من واجبات، والآكلون هم الملوك، لأنهم يأكلون ولا يعطون.
والحاكم ملك كان أو سيد قبيلة، هو حاصل المحيط الذي نشأ فيه، والبيئة التي عاش بين أهلها، لذلك نراه مستبدًّا إلى آخر حدّ من جهة، ونراه عطوفًا غافرًا للذنوب من جهة أخرى. وهو القانون والسلطة التنفيذية والتشريعية ولا راد لحكمه وقضائه، إلا التوسلات والوساطات وشفاعة الشفاع، فإن تأثر بالشفاعة غير رأيه وإن أصر على رأيه فلا راد لحكمه. وحكم هذا شأنه يكون خاضعًا لمزاج الحاكم ولدرجة هدوء أعصابه واتزانه، فإن كان الملك عاطفيًّا منفعلًا سريع التأثر، صار عهده عهد مشاكل ومؤامرات يكون قتل الأشخاص فيه من الأمور البسيطة. وما يومي البؤس والنعيم، إلا مثل على عقلية الحاكم في ذلك الوقت. وفي حكم كهذا تكثر فيه بالطبع الوشايات والمؤامرات، إذ يستغله الحساد وأصحاب الذكاء في
__________
1 اللسان "11/ 21"، "أكل".
2 اللسان "11/ 21"، "أكل".(9/239)
الإيقاع بخصومهم، كالذي فعلوه من الإيقاع بين النعمان والشاعر النابغة صديقه والمقرب إليه، وكالذي فعلوه من الإيقاع بين "عمرو بن هند" وهو ملك متهور قلق، وبين سادات القبائل مما سبب إلى غزوهم وإلى استهتار بعض القبائل بحكمه وخروجه على طاعته.
وقتل الأشخاص من أبسط الأمور بالنسبة إلى أولئك الحكام، فإذا أزعجهم شخص أو هجاهم شاعر أو انتقصهم أحد، فقد يكون القتل جزاء له في الغالب.
وإذا أمر الملك بقتل إنسان، قتل، ما لم يشفع له شفيع قويّ مؤثر. وإذا كان أمر الملك بقتل الشخص في الحال، قتل دون تأخير. ولا راد لحكمه. فهو الحاكم وهو المنفذ للأحكام. ولا اعتبار لمنزلة الشخص الذي سيقتل، والشيء الذي يؤجل الموت أو يبعده عن شخص ما، هو هروبه إلى رجل منافس لهذا الحاكم كاره له، أو له دالة عليه، فينقذ لجوؤه إلى ذلك الشخص رقبته من سيف الجلاد.
وللملك إحراق من يشاء إذا أراد، والتمثيل بجسم عدوه. وقد رأينا جملة ملوك من ملوك "آل لخم" و"آل غسان" وقد عرفوا "بمحرق"؛ لأنهم حرقوا أعداءهم بالنار. لم يحرقوا بيوتًا، بل بشرًا، وقد رأينا بعض الروايات، وهي تنسب إلى "المنذر بن ماء السماء" قتل راهبات وقعن في الأسر من غسان ليكنّ قرابين قربهن إلى العُزّى. ورأينا أمر "عمرو بن هند" بذبح تسعة وتسعين رجلًا من تميم على قمة "أوارة"، لأنه حلف يمينًا لينتقمن منهم بقتل مائة رجل منهم، وإحراقهم بالنار. فقيل له: المحرق. وضرب بفعله المثل في قصة يروونها عن هذا المثل: إن الشقي وافد البراجم1.
وقد اشتهر "الجلندي" ملك "عمان" بظلمه، حتى ضرب به المثل. فقيل: "أظلم من الجلندي" و"ظلم الجلنديّ". وقيل: إنه هو الذي ذكره الله في كتابه، فقال: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} 2.
ويذكر أهل الأخبار أن الملوك إذا أرادت قتل شخص، لبست جلود النمر وجلست تتفرج على من يراد قتله. ويعبر عن ذلك بالتنمر3.
__________
1 ثمار القلوب، للثعالبي "107 وما بعدها"، "وهو أول من عاقب بالنار"، حمزة "67".
2 سورة الكهف، الآية79، الثعالبي، ثمار القلوب "183"، الكشاف "2/ 578".
3 تاج العروس "3/ 587"، "نمر".(9/240)
أصول التشريع وسن القوانين:
لا نملك اليوم نصوصًا في أصول التشريع وقواعده عند الجاهليين. إذ لم يعثر على نص خاص بهذا الموضوع. غير أن في بعض النصوص إشارات عابرة، يمكن أن نستنبط منها شيئًا عن قواعد التشريع عند العرب قبل الإسلام. وفي جملة هذه النصوص بعض النصوص القتبانية، ومنها النص الموسوم بـGlaser 1606.
والعرب من الشعوب التي تميل إلى الأخذ بالرأي، واستشارة ذوي الرأي والخبرة والسن. فنجد سيد القبيلة يستشير سادات القبيلة ووجوهها في الأمور الخطيرة التي تقع لقبيلته. كما نجد المدن والقرى تستنير برأي أولي الأمر في المشكلات التي تقع لها، لحلها وفقًا لما يستقر عليه رأي ساداتها. وفي العربية الجنوبية نجد للقبائل مجالسها كذلك، حيث يجتمع أصحاب الرأي في القبيلة، للنظر فيما يقع لقبيلتهم من أمر نابه وقضايا خطيرة يجب أخذ الرأي فيها. وكان للملوك مستشارون يستشارون في القضايا التي يعرضها الملك عليهم، بالإضافة إلى "المزاود" والمجالس الأخرى.
وقد استشار الملوك أصحاب الأرض من طبقة "طبنن" "الطبن". والمستشارين الذين عرفوا بـ"فقضت" و"بتل"1، كانوا يجمعونهم لأخذ رأيهم في أمور الأرض وفي مسائل أخرى. كما استشاروا كبار رجال المعابد من درجة "رشو" و"شوع"2. وكان لرأي هؤلاء أهمية كبيرة بالنسبة للملوك، لما كان لهم من نفوذ وكلمة في المجتمع.
ولم يكتف الملوك بأخذ رأي الطبقات المذكورة عند إقرار قانون، بل كانوا يرسلون آرائها ووجهة نظرها إلى مجالس القبائل وإلى سادات ووجوه المدن والقرى والمستوطنات للوقوف عليها ولبيان رأيهم فيها، وذلك في القضايا العامة التي تشمل
__________
1 Glaser 1606, Arabien, S. 128
2 Arabien, S. 127(9/241)
كل الدولة، مثل تنظيم أمور استثمار الأرض وفرض الضرائب والقوانين التجارية، لتدرس وتعالج على ضوء مصالح كل المتنفذين من ذوي الرأي والجاه في المملكة، على قدر الإمكان، وليكون في الإمكان تطبيقها وتنفيذها دون كبير اعتراض.
ومتى جاء رأيهم ووقف الملك على كل الآراء وأحاط علمًا بها، عمل برأيه فيها واتخذ قرارًا باتًّا بموجبها. ويعبر عن اتخاذ قراره هذا بلفظة "جزمن" أي: "الجزم".
جزم الملك برأيه وإمضائه لإصدار ذلك القانون. ويأمر عندئذ بتدوينه، ويعبر عن ذلك بجملة "سطرن ذت يدن"، أي: "وقد كتب القرار بيده"، كناية عن أنه أمر بنفسه بتدوينه ونشرهن فكأن يده ذاتها قد سطرته. وقد تدون جمل أخرى في هذا المعنى، مثل "تعلمه ذت يدن" و"تعلمه يدن" أي ووقعه بيده. بمعنى أمضاه وختمه بختمه، وذلك على ما يفعل رؤساء الدول من التوقيع تحت نص القوانين والأوامر، لإكسابها صبغة رسمية. وتذكر بعد اسم الملك أسماء بعض رجال الحاشية وكبار السادات وأعضاء المزاود، ممن يكونون قد ساهموا في إصدار القانون. ولهم قوة تنفيذية في المملكة. على نحو ما نفعل من ذكر اسم رئيس الوزراء والوزراء المختصين ممن لهم علاقة بتنفيذ القانون بعد اسم رئيس الدولة، دلالة على موافقتهم عليها، وإقرارهم لها.
وبعد الانتهاء من موافقة الملك عليه بتثبيت اسمه عليه يدون وتحفظ نسخًا منه في خزائن الحكومة للرجوع إليها، ويقرأ القانون على الناس للاطلاع عليه. ثم يكتب على أحجار تثبت في جدر الساحات الكبيرة التي يتجمع فيها، لا سيما ساحات أبواب المدن والقرى التي تكون عند المداخل، وهي ساحات الإعلان1 ويكون القانون بذلك ملزمًا واجب التنفيذ، وعلى موظفي الحكومة والرعية العمل بما جاء فيه.
وفي حالات سن القوانين التي تخص قبيلة واحدة أو مكانًا معينًا، يجتمع المجلس الاستشاري "المزود" لتلك القبيلة أو المكان، ثم يتداول في الأمر.
وقد يحضره الملك بنفسه. وقد يحضره ممثل أو ممثلون عنه. وإذا اتخذ المجلس قرارًا في أمر ما، فله الحق بإصداره باسم الملك، كما أن له الحق بإصداره باسمه، أي: باسم المجلس الاستشاري الذي اتخذ القرار. وإذا صدر باسم الملك
__________
1 Arabien, S. 128(9/242)
دلّ ذلك على أنه قانون رسمي وافقت الدولة عليه، أما في حالة إغفال الإشارة إلى اسم الملك في القرار، فإن ذلك يدلّ على أنه قانون خاص خصص بالموضع الذي أصدر المجلس قراره فيه. وتطبق أحكامه عليه وحده.
ومن حق المجالس إقرار القوانين القديمة وتثبيتها، كما أن لها حق إلغائها أو تعديلها، ويصدر قرارها بقانون. ومن حقها أيضًا العفو عن المحكوم عليهم، عفوًا كليًّا أو جزئيًّا. وتنظيم حقوق الأرض بقوانين يصدرها عند الحاجة وحسب مقتضيات الأحوال1.
ومن الصعب علينا في الوقت الحاضر تثبيت أسماء الهيئات المشرعة في العربية الجنوبية، أي: الهيئات التي كان من حقها سن القوانين ووضع الأنظمة. لأننا نجد في نصوص المسند أسماء مؤسسات سنّت قوانين ووضعت أنظمة في جباية الضرائب وفي تنظيم معاملات البيع والشراء والأرض. مثل "ذو عهرو" "عهرو" في قبيلة "فيشن" "فيشان" من قبائل سبأ و"مسخنن" "مسخنان" في سبأ كذلك. ومؤسسات أخرى لا نعرف الآن من أمرها شيئًا يذكر. يظهر أنها كانت مجالس ومؤسسات ذات طابع محلي تشمل صلاحيتها الموضع الذي تكون فيه وكان من حقها تشريع ما ترى ضروريًّا بالنسبة إلى تنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لذلك المكان2.
ويستنبط من تعدد المجالس والجمعيات ومن الأعمال التي قامت بها، أن الحكم في العربية الجنوبية قبل الميلاد كان حكمًا قريبًا من الحكم "الديمقراطي" الشعبي. وأن سلطات الملوك كانت مقيدة ببعض القيود، فلم يكن الملك يصدر أمرًا إلا بعد أخذ رأي المجالس المختصة واستشارتها وأخذ موافقتها. والمجالس المذكورة وإن كانت في الواقع مجالس كبار أصحاب الأرض وأصحاب الجاه والنفوذ، ولا رأي لسواد الناس فيها، وكان للملوك نفوذ عليها ودخل في قراراتها، ولا سيما الملوك الكبار أصحاب الشخصية، إلا أن وجودها على تلك الصورة وعلى هذا النحو من الحكم، هوخير بكثير من عدم وجودها ومن حكم لا يستند على أي مجلس ولا على أية استشارة أو رأي، كما كان الوضع عند
__________
1 Handbuch I, S. 125
2 Handbuch, I. S. 128(9/243)
بعض الشعوب التي حكمها حكام مستبدون، حكموا شعوبهم حكمًا فرديًّا تعسفيًّا، لم يستند على رأي، لا رأي النخبة من الأمة، ولا رأي الشعب.
ودام الحال على هذا المنوال إلى القرن الثاني للميلاد تقريبًا، ثم تبدل وتغير.
فلما جاء القرن الثالث تقلص ظل حكم الأخذ بالشورى والرأي، حتى زال هذا الحكم، واختفى ذكر "المزاود"، ولم نسمع بعد ذلك لها خبرًا. ويظهر أن العربية الجنوبية قد سارت على الطريق التي سلكها ملوك اليونان وقياصرة "رومة" من التنكر للحكم "الديمقراطي" والابتعاد عنه، للأخذ بمبدأ حكم "الفرد"، وهيمنة الحاكم الأعلى على كل شيء. فلما بسط ملوك سبأ وذو ريدان وحضرموت سلطانهم على أرضين واسعة، وكونوا لهم جيشًا كثير العدد غزوا به أمارات والمخاليف، ازداد بذلك ملكهم، واتسع مالهم، وقضوا على من كان له رأي ونفوذ في المجالس حتى زالت المعارضة وصار الأمر بأيديهم، وبأيدي من يرضون عنهم ممن يأتمر بأمرهم. وبزوال قوة أصحاب المجالس، زال حكم الرأي والشورى الذي كان يحد بعض التحديد من سلطان الملوك، ويمنعهم من وضع القوانين من دون أخذ رأيهم، وصار الحكم إلى رأي الملوك وإلى رأي الأقوياء من كبار أصحاب "المخاليف".
ومما ساعد على زوال حكم الأخذ بالمشورة والرأي واستبداد الملوك وكبار رجال الإقطاع بالحكم، هو تدفق الأعراب من الحجاز ونجد وسواحل الخليج إلى العربية الجنوبية وازدياد عددهم فيها، ولا سيما بعد انهيار حكم مملكة كندة وارتحالهم من منازلهم إلى العربية الجنوبية، فازداد بذلك نفوذ الأعراب واستغلهم الملوك للقضاء على نفوذ الأقيال والأذواء وذوي الإقطاع والنفوذ والجاه، حتى صار لهم نفوذ واسع في المملكة، وغدو قوة اعترف الملوك بها، فأشاروا إليها في لقبهم الرسمي الذي صار على هذا النحو: ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في الأطواد والتهائم.
وقد استغل سادة الأعراب حاجة أهل الحكم والمتنافسون عليه إليهم، ببراعة ودهاء فصاروا يؤيدون من يغدق عليهم بالمال، ومن يفسح لهم المجال للغزو والسلب والنهب، ومن يزيد على غيره في إعطاء المال لهم. وأخذوا يتنقلون من جهة إلى أخرى. يعيشون بالأمن في وقت كان الأمن فيه مضطربًا قلقًا. يهاجمون المدن والقرى والحكومات. وهذا ما أقلق "بال" الحكومات والرعية، وجعل الناس(9/244)
يخشون على حياتهم ومالهم، ويعشون بقلق، في ظل حكومات صغيرة عديدة، لا هَمَّ لها سوى مخاصمة بعضها بعضًا والتناحر، على عادة الحكومات المتنافسة الصغيرة في التكالب فيما بينها تكالب الكلاب.
وقد امتاز هذا العهد بكثرة حروبه وبكثرة ظهور الثورات فيه. وباضطرار الملوك إلى قضاء معظم أوقات حكمهم في مكافحة تلك الثورات وفي محاربة الإقطاعيين الذين أراد الملوك تقليص نفوذهم. وهذا مما جسر الحبش على العربية الجنوبية، فدخلوا قوة فاتحة فيها. ووضع مثل هذا لا يساعد على قيام حكم "ديمقراطي" ولو بشكل هزيل. وقد أثرت هذه الحروب والاضطرابات على وضع العربية الجنوبية، فأخرتها كثيرًا، وقضت على ما كان فيها من حضارة، وجعلت البلاد بلاد حكومات: حكومات قبائل قرى ومخاليف وعشائر. ولو أن الحكم هو للملوك أو للأحباش أو للفرس. وبقي الحال على هذا المنوال حتى ظهر الإسلام، فقضى على الحكم الأجنبي في العربية الجنوبية.
ولم يتمكن الحبش من حكم العربية الجنوبية كلها. ولم يكن من السهل عليهم حكمها لطبيعة أرضها ولتركز الإقطاع فيها، وهو نظام لازم تاريخها من قبل ظهور الحكم المركزي المنظم فيها، حتى صار من تراث تلك البلاد المميز لها في التاريخ. لقد اقتصر حكم الحبش في اليمن على مدن رئيسية معينة، كونت منطقة متصلة، أما خارجها فكان الحكم فيها بيد "الأقيال" الذين ركزوا حكمهم وقووه بتآزرهم وتعاونهم. وبقي الحال على هذا المنوال أيام الفرس أيضًا. بل أستطيع أن أقول: إن حكم الفرس كان حكمًا شكليًّا، مقتصرًا على بعض المواضع، أما الحكم الواقعي فكان للأقيال. ولا عبرة لما نقرأه في الموارد الإسلامية من استيلاء الفرس على اليمن، لأن هذه الموارد تناقض نفسها حين تذكر أسماء الأقيال الذين كانوا يحكمون مقاطعات واسعة في أيام حكم الفرس لليمن، وكان منهم من لقب نفسه بلقب ملك، وكان له القول والفعل في أرضه، ولا سلطان للعامل الفارسي عليه.(9/245)
حكومات مدن:
استعملت لفظة "حكومة" بالمعنى المجازي، فلم يكن للمدن حكومات بالمعنى(9/245)
المفهوم من الحكومة في الزمن الحاضر، أي: رئيس مفروض على المدينة بحكم الوراثة أو بحكم القوة، أو رئيس منتخب ينتخبه أبناء المدينة أو ساداتها وأشرافها لأجل معلوم أو لأجل غير معلوم.
ولم يكن لهذه المدن موظفون نيطت بهم أعمال معينة وواجبات محددة عليهم القيام بها، في مقابل أجور تدفع لهم. ولم يكن فيها مؤسسات ثابتة مثل المحاكم والشرطة لضبط الأمن والضرب على أيدي من يخلون بالأمن ويخرجون على أوامر المجتمع وقوانينه، ولم يكن فيها ما يشبه أعمال الحكومة المعروفة عندنا، لأن مجتمع ذلك العهد يختلف عن مجتمعنا الحديث.
فمكة مثلًا، وقد كانت من أبرز مدن الحجاز في القرن السادس للميلاد، لم تكن ذات حكومة. لم يكن يحكمها ملك، ولم يحكمها رئيس، وكذلك كان أمر "يثرب" و"الطائف" وسائر قرى العربية الغربية. لم يكن فيها أي شيء من هذه المؤسسات الثانية التي تكون الحكومة، والتي تتعاون لتدبير أمور الناس.
وكل ما كان في مكة، أسر، يعبر عنها بـ"آل" و"بني"، فيقال: "آل عبد المطلب" و"آل عبد شمس" و"آل هاشم"، و"بنو عبد المطلب" و"بنو عبد شمس" و"بنو هاشم"، وهكذا، تستوطن شعابًا خصصت بها.
وكل "شِعب" مجتمع قائم بنفسه، له سادته وأشرافه، وهم وجوه الشعب، وأصحاب الحل والعقد في هذا المجتمع.
ويقوم وجوه الشعب بفض ما يحدث بين أبناء الشعب من خلاف، وبالنظر في أمر المخالفين لأعرَاف الشِعْب وعاداته، وأحكامهم غير إلزامية ولا تسندها قوة تنفيذية، بل تنفذ بحكم الأعراف والأصول المرعية، وبحكم وجاهة هؤلاء الرؤساء ومكانتهم عند الشعب.
أما إذا حدث حادث تجاوز مداه حدود "الشِعب"، فشمل شعبًا آخر أو عدة "شِعاب"، فيكون أمر النظر فيه لسادات "الشعاب" التي يعنيها الأمر، فيجتمعون عندئذ للنظر في الأمر وللبت فيه بحكمة وبأناة قدر الإمكان، مراعاة للجوار، وإقرارًا للسلم. وإذا أخفق المجتمعون في اتخاذ قرار توسط بينهم وسطاء محايدون لفض ذلك النزاع بالتي هي أحسن.
وقد ينشب خلاف بين الأحياء على أمور تمس المصالح الكبيرة الخاصة بالأسر،(9/246)
فتفعل هذه الأحياء عندئذ ما تفعله القبائل، تلجأ إلى حلفائها، أو تجدد أحلافها، أو تعقد حلفًا جديدًا لتدافع به عن مصالحها، كالذي كان من أمر "حلف المطيبين" وما كان من أمر "الأحلاف"، أو من "حلف الفضول".
أما ما يعلق بأمر المدينة كلها، كأمر مكة مثلًا، من أمور تتعلق بأحوال السلم أو الحرب، فيترك النظر في ذلك إلى "الملإ" "ملأ مكة" مثلًا. وهم وجوه مكة وسادتها من كل الأسر، فيجتمعون في "دار الندوة" أو في دور الرؤساء للنظر في القضايا والبت فيها. فيبين الرؤساء آراءهم ويتناقشون فيها، فإذا اتفقوا على شيء ألزموا أنفسهم تنفيذه، وإن لم يتفقوا على شيء، وكان النزاع بين المجتمعين حادًّا، حاول كل فريق تأليف جبهة قوية لمقابلة الجبهة المعارضة، ولمنعها من الاعتداء عليها، وقد يعمد المتخاصمون إلى مقاطعة بعضهم بعضا، مقاطعة اقتصادية واجتماعية، كالذي حدث من مقاطعة أغلب قريش لآل هاشم وآل المطلب، بسبب تمسك أبي طالب بأن أخيه الرسول ودفاعه عنه. فما كان من بقية قريش إلا أن قررت مقاطعة "أبي طالب" ومن آزروه وانضم إليه.
ونجد في مكة نوعًا من التخصص في الأمور. والظاهر أن ذلك إنما كان عن استئثار بعض الرجال البارزين بعمل من الأعمال، ثم انتقل ذلك منه إلى ورثتهم بالإرث أو بالاتفاق أو بالنص، ثم صار سنة اتفق عليها، كالذي ورد من أمر "الرفادة" وهي ما كانت تخرجه قريش من أموالها وترفد به منقطع الحاج1.
وقد عرف "الرفادة" أنها شيء كانت قريش تترافد به في الجاهلية، فيخرج كل إنسان مالًَا بقدر طاقته، يجمعون من ذلك مالًا عظيمًا أيام الموسم، فيشترون به للحاج الجزر والطعام والزبيب للنبيذ، فلا يزالونه يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج. وكانت الرفادة لبني هاشم. وذكر أن أول من قام بالرفادة "هاشم بن عبد مناف" وسمي هاشمًا لهشمه الثريد2.
وكالذي ورد من أمر "السقاية"، سقاية الحاج. وقد عرفت أنها مأثرة من مآثر قريش في الجاهلية. وهي ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها "العباس بن عبد المطلب" في الجاهلية والإسلام3.
__________
1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
2 اللسان "ث/ ر/ د"، "3/ 181"، تاج العروس "2/ 355"، "رفد".
3 اللسان "س/ ق/ ي"، "14/ 392"، تاج العروس "10/ 181"، "سقى".(9/247)
وكالذي جاء من أمر "السدانة" مع "الحجابة". والسادن: خادم الكعبة بيت الأصنام. وكانت السدانة في الجاهلية لبني عبد الدار، فأقرها النبيّ لهم في الإسلام، والسدنة هم الذين يتولون فتح باب الكعبة وإغلاقها وخدمتها1.
وأما "الحُجّاب" فهم سدنة البيت أيضًا. وذكر أن الفرق بين السادن والحاجب أن الحاجب يحجب وإذنه لغيره، والسادن يحجب وإذنه لنفسه2 والحجبة هم حجبة البيت. ورد في الحديث: "قالت بنو قصيّ: فينا الحجابة، يعنون حجابة الكعبة، وهي سدانتها، وتولي حفظها، وهم الذين بأيديهم مفاتيحها"3.
وكالذي ذكر من أم "الندوة"، والندوة التجمع والجماعة. و"دار الندوة": دار الجماعة، سميت من النادي. وكان إذا حزبهم أمر، ندوا إليها، فاجتمعوا للتشاور4.
وكالذي روي من أمر "المشورة". وذلك أن رؤساء قريش كانوا إذا أرادوا أمرًا استشاروا ذوي الرأي، والعقل والحنكة، ومن هؤلاء "يزيد بن زمعة بن الأسود"، وهو من "بني أسد". فكانوا إذا أرادوا أمرًا ذهبوا إليه، وعرضوه عليه. فإن وافقه والاهم عليه وإلا تخيرز وكانوا له أعوانا. وقد أسلم، واستشهد بالطائف5.
ومن الأعمال التي كانت في مكة "الأشناق". وهي الديات والمغرب. وكانت لأبي بكر، وهو من "بني تيم" فكان إذا احتمل شيئا فسأل فيه قريشًا صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه. وإن احتملها غير خذلوه6. ويدل هذا على أن تقدير الأشناق لم يكن ثابتًا، بل كان يعود إلى تقدير صاحب الأشناق. كما يدل أن غيره قد قام به.
ومن أعمال مكة "السفارة، وذلك أن أهل مكة كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوا سفيرًا، وإن نافرهم حي لمفاخرة جعلوا لهم منافرًا لينافرهم.
__________
1 اللسان "س/ د/ ن"، "13/ 207".
2 اللسان "س/ د/ ن"، "13/ 207".
3 اللسان "ح/ ج/ ب"، "1/ 298"، تاج العروس "2/ 239"، "طبعة الكويت".
4 اللسان "ن/ د/ 1"، "15/ 317".
5 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها"، المحبر "ص102".
6 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها"، تاج العروس "6/ 400"، "شنق"، الاستيعاب "2/ 237".(9/248)
وكانت السفارة والمنافرة في "بني عدي" عند ظهور الإسلام. وكان الذي يتولاها إذ ذاك "عمر بن الخطاب"1.
وذكر أهل الأخبار أن "بني سهم" "الحارث بن قيس"، وكانت إليه الحكومة والأموال المحجرة التي سموها لآلهتهم2، والتي كانوا يخصصونها من مغانمهم في السلم وفي الحرب.
ومن أعمالهم "الأيسار"، وهي "الأزلام"، وقد ذكر أهل الأخبار أنها كانت في "بني جمح"، ويتولاها منهم "صفوان بن أمية". فكان لا يُسبق بأمر عام حتى يكون هو الذي تسييره على يديه3.
ومن الأعمال الأخرى التي ذكرها أهل الأخبار "العمارة". وكان الذي يتولاها عند ظهور الإسلام "العباس". وكان ينهى الناس من أن يتكلم أحدهم في المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا أن يرفع صوته4.
وأشار أهل الأخبار إلى ما يسمى بـ"حُلْوان النفر" وقالوا: إن العرب لم تكن تملك عليها في الجاهلية أحدًا، فإن كانت حرب أقرعوا بين أهل الرياسة، فمن خرجت عليه القرعة أحضروه صغيرًا كان أو كبيرًا. فلما كان يوم الفجار، أقرعوا بين بني هاشم، فخرج منهم العباس، وهو صغير، فأجلسوه على المجن5.
وقد كانت سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وحلوان النفر في بني هاشم6.
واهتم أهل مكة بأمر الحروب والدفاع عن مدينتهم. ويقتضي ذلك وجود أناس لهم خبرة وتجربة في الحرب، ولهم رأي في أحوالها وأصولها وحيلها وخدعها. فالحرب خدعة، ولا بد للقائد من اللجوء إلى الخدع والحيل الحربية للتغلب على خصمه. ونظرًا لضرورة التهيؤ للحرب في أيام السلم، أوجد أهل مكة بعض الأعمال وعهدوا إلى أصحابها القيام بها. منها القبة والأعنة وخزن الأسلحة وحمل اللواء والقيادة.
__________
1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
2 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
3 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
4 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
5 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
6 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".(9/249)
أما "القبة" فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به قريشًا.
وأما "الأعنة"، فيكون صاحبها على خيل قريش في الحرب1. وكانتا إلى "خالد بن الوليد" وهو من "بني مخزوم" عند ظهور الإسلام.
وذكر أن قريشًا كانوا يحفظون الأسلحة عند "عبد الله بن جدعان"، فإذا احتاجوا إلى السلاح وزعه فيهم2. فبيته مخزن قريش للأسلحة. ويذكر أن القبائل كانت إذا حضر المواسم أودعت سلاحها "عبد الله بن جدعان"، فإذا انتهى الموسم وقررت العودة استعادته منه، وذلك لأمانته ولشرفه ولوثوق الناس به.
ومن الأعمال التي لها علاقة بالحرب: "اللواء". وذكر أن "عثمان بن طلحة" وهو من "بني عبد الدار" كان إليه اللواء والسدانة مع الحجابة، ويقال: والندوة أيضًا. وكانت هذه في "بني عبد الدار". وورد في خبر آخر إن راية "العقاب" وهي راية قريش، كانت عند "أبي سفيان" وهو من "بني أمية"3.
و"العقاب" راية للنبي، كما ورد في الحديث. وذكر أن العقاب علم ضخم، يعقد للولاة شبه بالعقاب الطائر4.
والقيادة: قيادة جيش مكة. وقد كانت إلى بني أمية في الغالب5. ولكن العادة أن يتولى سادات مكة قيادة أحيائهم في القتال. فيقود سيد كل شعب أبناء شعبه ويوجههم حيث يرى في المعركة. أما التنسيق بين خطط المقاتلين لإنجاح المعركة فيكون أمره إلى من تسلمه قريش قيادتها العامة في الحرب من الرجال المحاربين أصحاب الرأي في الحروب. وكان "حرب بن أمية" قائد قريش في الفجار وفي ذات نكيف.
ويجب أن نضيف إلى ما تقدم قيادة قوافل قريش، وقد كان أمر "عير قريش" إلى "أبي سفيان" عند ظهور الإسلام6. و"عير قريش" قافلتها. وقد كانت رئاسة القوافل من الأعمال الهامة في أيام الجاهلية. وعندما تعود القافلة سالمة غانمة يستقبل قائدها استقبال الأبطال. وقد أشير في الكتابات اللحيانية والتدمرية إلى "رئيس القافلة"، على أنه من الشخصيات المهمة البارزة في تدمر وعند اللحيانيين.
__________
1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها"، ابن الأثير، أسد الغابة "2/ 101".
2 أيام العرب "ص329".
3 العقد الفريد "3/ 313 ومابعدها".
4 تاج العروس "1/ 393"، "عقب".
5 الأزرقي "1/ 63 وما بعدها، 66".
6 الطبري "2/ 132".(9/250)
وكذلك كان أمر قائد قافلة قريش ولا شك. وورد في الكتابات النبطية لقب آخر غير لقب: "زعيم القافلة" هو "زعيم السوق"، سأتحدث عنه فيما بعد1.
وذكر أن من أعمال قريش في الجاهلية، عمل يقال له: "العمارة". وكان إلى "العباس بن عبد المطلب"، بالإضافة إلى السقاية2. وقد خرجت عليه القرعة يوم الفجار، فنصب رئيسًا على "بني هاشم". وكان من عادة قريش والعرب –كما يزعم أهل الأخبار- أنهم لم يكونوا يملّكون أحدًا عليهم. فإن كان حرب أقرعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرجت عليه القرعة أحضروه، صغيرًا كان أو كبيرًا. فلما خرجت القرعة على العباس، وهو صغير، جاءوا به، فأجلسوه على المجن.
و"العمارة" عمارة البيت. وقد عدت من مفاخر قريش وقد أشير إليها في القرآن: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 3. وقد ورد أن ممن تولاها "العباس بن عبد المطلب"4 و"شيبة بن عثمان"5. وذكر أن "المشركين قالوا: عمارة البيت وقيام على السقاية خيرٌ ممن آمن وجاهد. وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل إنهم أهله وعماره. فذكر الله استكبارهم وإعراضهم"6.
أما بخصوص نظام الحكم في يثرب، فإنه لا يختلف عن طريقة نظام الحكم في مكة، فلم يكن لأهل يثرب عند ظهور الإسلام رئيس وقد حاول بعض سادتها من الأوس والخزرج تنصيب أنفسهم ملوكًا على المدينة، غير أنهم لم يفلحوا في مسعاهم فلم ينصبوا ملوكًا عليها. والظاهر أن للمنافسة الشديدة العنيفة التي كانت بين الأوس والخزرج على الزعامة والرئاسة يدًا في عدم تمكين أي أحد من سادة يثرب من الانفراد بزعامة المدينة وبالسيادة عليها. وقد يكون لوجود اليهود بيثرب يد في تعميق الخلاف بين "أولاد قيلة"، إذ لم يكن من مصلحتهم اتفاقهم وإجماعهم على اختيار رئيس واحد قوي. فالرئيس القوي سيبسط نفوذه من غير شك على يهود يثرب أيضًا، ويستذلهم ويجعلهم أتباعًا له. أما في حالة تشتت
__________
1 Coode, North – Semitic, P. 274, 279
2 الإصابة "2/ 263"، "رقم 4507".
3 التوبة، الآية 19.
4 تفسير الطبري "10/ 67"، الإصابة "2/ 263".
5 تفسير الطبري "10/ 68".
6 تفسير الطبري "10/ 67".(9/251)
كلمتهم وتشاحنهم فستكون لليهود إمكانية إثارة فريق على فريق، والاستفادة من سياسة فرق تسدّ. وبذلك يكون أمرهم ونهبهم في أيديهم بدلًا من أن يكون في أيدي "صاحب يثرب".
وقد حاول أهل يثرب من الأوس والخزرج حل مشكلة الحكم في مدينتهم حلًّا وسطًا، على قاعدة: أن من الأوس أمير ومن الخزرج أمير. يحكمان حكمًا مشتركًا، أو على التوالي، كأن يحكم سيد الأوس سنة، ثم يترك الحكم لسيد الخزرج ليحكم السنة التالية، ثم يعود فينسحب ليتولى الحكم سيد الأوس وهكذا، غير أن الحل لم ينجح أيضًا، وبقيت المشكلة: "مشكلة الحكم" مستعصية غير محلولة حتى دخل الرسول يثرب، لحلها حلًّا أزعج بعض من كان طامعًا في الحكم وكان يرغب أن يكون سيد يثرب.
هذا ولم نعثر في الأخبار الواردة إلينا عن يثرب، على خبر يفيد وجود "ناد" في هذه المدينة على شاكلة "دار الندوة" أو نواد الملأ. والظاهر أنه قد كان للنفرة الشديدة التي كانت بين الحيين: الأوس والخزرج يد في عدم ظهور مجلس حكم موحد في هذه المدينة. فبغض كل حي للحي جعل الاتفاق فيما بينهما على تكوين مجلس واحد من "ملأ" المدينة أمرًا صعبًا، على حين كان ذلك ممكنًا بالنسبة لأهل مكة، لأنهم كانوا كتلة واحدة، ومصلحتهم في حكم مشترك هي مصلحة عامة. ولم تكن المنافسات عندهم بين الأسر شديدة حادة، لذلك كان من الممكن اجتماع سادات الأسر في مجلس واحد، لا سيما وهم تجار، ومن مصلحة التاجر تمشية الأمور وتصريفها بالطرق السلمية، وحلها بغير تعنت ولا تشدد وغطرسة.
وكان أمر "الطائف" في أيدي "ملأ المدينة". يديرون شئونها في أيام السلم والحرب، ولم يرد في الأخبار أن أهل الطائف توجوا رجلًا عليهم، فجعلوه ملكًا، ولم يرد فيها أيضًا أنهم رأسوا رئيسًا عليهم، بل كانت الرئاسة في عدد من الرؤساء، هم سادات البطون والأحياء. ولكل رئيس كلمته في حيّه الذي يقيم فيه.(9/252)
الفصل الثالث والخمسون: حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل
مدخل
...
الفصل الثالث والخمسون: حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل
وبعد أن تكلمت على أصول الحكم عند الجاهليين وعلى الأشخاص الذين كانوا يتولون إدارة الحكم وتصريفها، وجب أن أتكلم على حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل على أتباعهم، أي: الواجبات التي يجب أن يؤديها الأتباع إلى سادتهم وحكامهم من طاعة ومن مال، فأقول:(9/253)
حقوق الملوك:
والملك هو السلطة العليا في المملكة وهو الموجه والمدير لأمورها. وله على أتباعه حقوق، منها: حق التسليم والخضوع والطاعة. فطاعة الملك طاعة واجبة. وله حق جباية الشعب، أي: أخذ الضرائب منه؛ ضرائب على الزراعة، وضرائب على التجارة، وحق إعلان النفير والحرب، والامتناع عن دفع حقوق الملوك المتفق عليها، والخروج على أمره هو خروج على الحق والقانون.
هذا وإننا نأسف إذ نقول إننا لا نملك كتابات جاهلية تتحدث عن حقوق الملوك وعن الواجبات التي على الشعب القيام بها تجاههم، فما نتحدث به عن هذا الموضوع مستمد من بعض الأوامر والإرادات التي أصدرها ملوك من العربية الجنوبية، في تنظيم الأعمال وفي كيفية التجارة والاتجار أو في الضرائب التي على(9/253)
التاجر أو المزارع أداؤها للملوك، وبعض آخر أخذ من كتب أهل الأخبار والتواريخ وكتب الشعر والنثر، وفيها نتف وردت عرضًا عن بعض حقوق الملوك وسادات القبائل في الجاهلية الملاصقة للإسلام.
والملك هو قائد شعبه أيام السلم وأيام الحرب، يرأس جيشه في القتال ويختار من يشاء لقيادة الجيش. وهو القاضي الأعلى والحاكم فيما يقع بينهم من خلاف.
وهو الرئيس الروحي لأمته وكاهنها في الأصل. غير أن الملوك تركوا هذه القيادة الروحية، أي: الزعامة الدينية لغيرهم، وهم رؤساء الدين، واحتفظوا بالسلطة الزمنية التي تشمل سلطة القيادة والحكم.(9/254)
بيت المال:
والملك هو صاحب أرض الدولة والقيّم عليها. وله حق منح الأرض لمن يشاء وانتزاعها عمن يشاء، أو تأجيرها لمن يرى. والأرض عند العرب الجنوبيين هي ملك الآلهة، وليس على وجه الأرض ملك لإنسان. غير أن هذا لا يعني أن الأرض ومن عليها ملك لرجال الدين باعتبار أنهم ألسنة الآلهة الناطقة على هذه الأرض والممثلون لهم في هذا العالم، فهم وحدهم إذن لهم حق إدارة الأرض واستغلالها، وذلك لأن الملوك سلبوهم هذا الحق واستبدوا به ومارسوه ونصبوا أنفسهم خلفاء على الأرض، وصاروا أوصياء الآلهة على أموالها. وهكذا فسرت قاعدة "المال مال الآلهة" تفسيرًا يجعل حق الأشراف على "مال الآلهة" في هذه الأرض للملوك ولأصحاب السلطان الفعلي الحاكمين حكمًا بقانون القوة، أما رجال الدين الذين يجب أن يكونوا هم خلفاء الآلهة على الأرض والمنفذين لأوامرها، فقد خضعوا لحكم الواقع، ورضوا بما حصلوا عليه من حقوق وامتيازات، وصاروا إلى جانب الملوك في الغالب، لتشابه المصلحتين، وحصل التراضي على إعطائهم حقوقًا وامتيازات واسعة، واستقلالًا في إدارة أموال المعابد، بحيث لا يكون للحكومة أي سلطان عليها، وهي مستثناة من دفع الضرائب التي يجب على سائر الناس دفعها إلى الحكومة، فصار المعبد من ثم سلطة ذات ثراء وسلطان تلي سلطة الحكومة ولها ضرائب يدفعها المؤمنون المتقون1
__________
1 Grohmann, Arabien, S. 125(9/254)
والملوك هم من كبار أصحاب الملك في الدولة، فإلى جانب حقهم المتقدم في اعتبارهم خلفاء الآلهة على الأرض في إدارة ملكها، نجدهم يمتلكون أرضين واسعة وأملاكًا شاسعة ويتاجرون باسمهم، فيرسلون القوافل للتجارة. والأرض التي يمتلكها الملوك، هي أرضون خاضعة لهم مباشرة، لأنها ملكهم الخاص. ومعنى ذلك أن منفعتها تكون خاصة بهم. فلا يصرف منها على المصلحة العامة، إلا إذا أراد الملك أن يتبرع بذلك رضاء، وله بالطبع أن يهدي منها ما يشاء إلى من يشاء، كما يفعل أي مالك، وهو يؤجر أرضه لمن يريد، ويقال لما يدفع له في مقابل ذلك "نحلث"1.
والأرضون المفتوحة عنوة هي من حق الدولة، تضاف إلى أملاكها وتسجل باسمها، وتعد من "بيت المال"، ويكون حق النظر في أمرها والإشراف عليها واستغلالها للملك؛ لأنه رئيس الدولة وحاكمها، وله الخيار في كيفية التصرف بها. له أن يعطيها للأقيال في مقابل ضريبة حربية يقدمونها له تسمى "ساولت" أو في مقابل إيجار يتفق عليه يقال له: "ثوبت"، وله أيضًا أن يبيعها متى شاء، ويعبر عن ذلك بـ"شامت" أي: بيع2.
ويراد بضريبة "ساولت" أي: الضريبة الحربية، تعهد أصحاب الأرض بتقديم المحاربين إلى الدولة، ويتفق على العدد وعلى وقت التقديم، ويسجل ذلك في عقد الاتفاق. ويقوم أصحاب العقد بالإنفاق عليهم وبتقديم كل ما يحتاج المحارب إليه من عدة وسلاح. والغالب أن يقوم بذلك المحارب نفسه، لأنه رجل مسخر مأمور، فهو من أتباع صاحب الأرض، ينتزعه سيده من أرضه، ويرسله إلى الخدمة وقت الحاجة إليه.
ولما فتح "كرب إيل وتر" ملك سبأ أرض أوسان ودهس، وفتح عنوة كل أرض "عبدان" ومدنها وقراها وأوديتها وحصونها ومراعيها، صارت كل هذه الأرضين وما عليها من محاربين ومن مدنيين أحرار وعبيد ملكًا لدولة سبأ وسجلت في جملة مقتنياتها. ويلاحظ أن سلطنة العوالق العليا عدت "وادي عبدان" الذي هو في جنوب "نصاب" من "أرض الدولة" أي: من أملاك السلطان، ومن
__________
1 Osiander 35, Arabien, S. 126
2 Arabien, S. 126(9/255)
أرض "ربيت المال" ورقبتها بيد "سلطان العوالق"1.
وبالإضافة إلى الأرضين المفتوحة عنوة، ضم ملوك سبأ إلى أملاك الدولة أرضين اشتروها شراءً، واشتروا كل ما كان عليها من ناس وحيوان وزرع. فقد كان المشتغلون بالأرض يعدون تابعين لها فيباعون معها وهم ملك لها. وهم طبقة خاصة من طبقات عبيد الأرض.
ولم تتحدث الكتابات عن حقوق الملك وعن مدى صلاحياته في الحكم، ولكننا نستطيع أن نقول قولًا عامًّا إن سلطات الملك كانت كسلطات الملوك الآخرين في الأقطار الأخرى، تتوقف على شخصية الملك وسلطانه وقدرته، فهو ملك ذو سلطان واسع مطلق، أوامره قوانين، وإرادته مطاعة، يحد سلطانه المتنفذين ويخضعهم لحكمه إن كان الملك صاحب شخصية قوية وعزم، وهو مغلوب على أمره يحكم اسمًا إن كان ضعيفًا خائر العزم، وتحكم المملكة العناصر القوية صاحبة السلطان من أبناء الأسرة المالكة، أو من سادات القبائل أو رجال الدين، فعلى هذه الأحوال إذن كانت تتوقف سلطات الملك وأعماله في المملكة.
وللملوك حق يسمى "حق الإحماء". فإذا أعجب الملك بأرض أو بعشب، أعلن حمايته لتلك الأرض، أو لذلك العشب، فلا يسمح عندئذ لأحد بدخول "الحمى" أي: المكان المحمي دون إذن الملك أو الشخص المخول من الملك بهذا الحق. ويدخل في هذا الحق حق حماية الحيوان أو النبات. وكان ملوك الحيرة يحمون الأرضين والحيوانات، كالإبل والخيل والكباش، فتكون لهم، لا يسمحون لغيرهم بالانتفاع منها. ولما وثب "علباء بن أرقم اليشكري" على كبش للنعمان ابن المنذر، كان من أحماه، أي جعله حمى، فذبحه، حمل إلى النعما، فاعتذر إليه وعفا عنه2.
وكان "النعمان بن المنذر" يحمي مواضع عديدة قرب الحيرة وعلى مبعدة منها. ترعى فيها إبله وبهائمه، منها أرض "سحيل". أرض بين الكوفة والشأم3.
__________
1 Beitrage, S. 56
2 معجم الشعراء "304".
3 تاج العروس "7/ 373"، "سحل".(9/256)
أموال الدولة:
ذكرت أن الأرض هي ملك الآلهة في نظر العرب الجنوبيين، وأن "المكربين" والملوك هم خلفاء الآلهة على الأرض، وهم المسؤولون عن الأرض وعن الملك وعن تطبيق أوامر الآلهة ونواهيها بين الناس. وهم حماة الملكية. وكل أرض الدولة هي ملك الحاكم من حيث المبدأ، والحاكم هو الذي يقر الملكية ويثبتها لأتباعه ويحافظ عليها1.
والملكية بصورة عامة، إما أن تكون ملكية الدولة، وإما أن تكون ملكية الملك أو الحكام، أي: أملاكهم الخاصة بهم المسجلة باسمهم، وإما أن تكون من أملاك المعابد، من أوقاف وغيرها وإما أن تكون من ملكية أشخاص وهي:
أملاك ثابتة، أي: غير منقولة، مثل أرض وبئر وحدائق وبساتين، وأموال منقولة مثل: بهائم وأثاث وغير ذلك مما يمكن نقله من مكان إلى مكان.
وأعني بأرض الدولة، أرض الفتوح. وهي كل أرض تفتتح عنوة، فتعد مالًا من أموال الدولة، وتسجل باسم الدولة، كأن تسجل باسم شعب مَعين أو شعب سبأ، وتقيد عند تسجيلها باسم آلهة ذلك الشعب، باعتبار أنها هي المالك الحقيقي الشرعي. وتقوم الحكومة بإدارتها وبالإشراف عليها وباستغلالها واستثمارها إما مباشرة، أي: بتعيين موظفين لإدارتها، وإما بإعطائها إقطاعًا أو كراء إلى غير ذلك من طرق الاستثمار. ويسجل وارد هذه الأملاك باسم الدولة ويدخل في خزانتها، وينفق منه على المشاريع العامة، وفي ضمنها رواتب الموظفين وأجور المشتغلين في إدارة هذه الأملاك.
ويمكن تسمية أرض الدولة بأرض السلطان أو أرض "ميري" أو "أرض سَنِيّة" في المصطلح الحديث.
ومن أملاك الدولة: الصوافي. وهي الأرضين التي استولي عليها، وكانت تابعة لحكومة سابقة. فتكون حقًّا من حقوق الدولة المنتصرة وغنيمة لها. وتدخل فيها الأملاك والأرض التي جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لها. فقد كان الملوك يستصفون الأرضين التي يستولون عليها بالقوة ويجعلونها ملكًا لهم. وهي غير
__________
1 معجم الشعراء "ص304"(9/257)
"الصفايا"، أي: ما يختاره الرئيس من المغنم ويصطفيه لنفسه قبل القسمة من فرس أو سيف أو غيره1.
والصوافي في الإسلام: الأملاك والأرض التي جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لها. والضياع التي يستخلصها السلطان لخاصته. وكانت "صفية" بنت "حيي" من الصفايا، اصطفاها الرسول لنفسه من غنيمة "خيبر"2.
__________
1 اللسان "14/ 462"، "صفا".
2 اللسان "14/ 463"، "صفا".(9/258)
أموال الملوك:
وإلى جانب أموال الدولة، توجد أموال الملوك. وهي أموالهم الخاصة بهم والمسجلة بأسمائهم لأنها ملك لهم. يتصرفون بها تصرفًا مباشرًا، أو يؤجرونها لأتباعهم في مقابل أجر يقال له "نحلت". والعادة أن الذي يستأجرها هم كبار الناس وسادات المجتمع يأخذونها منهم بشروط سهلة، ثم يؤجرونها لمن هم دونهم بشروط صعبة، للاستفادة من الفرق بين سعري الإيجارين. وقد يؤجرونها الملوك إلى قبيلة، وتكون القبيلة مسئولة كلها أمامه عن الأرض. فيذكر في العقد اسم القبيلة المستأجرة باعتبار أنها هي التي أجرت ذلك الملك. إلا أن الغالب هو أن سادات القبائل، هم الذين يتصرفون بالأرض المستأجرة، فيؤجرونها إلى أتباعهم بشروط ثقيلة. ليربحوا من الفرق. ويكونون هم المسؤولين عن تقديم الـ"نحلت" أي: بدل الإيجار إلى الملوك1.
ويحدث في كثير من الأوقات أن كبار الإقطاعيين وكبار سادات القبائل، يستأثرون بأملاك الدولة وبأملاك الملوك، ويتصرفون بها تصرفًا اعتباطيًّا، ولا تتمكن الحكومة من عمل شيء تجاههم لأنهم أقوياء، لذلك تضطر الدولة إلى مداراتهم ومسايستهم، بأن تأخذ منهم "نحلت" نحلة"، أي: أجرًا رمزيًّا، يكون بمثابة اعتراف منهم بأن الأرض التي استأثروا بها هي ملك للدولة وللملوك. ويقومون هم باستغلالها وبالتصرف بها كيف يشاءون. ولا يزال هذا الوضع معروفًا حتى
__________
1 Osiander 35, SD 15, Arabien, S. 126(9/258)
اليوم، فقد كان سادات القبائل قد وضعوا أيديهم على أرضين "حكومية" أي: "ميري"، وتصرفوا بها وكأنها أرض تملك "طابو" في مقابل أجر رمزي زهيد، ومنهم من استولى عليها وسجلها باسمه، فصارت ملكًا صرفًا له. بعد بذله مبلغًا زهيدًا اعتبر ثمنًا لتلك الأرض.(9/259)
الأوقاف:
وقد كانت المعابد أوقاف حبست عليها، ولها موظفون لجباية غلتها، هي أوقاف قديمة سجلت اسم المعابد منذ كان الكهان "المكربون" يتولون أمور الحكم وأوقاف كان يحبسها الأغنياء الأتقياء في حياتهم أو بعد وفاتهم على المعابد، قربة إلى الآلهة. وهي معفوة من الضرائب، فلا تدفع للحكومة أي ضريبة؛ لأنها أملاك المعبد. ويدفع المستغلون للأوقاف حق التصرف بالأوقاف إلى المعبد، لأنه هو المالك الشرعي للوقف. كما سأتحدث عن ذلك بالقسم الخاص بالمعبد.
وكان أهل الجاهلية يحبسون السوائب والبحائر والحوامي وما أشبهها، فلا يعتدي عليها ولا يستغلها أحد. فلما جاء الإسلام، نزل القرآن بإحلال ما كانوا يحرمون منها وإطلاق ما حبسوا. وعرف ذلك بـ"الحبس"1. وكانوا في الجاهلية يحبسون مال الميت ونسائه. كانوا إذا كرهوا النساء لقبح أو قلة مال حبسوهن عن الأزواج لأن أولياء الميت كانوا أولى بهن عندهم. وفي حديث ابن عباس: لما نزلت آية الفرائض قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا حبس بعد سورة النساء" أي: لا يوق مال ولا يزوى عن وارثه، إشارة إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من حبس مال الميت ونسائه2.
وكانوا يحبسون الأرض والنخل والكروم وغير ذلك على أصنامهم، ويجعل بعضهم غلتها على أبناء السبيل. وذكر أن "الحبس" يقع على كل شيء وقفه صاحبه وقفًا محرمًا لا يورث ولا يباع من أرض ونخل وكرم ومُستغل.
__________
1 جمع حبيس.
2 اللسان "6/ 45"، "حبس".(9/259)
سمات الملك:
وكانوا يَسِمون إبل الملوك وماشيتهم بسمة خاصة، لتكون علامة على أنها من ملك الملوك والدولة. كما كان الأشخاص يَسِمون إبلهم وماشيتهم بسمات خاصة بهم، لتكون دلالة على تبعيتها لصاحب "الميسم". والوسم أثر الكي.
والميسم: هو الحديدة التي يكوى بها، واسم للآلهة التي يوسم بها. والأصل في الوسم أن يكون بكي، ثم أطلقوه على كل علامة، مثل قطع في أُذن أو قرمة تكون علامة، أو ضروب الصور. وكان الرسول يسم إبل الصدقة بميسم، أي: يعلم عليها بالكي1.
ووضعوا الريش علامة وسمة لجمالهم، ليعرف من يراها أنها من إبل الملوك، فلا يقترب منها2. وكانوا إذا أرادوا تشريف أحد، حملوه على هذه الإبل أو أهدوه منها. "ومن المجاز: أعطاه، أي: النعمان النابغة مائة من عصافيره بريشها، أي: بلباسها وأحلاسها. وذلك لأن الرحال لها كالريش، أو لأن الملوك كانت إذا حبت حباء جعلوا من أسنمة الإبل ريشًا، وقيل: ريش النعامة؛ ليعرف أنه من حباء الملك"3.
وذكر أن الملوك كانوا يضعون الريش في أسنمة الإبل وتغرز فيها، وكانت تجعل الريش علامة لحباء الملك؛ تحميها بذلك وتشرف صاحبها4.
وقد عرفت إبل الملك "النعمان بن المنذر" بأصالتها وبجودة جنسها وبنجابتها.
وذكر أن أكرم فحل كان للعرب من الإبل كان يسمى عصفورًا، وتسمى أولاده عصافير النعمان. وكان إذا وهب منها لأحد عد ذلك تقديرًا وتعظيمًا له. حتى كانوا يقولون: "حباه بكذا وكذا من عصافيره"، و"وهب له مائة من عصافيره". وذكر أن من فحول إبل "النعمان" الأخرى "داعر" و"شاغر" و"ذو الكبلين"5.
ولأهمية السمات في ذلك الوقت، وضعوا لها أسماء، ذكرت في كتب اللغة
__________
1 تاج العروس "9/ 92 وما بعدها"، "وسم".
2 حياة الحيوان، للدميري "2/ 173"، الحيوان، للجاحظ "3/ 417".
3 تاج العروس "4/ 316"، "الريش".
4 الحيوان "3/ 417 وما بعدها".
5 الحيوان "5/ 233"، "ولذلك قالوا في الحديث: فرجع النابغة من عند النعمان، وقد وهب له مائة من عصافيره بريشها"، الحيوان "3/ 418".(9/260)
والأخبار. منها: السطاع، والرقمة، والخباط، والكشاح، والعلاط، وقيد الفرس، والشعب، والمشيطفة، والمعفاة، والقرمة، والجرفة، والخطاف، والدلو، والمشط، والفرتاج، والثؤثور، والدماغ، والصداع، واللجام، والهلال، والخراش، والعراض، واللحاظ، والتلحيظ، والتحيين، والصقاع، والدمع1.
__________
1 تاج العروس "9/ 92 وما بعدها"، "وسم".(9/261)
اتجار الملوك وسادات القبائل:
ولم تكن الموارد المذكورة لتسدّ حاجة الملوك، وسادات القبائل، لذلك عمدوا إلى موارد أخرى لاستنباط المال منها، فعمدوا إلى التجارة وتربية الأنعام وإلى إقامة بعض المصانع وتنمية أرض التاج وزراعتها لبيع حاصلها وساهموا في البيع والشراء في الأسواق، فكان لهم وكلاء ينقلون أموال الملوك إلى الأسواق لبيعها فيها، ولشراء ما يحتاج إليه الملك من تجارة أخرى يستطيع تصريفها في أسواق أخرى، تكون هذه البضائع عزيزة ثمينة فيها، ولم يكن الاتجار بالأسواق أمرًا خاصًّا بالملوك العرب، وإنما كان ذلك عرفًا متبعًا عند غيرهم من الملوك، مثل الأكاسرة والقياصرة وملوك العبرانيين.
فمن ذلك ما روي من أنه كان للنعمان بن المنذر وغيره لطائم، عير تحمل الطيب والمسك وبز التجارة، تذهب إلى الأسواق لبيعها فيها، ولتأتي بتجارة جديدة. وقد ذكر أن "اللطيمة" وعاء الطيب أو سوقه، وقيل: كل سوق يجلب إليها غير ما يؤكل من حر الطيب والمتاع غير الميرة: لطيمة. والميرة لما يؤكل.
واللطائم هي الأوراق التي تباع فيها العطريات. وفي جملة ما يباع فيها "بالات" المسك، أي: أوعية المسك1.
ويظهر من نصوص المسند أن الملوك كانوا قد أسسوا دورًا للنسيج، يباع ما تنتجه في الأسواق. وقد اشتهرت اليمن بأنسجتها المختلفة المتعددة. فكانت دور النسيج من جملة الموارد التي تأتي بالمال إلى أولئك الملوك.
__________
1 تاج العروس "9/ 60 وما بعدها"، "لطم".(9/261)
غنائم الحروب:
وللملوك مورد آخر من موارد دخلهم، هو غنائم الحروب. فإن ما يغنمه جيشهم من مال وأشياء ثمينة وأسرى يكون ملكًا للملوك، وإذا فاض عدد الأسرى عن حاجة الملوك باعوهم في أسواق النخاسة، للاستفادة من ثمن بيعهم. أما إذا قرر الملك الاحتفاظ بالأسرى، فإنهم يستخدمون في أعمال كثيرة، مثل الخدمة في الجيش، أو الاشتغال بشق الطرق وإنشاء الأبنية والعمل في الأرض، إلى غير ذلك من أعمال يشغلون بها باعتبار أنهم رقيق. وقد يهدي منهم الملوك إلى المقربين إليهم، ولا سيما بعد انتهاء الحرب أو الغزو وإحصاء الأسرى، فقد يختار الملك لنفسه أجمل الأسيرات. وقد يعطيهن هدايا إلى من يشاء من قواد جيشه ومن كبار موظفيه والمقربين إليه.
وتشمل غنائم الحرب كل ما يقع في أيدي المنتصر من غنيمة، لا فرق عنده إن كانت من أموال الحكومة الخاسرة أو من أموال سيد القبيلة المغلوب، أو من أموال الأتباع والرعية. فقانونهم في الحرب أن كل ما يقع في أيدي الغالب هو ملك له، إن كانت الغنيمة من أموال الحكومة أو من أموال الرعية فالرعية ملك للملك، وملكها ملك للغالب بحق القوة، وهي نفسها ملك له يتصرف بها كيف يشاء. لذلك تكون غنائم الحروب موردًا حسنًا بالنسبة للغالب، لا سيما إذا كان المغلوب من أصحاب الثراء والمال ومن الحضر.
وكان الأمير في الجاهلية يأخذ الربع من الغنيمة، وجاء الإسلام فجعله الخمس وجعل له مصارف. ومنه قول: عدي بن حاتم الطائي: ربعت في الجاهلية وخمست في الإسلام. أي: قدمت الجيش في الحالين1.
__________
1 تاج العروس "4/ 139"، "خمس".(9/262)
الإقطاع والإقطاعيون:
والإقطاع معروف بين الجاهليين، وخاصة بين أهل العربية الجنوبية. وقد كان إقطاعًا للأرض لتستغل زراعة، وإقطاعات لاستغلال ما فيها من ماء أو معدن.(9/262)
مثل الملح. وكان الملوك يقطعون أملاك الدولة لمن شاءوا، كما فعل المعبد ذلك، إذ كان يقطع الأرض المحبوسة باسمه لمن يشاء من الناس.
وقد كانت العادة في اليمن جارية بإقطاع المعادن والمياه لأصحاب السلطان، كأن يقطع "الملح" لشخص ليستغله، فيشغل من يريد في استخراجه وبيعه.
وقد وردت في الكتابات الجاهلية إشارات إلى استغلال معادن الملح، وإلى إقطاعها الأشخاص يستخرجون الملح منها في مقابل أجر يدفع عن ذلك الإقطاع. وقد بقيت هذه العادة إلى الإسلام، فقد ورد في كتب الحديث: أن "الأبيض بن حمال" استقطع رسول الله ملح مأرب، فأقطعه1. ولما ذكر "الأقرع بن حابس" للرسول أنه قد ورد ذلك الملح ورآه، وأنه مثل الماء العد بالأرض، من ورده أخذه، وإن إقطاعه له يمنع الناس من وروده، فاعتدَّهُ الرسول صدقة، وجعله مثل الماء العِدّ2.
والإقطاع يكون تمليكًا وغير تمليك. فإذا كان تمليكًا، صار له ليس لأحد حق مزاحمته عليه ولا استثماره، ويكون عندئذ ملكه. وله حق تأجيره لغيره أو إعطائه في مقابل حق يعينه في الحاصل والناتج. وقد كان الملوك في العربية الجنوبية يقطعون أصحاب الجاه والسلطان وسادات القبائل الإقطاعات، فتولد من هذا الإقطاع كبار أصحاب الأرض، وصار لهم سلطان واسع بحكم ما حصلوا عليه من مال وقوة وجاه. حتى صاروا يتدخلون في شئون الدولة الداخلية.
وأما الإقطاع الثاني، وهو إقطاع من غير تمليك فإنه إقطاع لأمد قد يحدد بزمن، وقد لا يحدد بزمن، وذلك بشروط تثبت وتحدد في عقد الاتفاق، كأن يتفق على أن يقدم من يقطع له الإقطاع ثلث الحاصل أو الغلة أو الربع أو ما شابه ذلك، أو أن يقدم مبلغًا مقطوعًا أو عينًا يذكر ويثبت مقداره، أو خدمة معينة للدولة أو للمعبد الإقطاعي صاحب الملك، مثل تقديم عدد معين من المحاربين وقت الطلب ومقدار معين من مال أو عين.
وقد لا يستغل الإقطاعي إقطاعياته، وإنما يقوم بإقطاعها للإقطاعيين الصغار، أو يؤجرها لمن هم دونهم في المكانة ليقوموا هم باستغلال ما استأجروه، وقد
__________
1 الأحكام السلطانية "197"، اللسان "8/ 281".
2 الأحكام السلطانية "ص197".(9/263)
يعطيها للفلاحين للاشتغال بها بشروط يتفق عليها معهم. ويكون الإقطاعي قد استفاد من إقطاعه من غير تعب أو جهد.
وفي الكتابات الجاهلية أن سادات القبائل كانوا يملكون إقطاعيات واسعة يديرونها باسم قبائلهم، وقد تزيد إقطاعياتهم عن حاجات القبيلة، لذلك يؤجرونها لقبائل أخرى تكون في حاجة إلى الأرض في مقابل خدمات تؤديها للقبيلة المؤجرة صاحبة الأرض وفي مقابل حقوق عينية تثبت وتعين وتدفع عند حلول الآجال المعينة في العقد. وتعتبر القبيلة التي تستغل الأرض نفسها تابعة للقبيلة التي تملك الأرض.
وللفقهاء آراء في الإقطاع في الإسلام، بأنواعه: إقطاع التمليك، وإقطاع الإرفاق، وإقطاع المَوَات1.
وقد عاش الإقطاعيون على استغلالهم لخيرات الأرضين الواسعة التي امتلكوها، والتي درَّت عليهم أموالًا طائلة، خلقت لهم قوة مهابة في البلاد، صيّرت بعضهم حكومة في داخل حكومة. عاشوا في قلاع وقصور حصينة حمتها حصون متينة، لهم أتباعهم وحرسهم، وصارت لهم سطوة لا تقل عن سطوة كبار رجال الدين، بل زادت على سطوتهم فيما بعد الميلاد، حيث صاروا ينافسون الملوك ويَتَحدوَّن إرادتهم في كثير من الأحايين، مما أقلق الوضع السياسي، وهزَّ صرح الحكومات. وأوجد مجالًا لتدخل الأحباش في شئون اليمن.
__________
1 اللسان "8/ 281".(9/264)
حقوق سادات القبائل وامتيازاتها:
ولسادات القبائل بحكم منازلهم ومكانتهم في قومهم امتيازات وحقوق، ولهم في مقابلها واجبات عليهم أدبيًّا تبعة القيام بها لرعيتهم، وهم أفراد القبيلة.
وفي جملة حقوق سيد القبيلة حق "المرباع" وهو حقه في أخذ ربع الغنائم إذا وقع الغزو1. وأخذ "المرباع" هو من أمارات الفخر والجاه والرئاسة عند العرب ولذلك كان يتباهى به من له هذا الحق، ويفتخر أهله بهذا الحق، لأنه من سيماء
__________
1 اللسان "9/ 457"، تاج العروس "5/ 332" وما بعدها، المعاني الكبير "2/ 948"، النهاية "2/ 62"، الصاحبي "ص90".(9/264)
الرئاسة والشرف. وقد افتخر "الزبرقان بن بدر التميمي" أمام الرسول بأنه من حي كرام، فلا حي يعادلهم منهم الملوك وفيهم يقسم الربع، أي: أنهم كانوا يأخذون ربع الغنيمة خالصًا، وهوالمرباع1. وكان "عديّ بن حاتم" ممن يأكل "المرباع"2. ويرى أن الرسول قال له: "إنك لتأكل المرباع وهو لا يحل لك في دينك"3.
وقد عرف سادات القبائل الذين يأخذون المرباع بـ"ذوي الآكال"4، ولهم مقام عندهم بالطبع، ولهذا منحوا امتيازات في الغنائم، فوقتهم على سائر الناس. وقد ذكرهم "ابن حبيب السُّكري"، فقال عنهم: "ذوو الآكال من وائل. وهم أشراف كانت الملوك تقطعهم القطائع. فأما مضر، فكانوا لقاحًا لا يدينون للملوك إلا بعض تميم ممن كان باليمامة وما صاقبها. فذوو الآكال: قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن عبد الله ذي الجدين بن عمرو بن الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان. وكان كسرى أطعمة الأبلة وثمانين قرية من قراها، ويزيد بن مسهر بن أصرم بن ثعلبة بن أسعد بن همام بن مُرّة بن ذهل بن شيبان، والحارث بن وعلة بن المجالد بن يثربي بن الزبّان بن الحارث بن مالك بن ذهل بن ثعلبة بن عكاية"5.
وذوو الآكال، سادة الأحياء الآخذين للمرباع وغيره. قال الأعشى:
حولي ذوو الآكال من وائل ... كالليل من باد ومن حاضر6
والمرباع حق قديم نجده عند أكثر القبائل، وظلَّ إلى مجيء الإسلام، لا ينازعها عليه منازع من القبيلة، فكان آل الحارث بن عبد الله بن بكر يشكر المعروفون بالغطاريف يأخذون ربع ما يغنم الأزد جميعًا، لأن الرئاسة في
__________
1
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا يقسم الربع
شرح ديوان حسان "ص245" "للبرقوقي"، اللسان "8/ 101"، النهاية "2/ 62".
2 معجم الشعراء "250".
3 النهاية "2/ 62"، اللسان "8/ 101" "صادر".
4 شمس العلوم "حـ1 ق1 ص89".
5 المحبر "253".
6 تاج العروس "7/ 210"، "آكل".(9/265)
الأزد كانت لهم1.
ومن أكل "المرباع" "عامر الضحيان"، وكان سيّد "النمر بن قاسط" في الجاهلية وصاحب مرباعهم2.
ومن "المرباع" جاءت "الرباعة"، بمعنى الرئاسة. يقال: هو على رباعة قومه، أي: سيدهم. ويقال: ما في بني فلان من يضبط ربا عته غير فلان، أي: أمره وشأنه الذي عليه. ويقال: لا يقيم رباعة القوم غير فلان. و"الرباعة"3، الحال والطريقة والاستقامة. وفي كتاب الرسول للمهاجرين والأنصار: أنهم أمة واحدة على رباعتهم. أي: على استقامتهم. وأمرهم الذي كانوا عليه4.
ولسيد القبيلة حق آخر مفروض على قبيلته، هو حق "الصفايا"، وهو ما يصطفيه الرئيس لنفسه من الغنيمة من فرس وسلاح أو جارية وغير ذلك من الأموال قبل القسمة. وكانت "صفية بنت حيي" في جملة الصفايا التي اصطفاها الرسول لنفسه يوم خيبر، ومنه قيل للضياع التي يستخلصها السلطان لخاصته "الصوافي"5.
وقيل: الصفايا ما يصطفيه الرئيس لنفسه دون أصحابه مثل الفرس، وما لا يستقيم أن يقسم على الجيش لقلته وكثرة الجيش. وقيل: أيضًا الصفي أن يصطفي الرئيس لنفسه بعد الربع شيئًا كالناقة والفرس والجارية والصفى في الإسلام على تلك الحالة6.
ثم له حق "النشيطة"، وهو ما أصاب من الغنيمة قبل أن يصير إلى مجتمع الحي. وقيل: النشيطة من الغنيمة، ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصير إلى بيضة القوم. وقيل: ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغهم المواضع التي قصدوها، أو ما أنشط من الغنائم ولم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب7.
وأما الفضول، وهو حق آخر من حقوق الرئيس، فهو ما عجز أن يقسم
__________
1 الأغاني "12/ 48 وما بعدها".
2 الاشتاق "202".
3 بالفتح وتكسر.
4 تاج العروس "5/ 342 وما بعدها"، "بعد".
5 اللسان "9/ 457"، تاج العروس "5/ 232"، المعاني الكبير "2/ 948"، النهاية "2/ 292"، الخراج "22 وما بعدها"، الصاحبي "ص90"، النهاية "2/ 268".
6 تاج العروس "10/ 211"، صفا".
7 المعاني الكبير "2/ 949"، اللسان "7/ 414". تاج العروس "5/ 231"، الصاحبي "90".(9/266)
لقلته وما فضل عن القسم فيخصص به، كالبعير والفرس ونحوهما1.
وقد أشير إلى حقوق سيد القبيلة المذكورة في هذا البيت من الشعر المنسوب إلى عبد الله بن عنمة الضبيّ، أو إلى الأفوه الأودي:
لك المرباع منّا والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول2
__________
1 اللسان "7/ 414"، "11/ 525 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 63"، الصاحبي "ص90".
2 المعاني الكبير "2/ 948"، الأصمعيات "ص28"، الصاحبي "ص90"، تاج العروس "10/ 210"، "صفا".
قال عبد الله بن غنمة يخاطب بسطام بن قيس:
لك المرباع فيها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
اللسان "14/ 462"، صفا.(9/267)
الحمى:
ولسيد القبيلة حق "الحمى"، وهو من أمارات عزه وشرفه وسيادته. فكان إذا مرَّ سيد قبيلة برمضة أعجبته، أو بغدير أعجبه، أعلن حمايته عليها أو عليه إلى حد يعينه ويثبته، فلا يقترب أحد من ذلك الحد، وهو في ذلك مثل الملوك في هذا الحق. ولهذا لم يتمتع بهذا الحق إلا سادات القبائل الكبار أصحاب العز والجاه وكثرة العدد، مثل "كليب وائل" سيد ربيعة، وكانت رئاسة مضر وربيعة له في أيامه، وكان من عزه أنه إذا مر بمكان أعجبه كنع كليبًا له ثم رمى به هناك، فلا يسمع عواء ذلك الكليب أحد، فيقرب ذلك الموضع. فكان يقال: "أعز من كليب وائل"1.
وقد تفرد العزيز من سادات القبائل بالحمى، وعدّوه من أمارات العز والمنعة، فلا يناله إلا كبار سادات القبائل، وذكر أن "كليب وائل" كان متغطرسًا، حتى كانت غطرسته هذه سبب قتله. وإلى ظلمه وتعسفه، وأخذه الحمى، أشار "العباس بن مرداس" بقوله:
كما كان يبغيها كليب بظلمه ... من العز حتى طاح وهو قتيلها
على وائلٍ إذ يترك الكلب نابحًا ... وإذ يمنع الأقناء منها حلولها2
__________
1 الفاخر "ص75 وما بعدها"، الاشتقاق "ص204".
2 الأحكام السلطانية "ص186".(9/267)
والحمى الأرض التي تحمى من الناس فلا يرعى فيها إلا بموافقة من حماها.
وقد جعله بعضهم: "موضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يُرعى". وذكروا أنه "كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلدًا في عشيرته استعوى كلبًا فحمى لخاصته مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره، فلم يرعه معه أحد. وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله"1.
ويظهر من غربلة ما ورد في الأخبار عن "الحمى"، أنه كان على نوعين: حمى دائم أو طويل الأجل، وهو الأرض المخصبة الجيدة المنبتة التي تتوفر فيها المياه، أو تكون المياه فيها قريبة من سطح الأرض، فينتقيها كبار سادات القبائل ويجعلونها حمى دائمًا لهم ولأسرتهم، وقد يحولونه إلى ملك لهم، يتوارث توارث الإرث، ويكون لمن هو من الأسرة التي حمته، أو لمن خصص الحمى باسمه.
ومن هذا القبيل "حمى ضرية"، مرعى لإبل الملوك2، ومراعي الملوك الأخرى.
وحمى آخر، يكون قصير الأجل بالنسبة للحمى الأول. فقد يحمى لموسم وقد يحمى لمواسم، فأجله مرتبط بأجل الغيث الذي ينزل عليه. فإذا جاد ووصل الأرض وأنبتها نباتًا حسنًا وكساها بساطًا أخضر، بقي حامي الحمى به، وإن انحبس المطر عنه، وجفَّ كل شيء به، ورفع ذلك البساط عنه، وظهرت عبوسة الرمال والتربة المتهشمة من تحته، فقد يهرب حاميه منه ليفتش عن أرض أخرى يعيش عليها، فيصير الحمى عندئذ بلا حام، إلا إذا عاد الغيث إليه، وعاد صاحبه ليجدد عهده به، وليثبت حق حمايته عليه، وإلا، فقد يصيره في حماية شخص آخر قد ينزل به قبله، ويكون لديه من القوة والمنعة ما لا يستطيع أحد من زعزعته عنه.
ولا بد وأن تحدد حدود الحمى، وأن تثبت له أنصاب وعلامات، حتى يكون الناس على بينة من حدوده فلا يدخلونه. ونجد في الكتب التي دونها الرسول للوفود التي زارته، والتي حمى لها أحمية، حدودًا ومعالم دونت أسماؤها فيها، وقد تثبتت مساحتها في بعض الكتب، مما يدل على أن ما يرويه أهل الأخبار من
__________
1 اللسان "14/ 199"، "حما"، تاج العروس "10/ 99 وما بعدها" "حما"، الأم، للشافعي "3/ 270"، السمهودي، وفاء "2/ 224".
2 اللسان "14/ 199"، "حما"، تاج العروس "10/ 100"، "حما".(9/268)
قصة تعيين حدود الحمى بعواء كلب أو بركضة فرس أسطورة من أساطير أهل الأخبار.
ومن أشهر مواضع الحمى في جزيرة العرب: حمى ضرية. وقد عرف في أيام ملوك كندة بـ"الشرف" وهو "كبد نجد"، وكانت به منازل الملوك من بني آكل المرار. ثم عرف بـ"ضرية" في وقت لا نستطيع تحديده تمامًا، ويذكر علماء اللغة أن "ضرية" امرأة سمي الموضع بها، وهو بأرض نجد، وبه بئر. ويظهر أن اسم "ضرية" كان معروفًا في أيام ملوك كندة من بني آكل المرار، ولكنه كان اسم موضع من مواضع الشرف، ثم اشتهر، فسمي به هذا الحمى: حمى ضرية1. وذكر بعض أهل الأخبار أن "ضرية" أكبر الأحماء، وقد سمي بـ ضرية بنت ربيعة بن نزار"2. قال "ابن السكيت": "الشرف كبد نجد وكان من منازل الملوك من بني آكل المرار من كندة. وفي الشرف حمى ضرية وضربة بئر. وفي الشرف الربذة وهي الحمى الأيمن. وفي الحديث أن عمر حمى الشرف والربذة"3. ويظهر من هذا الوصف أن "الشرف" أرض واسعة بنجد. منها الربذة وهو الحمى الأيمن لمن يتجه إلى الجنوب فيوجه وجهه نحو البحر العربي ويجعل قفاه إلى العراق وبادية الشام وبلاد الشأم، ومنها حمى "ضرية" الشهير.
وذكر أن أول من حمى "ضرية" في الإسلام "عمر" حماها، لإبل الصدقة وظهر الغزاة، وكان ستة أميال من كل ناحية من نواحي ضرية وضرية في وسطها4.
و"ضرية" من مياه "الضباب" في الجاهلية، وكانت لذي الجوشن الضبابي، والد شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين5. وورد أنها كانت حمى "كليب بن وائل"، وأن في ناحية منه قبره، وكان الناس يقصدونه6.
ومن الحمى، حمى فيد. قرب أجأ وسلمى جبل طيء، على طريق حاج العراق إلى مكة. وذكر أن فيدا فلاة في الأرض بين أسد وطيء في الجاهلية،
__________
1 اللسان "14/ 484"، "ضرا".
2 تاج العروس "10/ 219"، "ضرى".
3 تاج العروس "6/ 152"، "شرف".
4 تاج العروس "10/ 219"، "ضرى".
5 وفاء الوفاء "2/ 221"، الاشتقاق "180".
6 وفاء الوفاء "2/ 229".(9/269)
فلما قدم "زيد الخيل" على رسول الله أقطعه "فيد". وبها قرية "فيد"، سميت بـ"فيد بن حام" أول من نزلها. وهي من القرى الجاهلية1.
وقد أشار "ياقوت" إلى أحماء أخرى. منها حمى الربذة وحمى النير وحمى ذو الشرى وحمى النقيع2. وذكر أن بـ"النير" قبر كليب وائل3. وأن الخليفة "عمر" حمى "النقيع" لخيل المجاهدين ولنعم الفيء، فلا يرعاها غيرها4.
ولا يعقل أن يكون "كليب وائل" أول من حمى الحمى في الجاهلية. والظاهر أن شطط "كليب" وتعسفه" في الإكثار من الحمى، وشدة منعه الناس الغرباء من الرعي في أحمائه، جعل أهل الأخبار ينسبون مبدأ الإحماء إليه. وقد تكون لفظة "كليب" التي صارت وكأنها اسم كليب مع أنها لقب في الأصل، هي التي أوحت إلى ذهاب أهل الأخبار، بابتكار قصة استنباح "كليب" جروًا، ليكون مدى انقطاع سماع نباحه وعوائه نهاية الحمى، أي: حدوده. ونجد بعض أهل الأخبار يجعلون حدود الحمى المواضع التي تصل إليها الخيل وهي جارية، فتقف عندها من التعب. فيكون الحمى بهذه الطريقة أكبر وأوسع من الحمى المحدد بنباح كلب.
وفي أرض "بني أسد" "حزن"، كانت ترعى فيه إبل الملوك. وهو قف غليظ بعيد من المياه، فليس ترعاه الشياه ولا الحمر، وليس فيه دمن ولا روث. إليه أشير في قول الأعشى:
ما روضة من رياض الحز معشبة ... خضراء جاد عليه مسيل هطل5
ويتبين من دراسة ما أورده أهل الأخبار عن الحمى، أن الأحماء لم تكن أرضين صغيرة حدودها ضيقة بحدود مدى سماع عواء الكلب، بل أنها كانت أكثر من ذلك بكثير. كانت مقاطعة كبيرة تضم آبارًا وعيونًا وقرى في بعض الأحيان.
وقد حصل عليها أصحابها من الحروب والغزو في الأصل. فعندما يغزو سيد قبيلة
__________
1 تاج العروس "2/ 457"، "فاد".
2 ياقوت، البلدان "2/ 342".
3 تاج العروس "3/ 593"، "نير".
4 تاج العروس "5/ 530"، "نقع".
5 تاج العروس "9/ 174"، "حزن".(9/270)
قبيلة أخرى، كان يختار لنفسه خيرة الأرضين فيجعلها في حماه. فنشأ الحمى في الأصل هو من الحروب والغزو، أي: من الغنائم التي تقع في أيدي المنتصر، ومن الهبات التي يعطيها ملك لأشراف شعبه ولقادته في السلم أو في الحروب. فتحمى لهم ولا يدخلها أحد غيرهم، إذ صار حكمها حكم الملك.
وذكر أن الملوك إذا جاءتها الخرائط بالظفر، غرزت فيها قوادم ريش أسود1.
__________
1 الحيوان "3/ 418"، "هارون".(9/271)
دواوين الدولة:
ولا بد وأن يكون لكل حكومة مهما كان حجمها وشأنها دواوين ودوائر لتنفيذ ما تقرره من أوامر وأحكام، والجباية ما تفرضه من حقوق على رعيتها، ولإحقاق الحق بين الرعية وللدفاع عن حدودها ولضبط الأمن في أرضها، ولا يمكن تصور وجود حكومة، بدون وجود ما ذكرته.
وقد سبق لي أن ذكرت أن قصور الملوك في العربية الجنوبية كانت موضع حكمهم ومقر عملهم، ولهذا السبب ذكرت أسماؤها في القوانين، لتكنى بذلك عن صدورها بأمر من الملك وبموافقته عليها. والمفروض أن أولئك الملوك كانوا قد خصصوا جناحًا أو أجنحة فيها لجلوسهم مع مستشاريهم وكبار موظفيهم للنظر في شئون الحكم، أولاستقبال الرسل والوفود الذين يقصدونهم من الخارج أو من داخل المملكة لمقابلتهم ولعرض ما جاءوا به من رسائل أو طلبات عليهم، وأن هنالك مواضع يجلس فيها الملوك للاستماع إلى شكاوى الناس وظلاماتهم، ومواضع لجلوس الكتاب وموظفي القصر، ومواضع لخزن السجلات والوثائق. فقصور الملوك، إذن هي بهذا المعنى، دار الحكم الأولى في تلك الحكومات، والمرجع الأول للرعية في علاقتها وصلتها بصاحب المملكة.
ذلك ما كان بالنسبة إلى عواصم الملوك، أما بالنسبة إلى بقية أجزاء المملكة، فإن الحكم فيها هو إلى ولاة وعمال ثم إلى من هم دونهم في المنزلة والدرجة.
وبيوتهم هي دور حكمهم يجلس العامل أو الوالي أو "الكبير" في جناح من(9/271)
بيته، ليأتيه من يريد مقابلته من موظفين وكتبة ليقصوا عليه ما عندهم من أخبار وطلبات، وليملي عليهم ما يراه من أحكام وأوامر. وفي هذا البيت أيضًا يستقبل الضيوف وأعيان البلد وأصحاب الشكاوى والمراجعات. وفيها يقيم مع عائلته. فبيوت الحكام إذن، هي دور إقامة ودور حكم وقضاء بين الناس في آن واحد.
وأما ما ورد في روايات أهل الأخبار من أن ملوك الحيرة كانوا قد اتخذوا قصورهم مكانًا للنظر في أمور رعيتهم، ولاستقبال الرسل والوفود، وللاستماع إلى ظلامات الناس وشكاويهم، وأنهم كانوا قد أوكلوا أمر إدخال الرعية عليهم إلى حجاب معينين، لا يسمحون لأحد بالدخول على الملك إلا بعد أخذ إذن منه بذلك، فإنه يدل على أن ملوك الحيرة كانوا مثل ملوك العربية الجنوبية ومثل ملوك ذلك الوقت قد اتخذوا بيوتهم دارًا للحكم ودارًا للإقامة. وأن قصر الملك هو أيضًا دار الحكم بين الناس، والمشروع للأحكام.
وإذا أخذنا بما ورد في كتب أهل الأخبار من أن "دار الندوة" كانت مرجع أهل مكة في كل أمر من أمورهم صغر أم كبر، حتى أن "الجارية إذا حاضت أدخلت دار الندوة، ثم شق عليها بعض ولد عبد مناف بن عبد الدار درعها ثم درّعها إياه وانقلب بها إلى أهلها فحجبها. وكان عامر بن هاشم بن عبد مناف عبد الدار يسمى محيضًا"1، جاز لنا القول إن تلك الدار كانت دار حكومة.
إليها يرجع أهل مكة في منازعاتهم وفي خصوماتهم وفي أمور سامهم وحربهم.
وأن أبناء قصي كانوا قد وزعوا أعمالها بينهم على نحو ما سطره أهل الأخبار.
ولفظة "ديوان" من الألفاظ المستعملة في الجاهلية عند عرب العراق، ويذكر علماء اللغة أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية2. وقد كان للفرس دواوين في جملتها ديوان خاص للنظر في أمور العرب، واجبة النظر في صلات "كسرى" مع ملوك الحيرة وسادات القبائل. وليه "زيد" والد "عدي بن زيد العبادي"، فلما توفي "زيد" وليه ابنه من بعده، ثم وليه "زيد بن عدي بن زيد"، بعد مقتل والده على يد "النعمان بن المنذر". ولا استبعد وجود الدواوين في حكومة الحيرة. فقد كان لها كتّاب تولوا أمور ديوان المراسلة بين ملوك الحيرة
__________
1 الأزرقي "1/ 66"، "ما جاء في ولاية قصي بن كلاب البيت الحرام".
2 اللسان "13/ 166 وما بعدها"، "دون"، تاج العروس "9/ 204"، "دون"، غرائب اللغة "229".(9/272)
والفرس، وأمور المراسلة فيما بين ملوك الحيرة وبين عمالهم على الأرضين التابعة لهم وبينهم وبين سادات القبائل. أما ما ورد في أخبار أهل الأخبار من أن الخليفة "عمر بن الخطاب"، هو أول من أمر بتدوين الدواوين، فإنهم قصدوا بذلك موضوع تأسيس ديوان العطاء وموضوع تدوين الدواوين في الإسلام. مما لا مجال للبحث عنه في هذا المكان. وورد اسم "الديوان" في الحديث. ذكر أن الرسول قال: "إن لله حراسًا، فحرّاسه في السماء الملائكة، وحراسه في الأرض الذين يأخذون الديوان"1.
__________
1الدينوري، عيون الأخبار "1/ 2"، "كتاب السلطان"، "1/ 50"، "إنما قيل: ديوان لموضع الكتبة والحساب، لأنه يقال: للكتاب بالفارسية ديوان، أي: شياطين لحذقهم بالأمور ولطفهم فسمي موضعهم باسمهم".(9/273)
صاحب السر:
وذكر علماء اللغة أن الملوك كانوا يسرّون أمورهم إلى من يثقون من رجالهم المقربين إليهم. وقد عرف صاحب سر الملك بـ"الناموس"، وذكر بعضهم أن "الناموس" هو صاحب سر الخير، وأن "الجاسوس" هو صاحب سر الشر1.
__________
1 تاج العروس "4/ 264".(9/273)
الموظفون:
ودون الملك أناس يختلفون في المنزلة والمكانة، عهدت إليهم أمور إدارة الحكومة والشعب. وهم نوعان: موظفون مدنيون، واجبهم النظر في الأمور المدنية.
وموظفون عسكريون، واجبهم إعداد الجيش والدفاع عن حدود الدولة والقضاء على الفتن والاضطرابات، وتوسيع رقعة أرض الدولة عند الطلب.
وإني آسف إذ أقول إن من غير الممكن في الزمن الحاضر تثبيت درجات الوظائف، وتعيين سلالمها من أدنى درجة إلى أعلى درجة، لعدم وصول كتابات جاهلية إلينا فيها حصر تلك الدرجات وعدها وترتيبها، لهذا سأحاول ترتيبها على حسب ما وصل إلينا من شأنها من مختلف الكتابات، وعلى وفق ما ورد من أسماء(9/273)
بعضها في المسند أو في روايات أهل الأخبار، وعلى حسب اجتهاد الباحثين الذي توصلوا إليه باستنادهم إلى المرجعين المذكورين.
وإذا سألتني عن المصدر الذي استقيت منه أسماء الوظائف والدرجات التي أذكرها هنا، فإني أقول: لقد حصلت عليها من ورودها في الكتابات التي عثر عليها المنقبون في مواضع من العربية الجنوبية وفي أعالي الحجاز وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب أخذتها من هذه الكتابات، وعينت درجتها ومكانتها بالاستناد على المعنى المستنبط من النصوص. وبالقياس أحيانًا إلى المفردات الواردة في معاجم اللغة أو في اللغات السامية الأخرى حيث يرد ما يماثلها في تلك اللغات علمًا لوظائف معروفة، بقيت أساء بعض منها معروفة أو متداولة إلى يومنا هذا.
ونستطيع أن نقول بالقياس إلى ما هو مألوف في قصور الملوك المعاصرين لملوك الجاهلية أن كبار متولي أمور قصور الملوك وكبار قادة الجيش، كانوا من أقرب الناس إلى الملوك، ومن أكثر الناس تأثيرًا فيهم، وذلك بحكم اتصالهم بهم والتصاقهم بالعرش. فكانت لهم كلمة مسموعة عندهم. فهم من الصنف الممتاز من أصناف الموظفين، ولهم أثر خطير في تاريخ تلك الحكومات.
وتختلف درجات المشرفين على أمور القصور الملكية، فمنهم الحرس الخاص الذي يتولى حراسة القصر، ومنهم الخدم والطباخون، ومنهم من اختص بخدمة الملك وحده، كأن يقوم بتقديم الطعام إليه، ومنهم من اختص بتقديم الشراب إليه، أو يتولى أمر الحجابة له، ومنهم من كان يكتب له، أو يخدم زوجاته وذريته، إلى غير ذلك من أعمال اقتضتها طبيعة تلك القصور ودرجة الملك ومنزلته وقد عرف كل هؤلاء بـ"عبيد الملك" عند بعض الشعوب1.
والطبقة المذكورة، وإن كانت من الطبقات الدنيا بالنسبة لطبقات المجتمع، وظيفتها الطبخ وتقديم الأشربة والأطعمة والسهر على راحة الملك وضيوفه، إلا أن رهطًا منها تمكن مع ذلك من لعب دور خطير في أمور المملكة، وفي مقدرات الناس، بفضل استخدام ذكائهم وقربهم من الملك ووجودهم بحضرته بصورة دائمة، من التأثير على سيدهم وتوجيهه الوجهة التي يريدونها. كما تمكنّوا من الحصول على مكانة كبيرة عند قومهم، باتصالهم بحكم مراكزهم بأعيان الناس. وبنوال
__________
1 Ancient Israel, P. 120(9/274)
جوائزهم وهباتهم، ليفتحوا بذلك لهم الباب للوصول إلى الملك في كل وقت.
ثم بإيصالهم أخبار المجتمع ولا سيما سادته إلى الملك وبأخبارهم هذه صار في إمكانهم إبعاد شخص أو تقريبه من الملك، وإهلاك شخص أو إسعاده برضاء ملكه عنه.(9/275)
الكبراء:
وأعلى مناصب الدولة ودرجاتها الإدارية هي درجة "كبر" أي كبير. ويجب أن أكون حذرًا جدًّا في التعبير. فكلمة "كبر" "كبير"، ليست منصبًا أو وظيفة أو درجة بالمعنى المفهوم من هذه الألفاظ الاصطلاحية في الزمن الحاضر، ولكنها لفظة عامة قد تعني ممثل ملك على مقاطعة، مثل "كبرددن" أي: "كبير" أرض "ديدان" في حكومة "معين" وتقع في أعالي الحجاز، وهي "العلا"1 وقد تعني: موظفًا كبيرًا من رجال الملك المقربين إليه، عيّنه الملك واختاره لتنفيذ أوامره وأحكامه، أو للإشراف على إدارة أملاكه وأمواله وتدبير شئون قصره2، أو لإعداد ما يلزم من إعاشة جيش وتقديم ما يحتاج إليه3. وقد تعني: درجة عليا من درجات رجال الدين، أو كبير من كبارهم تناط به شئون إدارة أملاك المعابد وأموالها. وقد تعني: سيد قبيلة، أو رجلًا كبيرًا عينه الملك مندوبًا عنه ليشرف على تصريف أمور الحكم على قبيلة. وقد تعني: "الكبير" المسئول عن تصريف أمور المدن. فقد كان الذي يسير أمور مدينة "تمنع" مثلًا مسئولًا درجته درجة "كبر" "كبير" واتضح من بعض الكتابات أن مدينة "ميفعة" "ميفعت" الحضرمية كانت تحت حكم "كبير"4.
وقد أشير على وجود "كبر" "كبير" في سبأ، كان يتولى درجة دينية.
إذ كان من كبار رجال الدين. وورد اسم "كبير" آخر كان عمله إدارة بساتين الملك ومزارعه والإشراف عليها5. وورد اسم "كبير" كان عمله الإشراف على أعمال الصرف والانفاق على الجيوش6. وورد اسم "كبير" آخر كان يتولى رئاسة
__________
1 Rhodokanakis, Kat. Texte, I, s. 75, Glaser 1155, Halevy 535, 578
2 Rep. EPIGR. 4054
3 Rep. EPIGR. 3951, Arabien, S. 130
4 Arabien, S. 130
5 Rep. EPIGR. 4054, Grohmann, S. 130, glaser 1571
6 Rep. EPIGR. 3591, Grohmann, S. 130(9/275)
قبيلة1، فيستنتج من هذه الأمثلة أن لفظة "كبر" لا يقصد بها درجة معينة من كبار الموظفين، بل أريد بها علية قوم وأعيانهم وكبارهم، ولهذا أطلقت على من ذكرت أعيان سبأ وعلى المنازل الكبيرة التي كان على رأسها كبير من كبراء الناس؛ من رجال دين، ومن عسكريين، ومن موظفين، أو مدنيين غير موظفين.
والكبراء بالطبع هم من أصحاب الجاه العريض والوجاهة والمنزلة والثراء، وهم كبار الأحرار في الأرض، ولأهميتهم ومكانتهم أرخ الناس حوادثهم وما وقع لهم بأيامهم، وقد حملت الكتابات أسماء طائفة منهم، دلالة على ما كان لهم من اسم وسلطان في ذلك العهد2.
ومن أشهر الكبراء "كبر خلل"، أي: كبير خليل. وخليل عشيرة قديمة.
وقد ذكر كبيرها في الكتابات السبئية القديمة، كما ذكر في الكتابات المتأخرة كذلك.
وقد أرخ بهؤلاء الكبراء عدد من الكتابات السبئية. ويظهر أن "كبر خلل" "كبير خليل" كان كاهنًا، أي: رجل دين في الأصل، يشرف على معبد "عثتر ذ ذبن" "عثتر ذو ذبن". ويقدم الذبائح إلى هذا المعبد، ويدعو الآلهة لإنزال الغيث3، ودعوته آلهته لإنزال المطر، هي بمثابة صلاة الاستسقاء.
وقد كان يحكم حضرموت في النصف الأول من القرن السادس للميلاد "كبير"، "كبر حضرموت"، وقد ذكر في نص "أبرهة" في جملة من وفد على أبرهة بعد إتمامه سد "مأرب"4.
__________
1 Grohmann, S. 130
2 Grohmann, S. 130, J. Ryckmans, L.htm'Ist, 25, 34, 122
3 Handbuch I, S. 130, Katab. Texte, s. 53, 67
4 راجع السطرين 86، 87، من نص أبرهة: Glaser وCIH 241، المنشور في الجزء الأول من المجلد الرابع من مجلة المجمع العلمي العراقي لسنة1956 "ص186 وما بعدها"، Glaser, Zwei Inschriften Uber Dem Dammbruch von Marib, S. 68(9/276)
الأقيان:
جمع "قين"، وتتألف طبقتهم من الأمراء ومن ممثلي الملك في المدن، ومن(9/276)
الموظفين ومن رجال الدين من درجة "رشو"1. وقد ذهب "ويبر" Weber إلى أن "القين" والـ"رشو" هما شيء واحد2. أما "هارتمن" Hartmann فيرى أن القين غير الرشو، فهو وظيفة دنيوية ومركز حكومي. أما "الرشو" فإنه منزلة دينية، فهو "كاهن" إلَه ما وتعني رئاسة دينية. وقد يستعمل "قين" لأداء المعنيين.
أما "رشو"، فإنه لا يستعمل إلا في الأمور الدينية وفي التعبير عن منزلة كهنوتية3.
وذهب بعض الباحثين إلى أن "القين" "رشو" أيضًا، أي رجل دين، ولكنه تخصص بالأمور الإدارية والمالية للمعابد. وقد يتولى قيادة الناس في الحروب أيضًا4.
وقد ورد في نص عثر عليه في "حرم بلقيس" اسم كاهن عرف بـ"تبعكرب" "تبع كرب"، كان رجل دين، أي: "رشو" و"قينا" في الوقت نفسه على "سحر". ويدل ذلك على أن رجل الدين هذا كان يجمع بين سلطتين: سلطة دينية هي درجة "رشو"، وسلطة زمنية هي درجة "قين"5.
وفهم من بعض نصوص المسند أن "القين" كان يساعد الملك في إدارة بعض الأعمال، كما كان ينوب عنه في إدارة المدينة أو المعبد. وفهم من نصوص أخرى أنه كان يدير أملاك المعابد، وأنه كان يتولى قيادة الجيش أوتهيئة ما يحتاج إليه6.
واستدل من تعداد هذه الأعمال المدونة في النصوص، أن عمل "القين" لم يكن عملًا معينًا محدودًا بحدود وقيود، وإنما كان يشمل كل عمل وشغل كان الملك يعهد به إلى أحد الأقيان. أي: أن القين لم يكن موظفًا يشغل وظيفة معينة محددة، بل كان من كبار رجال الدولة ومن السادات، له مواهب وكفاءات وله قرب وحظوة عند الملك، فإذا احتاج الملك إلى إنجاز عمل ما، كلف أحد أقيانه القيام به.
والقين دون الكبير في الدرجة، فقد جاء في بعض الكتابات أن الأقيان كانوا يخضعون للكبراء7، كما يتبين ذلك من كتابات عثر عليها في "شبام أقيان".
__________
1 Handbuch I, S. 131
2 Weber, Studien, III, S. 43
3 Hartmann, Arab. Frage, S. 181
4 Hartmann, Arab. Frage, S. 181
5 راجع الفقرة الأولى من النص الموسوم بـ: Glaser 481
6 Grohmann, s. 130. Rhodokannakis, Stud, II, S. 15
7 Halevy 150, Handbuch, I, S. 131, Grohmann, s. 130(9/277)
"شبم أقين"، ومن كتابات أخرى عثر عليها في "عمران" من "مرثد" من قبيلة "بكيل"1.
وقد كان الأقيان طبقة خاصة من طبقات أهل الحظوة والنفوذ "الأرستقراطية" في الدولة وفي المجتمع، لها رأي مسموع بين الناس وكلمة نافذة عند الملك.
وهم من جماعة أصحاب الأملاك والإقطاع، قد يعطون أرضهم لغيرهم لاستغلالها مقابل أجر "اثوبت"، أي: كراء. وقد يستغلون أرضهم بأنفسهم، بتشغيل فلاحيهم وخدمهم ورقيقهم بها، فيكون حاصلها لهم، لا ينازعهم فيه منازع.
__________
1 Handbuch, I, S. 132, Hartmann, Arab. Frage, S. 231.
Rhodokanakis, Stud, I, S. 149, Halevy 147, Hommel, Grundriss, S. 687(9/278)
الأقيال:
والأقيال هم طبقة من كبار الإقطاعيين من أصحاب الأرضين الواسعة، ومن رؤساء القبائل كذلك والسادات الكبار. وكانوا يتمتعون بسلطان واسع، ويقال للواحد منهم: "قول" في المسند، و"قيل" في عربيتنا. والجمع "أقول"، أي: أقيال.
وقد جاء في كتابات المسند ذكر أقيال عديدين، مثل أقيال "سمعي"، وأقيال "بكيل" من "آل مرثد". وقد كان على مدينة "صرواح" حاكم درجته درجة قيل. وورد ذكر "أقيال حمير" في "حصن غراب"، وذكر الأقيال في نص "أبرهة"، كما ورد في نصوص عديدة أخرى.
و"القول" في الأصل المتحدث باسم قوم أو جماعة من فروع قبيلة. كأن يكون رئيس حيّ أو عشيرة أو ما شاكل ذلك من القبيلة، ثم توسع تفوذه وازداد شأنه حتى صار في منزلة "كبر" كبير، بل حل محله. وعند ظهور الإسلام، كان للأقيال النفوذ الأوسع في العربية الجنوبية، حتى حكموا المخاليف، كالذي يظهر لنا بجلاء من وصف أهل الأخبار لنظام الحكم في اليمن عند ظهور الإسلام1.
وقد لقب أكثرهم نفسه بلقب "ملك"، مع أنه دون الملك في الحكم وفي امتلاك
__________
1 Grohmann, S. 130(9/278)
الأرض بكثير. بل كان حكم بعضهم أقل من حكم سيد قبيلة.
وذكر علماء اللغة أن "المقول": المقيل بلغة أهل اليمن، وهو دون الملك الأعلى، والجمع "أقوال" و"أقيال". وذكر بعضهم: أن القيل هو الملك النافذ القول والأمر، وقيل: الأقيال، ملوك اليمن دون الملك الأعظم، واحدهم قيل، يكون ملكًا على قومه ومخلافه ومحجره. وقد سمي قيلًا لأنه إذا قال قولًا نفذ قوله. وعرف أنه الملك من ملوك حمير يقول ما شاء. وقد كتب الرسول إلى "وائل بن حجر" ولقومه: "من محمد رسول الله إلى الأقوال العبَاهلة -وفي رواية- إلى الأقيال العباهلة"1.
وذكر علماء اللغة أن العبَاهلة، هم الذين أقروا على ملكهم لا يزالون عنه، وعباهلة اليمن ملوكهم الذين أقروا على ملكهم2.
ووردت في النصوص السبئية لفظة "قبت"، يظن أنها بمعنى "نائب الملك" "نائب ملك"3.
وجاء في بعض النصوص المعينية ذكر منصب، عنوانه "حفيه نفس" "ح ف ي هـ ن ف س" "حفي نفس"4 "حافي نفس"، يظهر أن صاحبه كان مكلفًا أن يعمل أعمالًا خاصة، مثل النظر في شئون الماء، أي: في توزيعه، وفي الخصومات التي قد تقوض أجله، ومثل القيام بالإشراف على الأبنية والأعمال العامة وافتتاحها باسم الملك5.
ويظهر من بعض النصوص المعينية أيضًا أنه كان يعاون هذا الموظف القضائي موظفان، وضعا تحت إمرته، يقال لمنصبهما: "ربقهي معن"6، ربما كان بمثابة كاتبين عنده.
ويظهر أن حكومة "مَعين" كانت قد كلفت جماعة أخرى النظر في شئون الري عرفت بـ"أهل طبنتم" وبـ"اطبنو"7. وإذا علمنا ما للمياه من شأن
__________
1 اللسان "11/ 575 وما بعدها"، الاشتقاق "282".
2 اللسان "11/ 422"، تاج العروس "8/ 4" "عبهل".
3 Mahram, P. 120
4 Rep. EPIGR. 2813, 2829, 3562
5 Grohmann, S. 131
6 Rep. EPIGR. 3310, Grohmann, S. 131
7 Halby 174, 520, 521, Grohmann, s. 131, J. Ryckmans, L'Inst. 23(9/279)
في بلاد العرب، عرفنا السبب الذي جعل ملوك "معين" يعتنون عناية خاصة بشئون الري حتى جعلوا لها موظفين خاصين واجبهم رعاية هذه الشئون1.
ويرد في الكتابات ذكر منصب، يقال له: "مقتوي"، والجمع "مقتت"2.
ويعبر عنه بـ"مقتوي ملكن"، أي: "مقتوي الملك". ويظن بعض الباحثين أن المقتوي، أو "مقتوي الملك"، هو ضابط كبير، أو هو تعبير عن قائد أو مشاور عسكري، اختصاصه تقديم الرأي إلى الملك في الأمور الحربية وقيادته للجيش3، فهو معتمد الملك في هذه الأمور. وقد تؤدي اللفظة معنى "أمير" في العرف الإسلامي في صدر الإسلام. وهو من تسند إليه قيادة الجيش وإدارة الإدارة التي توكل إليه وتحدد له حدود "جنده".
وقد أظهرت نصوص المسند وجود "مقتوت" أيضًا، أي: نساء مقتويات.
وقد فسرها الباحثون بـ"كاهنة"4.
وعرف من يقوم بإدارة وحدة من الوحدات الإدارية بـ"سمخض" ومعناها "مدير"، فيكون المعنى: مدير أرض، ويكون واجبه الإشراف على الأرض التي وُكِلَ أمر إدارتها إليه، فواجبه إذن هو واجب سياسي وإداري، وأما وظيفته، فيقال لها: "سمخضت أرض"، أو "سمخضت" "سمخضة"، ومعناها: إدارة أرض، أو "إدارة".
ويعني مصطلح "أمنهت" "أمنها" "أهل أمنهتن" المعيني، منصبًا دينيًّا مختصًّا بالإشراف على معامل المعابد، تتولاه امرأة، ويقابل "امنت ذ عثتر" "امنت ذي عثتر" في القتبانية. وقد ورد معه مصطلح "منوت" "منوات" في بعض الكتابات5.
ومن الوظائف وظيفة "ملوطن ملك" "ملوطن"، وقد تعني وظيفة إدارية تنظر في شئون أملاك الملك. وقد ورد ذكرها في النصوص السبئية المتأخرة6.
__________
1 Handbuch I, S. 87, 92, 133
2 Grohmann, s. 131
3 Grohmann, S. 131, CIH 450, Rep. EPIGR. 4861, 4876, 4892
4 Nami 4, glaser A. 778, Grohmann, s. 131
5 Arabien, S. 131, rhodokanakis, Stud. I, S. 62, Rep. EPIGR. 2912
6 Philby 124, Grohmann, S. 131, Rep. EPIGR 3951(9/280)
وأما مصطلح "أذن قني" الذي ورد في أحد النصوص: "أذن قني ملك حضرمت"، "أذن قنى ملك حضرموت"1 فقد يعني: المأذون بإدارة مقتنيات ملك حضرموت، أي: وظيفة الإشراف على أملاك الملك وأمواله.
وأما "حشرو"، فقد تعني: جماعة واجبهم جمع الحشر للدولة2. وقد يكون لهذه اللفظة علاقة مع ما ورد في الموارد الإسلامية عن "الحشر" و"الحشور".
فقد جاء في الحديث: "إن وفد ثقيف اشترطوا أن لا يعشرو ولا يحشروا"، "أي: لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل: لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم، بل يأخذها في أماكنهم، ومنه حديث صلح أهل نجران: على أن لا يحشروا، وحديث النساء: لا يعشرون ولا يحشرون يعني: للغزاة، فإن الغزو لا يجب عليهن"3. فالحشر إذن قد يكون موظفًا خصص بجباية الضرائب، أو بجمع الحشور، أي: الناس الذين يحشرون ويجمعون للحروب أو للقيام بأعمال إجبارية، فهم مثل "السخرة" الذين يجمعون جمعًا لأداء أعمال من غير أجر. وهو "الحاشر" في لغتنا.
وأما الذي يتولى جباة الضرائب والإشراف على الموظفين الذين توكل أعمال الجباية إليهم، فيقال له: "نحل" ويقال لوظيفته "نحلت"4. ويذكر علماء اللغة أن "النحلة" بمعنى العطية، وأن النحل إعطاؤك الإنسان شيئًا بلا استعاضة، وعمّ به بعضهم جميع أنواع العطاء5. ويظهر من هذا التفسير أن له بعضَ الصلة بمعنى اللفظة في المسند، وأن المراد منها في اللغات العربية الجنوبية أخذ المال من الناس. فقد كان الملوك يعطون الأرض لأتباعهم والمقربين لديهم ممن يخدمونهم لاستغلالها، وذلك في مقابل دفع تعويض عام، فيقوم هؤلاء باستغلال ما أعطي لهم بأنفسهم، أو بتأجير الأرض قطعًا إلى من هم في خدمتهم، فيأخذون الربح لهم، ويقدمون ما اتفق عليه مع الملك إلى خزانته.
ويعرف الموظفون الذين يجمعون حصة الحكومة المخصصة باسم الجيش من الحبوب بـ"ساولت" "س اول ت". وهي ضريبة عسكرية يؤديها المزارعون
__________
1 Rep. EPIGR. 2693, grohmann, s. 131
2 Rep. EPIGR. 3951, Grohmann, S. 131
3 اللسان "4/ 192".
4 Rhodokanakis, Stud, II, S. 67, Jamme, South Arabian Inscriptions, P. 442
5 اللسان "11/ 650".(9/281)
من الحضر والأعراب إلى الحكومة، لتموين الجيش ببعض ما يحتاج إليه من طعام.
وتعرف هذه الضريبة العسكرية بتلك التسمية كذلك. فهي ضريبة من ضرائب غلات الأرض1.
ويظهر من بعض الكتابات أن بعض الإقطاعات كانت في إدارة مجلس يتألف من ثمانية أشخاص عرفوا بـ"ثمنيتن" أي "الثمانية"2، فهم بمثابة مجلس مديري شركة يدير أمور تلك المقاطعة، أو بمثابة مشروع زراعي تعاوني، يتعاون فيه الأشخاص بإدارة ذلك المشروع، وقد تكون هنالك إقطاعات بإدارة أناس يزيد عددهم على هذا العدد أوينقص عنه.
وقد ذهب "رودوكناكس" Rhodokanakis إلى احتمال وجود طبقة خاصة من الموظفين عرفت بـ"إبعل سير"، كانت تحكم إلى جانب الطبقة المثمنة المؤلفة من الأشخاص الثمانية3.
وظهر من النصوص القتبانية وجود جماعة من الموظفين نيطت بهم مهمة الإشراف على إدارة المعابد وتمشية شئون الأوقاف المحبوسة على المعبد. يقال لها: "أربى"، والواحد هو "ربي". ومهمته أيضًا جمع الأعشار والنذور التي تقدم إلى المعابد4.
فهم كهيئات "الأوقاف" في البلاد العربية والإسلامية في الوقت الحاضر.
وذكر علماء اللغة "المحاجر"، وقالوا عنهم: إنهم أقيال اليمن، وهم الإحماء، كان لكل واحد منهم حمى لا يرعاه غيره. وأن المحجر ما حول القرية5.
ويظهر أنهم قصدوا بهم أصحاب الإحماء، أي: الإقطاع، الذين استقطعوا الأرضين واستخلصوها لأنفسهم، ولم يسمحوا لأحد بالدخول إليها للرعي أو للاستفادة منها بغير إذن منهم. فهم أصحاب الإقطاع والإحماء. فحجروا بذلك على خيرة الأرضين المحيطة بالقرى، وجعلوها خاصة بهم لا يرعاها غيرهم، لما كان لهم من نفود وسلطان.
__________
1 Handbuch I, S. 128
2 راجع النص الموسوم بـ: Halevy 147
Rhodokanakis, Stud, I, S. 56, Hartmann, Arab, Frage, S. 208, 401
3 Rhodokanakis, Stud, I, S. 57, Glaser 147
4 Grohmann, S. 214
5 اللسان "4/ 171"، "حجر"، تاج العروس "3/ 126"، "حجر".(9/282)
هذا ما عرفناه من أصول الحكم عند العرب الجنوبيين. أما بالنسبة إلى العرب الشماليين، فإن معارفنا بنظام الحكم عندهم نزر يسير، لعدم ورود شيء ما عن نظام الحكم في "الحيرة" أو في مملكة الغساسنة في كتابة جاهلية. أما أخبار أهل الأخبار، فإنها قليلة في هذا الموضوع، وهي لا تنص على نظم الحكم عندها نصًّا، وإنما تشير إليها إشارة، وتومئ إيماء، ولذلك لا تقدم إلينا رأيًا واضحًا صحيحًا في أصول الحكم عند العرب الشماليين.
ويظهر من أخبار الأخباريين عن ملوك الحيرة أن أولئك الملوك لم يكونوا مثل ملوك اليمن من حيث استشارة المجالس وتوزيع أعمال الحكومة. وطبيعي أن يكون هنالك فرق بين أصول الحكم في العربية الجنوبية، وأصول الحكم في الحيرة، لا بين طبيعتي الحكومتين من اختلاف في نواح عديدة، تجعل وجود الاختلاف في نظم الحكم أمرًا لا بد منه. فإدارة الحكم في "الحيرة" متأثرة بالنظم السياسية الساسانية، وظروف البادية والبداوة وهي الغالب على سواد التابعين لملوك الحيرة، ولا يمكن تطبيق ما يطبق في المجتمع الحضري على المجتمع البدوي.
وإذا أخذنا "الردافة" على أنها منصب أو منزلة ودرجة خاصة في حكومة "الحيرة"، فإننا نستطيع أن نقول: إنها أسمى وظائف تلك الحكومة، أو أسى درجاتها، وأنها من المنازل العليا عند ملوكهم. فقد ذكر أهل الأخبار أن الردف هو الذي يجلس على يمين الملك. فإذا شرب الملك، شرب الردف قبل الناس، وإذا غزا الملك، قعد الردف في موضعه، وكان خليفته على الناس حتى ينصرف، وإذا عادت كتيبة الملك، أخذ الردف ربع الغنيمة1. وكان للردف أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم، فينظر بين الناس بعده. وذكر: أن هناك ردافة أخرى، ولكنها دون الردافة المتقدمة، وهي أن يردف الملك الردف على دابته في صيدٍ أو غيره من مواضع الأنس، ولكن الأولى أنبل2.
وقد عرف "عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب" بـ"رديف الملوك"، ومعنى هذا أنه عاش وخالط عددًا من ملوك أيامه، وذكر أنه كان رحالًا إليهم.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 184 وما بعدها"، اللسان "5/ 103"، "صادر"، "ر/ د/ ف".
2 الأغاني "14/ 63".(9/283)
ولذلك عرف بـ"عروة الرحال"1. وذكر أن "ردافة الملوك: كانت من العرب في بني عتاب بن هرمي بن رياح بن يربوع، فورثها بنوهم كابرًا عن كابر حتى قام الإسلام، وهي أن يثني بصاحبها في الشراب، وإن غاب الملك خلفه في المجلس، ويقال: إن أرداف الملوك في الجاهلية بمنزلة الوزراء في الإسلام، والردافة كالوزارة. قال لبيد من قصيدة:
وشهدت أنجية الأفاقة عاليًا ... كعبي وأرداف الملوك شهود"2
وكان "سدوس بن شيبان" رديفًا، "فكانت له ردافة آكل المرار"3.
وقد كانت الردافة معروفة عند "ملوك كندة" أيضًا. وقد رووا أن "أبا حنش عاصم بن النعمان التغلبي"، كان رديفًا للملك "شرحيل بن الحارث بن عمرو الملك المقصور بن آكل المرار الكندي"4. وقد احتفظ "بنو سدوس" بهذا الحق: حق ردافة ملوك كندة5.
ولا يوجد نظام خاص في "الردافة"، ولكن نظرًا لما للردافة من مكانة ومنزلة، جرت العادة ألا تعطى إلا للرجال الذين لهم مكانة عند الناس ولهم عقل وشخصية، وقد تنتقل من الأب إلى الابن، وقد تنحصر في قبيلة واحدة، فإذا أراد الملك نقلها إلى قبيلة أخرى، ولم يأخذ رأي تلك القبيلة في نقلها نها "زعلت" القبيلة وثارت إن كانت قوية ووقع الشر بينها وبين الملك، أو بينها وبين القبيلة الأخرى التي نازعتها على الردافة.
وللرديف، بحكم اتصاله بالملك وبقربه منه وبتقديمه الرأي له، أثر في توجيه الملك وفي اتخاذه القرارات، لا سيما إذا كان الملك ضعيفًا فاتر الهمة، ليس له رأي. والرديف بهذا المعنى المستشار والوزير. وقد ذكر أن الردافة بهذا المعنى عرفت في الإسلام أيضًا. روي أن "عثمان" كان يُدعى "رديفًا" في إمارة عمر6.
وذكر علماء اللغة أن "الأرداف: الملوك في الجاهلية، والاسم منه الردافة".
__________
1 البيان والتبيين "1/ 132"، المحبر "254".
2 الثعالبي، ثمار القلوب "184".
3 المعارف "ص45".
4 المحبر "ص204".
5 الاشتقاق "261".
6 الطبري "3/ 480"، "ذكر ابتداء أمر القادسية".(9/284)
وكانت الردافة في الجاهلية لبني يربوع1. خصصها ملوك الحيرة بهم ولم يعطوها لأحد غيرهم، حتى إن كانوا مثل بني يربوع من تميم. ولا بد وأن يكون لهذا التخصيص سبب إذ لا يعقل أن يكون جاء "بني يربوع" عفوًا. فهو فضل وتفضيل، وقضية التفضيل والتقديم، قضية حسّاسة جدًّا ويحسب لها ألف حساب عند العرب. لما لها من مسّ بالمنازل وبكرامة القبائل والسادات، وقد ذهبت أرواح بسبب تقديم ملك سيد قبيلة على سيد آخر في موضع جلوسه منه أن جعله أقرب إليه منه وفي جهته اليمنى لأن في هذا التقديم على عرفهم إيثار لمن قدم وتفضيل له على بقية الحضور. فهل يعقل إذن أن يكون ملوك الحيرة قد أعطوا "الردافة" لبني يربوع عفوًا ومن غير أسباب حملتهم على تخصيصها فيهم. لقد حاول بعض ملوكهم تحويلها من أصحابها إلى قوم آخرين، ومنهم قوم مثل "بني يربوع" من تميم. لكنهم هاجوا وماجوا وهددوا، فاضطر أولئك على إبقاء الحال على ما كان عليه.
ويمكن اعتبار "الحجابة" وصاحبها "الحاجب" من الدرجات المهمة في "الحيرة". فقد كان "الحاجب" هو الذي يتولى إدخال الناس والأذن لهم بالدخول على الملوك. وكان في إمكانه التعجيل بإدخال من يريد على الملك، وتأخير من ينفر منه من الدخول عليه، وربما منعوه من الوصول إليه. لذلك كان الذين يقصدون الملوك يتقربون إليه ويتوددون له ليكون شفيعًا لهم عندهم عن وواسطة في التقرب إليهم. وطالما تعرض الحاجب لذم شاعر وهجائه إذا أخره عن الدخول على الملوك، أو حال بينه وبين الوصول إليه، أو كان سببًا في إثارة غضب الملك على الشاعر2.
وقد ذكر علماء اللغة أنه لما كان الملك محجوبًا عن الناس، فلا يصلون إليه إلا بإذن من الحاجب، لذلك حصر -أي: حبس- عن رعيته، فقيل له: الحصير3.
وقد كان للنعمان بن المنذر "ملك العرب" حاجب ورد اسمه في شعر للنابغة، هو "عصام بن شهر" من رجال "جرم"، ذكر أنه قد كانت له منزلة عند
__________
1 اللسان "5/ 103"، "صادر"، "ردف".
2 تاج العروس "1/ 303"، "حجب".
3 تاج العروس "3/ 144"، "حصر".(9/285)
النعمان. حتى أنه إذا أراد أن يبعث بألف فارس بعث بعصام1، مما يدل على أنه كان يوكل إليه أمر قيادته جيشه أيضًا. وقد ضرب به المثل، ورد: "ما وراءك يا عصام"، يعنون به إياه. وورد: "كن عصاميًّا ولا تكن عظاميًّا يريدون به قوله:
نفس عصام سودت عصامًا ... وصيرته ملكًا همامًا
وعلمته الكرَّ والإقداما
وقوله: ولا تكن عظاميًّا، أي: ممن يفتخر بالعظام النخرة"2.
وقد ورد في أخبار الرسل الذين أوفدهم رسول الله إلى الملوك، أن "شجاع ابن وهب" رسول رسول الله إلى "الحارث بن أبي شمر الغساني" ليدعوه إلى الإسلام، اتصل بحاجبه، وانتظر حتى جاء له الإذن بمقابله فدخل عليه3.
وبقيت "الحجابة" من المنازل الرفيعة في مكة وفي الأماكن المقدسة الأخرى.
فبيد "الحاجب" تكون مفاتيح الكعبة ومفاتيح الخزانة الخاصة بالمعبد وهي درجة ترزق صاحبها رزقًا حسنًا وربحًا ماديًّا، فضلًا عن الربح المعنوي باعتبار أنه صاحب الصنم أو الأصنام وبيده أمر المعبد. لذلك قالت بنو قصي: فينا الحجابة4. تفتخر على غيرها. ويظهر من الحديث: "ثلاثٌ من كن فيه من الولاة اضطلع بأمانته وأمره: إذا عدل في حكمه، ولم يحتجب دون غيره، وأقام كتاب الله في القريب والبعيد"5، ومن اشتراط "عمر" على كل من كان يعينه عاملًا، ألا يتخذ حاجبًا، ومن تحذيره لمعاوية وغيره من اتخاذ الحجاب6. أن الحجاب، أي: احتجاب الحكام في الجاهلية عن الناس وعدم دخول أحد عليهم بغير إذن منه، كان معروفًا فاشيًا، وأن أصحاب الحاجات والمراجعين من الناس كانوا يلاقون صعوبات جمة في الوصول إلى حكامهم، وقد يقفون أيامًا ثم يسمح لهم بالدخول عليهم، وقد لا يسمح لهم بذلك. ونظرًا لما في ذلك من تعسف بحق
__________
1 اشتقاق "318".
2 تاج العروس "8/ 399"، "عصم".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 261".
4 تاج العروس "1/ 303"، "حجب".
5 كتاب الحجاب من رسائل الجاحظ "2/ 30".
6 كتاب الحجاب من رسائل الجاحظ "2/ 31".(9/286)
الرعية نهى الإسلام عنه، وأمر الحكام بوجوب فتح أبواب بيوتهم للناس ليستمعوا إلى ظلاماتهم وإلى ما هم عليه من حال.
وفي كتب أهل الأخبار تأييد لهذا الرأي، إذ نجدها تذكر أن الشعراء وغيرهم كانوا يقفون أيامًا بأبواب ملوك الحيرة أو الغساسنة يلتمسون الإذن بالدخول على الملوك، ولا يأذن الحاجب لهم بالدخول عليهم، حتى اضطر البعض منهم إلى التعهد للحاجب بإعطائه نصيبًا مما سيعطيه الملك له إن يسر له أمر الدخول عليه1.
ومنهم من كان يقدم للحاجب هدية ترضيه حتى يسمح له بالدخول دون إبطاء، مما اضطر بعض الشعراء على نظم الأشعار في هجاء الحاجب والملك الذي يراد الوصول إليه.
ونجد مثل هذه الشكاوى عن حجاب ملوك اليمن.
ويظهر أن ملوك الحيرة كانوا يستوزرون الوزراء ليستشيروهم في الأمور، فقد ورد أن "زرارة بن عدس" كان من عمرو بن هند كالوزير له2. وقد وردت كلمة "وزير" في القرآن الكريم3 بمعنى المؤازر الذي يشد أزر صاحبه فيحمل عنه ما حمله من الأثقال، والذي يلتجئ الأمير إلى رأيه وتدبيره، فهو ملجأ له ومفزع. وجاء في حديث "السَّقيفة": "نحن الأمراء وأنتم الوزراء"4، مما يدل على أن الوزارة كانت معروفة عند الجاهليين.
وورد أن "التأمور" وزير الملك لنفوذ أمره5. ولم يذكر علماء اللغة الموضع الذي استعملت فيه هذه اللفظة.
وقد كان لملوك الحيرة عمالًا يديرون بالنيابة عنهم أمور الأرضين التابعة لهم.
فـ "العامل" هو نائب الملك على تلك الأرض. وقد ذكر أنه كان لملوك الحيرة "عمال" على البحرين كالذي رووه في قصة مقتل الشاعر "عبيد بن الأبرص".
وقد عرف علماء اللغة العامل بأنه هو الذي يتولى أمور الرجل في ماله وملكه وعمله ومنه قيل للذي يستخرج الزكاة: "عامل"، وللساعي الذي يستخرج الصدقات من أربابها: "العامل" والعامل هو الخليفة عن الشخص6.
__________
1 الزجاجي، مجالس العلماء "259 وما بعدها".
2 العمدة "2/ 216"، "محمد محيي الدين".
3 سورة طه، الآية29، الفرقان، الآية35.
4 اللسان "5/ 283"، "صادر"، "وزر".
5 تاج العروس "3/ 20"، "أمر".
6 اللسان "11/ 474"، "عمل".(9/287)
وقد استعمل المسلمون لفظة "العامل" وبقوا يستعملونها أمدًا. وعين الرسول عُمالًا على الصدقات1. واستعملت بمعنى أوسع أيضًا، شمل الضرائب والإدارة.
وأطلق "الطبري" لفظة "العامل" على ملوك الحيرة، فنجد في كتابه جملة:
"من عمال ... "، وورد أن "امرأ القيس" كان عاملًا للفرس، وكان يحكم الحجاز2.
ويذكر علماء اللغة أن "العُمالة": رزق العامل الذي جعل له على ما قلد من العمل.
والولاية بمنزلة الإمارة، والولي هو الذي يتولى إدارة شئون الولاية3. وقد استعملت في الإدارة الإسلامية. واستعملت لفظة "الأمير" في معنى من يتولى إمارة الجيش، فقيل: "أمراء الجيش" وهم كبار القادة الذين توكل إليهم مهمة تسيير الجيش وإدارته في السلم وفي الحرب.
وتؤدي لفظة "الوكيل" معنى العامل أيضًا. جاء في نص "العمارة" "ووكلهن فرسولروم"، أي: "ووكل لفارس وللروم"4. ولكنني لا أستطيع أن أجزم بأن لفظة "الوكيل" كانت مستعملة اصطلاحًا مقررًا مثل لفظة "عامل" في ذلك العهد، أي: سنة "328" للميلاد، وهي سنة تدوين النص.
ومن الدرجات المهمة من الوجهة العسكرية والإدارية "الخفارة"، بمعنى الحراسة والمراقبة. والخفير هو المجير والحارس والحامي والأمان5. وكان ملوك الحيرة قد عينوا "الخفراء" على المواضع الحساسة لحمايتها والدفاع عنها. وقد كان الساسانيون قد عينوا خفراء منهم ومن العرب لحماية الحدود، ولما حاصر "خالد بن الوليد" "عين التمر" وتغلب عليها قتل "هلال بن عقبة"، وكان خفيرًا بها6.
__________
1 تاج العروس، "8/ 37"، "ومنه قيل للذي يستخرج الزكاة: عامل".
Die Araber, II, S. 318, 321, /56, Annali, I, 833
2 اللسان "11/ 476" "عمل"، "صادر".
3 اللسان "15/ 407"، "ولي".
4 J. Cantineau, Le Nabateen, 2, 1932, 49, Dussaud, Mission, 314, REP I, 361, NR. 483, Die Araber, II, S. 313
أشكر المكتبة القادرية ومتولي الوقف القادري السيد يوسف الكيلاني، على تفضلهما بإعارتي الجزء الثاني من كتاب: Die Araber
5 تاج العروس "3/ 186"، "خفر".
6 الأخبار الطوال "112".(9/288)
وقد أشير إليها في كتب الرسول، إذ ذكر أنه أخفر "سعير بن العداء الفريعي" أحد المواضع1.
ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن ملوك الحيرة، كانوا قد اتخذوا لهم أمناء، فقد لقب "هانئ بن قبيصة" بـ"أمين النعمان بن المنذر"2. و"الأمين" المؤتمن الحافظ، فلعلهم قصدوا أنه كان المؤتمن على أسراره والمستشار له، يستشيره في مسائله والحافظ لها، أو أنه كان الأمين على أمواله وما يأتيه من جباية وخراج، أو الكاتم لأسراره والمدون لرسائله، فهو كاتب الدولة في ذلك العهد.
وعرف "قبيصة بن مسعود" بـ"وافد المنذر"3. ويظهر أن المنذر كان يكلفه بالوفادات، أي: بالذهاب موفدًا عنه في مهمات وأعمال يحتاج قضاؤها إلى ذهاب موفد ليتكلم عن الملك وباسمه و"الوافد" هو السابق والإرسال، ويقال: هم على أوفاد أي: على سفر. وقد يقال: إن "قبيصة" إنما عرف بـ"وافد المنذر"، لأنه كان ممن يكثر الوفادة عليه، فيجد له ترحيبًا وأبوابًا مفتوحة، فعرف بذلك. فيكون بهذا المعنى من الرجال المقربين إلى الملك. ولا علاقة له بمهمة الإيفاد إلى الملوك وسادات القبائل بمهمات سياسية، أي: بمهمة رسول وسفير.
وقد استعمل عرب العراق الألفاظ الفارسية المستعملة في إدارة الحكومة الساسانية لأنها هي المصطلحات الرسمية والألقاب التي يحملها الموظفون وتشير إلى منازلهم ودرجاتهم، ومنها درجة "قهرمان" "القهرمان". والكلمة فارسية، وقد دخلت العربية وعربت. ذكر علماء اللغة أنها تعني المسيطر الحفيظ على من تحت يديه والقائم بأمور الرجل ومن أمناء الملك وخاصيته. وفي الحديث: كتب إلى قهرمانه4.
وقد ورد أن "علي بن أبي طالب" قال لدهقان من أهل "عين التمر"، وكان قد أسلم: "أما جزية رأسك فسنرفعها، وأما أرضك فللمسلمين. فإن شئت فرضنا لك، وإن شئت جعلناك قهرمانًا لنا"5.
و"دهقان" من الألفاظ التي عرفها عرب العراق كذلك. وذكر بعض علماء
__________
1 الإصابة "2/ 51"، "رقم3200".
2 العمدة، لابن رشيق "2/ 221"، "مفاخرة عند معاوية بين عامري وشيباني".
3 العمدة، لابن رشيق "2/ 222".
4 اللسان "12/ 496"، "صادر"، "قهرم".
5 الجزية والإسلام، تأليف دانيل دينيت تعريب الدكتور فوزي فهيم جاد الله "ص66".(9/289)
اللغة أن الدهقان التاجر1. ويراد بدهقان حاكم ضيعة أو بلدة. وهي من "ده" بمعنى "ضيعة" و"قان" "خان" بمعنى رئيس قبيلة في الفارسية القديمة2.
فالدهقان هو رئيس موضع. وقد كان الساسانيون قد نصبوا الدهاقين على العراق وعلى قرى غالب أهلها من العرب، فكانوا يخاطبونهم باسم منصبهم: دهقان.
وأشير إلى وجود وظيفة "كاتب" عند الفرس، واجبه تولي أمور المراسلة بالعربية والفارسية فيما بين العرب والفرس. وقد ذكر "الطبري" أن "كسرى" جعل ابن "عدي بن زيد العبادي" في مكان أبيه، "فكان هو الذي يلي ما كتب به إلى أرض العرب، وخاصة الملك، وكانت له من العرب وظيفة موظفة في كل سنة: مهران أشقران والكمأة الرطبة في حينها واليابسة، والأقسط والأدم وسائر تجارات العرب، فكان زيد بن عدي بن زيد يلي ذلك، وكان هذا عمل عدي"3. وقد أشير إلى وجود كتاب عند ملوك الحيرة تولوا لهم أمر تدوين المراسلات وما يأمر به الملوك. ولا يعقل ألا يكون لهم ديوان خاص بالمراسلة على نمط ما كان عند الساسانيين، وظيفته تولي ما يكتب به ملوك الحيرة إلى الملوك الساسانيين، وترجمة ما يرد من الساسانيين إليهم من كتب. وتولي أمور المراسلة بين ملوك الحيرة وبين سادات القبائل، كما يظهر ذلك من كتب أهل الأخبار.
وكان للملوك خاتم عرف بـ"خاتم الملك" يكون في أيديهم. يظهر أنهم استخدموه للتوقيع على الكتب.
وقد عرف بـ"الحلق" كذلك. وعرف "الحلق" بـ"خاتم الملك الذي يكون في يده"4. وكان من شأنهم، أنهم إذا أمروا بكتابة كتاب، ختموا عليه بـ"الختام"، وهو الطين أو الشمع، حتى لا يفتح ولا يمكن لحد فتحه. وإلا كسر الخاتم، وعرف أن الكتاب قد فتح، وأن سره عرف5.
والمعروف أن "الشرطة"، لم تكن معروفة عند الجاهليين، وأنها من المستحدثات.
__________
1 اللسان "د/ هـ/ ق"، "13/ 164"، "10/ 107"، "صادر".
2 غرائب اللغة "ص229".
3 الطبري "2/ 201"، "ذكر خبر يوم ذي قار".
4
وأعطى منا الحلق أبيض ماجد ... رديف ملوك ما تغب نوافله
تاج العروس "6/ 321"، "حلق".
5 تاج العروس "8/ 366"، "ختم".(9/290)
الإدارية التي ظهرت في الإسلام. ولكن أهل الأخبار يروون حديث نسبوه إلى الرسول هو: "الشُّرَطُ كلاب النار"1. وهو حديث لو صح أنه من قول الرسول، فإنه يدل على وقوف أهل الحجاز على "الشرطة"، ويذكر علماء اللغة أن الشرطة سموا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها. وذكروا أن واحد الشرط هو الشرطي، واستدلوا على ذلك بقول الدهناء امرأة العجاج.
واللهِ لولا خشية الأمير ... وخشية الشرطي والترتور
أعوذ بالله وبالأمير ... من عامل الشرطة والأترور2
وقد ذهبت "ابن قتيبة" إلى وجود "الشرطة" في أيام الجاهلية، إذ قال في أثناء حديثه عن المثل "علي يدي عدل": "هو: عدل بن فلان. من سعد العشيرة، وكان على شرطة تبع، فإذا غضب على رجل دفعه إليه. فقال الناس، لكل شيء يخاف هلاكه: هو على يدي عدل"3 واختلف في اسم والده، فقيل: هو جزء "جر". وقيل: لكل ما يئس منه: وضع على عدل4.
وقد عرف الحراس في اليمن. منهم من كان يتولى أمر حراسة الملوك، إذا ذهبوا إلى مكان، أو خرجوا لصيد، ومنهم من كان يتولى أمر حراسة قصورهم، ومنهم من تولى أمر حراسة أبواب المدن والأسوار حتى لا يدخل المدينة عدوٌ ولا يهرب منها سارق أو مجرم، وكان لملوك الحيرة والغساسنة وسادات القبائل حراس يسيرون معهم لمنع من يريد إلحاق الأذى بهم. وإذا تجولوا استتبعهم الحراس والخَدم. وذكر أن "خشرم بن الحباب" كان من حراس الرسول5.
ويقال لمن يطوف بالليل لحراسة الناس "العس" و"العسس". فهم نوع من أنواع الحرس، تخصص بالحراسة ليلًا.
وأما "الدرابنة"، فهم البوّابون، أي: الذين يقفون على الباب، لمنع الغرباء ومن فيه ريبة من الدخول إلى البيوت. واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية،
__________
1 تاج العروس "5/ 167"، "شرط".
2 تاج العروس "5/ 167"، "شرط".
3 ابن قتيبة، المعارف "619".
4 تاج العروس "8/ 10"، "عدل".
5 القسطلاني، إرشاد "2/ 399"، الاشتقاق "273".(9/291)
وقد ذكرت في شعر نسب إلى المثقب العبدي:
فأبقى باطلي والجدّ منها ... كدكان الدرابنة المطين1
ويقال لمن يطوف بالليل لحراسة الناس "العس" و"العسس"، فهم نوع من أنواع الشرطة، أو من المحافظين على الأمن، تخصصوا بالحراسة ليلًا.
وذكر علماء اللغة أن من مرادفات "الشرطي" "الجلواز". و"الجلواز": الثؤرور "التؤرور"، وقيل: هو الشرطي. وجلوزته: خفته بين يدي العامل في ذهابه وإيابه2. وذكروا أن "التؤرور: العَوْن يكون مع السلطان بلا رزق، وقيل: هو الجلواز"3. وذكر "عكرمة" في تفسير {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} . "الجلاوزة يحفظون الأمراء"4.
وقد اتخذ حكام العربية الجنوبية السجون لتأديب خصومهم بسجنهم بها. واستعملت لسجن الخصوم السياسيين والأعداء في الغالب. لذلك كانوا يتشددون في حراستها وفي عزلها عن الناس حتى لا يتمكن أحد من الهروب منها. وقد يجعلونها في قلاعهم وحصونهم، زيادة في الحذر وفي مراقبة المساجين. وقد يتوفى السجين في سجنه من سوء حالة السجن ومن الجوع والعطش. ويقال لحارس السجن: "حصق" في اللغة العربية الجنوبية5.
وذكر بعض علماء اللغة أن النبط تسمي "المحبوس"، "المهزرق"، و"الحبس" "الهزروقي"6. ولا يستبعد أن يكون عرب العراق قد عرفوا هذا المصطلح.
إذ ذكروا أن "المهرزق: المحبوس، نبطية تكلمت بها العرب، وكذلك المحرزق".
وإن "الهرزق" "الحبس". وقال بعض العلماء: "المهزرق والمهرزق يقالان معًا.
كما وردا في بيت الأعشى:
هنالك ما أنجاه عزة ملكه ... بساباط حتى مات وهو مهرزق"7.
__________
1 تاج العروس "1/ 249"، "9/ 199"، "الدرابنة".
2 اللسان "5/ 322"، "جلز"، تاج العروس "4/ 16"، "جلز".
3
تالله لولا خشية الأمير ... وخشية الشرطي والتؤرور.
"التؤرور" و"الثؤرور"، اللسان "4/ 88".
4 الدينوري، عيون الأخبار "1/ 3".
5 راجع الصفحة "436" من كتاب: South Arabian Insciptions
6 تاج العروس "6/ 313"، "حزرق"، "7/ 96"، "هزروقي"، "هزرق".
7 تاج العروس "7/ 96"، "هرزوقي"، "هزرق".(9/292)
وترد لفظة "عوق" بمعنى المحبوس في النصوص الصفوية1. وقد كان الروم يقبضون على من يغير على أرضهم من الصفويين وغيرهم ويودعونهم السجون.
ومنهم من كان يفر منها، ويكتب ذكرى هروبه من سجن الروم على الحجارة.
وقد كان لملوك الحيرة "سجون"، منها سجن "الصنّين" وقد أشير إليه في الشعر الجاهلي2. ولا بد أن يكون لهم موظفون أودعوا إليهم مهمة المحافظة على السجون ومراقبة المساجين حتى لا يهربوا، ووكلوا إليهم أمر تعذيبهم وقتلهم أو سمهم عند صدور أمر الملك بذلك. كما فعلوا بعدي بن زيد العبادي. ويقال للسجن: الحصير، لنه يحصر الناس ويمنعهم من الخروج3، و"الحبس"4.
ويقال للذي يتولى أمر القبيلة أو الجماعة من الناس يلي أمورهم، وينقل إلى الملك أحوال الناس "العريف". وكان للملوك "عرفاء"، هم بمثابة عيونهم على القبائل. ويظهر من بعض الأخبار أن العرافة كانت نوعًا من الرئاسة والزعامة والدرجة. فقد ورد في كتب الحديث: أن شيخًا كان صاحب ماء جعل لقومه مائة من الإبل على أن يسلموا، فأسلموا، وقسم الإبل بينهم. وبدا له أن يرتجعها منهم، فأرسل ابنه إلى النبي، وأوصاه بأن يقول له: "أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وإنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده". فلما قص الخبر على الرسول، قال الرسول له: "إن بدا له أن يسلمها إليهم، فليسلمها، وإن بدا له أن يرتجعها منهم، فهو أحق بها منهم. فإن أسلموا، فلهم إسلامهم، وإن لم يسلمو، قوتلوا على الإسلام". فقال: "إن أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وإنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده". فقال الرسول: "إن العرافة حق، ولا بد للناس من عرفاء. ولكن العرفاء في النار"5.
وورد أن العريف: النقيب، وهو دون الرئيس، وأن عريف القوم سيّدهم، والعريف: القيم والسيد لمعرفته بسياسة القوم، ولتدبيره أمر تابعيه. وعرفوا "النقيب" بهذا التعريف أيضًا6، فقالوا: إنه العريف، وهو شاهد القوم وضمينهم
__________
1 Littmann, Safa.. P. 42
2 تاج العروس "9/ 261"، "صن".
3 تاج العروس "3/ 144"، "حصر".
4 اللسان "6/ 44"، "حبس".
5 اللسان "9/ 238"، بلوغ الأرب "2/ 186".
6 اللسان "ع/ ر/ ف"، "9/ 238".(9/293)
والمقدم عليهم الذي يتعرف أخبارهم وينقب عن أحوالهم1.
و"العريف" من المصطلحات العسكرية أيضًا، المستعملة في تنظيمات الجيش.
وقد أقر الرسول ما كان متبعًا من أمر تقسيم الجيش إلى وحدات. فعرف على كل عشرة رجلًا وأمر على الأعشار رجالًا من الناس لهم وسائل في الإسلام.
هم العرفاء2.
و"النقيب"، شاهد القوم، وهو ضمينهم وعريفهم ورأسهم، لأنه يفتش أحوالهم ويعرفها. وفي التنزيل: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} 3. ولما بايع الأنصار رسول الله، جعل عليهم اثني عشر نقيبًا، ليتولوا أمر المسلمين بيثرب وليكونوا شهوده عليهم، وليقوموا بالدعوة فيها إلى الإسلام. ويظهر أن لهذه اللفظة صلة بلفظة Nacebus التي وردت في بعض المؤلفات اليونانية في حديثها عن العرب. ونجد في العهد المنسوب إلى "خالد بن الوليد" المعطى إلى أهل الحيرة والمدون في تاريخ الطبري، جملة: "وهم نقباء أهل الحيرة"، وقصد الشارح بها رؤساء الحيرة الذين صالحوا "خالد" على أداء الجزية، وهم: عديّ وعمرو أبناء عديّ بن زيد العبادي، وعمرو بن عبد المسيح، وإياس بن قبيصة وحيريّ "جيريّ" بن آكال4.
وفي ورود اللفظة في القرآن الكريم، واختيار الرسول لنقباء أمرهم على مسلمي يثرب قبل هجرته إليها، وفي ورودها في عهد "خالد" مع أهل الحيرة، دلالة على أنها كانت شائعة معروفة في الحجاز، بمعنى رئيس وسيد قوم والمسئول عن جماعة.
أما "الرائد"، فهو الذي يتقدم الناس لطلب الماء والكلأ للنزول عليه5. وقد نصب "عمر" "سلمان الفارسي" رائدًا وداعية على الجيش الذي أرسله إلى العراق6.
__________
1 اللسان "ن، ق/ ب"، "1/ 769".
2 الطبري "3/ 488".
3 المائدة، سورة رقم5، الآية12، تاج العروس"1: 492"، "نقب".
4 تاريخ الطبري "3/ 363 وما بعدها"، "حديث يوم المقر وقم فرات بادقلي".
5 بلوغ الأرب "2/ 185"، تاج العروس "2/ 359"، "راد".
6 الطبري "3/ 489".(9/294)
ولا بد وأن يكون للملوك خزان يتولون خزن أموال الملك والأشراف على مدخولاته ومصروفاته. وكلمة "خزانة" من الألفاظ المعروفة في العربية1. وقد كان الناس يخزنون أموالهم في خزائن. ومنها أوعية يجمعون فيها المال المخزون.
وقد كان لهؤلاء الملوك جباة يجبون لهم حقوق الملك على الرعية، من أعشار التجارة، ومن غلات الأرض.
وهناك طبقة من السادة كانت لهم منزلة ومكانة في أهلهم ودرجة محترمة عند الملوك، فقربوهم إليهم وأدنوهم منهم. وقد عرفوا بـ"قرابين الملك" واحدهم قربان. يجلسون مع الملك على سريره لنفاستهم وجلالتهم2. وذكر أن "القربان": جليس الملك الخاص، أي: المختص به. و"قرابين الملك" وزراؤه وجلساؤه وخاصته3.
وقد عرفنا من كتابات "تدمر" أسماء بعض الوظائف التي كان يتولاها الموظفون في القيام بإدارة الأعمال العامة للمدينة. وقد أشرت إليها في حديثي عن تلك المدينة، وكانت "تدمر" قد سارت على خطة المدن اليونانية في إدارة شئونها، وهي خطة عمل بها الرومان أيضًا مع بعض التغيير الذي يناسب جو "الامبراطورية" الرومانية. ويلاحظ أن أهل "تدمر" استعملوا المصطلحات اليونانية أيضًا في تسمية الوظائف.
ويمكن أن نقول إن عرب بلاد الشأم كانوا قد ساروا على وفق النظم اليونانية الرومانية في إدارة الحكم، لوجود جاليات يونانية كبيرة العدد من مدن الشأم وقراها، ولاتصال عرب هذه الديار باليونان والرومان، مما جعلهم يختارون نظم اليونان والرومان في إدارة الحكم وفي إدارة الجيش، ونجد أثر هذا التأثر حتى في لغة الحجاز، فنجد فيها ألفاظًا عديدة دخلت العربية قبل الإسلام بزمن طويل، فعربت. وذلك في الأمور التي اختص بها اليونان والرومان ولم تكن معروفة عند العرب.
__________
1 تاج العروس "9/ 191"، "خزن".
2 اللسان "5/ 103"، "صادر"، "ردف".
3 تاج العروس، "قرب".(9/295)
بطانة الملك:
والبطانة السريرة يسرها الرجل، والصاحب للسر الذي يشاور في الأحوال.(9/295)
وقد أشير إليها في الحديث. ويقال لها الوليجة، وهو الذي يختص بالولوج والاطلاع على باطن الأمر. وذكرت "البطانة" في القرآن. بمعنى مختصين بقوم، ويستبطن بهم الأمور1. فهم النخبة الخاصة التي يركن إليها في السراء والضراء وفي أخذ الرأي.
ولـ"سقاة" الملوك حظوة عند الملوك بحكم قربهم منهم واتصالهم بهم، ولا سيما وقت شرابهم، ويسمعون من أفواههم وبخاصة في أوقات الشراب أمورًا لا يبيحون بها في وقت صحوهم وشعورهم. وقد كانت "السقاية" منزلة رسمية كبيرة عند الفرس والأشوريين والعبرانيين2. وقد استعمل اللخميون والغساسنة السقاة، لإسقائهم الشراب ولإسقاء ضيوفهم أيضًا.
ولا يستبعد وجود "الخصيان" في قصور الملوك والأشراف. فقد كان من عادة الناس في ذلك الوقت استخدامهم في البيوت. فكانوا يدخلون على مخدرات الملوك والسادات، ويتصلون بهن، لخدمة البيت. ولهذا لجأ الملوك إلى شراء الخصيان، أو إخصاء مماليكهم حتى يكونوا بمأمن من اتصالهم بالقصر ودخولهم على نسائهم.
__________
1 تاج العروس "9/ 141"، "بطن".
2 Hastings, P. 271, Hastings, A Dictionary of the Bible, I, p. 533(9/296)
إدارة المملكة:
لا نستطيع أن نتكلم بوجه صحيح مضبوط عن كيفية إدارة المملكة عند الجاهليين وعن طرق توزيع العمال وتقسيم المملكة إلى وحدات إدارية يديرها الموظفون، وعن أسماء تلك الوحدات. إذ لم يصل أي شيء عن ذلك إلينا في كتابات المسند أو الكتابات الجاهلية الأخرى. كما لم يصل إلينا أي شيء عن النظم الإدارية الجاهلية في كتب أهل الأخبار والتواريخ.
وفي كتب اللغة والأدب مصطلحات ذات معان إدارية مثل "الطسوج" و"الكور" وردت فيها عرضًا، غير أن ما أورده علماء اللغة عنها لا يبين لنا بوضوح استعمالها ولا الأزمنة التي استعملت فيها، ولا المراد منها. فهم يقولون.(9/296)
عن "الطسوج"، الطسوج: الناحية وربع الدانق. وقيل: مقدار من الوزن، وقيل: معرب واحد من طساسيج السواد. فنحن إذن أمام معان ثلاثة: هي جزء من دانق أو درهم، ومقدار من الوزن وجزء من أرض1. والمعنى الثالث هو المعنى الملائم لبحثنا، لأنه يدل على وحدة إدارية، كانت مستعملة في العراق بتأثير الحكم الفارسي.
وأما "الكور" فجمع "كورة". قال علماء اللغة: إنها المدينة والصقع، والمخلاف. وهي القرية من قرى اليمن2 والكلمة من أصل يوناني، هو "خورة" Khora. بمعنى ناحية من بلد، أي مصر. ولم يشر علماء اللغة إلى أنها كانت مستعملة في جزيرة العرب. ولعل العربية أخذتها من التقسيمات الإدارية لبلاد الشأم.
وجاء في أثناء حديث "الطبري" عن فتح "أمغيشيا" وعن سير خالد بن الوليد إليها، أنها كانت مصرًا كالحيرة3. وورد في كتب اللغة والأخبار أن "عمر" كان قد مصر الأمصار منها البصرة والكوفة. وذكر علماء اللغة أن المصر الحد4.
ويظهر من ذلك أن "أمغيشيا" كانت مصرًا، أي: من إمارات الحدود، التي أقيمت على الحدود المغربية للدولة الساسانية لحمايتها من الروم ومن غارات الأعراب وغزوهم. وكان أهلها على النصرانية. وأن لفظة "مصر" كانت تؤدي هذا المعنى عند ظهور الإسلام.
ولا تظهر التقسيمات الإدارية إلّا في حكومة كبيرة تحكم مساحة واسعة نوعًا ما.
لذا نستطيع أن نتحدث باطمئنان عن وجود تقسيمات إدارية في العربية الجنوبية، لأن حكوماتها كانت قد حكمت أرضين متسعة نوعًا ما، وجعلت البلاد في حكم موظفين تولوا إدارتها. وقسموها إلى وحدات إدارية. أما في الحجاز، فلما كان الغالب عليها عند ظهور الإسلام نظام حكم القرى والمدن، لذلك، فلا يمكن أن نجد فيه شيئًا من هذا التقسيم. وأما ملوك الحيرة، فقد عينوا عمالًا على الأقاليم التي حكموها. ولكن أهل الأخبار لم يذكروا شيئًا عن أنواع العمالات وعن درجات حكامها. لذلك لا نستطيع التحدث عنها بشيء.
__________
1 تاج العروس "2/ 70"، "الطسوج".
2 اللسان "5/ 156"، "كور".
3 تاريخ الطبري "3/ 358"، "حديث أمغيشيا"، "مغش" "أمغيشا"، تاج العروس 4/ 351"، "مغش".
4 تاج العروس "3/ 544"، "مصر".(9/297)
ولقد سبق لي أن ذكرت أسماء بعض الوظائف والمناصب في الممالك العربية الجنوبية.
فقلت: مثلًا إن درجة "كبر" أي: "كبير" هي من المناصب العالية عند العرب الجنوبيين، و"الكبر" هو في مقام "محافظ" و"متصرف" و"عامل" في مصطلحات الدول العربية في يومنا هذا. ولا أسبتعد أن تكون تلك الدول قد أطلقت لفظة "كبر" على الوحدة الإدارية التي كانت تحت حكم الكبير.
و"المخلاف"، هي الكلمة التي ترد في كتب علماء اللغة والأخبار عن التقسيمات الإدارية الجغرافية لليمن، إذ يذكرون أن "المخلاف" مثل "الكورة" بالنسبة لأهل اليمن، وأن اليمن كانت مقسمة على مخاليف1.
ويعبر عن القرى بالأعراض، والواحد عرض جاء في بعض كتب عبد الملك بن مروان لعماله: "وليتك المدينة وأعراضها"، أي: قراها ونواحيها2.
وللقرى والمدن حدود ومعالم. خارجها ضاحيتها. وأما داخلها فجوفها، وهو من شعاب، ومن "ربعات". والربع و"الربعة" المحلة والشِعب وجماعة الناس3.
وقد أشير إلى "الرباع" في الكتاب الذي أمر الرسول بتدوينه بين "قريش" وأهل يثرب.
ويظهر أن الجاهليين قد عرفوا لفظة "الدسكرة"، بدليل ورودها في الحديث.
وقد ذكر بعض علماء اللغة أنها بناء كالقصر حوله بيوت ومنازل للخدم والحشم.
وخصصه بعضهم بالملوك. وقال قوم: القرية4. ويظهر أنهم أخذوها من الفارسية، فهي فيها مدينة وضيعة كبيرة.
و"الضواحي" النواحي، وضواحي الروم ما ظهر من بلادهم. وضواحي مدينة أو قرية، ما كان خارج السور أو خارج حدود المدينة أو القرية. وضواحي قريش، النازلون بظواهر مكة، ولذلك قيل لقريش: النازلة بظواهر مكة، قريش الظواهر. وأهل الضاحية، أو أهل الضواحي، هم أهل البادية، والساكنون على سيف الحضارة وحدودها5. وكانت الحكومات تحسب لهم حسابات، وتراقب أحوالهم، خشية مهاجمتهم الحضر.
__________
1 اللسان "5/ 156"، "خلف".
2 شرح ديوان لبيد "ص92".
3 تاج العروس "5/ 338"، "ربع".
4 تاج العروس "3/ 207"، "دسكرة".
5 تاج العروس "10/ 217 وما بعدها"، "ضحى"، اللسان "14/ 481"، "ضحى".(9/298)
موارد الدولة:
ولا بد لكل دولة من موارد تستعين بها في إدارة أمورها وفي الإنفاق على التابعين لها المكلفين القيام بأعمالها من موظفين ومستخدمين مدنيين وعسكريين ويدخل في هذه الموارد كل ما يحصل عليه الملك أو سيد القبيلة من أرباح ودخل يرد من استغلال الأرض والأملاك الخاصة، ومن الاتجار، ومن الضرائب التي تفرض على التجار والمواطنين والزراع، ومن الغنائم، إلى غير ذلك من واردات تجمع وتقدم إلى الحكام ملوكًا كانوا أو سادات قبائل أو رؤساء مدن. أضف إلى ذلك "الجزية" التي كانت الحكومات تفرضها على من تحاربه أو تغزوه فتنتصر عليه، ثم تنسحب من أرضه على أن يدفع "جزية" يقررها المنتصر تتناسب مع حال المغلوب.
ولم يكن من المعتاد في تلك الأيام التفريق بين "الخزينة الخاصة" و"الخزينة العامة"، أو بين الوارد الخاص بالملك، مما يجبى عن أملاكه وعن اتجاره وبين الوارد الذي يجب أن يصرف وينفق على الأعمال العامة التي تمس الشعب كله، مثل إنشاء الطرق والحصون وإدامة الجيش وإغاثة المحتاج وما شابه ذلك، فإن الحاكم في ذلك الزمن كان يرى أن كل ما يجبى يعود إليه، لا فرق عنده بين الخزينة الخاصة والخزينة العامة، وأن الإنفاق يتوقف على رأيه، إن شاء وهب هذا مالًا وأقطع هذا أرضًا، وإن شاء صادر مال شخص وضمه إليه، ولا حق لأحد أن يعترض عليه. فأموال الدولة هي أمواله والخزينة هي خزينته، وهو الذي يأمر بالإنفاق. وما يعطيه للشعراء ثوابًا على مدحهم له، أو ما يقدمه من أموال للمنافع العامة وللنفقات الخاصة بالجيش وبمرافق الدولة، يكون كله بأمره وبموافقته، يتصرف كما يتصرف أي مالك كان بملكه.
وقد اختار الملوك لهم رجالًا وكلوا لهم أمر إدارة أملاكهم واستثمارها، كما وكلوا لآخرين أمر الاتجار بأموالهم، إذ كان الملوك يتاجرون أيضًا في الداخل وفي الخارج، كما وكلوا للموظفين أمر جباية الضرائب واستحصالها من الزرّاع ومن التجار، فكانوا يذهبون إلى المزارع لتقدير حصص الحكومة كما كانوا يقفون في الأسواق لأخذ العشر من المبيعات. وهناك موظفون يقيمون عند الحدود وعند ملتقى الطرق لأخذ حق المرور من القوافل.(9/299)
وقد وجدت بعض الحكومات مثل حكومة "رومة" أن طريقة تعيين الجباة لجباية الضرائب، هي طريقة تكلف الدولة أموالًا تزيد على الأموال التي تردها من الجباية، لأن الجباة كانوا يسرقون أموال الجباية، ويسيئون الاستعمال، وأن الشدة معهم لم تنفع شيئًا، لذلك عمدت إلى وضع الجباية في "المرابذة العلنية" بأن يعلن عنها، فيتقدم من يرغب في أخذها، فيزيد على غيره ممن ينافسه، وهكذا حتى ترسو على آخر المتزايدين، فيتولى هو جمع الجباية عن طريق تعيينه موظفين يقومون بجباية الضرائب المقررة، فيقدم هو للحكومة المبلغ الذي رسا عليه، ويأخذ الفضل لنفسه. وقد تألفت في "رومة" شركات كبيرة خصصت نفسها بأمور جباية الضرائب من المقاطعات الواسعة التابعة لإمبراطورية "رومة" وكانت تتزايد فيما بينها حينما تعرض الحكومة جباية الضرائب في "المزاد".
وقد فعلت هذه الشركات كل ما أمكنها فعله لجمع أكثر ما يمكن جمعه من أموال من المكلفين لتغطية مبلغ التعهد الذي أعطته للحكومة وللحصول على أرباح مفرطة لها، بأن أرهق كاهل المكلف بأخذ أضعاف ما حدد من مقدار الضريبة، ولم تنفع الرقابة الحكومية التي وضعتها الحكومة على هذه الشركات وعلى الجباة، ذلك لأن "الحكام" حكام الولايات ومن بيدهم أمر الرقابة المالية ومن كان بيده أمر النظر في عرض الجباية على المتزايدين كانوا مرتشين، فكانوا يغضون الطرف عن تعسف الجباة ولا ينصفون المشتكين من الناس منهم. وقد ضج الناس من أصحاب المكس، وأشير إلى ظلمهم في الإنجيل، وعدوا من أصحاب الإثم أهل الخطيئة Sinners فكانوا من المُبغَضين1. وقد ندد بهم وبظلمهم في كتب الحديث.
وقد عين "الأباطرة" أحيانًا عمالًا Procurator على المقاطعات للإشراف على جمع الجباية، وعينوا موظفين في الموانئ والثغور لجباية الضرائب عن الأموال المصدرة التي تصدر إلى الخارج، وعن الأموال التي تستورد إلى الامبراطورية، ومن التجار الرومان، أوالتجار الأجانب.
وقد وردت في النصوص العربية الجنوبية مصطلحات لها علاقة بالضرائب وبالأرباح، منها مصطلح "نعمت"، أي: "نعمة"، وتعني هنا: ما أنعم به على الإنسان، أي: ما يحصل عليه من السوق، وما يربحه من تجارته، فهي
__________
1 Hastings p. 776(9/300)
بمعنى الربح. وللحكومة أو القبيلة أو لأصحاب السوق حق أخذ نصيب مقرر من هذه "النعم"، أي: الأرباح. ويعبر عن النصيب الذي تأخذه الحكومة من الأرباح "زعرتم" "زعرت" "زعرة"، من أصل "زعر". وتعني "زعر": قَلّ وتفرَّق1، فكأن العرب الجنوبيين عبروا عن نصيب الحكومة بهذه اللفظة؛ لأن ما يدفع للحكومة هو مما يقلل من المبلغ ويصغره، فالربح إذن هو "نعمتم"، "نعمة"، "نعمت"، وهو كل ربح يصيب أحدًا.
وأما ما يؤخذ عن الأرباح ويدفع للحكومة: فهو "زعرتم" "زعرت" "زعرة"2، أي: ضريبة.
وترد لفظة "همد" بمعنى: الضريبة في العربيات الجنوبية، أي: ما يفرز ويعطى للحكومة أو للمعبد أو للسادات سادات القبائل والأرضين التي يهيمنون عليها.
و"الهميد" في عربية القرآن الكريم "المال المكتوب عليك في الديوان" و"المال المكتوب على الرجل في الديوان" فيقال: هاتوا صدقته، وقد ذهب المال و"الصدقة"3. وهذا التفسير قريب من المعنى المقصود من اللفظة في العربيات الجنوبية.
وقد أخذت حكومات العربية الجنوبية بطريقة تعيين موظفين خاصين بجمع الضرائب وبالإشراف على الجباة وعلى كيفية الجباية، كما أخذت بطريقة إيداع الجباية إلى الإقطاعيين وسادات القبائل، فهم الذين يجمعون الحقوق من أتباعهم، ويقدمونها إلى الحكومة. وذلك بالالتزام. وللحكومة موظفون واجبهم التحقق من أن هؤلاء الملتزمين لا يأكلون حق الحكومة، ويأخذون من أموال الجباية النصيب الأكبر، ولا يقدمون للدولة إلا شيئًا قليلًا من استحقاقها.
وفي كل الحالات المذكورة كان المكلف يرهق بدفع الضرائب إرهاقًا، ويجبر على دفع ضرائب تزيد على طاقته خاصة، وقد كانت الضرائب متنوعة عديدة.
ضرائب للحكومة، وضرائب للمعبد، وضرائب للسيد صاحب الأرض أو سيد القبيلة، ثم عليه السخرة؛ أي: العمل الإجباري دون مقابل، وعليه الانخراط في سلك
__________
1 تاج العروس "3/ 237"، "ز/ ع/ ر".
2 REP. EPIGR. 4337, Jastrow, A Dictionary of the Targum, P. 407, 1886
3 تاج العروس "2/ 547"، اللسان "3/ 437"، "همد".
REP. EPIGR. 4337, P. 203(9/301)
المحاربين حين الطلب، فأثر كل ذلك في الوضع الاقتصادي، وفي المجتمع العام تأثيرًا كبيرًا، ونهك السواد الأعظم من الناس، مما جعلهم يتذمرون من الحكام والحكومة والسادات، ولا يؤدون ما عليهم من واجبات وخدمات عامة إلا مكرهين.
