وقد ذكر بعض المؤرخين أن العرب من "نزار" ملكتهم الفرس, وأن العرب من غسان ملكتهم الروم1, فجعل "نزارًا" في مقابل غسان، ولم يكن كل عرب العراق من "نزار", يدلك على ذلك أن ملوك الحيرة على رأي أهل الأخبار من قحطان. والذي يلاحظ من كيفية توزيع القبائل على حسب رواية أهل الأخبار أن معظم قبائل العراق، هي من قبائل "نزار" أو من "ربيعة" و "مضر" بتعبير آخر. أما معظم قبائل بلاد الشام فهي من "يمن", أي على عكس الحال في العراق, فهل يمثل هذا التقسيم توزيعًا تأريخيًّا صحيحًا, بمعنى أن أكثر قبائل العراق، قد وردت العراق من العربية الشرقية والعربية الوسطى، أي: من سواحل الخليج ونجد، وأن عرب بلاد الشام إنما جاءوا إلى هناك من اليمن، عن طريق الحجاز ونجد؟ أم أنه تقسيم سياسي اصطلاحي، نشأ قبل الإسلام بعهد طويل من المنافسة التي كانت بين العراق وبلاد الشام، المنافسة التي ظلت باقية في الإسلام, فقد كان بين العراق وبين بلاد الشام عداء وتباغض، لعوامل لا مجال للبحث فيها في هذا المكان؟. وقد استولت حكومات العراق من حكومات وطنية وأجنبية على بلاد الشام مرارا، مما ولد مرارة وأوجد حقدًا بين أهل العراق وأهل الشام، فانتقل ذلك إلى عرب القطرين أيضًا. فحارب عرب العراق عرب بلاد الشام، حتى وصل هذا العداء إلى دعوى وجود فرق بين أصل عرب العراق وأصل عرب بلاد الشام, فصارت أكثر قبائل العراق في عرف أهل الأنساب من ربيعة ومضر ونزار، وصار معظم بلاد الشام في عرفهم من اليمن، قياسًا على ما كان عليه العرب عند ظهور الإسلام من أنصار ومهاجرين، أو من يمن وعدنان، أو قحطان وعدنان وما شابه ذلك من أسماء. أما رأيي، فإن لأهل الأخبار يدًا طولى في هذا التقسيم الذي ظهر وأينع في الإسلام، وإن الجاهلية لم تكن تخلو من تجمعات وتكتلات قبلية، ولكنها كانت تختلف عن التجمعات التي أثارتها النعرة القبلية الجديدة التي برزت في الإسلام، والتي أثرت على ظهورها عوامل عديدة إلى أن ثبتت ودونت في كتب أهل الأنساب والأخبار.
وجعل بعض أهل الأخبار العرب يمنًا ونزارًا، وذكر أن اليمن أصحاب بحر وبني نزار أصحاب بر2. وقصدوا باليمن أصحاب الساحل، الذين عركوا البحر
__________
1 المعاني الكبير "2/ 941 وما بعدها".
2 المعاني الكبير "2/ 640".(7/326)
وخبروه، عكس "نزار"، عرب البر، وهم قوم لا علم لهم بالبحر، إنهم لم يتعودوا على ركوبه؛ إذ سكنوا البر ولم يعركوا البحر، فخافوا منه وتجنبوه.
والآراء المتقدمة في تقسيم العرب إلى أركان وكتل، هي آراء عربية محضة أخذت من واقع الحال, ولم تستمد من التقسيم المألوف للعرب إلى قحطانيين وعدنانيين، التقسيم المأخوذ من التوراة على نحو ما شرحت ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب؛ وذلك لأن الحياة في بلاد العرب هي حياة تكتل وتحزب, فكان لا بد للقبائل من عقد أحلاف فيما بينها للمحافظة على نفسها من افتراس القبائل الكبيرة لها، ومن استذلالها وأخذ ما تملكه. وبهذه الأحلاف حافظت القبائل الضعيفة على حياتها، وحدَّت من طمع القبائل الضخمة في القبائل الهزيلة، وصار في الإمكان السيطرة على الأمن والتقليل من حمى غزو القبائل بعضها بعضًا.
وحاجة الأعراب إلى الأحلاف أكثر وأشد من حاجة الحضر إليها، وذلك بسبب أن الغزو في البادية ضرورة من ضرورات الحياة لفقر البادية وشحها؛ لانبساط أرضها وعدم وجود حواجز طبيعية تعوق الغزو وتحمي المغزو منه. فاضطرت القبائل إلى خلق حماية طبيعية لها هي الأحلاف, والأحلاف هي لغاية حماية المال والنفس في الغالب، ولكبح جماح المعتدين إذن. أما الأحلاف الهجومية التي تعقد لتحقيق أغراض هجومية مثل غزو حلف حلفًا آخر أو قبيلة ضخمة قبيلة ضخمة أخرى، فإنها لا تعمر طويلًا كما تعمر الأحلاف الدفاعية؛ لأن أسباب انعقادها تزول بتنفيذ ما اتفق عليه، وقد يتحطم الحلف بسبب ظهور اختلافات مصالح لم تكن في حسبان المتحالفين يوم عقدوا حلفهم، فيتصدع بنيان الحلف ويتهدم ويزول الحلف ليظهر محله حلف آخر جديد.
أما الحضر، فإن لهم من حماية أرضهم لهم, ومن طبيعة الحياة التي يحيونها ما يخفف من حاجتهم إلى الحلف القبلي، ويجعل أحلافهم أحلافًًا من طراز آخر. فقد منحت الطبيعة الحضر حجرًا صلدًا بنوا به أبراجًا وحصونًا ومعاقل حموا بها مستوطناتهم، من طمع الطامعين فيهم، ولا سيما من الأعراب الذين لا يسهل عليهم اقتحام الحصون ولا تهديمها لعدم وجود أسلحة تؤثر فيها، ومنحتهم تربة صار من الممكن عمل الآجر واللبن منها لبناء المحافد والآطام وما شاكل ذلك من وسائل الدفاع، كما أمدتهم بمواد بناء مكنتهم من إنشاء الحيطان والأسوار حولها،(7/327)
وهي مانع يصد الأعراب عن الحضر. وهم بالإضافة إلى ذلك أقدر على الدفاع عن أنفسهم وعلى اللجوء إلى الحيل للتخلص من الأعراب؛ بسبب تحضرهم وتقدمهم في التفكير على عقلية الفطرة التي جبل البدو عليها. وغاية ما فعله الحضر من الأحلاف، هو تحالفهم مع من أحاط بهم من الأعراب لضمان عدم تحرشهم بهم أو لمنع الأعراب الآخرين من التحرش بهم, وعقد حبال مع القبائل لمرور تجارهم من أرضها بأمن وسلام مقابل هدايا أو أرباح أو أموال تعين، تدفع إلى ساداتها تأليفًا لقلوبهم وضمانًا منهم لهم بعدم تحرش أحد بهم.
ولما تقدم انحصرت الأحلاف الكبرى أو التكتلات القبلية الضخمة بالأرضين المكشوفة التي غلب عليها الطابع الصحراوي، وبين القبائل التي غلبت البداوة عليها. والأحلاف الكبرى، هي في نظري كناية عن النسب الأكبر عند العرب؛ فربيعة ومضر وإياد وأنمار وقضاعة، هي في الواقع تكتلات قبلية تكونت من قبائل غلبت البداوة على طبعها، وقد ظهرت خارج العربية الجنوبية، أي: خارج الأرضين التي غلب علي سكانها طابع الارتباط بالأرض والقرار. أما القبائل القحطانية، التي هي في التوراة كناية عن قبائل عربية جنوبية مستقرة، فكتل أخذت أسماءها من الأرضين التي كانت تحكمها أو من اسم القبيلة التي سميت باسمها, وبين أسماء القبائل وأسماء الأرضين صلة متينة، بحيث يصعب الحكم فيما إذا كانت الأرض قد أخذت اسمها من اسم القبيلة, أو أن القبيلة أخذت اسمها من اسم الأرض.
وقد لعبت فكرة "قحطان" و"عدنان" دورًا مهمًّا في حصر الأنساب عند العرب في الإسلام. يذكر الجاحظ أن رجلًا اسمه "شويس الساسي التميمي العدوي" المعروف بـ"أبي فرعون"، كان قد قدم البصرة، فذهب إلى رجل منها اسمه "كهمس" يلتمس العون منه، فأعطاه رغيفًا من الخبز الحواري، ثم ذهب إلى رجل آخر اسمه "عمر بن مهران"، فلم يعطه ما كان يريد، فضاق ذرعًا من هذا الرغيف، وذهب إلى حلقة "بني عدي" فوقف عليهم وهم مجتمعون، وأخرج الرغيف من جرابه وألقاه في وسط المجلس, وقال: يا بني عدي, استفحلوا هذا الرغيف؛ فإنه أنبل نتاج على وجه الأرض! ثم قال شعرًا سخر فيه من أهل البصرة, ومن تشدقهم في الانتساب إلى قحطان(7/328)
أو عدنان، وفحش بهما ومن انتساب الناس إليهما، بينما الناس هنالك ما بين نبط أو خوزان.1
ومن أهم القبائل القحطانية التي كان لها شأن يذكر عند ظهور الإسلام وفي الإسلام, حمير وكهلان, ومن مجموعة حمير قضاعة، في رأي من جعل قضاعة من اليمن, ومن قضاعة كلب وأسد ومن أسد تنوخ. وأما مجموعة كهلان، فتتألف من الأزد وهمدان ومذحج وطيء، ومن الأزد: غسان والأوس والخزرج.
وربيعة من القبائل العربية الكبيرة العدد، وقد سبق أن تحدثت عنها في مواضع من الأجزاء السابقة من هذا الكتاب. وقد عرفت "ربيعة" بـ"ربيعة الفرس"، ويعلل أهل الأخبار اشتهارها بذلك بقولهم: "وربيعة الفرس, هو ابن نزار بن معد بن عدنان، أبو قبيلة. وإنما قيل له ربيعة الفرس؛ لأنه أعطي من ميراث أبيه الخيل، وأعطي أخوه مضر الذهب, فسمي مضر الحمراء. وأعطي أنمار أخوهما: الغنم، فسمي أنمار الشاة2. وذكروا أيضا: أن نزارًا لما حضرته الوفاة، آثر إيادًا بولاية الكعبة، وأعطى مضر ناقة حمراء، فسمي مضر الحمراء، وأعطى ربيعة فرسه، فسموا ربيعة الفرس، وأعطى أنمارًا جارية له تسمى: بجيلة فحضنت بنيه، فسمي بجيلة أنمار"3. وذكر أيضًا أن نزارًا لما حضرته الوفاة قسم ماله بين بنيه، "وهم أربعة: مضر وربيعة وإياد وأنمار، وقال: يا بني، هذه القبة, وهي من أدم, حمراء وما أشبهها من المال لمضر، وهذا الخباء الأسود وما أشبهه من المال لربيعة، وهذه الخادمة وما أشبهها من المال لإياد, وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه". ولما مات توجهوا إلى "الأفعى بن الأفعى الجرهمي" وكان ملك نجران، وصادفوا في طريقهم أعرابيا ضل بعيره، فوصفوه له، فقال لهم: دلوني عليه. ولما حلفوا له أنهم لم يروه وإنما وصفوه من أثره، لم يصدقهم بل أخذهم إلى "الأفعى" ليحلفوا أمامه أنهم لم يروه، فلما بلغوه قصوا قصتهم مع الأعرابي، وذكروا أنهم إنما وصفوه من أثره على الأرض، فحكم لهم "الأفعى" بأنهم صادقون، وأنهم لم يشاهدوه، ثم احتفل بهم بعد أن عرفهم وجرب ذكاءهم، وحكم بأن لمضر القبة الحمراء والدنانير
__________
1 كتاب البغال، من رسائل الجاحظ "2/ 314 وما بعدها".
2 تاج العروس "5/ 343"، "ربع".
3 نهاية الأرب "16/ 10".(7/329)
والإبل، وهي حمر فسميت: مضر الحمراء، وأن لربيعة الخباء الأسود من دابة ومال، فصارت له الخيل، وهي دهم، فسميت ربيعة الفرس. ثم قال: وما أشبه الخادم، وكانت شمطاء، فهو لإياد، فصارت له الماشية البلق من الخيل وغيرها، وقضى لأنمار بالدراهم والأرض1.
و"مضر" من القبائل الكبيرة، وقد عرفت بـ"مضر الحمراء" كما ذكرت. وفسر علماء اللغة والنسب اشتهار "مضر" على نحو ما ذكرت قبل قليل، وفسره بعضهم بقوله: ومضر الحمراء؛ لأنه أعطي الذهب من ميراث أبيه, وأخوه ربيعة أعطي الخيل، فلقب بالفرس, أو لأن شعارهم في الحرب الرايات الحمر2. وقال بعض علماء اللغة: وإنما سمي مضر بمضر: "لولعه بشرب اللبن الماضر أو لبياض لونه"، و"العرب تسمي الأبيض أحمر؛ فلذلك قيل مضر الحمراء"3. وذكر بعض أهل الأخبار أن مضر مضران: مضر الحمراء لسكناها قباب الأدم، ومضر السوداء لسكناها المظال4.
ويظهر من هذه التفسيرات، أن "مضر" كانت قد نعتت بـ"الحمراء" قبل ظهور الإسلام. وأن "ربيعة" كانت قد عرفت بـ"ربيعة الفرس"، ولعل هذا بسبب أن "مضر" كانت إذ ذاك قبائل ذات إبل وتجارة ومال، ومنها "قريش" التي عرفت بتجارتها وبما جمعته من مال، فقالوا "مضر الحمراء". وأما "ربيعة"، فكانت قبائل متبدية غازية محاربة، لها خيل وفرسان؛ لهذا عرفت بـ"ربيعة الفرس".
وقد أشار الشاعر "لبيد" إلى ربيعة ومضر في شعره, حين تعرض لذكر الموت، فقال:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر5
__________
1 الدميري، حياة الحيوان "1/ 31" "الأفعى".
2 تاج العروس "3/ 158"، "حمر".
3 تاج العروس "3/ 44"، "مضر".
4 نهاية الأرب "916".
5 ديوان لبيد "1/ 28"، "2/ 1".(7/330)
أراد: هل أنا إلا من أحد هذين الجنسين؟! فسبيلي أن أفنى كما فنيا1. ونسب إليه قوله:
فإن لم تجد من دون عدنان والدًا ... ودون معدّ فلتزعك العواذل2
فأشار بذلك إلى "عدنان" و"معد".
ومن أشهر قبائل مضر "قريش"، حتى إن الناس كانوا إذا قالوا: مضري انصرف ذهنهم إلى قرشي, على سبيل الشهرة؛ لاشتهار قريش بالمضرية. فلما رأى رجل "أبا سفيان" واقفًا بباب "عثمان بن عفان" ينتظر الإذن بالدخول عليه, قال له: "يا أبا سفيان، ما كنت أرى أن تقف بباب مضري، فيحجبك! فقال أبو سفيان: لا عدمت من قومي من أقف ببابه فيحجبني"3.
__________
1 أمالي، المرتضى "1/ 171"، "2/ 55"، "تود ابنتاي".
2 أمالي، المرتضي "1/ 171".
3 نهاية الأرب "6/ 88".(7/331)
القبائل القوية:
والقبائل مثل الدول، أنماط ودرجات، منها قبائل قوية نشطة تعتمد على نفسها في الدفاع عن كيانها، ومنها قبائل أقل من هذه القبائل شأنًا وقوة تتحالف مع غيرها في الدفاع عن نفسها؛ لتكون من الحلف كتلة قبلية مهابة, وقبائل صغيرة ليست لها قدرة على الدفاع عن حياضها وحدها؛ لذلك تركن إلى التحالف مع قبائل أخرى أقوى منها لتحافظ بذلك على وجودها.
والقبائل القوية هي القبائل الكثيرة العدد والموارد. وإذا ترأسها سادات ذوو كفاءة وقدرة، هابتها القبائل الأخرى، وسادت على غيرها، وكونت منها ومن القبائل التي تستولي عليها مملكة، كالذي فعلته كندة. ولم يورد العلماء شروطًا في الحد الأدني أو الحد الأكبر للقبيلة، وذلك من ناحية عدد العشائر والبطون والأفخاذ، فلم نعثر على حد معين إذا بلغته جماعة من الناس وجب إطلاق لفظة "قبيلة" عليها. بل نجد علماء النسب يطلقونها أحيانًا على بطون وأفخاذ،(7/331)
فيقولون: قبائل قريش، ويذكرون أسماءها، بينما هي في الواقع "آل" أو أرهاط وبطون.
ويقال للقبائل التي تستقل بنفسها وتستغني عن غيرها "الأرحى"1، وعرفت القبيلة التي لا تنضم إلى أحد بـ"الجمرة". وذكر أنها القبيلة تقاتل جماعة قبائل, وكل قبيل انضموا فصاروا يدًا واحدةً ولم يحالفوا غيرهم، فهم جمرة. وقيل: الجمرة: كل قوم يصيرون لقتال من قاتلهم لا يحالفون أحدًا ولا ينضمون إلى أحد, تكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لقراع القبائل كما صبرت عبس لقبائل قيس. ولما سأل "عمر" "الحطيئة" عن عبس ومقاومتها قبائل قيس، قال: "يا أمير المؤمنين, كنا ألف فارس كأننا ذهبة حمراء، لا نستجمر ولا نحالف، أي: لا نسأل غيرنا أن يجتمعوا إلينا لاستغنائهم عنهم". والجمرة: اجتماع القبيلة الواحدة على من ناوأها من سائر القبائل2.
وذكر أن "الجمرة" ألف فارس، أي: القبيلة التي يكون فيها ذلك العدد من الفرسان، وقيل: ثلاثمائة فارس أو نحوها. والذي يستنتج من آراء علماء اللغة والنسب في تعريف "الجمرة"، أنها القبائل المقاتلة القوية التي تعتمد على نفسها في القتال، ولا تركن إلى غيرها، ولا تحالف غيرها لتستفيد من هذا الحلف في قراع القبائل3.
ومن مفاخر هذه القبائل كثرة ما عندها من فرسان، والفرسان في ذلك اليوم هم عماد حركة الجيوش، ومن أسباب القوة والانتصار. وقد عدوا القبيلة التي يكون فيها ثلاثمائة فارس أو نحوها جمرة، وقيل: الجمرة ألف فارس4.
ومن جمرات العرب: ضبة بن أد، وعبس بن بغيض، والحارث بن كعب، ويربوع بن حنظلة5. وذكر بعض العلماء أن جمرات العرب ثلاث
__________
1 اللسان "14/ 314"، "صادر"، "رحا"، تاج العروس "10/ 146", "رحا".
2 اللسان "4/ 145"، "صادر"، "جمر"، الحصري، زهر الآداب "1/ 25".
3 تاج العروس "3/ 107"، "صادر", "جمر".
4 المحبر "ص234".(7/332)
جمرات: بنو ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وبنو الحارث بن كعب، وبنو نمير بن عامر, فطفئت منهم جمرتان؛ طفئت ضبة؛ لأنها حالفت الرباب, وطفئت بنو الحارث؛ لأنها حالفت مذحج. وبقيت "نمير" لم تطفأ؛ لأنها لم تحالف. وورد أن الجمرات: عبس بن ذبيان بن بغيض، والحارث بن كعب، وضبة بن أد، وهم إخوة لأم؛ لأن أمهم امرأة من اليمن, تزوجها كعب بن عبد المدان يزيد بن قطن، فولدت له: الحارث بن كعب، وهم أشراف اليمن، ثم تزوجها "بغيض بن ريث بن غطفان"، فولدت له عبسًا وهم فرسان العرب، ثم تزوجها "أد" فولدت له ضبة. فجمرتان في مضر، وهما عبس وضبة وجمرة في اليمن، وهم بنو الحارث بن كعب. وذكر بعض آخر أن الحارث, هم بنو كعب بن علة بن جلد، ومنهم من عد تميمًا من الجمرات1.
"قال الخليل: الجمرة: كل قوم يصبرون لقتال من قاتلهم، لا يحالفون أحدًا، ولا ينضمون إلى أحد، تكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لمقارعة القبائل كما صبرت عبس لقيس كلها"2.
وإذا تأملت كلام العلماء في جمرات العرب، تجده يصادم بعضه بعضًا حتى إن الواحد منهم يذكر عددًا، ثم يذكر عددًا غيره في موضع آخر من كتابه. وقد اعتذر عن ذلك بعض العلماء إذ قال: "قلت: فإذا تأملت كلامهم تجده مصادمًا بعضه مع بعض"، ثم ذكر أمثلة من أمثلة هذا التصادم، ثم خلص إلى هذه النتيجة، واعتذر عنهم بقوله: "وإذا تأملت كلامهم, علمت أنه لا مخالفة ولا منافاة، إلا أن البعض فصَّل والبعض أجمل"3.
وعندي أن للعواطف القبلية دخلًا في هذا الاضطراب، فمن النسابين من تعصب لقبيلة، فجعلها من الجمرات؛ بسبب صلته بها، ومنهم من تعصب لغيرها، ومنهم من تعصب على هذه القبيلة أو تلك، فأخرجها من الجمرات، فمن هنا وقع هذا الارتباك عند العلماء, حين سألوا نسابي القبائل ورواة الأخبار عن أيام
__________
1 تاج العروس "3/ 107".
2 الثعالبي، ثمار "160".
3 تاج العروس "3/ 107".(7/333)
الجاهلية، وعن الأنساب والقبائل، وهي من أهم الأمور حساسية عند العرب, فظهرت العصبية في مؤلفات أهل النسب والأخبار حين شرعوا بالتدوين.
وعرفت القبائل القوية الكبيرة التي تفرعت منها جملة قبائل بـ"أم القبائل", ومن هذه القبائل "بكر بن وائل"1. وسبب ذلك أن القبيلة القوية تكبر بسبب انضمام القبائل الصغيرة، فإذا توسعت وتضخم عددها صار من الصعب عليها البقاء في منازلها، فتضطر عندئذ إلى التوسع والانتشار في أرضين جديدة. وقد تغادر أحياء منها منازلها لتجد لها منزلًا طيبًا جديدًا، فتبتعد بذلك عن القبيلة الكبيرة التي جمعت تلك الأحياء, فتكون بمثابة الأم للقبائل النازحة، تربطها بها رابطة ذكرى الأمومة, التي تتحول إلى نسب تحفظه ذاكرة حفاظ الأنساب.
وعرفت أربع قبائل بشدتها وبأسها، فقيل لها: "رضفات العرب", وهي: "شيبان وتغلب وبهراء وإياد"2.
وقيل لـ"كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان" من قضاعة، و"طيء بن أدد", و"حنظلة بن مالك بن زيد مناة" من "تميم"، و"عامر بن صعصعة بن معاوية" من "هوازن"، "جماجم العرب"3. وذكر أن "الجماجم" السادات والرؤساء، وأن القبائل المذكورة كانت من جماجم القبائل، أي: من رؤسائها، وقد دُعيت بـ"جماجم"؛ لأنها بمنزلة جمجمة الرأس بالنسبة للإنسان4, أي: إن هذه القبائل من القبائل الرئيسة عند الجاهليين.
وبين القبائل، قبائل دعاها "ابن حبيب" "أثافي العرب"، وهي: "سليم" و"هوازن" من "قيس عيلان"، و"غطفان"، و"أعصر" و"محارب بن خصفة"5, و "الإثفية": العدد الكثير والجماعة من الناس6. والظاهر أنها إنما عرفت بذلك لكثرة عددها.
__________
1 المعارف "ص96"، "بكر بن وائل".
2 تاج العروس "6/ 119"، "رضف"، المحبر "234".
3 المحبر "ص134".
4 تاج العروس "8/ 233".
5 المحبر "234".
6 تاج العروس "6/ 37" "أثف"، الثعالبي، ثمار "161".(7/334)
ومن مفاخر القبائل اعتزالها القبائل الأخرى وعدم مخالطتها قبيلة ثانية. وتفخر الأحياء بحردها أيضًا, فيقال "حي حريد منفرد"، ومعناه: معتزل عن جماعة القبيلة, لا يخالطهم في ارتحاله وحلوله لعزته؛ لأنه لا ينزل في قوم من ضعف وذلة لما هو عليه من القوة والكثرة1.
وذكر أن القوم الذين يكون أمرهم واحدًا يعرفون بـ"الخليط", وذلك أنهم كانوا ينتجعون أيام الكلأ، فتجتمع منهم قبائل شتى في مكان واحد، فتقع بينهم ألفة، ويكونون يدًا واحدة. فإذا افترقوا ورجعوا إلى أوطانهم ساءهم ذلك وريعوا2.
وهناك قبائل ضعيفة، لم تتمكن أن تعيش وحدها؛ لذلك تحالفت مع غيرها من قبائل أقوى منها، واندمجت بها, كما يندمج الأشخاص بالقبائل، بالحلف أو بالجوار أو بالموالاة. وعند انضمام الأحياء والعشائر والقبائل الضعيفة إلى الأقوى منها بطريقة من الطرق، يتم ذلك بطقوس دينية على نحو ما سأتحدث عنه في عقد الأحلاف, بسبب أن العقود في نظر العرب تستوجب البر بها والوفاء؛ ولهذا تعقد في ظروف خاصة أمام الكهنة وفي المعابد.
__________
1 وفي هذا المعنى قول جرير:
نبني على سنن العدو بيوتنا ... لا نستجير ولا نحل حريدا
تاج العروس "2/ 333 وما بعدها"، "حرد".
2 ديوان بشر بن أبي خازم "129"، تاج العروس "5/ 132"، "خلط"، نهاية الأرب "18/ 9".(7/335)
ألقاب بعض القبائل:
ولقد لُقبت بعض القبائل بألقاب؛ فقد قيل: مازن غسان أرباب الملوك، وحمير أرباب العرب، وكندة كندة الملوك، ومذحج الطعان، وهمدان أحلاس الخيل, والأزد أسد البأس, والذهلان: أحدهما ذهل شيبان بن ثعلبة ويشكر, والآخر ضبيعة وذهل بن ثعلبة, واللهزمتان: إحداهما عجل وتيم اللات، والأخرى قيس بن ثعلبة وعنزة، وكلهم من بكر بن وائل، إلا عنزة بن ربيعة1.
__________
1 العمدة "2/ 194".(7/335)
وبعض هذه الألقاب حسنة جميلة, وبعضها ألقاب تشير إلى قوة وبأس وشدة، وبعض منها مقبول لا بأس به, وهي ألقاب كانت القبائل الملقبة بها تفاخر وتتباهى بها، أو تقبلها ولا ترى فيها أي بأس. وهي على العموم إما أن تكون قد نبعت من القبيلة، كأن ينعت سيد قبيلة قبيلته بنعت، فتتمسك به، أو أن ينعتها بذلك شاعر منها أو شاعر من قبيلة أخرى، فيذهب هذا النعت بين الناس، ويصير سمة للقبيلة. غير أن في الألقاب بعضًا آخر يشير إلى استصغار شأن القبيلة التي نعتت به، مثل "القين"1، و"الأجارب"2, و"الأقارع"3, و"قراد"4، وما شاكل ذلك من ألقاب تحولت إلى مسميات, أي: تحول اللقب فصار اسم علم. وهي نعوت يظهر أن مصدرها شعر الهجاء والقبائل المعادية المنتابزة بالألقاب, وقد شاعت وثبتت؛ لأنها أثرت في القبائل المهجوة وآلمتها، فتمسك قائلوها بها، وشاعت بين الناس حتى نسي سبب قولها، وصارت اسم علم للقبيلة، ولم ير من جاء بعد ذلك بأسًا من الانتماء إلى القبيلة المنبوزة به.
وقد رمت بعض القبائل قبيلة إياد بالفسو، وعيرتها به، حتى إذا كان أحد رجالها بعكاظ، ومعه بردا حبرة، قام فقال: من يشتري من عار الفسو بهذين البردين؟ فقام عبد الله بن بيدرة أحد "مَهْو" حي من عبد القيس، فقال: هاتها، واشهدوا أني اشتريتُ عار الفسو من إياد لعبد القيس بالبردين. فلما أتى رحله وسُئل عن البردين، قال: اشتريت لكم بهما عار الدهر، فوثبت عبد القيس وقالت:
إن الفساة قبلنا إياد ... ونحن لا نفسو ولا نكاد
وتفرق الناس عن عكاظ بابتياع عبد القيس عار الفسو. ثم إن هذا العار زال عن إياد ولصق بعبد القيس، فهُجُوا به كثيرًا. وضرب المثل بـ"عبد الله بن بيدرة"، فقيل: "شيخ مَهْو"، ضرب به المثل في الخسران, وقيل: أخسر صفقة من شيخ مهو5.
__________
1 تاج العروس "9/ 316"، "قان".
2 تاج العروس "1/ 181"، "جرب".
3 تاج العروس "5/ 446"، "قرع".
4 تاج العروس "2/ 465"، "قرد".
5 الثعالبي، ثمار "106".(7/336)
وبعض هذه النعوت قيل في الإسلام، من ذلك رُمي "تميم" بالبخل واللؤم؛ بسبب هجاء الطرماح لها وقوله فيها:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت1
ونجد لجرير وللفرزدق وللأحابيش ولغيرهم ذمًّا في قبائل الشعراء المتهاجين.
ومن القبائل الملقبة: الأحابيش وقد تحدثت عنهم، والمطيبون والأحلاف وهم من قريش، وقد تحدثت عنهم أيضًا, والأراقم, وهم: جشم، ومالك, وعمرو بن ثعلبة، ومعاوية، والحارث، بنو بكر بن حبيب بن غنم بن ثعلب بن وائل2, وهم أحياء من ثعلب، جعلهم بعضهم ستة, هم: جشم ومالك وعمرو وثعلبة ومعاوية والحارث, بنو بكر بن حبيب بن غنم بن ثعلب بن وائل. وقال بعض علماء اللغة: الأراقم: بطون من بني تغلب يجمعهم هذا الاسم, قيل: سموا بذلك؛ لأن ناظرًا نظر إليهم تحت الدثار وهم صغار، فقال: كأن أعينهم أعين الأراقم، فلج عليهم اللقب3.
وعرفت بعض القبائل بـ"البراجم"، وهم خمسة بطون من بني حنظلة: قيس، وغالب، وعمرو، وكُلفة، والظليم، وهو مرة. قيل: إنهم إنما سموا بذلك؛ لأنهم تبرجموا على إخوتهم: يربوع وربيعة ومالك, وكلهم أبوهم حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرة4. وذكر أيضا أنهم إنما سموا البراجم؛ وذلك لأن أباهم قبض أصابعه, وقال: كونوا كبراجم يدي هذه, أي: لا تفرقوا، وذلك أعز لكم. وقيل: لا، وإنما سموا بذلك؛ لأنهم تحالفوا أن يكونوا كبراجم الأصابع في الاجتماع5.
وعرف "الثعلبات" بهذه التسمية؛ لأنهم بطون، اسم كل بطن منهم "ثعلبة", وهم: ثعلبة بن سعد بن ضبة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، وثعلبة بن عدي
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 289".
2 العمدة "2/ 194".
3 تاج العروس "8/ 317"، "رقم".
4 العمدة "2/ 195".
5 تاج العروس "8/ 199"، "البرجمة".(7/337)
فزارة، وأضاف إليهم قوم: ثعلبة بن يربوع1, ويقال لهم "الثعالب" أيضًا. وهم قبائل شتى، فثعلبة في "بني أسد"، وثعلبة في تميم، وثعلبة في ربيعة، وثعلبة في قيس, ومنهما الثعلبتان من طيء, وهما: ثعلبة بن جذعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة من طيء، وثعلبة بن رومان بن جندب المذكور. وذكر أن الثعالب في طيء يقال لهم مصابيح الظلام، كالربائع في تميم2.
وأما "الرباب" فهم: ضبة بن أد بن طابخة، وتيم، وعدي، وعوف، وهوعكل، وثور، وكل هؤلاء بنو عبد مناة بن أد بن طابخة3. قيل: إنهم إنما سموا بذلك لتفرقهم، وقيل: سموا ربابًا لترابهم، أي: تعاهدهم وتحالفهم على تميم، وقيل: سموا بذلك؛ لأنهم أدخلوا أيديهم في رُبّ, وتعاقدوا وتحالفوا عليه, فصاروا يدًا واحدة4.
وأما "الأجارب"، فهم خمسة بطون من "بني سعد"، وهم: ربيعة, ومالك، والحارث، وعبد العزى، وبنو حمار5. وورد الأجارب: حي من بني سعد بن بكر من قيس عيلان، وإذا قيل: الأجربان, فهما: عبس وذبيان6.
و"الحرام", هم: بنو كعب بن سعد بن زيد مناة7. وذكر أن في العرب بطونًا ينسبون إلى "آل حرام", منهم بطن في تميم وبطن في جذام وبطن في بكر بن وائل. وهناك بطون أخرى عُرفت بـ"حرام"8.
وأما "الضباب"، فهم "بنو عمرو بن معاوية بن كلاب". قال بعض أهل الأنساب: إنهم أربعة بطون من "بني كلاب"، وقال بعض آخر: إنهم أكثر، وأوصلوهم إلى أربعة عشر بطنًا9.
__________
1 العمدة "2/ 195".
2 تاج العروس "1/ 165"، "ثعلب".
3 العمدة "2/ 195".
4 تاج العروس "1/ 264"، "ربب".
5 العمدة "2/ 195".
6 تاج العروس "2/ 181"، "جرب".
7 العمدة "2/ 195".
8 تاج العروس "8/ 243"، "حرم".
9 العمدة "2/ 195"، تاج العروس "1/ 345", "ضبب".(7/338)
واشتهرت بعض القبائل والعشائر والبيوت بنعوت لازمتها في الجاهلية وامتدت إلى الإسلام، فقد عرف بنو مخزوم وبنو جعفر بن كلاب بالتيه والكبر، حتى قيل: "أربعة لن يكونوا ومحال أن يكونوا: زبيدي سخي، ومخزومي متواضع، وهاشمي شحيح، وقريشي يحب آل محمد"1.
واشتهرت "طيء" بالجود؛ لكون حاتم وأوس بن حارثة بن لأم منهم2. وعرفت "باهلة" باللؤم، حتى ضرب بها المثل في اللؤم، فقيل: لؤم باهلة3. واشتهر "بنو ثعل" بالرمي، وذكروا بذلك في شعر لامرئ القيس4. واكتسبت "مدلج" شهرة واسعة في القيافة، إذ اختصت بها من بين سائر العرب5. وبرز "بنو لهب" في العيافة, فهم أزجر العرب وأعينهم6. وعرفت "إياد" بخطبائها، وملوك غسان بثريدهم، الذي قيل له: "ثريدة غسان"7. وعرفت كندة بغلاء مهور بناتهم8, وعرفت "خزاعة" بالجوع والأحاديث، قيل لزهمان: ما تقول في خزاعة؟ قال: جوع وأحاديث9, أي: فقر ودعاوى فارعة وأضغاث أحلام.
وعرفت بعض القبائل بـ"الضبيعات", وهي: "ضبيعة بن قيس بن ثعلبة" أشرفهن, و"ضبيعة أضجم بن ربيعة بن نزار"، و"ضبيعة بن عجل بن لجيم"10. وذكر أيضًا أن في العرب قبائل تنسب إلى "ضبيعة": "ضبيعة بن ربيعة بن نزار"، وهو المعروف بـ"الأضجم"، و"ضبيعة بن أسد بن ربيعة"، قال بعضهم: إنما ضبيعة أضجم، و"ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن بكر بن وائل"، وهو أبو رقاش أم مالك وزيد مناة ابني شيبان، وهم رهط الأعشى: ميمون بن قيس، و"ضبيعة بن عجل بن
__________
1 الثعالبي، ثمار القلوب "117".
2 الثعالبي، ثمار القلوب "117".
3 المصدر نفسه "119".
4 كذلك "120".
5 الثعالبي، ثمار القلوب "120 وما بعدها".
6 المصدر نفسه "121".
7 كذلك "122 وما بعدها".
8 كذلك "123".
9 البيان "1/ 9"، "لجنة".
10 المحبر "335".(7/339)
لجيم بن صعب بن بكر بن وائل، رهط الوصاف، و"ضبيعة بن فريد", بطن من الأوس من بني عوف بن عمرو، وضبيعة بن الحارث العبسي1.
وذكر "ابن حبيب" أسماء قبائل عُرفت بـ"الربائع" وهي في "تميم", وهي: "ربيعة الجوع بن مالك بن زيد مناة بن تميم"، و"ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد بن تميم"، و"ربيعة بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم"، كل واحد منهم عم صاحبه، و"ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة"، وهم "الحباق"2. وورد: في تميم ربيعتان: الكبرى وهي ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وتدعى: ربيعة الجوع, والصغرى وهي ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة من تميم3.
__________
1 تاج العروس "5/ 427"، "ضبع".
2 المحبر "235".
3 تاج العروس "5/ 342"، "ربع".(7/340)
أسماء أجداد القبائل:
ولكل قبيلة -كما ذكرت- جد تنتمي إليه وتفاخر وتباهي به. وقد يكون هذا الجد جدًّا حقيقًّا, أي: إنسانًا عاش ومات، وساد القبيلة، وترك أثرًا كبيرًا في قبيلته حتى نسبت القبيلة إليه. وقد يكون الجد اسم حلف تكوَّن وتألف من قبائل عديدة، حتى عرفت به، ودعيت بذلك الحلف, وصار وكأنه اسم جد وإنسان عاش. ومن هذا القبيل اسم "تنوخ" على حد زعم أهل الأخبار, فقد رووا أن تنوخًا قبائل عديدة، اجتمعت وتخالفت، وأقامت في مواضعها1.
وقد يكون اسم موضع، أقامت قبيلة به، فنسبت إليه, كما يذكر أهل الأخبار من اسم "غسان". وقد يكون اسم إله عبد، فنسب عباده إليه مثل "بني سعد العشيرة"، و"تالب ريام" جد قبيلة "همدان"، وقد يكون اسم حيوان أو نبات أو ما شابه ذلك، مما يدخل في دراسة أصول الأسماء
__________
1 تاج العروس "2/ 254"، "تنخ".(7/340)
ومصادرها واشتقاقها، وهو شيء مألوف نراه عند غير العرب أيضًا، فليس العرب بدعًا وحدهم في هذه الأمور.
وما يذكره ويرويه أهل الأخبار عن أزمنة أجداد القبائل، فيه أغلاط وأوهام. فقد يرفعون زمان رجل فيبعدونه كثيرًا عن الإسلام, بينما هو من الرجال الذين عاشوا قبيل الإسلام, وقد يجعلون الرجل من الجاهلية القريبة من الإسلام، بينما يجب وضعه قبل الإسلام بقرون، ثم هناك أخطاء فادحة في سرد سلاسل النسب، وفي أسماء الأشخاص، ولا سيما في الأنساب القديمة، بحيث يصعب على الباحث الأخذ بها والتأكد منها. أما بالنسبة إلى الأنساب القريبة من الإسلام، فإن وضعها يختلف عن وضع الأنساب المذكورة، إذ يغلب عليها طابع الصحة والضبط.
وقد ذهب المستشرق "بلاشير" إلى أن طريقة النسابين بالنسبة إلى الأرهاط، هي طريقة إيجابية مقبولة، ولكنها لا تستند إلى أسس صحيحة بالنسبة للقبائل والأحلاف؛ بسبب أن تحالف القبائل وتكتلها راجع إلى عوامل المصلحة الخاصة والمنافع السياسية، وهي تتغير دومًا بتغير المصالح، تتولد تبعًا لذلك أحلاف لم تكن موجودة, وتموت أحلاف قديمة، وتظهر قبائل كبيرة وتموت غيرها. ولهذا التغير فعل قوي في تكوين الأنساب وفي نشوئها, إذ تتبدل وتتغير الأنساب تبعًا لذلك التغير، ومن ثَمَّ فلا يمكن الاعتماد على الأنساب الكبرى، التي دونها علماء النسب وجمعوها في مجموعات، وشجروها حفدة وآباء وأجدادًا1.
والمصالح السياسية للقبائل لا تقيم وزنًا للأخوة وللنسب؛ فإذا اختلفت المصلحة فلا تجد القبائل عندئذ أي غضاضة في الانفصال عن قبيلة مؤاخية لها, لتتحالف مع قبيلة غريبة عنها في النسب، ومحاربة أختها التي انفصمت عنها. فعبس مثلًا تحالفت مع "بني عامر" في حرب البسوس على "ذبيان"، وهي أختها, وتحالفت ذبيان مع "تميم" على "عبس"، مع ما بين "تميم" و"عبس" و"ذبيان" من عداء قديم. وقد وقعت أيام بين "تغلب" و"بكر" مع صلة الرحم والقرابة القوية التي ربطت بين القبيلتين الأختين2. وقع كل ذلك وحدث بسبب تغير المصالح التي كانت تربط فيما بين هذه القبائل.
__________
1 بلاشير، تأريخ الأدب العربي "العصر الجاهلي"، تعريب الدكتور إبراهيم كيلاني "ص25 وما بعدها".
2 بلاشير "25".(7/341)
أرض القبيلة:
ولكل قبيلة أرض تعيش عليها وتنزل بها وتعتبرها ملكًا لها، تنتشر بها بطونها وعشائرها، ولا تسمح لغريب النزول بها والمرور بها إلا بموافقتها وبرضاها. وقد اختص كل بطن منها بناحيته فانفرد بها واعتبرها أرضًا خاصة به.
وتكون الأرض التي تحل القبيلة بها "منزلًا" لها، و"منازل" لأبنائها الذين ينزلون بها. يضربون بها خيامهم, فتكون الأرض مضارب لها, تستوطنها وتقيم بها وتصير وطنًا لها، أي: دار إقامة، ما دامت تقيم بها, وموضع بيوتها. لذلك يعبر عن الأرض التي تقيم بها القبيلة بـ"بيوت القبيلة" وبـ"بيوت العشيرة"؛ لأنها مضرب البيوت.
وتمتد أرض القبيلة إلى المواضع التي تصل بيوتها إليها, فما يقع إلى الداخل فهو من موطن القبيلة، وما وقع خارج حدود نفوذ القبيلة خرج عن مواطنها. وتعين الحدود بالظواهر الطبيعية البارزة، مثل تلال أو أودية أو رمال أو ما شاكل ذلك, ونظرًا إلى عدم تثبيت القبائل لحدودها على الأرض برسم معالم بارزة لها، صارت الحدود سببًا من أسباب النزاع المستمر والقتال الدائم بين القبائل.
وتكون مواضع الماء في أرض القبيلة قبلة أبنائها، يستقون منها ما يحتاجون إليه من "إكسير الحياة", وتكون هذه المواضع آبارًا أو عيون ماء أو حسيًّا وما شاكل ذلك. وتتفق القبيلة فيما بينها على حقوق السقي، ويؤدي الإخلال بحقوق السقي إلى وقوع نزاع، قد يؤدي إلى قتال، ولا سيما في أيام القيظ وانحباس المطر، حيث تشتد الحاجة إلى الماء، ويصير افتقاده سببًا لهلاك الأنفس والمال. والقاعدة أن ماء القبيلة مشاع في القبيلة, أما المياه المحمية: المياه التي تحمى للسادة والرؤساء، والمياه الخاصة، كالآبار التي يحفرها أصحابها، فتكون خاصة بهم, لا يجوز الاستقاء منها إلا بإذن.(7/342)
ولكل قبيلة حق حماية أرضها, شأنها في ذلك شأن الدول، وإذا أراد غريب اجتياز أرضها فلا بد من أن يكون في حماية إنسان منها. وإذا كان المجتاز جماعة، كأن يكون قافلة أو قبيلة أو حيا يريد التنقل إلى أرض أخرى، ولا بد له من المرور بأرض هذه القبيلة للوصول إلى هدفه، فعليه أخذ إذن من القبيلة يخوله جواز المرور بها، وإلا تعرض للمنع والقتال. لذا كان لا بد للتجار من ترضية سادات القبائل للسماح لهم بالمرور، بدفع حق المرور، وهي إتاوات تعارفت القبائل آنذاك على أخذها من المارة.(7/343)
سادات القبائل:
وسيد القبيلة بالنسبة للقبيلة، مثل ملك مملكة بالنسبة لمملكته, فهو الرئيس والمرجع والمسئول عن أتباعه في السلم والحرب, يقصده ذوو الحاجات من أبناء القبيلة إن احتاجوا إلى حاجة. وقد يجمع هذا الرئيس شمل جملة قبائل، ويترأسها، وقد ينصب نفسه ملكًا عليها، كالذي فعله ملوك كندة من بني "آل آكل المرَّار" وغيرهم من الملوك. وقد لا نخطئ إذا ما قلنا: إن أكثر مؤسسي الأسر المالكة في بلاد العرب، كانوا سادات قبائل في الأصل، استغلوا مواهبهم وقابلياتهم، وإمكانية قبيلتهم, وسخروها في سبيل الحصول على الملك، وعلى التلقب بلقب "ملك"، فنالوه.
ويقال للسيد: المسوّد, ويذكر علماء اللغة أن السيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومحتمل أذى قومه والزوج والمقدم والرئيس. وسيد القبيلة هو رئيسها، تقول العرب: "فلان سيدنا" أي: رئيسنا والذي نعظمه, وتقول: "ساد قومه"1. وهي من الألفاظ المستعملة عند عرب الحجاز ونجد والعراق وبلاد الشام، أما العربية الجنوبية فقد استخدمت ألفاظًا أخرى بدلًا عنها.
ويقال لسيد القبيلة "رئيس القبيلة", والرئيس: سيد القوم، والرياسة: السيادة, ويقال: فلان رأس ورئيس القوم2, ورؤساء القبائل هم سادات القبائل
__________
1 اللسان "3/ 228 وما بعدها", "سود".
2 اللسان "6/ 92"، "رأس".(7/343)
والمتولون لأمورها. كما يقال: فلان ساد قومه، وهو سيد القوم وسيدهم, فاللفظتان مترادفتان وفي معنى واحد. ووردت لفظة "زعيم" بمعنى سيد القوم ورئيسهم والمتكلم عنهم، والجمع: زعماء, كما وردت الزعامة: الشرف والرياسة على القوم, وحظ السيد من المغنم1. غير أن استعمال "زعيم القبيلة"، أقل في الكلام من استعمال "سيد" و"رئيس".
وأنا حين أستعمل "سيد قبيلة"، أقصد بها الرئيس الفعلي لقبيلةٍ، المسئول عنها، والمدبر لأمورها والمرجع الأخير لها، والذي يكون كالملك أو الحاكم بالنسبة لقبيلته؛ لأن هناك سادات آخرين سادوا في القبيلة وقد عرف خبرهم في كل مكان، وربما اشتهر ذكرهم أكثر من اشتهار اسم سيد قبيلتهم، ومع ذلك فإنهم لا يعدون رأس تلك القبيلة؛ لأن الرأس المسئول عن القبيلة رأس واحد, -ألا إن العرف أن يسود الرؤساء في القبائل- هو كما يترأس الأشراف أمر مدينة، بأن يترأسوا عمائر القبيلة ثم فروعها الدنيا التي تلي العمائر. فهم رؤساء في قبيلة بالمعنى المجازي، الذي جوز إطلاق لفظة "القبيلة" حتى على الأفخاذ والبطون، بل والبيوت, بأن يبزوا الرئيس بالخصال الحميدة، التي تجلب لهم الشهرة والسيادة، وتجعل اسمهم يعلو اسم رئيس القبيلة في كثير من الأحايين.
__________
1 تاج العروس "8/ 324 وما بعدها"، "زعم", Goldziher, Muh. Stud., II, S. 52.(7/344)
صفات الرئيس:
وعلى من يسود في قومه أن يتحلى بخلال حميدة وسجايا طيبة، تجعل الناس يعترفون بسيادته عليهم، كأن يحتمل أذى قومه؛ ولذلك قيل للسيد "محتمل أذى قومه"، وأن يكون شريفًا في أفعاله حليما كريما، يغض نظره عن أعمال الحمقى والجهلة، وأن يتجاهل السفلة والسفهاء الجاهلين, قلا يغضب ولا يثور، وأن يكظم غيظه, جاء في المثل: "احلم تسد"1, وأن يحترم الناس مهما كانت منازلهم، وأن يؤلف بينهم ويكتسب محبتهم، وأن يكون ملاذهم، وأن يجعل
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 99 وما بعدها".(7/344)
بيته بيتًا للجميع ومضيفا لكل من يفد إليه من كبير أو حقير أو صغير، وأن يفتح قلبه للجميع.1
وعلى الرئيس أن يكون في مقدمة القوم في الحروب والغزو، وأن يكون شجاعًا لا يهاب الموت، حتى يكسب النصر لنفسه ولقومه، وعليه أن يكون قائد قبيلته وواضع خطط الحرب؛ لأنه رمز القبيلة ورمز النصر وباعث الهمم في نفوس أبنائه، وهو أب القبيلة، وإذا لم يكن قدوة لأبنائه في ساعات الشدة والخطر، فترت همم أبناء القبيلة, ولا يثير القبائل إلا الشعارات والنخوة وإلهاب المشاعر، حتى تندفع اندفاعًا في القتال. والرئيس هو روح القبيلة وشعارها، فإذا أصيب بمكروه أو جبن في القتال، وإذا خرَّ صريعًا في المعركة، هربت قبيلته في الغالب, وتراجعت القهقرى, إلا إذا وجد في القبيلة من يؤجج فيها نار الحماسة ويبث فيها العزيمة للوقوف والصمود. ويكون مثل هذا الرجل من الشجعان الأقوياء أصحاب الإرادة القوية الذين يعرفون نفسية قبيلتهم، وإلا فليس من السهل على رجل التأثير على قبيلة, وهي في مثل هذا الوضع.
ولأثر الرئيس في مصير الحرب، كان الفرسان يوجهون كل قوتهم نحو الرؤساء؛ لأنهم على علم بأنهم إن تمكنوا من الرئيس فقتلوه, غلبوا عدوهم في الغالب وقضوا عليه. فهو الروح المعنوية عند الأعراب، يليه حامل اللواء فإذا سقط حامل اللواء قتيلًا, أسرع من عُين ليكون خليفته في التقاط الراية وحملها، وإذا سقط هذا أيضًا أسرع من يأتي بعده، وهكذا. فإن سقوط الراية معناه هزيمة منكرة ستحيق بمن سقطت رايته؛ ولهذا كانوا يختارون رجالًا شجعانًا يولونهم أمر اللواء, بحيث إذا سقط أحدهم أخذ من يليه مكانه، وهكذا حتى النصر.
__________
1 لامانس، مجلة المشرق، 1932م, عدد 2 "110".(7/345)
صعوبة انقياد القبائل:
وليست قيادة القبيلة بأمر سهل يسير، لا سيما إذا كانت القبيلة قبيلة كبيرة ذات عشائر وأرهاط منتشرة في مواضع متباعدة. فإن رؤساء العشائر يستغلون فرصة ابتعادهم عن أرض الأم، ويعلنون انفصالهم عنها، وتوليهم أمرهم بأنفسهم،(7/345)
فيحدث الانفصام والانقسام، وقد يعلن الرئيس حربًا على العشيرة العاقَّة المنشقة، ولهذا يعد سيد القبيلة الذي تجتمع له رئاسة قبيلة كبيرة من السادات المحظوظين, وحظه هو ثمرة ذكائه ومواهبه وقابلياته, ولا شك. ومن هؤلاء المحظوظين الذين دوَّن أهل الأخبار أسماءهم: "جَهْبل بن ثعلبة اليشكري"، سيد "بكر بن وائل"، فقد اجتمعت "بكر" حوله، و"عمرو بن شيبان بن ذهل"، و"عمرو بن قيس الأصم", و"الكلح", و"بشر بن عمرو بن مسعود"، و"همام بن مرة", و"الحارث بن عباد"1, وقد اجتمعت حولهم "بكر بن وائل"، وانضوت تحت لوائهم, وذلك في مناسبات أشار إليها أهل الأخبار, مثل وقوع بعض الأيام. ولولا هذه الأيام، وتلك المناسبات التي اضطرت القبيلة إلى التكتل والتجمع فيها حول زعيم واحد ليخلصها من المخاطر، لما تجمعت حوله؛ لأن التجمع لا يلتئم مع طبع أهل البادية، الذين جبلتهم الطبيعة على التشتت والتفرق.
وذكر أهل الأخبار أن "خالد بن جعفر بن كلاب"، و"عروة الرحال بن عتيبة بن جعفر"، و"الأحوص بن جعفر"، و"عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب"، هم أربعة اجتمعت عليهم "هوازن"، ولم تجتمع "هوازن" كلها في الجاهلية إلا على هؤلاء الأربعة, وهم كلهم من "بني جعفر بن كلاب"2, مما يدل على صعوبة انقياد عشائر "هوازن" لزعامة رجل واحد. وهذا مثل واحد من أمثلة صعوبة انقياد القبائل لرئاسة رئيس؛ لأن الانقياد لرئيس واحد, معناه في نظر رؤساء العشائر، خضوعهم لغيرهم واستذلالهم له وتنازلهم عن حريتهم وعن استقلالهم في إدارة شئون عشائرهم لغيرهم ولو كان هذا الرئيس منهم، أضف إلى ذلك الخسائر المادية التي قد يصابون بها من هذا الانقياد.
وقد عرفت قبائل "ربيعة" خاصة بتخاصمها وبتباغضها وبتحاسد رؤسائها؛ لذلك لم تقبل في الغالب بتملك رئيس منها عليها. بل كان سادتها يراجعون التبابعة -على ما يقوله أهل الأخبار- لتمليك سيد منهم عليهم, كانوا يراجعون اليمن كلما اختلفوا فيما بينهم على تمليك ملك عليهم. وقد ذكر أهل الأخبار أن من جملة
__________
1 المحبر "ص254".
2 المحبر "253 وما بعدها".(7/346)
أسباب تعيين والد الشاعر "امرئ القيس" الكندي ملكًا على بني أسد وتعيين أعمامه ملوكًا على القبائل الأخرى، هو تناحر سادات ربيعة فيما بينهم، وتباغضهم وتفرق كلمتهم، حتى كان كل واحد منهم يرى أنه أولى من غيره بالملك، فدبَّ الخلافُ بين القبائل، وتطاول السفهاء على الأشراف وأهل البيوتات، وعندئذٍ وجد سادات القبائل أن الأمن لا يرجع إليهم إلا بذهابهم إلى كندة لتنصيب ملوك منها عليهم. فكان ما كان من تنصيب والد الشاعر على "بني أسد" وتنصيب أعمامه على القبائل الأخرى، إلا أن الأمن لم يستتب ولم يستقر طويلًا بين هذه القبائل المتنازعة، إذ قرر الرحيل عنها -وعاد الخصام داء "ربيعة"- إلى وطنه, وعادت حليمة إلى عادتها القديمة على ما يقوله أهل الأمثال.
وقد أشار أهل الأخبار إلى رجال ذكروا أنهم تمكنوا من حكم معد وربيعة, ومعنى ذلك أنهم كانوا من ذوي الشخصيات القوية, وبذلك تمكنوا من فرض أنفسهم على هذه القبائل المتباغضة. من هؤلاء: حذيفة بن بدر, وهو من سادات غطفان وبيتهم, وهو والد "حصن" أبي عيينة, وقد أدرك "عيينة" النبي، فأسلم ثم ارتد, وأسلم بعد ذلك على يد أبي بكر1. وقد قاد "حذيفة" "بني فزارة" و"مرة" يوم النسار، ويوم الجفار، وفي حرب داحس حتى قتل فيها يوم الهباءة. وقد عرف بـ"رب معد"2, وما كان ليعرف بذلك لو لم يكن من أصحاب القوة والمكانة حتى ساد قبائل معد.
ومن سادات "ربيعة" "الأفكل"، و"عمرو بن جعيد" من "بني الديل", وكان ذا بغي، فسارت إليه "بنو عَصَر" فقتلوه3, و"الحارث الأضجم بن عبد الله بن ربيعة بن دوفن"، من "بني دوفن", قديم السؤدد فيهم كانت تجبى إليه إتاوتهم4, و"عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم بن النمر بن قاسط", وكان سيد "النمر بن قاسط" في الجاهلية وصاحب مرباعهم5.
__________
1 ابن دريد، الاشتقاق "173".
2 المحبر "249"، "461"، جمهرة "243".
3 الاشتقاق "197".
4 الاشتقاق "193"، "جمهرة "275".
5 الاشتقاق "202"، جمهرة "283".(7/347)
وكان "القُدار بن الحارث" رئيس ربيعة في أول الإسلام1. وورد أن "القدار بن عمرو بن ضبيعة" كان رئيس ربيعة، يلي العز والشرف فيهم2.
ويمتاز سيد القبيلة عن سائر رجال قبيلته ببيته الكبير المكون من خيمة ضخمة، والتي قد تتكون من جملة قطع من النسيج خيطت بعضها إلى بعض لتتكون منها خيمة كبيرة, تكون مضيفًا للرئيس, ومجلسًا للقوم يؤمه سادات القبيلة وأشراف الأحياء, وموئلًا لذوي الحاجات من الناس. وله خيام أخرى أعدت لحريمه ولأهله, فهي منازل رئيس القبيلة الخاصة به وبأفراد أسرته.
وامتاز الرئيس عن أفراد قبيلته بكثرة عدد نسائه, فسيد القبيلة مزواج في الغالب, عنده المال, وعنده الجاه والرئاسة، فلا يجد صعوبة في الحصول على زوجات صغيرات السن لينجبن له أولادًا، يكونون له حصنًا حصينًا وأمنًا له على ماله, وعونًا له على القبيلة. فيحمي بهم نفسه ممن قد يطمع في الرئاسة وفي انتزاع السيادة منه بالقوة.
ومن واجب الرئيس الإشراف على تقسيم الغنائم، ومن حقه المرباع إن كان من ذوي المرباع، وله أن ينفق من جيبه على الضيوف، وأن يفتح بيته للقادمين إليه من مختلف الناس، وأن يستقبل ضيوف القبيلة بوجه فرح بشوش، وأن يرعى شئون قبيلته، ويسأل عن أبنائها. وعليه أن يسعى لفك من يقع من أبناء عشيرته أسيرًا في أيدي قبيلة أخرى، وأن يشارك قومه في تحمل الديات، حين يعجز رجال القبيلة عن حملها. وعليه أن يعين أتباعه في كل جناية يجنونها، فهي وإن صدرت من غيره لكنها تقع في النهاية على رأس سيد القبيلة، فعليه وحده إيجاد حل لها ومخرج. ومن هنا كنَّت العرب عن سيد القبيلة بقولها: "سيد معمم", يريدون أن كل جناية يجنيها أحد من عشيرته معصوبة برأسه3.
__________
1 الاشتقاق "195".
2 تاج العروس "3/ 483"، "قدر".
3 عيون الأخبار "1/ 226".(7/348)
رئاسة القبائل:
لا نملك نصًّا جاهليًّا فيه شيء عن الشروط التي يجب أن تتوفر في الرجل كي(7/348)
يكون رئيسًا على قبيلة, ولا نجد في روايات أهل الأخبار أخبارًا واضحة صريحة عن طريقة تولي الرئاسة عند الجاهليين. لذا لا نستطيع البتَّ في موضوع شروط انتقال الرئاسة من رئيس قبيلة متوفى أو مخلوع إلى رئيس جديد, وهل كانت الرئاسة وراثية على طريقة انتقال العروش في النظام الملكي، أم كانت اختيارًا وانتخابًا وشورًى, بمعنى أن اختيار الرئيس يكون برأي من رؤساء القبيلة، وليس بسنة الإرث؟. والذي ظهر لنا من دراسة أخبار أهل الأخبار في هذا الموضوع أن الجاهليين كانوا قد ساروا على سنة الإرث في تولي الرئاسة, كما ساروا على طريقة الاختيار.
أما أنها كانت رئاسة وراثية؛ فلأنها رئاسة مثل سائر الرئاسات عند العرب، كرئاسة المكربين والملوك والأقيال والأذواء والأقيان وكل الرئاسات الجاهلية الأخرى. وقد كانت هذه الرئاسات رئاسات وراثية في الأغلب؛ لذا كانت رئاسة القبيلة بالوراثة أيضًا, تنتقل الرئاسة من الأب إلى الابن الأكبر. ويؤيد هذا الاستنتاج ما نجده في أكثر روايات القبائل, وتولي الأبناء رئاستها بعد الآباء.
وأما أنها بالنص والتعيين، فكالذي ذكروه من أمر اختيار "حصن بن حذيفة بن بدر" ابنه "عيينة" لرئاسة قومه من بعده. ولم يكن عيينة أليق من غيره بأن يكون سيد قومه، فاستدعى أولاده وقال لعيينة: أنت خليفتي ورئيس قومك من بعدي. ثم قال لقومه "بني بدر": لوائي ورياستي لعيينة، ثم أوصاهم بما يجب أن يفعلوه على عادة السادات عند اشتداد المرض بهم وشعورهم بدنو أجلهم؛ من وجوب التكتل والتهيؤ للقتال وعدم التجرؤ على الملوك، فإن أيديهم أطول من أيدي الرعية، فسمعوا له وأطاعوا، واختاروه رئيسًا عليهم1.
وأما أنها شورى ورأي، فعند عدم وجود عقب للرئيس المتوفى، أو عند وجود تنافس وتباغض بين أبناء الرئيس المتوفى بسبب كونهم من زوجات مختلفات فيما بينهن، يخشى عندئذ من انقسام القبيلة على نفسها، ويحسم الخلاف باختيار أحزم الأبناء أو تنصيب رجل قريب أو بعيد عن الرئيس، يجدونه أهلًا وكفؤًا لتولي الرئاسة فيولونها إياه. وقد يلجئون إلى الرأي في حالة تشتت شمل القبيلة, بظهور رجال أشراف فيها, لهم كفاءات وقابليات وشهرة تفوق شهرة أسرة
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 531".(7/349)
الرئيس المتوفى، يطمعون في الرئاسة، فينتخبون أكفأهم وأقواهم ليكون الرئيس الجديد.
وقد لا تجتمع كلمة المتنافسين على الرئاسة، ولا تتفق على اختيار رئيس، فلا يكون أمام القبيلة في مثل هذه الحالة سوى اللجوء إلى الملوك في الغالب؛ لتعيين رئيس عليهم يختارونه من جماعتهم وينصبونه سيدًا عليهم. وقد كان هذا شأن قبائل "معد" في الغالب, إذ كانت قبائلها متبدية متنافرة، ذات رؤساء متحاسدين، لا يقرون برئاسة واحد منهم؛ لذلك كانوا يلجئون إلى ملوك اليمن لتعيين رئيس من غيرهم عليهم, وبذلك يحل الخلاف.
ونجد في شعر "عامر بن الطفيل"، وهو أحد مشاهير فرسان العرب, تغنيًا بفعاله وبشجاعته وبدفاعه عن قومه, وتبجحًا بسيادته على قومه, واعتزازًا بأن سيادته هذه لم تأت إليه عن وراثة، وإنما جاءته بفعاله وبدفاعه عن قومه وذبه عن حماهم، فسودوه لهذه الخلال عليهم، ولم يسودوه لأنه "ابن سيد عامر". وفي هذا الشعر دلالة على أن الرئاسة كانت بالوراثة, وأن والد "عامر" كان سيدًا, فأراد "عامر" أن يتبجح بنفسه على غيره، بأنه ليس من أولئك الرؤساء الذين يرثون السيادة إرثًا, فلا دخل لهم بمجيئها إليهم، وإنما أخذها عن جدارة واستحقاق، ولو لم يكن أبوه سيدًا, لجاءته السيادة تركض إليه؛ لما فيه من محامد ومكارم. فسيادته سيادة وراثة؛ لأنه ورثها عن أبيه، وسيادة جدارة جاءته لما فيه من خصال السادة الأشراف1.
__________
1
إني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب
الشعراء والشعراء "192", البلاذري، أنساب "2/ 179"، ابن قتيبة، عيون الأخبار "1/ 227".(7/350)
خصال السادة:
يذكر أهل الأخبار أن أهل الجاهلية كانوا لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال: السخاء والنجدة والصبر والحلم والتواضع والبيان, وقالوا: قيل(7/350)
لقيس بن عاصم: بِمَ سُدْتَ قومك؟ قال: ببذل الندى وكف الأذى ونصرة المولى وتعجيل القِرَى, وقد يسود الرجل بالعقل والعفة والأدب والعلم. ووصف بعضهم السؤدد بأنه اصطناع العشيرة واحتمال الجريرة. وقد سئل أحد السادات: بأي شيء سدت قومك؟ فقال: "إني -والله- لأعفو عن سفيههم، وأحلم عن جاهلهم، وأسعى في حوائجهم, وأعطي سائلهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن فعل أحسن من فعلي فهو أفضل مني، ومن قصر عن فعلي فأنا خير منه"1.
وذكر أهل الأخبار أيضًا، أن العرب كانت تسود على أشياء, فكانت مضر تسود ذا رأيها, وأما ربيعة فمن أطعم الطعام، وأما اليمن فعلى النسب2.
والرئيس الناجح، هو الرئيس الذكي الفطن الذي تكون له قدرة وقابلية على التصرف بذكاء وبحذر وفقًا لعقلية القبائل. فيعرف كيف يعامل كل شخص يأتي إليه المعاملة التي تلائمه وتليق به، بحلم وصبر وأناة، وبقساوة وغلظة أحيانًا؛ من أجل إخافة أتباعه، لخوف القبائل من البطاش الظالم. على ألا يسرف في ظلمه ويمعن في غيه، فيقع له ما وقع لكليب وائل ولأمثاله من الذين أسرفوا في الاعتماد على أنفسهم وعلى قابلياتهم، فأهلكوا أنفسهم. ولهذا كان من شأن عقلاء سادات القبائل عرض المنازعات والخصومات القبلية للحكم فيها, وبذلك يخلصون أنفسهم من مشكلات صعبة كانت ستقع تبعتها على أكتافهم فيما إذا انفردوا بالنظر بها دون سائر الرؤساء.
ومن أعراف الحكم عند القبائل، أن سيد القبيلة يستمد رأيه من رأي أشراف قبيلته ووجوهها في الأمور الهامة التي تخص حياة القبيلة؛ ليستنير برأيهم، وليعرف رأي أتباعه في معالجتها. وتساعد هذه المشورة سادات القبائل مساعدة كبيرة في التمكن من إدارة القبيلة إدارة حسنة ترضي الغالبية، وقد توصل الرئيس إلى النجاح والنصر في الغزو، فيرتفع اسمه ويعلو نجمه. ولا زال سادات القبائل يستمعون إلى مشورة رؤساء القبيلة، ويقيمون لرأيهم وزنا إلى يومنا هذا. ورأيهم هذا هو مجرد مشورة ونصح؛ بمعنى أنه لا يلزم سيد القبيلة بوجوب العمل بموجبه, فقد ينبذه ويعمل برأيه وبقراره، لا سيما إذا كان قوي الشخصية متجبرًا عنيدًا.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 187 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "2/ 187".(7/351)
وقد يكون النجاح حليفه، فتزداد بذلك هيبته على أتباعه، وقد يمنى بخسارة فادحة فتقضي عليه وعلى حياته أيضًا. والنظام القبلي بعد, هو نظام استشاري, الرأي فيه لأصحاب الرأي فقط, أما الأفراد, أي: أبناء القبيلة وسوادها، فلا رأي لهم في تسيير الأمور، إلا إذا برز أحدهم وظهر في قبيلته بمواهب يعترف بها، كالحكمة أو الشرف، فقد يدخل في عداد أولي الرأي، ويكون له عندئذٍ عندهم رأي مسموع.