ولعل هذا الإرهاق الذي نزل بالرعية في دفع الضرائب، هو الذي حملها على إطلاق "الآكل" و"الآكال" و"آكال الملوك" و"مآكل الملوك" على ما يجعله الملوك مأكلة لهم؛ لأنهم جعلوا أموال الرعية لهم مأكلة، وأما "المأكول"، فهو الرعية، لأن الملوك تأكل أموالهم1، فالملوك تأخذ ولا تعطي، والرعية تعطي ولا تأخذ ولا تستفيد مما تدفعه لملوكها من ضرائب أية فائدة.
والضريبة في تعريف علماء اللغة: ما تؤخذ في الأرصاد والجزية ونحوها، مثل ما يؤديه العبد إلى سيده من الخراج المقرر عليه، ومن الضرائب: ضرائب الأرضين وهي ضرائب الخراج عليها، وضرائب الإتاوة التي تؤخذ من الناس2.
وعرف علماء اللغة الإتاوة: أنها الرشوة والخراج، وقال بعضهم: كل ما أخذ بكره، أو قسم على موضع الجباية وغيرها، فهو إتاوة. وفي ذلك قال "حُنَيّ بن جابر التغلبي":
ففي كل أسواق العراق إتاوةٌ ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم3
وذكر "ابن فارس" أن "الإتاوة" من الألفاظ التي زالت بزوال معانيها، فهجرت لذلك4.
ويقال للإتاوة: الأريان. والأريان بمعنى: الخراج أيضًا5. وقد ذكرت اللفظة في شعر "الحيقطان"، شاعر اليمانية، وكان قد قال قصيدة يرد فيها على الشاعر "جرير"، فهجا بها قريشًا، وكان مما قال فيها:
وقلتم لقاح لا نؤدي إتاوة ... فأعطاه أريان من الفرّ أيسر6
__________
1 اللسان "11/ 21"، "صادر"، "آكل"
2 اللسان "1/ 550"، "ضرب"، تاج العروس "1/ 349"، "ضرب".
3 اللسان "14/ 17"، "اتي".
4 الصاحبي "ص90".
5 اللسان "14/ 31"، "أري".
6 فخر السودان من رسائل الجاحظ "1/ 184 وما بعدها".(9/302)
فقال: قلتم إنا لقاح ولسنا نؤدي الخراج والأريان، فإعطاء الخراج، أهون من الفرار وإسلام الدار للأحابيش، وأنتم مثل عدد من جاءكم المرار الكثيرة1.
ويقصدون باللقاح الحي لم يدينوا للملوك ولم يملكوا ولم يصبهم في الجاهلية سبأ2.
والإتاوة في الأصل الجباية عامة. أي: جباية كل شيء. وهي كلمة عامة تشمل أخذ كل عطاء، أي: كل ما يؤخذ طوعًا أو كرهًا عن شيء، فتشمل الخراج والجزية والجباية والرشوة، وما يفرض تعنتا وزوروًا، والمكوس والخراج إتاوة. يقال: أدى إتاوة أرضه، أي: خراجها، والجباية إتاوة. يقال: ضربت عليهم الإتاوة، أي: الجباية، وهي بمعنى الرشوة. يقال: شكم فاه بالإتاوة، أي: الرشوة. وتدخل فيها الرشوة على الماء. وجاء في قول الجعدي:
موالي حلفٍ لا موالي قرابة ... ولكن قطينًا يسألون الإتاويا
أي: هم خدم يسألون الخراج3
وقد ذكر "الجاحظ" الإتاوة في جملة ما ترك الناس في الإسلام من ألفاظ الجاهلية، إذ تركوها، وأحلوا لفظة "الخراج" محلها4.
وكانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية شيئًا كانت تأخذ بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، إتاوة. ولما خرج "ظويلم" الملقب بـ"مانع الحريم" في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المخزومي، فأراد المغيرة أن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية، امتنع عليه "ظويلم" وقال:
يا رب هل عند من غفيره ... إنّ مني مانعه المغيره
ومانع بعد مني ثبيره ... ومانعي ربي أن أزوره
وذلك سُمي "الحريم" وظويلم الذي منع "عمرو بن صرمة" الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان5.
__________
1 المصدر نفسه "187".
2 أنشد ابن الأعرابي:
أبوادين الملوك فهم لقاح ... إذا هيجوا إلى حرب أشاحوا
اللسان "2/ 583"، "لقح".
3 تاج العروس "10/ 7"، "أتوا".
4 الحيوان "1/ 327"، "هارون"
5 الاشتقاق "171 وما بعدها".(9/303)
ويعبر في عربية القرآن الكريم عن الشيء الذي يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم بـ"الخرج" وبـ"الخراج"، فهو إتاوة تؤخذ من أموال الناس1.
و"الخرج" كما يقول علماء اللغة أعم من الخراج، وجعل الخرج بإزاء الدخل.
والخراج مختص في الغالب بالضريبة على الأرض. وقيل: العبد يؤدي خرجه، أي: غلته، والرعية تؤدي إلى الأمير الخراج2. وقد خصصت لفظة "الخراج" في الإسلام بما وضع على رقاب الأرض، وخصصت الجزية بما يدفع عن الرأس.
و"الخرج" بما يدفعه الرقيق إلى سيده وماله عن خراجه3. وقيل: هو الأجرة، وأن الخرج من الرقاب، والخراج من الأرض. وأرض الخراج تتميز عن أرض العشر في الملك والحكم4
ويقابل "الخراج" بالمصطلح الإسلامي لفظة Pnoros في اليونانية، فهي ضريبة الأرض عند اليونان5. وقد كان البيزنطيون قد فرضوا "الخراج" على غلة الأرض يدفعها كل من خضع لهم. وكان يدفعها عرب الشأم لهم أيضًا، لأنهم كانوا في حكمهم. وأما عرب العراق، فقد دفعوا "الخراج" إلى الفرس6.
ويقال للخراج: "خرجًا" في لغة بني إرم، ووردت في "التلمود" بلفظ: "خرجه" و"خرجًا". وهي عند الساسانيين خراج الأرض، أي: الضريبة الخاصة بحاصل الأرض. ولكن الفرس القدماء لم يكونوا في القديم يفرقون بين الخراج والجزية، أي: ضريبة الرأس، بل كانوا يطلقونها على الضريبتين. وقد وردت لفظة "خرجًا" في التلمود بمعنى ضريبة الرأس7.
وأطلق "التلمود" على ضريبة الأرض اسم "طسقه" "طسقا" Taska
__________
1 اللسان "2/ 251"، القاموس للفيروزآبادي "1/ 184"، تاج العروس "2/ 82"، "خرج".
2 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص145".
3 اللسان "2/ 251"، القاموس "1/ 184"، الطبرسي، مجمع "6/ 492 وما بعدها"، تفسير الطبري "16/ 17"، البيضاوي "297"، الكشاف "2/ 271/ 366، روح المعاني "16/ 37"، "18/ 48"، الأحكام السلطانية "ص142، 146 وما بعدها"، كتاب الخراج، لأبي يوسف "ص39"، النهاية، لابن الأثير "1/ 190".
4 الأحكام السلطانية "146 وما بعدها".
5 Hastings, P. 948
6 دائرة المعارف الإسلامية "8/ 280"، "الخراج".
7 J. Obermyer, Die Landschaft Babylonien, S. 221(9/304)
"ط س ق". وهي بهذا المعنى عند الفرس1. وقد أخذ العبرانيون اللفظة من الفرس. وقد كتب "عمر" إلى "عثمان بن حنيف" في رجلين من أهل الذمة أسلما: "ارفع الجزية عن رءوسهما، وخذ الطسق من أرضيهما". وعرف علماء العربية "الطسق" بأنه شبه الخراج، له مقدار معلوم، وما يوضع من الوظيفة على الجريان من الخراج المقرر على الأرض. وقد ذكروا أن اللفظة فارسية معربة2.
وقد وردت لفظة "الخرج" و"الخراج" في القرآن الكريم3، مما يدل على أن اللفظتين كانتا معروفتين عند أهل الحجاز قبل نزول الوحي على الرسول، وأنهما كانتا من الألفاظ المستعملة عندهم في الأمور المالية المتعلقة بدفع الضرائب إلى الحكومات وإلى ذوي السلطان. ويرى بعض المستشرقين أن الجاهليين أخذوا اللفظة من "بني إرم"، وأنهم وقفوا على "خرجه"، "خرج" و"خرجا"، وحولوهما إلى "خرج" و"خراج".
ولما فتح المسلمون العراق والشأم، أبقوا النظم المالية والإدارية على ما كانت عليه في أول الأمر، لأنها نظم قديمة، لم يكن من السهل تغييرها وتبديلها، فكان "الخراج" في جملة ما أبقي من النظم المالية.
وقد دفع عينًا، أي: غلة، فكان محتسب الخراج، يذهب إلى القرى عند دنو أجل دفع الخراج، فيأخذه من المزارعين عينًا، كأن يدفع برًّا أو شعيرًا، أو مالًا، أي: نقدًا بالدنانير أو الدراهم. ثم غلب الدفع نقدًا على الدفع عينًا، وصار هذا النقد موردًا مهمًّا من موارد بيت المال4.
والجزية من الألفاظ المستعملة عند الجاهليين كذلك، بدليل ورودها في القرآن الكريم5. وقد خصصت في الإسلام بما يؤخذ من أهل الذمة على رقابهم6.
__________
1 J. Obermyer, Die Landschaft, S. 221-222, Baba M. 73b
2 اللسان "ط/ س/ ق"، "10/ 225"، غرائب اللغة "238".
3 سورة المؤمنون، الآية72، سورة الكهف، آية93، كتاب الخراج، لأبي يوسف "39".
4 دائرة المعارف الإسلامية "8/ 280".
5 التوبة، الآية28 وما بعدها.
6 المفردات للأصفهاني "ص91"، اللسان "14/ 146 وما بعدها"، القاموس "4/ 312" "دار المأمون"، تاج العروس "10/ 73"، دائرة المعارف الإسلامية "6/ 454"، الكشاف "2/ 35"، الطبري "10/ 21"، روح المعاني "10/ 70"، تفسير البيضاوي "193، 297، 337".(9/305)
وقد كان الجاهليون يأخذون الجزية من المغلوبين، وكانت عندهم الضريبة التي تؤخذ عن رءوس المغلوبين، يدفعونها إلى الغالب. فدفعتها القبائل المغلوبة للقبائل الغالبة، على أساس الرءوس.
والظاهر أن المسلمين في صدر الإسلام لم يكونوا يفرقون بين الخراج والجزية، فقد استعملوا الخراج عن الرءوس وعن الأرض كما استعملوا لفظة "الجزية" بمعنى خراج الأرض1، ورد في الحديث: "من أخذ أرضًا بجزيتها"2.
وأشار الطبري إلى أن "المثنى"، وضع على أهل الحيرة بعد كفرهم وارتدادهم "أربعمائة ألف سوى الحَرَزة"3. ويذكر علماء اللغة أن "الحرزة" خيار المال؛ لأن صاحبها يحرزها ويصونها. والحرائز من الإبل التي لا تبع نفاسة بها4.
وجعلها بعضهم "الخرزة".وقالوا: إنها نوع من جزية الرءوس، كانت معروفة في زمن الأكاسرة، يؤديها كل من لم يدخل في جند الحكومة5.
و"المكس"، دراهم تؤخذ من بائع السلع في أسواق الجاهلية. ويقال لجابي المكس: صاحب المكس، والماكس والمكّاس6. والمكس الجباية. و"الماكس" الذي يتولى المكس. قال العبديُّ في الجارود:
أيا ابن المعلى خلتنا أم حسبتنا ... صراريَّ نعطي الماكسين مكوسا7
وكان "الماكس"، ويقال له: العشّار، يشتط في كثير من الأحيان، ويظلم الناس في الجباية، إذ يزيد عليهم في المقدار، فكانوا لذلك مكروهين، حتى لقد ورد في الحديث: "لا يدخل صاحب مكس الجنة"8.
وقد أشير إلى المكس وإلى الإتاوة التي تؤخذ من أسواق العراق في شعر "جابر بن حُنَي".
__________
1 "والجزية: خراج الأرض" اللسان "14/ 146 وما بعدها" "جزى"، دائرة المعارف الإسلامية "8/ 280"، تاج العروس "10/ 73"، "جزئ"، النهاية "1/ 190".
2 اللسان "14/ 146"، النهاية "1/ 190" تاج العروس "10/ 73"، "جزى".
3 الطبري "3/ 364".
4 تاج العروس "4/ 24"، "حرز".
5 الطبري "3/ 364"، ملحوظة "6"، الوثائق السياسية "422".
6 تاج العروس "4/ 249"، "مكس"، الصاحبي "ص90"، المخصص "12/ 253".
7 الحيوان "1/ 327"، "هارون".
8 اللسان "6/ 220"، "مكس"، الصحاح "1/ 477".(9/306)
أفي كلّ أسواق العِراق إتاوة ... وفي كلّ ما باع امرؤٌ مكسُ درهم1
فإن ملوك العرب كانت تأخذ من التجار في البرّ والبحر، وفي أسواقهم، المكس، وكانوا يظلمونهم في ذلك. ولذلك قال جابر بن حنَيّ، وهو يشكو ذاك في الجاهلية ويتوعد، وهو قوله:
ألا تستحي منّا ملوك وتتقي محارمنا ... لا يبوو الدم بالدم
وفي كل أسواق العِراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم2
ولهذا زعم الأعراب أن الله لم يدع ماكسًا إلا أنزل به بلية، وأنه مسخ منهم اثنين ضبعًا وذئبًا. فلهذه القرابة تسافدا وتناجلا، وإن اختلفا في سوى ذلك.
فمن ولدهما السمع والعِسبار. وفي هذا المعنى قول الشاعر:
مَسَخَ الماكسين ضبعًا وذئبًا ... فلهذا تناجلا أم عمرو
وضريبة "العشر" هي ضريبة معروفة بين الجاهليين، فقد كانت الحكومات تتقاضى عشر ما يحصل عليه التاجر من ربح في البيع والشراء، وكان المتولون أمور الأسواق يتقاضون العُشر كذلك. وقد أشير إليها في كتابة قتبانية، حيث كانت حكومة قتبان تتقاضى هذه الضريبة من المتعاملين في البيع والشراء، إذ كانت تأخذ عشر الأموال3، وتوسعت في ذلك حتى عمت هذه الضريبة على كل ربح أو وارد يصيبه الرجل سواء أكان ذلك من البيع والشراء أم من الإجازة والإرث4.
وقد كانت هذه الضريبة مقررة في كل جزيرة العرب وفي خارجها، ففي كل سوق من الأسواق عشارون يجبون العشر ممن يبيع ويشتري، بأمر المشرف على السوق ومن في أرضه تقام، ويقدم ما يجمع إليه. ومن أخذ العشر من التاجر، قبل
__________
1 الحيوان "1/ 327"، "هارون".
وفي كل أسواق العراق اتامة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
الحيوان "6/ 148"، "هارون".
2 الحيوان "6/ 148 وما بعدها"، "هارون".
3 Glser 1601, Rhodokanakis, Kat. Texte, I, s. 7
4 Glser 1601, Rhodokanakis, Kat. Texte, I, s. 7(9/307)
لجابيه: العشار والمعاشر، وهو الذي يعشر الناس1.
وقد كان التجار العرب الذين يقصدون بلاد الشأم للاتجار في أسواقها يدفعون العشر إلى العشارين، ففي "بُصْرى" وغزة، وهما أشهر الأسواق في تلك البلاد بالنسبة إلى العرب، كان تجار العرب يؤدون ضريبة العشر إلى الجباة الذين عيّنهم الروم، كذلك كان يعشر أصحاب الأسواق من يفد عليها من التجار.
ويؤخذ العشر عينًا أو نقدًا بحسب الثمن. ولما كان النقد قليلًا إذ ذاك كان الدفع عينًا هو الغالب في أداء هذه الضريبة. وقد أبطل الإسلام هذه الضريبة، وعدّها من سيماء أهل الجاهلية، وجعل رفعها من التخفيف الذي جاء به دين الله. وقد ذكر المحدثون أحاديث في إبطالها وفي ذم من يعشر الناس. بل ورد في بعضها جواز قتل العشّار2. ويظهر أن أهل الجاهلية كانوا يشتطون في أخذها ويسرفون في ظلم التجار وأصحاب السوق في أخذها، فذموا العشار وهجوه. ودعوا عليه. وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن "سهيلًا" كان عشارًا على طريق اليمن ظلومًا، فمسخه الله كوكبًا3.
وكان مما يفعله العشارون وضع "المآصر" على مفترقات وملتقيات الطرق وعلى المواضع المهمة من الأنهار ليؤصروا السابلة وأصحاب السفن، ولتؤخذ منهم العشور4.
وقد عرف من كان يقوم بالتقدير والخرص بـ"الحازر" و"الخارص". لأنه كان يحزر المال ويقدر ما يجب أخذه منه ومن غلة الزرع بالحدث والتقدير.
وكان الحاذر يشتدل في أخذ الحزرة ويتعسف على الناس. وقد نهى النبي عن ذلك والحاذر مثل العشار والخارص من المكروهين عند الجاهليين5.
و"الخارص" المقدر والمخمّن، ومنه خرص النخل والتمر، لأن الخرص، إنما هو تقدير بظن لا إحاطة. وما يدفع عن الأرض والنخل الخرص. يقال: كم خرص أرضك.
__________
1 تاج العروس "3/ 400"، اللسان "4/ 567"، النهاية "3/ 110"، القاموس "2/ 89".
2 تاج العروس "3/ 400"، "عشر"، اللسان "4/ 567"، "عشر"، النهاية "3/ 110"، القاموس "2/ 89".
3 تاج العروس "7/ 384"، "سهل".
4 اللسان "4/ 24"، "أصر".
5 تاج العروس "3/ 138"، "حزر".(9/308)
وكم خرص نخلك، وفاعل ذلك الخارص. وكان النبي يبعث الخراص لخرص نخيل خيبر عند إدراك ثمرها، فيحزرونه رطبًا كذا وثمرًا كذا1.
وكان أهل الحجاز وبقية جزيرة العرب، يدفعون العشر عن غلات أرضهم.
فلما جاء الإسلام، أقر ذلك، وجعل أرض العرب أرض عشر. ولم يدخلها الخلفاء في أرض الخراج2.
ويعبر عن الضريبة التي تقابل ضريبة "الكمارك" في مصطلحنا، بلفظة Telos، وبـ Telonion عن "الكمرك"، أي: الموضع الذي تؤخذ به الضرائب "الكمركية" من التجار3. وكان الرومان واليونان قد أقاموا "كمارك" على حدودهم مع البلاد العربية وضعوا فيها جباة لجباية العرب القادمين من جزيرة العرب للاتجار.
ولما كان من الصعب على الروم جباية العشور والحقوق الأخرى من العرب، وكلوا أمر الجباية إلى سادات القبائل والأمراء في الغالب، ممن يعتمدون عليهم وممن لهم قبيلة قوية تخشاها القبائل الأخرى، وقد كان أمد هذا الإيكال يتوقف على أهمية الشخص ومكانته ومنزلة قبيلته، فإذا مات وترك خلفًا ضعيفًا، أو فقدت قبيلته سلطانها، حتى طمعت فيها قبائل أخرى أقوى منها، ووجدوا ألا أمل لهم في هذا الشخص، فإنهم ينبذونه ويعطون الجباية إلى شخص آخر. وقد كان "سلامة بن روح بن زنباع الجذامي"، أحد من أولى إليهم الروم العشور، وقد هجاه "حسان بن ثابت" فوصفه بأنه "دمية" في لوح باب، وأنه بئس الخفير، وأنه غادر خدّاع، ولا ينفك -أي: جذامي- يغدر ويخدع ما دام "ابن روح" حيًّا4.
وقد أقر العشر في الإسلام، ولكن بأسلوب آخر، فأخذ من "خثعم"، كما أخذ من أهل "دومة الجندل". وأخذ أيضًا من حمير، فقد جاء في كتاب الرسول إلى رؤسائهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان، قيل: ذي رعين ومافر وهمدان: "وأعطيتم من المغانم خمس الله، وسهم الرسول وصفيه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار، عشر ما سقت العين
__________
1 تاج العروس "4/ 385"، "خرص".
2 الخراج "58"، النهاية "1/ 190".
3 Hastings, P. 948
4 البرقوقي "ص219".(9/309)
وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب1 نصف العشر. وإن في الإبل الأربعين ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان ... "2. وعقد مثل ذلك مع بني الحارث بن كعب3.
والكلام على العشر في الإسلام، وعلى الأرضين التي كانت تدفع العشر، يخرجنا من بحثنا هذا، وللفقهاء كلام طويل مسهب في هذا الموضوع، فعلى كتب الخراج مثل كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف وكتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي، وكتب الفقه والأحكام أحيل القارئ الراغب في الوقوف على العشر في الإسلام.
والعشر من الضرائب القديمة المعروفة عند الشعوب القديمة من ساميين وغيرهم، وتكاد تكون من أقدم الضرائب المعروفة في التاريخ، وهي "أشرو" Ish-ru-u في النصوص الأشورية4 و"معشير" Ma'asher في العبرانية5. وقد كان الأشوريون يتقاضون العشر من التمر والحبوب عينًا، كما كانوا يتقاضونه ذهبًا6.
وقد كانت معظم الشعوب الهندوجرمانية والسامية وغيرها تعشر أموالها: تعشر الماشية، والأثمار، وكل ما تملكه وما تغنمه في الحرب، وتخصصه باسم آلهتها.
فالعشر زكاة قديمة أدتها الشعوب إلى آلهتها تقربًا إليها وتطهيرًا لأموالها، فهي من أقدم الضرائب عند الإنسان7.
وقد خصص العشر بـ"يهوه" إله إسرائيل وحده، يجمعها اللاويون باسمه، ولكننا نجد أن العبرانيين دفعوا العشر في بعض الأحيان إلى الملوك كذلك8.
ويمكن رد الأسباب التي دعت العبرانيين إلى تخصيص العشر بالله "يهوه" إلى اعتقاد العبرانيين أن الله هو مالك كل شيء، وأن الأرض والعالم كله له، وأنه
__________
1 الغرب: الدلو
2 ابن هشام "4/ 236": "قدوم رسول ملوك حمير بكتابهم".
3 ابن هشام "4/ 240": "إسلام بني الحارث بن كعب على يدي خالد بن الوليد لما سار إليهم".
4 Shrader, Keilinschrift Bibliotheck, IV, 192, 205
5 Shrader, Keilinschrift Bibliotheck, IV, 192, 205
6 التكوين: الإصحاح الرابع عشر، الآية20، الإصحاح 28 اذية22.
7 Hastings, p. 940
8 قاموس الكتاب المقدس "2/ 103"، Hastings, P. 940(9/310)
مانح الخصب والحياة، وأنه الكائن الأعلى، ولهذا خصصوا عشر ما ينتجه العبراني لله، ثم لسبب آخر نشأ فيما بعد، هو تقرب العبرانيين إلى إلههم بهذا العشر، عبادة له وتقربًا إليه. وذلك كما يفهم من الآيات الواردة عن العشر في التوراة1.
وتدفع القبائل الضعيفة إتاوة إلى القبائل أو إلى الملوك، تكون بمثابة حق الحماية والاعتراف بالسيادة. ولهذا كانت القبائل التي لا تدفع إتاوة تتباهى وتفتخر؛ لأن ذلك يدل على عزتها ومنعتها، ويقال: إن الأوس والخزرج ابني قيلة، لم يؤديا إتاوة قسط في الجاهلية إلى أحد من الملوك. فلما كتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته ويتوعدهم، لم يجيبوه، وتحارب معهم، ثم ارتحل عنهم2.
وكانت للغطاريف على دوس إتاوة يأخذونها كل سنة، حتى إن الرجل منهم كان يأتي بيت الدوسي، فيضع سهمه أو نعله على الباب ثم يدخل3.
ويقال للقوم الذين قهروا على أمرهم، واضطروا إلى أداء ضريبة لمن قهرهم، "النخة"، وصاروا "نخة" له4.
ولا بد لي من الإشارة هنا إلى جباية كانت الحكومات تأخذها عينًا عن الحبوب والزراعة، للإنفاق منها على إعاشة الجيش. وقد عرفت بـ"س اول ت"، "ساولت". ذكرت في النصوص السبئية والقتبانية. فهي ضريبة عينية تؤخذ من الزراعة، يجبيها موظفون يعرفون بـ"ساولت"5، فهم جمّاع هذه الضريبة.
وكان ملوك الجاهلية قد وضعوا "الوضائع" على رعيتهم، من الزكوات والمغنم في الحروب، يستأثرون به. وقد أشير إليها في الحديث. ورد في حديث "طهفة بن زهير النهدي"، أن الرسول قال: "لكم يا بني نهد ودائع الشرك ووضائع الملك" أي: ما وضع عليهم في ملكهم من الزكوات. أي: لكم الوظائف التي نوظفها على المسلمين لا نزيد عليكم فيها شيئًا. وقيل: معناه ما كان من ملوك الجاهلية يوظفون على رعيتهم ويستأثرون به في الحروب وغيرها من المغنم. أي
__________
1 Hastings, P. 940
2 العقد الفريد "2/ 192 وما بعدها".
3 الأغاني "12/ 53".
4 اللسان "ن/ خ/ خ"، "3/ 60".
5 Handbuch, I, S. 128(9/311)
لا نأخذ منكم ما كان ملوككم وظفوه عليكم، بل هو لكم"1.
والوضائع: أثقال القوم. وأما الوضائع الذين وضعهم كسرى، فهم شبه الرهائن، كان يرتهنهم وينزلهم بعض بلاده. وقيل: الوضائع قوم كان كسرى ينقلهم من أرضهم فيسكنهم أرضًا أخرى، حتى يصيروا بها وضيعة أبدًا. وهم الشحن والمسالح2.
والودائع: العهود والمواثيق. ويحتمل أن تكون كل ما يستودع من رهائن، من مال وبنين، ليكون رهينة على الوفاء بالعهد والموعد3.
وذكر "الجاحظ" أن في جملة ما ترك من ألفاظ الجاهلية التي لها صلة بالجباية والمال "الحُملان" ويراد بها الرشوة وما يؤخذ للسلطان4. والحُملان ما يحمل على الشيء من أجر، و"الحمالة" الدية أو الغرامة التي يحملها قوم عن قوم5.
ويظهر من شعر العبديّ:
أيا ابن المعلّى خلتنا أم حسبتنا ... صراريَّ نعطي الماكسين مُكوسا
أن أصحاب السفن وهم "الصراريون"، كانوا يعطون المكس عن البضائع التي تحملها سفنهم، حين وصولها إلى المواني6.
__________
1 تاج العروس "5/ 545"، "وضع"، "ومنه كتاب النبي، صلى الله عليه وسلم: "لكم يا بني نهد ودائع الشرك ووضائع المال"، تاج العروس "5/ 535"، "ودع".
2 تاج العروس "5/ 545"، "وضع".
3 تاج العروس "5/ 535"، "ودع".
4 الحيوان "1/ 327"، "هارون".
5 تاج العروس "7/ 289 وما بعدها"، "حمل".
6 الحيوان "1/ 327"، "هارون"، تاج العروس "3/ 330 وما بعدها"، "صرر".(9/312)
الأشناق والأوقاص:
ودفع الجاهليون ضرائب أخرى، منها: "الأشناق" و"الأوقاص". وقد خص بعض العلماء "الأشناق" بالإبل: فإذا كانت من البقر، فهي "الأوقاص"1.
وقد تحدث العلماء عن حدود الأشناق والأوقاص في الإسلام. وفي كتب الفقه أبواب خاصة بهما.
__________
1تاج العروس "4/ 446"، "وقص"، "6/ 400 وما بعدها"، "شنق".(9/312)
وكان منهم من تحايل في سبيل التخلص من أداء ما عليه من الأشناق والأوقاص.
وقد كتب الرسول إلى "وائل بن حجر": لا خلاط، ولا وراط، ولا شناق ولا شغار. وعيّن الرسول الحدود فيهما. والوراط: الخديعة والغش1.
وليس في استطاعتنا تعيين الضرائب المجباة، وتحديدها تحديدًا مضبوطًا، فقد كانت تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة. ثم إن العادة أن تؤخذ الضريبة من القبيلة أو العشيرة مجتمعة، أي: أن رئيس القبيلة أوالعشيرة هو الذي يتولى تقديم ما على القبيلة من ضرائب إلى الحكومة، ويختلف ذلك أيضًا بحسب صلة الرئيس بالحكومة، وبحسب قوته ومركزه السياسي لدى المسئولين. والرئيس هو الذي يعين نصيب أفراد القبيلة من الضرائب، وذلك بعد اتفاقه مع الحكومة على ما هو مفروض على القبيلة دفعه لها، وبعد موافقة مجلس القبيلة على ما فرض على القبيلة دفعه إلى الحكومة.
هذه هي الضرائب التي كانت تدفع عن التعامل والإتجار. وهناك ضرائب أخرى أوجب دفعها إلى سادات القبائل في مقابل حماية القوافل وضمان مرور التجارة في أرضهم بأمان وسلام، وهي ضرائب حق المرور. وإلا تعرضت التجارة للنهب والسلب، وتعرض أصحاب القافلة للخطر والهلاك. ولحماية التجارة يتفق التجار عادة مع سادات القبائل التي تمر القوافل في أرضهم على دفع جعالة في مقابل تقديم الحماية لها والمحافظة على سلامتها، وبذلك تمر بأمن وسلام.
وفي "قتبان" نجد نفوذ المعبد على الأهلين كبيرًا. وللمعبد أرضون واسعة تدر عليه دخلًا كبيرًا، وله ذرائب تبلغ عشر الدخل والميراث والمشتريات.
بالإضافة إلى النذور والعطايا التي يتبرع بها الأغنياء له. وقد حفظت النصوص القتبانية وثائق عديدة تتعلق بما كان يتقاضاه المعبد من الناس من زكاة وأموال تزكية لأعمالهم ولأنفسهم، باسم الآلهة التي لها سلطان كبير على الناس.
ولما كانت النقود قليلة إذ ذاك، كان دفع الضرائب عينًا في الغالب. ويعبر عن ذلك بـ"دعتم". أما إذا كان الدفع نقدًا. فيعبر عن ذلك بـ"ورقم". أي: "ورق".
وقد كانت الحكومة تضع يدها على المحصول أحيانًا أو على البضاعة المهربة أو البضاعة التي يمتنع أصحابها عن دفع الضريبة عنها ويعبر عن ذلك بـ"رزم".
__________
1 تاج العروس "5/ 132"، "خلط"، "5/ 237"، "ورط".(9/313)
تقدير الغلات الزراعية:
وكان تقدير حصة الحكومة من الغَلات الزراعية، بواسطة خبراء الحكومة وموظفيها المسئولين عن جمع الضرائب، وذلك لأنهم كانوا يذهبون إلى المزارع والبساتين إبان إدراك النبات وقبل حصاده أو جَنْيه، ثم يخمّنونه ويقدرون مقدار ما يجب دفعه للحكومة. وطالما أدت هذه الطريقة إلى الإضرار بالفلاح، إذ يجوز أن يتعرض الزرع لآفات زراعية وللتلف والضرر، فيقل الحاصل كثيرًا، ولا يستطيع تحمل دفع ما قدر عليه، ولكن جباة الضرائب يأخذون حصة الحكومة منه كما قدروها دون نقص، فإذ امتنع المكلف، أخذ حاصله حتى يستوفى منه ما قدروه عليه.
ولم يكن من حق الفلاح حصاد زرعه وحمله إلى مخزنة أو جني ثمر زرعه ونقله إلى الأسواق والتصرف به ما لم يره جباة الضرائب لأخذ حصة الحكومة العينية.
وقد استتبع هذا النظام تعيين عدد كبير من جباة الضرائب، وإنشاء مخازن لنقل حصص الحكومة إليها. وتستهلك الحكومة جزءًا من هذا الحاصل، وتدفع قسمًا منه إلى موظفيها فالمدفوع لهم، هو مرتباتهم وأجر عملهم. أما الباقي فيباع في الأسواق، أو يصدر لبيعه في البلدان الخارجية، ولا سيما الحاصل المهم الثمين.
ويتقاضى المعبد في "معين" جملة ضرائب من الرؤساء وسائر الناس. لكل ضريبة اسم، مثل "كبودت" و"اكرب" و"عشر" و"فرع". وبعض هذه الضرائب تجبى عن حاصل الأرض وغلتها، وبعضها عن التجارة والأعمال الأخرى مثل الصناعات. ولم يشترط دفعها كلها عينًا أو نقدًا، بل كانت تدفع عملًا أحيانًا، أي: أن المكلفين بدفع الضرائب وجمعها من أتباعهم يقدمون الفعلة والصناع وعمال البناء أحيانًا إلى الحكومة، أو إلى المعبد، للقيام بالأشغال العامة بالمجان بدلًا من تقديم الضرائب نقدًا أو عينًا. وذلك متى وافق المعبد على ذلك واعتبر الآلهة راضية عن إنشاء ذلك العمل1.
__________
1 Rhodokanakis, Stud., UU, 58, f(9/314)
وكانت الحكومات العربية الجنوبية تتقاضى ضرائب عن المغازل ودور النسيج.
ويظهر أن أهل الحجاز كانوا يعرفون هذه الضريبة أيضًا. وقد ورد أن الرسول فرض في كتاب لقوم من اليهود ربع المغزل، أي: ربع ما غزل1.
__________
1 تاج العروس "8/ 42"، "غزل".(9/315)
الركاز:
أغلب العلماء في الإسلام أن الركاز دفين أهل الجاهلية، أي الكنز الجاهلي.
وقال بعض الفقهاء: الركاز المعادن كلها. فمن استخرج منها شيئًا فلمستخرجها أربعة أخماسه ولبيت المال الخمس. وكذلك المال العادي يوجد مدفونًا، هو مثل المعدن سواء، فحكم الركاز تأدية خمسه لبيت المال1. أما بالنسبة إلى الجاهليين، فلا توجد عندنا نصوص جاهلية في بيان نصيب الحكومات منه. ويظهر من مطالبة سادات أهل مكة "عبد المطلب" بنصيبهم من الكنز الذي عثر عليه عند حفره بئر زمزم، أن حجتهم في المطالبة لم تكن تستند على قانون سابق، بل ارتكزت على أن الكنز لم يعثر عليه في أرض ملك، رقبتها لعبد المطلب، حتى يستأثر به، وإنما عثر عليه في أرض مقدسة مشاعة، تخص البيت الحرام وأهل مكة كلهم، لذلك وجب إشراك غيره به ومعنى هذا أن من يعثر على كنز في ملك له، يكون من حقه ونصيبه، لا تشاركه قريش فيه. وقد وجد "عبد الله بن جدعان" كنزًا، سبق أن أشرت إليه، فلم يعط سادة قريش منه شيئًا، وكان من عادة أهل مكة نبش المواضع العادية بحثًا عن الكنوز، ولم نجد في الأخبار المروية عن ذلك ما يفيد بمشاطرة قريش لمن يعثر على كنز، بمعنى أن من يستخرج شيئًا من الدفائن يكون ما يستخرجه من نصيبه، لا تأخذ مكة منه نصيبًا. وكيف تتمكن من ذلك، لأن من يعثر على كنز لا يظهره للناس، خشية اغتصابهم له. وأن من شاهد أحدًا يستخرج كنزًا استعمل حق القوة في الاستحواذ عليه أو على نصيب منه.
__________
1 تاج العروس "4/ 39"، "ركز"، صحيح البخاري "2/ 159 وما بعدها"، "باب الركاز"، شرح اللمعة الدمشقية، للشهيد العاملي "1/ 15 وما بعدها".
اللسان "ص ق"، "10/ 196 وما بعدها".(9/315)
النذور والصدقات:
وما تحدثت عنه هو الضرائب المفروضة التي يجب على من تشمله دفعها. أما النذور والصدقات، فهي هبة يقدمها المتمكن طوعًا للتقرب إلى آلهته أو شعورًا بمسئولية أدبية يقتضيه واجب المروءة تجاه الضعفاء. والصدقة: ما تصدقت به على الفقراء وقد أشير إليها في القرآن الكريم. وقد تؤدي معنى "الزكاة" ووردت في معنى "المهر" أيضًا أي: الصداق الذي يقدم إلى المرأة1. ويظهر أن الجاهليين كانوا يستعملونها في معنى التصدق على المحتاج والسائل.
وأما الزكاة، فهي ما يخرج من المال لتطهيره، فهي تزكية اختيارية للمال وطهارة له. وقد جعلها الإسلام فريضة على المسلم المتمكن بحسب الأنصبة المقررة في الشرع. وهي "زكوتو" Zakutu عند البابليين. وقد نص عليها في العهد القديم2. وهي أن يقدم أصحاب الزرع من أول ثمرهم إلى الكاهن ليقدمه إلى الرب، وأن يسمح للفقراء بالتقاط ما يجدونه على الأرض مهملًَا من بقايا الزرع، وأن يعطي الكهنة واليتامى والفقراء والغرباء والأرامل والمحتاجين عشر محاصيل الأرض. وقد كثرت الإشارة إليها في العهد الجديد3.
وإذا اعتددنا العشر الذي كان يقدمه العرب الجنوبيون إلى المعبد من حاصل عملهم، لصرفه على المعبد وفي الأعمال الخيرية زكاة، ففي استطاعتنا أن نقول إنها كانت مفروضة على المتمكن فرضًا، أي: على نحو ما نجده في الإسلام. غير أن من الجاهليين من كان يقدم زكاة المال من ماشية وإبل وزرع طوعًا واختيارًا تقربًا إلى الآلهة، يقدمها إلى المعابد تخصيصًا باسم الأصنام. ومن هذا القبيل السائبة والحامي الوصيلة ونحو ذلك، مما خصصه الجاهليون لآلهتهم تطوعًا، وذلك تزكية لأموالهم وأملًا في نماء أموالهم الجديدة وحدوث البركة فيها.
__________
1 اللسان "صدق"، "10/ 196 وما بعدها".
2 Reallexikon der Assyriologie, I, Band, I, Lieferung, S. 7
3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 3".(9/316)
السخرة:
وكان من حق الدولة وسادات الأرض والقبائل تسخير الناس في الأعمال التي(9/316)
يريدون القيام بها بلا عوض ولا أجر ولا دفع مقابل عن العمل الذي يؤمرون القيام به. ونظام السخرة شائع معروف عند جميع الأمم. وقد كان معمولًا به عند بعض الشعوب إلى عهد قريب. فكان من حق الحكومة إكراه أتباعهم وأخذهم بالقوة وسوقهم للقيام بأداء أي عمل تريده. وفي ضمن ذلك المباني العامة والقصور.
وبها تم إنشاء معظم المباني الفخمة مثل الأهرام والمعابد، حيث لا يكلف العمل بهذه الطريقة الحكومة كثيرًا، فالعمال مسخرون لا يدفع لهم شيء، وعليهم أداء عملهم بسعة وحمل أكثر ما يمكن حمله، وإلا انهالت عليهم سياط المراقبين.
ويدخل في هذه السخرة، السخرة العسكرية، أي: القبض على أي شخص عند الحاجة وسوقه إلى القتال، وذلك من غير مقابل أيضًا. وقد كابد سواد الناس منها عنتًا شديدًا لفقرهم ولعدم وجود شيء عندهم تعتمد أسرهم عليه في معيشتها إذا غاب المعيل أو مات، ولهذا لم يحارب المحاربون إلا قسرًا وخشية ورهبة، وكانوا يهربون من هذه "السخرة" بالرغم مما قد يتعرض له الهارب من عقوبة شديدة قد تصل إلى القتل.(9/317)
واجبات الدولة:
واجبات الدولة كثيرة: فإن عليها أن تحفظ الأمن في الداخل، وتحمي الحدود من مهاجمة الأعداء لها، وتصد كل غزو يقع عليها، وعليها أن تحقق العدالة، وتقتص من الجناة وتعاقب المجرمين، وعليها أن تقيم الأبنية العامة وتفتح الطرق، على غير ذلك من الواجبات التي نعرفها عن الغاية من نشوء الحكومات.
ونحن لا نستطيع أن نتحدث في الزمن الحاضر عن جهاز حفظ الأمن الداخلي، أي: جهاز "الشرطة" الذي تناط به مهمة القبض على المجرمين، وتعقب اللصوص والقتلة، وما إلى ذلك من شئون لعدم ورود شيء عن هذا الموضوع في الكتابات.
ولكننا لا نستطيع نفي وجود علم للجاهليين الحضر بالشرطة. فلا بد وأن يكون لهم علم بأجهزة الأمن المخصصة بالقبض على المجرمين وتعقب آثارهم، أي: الشرطة. وقد كان لهم اتصال بالعراق وببلاد الشام. ويظهر من كتب اللغة أن لفظة "الشرطي" و"شرطة" كانت معروفة بين الناس عند ظهور الإسلام. "وفي حديث ابن مسعود: وتشرط شرطة للموت لا يرجعون إلا(9/317)
غالبين. وهم أول طائفة من الجيش تشهد الوقعة، وقيل: بل صاحب الشرطة في حرب بعينها"1.
وقد كان لملوك الحيرة سجون يسجنون بها من يتجاسر عليهم ومن يخالف أمرهم ويعارضهم ويخرج على العرف. ومن سجونهم "الصنّين". وفيه سجن "عديّ بن زيد العبادي". وقد ذكر أنه كان موضعًا بظاهر الكوفة2. وذكر بعضهم أنه بلد، ذكره الشاعر بقوله:
ليتَ شعري متى تَخِبّ بي النا ... قة بين العُذَيْب فالصِنّين
ولم يعين موضعه3. ويظهر أنه لم يكن بعيدًا عن الحيرة. ولعله كان حصنًا حصينًا منعزلًا عن الناس، به حرس كثيرون يحرسونه، لهذا اتخذ سجنًا ومحبسًا.
ويظهر من شعر لعدي بن زيد العبادي، أن ملوك الحيرة، كانوا قد نظموا لهم حرسًا يحرسونهم ويحرسون مؤسسات الحكومة المهمة مثل "السجون"، والأشخاص المسئولون عن الأمن والأخبار، ليرسلوا ما قد يحدث من أمور إلى الملوك والحكام.
وقد عرف "العسس" عند الجاهليين أيضًا، وهم المسئولون عن حفظ الناس من أهل الريبة والكشف عنهم. والعُس: نفض الليل عن أهل الريبة. وكان الخليفة "عمر" يعس بالمدينة، أي: يطوف بالليل يحرس الناس ويكشف أهل الريبة4.
__________
1 اللسان "4/ 330"، "صادر"، شرط".
2 الأغاني "2/ 115".
3 اللسان "صنن"، "13/ 250".
4 اللسان "6/ 139"، "عسس"، تاج العروس "4/ 190"، "عس".(9/318)
البريد:
وقد عرف "البريد" بين الجاهليين. ويذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن أصلها "بريده دم"، أي: محذوف الذنب، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، ثم سُمي الرسول الذي يركبه(9/318)
بريدًا، والمسافة التي بين السكتين بريدًا. والسكة موضع كان يسكنه "الفُيُوج" المرتبون من بيت أو قبة أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل: أربعة1. فالبريد إذن بمعنى رسول، وموضع البريد، والشيء الذي يرسل مع البريد، أي: الرسول حامل البريد، ودابة البريد.
قال الشاعر:
إني أنصُّ العيس حتى كأنني ... عليها بأجواز الفلاة بريدا2
ومن أعمال صاحب البريد إرسال الأخبار إلى من عينهم في هذا المنصب، فهم موظفون مخبرون، من أعمالهم إطلاع كبار الموظفين والأمراء والملوك على الأحوال العامة للمكان الذي يقع في ضمن عملهم واختصاصهم، وأخبار الجهات المسئولة عن الأعمال المشبوهة التي قد تدبر ضد الدولة، وعن تصرفات كبار الموظفين، خشية انفرادهم في الحكم وإعلانهم العصيان على الدولة.
ونسب "الجاحظ" إلى "امرئ القيس" قوله:
ونادمت قيصر في ملكه ... فأوجهني وركبت البريدا
إذا ما ازدحمنا على سكة ... سبقت الفرانق سبقًا بعيدا3
وقد نسب غيره إلى "امرئ القيس" أيضًا قوله:
على كل مقصوص الذنابي معاودٍ ... بريد الشُرى بالليل من خيل بربرا4
ومعنى هذا -إن صح بالطبع- أن الشعر المذكور هو لامرئ القيس حقًّا، أنه عرف البريد واستعمله، وقد رأى خيل البريد. وهي تقص ذنابها ليكون ذلك علامة على أنها من خيل البريد.
وقد أشير إلى البريد في الحديث: جاء "لا تقصر الصلاة في أقل من أربعة
__________
1 اللسان "3/ 86 وما بعدها"، "صادر"، "برد".
2 اللسان "3/ 86"، "صادر"، "برد".
3 الشعر والشعراء "67"، ديوان امرئ القيس "262"، كتاب البغال، من رسائل الجاحظ "2/ 275، 291".
4 الكامل، للمبرد "1/ 286"، اللسان "3/ 86"، "صادر" "برد".(9/319)
برد"، وهي ستة عشر فرسخا، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع. وورد في الحديث أيضًا "لا أخيس بالعهد ولا أحبس البُرد"، أي: لا أحبس الرسل الواردين عليّ1. وورد إذا أبردتم إلي بريدًا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم. وعرفت الطرق التي يسير بها رسل البريد بـ"سكك البريد".
كل سكة منها اثني عشر ميلًا2.
وقد أشير إلى البريد في شعر إلى "ورقة بن نوفل"، يقال: إنه قاله حينما مات "عثمان بن الحويرث" عند "ابن جفنة الغساني"، فاتهمت بنو أسد "ابن جفنة" بقتله3. وعرف "أبو قيس" بـ"راكب البريد"4.
وتحدث "الجاحظ" عن "البريد" في أيام الساسانيين، فقال: "وكانت البُرد منظمة إلى كسرى، من أقصى بلاد اليمن إلى بابه، أيام وهرز، وأيام قتل مسروق عظيم الحبشة"5. "وكذلك كانت برد كسرى إلى الحيرة: إلى النعمان وإلى آبائه. وكذلك كانت برده إلى البحرين: إلى المكعبر مرزبان الزارة، وإلى مشكاب، وإلى المنذر بن ساوى، وكذلك كانت برده إلى عمان، وإلى الجلندي بن المستكبر.
فكانت بادية العرب وحاضرتها مغمورتين ببرده، إلا ما كان من ناحية الشام؛ فإن تلك الناحية من مملكة خثعم وغسان الروم، إلا أيام غلبت فارس على الروم، ولذلك صرنا نرى النواويس بالشامات إلى القسطنطينية.
وهل كانت برد كسرى إلى وهرز، وباذام، وفيروز بن الديلمي والي اليمن، وإلى المكعبر مرزبان الزارة، وإلى النعمان بالحيرة، إلا البغال؟ وهل وجدوا شيئًا لذلك أصلح منها"6.
فالبغال هي وسيلة نقل البريد في ذلك الوقت. تتوقف في محطات البريد لتبدل البغال التعبة ببغال أخرى، وليبدل حملة البريد كذلك. وهكذا إلى آخر محطة.
فهي سكك تمتد مسافات طويلة. ولما كان من الصعب على البغل اختراق الصحارى
__________
1 اللسان "3/ 86"، "صادر"، "برد".
2 اللسان "3/ 86".
3
ركب البريد مخاطرًا عن نفسه ... ميت المظنة للبريد المقصد
نسب قريش "210".
4 نسب قريش "261".
5 من رسائل الجاحظ، كتاب البغال "2/ 290".
6 من رسائل الجاحظ، كتاب البغال "2/ 291 وما بعدها".(9/320)
ذات الرمال البعيدة الغور والتي تقل فيها المياه، لزم أن تكون طريق البريد ممتدة في الأرضين التي يكثر وجود الماء فيها، وتتوفر فيها الآبار، وفي مواضع مأمونة قليلة الرمال.
ويظهر أن الجاهليين قد أخذوا نظم بريدهم من الفرس، وأن ملوك الحيرة وغيرهم استخدموها في إدارتهم لدولتهم، بدليل ما يذكره علماء اللغة من أن لفظة "البريد" كلمة فارسية عربت فصارت على هذا النحو. وأصلها "بريدة دم"، أي: محذوف الذنب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، فأعربت وخففت، ثم سُمي الرسول الذي يركبه بريدًا. والمسافة التي بين السكتين بريدًا، والسكة موضع كان يسكنه الفيوج المرتبون من بيت أو قبة أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل: أربعة1 ولعل ما ورد في شعر امرئ القيس من "على كل مقوص الذنابي"، إشارة إلى تفسير كلمة "بريده دم".
وقد ذكر علماء اللغة أن "الفيج" رسول السلطان على رجله، فارسي معرب.
وقيل: هو الذي يسعى بالكتب. والجمع "فيوج". وأشاروا إلى ورودها في شعر لعدي بن زيد، زعموا أنه قاله هو:
أم كيف جزتَ فيوجًا حولهم حرسٌ ... ومريضًا بابه بالشك صُرّار
قيل: الفيوج الذين يدخلون السجن ويخرجون يحرسون2.
ويظهر أنهم فرقوا هنا بين "البريد"، أي: الرسول الراكب، الذي ينقل البريد إلى مسافات، وبين "الفيج" الرسول الذي يسير على رجليه، وهو لا يمكن بالطبع أن يقطع أميالًا كثيرة. فهو بريد محلي، ينقل الأخبار إلى مسافات غير بعيدة. وقد يكون مخبرًا، ينقل ما يحدث ويقع بسرعة إلى المراجع العالية.
فالفيوج، لصوص الأخبار وبريد ماش ينقل الكتب إلى الجهات المختصة في الوقت نفسه. ويظهر من شعر "عدي" المذكور، أن "الفيوج" كانوا يقفون للناس بالمرصاد، يراقبون الحركات ويدرسون السكنات حولهم حرس منتبه،
__________
1 اللسان "3/ 86"، "برد"، تاج العروس "2/ 298".
2 اللسان "2/ 350"، "فيح".(9/321)
يحرسونهم من احتمال محاولة أعداء الحكومة إيقاع أي أذى بهم، أو الدخول أو الخروج إلى الأماكن الحساسة التي كانوا يلازمونها، ويسترقون أخبارها وأخبار من يدخل ويخرج منها.
وأما الأبنية العامة، مثل المباني الحكومية، فقد كانت الحكومات العربية الجنوبية تقوم مستقلة بإنشائها، وتنفق عليها أموالها ومن مواردها الخاصة. وتقوم بإنشائها بالاتفاق مع السلطات الدينية في أحيان أخرى. بأن تسهم تلك السلطات في تحمل نفقات البناء كلها أو جزء منها وقد يكون ذلك في مقابل نزول الحكومة عن بعض الحقوق إلى المعبد. وقد تقوم الحكومة بإنشائها بالاتفاق مع كبار المتمولين، أصحاب الأرض والثراء.
وتقوم المدن والقبائل والحكومات بالاستدانة من أموال المعبد ومن الضرائب التي تدفع إليها، للإنفاق منها على إقامة الأبنية العامة والمشروعات الأخرى، على أن تعاد تلك الديون إلى المعبد. ولم ترد في الكتابات إشارات إلى موقف المعابد من هذه الديون: أكانت تتقاضى أرباحًا عليها -أي: ربًا- أم كانت تعطيها قرضًا حسنًا من غير فائض. ويعبر عن ضرائب المعبد التي تجبى من الناس بلفظة "كبودت". وأما الدين فيعبر عنه بـ"دينم" "دين" كذلك، كما جاء في هذه الجملة: "بكبودت دين عثتر"1، أي: "بالضرائب التي داينها "أقرضها" الإله عثتر".
__________
1 Glaser 1150, Halevy 192, Rhodokanakis, Stud, Lex, II, S. 54(9/322)
حماية الحدود:
ومن واجبات الدولة تثبيت حدودها والمحافظة عليها من كل اعتداء، وذلك بمراقبة الحدود ووضع حاميات عسكرية عليها، من "مسالح" و"مناظر" وبناء قلاع في الثغور لحمايتها من المغيرين وصدهم. وتبني هذه التحصينات في الخطوط الأمامية وعلى مبعدة من الأماكن الكبيرة المأهولة حتى يكون في وسعها صد المغيرين، أو وقفهم حتى تأتي نجدات كبيرة من الجيوش لمحاربة الغزاة، ويكون في وسع أهل القرى والمدن الهرب بأنفسهم وأموالهم إلى مواضع آمنة.(9/322)
و"المسالح" مواضع المخافة. والمسلحة كالثغر والمَرْقب يكون في أقوام يرقبون العدو لئلا يطرقهم على غرة، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم ليتأهبوا له.
ومسلحة الجند خطاطيف لهم بين أيديهم ينفضون لهم الطريق، ويتجسسون خبر العدو ويعلمون علمهم، لئلا يهجم عليهم، ولا يدعون واحدًا من العدو يدخل بلادهم. وذكر أنه كان أدنى مسالح فارس إلى العرب "العُذيب"1. فالمسالح إذن، هي الخطوط الأمامية من خطوط الدفاع عند بلد ما، ونقاط الأمان فيها، ومحل جمع المعلومات عن تحركات ونيّات العدو. بها حاميات مقيمة وظيفتها الأولى الاستطلاع وإخبار الجيش بقدوم عدو ما، ومشاغلته إلى وصول القوات المدافعة الكبيرة.
و"المنظرة" "موضع الربيئة" وهي المرقبة، وتكون في مواضع مشرفة مثل رأس تل أو جبل يبنى عليه بناء يجعل فيه رقباء ينظرون العدو ويحرسونه، ليتوقوا غدره وشره. فإذا أراد الغارة، أرسلت "النظيرة" "النظورة" رسالة تحذير للتهيؤ لصد العدو. والظاهر أن اتخاذ المناظر في المواضع العالية المشرفة، هو الذي جعل علماء اللغة يفسرون المناظر بأنها أشراف الأرض لأنه ينظر منها2.
و"المراقب" و"المرقبة" الموضع المشرف، يرتفع عليه الرقيب، و"الرقيب" الحارس الحافظ، و"رقيب القوم": حارسهم، وهو الذي يشرف على مرقبة ليحرسهم. وذكر علماء اللغة أن المرقبة هي المنظرة في رأس جبل أو حصن3، فهي في المعاني المتقدمة.
و"الثغر" الموضع الذي يكون حدًّا فاصلًا بين الحكومتين. وهو موضع المخافة من أطراف البلاد. و"الثغرة": الثلمة وكل فرجة في جبل أو بطن أو طريق مسلوك4. ويظهر من هذا التعريف أن الثغور هي المواضع الخطيرة من الحدود؛ لأنها تكون بمثابة الفرجة أو الثلمة فيها يتسنى للعدو منها التسلل بسهولة إلى أرض عدوه، ولهذا تجب حراستها والعناية بها، بوضع حاميات بها لتشغل العدو ولتصده من الولوج إليها.
__________
1 اللسان "2/ 487"، "سلح"، تاج العروس "2/ 165"، "سلح"، مقدمة الصحاح "1/ 375"، محيط المحيط "1/ 977 وما بعدها".
2 اللسان "ن/ ظ/ ر"، "5/ 218".
3 اللسان "ر/ ق/ ب"، "1/ 425".
4 اللسان "ت/ غ/ ر"، "4/ 103".(9/323)
وقد أقام الفرس والروم "مناظر" على حدودهم، على أبعاد لا يكون ما بينها بعيدًا حتى يكون في وسع حماة "المناظر" أن يتعاونوا، ويقدموا العون للمنظرة التي تهدد بالخطر. وأقام الروم "طرقًا" ممهدة بين هذه المناظر، ليسهل على القوات السير عليها بسرعة لنجدة المناظر وحماية الحدود.
وتلجأ الحكومات إلى إقامة استحكامات أخرى لوقاية الحدود من مهاجمة عدو لها، مثل إقامة الخنادق في بعض المواضع الخطيرة المهددة من الحدود لمنع المغيرين من عبورها، كالذي يذكره أهل الأخبار عن "خندق سابور" الذي أقامه لمنع الأعراب من العبور بقصد الغزو، ومثل إقامة بعض الحواجز والأسوار في الممرات والأودية، وربايا في المواضع المشرفة، لمراقبة حركات الأعداء وصدهم من المرور من هذه الأماكن.(9/324)
ضرب النقود:
ذكرت فيما سلف أن ملوك العرب الجنوبين، ضربوا النقود، وأن في المتاحف وفي الخزائن الخاصة ببعض الناس نقودًا تعود إلى أولئك الملوك. أما بالنسبة إلى الأماكن الأخرى مثل مكة أو يثرب؛ فإننا لا نستطيع أن نتحدث بأي شيء عن ضرب النقود عندهم، لعدم عثور العلماء على نقد ضرب في هذه الأماكن، ولعدم ورود إشارة إلى وجود ذلك في موارد أهل الأخبار. والذي يستخلص من هذه الموارد أن أهل تلك المواضع، كانوا يتعاملون بعملة الروم والفرس. وهي الدنانير والدراهم. كما سأتحدث عن ذلك في الموضع المناسب عندما سأتحدث عن الأحوال الاقتصادية. ولم أجد في روايات أهل الأخبار ما يشير إلى تعامل أهل مكة أو يثرب بنقود حبشية أو بنقود ضربت في العربية الجنوبية، ولم أجد فيها ولا في كتب السير والتواريخ أن المسلمين ضربوا النقد في أيام الرسول.
ولم أسمع بضرب ملوك الحيرة أو الغساسنة للنقود، ولم يعثر الباحثون -كما أعلم- على نقد ضرب في عهود هؤلاء الملوك. والظاهر أنهم كانوا يتعاملون بالعملات الفارسية والرومية. وربما كان الفرس والروم قد منعوا أولئك الملوك من ضرب النقود، لبواعث سياسية واقتصادية. ولكني لا أريد أن أجزم بأن "آل لخم" و"آل غسان" لم يضربوا النقد بتاتًا، استنادًا إلى عدم وصول(9/324)
نقد ضرب في أيامهم إلينا حتى هذه الأيام، أو إلى عدم إشارة أهل الأخبار إلى وجوده عندهم، فقد يعثر في المستقبل على نقود تعود إلى أيامهم، هي الآن في مخابئها، مدفونة تحت الأتربة. ثم إن أهل الأخبار لم يتحدثوا عن كل شيء، حتى نتخذ سكوتهم عن ضرب ملوك الحيرة والغساسنة للنقود حجة على عدم وجود ضرب السكة عندهم.
والسكة: حديدة منقوشة كتب عليها، يضرب عليها الدراهم1. والضرب الطبع، يقال: ضرب الدرهم، أي: طبعه، على سبيل المجاز. و"اضطرب، بمعنى سأل أن يضرب له. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم، اضطرب خاتمًا من حديد. أي: سأل أن يضرب له ويصاغ"2. والنقد تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها3 وأما الطبع فالسك. يقال: طبع السكاك الدرهم؛ أي: سكه4. وهناك مصطلحات أخرى لها صلة بالنقد، ترد في كتب الحديث واللغة يظهر منها، أنه قد كان للجاهليين ولأهل مكة بصورة خاصة وقوف على النقد، وأنهم كانوا يتعاملون بها، ولهم علم بكيفية صنعها.
__________
1 تاج العروس "7/ 143"، "سكك".
2 تاج العروس "1: 34"، "ضرب".
3 تاج العروس "2/ 516"، "نقد".
4 تاج العروس "5/ 438"، "طبع".(9/325)
قواعد السلوك:
وللجاهليين آداب اصطلحوا عليها بالنسبة لتعاملهم مع الملوك وسادات القبائل، فمن قواعدهم المقررة: أن الملوك لا تجز نواصيها1. وذلك لأن جزّ النواصي بالنسبة للعرب تعبير عن الازدراء بالشخص الذي جزت ناصيته، ولما كان للملوك حرمة، فلا تجز نواصيهم، ولا تجز نواصي سادات القبائل كذلك. وقد حدث أن جزّت نواصي بعض الملوك، أو إخوتهم، أو أبنائهم، أو سادات القبائل، إلا أن هذا العمل هو عمل شاذ، لا يقدم عليه، إلا لأن العداوة بين الملك وبين من قبضوا عليه أو على أقربائه أو سادات القبائل، كانت عداوة شديدة عميقة، بحيث تجاوزت حد العرب فخضعت لأحكام العواطف والأهواء.
__________
1 نهاية الأرب "15/ 413".(9/325)
ومن قواعد آداب السلوك التي يجب على الملوك وسادات القبائل بل على كل إنسان التأدب بها والتمسك بقواعدها، تجنب الغدر1 وإذا كان الغدر عيبًا بالنسبة للسوقة وللسواد، فكم يكون الغدر معيبًا بالنسبة للملوك ولسادات القبائل ولكرام الناس!.
__________
1 ابن الأثير "1/ 320 وما بعدها"، العقد الفريد "3/ 374".(9/326)
العلاقات الخارجية:
لم تصل إلينا حتى الآن نصوص في أصول آداب السلوك بالنسبة للعلاقات الخارجية بين الدول، أي: علاقات ما بين حكومات الدول العربية والدول الأجنبية.
ولا نعرف لذلك طرق العرف السياسي الذي كان متبعًا عندهم في استقبال "الرسل" و"الوفود" الذين كانوا يفدون على قصور الملوك بأمر من ساداتهم ملوك الحكومات الأجنبية من أعاجم وعرب. ولكننا نستطيع أن نقول قياسًا على المألوف عند العرب، أنهم كانوا يبالغون في إكرامهم وفي ضيافتهم، وفقًا للتقاليد العربية ولظروفهم وإمكانياتهم المحلية. وكانوا يستمعون بإنصات إلى كلامهم، ثم يردون عليهم ردًّا جميلًا، إن حاز كلامهم موقعًا حسنًا في نفوس الملوك، وردًّا يناسب ما جاء في خطاب الرسل من تهديد أو وعد ووعيد، إن استعملوا التهديد والوعيد في خطبهم. ومتى عادوا أكرموا إكرامًا خاصًّا، ومنحوا ألطافًا وهدايا على الطريقة المتبعة في ذلك العهد، وقد يحملون أولئك الرسل هدايا خاصة لمن أوفدهم إليهم، يرفقونها بكتب جوابية في بعض الأحيان، أو برسائل شفوية تبلغ للرسل ليبلغوها هم لسانًا أو كتابة إلى موفديهم.
و"الوفد"، القوم القادمون للقاء العظماء، وجماعة مختارة للتقدم في لقاء العظماء. ويقال: وفده الأمير إلى الأمير الذي فوقه، أي: ورد رسولًا1. وقد كان سادات القبائل يرسلون وفودًا عنهم إلى الملوك أو إلى سادات قبائل أخرى في مهام مختلفة، مثل عهد حلف أو تفاوض أو تهديد بإعلان حرب أو لتهنئة أو لتعزية أو لبيعة وما شاكل ذلك من أمور. وقد أخذت الوفود تترى على الرسول بيثرب لما استحكم واشتد أمر الإسلام.
__________
1 اللسان "3/ 464 وما بعدها"، "وفد"، تاج العروس "2/ 538 وما بعدها"، "وفد".(9/326)
وقد يكون الرسول المرسل إلى بلاد العرب لا يعرف العربية، فيكون من الضروري إرسال مترجم معه يتقن العربية، ليقوم بأعمال الترجمة. وقد دونت الموارد اليونانية أسماء بعض الرسل الذين أرسلهم ملوك البيزنطيين إلى اليمن أو إلى الغساسنة أو المناذرة، للقيام بمهمات خاصة، ولإجراء مفاوضات في أمور تتعلق بالمصالح اليونانية العربية، وقد نصوا أيضًا على أسماء بعض المترجمين الذين رافقوهم إلى ملوك العرب أو إلى سادات القبائل. ويظهر أنهم كانوا يختارونهم من رجال الدين النصارى الذين كانت لهم صلات وعلاقات وثيقة بالعرب، ومنهم من كان من أصل عربي.
وكان من عادة سادات القبائل والملوك العرب، أنهم إذا أرادوا إرسال ممثل عنهم إلى الحكام الأجانب، لمفاوضاتهم في أمور تخصهم، اختاروا من عرف بالذكاء والشيطنة من أتباعهم للقيام بهذه المهمات التي تحتاج إلى ذكاء ولباقة وحسن تصرف. وهم في هذا الباب مثل غيرهم يراعون أن يكون رسولهم ممن يتقنون لغة من سيرسل إليه، وأن يكون من خواصهم ومن أتباعهم، حتى لا يبوح بأسرار مهمته لأعدائهم. وأما إذا تعذر هذا الشرط، فكانوا يختارون مترجمين ثقات عربًا أو عجمًا لمرافقة الرسول، وللتكلم بلسانه، ولنقل ما يقوله الأعاجم للرسول. ونجد في الموارد اليونانية أن عرب بلاد الشام، أرسلوا رجال دين عنهم إلى حكام بلاد الشام أو إلى القسطنطينية لمفاوضة الروم في المهمات التي كانوا يكلفون بها. ويظهر أنهم إنما لجأوا إلى هؤلاء، لأنهم كانوا يتقنون اليونانية ولأنهم نصارى، والروم نصارى كذلك، ولبعضهم صلات برجال الكنيسة في القسطنطينية، فيساعد الدين في تسهيل حل المشكلات.
وقد يذهب ملك عربي أو سيد قبيلة لزيارة الحكام الأعاجم في مواضع حكمهم، أو في أماكن أخرى يتفقون عليها. فإذا لم يكن متقنًا ذلك الملك أو سيد القبيلة للغة الحاكم الذي سيزوره أخذ مترجمًا معه، ليكون لسانه الناطق باسمه وأذنه التي تفسر له أقوال الحكام والأجانب ويظهر من الموارد اليونانية أن من الملوك الغساسنة من كان يتقن اليونانية، فلما زار بعض منهم القسطنطينية، تكلم بها وتباحث مع رجال الدين البيزنطيين في أمور اللاهوت بهذه اللغة.
والقاعدة العامة في العرف السياسي عند الجاهليين، أن الموفد لا يهان ولا يعتدى عليه ولا يقتل وكذلك كان هذا العرف ساريًا على رسل الملوك إلى سادات القبائل،(9/327)
وعلى الوفود التي ترسلها القبائل إلى الملوك أو الرسل الذين يرسلهم سادات القبائل بعضهم إلى بعض. وطالما نقرأ في كتب أهل الأخبار جملًا مثل: "لولا أنك رسول لقتلناك"، تشير إلى احترام العرب لرسالة الرسل والموفدين. وقد كان بعض الرسل يسيئون الأدب أو لا يحسنون التصرف مع من أرسلوا إليه، فيثيرونهم، ومع ذلك، فإن من يهاج منهم يحاول جهد إمكانه ضبط نفسه، والتحكم في أعصابه، حتى لا يتهور على الرسول، فيتهم بسوء الأدب بإهانته ضيفًا، أو يتهم بالغدر. وإذا كان بعضهم قد غدر بالرسل، فإن هذا الغدر لا يمثل العرف العام، وإنما هو غدر، والغدر لؤم، وقد يقع اللؤم من لئيم.
ولفظة "رسول" والجمع "رسل" هي من الألفاظ العربية القديمة المستعملة في عالم السياسة عند العرب. وردت في نص "أبرهة"، الذي أشار فيه إلى وفود أتت إليه من مأرب لتهنئته بمناسبة إتمامه سد "مأرب"، فكان من بينهم رسل النجاشي وملك الروم وملك الفرس وملك الحيرة "المنذر" وملك الغساسنة "الحارث بن جبلة" و"أبو كرب بن جبلة"1. وفي هذا النص ملاحظة مهمة جدًّا جديرة بالعناية إذا أطلق هذا النص على مندوب النجاشي وملك الروم لفظة "محشكت" أما رسل الملوك العرب المذكورين فقد أطلق عليهم اللفظة العربية "رسل". أي: أنه استعمل ثلاثة مصطلحات سياسية في هذا النص لمفهوم واحد، هو رسل أرسلوا من ساداتهم لحضور ذلك الاحتفال.
وقد يذهب الظن إلى أن النص إنما استعمل تلك المصطلحات الثلاثة، لأنها مصطلحات للغات أولئك الموفدين، فاستعمل لفظة "محشكت" لأن الحبش كانوا يطلقونها على معنى "رسول" في لغتهم وهذا كلام معقول، ولكن ما باله أطلق تلك اللفظة على رسول ملك الروم أيضًا مع أنها كلمة غريبة عن اليونانية لم يستعملها اليونان، ولم يستعمل النص المصطلح الرسمي اليوناني المستعمل في اليونانية للسفير؟
ثم ما بال النص يطلق لفظة "تنبلت" على رسول ملك الفرس، واللفظة أيضًا غير فارسية وغير مستعملة عند الساسانيين؟ أفلا يدل ذلك على أن النص لم يأخذ بالمصطلحات السياسية المقررة عند الحبش والروم والفرس للسفير، وإنما أخذ بشيء.
__________
1 Glaser 618 CIH 541, Glaser, Zwei Inschriften, S. 390
2 كتابي: تاريخ العرب قبل الإسلام "3/ 197".(9/328)
آخر، هو أهم من ذلك بكثير، لا صلة له بما ذهب هذا الظن إليه، بل لسبب سياسي مهم، هو أن مندوب ملك النجاشي في نظر أبرهة، أهم وأقدم في المنزلة من أي مندوب آخر من المندوبين الذين وصلوا إليه، لذلك قدّمه في الذكر على بقية المندوبين، وأطلق عليه لفظة "محشكت"، لأنها في معنى رسول ذي أهمية كبيرة، وله ميزات على الرسل الآخرين، فهو رسول ملك له صلة خاصة قوية به، ثم ثنى بذكر رسول ملك الروم؛ لأن الروم أصدقاء وحلفاء الحبش وأبرهة ولهم صلات قوية به، ثم إن ملك الروم مثل ملك الحبشة وأبرهة على النصرانية، فبينه وبين الروم رابطة الأخوة بالدين، فذكر لذلك مندوبهم بعد مندوب النجاشي واستعمل لفظة "محشكت"، لما لهذه الكلمة من معنى خاص في معجم ألفاظ السياسة. وذكر مندوب ملك الفرس بعد مندوب ملك الروم؛ لأن صلة الفرس بالحبش لم تكن على درجة صلة الروم بهم، ثم إنهم يختلفون عنهم في الدين ويعارضونهم في السياسة، لذلك أخره عن مندوب الروم، وأطلق عليه لفظة تشير إلى أنها دون لفظة "محشكت" في الدرجة والتقدير. ولكنها فوق لفظة "رسل" "رسول" "رسل" في الأهمية والدرجة والمكانة على كل حال.
لأن ملوك الفرس أكبر شأنًا في عالم السياسة من المنذر ومن الحارث ومن أبي كرب لذلك استعمل هذه اللفظة لرسول ملك فارس واستعمل كلمة "رسل" لمندوبي الملوك العرب.
وفي العربية لفظة أخرى تؤدي معنى "رسول"، هي لفظة "سفير". ويذكر علماء العربية أن السفير: الرسول والمصلح بين القوم1. وكان أهل مكة إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب أو خصومة، بعثوا سفيرًا. وكانت السفارة في "بني عدي"2.
ويقال للرسول "اسى" في العربيات الجنوبية، تعبيرًا عن رسول يرسل بمهمة خاصة3.
ولجلوس رجال الوفود عند الملوك وسادات القبائل أهمية كبيرة عند العرب، فالمقدم على الناس يكون أيمن الملك أو أيمن سيد القبيلة، وهكذا. وجلوسه هذا
__________
1 اللسان "4/ 370"، "سفر".
2 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
3 South Arabian Inscriptions, P. 427(9/329)
على هذا النحو وعلى هذا العرف، هو علامة تفضيل له على غيره. ويقوم الحجاب أو من إليه أمر استقبال الوفود بتطبيق هذه القاعدة مراعاة شديدة، وقد يتولى الملك ذلك بنفسه، فيطلب من كبير القوم أو ممن يريد تشريفه وتفضيله على غيره الجلوس إلى جانبه الأيمن، ويفتخر عندئذ من ناداه الملك بالجلوس إلى أيمنه فخرًا شديدًا، ويتباهى بهذا التقديم على غيره، وتعتز قبيلته به، فتقدم الرجال عند الملوك والسادات من أمارات الشرف والعز. وقد يخلق مثل هذا التقديم للملك مشكلات خطيرة، إذ "يزعل" الباقون من هذا التفضيل، خاصة إذا كانت بينهم وبين من قدم عليهم عداوة أو منافسة، فيرون في هذا التقديم ازدراء بهم وإهانة متعمدة قد وجهت إليهم. وقد يتركون مجلس الملك، ويقع ما يقع بين الملك وبين المنزعجين، أو بين من قدم ومن قدم عليهم.
ومن آيات تكريم رئيس الوفد، أن الملك كان إذا وضع الشراب، بدأ بالشرب أولًا، فإذا انتهى اسقى من كأسه من يراه أفضل القوم، وهو رئيسهم، أو أنه يأمر السقاة أو يشير إليهم إشارة واضحة أو خفية بتقديم من يراه أهلًا للتقديم، ومعنى هذا أنه أفضل الوفد. وقد أثار هذا التقديم مشكلات خطيرة للوفود المنافسة التي كانت تفد على الملوك، وإلى الملوك أنفسهم، ولا سيما الملوك الذين تحكمت أعصابهم بهم، مثل "عمرو بن هند" و"النعمان بن المنذر". وقد قتل "عمرو بن هند"، كما سبق أن تحدثت عن ذلك بسبب تهوره وانسياقه لعواطفه إذا دعا الشاعر "عمرو بن هند" وأمه لزيارته، وكان ينوي الإساءة إليه، لأنه كان فخورًا متعززًا بنفسه، فأمر الملك أمه بأن تكلف أم الشاعر بخدمتها، وهي من أعز النساء في قومها ولأنها من بيت رئاسة، فلما صرخت "وا ذلاه"، وسمع ابنها الصرخة، ثار على الملك فقتله.
وكان من عادة ملوك الحيرة، أنهم يتخذون للوفود عند انصرافهم مجلسًا: يطعمون فيه ضيوفهم، ويسقونهم الخمور، وقد تغني فيه القيان1، ثم يعطي الملوك الخلع والهدايا لأعضاء الوفود، وقد يخلعون عليهم الخلع الملكية، يعطونها لخاصة من حضر دلالة على زيادة تقديرهم لهم. ويتباهى من يناله هذا الحظ السعيد بتلك الملابس ويحتفظ بها للاعتزاز.
__________
1 العمدة "2/ 220".(9/330)
وقد جرت العادة بإنزال الوفود في دار الضيافة، ليعتني بالضيوف الوافدين ولينالوا حريتهم وراحتهم بها. ويظهر أن من عادة العرب إذ ذاك أن الوفد منهم إذا انتهت مهمته وقرر الرجوع إلى أهله، عملت له وليمة في آخر يومه، وقدمت له هدية، وتسلم له رسالة إن احتيج إلى ذلك. وقد اتبعت هذه العادة في يثرب حينما أخذت الوفود تترى على الرسول لمبايعته بالإسلام. فقد اتخذ الرسول دارًا خاصة بيثرب لتكون دارًا تنزل بها الوفود، عرفت بـ"دا رملة بنت الحارث" امرأة من بني النجار. ويظهر أنها كانت دارًا واسعة، بدليل ما ورد من أن الرسول حبس بها "بنو قريظة" لما نزلو إلى حكمه1. ولا يمكن إنزال عشرات من الناس بها لو لم تكن دارًا واسعة كبيرة. كما كان الرسول يأمر المكلف بأمر الوفود بإعطائهم جوائز يعينها له، فيعطى مقدار ما يأمره به الرسول، وما يكتبه لهم من إقطاع2.
__________
1 نهاية الأرب "17/ 190 وما بعدها"، "18/ 91 وما بعدها".
2 نهاية الأرب "18/ 91".(9/331)
صكوك المسافرين:
هي جواز السفر في اصطلاح هذا اليوم. كان على المسافر حمله معه لئلا يتعرض به أحد1. يمنحها الملوك وسادات القبائل، وتختم بختمها، فلا يتحرش أحد بحاملها ويؤمن على سلامته. وإذا اعتدى عليه معتد طالب صاحب الجواز بحقه من المعتدي عليه. وتعطى مثل هذه الصكوك للوفود وللنابهين من الناس من أصحاب المكانة والجاه.
وقد يكون الجواز شيئًا غير مكتوب. فقد كان "جواز" أهل مكة ومن كان في حلفهم لحاء شجر الحرم، يعقدونه في أعناقهم أو في أعناق إبلهم، ليكون علامة على أنهم من "قريش" أو من قوم لهم عهد وعقد معهم فلا يتجاسر أحد على التحرش بهم. للعهود المعقودة بين قريش وبين سادات القبائل، بعدم تحرش أحد برجل من أهل مكة أو بمن يكون في جوارهم ومن له عقد معهم.
وقد يكون الجواز شيئًا بسيطًا: عصًا أو سهم، أو أي شيء آخر. يعطيه شخص شخصًا آخر ليكون له جواز أمن وسلام، إذا أبرزه لم يتحرش أحد به.
ويكون محرمًّا، أي: مسالمًا لا يجوز لأحد الاعتداء عليه، لأنه في حرمة صاحب
__________
1 تاج العروس "4/ 19، "جاز".(9/331)
الجواز، ولا تهتك لصاحبه حرمة. ولما جاء الإسلام، جعل المسلمين محرمًا.
جاء في الحديث: "كل مسلم عن مسلم محرم"، و"كل مسلم عن مسلم محرم، أخوان نصيران". معناه: أن المسلم ممسك عن مال المسلم وعرضه ودمه.
وأنه معتصم بالإسلام ممتنع بحرمته ممن أرداه وأراد ماله1. فكل واحد هو في الإسلام آمن.
ومن عادة ملوك الحيرة إعطاء "القطوط" للناس، وهي صكوك الجوائز، أي: كتب تخرج للناس فيها جوائز الملك، فيقبضون مقدار ما كتب فيها. وقد ذكرها الأعشى في قوله:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفق
وذكر أن القطَّ: الصَّك بالجائزة والكتاب، وقيل: هو كتاب المحاسبة، وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت:
قوم لهم ساحة العِرا ... ق جميعًا والقِطّ والقلم2
__________
1 اللسان "12/ 124 وما بعدها"، "حرم".
2 اللسان "7/ 382"، "قطط"، "أراد بالقطوط: كتب الجوائز"، اللسان "10/ 6"، "أفق".(9/332)
فهرس الجزء التاسع:
الفصل الخمسون
البيوت 5
الفصل الواحد والخمسون
فقر وغنى وأفراح وأتراح 79
الفصل الثاني والخمسون
الدولة 178
الفصل الثالث والخمسون
حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل 253(9/333)
المجلد العاشر
الفصل الرابع والخمسون: الغزو وأيام العرب
الغزو
...
الفصل الرابع والخمسون الغزو وأيام العرب
الغزو:
والغزو في تعريف علماء اللغة: الطلب. وهو مورد من أهم موارد الرزق عن الأعراب، لا سيما في سني انحباس السماء وانقطاع الغيث وغضب السماء على الأرض ونفورها منها، حيث تقطع غرامها بها، فتحبس عنها دموعها المعبرة عن شوق السماء إلى الأرض وعن مكانهم المنكوب إلى مكان آخر فيه ماء: بئر أو ماء جار، أو عين دائمة والاستيلاء عليه عنوةً وقهرًا، أو صلحًا بغير قتال، وذلك إذا وجد أصحاب الماء أن من غير الممكن لهم، مقاومة الغزاة، وأن خير ما يفعلونه للحفاظ على حياتهم، هو ترضية الغازين والتودد إليهم، وإرضائهم من غير حرب ولا قتال، وفي ذلك توفيق بين مصلحة الغازين والقارين.
وقد يقع الغزو لأسباب أخرى لا علاقة لها بانحباس المطر، بل بسبب طمع القبائل بعضها في بعض، ولا سيما القبائل التي ترتبط بروابط حلف مع قبائل أخرى. والعادة أن القبائل القوية تطمع في القبائل الضعيفة لتأخذ منها ما عندها من مال ورزق. فتغزوها لتستولي على ما طمعت به، وقد تنجح وقد تفشل وتخسر. والقبائل الضاربة على أطراف الحضارة، تطمع في الحضر لما عندهم من رزق حرمت منه، من رزق وافر ومن ماء ومن وسائل عيش رغيدة، فتغزوهم ولهذا صار من اللازم على الحضر تعزيز أنفسهم، بناء حصون وآطام ومناظر لمراقبة(10/5)
الغزاة, وبشراء سلاح لا يتوفر عند الأعراب من سيوف ماضية صلبة حادة، ومن اتخاذ حرس من الرقيق والمرتزقة ليساعدهم في الدفاع عن حاضرهم، أضف إلى ذلك شراء سادات القبائل الضاربين حولهم بالمال وبالهدايا وبالألطاف، لمنع أعرابهم من التحرش بهم، ولمنع الأعراب الغرباء الذين قد يطمعون فيهم من الدنوّ منهم.
أضف إلى ما تقدم من أسباب وقوع الغزو: أثر العلاقات الشخصية بين سادات القبائل، من زواج وطلاق، ومن حسد وتنافس، ومن كلمة نابية قد تثير حربًا بين قلبي شخصين متنافرين، ومن عمل سفيه جاهل يثير غزوًا وحربًا بسبب عصبية قومه له، ودفاع الجانب الآخر عن صاحبهم حمية وغيرة. إلى غير ذلك من عوامل معقولة مفهومة وعوامل تافهة سخيفة تجد لها مع ذلك مكانة في القلوب؛ فتثير غزوًا وتسبب نكبة لأناس مساكين فقراء، لا دخل لهم في كل خصومة، وكل ما لهم أنهم من قوم غضب عليهم قوم آخرون، فزادوا في تعاسة إخوانهم المغزوين، والغازي والمغزو مع ذلك معدم محروم من النعم التي وهبتها الطبيعة لغيرهم من البشر، بأن جعلتهم في أرضين خصبة ذات ماء وخيرات وجو حسن، أما هؤلاء التعساء أبناء البادية، فلم يجدوا أمامهم من رزق متيسر سهل سوى الترزق عن طريق هذا الغزو.
فالغزو إذن هو: حاصل ظروف طبيعية واقتصادية واجتماعية، ألمت بالأعراب وأجبرتهم على ركوب هذا المركب الخشن. كارهين أما مختارين فليس للأعرابي للمحافظة على حياته ولتأمين رزقه غير هذا الغزو. وقد بقي يغزو حتى في الإسلام، مع منع الإسلام له لا يجد فيه مع ذلك غصاضة ولا بأسًا. وهو إن امتنع اليوم منه وطلقه. فإنه لم يتركه عن إرادة واختيار وطيب خاطر، وإنما امتنع منه؛ لأنه يعلم أنه إن قام به, فإن هنالك حكومات أقوى منه، لها أسلحة لا يملكها ولا يستطيع التغلب عليها، وعلى رأسها الطائرات، ستفتك به فتكًا ذريعًا، وتكرهه على الخضوع لأحكامها، وعلى الاستسلام لها، وعلى تجريده مما يملكه ومما يستولي عليه لذلك خنس وسكت عن الغزو.
ومن هذا الغزو، غزو وقع في الجاهلية بين قبائل صغيرة، لذلك لم ينل من أهل الأخبار حظًّا من الذكر والرعاية والعناية، ولم يجد له مكانًا بارزًا في صفحات كتب الأخبار، وغزو كبير خلد الشعر الجاهلي ذكره، فأخذ رواة الشعر يتسقطون(10/6)
أخباره، ويجمعون ما وعته ذاكرة رواة الأخبار من أمره، فوجد له مكانًا فسيحًا رحبًا في شروح الشعر الجاهلي وفي كتب الأخبار والأدب, وقد عرف مثل هذا الغزو الخالد بـ"أيام العرب" وبـ"أيام القبائل". وقد ذكر صاحب كتاب "الفهرست" أسماء جماعة من علماء الأخبار ألَّفوا فيها، وشغلوا أنفسهم بجمع أخبارها, دوَّنوها في كتب وفي جملتها مدونات عن أخبار أيام وقعت بين بطون قبيلة واحدة.
وقد تداول الجاهليون أخبار الغزو، وصيرت القبائل المنتصرة الأيام التي انتصرت فيها ملاحم، تعيد قصها في مجالسها وأنديتها، وقد زخرفت قصصها بأخبار الشجعان الذين برزوا فيها، وبالغت في أخبار شجاعتهم حتى طغت على أخبار الغزو نفسه، وصار البطل رمزًا للقبيلة، تستمد منه الشجاعة والإقدام في النصر وفي الهزائم والخسائر. فالنصر كما نعلم لا يدوم لأحد. وربَّ قبيلة وكر عليها طير السعد فسعدها الحظ بالنصر، ثم طار عنها؛ لأن الأيام الحلوة لا تدوم أبدًا. وقد تصاب القبيلة المنتصرة بنكسة، فتعوض عن ذكرى خسارتها، بذكرها انتصارها في الماضي، فيكون الماضي خير مسل لها عن مرارة الهزيمة، وأحسن مشجع وباعث على النصر في غزو المستقبل.
وقد أمدتنا أخبار الغزو بأسماء عدد من أبطال الجاهلية عرفوا بالشجاعة، لا تزال أخبار بعضهم تروى وتقص على الناس، وتقرأ قصتهم في المجالس مثل: قصة "عنترة" التي حصلت على النصيب الأوفر من الشهرة والذكر من بين القصص المروي عن أبطال الجاهلية، وهو قصص، مهما قيل عنه، وعما ورد فيه من مبالغات، فإنه لا يصل إلى درجة القصص المروي عن أبطال الفرس القدماء أو اليونان أو الرومان أو العبرانيين في المبالغة بشجاعتهم وبقوة أجسامهم الخارقة.
لقد فرضت الطبيعة على العربي أن يكون محاربًا غازيًا، فقد حرمته من خيرات هذه الدنيا ومن طيبات ما تنبت الأرض. حرمته من وجود حكومة تحميه وتدافع عنه, وحرمته حتى من وسائل الدفاع عن النفس. فجعلته لا يملك شيئًا يكنّ إليه في البوادي ليحمي به نفسه من الرياح السموم ومن أشعة الشمس القاسية ومن الحيوانات الوحشية، وجعلته يقابل المرض بمفرده، إذا ليس في البادية طبيب حاذق دارس. فلم يكن أمامه والحالة هذه إلا أن يعلم نفسه الصبر، وأن يصير محاربًا غازيًا لا يبالي بالنصر أو بالخسارة، بالحياة أو بالموت. إن خسر هذه(10/7)
المرة، حاول تعويض الخسارة بجولة جديدة وهكذا؛ لأنه إن يئس وجلس واستسلم للزمان، أكله جار له يطمع في ماله مهما كان، فهو لا بد له من استعداد لغزو جديد.
وفقر البادية قد حدد في الوقت نفسه من غرام الأعراب في الغزو. إذ جعل أسلحتهم محدودة وإمكانياتهم في القتال دون إمكانيات الحضر بكثير. لذا صار غزوهم للحضر كرًّا سريعًا وفرًّا بأقصى ما يكون من السرعة، للنجاة بما حصلوا عليه من سلب، أو للنجاة بأنفسهم من القتل في حالة الخسارة والهزيمة. ولهذا كانوا يحسبون ألف حساب حين يريدون غزو حدود الحكومات الكبيرة، ولا يقدمون عليه إلا بعد درس وتأمل ووقوف على مواطن الضعف والثغرات في خطوط الدفاع لتلك الحكومات. أما غزوهم بعضهم بعضًا، فإن أسلحتهم فيه متساوية متكافئة. سيوف ورماح ورمي بالسهام. والذي يكسب النصر فيه، من له عدد وافر كثير وخيل وفرسان شجعان، يأخذون الخصم بمباغتة ومفاجأة.(10/8)
الخيل:
وللخيل نصيب كبير ولا شك في الغزو وفي إكثاره في جزيرة العرب إذ صارت سببًا من أسباب توسيع رقعة الغزو والحروب، فالقبيلة التي تملك عددًا كبيرًا من الخيل يكون لها النصر في الغالب؛ لأن الخيل سريعة الحركة وهي تمكن الفارس من مقارعة خصمه بسرعة، ومن ملاحقة الراجل والوصول إليه بسهولة، فلا يكون أمامه عندئذ سوى المقاومة أو القتل أو الوقوع في الأسر. وبفضل الخيل ظهر الأبطال الفرسان، الذين نقرأ أسماءهم في أخبار الأيام. والحصان مثل البطل، يجب عده من أبطال معارك تلك الأيام. فقد مكَّن القبائل الغنية من بسط نفوذها على القبائل الضعيفة، فالجمل ثقيل الحركة بطيء السير بالنسبة إلى الفرس، وفي إمكان من لديه عدد كبير من الخيل غزو القبائل التي لا تمتلك مثل هذا العدد من الخيل، حتى وإن امتلكت عددًا كبيرًا من الإبل والرجال. لما ذكرته من سرعة حركة الخيل ومن مرونتها في القتال وفي الكر وفي الفر، ثم لصبرها ولتحمل أعصابها على ضبط نفسها في القتال بالنسبة إلى الجمل الذي يهيج بسرعة فتثور أعصابه، فيولي لا يبالي إلى حيث يوجهه هياجه، ملقيًا براكبه على ظهره في بعض الأحيان،(10/8)
أو يذهب طائشًا مسرعًا، لا يخضع لتوجيه راكبه له. والجمل إذا هاج صار من الصعب على صاحبه الإمساك بزمامه، وتوجيهه حيث يريد.
وقد اشتهر بعض الناس بالعدو، من هؤلاء: "سليك بن السلكة" المعروف بـ"سليك المقانب". وكانت أمه سوداء. وهو أحد أغربة العرب، وأعدى الناس، لا يشق غباره، وقد أشير إليه في الشعر 1. وقد استفيد منهم في الغزو, فكان منهم المخبرون المتلصصون لأخبار الغزاة أو المغزوين. وكان منهم من يباغت ويفر، فلا يلحق به ماش. فإذا لحقه أحد أتعبه في عدوه، حتى إذا تعب انقض عليه.
__________
1 الثعالبي، ثمار "105".(10/9)
الجمل:
وقد أكون مقصرًا هنا إذا أهملت الحديث عن صديق جزيرة العرب وأليفها الحبيب: الجمل. لقد تحدثت عنه في الجزء الأول من هذا الكتاب في أثناء تحدثي عن جزيرة العرب وعن ثرواتها بما فيه الكفاية. ولكنني لا زلت بحاجة إلى التحدث عنه بشيء لم أذكره في ذلك المكان 1، وسأذكره هنا لما له من صلة بهذا الموضع.
والإبل هي المال عند العرب. وبها كانوا يقدرون أثمان الأشياء ويتعاملون في تجارتهم وفي أسواقهم. فالجمل عندهم هو وحدة قياسية في البيع وفي الشراء وفي تقدير الحقوق كالديات والفدية والمهور والأراشة وما شاكل ذلك. وبمقدار ما يملك الإنسان من جمال تقدر ثروته وينظر إلى غناه؛ لأنه الحيوان الوحيد الذي في إمكانه قطع البوادي بخيلاء، رافع الرأس، غير عابئ بما يكون تحت أخفاف أرجله من رمال، هازئ بالعطش إذ هو صبور عليه، لمدة لا يمكن أن يباريه في طولها حيوان آخر. ثم هو يحمل الإنسان ويحمل متاعه. وهو طعام الإنسان إن مضه الجوع، أو جاءه ضيف كبير. وهو يشرب حليب النوق ويجد فيه شفاءً وعافية وتعويضًا عن الماء والطعام. فلا عجب إذن إن اتخذ الأعرابي الجمل مقياسًا للثروة والمال.
__________
1 "ص197".(10/9)
والإبل على منازل ودرجات فيها: الجمل الأصيل المقدر, وفيها الجمل الحرود المبتذل. وخير الإبل عندهم: الإبل الحمراء؛ لأنها أصبر من غيرها على الهواجر، والعرب تفتخر بعدد ما عندها من الجمال الحمر. لغلاء ثمنها بالنسبة إلى الجمال الأخرى ومن هنا ضرب العرب بها المثل حين قالوا: "ما أحب أن لي بمعاريض الكلم حمر النعم"1. فالمراد بحمر النعم: الإبل الحمراء.
والإبل الصهباء من الإبل الجيدة الشريفة في نظر العرب. "قال ابن الأعرابي: تقول قريش: الإبل صهبها وأدمها، يذهبون في ذلك إلى تشريفها على سائر الإبل. وقد أوضحوا ذلك بقولهم: خير الإبل: صهبها وحمرها. فجعلوها خير الإبل"2. وقيل: الأصهب من الإبل الذي يخالط بياضه حمرة. وهو أن يحمر أعلى الوبر ويبيض أجوافه. وقد عرفت هذه الإبل بسرعتها. والصهباء الناقة الصهابية. وفي الحديث: كان يرمى الجمار على ناقة صهباء. وإبل صهابية منسوبة إلى فحل اسمه "صهاب"، أولد الإبل الصهابية3.
وعدت الإبل الرمكاء، من أبهى إبل العرب. وأما النوق الحور، فهي النوق التي تمتاز عن غيرها بكثرة ألبانها، وتكون ألوانها بين الغبرة والحمرة وفي جلودها رقة، وقد عدت من الجمال الرقيقة الحسنة، قالت العرب: الحمر من الإبل أطهرها جلدًا والورق أطيبها لحمًا والحور أغزرها لبنًا. وقد قال بعض العرب: "الرمكاء بهياء والحمراء صبراء والحوارة غزراء"4.
ويقسم أهل الأخبار الإبل ثلاثة أصناف: يماني، وعرابي، وبختي. فاليماني هو: النجيب وينزل بمنزلة العتيق من الخيل. والعرابي كالبرذون. والبختي كالبخل. وذكر أن في الإبل ما هو وحشي, وأنها تسكن أرض وبار، وهي غير مسكونة بالناس. وتسمى الإبل الوحشية "الحوشي". ويذكرون أنها من بقايا إبل "عاد" وثمود. والمهرية منسوبة إلى "مهرة"، وهي سريعة العدو، ويعلقونها من قديد
__________
1 تاج العروس "3/ 158".
2 تاج العروس "1/ 341"، "صهب".
3 قال طرفة:
صهابية العثنون موضة القرا ... بعيدة وخد الرجل موارة اليد
تاج العروس "1/ 342"، "صهب".
4 تاج العروس "3/ 192 وما بعدها"، "خور"، "7/ 137"، "رمك".(10/10)
سمك يصطاد من بحر عُمان 1. وذكروا أن "الحوشى" الوحشيّ من الإبل وغيرها منسوب إلى بلاد الجن من وراء رمل "يبرين"، لا يمر بها أحد من الناس. وقيل: هم من بني الجن. وقيل: هي فحول جن، تزعم العرب أنها ضربت في نعم بني مهرة بن حيدان فنتجت النجائب المهرية من تلك الفحول الوحشية، فنسبت إليها، فهي لا يكاد يدركها التعب2.
ولتحمل الإبل الجوع والعطش ولصلاحها على المشي في البوادي صارت خير أليف للعرب. وقد اشتهر بعض منها؛ لاشتراكه في الغزو والحروب. وكانوا يسابقون بين الإبل. وسابق الرسول بين الإبل، وكانت ناقته القصواء سريعة الجري فسبقت مرارًا. وتعد لحوم الإبل من اللحوم الطيبة عند الجاهليين. أما اليهود، فكانوا يحرمون عليهم أكل لحومها. وذكر "النويري" أن من الناس من قال: "إن العرب إنما اكتسبت الأحقاد لأكلها لحوم الجمال ومداومتها"3، لاتهامهم الجمل بالحقد واللؤم، وبعدم نسيانه الإساءة.
والجمل من الحيوانات القانعة الصابرة. وهو الحيوان الوحيد الذي رضي بمرافقته الأعراب ومصادقتهم منذ آلاف السنين. ولولا هذا الجمل لما كان في استطاعة العرب اختراق جزيرتهم، والتنقل فيها من مكان إلى مكان. وبفضله اتصل عرب جزيرة العرب بعضهم ببعض وقامت المستوطنات في مواضع نائية منعزلة من بلاد العرب, وقهر العربي ظهر باديته. وتكونت فيها تجارة برية. وطرق برية طويلة يخترقها الجمل بغير كلل ولا ملل. صابرًا على العطش حتى يصل إلى مرحلة بعيدة فيها يكون فيها ماء, وفي استطاعة الجمل تحمل العطش مدة أربعة أو خمسة أيام في الصيف، ومدة خمسة وعشرين يومًا في الشتاء؛ لأنه يختزن الماء في جوفه ويعيش عليه. حتى صار هذا الماء المخزون في جوف البعير سندًا للأعراب وأملهم الوحيد في إنقاذ حياتهم عند اشتداد العطش بهم، وانقطاع الماء عنهم. ولما عبر خالد بن الوليد البادية لفتح بلاد الشأم اختزن الماء في أجواف الإبل، لقلة الماء في البادية، فلما اشتد العطش بجيشه، ذبح بعض الإبل وأسقى من الماء المخزون في أجوافها، وبفضله تمكن الجيش من الصمود أمام أهوال العطش ومن الوصول
__________
1 نهاية الأرب "10/ 109 وما بعدها".
2 تاج العروس "4/ 302"، "حاش".
3 نهاية الأرب "10/ 11".(10/11)
إلى بلاد الشأم بسلام. وهكذا ساهم هذا الحيوان في انتصار خالد على جيش الروم. ولا زال الجمل عماد الأعراب في حياتهم. ولا يمكن أن نتصور وجود أعرابية بغير جمل وقد أناط إنسان القرن العشرين به أعمالًا جديدة لم يمكن يعرفها، فعهد إليه نقل الآلات الحديثة ومنتوجات حضارة هذا القرن في البوادي, فنجح في أدائها أحسن نجاح. ومع ذلك، فإن الزمن ضده، فالجمل بطيء لا تتناسب سرعته وسرعة عصور السرعة وطفرات التطور الحديث، ولا بد وأن يأتي عليه يوم سيحال فيه على التقاعد عن العمل، فيقل بذلك وجوده، ويصير مكانه في حدائق الحيوان.
ولتمييز الإبل وتعيين أصحابها، وُسمت بسمات وعلمت بعلامات عرفت عندهم بـ"سمة" و"سمات"، توسم في الحد والعنق والفخذ، على صور شتى، مثل: المشط والدلو والخطاف، أي: على صورة هذه الأشياء 1. ويكون وسم الإبل بالميسم: حديدة تحمى فيكوى بها، فتترك أثرًا على الموضع الذي كوي. وذكر أن الوسم أثر؛ أثر كيّة, يقال: موسوم, أي: قد وسم بسمة يعرف بها, إما كيّة وإما قطع إذن، أو قرمة تكون علامة له. والوسام والسمة ما وسم به الحيوان من ضروب الصور. وفي الحديث أنه كان يسم إبل الصدقة، أي: يعلم عليها بالكي 2.
وسمات الإبل: السطاع، والرقمة، والخباط، والكشاح، والعلاط، وقيد الفرس، والشعب، والمشيطفة، والمعفاة، والقرمة، والجرفة، والخطاف، والدلو، والمشط، والفرتاج، والثؤثور، والدماغ، والصداع، واللجام، والهلال، والحراش، والعراض، واللحاظ، والتلحيظ، والتحجين، والصقاع، والدمع3.
ويقع الغزو في وجه الصباح في الغالب، ولذلك يقال: "صبحوا بـ ... " أي: أتوا صباحًا. وقد يقال: "صبحه بكذا"، أي: بعدد يذكر من رجال الغزو. ومن ذلك قول بجير بن زهير المزني:
صبحناهم بألف من سليم ... وسبع من بني عثمان وافى
أي: أتيناهم صباحًا بألف رجل من "بني سليم"2.
__________
1 تاج العروس "5/ 224"، "مشط".
2 تاج العروس "9/ 92"، "وسم".
3 تاج العروس "2/ 174 وما بعدها"، "صبح".(10/12)
أيام العرب:
عرفت الحروب والمناوشات التي وقعت بين القبائل بعضها مع بعض، أو بين ملوك اليمن والقبائل أو بين الفرس والعرب أو بين الملوك العرب والقبائل بـ"الأيام" وبـ"أيام العرب"1. وهذه الأيام تؤلف -في الواقع- القسط الأكبر من علم الأخباريين بتأريخ الجاهلية، ومادتها القصص الذي تناقله الناس عمن شهدوها، وحفظوه في صدورهم، إلى أن كان التدوين فدوِّن. وهو مادة محبوبة تناولها الناس في الجاهلية والإسلام بلذة وشوق، فكانت هي والشعر الجاهلي من أهم المجالس. "قيل لبعض أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كنا نتناشد الشعر، ونتحدث بأخبار جاهليتنا"2، وأهم أخبار الجاهلية هي هذه الأيام.
ومادة هذه الأيام عربية خالصة، يتخللها شعر قيل بالمناسبة في تلك الأيام في الفخر والحماسة وفي هجاء الخصم والانتقاص منه. والفضل هو لهذا الشعر في حفظ أخبار تلك الأيام، وصيانتها من النسيان، لاضطرار الراوي والسامع إلى الاطلاع على المناسبة التي قيلت فيها تلك الأشعار. وعلى هذه المادة العربية اعتماد المؤرخ في تدوين تأريخ العرب في الجاهلية، وتتبع التطورات السياسية التي حدثت قبيل الإسلام.
وفي شعر المخضرمين وشعر الشعراء الإسلاميين الذين نبغوا في العهد الأموي مادة تفيدنا في الوقوف على خبر تلك الأيام، فقد حفظ تفاخر الشعراء بقبائلهم ومهاجاة بعضهم لبعض آثار تلك الأيام، فدونت في شعر الهجاء والتباهي والتفاخر، وزاد بذلك علمنا الذي أخذناه من أخبار الأيام ومن الشعر الجاهلي الذي أشير فيه إليها.
وموضوع كموضوع الأيام، لا بد أن يُقبل العلماء عليه إقبالًا كبيرًا، وهذا ما وقع، فألف فيه جماعة، منهم "أبو عبيدة" المتوفى سنة "210" أو "211" للهجرة، وأدخله قوم في مؤلفاتهم، فأفردوا له بابًا أو أبوابًا، ولكنا لا نملك حتى اليوم كتابًا قديمًا قائمًا بذاته في الأيام. وكل ما نملكه هو هذه الأبواب الداخلة
__________
1 اللسان "16/ 139".
2 العقد الفريد "6/ 3 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 338".
Ency. I, P.218(10/13)
في بطون كتب الأدب في الغالب وفي بعض كتب التأريخ والجغرافيا، سأشير إليها في أثناء حديثي عن الشهير من هذه الأيام1.
وقد أشار "ابن النديم" وغيره إلى أسماء مؤلفين ألفوا كتبًا في أيام العرب2. منهم من ألف عنها كلها، ومنهم من ألف عن بعضها. ومنهم من ألف في أيام قبائل معينة. لكنها لم تطبع، ولعل من بينها من قد يطبع في المستقبل. وقد ورد أن "أبا الفرج الأصبهاني" قد استقصى أيام العرب في كتاب أفرده لذلك، فكانت أيامه ألفًا وسبعمائة يوم3.
ولكن هذه الأيام غير منسقة ويا للأسف، ولا مبوبة على حسب ترتيب الوقوع، وتسلسل الزمن. ثم إن من الصعب استخراج مستند منها يمكن الاعتماد عليه في تصنيف هذه الأيام، وتنظيمها على أساس تأريخي، مع أنها مادة المؤرخ الذي يريد كتابة تأريخ جزيرة العرب قبل الإسلام ودراسة التطور السياسي فيها. وقد حاول المستشرقون تنسيقها وترتيبها على أساس تواريخ الوقوع، فلم يفلحوا إلى الآن في الوصول إلى نتيجة مرضية. ولو كانت لدينا معارف عن أحوال من أسهم فيها وأجج نارها ومن قال شعرًا فيها4، تنير لنا السبيل لتثبيت التأريخ وضبط السنين، لصار في إمكاننا ضبطها وتعيين تواريخها استنادًا إلى هذا المروي عن أولئك. ولكن ما نعرفه عن هؤلاء الرجال، وهم أبطالها وأصحابها، ولا يقل غموضًا وإبهامًا من حيث التواريخ والسنين عن غموض تواريخ تلك الأيام وإبهامها، ولذلك فكل ما يقال عن تواريخ الأيام وترتيبها والسنين التي وقعت فيها، هو حدس وتخمين. وسيبقى الحال على ذلك، حتى تتهيأ مادة جديدة كنصوص جاهلية مدونة أو موارد أخرى قد تتعرض لتلك الأيام بتأريخها أو بتأريخ من اشترك فيها على وجه مضبوط صحيح. وعندئذ يكون في الإمكان تدوينها على نحو علمي يشرح لنا تطور الحوادث عند العرب قبيل الإسلام.
ولوجود مجال واسع للعب العاطفة في أخبار الأيام، تجب دراسة الروايات على حذر، والتفتيش -على قدر الإمكان- عن روايات متعددة عن اليوم الواحد،
__________
1 الفهرست "85"، العمدة "200/ 2 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 393".
2 الفهرست "148"، "أخبار هشام الكلبي".
3 بلوغ الأرب "2/ 68".
4 العمدة "2/ 300 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 393"، الفهرست "85".(10/14)
للمقارنة والمقابلة والغربلة، وليس هذا بأمر ميسور؛ لأن الروايات والأخبار محدودة، وهي ترجع بأخرةٍ إلى نفر تستطيع حصرهم. فهذه الأبواب، وإن كانت متعددة منثورة بين مؤلفات، دونها مؤلفون مختلفون، إلا أنها أخذت من ذلك النفر، فهي لم تأت لهذا السبب في ثناياها بشيء جديد.
وفي هذا النفر المذكور، نفر منحاز متحزب، يشايع قومه، ويريد نسبة الغلب والتفوق لهم، والغض جهد إمكانه من خصوم قومه ومن الأطراف التي خاصمت قومه واشتبكت معها في قتال، وهو مكثر بالنسبة لجماعته، مبالغ يسند مبالغاته بكلام منثور ومنظوم، ليثبت صحة قوله. ولهذا وجب الانتباه لهذه الناحية والحذر من تصديق كل رواية وإن نسبت إلى خيرة من نثق بعلمهم من الرواة.
وهذه الأيام ليست حروبًا بالمعنى المفهوم من الحرب، فإن منها ما هو مجرد مناوشات أو مهاترات وغزوات لم يسقط فيها إلا بضعة أشخاص، ومنها أيام وقعت في عدة سنين كانت تثار فيها الحرب حينما تتجدد المناسبات، وتنتهي بتسوية يتفق فيها على دفع ديات القتلى وإنهاء المشكلات التي كانت السبب في إثارة تلك الحرب، فإذا ما انتهت، بقيت القبيلة المنتصرة تفتخر بيومها وبأيامها، وبأسماء أبطالها الذين رفعوا اسمها فيها، وطالما جرَّ التباهي والتفاخر القبائل إلى حرب جديدة، بسبب جواب قد يصدر من سفيه عابث لا يرضيه سماع ذلك الفخر، أو من قبيلة مغلوبة لم يكن من السهل عليها أو على أفرادها سماع هذا الكلام.
والنابه من هذه الأيام، معدود عند بعض العلماء محدود. وقد حصرها "أبو عبيدة" في الأيام الكبيرة العظيمة, التي ساهم فيها عدد كبيرمن الفرسان. وجعلها: يوم الكلاب، ويوم ربيعة، ويوم جبلة, ويوم ذي قار1.
وأكثر أسباب هذه الأيام، هو عسف حكام القبائل القوية في القبائل الضعيفة الخاضعة لهم، بسبب الإتاوة التي كانوا يلحون في جبايتها غير مفكرين في الظروف والأوقات، أو بسبب نزاع على ماء ومرعى، أو أخذ بثأر. أو محاولة للتخلص من حكم القبائل على القبيلة بظهور شخصية قوية فيها، وأمثال هذه من أسباب قد يكون بينها سبب تافه سخيف، يؤدي إلى إزعاج المتخاصمين بسبب النزعات العاطفية التي تتغلب عند القبائل في غالب الأحوال على العقول.
__________
1 الأغاني "11/ 131".(10/15)
والعادة أن يُعَنْون اليوم باسم الموضع الذي حدثت فيه المعركة، أو بالشيء البارز في تلك الحرب، أو باسم القبائل التي اشتركت فيه. ومن هذه الأيام ما وقع بين قبائل قحطانية، ومنها ما وقع بين قبائل عدنانية، ومنها ما وقع بين قبائل قحطانية وقبائل يرجع النسابون نسبها إلى مضر وربيعة، وإلى معد، وإلى عدنان، فهي أيام وقعت إذن بين جماعتين هما في عرف النسابين من جدَّين، هما: قحطان وعدنان. وهما جدَّا كل العرب الأحياء.
ومن الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية: يوم البردان، ويوم الكُلاب الأول وعين أباغ ويوم حليمة ويوم اليحاميم، وأيام الأوس والخزرج. وأما أيام القحطانيين والعدنانيين. فمنها: يوم البيضاء، ويوم طخفة, ويوم أوارة الأول، ويوم أوارة الثاني، ويوم السلان، ويوم خزار ويوم حجر، ويوم الكلاب الثاني، ويوم فيف الريح، ويوم ظهر الدهناء 1.
وأما الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية، فمنها ما وقع بين قبائل ربيعة فيما بينها، ومنها ما وقع بين ربيعة وتميم، ومنها ما وقع بين قبائل قيس فيما بينها، ومنها ما وقع بين قيس وكنانة، ومنها ما وقع بين قيس وتميم، ومنها أيام ضبة وغيرهم2.
وهناك أيام وقعت بين العرب والفرس مثل يوم الصفقة ويوم ذي قار.
وقد تحدثت عن الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية، وعن الأيام التي وقعت بين العرب والفرس في الأماكن المناسبة الخاصة بها. فلست أجد حاجة ها هنا إلى الكلام عليها مرة ثانية، وسأقتصر هنا على الأيام الأخرى3.
والأيام بين ما يسمى بالقبائل العدنانية أكثر بكثير من الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية، وسبب ذلك هو أنها أكثر بداوة وأعرابية من القبائل الثانية، وأن من طبع البداوة: الفردية والخصومة والتنازع والتحاسد، بسبب ضيق العيش وقلة المال وتحول القبائل من مكان إلى مكان وراء الماء والكلأ. لذلك قل اجتماع العدنانيين تحت رئاسة رئيس واحد، وتقاتلوا وتخاصموا، وفضلوا الخضوع لحكم
__________
1 أيام العرب "ج وما بعدها".
2 أيام العرب "د وما بعدها".
3 المحبر "246".(10/16)
رئيس بعيد عنهم على الخضوع لرئيس منهم؛ لأن النفسية الأعرابية ترى في خضوع أعرابي لأعرابي من جنسه استكانة ومذلة. أما خضوعها لحكم غريب عنها فليس فيه شيء من ذلك، ولهذا خضعت لملوك المناذرة أو الغساسنة أو لكندة أو للتبابعة، ونفرت من الخضوع لرئيس عدناني لعقدة التنافس والتناحر بين ذوي القربى.
والقبائل العدنانية، قبائل خشنة شديدة المراس، القتال عندها طبيعة، ولو اتحدت وجمعت كلمتها ووحدت أمرها، لكانت قوة لا تغلب، ولكنها، وهي على هذه الصفة من التخاذل والتنافر، صارت خاضعة لحكم القحطانيين، وأخصهم التبابعة على ما يذكره الرواة. فكانوا يعينون عليهم حكامًا وينصبون عليهم أمراء منهم، بل يذكر أهل الأخبار أن العدنانيين كانوا يذهبون هم أنفسهم إلى أولئك التبابعة أحيانًا يطلبون منهم تنصيب شخص منهم، أو تعيين أمير عليهم من أصحاب المنزلة والمكانة؛ لأنهم سئموا من التقاتل والتشاحن، بقوا على ذلك دهرًا حتى سئموا حكم التبابعة والقحطانيين لهم، فثاروا عليهم كما يذكر أهل الأخبار.
وسأقتصر في هذا الفصل على الأيام المهمة التي كان لها في شئون السياسة القبلية شأن وخطر. أما الأيام الصغيرة التي لم يكن لها شأن يذكر. فأدع الحديث عنها إلا بقدره. وأما الحامل منها، فسأترك أمره إلى كتب الأخبار والأدب، لعدم وجود مكان لها في حديثنا العام عن تأريخ العرب قبل الإسلام.
ومن أمهات الأيام التي وقعت بين القحطانيين والعدنانيين: يوم طخفة، ويوم أوراة الأول، ويوم أوراة الثاني، ويوم السلان، ويوم خزاز، ويوم حجر، ويوم الكلاب الثاني، ويوم فيف الريح، ويوم ظهر الدهناء. وقد تحدثت عن بعضها في أثناء كلامي على ملوك الحيرة أو الغساسنة، وسأتحدث عما لم أتناوله من قبل.
ومن الأيام التي وقعت بين قبائل قحطانية وقبائل عدنانية، يوم يسمى بـ"يوم البيضاء" "البيداء"1 وكان سببه مجيء مذحج، وهي قبيلة قحطانية من اليمن، قاصدة متسعًا من الأرض وموطنًا جديدًا صالحًا، فاصطدمت بقبائل معد النازلة بتهامة، وتهامة هي موطن معد القديم في عرف أهل الأخبار، فبرزت لها قبيلة
__________
1 المحبر "246".(10/17)
عدوان ورئيسها يومئذ عامر بن الظرب العدواني. جمع عامر هذا من كان في تهامة من قبائل معد، وهاجم مذحجًا فغلبها في موضع "البيضاء" ويقول الأخباريون: إن هذا اليوم هو أول يوم اجتمعت فيه معد تحت راية واحدة، هي راية عامر بن الظرب. وقد اجتمعت بعدها مرتين تحت راية واحدة: مرة تحت راية ربيعة ابن الحارث في قضاعة، ومرة أخرى تحت راية كليب بن ربيعة1. فهذه المعركة هي من المعارك القديمة التي وقعت بين العدنانيين والقحطانيين على رأي الأخباريين.
وعامر بن الظرب هذا، رجل يعده الأخباريون من قدماء حكماء العرب وأئمتهم الذين تحاكم إليهم الناس، وصارت أحكامهم سنة يتبعونها. وقد ذكر أهل الأخبار أنه أول من قرعت له العصا. ويرون في تفسير ذلك أنه كان قد كبر وهرم، وكان الناس يأتون مع ذلك إليه ليحكموه فيما يقع بينهم من خلاف. فقال له أحد أولاده: "إنك ربما أخطأت في الحكم فيحمل عنك"، فقال عامر: "فاجعلوا لي أمارة أعرفها، فإذا زغت فسمعتها رجعت إلى الصواب": فجعلوا قرع العصا أمارة ينبهونه بها. فكان يجلس قدام بيته ويقعد ابنه في البيت ومعه العصا. فإذا زاغ أو هفا قرع له الجفنة فيرجع إلى الصواب2.
ولأهل الأخبار قصص عن عامر، فقد ذكروا أنه كان أول من جلس على منبر أو سرير وتكلم، ولجلوسه على منبر، سموه ذا الأعواد، ونسبوا إليه أحكامًا وحكمًا وأقوالًا وعمرًا طويلًا. وعدوه من الفصحاء البلغاء، وجعلوا أقواله مضربًا للأمثال 3.
وأخذ رؤساء معد على عاتقهم الخروج على طاعة حكام اليمن، أو من عينه هؤلاء الحكام عليهم، وذلك بعد ما تبين لهم من ضعف الحكم في اليمن ومن تقاتل المتنفذين فيها بعضهم مع بعض، ومن تدهور الأحوال هناك. وكانت اليمن قد ولت "زهير بن جناب" زعيم كلب على قبائل معد. وكلب من قبائل قضاعة، فوافقت معد على تعيينه وخضعت لحكمه، وأخذت تؤدي الإتاوة له. وكان يخرج في حاشية لجمع الإتاوة، فأصاب معدًا ضيق شديد، وأجدبت أرضهم، فتأخروا عن الدفع، فجاءهم زهير وألحَّ في مطالبتهم، فشكوا عجزهم، وطلبوا
__________
1 ابن الأثير "1/ 295"، جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام "ص224".
2 ابن الأثير "1/ 227"، الأغاني "3/ 3 وما بعدها".
3 المحبر "237 وما بعدها".(10/18)
إمهالهم والتخفيف عنهم. فما كان منه إلا أن منعهم النُّجْعَة والمرعى، فنقموا منه، وأصابهم من ذلك بلاء، فغضب عليه رجل منهم من بني "تيم الله"، اسمه زيابة، واندس إليه وهو نائم فطعنه، وظن أنه قتله، ورجع إلى قومه فأخبرهم بخبره، ولكن "زهيرًا" لم يصب بسوء، ونجا من الطعنة، وكان قد أخمد أنفاسه ولم يتحرك حتى يوهم "زيابة" أنه قتله ومات، ثم أوعز إلى حاشيته أن يعلنوا أنه مات، وشاع خبر موته بين الناس ولكنه كان قد فرَّ مع حاشيته إلى قومه، حيث جمع جمعهم، ثم هجم بهم على بكر وتغلب، وقاتلهم قتالًا شديدًا أدى إلى هزيمة بكر، ثم إلى هزيمة تغلب من بعدها، وأسر "كليبًا" و"مهلهلًا" ابني ربيعة، وجماعة من أشراف تغلب. فتأثرت قبائل ربيعة من هذه الهزيمة، وعينت "ربيعة بن مُرّة بن الحارث بن زهير التغلبي"، والد "كليب" و"مهلهل" رئيسًا عليها، فحمل ربيعة ومن انقاد إليه على زهير، واسترجع الأسرى، ولكن زهيرًا لم يلبث أن عاد إلى ما كان عليه من جمع الإتاوة من معد 1.
وإذا أخذنا برأي الأخباريين القائلين: إن تعيين زهير بن جناب على بكر وتغلب ابني وائل كان بأمر أبرهة الذي غزا نجدًا، وتوسع فيها، فجاءه زهير ليتقرب إليه، وليعينه على بعض القبائل، يكون حكم زهير على هذا القول في القرن السادس للميلاد2.
وفي عهد رئاسة "كليب بن ربيعة"، جددت قبائل ربيعة محاولاتها للتخلص من حكم اليمن. وكان "كليب" شخصية قوية، فاختارته قبائل معد رئيسًا عليها، واجتمعت تحت لوائه، والتقت باليمن في "يوم خزاز"، فانتصرت معد فيه، وعد من أيامها الكبرى قبل الإسلام3. ونظرت معد إلى كليب نظرة تجلة واحترام، وجعلت له قسم الملك وتاجه وطاعته؛ لأنه وحَّدهم وأنقذهم من
__________
1 المحبر "249"، ابن الأثير "1/ 238".
2 ابن الأثير، الكامل "1/ 205".
3 "خزاز" ورد أيضًا "خزازي"، العقد الفريد "6/ 97" "تحقيق العريان" ابن رشيق، العمدة "2/ 212"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، تحت "باب ذكر الوقائع والأيام".(10/19)
تعسف اليمن بهم1.
وقد داخل "كليب بن ربيعة" زهو شديد بعد هذا النصر، وبعد سيادته بني معد، فبغى على قومه، وصار يتعسف في إحماء الحمى، فلا يرعى حماه أحد، ولا يصاد فيه ولا تَرِدُ إبل مع إبله، ولا توقد نار مع ناره، وبقي كذلك حتى قتله "جسّاس بن مرّة الوائلي"، فتوالت الحروب بين تغلب وبكر ووائل بسبب ذلك2.
وقد اختلف الأخباريون في هذا اليوم، واختلفوا في اسم قائد قبائل معد فيه، واختلفوا في اسم ملك اليمن الذي في عهده وقع، واختلفوا في زمن وقوعه، وفي سببه، فقالوا: إن رئيس معد فيه هو "كليب بن ربيعة"، وقالوا: بل هو زُرارة بن عدس، وقالوا: لا، وإنما هو ربيعة بن الأحوص بن جعفر. ويذكر بعضهم أنه وقع بعقب يوم السلان، وأنه كان لجموع ربيعة ومضر وقضاعة على مذحج وغيرهم من اليمن3.
وذكر جماعة من أهل الأخبار، أن "الأحوص بن جعفر بن كلاب"، كان على نِزار كلها يوم خزاز، ثم ذكرت ربيعة أخيرًا من الدهر أن كليبًا كان على نزار. وتوسطت جماعة بين الرأيين، فقالت: كان كليب على ربيعة، وكان الأحوص على مضر4.
وسبب اختلافهم في ذلك هو دور العصبيات القبلية، والنزعات العاطفية عند الرواة. ذكر أهل الأخبار أن جماعة من وجوه أهل البصرة، كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويتنازعون في الرياسة يوم خزاز، فتعصب كل قوم لرئيس من الرؤساء الذين ذكرت. وقد تحاكموا إلى "عمر بن العلاء" وكانوا في مجلسه، فقال: ما شهدها عامر بن صعصعة ولا دارم بن مالك، ولا جُشَم بن بكر، اليوم أقدم من ذلك، ولقد سألت عنه، فما وجدت أحدًا من القوم يعلم من رئيسهم ومَن الملك5. وقد أنكر بعضهم أن يكون لكليب بن ربيعة دور
__________
1 ابن الأثير "1/ 238"، صبح الأعشى "1/ 39".
2 صبح الأعشى "1/ 391".
3 العمدة "2/ 212"، المحبر "ص249"، العقد الفريد "6/ 98" "طبعة العريان".
4 البلدان "3/ 438 وما بعدها"، العمدة "2/ 212" "محمد محيي الدين عبد الحميد".
5 العقد الفريد "6/ 97 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 420".(10/20)
بارز فيه. والظاهر أن روايات الرواة عن هذا اليوم، وهي شفوية بالطبع، كانت متضاربة تضاربًا كبيرًا بسبب بعد عهد ذاكرتهم عنه، كما كانت متنافرة بسبب العواطف والنزعات القبلية، وتعصب كل راوٍ لقبيلته. فلما جاء مدوِّنو الأخبار لجميع ما في حافظة رواة القبائل عن هذا اليوم، وجدوا اختلافًا كبيرًا، حاولوا جهد إمكانهم التوفيق بينه، واستخراج قصة موحدة عنه، فجاءوا بهذا الذي جاءوا به.
وترجع رواية من روايات أخبار هذا اليوم، سبب وقوعه إلى جباية أهل اليمن لقبائل معد. "كان الرجل منهم يأتي، ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها، فيأخذ من أموال نزار ما شاء، كعمال صدقاتهم اليوم، وكان أول يوم امتنعت معد عن الملوك: ملوك حمير"1. فلما ضجرت نزار وبقية قبائل معد من هذه الجباية القاسية، ومن هذا التعسف، هاجت على اليمن، وأعلنت عصيانها على القحطانيين، فوقع هذا اليوم. أوقدت نارًا على خزاز ثلاث ليال، ودخنت ثلاثة أيام. فلما أحست مذحج باجتماع "معد"، سارت على نزار ومن انضم إليها من معد، فوقع يوم خزاز.
وجاء في رواية أخرى. أن سبب هذا اليوم هو احتباس ملك من ملوك اليمن أسرى من مضر وربيعة وقُضاعة، وامتناعه عن فك أسرهم، وذلك في عهد "كليب". فجاءه وفد من بني معد فيهم: سَدُوس بن شيبان بن ذُهْل، وعوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، وعوف بن عمرو بن جشم بن ربيعة بن زيد مناة، وجشم بن ذهل بن هلال. فلقبهم رجل من بهراء يسمى عبيد بن قُراد. وكان في الأسر وكان شاعرًا، فسألهم أن يدخلوه في عدة من يسألون. فكلموا الملك فيه وفي الأسرى، فوهبهم لهم، وأبقى الملك بعض أفراد الوفد رهائن حتى يأتي الباقون برؤساء قومهم ليأخذ عليهم مواثيق الطاعة. فرجع الباقي إلى قومهم وأخبروهم الخبر، فاجتمعت ربيعة ومعد تحت راية "كليب بن ربيعة" "كليب وائل"، فسار ومعه "السفاح التغلبي" وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن تغلب، وقد جعله "كليب" على مقدمة معد، وأمر "كليب" أن توقد النار على خزاز، ليهتدوا
__________
1 العقد الفريد "6/ 97 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 420 وما بعدها".(10/21)
بها. فلما سمعت مذحج باجتماع ربيعة، استعدت هي ومن يليها من قبائل اليمن للقتال، وساروا إليهم، فلما سمع أهل تهامة بذلك انضموا إلى ربيعة، وساروا كلهم إلى خزاز. فلما التقى الطرفان، اقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزمت مذحج شر هزيمة فيه1.
ولياقوت الحموي رواية أخرى في سبب وقوع هذا اليوم، فهو يقول: إن مضر وربيعة اجتمعت على أن يجعلوا منهم ملكًا يقضي بينهم، فكلٌّ أراد أن يكون منهم، ثم تراضوا أن يكون من ربيعة ملك ومن مضر ملك، ثم أراد كل بطن من ربيعة ومن مضر أن يكون الملك منهم، ثم اتفقوا أن يتخذوا ملكًا من اليمن، فطلبوا ذلك إلى بني آكل المرار من كندة، فملكوا أولاد الحارث بن حجر الكندي عليهم، ثم ما لبثوا أن ثاروا عليهم وقتلوهم، فكان حديث يوم الكلاب.
ولم يبق من ولد الحارث غير سلمة، فجمع جموع اليمن وسار ليقتل نزارًا، وبلغ ذلك نزارًا فاجتمع بنو عامر وبنو وائل، وتغلب وبكر، وبلغ الخبر كليب وائل، فجمع ربيعة، وقدم على مقدمته السفاح التغلبي، فكان يوم خزاز، وقد انتصر بنو نزار فيه على القبائل اليمانية2. وهذه الرواية قريبة جدًا من رواية "اليعقوبي" عن هذا اليوم3.
وقد أشار "عمرو بن كلثوم التغلبي" إلى هذا اليوم، وافتخر به، كما افتخر بـ"كليب وائل"، وذكر أن قومه أعانوا نزارًا في محاربتهم اليمن في ذلك اليوم4. وذكر بعض أهل الأخبار أنه "لولا عمرو بن كلثوم ما عُرف يوم خزاز"5. وذلك لذكره له في شعره.
وقد ذكر هذا اليوم عدد أخر من الشعراء منهم "زهير"6.
__________
1 ابن الأثير الكامل "1/ 243"، "1/ 312"، النقائض "1093" "بيفان"، العقد الفريد "5/ 245"، ابن الأثير "1/ 310" "المنيرية"، نقائض جرير والفرزدق "452"، الجمحي، الطبقات "31"، العقد الفريد "3/ 364"، أيام العرب "109".
2 البلدان "3/ 428 وما بعدها"، أيام العرب "109 وما بعدها".
3 اليعقوبي "1/ 184".
4 شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص130" ابن الأثير الكامل "1/ 312".
5 البكري، معجم ما استعجم "2/ 496" "باب حرف الخاء" العقد الفريد "6/ 97 وما بعدها".
6
شهدت الوافدين على خزاز ... وبالسلان جمع ذا ثواه
البكري ومعجم "2/ 496".(10/22)
والسفاح التغلبي، وهو سلمة بن خالد بن الجرارين للجيوش، وقد قاد قومه يوم كاظمة، وقيل له السفاح؛ لأنه سفح المزاد أي صبَّها في ذلك اليوم حتى يقاتل قومه قتال المستميت، وكان من خطباء حرب بكر وتغلب1.
وذهب بعض أهل الأخبار إلى أن يوم خزاز هو "أعظم يوم التقت فيه العرب في الجاهلية"2. وهو رأي يعبر عن وجهة نظر العدنانيين بالطبع، ففي هذا اليوم انتصرت نزاز ومن انضم إليها من قبائل مذحج ومن انضاف إليها من قبائل اليمن ولم يسبق لقبائل نزار، وهي مضر وربيعة وبقية معد أن تغلبت على القبائل الكبرى المنظمة المنتمية إلى اليمن. فكان يوم نصرها هذا من أعظم الأيام عندها، بعث فيها روح المقاومة والاعتماد على النفس في مقاومة القبائل القوية التي تنسب نفسها إلى اليمن.
وإذا أخذنا برأي القائلين: إن يوم خزاز كان عقب يوم السلان، يكون هذا اليوم قد وقع أيام النعمان بن المنذر، أي في أواخر أيام المناذرة وفي النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، إذا يذكر الأخباريون أن سببب وقوع يوم السلان هو أن بني عامر بن صعصعة كانوا قومًا حمسًا، أي متشددين في دينهم، لقاحًا لا يدينون للملوك, وكان من عادة النعمان بن المنذر أن يجهز كل عام لطيمة لتباع بعكاظ، فتعرَّض لها بنو عامر، فغضب النعمان، وبعث عليهم وَبْرة الكلبي أخاه لأمه ومعه الصنائع والوضائع وجماعة من بني ضبة بن أد والرباب وتميم، وانضم إليهم ضرار بن عمرو وأولاده، وهم فرسان شجعان، وحبيش ابن دلف، وطلب منهم أن يذهبوا إلى عكاظ فإذا فرغوا من البيع، وانسلخت الأشهر الحرم، قصدوا بني عامر بنواحي السلان.
فلما فرغوا من عكاظ. علمت بخطتهم قريش، وأرسل عبد الله بن جُدعان قاصدًا أخبر بني عامر بغرض القوم، فحذروا وتهيئوا للحرب. وتحرزوا ووضعوا العيون، وسلموا قيادتهم لفارس شهير معروف هو عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة، فلما التقوا تغلبوا على قوة النعمان وهزموها، وأخذوا وبرة أسيرًا. ولم يفكوه من أسره إلا بألف بعير وفرس3.
__________
1 الاشتقاق "ص203"، المحبر "ص300".
2 البلدان "3/ 428 وما بعدها".
3 البلدان "5/ 104"، "يوم السلان"، ابن الأثير، الكامل "1/ 268".(10/23)
ويدخل يوم الكلاب الثاني في عداد هذه الأيام. وقد وقع عقب يوم الصفقة، وقع بين تميم وبني سعد والرباب وبين مذحج ومن التلف حولها من قبائل اليمن.
فلما بلغ مذحج ما حل بتميم بالمشقر وبهجر بعد الصفقة، وما سمعته من تخوفهم من انتقام كسرى مرة ثانية منهم ومن دوران العرب عليهم، مشى رجال مذحج بعضهم إلى بعض، وقالوا: اغتنموا بني تميم، ثم بعثوا الرسل في قبائل اليمن وأحلافها من قضاعة، ثم سألت مذحج كاهنها المأمور "الحارثي" في أمر هذا الهجوم فنهاها، ولكنها لم تأخذ برأيه، بل سارت طامعة في تميم، وقد جمعت اثنى عشر ألف مقاتل، من مذحج وهمدان وكندة: وهو أعظم جيش أخرجه العرب كما يقول علماء الأخبار1. وكان من رجالهم يزيد بن عبد المدان، ويزيد ابن المخرم، ويزيد بن الكيشم "الكيسم" "اليكسم" بن المأمور "المأموم"، ويزيد بن هوبر. وهم كلهم حارثيون، ومعهم عبد يغوث الحارثي، وأقبلت بنو سعد والرباب. ورئيس الرباب النعمان بن جساس ورئيس سعد بن قيس بن عاصم، والتقت في أوائل الناس بجموع مذحج وهمدان وكندة، واختلطوا واقتتلوا قتالًا شديدًا انتهى في آخر النهار بمقتل "النعمان بن جساس". وقد دفع مقتله بني تميم على الثبات والوقوف للأخذ بالثأر، حتى تمكنت من الانتقام لنفسها، بأن انتصرت على اليمن. فأسر "عبد يغوث بن وقاص الحارثي"، "عبد يغوث ابن صلأة الحارثي" سيد "بني الحارث"، وقتل خمسة من أشراف اليمن، وأخذت الرباب "عبد يغوث" وقتلته بقتل "النعمان بن جساس". وهكذا انتهى هذا اليوم بفوز بن تميم. وكان رئيسها في هذا القتال: قيس بن عاصم، ويسمى الكلاب الثاني: يوم جز الدوابر2. ودعاه "ابن رشيق القيرواني" بـ"يوم الشعيبة"3.
ونعت بعض أهل الأخبار اليزيديين الأربعة المذكورين وهم قادة القوم: يزيد بن هوبر، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المأموم، ويزيد بن المخرم،
__________
1 "فلا يعلم جيش في الجاهلية كان أكبر منه"، العقد الفريد "6/ 78 وما بعدها".
2 النقائض "1/ 452 وما بعدها" "بيفان" العقد الفريد "6/ 78 وما بعدها"، البكري، معجم ما استعجم "4/ 1132"، النقائض "2/ 1075"، ابن الأثير الكامل "1/ 379"، العقد الفريد "5/ 225"، نهاية الأرب "15/ 406 وما بعدها".
3 العمدة "2/ 206".(10/24)
بـ"أربعة أملاك"1. ويدل ذلك على أنهم كانوا يلقبون بلقب ملك، وأن "بني الحارث" كانوا قد نصبوهم عليهم، وإن كان لقب "ملك" لا يتجاوز في الواقع لقب "شيخ" في عرف هذا اليوم.
وكان من أبرز رجال تميم في هذا اليوم سبعة من رؤسائهم، هم: أكثم بن صيفي، والأحيمر "الأعيمر" بن يزيد بن مُرة المازني، وقيس بن عاصم المنقري، وأبير بن عصمة التيمي، والنعمان بن جساس "الحسحاس" التيمي، وأَبين بن عمرو السعدي، والزبرقان بن بدر السعدي2. وبرز فيه اسم "مصاد بن ربيعة بن الحارث"، و"عصمة بن أبير التيمي" وهو الذي أسر "عبد يغوث" و"قبيصة بن ضرار الضبي"، وهو الذي شد على "ضمرة بن لبيد الحماسي الكاهن" فطعنه وخر صريعًا، فقال له قبيصة: ألا أنبأك تابعك بمصرعك اليوم3.
وأما "الكلاب الأول"، فكان لسلمة بن الحارث بن عمرو المقصور، ومعه: بنو تغلب والنمر بن قاسط، وسعد بن زيد مناة والصنائع، على أخيه "شرحبيل ابن الحارث بن عمرو"، ومعه بكر بن وائل بن حنظلة بن مالك، وبنو أسد، وطوائف من بني عمرو بن تميم، والرباب، فقتل "شرحبيل"، قتله "أبو حنش عاصم بن النعمان الجشمي" ويقال: بل قتله "ذو الثنيّة حبيب ابن عُتبة الجشمي" 4.
ومن هذه الأيام يوم "فيف الريح"، وهو موضع بأعلى نجد، وقع بين مذحج وعامر, وسببه أن "بني عامر" كانوا يطلبون "بني الحارث بن كعب" بأوتار كثيرة، فجمع لهم الحصين بن يزيد الحارثي، وكان يغزو بمن تبعه من قبائل مذحج وأقبل في بني الحارث وجُعْفي، وزبيد، ومراد، وقبائل سعد العشيرة، ومراد، وصداء، ونهد، واستعانوا بقبائل خَثعم وعليهم أنس بن مدرك، فخرج شهران وناهس وأكلب عليهم أنس بن مدرك، وأقبلوا يريدون بني عامر، وهم منتجعون "فيف الريح"، ومع مذحج النساء والذراري، حتى لا يفروا، إما ظفروا وإما ماتوا جميعًا. فاجتمعت بنو عامر كلها إلى
__________
1 نهاية الأرب "15/ 408".
2 نهاية الأرب "15/ 407"، أيام العرب "124".
3 نهاية الأرب "15/ 410".
4 العمدة "2/ 206" "ط. محمد محيي الدين عبد الحميد".(10/25)
عامر بن الطفيل "عامر بن مالك ملاعب الأسنة"، والتقى الجمعان في قتال لم يعط نصرًا بينًا لأحد الطرفين، إذ وقع القتل في الفريقين، ولم يستقل بعضهم عن بعض غنيمة، وكان الصبر والشرف لبني عامر. وممن قتل أو جرح فيه: الصُميل بن الأعور الكلابي، وحسيل بن عمرو الكلابي، وخليف بن عبد العزى النهدي، وكعب الفوارس بن معاوية بن عبادة بن البكاء، وعامر بن الطفيل1.
ومن أيام القحطانيين مع العدنانيين "يوم ظهر الدهناء". كان أوس بن حارثة بن لأم سيدًا في قومه طيء، مطاعًا فيهم، جوادًا معروفًا، حباه النعمان ابن المنذر حلة على العادة المتبعة عند ملوك الحيرة في تكريم الرؤساء الذين يفدون عليهم، وفضله على غيره، بأن طلبه وكان غائبًا دون قوم من السادة الأشراف, فاغتاظ حساده من ذلك وأوعزوا إلى بعض الشعراء بهجائه، فهجاه بشر بن أبي خازم وهو من بني أسد، وأسرف في هجائه، فاغتاظ أوس من ذلك، وجمع قومه من طيء، وأوقع ببني أسد بظهر الدهناء، وقتل منهم قتلًا ذريعًا، فانهزمت منه، وهرب بشر، فجعل لا يأتي حيًّا يطلب جوارهم إلا امتنع من إجارته على أوس إلى أن التجأ إلى أم أوس، فأجارته، وأجاره أوس عندئذ، وعفا عنه، ومن عليه وأعطاه وحباه، فانقلب مادحًا له2.
والأيام التي ذكرها الأخباريون عن حروب العدنانيين مع ملوك اليمن للحصول على استقلالهم، قليلة، ولا يعني حكم اليمن للعدنانيين أن تبابعة اليمن كانوا يحكمون تلك القبائل حكمًا مباشرًا، وإنما هو في الواقع وكما يظهر من غربلة هذه الروايات حكم كان يتسع ويتقلص تبعًا لقدرة الحكام وشخصياتهم، ولاتفاقاتهم مع سادات تلك القبائل؛ ولأن القبائل العدنانية هي قبائل بدوية في الغالب لا تستقر على حال، ومن طبع البداوة التنازع والتخاصم. ثم إن سادات القبائل كانوا كما هو شأنهم في كل وقت متنافسين متخاصمين، لذلك وجد ملوك اليمن، وهم ملوك
__________
1 الميداني "2/ 308"، الأغاني "5/ 21"، البلدان "6/ 413"، النقائض "469"، العقد الفريد "3/ 359"، ذيل الأمالي "146"، أيام العرب "132"، نهاية الأرب "15/ 414 العمدة "2/ 413".
2 راجع ديوان بشر بن أبي خازم الأسدي، تحقيق الدكتور عزة حسن، دمشق 1960 ابن الأثير الكامل "1/ 262", بلوغ الأرب "1/ 84", ابن الأثير "1/ 382", الشعر والشعراء "86"، أيام العرب "137 وما بعدها".(10/26)
شعب أكثريته مستقرة، من السهل عليهم التدخل في شئون تلك القبائل بتأييد هذا الرئيس على منافسه، وبتعيين رئيس من رؤساء القبائل الكبيرة على قبيلة أو جملة قبائل أخرى ضعيفة أو متخاصمة، لتهيئة الحال وإقرار الأمن. فصار من العادة بين القبائل العدنانية، بل بين القبائل القحطانية كذلك، أو بين كبار سادات القبائل، أن يلجئوا إلى التبابعة للتدخل في الخصومات وإقرار الأمن بالحكم بين المتخاصمين، أو بتعيين رجل محترم كبير من اليمن أو من غير اليمن عليهم. ونجد بين روايات الأخباريين روايات تؤيد هذا الرأي.
ويدخل الأخباريون في أيام العدنانيين مع القحطانيين الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية وبين ملوك الحيرة لاعتدادهم من قحطان. وكذلك يدخل أهل الأخبار في أيام القحطانية مع العدنانية الأيام التي وقعت بين ملوك بني سليح والغساسنة من بعدهم وبين القبائل العدنانية، والأيام التي وقعت بين كندة وبين القبائل العدنانية.
وإذ أسلفت الكلام على أيام تلك الحكومات مع القبائل العدنانية في المواضع المناسبة، فإني أكتفي بالإشارة إليها، على أمل الرجوع إلى تلك الأماكن لمن يريد الوقوف عليها.
أما أشهر أيام القحطانيين، فالأيام التي وقعت بين المناذرة والغساسنة، والأيام التي وقعت بين هؤلاء الملوك وملوك كندة وأمرائها. ثم الأيام التي وقعت بين القبائل المنتسبة إلى اليمن، مثل الأيام التي وقعت بين الأوس والخزرج، والأيام التي وقعت بين قبائل طيء، وأمثال ذلك. ولما كنت قد تحدثت عن معظم هذه الأيام، فسأكتفي بما تحدثت عنها، وأتحدث عن النابه من بقية الأيام فقط مما لم أتحدث عنه سابقًا.
وتؤلف الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية الجزء الأكبر من أيام العرب، وهي أهمها وأغناها بالشعر والأمثال والقصص. وكان لتميم وبكر وتغلب أثر خطير فيها. وأشهر هذه الحروب، الحرب المسماة بحرب البسوس، وقعت بين بكر وتغلب ودامت أربعين عامًا على ما يذكره الأخباريون.
وتغلب وبكر هما من قبائل ربيعة، لذلك تكون حرب البسوس من الحروب التي وقعت بين قبائل ربيعة؛ لأن أيام العدنانيين هي أيام وقعت بين قبائل ربيعة وحدها، وأيام وقعت بين قبائل من ربيعة وقبائل من مضر، وأيام وقعت بين(10/27)
قبائل مضر1.
وذكر بعض أهل الأخبار أن أشهر أيام بكر وتغلب، خمسة أيام مشاهير.
أولها يوم عنيزة وتكافئوا فيه، والثاني يوم واردات، وكان لتغلب على بكر. والثالث يوم الحنو، وكان لبكر على تغلب. والرابع يوم القصيبات، وكان لتغلب على بكر. والخامس يوم قضة، وهو آخر أيامهم، وكان لبكر. وفيه أسر مهلهل من ربيعة2.
وتولد من هذه الحرب قصص وشعر. نسب إلى أبطال الأيام التي وقعت فيها، وأمثلة ذُكر أنها قيلت في المناسبات، صارت على العادة أمثلة شائعة بين الناس3.
وليست حرب البسوس في الواقع حربًا واحدة، إنما هي حروب عدة وقعت في تلك المدة المذكورة, وفي أوقات متقطعة إلى أن انقطعت بوساطة المنذر بن ماء السماء وتدخله بين الفريقين.
والذي أثار نيران هذه الحرب هو جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان أخو "جليلة" امرأة كليب بن ربيعة سيد قبيلة تغلب، وذلك بقتله كليبًا؛ لأنه أدمى ضرع ناقة للبسوس خالة جساس، إذ كانت ترعى في أرض حماها كليب ومنع الرعي فيها إلا لإبله. وقد أثار عمل كليب هذا غضب جساس، فقتله، وثارت بذلك الحرب بين تغلب وبكر قوم جساس.
وكليب بن ربيعة، أو "كليب وائل" كما يعرف عند بعض أهل الأخبار، هو وائل بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو
__________
1 المعارف "605 وما بعدها"، المختصر في أخبار البشر، لأبي الفداء "1/ 95 وما بعدها"، الشعر والشعراء "99 وما بعدها"، العقد الفريد "5/ 213 وما بعدها"، سبائك الذهب "105"، مقامات الحريري "260"، الأغاني "4/ 139 وما بعدها"، فرائد اللال في مجمع الأمثال، لإبراهيم بن السيد على الأحدب الطرابلسي، "1/ 319 وما بعدها"، "المطبعة الكاثوليكية، بيروت"، صبح الأعشى "1/ 391 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 312"، نهاية الأرب "15/ 396".
2 الشعر والشعراء "166".
3 الأغاني "4/ 140 وما بعدها"، أبو تمام، الحماسة "420 وما بعدها"، مجمع الأمثال "1/ 342"، النقائض "773"، شيخو: شعراء النصرانية "151، 160، 246، 270"، نهاية الأرب "15/ 396 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 241 وما بعدها" Ency. I, P.674(10/28)
ابن غنم بن تغلب1. رجل صلب قوي، تمكن بمواهبه وبقدرته من السيطرة على قبائل ليست السيطرة عليها بأمر سهل يسير، ومن إقامة نفسه ملكًا عليها، ومن أخذ الإتاوة من القبائل، ومن الانتصار على قبائل اليمن في يوم خزاز. وبقي على ذلك دهرًا، حتى داخله: زهو شديد، فأخذ يبغي على القبائل ويشتط في أخذ الإتاوة منها وفي اتخاذ خيرة الأرضين المخصبة أحماء لا يجوز لإبل غيره الرعي فيها، ولا الاستيلاء على مواضع الماء، حتى ضجرت الناس منه، فكانت نتيجتة ما تقدم2.
وأخذ المهلهل "واسمه عدي بن ربيعة"، وهو أخو كليب على نفسه عهدًا بأن يترك النساء، والغزل، والقمار، والشراب، حتى يثأر بقتل أخيه، وجمع قومه، ووقعت حروب. ومهلهل هذا هو أول من هلهل الشعر، أي أرقه على حد رواية أهل الأخبار3.
وقد أقام أصحاب "كليب" قبة رفيعة على قبره، تكريمًا له4. شأن الجاهليين في ذلك الزمن من إقامة القباب على قبور الكبار.
وفي جملة الأيام التي يدخلها أهل الأخبار في حرب البسوس: يوم النهي، ويوم الذنائب، ويوم واردات، ويوم عنيزة، ويوم القصيبات، ويوم تحلاق اللمم5.
وكما كان كليب سيد تغلب، كذلك كان زهير بن جذيمة العبسي سيد قيس عَيْلان، وقيس عيلان قبائل كبرى عديدة. كان لها شأن بين القبائل وخطر، ترأس غطفان، وقادها كلها وساد على عبس وذبيان، ولمكانته هذه ولسؤدده تزوج إليه النعمان بن امرئ القيس ملك الحيرة، فتوسع بذلك نفوذه وعظمت منزلته عند القبائل، ولا سيما القبائل المتصلة به والقبائل الخاضعة لملوك الحيرة.
__________
1 للأخباريين أقوال في سبب تسميته بكليب، راجع عن ذلك: الكامل، لابن الأثير "1/ 214"، الاشتقاق "ص204".
2 ابن الأثير "1/ 214 وما بعدها"، العقد الفريد "راجع فصل أيام العرب"، النقائض "905 وما بعدها"، الميداني "1/ 254"، خزانة الأدب "1/ 301 وما بعدها".
3 نهاية الأرب "15/ 398 وما بعدها".
4 أيام العرب "165".
5 ابن الأثير "1/ 183"، العقد الفريد "3/ 348"، البلدان "1/ 139"، الأغاني "5/ 132" مجمع الأمثال "1/ 342"، خزانة الأدب "1/ 425"، أيام العرب "142".(10/29)
واتفق أن أحد أولاد زهير -واسمه شأس- كان عائدًا من زيارته للنعمان ومعه هدايا ثمينة وألطاف فاخرة حباه بها النعمان، فطمع به رجل من غني اسمه "رياح بن الأسك الغنوي" وقتله بموضع منعج. فلما علم بذلك أبوه، أخذ بقتل كل من وقعت عليه يده من غني. وغزت بنو عبس غنيًّا ومعها الحصين بن زهير أخو شأس، فطلبت غني من رياح ترك أرضها والارتحال عنها، وصار هذا القتل سببًا لإثارة البغضاء بين عبس وغني لما أوقعه زهير بغني من القتل1.
ويوم منعج ويسمى أيضًا بـ"يوم الردهة"2، من الأيام التي وقعت بين قبائل قيس. ومن هذه الأيام: يوم النفراوات "النفرات"، ويوم بطن عاقل وداحس والغبراء، والرقم، والنتاءة، وحوزة الأول، وحوزة الثاني، واللوى3.
وكان زهير يأخذ الإتاوة من هوازن كرهًا، تدفعها إليه كل عام بسوق عُكاظ وهي مكرهة. وكانت هوازن تعترف بسيادته عليها وتعتبره ربًا، وهي يومئذ لا خير فيها، وإنما هي رعاة الشاء في الجبال. فإذا كانت أيام عكاظ. أتاها زهير، ويأتيها الناس من كل وجه، فتأتيه هوازن بالإتاوة التي عليهم، فيأتونه بالسمن والأقط والغنم، ثم إذا تفرق الناس نزل بالنفراوات. فلما كان الدفع، ذهب زهير على عادته لأخذ الإتاوة، انتهز "خالد بن جعفر بن كلاب" هذه الفرصة، فذهب إلى هوازن، وحرضها على زهير. فلما بلغ زهير أطراف بلاد هوازن، باغته خالد بن جعفر ومعه جمع من هوازن، فقتل زهير، ورجع به أبناؤه إلى بلادهم ليدفنوه. وقد عرف اليوم الذي قتل فيه زهير بيوم النفراوات4.
وعزمت غطفان على الأخذ بثأر زهير من خالد، فخاف خالد على نفسه منها، وفرَّ إلى الحيرة ليستجير بالنعمان في رواية، أو بالأسود بن المنذر في رواية أخرى. عندئذ تعهد الحارث بن ظالم المري. وهو فاتك معروف. لبني زهير بقتل خالد إذا كفت غطفان عن هوازن. وقد برَّ بوعده، إذ اغتاله وهو في قبة كان
__________
1 الأغاني "10/ 8"، مجمع الأمثال "2/ 268"، ابن الأثير، الكامل "1/ 337"، نهاية الأرب "15/ 344 وما بعدها".
2 نهاية الأرب "15/ 344 وما بعدها".
3 أيام العرب "229".
4 "النفرات" "النفراوات"، نهاية الأرب "15/ 346"، الأغاني "11/ 84 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية"، العقد الفريد "6/ 5 وما بعدها".(10/30)
النعمان قد أمر بنصبها له. وذلك ببطن عاقل، فعرف اليوم به1. فلما علم بذلك النعمان، أمر بطلبه ليقتله بجاره، وأخذت هوازن تطالب به لتقتله بسيدها خالد. ففر الحارث إلى بني دارم من تميم، واستجار بضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن، فأجاره ضمرة على النعمان وهوازن، فكان ذلك سببًا لتجهيز النعمان جيشًا على بني دارم انتقامًا منها لتجاسرها على إيواء من يطلب قتله.
وورد في رواية أخرى أن لجوء "الحارث بن ظالم" كان إلى "معبد بن زرارة"، وأن بني تميم استاءت من لجوئه إليه؛ لأنه أوى هذا المشئوم الأنكد، وأغرى بهم الأسود ملك الحيرة، وخذلوه غير بني ماوية وبني عبد الله بن دارم2.
وجاء في خبر أن "الحارث بن ظالم" كان عند "حاجب بن زرارة بن عدس بن عبد الله بن دارم". وقد وعده النصرة والمنعة، وبلغ الأحوص بن جعفر الكلابي أخو خالد بن جعفر، مكان الحارث بن ظالم، فسار على تميم, حتى أدركها بـ"حرحان"، فاقتتلوا اقتتالًا شديدًا، وانهزمت بنو تميم، وأسر معبد بن زرارة، أسره عامر والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب. فوفد لقيط بن زرارة في فدائه، وعرض عليهما مئتى بعير في فدائه، فامتنعا قائلين: أنت سيد الناس، وأخوك معبد سيد مضر، فلا تقبل فيه إلا دية ملك. فأبى أن يزيدهم، ورحل لقيط عن القوم ومنع بنو عامر معبدًا عن الماء وضاروه حتى مات هزالًا. وورد في رواية أنه أبي أن يطعم شيئًا أو يشرب حتى مات هزالًا3.
وأمر النعمان جيشه بالتوجه إلى بني دارم، وانضم إليه الأحوص بن جعفر أخو خالد، ومعه جمع بني عامر، للانتقام من الحارث قاتل خالد. فعلمت بنو دارم بمجيء الجيش, واستعدوا للقتال، فلما التقى الجمعان، قتلت بنو مالك ابن حنظلة "ابن الخمس التغلبي" رئيس جيش النعمان، وصبرت بنو دارم، وأقبل قيس بن زهير فيمن معه، فانهزمت بنو عامر، وانهزم جيش النعمان, وعادوا إلى ديارهم، وكان رئيس بني دارم زرارة بن عدس سيد بني تميم.
__________
1 نهاية الأرب "15/ 348".
2 نهاية الأرب "15/ 349".
3 العقد الفريد "3/ 360"، الأغاني "10/ 30"، ابن الأثير "1/ 341"، النقائض "1/ 214"، نهاية الأرب "15/ 349" وما بعدها.(10/31)
وهناك روايات أخرى عن هذا الحادث وعن الحارث ذكرتها في الفصول السابقة1.
وصارت الرئاسة إلى قيس بعد مقتل والده "زهير بن جذيمة العبسي"، ويصفة الأخباريون بجودة الرأي وبحسن التجارب، ويقولون: إنه لذلك عرف بـ"قيس الرأي"، ويذكرون له في ذلك أقوالًا وحكمًا ونصائح، ويروون طائفة من ذلك، ولا سيما مما قاله في مناسبات حرب داحس والغبراء.
ويذكر أهل الأخبار أن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي، كان قد سار إلى المدينة ليتجهز لقتال عامر، والأخذ بثأر أبيه، فأتى "أحيحة بن الجُلاح" ليشتري منه درعًا موضونة، فقال له: لا أبيعها، ولولا أن تذمني بنو عامر لوهبتها منك، ولكن خذها بابن لبون. ففعل ذلك، وأخذ الدرع، ووهبه أحيحة أدراعًا، وعاد قيس إلى قومه، فاجتاز بالربيع بن زياد العبسي، فدعاه إلى مساعدته على الأخذ بثأره، فأجابه إلى ذلك. فلما أراد فراقه، نظر إلى عيبته فقال: ما في حقيبتك؟ قال: متاع عجيب، لو أبصرته لراعك، وأناخ راحلته، وأخرج الدرع، فأخذها ومنعها من قيس، ولم يعطه إياها، وترددت الرسل بينهما. فلما طالت الأيام على ذلك، سيّر قيس أهله إلى مكة، فأغار قيس على نعم الربيع، واستاق منها أربعمائة بعير، وسار بها إلى مكة وباعها إلى عبد الله بن جدعان واشترى بها خيلًا، وتبعه الربيع فلم يلحقه، فكان فيما اشترى من الخيل داحس والغبراء2.
وقد اقترن اسم قيس بهذه الحرب الشهيرة التي يتناقل الناس قصصها الطريفة حتى اليوم، وهي حرب ثارت بين عبس وذبيان بسبب اختلاف على سباق خيل كان قد تراهن عليه حذيفة بن بدر بن فزارة سيد ذبيان وقيس بن زهير، اشتركت فيه خيار خيل قيس وحذيفة وفي مقدمتها داحس والغبراء والخطار والحنفاء. وقد ادعى كل واحد من المتنافسين أن فرسه كان السابق، وأنه هو الكاسب للرهان في قصص طويل يتخلله شعر وكلام وجواب. وانتهى النزاع إلى ما ينتهي إليه
__________
1 ابن الأثير "1/ 229 وما بعدها"، الأغاني "8/ 10"، مجمع الأمثال "2/ 268"، العقد الفريد "6/ 7 وما بعدها".
2 ابن الأثير، الكامل "1/ 343 وما بعدها".(10/32)
كل نزاع من هذا القبيل، وهي الحرب1.
وهي حرب استمرت سنتين، قتل فيها حذيفة بن بدر وعدة رؤساء، واشتركت فيها شيبان وضبّة وأسد وغطفان وقبائل أخرى، كما ساهم فيها ملك هجر، وامتدت إلى أن اتصلت بالإسلام. وللشاعر زهير بن أبي سلمى ذكر فيها. ولم تنته إلا بتوسط الرؤساء حيث سويت بدفع الديات، وبإنهاء تلك الحرب التي شغلت تلك القبائل وأقلقت الأمن لذلك السبب التافه على زعم قول الرواة2.
وفي جملة حروب داحس والغبراء، يوم العذق، وهو ماء، انهزمت فيه فزارة، وقتُلوا قتلًا ذريعًا، وأسر حذيفة، فاجتمعت غطفان وسعت للصلح. فاصطلحوا على أن يهدر دم بدر بن حذيفة بدم مالك أخي قيس، وتساووا فيما بقي، فأطلق حذيفة من أسره.
ثم وقعت حرب أخرى، مثل يوم "البوار"، وكان الفوز فيه لعبس على فزارة وأسد وغطفان، ويوم الهباءة، ويوم الجراجر، إلى غير ذلك من أيام3.
ولامتداد هذه الحرب سنين عديدة، وانتشارها خارج نطاق حدود قبيلتي عبس وذبيان، شملت أرضين واسعة، تخللتها جملة أيام لها أسماؤها. وهي بالطبع كلها من أيام هذا الحرب: حرب داحس والغبراء.
وإذا قرأت قصة داحس والغبراء، قرأت قصص شجاعة بطل مغوار أظهر
__________
1 الأغاني "11/ 86 وما بعدها" "دار الكتب" "16/ 24 وما بعدها" "17/ 123" "دار الثقافة، بيروت"، العقد الفريد "5/ 151"، البلدان "1/ 205" "بيروت" البكري معجم "3/ 1396"، المعارف "606"، ابن الأثير، الكامل "1/ 343" "الطباعة المنيرية" الأغاني "17/ 123" "دار الثقافة بيروت"، المختصر في أخبار البشر, لأبي العداء "1/ 97" "دار الكتاب اللبناني" البداية والنهاية، لابن كثير، "3/ 155" ابن خلدون المجلد الثاني "632"، العقد الفريد "5/ 150" "لجة التأليف"، اللسان "6/ 77" "بيروت 1956م"، نهاية الأرب "15/ 356 وما بعدها".
2 ديوان عنترة بن شداد "ص151"، التبريزي، شرح ديوان الحماسة "1/ 297"، المعلقات السبع، للزوزني "89"، الأمثال "2/ 51"، العقد الفريد "3/ 313"، ابن هشام "1/ 182"، ابن الأثير "1/ 343 وما بعدها" "الطباعة المنيرية"، نهاية الأرب "15/ 356"، شرح ديوان عنترة "83 وما بعدها" "عبد المنعم" شرح القصائد العشر، للتبريزي "213" "مطبعة السعادة 1964"، ديوان زهير ابن أبي سلمى، نهاية الأرب "15/ 356 وما بعدها، الأغاني "11/ 86 وما بعدها" النقائض "1/ 299".
3 ابن الأثير "1/ 258 وما بعدها".(10/33)
شجاعة فائقة في هذه الحرب، وكان له فيها شعر، هو عنترة بن شداد العبسي، وقصص شجاعة عنترة معروفة حتى اليوم، مشهورة، يسمعها الناس بشوق ورغبة، وهي عندهم أشهر من قصص داحس والغبراء: هذه الحرب التي خلد اسمها هذا الشعر وأمثاله.
وفي يوم الرقم، غزت بنو عامر غطفان وعليهم عامر بن الطفيل شابًا لم يرأس بعد، فخرجت إليهم بنو مرّة بن عوف، وأشجع، وناس من فزارة، وكلهم من غطفان، فقاتلوا بني عامر، وتغلبوا عليهم. وفرّ عامر بن الطفيل، وشنق الحكم بن الطفيل نفسه، ليتخلص بذلك من الأسر. ويروي الأخباريون لعروة ابن الورد وللنابغة الذبياني ولعامر بن الطفيل شعرًا ذكروا أنهم قالوه في هذا اليوم1.
وقد منيت بنو عامر بهزيمة أخرى يوم النتاءة، وكانت قد خرجت إلى غطفان تريد الأخذ بثأرها من هزيمة يوم الرقم، فأغارت على نعم بني عبس وذبيان وأشجع فأخذوها، فتعقبتها عبس وأشجع وفزارة حينما عادوا بالغنائم، والتحموا بها، وأوقعوا بها هزيمة كبيرة، وقتلت كثيرًا منهم، ونجا عامر بن الطفيل بفرسه المشهور المسمى الورد2.
وقد منيت بنو عامر بهزيمة أخرى يوم شواحط الذي وقع بين بني عامر وبني محارب بن خصفة، وذلك حينما أغارت جماعة من بني عامر على بلاد غسان3.
ويعد عامر بن الطفيل من فرسان العرب المشاهير. وهو من المعاصرين للرسول، وقد تعرض لنفر من أصحاب رسول الله كان الرسول قد أرسلهم بناء على رغبة "أبي براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب" ملاعب الأسنة. وكان سيد بني عامر بن صعصعة، وذلك ليعلموا أهل نجد الإسلام ويفقهوهم في الدين. وقد تعهد للرسول بأن يحميهم، وأن يكونوا في جواره. فلما بلغ النفر "بئر معونة"
__________
1 خزانة الأدب "3/ 70"، المفضليات "ص30"، العقد الفريد "6/ 25 ", "يوم الرقم"، سبائك الذهب "117"، نهاية الأرب "15/ 364".
2 ابن الأثير "1/ 395"، الأغاني "10/ 313"، العقد الفريد "6/ 26"، نهاية الأرب "15/ 364".