وعلى الرغم من استبداد بعض السادة برأيهم، وحكمهم بما يوحي إليه به حسهم وشعورهم، وتصرفهم في الأمور تصرفًا كيفيًّا، فإنهم كانوا يقيمون مع كل ذلك وزنًا للرأي، وقد يكون هذا الرأي رأي رجل مغمور من عامة أبناء القبيلة، أو رأي شاعر أو خطيب أو أي شخص آخر من أبناء القبيلة. فالحكم عند القبائل بهذا, حكم فردي استشاري يتوقف الرأي فيه على شخصية وكفاءة رئيس القبيلة، وعلى شخصية وكفاءة رؤساء البطون والأحياء.
وقد أدت غطرسة وعنجهية بعض سادات القبائل بهم إلى الموت, فقد لجئوا إلى القسوة والقهر في الحكم واستبدوا برأيهم استبدادًا فرق بينهم وبين رؤساء قبيلتهم؛ مما دفع بعض فرسان القبيلة وشجعانها على قتلهم للتخلص منهم، كالذي كان من أمر "كليب وائل"، الذي تعسف في حكمه وتجبر فاختار خيرة الأرضين الخصبة، فجعلها حمًى له، لا يحق لأحد الرعي بها، إلا بإذن منه. فأزعج عمله هذا من خضع لحكمه، فكانت عاقبته القتل.
والحلم عند العرب من أهم الصفات التي تؤهل الإنسان لحكم الناس. وهو عندهم الأناة والعقل، وقيل: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب1, ومعالجة الأمور بهدوء وضبط أعصاب. وهو أحزم سياسة تلائم طبع الحكم، وقد عدوه من خلال الحكماء.
وممن عرف واشتهر أكثر من غيره بالحلم: "الأحنف بن قيس"، حتى ضربت العرب به المثل, فقالت: هو أحلم من الأحنف. وقد نسب أهل الأخبار
__________
1 تاج العروس "8/ 256"، "حلم".(7/352)
له حكمًا كثيرة وأمثالًا، هي من الأمثال التي ينسبونها في العادة إلى الحكماء1.
وذكروا من أمثلة حلمه أنه كان قاعدًا يومًا بفناء داره, محتبيا بحمائل سيفه يحدث قومه، حتى أُُتي بمكتوف ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك، فما قطع كلامه حتى انتهى، ثم كلم ابن أخيه وأنبه وعفا عنه، ثم قال لابن آخر له: وارِ أخاك وحل كتاف ابن عمك, وسق إلى أمك مائة ناقة دية ابنها, فإنها غريبة. إلى قصص آخر من هذا القبيل2.
__________
1 الفاخر "242"، الثعالبي, ثمار "4، 85، 92".
2 نهاية الأرب "6/ 50 وما بعدها".(7/353)
النسب:
النسب هو جرثومة العصبية وأساسها؛ ولهذا حرص العربي على حفظ نسبه، ولا يزال يحرص عليه، فيروي لك شجرة نسبه حفظًا ويرفعها إلى جملة أجداد.
وقد وجد السياح أعرابًا سردوا لهم نسبهم سردًا من غير كتاب مكتوب, إلى عشرات من الأجداد، وقد تأكدوا بعد فحوص واختبارات أن ما قيل لهم وسرد عليهم كان صحيحا في الغالب.
وأما أهل المدر، فإن حرصهم على حفظ نسبهم, وإن لم يكن حرص أهل الوبر، غير أن فيهم من يحفظ شجرة نسبه، وفيهم من يحتفظ بها مكتوبة, وقد شهد على صحتها جماعة من النسابين. وفي جملة من يعتني بنسبه اعتناءً كبيرًا، ويأبى الزواج من غير الأسر الكفوءة له, السادة المنتمون إلى الرسول من ذوي الجاه والحسب والنسب، والأشراف السادات من أهل الحضر والوبر.
وحفظ النسب هذا هو استمرار لما كان عليه الجاهليون من حرص على حفظ أنسابهم. وإذا كنا لا نملك اليوم جرائد جاهلية في النسب، فإن في بعض الكتابات الجاهلية تأييدًا لما نقول؛ فبين أيدينا في هذا اليوم كتابات جاهلية ذكرت أسماء جملة أجداد لأشخاص دونوا أسماءهم في تلك الكتابات، وقد دون على شاهد قبر "معنو" "معن"، اسم أبيه وجدين من أجداده1. كما عثر على
__________
1 F.Altheim und. Stiehl, Die Araber, I, S., 280.(7/353)
أسماء عشرة أجداد في بعض الكتابات الصفوية1. وهنالك أمثلة أخرى من هذا القبيل، تثبت عناية العرب في الجاهلية بتدوين أنسابهم وحفظها, وهي من أهم المزايا التي حافظ عليها العرب إلى هذا اليوم.
ويبدأ النسب بالأب في الغالب، وبـ"الأم" في الأقل في حالات تتغلب فيها شهرة الأم على شهرة الأب، ويكون "البيت" إذن جرثومة النسب, وحين ينسب إنسان يقول: إنه "ابن فلان". ويشمل نسب البيت الأب والأولاد والبنات والزوجة أو الزوجات، وهم أكثر الناس التصاقًا بالأب، وقد يقال: إنه من "بيت فلان" تعبيرًا عن الانتساب إلى رئيس ذلك البيت. وقد عرف بعض علماء اللغة النسب: أنه القرابة، أو هو في الآباء خاصة، وأن النسب: أن تذكر الرجل فتقول: هو فلان ابن فلان، وذكر أنه يكون من قبل الأم والأب2.
والبيت هو بيت أب. ولما كان المجتمع مجتمع بيوت، صار النظام فيه نظامًا أبويًّا, السلطة العليا فيه للأب، إليه يُنتسب وهو المسئول قانونًا عن العائلة, يتساوى في ذلك مجتمع الحضر ومجتمع أهل الوبر.
ويذكر أهل الأخبار أن العرب تنسب ولد المرأة إلى زوجها الذي يخلف عليها بعد أبيهم، وذلك عنى حسان بن ثابت بقوله:
ضربوًا عليًّا يوم بدر ضربة ... دانت لوقعتها جميع نزار
أراد بني عليّ هؤلاء من كنانة، وهم بنو عبد مناة. وإنما قيل لهم: بنو على عزوة إلى علي بن مسعود الأزدي, وهو أخو عبد مناة لأمه، فخلف على أم ولد عبد مناة. وهم: بكر وعامر ومرة وأمهم: هند بنت بكر بن وائل النزارية, فرباهم في حجره فنسبوا إليه3.
وإذا توفي والد وله مولود في بطن زوجته، أو كان طفلًا رضيعًا وكان له
__________
1 Littmann, Thamud und Safa, 1940, S, 98, Inschriften, 4, 5, S. 121, Die Araber, I, S. 280.
2 تاج العروس "4/ 260 وما بعدها", "طبعة الكويت"، "ن س ب".
3 تاج العروس "10/ 253"، "علو".(7/354)
أعمام، تركه أعمامه عند أمه حتى يكبر، ثم يأخذه أعمامه، وقد تأتي أمه معه. ولكن العادة أن الأم تبع أهلها أي: عشيرتها، فإذا توفي زوجها وهي من عشيرة أخرى، تركت عشيرته لتعود إلى عشيرتها، فإذا كبر المولود خُيِّر بين البقاء مع أمه أو الالتحاق بأعمامه، أي: بعشيرة والده. والأغلب أن يختار الولد عشيرة الوالد؛ لأن نسب الولد من نسب والده، فيلتحق المولود بعشيرة الأب, وتقدم عشيرته على عشيرة الأم, إذ يشعر أن عشيرة أمه وإن كانت قريبة منه، إلا أن قربه منها ليس كقربه من عشيرة والده، وقد يعير باختياره عشيرة أمه عشيرة له. ولدينا أمثلة تشير إلى تعيير الأولاد أولادًا آخرين؛ لالتحاقهم بعشيرة أمهم وتركهم عشيرة والدهم، كالذي كان من أمر عبد المطلب يوم كان طفلًا, إذ عيره أطفال عشيرة أمه بلجوئه إلى عشيرتهم، إذ لا عشيرة له, ولو كانت له عشيرة للحق بها؛ مما حمله على ترك يثرب والرجوع إلى أعمامه بمكة. فالعم في نظرهم بمنزلة الوالد، وهو أقرب الناس إليه، وهو وريثه في العصبات. وبهذه الحجة احتج العباسيون على العلويين في تقدمهم عليهم بحق الخلافة.
ومن هنا نجد العرب يوصون بأولاد العم خيرًا، وألا يتهاتروا معهم ولا يختلفوا مهما وقع بينهم من خلاف. وفي هذا المعنى يقول أبو الطمحان:
إذا كان في صدر ابن عمك إحنة ... فلا تستثرها سوف يبدو دفينها1
وللخئولة مكانة كبيرة في العصبة عند العرب, قد تقوى على العمومة، فإذا هلك إنسان وكان إخوته على خلاف مع زوجته أو كان حالهم ضعيفًا قامت الخئولة مقام العمومة في رعاية الأولاد وحمايتهم ومدهم بالعصبية. بل قد نجد أن عصبية الخئولة أقوى عند العرب في الغالب من عصبية العمومة، وفي تأريخ الجاهلية والإسلام أمثلة كثيرة على ذلك.
ومن حسن حظ الإنسان في الجاهلية أن يكون له أعمام وأخوال كثيرون، خاصة إذا كانوا أصحاب جاه وسيادة؛ لأنه سيعتز بهم، ويفتخر بكثرتهم. وكان الجاهليون يقولون: رجل معم ورجل مخوِل وأخول، إذا كان له أعمام
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 259".(7/355)
وأخوال, ويقال: كريم الأعمام والأخوال، على سبيل المدح والتقدير1. ومنه قول امرئ القيس: بجيد معم في العشيرة مخول. وقول الشاعر:
تروح بالعشي بكل خرق ... كريم الأعممين وكل خال2
والنسب نسب أهل، ويقوم على الدم القريب، ونسب قبيلة، ويقوم على العصبية للدم الأبعد، دم جد القبيلة يجري في عروق المنتسبين إليه.
والعرب من حيث النسب صرحاء وحلفاء وجيران وموالٍ وشركاء يستلحقون بالنسب. أما الصريح، فهو المحض من كل شيء، والخالص النسب، ويقال: جاء بنو فلان صريحة إذا لم يخالطهم غيرهم3.
والنسب إذن نسب آباء، وهو نسب الصرحاء الخلص من العرب المنحدرين من صلب جد القبيلة، على حد تعبير أهل الأنساب، ونسب حلف أو جوار، أي: نسب استلحاق. والغالب أن يتحول نسب الاستلحاق إلى نسب صريح، حين تطول إقامة الدخيل بين من دخل بينهم, فينسى أصله، ويأخذ أحفاده نسب من دخل جدهم فيهم, ويشمل ذلك نسب القبائل أيضًا. ونجد في كتب أهل الأخبار أمثلة كثيرة من أمثلة تحول الأنساب، حيث نجدها تنص على دخول نسب فلان في نسب بني فلان، ونسب قبيلة في نسب قبيلة أخرى.
ويقال للقوم الذين ينتسبون إلى من ليسوا منهم "الدخل", والدخيل هو الرجل الغريب الذي ينتسب إلى قوم ليس هو بواحد منهم. وذكر أيضًا أن "الدخل" بمعنى الخاصة، وأيضًا الحشوة الذين يدخلون في قوم وليسوا منهم, أي: في المعنى المتقدم4.
وفي كتب أهل الأخبار أمثلة عديدة على تنقل الأنساب وإثبات نسب قوم في قوم ليسوا منهم لغاية ومأرب، وقع ذلك في الجاهلية وفي الإسلام. قال "الكندي": "كان أبو رجب الخولاني وفلان وفلان يتحرشون أهل الحرس
__________
1 تاج العروس "7/ 312"، "خول".
2 تاج العروس "8/ 409"، "عمَّ".
3 اللسان "2/ 509", "صرح", بلوغ الأرب "3/ 191 وما بعدها".
4 تاج العروس "7/ 320 وما بعدها", "دخل".(7/356)
ويؤذونهم، فمشى أهل الحرس إلى زكريا بن يحيى كاتب العمري، فقالوا له: حتى متى نؤذَى ويطعَن في أنسابنا؟ فأشار عليهم زكريا بجمع مال يدفعونه إلى العمري ليسجل لهم سجلًا بإثبات أنسابهم، فجمعوا له ستة آلاف دينار، فلما صار المال إلى العمري لم يجسر على أن يسجل لهم، وقال: ارفعوا إلى الرشيد في ذلك، فخرج وفد منهم إلى العراق وأنفق مالًا عظيمًا هناك، وادعى الوفد أن المفضل بن فضالة قد كان حكم لهم بإثبات أنسابهم وأنهم بنو خوتكة بن إلحاف بن قضاعة، ثم عاد الوفد بكتاب محمد الأمين إلى العمري بالتسجيل لهم، فدعاهم العمري إلى إقامة البينة عنده على أنسابهم, فأتوا بأهل الجوف الشرقي وأهل الشرقية, وقدم جماعة من بادية الشام، فشهدوا أنهم عرب فسجل لهم العمري. ثم تجدد نظر القضية فيما بعد وفسخ حكم القاضي العمري، ورد أهل الحرس إلى أصلهم القبطي"1.
وأشار أهل الأخبار إلى قبائل كانت تتنقل من قوم إلى قوم، فتنتمي إليهم, قالوا لها: "النواقل". والنواقل: من انتقل من قبيلة إلى قبيلة أخرى فانتمى إليها2, والتنقل دليل على أن النسب لم يكن من الصرامة والشدة على نحو ما يصوره لنا النسابون المتأخرون.
وفي الذي يذكره علماء النسب عن أنساب القبائل، أمور لا يمكن لنا قبولها، لا سيما ما يتعلق منها بالتعصب القبلي وبسرد الأنساب وتشجيرها وفي تفرعها. وأنساب القبائل موضوع لم يبحث بعد بحثًا علميًّا، وهو يحتاج إلى تفرغ وتتبع وإلى مقارنة ما جاء عند العرب فيه بما جاء عند غيرهم من الساميين وغيرهم عنه. فقد لعبت الأنساب دورًا خطيرًا عند البشرية؛ لأنها كانت الحماية والوقاية للإنسان، قبل أن تتولد الحكومات الكبيرة التي رعت الأمن وبسطت سلطانها، وبذلك خففت من غلواء النسب والانتساب.
__________
1 كتاب قضاة مصر "397", العبادي، الإسلام والمشكلة العنصرية "88".
2 تاج العروس "8/ 143"، "نقل".(7/357)
الاستلحاق:
والاستلحاق، هو أن يستلحق إنسان شخصًا فيلحقه بنسبه، ويجعله في حمايته(7/357)
ورعايته، أي في عصبيته. وقد يكون الرجل صريحًا معروف النسب، وقد يكون أسيرًا أو مولًى أو عبدًا، فيسميه مولاه وينسبه إليه.
ومن هذا القبيل ما كان يفعله أهل الجاهلية من استلحاق أبناء الإماء البغايا بهم, وذلك أنه كان لأهل الجاهلية إماء بغايا وكان سادتهن يلمون بهن، فإذا جاءت إحداهن بولد ربما ادعاه السيد والزاني، فيقع خلاف بينهما على الولد. وقد وقع مثل هذا الخلاف في أيام الرسول، في أول زمان الشريعة، فقضى الرسول بإلحاقه بالسيد؛ لأن الأمة فراش كالحرة، فإن مات السيد ولم يستلحقه ثم استلحقه ورثته بعده, لحق بأبيه. وفي ورثته خلاف1.
__________
1 اللسان "10/ 328", "صادر", "لحق"، تاج العروس "7/ 60"، "لحق".(7/358)
الدعيّ:
ويقال للمستلحق "الدعي", والدعي: المنسوب إلى غير أبيه، و"الدعوة"1 في النسب: أن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه وعشيرته, وقد كانوا يفعلونه فنُهي عنه وجعل الولد للفراش. ومن هذا القبيل المتبنى الذي تبناه رجل فدعاه ابنه ونسبه إلى غيره، وكان النبي تبنى "زيد بن حارثة"، ثم ألحقه بنسبه، بعد أن نزل الوحي عليه {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمِْ} 2, وقال: {مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} 3.
ويكون حكم الدعي من الناحية القانونية في حكم النسب الصحيح والبنوة الشرعية عند الجاهليين؛ لذلك كان الجاهليون يورثونه كما يورثون الأبناء4.
ويقال للدعي ينتمي إلى قوم: منوط مذبذب, سمي مذبذبًا؛ لأنه لا يدري إلى من ينتمي5. وقد يكون الرجل دعي أدعياء, فيكون هو دعيا في رهطه,
__________
1 الدعوة بكسر الدال.
2 سورة الأحزاب، الرقم 33, الآية 5, اللسان "14/ 261".
3 سورة الأحزاب، الرقم 33، الآية 4, اللسان "14/ 261"، "صادر"، "دعا".
4 الأغاني "17/ 94".
5 اللسان "7/ 420", "صادر", "نوط".(7/358)
ورهطه دعيا في قبيلة مثل "ابن هرمة"، فقد كان دعيًّا في الخلج وكان الخلج دعيًّا في قريش1. ويقال للدعي "ملصقا"، والملصق: هو المقيم في الحي وليس منهم بنسب2.
وقد ورد في حديث "علي بن الحسين": المستلاط لا يرث، ويُدعى له ويدعى به. المستلاط: المستلحق في النسب، ويدعى له, أي: ينسب إليه فيقال: فلان ابن فلان، ويدعى به أي: يكنى فيقال: هو أبو فلان، وهو مع ذلك لا يرث لأنه ليس بولد حقيقي3. ومن ذلك قولهم: "لاط القاضي فلانًا بفلان: ألحقه به". وورد أن أناسًا في الجاهلية كانوا يليطون الأولاد بآبائهم، أي: يلحقونهم،4. والظاهر أن استلحاق الأبناء بالآباء، كان معروفًا بين الجاهليين بسبب الاتصال بالإماء وببعض الأعراف الأخرى التي حرمت في الإسلام.
ويقال للدعي: المخضرم، وقيل: هو من لا يُعرف أبوه أو أبواه ورجل مخضرم أسود وأبوه ابيض، أو هو من ولدته السراري، وذلك ذم في الإنسان5.
ويقال: رجل "خلط ملط"، بمعنى: مختلط النسب. وذكر أن الملط الذي لا يعرف له نسب ولا أب, وأما خلط، فإما بمعنى المختلط النسب، وإما بمعنى ولد الزنا, والخليط المشارك في حقوق الملك كالشرب والطريق ونحو ذلك. ومنه الحديث: "الشريك أولى من الخليط, والخليط أولى من الجار"، والشريك: المشارك في الشيوع, والخليط: القوم الذين أمرهم واحد6.
و"الأهل" أهل الرجال وأهل الدار، وأهل الرجل أخص الناس به. وأهل الدار أهل البيت، و"آل الرجل"، أهله. ويقال في النسب: هو من آل فلان7.
__________
1 الأغاني "3/ 76".
2 تاج العروس "7/ 61"، "لزق"، "ألصق".
3 اللسان "14/ 262"، "دعا".
4 تاج العروس "5/ 218"، "لاط"، اللسان "7/ 395"، "لوط".
5 تاج العروس "8/ 281"، "الخضرم".
6 تاج العروس "5/ 132"، "خلط"، "5/ 226"، "ملط".
7 اللسان "11/ 28 وما بعدها", "صادر", "أهل".(7/359)
وينتهي النسب بجد القبيلة الأكبر، فلكل قبيلة جد أكبر تنتمي إليه وتتسمى به، وله ابن ينتسب إليه أو أبناء ينتسبون إليهم، ويكون هذا الجد محور "النسب" و"العصبية" للقبيلة. ونجد هذا النوع من النسب معروفًا عند غير العرب أيضًا؛ عند العبرانيين والآراميين وعند الإغريق والرومان مثلًا.(7/360)
الجوار:
وللجوار صلة كبيرة بـ "النسب" وبالعصبية عند العرب، فقد يتوثق الجوار، وتتقوى أواصره فيصير نسبًا، فيدخل عندئذ نسب "المستجير" بنسب "المجير"، ويصير وكأنه نسب واحد, هو نسب "المجير". وقد اندمجت بـ"الجوار" أنساب كثيرة من القبائل الصغيرة، أو القبائل التي تشعر بخوف من قبيلة أخرى أكبر منها، فتضطر إلى طلب "جوار" قبيلة أكبر منها؛ لتدافع عنها، ولتكون بذلك قوة رادعة تحمي حياتها وتحافظ على نفسها ومالها بهذا الجوار.
وهو من السنن التي حافظ عليها الجاهليون، واعتدوها كالقوانين. فإذا استجار شخص بآخر، أو استجارت قبيلة بأخرى، اكتسب هذا الجوار صيغة قانونية، ووجب على المجير المحافظة على حق الجوار, وإلا نزلت السبة بالمجير، وازدراه الناس.
ويكتسب الجوار حكمه بإعلان الطرفين قبولهما له على الملأ، في أماكن الاجتماع في الغالب، في مثل المواسم من حج أو سوق. فإذا أعلن ذلك، وعلم الناس الخبر، صار المجار في ذمة المجير، وترتب على المجير أن يكون مسئولًا عن كل ما يقع على المجار وما يصدر منه.
وقد ورد في القرآن الكريم: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِِ} 1. والجار ذو القربى هو نسيبك النازل معك في الحواء, ويكون نازلًا في بلدة وأنت في أخرى، فله حرمة جوار القرابة. والجار الجنب ألا يكون له مناسب فيجيء إليه ويسأله أن يجيره، أي: يمنعه فينزل معه،
__________
1 النساء، الآية "63".(7/360)
فهذا الجار الجنب له حرمة نزوله في جواره ومنعته وركونه إلى أمانه وعهده؛ لأنه جاوره وإن كان نسبه في قوم آخرين ولا قرابة له به.
وكان سيد العشيرة إذا أجار عليها إنسانًا لم يخفروه1, وإذا دخل قبته أو خباءه أو دار حول خيمته، ونادى بالجوار والأمان صار آمنًا. وقد وجب على صاحب القبة أو الخباء أو الخيمة حمايته، حتى وإن كان من سائر أبناء القبيلة.
والجار والمجير والمعيذ واحد، ومن عاذ بشخص استجار به2, ومن هذا القبيل استجارة أهل الجاهلية بالجن. "قيل: إن أهل الجاهلية كانوا إذا نزلت رفقة منهم في وادٍ، قالت: نعوذ بعزيز هذا الوادي من مردة الجن وسفهائهم, أي: نلوذ به ونستجير"3.
وللجوار حرمة كبيرة عند الجاهليين, فإذا استجار شخص بشخص آخر, وقبل ذلك الشخص أن يجعله جارًا ومستجيرًا به، وجبت عليه حمايته، وحق على المجار الدفاع عن مجيره, والذب عنه, وإلا عد ناقضًا للعهد، ناكثًا للوعد، مخالفًا لحق الجوار. وعلى القبائل استجارة من يستجير بها, والدفاع عنه دفاعها عن أبنائها. ويقال للذي يستجير بك: "جار", والجار: الذي أجرته من أن يظلمه ظالم، وجارك: المستجير بك، والمجير: هو الذي يمنعك ويجيرك, وأجاره: أنقذه من شيء يقع عليه4.
وقد أوصوا بالجار خيرًا، ورجوا من الجار أن يكون كذلك قدوة حسنة في جواره، فلا يسيء إلى جاره أو إلى جيرانه، وعلى الجار أن يغض نظره عن عيوب جاره، وأن يكون يقظًا في حفظ حقوق جاره، فطنًا في الدفاع عنه.
__________
1 اللسان "4/ 155"، "جور".
2 اللسان "4/ 155"، "جور".
3 اللسان "3/ 500"، "عوذ".
4 اللسان "4/ 154 وما بعدها"، "جور".(7/361)
ليس له أن يتملص من حقوق الجوار إذا استحقت ووجبت؛ لأن للجار حقًّا عليك1.
وكان يقال في الجاهلية للرجل إذا استجار بيثرب: قوقل في هذا الجبل ثم قد أمنت. فإذا فعل أحد ذلك، وجب على أهل يثرب قبول جواره والدفاع عنه. وذكر أن "قوقل" رجل من الخزرج، اسمه "غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج"، سمي به "لأنه كان إذا أتاه إنسان يستجير به أو بيثرب, قال له: قوقل في هذا الجبل، وقد أمنت, أي: ارتق". وقيل: "لأنهم كانوا إذا أجاروا أحدًا أعطوه سهمًا, وقالوا: قوقل به حيث شئت, أي: سر به حيث شئت"، وذكروا أيضًا أن "القوقل" اسم أبي بطن من الأنصار، اسمه ثعلبة بن دعد بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن الخزرج. وقالوا: هو النعمان بن مالك بن ثعلبة2.
والغاية من الجوار طلب الحماية والمحافظة على النفس والأهل والمال؛ لذلك لا يطلبه في العادة إلا المحتاج إليه. ولا يشترط في الجوار نزول الجار قرب المجير، أو في جواره أي أن يكون بيته ملتصقًا ببيته, فقد يكون على البعد كذلك؛ لأن الجوار حماية ورعاية، وتكون الحماية حيث تصل سلطة المجير، وتراعى فيه حرمته وذمته. ويكون في إمكانه الدفاع عن جاره. ولهذا كان على الجار أن يعرف حدود "الجوار"، وقد يعلقانه بأجل احترازًا وتحفظًا من الجوار المطلق، الذي لا يعلق بزمن وإنما يكون عاما.
ولا يجير أحد إنسانًا إلا إذا أحس أن في إمكانه أداء أمانة الجوار, وإلا عرض نفسه وأهله وقبيلته للأذى والسبة، إن قبل شخص جوار أحد وهو في وضع لا يمكنه من الوفاء بحقوق الجوار, ولا يطلب رجل مجاورة رجل آخر إلا إذا شعر أن من سيستجير به هو كفؤ لأن يجيره, وإلا فما الفائدة من الاستجارة برجل ضعيف قد يكون هو نفسه في حاجة إلى الاستجارة بأحد.
ولا يشترط في الجوار أن يكون جوار أحياء, فقد يستجير إنسان بقبر, فيصير
__________
1 قال قيس بن عاصم:
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن
المرزوقي، شرح الحماسة "4/ 584".
2 المعارف "ص50", تاج العروس "8/ 84"، "القوقل".(7/362)
في جواره وفي حرمة ذلك القبر, وعلى أصحاب ذلك القبر الذب عن هذا الجار والدفاع عنه. ومن هذا القبيل استجارة الناس بقبر "عامر بن الطفيل", فقد ذكر أن قومه من "بني عامر"، وضعوا حول قبره أنصابًا على مسافة منه, إذا اجتازها اللاجئ ودخل "الحرم" المحيط بالقبر، صار آمنًا على ماله ونفسه، لا يخشى خشية أحد يريد إنزال سوء به. وقد منعوا دخول حيوان إليه أو مرور راكب به؛ احترامًا لحرمة صاحب هذا القبر1. وكالذي كان من أمر قبر "تميم بن مر" جد قبيلة تميم في عرف النسابين.
وقد يستجير الإنسان بمعبد أو بأي موضع مقدس، فيكون في جوار وحرمة ذلك المكان, وعلى أصحابه أداء حقوق الجوار. ومن هذا القبيل جوار مكة, فمن دخل حرم "البيت" صار في جواره، آمنًا مطمئنا لا يجوز الاعتداء عليه ولا إخافته؛ لأنه في حرمة "البيت" وعلى قريش الذب عنه.
وقد كان لآل "محلم بن ذهل" قبة بوادي "عوف" عرفت بـ"قبة المعاذة"، من لجأ إليها أعاذوه، و"آل عوف" من أشرافهم في الجاهلية ومن رجالهم "عوف" الذي يضرب به المثل: لا حرّ بوادي عوف2. والعوذ: الالتجاء؛ ولهذا عرفت بتلك التسمية, وهو "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان". وقد ضرب به المثل في الوفاء, فورد: "هو أوفى من عوف", وذلك لأن عمرو بن هند طلب منه مروان القرظ, وكان قد أجاره فمنعه عوف وأبى أن يسلمه، فقال عمرو: لا حر بوادي عوف, أي: إنه يقهر من حل بواديه وكل من فيه كالعبيد له لطاعتهم إياه. وهو من أمثال العرب في الرجل العزيز المنيع الذي يعز به الذليل ويذل به العزيز. وقيل: إن كل من صار في ناحيته خضع له, أو قيل ذلك لأنه كان يقتل الأسارى3. ولما توفي "عوف" دفن بواديه، وأقاموا قبة على قبره صارت ملاذًا لمن يطلب الجوار.
ومن طرق الجوار، أن يأتي رجل إلى رجل ليستجير به فلا يجده، فيعقد
__________
1 الأغاني "2/ 184"، "15/ 149".
2 الاشتقاق "215".
3 تاج العروس "6/ 206"، "تعوف".(7/363)
طرف ثوبه إلى طنب البيت، فإذا فعل ذلك عد جارًا، ووجب على صاحب البيت أن يجيره1.
والجوار جواران: جوار جماعة كجوار بيت أو فخذ أو بطن أو ظهر أو عشيرة أو قبيلة، وجوار أفراد. وللجوارين حرمة وقدسية ليس أحدهما دون الآخر في الحرمة والوفاء.
وإذا نزل إنسان على إنسان آخر جارًا، فإن من المتعارف عليه أن تكون حرمة جواره ثلاثة أيام، "وكانت خفرة الجار ثلاثًا"2, فاذا انتهت، انتهت مدة الجوار. وعلى الجار الارتحال، إلا إذا جدد "المجير" جواره له، وطلب منه البقاء في جواره, فيكون عندئذ لهذا الجوار حكم آخر، إذ يبقى الجوار قائمًا ما دام عقده باقيا. وقد استفاد من حق الجوار الغرباء والمسافرون والمحتاجون وأمثالهم, فقد أمنوا على راحتهم ورزقهم وهم في محيط صعب، كما أمنوا على حياتهم, حتى إن المجير ليغفر لجاره ما قد يبدر منه من سوء بسبب حكم الجوار, قال مجير لجاره: "لولا أنك جار لقتلناك"3. ويشمل هذا الجوار المسافر والضيف.
ومن عادتهم في الجوار، أن أحدهم إذا خاف، فورد على من يريد الاستجارة به، نكس رمحه، فإذا عرفه المجير، رفع رمحه، فيصير في جواره. فلما هرب "الحارث بن ظالم المري" من ملك الحيرة، وأخذ يتنقل بين القبائل حتى وصل عكاظ وبها "عبد الله بن جدعان", نكس رمحه أمام مضرب "ابن جدعان" ثم رفعه حين عرفوه، وأمن. وأقام بمكة، حتى أتاه أمان ملك الحيرة4.
وقد يحدد الجوار بحدوده, كأن يذكر من يطلب الاستجارة لمن يريد أن يستجير به، أن استجارته به من قبيلة كذا أو من القبائل الفلانية أو من الشخص
__________
1 الأغاني "2/ 184".
2 الفاخر "220".
3 الفاخر "220".
4 البلاذري "1/ 42 وما بعدها".(7/364)
الفلاني، فإذا قبل المجير ذلك حدد جواره بما حدد في عقد الجوار. فإذا اعتدت على المستجير قبيلة أخرى لم تذكر في نص الجوار، فلا ذمة للمستجير على المجير, وليس من حقه طلب مساعدته له. كما قد يحدد الجوار بزمن، كإقامة شخص في مكان، أو إيصاله من موضع إلى موضع، أو تعيين أمد له.
والخفارة الخفرة: الأمان، والخفير: المجير، والخفارة: الذمة. ويقال: خفرت الرجل: أجرته وحفظته، وتخفرت به: إذا استجرت به, وأخفرت الرجل: إذا نقضت عهده وذمامه1, بأن يعلن ذلك ليقف عليه الناس، وإلا بقيت التبعة في عنق الخفير.
وعلى من أعطى خفارته لأحد، الوفاء بما أعطى، والوفاء بما ألزم نفسه به عليه، وإلا عد ناكثًا للعهد حقيرًا2.
__________
1 اللسان "4/ 253 وما بعدها".
2 تاج العروس "3/ 186"، "خفر".(7/365)
المؤاخاة:
وتكون المؤاخاة بين الأفراد كما تكون بين الجماعات كالعشائر والقبائل. وهي تدعو إلى المناصرة والمؤازرة والمساعدة، وتؤدي إلى الموارثة. وخير مثل على المؤاخاة، ما فعله الرسول يوم مقدمه المدينة من مؤاخاته بين الأنصار والمهاجرين؛ لتوحيد الكلمة وليساعد بعضهم بعضًا1.
ولا يشترط في المؤاخاة أن تكون بين أعراب وأعراب، أو بين حضر وحضر، إذ يجوز أن تعقد أيضًا بين العرب والأعراب، أي: بين الحضر والبدو؛ لأن المؤاخاة عقد، والعقد يقع بين كل الناس. كما قد تقع بين عربي وأعجمي، فقد آخى الرسول بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء.
__________
1 تاج العروس "10/ 11"، "أخا".(7/365)
الموالي:
والمولى: الولي والعصبة والحليف وابن العم والعم والأخ والابن وابن الأخت والعصبات كلهم والجار والشريك1. فللفظة إذن معانٍ عديدة، أهمها بالنسبة لنا أن المولى: العبد, أي: المملوك الذي يمن عليه صاحبه، بأن يفك رقبته فيعتقه، ويصير المملوك بذلك مولى لعاتقه. وسوف نرى أن الموالي أنواع, وهم الذين نبحث عنهم في هذا المكان.
و"الموالي: العصبة. هم كانوا في الجاهلية الموالي، فلما دخلت العجم على العرب لم يجدوا لهم اسمًا، فقال الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} . فسموا الموالي.... والمولى اليوم موليان: مولى يرث ويورث, فهؤلاء ذوو الأرحام، ومولى يورث ولا يرث, فهؤلاء العتاقة"2.
والعرب تسمي ابن العم المولى، ومنه قول الشاعر:
ومولى رمينا حوله وهو مدغل ... بأعراضنا والمندبات سروع
يعني بذلك: وابن عم رمينا حوله. ومنه قول الفضل بن العباس:
مهلًا بني عمنا, مهلًا موالينا ... لا تظهرنّ لنا ما كان مدفونا3
والموالي أنواع، موالي عتق وموالي عتاقة، وهو الرقيق أو الأسير الذي تفك رقبته بعتقه, كأن يشتري رجل مملوكًا فيشتريه فيعتقه4. وفي جملة ما كان يفعله الجاهليون في مقابل فك رقبة المملوك اشتراطهم على المملوك عمل عمل يعيَّن له، فإن قام به وأتمه أعتقت رقبته, ويصير مولى لمعتقه إن شاء، وله الخيار في أن يختار غير سيده مولى له، إن اشترط ذلك على سيده، أو اشترط
__________
1 اللسان "15/ 408 وما بعدها"، "صادر", "ولي". قال الشاعر:
هم المولى وإن جنفوا علينا ... وأنا من لقائهم لزور
يعني بني العم. وقال اللهبي يخاطب بني أمية:
مهلًا بني عمنا, مهلًا موالينا ... امشوا رويدا كما كنتم تكونونا
تاج العروس "10/ 399", "ولي".
2 تفسير الطبري "5/ 33".
3 تفسير الطبري "5/ 32".
4 اللسان "10/ 243"، "عتق".(7/366)
سيده عليه ذلك الشرط. وقد يقع الاختيار على ذلك بعد وقوع العتق.
ومن الموالي: موالي مكاتبة "موالي المكاتبة", وذلك بأن يشترط في عقد البيع، أن العبد يكاتب على نفسه بثمنه، فإذا سعى وأداه عتق. ذكر أيضًا أن المكاتبة: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه إليه منجَّمًا، فإذا أداه صار حرًّا، والعبد مكاتب. وقيل: المكاتبة: أن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال ينجمه عليه، ويكتب عليه أنه إذا أدى نجومه في كل نجم كذا وكذا، فهو حر، فإذا أدى جميع ما كاتبه عليه، فقد عتق، وولاؤه لمولاه الذي كاتبه. وذلك أن مولاه سوغه كسبه الذي هو في الأصل لمولاه, فالسيد مكاتب، والعبد مكاتب إذا عقد عليه ما فارقه عليه من أداء المال. سميت مكاتبة لما يكتب للعبد عليه -على السيد- من العتق إذا أدى ما فُورق عليه, ولما يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها في محلها، وأن له تعجيزه إذا عجز عن أداء نجم يحل عليه1.
والأصل في ولاء المكاتبة، أن من أعتق عبدًا كان ولاؤه له، فينسب إليه, وإذا مات كان هو وارثه. وقد لا يتحول الولاء للولي، إذا اشترطوا أولًا ألا يكون ولاؤه لمعتقه، بل لمن يؤدي ثمن المكاتبة مثلًا, وقد يعتق المملوك ولا يكون لأحد ولاء عليه, وتكون العتاقة عندئذ "سائبة". و"السائبة": العبد يعتق على ألا ولاء له، أي: عليه، ويحق عندئذ أن يضع ماله حيث يشاء2.
ومن أسباب العتاقة: التدبير, وهو أن يعلق المالك عتق مملوكه على شرط, هو بعد وفاته، كأن يقول له: أنت حر بعد موتي, فلا يرثه أهله3.
وأما مولى العقد, ويقال له: مولى حلف ومولى اصطناع، فيكون بانتماء رجل إلى رجل آخر بعقد، أو قبيلة إلى قبيلة أخرى بحلف. وذلك بأن يتعاقد ضعيف مع قوي على أن يساعده ويعاضده، ويقوم في مقابل ذلك بأداء ما اتفق عليه من شروط, وينتسب المولى عندئذ إلى سيده، أي: مولاه الذي قبل ولاءه. ومن هذا القبيل يهود يثرب، فقد كانوا في ولاية الأوس والخزرج، لجأ كل بطن
__________
1 اللسان "1/ 700"، "كتب".
2 تاج العروس "1/ 305".
3 تاج العروس "3/ 200"، "دبر".(7/367)
منهم إلى بطن من الأوس أو الخزرج يتعززون بهم، وصاروا موالي لهم, إذا وقع عليهم ضيم لجئوا إلى من انتموا إليه بالولاء للدفاع عنهم. ولما ظهر الإسلام كان من دخل في ولاء "عبد الله بن أبي"، ومنهم من دخل في ولاء "سعد بن معاذ", ومنهم من كان في ولاء "عبادة بن الصامت". وكان عليهم في مقابل ذلك، العون والنصرة لمن دخلوا في ولائه أو ولائهم، والدفاع عنهم، وأن يكونوا بمثابة العون لهم.
وكان من موالي الحلف، قوم من اليهود والنصارى والمجوس. ولما ظهر الإسلام، أبطل عن تولي أهل الكتاب1, إذ جعلهم في ذمة المسلمين. ويدخل في هذا الولاء ولاء قبائل وعشائر صغيرة لقبائل أكبر منها, وذلك في سبيل الحصول على حمايتها لها ودفاعها عنها, فيتوجب عليها أداء ما شرط عليها من شروط عند طلبها الولاء, من العصبية والعقل وما شاكل ذلك من حقوق.
أما مولى الرحم، فيكتسب الولاء بالزواج من موالي بعض القبائل، فينسب إلى القبيلة التي تزوج من مواليها2.
وذكر بعض أهل الأخبار أن الموالي ثلاثة: مولى اليمين المحالف، ومولى الدار المجاور، ومولى النسب ابن العم والقرابة. وقد ذكرت هذه الأنواع في هذا البيت:
نبئت حيًّا على نعمان أفرادهم ... مولى اليمين ومولى الدار والنسب3
وقد ذكر "الجاحظ" "أن الموالي أقرب إلى العرب في كثير من المعاني؛ لأنهم عرب في المدّعى، وفي العاقلة، وفي الوارثة. وهذا تأويل لقوله: مولى القوم منهم، ومولى القوم من أنفسهم. والولاء لحمة كلحمة النسب"4. ولهذا عد الموالي في نسب من دخلوا في ولائه, وتعصبوا وتحزبوا لولاء المولى.
والموالي مهما كانوا عربًا أو عجمًا، كانوا أقل شأنًا في مجتمعهم من
__________
1 المائدة، الآية 51، تفسير الطبري "6/ 177", الآلوسي، تفسير "6/ 140".
2 تأريخ التمدن الإسلامي "4/ 31".
3 العمدة "2/ 198".
4 مناقب الترك "1/ 12"، من رسائل الجاحظ، "تحقيق عبد السلام هارون".(7/368)
الأحرار. إذ نظر إليهم على أنهم دون العرب الأحرار في المكانة؛ ولهذا فقلما زوج الأحرار بناتهم للموالي, حتى ضرب بهم المثل في القلة والذلة, ولا سيما إذا كان الإنسان مولى موالٍ, فقيل: "مولى الموالي"، قيل ذلك في الإسلام أيضا. ورد في الشعر:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا1
وقد بقيت نظرة الازدراء المذكورة حتى في الإسلام, فمع مساواة الإسلام للعرب بغيرهم وإتيانه بمقياس جديد في تفضيل الخلق بعضهم على بعض هو مقياس العمل الصالح، المتجسم في قوله: "أيها الناس, إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء، كلكم لآدم، وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى"2, أو قوله: "الناس في الإسلام سواء، الناس طف الصاع لآدم وحواء, لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي إلا بتقوى الله"، "لا تأتوني بأنسابكم وأتوني بأعمالكم، فأقول للناس هكذا ولكم هكذا"3 -نجد أن العرب بقيت في الإسلام أيضًا تأنف من تزويج بناتهم إلى الموالي بسبب شرط "الكفاءة" الذي كان سنة من سنن أهل الجاهلية في الزواج: كفاءة النسب والمنزلة والحرفة, وإذا تزوج مولى بنتًا عربية، عُيرت القبيلة به. وقد هجا الشاعر "أبو بجير" "عبد القيس"؛ لتزويجهم بناتهم للموالي4، وذهب البعض إلى قاعدة: "الكفاءة في النسب والدين والصنعة والحرية, ولا تزوج عربية بأعجمي, ولا قرشية بغير قرشي، ولا هاشمية بغير هاشمي، ولا عفيفة بفاجر"5, وأن "قريشًا بعضهم أكفاء لبعض, بطن ببطن، والعرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، والموالي بعضهم أكفاء لبعض, رجل برجل"6.
__________
1 الثعالبي, "ثمار", "690".
2 العبادي، الإسلام والمشكلة العنصرية "58".
3 اليعقوبي "2/ 100"، "حجة الوداع"، وتروى الخطبة بصور مختلفة.
4 العقد الفريد "3/ 232".
5 العبادي, الإسلام والمشكلة العنصرية "67"، أبو إسحاق الشيرازي, كتاب التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعي "95".
6 العبادي، الإسلام والمشكلة العنصرية "66".(7/369)
أما كفاءة النسب، فيراد بها النسب العربي، أي: إن الرجل لا يزوج بنتًا عربية إلا إذا كان عربيًّا. وأما المنزلة، فيراعى فيها الكفاءة في المكانة، كأن يراعى في اختيار الزوجة أن تكون من عائلة ليست منزلتها دون منزلة الزوج، وإلا عير بزواجه, وأما الحرفة، فأن يتزوج الرجل بنتًا من بنات حرفته، فلا يتزوج الرجل ابنة صائغ مثلًا وإلا عير ابنها به، كالذي كان من أمر "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، فقد عيره الناس بأمه؛ لأنها ابنة صائغ، ثم لأنها يهودية. وكان هذا العرف صارمًا في اليمن، فحصروا الزواج بأصحاب الحرف على نحو ما سأتحدث عنه في باب الزواج.
ونظرًا إلى ازدراء العرب لشأن الموالي، وما كان يجلبه الولاء من ازدراء العرب بعضهم بعضًا لهذا السبب، بسبب ولاء العتق أو ولاء الموالاة، فقد أمر الخليفة "عمر" بإبطال الولاء بين العرب، وجوز بقاءه فيما بين العرب وغير العرب1, فاقتصر الولاء على هذا النوع وحده في الإسلام.
__________
1 العبادي، الإسلام والمشكلة العنصرية "74".(7/370)
الأحلاف:
وكان للأحلاف شأن خطير في حياة الجاهليين. والحلف في اصطلاح علماء اللغة: العهدُ بين القوم، والحلف والمحالفة: المعاهدة، وأصله اليمين الذي يأخذ بعضهم من بعض بها العهد، ثم عُبر به عن كل يمين, والمحالفة: أن يحلف كل للآخر1. فمعنى الحلف في الأصل المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، وتحالفوا بمعنى تعاهدوا وعقدوا اتفاقًا وعهدًا، وتآخوا على العمل يدًا واحدة، وقد حالف الرسول بين المهاجرين والأنصار, أي: آخى بينهم2.
وفي كلمة الحلف شيء من الدلالة على الشعائر والأيمان والمعاني الدينية؛ ولذلك قيل للحلف اليمين، لأن من عادتهم عند عقد الحلف بسط أيمانهم إذا حلفوا
__________
1 المفردات "ص128"، اللسان "9/ 53" "بيروت"، تاج العروس "6/ 75", المخصص "13/ 109", المعاني "6/ 125".
2 تاج العروس "6/ 75", اللسان "9/ 53"، الصحاح "1/ 512"، اللسان "12/ 403"، الصحاح "4/ 1346"، أساس البلاغة "1/ 193".(7/370)
وتحالفوا وتعاقدوا وتبايعوا1. وكانوا ينظرون إليها على أن لها قداسة خاصة وحرمة، والحانث بيمينه ينظر إليه بأشد أنواع التحقير والازدراء. ويعد الحنث باليمين من الموبقات ومن الكبائر التي لا يُغتفر صدورها من شخص في شريعة الجاهليين, وقد أمر الإسلام بالوفاء بالعهد2.
و"العهد" بمعنى الحلف أيضًا, وقيل: العهد: كل ما عُوهد عليه، وكل ما بين الناس من المواثيق. وهو أيضًا الموثق واليمين؛ ولذلك ورد: "على عهد الله" و"أخذت عليه عهد الله"، و"ولي العهد"؛ لأنه ولي الميثاق الذي يؤخذ على من بايع الخليفة, وعلى من يعطي العهد الوفاء به: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 3, {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} 4, أي: من وفاء5. ووردت لفظة "عاهدتم" بمعنى التحالف والتعاقد في مواضع من كتاب الله6.
ويرد "الميثاق" بمعنى العهد, والمواثقة: المعاهدة، وأما "التواثق"، فالتحالف والتعاهد. وفي القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} 7, {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} 8، {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} 9. وقد قال العلماء: إنه عقد مؤكد بيمين
__________
1 اللسان "17/ 356"، "13/ 462"، "بيروت"، تاج العروس "6/ 75".
2 تفسير ابن كثير "2/ 509"، تفسير الرازي "2/ 147"، تفسير الطبري "1/ 182"، جامع أحكام القرآن للقرطبي "1/ 246"، "9/ 307"، تفسير ابن حيان الأندلسي: البحر المحيط "1/ 174"، تفسير الطبرسي "1/ 40"، تفسير ابن مسعود "1/ 76"، تفسير الخازن "1/ 61"، تفسير البيضاوي "1/ 83".
3 النحل, الآية 91، الكشاف "1/ 41"، تفسير الطبري "3/ 319"، "1/ 182"، تفسير الطبرسي "2/ 379".
4 الأعراف, الآية 102.
5 التوبة, الآية 1، 4، 7, النحل، 91، تفسير الرازي "5/ 47"، شرح صحيح البخاري "11/ 203"، النهاية لابن الأثير "3/ 159"، تفسير الخازن "1/ 423".
7 الرعد، الآية 20.
8 الأنفال، الآية 72.
9 الرعد، الآية 25.(7/371)
وعهد1. والحلف الذي نتحدث عنه هو "ميثاق"؛ لأنه عهد يؤخذ بحلف مؤكد بيمين.
وتكون بين المتحالفين مواثيق على الوفاء بالالتزامات التي نص عليها، واتفق الطرفان المتعاقدان أو الأطراف المتعاقدة على الوفاء بها كاملة غير منقوصة.
ويكون الحلف بين الأفراد، كما يكون بين الجماعات والحكومات، فيتحالف الأفراد بعضهم مع بعض، ويعلن ذلك الحلف ليكون معلومًا بين الناس, وتتحالف القبائل بعضها مع بعض, ويعلن حلفها هذا ليكون معلومًا عند أفرادها وعند القبائل الأخرى، وتتحالف الحكومات: حكومات عربية مع حكومات عربية، أو حكومات عربية مع حكومات أعجمية. وفي المسند أمثلة عديدة على محالفات الحكومات العربية بعضها مع بعض، أو محالفتها لحكومة أجنبية مثل: الحبشة، كما في الكتابات الآشورية وفي مؤلفات اليونان واللاتين، وفي كتب أهل الأخبار أمثلة من محالفات العرب مع غيرهم، أو محالفاتهم بعضهم مع بعض.
والفكرة التي حملت العرب على عقد الأحلاف، هي نفس الفكرة التي تدفعهم اليوم على عقد الأحلاف بينهم أو مع غيرهم. وهي الضرورة والدفاع عن مصالح خاصة أو عامة، أي: نفس الفكرة التي تدفع الدول على التكتل والتحزب وعقد الأحلاف الدولية في هذا اليوم، أو في المستقبل. وهناك أحلاف عقدت لأغراض هجومية، وأحلاف عقدت لمصالح اقتصادية، مثل أكثر أحلاف قريش مع القبائل, وأحلاف لتثبيت نظم وإقرار قوانين وأخذ حقوق وردع ظالم وإنصاف مظلوم.
وقد تعقد الأحلاف لأغراض معينة، فتكون لها آجال محددة، كأن تسعى قبيلة لعقد حلف مع قبيلة أخرى لمساعدتها في صد غزو سيقع عليها, أو لمساعدتها في غزو قبيلة أخرى، أو الوقوف موقف حياد تجاه الغزو، أو مساعدة قبيلة قبيلة أخرى للأخذ بثأر من قبيلة لها ثأر معها. ومثل هذه الأحلاف لا تعمر طويلًا، إذ ينتهي أجلها بانتهاء الغاية التي من أجلها عقد الحلف.
__________
1 المفردات "522"، اللسان "12/ 154"، الصحاح "4/ 1564"، الكشاف "1/ 71", البيضاوي "7/ 161"، تفسير الطبري "3/ 329"، اللسان "10/ 370"، "بيروت", تفسير الطبرسي "6/ 157".(7/372)
والغالب أن الضعيف هو الذي يبحث عن حليف يحالفه؛ ليقوي بهذا التحالف نفسه، ويعز به مكانه. قال البكري: "فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة، وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضًا على البلاد والمعاش، واستضعاف القوي للضعيف -انضم الذليل منهم إلى العزيز, وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالِّهم، وانتشر كل قوم فيما يليهم"1.
لقد دفعت الضرورات قبائل جزيرة العرب إلى تكوين الأحلاف؛ للمحافظة على الأمن وللدفاع عن مصالحها المشتركة كما تفعل الدول. وإذا دام الحلف أمدًا, وبقيت هذه الرابطة التي جمعت شمل تلك القبائل متينة، فإن هذه الرابطة تنتهي إلى نسب يشعر معه أفراد الحلف أنهم من أسرة واحدة, تسلسلت من جد واحد. وقد يحدث ما يفسد هذه الرابطة، أو ما يدعو إلى انفصال بعض قبائل الحلف، فتنضم القبائل المنفصلة إلى أحلاف أخرى، وهكذا نجد في الجزيرة أحلافًا تتكون، وأحلافا قديمة تنحل أو تضعف2.
لم يكن في مقدور القبائل أو العشائر الصغيرة المحافظة على نفسها من غير حليف قوي يشد أزرها إذا هاجمتها قبيلة أخرى، أو أرادت الأخذ بالثأر منها. لقد كانت معظم القبائل داخلة في هذه الأحلاف، إلا عددًا قليلًا من القبائل القوية الكثيرة العدد، وكانت تتفاخر بنفسها؛ لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها، بل كانت تأخذ بثأرها وتنال حقها بالسيف. ويشترك المتحالفون في الغالب في المواطن، وقد تنزل القبائل على حلفائها، وتكون الهيمنة بالطبع في هذه للقبائل الكبيرة3.
وقد عرفت مثل هذه الأحلاف عند سائر الشعوب السامية كالعبرانيين مثلًا، وطالما انتهت تلك الأحلاف كما انتهت عند العرب إلى نسب، فيشعر المتحالفون أنهم من أسرة واحدة يجمع بينهم نسب واحد4. ويقال للحلف "تكلع"
__________
1 معجم ما استعجم "1/ 53".
2 Goldziher, Muh. Stud., I S., 64.
3 الأغاني "12/ 118، 123 وما بعدها".
4 Keunen, De Godsdienst Van Israel, I, p. 113, Noldeke, in ZDMG., XI, S., 15.(7/373)
عند اليمانيين1, "وبه سمي ذو الكلاع, وهو ملك حميري من ملوك اليمن من الأذواء، وسمي ذا الكلاع؛ لأنهم تكلعوا على يديه أي تجمعوا، وإذا اجتمعت القبائل وتناصرت فقد تكلعت"2.
ولما كانت المصالح الخاصة هي العامل المؤثر في تأليف الأحلاف، كان أمد الحلف يتوقف في الغالب على دوام تلك المصالح. وقد تعقد الأحلاف لتنفيذ شروط اتفق عليها، كأن تعقد لغزو قبيلة، أو للوقوف أمام غزو محتمل، أو لأجل معين. ومتى نفذت أو تلكأ أحد الطرفين في التنفيذ، انحل الحلف، وتعد هذه الناحية من النواحي الضعيفة في التأريخ العربي، فإن تفكير القبائل لم يكن يتجاوز عند عقدهم هذه الأحلاف مصالح العشائر أو القبائل الخاصة؛ لذلك نجدها تتألف للمسائل الداخلية التي تخص قبائل جزيرة العرب, ولم تكن موجهة للدفاع عن بلاد العرب ولمقاومة أعداء العرب. ولا يمكن أن نطلب من نظام يقوم على العصبية القبلية أن يفعل غير ذلك، فإن وطن القبيلة ضيق بضيق الأرض التي تنزل فيها, فإذا ارتحلت عنها، ونزلت بأرض جديدة، كانت الأرض الجديدة هي المواطن الجديد الذي تبالغ القبيلة في الدفاع عنه. ولما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادات القبائل، أصبحت حتى اليوم من أهم العوائق في تكوين الحكومات الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية للأعراب.
وخير مثال للقبائل التي اقتضت مصالحها التكتل والتحالف بينها، هو الحلف الذي قيل له "تنوخ". فقد اجتمع بالبحرين قبائل من العرب، وتحالفوا وتعاقدوا على التناصر والتساعد والتآزر فصاروا يدًا واحدة، وضمهم اسم "تنوخ"3, وحلف "فرسان" وهو حلف آخر قديم تكون من انضمام قبائل عديدة بعضها إلى بعض للتناصر والتآزر4. ولما لم يعرف أهل الأخبار واللغة شيئًا من تلك الأمور العادية، أوجدوا تلك القصص والأخبار والأنساب المدونة
__________
1 المخصص "3/ 109".
2 اللسان "8/ 313"، "كلع".
3 تاريخ ابن الأثير "1/ 135"، تأريخ الطبري "1/ 746" "طبعة ليدن"، الأغاني "11/ 155".
4 الاشتقاق "ص8", Muh. Stud., I, S. 66.(7/374)
عن تنوخ وأمثال تنوخ1.
ومن هذا القبيل، الحلف الذي قيل له: "البراجم", وهو من عمرو وظليم وقيس وكلفة وغالب. زعم أهل الأخبار أن "حارثة بن عمرو بن حنظلة"، قال لهم: أيتها القبائل التي قد ذهب عددها، تعالوا فلنجتمع ولنكن كبراجم يدي هذه, فقبلوا، فقيل لهم: البراجم, وهم يد مع عبد الله بن دارم. فنحن أمام حلف من أحياء قل عددها وذهب أمرها، وخافت على نفسها، فلم تجد أمامها من وسيلة للمحافظة على حياتها سوى التحالف، فكان من ذلك حلف البراجم2.
ونجد لفظة "الحليفان" للدلالة على تحالف قبيلتين، أو "الأحلاف" تعبيرًا عن حلف عُقد بين قبيلتين أو أكثر -تتردد في كتب أهل الأنساب والأخبار, وقد قصد بها أحلاف عديدة. فقد قيل لأسد وغطفان: "الحليفان"؛ لأنهما تحالفا وتعاقدا وعقدا حلفًا بينهما على التناصر والتآزر، كما قيل لهما "الأحلاف", والأحلاف أسد وغطفان3, وقيل لقوم من ثقيف: "الأحلاف". والظاهر أنهم كانوا في الأصل طوائف لم تتمكن من البقاء وحدها في وسط عالم لا يعيش فيه إلا القوي، فتحالفت للدفاع عن نفسها، ويقال لأسد وطيء: "الحليفان", ولفِزَارة وأسد: "حليفان"؛ لأن خزاعة لما أجلت بني أسد عن الحرم، خرجت فحالفت طيئًا، ثم حالفت بني فزارة4.
ولما تحالفت غطفان وبنو أسد وطيء، قيل لهم: الأحاليف؛ لعقدهم حلفًا على التناصر والتآزر5.
__________
1 Muh. Stud., I. S., 66.
2 خلق الإنسان "230 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 199", "البرجمة".
3 قال زهير:
فمن مبلغ الأحلاف عني رسالة
وذبيان: هل أقسمتم كل مقسم؟
وفي رواية: "ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة", اللسان "10/ 400"، ديوان زهير "ص18", اللسان "9/ 54"، شرح القصائد العشر للتبريزي "219", الصحاح "4/ 1346".
4 اللسان "10/ 401".
5 قال ربيعة بن مقروم:
إذا حل أحياء الأحاليف حوله ... بذي لجب هداته وصواهله
المفضليات "ص364"، تاج العروس "6/ 75"، شرح ديوان زهير "18".(7/375)
وقد ورد في معلقة "الحارث بن حلزة اليشكري" اسم "حلف ذي المجاز", الذي عُقد بين بكر وتغلب بوساطة "عمرو بن هند"، وقد أخذ فيه عمرو بن هند العهود والمواثيق والكفلاء من الطرفين حذر الجور والتعدي1.
وتكون الهيمنة في الأحلاف التي تعقد بين قبائل غير متكافئة للقبائل القوية، أي: للقبائل التي لجأت إليها القبائل الضعيفة لعقد حلف معها. فتكون الكلمة عندئذ لسادات القبائل البارزة في هذا الحلف, وعلى القبائل الضعيفة دفع شيء للقبائل القوية في مقابل حمايتها لها وبسط سلطانها عليها, ومنع ما قد يقع من اعتداء من قبائل أخرى عليها.
وقد كانت هذه الأحلاف تدوم ما دامت المصالح متشابهة، فإذا اختل التوازن بين المتحالفين، أو وجد أحد الطرفين أن مصالحه تقتضي الانضمام إلى حلف آخر, فسخ ذلك العقد وعقد حلفا آخر، وحالف قبائل أخرى قد تكون معادية لقبائل الحلف السابق، ويقال لفسخ الأحلاف: "الخلع"2.
وهكذا كانت الحياة السياسية في الجاهلية: أحلاف تتكون وأخرى قديمة تنحل, ولا سيما إذا كانت قد تكونت من قبائل لا رابطة دموية بينها ولا اشتراك في المواطن، وإنما كانت عوامل مؤقتة وأحوال طارئة اقتضت تكتلها, ثم اقتضت انحلالها لزوال تلك الأسباب.
وتعقد الأحلاف أحيانا بين عشائر وبطون قبيلة واحدة، تعقد على نمط الأحلاف التي تعقد بين القبائل. وقد يعقد الحلف بين عشائر وبطون قبيلة، وبين عشائر وبطون قبائل غريبة؛ وذلك بسبب حدوث مشاحنات ومنافسات بين عشائر وبطون القبيلة، فتتكتل العشائر والبطون وتتحزب وقد تتقاتل, وتضطر عندئذٍ إلى تأليف أحلاف بينها لتتغلب بها على العشائر والبطون المنافسة. ومثل هذه الأحلاف تضعف القبيلة وتؤدي إلى تصدعها ما لم يتدارك أمرها أصحاب الرأي والسداد فيتولوا
__________
1
واذكرو حلف ذي المجاز وما قد ... م فيه العهود والكفلاء
شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص166".
2 Muh. Stud., I, S, 68.(7/376)
إصلاح ما قد وقع بين رجال القبيلة من فساد, وتهدئة الحال حفظًا لمصلحة القبيلة. ونجد أمثلة من هذا القبيل عند أهل الأخبار.
ولم يكن من الواجب على كل أحياء قبيلة، الاشتراك في الأحلاف التي تعقدها غالبية أحياء تلك القبيلة، فقد اعتزلت "حنيفة" الحلف الذي عقدته قبائل "بكر" في الجاهلية؛ لأنها كانت من أهل المدر، وكان الحلف في أهل الوبر, فلما جاء الإسلام دخلت في "عجل"، وصارت لهزمة1.
وكان في العرف الجاهلي أن الأحياء التي تتحضر من قبيلة ما، لا تدخل في الأحلاف التي تعقدها الأحياء المتبدية؛ لاختلاف الحالة، لا سيما إذا كانت المواطن بعيدة. فالحضارة تبعد الأعراب عمن يتحضر منهم, إلا إذا وجدت مصالح خاصة، والمصالح أساس التعامل.
ونظرًا إلى ما للحلف من قدسية في النفوس، أصبح من المعتاد عقده في مراسيم مؤثرة ورد وصف بعضها في الأخبار، مثل حلف "المطيبين" الذي عقد في مكة بعد اختلاف بني عبد مناف وهاشم والمطلب ونوفل مع بني عبد الدار بن قصي، وإجماعهم على أخذ ما في أيدي بني عبد الدار مما كان قصي قد جعله فيهم من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، فعقد كل قوم على أمرهم حلفًا مؤكدًا, على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضًا "ما بَلَّ بحرٌ صوفةُ"، فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبًا, فيزعمون أن بعض نساء بني عبد مناف أخرجنها لهم، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسكوا الكعبة بأيديهم توكيدًا على أنفسهم، فسُموا المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفًا مؤكدًا على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضًا، فسُموا الأحلاف2.
__________
1 النقائض "728"، تاج العروس "9/ 69"، "لهزم".
2 ابن هشام "1/ 143 وما بعدها"، ابن الأثير، الكامل "1/ 183"، الطبري "1/ 1138"، "ليدن"، اللسان "10/ 400"، المعارف "204" "طبعة وستنفلد"، اليعقوبي "1/ 287" "هوتسما"، التنبيه "180", "طبعة الصاوي"، تاج العروس "6/ 75"، "حلف".(7/377)
"والأحلاف ست قبائل: عبد الدار، وجمح، ومخزوم، وبنو عدي, وكعب، وسهم"1.
ومن هذا القبيل حلف الفضول، إذ تداعت قبائل من قريش إلى حلف وتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها ومن غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عنه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول2, وهو من الأحلاف التي ظل الناس يحترمون أحكامها حتى الإسلام. وقد عقد على هذه الصورة: اجتمعت بنو هاشم وأسد وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم طعامًا كثيرًا, ثم "عمدوا إلى ماء من ماء زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا به إلى البيت فغسلت به أركانه، ثم أتوا به فشربوه"3.
وأضيف إلى هذه الأحلاف، حلف "الرباب". وهو حلف عقد بين المتحالفين بإدخال أيديهم في "رُبّ" وتحالفوا عليه، أو لأنهم جاءوا برب فأكلوا منه، وغمسوا أيديهم فيه، وتحالفوا عليه, فصاروا يدًا واحدة، وقيل: لأنهم اجتمعوا كاجتماع الربابة، وهم: تيم وعدي وعُكْل ومُزَينة وضَبَّة أو: ضبة, وثور، وعكل، وتيم، وعدي4.
ومن تلك الأحلاف، حلف لَعَقة الدم, وقد عقد على أثر تخاصم القبائل من
__________
1 اللسان "9/ 54"، ابن هشام، سيرة "1/ 84"، البداية والنهاية "2/ 209"، ابن الأثير، الكامل "1/ 267"، المسعودي، التنبيه "180"، المروج "2/ 59"، ابن خلدون "2/ 694"، المحبر "166"، تاج العروس "6/ 75"، القاموس "3/ 280"، النويري، نهاية الأرب "16/ 35"، المعارف "ص204" "طبعة هوتسما"، دائرة المعارف الإسلامية "8/ 49" "الترجمة العربية"، لسان العرب "9/ 54".
Caetani, Annali, Voi., I, Intro., 120, 2, I, Anno., 8, 20-21, Ency.; 2; p. 307.
2 ابن هشام "1/ 145"، الأغاني "16/ 64 وما بعدها", المعارف "204" "طبعة هوتسما", الاشتقاق "111" "طبعة وستنفلد"، العقد الفريد "2/ 41"، اللسان "10/ 399", السيرة الحلبية "1/ 146", تاريخ الخميس "1/ 261"، المحبر "167"، عيون الأثر "1/ 52".
3 الأغاني "16/ 64".
4 الاشتقاق "111"، الصحاح "1/ 131"، اللسان "1/ 388، 403"، تاج العروس "1/ 264"، الأغاني "9/ 14"، العقد "2/ 59".(7/378)
قريش في وضع الحجر الأسود في موضعه. فلما استعدت للقتال قربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا، ثم تعاقدوا هو وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا "لعقة الدم"1. ويظهر أن عقد الحلف بإدخال الأيدي في الدم من المراسيم المعروفة. وقد عرف قوم من بني عامر بن عبد مناة بن كنانة بلعقة الدم, وكانوا ذوي بأس شديد2, وجاء أن خَثْعَمًا إنما سموا خثعمًا؛ لأنهم غمسوا أيديهم في دم جَزُور3.
وتعقد الأحلاف على النار كذلك، وقد وصف "هيرودوتس" طريقة من طرق التحالف والمؤاخاة والمحافظة على العهود عند العرب، فذكر أن العرب يحافظون على العهود والمواثيق محافظة شديدة، لا يشاركهم في ذلك أحد من الأمم، ولها قداسة خاصة عندهم، حتى تكاد تكون من الأمور الدينية المقدسة. وإذا ما أراد أحدهم عقد حلف مع آخر، أوقفا شخصًا ثالثًا بينهما ليقوم بإجراء المراسيم المطلوبة في عقد الحلف؛ ليكتسب حكما شرعيًّا، فيأخذ ذلك الشخص حجرًا له حافة حادة كالسكين يخدش به راحتي الشخصين قرب الإصبع الوسطى، ثم يقطع قطعة من ملابسهما فيغمسهما في دمي الراحتين، ويلوث بهما سبعة أحجار. ويكون مكان هذا الشخص الذي يقوم بإجراء هذه الشعائر في الوسط، يتلو أدعية وصلاة للإلهين "باخوس" "Bachus" و"أورانيا" "Urania"، حتى إذا انتهو منها قاد الحلف حليفه إلى أهله وعشيرته لإخبارهم بذلك وللإعلان عنه، فيصبح الحليف أخًا له وحليفًا، أمرهما واحد بالوفاء4.
وما ذكره "هيرودوتس" عن عقد العرب أحلافهم على النار، هو صحيح على وجه عام. يؤيده ما ذكره أهل الأخبار عن "نار التحالف", وقولهم: كان أهل الجاهلية إذا أرادوا أن يعقدوا حلفًا، أوقدا نارًا وعقدوا حلفهم
__________
1 ابن هشام "1/ 213"، عيون الأثر، لابن سيد الناس "1/ 52"، أبو الفداء, المختصر في أخبار البشر "1/ 114"، تاج العروس "7/ 62"، القاموس "3/ 280", نسب قريش "283".
2 الأغاني "7/ 26".
3 المفضليات "ص705"، "واشتقاق خثعم فيما ذكر ابن الكلبي, أنهم نحروا جزورًا, فتخثعموا عليه بالدم، أي: تطلوا به", الاشتقاق "2/ 304".
4 Harodotus, Voi., I, p. 213. "Rawlinson".(7/379)
عندها، ودعوا بالحرمان والمنع من خيرها على من ينقض العهد ويحل العقد، وكانوا يطرحون فيها الملح والكبريت، فإذا استشاطت قالوا للحالف: هذه النار تهددتك، يخوفونه بها حتى يحافظ على العهد والوعد، ولا يحلف كذبًا ويضمر غير ما يظهر؛ ولذلك عرفت هذه النار بنار التحالف. وهي نار يقسم المتخاصمون عليها كذلك، فإن كان الحالف مبطلًا نكل، وإن بريئًا حلف ولهذا سموها أيضًا "نار المهوّل" و"الهولة"1, وذكر أنهم كانوا لا يعقدون حلفًا إلا عليها. وقد أشار إلى هذه النار "أوس بن حجر"، إذ قال:
إذا استقبلته الشمس، صد بوجهه ... كما صد عن نار المهوّل حالف
كما أشار إليها الكميت:
هُمُو خوَّفوني بالعمى هُوَّة الردى ... كما شب نار الحالفين المهوّل2
وقد ذكر أهل الأخبار حلفًا سموه: "حلف المحرقين"، وزعموا أن المتحالفين تحالفوا عند نار حتى أمحشوا أي: احترقوا, وأن يزيد بن أبي حارثة بن سنان, وهو أخو هرم بن سنان الذي مدحه زهير، يمحش المحاش، وهم بنو خصيلة بن مرة وبنو نشبة بن غيظ بن مرة على بني يربوع بن غيظ بن مرة رهط النابغة، فتحالفوا على بني يربوع على النار، فسموا المحاشّ بتحالفهم على النار3. وزعموا أن المحاش القوم يجتمعون من قبائل شتى، فيتحالفون عند النار4.
وذكر علماء اللغة أن "المحاشن": القوم يجتمعون من قبائل يحالفون غيرهم من الحلف عند النار, وكانوا يوقدون نارًا لدى الحلف ليكون أوكد. وقد أشير إلى ذلك في شعر للنابغة، إذ يقول:
جمع محاشك يا يزيد، فإنني ... أعددت يربوعًا لكم، وتميما
قيل: يعني صرمة وسهمًا ومالكًا, بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض وضبة بن سعد؛ لأنهم تحالفوا بالنار، فسموا المحاش5.
__________
1 صبح الأعشى "1/ 409"، اللسان "11/ 703"، سبائك الذهب، للسويدي "119"، بلوغ الأرب "1/ 162".
2 نهاية الأرب "1/ 111".
3 اللسان "14/ 238"، و"ورد غيط" و"غيظ".
4 تاج العروس "4/ 384".
5 اللسان "6/ 344 وما بعدها", "محش"، تاج العروس "4/ 348"، "محش".(7/380)
وقريب من هذا ما كانت تفعله قريش حين تعقد حلفًا، فيأخذ الحليف حليفه إلى الكعبة، ثم يطوفان بالأصنام لإشهادها على ذلك، ثم يعود الحليف بحليفه لإشهاد قريش ومن يكون في الكعبة آنئذ على صحة هذا الحلف، وقبوله محالفة الحليف، إذ أصبح وله ما له وعليه ما عليه، وعلى قومه حمايته حمايتهم له. وقد ذكرت كتب السيرة والأخبار والأدب طرفًا من أخبار المحالفات التي كانت تعقد بمكة وكيفيتها وبعض المراسيم التي تمت فيها.
ولا تعرف صيغة واحدة معينة للقسم الذي يقسم به المحالفون. فمنهم من أقسم بالأصنام التي يعبدونها ويقفون عندها حين يعقدون الحلف, ومنهم، وهم أغلب أهل مكة، من كانوا يحلفون عند الركن من الكعبة، فيضع المتحالفون أيديهم عليه، فيحلفون. وقد ذكر أن قَسَم قريش والأحابيش عند الركن يوم تحالفوا وتعاقدوا، حلفوا "بالله القاتل وحرمة البيت والمقام والركن والشهر الحرام على مصر, على الخلق جميعًا, حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقد والتساعد على من عاداهم من الناس ما بل بحر صوفة، وما قام حراء وثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة"1.
ومنهم من أقسم بالآباء والأجداد، لما لهم من مكانة ومقام في نفوسهم. ومنهم من حلف وعقد الحلف عند المشاهد العظيمة، أو في معابد الأصنام، أو عند قبور سادات القبائل المحترمين، فيحلفون بصاحب هذا القبر ويذكرون اسمه على التعاقد والتآزر أو على ما يتفق المتحالفون عليه، وعلى الوفاء بالعهد. وقد رُوي أن النبي أدرك "عمر" في ركب وهو يحلف بأبيه، فنادى رسول الله: "أما أن الله -عز وجل- ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. من كان حالفًا، فليحلف بالله أو يصمت"2.
وفي كتب أهل الأخبار والأدب أسماء قبائل يظهر أنها كانت أسماء أحلاف, عقدت في مراسيم خاصة، يمكن الوقوف عليها وتعيينها من دراستها والوقوف على معانيها، مثل الرباب والمحاش وما شاكل ذلك من أسماء.
ومن عاداتهم في عقد الأحلاف ما ذكرته من التحالف على الطيب أو النار أو
__________
1 اليعقوبي "1/ 212".
2 التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، للشيخ منصور علي ناصف "3/ 74".(7/381)
القسم عند صنم. "وفي حديث الهجرة: وقد غمس حلفًا في آل العاص، أي: أخذ نصيبًا من عقدهم وحلفهم يأمن به. وكان عادتهم أن يحضروا في جفنة طيبًا أو دمًا أو رمادًا، فيدخلون فيه أيديهم عند التحالف ليتم عقدهم عليه باشتراكهم في شيء واحد"1. وحلفوا بالملح وبالماء, "قال ابن الأعرابي": "والعرب تحلف بالملح والماء تعظيما لهما"2, ومن المجاز: "ملحه على ركبته"، بمعنى قليل الوفاء3, وحلفوا بالخبز والملح. وعلى من يأكل خبز وملح شخص الوفاء لذلك الشخص، ولا يجوز الاعتداء على من أكل خبز وملح قبيلة، وعليها الدفاع عنه وأخذ حقه ممن ظلمه من أهل تلك القبيلة.
وتدون الأحلاف أحيانا لتوكيدها وتثبيتها، وتحفظ عند المتعاقدين، وقد تودع في المعابد كالذي رُوي في خبر "صحيفة قريش" يوم تآمر المشركون وتحالفوا على مقاطعة "بني هاشم" في شِعْبهم، إذ كتبوا صحيفة بما اتفقوا عليه, ثم أودعوها -كما يقول أهل الأخبار- جوف الكعبة، وكالذي ورد من تحالف ذبيان وعبس وتدوينهم ما تحالفوا عليه في الكتاب، وتعاهدوا وأقسموا على اتباع ما كتب فيه، والعمل به. وإلى ذلك أشير في شعر قيس4.
ونجد في شعر "زهير":
ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة ... وذبيان: هل أقسمتم كل مقسم؟
إشارة إلى قسم أخذ من المتعاقدين ليلتزموا الوفاء بما تحالفوا عليه، وهم "الأحلاف". كما نجد في شعر الحارث بن حلزة اليشكري:
واذكروا حلف ذي المجاز وما قد ... م فيه العهود والكُفلاءُ
حذر الجور والتعدي، وهل ينـ ... ـقض ما في المهارق الأهواءُ
إشارة إلى العهود والرهائن التي أخذت من "بني تغلب" و"بني بكر" للوفاء بما توافقوا وتعاهدوا عليه ودونوه من شروط على "المهارق"،
__________
1 تاج العروس "4/ 203"، اللسان "6/ 157"، "غمس".
2 تاج العروس "2/ 230"، "ملح".
3 قال مسكين الدارمي:
لا تلمها, إنها من نسوة ... ملحها موضوعة فوق الركب
أي: هذه قليلة الوفاء، تاج العروس "2/ 230", "ملح".
4
لعمري لقد حالفت ذبيان كلها ... وعبسا على ما في الأديم الممدد
شعر قيس "21".(7/382)
أي: القراطيس، توكيدًا لما اتفقوا عليه مشافهة. وكان الملك "عمرو بن هند"، قد أصلح بين الطرفين بحلف، سمي حلف ذي المجاز، فأخذ عليهم المواثيق والرهائن1.
ويوثق ما اتفق عليه من عهود وأحلاف ومواثيق، رؤساء الأطراف المتعاقدة, بأن تدون أسماؤهم وتختم بخواتيمهم، لتكون شهادة بصحة ما اتفق عليه، كما يفعل المتعاهدون على صحة العقد، وعلى صحة الخواتيم، وبأن ما اتفق عليه كان بحضورهم، وبأنهم شهود على كل ذلك.
وفي أخبار أهل الأخبار شواهد تشهد بتدوين الجاهليين لعقود الأحلاف. ورد في شرح "التبريزي" على المعلقات قوله في معرض شرحه لمعلقة "الحارث بن حلزة اليشكري": إن كانت أهواؤكم زينت لكم الغدر والخيانة بعد ما تحالفنا وتعاقدنا، فكيف تصنعون بما هو في الصحف مكتوب عليكم من العهود والمواثيق والبينات فيما علينا وعليكم2؟. وورد أن أهل الجاهلية "كانوا يدعون في الجاهلية من يكتب لهم ذكر الحلف والهدنة تعظيمًا للأمر، وتبعيدًا من النسيان"3. وورد في شعر ينسب إلى "درهم بن زيد الأوسي"، ما يفيد وجود صحف مكتوبة بعهود عقدت بين الأوس والخزرج4, ووردت إشارة إلى "الصحف": صحف العهود والمواثيق في شعر للشاعر قيس بن الخطيم5.
وروي أنه قد كان عند "عمر بن إبراهيم" من ولد "أبرهة بن الصباح" الحبشي المعروف، كتاب دون "الدينوري" صورته، فيه حلف اليمن وربيعة في حكم الملك "تبع بن ملكيكرب"، وقد دون بشهر رجب الأصم6. وهو كتاب يظهر أنه دون في الإسلام، وأن واضعه لم يكن له علم بأحوال اليمن في
__________
1 شرح القصائد العشر، للزوزني "345"، شرح القصائد السبع "201", الحيوان للجاحظ "1/ 69 وما بعدها"، المعروف للجواليقي "303".
2 شرح المعلقات "268 وما بعدها".
3 الحيوان، للجاحظ "1/ 69 وما بعدها".
4 وإن ما بيننا وبينكم
حين يقال: الأرحام والصحف
ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي "ص66".
5 ديوان قيس بن الخطيم "19".
6 الأخبار الطوال "354".(7/383)
ذلك العهد. على كل، فإنه يشير إلى وجود تدوين العهود عند الجاهليين. ولما تحالفت قريش على مقاطعة "بني هاشم" و"بني المطلب" كتبت كتابًا بما اتفقت عليه، كتبه "منصور بن عكرمة العبدري"، وذكر أنه حفظ عند "أم الجُلَّاس بنت مُخربة الحنظلية" خالة أبي جهل، وذكر أنه عُلِّق في جوف الكعبة1.
وشهادات الشهود على صحة العقود أو الأوامر معروفة عند أهل اليمن، إذ وردت في الأوامر الملكية التي أصدرها ملوك اليمن وفي قوانينهم التي كانوا يصدرونها لأتباعهم. وقد عرفت عند أهل مكة، وهم قوم تجار وأصحاب مصالح، ولهم عقود ومواثيق ومعاهدات مع غيرهم من أهل القرى وسادات القبائل. وفي القرآن الكريم ألفاظ لها صلة بالشهادة والشهود, منها: "شهدتم" و"شهدوا"، و"أشهد"، و"تشهد", و"تشهدون"، و"شاهد", و"الشهادة", وقد أمر بوجوب المحافظة على الشهادة وعدم كتمانها: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} 2.
ولما كانت مراسيم الأحلاف من المراسيم المهمة ومن الأحداث الخطيرة، اقترنت من أجل ذلك بتقديم الطعام للمتحالفين. فيجلس المتحالفون من جميع الفرقاء على مائدة واحدة كالذي ذكرته من تقديم عبد الله بن جدعان الطعام للمتحالفين يوم عقدوا "حلف الفضول". وقد تكون الوليمة نفسها مظهرًا من مظاهر مراسيم عقد الأحلاف؛ لما للخبز والملح من أثر عند العرب، فعلى من يأكل خبز رجل وملحه أن يمر به ويوفي له؛ ولهذا يعنف الإنسان الإنسان الغادر ويوبخه، لأنه لم يراعِ حرمة الخبز والملح، وهي حرمة تكاد تصل إلى حرمة الدم والرحم.
يتبين مما تقدم أن العرب كانت ترى توكيد الأحلاف بكسوتها بقدسية خاصة، وذلك بعقدها مراسيم ذات صبغة دينية. وقد راعت في تلك المراسيم جهد إمكانها إيلاج ما يوضع في تلك المراسيم إلى أجسام المتحالفين، وكأنهم أرادوا بذلك إدخال القسم وما حلف عليه في جسم المتحالفين؛ ولهذا كان الذين يغمسون إصبعهم في جفنة الدم أو في دم الجزور, يلطعون إصبعهم، وكان الذين يغمسون
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 208 وما بعدها".
2 البقرة, الآية 283.(7/384)
أصابعهم في الطيب يلطعون أصابعهم أيضًا، وكان الذين يقسمون على الماء المقدس يشربون من ذلك الماء، وكان الذين يجرحون أيديهم ويعقدون الحلف يضعون راحتي المتحالفين اليمنيين إحداهما فوق الأخرى، إلى آخر ذلك من مظاهر توحي أن المتحالفين لم يكونوا قد فعلوا ذلك عبثًا ومن غير هدف ولا قصد، بل أرادوا من كل ذلك التأثير في المتحالفين, وجعلهم يشعرون بأن حلفهم هذا -أي قسمهم- على التحالف لتنفيذ ما اتفق عليه, قد صار جزءًا من جسمهم، وقد حل في دمهم كما يحل الدم والخبز في دم الجسم.
وتعقد الأحلاف الخطيرة المهمة أمام الأصنام وفي المعابد في الغالب؛ وذلك كي تكتسب قدسية خاصة. ويشرف على عقدها سادن الصنم، وقد يساعده مساعدون؛ ليقوموا بمساعدته في إتمام المراسيم.
ويكون بين قبائل الحلف سلم وود؛ لذلك يستطيع أبناء القبائل المتحالفة المرور بمواطن هذه القبائل غير خائفين، وتمر قوافلهم بأمان لا يُتعرض لها، ولا تجبى إلا على وفق ما اتفق عليه وجرت عليه عادة المتحالفين. وعلى أبناء هذه القبائل حماية من يجتاز بأرضهم وتقديم المساعدات له وإضافته ودفع الأذى عنه، وإذا وقع عليه اعتداء من قبائل غريبة فعليه مساعدته والذب عنه واستصراخ قومه لنجدته؛ لأنهم من حلف واحد, وعلى الإنسان أن يتعصب للحلف تعصبه لقبيلته.
ويلاحظ أن الأحلاف إذا طالت وتماسكت، أحدثت اندماجًا بين قبائل الحلف قد يتحول إلى النسب، بأن تربط القبائل والعشائر الضعيفة نسبها بنسب القبيلة البارزة المهيمنة على الحلف, وينتمي الأفراد إلى سيد تلك القبيلة البارزة, فتدخل أنسابها في نسب الأكبر. وفي كتب الأنساب والأدب أمثلة عديدة على تداخل الأنساب، وانتفاء قبائل من أنسابها القديمة ودخولها في أنساب جديدة.
ويؤدي انحلال الحلف أو انحلال عقد عشائر القبيلة الذي هو في الواقع حلف سمي "قبيلة", إلى انحلال الأنساب وظهور أنساب جديدة، فإن القبائل المنحلة تنضم إلى حلف جديد، فيحدث ما ذكرته آنفًا من تولد أنساب جديدة، ومن تداخل قبائل في قبائل أخرى, وأخذها نسبها. ومن هنا قال "جولد زيهر": إنه لفهم الأنساب عند العرب، لا بد من معرفة الأحلاف والتحالف, فإنها تكوِّن القبائل؛ لأن أكثر أسماء أجداد القبائل هي أسماء أحلاف، ضمت عددًا(7/385)
من القبائل توحدت مصالحها, فاتفقت على عقد حلف فيما بينها على نحو ما مر1.
وفي كتب الأنساب والأدب أدلة عديدة معروفة على أسماء أحلاف, مشت بين الناس وفشت وشاعت حتى صارت كأنها نسب من الأنساب, ومن ذلك "الأحلاف" و"المطيبون". جاء "ابن صفوان" إلى "عبد الله بن عباس", فقال له: "نعم الإمارة إمارة الأحلاف، كانت لكم", فقال "ابن عباس": "الذي كان قبلها خير منا. كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المطيبين، وكان عمر من الأحلاف" يعني: "إمارة عمر"2, وقيل لعمر: أحلافي؛ لأنه عَدَوِي. والأحلاف صار اسمًا لهم كما صار الأنصار اسمًا للأوس والخزرج3.
وقد أشرت سابقًا إلى اسم "تنوخ". و"الأحابيش" حلف عُقد عند جبل حبش بأسفل مكة، فعرف المتحالفون به. وهم "بنو المصطلق، والحيا بن سعد بن عمرو، بنو الهون بن خزيمة"، وذلك على حد قول أكثر أهل الأخبار4.
و"الرباب" حلف أيضًا ضم خمس قبائل، هي: تيم، وعدي, وعكل، ومزينة, وضبة، ولكنه سار بين الناس ومشى وكأنه اسم جماعة ترجع إلى نسب واحد5. وأما "الأحلاف" الذين ورد اسمهم في شعر "زهير بن أبي سلمى"، فهم "أسد" و"غطفان"، ويقال لحلفهما المذكور أيضًا: "الحليفان"6. و"الأحلاف" كذلك: قوم من "ثقيف"7.
لقد تركت الأحلاف أثرًا مهمًّا في الحياة السياسية والاجتماعية عند العرب قبل
__________
1 Muh. Stud., I, S., 64.
2 اللسان "9/ 54" "بيروت"، "وفي حديث ابن عباس: وجدنا ولاية المطيبي خيرًا من ولاية الأحلافي"، يريد أبا بكر وعمر. يريد أن أبا بكر كان من المطيبين, وعمر من الأحلاف.
3 اللسان "9/ 54"، تاج العروس "6/ 75"، المعارف "616".
4 اليعقوبي "1/ 212"، البلدان "2/ 225".
5 الاشتقاق "ص111"، اللسان "1/ 403".
6 شرح القصائد العشر, للتبريزي "219"، شرح ديوان زهير، لثعلب "15", اللسان "9/ 54".
7 اللسان "9/ 55"، تاج العروس "6/ 75"، الصحاح "4/ 1346".(7/386)
الإسلام وعند العرب في الإسلام كذلك، على الرغم من الحديث المنسوب إلى الرسول الذي يناهض الحلف: "لا حلف في الإسلام"1. وقد أدرك الرسول, ولا شك، ضررها بالمجتمع العربي إذ كانت من أسباب التفريق، فحل الأحلاف وأحل الدولة مكانها، وحتم على القبائل إطاعة الرسول أو من يقوم مقامه من المسلمين.
وأما ما رواه "قيس بن عاصم" من أن الرسول قال: "لا حلف في الإسلام، ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية"، فالظاهر أنه قصد بذلك الجوار2. وقد أكد الإسلام احترام الجار، ووجوب الدفاع عنه، كما أيد الأحلاف الجاهلية التي تدعو إلى الخير ونصرة الحق. أما الممنوع، فما خالف حكم الإسلام، ودعا إلى الهلاك والضرر والفتن والقتال، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام3.
واستعمل الجاهليون لفظة "حبل"، و"حبال" للعهود والمواثيق؛ فـ"الحبل" هو العهد والذمة والأمان، وهو مثل الجوار. وكان من عادة العرب في الجاهلية أن يخيف بعضهم بعضًا، فكان الرجل إذا أراد سفرًا أخذ عهدًا من سيد كل قبيلة، فيأمن به ما دام في تلك القبيلة، حتى ينتهي إلى الأخرى، فيأخذ مثل ذلك أيضًا، يريد به الأمان. فهذا حبل الجوار، أي: ما دام مجاورًا أرضه. وفي هذا المعنى جاء قول الأعشى:
وإذا تجوَّزها حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى إليك حبالها
وجاء في الحديث: "بيننا وبين القوم حبال"، أي: عهود ومواثيق. وفي هذا المعنى، أي: العهد والذمة والأمان، جاء:
وما زلت معتصمًا بحبل منكُمُ ... من حَلّ ساحتكم بأسباب, نجا4
__________
1 تاج العروس "6/ 75"، النهاية في غريب الحديث "1/ 249"، اللسان "9/ 53"، الكامل، لابن الأثير "1/ 267".
2 الأغاني "12/ 151".
3 اللسان "1/ 54"، النهاية في غريب الحديث "3/ 143".
4 اللسان "11/ 134 وما بعدها"، تفسير الطبري "4/ 30"، روح المعاني للآلوسي "4/ 17"، تفسير الرازي "8/ 173"، جامع أحكام القرآن، للقرطبي "4/ 158".(7/387)
وقد استفادت قريش من "الحبال" التي عقدتها بينها وبين القبائل؛ إذ أمنت بذلك على تجارتها، وقد كانت واسعة تشمل كل جزيرة العرب، وتتصل بالعراق وببلاد الشام، فصارت قوافلها العامة والخاصة تمر بأمن وسلام من كل مكان, بفضل حنكة سادة مكة وذكائهم في تأليف قلوب سادات القبائل وربطهم بهم بعهود ومواثيق، جعلت التحرش بقوافلهم من الأمور الصعبة، وإذا طمع بها طامع أدبه سيد قبيلته الذي يخضع له.
ولقريش ولغيرها أحلاف مع أسر وأفراد. فقد كان لـ"بني دارم" من تميم حلف مع "بني عبد مناف" من قريش, وكان لـ"عكاشة بن محصن" حلف مع رجال من مكة. رُوي أن رسول الله قال: "منا خير فارس في العرب: عكاشة بن محصن", فقال ضرار بن الأزور الأسدي: ذاك رجل منا يا رسول الله, قال: "بل هو منا بالحلف", فجعل حليف القوم منهم كما جعل ابن أخت القوم منهم1. وكان للأخنس بن شريق، وهو رجل من ثقيف، وكذلك "يعلى بن منبه"، وهو رجل من "بلعدويَّة"، وكذلك "خالد بن عرفطة"، وهو رجل من عذرة -حلف مع قريش، فصاروا منها بالحلف؛ ذلك لأن "حليف القوم منهم، وحكمه حكمهم"2.
وقد يقع أسير في أسر آسر، فلا يتمكن من فداء نفسه، ثم يطلب من آسره أن يكون حليفًا له، فإذا قبل آسره منه ذلك، صار في حلفه وفي حلف قبيلته, أي: يكون ذلك الشخص حليفًا لقبيلة آسره، ويكون حكمه بالنسبة للإرث، أنه يرث من القبيلة كما يرث الصريح من أبنائها. أما إذا قتل، فديته نصف دية الصريح3. وكان "معيقيب بن أبي فاطمة" حليفًا لبني أسد, وكان يكتب مغانم الرسول4.
__________
1 مناقب الترك، من رسائل الجاحظ "1/ 13"، "تحقيق عبد السلام هارون".
2 مناقب الترك "1/ 12 وما بعدها".
3 تاريخ التمدن الإسلامي "4/ 23".
4 الجهشياري "12"، "القاهرة 1938".(7/388)
التخالع:
وإذا أراد المتحالفون إنهاء حلفهم وعهدهم الذي تعاهدوا عليه بينهم، أعلنوا(7/388)
عن ذلك، وكتبوا به كتابًا؛ ليكون مشعرًا بتخالعهم، وأنهم نقضوا الحلف الذي كان بينهم، فتسقط بذلك كل مسئولية تولدت عن الوفاء بذلك الحلف أو العهد، فلا يطالب طرف الطرف الثاني بالوفاء به. ورد في كتب اللغة: وتخالعوا: نقضوا الحلف والعهد بينهم وتناكثوا1.
ويكون التخالع باتفاق الطرفين عليه, وبرضائهما عنه. وأما إذا نكل طرف واحد بتنفيذ ما جاء في الحلف، أو أعلن عن انسحابه منه ساعة الحاجة إليه، كأن يتبرأ منه في وقت يكون فيه حليفه في شدة وضيق، عُدَّ ذلك غدرًا وخيانة؛ لتلكئه عن تنفيذ ما اتفق عليه, وليس الغدر من سجايا إنسان شريف.
وقد كان للحلف أثر مهم في تلاحم الأنساب وفي انفكاكها وتجزئها، وطالما نقرأ في الكتب عبارات تشير إلى تلاحم الأنساب وتداخلها بسبب العوامل المتقدمة, مثل: "ومنهم سليم بن عباد, كان حليفًا لأبي طالب, وولده اليوم يدعون في آل أبي طالب"2.
والأحلاف بنوعيها: أحلاف القبائل, وأحلاف الأفراد قد لا تدوم أمدًا طويلًا, ولا سيما أحلاف القبائل؛ فالقبائل في تنقل وحركة، ومصالحها وضرورات الحياة عندها متغيرة غير ثابتة، وهي قلقة غير مستقرة. وأحلاف تقوم على مثل هذه الأسس لا يمكن أن تدوم وتعمر, ولا سيما إذا ما تشتت شمل الحلف، وتنقلت قبائله، وتحولت إلى أماكن بعيدة؛ فتضعف الروابط والصلات التي تجمع بين شملها، ثم ترخى وتزول ولا يبقى من الحلف غير الاسم. تزول بغير تخالع ولا تقاتل أو تباغض، تزول لأن الظروف التي دعت إلى عقدها تكون قد زالت وتغيرت, ولأن التباعد قد برَّد من نار الحب التي كانت قد قاربت بين القلوب, فجعلها تنسى ذلك الحب، ولا تذكره إلا عندما تتذكره.
__________
1 اللسان "8/ 76"، "صادر"، "خلع"، تاج العروس "5/ 322"، "خلع".
2 الاشتقاق "189".(7/389)
إخاء القبائل:
وإخاء القبائل هو إخاء اصطناعي، وإن عده أهل الأنساب والأخبار إخاء(7/389)
حقيقيًّا من اقتران والد بأم. فنحن نعلم في هذا اليوم ومن قراءاتنا للكتابات الجاهلية، ومن نقدنا وغربلتنا لأخبار أهل الأخبار ولروايات أهل الأنساب، أن التآخي هو في الواقع جوار، ونزول قبيلة بجوار قبيلة أخرى، أو نتيجة حلف تآخت قبائله واتحدت، فعد تآخيًا بالمعنى المفهوم من الأخوة, أو حاصل تضخم قبيلة لم تعد أرضها يتسع صدرها لها، فاضطرت عشائرها وبطونها إلى التنقل والارتحال إلى مواطن جديدة، وعدت نفسها لذلك من نسل تلك القبيلة التي كانت تعيش معها، فعد ذلك أهل الأنساب نسبًا حقيقيًّا بالمعنى المفهوم من النسب عندنا.
وقد تضطر بعض القبائل إلى ترك مواطنها والارتحال عنها؛ بسبب غزو قبيلة أقوى منها لها، فتنزل بين قبيلة جديدة وتتحالف معها، أو تقهرها على النزول بأرضها. وفي كتب أهل الأنساب والأخبار أمثلة عديدة على ذلك, فتتداخل أنسابها، ويتولد من ذلك نسب جديد. من ذلك، ما يرويه أهل الأنساب عن "عك" وهو أخو "معد" على زعم أهل النسب، فلما حارب "بختنصر" "عدنان", والد "معد" و"عك"، هاجر أبناء "عك" نحو الجنوب فرارًا من "بختنصر" وأقاموا في اليمن، فدخل نسبهم في اليمن، وعدهم بعض أهل الأنساب من قحطان. ومن ذلك قضاعة وقبائل عديدة.(7/390)
الهجن:
وتزوج العرب من الإماء, وذلك أن من الإماء من كانت جميلة الصورة حلوة المنظر والكلام؛ ولهذا تزوج ساداتهن منهن، فوُلد لهم نسل، قيل للواحد منه: الهجين. والهجين: ولد العربي من غير العربية، وقيل له ذلك؛ لأن الغالب على ألوان العرب الأدمة1. ويقال للزواج الذي يقع بين عربي وأعجمية: "مهاجنة", وقد عابته العرب وعدت الهجين دون العربي الصريح، لوجود دم أعجمي فيه. والأعاجم هم، مهما كانوا عليه من منزلة، دون العرب في نظر العرب2.
ويظهر من تعريف علماء اللغة للفظة "الهجين"، أنها خصصت بمن يولد
__________
1 اللسان "أ/ د/ م"، "13/ 431".
2 اللسان "أ/ د/ م"، "13/ 431".(7/390)
من أم أعجمية بيضاء، كأن تكون الأم رومية أو فارسية. فقد ذكروا أن العرب أطلقت على أولادها من العجميات اللائي يغلب على ألوانهن البياض، الهجن والهجناء؛ لغلبة البياض على ألوانهم وإشباههم أمهاتهم، فيجب أن تكون الأمهات الأعجميات إذن من ذوات البشرة البيضاء؛ تمييزًا لهن عن ذوات البشرة السوداء من الرقيق المستورد من إفريقيا. ويذكر علماء اللغة أيضًا أن العرب قالت للعجم: "الحمراء" و"رقاب المزاود"؛ لغلبة البياض على ألوانهم، ويقولون لمن علا لونه البياض: أحمر1. وقد هجا "حسان بن ثابت" "سعد بن أبي سرح" بأن اتهمه بأنه عبد هجين، أحمر اللون فاقع، موتر علباء القفا، قَطَط، جعد2.
والهجنة من الكلام: ما يعيبك3. وقد جاء هذا المعنى من الفساد الذي قد يظهر في كلام الهجن؛ بسبب عجمة الأمهات وعدم إتقانهن العربية. ولما كان الخطأ في اللغة عيبًا، عدت الهجنة من الأمور المعيبة.
ويطلق العرب لفظة "رجل مولَّد" على الرجل إذا كان عربيا غير محض. و"المولدة": الجارية المولودة بين العرب, وقيل: تُولد بين العرب وتنشأ مع أولادهم ويغذونها غذاء الولد ويعلمونها من الأدب مثل ما يعلمون أولادهم. و"التليد" التي ولدت ببلاد العجم وحُملت فنشأت ببلاد العرب، وقيل: هي التي تولد في ملك قوم وعندهم أبوها4.
__________
1 اللسان "13/ 431"، الأغاني "16/ 73".
2
أعبد هجين أحمر اللون فاقع ... موتر علباء القفا قطط جعد
ديوان حسان "ص149", "البرقوقي".
3 اللسان "هـ/ ج/ ن", "13/ 431".
4 اللسان "ولد"، "3/ 467 وما بعدها".(7/391)
الجوار:
وللجوار حرمة كبيرة عند الجاهليين. فإذا استجار شخص بشخص آخر، وقبل ذلك الشخص أن يجعله جارًا ومستجيرًا به، وجبت عليه حمايته، وحق على المجار الدفاع عن مجيره، والذب عنه, وإلا عد ناقضًا للعهد، ناكثًا للوعد، مخالفًا(7/391)
لحق الجوار. وعلى القبائل استجارة من يستجير بها, والدفاع عنه دفاعها عن أبنائها. ويقال للذي يستجير بك: "جار"، والجار: الذي أجرته من أن يظلمه ظالم, وجارك المستجير بك, والمجير: هو الذي يمنعك ويجيرك, وأجاره: أنقذه من شيء يقع عليه1.
__________
1 اللسان "4/ 154 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 111 وما بعدها"، "جار".(7/392)
العصبية:
وأساس النظام القبلي هو العصبية، العصبية للأهل والعشيرة وسائر متفرعات الشعب أو الجذم أو القبيلة أو العشيرة. ومن شروطها أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين، وليس له أن يتساءل: أهو ظالم أم مظلوم؟ 1. وهي ضرورية للقبائل؛ لأنها لا تستطيع أن تدافع عن نفسها إلا إذا كانت ذات عصبية ونسب، وبذلك تشتد شوكتها، ويخشى جانبها، كما أنه لا يمكن وقوع العدوان على أحد مع وجود العصبية. وتقوم العصبية على النسب، وهي تختلف لذلك باختلاف درجات تقارب الأنساب؛ ولذلك نجد عصبيات مختلفة2. وتشمل العصبية الصرحاء والموالي والجيران.
وتشمل العصبية أهل المدر كذلك، فأهل المدر وإن تحضروا واستقروا وأقاموا في بيوت ثابتة، إلا أن نظامهم الاجتماعي والسياسي بني على العصبية أيضًا، فتألفت المدن والقرى من "شعاب", وتكونت الشعاب من جماعات بينها روابط دم ووشائج قرابة. والشِّعْب هو وحدة، وهو الذي يأخذ بحق المظلوم من الظالم، وبظلامة من تقع عليه ظلامة. وغالبًا ما تكون بين الشعاب المتجاورة قرابة وصلة رحم، وإذا حدث حادث لهذه الشعاب، هبت للنظر فيه واتخاذ ما ينبغي اتخاذه من موقف، ثم تكون عصبية الشعاب للمدينة أو للقرية, ثم إن سكان هذه المدن وإن تحضروا واستقروا كانوا يُرجعون أنفسهم كأهل الوبر إلى
__________
1 "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، الأمثال "22"، لسان العرب "1/ 606"، قاموس المحيط "2/ 1405"، "للبستاني".
2 راجع بحث العصبية في مقدمة ابن خلدون "ص108 فما بعدها"، الحيوان "1/ 166".(7/392)
قبائل وعشائر. فهم إذن أعراب من حيث التعصب والأخذ بالعصبية، واختلافهم عن الأعراب هو في استقرارهم وفي عيشهم في محيط ضيق محدود وفي خطط مثبتة مرسومة.
وفي المعنى المتقدم عن العصبية، ورد قول الشاعر:
إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم ... على القوم، لم أنصر أخي حين يُظلَم
فالعصبية: أن يدعو الرجل عصبته إلى نصرته, وهي: "النصرة على ذوي القربى وأهل الأرحام، أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة"1.
وفي هذا المعنى أيضًا ورد قول الشاعر، قريط بن أنيف، حيث يقول:
قوم إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زُرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا2
فهو يهبُّ إذا سمع نداء العصبية, حاملًا سيفه أو رمحه أو أي سلاح يملكه وبغير سلاح، لينصر أخاه، لا يسأله: لِمَ؟ فليس من العصبية والأخوة القبلية أن تسأل أخاك عما وقع له، بل عليك تلبية ندائه وتقديم العون له، معتديًا كان أو معتدًى عليه.
وللعصبية صلة كبيرة بالمسئولية وبالعقوبات, فعلى درجة العصبية تقع المسئولية. فأقرب الناس إلى الجاني، يكون أول من يتناوله الأخذ بالثأر، ثم الأبعد فالأبعد. ومن هنا كان الطالبون للثأر يبدءون بالجاني أولًا، فإن فاتهم أخذوا أقرب الناس رحمًا به, فإن فاتهم أخذوا الذي يليه أو من هو في درجته وهكذا.
وكلما بعدت العصبية عن دم الأبوين، خفت حدتها، وطبيعي ألا تكون العصبية إلى القبيلة مثل العصبية إلى الأهل في الشدة؛ ولهذا فإن العصبية ترتبط بدرجة الدم والتحام النسب ارتباطًا طرديًّا. وهذا شيء طبيعي، وهو حاصل هذه الحياة.
ولا تمنع العصبية بطون القبيلة من مخاصمة بعضها بعضًا ومن التقاتل فيما بينها؛ بسبب تغلب المصالح الشخصية على عاطفة "العصبية". ومتى اصطدمت المصالح
__________
1 اللسان "1/ 606"، "عصب"، ابن خلدون، مقدمة "138".
2 المرزوقي، شرح الحماسة "1/ 27 وما بعدها".(7/393)
بالعواطف، تغلبت المصلحة عليها. فالمصلحة حاجة وواقع عملي، والعصبية شعور, والحاجة أقوى منها؛ ولهذا نجد المصلحة تدفع بطون القبيلة المتخاصمة على الاستعانة ببطون غربية عنها، أو بقبائل بعيدة عنها في النسب لمقارعتها أخواتها وللتغلب عليها، مدفوعة إلى ذلك بدافع المصلحة وغريزة المحافظة على الحياة. فتقاتلت بطون من طيء وتحاربت فيما بينها، وتقاتلت قبائل بكر ووائل مع وجود النسب والدم، وتقاتل بنو جعفر والضباب1. تقاتلت لظهور مصالح تغلبت على العصبية وعلى الشعور بالأخوة. ومتى ظهرت المصالح المادية عجزت عاطفة النسب والعصبية عن التغلب عليها.
وجرثومة العصبية، العصبية للدم، وأقرب دم إلى إنسان هو دم أسرته، وعلى رأسها الأبوان والإخوة والأخوات ثم الأبعد فالأبعد, حتى تصل إلى العصبية للقبيلة. ولهذا تكون شدة العصبية وقوتها تابعة لدرجة قرب الدم والنسب وبعدهما, فإذا ما حل حادث بإنسان، فعلى أقرب الناس دمًا إليه أن يهب لإسعافه والأخذ بالثأر ممن ألحق الأذى بقريبه؛ ولهذا صارت درجات العصبية متفاوتة بحسب تفاوت الدم ومنازل النسب.
وآخر مرحلة من مراحل العصبية، العصبية للقبيلة، والعصبية للحلف، أو العصبية للنسب الأكبر، وذلك في حالة تكتل القبائل وتخاصمها كتلًا. وتكون العصبية للقبيلة أقوى من العصبية للحلف أو النسب الأكبر مثل معد أو نزار أو حمير أو ما شاكل ذلك؛ وذلك لشعور أبناء القبيلة بأن الرابطة التي تربطهم هي رابطة الدم، والدم أبرز وأظهر في القبيلة من رابطة الحلف أو رابطة النسب الأكبر, ولا سيما رابطة الحلف، فإنها رابطة مصلحة في الغالب لا رابطة دم، والشعور بروابط المصالح لا يكون مثل الشعور بروابط الدم.
وتدفع العصبية للحلف، قبائل الحلف على التناصر والتآزر والتكتل والوفاء بالعهد، وإلا لم تكن للمتحالفين فائدة ما من الحلف، وعلى أفراد الحلف أن ينصر بعضهم بعضًا، وعلى قبائل الحلف أن يتآزروا في دفع الديات أيضًا, وبالمطالبة بديات من يُقتل من قبائل الحلف، إذا عجز أهل القتيل أو قبيلة القاتل عن الأخذ بحقه.
__________
1 ابن الأثير "1/ 388"، البلدان "8/ 450"، العمدة "200 وما بعدها".(7/394)
وتشمل العصبية كل منتمٍ إلى القبيلة، تشمل أحرارها، أي: أبناءها الخلص الصرحاء، وتشمل الموالي أي: الرقيق وكل مملوك تابع لحر، كما تشمل أهل الولاء والجوار. فالعصبية لا تعرف تفريقًا في هذه الناحية، فعلى كل من ينتمي إلى قبيلة ويحمل اسمها أن يتعصب لقبيلته ويذود عنها، وإن كان عبدًا مملوكًا، ذلك قانون وأمر محتوم، لا جدال فيه ولا نقاش، من حيث وجود حقوق أو عدم وجودها، ومن حيث إن أصل هذا حر وأصل هذا عبد؛ لأن ما يصيب الحر يصيب المولى والجار، وما يصيب المولى والجار يؤثر على الحر؛ لأنه مسئول عن مولاه وعن جاره بحكم التملك والجوار، وعلى الرقيق والجار تبعة الدفاع عن الصريح وعن القبيلة التي ينتمي إليها الصريح.
وتلزم العصبية أبناء القبيلة بوجوب تحمل التبعة والقيام بواجبها وتلبية ندائها وإجابة الصارخ بالعصبية، ليس له أن يسأل عن السبب، ولا أن يعتذر عن تلبية النداء، وإنما عليه أن يعمل بقول الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا1
وإذا قتل قتيل لزم الأخذ بثأره، وإذا كان القتيل سيد قبيلة وجب على القبيلة الأخذ بثأر سيدها، وهيهات أن تسكت عن قتله، وعلى كل فرد من أفراد تلك القبيلة واجب الأخذ بثأره ممن قتله.
ويفرض قانون العصبية على القبيلة تحمل التبعة، إذ جعلها تبعة جماعية. فإذا جنى رجل جناية قتل، تكون قبيلته مسئولة عن جنايته، وعليها تقع تبعة قتل القاتل إذا تعذر الأخذ بالثأر منه أو تعذر تسليم القبيلة له, كما يقع على القبيلة دفع الدية إذا عجز القاتل أو آله عن دفعها، وذلك لتوزيعها على المتمكنين من أفرادها، أو بقيام ساداتها أو سيدها بدفعها كاملة أو بدفع ما تبقى منها.
ومن هنا خضعت فردية الأعرابي المتطرفة لقانون الجماعة، أي: لسلطان العصبية فصار واجبًا عليه أن يضع نفسه تحت إمرة القبيلة, وذلك بتلبية ندائها حين يبلغه ذلك النداء، وتقديم نفسه طائعًا مختارًا لإمرة القبيلة ليدافع عنها أو ليشترك معها في الغزو، ليس له أن يفر أو يعتزل أو يتلكأ، فهذا واجب مفروض عليه، إذا خالفه خالف جماعته وخسر حمايتها له، وصار مسبوبًا من الناس.
__________
1 حماسة أبي تمام "1/ 16".(7/395)
الحَمِيَّة:
ومن مظاهر العصبية: "الحميَّة", وهي الأنفة والغيرة والغضب، وذلك أن الشخص كان يأنف من عمل قبيح، وتأخذه حميته من أن يفعل شيئًا يعاب ويعار عليه1. وهو يغضب وتأخذه حميته من أن يترك سنة آبائه وأجداده, وقد نهى الإسلام عن الحمية, واعتبرها من أخلاق أهل الجاهلية والكفر. ونزل الوحي يندد بها {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} 2, وذلك حين جعل "سهيل بن عمرو" في قلبه الحمية فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين الرسول والمشركين: بسم الله الرحمن الرحيم، وأن يكتب فيه: محمد رسول الله, وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله مكة عامه ذلك3, فوضع الإسلام "السكينة" في موضع حمية الجاهلية.
و"النعرة"، وهي الصياح ومناداة القوم بشعارهم طلبًا للغوث والاستعانة، أو لإهاجتهم ولتجمعهم في الحرب. ومن هنا ورد في الحديث: "ما كانت فتنة إلا نعر فيها فلان", أي: نهض فيها. وفي حديث الحسن: كلما نعر بهم ناعر اتبعوه، أي: ناهض يدعوهم إلى الفتنة ويصيح بهم إليها4. ولما كان العرب أصحاب حس مرهف، وعاطفة ذات حساسية شديدة؛ لذلك لعبت النعرات فيهم دورًا خطيرًا في إثارة الفتن بينهم، وكانت سببًا لحدوث حوادث مؤسفة عند الحضر وعند الأعراب.
وإذا أصيب شخص بضيم، أو نزلت به إهانة أو نازلة، نادى قومه بشعائر العصبية، وعلى قومه تلبيته ونصرته. وقد ينادي الإنسان شخصًا طالبًا منه العون والنصرة، فتلزمه مساعدته كأن ينادي: "يا لَفلان"، وهو شعار يستعمل عند التحزب والتعصب، ينادي به بصوت عالٍ مسموع، عند بيت المنادى أو في موضع عام أو في مكان مرتفع؛ ليصل الصوت إلى أبعد مكان5.
__________
1 تاج العروس "10/ 99", "حمى", اللسان "18/ 216 وما بعدها".
2 سورة الفتح, رقم 48، الآية 26.
3 تفسير الطبري "26/ 65"، تفسير القرطبي "16/ 288 وما بعدها".
4 تاج العروس "3/ 577"، "نعر".
5 الروض الأنف "1/ 93 وما بعدها"، الأغاني "15/ 71", شرح ديوان الحماسة "1/ 168",
Muh. Stud., I, S., 61 Kinship. 44.(7/396)
وللقبائل شعار ينادون به عند العصبية، فإذا وقع على أحد من أهل يثرب اعتداء وأراد المؤازرة والنصرة، نادى: يا لَآل قَيْلة، وإذا كان من تميم نادى: يا لَتميم، وهكذا, فيهرع من يكون حاضرًا ساعة النداء لينصر صاحبه الذي هو من قومه، وليؤازره. وتعد التلبية من أهم مفاخر الرجال والقبائل وواجبًا من الواجبات1.
ويتداعى الناس إلى العصبية في القتال, وإذا أرادوا إهاجة قومهم نادوا بالعصبية. وقد وقع خلاف بين المهاجرين والأنصار في المدينة والرسول فيها, فقال قوم: يا للأنصار, وقال قوم: يا للمهاجرين. فسمع النبي تداعيهم وصراخهم، فقال لهم: "دعوها؛ فإنها منتة"، ودعاها بـ"دعوى الجاهلية"، وفي الحديث: "ما بال دعوى الجاهلية؟ " هو قولهم: يا لفلان, كانوا يدعون بعضهم بعضًا عند الأمر الشديد2.
__________
1 اللسان "6/ 81"، ابن هشام "4/ 28"، الأغاني "15/ 71"، "يا لَطيء"، شرح ديوان الحماسة "1/ 168".
2 اللسان "دعا"، "14/ 259".(7/397)
الإسلام والعصبية:
وقد تركت "العصبية" أثرا مهما في الحياة السياسية والاجتماعية عند العرب قبل الإسلام. وقد كانت إذ ذاك ضرورة من الضرورات اللازمة بالنسبة إلى الحياة في الجاهلية؛ لأنها الحائل الذي يحول بين الفرد وبين الاعتداء عليه، والرادع الذي يمنع الصعاليك والخلعاء والمستهترين بالسنن من التطاول على حقوق الناس، إذ لا حكومة قوية رادعة ولا هيئة حاكمة في استطاعتها الهيمنة على البوادي وعلى الأعراب المتنقلين. بل هنالك قبائل متناحرة وإمارات متنافرة، إذا ارتكب إنسان جريمة في أرضها، وفر إلى رض أخرى، نجا بنفسه وأمن على حياته هناك, ولكنه كان يخشى من شيء واحد، لم يكن لأحد فيه عليه سلطان، وهو "العصبية" وسنة "الأخذ بالثأر"، وهي العصبية في ثوبها العملي. كان يخشى من سلطان الأخذ بالثأر، حيث يتعقبه أهل الثأر، فلا يتركون الجاني يهنأ بالحياة ولو بعد مضي عشرات من السنين، حتى يُقتل أو يقتل أقرب الناس إليه. وبذلك صارت العصبية ضرورة من ضرورات الحياة، بالنسبة لسكان جزيرة العرب؛ لحمايتهم وصيانتهم من عبث العابثين.(7/397)
وقد أدرك الإسلام ما في العصبية من أخطار على المجتمع، ولما في الأخذ بالثأر من ضرر على الأمة، إذ يحول المجتمع إلى مجتمع ذئاب، يأخذ كل ذئب بحقه من غريمه، فنهى عنها، وحول العصبية الجاهلية إلى عصبية إسلامية، بأن يتعصب المسلم لأهل عصبيته، ولدينه، فيدافع عنه ويقاتل في سبيله وفي سبيل رفع الظلم عمن وقع عليه بمساعدة من بيدهم الأمور على إحقاق الحق وإظهار حق المظلوم لديهم, وحرم العصبية الجاهلية المعروفة، فورد في الحديث: "ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية"1, ومنع الأخذ بالثأر، إذ جعل حقه من حقوق أولي الأمر، ومن بيده سلطان المسلمين، ومن ينيبونه عنهم للقضاء بين الناس.
__________
1 اللسان "1/ 606"، "عصب".
وتوقد ناركم شررا يرفع ... لكم في كل مجمعة لواء
المفضليات "ص56"، تاج العروس "3/ 440"، بلوغ الأرب "2/ 162".(7/398)
من أعراف العرب:
وللأعراب بصورة خاصة أعراف أوجبت الطبيعة عليهم إطاعتها والعمل بها؛ لأن في تنفيذها مصلحة الجميع، وفي الخروج عليها ضررًا بالغًا. من ذلك وجوب الأخذ بالثأر، والبحث عن القاتل لقتله مهما طال من الزمن؛ لأن "الدم لا يغسل إلا بالدم". وقد أملت طبيعة المحيط الذي يعيش فيه العرب عليهم هذا العرف, فليس في البادية من يحول بين قتل الناس بعضهم بعضًا إلا الأخذ بالثأر، وقيام أهل القتيل والعصبية بالأخذ بدمه. ولولا الخوف من الأخذ بالثأر لَعَمَّ القتل الحياة, فالحياة في البوادي وفي أكثر أنحاء جزيرة العرب شدة ومحنة وفقر وقسوة, وليس في البادية أي خير كان مما يستمتع به أهل الحواضر، ولا سيما تلك التي امتازت بوفرة الماء فيها وبحسن جوها واعتداله. لذلك صارت حياة الأعراب ضنكًا في العيش وفقرًا مُرًّا، وصار كل شيء تقع عليه عين الأعرابي ذا قيمة وفائدة عنده مهما كان تافهًا، فيريد الاستيلاء عليه وسلبه من صاحبه؛ لأنه محتاج إليه وفقير، ويرى أن من حقه أن يستولي على كل ما يراه عند من هو أضعف منه، وإن أدى ذلك إلى إزهاق حياته. ولكن الطبيعة التي علمت(7/398)
الأعرابي هذا المنطق ودرَّسته هذا الدرس, درَّسته في الوقت نفسه أن الاستهتار بالسلب والنهب والقتل يؤذيه ويهلكه، وأنه لا بد له من الحد من غلوائه ومن اعتدائه على غيره, ووضعت له حدودا وقيودا من طبيعة هذه الحياة التي يحياها. منها عرف "العصبية"، والأخذ بالثأر, وغير ذلك من أعراف أملتها الطبيعة على سكان هذه البوادي، وصارت سننًا متبعة بعضها يتعلق بالأعراف التي تخص داخل القبيلة، وبعضها يتعلق بالأعراف التي تتعلق بالقبائل المتحالفة, ومنها ما يتعلق بالأعراف التي تكون بين القبائل المتعادية.
والقاعدة عند العرب: أن الدم -كما سبق أن قلت- لا يغسل إلا بالدم، وأن تعويض الدم بمال يرضى عنه "آل" القتيل، منقصة وذلة لا يقبل بها إلا ضعاف النفوس. أما أهل البيوت والحمولة، فلا يقبلون إلا بالقِصاص وبأخذ الثأر, وبقتل رجل كفء يكافئ المقتول في المنزلة والدرجة والمكانة، فإذا كان القتيل سيد قبيلة والقاتل من عامة الناس أو من عبيدهم، أبوا الاكتفاء بقتله به اقتصاصًا منه، إذ إنه دون القتيل في المنزلة والشرف والمكانة، بل لا بد عندهم من قتل سيد من سادات القبيلة التي يكون منها القاتل، على أن يكون مكافئًا للقتيل حتى يغسل الدم, وإن كان ذلك السيد بعيدًا عن القاتل ولا صلة له به, فالسيد سيد ولا يغسل دمه إلا بدم سيد مثله. ولعل الطبيعة وضعت لهم هذه السنة لتأديب سادات القبيلة, أو غيرهم ممن قد يحرضون العبيد أو غيرهم من السوقة على قتل خصومهم وأعدائهم, فإذا عرفوا أن أهل القتيل سينتقمون منهم بقتلهم، حاربوا سَفَكَة الدماء من أتباعهم ولاحقوهم, وبذلك ينظفون المجتمع منهم، ويخلصون الناس من سفاكي الدماء.
والأصل في القتل: القِصَاص وقتل القاتل بدل القتيل, فيطالب أهل المقتول بالقَوَد وهو قتل النفس بالنفس, وقد ورد ذكره في الحديث، إذ جاء: "من قتل عمدًا، فهو قود" 1. وإذا لم يتم القود، أو لم يحدث التراضي على الدية، أو إذا فر القاتل، فلا بد من الأخذ بالثأر, ولا يستقر لأهل القتيل قرار إلا بعد الأخذ بثأر القتيل. وقد يتركون الخمر والطيبات ولا يقربون النساء طيلة طلبهم للثأر. وقد يلبسون ألبسة الحزن ويجزُّون شعورهم، ولا يأكلون لحمًا،
__________
1 تاج العروس "2/ 478"، "قود".(7/399)
ولا يميلون إلى ضحك ولا سماع دعابة ولا إلى الاستراحة، حتى ينالوا منالهم من الأخذ بثأر القتيل, كالذي روي في قصة طلب امرئ القيس الكندي ثأر أبيه من بني أسد, وقد آلى على نفسه ألا يمس رأسه غسل ولا يشرب خمرًا حتى يثأر بأبيه. فلما ظفر ببني أسد قتلته وأدرك ثأره حل له ما حرم على نفسه1. وكالذي روي في قصة طلب قيس بن الخطيم ثأر أبيه2, أو عن "يوم الأقطانيين"، إذ أقسموا ألا يغسلوا أجسامهم حتى يأخذوا بثأرهم3.
وقد يستغرق طلب الأخذ بالثأر عشرات السنين، لا يكلّ خلال هذه المدة أصحاب القتيل عن إدراك الثأر. وينظر إلى الذين يتوانون عن إدراك الثأر نظرة ازدراء واحتقار، وقد يلحق بهم وبنسلهم العار من هذا الإهمال، وقد يلحق ذلك العشيرة أو القبيلة برمتها ويكون لها سُبَّة, إذا كان القتيل من أشرافها أو من سادتها. لهذا لا يتهاون أهل القتيل عن تتبع آثار القاتل أو أقربائه أو أفراد قبيلته التي ينتمي إليها لغسل هذا العار، فإن الدم لا يغسل إلا بالدم. ومتى أدرك أهل الثأر ثأرهم, ووجدوا المقتول كفؤًا لدم القتيل ورضوا عن ذلك، قالوا لهذا النوع من الثأر: "الثأر المنيم"4. وقد عرفه بعضهم: أنه الذي إذا أصابه الطالب رضي به فنام بعده, وقيل: هو الذي يكون كفؤًا لدم وليك. ويقال: أدرك فلان ثأرًا منيّمًا، إذا قتل نبيلًا فيه وفاءٌ لطلبته، وكذلك: أصاب الثأر المنيم. قال أبو جندب الهذلي:
دعوا مولى نفاثة ثم قالوا: ... لعلك لست بالثأر المنيم
أي: لست بالذي ينيم صاحبه، أي: إن قتلتك لم أنم حتى أقتل غيرك، أي: لست بالكفؤ فأنام بعد قتلك5.
ومتى أخذ بثأر القتيل بكته النساء؛ لأن من عادة نساء الجاهليين ألا يبكين المقتول
__________
1 حلت له من بعد تحريم لها
أو أن يمس الرأس منه غسولا
شرح ديوان امرئ القيس "ص156".
2 شعر قيس بن الخطيم "1، 15"، بلوغ الأرب "3/ 24".
3 الفاخر "252 وما بعدها"، نهاية الأرب "17/ 70".
4 اللسان "5/ 167"، المعاني الكبير "2/ 1018".
5 تاج العروس "3/ 72"، "ثأر".(7/400)
إلا أن يدرَك بثأره، وإذا أدرك بثأره بكينه1.
ويشبه الثأر أن يكون عقيدة من العقائد الدينية عند العرب؛ لما يكتنفه أحيانًا من "حلف" و"قسم" بوجوب الأخذ بالثأر, ولما تحوط به من شعائر يحافظ عليها من أخذ على نفسه القسم بوجوب الأخذ بالثأر. وهي من شعائر الدين عند الجاهليين، ولا يتركها حتى يبرَّ بقسمه2.
وإذا عجز الإنسان عن أخذ ثأره بنفسه, استغاث بغيره لينجده على ثأره. وعلى من قبل نداء الاستغاثة ووافق على النجدة، مساعدة المستغيث في الأخذ بالثأر, وعدم تركه حتى يأخذ بثأره من طلبته.
وقد لعب الأخذ بالثأر دورًا خطيرًا في الإسلام كذلك, ولا سيما في الأحداث السياسية. فلما قُتِلَ "عثمان" ارتفع نداء: يا لثارات عثمان. قال حسان:
لتسمعن وشيكًا في ديارهم ... الله أكبر, يا ثارات عثمانا
ومن ذلك قولهم: "يا لثارات الحسين"، و"يا لثارات زيد" إلى غير ذلك3. وهو لا يزال يلعب دورًا خطيرًا في الحياة العربية إلى اليوم.
وقد عيَّر أحد الشعراء "بني وهب"؛ لأنهم أخذوا دية قتيل فاشتروا بها نخلًا، فقال لهم:
ألا أبلغْ بني وهب رسولًا ... بأن التمرَ حلو في الشتاء
أي: اقعدوا وكلوا التمر, ولا تطلبوا بثأركم4.
وهناك رجال ضُرب بهم المثل في إدراكهم الثأر, ويقال للواحد من هؤلاء: البيهس5.
__________
1 نهاية الأرب "3/ 122".
2
حلفت فلم تأثم يميني لأثارن ... عديًّا ونعمان بن قيل وأيهما
تاج العروس "3/ 71"، "ثأر".
3 تاج العروس "3/ 71"، "ثأر".
4 المعاني الكبير "2/ 1019".
5 تاج العروس "4/ 113"، "البهس".(7/401)
الاستغاثة:
ومن مظاهر العصبية: الاستغاثة, وهي أن يصيح الإنسان: وا غوثاه؛ طلبًا للعون والنصرة1, وعلى من يسمع نداء الاستغاثة من أهل المستغيث أو من رجال قبيلته أو الحلف الذي تكون قبيلته, فيد مد يد العون له ونصرته، ويعاب من يسمع الاستغاثة فلا يعمل على مساعدة المستغيث. وقد يهجو المستغيث قومه إذا تباطئوا في إغاثة المستغيث أو لم يستجيبوا لندائه، وقد يتبرأ منهم ويتركهم ليلحق بقوم آخرين.
ومن أخلاق الجاهلية المناداة بالنصرة2, وقد ذكرت معناها في العصبية فهي أيضًا وجه من وجوهها. ذكر أن الرسول قال: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، وتفسيره: أن يمنعه من الظلم إن وجده ظالمًا، وإن كان مظلومًا أعانه على ظالمه, والتناصر: التعاون. وقد حول الإسلام نصرة الجاهلية إلى تناصر، أي: تعاون وتعاضد لأن المسلمين إخوة, ويكون بالانتصار من الظالم وبالانتصاف حتى يؤخذ بحق المظلوم من الظالم3.
__________
1 اللسان "2/ 174"، "غوث"، المعاني "2/ 1106".
2 العقد الفريد "1/ 58".
3 اللسان "5/ 210"، "نصرة".(7/402)
الوفاء:
وعلى الإنسان الوفاء لأهل عصبيته, ليس له مخالفتهم ولا معاكستهم مهما كانت درجه الخلاف بينه وبينهم؛ لأنه واحد وهم جماعة, إن أصابه ضيم فلا بد لجماعته من مواساته ومن الانتصار له مهما كانت أسباب الفرقة. وما يصيب جماعته سيصيبه، وما سيصيبه سيؤثر في جماعته حتمًا، فيجعلها إلى جانبه في الأخير.
وهل أنا إلا من غَزِيَّةَ إن غوت ... غَوَيْت وإن تَرْشُد غزيةُ أرشد1
وهي في الأخير كما يقول الشاعر "المتلمِّس" لشخص ظن أنه منتقل عنهم
__________
1 هذا البيت لدريد بن الصمة، حماسة أبي تمام "2/ 306"، شرح المرزوقي على الحماسة "2/ 815"، الأصمعيات "112".(7/402)
لحلاف وقع بينه وبينهم:
أمنتقلًا من نصر بهثة خِلتي ... ألا إنني منهم, وإن كنت أينما
ألا إنني منهم وعرضيَ عرضهم ... كذي الأنف يحمي أنفه أن يصلّما1
فإذا أعطى رجل رجلًا عهدًا، فلا يسعه أن يغدر به، ولا بد له من المحافظة على العهد وما برح العرب يحافظون على عهودهم حتى اليوم. وقد يضحي الإنسان بنفسه على أن يخدش سمعته فيوسم بالغدر, وكانوا في الجاهلية إذا غدر الرجل رفعوا له في سوق عكاظ لواء ليعرفوه الناس2. وقد ورد: "إن لكل غدرة لواء", ونصبُ اللواء في المواضع العامة وفي المواسم للإشارة إلى غدر شخص بشخص آخر, من أشهر الأشياء عند العرب3.
وإلى هذا اللواء أشار "الحادرة"، "قطبة بن أوس" إذ قال:
أسميَّ, ويحك هل سمعت بغدرةٍ ... رفع اللواء لنا بها في مجمع4
وإذا غدر الرجل بجاره، أوقدوا النار بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين، ثم صاحوا: "هذه غدرة فلان" ليحذره الناس5. وقد قيل لهذه النار: نار الغدر6.
وربما جعلوا للغادر تمثالًا من طين، ينصبونه ليراه الناس، وكانوا يقولون: ألا إن فلانًا قد غدر فالعنوه. جاء في الشعر:
فلنقتلن بخالد سَرَوَاتكم ... ولنجعلن لظالمٍ تمثالَا
فهذا التمثال هو تمثال الغدر والخيانة، نصب ليقف الناس على خبر غدر الشخص الذي نصب له7.
وقد عاب الناس الغادر وعيروا به, فإذا شتموا شخصًا قالوا: يا غُدَر! وقد جعلوا الذئب من الحيوانات الغادرة، فقالوا: الذئب غادر، أي: لا عهد له, كما قالوا: الذئب فاجر8.
__________
1 نوادر أبي زيد "160"، الأصمعيات "286".
2 "إن لكل غادر لواء"، المفضليات "ص56".
3 إرشاد الساري "9/ 106".
4 المفضليات "56"، البحتري، حماسة "216".
5
وتوقد ناركم شررا ويرفع ... لكم في كل مجمعة لواء
6 المفضليات "ص56"، تاج العروس "3/ 440"، بلوغ الأرب "2/ 162"، نهاية الأرب "1/ 111".
7 بلوغ الأرب "3/ 28".
8 اللسان "5/ 8"، "غدر".(7/403)
أهل الغدر:
وقد حفظ أهل الأخبار أسماء رجال عرفوا بالغدر. وقد قال بعضهم: أعرف الناس بالغدر "آل الأشعث بن قيس بن معد يكرب", وذكر أن الغدر إرث فيهم انتقل بهم إلى الإسلام1. وضربوا المثل بغدر الضيزن بأبيها صاحب الحصن2.
ومن الوفاء: الوفاء بالعهود والمواثيق, فلا يجوز لمن أعطى عهدًا وميثاقًا الغدر بهما والتنصل من الوفاء بهما. والوفاء من أنبل الخصال التي يتخلق بها إنسان, وهو من المثل العليا عند العرب ومن أخلاق "الإنسان الفاضل" عندهم. وقد أوفى "حنظلة الطائي" بعهده الذي أعطاه للملك "النعمان" يوم بؤسه بأن يعود إليه؛ ليرى الملك رأيه في قتله. فعاد وهو يعلم أن الملك سيقتله؛ لأنه أعطاه قولًا بالعودة، وجعل "شريكًا" نديم الملك ضامنًا له بالعودة. فلما عاد واستمع الملك إلى قصة وفائه, أبطل عادته في قتل أول من كان يظهر أمامه يوم بؤسه؛ إكرامًا لعمله3. ورأى "السموءل"، ابنه وهو في أيدي أحد ملوك الغساسنة أو ملوك كندة، وهو يناديه بوجوب دفع ما عنده من دروع وأسلحة مودعة عنده، من دروع وأسلحة "امرئ القيس", فقال له: "ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي, فاصنع ما شئت". فذبح ولده واحتسب السموءل ذبح ولده وصبر محافظة على وفائه، ولم يسلم الوديعة إلا إلى ورثة امرئ القيس4.
وقد دون أهل الأخبار أسماء أناس عرفوا بالوفاء, منهم "أوفى بن
__________
1 نهاية الأرب "3/ 365".
2 نهاية الأرب "3/ 366".
3 المستطرف في كل فن مستظرف "1/ 199 وما بعدها", "عبد الحميد أحمد الحنفي".
4 المحبر "348 وما بعدها".(7/404)
مطر المازني"، جاوره رجل ومعه امرأة له، فأعجبت قيسًا أخاه، فقتل زوجها غيلة، فبلغ ذلك "أوفى" فقتل قيسًا بجاره1, و"الحارث بن عباد"، وكان من وفائه أنه أسر يوم "قضة" "عدي بن ربيعة" أخا مهلهل وهو لا يعرفه, فقال له: دلني على عدي, فقال له عدي: إن دللتك عليه فأنا آمن؟ فأعطاه ذلك. فقال له: فأنا عدي, فخلى سبيله2.
ومن أوفياء العرب "عوف بن محلم الشيباني"، وهو من مشاهير سادات العرب. وكان من وفائه أن "مروان بن زنباع العبسي" كان قد وتر "عمرو بن هند" فجعل على نفسه ألا يؤمنه حتى يضع يده في يده. وإن "مروان" غزا "بكر بن وائل" فأسر، ولم يكن آسره منيعًا، فطلب من أم آسره أن توصله إلى "عوف بن محلم"، ولها منه مائة بعير، فحمل إلى "عوف"، ولاذ بقبته، وبلغ "عمرو بن هند" مكانه، فبعث يطلبه، فأبى عوف أن يسلمه إلأ أن يؤمنه. ثم أخذه عوف إلى "عمرو بن هند"، وجعل يده بين يد عمرو ويد مروان، وأصلح بينهما, فعفا "عمرو" عنه وآمن مروان. فقال عمرو: "لا حر بوادي عوف"، فذهبت مثلًا3.
وعد "مروان بن زنباع" من أوفياء العرب؛ لأنه وفى بعهده الذي أعطاه لأم آسره، وكان قد أعطاه عودًا التقطه من الأرض ليكون رمز وفائه، على أن توصله إلى "محلم". فلما أوصلته دفع إليها المائة بعير، كما تعهد لها بذلك4.
وضرب المثل بوفاء "عمير بن سلمى الحنفي"، وله قصة في الوفاء تشبه قصة "أوفى بن مطر المازني". وذكروا أن من وفائه أن رجلًا من "بني عامر بن كلاب" استجار بعمير وكانت معه امرأة جملية, فرآها "قرين بن سلمى الحنفي" أخو عمير، وصار يتحدث إليها حتى بلغ ذلك زوجها، فنهاها فخافته فانتهت. فلما رأى "قرين" ذلك وثب على زوجها فقتله, وعمير غائب, فأتى أخو المقتول قبر "سلمى" فعاذ به. فقدم "عمير بن سلمى"،
__________
1 المحبر "348".