3 العقد الفريد "6/ 27"، نهاية الأرب "15/ 365".(10/34)
عدا عليهم "عامر بن الطفيل" فقتلهم، واستاء من ذلك أبو براء1.
ووقعت بين سُليم وغطفان حرب بسبب مقتل معاوية بن عمرو بن الشريد السُلمي، يوم حَوْزة الأول. وكان سبب هذا اليوم تأثر معاوية من كلام امرأة من بني مُرّة كانت جميلة وسيمة دعاها لنفسه، وقد رآها بعكاظ، فامتنعت، فغزا لذلك بني مُرة. فلما علمت بنو مرة بقدومه عليهم، تجهزوا له وقتلوه2.
فقرر صخر بن عمرو الشريد السُلمي الانتقام من قتلة أخيه، فأغار على بني مرة في يوم حوزة الثاني, وقتل دريد بن حرملة أخا هاشم بن حرملة رئيس بني مرة. ثم قتل رجل من بني جشم هو عمرو بن قيس الجشمي هاشم بن حرملة، فاستراحت بذلك بنو سُليم، وسرّت الخنساء بمقتل هاشم، ولها شعر كثير في رثاء أخويها معاوية وصخر3.
وقد توفي صخر على أثر إصابته بجرحٍ ظل يفتك به مدة طويلة، أصيب به في غزوة غزا بها بني أسد بن خزيمة. فتعقبته بنو أسد لتخلص إبلها منه، وكان قد اكتسحها منهم في هذا الغزو، فلما كان في موضع ذات الأثل، لحقت به وجرحته فقضي هذا الجرح عليه4.
ومن أيام هوازن وغطفان يوم اللوى، وقد قتل فيه عبد الله بن الصمة أخو دريد بن الصمة. وكان عبد الله قد غزا مع بني جشم وبني نصر أبناء معاوية بن بكر بن هوازن غطفان، فظفر بهم وساق أموالهم، وبينما كان عائدًا بغنائمه، فاجأته عبس وفزارة وأشجع في موضع اللوى، فقتلوه واستعادوا ما كان قد غنمه منهم، وجرح دريد أخوه، فلما شفي دريد من جرحه، أغار على غطفان لينتقم منها لمقتل أخيه، وقتل رجالًا منهم، واستاق جملة أسرى. وقد عرف هذا اليوم بيوم الغدير5.
__________
1 الطبري "2/ 245 وما بعدها"، "خبر بئر معونة"، المحبر "234، 472"، الاشتقاق "180، 215".
2 العقد الفريد "6/ 28"، الأغاني "2/ 329"، "10/ 28"، "13/ 134"، شرح الحماسة للتبريزي "3/ 110"، نهاية الأرب "15/ 365".
3 العقد الفريد "6/ 29 وما بعدها"، الأغاني "13/ 140"، المبرد "2/ 281"، نهاية الأرب "15/ 367".
4 العقد الفريد "6/ 31"، نهاية الأرب "15/ 368".
5 الأغاني "10/ 6"، شرح التبريزي على الحماسة "ص305"، جمهرة أشعار العرب "ص226"، العقد الفريد "6/ 32 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 369".(10/35)
ويذكر أهل الأخبار أنه قد كان بين "دريد بن الصمة" و"ربيعة بن مكدم" يومٌ عرف بـ"يوم الظعينة"، وكان دريد قد خرج في فوارس من "بني جُشَم" حتى إذا كان في وادٍ يقال له: "الأحزم" وهم يريدون الغارة على بني كنانة، رفع له رجل في ناحية الوادي ومعه ظعينة، فأرسل فرسانًا من فرسانه ليأتوا إليه بخبره، فلم يعودوا، فذهب "دريد" بنفسه إليه ليراه، فأخذ الرجل منه رمحه وخلى، ثم انصرف دريد إلى أصحابه، ثم لم تلبث "بنو كنانة" أن أغارت على بني جُشَم، فقتلوا وأسروا "دريد بن الصمة"، وكان الرجل الذي أخذ رمح دريد يوم الظعينة، هو "ربيعة بن مكدم", فلما سأل "دريد" وهو في الأسر عنه، قيل له: "قتلته بنو سليم"، ثم أطلق، وجهز، ولحق بقومه. فلم يزل كافًا عن غزو بني فراس حتى هلك1.
ولدريد يوم مع غطفان عرف بـ"يوم الصلعاء" وقد انتصرت فيه هوازن على غطفان، وقتل فيه دريدٌ ذؤاب بن زيد بن قارب2.
ودريد بن الصمة من الفرسان المعروفين كذلك، وقد ترأس قومه في عدة غزوات. ويعده الأخباريون في جملة البرص الأشراف، وهو ممن أدرك الإسلام3.
و"ربيعة بن مكدم" فارس مشهور، وهو فارس بني كنانة، وبنو كنانة من أنجد العرب، عرفوا بالشجاعة حتى قيل: إن الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم. وصادف أن قتلت "بنو فراس" رجلين من بني سُلَيْم، فحقدت بنو سليم عليهم، فلما كان ظعن من بني كنانة بـ"الكديد"، وفيهم ربيعة بن مكدم، تلقاهم قوم من "بني سُليم"، فاقتتلوا معهم، وقتل ربيعة في ذلك اليوم. ولما دفن عقر على قبره، وكان "يعقر على قبره في الجاهلية، ولم يعقر على قبر أحد غيره"4.
ولما قتلت بنو سليم "ربيعة بن مكدم"، غزا "مالك بن خالد بن صخر بن الشريد" سيد "بني سُليم" "بني كنانة". وكان بنو سُليم قد توجوا
__________
1 نهاية الأرب "15/ 370 وما بعدها".
2 نهاية الأرب "15/ 373".
3 المحبر "298 وما بعدها"، الاشتقاق "177 وما بعدها".
4 الكديد، بفتح أوله وكسر ثانية بعده دال مهملة، موضع بين مكة والمدينة، وهو ماء عين جارية عليها نخل كثير، نهاية الأرب "15/ 373"، الأغاني "14/ 129"، الأمالي "2/ 271"، العقد الفريد "3/ 324".(10/36)
مالكًا وأمروه عليهم، حتى عرف بـ"ذي التاج". فأغار "ذو التاج" على "بني فراس" وهم من "بني كنانة" بـ"بزرة". وكان رئيس بني فراس "عبد الله بن جدْل"، فدعا "عبد الله" "ذا التاج" إلى البراز، فشدّ عليه وقتله1. وعرف هذا اليوم بـ"يوم فزارة" وبـ"يوم بزرة"2.
ثم إن بني الشريد حرّموا على أنفسهم النساء والدهن أو يدركوا ثأرهم من كنانة فأغار "عمرو بن خالد بن صخر بن الشريد" بقومه على بني فراس، فقتل منهم نفرًا، وسبى سبيًا فيهم ابنه مكدم أخت ربيعة بن مكدم3.
وتميم من القبائل التي يرد اسمها في الأيام. ومن هذه الأيام عدة أيام وقعت بينها وبين قبائل ربيعة, وأيام أخرى وقعت بينها وبين قيس. ومن أيامها مع قبائل ربيعة: يوم الوقيط ويوم ثَيتل "نَبتل"، ويوم جدود، ويوم زرود، ويوم ذي طلوح، ويوم الغبيط، ويوم قشاوة، ويوم زبالة، ويوم مبايض، ويوم الزورين، ويوم عاقل.
أما يوم الوقيط، فكان بين اللهازم من ربيعة وبين تميم4. وأما "ثيتل"5 "نبتل"6 فيذكر مع يوم النباج أيضًا، وهما يومان متقاربان وقعا في موضعين متقاربين.
وقد وقعا بسبب خروج قيس بن عاصم المنقري رئيس مقاعس بجماعته ومعه سلامة بن ظرب رئيس الأجارب لغزو بكر بن وائل. فلما وصلا إلى النباج وثيتل، وجدا اللهازم وبني ذهل بن ثعلبة وعجل بن لجيم وعنترة بن أسد بهذين الموضعين، فأغار قيس على أهل النباج واقتتل معهم، فانهزمت بكر، فعاد قيس بغنائم عديدة فوجد سلامة، وهو في موضعه لم يغر بعد على من بثيتل من ناس، فأغار قيس
__________
1 نهاية الأرب "15/ 374".
2 "بزرة" نهاية الأرب "15/ 374"، "بزرة" "بزر"، العقد الفريد "3/ 326"، أيام العرب "319".
3 نهاية الأرب "15/ 375".
4 العقد الفريد "6/ 44" "5/ 182 وما بعدها" "لجنة"، "3/ 330"، النقائض "ص305"، نهاية الأرب "15/ 379 وما بعدها"، "دار الكتب"، أيام العرب "172" ابن الأثير، الكامل "1/ 385"، الأمالي "1/ 6"، العمدة "2/ 251"، مراصد "1/ 295".
5 البلدان "3/ 30" "مادة ثيتل"، ابن الأثير "1/ 397".
6 "نبتل" هكذا في طبعة "العريان" للعقد الفريد "6/ 47"، وصوابه "ثيتل"، وأما "نبتل"، فموضع آخر لا علاقة له بهذا المكان.(10/37)
عليهم، وسلّم ما غنمه إلى سلامة1.
ووقع يوم جدود بسبب عزم الحارث بن شريك على غزو بني سليط بن يربوع. جمع الحارث بني شيبان وذهلًا واللهازم ثم سار بهم إلى أرض بني يربوع راجيًا مباغتتهم. ولكنه ما كاد يصل إلى بلادهم حتى شعروا به، وهاجوا عليه. فلم يتمكن من غزوهم، فتركهم وذهب نحو بني رُبَيْع بن الحارث بجدود، فأغار عليهم، وأصاب سبيًا ونعمًا. فبعث بنو ربيع صريخًا إلى بني كليب بن يربوع يطلب العون، فلم يجيبوهم، فذهب الصريخ إلى بني منقر بن عبيد، فركبوا في الطلب، ولحقوا بكر بن وائل واصطدموا بهم وانتصروا عليهم فرجعوا بأموال وغنائم وبما كانت بكر بن وائل سلبته من بني ربيع بن الحارث. وكان رئيس بني يربوع في هذا اليوم: قيس بن عاصم المنقري2.
ويعد الحارث بن شريك بن الجرارين في ربيعة، ويعرف بالحوفزان3. وفي يوم ذي طلوح وقع أسيرًا في أيدي بني يربوع. فلما غزا مع قومه بني يربوع في هذا اليوم، كانت يربوع يقظة عارفة بعزم بكر، فأخذوا بكرًا على غرة، وسقط الحوفزان أسيرًا فجزت ناصيته ودفع مئتين من الإبل حتى فدى نفسه من الأسر4.
وأما قيس بن عاصم المنقري، فهو من سادات "منقر" من تميم، ويعد من سادات أهل الوبر، ومن حلماء بني تميم، وممن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية5.
ولما أغار حزيمة "خزيمة" بن طارق التغلبي على بني يربوع، وهم بزرود، واستاق إبلهم، كانت نتيجة غزوته هذه أن تعقب بنو يربوع أثره وأسروه،
__________
1 النقائض "1023"، العقد الفريد "6/ 47"، ابن الأثير "1/ 397"، البلدان "3/ 30"، "8/ 243"، البكري "4/ 1291"، "طبعة السقا"، مادة "النباج" و"ثيتل"، نهاية الأرب "15/ 381 وما بعدها"، أيام العرب "175 وما بعدها".
2 النقائض "124، 336"، ابن الأثير "1/ 372"، العقد "6/ 58"، البلدان "3/ 67"، سبائك الذهب "115"، نهاية الأرب "15/ 389" شرح المفضليات، لابن الأنباري "740".
3 المحبر "250، 304".
4 النقائض "47، 73، 481"، العقد الفريد "6/ 50"، ابن الأثير "1/ 389"، البكري "3/ 893"، "مادة ذي طلوح"، نهاية الأرب "15/ 383".
5 الاشتقاق "154".(10/38)
واستنقذوا ما كان قد أخذ، ثم أسروه ولم ينج إلا بعد جز ناصيته ودفع مائة من الإبل1.
وكان يوم "ذي طُلوح" وهو موضع في حَزْن بني يربوع بين الكوفة وفَيْد، لبني يربوع من تميم على بكر من ربيعة. وقد أخذ "الحارث بن شريك" أسيرًا، أخذه حنظلة بن بشر، وكان نقيلًا في بني بشر، فاختصم عبد الله بن الحارث، وعبد عمرو بن سنان في الحارث، فحكم الحارث في أمر نفسه، فأعطى كل واحد منهما مائة من الإبل، وجعل ناصيته لحنظلة بن بشر2.
وانتصرت بنو يربوع على بكر في يوم الإياد كذلك, وكانت بكر قد أقبلت من عند عامل عين التمر قاصدة بني يربوع، ومعها من الرؤساء بسطام بن قيس فارس بكر وهانئ بن قبيصة ومفروق بن عمرو، فأحست بنو يربوع بمجيء بكر، وقاتلهم في موضع الإياد، وقتلت جماعة من فرسان بكر، وأسرت قومًا منهم: هانئ بن قبيصة الذي فدى نفسه، فنجا3.
وقد كان بسطام بن قيس مع الحارث بن شريك -الحوفزان- ومفروق بن عمرو في يوم الغبيط، وفيه غزت بنو شيبان بلاد تميم، غزوا بني ثعلبة بن يربوع وثعلبة بن سعد بن ضبّة، وثعلبة بن عدي بن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، وكانوا متجاورين بصحراء فَلْج. فهزمت الثعالب، وأصابوا فيهم، واستاقوا إبلًا من نعمهم. ثم ساروا في أرض بني مالك بن زيد مناة من تميم، فاكتسحوا إبلهم، فركبت عليهم بنو مالك، وعليهم عتيبة بن الحارث اليربوعي، والأحيمر بن عبد الله، وأسيد بن حباءة، وأبو مرحب، وجزء بن سعد الرياحي، وربيع والحُليس وعمارة بنو عتيبة بن الحارث، ومالك بن نويرة وغيرهم، فأدركوهم بغبيط المَدَرة، فقاتلوهم حتى هزموهم، وأخذا ما كانوا استاقوا من آبالهم، وقتلت بنو شيبان أبا مرحب ثعلبة بن الحارث وألح عتيبة بن الحارث، وأسيد بن حباءة، والأحيمر بن عبد الله على بسطام بن قيس حتى وقع بسطام في أسر
__________
1 المفضليات "3"، العقد الفريد "6/ 49"، خزانة الأدب "1/ 354"، "خزيمة"، نهاية الأرب "15/ 383". "فحكم بناصية خزيمة للأنيف، على أن لأسيد مائة من الإبل، قال: ففدى خزيمة نفسه بمائتي بعير وفرس"، نهاية الأرب "15/ 383".
2 ابن الأثير، الكامل، "1/ 389"، النقائض "47، 73، 481". العقد الفريد "3/ 433".
3 النقائض "850"، شعراء النصرانية "259 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 373".(10/39)
عتيبة. وقد وافق بسطام على دفع دية هي ثلاث مائة بعير وأن تجز ناصيته وعلى أن يعاهد بعدم غزو بني شيبان، فأفرج عنه1.
وغزا بسطام بن قيس رئيس بني شيبان بني يربوع في يوم قُشاوة، "يوم نعف قشاوة" وقد انتصر فيه على جماعة من بني يربوع، وعاد مع بعض الغنائم2.
ويعد هذا اليوم من وقعات بسطام المعدودة. قال ابن الأنباري: "كان لبسطام أربع وقعات: أسر يوم الصحراء، وظفر يوم قشاوة، وانهزم يوم العظالى، وقتل يوم النقاء"3.
وقد استحر القتل في تغلب ومن كان معهم من تميم، وذلك في يوم بارق. وكان سببه أن بني تغلب والنمر بن قاسط وأناسًا من تميم اقتتلوا حتى نزلوا ناحية بارق من أرض السواد، وأرسلوا وفدًا منهم إلى بكر بن وائل يطلبون إليهم الصلح، فاجتمعت شيبان ومن معهم، وقرروا الاستفادة من هذه الفرصة، وعزموا على مباغتة القوم، فقال: زيد بن شريك الشيباني إني أجرت أخوالي وهم النمر بن قاسط، فأمضوا جواره، وساروا وأوقعوا ببني تغلب وتميم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، لم تصب تغلب بمثلها، واقتسموا الأسرى والأموال، وكان من أعظم الأيام عليهم4.
وقد اصطدمت بنو شيبان ببعض بطون تميم في يوم زبالة كذلك. وقد حضر هذا اليوم الأقرع بن حابس، وأخوه فراس، وهما من تميم، وكانت تميم هي البادئة بغزو بكر بن وائل. اصطدمت بهم في موضع زبالة، فنزلت الهزيمة بتميم، وأسر الأقرع وفراس أخو الأقرع، أسرهما بنو تيم الله وهي من بكر، ثم لقي بنو تيم الله بني شيبان وهم من بكر أيضًا ومعهم بنو رباب، فانتزع بسطام بن قيس رئيس بني شيبان الأقرع وأخاه منهم، وصاروا أسيرين لبسطام، ثم افتدى الأقرع وأخوه أنفسهما من بسطام، وعاهداه على إرسال الفداء، فأطلقهما
__________
1 النقائض "75، 1132"، ويقال لهذا اليوم: يوم الغبيط ويوم الثعالب، والثعالب أسماء قبائل اجتمعت فيه. ويقال له: يوم صحراء فلح، العقد الفريد "6/ 55"، ابن الأثير "1/ 365"، سبائك الذهب "114"، نهاية الأرب "15/ 388".
2 النقائض "ص19"، ابن الأثير "1/ 364"، البكري "3/ 1075" "طبعة السقا"، مادة "قشاوة"، البلدان "7/ 92" "مادة قشاوة" العمدة "2/ 191".
3 البكري "3/ 1075".
4 الكامل "1/ 299" "المطبعة الأزهرية".(10/40)
ولكنهما لم يرسلا له الفداء1.
والأقرع بن حابس، فارس مشهور من فرسان تميم. ويعد من حكام العرب. وقد اتصل حكمه في عكاظ إلى الإسلام. ويعد أيضًا من السادة الجرارين، ومن المؤلفة قلوبهم من تميم2.
وكان يوم مبايض من الأيام المهمة التي وقعت بين بني شيبان من بكر، وبين بني تميم. وقد دارت الدائرة فيه على تميم. وألحقت بها خسائر فادحة. وسبب هذا اليوم أن فارسًا من فرسان تميم يدعى طريف بن تميم العنبري كان قد وافى عكاظ في الشهر الحرام، وكان قد قتل رجلًا من بني شيبان، فتعقبه ابن ذلك الرجل، ليأخذ بثأر أبيه منه. وصادف أن وقع نزاع بين بني مرة بن ذهل بن شيبان وبين بني ربيعة بن ذهل بن شيبان كاد يؤدي بينهما إلى حرب، فقرر هانئ بن مسعود رئيس بن ربيعة -حقنًا للدماء- الارتحال بقومه، والنزول على ماء مبايض. فلما سمع طريف العنبري بنزول ربيعة على هذا الماء. نادى قومه للإغارة على ربيعة، ما دامت منفردة، وليس لها في هذا الموضع نصير، لإضعاف بكر بن وائل وللانتقام منها. فعلمت ربيعة بذلك، فاستعدت للقتال. فلما هاجمت تميم ربيعة، كان بنو شيبان على استعداد، فألحقوا بتميم خسارة لم تصب بمثلها، فلم يفلت منهم إلا القليل. وانهزم طريف فتعقبه ابن الشيباني الذي قتله طريف، فقتله. فكان هذا اليوم من أهم الأيام التي وقعت بين بني شيبان وتميم3. واسم قاتل "طريف"، هو "حصيصة الشيباني"، "حصيصة بن شراحيل"4.
وكان سادة تميم الذين قادوهم في هذا اليوم ثلاثة رؤساء، هم: أبو الجدعاء الطُّهَوي علي بني حنظلة، وابن فدكي المِنقري على بني سعد، وطريف بن عمرو على بني عمرو بن تميم5.
وكان يوم الزورين من أيام بكر على تميم كذلك. وكانت بكر تنتجع أرض
__________
1 النقائض "680"، ابن الأثير "1/ 366"، شعراء النصرانية "298"، أيام العرب "206".
2 الاشتقاق "146"، المحبر "134، 182 وما بعدها، 247، 347".
3 ابن الأثير "1/ 368"، العقد الفريد "6/ 65"، معاهد التنصيص "1/ 71". نهاية الأرب "15/ 394"، أيام العرب "208 وما بعدها".
4 الاشتقاق "131"، أيام العرب "208".
5 أيام العرب "209".(10/41)
تميم، ترعى بها إذا أجدبوا. فإذا أرادوا الرجوع، أخذوا كل ما وجدوه أمامهم واستاقوه معهم. فلما كثر اعتداء بكر على تميم، تفاقم الشر بينهما وعظم حتى صار لا يلقى بكري تميميًّا إلا قتله، ولا يلقي تميمي بكريًّا إلا قتله.
ثم عزمت تميم على التخلص من أذى بكر ومنعها من الرعي في أرضها، فحشدت واستعدت لقتال بكر، واستعدت بكر لقتال تميم. فلما اصطدم الجمعان تغلبت بكر على تميم، وقتلت منهم مقتلة عظيمة1.
ويذكر أهل الأخبار أن سبب تسمية يوم الزورين بهذه التسمية، هو أن بني تميم كانوا قد وضعوا بكرَيْن مجللين مقيدين، بين الصفين، وقالوا: هذان زَوْرانا، أي إلهانا، فلا نفرّ حتى يفرَّا، وجعلوا عندهما من يحفظهما. فلما أبصر البكريون الزورين هجموا على حراسهما وأخذوا البعيرين وذبحوهما، أو ذبحوا أحدهما وتركوا الآخر يضرب في شولهم. فارتبكت تميم وانهزمت شر هزيمة2.
وكان المقدم على بكر "عمرو بن قيس بن مسعود الشيباني"، المشهور بـ"أبي مفروق", قدمته "بكر" عليهم, فحسده سائر ربيعة, وأرادوا إزاحته عن الرئاسة، إذ كانوا يريدون أن يجعلوا على كل حي رجلًا منهم، وأن يكون كل حي على حياله، فأصر ابنه "مفروق" عليه بمخالفتهم، وبقي رئيسًا عليهم كلهم: فلما كان القتال، برك بين الصفين، وقال أنا زَوْرُكم، فقاتلوا عني، ولا تفرُّوا حتى أفرَّ. ولم يكن الحوفزان بن شريك يومئذ في القتال، فقد كان في أناس من بني ذهل بن شيبان غازيًا في بني دارهم. وممن اشترك فيه: حنظلة بن سيّار العجلي، وحمدان بن عبد عمرو العبسي، وأبو عمرو بن ربيعة بن ذهل بن شيبان. وقتل فيه من بني تميم أبو الرئيس النهشلي، وهو من ساداتهم3.
وقد أكثر الشعراء في ذكر هذا اليوم لا سيما الأغلب العجلي، وذكره الأعشى أيضًا4.
__________
1 نهاية الأرب "15/ 391 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 368 وما بعدها"، اللسان "4/ 337"، العقد الفريد "6/ 65 وما بعدها".
2 اللسان "4/ 337 وما بعدها" "صادر"، العقد الفريد "5/ 205 وما بعدها". أيام العرب "212".
3 العقد الفريد "5/ 205 وما بعدها"، الكامل "1/ 368 وما بعدها".
4 الكامل "1/ 368 وما بعدها".(10/42)
وكان سبب يوم عاقل أن "الصِّمَة بن الحارث الجُشَمي" أغار على بني حنظلة بعاقل، فأسره الجعدين الشّمّاخ أحد بني عدي بن مالك بن حنظلة، وهزم جيشه، وأبطأ الصِّمة في فدائه فجزّ الجعد ناصيته وأغلظ في الكلام عليه، فضرب الصِّمة عنقه. فمكث الصمة زمانًا. ثم غزا بن حنظلة، فأسره الحارث بن بيبة المجاشعي "الحارث بن نبيه المجاشعي" وهزم جيشه ثم أجاره الحارث من إساره ذلك، وخرج الحارث بالصِّمة إلى بني يربوع من بني حنظلة ليشترى الصِّمة أسراء قومه. فلما رأى "أبو مرحب" وهو ثعلبة بن الحارث، الصمة، وكان يعرف أن غدر بالجعد، خنس عنه، وأخذ سيفه ثم جاء فضرب به بطن الصِّمة فأثقله1.
وأما أشهر الأيام التي وقعت بين قيس وتميم، فيوم الرحرحان، ويوم شعب جبلة، ويوم ذي نجب، ويوم الصرائم، ويوم الرغام، ويوم جزع ظلال، ويوم المروت.
أما يوم رحرحان، فقد أشرت إليه سابقًا، وهو يوم وقع في أعقاب قتل الحارث بن ظالم المُري خالد بن جعفر الكلابي، وكان سببه أن قوم الحارث بن ظالم أنكروا عليه فعله، ولاموه على عمله فتجنبهم وهرب منهم، ولحق بتميم فأجاروه، فاستاءت بنو عامر من ذلك، وطلبت من بني تميم تسليم الحارث إليهم. فلما أبوا، جاءت بنو عامر تريد مباغتة تميم، وكانت تميم قد علمت بمسيرها إليهم، فأرسلوا بما عندهم من أثقال وأهل إلى بلاد بني بغيض. ولما كانوا في موضع رحرحان، التقوا ببني عامر ورئيسهم الأحوص، فدارت الدائرة على بني تميم، وأسر منهم معبد بن زرارة: أسره عامر والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب2. وشاركهما في أسره رجل من غنيّ يقال له: أبو عميرة عصمة بن وهب، وكان أخا طُفيل من الرضاعة، وفي أسرهم مات معبد. شدُّوا عليه القِدَّ وبعثوا به إلى الطائف خوفًا من بني تميم أن يستنقذوه3.
__________
1 النقائض "1019"، أيام العرب "217 وما بعدها"، العمدة "2/ 207".
2 العقد الفريد "6/ 8 وما بعدها"، النقائض "1/ 214"، الأغاني "10/ 30"، ابن الأثير "1/ 341". الميداني "2/ 398"، "الباب التاسع والعشرون: في أسماء أيام العرب" العمدة "2/ 198 وما بعدها".
3 العمدة "2/ 209"، "محمد محيي الدين عبد الحميد".(10/43)
وأخذ لقيط بن زرارة يستعد ويجمع العدة، لينتقم من بني عامر، وليأخذ منهم بثأر أخيه معبد الذي أسر في يوم رحرحان، ثم هلك لمنع بني عامر الماء عنه1. فذهب إلى النعمان بن المنذر وأطعمه في الغنائم، فأجابه. ثم ذهب إلى الجون الكلبي ملك هجر2. فأجابه أيضًا. ثم توجه إلى كل من عرف بعدائه لبني عامر وعبس، فأوغر صدره عليهم، ومنّاه بالغنيمة والنصر، فانضمت إليه بنو ذبيان لعدائها لعبس بسبب حرب داحس والغبراء، وبنو أسد للحلف الذي كان بينهم وبين بني ذبيان. فلما مضى الحول على يوم رحرحان. انهالت الجيوش على لقيط، فوصل جيش الجون الكلبي وعليه عمرو ومعاوية ابناه. ووصل جيش النعمان وعليه أخوه لأمه حَسّان بن وبرة الكلبي، وأقبل الحليفان: أسد وذبيان وعليهم حصن بن حذيفة، وأقبل شرحبيل بن أخضر بن الجون بن آكل المرار في جمع من بني كندة.
وسار سادات تميم: حاجب بن زرارة، ولقيط بن زرارة، وعمرو بن عمرو، والحارث بن شهاب، ومعهم أحلافهم ومن انضم إليهم، يقصدون بني عامر، فنتج عن ذلك جمع لم يكن في الجاهلية أكثر منه.
وعرفت بنو عامر بمجيء الجمع، فاستعدت له وتحصنت في شعب جبلة، أخبرها بذلك كرب بن صفوان السعدي، وكان شريفًا من أشراف قومه لم يخرج مع الجمع، فخافوا من تخلفه عنهم، وعرفوا أنه دبّر في ذلك أمرًا، وأنه يقصد إخبار بني عامر. فأخذا عليه العهد بألا يفشي من سر مسيرهم هذا لبني عامر. وقد سار كرب بن صفوان إلى بني عامر، وأظهر لهم علائم هجوم بني تميم عليهم، دون أن يقول لهم شيئًا عنه لئلا يخلف وعده. فعرفوا به. واستعدوا له. وبينما كان القوم على وشك الوصول إلى ديار بني عامر، عادت بنو أسد فغيرت رأيها من الاشتراك في هذا الهجوم، ورجعت عنهم، ولم يسر مع لقيط منهم إلا نفر يسير.
ولما وصل بنو تميم وأحلافهم إلى شعب جبلة، كان بنو عامر على أتم استعداد للقاء. وقد احتموا في مواضع منيعة حصينة من الشعب. ولما دخلوه يريدون
__________
1 الاشتقاق "ص145".
2 "الكندي"، نهاية الأرب "15/ 351".(10/44)
الفتك ببني عامر وعبس، باغتهم هؤلاء بهجوم مفاجئ أفسد عليهم خطط قتالهم فارتدوا مذعورين تتعقبهم سيوف بني عامر. فكانت هزيمة فادحة نزلت بتميم وممن كان معهم من الأحلاف كلفت لقيطًا حياته، وأوقعت حاجبًا في الأسر، وأوقعت غيره في الأسر كذلك1.
وقد وقع هذا اليوم في عام مولد النبي على بعض الروايات، أي سنة 570 للميلاد، وبعد عام من يوم الرحرحان2. وقد أشار بعض الرواة إلى اشتراك عمرو بن الجون ومعاوية بن الجون في هذا اليوم، وإلى عقد معاوية بن الجون الألوية، فكان بنو أسد وبنو فزارة بلواء مع معاوية بن الجون، وكان بنو عمرو بن تميم مع لواء حاجب بن زرارة، وكان لواء الرباب مع حسان بن همام، وعقد لجماعة من بطون تميم مع لقيط بن زرارة، وكان عمرو بن الجون أول من قتل في هذا اليوم. وأسر أخوه معاوية بن الجون، كما أسر عمرو بن عمرو بن عدس وحاجب بن زرارة. وقد حمل عنترة على لقيط، فضربه بسيفه. ثم فدى حاجب بن زرارة بخمس مائة من الإبل، وفدى عمرو بن عمرو بمئتين3.
وقد كان يوم جبلة في عام واحد مع يوم رحرحان على رواية، ويقصدون بهذا اليوم يوم رحرحان الثاني تمييزًا له عن يوم رحرحان الأول الذي غزا فيه يثربي بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن عامر بن صعصعة. وفي يوم رحرحان الثاني على هذه الرواية، كان أسر معبد بن زرارة: وقد نقل إلى الطائف خوفًا من بني تميم أن يستنقذوه4.
وبعد مرور عام على يوم جَبَلَة طمعت بنو عامر في غزو بني تميم والإيقاع بها، فذهبت إلى حسان بن كبشة الكندي، وعلى رأسها ملاعب الأسنة عامر بن مالك بن جعفر وطفيل بن مالك بن جعفر وعمرو بن الأحوص بن جعفر
__________
1 الأغاني "10/ 33"، العقد الفريد "6/ 9 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 355"، النقائض "2/ 115"، الميداني "2/ 398"، "الباب التاسع والعشرون: في أسماء أيام العرب"، البكري "2/ 365" "جبلة"، سبائك الذهب "110 وما بعدها"، أيام العرب "149 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 350"، الأغاني "11/ 131، 161"، البلدان "3/ 4".
2 البكري "2/ 365 وما بعدها"، "جبلة"، العقد الفريد "6/ 9 وما بعدها".
3 ابن الأثير "1/ 243"، ولابن إسحاق رواية أخرى عن هذا اليوم.
4 العمدة "2/ 198 وما بعدها".(10/45)
ويزيد بن الصعق وقدامة بن سلمة بن قشير وعامر بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، تطمعه في الغنيمة وفي الأموال الوافرة والسبي إن انضم إليها وساعدها في الغزو، فغلبه طمعه ووافق على السير معهم إلى بني حنظلة بن مالك بن تميم.
وبلغ الخبر بن حنظلة، فتركوا ديارهم برأي عمرو بن عمرو بن عدس، وكانت في أعلى ذو نجب. وأما في أسفله، فكان بنو يربوع، وهم من تميم كذلك. فلما بلغ حسان ومن معه من الجيش الموضع، اقتتلوا مع بني يربوع، فشدّ "حشيش بن نمران الرياحي" على حسان وضرب بالسيف على رأسه فقتل، وانهزم أصحابه، وأسر يزيد بن الصعق، وانهزمت بنو عامر وصنائع ابن كبشة، فكان النصر فيه لبني تميم1.
وفي رواية أن بني عامر استنجدت بمعاوية بن الجون الكندي، فأنجدهم بابنيه عمرو وحسان وبجيشه، فقتل في ذلك اليوم عمرو بن معاوية الكندي، وأسر حسان بن معاوية الكندي، وقتل عامة الكنديين2.
وفي رواية أخرى أن حسان بن معاوية آكل المرار، هو الذي اشترك في هذا اليوم، وقد قتل فيه: قتله حشيش بن نمران من بني رياح بن يربوع. وفي رواية أخرى أنه كان في جملة من وقع في الأسر. وأن المقتول رجل آخر هو عمرو بن معاوية. وقد قتل في هذا اليوم عمرو بن الأحوص رئيس بني عامر يومئذ. قتله خالد بن مالك النهشلي3.
وفي يوم الصرائم، وهو يوم يسمى أيضًا بيوم بني جذيمة وبيوم ذات الجرف، أغارت فيه بنو عبس على ربيعة بن مالك بن حنظلة، فأتى "الصريخ" بني يربوع، فركبوا في طلب بني عبس، فأدركوهم بذات الجرف، فقتلوا منهم جملة قتلى، وأسروا بعض الرؤساء4.
وكان لبني تميم يوم آخر على بني عبس وعامر، وهو يوم مأزق "ملزق" ويسمى أيضًا بيوم السوبان. وذلك بعد أن قاتلت تميم جميع من أتى بلادها من القبائل، وهم إياد وبلحارث بن كعب، وكلب، وطيء، وبكر، وتغلب
__________
1 ابن الأثير "1/ 363"، النقائض "302، 587، 932، 1079"، البكري "4/ 1297" "ذو نجب"، العمدة "2/ 201".
2 البكري "4/ 1297" "ذو نجب"، الأغاني "11/ 136".
3 العمدة "2/ 201". أيام العرب "366".
4 النقائض "248، 336"، العمدة "2/ 200".(10/46)
وأسد، وآخر من أتاهم بنو عبس وبنو عامر1. ويظهر أن تميمًا حاربت هذه القبائل للتخلص منها، وكانت تنزل في ديارها للانتجاع في أرضها، وهي أرضون خصبة واسعة، فكلفها ذلك عدة حروب.
وقد انتصرت تميم على عامر في يوم المروت. وكان سببه نزاع بسيط وقع بين "قعنب بن الحارث بن عمرو بن همام اليربوعي" وبين "بجير بن عبد الله العامري" بسبب نسب فرس، أدى إلى غزو بجير لبني العنبر من تميم، ثم إلى ملاحقة بني يربوع لبجير وجماعته من بني عامر، وإلى سقوط عدد من القتلى من بني عامر واسترداد، ما كان بنو عامر قد غنموه. وقد ضرب "قعنب بن عتاب" رأس "بجير" فأطاره2.
وانتصرت بنو يربوع على بني كلاب من قيس في يوم الرُّغام3. وذلك أن "عتيبة بن الحارث بن شهاب" أغار في بني ثعلبة بن يربوع على طوائف من بني كلاب. وكان أنس بن عبّاس الأصم أخو بني رعْل مجاورًا في بني كلاب وكان بين بني ثعلبة بن يربوع، وبين بني رعل عهدٌ ألا يسفك دم، ولا يؤكل مال. فجاء الكلابيون إلى أنس بن عباس الأصم راجين منه أن يذهب إلى بني "ثعلبة" ليحبسهم عنهم حتى يتدبروا أمرهم ويستعدوا للقتال. فذهب أنس إليهم وقابل حنظلة بن الحارث شقيق عتيبة بن الحارث. وكلَّمه في أمر ما بينه وبين بني ثعلبة من عهد، فأجيب إلى طلبه، وتباطأ في أخذ ما سلبه منه بنو ثعلبة من إبل حتى جاءت فوارس بني كلاب، فحمل "الحوثرة بن قيس" وهو من فرسان بني كلاب على "حنظلة بن الحارث" فقتله، فحمل فرسان من بني ثعلبة بن يربوع على الحوثرة، فأسروه، ودفعوه إلى عتيبة فقتله، وهُزم الكلابيون. ومضى بنو ثعلبة بالإبل والغنائم، واتبعهم "أنس بن عباس" رجاء أن يصيب منهم غرةً، فيأخذ منهم ما يريد. ولما مرّ بالطريق، تغفله "عتيبة" وأسره، وأتى به أصحابه، وأراد أصحاب عتيبة قتله، ولكنه أبى أن يفعل بل قبل من
__________
1 العمدة "2/ 202"، "ملزق"، العمدة "2/ 212" "محمد محيي الدين عبد الحميد".
2 النقائض "70"، ابن الأثير "1/ 386". العمدة "2/ 192"، سبائك الذهب "112". أيام العرب "375".
3 النقائض "410"، العمدة "2/ 204".(10/47)
أنس الفداء ففدى نفسه بمئتي بعير1.
وأما يوم جِزْع ظلال "طلال"، فكان النصر فيه لفزارة، وهم من قيس كذلك على بني تميم. وكان عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري قد أغار بقومه فَزارة، ومعه مالك بن حِمار الشمخي من بني شمخ بن فزارة، على التيم وعدي وثور أطحل من بني عبد مناة، فأصاب غنائم كثيرة، ورجع بأسرى عديدين أطلقهم فيما بعد. فلما مضت مدة، بلغه أن النعمان بن جساس التيمي وعوف بن عطية وسبيع بن الخطيم، وهم سادة تميم، وابن المخيط وهو سيد بني عدي تيم، انطلقوا إلى بني سعد بن زيد مناة وضبّة يستمدونهم ويسألونهم النصر، فركب عيينة بن حصن مع قومه، وأغار على التيم، فقتلوا منهم قتلًا شديدًا وأخذوا سبيًا كثيرًا، واحتفلوا بانتصارهم هذا بشرب الخمر. وكان نساء تيم ومن كان معهن من رجالهم ينقلون زقاق الخمر إليهم. ولم يسقوا تيمًا محقرة لهم. ثم مضى زمن فردّ بنو فَزارة السبي إلى تيم، وأطلقوا الرجال بغير فداء2.
ومن أيام ضبة وغيرهم: يوم النسار، ويوم الشقيقة، ويوم بزاخة، ودارة مأسل، والنقيعة.
وكان سبب يوم النسار جدب حلّ بأرض مضر. وخصب أصاب بلاد بني سعد والرباب، مع غيث غامر. فلما وقع ذلك الغيث. أقبلت عامر بن صعصعة ومن معهم من هوازن إلى بني سعد، وكانوا يواصلونهم بالنسب، فسألوهم أن يُرعوهم ومن معهم من هوازن ففعلوا.
فلما اجتمعت بنو سعد والرباب وهوازن ومن معها، قال بعضهم لبعض: أنه ما اجتمع مثل عدتنا قط إلا كانت بينهم أحداث، فليضمن كل حي ضامن، فكان الضامن لما كان في سعد والرباب الأهتم، وهو سنان بن سميّ بن خالد، وكان الضامن على هوازن قرة بن هبيرة بن عامر بن صعصعة. فرعوا ذلك الغيث حينًا، حتى وقع شر، سببه أن "الحتف" وهو رجل من بني ضبة قتل رجلًا من بني قشير، فوقع الشر ووقعت الحرب، واجتمع بنو سعد مع بني عامر، واستمدوا بني أسد فأمدوهم، والتقوا مع "بني ضبة" بالنسار فاقتتلوا، فصبرت
__________
1 أيام العرب "370 وما بعدها".
2 النقائض "302, 106"، "جزع طلال"، العمدة "2/ 204"، أيام العرب "373 وما بعدها".(10/48)
عامر، واستحر بهم القتل، وانفضت بنو سعد وهربت، ثم هرب بنو عامر. وقتل في هذا اليوم: شريح بن مالك القشيري، رأس بني عامر، ووقع سبي منهم في أيدي خصومهم1.
وقد وقع يوم النسار بعد يوم جبلة، وذلك؛ لأن الأحاليف، وهم غطفان وبنو أسد وطيء شهدوا يوم النسار بعدما تحالفت الأحاليف، وحضره حصن بن حذيفة، وكان حصن رئيس الأحاليف، كما جاء ذلك في شعر لزهير بن أبي سُلمى2. هذا ما يراه الرواة وأهل الأخبار من علماء قيس وبني أسد، ويؤيده أبو عبيدة3. أما الرباب ورواة ضبة، فترى أن يوم النسار كان قبل يوم جبلة ويفند أبو عبيدة رأي الرباب4. ويقول أبو عبيدة: كان حاجب بن زرارة على بني تميم يوم النسار ويوم الجفار. وأن "لقيطًا قتل يوم جبلة، ولو كان حيًّا ما تقدمه فيه حاجب بن زرارة. وإنما نبّه أبو عكرمة بعد أبي نهشل، وكانا قبل مبعث النبي بسبع وعشرين سنة. وكان عام جبلة مولد النبي"5.
وذكر "المسعودي" أن "بني عامر بن صعصعة" كانوا يؤرخون بيوم شعب جبلة. وكان قبل الإسلام بنيف وأربعين سنة6.
وقد كان يوم شعب جبلة بين بني عامر وأحلافها من عبس وبين من سار إليهم من تميم، وعليهم حاجب ولَقيط ابنا زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارِم، ومن عاضدهما من اليمن مع ابنيّ الجون الكنديين7.
وما في رواية أبي عبيدة أو غيره من أن مولد النبي كان في عام جبلة، وهم. فالرجال الذين أسهموا في ذلك اليوم، كانوا قد هلكوا قبل ذلك بأمد، ولم يدركوا أيام الرسول. وقد ذكر أن يوم جبلة كان قبل الإسلام بسبع وخمسين سنة8.
__________
1 النقائض "238، 790، 1064"، العقد الفريد "6/ 99"، ابن الأثير "1/ 376"، الميداني "2/ 396"، العمدة "5/ 199"، شرح المفضليات "363"، أيام العرب "378 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 421".
2 نقائض جرير والفرزدق "1/ 238 وما بعدها"، المفضليات "363 وما بعدها".
3 المفضليات "363 وما بعدها".
4 المفضليات "363 وما بعدها".
5 ديوان جرير والفرزدق "2/ 790"، العمدة "2/ 200".
6 التنبيه "175".
7 التنبيه "175".
8 بلوغ الأرب "2/ 71".(10/49)
وقد غضبت بنو تميم وخجلت مما نزل ببني عامر من عار بسبب هذا اليوم، وحلف "ضمرة بن ضمرة النهشلي"، وهو من سادات بني تميم على أن يترك الخمر ويحرمه عليه حتى يأخذ بثأره من بني أسد، فهيأ نفسه وعبأ قومه لقتالهم، والتقى بهم في يوم ذات الشقوق، وانتصر فيه عليهم، وفرح بهذه النتيجة، وأباح لنفسه عندئذ شرب الخمر1.
ولما كان على رأس الحول من يوم النسار اجتمع من العرب من كان شهد النسار. وكان رؤساؤهم بالجفار, الرؤساء الذين كانوا يوم النسار, إلا أن بني عامر تقول: كان ريئسهم بالجفار "عبد الله بن جعدة بن كعب بن ربيعة"، فالتقوا بالجفار، واقتتلوا، وصبرت تميم، فعظم فيها القتل وخاصة في بني عمرو بن تميم. وكان يوم الجفار يسمى "الصيلم" لكثرة من قتل به2.
وفي ويم الجفار التقت بكر بتميم على رواية3، والتقى الأحاليف في ضبة وإخوتها الرباب وأسد وطيء على بني عمرو بن تميم في رواية أخرى، واستحر القتل يومئذ في بني عمرو بن تميم على هذه الرواية، فكان النصر فيها للأحاليف4.
وفي يوم السِّتار، وهو يوم كان بين بكر بن وائل وبني تميم، قتل قيس بن عاصم وقتادة بن سلمة "مسلمة" الحنفي فارس بكر5، وكان قتادة من الجرارين في ربيعة6.
ولضبّة نصر آخر، كان في يوم الشقيقة على بني شيبان. وقد قتل فيه بسطام بن قيس سيد بني شيبان. وكان ذلك بسبب قيام بسطام بغارة على بني ضبة وطمعه في إبل مالك بن المنتفق الضبّي. فلما رأت ضبّة بسطامًا، وهو يغير على
__________
1 البكري، معجم "4/ 1306"، ابن الأثير، الكامل "1/ 376"، ابن سلام، طبقات "179"، مراصد الاطلاع "3/ 209 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 564"، العقد الفريد "3/ 375"، المفضليات "363 وما بعدها"، البلدان "4/ 778"، العمدة، لابن رشيق "2/ 99 وما بعدها". النقائض "238 وما بعدها" "2/ 1064"، نهاية الأرب للنويري "15/ 421". اللسان "5/ 205" "صادر" تاج العروس "3/ 569".
2 ابن الأثير، الكامل "1/ 376"، العقد الفريد "3/ 375".
3 الميداني "396".
4 العمدة "2/ 208".
5 الميداني "2/ 396".
6 المحبر "250".(10/50)
الإبل، هاجمته فوقع قتيلًا، فولت بنو شيبان مهزومة تاركة ما استولت عليه وعددًا من رجالها بين قتيل وأسير1. ويعرف هذا اليوم باسم آخر هو: "نقا الحسن"2.
وانتصرت ضبّة على إياد في يوم يسمى بيوم بُزاخة. وقد كان بسبب إغارة مُحرق الغساني وأخوه في إياد وطوائف من العرب من تغلب وغيرهم على بني ضبّة بـ"بزاخة" فاقتتلوا قتالًا شديدًا حمل فيه "زيد الفوارس" على محرق فأسره، وأسرت بنو ضبّة أخا حُبيش بن دلف السيدي، فقتلتهما وهزم من كان معهما، وأصيب ناس منهم فيه3.
وفي بعض الروايات أن يوم بزاخة هو يوم إصم. وهو يوم كان لبني عائذة بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة على الحارث بن مزيقيا الملك الغساني، وهو عمرو بن عامر، وفيه قتل ابن مزيقيا، فانهزم أصحابه هزيمة منكرة. وفي رواية أخرى أن هذا اليوم كان مع عبد الحارث من ولد مزيقيا4.
وأما يوم "دارة مأسل"، فكان لضبّة على بني عامر، غزا "عتبة بن شُتير بن خالد الكلابي" بني ضبّة، فاستاق نعمهم. وقتل "زيد الفوارس" "حصن بن ضرار الضبي"، وكان يومئذ حدثًا لم يذكر. فجمع أبوه ضرار قومه، وخرج ثائرًا على بني عمرو بن كلاب، فأفلت منه "عتبة بن شُتير" وأسر أباه "شُتير بن خالد" فأمر ضرار ابنه "أدهم" أن يقتله5.
وانتصرت ضبّة على بني عبس في يوم النقيعة، ويسمى أيضًا يوم أعيار. وقد كان بنو عبس قد أغاروا فيه برئاسة عمارة بن العبسي على إبل لبني ضبَّة، ومعه جيش من بني عبس، فأطردوا إبلهم، وركبت عليهم بنو ضبَّة، فأدركوهم في المرعى، فحمل "شرحاف بن المثلم بن المشخرة العائذي الضبي" على عمارة فقتله، واستنقذت بنو ضبة فيه إبلها من "بني عبس". ويعرف عمارة بـ"عمارة
__________
1 النقائض "190، 233"، ابن الأثير "1/ 376"، التبريزي، شرح ديوان الحماسة "3/ 52"، سبائك الذهب "112"، أيام العرب "382 وما بعدها".
2 العمدة "2/ 198".
3 العمدة "2/ 197"، النقائض "195"، أيام العرب "388".
4 العمدة "2/ 198".
5 العقد الفريد "6/ 43"، أيام العرب "390"، نهاية الأرب "15/ 378".(10/51)
الوهاب"1.
ومن الأيام التي وقعت بين "قيس" و"كنانة": يوم الكديد، ويوم برزة وحروب الفجار، أما يوم الكديد ويوم برزة، فقد تحدثت عنهما قبل قليل. وأما حروب الفجار فإليك ما جاء عنها.
العادة في الجاهلية ألا قتال في الأشهر الحرم لقدسيتها ومكانتها، فهي أشهر حرم يستريح فيها الأفراد والقبائل من القتال، ويكون الإنسان فيها آمنًا على نفسه وماله، فيظهر فيها الفرسان المعروفون بسفكهم الدماء دون خوف وإن كانوا يتقنعون بقناع حين حضورهم الأسواق مثل عكاظ خوفًا من وقوف طلاب الثأر على حقيقتهم، فيتعقبون خطاهم، فيفتكون بهم بعد انتهاء الأشهر الحرم. ويذهب في هذه الأشهر الناس إلى الأسواق للامتياز. وإلى الكعبة للحج إلى الأصنام، ثم يعودون إلى منازلهم مع انتهاء الأيام الحرم خشية حلول الأشهر الأخرى فيتعرضون لطمع الطامعين وغزو الغازين.
ومع ما لهذه الأشهر من الحرمة، فقد وقعت فيها حروب عرفت بحروب الفجار وبأيام الفجار؛ لأن من اشترك فيها كان قد فجر فيها بانتهاكه قدسية هذه الأشهر الحرم2. ولكنها على ما يظهر من وصف الأخباريين لها لم تكن حروبًا كبيرة واسعة، إنما كانت مناوشات ومهاترات وقعت لأسباب تافهة بسيطة. ففي الفجار الأول لم يرق فيه دم، وإنما محاورات وخصومة كلامية بين كنانة وهوازن بسبب حادث بسيط لا يستوجب في الواقع خصومة ولا اشتباكات. فقد تطاول "بدر بن معشر الغفاري" "بدر بن معسر الغفاري" على الناس، بأن جلس بعكاظ في الموسم والعرب مجتمعة فيه، ثم مدّ رجله وقال: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف. فوثب رجل من "بني نصر بن معاوية" اسمه "الأحمر بن هوازن" فضربه بالسيف على ركبته فقطعها، فتحاور الحيّان: أهل المضروب مع أهل الضارب عند ذلك. حتى كاد أن يكون بينهما الدماء, ثم
__________
1 النقائض "193"، ابن الأثير "1/ 394"، العمدة "2/ 198"، أيام العرب "391 وما بعدها".
2 العقد الفريد "6/ 101 وما بعدها"، مروج الذهب "2/ 275"، اللسان "5/ 48"، "فجر"، تاج العروس "3/ 465"، "فجر".(10/52)
تراجعوا ورأوا أن الخطب يسير1.
وفي الفجار الثانية وقعت بينهم دماء يسيرة. وكان سببه عبث شباب من قريش وكنانة بامرأة من بني عامر بن صعصعة وكانت وضيئة حسانة رأوها بسوق عكاظ، فأرادوا منها أن تكشف لهم عن برقعها، فثارت ونادت: "يا آل عامر"، ونادى الشباب قومهم، فالتحموا في قتال لم يكن هذا الحادث ليوجبه. ثم انتهى بتوسط "حرب بن أمية" "الحارث بن أمية" باحتمال دماء القوم2.
أما الفجار الثالث، فكان بسبب دين كان لرجل من بني جشم بن بكر بن هوازن على رجل من كنانة، فلواه به، ولم يعطه شيئًا منه. فلما أعياه، وافاه في سوق عكاظ بقرد، وجعل ينادي: "من يبيعني مثل هذا الربّاح بمالي على فلان بن فلان الكناني، من يعطيني مثل هذا بمالي على فلان بن فلان الكناني! رافعًا صوته بذلك، فلما أكثر من ندائه، مرّ به رجل من بني كنانة، فقتل القرد، فهتف الجُشمي: "يا آل هوازن"، وهتف الكناني: "يا آل كنانة" وتجمع الحيّان حتى تحاجزوا، ولم يكن بينهم قتلى، ثم كفوا وقالوا: "أفي ربّاح تريقون دماءكم وتقتلون أنفسكم؟ " وأصلح عبد الله بن جُدعان بينهما3.
ووقع الفجار الآخر بسبب رجل خليع سكير فاسق، أتعب قومه فخلعوه وتبرأوا منه فخرج منهم، وصار يتنقل من قبيلة إلى قبيلة ومن سيد إلى سيد يطلب الحماية والجوار. فلما لفظه الجميع، وتعبوا منه، ذهب إلى مكة مستجيرًا بحرب بن أمية، فحالفه، وأحسن جواره. ثم شرب بمكة، وعاد إلى سيرته الأولى، فهمّ حرب بخلعه، فخرج من مكة، وذهب عنه إلى الحيرة. فلما كان هناك،
__________
1 العقد الفريد "6/ 101"، الأغاني "3/ 368"، ابن الأثير "1/ 359"، العمدة "2/ 207"، سرح العيون "58"، أيام العرب "322"، العمدة "2/ 218" "محمد محيي الدين عبد الحميد"، الأغاني "19/ 73"، "مطبعة التقدم 1932م"، تأريخ الخميس، للديار بكري "1/ 255".
2 العمدة "2/ 219"، "محمد محيي الدين عبد الحميد"، الأغاني "19/ 74"، الكامل، لابن الأثير "1/ 359"، تأريخ الخميس "1/ 255"، السيرة الحلبية "1/ 141".
3 العمدة "2/ 207"، أيام العرب "325"، "كان بسبب دين بني نصر على أحد بني كنانة" العمدة "2/ 219"، "محمد محيي الدين عبد الحميد"، الأغاني "19/ 74"، السيرة الحلبية "1/ 141"، الكامل في التأريخ "1/ 358 وما بعدها"، تأريخ الخميس "1/ 255".(10/53)
عرض على النعمان بن المنذر أن يتولى له حماية لطيمته، ويجيزها له على أهل الحجاز. وسمع بذلك عروة الرحال، وهو يومئذ رجل هوازن، فاحتقر أمر هذا الخليع: "البراض بن قيس الكناني"، فقال للملك: أكلب خليع يجيزها لك؟ أبيت اللعن، أنا أجيزها لك على أهل الشيح والقيصوم في أهل نجد وتهامة. فدفعها النعمان إليه، وخرج عروة بها، والبراض بن قيس يتعقبه. فلما كان بأوارة غافله البراض، فقتله، واستاق اللطيمة إلى خيبر. ولما بلغ خبر مقتل عروة كنانة وهوازن، هاج الطرفان، واشتبكا في قتال وقع بموضع نخلة، فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجنّ عليهم الليل فكفّوا.
وجرّ عمل هذا الخليع إلى وقوع جملة أيام أخرى، أدت إلى اضطراب الأمن في مواسم أمن ما كان يحدث فيها قتال. فبعد عام من يوم نخلة، تجمعت قريش وكنانة بأسرها والأحابيش ومن لحق بهم من بني أسد بن خزيمة. لملاقاة سليم وهوازن، ووزع عبد الله بن جُدعان السلاح على الشجعان الفرسان المعروفين بالشجاعة والصبر. وسلَّح يومئذ مائة كميّ بأداة كاملة، سوى من سلَّح من قومه واجتمعوا بموضع شمطة من عكاظ في الأيام التي تواعدوا فيها على قرن الحول1.
وترأس المتقاتلين المتواعدين سادات ذلك الوقت المعروفون. وعلى كنانة كلها حرب بن أمية، ومعه عبد الله بن جُدعان وهشام بن المغيرة وهما على الميمنة والميسرة، وعلى هوازن وسُليم كلها مسعود بن معتب الثقفي. وفي بني عامر ملاعب الأسنة أبو براء، وفي بني نصر وسعد وثقيف سُبيع بن ربيع، وفي بني جشم الصِّمة والد دريد وفي غطفان عوف بن أبي حارثة، وفي بني سُلَيم عباس بن زغل، وفي فهم وعدوان كدام بن عمرو.
وكانت الدائرة في أول النهار لكنانة على هوازن، حتى إذا كان آخر النهار تداعت هوازن وصابرت، وانكشفت كنانة فاستحر القتل فيهم، فقتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، ولم يقتل من قريش أحد يذكر، فكان هذا اليوم لهوازن على كنانة وقريش2.
__________
1 "شمظة"، نهاية الأرب "15/ 427"، الأغاني "19/ 75"، سيرة ابن هشام "1/ 196"، السيرة الحلبية "1/ 142"، العقد الفريد "5/ 252".
2 نهاية الأرب "15/ 427 وما بعدها"، العقد الفريد "6/ 106 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 246 وما بعدها".(10/54)
وقد وقع الفجار الثاني بعد الفيل بعشرين سنة، وبعد موت عبد المطلب باثنتي عشرة سنة على رواية. ويعد من أيام العرب المشهورة، وهو أشهر من يوم جبلة الذي وقع قبله في بعض الروايات1.
وعادت هوازن وكنانة إلى الحرب، والتقوا على قرن الحول في اليوم الثالث من أيام عكاظ، واقتتلوا وكانت الهزيمة على كنانة. وقد عرف هذا اليوم بيوم العبلاء2.
وقد تأثرت كنانة من الهزيمة التي لحقتها في يومي شمطة والعبلاء، وأخذت تستعد للانتقام من هوازن، فتكتل رؤساؤها واشتروا الأسلحة، وحمل عبد الله بن جدعان مثري قريش وغنيها يومئذ ألف رجل من بني كنانة على ألف بعير، وتولى قيادة كل بطن رئيسه ثم سارت على رأس الحول من اليوم الرابع من أيام عكاظ قاصدة هوازن، فالتقت بها واشتبكت معها في قتال كاد يهرب فيه بنو كنانة، لولا صبر بني مخزوم وبلاؤها بلاءً حسنًا. وخشيت قريش أن يجري عليها ما جرى يوم العبلاء. فقيّد حرب وسفيان وأبو سفيان بنو أمية بن عبد شمس أنفسهم وقالوا: لا نبرح حتى نموت مكاننا أو نظفر واقتتل الناس قتالًا شديدًا، وحملت قريش وكنانة على قيس من كل وجه حتى انهزمت، وانتصرت بذلك كنانة وقريش على بني هوازن. وعرف هذا اليوم بيوم عكاظ3.
ولما انهزمت قيس، دخلوا خباء "سبيعة بنت عبد شمس" امرأة "مسعود بن مُعتب الثقفي" مستجيرين بها، فأجار "حرب بن أمية" جيرانها، واستدارت قيس بخبائها حتى كثروا، فلم يبق أحد لا نجاة عنده إلا دار بخبائها، فقيل لذلك الموضع: مدار قيس، وكان يضرب به المثل، فتغضب قيس4.
وقد التقت كنانة وقريش بقيس في يوم آخر يسمى يوم الحُريرة، وكان على بني بكر بن عبد مناة، رئيسهم جثامة بن قيس أخو بلعاء بن قيس وذلك لوفاة بلعاء. أما الرؤساء الآخرون، فبقوا كما كانوا في اليوم الماضي. وبعد قتال اتفقوا
__________
1 ابن الأثير "1/ 246".
2 العبلاء: علم على صخرة بيضاء إلى جنب عكاظ، العقد الفريد "6/ 107".
3 أيام العرب "334 وما بعدها".
4 أيام العرب "335".(10/55)
على الصلح وتسوية الديات، وانصرف الناس من الحرب1.
هذه أيام من أيام عديدة أخرى ترد أسماؤها في كتب الأخبار والتواريخ2، نرى أن أسبابها: طبيعة البداوة، وفقر البادية، وحاجة الناس إلى الماء والمرعى والاعتبارات الاجتماعية، وما شاكل ذلك من أسباب أدت إلى وقوع تلك الأيام. وقد علقت ذكراها بأذهان الرواة؛ لأنها وقعت في عهد لم يكن بعيدًا جدًّا عن الإسلام، وقد وقعت بالطبع مئات من هذه الأيام، محيت أخبارها من ذاكرة حفظة الأخبار ورواتها؛ لأنها وقعت في عهد بعيد عن الإسلام أو في أمكنة بعيدة لم يصل مداها إلى جُمّاع الأخبار في الإسلام، فلم يضبطوها في جملة هذا الذي ضبطوه.
والذي نجده من قراءة أسماء الأيام المذكورة ومن أخبارها، أن معظمها مما كان قد وقع في الحجاز أو في نجد أو العراق والبادية وبلاد الشأم والبحرين. أما الأيام التي وقعت في العربية الجنوبية فقلما نجد لها ذكرًا عند الأخباريين، خاصة أيام حضرموت وعُمان، مما يدل على عدم وصول أخبار هذه الأرضين إلى علم الأخباريين. والواقع أن علم أهل الأخبار والتأريخ بهذه البلاد ضعيف جدًّا، حتى في باب علمهم عنها في الإسلام، وهو أمر يؤسف عليه.
وتتخلل هذه الأيام أسماء الرجال المشهورين ممن كان لهم أثر خطير فيها، وهم قادتها ومساعير نيرانها ومكوِّنو تأريخ الجزيرة قبل الإسلام. وشأن هؤلاء الرجال من حيث بعدهم وقربهم عن الإسلام، شأن أيامهم، فأكثرهم من أهل القرن السادس للميلاد، وممن ماتوا في عهد لمن يكن بعيدًا عن الإسلام، أي في النصف الثاني من هذا القرن، لقد صنع القصاصون ومحبو المبالغات من رواة القبائل، على عادتهم، هالة من الأقاصيص والأساطير لأولئك الرجال، حملت بعض المستشرقين على الشك في حقيقة بعضهم. ولكن وجود القصص الخرافي لا يمنع من الاعتراف بوجود شخص كان قد عاش ومات، وكان له أثر ظاهر في قومه وأعمال أثرت
__________
1 أيام العرب "337"، الأغاني "19/ 79 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "/ 363"، السيرة الحلبية "1/ 143"، البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 289"، "1932م"، "مطبعة السعادة".
2 هناك أسماء أيام أخرى ذكرها أهل الأخبار، لا يمكننا التوسع فيها إذ يقتضي ذلك جملة مجلدات، راجع العمدة "2/ 200 وما بعدها".(10/56)
في مواطنيه، وجعلتهم يوسعونها ويكبرونها إلى أن صنعوها بقصصهم بهذا الشكل الذي وصل إلى الأخباريين، بنقلهم الرجال من عالم الحقيقة إلى عالم الخرافة والخيال.
لقد خلدت تلك الأيام أسماء رجال أثروا تأثيرًا مهمًّا في الحياة السياسية البدوية، لقد أنجز بعضهم أعمالًا لم تنجزها قبائلهم، فتمكنوا من بسط نفوذهم على كثير من القبائل ومن جمعها تحت رئاسته بفضل زعامته وشخصيته. فهذا زهير بن جناب الكلبي تجتمع عليه قضاعة وتنضوي تحت لوائه، ويفرض الإتاوة على قبائل أخرى من غير قضاعة، ويحارب غطفان وبكرًا وتغلب وبني القين بن جسر، وهي من القبائل الكبيرة المعدودة، ثم ينتصر عليها1. وهذا كليب بن وائل وهو من معاصري زهير بن جناب ومن المنافسين له، ومن رجال النصف الأول من القرن السادس للميلاد، يجمع شمل قبائل ربيعة -وهي قبائل متنافرة متخاصمة- تحت رايته، ثم يجمع شمل معد ويضمها كلها إليه، فتكون له الرئاسة على كل قبائلها، وهو بذلك أحد النفر الذين اجتمعت عليهم معد2.
ومن النفر الذين اجتمعت معدّ عليهم: عامر بن الظرب بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث -وهو عدوان بن قيس عيلان- وربيعة بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن كلب، وكان قائد معدّ يوم السلان بين أهل اليمامة واليمن3.
ولمع في هذه الأيام اسم حذيفة بن بدر، واسم حمل أخيه، وكان سيّدي بني فزارة. وقد عرف حذيفة بـ"رب" معد4، وقاد قومه بني فزارة في عدة أيام، هي: يوم النسار، ويوم الجفار، وحرب داحس والغبراء حيث قُتل فيها في يوم الهباءة5.
وقد رأينا عدة رجال آخرين يتزعمون قومهم في هذه الأيام، مثل بسطام بن قيس رئيس بني شيبان، وهو من مشاهير الفرسان، وأحد الفرسان الثلاثة المعدودين، وهم: عامر بن الطفيل، وعتيبة بن الحارث وبسطام، وربيعة بن مُرة بن
__________
1 ابن الأثير "1/ 205 وما بعدها"، الأغاني "21/ 93 وما بعدها"، المفضليات "117"، Ency., Iv, P.1237
2 ابن الأثير "1/ 213".
3 ابن الأثير "1/ 214".
4 العمدة "2/ 192" "باب ذكر الوقائع والأيام"، المحبر "461".
5 المحبر "249".(10/57)
الحارث التغلبي، والهذيل بن هبيرة الثعلبي من ثعلبة بن بكر، والحوفزان، وهو الحارث بن شريك بن عمرو بن الشيباني، والحارث بن وعلة الذُّهلي، وأبجر بن جابر العِجلي، وقيس بن حسان بن عمرو بن مرثد أخو بني قيس بن ثعلبة، وقتادة بن مسلمة الحنفي، وأثال بن حجرين النعمان بن مسلمة الحنفي، والهذيل ابن عمران التغلبي.
وقد دوّنت الأيام أسماء جماعة من سادات تميم ممن ترأسوا قومهم. ولقبائل تميم مكان في هذه الأيام. ويظهر أنها كانت من القبائل البارزة في القرن السادس للميلاد. ومن هؤلاء: زرارة بن عدس من بني دارم. وقد قاد تميمًا وغيرها في يوم شويحط إلى عذرة بن سعد هذيم، ولقيط بن زرارة، وقد قاد تميمًا كلها إلا بني سعد بن زيد مناة إلى بني عامر بن صعصعة يوم جبلة، والأقرع بن حابس، وقد قاد حنظلة كلها يوم الكلاب الأول، عدا أسماء آخرين تجدهم مذكورين في أخبار الأيام.
وطبيعي أن يكون للفرسان وللفتّاك وللشعراء المقام الأول بين أسماء الرجال الذين ترد أسماؤهم في هذه الأيام. وإن لم يكونوا من بيوتات شهيرة معروفة، لها في الرئاسة ذكر ومقام، فأعمال المرء كافية لتخليد اسمه بين المشاهير. وإذا كان للشاعر عمل التشجيع والحث على الإقدام، وإلهاب نار الحماسة في النفوس، فإن للفارس والفاتك واجبًا مهمًّا في هذه الأيام، فإنهم يقررون في الغالب مصير الحروب ولا سيما الفرسان الفتاك الذي يختارون كباش القوم، فيقضون عليهم ويفتكون بهم، وبعملهم هذا تنتهي الحرب في الغالب بهزيمة تحل في الجبهة التي تتضعضع بسقوط الرئيس. فإن لسقوط الرئيس صريعًا شأنًا كبيرًا عند القبائل. فالرئيس هو الرمز المعنوي للقبيلة. فمتى سقط الرئيس انهارت معنوياتها وخارت قواها، ولا تستطيع عندئذ الثبات في الميدان، فيهرب أفرادها في غالب الأحوال، ويكون النصر للجانب الذي أسعده الحظ بوجود فارس عنده قتل رئيس خصمه.
وإن كان للخيل أثر في حروب تلك الأيام، في الهجوم والدفاع وفي الكر والفر، فإن القبيلة التي كانت تملك فرسانًا وعددًا وافرًا من الخيل، هي القبيلة المنتصرة الرابحة التي يخشى بأسها، فلا يطمع فيها الطامعون. ولا يهاجمها مهاجم بسهولة، ولها يكون الفخر على القبائل بكثرة ما لديها من خيل ومن فرسان،(10/58)
لأن للفرس والفارس شأنًا كبيرًا في سرعة كسب الحرب، وتفتيت جبهة العدو، وإحداث ثُغَر في صفوفه، تؤدي إلى تشتيت شمله وبعثرته ثم هزيمته هزيمة منكرة. وهي لقوتها هذه لم تكن تعتمد على غيرها في الحروب والغزو، إلا إذا قابلت بالطبع قوة كبيرة من القبائل لا يمكن التغلب عليها إلا بالتعاون مع القبائل الأخرى فعندئذ تضطر إلى البحث عن حليف.(10/59)
الفروسية:
والفارس فخر القبيلة؛ لأنه المدافع عنها في الحروب والمهاجم الكاسر للأعداء.
وهو أهم من الراجل في القتال، لما له من أثر في كسب النصر وفي إيقاع الرعب والفوضى في صفوف العدو. ولهذا فخرت القبائل بفرسانها، وفي كثرة الفرسان في القبيلة دلالة على عظمتها وقوتها. نظرًا لغلاء ثمن الفرس، ولأهميته في تطوير الحرب وفي توجيهها، وإنهائها في صالح من له أكبر عدد من الفرسان.
ومن حسن حظ القبيلة أن يكون بها عدد وافر من الفرسان، وعدد من الشعراء فالفارس فنان القبيلة في الحرب وفارسها في الطعان وحامي الذمار والعرض، والشاعر فارس الكلام، يؤجج نيران العواطف ويلهب جذوة الحماس في النفوس، ويدفع الفارس إلى الإقدام، وبذلك يساعد في كسب النصر لقبيلته، وفي الدفاع عن عرض القبيلة بسلاحه الموزون المقفى.
وقد حفظت ذاكرة أهل الأخبار أسماء جماعة من فرسان الجاهلية، دوّنت في كتبهم، فوصلت بفضل تدوينهم لها إلينا. وعلى رأس من دوّنوا أسماءهم في الشهرة وبعد الصيت: "عنترة بن شداد العبسي" الذي لا يزال الناس يضربون به المثل في الشجاعة. وهو أحد "أغربة العرب" وهم ثلاثة: أولهم هو، وثانيهم "خفاف" واسم أمه "ندبة"، وثالثهم "السليك" واسم أمه "السلكة"، وأم الثلاثة إماء سود. كانت أم "عنترة" أمة سوداء، اسمها "زبيبة"، فلما كبر أغار بعض أحياء العرب على قوم من "عبس"، فأصابوا منهم. فتبعهم العبسيون، فلحقوهم فقاتلوهم وفيهم عنترة. فقال له أبوه: "كر يا عنترة"، فقال: "العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب والصر"، وذلك أن العرب في الجاهلية كانت إذا كان لأحدهم ولد من أمة استعبده، فعدّ "عنترة" من العبيد.(10/59)
فقال له: كر وأنت حر. فقاتلهم واستنقذ ما في أيدي القوم من الغنيمة، فادعاه أبوه بعد ذلك، واسمه "عمرو بن شداد". فنسب إليه.
وقد برز اسمه في حرب "داحس والغبراء". وقد قتل فيها ضمضمًا المريّ، أبا الحصين بن ضمضم. وقد كان مصيره القتل كذلك. وتزعم "طيء" أن قاتله منها. ويزعمون أن الذي قتله "الأسد الرهيف"1.
ومن مشاهير الفرسان "ربيعة بن مكدم" وهو من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة. وقد عرف "بنو فراس" بالشجاعة والنجدة. وقد كان يعقر على قبره تعظيمًا له وتقديرًا. مر على قبره "حسان بن ثابت"، فقال فيه شعرًا2.
و"ملاعب الأسنة"، وهو "عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب"، "أبو براء"، وهو ممن اشتهر بالفروسية كذلك. وكان سيدًا في قومه. ذكر أنه أخذ أربعين مرباعًا في الجاهلية. وفي ذلك دلالة على ما كان له من مقام في قومه. قيل إنه سمي "ملاعب الأسنة" بقول أوس بن حجر:
ولاعب أطراف الأسنة عامر ... فراح له حظ الكتيبة أجمع3
وقد عرف بـ"ملاعب الرماح" كذلك4. وقد لقب بهذا اللقب في شعر الشاعر "لبيد"5.
وذكر "السكري". "عامر َبن مالك" في جملة من اجتمعت عليه هوازن، ولم تجتمع هوازن كلها في الجاهلية إلا على أربعة نفر من "بني جعفر بن كلاب" وهم: "خالد بن جعفر بن كلاب" بعد قتله "زهير بن جذيمة بن رواحة" و"عروة الرحال بن عتيبة بن جعفر" و"الأحوص بن جعفر"
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 126 وما بعدها"، الدينوري، عيون الأخبار "1/ 125".
2 بلوغ الأرب "2/ 125".
3 بلوغ الأرب "2/ 127"، تاج العروس "3/ 423"، "عمر"، "ومن رجال بني جعفر بن كلاب: عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وابن أخيه عامر بن الطفيل"، الاشتقاق "2/ 180"، الإصابة "2/ 249"، "رقم4424".
4 الثعالبي، ثمار "101، 102".
5 الثعالبي، ثمار "101".(10/60)
و "عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب"1.
و"عامر بن الطفيل بن مالك بن كلاب العامري"، من فرسان الجاهلية المعروفين أيضًا، وهو ابن أخي "عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وقد أدرك الإسلام فكان في جملة من وفد مع قومه في سنة تسع من الهجرة على الرسول. وكان قد أضمر الغدر برسول الله. ولكنه لم يتمكن منه. ثم قال لرسول الله: أتجعل لي نصف ثمار المدينة وتجعلني ولي الأرض بعدك فأسلم؟ فأبى عليه رسول الله. فانصرف عامر وقال: والله لأملأنها عليك خيلًا ورجالًا. وكان متعجرفًا متغطرسًا، لما ناله من مكانة عند قومه. حتى زعم أهل الأخبار أن اسمه كان قد طار إلى خارج جزيرة العرب، حتى بلغ "قيصر"، فكان "قيصر" إذا قدم عليه قادم من العرب قال: ما بينك وبين عامر بن الطفيل؟ حتى وفد عليه "علقمة بن علاثة" فانتسب له، فقال: ابن عم عامر بن الطفيل، فغضب علقمة2.
ورجع ونافر "عامر بن الطفيل" في قصص من هذا القصص المألوف وروده عن أهل الأخبار.
وروى بعض أهل الأخبار، أن "عامر بن الطفيل" لما مات نصبت بنو عامر نصابًا ميلًا في حمي على قبره، لا تنشر فيه راعية ولا يرعى ولا يسلكه راكب ولا ماش. تعظيمًا لقبره واحترامًا لذكراه3.
وذكر "أبو عبيدة"، أن "عامر بن الطفيل"، أحد فرسان العرب المعروفين و"فرسان العرب ثلاثة: فارس تميم: عتيبة بن الحارث بن شهاب، وكان يقال له: صياد الفوارس وسم الفوارس، وفارس ربيعة: بسطام بن قيس بن مسعود، وفارس قيس: عامر بن الطفيل ملاعب الأسنة. فأما ملاعب الرماح فأبوه براء عامر بن مالك بن جعفر4. وذكر أن "عامر بن مالك بن جعفر، "أبو براء"، بعث إلى رسول الله يسأله أن يوجه إليه قومًا يفقهونهم في الدين،
__________
1 المحبر "253 وما بعدها"، أسد الغابة "3/ 84".
2 بلوغ الأرب "2/ 129"، الاشتقاق "180، 215"، الأغاني "15/ 50، 131".
3 بلوغ الأرب "2/ 131"، العقد الفريد "1/ 172".
4 الثعالبي، ثمار "101"، "وبسطام اسم فارسي، وبسطام أحد الفرسان الثلاثة المذكورين عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وبسطام هذا"، الاشتقاق "2/ 225".(10/61)
فبعث إليهم قومًا من أصحابه، فعرض لهم "عامر بن الطفيل"، فقتلهم يوم "بئر معونة" فاغتم أبو براء لذلك، وقلق لإغفار عامر بن الطفيل بقتلهم ذمته. ومات "عامر بن الطفيل، وهو منصرف من عند رسول الله، ودعا "أبو براء" قينتين له، واستدعى "لبيدًا"، وأخذ يشرب حتى أثقله الشراب، فاتكأ على سيفه حتى فاضت نفسه، فرثاه "لبيد"، ودعاه بـ"ملاعب الرماح"1.
وقد عدّه أهل الأخبار في جملة "من كان يركب الفرس الجسام فتخط إبهامه في الأرض"2، وفي جملة "العوارن الأشراف"3. وقد نافر "عامر بن الطفيل" "علقمة بن علاثة" عند "هرم بن قطبة بن سنان"4.
وزُعم أنه كان في جملة من أوفدهم "النعمان بن المنذر" إلى "كسرى" ليبينوا له مكارم العرب، وفي الوفد: أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، والحارث بن عبّاد البكري، وعمرو بن الشريد السلمي، وخالد بن جعفر الكلابي، وعلقمة بن علاثة. فتكلم في جملة من تكلم منهم. ودوّن أهل الأخبار كلامهم وأجوبة كسرى عليه، وكأنهم كانوا كتّاب محضر، دوّنوه بالنص5! وله منافرة مع "علقمة بن علاثة"، كان حكمها "هرم بن قطبة بن سنان" الفزاري. وقد سجل أهل الأخبار حديثها بالنص كذلك6.
ويعدّ "زيد الخيل" من مشاهير فرسان العرب كذلك، واسمه "زيد بن مهلهل بن زيد بن منهب الطائي". وهو من سادات "طيء" ومن الشعراء وكان بينه وبين "كعب بن زهير" هجاء؛ لأن كعبًا اتهمه بأخذ فرس له. قدم في وفد طيء، وهو سيدهم على الرسول. فلما انتهوا إليه كلموه. وعرض عليهم الإسلام فأسلموا. ثم بدل الرسول اسمه فسماه زيد الخير. وكلمه فأعجبه فلما ولى عائدًا من عنده إلى وطنه قال الرسول: "ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا ما كان من زيد الخيل، فإنه لم
__________
1 الثعالبي، ثمتر "101 وما بعدها"، المحبر "118".
2 المحبر "234".
3 المحبر "303".
4 المحبر "135".
5 البيان والتبيين "1/ 45".
6 بلوغ الأرب "1/ 288 وما بعدها".(10/62)
يبلغ فيه كل ما فيه"، وقطع له "فيدًا" وأرضين معه. وكتب له بذلك. فلما عاد من المدينة وانتهى إلى ماء من مياه نجد يقال له: "قردة" أصابته الحمى، حمى يثرب الشهيرة المكناة عندهم بـ"أم ملدم"، فمات بها1.
وكان كما يصفه أهل الأخبار طويلًا جسيمًا وسيمًا يركب الفرس العظيم الطويل فتخبط رجلاه في الأرض كأنه راكب حمارًا. أسر عامر بن الطفيل وجز ناصيته2.
"قيل له زيد الخيل لطول طراده بها وقيادته لها"3. وقد عدّه "ابن حبيب" في جملة المتعممين مخافة النساء على أنفسهم لجمالهم4.
ومن الفرسان "عمرو بن معديكرب"، وهو ممن وفد على رسول الله في قومه من "زبيد". فأسلم ثم ارتد بعد وفاة الرسول5. فلما سيّر الخليفة "أبو بكر" جيشًا على المرتدين انهزم "عمرو بن ودّ"، ثم أخذ أسيرًا إلى الخليفة، فأنبه فعاد إلى الإسلام واشترك في معركة "اليرموك" ثم في معركة "القادسية" وتوفى سنة "21" من الهجرة6. ويعد "فارس اليمن"7. ونعته "ابن حبيب" بـ"فارس العرب"8.
ومنهم: "دريد بن الصِّمة"، وهو من "بني جشم". وله أخبار مع "بني كنانة"، وقد أسرته بنو فراس من "بني كنانة"، فلما عرفته امرأة منهم وهي امرأة "ربيعة بن مكدم"، توسلت إلى قومها بفك أسره، لمساعدته لها في وقت شدة وهو لا يعرفها وهي لا تعرفه، ثم جهزته ولحق بقومه9. وقد عده "ابن حبيب" من "أشراف العميان" و"البرص الأشراف"10.
__________
1 الطبري "3/ 145 وما بعدها"، "وكان شاعرًا، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم. فسماه زيد الخير، وقال له: يا زيد ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا كان دون الصفة ليسك. يريد غيرك، الثعالبي، ثمار "101".
2 بلوغ الأرب "2/ 138".
3 الثعالبي، ثمار "101".
4 المحبر "232 وما بعدها".
5 الطبري "3/ 132 وما بعدها".
6 بلوغ الأرب "2/ 131 وما بعدها"، الثعالبي، ثمار "439، 535، 621"، وفقئت عينه يوم اليرموك، المحبر "261، 303".
7 الثعالبي، ثمار "621 وما بعدها".
8 المحبر "2/ 245".
9 بلوغ الأرب "2/ 134 وما بعدها"، الثعالبي، ثمار "397"، "فمن بني غزية دريد بن الصمة"، الاشتقاق "177".
10 المحبر "298، 299".(10/63)
وزيد الفوارس من هذا الرعيل الشهير من فرسان الجاهلية. وكان الرؤساء في قومه. وشهد يوم "القرنتين" ومعه ثمانية عشر من ولده يقاتلون معه، وهو من سادات "بكر بن سعد بن ضبة". وهو "زيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي". وقد طالت رياسته1.
ومنهم "عمرو بن كلثوم" الشاعر الشهير قاتل "عمرو بن هند" ملك الحيرة وصاحب المعلقة. وينتهى نسبه إلى "تغلب"، وهو أحد فتاك العرب وأخوه "مرة" هو الذي قتل "المنذر بن النعمان"، وأمه "أسماء بنت مهلهل بن ربيعة". وقد ساد قومه وهو ابن خمس عشرة سنة، ومات وهو ابن مائة وخمسين سنة2.
ومن الفرسان الشجعان "أمية بن حرثان الكناني"، وكان من سادات قومه، وقد أدرك النبي وأسلم، وله ولد اسمه "كلاب بن أمية" دخل في الإسلام كذلك3.
ومن الفرسان "الشنفرى الحارثي" وهو من الشعراء وأحد العدّائين. والعدّاءون من العرب: السليك، والشنفرى، والمنتشر بن وهب، وأوفى بن مطر. ولكن المثل سار من بينهم بالسليك. والعرب تضرب به المثل، وتزعم أنه والشنفرى أعدى من رئي، ويزعمون أنهما كانا يسبقان الأفراس، ويصيدان الظباء عدوًا4. وقد عرف السليك بـ"سليك المقانب" ومقانب أمه، وكانت أمه سوداء، وسليك أيضًا أسود، وهو أحد أغربة العرب5.
ولمع في هذه الأيام اسم حذيفة بن بدر، واسم حمل أخيه، وكانا سيدي بن فزارة. وقد عرف حذيفة بـ"رب" معد6، وقاد قومه بني فزارة في عدة أيام هي: يوم النسار، ويوم الجفار، وحرب داحس والغبراء حيث قتل فيها
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 137 وما بعدها"، "قال الفرزدق:
زيد الفوارس وابن زيد منهم ... وأبو قبيصة والرئيس الأول
وزيد الفوارس بن حسين بن ضرار، واشتقاق قبيصة من قولهم قبصت قبصة، أي: أخذت بثلاث أصابعي شيئًا" والاشتقاق "120".
2 بلوغ الأرب "2/ 141 وما بعدها".
3 الاشتقاق "107"، بلوغ الأرب "2/ 138".
4 الثعالبي، ثمار "135".
5 الأغاني "18/ 133 وما بعدها"، الثعالبي، ثمار "105".
6 العمدة "2/ 193" "باب ذكر الوقائع والأيام" المحبر "461".(10/64)
يوم الهباءة1.
وقد دونت الأيام أسماء جماعة من سادات تميم ممن ترأسوا قومهم. ولقبائل تميم مكان خطير في هذه الأيام. ويظهر أنها كانت من القبائل البارزة في القرن السادس للميلاد. ومن هؤلاء: زرارة بن عدس من بني دارم. وقد قاد تميمًا وغيرها في يوم شويحط إلى عذرة بن سعد هذيم، ولقيط بن زرارة، وقد قاد تميمًا كلها إلا بني سعد بن زيد مناة إلى بني عامر بن صعصعة يوم جبلة، والأقرع بن حابس، وقد قاد حنظلة كلها يوم الكلاب الأول، عدا أسماء آخرين تجدهم مذكورين في أخبار الأيام.
__________
1 المحبر "249".(10/65)
الخيل:
وللخيل أهمية كبيرة في جزيرة العرب، إنها سيارة ذلك اليوم، بل ربما كانت أهم منها عند العربي: يركبها ويحارب عليها بسهولة وبسرعة لا تتوفر في الجمل ويستطيع أن يسابق بها الإبل، ويفر ممن يريد اللحاق به لشرٍّ ينويه تجاهه. ولذلك كانت للخيل مكانة كبيرة عند الجاهليين في السلم وفي الحرب. حتى كان الرجل منهم يبيت طاويًا ويشبع فرسه ويؤثره على نفسه وأهله وولده، فالخيل وقاية للنفس, والمعاقل التي يأوي إليها، والخير عندهم معلق بنواصي الخيل1.
ويرجع أهل الأخبار تأريخ ركوب الخيل إلى "إسماعيل بن إبراهيم"، يزعمون أنه أول من ركبها، وكانت الخيل وحوشًا لا تركب. فذهب إلى موضع "أجياد"، وهو موضع بمكة يلي الصفا، وكان موطنًا له، فركب ظهور الجياد. وركب الناس منذ ذلك العهد الخيل. فإسماعيل على زعمهم هو أول راكب للخيل2.
ويلاحظ أن راوي هذا الخبر أراد إقناع السائل بصحة جوابه، فربط بين ركوب ظهور الجياد وبين موضع أجياد، ليبدو الجواب منطقيًّا مقبولًا.
وقد مدحت العرب الخيل العراب, أي: الخيول العربية الأصيلة، التي لم تهجن,
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 77 وما بعدها".
2 نهاية الأرب "9/ 345 وما بعدها".(10/65)
ولم يختلط في دمها دم غريب1, وقد مدحت الخيل الشقر، وذلك لسرعتها، ومدحت بعدها الحصان الأدهم الأرثم المحجل المطلق اليد اليمنى2. وقيل للخيل الكريمة الأصيلة "العتاق من الخيل" و"الخيل العتاق"3.
وقد كانت الخيل من جملة وسائل كسب الحروب. والفريق الذي يملك أكبر عدد من الخيل في المعركة يكسب الحرب. وذلك لسرعتها ولما تحدثه تحركات المحارب على ظهرها من أثر في صفوف جيش العدو. ولهذا عدّ بعض الباحثين دخول الخيل إلى جزيرة العرب تطورًا خطيرًا في أسلوب القتل عند العرب, أحدث تغييرًا خطيرًا في طرق القتال وصار عاملًا مهمًّا من العوامل التي أدت إلى انتشار القتال والغزو في بلاد العرب. وصار في إمكان القبيلة التي تملك خيلًا جيدة كثيرة أن تتفوق على غيرها في الغزو، حتى إذا كانت القبيلة كبيرة؛ لأن العدد الكثير وإن كان ذا أهمية في النصر، ولكنه لا يستطيع أن يقف أمام الفرسان، إن كان المحاربون من المشاة أو كان أكثرهم منهم. إذ لا يستطيع الثبات أمام صولات وجولات الفرسان الذين يشتتون شمل الصفوف ويمزقون الجمع، ويمهدون لمن وراءهم من المشاة فرصة الانقضاض على الفارين المنهزمين.
ولأهمية الخيل عند العرب ألّف كثير من العلماء كتبًا فيها، تجد ذكرهم في "الفهرست" لابن النديم. ومن هؤلاء "ابن الكلبي" صاحب كتاب "أنساب الخيل"4. و"ابن الأعرابي" صاحب كتاب "أسماء الخيل" 5.
ووضعوا جرائد ومشجرات في أنساب الخيل. حرصًا منهم على المحافظة على أصالتها وبقاء جنس ما عندهم نقيًّا نظيفًا. ومنعوا الفحول الجيدة منها من الاتصال بالأفراس الرديئة أو الأفراس المجهولة التي ليس لها نسب معروف؛ حتى لا يتولد من هذا الاتصال نسل رديء هجين. بل حرص صاحب الحصان الجيد على ألا يعطيه لأحد ليتصل بفرسه حتى وإن كانت غاية في النجابة, وذلك خشية أن ينسل نسلًا فاخرًا لغيره, ولا يكون له منه شيء. ولا تزال هذه العادة معروفة
__________
1 تاج العروس "3/ 335 وما بعدها".
2 نهاية الأرب "9/ 362 وما بعدها".
3 اللسان "10/ 236".
4 طبع بمدينة "لايدن" وبالقاهرة بمطبعة بولاق.
5 طبع بمدينة "لايدن".(10/66)
عند العرب حتى الآن، فهم يحفظون أنساب خيولهم حفظًا عجيبًا، من غير رجوع إلى جريدة نسب أو شجرة من شجرات النسب. كما يحافظون على النسل الجيد من الخيول العربية، ويعتنون به عناية فائقة، إذ يرون أنه زينة وبهجة للمرء، ومن ملذات الحياة في هذه الدنيا.
ومن دلائل عناية الجاهليين بالخيل ما نجده في اللغة من ألفاظ وكلمات كثيرة تخص الخيل. تخص أسماءها وأسماء أعضاء جسمها وحركاتها وسكناتها وأوصافها وألوانها، حتى إنهم لم يتركوا شيئًا له علاقة بها إلا ذكروه. فلا عجب إذن إذا ما ألفوا فيها الرسائل والكتب وتحدثوا عنها حديثًا طويلًا في الجاهلية وفي الإسلام.
وقد اشتهرت بعض الجياد في الجاهلية بشدة عَدوها فلا تدانيها في العدو خيول أخرى، وفي مقدمتها فرس عرف بـ"زاد الركب" "زاد الراكب"، قالوا: إن أصل فحول العرب من نتاجه. وقد زعم ابن الكلبي أنه من بقية جياد سليمان بن داود، وأن وفدًا من "الأزد"، وكانوا أصهاره، وفدوا عليه، فلما فرغوا من حوائجهم سألوه أن يعطيهم فرسًا من تلك الخيل، فأعطاهم فرسًا كانوا لا ينزلون منزلًا إلا ركبه أحدهم للقنص، فلا يفلته شيء وقعت عينه عليه من ظبي أو بقر أو حمار، إلى أن قدموا بلادهم فقالوا: ما لفرسنا هذا اسم إلا زاد الراكب، فسموه زاد الراكب، فأصل فحول العرب من نتائجه1.
واشتهر فرس آخر بسرعته وبشدة عدوه اسمه "أعوج"، زعم أنه من نسل "زاد الراكب". قيل: إنه كان سريعًا جدًّا لا يدانى في العَدْو. وكان فحلًا لغني بن أعصر. وقد عرف بـ"أعوج الأكبر"2.
وكان "أعوج" الأصغر أوَّلًا لكندة، ثم أخذته "سُليم" وصار لبني عامر ثم لبني هلال. وأمه "سبل" لغني، وأم "سبل" "سوادة" "البشامة"، وأم "سوادة" "القسامة"، وكانت لجعدة. وكان أعوج طويل القوائم سريع العدو. ولهم أيضًا "الفياض"3. وقد اشتهر نسله، واكتسب شهرة في العتاق من
__________
1 العقد الفريد "1/ 184"، نهاية الأرب "10/ 39"، أسماء الخيل، لابن الأعرابي "ص50"، "زاد الركب".
2 العقد الفريد "1/ 185"، نهاية الأرب "10/ 39"، بلوغ الأرب "2/ 104".
3 نهاية الأرب "10/ 40"، العمدة "2/ 234"، "وأمه سبل كانت لغني، وأم سبل البشامة، كانت لجعدة"، العمدة "2/ 234"، "القاهرة 1964" "المكتبة التجارية".(10/67)
الخيل1.
ومن خيل العرب المشهورة: "الغراب" و"الوجيه" و"لاحق" و"المذهب" و"مكتوم"، كانت كلها لغني2. وذكر أن "الوجيه" و"لاحق" لبني أسد3، وقيل: لبني سعد4. و"الأعنق" فحل من خيل العرب، أنجب سلالة نسبت إليه عرفت بـ"بنات أعنق"5.
ومن خيل العرب الشهيرة الأخرى: "قيد" و"حلاب" لبني تغلب. و"الصريح" لبني نهشل، وزعم أنه كان لآل المنذر، و"جلوى" لبني ثعلبة بن يربوع، وذو العقال لبني رياح بن يربوع، وهو أبو "داحس". وكان "داحس" و"الغبراء" لبني زهير. والغبراء خالة داحس وأخته من أبيه. و"ذو العقال" و"قرزل" و"الخطَّار" و"الحنفاء" لحذيفة بن بدر. والحنفاء هي أخت داحس من أبيه وأمه. و"قرزل" آخر للطفيل بن مالك6.
و"حذفة" لخالد بن جعفر بن كلاب، وحذفة أيضًا لصخر بن عمرو بن الشريد. و"الشقراء" لزهير بن جذيمة العبسي، و"الزعفران" لبسطام بن قيس، و"الوريعة" "الوديقة" و"نصاب" و"ذو الخمار" لمالك بن نويرة، و"الشقراء" أخرى لأسيد بن حناءة السليطي، و"الشيط" لأنيف بن جبلة الضبي، و"الوحيف" "الوجيف" لعامر بن الطفيل، و"الكلب" و"المزنوق" والورد له أيضًا، و"الخنثى" "خنثى" لعمرو بن عمرو بن عدس، و"الهداج" فرس الريب بن شريق السعدي، و"جزة" فرس يزيد بن سنان المرّي فارس غطفان، و"النعامة" للحارث بن عباد7.
و"ابن النعامة" لعنترة، و"النحام" فرس "السليكة بن السليك السعدي" و"العصا" فرس جذيمة بن مالك الأزدي، و"الهراوة" لعبد القيس بن أفصى
__________
1 نجى حكيمًا يوم بدر ركضه كنجاء مهر من بنات الأعوج بلوغ الأرب "2/ 105"، شرح ديوان حسان "69"، "للبرقوقي".
2 نهاية الأرب "10/ 40".
3 نهاية الأرب "10/ 40".
4 العمدة "2/ 234".
5 تاج العروس "7/ 26"، "عنق".
6 نهاية الأرب "10/ 41"، العمدة "2/ 235".
7 نهاية الأرب "10/ 41 وما بعدها"، العمدة "2/ 235"، أنساب الخيل، "ص66 وما بعدها"، أسماء الخيل "ص64 وما بعدها".(10/68)
و "اليحموم" فرس النعمان بن المنذر، و"كامل" فرس زيد الخيل، و"الزبد" "الربد" "الريد" فرس الحوفزان، وهو أبو "الزعفران" فرس بسطام، و"العرادة" "الحمالة" فرس الكلحبة اليربوعي1.
و"القطيب" و"البطين" فرسان كانا للعرب، و"اللعاب" "العباية" فرسًا حريّ بن ضمرة، و"المدعاس" فرس النواس بن عامر المجاشعي، و"صهبى" فرس النمر بن تولب، و"حافل" فرس مشهور، ذكره "حرب بن ضرار" و"العسجدي" لبني أسد، و"الشموس" فرس زيد بن خذاق "حذاق" العبدي، و"الضيف" لبني تغلب، و"هرارة العزاب" فرس الريّان بن حويص العبدي، جاءت سابقة طول أربع عشرة سنة، فتصدق بها على العُزّاب يتكسبون عليها في السباق والغارات، و"الحرون" فرس تنسب إليه الخيل، وكان لمسلم بن عمرو بن أسد "أسيد الباهلي"، و"الزليف" فرس مشهور، وهو من نسل "الحرون" و"مناهب" فرس تنسب إليه الخيل أيضًا، و"العلهان" فرس أبي مليل "مليك" عبد الله بن الحارث اليربوعي2.
وذكر أن أفراس العرب الشهيرة أفراس عرفت بـ"الكامل" منها: فرس لميمون بن موسى المري، وقال بعضهم: بل كان لامرئ القيس, وفرس لرفاد بن المنذر الضبي، وفرس الهلقام الكلبي، وفرس الحوفزان بن شريك الشيباني، وفرس سنان بن أبي حارثة المريّ، وفرس زيد الفوارس الضبي، وفرس شيبان النهدي، وفرس زيد الخيل الطائي3.
ومن أفراس العرب: فرس عرفت بـ"الكاملة"، وهي بنت البعيث، فرس عمرو بن معديكرب. وفرس ليزيد بن قنان الحارثي4.
وكان للرسول تسع عشرة فرسًا، اشترى بعضًا منها، وتقبل بعضًا منها هدية. وقد اشترى "الضرس" من أعرابي بعشر أوراق، وسماه النبي "السكب" وهو فرسه يوم أحد، ليس مع المسلمين فرس غيره5. واشترى "المرتجز"
__________
1 العمدة "2/ 235"، نهاية الأرب "10/ 43 وما بعدها".
2 العمدة "2/ 235 وما بعدها"، نهابة الأرب "10/ 46 وما بعدها"، وكذلك أنساب الخيل، وأسماء الخيل.
3 تاج العروس "8/ 104"، "كمل".
4 تاج العروس "8/ 104"، "كمل".
5 نهاية الأرب "10/ 33 وما بعدها"، العمدة "2/ 234"، المعارف "65".(10/69)
و "البحر"، وقد اشتراه من تجار قدموا من اليمن، فسبق عليه مرات1.
واشترى "سبحة" من أعرابي من "جهينة" بعشرة من الإبل.
ومن الخيل التي أهديت للرسول: "اللحيف" "اللخيف" "النحيف"، أهداه له: "فروة بن عمرو" من أرض البلقاء. وقيل أهداه له: "ربيعة بن أبي البراء" و"الظرب"، أهداه له "فروة بن عمرو بن النافرة الجذامي"، و"الورد"، أهداه له "تميم الداري"، و"المراوح" أهداه له وفد من الرهاويين، و"اللزاز" أهداه له "المقوقس"2.
ويدفعنا الكلام في تعداد أسماء خيول العرب الشهيرة في الجاهلية إلى ذكر جريدة طويلة بأسمائها. ترد في كتب الخيل وفي كتب المعجمات والأدب3، ولما كان هذا الموضوع معروفًا ومدوّنًا ولا صلة له بالعقلية وبالحياة الجاهلية لذلك اكتفيت بما أوردته عنها في هذا المكان، ولمن أراد المزيد الرجوع إلى الموارد المذكورة
__________
1 نهاية الأرب "10/ 35"، المعارف "65".
2 "ذكر أسماء خيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم"، نهاية الأرب "10/ 33 وما بعدها"، العمدة "2/ 234" "باب العتاق من الخيل ومذكوراتها"، المعارف "ص65".
3 بلوغ الأرب "2/ 104 وما بعدها"، "خيل العرب المشهورة".(10/70)
الفصل الخامس والخمسون: الحروب
مدخل
...
الفصل الخامس والخمسون: الحروب
ترك المصريون والآشوريون والبابليون واليونان والرومان وغيرهم آثارًا كثيرة, فيها صور معارك وأسلحة ومعدات وجنود مقاتلين أو مستأسرين أو منتصرين، أفادت الآثاريين والعلماء في تكوين رأي في حروب تلك الأمم والآلات التي استعانت بها في قتالها. أما الجاهليون فلم يتركوا، ويا للأسف، إلا نزرًا يسيرًا من الآثار فيه صور حروب أو جنود أو معدات قتال، لهذا صار علمنا بالحروب عندهم مستمدًّا من تلك النصوص القليلة, ومن نصوص معدودة وردت في الآثار الآشورية أو البابلية وفيها إشارات إلى العرب. ومن موارد أعجمية مكتوبة تحدثت عن حروب وقعت مع العرب، ومن الموارد الإسلامية.
ولفظة "الحرب"، وتجمع على حروب، هي اللفظة الشائعة المعروفة عند الجاهليين للخروج لمحاربة العدو والاصطدام به، وترادفها لفظة "ضر" وتجمع على "اضرو" في اللهجات اليمانية1. وهناك لفظة أخرى هي "غزو" وتعني الخروج لمحاربة العدو2. فهي في معنى الحرب والغزو. وترد في اللهجات العربية الجنوبية أيضًا3. ويراد بـ"غزت" غزوات في عربيتنا، أي في حالة
__________
1 تاج العروس "1/ 205"، اللسان "1/ 302"، راجع السطر الخامس من النص الموسوم.
Halevy 149, Rep. Epigr. 4624, Ii, P.276, Jamme 576, 577, Mahram, P.447
2 الأصفهاني: المفردات "ص366".
3 Jamme 586, Mahram, P.445(10/71)
الجمع1. وبـ"غزوي" غزوتين اثنتين2. وأما لفظة "هغرو" فتعني أغاروا على قوم، والغارة هي "هغر" في العربية الجنوبية3.
وترد لفظة "حربت" "ح ر ب ت". بمعنى معركة، وحربًا واحدة في اللغة السبئية. وأما "حريب" فتعني الحروب والمعارك، أي جمع "حرب"4.
وأما "حرب" فتعني المحاربة وحارب والحرب5.
وتطلق لفظة "ضبا" في السبئية بمعنى الحرب، وبمعنى إعلان الحرب أيضًا. ووردت لفظة "ضبات"، بمعنى مقاتلين ومحاربين6. وترد لفظة "تادم"، بمعنى الشروع في قتال والاستعداد لحرب7.
ويقال للحرب: "ضرر" في اللحيانية. أما لفظة "الحرب"، فتعني السطو والسرقة، بالإضافة إلى معنى الحرب التي تعني الخصام والقتال8.
ويعبر عن لفظة قاتل بلفظتي "سبا" و"جنب" في السبئية9. وتؤدي لفظة "حرب" هذا المعنى أيضًا، إذ إنها تعني حارب10. و"جنب"، بمعنى قتال وتعارك وتحارب.
ويقال للحرب: "حرب" في اللهجة الصفوية، أي على نحو ما نجده في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
ويعبر عن الحملة أو الغزوة بلفظة "برث" في السبئية11. ويقال لها: "خرجت" أيضًا. ويراد بـ"خرجت" ثورة كذلك12. ويعبر عن الحملة والغزوة بلفظة
__________
1 Jamme 586, Mahram, P.445
2 Jamme 577, Mahram, P.445
3 Mahram, P.433
4 Jamme 575, 577, 650, 658, 665, Mahram, P.436.
5 Mahram, P.436
6 Jamme 555, 577, 579, 581, 635, 636, 658, Mahram, P.446
7 Jamme 644, Mahram, P.447
8 راجع النص 41 و84 من كتاب: W. Caskel, 97, 118
9 Jamme 597, Mahram, P.430
10 Mahram, P.436
11 Jamme 561 Bis, 578, 635, Mahram, P.430
12 Jamme 665, 712, Mahram, P.437(10/72)
"منشا" في بعض الأحيان1. ويعبر عنها بلفظة "مسبا" "مسبأ" كذلك2. كما يقال: "مقرن" أيضًا3.
والعرب تقول: الحرب غشوم؛ لأنها تنال غير الجاني4. وتصيب أناسًا لا علاقة لهم بها ولا صلة، فهي لا تعرف التفريق بين الجاني ومن لا ذنب له5.
وقد عرف علماء اللغة الجيش بأنه الجند، أو جماعة الناس في الحرب، والجمع جيوش6. وقالوا الجيش: العسكر7. فالمراد بالجيش إذن الجماعة المقاتلة التي تخرج للقتال. وترد لفظة "جيش" في العربيات الجنوبية كذلك. وتجمع على "اجيش" "أجيش" فيها، أي: في مقابل "جيوش" و"الجيوش" في عربيتنا8.
ويذكر علماء اللغة أن الجيش واحد الجيوش، ويراد به جماعة الناس في الحرب 9.
وترد لفظة "خمس" خميس" في العربيات الجنوبية بمعنى الجيش10. وترد في عربية القرآن الكريم كذلك. فقد ورد أن الخميس الجيش، أو الجيش الجرار، أو الجيش الخشن. وذكر بعض علماء اللغة أن العرب سمت الجيش خميسًا؛ لأنه مكون من خمس فرق: المقدم والقلب والميمنة والميسرة والساقة11. وقالوا: بل سمي الجيش خميسًا؛ لأنه يخمس فيه الغنائم12. والظاهر أن الأصل في "الخميس" الجيش المنظم الكبير الذي يحارب بإمرة وبنظام. وتجمع لفظة "خمس" أي: "جيش".
__________
1 Jamme 643, 644, Mahram, P.440
2 Jamme 665, 750, Mahram, P.440
3 Jamme 578, 586, Mahram, P.441
4 العقد الفريد "1/ 110" "لجنة".
5 الدينوري، عيون الأخبار "1/ 127".
6 لسان العرب "6/ 277"، تاج العروس "4/ 291".
7 لسان العرب "4/ 568".
8 Jamme 616, 635, 649, 665, 577, Mahram, P.430
9 اللسان "6/ 277"، تاج العروس "4/ 291".
10 Nami 71, 72, 73, Le Museon, 1967, 3-4, P.437
11 اللسان "6/ 70"، تاج العروس "4/ 140".
12 اللسان "6/ 70"، تاج العروس "4/ 140".(10/73)
في العربية الجنوبية على "اخمس" أي: جيوش1.
ويعبر عن الجيش بلفظة أخرى هي: عسكر و"العسكر". وأما الموضع الذي يعسكر فيه فهو "المعسكر"2.
ويطلق الجاهليون على الجيش الكثير الذي لا يسير إلا زحفًا من كثرته "الجرار" ويطلقون على الجيش العظيم "الجحفل"3. ويقولون: "جيَّش الجيش" و"جيَّش فلان الجيوش" للتعبير عن التعبئة وتحضير المحاربين لقتال العدو4.
وللعرب آداب وقواعد في الحرب، يطلبون من المحاربين اتباعها لكسب الحرب.
قيل لأكثم بن صيفي: صف لنا العمل في الحرب، قال: أقلوا الخلاف على أمرائكم، فلا جماعة لمن اختلف عليه. واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، فتثبتوا، فإن أحزم الفريقين الركين، ورب عجلة تعقب ريثًا، وادرعوا الليل، فإنه أخفى للويل، وتحفظوا من البيات5. وقال عتبة بن ربيعة يوم بدر لما رأى عسكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أما ترونهم خرسًا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الحيات6.
و"المعسكر" هو موضع تجمع العسكر وموضع نزولهم فيه. ويقال له: "حيرت" "حيرة" في السبئية7.
وتقول العرب: إن الشجاعة وقاية والجبن مقتلة. واعتبر من ذلك أن من يقتل مُدبرًا أكثر ممن يقتل مقبلًا8. وتقول أيضًا: الشجاع موقّى، والجبان مُلَقّى9. فاستقبال الموت عندهم، خير من استدباره. ولم يكونوا يهتمون بالكثرة قدر اهتمامهم بالألفة بين المحاربين، وبالعمل يدًا واحدة وكأنهم بنية مرصوصة.
قيل لعنترة: كم كنتم يوم الفروق؟ قال: كنا مائة، لم نكثر فنتكل، ولم
__________
1 Mahram, P.437, Jamme 576, 635
2 اللسان "4/ 568".
3 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص281، 301، 303".
4 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص376 وما بعدها".
5 العقد الفريد "1/ 113"، الدينوري، عيون الأخبار "1/ 108".
6 المصدر نفسه.
7 Jamme 576, 631, Mahram, P.436
8 العقد الفريد "1/ 116".
9 المصدر نفسه.(10/74)
نقل فنذلّ1.
وللحرب عند الجاهليين أسباب عديدة، يدخل في ضمنها ضنك العيش في البادية مما يحمل القبائل على التناحر والتقاتل فيما بينها للحصول على الماء والكلأ، وهما عماد الحياة في البادية، أو الحصول على غنيمة2. ويعبر عن هذه الحروب بـ"الغزو". والواحدة "غزو", وهي تعتمد على مبدأ المباغتة في
الغالب. أما الحروب، فإنها الحروب الكبيرة التي تقع بين دول وحكومات. كما أن الغارة، هي غزو مفاجئ يفاجئ به العدو عدوّه، ليأخذه على غرة، ولينتزع منه ما يجده عنده من مال.
وقد كانت القبائل تغير بعضها على بعض، ثم تتراجع حاملة ما حصلت عليه من غنائم وأسلاب، وقد ترجع، وهي مسلوبة مهزومة، في حالة تمكن من أريد إيقاع الغارة به من الدفاع عن نفسه، ومن تغلبه على المغير ورده خائبًا على الأعقاب.
وتكون الغارات في وجه الصبح في الغالب، حتى يؤخذ من يراد الإغارة عليه بغرة ويفاجأ بالغارة مفاجأة. وقد يقصد في الليل من غير أن يعلم، فيؤخذ بغتة، والاسم "البَيات". و"بيت القومَ والعدوَّ: أوقع بهم ليلًا"3. وقد أشير إلى "البيات" في الحديث. فقد كان المسلمون يصيبون في البيات من ذراري المشركين، فسألوا الرسول حكمه فيهم. فكان حكمه: "هم منهم" و"هم من آبائهم"4.
والغارة دفع الخيل على من يراد الإغارة عليهم. يقال: أغار على القوم غارة وإغارة، دفع عليهم الخيل. فتكون الغارة بالخيل في الأخص. ويقال: أغار إغارة الثعلب، إذا أسرع ودفع في عدوّه5. فالغارة غير الغزو والحرب، تكون سريعة في الغالب، يعقبها رجوع سريع.
__________
1 المصدر نفسه "1/ 121".
2 كتاب الفاخر "ص49"، "ليدن 1915م".
3 اللسان "2/ 16"، "بيت"، تاج العروس "1/ 531"، "بيت".
4 صحيح مسلم "5/ 144 وما بعدها"، "باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد".
5 تاج العروس "3/ 458"، "غور".(10/75)
ويعبر عن الغارة بلفظة "تادم" في العربيات الجنوبية، وتطلق على كل حملة عسكرية أيضًا1.
ولا تقتصر الغارات على غارات قطعات الجيش على العصاة والثوار. بل قد تقوم بها قبيلة على قبيلة، وقد يقوم بها أفراد، لأسباب مختلفة. وقد يقوم بها اللصوص والصعاليك، يغيرون على أحياء العرب وعلى السابلة للحصول على مغنم. وكان بعض أصحاب الغارات يمعنون في الغارة فيبتعدون عن منازلهم. ويعدّون "بُعد الغارة" نوعًا من أنواع الشجاعة والفروسية، لما تكتنف المغير من أخطار ومهالك. وكان "مروان بن زنباع"، ويقال له: "مروان القرظ" من "مشهوري أهل الجاهلية في بُعد الغارة"2.
وكانت الغارات والغزوات من أهم وسائل الإعاشة والحصول على مغانم بالنسبة للقبائل النازلة على حدود الحضارة أو على مقربة منها, مثل: حدود العراق أو حدود بلاد الشأم. وتكثر الغارات في سني الجدب والقحط وانحباس المطر. فلا يبقى أمام تلك القبائل للبقاء على حياتها سوى النزوح إلى أماكن أخرى مخصبة معشبة، ويؤدي ذلك إلى التقاتل مع القبائل الأخرى النازلة في تلك الأرضين، أو مع قوات الحدود التي تحاول رد تلك القبائل خشية غزوها للحضر أو لمن يقيم وراء الحدود من أعراب. لذلك استعملت حكومات العراق وبلاد الشأم جملة وسائل لكبح جماح الأعراب الغزاة في جملتها حماية الحدود بـ"مسالح" بنيت في أطراف البوادي وفي نهايات الطرق التي توصل إلى الحضر، تضع بها قوات مقاتلة نظامية وغير نظامية من الأعراب أصحاب الإبل لمقاتلة الأعراب، وتقديم الأطعمة والميرة من المستودعات المقامة في "المسالح" و"القصور" إلى سادات القبائل لسد ما عندها من نقص في الطعام، وبإقامة إمارات عربية، تودع إليها أمور تأمين الأمن في البادية وحماية الحدود من غارات الأعراب.
__________
1 South Arabian Inscriptions, P.449
2 الاشتقاق "2/ 169".(10/76)
المحاربون:
والمحاربون على نوعين: أحرار وعبيد. ولذلك نجد بعض الكتابات العربية(10/76)
الجنوبية تشير إلى هذين النوعين من المقاتلين، مما يدل على كثرة عدد العبيد الذين يؤمرون بالقتال في ذلك الزمن. جاء في نص "كرب إيل وتر"الموسوم بـGlaser Ioooa" وجيش عبدان من أحرار ورقيق". وورد هذا التعبير في نصوص أخرى تعبيرًا عن وجود عدد كبير وربما أفواج من المقاتلين العبيد في جيوش ذلك الزمن.
والسخرة هي الطريقة الغالبة في التجنيد، فإذا وقع خطر، طلب الملك من الأقيال والرؤساء تسخير من يتمكنون تسخيره للقتال. ويبقى المسخر في الخدمة التي تنتهي الحرب. ولما كان المسخرون قد أجبروا على القتال إجبارًا، وهم من الطبقات الدنيا في الغالب، وليس لهم ما يقتاتون به، لذلك، كثرت حوادث التهرب من الجيش، والفرار منه في أثناء القتال. ووضع مثل هذا يؤثر على مصير الحرب بالطبع.
ويتولى الحرب والجيش أناس مدربون على أسلوب القتال, لهم خبرة بالحروب، أو سادات قوم عليهم واجب قيادة قومهم عند ظهور غزو أو خطر أو حرب، ويعرف مثل هؤلاء بقادة، والواحد "قائد"1.
وكان بعض قادة الجيش عند العرب الجنوببين يحملون درجة "مقتوي"، وهي منزلة خاصة في درجات القيادة العسكرية, وورد "مقتوي ملكن"، أي "مقتوى الملك" بمعنى "قائد الملك"2. والظاهر أن هذه الدرجة كانت خاصة بمن يختارهم الملوك لقيادة الجيوش. فإذا اختار الملك شخصًا من الجيش أو من سادات القبائل أو من أصحاب الأرض لأمر يراه فيه، وعينه لقيادة الجيش، عبر عن مكانته هذه بـ"مقتوي" وبـ"مقتوى الملك". وقد عرف علماء اللغة هذه اللفظة، غير أنهم عبروا عنها بلفظة "مغالب". ولم يبينوا ما المراد من "مغالب"3.
ويقال للضابط الذي يقود الجيش، أو قطعة منه: "أسود"، وذلك في اللغة السبئية4.
وقد كان لطبقة قواد الجيش شأن كبير، وسلطان واسع، ويعرف القائد
__________
1 اللسان "3/ 370"، تاج العروس "2/ 477".
2 Rep. Epigr. 4861, 4876, 4892, Cih 405, Grohmann, 131
3 اللسان "مادة قوي" تاج العروس "10/ 307".
4 Jamme 665(10/77)
بـ"ق س د ن" "قسدن"، أي: "القاسد" أيضًا1. وقد ظل هذا الاستعمال معروفًا في العهد الحبشي كذلك. لوروده في نص "أبرهة". ولكن هذا لا يعني أن "القاسد" كان عسكريًّا محترفًا، مختصًّا بقيادة الجيش، فقد كان القواد من رؤساء العشائر ومن الوجهاء والكبراء يقودون أتباعهم في أثناء الحروب. أما في أثناء السلم. فيعودون إلى أعمالهم الاعتيادية، كإدارة الأرض أو القبيلة. ولهذا ففي استطاعتنا أن نقول: إن من بين قواد الجيش أناسًا لم يكونوا من المتخصصين بالقيادة وبشئون الحرب، وإنما هم قواد متطوعون وسادات قبائل تضطرهم مراكزهم إلى قيادة أتباعهم في أمثال هذه المناسبات.
وقد فهم بعض الباحثين أنها تعني المحاربين من النوعين: الأشراف والقادة من أصحاب الدرجات الرفيعة العالية، والمحاربين المحترفين للحرب، حتى صارت الجندية حرفة لهم، يعيشون منها. فهم طبقة عسكرية خاصة محترفة على نحو ما كان عند "البطالمة" بمصر وعند غير البطالمة من جيوش ودول2. ولكن أكثر الباحثين يرون أن الـ"قسد" هم الطبقة الرفيعة من الأشراف وقادة الجيوش.
وعرف المكلف بإدارة موقع من المواقع العسكرية، والذي يتولى أمر إدارة حاميته بـ"امر"3. أي: "آمر" "الآمر"، وربما الأمير. وعرف الضابط الذي يتولى قيادة جماعة من الجيش بـ"اسود"4. وأما "قدم"، فإنه المقدم الذي يقود قطعة من الجيش5. وربما قصد به من يتولى أمر قيادة مقدمة الجيش.
ويعبر بلفظة "قتدم" عن تأمير الـ"قدم" وتنصيبه في وظيفته6. أي: آمرًا على قطعة الجيش. ويعبر عن التقدم للهجوم على العدو، أي: على الهدف المقصود من الحملة، بلفظة "تقدم"7.
__________
1 "القسود: كقتول: الغليظ الرقبة القوي" اللسان "4/ 352"، القاموس "1/ 327".
2 Grohmann, S. 122
3 South Arabian Inscriptions, P.427 النص 576.
4 South Arabian Inscriptions, P.427
5 South Arabian Inscriptions, P.446
6 المصدر نفسه "ص447".
7 المصدر نفسه "ص450".(10/78)
وقد عرف القادة الذين قادوا ألف رجل فما فوق بـ"الجرّارين". ذكر "محمد بن حبيب السكري"، أن العرب لم تكن تسمى الرجل جرارًا، حتى يرأس ألفًا. ومن هؤلاء "المطلب بن عبد مناف بن قصي" قاد "بني عبد مناف" وأحلافها من الأحابيش يوم "ذات نكيف". و"بلعاء بن قيس الكناني" قاد "بني عبد مناة" يوم "ذات نكيف" ويوم المشلل ويوم الفجار. و"أبو سفيان: صخر بن حرب" قاد قريشًا وكنانة يوم أُحد ويوم الخندق. و"عامر بن الظرب العدواني" قاد ربيعة ومضر وقضاعة كلها يوم البيداء. و"مالك بن عوف النصري"، و"عوف بن عبد الله بن عامر بن جذيمة" و"ربيعة بن حذار الأسدي" و"زرارة بن عدس" التميمي، و"لقيط بن زرارة" و"الأقرع بن حابس"، و"النعمان بن مجاشع" الدارمي، و"النمر بن حمّان" السعدي، و"الأضبط بن قريع بن عوف" السعدي، و"محلم بن سويط الضبي"، وذكر أنه الرئيس الأول: أول من سار في أرض مضر برئاسته، وغزا العراق وبه كسرى، حتى بلغ العذيب1.
ومن بقية الجرارين في مضر: "قيس بن عاصم السعدي" و"زهير بن جذيمة العبسي" و"عمرو بن جؤية بن لوذان الفزاري" و"بدر بن عمرو" و"حذيفة بن بدر" و"عيينة بن حصن" و"خالد بن جعفر بن كلاب" و"الأحوص بن جعفر" العامري2.
والجرارون من ربيعة: "ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير التغلبي"، وابنه "كليب وائل" و"الهذيل بن هبيرة" و"الحوفزان" وهو "الحارث بن شريك" و"بسطام بن قيس" و"الحارث بن وعلة الذهلي" و"أبجر بن جابر العجلي" و"قيس بن حسان بن عمرو بن مرثد" و"قتادة بن مسلمة الحنفي" و"أثال بن حجر بن النعمان بن مسلمة الحنفي" و"الهذيل بن عمران التغلبي"3.
والجرارون من قضاعة: "ذياد بن هبولة"، "زياد بن هبولة"، و"داود اللثق بن هبالة"، و"زهير بن جناب"، و"رزاح بن ربيعة بن حرام"،
__________
1 المحبر "246-248".
3 المحبر "248-249".
3 المحبر "249-250".(10/79)
وهو أخو "قصيّ بن كلاب" لأمه، و"عميرة بن أوس بن ثعلبة بن عوف بن كعب بن ذهل"، وكان يدعي الملك، و"الأشل بن عمرو"، و"الثعيل"1.
والجرّارون من اليمن: "كرز بن عبد الله بن عامر" من بجيلة، و"عبد يغوث بن وقّاص بن صلاءة الحارثي" من مذحج، و"الأشعث بن قيس الكندي"، و"شراحيل بن أصهب الجعفي"، و"يزيد بن أنس بن الديان الحارثي"، و"ذو الغصة الحارثي"، و"مخرم بن حزن بن يزيد الحارثي"، و"العباب الحارثي" و"حجر بن يزيد بن سلمة الكندي" و"قيس بن سلمة الكندي" و"الزوير: علقمة بن سلمة بن مالك الكندي"، و"حسان بن عمرو بن الجون الكندي"، و"معاوية بن شرحبيل بن أخضر الكندي"، و"حُديج بن جفنة بن قتيرة السكوني" و"هبيرة بن المكشوح بن عبد يغوث المرادي" و"فروة بن مسيك المرادي"2.
وسار قادة الجيوش ومتولو إدارة المعارك على قاعدة "الحرب خدعة"3. ومعناها خدع العدو وإيهامه للتغلب عليه. كأن يشيع قائد الجيش أنه سيسلك الطريق الفلاني، فيرسل بالفعل قوة صغيرة، وهو يضمر خطة أخرى، بأن يأمر القوة الكبرى بسلوك طريق آخر، فيفاجئ العدو وهو غير متأهب، أو يؤخذ على غرة وهو لا يدري باحتمال قدوم الجيش من هذا المكان.
ولما كانت "المباغتة" من أهم وسائل كسب الحرب والحصول على الربح، كان من أهم أسباب نجاحها التكتم والتستر ومعرفة قوة العدو ومواضع ضعفه، عمد الجاهليون إلى استخدام العيون للتجسس على العدو، يرسلونهم في صور شتى. في صورة تجار أو مسافرين أو على هيأة سرايا صغيرة تقتص آثار العدو, وتسأل من يرون من المسافرين عن علمهم بأحوال العدو. أو تقبض ربايا العدو ليحققوا معهم وليحصلوا منهم عن معلومات تفيدهم في إعداد خطة الحرب أو الغزو.
وفي ضوء هذه المعلومات يرتب القادة طريقة مباغتة العدو ومحاربته لإنزال الضربة القاصمة به.
__________
1 المحبر "250-251".
2 المحبر "251-252".
3 الدينوري، عيون "1/ 194"، "باب الحيل في الحروب وغيرها".(10/80)
وإذا أحسن إنسان بوجود غارة، أو رأى قومًا يتقدمون لمفاجأة قومه بغارة، فعليه الإسراع لإبلاغ قومه بها قبل أن يفاجئهم العدو بغارته وهو على غير استعداد لها، وكان من عادتهم أن الرجل إذا رأى الغارة قد فاجأتهم وأراد إنذار قومه تجرد من ثيابه وأشار بها ليعلم أن قد فاجأهم أمر. ويقال لذلك الرجل: "النذير العريان"، ثم صار مثلًا لكل أمر يخاف من مفاجأته1.
ويقال للشخص الذي ينذر قومه بدنو عدو منهم، ويزحف مغيرًا عليهم: "الصريخ"2. يسرع "الصريخ" إلى قومه قدر إمكانه ليبلغهم بخبر ذلك العدو قبل مباغتته لهم. ونظرًا إلى ما للصريخ من أهمية بالنسبة إلى نتائج الغزو، يتخذ المغيرون كل وسائل الحذر والتكتم والبحث عن النذر والصريخين لكيلا يفلتوا منهم فيذهبوا إلى قومهم وهم هدف الغزو أو إلى غيرهم ممن قصدوا بالغزو فيحذرونهم منهم، ويكونوا عندئذ في حالة تأهب واستعداد لمقابلة المغيرين، أو لمباغتتهم بهجوم معاكس عليهم، أو بنصب كمائن لهم قد تلحق أذى بهم، وقد تؤدي إلى عكس ما قصد من ذلك الغزو.
ويعبر عن المباغتة والمفاجأة وأخذ العدو على حين غرة بحيث لا يشعر إلا والعدو يهاجمه بلفظة "بحض" في السبئية3.
ويُقال لمن ينذر قومه بقرب وقوع غزو وبدنو عدوّ منهم: "القاصد". و"القاصد"، هو من يقصد أحدًا طلبًا لحاجة، أو تسهيلًا لأمر، أو لإجراء وساطة.
وكانوا إذا أرادوا حربًا، وتوقعوا جيشًا عظيمًا، وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلًا على جبل أو أي مرتفع من الأرض نارًا، ليبلغ الخبر أصحابهم. وإذا جدوا في جمع عشائرهم إليهم أوقدوا نارين. وقد عرفت هذه النار بنار الحرب4.
وقد استعانت الحكومات بحماية حدودها بوضع قوات عسكرية في المواضع العسكرية الخطيرة التي تكون لها أهمية كبيرة من الوجهة "السوقية" في تعبئة الجيش للحرب وعرفت مثل هذه المواضع بـ"المناظر". وهي مواضع تقيم بها حاميات تراقب
__________
1 الفاخر "ص70"، تاج العروس "10/ 341"، "عرى".
2 اللسان "3/ 33 وما بعدها"، "صرخ"، نهاية الأرب "17/ 126".
3 Jamme 576, Mahram, P.428
4 الحيوان "4/ 474"، "هارون".(10/81)
منها حركات الأعداء وتحركات الأعراب. وتكون الحاجز الأول الذي يمنع العدو من التقدم.
ونحن لا نكاد نعلم شيئًا عن أسس تنظيم الجيش في الحكومات الجاهلية، لعدم ورود نصوص واضحة في ذلك. ولصلة ملوك الحيرة بالفرس ولصلة ملوك الغساسنة بالروم، لا أستبعد تدريب الفرس لجيش الحيرة وتقسيمه وإعداده وَفْقَ نظم الجيوش الفارسية وأساليبها على القتال، وتدريب الروم لجيش الغساسنة، وَفْق أنظمتهم وقوانينهم العسكرية. وقد ذكر أهل الأخبار أن النعمان بن المنذر، ملك خمس كتائب، يحارب بها، هي: "الوضائع" وقوامها قوم من الفرس كان كسرى يضعهم عنده عُدة ومددًا، فيقيمون سنة عند الملك من ملوك لخم. فإذا كان في رأس الحول ردهم إلى أهلهم، وبعث بمثلهم. وكتيبة يقال لها: "الشهباء" وهي أهل بيت الملك، وكانوا بيض الوجوه، يسمون الأشاهب، وكتيبة ثالثة، يقال لها: "الصنائع"، وهم صنائع الملك، أكثرهم من بكر بن وائل. وكتيبة رابعة، يقال لها: "الرهائن"، وهم قوم كان يأخذها من كل قبيلة، فيكونون رهنًا عنده، ثم يوضع مكانهم مثلهم. والخامسة "دوسر"، وهي كتيبة ثقيلة تجمع فرسانًا وشجعانًا من كل قبيلة1.
ويظهر من بعض تفاسير علماء اللغة للفظة "الوضائع"، أن "الوضيعة" جماعة من الجند تجعل في كورة لا يغزون منها2، أي: حامية. وأما الصنائع، فطوائف من الناس يصطنعهم الملك، ويكونون عونًا له وجندًا يحارب بهم. فهم من المرتزقة. وقد تستعين القبائل بطوائف من قبائل أخرى للقتال معها3. وقد استعان "سلمة بن الحارث بن عمرو المقصور" بـ"بني تغلب" و"النمر بن قاسط" و"سعد بن زيد مناة" وبـ"الصنائع" على أخيه "شرحبيل" وذلك يوم "الكلاب" الأول4.
وقد أشار "الزبيدي" إلى كتيبة دعاها "الملحاء"، قال عنها: "والملحاء": كتيبة كانت لآل المنذر من ملوك الشأم، وهما كتيبتان، إحداهما هذه والثانية
__________
1 الكامل، للمبرد "1/ 288".
2 تاج العروس "5/ 545"، "وضع".
3 العمدة "2/ 206".
4 العمدة "2/ 205".(10/82)
الشهباء. قال عمرو بن شأس الأسدي:
يفلقن رأس الكوكب الضخم بعدما ... تدور رحى الملحاء في الأمر ذي البزل1
وقد أخطأ "الزبيدي" في جعل "آل المنذر" من ملوك الشأم. وقصد بـ"الملحاء" "الدوسر". بدليل قوله في موضع آخر: "والدوسر: اسم كتيبة للنعمان بن المنذر ملك العرب"2. وقد تعرض في مكان آخر من كتابه إلى كتيبة الشهباء فقال: "والأشاهب بنو المنذر لجمالهم. قال الأعشى:
وبنو المنذر الأشاهب بالحيـ ... ـرة يمشون غدوة بالسيوف
قلت: وهم إحدى كتائب النعمان بن المنذر. وهم بنو عمه وإخوانه وأخواتهم.
سموا بذلك لبياض وجوههم"3.
ويظهر من شعر للمثقب العبدي، قاله يمدح عمر بن هند:
ضربت دوسر فيه ضربة ... أثبتت أولاد ملك فاستقر4
إن هذه الكتيبة كانت موجودة في أيام الملك "عمرو بن هند". وذكر بعض علماء اللغة أن "دوسر: اسم كتيبة كانت للنعمان بن المنذر، وأنشد للمثقب العبدي يمدح عمرو بن هند. وكان نصرهم على كتيبة النعمان"5. ولا بد وأن يكون في هذه الكلمات خطأ أو نقص: إذ لا يعقل أن يكون "عمرو بن هند" قد حكم أيام "النعمان بن المنذر". وقد يكون قصد أحد ملوك الغساسنة، أو أن الأخباريين أقحموا اسم الملكين خطأ في هذا الشرح.
والكتيبة عشر "اللجيون" عند الرومان. ولذلك كان عددها يختلف حسب اختلاف عدد اللجيون. وعلى الأغلب كانت ما بين "400" إلى "600"
__________
1 تاج العروس "2/ 230"، "ملح".
2 المصدر نفسه "3/ 206"، "دسر".
3 تاج العروس "1/ 327"، "شهب".
4 تاج العروس "3/ 206"، "دسر".
5 اللسان "4/ 285"، "دسر".(10/83)
جندي1. وقد كان عدد اللجيون"6" آلاف جندي في أيام الإمبراطورية، من الفرسان وبقية الأصناف المساندة. ويقسم "اللجيون" المكوّن من الفرسان إلى عشر كتائب، عدد كل كتيبة من "600" فارس. تعرف بـCoforts وتقسم كل كتيبة Cohort إلى عشرة أقسام2. ويسير النظام العسكري عند الرومان وفقًا للطريقة العشرية في تكون الجيش. وقد يتألف "اللجيون" من "7000" جندي، "6200" منهم من المشاة و"730" من الفرسان ومن بقية التبع3.
وحكومات اليمن والحيرة والغساسنة، تكاد تكون الحكومات الوحيدة التي ملكت جيوشًا مدربة نظامية، أي: جيوشًا مستعدة في كل وقت للدخول في الحروب. فلكل حكومة من هذه الحكومات كتائب مدربة في استطاعتها القتال. وهي كتائب من الفرسان وكتائب من المشاة، ولها رؤساء يشرفون على تدريبها وتسييرها وقت القتال. وهي بإشراف ضباط يتولون قيادتها بأمر من الملوك.
أما أهل القرى والمدن، فكان لهم قوادهم وحملة رايتهم في الحرب، غير أننا لم نسمع بوجود جيش نظامي مدرب عندهم، ولم نسمع بوجود كتائب مقاتلة، مستعدة للقتال أو للدفاع حين صدور الأمر إليها. بل كلّ ما وجدناه في كتب أهل الأخبار أن أسرًا معروفة عهد إليها بحماية الراية، والمحافظة عليها، فإذا وقع خطر، أخرج حفظتها تلك الراية ليرفعوها في القتال فتكون عندئذ شعارًا لهم وروحًا معنوية ذات أهمية، فإذا سقط حاملها أخذها غيره وهكذا كانوا يتناوبون في حملها. وسقوط الراية له أثر كبير في معنوية المحاربين.
ويظهر من دراسة ما أورده علماء اللغة والأخبار عن تشكيلات الجيش عند بقية الجاهليين، أن الجاهليين لم يكونوا يسيرون على نظام معين في تكوين الجيش وفي عدد وحداته، بل كانوا يتركون أمر ذلك إلى الظروف وإلى رأي القادة الذين توكل إليهم أمور إدارة المعارك. وذلك لأنهم لم يكونوا يملكون جيوشًا نظامية ثابتة, فقد كانت القبائل تقاتل حين تدعى إلى القتال أو حين يقع غزو عليها، فيهب كل فرد منها للدفاع عن قبيلته، أو في المساهمة في الغزو، يشترك في ذلك النساء والصغار أيضًا، ولا سيما في حالات الدفاع عن النفس. حتى المدن
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 253".
2 Hastings, P.540
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 346".(10/84)
والقرى لم يكن لها جيش ثابت، ولا قادة يدربون المقاتلين على أساليب القتال، ولا وحدات ثابتة تقيم في ثكنات ومعسكرات، بل كان شأنها شأن القبائل، إذا هوجمت، هب أفرادها رجالًا ونساء كهولًا وصغارًا في الدفاع عن مدينتهم، يقوم كل واحد منهم بدوره حسب طاقته وقدرته. وكذلك كان الحال في حالات الهجوم، أي: حين تهاجم المدينة عدوًّا لها، يشترك في هجومها كل متمكن من القتال، قيامًا بواجبه الأدبي المفروض عليه. وليس لهذا الجيش المحارب تدريب عسكري سابق، ولا وحدات معينة، إنما تكون إمرة سوقه وتسيره بأيدي الشجعان الأذكياء. ومن سبق له أن برز في قتال سابق، وأبرز مكانه فيه.
وحتى في أيام الرسول لم يكن للمسلمين جيش ثابت منظم، له وحدات على شكل فرق وكتائب وأفواج وسرايا، وثكنات ومعسكرات، وضباط، يعرف كل ضابط منهم وحدته وعدد جنوده. إنما كان المسلمون كلهم جنودًا، إذا دعاهم الرسول إلى القتال لبوا نداءه. وقد يكون فيهم الكهل والشاب والتاجر والمزارع ومن لا عمل له. الفارس بفرسه، والراكب على جمله، والراجل ماشيًا، كل يحارب في سبيل الله. والرسول هو القائد الأعلى، وهو الذي يعين الأهداف والخطط، وهو الذي يختار القادة ومسيري المعركة إذ لا قادة ثابتون. وكان يستشير ذوي الرأي والخبرة في المواضع التي يقصدها في إدارة الحرب مع العدو. وإذا كانت المعركة معركة مبارزة، نظر الرسول إلى من معه، واختار منهم من يصلح للمبارزة. وكان إذا أراد إرسال سراياه، اختار للسرية رجلًا من أصحابه فأمره عليها. وأرسل معه من يختارهم ليكونوا له جنودًا. ولم يكن عدد أفراد السرية ثابتًا، بل كان مختلفًا. ويتوقف العدد على حسب تقدير الرسول للموقف.
ويظهر من الشعر الجاهلي أن الأعراب كانوا يهابون من الالتحام بالجيوش النظامية، لعدم قدرتهم وكفاءتهم في مقابلتها، لما لها من تنظيم وتدريب وسلاح. وقد تركت "الدوسر" و"الشهباء" أثرًا في ذاكرتهم، نجده في شعرهم، مع أن الكتيبتين لم تكونا على مستوى عال من التدريب والتسليح. وقد كانوا يخشون من الالتحام بالجيوش الآشورية والبابلية والرومية، لتفوق تلك الجيوش عليهم، فإذا تعقبتهم هربوا إلى البادية، حيث يجدون لهم عندئذ المأوى الصالح الأمين المناسب لهم، للوقوف أمام الجيش النظامي. ويكون وقوفهم أمامه على هيئة كرّ(10/85)
وفرّ، وهجوم من جوانب مختلفة، فإن وجدوا جلدًا من ذلك الجيش وقوة ضاربة، هربوا إلى قلب البادية.
ويظهر مما ذكره "سترابو" عن الجيوش العربية الجنوبية، أنها لم تكن مدربة على القتال، ولم تكن مجهزة بأسلحة حسنة حديثة بالنسبة إلى أسلحة الرومان في ذلك الوقت. ولم تكن منظمة ومقسمة إلى وحدات محاربة يسير أمورها ويوجهها في القتال ضباط لهم خبرة وعلم بأساليب القتال. ولهذا تقدم الجيش الروماني بكل سهولة نحو اليمن، دون أن يجد أمامه مقاومة تذكر، مع أن جيشهم لم يكن من الجيوش الحسنة التنظيم، المدربة تدريبًا حسنًا، لمقاومة الجيوش النظامية1.
ونجد في تغلُّب "الحبش" ودخولهم العربية الجنوبية وتحكمهم بها مرارًا، ما يؤيد أن العربية الجنوبية لم تكن تملك جيشًا منظمًا مدربًا على مقاتلة الجيوش النظامية، وإنما كانت تملك "عساكر" تعرف قتال الأعراب وأهل القرى، بأسلحة لم تحاول الحكومات تحسينها وتجديدها وفقًا لتطور السلاح في العالم، مع العلم أن الحبش أنفسهم لم يكونوا أصحاب جيوش منظمة ولا مدربة تدريبًا حسنًا، ولا مزودة بأسلحة جيدة حديثة على طراز أسلحة اليونان والرومان والفرس. وقد تحكموا مع ذلك في اليمن حتى جاءهم الفرس، فأخرجوهم منها قبيل الإسلام، مع أن الذين أخرجوهم كانوا من قطاع الطرق ومن المتصعلكة، وقد جاءوهم بسفن قديمة، ولم يكونوا من المحاربين النظاميين المدربين على القتال.
ويظهر أن حكام العربية الجنوبية، كانوا يعتنون بجمع العساكر وتكوين الجيوش للقضاء على خصومهم، ولكنهم لم يحفلوا بأمر تنظيم الجيش وتدريبه وتجديده وتحسين سلاحه. مع أن أمر التنظيم والتدريب والتسليح وكيفية استخدام الجندي لسلاحه، من أهم أمور التغلب في الحروب والانتصار على الأعداء. ولهذا كانوا يتغلبون على خصومهم في العربية الجنوبية وعلى القبائل؛ لأنهم دونهم بكثير في المستوى وفي الإمكانيات. ولما كانت حروبهم حروبًا داخلية، لم تتجاوز حدود جزيرة العرب، وإذا تجاوزتها، كان اتجاهها سواحل إفريقية، وهي بلاد غير متقدمة ولا تملك جيوشًا نظامية مدربة، لذلك لم يحفل أولئك الحكام بأمر الانفاق على الجيش لتنظيمه وتدريبه وتحسين سلاحه ومستواه ووضعه في ثكنات صحية وتجهيزه
__________
1 راجع الصفحة "42 وما بعدها" من الجزء الثاني من هذا الكتاب.(10/86)
بالعربات وبالخيل، لتعطي السرعة للجيش في القتال والحماية اللازمة للمشاة. وبقوا يسيرون على الطريقة التقليدية التي أملتها طبيعة أرضهم عليهم من الاعتماد على عساكر "أسد" الملك وعلى عساكر الإقطاعيين وعلى المرتزقة وعلى الحشور الذين يجمعون جمعًا عند وقوع حرب.
ولم يعتنِ العرب الجنوبيون بتحسين السفن وتجديدها وتحصينها للمحافظة بها على سواحلهم الطويلة. فلما ظهر الرومان والبيزنطيون في البحر الأحمر، ولم يتمكنوا من الوقوف أمامهم. فانتزعوا منهم السيادة على هذا البحر بسهولة، واتصلوا بالسواحل الإفريقية وبلغوا "سيلان" وسواحل الهند. وفقد العرب ما كان لهم من ممتلكات في السواحل الإفريقية المقابلة. بل صارت سواحلهم عرضة لهجمات سكان تلك السواحل، ولتدخل الحبش مرارًا في بلادهم. مع أن الحبش أنفسهم لم يكونوا أصحاب سفن جيدة كبيرة، ولا أسطول قوي، حتى إن الروم ساعدوهم بأسطولهم في نقل قواتهم لاحتلال اليمن. ولم يرد في روايات أهل الأخبار ولا في أخبار الموارد اليونانية ما يفيد بتصدي السفن العربية الجنوبية للمغيرين الأحباش، ولا بوقوع أية معركة بحرية بين العرب والحبش أو غيرهم في البحر. ويدل نزول الحبش على السواحل العربية بيسر وسهولة على عدم وجود تحصينات بحرية على السواحل، وعلى ضعف الجيش في ذلك العهد.
ولطبيعة بلاد العرب أثر كبير بالطبع في ظهور هذا التخلف الملحوظ في بناء القوة العسكرية. فمعظم أرض جزيرة العرب أرضون سهلة منبسطة لا يجد فيها أصحابها مواضع طبيعية يتحصنون بها في حالتي الدفاع والهجوم. لذلك صار القتال فيها وجهًا لوجه، والتغلب فيه للمحارب الذي يملك وسائل الحرب السريعة من إبل وخيل وعدة. ثم إن الفقر العام الذي ساد جزيرة العرب آنذاك وفقرها من ناحية الموارد الطبيعية وتغلُّب الجفاف والحرارة عليها، جعلت العرب كتلًا، أي: شعوبًا وقبائل، مشتتة مبعثرة، تعيش حول ما تجده من ماء ومن مورد رزق، وكأنها أمم متباينة، لضيق أفق المعيشة فيها، ولتقاتلها فيما بينها على الماء وموارد الرزق الشحيحة. وأوضاع مثل هذه لا تساعد على التجمع وعلى تكوين دولة قوية كبيرة، تجمع جيشًا قويًّا مدربًا ذا عدة وعدد، يستطيع الصمود أمام الجيوش النظامية المدربة التي تملكها الحكومات الغنية مثل: حكومات البيزنطيين والفرس، التي غذت جيوشها بالمال وبالجنود المحترفين المدربين على القتال وبالضبط(10/87)
المتخصصين بشئون الحرب وبالعدد والعدة المتطورة وبالمال. ولهذا لم تتمكن "عساكر" الجاهليين من الوقوف أمام الجيوش النظامية، لتفوُّق هذه الجيوش عليها في التنظيم وفي التدريب وفي السلاح وفي كيفية استعمال الأسلحة, واستغلال المواقف وتطبيق العلم على الأرض التي يقع فيها القتال، وفي التغذية والعناية بأحوال الجندي. ولهذا تحاشت الاشتباك مع الجيوش النظامية في خارج حدود بلادها، وجمّدت قتالها وحصرته في الغزو وفي القتال الداخلي، أي: في قتال العرب بعضهم بعضًا، وهو قتال لم يستوجب تطوير الأسلحة وتحسينها، كما يستوجبه قتال الجيوش النظامية الكبيرة، وقد اعتمد على شجاعة الفرد، وعلى الحماس وعلى ذكاء السادة في الاستفادة من المواقف ومن توجيه فرسان الحرب.
أما المقاتلون فهم متطوعون، تطوعوا للقتال للدفاع عن مواطنهم، ومجبرون، عليهم الخروج للقتال؛ لأنهم تبع، وقد أمروا به أمرًا، ومن هؤلاء الرقيق. ولما كان القتال بسيطًا لذلك كان واجب المقاتل متوقفًا على قابليته العقلية والجسمية. ولا نجد في كتب أهل الأخبار ما يفيد بوجود تدريب للفريقين أثناء السلم ولا في أثناء الحرب. بل يدخل المحارب الحرب كما يدخل المتشاجرون أي شجار، وهناك يستعمل ذكاءه في اختيار الدور الذي يناسبه، فقد يظهر مهارة وحنكة وشجاعة فيرتفع اسمه بين قومه، وقد يقوم بدور المشجع بالكلام، وقد يقوم بأدوار بسيطة ساذجة. فإذا انتهى القتال عاد الناس إلى حياتهم الأولى، عادوا إلى بيوتهم وهي ثكناتهم الوحيدة التي جاءوا منها.
وترد لفظة "كتيبة" والجمع "كتائب" في الشعر الجاهلي، تعبيرًا عن تنظيم وتكتل في صفوف الجيش، فقد ورد أن "حجر بن أم قطام" قاد كتيبة "فارسية" على رواية، أو أنه كان نظم كتيبة مسلحة بأسلحة من دروع وبيض من صنع الفرس1. ووردت أخبار أخرى تتحدث عن وجود كتائب عند سادات قبائل قوية, دلالة على أخذ القبائل القوية بنظام تكتيل الجيش وتصنيفه وتقسيمه إلى كتائب في القتال لتلقي الرعب في نفوس الأعداء، ولا سيما في نفوس الأعراب الذين لم تساعدهم ظروفهم على إنشاء مثل هذه التنظيمات العسكرية.
ويعبر عن "الكتائب" بلفظ "المقانب" أيضًا2. وإذا كان الجيش ما بين
__________
1 شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص165".
2 واحدها "مقنب".(10/88)
الثلاثين إلى الأربعين أو قدر أربعين رجلًا أو خمسين، قيل له "المنسر"1.
ويذكر علماء اللغة أن الكتيبة إنما سميت كتيبة، لاجتماعها وانضمام بعضها إلى بعض2، فهي إذن كتلة كبيرة من الجيش. وعرفوها بأنها القطعة العظيمة من الجيش، والجمع: كتائب. وعرف بعض علماء اللغة الكتيبة بأنها جماعة الخيل إذا أغارت مكونة من المائة إلى الألف3.
وعرفت الكتيبة بـ"جأواء" كذلك. وقيل: الجأواء كتيبة كثيرة الدروع. وذكر بعض علماء اللغة أن المنسر ما بين ثلاثين فارسًا إلى أربعين4. بينما جعله بعض آخر، ما زاد على خمسمائة حتى يبلغ الثمانمائة، فيكون حبشيًّا5.
ويظهر من تفاسير علماء اللغة للفظة "المقنب"؛ أن المقنب تكون في الخيل خاصة. قالوا: "والمقنب من الخيل جماعة منه ومن الفرسان، وقيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين أو زهاء ثلاثمائة ... وقيل: دون المائة". وورد: المقنب جماعة من الخيل تجتمع للغارة. قال لبيد:
وإذا تواكلت المقانب لم يزل ... بالثغر منا منسر معلوم6
والسرية في تعريف علماء اللغة قطعة من الجيش، تسري في خفية ليلًا، لئلا ينذر بهم العدو فيحذروا. وهي من خمس أنفس إلى ثلاثمائة. أو يبلغ أقصاها أربعمائة. وقيل: هي من مائة إلى خمسمائة. فما زاد فمنسر. فإن زاد على ثمانمائة فجيش، فإن زاد على آربعة آلاف فجيش جرّار، وإن كانت من الخيل، فتكون نحوًا من أربعمائة. وقيل: سمّوا سريّة؛ لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السري، وهو النفيس7.
وقد اختلف في عدد رجال "الحضيرة". فقيل: الحضيرة الأربعة والخمسة
__________
1 شرح ديوان لبيد "ص137"، تاج العروس "3/ 564"، "نسر".
2 الكامل "1/ 57"، شرح ديوان لبيد "ص134".
3 اللسان "1/ 710"، تاج العروس "1/ 445", "كتب".
4 تاج العروس "1/ 440"، "قنب".
5 تاج العروس "10/ 174"، "سرى".
6 تاج العروس "1/ 440"، "قنب".
7 تاج العروس "10/ 174"، "سرى".(10/89)
يغزون. وقيل: السبعة والثمانية. وقيل: العشرة فمن دونهم1. وذكر أن "الحضيرة" مقدمة الجيش2.
وأما "النفيضة"، فالجماعة يبعثون ليكشفوا هل ثمَّ عدو أو خوف. وذكر أن "النفيضة" الذين يتقدمون الخيل، وهم الطلائع3.
وتؤدي لفظة "مصر" معنى القطعة من الجيش، والحملة وذلك في السبئية4.
ويقال لقائد الكتيبة: "كبش الكتيبة". وكبش القوم رئيسهم وسيدهم. فهو سيد الكتيبة وقائدها5.
ويعبر عن المحارب والمقاتل بلفظة "جندي" وبـ"اسد" "أسد" في العربيات الجنوبية والجمع "اسدم" أي: جنود6. وقد يكون الجندي حرًّا وقد يكون عبدًا أي: رقيقًا ومولى، وقد وردت جملة "اسد املكن" أي "أسود الملوك" بمعنى "جنود الملك" و"عسكر الملوك"7، وذلك تمييزًا لهم عن الجنود الآخرين الذين كان يجندهم الأقيال والأذواء وسادات القبائل.
ويقصد بـ"اسد" أي: جندي، الجندي النظامي, أي: المحارب الذي اتخذ الجندية عملًا له. ولهذا نجد النصوص لا تستعملها إلا في هذا المعنى، وذلك للتمييز بينه وبين المحاربين الآخرين المتطوعين أو المكرهين على الدخول في القتال أو المؤجرين أو المحاربين من أهل القبائل أو من أهل المدن الذين يهبّون للقتال عند دنو خطر على أهلهم أو قراهم. وتكون إعاشة هؤلاء الجنود على من يأمرهم بالخدمة في جيشه بالطبع. من ملك أو مكرب أو مدينة أو قرية أو سيد أرض.
وأما إذا كان المحارب رقيقًا كائنًا ما كان جنسه أو لونه، وأشرك في القتال، فيعبر عنه بـ"ادومت" "ادمت"، أي: "ادم" و"أوادم"، بمعنى الخدم
__________
1 اللسان "4/ 199"، "حضر".
2 تاج العروس "3/ 147"، "حضر".
3 اللسان "4/ 199"، "حضر", تاج العروس "3/ 147"، "حضر"، "5/ 92 وما بعدها"، "نفض".
4 Mahram, P.440.
5 اللسان "6/ 338".
6 راجع النص المرسوم بـ: Glaser 1571
7Kat, Texte, I, 73, Anm, 3, Rep. Epigr. 4624, J. Ryckmans, L’institution Monarchique, 147, Grohmann, S. 123(10/90)
المملوكين. فلسيد القبيلة ولكبار أصحاب الأرض والملاكين والأغنياء "أدم" أي: خدم، يخدمونهم ويقاتلون عنهم في الغزو وفي الحرب وفي الدفاع عن النفس1.
ولم يكن هؤلاء "الأدم" من العسكريين المحترفين2.
وأما إذا كان المحارب أجيرًا يؤجر نفسه لمن هو فوقه لخدمته أو للقتال عنه، فإذا وقع قتال طلب منه الدخول فيه، للقتال في سبيل صاحبه قيل له: "اجر" أي: "أجير" والجمع "اجر" و"اجرم"، أي: أجراء3.
وليس لدينا أخبار عن معامل تعمل فيها "الشكة"، أي: السلاح كله للحكومات أو للقبائل في الجاهلية4. غير أني لا أستبعد وجودها في اليمن. فقد كانت حكومات اليمن. حكومات منظمة تُعْنَى بمثل هذه الأمور التي هي من ضرورات الدولة. أما القبائل، فقد كان المحاربون فيها هم الذين يجهزون أنفسهم بالسلاح. وقد يكون ذلك السلاح عصيًّا يقاتلون بها، وقد لا يكون لدى المحارب أي شيء منه سوى الحجارة التي يجدها أمامه، فيتراشق بها مع الأعداء. أما سادات القبائل والأغنياء، فقد كانوا يشترون أسلحتهم ويخزنونها إلى وقت الحاجة. فإذا ظهرت وزعوها في أولادهم وخدامهم ومواليهم للقتال.
وإذا عزمت قبيلة على غزو قبيلة أخرى وجب على كل بالغ سليم الغزو معها، كما أن على كل فرد من القبيلة المهاجمة أن يقوم بواجبه في الدفاع عنها، وهذا واجب كل رجل في القرى والمدن أيضًا. فقد كان على رجال كل قرية أو مدينة الدفاع عن أنفسهم، ورد غزوات الغازين. لاستقلال كل قرية أو مدينة في أمورها وشئونها، ووقوع كاهل الدفاع عن نفسها على عاتقها. وعلى كل مواطن لذلك، بدوي أو حضري أن يهيئ نفسه في أيام الحروب والغزوات للدفاع عن نفسه وعن مواطنيه، وأن يقوم بعمل الجندي في هذه الأيام.
وقد يقعد بعض الرجال من الأغنياء، أو من المسنين عن المساهمة في الحرب أو الغزو، فيدفعون جعلًا في مقابل ذلك لرجال يحاربون عنهم، فيكون الجعل لهم، ويكون ما قد يقع في أيديهم من غنائم لهم أيضًا. وقد يتفق على ذلك
__________
1 Grohmann, S., 122, Rhodokanakis, Bodenwirtschaft, S. 183
2 Grohmann, S. 124
3 Jamme 577
4 الأغاني "20/ 132"، "الشكة: السلام"، كتاب المعاني "1/ 107".(10/91)
بأن يجعل المقيم للغازي شيئًا. وقد كرهت الجعائل في الإسلام1. وفي الحديث أنها سحت. وهي ما تجعل للغازي إذا غزا عنك بجعائل. قال سليك بن شقيق الأسدي:
فأعطيتُ الجِعالة مستميتًا ... خفيفَ الحاذِ من فِتْيانِ جَرْم2
وإذا قامت قبيلة بغزو قبيلة ما، قام رجالها من ذوي الرأي والمعرفة بالمعارك بإعداد خطط غزو العدو ومهاجمته ومباغتته وترؤسه, وعلى شجعانها قيادة الغازين المحاربين. أما القبيلة التي تتعرض للغزو. فيقوم ذوو الرأي والخبرة العسكرية فيها بإعداد الخطط للدفاع عن نفسها، ورد الاعتداء عنها. وفي حالة الأحلاف يعد ذوو الرأي والخبرة العسكرية في الحلف خطط الهجوم أو الدفاع، ويشترك الحلف في إعداد المحاربين وقيادتهم.
والغالب أن الذي يقوم بقيادة المحاربين وتوجيههم في المعارك هم من أسر توارثت ذلك، وصارت القيادة وكأنها حق لها. فإذا وقع غزو، أو أرادت قبيلة ما غزو قبيلة أخرى، نهض رجال الرأي في الحرب بإعداد الخطة والتشاور في الرأي لكسب المعركة. وقد كانت قريش قد وكلت أمر حربها وقيادة محاربيها إلى "آل حرب". ولكن ذلك لا يعني عدم تغيير القادة وإبدالهم، وتعيين قادة جدد من أسر أخرى، فقد كانوا يفعلون ذلك أيضًا عند الضرورات.
ولم تكن قوات القبائل في مستوى القوات النظامية من حيث التسليح والقابلية في القتال. فأسلحة رجال القبائل بسيطة وبدائية في الغالب لفقرها وعوزها, وهي غير منتظمة ولا مدربة على القتال تدريبًا فنيًّا، وإنما يقوم فنها على الإغارة والمباغتة، فإذا وجدت مقاومة ما فرت وولت؛ لأنها لا تتحمل المقاومة والوقوف في وجه العدو مدة طويلة، ولا تستطيع الصبر على ذلك. وهي من هذه الناحية قادرة على إلحاق الأذى بالقوات النظامية في حروب الصحارى، فتقوم بمباغتة العدو وأخذه بالمفاجأة، فإذا وجدت مقاومة منه أو أخذت ما كانت تصبو إليه من غنيمة، عادت مسرعة إلى معقلها، لتحتمي به، ولتوزع ما غنمته وفق العادة والعرف.
__________
1 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص338".
2 اللسان "11/ 111"، "جعل"، تاج العروس "7/ 257"، "جعل".(10/92)
والغزو مصدر مهم من مصادر الإعاشة بالنسبة إلى الأعراب، يلجئون إليه في أيام الشدة والمحنة لغناء أهل القرى والمدن بالنسبة إلى أهل البادية، صارت هذه المواضع هدفًا مقصودًا للأعراب، ومصدرًا من مصادر الرزق عندهم، ولا سيما المواضع الواقعة على حدود الأرضين الغنية الخصبة، كالعراق وبلاد الشأم، وقد أدركت الدول الحاكمة في العراق وفي بلاد الشأم هذه الحاجة، فاستغلتها، فأخذ الروم يشترون رؤساء القبائل، يدفعون لهم رشاوى وهدايا ومنحًا ومرتبات لحماية حدودهم من تحرش رجالهم بها, ولمهاجمة حدود أعدائهم الفرس، ولمقاومة القبائل التي يرسلها الساسانيون لمهاجمة بلاد الشأم.
وفعل الفرس مثل ذلك، فدفعوا المنح والمرتبات والهدايا لرؤساء قبائلهم، ودفعوهم على مهاجمة حدود بلاد الشأم. وقد اضطرت القرى والمدن في جزيرة العرب إلى مهادنة القبائل القوية النازلة بقربها، وإلى محالفتها بدفع إتاوات لها في مقابل عدم التحرش بها وحمايتها من تحرش القبائل الأخرى الطامعة بها، وفي مقابل مرور قوافلها في أرضها. وبذلك أمنت على سلامتها وعلى أموالها بعقد هذه العهود والمواثيق.
ولضرورة الدفاع عن النفس، وللوقوف أمام طمع القبائل القوية في القبائل الضعيفة، اضطرت أكثر القبائل إلى التحالف والتكتل لمنع الغزو فيما بينها، وإلى مقاومة أي غزو يقع عليها، وقد أطلق العرب على كل قبيلة تحارب وحدها دون محالفة قبيلة أخرى "الجمرة". وذكر أن "الجمرة"، هي القبيلة التي لا يقل عدد فرسانها عن ثلاثمائة فارس، وهو عدد يدل على قوة القبيلة وشدة البأس.
وذكر الأخباريون أن "جمرات العرب" ثلاث: بنو ضبة بن أد، وبنو نمير بن عامر، وبنو الحارث بن كعب. فطفئت جمرتان، وبقيت جمرة واحدة, طفئت بنو ضبة؛ لأنها حالفت الرباب, وطفئت بنو الحارث؛ لأنها حالفت مذحج، وبقيت نمرح لأنها لم تحالف1.
والغالب على أسلوب القتال عند الجاهليين: الكرّ والفرّ، وذلك بأن يهاجم المحاربون عدوهم ثم يتراجعون بسرعة وكأنهم قد فروا خوفًا منه، ثم يعودون
__________
1 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص353"، الحصري، زهر الآداب، "1/ 20".(10/93)
فيكرون عليه. يضعون مكانًا يكون مركز ثقلهم والملجأ لهم، يلتجئون إليه، ثم ينطلقون منه للكر على العدو، وقد اتبعوا أيضًا أسلوب القتال صفوفًا، بأن يقف المحاربون صفوفًا، يحاربون دون كر ولا فر1.
ولا بد للمحارب من أسلحة يحارب بها ويدافع بها عن نفسه. ويستعمل العرب لفظة سلاح وعدة المحارب في مقابلArms = Armour في الإنجليزية و"ملديم" Malddim و"كليم" Kelim و"حليضه" Hallizah في العبرانية2. ويراد بها كل ما يستعمله ويحمله الجندي من وسائل الحرب من هجوم ودفاع.
والسيف هو السلاح الرئيسي في القتال. استعمل في الهجوم وفي الدفاع عن النفس. ويطلق العبرانيون عليه وعلى الخنجر لفظة "خ ر ب" "خريب"3. وقد يكون السيف قصيرًا أيضًا. وهو ذو حد واحد وذو حدين. وقد يكون رأسه مدببًا حادًّا يستعمل للطعن، أما الضرب فيكون بحد السيف. والسيوف الجيدة هي السيوف المصنوعة من الفولاذ ومن الحديد النقي الجيد. وقد اشتهرت سيوف اليمن، وبعض السيوف المستوردة من الخارج. ويقال لحديدة السيف: "النصل"، وتقابل هذه اللفظة لفظة "لهب" "لهيب" في العبرانية، من أصل "لهب"، وذلك للمعان السيف الذي يشبه اللهب عند عرضه في الشمس4.
وللسيف أسماء كثيرة ترد في كتب اللغة، بعضها أسماء وبعضها نعوت وصفات صارت في منزلة الأسماء للسيف. ومن أسماء السيف: "الجنثي" والجمع: "الجنثية"، يقال: إنها إنما سميت جنثية نسبة إلى الجنثي، وهو الحدّاد 5.
ويعرف الحداد بالقين عند الجاهليين. أما الذي يقوم بصقل السيف، فهو "الصيقل"6.
وقد اشتهرت أنواع من السيوف عند العرب، تفاخروا بها، لجودتها
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 56 وما بعدها"، اللسان "5/ 135"، تاج العروس "3/ 467، 519".
2 Hastings, Dictionary, I, P.154
3 لسان العرب "9/ 166"، تاج العروس "6/ 149"، المفضليات "ص98" "أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون"، شرح المعلقات السبع، للزوزني "70 وما بعدها" "الطبعة الثالثة".
4 Smith, Dictionary, Vol, I, P.110, The Bible Dictionary Vol. I, P.Iii.
5 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص362"، المعاني "2/ 1030".
6 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص362".(10/94)
وشدة وقعها في العدو. ومن هذه السيوف المشهورة: "السيوف المشرفية". قيل: إنها سميت بذلك نسبة إلى "المشارف" جمع مشرف، ويراد بها قرى للعرب تدنو من الريف، وقيل: لأنها من مشارف الشأم. وقيل: نسبة إلى موضع من اليمن، وقيل: بل نسبة إلى "مشرف" رجل من ثقيف1.
وردّ "ابن رشيق القيرواني" قول من نسب السيوف المشرقية إلى مشارف الشأم أو مشارف الريف، وذهب إلى أنها نسبة إلى "مشرف"، من قرى اليمن2.
وعرفت سيوف "بصرى" بالجودة كذلك، ويقال: للسيف المنسوب إليها "بُصري"3. وقد مدحها "الحصين بن الحُمام المُرّي"، وأثنى على القيون الذين أخرجوا "صفائح بُصري"، أي: السيوف4.
واشتهرت السيوف المسماة بـ"السريجية" بجودتها كذلك، ويقال: إنها نسبة إلى "سُرَيج" رجل من بني أسد. وهو أحد بني معرّض بن عمرو بن أسد بن خزيمة وكانوا قيونًا5.
واشتهرت سيوف اليمن كذلك، فقيل للسيف "يمان" و"يماني"، إذا صنع باليمن. والظاهر أنها لمّاعة بيض، ولذلك قيل "بيض يمانية" يمدحون تلك السيوف.
واشتهرت بعض السيوف في الجاهلية، بقيت شهرتها خالدة في الإسلام. ومن هذه السيوف، سيف عرف بـ"الصمصامة"، وهو سيف عمرو بن معديكرب6, وسيف عرب بـ"ذي الفقار" ارتبط اسمه باسم علي بن أبي طالب، وكان قد استولى عليه في معركة "بدر"، أخذه من العاصي بن منبه7.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 62 وما بعدها"، ديوان ابن مقبل "ص7"، اللسان "9/ 174".
2 العمدة "2/ 232".
3 المعاني الكبير "2/ 993".
4 المفضليات "ص19 وما بعدها"، "السندوبي".
5 بلوغ الأرب "2/ 63 وما بعدها"، العمدة "2/ 232".
6 العقد الفريد "1/ 209"، "3/ 370"، تاج العروس "8/ 370"، "صمم".
7 العقد الفريد "3/ 318"، "وذو الفقار بالفتح وبالكسر أيضًا سيف سليمان"، أهدته بلقيس مع ستة أسياف، ثم وصل إلى العاص بن منبه، تاج العروس "3/ 474"، "فقر".(10/95)
وكان في أصحاب رسول الله صحابيّ اشتغل بعمل السيوف في الجاهلية هو "خباب بن الأرت", وكان من المسلمين الأولين الذين أعلنوا إسلامهم، وعذبوا فيه1.
ويتبين من دراسة وتقصي مصادر السيوف عند العرب الجاهليين، أن العرب كانوا آنذاك يستوردونها من أماكن مختلفة، وأن استيرادها كان تجارة مربحة. وأن تجارها كانوا يفتشون في كل مكان من أسواق العالم المعروفة بصنع وبيع الأسلحة لشراء الأسلحة منها. فاستورد بعضهم أنواعًا من السيوف المصنوعة من الهند. وقد عرف السيف الجيد المصنوع بالهند بـ"المهند"2. واشتهر الروم بصنع السيوف الجيدة، وكذلك الفرس.
وقد تفنن في تزويق السيوف وفي إكسائها بماء الذهب أو الفضة، وقد اشتهرت الروم بإكساء السيوف ماء الذهب، ويقال لذلك: "الدجال"3.
والخنجر أقصر من السيف، ويستعمل في المباغتة في الغالب وفي الهجوم وفي الدفاع عن النفس. وهو مثل السيف أيضًا ذو حد وذو حدين، ويوضع في قراب يحمل في وسط الجسم. وهو لا يزال كثير الاستعمال لسهولة استعماله وإخفائه على حين قلّ استعمال السيوف، أو مات، لعدم ملاءمتها للقتال الحديث. ولرخص الخناجر، بالنسبة إلى السيوف، كانت كثيرة الاستعمال حملها معظم الناس حتى الفقراء لحماية أنفسهم من أذى الإنسان والحيوان. وقد استعملت في أثناء الالتحام بالحروب، حيث يشتبك المحاربون بعضهم ببعض، فيكون الخنجر من الأسلحة الملائمة للفتك بالعدو.
والرمح: سلاح يستعمل لطعن العدو، يستعمله الفارس في الغالب. له رأس منبل حاد، يطعن به. وقد يكون له رأس آخر. يثبت به في الأرض. وهو يختلف طولًا ووزنًا. وهو من الأسلحة القديمة، ولا يزال معروفًا، تستعمله بعض القبائل والشعوب البدائية. يصنع من حديد أو من معدن آخر، كما يكون من أعواد الأشجار القوية أو القصب القوي، وأجود الرماح عند العرب، "الرماح الآزنية"، أو "الرماح اليزنية"، يقال: إنها نسبت إلى
__________
1 الإصابة "1/ 416".
2 المعاني الكبير "2/ 1103".
3 المعاني الكبير "2/ 1071".(10/96)
"ذي يزن"1 الملك. وهو على رأي بعض الأخباريين أول من اتخذ أسنة الحديد، فنسبت إليه, وإنما كانت أسنة العرب قرون البقر2.
وعرفت الرماح ذوات السنان بالأسنة. وهي أيضًا أنواع، منها نوع يسمى "الأسنة القعضبية" نسبة إلى رجل اسمه "قعضب" من "قُشير". ونوع يسمى "الأسنة الشرعبية"، ينسب إلى "شرعب". وإلى هذه الأسنة أشار "الأعشى" في هذا البيت:
ولدن من الخطّيّ فيها أسنةُ ... ذخائر مما سَنّ أبزى وشرعب3
ويذكر أهل الأخبار أن الرماح الشرعبية، منسوبة إلى بطن من بطون حمير, يقال لهم: "شرعب بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد قيس"4.
والرماح "الخطية"، من الرماح الجيدة المعروفة, وتنسب إلى "الخط"5.
والخط هو خط هجر، تحمل إليه الرماح من بلاد الهند، فتقوم به. فنسبت إليه6.
و"الرماح الردينية" وهي من الرماح الجيدة المشهورة أيضًا، يقال: إنها نسبة إلى "ردينة" امرأة كانت تعمل الرماح7.
ويقال للرمح: "المنجل" أيضًا8. واشتهر نوع آخر من الرماح عرف بـ"الرمح السمهري" والجمع: "الرماح السمهرية". ذكروا أنها منسوبة إلى "سمهر"، وكان صانعًا يصنع الرماح، وكانت امرأته "ردينة" تبيعها9.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 64"، العقد الفريد "3/ 370"، اللسان "2/ 452"، تاج العروس "2/ 145"، الروض الأنف "1/ 9".
2 قال الشاعر:
يهزهز صعدة جرداء فيها ... نقيع السم أو قرن محيق
3 بلوغ الأرب "2/ 64"، الاشتقاق "ص307"، العمدة "2/ 231".
4 العقد الفريد "3/ 369".
5 بلوغ الأرب "2/ 64".
6 "الخط: جزيرة بالبحرين تنسب إليها الرماح. قال الأصمعي: ليست تنبت الرماح لكن سفن الرماح ترفأ إلى هذا الموضع، فقيل للرماح: خطية"، العمدة "2/ 233".
7 بلوغ الأرب "2/ 64".
8 الاشتقاق "2/ 312".
9 الروض الأنف "2/ 212"، العمدة "2/ 231".(10/97)
وتستعمل القنا في القتال أيضًا. ويظهر أنها نوع من أنواع القصب القوي الذي لا ينثني ولا ينكسر، يكسى رأس القناة برأس من معدن مدبب حاد ليطعن به. ويستعمل القناة الفارس والراجل.
ويقال للقنا: "قانه" Kanah في العبرانية وKanna = Canna في اليونانية ويراد بها القصب، وهو ينبت في مواضع كثيرة من مصر، وفي الأرضين التي تكثر فيها الرطوبة والمياه1, وقد اشتهرت بعض أنواع القصب بالمتانة والقوة. ولهذا استخدمت سلاحًا من أسلحة الطعان.
واستعملت الحراب في الطعن وفي زرق العدو بها. وقد ذكر أهل الأخبار أن الحبشة كانت تحسن الطعن بها، وأن العبيد المجلوبين منها والذين كانوا بمكة، كانوا قد اشتهروا بالطعن في الحراب. ومنهم "وحشي" قاتل حمزة. وهو عبد حبشي زرق حربته ورمى بها حمزة فأصابه.
وكما تعتمد الجيوش الحديثة على أسلحة الرمي، اعتمد الجاهليون على أسلحة هي بمنزلة البنادق والرشاشات في أسلحة هذه الأيام، وهي القسي والسهام. والقوس هي الآلة التي تمسك باليد، ويشد وترها شدًّا قويًّا. ليرمي السهم إلى العدو المراد رميه. وكلما كان الشدّ قويًّا، صارت الرمية بعيدة مؤثرة. وقد يكون السهم من غصن أو من خشب. وقد يكون من معدن مثل: حديد أو نحاس2.
ويتخذ الوتر من مادة قابلة للتوتر وللشدّ، حتى يكون في قدرته رمي السهم إلى مسافة بعيدة وبقوة. أما السهم، فقد يكون من شجر، وقد يكون من معدن، ويكون له رأس مدبب ليصيب به الهدف. وقد يسم رأس السهم، فينفذ السم منه إلى الجرح، فيصيب به الجريح إصابة قاتلة.
وقد عدت الرماية من جملة الخصال العالية في الشخص المكملة للإنسان, وقد اشتهر في الجاهلية قوم بدقة رمايتهم، وبصحة إصابتهم الأهداف، إذا أرادوا رمي أحد أخرجو النبل، فرموه بها، وقلما يخطئون. وإذا أرادوا وصف رجل بدقة الرمي، قالوا فيه: "كان من أرمى الناس"3. وكانت الرماية دراسة
__________
1 The Bible Dictionary, Ii, P.355
2 Hastings. I.P.313
3 الأغاني "2/ 18".(10/98)
يتعلمها الرامي من رماة ماهرين. فكان أهل الحيرة والفرس يعلمون أولادهم الرمي بالنشاب، ليكونوا من الرماة المهرة. يستعملون فنهم هذا في قهر أعدائهم وفي الصيد وفي الحروب1. وقد كانت الجيوش تضم فرقًا من الرماة، تكون لهم أهمية كبيرة جدًّا في تقرير نهاية الحرب؛ لأنهم عنصر فعال قوي في التأثير في المحاربين.
وقد استعان الفرس والروم والرومان بالرماة الماهرين من العرب، فكوّنوا منهم فرقًا خاصة في جيوشهم، وظيفتها الهجوم على العدو ورميه بالسهام للفتك به. فكانت السهام تقوم مقام نار البنادق والرشاشات في أسلحة هذا اليوم. وقد أشار الكتبة "الكلاسيكيون" إلى كتائب الرماة العرب التي كوّنها الروم والرومان.
وقد عرف بعض الرماة بدقة إصابتهم الهدف، فكانوا يصيبون بسهامهم ونبلهم أدق الأهداف. وقد اشتهر هؤلاء بـ"رماة الحدق"، أي: المهرة في الرمي، فلا يخطئون الحدق. وفي كتب الأخبار قصص عن دقة إصابة هؤلاء الرماة2.
ولخطورة الرمي في القتال، ولأهمية هذا السلاح في مصير الحروب ونتائجها، أعطاه الإسلام أهمية كبيرة. وقد ورد في الحديث: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة, ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"3. وورد أيضًا: أن الرسول كان يحث أصحابه على تعلم الرماية وإتقانها4. وقد كان في صفوف قريش والوثنيين جماعة من الرماة المهرة الذين يصيبون الأهداف.
واشتهرت أنواع من القسي، منها: "القسي الماسخية"، نسبة إلى رجل من بني نصر بن الأزد اسمه "ماسخة"5، وقيل: "نبيشة بن الحارث". ذكر أنه أول من عملها. وتنسب القسي أيضًا إلى "زارة" وهي امرأة "ماسخة"6.
وفي هذه القسي قال الشاعر:
شرعت قسي الماسخي رجالنا ... بسهام يثرب أو سهام الوادي7
__________
1 الأغاني "2/ 19".
2 العقد الفريد "1/ 218 وما بعدها".
3 العقد الفريد "1/ 222".
4 المصدر نفسه.
5 بلوغ الأرب "2/ 65"، العمدة"2/ 233".
6 الروض الأنف "2/ 212".
7 الاشتقاق "ص288".(10/99)
وذكر أهل الأخبار نوعًا من الخشب سموه "الشِريان"5، ذكروا أنه خشب تتخذ منه القسي العربية1.
وأجود السهام التي وصفتها العرب، "سهام بلاد"، "سهام بلام"، و"سهام يثرب"، وهما قريتان من حجر اليمامة. وقد ذكرها الأعشى في شعره2.
ومن "النبل" الجيد نبل يقال له: "رقميات"، وقد نسبت إلى "الرقم"، وهو موضع دون المدينة، ويقال سهام مرقومة3.
وتريش النبال بريش الطيور، وتوضع عليها ريش نسر أحيانًا4.
وتحفظ السهام والنبال في محفظة، يقال لها: "الكنانة". وأشهرها الكنائن المعروفة بـ"الكنائن الزغرية"، وهي منسوبة إلى "زغر"، موضع بالشأم، تعمل كنائن حمر مذهبة. وقد ذكرها أبو دؤاد الإيادي في شعره:
ككنانة الزُغرى زينها ... من الذهب الدلامص5
ومن مشاهير الرماة عمرو بن عبد المسيح الطائي، وكان أرمى العرب. وفد إلى النبي، وفيه يقول امرؤ القيس:
ربَّ رامٍ من بني ثعل ... مخرج كفيه من ستره6
واشتهر "القارة" بالرمي، فقيل: إنهم أرمى حي في العرب، ولهم يقال: "قد أنصف القارة من راماها"7.
والقسي هي سلاح الصياد في الجاهلية، فهي بمثابة "البندقية" في هذا اليوم، يأخذها الصياد معه وفي كنائنه، ثم ينتظر، فإذا شاهد صيدًا رماه8. ولهذا نجد المولعين بالصيد يذكرونها في شعرهم وفي وصفهم لمطاردة الحيوانات.
__________
1 الاشتقاق "2/ 295".
2 بلوغ الأرب "2/ 65"، "بلام" العمدة "2/ 232".
3 شرح ديوان لبيد "ص195".
4 شرح ديوان لبيد "ص195".
5 بلوغ الأرب "2/ 65".
6 المعارف "ص136"، وفي بعض الأصول "قتره"، العقد الفريد "3/ 400".
7 العقد الفريد "3/ 341".
8 بلوغ الأرب "2/ 65".(10/100)
ومن القسي الجيدة التي تركت أثرًا في ذاكرة الشعراء "العتل" واحدها "عتلة" وقد عرفت بأنها القسي الفارسية1.
واستعمل الصعاليك واللصوص السهام سلاحًا فتاكًا في ابتزاز المال وسلب المسافرين. والرامي الجيد الرماية، متغلب على خصومه؛ لأنه يرمى وهو على بعد ممن يرميه، فلا يصيبه سيف أو رمح. وبذلك صعب على من لا يحسن الرماية التغلب على الرماة.
والرمي بالحجارة والحصى، سلاح مهم مؤثر في العدو في ذلك الزمان. فقد كان المحاربون يرمون عدوهم بآلة ما زال الأطفال والفلاحون يستعملونها، يطلقون عليها لفظة "معجان" في العراق. وهي عبارة عن قطعة من جلد أو قماش تشد من طرفيها بحبلين أو خيطين. فإذا أراد الرامي الرمي، وضع حجرًا صغيرًا أو حصاة في الجلد أو القماش، وأمسك بطرفي الحبلين غير المشدودين بالقاعدة، وأخذ يحركها تحريكًا دائريًّا بشدة، ثم يطلق أحد الحبلين بسرعة لينطلق الحجر إلى الهدف المراد، فيصيبه. ويطلق على هذه لفظة "قلع" في العبرانية، وهي أبسط أنواع آلات الرمي بالحجارة. ويستعملها الفلاحون والرعاة أيضًا لطرد الطيور والحيوانات. ويسمونها في بلاد الشأم "المقلاع".
وقد كان على المحارب التدرب على الرمي وعلى الطعن، ليكون محاربًا ناجحًا، ذا خبرة في القتال، فلا يتمكن منه عدو بسهولة. وفي جملة الوسائل التي كان يتدرب عليها: "الدريئة"، وهي حلقة يتعلم عليها الطعن والرمي. قال عمرو بن معديكرب:
ظللت كأني للرماح دريئة ... أقاتل عن أبناء جرم وفرت3
ولا بد للمحاربين من أسلحة واقية، يتقون بها ضربات أعدائهم. وما يرمونهم به من حجارة وسهام. والترس من أقدم الأسلحة الواقية، يعلقه المحارب على ظهره أو على كتفه، فإذا احتاج إليه، أمسكه بإحدى يديه، ليتقي به ضربات
__________
1 المعاني الكبير "2/ 1053".
2 Encyclopaedia Biblica I, P.249
3 تاج العروس "1/ 223" "الكويت".(10/101)
خصمه. ويصنع من الحديد في الغالب، ولارتفاع ثمنه، لم يستعمله إلا المحاربون الشجعان المعروفون والمحاربون الموسرون. واستعمل الترس المصنوع من الخشب ومن الجلود الثخينة، مثل جلود الجمال والبقر وبعض أنواع الأسماك والحيوانات الوحشية ذوات الجلود الغليظة.
وبعض الأتراس دائرية على هيئة قرص، ومعظم أنواع الأتراس عند الجاهليين وعند العرب الإسلاميين هي من هذا النوع، وبعضها على هيئة مستطيل أو مستطيل ذي رأس مدور أو ثابت أو غير ذلك، وفي ظهر الترس حلقة أو موضع يدخل المحارب يده فيه ليمسك به الترس، ويتصل به حبل أو سلسلة ليعلق المحارب به أو بها الترس على جسمه. ويعرف الترس بالدرقة وبالمجن كذلك1. وقد ذكر امرؤ القيس المجن فقال:
لها جبهة كسراة المِجَنِّ ... حذقه الصانع المقتدر2
ويقال له: "العنبر" كذلك3.
ويقال للمجن: "ماكين" "ماجن" Magen في العبرانية. وهو قرص دائري الشكل خفيف يحمله المحارب بيده ليدافع به عن نفسه وللاتقاء به من ضربات العدو. ويقال له: "كليبوس"Clypeus عند الرمان4.
والدروع هي من أسلحة الوقاية، يتدرع بها المحارب، ليقي بها نفسه من ضربات خصمه، وقد تكون للظهر وللصدر، فتحمي ظهر المحارب وصدره، وقد تكون للصدر فقط، فيقي المحارب بالدرع ضربات المحارب من رمح أو سيف. فلا ينال به صدره5. ويعرف أهل الأخبار الدرع بأنها القميص المتخذ من الزرد.
وتعرف الدروع عند العبرانيين بـ"شريون" Shiryon. ويلبس الدرع كالثوب فيقي الجسم من الضربات6.
__________
1 اللسان "6/ 32"، تاج العروس "4/ 129".
2 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص58".
3 الاشتقاق "ص129".
4 Hasting, P.51, The Bible Dictionary, I, P. Iii
5 العقد الفريد "1/ 209" "لجنة"، لسان العرب "8/ 81"، تاج العروس "مادة/ درع".
6 The Bible Dictionary, I, P. III(10/102)
وقيل للدروع "الخرصان" كذلك، الواحد خرص، وقد سموا الدرع خرصًا؛ لأنه حَلق، كما سموا الحلقة التي في الأذن خرصًا. وقيل للدرع سابغة أيضًا1. وقيل للرماح الخرصان كذلك2.
ومن الدروع المعروفة: "الدروع الحطمية" نسبة إلى حطمة بن محارب بن عمرو بن وديعة. وقيل: نسبة إلى "حطم" أحد بني عمرو بن مرثد من بني قيس بن ثعلبة. و"الدروع السلوقية"، هي نوع آخر من الدروع المشهورة، يقال: إنها نسبة إلى "سلوق" وهي قرية باليمن عرفت بدروعها2. وقد ذكر النابغة الدروع السلوقية في شعره4. وأشار "ابن مقبل" إلى نوع من أنواع الدروع دعاه "المشرفية" من صنعة مشرف، ومشرف جاهلي، وهم يدعون إلى ثقيف5. كما عرف نوع آخر من الدروع اشتهر باسم "القردماني"، وذكر بأنه فارسي، وأن أصله بالفارسية "كرد ماند"6.
وقد نسبت الدروع الجيدة الممتازة إلى "داود" و"سليمان" فورد في شعر للحطيئة:
فيه الرماح وفيه كل سابغة ... جدلاء مبهمة من نسج سلام7
وورد في شعر للنابغة:
وكل صموت نثلة تبعية ... ونسج سُليم كل قضّاء ذائل8
ويلاحظ أن البيت المنسوب إلى "الحطيئة" ينتهي بلفظة "داود" بدلا من "سلام" وهو "سليمان" في بعض الروايات. والمعروف أن "داود" هو الذي
__________
1 المعاني الكبير "2/ 1035 وما بعدها".
2 المعاني الكبير "2/ 1036".
3 بلوغ الأرب "2/ 66".
4
يقد السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقد في الصفاح نار الحباحب
العقد الفريد "1/ 215"، بلوغ الأرب "2/ 66".
5 المعاني الكبير "2/ 1035 وما بعدها".
6 المعاني الكبير "2/ 1030".
7 المعاني الكبير "2/ 1035".
8 المعاني الكبير "2/ 1036".(10/103)
اشتهر بعمل "الدروع" لا "سليمان" على حد قول أهل الأخبار1. وقد أشير إلى صنع "داود" للدروع في بيت شعر "لبشامة بن عمرو"، وقد وصف دروعه بأنها "موضونة"، أي: مضاعفة ثخينة، تسمع للقواضب فيها صليلًا 2، كما أشير إلى ذلك في بيت شعر ينسب إلى "الحصين بن الحُمام المرّي"، حيث نسب نسج الدروع إلى "داود". والغالب عن الجاهليين نسبة الدروع إلى "داود"3.
وأما لفظة "سليم" الواردة في بيت "النابغة"، فتعني "سليمان" أيضًا 4.
ونحن لا يهمنا في هذا المكان أمر صانع هذه الدروع، إنما الذي يهمنا هنا هو أثر القصص اليهودي والدعاية الإسرائيلية في نفوس الجاهليين، مما يدل على أن اليهود المهاجرين إلى جزيرة العرب كانوا قد غرسوا بذور الدعاية اليهودية بين الجاهليين حتى تؤثر فيهم، فكان من أثره مثل هذا القصص الذي نجده في شعر الجاهليين وفي قصصهم المدون في الإسلام.
ولا يستبعد أن يكون في اتجار يهود الحجاز بالأسلحة واستيرادهم إياها من بلاد الشأم لبيعها للعرب أو للاحتفاظ بها لتهديد من يطمع فيهم ولمقاومته، أثر في ظهور مثل هذا القصص، وفي نسبة الأسلحة الجيدة إلى "داود" أو "سليمان".
وعرفت الدروع المصنوعة باليمن بالجودة كذلك. وقد نسبت بعضها إلى التبابعة، فقيل: "نثلة تبعية" يريدون بلفظة "نثلة" درع. وقيل: "مسفوحة تبعية" أي: "درع تبعية" منسوبة إلى "تبع"5.
و"التسبغة" هي: زرد مشبك الحلق متصل بالبيضة يطرح على الظهر ليستر العتق، فلا تؤثر فيه الضربات والطعن6.
ومن الأدوات التي استخدمها المحاربون "البيضة"، وهي غطاء يوضع على
__________
1 المعاني الكبير "2/ 1035".
2 المفضليات، "إخراج حسن السندوبي"، القاهرة "1926"، "ص16".
3 المفضليات، "إخراج السندوبي" "ص20".
4 المعاني الكبير "2/ 1032".
5 المعاني الكبير "2/ 1036"، المفضليات "ص35" "حسن السندوبي"، العمدة "2/ 23 وما بعدها".
6 المفضليات "ص36" "السندوبي".(10/104)
الرأس لحمايته من السيوف والحجارة والعصى وما شابه ذلك1. وهي لا بد أن تكون مصنوعة من مواد واقية تحفظ الرأس من الأخطار، كأن تكون مصنوعة، من الحديد أو المواد المعدنية الأخرى أو من الجلود الثخينة.
وقد عرفت "البيضة" المستديرة بـ"تركة". وورد في شعر "مزرد بن ضرار الذبياني" "تركة حميرية"، أي: منسوبة إلى حمير، مما يشير إلى اشتهار هذا النوع من آلة وقاية الرأس2.
والعمائم خوذ المحاربين عند الجاهليين. فإذا خاض المحارب معركة ما اعتم بعمامة، وقد يضع عليها ريشة، وقد يتحنك بذؤابتها، ولم تكن عمائم الحرب ذوات لون واحد، بل كانت ذوات ألوان، قد يدخل المحارب الحرب وعلى رأسه عمامة يختلف لونها عن لون العمامة التي لبسها قبلًا. وقد تحدث أهل الأخبار عن أنواع العمائم التي لبسها المحاربون في القتال.
ولكن هذا لا يعني أن الجاهليين كانوا لا يستعملون الخوذ في حروبهم. لقد كان عرب العراق وعرب بلاد الشأم واليمن يستعملونها أيضًا. وإذا كانت الخوذ قليلة الاستعمال في معظم أنحاء جزيرة العرب، فإنما يعود سبب ذلك إلى غلاء ثمنها؛ لأنها من المعدن في الغالب، ولعدم وجود حاجات ملحة إليها هناك. وقد لبس الرومان واليونان خوذًًا مصنوعة من النحاس ومن البرنز. واستعملت الخوذ المعمولة من الخشب ومن الجلود والكتان واللباد وبعض المواد الأخرى. وقد تفنن صانعوها في زخرفتها وفي أشكالها، وعلى هذه الزخرفة والمواد المصنوعة منها يتوقف سعر الخوذ بالطبع.
وأما "المجن" و"الترس" و"الدرقة"، فبمعنى واحد، وهي لوقاية الجسم من ضربات السيوف، ويصنعها العرب من الجلود في الغالب3.
ويقال للزرد الذي ينسج على قدر الرأس ويلبس تحت القلنسوة: "المغفر"4.
__________
1 الطبري "2/ 379"، بلوغ الأرب "2/ 67"، "البيضة والبيض ما يحمي الرأس من سلاح"، المعاني "2/ 1032".
2
وتسبغة في تركة حميرية ... دلامصة ترفض منها الجنادل
المفضليات "السندوبي" "ص36".
3 بلوغ الأرب "2/ 27".
4 اللسان "5/ 26"، تاج العروس "3/ 450".(10/105)
وقد لبس محاربو اليونان والساسانيون ألبسة واقية خاصة لتقي جسمهم من ضربات السيوف وطعن الرماح ومن تساقط السهام عليهم، كما حموا أرجلهم وأفراسهم أيضًا بأوقية خاصة. بعضها من جلد وبعضها من أقمشة أو من معدن. وقد استخدموا ملابس خاصة صنعت من الزرد, أي: من حلقات معدنية، وتدرعوا بألواح من معدن حموا بها أجسامهم، وبألواح من الجلود الثخينة المدبوغة دبغًا خاصًّا لتقاوم الضربات، وغطوا بها أجسام خيولهم في بعض الأحيان لئلا تصاب، فيسقط بسقوطها الفارس، ويعجز عن القتال.
وقد اشتهرت "ترسة الروم" بكبرها وبشدتها، وقد أشير إليها في شعر "ابن مقبل"1.
ومن عادات العرب في الحروب إنذار من يريدون محاربتهم، كأن يقولون لمن يريدون محاربته: إنا ننذرك بحرب. وهم يفتخرون بذلك، إذ يرون أن الإنذار بالحرب من سيماء القوة والشجاعة، ومن علامات عدم المبالاة بالعدو. وأن المباغتة من علامات الجبن والضعف. وقد ينذرون عدوهم ويتواعدون معه على الالتقاء في زمن معين وفي مكان معين للحرب. فإذا جاء الأجل التقوا في المكان المعين وتحاربوا فيه.
وتبدأ الحرب عادة بإعلان حالة النفير, أي: حالة التجمع والتهيؤ للقتال أو الذهاب إلى الحرب. ويكون ذلك بالتبويق. أي: بالنفخ ببوق من معدن أو قرن حيوان أو آلة من خشب، أو بدق الطبول والدفوف أو بضرب أعواد من خشب، أو بالصياح لإعلام الناس بدنو عدو أو ظهور خطر أو استعداد للقيام بغزو ما، فيتجمع عندئذ كل قادر على القتال متمكن منه، حاملًا معه كل ما يحتاج إليه من معدات للقتال، راكبًا أو راجلًا، لأخذ دوره فيه، والقيام بالعمل الذي يوكل به إليه. وقد يلحق النساء بالمقاتلين. فيقمن بإعداد الطعام لهم وما يحتاجونه إليه من خدمات وليس لهؤلاء المقاتلين من أجور ومرتبات غير الغنائم التي تصيبهم والأسلاب التي تقع في أيديهم، فتكون ملكًا لهم؛ لأن القتال واجب على كل مواطن متمكن محتم عليه، والامتناع منه جبن ومخالفة لقوانين المجتمع وأعرافه.
وللجيوش: ألوية, ورايات يحملها أشجع المقاتلين والمعروفون بصبرهم على القتال.
__________
1 ديوان ابن مقبل "ص277" "تحقيق الدكتور عزة حسن".(10/106)
وإذا قتل حامل الراية، قام آخر من الشجعان بحملها. ويستميت المقاتلون في الدفاع عن رايتهم، فسقوط الراية على الأرض أو في يد العدو، معناه هزيمة أصحابها، وعجزهم عن القتال، وخور عزيمة المقاتلين عن القتال في النهاية، وتلك أمارات الهزيمة والفرار.
ولا يشترط في الأعلام والبيارق والرايات أن تكون قديمة متوارثة. فقد تعقد عند بدء الحرب، يعقدها الرؤساء، ويسلمونها إلى أشجع الناس لتكون سندًا للمحاربين ورمزًا يستمدون منه العون والقوة. وتسمى بأسماء قد يتصايحون بها عند احتدام القتال. وذلك لإثارة النفوس، وبعث الحمية فيها على القتال. أما أمر لون الراية وطولها وعرضها، فذلك من شأن الرؤساء والمشايخ وزعماء القوم.
ومما يدل على أهمية الراية عند العرب وعلى مكانتها عندهم، أنهم كانوا يسمون "لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها للجيش أمًّا"1. وكانوا يجتمعون لها في النزول والرحيل وعند لقاء العدو.
ولما تحدث "الحرث بن حلزة اليشكري" عن "يوم الشقيقة" وعن مجيء "معد" مع "قيس بن معديكرب"، ذكر أن أحياء "معد" التي اشتركت معه، كانت تحمل معها ألويتها، ولكل "حي" لواء2.
وكانت لقريش راية يحتفظون بها ويحاربون تحتها تسمى "العقاب" وهي راية قريش، وإذا كانت عند رجل أخرجها إذا حميت الحرب، فإذا اجتمعت قريش على أحد، أعطوه العقاب، وإن لم يجتمعوا على أحد أخذها صاحبها فقدموه3.
ولم تكن قريش بدعًا في ذلك، فقد كانت للقبائل وللحكومات رايات أخرى، يتوارثونها ويحافظون على تسميتها، وتحتفظ بها أسر خاصة أو سادات قبائل، تعتز بذلك، وتعدّها من أعظم درجات الفخر والتكريم.
ولأهمية القائد في المعارك، كانوا يحيطونه بحرس، ويجعلون أكثر ثقلهم حوله. ويكون موضعه في القلب في الغالب، ليشرف على القتال، تحميه المؤخرة من الخلف والمقدمة من الأمام، ويوضع اللواء عنده، ويحمل بين يديه. وكان
__________
1 تفسيرالطبري "1/ 36 وما بعدها".
2 شرح المعلقات المسبح، للزوزني "ص164".
3 العقد الفريد "3/ 314".(10/107)
المسلمون يحملون "العَنَزَة" بين يدي الرسول، وربما جعلوها قبلة1.
وقد كان القادة يستعينون قبل الدخول في القتال بمخبرين يرسلونهم إلى العدو للحصول على معلومات عن قواتهم وعن مواقعهم وعن مدى استعدادهم للحرب. وكذلك كان للقبائل ولأهل المدن مخبرون يرسلونهم لاستطلاع الأحوال ولتحذيرهم من احتمال وقوع غزو مفاجئ عليهم، أو لتقدير مقدار الغازين أو المحاربين للاستعداد والتهيؤ. فهم "جواسيس" إذن، يذهبون للتجسس ولاستراق الأخبار حتى يكون من أرسله على حذر وبينة من أمره، ويقال للواحد منهم: "منذر" في السبئية؛ لأنه ينذر قومه وينبههم بقرب وقوع حادث عليهم2.
ويقال للشخص الذي يتسقط أخبار العدو ويبحث عن مواضع ضعفه وعن حركاته وسكناته: "العين" و"الربيئ" و"الجاسوس". وقد كانوا يتنكرون ويتسترون كي يخفوا هويتهم ويحصلوا على ما يحتاجون الحصول إليه من معلومات ليرتبوا بموجبها خططهم الحربية. روي أن "عمرو بن سفيان الكلابي"، جاء بني خزاعة في زي رجل من بني هلال، وأظهر أنه جاء يريد جيرتهم، وكانوا قد غزوا قومه وساقوا إبلهم، فقبلوا إيواءه، وبقي عندهم أمدًا، حتى جمع كل ما احتاج إليه من معلومات عنهم، ثم خرج منهم وعاد إلى قومه فاستفادوا بما كان قد جمعه عن بني خزاعة، وغزوهم وانتصروا عليهم 3.
وذكر أن كان لكليب وائل عينًا في تغلب، كان يتجسس له ويرسل له الأخبار عن هذه القبيلة4. وأن "عمرو بن ربيعة". أرسل سدوس بن شيبان وصليع بن عبد غنم إلى معسكر "زياد" ملك الشام، ليتجسسا عليه ويأتيا له بالأخبار5. وهناك أمثلة كثيرة من هذا النوع تتحدث عن عيون كانت القبائل ترسلهم إلى القبائل المعادية لها لتأتي لها بالأخبار عنها وبنَواياها العدوانية وعن خططها في الغزو.
وقد يكون الرجل بين قوم، فيسمع بخبر عزمهم على غزو قومه، فيرسل
__________
1 البيان والتبيين "3/ 95".
2 Jamme 643, Mahram, P.440
3 الأغاني "9/ 7".
4 ابن الأثير، الكامل "1/ 302"، "3/ 313 وما بعدها".
5 الأغاني "10/ 36 وما بعدها"، الدينوري، عيون "1/ 195".(10/108)
رسالة رمزية في الغالب أو شفوية ليحذر قومه منه. وقد يكون المنذر أسيرًا في أيد القوم، فلا يستطيع الهروب من آسريه ليخبر أهله بعزم آسريه على غزوهم فيعمد إلى "الشيفرة" وإلى الرموز والكنايات والتعابير التي تفهم القوم بمراده من الرسالة، فيحتاطوا للأمر ويستعدوا للقتال.
وفي يوم "شعب جبلة" كان "كرب بن كعب بن زيد مناة"، وهو من بني تميم، قد علم بخطط أعداء قومه، وكانوا قد أخذوا عليه عهدًا وميثاقًا بألا يتكلم ولا يخبر قومه عن عزمهم فعمد إلى الرمز والإشارة، بأن وضع ترابًا في صرة، وشوكًا قد كسرت رؤسه، وحنظلة موضوعة ووطب معلق فيه لبن، فلما رأى القوم ذلك، علموا أنه يقول لهم: إن القوم كالتراب عددًا لكن شوكتهم قليلة، وإنهم قريبون منهم، فعليهم أن يحتاطوا للأمر، فاحتاطوا منه، واستعدوا للأمر.
وكان الأعور، وهو ناشب بن بشامة العنبري أسيرًا في قيس بن ثعلبة، فلما سمع بأن اللهازم تجمعت وهم: قيس وتيم اللآت ومعها عجل بن لجيم وعنترة بن أسد، تريد غزو بني تميم، قال لآسريه: أعطوني رجلًا أرسله إلى أهلي أوصيهم ببعض حاجتي. فقالوا له: ترسله ونحن حضور. قال: نعم. فأتوه بغلام مولد. فقال اتيتموني بأحمق. فقال الغلام: والله ما أنا بأحمق. فقال: إني أراك مجنونًا. قال: والله ما أنا بمجنون. ثم صار يكلمه ويسأله، ثم أوصاه بأمور لا يفهم منها أن فيها إشارات ورموز، ووافق القوم على ذهاب الغلام إلى قوم ناشب، فلما كلمهم بما قاله ناشب للغلام لم يدروا ما أراد: فأحضروا "الحارث"، فقص عليه الغلام قصة ما جرى له مع ناشب، ففهم المراد. ثم قال للغلام: أبلغه التحية، وأبلغه أنا سنوصي بما أوصى به. ثم قال لبني العنبر: إنه يحذركم من غزو قريب فاستعدوا وارتحلوا عن ديارهم وبذلك نجوا من خطر الغزو1.
وهناك أمثلة عديدة من هذا القبيل، حذر بها أناس من رجال ونساء قومهم من غزو سمعوا به، فخلصوا قومهم منه. أو جعلهم يستعدون له، وقد استعمل المحذرون التراب أو الرمل، للدلالة على كثرة العدو. واستعملوا الشَوْكَ للدلالة على القوة وعلى شوكة العدو، وعبّروا بالشوك الذي تكسر رءوسه، بشوكة
__________
1 ابن الأثير، الكامل "1/ 283 وما بعدها".(10/109)
العدو، إلا أنه عدو لا يخشى جانبه؛ لأنه غير متحد ولا متفق، وقد استمدت القبائل هذه الرموز من محيطها الذي عاشت فيه، فاتخذتها أدوات للتحذير والإنذار.
ويستعين القادة بأدلاء ليقدموا لهم المعلومات عن الطرق الموصلة إلى المواضع التي يريدون مقاتلة أصحابها بها، أو للسير في مقدمة قافلة الجيش للوصول إلى المكان المطلوب. وللدليل أهمية كبيرة في القتال ولذلك استعان بهم المحاربون. ويقال للدليل: "دلل" في العربية الجنوبية، والأغلب أنهم كانوا ينطقونها على نحو ما ننطقها بها في عربيتنا. وأما الجمع فـ"دلول", أي: أدلاء1.
وكان لا بد لكل قائد من الاستعانة بدليل إذا ما أراد التفويز، فقد يهلك الجيش من العطش والجوع ويخطئ هدفه أو يصير فريسة في مخالب من يقصده، إن لم يستعن بدليل خرّيت مجرب، له علم بالبادية علمه ببيته. وكان للقبائل أدلاء عركوا المفاوز وخبروها وعرفوا معالمها ومواضع الماء فيها، وكان لهؤلاء فضل على قبائلهم، لا يقل عن فضل الفرسان عليها؛ لأنهم من أسباب النصر. ولما كتب "أبو بكر" إلى "خالد بن الوليد" يأمره بالمسير إلى بلاد الشأم، دلّ على "رافع بن عميرة الطائي" وكان دليلًا خرّيتًا، وبفضل علمه بالطريق وبنصحه القيم لخالد في كيفية عبور المفازة، وصل الجيش سالمًا إلى بلاد الشأم2.
وقد فعل الجاهليون ما تفعله القوى المتحاربة في كل وقت من اللجوء إلى التأثير في خصومهم باستخدام "الحرب النفسية". أي: التأثير في نفوس الخصوم حتى يشعر أنه دون خصمه، كأن يتظاهر بأن عدده أقوى وأكثر عددًا من عدد خصمه، بتوسيع رقعة معسكره, وإيقاد النيران الكثيرة وإحداث أصوات مرتفعة، تشعر المتلصص للأخبار أن الجيش جرار، وأن عدده كبير. وبذلك يخافه خصمه وترتعب نفسه. ولما نزل المسلمون "حمراء الأسد"، "كانوا يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه، فكبتَ الله تعالى عدوهم"3.
ويعمد الجيش أو القسم منه إلى التستر والتخفي لمباغتة العدو ومفاجأته، كأن
__________
1 Jamme 575, Mahram, P.430
2 الدينوري، عيون الأخبار "1/ 142"، "التفويز".
3 نهاية الأرب "17/ 127"، "ذكر حمراء الأسد".(10/110)
يختفي في موضع حصين لا يرى على طرف أو طرفي وادٍ أو ممر جبل، فإذا مرَّ الجيش من ذلك الوادي انقض المختفون عليه ويعبر عن المخبأ بـ"مغون" في السبئية1.
ويقال للعين الذي يذهب يربأ أهله "الربيئة" و"الطليعة". وهو الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم العدو، وذكر علماء اللغة أن الربيئة لا تكون إلا على مربأ من الأرض، أي: على جبل أو شرف ينظر منه2.
ويبذل القائد كل ذكائه وفنه في خداع خصمه في الحرب، للتغلب به عليه.
وفي الحديث: "الحرب خدعة"3. وذلك بأن يتظاهر القائد بعمل شيء، بينما هو ينوي شيئًا آخر. وقد كان الجاهليون يتفننون في خداع أعدائهم للتغلب عليهم. كما كانوا يستشيرون الناس في إدارة الحرب، يستشيرون الشجعان المتمرسون بالحرب، كما كانوا يستشيرون من عرف بالجبن، ثم يخلصون بين الرأيين. وذلك لما للرأيين من أهمية في إدارة الحرب4.
ولقريش عادات في الحرب. فلها "القُبّة"، وكانت تضربها، وتجمع إليها ما يجهزون به الجيش. ولها "الأعنة"، ويكون صاحبها على خيل قريش في الحرب. ولها "السفارة" وذلك أنهم كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوا سفيرًا عنهم ليتفاوض5. وكان "خالد بن الوليد" متولي "القبة" و"الأعنة" و"السفارة" عند ظهور الإسلام. وكان لها ما يسمى بـ"حلوان النفر"، فإن العرب لم تكن تملك عليها في الجاهلية أحدًا. فإن كانت حرب، أقرعوا بين أهل الرياسة، فمن خرجت عليه القرعة، أحضروه صغيرًا كان أو كبيرًا. فلما كان يوم الفجار، أقرعوا بين بني هاشم، فخرج سهم العباس، وهو صغير، فأجلسوه على المجن6.
ويتصايح المحاربون بشعاراتهم، إذ كان لكل قبيلة شعار ينادون به، ويحافظون
__________
1 Jamme 577, Mahram, P.440.
2 اللسان "1/ 82"، تاج العروس "1/ 236 وما بعدها"، "طبعة الكويت".
3 العقد الفريد "1/ 122"، صحيح مسلم "5/ 143"، "باب جواز الخداع في الحرب".
4 العقد الفريد "1/ 95".
5 العقد الفريد "3/ 314".
6 العقد الفريد "3/ 315".(10/111)
عليه. فإذا وقعت حرب، أو حدث غزو، نادوا بذلك الشعار لإيقاظ الهمم، وإذكاء النيران في القلوب. وقد كان شعار "بني عامر" في الحرب شعارًا واحدًا، هو "يا جعد الوبر"1. ويعدّ هز الراية إشارة للهجوم2. فيهجم المحاربون، ويقع الاشتباك.
وأكثر ما يغزو العرب عند الصباح، ويسمون يوم الغارة يوم الصباح. وسبب ذلك أن الناس يكونون مستغرقين في هذا الوقت في نوم لذيذ، لذلك تكون الغارة فيه مفاجأة مفزعة لهم. والعرب تقول إذا نذرت بغارة من الخيل تفجؤ صباحًا: يا صباحاه! ينذرون الحي أجمع بالنداء العالي. ويقولون: صبحتهم الخيل: بمعنى جاءتهم صبحًا. وفتى الصباح، أي: فتى الغارة، تعبيرًا عن شجاعته وبطولته3.
ويثير سادات القبائل وقادتها في الحرب همم المحاربين بخطب حماسية يلقونها عليهم، يحرضونهم فيها على القتال وعلى التعاون فيما بينهم وعلى إطاعة أوامر قادتهم وعدم مخالفتها بتاتًا وعلى إظهار الشجاعة؛ لأنها من سجايا الرجال وعلى عدم المبالاة بالموت والصبر؛ لأن من صبر ظفر. إلى غير ذلك من خطب في الحث على الاستماتة, نجد بعضها مدونًا في كتب أهل الأخبار4.
وكانت العرب إذا تواقفت للحرب تفاخرت قبل الوقعة فترفع أيديها وتشير بها فتقول: فعل أبي كذا وكذا، وقام بأمر كذا وكذا. ويفعل الطرف الثاني مثل ذلك ويبدأ القتال5.
وتبدأ المعركة في الغالب بالمبارزة، بأن يخرج من كل جانب محارب أو أكثر, يتبخترون تباهيًا بأنفسهم، وقد يتحلقون ويتعطرون، وينشدون شعرًا يفاخرون فيه بأنفسهم وبأهليهم، وبقبائلهم وبأحسابهم وأنسابهم، وقد يسأل المبارز مبارزه فإذا وجد أنه غير كفء له انتقصه ورفض مبارزته. أما إذا وجد أنه كفؤ له، بارزه وضاربه، فيكر أحدهما على الآخر، وهكذا تستمر المعركة مبارزة بين محاربين أو أكثر، حتى تنتهي بالتحام قد يؤدي إلى هزيمة أحد الطرفين، أو لا يؤدي
__________
1 شرح ديوان لبيد "ص7".
2 العقد الفريد "1/ 114" "لجنة".
3 اللسان "2/ 7 وما بعدها".
4 الأغاني "16/ 71"، الأمالي "1/ 167"، ابن الأثير، الكامل "1/ 380".
5 اللسان "11/ 625".(10/112)
إلى أية هزيمة بالمعنى المفهوم، إنما ينسحب أحد الطرفين ويتراجع إلى مكانه فتنتهي بذلك تلك الحرب.
وإذا برز المبارز، فيعلم على رأسه في الغالب، بأن يلبس سامة خاصة أو عصابة أو يضع ريشة يتباهى بها، وقد يستعملون الخوذ، إلا أنها كانت قليلة الاستعمال لدى الأعراب، لغلاء ثمنها عندهم. وقد كان "أبو دجانة" يختال عند الحرب إذا كانت، وكان إذا أعلم رأسه بعصابة له حمراء، علم الناس أنه سيقاتل1.
ويقسم المحاربون قواتهم إلى مجنبة وقلب: مجنبة يمنى تهاجم أو تحمي الجانب الأيمن، ومجنبة يسرى تحارب وتدافع عن الجانب الأيسر من المحاربين. أما القلب، فيكون واجبه الهجوم أو الدفاع من الوسط، أي: وسط الجيش. وقد تقوم المجنبتان بالهجوم لتطويق العدو وحصره في دائرة، تضيق عليه. وفي معركة "يوم نخلة" من أيام الفجار، كان حرب بن أمية في القلب، وعبد الله بن جدعان وهشام بن المغيرة في المجنبتين2.
وتوضع أمام الجيش أو المحاربين مقدمة، تتقدم المقاتلين، يكون واجبها حماية القسم الأكبر من الجيش الذي يكون وراءها، وإرسال المعلومات عن العدو وإشغاله بالقتال إن وقع حتى يأتي المحاربون. ويقال للمقدمة: "مقدمت"، أي: "مقدمة" في السبئية3. وللذي يتولى أمرها ويقودها: "قدم"4.
ويقال لطليعة الجيش، وهي التي تتقدم الجيش، للقاء العدو وللوقوف على أمره وخبره "نذيرة الجيش"5.
ولما ندب رسول الله المسلمين لفتح مكة، قسم الجيش إلى مجنبتين، وهما: الميمنة والميسرة، والقلب بينهما. وكان ترتيب الجيش إذ ذاك على خمس فرق: المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساقة. ولهذا كان يسمى خميسًا. وجعل رسول
__________
1 الأغاني "14/ 16".
2 الأغاني "19/ 74 ومابعدها"، قال عمرو بن كلثوم:
وكنا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرون بنو أبينا
المعلقة
3 Jamme 576, 665, Mahram, P.440.
4 Jamme 681, 816, Mahram, P.447.
5 اللسان "5/ 201".(10/113)
الله على "الحسر"، وهم الذين لا دروع عليهم "أبا عبيدة". ويقال لهم: "البياذقة"، وهم الرجالة، واللفظة فارسية معربة، سمّوا بذلك لخفة حركتهم وأنهم ليس معهم ما يثقلهم. وقد كانت اللفظة معروفة في أيام الرسول. وهم رجالة لا دروع عليهم، أي: حسرًا1.
وقد استخدمت هذه التعبئة الخماسية في اللقاءات الكبيرة، أي: في الاشتباكات الضخمة, التي يمكن أن نسميها "حروبًا"، أما في الغارات وفي الغزو فكانوا يتبعون طريقة المباغتة والهجوم من كل جانب يمكن الهجوم منه.
ويقال للقطعة من الجيش تمرّ قدّام الجيش الكبير "منسرت" "منسرة" في السبئية، ويراد بها "المنسر" في عربيتنا، ورد في النص Jamme 631 "ومنسرت خمسن"، أي: "ومنسرة الجيش"، أو "ومنسر الجيش" بتعبير أفصح2.
ويذكر علماء اللغة أن "الكردوس" القطعة من الخيل العظيمة. والكراديس الفرق منها3. فالكردوس إذن حسب هذا التعريف القطعة من القوات الراكبة المحاربة.
وقد كان النظام العشري في تنظيم الجيش، هو النظام المتبع في الأرضين التابعة للإمبراطورية اليونانية وفي الأرضين المتأثرة بثقافتها، فلا يستبعد أن يكون تأليف الجيش في اليمن في أيام احتلال الحبش لها على هذا الأساس أيضًا. وأصغر وحدة عسكرية وفق هذا التقسيم، هي الوحدة المكونة من خمسة جنود، تليها وحدة مؤلفة من عشرة ثم من مضاعفات العشرة. ويحكم كل وحدة ضابط يدير شئونها ويقوم بتدريبها وبالإشراف على سيرها وإدارتها في أثناء السلم وفي أثناء القتال.
وقد يكون القتال صفوفًا، بأن يتقدم المحاربون فيحاربون صفًّا صفًّا، وذلك إذا كان المحاربون كثيرين. وإلى هذا النظام أشير في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} . وقد اتبع علي بن أبي طالب هذه الطريقة في يوم صِفّين. وأشار إليها في خطبته في أصحابه
__________
1 صحيح مسلم "5/ 170 وما بعدها"، "باب فتح مكة"، تاج العروس "6/ 284" "الباذق".
2 Jamme 631, Mahram, P.132
3 اللسان "6/ 195"، الروض الأنف "1/ 69".(10/114)
يعلمهم كيفية القتال1.
أما في حروب القبائل وغزو بعضها بعضًا، فتكون المباغتة هي الأساس في الحرب، وتقوم على مهاجمة العدو بغتة ومفاجأة وهو في عقر داره أو في الموضع المتجمع فيه. وتتوقف المباغتة على حساب القائد وعلى حنكته في تقديره موقف عدوه. ويكون للماء الفضل الأكبر في النصر وكسب الحرب. لما له من شأن خاص في البوادي. لذلك كان يحسب له سادات القبائل الذين يقودون قبائلهم في القتال والغزو حسابًا كبيرًا، فيحملون معهم مقادير كبيرة منه تكفيهم المدة التي يقدرونها للقتال، أو يحاولون استباق عدوهم إلى مواضع الماء للسيطرة عليها، فإذا جاء العدو حرم الماء واضطر إلى استهلاك ما يحمله منه. وقد يؤدي نفاده إلى هزيمته وفراره. ويقال للمباغتة ولأخذ العدو بصورة مفاجئة: "بحض" في لغة المسند2.
ويعبر عن الحملة، أي: عن الجماعة من الجيش تزحف على عدو بـ"برث" في المسند3.
وقد عرف قادة الجيوش أهمية طبيعة الأرض في كسب النصر وفي الدفاع.
لذلك كانوا إذا تحاربوا تسابقوا إلى مواضع الماء لتكون في مؤخرتهم حتى يستقوا منها ويمنعوا العدو من الشرب منها، كما كانوا يضعون الشمس عند ظهورهم حتى لا تؤثر على أعينهم، ويرتقون المرتفعات حتى يصعب على العدو الارتقاء إليهم بفعل الحجارة أو النبال التي ترمى عليه. فلما كان يوم شعب جبلة صعدت بنو عامر إلى الشعب، ووضعت نساءها وما معها من الإبل والمؤن عليه. وكانت قد أعطشت إبلها وعقلتها، وصارت هي دونه. فلما وقع القتال واشتد عمدت بنو عامر إلى الحيلة وإلى تنفيذ خطة كانت قد وضعتها فأخذت تتراجع وتزحف نحو أعلى الشعب، وصار العدو يتعقبها حتى بلغوا وسط الجبل. فقال الأحوص قائد بني عامر: حلوا عقل الإبل ثم احدروها، واتبعوا آثارها، وليتبع كل رجل منكم بعيره حجرين أو ثلاثة ففعلوا، ثم صاحوا بها فلم يفجأ الناس إلا الإبل تريد الماء والرعي, وجعلوا يرمونهم بالحجارة والنبل وأقبلت الإبل تحطم كل
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 61".
2 South Arabian Inscriptions, P , 428
3 South Arabian Inscriptions, P , 430(10/115)
شيء مرت به. فانحط العدو منهزمًا، فلما بلغ السهل لم يكن لأحد منه همة إلا أن يذهب على وجهه، فجعلت بنو عامر تقتلهم وتصرعهم بالسيف فانهزم عدوهم شر هزيمة1.
ولتقوية معنويات المحاربين في أوقات العسر والخطر، ولبعث الحمية في نفوسهم يقيد الرؤساء أنفسهم بقيود، مجتمعين أو فرادى، ثم يعلنون أنهم لا يبرحون مكانهم هذا حتى يهلكوا أو يربحوا2. وقد كان العجم، يضعون السلاسل في أرجل المحاربين لمنعهم من الفرار، ولإجبارهم على الاستماتة في القتال.
وقد كان كثير من المحاربين يأخذون زوجاتهم وذراريهم معهم في المعارك، ينقلونهم معهم وكأنهم ذاهبون إلى سفر أو رحيل إلى بلاد جديدة. وحكمتهم من ذلك أن الرجل منهم إذا رأى خلفه أهله وماله، قاتل عنهم3. ولعلهم كانوا يستعينون بهم في جمع الغنائم والأسلاب وحراسة ما يقع في يد المحارب من أسرى.
وكانوا يضعون أُسَرَهم وإبلهم ومؤنهم وظعائنهم في مؤخرة الجيش، وذلك حتى تكون في مأمن من العدو بعيدة عنه، وتكون بذلك مدعاة للنصر4.
وقد استعانوا بالنساء في حروبهم، وأوكلوا إليهن أعمال الإسعاف وضرب العدو ومقاتلته في أوقات الشدّة. فلما قاتلت "بكر بن وائل" "بني تغلب"، قال "الحارث بن عباد" للحارث بن همام بن مرة، وكان على "بكر بن وائل": "إن القوم مستقلون قومك، وذلك زادهم جراءة عليكم فقاتلهم بالنساء! قال له الحارث بن همام: وكيف قتال النساء؟ قال: قلد كل امرأة إداوة من ماء وأعطها هراوة واجعل جمعهن من ورائكم فإن ذلكم يزيدكم اجتهادًا وعلموا بعلامات يعرفنها، فإذا مرت امرأة على صريع منكم عرفته بعلامته فسقته من الماء ونعشته وإذا مرّت على رجل من غيركم ضربته بالهراوة فقتلته وأتت عليه فأطاعوه. وحلقت بنو بكر يومئذ رءوسها استبسالًا للموت وجعلوا ذلك علامة بينهم وبين نسائهم، واقتتل الفرسان قتالًا شديدًا، وانهزمت بنو تغلب ولحقت بالظعن بقية
__________
1 الأغاني "10/ 37".
2 الأغاني "19/ 78 وما بعدها".
3 العقد الفريد "1/ 157".
4 مقدمة ابن خلدون "ص271 وما بعدها".(10/116)
يومها وليلتها واتبعهم سرعان بكر بن وائل1.
وقد أشركوا أصنامهم معهم في الحروب، أشركوها معهم لتمنّ عليهم بالنصر والتأييد. وقد سقطت أصنام القبائل العربية أسيرة بأيدي الآشورين، وكانوا قد حملوها معهم للتبرك بها ولاكتساب النصر، فأسرها الآشوريون. واضطر الأعراب على مراجعتهم لإعادتها إليهم. وفي يوم "الزورين"، وهو لبكر على تميم، أخذت تميم بعيرين مجللين، فعقلوهما، وقالوا: هذان زورانا، أي: إلهانا لن نفر حتى يفرا، وهزمت تميم ذلك اليوم، وأخذ البكران، فنحر أحدهما وترك الآخر يضرب في شولهم2. وذكر أن "الزور" كل ما يعبد من دون الله، كالزون. والزون الصنم3.
والفرسان هم آلة الحرب الحاسمة للحروب، وعليهم يقع معظم ثقل المعارك. وقد كانت معظم معارك الجاهلية معارك فرسان، يكون المحاربون الآخرون فيها وكأنهم متفرجون، يساهمون في المعركة بأصوات التشجيع والحث على الاستماتة في القتال. وقد يدخل القائد نفسه المعركة ليقاتل خصمه. وللفارس بالطبع منزلة كبيرة في نفوس قومه؛ لأنه هو المدافع والمهاجم والآخذ بالثأر.
وقد حفظت كتب الأخبار أسماء جماعة من فرسان الجاهلية وشجعانها ممن كان لهم شأن يذكر في الشجاعة في تلك الأيام، من هؤلاء: ربيعة بن مكدّم من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، وكان كما يقول أهل الأخبار: يعقر على قبره في الجاهلية, ولم يعقر على قبر أحد غيره4. فعلوا ذلك تكريمًا لشأنه وتعظيمًا له. وقد ذكر قبره وعقر الناس عليه في شعر بعض الشعراء5.
ومن بقية فرسان العرب في الجاهلية: عنترة الفوارس، وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وزيد الخيل، وبسطام بن قيس، وأحيمر السعدي، وعامر بن الطفيل، وعمرو بن عبد ود، وعمرو
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 148".
2 تاج العروس "3/ 245"، "زاد"، "بكرين مجللين".
3 المصدر نفسه، "9/ 229"، "زون".
4 العقد الفريد "1/ 136".
5 المصدر نفسه، بلوغ الأرب "2/ 125".(10/117)
ابن معديكرب1، وبسطام بن مسعود الشيباني سيد شيبان، قتله عاصم بن خليفة الضبي يوم الشقيقة2.
ويقال للفارس، أي: لراكب الفرس: "فرس" في العربية الجنوبية، ولمّا كانت الكتابة العربية الجنوبية لا تشكل الحروف ولا تضبط كيفية النطق بها، لذلك فمن الجائز أن العرب الجنوبيين كانوا ينطقون بها على نحو ما تنطق بها في عربيتنا, أي: "فارس". وأما الجمع في تلك اللهجة، فهو "افرس" "أفرس"، أي: "فرسان"3.
وقد كانت لسرعة الفرسان أهمية كبيرة في نتائج القتال. إذ كانوا ينقضون على المحاربين المشاة وعلى المدن أو القبائل انقضاض الصواعق، ويربكوا الخصم فيمهدوا بذلك لمشاتهم من التغلب على العدو. ويظهر من الكتابات التي يعود عهدها إلى ما قبل الميلاد أن عدد الفرسان في الجيوش العربية الجنوبية المحاربة لم يكن كبيرًا، وأن أكبر عدد منها لم يتجاوز عن بضع مئات. وسبب ذلك على ما يظهر قلة وجود الخيل إذ ذاك. ولا يستبعد أن يكون استيراد الخيل إلى هناك من عهد غير بعيد بعدًا كبيرًا عن الميلاد.
أما الذين يقاتلون وهم على ظهور حيوانات أخرى، كالجمل وهو في الغالب، فيقال لهم: "ركبم" "ركب"، أي: "راكب"4. وقد عرف العرب بقتالهم وهم على ظهور الجمال، وفي الكتابات الآشورية وكتابات المسند صور عرب وهم يحاربون من على ظهور جِمالهم، وذلك لقلة وجود الخيل عندهم في ذلك الوقت.
وللجاهليين آراء في كيفية الاستفادة من الخيل في القتال، فكان خالد بن الوليد لا يقاتل إلا على أُنثى؛ لأنها أقل صهيلًا من الفحل، وكانوا يستحبون إناث الخيل في الغارات وفي "البيات" أي: الإغارة على العدو ليلًا, ولما خفي من أمور الحرب. وكانوا يستحبون فحول الخيل في الصفوف والحصون والسير والعسكر ولما ظهر من أمور الحرب، وكانوا يستحبون خصيان الخيل في الكمين والطلائع؛
__________
1 العقد الفريد "1/ 137".
2 البيان "1/ 21" "لجنة".
3 "وافرسهمو" الفقرة "15" من النص:
Jamme 576, Mamb 212, Mahram, P.67, 446, Jamme 577, 584, 635, 644
4 Jamme 560, 576, 644, 649, 665, Mahram, P.448(10/118)
لأنها أصبر وأبقى في الجهد1.
ويعبر عن الجرح بـ"زسخنت" "زخنة"، وبـ"زسخن" عن فعل يجرح، وذلك في العربية الجنوبية2.
__________
1 نهاية الأرب "9/ 365 وما بعدها".
2 Jamme 649, 687, Mahram, P.435(10/119)
التحصينات:
وتدافع بعض المستوطنات، مثل: قرى الريف والمدن، عن نفسها بإنشاء تحصينات تقيها من هجمات عدوّ ما. وتشمل هذه التحصينات حفر خندق، وإقامة أسوار، وإنشاء أبراج وحصون وآطام وأمثال ذلك. وقد كانت مدينة الطائف ذات سور حصين، تغلق أبوابه آناء الليل وأيام الخطر، وقد تحصنت به ثقيف يوم حاصرهم الرسول. وقد عثر على آثار أسوار في خرائب مدن اليمن، تدل على أن تلك المدن كانت مسورة محصنة، وقد عثر على آثار قلاع وحصون وأبراج في تلك الأسوار على مسافات وأبعاد معينة تشير إلى أنها كانت لتحصين السور وللدفاع عنه ولضرب الأعداء عند محاولتهم الدنو منه.
وتعرف أبراج السور المقامة لحمايته ولتقويته ولضرب العدو منه بـ"فنوت" في العربيات الجنوبية، ويطلق العبرانيون هذه اللفظة على مثل هذا البرج أيضًا1.
ويقال للحصن والبرج: "مكدل" "مجدل" في العبرانية2. وبهذا المعنى ترد اللفظة في عربيتنا كذلك. وقد ذكر علماء اللغة أن الاجتدال: البنيان، وجاء في عشر للأعشى:
في مجدل سد بنيانه ... يزل عنه ظفر الطائر3
وتستعين القرى بالمجادل في الدفاع عن نفسها. وتكوّن أبراج مراقبة أيضًا، يراقب منها العدو، وتكون مواضع دفاع لأهل القرى، أو العاشر، حيث لا أسوار
__________
1 Smith, Dictionary Of The Bible. I, P.334, 615
2 Ency. Bibli., I, P.834, Hastings, I, P.358
3 في الصحاح "شيد"، اللسان "11/ 105" "صادر"، "حصون المدينة"، الطبري "2/ 573".(10/119)
تحمي ولا خنادق تعيق العدو من التقدم1.
ويعبر عن تحصين المواضع وتقويتها لتتمكن من الدفاع عن نفسها بلفظة "تمنع" في السبئية، أي: إكساب الموضع مناعة2.
ولم يكن في وسع الحكومات أو الإمارات والمشيخات تحصين كل المستوطنات والقرى لما يتطلب ذلك من جهد ومال. ولقلة عدد سكان هذه الأماكن قلة تجعل من الصعب عليهم أن يقوموا وحدهم بإنشاء حصون, وإقامة تحصينات وبناء أسوار وحفر خنادق. ولذلك احتمى سكان أمثال هذه المستوطنات بحصون الإقطاعيين الذين أقاموها لحماية ممتلكاتهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم، وبوسائل دفاع أخرى لا تكلفهم كثيرًا لضمان سلامتهم وسلامة أموالهم ومقتنياتهم في السلم والحرب.
أما المستوطنات الكبيرة، من درجة مدينة، فإنها تحاط في الغالب بأسوار لها أبواب تغلق في الليل، فلا يسمح بالدخول أو الخروج منها، ويحافظ عليها، ولا سيما في أثناء الخطر، حرّاس يسهرون عليها لمنع أي عدو طامع في المدينة من الوصول إليها. ويقال لهذه المدن "هكر" "هجر" في العربيات الجنوبية. فحيث ترد لفظة "هكر" في المسند فإنما تعني مدينة ذات أحياء وسكان كثيرين، ولها أسوار في الغالب تحميها من هجمات الأعداء.
وتعبر العبرانية عن المدينة المحصنة المحاطة بسور، بلفظة "عر"، وذلك لتمييزها عن المدن المحصنة بحصون، والتي يقال لها: "عر مبصر" Ir Mibsar، وعن القرية التي يقال لها: "حصر" "حصور" و"قره" "قريت"، وتكون غير مسورة3. أما "العر" في العربية الجنوبية فبمعنى "حصن"، وموضع محصن. وتطلق اللفظة على المواضع المحصنة بعر، أي: حصن، أي: في معنى قريب من المعنى الوارد في العبرانية4. وتذكر كتب اللغة أن العرار: القتال، وأن العرة الشدة في الحرب5. فللفظة صلة بالقتال إذن. ويوجد موضع يقع في
__________
1 Smith, Dictionary. I, P.615
2 Jamme 643, Mahram, P.450
3 Roland De Vaux, Ancient Israel, London, 1961, P.229, Smith, Dictionary, I, 333.
4 South Arabian Inscription, P.445
5 اللسان "4/ 556"، "صادر".(10/120)
ملتقى طرق يقع في "وادي مسيلة" يسمى "حصن العرّ بُني على مرتفع صخري بارز كان حصنًا مهمًّا لحماية الأرضين المحيطة به, ولحماية القوافل التي تمر بهذا الوادي المهم1. ولا تزال بقايا هذا الحصن باقية، وقد أقيمت جدره من حجارة صلدة نضدت بعضها فوق بعض تنضيدًا جيدًا، وقد صقلت الأحجار صقلًا يدل على مهارة, وقد تألف الحصن من غرف كثيرة، ويبلغ طوله "90" مترًا, وبه آثار معبد، وآبار لاستخراج الماء منها للشرب وللاستعمال2.
ويعبر عن المانع الذي يحول بين العدو وبين الدنو من المكان الذي يريده بـ"حيل" في العبرانية3. أي: "الحائل" ويراد به الخندق4. وقد ورد في كتب اللغة أن "الحيل" الماء المستنقع في بطن وادٍ5. و"الحائل" هو المانع، أي: الحاجز الذي يحجز أهل الموضع الذي تحصن الناس به عن عدوهم، وهو سور أو خندق أو أي شيء آخر يتخذ للدفاع عن النفس.
ومن بين الحوائل والموانع التي استعملها الجاهليون لصد العدو من الزحف على بلادهم أو التسلل إلى أرضهم سد الممرات الجبلية والأودية ومفارق الطرق المهمة؛ ببناء جدر وأسوار لتحول بين المرور والتسلل إلا بأمر وتخويل، ويكون المرور عندئذ من الأبواب المخصصة للعبور فقط. ومن أمثلة ذلك سد "أُبنة" "لبنة" الذي أقيم في وادي "أبنة" ليسد الطريق على القادمين أو الذاهبين من "شبوة" إلى ميناء "قنا" "قنى" "قانة" Cane المهم6. وقد بُني عند مضيق يبلغ عرضه "180"مترًا، أما ارتفاعه فجعل حوالي خمسة أمتار، فأما ثخنه فحوالي المترين. وقد بُني بحجارة مصقولة صقلًا جيدًا, ورصفت رصفًا حسنًا وربط بينها ملاط قوي شد الأحجار شدًّا. وقد جعل له باب عرضه خمسة أمتار يمكن غلقها بإحكام، ولزيادة مقاومتها توضع صفوف من الأحجار الثقيلة خلفها أيام الخطر، فتسد بها وتكون وكأنها قد سدت بجدار قوي سميك. وهناك آثار جدر أخرى
__________
1 Grohmann, S. 154.
2 V. Wissmann, Hadramout, P.152, Grohmann, S. 154
3 Ency, Bibli, I.P.615
4 Smith, Dictionary, I. P.615
5 اللسان "11/ 196".
6 "على ساحل بحر الهند مما يلي بلاد العرب قرب ميفع"، تاج العروس "10/ 305" "قنى".(10/121)
أقيمت لغايات مماثلة تقع في "وادي العروس" "وادي عروس" وفي "عنصاص" ويرجع تأريخها إلى حوالي القرن الثالث قبل الميلاد1.
وتختلف الأسوار من حيث المتانة والتحصينات والمواد التي تبنى بها باختلاف قدرة المدن المالية، فبعضها ذات أسوار ثخينة متينة، لها تحصينات قوية، يحتمي بها المدافعون لمقاومة المهاجمين، ولرميهم بمعدات المقاومة، لها مزاغل وفتحات ينظر منها المدافعون إلى أعدائهم، فإذا اقتربوا من السور، رموهم بالسهام وبالحجارة وبالمواد المشتعلة، وسكبوا عليهم الماء الحار أو الزيت المغلي إذا أرادوا إحداث ثغرة فيه أو قلع الأبواب وكسرها.
وعند أبواب المدن أو أبواب المعابد أو المباني العامة أو الشعاب، تكون رحاب، يتخذها سكان المدن مواضع يبيعون فيها ويشترون وأماكن للتجمع. وتعرف الواحدة بـ"رحبة" وتسمى "رحبوت" و"رحب" في العبرانية2. وفيها تعقد الاجتماعات العامة، ويتجمع الناس لسماع الأخبار، وفيها تنفذ الأحكام العامة، مثل: تنفيذ أحكام الإعدام والإعلان بالمجرمين. وتكون مرابد تنعقد فيها الأسواق أيام الأسبوع. أو في أيام خاصة منه، أو في السنة.
وأبواب المدة المسورة، هي المنافذ الوحيدة التي يدخل منها الناس ويخرجون.
وتختلف في السعة، فلبعضها أبواب واسعة في كلٍ منها مصراعان، ولبعضها مصراع واحد. وتكون ثخينة متينة. وقد تُقوى بكسوتها بطبقة من حديد أو من معدن آخر، ليكون في إمكانها مقاومة المهاجمين، فلا تتحطم وتنهار بسرعة، ولا تأكلها النار. وتغلق بمغاليق متينة. تُقوى بحجارة وبأخشاب متينة عند حدوث خطر ما. وأما المجازات التي تلي الأبواب وتؤدي إلى الرحاب، فهي مختلفة الأشكال، ويحتمي بها المدافعون أيام الخطر، لسدها، ولشد أزر الأبواب على الوقوف صامدة أمام المهاجمين. وقد يواجه الباب، جدار متين، يجل المجاز على هيئة غرفة، يخرج الناس ويدخلون في ركن من أركانها يربط بين المجاز والرحبة المؤدية إلى الشعاب. وذلك ليكون من العسير على المهاجمين الولوج في المدينة عند تمكنهم من تحطيم الأبواب، وقد يُقوى الباب ببرج يُبنى فوقه، يكمن فيه المقاومون، لرمي العدو ولإلحاق الأذى به إذا ما حاول مهاجمة الباب.
__________
1 Grohmann, S. 155
2 Smith, Ency. Bibli., I, P.335(10/122)
وتسدّ منافذ شعاب المدن بأبواب كذلك، لتقي من في الشعاب من أخطار الأشرار والمعتدين. وتغلق هذه الأبواب في الليالي. وقد تحاط الشعاب بسور يمنع الناس من الدخول إلى الشعب إلا من الباب المؤدي إليه. وفي المدن الملكية، تحاط قصور الملوك ومخازنهم ومداخرهم بأسوار قوية تحميهم من المعتدين. وقد تُبنى قلاع في مواضع مرتفعة من المدن، أو على تلال صناعية ليقاوم منها الناس عند انهيار المقاومة الخارجية، فتكون بذلك آخر وسائل المقاومة قبل الاستسلام.
أما القرى، فيدافع عنها بحصون وآطام وبمجادل وذلك لفقر أهلها وعدم تمكنهم من إقامة سور قوي يحمي القرية. وقد كان يهود الحجاز الساكنون في شمال المدينة، قد حصنوا قراهم بآطام يلجئون إليها ويحتمون بها أيام الخطر. وقد عرفت هذه الحصون عندهم بـ"آطام" وواحدها "أطم". وأما القرية، فهي "قرية" في العبرانية، وتسمى بـ"قريتا Keritha في لغة بني إرم1.
ويقال للحصن "الأجم" والجمع "آجام"، وقد ورد ذكر الأجم في شعر لامرئ القيس.
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ... ولا أجمًا إلا مشيدًا بجندل2
ويقال للحصن: "الأطم" كذلك، والجمع آطام. ولا تزال آثار آطام جاهلية باقية في الحجاز وفي نجد وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب وفي "وادي الحفر" بنجد، ويعرف بـ"حضر بني حسين"، آثار قصور وآطام جاهلية وآبار كثيرة3.
وذكر بعض علماء اللغة أن الآطام: القصور والحصون، وخصصها بعض آخر بالدور المسطحة السقوف. وقد اشتهر "الأبلق"، وهو حصن "السموأل بن عادياء" في التأريخ، وهو في تيماء. وورد اسمه في شعر للأعشى مدح به السموأل4. وكانت الأوس والخزرج تتمنع بالآطام، وتحارب عليها، وقد أرخت بحرب وقعت فيما بينهم بها، فقالوا: "عام الآطام"، وقد أخربت في أيام
__________
1 Smith Dictionary, I, P.333, Ency. Bibli., I, P.833
2 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص58".
3 صحيح الأخبار "1/ 132".
4 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص186".(10/123)
عثمان1. ويقال للأطم: الأجم أيضًا2.
فكانت الآطام هي وسائل الدفاع عند أهل يثرب، إذ لم يكن حولها سور يحميها من غزو الأعداء. فكانوا إذا حوصروا أو وقع غزو عليهم، لجئوا إلى آطامهم يتحصنون بها ويقذفون من أعاليها بما عندهم من وسائل دفاع لمنع العدو من الدنو منهم ولإلحاق الأذى به. وهي جملة آطام تملكها البيوتات العريقة وسادات الشعاب المكونة ليثرب والقائمة على أساس التقسيم العشائري3.
والآطام بيوت السادات ورؤساء القوم، يلجأ إليها الناس للدفاع عن أنفسهم وعنها وقت الخطر. ويظهر من شعر أوس بن مغراء السعدي:
بَثَّ الجنود لهم في الأرض يقتلهم ... ما بين بصرى إلى آطام نجران4
أي: نجران كانت ذات آطام كذلك.
وذكر أن باليمن حصن يعرف بأطم الأضبط، وهو الأضبط بن قريع بن عوف بن سعد بن زيد مناة. كان أغار على أهل صنعاء وبنى بها أطمًا. ونسبوا له شعرًا، من هذا الشعر الذي يحمل طابع العصبية القبلية، والحقد على اليمن.
يذكر فيه أنه شفى نفسه من "ذوي يمن"، بالطعن في اللبات والضرب، وأباح بلدتهم، وأقام حولًا كاملًا يسبي، وبنى أطمًا في بلادهم ليثبت تغلبه عليهم، وليكون أمارة على قهره لهم5.
وقد اشتهر أطم "الضاحي" بالمدينة. وهو أطم بناه "أحيحة بن الجلاح" من سادات يثرب بـ"العصبة" في أرضه التي يقال لها: "القنانة"6.
وكان دفاع أهل الحيرة عن مدينتهم وفق هذه الخطة أيضًا. فقد كانت المدينة "قصورًا" كل قصر لعائلة كبيرة، هو مسكن لها، وهو مخزن ومستودع
__________
1 التنبيه والإشراف "176".
2 الطبري "2/ 568".
3 الطبري "2/ 575"، تاج العروس "8/ 187"، "أطم".
4 اللسان "12/ 19"، "أطم".
5 اللسان "12/ 19"، "أطيم"، وفي الشعر ضعف وتكلف، وهو من الموضوعات. وضعه المتعصبون على اليمن. وفي أغلب هذا النوع من الشعر، ضعف وتكلف وطابع الصنعة ظاهر عليه.
6 تاج العروس "10/ 217"، "ضحى".(10/124)
وحصن تتحصن به عند وقوع خطر على المدينة. وبه مواضع في أعلى القصر لرمي الأعداء، ويلجأ أتباع أصحاب القصور إلى هذه القصور أيضًا للمساهمة في الدفاع عنها وفي حماية أنفسهم من الأذى. ولما حاصرالمسلمون الحيرة. كان حصارهم لها هو حصار قصورها، فكانوا يحاربون القصورحتى غلب المسلمون أهلها فاستسلمت عندئذ لهم.
ولحماية السور ولمنع العدو من الوصول إليه والدنو منه، يحفر خندق حوله، ليمنع الغزاة والمحاربين من الوصول إليه. يحفرعميقًا وعريضًا جهد الإمكان، فعلى عرضه ومقاومته تتوقف مقاومته للعدو. ولما حاصر المشركون المدينة، أمر الرسول بحفر خندق حولها، ليمنع المشركين من الوصول إليها. وقد ذكر أن سلمان الفارسي، هو الذي أشار على الرسول بحفر الخندق، بعد أن تباحث مع أصحابه في الوسائل التي يجب اتخاذها لحماية المدينة، وزعم أهل الأخبار أن أهل الحجاز لم يكن لهم علم بالخنادق، وأن المسلمين كانوا في قلق شديد وخوف من تغلب قريش عليهم، فذكر سلمان لهم طريقة أهل بلاده في الدفاع عن مدنهم، فأخذوا برأيه. فلما رأت قريش الخندق، عجزت عن اقتحامه، ونجت يثرب منهم به. وزعموا أيضًا أن لفظة الخندق، وهو لفظة معربة من الفارسية، وإذا أخذنا برأي هؤلاء أصحاب الأخبار، وجب اعتبار تأريخ دخولها إلى العربية منذ هذا الحادث إذن. ويطلق العبرانيون لفظة "حيل"، أي: حائل على الخندق1.
وأنا أشك كثيرًا في موضوع جهل أهل مكة والمدينة بأمور الخنادق، وفي قصة أن "سلمان الفارسي" كان أول من علم المسلمين حفرالخنادق؛ وذلك لأن أهل اليمن كانوا قد أحاطوا مدنهم بالخنادق لتعوق المهاجمين عن بلوغ الأسوار، كما أن أهل فلسطين كانوا يحيطون مدنهم بالخنادق أيضًا، وقد كان لأهل الحجاز اتصال وعلاقات بالمكانين وبالعراق أيضًا، وقد زاروا مدنًا أحيطت بالخنادق، فلا يعقل أن يكونوا على غفلة من أمرها، والظاهر أن الرسول كان قد جمع أصحابه حين داهمه المشركون ليستشيرهم بصورة عاجلة في كيفية الدفاع عن "يثرب" بعد أن هددها الكفار، فبيّن كل صحابي رأيه، وكان من رأي "سلمان"
__________
1 Smith, Dictionary, I , P.6.15(10/125)
حفر خندق ليحول بينهم وبين دخول المدينة، فأخذ الرسول برأيه، وحفر الخندق، وبه سميت المعركة "معركة الخندق". فصوّر "سلمان الفارسي"، وكأنه أول من علم أهل الحجاز حفر الخنادق.
ويظن أن لفظة "خبزت" التي ترد في النصوص المعينية وغيرها إنما تعني "خنادق" ومنخفضات صنعت لحماية الأسوار والمتاريس والقلاع حتى تمنع العدو والمهاجمين من الدنوّ منها1.
وتؤدي لفظة "صحفت" معنى خندق أيضًا2. وربما تؤدي معنى حاجز مائي يملأ بالماء حتى يمنع المهاجمين من الدنو إلى الموضع المحصن.
وقد كان الأغنياء وأهل القرى والمدن يستخدمون رقيقهم في الدفاع عنهم.
وقد كان أهل مكة مثلًا قد جعلوا من أحابيشهم قوة عسكرية تحارب معهم وتقاتل عنهم بأسلحتهم وبطريقة قتالهم التي ألفوها في بلادهم، مثل القتال بالحراب، أو الرمي بالنشاب، وقد عرف هؤلاء بالأحابيش. ولعلهم استخدموا الرقيق الأبيض المجلوب من بلاد الروم ومن أماكن أخرى في تنظيم أمور الدفاع وإدارة القتال لخبرتهم ودرايتهم في أساليب القتال المدنية، كالذي فعله الرسول من استشارته سلمان الفارسي في أمر الدفاع عن المدينة يوم حاصرتها قريش، فكان أن أشار عليه بحفر خندق حولها يعوق تقدم قريش من المدينة، ففعل كما يشير إلى ذلك أهل السير والأخبار.
والمصانع: الأبنية, وقد وردت "مصانع" في الآية الكريمة: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} 3. بمعنى الحصون المنيعة، و"مصنعت" "مصنعة", في الحميرية بمعنى حصن. وذلك كما في هذه الجملة المقتبسة من نص "أبرهة" المدوّن على سد مأرب: "مصنعت كدر"، أي: "حصن كدر"4. ولا تزال لفظة "مصنعة" مستعملة حتى اليوم في العربية الجنوبية في معنى قلعة وحصن5. وقد اشتهرت حمير بمصانعها.
__________
1 نقوش خربة معين "ص2".
2 نقوش خربة معين "ص5".
3 الشعراء، الآية 129.
4 راجع السطر "21" من النص، والجمع "مصنع"، أي: "مصانع" في السبئية:
Jamme 578, 629, Mahram, P, 440
5 Hadramaut, P.63(10/126)
والمصانع: القرى1. ويظهر أنها إنما دعيت بذلك لوجود المصانع بها. واحدتها: مصنعة. أي: حصن. يدافع به عن المتجمعين حوله.
و"القلعة" على ما يظهر من أقوال علماء اللغة، الحصن على الجبل، والحصن الممتنع في جبل، والحصن المشرف2. تُبنى في المواضع المرتفعة لتشرف على ما تحتها، ولتراقب العدوّ، وتكون بها حامية، وقد يتحصن بها أهل الموضع عند دنو خطر عليهم، فيصعب على العدو الوصول إليهم، لوعورة الأرض وامتناع القلعة، وتسلط من فيها على من يريد بلوغهم، بما يمطرونه به من أسلحة الدفاع.
و"الحصن" ما يتحصن به، يتخذ في مواضع حصينة، مثل: المرتفعات وعلى الأنهار وعند الآجام، لزيادة حصانته، وقد يتخذ في مواضع خطرة مكشوفة ليدافع عنها، فيحصن بتحصينات قوية من سور متين وجدر سميكة ومتاريس وأبراج، لتصد من يريد مهاجمته. وتكون الحصون برية وبحرية3. ولا تزال آثار حصون جاهلية قائمة في مواضع من جزيرة العرب، صنع بعض منها من "اللبن" والطين، وذلك في البوادي وفي المواضع التي لا تتوفر بها الحجارة، والمواضع الفقيرة التي صعب على أهلها بناء حصونهم من الآجر.
و"البرج": الحصن، وقيل: بروج سور المدينة والحصن: بيوت تُبنى على السور؛ وقد تسمى بيوت تُبنى على نواحي أركان القصر بروجًا4. وتكون البروج مرتفعة. وقد تُبنى منفردة، ولكن الأغلب بناؤها على الأسوار. والكلمة من الألفاظ المعربة عن اليونانية5.
__________
1 اللسان "8/ 211", "صنع". قال ابن مقبل:
أصوات نسوان أنباط بمصنعة ... بجدن للنوح واجتبن التبابينا
تاج العروس "5/ 422 وما بعدها"، الصحاح "3/ 124"، القاموس "3/ 53".
2 اللسان "8/ 280 وما بعدها"، "قلع"، تاج العروس "5/ 480". "قلع", الصحاح "3/ 1271".
3 تاج العروس "9/ 179"، "حصن"، اللسان "13/ 119"، "حصن"، القاموس "4/ 214"، جمهرة اللغة، للأزدي "2/ 165".
4 اللسان "2/ 212 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 7"، "برج"، القاموس "1/ 185"، الصحاح "1/ 299".
5 غرائب اللغة "254".(10/127)
وكان يهود الحجاز قد ابتنوا الحصون والآطام، للدفاع عن أنفسهم وأموالهم في السلم والحرب. فكانوا يخزنون فيها أموالهم وحصادهم وثمرهم وكل غال ثمين عندهم، وكانوا يدخلون إليها عند الظلام، فينامون فيها، خشية غزو أحد لهم، واعتداء غريب عليهم. فإذا طلع الصبح، خرجوا إلى مزارعهم ومواضع عملهم للاشتغال فيها إلى وقت المغيب، وكانوا يدخلون إليها حيواناتهم كذلك خشية سلبها ونهبها. أما في الغزو وفي القتال، فكانوا يعتصمون بها ويقذفون مهاجمهم بالصخور والحجارة وبوسائل الدفاع الأخرى من أعالي الحصون ومن الأبراج المشيدة فوقها. وقد وردت في كتب السير والتأريخ أسماء عدد من حصون اليهود في خيبر وفي أماكن أخرى وذلك في غزوات الرسول ليهود1.
ويعبر عن الحراس الذي يحرسون شيئًا ويدافعون عنه، مثل: حراس الحصون والقلاع وأبواب المدن أو حرس الضباط والكبار بلفظة "مسجت" "مسكت" "مسكة" في السبئية. أي: في معنى "الماسكة"، وأما المفرد فـ"مسج" "مسك"، أي: الماسك2.
وقد استعمل الجاهليون آلات القذف والرمي, وآلات الهدم الثقيلة في حروبهم كما يفعل الناس لهذا العهد. وهي آلات تبدو بسيطة مضحكة بالنسبة إلى آلات الخراب والتدمير المستعملة في الزمن الحاضر. قد يخجل الإنسان من التحدث عنها لأبناء هذا الزمان، ولكننا حين نتحدث عن الماضي وعن الأناس الماضين، فإننا لا نتحدث عنهم كما نتحدث عن أناس زماننا ولا نقيس إنتاجهم على إنتاجنا، وذلك لوجود فارق دقيق هو فارق الزمن. وهذا الفارق هو التطور الكبير الذي يقع للإنسان كلما تقدم به الزمان ومرت عليه التجارب والاختبارات التي يطور الإنسان بها نفسه دومًا ويزيد في علمه علمًا جديدًا لم يكن معروفًا عند القدماء.
وسيأتي زمان تكون فيه اختراعات القرن العشرين، الاختراعات التي نفخر بها اليوم، ألاعيب أطفال بالنسبة إلى اختراعات ذلك الوقت، واختراعات ذلك الزمان ألاعيب أطفال بالنسبة إلى من يأتي بعدهم، وهكذا إلى آخر الزمان. ولهذا لا نستطيع قياس الماضي على الحاضر بما أوجده من اكتشافات واختراعات على هذا
__________
1 السيرة الحلبية "2/ 41".
2 Jamme 649, Mahram, P.440(10/128)
النحو. وإنما نتحدث عن الماضي على أنه مرحلة من مراحل التطور البشري، ودور مستمر لهذا التأريخ الذي لا نعرف مبدأه ولا منتهاه.
وفي جملة هذه الآلات، الدبابة، وهي عبارة عن خشبة ثقيلة تعلق من وسطها ببرج من خشب مقام على عجلات ليمكن تحريكه نحو الهدف المراد هدمه أو سحبه منه أو نقله إلى أي مكان آخر. وقد غطى رأس الخشبة المتجه نحو الخارج، أي: الرأس المتخذ للهدم، بغطاء من الحديد، ليكون سريعًا فعالًا في هدم المكان الذي يوجه إليه. ويقوم أشخاص يكمنون في الدبابة بتحريك الخشبة نحو الهدف، وذلك بتحريكها نحو الأمام والخلف بقوة، لتحدث ثغرة فيه ويختفي هؤلاء تحت ستار مثل سقف من خشب أو من جلود، ليحميهم من الحجارة أو السهام أو النيران أو المواد الساخنة التي يرميها المدافعون عليهم، لمنعهم من الاقتراب من السور، ومن هدمه. وقد أشير إلى هذه الدبابات في فتح المسلمين لخيبر وفي حصار الطائف، فذكر أن اليهود كانوا قد اختزنوا في حصن الصعب من حصون النطاة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبابات1. وذكر أن المسلمين لما كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، دخل نفر منهم تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، فقتلوا منهم رجالًا2.
وقد يكتفي المحاربون بسحب خشبة ضخمة نحو السور تحمل بعد ذلك على الأكتاف، فيضرب بها السور، ثم يتراجع حاملوها قليلًا ثم يتقدمون ليضربوا بها السور، وهكذا إلى أن يتمكنوا من إحداث ثغرة فيه. و"القفع"، ضبر تتخذ من خشب يمشي بها الرجال إلى الحصون في الحرب. وقيل: هي الدبابات التي يقاتل تحتها3.
واستخدم "الكبش" في القتال، استخدم في اليمن بصورة خاصة، استخدم سلاحًا من الأسلحة الثقيلة في قتال المدن والجيوش النظامية، وهو من خشب مكسو
__________
1 السيرة الحلبية "3/ 41"، نهاية الأرب "18/ 59"، تاج العروس "2/ 295"، "الكويت"، اللسان "1/ 371".
2 ابن هشام "4/ 127 وما بعدها".
3 اللسان "8/ 289"، "قفع".(10/129)
بجلود البقر مدبوغة بالقرظ، أو من جلود الإبل، يحتمي به المحاربون المشاة في هجومهم على الأعداء المتحصنين.
وقد وردت لفظة "كبش" في قول الشاعر "الحارث بن حلزة اليشكري":
حول قيس مستلئمين بكبش ... قرظي كأنه عبلاء
وفسرت لفظة "الكبش" المذكورة بـ"السيد"1, وهو تفسير أرى أن فيه تكلفًا واضحًا وبعدًا من المعنى، وأن الصواب هو أنها: الآلة الحربية المذكورة، وأن الشاعر أراد ببيته المذكور وصف جماعة "قيس بن معديكرب" الذين كانوا ملتفين حوله، مستلئمين بكبش من جلود سميكة غليظة مدبوغة بالقرظ، مرتفع عال حتى علباء، أيك هضبة من ارتفاعه. والكبش بالنسبة للأعراب من الأسلحة التي يقل استعمالها عندهم، وهي من الأسلحة المانعة المؤثرة، ولذلك ذكرها الشاعر في شعره. وقد جاء بها "قيس" من اليمن ولا شك2.
ومن آلات القذف والرمي إلى مسافات، المنجنيق، ويوضع فوق الأسوار لاستخدامه في رمي العدو المتقدم نحو الحصن، أو في السفن لرمي سفن الأعداء، أو في الأبراج أو في الخطوط الأمامية لرمي الأعداء المهاجمين. فهو في مقام المدفعية لعهدنا. وقد ورد في أخبار حصار المسلمين للطائف أن الرسول رمى أهل الطائف بالمنجنيق، وكان أول من رمى في الإسلام بالمنجنيق على إحدى روايات أهل الأخبار3. وورد أن اليهود كانوا يستعملون المنجنيق في الدفاع عن حصونهم4.
ويرجع بعض أهل الأخبار تأريخ استعمال المنجنيق في الجاهلية إلى "جذيمة الأبرش"، فهم يذكرون أنه أول من رمى بالمنجنيق5.
والعرّادة من آلات الحرب كذلك، وهي صغيرة شبه المنجنيق6.
__________
1 شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص164" "دار صادر"، تاج العروس "4/ 341"، "كبش"، اللسان "6/ 338"، "كبش"، الصحاح "3/ 1017".
2 المعاني الكبير "4/ 79".
3 ابن هشام "4/ 128"، نهاية الأرب "18/ 59".
4 السيرة الحلبية "3/ 41".
5 الروض الأنف "2/ 303".
6 اللسان "3/ 288"، نهاية الأرب "18/ 59".(10/130)
وقد عرف السور بالحائط كذلك. والحائط هو ما يحيط بالشيء. وقد دعي سور الطائف بحائط الطائف في بعض كتب السير؛ وذلك لأنه يحيط بالمدينة. وقد كانت به أبواب تغلق في الليل. ولما اقترب منه المسلمون رماهم المدافعون عنه بالسهام، وكانوا يكمنون فوقه فقتل أناس من المسلمين1. ويكون أعلى الجدار الخارجي عاليًا وبه فجوات صغيرة ليكمن وراءه المدافعون ولينظروا من خلال هذه الفجوات الأعداء، وليرموهم منها، ويبنى السور سميكًا في أسفله، ثم يقل سمكه في أعلاه وذلك ليكون من الصعب على المهاجمين إحداث فتحة فيه أو هدمه. ويكون عرضه في أعلاه كافيًا لاختباء المدافعين ولمرورهم بسهولة. وتُبنى أبراج في العادة فوقه للمراقبة ولرمي الأعداء، يختلف عددها باختلاف المدن، وباختلاف استطاعة البلدة وما تتخذه من وسائل لحماية نفسها من الأعداء.
ولحمل أهل المدن والقرى المحصنة على الاستسلام يتخذ المهاجمون أساليب الحيل ووسائل مختلفة للتضييق عليهم، وفي جملة ذلك قطع المياه عن المكان المحاصر إن كان الماء في خارجه. وذلك بسد المجرى وتخريب الآبار والإحاطة بالماء لمنع الناس من الدنوّ منه. وبحرق المزارع والبساتين الواقعة في خارج المكان المحاصر، أو بقطع أشجارها، وبأخذ الغلات، وبقطع كل اتصال للمكان بالخارج، وبالتشدد في ذلك حتى يضطر المحاصرون إلى الاستسلام أو عقد صلح مع المهاجمين. وقد كانت خطة حرق المزارع والبساتين من أهم العوامل المؤثرة على المحاصرين.
وذلك نظرًا للخسائر المادية التي تلحقهم والتي لا يمكن تعويضها إلا بجهود وبأتعاب السنين2.
ولجأ المحاربون الجاهليون إلى سياسة حبس الميرة عن القبائل أو القرى والمدن لإخضاعهم وإجبارهم على ترك المقاومة والاستسلام3. يفعلون ذلك كما تفعل الدول الحديثة في مقاطعة بعض الحكومات في الحرب وفي السلم لإجبارها على ترك سياستها أو على الاستسلام. وقد قاطعت قريش بني هاشم حينما دخلوا في الشعب لإجبارهم على ترك الرسول وخذلانه على نحو ما هو معروف.
__________
1 ابن هشام "4/ 127"، اللسان "7/ 279"، القاموس "2/ 185".
2 Smith, Dictionary, I, P.1724
3 الأغاني "16/ 76".(10/131)
كما وجهوا خططهم السوقية نحو النقاط الضعيفة من مواضع الدفاع للمكان الذي يراد الاستيلاء عليه، مثل: الأبواب والثلم التي قد تكون في الأسوار أو الحصون للاستفادة منها في مهاجمته. والأبواب، هي من أهم الأهداف بالنسبة للمهاجم، لذلك، تتخذ مختلف الوسائل للتغلب عليها، برميها بالنار، أو بالحجارة، أو بضربها بالدبابات والأقفاع. أو باستخدام السلالم أو الحبال لارتقاء المواضع المنخفضة من السور، كما يركن إلى حفر الأنفاق تحت السور، للدخول منها إلى الموضع المحاصر، وقد يعمد إلى صنع تل من تراب، أو إلى تكويم أحجار بعضها فوق بعض، أو بناء مرتفع يصل إلى علوّ السور أو أعلى منه، ليرمي منه الأحجار والقذائف على المحاصرين، فيكون في إمكان المهاجمين، مهاجمة السور من الأرض بارتقائه من الموضع المقابل للمرتفع، أو بعمل ثقب فيه، يدخل المهاجمون منه إلى الداخل، وبذلك ينقل المهاجم الحرب إلى داخل الموضع المحاصر ويتمكن من التغلب عليه.
أما النظم العسكرية عند أهل اليمن، فكانت على هذا النحو: الملك، هو القائد الأعلى للجيش، والرئيس الأعلى له، يعلن الحرب، ويأمر بعقد الصلح، ويعين القادة الذين يتولون إدارة القتال، لضمان النصر، وهو الذي يأمر القبائل بتقديم الجنود، على مقدار ما اتفق عليه.
وقد يقوم الملك نفسه بقيادة الجيوش وإجراء العمليات الحربية، وقد يترك ذلك إلى قواده، يقومون بها ويديرونها بحسب علمهم وخبرتهم بالحروب. والقائد هو "قسد", أي: "قاسد" في لغتهم. وقد يعبر عنه بـ"اسد" في بعض الأحيان. إلا أن هذه اللفظة تعني "الجندي" و"الجنود" في الغالب.
وكان على المحارب أن يهيئ له سلاحه، فإذا لم يكن لديه هذا السلاح منح مالًا لشرائه به، يتعهد بإعادته فيما بعد1. وكان على القبيلة أن تهيئ المقاتلين اللازمين للقتال، وترسلهم إلى جبهات القتال للقتال مع الجنود الآخرين.
ولسنا نعلم كيف كان يقاتل العرب الجنوبيون، وكيف كانوا يضعون خططهم الحربية في التغلب على العدو، لعدم تعرض كتابات المسند لذلك، فلم يرد إلينا نص ما في هذا الموضوع.
__________
1 Handbuch I, S. 137(10/132)
ويعبر عن الصلح بلفظة "سلم" وهي في معنى "سلم" في عربيتنا. فالسلم هو الصلح الذي يلي الحرب بعد الانتهاء منها، كما أنه السلم في الأوقات الأخرى, أي: الأوقات الاعتيادية1.
ويعبر عن الحذر من العدو بلفظة "حذر"، وهي تؤدي معنى الدفاع كذلك، فـ"حذر" تعني دافع ضد عدو2. وإذا سار شخص ما خلف زعيم أو قائد، يقال لذلك "تبع" و"تبعو"3 بمعنى سار مع القائد وساروا في حرب مثلًا، وتقدم أو تقدموا نحو العدو.
ويعبر عن التراجع والانسحاب بلفظة "ضويم" "ضوى"، وتعني الهزيمة كذلك4. وهي نقيض معنى "متسك" التي تعني التمسك بالشيء والاستيلاء عليه.
و"امتسك بـ"5. ويعبر عن الهزيمة بلفظة "سحت" كذلك6. كما يعبر عنها بلفظة "تشوع"7.
وقد يتبع المحاربون طريقة حرب العصابات، وذلك بأن ينقسم الجيش إلى أحزاب وفلول مستقلة تنتشر في أماكن متباعدة، وتقاتل بمفردها أو تتعاون فيما بينها عند الحاجة، وهي تحمي نفسها بالالتجاء إلى المواضع الطبيعية الحصينة, مثل: المستنقعات والأدغال والجبال وأطراف الممرات الوعرة، وذلك لكي تخفي نفسها عن العدو فلا يراها إلا وهي مباغتة له. ويقال للعصابة هذه: "حزب" في السبئية، وأما الجمع فـ"احزب"8.
وتتبع الطريقة المذكورة عندما يواجه عدو عدوًّا يرى أنه لا يستطيع الوقوف أمامه ومحاربته، أو في حالة التريث والانتظار إلى ساعة مجيء مدد وعون، أو في
__________
1 راجع النص الموسوم بـ
Glaser 481, Rhodokanakis, Stud., Ii, S. 15, 55, Jamme 556, 557, 576, 577, 643, 652, Mahram, P.443
2 راجع الجملة الثالثة من نص أبنة.
Mahram, P.436, Jamme 649, 720
3 Mahram, P.436, Jamme 649, 720
4 Rhodokanakis, Stud., Ii, S. 53
5 Rhodokanakis, Stud., Ii, S. 52
6 Jamme 578, 643, Mahram, P.443
7 Jamme 649, Mahram, P.450
8 Jamme 574, 576, 577, 585, Mahram, P.436(10/133)
حالات الهزيمة. فتشتت القوات المغلوبة قواتها إلى "أحزاب" وتشغل جيش العدو المتفوق عليها بجبهات عديدة لغاية إرباكه وإضعاف قوته، وتبقى تحارب حرب عصابات حتى ترى رأيها الأخير، فتقرر الصلح أو الاستسلام وقد تجمع فلولها ثانية وتظهر مرة أخرى في ميدان قتال جديد، ففي كتابات المسند أمثلة كثيرة من هذا القبيل.
وقد وردت في النصوص المعينية لفظة "غزتس" بمعنى غزوة، كما في هذه الجملة: "غزتس عم مسبا"1، بمعنى "في غزوته مع المسبين". ويظهر أن هذا النص قد دوّن في غزاة قام بها صاحب النص، وقد أخذوا معهم جماعة من السبي. وهذا النص هو من النصوص المعينية التي عثر عليها في مدائن صالح.
ويقال للحواجز التي يضعها المحاربون في شوارع المدينة أو في الطرق أو التي يقيمونها في ساحات المعارك لإعاقة حركات العدو: "حجزت"، أي: "حاجزة"2.
ولا تقتصر عمل هذه الحواجز على الأغراض العسكرية وحدها بالطبع، بل تقام لأغراض عديدة أخرى، مثل: الحواجز التي تقام لحجز المواشي والحيوانات وما شابه ذلك.
ولا يشترط بالطبع في الحواجز أن تكون عالية مرتفعة أو قائمة عريضة، فقد تكون منخفضة وعندئذ تكون على هيأة موانع لإعاقة الإنسان أو الحيوان من المرور. وقد تكون خندقًا يحفر حول المدينة أو حول مكان يراد حمايته ومحافظته من التطاول عليه. فيقف هذا الخندق حاجزًا مانعًا يمنع الجنود والجيوش من التقدم نحو الهدف أو المدينة أو الموضع الذي يراد الاستيلاء عليه، ويقال له عندئذ: "خبزت" وبهذا المعنى عرف في كتب اللغة، فقد ورد في القاموس المحيط "خ ب ز ": "خبز" الرهل والمكان المنخفض المطمئن من الأرض3.
وقد بنى اليمانيون حصونهم في الهضاب والمرتفعات والجبال، ليكون من السهل الدفاع عنها. وحول هذه الحصون وبحمايتها بنى الناس بيوتهم، فتحولت هذه الأماكن المحماة بالقلاع والحصون إلى مواضع حصينة تدافع عن نفسها وترمي من
__________
1 Rep. Epigr. 3604
2 راجع الفقرة الثانية من النص: Glaser 1150, Halevy 192, 199
3 تاج العروس "4/ 32"، "خبز" اللسان "خ/ ب/ ز"، خليل يحيى نامي: نقوش خربة معين "الصفحة2".(10/134)
يحاول الوصول إليها بالسهام وبوسائل الدفاع الأخرى، فيتكبد المهاجم خسائر، ويلاقي صعوبات كبيرة في الوصول إليها. ويقال لمثل هذه الحصون والقلاع: "محفدن" و"محفدم" والأُولى معرفة والثانية منكرة1.
وتزود الحصون بكل وسائل الدفاع وما يحتاج إليه أصحابها والمدافعون عنها من ماء وزاد ووسائل دفاع. ولهذا نجد في الحصون آبارًا ومخازن للمياه، ليستفيد منها المدافعون2، ولا يتمكن المهاجمون من منع الماء عنهم. أما الزاد، فيخزن في العادة في مخازن خاصة لهذه الغاية أيضًا. وأما وسائل الدفاع فتكون بإنشاء أبراج فوق أسوار الحصن، يكمن فيها المدافعون لرمي العدو منها، وببناء فتحات صغيرة رفيعة لمراقبة العدو منها، ولرميه بالسهام.
ومن وسائل الدفاع التي لجأ إليها أهل العربية الجنوبية لإعاقة المحاربين من التقدم نحو هدفهم، إنشاء حواجز على هيئة جدر تُبنى في المضايق والممرات، بحيث إذا وصل إليها العدو لم يتمكن من الاستمرار في سيره نحو عدوه، فينهال عليه حماة تلك الحواجز بالحجارة والسهام وما شاكل ذلك من أسلحة.
وترى بقايا مثل هذه الجدار في مواضع عديدة من اليمن وحضرموت حتى اليوم. ومن جملة ما عثر عليه بقايا جدار أقيم في وادي "لبنا" شمال ميناء حضرموت القديم "قنا" قانه" "قني". أقامه حكّام حضرموت المكربون قبل القرن الرابع قبل الميلاد، وذلك لحماية حضرموت من غزوات الحميريين وغيرهم. وعثر على بقايا جدار في القسم الجنوبي من "وادي بيحان"، وعلى بقايا جدار آخر يقع في "وادي أنصاص" جنوب "شبوة"، وذلك لحمايتها من الغارات3.
والنصر ضد الهزيمة. وترادفها لفظة "شرح" في اللهجات العربية الجنوبية، كما في هذه الجملة "يوم شرح سبا"، أي: "يوم نصر سبأ"4.
وبعد انتهاء الحرب توزع الغنائم بين المحاربين المنتصرين، ويعطى الرئيس إذا
__________
1 "تعلى محفدن يهر"، أي: "تعلية حصن يهر" خربة معين، النقش4.
2 ابن المجدرر: صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز "2/ 173".
3 Beitrage, S. 44, 46
4 Rep. Epigr. Vii, Ii. P 276, Nu: 4624(10/135)
غنم الجيش معه "المرباع" أي: ربع الغنيمة1. وقد رده الإسلام خمسًا، بنزول الأمر بالخمس في القرآن الكريم2.
وإذا وقع أحد في أيدي عدو وأسر فيقال له عندئذ: "أسير". ويعبر عنه بـ"اخذ" في السبئية في حالة المفرد، وبـ"اخذتم" "أخذت" "اخذيت" في حالة الجمع2. وتطلق هذه اللفظة على الأسرى الذين يقعون في الأسر من دون قتال، وذلك عند اكتساح جيش أو غزاة جيش العدو أو مكان ما، فيؤخذ من فيه من ناس من غير قتال ولا مقاومة. فهم مثل الغنائم التي تقع في أيدي الغزاة والمحاربين يؤخذون دون قتال. أما الذين يؤخذون بعد مقاومة وبقتال، فيقال لهم: "سبيم", أي: "سبي"، بمعنى "مسبي". وأما الجمع فـ"اسبى", أي: سبايا. وأما الإسباء فيعبر عنه بـ"يسبيو"، وتعني "يسبي" و"يسبون"3.
وكانوا يكبّلون أيدي الأسرى والسبي بـ"الكبل". القيد من أي شيء كان، وذلك لاحتباسهم حتى لا يهربوا. وقد ذكر بعض علماء العربية "أن الكبل غير عربي. وقد صرح به أقوام"4. ولفظة "كبل" هي "كبلو" Keblo و"كيبل" Kebel في لغة بني إرم وفي العبرانية، أي: "القيد"5. وقد كانوا يكتّفونهم بالحبال وبكل شيء يكون عندهم يشد به وثاق الأسير، فلا يفلت من آسره. و"الكتاف" الحبل6. و"الوثاق" ما يشد به كالحبل وغيره7. كما كانوا يكتّفون الأسرى بالقدّ. والقد السير الذي يقدّ من جلد، فتشد به أطراف الأسير شدًّا شديدًا حتى لا يتمكن من الهروب.
ولما بعث رسول الله خيلًا قبل نجد، فجاءت بـ"ثمامة من أثال الحنفي" سيد أهل اليمامة مأسورًا، أمر به رسول الله، فربطوه بسارية من سواري المسجد ثم منّ عليه فأطلقوه وأسلم؛ لأنه لم يكن في زمن الرسول سجن. فكانوا يحبسون
__________
1 شرح ديوان لبيد "ص30"، العقد الفريد "3/ 342 وما بعدها"، تاج العروس "5/ 339"، "ربع".
2 Jamme 576, 578, 635, Mahram, P.427, South Arabian Inscriptions, 649, 665, 549.
3 Mahram, P.443
4 تاج العروس "8/ 93"، "كبل".
5 غرائب اللغة "203"، Hastings, A Dictionary Of The Bible, Ii, P.5
6 تاج العروس "6/ 229"، "كتف".
7 تاج العروس "7/ 73"، "وثق".(10/136)
الأسير في المسجد أو في الدهليز حيث أمكن. فلما كان زمن "علي بن أبي طالب" أحدث السجن بالكوفة، وكان أول من أحدثه في الإسلام1. وذكر أن "ثمامة" كان عرض لرسول الله، فأراد قتله، فلما قبض عليه أسلم، فلما أسلم قدم مكة معتمرًا، فقال: "والذي نفسي بيده لا تأتيكم حبة من اليمامة، وكانت ريف أهل مكة، حتى يأذن رسول الله". ورجع إلى اليمامة ومنع الميرة عن قريش. وقد ثبت على إسلامه، لما ارتد أهل اليمامة، وارتحل هو ومن أطاعه من قومه، فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي، فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين، فلما ظفروا اشترى ثمامة حلة كانت لكبيرهم فرآها عليه ناس من "بني قيس بن ثعلبة"، فظنوا أنه هو الذي قتله وسلبه فقتلوه2. وكان له عم اسمه "عامر بن سلمة بن عبيد بن ثعلبة الحنفي". وقد دخل في الإسلام3.
ويسبق المبشرون الجيش المنتصر بزف خبر النصر للحكام وللناس. يسرعون بأقصى ما يمكنهم من السرعة لنقل النبأ، ولنيل جوائز البشرى. وهي "البشارة" ما يعطاه المبشر4. ويعبر عن البشرى بـ"تبشرت" في العربية الجنوبية، أي: "التبشرة"، ويقوم الـ"هبشر"، أي: المبشر بإبلاغ البشرى لمن يراد إيصالها إليه.
ويعبر عما يقع في أيدي المغيرين أو المحاربين أو الغزاة أو المنتصرين من أموال بـ"مهرج"، أي: غنيمة حرب، وذلك للمفرد وبـ"مهرجت" "مهرجة" في حالة الجمع، أي: غنائم5.
وتطلق هذه اللفظة على الغنائم التي تؤخذ بقتال وبعد مقاومة، أما الغنائم التي يحصل عليها المحاربون بعد القتال وبعد الهزيمة التي تنزل بالمغلوب، فيقال لها: "غنم" و"غنم" وذلك في المفرد، أي: للغنيمة الواحدة، وأما في حالة التعبير عن الجمع فيقال: "غنمت"، أي: غنائم6.
ونظرًا إلى ما للمنزلة الاجتماعية من أهمية كبيرة في المجتمع العربي، لذلك كان
__________
1 صحيح مسلم "5/ 158".
2 الإصابة "1/ 204"، "رقم 961".
3 الإصابة "2/ 241"، "رقم "4390".
4 تاج العروس "3/ 44"، "بشر".
5 Mahram, P.439
6 Mahram, P.445(10/137)
الشريف يسأل من يريد أسره عن اسمه ونسبه، حتى إذا وجد أنه من العبيد والموالي أبى الاستسلام له؛ لأن في استسلام الرجل لمن هو دونه في المنزلة والمكانة مذلة كبرى وإهانة، ولهذا كان الرجل الذي يشعر أنه في وضع حرج وأنه مأسور لا محالة يبقى يراوغ خصمه ويحاول الإفلات منه ومن أسره جهد إمكانه حتى آخر نفس له، وقد يسأل شخصًا آخر يرى عليه إمارة الوجاهة والشرف بأن يأسره خشية الفضيحة والعار ومن وقوعه أسيرًا في يد عبد جلف، أو صعلوك لا مكانة له في المجتمع. ومن ذلك ما وقع لحاجب بن زرارة، إذا أدركه الزهدمان، فقالا له: استأسر وقد قدروا عليه، فقال: ومن أنتما؟ قالا: الزهدمان. فقال: لا أتستأسر اليوم لموليين. وبينما هم كذلك، إذ أدركهم مالك ذو الرقيبة بن سلمة من قشير، فقال لحاجب: استأسر، فقال: ومن أنت؟ قال أنا مالك ذو الرقيبة فقال: أفعل فلعمري ما أدركتني حتى كدت أكون عبدًا. فألقى إليه رمحه واعتنقه زهدم عن فرسه فصاح حاجب: وا غوثاه، ثم تخاصم مالك والزهدمان في شأن أسر حاجب، واجتمع القوم وحكموا حاجبًا في أمر من أسره, فاختار مالك، وحكم له؛ وذلك لأنه كان حرًّا شريفًا. ثم فك أسره، بأن أعطى فدية عن نفسه لمالك وفديتين أصغر منها إلى الزهدمين1.
ولم تكن "المثلة" بقتيل الحرب أو بالأسير محرمة من قوانين ذلك اليوم. فقد كانوا يمثلون بقتلى الحرب وبالأسرى بتقطيع أجزاء جسمهم، وتشويه الجسم. يفعلون ذلك بالأسير حتى يموت، وهو يشاهد أعضاءه تقطع قطعًا من جسمه. وفي "يوم الرقم" انهزم الحكم بن الطفيل في نفر من أصحابه، فيهم "خوّات بن كعب" حتى انتهوا إلى ماء يقال له: المرورات، فقطع العطش أعناقهم فماتوا، وخنق الحكم بن الطفيل نفسه مخافة المثلة، فقال في ذلك عُروة بن الورد:
عجبت لهم إذا يخنقون نفوسهم ... ومقتلهم تحت الوغي كان أعذرا2
والقاعدة في الغزو والحروب والغارات، أن القاتل يأخذ سلب المقتول. يأخذ ما يجده عنده، وقد أقر ذلك في الإسلام، فجعل السلب للقاتل لا ينازعه في
__________
1 الأغاني "10/ 37".
2 نهاية الأرب "15/ 364"، "يوم الرقم".(10/138)
ذلك منازع، إن ثبت أنه هو القاتل1.
والحروب من أهم الموارد الممونة للرقيق عند الشعوب القديمة، وفي جملتهم الجاهليين. فقد كان المنتصر يتخذ من يقع في يده رقيقًا له، وإذا لم يمنّ عليه بالعفو، أو لم يتمكن المأسور من دفع فدية عن نفسه، صار عبدًا مملوكًا لمن وقع في يده، إن شاء باعه، وإن شاء احتفظ به رقيقًا، يخدمه ما دام عبدًا.
وقد عمد المحاربون إلى إحراق المغلوبين في بعض الأحيان. فقد جمع المنذر بن امرئ القيس أسرى في الحظائر ليحرقهم، فسمي أبا حوط الحظائر2.
وقد عرف بعض ملوك الحيرة بحرق من وقع في أيديهم من المغلوبين، أو بحرق مواضعهم وهم فيها؛ لذلك عرفوا بـ"محرق". وعقوبة الحرق من العقوبات المعروفة عند الأمم القديمة مثل: الرومان والعبرانيين، ينزلونها في المحاربين جزاءً لهم، وإخافة لغيرهم ودعاية لهم، حتى لا يتجاسر أحد فيعلن الثورة على المحرقين، فيحل عندئذ بهم عذاب التحريق3.
وكان بعض الأشخاص يقومون بالغارات بمفردهم أو بجمع من الناس، فيفاجئون الناس الآمنين أو رجال القوافل، ومن هؤلاء. شراحيل بن الأصهب، وكان كما يقول أهل الأخبار: أبعد العرب غارةً، كان يغزو من حضرموت إلى البلقاء في مائة فارس من بني أبيه، فقتله بنو جعدة. وكان قد أزعج قبائل معد وغيرها كما يظهر ذلك من شعر نابغة بني جعدة:
أرحنا معدًّا من شراحيل بعدما ... أراها مع السبح الكواكب مظهرا
وعلقمة الحراب أدرك ركضنا ... بذي الرمث إذا صام النهار وهجرا4
وقد يعمد المنتصر إلى أخذ رهائن من المغلوب لتكون رهنًا لديه بالطاعة والخضوع. فإذا خاس بعهده، تعرضت الرهينة للتهلكة. وتؤخذ الرهائن في أيام السلم أيضًا. يأخذها الملوك ممن يخشونهم ومن السادات لتكون ضمانًا لديهم بالطاعة وبعدم مسهم بمصالحهم. وقد عرف "الحارث بن علقمة بن كلدة بن
__________
1 صحيح مسلم "5/ 149 وما بعدها".
2 المعارف "ص42".
3 Beeton, Dictionary Of Religion, Philosophy And Law, P.108
4 العقد الفريد "3/ 394".(10/139)
عبد مناف بن عبد الدار بن قصي" بـ"الرهين"، "وإنما لقب به؛ لأنه كان رهينة قريش عند أبي يكسوم الحبشي، وولده النضر بن الحارث بن مسلمة الفتح. وأخوه النضر بن الحارث قتله عليّ، رضي الله تعالى عنه، بالصفراء بعد رجوعهم من بدر بأمر من النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، وبنته قتيلة رثت أباها بالأبيات القافية، وليس فيها ما يدل على إسلامها"1.
وللطيرة أثر كبير في نظر الجاهليين في كسب الحرب وخسرانها، فقد رسخ في عقولهم أن لها تأثيرًا مباشرًا في الغزو والحروب، وأن كلمة طيبة تسمع ساعة الاستعداد للغزو، أو عطسة يعطسها إنسان، أو نعيب غراب ينعب ساعة الهجوم أو ما شاكل ذلك من علامات يتفاءل أو يتشاءم منها، تؤثر في مصير الغزو وتتحدث للغازين عن مصير ما سيقومون به. لذلك فقد كانوا ربما نبذوا الغزو إذا ظهر أمامهم ما يتطير منه، وكانوا ربما أسرعوا بالهجوم إن ظهر أمامهم ما يفسرونه بأنه يمن وتفاؤل وحث على الإقدام في العمل. ولم يكن هذا الاعتقاد من عقائد العرب وحدهم، فقد كانت الشعوب الأخرى تتطير كذلك. وتحسب للطيرة حسابًا عند شروعها بحرب. ونجد في الكتب القديمة قصصًا عن الطيرة وأثرها في الحروب عند اليونان والرومان والفراعنة والفرس.
ورسخ في عقول أهل الجاهلية أن في وسع الكهنة التنبؤ عن نتائج الغزو أو الحروب، لما للكهنة من اتصال بالأرباب وبالأرواح المخبرة عن المغيبات وعما سيقع في المستقبل. فكانوا لذلك يسألونهم في كثير من الأحايين عن رأيهم في غزو يريدون القيام به قبل الشروع به، حتى إذا باركه الكاهن قاموا به، وإلا تركوه2. ونجد في كتب الأدب وأهل الأخبار أخبارًا ترجع سبب هزيمة قوم أو سبب انتصارهم إلى مخالفة أولئك القوم لرأي كاهنهم، فكانت الهزيمة، وإلى العمل برأيه، فوقع من ثَمَّ لهم النصر؛ لأن للكهنة علم بالمغيبات.
__________
1 تاج العروس "9/ 222"، "رهن".
2 الدينوري، عيون الأخبار "1/ 144"، "كتاب الحرب"، "في الطيرة والفأل".(10/140)
الفصل السادس والخمسون: في الفقه الجاهلي
مدخل
...
الفصل السادس والخمسون: في الفقه الجاهلي
عرفت "مدوّنة جوستنيان" Institutes De Justinien "الفقه" بأنه "معرفة الأمور الإلهية والأمور البشرية، والعلم بما هو حق شرعًا وبما هو غير حق"1.
و"الفقه" في اصطلاح المسلمين هو: استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، أو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، أو العلم بأحكام الشريعة2، وهو اصطلاح ظهر بالطبع في الإسلام. أما بالنسبة إلى الجاهليين فإننا لا نستطيع أن نأتي بتحديد علمي ثابت له، لعدم وصول شيء منهم في هذا المعنى إلينا. وقد وردت اللفظة لغة بمعنى العلم والتبحر في الشيء والإحاطة به. ووردت في سورة التوبة كلمة ليتفقهوا {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} 3. ومن هذا المعنى جاءت لفظة "الفقه" في الإسلام.
وأنا أقصد بمصطلح "الفقه" هنا الأحكام التي نظمت العلاقات بين الجاهليين، وبيّنت الحلال في عرفهم من الحرام. وأقصد بالحلال كل مباح أباحه أهل الجاهلية لأنفسهم، وبالحرام كل ما حرموه عليها. فللجاهليين شرائعهم الخاصة بهم. وأنا هنا أريد أن أبحث عن شرائعهم التي ثبتت الأحكام بحسب اجتهادهم
__________
1 مدونة جوستينان في الفقه الروماني، تعريب عبد العزيز فهمي، دار الكاتب المصري القاهرة 1946 "ص5".
2 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص391".
3 التوبة، الآية 122.(10/141)
وعرفهم وسنتهم، وأريد بالأحكام "قوانينهم" التي وضعوها وساروا عليها في تثبيت المحظور أو المباح، أي: الحرام والحلال.
وكلامنا في الفقه الجاهلي هو كلام لم نستنبطه من "قوانين" أو من مدونات قانونية Codex Juris أو من كتب في فقه الجاهليين، أو من تعليمات جاهلية مدونة، وإنما أخذناه في الغالب من الألفاظ الفقهية التي تعبر عن آراء قانونية وردت في كتب الفقه والحديث والتفسير، وما شاكل ذلك من موارد إسلامية، ومن أقوال وأحكام نسبها أهل الإسلام إلى رجال من أهل الجاهلية، فيها قواعد فقهية. ومن بعض أوامر وأحكام أصدرها ملوك العرب الجنوبيون قبل الإسلام في تنظيم التجارة وفي كيفية جباية الأموال. وسبب عدم أخذنا من موارد فقهية جاهلية هو عدم وصول مدوّنات قانونية إلينا حتى الآن، فليست لدينا ويا للأسف مدونات مثل: "قوانين حمورابي" أو "مدونة جوستنيان"، أو مثل ما كتبه "ديودورس" في الشريعة المصرية1. فما نكتبه في التشريع الجاهلي، مستمد مما ذكرته ومن أوامر وإرادات ملكية وأحكام وردت في المسند في نواحٍ خاصة من نواحي التشريع, مثل: كيفية جباية الضرائب عن الأرض أو التجارة، أو نواح معينة من البيوع والقتل وغير ذلك. فهي خاصة بحالة معينة من حالات التشريع، لا قوانين عامة على نحو ما نفهمه من القوانين.
ولما كانت القوانين وليدة الظروف والحاجات اختلف التشريع في أيام الجاهلية باختلاف القبائل والأماكن، وطبيعة البيئة. فأهل اليمن بنظام حكمهم المستقر، وبحكوماتهم التي كانت تهيمن على مناطق واسعة كانوا يختلفون في أصول تشريعهم عن أهل مكة أو أهل يثرب. وكل من هؤلاء هم قُطّان مدن، وحكمهم هو حكم مدن قائم على أساس آراء رؤساء الأحياء والشعاب، ثم إن حكم هؤلاء، يختلف أيضًا عن حكم القبيلة والعشيرة، أعني حكم الأعراب.
ولعدم وجود حكومات منظمة قوية في معظم أنحاء جزيرة العرب، لا يمكن تصور وجود هيئات قضائية ومؤسسات حكومية ذوات قوانين مدوّنة، للفصل في الخصومات، ولإنزال العقوبات الجزائية الرادعة في المخالفين، على نحو ما نراه في حكومات هذا اليوم، كما أننا في شك من وجود نصوص قانونية مدونة في
__________
1 Grohmann, Arabien, S. 132(10/142)
مثل هذه الأماكن على مثال قوانين "جوستنيان" مثلًا، أو القوانين التي سنَّها الأكاسرة. فمثل هذه القوانين والأنظمة الدقيقة المنظمة المبوبة لا يمكن أن تظهر إلا في المجتمعات السياسية المنظمة المعقدة التي تهيمن عليها حكومة ذات مجتمع منظم يشعر بحاجته إلى حكم منظم يعين حقوق الحكام وحقوق المواطنين.
وغير أنَّ هذا لا يعني عدم وجود أحكام لردع المخالفين والزائغين، وعدم وجود أحكام لتنظيم العلاقات في المجتمع، وتعيين حقوق الحكام والمحكومين، وعدم وجود أناس لهم علم بعرف البلاد، فلكل مجتمع مهما كانت حالته من السذاجة قوانين وأناس لهم علم بتطبيق تلك القوانين على المخالفين. والقوانين في المجتمعات الصغيرة البسيطة، هي العرف والعادة المتوارثة عن الآباء والأجداد. وإذا كانت مثل هذه المجتمعات لا تملك محاكم دائمة ذات موظفين وسجلات وقوانين ثابتة مكتوبة على نمط المحاكم لهذا العهد، فإنها تملك في الواقع محاكم، وتملك حكامًا. ففي المدن مثل: مكة ويثرب، وهي مدن تحكم نفسها بنفسها، ونستطيع أن نسمي حكوماتها بحكومات مدن، يحكم الرؤساء والأشراف المدينة، ويفضون المنازعات وفق العرف والعادة. يجتمعون في مكان معين، مثل: "دار الندوة"، أو في المعبد، أو في بيوت الوجهاء، للنظر في الخصومات وفي المشكلات التي تقع في البلد. ويتولى رؤساء الشعب، أي: الحارة والمحلة فَضَّ المنازعات التي تنشأ بين أفراد الشعب في الغالب. أما إذا وقعت الخصومات بين أبناء شعاب مختلفة، فقد يتفق رؤساء المحلات عن فَضِّ الخصومة بينهم باللجوء إلى محكمين يختارونهم من غيرهم ممن يرضى عنهم المتخاصمون ويكونون في نظرهم محايدين لا علاقة لهم بهذا النزاع. وقد يحال النزاع على رؤساء البلد أو الحي للنظر فيه. ويشترط بالطبع على المتخاصمين كلهم الإذعان لقضاء الحكام، والتسليم بما يحكمونه من حكم.
ولسذاجة الحياة وعدم تعقدها في معظم أنحاء جزيرة العرب، كانت طبيعة التشريع عند الجاهليين ساذجة غير معقدة, والقوانين قليلة تتناسب مع طبيعة حياة ذلك العهد، تقتصر على المشكلات التي تحدث في مثل تلك البيئة وفي ظروف تشبه تلك الظروف، فلا نرى لذلك قوانين معقدة عديدة في معالجة مشكلات الأرض ومشكلات الصناعة والاقتصاد وتنظيمات المدن الكبيرة، وما يتكون ويتولد فيها من إجرام ومخالفات.
ولما كانت الطبيعة الأعرابية، هي الطبيعة التي تغلبت على حياة أكثر سكان(10/143)
جزيرة العرب، نبع مفهوم الحق عند الأعراب, ومفهوم كيفية استحصاله وأخذه من المحيط الذي عاش الأعرابي فيه. فصار الحق في نظره القدرة أو القوة.
فالقوي القادر على حمل السلاح هو صاحب الحق؛ لأن في استطاعته انتزاع حقه والدفاع عن نفسه متى تعرّض للظلم. وهو بقوته لا يخشى ظلم ظالم. وعلى هذا المبدأ بنيت أكثر أحكام الجاهلية في تقويم الحق وتقديره في مثل: دفع الديات، وفي حقوق الإرث وفي مفهوم السرقة، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد, فالقدرة هي سبب من أهم أسباب تحقيق الحق، وأخذ الحق وانتزاعه من المغتصبين، ثم عامل آخر، هو العصبية بأنواعها، من أبسط درجة فيها إلى أعلاها، فإنها عامل آخر من عوامل الدفاع عن الحق وعن استحصاله، لعدم وجود حكومة نظامية تقوم بتحقيق الحق، فقامت العصبية مقامها في استحصال الحق وفي تأديب الخارج على العرف، الذي هو القانون.
وأما النواحي القانونية والتشريع في العربية الجنوبية وسائر الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، فلم ترد إلينا كتابات وبحوث فيها، فلتكوين رأي فيها إذن، لا بد لنا من اللجوء إلى الكتابات التي لها علاقة بهذه النواحي، مثل: الكتابات التي تحمل طابع الأوامر والنواهي وعقود التملك من بيع وشراء، والقبوريات, أي: الكتابات التي تخص تملك القبور، فتمنع الغرباء من الدفن فيها والتجاوز عليها والتطاول عليها بإحداث تغيير وتبديل في شكل القبر وفي هيئته، ومن كتابات مماثلة أخرى. فقد وردت في هذه مصطلحات وتعابير قانونية، يمكن أن نستنتج شيئًا منها، وأن نكوّن رأيًا قانونيًّا بدراستها ومقارنتها بالتشريعات الواردة عند الشعوب الأخرى أو عند القبائل الساكنة في مختلف أنحاء بلاد العرب، وبالتشريع الإسلامي.
ومن هذه المصطلحات الحقوقية لفظة "احلى" و"احل" بمعنى "أحلّ" في عربيتنا، وهي تشير إلى لفظة "الحلال" التي هي ضد الحرام المعروفة في القوانين وفي الفقه. وقد وردت في النص الموسوم بـMe 36 هذه العبارة: "هن بخطات نكرح وود احلى ذ ينقل قبرن عمر خرقن وارخن"1، ومعناها: هذا بخطيئة نكرح وود لمن يحل وينقل أي يغير القبر. عمر السنين والأزمان، وتعني لفظة "عمر" الدوام والتأييد. وأما "خطأت" "الخطيئة" فإنها بالمعنى
__________
1 Me 36. Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 66(10/144)
المفهوم منها عند النصارى تقريبًا، فهي بمعنى التعدي على الشريعة. وعدم الامتثال لها، والإثم1، وبمعنى "اللعنة" في الإسلام. فيكون المعنى للجملة المتقدمة على هذه الصورة: "هذا بلعنة الإلهين نكرح وودّ لمن يحلّ، أي: يجوّز تغيير القبر، أبد السنين والأيام". وتعني لفظة "نقل" التغيير والتبديل.
وهناك لفظتان تردان في الكتابات القبورية والإعلانية في بعض الأحيان، هما "مسرس"2 و"سنكرس"3. وتعني اللفظة الأولى: يبعد وينقل. أما الثانية فتعني: يغيّر ويزيل معالم الشيء، وقد ترد بعد الكلمة هذه العبارة "يومي أرضم"4, أي: أيام الأرض، بمعنى ما دامت الأرض.
ووردت لفظة "خطات" في نص قتباني، وهو أمر ملكي أصدره الملك: "شهر هلل بن ذرأ كرب". وقد جاء في هذا الأمر أن الملك سينزل عقوبات بالمخالفين لهذا الأمر. واستخدمت هذه اللفظة في أداء هذا المعنى5.
وفي السبئية لفظة "حجك" "حكك"، وتعني القانون6. وربما تؤدي معنى "حكّ", أي: "حق". أي: ما كان ضد الباطل.
وقد فسَّر "رودوكناكس" لفظة "حلكم"، "حلك" الواردة في نص قتباني عرف بكتابة "كحلان" بـ"قانون" وبـ"نظام". وفسَّر لفظة أخرى وردت معها هي "سحر" بمعنى أمر به. وأما لفظة "حرج"، فقد فسَّرها بمعنى أصدره وأخرجه7. وقد وردت الألفاظ الثلاثة في ابتداء قانون أصدره "شهر هلال" ملك قتبان لتنظيم أمور الزراعة والملك في بلاده8.
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 413".
2 الحرف الثاني من الكلمة هو حرف لا مقابل له في أبجديتنا, وهو بين حرفي الزاي والسين.
2 راجع النص:
Glaser 1089, 1660, Halevy 208. Rhodohanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 26 Glasser 1150, Halevy 192, 199
4 السطر الأخير من النص: Glaser 1150
5 راجع الفقرة التاسعة من النص:
Glaser 1396, 1610, Se 83, Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 4. Mahram, P.436.
6 Mahram, P.436
7 راجع النص الموسوم بـClaser 1396, 1610, Se 83
8 Rhodokanakis, Kataba. Texte, Ii, S. 5(10/145)
ووردت لفظة "نتذر" بعد لفظة "تنخيو" في بعض الكتابات1. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن لفظة "تنخيو" التي تعني الإعلان والإشهار، ليكون ذلك معلومًا لدى الناس، إنما يراد بها التنبيه على شيء قد تتولد منه نتائج غير طيبة، فهي بمثابة إنذار وتخويف وتحذير. وبهذا المعنى أيضًا لفظة "تنذر" بمعنى إنذار ونذر2.
وقد اختتمت بعض الأوامر والإرادات الملكية القتبانية بهذه الجملة: "قدمن وتعلماي يد......"3، ومعناها: "أمام. وعلمته يد"، أي: ووقعته يد. ويراد بها أن الإرادة الملكية قد كتبت أمامه، وأن يد الملك قد وقعته، فهو أمر صدر بإرادته وأمره.
فنحن هنا أمام نص قانوني، صدر باسم ملك من الملوك, أمر هو بإصداره، ودوّن أمامه، وشهد هو بنفسه عليه، ووقعته يده، دلالة على شهادته بصحته وبأنه نص شرعي ملكي معترف به. فعلى أتباعه السير وفقًا لأحكامه ولما جاء فيه.
وفي كتابة مثل هذه العبارات القانونية دلالة على وجود فهم للقانون وإدراك له عند العرب الجنوبيين.
وتطلق لفظة "بل" على المباح بلغة حمير4. وأما "البسل"، فهي من الألفاظ التي تدخل في باب الأضداد، فهي تعني الحرام كما تعني الحلال5.
وفي شريعة أهل الجاهلية حلال وحرام، مباح ومحظور، ويراد بالحلال كل ما أباحه العرف، مما لم يتعارض مع تقاليدهم ومألوفهم. أما ما تعارض منه معه، فهو حرام محظور، ويعاقب المخالف المرتكب للمحرمات ولما حرمته شريعتهم.
ومعنى الحلال والحرام الاصطلاحي هو المعنى الوارد في القرآن الكريم نفسه. غير أن الإسلام حدد الحرام والحلال وفق قواعد الشرع، أي: إن الإسلام ندب المصطلحين وحددهما وفق قواعده. أما الجاهلية، فحددتهما وفق عرفها.
__________
1 راجع السطر الأول من النص: Halevy 149
2 Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 59
3 الفقرة الأخيرة من النص: Glaser 1396, 1610, Se 83
4 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص120".
5 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص158".(10/146)
ومن المصطلحات التي لها علاقة بالحياة الاجتماعية لفظة "ثوب", أي: "ثواب"، و"أجر". ترد بهذا المعنى في الكتابات ذات الصبغة الدينية. ولفظة "تعمن" وتعني "النعم" و"نعمة"1.
وعثر في الكتابات الثمودية وفي اللحيانية على نصوص تتعلق بحق الملكية، فعثر على نص ثمودي يشير إلى ملكية بئر2. وعثر في اللحيانية على وثائق تتعلق بملكية أرض وعقار كما عثر على وثيقة، وجد أنها وصل, أي: اعتراف بتسلم مال. كما عثر على وثائق تتعلق بالقانون الجنائي. منها وثائق تتعلق بقتل، ووثائق تتعلق بعقوبات القتل وبالدية، ووثائق تتحدث عن ازدياد الجرائم والخروج على القوانين في "ديدان"3.
وتدل هذه الوثائق على وجود أصول القانون والمحافظة على الحقوق عند عرب أعالي الحجاز. وإن كُنَّا لا نستطيع في الوقت الحاضر تقديم أي رأي عن أصول التشريع عندهم أو التحدث عن وجود قوانين مثبتة مدوّنة في معالجة الحق العام والحق الخاص أو الجرائم أو أصول المرافعات على نحو ما نجده عند الأمم المعاصرة لهم، أو الشعوب التي عاشت قبلهم، فوضعت شرائع وصلت نصوص بعضها إلينا, مثل: شريعة حمورابي المعروفة.
وقد عثر الباحثون على نصوص تشريعية، أصدرها ملوك العربية الجنوبية, وأمروا بإعلانها على الملأ، للعمل بموجبها وهي حتى الآن قليلة العدد. ومع ذلك، فقد أعطتنا فكرة مجملة عن أصول التشريع عند العرب الجنوبيين. وقد صدرت هذه التشريعات باسم الملوك. فهم الذين أمروا بسنها وبتشريعها وبتنفيذ ما جاء فيها.
ويعبر عن القانون، أو سن القوانين بلفظة "سن" وتقابل كلمة Law أي: قانون في الإنكليزية4. و"السنة" في عربيتنا: الطريقة. وهي من القواعد الأساسية الأربع في الفقه الإسلامي5. فللفظة صلة إذن بلفظة "سن" في العربية الجنوبية.
__________
1 راجع النص الموسوم بـ:
Halevy 147, Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 57
2 Jaussen-Savignac, Mission, Ii, 427, 587, W. Caskel, 61, Arabien, S. 50
3 Arabien, S. 50
4 Jamme, Southern Arab. Inscriptions, P.449
5 اللسان "13/ 225 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 244"، "سنن".(10/147)
ويظهر من الأوامر والأحكام الملكية المدونة بالمسند، أن الحكومات العربية الجنوبية كانت حكومات مشرِّعة، نظمت أعمالها وأعمال مواطنيها بتشريعات عيّنت بموجبها حقوق الحكومة على الناس وحقوق الناس مع بعضهم وواجباتهم تجاه حكومتهم، وذلك بحسب إمكانية المجتمع لذلك العهد1، وقد أدركت شأن نشر القوانين والأحكام ووجوب إبلاغها للناس، فأمرت بتدوينها على الحجر، أي: بحفرها فيها، ووضع الأحجار المدونة في مواضع بارزة ليقف عليها الناس ويفقهوا ما ورد فيها من أحكام وأوامر، فلا يقبل عندئذ عذر لمعتذر إذا خالفها، كذلك نجد الناس يعبرون عن حقهم في الشيء بتدوين ذلك الحق وإعلانه، فعند شراء رجل بيتًا أو أرضًا، أو عند بنائه بيتًا، كان يكتب ذلك على الحجر ويضع الحجر في محل بارز من جدار البيت الخارجي ليطلع الناس على تملك صاحب الملك له. ويدل هذا الإعلان على وجود فكرة التقنين والتشريع وإدراك الحق عند العرب الجنوبيين.
وإذا أبرمت الحكومات العربية الجنوبية قانونًا، وإذا أصدرت أمرًا أو نظامًا، أمرت بتدوين نسخ من القانون أو الأمر أو النظام، لحفظها في ديوان الوثائق، لتكون مرجعًا يرجع إليه. وتُعلَن نسخٌ منها على الناس. ليقف الجمهور على ما جاء فيها2.
وتعد الساحات المنشأة أمام أبواب المدن المكان المختار لنشر الأوامر والقوانين على الناس، نظرًا إلى كونها محلات عامة يتجمع فيها أهل المدينة في الغالب، وقد تعقد فيها المحاكمات والاجتماعات العامة. فإذا صدر أمر حكومي أو قانوني كتب على الحجر، ثم يبنى على جدار المدينة عند الباب ليقف عليه الناس. وقد عثر المنقبون على قانونين قتبانيين في تحديد عقوبة القتل، وقد بنيا في الجهة اليسرى من باب مدينة "تمنع" العاصمة ليقف عليها من يحضر هذا المكان من سكان العاصمة أو القادمين إليها3، كما عثر المنقبون على أسماء جماعة من رجال مدينة "مريمت" "مريمة" وقد دوّنت على حجر بني على جدار باب المدينة ليقف عليها الناس4؛
__________
1 Grohmann, Arabien, S. 132, Rhodokanakis, Etud. Lexi., I, S. 67
2 Grohmann, Arabien, S. 137
3 Grohmann, Arabien, S. 132
4 المصدر نفسه.(10/148)
لأنهم قاموا بغزو رجعوا منه بغنائم كثيرة، أعطوا منها نصيبًا كبيرًا، فلكي يقف أهل المدينة على كيفية توزيع الغنائم، وكمياتها دوّنت تلك الكتابة.
وتلعب أبواب المدن دورًا خطيرًا في أصول التشريع عند الساميين. فقد كانت موضع إعلان القوانين، ومحل إبلاغها للناس، فهي بمثابة "الجرائد الرسمية" المخصصة بنشر القوانين في عرف هذا اليوم. وهي مواضع المحاكمة أيضًا، حيث يجلس الحكام للنظر في خصومات المتخاصمين. وهي مواضع عقد العقود أيضًا، من بيع وشراء. ويصف الإصحاح الرابع من سفر "راعوت" لنا، كيف أن "بوعز" جلس عند باب المدينة وأمر عشرة من شيوخ المدينة ليكونوا شهودًا لإجراء عملية بيع وشراء1.
ومما يلاحظ على القانوني القتباني أنه أخذ بمبدأ أن تنفيذ القوانين هو حق من حقوق "الملك"، أو من يخوله حق التنفيذ. ويراد بـ"الملك" الدولة، أو ما يسمى بـ"السلطان" في الفقه الإسلامي، فلا يجوز لأي أحد غير مخوّل تخويلًا قانونيًّا من الملك, أي: الدولة تنفيذ قانون أو أخذ أي حق مدعٍ بدون إذن رسمي من مرجع قضائي وسلطة مخولة، فالدولة وحدها هي التي تنظر في أمر الخصومات وفيما يقع بين الناس من خلاف. وهي وجهة نظر كل حكومة متحضرة، تريد إشاعة العدل والأمن في حدودها والقضاء على الفوضى والفتن التي قد تقع فيما لو قام كل إنسان بأخذ ما يدعيه من حق لنفسه بنفسه، وبدون مراجعة حكومة وسلطان.
وأنا إذ أستعمل لفظة الفقه الجاهلي، فلا أعني أن الجاهليين عامة، كانوا كلهم يسيرون وفق فقه واحد وأحكام واحدة تطبق على جميعهم، تطبيق الأحكام العامة في الدولة الواحدة. فكلام مثل هذا لا يمكن أن يقال بالنسبة إلى الجاهلية.
فقد كان الجاهليون قبائل في الغالب، وهم أهل الوبر. وللقبائل أعراف وأحكام تتباين بتباين الأمكنة، من انعزال في البادية أو قرب من الحضر أو اتصال بالأعاجم. وأما أهل المدر. فمنهم من كان يعيش في قرية والحكم فيها لا يتجاوز حدود القرية، ومنهم من عاش في ممالك أو إمارات، والحكم فيها لم يبلغ كل جزيرة العرب بأي حال من الأحوال. وقد انحصرت أحكامها لذلك في الحدود
__________
1 راعوت، الإصحاح الرابع، الآية الأولى وما بعدها.(10/149)
التي بلغتها قوتهم ووصل إليها سلطانهم الفعلي لا غير.
وإذا أردنا أن نتحدث بلغة هذا العصر عن أصول التشريع الجاهلي، أي: عن المنابع التي أمدت فقه الجاهلية بالأحكام، فإننا نرى أنها استمدت من العرف، ومن الدين، ومن أوامر أولي الأمر ومن أحكام ذوي الرأي.
أما "العرف"، فهو ما استقر في النفوس وتلقاه المحيط بالرضى والقبول، وسلم به وسار عليه في بعض الأحيان1. وذلك لأخذه طابع القانون من حيث لزوم التنفيذ والإطاعة. وهو معروف عند أكثر الشعوب، وقد اكتسبت بعض الأعراف درجة القوانين عند كثير من الأمم لمرور زمن طويل على استعمالها، ولتعارف الناس عليها، ولكونها معقولة منطقية لا تتعارض مع روح الزمن وعدالة التشريع.
وقد أشير إلى العرف في القرآن الكريم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 2. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد من "العرف" هنا: الإحسان3. وقد ألغى الإسلام بعض العرف الجاهلي، وأقرّ بعضًا منه، لعدم تعارضه مع قواعد الدين.
ولا تزال القبائل تطبق "العرف العشائري" حتى اليوم في فَضِّ ما يقع بين أفرادها وبينها من خلاف وخصومات. وهي تتجنب جهد إمكانها مراجعة الحكومات؛ لأنها تنفر من تطبيق القوانين عليها، بالرغم من إلغاء "العرف العشائري" أو "القضاء العشائري" كما يعرف في بعض البلاد العربية، وعدم اعتراف تلك الحكومات به. وذلك لرسوخ هذا العرف في نفوسها، وظهوره من تربتها، ولكونه موروثًا من الآباء والأجداد، فهو أقرب إليهم وإلى نفوسهم من القوانين الحديثة، وإن كانت أقرب إلى الحق والعقل من العرف.
ولا تزال بعض مصطلحات العرف الجاهلي باقية حيَّة تستعملها القبائل حتى اليوم في الأغراض والمعاني التي كانت عند الجاهليين. وحبذا لو عني علماء القانون عندنا بضبط العرف المستعمل في بلاد العرب في الزمن الحاضر ودراسته دراسة
__________
1 التعريفات، للجرجاني "ص154" "طبعة فلوكل".
2 سورة الأعراف، الآية 199.
3 المفردات، الراغب الأصفهاني "ص425" "طبعة البابي".(10/150)
علمية تحليلية، فإن لهذه الدراسة شأنًا كبيرًا في دراسة التشريع العربي في الجاهلية.
وللسنة أهمية كبيرة في الفقه الجاهلي. والمراد بها: الطريقة، وترد في القرآن {سُنَّةُ الْأَوَّلِين} 1 و {سُنَّةَ اللَّه} 2.
وترد لفظة "السنن" في الموارد الإسلامية. وكذلك "السنة" التي هي المورد الثاني في الفقه الإسلامي تستنبط منه الأحكام بعد القرآن. ولا بد أن تكون لها نفس المكانة عند الجاهليين3. وقد ورد في القرآن الكريم: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} 4، دلالة على مكانة سنة الآباء في عقلية الجاهليين. فما ورد في سنتهم هو قانون يعمل به. وورودها بهذا المعنى يدل على أنها كانت تؤدي معنًا خاصًّا عند الجاهليين. ولعلها كانت مصطلحًا من مصطلحات الفقه عندهم.
وسنة الجاهليين هي طريقتهم في الحياة وما ورثوه عن آبائهم من عرف وأحكام، وما قرروا السير عليه من قوانين القبيلة في تنظيم حقوق القبيلة والأفراد، وما يقرره عقلاؤهم من قرارات لا تغير ولا تبدل إلا للضرورة وبقرار يصدره أصحاب العقل والبصيرة والرأي والسَّنِّ فيها. ولا يزال العمل بها حتى اليوم. ويقال لها: "السانية" في اصطلاح قبائل العراق.
وأقصد بـ"الدين" ما كان يدين به أكثر الجاهليين من شريعة التعبد للأوثان والتقرب للأصنام، فقد وضع سدنة المعابد والكهان أحكامًا لأتباعهم على أنها أحكام ملزمة يكون مخالفها في حكم المخالف للعرف. وهي بالطبع أقوى وأظهر عند أهل الحضر، لمساعدة محيطهم على ظهور الشعور الديني الجماعي فيه، عكس محيط البداوة الذي تباعد فيه أهله، وتبعثرت بيوته، فلم يساعد على ظهور هذا الشعور الديني الجماعي فيه.
وبين الجاهليين يهود ونصارى، مهما قيل في يهوديتهم أو نصرانيتهم من العمق أو الضحالة، فإنه لا بد أن يكون لدياناتهم دخل في تنظيم حياتهم وفي أحكام مجتمعاتهم ولا سيما فيما يخص قوانين الأحوال الشخصية المقررة في الديانتين.
__________
1 الأنفال 38، الحجر 12، فاطر 43، الكهف 55.
2 الأحزاب، 38، 62، فاطر 43.
3 Law In The Middle East, P.35.
4 الكهف 55.(10/151)
وأقصد بأوامر أولي الأمر، أوامر أصحاب الحلّ والعقد من ملوك وسادات قبائل ورؤساء "الملأ" و"الندوة". فقد كانت أوامرهم أحكامًا تتبع في زمني السلم والحرب. وهم مشرعون ومنفذون، وقد صارت قوانين متبعة، وأشير إلى بعض منها في الموارد الإسلامية.
وقد وصلت إلينا أوامر ملكية قتبانية في تنظيم الجباية والتجارة، كما وصلت كتابات فيها تشريعات تخص النواحي القانونية سأتحدث عنها في المواضع المناسبة.
وأما أحكام ذوي الرأي فأريد بها أحكام فقهاء الجاهلية الذين عرفوا بالأصالة في الرأي وبالمقدرة في استنباط الأحكام المناسبة في فضِّ المنازعات والخصومات. ولا أريد بتعبير "فقهاء الجاهلية"، طبقة خاصة من علماء الفقه, أي: القانون، على نمط علماء الفقه عند الرومان أو اليونان أو فقهاء الإسلام، تخصصت بالفقه وبشرائع الجاهليين، وإنما أقصد بهم أولئك الذين طلب إليهم أن يكونوا حكمًا بين الناس، لوجود صفات خاصة بهم جعلتهم أهلًا للقضاء والحكم فيما يشجر بينهم من خلاف وهم سادات القبائل وأشرافها والكهّان.
وفي فقه الجاهلية أحكام كثيرة، وضعها مشرعون محترمون عند قومهم، وجرت عندهم مجرى القوانين. وقد نص أهل الأخبار عليها، كما نصوا على أسماء قائليها. وقد ذكروا بين تلك الأحكام أحكامًا أقرها وثبتها الإسلام. من ذلك حكمهم في "الخنثى"، وهو حكم حكم به "عامر بن الظرب العدواني" و"ذرب بن حوط بن عبد الله بن أبي حارثة بن حي الطائي", وقد أقر الإسلام حكمهما1، ومثل حكم "ذي المجاسد" وهو "عامر بن جشم بن غنم بن حبيب" في توريث البنات. فقد كانت العرب مصفقة على توريث البنين دون البنات، فورث ذو المجاسد، وهو الذي قرر أن للذكر مثل حظ الأنثيين. وقد وافق حكمه حكم الإسلام2.
إننا لم نسمع حتى الآن بوجود مفتين، أي: فقهاء كلفوا إبداء آراء في معضلات تفع فتعرض عليهم لإيجاد حلول ومخارج قانونية لها. ولم نسمع أيضًا بوجود حكام كلفوا رسميًّا من الدولة القضاء بين الناس، ولا أستبعد العثور في المستقبل على
__________
1 المحبر "ص236".
2 المحبر "ص236".(10/152)
كتابات في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية قد تكشف النقاب عن وجود مثل هذه الوظائف هناك؛ وذلك لأن الحكومات التي ظهرت فيها كانت حكومات منظمة, لها شرائع، ولها صلات مع العالم الخارجي، فلا يستبعد تعيينها أناسًا عرفوا بالكياسة وبالرأي السديد وبالعلم في الفقه للحكم بين الناس ولوضع القوانين التي تحتاج إليها الحكومة.
إن عدم تدوين الجاهليين لفقههم، أو عدم وصول شيء مدون منه إلينا، لا يكون دليلًا على عدم وجود فقه لديهم أو على عدم وجود منطق فقهي لديهم أو يكون دليلًا على سذاجة فقههم وبداءته، فإن انعدام التدوين لا يكون دليلًا على عدم وجود رأي فقهي عند قوم، فقد كان أهل "لقدمونيا" مثلًا وهم من اليونان "يميلون إلى الاعتماد على ذاكرتهم يستحفظونها من الأنظمة ما يعتدونه قوانين واجبة المراعاة"1، عكس أهل "أثينة" الذين كانوا ضدهم، فإنهم كانوا يدوّنون القوانين ويكتبونها للرجوع إليها2. وقد أخذت أحكام "لقدمونيا" الشفوية في التشريع بنظر الاعتبار واعتبرت في المدونات القانونية.
ولا بد أن يكون بين الجاهليين "تعامل" و"عرف" متبع في أمور عديدة من أمور الحياة التي عاشوا فيها في مثل حقوق مرور القوافل من مناطق نفوذ القبائل، وحقوق الجباية عن الأموال المستوردة أو المصدرة وفي موضع العقوبات وما شاكل ذلك.
وقد ذكرت بأن العلماء قد عثروا على بعض كتابات هي أوامر ملكية في الجباية، فلا يستبعد عثورهم في المستقبل على ألواح ومدونات في الفقه.
ومكان مثل مكة اشتهر أهله بالحذق في التجارة وبثراء بعضهم ثراء كبيرًا، وبتعاملهم مع الشرق والغرب، ومع الساسانيين ومع البيزنطيين ومع اليمن، وباكتنازهم الذهب والفضة، وبعقدهم العقود وبوجود الكتّاب بينهم، وبوجود الرقيق الأبيض عندهم، من ذلك النوع الذي يقرأ ويكتب والذي له وقوف على كتب الأولين، إن مكانًا مثل هذا لا يمكن أن يكون بلا فقه وبلا قوانين ومحاكم يتحاكمون بها. وكيف يكون ذلك وقد خاطب الله رسوله بقوله:
__________
1 مدونة جوستنيان "ص10".
2 المصدر نفسه.(10/153)
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} 1، و {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} 2، و {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} 3، وغير ذلك في مواضع فيها معنى الإفتاء. وقد ذكر العلماء أن "الكلالة" اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة، وأن رسول الله سئل عن الكلالة فقال: من مات وليس له ولد ولا والد. وأن بعض العلماء فسَّر الكلالة بأنها مصدر يجمع الوارث والموروث جميعًا4. وقوم يستفتون في المواريث ويستفتون في النساء هل يعقل ألا يكون لهم فقه وقوانين؟
وفي القرآن آيات مثل: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 5، و {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} 6، و {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} 7، و {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 8، وآيات أخرى تشير إلى وجود فكرة القضاء بين الناس، وإلى الحكم بينهم بالقسط، فهل كان الله يخاطب قومًا بهذه الآيات لو كان المخاطبون قومًا يجهلون العدل، ولا يفقهون شيئًا عن القضاء؟ اللهم لا.
وفي القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ
__________
1 النساء، الآية 127.
2 النساء، الآية 176.
3 الكهف، الآية 22.
4 المفردات "ص452".
5 الزمر، الآية 69.
6 طه، الآية، 72.
7 الشورى، الآية 21.
8 يونس، الآية 47.(10/154)
تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 1. وهي في تنظيم الدين والتداين وفي الشهادة على الدَّين وفي شهادات الشهود.
في الرهان وهي كلها من صميم عمل قريش. ولا بد وأن يكون لقريش أحكام في تنظيم الأعمال التجارية من بيوع وشراء وعقود مشاركات وأمثال ذلك ولو بمقياس يناسب تجارة مكة في ذلك العهد.
ولا أستبعد أن تكون لأهل يثرب أحكام وقوانين في تنظيم الزراعة وفي كيفية التعامل فيما بينهم وفي الربا وبينهم قوم من يهود. وقد كانوا يتاجرون ويشتغلون بالحرف وبالربا؛ لأن مجتمعها مجتمع منظم لا بد أن تكون له قوانين وفقه ضابط للمعاملات.
وقد ذهب المستشرق "كولدتزيهر" إلى أن الإسلام قد أقرّ بعض فقه الجاهليين وأحكامهم، مما لم يتعارض مع مبادئ الإسلام. فأخذ -على رأيه- من قوانين أهل مكة أحكامها وأخذ من فقه أهل المدينة، وهو في نظره أقل تطورًا من فقه أهل مكة، ولذلك فإن فقه أهل الحجاز كان من جملة المنابع التي عرف منها الفقه الإسلامي.
وأنا لا أتوقع احتمال عثور العلماء على شريعة أو شرائع في القانون عمَّ تطبيقها بلاد العرب كلها، ولا أؤمل عثورهم على مدوّنة تشبه "مدونة جوستنيان" في القوانين، وضعت لتطبق على كل الجاهليين؛ وذلك لأن ظهور قوانين عامة منظمة ومركزة ومبوبة، يستدعي وجود حكومة منظمة ذات سلطان مطاع، يشمل سلطانها كل بلاد العرب، ووجود شعب واحد يشعر بتبعيته تجاه حكومته، أو وجود شعور بخوف تجاه تلك السلطة يضطر الناس إلى العمل وفق أحكامها وما تصدره من أوامر، وذلك على نحو ما نراه في الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البيزنطية ونحوهما. وإذ كان ما تحدثنا عنه غير موجود ولا معروف في بلاد العرب، لم تظهر قوانين عامة تشمل أحكامها كل العرب، وكل ما ظهر إنما هو قوانين خاصة طبقت في حدود مناطق الدولة أو القبيلة أو القرية أو الحلف.
__________
1 البقرة، الآية 282 وما بعدها.(10/155)
ولما كانت القوانين والشرائع من نبات المحيط، ومحيط جزيرة العرب محيط قبائلي, مجتمعاته صغيرة متناثرة متباعدة ومشكلاته محصورة في ضمن إطار حياتهم، فإن المعضلات القانونية عندهم تكاد تكون محدودة نابعة من ظروف جزيرة العرب في الغالب، ومعالجاتها وأحكامها نابعة أيضًا من هذه الظروف نفسها، فهي وفق معيشة الجاهليين وأحوالهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية والزراعية، ولا يمكن أن نجد فيها ما نراه من قوانين اليونان والرومان من تصنيف وتبويب وتعقيد لاختلاف الحياة وتباين المحيط ونوع الحكم.(10/156)
العدل:
الغاية من وضع الأحكام وأمر المجتمع بتطبيق ما جاء فيها، هي ضبط ذلك المجتمع ومنع أفراده من تجاوز بعضهم على حقوق بعض آخر, وسلبهم ما يملكون، وذلك لإشاعة "العدل" ورفع الاعتداء الذي هو "الظلم" وهو نقيض العدل. فمن أجل تحقيق "العدالة" سنّت الشرائع والأحكام. والعدالة هي المساواة وعدم الانحياز.
وقد نصت شرائع الجاهليين على وجوب تحقيق العدالة بإعطاء كل ذي حق حقه وإنصافه. غير أن فكرة "العدالة" تختلف بين البشر باختلاف الأوضاع والأزمنة. فقد يكون حكمٌ عدلًا عند قوم، ويكون باطلًا, أي: ظالمًا عند قوم آخرين. وقد يكون عدلًا في زمان ويكون باطلًا في زمان آخر؛ لأن الظروف التي استوجبت اعتبار الحق حقًّا والعدل عدلًا، تغيرت فتبدلت، فأبطلته أو صار ظلمًا في نظر الناس. ومن هنا أبطل الإسلام بعض أحكام الجاهلية، وهذّب بعضًا منها، وأقر بعضًا آخر، وذلك لتغير الظروف بمجيء الإسلام وتغير النظر إلى أصول العدالة.
لقد صيرت المعيشة القبلية التي عاش فيها أكثر العرب في الجاهلية مفهوم "العدل" أو "الحق" عندهم بصورة تختلف عن مفهومنا نحن للحق والعدل، فالعدالة عندهم لم تكن تتحقق وتؤخذ إلا بالقوة، لذلك أثرت "القوة" تأثيرًا كبيرًا في تحديد مفهوم "العدل" و"الحق" فلكي ينال الإنسان حقه كان عليه أن يجاهد بنفسه وبذوي قرابته وعشيرته للحصول على ما يدعيه من حق(10/156)
ويثبته. وهو لا يحصل عليه في الغالب إلا بتهديد ووعيد وبوساطة أو باستعمال القوة.
وضخامة البيت أو العشيرة أو القبيلة، هي من جملة مسببات الحصول على الحق بفرضه فرضًا، لذلك صارت القوة هي معيار الحق والعدل، وصار القوي المنيع هو صاحب الحق في الغالب.
ولما كان الرجل أقوى من المرأة، وقد منح نفسه حقَّ سن الأحكام، صار الحق في الجاهلية في جانبه، فرفع نفسه عنها في أكثر الأحكام، وحرمها الميراث حتى لا يذهب الإرث إلى غريب، وقايضها بديونه أو بجناية تقع منه كما في "فصل الدم" وفي زواج البدل وفي منع المرأة من الزواج إلا من قريبها لوجود حق الدم عليها، وفي منع زواج زوجات الآباء إلا برضى أبناء الأب وذوي قرابته؛ لأنهم أحق بالزواج منها، وغير ذلك من أمور، جعل المرأة عرضًا وملكًا، حتى حرم الإسلام كثيرًا من هذه السنن الجاهلية التي لم يكن الجاهليون يرون أنها تنافي مبدأ العدالة؛ لأن ظروفهم الاجتماعية لم تكن توحي إليهم أن اعتبار المرأة دون الرجل في الحقوق شيئًا منافيًا للحق والعدل، فقد وجدوا أن الطبيعة خلقتها دونهم في القوة، فجعلوها من ثم دونهم في الحقوق، ولم يكن أمامها بالطبع غير الاستسلام.
فالحق هو القوة، والعدل هو القوة، ولن ينال امرؤ حقه إلا إذا كان مالكًا لذلك الحق، وهو القوة على تحصيل الحق. وبهذا الحكم للحق، حرم المرأة من ميراثها كما ذكرت، كما حرم من هو دون سن البلوغ، ومن لا يستطيع القتال من هذا الحق أيضًا. فلم يحرم القانون الجاهلي المرأة وحدها ودون غيرها من الإرث، لمجرد أنها امرأة، بل حرم الأولاد منه أيضًا ما داموا دون سن القتال. فقد وجد المشرع الجاهلي أن من الحيف إعطاء الطفل إرثًا، وهو طفل لا يستطيع الطعن بالرمح ولا الضرب بالسيف، لذلك حرمه منه ما دام طفلًا، وحرم الكبار منه ما داموا لا يستطيعون الطعن ولا الضرب بالسيف والذب عن الحق. ولا سيما عن حق الأهل والقبيلة، الذي هو الحق العام. لذلك حرم المعتوه أيضًا من حق الإرث؛ لأنه معتوه لا يستطيع حمل السيف والدفاع عن الحق.