2 المحبر "348".
3 المحبر "349 وما بعدها"، الاشتقاق "215"، الأمثال للميداني "2/ 531".
4 المحبر "351".(7/405)
فأخذ أخاه. وبلغ وجوه "بني حنيفة" الخبر، فأتوه فكلموه، فأبى إلا أن يقتله أو يعفو عنه جاره، وأبى أخو المقتول أخذ دية أخيه القتيل ولو ضُوعفت, فأخذ عندئذ "عمير" أخاه وقتله لغدره بجاره1.
ومن الأوفياء "أبو حنبل: جارية بن مر الطائي ثم الحنبلي". وكان من وفائه أن "امرأ القيس بن حجر الكندي" كان جارًا "لعامر بن جوين الطائي", فقبَّل "عامر" امرأة "امرئ القيس"، فأعلمته ذلك فارتحل إلى "جارية" ليستجير به. فلم يجده, ووجد ابنًا له أجاره، فلما جاء "جارية" ورأى كثرة أموال "امرئ القيس" طمع فيها، وعزم على الغدر بـ"امرئ القيس" ثم فكر في أمره ورأى أن الغدر عار، فعقد له جواره، ثم أخذه إلى "عامر بن جوين"، فقال لامرئ القيس: قبل امرأته كما قبل امرأتك, ففعل2.
ومنهم "المعلى الطائي"، أحد "بني تيم" من جديلة، وهم "مصابيح الظلام". وكان "المنذر" يطلب امرأ القيس، فلجأ إلى "المعلى" فأجاره، وبلغ المنذر مكان "امرئ القيس" فركب حتى أتى منزل المعلى، ولم يكن المعلى موجودًا، وأبى ابنه تسليم امرئ القيس إلى المنذر ومنعوه3.
ومن الأوفياء "عصيمة بن خالد بن سنان بن منقر"، وكان "النعمان" قد غضب على "بني عامر بن صعصعة"، فقتل منهم ناسًا وشردهم، فألجأهم "عصيمة" وأجارهم، فبعث إليه النعمان: "ابعث إليَّ بعبيدي" فأبى ونادى في قومه شعاره "كوثر"، وأقبل "النعمان" فأهوى "عصيمة" بالرمح إلى معرفة فرسه، ورجع الملك خائبًا. ثم كسا "عصيمة" "بني عامر" وبلغهم مأمنهم4.
وقد عد الوفاء محمدة وواجبًا، ولأجل توكيد الوفاء وترسيخه كانوا يضعون رهنًا، قد يكون ثمينًا مثل أبناء سادات القبائل، يقدمونهم رهينة لدى
__________
1 المحبر "ص352".
2 المحبر "352 وما بعدها".
3 المحبر "353 وما بعدها".
4 المحبر "354".(7/406)
الملوك ضمانًا لهم في مقابل وفائهم بما تعهدوا للملك, وبما عاهدوه عليه من شروط. وقد يكون شيئًا لا قيمة كبيرة له من الوجهة المادية، مثل رهن قوس أو سهم أو التقاط عود من الأرض وإيداعها رهنًا بالوفاء، كما مر معنا في قصة "مروان بن زنباع العبسي" مع "عوف بن محلم الشيباني"1، أو في مقابل إعطاء كلمة بالوفاء، كما في قصة "الحارث بن عباد"2، أو الوفاء بسبب استجارة إنسان بقبر، كما في قصة وفاء "عمير بن سلمى الحنفي"3.
__________
1 المحبر "349".
2 المحبر "348".
3 المحبر "351".(7/407)
العرض:
وعرض الرجل نفسه وبدنه، وقيل العرض: موضع المدح والذم من الإنسان, سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره. وقيل أيضًا: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب. وذكر أيضًا أن العرض: عرض الإنسان، ذم أو مدح1, ويحرص الجاهلي على ألا يمس بسوء، وإذا تحرش أحدهم به، أو شعر أن شخصًا أراد الانتقاص منه، ولو بتلميح أو بإشارة أو بغمز, ثار وهاج مدافعًا عن نفسه وعرضه؛ لأن عرض الإنسان أشرف شيء بالنسبة له في هذه الحياة.
ومن العرض صيانة أعراض الناس؛ لأن من ينتهك عرض غيره، ينتهك الناس عرضه ويعرض نفسه وماله وأهله للتهلكة. فقد لا يصبر شخص أهينت كرامته على هذه الإهانة فينتقم ممن تعرض به شر انتقام. إن لم يتمكن هو بنفسه، ساعده في أخذ حقه أهل عصبته ورجال قبيلته، حتى يثأر لنفسه ممن تعرض لعرضه بسوء.
ونجد في الشعر الجاهلي تبجحًا بالنفس وإشادة في الدفاع عن العرض وتهديدًا ووعيدًا لمن يحاول النيل منه بأي سوء. وهو كلام يحمل حساد المتبجح بنفسه على الرد عليه وعلى الطعن فيما قاله. وبذلك تتولد خصومة قد تطول وتكبر وتؤدي إلى سقوط قتلى كانوا في غنى عنها, لولا هذه الحمية الجاهلية القائمة على التفاخر والتباهي والزهو والحمق.
__________
1 اللسان "3/ 171"، "عرض".(7/407)
الحرية:
والعربي مجبول على الحرية، وهو لا يطيق الخضوع لأحد غير قبيلته, على ألا يؤثر ذلك في حريته الشخصية. وقد أعجب "هيرودوتس" وغيره من كتبة اليونان والرومان بحب العرب للحرية ولمقاومتهم للاسترقاق، فذكروا أنهم كانوا الشعب الوحيد من بين الشعوب الآسيوية الذي لم يخضع لحكم الفرس، فلم يتمكن ملوك الفرس من استعبادهم، وإنما اضطروا إلى معاملتهم معاملة أصدقاء حلفاء، فقاموا لهم بخدمات جليلة سهلت لهم فتح مصر، ولو كان العرب حربًا على الفرس لما تمكنوا قط من حملتهم على مصر.
والعربي من هذه الناحية شديد التعلق بالحرية، والأعرابي يشعر, وهو في الحضر بين سكان القرى أو المدن، أنه في سجن لا يطاق؛ لكثرة القيود التي تقتضيها عادات المتحضرين، ويسعى للعودة إلى وطنه حيث ينطلق حرًّا كما يشاء. والقبائل تشعر هذا الشعور نفسه، فهي تعيش متمتعة بأعظم قسط من الحرية، لا تضحي بها، إلا لمقتضيات المحافظة على الحياة, حيث ترتبط بواجبات التحالف مع القبائل الأخرى للدفاع عن النفس وضمان ضروريات الحياة.
ولما كان لكل شيء حد ونهاية، غدت هذه الحرية أنانية شديدة، وفردية مطلقة حالت دون تعاون الأفراد, ومنعت من مساعدة القبائل بعضها بعضًا مع وجود خطر أجنبي داهم، وحالت دون تكون المجتمعات الكبرى وهي الحكومات، واقتصرت التنظيمات السياسية على القبائل، وأصبحت العصبية للقبيلة تعني القومية. وزاد في حدة هذه الأنانية القبلية اعتقادهم بالرابطة الدموية التي تربط الأسر بالعشائر، والعشائر بالقبائل، وإرجاع ذلك إلى الأنساب فلا تتعصب القبائل إلا لتلك القبائل التي تعتقد أنها وإياها من شجرة واحدة وأصل واحد.
وإن الحياة الصحراوية التي طبعت أصحابها بطابع الإفراط في حب الحرية الفردية، قد أثرت كثيرًا في الحياة السياسية والتفكير السياسي في بلاد العرب، فاقتصرت(7/408)
الأفعال السياسية على أفعال القبيلة، وتراجع الفرد بل الأهل والعشيرة تجاه القبيلة، وأثرت في أِشكال الحكومات التي تكونت في الأماكن الخصبة وبين المتحضرين، فجعلت منها اتحادًا مع قبائل جمعت بينها مصالح متشابهة ومنافع مشتركة. فإذا ما شعرت بزوال مصلحتها أو أن من مصلحتها الانفصال عن هذا الاتحاد, فلا تتوانى عن تنفيذ رغباتها وتحقيقها بالقوة؛ ولهذا نجد القبائل تهيج وتثور على الحكومات التي تخضع لها، وتدين بالولاء لها؛ لأسباب تافهة منبعها ومبعثها هذه الأنانية الضيقة التي تدفع سادات القبائل إلى الانفصال والخروج من عبودية الخضوع لحاكم، عليهم تقديم واجب الإخلاص والطاعة له. حاكم يرون أنه لا يمتاز عنهم بشيء، بل يرى كل واحد منهم لأنانيته أنه أولى منه بالحكم وبتسلم القيادة، وأن من حقه الخروج عن طاعته إن وجد ظروفًا ملائمة متهيئة للانفصال عنه. فلما وجدت القبائل التي خضعت لحكم "ملوك كندة" ضعفًا في الأسرة الكندية الحاكمة، ثارت عليها وقتلت منهم من قتلت، وطردت من طردت، وكوَّن سادات القبائل إمارات عديدة حلت محل مملكة كندة. ولما كان سادات القبائل يجدون ضعفًا في العلاقات بين ملوك الحيرة والفرس، وبين ملوك الغساسنة والروم, كان يسارعون إلى الاتصال بالفرس وبالروم لتنصيبهم مكان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة، لا يرون في هذا العمل أي شين أو بأس.
ويصعب في الحقيقة التوفيق بين الفكرة القبلية الضيقة والفكرة القومية التي تسمو فوق القبائل، فالفكرة القبلية لا تعترف بوجود قومية غير قومية القبيلة، ولا ترى وجود وطن غير الوطن الذي تنزل فيه القبيلة. فإذا ارتحلت عنه وحلت في أرض أخرى, أصبحت هذه الأرض وطن القبيلة الجديد، الذي يجب أن يدافع عنه, وأما الأوطان الأخرى ومنها وطن القبيلة السابق، فليست بأوطانها. ومن هنا كان بون شاسع بين هذه الفكرة الوطنية الضيقة، وبين الفكرة القومية التي تدين بعقيدة الإيمان بالقوم, أي: الجنس الذي هو فوق القبائل والأمكنة، وبالوطن العام الذي يشمل كل الأرضين التي يستوطنها ذلك الجنس.
وقد جابهت الحكومات العربية في الجاهلية ثم في الإسلام متاعب كثيرة من الروح القبلية العنيفة، ومن الفردية المتطرفة. فكانت هذه من أهم عوامل هد المجتمعات السياسية الكبرى في بلاد العرب، وكانت من أعنف أعداء القومية العربية, لا في الجاهلية فحسب, بل في الجاهلية وفي الإسلام كذلك.(7/409)
وأهم ما يعوز العرب في الجاهلية الشعور بفكرة "الأمة"، التي تسمو فوق القوميات القبلية وفوق الإقليميات الضيقة التي هي أيضًا صفحة من صفحات الأنانية، والشعور بلزوم الحد من الفردية الجامحة التي لا تعترف بحريات الآخرين، وبضرورة إطاعة المجتمع في سبيل المصلحة العامة، وإخضاع إرادة الحاكمين لمصلحة حكم الجماعة، والحد من أنانيتهم المفرطة ومن البت في أمور الرعية، وكأن الرعية سواد من ماشية، عليها إطاعة سوط الحاكم وأوامره، دون أن يكون لها حق في إبداء الرأي. فإن غلطة الاستبداد بالرأي تؤدي إلى أسوأ العواقب، غير أن الحرية المفرطة أو الأنانية الشديدة بتعبير أصح، التي كادت تجعل المجتمع فوضى -ضبطتها من ناحية أخرى قوة كبحت جماحها، وحدت من حريتها، وأجبرتها على التقيد بقيود، وعدم التحرك إلا بحد وحدود. هي سنة وجوب إطاعة أوامر المجتمع، والاستجابة لنداء الجماعة, ولأحكام رؤساء الأحياء والبطون والأفخاذ، والصيحات التي تصرخها القبيلة أو فروعها لتنادي بنداء "العصبية", وإلا عد الخارج على نداء الجماعة والمخالف لقرار رؤساء الأسرة أو الحي أو القبيلة خارجًا على القانون وعلى العصبية, فاستحق بذلك واجب خلعه من عصبية القبيلة له, وطرده من قومه. وهو أشد عقاب يفرض على مخالف ما, عقاب الخلع.(7/410)
الخلع:
ويبقى الفرد متمتعًا بعطف قبيلته عليه وبحمايتها له, ما دام قائمًا بواجباته المترتبة عليه، شاعرًا بعظم التبعة. فإذا أجرم، أو عمل عملًا ينافي شرفه أو شرف قبيلته، واستمر في غيه لا يسمع نصائح أهله وعشيرته، كاسرًا أعراف آله وقبيلته -فقد عصبية أهله وقبيلته له، وهام على وجهه طريدًا يلتمس مجاورة رجل من عشيرة أو قبيلة أخرى قريبة من موطنه أو بعيدة عنه. وتكون هذه الفترة من حياة الإنسان شرَّ فترة في حياته، ولا يهدأ للطريد بال إلا إذا وجد له حليفًا أو جارًا يتعهد له بحمايته وببذل "العصبية" له وبالدفاع عنه.
ويقال للرجل الذي تغضب عليه قبيلته وتحرمه عطفها وعصبيتها له: "الخليع", ويقال ذلك لمن يخلعه أهله أيضًا. وقد يقال له: "الرجل اللعين"، و"اللعين", واللعين هو المطرود؛ ولذلك يقال له: "الطريد", إلى غيرها من مصطلحات.(7/410)
وربما خلعوا الرجل من القبيلة ولو كان من صميمها، ويسقط عن أهله وقبيلته كل واجب يترتب عليهم أو عليها إذا عمل عملًا يستوجب خلعه، كما تسقط عن القبائل التي قد تتعرض للخليع بشر كل تبعة تقع عليها من الاعتداء عليه، لخلع أهله أو قبيلته له، وتبرئهم أو تبرئها منه، فلا يطالبون بثأر.
ولا بد من إعلان خلع أهل "الخليع" أو خلع قبيلته له وتبرئها منه؛ ليكون ذلك معلومًا عند أفراد قبيلته أو القبائل الأخرى، فتسقط العصبية عندئذ عن "الخليع" عند إعلان قرار الخلع، وإلا بقيت في رقبة أولياء أمره وقبيلته، وذلك كأن يعلن الأب في المواضع العامة وفي المواسم أنه خلع ابنه، بأن يقول: ألا إني قد خلعت ابني هذا، فإن جَرَّ لم أضمن، وأن جُر عليه لم أطلب، أو يعلن قومه: إنما خلعنا فلانًا، فلا نأخذ أحدًا بجناية تجنى عليه، ولا نؤخذ بجناياته التي يجنيها.
وقد كان الحج من المواسم المناسبة لإعلان خلع الخلعاء، وكذلك كانت مواسم الأسواق كسوق عكاظ. فهي مواسم تجمُّع, ينادي فيها المنادي بخلع من يراد خلعه، وكان أهل مكة يكلفون مناديًا بالطواف بالأحياء، ينادي بأعلى صوته عن خلع الخليع. وقد يكتبون كتابًا يحفظونه عندهم أو يعلقونه في محل عام ليقف عليه الناس1.
وقد عاش الخلعاء عيشة صعبة، لا أحد يساعدهم أو يئويهم خشية أن ينزل بهم أذى، أو يترتب على قبول جوارهم تبعة تجاه من يقتص آثارهم طلبًا للثأر منهم؛ ولذلك تكتل الصعاليك أحيانًا وكونوا عصابات تغزو وتغير وتقطع الطريق. وكان الشاعر "عروة بن الورد" وهو منهم, يجمع حوله الصعاليك والفقراء في حظيرة ويغزو بهم ويرزقهم مما يغنمه؛ ولذلك سمي "عروة العصاليك"2. ذكر أنه كان إذا شكا إليه فتى من فتيان قومه الفقر, أعطاه فرسًا ورمحًا، وقال له: إن لم تستغنِ بهما, فلا أغناك الله3.
__________
1 الأغاني "8/ 52".
2 اللسان "10/ 456"، "صعلك".
3 الثعالبي، ثمار القلوب "103".(7/411)
والصعلوك: الفقير الذي لا مال له1. ومن الصعاليك "السليك بن سلكة" الشاعر العدَّاء, وهو من العدائين الذين ضرب بهم المثل في العدْو2. وكان "حاجز بن عوف بن الحارث"، وهو شاعر جاهلي مقل، أحد الصعاليك العدائين, كان يعدو على رجليه عدوًا يسبق به الخيل، وكان يغير على قبائل العرب3. وكان "قيس بن الحدادية" من الشعراء الصعاليك الفاتكين الشجعان, خلعته خزاعة بسوق عكاظ، وأشهدت على نفسها بخلعها إياه، فلا تحتمل جريرة له، ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه4.
ومن بقية الصعاليك "الشنفرى" و"تأبط شرًّا", غير أن أعرفهم وأشهرهم وحامل لواء الصعلكة فيهم، هو "عروة بن الورد" الذي نصب نفسه سيدًا على الصعاليك. فكان يجمعهم ويشركهم فيما يغنمه ويرزقهم من رزقه، ويبذل جهده لمواساتهم، فاجتمع حوله صعاليك "عبس"، وهو منهم واتخذ لهم حظائر آووا إليها؛ ولهذا نعت بـ"عروة الصعاليك". قال أهل الأخبار: إنما قيل له عروة الصعاليك مع أنه عروة بن الورد؛ لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة, فيرزقهم مما يغنمه5. فعروة لم يكن فقيرًا محتاجًا معدمًا، كما يفهم من لفظة "صعلوك", لقد كان في وسعه أن يجمع مالًا مما كان يغنمه من غاراته على العرب، فيكون حسن الحال غنيًّا, لكنه فضل الصعلكة على اكتناز المال، ورجَّح إشراك الفقراء فيما يغنمه على جمعه له واستئثاره له وحده؛ لأن له مروءة تأبى عليه أن ينام شبعان وجاره فقير جائع, فكان ينفق ما يغنمه على المحتاجين. فهو صاحب مذهب إنساني أحس بالألم، وأدرك ما أصابه يوم خلعه أهله من شدة وضنك، فأراد أن يخفف من آلام أمثاله ممن خلعهم مجتمعهم لعدم وقوفه على أسباب خروجهم عليه, فصار بذلك نصير الصعاليك. ولقد ذكره "عبد الملك بن مروان" فقال: "ما كنت أحب أن أحدًا ولدني من العرب إلا
__________
1 اللسان "10/ 455 وما بعدها"، "صعلك".
2 الأغاني "18/ 133".
3 الأغاني "12/ 47".
4 الأغاني "13/ 2".
5 تاج العروس "7/ 153"، "صعلك".(7/412)
عروة بن الورد"1. فعروة صعلوك فلسف الصعلكة بأن جعلها مثلًا من مُثُل الحياة, بينما كانت تعني فقرًا مدقعًا وجوعًا قتالًا وهيامًا على وجه الأرض للاستجداء.
وقد كون الصعاليك عصابات تنقلت من مكان إلى مكان, تسلب المارة وتغير على أحياء العرب؛ لترزق نفسها ومن يأوي إليها2, انضم إليها الصعاليك من مختلف القبائل. ولكن أكثر الصعاليك من الشبان الطائشين الخارجين على أعراف قومهم, ومن الذين لا يبالون ولا يخشون أحدًا، صاروا قوة خشي منها، وحسب لها حساب، خاصة وفيها شعراء فحول، يحسنون الهجاء ويتقنون فن ثلب الأعراض، وفيها مقاتلون شجعان لا يعبئون بالموت، يفتكون بمن يريدون الفتك به. وخافهم الناس وامتنعوا جهد إمكانهم من التحرش بهم ومعاداتهم، ومنهم من قبل جوار الصعاليك وردَّ عنهم وأحسن إليهم، فاستفاد منهم واستفادوا منه.
وقد كان العرب ينفون الخلعاء إلى أماكن معينة مثل "حَضَوْضى"، وهو جبل في الجزيرة العربية, كان الناس في الجاهلية ينفون إليه خلعاءها3. وقيل: جبل في البحر أو جزيرة فيه, كانت العرب تنفي إليه خلعاءها4.
__________
1 الأغاني "3/ 78"، ديوان عروة بن الورد "ص 138 وما بعدها"، العقد الفريد "1/ 191".
2 الأغاني "19/ 111".
3 البلدان "3/ 296".
4 تاج العروس "5/ 20"، "حَضَّ".(7/413)
فهرس: الجزء السابع
الفصل الثاني والأربعون
مكة المكرمة 5
الفصل الثالث والأربعون
يثرب والطائف 128
الفصل الرابع والأربعون
مجمل الحالة السياسية في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام 142
الفصل الخامس والأربعون
المجتمع العربي 271
الفهرست 415(7/414)
المجلد الثامن
الفصل السادس والأربعون: أنساب القبائل
...
الفَصْل السَّادِس والأربَعُون: أنساب القبائل
تحدثت في مواضع متعددة من هذا الكتاب عن تقسيم القبائل العربية المألوف عند الأخباريين. أما الحديث في هذا الفصل، فهو عن أثر القبائل العربية في الجاهلية المتصلة بالإسلام. وبعبارة أخرى القبائل العربية التي كانت في القرن السادس للميلاد. ويضيق بنا هذا الفصل لو أردنا الكلام على جميع القبائل وبطونها وأفخاذها وعمائرها، لذلك سأكتفي في هذا الفصل بذكر القبائل الكبرى وبالإشارة إلى بطونها إن كانت مهمة. وفي كتب الأخباريين والمؤلفات المدونة في الأنساب الكفاية لمن طلب المزيد.
والتصنيف المألوف للقبائل هو حاصل عرف جرى عليه النسَّابون، ولا نعرف تدوينًا لأهل الجاهلية للأنساب، إنما نعرف أن أول تدوين رسمي كان هو التدوين الذي تم في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث ظهرت الحاجة إلى التسجيل، فسجلت. ولم تصل ويا للأسف سجلات ذلك الديوان إلينا، ولم يصرح أحد من النسابين أنه أخذ مادة أنسابه من تلك السجلات. وإنما الذي بين أيدينا هو خلاصة وجهة نظر النسابين في أنساب القبائل، وعلى هذا التقسيم اعتمد المعنيّون بهذا الموضوع.
وإذا غضضنا الطرف عن التصنيف المتبع في حصر أنساب العرب كلها في أصلين أساسيين قحطان وعدنان، فإننا نرى القبائل كما يفهم من روايات الأخباريين كتلًا، ترجع كل كتلة منها نسبها إلى جدّ قديم تزعم أن قبائلها انحدرت من صلبه. وقد تحدثت مرارًا عن طبيعة هؤلاء الأجداد.(8/5)
ومن هذه الكتل التي كانت عند ظهور الإسلام، كتلة حمير، وكتلة كهلان، وكتلة قضاعة، وكتلة مضر، وكتلة ربيعة. وكل كتلة مجموعة قبائل كبيرة، ترجع في عصبيتها إلى تلك الكتلة.
أما حمير، فقد تحدثت عنها سابقًا، وأشرت إلى ورود اسمها لدى بعض الكتبة الكلاسيكيين مثل "سترابون" والمؤرخ "بلينيوس" وذلك في أثناء كلامه على حملة "أوليوس غالوس" حيث عدها من أشهر القبائل العربية التي كانت في اليمن إذْ ذاك1، كما أشرت إلى ورود اسمها في نصوص المسند التي يعود تأريخها إلى ما بعد الميلاد2، وهو اسم أرض معينة واسم شعب. أما الذي نفهمه من الأخباريين، فهو أن حمير اسم واسع يشمل قبائل قحطان عند ظهور الإسلام3. وقد يكون مرد ذلك إلى ظهور هذه القبيلة في هذا الزمن وبروزها في هذا العهد في اليمن، فانتمى إليها كثير من القبائل على العادة الجارية في الانتماء إلى المشاهير.
ويرجع النسابون نسب حمير إلى حمير بن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب، ويقولون إن اسمه "العرنج"4 "العرنجج"5، وهو في نظرهم والد جملة
__________
1 PLINY, VI, 161.
2 تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 137".
3 Rubin, Ancient West Arabian, P. 42.
4 منتخبات "ص28، 70"، المبرد، نسب عدنان وقحطان "ص18"، "العرفج" شرح قصيدة ابن عبدون "ص84".
5 "والعرنجج، اسم حمير بن سبأ. قاله السهيلي في الروض وابن هشام وابن إسحاق في سيرتهما"، تاج العروس "2/ 73"، لسان العرب "3/ 147". "وحمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، أبو قبيلة. وذكر ابن الكلبي أنه كان يلبس حللا حمرا. وليس ذلك بقوي. قال الجوهري: ومنهم كانت الملوك في الدهر الأول. واسم حمير العرنجج. قال الهمداني: حمير في قحطان ثلاثة: الأكبر والأصغر والأدنى، فالأدنى: حمير بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة. وهو حمير الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب بن سهل بن زيد بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حذار بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو حمير الأكبر بن سبأ الأكبر بن يشجب". تاج العروس "3/ 158". "وزرعة هو الأصغر"، الاشتقاق "ص311، حاشية".(8/6)
أولاد، جعلهم بعضهم تسعة، هم: الهميسع، ومالك، وزيد، وعريب، ووائل و "مشروح" مسروح1، ومعد يكرب، وأوس، ومرة2. وجعلهم بعض آخر أقل من ذلك، أو أكثر عددًا3
وهم أنفسهم أجداد قبائل حمير. ومن نسل هؤلاء: بنو مرة، وهم في حضرموت، والأملوك، وبنو خيران، وذو رعين، وبنو هوزن، والأوزاع4، وبنو شعبان5، وبنو عبد شمس، وبنو شرعب، وزيد الجمهور. وبنو الصوّار، وأكثر قبائل حمير منهم. وقد كان الملك فيهم وبقي إلى مبعث الرسول. ومنهم الحارث الرائش الذي غزا -على زعم الأخباريين- الأعاجم والروم، وعرف ب "ملك الأملاك"، وحملت إليه الهدايا من أرض الصين وبلاد الترك والهند، وملك الأرض بأسرها، وأدت إليه جميع الناس الخراج6. وقد جعلوا مدة حكمه خمسًا وعشرين ومئة سنة، وهي مدة لا أدري كيف اكتفى بها أصحاب الأخبار الذين اعتادوا منح العمر الطويل لملوك هم أقل شأنًا ودرجة بكثير من هذا الملك المظفر السعيد.
ويظهر لنا من تدقيق منازل القبائل والبطون المنسوبة إلى حمير، أنها كانت في العربية الجنوبية، وأنها بقيت في مواضعها على الغالب في الإسلام. بينما نجد قبائل "كهلان" وبطونها، وهي فرع سبأ الثاني وقد سكنت في مواضع بعيدة عن اليمن. وهي قبائل ضخمة. أضخم من قبائل حمير. ثم إنها كانت تتكلم بلهجة قريبة من لهجة القرآن الكريم في الإسلام. أما بطون حمير، فقد كانت تتكلم بلغة ركيكة رديئة غير فصيحة بعيدة عن العربية على حدّ تعبير الأخباريين، ويظهر أن هذا التباين كان عاملًا مهما في تميز حمير عن غيرها وفي حشر البطون في جذم حمير. فمن حافظ على لهجته القديمة، وبقي يستعملها، عُدّ في هذا
__________
1 "مسروح" ابن حزم: جمهرة "ص406" "تحقيق ليفي بروفنسال".
2 ابن خلدون "2/ 242 وما بعدها" "والهميسع أحد قبيلي حمير، وهما الهميسع ومالك بن حمير الأكبر". منتخبات "ص110".
3 سبائك الذهب. "ص18".
4 ابن حزم "ص406 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 242 وما بعدها".
5 خلاصة الكلام "ص52"، منتخبات "ص56". سبائك الذهب، "ص18".
6 طرفة الإصحاح في معرفة الأنساب "ص43 وما بعدها".(8/7)
الجذم. ولم يحافظ على هذه اللهجات إلا الذين بقوا في أماكنهم وفي مواضعهم، ولم يختلطوا بالقبائل الأخرى التي تأثرت لهجتها بلهجة القرآن الكريم.
وحمير عند الأخباريين أبو الملوك التبابعة والأذواء والأقيال، وهو شقيق كهلان أبي الملوك من الأزد من بني جفنة ومن لخم1. ويلاحظ أنهم قد حصروا حكم اليمن والقبائل القحطانية المقيمة بها في حمير، على حين جعلوا الملك على عرب الشأم وعرب العراق ويثرب في أيدي المنتسبين إلى كهلان، أي أنهم خصوا الحكم في خارج اليمن بأيدي إخوة حمير، فوزعوا الملك في اليمن وفي خارجها بين الأخوين. وحمير في عرفهم هو الابن الأكبر لسبأ، فلعلَّ هذا الكبر هو الذي شفع له أن يكون الوارث لليمن، والحاكم على قبائل قحطان وعدنان فيها. وأخذ مكانة الأب بعد موته والجلوس على عرشه، ميزة لا ينالها إلا الابن البكر، وقد ملك حمير بعد أبيه على حدّ قولهم أكثر من مئة عام2.
ويذكر قوم من الأخباريين أن حكم حمير كان للملوك منها، ثم للأقيال. والقيل هو الذي يخلف الملك في مجلسه، فيجلس في مكانه، ويحكم فلا يرد حكمه. ومن هؤلاء الأقيال على زعمهم المثامنة، "وهم ثمانية رجال كانوا من حمير، وكانوا ملوكًا على قومهم، وهم من تحت أيدي ملوك حمير، وأولادهم قبائل من حمير، ويسمون المثامنة. وكان من شأنهم لا يتملك ملك من حمير إلا بإرادتهم، وإن اجتمعوا على عزله عزلوه. وهم: يزن، وسحر، وثعلبان الأكبر، ومرة ذو عثكلان. هؤلاء من أولاد سبأ الأصغر. ومقار بن مالك من أولاد حمير الأصغر، وعلقمة ذو جدن، وذو صرواح"3.
__________
1 طرفة الأصحاب "ص43".
2 المصدر نفسه.
3 طرفة الأصحاب "ص48 ما بعدها"، "ثمانية أملاك من ولد حمير الأصغر بن سبأ الأصغر يسمون المثامنة، جعلوا ذلك اسما علما لهم للفرق بينه وبين ثمانية العدد النكرة. قال رجل من العتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، لرجل من بني يربوع:
تطول علي بالأنساب حتى ... كأنك من مثامنة الملوك
من آل مراثد أو ذي خليل ... وذي جدن بني القيل المليك
وذي صرواح أو ذي ثعلبان ... ومن ذي حزفر عالي السموك
ومن ذي عثكلان وذي مقار ... ذوي العلماء والمجد العتيك(8/8)
ويلي الأقيال في الحكم الأذواء، وهم كثيرون منهم: ذو فيفان، وذو يهر، وذو يزن، وذو أصبح، وذو الشعبين، وذو حوال، وذو مناخ، وذو يحضب، وذو قينان1.
ولما أعاد "عمر بن يوسف بن رسول" مؤلف كتاب "طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب" المتوفى سنة ست وتسعين وستمائة، وهو نفسه ملك من ملوك اليمن، الحديث عن المثامنة، ذكر أنهم ثمانية أقيال استقاموا بعد سيف بن ذي يزن، وهم: آل ذي مناخ، وآل ذي يزن، وآل ذي خليل، وآل ذي مقار، وآل ذي عثكلان، وآل ذي ثعلبان، وآل ذي معافر، وآل ذي جدن. وأعظمهم آل ذي يزمن لخؤولة أسعد الكامل2. وهكذا نجده يرجع تأريخ ظهورهم إلى ما بعد أيام سيف بن ذي يزن، ثم يرجعها إلى ما قبل ذلك، ويغير الأسماء ويبدل. ولكن علينا أن نعلم أن الأخباريين لا يعرفون التواريخ على وجه صحيح مضبوط، ثم إنهم يخلقون من الرجل جملة رجال، فخلقوا من أبرهة مثلا، وقد عرفنا زمانه، جملة أبرهات، وزَّعوا أيامها في أزمان تبدأ عندهم قبل أيام سليمان بن داود وتنتهي بأبرهة الحقيقي حاكم اليمن بعد الميلاد. فلا غرابة إن ذكروا أكثر من سيف بن ذي يزن ورجعوا بتاريخ أيامه إلى الوراء.
وكثيرا من أسماء البطون والقبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى حمير، هي أسماء وردت في نصوص المسند، ومنها أسماء قبائل وبطون حقًّا، ولكنها ليست بالطبع على الشكل الذي يراه الأخباريون، ولا من حمير بالضرورة. هي أسماء أقوام ولكنها خالية من الآباء والأجداد. أما الآباء والأجداد، فهي من مولدات
__________
= أولئك خير أملاك البرايا
وأرباب الفخار بلا شريك
فأجابه اليربوعي:
تفاخرني بقوم لست منهم ... فما سبب الملوك إلى العتيك
شهدت بما شهدت به فأبلغ ... بصدق شهادتي لهم ألوكي
ولكن لي عليك قديم مجد ... وعالي مفخر صعب السلوك
بيربوع وغلب من بنيه ... لهم كانت ردافات الملوك
منتخبات "ص16".
1 طرفة الأصحاب "ص50 وما بعدها".
2 طرفة الأصحاب "ص55".(8/9)
المتأخرين منهم، وأغلب ظني أنها من المستحدثات التي ظهرت في الجاهلية المتصلة بالإسلام وفي الإسلام. وقد ذكر الأخباريون أسماء عدد كبير من البطون والقبائل المنتسبة إلى حمير، كان لها شأن كبير في تأريخ اليمن في الإسلام. أما في خارجها، فقد أعطى الأخباريون الأدواء الكبرى لأبناء كهلان.
وأما "قضاعة" فللنسابين في أصلها آراء، منهم من أرجع نسبها إلى حمير، فجعل نسبها قضاعة بن مالك بن عمرو بن مُرّة بن زيد بن حمير1. ومنهم من نسبها إلى معدّ، فجعل قضاعة الابن البكر لمعدّ2، ومنهم من صيرها جذمًا مستقلًّا مثل جذم قحطان عدنان. ومرد هذا الاختلاف إلى عوامل سياسية أثرت تأثيرًا كبيرًا في تصنيف الأنساب، ولا سيما في أيام معاوية وابنه يزيد اللذين بذلا أموالًا جسيمة لرؤساء قضاعة في سبيل حملهم على الانتفاء من اليمن والانتساب إلى معد، لكونها قوة كبيرة في بلاد الشأم في ذلك العهد، ولا سيما أن منهم بني كلب، فذكر أن زعماءها وافقوا تجاه هذه المغريات على الانتساب إلى معدّ، غير أن الأكثرية رفضت ذلك، وأبت إلا الانتساب إلى قحطان3.
ويرى بعض النسابين والمستشرقين أن انتساب قضاعة إلى يمن غير قديم4. "قال أبو جعفر بن حبيب النّسَّابة: لم تزل قضاعة في الجاهلية والإسلام، تعرف بمعدّ حتى كانت الفتنة بالشأم بين كلب وقيس عيلان أيام مروان بن الحكم. فمالت كلب يومئذ إلى اليمن، فانتمت إلى حمير، استظهارًا منهم بهم على قيس. وذكر ابن الأثير في الأنساب هذا الاختلاف، ثم قال: ولهذا قال محمد بن سلام البصري النَّسَّابة لما سئل: أنزار أكثر أم اليمن؟ فقال: إن تمعددت قضاعة،
__________
1 منتخبات "ص87"، ابن خلدون "2/ 247"، المبرد "ص23"، ابن حزم: جمهرة "ص411 وما بعدها"، "عمرو بن مالك بن حمير". القاموس "3/ 69"، الاشتقاق "ص313"، خلاصة الكلام، "ص49"، سبائك الذهب "ص19، 23".
2 ابن عبد البر: الإنباه على قبائل الرواة "ص59، 121"، "وتزعم نساب مضر، أنه قضاعة بن معد بن عدنان، والصواب هو الأول" تاج العروس "5/ 470"، اللسان "10/ 147".
3 منتخبات "ص87"، وتجد القصة في شكل آخر في كتاب "الإنباه على قبائل الرواة" لابن عبد البر "ص60 وما بعدها". ولكنها لا تغفل العامل السياسي في هذا الباب. الجاحظ كتاب الحيوان "4/ 107"، الأغاني "7/ 77 وما بعدها".
4 Wellhausen, Das Arabische Reich, S. 113, Ency, II, P. 1093.(8/10)
فنزار أكثر، وإن تيمنت، فاليمن"1. والظاهر أن اختلاط قبائل قضاعة بقبائل قحطان وبقبائل عدنان هو الذي أحدث هذا الارتباك بين أهل الأنساب، فجعلهم ينسبونها تارة إلى قحطان، وأخرى إلى عدنان. تضاف إلى ذلك العوامل السياسية التي يغفل عن إدراكها أهل الأخبار.
ولا أستبعد كون قضاعة كتلة من القبائل كانت قائمة بنفسها قبل الإسلام. ربما كانت حلفًا كبيرًا في الأصل، ثم تجزأت وتشتّت، فالتحق قسم منها بمعد، وقسم منها باليمن.
وقد صرح بعض النَّسَّابين المعروفين أن العرب ثلاث جراثيم: نزار، واليمن وقضاعة2. فجعل قضاعة جذمًا قائمًا بذاته مما يشير إلى أهميتها قبل الإسلام وفي الإسلام، خاصةً إذا ما تذكرنا مكانة القبائل المنتمية إليها وأثرها الكبير في السياسة في الجاهلية وبعدها. ولما للنسب من أثر خطير في الميزان السياسي لذلك العهد، خاصة في أيام معاوية وفي دور الفتن التي وقعت في صدر دولة الأمويين، ولثقل هذه الكتلة، كان من المهم لمعاوية اجتذابها إليه، وضمّها إلي معدّ وهو منها، لتقوية هذا الحزب.
وكان قضاعة جد القضاعيين الأكبر على رواية أهل الأخبار، مثل سائر أبناء سبأ، مقيمًا في اليمن أرض آبائه وأجداده. ولكنه تشاجر مع وائل بن حمير، وتخاصم معه وآثر الهجرة إلى الشَّحر، فذهب إليها، وأقام في هذه الأرض مع أبنائه، وصار ملكًا عليها إلى أن توفي بها، فقبر هناك. فصار الملك لابنه "الحاف" "الحافي"3، وهو في زعم الأخباريين والد ثلاثة أولاد، هم: عمرو، وعمران، وأسلم. ومن نسل هؤلاء تفرعت قبائل قضاعة4. وأما أمهم، فبنت غافق بن الشاهد بن عك5. فكان من صلب عمرو: حيدان:
__________
1 تاج العروس "5/ 470".
2 الإنباه "63".
3 "والحافي بن قضاعة والد عمران، معروف" تاج العروس "10/ 94".
4 ابن خلدون "2/ 247". طرفة الأصحاب "ص56"، سبائك الذهب "ص23"، "ولد الحاف رجلين: عمران بن الحاف، وعمرو بن الحاف. هذا ما لم يختلف فيه"، الإنباه "ص121".
5 ابن حزم، جمهرة "ص412".(8/11)
وبليّ، وبهراء. وكان من عمران ابنه حلوان1، وأمه ضرية بنت ربيعة بن نزار بن معدّ. فولد حلوان: تغلب، وربان2، ومزاحا وعمرا وهو سليح، وعابدًا وعائذًا وقد دخلا في غسان، وتزيد وقد دخل نسله في تنوخ3. وكان من نسل أسلم: سعد هذيم، وجهينة4، ونهد5.
وجعل من رجّع نسب قضاعة إلى معد، الأرض التي أقام فيها قضاعة وأبناؤه
__________
1 "وحلوان بالضم بن عمران بن الحاف بن قضاعة" القاموس "4/ 319"، "وحلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة من ذريته الصحابيون. وهو باني حلوان بالعراق". تاج العروس "10/ 96".
2 "وربان، ككتاب، اسم شخص من جرم. وليس في العرب ربان بالراء غيره ومن سمواه بالزاي قلت: الذي صرح به أئمة النسب: أنه ربان، كشداد، وهو: ابن حلوان. وهو والد جرم من قضاعة، ينسب إليه جماعة من الصحابة وغيرهم. وهكذا ضبطه الحافظ الذهبي وابن حجر وابن الجواني النسابة. وقوله: اسم شخص من جرم غلط أيضا. فتأمل"، تاج العروس "9/ 311". القاموس "4/ 226".
3 الاشتقاق "ص314". ابن حزم، جمهرة: "421". "وتزيد بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، هكذا بالمثناة الفوقية، وفي نسختنا بالفوقية والتحتية، أبو قبيلة، ومنه البرود التزيدية، وقال علقمة:
رد القيان جمال الحي فاحتملوا ... فكلها بالتزيديات معكوم
وهي برود، فيها خطوط حمر. يشبه بها طرائق الدم. قال أبو ذؤيب:
يعثرن في حد الضباة كأنما ... كسيت برود بني تزيد الأذرع
قال أبو سعيد السكري: العامة تقول بني تزيد. ولم اسمعها. هكذا قال شيخنا. قيل وصوابه تزيد بن حيدان كما نبه عليه العسكري في التصحيف في لحن الخاصة. وفي كتاب الإيناس للوزير المغربي في قضاعة: تزيد بن حلوان وفي الأنصار: تزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة، وسائر العرب غير هذين فبالياء المنقوطة من أسفل. وقال السهيل في الروض. إن في بني سلمى من الأنصار شاردة بن تزيد بن جشم بالفوقية، ولا يعرف في العرب إلا هذا وتزيد بن الحاف بن قضاعة، وهم الذين تنسب إليهم الثياب التزيدية"، تاج العروس "3/ 368".
4 ابن خلدون "2/ 247"، "وجهينة: قبيلة من قضاعة، وهو ابن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وقضاعة من ريف العراق، وسبب نزول جهينة في الحجاز قرب المدينة، مذكور في الروض، تاج العروس "9/ 169".
5 ابن حزم، جمهرة "415"، "ونهد"، قبيلة باليمن، وهم: بنو نهد بن زيد بن ليث بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وفي همدان: نهد بن مرهبة بن دعام بن مالك بن معاوية بن صعب"، تاج العروس "2/ 519"، "وفي قضاعة سعد هذيم"، تاج العروس "2/ 377".(8/12)
جُدّة وما دونها إلى منتهى ذات عرق، إلى حيِّز الحرم، من السهل والجبل. وبجُدّة ولد جدّة بن جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وبها سُمِّي على قول أصحاب الأخبار1.
أما حيدان2، فتنسب إلى حيدان بن عمرو بن الحاف، والد مهرة في نظر النسابين3، فهو جدّ قبيلة عربية جنوبية على هذا الرأي4، وما زال اسم مهرة معروفًا حتى الآن، ولمهرة لغة خاصة، عني بدراستها المستشرقون، وهم من القبائل العربية القديمة التي ورد ذكرها في مؤلفات "الكلاسيكيين"5. وقد علل بعض العلماء القدماء بعد لغة مهرة عن العربية بقوله: "مهرة انقطعوا بالشَّحر، فبقيت لغتهم الأولى الحميرية لهم، يتكلمون بها إلى هذا اليوم"6. وذكر ابن حزم لحيدان أولادًا آخرين، هم يزيد، وعُريب، وعربد، وجنادة7.
ويظهر من روايات النسابين أن بطون حيدان لم تكن كثيرة، وأن مواطنها لم تتجاوز العربية الجنوبية، وأنها كانت تتكلم بلهجات العربية الجنوبية القديمة، وحافظت عليها في الإسلام. فهي مثل بطون حمير، تختلف في لهجتها عن القبائل الأخرى التي تكلمت بلهجة مقاربة من اللهجة العربية الفصحى. إذنْ فما الرابط الذي جعل النسابين يرجعون نسب قبائل حيدان إلى قضاعة مع هذا الاختلاف البين في اللهجات؟ ومع سكناها في محل قاص ناءٍ عند الساحل الجنوبي للجزيرة؟
__________
1 البكري "1/ 17"، "وبجُدة ولد جدة بن جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، فسمي جدة باسم الموضع" البلدان "3/ 67 وما بعدها".
2 "وبنو حيدان، قال ابن الكلبي: هو أبو مهرة بن حيدان" تاج العروس "2/ 342". "وحيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، أبو مهرة بن حيدان"، منتخبات "ص30".
3 منتخبات "ص30"، ابن خلدون "2/ 247". القاموس "3/ 137"، "ومهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بالفتح، أبو قبيلة. وهم حي عظيم وإليها يرجع كل مهري." تاج العروس"3/ 551".
4 منتخبات "ص100".
5 Ency., III, p, 138.
6 الاشتقاق "333".
7 جمهرة "ص412".(8/13)
اللهم إلا أن تكون كل فروع قضاعة على هذا الطراز من اللهجات، وهذا أمر لم يتحدث عنه الأخباريون ولم يعرفوه.
وأما بليّ1، فقد كانت مواطنهم عند ظهور الإسلام على مقربة من تيماء بين مواطن جهينة وجُذام، أي في المنطقة التي كانت لثمود في جغرافية "بطلميوس". ومن بليّ، بنو فران2 وهني3.
ولم يذكر الأخباريون بطونًا ضخمة عديدة لبهراء4، ويظهر أنها لم تكن من القبائل الكثيرة العدد. ومن بطونها: قاسط، وعبدة، وأهود "أهوذ"، ومبشر، وبنو هنب بن القين5، وبنو فائش "بنو قاس"، وشبيب ابني دريم، ومطرود، وثمامة، وعكرمة، وثعلبة، ودهز، وسعد6.
وأما عمران بن الحاف "الحافي". فولد حلوان، وقد ولد هذا جملة أولاد هم: تغلب، وربان وهو علاف، ومزاح، وعمرو، وهو سليح7،
__________
1 "بلي، فعيل"، بلي قبيلة من اليمن من قضاعة والنسبة إليهم بلوي، وهم ولد بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، قال المثلم بن قرط البلوي:
ألم تر أن الحي كانوا بغبطة ... بمأرب إذ كانوا يحلونها معا
بلي وبهراء وخولان إخوة ... لعمرو بن حاف فرع من قد تفرعا
منتخبات "ص9".
2 الاشتقاق "ص322"، القاموس "4/ 255".
3 ابن حزم، الجمهرة "ص4013".
4 "بهراء: قبيلة من اليمن، وهم ولد بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، والنسبة إليهم بهراني بنون على غير قياس" منتخبات "ص10".
5 ابن حزم: جمهرة "ص412 وما بعدها"، "وهنب اسم رجل. وهو أبو قبيلة. وهو هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد، وهو أخو عبد القيس وأبو عمرو وقاسط. قاله ابن قتيبة، ولا عجب في تفسير المصنف، كما توهمه شيخنا، وقبيلة أخرى، تعرف بهنب بن القين بن أهوذ بن بهراء بن عمرو بن الحاني بن قضاعة، ذكره الصاغاني". تاج العروس "1/ 518".
6 "بنو فائش". Wustenfeld Genea., Tab. 2 "بنو قاس" هكذا ضبطه ليفي بروفنسال وهو خطأ، ابن حزم "ص413".
7 "سليح كجريح"، قبيلة باليمن، هو سليح بن حلوان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة قلت: واسمه عمرو. وهو أبو قبيلة. وإخوته أربع قبائل: تغلب الغلباء، وغشم "غثم"، وربان، وتزيد بني حلوان بن عمرو"، تاج العروس "2/ 165". سبائك الذهب "33".(8/14)
وعابد، وعائذ، وهم أجداد قبائل، كما ذكرت ذلك آنفًا.
ومن بني سليح1: حماطة2، وهم ضجعم بن سعد بن سليح، وهم الضجاعمة الذين ملكوا بالشأم قبل غسان. وبنو سليح هم أسلاف الغساسنة كذلك، وهم في نظر النسابين أبناء: سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف3. ونسبت إلى سليح بطون أخرى منها: أشجع وعمرو والأبصر والعبيد4.
ومن نسل "ربان" "زبان"5، قبيلة "جرم"، ومن ولد جرم: قدامة، وملكان، وناجية، وجدّة6. ومن جرم كان "عصام" حاجب النعمان7. ومن بطون جرم الأخرى: بنو راسب، وبنو شمخ8.
أما تغلب بن حلوان، فولد وبرة، وولد وبرة أسدًا، والنمر وكلبًا. وهي قبائل ضخمة، والبرك، والثعلب، وهما بطنان ضخمان9. وولد أسد، تيم الله وشيع اللآت. فولد تيم الله بن أسد: فهم، وهم من تنوخ، وقسم، وهم بالجزيرة، حلفاء لبني تغلب، ومن فهم: مالك بن زهير بن عمرو بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة. وعليه تنخت تنوخ وعلى عمّ أبيه مالك بن فهم، فتنوخ على ثلاثة أبطن: بطن اسمه فهم، وهم هؤلاء. وبطن اسمه نزار، وهم
__________
1 "وعمرو، وهو سليم"، "وهؤلاء بنو سليم، وهو عمرو بن حلوان"، ابن حزم، جمهرة "ص421"، "تحقيق ليفي بروفنسال"، "بنو سليم"، هكذا ضبط "ليفي بروفنسال" الاسم، وهو خطأ، وصوابه سليح، سبائك الذهب "ص23"، راجع كتب الأنساب الأخرى، wustenfeld genea., tab. 2.
2 جمهرة "ص421".
3 الإنباه "ص123".
4 سبائك الذهب "ص24".
5 الإنباه "ص121"، منتخبات "ص20"، الاشتقاق "314، 318"، "جرم بن زبان"، تاج العروس "8/ 226"، اللسان "14/ 362" راجع ملاحظة رقم "3" من صحفة 340 من كتابي: تأريخ العرب قبل الإسلام.
6 ابن حزم: الجمهرة "421".
7 الاشتقاق "318"، ابن خلدون "2/ 347". "وجرم بن زبان بن حلوان بن عمران بن الحافي، بطن في قضاعة"، تاج العروس "8/ 226"، "وجرم بطنان: بطن في قضاعة. وهو جرم بن زبان، والآخر في طيء"، اللسان "4/ 362".
8 ابن حزم: الجمهرة "422".
9 ابن حزم: الجمهرة "423 وما بعدها"، سبائك الذهب "ص24".(8/15)
لوث، ليس نزار لهم بوالد ولا أم. ولكنهم من بطون قضاعة كلها، من بني العجلان بن الثعلب، ومن بني تيم الله بن أسد بن وبرة، ومن غيرهم؛ وبطن ثالث يقال له الأحلاف، وهم من جميع القبائل كلها، ومن كندة ولخم وجذام وعبد القيس1.
ومن نسل شيع اللآت: بنو القين. وهو النعمان بن جسر بن شيع اللآت بن أسد بن وبرة2. ومن بطون بني القين، جشم "جسم"3، وزعيزعة، وأنس، وثعلبة، وفالج، وبنو مالك بن كعب بن القين. وكعب وكنانة، ومالك ومعاوية. وبطون أخرى ذكرها "وستنفلد"4. وكان للقين جمع عظيم وثروة في أكناف الشأم، فكانوا يناهضون كلب بن وبرة، ثم ضعف أمرهم ووهن حتى ما يكاد أن يعرفوا5.
ومن نسل النمر بن وبرة بن تغلب: التيم، وجعثمة، ووائل وهو خُشَيْن، وقتبة، وغاضرة، و "عاينة" عاتية، وبطون أخرى دخلت في قبائل عديدة، فعدت منها6، مما يدل على أنها لم تكن ذات عدة وعدد، لذلك كان لا بد
__________
1 ابن حزم: الجمهرة "ص423".
2 ابن حزم، الجمهرة "ص424". "القين هذا الذي نسبوا إليه اسمه: النعمان بن شيع الله شن أسد بن وبرة بن ثعلب؟ "تغلب" بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة. وقال ابن الكلبي: النعمان حضنه عبد يقال له القين، فغلب عليه. ووهم ابن التين فقال: بنو القين قبيلة من تميم". تاج العروس "9/ 316". "شيع الله" هكذا ضبطه "ليفي بروفنسال"، والأصح "شيع اللآت" الإنباه "ص123" "بنو القين بن جسر بن شيع اللآت بن أسد بن وبرة"، "القين بن جسر"، الاشتقاق "ص317".
3 "جسم" هكذا حققه "ليفي بروفنسال". جمهرة "ص424"، والصحيح "جشم".
4 Wustenfeld Genea., Tab 2.
5 الإنباه "ص121".
6 ابن حزم، جمهرة "ص424"، "وخشين بن النمر بن وبرة بن تغلب بن حلوان في قضاعة. واسمه وائل بن النمر"، تاج العروس "9/ 191"، "وفي قضاعة تيم بن النمر بن وبرة، منهم الأفلج الشاعر الفارس"، تاج العروس "8/ 211"، "وجعثمة بالضم، اسم. وقال أبو نصر: حي من هذيل، أو حي من أزد السراة، قاله الأزهري. وفي شرح الديوان من أزد شنوءة أو من اليمن"، تاج العروس "8/ 230".(8/16)
لها من الدخول في القبائل الأخرى والاندماج فيها، لحماية نفسها من تعديات القبائل والبطون القوية عليها.
وكلب من قبائل قضاعة الشهيرة. وتنسب إلى هذه المجموعة: تغلب بن حلوان فجدّها في عرف النسابين كلب بن وبرة بن تغلب1 بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وكانوا ينزلون في الجاهلية دومة الجندل وتبوك وأطراف الشام2. وقد كانت لهم لهجة خاصة لم يستعملها أحد من الشعراء الجاهليين3. ولعل ذلك بسبب اتصال هذه القبيلة بالنبط، أي ببقية بني إرم وبغيرهم ممن لم تكن لهم عربية نقية، فتأثرت لهجتها بهذا الاختلاط.
واشتهر من رجال هذه القبيلة زهير بن جناب، وهو ممن يدخله الأخباريون في المعمرين الجاهليين4. وجعلوا عمره أربعمائة وعشرين سنة، ونسبوا إليه مئتي وقعة، وجعلوه سيد قومه وخطيبهم وشاعرهم ووافدهم إلى الملوك وطبيبهم وكاهنهم وفارسهم، ونسبوا إليه الأمثال والشعر، وذكروا أن من شعره قوله:
ونادمت الملوك من آل عمرو ... وبعدهم بني ماء السماء5
وأنه قاله وقد بلغ من العمر مئتي عام، فجعلوه بذلك معاصرًا للمناذرة ملوك الحيرة، فيكون على قولهم هذا قد عاش طويلًا في الإسلام. وقد أدرك هشام بن الكلبي هذا التناقض في إحدى رواياته، فصحح عمر زهير واقتصر على مئتي عام6. وهو عمر كاف ولا شك يشتاق أن يبلغه كل إنسان. ولكنه عمر استقله
__________
1 الإنباه "ص121"، خلاصة الكلام "ص49"، سبائك الذهب "ص30"، ابن حزم: جمهرة "ص425"، "وكلب وبنو كلب، وبنو أكلب، وبنو كلبة، وبنو كلاب، قبائل من العرب، قال الحافظ ابن حجر في الاصابة: حينما أطلق الكلبي، فهو من بني كلب بن وبرة، قال شيخنا: هو أخو نمر وتنوخ، كما في معارف ابن قتيبة، وقال العيني: في طي كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن الحاف بن قضاعة، وأما تغلب بن وائل فعدناني، وهذا قحطاني"، تاج العروس "1/ 411"، "وكلب حي من قضاعة"، اللسان "2/ 222".
2 خلاصة الكلام "ص49".
3 Ency.,II., P. 688.
4 السجستاني: كتاب المعمرين "27 وما بعدها".
5 السجستاني "ص28".
6 السجستاني "ص28".(8/17)
الأشياخ الكلبيون الذين لا يرضيهم هذا التنقيص في السن.
ولم يكن زهير رئيسًا لكلب خاصة، بل كان على رأي الرواة الكلبيين رئيسًا على كلِّ قضاعة. ويذكر الأخباريون أن قضاعة لم تجمع على إطاعة رئيس إلا زهيرًا وإلا رزاح بن ربيعة، وهو من عذرة. وكان رزاح هذا أخا قصي بن كلاب لأمه1. وقد جعل الأخباريون زهيرًا معاصرًا لكليب بن وائل. ويفهم من شعر منسوب إلى المسبب بن الرفل، وهو من ولد زهير بن جناب قاله مفتخرا بزهير متبجحًا به: أن أبرهة كان قد اصطفى آل زهير، وسوّدها على الناس، وأعطاه الإمرة عليهم، وجعله أميرًا على حيي معد وعلى ابني وائل حيث أهانهما وأذلهما2. ومعنى ذلك أن زهيرًا كان في أيام أبرهة، أي في النصف الأول من القرن السادس للميلاد، وأنه على ذلك كان معاصرًا لقصي زعيم قريش.
ولم يقنع الرواة الكلبيون بكل ما ذكروه عن حياة زهير، بل أرادوا أن تكون خاتمة زهير خاتمة غريبة كذلك كغرابة حياته، فذكوا أنه كبر حتى خرف وحتى استخفت به نساؤه، وأنه لم يتمكن من الأكل بنفسه، فصارت معزبته تطعمه بنفسها، إلى أن ملّ الحياة على هذا النمط، فأخذ يشرب الخمر صرفًا أيامًا حتى مات. وذكروا أن أحدًا من العرب لم يفعل هذا الفعل غير زهير وغير أبي براء عامر بن مالك بن جعفر، والشاعر عمرو بن كلثوم3.
ومن حروب زهير حربه مع بكر وتغلب ابني وائل، ويروي الأخباريون في ذلك أن أبرهة حين طلع على نجد أتاه زهير فأكرمه وفضله على من أتاه من العرب، ثم أقرّه على بكر وتغلب ابني وائل، فوليهم. وصار يجبي لهم الخراج، وحدث أن أصابتهم سنة شديدة لم يتمكنوا فيها من دفع ما عليهم إليه. فلما طالبهم بها، اعتذروا عن الدفع، فاشتدّ عليهم، ومنعهم من النجعة حتى يؤدوا ما عليهم، فكادت مواشيهم تهلك. فلما رأى ذلك "ابن زيابة" أحد بني تيم الله بن ثعلبة، وكان فاتكًا معروفًا، أتى زهيرًا وهو نائم، فأغمد السيف في بطنه، ثم فرَّ هاربًا ظانًّا أنه قد أهلكه. ولما أفاق زهير، أخذه من كان معه من قومه
__________
1 السجستاني "ص28".
2 السجستاني "ص29".
3 السجستاني "ص28".(8/18)
حتى وصلوا به إلى قبيلته، فجمع عندئذ جموعه ومن قدر عليه من أهل اليمن وغزا بهم بكرًا وتغلب، وقاتلهم قتالًا شديدًا انهزمت به بكر، وقاتلت تغلب بعدها، فانهزمت أيضًا، وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة، وأخذت الأموال، وكثرت القتلى في بني تغلب، وأسرت جماعة من فرسانهم ووجوههم، وانتصر زهير نصرًا عظيمًا1.
ونسبت إليه حرب أخرى مع غطفان، قالوا إن سببها أن بني ريث بن غطفان حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم، فتعرض لهم صداء، وهي قبيلة من مذحج، فقاتلوهم، وبنو بغيض سائرون بأهليهم وأموالهم، فقاتلوهم عن حريمهم فظهروا على صداء وفتكوا فيهم، فعزت بغيض بذلك، وأثرت، وكَثُرَتْ أموالها، فلما رأت ذلك، قال: "والله لنتخذن حرمًا مثل مكة لا يقتل صيده ولا يهاج عائذه"، فبنوا حرمًا، ووليه "بنو مرة بن عوف" فلما بلغ فعلهم وما أجمعوا عليه زهير بن جناب، أبى ذلك، وقرر منع غطفان من اتخاذ هذا الحرم، فسار إليها بجموع كبيرة، فظفر بها، وأصاب حاجته منها، وأخذ فارسًا منهم في حرمهم فقتله، وعطل ذلك الحرم2.
وروى الأخباريون أنه حارب بني القين بن جسر. وكانت له أخت متزوجة فيهم، فأرسلت من أخبره بعزم بني القين على محاربته، فاستعد لها، فقاتلها، وقتل رئيسها وانصرفت خائبة عنه"3.
ويظهر من غربلة روايات الأخباريين عن زهير بن جناب، أن بطل كلب هذا كان من رجال القرن السادس للميلاد، وأنه لم يكن بعيد عهد عن الإسلام، وأنه كان معاصرًا لأبرهة، ولعلّه كان قد تحالف معه، فترك حلفه معه أثرا في ذاكرة الأخباريين. والظاهر أنه كان ذا شخصية قويّة، ومحاربًا، حارب جملة قبائل فأخضعها، وبذلك بسط نفوذه عليها، ورفع اسم قبيلته على القبائل الأخرى. ولعل اتصاله بأبرهة وباليمن هو الذي أوجد رابطة نسب قبائل قضاعة بحمير. وقد سبق أن قلت إن المحالفات كانت تؤدي في الغالب إلى الالتحام في الأنساب.
__________
1 ابن الأثير "1/ 205".
2 ابن الأثير"1/ 205".
3 ابن الأثير "1/ 206".(8/19)
أما ما أورده الأخباريون بشأن زمانه وعمره، فهو مما لا قيمة له. فمن عادة القصاص، رفع من كانوا يتحدثون عنهم من الشخصيات البارزة التي كانت لها شأن وخطر في القدم، وإضافة السنين الطويلة إلى أعمارهم، والمبالغات والإغراب إلى قصصهم ليكون ذلك أوقع في نفوس السامعين وفي مخيلة المعجبين بهذا النوع من الحكايات. ولهذا الإغراب جعل بعض المستشرقين زهيرًا شخصية خرافية، وبطلًا خياليًّا أوجدته على رأيهم مخيلة الأخباريين1، ولكن الإغراب في القصص مهما بولغ فيه لا يكون حُجَّة قاطعة في كون من قيل فيه شخصية خرافية لا وجود لها. فقد أغرب الأخباريون في أبرهة معاصر زهير، وبالغوا في الذي رووه عنه، ورفعوا أيامه إلى أيام داود وأيام سليمان، وجعلوا له أياما أخرى. ولكن أبرهة فند أقاصيصهم عنه وبيّن في كتاباته التي دونها على سد مأرب أنه من رجال القرن السادس للميلاد.
ومعظم من روى عنهم الأخباريون هذا النوع من القصص، هم رجال مثلنا، عاشوا وماتوا، وكانت أيامهم في الغالب في القرن السادس للميلاد، أي في عهد لم يكن بعيدًا جدًّا عن الإسلام لم تتمكن ذاكرة الرواة وحفظة الأخبار من حفظ شيء عنهم، إلا أن هذا النوع من القصص المحبوب، المطلوب من الناس، يقصه القصّاصون في الليالي المقمرة الجميلة ويقصه المعمرون من رجال القبيلة ليكون فخرًا لقبيلتهم. وهذا النوع من القصص هو نوع بدائي من أنواع حفظ التأريخ، وأكثر من حفظ وروى أخبارا زهير بن جناب الشرقي بن القطامي، وهشام بن الكلبي، وأبوه محمد، وجماعة آخرون من المشايخ الكلبيين.2 كانوا يروون هذا النوع من القصص عن رجال كلب، حملهم على ذلك تعصبهم لقبيلتهم كلب.
وأكثر ما روي عن كلب، هو من إخراج تلك الأيدي الكلبية، نشرته وأذاعته بين الناس، ومن حسن حظ كلب أن شيوخ الأخباريين الذين ذكرتهم كانوا منها، فكان لقصصهم هذا صداه البعيد عند جمهرة الأخباريين.
__________
1 Ency, II, P. 688.
2 Ency, II, P. 688.(8/20)
وكلب في حد ذاتها جملة قبائل وبطون ضخمة، منها: رفيدة، وعُرَيْنة، وصحب، وبنو كنانة، وهي قبيلة ضخمة من بطونها: بنو عدي، وبنو زهير، وبنو عليم، وبنو جناب1.
وذكر بعض الأخباريين أن كلبا كانت تحكم دومة الجندل، وأن أول من حكمها منهم هو دجانة بن قنافة بن عدي بن زهير بن جناب. وذكروا أيضًا أن الملك على دومة الجندل وتبوك، كان لهم إلى أن ظهر الإسلام، وأنهم كانوا يتداولونه مع السكون من كندة. فلما ظهر الإسلام، كان على دومة الجندل الأكيدر بن عبد الملك بن السكون2.
وأظهر قبائل مجموعة أسلم، جهينة، وسعد هذيم، ونهد. أبناء زيد بن ليث بن الأسود بن أسلم بن الحاف قضاعة. أما جهينة، فقد كانت منازلها في نجد في الأصل، وعند ظهور الإسلام كانت تقيم في الحجاز على مقربة من المدينة بين ساحل البحر الأحمر ووادي القرى3.
ومن جهينة: قيس ومودعة. فولد قيس: غطفان وغيّان. ويعرفون برشدان كذلك. عرفوا في أيام الرسول4.
وأما نهد، فقد سكنت أكبر بطونها في منطقة نجران. وقد دخلت بطون منها في قبائل أخرى واندمجت فيها. وأما سعد هذيم5، فأشهر قبائلها: بنو عذرة، وبنو ضنة6.
__________
1 الجمهرة "ص426"، سبائك الذهب "ص29".
2 ابن خلدون "2/ 249".
3 Ency, I, P. 1060, Caetani, Annali, II, 367.
4 الجمهرة "ص415 وما بعدها". الإنباه "ص123".
5 الجمهرة "ص418 وما بعدها". "وسعد بن هذيم كزبير، بإثبات الألف بين سعد وهذيم، أبو قبيلة. وهو ابن زيد بن ليث بن سود. لكن حضنه عبد حبشي أسود، اسمه هذيم، فغلبت عليه، ونسب إليه. ومن سعد هذيم هذا، بنو عذرة بن سعد إليه يرجع كل عذري، ما خلا ابن عذرة بن زيد اللآت في كلب، قاله ابن الجواني النسابة"، تاج العروس "9/ 101".
6 "وضنة بالكسر. خمس قبائل من العرب. وقول الجوهري: قبيلة قصور، قال شيخنا: إذا قصد من قبيلة جنس القبيلة، فيصدق بكل قبيلة، فلا قصور، على أن الجوهري لم يلتزم ذكر كل شيء كالمصنف حتى يلزمه القصور، بل يلزمه أن يذكر ما يصح عنده. ضنة بن سعد هذيم في قضاعة، وضنة بن عبد الله. كذا في النسخ، والصواب: ضنة بن عبد بن كبير في عذرة بن سعد هذيم، فهم أشرافهم إلى اليوم. من ذريته: رداح بن ربيعة بن حزام بن ضنة أخو قصي بن كلاب. وضنة بن الحلاف في أسد بن خزيمة، وضنة بن العاص بن عمرو في الأزد. وضنة بن الحرث في بني نمير بن عامر بن صعصعة. أخي خويلعة عبد الله بن الحرث بطن أيضا"، تاج العروس "9/ 266".(8/21)
وتقع منازل بني عذرة في أعالي الحجاز عدد من القبائل المنتمية إلى مجموعة قضاعة، وهي: نهد، وجهينة، وكلب، وبلي. وتقع أرضها في جوار غطفان، ومن مواضعها: وادي القرى، وتبوك حتى أيلة، ويذكر الإخباريون أن بني عذرة حينما وفدوا إلى وادي القرى من مواطنهم الأصلية على أثر الحروب التي وقعت بين قبائل قضاعة وحمير، وجدوا اليهود في هذه الديار، فتحالفوا معهم، وعاشوا في هذا الوادي وفي المواضع المجاورة له1.
وقد ذهب شبرنكر إلى أن "عذرة" هي "أدريته adrithae" القبيلة التي ذكرها "بطلميوس"2. أما تأريخ "عذرة" البعيدة عن الإسلام فلا نعرف عنه شيئًا يذكر. وما نعرفه منه يخص الأيام القريبة من الإسلام. وإلى صلاتها الوثيقة وحلفها مع قبائل سعد هذيم، خاصة بني ضنة وبنو سلامان، يعود نشوء هذا النسب الذي ربط فيما بين فروع هذه الكتلة، وكذلك كتلة بني أسلم ومنها جهينة التي كانت ذات صلات حسنة ببني عذرة، ولهذا السبب أطلق النسابون على هذه الجماعة "صحار"3.
وكان لبني عذرة صلات بقبيلة قريش تتجلى في خبر الأخباريين عن مساعدة رزاح، وهو منهم لأخيه من أمه قصي زعيم قريش في نزاعه مع خزاعة كما أشرت إليه في أثناء كلامي على مكة. كذلك كان لهم صلت بالأوس والخزرج
__________
1 أغاني "14/ 161".
2 stenfeld, Die Wohnsitze und Wanerungen der Arabischen Stamme, S. 25, 31, 37, 41, Ency, VI, P. 988.
3 renger, Die Alte Geographie Arabiens, S. 205.(8/22)
حيث يذكر الأخباريون أن والدة الأوس والخزرج كانت من تلك القبيلة، فهي -في عرفهم- قَيْلَة بنت كاهل "هالك" بن عذرة، وهكذا نجد لبني عذرة علاقات بأهل المدينتين المتنافستين: يثرب، ومكة1. والزواج بين القبائل من الأمور التي تقرب بينها وتصل أنسابها بعضها ببعض.
ومن بطون هذه القبيلة. بنو ضنة، وبنو جلهمة، وبنو زقزقة، وبنو الجلحاء، وبنو حردش، وبنو حُنّ، وبنو مدلج على رأي بعض النَّسَّابين2، وبنو رفاعة، وبنو كثر، وبنو صرمة، وبنو حرام، وبنو نصر، وبطون أخرى يذكرها أهل الأنساب3.
وتنتسب قبائل كثيرة من اليمن إلى كهلان بن سبأ، وكهلان هو شقيق حمير، فهناك إذنْ صلة بين قبائل حمير وقبائل كهلان. ويذكر النسابون أن بني كهلان وبني حمير كانوا يتداولون الملك في بادئ الأمر بينهم، ثم انفرد به بنو حمير، وبقيت بطون كهلان في حكمهم في اليمن. فلما تقلص ملك حمير، صارت الرياسة على العرب البادية لبني كهلان، لما كانوا بادين لم يأخذ ترف الحضارة منهم. وهكذا نجد النَّسَّابين يقسمون أبناء سبأ إلى قسمين: حضر، وهم في رأيهم أبناء حمير، وأهل وبر أو متزعمون لأهل الوبر وهم من نسل كهلان. والابن الذي ذكره الأخباريون لكهلان، هو زيد ومن ظهره تسلسلت قبائل كهلان4.
وقد نََجَلَ زيد، على حد قول النسابين، ولدين، هما: مالك وعريب. وأضاف الهمداني إلى هذين الولدين ولدًا ثالثًا سماه غالبًا. ومن صلب هؤلاء الأبناء انحدرت قبائل كهلان5.
__________
1 ency.,vi, p. 989
2 الاشتقاق "ص320". Ency, VI, P. 989
3 سبائك الذهب "ص28".
4 منتخبات "ص94"، الإكليل "10/ 1" وما بعدها". الهمداني: مشتبه "تحقيق أوسكار لوفكرين Oscar Lofgren" "سنة 1953" "ص16". جمهرة النسب الكبير لابن الكلبي. رواية محمد بن حبيب: مخطوطة المجمع العلمي العراقي مصورة "ورقة 247". وسيكون رمزها: جمهرة النسب.
5 الإكليل "10/ 1 وما بعدها"، سبائك الذهب "ص32 وما بعدها". الاشتقاق "ص218".(8/23)
ونَجَلَ مالك بن الولد الخيار ونبتًا، فولد نبت الغوثَ وولد الغوث أددَ، وهو الأزد، وعَمْرًا. ومن ولد عمرو خثعم1 وبجيلة2. ونَجَل عمرًا وقداز ومقطعان "مقطعا" على رواية للهمداني3.
أما الخيار فقد ولد ربيعة، وولد ربيعة أوسلة، وولد أوسلة زيد بن أوسلة، وولد زيد بن أوسلة مالكًا وسبيعًا وساعًا الأكبر على رأي4. ومالكا وتبع، وعبدًا، على رواية ابن حزم5. وقد دخل تبع وعبد في همدان. وولد مالك بن زيد من الولد همدان6 والهان. وقد ولد همدان نوفا "نوفل؟ " بن همدان7 على رأي وجملة أولاد آخرين على روايات أخرى8. ومن نسل نوف9 تفرعت
__________
1 "وخثعم بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث من اليمن، واسمه أفتل، أبو قبيلة. وخثعم لقبه. قال الجوهري: ويقال: هم من معد بن عدنان، وصاروا من اليمن. وقيل: خثعم، جمل نحره. فسمي به أبو القبيلة"، تاج العروس "8/ 268".
2 ابن حزم، جمهرة "ص310 ما بعدها"، "وبجيلة، كسفينة: حي باليمن من معد. والنسبة إليه بجلي. محركة. قال ابن الكلبي في جمهرة نسب بجيلة: ولد عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان، أراشا، فولد أراش، أنمارا، فولد أنمار، أفتل، وهو من خثعم، وأمه هند بنت مالك بن الغافق بن الشاهد بن عك. وعبقرا، والغوث، وصهيبة، وخزيمة، دخل في الأزد، ووادعة: بطن مع بني عمرو بن يشكر، وأشهل وشهلا، وطريفا، وسمية رجل، والحرث، وخدعة، وأمهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة، بها يعرفون، قال: وقد اختلف أئمة النسب في بجيلة، فمنهم من جعلها من اليمن، وهو قول ابن الكلبي الذي تقدم، وهو الأكثر، وقيل: هم من نزار بن معد، قاله مصعب بن الزبير، كأن المصنف جمع بين القولين، وفيه نظر لا يخفى"، تاج العروس "7/ 222".
3 الإكليل "10/ 5". "مقطعا" جمهرة النسب "ورقة 247".
4 الإكليل "10/ 6"
5 جمهرة "ص369".
6 ابن حزم، جمهرة "ص374 وما بعدها"، سبائك الذهب "ص33".
7 "وهمدان: بفتح فسكون، قبيلة باليمن من حمير، واسمه أوسلة بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ"، تاج العروس "3/ 547".
8 الإكليل "10/ 11"، سبائك الذهب "ص78"، "ولد همدان، نوفا، وخيران، فمنهم بنو حاشد، وبنو بكل"، الاشتقاق "ص250".
9 "نوفل" هكذا ضبطه "ليفي بروفنسال"، جمهرة "ص369"، وهو خطأ وصوابه: نوفل، ابن خلدون "2/ 252"، الاشتقاق "ص250"، "فأولد همدان بن مالك: نوفا وفيه العدد والعز، وعمرا وفيه الشرف والملك. ورقاش زوج عدي بن الحارث"، الإكليل "10/ 11". "وبنو نوف: بطن من همدان"، القاموس "3/ 203".(8/24)
قبائل همدان: حاشد1، وبكيل2 ابنا جشم بن خيران بن نوف.
أما عريب، فولد يشجب على رواية ابن حزم3، وعمْرًا على رواية الهمداني4، فولد يشجب أو عمرو زيد بن يشجب أو زيد بن عمرو على اختلاف الروايتين. والهميسع وهو ذو القرنين السيّار ويكنى بالصعب على رواية ذكرها الهمداني5. ونَجَلَ زيد أدد بن زيد، فولد أدد مرة، ونبتًا، وهو الأشعر، وجلهمة وهو طيء، ومالكًا، وهو مذحج. وقد تفرعت من هؤلاء قبائل وبطون.
والأزد قبائل عديدة تنتمي كما قلت إلى الأزد، وهو الغوث. وينسب الأخباريون بيتًا من الشعر إلى حسان بن ثابت، يقولون: إنه قاله في نسب الأزد، هو:
ونحن بنو الغوث بن نبت بن مالكِ بْـ ... ـنَ زيد بن كهلانٍ وأهل المفاخر6
يذكرون أنه قاله مفتخرًا بهذا النسب، وهو منهم. وهو شعر قد يكون وضعه النسابون وأهل الأخبار على لسانه، وهو ما أظنه، ليكون دليلًا لهم على صحة دعواهم في نسب الأزد، وهم يعلمون ما كان عليه الشاعر من تعصب لليمن. وقد ذكر الأخباريون أيضًا أن حمير تقول إن الأزد منهم، وأنه هو الأزد بن الغوث الأكبر بن الهميسع بن حمير الأكبر. ولم يكفهم ذلك، بل أرادوا أن يثبتوا هذا القول ويؤيدوه بشعر. والشعر في نظرهم سند قوي لإثبات رأي، ولا سيما إذا كان من شعر معمر أو ملك من الملوك القدماء. وقد قرأت في كتبهم ولا شك ما كتبوه من الأشعار على لسان آدم وهابيل وقابيل وعاد وثمود وأمثال ذلك من شعر زعموا أنهم نظموه بهذه العربية الجميلة التي نكتب اليوم بها، فكيف لا يأتون بشعر لإثبات رأيهم في هذا الباب ينسب إلى التبابعة،
__________
1 "وحاشد: حي من همدان. يذكر مع بكيل، ومعظمهم في اليمن"، تاج العروس "2/ 336".
2 "وبكيل: كأمير حي من همدان. وهو: بكيل بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان"، تاج العروس "7/ 232".
3 ابن حزم: جمهرة "ص374".
4 الإكليل "10/ 1".
5 الإكليل "10/ 1".
6 منتخبات "ص3".(8/25)
وهم من خلص العرب وملوكها المعروفين البارزين؟ فرووا شعرًا للتبع أسعد تبع، قالوا إنه ذكر فيه الأزد، وكانوا معه، فهم من حمير إذن وهو:
ومعي مَقاولُ حميرٍ وملوكُها ... والأزدُ أزد شنوءة وعمان1
وهكذا أضافوا إلى حمير الأزد بجملتها.
وأسعد تبع من التبابعة الذين لهم حظ سعيد عند الأخباريين، فهو مؤمن في نظرهم، وهو ذو القرنين. وهو من أعظم التبابعة، وأفصح شعراء العرب. ولم يكتفوا بما أغدقوا عليه من نعوت، بل أرادوا أكثر من ذلك وأبعد، فقالوا إنه كان نبيًّا مرسلًا إلى نفسه، وأنه تنبأ بظهور الرسول، صلى الله عليه وسلم، قبل ظهوره بسبعمائة سنة، وأنه قال شعرًا في ذلك حفظه الناس هذه السنين الطويلة عنه، وأنه لذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن سبه2. فهو إذن من المؤمنين الصالحين ومن رجال الجنة ولا شك، وهو قصص روَّجه ولا شك الحميريون والقحطانيون المتعصبون في الإسلام، ليُسكتوا بذلك خصومهم السياسيين. وهم في نظرهم العدنانيون الذين شرفتهم النبوة ورفعت مقامهم في الإسلام، فافتخروا بها على القحطانيين، ولم يكن القحطانيون أقل باعًا في توليد القصص في الفخر من منافسيهم القحطانيين، فأوجدوا هذه الحكايات عن تبابعتهم، وأوجدوا لهم الفتوحات العظيمة، ثم لم يكفهم ذلك كله، فقالوا: إن النبوة إذا كانت في العدنانيين، فإنها كانت أيضًا في القحطانين، بل هي أقدم عهدًا فيهم منهم، فمنهم كان عدة أنبياء. وهكذا سدوا الثغرة التي كان يهاجم منها العدنانيون.
وقد ولد الأزد عدة أولاد، منهم: مازن، ونصر، وعمرو، وعبد الله، ووقدان، والأهبوب3. ومن ولد مازن عمرو، وعدي، وكعب، وثعلبة. ومن ولد ثعلبة: عامر، وامرؤ القيس، وهو البطريق، وكرز. فولد امرؤ القيس حارثة، وهو الغطريف، وولد حارثة هذا عامرًا المعروف بماء
__________
1 منتخبات "ص3".
2 منتخبات "ص12 وما بعدها".
3 جمهرة "ص311"، تاج العروس "2/ 289"، سبائك الذهب "ص45"، جمهرة النسب "ورقة 247". Wustenfeld, Genea, Tab, 10.(8/26)
السماء، والتوأم، وهو عامر، وعديًّا1.
وولد عامر ماء السماء عمرانَ الكاهن، وعمرًا مزيقياء "مزيقيا"، فولد عمرو مزيقياء ذُهل بن عمرو؛ وهو وائل، وقد سكن نسله بنجران، وعمران بن عمرو، وحارثة بن عمرو، وجفنة بن عمرو، وثعلبة العنقاء بن عمرو، وأبا حارثة بن عمرو، ومالك بن عمرو، وكعب بن عمرو، وقد نزل بعض هؤلاء الولد على موضع ماء اسمه غسان، فشربوا منه، فسُمّوا به. وهم بنو الحارث، وجفنة، ومالك، وكعب2.
ويظهر من فحص روايات الأخباريون عن الأزد أنها كانت مجموعة ضخمة من القبائل، ودليل ذلك عدّ النسابين إياها جرثومة من جراثيم قحطان، وقد ذكروا أنها كانت سبعًا وعشرين قبيلة3، منها الأوس والخزرج. وهم من نسل حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف4، وأمهم قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة بن عمرو مزيقياء5.
ومن ولد عدي بن حارثة بن عمرو مزيقياء، سعد، وهو بارق جد القبيلة المسماة بهذا الاسم6. أما من ولد عمران بن عمرو مزيقياء، فقد ولد الأزد والحجر7، وولد الأزد العتيك وشهميلًا8، ومن ولد الحجر زهران
__________
1 جمهرة "ص311"، Wustenfeld, Tab,11. جمهرة النسب "ورقة 247".
2 جمهرة "ص312"، منتخبات "ص80"، البلدان "6/ 292".
3 الإنباه "ص106".
4 "ومزيقياء: لقب عمرو بن عامر ماء السماء. أي حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن السبراح بن الأزد. ملك اليمن، وهو جد الأنصار، لأنه كان يلبس كل يوم حلتين ويمزقهما بالعشي، يكره العود فيهما، ويأنف أن يلبسهما غيره، وقيل: إنه كان يمزق كل يوم حلة، فيخلعها على أصحابه، وقيل لأنه كان يلبس كل يوم ثوبا، فإذا أمسى مزقه ووهبه والأقوال متقاربة"، تاج العروس "7/ 69" جمهرة النسب "ورقة 247".
5 جمهرة "ص312"، جمهرة النسب "ورقة 249".
6 منتخبات "ص6"، جمهرة "ص347".
7 سبائك الذهب "ص65".
8 جمهرة "ص47"، الاشتقاق"ص8".(8/27)
وزيد مناة، وسود ومرحوم وعمرو1.
وذكر ابن حزم أن الأزد تدعي أن عمرو بن حجر هذا كان نبيًّا2، وبذلك يكون القحطانيون قد أضافوا إليهم نبيًّا آخر من الأنبياء الذين نسبوهم إلى قحطان.
وقد نزلت بارق في أرض تسمى بارقًا، فنسبت إليها. وقيل وجاء في نسبها أنها من نسل سعد بن عديّ بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وهم إخوة الأوس والخزرج، وليسوا من غسان. ولابن الكلبي أخبار عن بارق وعن القبيلة التي نزلت بها3. وقد نزل مع سعد بن عديّ ابنا أخيه عمرو بن عدي بن حارثة، وهما مالك وشبيب فسُمّوا بارقًا كذلك4.
ومن نسل جفنة بن عمرو مزيقياء كان آل جفنة ملوك الشام5، ويقال إن اسم جفنة هو علبة، ولذلك عرف آله بآل علبة كذلك6. وعرف ولد عمرو بن مازن بن الأزد، وهم عديّ وزيد الله ولوذان، وامرؤ القيس، والحارث، وحارثة ومالك وثعلبة وسوادة وعوف والعاصي وخالد والوجيه بغسان كذلك، وكان منهم بنو شقران وهم بالشام، وبنو زمّان بن تيم الله بن حقال، وهو بالحيرة من العباد. وإليهم نسبت بيعة ربيعة بن زِمّان، ومنهم أيضا الحارث الأعرج بن أبي شمر الغساني على رأي بعض النسابين ممن أخرجه من آل جفنة وأدخله في نسل عمرو بن مازن، ومنهم عبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة وهم من آل بقيلة، وكان نصرانيًّا، وهو الذي صالح خالد بن الوليد عن أهل الحيرة، ومنهم ثعلبة بن عمرو بن المجالد رئيس غسان أيام ساروا من بطن مرّ إلى الشام وشقيق جذع، وكذلك سطيح الكاهن على رأي ابن حزم. ومنهم
__________
1 منتخبات "ص6"، جمهرة "ص351"، مع بعض الاختلاف في سبائك الذهب "ص65".
2 جمهرة "ص351 وما بعدها".
3 البلدان "2/ 32 وما بعدها".
4 الإنباه "ص112".
5 جمهرة "351"، منتخبات "ص21".
6 طرفة الأصحاب "69".(8/28)
بنو غافق، وبنو صوفة، وبنو تفلذ. وبطون أخرى أشار إليها النسابون1.
وولد عبد الله بن الأزد عدثانَ وقرنًا، وهما قبيلتان، والحارث، وعبد الله بنو عبد الله بن الأزد. وإلى عدثان يرجع بعض النسابين نسب عك، فيقولون: إنه عك بن عدثان بن عبد الله بن الأزد2. وكان من ولد عمرو بن الأزد ماوية وعرمان، وهما بطنان بعمان، وألمع وجدجنة وهما أزديون بالحجاز، وسعد والضيق وقد دخلا في عبد القيس، وربيعة وامرؤ القيس وهما من غسان3.
ومن ولد دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب، منهب وغنم، فولد غنم فهم بن غنم، وولد فهم مالك بن فهم وأكثرهم بعمان، وسليم بن فهم، وطريف بن فهم، وهم بالحجاز. فولد مالك بن فهم ثوابة وولده بعمان، وجذيمة الوضّاح ملك الحيرة، وعوفًا وجهضمًا وسلمة، ومعنا وهناءة وشبابة والحارث وعَمْرًا وثعلبة بن مالك بن فهم. وقد دخلت ثعلبة في تنوخ4.
ومن قبائل الأزد المعروفة خزاعة5. وتنسب إلى عمرو بن لحي بن حارثة بن عمرو مزيقياء6، أو عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة بن عمرو بن
__________
1 جمهرة "ص354"، الاشتقاق "285".
2 جمهرة "ص354".
3 جمهرة "ص354".
4 جمهرة "ص358".
5 العقد الفريد "2/ 75"، فؤاد حمزة، قلب جزيرة العرب "ص231 وما بعدها"، البكري "1/ 269"، الهمداني: صفة "ص120، 211"، الأغاني "13/ 3، 19/ 76"، أبو الفداء "1/ 107"، نهاية الأرب "2/ 301 و 325"، كحالة، "1/ 339".Ency., ii, p. 984.
6 خلاصة الكلام "ص53"، "وخزاعة، حي من الأزد، قال ابن الكلبي: ولد حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر، وهو ماء السماء: ربيعة وهو لحي، وأفصي، وعديا وكعبا وهم خزاعة، وأمهم بنت أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، فولد: ربيعة عمرا، وهو الذي بحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان. وهو خزاعة: وأمه فهيرة بنت عامر بن الحارث بن مضاض الجرهمي، ومنه تفرعت خزاعة. وإنما صارت الحجابة إلى عمرو بن ربيعة من قبل فهيرة الجرهمية، وكان أبوها آخر من حجب من جرهم، وقد حجب عمرو"، تاج العروس "5/ 317".(8/29)
عامر1، أو خزاعة بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن الغطريف2، ويذكر الأخباريون عن عمرو والد خزاعة أنه من بحر البحيرة وسيب السايبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي3. وأنها سميت بخزاعة لأنها تخزعت عن بقية قومها وهم الأزد، أي تخلفت عنهم فلم تذهب معهم، ثم أقامت بمكة4.
ويروي الأخباريون بيتًا ينسبونه إلى الشاعر حسان بن ثابت هو:
ولما هبطنا بطن مر تخزعت ... خزاعة عنا في حلول كراكر5
ويفهم من هذا البيت أن خزاعة إنما تخلفت عن الأزد بموضع "بطن مرّ"، وهو موضع من نواحي مكة، فأقامت به، ولم تلحق ببقية ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من مأرب يريدون الشام، وقد نسب "ياقوت الحموي" هذا البيت
__________
1 المبرد: نسب عدنان وقحطان "ص22"، "وسميت خزاعة بهذا الاسم، لأنهم لما ساروا مع قومهم من مأرب، فانتهوا إلى مكة، تخزعوا عنهم، فأقاموا وسار الآخرون إلى الشأم، وقال ابن الكلبي: إنما سُمّوا خزاعة، لأنهم، انخزعوا من قومهم حين أقبلوا من مأرب، فنزلوا ظهر مكة، وقيل خزاعة من الأزد. مشتق من ذلك لتخلفهم عن قومهم، وسُمّوا بذلك لأن الأزد لما خرجت من مكة لتتفرق في البلاد تخلفت عنهم خزاعة وأقامت بها، قال حسان بن ثابت:
فلما هبطنا بطنَ مرّ تخزعت ... خزاعة عَنَّا في حلول كراكر
وهم بنو عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة، فإنه أول من بحر البحائر، وغير دين إبراهيم. "اللسان "9/ 422"".
2 البلدان "8/ 21".
3 الاشتقاق "ص276".
4 منتخبات "ص32"، "وهذه خزاعة، سُمُّوا بذلك، لأنهم لما ساروا مع قومهم من مأرب، فانتهوا إلى مكة، تخزعوا عن قومهم وقاموا بمكة، وسار الآخرون إلى الشأم، وقال ابن الكلبي: لأنهم انخزعوا عن قومهم حين أقبلوا من مأرب، فنزلوا ظهر مكة، وفي الصحاح، لأن الأزد لما خرجت من مكة، لتتفرق في البلاد، تخلفت عنهم خزاعة، وأقامت بها، قال الشاعر:
فلما هبطنا بطن مر تخزعت ... خزاعة عنا في حلول كراكر
والبيت لحسان، كما هو في هوامش الصحاح، وهكذا أنشده له الليث، والصواب أنه لعدي بن أيوب الأنصاري أحد بني عمرو بن سواد بن غنم كما حققه الصاغاني"، تاج العروس "5/ 317"، منتخبات "ص33"، الاشتقاق "ص372"، الأزرقي "1/ 50".
5 البلدان "2/ 20 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 253".(8/30)
مع أبيات أخرى إلى عون بن أيوب الأنصاري الخزرجي1.
ولبعض النسابين والأخباريين رأي في نسب خزاعة، فهم يرون أنها من معدّ، أي من العدنانية، وأنها من نسل خزاعة بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر2. ولكن الأكثرية من النسابين ترى أنها من الأزد، أي من قحطان.
وقد اختارت خزاعة بعد اعتزالها الأزد الذاهبين إلى الشام الإقامة بمكة، وكانت مكة بأيدي جرهم يومئذ أخذتها في أيام ملكها مضاض بن عمرو من العماليق أصحابها قبل جرهم، وساعده في ذلك "السميدع" ملك قطورا، وبقيت جرهم فيها إلى أن أجلتهم خزاعة عنها أجلاهم رئيسها يومئذٍ، وهو ثعلبة بن عمرو مزيقياء بعد حرب، فانتقل الحكم إلى الخزاعيين، وتولاها رجال منهم تلقبوا كسابقيهم بألقاب الملوك.
وانفرد زعيم خزاعة لحيّ بالحكم، وتزوّجَ فهيرة بنت عامر بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي ملك جرهم، فولدت له عَمْرًا، وهو عمرو بن لحيّ على نحو ما ذكرت. ثم انتقل الحكم من بعده إلى أولاده، فكان مجموع ما حكموا خمسمائة عام، وآخرهم حليل بن حبشية في أيام قصيّ3.
وللأخباريين روايات في كيفية استيلاء خزاعة على مكة، وفي الذي استولى عليها من رؤساء خزاعة، وهم يبالغون كثيرا في الزمن الذي استولت خزاعة فيه على مكة، وربما لا يتجاوز ذلك القرن الخامس للميلاد4. أما تأريخ انتهاء حكمها على مكة وانتقاله إلى قريش في أيام قصيّ، فقد كان في النصف الأول من القرن السادس للميلاد. ولكن انتقال السلطة منها إلى قريش لا يعني أنها أصيبت بما أصيبت جرهم أو غير جرهم به من ضعف واندثار، فقد بقيت خزاعة معروفة مشهورة ذات بطون عديدة في الإسلام.
__________
1 البلدان "2/ 21".
2 الإنباه "ص92".
3 الأزرقي "1/ 46 وما بعدها".
4 Ency., II, P, 984.(8/31)
فمن جملة خزاعة كعب ومليح وسعد، ومنهم بنو سلول بن عمرو، وبنو حليل بن حبشية سادن الكعبة، وبنو قمير، وبنو المصطلق الذين غزاهم الرسول1، وبطون أخرى عديدة يذكرها النَّسَّابون2.
وكانت خزاعة محالفة للرسول في نزاعه مع قريش. ولما وقعت حرب بينها وبين بني بكر، وأعان مشركو قريش حلفاءهم بني بكر، ونقضوا بذلك العهد، نصر الرسول خزاعة، وأعلن الحرب على قريش، فكان ذلك سبب فتح مكة3.
ويعد آل الجُلنْدي، وهم ملوك عمان، من الأزد كذلك. والجُلندي لقب لكل من ملك منهم عُمان. وآخر من ملك منهم جيفرٌ وعبد ابنا الجلندي، أسلما مع أهل عمان على يد عمرو بن العاص4، وقد كان "الجُلندي بن المستكبر" يعشر من يقصد سوق "صحار"، ومن يقصد ميناء "دبا" من التجار القادمين من مختلف أنحاء الجزيرة أو من الهند والصين وإفريقية. ويفعل في ذلك فعل الملوك5. ويرجع نسب "المستكبر" إلى "بني نصر بن زهران بن كعب". وهو في عرف النَّسَّابين "المستكبر بن مسعود بن الجرار بن عبد الله بن مغولة بن شمس بن عمرو بن غنم بن غالب بن عثمان بن نصر بن زهران".
أما جيفر، فهو ابن الجُلندي بن كركر بن المستكبر وكان أخوه عبد الله، ملك عمان.
وقد جعل بعض علماء الأنساب الأزد ستًّا وعشرين قبيلة يجمعها جميعها الأزد،
__________
1 خلاصة الكلام "ص52".
2 المبرد: نسب عدنان وقحطان "ص22 وما بعدها"، الاشتقاق "ص276 وما بعدها"،
3 الإنباه "ص95"، تأريخ أبي الفداء "1/ 101 وما بعدها".
4 خلاصة الكلام "ص54"، "جيفر بن الجُلندي الأزدي، ملك عمان ورئيسها، أسلم هو وأخوه عبد الله على يد سيدنا عمرو بن العاص بن وائل السهمي، رضي الله عنه، لما وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما، وهما على عمان"، تاج العروس "3/ 105"، "وجلنداء: بضم أوله وفتح ثانيه وممدودة وبضم ثانيه مقصورة اسم ملك عمان"، قال الأعشى:
وجلنداء في عمان مقيما ... ثم قيسا في حضرموت المنيف
تاج العروس "3232"، لسان العرب "4/ 101".
5 المحبر "265 وما بعدها".(8/32)
وهي: جفنة، وغسان والأوس والخزرج، وخزاعة، ومازن، وبارق، وألمع، والحجر، والعتيك "العتيق" وراسب، وغامد، ووالبة، وثمالة، ولهب، وزَهْران، ودهمان، والحُدان، وشكر، وعك، ودوس وفهم، والجهاضم، والأشاقر، والقسامل والفراهيد1. وهي أكثر من ذلك، أو أقل عددًا على حسب مذاهب أهل الأنساب في ضبط أسماء البطون2.
ويصنف النَّسَّابون قبائل الأزد جميعها في أربعة أصناف من الأزد، هي: أزد عمان وأزد السراة وهم الذين أقاموا في سراة اليمن، وأزد شنوءة أبناء كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وهم من سكنة السراة كذلك، وأزد غسان وهم من شرب من ماء غسان3. ويلاحظ أن هذا التصنيف مبني على أسماء مواضع نزلت فيها قبائل الأزد.
ومواطن الأزد القديمة هي مثل مواطن بقية القحطانيين في اليمن، وقد تركتها على أثر حادث سيل العرم، فتفرقت مع من تفرق من القحطانيين إلى الأماكن المذكورة، وذكر أن أزد السراة حاربت قبيلة خثعم التي كانت نازلة في السراة، فتغلبت عليها وانتزعت الأرض منها، وأن "أردشير" الأول أسكن الأزد في عمان. فبقوا فيها تحت حكم الفرس4.
وكان مناة وذو الخلصة من أصنام الأزد الرئيسية التي تعبدت لها، كما تعبدت لصنم اسمه العائم كان في السراة5. ولصنم آخر اسمه باجر، كان للأزد ولمن جاورهم من طيء6.
وأما القبائل المتفرعة من عمرو بن الغوث، فهي أنمار، وتنسب إلى أنمار بن
__________
1 ابن خلدون "2/ 253"، أبو الفداء "1/ 102".
2 راجع شجرة الأزد في كتاب سبائك الذهب "65، 66، 69"، المبرد نسب عدنان "ص21 وما بعدها" و Wustenfeld Genea, Tab, 10، نهاية الأرب "2/ 296".
3 Ency., I, p, 529، صبح الأعشى "1/ 319"، كحالة "1/ 15 وما بعدها".
4 Ency., I, p, 530.
5 في Ency, I., p, 530. ذو الحبصة وهو خطأ مطبعي ولا شك: Wellhausen, Reste, s., 45.
6 القاموس "1/ 362"، لسان العرب "5/ 103"، صبح الأعشى "1/ 329".(8/33)
"أراش"1 "إراش" "أراشة"2، وأراش هو ابن عمرو، وقد نسب بعض النسابين أنمارًا إلى أنمار بن نزار بن معدّ بن عدنان، فجعلوها من العدنانيين3، ويدل ذلك على اختلاط هذه القبيلة بالقبائل التي ترجع نسبها إلى مجموعة معدّ.
وولد أنمار أفتل4، وهو خثعم، وأمه هند بنت مالك بن الغافق بن الشاهد بن عكّ، فهي ذات صلة بعكّ من ناحية الأم، وولد أنمار أيضًا خزيمة وقد دخلت في الأزد، ووادعة، وعبقرًا، والغوث، وصهيبة، وأشهل، وشهلًا، وطريفًا، وسنية، والحارث، وخذعة. وأمهم كلهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة، وكانوا كلهم متحالفين على ولد أخيهم خثعم5. ولهذا يرجع كثير من النسابين قبائل أنمار إلى أصلين: خثعم وبجيلة6.
__________
1 جمهرة "ص365"، الاشتقاق "ص302"، "وإراشة بالكسر: أبو قبيلة من بلي وهو إراشة بن عامر بن عبيلة بن شميل بن قران بن عمرو بن بلي، وأريش كزبير، بطن، وقال ابن حبيب: من لخم جدس بن أريش بن إراش بالكسر. وأراش هو ابن الحيان بن الغوث، وقيل: أراش هو ابن عمرو بن الغوث، وهو والد أنمار أبو بجيلة من خثعم، وأراشة بطن من خثعم، وأراشة، أيضا من العماليق ... وبالضم في أزد وفي قضاعة"، تاج العروس "4/ 280"، صبح الأعشى "1/ 329".
2 الإكليل "10/ 5"، منتخبات "ص31، 150".
3 "أنمار بن نزار، مضى إلى اليمن، فتناسل بنوه، ثم حسبوا من العرب اليمانية". تأريخ ابن الوردي "1/ 92"، ابن هشام: "ص49" "طبعة وستنفلد"، ابن قتيبة: المعارف "ص50"، البلخي: كتاب البدء والتأريخ "4/ 107" "تحقيق كليمان هوار". وسيكون رمزه: البلخي.
4 "أقيل" جمهرة "أفتل" الاشتقاق" ص304"، وهو الصحيح. تاج العروس "3/ 321"، الصحاح للجوهري "2/ 280"، النووي: تهذيب الأسماء "ص289"، نهاية الأرب "2/ 310"، لسان العرب "8/ 295"، "15/ 56" تاج العروس"6/ 216"، لسان العرب "8/ 295"، "15/ 56" تاج العروس "6/ 216"، الفائق للزمخشري "1/ 66"، كحالة "1/ 231 وما بعدها". "أقبل" نسب قريش "ص7".
5 جمهرة "ص365".
6 البلخي "4/ 107". تأريخ ابن الوردي "1/ 90".(8/34)
وولد خثعم ولدًا اسمه حلف أو خلف، ويعود هذا الاختلاف إلى غلط النسّاخ، ومن نسله عفرس، فولد عفرس ناهسًا1 وشهران2 وناهبًا ونهشًا وكودًا وربيعة أبا أكلب3. ومن بني "ناهش" ناهس حام بن "ناهس"4 ناهش5، وهم بطن، وبنو أجرم وهم بطن أيضًا. ويُسمّون ببني معاوية كذلك، وأوس مناة بن ناهس، وهو الحنيك، وهم بطن، وبنو عنة، وبنو قحافة6.
وكانت منازل خثعم في الهضبة الممتدة من الطائف إلى نجران عند طريق القوافل الممتدة من اليمن إلى الحجاز.
ولا تزال بطون خثعم معروفة حتى الآن. ومنها بطون في تهامة وفي عسير. منها ما هي بادية، ومنها ما هي مستقرة تتكسب قوتها من الزرع7.
وذهب "ليفي ديلافيدا" في "المعلمة الإسلامية" إلى أن خثعمًا ليست قبيلة في الأصل إنما هي حلف تألف من قبائل متعددة تحالفت بينها لمصالح مشتركة
__________
1 "وناهس بن خلف، بطن من خثعم"، تاج العروس "4/ 266". "عفرس ... أبو حي باليمن. وهو عفرس بن خلف بن أقبل؟ وهو خثم؟ بن أنمار"، تاج العروس "4/ 193"، العقد الفريد "2/ 78"، كحالة "2/ 794"، ناهش بن عفرس"، كحالة "3/ 1169"، "شهران وربيعة وناهش أولاد عقرس بن خلف بن أفتل" نهاية الأرب "2/ 294".
2 جمهرة "ص 369"، "خثعم بن أنمار بن أراشة بن عمرو بن الغوث بن نبت بن زيد بن كهلان بن سبأ الأكبر. ويقال إنما سمي خثعم بجمل له اسمه خثعم. فكان يقال ارتحل آل "خثعم"، منتخبات "ص31"، الاشتقاق "ص304" وشهران بن عفرس بن خلف بن أفتل" أبو قبيلة من خثعم، وأفتل هو خثعم"، تاج العروس "3/ 321"، نهاية الأرب "2/ 293"، العقد الفريد "2/ 78"، كحالة "2/ 617".
3 الإكليل "10/ 5".
4 جمهرة "368".
5 ency., ii, p, 924.
6 الاشتقاق "ص305"، "أجرم" القاموس "4/ 89". تاج العروس "8/ 226"، كحالة "1/ 5"، "بنو قحافة"، لسان العرب "11/ 183"، القاموس، "3/ 183"، كحالة "3/ 939".
7 فؤاد حمزة: في بلاد عسير "ص60"، "القاهرة 1951".(8/35)
جمعت بينهما، كما يحدث في سائر الأحلاف1، والذي أداه إلى هذا الفهم اختلاط هذه القبيلة في القبائل العدنانية واختلاف النسابين في نسب خثعم وتفسيرهم معنى كلمة خثعم.
وقد ورد ذكر خثعم في روايات الأخباريين عن حملة أبرهة على مكة، إذْ هم يذكرون أنها عزمت على منعه من الوصول إلى مكة، وأن نفيل بن حبيب الخثعمي رئيس خثعم إذ ذاك، خرج بقبيلي خثعم: شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، وقاتله حينما بلغ أرض خثعم، غير أن أبرهة تغلب عليه، وأسره، وأبقاه حيًّا على أن يكون دليله في طريقه إلى مكة، وقد سار معه حتى أبلغه الطائف، وهناك قام بوظيفة إرشاد الحبش إلى مكة أبو رغال الثقفي، وذلك بأمر من مسعود بن متعب رئيس ثقيف2. ويقول الأخباريون إن العرب صارت ترجم قبر أبي رغال بالمغمس، وصار سبّة للناس، ولست أدري لم خص الأخباريون قبر أبي رغال بالرجم، ولم يشركوا معه قبر مسعود بن معتب، وهو الذي كلف -على حد قولهم- أبا رغال أن يرشد أبرهة إلى مكة.
وقد اشترك خثعم في المعركة المعروفة عند الأخباريين باسم يوم فيف الريح، وهو يوم كان لِمَذْحِج على بني عامر بن صعصعة. اشتركت فيه عدة قبائل أخرى مع المتخاصمين3. وقد كانت بطون من مذحج تسكن في جوار خثعم، وعند ظهور الإسلام كانت خثعم في حلف مع مراد، وقد اشتركت معها في حربها مع قيس4.
وقد تعبدت خثعم مثل بجيلة ودوس وباهلة والأزد للصنم المسمى بذي الخلصة الذي هدم في الإسلام، هدمه عبد الله بن جرير البجلي5. وكان لها بيت يدعى كعبة اليمامة به الخلصة. تعبدت إليه6.
__________
1 Ency., II, p, 924.
2 الطبري "2/ 111"، الاشتقاق "ص306".
3 ابن الأثير "1/ 265"، الأمثال: للميداني "2/ 308". البلدان "6/ 13". الأغاني "5/ 21" النقائض "ص469"، العقد الفريد "3/ 359".
4 Blau, in, ZDMG, 23, 2869, S. 562.
5 المحبر "317"، Ency., ii, p, 924.
6 كحالة "1/ 332".(8/36)
أما بجيلة1، فهم بطون عديدة متفرقة، تفرقت في أحياء العرب منذ يوم حربها مع كلب بن وبرة بالفجار، وقد أعاد شملها وجمعها جرير بن عبد الله بن جابر البجلي، وهو الشليل بن مالك بن نصر بن ثعلبة بن جشم، صاحب رسول الله2. ومن أشهر بطون بجيلة قسر، وعلقمة، وبنو أحمس3. وقيس كبة، وبنو عرينة بن نذير، وبنو دهن بن معاوية. ومن قسر خالد بن عبد الله القسري4.
وأعرف قبائل المجموعة الثانية من قبائل كهلان، وهي المجموعة التي ترفع
__________
1 منتخبات "ص5 وما بعدها"، "بجيلة: امرأة، وهي ابنة صعب بن سعد العشيرة، ولدت لأنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث. وعمرو بن الغوث، أخو الأزد بن الغوث"، الإنباه "ص100"، "وبجيلة، هو عبقر بن أنمار بن أراش. ولد عبقر، والغوث وصهيبة، أمهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة، فنسبوا إليها، وعرفوا بها"، الإنباه "ص101"، البلخي "4/ 118"، الاشتقاق "ص302"، البكري "1/ 63"، وبجيلة كسفينة، حي باليمن من معد والنسبة إليه بجلي. محركة. قال ابن الكلبي في جمهرة نسب بجيلة: ولد عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان أراشا، فولد أراش أنمارا، فولد أنمار أفتل وهو خثعم. وأمه هند بنت مالك بن الغافق بن الشاهد بن عك. وعبقرا، والغوث، وصهيبة، وخزيمة، دخل في الأزد، ووادعة بطن مع بني عمرو بن يشكر، وأشهل وشهلا، وطريفا، وسمية رجل والحارث وخدعة، وأمهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة، بها يعرفون، قلت وقد اختلف أئمة النسب في بجيلة، فمنهم من جعلها من اليمن، وهو قول ابن الكلبي الذي تقدم وهو الأكثر، وقيل هم من نزار بن معد، قال مصعب بن الزبير، كان المصنف جمع بين القولين، وفيه نظر لا يخفى"، تاج العروس "7/ 222"، كحالة "1/ 63".
2 جمهرة "ص365 وما بعدها"، ابن الوردي "1/ 90".
3 الاشتقاق "ص305"، المبرد، نسب عدنان "ص23".
4 المبرد: نسب عدنان وقحطان "ص23"، وفي بجيلة، أحمس بن الغوث بن أنمار، وقيس كبة بن الغوث بن أنمار بن أراش. بطون. وفي بجيلة بطون غير هؤلاء. ومن بطون بجيلة: دهن بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار.. وقد مضى دهن في عبد القيس. ومن بطون بجيلة: قسر بن عبقر بطن. وهو رهط خالد بن عبد الله القسري. وعرينة بن نذير بطن، ومنهم: النضر". الإنباه "102"، البلخي "4/ 118". "وبنو دهن بالضم، حي من بجيلة، وهم بنو دهن بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغوث". تاج العروس "9/ 205" لسان العرب "17/ 20"، القاموس "4/ 224".(8/37)
نسبها إلى الخيار بن زيد بن كهلان، هي قبيلة همدان. وهي من القبائل المعروفة في الجاهلية والإسلام، وكان لها شأن خطير في كلا العهدين.
وقد تحدثت في الجزء الثاني من كتاب: تأريخ العرب قبل الإسلام عن همدان استنادًا إلى كتابات المسند، وأشرت إلى صنمها وهو "تألب ريام" وإلى نفر من ملوكها، وإلى منازل في الأرض التي عرفت ببلد همدان1. أما الأخباريون وأهل الأنساب، فيروون أن هذه القبيلة من نسل جدّ أعلى هو "همدان" وكان يسمى "تلاد الملك"2، وهو في نظرهم والد نوف3 "نوفل"4، وعمرو، ورقاش زوج عديّ بن الحارث5. ويختلف النسابون بعض الاختلاف في سرد أسماء آباء همدان6، وهو اختلاف لا يهمنا نحن كثيرًا أو قليلًا بعد أن وقفنا على طبيعة هذه الأنساب.
وأولد نوف بن همدان "حُبران"7 "خيوان"8 "خيران"9، ويعود اختلاف هذا الاسم إلى الخطأ الذي وقع فيه النُسَّاخ ولا شك. وولد حبران "خيوان" ولدًا اسمه "جُشم"، وهو والد حاشد وبكيل. وهما قبيلا همدان
__________
1 "2/ 214 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 328"، كحالة "3/ 1225 وما بعدها".
2 الإكليل "10/ 10".
3 الإكليل "10/ 11".
4 "نوفل" هكذا حققه "ليفي بروفنسال"، جمهرة "ص369"، وهو خطأ. وصوابه "نوف" نهاية الأرب "2/ 203".
5 الإكليل "10/ 11".
6 طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب "ص29 وما بعدها".
7 "حبران" هكذا في طبعه الإكليل "10/ 28"، وفي منتخبات "ص27".
8 "خيوان" هكذا في طبعة جمهرة ابن حزم "ص369"، "تحقيق ليفي بروفنسال". "خيوان"، سبائك الذهب "ص78".
9 "خيران" هكذا في الاشتقاق "ص250"، "خيران: هكذا ذكره ابن الجواني النسابة، ولد نوف بن همدان، وقال شيخ الشرف النسابة: هو خيوان بالواو، فصحف"، تاج العروس"3/ 195"، "وخيران.. والد نوف بن همدان" القاموس "3/ 25".(8/38)
العظيمان، والحارث وقد غبر في قيس، وزيد وقد دخل في حاشد1.
وأولد حاشد جشمًا، وعوصًا وقد دخل في كلب.. وولد جشم بن حاشد مالكًا ومعد يكرب وعمرًا وأسعد وعريبًا وزيدًا ومرثدًا وضمامًا ويريم الأكبر وعامرًا وربيعة، وأولد يريم بن جشم حاشد الوحش، وهم بطن بالوحش من أرض الكلاع بين السحول وزبيد، وعمرًا، وأولد عمرو زيدًا وهو والد تباع جدّ التباعيين، وتقع منازلهم بالسحول من بلد الكلاع بعلقان ووادي النهى2.
وإلى حاشد3 تنسب مرثد، وهو مرثد بن جشم بن حاشد في عرف النسّابين، وقد سبق أن أشرتُ إلى مرثد، وهو والد ولد اسمه ربيعة، وهو ناعط، وهو بطن، وولد آخر اسمه الحارث وهم اسم بطن كذلك. وأولد ناعط مرثدًا وشراحيل وعامرًا وشرحبيل، فولد شرحبيل أفلح، وأولد أفلح عُمَيْرًا ذا مرّان وكان معاصرًا للنبي4.
ومن هَمَدان بطون عديدة كان لها صيت في الجاهلية وفي الإسلام، مثل بني عليان، وبني حجور، وبني قدم، وبني فائش، وبني شاحذ، وبني جحدن، وبني ابزن، وبني شبام. وذي جعران وذي حدّان، وبني ناعط. وهم في الواقع عدة بطون5، ومنهم آل ذي المشعار6.
ومن بطون بكيل7 بن جشم بن حبران آل ذي لعوة، وبنو جذلان وثعلان،
__________
1 الإكليل "10/ 28"، "حاشد وبكيل قبيلا همدان بن جشم بن حيران بن نوف بن همدان مألك زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ" الهمداني: مشتبه: "ص45".
2 الإكليل "10/ 29"، سبائك الذهب "78"، وفي قائمة الأسماء أوهام وأخطاء.
3 "حاشد" الصفة "111"، تاج العروس "2/ 336، 547"، كحالة "1/ 235".
4 الإكليل "10/ 30".
5 الاشتقاق "ص250 وما بعدها"، الإكليل "10/ 96 وما بعدها".
6 الإكليل "10/ 36".
7 "بكيل" البلدان "1/ 707"، الاشتقاق "250"، تاج العروس "2/ 232، 547"، الصفة "110 وما بعدها"، القاموس "3/ 336". لسان العرب "13/ 67"، نهاية الأرب "2/ 303".(8/39)
وبنو دومان، ومنهم النشقيون، وبنو صعب بن دومان، وبنو مرهبة من الصعب، وبنو أرحب من الصعب كذلك، وبطون أخرى ذكرها الهمداني في الجزء العاشر من الإكليل1. وهو الجزء الخاص بقبائل همدان.
ويظهر من رويات الأخباريين أن الهمدانيين كانوا يتعبدون للصنمين: يغوث ويعوق عند ظهور الإسلام2. ومعنى ذلك أن تطورًا خطيرًا كان قد طرأ على عبادة هذه القبيلة، فابتعدت عن صنمها الخاص بها وحاميها الذي كانت تلجأ إليه في الملمات، وهو "تألب" الذي كان معبده بمدينة "ريام"، ونسيته وتعبدت للصنمين المذكورين اللذين لم يرد اسمهما في كتابات المسند، وهما من الأصنام التي استوردت إلى الحجاز ونجد على ما يظن من الشمال.
وقد وقع بين مراد وهمدان والحارث بن كعب يوم عرف بيوم رزم "يوم الرزم"، وهو موضع في بلاد مراد3، وقد أخذ فيه الصنم يغوث4.
أما قبائل مجموعة عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، فأشهرها الأشعر، وطيء، ومذحج، وبنو مرّة.
أما الأشعر، فولد نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وهم الأشعريون والأشعرون والأشاعرة، وتقع منازلهم في ناحية الشمال من زبيد5.
__________
1 "ص108 وما بعدها"، الاشتقاق "ص256 وما بعدها"، سبائك الذهب "ص78 وما بعدها".
2 Ency., II, P. 246. "وكان يعوق لهمدان، وخولان، وكان في أرحب" المحبر "ص316".
3 البلدان "4/ 247".
4 blau, in, Zdmg., 23, s., 562.
5 جمهرة "ص374"، ابن خلدون "2/ 254"، "الأشعرون، اختلف فيهم. فمنهم من يقول إنهم من ولد الأشعر بن سبأ.. ومنهم من يقول إنهم من ولد الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن كهلان بن سبأ. واسم الأشعر: "نبت بن أدد"، الإنباه "ص115"، طرفة الأصحاب "ص10"، البكري "1/ 53"، الصفة "53/ 119"، الصحاح "1/ 341"، تاج العروس "3/ 302"، لسان العرب "6/ 84"، صبح الأعشى "1/ 335".(8/40)
ومن بطون الأشعر: الجماهر، وجدّة والأنغم "الأنعم" "الأتعم"، والأرغم، ووائل، وكاهل. ومن بطونهم: غاسل، وناجية، والحنيك، والركب1.
وأما طيء، فإنها من ولد جلهمة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد كهلان، ويذكر الأخباريون أنها كانت باليمن، ثم خرجت على أثر الأزد إلى الحجاز، ونزلوا سميرًا وفيدًا في جوار بني أسد، ثم استولوا على أجأ وسلمى وهما جبلان من بلاد أسد، فأقاموا في الجبلين حتى عرفا بجبلي طيء2.
وتفرقت طيء إلى بطون عديدة، يرجع أصولها النسابون كعادتهم إلى آباء وأجداد، ومن هؤلاء جديلة، وتيم الله "بنو تيم" وحيش والأسعد، وقد جلا هؤلاء عن الجبلين. وبحتر بن عتود، وبنو نبهان، وبنو هنيء، وبنو ثعل والثعالب. وهم بنو ثعلبة بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيء، وهم في طيء نظير الربائع في بني تميم. ومن بني ثعلبة بن جدعاء تيم بن ثعلبة، وعليهم نزل امرؤ القيس بن حجر، وعمرو بن ثعلبة بن غياث، وكان على مقدمة عمرو بن هند يوم أوارة3، وبنو لأم بن ثعلبة4.
ويذكر الأخباريون أن طيئًا بعد أن بلغت جبلي أجأ وسلمى، شاهدت هناك شيخًا كان مع ابنته يمتلكان جبلي أجأ وسلمى، وقد ذكرا لطيء أنهما من بقايا
__________
1 طرفة الأصحاب "ص10"، الجمهرة "ص374 وما بعدها". Wustenfeld, genea, taf.,7. الاشتقاق "248"، كحالة "1/ 31".
2 ابن خلدون "2/ 254"، "وعاش طيء بن أدد.. خمسمائة سنة. وذكر هشام أنه سمع أشياخًا من طيء، يذكرون ذلك، وأنه حمل من جبلة باليمن، وكان يقال له ظريب إلى جبلي طيء. وأقام بهما حينا، وقتل العادي الذي كان بالجبلين"، كتاب المعمرين من العرب "ص64"، أبو الفداء "1/ 102"، القاموس "1/ 65، 4/ 64، 229، 348"، لسان العرب "1/ 15، 160"، صبح الأعشى "1/ 320"، الاشتقاق "227 وما بعدها"، ابن صاعد "43"، تاج العروس "1/ 92، 5/ 2، 362، 6/ 197، 287، 7/ 150"، الأغاني "10/ 47، 18/ 193، 19/ 128"، الميداني الأمثال "1/ 194" النويري، تهذيب الأسماء واللغات قسم أول "2/ 289"، كحالة "2/ 691".
3 جمهرة "ص375 وما بعدها"، الإنباه "ص116"، "وبحتر من طيء". الهمداني: مشتبه "ص47"، طرفة الأصحاب "ص10".
4 ابن خلدون "2/ 254".(8/41)
صحار، وذكروا أن لغة طيء هي لغة هذا الشيخ الصحاري1. وقد أوجد الأخباريون هذه القصة تفسيرًا لبعض المميزات اللغوية التي امتازت بها لهجة طيء. وصحار اسم موضع واسم بطن من قضاعة أيضًا. وقد أخذت بطون قضاعة مواطن طيء في الشمال، واختلطت بعض بطون طيء بقضاعة. فهل عنى الأخباريون بصحار هذا البطن من قضاعة، ولا سيما إذا تذكرنا أن علماء اللغة يذكرون وجود التلتلة في لغة طيء، وقد نسبوا التلتلة إلى قضاعة كذلك؟ ولا يستبعد أن يكون لأسطورة الأخباريين عن الشيخ الصحاري، شيء من الواقع، كأن يشير ذلك إلى صلة صحار بطيء.
ويذكر الأخباريون أن الرئاسة في الجاهلية على طيء كانت لبني هنيء بن عمرو بن الغوث بن طيء، وهم رمليون وإخوتهم جبليون، ويعنون بذلك أنها كانت تنزل البوادي، لا جبلي طيء. ومن ولده إياس بن قبيصة بن أبي غفر بن النعمان بن حيّة بن سعنة بن الحارث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سفر بن هنيء بن عمرو بن الغوث بن طيء2 الذي ولي ملك الحيرة بأمر كسرى -كما سبق أن أشرت إلى ذلك في الفصل الخاص بتأريخ الحيرة- وكان له شأن يذكر عند الفرس.
وكان لطيء جد هذه القبيلة من الولد: فطرة، والغوث والحارث. فأما ولد الحارث فدخلوا في مهرة بن حيدان. وأما ولد فطرة3، فمنهم: جديلة، وولد خارجة بن سعد بن فطرة، وتيم الله، وحيش، والأسعد. ومن نسل هؤلاء تفرعت سائر بطون طيء4.
ومن بني الغوث بن طيء بنو ثعل5، ومنهم سلامان وجرول6. ومن بني
__________
1 البلدان "1/ 117".
2 الجمهرة "377".
3 نهاية الأرب "2/ 298"، كحالة "3/ 923".
4 الجمهرة "ص375 وما بعدها"، الاشتقاق "ص228 وما بعدها"، الإنباه "ص116".
5 "بنو ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء"، نهاية الأرب "2/ 299"، الاشتقاق "231". لسان العرب "13/ 89"، كحالة "1/ 142".
6 "سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء"، الاشتقاق "231"، صبح الأعشى "1/ 321"، كحالة "1/ 184" "2/ 531".(8/42)
سلامان بحتر، ومعن، وهما بطنان ضخمان، وجرول بن ثعل. ومن بني جرول بن ثعل ربيعة بن جرول. وهم بطن ضخم، ولوذان بن جرول بن ثعل. ومن بني ربيعة بن جرول أخزم والنجد. والأخزم بطون عديدة، ومنها عدي بن أخزم، ومن رجالها الطائي المعروف بجوده1. وعمرو بن الشيخ وكان أرمى الناس في زمانه2.
وفي استطاعتنا أن نقول عن طيء -وإن كنا لا نعرف شيئًا يذكر من تاريخها في الجاهلية- إنها كانت ذات مكانة خطيرة في تلك الأيام، بدليل إطلاق اسمها عند بعض الكتبة الكلاسيكيين وعند الفرس والسريان وعند يهود بابل، على جميع العرب كما أشرت إلى ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب. ولا يعقل إطلاق اسم هذه القبيلة على جميع العرب لو لم تكن لها منزلة ومكانة في تلك الأيام، ولو لم تكن قوية كثيرة العدد ممعنة في الغزو ومهاجمة الحدود، حتى صار في روع السريان أنها أقوى العرب، فأطلقوا اسمها عليهم. وبدليل اختيار الفرس لإياس بن قبيصة، وهو من طيء لتولي الحكم في الحيرة مرتين، ولا بد أن يكون لمركز قبيلته سند قوي أسنده في الحكم. وليس بمستبعد أن تكون قبائل قضاعة قد حلت محل طيء في الشمال مما اضطر الأخيرة إلى التزحزح من أماكنها والدخول في غيرها والاكتفاء بمنطقتها في جنوب النفود. أي في جبلي طيء3.
وبالرغم من انتزاع طيء لجزء من أرض بني أسد، وهم من مضر، وسكناهم فيها، فإن بني أسد وكذلك بني ضبة التي كانت قد تحولت عن بني تميم إلى طيء، انضموا إلى طيء وساعدوها في الحرب التي وقعت بينها وبين بني يربوع، وهم من تميم، تساعدهم بنو سعد. وانتهت بهزيمة بني يربوع في
__________
1 الجمهرة "ص378".
2 أبو الفداء "1/ 102".
3 ARABIN, ANCIENT WEST-arabian, P. 193.(8/43)
موضع "رجلة التيس"1. ولكن ذلك لا يعني أن العلاقات بين بطون طيء وأسد كانت حسنة دومًا، وثيقة لم يعكر صفوها ما يقع عادة بين القبائل من حروب. فقد وقعت بين القبيلتين حروب كذلك. منها: الحرب التي وقعت بالخص في العراق على مقربة من قادسية الكوفة. وقد انتهت هذه الحرب كما تنتهي الحروب الأخرى بتصفية حسابها بدفع الديات وبعقد صلح2.
وقد وقعت بين عبس وطيء جملة غزوات. قضت إحداها على حياة "عنترة بن شداد"، البطل الأسود الشهير3. أغار عنترة مع قومه على بني نبهان من طيء، وهو شيخ كبير، قد عبثت به يد الدهر، فجعل يرتجز، وهو يطرد طريدة لطيء. فانهزمت عبس. وأصيب عنترة بجرح قضى عليه4. وهناك رواية أخرى في مقتل بطل عبس5.
وفي رواية للأخباريين أن ابن هند ملك الحيرة أغار على إبل لطيء، فحرض زرارة بن عدس، عمرو بن هند على طيء، وقال له إنهم يتوعَّدونك، فغزاهم فوقعت بسبب ذلك جملة حوادث تسلسلت إلى يوم أوارة. وكان عمرو بن هند كما يقول الأخباريون قد عاقد الحيّ الذي غزاه على أن لا ينازعوا ولا يفاخروا ولا يغزوا، فلما غزا عمرو بن هند اليمامة، ورجع، مرّ بطيء، انتهز زرارة بن عدس -وكان كارهًا لطيء مبغضا لها- هذه الفرصة، وأخذ يحرضه على غزوها، ويشجعه عليه. وما زال به على ذلك، حتى غزاها، بعد أن بلغه هجاء الشعراء الطائيين له، لإصابته بعض النسوة من طيء. فتمكن منها وأخذ جملة أسرى، من بطن "أخزم"، وهم رهط حاتم الطائي6.
وكانت صلة هذه القبيلة بالفرس حسنة، ولما أراد الملك النعمان الالتجاء إليهم والدخول فيهم ليمنعوه من الفرس، لمصاهرته لهم، وأخذه زوجتين هما فرعة
__________
1 ency., iv, p. 623 "رجلة التيس"، البلدان "4/ 228"، البكري "2/ 640" "تحقيق السقا".
2 الأغاني "18/ 163"، "الخص: قرية قرب القادسية"، البلدان" 3/ 444".
3 الأغاني "8/ 235، 239" "طبعة دار الكتب المصرية".
4 الأغاني "8/ 345" "طبعة دار الكتب"، "7/ 145" "طبعة الساسي".
5 المصدر نفسه.
6 الأغاني "19/ 127 وما بعدها".(8/44)
بنت سعد بن حارثة بن لام بنت أوس بن حارثة بن لام منهم، لم تقبل طيء جواره ولا مساعدته، وقالت له: "لولا صهرك قاتلناك، فإنه لا حاجة لنا في معاداة كسرى"1. وقد جعل كسرى إياس بن قبيصة على الرجال من الفرس والعرب في حرب بكر بن وائل في معركة ذي قار.
ويظهر من روايات الأخباريين أن رؤساء طيء كانوا يحكمونها، وكانوا يلقبون بملك. فقد ذكروا أن عدي بن حاتم الطائي كان رئيس طيء في أيام الرسول، وكان مالكًا عليهم يأخذ منها المرباع. فلما جاءت خيل الرسول إليه بقيادة علي بن أبي طالب، فرّ إلى الشأم، ثم ترك الشأم، وذهب إلى الرسول فأسلم2.
أما صنم طيء، فكان "الفلس"، وكان بنجد، قريبًا من فيد. وسدنته من بني بولان3. هدمه علي بن أبي طالب بأمر النبي، وكانت طيء قد قلدت الصنم سيفين يقال لأحدهما مخذم وللآخر رسوب، أهداهما إليه الحارث بن أبي شمر، فأخذهما عليّ بن أبي طالب. وتعبدت طيء لصنم آخر هو "رضى"4. كما تعبدت لصنم ثالث هو سهيل5.
ومَذْحِج من القبائل اليمانية الكبيرة، وقد تفرعت منها قبائل كبيرة كذلك. وتنتسب إلى جدّ أعلى لها، هو مذحج. وهو مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وأبو عدة أولاد، هم: جلد بن مذحج، ويحابر. وهو مراد: وزيد. وهو عنس، وسعد العشيرة6، ولهيس بن مذحج.
__________
1 الطبري "2/ 151 وما بعدها".
2 "ذكر غزوة طيء وإسلام عدي بن حاتم"، ابن الأثير "2/ 119".
3 المحبر "ص316".
4 Ency., IV, P. 624.
5 كحالة "2/ 691".
6 الجمهرة "ص381"، ابن خلدون "2/ 255". الاشتقاق "ص237 وما بعدها" Wustenfeld, Genea., taf., 7,8، "فولد يحابر مذحج، وولد مذحج مرادا، وجلدا، وعنسا، وسعد العشيرة، وإنما سمي سعد العشيرة، لأنه شهد الموسم، ومعه بنون عشرة، فقيل له من هؤلاء؟ فقال: هم العشيرة، وولد سعد العشيرة جعفن بن سعد، وحبيب بن سعد، وصعب بن سعد، وعائذ الله بن سعد"، البلخي "4/ 119 وما بعدها"، "وأما مذحج، فكل من انتسب إلى مالك بن أدد ابن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، فهو مذحجي ومن لم ينتسب إلى مالك بن أدد، ليس بمذحجي، ومالك بن أدد، هو جماع مذحج، وقال ابن إسحاق: مذحج بن يحابر بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ولم يتابع ابن إسحاق في ذلك"، الإنباه "ص116"، ابن الوردي "1/ 90"، أبو الفداء "1/ 102"، القاموس "1/ 171"، لسان العرب "2/ 480"، "3/ 1062" "3/ 103"، الروض الأنف "1/ 139"، البكري "1/ 298"، كحالة "3/ 1062 وما بعدها".(8/45)
وأمهم كلهم سلمى بنت منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر1. ومن بني عَنْس بن مذحج: عمّار بن ياسر الصحابي المعروف، والأسود العنسي المتنبي2.
ولمذحج مثل القبائل الأخرى أيام. منها يوم فيف الريح3 ويوم السلان. وهو لربيعة على مذحج4. وسأتحدث عن أيام مذحج في الفصل الخاص بأيام العرب قبل الإسلام.
ويشير هذا النسب الذي يذكره النسّابون إلى وجود صلات قديمة وثيقة بين مراد وخثعم، وبين مجموعة القبائل المعروفة بمذحج. وهم أبناء إخوة على رأي النسابين5.
ويذكر الأخباريون أن مواطن مراد القديمة هي في الجوف، في منطقة رملية جرداء، ويظهر أنها كانت متبدية وكان معبودها الصنم يغوث6، الصنم الذي تعبدت له مذحج كذلك7. روي أن الصنم يغوث، كان لمذحج كلها. وكان في
__________
1 الجمهرة "ص381".
2 الأغاني "18/ 135"، ابن الوردي "1/ 90"، "عنس بن مالك وهو مذحج"، الاشتقاق "247"، نهاية الأرب "2/ 301" صبح الأعشى "1/ 327"، الصفة 54/ 104"، كحالة "2/ 847 وما بعدها".
3 نهاية الأرب "15/ 414"، العقد الفريد "2/ 80"، الأمالي للقالي "3/ 147"، البكري "3/ 1038" "طبعة السقا".
4 بين معد ومذحج وكلب يومئذ معديون. وشهدها زهير بن جناب الكلبي.. فقال:
شهدت الموقدين على خزاز ... وفي السلان جمعا ذا زهاء
البلدان "5/ 104".
5 Wustenfeld, Genea., I.
6 Ency., III, p. 726.
7 الأصنام "10".(8/46)
أنعم، فقاتلتهم عليه غطيف من مراد، حتى هربوا به إلى نجران، فأقروه عند بني النار من الضباب، من بني كعب، واجتمعوا عليه جميعًا1.
ويذكر الأخباريون أن المنذر بن ماء السماء حينما بغى على أخيه عمرو، هرب عمرو إلى مراد، فاحتفلت به، وعينته رئيسًا عليها، غير أنه اشتدّ عليها حينما تمكن وقويَ أمره، فغدرت به وقتلته. لذلك غزاها عمرو بن هند، وقتل قتلة عمرو2.
وكانت بين مراد وهمدان حرب، وقعت في عهد لم يكن بعيدًا عن الإسلام. عرفت بيوم الرزم، انتصرت فيها همدان على مراد. وكان رئيس مراد أيام الرسول فروة بن مسيك المرادي. وقد استعمله الرسول على صدقات مراد وزبيد ومذحج، فاستاءت زبيد ومذحج من ذلك. وارتد عمرو بن معد يكرب في مرتدين من زبيد ومذحج. فاستجاش فروة النبيّ، فوجه إليهم جيشًا، هزم المرتدين3.
وقبيل الإسلام كان هبيرة بن المكشوح بن عبد يغوث رئيسًا بارزًا على مراد، وقد عدّه الأخباريون من "الجرارين" في اليمن، ويقصد بالجرار من ترأس ألفًا في الجاهلية4. وقد كان ابنه قيس من رؤساء مراد البارزين عند ظهور الإسلام5. وهو الذي قتل الأسود العنسي6. وكان هناك رئيس آخر على مراد عند ظهور الإسلام هو فروة بن مسيك المتقدم ذكره، كان كذلك من الجرارين7.
وأشهر أولاد يحابر، وهو مراد، ناجية وزاهر8. ومن ولد ناجية مفرج، وكنانة، وعبد الله، ومالك، ويشكر، وردمان. وقد انتسب ردمان إلى
__________
1 المحبر "ص317".
2 Ency., III, P. 726.
3 البكري "2/ 649 وما بعدها". الأغاني "15/ 25 وما بعدها".
4 المحبر "ص252".
5 Ency., III, p. 726.
6 الاشتقاق "ص247".
7 المحبر "ص252".
8 "ويحابر بن مالك، وهو مراد، وإنما سمي مرادًا، لأنه أول من تمرد باليمن"، الاشتقاق "ص238، 236" نهاية الأرب "2/ 285".(8/47)
حمير. ومن ولد عبد الله غَطِيفٌ، وهم بطن1. ومن نسل ردمان2 قرين ونابية، وهما بطنان. ومن بني زاهر قيس بن المكشوح، وبنو الحصين والربض والصنابح وهما بطنان3.
وأولاد سعد العشيرة كثيرون، تفرعت منهم قبائل وبطون، ويذكر الأخباريون أن سعد العشيرة كان رجلًا كثير الأولاد حتى إنه كان إذا ركب ركب معه ثلاثمائة فارس من صلبه. والظاهر أنها كانت من القبائل الكبيرة، وأظن أنها كانت تحتمي بصنم هو "سعد العشيرة"، ثم نسبته فتصور أبناؤها أنه إنسان، وأنهم من صلبه منحدرون، وليس هذا بأمر غريب، وقد ذكرت أمثلة من هذا القبيل، ومنه "تالب" صنم همدان المذكور في المسند، الذي صيره النسابون جدًّا من أجداد همدان.