ومن هذه النظرة أخذوا بمبدأ تفاوت الحقوق، بأن جعلوا تقدير الحق على أساس درجات الإنسان ومكانته، ومنزلة القبيلة ومكانتها، فدية الملك مثلًا أعلى من دية سيد القبيلة، ودية سيد القبيلة فوق ديات الآخرين، وهكذا على حسب(10/157)
الدرجات. ودية سيد قبيلة قوية هي أكثر من دية سيد قبيلة ضعيفة، ودية رجل من سواد قبيلة قوية هي ضعف دية رجل من درجته ومنزلته في قبيلة ضعيفة.
وسبب هذا التباين في الحق هو أن مفهوم الحق عند الجاهليين كان يقوم على أساس الاعتبارين المذكورين: مكانة المرء ودرجة القبيلة.
ولا يقتصر أصل تفاوت الحق هذا على "الديات", أي: على التعويض عن الضرر فقط، بل أقر التشريع الجاهلي رأي "التفاوت في الحق" في كل الحقوق الأخرى، مثل: حقوق الغنائم التي يحصل عليها المنتصرون من الغزو أو الحرب.
فأعطت الملك حقوقًا خاصة في الغنائم، ووضعت لسادات القبائل أنصبة معينة فيما يقع في أيدي أفراد القبيلة من غنائم، بأن جعلت لهم: النشيطة, وهي ما أصيب من الغنيمة قبل أن يصير إلى مجتمع الحي، والصفايا, وهي ما يصطفيه الرئيس، والفضول, وهو ما عجز أن يقسم لقلته فيخصص بسيد القبيلة، والمرباع, وهو حق سيد القبيلة في أخذ ربع الغنائم. وقد جمعت هذه الحقوق في هذا البيت:
لك المرباع منا والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول1
وأعطى التشريع الجاهلي الملوك وسادات القبائل والأشراف حق "الحمى"، لا يشاركهم فيه مشارك ولا يرعاه أحد غيرهم. بل يكون صاحب الحمى شريك القوم في سائر المراتع حوله2.
وأخذت شرائع الجاهليين بمبدأ أن الإنسان: إما حر وإما عبد, أي: رقيق مملوك، والرقيق هو ملك سيده، ولذلك، فإن ما يكون له أو ما يكون عليه يختلف في القوانين عما يكون للأحرار من حقوق وأحكام.
وهو مبدأ لم يكن خاصًّا بالجاهليين وحدهم، ولكن كان عامًّا في ذلك الزمن أخذت به جميع الأمم. وقد نُصَّ عليه في القوانين الرومانية واليونانية وفي الشريعة اليهودية. والعبد، هو كما قلت ملك صاحبه، وهو "ملك يمين"، إلا أن يمنّ عليه بالحرية, فيكون حرًّا. أما إذا بقي عبدًا في ملك صاحبه, فإن نسله يكونون عبيدًا بالولادة أيضًا. والعبدة، أي: المملوكة تكون ملكًا لسيدها، يتصرف
__________
1 لسان العرب "9/ 457"، تاج العروس "5/ 232".
2 تاج العروس "10/ 99".(10/158)
بها كما يشاء. ومن حقه الاتصال بها دون حاجة إلى عقد زواج؛ لأنها ملك، والمالك يتصرف بملكه على نحو ما يحب.
ويعبر عن "الحر" بـ"حرم", أي: "حرٌّ" في اللهجات العربية الجنوبية، أما الرقيق، فقد عبر عنهم بـ"ادم"، أو "اوادم" بالمصطلح العراقي، وبـ"عبدم"، أي: "عبد". ويقال للعبدة "امت"، أي: "أمة". فالأمة هي الأنثى المملوكة في تلك اللهجات1.
وقد أشير إلى هذا التقسيم الطبقي في النصوص التشريعية التي أصدرها حكام العربية الجنوبية، وذلك بأن نص فيها على أن تلك الأحكام تطبق على الأحرار وعلى العبيد، أو على الأحرار دون العبيد، أو على العبيد دون الأحرار، والنص على ذلك فيها أمر ضروري لتوضيح الحقوق والالتزامات بالنسبة إلى مجتمع ذلك الوقت، ولتعرف بذلك الواجبات المفروضة على كل فرد من أفراده.
والعبودية حسب القوانين وراثية، فابن العبد عبد، وابنة العبدة عبدة، وهكذا تنتقل العبودية بالوراثة في الأجيال دون انقطاع، ولن يقطعها ويقضي عليها إلا تنازل مالك العبد عن عبده وعمن يتبعه من نسله تنازلًا شرعيًّا بإعلان يعلن عن ذلك, وبكتاب يكتب في بعض الأحيان. وسبب ذلك أن العبد ملك يمين، وملك اليمين مثل كل ملك. والملك حق مقدس للفرد لا يجوز الاعتداء عليه.
والحر قد يصير عبدًا، ولو ولد حر الرقبة. فإذا أفلس رجل، ولم يتمكن من الوفاء بما عليه من دين عليه تأديته لدائنيه، وإذا وقع في سباء أو أسر، صار عبدًا. إلا إذا قبل الدائن إعفاءه من ديونه، أو منَّ آسره عليه، فردّه إلى أهله أو دفع فدية عن نفسه، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد.
وأخذ التشريع الجاهلي بمبدأ أن ما يطبق على أفراد القبيلة من قوانين وأحكام يكون خاصًّا بالقبيلة. أما ما يطبق على الأشخاص الذين يكونون من قبيلتين مختلفتين أو من قبائل عديدة فإنه يكون خاضعًا للعرف المقرر بين القبائل، فهو قريب مما يسمى بالقوانين الدولية في الزمن الحاضر. أما القوانين التي تطبق في القبيلة، فإنها تشبه قوانين الدولة الواحدة. فالشخص إذا ما ارتكب عملًا مخالفًا داخل حدود قبيلته, أي: مع أفراد القبيلة، عومل وفق أحكام القبيلة. أما إذا ارتكبها مع شخص من قبيلة أخرى، عومل وفق العرف القبلي، لا وفق عرف القبيلة.
__________
1 Jamme, Southern. P.427(10/159)
المسئولية "التبعة": الأصل في المسئولية وفي الحق هو: كل امرئ وما عمله، أي: إن الفاعل الذي يقع منه فعل يكون هو المسئول عن فعله. هذا هو الأصل في المسئولية, إلا أن التشريع الجاهلي أخذ أيضًا بمبدأ انتقال المسئولية من الفاعل إلى ذوي قرابته الأدنين، ثم الأبعدين، فالعشيرة أو القبيلة في حالة عدم التمكن من القصاص، أي: من أخذ الحق من الفاعل. وذلك بقانون العصبية. فالجماعة التي هي "القبيلة" تكون مسئولة بعرف العصبية في النهاية عن كل عمل يقوم به أحد أفرادها لارتباطها بـ"العصبية" وعلى كل أفرادها تحمل مسئولية أي فرد من أفرادها وضمان أداء ما يقع عليه من حق في حالة امتناعه، أو عدم تمكنه هو أو ذوي قرابته من تنفيذ أداء الحق.
فالقائل مثلًا إذا لم يسلم للاقتصاص منه بقتله، أو لم يتمكن أهل القتيل من قتله، انتقل حق أهل القتيل إلى قتل أقرب الناس إليه ثم الأبعد وهكذا، أخذًا بثأر القتيل. ويؤدي ذلك إلى التوسع في القتل في الغالب، مع عدم سقوط حق ذوي القتيل في البحث عن القاتل لقتله؛ لأن الأصل في كل جريمة هو الفاعل الأصل. وفي الديات، تؤخذ من أهل القاتل في الأصل، فإن لم يتمكنوا فمن ذوي قرابتهم الأدنين ثم الأقرباء الأبعدين على العصبات حتى تصل إلى حدود العشيرة أو القبيلة بقانون العصبية، فيوزع مقدار الدية على أفراد القبيلة كلٌ على حسب مركزه، وهي تعقل بذلك عن أبنائها، ويحمل أفرادها بقدر ما يطيقون. ويقال لذلك: "المعاقلة"1.
وقد ذكر أن العقل: الدية، سميت عقلًا؛ لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلًا؛ لأنها كانت أموالهم، فسميت الدية عقلًا، لأن القاتل كان يكلف أن يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول، فيعقلها بالعقل، ويسلمها إلى أوليائه.
وقد جرت عادة الجاهليين أن أهل القرية لا يعقلون عن أهل البادية ولا أهل البادية عن أهل القرية، فكل طبقة ملزمة بالعقل عن طبقتها2.
وقد ورد في نص قانوني مدون بالمسند أن الجماعة تكون مسئولة عن أية جريمة تقع في حماها إذا لم يعرف الجاني، أو إذا لم يسلم إلى الحاكم، ومعنى هذا لزوم
__________
1 لسان العرب "11/ 460"، "عقل".
2 لسان العرب "11/ 461 وما بعدها".(10/160)
إسهام "الجماعة" في البحث عن المجرمين للاقتصاص منهم، وإلا اعتبرت مسئولة عن الضرر الذي وقع بفعل الجاني، فإذا وقع قتل في مكان ما ولم يعرف القاتل أو لم يسلم إلى الحاكم، أمهله أهله أربعة أيام للبحث عنه ولتسليمه، فإن لم يسلم يصادر حصاد الجماعة أو يصادر ما عندهم من مال، ويودع في خزانة الحكومة أو المعبد رهنًا، إلى صدور حكم الملك أو الحاكم بالقضية1.
وغاية المشرع من وضع هذا القانون هو إشراك الجماعة مع الحكومة في تعقب المجرمين والقبض عليهم، ثم التعويض على أهل القتيل بدفع الدية، أي: ثمن الضرر الذي لحق بهم في حالة عدم التمكن من الوصول إلى القاتل لأخذ حق الدم منه.
وتكون الطوائف مسئولة كذلك عما يلحق أفرادها من أضرار، فإذا مات شخص في أثناء قيامه بعمل كلف إياه أو أصيب بضرر في أثناء أدائه ذلك العمل، وكان ذلك الرجل معدمًا، فعلى طائفته دفع تعويض عما أصابه يوضع في خزانة المعبد2.
__________
1 Grohmann, Arabien, S. 143
2 Glaser 1210, Rhodokanakis, Alt Sab. Texte, Ii, Wzkm, 1932, S. 186, Grohmann, Arabien, S. 134(10/161)
سقوط المسؤولية
...
سقوط المسئولية:
ولا تسقط مسئولية الأهل عن جرائم أبنائهم، ولا مسئولية القبيلة عن أفعال أفرادها إلا إذا أسقطت "العصبية" عنهم. على أن يعلن عن إسقاطها في الأماكن العامة وبصورة صحيحة شرعية. ليكون ذلك معروفًا بين الناس. وإلا بقيت المسئولية قائمة في رقبة من تقع عليهم. ومتى "خلع" الخليع وأشهد الشهود على خلعه صار أقرباؤه وأهل قبيلته في حل منه، ليس لهم تلبية ندائه واستغاثته وإلا تحملوا وزره من جديد.
ومتى خلع الإنسان سقطت عندئذ مسئوليات عمله عن أهله وأقربائه، وحصرت به وحده، وعليه أن يحمي نفسه بنفسه، وأن يدافع عن جرائره بيده. ويقال لهذا الإنسان: "الخليع". فإذا قَتَلَ لا يسأل أي أحد من قومه عن عمله. وإذا(10/161)
قُتِلَ ذهب دمه هدرًا. ولهذا قاسى الخليع حياة قاسية شديدة تنتهي بهلاكه في الغالب نتيجة خروجه على أنظمة قومه وقوانينهم. اللهم إلَّا إذا تاب ورجع عن غيّه ووجد من يؤويه ويحميه. من أهله أو غيرهم، يحتمل ما قد يقع في المستقبل منه، ويدفع فداء ما وقع منه وإصلاح ما أحدثه من أضرار.
وإذا وجد "الخليع" من يكفله وينعم عليه بحق الجوار انتقلت مسئولية عمله إلى مَنْ مَنَّ عليه بجواره، وعلى المجير عندئذ تحمل كل تبعة تصدر من ذلك الخليع، ما دام يتحمل حق الدفاع عنه وحمايته.(10/162)
إزالة الضرر:
إزالة الضرر، حقل عام من حقول الحقوق في القانون يشمل إزالة كل ضرر يلحق بشخص من تعدّ يقع على ملكه أو ظلم يلحق به، أو من اعتداء حيوان يصير عليه أو على ملكه. إلى غير ذلك من أضرار متعمدة أو غير متعمدة تلحق بمضرور، وقد قررت سنة الجاهليين إزالة الضرر وتعويض المتضرر. كما قررت ذلك كل القوانين والأديان للشعوب الأخرى؛ لأن الضرر ظلم، والظلم يجب أن يزال.
والضرر المتعمد، هو الضرر الذي يقع من شخص مسئول عن تصرفاته، أي: من إنسان عاقل مالك لزمام نفسه، تعمّد إلحاق ضرر بشخص آخر، أما الضرر الغير المتعمد، فهو الضرر الذي يقع من مثل هذا الشخص من دون تعمد ولا قصد أو غاية. فضرره أخف من الضرر الأول؛ لأن عنصر الجريمة غير موجودة فيه. ويدخل في الضرر العمد، كل ضرر يأمر به إنسان حر أتباعه من أمثال النساء والأطفال والرقيق والحيوان إلحاقه عمدًا بشخص آخر، فعنصر الجريمة متوفر في أفعال هؤلاء. ولما كان هؤلاء تبع، فتقع مسئولية فعلهم على سيدهم بالدرجة الأولى؛ لأنه هو المسئول شرعًا عنهم، بحكم ولايته لهم، وتبعيتهم له. كما يكون مسئولًا أيضًا عن كل ضرر يقع عنهم من غير عمد للسبب المذكور.
ولا تسقط العقوبة عن التبع أيضًا، فقد فرضت شرائع الجاهليين عقوبات على التبع لما يقع منه من ضرر متعمد أو عن خطًا.(10/162)
ومن قبيل الضرر الخطأ، إهمال السيطرة على الماء كإغفال أمر السدود، فإذا سال الماء إلى أرض أخرى فألحق ضررًا بها وجب على صاحبه دفع تعويض عن الضرر الذي ألحقه الماء بالمالك صاحب الأرض المتضررة. ومن هذا القبيل أيضًا سقوط بناء أو حائط على شخص، وسقوط عامل يشتغل أجيرًا لصاحب بناء، فيجب في مثل هذه الأحوال إزالة الأضرار التي تقع بدفع تعويض لمن وقع الضرر عليه أو لمن يعيله أو يرثه في حالة الوفاة.
ويزال الضرر الذي قد يقع في البيوع وفي الشراء بسبب غش وخداع أو مخالفة لوصف. فإذا باع بائع شيئًا ثم تبين أن في المباع عيبًا لم ينبه البائع المشتري عليه ولم يخبره به مع علمه به، فمن حق المشتري إرجاع المباع إن أراد، لوجود ذلك العيب فيه، وللمشتري حق المطالبة بإزالة الضرر عنه بتعويضه عن ضرره إن شاء ذلك. ومن هذا القبيل إزالة الضرر عن الجار إذا وقع تعدّ عليه بالتجاوز على أرضه أو بإيذائه أو بالانتفاع بملكه بصورة تؤذي ملك جاره أو تقلق راحته. فيجب في مثل هذه الأحوال إزالة الضرر وتعويضه عن الخسائر التي نجمت عنه.(10/163)
الولاية:
والولي هو من يتولى أمر غيره، ويكون وليًّا شرعيًّا عليه. فالأب هو ولي أمر أبنائه؛ لأنه هو المسئول الطبيعي عنهم. والجدّ هو ولي أمر أحفاده في حالة وفاة ابنه أو غيابه، والأعمام أولياء أمور أولاد الأخوة في حالة غيابهم أو وفاتهم، والأخذ الأكبر البالغ هو ولي أمر أخوته القصر. وهكذا حسب العصبات.
وتعطي الولاية للولي حق الإشراف على شئون المُولَّى عليهم. وللأب حق مطلق في الولاية على أبنائه. له أن يتصرف بهم كيف يشاء. حتى في حق الحياة، فيقدم ابنه قربانًا للآلهة إن نذر ذلك. والوأد مثل على ذلك. وكان من حق الأب رهن أولاده في مقابل دين له أو تنفيذ عهد عليه. ومن حقه تأديب أولاده على النحو الذي يريده. ويدخل في ضمن ذلك الضرب والطرد والخلع والحرمان من الإرث، وحق اختيار الزوج للبنت وأخذ مهر ابنته. وتلك حقوق أقرتها شرائع أكثر الأمم في ذلك العهد.
الملك: والملك حق مقدس معترف به في الجاهلية. فمن يملك شيئًا، امتنع(10/163)
الفصل السابع والخمسون: الاحوال الشخصية
مدخل
...
الفصل السابع والخمسون: الأحوال الشخصية
وأقصد بها الحقوق التي تتعلق بالشخص وبعلاقته بأسرته. مثل: الزواج والطلاق والوفاة والميراث وحقوق الزوجة أو الزوج وحقوق الوالد على ولده وحقوق الولد، وأمثال ذلك مما يدخل في الفقه الإسلام في "باب المناكحات"، وهو باب من أبواب قسم "المعاملات".
وبفضل إقرار الإسلام بعض أحكام الجاهليين في الزواج وفي الطلاق وفي الوفاة وفي الميراث وتحريم أحكام أخرى مع الإشارة إليها، جمع أهل التفسير والحديث والأخبار طائفة من أحكام الجاهليين القريبين للإسلام والمعاصرين له، خاصة أحكام أهل المدينتين: مكة ويثرب، ومن سكن في جوارهما من أهل المدر والوبر.
وعلى كل ما ذكرنا اعتمادنا. غير أن تلك المادة لا تزال خامًا بكرًا، وبها حاجة شديدة إلى الغربلة والنقد والتنسيق.
وما سنذكره في هذه الصفحات، لا يعني شمول هذا الوصف عموم الجاهليين في كل الأوقات وفي كل أنحاء الجزيرة، إنما هو قول خاص بالجاهليين القريبين من الإسلام والمعاصرين له والساكنين في الحجاز، ولا سيما في المدينتين المذكورتين. أما قدماء الجاهليين ممن عاشوا قبل الميلاد والجاهليين الذين عاشوا في جنوب جزيرة العرب أو في شرقيها، فلا نستطيع أن نقول: إن ما نذكره هنا منتزع من صميم حياتهم، فهو يمثل ما كان عندهم كل التمثيل؛ لأن المواد التي أشرت إليها لا تصل إلى حدودهم، وليس لها قدرة الوصول إليهم، فليس من حقنا إذن تعميم ما سنقوله على جميع الجاهليين.(10/198)
النكاح:
ويعبر عن الزواج بـ"النكاح" في الفقه الإسلامي. والنكاح هو: العقد في الأصل، ثم استعير للجماع1. وقد عبر في القرآن الكريم عن الزواج في المعنى الشائع عندنا من "الزوج" والزوجية. أما في حالة التزوج وعقد العقد لغرض الدخول على المرأة، فقد عبر عن ذلك بـ"النكاح" وبـ"نكح" وبأمثال ذلك، ومن هنا أطلق الفقهاء في الفقه على الزواج "النكاح" وعلى الباب المختص بذلك "المناكحات"، وعبر عنه بـ"العقد" وبـ"الوطء" كذلك2.
أما إذا كان الاتصال بين الرجل والمرأة اتصالًا جنسيًّا بغير عقد ولا خطبة، فهو زنا، ويقال للمرأة عندئذ "زانية" و"بغي" و"فاجرة" و"عاهرة" و"معاهرة" و"مسافحة"3.
ولا بد للزواج من أن يكون برضى الطرفين وبموافقتهما، وبموافقة الوالدين أو المتولي للأمر. وإذا كان أحد الطرفين أو كلاهما قاصرًا فلا بد من أخذ موافقة القيّم على أمره، وإلا تعرض الرجل والمرأة أو أحدهما للمسئولية. هذا هو الأصل في الزواج عند الجاهليين أيضًا، غير أن الرجل قد ينهب المرأة باتفاق مع البنت أو غصبًا فيأخذها. وهذا ما يسيء إلى أهل البنت ويلحق بهم الأذى، إلا أن الطرفين قد يتفقان فيما بعد على الزواج.
ولولي الأمر إجبار البنت على الزواج بمن يريده أو يوافق عليه؛ لأن يكون بعلًا لها، وليس لها مخالفته. وقد يسمح لها بإبداء رأيها في الزوج وفي الزواج، ويكون ذلك في الأسر المحترمة في الأكثر، وعند أولياء الأمور الذين ليس لهم من البنات غير واحدة أو اثنين، وعند وجود دالة للبنت على ولي أمرها.
__________
1 المفردات "ص535".
2 عمدة القارئ "30/ 64"، المبسوط للسرخسي "4/ 192".
3 النهاية "1/ 150"، اللسان "6/ 290" "18/ 83".
4 بلوغ الأرب "2/ 3، 33"، الميداني "1/ 10" 124، 4402.(10/199)
والرجال قوامون على النساء. أما المرأة، فهي للبيت، والرجل هو "رب البيت" وسيده والمسئول عنه، وله الكلمة على شئونه. وهو القيم الطبيعي المسئول عن تربية أولاده. وهو المسئول عن إعالة زوجه وأولاده. والزوج تبع لبعلها، وعليها إطاعة أوامره، ما دامت أوامره لا تنافي الخلق والمألوف. وبيتها هو "بيت الزوجية". ولسيادة الرجل على بيته وزوجه، قيل له في كثير من اللغات السامية، وفي جملتها اللغة العربية: "بعل". فالرجل هو بعل المرأة.
ومن تلده الزوج يكون للبعل، فهو في ولايته، وله رعايته، وعليه تربيته حتى يبلغ أشده. وهو مسئول أيضًا عن رعاية أحفاده بعد ابنه. أما أولاد ابنته فإنهم في رعاية أبيهم الذي يكون وحده المسئول عنهم؛ لأنه بعل زوجه، وهو رب بيته.
وللحق المتقدم لم تمانع شرائع الجاهليين في وأد البنات أو قتل الأولاد، ولم تَعُدَّ من يئد البنت أو يقتل ابنه قاتلًا، ولم تؤاخذه على فعله، حتى الأمهات لم يكن من حقهن منع الآباء من وأد بناتهن، أو قتل أولادهن؛ لأن الزوج هو وحده صاحب الحق والقول الفصل فيمن يولد له، وليس لامرأته حق الاعتراض عليه ومنعه.
ولهذا الحق لم يكن للولد الاعتراض على ما يفرضه أبوهم عليهم من حقوق، ولا مخالفة أوامره ونواهيه. فبوسع والدهم فرض ما يراه عليهم من عقوبات، فلا يمنعه منها إلا قوة الولد وتوسط الناس. فإذا اشتد عود الولد، وقوي ساعده صار الحق إلى جانبه، وصار في وسعه معارضة والده. ولن يكون في إمكان الوالد فعل شيء بعد بلوغ ابنه سوى خلعه والتنصل منه على رءوس الأشهاد.(10/200)
القاعدة العامة في الازدواج:
والقاعدة العامة في الازدواج مراعاة علاقة الأصل بالفرع، فلا يجوز نكاح الأب لابنته، ولا الجد لحفيدته، ولا يجوز للأم أن تتزوج ابنها، ولا للجدة أن تتزوج حفيدها، ولا للأخ أن يتزوج أخته، مراعاة لعلاقة الأصل بالفرع، أي: لعلاقة الدم. ومن يفعل ذلك يكون آثمًا مؤاخذًا على فعله.(10/200)
ويراعى هذا التحريم حتى في حالات التبني، لاكتساب التبني الصفة المقررة للابن الطبيعي، فلا يجوز للمتبني أن يتزوج ابنة المُتبنَّى؛ لأنه اتخذه ابنًا له.
ويحرم على الرجل أن يتزوج ابنة أخيه، أو ابنة أخته. أما ولد الأخوين أو ولد الأختين أو ولد الأخ والأخت، فالزواج بينهم مباح. ويحرم نكاح العمة كما يحرم نكاح الخالة؛ وذلك لأنهما في درجة الأصول. ويحرم بصورة عامة كل نكاح يقع بين المحارم.
ومن القبيح عندهم الجمع بين الأختين، وأن يخلف الرجل على امرأة أبيه، ويسمون هذا الفعل من فعول "الضيزن". وقد عرف هذا الزواج بنكاح المقت1. وقد حرم هذا النكاح في الإسلام2. فقد ورد أن "كبيشة بنت معن بن عاصم" امرأة "أبي قيس بن الأسلت" انطلقت إلى الرسول فقالت: "إن أبا قيس قد هلك، وإن ابنه من خيار الحي قد خطبني". فسكت الرسول، ثم نزلت الآية: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فهي أول امرأة حرمت على ابن زوجها3.
وذكر "السهيلي" أن ذلك الزواج كان مباحًا في الجاهلية بشرع متقدم، ولم يكن من الحرمات التي انتهكوها ولا من العظائم التي ابتدعوها؛ لأنه أمر كان في عمود نسب رسول الله، فكنانة تزوج امرأة أبيه خزيمة، وهي برة بنت مر. فولدت له النصر بن كنانة. وهاشم أيضًا قد تزوج امرأة أبيه واقدة. "وقد قال عليه السلام: أنا من نكاح لا من سفاح. ولذلك قال سبحانه: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} , أي: إلا ما سلف من تحليل ذلك قبل الإسلام. وفائدة هذا الاستثناء ألا يعاب نسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليعلم أنه لم يكن في أجداده من كان لغية ولا من سفاح"4.
وذكر علماء التفسير: أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين5. وأسلم "فيروز الديلمي"، وتحته أختان، فقال له النبي:
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 52 وما بعدها"، الجصاص "1/ 106، 212".
2 الأغاني "1/ 9" "3/ 15"، "طبعة ساسي".
3 الإصابة "4/ 162"، "رقم 945"، تفسير الطبري "4/ 217 وما بعدها".
4 الروض الأنف "1/ 145 وما بعدها".
5 تفسير الطبري "4/ 217".(10/201)
"اختر أيهما شئت" 1، وجمع "أبو أحيحة" سعيد بن العاص بن أمية، بين صفية وهند بنتي المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وجمع "قسي"، وهو ثقيف بن منبه، آمنة وزينب بنتي عامر بن الظرب في نكاح واحد. وجمع "هنام بن سلمة" العائشي، أخو بني تيم اللات بن ثعلبة بن عكابة بين أختين2.
ويقدم "ابن العم" على غيره في زواج ابنة عمه، ولا يزال مقدمًا على غيره3. وقد تجبر البنت على الزواج به في حالة عدم رغبتها من الزواج، وقد لا يتركها تتزوج من غيره إلا بإرضائه، وقد يكون هذا الإرضاء بدفع ترضية له.
__________
1 زاد المعاد "4/ 7".
2 المحبر "327".
3 عمدة القارئ "4/ 199".(10/202)
الصداق:
والزواج المألوف المتعارف عليه عند غالبية الجاهليين، هو نكاح الناس اليوم.
وهو أن يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها، أي: يعين صداقها ويسمي مقداره ثم يعقد عليها. وكانت قريش وكثير من قبائل العرب على هذا المذهب في النكاح1. وما يدفع يسمى "الصداق" أو "المهر".
ويعد الصداق, أي: المهر فريضة لازمة عند الجاهليين لصحة عقد الزواج، إذ هو علامة من علاماته، ودلالة على شرعيته. وكانوا لا يقرون زواجًا ولا يعترفون بشرعيته إلا إذا كان بمهر. فإذا لم يكن هناك مهر، عدّ بغيًا وسفاحًا وزنًا، فالمهر هو أيضًا علامة شرف، وكون المرأة حرة محصنة لها كامل الحقوق2.
ولا يشترط دفع المهر إذا كانت المرأة قد وقعت في أسر آسر فتزوجها؛ لأنها أسيرته، فهي ملكه، وله حق الدخول بها بغير مهر، ولو كانت في عصمة رجل آخر؛ لأن الأسر يبطل عصمة الزواج.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 3 وما بعدها"، شرح العيني "20/ 121".
2 "أما النكاح فإنما يكون بمهر، وأما السفاح فإنما يكون بلا مهر"، نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "118".
Ency, Iii, P.137(10/202)
"وكانوا يخطبون المرأة إلى أبيها أو أخيها أو عمها، أو بعض بني عمها. وكان يخطب الكفي إلى الكفي. فإن كان أحدهما أشف من الآخر في الحسب، أرغب له في المهر. وإن كان هجينًا خطب إلى هجين. فزوجه هجينة مثله. فيقول الخاطب إذا أتاهم: أنعموا صباحًا. ثم يقول: نحن أكفاؤكم ونظراؤكم. فإن زوجتمونا فقد أصبنا رغبة وأصبتموها. وكنا لصهركم حامدين. وإن رددتمونا لعلة نعرفها، رجعنا عاذرين. وإن كان قريب القرابة منه أو من قومه، قال لها أبوها أو أخوها، إذا حملت إليه: أيسرت وأذكرت ولا آنثت! جعل الله منك عددًا وعزًّا وجلدًا. أحسني خلقك وأكرمي زوجك. وليكن طيبك الماء. وإذا تزوجت في غربة قال لها: لا أيسرت ولا أذكرت، فإنك تدنين البعداء، وتلدين الأعداء. أحسني خلقك وتحببي إلى أحمائك. فإن لهم عليك عينًا ناظرة، وآذانًا سامعة. وليكن طيبك الماء"1.
والأصل في المهر عند الجاهليين دفعه للمرأة، غير أن ولي أمرها هو الذي يأخذه لينفق منه على ما يشتري لتأخذه المرأة معها إلى بيت الزوجية. وقد يأخذ ولي أمرها "المهر" لنفسه. ولا يعطي المرأة منه شيئًا، لاعتقاده أن ذلك حق يعود إليه. ولذلك نُهي عنه في الإسلام2. وللمرأة حق استرداد مهرها إذا فسح الزوج عقد الزواج، أو إذا طلقها، إلا إذا كان ذلك بسبب الزنا فيسقط.
وإذا كان المهر مؤجلًا كلًّّّّّّّا أو بعضًا، فيكون دينًا في عنق الزوج، وإذا توفي وجب دفعه لامرأته من تركته.
وليس للمهر حدّ معلوم، لا حدّ أعلى ولا حدّ أدنى، بل يتوقف ذلك على الاتفاق. وتُراعى في ذلك الحالة المالية للرجل في الغالب. ولما كانت النقود قليلة في ذلك العهد، كان المهر عينًا في الأكثر، وتدخل فيه الأرض. وقد بلغ المهر مائة من الإبل أو خمسين ومائة بعض الأحيان3. وقد كان بوزن من ذهب أو فضة في بعض الأحيان.
ويجوز للرجل استرداد مهره من تركة زوجه. إن ماتت في حياته، وله حق مطالبة أهلها بردّ مهرها إليه في حالة عدم وجود تركة لها.
__________
1 المحبر "310 وما بعدها".
2 {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} ، سورة النساء، الآية4، الجصاص "2/ 57".
3 الأغاني "8/ 78، 185"، الأمثال، للميداني "1/ 110، 124".(10/203)
وليس في زواج الشغار، مهر حقيقي؛ لأنه زواج مقايضة. وهو أن يزوّج الرجلُ وليّته في مقابل تزويجه وليّة من سيتزوج وليّته. فليس في هذا الزواج مهر بالمعنى المعروف.
وذكر أن أهل الجاهلية كانوا لا يعطون النساء من مهورهن شيئًا، وأن الرجل إذا زوّج ابنته استجعل لنفسه جعلًا يسمى "الحلوان"، وكانوا يسمون ذلك الشيء الذي يأخذه "النافجة" ويقولون للرجل: "بارك الله لك في النافجة"1.
وروي أن العرب كانت تقول في الجاهلية "للرجل إذا ولدت له بنت: هنيئًا لك النافجة، أي: المعظمة لمالك، وذلك أنه يزوجها فيأخذ مهرها من الإبل، فيضمها إلى إبله، فينفجها, أي: يرفعها ويكثرها"2.
والحلوان أن يزوج الرجل ابنته أو أخته أو امرأة ما بمهر مسمى، على أن يُجعل له من المهر شيء مسمى، وكانت العرب تعير به. وقيل إن حلوان المرأة: مهرها 3.
والصداق المهر، و"الصدقة" مهر المرأة، وقد ورد النهي في الحديث عن الغلو في صدق النساء4، مما يدل على أن من الجاهليين من كان يبالغ في الصداق.
ويستخلص مما جاء في أخبار أهل الأخبار عن المهر أن أهل الجاهلية لم يكونوا على عرف واحد بالنسبة إلى حق الانتفاع من المهر، فمنهم من كان يعطيه كله للمرأة، ومنهم من كان يعطيه كله ويزيد عليه إكرامًا لابنته أو من ولي أمرها، ومنهم من كان يأكله كله أو بعضًا منه.
ويظهر من وثيقة معينية أن ملوك معين كانوا يصدرون أوامرهم بالموافقة على عقود الزواج على نحو ما تفعل الحكومات من إصدار وثائق عقود الزواج. ولكننا لا نملك وثيقة تثبت أن المرأة كانت تُكره على الزواج من شخص لا تريد التزوج منه. بل ليظهر أن المرأة كانت مثل الرجل عند المعينيين لها حق النظر في أمر اختيار الزوج5.
__________
1 اللسان "11/ 650"، "نحل".
2 اللسان "2/ 382"، "نفج".
3 اللسان "14/ 193".
4 اللسان "10/ 197".
5 Arabien, S. 132(10/204)
أنواع الزواج:
والزواج المألوف بين الجاهليين، هو زواج هذا اليوم, أي: الزواج القائم على الخطبة والمهر، وعلى الإيجاب والقبول. وهو ما يسمى بزواج البعولة، وهو زواج منظم، رتَّب الحياة العائلية وعيَّن واجبات الوالدين والبنوة. وهو الذي أقره الإسلام يكون الرجل بموجبه بعلًا للمرأة فهي في حمايته وفي رعايته، وللزوج في هذا الزواج أن يتزوج من النساء ما أحب من غير حصر، وله أن يكتفي بزوج واحدة، وأمر عدد الأزواج راجع إليه وإلى هواه بالنساء.
وزواج البعولة هو الزواج الذي كان شائعًا بين الجاهليين في كل أنحاء جزيرة العرب، خاصة عند ظهور الإسلام، وبين أهل الحضر وأهل الوبر، ويرجع "روبرتسن سمث" W.R. Smith أسباب شيوع هذا الزواج وظهوره إلى الحروب وإلى وقوع النساء في الأسر، ويكون الأولاد بحسب هذا النوع من الزواج تابعين للأب، يلتحقون به، ويأخذون نسبه. وهو على نوعين: نوع يكتفي فيه الرجل بالتزوج بامرأة واحدة وهو ما يسمى بـMonogamy، ونوع آخر يتزوج بموجبه الرجل عددًا غير محدود من النساء، أي: أكثر من زوجة واحدة في آن واحد وهو ما يسمى بـpolygamy، أي: زواج تعدد الزوجات1.
ويحصل الرجل في هذا الزواج على زوجة بالتراضي مع أهلها، حيث يتم ذلك بخطبة ومهر، أو بالحرب حيث يحصل المنتصرون على أسرى فيختار الرجل له واحدة من بينهن متى ولدت له أولادًا صارت زوجًا له. وصار هو بعلًا لها. ويلاحظ أن النصوص العربية الجنوبية دعت الزوج بعلًا. أما الزوجة فدعتها "بعلت" "بعلة"، ومعناها أن المرأة في حيازة الزوج وملكه.
ولذلك عوملت الزوجة بعد وفاة زوجها معاملة "التركة", أي: ما يتركه الإنسان بعد وفاته؛ لأنها كانت في ملك زوجها وفي يمينه. ومن هنا كان للأخ أن يأخذ زوجة أخيه إذا مات ولم يكن له ولد؛ لأن الأخ هو الوارث الشرعي لأخيه، فهو يرث لذلك زوجة أخيه التي هي في بعولته، ويرث ابن الأخ هذا الحق عن أبيه2.
__________
1 Ency, Relig, 8, P.468
2 تفسير الطبري "4/ 208".(10/205)
نكاح الضيزن:
وهذه النظرة المتقدمة بالنسبة إلى الزوجة، دفعت إلى نكاح أطلق عليه المسلمون "نكاح المقت"، وعرف بـ"نكاح الضيزن" كذلك. وهو نكاح معروف من أنكحة الجاهليين. "وذلك أنهن في الجاهلية كانت إحداهن إذا مات زوجها كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره ومنها بنفسها، إن شاء نكحها، وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولم يزوجها حتى تموت"1. وظل هذا شأنهم إلى أن نزل الوحي بتحريم ذلك2. وقد تناوب ثلاثة من "بني قيس بن ثعلبة" امرأة أبيهم، فعيّرهم بذلك "أوس بن حجر التميمي"، إذ قال:
والفارسية فيهم غير منكرة ... فكلهم لأبيه ضيزن سلف3
وهذا الزواج على أنه كان معروفًا وقد مارسه أناس معروفون كان ممقوتًا من الأكثرية، ولذلك عرف بـ"زواج المقت"، وأطلقوا على الرجل الذي يخلف امرأة أبيه إذا طلّقها أو مات عنها وقيل من يزاحم أباه في امرأته "الضيزن". وقالوا للولد الذي يولد من هذا الزواج مقتي ومقيت4.
وطريقة أهل "يثرب" في إعلان دخول زوجات المتوفى في ملك الابن أو الأخ أو بقية الأقرباء من ذي الرحم إذا لم يكن للمتوفى أبناء أو أخوة، وهو بإلقاء الوارث ثوبه على المرأة، فتكون عندئذ في ملكه، إن شاء تزوجها، وإن شاء عضلها، أي: منعها من الزواج من غيره حتى تموت، فيرث ميراثها، وإلا
__________
1 تفسير الطبري "4/ 207"، روح المعاني "4/ 245 وما بعدها"، سنن أبي داود "2/ 230"، تفسير المنار "4/ 452 وما بعدها"، السنن الكبرى "7/ 161 وما بعدها"، الطبرسي "4/ 207 وما بعدها"، النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير "1/ 104".
2 سورة النساء، الآية 22، {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} ، الزبيري، نسب قريش "99 وما بعدها".
3 تاج العروس "9/ 264"، "ضزن"، بلوغ الأرب "2/ 52"، المحبر "325".
4 "ولد المقت"، المبسوط للسرخسي "4/ 198"، تاج العروس "1/ 585"، "مقت"، النهاية "4/ 108"، تفسير المنار "4/ 464 وما بعدها"، اللسان "2/ 90"، "مقت".(10/206)
أن تفتدي نفسها منه بفدية ترضيه1.
وقال "الطبري" في تفسير: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} : "كانت الوراثة في أهل يثرب بالمدينة ههنا، فكان الرجل يموت فيرث ابنه امرأة أبيه كما يرث أمه لا يستطيع أن يمنع. فإن أحب أن يتخذها اتخذها كما كان أبوه يتخذها. وإن كره فارقها. وإن كان صغيرًا حبست عليه حتى يكبر فإن شاء أصابها وإن شاء فارقها، فذلك قول الله تبارك وتعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} 2 وذكر "أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها"، وورد عن "السدي" قوله: "إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارث الميت، فألقى عليها ثوبه، فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه أو ينكحها فيأخذ مهرها، وإن سبقت فذهبت إلى أهلها فهم أحق بنفسها"3.
وقال "الضحاك": "كانوا بالمدينة إذا مات حميم الرجل وترك امرأة ألقى الرجل عليها ثوبه فورث نكاحها وكان أحق بها، وكان ذلك عندهم نكاحًا، فإن شاء أمسكها حتى تفتدي منه. وكان هذا في الشرك"4. وروي عن "ابن عباس" أنه قال: "كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت قبيحة حبسها حتى تموت فيرثها"5. فلهذا الظلم الفادح الذي كان ينزل بالمرأة بسبب ضعفها وبسبب عرف الجاهلية في الحق، منع ذلك في الإسلام.
قال "محمد بن حبيب": "وكان الرجل إذا مات، قام أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه. فورث نكاحها. فإن لم يكن له حاجة فيها، تزوجها بعض إخوته بمهر جديد"6. ولكن أهل الأخبار لا يذكرون أن الإخوة يدفعون لها مهرًا جديدًا، فقد يكون هذا المهر الجديد الذي أشار "محمد بن حبيب" إليه، هو ترضية للابن الأكبر بسبب تنازله عن حقه الشرعي في امرأة أبيه إلى من له
__________
1 تفسير الطبري "4/ 208 وما بعدها"، "4/ 217".
2 تفسير الطبري "4/ 208 وما بعدها".
3 تفسير الطبري "4/ 208"
4 تفسير الطبري "4/ 208"
5 تفسير الطبري "4/ 209"
6 المحبر "325 وما بعدها".(10/207)
رغبة فيها من إخوته الباقين، على ألا يكون من أبنائها بالطبع، وإنما هم من زوجات أخرى، وقد فرّق الإسلام بين رجال ونساء آبائهم، وهم كثير"1.
وذكر أن آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} ، نزلت في "كبيشة بنت معن بن عاصم" من الأوس، توفي عنها "أبو قيس بن الأسلت"، فجنح عليها ابنه، فجاءت النبي، فقالت: يا نبي الله لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح فنزلت هذه الآية في منع ذلك2. وحرم هذا الزواج في الإسلام، ومن تزوج امرأة أبيه وهو مسلم قتل وأدخل ماله في بيت المال3.
وقد كان العبرانيون يتزوجون زوجات آبائهم كذلك، استمروا على ذلك حتى بعد السبي. كذلك عرفت هذه العادة بين الرومان والسريان4.
__________
1 المحبر "326".
2 تفسير الطبري "4/ 208"، الإصابة "4/ 383"، "رقم 920"، أسباب النزول "108 وما بعدها".
3 زاد المعاد، لابن قيم الجوزية "3/ 202"، "فصل في حكمه -صلى الله عليه وسلم- فيمن تزوج امرأة أبيه".
4 Kinship. P.90(10/208)
نكاح المتعة:
وأشار أهل الأخبار إلى وجود أنواع أخرى من الزواج، الغالب عليها سقوط الصداق والخطبة منها، وهي: نكاح المتعة، وهو نكاح إلى أجل، فإذا انقضى وقعت الفرقة. وقد كان هذا النوع من الزواج معروفًا عند ظهور الإسلام. وقد أشير إليه في القرآن الكريم: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1.
__________
1 النساء، الآية 24.(10/208)
وللفقهاء آراء في المتعة، ولا تزال معروفة في بعض المذاهب1.
ومن دوافع حدوث هذا الزواج التنقل والأسفار والحروب، حيث يضطر المرء إلى الاقتران بامرأة لأجل معين على صداق. فإذا انتهى الأجل، انفسخ العقد. وعلى المرأة أن تعتدّ كما في أنواع الزواج الأخرى قبل أن يسمح لها بالاقتران بزوج آخر. فهو كزواج البعولة. فيما سوى الاتفاق على أجل معين يحدد مدة الزواج.
وينسب أولاد المتعة إلى أمهاتهم في الغالب، وذلك بسبب اتصالهم المباشر بالأم ولارتحال الأب عن الأم في الغالب إلى أماكن أخرى قد تكون نائية، فتنقطع الصلات بين الأب والأم ولهذا يأخذ الأولاد نسب الأم ونسب عشيرتها.
__________
1 صحيح مسلم "4/ 130"، المبسوط، للسرخسي، "5/ 152"، "6/ 61"، السنن الكبرى "7/ 200"، تفسير الطبري "4/ 8 وما بعدها"، الطبرسي "3/ 32"، روح المعاني "5/ 5 وما بعدها"، النهاية "4/ 81"، المحبر "ص289"، تفسير المنار "5/ 13 وما بعدها"، سنن أبي داود "2/ 226 وما بعدها"، عمدة القارئ "18/ 208" "20/ 111"، الأمومة عند العرب تأليف "ولكن "G. A. Wilken"، تعريب بندلي صليبا الجوزي "فازان 1902".
ص15 وما بعدها"، اللسان "8/ 329"، "متع"، الكشاف للزمخشري "1/ 360".
بلوغ الأرب "2/ 5"، عمدة القارئ "20/ 122"، "كتاب النكاح"، الحديث رقم "60".(10/209)
نكاح البدل:
ونكاح البدل: وهو أن يقول الرجل للرجل: "انزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي"2. فهو زواج بطريق المبادلة بغير مهر.(10/209)
نكاح الشغار:
ونكاح الشغار: وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق. وذلك كأن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك، وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي. وعرفه بعض العلماء على هذا النحو:(10/209)
"الشغار، بكسر الشين: نكاح كان في الجاهلية، وهو أن تزوج الرجل امرأة ما كانت على أن يزوجك أخرى بغير مهر1. وخص بعضهم به القرائب، فقال: لا يكون الشغار إلا أن تنكحه وليتك على أن ينكحك وليته"2. فكان الرجل يقول للرجل: شاغرني، أي: زوجني أختك أو بنتك أو من تلي أمرها حتى أزوجك أختي أو بنتي أو من إلىَّ أمرها ولا يكون بينهما مهر3. وقد نهى عنه الإسلام4. وورد "أن أناسًا كان فيهم: يعطي هذا الرجل أخته، ويأخذ أخت الرجل، ولا يأخذون كثير مهر"5. "وكان ذلك من أولياء النساء، بأن يعطي الرجل أخته الرجل على أن يعطيه الآخر أخته، على أن لا كثير مهر بينهما، فنهوا عن ذلك"6.
والغالب أنه مثل "البدل" بدون مهر. وهو معروف حتى اليوم مع ورود النهي عنه، ولا سيما بين الطبقات الفقيرة والأعراب، وللوضع الاقتصادي والاجتماعي دخل كبير في هذا الزواج، لعدم وجود المهر فيه، إذ حل التقايض فيه محل المهر. ولهذا لم ينظر إليه نظرة استهجان لوجود هذا التقايض فيه الذي يقوم مقام المهر.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 5"، "باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه", شرح الإمام النووي على صحيح مسلم، حاشية على القسطلاني "6/ 141"، سنن أبي داود "2/ 227"، عمدة القارئ "20/ 108 وما بعدها"، "كتاب النكاح: باب الشغار حديث رقم 48"، السنن الكبرى "7/ 199 وما بعدها"، إرشاد الساري "6/ 141 وما بعدها".
2 اللسان "6/ 85 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 306 وما بعدها"، "شغر".
3 النهاية "2/ 245".
4 "لا شغار في الإسلام"، صحيح مسلم "4/ 139"، المبسوط، للسرخسي "5/ 105"، إرشاد الساري "6/ 141"، الكافي، للرازي "5/ 361"، "طهران 1378هـ"، مجمع البيان "4/ 162".
5 تفسير الطبري "4/ 162".
6 تفسير الطبري "4/ 162".(10/210)
نكاح الاستبضاع:
وأشار أهل الأخبار إلى نوع غريب من الزواج، سموه "نكاح الاستبضاع". وهو -على ما يزعمون- أن يقول رجل لامرأته إذا طهرت من طمثها: ارسلي(10/210)
إلى فلان فاستبضعي منه، لتحملي منه، ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد؛ لأنهم كانوا يطلبون ذلك من أكابرهم ورؤسائهم في الشجاعة أو الكرم أو غير ذلك فكان هذا النكاح الاستبضاع1.
كذلك كان بعض أصحاب الجواري على ما يرويه أصحاب الأخبار أيضًا، يكلفون جواريهم الاتصال برجل معين من أهل الشدة والقوة والنجابة، ليلدن ولدًا منه يكون في يمينه وملكه2. والغاية من هذا النوع من التكليف الحصول على أولاد أقوياء يقومون بخدمة الرجل المالك، إن شاء استخدمهم في بيته وفي ملكه، وإن شاء باعهم وربح منهم، فهي تجارة كان يمارسها المتاجرون بالرقيق للربح والكسب.
وأما ما أشار إليه أهل الأخبار من وجود زواج دعوه زواج الرهط، وزواج آخر قالوا له: "زواج صَوَاحِبات الرايات"3. فلا يمكن عدّهما زواجًا بالمعنى المفهوم من الزواج؛ لأنهما في الواقع نوع من أنواع البغاء، وخاصة "زواج صواحبات الرايات". وقد عرفوا الزواج الأول بأنه زواج يجتمع فيه الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، وذلك برضاء منها وتواطؤ بينهم وبينها، فإذا حملت ووضعت، أرسلت إليهم فلم يستطيع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي من أمركم، وقد ولدت، ثم تسمي أحدهم وتقول له: فهو ابنك يا فلان، فيلحق بها ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل. وقد قيل إن هذا يكون إن كان المولود ذكرًا، وإلا فلا تفعل لما عرف من كراهتهم للبنت وخوفًا من قتلهم للمولودة4.
ويقال لهذا النوع من الزواج زواج "تعدد الأزواج" Polyandry، في
__________
1 النهاية في غريب الحديث "1/ 98"، شرح العيني "17/ 246"، "20/ 121"، صحيح البخاري "3/ 162"، بلوغ الأرب "2/ 4".
2 تاج العروس "5/ 279"، اللسان "9/ 361".
3 بلوغ الأرب "2/ 4 وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "2/ 4"، عمدة القارئ "20/ 121 وما بعدها"، القسطلاني، إرشاد الساري "8/ 45"، الأمومة عند العرب "24 وما بعدها"، الملل والنحل "2/ 442"، "لندن".(10/211)
الإنكليزية، وذلك لوجود امرأة واحدة فيه وعدد من الرجال تختارهم المرأة، التي تكون زوجة مشتركة بينهم، وهو عكس زواج الـPolygamy، أي: زواج تعدد النساء للرجل الواحد، حيث يتزوج الرجل الواحد بموجبه عددًا من النساء، بعلًا لهن1.
وعَرَّفوا "زواج صَواحِبات الرايات" بأن نكاح يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها، وهي البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن. فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها، ودعوا لهم "القافة"، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فاستلحقه به، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك2. وذكر أن تلك الرايات كانت رايات حمرًا. فالنكاحين المتقدمين ليسا في الواقع زواجًا بالعرف الشائع عند غالبية الجاهليين وإنما هو سفاح، وقد عُدّ في القرآن الكريم "زنا"، ولو كان فيه استحقاق الولد بوالد. فليس في هذا الزواج صداق ولا خطبة على عادة العرب، ومن يفعله من الرجال، لم يكن يقصد به زواجًا بمعنى الأزواج وبالدرجة الأولى، وإنما التسلية وتحقيق شهوة بثمن، ولهذا فهما من أبواب الزنا والسفاح.
وقد تعرض "السكري" لموضوع "صواحبات الرايات"، فقال: "ومن سنتهم أنهم كانوا يكسبون بفروج إمائهم. وكان لبعضهم راية منصوبة في أسواق العرب، فيأتيها الناس فيفجرون بها. فأذهب الإسلام ذلك وأسقطه فيما أسقط، ولهن أولاد ونسل كثير معروف"4.
وممن أشار إلى وجود إباحة تعدد الأزواج للزوج الواحدة في شرائع الجاهليين، "سترابو" ذكر أن الأخوة كانوا يشتركون في كل شيء، في المال وفي الزوج، فللإخوة جميعهم زوج واحدة تكون مشتركة بينهم. ولكن الرئاسة تكون للأخ الأكبر. وإذا أراد أحد الأخوة الاتصال بالزوجة، وضع عصاه على باب الخيمة، لتكون علامة تفهم الآخرين أن أحدهم في داخلها، فلا يدخلها، وهم
__________
1 Ency, Relig, Vol, 8, P.468
2 بلوغ الأرب "2/ 4 وما بعدها".
3 تفسير المنار "5/ 22".
4 المحبر "340".(10/212)
جميعًا يحملون العصي معهم. أما في الليل فتكون الزوجة من نصيب الولد الأكبر. وهم يعاشرون أمهاتهم معاشرة جنسية. وذكر أنهم يعاقبون الزاني عقابًا شديدًا: يعاقبونه بالموت. والزاني في عرفهم هو الشخص الغريب، يعاشر امرأة من أصل غريب عنه1.
وذهب بعض العلماء إلى أن اشتراك الأخوة في زوج واحدة، وهو ما يعبر عنه بـFraternal Polyandry عند علماء الاجتماع، على نحو ما أشار "سترابون" إليه، هو زواج يعدّ مرحلة وسطى بين تعدد الأزواج Polyandry، البدائي الذي لم يكن مقيدًا بقيود وبين الزواج المقيد المعروف، زواج البعولة، وهو اختصاص المرأة بزوج واحد، أي: الزواج الذي أباحته الأديان السماوية. وكان شائعًا بين غالبية الجاهليين القريبين من الإسلام وعند ظهور الإسلام. وليس بمستبعد أن يكون "سترابون" قد قصد بـ"زواج الأخوة" الزواج المعروف بـLe Virate Marriage عند علماء الاجتماع. وهو زواج الأخ زوجة أخيه بعد وفاته، وهو زواج نشأ على رأي علماء الاجتماع من زواج الـPolyandry. وهو معروف عند العرب وعند العبرانيين والحبش وغيرهم2.
وحينما يتوفى الزوج عند العبرانيين، تاركًا له زوجًا دون ولد، يأخذ الأخ أرملة أخيه، فإذا ولدت له ولدًا عدّ المولود للأخ المتوفى. وللباحثين آراء عن أصل هذا الزواج وفي الأسباب التي أدت إلى وقوعه4. وهو في رأي "جيمس فريزر" صفحة من صفحات اشتراك الأخوة في زوج واحدة، واشتراك الأخوة في تزوج الأخوات، وهو متمم لما سماه بـSororate5.
والجمع بين الأختين زوجين لرجل واحد، زواج معروف عند الجاهليين6. وهذا الزواج هو صورة معكوسة لزواج الأخوة مشتركًا في زوج واحدة، فلم
__________
1 Strabo, Xvi, 4, Ency. Relig., Vol., 8, P.467
2 Ency. Relig., Vol., 8, P.467, Die Socalen Verhaltnisse Der Israeliten, S. 28
3 Ency. Breta., Vol., 13, P.979
4 Westermark, History Of Human Marriage, Vol., Iii, “1921”
5 Ency, Brita, Vol, 21, P.2, “Sororate”, Sir Jamme Frazer, Folklore Of The Old Testement. Vol., Ii, P.317.
6 تفسير الطبري "4/ 217 وما بعدها"، روح المعاني "4/ 260".(10/213)
يكن هناك رادع قانوني يمنع الرجل من التزوج من الأخوات في زمن واحد ومن الجمع بينهن في صعيد الزوجية، وفي بعولة رجل واحد، وهو في جملة أنواع الزواج الذي نهى عنه الإسلام1.
وتعدد الأزواج للزوجة الواحدة يسبب مشكلة خطيرة في قضية تعيين أبوة الأولاد, إذ يكون من الصعب في أكثر الحالات إثبات ذلك، ولهذا نسبوا إلى الأمهات في الغالب. وهذا ما يعرف بالأمومة. وزواج مثل هذا يكون داخليًّا، أي: في أفراد العشيرة الواحدة، ويعاقب مرتكبه عقابًا صارمًا إذا كان من عشيرة غريبة، إذ يعد ذلك نوعًا من الزنا، ويكون هذا الزواج مؤقتًا في الغالب، ينتهي أجله بارتحال أهل المرأة وانتقالهم من مكان إلى آخر.
وقد أشار "أميانوس مارسيلينوس" Ammianus Marcelinus إلى زواج قال: إنه موجود عند العرب، تزف العروس إلى زوجها ومعها حربة وخيمة، وقال: إنها تستطيع أن تعود إلى بيتها بعد مدة إذا رغبت في ذلك. وقد ذهب "جورج برتن" George Barton إلى أن هذا الزواج الذي يذكره هذا المؤرخ القديم هو نوع من الزواج المتقدم2.
إن هذا الزواج يجعل المرأة تعيش مع أهلها وبين أبويها وإخوتها ومعها أولادها، ولهذا يكون نسب الأطفال هو نسب الأم، ولهذا صار الخال أقرب إليهم من العم. ومن هنا نرى أن للخال شأنًا كبيرًا بالقياس إلى الأطفال عند الساميين3.
ويظن بعض علماء الاجتماع المحدثين أنه من الأسباب التي دعت إلى شيوع تعدد الأزواج للزوج الواحدة، هو قلة عدد النساء بالقياس إلى الرجال. وذلك بسبب الوأد4. ولكن كيف نتمكن من إثبات انتشار عادة الوأد بين جميع العرب وفي كل العهود؟ ثم من الذي يثبت لنا أنه كان من سعة الانتشار بحيث أحدث مشكلة خطيرة في عدد النساء بالقياس إلى الرجال؟ ثم إن هذا النوع من الزواج كان معروفًا عند غير العرب من الأمم، ولا زال معروفًا عند بعض القبائل الإفريقية، وهو في نظرهم نوع من أنواع الزواج، وهم لا يمارسون مع ذلك الوأد!
__________
1 سورة النساء، الآية 23
2 Ency, Relig, Vol, 8, P.467
3 Ency, Relig, Vol, 8, P.467
4 Ency, Relig, Vol, 8, P.467(10/214)
وقد نص في الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 1 ونص في الآية: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} 2، وذلك بسبب النسب والصهر والرضاع2. ونزول الوحي بتحريم الزواج بالمذكورات، يبعث على الظن أن من الجاهليين من كان يتصل اتصالًا جنسيًّا بهن. غير أن من العلماء من يقول إن الجملة "إنشائية، وليس المقصود منها الإخبار عن التحريم في الزمان الماضي"4، بمعنى أنها ليست حكاية عن تجويز الجاهليين الاقتران بالنساء المذكورات، وتحريم الإسلام له، وإنما الآية تقرير وتوضيح للتحريم والمحرمات على سبيل العدّ والحصر، لا الحكاية والإبطال لأحكام سابقة لظهور الإسلام5.
وللآيتين شأن خاص بالقياس إلى بحثنا في زواج الجاهليين، ولهذا كان لشرح أسباب نزولهما والعوامل التي دعت إلى نزول الوحي بهما، والغاية من نزول الحكم بالتحريم، شأن كبير عند الباحث في هذا الموضوع، غير أن غالبية المفسرين لم تتعرض للبحث في هذه المسألة، ويا للأسف، وإنما تبسطت في أمور لغوية وفقهية لا تزيل الغموض عن الأسباب التي دعت إلى النص على التحريم، وعن آراء الجاهليين في الزواج بالمذكورات في الآية، إذ إن التحريم يعني وقوع الإباحة عند من حرم ذلك عليهم إلى حين نزول الوحي: ولا سيما أن المفسرين قد ذكروا أمثلة تشير إلى أن بعضهم قد تزوج ممن ورد ذكره في تلك الآية. ثم إن بعضه من النوع المعروف المألوف عند بعض الأمم، وما زال معروفًا حتى
__________
1 النساء، الآية 22 وما بعدها، تفسير الطبري "4/ 219"، تفسير الألوسي "4/ 223".
2 النساء، الآية 22.
3 تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "5/ 105 وما بعدها".
4 روح المعاني "4/ 249 وما بعدها".
5 عمدة القارئ "20/ 100".(10/215)
الآن، وأن بعض ما حرم في الإسلام جائز في ديانات أخرى، ومنها اليهودية والنصرانية، فليس بغريب ولا بمعيب إذا كان موجودًا بعضه عند الجاهليين.
والاتصال الجنسي بين الأولاد والأمهات شيء قليل الوقوع عند البشر1.
ولم تبحه ديانة من الديانات، وهو غير معروف في العرب، ولم يشر إليه أهل الأخبار. أما ما ذكره "سترابون" فلعلّ المراد منه الزواج بزوجات الآباء بعد موتهم، أي: إنه ذكر الأمهات على سبيل التجوز، وهو زواج المقت الذي كان معروفًا في الجاهلية وعند غير الجاهليين، إلى أن نهى عنه الإسلام2.
وأما زواج الأخوة بالأخوات، فهو معروف وثابت وما زال معروفًا حتى الآن في "سِيام" وفي بورما وسيلان وأوغندا وأماكن أخرى. وقد كان عند الفرس والمصريين3، وخاصة بين أفراد الأسر المالكة والأشراف. والظاهر أن ذلك لاعتقادهم ضرورة المحافظة على نقاوة الدم وخصائص الأسرة. خاصة وقد كانت عقيدة القدماء أن تلك الطبقات مقدسة مؤلهة، فلا يجوز إهراق دمها في دم أوطأ منه.
وقد ذهب "موركن" "Morgan" وآخرون إلى أن زواج الأخ بأخته، هو الزواج المألوف العام الذي كان شائعًا بين البشر، وأنه المرحلة السابقة للزواج المألوف4. أما زواج الآباء ببناتهم، فهو معروف ومذكور ولكنه قليل، وقد أشير إلى وجوده عند بعض الشعوب ومنهم المجوس والمصريون، ذكر ذلك اليونان والرومان، وأشار الأخباريون إلى تزوج "حاجب بن زُرارة" ابنته "دختنوس" لمجوسيته، وذكروا أنه أولدها، وأوردوا في ذلك شعرًا وقصصًا. ثم ذكروا أنه ندم بعد ذلك على عمله، وأنه فعل ذلك بتأثير المجوسية التي دان بها، وحاجب بن زرارة هو من تميم، فالمجوسية على زعم أهل الأخبار هي التي أباحت لحاجب الاقتران بابنته5.
__________
1 Ency, Relig, Vol, 8, P.425, 467
2 المصدر نفسه.
3 كذلك.
4 Ency, Relig, Vol, 8, P.467
5 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي "5/ 104"، الأغاني "10/ 38"، بلوغ الأرب "2/ 52، 235".(10/216)
ودعوى الأخباريين هذه فيها نظر، والشعر المذكور والقصص الذي يورده أهل الأخبار يحتاج إلى إثبات. وقد رأينا كثيرًا منه تعمله معامل الوضع، وقد ثبت وضعه، وليس بمستبعد أن يكون ما ذكره هؤلاء هو من هذا القبيل. وضعه خصوم تميم للطعن فيها، وإلحاق مثلبة بها، ثم رَوَّجه وأشاعه الطالبون لمثالب القبائل من العرب، وقد كانوا يبحثون عن أمثال هذه السقطات، وهم جماعة لهم رأي في الدين وفي السياسة معروف مشهور.
وفي بعض الأخبار أن "دختنوس" كانت ابنة "لقيط بن زرارة التميمي"، وأنها كانت تحت "عمرو بن عدس" سماها أبوها "دختنوس" باسم ابنة كسرى, وأن البيتين اللذين ينسبهما أهل الأخبار إلى "حاجب" ويزعمون أنه قالهما حين نكح ابنته وهما:
يا ليت شعري عنك دختنوس ... إذا أتاها الخبر المرموس
أتسحب الذيلين, أم تميس؟ ... لا بل تميس، إنها عروس
لم يكونا لحاجب، بل كانا من رجز "لقيط" وقد قالهما يوم شعب جبلة عند موته، وجعلت بنو عامر يضربونه، وهو ميت، وقد رووهما على هذه الصورة:
يا ليت شعري اليوم دختنوس ... إذا أتاها الخبر المرموس
أتحلق القرون، أم تميس؟ ... لا بل تميس إنها عروس.
وذكروا أن "دختنوس" أخذت ترثي أباها بأبيات ذكروها. وليس في كل هذه القصة أية إشارة إلى تزوج لقيط بابنته، بل هي تنص على أن زوجها كان "عمرو بن عدس". وأن قصة زواج "حاجب" بابنته قصة مصنوعة.
وقد أشار أهل الأخبار إلى نوع آخر من الزواج قالوا له: "نكاح الخِدْن" وقد أشير إليه في القرآن الكريم {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} ، ومعناها اتخاذ أخلاء في السر، وذلك باتخاذ الرجل
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 235".
2 الأغاني "10/ 38"، تاج العروس "4/ 147"، "دختنوس".
3 الأغاني "10/ 38"، بلوغ الأرب "2/ 235 وما بعدها".
4 النساء، الآية 25، المائدة، الآية 5، الأنعام، الآية 151.(10/217)
صديقة له، أو اتخاذ المرأة صديقًا1. ويكون ذلك بالطبع بتراضٍ واتفاق. و"ذات الخدن" هي من اتخذت لها صديقًا واحدًا، وقد نُهي عن اتخاذ الأخدان في جملة ما نُهي عنه في الإسلام2. وكان الرجل في الجاهلية يتخذ خدنًا لجواريه، ليحدث الجارية ويصاحبها ويؤانسها لكي لا تستوحش، وقد يتصل بها، وقد نُهي عن هذا النوع من المخادنة أيضًا في الإسلام3.
و"نكاح الخدن" لا يمكن عدّه نكاحًا وإن أطلق أهل الأخبار عليه صفة النكاح؛ لأنه لم يكن بعقد وخطبة، وإنما كان صداقة، وآية ذلك ورود "ولا متخذات أخدان" بعد جملة "غير مسافحات" في القرآن الكريم، والنهي عن الاقتران بصاحبات الأخدان والمسافحات؛ لأنهن غير محصنات. فحكم صاحبة الخدن هو حكم المسافحة في الجاهلية على السواء.
وقد ذكر علماء التفسير أن "أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي. يقولون: أما ما ظهر منه فهو لؤم، وأما ما خفي فلا بأس بذلك"4.
فالزنا عند أهل الجاهلية، الزنا العلني، فهو عيب عندهم، أما اتخاذ الخدن، فلا يعدّ عيبًا؛ لأن المرأة تصادق الرجل، والرجل يصادق المرأة، وقد وقع عن قبول ورضًى، فهو عمل حلال، ولا بأس به5.
__________
1 مجمع البيان، للطبرسي "3/ 34".
2 تفسير الطبري "5/ 14"، تفسير المنار "5/ 22 وما بعدها".
3 اللسان "16/ 296"، تاج العروس "5/ 22 وما بعدها".
4 تفسير الطبري "5/ 13 وما بعدها".
5 تفسير الطبري "5/ 13 وما بعدها", روح المعاني "2/ 10".(10/218)
نكاح الظعينة:
وإذا سبى رجل امرأة، فله أن يتزوجها إن شاء، وليس لها أن تأبى عليه ذلك؛ لأنها في سبائه، وهي في ملك سابيها. ويكون هذا الزواج بغير خطبة ولا مهر؛ لأنها مملوكة وليس لها خيار.(10/218)
أمر الجاهلية في نكاح النساء:
وقد لخص "السكري" أمر النكاح في الجاهلية بقوله: "وكان أمر الجاهلية في نكاح النساء على أربع: امرأة تخطب فتزوج. وامرأة يكون لها خليل يختلف إليها، فإن ولدت قالت: هو لفلان، فيتزوجها بعد هذا. وامرأة ذات راية يختلف إليها، فإن جاء اثنان فوافياها في طهر واحد ألزمت الولد واحدًا منهما، فهذه تدعي المقسمة. والرجل يقع على أمة قوم، فيبتاع ولدها فيرغب فيدعيه ويشتريها فيتخذها امرأة"1.
__________
1 المحبر "340".(10/219)
تعدد الزوجات:
وقد أباح الجاهليون للرجل تعدد الزوجات، والجمع بين أي عدد شاء من الأزواج دون تحديد. أما الاكتفاء بامرأة واحدة أو باثنتين أو أكثر. فذلك أمر خاص يعود إليه. كما أباح التشريع الجاهلي للرجل امتلاك أي عدد يشاء من الإماء. وتكون الأمة ملكًا للرجل؛ لأنه اشتراها بذات يمينه, وهي ملكه ما دامت أمة في ملك سيّدها، فليس لها حقوق الزوجة، ولا تعدّ الأمة زوجة، إلا إذا أعتقها مالك رقبتها وتزوجها، فعندئذ تكون له زوجة له بمحض قرار الرجل وإرادته.
وقد روى علماء التفسير: "أن قريشًا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل"1. ورووا أن "الرجل في الجاهلية يتزوج العشرة فما دون ذلك"2، وأنهم "كانوا في الجاهلية ينكحون عشرًا من النساء الأيامى"3، وأنهم "كانوا في جاهليتهم لا يرزءون من مال اليتيم شيئًا. وهم ينكحون عشرًا من النساء، وينكحون نساء آبائهم"4، ولم يكونوا يعدلون بين نسائهم، بل يفضلون بعضًا على بعض، فجاء النهي عن ذلك في القرآن5.
__________
1 تفسير الطبري "4/ 156".
2 تفسير الطبري "4/ 157".
3 تفسير الطبري "4/ 157".
4 تفسير الطبري "4/ 157".
5 سورة النساء، الآية 3.(10/219)
وكان مما حدده الإسلام من مبدأ تعدد الزوجات، أن قيد العدد بأربع، وهو تبديل لسنة الجاهليين. فلما نزل الأمر بالتحديد، اضطر من كان قد تزوج بأكثر منه على تطليق الزائد والاكتفاء بالحد القانوني الذي أقره الإسلام وهو أربعة. روي أن "غيلان بن سلمة الثقفي"، كان قد تزوج في الجاهلية بعشر نساء، فلما أسلم، أمره رسول الله بتطليق الزائد وبالتقيد بما جاء في حكم القرآن1. وقد أمر الرسول "الحارث بن قيس" أن يختار من نسائه أربعًا، ويطلق بقيتهن، وكانت عنده ثماني نسوة2. وكان "مسعود بن معتب" و"معتب بن عمرو بن عمير", و"عروة بن مسعود"، و"سفيان بن عبد الله", و"أبو عقيل مسعود بن عامر بن معتب". وكلهم من ثقيف، وقد تزوجوا عشر نسوة، فنزل غيلان وسفيان وأبو عقيل للإسلام عن ستٍّ ستٍّ، وأمسكوا أربعًا أربعًا. ومات عروة مسلمًا، ولم يكن أمر بالنزول عن نسائه3.
__________
1 النساء، الآية 3, الشوكاني، نيل الأوطار "5/ 160"، زاد المعاد "4/ 7".
2 تفسير القرطبي "5/ 17".
3 المحبر "357".(10/220)
الطلاق:
وكما كان الزواج. كذلك كان الطلاق عند الجاهليين، ولا بد أن تكون له قواعد وعرف وأسباب. وقد ذكر أن عادة أهل الجاهلية أن يقول الرجل لزوجته إذا طلقها "حبلك على غاربك", أي: خليت سبيلك، فاذهبي حيث شئت1، ويقول: "أنتِ مُخلَّى كهذا البعير"2، و"الحقي بأهلك", و"اذهبي فلا أنده سربك"، و"اخترت الظباء على البقر"3، و"فارقتك"، أو "سرحتك"، أو الخلية، أو البرية، وما شاكل ذلك من عبارات4.
ومصطلحات الطلاق هذه مصطلحات نابعة من صميم محيط جزيرة العرب، آثار
__________
1 تاج العروس "1/ 411"، "غرب".
2 اللسان "1/ 644"، "غرب"، "صادر"، "21/ 136"، تاج العروس "1/ 411"، "غرب".
3 اللسان "1/ 644"، "غرب"، الميداني، الأمثال "1/ 179، 253، 408".
4 عمدة القارئ "20/ 238".(10/220)
البداوة عليها واضحة جلية، والروح الأعرابية ظاهرة فيها بارزة، وما الأمثلة المتقدمة إلا نماذج من تلك المصطلحات.
وورد أن الجاهليين كانوا يقولون للمرأة: أنت خلية، كناية عن الطلاق، فكانت تطلق منه، وكانوا يقولون: أنتِ برية أنت خلية، فتطلق بها المرأة1.
والطلاق من المصطلحات الجاهلية القديمة، وهو يعني عندهم تنازل الرجل من كل حقوقه التي كانت على زوجه ومفارقته لها2.
والطلاق الشائع بين أهل مكة عند ظهور الإسلام، هو طلاق المرأة ثلاثًا على التفرقة: وينسب أهل الأخبار سَنَّةُ إلى إسماعيل بن إبراهيم، فكان أحدهم يطلق زوجته واحدة، وهو أحق الناس بها، ثم يعود إليها إن شاء، ثم يطلقها ثانية، وله أن يعود إليها إن رغب، حتى إذا استوفى الثلاث انقطع السبيل عنها، فتصبح طالقة طلاقًا بائنًا3, ومعنى هذا عدم إمكان الرجوع إلى الزوجة بعد وقوع الطلاق الثالث مهما أوجد المطلق له من أعذار4. ويذكر أهل الأخبار قصة وقعت للأعشى حينما أتاه قوم زوجه وطلبوا منه تطليقها، ولم يقبلوا منه طلاقها إلا بعد ثلاث تطليقات، أعادها ثلاث مرات. فعد طلاقه لها طلاقًا بائنًا5.
ويظهر أن الجاهليين كانوا قد أوجدوا حلًّا لهذا الطلاق الشاذ، فأباحوا للزوج
__________
1 تاج العروس "10/ 119"، "خلو".
2 Ency., Vi, P.363, Kinship, P.112, Welhausen, “I” Die Ehe Bei Den Araber, In Nachrichten D. Konig. Gess. Der Wiss., Gottingen, 1893, S. 452
3 الأغاني "8/ 80 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 49".
4 المحبر "309 وما بعدها".
5 بلوغ الأرب "2/ 49"، قال الأعشى:
أيا جارتي بيني فاتك طالقة ... كذاك أمور الناس غاد وطارقه
قالوا: ثانية، فقال:
وبيني فإن البين خير من العصا ... وألا تري لي فوق رأسك بارقه
قالوا: ثالثة، فقال:
وبيني حصان الفرج غير ذميمة ... وموموقة قد كنت فينا ووامقة
"أيا جارتا" وهناك بعض الاختلاف في الألفاظ، المحبر "309 وما بعدها".(10/221)
أن يرجع زوجه إليه بعد الطلاق الثالث، ولكن بشرط أن تتزوج بعد وقوع الطلاق الثالث من رجل غريب، على أن يطلقها بعد اقترانها به، وعندئذ يجوز للزوج الأول أن يعود إليها بزوج جديد. ولذلك عرف الطلاق البائن: أنه الذي لا يملك الزوج فيه استرجاع المرأة إلا بعقد جديد. وقد ذكر في كتب الحديث ويقال في الإسلام للرجل الذي يتزوج المطلقة بهذا الطلاق ليحلها لزوجها القديم: "المحلل" ويقال لفاعله: "التيس المستعار" و"المجحش". وهو حل مذموم عند الجاهليين ومحرم في الإسلام1. لم يعمل به إلا بعض الجهلاء من الناس، ممن ليست لهم سيطرة على أنفسهم، بل يعملون أعمالًا ثم يندمون على ما فعلوه.
وهناك نوع آخر من الطلاق يسميه أهل الأخبار بـ"الظهار". ذكروا أنه إنما دعي ظهارًا من تشبيه الرجل زوجته أو ما يعبر به عنها أو جزء شائع بمحرم عليه تأييدًا، كأن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي أو كبطنها، أو كفخذها أو كفرجها، أو كظهر أختي أو عمتي، وما شابه ذلك2، فيقع بذلك الظهار. وقد أشير إليه في القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} 3. وهو طلاق يظهر أنه كان شائعًا فاشيًا بين الجاهليين، سبب انتشاره التسرع، والتهور، وعدم ضبط النفس، والانفعالات العاطفية.
__________
1 "لعن الله المحلل والمحلل له"، النهاية "1/ 288"، عمدة القارئ "20/ 236"، المبسوط، للسرخسي "5/ 2 وما بعدها"، السنن الكبرى "7/ 207 وما بعدها"، "إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ هو المحلل. ثم قال: لعن الله المحلل والمحلل له، والحديث المذكور رواه الدارقطني. قيل: إنما لعنه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع حصول التحليل؛ لأن التماس ذلك هتك للمروءة والملتمس ذلك، هو المحلل له. وإعادة التيس للوطء لغرض الغير أيضًا رذيلة. ولذلك شبه بالتيس المستعار"، الدميري، حياة الحيوان "1/ 166"، "التيس" عمدة القارئ "2/ 236"، وفي حديث ابن مسعود فيمن طلق امرأته ثماني تطليقات، اللسان "13/ 64"، "بين".
2 المفردات "220"، الإصابة "1/ 85"، الجصاص "3/ 417"، عمدة القارئ "2/ 280"، المبسوط، للسرخسي "6/ 223"، تفسير الطبري "21/ 121"، "الطبعة الثانية 1951"، تفسير الطبرسي "21/ 96"، بيروت".
3 المجادلة، الآية 2 وما بعدها، الكشاف، للزمخشري "4/ 423".(10/222)
وكان الظهار من أشد طلاق أهل الجاهلية، وكان في غاية التحريم عندهم1.
فكان الرجل إذا ظاهر امرأته، بأن قال لها: أنت عليّ كظهر أمي، حرمت عليه، وصارت طالقًا، فلما كان الإسلام، ظاهر "أوس بن الصامت" أخو عبادة بن الصامت امرأته "خولة بنت ثعلبة بن مالك"، فنزل الأمر بجعل كفّارة فيه، ولم يجعله طلاقًا، كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم2.
فإن تخاصموا مع نسائهم أو مع أقربائها، أقسموا يمين الظهار3. وقد كان هذا اليمين من أيمان أهل الجاهلية خاصة4. ولهذا الطلاق باب في كتب الحديث والفقه في أحكام الطلاق، وقد نهى عنه الإسلام وأوجب الكفّارة على من ظاهر من امرأته5.
وأشار أهل الأخبار إلى نوع آخر من أنواع الطلاق ذكروا أنه كان من طلاق أهل الجاهلية سمّوه "الإيلاء"، وهو القسم على ترك المرأة مدة، مثل شهور أو سنة أو سنتين، أو أكثر، لا يقترب في خلالها منها، وقد أشير إليه في رواية تنسب إلى ابن عباس6.
وفي كتب الحديث وكتب الفقه باب خاص في هذا الطلاق7. وقد منع
__________
1 تفسير النيسابوري "28/ 7"، "حاشية على تفسير الطبري".
2 المجادلة، رقم 58، الآية 2، تفسير الطبري "28/ 7"، تفسير ابن كثير "4/ 320 وما بعدها".
3 تنوير الحوالك، شرح موطأ الإمام مالك "2/ 20 وما بعدها"، زاد المعاد "4/ 81".
4 عمدة القارئ "20/ 281".
5 تاج العروس "3/ 373"، "ظهر" اللسان "6/ 201"، "ظهر" سنن أبي داود "2/ 265 وما بعدها"، عمدة القارئ "20/ 281"، البخاري، كتاب الطلاق، الباب 23، ابن حنبل "4/ 37"، "6/ 410".
6 تفسير الطبري "2/ 256 وما بعدها"، البخاري، كتاب الطلاق، الباب 23، بلوغ الأرب "2/ 50"، اللسان "18/ 43"، "بولاق"، الفروع في الكافي، لأبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق "6/ 130"، "طهران 1379هـ"، تفسير ابن كثير "1/ 268".
7 تنوير الحوالك، "2/ 18 وما بعدها" عمدة القارئ "20/ 281"، المبسوط للسرخسي "7/ 19 وما بعدها"، البخاري، كتاب الطلاق، الباب 23، السنن الكبرى، للبيهقي "7/ 381"، عمدة القارئ "2/ 474".(10/223)
الإسلام التربُّص مدة تزيد على أربعة أشهر1. وقد جعله طلاقًا مؤجلًا2.
والطلاق حق من حقوق الرجل، يستعمله متى شاء. أما الزوجة، فليس لها حق الطلاق، ولكنها تستطيع خلع نفسها من زوجها بالاتفاق معه على ترضية تقدمها إليه، كأن يتفاوض أهلها أو ولي أمرها أو من توسطه للتفاوض مع الزوج في تطليقها منه في مقابل مال أو جُعْل يقدم إليه. فإذا وافق عليه وطلقها، يقال عندئذ لهذا النوع من الطلاق: "الخلع". وقد ذكر أهل الأخبار أن أول خلع كان هو خلع عامر بن الظرب، وذلك أنه زوّج ابنته من ابن أخيه عامر بن الحارث بن الظرب، فلما دخلت عليه، نفرت منه3.
فالخلع إذن، هو طلاق يقع بدفع مالٍ، تدفعه المرأة أو أقرباؤها للرجل في مقابل تخلية سبيلها وافتداء نفسها به4. ويدخل في هذا الباب ما تدفعه زوج الأب المتوفى إلى ابنه الذي يتزوجها بعد وفاة أبيه من مال مقابل فراقه لها، وتطليقه إياها5.
وكان من الجاهليين من يطلق زوجته، ويفارقها، غير أنه لم يكن يسمح لها بالتزوج من غيره حمية وغيرة، ويهددها ويهدد أهلها إن حاولت الزواج، أو يرضي أهلها وأولياءها بالمال. فلا يجيزوا لها الزواج وقد نهى عن ذلك الإسلام6.
وقد يهمل الرجل زوجته، فلا يراجعها ولا يطلقها. ويظل مفارقًا لها، إلى أن ترضيه بدفع شيء له، فيسمح لها عندئذ بالطلاق وبالزواج من غيره, ويقال لذلك "العَضْل". و"كان العضل في قريش بمكة، ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلّها لا توافقه فيفارقها، على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود، فيكتب ذلك عليها، ويشهد، فإذا خَطَبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلا
__________
1 البقرة، الآية 226، ابن قدامة، المغني "8/ 502"، الجصاص "1/ 357"، الشوكاني، نيل الأوطار "6/ 257 وما بعدها".
2 المبسوط، للسرخسي "7/ 19 وما بعدها".
3 عمدة القارئ "20/ 260"، المبسوط "6/ 176 وما بعدها" السنن الكبرى "7/ 316"، اللسان "9/ 429"، تاج العروس "5/ 321"، "خلع"، تفسير المنار "4/ 461"، تفسير الطبري "2/ 461"، فتح الباري "9/ 318".
4 جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام "5/ 271".
5 Kinship. P.92
6 عمدة القارئ "20/ 121، 124"، روح المعاني "2/ 144".(10/224)
عضلها"1. وقد حرم العضل في جملة ما حرم من أحكام الجاهليين في الإسلام2.
ومن العضل الذي هو منع المرأة من الزواج، أنهم كانوا في الجاهلية إذا مات زوج إحداهن، كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره. ومنها بنفسه. إن شاء نكحها وإن شاء عضلها. فمنعها من غيره ولم يزوجها حتى تموت3.
و"الحميم" الذي كان يرث الرجل إذا كان في الجاهلية، هو الصديق والقريب4، والقريب المشفق الذي يهتم لأمر حميمه5. ولم يذكر العلماء كيف كان يرث الحميم حميمه، هل كان ذلك عن وصية، أو عن عدم وجود قريب نسب، أو أنه حق من حقوق أهل الجاهلية فرضوها بالنسبة إلى الحميم؟
وكان الرجل من أهل الجاهلية يطلق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك، ثم يراجع ما كانت في العدة. لا حدّ في ذلك، فتكون امرأته. ذكر أن رجلًا من الأنصار غضب "على امرأته، فقال لها: لا أقربك ولا تحلّين مني، قالت: كيف؟ قال: أطلقك حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا راجعتك". "وطلق رجل امرأته حتى إذا كادت أن تحلّ ارتجعها، ثم استأنف بها طلاقًا بعد ذلك ليضارها بتركها, حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها، وصنع ذلك مرارًا. فلما علم الله ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثًا. مرتين، ثم بعد المرتين إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان" وذكر "كان الطلاق قبل أن يجعل الله الطلاق ثلاثًا، ليس له أمد. يطلق الرجل امرأته مائة، ثم إن أراد أن يراجعها قبل أن تحل كان ذلك له"6. وقد حرم الإسلام هذا الضرر، في الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 7.
والطلاق هو بأيدي الرجال، كما سبق أن ذكرت، بيدهم حلّه وعقده،
__________
1 سنن أبي داود "2/ 230"، تفسير الطبري "4/ 208 وما بعدها"، المفردات "342"، تفسير المنار "4/ 454"، تاج العروس "8/ 21"، "عضل".
2 البقرة، الآية 230 وما بعدها، النساء، الآية 19.
3 تفسير الطبري "4/ 208 وما بعدها".
4 تفسير ابن كثير "4/ 101"، تفسير الطبري "24/ 76"، روح المعاني "24/ 109".
5 تاج العروس "8/ 259"، "حمم".
6 تفسير الطبري "2/ 276 وما بعدها".
7 البقرة، الرقم 2، الآية 229، الكشاف "1/ 268".(10/225)
أما النساء فلهن العدة، ولذلك كان بعض النسوة يشترطن على أزواجهن أن يكون أمرهن بأيديهن، إن شئن أقمن، وإن شئن تركن معاشرتهم وأوقعن الطلاق، وذلك لشرفهن وقدرهن. ومن هؤلاء النسوة: سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش الخزرجية، وفاطمة بنت الخرشب الأنمارية، وأم خارجة صاحبة المثل: أسرع من نكاح أم خارجة، ومارية بنت الجعيد، وعاتكة بنت مرّة، والسوا بنت الأعبس. وقد عرفن بكثرة ما أنجبن من ذرية في العرب، وقد تزوجن جملة رجال1.
وطريقة طلاق المرأة للرجل في الجاهلية، طريقة طريفة لا كلام فيها ولا خطاب. "كان طلاقهن أنهن إن كن في بيت من شعر حوَّلن الخباء، إن كان بابه قبل المشرق حولنه قبل المغرب. وإن كان قبل اليمن حولنه قبل الشأم، فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته، فلم يأتها"2. وهذه الطريقة هي طريقة أهل الوبر في الطلاق. ومتى طلقت المرأة زوجها. تركت داره والحي الذي يسكنه، لتعود إلى بيتها والحي الذي تنتمي إليه.
ولما كان الطلاق بيد الرجل في الغالب، لذلك كان أهل الزوجة يكرهون زوجها أحيانًا على تطليقها، إذا أرادوا تطليقها منه، بتخويفه أو بضربه أو بما شاكل ذلك من طرق حتى يرضخ لأمرهم، ويعدّ ذلك طلاقًا مشروعًا عندهم، وإن كان قد وقع كرهًا ومن غير رضى الزوج، وعدّ طلاق الغاضب والسكران والهازل طلاقًا عند بعض الجاهليين لصدور صيغة الطلاق من الرجل وتفوهه به.
هذا وللظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في ذلك الوقت دخل كبير في الطلاق. فالطلاق كان سهلًا على ما يظهر، وكان عقوبة أحيانًا يوقعها الرجل بامرأته لمسائل بسيطة تافهة، انتقامًا منها أو من ذوي قرابتها لأسباب لا علاقة لها بالزوجية وبالحياة العائلية في أكثر الأحيان، كما أن الفقر والجهل كان عاملين مهمين في وقوع الطلاق. وإلا فما ذنب امرأة تطلق مثلًا؛ لأنها منجبة للبنات، لا تلد إلا البنات؛ أو لأنها تلد البنات أكثر من الأولاد، وطالما يكون الطلاق من عصبية وهياج ومن سلطان غضب، وحين يهدأ روع المرء يندم على ما فرط منه، ولذلك شدد الإسلام فيه مع إباحته له لضرورته بأن جعله أبغض الحلال إلى الله.
__________
1 المحبر "ص398، 435"، النهاية "3/ 47 وما بعدها".
2 الأغاني "16/ 102"، "أخبار حاتم ونسبه"، "17/ 291 وما بعدها"، "بيروت 1957".(10/226)
الرجعة:
وإذا طلق فلان فلانة طلاقًا يملك فيه الرجعة، يقال: ارتجع المرأة وراجعها مراجعة ورِجاعًا: رجعها إلى نفسه بعد الطلاق. والاسم: الرجعة1.
__________
1 اللسان "8/ 115"، "رجع".(10/227)
الحيض:
وقد كان "أهل الجاهلية لا تساكنهم حائض في بيت ولا تؤاكلهم في إناء"، "وكانوا في أيام حيضهن يجتنبون إتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهن في أدبارهن" وكانوا يتجنبون أن تصبغ المرأة رأس زوجها، أو أن تؤاكله طعامه، أو أن تضاجعه في فراشه، ولا يسمح للحائض بدخول الكعبة أو بالطواف بها أو بمس الأصنام؛ لأنها غير طاهره1. بل كان منهم من يعتزل زوجه في بيته، فلا يقترب أو يدنو منها2. فهم في ذلك على أمر شديد، وذكر بعض علماء التفسير "أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب الحائض ومساكنتها"3. فلما سألوا الرسول عن الحيض أنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} 4. "فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه"5.
ونلاحظ وجود بعض التناقض في روايات أهل الأخبار في موضوع الحيض،
__________
1 تفسير الطبري "2/ 224 وما بعدها"، روح المعاني "2/ 104"، تفسير القرطبي "3/ 80".
2 تفسير ابن كثير "1/ 258 وما بعدها".
3 تفسير القرطبي "3/ 81".
4 سورة البقرة، رقم 2، الآية 222.
5 تفسير القرطبي "3/ 81".(10/227)
واقتراب الرجل من المحيضة. فبينما هم يذكرون أن الرجل كان لا يؤاكل زوجته ولا يقترب منها، ولا يسمح لها أن تصبغ رأسه أو أن تضاجعه، نراهم يذكرون أنهم كانوا يجتنبون إتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهن في أدبارهن. وهذا ما يتفق مع ذلك التشدد المنسوب إليهم، إلا أن يكونوا قد قصدوا به قومًا آخرين غير أهل يثرب, كأهل مكة، فنقول عندئذ: إنهم لم يكونوا على تشدد أهل المدينة في موضوع الحيض، وإنما امتنعوا فيه من إتيان أزواجهم من حيث أمر الله إلى إتيانهن في أدبارهن لعلة الدم. أما بالنسبة إلى بقية العرب, ولا سيما الأعراب، فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن ذلك بشيء لعدم وجود موارد لدينا فيها أي شيء عنده.(10/228)
العدة:
وعلى المرأة في الإسلام اتخاذ "العدة" عند طلاقها وعند موت زوجها، والغاية من ذلك المحافظة على النسب، وعلى الدماء كراهة أن تختلط بالزواج العاجل بعد الطلاق أو الموت، فوضعوا لذلك مدة لا يسمح فيها للمرأة خلالها بالزواج تسمى "العدة"1. "وعدة المرأة أيام قروئها، وعدتها أيضًا أيام إحدادها على بعلها, وإمساكها عن الزينة شهورًا كان أو اقراء أو وضع حمل حملته من زوجها"2.
وقد ذكر في الحديث أن المطلقة لم تكن لها عدة، فأنزل الله تعالى العدة، للطلاق والمتوفى زوجها، أي: إن عدة المطلقة لم تكن معروفة في الجاهلية، وإنما فرضت في الإسلام3. فكانت المرأة المطلقة تتزوج في الجاهلية دون مراعاة للعدة. وإذا كانت حاملًا، عد حملها مولودًا من زوجها الجديد. ويكون الزوج عندئذ والدًا شرعيًّا لذلك المولود، وإن كانت الأم تعرف أن حملها هو من بعلها الأول4.
"وقد ولد منهن عدة على فرش أزواجهن من أزواجهن الأولين. فمن أولئك، أن سعد بن زيد مناة بن تميم، تزوج الناقمية وهي حامل من معاوية بن بكر
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 50".
2 اللسان "4/ 275".
3 اللسان "4/ 275"، تاج العروس "2/ 417"، المحبر "338".
4 Ency, P.157(10/228)
ابن هوازن، فولدت على فراش سعد، صعصعة. فلما مات سعد، منعه بنوه ميراثه، فلحق بأصله". "ومنهم ربيعة بن عاصم بن جزء بن عبد الله بن عامر بن عوف بن عقيل. كانت أمه من جُعْفى، فكانت تحت "الفُغار" الجفعي، وهو هُبيرة بن النعمان، فطلقها وهي حامل بربيعة. فتزوجها عاصم. فولدت بعد ثلاثة أشهر على فراشه. فخاصمه فيه الفغار إلى عمر بن الخطاب، رحمه الله، فقضي بربيعة للفغار، بقول أمه: إنه من جُعْفى، وقضى فيه على أنه للعقيلي؛ لأنه ولد على فراشه"، "ومنهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة، وكان عمير سبى أم محمد هذا في أول الإسلام، وهي حامل من مالك بن عوف النصري، فولدت محمدًا على فراش عمير، فلحق به". وقد تعرّض "السكري" لهذا الموضوع، فقال: "وهذا في قريش والعرب كثير. ولو أردنا استقصاءه لكثر"1.
وأما "عدة" المتوفى عنها زوجها عند الجاهليين، فهي مدة حدادها حولًا كاملًا. وقد أبطلها الإسلام. إذ جعل العدة للطلاق والوفاة، كما نص عليها في كتب الفقه. وقد ذكر أن المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشًا ولبست شرّ ثيابها ولم تمس طيبًا حتى تمرّ بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو طائر فتفتض به، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره. وذكر أن المعتدة كانت لا تمس ماء ولا تقلم ظفرًا ولا تزيل شعرًا، ولا تستعمل طيبًا، ولا كحلًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر2. وكانت إذا رمدت، أو اشتكت عينها، فلا يجوز لها أن تكتحل أو أن تعالجها3. وفي ذلك يقول لَبِيد:
وهُمُ ربيع للمجاور فيهمُ ... والمرملات إذا تطاول عامها4
وإذا طلقت المرأة وهي عالقة من زوجها، وتزوجها زوج آخر، فولدت له مولودًا في وقت لا يمكن أن يعدّ المولود فيه من زوجها الثاني، عدّ المولود ولدًا للزوج الجديد. أما الإسلام، فقد اعتبره ولدًا للزوج المطلق5.
__________
1 المحبر "328 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "2/ 50 وما بعدها"، صحيح مسلم "4/ 202 وما بعدها".
3 صحيح مسلم "4/ 202 وما بعدها".
4 الفاخر "153 وما بعدها".
5 Shorter Ency., P.137, “Idda”, J. Wellhausen, Die Ehe Bei Den Araber, In Nachrichten Der Konig. Gesellscha. Der Wissench. Zu Gottingen, 1873, S. 454(10/229)
النفقة:
ويظهر من كتب الحديث أن الجاهليين لم يكونوا يؤدون نفقة للمطلقة، ولم يكونوا يجعلون شيئًا لها للسكن ولا للنفقة في الطلاق البائن1.
__________
1 صحيح مسلم "4/ 195"، "باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها".(10/230)
النسب:
وينسب الولد في العرف الجاهلي إلى الأب. وعرفهم في ذلك "الولد للفراش" وهو يرث والده. ولهذا ألحق أولاد الزنا بآبائهم، فنسبوا إليهم. أما إذا كثر أزواج المرأة، فيلحق المولود بالوالد حسب قول المرأة أو حسب الشبه إن وقع خلاف في ذلك1.
والاستلحاق معروف في الجاهلية، وهو أن يعترف رجل بأبوته الحقيقية لولد، ويدعيه ابنًا له، فيلحق هذا الابن به. ورد في الحديث: "أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له، فقد لحق بمن استلحقه"، "وذلك أنه كان لأهل الجاهلية إما بغايا، وكان سادتهن يلمون بهن، فإذا جاءت إحداهن بولد ربما ادعاه السيد والزاني، فألحقه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسيد؛ لأن الأمة فراش كالحرة، فإن مات السيد ولم يستلحقه ثم استلحقه ورثته بعده، لحق بأبيه، وفي ميراثه خلاف"2.
__________
1 زاد المسلم "4/ 132" "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، إرشاد الساري "10/ 11".
2 اللسان "10/ 328"، "6/ 290".(10/230)
وإذا استلحق الرجل ولد أمته به، صار ولده؛ لأن سادات الإماء كانوا يتصلون بإمائهم في الجاهلية من غير عقد زواج، باعتبار أن الأمة ملك مالكها وسيدها، فله حق إلحاق أنبائها به إن شاء.(10/231)
التبني:
وقد اعترفت شريعة الجاهليين بـ"التبني"، فيجوز لأي شخص كان أن يتبنى، ويكون للمُتبنى الحقوق الطبيعية الموروثة المعترف بها للأبناء. ويكون بهذا التبني فردًا في العائلة التي تبنته، له حق الانتماء والانتساب إليها. وهو يتم بالاتفاق والتراضي مع والد الطفل أو ولي أمره أو صاحبه، ومالكه، وذلك بالنزول عن كل حق له فيه، ومتى تمّ ذلك وحصل التراضي، يعلن المتبني عن تبنيه للطفل وإلحاقه به، فيكون عندئذ في منزلة ولده الصحيح في كل الحقوق.
والعادة إشهاد جماعة من الناس على التبني حتى لا يحدث نزاع على المتبنى فيما بعد. ولم يرد في روايات أهل الأخبار ذكر عدد الشهود الواجب إشهادهم على صحة التبني. فقد كانوا يعلنون عنه في الأماكن العامة وفي المناسبات وفي بيوتهم الخاصة كما ذكرت. والتبني معروف عند جميع الأمم. وقد وضعت شرائعهم له قواعد وقوانين كي تحفظ حقوق أصحاب المولود وحقوق المتبني وحقوق المتُبنى، فلا يضيع حق من حقوق هؤلاء.
وقع التبني مع وجود أولاد للمتبني، وليست له حدود من جهة العمر.(10/231)
الزنا:
والخيانة الزوجية تستوجب عقوبة صارمة؛ لأنها زنا، وعقوبتها الموت عند العرب، كما أشار إلى ذلك "سترابون" في أثناء كلامه على العرب. والزاني هو من يتصل بامرأة محصنة غريبة عنه. وقد كان العبرانيون يعاقبون الزاني والزانية بالرجم بالحجارة حتى الموت1. وهما يعاقبان هذه العقوبة في الإسلام، ولا أستبعد.
__________
1 التثنية، الإصحاح الثاني والعشرون، الآية 22 وما بعدها، البخاري: "كتاب الجنائز" الحديث 83، "رجم المحصن" في باب المحاربين "17" و"33" المفردات "214".(10/231)
أن تكون هذه العقوبة عقوبة جاهلية، أقرها الإسلام في جملة ما أقر من أحكام كان يسير عليها الجاهليون.
وقد كان الزنا معروفًا في الجاهلية يفعله الرجال علنًا، إذ لم يكن هذا النوع من الزنا محرمًا عندهم. وإذا ولد مولود من الزنا وألحقه الزاني بنفسه، عدّ ابنًا شرعيًّا له، له الحقوق التي تكون للأبناء من الزواج المعقود بعقد، ولا يعد الزنا نقصًا بالنسبة للرجل ولا يعاب عليه؛ لأن الرجل رجل، ومن حق الرجال الاتصال بالنساء، وقد كانوا يفتخرون به.
وذكر أن أول من حكم أن الولد للفراش في الجاهلية أكثم بن صيفي حكيم العرب، ثم جاء الإسلام بتقريره. فقد ورد في الحديث: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"1.
ويذكر أهل الأخبار أن الرجم لم يكن معروفًا بين الجاهليين، وأن أول من رجم "ربيع بن حدان" ثم جاء الإسلام بتقريره في المحصن2.
ولا يوجد لدينا رأي واضح عن قذف الرجل زوجته واتهامه إياها بالزنا. أما في الإسلام فقد شرع "الملاعنة" والإمام يلاعن بينهما، ويبدأ بالرجل، ثم يثني بالمرأة. فإذا تمّ التلاعن بانت منه ولم تحل له أبدًا، وإن كانت حاملًا فجاءت بولد، فهو ولدها ولا يلحق بالزوج3.
والزنا الذي يعاقب عليه الجاهليون، هو زنا المرأة المحصنة من رجل غريب بغير علم زوجها، وهو خيانة وغدر. أما زنا الإماء. فلا يعدّ عيبًا إذا كان بعلم مالكهن وبأمره. وقد مر الكلام عليه في مواضع من هذا الفصل، كما مرّ الكلام على بنوة المولود من الزنا. لذلك عيّرت المرأة الحرة المحصنة، إن زنت ومست به.
وورد في كتب الحديث والسير، أن "طفيل بن عمرو بن طريف" الدوسي: لما جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأسلم، قال: "إن دوسًا غلب عليها الزنا والربا،
__________
1 صبح الأعشى "1/ 435"، المفردات، للراغب الأصبهاني "214"، البخاري "الحديث رقم 83"، كتاب الجنائز، رجم المحصن، إرشاد الساري، للقسطلاني "10/ 11"، اللسان "6/ 290"، صحيح مسلم "4/ 171 وما بعدها".
2 صبح الأعشى "1/ 435".
3 تاج العروس "9/ 335"، "لعن".(10/232)
فادع الله عليهم. فقال: اللهم اهد دوسًا" 1.
أما الرجل، فلا يلحقه أذًى إن زنى بامرأة، بل كان كما قلت يفتخر باتصاله بالنساء، ويعد ذلك من الرجولة. وليس لامرأته ملاحقته شرعًا على زناه. وقد يلحقه أذًى من ذوي امرأة محصنة إن زنى بها، انتقامًا منه، لهدره شرفهم وإلحاقه الضرر بهم.
__________
1 الروض الأنف "1/ 235 وما بعدها"، الاستيعاب "2/ 222"، "حاشية على الإصابة"، "يا رسول الله! إن دوسًا قد غلب عليهم الزنا، فادع الله عليهم"، ابن هشام "1/ 235"، حاشية على الروض الأنف.(10/233)
كسب الزانية:
يعود كسب الزانية إلى مولاها ومن يملك رقبتها؛ لأنها مملوكة، والمملوك وما يملك ملك سيده. وكانوا يكرهون إمائهم -كما ذكرت- على البغاء، فأنزل الله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1 والعرض هو كسب البغي، فحرم ذلك في الإسلام2.
وكان المالك يفرض على الأمة ضريبة تؤديها بالزنا. وقيل: لا تكون المساعاة إلا في الإماء. وقد أبطل الإسلام ذلك، ولم يلحق النسب بها، وعفا عمّا كان منها في الجاهلية ممن ألحق بها. ومن ساعى في الجاهلية، فقد لحق بعصبته.
وأتى في نساء أو إماء ساعين في الجاهلية فأمر بأولادهن أن يقوموا على آبائهم ولا يسترقوا، أي: أن تكون قيمتهم على الزانين لموالي الإماء، ويكونوا أحرارًا لاحقي الأنساب بآبائهم الزناة3.
__________
1 النور، الآية 33.
2 آمالي المرتضى "1/ 454".
3 اللسان "14/ 387"، "سعا".(10/233)
الوصية:
والوصية: ما أوصيت به، وسميت وصية لاتصالها بأمر الميت، وذلك بأن يكتب الرجل ما يراه بشأن ما يتركه بعد وفاته. ويكون من يعهد إليه أمر تنفيذ(10/233)
ما جاء في الوصية وصيًّا. ولم يكن صاحب الوصية مقيدًا بقيود بالنسبة لكيفية توزيع ثروته؛ لأن المال ملك صاحبه وله أن يتصرف به كيف يشاء. ويجوز للموصي إن شاء حرمان من يشاء من الورثة الشرعيين من إرثهم، وإشراك من يشاء في الإرث. وله أن يوصي بإعطاء كل إرثه إلى شخص واحد، وأن يحرم من الإرث كل المستحقين الشرعيين.
ويكون الابن الأكبر هو المقدم على سائر أولاد المتوفى، والمشرف على تقسيم الميراث وإدارة التركة وحمل اسم الميت وتمثيله؛ ولذلك تنتقل الإمارة أو الرئاسة أو الزعامة إلى الابن الأكبر في العادة إن كان المتوفى أميرًا أو رئيسًا. وتقديم الابن الأكبر على سائر الأبناء، عادة سامية قديمة حتى إنها تمنحه زيادة في الميراث عن بقية أخوته1.
__________
1 التثنية: الإصحاح 31، الآية 17، قاموس الكتاب المقدس "1/ 243".(10/234)
الإرث:
وأسباب الميراث: النسب والتبني والموالاة.
ويراعى في الوراثة من النسب، درجة القرابة. أي: صلة الرحم حسب درجاتها ومقدار التحامها بالشخص المتوفى، فتأتي البنوة أولًا، فالأبوة، فالأخوة، ثم العمومة. وقد قدمت البنوة أولًا؛ لأنها ألصق القرابات بالمتوفى، لذلك تقدم على كل قرابة أخرى.
والقاعدة العامة في الميراث عند الجاهليين هو أن يكون الإرث خاصًّا بالذكور الكبار دون الإناث، على أن يكونوا ممن يركب الفرس ويحمل السيف، أي: المحارب. "كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الصغار من الغلمان. لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال"؛ "لأن أهل الجاهلية، كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده، ممن كان لا يلاقي العدو ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده ولا النساء منهم، وكانوا يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية"1.
__________
1 تفسير الطبري "4/ 185"، "وكانوا لا يورثون البنات ولا النساء ولا الصبيان شيئًا من المير. ولا يورثون إلا من حاز الغنيمة وقاتل على ظهور الخيل", المحبر "324".(10/234)
وقد جاء في الأخبار ما يجعل المرأة في ضمن تركة المتوفى، وذلك إذا لم تكن أم ولد. ويكون من حق الابن البكر التزوج بها، وإذا لم تكن له نفس بها، انتقل حقه فيها إلى الولد الثاني، وإذا لم يرغب فيها انتقل حقه إلى بقية الورثة بحسب قربهم من الميت وحقهم في الميراث. ومن حق الولد البكر أيضًا مع المرأة من التزوج إلا بعد إرضائه، وكذلك من حق بقية الورثة المطالبة بهذا الحق إذا صارت زوج المتوفى المذكور من حقهم؛ لأنها من تركة ميتهم، والتركة هي تركتهم وملكهم، ولا يجوز لأحد مجادلتهم في هذا الحق.
والأخبار متضاربة في موضوع إرث المرأة والزوجة في الجاهلية، وأكثرها أنها لا ترث أصلًا. غير أن هناك روايات يفهم منها أن من الجاهليات من ورثن أزواجهن وذوي قرباهن، وأن عادة حرمان النساء الإرث لم تكن سنة عامة عند جميع القبائل1. ولكن كانت عند قبائل دون قبائل. وما ورد في الأخبار يخص على الأكثر أهل الحجاز.
__________
1 الأمومة عند العرب "ص65 وما بعدها".(10/235)
العصبة:
ويرث العصبة. وهم أقرباء الميت من الرجال، وهم مقدمون على الأخوات في الإرث. فإذا توفي الرجل، ولم يكن له من الذكور من يرثه ولا أب، يصرف إرثه إلى إخوته أو عصبته، إن لم يكن له إخوة، ولا يدفع إلى الأخوات. فلما جاء الإسلام، جعل للبنات والنساء حقًّا في الميراث، ويسمى هذا الإرث "إرث الكلالة"1.
وقيل: العصبة: هم الذين يرثون الرجل عن كلالة من غير والد ولا ولد. وهم الأقارب من جهة الأب، وعصبة الرجل: أولياؤه الذكور من ورثته. فالأب طرف والابن طرف، والعم جانب والأخ جانب. والجمع العصبات2.
وقد قال "ابن الأثير" في تعريف "الكلالة": الأب والابن طرفان للرجل
__________
1 تفسير الطبري "4/ 191 وما بعدها"، عمدة القارئ "23/ 245".
2 تاج العروس "3/ 382" "الكويت".(10/235)
فإذا مات ولم يخلفهما، فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين: كلالة. وقيل: ما لم يكن من النسب لحًّا فهو "كلالة". والعرب تقول: لم يرثه كلالة، أي لم يرثه عن عرض بل عن قرب واستحقاق. وهم يفتخرون بوراثة قرب؛ لأنها إنما جاءت عن نسب قريب وعن أب، وفي ذلك يقول عامر بن الطفيل:
وما سودتني عامر من كلالةٍ ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
وكانوا إذا قالوا: "هو ابن عم كلالة"، قصدوا بعيد النسب، وإن أرادوا القرب قالوا: هو ابن عم دنية1. فالكلالة معروفة في الجاهلية فهذّبها الإسلام ونزل النص عليها وفي تعيينها في القرآن2.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن "الكلالة" من لا ولد له ولا والد. وقيل ما لم يكن من النسب لحًّا فهو كلالة. وقالوا: هو ابن عم الكلالة وابن عم كلالة. وقال بعضهم: إذا لم يكن ابن العم لحًّا، وكان رجلًا من العشيرة قالوا: هو ابن عمي الكلالة، وابن عم كلالة. وهذا يدل على أن العصبة وإن بعدوا كلالة. أو الكلالة من تكلل نسبه بنسبك كابن العم وشبهه. ويقال: هو مصدر من تكلله النسب، أي: تطرفه كأنه أخذ أحد طرفيه من جهة الولد والوالد، وليس له منهما أحد، فسمي بالمصدر، أو هي الأخوة للأم. تقول: لم يرثه كلالة, أي: لم يرثه عن عرض بل عن قرب.
وقد ذكرت الكلالة في موضعين من القرآن الكريم: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} 3. و {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} 4. فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم والأخوة للأب والأم. فجعل للأخت الواحدة نصف ما ترك الميت وللأختين الثلثين وللإخوة والأخوات جميع المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وجعل للأخ والأخت من الأم في الآية الأولى
__________
1 اللسان "11/ 592 وما بعدها".
2 النساء، الآية 12، 176.
3 النساء، الآية 12، الطبري، تفسير "4/ 191"، روح المعاني "4/ 206".
4 النساء، الآية 176، تفسير الطبري "6/ 28"، روح المعاني "6/ 39".(10/236)
الثلث لكل واحد منهما السدس. فبين بسياق الآيتين أن الكلالة تشتمل على الإخوة للأم مرة، ومرة على الإخوة والأخوات للأم والأب. ودلّ قول الشاعر: أن الأب ليس بكلالة، وأن سائر الأولياء من العصبة بعد الولد كلالة: وهو قوله:
فإن أبا المرء أحمى له ... ومولى الكلالة لا يغضب
أراد أن أبا المرء أغضب له إذا ظلم. وموالي الكلالة وهم الأخوة والأعمام وبنو الأعمام وسائر القرابات لا يغضبون للمرء غضب الأب، أو الكلالة بنو العم الأباعد، أو الكلالة من القرابة ما خلا الوالد والولد. أو هي من العصبة من ورث منه الإخوة للأم. وقد لخص بعضهم آراء العلماء في الكلالة في أقوال سبعة1.
__________
1 تاج العروس "8/ 101 وما بعدها"، "كلل"، "قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، ما قاله هؤلاء، وهو أن الكلالة الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده"، تفسير الطبري "4/ 191"، "عن جابر بن عبد الله، قال: مرضت فأتاني النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم صب عليّ من وضوئه، فأفقت. فقلت: يا رسول الله؟ كيف أقضي في مالي أو كيف أصنع في مالي؟ وكان له تسع أخوات ولم يكن له والد ولا ولد. قال: فلم يجبني شيئًا، حتى نزلت آية الميراث"، تفسير الطبري "6/ 28".(10/237)
إرث النساء:
وهناك رواية تذكر أن أول من جعل للبنات نصيبًا في الإرث من الجاهليين هو "ذو المجاسد" عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر، ورّث ماله لولده في الجاهلية، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، فوافق حكمه حكم الإسلام1.
ويذكر علماء الأخبار أن رجلًا من الأنصار مات قبل نزول آية المواريث، وترك أربع بنات، فأخذ بنو عمه ماله كله. فجاءت امرأته إلى النبي تشتكي مما فعله بنو عم المتوفى ومن سوء حالها وعدم تمكنها من إعالة بناتها، فنزل الوحي {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} 1.
__________
1 المحبر "ص236، 324".
2 النساء، السورة رقم 4 الآية 6 وما بعدها، تفسير الطبري "4/ 176"، روح المعاني "4/ 187"، المحبر "324".(10/237)
ثم نزلت آية الميراث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 1. وبذلك انتفت سنة الجاهليين في عدم توريث البنات.
وقد نزلت الآيتان من أجل أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث. فكان "النساء لا يرثن في الجاهلية من الآباء، وكان الكبير يرث ولا يرث الصغير، وإن كان ذكرًا". وقد ذكر بعض العلماء أن آية: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} ، "نزلت في أم كحة وابنة كحة وثعلبة وأوس بن سويد، وهم من الأنصار. كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها.
فقالت: يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته، فلم نورث! فقال عم ولدها: يا رسول الله لا تركب فرسًا، ولا تحمل كلًّا ولا تنكأ عدوًّا يكسب عليها، ولا تكتسب. فنزلت للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون. وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، مما قل منه أو كثر، نصيبًا مفروضًا"2.
وذكروا أن نزول الآية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، إنما كان "لأن أهل الجاهلية كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده ممن كان لا يلاقي العدو ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده ولا للنساء منهم. وكانوا يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية، فأخبر الله جل ثناؤه أن ما خلّفه الميت بين من سُمي وفرض له ميراثًا في هذه الآية. وفي آخر هذه السورة فقال: في صغار ولد الميت وكبارهم وإناثهم لهم ميراث أبيهم، إذا لم يكن له وارث غيرهم للذكر مثل حظ الانثيين"3. وذكر أنه "لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها مما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم، وقالوا: تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة، اسكتوا عن هذا الحديث، لعلّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينساه أو نقول له فيغيره, فقال بعضهم: يا رسول الله أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس ولا
__________
1 النساء، الآية 11، تفسير الطبري "4/ 185"، روح المعاني "4/ 193".
2 تفسير الطبري "4/ 176".
3 تفسير الطبري "5/ 185".(10/238)
ميراث السائبة:
والسائبة العبد الذي يقول له سيده: لا ولاء لأحد عليك، أو أنت سائبة.(10/239)
يريد بذلك عتقه, وأن لا ولاء لأحد عليه. وقد يقول له: أعتقتك سائبة، أو أنت حر سائبة، فإذا مات فترك مالًا، ولم يدع وارثًا، فإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون، وأن أهل الإسلام لا يسيبون1.
وحرم الهجين من حق الإرث في الغالب2. كذلك "السائبة"، وهم الرقيق الذي اعتق بغير ولاء3.
__________
1 إرشاد الساري "9/ 440".
2 تفسير الزمخشري "1/ 249"، المحلى، لابن حزم "9 رقم1724". العقد الفريد "4/ 192".
3 عمدة القاري "3-2/ 253".(10/240)
الفصل الثامن والخمسون: الملك والاعتداء عليه
الملكية:
والملكية حق محترم عند الجاهليين، ولصاحب الملكية حق المحافظة على ما يملك والدفاع عنه. وتدخل في ملكية الإنسان كل ما ملكه أو استولى عليه ولم ينتزعه منه أحد، مثل: الغنائم والسلب والأسر وما شابه ذلك. وعلى المالك الدفاع عن حقه في ملكه وإثباته. ومن أنواع الملكية: تملك العقار, وبقية الأشياء الثابتة, والأموال المنقولة.
ويعبر عن تملك الإنسان لشيء ما، وعن اقتنائه لملك بلفظة "اقنى" "أقنى"، أي أملاك وممتلكات. وعن لفظة "اقنيس"، بمعنى ممتلكاته وأملاكه, وذلك في اللهجة المعينية، ويعبر عنها بلفظة "اقنيم" في اللهجة السبئية. وأما لفظة "ذقنى"1 فتعني ما امتلكه وما يمتلكه. فذي بمعنى الذي، وما هي ما الموصولة في عربيتنا. و"قني" بمعنى مقتنيات2.
والملكية نوعان: ملكية ثابتة وملكية متنقلة. ومن النوع الأول العقار، مثل: الدور والأرض. ومن النوع الثاني المال، وهو الإبل عند الجاهليين بصورة خاصة والمواشي بالنسبة للمزارعين. والرعاة وأهل المدن، وأثاث البيت، سواء كان البيت مستقرًّا مثل بيوت أهل المدر أو متنقلًا مثل بيوت أهل الوبر. وأغلب ملك الأعراب هو ملك متنقل؛ وذلك لأن الحياة التي يحيونها هي حياة تنقل، أما الملك الثابت، أي: الأرض، فإنه ملك لهم ما داموا فيه، فإذا ارتحلوا عنه،
__________
1 راجع النص المرقم بـ"5" المنشور في كتاب: نقوش خربة معين "ص5".
2 "وكل قنيهن"، أي: "وكل المقتنيات".
Rep. Eplgr, Vii, Ii. P.276, 4624(10/241)
انتقلت ملكيتهم إلى الأرض الجديدة التي ينزلون بها فيمتلكونها طوعًا، أي: من غير مقاومة، أو بحق السيف.
ويدخل في باب الملك كل شيء وضع ليستفاد منه أو ليدل على حماية ملك، أو يفهم من وضعه أنه ذو فائدة وأن له صاحبًا، كجدران الأملاك وحيطان البستان أو سور القرى أو الرجمات، وهي أحجار القبور. وقد عثر المنقبون على رجام في مواضع مختلفة من جزيرة العرب، كتب عليها: إن لعنة الآلهة على من يرفع هذا الحجر عن موضعه وعلى من يغيره أو يأخذه أو يتصرف به. كما سألوا الآلهة بأن تنزل الأمراض ومنها العمى والبرص وأنواع الأذى، والشر بكل من يتطاول على هذه الرجام، أو على معالم القبور أو القبور وذلك لأنها ملك. ولا يجوز لأحد التصرف بملك غيره بأي وجه من الوجوه.(10/242)
الشفعة:
وقد أخذ الجاهليون بحق الشفعة في شراء الملك، كالدور والأرض. وقد أقرها الإسلام أيضًا1.
__________
1 صحيح مسلم "5/ 57".(10/242)
الرق:
الأصل في الإنسان1 أن يولد حرًّا، إلا أن يكون من رقيق، فيولد عندئذ رقيقًا، ويكون ملكًا لمالك والديه، والإنسان الحر، هو حر في تصرفاته وفي أمواله، وفي كل شيء. أما الرقيق، أي: العبد، فإنه يكون ملكًا لمالكه، ليس له حق التصرف بنفسه إلا بإذن مالكه؛ لأنه ملك سيده، فإذا تصرف بنفسه، أضر بحق سيده في تملكه له. وفي ذلك تجاوز على حقوق الملكية، وإن كان الرقيق إنسانًا مثل سيده له حس وشعور، إلا أنه فقد حريته بسقوطه في الرق، وصار ملكًا لمالكه، وحكمه حكم الأشياء المملكة، وليس له أن يتصرف بأي شيء يعود إليه ولا أن يتصرف بنفسه، أي: بجسمه إلا بموافقة سيده وإقراره, لأنه سيده ومالك رقبته.
__________
1 صحيح مسلم "5/ 57".(10/242)
ولما كان الرقيق ملكًا ومن حق المالك أن يتصرف بملكه كيف يشاء، صار من حق المالك بيع رقيقه أو إهدائه، أي: إعطاءه هبة إلى من يشاء دون حاجة إلى أخذ ذلك الرقيق، كما كان من حقه عتق رقبته. كما كان له حق الاستمتاع بالإماء وإكراههن على البغاء للإتيان بالمال أو لإنجاب الأولاد. ولم يكن للرقيق أن يملك شيئًا؛ لأن الرقيق وما يملكه ملك للمالك. ولم يكن للرقيق حق التوريث إذ لا مال له؛ لأنه وما يملكه ملك مالكه. فإرثه لسيده وحده.
وقد حرم الإسلام على مالك الرقيق دفع إمائه على البغاء. وقد نزلت الحرمة في القرآن: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} 1. وكان سبب نزول هذه الآية أنهم "كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا، يأخذون أجورهن. فقال الله لا تكرهوهن على الزنا من أجل المنالة في الدنيا". "وذكر أن هذه الآية أنزلت في عبد الله بن أبي بن سلول حين أكره أمته مسيكة على الزنا" وكانت تكره ذلك وحلفت أن لا تفعله فأكرهها لتأتيه بمزيد من المال. فنزلت الآية في تحريم ذلك2.
ومن معاني "الرق"، "العبودية" Slavery، وتقابلها لفظة "عبوداه"Abodah في العبرانية، والمفرد "عبد" Abed، في العبرانية أيضًا. والذكر "مملوك" أما الأنثى، فإنها "أمة"3. والرق ملك العبيد والرقيق المملوك منهم وجمعه أرقاء4. والمملوك هو الرقيق، فيقال عبد مملوك، و"المِلْكة" تختص بملك العبيد5. ويعبر عن العبد بلفظة "المَدِين" أيضًا. أما "الأمة" فيقال لها: "المدينة"6.
ويعبر عن المملوك بلفظة "ادم" في العربيات الجنوبية، إذا كان المملوك ذكرًا وبـ"أمت" إذا كان أنثى. وتقابل لفظة "ادم" لفظة "أو ادم" و"أوادمنا"، في لهجة أهل العراق، التي تعني "الخدم" و"خدمنا". وأما لفظة "أمت"،
__________
1 النور، الآية 23.
2 تفسير الطبري "18/ 103 وما بعدها"، روح المعاني "18/ 141 وما بعدها".
3 Dictionary Of Islam. P.596
4 المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني "ص200".
5 المصدر نفسه.
6 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص175".(10/243)
فإنها "أمة" في عربيتنا أيضًا، وهي المملوكة1.
ويعبر عن الرقيق بلفظة "عبد" في اللحيانية، أي: بالتعبير المستعمل في عربيتنا2, وترد اللفظة في لغة بني إرم وفي لغة النبط كذلك3.
واستعملت اللحيانية لفظة "هغلم" "ها-غلام" "ها-غلم"، أي: "الغلام" تعبيرًا عن "مملوك"، أي: إنسان غير حر. وقد قدم أحد اللحيانيين ثلاثة غلمان ليكونوا في خدمة الإله "ذو غابت"4 "ذو غابة", وليس لصاحب هؤلاء الغلمان أية حاجة لأن يأخذ رأيهم في تقرير مصيرهم، وفي تحويل رقبتهم من ملكه إلى ملك معبد ذلك الإله؛ لأنه مالكهم، وللمالك أن يفعل بمكله ما يشاء.
وللمالك الأسير، حق التصرف بأسيره، كما يشاء، يجوز له بيعه لقبض ثمنه في أي مكان وفي أي زمان يشاء ويختار، ليس لرقيقه حق الاعتراض على مالكه؛ لأنه "ملك يمين"، ويجوز له إبقاؤه عنده وفي ملكه ليعهد إليه القيام بأي عمل يكلفه إياه، مهما كان شأنه، سواء أكان عملًا محترمًا أم عملًا وضيعًا؛ لأنه مملوك، وليس لمملوك حق الاعتراض على مالكه. ويجوز أن يتفضل عليه بمنحه الحرية، فيكون إنسانًا حرًّا. ويجوز له أن يقاضي أهل الأسير ثمن أسيرهم، ومتى قبض ثمنه أعاده إلى أهله، وصار حرًّا. ويقال لأخذ عوض عن الأسير لفك أسره "الفداء"5.
ولا يشترط في الأسر أن يكون في حالة الحرب فقط، فقد يقع في سلم أيضًا. فإذا أدرك إنسان إنسانًا آخر من قبيلة معادية وتمكن منه صار أسيره، كما أن ما يقع في أيدي المغيرين في الغارات والغزوات من أشخاص يكونون في حكم المأسورين. أما "السبي"، فإنه ما يسبى بعد الحرب. وحكمه حكم الأسر.
والغالب عند الجاهليين هو فداء أسراهم، أي: دفع فدية عن الأسرى أو مقايضتهم أسيرًا بأسير، أو بحسب الاتفاق إن كان هناك أسرى عند الطرفين. ولا يقع الرق في الغالب إلا في حالات الأشخاص الضعاف الذين لا أهل لهم،
__________
1 راجع النص الموسوم بـ: Glaser 509.
2 W. Caskel, S. 136
3 W. Caskel, S. 82
4 النص 9 من كتاب: W. Caskel.
5 المعاني الكبير "1/ 1025".(10/244)
أو الذين هم من عشائر مستضعفة أو بعيدة، أو في حالات الذين وقعوا أسرى في غارات مفاجئة من أناس يقيمون في أماكن بعيدة أو نهبوا وهم صغار، فلم يكن بالمستطاع ملاحقتهم، فيكونون بذلك رقيقًا، وهو في القليل، كالذي حدث لـ"زيد بن حارثة الكلبي"، الذي تبناه الرسول. وقد كان مولى لخديجة زوج الرسول.
وليست في الأفدية قواعد معينة في فداء النفس، وإنما سارت على التعامل وعلى التشدد والتساهل وفق منزلة الشخص الأسير. ويكون ما للأسير مما عنده ملكًا لآسره. وقد وقع "قيس بن عيزارة" أسيرًا في أيدي "فهم" فأخذ سلاحه "تأبط شرًّا"1.
ووقع "ثابت بن المنذر" والد "حسان بن ثابت" شاعر الرسول في أسر "مُزَيْنة"، فعرض عليهم الفداء، "فقالوا: لا نفاديك إلا بتيس، ومزينة تسب بالتيوس، فأبى وأبوا. فلما طال مكثه، أرسل إلى قومه أن أعطوهم أخاهم، وخذوا أخاكم"2. وقصده بذلك التعريض بمزينة.
وقد بقي السباء معروفًا حتى أيام "عمر" فمنعه بقوله: "لا سباء على عربي". ويذكر أنا "أبا وجزة يزيد بن عبيد" من "سُلَيم" وقع أبوه في سباء في الجاهلية, في سوق ذي المجاز. فلما كبر، استعدى عمر، فأصدر أمره المذكور3.
والمنبع الأول للرقيق الحروب والغزوات. فبعد الحرب والغزوات يؤخذ من يقع في أيدي المحاربين من الرجال والنساء والأطفال "أسرى"، ويكونون غنائم لآسريهم. أما العدد الضخم منهم الذي يقع في أيدي الجيش ولا يكون في استطاعة المحارب أن يفرض ملكيته عليه. وذلك بوضعه تحت حيازته، فيكون ملكًا للحكومة أو للقبيلة، تتصرف به على وفق قوانينها وقواعد أحكامها ورأيها.
والمنبع الثاني من منابع الرقيق، أسواق النخاسة، ومنها أسواق تقع في بلاد العرب نفسها، يؤتى بالرقيق إليها لبيعه فيها، وأسواق تقع في خارج بلاد العرب، يذهب إليها النخاسون لشراء ما فيها من هذه البضاعة البشرية. ولما كان الرقيق
__________
1 المعاني الكبير "2/ 1037".
2 طبقات الشعراء، لابن سلام "ص53" "طبعة ليدن".
3 "أصابني سباء في الجاهلية كما يصيب العرب بعضها مع بعض"، الأغاني "11/ 75 وما بعدها".(10/245)
المشترى هو من أماكن بعيدة ومن غير العرب، كان مضطرًّا إلى استرضاء سيده وخدمته على النحو الذي يرضيه إبقاء على حياته. وحكم هذا الرقيق هو حكم أي شيء يشتريه إنسان بماله, أي: إنه ملك صاحبه، ولصاحبه حق التصرف به كيف يشاء، إن شاء باعه وإن شاء جعله في خدمته، وليس للرقيق أي حق في الاعتراض وإن كان بشرًا ذلك لأنه رقيق. وقوانين الرق في ذلك الزمن وفي سائر أنحاء العالم تعد الرقيق ملكًا لا يختلف في طبيعته عن أي نوع من أنواع الملكية.
ونوع آخر من أنواع الرقيق، تكوّن من بيع الآباء لأبنائهم عن حاجة, كأن تكون الأسرة في عسر وضيق، فلا يكون أمامها غير بيع أبنائها لسد حاجتهم ولضمان معيشة الأبناء، ولا يكون ذلك بالطبع إلا عند الطبقات الضعيفة.
ومنبع آخر من منابع تكوّن الرقيق في الجاهلية هو الديْن. فقد كان من حق الدائن بيع مدينه إن لم يتمكن من الإيفاء بدينه، فيكون رقيقًا.
والولادة من المنابع التي مونت الجاهليين بالرقيق كذلك. فما ينسله الرقيق يصير رقيقًا أيضًا، وملكًا لمالك الرقيق. إذ لا يقتصر الرق على رقبة الرقيق الأصل، بل يشمل كل ما ينجبه وما ينجبه أحفاده وأحفاد أحفادهم وهكذا فالرق عبودية أبدية، ما لم يمنّ مالك الرقيق على رقيقه بالعتق، فتنقطع العبودية عندئذ عنه وعن نسله. وإذا استولد المالك أمته فولدت له مولودًا، أعجبه واعترف به ولدًا عدّ ابنًا شرعيًّا له، فيكون هذا الاعتراف عتقًا لرقبة ابنه، واستلحاقًا للولد بنسب المالك1.
__________
1 عمدة القارئ "12/ 100".(10/246)
زوال الرق:
تفك رقبة الرقيق عند فك أسره عنوة، كأن تغزو قبيلة المأسور قبيلة الآسر، فتأخذ أسراها عنوة، فيتخلص الأسير بذلك من الأسر، أي: من الرق ويصير حرًّا، وتسقط عنه كل ما كان لسيده من حقوق عليه. وكان أهل الأسير يتحايلون بمختلف الطرق لتخليص أسيرهم من أسره، فإن نجحوا في تخليصه، صار أسيرهم حرًّا، وإن فرَّ الأسير من آسره، ولم يتمكن آسره من القبض عليه، صار فراره حرية له. وتفك الرقبة بدفع فدية ترضي الآسر، إذا قبضها، صار الأسير حرًّا.(10/246)
الإباق:
الإباق: هرب العبد من سيده1. ويراد بالعبد المملوك من غير أسر ولا سبي. ويعد إباقه هذا خروجًا على القانون والحق، ولصاحبه حق القبض عليه وإنزال ما يراه به من عقوبة. وفي جملتها حق قتله. وإذا اشتراه شخص آخر، أو وقع في أسره، فلمالكه الأول حق استرداده؛ لأنه عبد أبق، وهو في ملكه، وحيازته من غير إذن منه سرقة.
__________
1 اللسان "10/ 3"، "ابق".(10/247)
الكتابة:
والكتابة والمكاتبة أن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال ينجمه عليه، ويكتب عليه أنه إذا أدى نجومه، في كل نجم كذا وكذا، فهو حر، فإذا أدى جميع ما كاتبه عليه، فقد عتق. وولاؤه لمولاه الذي كاتبه1.
__________
1 اللسان "1/ 700"، "صادر"، شرح العيني "13/ 116"، نيل الأوطار "6/ 79".(10/247)
العتق:
العتق خلاف الرق، وهو الحرية. وهو أن يمنّ السيد المالك على مملوكه بفك رقبته. فإذا عتق ارتبط بسيده برابط الولاء، ويقال عندئذ "مولى عتاقة" و"مولى عتيق" و"مولاة عتيقة"، و"موال عتقاء" و"نساء عتائق"1. ويبقى العتيق منسوبًا إلى معتقه، الذي يعقل عنه ويرثه. أما إذا أعتقه من دون وضع حدٍّ للولاء عليه، فيسقط عنه شرط الولاء، فلا يعقل مولاه عنه، وتسقط كل حقوق الولاء عن العتيق وعن معتقه2.
__________
1 اللسان "10/ 234"، "صادر".
2 عمدة القارئ "23/ 253".(10/247)
الأموال الثابتة:
وفي ضمنها البيوت، وهي تباع وتشترى وتؤجر أو ترهن بحسب رغبة صاحبها.
ولأجل إثبات حق تملك الأفراد للبيوت، كانوا يثبتون أحجارًا مكتوبة على واجهة البيت في بعض الأحيان، يدون عليها اسم مالك البيت، والمعمار الذي بنى البيت والزمان الذي بني فيه. أو الزمان الذي أجريت به ترميمات عليه والحجر عندهم في مقام سند التملك في أيامنا هذه.
وتوضع على حدود الملك، ولا سيما حدود الحقول والبساتين علامات، يقال لها: "أرف" في اللحيانية1، وذلك منعًا لكل تجاوز قد يقع على الملك أو فضول قد يقع من الغرباء.
والأُرفة في لغتنا الحد بين الأرضين وفصل ما بين الدور والضياع. وكان أهل الحجاز لا يرون الشفعة للجار. و"الأرفي"، الماسح الذي يمسح الأرض ويعلمها بحدود2.
وتعد المقابر ملكًا خاصًّا بصاحب القبر، وبأهله، لذلك لا يجوز دفن غريب فيها، إلا بإذن من أهل الميت وذوي قرابته ومن أصحاب المقبرة. وكثيرًا ما تقرأ في الكتابات جملًا، مثل: "بني هكفر، له ول ورثه"3، ومعناها "بني هذا القبر، أو هذه المقبرة له، ولورثته". ومثل: "اخذو هقبر ذه هم وأخوهم"4، ومعناها "أخذوا هذا القبر لهم ولأخيهم". وكثيرًا ما نجد الكتابات تلعن من يتجاوز على ملكية القبر وعلى حق المقبور فيه، وتتوعده بالويلات والثبور، وترجو من الآلهة أن تنزل بمن "يعور" يزيل أحجار القبور عن أماكنها عذابها وغضبها عليهم. وتعدّ شواخص القبور شهادة لقبر المتوفى وسند تملك للقبر أو للمقبرة، فلا يجوز الاعتداء على القبر؛ لأنه ملك خاص.
العقوبات: والأصل في العقوبات، هو "القصاص" Retaliation أي العقوبة بالمثل، وهو أصل نجده عند سائر الشعوب السامية، وتجده مدوَّنًا في "شريعة
__________
1 النص رقم 46 من كتاب W. Caskel, S. 99
2 تاج العروس "6/ 39"، "ارف".
3 W. Caskel, S. Iii
4 المصدر نفسه "ص113"، النص رقم 76.(10/248)
حمورابي"، بل نجده في قوانين الرومان كذلك1. وقد أشير إليه في القرآن الكريم: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2 {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} 3 وفي الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 4. فالجزاء يجب أن يكون من جنس العمل.
ويعمل بالقصاص في الجروح كذلك، وقد أشير إلى ذلك في الآية المتقدمة كما ترى.
وتكون العقوبات في يد الملك أو المعبد أو الكبراء ورؤساء العشائر، فهؤلاء هم الذين يفرضون العقوبات على المخالفين ويصدرون أوامرهم بعقاب المستحقين، فلم تكن هناك إذن سلطة مركزية واحدة تقوم بتنفيذ الأحكام والحكم بين الناس. ويمكن أن نقول: إن كل سلطة من السلطات كانت تقوم بتطبيق ما تراه بحق المخالفين لقوانينها وأنظمتها وأوامرها، فللمعبد ويمثله رجال الدين بالطبع حق الحكم بين الناس في المخالفات التي لها صلة بأمور الدين وبالمعبد وبالعقود التي تعقد مع المستأجرين والمتعاقدين، ويتوقف تنفيذ ذلك بالطبع على مركز رجال الدين ومدى نفوذهم في ذلك العهد، ويقوم رئيس القبيلة بالحكم بين أفراد قبيلته بموجب الأنظمة والقوانين العرفية والعشائرية، ويجمع الضرائب من قبيلته، ويتوقف سلطانه على شخصيته ومركزه وعلى مراكز الحكومة وما لها من هيبة في نفوس الناس والقبائل.
ولضمان تنفيذ القوانين والأوامر والعقود، حتّمت السلطات الدينية والسلطات الحكومية على المؤمنين والمواطنين الالتزام والوفاء بالعهود وإطاعة قوانين الدولة وهددت السلطات الدينية بإنزال العقوبات الإلهية على المخالفين. وتكون هذه العقوبات عقوبات دنيوية تنزلها السلطات الدينية الممثلة والمتكلمة باسم الآلهة على سطح الأرض. وهي متنوعة متعددة قد تكون جسيمة، وقد تكون مادية، وقد تكون معنوية، وذلك بحرمان المخالف من زيارة المعابد، وبامتناع رجال الدين من إقامة الشعائر الدينية له ومقاطعته وإيصاء المجتمع المؤمن بمقاطعته كذلك، وبذلك تهبط منزلته
__________
1 Hastings, P.167
2 البقرة، 179.
3 المائدة، 45.
4 النحل، 126.(10/249)
الاجتماعية، ويصبح مزدري في نظر المجموع. وفي هذا الازدراء عقوبة كافية بالطبع.
يضاف إلى ذلك العقوبات التي تنزلها الآلهة عليه، وقد تكون أهم في نظره وأخطر من تلك العقوبات المذكورة، مثل إنزال أمراض أو مهالك به وبأمواله وما يملكه، وهو ما يخشاه الإنسان ويبتعد عنه طبعًا، ولهذا نجده يحاول جهد إمكانه ترضية آلهته. والتقرب إليها بمختلف الوسائل لإرضائها ولكسب عطفها ورضائها عنه.
وأما العقوبات الحكومية، فهي متنوعة كذلك تتنوع بحسب درجة المخالفة ومقدار الضرر الذي يتولد منها.
وتقابل لفظة "عقوبة" لفظة "تنكرم" "تنكر" في بعض لهجات العرب الجنوبية، ويراد بها إنزال ما يستحق من عقوبة بشخص ارتكب عملًا مخالفًا. أما الغرامات، أي: العقوبات المالية التي تفرض على شخص من الأشخاص، فيقال لها: "ظلعم" "ظلع"، في بعض تلك اللهجات1. ووردت لفظة أخرى، هي "من"، ولفظة ثانية هي "ذمنت" "ذ م ن ت"، يرى علماء العربيات الجنوبية أنهما في معنى "عقوبة" و"جزاء"2.
ويعبر عن الجزاء الذي يحكم الحاكم بأدائه إلى من حكم له بلفظة "خطا" و"خطات" "خطئة" "خطيئة". ويراد بها ما يجب على المحكوم عليه دفعه من غرامات وتعويض. وقد وردت هذه اللفظة في نصوص المسند3.
والقصاص عند الجاهليين عقوبة قلما طبقت، للأعراف القبلية التي كانت تعتبر تسليم القاتل الحر إلى أهل القتيل لقتله مثلبة، وتسليم مرتكب عمل ما إلى من وقع الفعل عليه، نقيصة وضعفًا وسبّة، تلحق آل مرتكب الفعل. لذلك، كان الثأر، وهو الرادع لارتكاب الجرائم عند الجاهليين.
وإذا قتل حر عبدًا، أو جرحه أو آذاه، فليس لأهل العبد طلب القصاص، وليس لمالكه أن يطلب قتل القاتل به؛ لأنه عبد والقاتل حر. وقد كان من الصعب عليهم، تصور مقاضاة عبد لحر على أساس القصاص، وإنما ينصف على
__________
1 راجع النص الموسوم بـ: Halevy 147
Rhodokanakis, Stud. Lexi, I, S. 58
2 Rhodokanakis, Stud. Lexi, I, S. 58
3 Mahram, P.437(10/250)
أساس الدية والتعويض عن الخسارة بدفع مال، لقد استصعبوا ذلك حق في الإسلام. فلما لطمت ابنة النضر أخت الربيع جارية، فكسرت سنّها، فأمر الرسول بالقصاص. قالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة! لا واللهِ لا يقتص منها. فقال النبي: "سبحان الله يا أم الربيع، كتاب الله القصاص ". فقالت: لا والله، لا يقتص منها أبدًا. فعفا القوم وقبلوا الدية1.
__________
1 زاد المعاد "3/ 204".(10/251)
الجرائم:
وقد وضعت كل المجتمعات على اختلاف درجاتها، بدائية كانت أو متقدمة عقوبات لردع المجرمين وزجرهم وتأديبهم لكيلا يجرموا بحق أنفسهم وبحق مجتمعهم وهي تتلاءم بالطبع مع واقع المجتمع والظروف الملمة به. كما أن الجرائم تكون منبثقة من واقع المحيط الذي يعيش المجرم فيه.
ويمكن حصر هذه الجرائم في الجرائم التي ترتكب ضد الدين، أي: دين القوم وعقيدتهم، وفي الجرائم التي ترتكب ضد المجتمع، أي: ضد العرف والعادات، في مثل: الزواج والطلاق والأحوال الشخصية وفي القضايا التي تخص الآداب وفي الجرائم التي تخص الاعتداء على الجسد كالقتل والجروح والضرب. وفي الجرائم المتعلقة بالاعتداء على حقوق الغير مثل: الخيانة والغدر وعدم الوفاء بالأمانات والسلب والنهب والسرقات، ونشل الناس، وفي الجرائم المتعلقة بالملك.
وتعاقب شريعة الجاهليين كما تعاقب أية شريعة مدنية ودينية المخالف بعقوبات رادعة تكون متناسبة مع جرمه وعمله، وتكون العقوبات بالطبع متناسبة مع مستوى المجتمع وتفكير رجاله. والظاهر أن المعاقبين كانوا أحيانًا يقسون على المخالفين في فرض عقوباتهم، فيظلمونهم، ويعذبونهم عذابًا لا يتناسب مع ما قاموا به من جرم، بدليل ورود آيات في القرآن الكريم تحث من بيدهم الأمر على ألا يعاقبوا عقابًا يتجاوز حدود المخالفة: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 1، {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} 2. وقد ذكر علماء التفسير أن الآية الأولى تأمر
__________
1 النحل، رقم 16، الآية 126.
2 الحج، رقم 22، الآية 60.(10/251)
"إن من ظلم بظلامة، فلا يحل له أن ينال ممن ظلمه أكثر مما نال الظالم منه"1. وأن الله يقول للمؤمنين: "وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم, فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظلمكم من العقوبة ". وقد نزلت بعد أُحد حيث قُتل حمزة ومُثِّل به، فلما "رأى المسلمون ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد من تبقير البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة, قالوا: لئن أظفرنا الله بهم لنفعلن ولنفعلن، فأنزل الله فيهم: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} 2. ونزلت الآية الأخرى في "قوم من المشركين لقوا قومًا من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، وكان المسلمون يكرهون القتال يومئذ في الأشهر الحرم، فسأل المسلمون المشركين أن يكفوا عن قتالهم من أجل حرمة الشهر، فأبى المشركون ذلك وقاتلوهم، فبغوا عليهم وثبت المسلمون لهم، فنصروا عليهم، فأنزل الله هذه الآية"3.
ومن العقوبات التي جاءت بها الشريعة الجاهلية عقوبة: إقامة الحدود على الجناة، وذلك بالتعزير، وهو الجلد، جلد المخالف الذي لا تكون مخالفته جناية، بل مخالفة بسيطة في مثل مخالفة أوامر الوالدين أو الولي الشرعي وفي الاعتداء على الغير بالشتم والسباب والتحرش بالناس، وما شاكل ذلك من أمور. وعقوبة دفع الغرامات وتعويض الضرر. وعقوبة السجن على الجنايات المهمة، وعقوبة الطرد من البيت أو من المدينة أو من أرض القبيلة والخلع والتبري من الشخص، والحبس في البيت، وعقوبات القصاص.
والقصاص هو القود. والقَوَد قتل النفس بالنفس4. وقد عبر الفقهاء عن القصاص في القتل بـ"قصاص في النفس"، وعبّروا عن القصاص فيما هو دون القتل بـ"قصاص فيما دون النفس".
__________
1 تفسير الطبري "14/ 131"، روح المعاني "14/ 134".
2 تفسير الطبري "14/ 131 وما بعدها".
3 تفسير الطبري "17/ 136"، روح المعاني "17/ 172".
4 تاج العروس "2/ 478"، "قود".(10/252)
القتل:
القتل نوعان: القتل العمد، والقتل الخطأ. وقد فرق الجاهليون بين النوعين(10/252)
فالقتل الخطأ لا يمكن أن يكون في درجة القتل العمد. وقد قسم الفقهاء في الإسلام القتل إلى خمسة أقسام: قتل العمد، وقتل شبيه العمد، وقتل الخطأ، وقتل قائم مقام الخطأ، وقتل بسبب1.
وقد نص على القصاص، أي: على وجوب قتل القاتل ومعاقبة الجاني بنوع جنايته، بمعاقبته بنفس الفعل الذي فعله بالمجني عليه في بعض الكتابات الجاهلية, ومن هذا القبيل وجوب قتل القاتل؛ لأنه أزهق نفسًا بشرية، وعقوبة من يزهق الناس ويقضي على حياة إنسان إزهاق روحه، أي: قتله قصاصًا لما جنته يده بحق إنسان مثله.
والقتل العمد، يقاص بالقتل، وهو أن يطلب أهل القتيل من أهل القاتل تسليمه إليهم لقتله: ويقال لذلك "القَوَد" وبذلك يغسل دم القتيل. والقاعدة القانونية عند الجاهليين أن "الدم لا يغسل إلا بالدم". فهو تطبيق قاعدة القصاص.
وإذا كان القاتل من بيت دون بيت القتيل، فإن أهل القتيل لا يكتفون في كثير من الأحايين بالقَوَد، أي: بقتل القاتل، ولكن يطلبون قتل شخص آخر مع القاتل، أي: قتل شخصين في مكان القتيل وقد لا يقبلون بهذا الحل أيضًا لاعتقادهم بأن الرجلين مع ذلك دون القتيل في المنزلة وفي الكفاءة، فيعمدون هم أنفسهم إلى الأخذ بثأر القتيل، وذلك باستعراضهم فيما بينهم رجال قبيلة القاتل، لاختيار رجل يقتلونه يرون أنه في منزلة القتيل، فإن اختاروه ووجدوه، والغالب أنهم يختارون جملة رجال، أرسلوا من يغتال ذلك الشخص المسكين الذي وقع اختيارهم عليه لقتله فيغتالونه ليكون كبش الفداء عن القتيل.
ويقال للقتيل "هرج" "هرك" في اللهجة القتبانية، وقد وردت في القوانين القتبانية بصورة تعبر عن "القتل" عامة دون تعيين نوعه، كما في اللغة العبرانية, حيث تؤدي لفظة "هرك" "هرج" فيها هذا المعنى2. والظاهر أن المشرع وضع تقدير "القتل" إذا كان قتلًا عمدًا أو قتلًا خطأ إلى اجتهاد "الملك" الذي هو "الحاكم" الأعلى وإلى من وُكِّل إليهم أمر القضاء بين الناس.
__________
1 راجع كتب الحديث والفقه في باب القتل.
2 A. Grohmann, Arabien, S. 132(10/253)
ولكن هذا لا يعني أن القتبانيين أو غيرهم من العرب الجنوبيين، لم يكونوا يفرقون بين القتل العمد والقتل الخطأ، أي: القتل الذي يقع دون عمد ولا تحضير سابق ولا تفكير فيه. فقد كانوا يفرقون بين أنواع القتل ويحاسبون القاتل على هذا الأساس. وقد كانت كل القوانين في ذلك العهد تفرق أيضًا في أنواع القتل، فتجعل القتل الخطأ دون القتل العمد في الدرجة وفي الحكم المترتب عليه.
ويعبر عن القتل في اللحيانية بلفظة "خلس" "خليس" أيضًا. وقد ورد في بعض الكتابات اللحيانية أن فلانًا قتل فلان، وقد حددت بضع الكتابات الوقت الذي تم فيه القتل1. ويعبر عن القتل بلفظة "قتل" كذلك، وعن المقتول بلفظة "همقتل"، أي: القتيل2.
وعثر على نص قتباني, هو قانون في تحديد عقوبة القتل والقاتل جاء فيه: أي شخص يقتل شخصًا وكان من شعب قتبان أو من قبائل تابعة أو محالفة لها يعاقب بعقوبة القتل، إلا إذا قرر الملك عقوبة أخرى مستمدة من شريعة "تمنع، وعلان، وصيرم"3. ويقصد بشريعة "تمنع، وعلان، وصيرم" العرف المتبع عند أهل "تمنع", أي: العاصمة, وعند جماعة "وعلان" وعند أهل "صيرم". فللملك أن يعاقب بالعقوبات المقررة عند هؤلاء، إذا لم يقرر الأخذ بمبدأ القصاص.
وقد استثنى القانون المذكور قتلة القتلة الفارين من تطبيق عقوبة القتل أو العقوبات التبعية الأخرى عليهم، إذا كان قتلهم في أثناء فرارهم وعصيانهم حكم الملك، أو حكم من خوله "الملك" تطبيق "العدالة" بين الناس. فإذا فرَّ قاتل، وأبى تطبيق ما صدر من حكم عليه، وقتل وهو في هذه الحالة، لم يحاسب القاتل على قتله له، ولا يعاقب بأية عقوبة من أجل ما قام به من قتله إنسانًا آخر. والظاهر أن المشرع القتباني قد أخذ بالظروف المحلية التي كانت سائدة إذ ذاك، من سهولة هرب القتلة وتهديدهم الأمن والنظام، فلم يعاقب قتلتهم بأية عقوبة، وذلك ليقضي على القتلة العصاة وليخيفهم وليخيف الطائشين من الإقدام
__________
1 راجع النصوص رقم: 79 و80، و86 في كتاب: W. Caskel
2 راجع النص رقم 31 في كتاب: W. Caskel, S. 92
3 Glaser 1397, Se 80, Arabien, S. 132, Rep. Epigr, 3878, Iv, Ii, P.330, Rhodokanakis, Die Inschriften Kohlan, S. 14, Glaser 1394, 1401, 1416, 1400, 1606, 1607, 1608, Wzkm, 31, 1924, 22, Glaser 1397(10/254)
على جرائم القتل. ولعله نظر إلى القاتل نظرته إلى إنسان مجرم لا قيمة له في الحياة؛ لأنه شرير مؤذ، لذلك لم يفكر في مؤاخذة قاتل شخص على هذا النحو على عقوبته هذه.
وجاء في القانون المذكور أن من يرتكب جرمًا أو يعمل عملًا مخلًّا بالأمن، أو يعرقل تنفيذ أوامر الملك لتعطيلها وإيقافها، سواء كانت معلنة أو غير معلنة، ثم فرَّ وقتل فلا يؤاخذ قاتله على قتله، ولا تؤخذ دية دمه منه1.
وقد افتتح النص ونشر باسم الملك الذي أصدره، وهو الملك "يدع أب ذبيان بن شهر" ملك قتبان. وباسم "مزود" قتبان، أي: ملأ قتبان، أصحاب الرأي والمشورة، وباسم "فقضت" و"بتل" قتبان وباسم "ردمان" و"املك" "أملوك" "الأملوك"، و"مضحيم" "مضحي" و"يحر" و"بكلم" "بكيل"، وباسم القبائل الأخرى الخاضعة لحكم الملك2. واختتم بجملة: "وتعلماي وشهد وتعلماي أيدي". وهي جملة تعني: ووقع الملك على الوثيقة بيده وأمر بإعلانها، وشهد على ذلك ووقع عليها المذكورون من الملأ أعضاء المزود، ومن السادات أصحاب المشورة والرأي وقد ذكرت أسماؤهم بعد اسم الملك؛ لأنهم وافقوا عليها وصادقوا على تشريعها، وبتصديق الملك وأشراف مملكته وأعضاء "المزود" على القوانين تكتسب صفة قانونية, ويجب تطبيقها عندئذ3.
وتدخل جريمة الانتفاضة على السلطان، أي: الثورة في جملة الجرائم التي يعاقب القائم بها بعقوبة القتل. إلا إذا عفا السلطان عن فاعلها. وقد جاء في نص سبئي أن أحد سادات القبائل ثار على الملك، ثم عفا الملك عنه. فذهب إلى المعبد وتوسل إلى إله "سبأ" أن يغفر له ذنبه. فأمر عندئذ بتقديم جارية إلى معبد "المقه" إله سبأ، تكفيرًا عما قام به من ذنب تجاه سيده، وأن يتوب عما فعل من إثم4. وهناك أمثلة أخرى من هذا القبيل5
__________
1 الفقرة السادسة وما بعدها من النص.
2 راجع الفقرة الأولى وما بعدها من النص.
3 راجع الفقرة "13 وما بعدها" من النص.
4 G. Ryckmans, Inscriptions Sud-Arabes, Iii, Le Museon, 48, 1935, 164, Ff
5 Glaser 891, Cih 398, Arabien, S. 134(10/255)
وقد أخذت أعراف وعادات الأعراب بمبدأ حق "ولي الدم" في أخذ حق "الدم", وذلك بالقود أو بأخذ الثأر أو بأخذ الدية. وبهذا المبدأ عمل أهل المدر أيضًا. ولكن نظرًا لوجود اختلاف في طبيعة الحياة الاجتماعية عند العرب المستقرين، فقد تساهل هؤلاء بعض التساهل في موضوع حق "الأخذ بالثأر"، بينما تشدد الأعراب فيه، واعتبروا القعود عنه ضعة وخسة، وقبول الدية سبّة تنتقل من جيل إلى الجيل الذي يليه، وهي لا تمحى إلا بغسلها بالأخذ بالثأر، فإن الدم لا يغسل إلا بالدم. وبذلك نجد مبدأ حق معاقبة القاتل في أيدي أصحاب القتيل في قانون الأعراب، أي: أهل الوبر.
أما بالنسبة إلى العرب الجنوبيين، فإننا لا نستطيع أن نتحدث عن آرائهم القانونية عن "حق ولي الدم"، وعن الأخذ بـ"حق الدم" بصورة عامة شاملة، وذلك لعدم ورود نصوص فقهية عديدة في هذا الموضوع. ولكننا إذا أخذنا بنظرية القياس، وقسنا حكم المعينيين والسبئيين والحضارمة على حكم القتبانيين بالنسبة إلى "حق ولي الدم"، فإننا لا نستطيع أن نقول إن وجهة نظر العرب الجنوبيين بالنسبة إلى هذا الحق تختلف عن وجهة نظر العرب الشماليين بالنسبة إليه.
فقد أخذ القانون القتباني بمبدأ حصر هذا الحق بالملك إذ جعله هو وحده الذي يقرر نوع العقوبة التي يمكن إنزالها في القاتل. فهو الذي يأمر بالقصاص، أي: بقتل القاتل، أو بفرض الدية. ويقابل "الملك" ما يقال له: "السلطان" في الفقه الإسلامي, أي: الرئيس الأعلى للدولة أو من يقوم مقامه من المخولين بالنظر في تنفيذ القوانين والأحكام. فالدولة إذن هي المسئولة وحدها عن أخذ حق القتيل من القاتل، لا "ولي الدم". وليس لولي أمر القتيل أن يتصرف من عنده لأخذ حق الدم من سافكه. وتتفق وجهة نظر الحكومة القتبانية هذه مع وجهة نظر "القوانين الرومانية" التي دونت في أوائل القرن السادس للميلاد، ومع التشريع المدني الحديث الذي يجعل أمر تنفيذ القوانين وتطبيقها وتشريعها حق من حقوق الدولة ومن الأمور التي تخص سيادتها وكيانها1.
__________
1 A. Grohmann, Arabien, S. 133(10/256)
قتل القاتل:
ويكون قتل القاتل عند الجاهليين بحدّ السيف. أما طرق القتل الأخرى في مثل الشنق أو الصلب على خشبة، فإنها من العقوبات التي لم تكن مألوفة بين العرب. والصلب على الخشبة، أي: الصليب من طرق القتل المألوفة عند الرومان. وأما "الرجم"، أي: إماتة الشخص برجمه بالحجارة، فإنه من العقوبات المعروفة عند العبرانيين، وقد نص على العقوبات التي يعاقب الإنسان عليها في الرجم في التوراة1.
وقد ورد أن من الجاهليين من عاقب بالصلب. فقد قتل المشركون "خبيب بن عدي" الأنصاري بصلبه على خشبة، وبطعنه بالرماح حتى مات2. وصلب "هلال بن عقة"3، وصلب غيرهما، ويكون الصلب بتعليق الشخص وربطه على خشبة، وطعنه بالحربة حتى يموت مصلوبًا4.
وورد أن رسول الله قتل "عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس"، بعرق الظبية منصرفة من بدر. فأمر بصلبه. فهو أول مصلوب في الإسلام5. وقد عرف الصلب في الإسلام. وهو كناية عن تعليق الإنسان بعد قتله على خشبة، أو شجرة أو محل مرتفع ليراه الناس. وقد صلب خالد بن الوليد "عقة بن جشم بن هلال النمري" بعين التمر6.
وورد أن الصلب كان في الجاهلية عقوبة قاطع الطريق7.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يفيد وجود "الصلب" وتقطيع الأيدي والأرجل عند الجاهليين. فقد ورد في سورة المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} 8.
__________
1 Hastings, Dictionary Of The Bible, Vol., I, P.521, The Bible Dictionary, Vol. Ii, P.233, W. Croswant, A Dictionary Of The Life In Bible Times, P.222
2 إمتاع الأسماع "1/ 177"، "غزوة الرجيع"، الإصابة "1/ 418"، "رقم 2222"، نهاية الأرب "17/ 133 وما بعدها"، المحبر "479".
3 الأخبار الطوال "112".
4 تفسير القرطبي "6/ 151".
5 المحبر "479".
6 المحبر "479".
7 المحبر "327".
8 الآية رقم 33.(10/257)
وقد ذكر علماء التفسير أن هذه الآية نزلت في "العُرنيين" أو قوم من "عكل" قدموا على رسول الله، فاجتووا المدينة، فأمر لهم رسول الله بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلوا، فلما صحوا، قتلوا راعي رسول الله واستاقوا النعم، وكفروا بعد إسلامهم فبلغ النبي خبرهم، فأرسل في آثارهم، فأتى بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. وكانوا قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة ميتًا. وكان هذا الفعل سنة ست من الهجرة1.
كذلك كان القتل بإزهاق الروح بالرجم من العقوبات المعروفة عند الجاهليين، فقد قتل المشركون "عبد الله بن طارق"، رجمًا بالحجارة، أوثقوا أطرافه، فلما نزع يده من رباطه، قتلوه رجمًا بالحجارة2. ولكن هذه العقوبة من العقوبات القليلة التي لجأ إليها أهل الجاهلية، فلا نستطيع اعتبارها من نوع القتل المألوف عند العرب.
والخنق معروف عند الجاهليين، لكنه قليل الاستعمال في العقوبات. وقد ذكر أن "النعمان بن المنذر"، أمر بخنق عدي بن زيد العبادي حتى مات3. ويكون بخنق الشخص بحبل يضيق على رقبته ويشد حتى يموت أو بقماش أو بجلد أو باليد وبأمور أخرى عديدة. وقد خنقت بعض النساء رجالًا، انتقامًا منهم. ويستعمل عند وجود فرصة سانحة كأن يكون الشخص نائمًا أو عند عثور شخص لا سلاح عنده على عدو له. فوجد أن الفرصة الوحيدة المواتية له للقضاء عليه هي بإخناقه، وقد يستعمل في حالة الدفاع عن النفس.
وقد عرفت "المثلة" عند الجاهليين. يقال مثل بفلان، نكل به تنكيلًا، بقطع أطرافه والتشويه به. ومثّل بالقتيل جدع أنفه وأذنه أو مذاكيره أو شيئًا من أطرافه. وقد مثِّل بـ"حمزة" عم النبي، لما قتله "وحشي". وقد نهى الإسلام عن المثلة بالإنسان وبالحيوان4.
__________
1 تفسير الطبري "6/ 132 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 106 وما بعدها"، تفسير القرطبي "6/ 148 وما بعدها".
2 إمتاع الأسماع "1/ 175"، الاستيعاب "2/ 306"، "حاشية على الإصابة".
3 تاج العروس "6/ 339"، "خنق".
4 تاج العروس "8/ 111"، "مثل"، تفسير الطبري "6/ 133".(10/258)
القتل الخطأ:
ومن أنواع القتل الخطأ: القتل الذي يقع نتيجة وقوع اضطراب وثورات أو هجوم بحيث يصعب تشخيص القاتل، وكذلك القتل بسبب هجوم حيوان على شخص، فيكون صاحبه مسؤولًا عن القتل؛ لأنه مالكه. أو بسبب ضرب شخص شخصًا بحجر أو بشيء آخر، ولم يكن متعمدًا قتله أو رميه به أو بذلك الشيء، وإنما أصابه خطأ فقتله. وقد عينت القوانين حدود هذه الأنواع من القتل، وتركت تقدير مقدار العقوبة والتعويض إلى "الملك" وذلك في العربية الجنوبية، ويقوم الحكام مقام الملك في النظر في هذه الأمور. أما أمره عند العرب الشماليين فإلى العرف والعادة والحكام.(10/259)
السجن:
ولما كان من الصعب بل من غير الممكن للقبائل الحكم بالسجن على المجرمين؛ لعدم توفر السجون عندها لجأت إلى عقوبة الطرد، أي: طرد المجرم إلى مكان ما يقرر لمدة معينة بحيث لا يسمح للمجرم بالمجيء إلى منازل القبيلة خلال مدة الطرد. وهي عقوبة معروفة عند العبرانيين وعند غيرهم من الساميين وغير الساميين مثل الرومان، ولا تزال عقوبة الإبعاد والإجلاء معروفة ومستعملة عند القبائل. وتسمى اليوم بـ"الجلوة" الجلو" "الجلي" عند بعض عشائر العراق.
وأما في المدن، فإن الأخبار تتحدث عن وجود السجون فيها. فإذا حكم على أحد بالسجن أودع فيه. وقد عرف السجانون بالحدادين كذلك؛ وذلك لأنهم كانوا يمنعون الناس من حرياتهم، وكانوا يضعون القيود في أيديهم وأرجلهم، والقيود هي من صنع الحدادين1
__________
1 الفاخر "ص91".(10/259)
وقد أشير إلى السجن، أي: "المحبس" و"الحبس" في القرآن الكريم1، مما يدل على وجود السجن في مكة وعلى وجود السجون في الحجاز.