ومن أولاد سعد العشيرة: الحكم4، والصعب5، ونمرة، وجعفي، وعائذ الله، وأوهن الله، وزيد الله، وأنس الله، والحرّ. ومن البطون المتفرعة من هؤلاء الدئل، وهم من نسل الحكم، وقد دخلوا في تغلب6. وأسلم. ومن جعفي مرّان وحريم7. أما بنو صعب فأشهرهم أود ومنبه8، ويسمى أيضًا بزبيد. ومن نسل زبيد مازن، وهم بطن9. ومن قبيلة أود الأفوهُ الأودي الشاعر المعروف10.
__________
1 "غطيف بن عبد الله بن ناجية بن مراد"، تاج العروس "6/ 213"، القاموس "3/ 181"، كحالة "3/ 889".
2 "ردمان بن ناجية"، الاشتقاق "ص247"، تاج العروس "8/ 310".
3 الجمهرة "ص382 وما بعدها".
4 تاج العروس "8/ 255"، نهاية الأرب "2/ 301" لسان العرب "15/ 34"، كحالة "1/ 287".
5 "الصعب بن سعد العشيرة بن مالك"، نهاية الأرب "2/ 301"، كحالة "3/ 641".
6 الجمهرة "ص383".
7 "جعفي بن سعد العشيرة"، الاشتقاق "ص242"، نهاية الأرب "2/ 301" أبو الفداء "1/ 108"، لسان العرب "10/ 371".
8 البكري "1/ 57"، تاج العروس "2/ 297"، لسان العرب "4/ 41"، أبو الفداء "1/ 108"، كحالة "1/ 41".
9 الجمهرة "ص385"، الاشتقاق "ص245"، نهاية الأرب "2/ 285".
10 ابن الوردي "1/ 90"، الأغاني "11/ 44 وما بعدها"، الجمهرة "ص386".(8/48)
وأبين بطون جلد بن مالك بن أدد، أي جلد بن مذحج، بنو عُلة بن جلد. ومن أولاد عُلة: عمرو، وعامر، وحرب تفرعت جملة قبائل أظهرها: النخع بن عمرو بن علة. وبنو الحارث بن كعب بن عمرو بن علة، ورهاء وهو ضبة بن الحارث بن علة1، وصداء وهم من نسل يزيد بن حرب بن علة2.
وقد تحالفت منبّه والحارث والعلاء "العلى" وسيحان "سيحان" "سنجان" وهفان وشمران، وهم ولد يزيد بن حرب بن علة بن جلد على بني أخيهم صداء بن يزيد بن حرب، فسُمّوا جَنْبًا، لأنهم جانبوا عمهم صداء، وحالفوا بني عمهم بني سعد العشيرة. ومن جنب، معاوية الخير الجنبي، صاحب لواء مذحج في حرب بني وائل، وكان مع تغلب3.
أما صداء، فحالفت بني الحارث بن كعب. ومن بني منبّه، كان معاوية بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن منبه بن يزيد الذي تزوّج بنت مهلهل بن ربيعة التغلبي4.
وتنتسب قبيلة النخع إلى النخع وهو جسر بن عمرو5 بن علة بن جلد بن
__________
1 "رهاء بن منبه بن حرب بن علة بن جلد بن مالك"، تاج العروس "10/ 161"، لسان العرب "19/ 63"، الاشتقاق "ص242"، نهاية الأرب "2/ 286"، كحالة "2/ 448".
2 الإنباه "ص116 وما بعدها"، الاشتقاق "ص237، 242".
3 خلاصة الكلام "ص55"، ابن الوردي "1/ 90"، الاشتقاق "ص130"، صبح الأعشى "1/ 326"، كحالة "1/ 210"، تاج العروس "1/ 192"، أبو الفداء "1/ 108".
4 الجمهرة "ص388"، الاشتقاق "ص242"، تاج العروس "1/ 88"، القاموس "1/ 20" نهاية الأرب "2/ 286".
5 "ولد عمرو بن علة كعبا، وعامرا، وجسرا وهو النخع"، الجمهرة "ص389". وبعد أسطر من هذا النسب، وفي باب "وهؤلاء بنو جسر أخيه، وهو النخع بن عامر" جاءت هذه الأسطر "ولد النخع بن عامر بن علة.. إلخ"، فصار والد النخع عامر في هذا الباب، بينما هو "عمرو"، ولم يشر "ليفي بروفنسال" إلى هذا التناقض الناشئ من تحريف النساخ، وفي تحقيقه هفوات من هذا القبيل. الإنباه "ص116".(8/49)
مالك، وهو مذحج1. ومن النخع الأشتر النخعي، واسمه مالك بن الحارث، صاحب رسول الله، ثم علي بن أبي طالب. وللنخع بطون عديدة2 منها: صُهبان، ووهبيل، وجسر، وجذيمة، وقيس، وحارثة3، وصلاءة، ورزام، والأرت، ومن الأرت بنو عبد المدان وعبد الحجر بن المدّان4.
وولد مرّة بن أدد رُهْمًا، والحارث. ومن رهم كان الأفغى الذي كان يتحاكم إليه بنجران على رواية ابن حزم5 أو من رهم، من طيء على رواية ابن دريد6. أما الهمداني، فذهب إلى أنه من رهم بن مرة بن أدد، أي على نحو ما ذهب ابن حزم إليه7.
وبنو مُرّة بن أدد، إخوة طيء ومذحج والأشعريين، بطون كثيرة تنتهي كلها إلى الحارث بن مُرّة، مثل خولان ومعافر ولخم وجذام وعاملة وكندة8. أما خولان، فيرجع نسبها إلى خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرّة بن أدد. ويسمي النسابون خَوْلان فكلا "أفكلًا" كذلك9، والخوليون هؤلاء هم خولان أدد، وعرفوا بخولان العالية أيضًا10، وهم غير خولان بن عمرو بن الحاف "الحافي" بن قضاعة، أي خولان القُضاعية، وهي قبيلة يمانية كذلك في نظر من جعل قضاعة من اليمانيين11. وأظن أن هناك صلة بين "فكل"
__________
1 منتخبات "ص102". الاشتقاق "ص237"، ابن خلدون "2/ 255"، نهاية الأرب "2/ 302"، أبو الفداء "1/ 108"، لسان العرب "10/ 226"، القاموس "3/ 87"، المصباح المنير "2/ 114"، كحالة "3/ 1876".
2 أبو الفداء "1/ 103"، صبح الأعشى "1/ 327".
3 جمهرة "ص389".
4 الاشتقاق "ص337".
5 جمهرة "ص392".
6 الاشتقاق "ص218".
7 الإكليل "10/ 2"، "مرهم"، نهاية الأرب "2/ 286"، كحالة "3/ 1077".
8 ابن خلدون "2/ 256"، نهاية الأرب "2/ 286 وما بعدها".
9 جمهرة "ص392"، الاشتقاق "ص227"، ابن خلدون "2/ 256"، نهاية الأرب "2/ 287"، تاج العروس"6/ 652، 7/ 312"، القاموس "2/ 232"، لسان العرب "13/ 240"، صبح الأعشى "1/ 325"، القاموس "3/ 272"، كحالة "1/ 365 وما بعدها".
10 الإكليل "10/ 2، 42".
11 منتخبات "ص35"، الإكليل "10/ 293"، الإنباه "ص115، 120".(8/50)
و "أفكل" و "يكلى" أو "ركلى" المذكور عند بعض الأخباريين، وقد زعم الهمداني أنه شقيق خَولان، وابن الابن الآخر لعمرو بن مالك. وقد نشأت هذه الصور للأمم من تحريف النُسّاخ، ومن التبلبل الذي يحدثه أمثاله للنسّابين والباحثين في الأنساب. وأما أن يكلى أو فكل هو شقيق خَوْلان، أو أنه خولان نفسه، فأمر لا قيمة له.
ورجح نشوان بن سعيد الحميري كون المراد ب "خولان العالية" خَولان قضاعة، وقد ذكر الرأيين وناقش كل واحد منهما، ثم رَجَّحَ أن خولان العالية هي خولان قضاعة1.
واسم خولان من الأسماء التي ورد ذكرها في كتابات المسند. ورد اسمًا لأرض، كما ورد اسمًا لقبيلة، هي قبيلة خولان2 ويعود تأريخ هذه الكتابات إلى ما قبل الميلاد. وتقع أرض خولان في نفس المكان الذي عرف في الإسلام ب "عرّ خَوْلان" وبأرض خولان3. وقد ذهب "شيرنكر" إلى أن خولان هي "حويلة" إحدى القبائل العربية المذكورة في التوراة4.
وعند ظهور الإسلام، كانت خولان تتعبد للصنم، عم أنس "عميأنس" وللصنم يعوق5. وفي السنة العاشرة للهجرة، وصل وفد منها إلى الرسول معلنًا له الدخول في الإسلام. وقد اشتركت خولان مع من اشترك من القبائل العربية في الفتوح، فلعبت دورًا هامًا فيها خاصة في فتوحات مصر6.
وإلى جعفر بن مالك بن الحارث بن مُرّة يرجع نسب المعافر7. جد المعافرين، ويسمى بالمعافر الأكبر تمييزًا له عن المعافر الأصغر، وهو ابن حضرموت8.
__________
1 منتخبات "ص35 وما بعدها".
2 Halevy 585, Glaser 1076, Glaser 119.
3 Ency, II, P. 933.
4 Ency, II, P. 933.
5 الأصنام "43". كحالة "1/ 366".
6 Ency, II, P. 933.
7 جمهرة "ص293"، نهاية الأرب "2/ 287" كحالة "3/ 1115".
8 الإكليل "10/ 3"، الاشتقاق "ص228"، ابن خلدون "2/ 256"، الإنباه "ص118".(8/51)
وقد اشتهرت المعافر بنوع من الثياب سميت باسمهم1.
ومن ولد عدي بن الحارث بن مرّة بن أدد بن يشجب، كان الحارث بن عديّ وهو عاملة، وعمرو بن عديّ وهو جذام، ومالك بن عديّ وهو لخم، وعفير بن عديّ وهو والد كندة2. وكلها كما نرى قبائل معروفة شهيرة تنتسب إلى القحطانيين. وأما أمهم، فهي رقاش بنت همدان3.
وذكر ابن خلدون أن الحارث بن عديّ والد عاملة، سمي عاملة باسم أمه عاملة، وهي من قضاعة. وذكر أنها كانت في بادية الشام4.
وقد يستنتج من هذه الصلة بين القبائل الثلاث، أنها كانت حلفًا في الأصل جمع بينها لمصالح مشتركة ولظروف متشابهة ألفت بينها على نحو ما رأينا عند قبائل أخرى فصارت نسبًا بمرور الأيام5. وقد كانت هذه الصلة قوية خاصة بين لحم وجذام، حيث اقترن اسمهما معًا في الغالب، ولا سيما في الإسلام، مما يدل على اشتراك المصالح بين القبيلتين.
وكانت عاملة حليفة لكلب، "وغزت معها إلى طيء، فأسر رجل من عاملة، اسمه قعيسيس، عديّ بن حاتم، فانتزعه منهم شعيب بن مسعود العُليمي من كلب، وقال له: ما أنت وأسر الاشراف؟ "، وأطلقه بغير فداء6. ومن عاملة الشاعر عديّ بن الرقاع7.
ويذكر الأخباريون أن بطونًا من عاملة كانت في الحيرة، كما أن بعضًا منها كانت خاضعة للزبّاء8. وإذ صح زعم الأخباريون هذا، فإنه يدل على قدم
__________
1 "المعافرية" منتخبات "ص73".
2 جمهرة "ص394".
3 الإكليل "10/ 4".
4 ابن خلدون "2/ 257"، "عاملة"، تاج العروس "8/ 35"، القاموس "4/ 22"، نهاية الأرب "2/ 287"، صبح الأعشى "1/ 335 وما بعدها".
5 Ency., III, p. 11.
6 جمهرة "ص394".
7 منتخبات "ص77"، جمهرة "ص394".
8 Ency., I, p. 327.(8/52)
وجود هذه القبيلة في بلاد الشام والعراق، ولكننا لا نجد لها ذكرًا مثل أكثر القبائل الأخرى في كتب "الكلاسيكيين".
وكانت منازلها عند ظهور الإسلام في المنطقة الجنوبية الشرقية للبحر الميت. وقد اشتركت مع القبائل العربية الأخرى التي ساعدت الروم، وانضمت إلى جانب "هرقل" "heraclius"، ولكن اسمها لم يرد كثيرًا في أخبار فتوح المسلمين لبلاد الشام، وإنما كان من الأسماء المعروفة في أيام الأمويين. وتدل إقامتها في هذه البلاد منذ أيام الجاهلية على أن صلتها ببلاد الشام كانت أقوى وأمتن من صلتها بالعراق.
وصنم عاملة هو الأقيصر، وكان في مشارف الشام، يحجون إليه، ويحلقون رءوسهم عنده1.
وولد جذام: وهو عمرو بن عديّ بن الحارث بن مرّة2 والد قبيلة جذام الشهيرة من الولد حراما، و "جُشَمَ"3. ومن بني حرام غطفان وأفصى، وهما ابنا "سعد بن إياس بن أفصى بن حرام بن جذام". وذكر ابن حزم: أن روح بن زنباع، وهو من بني أفصى، أراد أن يرد نسب جذام إلى مضر، فيقال جذام بن أسدة أخو كنانة وأسد ابنا خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فعارضه في ذلك نائل بن قيس4.
ومن بطون جذام: "بنو ضبيب، وبنو مخرمة، وبنو بعجة، وبنو نفاثة، وديارهم حوالي أيلة من أول أعمال الحجاز إلى ينبع من أطراف يثرب. وكانت لهم رياسة في معان وما حولها من أرض الشأم لبني النافرة من نفاثة، ثم لفروة بن عمرو بن النافرة. وكان عاملًا للروم على قومه وعلى من كان حوالي معان من العرب. وهو الذي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وأهدى
__________
1 كحالة "2/ 714".
2 منتخبات "ص19"، ابن خلدون "2/ 257". تاج العروس "8/ 323"، لسان العرب "14/ 356"، أبو الفداء "1/ 109"، نهاية الأرب "2/ 303"، صبح الأعشى "1/ 330"، الصحاح "2/ 269"، كحالة "1/ 174".
3 "جشم"، جمهرة "ص395"، وهو في الاشتقاق "ص225" "حشم".
4 جمهرة "ص395 وما بعدها" ency., I, p. 1058.(8/53)
له بغلة بيضاء وسمع بذلك قيصر، فأغرى به الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان، فأخذه وصلبه بفلسطين"1.
أما لخم، الأخ الآخر لعاملة وجذام، فولد جزيلة ونمارة، وولد نمارة عديًّا، وهو عَمَم وحبيب وجذيمة، وهم العباد، وغيرهم. وولد حبيب، هانئًا، ومن نسله تميم الداري صاحب رسول الله، ومن نمارة عمرو بن رزين بن لخم، ومن ولده قصير الوارد اسمه في قصة الزبّاء، ومن نسل عَمَم بنو نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم، رهط آل المنذر ملوك الحيرة2.
ويظهر أن اللخميين كانوا أقدم جماعة في هذا الحلف، وقد كانوا قبل الإسلام في بلاد الشأم والعراق وفي البادية الفاصلة بينهما وفي مواضع متعددة من فلسطين. ومنهم كما رأينا كان آل لخم ملوك الحيرة. ولا يستبعد أن يكون ظهور هذه القبيلة على أثر تصدع حكومة تدمر. حيث مكن هذا التصدع رؤساء القبائل الكبرى من الظهور. وقد كان اللخميون على النصرانية مثل الغساسنة في الشأم3.
وبدل القصص المروي عن أصل لخم، وانحدارها من صلب إبراهيم، على قدم هذه القبيلة في نظر أهل الأخبار. ومما جاء في هذا القصص أن أحد بني لخم هو الذي أخرج يوسف من البئر4. وقد لعب اللخميون دورًا هامًّا كما رأينا في سياسة البادية وفي مقدرات عرب الشأم والعراق.
وفي الإسلام صارت كلمة "لخم" تطلق على جذام. ويدل ذلك على الصلات الوثيقة التي ربطت بين القبيلتين. ثم قل استعمال كلمة "لخم" ولخمي، بالقياس إلى جذام. حتى صات لخم تعني في الغالب الأمراء اللخميين.
__________
1 ابن خلدون: "2/ 257".
2 جمهرة "396 وما بعدها"، الاشتقاق "225"، صبح الأعشى "1/ 334 وما بعدها" لسان العرب "16/ 12"، تاج العروس "4/ 126"، الصحاح "2/ 333"، كحالة "3/ 1012".
3 Ency., III, p. 11.
4 Ency., III, p. 11.(8/54)
وشقيق لخم هو عفير بن عدي والد ثور، وهو كندة جدّ قبيلة كندة الشهيرة. وولد كندة معاوية بن كندة، وأشرس، وأمهما هي رملة بنت أسد بن ربيعة بن نزار1. ويمثل هذا النسب صلة كندة بقبائل معد. وقد نسب بعض النسّابين كندة إلى كندة، وهو ثور بن مرتع بن معاوية بن كندي بن عفير بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان2، وقد ولد هذا النسب من نسب آخر جعل اسم ولد عفير "كندي"، ثم ساقوا النسب على هذا النحو إلى أن وصلوا إلى ثور بن مرتع، فقالوا: إنه هو كندة وأنه شقيق مالك وهو الصدف، وقيس3.
ومن بطون كندة معاوية بن كندة، ومنه الملوك بنو الحارث معاوية الأصغر بن ثور بن مرتع بن معاوية4 أسلاف الشاعر امرؤ القيس، وقد حكموا القبائل الأخرى من غير كندة، ومنها قبائل من عدنان.
ومن ولد أشرس: السكون والسكاسك5، ومن السكون بنو عديّ وبنو سعد وأمهما من مذحج اسمها تجيب بنت ثوبان بن سُليم بن رها بن مذحج،
__________
1 جمهرة "ص399"، الإكليل "10/ 4" كندة، واسمه ثور بن غفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد كهلان بن سبأ. هذا قول ابن الكلبي. وقال ابن هشام: كندي ويقال كمدة بن ثور بن مرتع.. وقال ابن إسحاق: كندة هو ثور بن مرتع. وقال الزبير: ثور بن مرتع بن كندة من ولد معاوية الإصغر" الإنباه "ص144"، الاشتقاق "ص218"، تاريخ ابن خلدون "2/ 257"، تاج العروس "1/ 43، 2/ 287"، لسان العرب "3/ 386"، صبح الأعشى "1/ 328"، نهاية الأرب "2/ 303"، الروض الأنف "2/ 345، كحالة "3/ 988 وما بعدها".
2 منتخبات "ص94". "كندة بن غفير بن الحارث. من ولد زيد بن كهلان". خلاصة الكلام "ص55" وما بعدها.
3 الإكليل "10/ 5".
4 ابن خلدون "2/ 257".
5 الإنباه "ص115". "السكاسك: نسل حميس السكسك بن أشرس بن ثور. هو كندة بن عفير من بطونها: خداش، صعب، ضمام، والأحدر".، الاشتقاق "221"، تاج العروس "7/ 141"، كحالة ":2/ 527".(8/55)
ولذلك عرفوا ب "تجيب"1.
وكان أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل في أيام الرسول من السكون، وأخوه بشر بن عبد الملك. يذكرون أنه ذهب إلى الحيرة، وتعلم بها الخط، ثم رجع إلى مكة فتزوج الضهياء بنت حرب أخت أبي سفيان2.
وأما الصدف، فهو عقب مالك بن أشرس على رواية. وقد نسب إلى كندة، كما نسب إلى حضرموت. ونسبه بعض النسابين إلى حمير. فمن نسبه إلى كندة، قال: الصدف هو: عمرو بن مالك بن أشرس بن شبيب بن السكون بن أشرس بن ثور وهو كندة3، أو عمرو بن مالك بن أشرس أخو السكون بن أشرس. ومن نسبه حضرموت، قال: الصدف، هو الصدف بن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر4. وقد قال عنه بعض الأخباريين: إنه مالك بن الصباح، أخو أبرهة بن الصباح5. وأبرهة بن الصباح هو عربي في نظر أكثر الأخباريين. ولم يعرفوا أنهم يقصدون به أبرهة الحبشي، صاحب حملة الفيل. ومن نسبه إلى حمير قال: الصدف هم من نسل: الصدف بن عمرو بن ديسع بن السبب بن شرحبيل بن الحارث بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الاصغر6. أو: الصدف بن سهلة بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن
__________
1 "تجيب. قال الزبير وغيره: تجيب امرأة. وهي ابنة ثوبان بن سليم بن رها بن مذحج. نسب إليها ولدها. وولدها عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد. وعفير بن عدي، بنو عم خولان، يجمعهم الحارث بن مرة بن أدد. ولدت تجيب في السكون من كندة، فهم أشراف السكون"، الإنباه "ص115". ابن خلدون "2/ 257". نهاية الأرب "2/ 304"، الاشتقاق "221"، كحالة "2/ 528 وما بعدها".
2 جمهرة "ص403 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 257".
3 كحالة "2/ 637"، نهاية الأرب "2/ 304"، لسان العرب "11/ 90".
4 الجمهرة "ص431".
5 الإنباه "ص114"، نهاية الأرب "2/ 304"، لسان العرب "11/ 90"، كحالة "2/ 637".
6 منتخبات "ص59"، "الصدف بن مرتع، والصدف من حمير هذا قول الهمداني. وغيره يقول: جميع الصدف من حمير"، الهمداني: مشتبه "ص40"، "الصدف بالضم ابن عمرو بن الغوث بن حيدان. الصدف بن ديسع: الصدف بالفتح وهو مالك بن مرتع أخو كندة في قول الهمداني. وفي قول غيره: الصدف من حمير"، الهمداني: مشتبه "ص32".(8/56)
عبد شمس بن وائل بن الغوث بن هميسع بن حمير1.
واختلاف أهل الأنساب، وأهل الأخبار في نسب الصدف، دليل على اختلاط هذه القبيلة ببطون كندة وحمير وحضرموت. ودخول بطونها فيها، وانتسابها إلى البطون التي دخلت فيها، ويؤدي ذلك في الغالب كما رأينا إلى اختلاط الأنساب.
__________
1 كحالة "2/ 637".(8/57)
الفصل السابع والأربعون: القبائل العدنانية
مدخل
...
الفَصْلُ السَّابِعُ والأربَعُون: القبائل العدنانية
أوجزت الكلام في الفصل المتقدم على القبائل القحطانية، أي القبائل التي يرجع نسبها إلى اليمن، وفي هذا الفصل سأحاول الكلام على قبائل القسم الثاني من العرب، أي قبائل العدنانيين، مقتصرًا في الغالب على ذكر القبائل الكبرى، سالكًا ما سكلته في الفصل المتقدم من طريقة أهل الأنساب في ترتيب القبائل.
وجدّ قبائل هذا الفصل عدنان من سلسلة تنتهي بإسماعيل بن إبراهيم الخليل، جد الإسماعيليين. وهو مثل قحطان شخصية لا نعرف من أمرها شيئًا، ولا من خبرها غير هذا الذي يقصّه علينا الأخباريون. وهو على حد قولهم من معاصري الملك بختنصر ملك بابل "604 - 561 ق. م" الذي أوحى الله إليه على لسان "برخيا بن أحنيا بن زربابل بن سلتيل" أن يغزو العرب في أيام ابنه معدّ بن عدنان على حد قول الأخباريين1.
ويزعم الأخباريون أنهم وجدوا في كتب "برخيا" هذا نسب عدنان، وأنه كان معروفًا عند أهل الكتاب وعلمائهم، مثبتًا في أسفارهم. واستشهدوا على نسبه بشعر لأمية بن أبي الصّلت2. فمن ذرية عدنان إذن، تفرعت هذه القبائل التي سأتحدث عنها في هذا الفصل.
__________
1 الطبري "1/ 291".
2 الإنباه "ص47".(8/58)
وقد بخل الأخباريون على عدنان، فلم يمنحوه من الولد غير ولدين، هما: معد، والحارث وهو عكّ1. وأمهما: منهاد بنت لهم بن جليد بن طسم2. وقد بخلوا عليه بأسماء نسائه أيضًا على ما يظهر، إذ لم يذكروا لنا اسم زوجة أخرى له. ولا ندري نحن، وقد عشنا بعدهم بقرون، سر هذا البخل الشنيع.
ومن نسل هذين الولدين تفرعت قبائل عدنان، فأولد معد نزارًا3، وأضاف بعض النسابين قضاعة إليه. وأمهما معانة بنت جوشم بن جهلمة بن عامر بن عوف بن عديّ بن دُب بن جرهم4. وقد أشرت إلى اختلاف النسابين في نسب قضاعة وإرجاع بعضهم إياه إلى معدّ وبعضهم إلى قحطان، وإلى محاولة كل فريق جرهم إليه، لعوامل سياسية بحتة وإن اكتسبت صبغة نسب وأصل وحسب، فالموضوع هو تكتل وتحزب وتنافس. وقضاعة كتلة من القبائل كبيرة، لذلك كان لاجتذابها إلى أحد المعسكرين السياسيين المتطاحنين أهمية عظيمة في سياسة ذلك العهد، لذلك نجد نَسّابي كل فريق يحاولون جهدهم إثبات نسب قضاعة في فريقهم، حريصين على نفي نسبتها إلى الفريق المعارض، وإخراجها منها، وتفنيد حجج الخصوم. هذا أبو عبد الله الزبيري "156 - 236هـ" وهو قرشي، ومعدود من مشاهير النسابين، يذكر نسب قضاعة فيقول: "وقد انتسبت قضاعة إلى حمير، فقالوا: قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ، وأمه عُكبرة، امرأة من سبأ، خلف عليها معد، فولدت قضاعة على فراش معدّ، وزَوّروا في ذلك شعرًا فقالوا:
يا أيها الداعي ادعنه وأبشر ... ولكن قضاعيًّا ولا تَنَزّرْ
قضاعة بن مالك بن حمير ... النسب المعروف غير المنكرْ
__________
1 وقد منحه ابن الكلبي خسمة أولاد. هم: "معد، والديث، وأبي، والعي، وعديد. فولد الديث: الحارث، وهو عك. فولد عك بن الديث: الشاهد وصحارا. وهو غالب." جمهرة النسب "ورقة 3".
2 أبو عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري: كتاب نسب قريش تحقيق "ليفي بروفنسال" "ص5". "وقد قيل: عك بن الديث بن عدنان"، جمهرة "ص8"، وأمهم مهدد بنت اللهم بن جلحب من جديس"، جمهرة النسب "ورقة 3".
3 طرفة الأصحاب "ص57"، سبائك الذهب "ص20"، ابن خلدون "2/ 300".
4 نسب قريش "ص5".(8/59)
قال: وأشعار قضاعة في الجاهلية، وبعد الجاهلية، تدل على أن نسبهم في معدّ"1.
وجعل ابن حزم لمعدّ خمسة أولاد، هم: نزار بن معدّ، وإياد بن معدّ، وقنص بن معدّ، وعبيد الرماح بن معدّ، والضحاك بن معدّ. وذكر أن من الأخباريين من يزعم أن ملوك الحيرة من المناذرة هم من ولد قنص، وأن عبيد الرماح دخلوا في بني مالك بن كنانة، وأن الضحاك بن معد هو الذي أغار على بني إسرائيل في أربعين من تهامة2. ونسب ابن الكلبي لمعد جملة أولاد آخرين3.
ويذكر بعض الأخباريين أن الإمارة بعد معدّ على العرب كانت إلى قنص بعد أبيه، فأراد إخراج أخيه نزار من الحرم، فأخرجه أهل مكة، وقَدّموا عليه نزارًا4.
وقد ولد لنزار مضر وإياد، وأمهما، خبيّة بنت عك بن عدنان، وربيعة وأنمار، وأمهما حُدالة بنت وعلان بن جوشم بن جهلمة بن عامر بن عوف بن عديّ بن دُبّ بن جرهم، فهما ليسا صريحين في نظر النسابين كمضر وإياد، لأنهما ليسا مثلهما من أب عدناني وأم عدنانية. ومن النسابين من قال: إن "ربيعة ومضر الصريحان من ولد إسماعيل"5، فلم يجعل إيادًا بذلك من العدنانيين الصريحين.
وفي رواية الأخباريين أن نزارًا حينما شعر بدنو أجله قسم ما عنده على أولاده، فجعل لربيعة الفرس، ولمضر القبة الحمراء، ولأنمار الحمار، ولإياد الحلمة والعصا. ثم تخاصموا بعد ذلك، واتفقوا على التحكيم، فحكم بينهما أفعى نجران6.
__________
1 نسب قريش "ص5".
2 جمهرة "ص8".
3 جمهرة النسب "ورقة 3 وما بعدها".
4 ابن خلدون "2/ 300".
5 نسب قريش "ص6"، "ولد نزار بن معد مضر وإيادا، وأمهما سودة بنت عك بن الديث بن عدنان، وربيعة، وأنمارًا، وأمهما الحدالة بنت وعلان بن حوثم بن جلهمة بن عمرو بن هلينية بن دوة"، جمهرة النسب "ورقة 4"، سبائك الذهب "ص20".
6 ابن خلدون "2/ 300"، نهاية الأرب "2/ 310".(8/60)
ولم يجزم ابن حزم في نسبة أنمار نزار، فبعد أن ذكر مضر وربيعة وإيادًا، وهم ولد نزار، قال: "وقيل: أنمار"، ثم قال: "وذكروا أن خثعمًا وبجيلة من ولد أنمار"1. أما أبو عبد الله المصعب بن عبد الله مصعب الزبيري، فأثبت نسب أنمار في نزار، وذكر أن من أنمار بجيلة "انتسبوا إلى اليمن، إلا من كان منهم بالشام والمغرب، فإنهم على نسبهم إلى أنمار بن نزار"2.
ويظهر أن نسابي خثعم وبجيلة يأبون انتسابهم إلى أنمار، إذ ذكروا ذلك، ويرون أن أراش بن عمرو تزوّج ابنة أنمار، وهي سلامة، فولدت له ولدًا سمي أنمار بن أراش. ويذكر النسابون أنه لم يشتهر أحد من ولد أنمار3. ومعنى هذا أن هذه القبيلة، كان قد ضعف حالها وذابت في غيرها، لذلك لم يذكر لها النسابون شيئًا من البطون.
وقد نسب "الزبيري" خثعمًا إلى أقبل "أفتل" بن أنمار بن نزار، وذكر أن خثعمًا هو اسم جبل تحالفوا عليه، "فنسبوا إليه، وهم بالسراة على نسبهم إلى أنمار بن نزار. وإذا كانت بين اليمن فيما هنالك وبين مضر حرب، كانت خثعم مع اليمن على مضر". كذلك نسب خزيمة، وهو يشكر إلى أنمار4.
وكان إياد على رواية الأخباريين أكبر أولاد معد5، وإليه يرجع نسب كل إيادي. وأولد إياد زهرًا ودعميًّا ونمارة، ومن نسلهم تفرعت سائر إياد6.
وقد ارتحلت إياد عن منازلها الأصلية، بسبب الحروب، فذهب قسم كبير منها إلى العراق حيث نزلوا في الأنبار وفي عين أباغ وسنداد وتكريت وبطن إياد وباعجة وأماكن أخرى، وذهب قسم آخر منهم إلى البحرين حيث انضموا إلى قضاعة، كما سكن قسم منهم في بلاد الشام7.
__________
1 جمهرة "ص9".
2 نسب قريش "ص7".
3 سبائك الذهب "ص20".
4 نسب قريش "ص7".
5 خلاصة "ص58".
6 جمهرة "ص208". نهاية الأرب "2/ 310" "طبعة الكتب المصرية"، صبح الأعشى "1/ 336" "طبعة دار الكتب المصرية".
7 الأغاني "15/ 93". Ency, ii, p. 565.(8/61)
ويروي الأخباريون أن إيادًا الذين كانوا اختاروا الإقامة في البحرين وهجر بعد تركهم مواطنهم القديمة في تهامة اضطروا إلى ترك مواطنهم الثانية والهجرة منها إلى العراق على أثر قدوم بني عبد القيس وشن بن أفصى ومن معهم مهاجرين من منازلهم إلى هجر والبحرين، فإن هؤلاء القادمين الجدد لما بلغوا هجر والبحرين ضاموا من وجدوهم بها من إياد والأزد، ثم أجلت عبد القيس إيادًا عن تلك البلاد، فساروا نحو العراق، وتبعتهم شن بن أفصى، فعطفت عليهم إياد واقتتلوا معهم حتى كاد القوم يتفانون، وقد بادت بسبب ذلك قبائل من شن1.
أما منازل إياد القديمة، فكانت تهامة مع أبناء أنمار ما بين حد أرض مضر إلى حد نجران وما والاها وصاقبها من البلاد2. ثم فارقت أنمار إخوتها ربيعة ومضر وإيادًا، فكثرت إياد وزاد عددها وكثرت قبائلها، فأخذت تعتدي على أبناء ربيعة ومضر، فوقعت بينها وبينهم من جراء بغيها هذا حروب، واجتمعت مضر وربيعة عليها، ثم تحاربوا في موضع من ديارهم يسمى "خانقًا" وهو لكنانة، فغلبت إياد، وظعنت من منازلها، وافترقت عن إخوتها، وتفرقت على رأي بعض الأخباريين ثلاث فرق: "فرقة مع أسد بن خزيمة بذي طوى، وفرقة لحقت بعين أباغ. وأقبل الجمهور حتى نزلوا بناحية سنداد. ثم اتفقوا، فكانوا يعبدون ذا الكعبات: بيتا بسنداد -وعبدتها بكر بن وائل بعدهم- فانتشروا فيما بين سنداد وكاظمة، وإلى بارق والخورنق وما يليها، واستطالوا على الفرات، حتى خالطوا أرض الجزيرة، فكان لهم موضع دير الأغور ودير الجماجم ودير مرة، وكثر من بعين أباغ منهم، حتى صاروا كالليل كثرة، وبقيت هناك تغير على من يليها من أهل البوادي، وتغزوا مع ملوك آل نصر المغازي"3، وحالها حسن معهم ومع الأكاسرة، حتى حدث حادث أفسد ما بينهم وبين الفرس، يرجعه الأخباريون إلى اعتداء نفر من إياد على نسوة من أشراف الأعاجم، وذلك في أيام "أنو شروان بن قباذ" أو "كسرى بن هرمز"، فسار إليهم الفرس، فانحازت إياد إلى الفرات، وجعلوا يعبرون إبلهم بالقراقير، ويجوزون الفرات. فتبعتهم الأعاجم، وكان على إياد يومئذ "بياضة
__________
1 البكري "1/ 80 وما بعدها".
2 البكري "1/ 18".
3 البكري "1/ 69 وما بعدها".(8/62)
ابن رباح بن طارق الإيادي". فلما التقى الناس، ارتجزت "هند بنت بياضة" شعرًا مشهورًا معروفًا، أوله:
نحن بنات طارق ... نمشي على المفارق1
ثم هجمت إياد على الفرس، وهزمتها آخر النهار، وقتلت الجيش الذي كان يتعقبها، فلم يفلت منه إلا الشريد، وجمعوا جماجمهم، فجعلوها كالكوم، فسمي ذلك الموضع دير الجماجم2.
هذه رواية من عدة رويات وردت عن الحرب التي وقعت بين الفرس وإياد، وهي الرواية الوحيدة التي يرد فيها خبر انتصار إياد على الفرس. أما الرويات الأخرى، فتقول بانتصار الفرس على إياد. فرواية أبي علي القالي مثلًا عن رجاله تنص على غزو أنو شروان لإياد على أثر اعتداء نفر من إياد على نسوة الأعاجم، وتعقيبه لهم، وقتله خلقًا منهم، حتى اضطر بعضهم إلى النزول بتكريت، وبعضهم أرض الموصل والجزيرة، عندئذ بعث أنو شروان ناسًا من بكر بن وائل مع الفرس، فنفوهم عن تكريت والموصل إلى قرية يقال لها الحَرَجيّة، ثم التقوا بهم ثانية في هذا الموضع، فهزمهم الفرس، وقتلت منهم كثيرًا، ودفنت أجسادهم بها في مقبرة ذكر صاحب الرواية أنها كانت معروفة بها إلى يومه. وسارت البقية حتى نزلت بقرى من أرض الروم، وسار بعضهم إلى حمص وأطراف الشام. وكان الحارث بن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان فيمن سار إليهم من بكر بن وائل مع الأعاجم، فأجار ناسًا من إياد، كان فيهم: أبو دواد الإيادي3.
وفي رواية أخرى أن إيادًا كانت مقربة عند الفرس، حتى إن كسرى بن هرمز كان قد اتخذ جماعة منهم امتازوا بحسن الرماية، فجعلهم رماة عنده، وجعلهم مراصد على الطريق فيما بينه وبين الفرات لئلّا يعبره أحد عليهم، إلى أن حدثت حادثة الاعتداء على النسوة، فغضب كسرى على إياد، وأرسل جيشًا
__________
1 وهو من الرجز القديم، نسب إلى نساء أخريات غير هند بنت بياضة، البكري "1/ 70 حاشية 2"، شرح الحماسة للتبريزي "3/ 35".
2 البكري "1/ 70".
3 "جار كجار أبي داود"، البكري "1/ 71".(8/63)
عليهم، لحقهم وقد عبروا دجلة، فجثا الإياديون على الركب، ورموا الفرس رشقًا واحدًا. عندئذ أمر كسرى بإرسال الخيل عليهم، وأمر "لقيط بن يعمر بن خارجة بن عَوْبَثان الإيادي"، وكان كاتبه بالعربية وترجمانه، وكان محبوسًا عنده أن يكتب إلى من كان من شداد قومه، فيما بينهم وبين الجزيرة، أن يقبلوا إلى قومهم، فيجتمعوا، ليغير على إياد كلهم، فيقتلهم. فكتب لقيط إلى قومه ينذرهم كسرى، ويحذرهم إياه في جملة قصائد رواها الأخباريون1. فهربت إياد وأمر كسرى الخيل، فأحدقت بهم وبالذين بقوا من خلف الفرات. ثم وضعوا فيهم السيوف، ومن غرق منهم بالماء أكثر ممن قتل بالسيف. ولما بلغ كسرى شعر لقيط قتله2.
أما من هرب من إياد إلى الشام، ومن كان قد هاجر إليها، فقد دان للغساسنة، وتنصر كأكثر عرب الروم، ولحق أكثرهم بلاد الروم فيمن دخلها مع جبلة بن الأيهم من غسان وقضاعة ولخم وجذام3.
ولدينا رواية أخرى في أسباب تسمية موضع دير الجماجم بهذا الاسم، تشير إلى حدوث معركة بين الفرس وإياد، وقتل إياد لقوم من الفرس، ولكنها حادثة أخرى غير الحادثة المتقدمة على ما يظهر، يرويها ابن الكلبي، خلاصتها: أن رجلًا من إياد اسمه بلاد الرماح أو بلال الرماح، وهو أنبت بن محرز الإيادي، قتل قومًا من الفرس، ونصب رءوسهم عند الدير، فسمي دير الجماجم. ولم تذكر هذه الرواية زمن حدوث هذا القتل، وهل كان قبل إجلاء إياد عن العراق أو بعده كما جاء في الروايات السابقة؟ وهل كان هذا انتقامًا من الفرس بعد ما فعلوه بإياد؟ غير أن هناك رواية أخرى يرويها ابن الكلبي أيضا تشير بوضوح إلى أن فتك إياد بالفرس في موضع دير الجماجم إنما كان بعد نفي كسرى إياهم إلى الشام وفتكه بهم، أي أن هذا الفتك كان عملا انتقاميًّا من الفرس، لما فعلوه بإياد. يقول ابن الكلبي: "كان كسرى قد قتل إيادًا، ونفاهم إلى الشام، فأقبلت ألف فارس منهم حتى نزلوا السواد. فجاء رجل منهم وأخبر كسرى
__________
1 منها:
سلام في الصحيفة من لقيط ... على من بالجزيرة من إياد
البكري "1/ 72 وما بعدها".
2 البكري "1/ 73".
3 البكري "1/ 75"، الأغاني "2/ 23 وما بعدها"، كحالة "1/ 53".(8/64)
يخبرهم، فأنفذ إليهم مقدار ألف وأربعمائة فارس ليقتلوهم، فقال لهم ذلك الرجل الواشي: انزلوا قريبًا حتى أعلم لكم علمهم. فرجع إلى قومه وأخبرهم، فأقبلوا حتى وقعوا بالأساورة، فقتلوهم عن آخرهم، وجعلوا جماجمهم قبة. وبلغ كسرى خبرهم، فخرج في أهليهم يبكون. فلما رآهم، اغتم لهم، وأمر أن يبنى عليهم دير سمي دير الجماجم"1. وهذه الرواية عن فتك إياد بالفرس، وهي أقرب إلى المنطق من الرواية الأولى التي ذكرتها عن النزاع بين كسرى وإياد.
على أن هناك أخبارًا أخرى ذكرها الأخباريون في تعليل اسم موضع "دير الجماجم" لا تشير إشارة ما إلى هذا الاصطدام بين الفرس وإياد، إنما أشار بعضها إلى حرب وقعت بين إياد وبين بني نهد في هذا المكان، قتل فيها خلق من إياد وقضاعة، ودفنوا هناك، فسمي الموضع بهذا الاسم، كما نسبت الحرب إلى قبائل أخرى لم يرد بينها اسم إياد2.
وفي رواية الأخباريون عن فتك كسرى بإياد، ونفيه إياهم إلى الشام، مبالغة كبيرة ولا شك. فإننا نجدهم أنفسهم يذكرون إيادًا مع الفرس تحارب في معركة "ذي قار"، ثم يذكرون أنها اتفقت سرًا مع بكر على أن تخذل الفرس يوم اللقاء. وقد خذلتهم بالفعل، إذ ولت منهزمة ساعة اشتداد القتال فانهزمت الفرس3. ثم تراهم يذكرون إيادًا في أخبار الفتوح، فيروون أنها حاربت تحت إمرة "بهران بن بهران جوبين" المسلمين، أي أنها كانت تحارب مع الفرس في العراق4. وأن صلاتهم كانت حسنة بهم. وهذا يناقض ما زعموه عن نفي الفرس لهم عن العراق. ولم تكن إياد من القبائل العربية النصرانية التي مالت إلى تأييد المسلمين، ففي الفتوحات الإسلامية للعراق كانوا مع الفرس على المسلمين وإن ساعدهم قسم منهم بالاتفاق معهم سرًّا، كما حدث في فتح تكريت. وفي الشام انضم قسم منهم إلى "هرقل" "heraclius" في محاولاته اليائسة التي قام بها للاحتفاظ ببلاد الشام ولاستخلاص ما استولى عليه المسلمون من تلك البقاع. ولما حلت الهزائم بالروم، فضل قسم منهم الهجرة إلى بلاد الروم والإقامة فيها. وقد كان ذلك عن عاطفة دينية ولا شك5. غير أن هذا لا يعني أن جمهرة إياد كانت كلها مع الروم.
__________
1 البلدان "3/ 131".
2 البلدان "4/ 131".
3 الطبري "2/ 253 وما بعدها".
4 Ency., II, p. 566.
5 Ency., II, p. 566.(8/65)
ذكرت أن من المواضع التي كانت لإياد في العراق، موضع سنداد. ويفهم من روايات الأخباريين عنه، أنه قصر ونهر ومنازل نزلت بها إياد حين مجيئها إلى العراق، وأنه كان في الأصل اسم حاكم فارسي كان قد عين على هذه المنطقة، فأقام بها مدة طويلة، وبنى أبنية كثيرة من جملتها القصر الذي ذكر في شعر ينسب إلى الأسود بن يعفر النهشلي، جاء فيه:
أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
وأنه أيضًا اسم قصر كان العرب تحج إليه1، وهو الذي قصده الهمداني بقوله: "وكانوا يعبدون بيتًا يسمى ذا الكعبات، والكعبات حروف الترابيع"2. ويظهر من روايات الأخباريين عن هذا القصر أنه كان من القصور الضخمة المعروفة. يظهر أنه كان مربع الشكل، أو ذا مربعات ولذلك عرف ب "الكعبات"، وب "ذي الكعبات". وذكر أيضًا أنه كان لربيعة، وأنها كانت تطوف حوله حيث قالوا: "الكعبات، بيت كان لربيعة، كانوا يطوفون به"3.
ويظهر من أقوال الأخباريين وجود عدة بيوت كانت على هيأة كعبات في جزيرة العرب لعبادة الأصنام، تحج القبائل إليها وتطوف حولها، سأتحدث عنها في الجزء الخاص بالحياة الدينية عند العرب قبل الإسلام، ومنها بيت كان ب "أحد" على رواية، أو على مقربة من شداد "سنداد" على رواية ابن دريد، أو على شاطئ الفرات على رواية تنسب إلى ابن الكلبي عرف ب "السعيدة" كانت ربيعة تحجه في الجاهلية4، وأظنهم يقصدون هذا البيت بيت سنداد.
أما مضر5، فولد إلياس والناس، ويعرف أيضا بعيلان، وأمهما الحنفاء
__________
1 البلدان "5/ 149 وما بعدها". "والبيت ذي الكعبات من سنداد"، اللسان "2/ 213". تاج العروس "1/ 457"، الأصنام "ص45".
2 الصفة "ص171" "طبعة القاهرة 1953"، بعناية محمد بن عبد الله بن بليهد النجدي".
3 تاج العروس "1/ 457"، "اللسان "2/ 213"، "وكان لربيعة بيت يطوفون به، يسمونه الكعبات وقيل ذا الكعبات".
4 تاج العروس "2/ 378"، لسان العرب "4/ 199".
5 تاج العروس "4/ 544"، جمهرة "9"، صبح الأعشى "1/ 339"، منتخبات "ص35، 55".(8/66)
ابنة إياد بن معدّ1، وسماها ابن حزم "أسمى بنت سود بن أسلم بن الحارث بن قضاعة"2، فهي قضاعية على هذا الرأي. وجعل بعض النسابين أم إلياس امرأة دعوها الرباب بنت إياد المعدية3، فهي إذن على هذه النسبة من معد.
ومضر هو شعب في نظر أهل الأنساب، والشعب في عرفهم أعظم من القبيلة4، فهو أكبر وحدة اجتماعية سياسية في اصطلاح النسابين، وهو من أعظم شعوب مجموعة عدنان، ولم يعثر على هذا الاسم في الكتابات الجاهلية، ولا في مؤلفات الكلاسيكيين. أما اسم معدّ، فقد أشير إليه كما ذكرت سابقًا في بعض مؤلفات الكلاسيكيين. وأما اسم نزار فقد ورد في نص النمارة الذي يرجع عهده إلى سنة 328 للميلاد. وقد عرف مضر ب "مضر الحمراء" عند النسابين، ويقولون إنه عرف بذلك "لأن أباه أوصى له من ماله بالذهب". ويظهر أنها كانت قبيلة عظيمة عند ظهور الإسلام، ثم اندمجت في غيرها من قبائل هذه المجموعة: مجموعة عدنان، حتى تغلبت على مضر تسمية قيس، أي تسمية أبناء قيس عيلان "قيس بن عيلان" "قيس عيلان" في الإسلام، فصارت "قيس" تؤدي معنى العدنانية، واستعملت في مقابل عرب اليمن قاطبة، فيقال: قيس ويمن5.
وولد لإلياس مدركة واسمه عامر، وعمرو وهو طابخة، وقمعة واسمه عمير، وأمهم خندف، واسمها ليلى بنت حُلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وقد نسبوا إلى أمهم فقيل لهم خندف6. وقد حصر بعض النسابين نسل خندف في مدركة وطابخة، ولذلك حصروا قبائل مضر في أصلين خندف وقيس عيلان7.
__________
1 نسب قريش "ص7"، سبائك الذهب "ص21".
2 جمهرة "ص9".
3 نهاية الأرب "2/ 325".
4 منتخبات "ص55".
5 صبح الأعشى "1/ 329". وهناك جملة تفاسير ل "مضر الحمراء"، نهاية الأرب "2/ 310".
6 "خندف: فعلل، بكسر الفاء واللام" منتخبات "ص55"، جمهرة النسب "ورقة 4". وتجد في هذه الورقة تفسير ابن الكلبي على طريقته المألوفة في وضع القصص عن معنى مدركة وطابخة وقمعة وخندف، نهاية الأرب "2/ 330"، اللسان "خندف".
7 نسب قريش "ص7"، جمهرة "ص9"، طرفة الأصحاب "ص57"، تاج العروس "3/ 544"، صبح الأعشى "1/ 339"، كحالة "3/ 1107"، منتخبات "ص55".=(8/67)
أما مدركة1، فولد له خزيمة، وهذيل. وأمهما سلمى بنت أسد بن ربيعة بن نزار2، ونسب بعضهم له ولدًا هو غالب3. وولد خزيمة كنانة. وأمه عوانة بنت قيس بن عيلان4، وأسدًا، وأسدة، والههون، وأمهم برّة بنت مرّ بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن مضر بن نزار، وهي أخت تميم بن مرّ5. وهذيل قبيلة متسعة، لها بطون كثيرة6.
وليس النسابون على اتفاق بينهم في تعيين أولاد أسدة، فجعلهم بعضهم جذامًا ولخمًا وعاملة، ونسب هؤلاء في اليمن كما أشرت إلى ذلك في أنساب قبائل قحطان على رأي أكثر النسابين7.
وأما نسل الهون8 فهم: عضل9، وديش10، ويعرفون
__________
= قال العجاج:
لا قدح إن لم تور نارا بهجر ... ذات سنى يوقدها من افتخر
من شاهد الأمصار من حيي مضر
يعني قيسا وخندف. وقال جرير:
إذا أخذت قيس عليك وخندف ... بأقطارها لم تدر من حيث تسرح
المبرد "ص1 وما بعدها".
1 صبح الأعشى "1/ 348"، ابن خلدون "2/ 319".
2 نسب قريش "ص8"، وهي "سلمى بنت أسلم بن الحاف بن قضاعة"، في جمهرة النسب "ورقة 4".
3 جمهرة "ص9"، وأضاف ابن الكلبي إليهم "غالبا" و "سعدا" و "قيسا"، وأمهم "ليلى بنت السيد؟ بن الحاف بن قضاعة"، جمهرة النسب "ورقة 4".
4 "ويقال: هند بنت عمرو بن قيس عيلان"، جمهرة النسب "ورقة 4".
5 نسب قريش "ص8"، جمهرة" ص9". "وعبد الله"، جمهرة النسب "ورقة 3".
6 صبح الأعشى "1/ 349".
7 نسب قريش "ص8 وما بعدها"، "وأسدة. فجذام، تنسب إلى أسدة"، جمهرة "ص9" جمهرة النسب "ورقة 4".
8 "الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر"، نهاية الأرب "2/ 394"، صبح الأعشى "1/ 349"، لسان العرب "17/ 231"، كحالة "3/ 1235"، أبو الفداء "1/ 107".
9 صبح الأعشى "1/ 349"، لسان العرب "13/ 480"، الصحاح للجوهري "2/ 215". كحالة "2/ 787".
10 "الديش بن مليح بن الهون"، صبح الأعشى "1/ 349"، تاج العروس "7/ 316"، "الديش بن الهون. وهو أخو عضل. ويقال لهاتين القبيلتين، وهما: عضل والديش القارة" أبو الفداء "1/ 107".(8/68)
بالقارة1، وهم بنو بيشع بن مليح بن الهون2. على حدّ قول بعض النسابين وبطنان من خزاعة هما الحيا والمصطلق، حلفاء لبني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. ويعرفون على حد قولهم بالأحابيش: أحابيش قريش. لأن قريشًا حالفت بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة على بكر بن عبد مناة، فهم حلفاء قريش3.
وأولاد كنانة، هم: النضر، وهو أكبر أولاده وبه يكنى، ومالك "مالكا"، وملكان، ومليك وغزوان، وعمرو، وعامر، وأمهم برّة بنت مرّ أخت تميم بن مرّ4، وهي نفسها زوج خزيمة والد كنانة، تزوجها كنانة بعد وفاة أبيه. وكانت العادة في الجاهلية أن يتزوج الولد البكر زوجة أبيه بعد وفاته إذا لم تكن أمه، وأن يرث خيار ماله، وهو زواج منعه الإسلام. ويعرف هذا الزواج بزواج المقت5.
وكانت لكنانة زوج أخرى، هي هالة بنت سويد بن الغطريف، ويقصدون بالغطريف حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن النبت، وقد ولدت له حُدال وسعدًا وعوفًا ومجربة. وقد ترك هؤلاء الأولاد ذرية، فكان من نسل حدّان جماعة أقامت بعدن أبين، وكان من نسل مجربة بنو ساعدة6.
أما زوج كنانة الثالثة، فكانت الذفراء: واسمها فكيهة. وهي بنت هني بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. وقد ولدت له: عبد مناة7.
__________
1 جمهرة "ص179"، تاج العروس "3/ 510"، لسان العرب "6/ 436". الإنباه "ص73"، كحالة "3/ 935".
2 جمهرة "179".
3 "فأما الهون بن خزيمة، فهم عضل، وديش، والقارة، بنو ييثع بن الهون، وهم، وبطنان من خزاعة يقال لهما الحيا والمصطلق، حلفاء لبني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وهم كلهم يقال لهم: الأحابيش أحابيش قريش"، نسب قريش "ص9".
4 نسب قريش "ص10"، "وبنو عبد مناة"، الجمهرة "ص434"، وأضاف ابن الكلبي إليهم أولادًا آخرين، جمهرة النسب "ورقة 5".
5 نسب قريش "ص10"، جمهرة النسب "ورقة 5"، بلوغ الأرب "2/ 52 وما بعدها".
6 نسب قريش "ص10".
7 نسب قريش "ص10".(8/69)
وولد النضر، وهو قريش على بعض الآراء1 مالكًا على رأي أكثر النسابين وأضاف بعضهم إليه ولدين آخرين، هما: يخلد الصلت، وأمهم عكرشة بنت عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان2. ومن يخلد قريش بن بدر بن يخلد بن النضر، وكان دليل قريش في التجارة في الجاهلية، وبه سميت قريش على رأي بعض النسابين، وباسم بدر والده دعي بدر3، وإلى الصلت بن النضر ينسب بنو مليح4 "ملح"5، على رأي، بينما يعدون من خزاعة في رأي آخر6.
أما ولد مالك، فهو فهر، وهو قريش، وأمه جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر بن سعد بن الحارث بن عضاض بن جرهم7، فهي جرهمية على هذا النسب. وبه سميت قريش قريشًا على رأي أكثرية أهل الأخبار. ولهذا يقال لهم بنو فهر8. وللأخباريين روايات عديدة في معنى قريش9.
وولد فهر غالبًا والحارث ومحاربًا وجندلة، وأمهم ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة10، وولد غالب بن فهر لؤيًّا وتميمًا وهو الأدرم، وأمهما عاتكة بنت يخلد بن النضرة بن كنانة11، وقيس بن غالب وقد انقرض نسله12.
__________
1 المبرد "ص2".
2 نسب قريش "ص11"، جمرة النسب "ورقة 5".
3 الجمهرة "ص10"، البلدان "2/ 88"، البكري "1/ 231"، "تحقيق السقا".
4 نسب قريش "ص11".
5 الجمهرة "ص11".
6 الجمهرة "ص11"، نسب قريش "ص11".
7 نسب قريش "ص22"، الجمهرة "ص11"، جمهرة النسب "ورقة 5".
8 قال الحطيئة:
وإن الذي أعطيتهم أو منعتهم
لكالتمر أو أحلى لحلف بني فهر
المبرد "ص2".
9 راجع كتب اللغة مادة "قريش"، نهاية الأرب "2/ 333"، القاموس "2/ 284"، الصحاح "1/ 495".
10 نسب قريش "ص12 وما بعدها"، وأضاف ابن الكلبي أولادا آخرين إليه، جمهرة النسب "ورقة5".
11 نسب قريش "ص12"، جمهرة النسب "ورقة 5".
12 جمهرة "ص11".(8/70)
ومن ولد لؤي كعب وعامر، وهما البطاح، وسامة ومن نسله بنو ناجية، وخزيمة وهم عائذة، وقد نزلوا في بني أبي ربيعة من شيبان، والحارث وهو جثم، وهم في همدان، وأمهم ماربة بنت كعب بن القين بن جسر بن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وسعد بن لؤي وهم بنانة، وقد نزلوا في بني شيبان، وأمه يسرة بنت غالب بن الهون بن خزيمة1، وعوف بن لؤي وقد دخل نسله في بني ذببيان بن غطفان بن قيس عيلان، وهم بنو مرّة بن عوف بن ذببيان رهط الحارث بن ظالم المري. وقد دخل أكثر هؤلاء الأبناء في غيرهم، ولذلك أدخلهم النسّابون فيمن دخلوا فيهم، وعدوا نَسْلَ كعب وعامر الصرحاء من ولد لؤي وحده2.
وولد كعب مرَّة3، وهصيصًا4، وأمهما وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر، وعدي وأمه حبيبة بنت بجالة بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر5، وولد مرّة كلابًا، وأمه هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، وسرير والد هند هو أول من نسأ الشهور، ثم نسأها القلمس ابن أخيه من بعده، واسمه عديّ بن ثعلبة بن الحارث بن كنانة. ثم صار النسيء في ولده، وكان آخرهم جنادة بن عوف. وولد أيضا تيم بن مرة ويقظة بن مرة، وأمهما بنت سعد، وهو بارق بن حارثة بن عمرو بن عامر، جد قبيلة بارق6. ومن عدي بن كعب عمر بن الخطاب وزيد7.
أما كلاب، فكان له من الولد قصيّ وزهرة. ومن نسل قصي: عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى8. وقد تحدثت سابقًا عن قصيّ منظم قريش.
__________
1 نسب قريش "ص13"، وتجد في هذا الكتاب بعض الاختلاف عما ورد في جمهرة النسب "ورقة 5 وما بعدها".
2 جمهرة "ص11".
3 ابن خلدون "2/ 326"، صبح الأعشى "1/ 354"، القاموس "2/ 133"، لسان العرب "2/ 326". تاج العروس "3/ 539".
4 نهاية الأرب "2/ 355"، كحالة "3/ 1219".
5 نسب قريش "ص13"، الجمهرة "ص12 وما بعدها"، جمهرة النسب "ورقة 6".
6 نسب قريش "ص13 وما بعدها".
7 المبرد "ص3".
8 نسب قريش "ص14"، الجمهرة "ص12"، جمهرة النسب "ورقة 6".(8/71)
فولد عبد مناف بن قصيّ: عمرًا وهو هاشم، والمطلب وهو عبد شمس ونوفلًا. وأم هاشم وعبد شمس والمطلب عاتكة بنت مرّة بن هلال بن فالح بن ذكوان السلمية، وأم نوفل واقدة من بني مازن بن صعصعة السلمية، خلف عليها هاشم بن عبد مناف بعد أبيه، فولدت له ابنتين خالدة وضعينة1.
ومن بطون كلاب بنو زهرة2، ومن بطون تيم3 بن مرّة أبو بكر الصديق، وعبد الله بن جدعان سيد قريش في الجاهلية، ومن بطون يقظة بن مرّة بنو مخزوم، ومنهم خالد بن الوليد4.
ومن نسل هصيص بن كعب، بنو جمح، وهم ولد جمح بن عمرو بن هصيص5، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص6. ومن بني سهم، عمرو بن العاص7.
وقد وقعت حرب بين بني جمح وبني محارب بن فهر في موضع عرف بردم بني جمح بمكة، قتلت فيه بنو محارب بني جمح أشد القتل، فعرف ذلك الموضع بالردم، بما ردم عليه من القتلى يومئذ8. وكان أمية بن خلف على بني جمح في حرب الفجار9.
__________
1 الجمهرة "ص12".
2 "بنو زهرة بن كلاب"، تاج العروس "3/ 248"، أبو الفداء "1/ 114"، نهاية الأرب "2/ 357"، جمهرة "119 وما بعدها".
3 "تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر"، نهاية الأرب "2/ 357"، أبو الفداء "1/ 113"، صبح الأعشى "1/ 354"، كحالة "1/ 138".
4 المبرد "ص3"، الاشتقاق "ص61/ 88"، "بنو يقظة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر"، نهاية الأرب "2/ 356"، ابن خلدون "2/ 326"، أبو الفداء "1/ 113" صبح الأعشى "1/ 354، 355"، "بنو مخزوم بن يقظة" جمهرة "131 وما بعدها"، لسان العرب "15/ 68"، الاشتقاق "60"، تاج العروس"6/ 263"، "8/ 276". الإنباه "17"، كحالة "3/ 1058".
5 الجمهرة "ص150"، تاج العروس "2/ 133"، صبح الأعشى "1/ 353"، نهاية الأرب "2/ 356"، الإنباه "ص71". كحالة "1/ 202 وما بعدها".
6 الجمهرة "ص154 وما بعدها".
7 المبرد "ص3"، أبو الفداء "1/ 113"، القاموس "4/ 134"، الإنباه "71"، نهاية الأرب "2/ 356"، تاج العروس "8/ 352"، كحالة "2/ 560".
8 البكري "2/ 649" "تحقيق السقا"، أبو الفداء "1/ 113".
9 الأغاني "19/ 77".(8/72)
أما نسل ربيعة بن نزار، فهم أسد وضبيعة1، ويضاف إليهما أكلب2 على بعض الروايات، ومن نسل هؤلاء تفرعت قبائل ربيعة. فمن أسد كانت جديلة وعنزة وعمير3. ومن بني عنزة بنو هزّان بن صباح بن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة. وبنو جلّان بن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة. وبنو الحارث بن الدؤل بن صباح بن عتيك بن أسلم. كان إذا مصر ثوبيه مصرت عنزة معه. وعرف من بني هزان آل ضور بن رزاح وهو الذي يقال إنه الحارث بن لؤي بن غالب الذي يسمى جشمًا، وجشم كان عبدًا لأبيه، حضنه فسمي به4.
وتعد عنزة5 من القبائل العربية الكبيرة، وهي لا تزال من القبائل البارزة في الزمن الحاضر، ولها بطون عديدة في الحجاز ونجد وبادية الشأم والشأم. أما تأريخها قبل الإسلام، فهو مثل تواريخ القبائل الأخرى من حيث الغموض. وقد كانت تتعبد في الجاهلية لمحرق ولسعير6.
وأما ولد ضبيعة7، فهم أحمس8 والحارث. ومن بني أحمس الشاعر المسيب، وهو زهير بن علس، والحارث الأضجم بن عبد الله بن ربيعة بن دوفن سيد
__________
1 ابن خلدون "2/ 300"، نسب ربيعة بن مضر بن عدنان. وهو ربيعة بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان". طرفة الأصحاب "ص62"، سبائك الذهب "ص53"، لسان العرب "9/ 469"، صبح الأعشى "1/ 337، 339"، نهاية الأرب "2/ 328"، لسان العرب "4/ 39"، الاشتقاق "194"، كحالة "1/ 224، 2/ 663"، تاج العروس "5/ 427".
2 جمهرة "ص275"، نهاية الأرب "2/ 310، 328".
3 نهاية الأرب "2/ 328"، الاشتقاق "194".
4 جمهرة "ص276 وما بعدها".
5 ابن خلدون "2/ 300"، نهاية الأرب "2/ 328"، الاشتقاق "ص194، 202". لسان العرب "7/ 251"، جمهرة "277". تاج العروس "3/ 62"، القاموس "2/ 184"، كحالة "2/ 846 وما بعدها".
6 ency., I, p. 346.
7 الاشتقاق "ص190"، ابن خلدون "1/ 300"، نهاية الأرب "2/ 328" صبح الأعشى "1/ 339"، تاج العروس "5/ 427"، كحالة "2/ 663".
8 الاشتقاق "ص190"، كحالة "1/ 10".(8/73)
ربيعة الذي نشبت بسبب مقتله حرب بين بني ربيعة، والمتلمس الشاعر. ومن بني أحمس أيضًا بنو الكلبة، وهم أولاد مرّة بن مازن بن أوس بن زيد بن أحمس بن ضبيعة، ومنهم الحُلَيْس وابن المسيب1.
أما جديلة2، وهو جدّ جديلة، فولد دُعميًّا3 وجدْيًا4. وقد دخل بنوه في بني شيبان، وجدار "جدانا"5، وقد دخل نسله في بني زهير بن جشم من بني النمر بن قاسط. وولد غير ذلك في بعض الروايات6. وولد دعمي أفصى7، وولد أفصى هنبسًا وعبد القيس وجشمًا ودخل بنوه في عبد القيس، وناشمًا، ودخل بنوه في بني تغلب8.
ومن نسل عبد القيس بن أفصى، شن9 ولكيز10. ومن ولد لكيز وديعة وهو جدّ بطن، وصباح، وهم بطن كذلك ونكرة، ومن بطون وديعة عمرو، وغنم، ودهن، ومن عمرو بن وديعة مالك وثعلبة وعائدة وسعد وعوف والحارث، ومن الحارث، ابن أنمار بن عمرو بن وديعة البراجم، وهم عبد شمس وعمرو وحيّ بني معاوية بن ثعلبة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن ربيعة، وهؤلاء
__________
1 جمهرة "ص275 وما بعدها".
2 الاشتقاق "196"، ابن خلدون "2/ 300"، نهاية الأرب "2/ 311"، كحالة "1/ 173"، "جديلة بفتح الجيم وكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة تحت وفتح اللام، وهاء في الآخر، والنسبة إليهم جدلي"، صبح الأعشى "1/ 327".
3 "دعمى"، لسان العرب "15/ 92"، القاموس "4/ 112"، تاج العروس "8/ 291". نهاية الأرب "2/ 311".
4 جمهرة "278".
5 "جدار" جمهرة "278"، "جدان بن جديلة بن أسد بن ربيعة"، تاج العروس "2/ 316، 9/ 160"، كحالة "1/ 170"، جمهرة "ص278"، سبائك الذهب "ص53"، المبرد "18".
6 سبائك الذهب "ص53".
7 نهاية الأرب "2/ 329".
8 جمهرة "ص278"، سبائك الذهب "53".
9 "شن بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار"، الاشتقاق "ص196"، تاج العروس "9/ 256"، لسان العرب "17/ 109"، الصحاح للجوهري "2/ 387"، جمهرة "282"، سبائك الذهب "ص54".
10 سبائك الذهب "ص54"، الاشتقاق "196"، لسان العرب "7/ 272".(8/74)
البراجم هم غير براجم تميم1، والجارود وقد كانت له صحبة بالرسول وولي أولاده منازل رفيعة في الإسلام2.
ومن نسل عجل بن عمرو بن وديعة بن لكيز، ذهل وذاهل، ومن بني ذهل ليث وثعلبة، وهما ابنا حداد بن ظالم بن ذهل بن عجل بن عمرو. ومن ليث بن حداد، بنو ذهل بن ليث، ومنهم جيفر بن عبد عمرو بن خوليّ بن همام بن الفاتك3، ومن نسل عمرو بن وديعة بنو محارب4، ومنهم الحطم بن محارب، وإليه تنسب الدروع الحطمية، وبنو الدّيل بن عمرو بن وديعة5، ومن نسل وديعة بن لكيز بنو دهن وبنو غنم، ومنهم الدّيل ومازن6.
واشتهر من ولد نكرة بن لكيز، الشاعر المثقب، والشاعر الآخر الممزق، وهو شأس، والمفضل بن معشر بن أسجم وهو شاعر كذلك7.
أما شن بن أفصى، فكان من نسله يزيد بن شن، يذكر أهل الأخبار أنه أول من ثقف القنا بالخط، وعديّ، والدّيل. ومنهم عمرو بن الجعيد بن صبرة بن الدّيل بن شن بن أفصى بن عبد القيس، وهو الذي ساق عبد القيس من تهامة إلى البحرين، وعرف بالأفكل8، وكان سيد ربيعة في الجاهلية، وكان ذا بغي، فسارت إليه بنو عصر، فقتلوه. ومن بني عمرو رثاب بن البرّاء، وكان على دين المسيح9.
ومواطن بني عبد القيس بتهامة في الأصل، ثم ارتحلت عنها بسبب الحروب التي وقعت بين أبناء ربيعة، فذهبت إلى البحرين، فتغلبت على من كان قد
__________
1 الأغاني "1/ 209".
2 الجمهرة "ص278 وما بعدها"، المبرد "18"، الإصابة "1042". الاشتقاق "197"، المعارف "115".
3 جمهرة "ص280".
4 الصفة "132"، كحالة "3/ 1043".
5 الصحاح "2/ 186"، لسان العرب "13/ 249".
6 جمهرة "ص180 وما بعدها"، سبائك الذهب "ص54".
7 جمهرة "282"، شيخو: شعراء النصرانية "القسم الثالث: في شعراء بكر بن وائل من بني عدنان، ص400 وما بعدها".
8 جمهرة""ص282"، الاشتقاق "ص197".
9 الاشتقاق "ص197".(8/75)
سكن قبلهم بها من إياد ومن بكر بن وائل وتميم. واقتسمتها بينهم، فنزلت جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز الخط وأفناءها، ونزلت شن أفصى طرفها وأدناها إلى العراق، ونزلت نكرة بن لكيز القطيف وما حوله والشفار والظهران إلى الرمل وما بين هجر إلى قطر وبينونة، ونزلت عامر بن الحارث بن أنمار بن عمرو بن وديعة والعمور، وهم بنو الدّيل بن عمرو، ومحارب بن عمرو، وعجل بن عمرو الجوف والعيون والأحساء، ودخلت قبائل منهم جوف عُمان فصاروا شركاء للأزد في بلادهم1. وقد بقيت بنو عبد القيس في هذه المواضع محتفظة بها عند ظهور الإسلام.
ويظن أن "aboukaiun"، وهو اسم قبيلة وموضع ذكر في جغرافية "بطلميوس" هو "عبد القيس"2. ولم يتحدث "الكلاسيكيون" شأنهم في أكثر ما كتبوه عن بلاد العرب بشيء عن هذه القبيلة. ولكن الأخباريين يروون أن عرب بلاد عبد القيس والبحرين وكاظمة غزوا السواحل المقابلة لهم من أرض إيران، وذلك لضيق معاشهم، وللضنك الذي حل بهم في عهد سابور ذي الأكتاف "سابور الثاني" منتهزين فرصة اضطراب الأمن في تلك البلاد وضعف الحكومة بسب صغر سن الملك. فلما كبر الملك واشتد، جمع جموعه وسار بها على الغازين، ففتك بهم، وأسر منهم خلقًا كثيرًا، ثم عبر البحر "فورد الخط واستقرى بلاد البحرين، يقتل أهلها ولا يقبل فداء. ولا يعرج عن غنيمة، ثم مضى على وجهه، فورد هجر، وبها ناس من أعراب تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، فأفشى فيهم القتل" "ثم عطف على بلاد عبد القيس، فأباد أهلها" ثم سار إلى اليمامة، فقتل بها مقتلة كبيرة، ولم يمر في طريقه بماء إلا غوره، ولا جب من جبابهم إلا طمّه، حتى وصل قرب المدينة، فقتل من وجد هناك من العرب، وأسر. ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب فيما بين مملكة فارس ومناظر الروم بأرض الشام، فقتل من وجد بها من العرب، وسبى وطَمَّ مياههم، ثم أسكن من
__________
1 البكري "1/ 80 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 300"، نهاية الأرب "2/ 329". الاشتقاق "ص196"، صبح الأعشى "1/ 337"، القاموس "2/ 244، 387"، لسان العرب "8/ 72، 398"، الأغاني "13/ 56، 14/ 44، 103 وما بعدها". كحالة "2/ 726 وما بعدها".
2 ency., I, p. 45.(8/76)
بني تغلب من البحرين دارين واسمهما هيبح والخط، ومن كان من عبد القيس وطوائف من بني تميم هجر، ومن كان من بكر بن وائل كرمان، ومن كان منهم من بني حنظلة بالرملية من بلاد الأهواز1.
وهم يذكرون أيضًا أن عرب الشام قد تأثروا بما فعله سابور بهم، فاتفقوا مع الروم، وانتقموا منه. ولكن سابور بعد انتصاره على الروم، عاد فاتبع سياسة استرضاء العرب، فاستصلحهم، وأسكن بعض قبائل تغلب وعبد القيس وبكر بن وائل كرمان وتوج والأهواز2. وهذه الرواية الثانية هي، ولا شك الجزء الأخير من حديثهم عن حملة سابور على بلاد العرب، أخذها الطبري أو المورد الذي اعتمد عليه من مورد كان قد جزأ الكلام، فصار الحديث الواحد حديثين اثنين. ونجد ذلك واضحًا وضوحًا تامًّا في اتفاق العبارات بين الروايتين، ثم إن الإسكان الإجباري في أرض ما ليس نوعًا من الاستصلاح والاسترضاء. وفي حديث الأخباريين عن حملة سابور على بلاد العرب ووصوله إلى مقربة من المدينة وعن تنكيله بالعرب وحرقه المدن وطمّه المياه، مبالغات كبيرة ولا شك، أخذت من موارد فارسية بولغ فيها، وليس في روايات المؤرخين الروم عن هذا الحادث ما يؤيد هذا الزعم.
وكان والي البحرين عند ظهور الإسلام، المنذر بن ساوى، وهو من بني تميم، يحكمها باسم الفرس على حد رواية الأخباريين، وقد أرسل إليه الرسول رسولا عنه يدعوه وقومه من بني عبد القيس إلى الإسلام. وكان رسول رسول الله هو العلاء بن الحضرمي. فلما أتاه العلاء يدعوه ومن معه بالبحرين إلى الإسلام أو الجزية، أسلم المنذر، وأسلم جميع العرب بالبحرين3. وقد أوفدوا وفدًا عنهم إلى الرسول برئاسة المنذر بن الحارث بن النعمان بن زياد بن نصر بن عمرو بن عوف بن جزيمة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن بكر، فاتصل بالرسول، وصارت له صحبة ومكانة منه. ووفد منهم إلى الرسول أيضًا الجارود وهو "بشر
__________
1 الطبري "2/ 66 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 70".
3 ابن الأثير "2/ 86 وما بعدها"، ابن خلدون "2 بقية الجزء الثاني ص 26"، المحبر "ص265".(8/77)
ابن عمرو بن خناش"، وثعلبة أخو عوف بن جذيمة، وفدا في بني عبد القيس سنة تسع مع المنذر بن ساوى. وكان نصرانيًّا فأسلم.
وكان بين بني عبد القيس وسكان البحرين والعربية الشرقية بصورة عامة جماعة على دين يهود، وجماعة أخرى على دين المجوس، وجماعة على دين النصارى. وقد صالح من قرر البقاء في دينه العلاء بن الحضرمي والمنذر بن ساوى على الجزية1.
وينسب إلى أبي عبيدة معمر بن المثنى كتاب أخبار بني عبد القيس، اسمه "كتاب خبر عبد القيس" وإلى عَلّان الشعوبي كتاب اسمه "مثالب عبد القيس"، كذلك ينسب إلى المدائني كتاب اسمه "كتاب أشراف عبد القيس"2.
ومن ولد هنب بن أفصى3 قاسط بن هنب4، وهو والد وائل بن قاسط5، والنمر6 ومن بني النمر تيم الله وأوس مناة وعبد مناة وقاسط، ومن بني تيم الله بن عامر سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط. وأبو حوط الحظائر بن جابر، والد جابر الخير، أخو المنذر بن ماء السماء لأمه7.
ومن رجال بني النمر بن قاسط سنان بن مالك، وكان على الأبلة، استعمله كسرى عليها. وهو والد صهيب من أصحاب الرسول. وقد عرف "صهيب" بصهيب الرومي. وذكر ابن خلدون أنه ينسب إلى الروم8، فهل عنى بذلك
__________
1 ابن الأثير "2/ 89".
2 ency. I, p.46.
3 تاج العروس "1/ 518". لسان العرب "2/ 287"، نهاية الأرب "2/ 329"، ابن خلدون "12/ 301"، كحالة "3/ 1229".
4 لسان العرب "9/ 255"، الاشتقاق "202".
5 نهاية الأرب "2/ 330"، الاشتقاق "202"، لسان العرب "14/ 245"، القاموس "4/ 63"، كحالة "3/ 1244"، ابن خلدون "2/ 301".
6 جمهرة "283"، القاموس "2/ 149"، لسان العرب "7/ 95"، تاج العروس "3/ 586"، صبح الأعشى "1/ 338"، كحالة "3/ 1193".
7 جمهرة "ص283 وما بعدها".
8 جمهرة "ص283 وما بعدها".(8/78)
أن أمه من الروم، أو أن أجداده من أصل رومي، عُدّوا من النمر بن قاسط؟ ومن أشهر ديار النمر بن قاسط رأس العين "رأس"1.
وقد كانت النمر بن قاسط في جملة القبائل العدنانية الأخرى التي خضعت لحكم كندة، ويذكر الأخباريون في تعليل ذلك أن الحارث بن أبي شمر الغساني لما قتل عمرو بن حجر "ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو، وأمه بنت عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان. ونزل الحيرة. فلما تفاسدت القبائل من نزار، أتاه أشرافهم، فقالوا: إنا في دينك، ونحن نخاف أن نتفانى فيما يحدث بيننا، فوجه معنا بنيك، ينزلون فينا، فيكفون بعضنا عن بعض. ففرق ولده في قبائل العرب، فملك ابنه حجرًا على بني أسد وغطفان، وملك ابنه شرحبيل قتيل يوم الكلاب على بكر بن وائل بأسرها وبني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم والرباب، وملك ابنه معد يكرب، وهو غلفاء، على بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة وطوائف من بني دارم بن مالك بن حنظلة والصنائع، وهم بنو رُقَيّة قوم كانوا يكونون مع الملوك من شذاذ العرب، وملك ابنه عبد الله على عبد القيس، وملك ابنه سلمى على قيس"2. فكانت هذه القبيلة إذن في جملة القبائل العدنانية التي جمع شتاتها تاج كندة. وليس في رواية الأخباريين هذه غرابة، فقد رأينا امرأ القيس يحكم قبله قبائل عديدة، ويفرض تاجه عليها، ثم يوزّع أبناءه على تلك القبائل. ولكن هذا التوحيد لا يدوم في العادة أمدًا طويلًا، إنما يتوقف على حكمة الحكام، وعلى حسن تصرفهم، وعلى قوتهم وقدرتهم، وسلطة ذات يدهم. فإذا ظهر ضعف على الحاكم أو الحكام، أو حدث حادث، يتبين منه للقبائل الخاضعة أن من خضعت له لم يعد قويًّا متمكنًا، ثارت عليه ثم لا يلبث ذلك البناء أن ينهار.
أما نسل وائل بن قاسط، فهم بكر ودثار، وهو تغلب، وعبد الله، وهو عنز، والشُّخيص3، وقد دخل نسله في بني تغلب، والحارث وقد دخل في بني عائش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة بن بكر بن وائل. أمهم كلهم هند
__________
1 ابن خلدون "2/ 301".
2 الأغاني "9/ 81 وما بعدها".
3 الجمهرة "285".(8/79)
بنت مرّ بن طابخة بن إلياس بن عامر1.
وولد تغلب بن وائل غنمًا، والأوس، وعمران. ومن ولد غنم عمرو ووائل ومن ولد وائل شيبان ولوذان، ومن ولد عمرو بن غنم بن تغلب حبيب ومعاوية وزيد، ومن نسل حبيب بكر وجشم ومالك، ومن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب كان الشاعر عمرو بن كلثوم، وبنوه: عبد الله والأسود، وهما شاعران كذلك، وعباد، وهو قاتل بشر بن عمرو بن عدس. وكان من بني جشم مُرّة بن كلثوم، وهو فارس من فرسان الجاهلية، وكان أخًا لعمرو بن كلثوم، وأبو حنش عاصم بن النعمان بن مالك بن عتاب وهو ابن عم عمرو بن كلثوم، وعاصم هذا هو قاتل شرحبيل بن الحارث الملك آكل المرار يوم الكلاب2.
ومن بني الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب، كليب، ومهلهل، وعديّ، وسلمة بنو ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم، ومن نسل مهلهل ليلى وهي أم عمرو بن كلثوم، ومن نسل كليب هجرس بن كليب3.
__________
1 الجمهرة "ص287"، المبرد "17".
2 الجمهرة "ص287".
3 "تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار"، لسان العرب "2/ 145"، تاج العروس "1/ 231"، الاشتقاق "ص202"، القاموس "1/ 113"، الصحاح "1/ 88"، نهاية الأرب "2/ 316".(8/80)
تغلب:
وتغلب من القبائل العربية الكبيرة التي ورد اسمها كثيرًا في مؤلفات الأخباريين والمؤرخين ولها أيام مع القبائل الأخرى، وهي مثل سائر القبائل العدنانية الأخرى مهاجرة على عرف النسابين، تركت ديارها وارتحلت إلى الشمال، فسكنت في العراق وفي بادية الشام، واتصلت منازلها بالغساسنة والمناذرة والروم والفرس. وكانت غالبيتها على النصرانية عند ظهور الإسلام.(8/80)
وينسب النسابون تغلب إلى جد أعلى زعموا أن اسمه "تغلب"، وهو "تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار"1.
وقد عرفت هذه القبيلة ب "الغلباء"2. وهو نعت يدل على فخر القبيلة بنفسها وعلى تباهيها على غيرها من القبائل. وقد ذكر بعض أهل الأخبار عنها قوله: "لو أبطأ الإسلام قليلًا، لأكل بنو تغلب الناس"3. تعبيرًا عن قوتها وكثرتها وأهميتها إذْ ذاك بين القبائل.
وقيل في اسمها تغلب بنت وائل بالتأنيث، ذهابًا إلى القبيلة، كما قالوا: تميم بنت مرّ. جاء في شعر الفرزدق:
لولا فوارس تغلب ابنة وائل ... ورد العدو عليك كل مكان4
وقد كانت لرؤساء تغلب الرئاسة على قبائل ربيعة، كما صار لها اللواء. أي رئاسة الحرب. فمن يحمل اللواء تكون له الرئاسة في الحرب5.
ويرى أهل الأخبار أن قبيلة تغلب مثل سائر قبائل ربيعة كانت تسكن في الأصل في تهامة، ثم انتشرت فنزلت الحجاز ونجد والبحرين، فلما تحاربت مع "بكر بن وائل"، زحفت نحو الشمال حتى بلغت أطراف الجزيرة، فسكن قوم منها جهات سنجار ونصيبين، حتى عرفت تلك الديار ب "ديار ربيعة"6. وديار ربيعة بين الموصل إلى رأس عين ونصيبين و "دنيسر" والخابور، وما
__________
1 لسان العرب "2/ 145"، تاج العروس "1/ 231"، الاشتقاق "ص202"، القاموس "1/ 113"، الصحاح "1/ 88" نهاية الأرب "2/ 316"، جمهرة أنساب العرب، لابن حزم "286".
2 قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان، للقلقشندي "ص130"، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، للقلقشندي "ص287".
3 شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص283" "القاهرة 1962م"، النصرانية "125"، شرح التبريزي لمعلقة عمرو بن كلثوم "108"، "طبعة لايل"، النصرانية "125".
4 القلقشندي، نهاية الأرب "286".
5 ابن الأثير، الكامل "1/ 312".
6 نهاية الأرب "170"، قلائد الجمان "132"، سبائك الذهب "52".(8/81)
بين هذه المدن والقرى. وجمعت هذه الديار بين "ديار بكر" و "ديار ربيعة" وسميت كلها ب "ديار ربيعة"1. وقد انتشرت بطون تغلب في الثرثار، بين سنجار وتكريت2.
ويروي أهل الأخبار أن أول من نزل بطون تغلب في الجزيرة الفراتية هو: "علقمة بن سيف بن شرحبيل بن مالك بن سعد بن جشم بن بكر" وقد قاتل أهل الجزيرة حتى غلبهم، وأنزل قومه بها. ويؤيدون رأيهم هذا بما جاء في معلقة "عمرو بن كلثوم":
ورثنا مجد علقمة بن سيف ... أباح لنا حصون المجد دينا3
وقد كان شريفًا رئيسًا في الجاهلية4
وقد أدى اتصال تغلب بالروم وبنصارى العراق والجزيرة وبلاد الشأم إلى دخول قسم منهم في النصرانية كمعظم القبائل التي دخلت العراق وبلاد الشام. وهي من القبائل المتنصرة ومن سكان الخيام5.
وقد تغلب الشاعر "جابر بن حنى التغلبي"، ويقال إنه قال في شعر له مخاطبًا بهراء:
وقد زعمت بهراء أن رماحنا ... رماح نصارى لا تخوض إلى الدم6
وهو بيت من قصيدة يفتخر فيها بقومه وبشجاعتهم: ومعنى هذا البيت إن صح، أن النصارى لم يكونوا أشداء في الحروب، وأنهم لم يكونوا على شاكلة العرب الوثنيين في الطعن والضرب.
ومن ولد تغلب في رأي النسابين: غنم والأوس وعمران. ومن بطون غنم:
__________
1 ابن خلدون "2/ 104"، صبح الأعشى "1/ 337"، البلدان "2/ 494" "بيروت 1956م".
2 البلدان "1/ 921" "طهران".
3 جمهرة أشعار العرب "124"، شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص129"، شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص411".
4 الاشتقاق "203".
5 raccolta, p. 142.
6 النصرانية "126"، شعراء النصرانية "190".(8/82)
"الأراقم". وهم جشم ومالك وعمرو وثعلبة والحارث ومعاوية وهم بنو بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب1. ومنهم: عمرو بن الخنس قاتل "الحارث بن ظالم"، وكان "الأسود بن منذر" ملك الحيرة قد طلب ذلك منه. ومنهم "الهذيل بن هبيرة" وكان قد رأس تغلب في الجاهلية2. وكان جرارًا للجيوش، أسره يزيد بن حذيفة السعدي3.
ومن "بني تغلب" "السفّاح بن خالد"، واسمه "سلمة". وكان جرارًا للجيوش في الجاهلية. وإنما سمي "السفاح"، لأنه سفح المزاد يوم كاظمة، وقال لأصحابه: قاتلوا فإنكم إن أهزمتم مُتم عطشًا4.
ومن بني غنم: بنو جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. ومنهم الشاعر: عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم، ومن ولده: عبد الله والأسود، وهما شاعران سيدان. وعَبّاد، وهو قاتل بشر بن عمرو بن عدس5.
ومنهم "أبو حنش"، عاصم بن النعمان بن مالك بن عتاب، وهو ابن عم عمرو بن كلثوم. وهو قاتل "شرحبيل بن الحارث" الكندي، وذلك يوم الكلاب6. ومنهم "الفدوكس" الذين منهم "الأخطل"7.
ومن بني جشم بن بكر بن الحارث، "كليب وائل"، ذو الصيت الشهير في كتب أهل الأخبار شقيق. "مهلهل". و "كليب وائل" هو "وائل بن ربيعة بن الحارث بن زهير". وقد ضرب به المثل في العز فقيل "أعز من
__________
1 المبرد، نسب عدنان وقحطان "ص17"، المعارف "32"، الاشتقاق "203"، ابن رشيق، العمدة "157".
2 الاشتقاق "339".
3 الاشتقاق "203".
4 قال الشاعر:
وأخوهما السفَّاح ظمأ خيله ... حتى وردن جباء الكلاب نهالا
الاشتقاق "ص203".
5 المعارف، لابن قتيبة "ص43"، شرح المعلقات، للتبريزي "ص283"، جمهرة ابن حزم "ص287".
6 ابن حزم، جمهرة "ص287".
7 الاشتقاق "204".(8/83)
كليب وائل"1. وكان والده "ربيعة"، قد قاد مضر وربيعة يوم السلان إلى أهل اليمن، وأدخله "السكري" في جملة "الجرارين"2.
أما السبب الذي حمل "ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير التغلبي" على مقارعة قبائل اليمن وحروبها، فهو شعور أبناء تغلب بوجوب التخلص من نفوذ اليمن عليها، ومن حكم "زهير بن جناب الكلبي" عليها. فقد زعم أهل الأخبار أن "تغلب" كانت مثل سائر قبائل "معدّ" خاضعة لنفوذ حكام اليمن، وقد سئمت من جوار الحكام الذين ينصبهم "التبابعة" عليها، فظهر رجال فيها عزموا على التخلص من ذلك النفوذ، وتكوين حلف قوي يكبح جماح اليمن يتألف من قبائل معد. وكان من بين أولئك الرجال "ربيعة بن الحارث بن زهير" والد "كليب وائل"، وكانت خطته ضرب اليمن للتخلص من حكم "زهير بن جناب" الذي كان حكّام اليمن قد أقاموه على قبائل معدّ. وجمع قبائل مضر وربيعة تحت زعامة واحدة، وبذلك تتخلص تلك القبائل من تحكم اليمن في شئونها ومن دفع الإتاوة لها.
ويذكر أهل الأخبار أن "زهير بن جناب" الكلبي القضاعي، كان قد ولي أمر "معد" بمساعدة حكّام اليمن وتأييدهم له، ويذكر بعض منهم أن "أبرهة" الحبشي هو الذي نصب زهيرًا عليها وأيده وأعانه على معدّ. وذاك حينما غزا "أبرهة" نجدًا وتوسع فيها، فجاءه "زهير" ليتقرب إليه، وليعينه على بعض قبائل معدّ3.
وسار "زهير" في حكم معدّ، حتى اشتط وبغى وقسا في جمع الإتاوة، فضجر الناس منه، وهاجمه "زيابة" من "بني تيم الله"، وطعنه طعنة ظن أنه قد قضى بها عليه. ولكن زهيرًا نجا منها، فجمع عندئذ قومه ومن كان معهم من قبائل قحطان وغزا بكرًا وتغلب، فانهزمت بكر ثم تغلب، وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة، وجماعة من أشراف تغلب. فتأثرت قبائل ربيعة من هذه الهزيمة، وعينت "ربيعة بن مرّة بن الحارث بن زهير التغلبي" رئيسًا
__________
1 الاشتقاق "204"، ابن الأثير، الكامل "1/ 214".
2 المحبر "ص249".
3 ابن الأثير، الكامل "1/ 205".(8/84)
عليها، فحمل ربيعة ومن انقاد إليه على زهير، واسترجع الأسرى ولكن زهيرًا لم يلبث أن عاد إلى ما كان عليه من جمع الإتاوة من معد1.
وكليب وائل، كما يظهر من روايات الأخباريين، رجل صلب قوي، ارتفع نجمه بعد يوم "خزازى" "خزاز" الذي أظهر قوة معدّ لما اجتمعت؛ فانتخب رئيسًا مطاعًا على هذه القبائل، وأعطي الملك والتاج، وبقي على ذلك دهرًا، حتى دخله زهو شديد، فأخذ يبغي على القبائل ويشتط في أخذ الإتاوة منها وفي اتخاذ خيرة الأرض المخصبة ذات المياه الغزيرة مناطق حمى لا يجوز لإبل غيره الرعي فيها، وفي الاستيلاء على مواضع الماء، حتى ضجرت الناس منه وسئمت حكمه وودت لو تمكنت من التخلص ممن جوره وتعسفه2.
قال "ابن الكلبي": لم تجتمع معد كلها إلا على ثلاثة من رؤساء العرب، وهم: عامر بن الظرب بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث: والثاني ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب، وهو قائد معد يوم السلان. وهو كما رأينا والد "كليب". والثالث: كليب بن ربيعة3. ويظهر من ذلك أنه ورث رئاسة قومه ورئاسة معدّ من والده، وأنه زاد في قومه وفي مكانته يوم قاوم قبائل اليمن، وتغلب عليها في "يوم خزاز"، وكانت معدّ تهاب اليمن، وتخضع لملوكها، لذلك كان يوم السلان ويوم خزاز، نصرًا معنويًّا كبيرًا لها، جرأها على الوقوف أمام اليمن، وعلى تحديها. وجعلها تشعر بأنها قوة وأن في إمكانها صد اليمن لو اتحدت قبائل "معدّ" فيما بينها، ووحدت كلمتها تحت رئاسة رئيس قوي قدير.
ويذكر أهل الأخبار أن معدا اجتمعت كلها تحت رايته، وجعلت له قسم الملك وتاجه وتحيته وطاعته، فغبر بذلك حينًا من الدهر ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه،
__________
1 المحبر "ص249"، العقد الفريد "6/ 97" "العريان"، نهاية الأرب "15/ 420 وما بعدها".
2 ابن الأثير، الكامل "1/ 214"، النقائض "905 وما بعدها" الميداني، الأمثال "1/ 254"، خزانة الأدب "1/ 301 وما بعدها"، المحبر "249"، المعارف "605 وما بعدها" "دار الكتب سنة 1960م".
3 نهاية الأرب" 15/ 396 وما بعدها"(8/85)
ويقول: وحش أرض كذا في جواري، فلا يهاج، ولا تورد إبل أحد مع إبله ولا توقد ناره. وكان إذا رأى أرضًا فأعجبته حماها ومنع الناس عنها، وذلك بأن يطلق جروا يعوي، فيكون المكان الذي ينقطع فيه صوت العواء فلا يسمع، هو حد تلك الأرض. قيل ولذلك عرف ب "كليب"1.
وكان "كليب" قد تزوج "جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة"، وهي أخت "جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة"2. وهي أيضًا من أشراف قومها، و "ذهل بن شيبان" من الأسر المعروفة التي نجد لها اسمًا بين الجاهليين.
وقد أدت عنجهية "كليب" وغطرسته إلى مقتله، وسبب ذلك على ما يقوله أهل الأخبار أن ناقة كانت للبسوس خالة "جَسّاس"، أو إلى "جليلة أخت جساس" على رواية، أو إلى رجل اسمه "سعد الجرمي" واسم الناقة "السراب" كانت قد اختلطت بإبل "كليب" وأخذت ترعى معها، فلما رآها كليب، أنكرها واستعظم أمر دخولها المرعى مع إبله، فرمى ضرعها بسهم فنفرت وهي ترغو. فلما رأت "البسوس"، أو "جليلة" أو رأى "سعد الجرمي" الناقة وقد أصيبت بسهم كليب، عز على صاحبها ذلك، أو على صاحبتها حسب اختلاف الروايات، وذهب أو ذهبت كل واحدة منهما إلى "جساس"، صارخًا أو صارخة، وكل منهم في جواره وعند فناء بيته، فثار الدم في رأسه، وأخذته العزة، وذهب غاضبًا إلى "كليب" ومعه "عمرو بن الحارث" فكلماه، وأظهر جسّاس ما حلّ به من ذل وإهانة برمي "السراب" بالسهم، فلم يبال بهما، فطعنه "جساس" وضربه "عمرو بن الحارث"، فقتل كليب3.
وقد أثار مقتل "كليب وائل" هذا حربًا استمرت أربعين سنة على ما يذكره أهل الأخبار عرفت ب "حرب البسوس". وهي في الواقع معارك وغزوات
__________
1 نهاية الأرب "51/ 396"، أبو الفداء، المختصر في أخبار البشر "1/ 65 وما بعدها" "طبعة بيروت"، السويدي، سبائك الذهب "105".
2 المحبر "ص300".
3 العقد الفريد "5/ 150"، النويري، نهاية الأرب "15/ 396"، اللسان "6/ 28"، "دار صادر".(8/86)
وقعت في أوقات متقطعة وقعت بين "تغلب" ومن حالفها وبين "بكر". أثارها وأشعل نارها "مهلهل" أخو "كليب" أخذًا بثأر أخيه من "بني بكر" قوم "جساس". وأعلنها دون اهتمام لتوسط عقلاء "بكر" بحل القضية حلا سليمًا حقنًا لدماء الطرفين. بتأدية دية الملوك، وهي ألف ناقة سود المقل، أو أن يأخذوا أحد أبناء "مرة بن ذهل" والد جساس، فيقتلوه بدم "كليب"1.
وأبت بعض قبائل بكر الدخول في حرب مع "تغلب": واعتزلت عن "بني شيبان" قوم جساس: ومن هؤلاء "بنو لجيم" و "بنو يشكر". وانسحبت "الحارث بن عباد". وعشائر أخرى. وتولى "مرة بن ذهل" قيادة قومه من "بني شيبان" من بكر. فكانت معارك وملاحم ذكر أسماءها أهل الأخبار. منها "يوم النهى"، وهو أول يوم من أيام حرب البسوس على رواية، ويوم عنيزة، وهو أول يوم من هذه الأيام على رواية أخرى2. ثم وقعت أيام أخرى منها يوم الذنائب، وهو يوم قتل فيه: "شراحيل بن مرّة بن همام" والحارث بن مرة، وهمام بن مرّة أخو جساس من أمه وأبيه. وعمرو بن سدوس بن شيبان. وهو من بني ذهل بن ثعلبة، وسعد بن ضبيعة، وهو من بني قيس بن ثعلبة وآخرون. وقد قيل إن منهم من قتل في أيام أخرى.
ومن بقية الأيام: يوم واردات، ويوم عويرضات، ويوم الحنو ويوم أنيق، ويوم ضربة، ويوم القصيبات، ويوم العصيات، ويوم قضة، وهو يوم التحالق، وفيه حَلَقَ رجال بكر لمتهم، وذلك ليميز البكريون عن غيرهم، إلى غير ذلك من أيام تجد أسماءها في كتب الأخبار والتأريخ والأدب.
وقد توسط رؤساء بكر عند "مهلهل" بأن يوقف القتال، بعد أن سقط القاتل وهو "جسّاس" قتيلًا في معركة من هذه المعارك، يقال إنها معركة "يوم واردات" لكنه لم يقبل وأبي إلا الاستمرار في القتال حتى يشفي نفسه من "بني بكر"، فتدخل "الحارث بن عياد: عندئذ واشترك مع البكريين، وتولى أمر "بني بكر"، ووقعت أيام أخرى أثرت في "بني تغلب". وقد وقع
__________
1 نهاية الأرب "15/ 396"، ابن الأثير، الكامل "1/ 312".
2 أبو الفداء، المختصر "1/ 95 وما بعدها" "طبعة بيروت"، المعارف "605 وما بعدها" "دار الكتب المصرية".(8/87)
"مهلهل" في يوم "قضة" وهو يوم "تحلاق اللمم" أسيرا في أيدي "الحارث بن عباد" ولم يكن يعرفه. فسأله الحارث عن مكان "مهلهل" قائلا له: دلني على عدي بن ربيعة "وهو اسم مهلهل" وأخلي عنك. فقال له عدي: عليك العهود بذلك إن دللتك عليه؟ قال: نعم. قال: فأنا عدي. فجزَّ ناصيته وتركه. وقال فيه:
لهف نفسي على عدي ولم أعـ ... ـرف عديًا إذ أمكنتني اليدان1
وورد في بعض الأخبار أن الذي قتل "جساسًا" هو "الهجرس"، وهو ابن كليب، وابن أخت جساس، إذ إن أمه هي "جليلة". وكان جسّاس قد سباه، ثم زوجه ابنته ولكنه أبى إلا أن يقتل خاله، أخذًا منه بدم والده. ويقال إن جسّاسًا لم يقتل وإنما مات حتف أمه2.
وفي هذا الأسر وجز الناصية كان نهاية زعامة "مهلهل" على قومه، فقد ترك أهله، وفر إلى "مذحج"، حيث نزل ب "بني جنب"، فخطبوا إليه ابنته وقيل أخته فمنعهم، فأجبروه على تزويجها، وساقوا إليه جلودًا من أدم. وكان قد كبر وتقدم في السن وضعف حاله فجاءه أجله بعد مدة غير طويلة، ويقال إن عبدين من عبيد اشتراهما "مهلهل" ليغزوان معه، سئما منه، فلما كانا معه بموضع قفر أجمعا على قتله، فقتلاه، وبذلك انتهت حياته، وحياة حرب البسوس3.
ويذكر أهل الأخبار أن العرب صارت تضرب المثل في شؤم "البسوس" وفي شؤم "سراب"، فقالت "أشأم من البسوس" و "أشأم من سراب"4.
__________
1 العقد الفريد "5/ 213 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 391".
2 الكامل لابن الأثير "1/ 319"، الأغاني "4/ 294"، "5/ 294" "بيروت".
3 النويري، نهاية الأرب "15/ 396"، ابن الاثير "1/ 312"، صبح الأعشى "1/ 399"، العقد الفريد "5/ 213"، سبائك الذهب، الفصل الحادي عشر، لسان العرب "6/ 28".
4 الميداني، مجمع الأمثال "1/ 387"، ابن الأثير، الكامل "1/ 312"، سبائك الذهب "104"، مقامات الحريري "260"، "المكتبة التجارية"، فرائد اللآل في مجمع الأمثال "1/ 319 وما بعدها" "المطبعة الكاثوليكية بيروت"، إبراهيم بن السيد علي الأحدب الطرابلسي، جمال الدين محمد بن نباته المصري، سرح العيون شرح رسالة ابن خلدون "48 وما بعدها" "مصطفى البابي"، الشعر والشعراء "99 وما بعدها"، شعراء النصرانية، القسم الثاني "164 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 391".(8/88)
وقد اقحم الرواة شعرًا في قصصهم عن هذه الحرب، وذلك على عادتهم في رواية أخبار الأيام، وهو لا يخلو من أثر الإثارة والعواطف القبلية. ونجد في الشعر المنسوب إلى البسوس تحريضًا أثار جسّاسًا حتى دفعه على قتل "كليب" دون أن يفكر في سوء عاقبة ذلك القتل. ويعرف هذا النوع من الشعر ب "الموثبات". وهو من شعر التحريض. ومن هذا النوع الشعر الذي تقوله النساء في ندب الموتى لإثارة شجون الحاضرين1.
ويعد "مهلهل" في جملة فرسان العرب الشجعان المعروفين. كما يعدّ في جملة الشعراء المتقدمين. لقب ب "مهلهل"، لأنه أول من رقق الشعر، أو لقوله:
لما توغل في الكراع هجينهم ... هلهلت أثأر مالكًا أو صنبلا فتدبر2
وقد كان لتغلب جملة رؤساء، منهم رئيس يقال له الجرّار أدرك النبي، وأبى الإسلام فبعث رسول الله زيد الخيل الشاعر المشهور وأحد الشجعان المشهورين، ليطلب منه الدخول في الإسلام كما تقول إحدى الروايات أو القتال، فأبى الإسلام وقاتل حتى قتل3.
ولاعتزاز تغلب بنفسها، ولشعورها بعزتها، امتنعت عن دفع الجزية المفروض أداؤها على أهل الكتاب، وذهبت إلى عمر بن الخطاب قائلة له: "نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض". ورضيت بدفع ضعف ما يدفعه المسلمون صدقة أنفة من كلمة "جزية"4. واقتدت قبائل
__________
1 دائرة المعارف الإسلامية "3/ 645" "ترجمة إبراهيم شنتناوي وجماعته".
2 بلوغ الأرب "3/ 108"، الشعر والشعراء "99"، جمهرة أشعار العرب "218". شرح التبريزي "310"، الاشتقاق "339"، سرح العيون "56"، الكامل "1/ 316".
3 الأغاني "16/ 52" "أخبار زيد الخيل".
4 السنن الكبرى "9/ 216"، "باب نصارى تغلب تضعف عليهم الصدقة"، "فصل في شأن نصارى تغلب وسائر أهل الذمة وما يعاملون به"، كتاب الخراج "120 وما بعدها"، "القاهرة 1352هـ"، البلاذري. فتوح "185 وما بعدها".(8/89)
أخرى مثل تنوخ وبهراء بتغلب، فرضيت بدفع الصدقة التي يدفعها المسلمون مضاعفة مفضلين إياها على دفع الجزية، لكي لا تكون في مصاف النبط، ومن لف لفهم من غير العرب، والمساواة فيها تعد إهانة لهم في نظرهم، وإن كان دافعوها نصارى مثلهم، وهم إخوانهم في الدين.
وذكر أن "عمر بن الخطاب" لما هَمّ بفرض الجزية عليهم، قطعوا الفرات وأرادوا اللحاق بأرض الروم، فانطلق "النعمان بن زرعة" أو "زرعة بن النعمان" إلى "عمر"، فقال له: أنشدك الله في بني تغلب، فإنهم قوم من العرب نائفون من الجزية، وهم قوم شديدة نكايتهم، فلا يغن عدوّك بهم. فأرسل عمر في طلبهم وأضعف عليهم الصدقة1.
ومن مواضعها التي كانت تتبرك بها قبر القديس مارسرجيوس "مارسرجس" بالرصافة2.
وكانت تغلب أيضًا في جملة القبائل العدنانية التي خضعت لآل كندة، حكم منهم عليها معد يكرب المعروف بغلفاء3، وخضعت أيضًا لحكم ملوك الحيرة الذين حاولوا إصلاح البين بين تغلب وبين بكر بن وائل، فأخذوا رهائن من الطرفين، ليمنعوهم بذلك من القتال4. وقد وقعت بين الحيين حروب طويلة سأتحدث عنها في الفصل الخاص بأيام العرب قبل الإسلام.
وقد ثار التغلبيون مرارًا على ملوك الحيرة وحاربوهم، والواقع أن خضوع تغلب والقبائل الكبيرة الأخرى لملوك الحيرة لم يكن إلا خضوعًا اسميًّا، يتمثل في حمل الإتاوات إلى الملوك ما داموا أقوياء، ولذلك كان ملوك الحيرة كما كان
__________
1 البلاذري، فتوح "185 وما بعدها".
2 من شعر الأخطل:
لما رأونا والصليب طالعا ... ومارسرجيس وسما ناقعا
وأبصروا راياتنا لوامعا ... خلوا لنا راذان والمزارعا
المشرق: 1936 "ص247".
3 الأغاني "9/ 82".
4 الأغاني "11/ 42 وما بعدها".(8/90)
الأكاسرة والقياصرة يسترضون الرؤساء بالهبات والمال، ومن جملة هؤلاء، سادت "مشايخ" هذه القبيلة.
وأما بكر بن وائل، فكان من نسله عليٌّ، ويشكر، وبدن. وقد دخل بنو بدن في بني يشكر، ومن بني يشكر الشاعر الحارث بن حلزة، والريّان اليشكري، سيد بني بكر في حربهم مع بني تغلب. وكان من نسل عليّ بن بكر، صعب بن علي، وهو والد مالك ولُجَيْم وعكابة. ومن مالك بن صعب سهلُ بن شيبان بن زمان المعروف بالنفد1. ومن بطون يشكر، بنو غُبر بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر، وبنو كنانة وبنو حرب بن يشكر، وبنو ذبيان بن كنانة بن يشكر2.
وبكر بن وائل، من القبائل الكبيرة التي كان لها شأن معروف عند ظهور الإسلام. وهي مثل القبائل العدنانية الأخرى من القبائل المهاجرة التي تركت ديارها القديمة على حد قول الأخباريين، وهي تهامة، على أثر الحروب الكثيرة المملّة التي وقعت بين العدنانيين، فهاجرت إلى اليمامة ثم إلى البحرين والعراق. ويذكر أنها أخذت تغزو مع تميم وعبد القيس حدود الفرس، حتى اضطر "سابور" الثاني المعروف ب "سابور ذي الأكتاف" حوالي سنة "350 للميلاد" على مهاجمة هذه القبائل ومحاربتها، وتخريب المنازل التي كانت تنزل بها. فلما انتهى من حروبه، أمر بنقل كثير من الأسرى إلى الأهواز وكرمان لإسكانهم هناك3.
وفي القرن الخامس للميلاد، كان الحكم على بكر وأكثر قبائل معدّ على حد رواية الأخباريين في أيدي التبابعة، ثم في أيدي ملوك كندة، نصبهم التبابعة أنفسهم ملوكًا على تلك القبائل. وكان أولهم حجر آكل المرار الذي انتزع من اللخميين ما كان في أيديهم من ملك بكر بن وائل، ووسع ملكه. فلما توفي حجر تولى الملك ابنه عمرو المعروف بالمقصور من بعده، وبقيت بكر تابعة له، وكذلك لابنه الحارث مغتصب عرش الحيرة على نحو ما ذكرت. وكان الحارث
__________
1 الجمهرة"ص291"، "بنو زمان"، الاشتقاق "207"، المعارف "32".
2 المبرد "17".
3 أبو الفداء "1/ 48"، الطبري "2/ 66".(8/91)
قد وزع أبناءه على القبائل، ليتولوا إدارة شئونها فعين ابنه شراحيل أو شرحبيل أو سلمة حاكمًا على بكر. فلما أعاد أنو شروان عرش الحيرة إلى أصحابه اللخميين، وانتكس الأمر مع الحارث، حتى اضطر إلى الهَرَب إلى ديار كلب أو غيرها، حيث لاقى مصيره بكيفية لم يتفق على وصفها الأخباريون، وقعت النفرة بين أولاده، ودَبَّ الخلاف بين أبنائه، فاقتتلوا، وتحزبت القبائل واقتتلت. ثمَّ وجد رؤساؤها أنها فرصة سانحة، فاستقلوا عن كندة، وعادت إلى ما كانت عليه من الفرقة والاستقلال. وترأس كليب وائل تغلب وبكرًا وقبائل معد، وقاتل جموع اليمن، وهزمهم، وعظم شأنه، وصار ملكًا زمانًا من الدهر، ثم داخله الزهو والغرور، فبغى على أتباعه، وحمى أكثر الأرضين، فلم يسمح لأحد بالرعي فيها إلا بإذنه، فقتله رجل من بكر اسمه "جساس" في قصة يرويها الأخباريون، فثارت تغلب، وطالب أخو كليب وهو "مهلهل" بالأخذ بالثأر من بكر. فجرت بين القبيلتين حروب طويلة استمرت على ما يذكر الأخباريون أربعين عامًا، هلك فيها خلق كثير وانتهت بمقتل جساس، وهلاك مهلهل في قصص مُنَمَّق من هذا القصص الذي يرويه أهل الأخبار1.
وقد أضعفت هذه الحروب القبيلتين ولا شك، وقد تدخل ملوك الحيرة في الأمر، فأصلحوا بينهم: أصلح بينهم المنذر بن ماء السماء على رواية، أو عمرو بن هند في رواية أخرى2، وقد كانوا مع المنذر الثالث في غزوته التي غزا بها الغساسنة، كما كانوا مع النعمان بن المنذر. وقد حاربوا الفرس مع بني شيبان، فانتصروا عليه في معركة ذي قار. وكان يؤيد الفرس من العرب تغلب وطيء وإياد وبهراء وقضاعة والعباد والنمر بن قاسط. وقد اتفقت إياد سرًّا مع بكر بن وائل، فانهزمت حين اشتباك المعركة، فانهزمت الفرس ومن ساعد الفرس من القبائل التي اشتركت معها تأييدًا لإياس بن قبيصة، أو بغضًا لبكر كما هو شأن تغلب، أو طمعًا في ربح من الفرس أو رغبة في التقرب إليهم. وقد كان لهذه المعركة أثر كبير في نفوس القبائل، ومركزها مع الفرس.
__________
1 أبو الفداء "1/ 77 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 301".
2 الأغاني "11/ 22، 44 وما بعدها".(8/92)
ويظهر أن بكرًا لم تخضع للفرس، ولا لحكم الحيرة بعد معركة ذي قار. وفي السنة التاسعة من الهجرة دخل قسم منها في الإسلام، فعين الرسول المنذر بن ساوى عليها وعلى بني عبد القيس. غير أنها ارتدت عنها بعد وفاة الرسول، فهاجمت مع قيس بن ثعلبة برئاسة الحطيم بن ضبيعة البحرين، وعينت "الغرور" ملكًا على هذه الديار. عندئذ أرسل أبو بكر عليهم جيشًا بقيادة العلاء الحضرمي ومن بقي على الإسلام من بكر وشيبان، تمكن منهم ورَجَمَهُمْ إلى حظيرة الإسلام.
ومن لُجَيْم بن صعب، بنو حنيفة، وبنو عجل، ابنا لجيم بن صعب بن عليّ وبنو حنيفة هم أهل اليمامة1. ومن حنيفة الدُّئل، وتقع مواطنهم في اليمامة كذلك2. ومن ولد الدُّئل بن حنيفة بنو مرة وعبد الله وذهل وثعلبة. ومن بني مرّة هود بن علي بن ثمامة الذي توجه إلى كسرى، وعمرو بن عبد الله بن عمرو بن عبد العُزّى، وهو قاتل المنذر بن ماء السماء يوم عين أباغ3. ومن عديّ بن حنيفة مسيلمة الكذّاب4.
وأما ولد عُكابة بن صعب5. فهم: ثعلبة وهو الحضن، وقيس وقد دخل بنوه في بني ذهل. فولد ثعلبة بن عكابة شيبان، وذهل، وقيسًا، والحارث. وقد دخل بنوه في بني أنمار بن دب بن مرة بن ذهل بن شيبان. وأمهم رقاش، وهي البرشاء بنت الحارث بن العتيك بن غنم بن تغلب. وولد ثعلبة أيضًا تيم الله بن ثعلبة، وأمه الجدماء بنت جلّ بن عدي بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وأتيد، وضنّة. ودخل بنو ضنّة في بني عذرة. ودخل بنو أتيد في بني هند من بني شيبان6.
__________
1 الجمهرة"291، 439"، نهاية الأرب "2/ 331"، الاشتقاق "207"، "لحيم"، سبائك الذهب "56"، الإنباه "ص97".
2 تاج العروس "7/ 327"، لسان العرب "13/ 249"، الاشتقاق "209"، نهاية الأرب "2/ 231"، ابن خلدون "2/ 302".
3 جمهرة "ص292"، التبريزي، شرح الحماسة "4/ 15".
4 المبرد "16 وما بعدها".
5 لسان العرب "2/ 18"، الاشتقاق "212 وما بعدها"، نهاية الأرب "2/ 331"، ابن خلدون "2/ 303"، كحالة "2/ 803".
6 جمهرة "ص295 وما بعدها"، سبائك الذهب "58".(8/93)
ومن ولد ثعلبة بن عكابة، تيم الله1. ومن ولد تيم الله بن ثعلبة بن عكابة، شيبان2، ومنهم أوس بن محصن، وهو الذي أطلق له السبي يوم أوارة. وصعير بن عامر وكان من فرسان بكر3.
ومن بني ذهل بن ثعلبة بن عكابة، بنو سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وتقع مواطنهم في اليمامة، وكانوا أرداف ملوك كندة4. وبنو رقاش وهم الرقاشيون أبناء مالك "ملكان" وزيد "زيد مناة" ابني شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة من زوجه رقاش بنت ضبيعة بن قيس بن ثعلبة5. وكان بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة من البطون الضخمة، ورئيسهم في الجاهلية مرة بن ذهل بن شيبان، ومن نسله جساس قاتل كليب6.
ومن نسل قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب، ضبيعة، وتيم، وثعلبة، وسعد. ومن نسل ضبيعة الأعشى ميمون بن قيس الشاعر المعروف، والمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، وشعراء آخرون. وتعدّ هذه القبيلة في طليعة القبائل بكثرة من ظهر فيها من الشعراء7. وتقع منازل قيس في اليمامة. وكانت صلاتهم وثيقة بالمناذرة. ومنهم كتيبة الصنائع إحدى كتائب النعمان بن المنذر8.
ومن بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، عمرو بن أبي ربيعة بالمزدلف، وابنه حارثة ذو التاج، وكان على بني بكر يوم أوارة، وهاني بن مسعود
__________
1 تاج العروس "7/ 203"، "8/ 216، الاشتقاق "212"، ابن خلدون "2/ 303".
2 لسان العرب "1/ 495"، صبح الأعشى "1/ 338"، نهاية الأرب "2/ 332"، ابن خلدون "2/ 303"، الاشتقاق "210".
3 الجمهرة"ص296".
4 لسان العرب "7/ 410"، الاشتقاق "211".
5 جمهرة "ص298 وما بعدها"، القاموس "2/ 275"، لسان العرب "8/ 195"، تاج العروس "9/ 84"، كحالة "2/ 442".
6 ابن خلدون "2/ 303".
7 جمهرة "ص300"، شيخو: شعراء النصرانية: القسم الثالث في شعراء بكر بن وائل من بني عدنان "264 وما بعدها"، كحالة "3/ 971".
8 ابن خلدون "2/ 303"، تاج العروس "2/ 242"، "10/ 233"، نهاية الأرب "2/ 332"، جمهرة "300 وما بعدها".(8/94)
الشيباني الذي هاج القتال بين بني بكر وبني تميم وضبة والرباب يوم ذي قار، ومفروق واسمه النعمان بن عمرو الأصم، وهو من فرسان بكر وساداتهم، وأعشى بني ربيعة، وهو عبد الله بن خارجة بن حبيب بن قيس بن عمرو بن أبي ربيعة الشاعر1.
ومن بني مرة بن ذهل بن شيبان، همام، وجساس قاتل كليب التغلبي، والمثنى بن حارثة بن سلمة بن ضمضم بن سعد بن مرّة بن ذهل الشيباني القائد الإسلامي الشهير قاتل مهران2.
وأما عَك، فهم من القبائل العربية القديمة، وهم "أكيته" "AKKITAI" عند "بطلميوس"، ولا نعرف من أخبارها في نصوص المسند شيئًا، ويظهر من اختلاف النسّابين في نسبها، ومن جعلها من قحطان تارة ومن عدنان تارة أخرى، أنها كانت على اتصال بالجماعتين، واختلطت بهما بالفعل، ولهذا الاختلاط أثره في تكوين الأنساب، كما أن لمحالفاتها لقبائل عدنان وقحطان أثره في النسب.
ولهذا نجد بعض النسابين يجعلون عكا ابنًا لعدنان، فهو على حد قولهم شقيق معدّ، ونجد بعضا آخر يسميه الحارث، ويجعل عكًّا لقبًا له، ثم يصيره ابنًا للديث بن عدنان فيقول: هو عك بن الديث بن عدنان، أي أنه حفيد عدنان. ثم نجد قسمًا آخر يصيره من الأزد، أي من قحطان، فيجعله عَكّ بن عدنان بن عبد الله بن الأزد، بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان3. وأرى أن "عدثان" و "عدنان" كلمة واحدة. وقع فيها تحريف، فصارت الكلمة الواحدة كلمتين، وليس من المستغرب وقوع ذلك. فالكلمتان واحدة في الحروف، ما عدا حرفي الثاء والنون اللذين يتشابهان في الرسم أيضا فيما عدا عدد النقط.
__________
1 جمهرة "ص305".
2 جمهرة "ص305 وما بعدها"، نهاية الأرب "2/ 333"، الاشتقاق "15"، كحالة "3/ 1071".
3 جمهرة "ص309"، ابن خلدون "2/ 299"، طرفة الأصحاب "ص65 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 164"، لسان العرب"12/ 357"، الصحاح "2/ 141"، الصفة "54".(8/95)
وقد رجح نشوان بن سعيد الحميري، وهو من اليمن من حمير، رأي القائلين من النسّابين برجوع نسب عَكّ في الأزد، فقال: "عك قبيلة من العرب يقال لهم ولد عك بن عدنان أخي معد، ويقال لهم ولد عك بن عدثان بن عبد الله بن الأزد، وهو أصح القولين. وإنما سبب انتسابهم في معد أن غسان وقت خروج الأزد من مأرب نزلوا تهامة وبها عكّ، فخيرتهم عَكّ بين شرقي تهامة وغربيها، فاختارت غسّان الشرقي، ومكثت به زمانًا، حتى قيل لهم إن عكًّا أثخن منكم لَبَنًا، وأدسم منكم سمنًا، لأن أموالكم إذا سرحت استقبلت الشمس، وإذا راحت استقبلت الشمس، فأحرّت الشمس رءوسها، وأموال عكّ تستدبر الشمس عند الطلوع والغروب، فاستقالت غسان عكًّا، فلم تقلها، فاقتتلوا، فقتلت غسان عكًّا قتلًا ذريعًا وأجلتها عن كثير من أوطانها، فمن ثم انتفت عك من اليمن، وانتسبت إلى معد"1.
وقد ذكر نشوان شعرًا جاء فيه:
ألم ترَ عكًّا هامة الأزد أصبحت ... مذبذبة الأنساب بين القبائل
وعقت أباها الأزد واستبدلت به ... أبا لم يلدها في القرون الأوائل
ومن ولد عك علقمة، ومن ولد علقمة الشاهد، ومن ولد الشاهد غافق، من نسل هؤلاء تفرعت سائر عك2. ونجد بعض النسابين يغفلون علقمة، ويجعلون الشاهد ولدًا من أولاد عدنان، ومنهم من جعل لعك ولدين، هما: الشاهد، وعبد الله، وجعل للشاهد ولدين كذلك، هما غافق، وساعدة، ولعبد الله بطنين كذلك، هما: عبس وبولان. ومن بطون غافق، القيانة، والمقاصرة، ودهنة. ومن بطون ساعدة: لام، وصخر، ودعج، ونعج، وزعل، وقين، وقاضية، وعلاقة، وهامل، ووالبة، وقحر. ومن بطون عبس: زهير، ومالك، وطريف، وزيد، والعسالق، والحجبية، وغنم،
__________
1 منتخبات "ص74".
2 سبائك الذهب "ص63"، جمهرة "ص309"، ابن خلدون "2/ 299"، نهاية الأرب "2/ 312"، تاج العروس "7/ 37"، أبو الفداء "1/ 107"، كحالة "3/ 875".(8/96)
وتاج، ومنسك، ومن بطون بولان: الهليلي، والحربي1. ويلاحظ أن معظم قبائل عكّ وبطونها، هي في اليمن، بينما هي قبائل عدنانية على رأي أكثرية النسابين. وقد علل بعض النسابين ذلك بقوله: "وإنما كثرت قبائل عك بن عدنان باليمن، لأن عكًّا تزوج بنت أشعر، فأولد فيهم، فكانت الدار واحدة لذلك السبب"2.
وسمى النسابون ابن مضر عيلانَ كذلك3، وقال بعضهم "إن عيلان لم يكن بأب لقيس ولا ابن لمضر، وإنما هو قيس بن مضر. وعيلان اسم فرس لقيس مشهور في خيل العرب مفضل، وكان قيس بن مضر يسابق عليه. وكان رجل من بجيلة يقال له قيس كبة الفرس له مشهورة أيضًا، وكانا متجاورين في دار واحدة قبل أن تلحق بجيلة بأرض اليمن. وهذا على مذهب من جعل بجيلة ابنًا لأنمار بن نزار. وكان فرساهما مشهورين مذكورين، فكان الرجل إذا سأل عن قيس، أو ذكر قيسًا، قيل له: أقيس عيلان تريد، أم قيس كبّة؟ فصار قيس لا يعرف إلا بقيس عيلان، وهو قيس بن مضر بن نزار.. وقد قيل إن قيسًا سُمّي عيلان بغلام كان له، وقيل سُمّي عيلان بكلب كان له يقال له عيلان"4 إلى غير ذلك من تفاسير وتعليلات تشير إلى اضطراب النسابين والأخباريين في الناس وفي قيس عيلان5.
وقد عرف المنتسبون إلى قيس عيلان ب"قيس" و "بقيس عيلان" وب"عيلان" وب"القيسيين" وب"القيسية" كذلك6، وهي من الكتل القبائلية الضخمة. ومع ذلك لا نعرف من تأريخها قبل القرن السادس للميلاد شيئًا يذكر. ولم يرد اسمها في كتب "الكلاسيكيين". وقد ذكر لها الأخباريون
__________
1 طرفة الأصحاب "ص64 وما بعدها".
2 طرفة الأصحاب "ص66".
3 سبائك الذهب "ص21"، الصحاح للجوهري "1/ 472"، لسان العرب "8/ 71". تاج العروس "8/ 40"، القاموس "2/ 244"، الاشتقاق "162"، ابن خلدون "2/ 305"، أبو الفداء "1/ 111"، نهاية الأرب "2/ 334 وما بعدها"، كحالة "3/ 972 وما بعدها".
4 الإنباه "ص81 وما بعدها".
5 راجع التفاسير الأخرى لمعنى عيلان في: الاشتقاق "ص162 وما بعدها".
6 ency., ii, p. 652.(8/97)
أيامًا عديدة، تشمل حروبًا وقعت بين القبائل القيسية نفسها، وحروبًا وقعت بين قيس وقبائل أخرى من غير قيس. وقد خضعت قبائل قيس مثل أكثر القبائل العدنانية الأخرى لحكم مملكة كندة القصير1.
وقد ولد الناس أو عيلان قيسا ودهمان. وقد جعل بعض النسابين قيسا ابنًا لمضر، وقالوا: إنه عيلان، وأن عيلان عبد حضنه، فنسب قيس إليه2. وقد ولد قيس عدة أولاد، هم: خصفة3، وسعد، وعمرو4. ومن ولد عمرو فهم، والحارث وهو عدوان5، وأمهما جديلة بنت مرّ بن أد، فنسبوا إليها. وقيل: هي جديلة بنت مدركة بن إلياس6.
وكان لفهم عدة أولاد، منهم: قَيْن، وسعد، وعامر، وعائد، ومن بني سعد تأبط شرًّا الشاعر7. وكانت الطائف من مواطن فهم، وعدوان، ثم غلبتهم عليها ثقيف، فخرجوا إلى تهامة ونجد. ومن بني طرود، وهم بطن من فهم، كان بأرض نجد، الأعشى8.
أما أبناء عدوان بن عمرو، فهم زيد، ويشكر، ودَوْس. ويقال إنهم دَوْس التي في الأزد، وكانت ديارهم بالطائف، ثم تركوها بعد نزول ثقيف فيها وارتحلوا إلى تهامة9. ومن ولد زيد بن عدوان، أبو سيارة الذي كان يدفع
__________
1 ency., ii, p. 654.
2 جمهرة "ص232"، الاشتقاق "ص162".
3 ابن خلدون "2/ 307"، لسان العرب "10/ 421" الصحاح "2/ 20"، كحالة "1/ 345".
4 جمهرة "ص232"، سبائك الذهب "ص33"، الاشتقاق "ص162، المبرد "ص10".
5 طرفة الأصحاب "ص61".
6 جمهرة "ص232"، لسان العرب "13/ 112"، الإنباه "83"، كحالة "1/ 173".
7 جمهرة "ص232"، الاشتقاق "ص162 وما بعدها"، نهاية الأرب "2/ 343"، ابن خلدون "2/ 305"، تاج العروس "9/ 16".
8 الأغاني "4/ 75"، ابن خلدون "2/ 305".
9 ابن خلدون "2/ 305"، نهاية الأرب "2/ 343"، صبح الأعشى "1/ 346"، أبو الفداء "1/ 112"، لسان العرب "19/ 270"، القاموس "4/ 360"، كحالة "2/ 760 وما بعدها".(8/98)
بالناس في المواسم. ومن بني يشكر بن عدوان، عامر بن الظرب بن عمرو بن عَيّاذ بن يشكر بن عدوان، وقد عرف عامر بن الظرب هذا ب "حاكم العرب" في الجاهلية. وهو شقيق سعد، وعمر، وصعصعة، وثعلبة. ومن بني ثعلبة بن الظرب، ذو الأصبع العداوني من الشعراء المعروفين1. ومن بطون عدوان الأخرى، بنو خارجة، وبنو وابش، وبنو رهم بن ناج2.
ومن نسل سعد بن قيس عيلان، غطفان ومنبه وهو أعصر3. أما غطفان، فقبيلة كبيرة معروفة، وهناك قبيلة أخرى تسمى ب "غطفان" كذلك، وهي يمانية، تنسب إلى غطفان بن سعد بن مالك بن حرام بن جذام4. أما هذه، فعدنانية في عرف النسّابين، وتقع منازل هذه القبيلة شرقي خيبر وحدود الحجاز إلى جبلَيْ طيء5.
وقد وقعت بين غطفان وبني عامر بن صعصعة عدة أيام، منها: يوم الرقم، ويوم القرنتين، ويوم طوالة، ويوم قرن6. وقد كانوا مع الأحزاب في محاربة الرسول. وكانوا يعبدون العُزّى. شجرة بنخلة عندها وثن تعبدها غطفان، سدنتها من بني صرمة بن مرّة، وكانت قريش تعظمها، وكانت غنى وباهلة تعبدها معهم. هدمها خالد بن الوليد، وهدم البيت وكسر الوثن. وكانوا يطوفون حول البيت، بيت بساء تشبهًا بطواف القبائل الأخرى حول الكعبة بمكة، ولهم صنم آخر موضعه في مشارف الشأم يسمى الأقيصر7.
ومن رؤساء غطفان الذين سادوا فيها، زهير بن جذيمة العبسي، وقد قاد عطفان كلها، وعمرو بن جؤيّة بن لوذان الفزاري، وقد قاد غطفان كلها إلى
__________
1 جمهرة "ص232 وما بعدها"، الاشتقاق "ص164".
2 الاشتقاق "ص163".
3 جمهرة "ص233"، الاشتقاق "ص164"، المبرد "ص10".
4 ابن خلدون "2/ 256"، نهاية الأرب "2/ 308"، كحالة "3/ 889".
5 ency., ii, p.144.
6 كحالة "3/ 888".
7 المحبر "ص31". كحالة "3/ 889".(8/99)
يوم الخنان إلى بكر بن وائل، وبدر بن عمرو، وقد قاد غطفان لبني أسد، وعيينة بن حصن بن حذيفة، قاد غطفان إلى بني تغلب يوم الساجسي1.
ويبدأ تأريخ غطفان باستقلال قبائل معدّ، وخروجها من حكم اليمن على ما يرويه الأخباريون. وكان رئيس قبائل غطفان في هذا العهد زهير بن جذيمة العبسي سيد عبس، وعبس من غطفان، وقد تلقب بلقب ملك وجبى الإتاوة من هوازن، ثم قتله خالد بن جعفر بن كلاب، فترأس عبس ابنه قيس، وترأس ذبيان -وهي من قبائل غطفان كذلك- حذيفة بن الفزاري. وتمكن الحارث بن ظالم أحد الفُتّاك في الجاهلية من قتل خالد بن جعفر، وهو في جوار ملك الحيرة، وقد أدت هذه الحوادث إلى تشتيت قبائل غطفان، وإلى نشوب حروب بينها خاصة بين عبس وذبيان2.
وقد كانت قبائل غطفان في جملة القبائل التي قاومت الإسلام، واشتركت مع القبائل الأخرى في محاربة الرسول ومهاجمة المدينة، ثم أسلمت في السنة الثامنة للهجرة. وبعد وفاة الرسول عادت أكثرية غطفان، فارتدت عن الإسلام، وهاجمت المدينة. ولكن أبا بكر تمكن من صدّها، ثم عادت كما عاد غيرها إلى حظيرة الإسلام.
وولد غطفان ثلاثة أولاد، هم: ريث، وبغيض وأشجع على رواية3، وولد ريثًا وعبد العزَّى على رواية أخرى. وقد بدل رسول الله اسم عبد العزى فجعله عبد الله، فعرف نسله بالاسم الجديد4. وقد ولد ريث من الولد أهون، ومازنًا وأشجع وبغيضًا5، وذلك على رواية من جعل لغطفان ولدين، هما: ريث وعبد العزى.
__________
1 المحبر "ص192، 248 وما بعدها".
2 المحبر "ص192 وما بعدها".
3 الاشتقاق "ص167"، تاج العروس "1/ 626".
4 جمهرة "ص237".
5 جمهرة "238"، ابن خلدون "2/ 305"، نهاية الأرب "2/ 323"، تاج العروس "1/ 626"،wustenfeld, genea, tag. H.(8/100)
ومن بطون أشْجَع1 بكر وسبيع، ومن سبيع حلاوة2 "خلاوة"3، وهفّان وفتيان، وقنفذ، وذبيان4.
وتقع مواطن أشجع في الحجاز بضواحي يثرب، وكانوا حلفاء للخزرج من الأزد. وقد ساعدوهم في يوم بعاث5. وقد كان بينهم وبين سُلَيم بن منصور يوم كان في موضع الجر6.
ومن ولد بغيض7: عبس، وذُبيان ويضاف إليهما أنمار في بعض الروايات. ومن نسل عبس قطيعة، ووردة، والحارث، وورقة8. ومن نسل قطيعة9 زهير بن جذيمة سيد بني عبس، وجميع غطفان، وقيس بن زهير بن جذيمة صاحب حرب داحس والغبراء، والربيع بن زياد وزير النعمان، والحارث بن زهير قتله كليب يوم عراعر، وشأس بن زهير قتله فَزَارة10، ومن عبس عنترة بن شدّاد البطل الجاهلي الشهير11.
وهناك جملة قبائل وبطون عرفت بعبس، ففي أسد وحنيفة وهوازن وعمرو
__________
1 "أشجع"، ابن خلدون "2/ 305"، تاج العروس "3/ 92، 5/ 393"، البكري "1/ 329 وما بعدها"، لسان العرب "10/ 40"، نهاية الأرب "2/ 323"، صبح الأعشى "1/ 344".
2 "حلاوة" جمهرة "ص238"، "هكذا ضبط الاسم ليفي بروفنسال".
3 سبائك الذهب "ص50"، تاج العروس "10/ 119"، ابن خلدون "2/ 305"، wustenfeld, genea., taf, h.
4 سبائك الذهب "ص35"، "تجد أخطاء عديدة في الطبع"، تاج العروس "10/ 276".
Wuatenfeld, genea., taf, h.
5 الأغاني "15، 152".
6 كحالة "1/ 29".
7 نهاية الأرب "2/ 323"، لسان العرب "8/ 390"، كحالة "1/ 86 ما بعدها".
8 جمهرة "ص239"، أما ابن دريد فاكتفى بذكر ولدين لعبس، هما: قطيعة وورقة. الاشتقاق "ص169" نهاية الأرب "2/ 323". Wuatenfeld, genea., taf, h.
9 قطيعة بن عبس"، نهاية الأرب "2/ 323".
10 جمهرة "ص239 وما بعدها"، الاشتقاق "169"، نهاية الأرب "2/ 323"، ابن خلدون "2/ 306".
11 طرفة الأصحاب "ص62".(8/101)
ابن قيس عيلان وعكّ بطون عرفت بعبس، وهي تسمية معروفة وردت في الكتابات الصفوية والتدمرية والنبطية1، فهي من الأسماء القديمة المعروفة عند العرب الشماليين.
وتعد عبس جمرة من جمرات العرب، وجمرات العرب هي: ضبّة بن أد، وعبس بن بغيض، والحارث بن كعب، ويربوع بن حنظلة، وبنو نمير بن عامر أو أقل من ذلك على حسب تعدد الروايات2. ويقصدون بالجمرة القبيلة التي لا تنضم إلى أحد، ولا تحالف غيرها، وتصبر في قتال من يقاتلها من القبائل، أو القبيلة التي يكون فيها ثلاثمائة فارس أو ألف فارس3. وهو تعريف لا يمكن أن ينطبق على قبيلة ما من القبائل، حتى على هذه القبائل التي قالوا عنها إنها الجمرات، فلا بد في القتال بين القبائل من حلف، ومن طلب مساعدة القبائل الأخرى. ولذلك نجد الأخباريين يذكرون أن بعض هذه القبائل طفئت لأنها حالفت القبيلة الفلانية. فذكروا أن ضبة طفئت لأنها حالفت الرباب، وأن الحارث طفئت لأنها حالفت مذحجًا، وأن عبْسًا طفئت أيضًا لانتقالها إلى بني عامر بن صعصعة يوم جبلة4. وهكذا إذا استقصيت كلام الأخباريين الوارد في مناسبات أخرى عن هذه القبائل، تجد أنه يصادم ما قالوه من عدم تحالف القبائل المذكورة وانضمامها إلى القبائل الأخرى. وظنّي أن شهرة عبس في الشجاعة خاصة من دون القبائل الأخرى إنما وردت إليها من هذا القصص المروي عن عنترة بن شداد.