وتوضع السلاسل في أيدي اللصوص والأشرار والمساجين وفي أرجلهم لمنعهم من الهرب. وقد تربط السلسلة برجل السجين من جهة وبجدار السجن أو الباب من جهة أخرى كي لا يتمكن من الهروب. وتتصل نهاية السلسلة بطوق، تطوق به يدا السجين أو رجلاه. واستعملت أطواق النحاس كذلك2. ويعبر عن وضع السلسلة في يدي السجين أو رجله بكلمة "كبل". وهو تعبير مستعمل في الإرمية وفي العبرانية كذلك3.
وقد عاقب سادات الأسر المخالفين والخارجين على الطاعة بحبسهم في بيوتهم، وذلك بربط المحبوس بالسلاسل فلا يخرج ولا يغادر مكانه. وقد كان أهل مكة يحبسون من يستحق الحبس في بيوتهم، بربطه بسلسلة، حتى لا يتمكن من مغادرة محبسه. وقد حبسوا بعض من أسلم من الشبان، عقوبة لهم. ونظرًا إلى صعوبة تطبيق الحبس في البادية لا أستطيع أن أتحدث عن عقوبة الحبس عند الأعراب.
وفي السبئية لفظة "خصق"، وتعني السجان ومحافظ السجن4. ومعنى هذا وجود السجون عند العرب الجنوبيين.
وقد كانت لملوك الحيرة سجون يسجنون بها من يغضبون عليهم من الناس. وقد تحدثت عن ذلك في أثناء كلامي عن "الدولة" وفي مناسبة الكلام على سجن "عدي بن زيد العبادي" بـ"الصنين"5، ولا أستبعد أن يكون للغساسنة سجون أيضًا، يرمون بها المخالفين لهم.
وقد كانت سجون العربية الجنوبية في قلاع الملوك والأقيال والأذواء، وفي المباني العامة المحصنة، حيث يودع السجين في أماكن منيعة حتى لا يتمكن من الهروب
__________
1 سورة يوسف "الآية 33، 36، 39، 41 وما بعدها، 100"، المفردات، للراغب "ص223".
2 Hastings, Vol. I, P.268, “1910”
3 Hantings, Vol. Ii, P.5
4 Mahram, P.436
5 "فمضوا به إلى الصنين فحبسه هناك، فقال عدي بن فريد شعره كله أو أكثره في الحبس.... فوجه كسرى رجلًا يخرجه من السجن، فلما أتاه الرجل بدأ بالسجن فدخله"، نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "ص141".(10/260)
منها، يحرسها سجانون، وبين من يسجن عدد من المعارضين للحكام والثوار والمشاغبين على السلطة القائمة، أي: مجرمين سياسيين، يبقون في سجونهم ما دام الحكام غير راضين عنه. وقد يموت بعض منهم وهم في سجونهم.
وورد في الأخبار أن السجن لم يكن في زمن الرسول بيثرب، ولا في أزمان أبي بكر وعمر وعثمان، وكان يحبس في المسجد أو في الدهليز، حيث أمكن. فلما كان زمن "علي بن أبي طالب"، أحدث السجن بالكوفة. وكان أول من أحدثه في الإسلام، وسماه "نافعًا" ولم يكن حصينًا، فنقبه اللصوص وانفلتوا، فبنى آخر وسمّاه "مخيسًا" من التخييس وهو التذليل. وقد ورد في أخبار أخرى، أن "نافع بن عبد الحارث الخزاعي" من عمال "عمر" اشترى دارًا من "صفوان بن أميّة" للسجن بمكة1. ومعنى هذا أن السجن كان معروفًا قبل أيام "عثمان" و"علي".
وقد ورد في بعض الأخبار أن "عمر" أول من حبس في السجون. "وقال أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم"2؛ وذلك لأن العرب كانت تستعمل "التغريب", أي: النفي في موضع السجن، لسهولة النفي، وصعوبة الحبس.
__________
1 صحيح مسلم "5/ 158"، "باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه"، "وأمره عمر على مكة. قال البخاري في صحيحه: اشترى نافع بن عبد الحارث لعمر من صفوان بن أمية دار السجن بمكة"، الإصابة "3/ 516"، "رقم 8659"، صحيح البخاري، "4/ 238"، "في الخصومات: باب الربط والحبس".
2 تفسير القرطبي "6/ 153".(10/261)
الجلد:
وعرفت عقوبة الجلد عند الجاهليين، ولا سيما عند الحضر، فقد عاقبوا بالجلد. وقد أشير إليها في الكتابات العربية الجنوبية، إذ ورد في اتفاقية من الاتفاقيات المتعلقة بـ"الوقف" أن الطرف الثاني، وهو الشخص المتعاقد مع الحكومة أو المعد، إذا تماهل أو امتنع عن دفع ما عليه من حقوق نص عليها، عوقب بغرامة مقدارها "خمسة رضى"، أو بجلده خمسين جلدة بالعصا1.
__________
1 Cih, 380, Sab. Denkm., S. 21(10/261)
"وذ يخدلن فلن غل ينكرون خمس رضيم فاو خمس سبطم لا حد انسم"1، ومعناها "والذي يتخاذل أو يقصر في العمل يعاقب بخمس رضى، أو بخمسين جلدة عصا لكل إنسان".
وقد كان من حق الولد جلد ولده عقابًا لهم لما يفعلونه من مخالفات. ويستعمل السوط في الجلد في الغالب، كما عاقب سادات القبائل أتباعهم بجلدهم. والسوط هو المقرعة أيضًا2.
__________
1 Rhodokanakis, Stud. Ii, S. 141. F
2 تاج العروس "5/ 163"، "سوط".(10/262)
الخلع والطرد:
وإذا أسرف الإنسان في ارتكاب الجرائم وبقي مستهترًا بارتكاب الموبقات لا يبالي ولا يحاسب نفسه على أفعاله وأعماله، ولا يتبع نصائح أهله وعشيرته وأوامرهم، فقد يؤدي ذلك به إلى خلعه وطرده من أهله، معاقبة له وتخلصًا من جرائره ومن المسئولية التي قد تتولد لأهله من أعماله هذه. ويكون ذلك بإعلانه للناس في المحلات العامة وفي المواسم وبإشهاد شهود على ذلك حتى يعرف الناس, فتسقط المسئولية عن أهل الطريد.
ويعبر أهل العربية الجنوبية عن ذلك بلفظة "طردن," أي: الطريد، كما يعبرون عنه أحيانًا بلفظة "ثبرن"، أي: "المثبر"، وهو الذي يثبر الناس ويقوم بأعمال مثبرة فيزعجهم ويتعدى عليهم بذلك1. وهم يطردون مثل هؤلاء الأشخاص ويثبرون منهم. ويعلنون عن الطرد، ليقف الناس على اسم الطريد، فيتجنبونه أو ينزلون به ما يستحق من عقاب، إذا ارتكب عملًا مؤذيًا لهم.
وقد نفى أهل الحجاز خلعاءهم إلى "حضوضي"، وهو جبل عرف بنفي الخلعاء إليه2. وربما كانت هنالك أمكنة أخرى في جزيرة العرب اتخذت منفى ينفى إليه الخلعاء عقابًا لهم.
والطرد أو الخلع أو اللعن، معناه رفع كل أنواع المسئولية القانونية المترتبة
__________
1 Rhodokanaki, Stud., Ii, S. 32
2 البلدان "3/ 296".(10/262)
على آل الخليع والطريد والملعون وكذلك عن قبيلته إن خلعته أيضًا. فإذا ارتكب جناية صار وحده المسئول عنها، فلا يحميه أو يدافع عنه أحد. إذ أسقط أهله عنهم كل ما كان عليهم من حقوق "العصبية" تجاهه. فإذا قتل أو اعتدي عليه فلا أحد يسأل عن أهله، أو يأخذ عندئذ بحقه، لسقوط العصبية عنه. ويكون عندئذ معرضًا للقتل في أية لحظة، مطاردًا من الناس لفرط جرائره، فهو كالمجرم الفار من العدالة، الذي أسقطت عنه الجنسية، لا يجد أحدًا يؤويه، ولا مكانًا يقبله، خشية إلحاق الأذى به.
ويكون الخلع والطرد علنًا وبإشهاد شهود. والأغلب أن يعلن عنه في المواسم بأن يقف الأب الذي يريد خلع ابنه وسط الناس، ثم يقول: "خلعت ابني.. فإن جر لم أضمن، وإن جر عليه لم أطلبه"1.
ويعرف الخلعاء بأسماء أخرى تدل على الصعلكة والازدراء. مثل الصعاليك. وذكر أن "صعاليك العرب" ذؤبانها ويقال الذؤبان والضليلين2.
__________
1 المحلى "10/ 522"، "11/ 65"، الأغاني "8/ 50"، تاج العروس "5/ 321"، "خلع".
2 اللسان "10/ 455 وما بعدها".(10/263)
التغريب:
والتغريب: النفي عن البلد أو الأرض1. وكانوا يستعملون هذه العقوبة في حق من يستهتر بعرف القبيلة ويقوم بأعمال منكرة ولا يصلح نفسه، فكانوا يحكمون عليه بالجلاء عن أرض القبيلة والابتعاد عنها مدة تحدد وتعين، وقد لا تحدد فهو نفي وإجلاء. وقد بقيت هذه العقوبة في الإسلام فأمر الرسول بالتغريب وأمر الخلفاء به كذلك2.
وقد عرف التغريب الجماعي عند الجاهليين وفي الإسلام. وهو إجلاء جماعة من موضع سكنهم. فقد كان الفرس يجلون القبائل المعادية لهم عن مواضعها ويرسلونهم إلى أماكن أخرى. وفعل الروم ذلك بالعرب أيضًا. كما فعلت حكومات
__________
1 تاج العروس "3/ 476" "الكويت"، اللسان "1/ 639" "صادر"، "غرب".
2 القسطلاني "10/ 25 وما بعدها".(10/263)
اليمن ذلك بالقبائل الثائرة. وقد أجلى "عمر" أهل الذمة عن جزيرة العرب، فسموا "جالية"، وعرفوا بـ"الجالية"، ولزمهم هذا الاسم أينما حلوا، ثم لزم كل من لزمته الجزية من أهل الكتاب بكل بلد وإن لم يجلوا عن أوطانهم1.
__________
1 تاج العروس "10/ 76"، "جلو".(10/264)
الدية:
وأخذ الفقه الجاهلي بأصل تعويض الضرر وإزالته عمّن وقع الضرر عليه، وذلك بدفع تعويض عادل يرضى عنه، أو ترضى عنه ورثته في حالة وفاة من وقع الاعتداء عليه، ويقال لذلك: "الدية".
أما في اللحيانية، فيقال لها: "ودي", وعن أداء الدية لأهل القتيل "ودي"، و"وديو" بصيغة الفعل الماضي1. وتعني لفظة "ودي"، دفع الدية وأعطاها في عربيتنا2.
والأصل في الدية أخذها من القاتل إن كان قادرًا، فإن لم يكن قادرًا على حملها، وقع حملها على ذوي "العصبة"، أي: على أقربائه وذوي رحمه حسب رابطة الدم. لذلك تكون "العصبة" في الديات، كما تكون في الإرث3.
وتختلف الدية باختلاف درجات القبائل ومنازل الناس، فقد تكون عشرة من الإبل، وقد تبلغ ألفًا. فإذا كان القتيل من سواد الناس ومن القبائل الصغيرة الضعيفة. كانت ديته قليلة. أما إذا كان من أشراف القبيلة زادت ديته عن ذلك تبعًا لمنزلة القتيل ولمكانته. وإذا كان القتيل ملكًا، كانت ديته ألفًا من الإبل، وتسمى هذه الدية "دية الملوك"4.
وتكون دية "الصريح" دية كاملة، وهي عشرة من الإبل كما ذكرت إذا كان القتيل من سواد الناس. أما إذا كان القتيل "حليفًا"، فتكون ديته عندئذ نصف دية الصريح, أي: خمسًا من الإبل5. وأما إذا كان القتيل "هجينًا"، فتكون
__________
1 راجع النص "31، والنص 82 في كتاب:. Caskel, S. 117
2 تاج العروس "11/ 386".
3 من الطبعة الجديدة Ency, Vol, I, P.337.
4 بلوغ الأرب "2/ 22"، "فإن تدوه دية الملوك نقبل، وإن تأبوا نقتل! فودوه دية الملوك: ألف بعير، نوادر المخطوطات "124".
5 الأغاني "2/ 170"، "ساسي".(10/264)
ديته نصف دية الصريح. وتكون دية المرأة نصف دية الرجل.
وكانت بعض القبائل قد حددت هي دية قتلاها، وفرضتها فرضًا، فكانت تأخذ عن دية قتيلها ديتين أو أكثر أحيانًا، وتدفع دية واحدة لغيرها، وذلك بسبب قوتها وبطشها. روي أن "الغطاريف"، وهم قوم "الحارث بن عبد الله بن بكر بن يشكر" كانوا يأخذون للمقتول منهم ديتين، ويعطون غيرهم دية واحدة إذا وجبت عليهم1. وكان لبني "عامر بن بكر بن يشكر" وهم من "الغطاريف" أيضًا، وقد عرف "عامر" المذكور بـ"الغطريف" ديتان، ولسائر قومه دية2.
وورد أن "بني الأسود بن رزن" كانوا يؤدون في الجاهلية ديتين ديتين، ويؤدي غيرهم من "بني الدليل" دية دية، وذلك لفضلهم3. فـ"بنو الأسود" هم الذين حددوا ذلك المقدار وثبتوه، ولم يكن هذا التحديد عن ضعف، وإنما هو رغبة منهم في الأفضال على ذوي القتيل الذين يكونون من غيرهم تلطفًا لهم، وترفعًا منهم عن المساومة في دماء القتلى.
وذكر أن بعض حكام العرب كانوا يحكمون في الديات بمائة من الإبل. وقد نسب بعضهم هذا الحكم إلى "أبي سيّارة العدواني", الذي كان يفيض بالناس من المزدلفة، قيل: إنه أول من جعل الدية مائة من الإبل4. ونسب بعض آخر هذا الحكم إلى "عبد المطلب". فقالوا إنه أول من سن الدية مائة من الإبل، فأخذت به قريش والعرب، وأقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام5.
وكانت "قريظة" و"النضير" في الجاهلية إذا قتل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة، قتلوا به منهم، فإذا قتل الرجل من بني قريظة قتلته النضير أعطوا ديته ستين وسقًا من تمر6. وذلك بسبب الفرق في المنزلة والمكانة.
__________
1 الأغاني "12/ 48".
2 الأغاني "12/ 53".
3 ابن هشام "3/ 22" بلوغ الأرب "3/ 22".
4 الروض الأنف "1/ 86".
5 المعارف "ص240"، صبح الأعشى "1/ 435"، ابن سعد، طبقات "1/ 89"، "ذكر نذر عبد المطلب أن ينحر ابنه"، ابن رسته، الأعلاق "191".
6 تفسير الطبري "5/ 97".(10/265)
وقد ورد في بعض الكتابات اللحيانية أن القتلة دفعوا دية القتلى لأهلهم الشرعيين الذين لهم حق المطالبة بالدم، وقدموا قرابين و"خرجا" خراجًا, أي: مبلغًا إجباريًّا من مواد عينية إلى الآلهة عن ذلك الدم، وقدموا قرابين وضعوها على قبر القتيل. وبهذه الطريقة حسموا دم القتيل1.
ويلاحظ أن اللحيانيين استعملوا مصطلح "خرج", أي: "الخراج" للتعبير عن الجزاء الذي يجب أن يفرض على القاتل ليقدمه جزاء قتله إنسانًا2.
وقد عرفت "الدية" عند العرب الجنوبيين كذلك، ولم تحدد في القوانين، وإنما ترك أمر مقدارها إلى "الملك" أو إلى الحكام المفوضين، ويضمنهم سادات القبائل والأقيال والأذواء، يأخذونها بحسب العرف المقرر عند القبائل التي يعنيها الأمر وتعطى لأصحاب القتيل الشرعيين.
وورد في نص سبئي قديم يعود عهده إلى أيام "المكربين"، حكم بدفع دية مقدارها "200" إلى المعبد، تعويضًا عن دم شخص فقير، لم يعرف قاتله، يدفعها آل القتيل في عشر سنوات. ولم يحدد النص نوع الدية، مع أنه عيّن مقدارها3.
ويعبر عن الدية بلفظة أخرى هي "الملة"4 وبـ"العقل"، يقال: "عقل القتيلَ يعقله عقلًا: وداه، وعقل عنه: أدى جنايته، وذلك إذا لزمته دية فأعطاها عنه"5. سميت الدية عقلًا "لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلًا؛ لأنها كانت أموالهم، فسميت الدية عقلًا؛ لأن القاتل كان يكلف أن يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول فيعقلها بالعقل ويسلمها إلى أوليائه"6، ويقال للذين يتعاقلون على دفع الدية: "العاقلة". وكان مما جاء في كتب الرسول إلى القبائل: هم على معاقلهم الأولى، أي: الديات التي كانت في الجاهلية يؤدونها كما كانوا
__________
1 W. Caskel, S. 51, 117, 119, Jaussen-Savignag, Mission, Ii, 389, 409, 411, 419, 441, Arabien, S. 50
2 راجع السطر 3 من النص "82" في كتاب: W. Caskel, S. 117
3 Glaser 1210, Rhodokanakis, Alt. Sabaische Texte, Ii, Wzkm, 39, 1932, 186, Arabien, S. 134
4 اللسان "11/ 632".
5 اللسان "11/ 460".
6 اللسان "11/ 461".(10/266)
يؤدونها في الجاهلية على مراتب آبائهم. وفي الحديث: كتب بين قريش والأنصار كتابًا فيه المهاجرون من قريش على رباعيتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى. أي: يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات وإعطائها1.
__________
1 تاج العروس "8/ 27"، "عقل" مناقب الترك، من رسائل الجاحظ "1/ 12"،
اللسان "11/ 460"، "عقل"، القسطلاني "10/ 68".(10/267)
العاقلة:
والعاقلة: هم العصبة، وهم القرابة من قبل الأب الذين يتحملون الديات. وقيل: القبيلة، إلا أنهم يحملون بقدر ما يطيقون.
ولا يعقل حاضر على باد. وورد أن "عمر" قال: "إنا لا نتعاقل المضغ بيننا، معناه: أن أهل القرى لا يعقلون عن أهل البادية، ولا أهل البادية عن أهل القرى"1. ويظهر أن هذا كان حكم الجاهليين أيضًا، أو حكم بعض منهم في أصول دفع الديات.
وليس في إسقاط الجنين دية عند بعض الجاهليين. ورد أن امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها، وهي حامل، فقتلت ولدها الذي في بطنها، فاختصموا إلى الرسول، فقضى أن دية ما في بطنها غرة عبد أو أمة. فقال ولي المرأة التي غرمت: "كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل"2.
وورد في الحديث: "من لا أكل ولا شرب ولا استهل، ومثل ذلك يطل3 والطل: هدر الدم، وقيل: هو أن لا يثأر به أو تقبل ديته، وفي الحديث أيضًا أن رجلًا عض يد رجل فانتزع يده من فيه فسقطت ثناياه فطلّها رسول الله"، أي: أهدرها وأبطلها4.
وإذا تنوزل عن الجراحة والدم بدفع الدية، قيل لذلك: أرش الجراحة، أي:
__________
1 اللسان "11/ 461 وما بعدها".
2 صحيح مسلم "5/ 110 وما بعدها"، إرشاد الساري "8/ 399"، اللسان "5/ 19".
3 اللسان "11/ 406".
4 اللسان "11/ 405 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 27"، "عقل".(10/267)
ديتها1. ومتى تم الاتفاق وحصل التراضي بدفع الدية، انتهى الدم، ويعبر عن ذلك بـ"الفصل" وما زال هذا التعبير مستعملًا بين عشائر العراق2.
فالأرش إذن دية ما دون النفس، أي: القتل، كدية الجروح. فهو تعويض عن الضرر الذي يلحق بالعضو المصاب، ويختلف الأرش عند الجاهليين باختلاف التلف الذي أصاب عضو الإنسان، وباختلاف منازل الناس والقبائل. وهو على العموم دون الدية؛ لأن الدية تعويض عن قتل، أي: هلاك أصاب جسم الإنسان كله، بينما الأرش تعويض عن جزء من جسم.
وفي الحديث: في أرش الجراحات الحكومة. ومعنى الحكومة في أرش الجراحات التي ليس فيها دية معلومة: أن يجرح الإنسان في موضع في بدنه مما يبقي شَيْنه ولا يبطل العضو، فيقتاس الحاكم أرشه بأن يقول: "هذا المجروح لو كان عبدًا غير مشين هذا الشين بهذه الجراحة كانت قيمته ألف درهم، وهو مع هذا الشين قيمته تسعمائة درهم، فقد نقصه الشين عُشر قيمته، فيجب على الجارح عشر ديته في الحر؛ لأن المجروح حر، وهذا وما أشبهه بمعنى الحكومة"، التي تستعمل في أرش الجراحات3.
وتؤدي لفظة "أرش" في اللحيانية معنى "عوض"، ودَفَع بدلًا. وهي من المصطلحات القانونية الواردة في الكتابات. فإذا بدل إنسان شيئًا بشيء عبر عن ذلك بلفظة "أرش"4. ولا أستبعد أن يكون اللحيانيون قد استعملوها في التعبير عن التنازل عن الجراحة والدم بعد دفع الدية.
ويعوض عن الضرر الذي يلحقه إنسان بإنسان آخر مثل قطع عضو من أعضاء جسمه أو إلحاق عجز به أو جراحة مؤذية بدفع "دية" من الضرر. أما الجراحة التي لا تكون مؤذية، ولا تلحق ضررًا، فلا يدفع عنها دية، ويعبر عن ذلك
__________
1 تاج العروس "4/ 279"، "أرش"، شمس العلوم، "الجزء الأول، القسم الأول، ص69".
2 "وفي حديث عمر -رضي الله عنه- أنه قال: ليس على عربي ملك.. ولكنا نقومهم كما نقوم أرش الديات ونذر الجراح " , اللسان "11/ 632"، "ملل".
3 اللسان "12/ 145"، "حكم".
4 راجع النص 4 في كتاب: W. Caskel, S. 79(10/268)
بـ"الخماشة"1. و"الخمُاشة" ما ليس له أرش معلوم من الجراحات، أو هو دون الدية، كقطع يد أو أذن أو نحوه. أي: جرح أو ضرب أو نهب، أو نحو ذلك من أنواع الأذى. والخماشات: الجراحات والجنايات. وهي كل ما كان دون القتل والدية2.
ويقال لما يدفع عن الجراحات "نذرًا". وذكر أن النذر لا يكون إلا في الجراح صغارها وكبارها وهي معاقل تلك الجراح3.
وقد نص في القوانين العربية الجنوبية على تعويض الجروح والأضرار التي تلحق بالجسم كذلك، فورد فيها: "ثوب بقبتن"، أي: "ثياب بمقتينات، ويراد بذلك أن يعوض بمال4. ويقدر ما يدفع من المال إلى ما نزل به الضرر بحسب شأن الجرح ومقدار الضرر؛ يقدره الحكام وعرّاف القبيلة.
وقد سادت شريعة الجاهليين في معاقبة المجرمين في الجرائم الأخرى التي ليست قتلًا على أساس التعويض وإصلاح الضرر والسجن والخلع والنفي ومعاقبة الفاعل عقابًا يناسب عمله وما صدر منه.
وإذا عجزت عصبة القاتل عن دفع دية القتيل، وقد حملها على أقرباء العصبة, فإن نأوا بها وجب على القبيلة تحملها. ويدخل فيها سيد القبيلة. فالقبيلة وحدة اجتماعية قائمة بذاتها وعليها لذلك تحمل مسئوليات أفرادها. ولهذا توزع الديات على أفرادها إن ثبت عدم تمكن أقرباء القاتل من دفعها.
وتدفع الدية إلى "ولي القتيل" أو إلى أوليائه الشرعيين، أي: الذين لهم حق المطالبة بدم القتيل. وهم وحدهم لهم حق الفصل في موضوع الدم.
ولا تقع جناية العبد على مولاه، وإنما تقع جنايته في رقبته، فلا يعقل سيده عنه، ولا تتحمل عصبة سيده عنه أي شيء في حالة عدم تمكن سيده من أداء "العقل"، أي: الدية، إنْ قتل العبد شخصًا. وللفقهاء في الإسلام في استيفائها منه خلاف5.
__________
1 المعاني الكبير "2/ 1016".
2 تاج العروس "4/ 308 وما بعدها"، "خمش".
3 اللسان "5/ 200"، "صادر".
4 M. Hofner, Zur Interpretation Altsudarabischer Inschriften, Ii, Wzkm, 43, 1936, S. 107. F., Arabien, S. 134
5 اللسان "11/ 461"، "15/ 137".(10/269)
وعند اعتصام القاتل وامتناع أهله أو عشيرته عن تسليمه إلى أهل القتيل للاقتصاص منه بقتله, وعدم رضاء أهل القتيل بأخذ "الدية" منه أو من أهله غسلًا للدم، يلجأ أهل القتيل إلى "الأخذ بالثأر"، وهو مبدأ معروف عند الشعوب السامية، وذلك بأن يتربص أهل القتيل بالقاتل، حتى يجدوه فيقتلوه، أو يتربصوا بأقرب الناس إليه إن لم يجدوا القاتل فيقتلونه ويؤدي هذا الثأر إلى وقوع عدد من القتلى في الغالب من الجانبين، وقد يؤدي إلى وقوع قتال بين العشائر والقبائل. ويدفع أهل القتيل على إصرارهم على الأخذ بالثأر عقيدة قديمة متوارثة، هي أن الروح منفصلة عن الجسم، فإذا قتل القتيل، خرجت روحه وصارت هامة، تحوم حول قبره، تقول؛ اسْقُوني، ولن تستقر حتى يؤخذ بثأره، وإلا بقيت تحوم حوله، ويلحق الأذى عندئذ بأهل القتيل. فخوف أهل القتيل من هذه العاقبة السيئة، يدفعهم على الإصرار على الأخذ بالثأر.
وقد روى أهل الأخبار قصصًا عن الأخذ بالثأر. وكيف كان الجاهليون لا يرتاحون ولا يهجعون إلا بعد أخذهم بحق "الثأر المنيم" وقد ذكروا أن العرب ضربت المثل برجل اسمه "بيهس" في الأخذ بالثأر1.
__________
1 تاج العروس "4/ 113"، "بهس".(10/270)
الذحل:
والذحل الثأر أو طلب مكافأة بجناية جُنيت عليك أو عداوة أُتيت إليك، أو العداوة والحقد1.
__________
1 تاج العروس "7/ 329"، "ذحل".(10/270)
الشدخ:
وقد يبطل الحاكم الدماء ويقال لذلك: "الشدخ". وأصل الشدخ الكسر والفضح. وقد عرف "يغمر بن عوف" بـ"الشداخ"، سمي بذلك لما شدخ من دماء خزاعة حين حكّموه1.
__________
1 الروض الأنف "1/ 87".(10/270)
ومن الأحكام الطريفة المتعلقة بجرائم القتل، حكم المسئولية التي تقع على الجماعة, أي: جماعة أرض يقع فيها قتل، يختفي فيها أثر القاتل، وينكل أهلها عن تسليمه في خلال مدة حددها القانون بأربعة أيام. فإذا مضت المدة ولم يعثر فيها على القاتل أو لم يسلم إلى الحكومة، صودرت غلات الجماعة وأخذ حصادهم، حتى بيت الملك، أو الجهات المسئولة، أي: الحكام في الأمر، وفي تعيين نوع العقوبة والدية التي ستفرض على الجماعة. وتودع الأموال المصادرة في مخازن الدولة أو مخازن المعبد، أو تباع إن لم يكن في الإمكان حفظها، ويحفظ ثمنها، إلى أن يبت الملك أو الحكام في الأمر.
ويظهر أن الغاية التي توخاها المشرع من إصداره هذا القانون، هو قطع دابر احتماء القتلة، بعشائرهم أو من يلجئون إليهم، وفرارهم من تنفيذ عقوبة القانون عليهم. ثم لإكراه الجماعات على مساعدة السلطة في البحث عن المجرمين1.
__________
1 Arabien, S. 134(10/271)
التعقبة
...
التعقية:
الأصل في القتل القصاص، وذلك كما ذكرت. أما الدية، فلا يقبلها إلا الضعفاء، وكانوا يعيرون من يأخذها بأنهم باعوا دم قتيلهم بمال. ولهذا كان يأبى أولياء المقتول من قبول الدية إذا كانوا أقوياء. أما الضعفاء. فقد وجدوا لهم حيلة شرعية ومخرجًا من المخارج في دفع ذم الناس لهم بقبولهم الديات، وذلك بلجوئهم إلى ما يقال له: التعقية في تبرير أخذهم دية قتيلهم. "والتعقية هي أن يقول آل القتيل لآل القاتل: بيننا وبينكم علامة، فيقول الآخرون: ما علامتكم؟ فيقولون: أن نأخذ سهمًا فنرمي به نحو السماء، فإن رجع إلينا مضرجًا بالدم، فقد نهينا عن أخذ الدية، وإن رجع كما صعد، فقد أمرنا بأخذها، وحينئذ يقبلون الدية، وهم يعلمون أن السهم سيرجع كما صعد من غير دم. ولكنهم يريدون عذرًا في قبول الدية: يعتذرون به أمام الناس من تعييرهم لهم، وكانت علامة قبولهم بأخذ الدية، مسح اللحية، فإن مسح اللحية علامة الصلح. قال ابن الأعرابي: ما رجع ذلك السهم قط إلا نقيًّا، ولكنهم يعتذرون به عند(10/271)
الجهال"1
قال المتنخل الهذلي:
عقوا بسهمٍ فلم يشعر به أحد ... ثم استفاءوا وقالوا: حبذا الوضحُ
يقول: "رموا بسهم نحو الهواء إشعارًا أنهم قد قبلوا الدية ورضوا بها عوضًا عن الدم، والوضح اللبن، أي قالوا: حبذا الإبل التي نأخذها بدلًا من دم قتيلنا فنشرب ألبانها"2.
__________
1 قال الأسعر "الأشعر" الجعفي:
عفوا بمسهم ثم قالوا: سالموا ... يا ليتني في القوم إذ مسحوا اللحى
بلوغ الأرب "3/ 18 وما بعدها"، اللسان "15/ 79 وما بعدها"، "عقا".
2 اللسان "15/ 80"، "عقا".(10/272)
الأشناق:
وقد يحمل أحد الأجواد دفع الدية عن أهل القاتل، وقد يطلب المساعدة من قبيلته كي يكملوا عدة الدية أو الغرم. ويقال لهذا الفعل: الأشناق. ويعد دفع الأشناق من مكرمات الرجال، وكانوا يفتخرون بذلك على سائر الناس1. وقد كانت قريش قد اختارت قومًا عهدت إليهم "الأشناق". يجمعون من أهل مكة المال، ليدفع في مساعدة من لا يتمكن من دفع الدية.
__________
1 اللسان "10/ 188 وما بعدها"، "شنق".(10/272)
الحمالة:
ويقال لمن يحمل الدية أو الغرامة عن قوم ليصلح بينهم "الحمالة". "ومنه الحديث: لا تحل المسألة إلا لثلاثة. ورجل تحمل حمالة بين قوم. وهو أن تقع حرب بين قوم وتسفك دماء فيتحمل رجل الديات ليصلح بينهم"1. والحميل الكفيل الضامن دفع الديات. وعليه دفعها؛ لأن الحمالة التزام، ولا يمكن التخلص من عقد بغير وفاء.
__________
1 تاج العروس "7/ 289 وما بعدها"، "حمل"، اللسان "11/ 180"، "حمل"، بلوغ الأرب "1/ 337".(10/272)
السعاة:
وكانت العرب تسمي أصحاب الحمالات لحقن الدماء وإطفاء النائرة سعاة، لسعيهم في صلاح ذات البين، ومنه قول زهير:
سعى ساعيًا غيظ بن مرة، بعدما ... تَبَزَّلَ ما بين العشيرة بالدم
والعرب تسمي مآثر أهل الشرف والفضل مساعي1.
__________
1 اللسان "14/ 385 وما بعدها"، "سعا".(10/273)
القسامة:
لا حكم بغير بينة تثبت بالدليل القاطع أن القاتل قتل القتيل. ولا يطالب بالقود إن لم يثبت أن القاتل قد قتل القتيل وأنه مسئول عن دمه.
أما إذا قُتل رجل في موضع أو بين قوم ولم يعرف قاتله، ويرى أولياء المقتول أن دم صاحبهم في أصحاب هذا الموضع أو القوم وأن القاتل بينهم، ولا تشهد على قتل القاتل إيّاه بينة عادلة كاملة، فيجيء أولياء المقتول فيدعون قِبل رجل أنه قتله ويدلون بلوث من البينة غير كاملة، وذلك أن يوجد المدعى عليه متلطخًا بدم القتيل في الحال التي وجد فيها ولم يشهد رجل عدل أو امرأة ثقة أن فلانًا قتله، أو يوجد القتيل في دار القاتل وقد كان بينهما عداوة ظاهرة قبل ذلك، فإذا قامت دلالة من هذه الدلالات سبق إلى قلب من سمعه أن دعوى الأولياء صحيحة، فيستحلف أولياء القتيل خمسين يمينًا، أن فلانًا الذي ادعوا قتله انفرد بقتل صاحبهم ما شركه في دمه أحد، فإذا حلفوا خمسين يمينًا استحقوا دية قتيلهم، فإن أبوا أن يحلفوا مع اللوث الذي أدلوا به حلف المدعى عليه وبريء. وإن نكل المدعى عليه عن اليمين خير ورثة القتيل بين قتله أو أخذ الدية من مال المدعى عليه.
وورد أن القسامة: "أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفرًا على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلًا بين قوم ولم يعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين(10/273)
أقسم الموجودون خمسين يمينًا، ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، فإن حلف المدعون استحقوا الدية، وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية"1.
وورد: في "حديث عمر، رضي الله عنه: القسامة توجب العقل، أي: توجب الدية لا القود، وفي حديث الحسن: القسامة جاهلية، أي: كان أهل الجاهلية يدينون بها، وقد قررها الإسلام. وفي رواية: القتل بالقسامة جاهلية، أي: إن أهل الجاهلية كانوا يقتلون بها أو أن القتل بها أعمال الجاهلية"2.
وورد أن رسول الله "أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية"3.
وقد يحلف بعض الناس يمينًا، أي: يمين القسامة، ويدفع البعض الآخر ما يصيبه من الدية، بدلًا من القسم، بأن يؤدي الدية عوضًا عن اليمين لاعتقادهم أن من يحلف كاذبًا أصابه مكروه وشر4.
ومن أمثلة ما ذكره أهل الأخبار عن القسامة والعقوبة المعجلة التي تلحق بصاحب اليمين الكاذبة، ما ذكروه عن استئجار رجل من قريش، اسمه خداش بن عبد الله بن أبي قيس العامري في رواية، رجلًا من بني هاشم، فانطلق الأجير معه في إبله إلى الشام. فمر رجل به من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال للأجير: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي، فأعطاه عقالًا، فشد به جوالقه. فلما نزلوا، عقلت الإبل، إلا بعيرًا واحدًا. فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ قال الأجير: ليس له عقال. قال المستأجر له: فأين عقاله؟ فحذفه بعصا، كان فيها أجله. فمرّ به رجل من أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهد، وربما شهدته. قال. هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم. قال: فكنت إذا شهدت الموسم فناد: يا آل قريش؟ فإذا أجابوك، فنادِ: يا آل بني هاشم؟ فإن أجابوك، فاسأل
__________
1 اللسان "12/ 481" "قسم" نيل الأوطار"7/ 36 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 26 فما بعدها" "قسم" المفردات "413"، القسطلاني "10/ 61".
2 اللسان "12/ 481".
3 صحيح مسلم "5/ 101".
4 صحيح مسلم "5/ 68 وما بعدها"، عمدة القارئ "16/ 266"، ابن حزم، المحلى "11/ 66 وما بعدها".(10/274)
عن أبي طالب، فأخبره أن فلانًا قتلني في عقال. ومات المستأجر. فلما قدم الذي استأجره، أتاه أبو طالب، فقال له: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض، فأحسنت القيام عليه، وتوفي، فوليت دفنه، قال أبو طالب: قد كان أهل ذاك منك، فمكث حينًا. ثم إن الرجل اليماني الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه، وافى الموسم، فقال: يا آل قريش؟ قالوا له: هذه قريش. قال: يا آل بني هاشم؟ قالوا: هذه بنو هاشم. قال: أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب. قال له: أمرني فلان أن أبلغك رسالة: أن فلانًا قتله في عقال. فأخبره بالقصة، وخداش يطوف بالبيت، لا يعلم بما كان. فقام رجال من بني هاشم إلى خداش، فضربوه، وقالوا: قتلت صاحبنا، فجمد, وأتاه أبو طالب، فقال له: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل؛ فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به. فأتى قومه، فقالوا: نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم، قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب، أحب أن تجيز ابني هذا من اليمين وتعفو عنه برجل من الخمسين، ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان. ففعل. فأتاه رجل منهم، فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلًا أن يحلفوا مكان مئة من الإبل يصيب كل رجل بعيران. هذان بعيران، فاقبلهما عني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان، فقبلهما. وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا. ويذكر رواة هذا الخبر أنهم كذبوا في يمينهم، فما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف1.
وقد ذكر "السكري" القصة المذكورة، لكنه نسب القسامة فيها إلى "الوليد بن المغيرة". فذكر أنه لما أقبل أولئك الحي الذين كان "عامر" عهد إليهم بما عهد، وأخبروا "بني عبد مناف" خبر عامر. عمدوا إلى "خداش" فضربوه، وصاح الناس: الله الله يا بني عبد مناف. ثم تناهوا وتناصفوا، وصاروا في أمره إلى "الوليد بن المغيرة"، وهو يومئذ أسن قريش، فحكم بالقسامة. وذكر في ذلك أبيات شعر نسبها إلى "أبي طالب". وذكر أن
__________
1 القسطلاني "6/ 181".(10/275)
بعض أهل الأخبار قال إنهم رضوا بحكم "أبي سفيان"، وروى في ذلك بيت أبي طالب:
هلم إلى حكم ابن حرب فإنه ... سيحكم فيما بيننا ثم يفعل1
__________
1 المحبر "328".(10/276)
الحيوان المؤذي:
لا يقتل صاحب حيوان إذا قتل حيوانه إنسانًا آخر، إذ لا دخل لصاحبه في فعله، فتسقط عنه مسئولية العقوبة المثلية، وعليه دفع تعويض عن فعل حيوانه، وترضية أصحاب القتيل إذا كان صاحبه معه، كأن يكون راكبًا له أو مصطحبًا له، إذ كان من الواجب عليه الانتباه إلى حيوانه ووجوب سيطرته عليه حتى لا يحدث أذى بالناس.
وقد أقر الإسلام هذا المبدأ. فجاء في الحديث: "العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس"1. أي: جرح البهيمة وإتلافها شيئًا هدر، لا ضمان على صاحبها إذا لم يوجد منه تفريط، أما إذا وجد كما في صورة كونه راكبًا عليها أو قائدًا لها أو سائقًا ففيه ضمان.
__________
1 صحيح مسلم "5/ 128".(10/276)
السرقة:
عرف علماء اللغة السرقة Larceny بأنها أخذ إنسان ما ليس له أخذه في خفاء1. وعرفت "مدونة جوستنيان" السارق بأنه "من انتزع بالقوة مالًا مملوكًا للغير"42. وقد عاقبت شرائع الشرق الأدنى السارق بعقوبات صارمة في الغالب. وقد فرضت الشريعة الموسوية على السارق أن يرد خمس أضعاف من البقر وأربعة من الغنم عوضًا عن كل رأس مسروق. وإذا لم يكن لدى السارق ما يكفيه لإعطاء هذا الجزاء،
__________
1 المفردات "ص230"، اللسان "10/ 155".
2 مدونة جوستنيان، "ص253".(10/276)
يباع فترد القيمة من ثمنه. وكان على السارق أن يدفع أحيانًا سبعة أضعاف ما سرق. وقد أمرت برد الأشياء المأخوذة عن طريق الخيانة والغش أو اللقطة أو المغتصبة مع زيادة الخمس على قيمتها1.
ويدخل في باب السرقة في الشريعة الموسوية السطو ليلًا على البيوت، وإزالة علامات الحدود لاغتصاب ملك مجاور لزيادة ملك المغتصب، والتلاعب في الكيل وفي الميزان والأبعاد أي: القياسات والدخول عنوة في ملك شخص لا يملك حق دخول ملكه وإحراق ملك الغير، وقد قررت الشريعة المذكورة معاقبة المعتدي في هذه الحالات بإصلاح الضرر وبدفع تعويض مناسب2.
والسارق عند العرب من جاء مستترًا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس، فإن مَنَع مما في يديه فهو غاصب3. والسرقة عيب عند الجاهليين، أما الاستيلاء على مال الغير عنوة، أي: باستعمال القوة، فلا يعد سرقة، بل هو اغتصاب وانتهاب إذا كان في داخل القبيلة، أما إذا كان اغتصاب مال شخص من قبيلة أخرى ليس لها حلف ولا جوار ولا عقد مع قبيلة المغتصب، فيعد مغنمًا ومالًا حلالًا. ولا يرى المغتصب فيه أي دناءة، بل قد يعدّ ذلك شجاعة وفخرًا؛ لأنه أخذه عن قوة وجدارة, وعلى صاحب الحق أخذ حقه بنفسه، أو بمساعدة أهله أو أبناء عشيرته.
أما بالنسبة إلى شريعة الجاهليين في معاقبة السارق، فليست لدينا فكرة واضحة عنها وبالنسبة إلى عقوبته عند جميع الجاهليين. أما أهل مكة، وهم من قريش, فقد كانوا يعاقبون السارق بقطع يده. ويظهر من روايات الأخباريين أن هذه العقوبة سنت في وقت لم يكن بعيد عهد عن الإسلام، إذ يذكرون أن أول من سنها هو "عبد المطلب"4. ومنهم من يرجع سنها إلى "الوليد بن المغيرة"، فيقولون: إنه أول من قطع يد السارق، فصار عمله هذا سنة في معاقبة السرقة، وقطع رسول الله في الإسلام5. وروي أن أول سارق قطعه رسول الله في الإسلام
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 556".
2 Hastings, P.167
3 اللسان "10/ 156" "صادر".
4 ابن رسته، الأعلاق "191".
5 تفسير الطبري "6/ 148 وما بعدها"، تفسير القرطبي "6/ 160"، المعارف "240"، صبح الأعشى "1/ 435".(10/277)
من الرجال: "الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف"، ومن النساء "مرة بنت سفيان بن عبد الأسد" من "بني مخزوم"1.
وذكر "محمد بن حبيب"، أن العرب "كانوا يقطعون يد السارق اليمنى"، "وقطعت قريش رجالًا في الجاهلية في السرق" منهم "وابصة بن خالد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، و"عوف بن عبيد بن عمر بن مخزوم"، و"مرار"، ثم سرق فرجم حتى مات، و"الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف"، وعبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب، قطع في سرقة إبل، ومدرك بن عوف بن عبيد بن عمر بن مخزوم، ومليح بن شريح بن الحارث بن أسد، ومقيس بن قيس بن عدي السهمي، وكانا سرقا حلي الكعبة في الجاهلية، فقطعا2.
ويلاحظ أن ثلاثة من السراق المذكورين كانوا من عائلة واحدة هي عائلة "عمر بن مخزوم". وأن سارقين من هؤلاء السراق الثلاثة كانا أبا وابنًا. فالأب هو "عوف بن عبيد بن عمر بن مخزوم"، والابن هو "مدرك بن عوف بن عبيد بن عمر بن مخزوم".
وذكر أهل الأخبار أن أشهر سارق عرف عند الجاهليين، هو سارق اسمه "شظاظ". فقالوا: شظاظ أسرق رجل عند العرب3.
ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن موقف بقية العرب من عقوبة قطع يد السارق؛ لأننا لا نملك موارد تتحدث عن ذلك.
ويعاقب العبرانيون السارق بدفع خمسة أمثال المسروق إذا كان ثورًا، ويدفع أربعة أمثاله إذا كان المسروق خروفًا أو نعجة، وذلك إذا كان السارق قد باع الحيوان أو قتله. أما إذا كان ذلك الحيوان لا يزال في أيدي السارق، فيعاقب عندئذ بدفع مثلي المسروق4.
وفكرة معاقبة السارق بدفع مثلي المسروق أو جملة أمثاله فكرة موجودة عند
__________
1 تفسير القرطبي "6/ 160".
2 المحبر "327 وما بعدها".
3 تاج العروس "5/ 253"، "شظظ".
4 Hastings, P.165(10/278)
الجاهليين أيضًا، ولا تزال معروفة في العرف القبلي. فيدفع السارق أربعة أمثال المسروق عند أكثر العشائر العراقية في الزمن الحاضر، ويسمون ذلك "المربعة". وهي في الواقع من بقايا العرف الجاهلي في السرقة. وقد جعل القانون الروماني عقوبة السرقة المكشوفة، أي: السرقة التي يمسك فيها صاحبها وهو في حال السرقة أربعة أمثال المسروق، رقيقًا كان السارق أو حرًّا، أما السرقة المستورة، وهي السرقة التي يعثر عليها عند السارق، فجزاؤها المثلان1.
وإذا أنكر السارق السرقة وأصر على إنكاره، ولم يتمكن المسروق من إثبات وقوع السرقة منه، ولكنه يرى مع ذلك أنه هو السارق، فعلى المسروق أن يطالب السارق بأداء يمين يقسم فيه أنه لم يسرقه وأنه لا يعرف بها، فإذا أنكر ولم يرض بالقسم، فعليه دفع المسروق أو قيمته على وفق العرف. والعرب يخشون من اليمين كثيرًا، حتى إنهم إذا جوبهوا به، فإنهم يفضلون الاعتراف بالسرقة والإقرار بها على أداء اليمين.
ويعبر عن السارق بلفظة أخرى، هي "اللص" والمصدر اللصوصية. وزعم بعض علماء اللغة أن كلمة "لص" هي بلغة طيء وبعض الأنصار2. ويرى بعض المستشرقين أنها من الألفاظ المعربة عن اليونانية، من أصل Liatis، أي: "لص" في لغة الإغريق. وقد أخذها الجاهليون عن طريق اتصالهم بالروم في بلاد الشأم، حيث كانوا يقبضون على من كان يغير على الحدود وعلى القوافل بقصد السرقة والسلب، فيسمونهم Liatis ويعاقبونهم عقوبة صارمة، فأخذ الجاهليون هذا المصطلح منهم3.
ويعبر عن أخذ المال المسروق والحصول عليه وديعة أو شراء مع علم المستلم له أنه مسروق بـ"دشش" في لغة المسند4.
وأما النهب، فأخذ مال الغير، وذلك بالغارات، أو باعتراض الناس في السبل والطرق5. وأما السلب، فهو ما يستلبه الإنسان من إنسان آخر، في مثل
__________
1 مدونة جوستنيان "ص246 وما بعدها".
2 اللسان "7/ 87".
3 غرائب اللغة "ص268".
4 Mahram, P.431
5 اللسان "1/ 773".(10/279)
الحرب أو القتل1. ولهما أحكام تختلف باختلاف الظروف التي يقع فيها السلب والنهب. ففي أثناء الحروب، يكون النهب والسلب من الأعمال المألوفة التي تبيحها القوانين، وقد يبيح القادة ذلك لجنودهم، وقد يعينون مدة يبيحون فيها سلب العدو ونهب ما في مكانه. ومن حق القاتل في الحرب سلب ما على القتيل من سلاح ولباس، وما يحمله من كل شيء.
__________
1 اللسان "1/ 471".(10/280)
قاطع الطريق:
ذكر "محمد بن حبيب" أن العرب يصلبون قاطع الطريق، وقد صلب "النعمان بن المنذر" رجلًا من "بني عبد مناف بن دارم"، من تميم كان يقطع الطريق1.
__________
1المحبر "127 وما بعدها".(10/280)
الصلح:
ويحاول الحكام جهدهم تسوية الخلافات بالتي هي أحسن، وذلك بفطنتهم وبذكائهم بالتوفيق بين المتخاصمين وبعقد الصلح بينهم، لدفن ما وقع بين الطرفين من خلاف. وقد ورد: "الصلح سيد الأحكام". وبهذه الطريقة المسالمة يُنهى الخلاف وتُدفن الأحقاد.
ومن طرقهم في ذلك: الدفن. "وطريقتهم فيه أن تجتمع أكابر قبيلة الذي يَدفن بحضور رجال يثق بهم المدفون له، ويقوم منهم رجل، فيقول للمجني عليه: نريد منك الدفن لفلان, وهو مقر بما أهاجك عليه, ويعدد ذنوبه التي أخذ بها ولا يبقى منها بقية، ويقر الذي يدفن ذلك القاتل على أن هذا جملة ما نقمه على المدفون له، ثم يحفر بيده حفيرة في الأرض، ويقول: قد ألقيت في هذه الحفرة ذنوب فلان التي نقمتها عليه، ودفنتها له دفني لهذه الحفيرة، ثم يردّ تراب الحفيرة إليها حتى يدفنها بيده. وهو كثيرًا متداول بين العرب، ولا يطمئن خاطر المذنب منهم إلا به، إلا أنه لم تجرِ للعرب فيه عادة بكتابة(10/280)
بل يكتفي بذلك الفعل بمحضر كبار الفريقين، ثم لو كانت دماء أو قتلى عفيت وعفت بها آثار الطلائب"1.
__________
1 صبح الأعشى "13/ 352".(10/281)
المال:
مال أهل البادية: النعم. والمال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة ثم أطلق على كل ما يُقتنى ويُملك من الأعيان، وأكثر ما يُطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم1. وبها قدرت الديات والفديات والمهر، وبعددها قدرت ثروة الأغنياء. أما النقود: من ذهب وفضة, فقد كانت معروفة عند الجاهليين، ولا سيما فيما بعد الميلاد، إلا أنها لم تكن كثيرة في الأسواق, ولهاذ كانت طريقة المقايضة هي الطريقة الغالبة في معاملات البيع والشراء.
__________
1 اللسان "11/ 636".(10/281)
التمليك:
التمليك بعوض، والتمليك بغير عوض. وكلا النوعين معروفان عند أهل الجاهلية. فالتمليك بعوض، كأن يعوض عن حق الملك بثمن نقدًا، أو عوضًا, أي: بمال آخر مقايضة عن الملك وهو في الغالب, فيتنازل صاحب الملك عن ملكه إلى من عوضه. وأما التمليك بغير عوض، فيكون بتنازل الملك عن ملكه لغيره, أي: لمن يشاء طوعًا واختيارًا بغير ثمن لا عوض، ويسلم إلى من تُنوزل له عن حق التملك فيكون ملكًا صحيحًا له.(10/281)
العمري:
العمري ما يجعل لك طول عمرك أو عمره، كأن يدفع الرجل إلى أخيه دارًا فيقول له هذه لك عمرك أو عمري أينا مات دفعت الدار إلى أهله. وكان ذلك فعلهم في الجاهلية. فأبطل ذلك النبي، وأعلمهم أن من أعمر شيئًا أو رقبة في حياته، فهو لورثته من بعده، وللفقهاء كلام في هذا الموضوع1.
__________
1 تاج العروس "3/ 421"، "عمر".(10/281)
حرمة الأماكن المقدسة:
وللأماكن المقدسة كبيوت العبادة والقبور حرمة عند أهل الجاهلية، ويعتبر المستهتر بها مخالفًا للعرف والسنة، فيؤدب. ومن سننهم أن الرجل في الجاهلية إذا أحدث حدثًا فلجأ إلى الحرم لم يحج. وكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم قيل: هو صرورة فلا تهجه. وإذا اعتدى عليه، يكون المعتدي قد ارتكب جرمًا1.
__________
1 الصاحبي "ص91 وما بعدها".(10/282)
الحبوس:
والحبس كل شيء وقفه صاحبه وقفًا محرمًا لا يباع ولا يورث من نخل أو كرم أو أرض أو مستغل أو حيوان، يحبس أصله وتصرف غلته وما يأتيه من نماء ومال على ما حبس عليه. وقد كان أهل الجاهلية يحبسون السوائم والبحائر والحوامي وغيرها على الأصنام وعلى بيوت عبادتهم. فلما جاء الإسلام، قيد الحبس بما يكون في سبيل الله وانتفاع المسلمين، وحرم عبوس الجاهلية1.
وقد حبس الجاهليون أرضين لمعابدهم وأصنامهم جعلوها "حمى" لآلهتهم، ولا يجوز لأحد ارتيادها للرعي فيها ولاستثمارها؛ لأنها حبس على الصنم أو على المعبد. ترعى فيها السائمة التي حبست على الصنم أو المعبد. فلما جاء الإسلام حرم هذا الحبس؛ لأنه لغير الله. وأحل محله "الوقف" الذي هو لله.
وحبسوا النخل للمحتاج ولأبناء السبيل، يلتقط تمره بغير إذن، ولا يجوز منع أحد منه. كذلك حبسوا الماء لمن يحتاج إليه، يأخذ منه دون بدل، لشدة حاجة الناس إليه، فالحبوس بمنزلة الأوقاف في الإسلام.
__________
1 تاج العروس "4/ 125"، "حبس".(10/282)
اللقطة:
اللقطة الذي تجده ملقى فتأخذه. وتكون اللقطة لواجدها ما لم يأت شخص ببينة واضحة على أنها له. فعلى لاقطها إعادتها إلى صاحبها أي: مالكها. وقد يقع(10/282)
نزاع على لقطة كأن يدعي شخص بأن اللقطة هي حلاله وملكه، وقد التقطها شخص وادعى أنها له، أو أنه وجدها لقطة فهي له. أو أن يتنازع متنازعون على اللقطة بأن يدعي كل واحد أنها له؛ لأنه هو الذي وجدها. فتكون البينة حجة في هذه الخصومات، حتى يفض محكم ذلك النزاع.(10/283)
الركاز:
وللجاهليين رأي في الركاز، وهو دفين أهل الجاهلية، فمن وجده صار من حقه. ولهم رأي في المعادن. وسأتحدث عنهما في أثناء حديثي عن الحياة الاقتصادية قبل الإسلام.(10/283)
الفصل التاسع والخمسون: العقود والالتزامات
مدخل
...
الفصل التاسع والخمسون: العقود والالتزامات
يجب على الإنسان الوفاء بالعقود وبالالتزامات، مهما كانت، ما دامت قد تمت برضاء الطرفين وباختيارها. ومن هذه العقود عقود الزواج والديون والشركات والمزارعة. وغير ذلك. وقد تعقد العقود بغير كتاب، أي: باتفاق لساني، وقد تتم بكتاب يدون عليه ما اتفق عليه، وقد يشهد على العقد شهود.
ويكتب العقد، أي: الاتفاق إذا أريد أن يكون كتابة، على كتاب قد يكون صحيفة. يدوّن فيه كل ما اتفق عليه. ويعبر عن صحيفة العقود بلفظة "ص ل ت" "صلت" و"ص ل وت" في بعض اللهجات العربية الجنوبية. ومن معانيها "سمع"، وتؤدي معنى أن موقعي العقد قد سمعوا شروط العقد وعرفوها، فهم على علم بها وشهادة1.
وإذا تم التكاتب ودوّنت كل الشروط التي اتفق عليها، ختم عليها المتعاقدون. وقد فعلوا ذلك في المعاهدات وفي الاتفاقيات وفي عقود التجارة والمعاملات الأخرى. وقد يكتب العقد كاتب قد يذكر اسمه دلالة على أنه شاهد عدل على صحة العقد. ويقوم الخاتم مقام الإمضاء المستعمل في هذا اليوم. وقد يكتب اسم الرجل، ثم توضع صورة الخاتم تحته.
__________
1 Rhodokanakis, Stud, Lexi, Ii, S. 44(10/284)
وربما لا يكون الخاتم مكتوبًا، بل يكون محفورًا، حفرت عليه صور. فقد ورد أن في خاتم أنس بن مالك نقش ذئب أو "ثعلب"، وكان خاتم عمران بن الحصين نقشه تمثال رجال متقلد سيفًا. ويختم به على الطين، وقد ورد: أن عمر بن الخطاب نهى أن يكتب في الخواتيم شيء من العربية1.
وفي العربيات الجنوبية لفظة "جزم"، وترد في كتب العقود والالتزامات، وتعني القطع، وقطع إنسان عهدًا على نفسه وإمضاءً له، كما نقول: "جزم اليمين: أمضاه"2 وأما لفظة "تجزم" فمعناها عقد عقدًا، أو أمضى يمينًا واتفاقًا3.
وتختم نصوص الاتفاقيات والعهود في بعض كتابات العربية الجنوبية بلفظة "صدق" أحيانًا4، دلالة على اكتسابها الصفة الشرعية وموافقة المتعاقدين التامة، وهي في معنى "صودق" التي تدون في نهاية المعاهدات والاتفاقيات في بعض الأحيان.
وتحتفظ صكوك العقود عند الطرفين، وقد تودع في الأماكن المقدسة ودور العبادة، وذلك في الأمور المهمة، مثل: الأحلاف وما يتعلق بالمجموع. وقد أودعت قريش الوثيقة التي كتبتها بمقاطعة "بني هاشم" في جوف الكعبة كما ورد ذلك في كتب السير. وقد عيّر "الحارث بن حِلِّزة اليشكري"، قومًا غدروا ونقضوا العهد بقوله:
حذر الجور والتعدي وهل ينقـ ... ـض ما في المهارق الأهواء
أي: إن كانت أهواؤكم زينت لكم الغدر بعد ما تحالفنا وتوافقنا، فكيف تصنعون بما في الصحف مكتوبًا عليكم5.
وأشار شاعر آخر، وهو "قيس بن الخطيم" إلى كتب دوّن فيها حلف6.
__________
1 الطبقات الكبرى، لابن سعد "7/ 10 وما بعدها".
2 راجع الفقرة الأولى من النص: Glaser 1064, Chi 435, Hofmus, 17
3 Rhodohanakis, Stud, Lexi, Ii, S. 154
4 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 92, J. Pedersen, Der Eid Bei Den Semiten. S. 131.
5 المعاني الكبير "2/ 1117".
6 المعاني الكبير "2/ 1117".(10/285)
البيوع:
ولدينا نص مهم من أيام الملك "شمر يهرعش" موجه إلى أهل سبأ وإلى أهل مأرب وما والاها في تنظيم البيوع. وهو قانون مهم جدًّا، حددت فيه واجبات البائع والمشتري وحكم البضاعة في أثناء التعامل، أي: قبل إتمام صفقة البيع. وقد حدد القانون المدة التي يعد فيها البيع تامًّا ناجزًا، بمدة شهر واحد، لا يجوز بعدها التراجع عن البيع أبدًا. وبيّن القانون حكم الحيوان الهالك في أثناء المدة التي يحق للمشتري فيها إرجاع ما اشتراه إلى البائع فحددها بمدة سبعة أيام، فإن مضت هذه الأيام وهلك الحيوان في حوزة المشتري فعليه دفع الثمن كاملًا إلى البائع، ولا يحق له الاعتراض عليه والاحتجاج بأن الحيوان قد هلك في أثناء مدة أجاز له القانون فسخ عقد الشراء فيها. ويطبق حكم هذا القانون على الإنسان أيضًا، فإذا اشترى شخص عبدًا أو عبدة، روعي في بيعها وفي شرائهما أحكام هذه المواد1.
وتعرّض القانون لحالة إرجاع المشتري ما اشتراه إلى بائعه، ورده عليه في خلال المدة التي سمح بها القانون وهي الشهر فما دون، مثل عشرين يومًا أو عشرة أيام، فجوّز ذلك، بشرط أن يقوم المشتري بدفع تعويض للبائع يعادل قيمة إجازة الحيوان أو الرقيق في خلال تلك المدة التي بقي فيها في حوزة المشتري.
فالقانون السبئي إذن قد أخذ بقاعدة "الخيار" في البيع، في بيع الأجسام الحية: الإنسان، والإبل، والغنم، والبقر. وحدد مدة "الخيار" هذه بشهر واحد، إذا تم الشهر، ولم يُرجِع المشتري ما اشتراه إلى البائع، عدّ البيع تامًّا ناجزًا، وفي مدة الخيار هذه يكون المبيع ملكًا للبائع، وعلى المشتري دفع تعويض مناسب للبائع في حالة إرجاع المبيع إلى صاحبه تعويضًا يقدر بقدر العرف المتبع في حالة إيجار ذلك الرقيق أو الحيوان، كما أن على المشتري أن يدفع بدل العبد أو الحيوان المتوفى إذا كانت الوفاة قد وقعت في أثناء وجود العبد أو الحيوان في حيازة المشتري.
وغاية المشرع من هذا الخيار هو التأكد من أن المبيع خال من العيب سالم من
__________
1 Glaser 542, Rep. Epigr., 3910, British Mus., 104396, G. Ryckmans, Le Museon, 40, 1927, P.165, Rhodokanakia, In Wzkm, 38, 1932, 172, Arabien, S. 135(10/286)
الفصل الستون: حكم العرب
مدخل
...
الفصل الستون: حكام العرب
الحاكم منفذ الحكم بين الناس، والذي يمنع الظالم من الظلم1. وهو في معنى "القاضي"، الذي هو القاطع للأمور المحكم لها2. وحكام العرب، هم الذين حكموا بينهم فيما حدث من خلاف، وما وقع لهم من خصومات. وقد كان لكل قبيلة حكام، عرفوا برجاحة عقولهم وبسعة مداركهم وبوقوفهم على أعراف قومهم، وبعدلهم وإنصافهم، وبترفعهم عن الظلم والدنايا، فتحاكموا إليهم. ومنهم من طار اسمه إلى خارج مواطن قبيلته، فتحاكم إليه أبناء القبائل الأخرى، لما وجدوا فيه من صفات الحكم العادل والنزاهة والسلامة والصدق في إعطاء الحكم.
ولم يكن الحكم بين الناس والقضاء بينهم، عملًا رسميًّا من أعمال الحكومة, بمعنى أن الحاكم موظف من موظفي الدولة، كما هو في الوقت الحاضر، وكما وقع في الإسلام، وإنما كان القضاء أمرًا يعود إلى الناس، إن شاءوا رجعوا إلى عقلاء الحي لفض ما قد يقع بين أهل الحي من خلاف، وإن شاءوا اختاروا حكمًا يرتضونه لكي يقضي بينهم في الخصومة، فيقضي فيما بينهم برأيه وبرجاحة عقله، ثم ينتهي واجبه، وهم لا يختارون حكمًا، إلا لوجود خلال حميدة فيه تؤهله للحكم، مثل العدل والفهم والحنكة، والفطنة، وسرعة إدراك أسباب الحق.
__________
1 تاج العروس "8/ 252"، "حكم".
2 تاج العروس "10/ 297"، "قضم".(10/307)
ولهذا صار الرجل الذي تتوفر فيه الصفات التي يجب أن تكون في الحاكم، مرجعًا لأصحاب الخصومات، يرجعون إليه لعمق تفكيره ولرجاحة عقله في استنباط الحكم الذي يرضي ويقنع الطرفين، ولم يكن هذا الحاكم من رؤساء القبيلة بالضرورة، وإنما قد يكون من الذين برزوا في مجتمعهم وأظهروا مقدرة في فهم طبائع قومهم وأعرافهم وأنسابهم وامتازوا عن غيرهم بسعة الفهم والإدراك.
وحكام العرب إما حكام منحوا مواهب ومزايا، جعلت الناس يركنون إليهم في حل المشكلات، وإما كهان، لجأ الناس إليهم يستفتونهم في الحكم فيما يقع بينهم من شجار، لاعتقادهم بصحة أحكامهم، وإما "عراف"، وإما فقهاء ومفتون، أي: رجال دين، كالقلامسة، يفتون في أمور الدين.
ويلاحظ أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الذي ينظر في الخصومات "الحكم" و"الحاكم". أما في الإسلام قد تغلبت لفظة "القاضي" عليه. وصار القاضي هو الذي يقضي بين الناس في جميع الأمور القضائية من مدنية وجزائية، ثم عاد الناس في هذه الأيام فخصصوا "الحاكم" بمن يحكم في القوانين الجزائية والمدنية، و"القاضي" بمن يقضي في الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية التي لها علاقة بأمور الدفن كالزواج والطلاق والإرث.
وذكر علماء اللغة أن "الفِتاحة"1، الحكومة والقضاء، قال الأشعر الجعفي:
ألا من مبلغٍ عمرًا رسولًا ... فإنّي عن فتاحتكم غني2
وأن الفتح، الحكم بين الخصمين في لغة حمير. يقال: فتح الحاكم بينهم، إذا حكم3.
وإذا تجاوز الحاكم العدل وتباعد عن الحق، يقال: شط عليه في حكمه. و"الشطط" مجاوزة القدر في بيع أو طلب أو احتكام4.
و"الجور" الظلم والتعدي على الغير، وإذا شط الحاكم على شخص، يكون قد جار عليه وظلمه، وما أنصفه في حكمه.
__________
1 بالكسر والضم.
2 تاج العروس "2/ 194".
3 تاج العروس "2/ 194".
4 تاج العروس "5/ 167".(10/308)
ويجب على الحاكم أن يحكم بين الناس بالقسط، حكم "الميزان"، فلا يجوز في العدالة، أن يرجح كفة على أخرى. ولهذا قيل: الميزان العدل، وجعل رمزًا للعدالة. قال تعالى: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} 1. والقسطاس الميزان، وقيل: هو أقوم الموازين وأعدلها2.
وكانت العادة أن يلجأ اليتيم والضعيف إلى ذوي رحمه، أو إلى أبناء حيه، للحصول على ظلامته. فيتدخل أهل المروءة والإنصاف في الأمر، لإكراه الظالم على إنصاف المظلوم. ورد أنه "كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة. ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم"3. ومنهم من كان يأكل مال اليتيم والضعيف، ويجبر اليتيمة على الزواج به، للحصول على مالها، وقد منع ذلك في الإسلام4.
وحكام العرب في الجاهلية: أكثم بن صيفي بن رياح، وحاجب بن زرارة بن عدس، والأقرع بن حابس، وأبو عيينة، وربيعة بن مخاشن، وضمرة بن ضمرة "ضمرة بن أبي ضمرة" التميمي، هؤلاء كانوا حكام تميم5.
و"الأفعى بن الحصين بن غنم بن رهم بن الحارث الجرهمي"، و"عيينة بن حصن بن حذيفة"، و"حرملة بن الأشعر المري"، وهرم بن قطبة بن سنان بن عمرو الفزاري، وبشر بن عبد الله بن حبان، وأبو سفيان بن حرب بن أمية، وأبو جهل بن هشام، وأنس بن مدرك، و"عامر بن الظرب" العدواني، وغيلان بن سلمة بن معتب الثقفي وهما حكمان لقيس، وهاشم بن عبد مناف، وعبد المطلب، وأبو طالب، والعاصي بن وائل القرشي، "العاصي"، والعلاء بن حارثة بن نضلة بن عبد العزى القرشي، هؤلاء كانوا حكّامًا لقريش. وربيعة بن حذار الأسدي، ويعمر بن الشداخ "يعمر الشداخ" الكناني، هؤلاء كانوا حكّامًا لكنانة6. وكان من حكامهم أيضًا:
__________
1 الشعراء، الرقم 26، الآية 182.
2 تاج العروس "4/ 218"، "القسطاس"، "9/ 360 وما بعدها"، "وزن".
3 تفسير الطبري "4/ 153".
4 سورة النساء، الآية 2 وما بعدها.
5 تاج العروس "8/ 252"، "حكم"، "5/ 461"، "قرع".
6 تاج العروس "8/ 252"، "حكم"، "5/ 461"، "قرع".(10/309)
صفوان بن أمية، وسلمة بن نوفل الكناني، ومالك بن جبر العامري، وعمرو بن حُممة الدوسي، والحارث بن عبّاد الربيعي، والقلمس الكناني، وذو الأصبع العدواني1.
وقد تعرض "اليعقوبي" لموضوع حكام العرب، فقال: "وكان للعرب حكام ترجع إليها في أمورها وتتحاكم في منافراتها ومواريثها ومياهها ودمائها؛ لأنه لم يكن دين يرجع إلى شرائعه، فكانوا يحكمون أهل الشرف والصدق والأمانة والرئاسة والسن والمجد والتجربة. وكان أول من استقضي فحكم: الأفعى بن الأفعى الجرهمي، وهو الذي حكم بين بني نزار في ميراثهم، ثم سليمان بن نوفل ثم معاوية بن عروة، ثم صخر بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل، ثم الشداخ، وهو يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وسويد بن ربيعة بن حذار بن مرة بن الحارث بن سعد، ومخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، وكان يجلس على سرير من خشب فسمّي ذا الأعواد، وأكثم بن صيفي بن رياح بن الحارث بن مخاشن، وعامر بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس، وهرم بن قطبة بن سيار الفزاري، وغيلان بن سلمة بن معتب الثقفي، وسنان بن أبي حارثة المري، والحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وعامر بن الضحيان بن الضحاك بن النمر بن قاسط، والجعد بن صبرة الشيباني، ووكيع بن سلمة بن زهير الإيادي، وهو صاحب الصرح بالحزورة، وقس بن ساعدة الإيادي، وحنظلة بن نهد القضاعي، وعمرو بن حممة الدوسي. وكان في قريش حكام، منهم: عبد المطلب، وحرب بن أمية، والزبير بن عبد المطلب، وعبد الله بن جدعان، والوليد بن المغيرة المخزومي"2.
وكان في نساء العرب أيام الجاهلية حاكمات اشتهرن بإصابة الحكم وفصل الخصومات وحسن الرأي في الحكومة. منهن: صحر بن لقمان، وابنة الخس، وجمعة بنت حابس الإيادي، وخصيلة بنت عامر بن الظرب العدواني، وحذام بنت
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 330 وما بعدها"، المحبر "132"، البيان "1/ 109"، الاشتقاق "172"، الأغاني "3/ 2 وما بعدها".
2 اليعقوبي "1/ 227 وما بعدها".(10/310)
الريّان1.
ويذكر أهل الأخبار أن "ابنة الخس"، هي "هند بنت الخس الإيادية"، وهي جاهلية قديمة، وقد أدركت "القلمس" الكناني، ونسبوا لها أسجاعًا كثيرة, وقالوا: إنها كانت تحاجي الرجال. ورووا لها شعرًا قليلًا2. و"الخس"، والد هذه الحكيمة، هو الخس بن حابس بن قريط الإيادي. وذكر بعضهم أنه من العماليق. وقد اختلف في اسمها فقيل: هند وقيل جمعة. وقد جاء عنها الأمثال. وكانت معروفة بالفصاحة3.
وقد نسبوا لها حديثًا في وصف المرأة وفي وصف الرجل، كما ذكروا لها كلامًا مع والدها، حين سألها عن أسئلة4.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "جمعة بنت حابس الإيادي"، هي أخت "ابنة الخس"5. والدها "حابس" رجل من إياد، أو هو "الخس بن حابس". وذكر بعض آخر، أن "جمعة" ليست أخت "هند" وإنما هناك حاكمة أخرى6, وزعموا أن "صحر بنت لقمان"، كانت عاقلة اشتهرت بالعقل والكمال والفصاحة، وكانت العرب تتحاكم عندها فيما يقع بينهم من خلاف في الأنساب وغيرها. وكان والدها "لقمان". وبعضهم يقول غير ذلك. وأخوها "القيم". ويذكر بعضهم أن لقمان قتلها7.
أما "الأفعى الجرهمي"، فقد جعله بعض أهل الأخبار من أول الحكام، وهو الذي حكم بين "بني نزار بن معد" في ميراثهم على حد زعم أهل الأخبار، وهو مضر وربيعة وإياد وأنمار. وكان منزله نجران من اليمن. ومن ولده السيد والعاقب أسقفا نجران في أيام الرسول8. وجعله "اليعقوبي" من أقدم من حكم عند العرب في خلاف، إذ قال عنه: "وكان أول من استقضي إليه فحكم:
__________
1 تاج العروس "8/ 252 وما بعدها"، "حكم"، بلوغ الأرب "1/ 338 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "1/ 339 وما بعدها".
3 تاج العروس "4/ 137"، "خس"، "8/ 253"، "حكم".
4 الأمالي، للقالي "2/ 256 وما بعدها"، ذيل الأمالي "107، 119".
5 بلوغ الأرب "1/ 342".
6 تاج العروس "4/ 137", "خس".
7 تاج العروس "4/ 327"، "صحر"، "8/ 253"، "حكم".
8 المحبر "ص132"، الاشتقاق "ص218".(10/311)
الأفعى بن الأفعى الجرهمي. وهو الذي حكم بين بني نزار في ميراثهم"1. وجعله "المسعودي" ملكًا من ملوك نجران1.
وكان أكثم بن صيفي من حكام تميم، ذكر أنه أدرك الإسلام، ولما سمع بأمر النبي، وكان إذ ذاك شيخًا، بعث ابنه "حُبيشًا" إلى النبي ليأتي بخبره، فلما جاء به، جمع قومه وخطب فيهم، ودعاهم إلى الإسلام. ونسبوا له أمثلة، منها: مقتل الرجل بين فكيه، وجمعوا له تسعة وعشرين مثلًا أو أكثر من ذلك. ونسبوا له كلامًا مع "كسرى"3. ونسب له "الجاحظ" بيتًا في الزهد، هو:
نُربّي ويهلك آباؤنا ... وبينا نربّي بنينا فنينا4
وزعم أهل الأخبار أنه عاش تسعين ومائة سنة، ومنهم من استقل هذا العمر واستصغره، فجعله ثلاثمائة وثلاثين سنة5.
ولأكثم صلات وعلاقات بالنعمان بن المنذر ملك الحيرة. وكان الملك قد اختاره في جملة من اختارهم لمحادثة "كسرى" في أمر العرب على ما يذكره أهل الأخبار.
ونسب أهل الأخبار إليه حكمًا زعموا أنه قالها للملك "النعمان" في أصول الحكم, وفي كيفية إدارة شئون الرعية في حقوق الراعي. وزعم أن "الحارث بن أبي شمر الغساني"، طلبه ليكون في الألسنة الموهوبة التي تكلم "هرقل" عظيم الروم عند زيارته له6. وذكر أنه كان يحث على التآلف والوحدة وجمع الشمل، ونبذ التخالف والتنافر. ونسبوا له أقوالًا في ذلك. وفي أصول الحروب والقيادة وأمثال
__________
1 اليعقوبي "1/ 227".
2 مروج "2/ 89 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "1/ 308 وما بعدها"، البخلاء "146، 208"، رسائل الجاحظ "1/ 66".
4 الحيوان "3/ 51".
5 المحبر "134"، الاشتقاق "127"، المعمرون، للسجستاني "10"، الإصابة "1/ 118 وما بعدها"، "رقم 485"، اليعقوبي "1/ 227"، أسد الغابة "1/ 113"، المعارف "299"، مروج الذهب "2/ 116"، عيون الأثر "1/ 70"، الأمالي، للقالي "1/ 309".
6 المعمرون "19".(10/312)
ذلك، مما يحتاج إليه المجتمع في ذلك العهد1.
وذكر أن سادة نجران كانوا يتصلون به، وكذلك ملك "هجر"2. وأن سادات جهينة ومزينة وأسلم وخزاعة، كانوا يسألونه الرأي والاستشارة3.
وحاجب بن زرارة بن عدس من حكام تميم، ومن البلغاء الفصحاء في زمانه, وممن وفد على "كسرى" من سادات تميم، وكان له كلام معه. وكان في جملة من توسط عنده ليسمح لقومه أن يدخلوا الريف. فسمح لهم بذلك. وقد هلك قبل الإسلام. فصار ابنه "عطارد" سيد تميم. وقد أدرك عطارد الإسلام, وذهب إلى الرسول، فأسلم4. وكان حاجب بن زرارة يقال له: ذو القوس، وذلك أن تميمًا أقحطوا، فارتحل حاجب إلى كسرى، فسأله أن يأذن له، أن ينزل حول بلاده. فقال: إنكم أهل غدر! فقال: أنا ضامن. فقال: ومن لي بأن تفي؟ قال: أرهنك قوسي، فأذن لهم دخول الريف. فلما مات حاجب، رحل عطارد بن حاجب إلى كسرى، يطلب قوس أبيه، فردها عليه وكساه حلة. فلما وفد إلى النبي عطارد، وأسلم على يديه أهداها للنبي، فلم يقبلها، فباعها. وقال عمر: يا رسول الله لو اشتريتها فلبستها لوفود العرب وللعيد، فقال: إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة. وقد ارتد عطارد مع من ارتد من بني تميم بعد النبي وتبع سجاح، ثم عاد إلى الإسلام5.
وكان "الأقرع بن حابس بن عقال بن محرر بن سفيان" التميمي المجاشعي الدارمي من حكام تميم، اسمه "فراس"، وإنما قيل له: الأقرع لقرع كان برأسه. وكان شريفًا في الجاهلية والإسلام. وفد على النبي، وهو من المؤلفة قلوبهم وقد حسن إسلامه. وقد نادى النبي، من وراء الحجرات: يا محمد، فلم
__________
1 عيون الأخبار "1/ 108"، "كتاب السلطان"، "1/ 246"، "باب ذي الغنى ومدح الفقر"، البخلاء للجاحظ "208"، "الحاجري"، المزهر، للسيوطي "1/ 501"، البلدان "4/ 374"، العقد الفريد "1/ 170"، البخلاء "208".
2 المعمرون، للسجستاني "18".
3 المعمرون "15".
4 بلوغ الأرب "1/ 311 وما بعدها"، السيرة الحلبية "1/ 10"، الاشتقاق "1/ 144"، الأمالي، للقالي "2/ 299 وما بعدها".
5 الإصابة "2/ 476"، "رقم 5568"، بلوغ الأرب "1/ 311 وما بعدها"، الاشتقاق "145"، الطبري "3/ 115 وما بعدها"، "قدوم وفد بني تميم ونزول سورة الحجرات".(10/313)
يحبه. فقال: والله يا محمد إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين. فقال رسول الله: ذلكم الله. وفي هذا الحادث نزلت الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 1. وذكر أنه كان مجوسيًّا قبل أن يسلم. وأن "عيينة" والأقرع استقطعا أبا بكر أرضًا. فقال لهما عمر: إنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتألفكما على الإسلام. فأما الآن فاجهدا جهدكما، وقطع الكتاب. وقد عاش إلى زمن عثمان2.
وإليه تحاكم "الفرافصة" الكلبي، وجرير بن عبد الله، وقد نفر "الأقرع" جرير على الفرافصة بن الأحوص الكلبي3.
وكان ربيعة بن مخاشن من حكام تميم البارزين في أنساب قومه، كما كان من خطبائهم وفصحائهم. وهو من "بني أسيد بن عمرو بن تميم"4، وكان يجلس على سرير من خشب في قبة من خشب، فسمي: ذا الأعواد. وإليه أشار الأسود بن يعفر بقوله:
ولقد علمتُ سوى الذين نبأتني ... أن السبيل سبيل ذا الأعواد5
وذكر أنه كان مرجع قومه، وعالمهم بالأنساب، وزعم قومه أنه أول من قرعت له العصا6. وكان أبوه "مخاشن": حكمًا أيضًا7.
وكان ضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم التميمي من حكام تميم المعروفين. وكان قومه يلجئون إليه فيمن كانوا يلجئون إليهم عند أخذ الرأي. ذكر أنه حكم فأخذ رشوة فغدر8. وأنه كان من رجال بني تميم لسانًا
__________
1 الحجرات، رقم 49، الآية 4، تفسير الطبري "26/ 76 وما بعدها"، روح المعاني "26/ 126"، الاشتقاق "146"، المحبر "134".
2 الإصابة "1/ 72 وما بعدها"، "رقم 231"، بلوغ الأرب "1/ 315 وما بعدها".
3 كتاب نسب قريش "7"، الروض الأنف "1/ 60".
4 بلوغ الأرب "1/ 316".
5 المحبر "134".
6 بلوغ الأرب "1/ 316".
7 المحبر "134".
8 بلوغ الأرب "1/ 316"، وكان اسمه: "شق بن ضمرة"، المحبر "134"، الأمالي، للقالي "2/ 279".(10/314)
وبيانًا. وكان اسمه: شق بن ضمرة، فسماه بعض ملوك الحيرة ضمرة1. والرشوة ما يعطيه الشخص الحاكم أو غيره ليحكم له، أو يحمله على ما يريد2. وقد عرف بـ"شقة"3.
ومن حكام "تميم" الأحنف بن قيس السعدي التميمي". واسمه "الضحاك بن قيس" وقيل: "صخر بن قيس"، ويكنى "أبا بحر" وهو ممن أدرك النبي. وكان من الحلماء الدهاة الحكماء العقلاء. وقد ضرب بحلمه المثل. "قال رجل للأحنف بن قيس: بم سدت قومك وأنت أحنف أعور؟ قال: بتركي ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك"4. وذكر أنه هو القائل: "لا تزال العرب بخير ما لبست العمائم. وتقلدت السيوف وركبت الخيل، ولم تأخذها حمية الأوغاد. وقيل: وما حمية الأوغاد؟ قال: أن يروا الحلم ذلًا، والتواهب ضيمًا"5.
وكان عامر بن الظرب العدواني من حكام قيس. وذكر أنه كان أول من قرعت له العصا. ونسبوا له حكمًا وأمثالًا منها: رب أكلة تمنع أكلات. ورب زارع لنفسه حاصد سواه، ومن طلب شيئًا وجده. إلى أمثلة أخرى من أمثلة في الحكم والمواعظ وفي كيفية السير في هذه الحياة6. وذكر أنه هو الذي جعل الدية مائة من الإبل، وجعله "محمد بن حبيب" في طليعة "أئمة العرب"7.
وذكر أنه التقى بـ"حممة بن رافع الدوسي" عند ملك من ملوك حمير،
__________
1 الاشتقاق "149"، نوادر المخطوطات "305"، "كتاب ألقاب الشعراء ومن يعرف منهم بأمه".
2 تاج العروس "10/ 150"، "رشا".
3 نواد المخطوطات، ألقاب الشعراء، "ص305".
4 الإصابة "1/ 110"، "رقم "429"، الاستيعاب "1/ 135"، "حاشية على الإصابة"، الأمالي، للقالي "1/ 59 وما بعدها، 231 وما بعدها، 241، 269"، "2/ 20، 41، 167، 227 وما بعدها، 306"، ذيل الأمالي "14، 27، 118، 186، 212، 215"، نوادر المخطوطات "أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام"، "ص158"، رسائل الجاحظ "1/ 344".
5 رسائل الجاحظ "1/ 362"، البيان والتبيين "2/ 88"، "/ 98".
6 بلوغ الأرب "1/ 316"، الاشتقاق "1/ 164"، تاج العروس "5/ 461"، "قرع".
7 المحبر "181".(10/315)
"فقال: تساءلا حتى أسمع ما تقولان"، فجرى بينهما كلام في الحكم وفي أمور الحياة1.
وقد اختلف أهل الأخبار في أول من قرعت له العصا. فقال بعض منهم: هو "عامر بن الظرب العدواني"، وقال بعض أخر: هو "قيس بن خالد بن ذي الجدين". وهو قول ربيعة، أو "عمرو بن حممة" الدوسي، وهو قول تميم، أو "عمرو بن مالك". وذكر أن قيسًا كانوا لا يعدلون بفهم عامر بن الظرب فهمًا ولا بحكمه حكمًا. فلما طعن في السن، أو بلغ ثلاثمائة سنة، أنكر من عقله شيئًا، فقال لبنيه: أنه كبرت سني وعرض لي سهو، فإذا رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره، فأقرعوا لي المجن بالعصا. وقيل: كانت له ابنة يقال لها: خصيلة، فقال لها: إذا أنا خولطت، فاقرعي لي العصا. فأتى عامر بخنثى ليحكم فيه، فلم يدر ما الحكم، فجعل ينحر لهم ويطعمهم ويدافعهم بالقضاء. فقالت خصيلة ما شأنك قد أتلفت مالك؟ فخبرها أنه لا يدري ما حكم الخنثى، فقالت اتبعه مباله2. وذكر "محمد بن حبيب"، أنه حكم في الخنثى حكمًا جرى الإسلام به3. وذكر بعض آخر أن "العرب لا يكون بينها نائرة ولا عضلة في قضاء، إلا أسندوا ذلك إليه، ثم رضوا بما قضى فيه. فاختصم إليه في بعض ما كانوا يختلفون فيه في رجل خنثى له ما للرجل، وله ما للمرأة. فقالوا: أنجعله رجلًا أو امرأة، ولم يأتوه بأمر كان أعضل منه. فقال: حتى أنظر في أمركم، فوالله ما نزل بي مثل هذه منكم يا معشر العرب، فاستأخروا عنه، فبات ليلته ساهرًا يقلب أمره وينظر في شأنه، لا يتوجه له منه وجه. وكانت له جارية يقال لها: سخيلة ترعى عليه غنمه"، فلما رأت سهره وقلقه وقلة قراره على فراشه، سألته عن حاله، فقال: ويحك اختصم إليّ في ميراث خنثى أأجعله رجلًا أو امرأة. فقالت: سبحان الله! لا أبالك اتبع القضاء المبال. أقعده، فإن بال من حيث يبول الرجل، فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة، فهو امرأة. فسرَّ بهذا الجواب4
__________
1 الأمالي "2/ 276 وما بعدها".
2 تاج العروس "5/ 461"، "قرع".
3 المحبر "236".
4 الروض الأنف "1/ 86 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 86".(10/316)
ومن حكّام قيس: "هَرِم بن قطبة بن سيّار بن عمرو". وهو العشراء بن جابر بن عقيل. وإليه تنافر "عامر بن الطفيل"، وعلقمة بن علاثة. وسنان بن أبي حارثة بن مرة1.
ويذكر أهل الأخبار أيضًا أن "ذرب بن حوط بن عبد الله بن أبي حارثة الطائي"، كان حاكمًا شهيرًا في الجاهلية، وقد حكم "عامر بن الظرب" في الخنثى. وذكروا أن الشاعر "أدهم بن أبي الزهراء" الطائي، وهو من الشعراء في الإسلام، ذكره في شعر له، حيث قال:
منّا الذي حكم الحكوم فوافقت ... في الجاهلية سنة الإسلام2
وقد أدخل "ذرب" واسمه "سويد بن مسعود بن جعفر بن عبد الله بن طريف بن حيي" الشاعر، في جملة من حكم في الجاهلية بحكم، فوافق حكمه السُّنة3.
ومن حكّام العرب المعروفين وأحد المعمرين "عمرو بن حممة بن رافع الدوسي" من الأزد. ذكروا أنه عمَّر طويلًا، وأنه ذو الحلم الذي ضرب به العرب المثل، وأنه هو الذي قرعت له العصا4. وذكر "ابن دريد" أنه وفد إلى النبي5.
ولم يذكر أحد غيره أنه وفد عليه. بل الذي عليه الآخرون أنه مات في الجاهلية بعد عمر طويل، إذ ذكروا أنه كان أحد المعمّرين، حتى أوصل بعضهم عمره إلى حوالي الأربعمائة سنة، فذكر أنه عاش ثلاثمائة وتسعين سنة6. وذكروا أنه عُرف بـ"ذي الحلم" وأنه هو الذي ضربت به العرب المثل في قرع العصا؛ لأنه بعد أن كبر صار يذهل فاتخذوا له من يوقظه فيقرع العصا، فيرجع إليه فهمه. وأنه هو الذي أشار إليه "الحارث بن وعلة" بقوله:
وزعمتم أن لا حُلوم لنا ... إن العصا قرعت لذي الحلم7
__________
1 المحبر "135".
2 المحبر "236".
3 الاشتقاق "2/ 232".
4 معجم الشعراء "ص209".
5 الاشتقاق "296".
6 بلوغ الأرب "1/ 331".
7 بلوغ الأرب "1/ 331 وما بعدها".(10/317)
ويذكر أهل الأخبار أن الذين يزعمون أن "عمرو بن حممة" هو الذي كان يقال له: "ذو الحلم"، وأنه هو أول من قرعت له العصا، إنما هم أهل اليمن، وذلك تعصبًا منهم إليه1. ويظهر من ذلك أن العصبية القبلية قد لعبت دورًا في هذه القصة: قصة أول من قرعت له العصا، فزعم القيسيون أن أول من قرعت له العصا، هو "عامر بن الظرب العدواني"، وزعم أهل اليمن، أنه "عمرو بن حممة".
وقد كان له قبر معروف، تزوره المارة، ذكر أن "الهدم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد، أبو كلثوم بن الهدم" الذي نزل عليه النبي، و"عتيك بن قيس بن هيشة بن أمية بن معاوية"، و"حاطب بن قيس بن هيشة" الذي كانت بسببه حرب حاطب، مرّوا بقبره قادمين من الشأم، فعقروا رواحلهم على قبره. وقال كل واحد منهم شعرًا في رثائه2.
ونعرف حكمًا آخر من حكام "عدوان"، عرف بـ"ذي الأصبع العدواني" وهو "حرثان بن محرث"، أو "حرثان بن عمرو"، أو "حرثان بن الحارث"، أو "حرثان بن السموأل بن محرث بن شبابة"، إلى غير ذلك من أقوال3.
وقد عدّه أهل الأخبار من الشعراء المعمرين، وأعطاه "أبو حاتم السجستاني" عمرًا، جعله ثلاثمائة سنة بالتمام والكمال4.
وغيلان بن سلمة الثقفي، أحد حكام قيس في الجاهلية، وهو شريف شاعر. قالوا: إنه كانت له ثلاثة أيام: يوم يحكم بين الناس، ويوم ينشد فيه شعره، ويوم ينظر فيه إلى جماله، وجاء الإسلام وعنده عشر نسوة فخيره النبي فاختار أربعًا، وكان ممن أسلم. وذكر أنه وفد على كسرى، فكان بينه وبين غيلان كلام أعجبه، فأكرمه وقدمه وسهل تجارته وتجارة من كان معه، وكان فيهم
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 332".
2 الأمالي، للقالي "2/ 143".
3 بلوغ الأرب "1/ 335 وما بعدها" الاشتقاق "2/ 163"، "حرثان بن محرث بن الحارث بن شباة"، نوادر المخطوطات، ألقاب الشعراء "307"، "شباب"، شرح المفضليات "312"، الخزانة "1/ 408".
4 بلوغ الأرب "1/ 335"، الأمالي، للقالي، "1/ 129، 255"، "2/ 220"، الأغاني "3/ 9".(10/318)
أبو سفيان في بعض الروايات، وأرسل معه من بنى له أطمًا بالطائف1. وكان غنيًّا صاحب تجارة. وقيل: إنه أحد من نزل فيه: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} .
وذكر عنه أن "بني عامر" أغاروا على ثقيف بالطائف، فاستنجدت ثقيف ببني نصر بن معاوية، وكانوا حلفاءهم، فلم ينجدوهم، فخرجت ثقيف إلى بني عامر وعليها "غيلان"، فقاتلت "بني عامر"، وانتصرت عليهم وخلد "غيلان" هذا القتال في شعر رووه له2.
وأشير إلى اسم قاض آخر عرف واشتهر في الجاهلية، اسمه "حذار"، وهو "ربيعة بن حذار" الأسدي من "بني أسد بن خزيمة". وقد نعت بـ"قاضي العرب"3. وكان حكمًا من حكام "بني أسد"، وإليه مرجعهم في أمورهم ومشورتهم. وإليه نافر "خالد بن مالك بن تميم النهشلي" "القعقاع بن معبد التميمي"، فنفر القعقاع4. وله ولد اسمه: "سويد بن ربيعة بن حذار". كان حاكمًا كذلك5.
ومن حكام "طيء" "ابن صعترة الطائي". وكان من الحكام الكهان6.
وممن اشتهر بالقضاء بين الناس من "إياد": "وكيع بن سلمة بن زهر بن إياد"، وهو صاحب الصرح بحزورة مكة وقد أكثروا فيه فقالوا: كان كاهنًا, وقالوا: كان صديقًا من الصديقين. وذكروا له أقوالًا ووصية لقومه من إياد، جاء فيها: "اسمعوا وصيتي: الكلام كلمتان. والأمر بعد البيان، من رشد فاتبعوه ومن غوى فارفضوه، وكل شاة معلقة برجلها"، فكان أول من قال هذه الكلمة فذهبت مثلًا7.
وقد ذكر عنه، أنه كان ولي أمر البيت بعد جرهم، فبنى صرحًا بأسفل
__________
1 الإصابة "3/ 186 وما بعدها"، "رقم 6926"، الاستيعاب "3/ 186"، "حاشية على الإصابة"، بلوغ الأرب "1/ 319"، المحبر "135"، البخلاء "186، 393"، ابن سعد "5/ 371"، الأغاني "12/ 48 وما بعدها"، اللآلي "478".
2 بلوغ الأرب "1/ 321".
3 اللسان "4/ 177".
4 بلوغ الأرب "1/ 329"، الاشتقاق "145".
5 المحبر "134".
6 تاج العروس "6/ 226"، "قلطف".
7 المحبر "136"، بلوغ الأرب "2/ 260 وما بعدها".(10/319)
مكة وجعل فيه أمة يقال لها: "حزورة" وبها سمّيت حزورة مكة وجعل في الصرح سلمًا، فكان يرقاه، ويزعم أنه يناجي ربه، ونسبوا له أمورًا كثيرة. ومن كلامه على ما يزعمه أهل الأخبار "مرضعة وفاطمة، ووادعة وقاصمة، والقطيعة والفجيعة، وصلة الرحم وحسن الكلم"، وقوله: "زعم ربكم ليجزين بالخير ثوابًا، وبالشر عقابًا، إن من في الأرض عبيد لمن في السماء. هلكت جرهم وربلت إياد، وكذلك الصلاح والفساد" وذكر أنه لما مات، نعي على الجبال1.
ومن حكام إياد: قس بن ساعدة الإيادي الشهير2. وذكر أنه أول من قال: "أما بعد"3، وسأتكلم عنه في أثناء كلامي على الخطباء البلغاء.
ومن حكام "كنانة" "صفوان بن أمية"، و"سلمى بن نوفل الكناني"، وكان من المعاصرين لـ"عامر بن الظرب العدواني"4. وجعل "صفوان بن أمية بن محرث الكناني" في عداد من حرّم الخمر في الجاهلية تكرمًا وصيانة لأنفسهم. ونسبوا له شعرًا في سبب تركه لها5.
ومن حكام "كنانة": "يعمر بن عوف الشدّاخ الكناني"، وكان خبيرًا بالأنساب وبالأحساب والأخبار, وحكمًا من حكام كنانة. وهو الذي شدخ دماء خزاعة6. وكانت قريش قاتلت خزاعة وأرادت إخراج خزاعة من مكة، فتراضى الفريقان بيعمر، فحكم بينهم بشدخ الدماء بين قريش وخزاعة، وعلى ألا يخرج خزاعة من مكة7. وورد في رواية أخرى، أنه حكم أن كل دم أصاب قريش من خزاعة موضوع، وكل ما أصاب خزاعة من قريش ففيه الدية، وأن قصيًّا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة8.
ومن حكام "كنانة" "القلمس الكناني". وكان من نسأة الشهور، كان يقف عند "جمرة العقبة"، ثم يعلن حكمه بنسيء الشهور، كأن يحلّ أحد الصفرين ويحرم صفر المؤخرة، وكذلك في الرجبين، يعني رجبًا وشعبان. فهو
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 260 وما بعدها".
2 المحبر "136".
3 صبح الأعشى "1/ 433".
4 بلوغ الأرب "1/ 330"، "سلمى بن نوفل بن معاوية"، المحبر "133".
5 الأمالي للقالي "1/ 204"، المحبر "133، 237".
6 بلوغ الأرب "1/ 330".
7 المحبر "133 وما بعدها".
8 ابن هشام "79 وما بعدها"، المحبر "134 حاشية".(10/320)
من الحكام ومن النسأة1. قال "محمد بن حبيب": "نسأة الشهور من كنانة, وهم القلامسة، وأحدهم قلمس، وكان فقهاء العرب والمفتن لهم في دينهم"2.
وكان عبد المطلب من حكام قريش، وكان يقال له: "الفيّاض" لجوده، و"مطعم طير السماء"؛ لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رءوس الجبال، وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية. وكان يأمر بترك الظلم والبغي، ويحث قومه على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيئات الأمور، وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها وجاءت السنة بها، منها: الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، وتحريم الخمر والزنا وأن لا يطوف بالبيت عريان3.
وقد روت كتب الأدب والأخبار بعض الأحكام التي حكم بها حكام العرب، فصارت سنة للناس نهجوا عليها، منها: قطع يد السارق، وقد زعموا أن أول من سنَّ ذلك هو "الوليد بن المغيرة" أو "عبد المطلب"، فقطع رسول الله في الإسلام4. والقسامة وقد حكم بها "الوليد بن المغيرة" كذلك و"تحريم الخمر" وقد حكم بهذا التحريم جملة حكام، منهم "الوليد بن المغيرة" وعبد المطلب5، و"المنع من نكاح المحارم"، و"النهي عن قتل الموءودة" وتحريم الزنا، وأن لا يطوف إنسان بالبيت عريان، وتنسب هذه الأحكام إلى عبد المطلب6.
ولا بد أن يكون الوليد بن المغيرة من الرجال المبجلين المشهورين في أيامه بسداد الرأي، ولهذا اكتسب إجلال الجميع له ونال تقدير الناس، حتى قيل: إن الناس كانوا يقولون في الجاهلية: لا وثوبي الوليد الخلق منهما والجديد7. وإليه تحاكم "بنو عبد مناف" في مقتل "عمرو بن علقمة بن عبد المطلب"، حيث اتهموا "خداش بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل"
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 335"، تاج العروس "4/ 222"، "القلمس".
2 المحبر "156 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "1/ 323 وما بعدها".
4 المعارف "ص240"،Ency, Iv, P.173.
5 المعارف "ص240"، بلوغ الأرب "1/ 323 وما بعدها".
6 بلوغ الأرب "1/ 323 وما بعدها".
7 المعارف "ص240".(10/321)
بقتله. وكان "عمرو بن علقمة" أجيرًا لخداش بن عبد الله، خرج معه إلى الشأم، ففقد خداش حبلًا، فضرب عمرًا بعصا، فقضى عليه، فتحاكم "بنو عبد مناف" فيه إلى الوليد بن المغيرة، فقضى أن يحلف خمسون رجلًا من بني عامر بن لؤي عند البيت: ما قتله خداش، فحلفوا، إلا حويطب بن عبد العزى. فإن أمه افتدت يمينه، فيقال: إن من حلف هلك، قبل أن يحول عليه الحول1. وقد تحدثت عن هذه القصة في أثناء كلامي على "القسامة". وذكر أنه عرف بين قومه بـ"العدل"2.
وذكر أن "عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن النمر بن قاسط"، كان يجلس للناس في الضحى، فيقضي بين المتخاصمين، فسمي الضحيان3. وكان سيد قومه في الجاهلية وصاحب مرباعهم4. وكانت ربيعة تغزو المغازي وهو في منزله، فتبعث له نصيبه مما تصيبه ولنسائه حصة، إعظامًا له5.
ومن حكم "مالك بن جبير العامري" قوله: "على الخبير سقطت"6. وهو مَثل اشتهر وعرف بين العرب، ولا زال الناس يتمثلون به.
وكان "نفيل بن عبد العزيز" من حكام قريش7. وإليه تنافر "عبد المطلب" و"حرب بن أمية"، فنفر عبد المطلب على حرب8. وأمه حبشية9.
وقد ذكر "أبو حنيفة الدينوري" اسم رجل من أهل الجاهلية، قال عنه: إنه كان فقيه العرب في الجاهلية، وإنه كان من عدوان أو من إياد. قدم في قوم معتمرًا أو حاجًّا، فلما كان على مرحلتين من مكة قال لقومه وهم في نحر الظهيرة: من أتى إلى مكة غدًا في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين فصكّوا الإبل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغد في ذلك الوقت10.
__________
1 الزبيري، نسب قريش "424 وما بعدها".
2 المحبر "132".
3 المحبر "135"، الاشتقاق "2/ 202".
4 الاشتقاق "2/ 202".
5 نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "122".
6 اللسان "7/ 316"، "سقط"، بلوغ الأرب "1/ 331".
7 الزبيري، كتاب نسب قريش "347".
8 المحبر "173 وما بعدها".
9 المحبر "306".
10 الروض الأنف "1/ 92".(10/322)
فالرجل المذكور أن صحت رواية "الدينوري" عنه، فقيه من الفقهاء وحاكم كان بين الناس. ومعنى هذا وجود الفقه عند الجاهليين بالمعنى المفهوم من الكلمة في الإسلام.
وأكثر من ذكرت، هم ممن أدركوا الإسلام، وسمعوا بخبر الرسول. وقد زعم أن بعضهم عُمّر عدة مئات من السنين. ويظهر أن ذاكرة أهل الأخبار لم تعِ من أخبار الحكام الذين عاشوا قبل الإسلام بزمن طويل، فاقتصر علمها على هؤلاء وأمثالهم ممن عاش في الفترة الملاصقة للإسلام.
وقد نسب أهل الأخبار إلى الحكام المذكورين علم بأنساب الناس وأحسابهم، كما نسبوا لهم الفصاحة والبلاغة والبيان. وكلها من مستلزمات ومن ضروريات الحاكم في ذلك الوقت. وكان من واجبه العلم بأنساب الناس وأحسابهم؛ لأن المنافرات والمفاخرات، هي من أهم المحاكمات في ذلك الوقت. ولكي يكون حكم الحاكم فيها صحيحًا دقيقًا كان لا بد له من الوقوف على أحوال الناس وعلى مآثرهم ومفاخرهم في ذلك الوقت. وكان عليه أن يكون فصيحًا بليغًا؛ لأن الناس كانوا يقيمون وزنًا للكلام آنذاك، ومن يحسن الاختيار في الكلام، ويحسن صياغة الكلم، يكون ذا أثر فعال في نفوس المستمعين وفي إصدار الأحكام.
ويتبين من دراسة ما ينسب إلى أولئك الحكام من حكام "قريش", أي: "مكة", وكذلك حكام أهل المدن. كانوا حكامًا بالمعنى المفهوم من "الحاكم"، فأحكامهم هي أحكام قانونية، مقتبسة من منطق العدالة والحق. وهي تشريع مدني ينسجم مع التشريع المدني للأمم المختصرة. وسبب ذلك على ما يظهر هو أن البيئة التي عاش فيها هؤلاء الحكام، هي بيئة حضرية، وقد كانوا أنفسهم من الحضر، ولكثير منهم وقوف على أحوال الأمم الأخرى، ولهم علم بالكتب وببعض اللغات الأعجمية وبالديانات وبالآراء، وفي جملتها القوانين، فتأثروا أو تأثر بعضهم بتلك المؤثرات.
وقد روت كتب الأدب والأخبار بعض الأحكام التي حكم بها حكام العرب، فصارت سُنة للناس نهجوا عليها، منها: قطع يد السارق، وقد زعموا أن أول من سنَّ ذلك هو "الوليد بن المغيرة" أو "عبد المطلب"، فقطع رسول الله(10/323)
في الإسلام1. والقسامة وقد حكم بها "الوليد بن المغيرة" كذلك2، و"تحريم الخمر" وقد حكم بهذا التحريم جملة حكام، منهم: "الوليد بن المغيرة" و"عبد المطلب"، و"المنع من نكاح المحارم"، و"النهي عن قتل الموءودة"، وتحريم الزنا، وأن لا يطوف إنسان بالبيت عريان، وتنسب هذه الأحكام إلى عبد المطلب3.
وذكر أهل الأخبار أن أول من ورَّث البنات في الجاهلية، فأعطى البنت سهمًا والابن سهمين "ذو المجاسد اليشكري"4.
وأنا إذ أذكر الأحكام التي حكمها حكام الجاهلية، فاتبعت عندهم، لا أقصد أنها صارت أحكامًا عامة، مشت بين جميع العرب، فكلام مثل هذا، هو كلام مغلوط، لا يمكن أن يقال، على الرغم من التعميم الذي يذكره أهل الأخبار، مثل قولهم: "وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى ويصلبون قاطع الطريق5". وقولهم: "وكانوا يغتسلون من الجنابة"6، وأمثال ذلك. فقد عودنا أهل الأخبار على هذا التعميم، الذي أخذوه من أفواه الرواة دون نقد ولا تمحيص. وآية ذلك أنهم يعودون فيناقضون أنفسهم وما قالوه في مواضع أخرى، مما يدل على أنهم نسوا ما قالوه سابقًا، ولم يفطنوا إلى هذا التناقض، ولم يحاولوا نقد الروايات. ولهذا فحكمنا في هذه الأمور، هو أن الأحكام المذكورة هي رأي واجتهاد، قد يتبعه بعض وقد يخالفه بعض آخر، يكون أتباعه في الموضع الذي عاش فيه الحاكم فأحكامهم لهذا أحكام محلية، قد تصير عرفًا، إذا انتزعت من صميم الواقع ومن عقلية المحيط.
__________
1 المعارف "ص240".
2 المعارف "ص240"، بلوغ الأرب "1/ 323 وما بعدها"، المحبر "327".
3 بلوغ الأرب "1/ 323 وما بعدها".
4 المحبر "324".
5 المحبر "327".
6 المحبر "319".(10/324)
القضاء بعكاظ:
وكانت سوق عكاظ مجتمعًا للتقاضي في الأمور المهمة عند الجاهليين. حتى الشعر كانوا يتقاضون فيه، يعرض شاعر شعره على الحكم، ويعرض شاعر آخر(10/324)
منافس له شعره عليه. ثم يسمعان رأي الحكم في أيهما أشعر. وذكر أن القضاء بعكاظ كان لبني تميم. وقد جمعت تميم الموسم إلى ذلك. وكان ذلك يكون في أفخاذها كلها. ويكون الرجلان يليان هذا من الأمرين جميعًا، عكاظ على حدة والموسم على حدة. فكان من اجتمع له الموسم والقضاء "سعد بن زيد مناة بن تميم"، ثم تولى ذلك "حنظلة بن زيد بن مناة"، ثم تولاه "ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم"، ثم "مازن بن مالك بن عمرو بن تميم"، ثم "ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة"، ثم "معاوية بن شريف بن جُروة بن أسيد بن عمرو بن تميم"، ثم "الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة"، ثم "صلصل بن أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد"، ثم "سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة".
فكان سفيان آخر تميمي اجتمع له الموسم والقضاء بعكاظ. فمات سفيان، فافترق الأمر, فلم يجتمع الموسم والقضاء لأحد منهم حتى جاء الإسلام, فكان "محمد بن سفيان بن مجاشع" يقضي بعكاظ. فصار ميراثًا لهم. فكان آخر من قضي بينهم الذي وصل إلى الإسلام "الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان".
وأجاز بالموسم بعد "صلصل بن أوس"، "العلاق بن شهاب بن لأي" من بني "عُوافة بن سعد بن زيد مناة". فكان آخر من أفاض بهم "كرب بن صفوان بن جناب بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة"1. وله يقول أوس بن مغراء القريعي:
ولا يريمون في التعريف موقفهم ... حتى يقال: أجيزوا آل صفوانا2
ويتبين مما تقدم، أن القضاء بعكاظ كان حقًّا من حقوق "تميم" لا ينازعهم في ذلك منازع. إذا هلك قاض أخذ مكانه ابنه أو رجل آخر من الأسرة التي اختصت بالقضاء بين الناس، والتي كان لها أمر "الحكومة"، فنحن هنا إذن أمام أناس تخصصوا بأمور القضاء بين الوافدين إلى عكاظ، ممن كان عندهم أمر معضل، ثم يريدون حله وفضه. ولا بد لمثل هذا الحاكم من أن يكون محترم الجانب، مهاب المكانة، واقفًا على الأحساب والأنساب وأحوال الناس وعلى الأعراف حتى يحترم قراره ويطاع.
__________
1 وقيل: "صفوان بن الحارث"، ابن هشام "77".
2 المحبر "181 وما بعدها".(10/325)
ولا بد وأن يكون لتميم نفوذ في هذه الأرضين، أكسبها حق الحكومة بعكاظ، ولا بد أن يكون نفوذ بمكة وعند قريش، جعل لها الموسم. فرئاسه الموسم، من الرئاسات الكبيرة ذات الشأن عند قريش ومن هم في جوارهم، ولا يعقل تسليمها لتميم لو لم يكن لها نفوذ سابق بمكة وصلات شديدة بقريش. صلات تتجلى بالتصاهر الموجود بين قريش وتميم. ومن يدري فلعل تميمًا كانوا بمكة، ثم ارتحلوا عنها إلى مواضع أخرى؟
ولا أستبعد احتمال جلوس الحكام في الأسواق الأخرى للحكم بين الناس فيما يقع بينهم من خلاف. في أمور السوق من بيع وشراء واختلاف على سلع، أو من تنافر أو من تخاصم وتنازع. فهذه الأسواق هي مواسم يلتقي فيها من يتعامل بها من الناس، فيجدون فيها فرصة لحلّ ما بينهم من خلاف، فيلجئون إلى من يكون في السوق من الحكام، للحكم بينهم. وقد يتولى الفصل في الخصومات الناشئة عن التعامل والتبايع حكّامُ السوق, وهم الذين يتحكمون في السوق, ويشرفون عليها ويتقولون جبايتها والمحافظة على أرواح من يحضرها من الناس.
وقد تقع مظالم في هذه الأسواق وفي غيرها، فعلى الحكام أخذها من الظالم وإرجاع الظلامة إلى من وقعت عليه. والظلامة ما تطلبه عند الظالم1. ويطالب المظلوم بظلامته مطالبة أهل الثأر بثأرهم، ويعدون الظلم نقصًا يلحق بمن وقع الظلم عليه. وإذا لم ينصف لجأ إلى أهله وأبناء عشيرته لنصرته ومعاونته على أخذ حقه من المظالم، فكانت الأسواق من المجتمعات المناسبة للنظر في المظالم.
__________
1 تاج العروس "8/ 384".(10/326)
فهرس: الجزء العاشر
الفصل الرابع والخمسون
الغزو أيام العرب 5
الفصل الخامس والخمسون
الحروب 71
الفصل السادس والخمسون
في الفقه الجاهلي 141
الفصل السابع والخمسون
الأحوال الشخصية 199
الفصل الثامن والخمسون
الملك والاعتداء عليه 241
الفصل التاسع والخمسون
العقود والالتزامات 284
الفصل الستّون
حكّام العرب 307
الفهرست 327(10/327)
المجلد الحادي عشر
الفصل الحادي والستون: أديان العرب
...
الفصل الحادي والستون: أديان العرب
والعرب قبل الإسلام مثل سائر الشعوب الأخرى تعبدوا لآلهة، وفكروا في وجود قوى عليا لها عليهم حكم وسلطان، فحاولوا كما حاول غيرهم التقرب منها واسترضاءها بمختلف الوسائل والطرق، ووضعوا لها أسماء وصفات، وخاطبوها بألسنتهم وبقلوبهم، سلكوا في ذلك جملة مسالك، هي ما نسميها في لغاتنا بالأديان.
وتقابل كلمة "دين" العربية لفظة Religion في الإنكليزية من أصل "لاتيني" هو Religere أو Religare. وآراء العلماء المعنيين بتأريخ الأديان وفلسفتها على اختلاف كبير جدًّا في وضع حد علمي مقبول بين الجميع لموضوع الدين، وربما لا يوجد موضوع في العالم اختلفت في تحديده الآراء كهذا الموضوع: موضوع ماهية الدين وتعريفه، حتى صار من المستحيل وضع إطار يتفق عليه لصورة يجمع على أنها تمثل الدين. والشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله كاتب، هو أن يكتب رأيه بوضوح فيما يعنيه من "الدين"، فإذا فعل ذلك، صار من المعروف ما قصد صاحبه منه1.
وقد عرف بعض العلماء الدين أنه إيمان بكائنات روحية تكون فوق الطبيعة والبشر، يكون لها أثر في حياة هذا الكون2. وعرفه آخرون أنه استمالة واسترضاء.
__________
1 Sir James G. Frazer The Golden Bough, A Study in Magig and Religin, vol, I, p. 50, Abridged Edition, London, 1947.
2 E.B. Tylor, Primitive Culture, I, P. 424, Ency. Brita. Vol 19, p. 103.(11/5)
لقوى هي فوق البشر، يؤمن أنها تدير وتدبر سير الطبيعة وسير حياة الإنسان1 وهو عند بعض آخر شعور وتفكير عند فرد أو جماعة بوجود كائن أو كائنات إلهيه، والصلة التي تكون بين هذا الفرد أو تلك الجماعة وبين الكائن أو الكائنات الإلهية2. وهو يطلق بهذا الاعتبار على الإسلام كما يطلق على اليهودية والنصرانية وعلى المجوسية وعلى غيرها من أديان سواء أكانت سماوية أم غير سماوية كما يصطلح على ذلك بعض العلماء.
وهناك تعريفات وحدود كثيرة أخرى للدين، نشأت من اختلاف أنظار الباحثين بالقياس إلى مفهوم الدين. فهناك مسائل كثيرة مختلف فيها: هل تدخل في نطاق حدود الدين أو لا كما أن مفهومه قد تغير عند الغربيين باختلاف العصور3.
وليس من السهل وضع حدود معينة لمعنى الدين، فإن وجهات نظر الأديان نفسها تختلف في هذا الباب. وللدين في نظر الشعوب البدائية مفهوم يختلف كل الاختلاف عن مفهوم الدين عند غيرهم، ومفهومه في نظر الأقوام المتقدمة يختلف باختلاف دينها وباختلاف وجهة نظرها إلى الحياة. وهناك أمور تدخل في حدود الدين عند بعض أهل الأديان، على حين أنها من الأمور الأخلاقية أو من أمور الدولة في نظر بعض آخر، ومن هنا تظهر الصعوبات في تعيين المسائل التي تعد من صلب الدين في نظر الجميع4.
وللدين مهما قيل في تعريفه، شعائر تظهر على أهله، فتميزهم عن أتباع الديانات الأخرى، كما في العبادات والمأكولات والمعابد واللغات وما شاكل ذلك5، ولهذه الأمور أثر بالطبع في النواحي الاجتماعية والثقافية؛ إذ تطبع أتباع الدين بطابع مميز خاص.
وقد زعم بعض المستشرقين أن لفظة "الدين" من أصل أعجمي، وأنها من
__________
1 The Golden Bough, vol, I, p. 222, Abridged Edition, p. 50.
2 H. Schmidt, Philosophische Worterbuch, S. 551.
3 Hastings, Encyclopaedia of Religion And Ethics, vol. 10, p. 662, Art. Religion, Encyclopaedia of Social Sciences, vol. 13-14, p. 228, Ency, Brita, vol, 19, p. 103, Friess and Schneider, Religion in Various Cultures, New york, 1932.
4 Ency. Relig, vol. 10, p. 263, Ency. Of Social, vol. 13-14, p. 228.
5 Ency. Relig, vol, 10, p. 663.(11/6)
الألفاظ المعربة، أصلها فارسي هو "دَيْنا" Daena1. وقد دخلت في العربية قبل الإسلام بمدة طويلة. وترد لفظة "دين" بمعنى الحشر في الإرمية والعبرانية كذلك. وهي "دينو" في الإرمية. وتقابل لفظة Daino الإرمية لفظة الديان في العربية. وهي بمعنى القاضي في هذه اللغة. وتعني لفظة "دين" القضاء في اللغة البابلية. و"ديان" "ديو نو" Dayono، الحاكم والمجازي والقاضي لغة بني إرم2. وهي بهذا المعنى في العربية أيضًا3.
والدين في تعريف علماء اللغة: العادة والشأن. تقول العرب: ما زال ذلك ديني وديدني، أي عادتي. والدين بمعنى الطاعة والتعبد. وقد ورد في الحديث: "كان على دين قومه"، أي كان على ما بقي فيهم من إرث إبراهيم، من الحج والنكاح والميراث، وغير ذلك من أحكام الإيمان. وجاء: "كانت قريش ومن دان بدينهم، أي اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه، واتخذ دينهم له دينًا وعبادة"4
ومن "دين" الديَّان بمعنى الحاكم القاضي والقهار. ومن ذلك مخاطبة "الأعشى الحرمازي" الرسول بقوله:
يا سيدَ الناسِ وديَّان العربِ
والديَّان: الله، ومِنْ أسماءِ الله5
وقد وردت هذه اللفظة في المعنى المفهوم منها في الإسلام في بيت شعر ينسب إلى أمية بن أبي الصلت، هو:
كُلُ دينٍَ يَومَ القيامَةَ عِندَ اللـ ... ـَهِ إِلاّ دينٍ الحَنيفَةِ زورُ6
__________
1Handworterbuch des Islams, S. 98, Gr mdrjss, der Iran. Philoso. I, I, S. 107, 270, I, 2, S. 26, 170, II, S. 644. Jmynboll, Handbuch des Islamischen Gesetzes, S. 40, 58. Schorter Ency. Of Islam, p. 78, Ency. I, p. 975, Zeltscher. Fur Assyr., Bd., XIV, S. 351
2 برصوم "ص60" غرائب اللغة "182".
3 اللسان "13/ 166 وما بعدها"، "دين".
4 اللسان "13/ 166 وما بعدها"، "دين" تاج العروس "9/ 208 وما بعدها"، "دين".
5 اللسان "13/ 166 وما بعدها"، "دين" تاج العروس "9/ 208" وما بعدها"، "دين".
6 الأغاني "4/ 122"، "دار الكتب المصرية".(11/7)
غير أننا لا نستطيع أن نحكم بورودها في شعر أمية ما لم نثبت أن ذلك الشعر هو من شعره حقًّا، وأنه ليس بشعر إسلامي صنع ووضع على لسانه، فقد وضعت أشعار وقصائد على لسانه وعلى لسان غيره من الشعراء.
ووردت بهذا المعنى أيضًا في النصوص الثمودية. وردت في نص سجله رجل من قوم ثمود، توسل فيه إلى الإله "ود"، أن يحفظ له دينه، "أل هـ د ي ق. ي د"1، ووردت في نص آخر جاء فيه: "بدين ود أمت"2، أي "بدين ود أموت"، أو "على دين ود أموت". فاللفظة إذن من الألفاظ العربية الواردة في النصوص الثمودية، وقد يعثر عليها في نصوص جاهلية مدونة بلهجات عربية أخرى.
ويصنف بعض العلماء الأديان إلى صنفين: أديان بدائية Primitive Religions، وأديان عليا The Higher Religions، غير أن هذا التقسيم لا يستند إلى التسلسل الزماني، وإنما يقوم على أساس دراسة أحكام الدين وعقائده وعمق أفكاره. فالأديان التي تقوم على أفكار بدائية وعلى السحر Magic وعلى المبالغة في التقديس وتقديم القرابين Sacred، والتي تنحصر عبادتها بأفراد قرية أو قبيلة واحدة، وأمثال ذلك مما يشرحه علماء تأريخ الأديان وعلماء فلسفة الأديان، هي من أديان الصنف الأول. فإذا توسع مجال الدين وشمل قبائل عديدة، وتعمق في أحكامه وفي تشريعه وفلسفته، وصار الإله أو الآلهة إلهًا ذا سلطان واسع أو آلهة ذات سلطان واسع عد الدين من الأديان العليا3.
وأما تقسيم الأديان إلى أديان قبيلية Tribal Religions، و"أديان قومية" National Religions، وأديان مطلقة عامة "Absolute Religions" "Universal Religions" فإنه، وإن كان تقسيمًا واضحًا ظاهرًا بالقياس إلى الطرق الأخرى لتقسيم الأديان، يرد عليه أنه تقسيم بني على أسس وحدود ليست لها أرض صلبة في جوهر الدين وأركانه، فهو بعيد عن المبادئ الأساسية التي تجب مراعاتها في تقسيم كل علم أو موضوع4. كذلك تجابه التقسيم الثلاثي إلى "أديان.
__________
1 Grimme, S. 34, 40.
2 Mu 646/17, Grimme, 40.
3 Ency. BRITA, vol. 19. p. 107.
4 Ency. Brita. Vol. 19, p. 111.(11/8)
الطبيعة" Nature Religion و"ديانة الشريعة" Geztzes Religion و"ديانة الخلاص" Erlosungs Religion عند بعض العلماء الألمان صعوبات كبيرة تجعل السير على أساسه في دراسة تطور الدين أمرًا عسيرًا شاقًّا1.
وتستند دراسات علماء تأريخ الأديان لتطور الأديان والأدوار التي مرت بها إلى دراسة أمور كثيرة، تأريخية ونفسية واجتماعية واقتصادية، ولهم في ذلك جملة طرق، منها طريقة الدراسات المقارنة The comparative Method، وهي تعتمد كما يتبين من اسمها على المقارنات بين الأديان، فتتناول جميع النواحي بالبحث، لتجد ما بينها من مطابقات ومفارقات. ومنها طرق البحث التأريخي والاجتماعي Historical and Sociological Methods وتستند إلى الدراسات التأريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجغرافية والعوامل الأخرى، للناس وللمنطقة التي عاشوا فيها، وأثر كل هذه العوامل في نمو الأفكار الدينية وظهورها. وطرق عديدة أخرى تذكر في كتب تواريخ الأديان2.
وقد تقدمت دراسة تأريخ الأديان تقدمًا كبيرًا، ولا سيما بعد اتباع أساليب الطرق التجريبية والبحوث المقارنة والتحليل النفسي في هذه الدراسة. وظهر بحث جديد شائق طريف، هو "فلسفة الدين" The Philosophy of Religion أفاد كثيرًا في معرفة دراسة تطور الأديان ومبادئها الأساسية، كما ظهرت فروع أخرى كهذا الفرع لها صلة بدراسة الدين وتقدمه، كالفرع النفسي الذي يعتمد على الدراسات النفسية للدين، وهو فرع نستطيع أن نسميه بـ"علم النفس الديني" The psychology of Religion في الإنكليزية و Religionspsychologic في الألمانية3. وكالفرع الذي يعتمد على أساليب بحث الاجتماع وطرقه لدراسة الدين باعتبار أن الدين نفسه ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية4.
وهناك عوامل عديدة لها أثرها في تطور الأديان، وفي "تكييفها"، منها أثر "العوامل الطبغرافية" Topographic Factors. وأثر "المحيط" Climatic Factors
__________
1 Philosophische Worterbuch, S. 552.
2 Ency. Relig, 10, P. 946.
3 Strattons, Psychology of he Religious Life, 1911, Ency. Brita, 19, p. 111 Schmidt, S. 554..
4 Schmidt, S. 554, J. Wach, Einfuhrung in die Religion, 1941.(11/9)
وأثر الحالات النفسية في تكييف الدين، وفي تصور الناس لآلهتهم. ولهذا تصور اليونان مثلًا آلهتهم على شاكلتهم، تصوروها ذات أخلاق وصفات تشبه أخلاق البشر وصفاتهم، تتخاصم وتتصادق وتتباغض ويحسد بعضها بعضًا، تشرب الخمر وتحزن وتفرح، وتسرق أيضًا. ونجد في الـ"إيدا" Edda نفسية الشعوب الشمالية الأوروبية ممثلة في الأساطير التي تتحدث عن الآلهة والأبطال1.
ويظهر أثر العوامل المذكورة في الديانة الهندية القديمة، وهي من الديانات الآرية، وفي الديانة المجوسية، وهي من أهل السهول وديانات أهل الجبال، وبين ديانات الساميين الشماليين وديانات الساميين الجنوبيين، يظهر في الأساطير "Mythlogy" وفي تصور الآلهة وتقديمها وتأخيرها وما شابه ذلك من أمور2.
ولشكل المجتمع أثره كذلك في تطوير الدين وفي أحكامه. فمجتمع يقوم على الزراعة يختلف في تفكيره عن مجتمع يعيش على الصناعة أو على الرعي في بوادٍ واسعة، كذلك للسياسة ولأشكال المجتمعات السياسية دخل في تطور الأديان. وقد كان التعاون وثيقًا جدًّا في الأيام الماضية خاصة بين السلطات الزمنية وبين السلطان الدينية حتى كان الحكام الزمنيون كهانًا في كثير من الأوقات، كما حدث أن وقع اختلاف بين السلطتين أدى إلى حدوث تغيير في عقيدة الحكومة أو أكثرية الشعب.
وطالما أدى قهر مدينة أو قبيلة أو شعب إلى قهر آلهتها معها وموتها، وإلى عبادة آلهة القاهرين المتغلبين باعتبار أنها أقوى وأعظم شأنًا من آلهة المغلوبين التي لم تتمكن من حمايتهم من تعديات الغالبين. وقد تبقى تلك الآلهة فتندمج في آلهة المغيرين، فيزداد بذلك العدد، وتتعدد الآلهة، وتختلط الأساطير بعضها ببعض وتتداخل. ولهذه الناحية أهمية كبيرة في تحليل عناصر هذه الأساطير، ورَجْعها إلى منابعها الأولى. كذلك يكون للجوار وللصلات التأريخية والروابط الثقافية أثر في ديانات الشعوب وفي "تكييفها" للثقافة خاصة أثر بارز في هذا التوجيه.
غير أن للأديان كذلك أثرها في توجيه الأفراد والقبائل والشعوب، وفيما ينتج عن عمل الإنسان من مجتمعات وسياسة وثقافة واقتصاد3. فهذه نواحٍ يجب أن
__________
1 Ency. Solial, 13-14, p. 232.
2 Ency. Solial, 13-14, p. 232.
3 Ency. Solial, 13-15, p. 234.(11/10)
تلاحظ كلها في دراستنا لتأريخ الأديان. هذا ويجب ألا نتصور أن أديان العرب قبل الإسلام لم تتأثر بمؤثرات خارجية، فلم تأخذ من الأمم والشعوب التي اتصلت بها شيئًا جريًا على نظرية القائلين بعزلة العرب وبعدم اتصالهم بالخارج، وبأنهم بدو، لا علم لهم ولا رأي ولا دين. وهي نظرية نشأت عن عدم وقوف القائلين بها بأحوال العرب قبل الإسلام. وإذا وافق أولئك على أن اليهودية والنصرانية كانتا في جزيرة العرب قبل الإسلام كما نص على ذلك القرآن الكريم، وأن من العرب من كان على دين يهود، وأن منهم من كان على دين النصارى، فلن يستطيعوا إنكار ورود اليهودية والنصرانية إلى العرب من الخارج بعمل الهجرة والتبشير والاتصال بفلسطين والعراق. وسيوافقون أيضًا على أن الوثنيين قد تأثروا كذلك بوثنية غيرهم، كما نص على ذلك الأخباريون وأنهم أثروا في غيرهم أيضًا.
إن معارفنا عن أديان العرب قبل الإسلام مستمدة في الدرجة الأولى من النصوص الجاهلية بلهجاتها المتعددة من معينية وسبئية وحضرمية وأوسانية وقتبانية وثمودية ولحيانية وصفوية، وهي نصوص ليس من بينها نص واحد ويا للأسف في أمور دينية مباشرة، مثل نصوص صلوات أو أدعية دينية أو بحوث في العقائد وما شبه ذلك. غير أن هذه النصوص المذكورة، ومعظمها كما قلت سابقًا في أمور شخصية، حوت مع ذلك أسماء آلهة ذكرت بالمناسبة، وبفضلها عرفنا أسماء آلهة لم يصل خبرها إلى علم الأخباريين؛ لأن ذكرها كان قد انطمس وزال قبل الإسلام. ومن هذه النصوص استطعنا أن نستخرج آلهة القبائل العربية القديمة، وأن نرجعها إلى المواضع التي كانت تتعبد بها لها، وأن نعين العصور التي كان الناس فيها يتعبدون لها على وجه التقريب.
كذلك تعد الكتابات والنقوش المدونة ببعض اللغات الأعجمية كالآشورية والعبرانية واليونانية واللاتينية ولغة بنى إرم موردًا مفيدًا لمعرفة أديان العرب قبل الإسلام بعد النصوص العربية. فقد وعت أسماء أصنام قديمة نصت عليها، وبذلك ساعدتنا في الوقوف على عبادتها وعلى من تعبد لها من قبائل.
وأما أديان العرب قبيل الإسلام وعند ظهوره، فالقرآن الكريم هو مرجعنا في هذا الباب. ففيه ذكر لما كان عليه الناس ولا سيما أهل مكة ويثرب والحجاز من عبادات وآراء، وفيه أسماء بعض الأصنام الكبرى التي كانت تتعبد لها القبائل.(11/11)
وفي تفسير القرآن الكريم تفصيل وشرح لما جاء موجزًا في الآيات البينات، ويضاف إلى ذلك ما ورد عن هذا الباب في الحديث.
وفي الشعر المنسوب إلى الشعراء الجاهليين إشارات إلى بعض عقائد الجاهليين، وإلى بعض الأصنام، تعرض لها شراح الدواوين بالمناسبات، وترد هذه الإشارات في القصص المروي عن أخبار الجاهلية وعن أنساب قبائلها وأيامها وأمثال ذلك وفي كتب الأدب واللغة والمعجمات، وهي تعيننا بالطبع على زيادة مادتنا في هذا الموضوع.
ويضاف إلى ذلك ما ورد في كتب السير والمغازي وفي كتب التواريخ من كتب خاصة مثل تأريخ مكة، ومن كتب عامة عن عبادات القوم قبل الوحي وفي أثناء الوحي وعن أمر الرسول بتحطيم الأصنام والأوثان. وقد ورد بهذه المناسبة أوصاف بعضها، وذكرت بعض المواضع التي كانت قائمة فيها، والقبائل التي كانت تتعبد لها، وما أُدير حول بعضها من قصص، أو ما قيل عنها في الجاهلية وفي تحطيمها من أقوال.
ومما يجب علينا ملاحظة، أن الشعر الجاهلي الذي أمدنا بفيض من معارف قيمة عن الجاهلية القريبة من الإسلام، لم يمدنا بشيء مهم عن الحياة الدينية عند الجاهليين، فكأنه أراد مجاراة من دخل في الإسلام في التنصل من أيام الجاهلية ومن التبرؤ منها، ومن غض النظر عن ذكر أصنام حرمها الإسلام. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن رواة الشعر في الإسلام، قد أغفلوا أمر الشعر الجاهلي الذي مجد الأصنام والوثنية، وأهملوه، فلم يرووه، فمات، وأن بعضًا منهم قد هذب ذلك الشعر وشذبه، فحذف منه كل ما له علاقة بالأصنام والوثنية، ورفع منه أسماء الأصنام، وأحل محلها اسم الله، حيث يرد اسم الصنم. فما فيه اسم الله في الشعر الجاهلي، كان اسم صنم في الأصل.
وقد ألف بعض العلماء مؤلفات خاصة في الأصنام، وصل إلينا منها كتاب "الأصنام" لابن الكلبي1 أما المؤلفات الأخرى، فلم يصل إلينا منها إلا الاسم.
__________
1 "كتاب الأصنام" بتحقيق المرحوم أحمد زكي باشا. القاهرة 1925م الطبعة الثانية، "مطبعة دار الكتب المصرية" وسيكون رمزه: الأصنام. وقد طبع الكتاب مرارًا، وترجم إلى الإنكليزية والألمانية وإلى لغات أخرى.(11/12)
وممن ألف في هذا الموضوع أبو الحسن علي بن الحسين بن فضيل بن مروان1، والجاحظ2. وقد استفاد ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" من كتاب "الأصنام" لابن الكلبي، وأورد ما أخذه منه في الكتاب. أما النسخة التي اعتمد الحموي عليها، فكانت بخط عالم مشهور وبروايته هو الجوالقي3.
وقد تعرض ابن الكلبي لذكر الوثنية والأصنام في مؤلفاته الأخرى عرضًا، وأشار "ياقوت الحموي" في بعض المواضع إلى روايات أخرى لابن الكلبي عن الأصنام، ذاكرًا أنها ليست من كتاب "الأصنام". كما استقى من منبع آخر، هو محمد بن حبيب4.
وقد ألف أبو عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع كتابًا في أديان العرب وآرائهم، اسمه "آراء العرب وأديانها" وقف عليه ابن أبي الحديد، وأشار إلى بعض هفوات رآها فيه5. وللجاحظ مؤلف اسمه "أديان العرب" استفاد منه أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني6.
وبالرغم من فضل من تقدم ممن ذكرت وممن لم أذكر، على دارس التأريخ الديني للجاهليين فإنهم عفا الله عنهم، لم يتعمقوا تعمقًا كافيًا في بحوثهم عن الوثنية، ولم يتحرشوا بها في الغالب، إلا بسبب اتصالهم بالإسلام، ثم إن في كثير مما ذكروه عن الوثنية طابع السذاجة وأسلوب الصنعة. وهو في أحوال الوثنية في الحجاز وعند القبائل التي ورد لها ذكر في حوادث الإسلام في أيام الرسول، في مثل قدوم وفود سادات القبائل على النبي، وأمر الرسول بتحطيم الأصنام ولهذا لا نجد للوثنية في بقية جزيرة العرب، مكانًا فيما كتبه أولئك العلماء.
__________
1 "كتاب الأصنام وما كانت العرب والعجم تعبد من دون الله تبارك اسمه"، الفهرست "ص125" "23"، "الرد على عبدة الأوثان" معجم الأدباء "1/ 132".
2 الأصنام "23"، وقد نقل منه "النويري" في كتابه نهاية الأرب "16/ 15"، "فهو ما نقله أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ -رحمه الله- في كتاب له سماه: كتاب الأصنام، قال فيه....".
3 الأصنام 24.
4 J. Wellhausen, Reste Arabischen Heidentums, Berlin, 1927, S. 12.
5 بلوغ الأرب "2/ 308".
6 Brockeimann, Suppl. I, S. 946.(11/13)
عن الأصنام والأوثان أو الزندقة. ثم إن في الذي ذكروه وكتبوه تناقض محير، وتنافر عجيب، يجعلك تشعر، أن رواة تلك الأخبار، لم يكونوا يملكون يومئذ أدوات النقد لصقل ما سمعوه من أفواه الرواة، وما نقلوه عمن أدرك الجاهلية من أقوال، أو أنهم كانوا يعمدون إلى الوضع أحيانًا. لصنع أجوبة عن أسئلة وجهت إليهم في أمور لم يأتهم علم بها من قبل.
خذ ما ذكره "الطبري" في تفسيره عن اللات والعزى ومناة، تجده يروي أقوالًا ذكر سندها تتناقض فيما بينها بشأن هذه الأصنام، وبشأن بيوتها ومواضعها، مما يدل على أن رواة تلك الأخبار لم يكونوا على علم بأخبارها ولا وقوف على حقيقتها، بدليل أن كل واحد منهم ناقض غيره فيما قاله، وأن أحدهم يذكر خبًرا ثم يعود فيذكر ما يناقضه1. حدث كل ذلك في أمور كانت باقية إلى ما بعد فتح مكة، فكيف حالهم إذن في الأمور البعيدة نوعًا ما عن الإسلام.
ولا تتناول الموارد الإسلامية بعد، إلا الوثنية القريبة من الإسلام والوثنية التي كانت متفشية بين قبائل الحجاز في الغالب، وبين القبائل التي اعتمد عيها رواة الأخبار في جمع اللغة والأخبار لذلك لا نجد فيها ذكرًا للوثنية البعيدة عن الاسلام، فلم يرد فيها مثلًا أي شيء عن "المقه" إله سبأ الأكبر ولا عن بقية الآلهة العربية الجنوبية الكبيرة مثل "عثتر"، وعن دين العرب الجنوبيين وشعائرهم، ولا عن معبودات قبائل العربية الشرقية. أو قبائل العراق أو بلاد الشأم في الأزمنة البعيدة أو القريبة من الإسلام.
وأما أخبارها عن اليهودية والنصرانية، فقليلة جدًّا، قصتها وروتها لما لها من تماس وصلة بما جاء في القرآن الكريم، أو لما لها من علاقة بأيام الرسول. ولهذا صارت خرساء صامتة بالنسبة إلى أحوال أهل الكتاب في بقية أنحاء جزيرة العرب أو في العراق وفي بلاد الشأم. فلم تتحرش بهم إلا بقدر. وبسبب ذلك صارت معارفنا عنهم قليلة جدًّا. وقد كان في إمكان أهل الأخبار جمع معلومات واسعة عن النصرانية في العراق قبل الإسلام برجوعهم إلى رجال الدين النصاري الذين كانوا في الحيرة وفي مواضع أخرى من العراق، وهم رجال لهم علم واسع بهذه الأمور، لكن اختلافهم عنهم في الدين على ما يظهر، وانصرافهم إذ ذاك
__________
1 تفسير الطبري "27/ 35 وما بعدها" تاج العروس "4/ 55" "عزز".(11/14)
عن رواية كل ما يتعلق بالأمور الجاهلية خلا ما يتعلق بالنواحي القبلية وبالنواحي الأدبية واللغوية، كانا من العوامل التي أدت إلى غض نظرهم عن البحث في هذه الأمور.
وبفضل إقرار الإسلام لبعض أحكام وشعائر الجاهليين، استطعنا الوقوف على جانب من أحكامهم وشرائعهم. فعرفنا بذلك بعض شعائر الحج من حج مكة، وبعض أحكامهم وآرائهم في الدين ووجهة نظرهم إلى الحلال والحرام، والتقرب إلى بيوت الأرباب وغير ذلك. وما كان في وسعنا الوقوف عليها لولا تعرض الإسلام لها بالإقرار والتثبيت، أو بالتحريم والنهي، فأشير إلى كل ذلك في القرآن الكريم وفي كتب التفسير وأسباب النزول والحديث.
وقد عُني المستشرقون بهذا الموضوع، فكتبوا بحوثًا فيه. ومن هؤلاء "ولهوزن" Wellhausen j. صاحب كتاب "بقايا الوثنية العربية" Arabischen Heidentums1 و"دتلف نيلسن" Ditlef Nielsen2 و"لودولف كريل" Ludolf Krehl وغيرهم3.
وقد اعتمد "ولهوزن" على ما نقله "ياقوت الحموي" من كتاب الأصنام ومن غيرهم، ذلك لأن كتاب الأصنام لم يكن مطبوعًا ولا معروفًا أيام ألف "ولهوزن" كتابه عن الوثنية العربية.
ويعد كتاب "ولهوزن" أوسع مؤلف في موضوعه كتبه المستشرقون عن الوثنية العربية. وقد كتب المستشرقون حديثًا جملة بحوث عن الأصنام العربية التي عثر عليها في الكتابات فات ذكرها في كتاب "ولهوزن" لأن أكثر النصوص الجاهلية لم تكن قد نشرت يومئذ، ولأن كثيرًا منها قد نشر حديثًا، فلم يكن في استطاعة "ولهوزن" بالطبع أن يبحث في شيء من التفصيل في الوثنية ببلاد العرب الجنوبية. لذلك كان أكثر ما جاء في كتاب "ولهوزن" مستمدًا من روايات
__________
1 استعملت الطبعة الثانية، وقد طبعت ببرلين سنة 1927م.
2 Ditlef Nielsen, Die Altorabische Mondreligeon und die Mosaische Meberlieferung, Strassburg, 1904.
3 Ludolf Krehl, uber die Religion der Varislamishen Araber, Leipzig, 1863.
إذا أردت أسماء بعض المراجع عن هذا الموضوع، فارجع إلى:
D. G. Pfannmuller, Handbuch der Islam-Literatur, 1923.(11/15)
الأخباريين. فمن الضروري إضافة هذه البحوث الجديدة إلى ما كتبه هو وأمثاله، لنحصل على صورة شاملة عن أديان العرب قبل الإسلام.
وتفيد الأعلام الجاهلية المركبة Theophorus Names المدونة في النصوص الجاهلية وفي الموارد الإسلامية فائدة كبيرة في معرفة الأصنام، وفي تكوين فكرة عنها. ففيها أسماء آلهة، وفيها بعض الصفات الإلهية التي كان يطلقها الناس على آلهتهم. ونجد هذه الأسماء المركبة عند بقية الشعوب السامية كذلك. ومن مقارنة هذه الأسماء بعضها ببعض، استخرج العلماء آلهة اشترك في عبادتها جمع الساميين1.
ونعني بـ Theophorus Names الأعلام المركبة من أسماء آلهة ومن كلمات أخرى مثل "عبد" و"عطية" و"امرئ" و"أوس" و"عائذ" و"جار" و"عوذ" و"وهب". ترد قبل اسم الإله أو بعده، فيتألف منها ومن أسماء الآلهة أسماء أعلام، مثل عبد الأسد، وعبد الله، وعبد سعد، وعبد العزى، وعبد محرق، وعبد ذي الشرى، وعبد يغوث، وعبد ود، وعبد قيس، وعبد شمس، وامرئ القيس، وأمثال ذلك من أعلام.
ومعظم هذه الأعلام المدونة في مؤلفات الإسلامين، أسماء أشخاص عاشوا في الجاهلية القريبة من الإسلام، حفظتها ووعتها ذاكرة الرواة، ومنها تناقلها أهل الأخبار. والغالب عليها الابتداء بكلمة "عبد" للرجال و"أمت" أي أمة للسناء، ترد قبل اسم الصنم. أما الأسماء المبتدأة بكلمات أخرى غير "عبد"، فمثل "أحمس الله" و"امرئ مناة"، و"امرئ القيس"، و"أنس الله" و"أوس الله"، و"تيم اللات"، و"خيليل"، و"زيد اللات"، و"زيد مناة" و"سعد اللات"، و"سعد مناة"، و"سعد ود" و"سعد العشيرة"، و"سكن اللات" و"سلم اللات" و"شراحيل" و"شرحيل" و"شرحبيل"، و"شكم اللات" و"شهميل"، و"شيع القوم"، و"عائذ الله" و"عمرو اللات" و"عوذ مناة" و"عينيل"، و"قسميل" و"مطرويل"، و"وهب اللات". وهي قليلة من حيث الاستعمال بالقياس إلى الأعلام المبتدأة بـ"عبد"2.
__________
1 Dr. H. Brau, Die Altnordarabischen Kultischen Personennamen, in WZKM, Bd. 32, 1925, s. 31. ff. 85. ff. Reste, I, FF. Ency, Religi. I. p: 659.
2 Reste, S. I(11/16)
ويلاحظ على بعض الأعلام المركبة، مثل عمرو اللات، وعوف إيل، وجد اللات، وسعد مناة، وود إيل، أن الكلمات الأولى من هذه الأسماء تتأخر في أعلام أخرى؛ فتسبق بكلمة توضع قبلها فيتكون منها علم مركب جديد كما في الأسماء الآتية: عبد عمرو، وعبد عوف، وعبد جد، وعبد سعد، وعبد ود، وقد كانت متقدمة في الأعلام الأولى. أما في هذه الأعلام فصارت في المنزلة الثانية.
وهذه الأسماء التي حفظتها ذاكرة أهل الأخبار، تخالف أكثر الأعلام العربية والسامية القديمة المدونة في النصوص وفي مؤلفات اليونان والرومان والسريان وغيرهم من حيث الصيغ والتراكيب. فقد ابتدأت هذه الأعلام كما رأينا بكلمات تلتها أسماء الآلهة. أما الأعلام القديمة، فقد كانت على العكس تبدأ باسم الصنم، وبعده الألفاظ الأخرى، مثل: "الشرح" "إيل شرح" و"اليفع" "إيل يفع" و"الذرح" "إيل ذرح" و"الكرب" "إيل كرب" و"السمع" "إيل سمع" و"اليثع" "إيل يثع" وأمثال ذلك. أو تبدأ بكلمات ثم تليها أسماء الأصنام، إلا أنها ليست في حالة الإضافة، بل على صورة الإخبار والفاعلية، مثل "يذكر إيل" و"يثع إيل" و"يدع إيل" و"يشرح إيل" و"يسمع إيل" و"إيل" "إل" هنا هو اسم الإله "إل" "إيلو" المعروف عند جميع الساميين1.
وقد يوضع حرف الجر، وهو "اللام" "لامد" في الاسم، ليدل على تعلق الاسم بالإله، مثل "لحي عثت" في النصوص العربية الجنوبية، وقد عثر على طائفة من هذه الأعلام في الكتابات الفينيقية والعبرانية2.
وقد تهمل الكلمة الثانية من الاسم المركب، ويقتصر على اللفظة الأولى، كما في: "أوس"، وزيد، ووهب، وتيم، وسعد، ونصر، وعائذ، وعبد، وأمثال ذلك من أعلام. فإنها اختصار لـ"أوس الله" و"زيد اللات" و"زيد مناة" و"وهب اللات" و"تيم اللات" و"سعد مناة".
__________
1 Reste, S. I, Noldeke, uber den Gottesnamen El, in Monatsberichte der Koni Akademie der wissenschaft zu Berlin, 1880, S. 761, 1887, S. 1175.
2 Reste, S. 7, Noldeke, in Wiener Zeitshrift fur die Kunde des Morgenlandes, Bd. VI, S. 313.(11/17)
و"سعد ود" و"سعد اللات" و"نصر اللات" و"عائذ الله" و"عبد ود"، وغير ذلك، وقد يحدث العكس، فتسقط الكلمة الأولى، وتبقى الكلمة الثانية التي هي اسم الإله ويصير هذا الاسم اسمًا لشخص أو لأسرة أو لقبيلة، مثل: مناف، وغنم، وشمس، وإساف، ونائلة، وزهرة، وقيس، وعطارد، وهبل، وجد، وأمثال ذلك. فإن هذه هي أسماء آلهة في الأصل، سبقت بكلمات مثل "عبد"، ثم أهملت هذه الكلمات الأولى، وبقيت أسماء الآلهة حية، ولكنها صارت أسماء لأشخاص وأسر وقبائل، تسبقها لفظة "بنو" في بعض الأحيان، لتدل على الانتماء إلى ذلك الاسم1. ولهذا الانتماء أهمية كبيرة في نظر الباحثين في فلسفة الأديان وتأريخها.
ويلاحظ أن بعض الأعلام المركبة المبتدأة بـ"عبد" مثلًا، لا تتكون كلمتها الثانية من اسم إله، إنما تكون اسم موضع أو اسم شخص أو اسم جماد، مثل: عبد حارثة، وعبد المطلب، وعبد أمية، وعبد الدار، وعبد الحارث، وعبد الحجر، وما شاكل ذلك. ولبعض العلماء تفاسير وتعليلات في العوامل التي أدت إلى هذه التسميات. منها أن بعض هذه الأسماء هو لآلهة قديمة، نسيت فظن أنها أسماء أشخاص: وأن بعضًا آخر منها هو أسماء أشخاص كانت لهم قدسية أو منزلة خاصة، فتبرك الناس بتسمية أولادهم عبيدًا لهم، وهو شيء يحدث حتى الآن؛ إذ نقول عبد المسيح، وعبد الرسول، وعبد علي، وعبد الأمير، وعبد الزهرة، وعبد محمد، وأن بعضًا آخر هو مسميات لمجتمعات، مثل: عبد أهله، وعبد العشيرة، وسعد العشيرة، أو أنه نسبة إلى طوطم أو جماد مقدس في نظر الناس2.
وقد قضى الاسلام على الأسماء الوثنية، كما قضى على كثير من معالم الجاهلية، فاستبدل من أسلم اسمه الجاهلي الذي له صلة بصنم أو بشرك باسم إسلامي، وبذلك زالت تلك التسميات. كما زالت أكثر التسميات اليهودية والنصرانية بدخول أصحابها في الإسلام. وهذا شيء مألوف في تأريخ الإنسان. فقد قضت اليهودية على الأسماء الوثنية القديمة، وعوضت عنها بأسماء يهودية ذات صلة بالتوراة. وقضت النصرانية على الأعلام الوثنية. أو طورتها لتكون ملائمة مع النصرانية، وهكذا
__________
1 Reste, S. 7. ff.
2 Robertson, p. 42, Reste, S. 4.(11/18)
حدث في الأديان الأخرى، بل وهذا ما يحدث اليوم في كثير من أنحاء العالم القلقة عند وقوع انقلابات سياسية، حيث تتناول الأسماء أيضًا بالتغيير والتبديل؛ لتناسب الوضع الجديد.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من الصحابة، كانت أسماؤهم ذات صلة بالأصنام. فلما أسلموا أبدلها الرسول بأسماء إسلامية. فقد كان اسم كاتب النبي "عبد الله بن أبي الأرقم بن أبي الأرقم" "عبد يغوث" فلما أسلم، دعي "عبد الله"1 وكان اسم "عبد الله بن أصرم بن عمرو بن شعيثة" الهلالي، "عبد عوف بن أصرم"، فلما قدم على النبي، فقال من أنت؟ قال عبد عوف، قال النبي: أنت عبد الله، فأسلم2. ونجد غيرهما وقد أبدل الرسول أسماءهم، حتى صار من يسلم يبدل اسمه إن كان له صلة بصنم، حتى ماتت الأسماء الجاهلية التي هي من هذا القبيل.
والأساطير MYTHOS = Myth ونعني بها هنا الخرافات والأقاصيص المتعلقة بالآلهة Legend، هي مصدر مهم لمعرفة تطور الأديان وتطور فكرة الألوهية عند الشعوب. وهي قد تكون شعرًا، وقد تكون نثرًا، وفي كلتا الحالتين تكون مادة خصبة للباحثين.
ومعارفنا عن الأساطير العربية الدينية قليلة جدًّا. وهذا مما حمل بعض المستشرقين على القول بأن العرب لم تكن لهم أساطير دينية عن آلهتهم، كما كان عند غيرهم من الأمم كاليونان والرومان والفرس وعند بقية الآريين، بل حتى عند بعض الشعوب السامية الأخرى مثل البابليين3. وفي رأيي أننا لا نستطيع أن نجزم في مثل هذه الأمور؛ لأن أحكامنا عن اليونان والرومان والبابليين إنما استنبطناها من نصوص ومؤلفات وصلت إلينا. أما العرب الجاهليون، فلم يصل إلينا منهم حتى الآن نص ما في هذا الموضوع، يمكننا من الحكم بعدم وجود الأساطير الدينية عند العرب الوثنيين.
ومشكلتنا أننا لا نملك كما قلت نصوصًا دينية جاهلية، ولا كتبًا كتبها يونان أو لاتين أو سريان أو غيرهم عن أساطير العرب في الجاهلية نستطيع استخراج.
__________
1 الإصابة "2/ 265" "رقم 4525".
2 الإصابة "2/ 267"، "رقم 4534".
3 Ency, Religi I,p 660.(11/19)
حكم منها عن أساطير العرب. ولكن هذا الوضع لا يخولنا نفي وجود الأساطير عند العرب، بحجة بداوتهم وضيق أفقهم وبساطة تفكيرهم، كما أنه لا يخولنا أيضًا الحكم بوجود أساطير عندهم من طراز عالٍ كما نجده عند اليونان مثلًا. ويتبين من بعض روايات الأخباريين، وهي قليلة، أن العرب كانت لهم أساطير كالذي رووه من أن العيوق" عاق "الدبران" لما ساق إلى الثريا مهرًا، وهي نجوم صغار نحو عشرين نجمًا، فهو يتبعها أبدًا خاطبًا لها، ولذلك سموا هذه النجوم القلاص1 وكالذي رووه عند "العَبُور" و"الغُمَيصاء" و"سُهَيْل". وقد كانت هذه النجوم مجتمعة، فانحدر سُهَيْل فصار يمانيًّا، وتبعته العَبُور فعبرت المجرة، وأقامت الغُمَيْصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت2. وكالذي رووه من أن "الزُّهرة" كانت امرأة حسناء، فصعدت إلى السماء ومسخت نجمًا، وأمثال ذلك من قصص يظهر أنه من بقايا قصص أطول قديم3.
وإذ لم تصل إلينا نصوص دينية جاهلية، صعب علينا تكوين فكرة صحيحة عن مفهوم الدين عند العرب، وعن كيفية عبادتهم لآلهتهم، وعن كيفية تصورهم للآلهة، خاصة عند العرب الذين عاشوا قبل الميلاد.
وقد تعنينا أسماء الآلهة والأعلام المركبة في تكوين وجهة نظر عن صفات آلهة الجاهليين. فكلمات مثل "ود" و"شرح" و"سعد" و"سمع"، أو تعابير مثل "ذت حمم" "ذات حميم" و"ذت صنتم" "ذات صنتم" و"ذت رحبن" "ذات رحبن" و"ذت بعدن" ذات بعدن" "وذ قبضم" "ذو قبضم" وما شابه ذلك، لا بد أن تكون لها معانٍ خاصة تشير إلى صفات الآلهة التي قيلت لها، فتفيدنا في فهم عبادة الجاهليين وتفكيرهم في تلك الآلهة.
وإذا كانت بعض أسماء الآلهة أو صفاتها واضحة مفهومة تمكن الاستفادة منها في تكوين فكرة عن الآلهة، فإن هناك بعضًا آخر يحيط بمعناه الغموض، فلا نستطيع شرح معناه أو ترجمته إلى اللغات الأخرى. وليس من المعقول بالطبع عدم وجود مدلول أو مراد لأسماء هذه الآلهة عند من وضعها لها، ونسبها إليها، وإنما المعقول هو أن هذه المسميات نسيت بتقادم الزمن وبزوال دولتها وعظمتها
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 239".
2 بلوغ الأرب "2/ 239".
3 البلخي: البدء والتأريخ "3/ 14".(11/20)
من الوجود، وضاعت معالمها، فلم يبق منها إلا الأسماء المجردة1. ولعل معانيها كانت غامضة حتى على من كان يتعبد لها، لاختفائها منذ زمن طويل، وعدم ورود نصوص مدونة على المتعبدين لها في هذه المعاني، وهذا شيء مألوف معروف.
وتختلف نظرة الإنسان إلى الخالق والخلق باختلاف تطوره ونمو عقله، ولهذا نجد فكرة "الله" "الإله" التي تقابل كلمة Deus في اللاتينية وكلمة Theos في اليونانية وكلمة God في الإنكليزية، تختلف باختلاف مفاهيم الشعوب ودرجات تقدمها. فهي عند الشعوب البدائية القديمة والحديثة في شكل يختلف عن مفهومها عند الشعوب المتحضرة. كذلك اختلفت عند سكنة البوادي عند سكنة الجبال والهضاب، ويختلف مفهوم فكرة الله عند الشعوب السامية عنها عند الشعوب الآرية؛ لأسباب عديدة يذكرها علماء تأريخ الأديان2. بل يختلف هذا المفهوم في داخل الشعب الواحد، يختلف فيه باختلاف ثقافة الإنسان وتقدم مداركه العقلية، فتصور كل إنسان خالقه على قدر عقله ودرجة ثقافته، صوَّره وكأنه مرآة صافية لنفسه ولدرجة نمو عقله، ومن هنا قيل: إن الإنسان يصنع إلهه بنفسه، أي يصوره على نحو صورته ومبلغ تفكيره.
يقول "أكسينوفان" Xenophanes: "تصور الأحباش آلهتهم فطس الأنوف، سودًا. وتصور أهل "تراقية" Thracians آلهتم ذوي عيون زرق وشعر أحمر. وزعم اليونان أن تصورهم للآلهة هو التصور الصحيح. أما تصور الزنوج وأهل تراقية عن آلهتهم، فهو تصور فاسد باطل! ولو كان للماشية والخيل والسباع أيد تتمكن من الرسو والنحت، لرسمت الخيل آلهتها على صورة خيل، ولنحتت تماثيلها على صورتها، ولرسمت الماشية ونحتت آلهتها على صورتها وهيئتها، تمامًا كما يصور الإنسان وينحت آلهته على صورته وقدر إدراكه. كل صنف يتصور ويرى آلهته على صورته"3. وقد نسب اليونان إلى آلهتهم كل الصفات والأعمال الإنسانية المعروفة بين اليونانيين، فتصوروهم على هيئة بشر، لهم الفضائل، ولهم الرذائل، يتزوجون وينسلون ويحبون ويعشقون ويسرقون ويكرهون ويتخاصمون بينهم ويتاحسدون.
__________
1 Handbuch, S. 189.
2 Ency. Religi, vol. 6, p. 243, W. Robertson Smith, Lectures on the Religion of the Semites, London, 1894, p. 5, Ency. Britd, 10, p. 480, Lyod.
3 Ency. Religi, 10, p. 113.(11/21)
ويقومون بأقبح الأعمال كما يفعل الإنسان1
وهناك أشكال عديدة للعبادة، تمثل تعدد وجهات نظر الإنسان بالقياس إلى مفهوم الألوهية لديه. فهناك عبادة تسمى عبادة آباء القبائل، حيث أسبغ على أجداد القبائل ما يسبغ عادة على الآلهة من نعوت وصفات. وتجد هذه العبادة عند القبائل البدائية. وقد يكون هؤلاء الأجداد أجدادًا حقيقيين، وقد يكونون أشخاصًا خلفتهم الأساطير. ومهما يكن من شيء، فقد أُعطي هؤلاء صفات الربوبية ونعوتها، ونظر إليهم نظرة من فيه قوى خارقة ذات هيمنة على العالم والخلق. وقد اصطلح على تسمية هذه العبادة بـ All Fathers في الإنكليزية وبـ Verehrung des Stammesvaters وبـ Urvaters في الألمانية؛ لأنها تقوم على أساس عبادة الأجداد2.
وأله بعض الناس الظواهر الطبيعية؛ لتوهمهم أن فيها قوى Spirit روحية كامنة مؤثرة في العالم وفي حياة الإنسان مثل الشمس والقمر وبعض النجوم الظاهرة وقد كانت الشمس والقمر أول الأجرام السماوية التي لفتت أنظار البشر إليها، لما في الشمس من أثر بارز في الزرع والأرض وفي حياة الإنسان بصورة مطلقة كذلك للقمر أثره في نفس الإنسان بما يبعثه من نور يهدي الناس في الليل، ومن أثر كبير يؤثر في حس البشر فكانا في مقدمة الأجرام السماوية التي ألهها الإنسان، عبدهما مجردين في بادئ الأمر، أي دون أن يتصور فيهما ما يتصور من صفات ومن أمور غير محسوسة هي من وراء الطبيعة. فلما تقدم وزادت مداركه في أمور ما وراء الطبيعة، تصور لهما قوى غير مدركة، وروحًا، وقدرة، وصفات من الصفات التي تطلق على الآلهة. فخرجتا من صفتهما المادية البحتة ومن طبيعتهما المفهومة، وصارتا مظهرًا لقوى روحية لا يمكن ادراكها، إنما تدرك من أفعالها ومن أثرهما في هذا الكون.
وإذا كانت هذه العبادة قد اقتصرت على الظواهر الطبيعية البارزة المؤثرة،
__________
1 Ency. Religi, 10, p. 113.
2 في الأصل Father ours وقد أطلق هويت howitt الاصطلاح All Father عليه،
Howitt, Native Tribes of S.E. Australia, London, 1904, Making of Religion London, 1898, Ency. Religi, vol 6, p. 243.(11/22)
فإن هناك توسعًا في هذه العبادة تراه عند بعض الأقوام البدائية، يصل إلى حد تقديس الأحجار والأشجار والآبار والمياه وأمثال ذلك؛ إذ تصوروا وجود قوى روحية كامنة فيها، فعبدوها على أن لها أثرًا خطيرًا في حياتهم. ونجد في أساطير الشعوب البدائية أن الإنسان من نسل الحيوان ومن الأشجار أيضًا، كذلك تجد أمثلة عديدة من هذا القبيل في أساطير اليونان والرومان والساميين.
وهناك الشرك، وهو عبادة آلهة عديدة، كما أن هناك عقيدة التوحيد التي تدين بوجود إله واحد خالق لهذا الكون. وليس للشرك بالطبع عدد معين من الآلهة، فقد يكون بضعة آلهة، وقد يكون عشرات. والشرك هو الدين المعاكس لدين التوحيد، ويعرف باسم: Polytheism في الإنكليزية من كلمة Polys اليونانية ومعناها "كثير" و"تعدد"، ومن كلمة يونانية ثانية هي theos وتعني "الإله" "الآلهة". ويختلف الشرك عن عقيدة الـ polydaemonism القائلة بوجود الأرواح والجن من حيث الطبيعة Nature، كما يختلف عن أديان التوحيد Monotheism من حيث القول بتعدد الآلهة، وعن القائلين بمبدإ "الحلول" "Pantheism" من حيث حلول الإله في الخلق والخلق في الإله1.
وتطلق في العربية كلمة "إله" على الإله الواحد، وكلمة "آلهة" في حالة الجمع، أي في حالة القول بوجود آلهة عديدة. وتقابل كلمة "إله" كلمة "إيلوه" Eloh = Eloah في العبرانية الواردة في سفر "أيوب". ومنها كلمة "إيلوهيم" Elohim في حالة الجمع، أي آلهة المستعملة في العهد القديم بالقياس إلى آلهة الوثنيين2. وكلمة "إله" لا تعني على كل حال إلهًا معينًا على نحو ما تعنيه لفظة "الله" في العربية التي يراد بها الله الواحد الأحد ليس غير.
أما "الله"، وهي كلمة الجلالة، فهي "اسم علم" خاص به على رأي، وهي "علم مرتجل" في رأي آخر. وقد ذهب الرازي إلى أنه من أصل سرياني أو عبراني. أما أهل الكوفة فرأوا أنه من "ال إله"، أي من أداة التعريف.
__________
1 Ency. Religi, vol. 10, p. 112.
2 Hastings, p. 299, Ency Religi, vol. 6. p. 248, Ency. Bibli, III, col. 33239 Hebrew Lexicon, 42, Ency, II, p. 464.(11/23)
"أل" ومن كلمة "إله". وهناك آراء لغوية أخرى في أصل هذه اللفظة1.
ولم يعثر على لفظة "الله" في نصوص المسند، وإنما عثر في النصوص الصفوية على هذه الجملة: "ف هـ ل هـ" وتعني "فالله" أو "فيا الله" و"الهاء" الأولى هي أداة التعريف في اللهجة الصفوية. وقد وردت الجملة على صورة أخرى في بعض الكتابات الصفوية. وردت على هذا الشكل: "ف هـ ل ت"، أي "فالات" "فيا الآت" أي في حالة التأنيث. وتقابل "اللات"، وهي صنم مؤنث معروف ذكر كذلك في القرآن الكريم2.
ويظن بعض المستشرقين أن "الله" هو اسم صنم كان بمكة، أو أنه "إله" أهل مكة، بدليل ما يفهم من القرآن الكريم في مخاطبته ومجادلته أهل مكة من إقرارهم بأن الله هو خالق هذا الكون3.
وترد في العربية كلمة أخرى من الكلمات المختصة بالخالق، "هي "رب" وجمعها "أرباب" وهي من الكلمات الجاهلية المذكورة بكثرة في القرآن الكريم، ولها معنى خاص في اللاهوت وفي الأدب العربي النصراني. وتقابل كلمة LORD في الإنكليزية. وكلمة "بعل"، و"أدون" في اللغات السامية الأخرى4. ويذكر علماء اللغة أن "الرب" هو الله، هو رب كل شيء، أي مالكه. وله الربوبية على جميع الخلق، لا شريك له، وهو رب الأرباب، ومالك الملوك والأملاك، ولا يقال الرب في غير الله، إلا بالإضافة.
وقد قال الجاهليون: "الرب" للملك. قال الحارث بن حلزة:
وَهُوَ الرَبُّ وَالشَهيدُ عَلى يَو ... مِ الحَيارَينِ وَالبَلاءُ بَلاءُ5
ويظهر أن لفظة "الرب" و"رب" كانت بمعنى "سيد" ومالك عند
__________
1 الطبري: تفسير "1/ 40"، اللسان "17/ 358"، الكشاف "ص8" تفسير الرازي "1/ 84 وما بعدها، البيضاوي "1/ 4" طبعة "Fleisher" المفردات، للأصفهاني "ص19 وما بعدها". Ency, II, p 464
2 Ency, Religi vol. 6. p 248
3 Ency. Religi, Vol. 6p 248
4 Ency, Religi. Vol. 6, p 248, Ency, III p 1088
5 اللسان "1/ 399"، "ديب".(11/24)
الجاهليين، ولم تكن تعني العلمية عندهم. أي ألوهية خاصة بالله، وهي تؤدي معنى "بعل" عندهم أيضًا. فكانوا يطلقونها على الإله والآلهة وعلى الإنسان باعتباره سيدًا ومالكًا. أما هذا التخصص الذي يذكره علماء اللغة، فقد حدث في الإسلام من الاستعمال الوارد في القرآن الكريم.
و"رب" البيت"، الله، وكذلك: "رب هذا البيت"1. و"رب الدار"، أي مالكها، وكل من ملك شيئًا، فهو ربه. وبهذا المعنى "هو رب الأرباب" أما الربة" فعنوا بها الصخرة التي كانت تعبدها ثقيف بالطائف. وكان لهم بيت يسمونه "الربة" و"بيت الربة"، يضاهي "بيت الله" بمكة. فلما أسلموا هدمه المغيره". و"الربة": كعبة كانت بنجران، لمذحج وبني الحارث بن كعب يعظمها الناس2.
وأما "بعل" فمعناها مالك وصاحب ورب في اللهجات السامية. فترد بعل الموضع الفلاني، أي صاحب ذلك الموضع وربه. ومؤنث الكلمة هو "بعلت". وترد كلمة "بعل" بمعنى زوج في العربية، وقد وردت بهذا المعنى في مواضع من القرآن الكريم3، وأما الزوجة، فهي "بعلت" "بعلة" أي في حالة التأنيث4.
ولما كانت لفظة بعل تعني الرب والصاحب، صار اسم الموضع يرد بعد "بعل"، فيقال: "بعل صور"، و"بعل لبنان"، و"بعل غمدان"، أي رب المواضع المذكورة وصاحبها وسيدها. أما إذا وردت اللفظة مستقلة دون ذكر اسم الموضع المنسوب إليها بعدها، فتعني عندئذ رب وإله، أي رب الجماعة المتعبدة المؤمنة به5.
وقد ورد في القرآن الكريم في صدد الكلام عن إلياس Elijah {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} 6. وقد ذهب الطبري في تفسير "بعل" في هذه الآية إلى أن بعلًا.
__________
1 {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} قريش، الآية 3.
2 اللسان "1/ 399 وما بعدها" "ريب".
3 البقرة: الآية 228، هود: الآية 75، النور، الآية 31.
4 Ency, I, P, 610 Robertson, p 94.
5 Robertson p. 94.
6 الصافات، الآية 122 وما بعدها(11/25)
تعني ربًّا في لغة أهل اليمن، أو أن المراد ببعل صنم1.
ومن رأي "روبرتسن سمث" Robertson Smith أن العرب اقتبسوا المعنى الديني لبعل من الأقوام السامية المجاورة لهم مثل سكان "طور سيناء" أو موضع آخر، أخذوه من تلك الأقوام التي عرفت باشتغالها بالزراعة، ولا سيما زراعة النخيل، وأن هذا المعنى دخل إليهم بدخول زراعة النخيل إلى بلاد العرب، وأنه استعمل عند العرب المزارعين. أما البدو والرعاة، فإنهم لم يستخدموا تلك اللفظة بالمعنى المذكور2. وهو رأي يخالف رأي بعض المستشرقين من أمثال "نولدكه" Noldeke و"ولهوزن" Wellhousen الذين يرون أن عبادة "بعل" هي عبادة سامية قديمة كانت معروفة عند قدماء العرب منذ أقدم العهود3.
ويرى بعض المستشرقين أن لفظة "بعل" أطلقت خاصة على الأرض التي لا تعتمد في زراعتها على الأمطار أو على وسائل الري الفنية، بل على المياه الجوفية وعلى الرطوبة في التربة، فينبت فيها خير أنواع النخيل والأثمار، فهي تمثل الخصب والنماء، والظاهر أن الساميين كانوا يخصصون أرضهم بالآلهة، لتمن عليهم بالبركة واليمن، فتكون في حمى ذلك الإله "بعل الموضع الفلاني" صارت جملة "بعل سميم" "بعل سمن" "بعل سمين" تعني "رب السماء"، ويعني بذلك المطر الذي هو أهم واسطة من وسائط الإسقاء والخصب والنماء في جزيرة العرب وفي البلاد التي يسكنها الساميون4. ورأى مستشرقون آخرون أن جملة "أرض بعل" تعني الأرض التي تُسقى بالأمطار5.
وذكر العلماء أن لفظة "الآل" بمعنى الربوبية، واسم الله تعالى. وأن كل اسم آخره "أل" أو "إيل" فمضاف إلى الله تعالى، ومنه "جبرائيل" و"ميكائيل" وذكر أن "أبا بكر" "لما سمع سجع "مسيلمة"، قال: هذا كلام لم يخرج من آل ولا بر، أي لم يصدر عن ربوبيه6. وقد ذهب
__________
1 تفسير الطبري "23/ 53"، Ency, I, p. 610.
2 Robertson, p. 97.
3 Noldeke, in ZDMG. BD. 40, 1886, S 174, Reste, s, 146, Handbuch, I, s, 240.
4 Robertson, p. 97. Ency, Religi, I, p, 664.
5 Reste, s 146.
6 تاج العروس "7/ 211 وما بعدها"، "أل".(11/26)
بعض علماء اللغة إلى أن اللفظة "إيل" من المعربات. عربت عن العبرانية، وهي فيها اسم الله1. وهي من الألفاظ التي ترد في اللغات السامية، ولا يعرف معناها على وجه مضبوط، ويظن أنها بمعنى "القادر" و"العزيز" والقهار، والقوي، والحاكم. وترد في الشعر وفي أسماء الأعلام في الغالب. وقلما نجدها ترد في النثر2.
وقد وردت في نصوص المسند وفي نصوص أخرى ألفاظ كثيرة مثل "ود" و"سمع" أي "سميع" و"حكم" أي "حكيم"، و"حلم" أي حليم" و"علم" أي "عالم" و"عليم"، و"رحم" أي "رحيم"، و"رحمنن" أي "الرحمن"، وأمثال ذلك. ذكرت على صورة أسماء آلهة. لكنها في الواقع صفاتها لا أسماؤها. ذكرت في مقام ذكر أسماء الآلهة، كما يقول المسلم في دعائه ربه يا سميع ويا حكيم ويا رحيم. وهي صفات وردت في القرآن الكريم.
وعلى من يريد الوقوف على رأي الجاهليين في طبائع آلهتهم وفي تعيين صفاتها، حصر هذه الصفات وضبطها، وتعيين مدلولها، وهي صفات تدل على معانٍ خلقية مجردة. وسنتمكن بذلك من الوقوف على نظرة الجاهليين إلى آلهتهم، ومن تعيين وتثبيت عددها إذ سيظهر لنا من هذه الدراسة أن أكثر تلك الأسماء ليست أسماء آلهة، وإنما هي صفات لها، وأن الكلمات التي لا يشك في كونها أسماء صحيحة قليلة جدًّا، ربما لا يتجاوز عددها الثلاثة، هي الثالوث. ومن يدري؟ فقد تكون في النتيجة اسمًا لإله واحد، وعندئذ يمكن أن نتوصل إلى نتيجة علمية بالقياس إلى عقيدة الشرك أو التوحيد عند العرب الجاهليين.
ويجد الإنسان اليوم سذاجة مضحكة في بعض العقائد الدينية التي كانت عند الشعوب القديمة، ويستصعب تصور اعتقاد الناس بها، وهو ينسى أن هذه العقائد أو بعضها على الأقل، لا تزال معروفة بين بعض قبائل إفريقية وأستراليا وأماكن أخرى في العالم، وأن العقل الإنساني في تطور مستمر، وأن هناك بشرًا يؤمنون بعقائد ورثوها عن آبائهم لا تقل غرابة عن غرابة بعض المعتقدات التي نؤاخذ.
__________
1 تاج العروس "7/ 218"، "إيل".
2 "Hastings p. 299 "God.(11/27)
بها قدماء البشر، مع أنهم من الشعوب المتقدمة في الحضارة وفي المدينة، ومن القرن الذي نفتخر بتسميته بقرن العقوق على الأمم، والهروب منها إلى بيوت أخرى، تكون بعيدة عنها، سانحة في هذا الفضاء.
وقد يصعب على الإنسان اليوم تصور وجود فائدة أو ضرر من أشياء جامدة لا يمكن قطعًا أن تضر أو تنفع، ولكن القدماء تصوروه مع ذلك واعتقدوه. فقدسوا الأحجار والأشجار والحيوانات، وقدسوا الأرواح والأموات من الآباء والأجداد والقديسين، وتعبدوا لها. ولهذه العبادات أسماء علمية خاصة اصطلح على تسميتها العلماء.
والدين هو إيمان وعمل: إيمان بوجود قوى هي فوق طاقة البشر، لها تأثير في حياته وفي مقدراته، وعمل في أداء طقوس معينة تعين شكلها الأديان للتقرب إلى الآلهة ولاسترضائها. والإيمان هو قبل العمل بالطبع، فلا بد للقيام بالشعائر، أو بأداء العمل، من وجود إيمان عند الشخص أو الأشخاص بوجود إله أو آلهة. حتى يقوم بعمل ديني1 فالعمل تابع للإيمان، ونتيجة من نتائجه، وهو شعاره ومظهره. وهو أبرز عند الأقوام البدائية من الإيمان لدرجة عقليتها ومجال تفكيرها الضيق. ومن العمل: الرقص، والأفراح الدينية، والسحر، والقرابين، والحج، والصلوات2.
وقد أقر الإسلام أشياء من أمور الدين كان يمارسها الجاهليون في جاهليتهم؛ لأنها لا تتعارض مع مبادئ الإسلام. ودراسة أمثال هذه الأشياء توضح لنا نواحي خافية علينا في الزمن الحاضر من الحياة الدينية عند الجاهليين، لذلك أرى من الضروري تتبع هذه الأشياء لتدوين تأريخ صحيح للدين عند الجاهليين. وأرى من الضروري كذلك تتبع الأساطير والعادات الموروثة التي لها صلة وعلاقة بالدين الجاهلي بين الأعراب والحضر في كل أصقاع جزيرة العرب، ولا سيما القرى العربية النائية عن العمران المنعزلة عن الأعاجم، فإن معظم هذه الأساطير والتقاليد هي من بقايا الوثنية العربية القديمة، بقيت جذورها ثابتة راسخة في الأفئدة حتى اليوم.
__________
1 The Golen Bough, p. 50, Abridged Edition.
2 Ency. Brita, vol. 19, p. 108.(11/28)
ولا بد أيضًا لدراسة الدين عند الجاهليين دراسة صحيحة من الرجوع إلى أصول الأشياء، وأعني بأصول الأشياء هنا ديانة الساميين الأولى بشكلها البدائي القديم. فمن تلك الشجرة تفرعت أديان الشعوب السامية، وفي ذلك الدين نجد الأصول والأسس التي بنيت عليها الديانات الفروع.
أما كيف نتمكن من الرجوع إلى الأصل ومن معرفة ديانة الساميين القديمة، فموضوع ليس بالسهل اليسير، ونحن وإن كنا نملك بعض المؤلفات والبحوث عن أديان الساميين لا نستطيع أن نجرؤ فنقول إن البحث قد نضج فيه، وإن القوم قد استوفوه من أطرافه وأكملوه، بل إن كثيًرا مما تطرق إليه العلماء هو موضع جدل واختلاف، ولن يمكن التوصل إلى نتائج مقبولة معقولة إلا إذا تمكن الباحثون من الحصول على وثائق جديدة تكشف النقاب عن أديان قدماء الساميين.
وللتوصل إلى تكوين رأي عن أديان الساميين القديمة لا بد من دراسة النصوص الدينية السامية كلها، ودراسة كل ما له صلة بالدين عند الساميين، ومقارنة الأديان السامية بعضها ببعض ومراجعة الأصول اللغوية للمصطلحات الدينية عند جميع الشعوب السامية للتوصل منها إلى الأسس العميقة المدفونة التي أقيم عليها بنيان ديانة الساميين. ثم لا بد أيضًا من دراسة المؤثرات الخارجية التي أثرت في الساميين من عوامل طبيعية ومن عوامل أخرى غير طبيعية ومن الأثر الثقافي الذي كان لغير الساميين في الساميين.
ويتبين من دراسة الأساطير السامية وجود شكل من أشكال التوحيد Henoteism عند القبائل السامية البدائية، يمثل في اعتقاد القبيلة بوجود إله لها واحد أعلى، غير أن هذا لا يعني نفي اعتقادها بتعدد الآلهة. فإننا نرى أن تلك القبائل كانت تعتقد، في الوقت نفسه، بالأرواح كأنها كائنات حية ذات أثر وسلطان في مصير هذا الكون. وفي ضمنه الإنسان، وبآلهة مساعدة للإله الكبير1.
والديانات السامية، وإن كانت في الأصل من ديانة قديمة، قد تطورت وتغيرت بعوامل عديدة من العوامل التي تؤثر في كل المجتمعات البشرية فتحدث فيها انقلابًا في التفكير وفي طراز الحياة. ومن هذه العوامل المؤثرات الخارجية والمحيط الجديد. وسنجد أن ديانة العرب الجنوبيين، وإن كانت في الأصل من تلك الديانة السامية
__________
1 Ency, Religi, II, p. 283.(11/29)
الأصلية فيها مثل "أل" "إيل" وأمثال ذلك، قد غيرت في ديانتها، وبدلت في تصوراتها للآلهة، حتى صارت في بعض معتقداتها على نقيض مع معتقدات الساميين الشماليين.
وفي الدين معبود يعبد هو الله، أو جملة آلهة، أو قوى خارقة تلعب في مقدرات الإنسان وعبدة يتعبدون له أو لها فهم عباده او عبادها و"العبادة" الطاعة، وأداء الواجبات المفروضة على الإنسان تجاه الله1، أو الآلهة.
والرأي المعروف بين الناس حتى الطبقة المتعلمة منهم، أن العرب الجاهليين كانوا على جانب عظيم من الانحطاط الديني قبل الإسلام، وأن تفكيرهم في ذلك تفكير منحط لا يتجاوز تفكير القبائل البدائية وهو رأي خاطئ، يفنده القرآن الكريم، وإذا كان ما يقوله صحيحًا بالقياس إلى السواد والأعراب، فإنه لا يصح أن يكون حكمًا عامًّا على الكل، ولا سيما على المتحضرين وعلى من كان لهم اتصال بالعالم الخارجي.
وتأريخ أديان العرب قبل الإسلام، فصل مهم جدًّا من فصول تأريخ العرب عامة قبل الإسلام وبعدها، بدونه لا يمكن فهم عقلية القوم الذين نزل الوحي بينهم وطريقة معرفة تفكيرهم ووجهة نظرهم إلى الخالق والكون ثم الأسباب التي دعت إلى نزول الوحي وظهور الإسلام، وبدون دراسة أديان الجاهليين ومقالاتهم في الخالق والخلق، لا نتمكن أبدًا من فهم رسالة الإسلام فهمًا صحيحًا. بل إن هذا الدراسة أيضًا فصل مهم جدًّا لفهم كثير من الأمور الواردة في التوراة والإنجيل إذ كان العرب قومًا من هذه الأقوام التي كانت لها صلات قديمة بأرض الوحي التي نزل بها الكتاب المقدس بعهديه، وعضو فعال في هذه المجموعة المسماة بالشعوب السامية. ما نعثر عليه من جديد في الناحية الدينية يكشف عن غوامض عديدة من غوامض العهدين، فجدير بالعلماء وبنا إذن الانصراف إلى البحث والاستقصاء للعثور على المصطلحات المفقودة من هذا الفعل.
وسنرى في الفصول القادمة أسماء رجال كان لهم شأن وخطر في الحياة الدينية للجاهليين، وقد زعم أهل الأخبار أن بعضًا منهم كان من الأنبياء الذين جاءوا إلى قومهم برسالة. وأن بعضًا آخر. كان من المصلحين الهادين، من أصحاب
__________
1 تاج العروس "2/ 410 وما بعدها ".(11/30)
العقول النيرة التي هزأت بالأوثان وبديانات قومهم. وإن رجالًا منهم كانوا على الحنيفة، يريدون بها ديانة التوحيد، وإن آخرين بشروا بالوثنية، وأشاعوها بين العرب، لما كان لهم من مكانة ونفوذ. وإن رجالًا من الجاهليين كانوا على ملة اليهودية ودين المسيح. وإن قومًا من أهل الجاهلية كانوا على عبادة "الله" و"الرحمن"، وكل المذكورين كانوا ممن مهد الجادة إذن لظهور الإسلام.
وقد أدى ظهور الإسلام إلى ظهور مصطلحات جديدة وموت مصطلحات قديمة، وصارت هذه المصطلحات من علائم الوثنية. ولا بد لنا للوقوف على صورة أوضح للحياة الدينية عند الجاهليين من وجوب دراسة الألفاظ الجاهلية ذات المعاني الدينية بجمعها وتبويبها وتثبيت معانيها، فبهذه الدراسة نستطيع الوقوف على مبلغ تغلغل الحياة الدينية في نفوس الجاهليين، ومعرفة مدى تعمقهم في الدين وفهمهم له.
ومن الدراسات التي يجب أن تنال منا الرعاية والعناية لمعرفة الحياة الدينية وتطورها عند الجاهليين معرفة صحيحة، دراسة المصطلحات الدينية بحسب اللهجات العربية، وأماكن تلك اللهجات، وأسماء الأصنام أو الأوثان، ومعتقدات سكان تلك الأرضين في هذه الأيام، فإن دراسة مثل هذه تفيدنا فائدة كبيرة في معرفة أسس الحياة الدينية عند الجاهليين، وفي معرفة اختلاف العرب أو اتفاقهم في العقائد وفي الأمور الدينية، ومعرفة العوامل والأسباب التي أدت إلى ذلك، ثم معرفة المؤثرات الخارجية في الحياة الدينية للجاهليين. وبتثبيت هذه وأمثالها وبمقارنتها بأسماء أصنام الأقوام المجاورة وآلهتهم ومصطلحاتهم، نستطيع فهم كثير من الأمور الغامضة من الحياة الدينية عند العرب وعند تلك الأقوام، وفهم الاحتكاك العقلي والصلات الروحية التي كانت بين تلك الشعوب قبل الإسلام.
إن الأخباريين عفا الله عنهم، لم يعنوا بتنسيق هذا الذي توصلوا إليه ورووه لنا من آراء الجاهليين في الدين. فرووا روايات مختلفة متناقضة أو مقتضبة اقتضابًا مخلًّا وجاءوا بأمور تثبت أن أولئك الأخباريين لم يكونوا على مستوًى عالٍ من النقد والتعمق في دراسة الأخبار، وأنهم كانوا يروون أخبارهم بالمعنى المفهوم من الأخبار، يأخذون ما يقال لهم فيروونه على نحو ما سمعوه وإن كان فيما يروونه ما يخالف المنطق والفهم السليم. والاستسلام للروايات داء يذهب بالفائدة منها، ويعود على المؤرخ بأفدح الأضرار. ولهذا نجد أنفسنا في موضوع أديان العرب.(11/31)
قبل الإسلام في زوبعة عاتية وعاصفة مليئة بالرمال نتخبط فيها للحصول على مخرج نخرج منه، وليس لنا إلا الأمل بالخروج من هذه العاصفة العاتية المتعبة في وقت ما.
وهذا الذي أورده أهل الأخبار عن أهل الجاهلية على ما فيه من تناقض وتضارب واقتضاب، هو كما رأينا مادتنا الوحيدة عن الحياة الدينية عند عرب الجاهلية قبيل الاسلام وعند ظهوره، ولا سيما بالنسبة إلى عرب الحجاز وعرب الشأم والعراق وهناك روايات لم نستفد منها حتى الآن؛ لصعوبة التوصل إليها، لا لكونها في بطون المخطوطات، ولهذا يصعب الحصول عليها. فإن الكثير منها قد طبع، وهو في متناول الأيدي، إنما صعوبتها في كونها في كتب مطبوعة طبعًا على الطريقة القديمة بلا نظام ولا ترتيب ولا تبويب فني ولا فهرست لما في الكتاب المطبوع من مواد ومن أسماء أشخاص أو أصنام أو أوثان أو ما شابه ذلك. وليس أمام المؤرخ في هذه الحالة إلا أن يقرأ تلك الكتب من بسملتها حتى منتهاها؛ ليحصل منها في النهاية على كلمة أو كلمتين أو خبر أو أخبار، ولكن كيف يتمكن المؤرخ من قراءة كتب ضخمة كتفسير الطبري وكتب التفاسير الأخرى وشروح الحديث وكتب التواريخ والطبقات وبقية الكتب إذا كان الكتاب يتألف من أكثر من عشرة أجزاء، وهي كلها بلا فهرست للأعلام ولا لما في الكتاب من فوائد ومواد. لا يتمكن المؤرخ بالطبع من قراءة كل هذه الموارد المذكورة مع تساوي عمره بسائر أعمار الناس، ولو مد الله في عمره وصيره إنسانًا آخر ذا عمر طويل من أعمار الأناس الذين أرخهم "السجستاني" في كتاب المعمرين، لتمكن من الإحاطة ببعض تلك الموارد على الأقل. غير أن عمر المؤرخ ويا للأسف مثل أعمار سائر الناس، قصير محدود، فليس في إمكانه الإحاطة بما ورد في هذه الكتب الواسعة المجهولة، على ظهورها في عالم الوجود ووجودها في خزانة كتب المؤرخ وفي يد أي شخص يريد الحصول عليها؛ لأن الموضوع ليس موضوع وجود كتاب مطبوع أو مخطوط، إنما هو اكتشاف ما في المطبوع أو المخطوط من آراء وأخبار وأعلام.
ما دام الوضع على هذا الحال وما دامت أكثر كتبنا غير مفهرسة ولا منسقة، فليس في استطاعة المؤرخ أن يأتي بشيء كثير يشفي غليل من يريد المزيد من(11/32)
المعرفة عن الحالة الدينية عند العرب قبل الإسلام. هذا أمر يؤسف له بالطبع كثيرًا وسيأتي بعدنا من يضيفون إلى هذا العلم البسيط الذي توصلنا إليه علمًا كثيًرا ثم يتوصل من بعدهم إلى أكثر من ذلك ولا شك. ومن يدري؟ فلعلهم يتوصلون إلى كتابات جاهلية تغنيهم عن كل هذا الذي أخذناه من موارد إسلامية كتبت بعد الجاهلية بعشرات السنين. وليس لنا، وسنكون بالطبع من الماضين، إلا أن ندعو لمن يأتي بعدنا بالتوفيق والنجاح التام.(11/33)
الفصل الثاني والستون: التوحيد والشرك
مدخل
...
الفصل الثاني والستون: التوحيد والشرك
كانت العرب في الجاهلية على أديان ومذاهب: كان منهم من آمن بالله، وآمن بالتوحيد، وكان منهم من آمن بالله، وتعبد الأصنام؛ إذ زعموا أنها تقربهم إليه. وكان منهم من تعبد للأصنام، زاعمين أنها تنفع وتضر، وأنها هي الضارة النافعة1. وكان منهم من دان باليهودية والنصرانية، ومنهم من دان بالمجوسية، ومنهم من توقف، فلم يعتقد بشيء، ومنهم من تزندق، ومنهم من آمن بتحكم الآلهة في الإنسان في هذه الحياة، وببطلان كل شيء بعد الموت، فلا حساب ولا نشر ولا كتاب، ولا كل شيء مما جاء في الإسلام عن يوم الدين.
ومذهب أهل الأخبار، أن العرب كانوا على دين واحد، هو دين إبراهيم، دين الحنيفية ودين التوحيد. الدين الذي بعث بأمر الله من جديد، فتجسد وتمثل في الإسلام. وكان العرب مثل غيرهم، قد ضلوا الطريق، وعموا عن الحق، وغووا بعبادتهم الأصنام. حببها لهم الشيطان، ومن اتبع هواه من العرب، وعلى رأسهم ناشر عبادة الأصنام في جزيرة العرب: "عمرو بن لحي".
وذهب "رينان" Renan إلى أن العرب هم مثل سائر الساميين الآخرين
__________
1 أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرمي الكاتب، أيمان العرب في الجاهلية، "تحقيق محب الدين الخطيب"، "القاهرة 1382" "ص12 وما بعدها".(11/34)
موحدون بطبعهم، وأن ديانتهم هي من ديانات التوحيد. وهو رأي يخالفه فيه نفر من المستشرقين1.
وقد أقام "رينان" نظريته هذه في ظهور عقيدة التوحيد عند الساميين من دراسته للآلهة التي تعبد لها الساميون، ومن وجود أصل كلمة "أل" "إيل" في لهجاتهم، فادعى أن الشعوب السامية كانت تتعبد لإله واحد هو "أل" "إيل" الذي تحرف اسمه بين هذه اللهجات، فدعي بأسماء أبعدته عن الأصل، غير أن أصلها كلها هو إله واحد، هو الإله "أل" "إيل"2.
و"التوحيد" الإيمان بإله واحد أحد لا شريك له، منفرد بذاته في عدم المثل والنظير. لا يتجزأ ولا يثنى ولا يقبل الانقسام3. ويقال للديانة التي تدين بالتوحيد: Monotheism في اللغات الأوروبية، من أصل يوناني هو Monos بمعنى "واحد"، و Theos بمعنى "إله"، لأنها تقول بوجود إله واحد4. ويتمثل القول في التوحيد في اليهودية وفي الإسلام.
والشرك في تفسير العلماء الإسلاميين، أن يجعل لله شريكًا في ربوبيته، غير الله مع عبادته، والإيمان بالله وبغيره، فصاروا بذلك مشركين5. ومن الشرك أن تعدل بالله غيره، فتجعله شريكًا له. ومن عدل به شيئًا من خلقه فهو مشرك؛ لأن الله وحده لا شريك له ولا ند له ولا نديد6. ويقال له Polytheismus = Polytheism في اللغات الأوروبية. من أصل يوناني هو Polys، ومعناها كثرة وتعداد، و Theos بمعنى "إله" فيكون المعنى: القول بتعدد الآلهة، أي الشرك نقيض القول بالتوحيد Monotheismus. فالشرك هو الدين المعاكس لدين التوحيد. ويختلف عن عقيدة الـ POIYDOEMONISM القائلة بوجود الأرواح والجن من حيث الطبيعة Nature، وبوجود أثر لها في حياة الإنسان، كما يختلف.
__________
1 Ency. Religi, vol. II, p. 383.
2 E. Renan, Histoire Generale et Systeme Compare des Langues Semitiques, Paris, 1855, vol. I, Chapt. I, P. 1. ff.
3 تاج العروس "2/ 526"، "وحد".
4 Ency. Religi. 10, p. 112.
5 تاج العروس "7/ 148"، "شرك".
6 اللسان "10/ 449" وما بعدها"، "شرك".(11/35)
عن القائلين بمبدإ "الحلول" Pantheism من حيث حلول الإله في الخلق والخلق في الإله1.
وقد ذهب أهل الأخبار إلى أن العرب الأولى كانت على ملة إبراهيم، من الإيمان بإله واحد أحد، اعتقدت به، وحجت إلى بيته، وعظمت حرمه، وحرمة الأشهر الحر، بقيت على ذلك، ثم سلخ بهم على أن عبدوه ما استحبوا ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وابتعدوا عن دين آبائهم وأجدادهم، حتى أعادهم الإسلام إليه2.
ونظرية أن العرب جميعًا كانوا في الأصل موحدين، ثم حادوا بعد ذلك عن التوحيد فعبدوا الأوثان وأشركوا، نظرية يقول بها اليوم بعض العلماء مثل "ويليم شميد" Wilhelm Schmidt الذي درس أحوال القبائل البدائية وأنواع معتقداتها، فرأى أن عقائد هذه القبائل البدائية الوثنية ترجع بعد تحليلها وتشريحها ودرسها إلى عقيدة أساسية قائمة على الاعتقاد بوجود "القديم الكل" أو "الأب الأكبر". الذي هو في نظرها العلة والأساس. فهو إله واحد. وتوصل إلى أن هذه العقيدة هي عقيدة سبقت التوحيد، ثم ظهر من بعدها الشرك. وقد أطلق عليها في الألمانية مصطلح Urmonotheismus أي التوحيد القديم3.
ويأخذ بهذه النظرية علماء اللاهوت وبعض الفلاسفة، وفي الكتب السماوية تأييد لها أيضًا. فالشرك وعبادة الأصنام بحسب هذه النظرية، نكوص عن التوحيد، ساق إليه الانحطاط الذي طرأ على عقائد الإنسان فأبعده عن عبادة الله4.
إننا لا نستطيع أن نتحدث عن عقيدة التوحيد عند العرب قبل الإسلام استنادًا إلى ما لدينا من كتابات جاهلية؛ لعدم ورود شيء عن ذلك. فالنصوص التي وصلت إلينا، هي نصوص فيها أسماء أصنام، وليس فيها ما يفهم منه شيء عن التوحيد عند العرب قبل الميلاد وبعده، إلا ما ورد في النصوص العربية الجنوبية المتأخرة من عبادة الإله "ذ سموى" "ذو سموى"، أي صاحب السماء، بمعنى إله السماء. وهي عبادة ظهرت متأخرة في اليمن بتأثير اليهودية والنصرانية.
__________
1 Ency. Religi, Vol. 10. p 112.
2 النجيرمي، أيمان العرب "12 وما بعدها" الأصنام "ص6".
3 Schmidt, S 637. W. Schmidt, Der Ursprung der Gottesidee, 4, ed 1912
4 Ency. Religi, Vol. 7. p 113.(11/36)
اللتين دخلتا اليمن ووجدتا لها أتباعًا هناك، بل حتى هذه العبادة لا نستطيع أن نتحدث عنها حديثًا يقينيًّا، فنقول إنها عبادة توحيد خالص تعتقد بوجود إله واحد على نحو ما يفهمه أهل القول بالتوحيد.
وقد ذكرت جملة "ذ سموى" في نص مع الإله "تالب ريمم" "تالب ريام"، رب قبيلة "همدان" ويدل ذكر اسم هذا الإله مع اسم إله آخر على أن عقيدة التوحيد لم تكن قد تركزت بعد، وأنها كانت في بدء تكوينها، فلما اختمرت في رءوس القوم، ذكرت وحدها في النصوص المتأخرة، دون ذكر أسماء الأصنام الأخرى، مما يشير إلى حدوث هذا التطور في العقائد، وإلى ظهور عقيدة التوحيد والإيمان بإله السماء عند جماعة من العرب الجنوبيين، وقد أكملت هذه العقيدة بأن صار إله السماء رب السماء والأرض1.
ولم يكن "ذ سموي"، "ذ سمى إله "، "ذو السماء إله" أي "صاحب السماء" أو "إله السماء" أو "رب السماء" إله جماعة معينة أو إله قبيلة مخصوصة، بل هو إله ولدته عقيدة جديدة ظهرت في اليمن بعد الميلاد على ما يظن تدعو إلى عبادة إله واحد هو "رب السماء"، فهو إله واحد مقره السماء. ويرى بعض المستشرقين أن هذه العقيدة وهي نتيجة اتصال أهل اليمن باليهودية والنصرانية على أثر دخولهما العربية الجنوبية، فظهرت جماعة تأثرت بالديانتين تدعو إلى عبادة إله واحد هو "رب السماء"2.
وأما عبادة الرحمن" "رحمنن" فهي عبادة توحيد، ظهرت من جزيرة العرب فيما بعد الميلاد. وقد وردت كلمة "رحمنن"، أي "الرحمن"، في نص يهودي كذلك وفي كتابات "إبرهة"، وردت في نصوص عربية جنوبية أخرى وفي نصوص عثر عليها في أعالي الحجاز 3. وقد كان أهل مكة على علم بالرحمن، ولا شك، باتصالهم باليمن وباليهود. ولعلهم استخدموا الكلمة في
__________
1 Handbuch, I, S. 102.
2 Handbuch, I, S. 104, Rivista, 1955, Fax. I, II, p. 109.
Le Museon, 1954, tome LXVII, p. 118.
3 Glaser 554, 406 = 410, Halevy 63, CIH, Pars 4, Tomus, I, Capt. I, 1ft. 6. p. 15 - 9, n, 537 - 543, p. 257 - 300, CIH, 6, 45, 537, 538, 539, 541, 542, 543, MM, Attsud., 19, Rep. Epig., 3904, 4069, 4109, Stambul, 7608, Asmara, I, Le Museon, Ltl, p. 51.(11/37)
معنى الله. وإن ذكر علماء اللغة أو علماء التفسير أن اللفظة لم تكن معروفة عند أهل مكة في الجاهلية1.
وقد جاء في النص اليهودي المذكور: "الرحمن الذي في السماء وإسرائيل وإله إسرائيل رب يهود". وقد حمل هذا النص بعض الباحثين على القول بأن العرب الجنوبيين قد أخذوا هذه الكلمة وفكرتهم عن الله من اليهودية، وأن فكرت التوحيد هذه إنما ظهرت بتأثير اليهودية التي دخلت إلى اليمن. غير أن من الباحثين من رأى خلاف هذا الرأي. رأى أن افتتاح النص بذكر الرحمن، ثم إشارته بعد ذلك إلى إله يهود، ورود كلمة الرحمن" في نص آخر يعود إلى سنة "468" للميلاد2. كتبه صاحبه شكرًا للرحمن الذي ساعده في بناء بيته: كل هذه وأسباب أخرى، تناقض رأي القائلين بأن عقيدة الرحمن عقيدة اقتبست من اليهود3.
وقد ذكر بعض علماء اللغة أن "الرحمن" اسم من أسماء الله مذكور في الكتب الأول، وأن اللفظة عبرانية الأصل، وأما الرحيم" فعربية. وذكروا أن "الرحمن" اسم مخصص بالله، لا يجوز أن يسمى به غيره4. وقد أنشدوا للشنفرى أو لبعض الجاهلية الجهلاء.
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ... ألا قضب الرحمن ربي يمينها
فيظهر من هذا البيت أن الشاعر كان يدين بعبادة الرحمن. ونجد مثل هذه العقيدة في قول سلامة بن جندل الطهوي:
__________
1 Handbuch, I, S. 248, Halevy, Revue des Etudes Juives, 1891, Vol. 22, PP. 125-129, 281, 23, p. 304, Margoliouth, the Relations. P. 67.
2 CIS. 7.
3 Margoliouth, The Relation Between Arabs and Israelttes Prior to The Rise of Islam, P. 67.
4 تاج العروس "8/ 307"، "رحم"، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "1/ 106". تفسير الطبري "1/ 44"، تفسير ابن كثير "1/ 21".
5 تفسير الطبري "1/ 44"، وورد:
لقد لطمت تلك الفتاة هجينها ... ألا بتر الرحمن ربي يمينها
الاشتقاق "ص37".(11/38)
عجلتم علينا عجلتينا عليكم ... وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق1
فإن ذلك يعني أن قومًا من الجاهليين كانوا يدينون بعبادة "الرحمن". ومما يؤيد هذا الرأي ما ورد من أن بعض أهل الجاهلية سموا أبناءهم عبد الرحمن، وذكروا أن "عامر بن عتوارة" سمى ابنه "عبد الرحمن"2.
وقد وردت لفظة "الرحمن" في شعر ينسب إلى "حاتم الطائي" هو:
كلوا اليوم من رزق الإله وأيسروا ... وإن على الرحمن رزقكم غدًا
وحاتم من المتألهة، ويعده البعض من النصارى و"الرحمن" نعت من نعوت الله في النصرانية، من أصل "رحمونو" Rahmono3، فهل عبر شاعرنا بهذه اللفظة عن هذا المعنى النصراني؟
"وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد الله عليهم ذلك بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعلي: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري. وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة"4.
وذكر أن المشركين سمعوا النبي يدعو ربه، يا ربنا الله ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحدًا، وهو يدعو مثنى مثنى. وأن أحدهم سمع الرسول يقول في سجوده، يا رحمن يا رحيم فقال لأصحابه: انظروا ما قال ابن أبي كبشة دعا الرحمن الذي باليمامة. وكان باليمامة رجل يقال له الرحمن5.
__________
1 تفسير الطبري "1/ 44"، "سلامة بن جندب الطهوي"،
عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم ... وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق.
تفسير ابن كثير "1/ 21"،
2 الاشتقاق "ص37".
3 غرائب اللغة "182".
4 تفسير ابن كثير "1/ 21".
5 تفسير الطبري "15/ 121"، سورة الإسراء، الآية 110، روح المعاني "15/ 176".(11/39)
ولم يذكر أهل الأخبار شيئًا عن ذلك الشخص الذي زعموا أنه كان يُعرف بـ"رحمان اليمامة" لكنهم ذكروا أن "مسيلمة الكذاب"، كان يقال له رحمان اليمامة1. فهل عنوا بـ"رحمان اليمامة" مسيلمة نفسه، أم شخصًا آخر كان يدعو لعبادة "الرحمن" قبله؟
وورد أن قريشًا قالوا للرسول: "إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة، يقال له الرحمن ولن نؤمن به أبدًا" فنزل فيهم قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 2. وذكر بعض أهل الأخبار: كان مسيلمة بن حبيب الحنفي، قد تسمى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمرين، وذلك قبل أن يولد عبد الله أبو رسول الله3.
وورد في بعض أقوال علماء التفسير أن اليهود قالوا: "ما لنا لا نسمع في القرآن اسمًا هو في التوراة كثير. يعنون الرحمن، فنزلت الآية" 4.
ويرى المستشرقون أن عبادة "الرحمن" "رحمنن"، إنما ظهرت بين الجاهليين بتأثير دخول اليهودية والنصرانية بينهم5.
وقد ذكر "اليعقوبي" أن تلبية "قيس عيلان" كانت على هذا النحو: "لبيك اللهم لبيك، لبيك أنت الرحمن، أتتك قيس عيلان، راجلها والركبان"6 وأن تلبية عك والأشعرين، كانت:
نحج للرحمان بيتًا عجبًا ... مستترًا مغببًا محجبًا7
وفي التلبيتين المذكورتين دلالة على اعتقاد القوم بإله واحد، هو الرحمن.
__________
1 اللسان "12/ 231"، "رحم" تاج العروس "8/ 307"، "رحم".
2 سورة الرعد، الآية30، الروض الأنف "1/ 200" سيرة ابن هشام "1/ 200" "حاشية على الروض" تفسير الطبري "13/ 101".
3 الروض الأنف "1/ 200".
4 القرطبي، الجامع "10/ 343".
5 G. Ryckmans, Inscriptions Sudarabes, I, No. 515, Le Museon, 66, 1953, p. 314, ryckmans 330, b, CIH 541, G. Ryckmans, in Le Museon, 59, 1946, p. 165, A. Jamme, La Religion Sud-arabe, Preislamiqeue, 275.
6 اليعقوبي "1/ 225".
7 اليعقوبي "1/ 226".(11/40)
ولم ترد لفظة "الرحمن" إلا مفرده، فليس لها جمع؛ لأنها تعبير عن توحيد، وليس في التوحيد تعدد، فالتعدد شرك. على عكس لفظة "رب"، التي تؤدي معنى "إله"، وهي تعبير عن اعتقاد، لا اسم علم لإله، ولذلك وردت لفظة "أرباب" بمعنى آلهة تعبيرًا عن تعدد الآلهة، وهو الشرك. وقد كان الجاهليون يقولون: ربي وربك وربنا وأربابنا، كما يقولون إلهي وإلاهك وآلهتنا1.
وقد تكون كلمة "هـ رحم" "هارحيم"، أي "الرحيم" الواردة في النصوص الصفوية2 وفي النصوص السبئية اسم إله3، وقد تكون صفة من صفات الآلهة على نحو ما تؤديه كلمة "الرحيم" من معنى في الإسلام.
وللعلماء آراء في ظهور عبادة الشرك. ورأي رجال الدين منهم، أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين، كانوا على التوحيد جميعًا، ثم ضلوا فعبدوا جملة آلهة وصاروا مشركين4. أما غيرهم من العلماء الذين يستندون إلى الملاحظات ودراسة أحوال القبائل البدائية وعلى فروع العلوم الأخرى المساعدة مثل علم النفس وعلم الاجتماع، فيرون أن عقيدة التوحيد ظهرت متأخرة بالنسبة إلى ظهور الوثنية والشرك ظهرت بعد أن توسعت مدارك الإنسان، فشعر أن ما كان يتصوره من وجود قوى روحانية عليا في الأشياء التي عبدها لم يكن سوى وهم وخداع، وصار يقتصد في الشرك، إلى أن اهتدى إلى عبادة إله واحد.
__________
1
هناك ربك ما أعطاك من حسن ... وحيثما يك أمر صالح فكن
شرح ديوان زهير "123".
2 Handbuch, I, S. 248, Vogue, Syrie Centrale, Inscriptions Semitlqyes, Paris, 1868-1877, p. 142, No. 402, Dussuad, Voyage Archeologique au Safa, Pareis, 1901, No. 258, Mission, p. 88, Les Arabes en Syrie, p. 152.
3 CIS, 4, 2, No. 40. p. 63, Grahmann, S. 246.
4 Ency. Religi, 10, p. 112.(11/41)
ظهور الشرك:
هناك عدة عوامل دعت إلى ظهور الشرك، أي تعدد الآلهة، وأثرت في تعدد الآلهة. هناك عوامل طبيعية وعوامل رسية Characteristics، وعوامل(11/41)
سياسة وعوامل تأريخية واجتماعية واقتصادية وعوامل أخرى، كل هذه أثرت في شكل الشرك وفي تعدد الآلهة وفي كيفية تصور الناس لآلهتهم. ولا يعني هذا أنها أثرت كلها مجتمعة وفي آن واحد، إنما يعني أن ظهور الشرك وشكله هو نتيجة عوامل متعددة وأسباب مختلفة أثرت في ظهوره وفي تكوين صورة الآلهة في نظر المؤمنين بها المتعبدين لها.
وإنا لنجد وجهة نظر الشعوب عن الآلهة أو الإله تختلف باختلاف ثقافتها ومستواها الاجتماعي، وللوضع السياسي دخل كبير في الشرك وفي عدد الآلهة وفي شكل الدين. لقد كان لكل قبيلة إله خاص بتلك القبيلة يحميها من الأعداء ومن المكاره، ويدافع عنها في الحروب والملمات، ويعطيها النصر. كما كان للقرى والمدن آلهتها الخاصة بها. فإذا تحالفت القبائل أو القرى أو المدن تحالفت آلهتها معها، وكونت حلفًا وصداقة متينة بينها. أما إذا تحاربت هذه القبائل أو القرى أو المدن، فيكون لهذه الحرب أثر كبير في مستقبل الآلهة وفي عددها. فقد ينصرف المغلوبون عن آلهتهم إلى عبادة آلهة أخرى؛ لأنها أصبحت ضعيفة لا قدرة لها على الدفاع عن عبدتها. وقد يتأثر الغالبون بعبادة المغلوبين الذين خضعوا لهم، فيضيفون آلهة المغلوبين إلى آلهتهم، فيزيد بذلك عدد الآلهة، ولا سيما إذا كان المغلوبون أصحاب ثقافة عالية، وكان لهم أدب وفن.
والعادة أن آلهة القبائل أو المدن الرئيسية تكون هي الآلهة الرئيسية للحلف أو في المملكة. ويكون إله القبيلة ذات النفوذ أو العاصمة عندئذ، هو إله الحكومة الكبير. أما الآلهة الأخرى، فتكون دونه في المنزلة، ولهذا يرد اسمها في الغالب بعد اسم الإله الكبير.
كذلك يجب ألا ننسى عامل الجوار والاتصال الثقافي في ظهور الشرك، فكثيرًا ما يؤدي هذا الاتصال إلى اقتباس آلهة المجاورين وإضافتها إلى مجموعة الآلهة عند ذلك الشعب، فيزيد بذلك عدد الآلهة أو ينقص فقد تطغى الآلهة الجديدة المقتبسة على الآلهة القديمة، ويقل شأن بعضها فيهمل، ثم يموت اسمها. وقد يحدث ذلك بطريق الحرب أيضًا، كما ذكرت، فيتغير العدد بذلك.
ولرجال الدين ولسادات القبائل وللأمراء وللملوك أثر في ظهور الشرك. كان في إمكانهم إقرار مستقبل الآلهة بإضافة آلهة جديدة على الآلهة القديمة، أو بإبعاد(11/42)
إله أو آلهة عند عبادة قومهم، فيزيد أو ينقص بذلك عدد الآلهة. وقد كان سادات القبائل والوجوه يغيرون عبادة أتباعهم بإدخال عبادة إله جديد، يأخذونه من زيارتهم لبلد غريب، كأن يكون أحدهم قد أصيب بمرض وهو في ذلك البلد، فيشار عليه بالتعبد وبالتقرب لإله ذلك البلد أو لأحد آلهته، فيصادف أن يشفى، فيظن أنه شفي ببركة ذلك الإله وبقدرته وقوته، فيتقرب له ويتعبد له، فإذا أعاد حمل عبادته إلى أتباعه، فيعبد عندهم. ويضاف على آلهتهم، ويصير أحدهم وقد يطغى اسمه عليها، وذلك حسب درجة تعلق سيد القبيلة به، وحسب درجة ومكانة سيد القبيلة بين الناس. وتأريخ الجاهلية مليء بحوادث تبديل آلهة بسبب تبديل سادات القبائل ووجوه الناس لعقائدهم ولآلهتهم، فتدخل القبيلة كلها في العبادة الجديدة. وقد كان إسلام قبائل برمتها، بسبب دخول سيدها في الإسلام، فالناس تبع لساداتهم ولقادتهم، و"الناس على دين ملوكهم" كما هو معروف ومشهور في أقوال العرب.
ومعظم أسماء الآلهة صفات للآلهة لا اسم علم لها، فود ورضى والمقه وذات حميم وأمثالها، هي صفات في الأصل، مضى عليها الزمن، فاستعملت استعمال الأسماء الأعلام. وظن أنها آلهة قائمة بذاتها فلما جاء الباحثون وجمعوها حسبوها أسماء آلهة، فزاد بذلك عدد الآلهة، واعتبرت الأسماء الكثيرة من سيماء الإفراط في الشرك. بينما هي صفات لإله، أو آلهة لا يزيد عددها على ثلاثة، هي الثالوث الكواكبي المقدس الذي تعبدوا له.
ولا بد لنا من الإشارة إلى اصطلاح أطلقه "ماكس مولر" Max Miiler على مرحلة من العبادة هي بين بين، لا هي توحيدMonotheism ولا هي شرك Polytheism، بل هي مرحلة تعبد فيها الإنسان على رأي هذا الباحث إلى إله واحد هو إله القبيلة، مع الاعتقاد بوجود آلهة أخرى1. وهذا الاصطلاح هو henotheismus. وقد رأى "فلايدلر" Pfleidler أن الساميين لم يكونوا موحدين بطبعهم كما ذهب "رينان" إلى ذلك، بل كانوا يدينون بإله قومي، ومن هذه العقيدة ظهر التوحيد الخالص كما حدث عند الإسرائيليين2.
__________
1 Max Muller, Varlesungen uber den Ursprung und die entwickiung der Religion, 1880, Schmidt, S. 261.
2 Ency. Religi, 10, p. 811, Pfleiler, Phflosophy of Religion, London, 1885-1888, III, p. 19.(11/43)
وفي القرآن الكريم إشارات إلى أنواع من الشرك كان عليه الجاهليون، وفيه تعريف لمعنى الشرك، فالشرك في قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 1 عبادة الأصنام المصنوعة من الحجارة أو الخشب أو المعادن، أي مما لا روح له وقابل للكسر2. وفي بعض الآيات أن من أنواع الشرك القول بأن الجن هم شركاء لله3. ومن أنواعه أيضًا القول بأن الملائكة هم شركاء لله وبناته4. وفي آيات أخرى أن من الشرك اتخاذ آلهة أخرى مع الله5. والآلهة هنا شيء عام. فيه تأليه الكواكب وعبادة الأشياء غير المنظورة، أي غير المادية وعبادة الأصنام.
وفي القرآن الكريم جواب على فلسفة القوم وتعليلهم لعبادة الأصنام واتخاذهم "أولياء" من دون الله؛ إذ يقولون جوابًا عن الاعتراض الموجه إليهم في عبادة غير الله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 6 ويتبين من هذه الآية ومن آيات أخرى أن فريقًا من العرب كانوا يعتقدون بوجود الله، وأنه هو الذي خلق الخلق، وأن له السيطرة على تصرفات عباده وحركاتهم، ولكنهم عبدوا الأصنام وغيرها، واتخذوا الأولياء والشفعاء لتقربهم إلى الله زلفى7.
وفي كتاب الله مصطلحات لها علاقة بعبادة الشرك، منها "شركاء" جمع "شريك" وهو من اتخذه المشركون شريكًا مع الله8. و"أنداد" {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 9 {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} 10. و"أولياء".
__________
1 الأعراف، الآية 191 وما بعدها، يونس، الآية 189.
2 تفسير الجلالين "1/ 139" "طبعة المطبعة المليجية.
3 الأنعام، الآية 100، الجلالين "1/ 116".
4 سبأ، الآية 40 وما بعدها.
5 الأنبياء، الآية 24.
6 الزمر، الآية 3، الجلالين "2/ 133".
7 الزمر، الآية 3، الأنعام، الآية 148، النحل، الآية 35.
8 الأنعام، الآية 100، راجع "فتح الرحمن لطالب آيات القرآن" "ص238".
حيث تجد المواضع الواردة في القرآن الكريم.
9 البقرة، الآية 165
10 إبراهيم، الآية 30.(11/44)
و"ولي" و"وليًّا"1 و"شفعاء" و"شهداء"2. فهذه الكلمات وأمثالها تعبر عن عقائد الجاهليين قبيل الاسلام. وعن اعتقادهم في عبادة أشياء أخرى مع الله كانوا يرون أنها تستحق العبادة وأنها في مقابل الله في العرف الإسلامي، أو أنها شركاء في إدارة الكون أو أنها مساعدة لله.
والشرك في تفسير العلماء المسلمين، أن تعدل بالله غيره، فتجعله شريكًا له، فهو يشمل أشياء عديدة. منها عبادة الكواكب، أي عبادة القوى الطبيعية، وعبادة الجن والملائكة والأمور الخفية، وبمعنى آخر عبادة القوى الخفية، أو القوى الروحية، وعبادة الأمور المادية كالأصنام والأحجار، باعتبار أنها تشفع للإنسان عند الآلهة، وعبادة الإنسان والحيوان، إلى غير ذلك من عبادات.
ومن العبادات التي يجب أن يشار إليها عبادات اصطلح علماء الأديان على تسميتها بمسميات حديثة، تمثل عقائد قديمة، ولبعضها أتباع أحياء يرزقون. ولبعض منها آثار ومظاهر، دخلت في الأديان الباقية، وصبغت بصبغتها، وهي من بقايا العقائد الدينية البدائية التي رسخت في النفوس وفي القلوب حتى صار من الصعب على الإنسان أن يتخلص منها، فبقيت راسخة تحت مسميات جديدة. ومن تلك العقائد: الـ Shamanism و Tstemism، و Fetishism و Ancestor – worship و Animism وغيرها من مسميات سيرد الحديث عنها في هذا الكتاب3.
أما الـ"شمانية"، فقد أخذت من كلمة "شمن" ِShaman ومعناها كاهن أو طبيب "شمان"، أو من كلمة Shemen التي معناها صنم أو معبد، أو من أصل آخر. ويراد بها اليوم ديانة تعتقد بالشرك، أي تعدد الآلهة Polytheism أو بعبادة الأرواح Polydomonism مع عبادة الطبيعة Nature – worship لاعتقادها بوجود أرواح كامنة فيها. ويعتقد في هذا الدين أيضًا بوجود إله أعلى هو فوق جميع هذه الأرواح والقوى المؤلهة، وبتأثير السحر4.
__________
1 راجع فهارس القرآن الكريم، مثل فتح الرحمن "ص480".
2 فتح الرحمن "ص240"."
3 A.A. Bowman, Studies in the Philosophy of Religion, London, 1938, p. 67.
4 Ency. Religi, II, p. 441.(11/45)
ويستعين الـ"شمن"، وهو الكاهن أي رجل الدين، بالقوى الخارقة التي لديه والتي لا يملكها الرجل الاعتيادي في اعتقاد أبناء هذه العقيدة في الاتصال بالأرواح وبما وراء الطبيعة للتأثير فيها. ولدى هذا الكاهن أرواح مأمورة بين يديه للقيام بما يطلب منها القيام به. وهو يمارس أعمالًا سحرية للتأثير في الأرواح فللسحر في هذا الدين أهمية ومقام. ويقوم الـ"شمن" عند أكثر المتدينين بهذا الدين بأعمال الطبيب1.
وأما "الطوطمية"، فقد تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب2. وقد بينت عقيدتها في "الطوطم"، ورأي العلماء في كيفية ظهور المجتمع "الطوطمي"، وهو مجتمع يقوم على أساس الجماعة أو القبيلة، يرتبط أفراده برباط ديني مقدس، هو رباط "الطوطم"، رمز الجماعة.
وأما الـ Fetishism من أصل Factitus اللاتيني، بمعنى السحر، أي القوة المؤثرة الخفية Magic فللباحثين في تأريخ الأديان آراء متعددة في تعريفها وفي تثبيت حدودها3. والرأي الغالب الشائع بينهم أنها عبادة أو تقديس للأشياء المادية الجامدة التي لا حياة فيها لاعتقاد أصحابها بوجود قوة سحرية فيها، وقوى غير منظورة في تلك الأشياء تلازمها ملازمة مؤقتة أو دائمة ويحمل الـ Fetish "اليد" لجلب السعد إلى صاحبه. وهو في نظر "تيلور" Dr. Tylor بمثابة "إله البيت" وقوة فاعلة خفية تطرد الخبائث عن صاحبه، وتجلب الخير له. ولحدوث الأحلام ونشوئها في نظر الأقوام البدائية دخل كبير في رأي العلماء في ظهور هذه العقيدة4.
وأصحاب هذه العقيدة لا ينظرون على تلك الأشياء المادية على أنها نفسها ذات قوة فعالة خفية، وأنها الرمز أو الصورة للإله المنسوب ذلك الشيء اليه، بل هم يرون أن تلك الأشياء ليست سوى منازل أو مواضع لاستقرار تلك القوى المؤثرة التي يكون لها دخل في إسعاد الإنسان وهو يقدس الأشياء المادية كالحجارة
__________
1 Ency. Religi, vol. 11, p. 441.
2 "ص518 وما بعدها".
3 Ency. Religi, vol. V, p. 894.
4 Ency. Brita, vol. 9. p. 202, Taylor, Primitive Culture, II, p. 143. Waitny, Anthropologie er naturvolker, II, S. 174.(11/46)
مهما كانت صغيرة أو كبيرة، مهندمة ومصقولة صقلتها يد الإنسان، ومستها أو لم تمسها يد، بل كانت على نحو ما وجدها في شكلها الطبيعي؛ لأنه حينما يتقرب إلى تلك الحجارة، لا يتقرب إليها نفسها، بل يتقرب إلى الروح التي تحل فيها. فالروح هي المعبودة، لا الحجر الذي تحل الروح فيه، وليس الحجر أو المواد الأخرى إلا بيتًا أو فندقًا تنزل الروح فيه.
أما عبادة الأسلاف Ancestor Worship فهي فرع من أهم فروع الدين في نظر بعض العلماء، بل هي الأساس الذي قام عليه الدين في نظر آخرين، ولا سيما عند "سبنسر" H. Spencer1. وأما الأسباب التي دعت البشر إلى هذه العبادة، فهي الحب والتقدير للأبطال والرؤساء والأمل في استمرار دفاعهم عنهم وحمايتهم للجماعة التي تنتمي إليها كما كانت تفعل في حياتهم ورد أذى الأعداء الأموات منهم والأحياء. فتمجيد الأبطال والخوف منهم، هو الذي حمل البشر على عبادة الأسلاف على رأي. وهناك من رأى أن تمجيد الأبطال والإشادة بذكرهم، هو الذي أوجد هذه العبادة، ومنهم من نسبها إلى الخوف منهم حسب2.
وسواء أكان منشأ هذه العبادة الحب والتقدير أو الخوف أو كلاهما، فإن أساس هذه العقيدة هو الإيمان ببقاء الروح، روح الميت، وإن بإمكان هذه الروح نفع الأحياء أو إلحاق الأذى بهم. ورؤية الأحياء وسماع توسلاتهم ودعواتهم لها فالميت وإن كان قد دفن في قبره وغيب بين التراب، إلا أنه يسمع ويعي فروحه حية وبإمكانه النفع والضر. وهذه العقيدة هي التي حملت بعض الشعوب على مخاطبة الأرواح من فجوات مخصوصة في الأرض ومن مواضع أخرى لاستشارتها في بعض الأمور التي تهمها، وللتحدث معها في مسائل خطيرة كتقديم مشورة أو أخذ رأي أو استفسار عن اسم قاتل أو سارق ولهذه الغاية اتخذت مواضع مقدسة oracle يتقرب فيها إلى الأرواح وللاستفسار منها فكان في اليونان مثلًا موضع شهير عرف باسم Thesprotia، وموضع آخر عرف باسم Phigalia في "أركاديا" Arcadia3. وكان في إيطاليا موضع للتنبوء يقع على بحيرة.
__________
1 Ency. Relig, I, pp. 425, 427.
2 Jovons, Intrudction to History of Religion. P. 54.
3 Herodothus, V, 92, Pausanus, III, 17, 8, 9.(11/47)
"أفيرنوس" Avernus1 وكانت العادة في هذا الموضع أن يتقرب الراغبون في استشارة الأرواح إلى الموضع المقدس بتقديم ضحية، وعندئذ ينام السائل في الموضع المقدس، فتظهر له الروح في المنام، فتحدثه بما يحتاج إليه2.
ولعبادة السلف علاقة بعبادة الأصنام Idolatry ويلاحظ أن عبادة السلف تقود أتباعها في بعض الأحيان إلى الاعتقاد بأن قبيلتهم تنتمي إلى صلب جد واحد، أصله حيوان في رأي الأكثرين، أو من النجوم في بعض الأحيان. وهذا ما يجعل هذه العقيدة قريبة من "الطوطمية"3.
ولهذا العبادة أثر كبير في نظام أصحابها الاجتماعي؛ إذ هي تربط الأجيال الحاضرة بالأجيال الماضية بروابط متينة، وتؤلف من أصحاب هذا المذهب وحدة قوية، كما أن لها أثرًا مهمًّا في الأسرة، فهي في الواقع عبادة تخص الأسرة قبل كل شيء4.
ومعارفنا عن عبادة السلف عند الجاهليين قليلة، ويمكن أن نستنتج من أمر النبي بتسوية القبور ونهيه عن اتخاذها مساجد ومواضع للصلاة أن الجاهليين كانوا يعبدون أرواح أصحاب هذه القبور ويتقربون إليها. ولعل في عبارة "قبر ونفس" أو "نفس وقبر" الواردة في بعض النصوص الجاهلية ما يؤيد هذا الرأي، فإن النفس هي الروح.
ومن آثار عبادة السلف عند العلماء حلق الرأس وإحداث جروح في الجسد واحتفالات دفن الموتى ولبس المسوح والعناية بالقبور والصلاة عليها أو إقامة شعائر دينية فوقها أو علامات خاصة بالميت أو الموتى للتقديس5. ونحن إذا استعرضنا روايات الأخباريين نجد آثار هذه العبادة معروفة بين الجاهليين.
وقد أشار أهل الأخبار إلى قبور اتخذت مزارات، كانت لرجال دين ولسادات قبائل يقسم الناس بها، ويلوذون بصاحب القبر ويحتمون به، كالذي كان من
__________
1 Ency. Religi, I, p. 428.
2 Ency. Religi, vo. I, p. 430, Crooke, Popular Religion, I, 179, Wilken, Het Animisme vj de Volken Indischen Archipel, 1884-1885, I, 74 ff.
3 Ency. Religi, I, p. 536. Taylor, Primitive Cultures, II, p. 193.
4 Ency. Religi, I, p. 432.
5 Hastings, p. 300, Ency. Religi, 7, p. 325, Ancestor-Worship.(11/48)
أمر ضريح "تميم بن مر"، جد "تميم"، وكالذي ذكروه من أمر اللات" من أنه كان رجلًا في الأصل، اتخذ قبره معبدًا ثم تحول الرجل إلى صنم, ونجد في كتب الحديث نهيًا عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها. وقد أشارت إلى اتخاذ اليهود والنصارى قبور سادتهم وأوليائهم مساجد، تقربوا اليها، لذلك نُهي أهل الإسلام من التشبه بهم في تعظيم القبور1، كما نهي عن تكليل القبور وتجصيصها، والتكليل رفع القبر وجعله كالكلة، وهي الصوامع والقباب التي تُبنى على القبور2.
وأما الـ Animusm فهو اعتقاد بوجود أرواح مؤثرة في الطبيعة كلها Nature ولذلك يؤله كثيرًا من المظاهر الطبيعية المرئية وغير المرئية منها، لاعتقاده بوجود قوى هي فوق الطبيعة، منها ما يكون في جسم، وهو "النفس" Saul، ومنها ما لا يكون في الأجسام وهو "الروح" Spirit3.
ويمكن تقسيم هذه العبادة إلى ثلاث أصناف: عبادة النفس، نفس الإنسان أو الحيوان وخاصة منها عبادة الأموات Nacrolatry، وعبادة الأرواح spiritism وعبادة الأرواح التي تحل في المظاهر الطبيعية، إما بصورة مؤقتة وإما بصورة دائمة naturism4.
والآراء في هذه المعتقدات لا تزال في مراحلها الأولى، وهي موضع جدل بين العلماء؛ لأنها قائمة على أساس الملاحظات والتجارب التي حصلوا عليها من دراساتهم لأحوال المجتمعات البدائية لهنود أمريكا ولقبائل إفريقية وأسترالية، ولا يمكن بالطبع حدوث اتفاق في الدراسات الاستقصائية المبنية على المشاهدات والملاحظات، وإذا كانت هذه الدرسات غير مستقرة وغير نهائية حتى الآن، فقد صعب بالطبع تطبيقها على معتقدات العرب قل الإسلام، وزاد في هذه الصعوبة قلة معلوماتنا في هذه الأمور. وليس من الممكن في نظري أن نتوصل إلى نتائج علمية غير قابلة للأخذ والرد في هذه الموضوعات في الزمن الحاضر، بل ولا في المستقبل.
__________
1 صحيح مسلم "2/ 66"، "باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيهان والنهي عن اتخاذ القبور مساجد".
2 اللسان "11/ 595"، "كلل".
3 Schmidt, s. 24.
4 Ency religi, I, p, 535.(11/49)
القريب، ما لم يحدث ما ليس في الحسبان، من العثور على نصوص دينية تكشف لنا عن عقائد الجاهليين.
ونستطيع أن نقول إجمالًا إن من الجاهليين من كان يدين بعبادة الأرواح على اختلاف طرقها، ويؤمن بأثرها. وللعلماء من مفسرين ولغويين وغيرهم تفاسير عديدة للروح، تفيدنا كثيرًا في معرفة آراء الجاهليين عنها، كما أن للأخباريين قصصًا عنها وعن استقلالها وانفصالها عن الجسد بعد الموت واتصالها بالقبر وغير ذلك، يمكن أن تكون موضوع دراسة قيمة لمن يريد التبسط في دراسة هذه الأمور.(11/50)
عبادة الكواكب:
وقد رأى بعض العلماء أن عبادة أهل الجاهلية هي عبادة كواكب في الأصل. وأن أسماء الأصنام والآلهة، وإن تعددت وكثرت، إلا أنها ترجع كلها إلى ثالوث سماوي، هو: الشمس والقمر والزهرة. وهو رمز لعائلة صغيرة، تتألف من أب هو القمر، ومن أم هي الشمس، ومن ابن هو الزهرة. وذهبوا إلى أن أكثر أسماء الآلهة، هي في الواقع نعوت لها، وهي من قبيل ما يقال له الأسماء الحسنى لله في الإسلام.
وقد لفت الجرمان السماويان: الشمس والقمر، نظر الإنسان إليهما بصورة خاصة، لما أدرك فيهما من أثر في الإنسان وفي طباعه وسحنه وعمله، وفي الجو الذي يعيش فيه، وفي حياة زرعه وحيوانه، وفي تكوين ليله ونهاره والفصول التي تمر عليه. فتوصل بعقله يوم ذاك إلى أنه نفسه، وكل ما يحيط به، من فعل هذين الجرمين ومن أثر أجرام أخرى أقل شأنًا منهما عليه. فنسب إليهما نموه وتكوينه وبرأه وسقمه، وحياة زرعه وماشيته، ورسخ في عقله أنه إن تقرب وتعبد لهما، ولبقية الأجرام، فإنه سيرضيها، وستغدق عليه بالنعم والسعادة والمال والبركة في البنين، فصار من ثم عابد كوكب.
ونجد في حكاية كيفية اهتداء "إبراهيم" إلى عبادة إله واحد، الواردة في سورة الأنعام، تفسيرًا لسبب تعبد الإنسان للأجرام السماوية. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَكَذَلِكَ نُرِي(11/50)
إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. فقد لفت ذلك ذلك الكوكب نظر إبراهيم، وبهره بحسن منظره وبلونه الزاهي الحالب، فتعبد له، واتخذه ربًّا، فلما أفل، ورأى كوكبًا آخر أكبر حجمًا وأجمل منظرًا منه، تركه، وتعبد للكوكب الآخر، وهو القمر. فلما أفل، ورأى الشمس بازغة، وهي أكبر حجمًا وأظهر أثرًا وأبين عملًا في حياة الإنسان وفي حياة زرعه وحيوانه وجوه ومحيطه، ترك القمر وتعبد للشمس، فيكون قد تعبد لثلاثة كواكب، قبل أن يهتدي إلى التوحيد، هي القمر والشمس، والمشترى أو الزهرة على ما جاء في أقوال المفسرين2.
ويشير القرآن الكريم في موضع آخر إلى عبادة الجاهليين للأجرام السماوية، ولا سيما الشمس والقمر، ففيه " {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 3.
وهذه الأجرام السماوية الثلاثة هي الأجرام البارزة الظاهرة التي بهرت نظر الإنسان، ولا سيما الشمس والقمر. والزهرة، وإن كانت غير بارزة بروز الشمس والقمر، غير أنها ظاهرة واضحة مؤثرة بالقياس إلى بقية الأجرام ذات مظهر جذاب، ولون باهر خلاب، وقد يكون هذا المظهر الجميل الأخاذ هو الذي جعلها ابنًا للشمس والقمر في أساطير العرب الجنوبيين.
واعتبر الجاهليون القمر أبًا في هذا الثالوث، وصار هو الإله المقدم فيه، وكبير الآلهة. وصارت له منزلة خاصة في ديانة العرب الجنوبيين. وهذا ما حدا ببعض المستشرقين إلى إطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين على سبيل
__________
1 الأنعام، الآية 75 وما بعدها.
2 تفسير الطبري "7/ 158 وما بعدها" تفسير القرطبي، الجامع "7/ 25".
3 فصلت، الآية 37.(11/51)
التغليب1، وعلى الذهاب إلى أن هذا المركز الذي يحتله القمر في ديانة العربية الجنوبية لا نجده في أديان الساميين الشماليين، مما يصح أن نجعله من الفروق المهمة التي تميز الساميين الجنوبيين عن الساميين الشماليين2.
ويرجع أولئك المستشرقون هذا التباين الظاهر بين عبادة الساميين الجنوبيين وعبادة الساميين الشماليين وتقديم القمر على الشمس عند العرب الجنوبيين إلى الاختلاف في طبيعة الأقاليم وإلى التباين في الثقافة، ففي العربية الجنوبية يكون القمر هاديًا للناس ومهدئًا للأعصاب، وسميرًا لرجال القوافل من التجار وأصحاب الأعمال في الليالي اللطيفة المقمرة، بعد حر شديد تبعثه أشعة الشمس المحرقة، فتشل الحركة في النهار، وتجعل من الصعب على الناس الاشتغال فيه، وتميت من يتعرض لأشعتها الوهاجة في عز الصيف القايظ. إنها ذات حميم حقًّا، فلا عجب إذا ما دعيت بـ"ذت حمم"، "ذات حميم"، "ذات الحميم" عند العرب الجنوبيين، ولذلك لا يستغرب إذا قدمه العرب الجنوبيون في عبادتهم على الشمس، وفضلوه عليها. وإذا كانت الشمس مصدرًا لنمو النباتات نموًّا سريعًا في شمال جزيرة العرب، فإن أشعة الشمس الوهاجة المحرقة تقف نمو أكثر المزروعات في صيف العربية الجنوبية، وتسبب جفافها واختفاء الورد والزهر في هذا الموسم، فلا بد أن يكون لهذه الظاهرة أثر في العقلية التي كونت تلك الأساطير3.
ويرى "هومل" أن ديانات جميع الساميين الغربيين والعرب الجنوبيين هي ديانة عبادة القمر أي أن القمر فيها مقدم على الشمس، وهو عكس ما نجده في ديانة البابليين. ويعلل ذلك ببقاء الساميين الغربيين بدوًا مدة طويلة بالقياس إلى البابليين. ويلاحظ أيضًا أن الشمس هي أنثى، وأما القمر فهو ذكر عند الساميين الغربيين، وهو بعكس ما نجده عند البابليين4.
والاسم الشائع للقمر بين الساميين، هو: ورخ، و"سن" "سين"، وشهر. وشهر خاصة هو الاسم الشائع المستعمل للقمر في الكتابات الجاهلية التي
__________
1 D. Nielsen, Die Altarabische Mondreligion.
2 Handbuch I, S. 213.
3 Handbuch. I, S. 213, Die Altarbische Mondreligion, s. 49, Die Sabatsche Gott Ilmukah, S. I.
4 Hommel, Grundriss, I, S. 85.(11/52)
عثر عليها في العربية الجنوبية وفي النصوص التي عثر عليها في الحبشة، وفي الأقسام الشمالية الغربية من جزيرة العرب. ويلاحظ أن الصور التي ترمز إلى القمر مما عثر عليه في تلك النصوص هي متشابهة تقريبًا، ومتقاربة في الشكل، مما يدل على أن الأسطورة الدينية التي كانت في مخيل عبدة القمر عنه كانت متشابهة ومتقاربة ومن أصل واحد. أما كلمة "قمر"، فلم ترد حتى الآن في النصوص الجاهلية التي وصلت إلينا، وهذا مما حمل بعض المستشرقين على القول بأن هذه التسمية متأخرة1.
ويلاحظ أن النصوص العربية الجنوبية لا تسمى القمر باسمه دائمًا في النصوص، وإنما نشير إليه بكناه وصفاته في الغالب. ويظهر أن ذلك من باب التأدب والتجمل أمام رب الأرباب. ونجد هذا التأدب في مقام الأرباب عند جميع البشر، فلا يخاطب الإنسان ربه كما يخاطب غيره من الإنس، أي باسمه المعتاد؛ لأنه الرب والإله، وهو فوق الإنسان. وهو إذا خاطبه باسمه، فإنما يفعل ذلك على سبيل التودد والتقرب والتحبب إلى الرب، فهو نوع من أدب التقرب إلى الآلهة ...
ولما كان القمر هو الأب، خاطبه المؤمنون به بـ"ودم أبم"، وبـ"أبم ودم"، أي "ود أب"، و"أب ود"، ولا غرابة في ذلك. فإذا كان القمر أبًا للآلهة، فلِمَ لا يكون إذن أبًا للإنسان عبده، وهو في حاجة شديدة إليه، حاجة العبد إلى سيده والولد إلى والده؟
ودعوه أيضًا بـ"عم"، ولِمَ لا؟ أليس العم في مقام الأب؟ ثم إن العرب لا تزال تخاطب الكبير بـ"عم" دلالة على تقديره واحترامه، فليس بغريب إن نادى المؤمنون إلههم القمر: يا عم! ليرحمهم وليبارك فيهم، إن في هذا النداء تقربًا وتواضعًا وإشعارًا بضعف السائل تجاه المخاطب2.
والأب عند العرب كل من كان سببًا في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره. ويقوم العم عندهم مقام الأب، ولذلك سمي مع الأب الأبوين3
وقد عثر على أخشاب وأحجار حفرت عليها أسماء ود، أو جمل "ودم
__________
1 Handbuch, I, S. 214
2 Handbuch, I, S, 214.
3 المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني "ص4 وما بعدها" مادة أبا في كتاب الألف.(11/53)
أبم"، أو "أبم ودم"، وذلك فوق أبواب المباني؛ لتكون في حمايته وللتبرك باسمه وللتيمن به، كما وجدت كلمة "ود" محفورة على أشياء ذات ثقوب، تعلق على عنق الأطفال لتكون تميمة وتعويذة يتبرك بها. فعلوا ذلك كما يفعل الناس في الزمن الحاضر في التبرك بأسماء الآلهة والتيمن بها لمنحها الحب والبركة والخيرات.
ونعت القمر بـ"كهلن"، أي "الكهل" في نصوص المسند، وفي نصوص عثر عليها في الأقسام الشمالية من العربية الغربية. وتعني لفظة "كهلن"، القدير والمقتدر والعزيز1. وهي من نعوت هذا الإله.
ونعت بنعوت أخرى، مثل "حكم"، أي "حكيم" و"حاكم" و"صدق" أي "صديق" و"صادق" و"علم"، أي "عليم" و"عالم" و"علام"، وبنعوت أخرى عديدة من هذا القبيل، وهي من نوع "الأسماء الحسنى" لله عند المسلمين. ترينا الإله إلهًا قديرًا قويًّا عالمًا حاميًا مساعدًا لأبنائه المؤمنين به. يحبهم حب الأب الشفيق لأبنائه الأعزاء.
والإله "القمر"، هو الإله "المقه" عند السبئيين. وهو إله سبأ الكبير. وهو "عم" عند القتبانيين. كما سأتحدث عن ذلك في أصنام الكتابات، وهو ود عند المعينين و"سن" "سين"، عند الحضارمة.
واتخذ الثور من الحيوانات رمزًا للقمر، ولذلك عد الثور من الحيوانات المقدسة التي ترمز إلى الآلهة. ونجد هذه الصورة مرسومة في النصوص اللحيانية والثمودية وعند غير العرب من الشعوب السامية. وقد نص على اسمه في الكتابات؛ إذ قيل له "ثور"2.
وقد ذكر "الآلوسي"، أن عبدة "القمر" "اتخذوا له صنمًا على شكل عجل، وبيد الصنم جوهرة يعبدونه ويسجدون له ويصومون له أيامًا معلومة في كل شهر، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور. فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه"3 ولم يشر إلى اسم الجاهليين الذي فعلوا ذلك. فلعله قصد عبدة القمر بصورة عامة من العرب وغيرهم
__________
1 Halevy 237, Chrestoma. 91, 97, Grundriss, I, S. 136, Giaser, 284.
2 Glaser 1546, Wiener Museum 5. Handbuch, I, S. 214.
3 بلوغ الأرب "2/ 216".(11/54)
وذهب بعض الباحثين إلى احتمال كون "الحية" تمثل الإله القمر، وهي تمثل الروح أيضًا عند بعض آخر1.
والشمس، هي من أول الأجرام السماوية التي لفتت إليها أنظار البشر بتأثيرها في الإنسان وفي الزرع والنماء. وهذا التأثير البارز جعل البشر يتصور في الشمس قدرة خارقة وقوة غير منظورة كامنة فيها، فعبدها وألهها، وشاد لها المعابد، وقدم لها القرابين. وهي عبادة فيها تطور كبير ورقي في التفكير إذا قيست بالعبادات البدائية التي كان يؤديها الإنسان للأحجار والنباتات والأرواح.
وقد تعبد العرب للشمس في مواضع مختلفة في جزيرة العرب. وترجع عبادتها إلى ما قبل الميلاد، في زمن لا نستطيع تحديده، لعدم وجود نصوص لدينا يمكن أن تكشف لنا عن وقت ظهور عبادة الشمس عند العرب. وعبدها أقوام آخرون من غير العرب من الساميين، مثل البابليين والكنعانيين والعبرانيين. وقد أشير في مواضع عديدة من العهد القديم إلى عبادة الشمس بين العبرانيين. وجعل الموت عقوبة لمن يعبد الشمس. ومع ذلك، عبدت في مدن يهوذا. وقد اتخذت جملة مواضع لعبادة الشمس فيها عرفت بـ"بيت شمس" Beth Shemesh2.
والشمس، أنثى في العربية، فهي إلهة، أما في كتابات تذمر فهي مذكرة، ولذلك فهي إله ذكر عند التدمريين. ويرى "ولهوزن" Wellhousen أن ذلك حدث بمؤثرات خارجية3. وكانت عبادة الشمس شائعة بين التدمريين وورد في الكتابات التي عثر عليها في "حوران" أسماء أشخاص مركبة من شمس وكلمة أخرى، ويدل على ذلك شيوع عبادتها عند أهل تلك المنطقة. وذكر "سترابو" أن Helios أي الشمس، هي الإله الأكبر عند النبط. ولكن الكتابات النبطية لا تؤيد هذا الرأي. والإله الأكبر فيها هو "اللات" فلعل "سترابو" قصد بـHelios اللات. وإذا كان هذا صحيحًا، فتكون اللات هي الشمس.
والشمس من الأصنام التي تسمى بها عدد من الأشخاص، فعرفوا بـ"عبد شمس" وقد ذكر الأخباريون أن أول من تسمى به سبأ الأكبر؛ لأنه أول من عبد
__________
1 Arabien, S. 269.
2 Hastings, p. 880, Die Araber, III, S. 125, ff.
3 Reste, S. 60 Waddington 2569, 2587, Vogue, Paly, 2, 8, 19, 75, 116, 125, Reste, s. 60.(11/55)
الشمس، فدعي بـ"عبد شمس"1. وقد ذكر أن بني تميم تعبدت له. وكان له بيت، وكانت تعبده بنو أد كلها: ضبة، وتميم، وعدي، وعطل، وثور، وكان سدلته من بني أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن حروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، فكسره هند بن أبي أهالة وصفوان بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن2.
وذكر أن "عبد شمس"، اسم أُضيف إلى شمس السماء؛ لأنهم كانوا يعبدونها. والنسبة "عبشمي"3.
وكانت العرب تسمي الشمس "الإلهة" تعظيمًا لها، كما يظهر ذلك من هذا الشعر:
تروحنا من اللعباء قسرًا ... فأعجلنا الإلاهة أن تؤوبا
على مثل ابن مية فانعياه ... تشق نواعم البشر الجيوبا4
ويقال لها "لاهة" بغير ألف ولام.
وعرفت الشمس بـ"ذُكاء"5 عند الجاهليين. وقد تصور أهل الجاهلية الصبح ابنًا للشمس تارة، وتصوروه تارة حاجبًا لها. فقيل حاجب الشمس. وقيل يقال للصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها6.
وكانوا يستقبلون الشمس ضحى. ذكر "الأسقع" الليثي أنه خرج إلى والده، فوجده جالسًا مستقبل الشمس ضحى7. وإذا تذكرنا ما أورده أهل الأخبار عن
__________
1 منتخبات "ص57".
2 المحبر "316".
3 تاج العروس "4/ 172"، "شمس".
4 ينسب هذا الشعر لمية بنت أم عتبة بن الحارث، وقيل لبنت عبد الحارث اليربوعي وقيل: لنائحة عتيبة بن الحارث، وقيل لأم البنين بنت عتيبة بن الحارث، تاج العروس "9/ 374"، اللسان "17/ 630"، تاج العروس "9/ 510"، "لاه" "تروحنا من اللعباء قصرا"، ابن الأجدابي الأزمنة والأنواء "79".
5 بالضم.
6 تاج العروس "10/ 137"، "ذكو".
7 الإصابة "1/ 51" رقم "121".(11/56)
صلاة الضحى، وهي صلاة كانت تعرفها قريش، ولم تنكرها، أمكننا الربط بين استقبال الشمس ضحى وبين هذه الصلاة.
وقد لاحظ بعض السياح أن آثار عبادة الشمس والقمر لا تزال كامنة في نفوس بعض الناس والقبائل، حيث تتجلى في تقدير هذين الكوكبين وفي تأنيب من يتطاول عليهما بالشتم أو بكلام مسيء وفي تعظيمها من بين سائر الكواكب تعظيمًا يشير إلى أنه من بقايا الوثنية القديمة على الرغم من إسلام أولئك المعظمين1.
ويلي الشمس والقمر "الزهرة"، وهي ذكر في النصوص العربية الجنوبية، ويسمى "عثتر". وهو بمثابة "الابن" للشمس والقمر، وهذا الثالوث الكوكبي يدل، في رأي الباحثين في أديان العرب الجنوبيين، على أن عبادة العربية الجنوبية هي عبادة نجوم. وهو يمثل في نظرهم عائلة إلهية مكونة من ثلاثة أرباب، هي: الأب وهو القمر، والابن وهو الزُّهرة، والأم وهي الشمس.
وإذ كان القمر هو الأب وكبير الآلهة الثلاثة، صار اسمه في طليعة من يذكر اسمه من الآلهة في النصوص، وصارت له كنى ونعوت كثيرة لا تجاريها في الكثرة نعوت الآلهة الأخرى، وبه تسمى أشخاص كثيرون. وهذا ما حدا ببعض المستشرقين على إطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين على سبيل التغليب. وهذا المركز الذي يحتله القمر في ديانة العرب الجنوبية، لا نجده في أديان الساميين الشماليين عن الساميين الجنوبيين2. كما يصح اعتبار تذكير "الزهرة" "عثتر" عند العرب الجنوبيين، من جملة الفروق التي نراها بين ديانة سكان العربية الجنوبية وديانات الساكنين في شمال العرب الجنوبية، فإن "الزهرة" هي أنثى عندهم.
وعبد بعض أهل الجاهلية أجرامًا سماوية أخرى، وتقربوا إليها بالنذور والصلوات. ففي كتب الأخباريين أن طائفة من تميم عبدت "الدبران"، وأن "العيوق" في زعمهم "عانق الدبران لما ساق إلى الثريا مهرًا، وهي نجوم صغار نحو عشرين نجمًا، فهو يتبعها أبدًا خاطبًا لها، ولذلك سموا هذه النجوم القلاص"3.
__________
1 Handbuch, I, S. 199, 201, W. Gifford Palgrave, Narrative of A Year's Jorney through Central and Eastern Arabia, London, 1866, 250, A. Grahmann, Arabien, S. 81.
2 Handbusch, I, s. 213.
3 بلوغ الأرب "2/ 239"، ابن الأجدابي، الأزمنة والأنواء "71".(11/57)
وفي كتبهم أيضًا أن بعض قبائل لخم وخزاعة وحمير وقريش عبدوا "الشعرى العبور" وأن أول من سن ذلك لهم، وأدخل تلك العبادة إليهم "أبو كبشة". وهو "جزء بن غالب بن عامر بن الحارث بن غبشان الخزاعي"، أو "وجز بن غالب"، وهو من خزاعة ثم من بني غبشان، أحد أجداد النبي من قبل أمهاته. خالف قريشًا في عبادة الأصنام وعبد الشعرى العبور. وكان "وجز" يقول: إن الشعرى تقطع السماء عرضًا، فلا أرى في السماء شيئًا، شمسًا ولا قمرًا ولا نجمًا، يقطع السماء عرضًا. والعرب تسمي الشعرى العبور؛ لأنها تعبر السماء عرضًا، ووجز هو أبو كبشة الذي كانت قريش تنسب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إليه، والعرب تظن أن أحدًا لا يعمل شيئًا إلا بعرق ينزعه شبهه، فلما خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، دين قريش، قالت قريش: نزعه أبو كبشة؛ لأن أبا كبشة خالف الناس في عبادة الشعرى. وكانوا ينسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه. وكان أبو كبشة سيدًا في خزاعة، لم يعيروا رسول الله صلى الله عليه وسلم به من تقصير كان فيه، ولكنهم أرادوا أن يشبهوه بخلاف أبي كبشة، فيقولون: "خالف كما خالف أبو كبشة"1. وذكر "القرطبي" أن أول من عبد الشعرى" أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاته، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي، صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة، حين دعا إلى الله وخالف أديانهم، وقالوا: ما لقينا من ابن أبي كبشة! وقال أبو سفيان يوم الفتح، وقد وقف في بعض المضايق وعساكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تمر عليه: لقد أمِرَ أمر ابن أبي كبشة"2. وكان "الحارث"، وهو "غبشان بن عمرو بن بؤي بن ملكان"، ويكنى أبا كبشة، ممن يعبد الشعرى2.
و"الشعرى" Sirius هي المقصودة في الآية: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} 4. كان ناس في الجاهلية يعبدون هذا النجم الذي يقال له الشعرى. وهو النجم
__________
1 الزبيري: كتاب نسب قريش "261 وما بعدها" تاج العروس "4/ 342"، "كبش".
2 تفسير القرطبي "17/ 119" تفسير الطبرسي "27/ 183"، "9/ 183" "طبعة طهران" المحبر "129" ابن سعد طبقات "1/ 1/ ص31".
3 المحبر "129".
4 النجم، الآية 49.(11/58)
الوقاد الذي يتبع الجوزاء، ويقال له المرزم1. وقد كان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم2.
وذكر بعض العلماء أن "الشعرى" كوكب نير يقال له المرزم، وطلوعه في شدة الحر. وتقول العرب إذا طلعت الشعرى، جعل صاحب النحل يرى. وهما: "الشعريان": العبور، والشعرى الغميصاء. تزعم العرب أنهما أختا سهيل وعبدت طائفة من العرب الشعرى العبور. ويقال: إنها عبرت السماء عرضًا، ولم يعبرها عرضًا غيرها. وسميت الأخرى الغميصاء؛ لأن العرب قالت في حديثها: إنها بكت على أثر العبور حتى غمضت3.
والعرب تقول في خرافاتها: إن سهيلًا والشعرى كانا زوجين، فانحدر سهيل فصار يمانيًّا، فاتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت عيناه، فسميت غمصاء لأنها أخفى من الأخرى4.
ويذكرون أن بعض طيء عبدوا "الثريا"، وبعض قبائل ربيعة عبدوا "المرزم"، وأن "كنانة" عبدت القمر5 ويتبين من بعض الأعلام المركبة، مثل: عبد الثريا، وعبد نجم، أن الثريا ونجمًا، كانا صنمين معبودين في الجاهلية6. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن "النجم" المذكور في سورة "النجم": {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} : الثريا8 "والعرب تسمى الثريا نجمًا"9. وقال بعض آخر: "إن النجم ههنا الزهرة؛ لأن قومًا من العرب كانوا يعبدونها"10.
__________
1 تفسير الطبري "27/ 45 وما بعدها" تاج العروس "4/ 341"، "جوز"، القرطبي، الجامع "17/ 119 وما بعدها".
2 تفسير القرطبي "17/ 119".
3 تاج العروس "3/ 305"، "شعر".
4 تفسير القرطبي "17/ 119 وما بعدها".
5 بلوغ الأرب "2/ 240"، تاج العروس "8/ 311"، "رزم".
6 Ency. Religi, I, P, 66.
7 سورة النجم، الآية 1.
8 تفسير الطبري "27/ 24".
9 تفسير القرطبي "17/ 82 وما بعدها".
10 المصدر نفسه.(11/59)
وعبَدَ بعض الجاهليين "المريخ"، واتخذوه إلهًا، كما عبد غيرهم "سهيلًا" Canapus و"عطار" Markur و"الأسد" Lion و"زحل".
وقد ذكر أهل الأخبار، أن أهل الجاهلية يجعلون فعلًا للكواكب حادثًا عنه، فكانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وكانوا يجعلون لها أثرًا في الزرع وفي الإنسان فأبطل ذلك الإسلام، وجعله من أمور الجاهلية. جاء في الحديث: "ثلاث من أمور الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء"1.
ومن مظاهر الشرك المتجلي في التعبد للأمور الطبيعية الملموسة، عبادة الشجر، وهي عبادة شائعة معروفة عند الساميين. وقد أشار "ابن الكلبي" إلى نخلة "نجران" وهي نخلة عظيمة كان أهل البلد يتعبدون لها، "لها عيد في كل سنة. فإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحلي للنساء، فخرجوا إليها يومًا وعكفوا عليها يومًا". ومنها العزى وذات أنواط. يحدثنا أهل الأخبار عن ذات أنواط، فيقولون: "ذات أنواط: شجرة خضراء عظيمة، كانت الجاهلية تأتيها كل سنة تعظيمًا لها، فتعلق عليها أسلحتها وتذبح عندها، وكانت قريبة من مكة. وذكر أنهم كانوا إذا حجوا، يعبقون أرديتهم عليها، ويدخلون الحرم بغير أردية، تعظيمًا للبيت، ولذلك سميت "ذات أنواط"3. "وقد روي أن بعض الناس قال: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط"4.
ونستطيع أن نقول إن آثار عبادة الشجر لا تزال باقية عند الناس. تظهر في امتناع بعضهم وفي تهيبهم من قطع الشجر؛ لاعتقادهم أنهم إن فعلوا ذلك أصيبوا بنازلة تنزل بهم وبمكروه سيحيق بهم. ولذلك تركوا بعض الشجر كالسدر فلم يتعرضوا له بسوء5.
وتعبد بعض أهل الجاهلية لبعض الحيوانات. فقد ورد أن جماعة الشاعر "زيد الخيل"، وهم من طيء، كانوا يتعبدون لجمل أسود. فلما وفد وفدهم على
__________
1 ابن الأجدابي، الأزمنة والأنواء "136".
2 البلدان "8/ 260"، "نجران".
3 البلدان "1/ 363"، "أنواط"، تاج العروس "5/ 236"، "فوط" الأزرقي "74 وما بعدها".
4 رسالة الغفران "140 وما بعدها".
5 Grahmann, s. 82.(11/60)
الرسول، قال لهم: "ومن الجمل الأسود الذي تعبدونه من دون الله عز وجل"1. وورد أن قومًا كانوا بالبحرين عرفوا بـ"الأسبذيين"، كانوا يعبدون الخيل2. ذكر أنهم قوم من المجوس، كانوا مسلحة لحصن المشقر من أرض البحرين3. فهم فرس. وأن بعض القبائل مثل "إياد"، كانت تتبرك بالناقة4.
__________
1 الأغاني "16/ 47"، الإصابة "1/ 555"، "ورقم 2941".
2 البلاذري، فتوح "89"، "البحرين".
3 اللسان "3/ 493"، "سبذ".
4 الأغاني "15/ 93"، "في أخبار أبي داود الإيادي".(11/61)
الشفاعة:
والشفاعة من أهم مظاهر الشرك عند الجاهليين. وأقصد بالشفاعة هنا، ما ورد في القرآن الكريم من تبرير أهل الجاهلية لتقربهم إلى الأصنام بأنهم ما يتعبدون لها إلا لتقربهم إلى الله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 2. فهم يحاجون الرسول، ويدافعون عن التقرب إلى الأصنام، بقولهم: إنها تشفع عند الله، فهي شفيعة، فهم لا يعبدون الأصنام إذن، ولا يشركون بالخالق، وإنما هم يتقربون إليه بها. فهي الواسطة بينهم وبين الله3.
__________
1 سورة يونس، الرقم 10، الآية 18.
2 الزمر، الآية 3
3 المفردات، للأصفهاني "264".(11/61)
الأصنام:
ومن جملة ما كان يتوسط به الجاهليون لآلهتهم ليكونوا شفعاء لهم عندها، التماثيل المصنوعة من الفضة أو الذهب أو الحجارة الثمينة والخشب. ومن عادتهم أنهم كانوا يدونون ذلك على الحجارة، فيكتبون عدد التماثيل وأنواعها وأسماء الآلهة أو اسم الإله الذي قدمت له تلك الأشياء واسم الناذر، ويشار إلى السبب الداعي.(11/61)
إلى ذلك، كأن يذكر بأن أصحابها توسلوا إلى الإله أو الآلهة المذكورة برجائهم الذي طلبوه، فأجيبت مطالبهم، ولذلك قدموا هذه النذور، فهي وفاء لدين استحق عليهم بسبب ذلك النذر وتلك الشفاعة.
ولا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن الأصنام كانت تدافع عن قبائلها وتذب عنها وتحامي عنها في الحرب، كما يدافع سيد القبيلة عن قبيلته، وأن أبناء القبيلة أبناؤها وأولادها، ولذلك كانوا يقولون عنها "آب" "أب" في كتاباتهم، ويكتبون عن أنفسهم "أبناء الصنم...." وفي الشعر الجاهلي أمثلة عديدة تشير إلى اعتقاد القوم باشتراك آلهتهم معهم في الحرب وفي انتصارهم لهم. ففي الحرب التي وقعت بين "بني أنعم" و"بني غطيف" بشأن الصنم "يغوث" يقول الشاعر:
وسار بنا يغوث إلى مراد ... فناجزناهم قبل الصباح1
وطبيعي أن بعد أعداء القبيلة أعداء لصنم القبيلة، وأعداء الصنم أعداء للقبيلة، فأعداء الآلهة وأعداء القبيلة هم خصوم لا يمكن التفريق بينهم.
وفي معركة أُحد، وهي من المعارك الحربية المهمة التي جرت بين الإسلام والوثنية على مستقبل العرب الديني، نادى أبو سفيان بأعلى صوته: "اعل هبل! اعل هبل! "؛ ليبعث الحماسة في نفوس الوثنيين وليستغيث بصنمه في الدفاع عن أتباعه المؤمنين به. أما المسلمون، فاستنجدوا بالله، إذ ردوا عليه ردة قوية عالية: "الله أعلى وأجل" فقال أبو سفيان: "ألا لنا العزى ولا عزى لكم" فأجابه المسلمون: "الله مولانا ولا مولى لكم"2.
وفي الحروب يحارب كل إله عن قبيلته، ويجهد نفسه في الدفاع عنها في سبيل حصولها على النصر. ولهذا السبب كانت القبائل والجيوش تحمل أوثانها أو صور آلهتها أو رموزها الدينية المقدسة معها في الحروب. تتبرك بها وتستمد منها العون والنصر. ولما حارب الأعراب الملك "سنحاريب" ملك آشور، حملوا أصنامهم: "دبلت" "دبلات" Diblat، و"دية" Daia = Daja
__________
1 البلدان "8/ 511".
2 الطبري "2/ 526 ". "معركة أحد".(11/62)
و"نوخيا" Nuhaia و"إبيريلو" Ebirillu و"عثر قرمية" Atar Kurumaia معهم لتدافع عنهم، ولتحارب معهم الآشوريين. ولكن الآشوريين غلبوهم وانتصروا عليهم وأخذوا غنائم وأسرى منهم، كان في جملتها هذه الأصنام المسكينة، التي وقعت في الأسر وبقيت في أسرها إلى أن توفي "سنحاريب" وتولى ابنه "أسرحدون" الحكم، فاسترضى الأعراب هذا الملك وجاءوا بهدايا كثيرة؛ رجاء استرضائه لإعادة أصنامهم إليهم، فرقَّ على حالهم وأعاد إليهم تلك الأصنام السيئة الحظ، التي كتب عليها أن تسجن، وتمكنت من استنشاق ريح الحرية من جديد1.
وسقطت أصنام الأعراب مرة أخرى في أسر الآشوريين، وذلك في أيام "أسرحدون"، فلما انضم "لبلي" "ليل" Laili ملك "يادي" "يادع" "يدي" "يدع" Jadi' = Jadi' إلى الثائرين على حكم هذا الملك، لحقت بهم الهزيمة، وسقطت أصنامه أسيرة في أيدي الآشوريين، وأخذت إلى "نينوى"، فلم يجد الملك "ليل" "ليلي" أمامه من سبيل سوى الذهاب إلى عاصمة الملك لاسترضائه، حيث طلب العفو والصفح عما بدر منه، فقبل "أسرحدون" منه ذلك، وتآخى معه، وأعاد إليه أصنامه2.
وكان في جملة الأصنام التي شاء سوء طالعها الوقوع في أسر الآشوريين الصنم "أترسمين" "أترسمائين" "A – tar- sa- ma- a – a – in" "Atarsamin". و"أتر" هو "عثتر"، فيكون المراد به "عثتر السماء" عثتر السماوات، ويدل ذلك على أنه إله السماء. وكان قد وقع أسيرًا في أيديهم أيام الملك "أسرحدون"، فلما توفي الملك وانتقل عرشه إلى ابنه "أشور بانبال"، جاء Uaite العربي إليه، وهو أحد سادات القبائل إلى الملك، وصالحه وأرضاه، فأعاد إليه أصنامه ومنها الصنم المذكور3.
وطالما كان يعرض حمل المحاربين أصنامهم معهم في الحروب إلى وقوع تلك الأصنام في الأسر، تقع كما يقع الإنسان في الأسر. بل يكون أسر الأصنام في نظرهم أشد وقعًا في نفوسهم من أسر الإنسان. إنها آلهة تدافع وتحامي، إنها
__________
1 Musil, Deserta, p. 481, Reall, II, s. 265, Thompson, Prisms of Esarhaddon and of Ashurbanipal, p. 20.
2 Musil, deserta, p. 483, realb, I, S. 440. Rawlinson, the Five Great Monarchies of the Ancient Eastern World, vol II, p. 470-471.
3 Reall, I, 310, Schrader, KAT, S. 434, Streck, Vorderasiatische Bibliotheck, VIII S. 72.(11/63)
آلهة القبيلة كلها، فأسرها معناه في عرفهم أسر القبيلة كلها، فأسر الآلهة شيء كبير بالنسبة إلى القبيلة. وقد أشرت إلى استيلاء الآشوريين على أصنام قبائل "عربي" التي حاربتهم، وإلى أخذها أسيرة إلى أرض آشور، وإلى مفاوضة الأعراب معهم على الصلح في مقابل إعادة تلك الأصنام إليهم. فلما أعيدت الأصنام إلى أصحابها، كتب الآشوريون عليها كتابة تخبر بوقوعها في الأسر، وبانتصار آلهة آشور عليها؛ لتكون نذيرًا للمؤمنين بها، يحذرهم من حرب ثانية توقع هذه الأصنام في أسد جديد.
وقد أشير إلى "خيل اللات" في مقابل "خيل محمد"، في شعر لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، إذ قال:
لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل الله خيل محمد1
ومن أمثلة العرب: "لا تفر حتى تفر القبة"، أو" لا نفر حتى تفر القبة"2. ويراد بالقبة: قبة الصنم، أي خيمة الصنم التي تحمل مع المحاربين وتضرب في ساحة القتال؛ ليطوف حولها المحاربون يستمدون منها العون والنصر. كما كانوا يستشيرون الأصنام عند القتال، ويأخذون برأيها فيما تأمر به.
وحمل الأصنام مع القبيلة في ترحالها وفي حروبها وغزواتها يستلزم بذل عناية خاصة بها للمحافظة عليها من الكسر ومن تعرضها لأي سوء كان. وعند نزول القبيلة في موضع ما توضع الأصنام في سمتها، وهي خيمة تقوم مقام المعبد الثابت عند أهل المدر. وتكون للخيمة بسبب ذلك قدسية خاصة، وللموضع الذي تثبت عليه حرمة ما دامت الخيمة فوقه، وقد كانت معابد القبائل المتنقلة كلها في الأصل على هذا الطراز. ولم يكن من السهل على أهل الوبر تغيير طراز هذا المعبد، واتخاذ معبد ثابت؛ لخروج ذلك على سنن الآباء والأجداد. ولذلك لم يرض العبرانيون عن المعبد الثابت الذي أقامه سليمان، لما فيه من نبذ للخيمة المقدسة التي كانت المعبد القديم لهم وهم في حالة تنقل من مكان إلى مكان.
واعتقاد القبائل أن أصنامها هي التي تجلب لها النصر والخسارة، كان يؤدي في بعض الأحيان إلى الإعراض عن الصنم المحبوب ونبذه، نتيجة لانهزام القبيلة،
__________
1 الإصابة "4/ 90"، "رقم 538".
2 المشرق، السنة 1938م، "الجزء الأول"، ص11.(11/64)
إذ يتبادر إلى ذهن تلك القبيلة أن تلك الهزيمة التي نزلت بها إنما كانت بسبب ضعف ربها واستكانته وعدم اقتداره في الدفاع عنها، ولذلك تقرر الاستغناء عنه والتوجه إلى رب قوي جديد. وقد يكون ذلك الرب هو رب القوية المنتصرة، أو رب قبيلة من القبائل التي عرفت بتفوقها في الحروب، فيكون التوفيق حليف ذلك الرب. وهكذا الأرباب في نظر قبائل تلك الأيام كالناس لها حظوظ، والحظ هو دائمًا في جانب القوي.
وكان على كهان صنم القبيلة المغلوبة إيجاد تفسير لعلة الهزيمة التي لحقت بعبدة ذلك الصنم، والبحث عن عذر يدافعون به عن الصنم، ويلقون اللوم فيه على أتباعه؛ لتبرئة ذمته وإبعاد المؤمنين به عن الشك في قدرته وعظمته. فكان من أعذارهم، أن الهزيمة عقاب من الإله أرسله إلى أتباعه لابتعادهم عن أوامره ونواهيه، ولعدم إطاعتهم أحكام دينه، ولمخالفتهم آراء رجال دينهم وكهانه. ولن تنقشع عنهم النكبة، ويكتب لهم النصر، إلا إذا تابوا وعملوا بأوامر الكهان وأرضوا الآلهة، وعملوا بها أوجبته شريعتهم عليهم. وهكذا يلوم الكهان الناس، دفاعًا عن آلهتهم التي خلقوها بأنفسهم، وحماية لمصالحهم القائمة على استغلال تلك المخترعات، التي نعتوها آلهة وأصنامًا.
ولما كانت الآلهة آلهة قبائل، كان نبذ الفرد لإلهه معناه نبذه لقبيلته وخروجه على إجماعها، فلا يسع شخصًا أن يغير عبادة إله القبيلة إلا إذا خرج على قبيلته وتعبد لإله آخر. فإن تغيير عبادة الأفراد لأصنامهم في نظر قدماء الساميين أمر إد، هو بمثابة تبديل الجنسية في العصر الحاضر. إن عبادة الأصنام عبادة موروثة يرثها الأبناء عن الآباء، وليست بشيء اختياري، فليس للرجل أن يختار الصنم الذي يريده بمحض مشيئته. إن الصنم دين وهو رمز للقبيلة، والمحامي المدافع عن شعبه، والرابطة التي تربط بين الأفراد، فالخروج عليه معناه خروج على إرادة الشعب وتفكيك لوحدته، وهو مما لا يسمح به وإلا تعرض الثائر للعقاب1.
نعم، كان في إمكان أصحاب الكلمة والسيادة والرئاسة تغيير أصنام القبيلة، أو تبديل دينها، كما سنرى فيما بعد. فهؤلاء هم سادة، والناس تبع لسادتهم،
__________
1 Robertson, p. 37.f(11/65)
وفي المثل: "الناس على دين ملوكهم" لقد أضاف سادة أصنامًا إلى قبائلهم، فعبدت وتمسك أتباعهم بعبادتها، وكأنهم قد تلقوا أوامرهم من السماء، ونبذت قبائل بعض أصنامها، بأمر من سادتها. ودخلت قبائل في الإسلام؛ لدخول سيدها فيه، ودخلت أخرى قبل ذلك في النصرانية، بتنصر سادتها، بكلمة أقنعت الرئيس، أو بعد محاورة، أو بإبلال من مرض قيل له إنه كان ببركة ذلك الدين، فدخل أتباعه في ذلك الدين من غير سؤال ولا جواب.(11/66)
عبادة الأصنام:
ويتبين من غربلة روايات الأخباريين أن عبادة الأصنام كانت منتشرة انتشارًا واسعًا قبيل الإسلام، حتى كان أهل كل دار قد اتخذوا صنمًا في دارهم يعبدونه "فإذا أراد الرجل منهم سفرًا، تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به، فكان أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله"1 وقد كان أشق شيء في نظر قريش نبذ تلك الأصنام وتركها وعبادة إله واحد {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} 2.
يقول ابن الكلبي: "واشتهرت العرب في عبادة الأصنام فمنهم من اتخذ بيتًا، ومنهم من اتخذ صنمًا. ومن لم يقدر عليه ولا على بناء البيت، نصب حجرًا أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت.... فكان الرجل إذا سافر فنزلا منزلًا، أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربًّا، وجعل ثلاث أثافي لقدره. فإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلًا آخر، فعل مثل ذلك. فكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون إليها"3. وروي أنه لم يكن حي.
__________
1 ابن هشام "1/ 64" "هامش الروض"، ابن هشام "1/ 84" الأصنام "32" خزانة الأدب "3/ 245".
2 سورة ص، الآية 4 وما بعدها.
3 الأصنام "33".(11/66)
من أحياء العرب إلا وله صنم يعبده يسمونه: "أنثى بني فلان. ومنه قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} 1. والإناث كل شيء ليس فيه روح مثل الخشبة والحجارة"2. وقد كان المشركون يعبدون الأصنام "ويسمونها بالإناث من الأسماء كاللات والعزى ونائلة ومناة وما أشبه ذلك"3.
ولم يذكر "ابن الكلبي" العوامل التي دفعت بعبدة الأحجار إلى اختيار أربعة أحجار من بين عدد عديد من الأحجار، ثم اختيار حجر واحد من بين هذه الأحجار الأربعة المختارة. فهل أخذ هذا العدد من نظرية العناصر الأربعة التي وضعها الفيلسوف "إمبدوكلس" "Empedokles" "490-430 قبل الميلاد" نظرية أن الكون قد تكون من عناصر أربعة هي: النار، والماء، والهواء، والتراب، فكانوا يختارون لذلك أربعة أحجار، تمثل هذه القوى الأربع المكونة على رأي الناس في ذلك الوقت لأساس الكون، ثم يختارون حجرًا واحدًا من بينها يكون أحسنها وأجملها؛ ليكون رمزًا لها، وممثلًا للإله.
وقد كان من الجاهليين من يختار الأحجار الغربية فيتعبد لها. فإذا رأوا حجرًا أحسن وأعجب تركوا الحجارة القديمة وأخذوا الحجارة الجديدة. قال "ابن دريد": "الحارث بن قيس: وهو الذي كان إذا وجد حجرًا أحسن من حجر أخذه فعبده. وفيه نزلت: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 4. فهذه هي عبادة الأحجار عند الجاهليين.
ولدينا أمثلة عديدة تفيد أن كثيرًا من الجاهليين كانوا يحتفظون في بيوتهم بأصنام يتقربون إليها كل يوم، ولا يعني ذلك بالطبع أن تلك الأصنام كانت أصنامًا كبيرة منحوتة نحتًا فنيًّا، بل كان أكثرها تماثيل صغيرة، وبعضها أحجارًا غير منسقة ولا منحوتة نحتًا جيدًا، وإنما هي أحجار تمثل الصنم الذي يتقرب إليه المرء. روي أن "أحمر بن سواء بن عدي السدوسي"، كان له صنم يعبده، فعمد إليه فألقاه في بئر، ثم جاء إلى الرسول فأسلم5.
__________
1 النساء، الآية 117.
2 اللسان "122/ 349"، "صنم".
3 تفسير الطبري "5/ 179 وما بعدها"، روح المعاني "5/ 134".
4 الاشتقاق "76".
5 الإصابة "1/ 22".(11/67)
وكان بين الجاهليين قوم كرهوا الأصنام وتأففوا منها، رأوا أنها لا تنفع ولا تضر ولا تشفع، فلم يتقربوا إليها، وقالوا بالتوحيد، ومن هؤلاء "مالك بن التيهان"، وهو من الأنصار ومن المسلمين الأولين الذين دخلوا في الإسلام من أهل "يثرب" و"أسعد بن زرارة".
وقد شك بعض المستشرقين في وجود أصنام عند العرب الجنوبيين2، ويظهر أن الذي حملهم على قول هذا القول، هو ما رأوه من تعبد العرب الجنوبيين لآلهة منظورة في السماء هي الكواكب الثلاثة المعروفة، فذهبوا إلى انتفاء الحاجة لذلك إلى عبادة أصنام ترمز إلى تلك الآلهة. وعندي أن في إصدار رأي في هذا الموضوع نوع من التسرع؛ لأننا لم نقم حتى اليوم بحفريات علمية عميقة في مواضع الآثار في العربية الجنوبية حتى نحكم حكمًا مثل هذا لا يمكن إصداره إلا بعد دراسات علمية عميقة لمواضع الآثار، فلربما تكشف دراسات المستقبل عن حل مثل هذه المشكلات. إن الإسلام قد هدم الأصنام وأمر بتحطيمها، فذهبت معالمها، إلا أنه من الممكن احتمال العثور على عدد منها، لا زال راقدًا تحت التربة؛ لأنه من الأصنام القديمة التي دفنت في التربة قبل الإسلام بسبب دمار حل بالموضع الذي عبد فيه، أو من الأصنام التي وصلت إليها أيدي الهدم، فطمرت في الأتربة، وعلى كلٍّ فالحكم في هذا الرأي هو كما ذكرت للمستقبل وحده، وعليه الاعتماد.
والرأي الذائع بين الأخباريين عن كيفية نشوء عبادة الأصنام قريب من رأي بعض العلماء المحدثين في هذا الموضوع. عندهم أن الناس لم يتعبدوا في القديم وفي بادئ بدء الأصنام، ولم يكونوا ينظرون إليها على أنها أصنام تعبد، إنما صوروها أو نحتوها لتكون صورة أو رمزًا تذكرهم أو يذكرهم بالإله أو الآلهة أو الأشخاص الصالحين. فلما مضى عهد طويل عليها، نسي الناس أصلها، ولم يعرفوا أمرها، فاتخذوها أصنامًا وعبدوها من دون الله. وتحملنا رواياتهم في بعض الأحيان على الاعتقاد أنهم كانوا يعتقدون بعقيدة المسخ، كالذي رووه عن الصنمين إساف ونائلة من أنهما "رجل وامرأة من جرهم، وأن إسافًا وقع عليها في الكعبة فمسخا"3، وبعقيدة التقمص كالذي رووه عن الصنم اللات من أنه كان إنسانًا
__________
1 طبقات ابن سعد "3/ 448" "صادر".
2 Arabien, s. 247.
3 الروض الأنف "1/ 64".(11/68)
من ثقيف، فلما مات قال لهم عمرو بن لحي: "لم يمت، ولكن دخل في الصخرة ثم أمرهم بعبادتها وأن يبنوا عليها بنيانًا يسمى اللات"1 أو كالذي رووه عن الأصنام ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، من أن هؤلاء كانوا نفرًا من بني آدم صالحين، "وكان لهم أتباع يقتدون بهم. فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم فلما ماتوا ودب إليهم إبليس، فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم"2.
وهذه العقيدة هي التي خلقت للأخباريين جملة قصص عن وجود أرواح كامنة في تلك الأصنام، كانت تتحدث إلى الناس، وهي التي أوحت إليهم بذلك القصص الذي رووه بمناسبة أمر النبي بهدم الأصنام، من خروج جن من أجوافها حينما قام بهدمها المسلمون. وقد كان أولئك الجنة على وصفهم إناثًا، والغالب أنهن على هيأة زنجيات شمطاوات عجائز، وقد نثرن شعورهن3. وهي صور مرعبة ولا شك في نظر الناس، ومن عادة الناس منذ القديم أن يمثلوا الجنة على هيأة نساء طاعنات في السن مرعبات.
والخوف من هذه الأرواح أو الجنة التي كانت تقيم في أجواف الأصنام على رأي الجاهليين، حمل بعض من عهد إليهم تحطيم تلك الأصنام على التهيب من الإقدام على مثل ذلك العمل خشية ظهورها وفتكها بمن تجاسر عليها. وهذا الخوف هو الذي أوحى إليهم ولا شك برواية القصص المذكور.
ويمثل الصنم قوة عليا هي فوق الطبيعة، وقد يظن أنها كامنة فيه4. وتكون الأصنام على أشكال مختلفة، قد تكون على هيئة بشر، وقد تكون على هيئة حيوان أو أحجار أو أشكال أخرى. ولهذه الأصنام عند عابديها مدلولات وأساطير. وهي تصنع من مواد مختلفة، من الحجارة ومن الخشب ومن المعادن ومن أشياء أخرى بحسب درجة تفكير عبدتها وتأثرهم بالظواهر الطبيعية والمؤثرات التي تحيط
__________
1 البلدان "7/ 310" "اللات".
2 تفسير الطبري" 29/ 62".
3 البلدان "7/ 310" "اللات".
4 Ency, Rellgi, 7p.112.(11/69)
بهم. وقد تستخدم خُشُبٌ خاصة تؤخذ من أشجار ينظر إليها نظرة تقديس واحترام في عمل الأصنام منها. ويتوقف صنعها على المهارة التي يبديها الفنان في الصنع. ويحاول الفنان في العادة أن يعطيها شكلًا مؤثرًا علاقة بالأساطير القديمة وبالكائن الذي سيمثله الصنم. وقد يكون الصنم من حجارة طبيعية عبدها عن أجداده كأن يكون من حجارة البراكين، وقد يكون من النيازك عبدها لظنه بوجود قوة خارقة فيها.
ولعبادة الأصنام صلة وثيقة بتقديس الصور Images وكذلك بصور السحر Magical Images فكل هذه الأشكال الثلاثة هي في الواقع عبادة. ونعني هنا بتقديس الصور، الصور المقدسة التي تمثل أسطورة دينية أو رجالًا مقدسين كان لهم شأن في تطور العبادة، أو جاءوا بديانة، وأمثال ذلك فأحب المؤمنون بهم حفظ ذكراهم وعدم نسيانهم أو الابتعاد عنهم. وذلك بحفظ شيء يشير إليهم ويذكرهم بهم، وهذا الشيء قد يكون صورة مرسومة، وقد يكون صورة محفورة أو منحوتة أو مصنوعة على هيئة تمثال أو رمز يشير إلى ذلك المقدس1.
فالصور المرسومة إذن، هي نوع من العبادة أيضًا، ينظر إليها نظرة تقديس وإجلال.
ونجد في روايات أهل الأخبار عن منشإ عبادة الأصنام عند العرب ما يؤيد هذا الرأي فهناك رواية طريفة عن الصنم "سواع" تزعم أن سواعًا كان ابنًا لشيث، وأن يغوث كان ابنًا لسواع، وكذلك كان يعوق ونسر، كلما هلك الأول صورت صورته وعظمت لموضعه من الدين ولما عهدوا في دعائه من الإجابة فلم يزالوا هكذا حتى خلف الخلوف، وقالوا: ما عظم هؤلاء آباءنا إلا لأنها ترزق وتنفع وتضر، واتخذوها آلهة. وهناك رواية أخرى تزعم أن الأوثان التي كانت في قوم نوح، كانت في الأصل أشخاصًا صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسونها أنصابًا، وسموها بأسمائها، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنوسخ العلم بها عبدت2.
__________
1 Ency. Religi. Vol. 7, p. 110.
2 الروض الأنف "1/ 62"، تفسير الطبرسي "5/ 364".(11/70)
وهناك روايات عن أصنام جعلتها أشخاصًا مسخوا حجرًا، فعبدوا أصنامًا، وصاروا شركاء لله، تعبد لها؛ لأنها في نظرهم تنفع وتضر.
ونجد في أخبار فتح مكة أن الرسول حينما دخل الكعبة رأى فيها صور الأنبياء والملائكة، فأمر بها فمحيت ورأى فيها ستين وثلاثمائة صنم مرصعة بالرصاص، وهبل أعظمها، وهو وجاه الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون، فامر بها فكسرت1.
أما هذه الصور، فقيل إنها صور الرسل والأنبياء، وبينها صورة "إبراهيم" وفي يده الأزلام يستقسم بها2.
__________
1 ابن الأثير "2/ 105" "فتح مكة" امتاع الأسماع "1/ 383 وما بعدها".
2 فترك عمر صورة إبراهيم عليه السلام، حتى محاها عليه السلام"، امتاع الأسماع "1/ 383" الروض الأنف "2/ 275 وما بعدها".(11/71)
الأصنام:
والصنم في تعريف علماء اللغة هو ما اتخذ إلهًا من دون الله، وما كان له صورة كالتمثال "مثال"، وعمل من خشب، أو ذهب، أو فضة، أو نحاس، أو حديد، أو غيرها من جواهر الأرض. وقال بعضهم: الصنم جثة متخذة من فضة، أو نحاس، أو ذهب، أو خشب، أو حجارة، متقربين به إلى الله، فالشرط فيه أن يكون جثة: جثة إنسان أو حيوان. وقيل: الصنم الصورة بلا جثة1. وذكر أن الصنم ما كان من حجر أو غيره2. وعرف بعضهم الصنم بأنه ما كان له جسم أو صورة فإن لم يكن له جسم أو صورة، فهو وثن3. و"الصنمة"، الصورة التي تعبد4. وقد كان "المنطبق" صنمًا من نحاس أجوف يكلمون من جوفه5.
__________
1 اللسان "15/ 241" "17/ 333"، تاج العروس "8/ 371"، "9/ 358"، "صنم" القاموس "4/ 141، 274"، الاشتقاق "302"، الأصنام "53"، المفردات "289".
2 الروض الأنف "1/ 62".
3 اللسان "12/ 349"، "صنم"، "صادر".
4 اللسان "12/ 349". "صنم".
5 المحبر "318".(11/71)
ووردت لفظة "صلم" في كتابات عثر عليها في أعالي الحجاز، اسم علم لإله ازدهرت عبادته بصورة خاصة بمدينة "تيماء" ويرجع بعض المستشرقين تأريخ ازدهار عبادة هذا الصنم إلى حوالي سنة "600" قبل الميلاد. وقد ورد اسمه علمًا لأشخاص في الكتابات اللحيانية. ورمز عنه برأس ثور في كتابات قوم ثمود1.
وقد وردت كلمة "أصنام"2 و"أصنامًا"3 و"الأصنام"4 و"أصنامكم"5 في القرآن الكريم، بحسب مواقع الكلمة في الجملة.
وذكر علماء اللغة أن كلمة "صنم" ليست عربية أصيلة، وإنما هي معربة وأصلها "شمن" "شنم" ولكنهم لم يذكروا اسم اللغة التي عربت منها6. وترد اللفظة في اللهجات العربية الجنوبية وردت "صلمن" في نصوص المسند بمعنى "صنم" و"تمثال" و"مثال"7. ووردت في لهجات عربية أخرى. وهي "صلمو" Salmo في لغة بني أرم، ومعناها "صورة". من أصل "صلم" بمعنى "صور" وتقابل "صلم" في العبرانية8.
وقد ورد في قصص أهل الأخبار أن "بني حنيفة" تعبدوا لصنم من حيس، فعبدوه دهرًا طويلًا، ثم جاعوا فأكلوه، فقال الشعراء في ذلك شعرًا يعيرون به "بني حنيفة" لأكلهم ربهم زمن المجاعة9. وهو في رأيي من القصص الذي يضعه الخصوم في خصومهم للاستهزاء بهم.
__________
1 Grimme, 23..
2 الأعراف، الآية 137.
3 الأنعام، الآية 74، الشعراء الآية 72
4 إبراهيم الآية 35
5 الأنبياء الآية 57.
6 القاموس "4/ 141"، اللسان "15/ 241" تاج العروس، "8/ 371" روح المعاني "13/ 210"، خزانة الأدب 3/ 244 وما بعدها".
7 "صلمن ذ صرفن وصلمنن ذ ذهبن" أي "تمثال من فضة، وتمثالان من ذهب"، راجع المختصر في علم اللغة العربية الجنوبية القديمة، لغويدي "19".
8 غرائب اللغة "193".
9 الأعلاق النفيسة "217".(11/72)
الوثن:
وأما كلمة "وثن" فهي من الكلمات العربية القديمة الواردة في نصوص المسند. ويظهر من استعمال هذه الكلمة في النصوص مثل: "وليذبحن وثنن درا بخرفم ذبصم صححم أنثيم وذكرم"، أي "وليذبح للوثن مرة في السنة ذبحًا صحيحًا، أنثى أو ذكرًا"1. إن الوثن هو الذي يرمز إلى الإله، أي بمعنى الصنم في القرآن الكريم.
__________
1 المختصر لغويدي "18".(11/73)
الصلم:
ويظهر من استعمال كلمتي "صلمن" "الصلم" "صلم" و"وثنن" "الوثن" أن هناك فرقًا بين الكلمتين في نصوص المسند، فإن كلمة "صلمن" تعني في الغالب تمثالًا يصنع من فضة، أو من ذهب، أو من نحاس، أو من حجر، أو من خشب، أو من أية مادة أخرى ويقدم إلى الآلهة لتوضع في معابدها تقربًا إليها؛ لاجابتها دعاء الداعين بشفائهم من مرض أو قضاء حاجة، أي أنها تقدم نذورًا. أما الوثن، فإنه الصنم في لهجتنا، أي الرمز الذي يرمز به إلى الإله، والذي يتقرب له الناس.
والوثن في رأي بعض العلماء لفظة مرادفة لصنم. وقال بعض آخر: "المعمول من الخشب أو الذهب والفضة أو غيرها من جواهر الأرض صنم، وإذا كان من حجارة، فهو وثن"1. وذكر بعض آخر أن الصنم ما كان له صورة جعلت تمثالًا، والوثن ما لا صورة له. "وقيل إن الوثن ما كان له جثة من خشب أو حجر أو فضة ينحت ويعبد، والصنم صورة بلا جثة. وقيل: الصنم ما كان على صورة خلقة البشر، والوثن ما كان على غيرها". "وقال آخرون: ما كان له جسم أو صورة، فصنم، فإن لم يكن له جسم أو صورة، فهو وثن. وقيل: الصنم من حجارة أو غيرها، والوثن ما كان صورة مجسمة.
__________
1 الأصنام "33" "روزا"، تاج العروس "8/ 371" "صنم"، "9/ 358"، "وثن" القاموس "4/ 141، 274"، اللسان "17/ 333" خزانة الأدب "3/ 244" وما بعدها، سبائك الذهب "101".(11/73)
وقد يطلق الوثن على الصليب وعلى كل ما يشغل عن الله" وقال بعض آخر: "يقال لكل جسم من حجر أو غيره صنم، ولا يقال وثن إلا لما كان من غير صخرة كالنحاس ونحوه"1. وذكر بعض آخر: "أصل الأوثان عند العرب، كل تمثال من خشب أو حجارة أو ذهب أو فضة أو نحاس أو نحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها"2.
وذكر علماء اللغة أن "الودع" وثن3. ولم يذكروا شيئًا عنه غير ذلك. وقد أطلق "الأعشى" على الصليب "الوثن"؛ إذ قال:
تطوف العفاة بأبوابه ... كطوف النصارى ببيت الوثن
"أراد بالوثن الصليب" "قال عدي بن حاتم: قدمت على النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: القِ هذا الوثن عنك، أراد به الصليب، كما سماه الأعشى وثنا"4.
فنحن إذن أمام آراء متباينة في معنى الصنم و"الوثن". منهم من جعل الصنم مرادفًا للوثن، أي في معنى واحد، ومنهم من فرق بينهما، ومنهم من جعل الصنم وثنًا والوثن صنمًا. والظاهر أن مرد هذا الاختلاف، هو اختلاف استعمال القبائل للكلمتين، فلما جمع علماء اللغة معانيهما، وقع لهم هذا التباين وحدث عندهم هذا الاختلاف في الرأي.
وترد في كتب الأدب واللغة لفظة "البعيم"5. اسم صنم، والتمثال من الخشب، وقيل الدمية من الصمغ6. والمثال الشبه، وما جعل مثالًا لغيره، والتمثال. وهو الشيء المصنوع مشبهًا بخلق وإذا قدرته على قدره. وذكر أنها الأصنام. وفي هذا المعنى وردت في القرآن الكريم: "ما هذه التماثيل؟ أي
__________
1 الروض الأنف "1/ 62
2 اللسان "13/ 443" "وثن"، "صادر".
3 اللسان "8/ 387"، "ودع".
4 اللسان "13/ 443"، "وثن".
5 البعيم، كأمير.
6 تاج العروس "8/ 203"، "البعيم"، الأصنام "108"، "تكملة" "روزا".(11/74)
الأصنام. وقوله تعالى: {مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} ، هي صور للأنبياء"1. وذكر التماثيل للأصنام، والصورة، والشيء المصنوع مشبهًا بخلق من خلق الله. أي إنسان أو حيوان أو نبات2. ويعبر عن التمثال والمثال بلفظة "أمثلن" في العربيات الجنوبية. وردت في النصوص لمناسبة تقديم أصحابها تماثيل على الآلهة لتوضع في معابدها وفاء لنذور نذروها لها3.
و"الدمية" الصورة المنقشة من الرخام، أو عام من كل شيء، أو الصورة عامة. والصنم، والأصنام دمى. ومن أيمان الجاهلية: لا والدمى، يريدون الأصنام4. وذكر أن "الدمية" ما كان من الصمغ5.
و"البد" الصنم الذي يعبد، فارسي معرب. عرب من "بت" بمعنى "صنم"6. وذكر أن "البد" بيت الصنم والتصاوير أيضًا7.
وقد اشتغل بعض أهالي مكة بصنع الأصنام فكان "عكرمة بن أبي جهل" ممن يعملها بمكة8. وكان الأعراب إذا جاءوا مكة أو المواضع الحضرية الأخرى اشتروا الأصنام منها للتعبد لها9.
__________
1 تاج العروس "8/ 111"، "مثل"
2 تاج العروس "8/ 111"، "مثل".
3 Jamme 558 Mamb 201. Mahram p 24.
4 تاجر العروس "10/ 131"، "دمي".
5 الأصنام "108" "تكملة".
6 تاج العروس "2/ 295" "بدد" غرائب اللغة "218"
7 تاج العروس "2/ 295" "بدد".
8 الأزرقي "1/ 77 وما بعدها".
9 الأزرقي "1/ 78".(11/75)
هيأة الأصنام:
وقد وصف "ابن الكلبي"، وهو الراوية الرئيس والعالم الكبير بالأصنام هيئه بعض الأصنام، فذكر مثلًا أن الصنم "هبل" كان على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش فجعلت له يدًا من ذهب1. فهو تمثال إنسان إذن نحت من حجر أحمر أو وردي، لا يستبعد أن يكون من عمل بلاد
__________
1 الأصنام "27 وما بعدها" الأزرقي "1/ 68".(11/75)
الشأم أو من عمل الفنانين اليونان، واستورد من هنا: فنصب في جوف الكعبة. استورده أحد سادة "مكة" وهو "عمرو بن لحي" على رواية أهل الأخبار، أو غيره، لما رأى فيه من حسن الصنعة ودقة النحت. فوضعه في موضعه. ولم يذكر أهل الأخبار سبب كسر اليد اليمنى للصنم، هل كان ذلك بسبب حادث، أو بسبب أسطوري. وأما "اللات" فصخرة بيضاء منقوشة1، في رواية أكثر الأخبار. وتمثال من حجر على رواية2. وأما العزى، فهناك رواية تذكر أنها كانت صنمًا، أي تمثالًا، ولكنها لم تعين صورته على نحو ما تحدثت عنها في الفصل الخاص بالأصنام. وأما "ود" فقد كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد ذبر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء، ووفضة فيها نبل3.
وأما سواع، فكان صنمًا على صورة امرأة ولا يستبعد أن يكون من بين الأصنام الباقية ما كان على صورة حيوان. فقد كان الصنم "نسر" يمثل النسر.
وأقصد بالأصنام في هذا المكان أصنام المعابد، أي الأصنام التي كان الناس يتقربون إليها بالتعبد والنذور. وأما الأصنام الصغيرة، وهي التماثيل التي كان يتعبد لها الناس في بيوتهم أو يحملونها معهم في أسفارهم أو يحملونها معهم حيث ذهبوا تبركًا بها فقد كانت كثيرة لا يخلو منها إنسان، وكانوا يتقربون بها إلى الأصنام الكبيرة. وقد عثر المنقبون على عدد كبير منها وهي متفاوتة في الحجم وفي الروعة ودقة الصنع والإتقان.
__________
1 تفسير ابن كثير "4/ 253 وما بعدها".
2 تفسير أبي السعود "5/ 112".
3 الأصنام "56"، "35" "روزا".(11/76)
عبادة الأصنام:
ونظرية "ابن الكلبي" ومن لف لفه من الأخباريين أن نسل إسماعيل بن إبراهيم لما تكاثر بمكة حتى ضاقت بهم. وقعت بينهم الحروب والعداوات، فأخرج بعضهم بعضًا، فتفسحوا في البلاد التماسًا للمعاش وكان كلما ظعن من مكة ظاعن حمل معه حجرًا من حجارة الحرم؛ تعظيمًا للحرم وصبابة بمكة.(11/76)
فحيثما حلّوا، وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمنًا منهم بها وصبابة بالحرم وحبًّا له. وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة، ويحجون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل.
"ثم سلخ بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، وانتجثوا ما كان يعبد قوم نوح منها، على إرث ما بقي فيهم من ذكرها، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها: من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البدن، والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه"1.
فكان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وبحر البحيرة، وحمى الحامية، عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي، وهو أبو خزاعة.
وكانت أم عمرو بن لحي، فهيرة بنت عامر عمرو بن الحارث بن عمرو الجرهمي، ويقال: قمعة بنت مضاض الجرهمي2.
وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة. فلما بلغ عمرو بن لحي، نازعه في الولاية، وقاتل جرهمًا ببني إسماعيل، فظفر بهم، وأجلاهم عن الكعبة، ونفاهم عن بلاد مكة، وتولى حجابة البيت بعدهم.
ثم إنه مرض مرضًا شديدًا، فقيل له: إن بالبلقاء من الشأم حمة إن أتيتها، برأت. فأتاها، فاستحم بها، فبرأ. ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو. فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا. فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة. ثم أخذ عمرو بن لحي في توزيع الأصنام على القبائل. وبذلك شاعت عبادة الأصنام بين الناس3.
__________
1 الأصنام "ص6 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 82"، الروض الأنف "1/ 61".
2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 46".
3 الأصنام "ص6 وما بعدها"، الاشتقاق "276"، البلدان "8/ 408 وما بعدها"، "ود"، مروج الذهب "2/ 227" "ذكر البيوت المعظمة، والهياكل المشرفة"، سبائك الذهب "101"، الروض الأنف "1/ 64"، البلدان "4/ 652 وما بعدها" "طهران 1935".(11/77)
هذه رواية شهيرة معروفة بين الأخباريين عن منشإ عبادة الأصنام وانتشارها عند العرب. وفي رواية أخرى: "كان أول من اتخذ تلك الأصنام، من ولد إسماعيل وغيرهم من الناس، وسموها بأسمائها على ما بقي فيهم من ذكرها حين فارقوا دين إسماعيل، هذيل بن مدركة"1. فنسبت هذه الرواية اتخاذ الأصنام إلى هذيل.
وهناك روايات أخرى في هذا المعنى تتفق مع الرواية الأولى من حيث الجوهر ولا تختلف معها إلا في بعض التفاصيل، ففي رواية أن "عمرو بن لحي" حينما قدم "مآبًا" من أعمال البلقاء، وهي يومئذ بأيدي العماليق، ووجدهم يتعبدون للأصنام، سألهم أن يعطوه صنمًا منها ليسير به إلى أرض العرب ليعبدوه، فأعطوه الصنم هبل، فأخذه، وقدم به إلى مكة فنصبه. وأمر الناس بعبادته2. فعينت هذه الرواية القوم الذين ذهب إليهم "عمرو بن لحي"، والموضع الذي نزل به، وثبتت اسم الصنم الذي أخذه منهم. وهي زيادات لم نجدها في كتاب الأصنام غير أن تشابه عبارات هذه الرواية التي ذكرها "ابن هشام" مع رواية "ابن الكلبي" يدل على أن المنبع واحد، وإنما الخلاف هو في ذكر بعض الفروع، وفي اختصار بعض المواضع، والإطناب في مواضع أخرى.
وفي رواية أخرى عن "ابن الكلبي" كذلك، وهي في كتابه الأصنام، ترجع أيضًا عبادة الأصنام إلى عمرو بن لحي، غير أنها تروي الخبر في صيغة أخرى، فتقول:
"وكان عمرو بن لحي، وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد، وهو أبو خزاعة. وأمه فهيرة بنت الحارث، ويقال إنها كانت بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، وكان كاهنًا. وكان قد غلب على مكة وأخرج منها جرهمًا، وتولى سدانتها.
__________
1 الأصنام "ص9"، نسب عدنان وقحطان، للمبرد "22 وما بعدها" المختصر في أخبار البشر، لأبي الفداء "1/ 94" ابن هشام "1/ 78"، "البابي"، البلدان "4/ 652" "طهران" ابن خلدون "2/ 686"، مروج الذهب "2/ 56 وما بعدها" "محمد محيي الدين عبد الحميد"، أبو الفداء "1/ 76".
2 ابن هشام "ص62"، حاشية على الروض الأنف، ابن هشام "1/ 82"، ديوان حسان "11.P"، "هرشفلد" ابن هشام "1/ 78 وما بعدها، 120".(11/78)
وكان له رئي من الجن، وكان يكنى أبا ثمامة، فقال له: عجل بالمسير والظعن من ثمامة، بالسعد والسلام! قال: جير، ولا إقامة.
قال: ايت ضف جدة، تجد فيها أصنامًا معدة، فأوردها تهامة ولا تهاب، ثم ادع عبادتها قاطبة.
فأتى شط دجلة، فاستشارها، ثم حملها حتى ورد تهامة، وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة.
فأجابه عوف بن عذرة بن زيد اللآت بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلون بن عمران بن الحاف بن قضاعة، فدفع إليه ودًّا. فحمله إلى وادي القرى، فأقره بدومة الجندل. وسمى ابنه عبد ود. فهو أول من سُمي به، وهو أول من سُمي عبد ود، ثم سمعة العرب به بعد1.
فهذه الرواية هي على شاكلة الرواية الأولى في منشإ عبادة الأصنام بين العرب قبل الإسلام بحسب رأي الأخباريين بالطبع، سوى اختلافها عنها في المكان الذي أخذت الأصنام منه. فهنا "جدة" على ساحل البحر الأحمر، وهناك البلقاء من أعمال الشأم. والموضعان، وإن كان يختلفان موقعًا، يتفقان في شيء واحد هو وقوعهما على حد مقصود، يرده الأجانب منذ القديم للإتجار. فهل يعني هذا استيراد تلك الأصنام من الخارج، من بلاد الشأم أو من مصر، وأنها كانت من عمل أهل الشأم أو أهل مصر أو من عمل الروم أو الرومان؟ وتذكر رواية أخرى أن "عمرو بن لحي" إنما جاء بالصنم "هبل"، من "هيت" بالعراق حتى وضعه في الكعبة2.
وعمرو بن لحي هو على اختلاف الروايات أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة وحمى الحامي. فقأ عين عشرين بعيًرا، فصارت العادة أن يفقأ عين الفحل من الإبل إذا بلغت الإبل ألفًا. فإذا بلغت ألفين، فقئت العين الأخرى. وقد نسب إليه كلام طويل. وزُعم له عمر مديد، وقصص أخرجه من عالم الواقع إلى عالم القصص والأساطير، ورجع عصره إلى أيام "العماليق" وإلى أيام "سابور ذي الأكتاف". وذكر أن العرب.
__________
1 الأصنام "ص54 وما بعدها".
2 الأزرقي "1/ 73 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 65".(11/79)
جعلته "ربًّا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة؛ لأنه كان يطعم الناس ويكسو في الموسم، فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة"1، وذكروا أنه كان ملكًا على الحجاز، وكان كبير الذكر في أيامه، إلى غير ذلك من قصص يروونه عنه2.
وذكر "المسعودي" أن "عمرو بن لحي" حين خرج إلى الشأم ورأى قومًا يعبدون الأصنام، فأعطوه منها صنمًا فنصبه على الكعبة، وأكثر من الأصنام، وغلب على العرب عبادتها، انمحت الحنيفية منهم إلا لمامًا، ضج العقلاء في ذلك، فقال "شحنة بن خلف" "سحنة بن خلف الجرهمي":
يا عمرو إنك قد أحدثت آلهة ... شتى بمكة حول البيت أنصابا
وكان للبيت رب واحد أبدًا ... فقد جعلت له في الناس أربابا
لتعرفن بأن الله في مهلٍ ... سيصطفي دونكم للبيت حجابا3
وكان "عمرو بن لحي" كاهنًا على ما يذكره أهل الأخبار4، وهو من "خزاعة"، التي انخزعت من اليمن. ثبت حكمه على مكة، بعد أن انتزع الحكم من جرهم، وغلب قومه عليها، فصاروا يطيعونه ويتبعون ما يضعه لهم. وقد نسبوا إليه وضع بقية الأصنام، مثل اللات وإساف ونائلة، فهو على رأي أهل الأخبار مؤسس هذه الأصنام التي بقيت إلى أيام النبي، والتي حطمت بأمره عام الفتح، وباستيلاء المسلمين على المواضع الأخرى.
وذكر أهل الأخبار أن "عمرو بن لحي" كان أول من غير تلبية "إبراهيم". وكانت: "لبيك لا شريك لك. لبيك"، فجعلها: "لبيك اللهم لبيك، إلا شريك هو لك، تملكه وما لك"، وقد كان "إبليس" قد ظهر له في صورة شيخ نجدي على بعير أصهب، فسايره ساعة، ثم لبى إبليس، فلبى "عمرو" تلبيته حتى خدعه. فلباها الناس على ذلك5.
__________
1 الروض الأنف "1/ 62" البداية والنهاية "2/ 188".
2 المختصر في أخبار البشر، لأبي الفداء "1/ 94".
3 مروج الذهب "2/ 29 وما بعدها".
4 مروج الذهب "2/ 303".
5 الأزرقي "1/ 126 وما بعدها"، "1/ 26 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 79 وما بعدها".(11/80)
وقد قيل إنه بلغ بمكة وفي العرب من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية مبلغه1. ويظهر أنه كان من أصحاب الحول والسلطان والجاه، ولذلك ترك هذا الأثر في روايات أهل الأخبار. وإني أرى أنه لم يكن بعيد عهد عن الإسلام، وإلا لم حفظت ذاكرة أهل الأخبار أخبارها عنه. والظاهر أنه كان كاهنًا من الكهان، ورجلًا كبيًرا من رجال الدين.
وروي أن الرسول ذكر أن" عمر بن لحي بن قمعة" كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة2.
ولست أظن أن الرواة قد أقحموا اسم "عمرو بن لحي" في قصة انتشار الأصنام في جزيرة العرب إقحامًا من غير أصل ولا أساس، فلا بد من أن تكون للرجل صلة ما بعبادة الأصنام عند الجاهليين، ولا بد أن يكون من الرجال الذين عاشوا في عهد غير بعيد عن الإسلام، لا قبل ذلك بكثير كما يدعي الأخباريون، فما كان خبره ليصل إليهم على هذا النحو لو كان زمانه بعيدًا عنهم البعد الذي تصوروه. وأنا لا أستبعد احتمال شراء "عمرو بن لحي" للأصنام من بلاد الشأم ومجيئه بها إلى الحجاز، ونصبه لها في الكعبة وفي مواضع أخرى، لما وجده من حسن صنعة التماثيل في تلك البلاد ومن جودة حجارتها، فاشترى عددًا منها؛ لتنصب في المحجات، فنسبت عبادة الأصنام إليه.
وزعموا أن "ابن أبي كبشة": "جزء بن غالب بن عامر بن الحارث بن غبشان الخزاعي"، كان ممن أدخل الشرك إلى العرب، وخالف دين التوحيد. لقد ذكروا أنه دعا إلى عبادة "الشعرى العبور"3.
وليست عبادة الأصنام والأوثان عبادة خاصة بالعرب، بل هي عبادة كانت معروفة عند غيرهم من الشعوب السامية، وعند غير الساميين، كما أنها لا تزال موجودة قائمة حتى الآن.
وكانت قريش تتعبد وتتقرب إلى أصنام قبائل أخرى. على شرط المثل، أي أن تتقرب تلك القبائل وتتعبد لأصنام قريش. فقد ذكر "السكري" أن قريشًا.
__________
1 أخبار مكة "54".
2 الاستيعاب "1/ 120".
3 تاج العروس "4/ 341".(11/81)
كانت تعبد صاحب كنانة، وبنو كنانة يعبدون صاحب قريش1. وقد تمكنت قريش بفضل هذه السياسة الحكيمة من جمع أصنام العرب وضمها في الكعبة، وهذا ما جعل القبائل تعظم هذا المجمع، وتحج إليه كل سنة مرة، في موسم الحج، بالإضافة إلى الأيام الأخرى من أيام السنة، حيث تقع فيها العمرة. فربحت من ذلك ربحًا معنويًّا وماديًّا، وصارت مكة سوقًا مستقرة ثابتة، يقصدها الناس في كل وقت.
__________
1 المحبر "318".(11/82)
الحلف بالأصنام والطواغيت:
ولعقيدتهم المذكورة في الأصنام، كانوا يحلفون بها وبالطواغيت. والظاهر أن هذه العادة بقيت في نفوسهم حتى في الإسلام. فقد ورد في الحديث: "أنه قال من حلف بغير الله، فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله"1، و"من حلف فقال في حلفه واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله"، ومن قاله لصاحبه: تعالى أقامرك فليتصدق"2. وكانت ألسنتهم تسبقهم، لما اعتادته من زمن الجاهلية من الحلف بالأصنام3.
__________
1 إرشاد الساري "9/ 377".
2 تفسير ابن كثير "4/ 253".
3 نفسير ابن كثير "4/ 253".(11/82)
الفصل الثالث والستون: أنبياء جاهليون
ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن الجاهليين لم يعدموا من الأنبياء، فقد ذكروا لهم أنبياء قالوا إنهم بشروا بالله وبدينه بين العرب الأولى، ومنهم "هود" نبي "عاد"، و"صالح" نبي قوم ثمود. وقد أشير إليهما في القرآن الكريم1. وزعموا أن رجلًا من بني "قطيعة بن عبس" كان نبيًّا كذلك، ولم يكن في بني إسماعيل نبي قبله. وهو الذي أطفأ الله به "نار الحرتين" وكانت ببلاد عبس. فإذا كان الليل فهي نار تسطع في السماء، وكانت طيء تنفش بها إبلها، وربما ندرت منها "العنق" أي قطعة فتأتي على كل شيء فتحرقه. وإذا كان النهار فإنما هي دخان يغور. فاحتفر "خالد" لها بئرًا، ثم أدخلها فيها، والناس ينظرون، ثم اقتحم فيها حتى غيبها. وذكروا أنه نجح في إخمادها، وكان الناس يقولون: هلك الرجل، فكذبهم، وخرج سالمًا. فلما حضرته الوفاة قال لقومه: إذ أنا مت ثم دفنتموني، فاحضروني بعد ثلاث، فإنكم ترون عيرًا أبتر يطوف بقبري، فإذا رأيتم ذلك فانبشوني، فإني أخبركم بما هو كائن إلى يوم القيامة. فاجتمعوا لذلك في اليوم الثالث، فلما رأوا العير وذهبوا ينبشونه، اختلفوا، فصاروا فرقتين، وابنه عبد الله في الفرقة التي أبت أن تنبشه، وهو يقول: "لا أفعل! إني إذًا ادعى ابن المنبوش! فتركوه.
__________
1 سورة هود، الآية 53، 60، 89، الشعراء، الآية 124، صالح، سورة الأعراف الآية 77، هود، الآية 62، 89، الشعراء، الآية 142.(11/83)
قال "الحاحظ" "والمتكلمون لا يؤمنون بهذا، ويزعمون أن خالدًا هذا كان أعرابيًّا وبريًّا، من أهل "شرج" و"ناظرة". ولم يبعث الله نبيًّا من الأعراب ولا من الفدادين أهل الوبر، وهم أهل البادية. إنما يبعثهم من أهل القرى، وسكان المدن1.
ويظهر أنه عاش قبيل الإسلام، فقد ذكر أهل الأخبار أن ابنة له قدمت على النبي، فبسط لها رداءه وقال: هذه ابنة نبي ضيعه قومه، وذكروا أنها لما سمعت سورة: "قل هو الله أحد"، قالت: قد كان أبي يتلو هذه السورة2 وزعموا أنه هو الذي دعا على العنقاء، فذهبت وانقطع نسلها3.
ثم نبي آخر اسمه "حنظلة بن صفوان"، كان نبيًّا بعثه الله إلى "أهل الرس"، فكذبوه وقتلوه، عاش في أيام "بختنصر" وقد نسب إلى حمير، وقيل إنه كان من أنبياء الفترة كذلك، وإنه هو الذي دعا على العنقاء، فانقطع نسلها4. وذكر بعض أهل الأخبار أن الله أرسل "حنظلة" إلى أهل عدن، فقتلوه5.
وذكر أهل الأخبار اسم نبي أرسل إلى أهل "حضور" اسمه "شعيب بن ذي مهدم" فقتلوه. فاستأصلهم "بخت نصر"، وقبره بـ"صنين" جبل باليمن6.
وذكر أهل الأخبار أن "مسيلمة بن حبيب الحنفي"، كان ممن ادعى النبوة بمكة قبل الهجرة، وصنع أسجاعًا7. وكان قد طاف قبل التنبي، في الأسواق التي كانت بين دور العجم والعرب، يلتقون فيها للتسوق والبياعات، كنحو سوق الأبلة، وسوق لقه، وسوق الأنبار، وسوق الحيرة وكان يلتمس تعلم الحيل والنيرجات، واختيارات النجوم والمتنبئين. وقد كان أحكم حيل السدنة.
__________
1 الحيوان "4/ 476 وما بعدها".
2 الحيوان "4/ 477".
3 "ذاك نبي أضاعه قومه" بلوغ الأرب "2/ 278 وما بعدها"
4 اللسان "12/ 149" "عنق" تاج العروس "1/ 410" "عنق"
5 الروض الأنف "1/ 9.
6 الروض الأنف "1/ 9".
7 الحيوان "4/ 89" "مسيلمة بن عثامة بن كبير بن حبيب بن الحرث، من بني حنيفة"، إرشاد الساري "6/ 434".(11/84)
والحُواء وأصحاب الزجر والخط، ومذهب الكاهن والعياف والساحر، وصاحب الجن الذي يزعم أن معه تابعه1.
وقد أحكم من ذلك أمورًا. فمن ذلك، أنه صب على بيضة من خل قاطع، حتى لان قشرها، فأدخلها في قارورة ضيقة الرأس وتركها حتى جفت ويبست، وعادت إلى هيئتها الأولى، فأخرجها إلى "مجاعة بن مرارة بن سلمى الحنفي" اليمامي، وأهل بيته، وهم أعراب، وادعى بها أعجوبة وأنها جعلت له آية، فآمن به من في ذلك المجلس: مجاعة وغيره. ومن ذلك أنه كان قد حمل معه ريشًا في لون ريش أزواج حمام، وقد كان يراهن في منزل مجاعة مقاصيص. فالتفت، بعد أن أراهم الآية في البيض، إلى الحمام فقال لمجاعة: إلى كم تعذب خلق الله بالقص؟! ولو أراد الله للطير خلاف الطيران لما خلق لها أجنحة، وقد حرمت عليكم قص أجنحة الحمام! فقال له مجاعة كالمتعنت: فسل الذي أعطاك في البيض هذه الآية أن ينبت لك جناح هذا الطير الذكر ساعة؟
قال مسيلمة: فإن أنا سألت الله ذلك، فانتبه له حتى يطير وأنتم ترونه، أتعلمون أني رسول الله إليكم؟ قالوا: نعم. قال: فإني أريد أن أناجي ربي، وللمناجاة خلوة، فانهضوا عني، وإن شئتم فادخلوني هذا البيت وادخلوه معى، حتى أخرجه إليكم الساعة وافي الجناحين يطير. وأنتم ترونه ولم يكن القوم سمعوا بتغريز الحمام، وكانوا بسطاء لا يعرفون حيل المحتالين، فلما خلا بالطائر أخرج الريش الذي قد هيأه فأدخل طرف كل ريشة مما كان معه في جوف ريش الحمام المقصوص، من عند المقطع والقص. فلما غرز ريشه أخرجه، وأرسله أمامهم من يده فطار، واعتبروا عمله آية.
ثم إنه قال لهم: إن الملك ينزل إلي، والملائكة تطير وهي ذوات أجنحة، ولمجيء الملك زجل وخشخشة وقعقعة، فمن كان منكم ظاهرًا فليدخل منزله، فإن من تأمل اختطف بصره! ثم صنع راية من رايات الصبيان التي تعمل من الورق الصيني، ومن الكاغد، وتجعل لها الأذناب والأجنحة، وتعلق في صدورها الجلاجل، وترسل يوم الريح بالخيوط الطوال الصلاب. ثم أرسلها مع الريح، وهم لا يرون الخيوط، والليل لا يبين عن صورة الرق، وعن دقة الكاغد،
__________
1 الحيوان "4/ 369 وما بعدها"، المعارف "405".(11/85)
فتوهموا أن ذلك الملائكة: وتصارخوا، وصاح: من صرف بصره ودخل بيته فهو آمن! فأصبح القوم وقد أطبقوا على نصرته والدفع عنه: فهو قوله:
ببيضة قارور وراية شادن ... وتوصيل مقصوص من الطير جادف1
ونسب بعض أهل الأخبار "مسيلمة" على هذا النحو: "مسيلمة بن ثُمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هفان بن ذهل بن الدول بن حنيفة"2 و"مسيلمة الكذاب بن حبيب" ثمامة بن كبير، وجعله بعضهم "مسيلمة بن حبيب" وجعلوا كنيته "أبا ثمامة" وقيل "أبا هارون" و"أبو ثمالة"3 وذكروا أنه كان يسمى بـ"الرحمن" قبل مولد "عبد الله" والد رسول الله، "وكانت قريش حين سمعت: بسم الله الرحمن الرحيم، قال قائلهم: دق فوك، إنما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة"4. وذكروا أنه دعا إلى الرحمن، أي إلى عبادة الرحمن. بينما عرف نفسه بـ"الرحمن"، فقيل له: "رحمان اليمامة"5. وأنه دعا إلى عبادته هذه قبل النبوة، وقد عرف أمره بمكة، فلما نزل الوحي على الرسول، قال أهل مكة إنما أخذ علمه من "رحمان" اليمامة6.
وقالوا له: "إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن، ولن نؤمن به أبدًا" "فأنزل الله سبحانه: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي} . كان مسيلمة بن حبيب الحنفين ثم أحد بني الدول قد تسمى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمرين. ذكر وثيمة بن موسى أن مسيلمة تسمى بالرحمن قبل أن يولد عبد الله أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم"7.
قال "الواحدي" في أسباب نزول الآية: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ
__________
1 الحيوان "4/ 371 وما بعدها" المعارف "405".
2 الروض الأنف "2/ 340"، "وفد بني حنيفة"، امتاع الأسماع "1/ 506".
البلاذري، فتوح "97"، "اليمامة"
3 الاشتقاق "209" البلاذري: فتوح "100".
4 الروض الأنف "2/ 340"، اليعقوبي "1/ 120".
5 Shorter Ency, p. 416.
6 Shorter Ency, p. 416
7 الروض الأنف "1/ 200".(11/86)
هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 1: "قال أهل التفسير: نزلت في صلح الحديبية، حين أرادوا كتاب الصلح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن، إلا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب. اكتب باسمك اللهم. وهكذا كانت الجاهلية يكتبون، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية"2
وذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} 3، "أن مسيلمة كان يدعى الرحمن. فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم، "اسجدوا للرحمن" قالوا: أنسجد لما يأمرنا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة بالسجود له"4. أو أنهم قالوا: "ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة. يعنون مسيلمة الكذاب"5.
ولا يعقل قول من قال إن مسيلمة كان يعرف بـ"الرحمن" قبل ولادة "عبد الله" والد الرسول. أما أنه كان أسن من الرسول فلا غرابة في ذلك، ولكني لا أرى أنه كان أكبر من الرسول بعشرات السنين. ومن الجائز أن يكون قد دعا إلى عبادة "الرحمن"، وهي عبادة كانت شائعة معروفة إذ ذاك، في اليمامة وفي غير اليمامة، فعرف بين قومه بـ"رحمن اليمامة"، وذلك قبل نزول الوحي على الرسول، فسمع أهل مكة بدعوته.
وورد في رواية أن "أبا جهل" سمع "رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الحجر ويقول: "يا الله يا رحمن". فقال: كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة، وهو يدعو إلهين. فنزلت هذه الآية،: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} 6.
وفي هذا الخبر إن صح، دلالة على أن أهل مكة كانوا قد سمعوا بعبادة "الرحمن" وأنهم سمعوا أن قومًا من الجاهليين دعوا إلى عبادته، وأن "أبا جهل" كان قد سمع قولهم، ولهذا أخذ على النبي قوله: يا الله يا رحمن. ولا يعقل ألا يكون لأهل مكة علم بعبادة "الرحمن" التي تحدثت عنها في موضع آخر، وقد كان
__________
1 الرعد، الرقم 13، الآية 30.
2 أسباب النزول "205 وما بعدها" تفسير القرطبي "9/ 317 وما بعدها".
3 الفرقان، الآية 60.
4 تفسير الطبري "19/ 19" روح المعاني "19/ 36".
5 تفسير القرطبي "13/ 64".
6 تفسير القرطبي "9/ 318".(11/87)
لهم اتصال باليمن وباليمامة وبمعظم أنحاء جزيرة العرب. وأرى أن "مسيلمة" كان قد دعا إلى عبادة الرحمن متاثرًا بدعوة المتعبدين له ممن كان قبله على ما يظهر، وهي عبادة إله اسمه "الرحمن" فعرف مسيلمة بـ"الرحمن" وبـ"رحمن اليمامة" وعبادة الرحمن ديانة متأثرة بفكرة التوحيد، وبوجود إله واحد هو "الرحمن" رب العالمين.
وقد أشير إلى موضع اسمه "وادي الرحمن" في الكتاب الذي أعطاه رسول الله لي "يزيد بن المحجل" الحارثي، ورد فيه: "إن لهم غرة ومساقيها ووادي الرحمن من بين غايتها"1. ولا أستبعد احتمال وجود صلة بين هذه التسمية وبين الرحمن الإله.
وقد وصف الرواة "مسيلمة" بأنه "كان قصيًرا شديد الصفرة أخنس الأنف أفطس"2.
ويظهر من غربلة ما ذكره أهل الأخبار عن "مسيلمة أنه كان أكبر عمرًا من الرسول. وأنه كان قد تكهن وتنبأ باليمامة ووجد له أتباعًا قبل نزول الوحي على النبي. وأن أهل مكة كانوا على علم برسالته. ويذكر أهل الأخبار أن "مسيلمة" كان ابن مائة وخمسين سنة حين قتل3. وهو عمر قد بولغ فيه ولا شك؛ إذ لا يعقل أن يكون في هذه السن يوم قتل فقد كان فعالًا نشيطًا، نشاطًا لا يمكن أن يظهر إلا من رجل قوي فعال، هو دون المائة.
وكان "مسيلمة" يدعي أن معه رئيًّا في أول زمانه، ولذلك قال الشاعر حين وصفه.
ببيضة قارور وراية شادن ... وخلة جني وتوصيل طائر4
وكان "مسيلمة" في جملة رجال "وفد حنيفة" الذي قصد الرسول، وفيهم "رحال بن عنفوة" لكنه -كما يقول الرواة- لم يذهب مع الوفد.
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 268" "ذكر بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسل يكتبه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام".
2 البلاذري، فتوح "100".
3 الروض الأنف "2/ 340" اليعقوبي "1/ 120".
4 الحيوان "6/ 205 وما بعدها".(11/88)
إلى الرسول، بل بقي مع رحال الوفد يبصرها لهم. فلما قرروا العودة، بعد أن أسلموا وأعطاهم جوائزهم، قالوا: "يا رسول الله إنا خلفنا صاحبًا لنا في رحالنا يبصرها لنا، وفي ركابنا يحفظها علينا، فأمر له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمثل ما أمر به لأصحابه وقال: ليس بشركم مكانًا لحفظه ركابكم ورحالكم، فقيل ذلك لمسيلمة، فقال: عرف أن الأمر إلي من بعده فلما عادوا إلى ديارهم، ادعى مسيلمة النبوة، وشهد "رحال بن عنفوة" "الرحال بن عنفوة"، أن رسول الله، أشركه في الأمر، فتبعه الناس1. وكان "الرحال" قد تعلم سورًا من القرآن، فنسب إلى "مسيلمة" بعض ما تعلم من القرآن، فكان من أقوى أسباب الفتنة على "بني حنيفة" قتله "زيد بن الخطاب"، يوم اليمامة2.
وذكر "الطبري"، أن "مسيلمة" كان يصانع كل أحد ويتألفه ولا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح، "وكان معه نهار الرجال بن عنفوة" وكان قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ القرآن، وفقه في الدين، فبعثه معلمًا لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، وليشدد من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، شهد له أنه سمع محمدًا، صلى الله عليه وسلم، يقول: إنه قد أشرك معه، فصدقوه واستجابوا له، وأمروه بمكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه، فكان نهار الرجال بن عنفوة لا يقول شيئًا إلا تابعه عليه، وكان ينتهي إلى أمره3. وكان الذي يؤذن له: عبد الله بن النواحة، وكان الذي يُقيم له "حجير بن عمير"، ويشهد له، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة، قال: صرح حجير، فيزيد في صوته، ويبالغ لتصديق نفسه، وتصديق نهار وتضليل من كان قد أسلم، فعظم وقاره في أنفسهم4 فجعل "الطبري" اسم مساعد" "مسيلمة" "نهار الرجال بن عنفوة" لا "الرحال بن عنفوة" "رحال بن عنفوة".
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 316 وما بعدها" "وفد حنيفة" الطبري "3/ 137 وما بعدها" "قدوم وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة".
2 الروض الأنف "2/ 340".
3 الطبري "3/ 282 وما بعدها".
4 الطبري "3/ 283".(11/89)
كما في الموارد الأخرى. لكنه عاد فدعاه "الرجال"1 تارة و"رحال بن عنفوة" تارة أخرى، حينما تكلم عنه وعن نهايته. وذلك في أيام "أبي بكر" أي في حوادث السنة الحادية عشرة2. وأظن أن مرد هذا الاختلاف لا يعود إلى "الطبري" نفسه، بل إلى النساخ وإلى الطبع.
وقد أورد "الطبري" رواية أخرى في كيفية قدوم "مسيلمة بن حبيب" على رسول الله. فذكر "أن بني حنيفة أتت بمسيلمة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تستره بالثياب، ورسول الله جالس في أصحابه، ومعه عسيب من سعف النخل، في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله: لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتك! ". ولم يشر "الطبري" إلى أسماء من جاء معه من وفد "بني حنيفة" وقد ذكر بعد هذه الرواية الرواية السابقة التي ذكرتها، دون أن يشير إلى أسماء رجال الوفد3.
ثم قال بعد ذلك: "ثم انصرفوا عن رسول الله وجاءوا مسيلمة بما أعطاه رسول الله، فلما انتهى إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم، وقال: إني قد أشركت في الأمر معه، وقال لوفده: ألم يقل لكم رسول الله حيث ذكرتموني: أما أنه ليس بشركم مكانًا! ما ذلك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت معه، ثم جعل يسجع السجعات، ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحُبلي، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشي. ووضع عنهم الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا، ونحو ذلك"4.
ولا يتفق ما ذكره "الطبري" من وضع "مسيلمة" الصلاة عن أتباعه، مع ما أورده هو من اتخاذه مؤذنًا يؤذن بين الناس، ومن اتخاذه "مقيمًا" يقيم له الصلاة ثم مع ما ذكره غيره من أنه قلص الصلوات الخمسة فجعلها ثلاثة صلوات في اليوم5. ولا يوجد دليل على تحليله الزنا والخمر.
وذكر أن "مسيلمة"، بعد أن عاد إلى قومه كتب كتابًا إلى الرسول فيه:
__________
1 الطبري "3/ 287".
2 الطبري "3/ 281–301"، "ذكر بقية خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة".
3 الطبري "3/ 137" زاد المعاد "3/ 31 وما بعدها".
4 الطبري "3/ 138"، زاد المعاد "3/ 31".
5 Shorter Ency, p. 416.(11/90)
"من مسيلمة رسول الله على محمد رسول الله، أما بعد، فإني قد أشركت معك في الأمر، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشًا قومًا يعتدون" فكتب إليه رسول الله: "بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فالسلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء والعاقبة للمتقين" وقدم بكتاب مسيلمة رجلان فسألهما رسول الله عنه فصدقاه، فقال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما1.
وتذكر رواية أخرى أن مسيلمة قال للرسول يوم وفد عليه مع من وفد من رجال "حنيفة" "إن شئت خلينا لك الأمر وبايعناك على أنه لنا بعدك. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا ولا نعمة عين ولكن الله قاتلك".
وتذكر رواية أخرى أن "هوذة بن علي الحنفي" صاحب اليمامة، قد كتب إلى النبي، أن يجعل له الأمر من بعده على أن يسلم ويصير إليه فينصره، فقال رسول الله: لا ولا كرامة الله اكفنيه، فمات بعد قليل2.
وروي أن رسول الله، بعث "حبيب بن زيد بن عاصم" أحد "بني النجار" و"عبد الله بن وهب الأسلمي" إلى مسيلمة، فلم يعرض لعبد الله، وقطع يدي حبيب ورجليه3.
وذكر أن رسولي مسيلمة اللذين حملا كتابه إلى الرسول، كانا "ابن الفواحة" و"ابن أثال"، وأنهما قالا لرسول الله: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال الرسول: لو كنت قاتلًا رسولًا لقتلتكما. فعادا إلى صاحبهما4.
وذكر "الطبري" أن مسيلمة" "ضرب حرمًا باليمامة، فنهى عنه، وأخذ الناس به، فكان محرمًا، فوقع في ذلك الحرم قُرى الأحاليف، أفخاذ من بني أسيد، كانت دارهم باليمامة فصار مكان دارهم في الحرم". فصاروا يغيرون على ثمار أهل اليمامة، ويتخذون الحرم دغلًا، فإن نذروا بهم فدخلوه أحجموا عنهم، وإن لم ينذورا بهم فذلك ما يريدون. "فكثر ذلك منهم حتى استعدوا عليهم، فقال: أنتظر الذي يأتي من السماء فيكم وفيهم، ثم قال لهم:
__________
1 امتاع الأسماع "1/ 508 وما بعدها" اليعقوبي"1/ 120".
2 البلاذري، فتوح "97" "اليمامة".
3 البلاذري، فتوح "102".
4 زاد المعاد "3/ 32".(11/91)
والليل الأطحم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم فقالوا: أما محرم استحلال الحرم وفساد الأموال! ثم عادوا للغارة، وعادوا للعدوى. فقال: أنتظر الذي يأتيني، فقال: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس: فقالوا: أما النخل مرطبة فقد جدوها، وأما الجدران يابسة فقد هدموها، فقال اذهبوا وارجعوا فلا حق لكم"1.
وقد أورد أهل الأخبار كلامًا زعموا أن "مسيلمة" نظمه مضاهاة للقرآن. من ذلك قوله: "يا ضفدع نقي كما تنقين! نصفك في الماء ونصفك في الطين! لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين"2. "وكان فيما يقرأ لهم فيهم: إن بني تميم قوم طهر لقاح، لا مكروه عليهم ولا إتاوة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كل إنسان، فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن"3. "وكان يقول: والشاة وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تمجعون". "وكان يقول: يا ضفدع ابنة ضفدع، نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين". "وكان يقول: والمبذرات زرعًا، والحاصدات حصدًا، والذاريات قمحًا، والطاحنات طحنًا، والخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا، إهالة وسمنًا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه"4. وذكر بعض أهل الأخبار أن "أبا بكر" لما سأل وفدًا من "بني حنيفة" أرسله "خالد" إليه عما كان يقوله لهم: "قالوا: كان يقول يا ضفدع نقي نقي، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون"5.
ويظهر من أسلوب هذه الآيات المنسوبة إلى "مسيلمة" أنها محاكاة ومضاهاة للآيات الأولى من القرآن الكريم، الآيات التي نزلت بمكة في عهد الرسالة الأولى.
__________
1 الطبري "3/ 283".
2 الحيوان "5/ 530.
2 الطبري "3/ 283" وما بعدها".
4 الطبري "3/ 283 وما بعدها".
5 الطبري "3/ 300".(11/92)
وهي بذلك تختلف عن أسلوب الوحي المنزل بعد الهجرة بالمدينة1. ولم نجد فيما بقي من كتب أهل الأخبار ما يشير بشيء إلى "قرآن مسيلمة" أو إلى بقية أخرى منه.
هذا ولا بد لي من التنبيه إلى أننا لا نستطيع التأكيد بأن ما نسب إلى مسيلمة من كلام هو حق وصحيح. فمن الجائز أن يكون قد وضع عليه وضعًا. وقد رأينا كيف أنهم اختلفوا في رواية "يا ضفدع" اختلافًا بينًا في ضبط العبارات
وكان الناس يقصدون "مسيلمة" ليسمعوا منه، بعد أن اشتهر أمره. وقد تمكن من التأثير في بعضهم. وكان ممن قصده "المتشمس بن معاوية"، عم "الأحنف بن قيس" الشهير. فلما خرج من عنده قال عنه إنه كذاب2. وقال عنه "الأحنف" وقد رآه أيضًا، وقد سئل كيف هو؟ ما هو بنبي صادق، ولا بمتنبئ حاذق3.
وذكر أهل الأخبار أن مسيلمة كان صاحب "نيرجات" وتمويه واحتيال يدعي المعجزات والآيات، وأنه أول من أدخل البيضة في القارورة، وأول من وصل جناح الطائر المقصوص، وكان يدعي أن ظبية تأتيه من الجبل فيحلب لبنها. وقد جربه قوم، فوجدوا آياته "منكوسة. تفل في بئر قوم سألوه ذلك تبركًا، فملح ماؤها. ومسح رأس صبي فقرع قرعًا فاحشًا، ودعا لرجل في ابنين له بالبركة، فرجع إلى منزله، فوجد أحدهما قد سقط في البئر والآخر قد أكله الذئب. ومسح على عيني رجل استشفى بمسحه فابيضت عيناه"4، ومسح وجه "أبا بصير"، وهو صبي من "بني يشكر بن وائل" وكانوا أتوا به "مسيلمة" فعمي، فكني "أبا بصير"، وكان يروى عنه5. وأتته امرأة من بني حنيفة، تكنى بأم الهيثم، "فقالت: إن نخلنا لسحق وإن آبارنا لجرز، فادع الله لمائنا ولنخلنا، كما دعا محمد لأهل هزمان"، فدعا بسجل، ودعا لهم فيه، ثم تمضمض بفمه منه، ثم مجه فيه، فانطلقوا به حتى فرغوه في تلك.
__________
1 Shorter Ency, p. 416.
2 المعارف "424".
3 أمالي المرتضى "1/ 292".
4 الروض الأنف "2/ 340".
5 المعارف "454".(11/93)
الآبار، ثم سقوه نخلهم، فغارت مياه تلك الآبار، وخوى نخلهم، وقد ذكر "الطبري" هذه الملاحظة: "وإنما استبان ذلك بعد مهلكه"1.
وروى الطبري"، أخبارًا أخرى من هذا النوع، ذكر أن "نهارًا" قال له: برك على مولودي بني حنيفة، فقال له: وما التبريك؟ قال: كان أهل الحجاز إذا ولد فيهم المولود أتوا به محمدًا فحنكه ومسح رأسه، فلم يؤت مسيلمة بصبي فحنكه ومسح راسه إلا قرع ولثغ. وذكر أن "نهارًا" قال له: توضأ واعطِ وضوءك إلى أصحاب الحيطان، أي البساتين كما يفعل محمد، فأعطى أحدهم وضوءه، فسقى به حائطه، فيبست أشجاره، وصارت الأرض يبابًا لا ينبت مرعاها. وأعطى "مسيلمة" رجلًا سجلًا من ماء، وكانت أرضه سبخة، فأفرغه في بئره فغرقت أرضه، فما جف ثراها، ولا أدرك ثمرها. وأتته امرأة فاستجلبته إلى نخل لها يدعو لها فيها فجزت كبائسها يوم عقرباء كلها2.
وقد عرف "مسيلمة" بين أتباعه بـ"رسول الله" وكانوا يتعصبون له، ويؤمنون به إيمانًا شديدًا. وذكر أن "طلحة النميري" جاء إلى اليمامة، فقال "أين مسيلمة"قالوا: إنه رسول الله! فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم. قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنك لكذاب وأن محمدًا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر" أو "أنه قال كذاب ربيعة أحب إلي من كذاب مضر" فقتل معه "يوم عقرباء"3.
ويظهر من بعض ملاحظات "الطبري" عن هذه الأخبار، أنها إنما ظهرت وقيلت بعد هلاك "مسيلمة" فقد قال في موضع: "وكانوا قد علموا واستبان لهم، ولكن الشقاء غلب عليهم"4، وقال في موضع آخر: "وإنما استبان ذلك بعد مهلكه"، و"استبان ذلك بعد مهلكه"5. ولهذه الملاحظات أهمية كبيرة بالطبع في تقييم صدق هذه الروايات وصحتها، فالعادة أن من يفشل ويهلك.
__________
1 الطبري "3/ 284 وما بعدها".
2 الطبري "3/ 285 وما بعدها".
3 الطبري "3/ 286".
4 الطبري "3/ 286".
5 الطبري "3/ 285".(11/94)
لا سيما إذا كان قد نال حظًّا من المكانة والجاه والاسم، يحمل عليه كثيرًا، ولا يتورع حتى أصحابه ومن كان يؤمن به من الدس عليه.
واتخذ "مسيلمة" مؤذنًا يؤذن له في أتباعه اسمه "حجير". "وكان أول ما أمر أن يذكر مسيلمة في الأذان، توقف. فقال له محكم بن الطفيل: صرح حجير، فذهبت مثلًا". وكان "محكم بن طفيل الحنفي" صاحب حربه ومدبر أمره، وكان أشرف منه في حنيفة"1. وذكر "الطبري" أن الذي كان يؤذن له "عبد الله بن النواحة"، وكان الذي يقيم له حُجير بن عمير، ويشهد له. وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة، قال صرح حجير، فيزيد في صوته ويبالغ لتصديق نفسه2. وذكر أن مؤذنه "حجير"، كان إذا أذن يقول أشهد أن مسيلمة يزعم أنه رسول الله، فيقول مسيلمة له: أفصح حجير، فذهبت مثلًا3.
ورووا أنه تزوج "سجاح" التي تنبأت، وهي تميمة من" بني يربوع"، وكان يقال لها "صادر" وكان لها مؤذن، يقال له "زهير بن عمرو"، من "بني سليط بن يربوع"، ويقال إن "شبث بن ربعي" أذَّن لها4.
وذكروا أنها كانت كاهنة زمانها، تزعم أن رئيها ورئى سطيح واحد، ثم جعلت ذلك الرئي ملكًا حتى ادعت النبوة، فاختلفت مع "مسيلمة" وكذبته وجحدت نبوته، فلما اتصلت به وتزوجته، وهبت نفسها له. فقال لها فيما زعموا:
ألا قومي إلى المخدع ... فقد هيى لك المضجع
فإن شئت سلقناك ... وإن شئت على أربع
وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع
فقالت بل به أجمع. فجرى المثل بلغمتها حتى قيل أغلم من سجاح5.
__________
1 الروض الأنف "2/ 340 وما بعدها".
2 الطبري "3/ 283".
3 البلاذري، فتوح "100".
4 المعارف "405".
5 ثمار القلوب "315" وما بعدها".(11/95)
وفيها قال قيس بن عاصم، وقيل عطارد بن حاجب بن زرارة:
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الله ذكرانا
يا لعنة الله والأقوام كلهم ... على سجاح ومن بالإفك أغرانا
أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت ... أصداؤه ماء مزن حيثما كانا1
ولما قتل "مسيلمة" رثاه بعض شعراء بني حنيفة بقوله:
لهفي عليك أبا ثمامة ... لهفي على ركني تهامة
كم آية لك فيهم
كالشمس تطلع من غمامة2 ... قتله "وحشي" قاتل حمزة3
وذكر أهل الأخبار أن "مسيلمة" كان قد تزوج "كبشة بنت الحارث بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس"4 كيسة بنت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس"5، ثم تركها فخلف عليها" "عبد الله بن عامر بن كريز"، فولدت له. ويظهر أنها لم تلد من "مسيلمة".
والذي يقرأ ما ذكره "الطبري" عن "مسيلمة" وعن صلة "نهار" به، يخرج بصورة تظهره شخصًا جاهلًا بليدًا، يحركه ويوجهه "نهار" حيث يريد، لا يفهم ولا يعقل، ولا يعرف كيف يتصرف، ولا يتخذ رأيًا حتى يشير عليه "نهار" به "فكان نهار الرجال بن عنفوة لا يقول شيئًا إلا تابعه عليه"6.
وهي صورة تخالف ما نقرؤه عنه في الموارد الأخرى. ولو كان "مسيلمة" على نحو ما صوره الطبري، لما التفت حوله "بنو حنيفة" ولما استماتوا في الدفاع عنه. ولما ضحى "الرحال بن عنفوة" و"محكم بن الطفيل" وغيرهما بأنفسهم
__________
1 ثمار القلوب "315"، المعارف "405".
2 المعارف "405" "كم آية لأبيهم" الحيوان 4/ 378".
3 رسائل الجاحظ "1/ 180" الطبري "3 / 294 وما بعدها"
4 كتاب نسب قريش "20".
5 الروض الأنف "2/ 198، 341"، "كيسة بنت الحارث بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس"، المحبر "440" امتاع الأسماع "247" كتاب نسب قريش "147".
6 الطبري "3/ 283".(11/96)
في الدفاع عنه. حتى إن منهم من بقي مؤمنًا به حتى بعد مقتله، وتغلب المسلمين على اليمامة.
وقد كتب الجاحظ قصة مسيلمة وقصة "ابن النواحة" ولعله قصد به "عبد الله بن النواحة" مؤذنه، في كتابه المفقود حتى اليوم "فصل ما بين النبي والمتنبي" حيث ذكر جميع المتنبين1. وذكر "البلاذري" أن "مسيلمة"، كان قد أرسل كتابه الذي كان وجهه إلى الرسول والذي فيه "من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله، أما بعد: فإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشًا لا ينصفون، والسلام عليك. وكتب "عمرو بن الجارود الحنفي"، مع "عبادة بن الحارث" أحد بني عامر بن حنيفة، وهو "ابن النواحة" الذي قتله عبد الله بن مسعود بالكوفة2.
وكان "مسيلمة" قد أمر "عمرو بن الجارود الحنفي" بتدوين كتابه الذي وجهه إلى الرسول، فأمر الرسول كاتبه "أبي بن كعب" بالرد عليه. ومعنى هذا أن مسيلمة كان قد اتخذ له كتبه يكتبون له رسائله، على نحو ما كان لرسول الله.
وأنا لا أستبعد احتمال علم "مسيلمة" بالكتابة والقراءة. وإن لم ينص أهل الأخبار على ذلك. كما لا أستبعد احتمال التقائه باليهود وبالنصارى وأخذه منهم، فقد كان في اليمامة قوم من أهل الكتاب، ودعوته إلى عبادة إله هو "الرحمن"، تدل على تأثره بأتباع هذه الديانة وبأهل الكتاب.
هذا ولم أجد في الأخبار المتعلقة بمسيلمة خبرًا يفيد صراحة أن مسيلمة كان قد اعتنق الإسلام ودخل فيه. فالأخبار التي تتحدث عن مجيئه إلى يثرب لا تشير إلى ذلك، والأخبار الأخرى التي تتحدث عنه وهو في اليمامة لا تشير على قبوله الإسلام كذلك، بل نجد فيها كلها أنه ظل يرى نفسه نبيًّا مرسلًا من "الرحمن" وصاحب رسالة، لذلك فليس من الصواب أن نقول: "ردة مسيلمة"، أو "ارتداد مسيلمة"، أو نحو ذلك؛ لأنه لم يعتنق الإسلام ثم ارتد عنه، حتى ننعته بالمرتد.
__________
1 الحيوان "4/ 378".
2 البلاذري، فتوح "97".(11/97)
وكان "مجاعة بن مرارة" الذي نزل عليه مسيلمة" من رؤساء "بني حنيفة" وممن وفد على الرسول، فأعطاه النبي أرضًا باليمامة يقال لها "الغورة" وكتب له بذلك كتابًا. وذكر بعض أهل الأخبار أنه كان بليغًا حكيمًا وقد أسر "يوم اليمامة" فتوسط له بعض وجوه "بني حنيفة" لدى خالد أن يبقيه، فأرسله إلى "أبي بكر" فصفح عنه. وقد كان قد انجرف مع من انجرف فمال إلى "مسيلمة" وأيده، وحارب معه. وله شعر أشار فيه إلى مسيلمة1، ونعته فيه بـ"الكذاب". ولما وفد على "أبي بكر" أقطعه "الخضرمة"، ثم قدم على عمر، فأقطعه الرياء، ثم قدم على عثمان، فأقطعه قطيعة أخرى2.
وأما "الرحال بن عنفوة" "رحال بن عنفوة" فهو "نهار الرجال بن عنفوة" الرجال بن عنفوة" في تأريخ الطبري3. وهو من وجوه "بني حنيفة" واسمه "نهار"، وكان في الوفد الذي جاء إلى الرسول، وقد اختلف إلى "أبي بن كعب" ليتعلم منه القرآن. وكان رئيس وفد "حنيفة" "سلمى بن حنظلة"4 وقد تعلم سورة البقرة وسورًا من القرآن5. وذكر أنه كان على غاية من الخشوع واللزوم لقراءة القرآن والخير، ثم انقلب على عقبيه وصار من أشد أعوان مسيلمة المقربين له، فشهد له أن الرسول أشركه معه في الأمر. وكان أحد وفد "بني حنيفة" إلى رسول الله، وفيهم "فرات بن حيان"6.
وأما "محكم بن طفيل بن سبيع" الحنفي، فقد كان من أشراف وسادات
__________
1 قال مجاعة:
أترى خالدا يقتلنا اليو ... م بذنب الأصيفر الكذاب
لم ندع ملة النبي ولا نحـ ... ـن رجعنا فيها على الأعقاب
"الأصغر" الإصابة "3/ 342" "رقم 7724" الحيوان "4/ 371" "حاشية" المرزباني، معجم "472" الجاحظ، البيان "3/ 263" "مجاعة بن مرارة بن سلمى بن زيد بن عبد بن ثعلبة بن يربوع بن الدول بن حنيفة"، كتاب الطبقات، لخليفة بن خياط "66، 289".
2 البلاذري، فتوح "103".
3 طبعة "دار المعارف" بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
4 ابن سعد، طبقات "1/ 316"، "وفد حنيفة" الروض الأنف "2/ 340".
5 البلاذري، فتوح "97".
6 الإصابة "10/ 521"، "رقم 2761".(11/98)
"بني حنيفة". وهو أشرف من مسيلمة في حنيفة1. وكان من المقدمين عند مسيلمة. وقد عهد "مسيلمة" إليه قيادة إحدى المجنبتين في قتاله مع "خالد بن الوليد". وقد عرف بـ"محكم اليمامة" وقد قتل وهو يحارب المسلمين2. "قتله خالد بن الوليد يوم مسيلمة"3.
وأما فرات بن حيان بن ثعلبة بن عبد العزى بن حبيب" العجلي، فكان عينًا لأبي سفيان في حروبه، وكان ممن هجا الرسول، ثم أسلم ومدحه، وأقطعه الرسول أرضًا باليمامة، ثم سكن الكوفة وأقام بها. وكان في حرب الخندق عينًا للمشركين4.
وأما أثال بن النعمان الحنفي، فكان مع "فرات بن حيان" حين قدم المدينة وقد كلم الرسول. وذكر في رواية أنه كان مع ثمامة بن أثال في قتال مسيلمة في الردة5.
وكان "ثمامة بن أثال بن النعمان بن سلمة الحنفي"، من قدماء من أسلم من أهل اليمامة. فقد أرسل رسول الله خيلًا قبل نجد، فجاءت به، فربطوه بسارية من سواري المسجد بيثرب، فكلمه الرسول، ثم أمر فأطرق من رباطه، فدخل في الإسلام، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت! قال: لا والله ولكن أسلمت مع محمد رسول الله ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها النبي. ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئًا. فكتبوا إلى النبي: إنك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل إليهم6. وكانت ميرة قريش من اليمامة ومنافعهم منها، وكانت ريف مكة. ولما ارتد أهل اليمامة، وصاروا مع مسيلمة، ثبت أثال على الإسلام فكان مقيمًا باليمامة ينهاهم عن اتباع مسيلمة وتصديقه، فلما عصوه وأصفقوا على اتباع مسيلمة، عزم على مفارقتهم، ففارقهم ولحق بالعلاء بن الحضرمي في مقاتلة.
__________
1 الروض الأنف "2/ 341".
2 الطبري "3/ 290"، الاشتقاق "210" تاج العروس "8/ 254"، "حكم".
3 اللسان "12/ 142" "حكم" تاج العروس "8/ 254"، "حكم".
4 الإصابة "3/ 195" "رقم 6966".
5 الإصابة "1/ 33"، "رقم 35".
6 إرشاد الساري "6/ 432 وما بعدها".(11/99)
المرتدين من أهل البحرين، فلما ظفروا اشترى ثمامة حلة كانت لكبيرهم: "الحطم" فرآها عليه ناس من "بني قيس بن ثعلبة" فظنوا أنه هو الذي قتله وسلبه فقتلوه. وقد رووا له شعرًا في الرسول وفي الردة1. وكان له عم اسمه" عامر بن سلمة بن عبيد بن ثعلبة الحنفي" وقد كان مسلمًا2.
وجاء في رواية أن رسول الله لما بعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي في رجب سنة تسع، فأسلم المنذر ورجع العلاء، فمر باليمامة، قال له ثمامة بن أثال: أنت رسول محمد؟ قال: نعم. قال: لا تصل إليه أبدًا، فقال له عمه: عامر بن سلمة بن عبيد بن ثعلبة الحنفي: ما لك وللرجل، فأسلم عامر، ووقع ثمامة بعد ذلك في الأسر3.
وكان "معمر بن كلاب الرماني"، جارًا لثمامة بن أثال، وهو ممن وعظ مسيلمة وبني حنيفة ونهاهم عن الردة، فلما عصوه تحول إلى المدينة فمنعه ثمامة حتى رده وشهد قتال اليمامة مع خالد4.
و"الحطم" المذكور، هو "الحطم بن هند" البكري، أحد "بني قيس بن ثعلبة"، قدم المدينة في رواية في عير له يحمل طعامًا فباعه، ثم دخل على النبي، فبايعه وأسلم، فلما قدم اليمامة، ارتد عن الاسلام، وخرج في عبر له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة، وكان عظيم التجارة، وأراد المسلمون أن يتلقوه ويأخذوا ما معه، فمنعهم الرسول من ذلك لحرمة الشهر. وذكر أنه بعد أن قابل الرسول، وسمع منه مبادئ الإسلام. قال الحطم: في أمرك هذا غلظة، أرجع إلى قومي، فأذكر لهم ما ذكرت، فإن قبلوه أقبلت معهم، وإن أدبروا أدبرت معهم. قال له: ارجع. فلما رجع مر بسرح من سرح المدينة، فساقه فانطلق به5.
وذكر أن "الحطم" قتل في الجيار، من نواحي البحرين لما ارتدت بكر بن وائل6.
__________
1 الإصابة "1/ 204"، "رقم 961"، الاستيعاب "1/ 205 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة" تاج العروس "7/ 203"، "أثل".
2 الإصابة "2/ 241"، "رقم 4390".
3 الإصابة "2/ 241" "رقم 4390".
4 الإصابة "3/ 475"، "8452".
5 تفسير الطبري" 6/ 38".
6 تاج العروس "3/ 116"، "جير".(11/100)
هذا هو كل ما ورد إلى علمنا عن الأنبياء العرب في الجاهلية. وقد حصلنا عليه من المؤلفات الإسلامية. أما نصوص جاهلية، فيها شيء عن النبوة والأنبياء، فلم يصل إلينا منها أي شيء.
يقول "أبو العلاء المعري" عن ادعاء بعض الناس بالأمامة والنبوة في الإسلام: "ولم تكن العرب في الجاهلية تقدم على هذه العظائم، والأمور غير النظائم، بل كانت عقولهم تجنح إلى رأي الحكماء، وما سلف من كتب القدماء. إذ كان أكثر الفلاسفة لا يقولون بنبي، وينظرون إلى من زعم ذلك بعين الغبي"1. فهو ينكر وجود نبوة وأنبياء عند الجاهليين للسبب المذكور. وهو يقصد ولا شك بها، النبوة على وفق المعنى المفهوم منها في الإسلام. أي أن تكون بوحي ينزل على النبي من الإسلام، وبكلام منزل يتلوه على الناس، يكون كلام الله لا كلام النبي.
__________
1 رسالة الغفران "440"، "بنت الشاطئ".(11/101)
الفصل الرابع والستون: الله ومصير الإنسان
مدخل
...
الفصل الرابع والستون: الله ومصير الإنسان
لا نعرف رأي الجاهليين في الخلق، وفي كيفية نشوء هذا الكون؛ إذ لم تصل إلينا نصوص جاهلية في هذا المعنى. ولا بد أن يكون لهم كما كان لغيرهم رأي في الخلق وفي نشوء الكون. فموضوع نشوء الكون وظهوره، من الموضوعات التي تثير رأي كل إنسان مهما كانت ثقافته وكان تفكيره.
وفي القرآن الكريم كلمات مثل "البارئ" و"المصور" و"الخلاق" و"خلقنا" و"خلقت" و"خلقناكم" و"خالق" وغيرها مما له علاقة بخلق الكون والإنسان وبقية المخلوقات، وفيه كيفية خلق الله للكون ومن فيه وكيفية خلق الإنسان ومن أي شيء خلق. ولكن هل كان يعرف جميع الجاهليين هذا المعنى المنزل في كلام الله، وهل نزلت هذه الآيات لإرشاد الناس إلى ذلك، أو أنها نزلت لتذكير القوم ولفت نظرهم إلى شيء يعلمونه ولكنهم كانوا ينسبونه لغير الله أو يتجاهلونه، إن كان ذلك على سبيل التذكير، فمعنى هذا أن لأهل الجاهلية رأيًا في كيفية الخلق، وإن كان ذلك على سبيل التعليم والإرشاد، فإنه يدل على أن من خوطب بتلك الآيات لم يكن له فقه وعلم بما خوطب به.
وفي القرآن الكريم آيات فيها خطاب للمشركين في بيان فساد رأيهم واعتقاداتهم، وفيها رد عليهم، منها نستطيع أن نحيط بعض الإحاطة بآرائهم في الوجود وفي البعث والحشر والحساب وغير ذلك من أمور تتعلق بدياناتهم. وهذه الآيات هي(11/102)
الشواهد الوحيدة التي نملكها من آراء في ذلك العهد أما ما جاء في روايات الأخباريين وفي كتب التفسير والحديث والملل والنحل، ففيه بعض الشيء عن آراء الجاهليين القريبين من الإسلام، ولا سيما عرب مكة ويثرب عن تلك الأمور.
ويفهم من القرآن الكريم أن من الجاهليين من كان يعتقد أن للعالم خالقًا خلق الكون وسواه، وأن منهم من كان يعتقد بوجود إله واحد فهم موحدون، وأن منهم من أقر بوجود إله واحد غير أنه تعذر الوصول إليه بغير وسطاء وشفعاء فاعتقد بالأرواح وبالجن وعبد الأصنام لتكون واسطة تقربه إلى الله1.
أما كيف خلق الله الأرض والسماوات وكيف نشأ الكون، فذلك ما لم يتعرض له القرآن الكريم حكاية على لسان الجاهليين. ولذلك لا نعرف رأي أولئك القوم الذين عاصروا الرسول وعاشوا قبيل الإسلام في كيفية ظهور الوجود وخلق الكون.
ويفهم من بعض الأخباريين أن من الجاهليين من كان يرى أن خالقًا خلق الأفلاك، غير أنها تحركت أعظم حركة فدارت عليه وأحرقته؛ لأنه لم يقدر على ضبطها وإمساك حركتها، وأن منهم من كان يقول: "إن الأشياء ليس لها أول البتة، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل. فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل، تكونت الأشياء مركباتها وبسائطها من ذاتها لا من شيء آخر. وقالوا إن العالم لم يزل ولا يزال ولا يتغير ولا يضمحل مع فعله. وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التي فيه"2. وهذا كلام إن صح أنه من كلام الجاهليين ومن مقالاتهم، فإنه يدل على تعمق القوم في المقالات، وعلى أن لهم رأيًا وفلسفة في الدين، وأنهم لم يكونوا على الصورة التي يتخيلها معظمنا عنهم، وهي الصورة التي رسمها لهم أهل الأخبار في أثناء كلامهم العام عن الجاهليين.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 194 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "2/ 220 وما بعدها".(11/103)
الله الخالق:
ويظهر من القرآن الكريم، أن قريشًا كانوا يؤمنون بإله واحد خلق الكون، وهو رب السماوات والأرض. ففي سورة العنكبوت: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ(11/103)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. وفي هذه السورة نفسها سؤال آخر موجه إلى المشركين {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 2. وفي سورة لقمان سؤال آخر موجه إلى أولئك المشركين، وجواب صادر منهم، هو هذا الجواب نفسه: إقرار بوجود خالق واحد خلق السماوات والأرض: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 3. وفي سورة الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 4. وفي سورة الزمر: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} 5، وفي سورة الزخرف أيضًا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 6، وفي سورة العنكبوت {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 7. وهناك آيات أخرى على هذا النحو، فيها أسئلة موجهة إلى المشركين عن خلق السماوات والأرض، وأجوبة على ألسنتهم فيها اعتراف بأن خالقها وصانعها هو الله.
وفي القرآن الكريم أيضًا أن قريشًا كانت تعتقد أن الله هو الذي ينزل المطر ويحيي الأرض بعد موتها8، وفيه أنهم كانوا يقسمون به9، وأنهم كانوا قد جعلوا له نصيبًا مما ذرأ من الحرث والأنعام10، وأنهم كانوا يقولون إن الله هو الذي شاء فجعلهم وآباءهم مشركين، وأنه لو لم يشأ لما أشركوا بعبادته أحدًا11، وأنهم كانوا يتضرعون إليه ويستغيثون به في الكوارث والملمات، وأنهم جعلوا له
__________
1 سورة العنكبوت، الرقم 29، الآية 61.
2 العنكبوت، الآية 63.
3 سورة لقمان، الرقم 31، الآية 25.
4 الزخرف، الرقم 43، الآية 9.
5 الزمر، الرقم 39، الآية 38.
6 الزخرف، الرقم 43، الآية 87.
7 العنكبوت، الرقم 29، الآية 63.
8 العنكبوت، الآية 63.
9 الأنعام، الآية 109، النحل، الآية 38.
10 الأنعام، الآية 136.
11 الأنعام، الآية 148.(11/104)
بناتًا وبنين وشركاء الجن1. فقريش إذن وفق هذه الآيات قوم، كانوا يؤمنون بإله عزيز عليهم، ومن آيات ذلك أنهم جعلوا له نصيبًا في أموالهم، مع أن المال من أعز الأشياء على الإنسان، لا سيما بالنسبة لتلك الأيام.
وفي تلبية الجاهليين المنصوص عليها في كتب أهل الأخبار اعتراف صريح واضح بوجود إله. كانوا يلبون بقولهم: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريك هو لك. تملكه وما ملك، يعنون بالشريك الصنم، يريدون أن الصنم وما يملكه ويختص به من الآلات التي تكون عنده وحوله والنذور التي كانوا يتقربون بها إليه كلها ملك لله عز وجل"2 فذلك معنى قولهم: تملكه وما ملك. فهم يعترفون ويقرون بوجود الله، لكنهم يتقربون إليه بالأصنام. وهذا هو الشرك.
وفي دعاء العرب اعتراف بوجود "الله"، فقولهم: "رماه الله بما يقبض عصبه"، و"قمقم الله عصبه"، و"لا ترك الله له هاربًا ولا قاربًا"، و"شتت الله شعبه"، و"مسح الله فاه"، و"رماه الله بالذبحة"، و"رماه الله بالطسأة"، و"سقاه الله الذيغان"، و"جعل الله رزقه فوت فمه"، و"رماه في نيطه"، و"قطع الله به السبب"، و"قطع الله لهجته"، و"مد الله أثره"، و"جعل الله عليها راكبًا قليل الحداجة"، و"لا أهدى الله له عافية"، و"أثل الله ثلله"، و"حته الله حت البرمة"، و"رماه الله بالطلاطلة"، و"رماه الله بالقصمل"، و"ألزق الله به الحوبة"، و"لحاه الله كما يُلحى العود"، و"اقتثمه الله إليه"، و"ابتاضه الله"، إلى آخر ذلك من دعاء يدل على وجود إيمان بخالق هو الله3.
وفي الشعر المنسوب إلى الجاهليين اعتقاد بوجود الله، واتقاء منه، وتقرب إليه باحترام الجوار وقرى الضيف. هذا عمرو بن شأس يقول في شعره:
__________
1 الأنعام، الآية 100.
2 اللسان "10/ 450"، "شرك".
3 راجع بقيته في ذيل الأمالي والنوادر "ص57 وما بعدها"، "عود إلى بحث دعاء العرب".(11/105)
وَلَولا اِتقاءُ اللَهِ وَالعَهدُ قَد رَأى ... مَنِيَّتَهُ مِنّي أَبوكِ اللَيالِيا1
فلولا اتقاء شأس الله، لفتك بخصمه، وجعله من الهالكين. وفي بعضه اعتراف بأن هذه الأرض الواسعة هي "بلاد الله"، أينما حللت فيها فهي أرضه وبلاده2. وهذه نظرة مهمة جدًّا عن رأي الجاهليين في الله وفي الأرض، إن صح أن هذا الشعر الوارد فيه حقًّا من شعر أهل الجاهلية.
و"الله" كما جاء في شعر زهير بن أبي سُلمى، عالم بكل شيء، عارف بالخفايا وبالأسرار، وبما ظهر من الأعمال وما بطن1.
فَلا تَكتُمُنَّ اللَهَ ما في نُفوسِكُم ... لِيَخفى وَمَهما يُكتَمِ اللَهُ يَعلَم3
وهو عدو للأشقياء شديد عليهم، لا يرحم ظالمًا، وأمره بُلْغٌ به تشقى به الأشقياء4 وهو يثيب على الإحسان، ويجزي المحسن على جميل إحسانه5. وهو الذي يعصم من السيئات والعثرات6. وهو مقر بوجود يوم حساب يحاسب فيه الناس على ما قاموا به من أعمال، وقد ينتقم الله من الظالم في الدنيا قبل الآخرة، فلا مخلص له7.
__________
1 الأغاني "10/ 62"، نسب عمرو بن شأس وأخباره في هذا الشعر وغيره.
بدا لي أن الله حق فزادني ... إلى الحق تقوى الله ما قد بدا ليا
شرح ديوان زهير "287".
2
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
ديوان عروة "51".
3 شرح ديوان زهير "18".
4
فهداهم بالأسودين وأمر ... الله بلغ يشقى به الأشقياء
اللسان "10/ 302"، "بلغ".
فهداهم بالأسودين وأمر ... الله بلغ تشقى به الاشقياء
تاج العروس "6/ 4"، "بلغ".
5
رأى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... فأبلاهما خير البلاد الذي يبلو
شرح ديوان زهير "109".
6
ومن ضريبته التقوى ويعصمه ... من سيئ العثرات الله والمرحم
شرح ديوان زهير "ص162".
7
فلا تكتمن الله ما في صدوركم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيودع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم
شرح ديوان زهير، لثعلب "ص12" بلوغ الأرب "2/ 277 وما بعدها" شعراء النصرانية "القسم الرابع ص518"، جمهرة أشعار العرب "71".(11/106)
والله "كريم" لا يكدر نعمة، إذا دُعي أجاب. وهذا هو رأي الأعشى في الرب، إذ يقول:
رَبّي كَريمٌ لا يُكَدِّرُ نِعمَةً ... وَإِذا يُناشَدُ بِالمَهارِقِ أَنشَدا1
وقد ورد اسم الجلالة في أشعار كثير من الشعراء الجاهليين: ورد في شعر امرئ القيس وغيره، فامرؤ القيس يقول: "من الله" و"لله"2، و"تالله"3، و"قبح الله"4، و"والله"5، و"يمين الله" و"يمين الإله"6، و"الإله" هي "الله"، و"الحمد لله"7. ونرى العرب عامة تستعمل في كلامها: "لله دره"8، و"لا يبعد الله"9، و"لحى الله"10،
__________
1 ديوان الأعشى، قصيدة 34 "ص151"، "تحقيق كاير".
2
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثمًا من الله ولا واغل
لله زبدان أمسى قرقرا جلدا ... وكان من جندك أصم منضودا
شرح ديوان امرئ القيس للسندوبي "ص63، 152"، وسيكون رمزه: سندوبي.
3
تالله قد علمت قيس إذا قذفت ... ريح الشتاء بيوت الحي بالعنن
شرح ديوان زهير "121".
يا لهف هند إذ خطئن كاهلا ... تا لله لا يذهب شيخي باطلا
سندوبي "154".
4
ألا قبح الله البراجم كلها ... وجدع يربوعا وعفر دارها
سندوبي "180".
5
فقد أصبحوا والله أصفاهم به ... أبر بميثاق وأوفى بجيران
والله لا يذهب شيخي باطلا ... حتى أبير مالكًا وكاهنا
سندوبي "15، 189"، شرح ديوان زهير "24".
6
كلا يمين الإله يجمعنا ... شيء وأخوالنا بنو جشما
سندوبي "181".
7
أري إبلي والحمد لله أصبحت ... ثقالًا إذا ما استقبلتها صعودها
سندوبي "64".
8
كم شامت بي إن هلكـ ... ـت وقائل: لله دره!
ديوان لبيد "ص2"، "تحقيق كارل بروكلمن".
9
وقولي ألا لا يعبد الله أربدا ... وهدى به صدع الفؤاد المفجعا
ديوان لبيد "ص6".
10
لحى الله صعلوكًا إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفا كل مجزر
ولله صعلوك صفيحة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنور
ديوان عروة بن الورد "26، 53".(11/107)
و"جزى الله"1، و"عمر الله"2، وأمثال ذلك مما يرد في أشعار الشعراء الجاهليين، يخرجنا تدوينه وحصره في هذا المكان عن حدود الموضوع.
وقد جاءت لفظة الجلالة في أيمان أخرى، في مثل: "لعمر الله"، و"ها لعمر الله" كالذي ورد في شعر زهير:
تَعَلَّمَن ها لَعَمرُ اللَهِ ذا قَسَمًا ... فَاِقدِر بِذَرعِكَ وَاِنظُر أَينَ تَنسَلِكُ3
وورد "ها الله" و"والله" و"الله" و"نعم الله" و"أي والله لأفعلن"، و"ايم الله" و"ايمن الله" و"يعلم الله" و"علم الله" وأمثال ذلك4.
ومن أيمانهم الدالة على الاعتقاد بوجود خالق، قولهم: "لا وبارئ الخلق"، و"لا والذي يراني من حيث ما نظر" و"لا والذي نادى الحجيج له"، و"لا والذي يراني ولا أراه"، و"لا والذي كل الشعوب تدينه"، و"حرام الله لا آتيك"، و"يمين الله لا آتيك"، و"لا والذي جلد الإبل جلودها"، و"والذي وجهي زمم بيته"، و"لا والذي هو أقرب إليَّ من حبل الوريد"، و"لا ومقطع القطر"، و"لا وفالق الإصباح"، و" لا ومهب الرياح" و"لا ومنشر الأرواح"5، على غير ذلك من أيمان حلفوا بها، تدل على إيمان وعقيدة بوجود خالق، فحلفوا به.
ونجد في معلقة امرئ القيس قسمًا بالله حكي على لسان صاحبة صاحب المعلقة:
فَقالَت يَمينَ اللَهِ ما لَكَ حيلَةٌ ... وَما إِن أَرى عَنكَ الغِوايَةَ تَنجَلي6
وترى في بيت لامرئ القيس وهو يذكر إقدامه على الشرب:
فَاليَومَ أُسقى غَيرَ مُستَحقِبٍ ... إِثمًا مِنَ اللَهِ وَلا واغِلِ7
__________
1
جزى الله خيرًا كما ذكر اسمه ... أبا مالك إن ذلك الحي اصعدوا
ديوان عروة "ص50".
2
قعيدك عمر الله، هل تعلمينني ... كريمًا إذا اسوَدَّ الأنامل أزهرا
ديوان عروة بن الورد "22"، Reste, s. 224
3 السنن الكبرى "10/ 26 وما بعدها"، المخصص "13/ 113".
4 المخصص "13/ 114 وما بعدها"
5 ذيل الأمالي "ص50 وما بعدها".
6 المعلقات العشر وأخبار شعرائها "62".
7 شعراء النصرانية "19".(11/108)
فالرجل مؤمن بالله، وقد وفى بما عاهد الله عليه، وهو لا يخشى بعد ذلك إثمًا إذا شرب؛ لأنه وفى بنذره.
ونراه يذكر الله أيضًا في هذا البيت:
لله زبدان أمسى قرقرًا جلدًا ... وكان من جندل أصم منضودا1
ثم نراه يشكر الله بجملة: "والحمد لله" في هذا البيت:
أرى إبلي والحمد لله أصبحت ... ثقالًا إذا ما استقبلتها صعودها
ونراه يحث الناس على التمسك بحبل الله، فبالله يكون النجاح، ويحث الناس على عمل البر، والبر خير حقيبة الرجل:
وَاللَه أَنجَحُ ما طَلَبتُ بِهِ ... وَالبِرُّ خَيرُ حَقيبَةِ الرَحلِ
ونفهم من هذه الأبيات ومن أبيات أخرى، أن امرأ القيس رجل مؤمن يعتقد بالله الواحد، مؤمن بالله الواحد، مؤمن بالثواب وبالعقاب، وأنه كان يخاف الله ويخشى الإثم والفسوق، ولا أدرى أينطبق هذا الذي نقوله على امرئ القيس الذي يتحدث عنه أهل الأخبار ويصفونه بأنه رجل عابس ميال إلى اللهو والشهوات رمى صنمه بسهم وأنبه لما جاء الجواب بخلاف ما كان يرغب فيه ويشتهيه. ثم لا أدرى إذا كان أسلوب هذا الشعر من أسلوب الشعر الجاهلي وطرازه؟ وإذا كان هذا الشعر صحيحًا، فلم أدخل رواته شاعره في الجاهليين الوثنيين ولم يدخلوه في عداد المؤمنين بالله من الأحناف؟
وإذا اعتقدنا بصحة الأبيات المنسوبة إلى عبيد بن الأبرص:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
بالله يدرك كل خير ... والقول في بعضه تلغيب
والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب
وقلنا مع القائلين إنها من شعر ذلك الشاعر حقًّا، وجب عده إذن في جملة
__________
1 شعراء النصرانية "40".(11/109)
الموحدين المؤمنين المسلمين، وإن عاش قبل الإسلام. فرجل يقول هذا القول، لا يمكن إلا أن يكون مسلمًا مؤمنًا بالله الواحد الأحد علام الغيوب والعارف بما في القلوب، ومن الممهدين للتوحيد بين العرب قبل الإسلام.
وقد أهمل بعض رواة هذه المعلقة البيت الآتي:
والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب
وكأنهم فطنوا إلى أن من غير المعقول نسبته إلى رجل وثني، مهما كان رأيه في الأوثان والتوحيد، لا يمكن أن يستعمل هذه الألفاظ التي لم يستعملها العرب بهذا الشكل إلا في الإسلام.
وإلى عبيد نفسه ينسب الأخباريون قول هذا البيت:
حلفت بالله إن الله ذو نعم ... لمن يشاء ذو عفو وتصفاح
ورجل يقول هذه الأبيات وأبياتًا أخرى من لونها، لا يمكن إلا أن يكون موحدًا مؤمنًا، من فصيلة المؤمنين بالله من الأحناف. وقد أراح "شيخو" نفسه وأراح الناس حين ذهب إلى أن عبيدًا وأمثاله من الشعراء الجاهليين كانوا نصارى وأن هذا التوحيد هو توحيد نصراني محض، وقف عليه عبيد في زيارته للحيرة مهد النصرانية في ذلك العهد، فاعتنقه، فهو على رأيه إذن شاعر نصراني، وشعره شعر نصراني لا يرد ولا يرفض.
ونجد "طفيل بن عوف" الغنوي يقسم بـ"الإله" في شعره. غير أن هناك رواية تضع "رضى" موضع "الإله" فيكون القسم به، ورضى اسم صنم كان لطيء1. وقد ذكر "الله"في مواضع أخرى من شعره، وقال إنه هو الذي يصلح الأمور، ويسد العجز والثُغر التي ليس في وسع الإنسان سدها2.
__________
1
"فقال بصير يستبين رعالها ... هم والإله من تخافين، فاذهبي
ويُروى، ولعلها رواية أبي عبيدة:
وقال بصير قد أبان رعالها ... فهي ورضى من تخافين، فاذهبي
ورضى اسم صنم كان لطيء، ديوان طفيل بن عوف الغنوي "تحقيق ف. كرنكو"
"لندن 1927"، "ص12".
2
لعمري لقد خلى ابن جيدع ثلمة ... فمن أين إن لم يرأب الله ترأب
ديوانه "ص19".(11/110)
وإنه يجزي الناس على أعمالهم1
وفي معلقة "الحارث بن حلزة" اليشكري: "أمر الله بلغ تشقى به الأشقياء"2، وأن الله عالم بالأمور3.
ونجد "المتلمس"، يُقسم بالله في شعره، ويذكر الله في مثل جملة "أبي الله"4 للتعبير عن مشيئة الله وإرادته، وجملة "لله دري" في التعجب5 وجملة "تقوى الله"6، و"عاداك الله"7 وغيرها مما يدل على أنه كان يعتقد أن الله يعادي الأعداء ويحب المحبين.
ولكننا نجده في مواضع أخرى يقسم باللات وبالأنصاب، والمقصود بالأنصاب الأوثان مما يشعر أنه كان يؤمن بها، فكيف نوفق بين اعتقاده بالله واعتقاده باللات.
__________
1
جزى الله عوفًا من موالي جنابة ... ونكراء خيرًا كل جاد مودع
ديوانه "ص50".
جزى الله عنا جعفرًا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
ديوانه "ص57".
2
فهداهم بالأسودين، وأمر الله ... بلغ تشقى به الأشقياء
شرح القصائد العشر "468"، "البيت رقم 62" من المعلقة.
3
وفعلنا بهم كما علم الله ... وما أن للخائنين دماء
البيت "رقم 75" من المعلقة، "ص475" من شرح القصائد العشر للتبريزي "محمد محيي الدين عبد الحميد".
4
يا آل بكر ألا لله احكموا ... طال الله الثواء وثوب العجز ملبوس
ديوان المتلمس "ص169" "طبعة فولرس"، جمهرة أشعار العرب "ص44، 206"، شعراء النصرانية" 332".
وقال:
وهل لي أم غيرها إن تركتها ... أبى الله ألا أن أكون لها ابنا
شعراء النصرانية "338".
وقال:
أطردتني حذر الهجاء ولا ... والله والأنصاب لا نثل
وذلك في رواية. وفي الروايات الشائعة "واللات" بدلًا من والله، ديوان المتلمس "171".
5
تفرق أهلي من مقيم وظاعن ... فلله دري أي أهلي أتبع
ديوان المتلمس "ص187".
6
وأعلم علم حق غير ظن ... وتقوى الله من خير العقاد
ديوان المتلمس "ص195"، شعراء النصرانية "343".
7
لا خاب من نفعك من رجالها ... بلا وعادى الله من عاداكا
ديوان المتلمس "ص206"، شعراء النصرانية "348".(11/111)
والأنصاب؟ وهل نعد هذا الشعر صادرًا من شاعر واحد؟ نعم، يجوز أن يكون قاله هو. قاله لأنه كان يعتقد بوجود إله، فهو يؤمن به ويقر بوجوده، غير أن قسمه باللات والأنصاب، هو من باب عقيدة الجاهليين المؤمنين بوجود إله، ولكنهم كانوا يتقربون إليه بالأصنام والأوثان والأنصاب. ويتوقف هذا التفسير بالطبع على إثبات أن هذا الشعر له حقًّا، وليس مفتعلًا، ولا مما أدخل الرواة عليه تغييرًا أو تبديلًا.
ونجد في شعر النابغة الجعدي، أبو ليلى عبد الله بن قيس، الشاعر المخضرم المتوفى سنة "65" للهجرة، قصيدة مطلعها:
والحمدُ للهِ لا شريك له ... من لَم يَقُلها فنفسه ظلما
يلي هذا المطلع قصة نوح والسفينة، وهي سفينة مصنوعة من خشب الجوز والقار. وفي هذه القصيدة اعتراف بالتوحيد، وبوجود إله واحد لا شريك له، لا يحمد إلا هو، وهو شعر لا يمكن أن يكون إلا من شعر شاعر مسلم، إن صح أنه من شعره، فيجب أن يكون مما نظمه في الإسلام.
وينسب إلى "لبيد" اعتقاده أن الله يبسط الخير والشر على عباده، وأنه منتقم ممن يخالفه، معاقب له، كما عاقب "إرما" و"تبعا"، وقوم "لقمان بن عاد"، و"أبرهة" وذلك في أبيات أولها:
مَن يَبسُطِ اللَهُ عَلَيهِ إِصبَعا ... بِالخَيرِ وَالشَرِّ بِأَيٍّ أولِعا
وهي رجز، يرى بعض العلماء أنها ليس من رجزه1.
ونجد معود الحكماء، وهو معاوية بن مالك بن جعفر، يذكر الله ويحمده، فيقول: "بحمد الله"، ويقول "عامر": أردت لكيما يعلم الله أنني"، ويقول: "خداش بن زهير": "وذكرته بالله بيني وبينه"2.
__________
1 ديوان لبيد "337 وما بعدها".
2 شرح ديوان لبيد، "ص21"، "المقدمة"، "تحقيق الدكتور إحسان عباس"، قيل له معود الحكماء لقوله:
أعود مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما الحق في الأشياع نابا
تاج العروس "2/ 440"، "عود".(11/112)
وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين الوثنيين كانوا يفتتحون كتبهم بجملة "باسمك اللهم". ساروا في ذلك على هدى "أمية بن أبي الصلت" مبتدعها وموجدها، كما في رواية تنسب إلى ابن الكلبي. وذكر بعض آخر أن قريشًا كانت تستعمل هذه الجملة منذ عهد قبل الإسلام، وأنها بقيت تستعملها إلى ظهور الإسلام. وقد استعملها الرسول، ثم تركها، وذلك بنزول الوحي باستعمال "بسم الله الرحمن الرحيم"1. ونحن لا يهمنا هنا اسم مبتدع هذه الجملة، وإنما الذي يهمنا منها ما فيها من عبارة تدل أيضًا على التوحيد. فإذا صح أن الجاهليين كانوا يستعملون هذه الجملة، فإن استعمالها هذا يدل على اعتقاد القوم بإله واحد، أي بعقيدة التوحيد، ولا يعقل بالطبع استعمال شخص لهذه الجملة في رسائله، يفتتح بها كتبه، لو لم يكن من أصحاب عقيدة التوحيد، وقد جاء في بعض الأخبار أن هذا الاستعمال متأخر، وأنه حدث بعد أن تغيرت عوائد القوم في افتتاح كتبهم، فقد كانت عوائدهم القديمة افتتاح رسائلهم بأسماء آلهتهم كاللات والعزى، فرفعوا تلك الافتتاحيات القديمة واستبدلوا بها هذه الجملة الجديدة، جملة "باسمك اللهم". وعلى كل، فإن جملة "باسمك اللهم" وأمثالها إن صح أنها من ذلك العهد حقًّا فإنها تدل على حدوث تطور في الحياة الدينية عند الجاهليين. وإلا، فكيف يتصور استعمال هذه الجملة الموحدة مع وجود الشرك لو لم يكن قد حدث تطور فكري كبير في هذا العهد حملهم على استعمال هذه الجملة وأمثالها من الجمل والألفاظ الدالة على التوحيد2؟
وقد درس بعض المستشرقين هذا الموضوع، ولا سيما موضوع ورود اسم الجلالة في الشعر الجاهلي، فذهبوا في ذلك مذاهب. منهم من أيد صحة وروده في ذلك الشعر، وآمن أن الشعر الذي ورد فيه هو شعر جاهلي حقًّا، ومنهم من أنكر ذلك، وأظهر أنه شعر منحول مصنوع، صنع على الجاهليين فيما بعد، ومنهم من ذهب إلى أنه شعر صحيح، غير أن رواة الشعر أدخلوا اسم الجلالة فيه، ولم يكن هو فيه في الجاهلية، بأن رفعوا أسماء الأصنام وأحلوا اسم الله محلها.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 375، تاج العروس "9/ 411"، "لاه".
2 "دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم"، الطبري "2/ 634". "صلح الحديبية(11/113)
وبينما نجد أهل الأخبار ينسبون إلى هؤلاء الشعراء وأمثالهم الاعتقاد بالله، نجدهم ينسبون إليهم، الحلف بالأصنام، والاعتقاد بها. فقد نسبوا إلى "خداش بن زهير" شعرًا آمن به بالله، ثم نسبوا له قوله:
وَبِالمَروَةِ البَيضاءِ يَومَ تَبالَةٍ ... وَمَحبَسَةِ النُعمانِ حَيثُ تَنَصَّرا
والمروة البيضاء هي ذو الخلصة، ثم هو يقسم بمحبسة النعمان، وهو نصراني1. أفلا يدل هذا على وجود تنافر أو تناقض في عقيدة أمثال هؤلاء الشعراء؟ والذي لا وقوف له على طبائع أهل الجاهلية، يرى هذا الرأي، أو يذهب إلى أن هذا الشعر مصنوع مفتعل. أما الذي يعرف عادة العرب في القسم، فلا يستغرب منه ولا يرى فيه تنافرًا، فقد كان الجاهليون يقسمون بكل شيء، يقسمون بالشجر وبالحجر وبالكواكب، وبالليل وبالنهار، وبالأصنام، وبعمر الإنسان وبحباتهم وبلحى الرجال، وبالأصنام وبالمعابد، وبالله، وبالخبر والملح، لا يرون في ذلك بأسًا ولا تناقضًا مع عقيدتهم. هذا "عدي بن زيد" العبادي، يقسم بمكة، وهو نصراني، لا يرى للكعبة في دينه حرمة ولا مكانة. أقسم بها على قاعدة العرب في القسم، وقد أقسم بأمور أخرى من أمور أهل الجاهلية الوثنيين، ولم يذكر أحد أنه بذل دينه، وصار وثنيًّا. وكذلك الأمر مع غيره من شعراء نصارى ويهود وعبَّاد أصنام، أقسموا برهبان النصارى وبأمور نصرانية، مع أنهم كانوا عبَّاد أوثان.
ومن القائلين بالرأي الأخير، "نولدكه" فقد ذهب إلى أن رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر، وذلك بأن حذفوا منه أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم الله. فما جاء فيه اسم "اللات" حل محله اسم "الله"2. وقد ذهب أيضًا إلى أن رواة الشعر في الإسلام حذفوا من شعر الجاهليين ما لم يتفق مع عقيدتهم، وما وردت فيه أسماء الأصنام. ومن جملة ما استدل به على أثر التغيير والتحريف في الشعر الجاهلي ورود كلمة "الرحمن" في شعر شاعر جاهلي من هذيل، زعم أن ورود هذه الكلمة في هذا الشعر دليل.
__________
1 شرح ديوان لبيد "21".
2 Noldeke, Beltrage s, IX, ff,(11/114)
كاف لإثبات أثر التلاعب فيه؛ لأن هذه اللفظة إسلامية استحدثت في الإسلام، ولا يمكن أن ترد في شعر شاعر جاهلي1. وقد فات "نولدكه" صاحب هذا الرأي أن الكلمة بهذا المعنى كلمة جاهلية، وردت في نصوص المسند وفي نصوص جاهلية أخرى. وأن من جملة من استعملها "أبرهة" الحبشي في نصه الشهير المعروف بنص سد مأرب، وأن قومًا من الجاهليين تعبدوا للرحمن، على نحو ما تحدثت عن هذه العبادة في موضع آخر من هذا الكتاب.
وادعاء أن لفظة "الله" لم تكن موجودة في الأصل، وإنما أقحمت فيه من بعد، وذلك بإزالة رواة الشعر لأسماء الأصنام التي ذكرها أولئك الشعراء، وإحلالهم اسم الله في محلها، حتى ظهر ذلك الشعر وكأنه شعر شعراء موحدين يعتقدون بوجود إله واحد2. هو تعليل فيه شيء من التكلف، فليس كل شعر فيه اسم الأصنام بصالح لقبول الجلالة، فقد لا يستقيم من حيث الوزن أو المعنى بإدخال تلك اللفظة في موضع اسم الصنم. ثم إن من الشعر الجاهلي المروي في الإسلام ما بقي محافظًا على اسم الصنم دون أن يمس ذلك الاسم بسوء. ولو كان من عادة الرواة حذف اسم الأصنام عامة لما تركوا لها بقية في الشعر. ثم ما هي الفائدة التي يجنيها الرواة من طمس أسماء الأصنام، وهم يعلمون أن أهل الجاهلية كانوا وثنيين، يدينون بالأصنام، وكانوا يقسمون بها، وقد رووا أمثلة من ذلك القسم!
أما "ولهوزن" فيرى أن عدم ورود أسماء الأصنام في الشعر الجاهلي إلا في النادر وإلا في حالة القسم أو في أثناء الإشارة إلى صنم. أو موضع عبادة، ليس بسبب تغيير الرواة الإسلاميين وتبديلهم لأسماء الأصنام. وإنما سببه هو أدب الجاهليين وعادتهم في عدم الإسراف والإسفاف في ذكر أسماء الآلهة الخاصة، وذلك على سبيل التأدب تجاه الأرباب، فاستعاضوا عن الصنم بلفظة "الله" التي لم تكن تعني إلهًا معينًا، وإنما تعني ما تعنيه كلمة رب وإله. ومن هنا كثر استعمالها في القسم وفي التمني أو التشفي وأمثال ذلك من حالات3.
__________
1 Noldeke, Beltrage, S. X.
2 Werner Caskel, Das Schlksal im der Altarabische Poesie, Leipzig, 1926, S. 8, Goldziher, Abhandlungen, II, S. IX-XXVI, Ahiwardt, Bemerkungen uber die Achtheit der Aletn Arabischen Gedischte.
3 Reste. S. 217. ff.(11/115)
ويرى "ولهوزن" أن لفظة "الله" كانت بهذا المعنى في الأصل. كانت تعني إلهًا على وجه التعميم، دون التخصيص، أي أنها لا تشير إلى إله معين.
استعملتها كل القبائل بهذا المعنى، فهي صفة تشير إلى الألوهية المجردة، وإن كان أفراد كل قبيلة يقصدون بها صنمهم الخاص بهم. استعاضوا بها عن ذكر اسم الصنم. وإن استعمالها جملًا مثل: "حاشا لله" و"لله درك" و"لاها الله"، و"تا لله"، و"ايم الله"، و"لحا الله"، و"جزى الله"، و"جعلني الله فداك"، و"لك الله"، و"أرض الله"، وأمثالها، هو من هذا القبيل، الله فيها بمعنى الرب والإله. ولما كانت أداة التعريف تفيد التخصيص، فدخولها في اسم الجلالة أفاد التخصيص والعلمية. وهذا ما حدث؛ إذ فقدت الكلمة معناها العام، واتجهت نحو التخصص حتى صارت بهذا المعنى الذي صارت عليه في الإسلام1.
وقد ذهب مستشرقون آخرون إلى صحة ورود لفظة الجلالة في الشعر الجاهلي. كما ذهبوا إلى أن ورودها في القرآن الكريم أو في الحديث، لا يمنع من ورودها في الشعر الجاهلي، ولا يكون سببًا للطعن في ذلك الشعر؛ لأن من الجاهليين من كان يؤمن بوجود إله هو فوق الآلهة عندهم، فورود اسمه في شعرهم، ليس بأمر غريب.
وورود اسم الجلالة في أشعار الجاهليين يحملنا على البحث في أصله: هل هو إسلامي محدث: أو هو اسم جاهلي قديم؟ وبحث مثل هذا يجب أن يستند إلى النصوص. غير أننا ويا للأسف لا نملك نصًّا جاهليًّا يمكن أن يفيدنا في هذا الباب، فكل النصوص الجاهلية التي وصلت إلينا خُرس لم تنطق بشيء عن اسم الجلالة، فليس أمامنا إلا اللجوء إلى الطريقة المألوفة في مثل هذه الأحوال، وهي الرجوع إلى آراء علماء اللغة، وإلى المقابلة بين العربية واللهجات السامية الأخرى. أما آراء علماء اللغة، فإنها مثل آرائهم الأخرى في أصول الكلمات الصعبة التي على شاكلتها، كلها حدس وتخمين. ولا يمكن أن يُستنبط منها شيء تأريخين يرجعك إلى أول عهد ظهرت فيه هذه اللفظة، وإلى المراد منها. وأما المستشرقون، فمنهم من يرى أن اللفظة عربية أصيلة، ومنهم من يرى أنها من "ألاها" Alaha
__________
1.Reste, s 218.(11/116)
ومعناها "الإله" بلغة "بني إرم". أما الذين قالوا بعربيتها، فيرون أنها من "اللات"، اسم الصنم المعروف، تحرف وتولد منه هذا الاسم1.
واللفظة "الله" من أصل "إلاه"، أي "رب"، و"بعل"، وهي من الألفاظ السامية القديمة. ويقال "إلهة" "إلاهة" للأنثى. لأن من الجاهليين من تعبد للآلهة الأناث. وتقابل "هـ - إله" "ها إلاه" "هـ إلاه" في النصوص الثمودية، أي "الله"2. كما ترد هذه اللفظة في نصوص عربية أخرى مثل النصوص اللحيانية.
ويلاحظ أن لفظة "الله" هي من التسميات التي وردت في النصوص الشمالية، ويدل ورودها في هذه النصوص على تأثر العرب الشماليين بمن اختلطوا بهم من الشعوب التي كانت تقيم في شمال جزيرة العرب، وأخذهم عبادة هذا الإله منهم. ولم تكن هذه اللفظة اسم علم في الأصل، ثم تخصصت على ما يظهر من النصوص المتأخرة، فصارت تدل على إله معين ثم على إله واحد أحد هو إله الكون في الإسلام.
ويذكر علماء اللغة أن "لاه" الله الخلق يلوههم خلقهم، واللآهة الحية، منها سمي الصنم اللات بها، وجوز "سيبويه" اشتقاق اسم الجلالة منها. قال الأعشى:
كَدعوةٍ مِن أَبي كبارٍ ... يَسمَعُها لاهُهُ الكُبارُ
ولاه: علا وارتفع. وسميت الشمس إلاهة لارتفاعها في السماء3. وذكروا أن "أل" اسم الله، وكل اسم آخره أل أو إيل، فمضاف إلى الله، ومنه جبرائيل وميكائيل 4، فهو "إيل" إذن، إله جميع الساميين القديم.
وتعداد المواضع التي وردت فيها لفظة الجلالة أو لفظة إله والإله في الشعر الجاهلي، يخرجنا عن صلب الموضوع، ويجعل البحث جافًّا مملًّا. غير أن في استطاعتنا أن نقول إنها وردت في أكثر ذلك الشعر إن لم نقل فيه كله. وإن ورودها فيه يشير إلى اعتقاد أصحاب ذلك الشعر بإله واحد قهار هو إله العالمين.
غير أن هذا القول يتوقف بالطبع على إثبات أن ذلك الشعر هو شعر جاهلي حقًّا، وأن من نسب إليهم قالوه من غير شك، وأنه لم يوضع على ألسنة أولئك الجاهليين.
__________
1 Ency. Religi, I, p. 661, Ency, I. p. 302.
2 Rese, S. 209, Mission, II, p. 557, 559, 564, Grohmann, s. 87. ff.
3 تاج العروس "9/ 410"، "لاه"، "9/ 374"، "إله".
4 تاج العروس "7/ 211 وما بعدها". "أل".(11/117)
الاعتقاد بإله واحد:
والذي يفهم -وذلك كما سبق أن قلت- من القرآن الكريم ومن الحديث أن قريشًا ومن كان على اتصال بهم، أو غيرهم من قبائل أخرى، لم يكونوا ينكرون عبادة الله، ولم يكونوا يجحدون الله، بل كانوا يقرون بوجوده، ويدينون له، وإنما الذي أنكره الإسلام عليهم وحاربهم من أجله وسفه أحلامهم عليه، هو تقربهم على الأصنام والأوثان، وتقديسهم لها تقديسًا جعلها في حكم الشركاء والشفعاء ومرتبة الألوهية. والإسلام لا يعترف بهذه الأشياء، وهو ينكرها، ومن هنا حاربته قريش ومن كان على هذه العقيدة من حلفائها ومن القبائل التي كانت ترى رأيها. فهنا كان موطن الخلاف، لا عقيدة الإيمان بالله1.
وإذا أخذنا بهذا الرأي، رأي اعتقاد الجاهليين أو بعضهم بإله واحد، نكون بذلك قد حللنا عقدة الازدواجية، أي العقيدة الثنائية عند الجاهليين ووجودها في شعرهم، فلا نجد عندئذ غرابة إذا وجدنا شاعرًا يذكر الله في شعره ويحلف به، ثم نجده يذكر الأصنام في الشعر نفسه، ويقسم بها قسمه بالله.
ويكاد يكون الإجماع على ما تقدم. قال ابن قيم الجوزية في معرض مقارنته بين آراء المجوس وعبدة الأوثان من العرب: "بل كفر المجوس أغلظ. وعبَّاد الأوثان كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأنه لا خالق إلا الله، وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يكونوا يقرون بصانعين للعالم أحدهما خالق للخير والآخر للشر كما تقول المجوس"2 فالوثنية على هذا الرأي ليست نكرانًا لوجود إله، وإنما هي اعتقاد بوجوده، واعتقاد بفائدة التقرب إليه، بتقربهم إلى الأصنام والأوثان، أي الشفعاء، بما في ذلك المبالغة في تقديس الأشخاص والقبور.
__________
1 Reste, S. 217, Lyall, Ancient Arabian Poetry, p. XXIX
2 زاد المعاد "3/ 224"، "فصل في حكمه في الجزية ومقدارها وممن تقبل".(11/118)
ولا نجد للعرب إلهًا قوميًّا خاصًّا بهم كالذي نجده عند العبرانيين من تعلقهم بـ"يهوه"، وعدهم إياه إلهًا خاصًّا بإسرائيل. فقد صار هذا الإله إله جميع قبائل إسرائيل ويهوذا. أما العرب فقد كانوا يعبدون جملة آلهة: كل قبيلة لها إله خاص بها وآلهة أخرى، ولم يكن لها إله واحد له اسم واحد يعبده جميع العرب. والظاهر أن القبائل الساكنة في الحجاز ونجد العراق والشأم، صارت قبيل الإسلام تتنكر لأصنامها العديدة، وتأخذ بالتوحيد وبالاعتقاد بإله واحد هو الله، وهو الذي نجده في هذا الشعر الجاهلي الذي هو حاصل تغريد شعراء قبائل عديدة مما يدل على أن قبائل أولئك الشعراء دانوا بالاعتقاد بوجود ذلك الإله فوق الأصنام والأوثان، وقد توجت هذه العقيدة بتاج النصر في الإسلام. غير أن "الله" في الإسلام يختلف عن الله الجاهليين. فالله هو إله العالمين، إله جميع البشر على اختلافهم. ليس له شريك من أصنام وأوثان.
أما الله الجاهليين، فهو رب الأرباب، وإله الآلهة، يسمو فوق آلهة القبائل أي آلهة القبيلة الواحدة. ولهذا ذكر في شعر شعراء مختلف القبائل؛ لأنه لا يختص بقبيلة واحدة.
ويقال لما يعبد من دون الله: الأنداد. وفي كتاب النبي لأكيدر: وخلع الأنداد والأصنام. والند: مثل الشيء والنظير. وفي التنزيل: واتخذوا من دون الله أندادًا، أي ما كانوا يتخذونه آلهة من دون الله1.
والله إله ذكر. وكيف لا يتصور الإنسان إلهه ذكرًا، والذكر هو قوي مقتدر بخلاف الأنثى! وحيث إن الله هو قوي ومصدر القوة والخلق، فلا بد وأن يكون ذكرًا في عقلية تلك الأيام، ولا بد من التعبير عنه بصيغ التذكير. كما يلاحظ أن الجاهليين قد تصوروه واحدًا، فلم يخاطبوه بصيغة الجمع، مما يفهم منه التعدد.
ولم يتطرق الشعر الجاهلي إلى موضوع وجود إلهة أي أنثى تكون زوجًا له. ولم يشر القرآن الكريم إلى اعتقاد الجاهليين بوجود زوجة له. فهو في نظرهم إذن إله واحد متفرد لا يشاركه مشارك في حياته. وإذ كان الله واحدًا أحدًا أعزب، فلا يمكن أن يكون له ولد. ولكن القرآن الكريم يشير إلى اعتقاد الجاهليين بوجود
__________
1 اللسان "3/ 420"، "ندد".(11/119)
بنين وبنات لله. ففي سورة الأنعام: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 1. وقد ذهب المفسرون إلى أن العرب قالت الملائكة بنات الله، وقالت اليهود والنصارى عزير والمسيح ابنا الله، وأن النصارى قالت المسيح ابن الله، وقال المشركون الملائكة بنات الله2. وفي سورة النحل: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 3، وفي سورة الصافات: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} 4، {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 5. وفي سورة الزخرف {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} 6 وفي سورة الطور {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} 7. وأجمعوا على أن قريشًا وأضرابهم كانوا يزعمون أن الله اصطفى الملائكة بناتًا له. ولم يذكروا كيف صاروا له بناتًا. وقد ورد في بعض الروايات أن كفار قريش قالوا: "الملائكة بنات الله. فسأل أبوبكر من أمهاتهن؟ فقالوا: بنات سروات الجن"8.
وورد في بعض أقوال علماء التفسير، أن "أعداء الله" زعموا: أن الله وإبليس أخوان9. ولم يذكروا من هم "أعداء الله" أهم من العرب أم من غيرهم!.
ويظهر أن الذين آمنوا بوجود إله، تصوروا مكانه فوق الإنسان، أي فوق الأرض، في السماء. لذلك كانوا إذا توجهوا إليه بالدعاء رفعوا أيديهم إلى السماء. والسماء، المكان المرتفع اللائق بأن يكون مقر الرب أو الأرباب. وهو اعتقاد نجده عند غير الجاهليين أيضًا. ومن هذه النظرة ظهر "بعل سمين" "بعل سمن"، أي "رب السماء" و"إله السماء" المذكور في بعض نصوص المسند. وهو إله قبيلة "أمر" "أمر" من القبائل العربية الجنوبية. الإله المرسل للسحاب.
__________
1 الأنعام، الرقم 6، الآية 100.
2 تفسير الطبري "7/ 197 وما بعدها" روح المعاني "7/ 209".
3 النحل، الرقم 16، الآية 57.
4 الصافات، الرقم 37، الآية 149.
5 الصافات، الرقم 37، الآية 151 وما بعدها.
6 الزخرف، الرقم 43، الآية 16.
7 الطور، الرقم 52، الآية 39.
8 تفسير الطبري "23/ 69".
9 تفسير الطبري "23/ 69".(11/120)
ومنزل الغيث وباعث الحركة والخصب والخير للناس1. وقد تعبد له الصفويون كذلك، وذكر في نصوصهم. وعرف عندهم بـ"هـ - بعل سمن"2.
ولهذه النظرة اتخذ زهادهم لهم معابد خلوية على قمم الجبال وعلى الهضاب والمرتفعات وابتنوا الصروح للتعبد فيها ومناجاة الرب، واتخذوا من الكهوف المنقورة في الجبال مآوي يتعبدون فيها ويعتكفون الأيام والشهور والسنين. وكانوا إذا أمسكت السماء قطرها، وأرادوا الاستمطار، أصعدوا البقر في جبل وعر، وقد أضرموا النار في السلع والعشر المعقودين في أذنابها، وهم يتبعون آثارها، يدعون الله ويستسقونه3. ولولا اعتقادهم أن الجبل أقرب إلى الله من الأرض، لما أتعبوا أنفسهم، فصعدوا الجبل المرتفع مع بقرهم، فكان استسقاؤهم من الأرض.
__________
1.Rep, Epligr, 4142, Grohmann, s. 245.
2 F. V. Winnett, Safaitic Inscriptions from Jordan, p. 18, 23
3 ابن فارس، رسالة النيروز "ص18 وما بعدها".(11/121)
الجبر والاختيار:
هذا وأود أن أبين أن أكثر الذين كانوا يدينون بالتوحيد، ويعتقدون بوجود إله واحد خلاق لهذا الكون، كانوا يؤمنون بما نسميه: "القضاء والقدر" أو "الجبر" بتعبير أصح. فالخير والشر من الله، وكل شيء في هذا الكون محتوم مكتوب. وما يصيب الإنسان، لا بد أن يكون قد كتب عليه، ولا راد لما هو مكتوب، بل نجد هذه النظرة حتى عند من لم يأت اسم الله في شعره، فلا ندري أكان من المؤمنين بالله أم لا. وفكرة أن كل شيء في هذا الكون مقدر محتوم، فكرة قديمة غلبت على عقلية الشرقيين؛ بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية التي كانت سائدة إذ ذاك، أوضاع جعلت الغالبية من الناس تشعر أنها مسخرة، وأنها تدفع في حياتها دفعًا وفي سبيل خدمة النخبة المتحكمة، المسيرة للأمور، أضف إلى ذلك تأثير عامل الجو في الإنسان.
وقضية الجبر والاختيار، قضية لا نجدها عند المؤمنين بوجود إله هو "الله"، أو آلهة أخرى من الجاهليين فقط، بل نجدها عند غيرهم أيضًا ممن لم يكن يقر بعبادة "الله"، وينكر وجود خالق، نجدها عند من كان يتعبد للأصنام.(11/121)
أو للقوى الخفية، أو لا يدري أي شيء عن الآلهة والخلق، أو من الدهرية، القائلين بالدهر. فهؤلاء أيضًا كانوا يعتقدون أن الإنسان، مسير ولا اختيار له في هذه الدنيا، فكل شيء مكتوب عليه. كتب عليه منذ ولد. والسبب، هو ما قلته: وجود عوامل عديدة سيرت الإنسان واستعبدته من أوضاع سياسية واجتماعية وعسكرية واقتصادية ومناخية تحكمت فيه، حتى رسخ في عقل الجاهلي، أن كل شيء في هذه الدنيا مقدر مكتوب، وأن ما كتب على الجبين، لا يمكن تغييره ولا تبديل له، ولا اعتراض على ما هو مكتوب، ولا راد لأمر كتب في السماء.(11/122)
الموت:
وفي مطلع قائمة الموضوعات التي أثارت البشرية ولا تزال تثيرها قضية الموت الذي هو ضد الحياة والعالم الثاني الذي يصير إليه الإنسان بعد الموت1. إن الموت أمر مخيف راعب يثير مشاعر كل إنسان. فما الذي سيكون مصيره بعد الحياة، وإلى أي مكان سيتجه بعد هذه الحياة، وهل الموت انطفاء لشعلة الحياة وانحلال للجسد إلى الأبد؟ أو هو مرحلة من حياة إلى حياة أخرى يحيا فيها الإنسان حياة جديدة، ويبعث بعثًا جديدًا يبعثه من خلقه؟ ثم ما الذي سيكون عليه في العالم الثاني؟ هل يعيش عيشة راضية مطمئنة، عيشة تفوق معيشته في عالمه الأول؟ أم سيعيش عيشة أخرى؟ إما راضية ناعمة، وإما شقية تعسة بحسب عمل الإنسان وما قدمه لنفسه من عمل في العالم الأول؟ هذه الأسئلة وعشرات من أمثالها شغلت بال الإنسان البدائي والراقي ولا تزال تشغله. كل وجد لها أجوبة، وكل قنع بما أجاب به عنها، ورضي بها. وكانت للجاهليين على اختلافهم آراء في هذه المشكلات لا شك في ذلك.
والموت في كلام العرب: السكون. يقال مات بمعنى سكن2. وهذا هو المعنى المفهوم للموت عند الجاهليين. فالمراد من الموت هو سكون الجسد بعد مفارقة الروح له. وقد حار الجاهليون كما حار غيرهم في تفسير ظاهرة الموت،
__________
1 المخصص "2/ 64".
2 تاج العروس "1/ 586"، "موت".(11/122)
وكيفية وقوع الموت وحدوثه. وقد اعتبره بعضهم حدثًا طبيعيًّا، يحدث للإنسان كما يحدث لأي شيء آخر في هذا الكون من التعرض للهلاك والدمار. واعتبره بعض آخر، مفارقة الروح للجسد. وهم الذين اعتقدوا بالثنائية وبالازدواجية في حياة الإنسان، أي بوجود جسد وروح. واعتبره آخرون موت للنفس، وبوفاة النفس يتوفى الجسد ويصيبه السكون. فالموت عندهم مفارقة الروح للجسد، فإذا مات الإنسان خرجت روحه من أنفه، أو من فمه، فينفض الإنسان نفسه. وإذا مات ميتة طبيعية، يقال عن الميت: مات حتف أنفه، ومات حتف فيه، أي أن روحه خرجت من أنفه أو من فمه، وهو قليل؛ لأن النفس في نظر أهل الجاهلية تخرج بتنفسه، كما يتنفس من أنفه. ويقال أيضًا حتف أنفيه. وكانوا يعتقدون أن المريض تخرج روحه من أنفه، وأما القتيل، والجريح، فتخرج روحه من موضع جرحه1.
ويقال: "زهقت نفس فلان"، أي خرجت روجه. فهم يتصورون إذن أن روح الإنسان كائن مستقل إذا فارق الجسد مات. "وفي الحديث: إن النحر في الحلق واللبة، وأقروا الأنفس حتى تزهق، أي حتى تخرج الروح من الذبيحة ولا يبقى فيها حركة"2.
و"الرمق" بقية الحياة، أو بقية الروح، وآخر النفس3. فكأنهم تصوروا أن الشخص المريض أو الجريح. قد ودع معظم نفسه، ولم تبق من روحه إلا بقية لا تزال في جسده، هي الرمق.
__________
1 تاج العروس "6/ 64 وما بعدها"، "حتف".
2 اللسان "10/ 147"، "زهق".
3 اللسان "10/ 125"، "رمق".(11/123)
البعث:
لم يكن كثير من الجاهليين يؤمنون بالبعث كما يتبين ذلك من القرآن الكريم. لقد كانوا يرون أن الموت نهاية، وأنهم غير مبعوثين، وأن البعث بعد الموت شيء غير معقول، لذا تعجبوا من قول النبي بوجود البعث والحساب. {وَقَالُوا(11/123)
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} 1، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2، {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا، قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} 3. و {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 4، و {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} 5، و {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 6، و {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، َقَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 7، و {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 8، و {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ، وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} 9. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} 10، {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
__________
1 الأنعام، الآية 29.
2 النحل، الآية 38، تفسير الطبري "8/ 104 وما بعدها".
3 الإسراء، الآية 49 وما بعدها، تفسير الطبري "14/ 104 وما بعدها" روح المعاني: "14/ 128".
4 التغابن، رقم 64، الآية 7.
5 الحج، رقم 22، الآية 5.
6 هود، رقم 11، الآية 7.
7 المؤمنون، الآية 82، الصافات، الآية 16.
8 الوعد، الآية 5.
9 المؤمنون، الآية 35 وما بعدها.
10 سورة النمل، رقم السورة 27، الآية 67 وما بعدها.(11/124)
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} 1. {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ، فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2
والآيات المتقدمة وأمثالها3 كلها حكاية عن رأي كثير من الجاهليين في نفي البعث وفي عدم إمكان العودة إلى حياة أخرى بعد موت يهلك الجسم ويفني العظام فيجعلها رميمًا ويمحو كل أثر للجسم، لذا كان البعث من أهم ما عارض فيه الجاهليون معارضة قاسية شديدة، وكان من الموضوعات التي تندروا بها وسخروا وآخذوا عليها الرسول4. وكانوا يقولون: "إن هي إلا موتتنا الأولى التي نموتها. وهي الموتة الأولى، وما نحن بمنشرين بعد مماتنا ولا بمبعوثين تكذيبًا منهم بالبعث والثواب والعقاب". وقالوا للرسول: "فأتوا بآبائنا الذين قد ماتوا إن كنتم صادقين إن الله باعثنا من بعد بلانا في قبورنا، ومحيينا من بعد مماتنا"5 وقالوا: "أئذا متنا وكنا ترابًا وعظامًا أئنا لمبعوثين؟ يقولون منكرين بعث الله إياهم بعد بلائهم. أئنا لمبعوثون أحياء من قبورنا بعد مماتنا ومصيرنا ترابًا وعظامًا قد ذهب عنها اللحوم. أو آباؤنا الأولون الذين مضوا من قبلنا فبادوا وهلكوا؟ "6.
وكان من محاججة قريش للرسول ومحاولتهم إفحامه وتعجيزه قولهم له يوم اجتمعوا به: "يا محمد؟ فإن كنت غير قابل منا شيئًا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدًا ولا أقل ماءً ولا أشد عيشًا منا. فسل5 لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليفجر لنا فيها أنهارًا كأنهار الشأم والعراق. وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولًا كما
__________
1 السجدة، رقم السورة 32، الآية 10 وما بعدها، تفسير الطبري "21/ 96"، روح المعاني "21/ 112 وما بعدها".
2 الدخان، رقم السورة 44، الآية 34 وما بعدها، تفسير الطبري "25/ 76 وما بعدها".
3 هود 7، المؤمنون 82 وما بعدها، سبأ 3 وما بعدها، الجاثية 24 وما بعدها.
4 الكشاف "1/ 448"، "2/ 74، 189، 195 وما بعدها"، الطبرسي "7/ 39"، "14/ 75"، "15/ 58".
5 تفسير الطبري "25/ 76"، "1/ 78 وما بعدها".
6 تفسير الطبري "23/ 30".(11/125)
تقول! "1. وسألوه أسئلة أخرى من هذا القبيل؛ لتعجيزه في إثبات البعث. "جاء عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بعظم حائل فكسره بيده، ثم قال: يا محمد، كيف يبعث الله هذا وهو رميم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبعث الله هذا ويميتك ثم يدخلك جهنم"2 وأتى "أبي بن خلف" رسول الله "بعظم حائل ففته ثم ذراه في الريح. ثم قال: يا محمد من يحيي هذا وهو رميم؟ قال الله يحييه ثم يميته ثم يدخلك النار"3 و"جاء العاص بن وائل السهمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعظم حائل ففته بين يديه. فقال يا محمد أيبعث الله هذا حيًّا بعدما أرم؟ قال: نعم يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم"4.
وممن أنكر البعث على ما ذكره الأخباريون قوم من قريش كانوا زنادقة أنكروا الآخرة والربوبية، أخذوا زندقتهم هذه من الحيرة5. وإذا كان من هؤلاء من كان يقدم القرابين والهدايا لأصنامه، فإن ذلك لا يعني أنه كان يفعل ذلك لترضى عنه في العالم التالي، بل كان يفعل ذلك لترضى عنه في هذه الحياة الدنيا، لتمن عليه بالنعم والخيرات. أما العالم الثاني، فهو عالم لا يهتم به؛ لأنه لم يكن يتصور وجوده ولا حدوثه بعد الموت 6.
ويتجلى هذا الإنكار للحشر والبعث في أبيات تنسب إلى "شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك" يرثي بها قتلى قريش يوم بدر، وهم الذين قتلوا في تلك المعركة وألقوا في القليب:
أيوعدُني ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياةُ أصداءٍ وهامِ؟
أيعجزُ أن يردَّ الموت عني ... وينشرني إذا بليت عِظامي
أراد الشاعر إنكار البعث، وأن يصير الإنسان مرة أخرى إنسانًا بعد أن تتحول
__________
1 ابن هشام "1/ 186"، "حاشية على الروض".
2 تفسير الطبري "23/ 21"، روح المعاني "23/ 50".
3 تفسير الطبري "23/ 21"، الاشتقاق "80".
4 تفسير الطبري "23/ 21".
5 المحبر "ص161"، بلوغ الأرب "1/ 345"، المعارف "621".
6 Reste. S. 185.(11/126)
روح الإنسان إلى طير1.
وذكر أن "الحارث بن عبد العزى" أبو رسول الله من الرضاعة، لما قدم مكة، قالت له قريش: "ألا تسمع يا حار ما يقول ابنك هذا؟ فقال: وما يقول: قالوا: يزعم أن الله يبعث بعد الموت، وأن لله دارين يعذب فيها من عصاه، ويكرم فيها من أطاعه. فقد شتت أمرنا وفرق جماعتنا"2.
فهم ينكرون البعث والحساب، ولا يريدون سماع شيء عنهما، ولا يصدقون عودة الروح إلى الجسد بعد أن فارقته، فذلك عندهم من المستحيلات، ولذلك سخروا من البعث لما سمعوا به. وكيف يكون بعثًا وقد فنيت الأجساد، فلم تبق منها بقية!
فرأي من أنكر الحشر والبعث من أهل الجاهلية، أن الحياة حياة واحدة، هي حياتنا التي نحن فيها في دار الدنيا، ولا يكون بعد الموت بعث ولا حساب نحيا ونموت، يموت بعضنا ويحيا بعضنا، وما يميتنا إلا الأيام والليالي، أي مرور الزمان وطول العمر3. فالحياة إذن حياة وموت في هذه الدنيا. وهي استمرار للاثنين على مدى الدهر، يولد إنسان ثم يموت ليحل محله إنسان آخر، وهكذا بلا انتهاء.
ونجد رأي الناكرين للبعث في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 4. فهم يقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت نحن ويحيا أبناؤنا بعدنا، فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم؛ لأنهم منهم وبعضهم، فكأنهم بحياتهم أحياء. والدهر الزمان، وهو الذي يهلك ويفني5. فالحياة بهذا المعنى، فعل مستمر، وتطور لا ينتهي، يهلك جيل،
__________
1 وهي من أبيات رويت بصور مختلفة، وفي بعضها زيادات، راجع ابن هشام "1/ 113"، هامش على الروض الأنف، كتاب الصبح المنير في شعر أبي بصير "ص308"، "طبعة أوروبة 1927"، بلوغ الأرب "2/ 198".
يحدثنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام؟
بلوغ الأرب "2/ 192".
2 الروض الأنف "1/ 107".
3 تفسير الطبرسي "25/ 136"، "بيروت"، "25/ 78"، "طهران".
4 الجاثية، الآية 24، تفسير الطبري "25/ 91"، روح المعاني "25/ 139".
5 تفسير الطبري "25/ 91 وما بعدها"، "بولاق"، "25/ 151 وما بعدها".
"القاهرة 1954".(11/127)
ليأخذ محله الجبل الذي نبت منه. وكل يأخذ دوره في هذه الحياة، فإذا انتهى دور إنسان، قام بدوره نسله، وهكذا، وبهذا المعنى تفسر الحياة، ويفسر الموت.
وقد يسأل سائل إذا كان أغلب أهل الجاهلية لا يؤمنون بثواب ولا بحساب وبعث ونشر، فلمَ تعبدوا إذن لإله، وتقربوا إلى الأصنام، وقدموا القرابين والنذور؟ وجوابي على هذا السؤال، هو ما ذكره المتقدمون عنه. قالوا: "كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الآخرة؛ إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها"1. فعبادتهم الله وتقربهم إلى الآلهة، هي لمصلحة دنيوية، لنفع ولزيادة في مال، ولدفع شر الأذى والأمراض وعيون الحساد، ومن كل ما هو شر، أما الآخرة، فلا علم لهم بها.
وما خوفهم من الآلهة إلا لاعتقادهم أنها تضرهم وتهلكهم وتنزل بهم الشر في هذه الدنيا. فإذا أقسم أحدهم كذبًا، انتقمت الآلهة منه وأنزلت به نازلة، لذلك تجنبوا الإيمان الكاذبة، وامتنعوا من الحلف جهد إمكانهم؛ لخوفهم من عاقبة الحلف الكذب. والعاقبة السيئة تكون في هذه الدنيا. وهي عواقب مادية؛ لأن عقلية أكثر أهل الجاهلية لا تدرك إلا القيم المادية للأشياء. فتصوروا العاقبة السيئة تصورًا ماديًّا، كنزول مرض بإنسان أو نزول كارثة بماله أو بإبله أو بزرعه أو بأهله، وهي أمور يخشاها الجاهلي، تكون معجلة في نظره، أي في هذه الدنيا؛ لأنهم لا يعرفون أن في الحياة دارًا غير هذه الدار، ولا يؤمنون بحشر وبعث.
جاء في الأخبار أن "ضمام بن ثعلبة" السعدي، ويقال التميمي، لما قدم على الرسول أقبل حتى وقف على رسول الله، وهو في أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله: أنا ابن عبد المطلب. قال: أمحمد؟ قال: نعم. قال: يابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك قال: لا أجد في نفسي سل عما بدا لك. قال: أنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله أمرك أن نعبده وحده.
__________
1 تفسير القرطبي "2/ 432".(11/128)
لا نشرك به شيئًا، وإن نخلع هذه الأوثان التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: اللهم نعم. ثم سأله عن الفرائض، فأسلم. فلما قدم على قومه، فاجتمعوا إليه "فكان أول ما تكلم به، أن قال: بئست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم أنهما والله ما يضران وما ينفعان"1 فالعقاب عقاب مادي في هذه الدنيا، ترسله الآلهة على الإنسان.
غير أن فريقًا من الجاهليين كما يقول أهل الأخبار كان يؤمن بالبعث وبالحشر بالأجساد بعد الموت، ويستشهدون على ذلك بـ"العقيرة" وتسمى البلية" أيضًا. والبلية الناقة التي كانت تعقل عند قبر صاحبها إذا مات حتى تموت جوعًا وعطشًا. ويقولون إنه يحشر راكبًا عليها، ومن لم يفعل معه هذا حشر راجلًا، وهذا مذهب من كان يقول منهم بالبعث، وهم الأقل. ومنهم زهير فإنه قال:
يُؤَخَّر فَيوضَع في كِتابٍ فَيُدَّخَر ... لِيَومِ الحِسابِ أَو يُعَجَّل فَيُنقَمِ2
ويذكر أيضًا أنهم كانوا يعكسون رأس الناقة أو الجمل أي يشدونه إلى خلف بعد عقر إحدى القوائم أو كلها لكيلا تهرب، ثم يترك الحيوان لا يعلف ولا يسقى حتى يموت عطشًا وجوعًا، ذلك لأنهم كانوا يرون أن الناس يحشرون ركبانًا على البلايا ومشاة إذا لم تعكس مطاياهم عند قبورهم3، وفي هذا المعنى قال الشاعر في البلية:
كَالبَلايا رُءوسُها في الوَلايا ... مانِحاتِ السَموم حَرَّ الخُدودِ
والولايا هي البراذع، وكانوا يثقبون البرذعة فيجعلونها في عنق البلية وهي معقولة. وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذه الوصية:
يا سعدُ إما أهلكن فإنني ... أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب
__________
1 الاستيعاب "2/ 207 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
2 الروض الأنف "1/ 96" الشعر والشعراء "1/ 76" "بيروت 1964م".
3 تاج العروس "10/ 43"، اللسان "18/ 92" النهاية "1/ 115" رسالة الغفران "333 وما بعدها"، "بنت الشاطئ".(11/129)
لا تتركن أباك يمشي خلفهم ... تعبًا يخر على اليدين وينكب
احمل أباك على بعير صالح ... وابق الخطيئة إنه هو أصوب
ولعل مالي ما تركت مطية ... في اليم أركبها إذا قيل اركبوا1
وذكر أنهم كانوا يحفرون للبلية حفرة وتشد رأسها إلى خلفها وتبلى، أي تترك هناك لا تعلف ولا تسقى حتى تموف جوعًا وعطشًا. وكانت النساء، يقمن حول راحلة الميت فينحن إذا مات أو قتل، وقد عرفن بـ"مبكيات"2.
وفي رواية أن بعض المشركين كان يضرب راحلة الميت بالنار وهي حية حتى تموت3، يعتقدون أنهم إنما يفعلون ذلك؛ ليستفيد منها الميت بعد الحشر4.
وإذا كانت عقيدة الجاهليين في عقر الحيوانات المسكينة وإهلاكها قد ماتت وزالت؛ بسبب تحريم الإسلام لها، فإن فكرة حشر الناس ركبانًا لا تزال باقية حية عند بعض الناس. فالذين يقدمون "العقيقة" في الحياة أو يقدمونها حين الوفاة ومع نقل الجنازة أو على القبر، يختارون أحسن الحيوانات وأقواها لتتمكن من حملهم يوم الحشر، وتنهض بهم، فيسير راكبًا، ولا يحشر وهو مترجل يسير في تلك الساعات الرهيبة ماشيًّا على قدميه.
ويقال للموت وللحساب "اللزام"5.
ولا أعتقد أن نحر الإبل على القبر وتبليله بدم الإبل المذبوحة6، مجرد عادة يراد بها إظهار تقدير أهل الميت له، أو تمثيل كرم الراحل حتى بعد وفاته، بل لا بد أن يكون هذا النحر من الشعائر الدينية والعقائد الجاهلية التي لها علاقة بالموت وباعتقادهم أن موت الإنسان لا يمثل فناء تامًّا وإنما هو انتقال من حال إلى حال.
__________
1 الشعر لـ"جريبة بن الأشم الفقعسي" يوصي ابنه به وقد ورد بصور أخرى، راجع الروض الأنف "1/ 96" النهاية لابن الأثير "1/ 115"، اللسان "14/ 85 وما بعدها" تاج العروس "10/ 43"، طبقات الأمم "49".
2 اللسان "14/ 85 وما بعدها"
3 المخصص "6/ 122" اللسان "16/ 15" الأغاني "6/ 122".
4 الأغاني "16/ 48"، "أخبار زيد الخيل"، "17/ 176"، "بيروت 1955"، Reste, s. 180
5 تاج العروس "9/ 59"، "لزم، المخصص "6/ 122".
6 الأغاني "19/ 88".(11/130)
وذكر "السكري" أن أكثر العرب كانوا يؤمنون بالبعث. واستشهد على ذلك بشعر للأعشى، ذكر فيه الحساب. كما ذكر أنهم كانوا يؤمنون بالحساب، واستشهد على رأيه هذا بشعر للأخنس بن شهاب التميمي1. وقول "السكري" هذا مردود بما رد في القرآن الكريم من إنكار أغلبهم للحساب والبعث والكتاب، وأما الذين قالوا بالبعث، فهم طائفة لا تصل إلى مستوى الكثرة أو الكل حتى نستعمل صيغة التعميم.
وإذا كان ما تصوره أهل الجاهلية عن البعث والحشر صحيحًا على نحو ما ذكره أهل الأخبار فلا يستبعد أن يكون القائلون به أو بعضهم قد تصوروا الحساب على نحو ما يحاسب الإنسان على عمله في دنياه. ويلاحظ أن القيامة والبعث والحشر والجنة والنار هي من الكلمات العربية التي لا يستبعد أن يكون لها مفهوم قريب من مفهومها الإسلامي عند الجاهليين.
أما كيف تصور أولئك الجاهليون حدوث البعث والحشر، هل هو قصاص وثواب وعقاب وحساب وجنة ونار، أو هو بعث وحشر لا غير، فأهل الأخبار لم يأتوا عنه بجواب، ولم يذكروا رأي تلك الفئة المقرة بالبعث والحشر في ذلك. ولهذا فليس في استطاعتنا إعطاء صورة واضحة عن الحشر وعما يحدث بعده من تطورات وأمور.
ولم تتحدث الكتابات الجاهلية عما سيحدث للإنسان بعد موته. وكل ما ورد فيها هو توسل إلى الآلهة بأن تنزل غضبها على كل من يحاول تغيير قبر، أو إزالة معالمه، أو دفن ميت غريب فيه، وأن تنزل به الأمراض والآفات والهلاك. ولم تذكر تلك النصوص السبب الذي حمل أهل القبور على التشدد في المحافظة على القبر وعلى ضرورة بقائه ودوامه. فلا ندري إذا كان ذلك عن تفكير بوجود بعث، ويتصور قيام الميت من قبره مرة أخرى، ورجوعه ثانية إلى الحياة، أو إلى عالم ثانٍ، هو عالم ما بعد الموت، ولهذا حرصوا حرصًا شديدًا على عدم السماح بدفن أحد في قبر، إلا إذا كان من أهل صاحب القبر ومن ذوي رحمه، حتى لا يتأذى الميت من وجود الغرباء، وليستأنس بأهله وبذوي قرابته مرة أخرى بعد عودة الحياة إليه، فيرى نفسه محشورًا معهم، ومع من أحبه في حياته، عائشًا.
__________
1 المحبر "322".(11/131)
معهم، كما كان قد عاش معهم، أو أن حرصهم على حرمة القبر، إنما كان عن مراعاتهم لحرمة القبر، وعلى منزلة الموتى، فالمس بحرمة القبر، مس بحرمة الميت، وانتهاك لمقامه ولمكانته، ولما كان عليه في هذه الحياة!
وهناك من كان يعتقد أن الميت وإن غيب في قبره وانقطعت علاقته بآله وذويه إلا أن روحه لن تموت، وأنه يظل وهو في قبره يقظًا، متتبعًا لأخبار أهله. تخبره بها هامته التي تكون عند ولد الميت في محلته بفنائهم؛ لتعلم ما يكون بعده فتخبره به، حتى قال الصلت بن أمية لبنيه:
هامي تخبرني بما تستشعروا ... فتجنبوا الشنعاء والمكروها1
وأما ما ورد في الشعر الجاهلي من أمر الحشر والنشر والحساب والكتاب والعالم الثاني، فهو مما ورد ودوِّن في الإسلام، ولم أجد في رواية من روايات أهل الأخبار أن أحدًا من رواة الشعر الجاهلي، ذكر أنه نقل ما نقل من هذا الشعر من ديوان جاهلي، أو من كتاب كتب قبل الإسلام، ومع ذلك، فإن هذا المروي عن العالم الثاني قليل، لذلك لا نتمكن لقلته من تكوين صورة واضحة عن ذلك العالم ومن التحدث بطلاقة عن رأي أصحاب هذا الشعر في الحشر والنشر والبعث.
وأما ما ورد في شعر "أمية بن أبي الصلت" عن الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، فهو أوسع ما ورد في الشعر الجاهلي في هذا الموضوع. وأمية، هو الشاعر الجاهلي الوحيد الذي جاء أكثر شعره في نزعات دينية وفكرية، ذلك لأنه كان في شك من عبادة قومه، وكان على شاكلة غيره ممن سئم تلك العبادة، ينهى قومه عنها، ويسفه أحلامها، وقد تأثر باليهودية وبالنصرانية. وفي شعره اعتقاد بالجنة والنار والبعث. وبصحة المعاد الجسماني، وبوجود الجنة والنار بالمعنى الحقيقي، لا المجازي، وهو يتفق في ذلك مع الإسلام. كما تحدثت عن ذلك في الفصل الخاص بالأحناف.
وكان "الأعشى" ممن يؤمن بالله وبالحساب، وقد استشهد من قال ذلك عنه
__________
1 مروج "2/ 133".(11/132)
بأبيات شعر تشعر أنه كان يؤمن بالحساب وبقيام الإنسان بعد الموت لمحاسبته على عمله. من ذلك قوله:
يُراوِحُ مِن صَلَواتِ المَليكِ ... طَورًا سُجودًا وَطَورًا جُوَارا
بِأَعظَمَ مِنهُ تُقى في الحِسابِ ... إِذا النَسَماتُ نَفَضنَ الغُبارا1
وكان "زهير بن أبي سلمى" على مذهب من كان منهم يقول بالبعث: وهم الأقل2 قال:
يُؤَخَّر فَيوضَع في كِتابٍ فَيُدَّخَر ... لِيَومِ الحِسابِ أَن يُعَجَّل فَيُنقَم3
وكان "حاتم" طيء من المتألهين، ومن المعتقدين بالحساب. وقد أورد أهل الأخبار له شعرًا في ذلك4.
__________
1 رسالة الغفران "180".
2 الروض الأنف "1/ 96".
3 الروض الأنف "1/ 96".
4 رسالة الغفران "488".(11/133)
البلية والحشر:
ولم يذكر أهل الأخبار كيف تصور القائلون بالقيامة والحشر من أهل الجاهلية قيام الموتى ومشيهم إلى المحشر. فقد ذكروا أن قومًا من الجاهليين كانوا إذا مات أحدهم عقلوا ناقة على قبره وتركوها حتى تبلى، وتسمى لذلك "البلية". وقالوا: "البلية كغنية الناقة التي يموت ربها، فتشد عند قبره، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت جوعًا وعطشًا أو يحفر لها وتترك فيها إلى أن تموت؛ لأنهم كانوا يقولون صاحبها يحشر عليها، و"كانوا يزعمون أن الناس يحشرون ركبانًا على البلايا ومشاة إذا لم تعكس مطاياهم عند قبورهم". وذكر أنهم" كانوا في الجاهلية يعقرون عند القبر بقرة أو ناقة أو شاة، ويسمون العقيرة البلية". "وفي فعلهم هذا دليل على أنهم كانوا يرون في الجاهلية البعث والحشر بالأجساد وهم الأقل: ومنهم زهير"5. وفي هذا المعنى يقول جريبة بن أشيم6:
__________
1 تاج العروس "10/ 43 وما بعدها"، "بلي"، القاموس "4/ 350 وما بعدها".
2 اللسان "12/ 625"، "هوم"، تاج العروس "9/ 112" "هيم" "جريبة بن الأشيم الفقعسي"، بلوغ الأرب "2/ 307".(11/133)
يا سعد إما أهلكن فإنني ... أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب
لا أعرفن أباك يحشر خلفكم ... تعبًا يخر على اليدين وينكب
واحمل أباك على بعير صالح ... وتقي الخطيئة أنه هو أصوب
ولقل لي مما جمعت مطية ... في الحشر أركبها إذا قيل اركبوا1
ومن ذلك قول عمرو بن زيد المتمني يوصي ابنه عند موته في البلية:
أَبُنَيَّ زَوِّدْني إذا فارقْتني ... في القبرِ راحلَةً بِرَحْلٍ قاترِ
للبعْثِ أركبُها إذا قيلَ اظْعنوا ... مُسْتَوْسِقينَ معًا لحشْرِ الحاشرِ
منْ لا يوافيهِ على عَيْرانةٍ ... والخلقُ بين مُدَفَّعٍ أو عاثِرِ2
وقال عويمر النبهاني:
أبني لا تنس البلية إنها ... لأبيك يوم نشوره مركوب3
وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذا:
لا تتركن أباك يحشر مرة ... عدوًّا يخر على اليدين وينكب4
وطريقتهم في ذلك أن أحدهم إذا مات، بلوا ناقته، فعكسوا عنقها إلى مؤخرتها مما يلي ظهرها، أو مما يلي كلكلها أو بطنها، ويأخذون ولية فيشدون وسطها، ويقلدونها عنق الناقة، ويتركون الناقة في حفيرة لا تطعم ولا تسقى حتى تموت، وربما أحرقت بعد موتها، وربما سلخت وملئ جلدها ثمامًا5.
قال شا عر في البلية:
والبلايا رؤوسها في الولايا ... ما نحات السموم حر الخدود
__________
1 اللسان "12/ 624"، "هوم"، تاج العروس "9/ 112"، "هيم"، بلوغ الأرب "2/ 307 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "2/ 309".
3 بلوغ الأرب "2/ 309".
4 الروض الأنف "1/ 96".
5 بلوغ الأرب "2/ 307"، اللسان "14/ 85 وما بعدها"، "بلا".(11/134)
والولايا هي البراذع. وكانوا يثقبون البرذعة، فيجعلونها في عنق البلية وهي معقولة حتى تموت1.
أما كلمة "جهنم"، فيرى العلماء أنها من الكلمت المعربة. ويظن المستشرقون أنها من أصل عبراني2. ومن أسماء جهنم على رأي علماء اللغة "الهاوية"3. و"أم الهاوية"4.
__________
1 الروض الأنف "1/ 96".
2 المعرب، للجواليقي "ص107" "طبعة دار الكتب المصرية" Ency, I, p 998.
3 اللسان "20/ 250".
4 المخصص "11/ 38".(11/135)
الفصل الخامس والستون: الروح والنفس والقول بالدهر
مدخل
...
الفصل الخامس والستون الروح والنفس والقول بالدهر
ويحملنا قول بعض الجاهليين بوجود البعث، وبالصدى والهامة، على التحرش بموضوع الروح وماهيتها عند أهل الجاهلية، وعن كيفية تصورهم لها. وقد سأل أهل مكة الرسول عن ماهية الروح، فنزلت الآية: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 1. ويذكر المفسرون أن اليهود حرضوهم على توجيه هذا السؤال إلى الرسول، امتحانًا وإحراجًا له2. وفي سؤالهم له عن الروح معنى اهتمام القوم بالموضوع، ومحاولة إثارة مشكلة للرسول كانت مهمة في أعين الناس يومئذ، مما يدل على أهمية هذه القضية في ذلك العهد. وورد أن يهود يثرب هم الذين سألوه عن أمر الروح ما هي؟ وكيف تعذب الروح التي في الجسد؟ فنزل الوحي عليه بالآية المذكورة3.
و"الروح" في تعريف علماء اللغة ما به حياة الأنفس، والذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة. وذهب بعضهم إلى أن الروح والنفس واحد، غير أن
__________
1 الإسراء، الآية 85.
2 القرطبي، الجامع "10/ 325".
3 تفسير الطبري "15/ 104 وما بعدها"، القرطبي، الجامع "10/ 323 وما بعدها" تفسير الطبرسي "15/ 93"، "بيروت 1956"، تفسير ابن كثير "3/ 61"، تفسير البيضاوي "15/ 382"، تفسير أبو السعود "2/ 230"، تفسير السيوطي "4/ 199 وما بعدها"، تفسير الكشاف "2/ 197"، إرشاد الساري "7/ 212".(11/136)
الروح مذكر والنفس مؤنثة1 وقال بعض آخر الروح هو الذي به الحياة، والنفس هي التي بها العقل، فإذا نام النائم قبضت نفسه، ولم يقبض روحه، ولا يقبض الروح إلا عند الموت. وذكر بعض العلماء: لكل إنسان نفسان: إحداهما نفس التمييز، وهي التي تفارقه إذا نام، فلا يعقل بها، والأخرى نفس الحياة، وإذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس. وقد يراد بالنفس الدم، وفي الحديث: ما ليس له نفس سائله، فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه فعبر عن الدم بالنفس السائلة، وكما ورد في قول السموءل:
تَسيلُ عَلى حَدِّ الظُباتِ نُفوسُنا ... وَلَيسَت عَلى غَيرِ الظُباتِ تَسيلُ
وإنما سمي الدم نفسًا لأن النفس تخرج بخروجه2.
وقد يعبر بها عن الإنسان جميعه، وعن الجسد2. وهناك كلمة أخرى ترد في معنى "الروح"، هي "النسيم". و"النسم" نفس الروح كالنسمة، يقال ما بها نسمة، أي نفس، وما بها ذو نسيم، أي ذو روح. والنسم نفس الريح إذا كان ضعيفًا كالنسيم4. وقد ربطوا بين النسيم الروح، لما كان قد علق في أذهانهم إذ ذاك من أن الروح نوع من أنواع النسيم، وهو النفس الذي يتنفسه الإنسان، ومن أن النفس من النسيم كذلك، وأن بين التنفس والنفس صلة، والتنفس يكون بالنسيم، ولهذا قالوا لمن يموت موتًا طبيعيًّا: "مات حتف أنفه" و"مات حتف فيه" والحتف الموت؛ لأن نفسه يخرج بتنفسه من أنفه أو فيه. ولأنهما نهاية الرمق، ومنهما يكون التنفس5.
ويظهر من دراسة معاني الكلمات المذكورة، أن لفظة "نفس" هي بمعنى الإنسان والجسد في الشعر الجاهلي القديم، أما الروح" فبمعنى النفس،
__________
1 تاج العروس "2/ 147"، "روح".
2 اللسان "6/ 233 وما بعدها"، نفس".
3 اللسان "6/ 234 وما بعدها"، "نفس".
4 تاج العروس "9/ 74 وما بعدها"، "نسم"، اللسان "2/ 462"، تاج العروس "2/ 147".
5 تاج العروس "6/ حتف".(11/137)
أي التنفس واستنشاق الهواء والريح1. وتقابل لفظة "نفس" لفظة "نيفش" Nephesh في العبرانية، وتطلق على نفس كل كائن حي، من إنسان أو حيوان، وبهذا المعنى وردت في العهد القديم2. وتقابل لفظة Soul في الإنكليزية و Seele في الألمانية. وقد استعملت لفظة psyche اليونانية بمعنى نفس في العهد الجديد3. ومن هذه اللفظة اليونانية أخذ العلماء مصطلحهم Psychology Psychologie أي علم النفس، ثم مصطلحات العلوم الأخرى المتعلقة بموضوع النفس. وهي في الوقت الحاضر علوم عديدة.
أما لفظة "الروح"، فتقابل كلمة "روح" Ruach في العبرانية ولفظة Spirit في الإنكليزية، و Geist في الألمانية، وتكون في مقابل النفس في علم النفس، وتقابل لفظة Pneuma في اليونانية، ومعناها الهواء والريح والنفس.
ونجد بين المعاني التي ذكرها علماء العربية للألفاظ المذكورة، وهي: النفس، والريح، والهواء، والنسيم وبين المعاني الواردة في اللغات الأعجمية عنها شبهًا كبيرًا، يرجع على وجهة نظر الإنسان في تفسير مظاهر الحياة، وشعوره بوجود شيء في نفسه خارج عن حدود المادة، أي عن الجسم أو الجسد، لا يمكن أن يمسكه ولا أن يلمسه، فسماه "نفسًا" تارة وسماه "روحًا" تارة أخرى، وفرق بين الاثنين تارة ثالثة. وقد تصور أن النفس والروح، شيئان لهما علاقة بالحياة. فنسب الحياة إليهما أو إلى أحدهما. ونظرا إلى أنهما غير محسوسين، ولا يمكن الإمساك بهما أو لمسهما، تصورهما الإنسان تصورًا يختلف باختلاف درجة مداركه ومقدار ثقافته ودرجة ما توصل إليه من علم في ذلك الوقت.
وقد تصور اليونان النفس، على أنها هواء ونسيم، وتصوروها على هيئة طائر صغير في شكل الإنسان، أو على شكل طير، أو فراشة4. وهو تصور عرف عند غيرهم أيضًا، بل يكاد يكون الغالب على الناس. ولا زال الناس يصورون الروح على هيئة طائر، يسبح في الفضاء، فإذا مات الإنسان صعدت روحه إلى خالقها، أو إلى السماء فالأرواح طيور تكون في الإنسان، إذا انفصلت عن
__________
1 Shorter Ency, p. 433.
2 التكوين، الإصحاح الأول، الآية 200.
3 إنجيل متى، الإصحاح السادس عشر، الآية 26. Hastings, p. 872
4 H. Schmidt, Philosophisches Worterbuch, s. 518(11/138)
الجسد مات وأخذت هي تطير مزفرفة في الأعالي. وبهذا الرأي أخذ بعض الجاهليين تفسير النفس. تصوروا "النفس طائرًا ينبسط في الجسم، فإذا مات الإنسان أو قتل لم يزل يطيف به مستوشحًا يصدح على قبره". "وكانوا يزعمون أن هذا الطائر يكون صغيرًا ثم يكبر حتى يكون كضرب من البوم وهو أبدًا مستوحش ويوجد في الديار المعطلة ومصارع القتلى والقبور، وأنها -أي النفس- لم تزل عند ولد الميت ومخلفه لتعلم ما يكون من بعده فتخبره"1 وزعموا أنه إذا قتل قتيل فلم يدرك به الثأر خرج من رأسه طائر كالبومة. وهي الهامة، والذكر الصدى، فيصيح على قبره اسقوني اسقوني، فإن قتل قاتله كف عن صياحه. وكان بعضهم يقول إن عظام الموتى تصير هامة وتطير. وذكر أن الصدى حشو الرأس، ويقال لها الهامة أيضًا، أو الدماغ نفسه2.
وكان من زعم بعض الجاهليين، أن الإنسان إذا مات أو قتل اجتمع دم الدماغ أو أجزاء منه، فانتصب طيرًا هامة، ترجع إلى رأس القبر كل مائة سنة3. ويرجع هذا الرأي إلى عقيدة قديمة تعتبر الدم مقرًّا للنفس، بل تجعل الدم في معنى النفس، والنفس في معنى الدم، وذلك للصلة الوثيقة الكائنة بين الدم والنفس، ولأن الإنسان إذا قتل سال دمه. فتخرج روحه بخروج الدم من الجسم، أي خروج النفس من الدم، بعد أن كانت كامنة فيه. ويمثل هذا الرأي رأي العبرانيين أيضًا في النفس وفي صلتها بالدم، ورأي غيرهم من الشعوب4.
وكان اعتقادهم أن مقر الدم ومركز تجمعه في الدماغ. ومن هنا قيل بنات الهام: مخ الدماغ5، فلا غرابة إذا تصوروا أن الروح تنتصب فيه، فتكون هامة تخرج من الرأس، وتطير. ويكون خروجها من الأنف أو الفم؛ لأن النفس يكون منهما. فتتجمع الأرواح حول القبور، ويكون في وسعها مراقبة أهل الميت وأصدقائه ونقل أخبارهم إليه. ولهذا السبب، تصوروا المقابر مجتمع.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 311".
2 تاج العروس "10/ 207"، "صدى"، "9/ 112"، اللسان "16/ 108".
المعاني الكبير "2/ 951، 1008 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "2/ 199، 311، الروض الأنف "2/ 109".
4 Hastings, p. 101.
5 اللسان "12/ 625"، "هوم".(11/139)
الأرواح، تطير فيها مرفرفة حول القبور. وإلى هذه العقيدة أشير في شعر أبي دُواد:
سُلِّطَ الموتُ وَالمَنونُ عَلَيهِم ... فَلَهُم في صَدى المَقابِرِ هامُ
وكذلك في شعر للشاعر لبيد:
وَلَيسَ الناسُ بَعدَكَ في نَقيرٍ ... وَلا هُم غَيرُ أَصداءٍ وَهامِ1
ولهذا سموا الدماغ "الطائر" لأنهم تصوروه على صورة طير. قال الشاعر:
هم أنشبوا صم القنا في نحورهم وبيضًا تقيض البيض من حيث طائر
عنى بالطائر الدماغ. وعبر عنه للسبب المذكور بـ"الفرخ"2.
وورد أن "الصدى" ما يبقى من الميت في قبره، وهو جثته3، وقيل: حشوة الرأس، أي دماغ الإنسان الهامة والصدى. وكانت العرب تقول إن عظام الموتى تصير هامة فتطير. وقال بعض الأخباريين: إن العرب تسمي ذلك الطائر الذي يخرج من هامة الميت إذا بلي، الصدى4.
وقد نهى الإسلام عن الاعتقاد بالصدى والهامة. ورد في الحديث: "لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر"5.
وذكر بعض العلماء أن المراد من "صفر" في الحديث النبوي المذكور دابة يقال إنها أعدى من الجرب عند العرب، فأبطل النبي أنها تعدي. وقال بعض آخر أراد به النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو تأخيرهم المحرم إلى صفر في تحريمه وجعل صفر هو الشهر الحرام، فأبطله الرسول6.
__________
1 اللسان "12/ 624 وما بعدها"، "هوم"، وتاج العروس "9/ 112" "هيم"
2 تاج العروس "2/ 272" فرخ"، "3/ 364"، "طير".
3 قال النمر بن ثولب، وهو من المخضرمين:
أعاذل أن يصبح صداي بقفرة ... بعيدا نآني ناصري وقريبي
البرقوقي "ص75".
4 أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
البرقوقي "ص76".
5 اللسان "12/ 642"، "هوم"، تاج العروس "9/ 112"، "هيم".
6 اللسان "6/ 133"، "4/ 463"، "صفر"، "صادر".(11/140)
وقد لخص "المسعودي آراء أهل الجاهلية في النفس والروح، فقال: "كانت للعرب مذاهب في الجاهلية في النفوس، وآراء ينازعون في كيفياتها، فمنهم من زعم أن النفس هي الدم لا غير، وأن الروح الهواء الذي في باطن جسم المرء من نفسه، ولذلك سموا المرأة منه نفساء، لما يخرج منها من الدم، ومن أجل ذلك تنازع فقهاء الأمصار فيما له نفس سائلة إذا سقط في الماء: هل ينجسه أم لا؟ قال تأبط شرًّا لخاله الشنفرى الأكبر وقد سألة عن قتيل قتله، كيف كانت قصته؟ فقال: ألجمته عضبًا، فسالت نفسه سكبًا. وقالوا إن الميت لا ينبعث منه الدم، ولا يوجد فيه، بدأ في حال الحياة، وطبيعته طبيعة الحياة والنماء مع الحرارة والرطوبة؛ لأن كل حي فيه حرارة ورطوبة، فإذا مات بقي اليبس والبرد، ونفيت الحرارة"1.
ثم تطرق "المسعودي" إلى رأي من قال إن النفس طائر ينبسط في جسم الإنسان، فإذا مات أو قتل لم يزل مطيفًا به متصورًا إليه في صورة طائر يصرخ على قبره مستوحشًا، يسمونه الهام، والواحدة هامة2.
ونظرًا إلى قلة ما لدينا من موارد عن الروح والنفس وعلاقتهما بالجسد، عند الجاهليين، فإننا لسنا في وضع نستطيع فيه أن نتحدث عن رأي عموم الجاهليين في تركيب الإنسان. هل هو من "جسد" و"روح"، أو "جسد" و"نفس" أي ثنائي التركيب، أو أنه من "جسد" و"روح" و"نفس"، أي ثلاثي التركيب. فقد رأينا أنهم يجعلون الروح والجسد شيئًا واحدًا أحيانًا، ويفرقون بينهما أحيانًا، ويفرقون بينهما أحيانًا أخرى. ولكننا نستطيع أن نقول إن غالبيتهم كانت ترى أن الإنسان من جسد، هو الجسم، أي مادة، ومن شيء لطيف ليس بمادة هو الروح أو النفس، وهما مصدرا القوى المدركة في الإنسان ومصدرا الحياة. وأن بانفصالهما عن الجسد، أو بانفصال الجسد عنهما يقع الموت.
ويظهر من مخاطبات الوثنيين للأصنام، كأنهم كانوا يتصورون أن لها روحًا وأنها تسمع وتجيب. ومن الجائز حلول الروح في الجماد. وقد ورد عن "ابن الكلبي" عن "مالك بن حارثة" أن والد مالك هذا كان يعطيه اللبن، ويكلفه
__________
1 مروج "2/ 132".
2 مروج "2/ 133".(11/141)
بأن يذهب به إلى الصنم ود ليسقيه، فكان مالك يشربه سرًّا ويبخل به على صنمه1. وإذا صح خبر ابن الكلبي هذا، فإنه يدل على "حارثة"، وربما غيره أيضًا من عبدة الأصنام، كان يرى أن الصنم يعقل ويدرك، يسمع ويرى، وأنه وإن كان من حجر، إلا أنه ذو روح. كما ورد أن من المشركين من كان يرى أن الشمس ملك من الملائكة ذات نفس وعقل2.
ويتبين من تشديد النبي في تسوية القبور مع الأرض، ومن لعن المتخذين على القبور المساجد والسُرُج، ومن النهي عن الصلاة إلى القبور، ومن حديث: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"3، إن المشركين كانوا يقدسون قبور اسلافهم، ويتقربون إليها، لزعمهم أنهم أحياء، لهم أرواح، تعي وتسمع وتدرك، وتفرح تغضب وتجيب، وتنفع وتضر، ولهذا حاربها الرسول، وأمر بتسوية القبور، إبعادًّا عن أمر الجاهلية في ذلك، وخشية العودة إلى ما كانت عليه: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4، تعبير عن معنى هذه المشاركة وعن رأيهم في عبادة الأصنام.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 214".
2 بلوغ الأرب "2/ 215".
3 بلوغ الأرب "2/ 214".
4 الزمر، الرقم 29، الآية 3.(11/142)
الرجعة:
واعتقد قوم من العرب في الجاهلية بالرجعة: أي الرجوع إلى الدنيا بعد الموت فيقولون أن الميت يرجع إلى الدنيا كرة أخرى ويكون فيها حيًّا كما كان1.
ولعل هذه العقيدة هي التي حملت بعض الجاهليين على دفن الطعام وما يحتاج الإنسان في حياته إليه مع الميت في قبره، ظنًّا منهم، أنه سيرجع ثانية إلى هذه الدنيا، فيستفيد منها، فلا يكون معدمًا فقيرًا. ويفهم من كتب الحديث أن من الناس.
__________
1 تاج العروس "5/ 348 وما بعدها"، "رجع"، "والرجعة: مذهب قوم من العرب في الجاهلية معروف عندهم. ومذهب طائفة من فرق المسلمين من أولي البدع والأهواء، يقولون إن الميت يرجع إلى الدنيا ويكون فيها حيًّا كما كان"، اللسان "8/ 114"، "رجع".(11/142)
من سأل الرسول عن الرجوع إلى هذه الدنيا1، مما يشير على معرفة القوم عند ظهور الإسلام بهذا الرأي.
و"لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عمر بن الخطاب، فقال: إن رجالًا من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي، وأن رسول الله والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله مات". ثم جاء "أبو بكر" "وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر فأنصت، فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه، وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 2 ... إلى آخر الآية". "وقال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض، ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله قد مات".
وقد اعتقد بعض الجاهليين بـ"المسخ", وهو تحول صورة إلى صورة أخرى أقبح، وتحول إنسان إلى صورة أخرى أقبح، أو إلى حيوان. كأن يصير إنسان قردًا أو حيوانًا آخر3، أو إلى شيء جماد. من ذلك ما يراه بعض أهل الأخبار عن "اللات" من أنه كان رجلًا يلت السويق عند صخرة بالطائف، فلما مات قال لهم "عمرو بن لحي" إنه لم يمت، ولكنه دخل الصخرة، ثم أمرهم بعبادتها وبنى بيتًا عليها يسمى اللات4. وما رووه أيضًا عن إساف" و"نائلة" من أنهما كان رجلًا وامرأة، عملا عملًا قبيحًا في الكعبة فمسخا حجرين5. وما رووه من أن "سهيلًا" كان عشارًا على طريق اليمن ظلومًا.
__________
1 النهاية "2/ 72" رجع.
2 سورة آل عمران الآية 144 الطبري" 3/ 200 وما بعدها".
3 تاج العروس "2/ 279"، "مسخ".
4 تاج العروس "1/ 580"، "لت".
5 تاج العروس "6/ 40 وما بعدها" "أسف" اللسان "10/ 348"، الأصنام "9، 29، الروض الأنف "1/ 64"، المحبر "318".(11/143)
فمسخه الله كوكبًا1
وورد أن بعض الملائكة عصى الله فأهبط إلى الأرض في صورة رجل تزوج أم جرهم فولدت له جرهمًا وأن ما تولد بين الملك والآدمي يقال له: "العلبان"2 وأن "النسناس" جنس من الخلق يثب أحدهم على رجل واحدة، أصلهم حي من عاد عصوا رسولهم فمسخوا نسناسًا، لكل إنسان منهم يد ورجل من شق واحد، ينقزون كما ينقز الطائر ويرعون كما ترعى البهائم3.
وقد ذكر "الجاحظ" أمثلة من أمثلة المسخ التي وقعت للحيوان على اعتقاد الناس، من ذلك: اعتقادهم أن السمك "الجري" والضباب كانتا أمتين من الأمم مسختا واعتقادهم أن "الإربيانة" كانت خياطة تسرق السلوك، وأنها مسخت وترك عليها بعض خيوطها لتكون علامة لها ودليلًا على جنس سرقتها، ومن أن "الفأرة" كانت طحانة" والحية كانت في صورة جمل، وأن الله عاقبها حتى لاطها بالأرض، وقسم عقابها على عشرة أقسام، حين احتملت دخول إبليس في جوفها حتى وسوس إلى آدم من فيها. ومن أن الإبل خلقت من أعناق الشياطين، وأن الكلاب أمة من الجن مسخت، وأن الوزغة والحكأة من ممسوخ الحيوان4.
ومن أمثلة المسخ: جرهم، فقد زعم أن جرهمًا كان من نتاج ما بين الملائكة وبنات آدم. وكان بعض الملائكة قد عصى الله، فأهبط إلى الأرض في صورة رجل، تزوج أم جرهم فولدت له جرهمًا5. وزعموا أن سهيلًا كان عشارًا باليمن، فلما ظلم مسخه الله نجمًا6. و"الزهرة" وقد زعموا أنها كانت بغيًّا عرجت إلى السماء فمسخها الله شهابًا7. و"البسوس"، وقد زعموا أنها كانت امرأة مشئومة اسمها: البسوس، أعطي زوجها ثلاث دعوات مستجابات، وكان له منها ولد، فكانت محبة له. فقالت اجعل لي منها دعوة واحدة. قال: فلكِ واحدة. فماذا تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة
__________
1 تاج العروس "7/ 384"، "سهل"، الحيوان "1/ 297".
2 الحيوان "1/ 187"، "4/ 70" حاشية "6".
3 تاج العروس "4/ 257"، "نس".
4 الحيوان: "1/ 152، 297"، "6/ 86، 155"، "4/ 68".
5 الحيوان "1/ 187"، "4/ 69"، الروض الأنف "1/ 97".
6 الحيوان "1/ 297"، "4/ 69".
7 الحيوان "4/ 69".(11/144)
في بني إسرائيل: ففعل فرغبت عنه، لما علمت أن ليس فيهم مثلها، فأرادت سيئًا. فدعا الله تعالى عليها أن يجعلها كلبة نباحة، فذهبت فيها دعوتان. فجاء بنوها، فقالوا: ليس لنا على هذا قرار، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا بها الناس. فادع الله تعالى: أن يردها إلى حالها التي كانت عليها، ففعل. فعادت كما كانت: فذهبت الدعوات الثلاث بشؤمها، وبها يضرب المثل1.
ونجد عقيدة "المسخ" عند غير العرب أيضًا. ففي التوراة أن الله مسخ امرأة لوط، فصارت عمود ملح2. ونجدها عند الهنود وعند غيرهم من الأمم القديمة. وقد تسرب من اليهودية إلى العرب المسلمين كثير من القصص الوارد في المسخ.
وقد أنكر بعض المتكلمين "المسخ" وأنكره قوم آخرون، لكنهم جوزوا "القلب" وهو أن يُقلب ابن آدم قردًا من غير أن ينقص من جمسه طولًا أو عرضًا3.
__________
1 تاج العروس "4/ 109"، "بس".
2 التكوين، الإصحاح 19، الآية 24 وما بعدها.
3 الحيوان "4/ 73".(11/145)
الزندقة:
وقد أشار بعض الأخباريين إلى اعتقاد بعض قريش بالنور والظلمة زاعمين أنهم أخذوه من الحيرة. ويسمي الأخباريون أصحاب هذا الرأي "الثنوية"، وأطلقوا علي تلك الفئة المذكورة من قريش: "الزنادقة"1. ولم يذكروا شيئًا عن زندقة تلك الجماعة من قريش ولا عن رجالها. وأشار بعض أهل الأخبار إلى وجود الزندقة والتعطيل في قريش: "وكانت الزندقة والتعطيل في قريش"2.
وقد وصفوا الزنديق بأنه القائل بدوام بقاء الدهر3، ولا يؤمن بالآخرة وبوحدانية الخالق. فهو دهري ملحد لا يؤمن بوجود إله واحد، وهو من الثنوية" على
__________
1 اللسان "12/ 12" "زندق"، "10/ 147"، "بيروت 1956"، تاج العروس "6/ 273" وكانت الزندقة في قريش أخذوها من الحيرة" المعارف "621" المعرب، للجواليقي "166".
2 البدء والتأريخ، "4/ 31" بلوغ الأرب "2/ 228".
3 اللسان "10/ 147" "بيروت 1956"، واللسان "12/ 12"، "زندق" "بولاق".(11/145)
رأي بعض العلماء1. وإلى هذا المعنى في تفسير زندقة قريش، ذهب أكثر أهل الأخبار. وقد عد "أبو العلاء" المعري "شداد بن الأسود الليثي" المعروف أيضًا بـ"ابن شعوب" وهي أمه، شاعر زنادقة قريش. وذلك لشعره الذي فيه:
ألا من مبلغ الرحمن عنى ... بأني تارك شهر الصيام
إذا ما الرأس زايل منكبيه ... فقد شبع الأنيس من الطعام
أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا؟ ... وكيف حياة أصداء وهام
أتترك أن ترد الموت عني ... وتحييني إذا بليت عظامي2
والزندقة كلمة معربة، ذكر علماء اللغة أنها أخذت من الفارسية، أريد بها في الأصل الخارجون والمنشقون على تعاليم دينهم، فهي في معنى "هرطقة". وقد صار لها في العهدين: الأموي والعباسي مدلول خاص، حيث قصد بها "الموالي الحمر"، الذين تجمعوا في الكوفة، وكانوا يظهرون الإسلام ويبطنون تعاليم المجوسية والإلحاد3.
وفي كلام أهل الأخبار عن الزندقة ووصفهم لزندقة قريش إبهام وغموض وخلط. وإذا كان الزنديق هو القائل ببقاء الدهر، وبعدم وجود عالم ثانٍ بعد المون، فتكون الزندقة "الدهرية" ويكون الزنديق هو الدهري لقوله بالدهر وبأبدية الكون والمادة4. أما القول بالثنوية: بالنور والظلمة، وبالكفر والإلحاد فشيء آخر، يختلف عن القول بالدهر. والظاهر أن الجمع بين القول بالدهر وبالقول بالنور والظلمة وبالكفر والإلحاد، إنما وقع في الإسلام، بسبب الخلط الذي وقع بين المعنى المفهوم للفظة في الفارسية القديمة وفي الفارسية الحديثة، وبالمعنى الذي ظهر للكلمة في الإسلام. والذي تحول إلى زندقة بغيضة تحوي العناصر المذكورة، والتي كانت تؤدي بمن يتهم بها إلى القتل.
__________
1 اللسان "10/ 147"، "زندق" الغزالي، فيصل المتفرقة بين الإسلام والزندقة "173"، "1961".
2 رسالة الغفران "421 وما بعدها".
3 "والحمراء العجم، لبياضهم، ولأن الشقرة أغلب الألوان عليهم"، اللسان "5/ 288" "حمر"، Shorter Ency. Of Islam, p. 659, Muh Stud, I, S. 150.
4 المعرب "ص166 وما بعدها"، اللسان "12/ 12"، "10/ 147"، طبعة دار بيروت "1956م".(11/146)
وقد أشير في القرآن الكريم إلى وجود القائلين بالدهر: "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر"1. وهو على حد قول المفسرين والأخباريين، من لا يؤمن بالآخرة وبوحدانية الله. وهو مذهب ودين كان عليه كثير من أهل الجاهلية، يسخر من البعث بعد الموت، ويرى استحالة ذلك. ولم يذكر المفسرون أن من عقيدة هؤلاء القول بالثنوية، أي بالنور والظلمة، وبوجود إلهين: إله الخير وإله الشر.
وقد ذكر "محمد بن حبيب" أسماء "زنادقة قريش"، فجعلهم "أبو سفيان بن حرب"، و"عقبة بن أبي معيط"، و"أبي بن خلف الجمحي"، و"النضر بن الحارث بن كلدة"، و"منبه" و"نبيه" ابنا "الحجاج" الهميان، و"العاص بن وائل" السهمي، و"الوليد بن المغيرة" المخزومي. وذكر أنهم "تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة"2. فربط هنا بين الزندقة وبين "نصارى الحيرة". وقد هذب "ابن قتيبة" أيضًا، إلى أخذ قريش الزندقة من الحيرة3.
والذي نعرفه عن المذكورين أنهم كانوا من المتمسكين الأشداء بعبادة الأصنام: وقد كان "أبو سفيان" يستصرخ "هبل" على المسلمين يوم أحد. ويناديه: "اعل هبل، اعل هبل"، وقد نص على أنه كان من أشد المتحمسين لعبادة الأصنام4. ولم يذكر أحد من أهل الأخبار، أنهم كانوا ثنويين على رأي المجوس، يقولون بإلهين، بالنور والظلمة، وأنهم تعبدوا للنار، أو تأثروا برأي مزدك أو ماني الذي أضيف إليه الزندقة، ولا نجد في آرائهم المنسوبة إليهم وفي حججهم في معارضه الرسول ما يشير إلى "زندقة" بمعنى "ثنوية"، لذلك فزندقة من ذكرت لا يمكن أن تكون بهذا المعنى ولا على هذه العقيدة5.
وللوقوف على زندقة من ذكرت من رجال قريش، ولتحديد معنى زندقتهم، يجب الرجوع إلى ما نسب إليهم من آراء وإلى ما عارضوا به الرسول وحاربوه.
__________
1 الجاثية، الآية 23.
2 المحبر "161"، "زنادقة قريش".
3 المعارف "621" الأعلاق النفسية "217".
4 اللسان "14/ 212"، تاج العروس "8/ 162"، "هبل"، الأصنام "28".
5 راجع معنى الزندقة في مروج الذهب "1/ 275"، "أثناء حديثه على بهرام".(11/147)
من أجله. ويمكن حصر ذلك في أمرين: التقرب إلى الأصنام والتعبد لها، والدفاع عنها بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1، ولا علاقة لهذه العقيدة بالزندقة. والأمر الثاني، هو القول بالدهر وبالتعطيل، أي بنكران البعث والحشر والنشر. ويتجلى ذلك في قولهم لرسول الله: إن كنت صادقًا فيما تقول: فابعث لنا جدك: "قصي بن كلاب"، حتى نسأله عما كان ويحدث بعد الموت، وأمثال ذلك مما له علاقة بنفي وقوع البعث. وهو الذي له صلة بالزندقة. فالزندقة بهذا المعنى قول الدهر وبدوامه ونكران للبعث، لا الثنوية بمعنى القول: بالنور والظلمة.
وأما ما يرويه أهل الأخبار من أخذ زنادقة قريش زندقتهم من الحيرة2، أو من نصارى الحيرة3، فإن فيه تأييدًا لما قلته من أن الزندقة لا تعني المجوسية والثنوية، وإنما القول بالدهر، وإنكار المعاد الجسماني4. وهو قول قريب من قول من أنكر بعث الأجسام، وآمن ببعث الروح فقط من النصارى ومن غيرهم من أهل الأديان.
والزندقة بهذا المعنى قريبة من رأي القائلين بالدهر، وهم "الدهرية" الذين أشير إليهم في القرآن الكريم، في الآية: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 5. وهم من يقول ببقاء الدهر، وبنكران البعث والآخرة، والخالق والرسل والخلق على بعض الآراء، وينسبون كل شيء إلى فعل الدهر، أي الأبدية مع التأثير في حياة الإنسان وفي العالم. ولهذا أضافوا إليه بعض الألفاظ والنعوت التي تشير إلى وجود هذا التأثير في الحياة فقالوا: يد الدهر، وريب الدهر، وعدواء الدهر، و"الدهر لا يبقى على حدثانه"، و"الدهر يحصد رببه ما يزرع"، وأمثال ذلك من تعابير، فنسبوا إليه الفعل في الكون وفي كل ما فيه6.
__________
1 الزمر، سورة رقم 39، الآية 3.
2 المعارف "621".
3 المحبر "621".
4 مروج "2/ 102"، "ذكر ديانات العرب وآرائها في الجاهلية".
5 الجاثية، سورة رقم 45، الآية 24، تفسير الطبري "25/ 151"، القاهرة 1954".
6
ألم أخبرك أن الدهر غول ... ختور العهد يلتهم الرجالا
ألا إنما الدهر ليال وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر
السندوبي "83، 171".(11/148)
ونسبوا الإماتة إلى الدهر، فقالوا: "وما يهلكنا إلا الدهر" أي وما يميتنا إلا الأيام والليالي، أي مرور الزمان وطول العمر، إنكارًا منهم للصانع. قال أحدهم:
فاستاثر الدهر الغداة بهم ... والدهر يرميني وما أرمي
يا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت في العظم1
فكانوا في الجاهلية يضيفون النوازل إلى الدهر، والنوازل تنزل بهم من موت أو هرم، فيقولون أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه، وأبادهم الدهر، فيجعلون الدهر الذي يفعله، فيذمونه ويسبونه. وقد ذكروا ذلك في أشعارهم2.
ومن الجمل التي تنسب الفعل إلى الدهر، قولهم: "أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه، وأبادهم الدهر"، والدهر يجلب الحوادث، ففي هذه الجمل وأمثالها معنى أن ما ينزل بالإنسان من قوارع، وما يحل به من إبادة هو بفعل الدهر، فهو إذن المهيمن على العالم والمسخر له3.
وقد كان هذا الاعتقاد راسخًا في نفوس كثير من الجاهليين، وفي نفوس كثير ممن أدرك الإسلام فأسلم، فكانوا إذا أصيبوا بمكروه وبحادث مزعج نسبوا حدوثه إلى الدهر. فسبوه كما يتضح من حديث: "لا تسبوا الدهر، فإن
__________
1 تفسير الطبرسي "25/ 136"، "بيروت 1955"، "25/ 78" وما بعدها"، "طبعة طهران".
2 تاج العروس "2/ 218"، "دهر".
3
ديار بني سعد بن ثعلبة الألى ... أذاع بهم دهر على الناس دائب
فأذهبهم ما أذهب الناس قبلهم ... ضراس الحروب والمنايا العواقب
Caskel, S. 45..
ولست إذا ما الدهر أحدث نكبة ... ورزاء بزوار القرائب أخضعا
Caskel, S. 50.
وإلا تعاديني المنية أغشكم ... على عدواء الدهر جيشا لهاما
Caskel, S. 51.
ابن قتيبية: الشعراء "229".
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... كما الدهر في أيامه العسر واليسر
Caskel, S. 51..
قال زهير بن أبي سلمى:
واستأثر الدهر الغداة بهم ... والدهر يرميني ولا أرمي
ديوان زهير "385".(11/149)
الله الدهر"، أو "فإن الدهر هو الله" ومن حديث: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وإنما أنا الدهر: أقلب الليل والنهار"1. وأحاديث أخرى من هذا القبيل. وقد ذكر "الجاحظ"، أن من الصحابة والتابعين والفقهاء من نهى الناس من قول: طلع سهيل وبرد سهيل، وقوس قزح، كأنهم كرهوا ما كانوا عليه من عادات الجاهلية، ومن العود في شيء من أمر تلك الجاهلية، فاحتالوا في أمورهم، ومنعوهم من الكلام الذي فيه أدنى متعلق2.
وفي هذين الحديثين توفيق فكرة الجاهليين في الدهر، وللعقيدة الإسلامية في التوحيد بأن صير الدهر الله، وصيره بعض العلماء من أسماء الله الحسنى. والذي حملهم على ذلك، على ما أرى، صعوبة إزالة تلك الفكرة التي رسخت في النفوس منذ القدم عن فعل الدهر، وعن أثره في الكون، فرأى القائلون بذلك إزالتها بجعل الدهر اسمًا من أسماء الله، أو هو الله تعالى: وهو واحد أحد، والدهر واحد أبدي أزلي كذلك، فلا تصادم في هذا التوفيق بين الرأيين.
وقد وقع هذا التوفيق على ما أعتقد بعد وفاة الرسول في أمور عديدة نسبت إلى الرسول، وقد ثبت عدم إمكان صدورها منه. وللحكم على صحة نسبة الحديثين إلى الرسول أحيل القارئ على الطرق التي وردا بها، وإلى آراء العلماء فيهما، وأعتقد أنه إن فعل ذلك فسيجد في نسبتها إلى الرسول بعض الشك، إن لم أقل كل الشك.
وتعبر لفظة "الزمان" عن معنى "الدهر" كذلك. وقد ذهب علماء اللغة إلى أن الزمان، أقصر من الدهر؛ إذ يقع على الزمان القصير، أما الدهر، فالزمان الدائم، أي الزمان الذي لا ينتهي بنهاية. وأنا لا يهمني في هذا المكان تفريق العلماء بينهما في الطول والقصر، إنما المهم عندي هو أن الجاهليين استعملوا الزمان استعمالهم للدهر، ونسبوا إليه ما نسبوه للدهر من فعل في الإنسان وفي الحياة والعالم. هذا "زهير بن أبي سلمى" يتشكى منه في قصيدته التي يمدح بها "هرم بن سنان"، فيقول في مطلعها:
__________
1 اللسان "5/ 378"، "دهر"، تاج العروس "3/ 218"، "دهر"، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، تفسير الطبرسي "25/ 136"، "بيروت 1955"، صحيح مسلم "15/ 2 وما بعدها".
2 الحيوان "1/ 340 وما بعدها".(11/150)
لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر
لعب الزمان بها وغيرها ... بعدي سوافي المور والقطر1
وتجد اللفظة في أشعار غيره من الشعراء الجاهليين والإسلاميين تعبر عن "غدر الزمان" وعن "كذبه"2 وتلونه وتلاعبه بمقدرات الإنسان3. وفي كل هذه المواضع التي استعملت فيها تعبير عن تلك العقيدة التي لا تزال راسخة في نفوس كثير من الناس، وهي أن الحياة قسمة ونصيب وحظ وبخت، وأنه ليس لمخلوق على ما يقدره له القدر من سلطان. وأن الزمان يلعب بالإنسان وبالكون كيف يشاء، مع أن الإنسان لو فكر في نفسه وتأمل في عقله، لوجد أنه هو الذي خلق الزمان أي الدهر فأوجده على صورته هذه، بأن حدده وعينه بسنين وبقرون، وليس الزمان إلا دوام وبقاء لهذا الكون، وليس له أي فعل حقيقي في هذا الكون، والإنسان هو الذي أوجد السنين ليقيس بها طول الزمان، لحاجته إلى معرفته، وأن حسابه بالسنين مهما سيطول، فإنه لن يبلغ ولن يكون في مقدوره بلوغ نهاية الكون.
والمعنى الذي نفهمه من "الدهر" في الشعر الجاهلي، هو الأبدية مع التاثير في حياة الإنسان وفي العالم. ولهذا أضافوا إليه بعض الألفاظ التي تشير إلى وجود هذا التأثير في الحياة، فقالوا: يد الدهر، وريب الدهر، وعدواء الدهر، وأمثال ذلك من تعابير. فنسبوا إليه الفعل في الكون وفي كل ما هو فيه4.
__________
1 وفي بعض الروايات "لعب الرياح" شرح ديوان زهير "ص87"، Caskel, S. 44.
2
أفرحت أن غدر الزمان بفارس ... قلح الكلاب وكنت غير مغلب
يا مر كذب الزمان عليكم ... ونكأت قرحتكم ولما أنكب
Caskel, S. 51..
3
ولو سألت سراة الحي عني ... على أني تلون بي زماني
.Caskel, S. 52.
4 "والدهر لا يبقى على حدثانه"، "والدهر يحصد ريبه ما يزرع".
ألم أخبرك أن الدهر غول ... ختور العهد يلتهم الرجالا
ألا إنما الدهر ليال وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر
Caskel, Die Schiksal in der altarabischen Poesie, Leipzig. 1926, s. 48, w. L. Schramaier, uber den Fatalismus der Barislamischen Araber, S. 12, Bnn. 1881.(11/151)
ومن نسب إليه القول بالدهر، الحارث بن قيس، المعروف بابن الغيطلة1.
وتؤدي لفظة "الأيام" هذا المعنى كذلك، بل استعملت أجزاء اليوم مثل "الليالي" للتعبير عن تلك الفكرة أيضًا. فالليالي هي كالأيام، لا يمكن أن يطمأن إليها، ولا أن يوثق بها، إنها تتلون وتتبدل ولا تخلص لأحد. وحيث إن الليالي هي أوقات الراحة والاستقرار والهدوء، وأوقات الأنس والطرب والانفراد بالأحبة، وهي أوقات الغدر والاغتيال والغارات والغزو في الوقت نفسه، فيكون ذكرها في الشعر وتفضيلها على النهار وتقديمها عليه، ونسبة الخير أو الشر إليها أكثر من نسبتها إلى النهار شيئًا طبيعيًّا. لذلك يجب ألا يستغرب ما نقرؤه في الشعر وما نسمعه من أفواه الناس من نسبة تبدل الحال والتلون إلى الليالي أكثر من النهار2.
وقد استعملت لفظة "عَوْض" في معنى الدهر والزمان. وردت في شعر شاعر من شعراء بكر بن وائل، فعبر بهذه اللفظة عن زمانه. واستخدام بكري لهذه الكلمة. يشير إلى الصنم "عوض" الذي كانت بكر قبيلة هذا الشاعر تتعبد له3. وقد أقسموا بها. فقالوا: "عوض لا يكون ذلك أبدًا"4، ولا أستبعد وجود صلة بينها وبين الصنم "عوض".
وأما "الحمام" فإنه قضاء الموت وقدره، يقال: "حُمَّ طه" أي قضى وقدر5. وقد وردت لفظة "حم" ومتعلقاتها في أشعار عديدة بهذا المعنى. أي القضاء والتقدير. فورد "ما حم واقع" وورد "أحم الله...." و"حمه الله"، و"حمت لميقاتي"، و"حمتي"، و"حمام الموت"، و"حمام
__________
1 أنساب "1/ 132".
2
فأن تك غبراء الخبيبة أصبحت ... خلت منهم واستبدلت غير إبدال
بما قد رأى الحي الجميع بغبطة ... بها والليالي لا تدوم على حال
Caskel, S. 45..
3 "وعوض معناه أبدًا أو الدهر. سمي به لأنه كلما مضى جزء عوضه جزء أو قسم أو اسم صنم لبكر بن وائل"، والقاموس "2/ 337"، قال الأعشى:
حلفت بمائرات حول عوض ... وأنصاب تركن لدى السعير
وقيل إن هذا الشعر لرشيد بن رميض العنزي. والسعير اسم صنم كذلك. تاج العروس "5/ 58 وما بعدها"، "عوض".
4 تاج العروس "5/ 58"، "عوض".
5 تاج العروس "8/ 258".(11/152)
النفس"، و"حمام المنون"، و"حمام"1. وهي من حيث هذا المعنى كالحتف والأجل والآجال والحتوف والمنون.
__________
1 قال البعيث:
ألا يا لقوم كل ما حم واقع ... وللطير مجرى والجنوب مصارع
وقال الأعشى:
تؤم سلامة ذا فائش ... هو اليوم حم لميعادها
وقال خباب بن غزي:
وأرمي بنفسي في فروج كثيرة ... وليس الأمر حمه الله صارف
تاج العروس "8/ 258".(11/153)
القضاء والقدر:
ويسوقنا هذا الموضوع إلى البحث عن فكرة القضاء والقدر عند الجاهليين. فقد كان بين أهل الجاهلية من كان يقول بالجبر، وبأن الإنسان مسير لا مخير. وأن كل ما يقع له مكتوب عليه، ليس له دخل في حدوثه. ومن هؤلاء القائلون بالدهر والمنون والحمام وما شاكل ذلك من مصطلحات تشير إلى وجود هذا الرأي عندهم.
ولا يعني القول بالجبر، أن قائله من المتألهين القائلين بوجود خالق أوجد الكون، فقد كان من المجبرة من كان ملحدًا، لا يقول بخالق، وكان منهم من كان مشركًا. كما أن بينهم من كان يؤمن بوجود خالق أو جملة آلهة فليس لمذهب الجبر علاقة بالخالق، وإنما هو مذهب يري أن الإنسان مسير، وأنه يسير وفق ما كتب له، ومنهم من ينسبه إلى علة، هي الله أو الدهر، ومنهم من لا ينسبه إلى أحد وهو مذهب موجود في اليهودية وفي النصرانية وفي الإسلام.
ونجد هذه العقيدة في شعر الشاعر النصراني "عدي بن زيد العبادي"، وربما نجدها أيضًا عند سائر إخوانه النصارى ومن كان على هذا الدين من غيرهم من العرب. والواقع أن الاعتقاد بوجود إله خلق الكون منفردًا، أو آلهة خلقوا الكون مشتركين، يحمل الإنسان على أن يتصور نفسه أنه لا شيء تجاه خالقه أو آلهته وأنه من صنعهم، فما يقوم به، هو من صنع الله أو من صنع الآلهة.(11/153)
وهي عقيدة لا بد أن يكون للأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إذ ذاك دخل في شيوعها بينهم. ونكاد نجد أكثر الشعوب الشرقية على هذا الرأي. وأما ما ظهر من نظرية حرية الإرادة وقدرة الإنسان على خلق أفعاله واختياره، فإنه من تأثير الفلسفة الإغريقية التي دخلت النصرانية.
ونرى "حاتم الطائي" وهو من النصارى على رأي، مؤمنًا بالقضاء وبالقدر وبما يأمر به الله، إذ يقول:
أتيح له من أرضه وسمائه ... حمام، وما يأمر به الله يفعل
فأسند الأمر والنهي في هذا البيت إلى الله، وأما الإنسان فإنه مأمور مسير. ونجده يكل أمره إلى الله، ويدعو على تسليم أمرهم للإله الذي يرزقهم اليوم ويرزقهم غدًا:
كلوا اليوم من رزق الإله وأيسروا ... وإن على الرحمن رزقكم غدا
ونجد "المثقب العبدي" مؤمنًا بالله، وبالقدر. فما يقع للإنسان يكون بمشيئة الإله وقدره:
وأيقنت إن شاء الإله بأنه ... سيبلغني أجلادها وقصيدها1
و"القدر" و"المقدر" و"المقدور" و"الأقدار" و"القضاء"، من الألفاظ القديمة التي كانت تؤدي هذا المعنى الذي نبحث فيه قبل الإسلام واستعمال المتكلمين للقضاء والقدر وللقدرية، لا يعني أن تلك الكلمات من الألفاظ التي نبعت في الإسلام. بل إن ظهورها في هذا العهد واشتهارها فيه، هو لاستخدامها العلماء لها في مدولات معينة وفي مصطلحات وأفكار توسعت واستقرت في هذا العهد.
ونجد الإشارة إلى القدر في شعر الجاهليين والمخضرمين بالمعنى الذي نقصده هنا، أي شيء مفروض على كل إنسان. هذا لبيد الشاعر المخضرم يذكر أن ما يرزقه هو من فضل الله عليه، وما يحرمه فإنه مما يجري به.
__________
1 تاج العروس "2/ 468"، "قصد".(11/154)
القدر1. ونجد فكرة القدر مركزة قوية صريحة في شعره، فهو يعتقد أن القدر خيره وشره من الله، وأن ما يصيب الإنسان مكتوب عليه، ولا راد لما هو مكتوب ولا دخل لامرئ في عمله، فليحمد اله على خيره، وليشكره على شره أيضًا، فهو العالم وحده بما هو صالح وضار2. وشعره هذا لا بد أن يكون مما نظمه في الإسلام؛ إذ لا يعقل أن يكون من نظم عصر وثني، لما يتجلى عليه من الطابع الإسلامي في الفكر وفي الأسلوب والعرض.
كذلك نجد هذه العقيدة عقيدة القدر في شعر "زهير بن أبي سلمى" وفي شعر غيره من الشعراء. هذا زهير يقول: إن المنايا أمر لا مفر منه، وإن من جاءت منيته لا بد أن يموت، ولو حاول الارتقاء إلى السماوات فرارًا منه3. ثم نجده يقول:
رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب ... تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ4
فليس للإنسان دخل في عمله، وإنما كل شيء يقع له في حياته هو مكتوب عليه. مكتوب عليه أن يموت في أجله. وأن يعيش إلى أجله، وأن يكون غنيًّا وأن يكون فقيرًا، وليس للإنسان عمل على سلطان الحظ.
ومن القائلين بالقدر، "عبيد بن الأبرص"، الشاعر الجاهلي الشهير، المقتول في قصة معروفة مشهورة. نجد في الشعر المنسوب إليه اسم "الله" يتردد في كثير من المواضع، ونراه من المتشائمين المؤمنين بالمنايا وبالمحتم المكتوب، وتراه يتوكل على الله، ويدعو الناس إلى الاعتماد عليه، فيقول:
__________
1
فما رزقت فإن الله جالبه ... وما حرمت فما يجري به القدر
ديوان لبيد "ص54"، "طبعة ليدن 1891".
ولا أقول إذا ما أزمة أزمت ... يا ويح نفسي مما أحدث القدر
Caskel, S. 20.
2
من يبسط الله عليه أصبعا ... بالخير والشر بأي أولعا
ديوان لبيد "8، 11، 28، 33، 53، 54، 55،"، "طبعة بروكلمن" Ency, III, P. I..
3
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو نال أسباب السماء بسلم
شرح ديان زهير لثعلب "ص30"، "وطر بالذي قد حم"، Caskel, S. 54.
4 الحيوان "2/ 103".(11/155)
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
بالله يدرك كل خير ... والقول في بعضه تلغيب
والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب1
ونراه يقول في المنايا:
فأبلغ بني وأعمالهم ... بأن المنايا هي الوارده
لها مدة فنفوس العباد ... إليها وإن كرهت قاصده
فلا تجزعوا الحمام دنا ... فللموت ما تلد الوالده2
وفي كثير من مواضع شعره يذكر المنايا ويذكر الموت، ثم هو يتجلد ويتصبر في ملاقاة الشدائد والأهوال، وينصح الناس بالسير على هذا المنوال. والذي يقرأ شعره، يشعر أنه أمام رجل حضري رقيق عاطفي المزاج ذي نفس ميالة إلى التقشف والتصوف، مؤمن بالعدل، كاره للظلم، فهل كان عبيد على هذه الشاكلة؟ وهل هذا الشعر وخاصة ما جاء منه في البائية هو نظم من منظومه؟ أو هو من نظم من عاش بعده في الإسلام؟
ونجد "عمرو بن كلثوم" في جملة من آمن بالقضاء والقدر، وبأن الموت مقدر لنا، ونحن مقدرون له، وذلك في قوله:
وَإِنّا سَوفَ تُدرِكُنا المَنايا ... مُقَدَّرَةً لَنا وَمُقَدَّرينا3
وهو من المؤمنين بالله، الحالفين به. وذلك كما جاء في بيت شعر نسبوه إليه:
مَعَاذَ اللَهِ يَدعوني لِحِنثٍ ... وَلَو أَقفَرتُ أَيّاماً قُتارُ4
وكما ورد في أشعار أخرى تنسب إليه.
والشاعر "لبيد" من هذه الطبقة التي اعتقدت أن الله خالق كل شيء،
__________
1 البيان والتبيين "1/ 226"، شعراء النصرانية، القسم الرابع "ص607".
2 شعراء النصرانية، القسم الرابع "604 وما بعدها".
3 التبريزي، شرح القصائد العشر "384"، "البيت رقم 7 من المعلقة"، شرح القصائد السبع للزوزني "146 وما بعدها"، جمهرة أشعار العرب "120".
4 المحبر "471".(11/156)
يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا دخل للإنسان في عمله، تراه يقول:
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل1
وتؤدي لفظة "منا" معنى القدر، ومنها "الماني" بمعنى القادر، و"المنية" بمعنى الموت؛ لأن الموت مقدر بوقت مخصوص2. وهي من الكلمات السامية المشتركة الواردة في مختلف لهجات هذه المجموعة. ولهذه الكلمة صلة باسم الإله الكنعاني "منى"، وهو إله القدر. ولها أيضًا صلة بالصنم "منوات" "منوت" من أصنام ثمود، وبـ"مناة" من أصنام الجاهليين3.
ومن أصل "منا" "المنايا" الواردة في أشعار الجاهليين4. و"الماني الواردة في شعر منسوب إلى سويد بن عامر المصطلقي، هو:
لا تأمن الموت في حل ولا حرم ... إن المنايا توافي كل إنسان
واسلك طريقك فيها غير محتشم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني
في رواية. و:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني
فالخير والشر مقرونان في فرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان
__________
1 الأغاني "9/ 112"، "21/ 126".
2 تاج العروس "10/ 347 وما بعدها".
إن المنية منهل ... ولا بد أن أُسقى بكأس المنهل
الأغاني "15/ 79".
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
ولو كنت في بيت تسد خصاصه ... حوالي من أبناء نكرة مجلس
ولو كان عندي حازيان وكاهن ... وعلق أنجاسا على المنجس
إذا لاتتني حيث كنت منيتي ... يخب بها هاد إلى معرس
Caskel, s. 29.
3 Caskel, s. 22, Ency, Religi, I, P. 661.
4
وأن المنايا ثغر كل ثنية ... فهل ذاك عما يبتغي القوم محضر
وغبراء مخشي رداها مخوفة ... أخوها بأسباب المنايا مغرر
ديوان عروة بن الورد "38"، "تحقيق نولدكه"، كوتنكن 1863".(11/157)
على رواية أخرى.
وفي هذا البيت الذي ينسبه بعض الرواة إلى أبي قلابة الهذلي:
وَلا تَقولَنْ لِشَيءٍ سَوفَ أَفعَلُهُ ... حَتّى تُلاقِي ما يمني لَكَ الماني1
وتؤدي كلمة "المنون" معنى الدهر والموت2، وقد تسبق بكلمة "ريب" في بعض الأحيان، فيقال: "ريب المنون" كما يقال "ريب الدهر"3.
ويرى "نولدكه" إن هذه الكلمات هي أسماء آلهة، وليست أسماء أعلام، هي أسماء تعبر عن معانٍ مجردة للألوهية، وهي مما استخدام في لغة الشعر للتعبير عن هذه العقائد الدينية. فالزمان مثلًا أو الدهر، لا يعنيان على رأيه هذا إلهًا معينًا، ولا صنمًا خاصًّا، إنما هي تعبير عن فعل الآلهة في الإنسان4.
وبعض هذه الكلمات -في رأي "ولهوزن"- مثل قضاء ومنية، هي بقايا جمل اختصرت، ولم يبق منها غير بقايا هي هذه الكلمات. فكلمة قضاء هي بقية جملة أصلها "قضاء الله" سقطت منها الكلمة الأخيرة، وبقيت الأولى. وكذلك الحال في منية، فإنها بقية جملة هي: "منية الله، سقط عجزها، وبقي صدرها. وهي تعني أن المنية هي منية الله تصيب الإنسان5.
يبدو أن من الغريب ذكر الدهر والزمان والحمام والمنايا وأمثالها في الشعر ونسبة الفعل إليها، بينما يهمل ذكر الأصنام فيه أو نسبة الفعل إلى الله. فهل يعني هذا أن الجاهليين لم يكونوا يعلمون أن لله سلطانًا وحولًا، وأن المنايا والحتوف وكل خير أو مكروه هو من فعل الله؟ الواقع أن هذا الذي نذكره يذهب إليه أهل
__________
1 تاج العروس "10/ 347"، اللسان "15/ 292"، "منى".
2 تاج العروس "9/ 350 وما بعدها".
3 "أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون"، الطور، الآية 30.
أئن رأت رجلًا أعشى أضر به ... ريب المنون ودهر مفند خبل
تخوفني ريب المنون وقد مضى ... لنا سلف قيس معًا وربيع
ديوان عروة بن الورد "ص43" نولدكه".
أمن المنون وديبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
Caskel, S. 41.
4 Ency, Religi, I, P. 661.
5 Reste, S. 222.(11/158)