ومن ولد ذبيان5 فزار وسعد6، وفي روايات أخرى أن والد سعد هو ثعلبة
__________
1 ency., I, p. 73.
2 المحبر "ص234".
3 تاج العروس "3/ 107"، لسان العرب "5/ 215"، القاموس "1/ 393".
4 من شعر ينسب لأبي حية النميري:
لنا جمرات ليس في الأرض مثلها ... كرام وقد جربن كل التجارب
نمير وعبس يتقى بفنائها ... وضبة قوم بأسهم غير كاذب
تاج العروس "3/ 307"، لسان العرب "5/ 215"، منتخبات "ص22".
5 ابن خلدون "2/ 306"، تاج العروس "6/ 287، 10/ 135"، الصحاح "2/ 477"، لسان العرب "18/ 309"، الاشتقاق "171".
6 الاشتقاق "ص171"، جمهرة "ص240".(8/102)
ابن ذبيان1. وولد سعد عوفًا، وهو والد مُرّة وثعلبة2. ومن بني مرّة بن عوف خزيمة، وغطفان، وسنان. ومن بني سنان هرم بن سنان، وبنو يربوع بن مرة بن عوف، ومنهم النابغة الذبياني، والحارث بن ظالم بن جذيمة بن يربوع بن غيظ من الفتاك، ومن بني مرة بنو سهم بن مرة3، ومن بني ثعلبة بن سعد، بنو بجالة بن ثعلبة بن سعد، وبنو عجب بن ثعلبة بن سعد، وبنو رزام بن ثعلبة بن سعد4.
وقد وقعت بين بني عبس وذبيان حروب عديدة، سأتحدث عنها في الأيام، والظاهر أنه كانت بين القبيلتين منافسة شديدة.
أما فزارة5، فولد عديًّا، وظالمًا، ومازنًا، وشمخًا6 "سمخا"7 "شمجا"8، ومرّة. ومن بني عديّ: بغيض بن مالك بن سعد الذي اجتمعت عليه قيس في الجاهلية، وبنو بدر بن عمرو بن حوية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة، وهم بيت فزارة وعددهم، وبنوه حذيفة الذي يقال له ربّ معد، وحمل، المقتولان يوم الهبأة، ومالك، وعوف، المقتولان في حرب داحس والغبراء، والحارث، وربيعة، وقد سادوا كلهم9. ومن بني ظالم،
__________
1 الاشتقاق "ص174"، كحالة "2/ 514".
2 جمهرة "ص240"، نهاية الأرب "2/ 324".
3 جمهرة "241"، المحبر "192".
4 نهاية الأرب "2/ 324".
5 "فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر"، نهاية الأرب "2/ 324"، لسان العرب "6/ 361"، القاموس "2/ 84، 149"، تاج العروس "3/ 470" "9/ 117"، المبرد "11"، أبو الفداء "1/ 112".
6 الاشتقاق "171"، القاموس "1/ 262"، لسان العرب "3/ 133"، ابن خلدون "2/ 306"، تاج العروس "2/ 65"، المقريزي: البيان "ص53".
7 "سمخ" هكذا ضبطه "ليفي بروفنسال"، جمهرة "ص243".
8 "شمج" "شمخ"، كحالة "2/ 608"، بنو شمج بن فزارة من ذبيان. قال ابن بري: قال الجوهري: بنو شمج من ذبيان بالجيم قال: والمعروف عند أهل انسب: بنو شمخ بن فزارة بالخاء المعجمة ساكنة الميم، لسان العرب "3/ 133".
9 جمهرة "ص243 وما بعدها".(8/103)
نعامة الذي يتمثل به في إدراك الثأر، وكان فيه هوج، ورويت له أمثال كثيرة1. ومن بني شمخ، ظويلم المعروف بمانع الحريم، "سُمّي بذلك لأنه خرج في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المخزومي، فأراد أن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية، ولذلك سُمّي الحريم. وكانوا يأخذون بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، فامتنع عليه ظويلم، وقال:
يا ربّ هل عندك من غفيره ... إن منى مانعة المغيره
ومانع بعد منى ثبيره ... ومانعي ربي أن أزوره
وظويلم الذي منع عمرو بن صرمة الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان"2.
وتقع مواطن فزارة بنجد وبوادي القرى3، وانتشروا بعد ذلك -وخاصة في الفتوحات الإسلامية- في مواطن أخرى، وذهبت بطون منهم إلى شمال إفريقية، وكان لحذيفة بن بدر رئيس فزارة أثر خطير في حرب داحس التي وقعت بين عبس وذبيان، ولهم حروب وأيام مع القبائل الأخرى مثل حربها مع عمرو بن تميم ومع التيم ومع هوازن ومع بني جشم بن بكر ومع بني عامر. يذكرها أهل الأخبار في حديثهم عن الأيام. وقد قاد حذيفة بن بدر فزارة، ومرّة يوم النسار، ويوم الجفار، وفي حرب داحس حتى قتل فيها يوم الهبأة4. وقد عرف "حذيفة" هذا ب "رب معد"5. وكان ابنه "حصن" من سادات فزارة.
ومن بني مازن بن فزارة: بنو العشراء6، "وبنو سيار بن عمرو الذي
__________
1 الاشتقاق "ص171".
2 الاشتقاق "172".
3 الهمداني: الصفة "174، 177 وما بعدها"، البكري "1/ 63، 160، 223، 256 ومواضع أخرى"، لسان العرب "6/ 361".
4 المحبر "ص461".
5 المحبر "ص249". Ency., ii, p. 93.
6 "بنو العشراء، وهو عمرو بن جابر بن عقيل بن هلال"، الاشتقاق "ص172". القاموس "2/ 90"، لسان العرب "6/ 351"، المحبر "ص135".(8/104)
رهن قوسه بألف بعير، وضمنها لملك من ملوك اليمن، وذلك أن بني حارث بن مرّة، قتلوا ابنا لعمرو بن هند، فرهن سيّار قوسه1. ومن ولد سيّار، زبّان، وقطبة. ومن ولد قطبة هرم بن قطبة، وهو من حكماء العرب، وإليه تحاكم عامر بن طفيل وعلقمة بن علاثة، وكان ممن أدركوا الإسلام2.
وأما ولد أعصر بن سعد بن قيس عيلان3، فهم: مالك، ومن نسله باهلة، وعمرو وهو غنيّ، وأمهما من هَمْدان، وثعلبة وعامر ومعاوية، وأمهم الطفاوة بنت جرم بن "زبان"4.
ومن ولد مالك، سعد مناة، وأمه باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة من مذحج، وبها عرف سعد مناة ونسله. معن بن مالك وهو الذي خلف أباه على باهلة، ومن نسله عمارة بن عبد العزى، قاتل عبد الدار بن قصي5. ومن بطون باهلة بنو قتيبة، ومنهم سهم، وبنو أصمع، ووائل بن معن6. وتقع منازل هذه القبيلة في اليمامة في الأصل7، ويظن بعض المستشرقين أنها قبيلة bahilitae" "pachylitae"" التي ذكرها "بلينيوس"8. وقبيلة "bliulaei" الوارد اسمها في جغرافية "بطلميوس"9".
__________
1 الاشتقاق "ص172"، "سيار ذو القوس رهن قوسه على ألف بعير في قتل الحارث بن ظالم، من النعمان الأكبر"، المحبر "ص461".
2 الاشتقاق "ص172"، المحبر "135".
3 تاج العروس "3/ 406"، الصحاح "1/ 366"، لسان العرب "6/ 146"، كحالة "1/ 35".
4 لسان العرب "19/ 234"، نهاية الأرب "2/ 334"، جمهرة "ص233"، الاشتقاق "ص164، المبرد "ص10"، "الطعاوة"، البلخي "4/ 123".
5 جمهرة "ص233 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 406"، وقد نسبت "باهلة" إلى همدان كذلك، الصحاح "2/ 159"، لسان العرب "13/ 76"، ابن خلدون "2/ 305"، أبو الفداء "1/ 111".
6 المبرد "10"، الاشتقاق "164 وما بعدها"، منتخبات "ص10".
7 "ديار باهلة"، "أرض باهلة"، مراصد "1/ 30، 496، 2/ 26"، Ency, I, P. 576, Blay, in ZDMG, 1869, XXIII, S. 584.
8 تاريخ العرب قبل الإسلام "3/ 321".
Pliny, 6, 32, Glaser, Skizze, II, P. 145.
9 تاريخ العرب قبل الإسلام "3/ 416".
Blau, In ZDMG, 1898, 22, S. 670, 1869, 32, S. 584.(8/105)
وأما غنيّ، فقبيلة كانت ديارها في جوار طيء وعند حمى ضَرِيّة1. ومنها رباج بن الأشل، وابن أخيه ثعلبة قاتل شأس بن زهير بن خزيمة العبسي. وقيل: إن رباحًا هو قاتل شأس. وكانت لهم ظاعنة ضخمة بالشام2. ومن بطون غنيّ عبد، وزبان، وصريم، وضبينة3، وبنو عتريف4، وكانت لهم حروب مع عبس ومع زيد الخيل. ومن أصنامهم التي عبدوها: اللات، ومناة، والعزى5. ومن شعرائهم طفيل بن عمرو الغَنَوي6، وكعب بن سعد الغَنَوي7.
ومن ولد خصفة بن قيس عيلان: عكرمة، وأمه أخت كلب بن وبرة لأبيه8، ومحارب9. ومن محارب: عامر بن وهب بن مجاشع المعروف بذي الرمحين، وكان سيد قومه، وقد غزا باهلة وأوقع فيها، وأسر منها، وسبع الوارث، وهو مالك بن عمرو بن حارثة بن عبد بن سلول الكيدبان، واسمه عبد الله. القائل لرسول الله: "جملي أحب إليّ من ربّك"10، والعقب من
__________
1 نهاية الأرب "2/ 323"، البكري "3/ 866"، "تحقيق السقا"، الصفة "ص153، 170، 174"، الأغاني "7/ 147، 10/ 9 وما بعدها"، كحالة "3/ 896"، ency. ii, p. 584.
2 جمهرة "ص236".
3 وفيهم يقول لبيد:
ابني كلام كيف تنفي جعفر ... وبنو ضبينة حاضروا الأجباب
الاشتقاق "165"، المبرد "10".
Wustenfeld, Genea, 2 Abt, Taf, Register, S. 170.
4 المبرد "10"، Register, S. 170.
5 Ency, II, P. 140.
6 Ency, II, P. 140.
7 شيخو: شعراء النصرانية "القسم الخامس في شعراء نجد والحجاز والعراق" "ص746".
8 لسان العرب "15/ 310"، القاموس "4/ 153"، جمهرة "247 وما بعدها، كحالة "2/ 804".
9 جمهرة "247"، نهاية الأرب "2/ 323"، المبرد "12".
Wustenfeld, Geagea, Taf, F.
10 جمهرة "ص248".(8/106)
محارب لصلبه في فخذين: طريف، وجسر1.
والفرع الثاني من فرعي خصفة، فرع ضخم كبير بالقياس إلى فرع محارب، فهو يشتمل على ولد منصور بن عكرمة، وهم: مازن، وهوازن، وسُليم، وسلامان، وأبو مالك2. ومن بني هوازن، ومن ولد بكر: معاوية، ومنبه، وسعد، ويزيد. وقد قتل معاوية، فجعل عامر بن الظرب العدواني ديته مائة من الإبل. ويقول الأخباريون إن هذه أول دية قضى فيها بذلك، وأن لقمان كان قد جعلها قبل ذلك مائة جدي3. وفي بني سعد بن بكر بن هوازن استرضع الرسول. ومن بطون بكر الأخرى: جشم بن معاوية بن بكر، ومنهم بنو جداعة، رهط دريد بن الصمة، وبنو سلول وهم بنو مرّة بن صعصعة بن معاوية بن بكر، وعامر بن صعصعة4.
وهوازن من القبائل العربية الضخمة، وقد تفرعت منها قبائل كبيرة معروفة كانت لها شهرة بين القبائل. سكنت في مواضع متعددة من نجد على حدود اليمن وفي الحجاز5. ويظهر من انتساب هذه القبائل المعروفة الكبيرة إليها، ثم من اقتصار اسم هوازن على قبيلة واحدة فيما بعد، واختصاصها به، أنها كانت في الأصل حلفًا ضم جملة قبائل، ثم انفصل لعوامل سياسية واقتصادية مختلفة، فلم يبق من ذلك الحلف إلا الرابطة التأريخية التي بقيت في ذاكرة نسابي القبائل، وهي رابطة النسب. وقد وقعت بين القبائل التي ترجع نسبها إلى هوازن وبين قبيلة هوازن حروب عديدة.
وقد كانت هوازن في جملة القبائل الخاضعة للتبابعة، فلما استقلت قبائل معدّ عن اليمن، كانت هوازن في جملة من استقلت من تلك القبائل. ولكنها أخذت تدفع الإتاوة لزهير بن جذيمة سيد عبس من غطفان. فلما قتل زهير، استقلت من غطفان، ولم تدفع الإتاوة إليها. ولما انتهت حرب عبس وذبيان، وعقد الصلح بين القبيلتين المتنافستين، وقعت حروب وأيام بين بطون غطفان
__________
1 نهاية الأرب "2/ 323".
2 جمهرة "ص248"، طرفة الأصحاب "ص61" نهاية الأرب "2/ 323".
3 جمهرة "ص252".
4 المبرد "13"، الاشتقاق "ص177"، طرفة الأصحاب "ص61".
5 Ency, I, P. 293, Blay, in ZDMG, 1869, 23, S. 586.(8/107)
وهوازن، منها: يوم الرقم، ويوم النباع، ويوم اللوى، دارت الدائرة فيها على هوازن، كما وقعت بينها وبين قبائل كنانة وقريش وثقيف أيام عديدة1.
وكان هوازن في جملة القبائل التي قاومت الإسلام. وقد غزاها الرسول، بعد فتح مكة، فتمكن منها، ودخلت في الإسلام ثم ارتدت بعد وفاته، ثم عادت مع التوابين بعد أن غلبهم الخليفة أبو بكر الصديق.
وكان لهوازن صنم يعظمونه في عكاظ اسمه جهار، سدنته من آل عوف النصريين، تشاركهم في عبادته محارب، وكان في سفح أطْحَل2.
ومن ولد منبه بن بكر بن هوازن بن منصور، قَسيّ وهو ثقيف3. وولد قسي جشمًا وعوفًا ودارسًا4. وقد دخل ولده في الأزد. ومن بني عوف بن ثقيف، الحجاج بن يوسف الثقفي. ومن بني غيرة بن عوف بن ثقيف، الشاعر أمية بن أبي الصلت. والأخنس بن شريق، والحارث بن كلدة وأبو عبيدة بن مسعود، والد المختار5. ومن بطون ثقيف الأخرى بنو عقدة بن غيرة، وبنو معتب، وبنو حبيب، وبنو اليسار بن مالك بن حطيط6. ومن بني مُعتب، غيلان بن مسلمة بن معتب، وكانت له وفادة على كسرى7.
ولثقيف حروب يظهر أنها كانت في الغالب دفاعًا عن النفس، إذ نجد ثقيفًا تهاجم فيها في الطائف، فتضطر إلى الدفاع عنها. وقد كان من أصنامها اللات، وله بيت بالطائف على صخرة يضاهون به الكعبة بمكة. وكانوا يهدون
__________
1 ency., ii, p., 293.
2 المحبر "ص315"، "أطحل"، البكري "1/ 167" "طبعة السقا"، البلدان "1/ 282 وما بعدها"، ency., ii, p. 293.
3 ابن خلدون "2/ 309"، الأغاني "12/ 44"، القاموس "3/ 121"، لسان العرب "10/ 363"، الصحاح "2/ 11"، الاشتقاق "183".
4 "جشم بن ثقيف"، لسان العرب "14/ 367"، تاج العروس "8، 239"، الصحاح "2/ 271"، "جهم بن ثقيف"، ابن خلدون "2/ 309"، كحالة "1/ 148".
5 الجمهرة "ص526 وما بعدها"، "غيرة بن عوف بن ثقيف"، ابن خلدون "2/ 309"، تاج العروس "3/ 459"، الاشتقاق "185"، كحالة "4/ 902".
6 المبرد "ص13"، الاشتقاق "ص185 وما بعدها".
7 ابن خلدون "2/ 309".(8/108)
إليه الثياب لستره به، ويطوفون حوله. وسدنته من آل أبي العاص بن أبي يسار بن مالك من ثقيف1.
وولد سليم بن منصور، بُهثة2 "بُهتة". ومن ولد بهثة الحارث، وثعلبة، امرؤ القيس، وعوف، ومعاوية. ومن بطون امرئ القيس، بنو عصيّة، مالك ذو التاج، وكرز، وعمرو، وهند، وبنو خالد بن صخر بن الشريد. وقد توجت بنو سليم مالكًا ملكًا عليها، وقتل مالكًا وكرزًا عبد الله بن جذل الطعان الكناني. وقد اشتهرت بلاد بني سليم بالمعْدِن الذي فيها، ولذلك قيل لها معدن بني سليم3. ومن بني الحارث بن بهثة بنو ذكوان4. ومن بني عبس بن رفاعة بن الحارث، العباس بن مرداس5، وهم من القبائل التي لعنها الرسول، لقتلها أهل بئر معونة. وقد لعن الرسول بني عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة كذلك للسبب نفسه6. ومن بني ثعلبة بن بهثة بن سليم حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، وكان بمكة في الجاهلية محتسبًا بأمر بالمعروف وينهي عن المنكر7.
وتعد قبيلة بني سليم من القبائل المهمة الساكنة في الحجاز في أرض اشتهرت بمعادنها وبخصبها، وبها حِرَار منها: حرة بني سليم، وحرة ليلى، وبها مياه
__________
1 المحبر "315".
2 "بهشة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر"، لسان العرب "2/ 424"، الاشتقاق "192"، الحماسة للتبريزي "1/ 231"، صبح الأعشى "1/ 345".
3 جمهرة "ص249، 251"، الصفة "154".
4 "ذكوان بن رفاعة بن الحارث بن رجا بن الحارث بن بهثة بن سليم"، الاشتقاق "287" لسان العرب "13/ 307"، تاج العروس "10/ 137"، ابن خلدون "2/ 307".
5 "بنو عبس بن رفاعة بن الحارث بن رجا بن الحارث بن بهثة بن سليم"، ابن خلدون "2/ 307"، الأغاني "11/ 138"، الاشتقاق "188".
6 جمهرة "ص251"، الاشتقاق "ص187 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 308"، نهاية الأرب "2/ 323"، لسان العرب "19/ 298"، كحالة "2/ 786".
7 جمهرة "ص251".(8/109)
استفادت منها القبيلة في الزرع. وتجاورها من القبائل غطفان وهوازن وهلال. وكانوا على صلات حسنة باليهود، كما كانوا على صلات وثيقة بقريش. وقد تحالف معهم أشراف مكة وكبارها لما لهم من علاقات اقتصادية بهذه القبيلة1.
ويروى أن النعمان بن المنذر كان قد نقم على بني سُليم لأمر أحدثوه، فأرسل عليهم جيشًا، ولكنه لم يتمكن منهم، وهُزم الجيش2. ولبني سليم ككل القبائل الأخرى أيام. منها: يوم ذات الرَّمرم وهو لبني مازن على بني سُليم، ويوم تثليت وهو بين مراد وبني سليم3.
وكان لهم صنم يقال له "ضمار" كان عند مرداس والد العباس بن مرداس. فلما توفي مرداس، وضعه العباس في بيت يتعبد له. فلما ظهر الإسلام، أسلم، وأحرق ذلك الصنم4.
وولد معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور أولادًا، هم: نصر، وجشم، وصعصعة، وعوف. ويسمون بنية الوقَعَة5. وقد دخلوا في بني عمرو بن كلاب بن الحارث6. ومن بني نصر معاوية ربيعة بن عثمان، وهو أول عربي قتل عجميًا في يوم القادسية. ومن بني جشم بن معاوية، دُريد بن الصمة من
__________
1 صبح الأعشى "1/ 345 وما بعدها"، ency., iv, p. 519.
2 كحالة "2/ 544". بعث النعمان بن المنذر جيشا "إلى بني سليم لشيء كان وجد عليهم من أجله. وكان مقدم الجيش عمرو بن فرتنا، فمر الجيش على غطفان، فاستجاشوهم على بني سليم، فهزمت بنو سليم جيش النعمان، وأسروا عمرو بن فرتنا، فأرسلت غطفان إلى بني سليم. وقالوا ننشدكم بالرحم التي بيننا إلا ما أطلقتم عمرو بن فرتنا، فقال أبو عامر هذه الأبيات، أي لا نسب بيننا وبينكم ولا خلة، أي ولا صداقة بعدما أعنتم جيش النعمان، ولم تراعوا حرمة النسب بيننا وبينكم"، لسان العرب "6/ 428".
3 كحالة "2/ 544".
4 الأغاني "13/ 92".
5 "بنو عوف بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور"، الاشتقاق "177"، لسان العرب "10/ 290"، القاموس "2/ 96"، كحالة "3/ 1251".
6 جمهرة "ص257"، الصفة "121"، ابن خلدون "2/ 310"، تاج العروس "2/ 300، 30/ 105، 570، 4/ 33" الاشتقاق "178"، كحالة "3/ 1181".(8/110)
الفرسان المعروفين. ولهم حروب مع أسد وغطفان وعبس، وكانت مواطنهم بالسروات1.
أما ولد صعصعة بن معاوية، فهم: عامر، ومرّة ويعرف أبناؤه ببني سلول نسبوا إلى أمهم2، وغالب وأمه تماضر، وقد نسب ولده إلى أمهم. وربيعة وأمة عويصرة، وإليها نسب. وعبد الله، والحارث: وأمهما عادية 3، وإليها نُسبا، وكبير، وعمرو، وزبير وأمهم وائلة، وإليها نسبوا. وقيس، وعوف، ومساور، وسيار، ومشجور أمهم عدبة، فنسبوا إليها4. ويلاحظ أن النسابين قد جعلوا لصعصعة عدة نساء، ونسبوا إلى هؤلاء النسوة أولادهن، فعلوا ذلك للتمييز بين هؤلاء الأولاد ولا شك.
وذهب بعض المستشرقين إلى احتمال كون بني عامر هم: hamirei""، "hamirou"، "hamirinoei" المذكورين في تأريخ "بلينيسوس"5. وتقع منازلهم بين منازل قبائل هوازن وسليم وثقيف، ولهم مع القبائل الأخرى مثل بني حنيفة وعبس وذبيان وفزارة وتميم وبني نهد وسعد والرباب حروب عديدة، ترد أخبارها في الأيام.
ومن نسل عامر بن صعصعة: ربيعة، وهلال، ونمير، وسواءة. ومن بني ربيعة بن عامر صعصعة كلاب، وعامر، وكليب6. ومن بني عامر
__________
1 جمهرة "ص258"، ابن خلدون "2/ 310"، الاشتقاق "177"، أبو الفداء "1/ 111"، لسان العرب "14/ 368، 15/ 287"، تاج العروس "4/ 52"، "8/ 229، 9/ 146"، القاموس "2/ 327، 4/ 44"، الصحاح "2/ 271"، صبح الأعشى "1/ 343"، المحبر "211"، 298، 299".
2 "وهي ابنة ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل" تاج العروس "7/ 378"، لسان العرب "13/ 365"، الصحاح "2/ 199"، ابن خلدون "2/ 310"، القاموس "3/ 397، جمهرة "ص259".
3 تاج العروس "10/ 238"، كحالة "2/ 701".
4 جمهرة "ص259".
5 ency., I, 329.
6 جمهرة "ص263 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 340 وما بعدها"، الاشتقاق "178"، ابن خلدون "2/ 310"، تاج العروس "7/ 350"، القاموس "2/ 141"، لسان العرب "3/ 272، 6/ 286"، كحالة "2/ 708 وما بعدها".(8/111)
ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة، معاوية ذو السهمين، لأنه كان يأخذ سهمه من غزوات بني عامر، أقام أو غزا1. وبنو عمرو بن عامر المعروف ب "فارس الضحياء"2. ومن بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة3. وهم خالد الأصبغ وربيعة الأحوص، ومالك الطيّان، أمهم بنت رياح بن الأشل الغنويّ. وعتبة، وعوف، أمهما فاطمة بنت عبد مناف بن قصيّ بن كلاب. فولد الأحوص عوفًا، وعمرًا، وشريحًا، قاتل لقيط بن زرارة يوم جبلة، وقد سادوا جميعًا. ومن عوف بن الأحوص علقمة بن علاثة الذي نافر عامر بن الطفيل4.
ومن نسل خالد بن جعفر بن كلاب أرْبَد بن قيس بن جزء بن خالد، وهو الذي أراد مع عامر بن الطفيل قتل رسول الله. ومن نسل مالك بن جعفر بن كلاب، عامر، وهو أبو براء ربيعة ملاعب الأسنة، والطفيل، وهو والد عامر بن الطفيل، ولبيد الشاعر6. ومن نسل عتبة بن جعفر بن كلاب عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر الذي أجار لطيمة الحيرة، فقتله البرّاض الكناني، ومن أجله كانت حرب الفجار، وابنته كبشة هي أم عامر بن الطفيل، ولدته يوم جبلة7.
ومن نسل عمرو بن كلاب الصعق، وهو عمرو بن خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب. وكان سيدًا يطعم بعكاظ، ومن ولده الشاعر يزيد بن عمرو الصعق8. ومن بني الضباب بن كلا بن ربيعة شَمِر بن ذي الجوشن قاتل
__________
1 جمهرة "ص264 وما بعدها".
2 جمهرة "ص264"، المحبر "ص458".
3 الأغاني "11/ 132، 15/ 52 وما بعدها"، المحبر "ص253"، جمهرة "264 وما بعدها" الاشتقاق "180"، كحالة "1/ 195".
4 جمهرة "267، وما بعدها".
5 الأغاني "5/ 137 وما بعدها"، جمهرة "ص268".
6 الأغاني "14/ 93"، جمهرة "ص268"، المحبر "254، 472، 473".
7 جمهرة "ص268 وما بعدها".
8 جمهرة "ص269"، الاشتقاق "ص180 وما بعدها".(8/112)
الحسين بن علي1. ومن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة جَعدة، والحَرِيش، وعقيل، وقشير، وعبد الله، وحبيب. ومن ولد عبد الله نهم والعجلان2، وهم قبيلة. ومن جعدة الشاعر النابغة الجعدي3. ومن بني قُشير مالك ذو الرقيبة بن سلمة الخير الذي أسر حاجب بن زرارة يوم جبلة. ومن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، المنتفق بن عامر بن عقيل، وهم بطن، وربيعة بن عامر، ومنهم الحارث الأبرص قاتل زيد بن عمرو بن عدس يوم جبلة، وبنو خفاجة بن عمرو بن عقيل.
وتقع منازل الضباب في أرض كلاب، ومن بطونهم ضبّ وضبيب وحسل وحسيل، وقد وقعت بينهم وبين جعفر بن كلاب يوم عرف بيوم حرابيب4، ويوم آخر عرف بيوم هراميت5.
وأما منازل جعدة، فهي في الفلج من اليمامة6. وأما الحريش، فكانت منازلهم باليمامة، واشتركت في يوم الرحرحان7. وكانت مساكن عقيل بالبحرين، وهاجروا إلى العراق، وكان لهم أثر ملحوظ في تأريخ العراق في الإسلام.
والفرع الثاني من فروع مضر، هو من نسل إلياس8، ويتكون هذا الفرع من ثلاث كتل: طابخة، وقمعة، ومدركة. ولكل من هذه الكتل قبائل وبطون.
__________
1 جمهرة "270"، الميداني "2/ 269"، العمدة لابن رشيق "2/ 157، 167". كحالة "2/ 660"، الاشتقاق "ص180".
2 جمهرة "ص269 وما بعدها"، الاشتقاق "181".
3 جمهرة "ص273"، الاشتقاق "ص181"، صبح الأعشى "1/ 341 وما بعدها"، الأنساب للمقدسي "ص110"، نهاية الأرب "2/ 322"، كحالة "2/ 801".
4 كحالة "2/ 660"، نهاية الأرب "2/ 321".
5 "هراميت بالفتح وكسر الميم ثم ياء وتاء مثناة"، "يوم الهراميت" البلدان "8/ 450"، البكري "4/ 1305"، وبهذا الموضع آبار ينسبون حفرها إلى لقمان بن عاد، مما يدل على أنها من الآبار القديمة.
6 ency., I, p. 991.
7 الاشتقاق "183"، كحالة "1/ 267".
8 صبح الأعشى "1/ 346"، سبائك الذهب "ص21"، جمهرة النسب "ورقة 4".(8/113)
أما طابخة، واسمه عمرو "عامر"1، فهو والد ولد يسميه النسابون أُدا، وأُد والد عدة أولاد هم: مر، وضبة، وعمرو وهو مزينة، وعبد مناة، وحميس "خميس". وذكروا أن بني حميس، شهدوا يوم الفيل مع الحبشة، فقتلوا، فقل نسلهم2.
أما ضبّة بن أُد، فولد سعد بن ضبّة، وسعيد ولا عقب له، قتله الحارث بن كعب، ثم قتل ضبّة الحارث بن كعب، وفي ذلك سارت الأمثال الثلاثة: "أسعد أم سعيد" و "الحديث ذو شجون" و "سبق السيف العذل" قالها كلها ضبة3، وباسل بن ضبّة. ويذكر الأخباريون أن الديلم من نسله. وولد سعد بن ضبة بكر بن سعد، وثعلبة، وصريم ومن بكر بن سعد ضرار بن عمرو بن مالك، سيد بني ضبّة. وقد شهد يوم القرنتين، والمفضل بن يعلى صاحب المفضليات، وحبيش بن دلف بن العون، وكان ينازع ضرار بن عمرو الرياسة وحضر يوم القرنتين، وبني تيم بن ذهل4.
وتعد ضبّة جمرة من جمرات العرب التي أشرت إليها، وتقع منازلها في اليمامة، وفي خلال الحرب التي وقعت بين عبس وذبيان دخلت عبس أرض ضبة، ولكنها اضطرت إلى مغادرتها بعد النزاع الذي حدث بين عبس وضبة. وجاورت بني عامر بن صعصعة. وفي يوم "جَبَلة"، وهو من الأيام المشهورة التي وقعت بعد يوم رحرحان بعام، ويصادف ذلك عام مولد النبي على رواية5. أو قبل مولده بسبع عشرة سنة على رواية أخرى6. كانت ضبة مع ذبيان وتميم
__________
1 "عامر" جمهرة النسب "ورقة 4"، ابن خلدون "2/ 315"، صبح الأعشى "1/ 347"، جمهرة "187 وما بعدها"، نهاية الأرب "2/ 325".
2 "حميس"، جمهرة "ص187"، ويختلف النسابون فيما بينهم في عدد ولد طابخة، سبائك الذهب "ص25"، نسب قريش "ص8"، المبرد "ص6"، ابن خلدون "2/ 315"، "بنو خميس" نهاية الأرب "2/ 325".
Wustenfeld, genea., taf., j.
3 الميداني: مجمع الأمثال "1/ 350، 599، 601".
4 جمهرة "ص192 وما بعدها".
5 البكري "2/ 365" "طبعة السقا" "مادة جبلة"، نهاية الأرب "15/ 350 وما بعدها".
6 البلدان "3/ 52".(8/114)
وأسد والرباب وفزارة في مهاجمة بني عامر بن صعصعة1. وبالرغم من كثرة هذه القبائل، تمكنت بنو عامر من الظفر به ومن إلحاق الهزيمة بتميم وبمن ضامها. وإلى مشورة قيس بن زهير العبسي يعود الفضل في انتصار بني عامر. وفي رواية أن لقيطًا استنجد أيضًا بالنعمان بن المنذر، فأنجده بأخيه لأمه حسّان بن وبرة الكلبي، وبصاحب هجر وهو الجون الكندي، فأنجده بابنيه معاوية وعمرو وغزا بني عامر2. وقد أصيب تميم ومن كان معها من القبائل بخسائر، وبوقوع عدد من الزعماء أسرى في أيدي بني عامر، فقتل في هذا اليوم لقيط بن زرارة، وأسر حاج بن زرارة، أسره ذو الرقيبة، وأسر سنان بن أبي حارثة المري وجزت ناصيته، وأطلق إمعانًا في امتهانه، وأسر عمرو بن عدس وجزت ناصيته كذلك ثم أخلي سبيله. وقتل معاوية بن الجون، ومنقذ بن طريف الأسدي، ومالك بن ربعي بن جندل3. ويعد جزّ الناصية بعد الأسر خاصة من أشد درجات الامتهان، ولا سيما جزّ نواصي السادة والرؤساء.
وفي يوم النسّار، لحقت ضبّة وعديّ بأسد وطيء وغطفان في غزوهم لبني عامر، وقد ألحقوا خسائر فادحة ببني عامر، وهذا مما غاظ تميمًا، فجعلها تلحق طيئًا وغطفان وحلفاءهم من ضبة وعدي يوم الفجار، حتى قتلت من طيء أكثر مما قتلت طيء يوم النسار4.
ومن ذرية عبد مناة بن أُد: تيم5، وعدي، وعوف، وثور، وأشيب. وهؤلاء هم الرباب، لأنهم تحالفوا مع بني عمهم ضبّة علي بني عمهم تميم بن
__________
1 ency., I, p. 884.
2 البكري "2/ 366".
3 نهاية الأرب "15/ 350 وما بعدها".
4 "يوم الفجار" نهاية الأرب "15/ 421"، "يوم الجفار"، البكري "4/ 1306" "تحقيق السقا"، مادة "النسار"، "النسار ... جبال صغار كانت عندها وقعة بين الرباب وبين هوازن وسعد بن عمرو بن تميم، فهزمت هوازن، فلما رأوا الغلبة، سألوا ضبة أن تشاطرهم أموالهم وسلاحهم وبخلوا عنهم"، البلدان "8/ 284".
5 المبرد "ص6"، الاشتقاق "ص114"، تاج العروس "8/ 316"، كحالة "1/ 138".(8/115)
مرّ، فغمسوا أيديهم في رُب1. ومن بني عوف بن عبد مناة بنو عكل. ومن بني عمرو بن أد: مزينة، نسبوا إلى أمهم مزينة بنت كلب بن وبرة2. وتقع ديار الرباب بالدهناء في جوار بني تميم3.
ومن ولد أُد بن طابخة مر بن أُد4 فولد مر تميمًا وثعلبة، وهو ظاعنة، وبكر بن مرّ، وهو الشعيراء، ومحارب بن مرّ، وهو صوفة. ومن النساء برة أم النضر، وملك وملكان بني كنانة. وهي أيضا أم أسد بن خزيمة، وهند ابنة مر وقد ولدت بكرًا وتغلب وعنز بني وائل بن قاسط، وتُكمة بنت مر وقد ولدت غطفان بن سعد، وسليما وسلامان بن منصور، وجديلة بنت مر وقد ولدت فهمًا وعدوان، وإليها ينسبون، وعاتكة بنت مر. وهي والدة عذرة بن سعد وإخوته5.
وأما صوفة، فإنهم كانوا يجيزون بالحاج. وقد انقرضوا عن آخرهم في الجاهلية، فورث ذلك آل صفوان بن شجنة "سجنة" "شحمة"، من بني سعد بن زيد مناة بن تميم6. ومن هؤلاء على رواية كان عامر بن أحيمر السعدي
__________
1 جمهرة "ص287"، "فالرباب، تيم، وعدي، وعكل، ومزينة، وضبة، وإنما سموا الرباب لأنهم تحالفوا، فقالوا اجتمعوا كاجتماع الربابة، وهي خرقة تجمع فيها القداح. وقال قوم: بل غمسوا أيديهم في رب وتحالفوا، والقول الأول أحسن" الاشتقاق "ص111"، المبرد "ص6" ابن خلدون "2/ 318"، لسان العرب "1/ 388" "والرباب: ولد تيم بن عبد مناة وعدي بن عبد مناة وعوف بن عبد مناة: سموا الرباب لأنهم غمسوا أيديهم في رب، إذ تحالفوا على بني تميم، قال: ومن النسابين من يجعل الرباب بني تميم وعدي وثور وعكل وهم بنو عبد مناة وضبة بن أد"، نهاية الأرب "2/ 329".
2 جمهرة "ص190"، صبح الأعشى "1/ 348"، ابن خلدون "2/ 318". الاشتقاق "111"، أبو الفداء "1/ 112"، تاج العروس "9/ 345"، لسان العرب "17/ 294"، القاموس "1/ 366"، كحالة "3/ 1083 وما بعدها".
3 ابن خلدون "2/ 318"، كحالة "2/ 415".
4 المبرد "ص6"، الصحاح "1/ 398"، نهاية الأرب "2/ 325"، ابن خلدون "2/ 315".
5 جمهرة "195 وما بعدها"، "طابخة، مر، أد"، سبائك الذهب "ص25".
6 القاموس "3/ 164"، "وبنو صوفة، وهم ولد الغوث، وهو الربيط بن مر"، نهاية الأرب "2/ 325"، "شحمة"، ابن خلدون "2/ 319"، "سجنة"، كحالة "2/ 655"، الصحاح "2/ 39"، اللسان "11/ 102"، جمهرة "196".(8/116)
الذي حصل على برديّ مُحوّق من النعمان بن المنذر في مجلس مفاخر حضرته وفود العرب عقد بحضرة النعمان بن المنذر في الحيرة. وقد بزّ عامر هذا الحاضرين في الفخر وفي الانتساب على الطريقة المألوفة. ولما سأله النعمان: بِمَ أنت أعز العرب؟ قال: العِزّ والعدد من العرب في معد، ثم في نزار، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني؟ فلما لم ينافره أحد، ذهب بالبردين1.
وتميم من القبائل العربية الكبيرة المعروفة، وقد نعتهم ابن حزم بقوله: "وهم قاعدة من أكبر قواعد العرب"2. وتعد في مقابل قيس وربيعة، وهي الممثلة لمجموعة مضر في بعض الأحيان. وهي أقرب جغرافيًّا وتأريخيًّا إلى قيس وربيعة منها إلى كنانة3. ومعارفنا عن تأريخها مستمدة مثل معارفنا عن القبائل الأخرى المماثلة من الروايات المدونة في كتب الأخباريين4.
ويزعم الأخباريون أن جد هذه القبيلة مدفون في موضع "مُرّان"5، وهم يروون قصصًا عنه وعن ميلاد أولاده من هذا النوع الذي ألفنا وروده عن الأخباريين6.
ولا نستطيع في الوقت الحاضر أن نرتقي بتأريخ تميم عن القرن السادس للميلاد، فليست لدينا موارد تأريخية يعتمد عليها ترفع تأريخ هذه القبيلة إلى
__________
1 وفيه يقول الفرزدق:
فما تم في مسعد ولا آل مالك ... غلام إذا ما قيل لم يتبهدل
لهم وهب النعمان بردي محرق ... بمجد معد والعديد المحصل
وفي أهل هذا البيت من سعد بن مناة، يقول أوس بن مغراء السعدي:
ولا يريمون في التعريف موقفهم
حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
العقد الفريد "2/ 65"، "تحقيق محمد سعيد العريان".
2 جمهرة "ص196".
3 ency., iv, p. 643.
4 ابن قتيبة: المعارف "37 وما بعدها" "طبعة وستنفلد"، جمهرة النسب "ورقة 62 وما بعدها"، الاشتقاق "ص123 وما بعدها"، الأغاني "4/ 7 وما بعدها"، "12/ 36، 15/ 69 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 315"، أبو الفداء "1/ 112".
5 البلدان "8/ 7".
6 ency., iv, p. 644(8/117)
ما قبل ذلك، ولا يعني هذا أننا ننكر أن يكون لها تأريخ قديم، إذ يجوز أن يكون لها عهد أقدم من هذا العهد الذي نتحدث عنه. ولكننا لا نملك الآن نصوصًا جاهلية أو موارد إسلامية يُطْمأن إليها، ترجع تأريخ تميم إلى ما قبل هذا القرن.
أما في القرن السادس، فقد كانت تميم قبيلة بارزة ظاهرة، بطونها منتشرة في العربية الشرقية، وفي نجد وفي العراق، وفي أنحاء مختلفة من جزيرة العرب، مجاورة لقبائل معروفة مثل أسد وغطفان وبني عبد القيس وتغلب، متصلة بها. ومن بني دارم من تميم كان المنذر بن ساوي حاكم البحرين والذي أسلم في أيام الرسول1.
وكانت لتميم صلات متينة بملوك الحيرة، وكان من عادتهم جعل الردافة في بطن من بطونهم، وهو بطن بني يربوع. وقد ثار هذا البطن وهاج، لما حولت الردافة إلى بطن آخر من بطون تميم، هو بطن بني دارم، ولم يقبلوا إلا برجوعها إليهم، لما كان للردافة من مكانة في ذلك الوقت2.
ونجد في كتاب الأخباريين أسماء أيام عديدة وقعت بين تميم وغيرها من القبائل، خاصة قبائل بكر بن وائل. كما نجد إشارات إلى حروب وقعت بينهم وبين بعض ملوك الحيرة. وقد أشرت إلى القصص الذي يرويه أهل الاخبار عن غزو "سابور ذي الأكتاف" لجزيرة العرب وإلى ما زعموه من تنكيله بالقبائل وانتزاعه أكتافهم، ومن هذه القبائل قبيلة تميم3. ويذكر الأخباريون أيضا أن "كسرى برويز" "كسرى أبرويز" "khusrawparwez"، كتب إلى عامله على هجر، وهو "المكعبر"، أن ينتقم من تميم، لتعرضها لقافلة كانت محملة بالتجارات وبالهدايا مرسلة إليه، فقتل المكعبر بالمشقر عددًا كبيرًا منهم4.
ولتميم صلات متينة برجال مكة، وقد كان لرجالهم ذكر وخبر في سوق
__________
1 Ency., IV, P. 644
2 Ency., IV, P. 945
3 Journal of the Economic and Social History of the Orient, Vol., VIII, 1965.
4 Ency., IV, P. 645(8/118)
"عكاظ". فمنهم كان حكّام الموسم. كما تولوا القيام ببعض مناسك الحج وقد صاهرهم بعض رجال مكة.
ويظهر من بعض روايات الأخباريين أن تميمًا وبقية القبائل المنتمية إلى "أد" كانت تتعبد ل "شمس". وكان لشمس بيت "تعبده بنو أُد كلها: ضبة وتميم، وعدي، وعكل، وثور. وكان سدنته من بني أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، فكسره هند بن أبي هالة بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن"1. وعبدت طائفة من تميم "الدَّبَران" من النجوم، ولهم قصة عن هذه النجوم2.
وكان بعض تميم على النصرانية، ومنهم عدي بن زيد العبادي، كما كان بعض منهم من دان بالمجوسية، ومن هؤلاء زرارة بن عدس التميمي وابنه حاج بن زرارة والأقرع بن حابس3.
وفي شواهد كتب النحو والصرف أمثلة عديدة من لهجة تميم4، وهي تشير إلى وجود فوارق ومميزات في تلك اللهجة تميزها عن اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم. وقد أخرجت هذه القبيلة عددًا من الشعراء في الجاهلية والإسلام. وللاستشهاد بلهجة تميم، ولوجود عدد من الشعراء الذين يعدون من كبار الشعراء عند علماء الشعر، أهمية كبيرة ولا شك في دراسة اللهجات العربية، وعلاقاتها بلهجة القرآن الكريم5.
وقد أدى تعدد بطون تميم وانتشارها إلى نشوب حروب بينها، وإلى تكتّلها كتلًا وتكوين أحلاف بينها، كالحلف الذي كان بين بني يربوع وبني نهشل. وقد نسب لأبي اليقظان النسابة كتاب في أحلاف تميم اسمه: "كتاب حلف تميم بعضها بعضًا"6.
__________
1 المحبر "ص316".
2 بلوغ الأرب "2/ 239".
3 بلوغ الأرب "2/ 233 وما بعدها".
4 ابن فارس: الصاحبي "24"، المزهر "1/ 211"، السيوطي: الإتقان "ص109".
5 Voller, Volkssprache und Schriftsprache in alten Arabien, S. 8ff, Ency IV, P. 645.
6 الفهرست "94". Ency., iv, p. 644.(8/119)
وبطون تميم عديدة، تفرعت على رأي النسابين من الحارث، وعمرو، وزيد مناة أولاد تميم1. ومن ولد عمرو: العنبر، والهجيم، وأسيد، ومالك، والحارث، وقليب2. والحرماز، وكعب على رواية أخرى3. ومن بطون بني كعب بنو فهد. وقد عرف نسل الحارث بالحَبِطات4. ومن بطون بني مالك بن عمرو بن تميم: مازن، والحرماز، وغيلان، وغسان5. ومن بني أسيد بن عمرو بن تميم بنو كاهل، ومنهم أوس بن حجر الشاعر الجاهلي المعروف. وكان شاعر مضر حتى أسقطه زهير6، وبنو شريف ومنهم أكثم بن صيفي من حكماء العرب في الجاهلية، وحنظلة بن ربيعة، بن أخي أكثم. وقد كتب للنبي الوحي7. ومن بني مالك بن زيد مناة بن تميم البراجم، وبنو دارم8، ومن بني حنظلة بنو يربوع، ومن بني يربوع بنو ثعلبة9، ومن بني الحارث بن يربوع بنو سليط، ومن نسل مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم: بنو فُقَيْم، وبنو نهشل، وبنو مجاشع10، وفي بني رياح بن يربوع كانت ردافة قبل الإسلام11، ومن بني العنبر بن يربوع كانت سجاح12.
__________
1 جمهرة "ص196"، "وبنو أسد بن عمرو بن تميم"، هكذا في الصفحة "435"، من الجمهرة، "والحارث أبو شقرة، وإنما سمي أبا شقرة لبيت قاله:
وقد أخضب الرمح الأصم كعوبه
به من دماء القوم كالشقرات
المبرد "ص6"، الإنباه "76" الاشتقاق "126"، المعارف "26".
2 جمهرة "ص297"، المبرد "ص7"، الاشتقاق "126"، المعارف "26".
3 الاشتقاق "ص123 وما بعدها"، المبرد "ص7".
4 المبرد "ص7"، الاشتقاق "ص124"، العقد "2/ 222".
5 الاشتقاق "ص124"، جمهرة "ص200".
6 الاشتقاق "ص127".
7 الاشتقاق "ص127" جمهرة "ص200".
8 الإنباه "ص76 وما بعدها"، جمهرة "ص212"، المبرد "ص7"، طرافة الأصحاب "ص60".
9 جمهرة "213"، الاشتقاق "ص125"، المبرد "ص7".
10 جمهرة "ص217 وما بعدها"، المبرد "ص7"، "وأما تميم بن مر، فهي قبيلة كبيرة، ترجع إلى طابخة بن إلياس بن مضر، فبطونها: دارم ومجاشع"، طرفة الأصحاب "ص60" الأغاني "12/ 48"، نهاية الأرب "2/ 326 وما بعدها".
11 المبرد "ص8"، الاشتقاق "135"، العمدة لابن رشيق "2/ 165"، تاج العروس "5/ 358"، لسان العرب "3/ 295"، كحالة "2/ 457".
12 المبرد "ص8"، جمهرة "215"، صبح الأعشى "1/ 348"، ابن خلدون "2/ 317"، كحالة "2/ 845".(8/120)
وذكر "البلاذري" أن "بكر بن وائل" أغارت على "بني عمرو بن تميم" يوم "الصليب"، ومعها ناس من الأساورة، فهزمتهم بنو عمرو وقتلت "طريفا" رأس الأساورة1. وذكر أن "بكرًا" كانت تحت يد كسرى وفارس، فكانوا يقوونهم ويجهزونهم، وكان يشرف عليهم عامل "عين التمر"2. ويظهر أن "بني عمرو"، كانوا قد اعتدوا على "عِير كسرى"، فجهز "بكر بن وائل" عليهم.
أما بنو قمعة بن إلياس فهم من نسل عامر بن قمعة، واسم قمعة عمير3. وقد ولد عامر أفصى وربيعة وهي لحيّ. فولد لحيّ عامر بن لحيّ، وولد عامر بن لحيّ عَمْرًا وهو عمرو بن لحي، نسب إلى جده، فعرف بعمرو بن لحي. وهو على قول الأخباريين أول من غير دين إسماعيل ودعا العرب إلى عبادة الأوثان4.
وأشهر بطون قمعة أسلم، وخزاعة في رأي بعض النسابين5. ولم يشر إلى عقب يذكر لقمعة بعض آخر من علماء الأنساب6. أما أسلم، فهم بنو أفصى بن عامر بن قمعة، وأما خزاعة، فهم بنو عمرو بن عامر بن لحيّ وهو ربيعة، وقد كانت مواطن خزاعة في أنحاء مكة في مرّ الظهران وما يليه. وكانوا حلفاء لقريش. ودخلوا في عام الحديبية في عهد رسول الله، وقد ذهب بعض النسابين كما أشرت سابقًا إلى ذلك إلى أن خزاعة من غسان، وأنها من نسل حارثة بن عمرو "عامر" مزيقياء، وأنها أقامت بمر الظهران حين سارت غسان إلى الشام، وتخزعوا عنهم، فَسُمّوا خزاعة. وإلى نسبة خزاعة إلى غسان ذهب نسابو خزاعة7.
__________
1 M. J. Kister, in Journal of the Economic and Social History of the Orient, P. 114
2 النقائض "518".
2 نسب قريش "ص8".
4 الجمهرة "ص223"، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "أول من سيب السائبة، وبحر البحيرة، وحمى الحامي، عمرو بن لحي بن قمعة، رأيته في النار يجر قصبة، وأشبه ولده به أكثم بن أبي الجون. فقال أكثم: أيضرني ذلك يا رسول الله؟ قال: أنت مؤمن، وهو كافر"، نسب قريش "ص8".
5 ابن خلدون "2/ 315"، جمهرة "ص437".
6 صبح الأعشى "1/ 348".
7 نسب قريش "ص8".(8/121)
ومن صلب عمرو بن لحيّ، أي خزاعة، بنو سلول بن كعب بن عمرو بن عامر بن لحيّ، ومنهم قمير "قمر"، ومطرود ومازن وسعد وحليل، وحُبْشيّة وهم بطن، وهو حاجب الكعبة1. ووالد حُبّي التي تزوجها قصيّ بن كلاب، ومن نسل حليل أبو غبشان، واسمه المحترش، باع الكعبة بزق خمر من قصيّ بن كلاب. ومن ولد حبشية بن كعب بن عمرو بن عامر بن لحي: حرام، وغاضرة2. ومن نسل بني عوف بن عمرو بن عامر بن لحي: جفنة "بنو جهينة"، وهم عباد بالحيرة. ومن نسل سعد بن عمرو بن لحي بنو المصطلق. ومن بني أفصى بن عامر بن قمعة بن عامر بن قمعة: بنو أسلم، وسلامان وهوازن، وبنو ملكان بن أفصى بن عامر بن قمعة وبنو مالك بن أفصى3.
وقد تحدثت سابقًا عن رأي نسابي اليمن في خزاعة، وعدها من جماعة قحطان. ونظرًا لعد بعض النسابين إياها من عدنان تحدثت عنها في هذا الباب. أما فرع مدركة، فيتكون من أصلين: خزيمة، وهذيل. وأمهما سلمى بنت أسد بن ربيعة بن نزار4. وأضاف بعض النسابين ولدًا آخر إليهما اسمه غالب بن مدركة، دخل نسله في بني الهون بن خزيمة بن مدركة5.
أما ولد خزيمة، فهم كنانة وأمه عوانة بنت قيس بن عيلان، وأسد، وأسدة، والهون، وأمهم برة بنت مر بن أد بن طابخة. أخت تميم بن مر6. ويرى بعض النسابين أن جذامًا ولخمًا وعاملة هم نسل أسدة، ولكنهم انتسبوا في اليمن، فقالوا جُذام بن عدي بن الحارث بن مُرّة بن أُدَد بن زيد بن يشجب بن عريب بن مالك بن زيد بن كهلان، وأن هذا الانتساب كان لعوامل سياسية كما حدث لقبائل أخرى، خاصة في أيام الأمويين7.
__________
1 نهاية الأرب "2/ 301"، الاشتقاق "ص276"، جمهرة "223".
2 نهاية الأرب "2/ 301"، جمهرة "223"، الاشتقاق "278"، كحالة "2/ 874".
3 نهاية الأرب "2/ 301"، جمهرة "223 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 315".
4 ابن خلدون "2/ 319"، جمهرة "9"، نسب قريش "ص8"، سبائك الذهب "ص22 وما بعدها"، "مدركة ... وله فرع واحد على حاشية عمود النسب، وهو هذيل"، صبح الأعشى "1/ 348".
5 جمهرة "ص9".
6 نسب قريش "ص8"، الجمهرة "ص9"، "فولد خزيمة بن مدركة كنانة وأسد والهون"، طرفة الأصحاب "ص59".
7 نسب قريش "ص9".(8/122)
وكانت منازل كنانة عند ظهور الإسلام في أطراف مكة بين هذيل وأسد بن خزيمة، وكان لها أثر مهم في تأريخ مكة على ما يفهم من روايات الأخباريين. وقد ساعدت قريشًا، وقريش من كنانة في نزاعها على رئاسة مكة مع خزاعة، ولها مع خزاعة جملة وقائع، كما كان لها أثر خطير في حروب الفجار1.
وتتألف كنانة من بطون عديدة، هي: النضر، والنضير، ومالك، وملكان، وعامر، وعمرو، والحارث، وعروان "عزوان"، وسعد، وعوف، وغنم، ومخرمة، وجرول. وفي رواية لابن الكلبي أن جميع هؤلاء الأبناء هم من أم واحدة هي برّة بنت مرّ، أخت تميم بن مرّ2، وهي أم أسد وأسدة والهون أبناء خزيمة في رواية أخرى. أما أم عبد مناة بن كنانة، وذلك في رواية من جعله ابنًا لكنانة، فهي بنت هنيء بن بَليّ من قضاعة. ولهذا السبب نسبت إلى قضاعة عند بعض النسابين3.
ومن بطون عبد مناة بن كنانة: بكر، وعامر، ومرّة، وغفار. وهي بطون. ومن بكر: ليث، والدئل وأمهما أم خارجة البجلية، وضمرة، وعريج. ومن ليث بن بكر: عامر وجُندع، وسعد. ومن الدُّؤل أبو الأسود الدُّؤلي. ومن بني مرة بن عبد مناة: بنو مدلج، وقد اشتهروا بالقيافة4. ومن بطون مالك بن كنانة: ربيعة بن مكدم، فارس بني كنانة، وبنو فراس بن تميم، وبنو فُقَيم، وهم الذين كانوا ينسئون الشهور في الجاهلية،
__________
1 نسب قريش "ص10"، الصفة "54"، القاموس "2/ 66، 3/ 10"، تاج العروس "8/ 240، 10/ 178"، لسان العرب "12/ 154، 17، 243"، ابن خلدون "2/ 320"، صبح الأعشى "1/ 350"، الإنباه "72"، زيدان: العرب قبل الإسلام "241"، كحالة "3/ 966"، Ency., II, p. 1017
2 جمهرة النسب "ورقة 4"، الاشتقاق "105 وما بعدها".
Wustenfeld Genea., Taf., N.
3 Ency,, II, p, 1018.
4 جمهرة "ص170 وما بعدها"، "الدئل"، الاشتقاق "105 وما بعدها"، المعارف "22، 150"، المبرد "ص4"، طرفة الأصحاب "ص59"، صبح الأعشى "1/ 350 وما بعدها"، الأغاني "19/ 77"، تاج العروس "9/ 323"، أبو الفداء "1/ 112"، ابن خلدون "2/ 320"، كحالة "2/ 735"، "3/ 1061".(8/123)
ثم أبطل ذلك في الإسلام1.
ومن نسل الهون: عضل2، وديش3، والقارة4. وبنو ييتع "يتتع"5 "يثيع"6، بن مليح بن الهون. وهم، وبطنان من خزاعة هما: الحيا والمصطلق، حلفاء لبني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. ويقال لهم جميعًا الأحابيش، أحابيش قريش، لأن قريشًا حالفت بني الحارث بن عبد مناة على بكر بن عبد مناة، فهم وأحلافهم حلفاء قريش7.
أما نسل أسد بن خزيمة، فهم: دودان8، وكاهل9، وعمرو، وصعب، وحملة10. ويقال لبني عمرو بنو نعامة11. وجعل بعض النسابين بني النعامة من نسل عبد الله بن صعب بن أسد، وهم: بنو جعدة، وبنو البحيرة بن عبد الله
__________
1 صبح الأعشى "1/ 351"، الإنباه "74"، المعارف "22"، المبرد "5"، الأغاني "12/ 48"، "فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة"، كحالة "3/ 926"، نهاية الأرب "2/ 351".
2 لسان العرب "13/ 480"، الصحاح "2/ 215"، أبو الفداء "1/ 112"، صبح الأعشى "1/ 349"، كحالة "2/ 787".
3 تاج العروس "7/ 316"، أبو الفداء "2/ 112"، صبح الأعشى "1/ 349".
4 طرفة الأصحاب "ص60"، الاشتقاق "ص110"، ويطلق بعض النسابين القارة على عضل والديش مجتمعين، تاج العروس "3/ 510"، لسان العرب "6/ 436". الصحاح "1/ 391"، الإنباه "ص73"، كحالة "3/ 935"، "عضل والديش ابني بليغ بن الهون وهم القارة، سموا قارة لأن يعمر بن عوف بن الشدا "أحد بني ليث لما أراد أن يفرقهم في بطون كنانة قال رجل منهم:
دعونا قارة لا تنفرونا ... فنجفل مثل إجفال الظليم
فسمو قارة. وهم رماة العرب"، نهاية الأرب "2/ 331".
5 نسب قريش "ص9". Wustenfeld, genea., taf., n.
6 "يثيع" جمهرة "ص179".
7 نسب قريش "ص9"، جمهرة "ص179".
8 لسان العرب "4/ 147"، صبح الأعشى "1/ 349"، تاج العروس "2/ 347". أبو الفداء "1/ 112"، نهاية الأرب "2/ 321".
9 لسان العرب "14/ 124"، الصحاح "2/ 237"، أبو الفداء "1/ 112"، ابن خلدون "2/ 320"، نهاية الأرب "2/ 321"، صبح الأعشى "1/ 350"، كحالة "3/ 976".
10 جمهرة "ص179".
11 الاشتقاق "ص110"، المبرد "ص6".(8/124)
ابن مرّة بن عبد الله بن صعب بن أسد1. وحصر بعض النسابين بطون أسد بن خزيمة في كاهل، وفقعس، والقعين، ودودان2.
ومن نسل عمرو بن أسد بن خزيمة: القليب، ومعرض واسمه سعد، والهالك3، ومن نسل كاهل بن أسد بن خزيمة مازن بن كاهل، ومنهم علياء بن حارثة بن هلال الشاعر قاتل حجر بن عمرو الكندي والد الشاعر امرئ القيس4.
وولد دودان بن أسد: ثعلبة، وغنمًا5. فولد غنم بن دودان كبيرًا، وعامرًا ومالكًا. ومن بني غنم بنو جحش6. ومن بني ثعلبة7 بن دودان الشاعر عبيد بن الأبرص، والكميت الشاعر. ومن بني سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان عمرو بن مسعود الذي يقال إن النعمان بنى عليه الغَرِيّ. ومن بني الحارث بن ثعلبة بن دودان: قُعين، ووالبة، وسعد، ومن بني قعين عامر بن عبد الله بن طريف بن مالك بن نصر بن قعين، صاحب لواء بني أسد في الجاهلية. ومن بني عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان، طليحة بن خويلد بن نوفل الذي ادعى النبوة8. وأشهر بطون بني ثعلبة: بنو غاضرة، وبنو مالك، وبنو والبة، وبنو نصر بن قعين، وبنو الصيداء، وبنو فقعس، وبنو دبير9.
أما ولد هذيل بن مدركة، فهم: سعد، ولحيان. وولد لحيان طابخة، ودابغة. ومن طابخة أبو قلابة الحارث بن صعصعة الشاعر. ومن سعد بن هذيل:
__________
1 جمهرة "ص180".
2 طرفة الأصحاب "59".
3 جمهرة "ص180".
4 جمهرة "ص180"، وفيه يقول امرؤ القيس:
أأفلتهن علباء جريض ... ولو أدركته صفر الوطاب
المبرد "ص6".
5 تاج العروس "9/ 8"، ابن خلدون "2/ 320"، كحالة "3/ 894".
6 جمهرة "ص180 وما بعدها".
7 ابن خلدون "2/ 320"، تاج العروس "1/ 165"، لسان العرب "1/ 231". كحالة "1/ 144".
8 جمهرة "ص180 - 185"، وهو من بني فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان، المبرد "ص5"، الإصابة "4290".
9 جمهرة "ص435"، المبرد "ص5".(8/125)
الشاعر أبو كبير الهذلي، وحوية. وقيل إن الحطيئة منهم. ومنهم خناعة وهم بطن، ورهم، وتميم، والحارث، ومعاوية، وعوف. ومن سعد هذيل: عبد الله بن مسعود، والمؤرخ المسعودي. وقد اشتهرت هذيل بكثرة من نبغ فيها من الشعراء، وحيث بلغ عددهم نيفًا وسبعين شاعرًا1. ومن بطون هذيل الأخرى: بنو دهمان، وبنو عادية، وبنو صاهلة، وبنو ظاعنة2، وبنو مخزوم، وبنو قُريم، وبنو قرد بن معاوية3.
وتعد هذيل من القبائل العربية الكبيرة التي كانت في القرن السادس للميلاد، أما منازلهم في هذا الوقت، ففي سراة هذيل بين مكة والمدينة وفي جوار بني سُليم وكنانة4، وهي مثل أكثر القبائل الأخرى لا نعرف من تأريخها قبل الإسلام شيئًا يذكر. ويذكر الأخباريون أنها كانت في جملة القبائل التي أرادت الدفاع عن مكة حينما عزم أبرهة على احتلالها. وكانت تتعبد للصنم سواع بنعمان، وسدنته بنو صاهلة من هذيل، وتعبدت له بنو كنانة وبنو مزينة وبنو عمرو بن قيس عيلان كذلك5. وله معبد آخر بموضع "رهاط"6، كما تعبدت للصنم "مناة" ومعبد بقديد7.
إن ما ذكرته في هذين الفصلين، هو خلاصة آراء علماء الأنساب في أنساب القبائل. وهي آراء لا نستطيع أن نذهب مذهبهم في أنها جاهلية قديمة، وأنها على هذه الصيغة كانت معروفة قبل الإسلام، وإن قالوا إنهم توارثوها عن الجاهليين، ونقلوها عن المشتغلين بالنسب في الإسلام والجاهلية كابرًا عن كابر، ولا نستطيع أيضا أن نزعم أنها تمثل أنساب القبائل على نحو ما دونت وصنفت في الديوان بأمر الخليفة عمر بن الخطاب. فلم نجد في أقدم ما انتهى إلينا من
__________
1 جمهرة "ص185 وما بعدها".
2 طرفة الأصحاب "ص60".
3 جمهرة "ص435"، المبرد "ص6".
4 الصفة "ص173"، ابن خلدون "2/ 319"، صبح الأعشى "1/ 348"، نهاية الأرب "2/ 330"، كحالة "3/ 1213 وما بعدها".
5 المحبر "ص316".
6 البكري "2/ 679"، "طبعة السقا" "مادة رهاط". Ency., II, p. 329.
7 Ency., II, p, 329.(8/126)
كتب النسب إشارة تفيد أن ما قصوه علينا وما ذكروه في النسب، منتزع من سجلات ديوان الخليفة. ثم إننا رأينا أمثلة عديدة، لتنقل نسب القبائل في أيام الأمويين بين قحطان وعدنان لأسباب سياسية وعوامل ترجع إلى هذا التعصب المزري الذي انتشر في ذلك العصر، حتى جزّأ العرب إلى قيس ويمن.
وهذه الخصومة السياسية العنيفة التي جزأت العرب ويا للأسف إلى جزأين، وأسالت الدماء بين الفرقين، صارت سببًا لتثبيت أنساب القبائل وضمها في مجموعتين: إما إلى قحطان، وإما إلى عدنان، ولا وسط بين الكتلتين. وقد صادف هذا التحزب عصر بدء التدوين، فكان النسب "لأهميته عند القبائل والناس وفي الحياة السياسية في ذلك العهد" في طليعة الأمور التي شملتها حركة التدوين، فبدلا من أن يعتمد النسابون على الذاكرة والرواية سطروا تلك الروايات في الأوراق، وضبطوا أنساب القبائل التي عاشت قبيل الإسلام وفي صدر الإسلام بهذا التدوين.
وقد أحدث عدم ضبط قواعد الخط في صدر الإسلام، وعدم استعمال النقط في أول العهد بالتدوين بعض المشكلات للمتأخرين في ضبط الأعلام. فاختلاف النقط يحدث كما هو معروف اختلافًا في ضبط الأسماء، وهذا ما حدث فعلا. وإنك لتجد في كتب الأنساب المطبوعة والمحفوظة أمثلة عديدة من هذا القبيل. كذلك أدى إهمال بعض النسابين ذكر الآباء أو الأجداد إلى حدوث شيء من الارتباك في ضبط الأنساب. يضاف إلى هذا تشابه أسماء بعض القبائل والبطون في قحطان وعدنان.
وقد أشار الهَمْداني إلى العصبية التي كان لها أثر خطير في وضع الأنساب في عهد معاوية وغيره في الشأم وفي العراق، ثم إلى تقصير نسابي العراق والشام في عدة آباء كهلان وحمير، ليضاهوا بذلك على حد تعبير الهمداني عدة الآباء من ولد إسماعيل، وذكر أنه كانت عند أهل اليمن مثل حمير وهمدان والمرانيين وغيرهم زُبُر مُدوّنة فيها أنسابهم، يتناقلها الناس، وهي تختلف عن الأنساب التي يتداولها أهل النسب في العراق والحجاز والشأم بعض الاختلاف، وأن بعضًا من أنساب عرب الحجاز دخل في أنساب الناس من أهل اليمن، وذلك على رأيه لأسباب، منها: فتك "بخت نصر" بأقيال اليمن في عهد أسعد تبع،(8/127)
وفي أيام حسان بن أسعد وتخريبه حصونهم، وقتل حسان لجديس التي أفنت طسمًا1. وفي هذا الحديث على علاته ما فيه من اعتراف صريح باضطراب النسابين في ضبط الأنساب.
ولا يخلو بعض هذه الأنساب من تحامل العصبية التي كانت في نفوس القبائل والبطون، إذْ خلقت هذه مثالب لصقتها بآباء القبائل المتباغضة وأجدادها حفظت على مرور الأيام، ولازمت من قيلت فيهم، ليس من الصعب الوقوف عليها ومعرفتها كما الحال في نسب ثقيف مثلا. وقد أوجدت قسوة الحجاج بن يوسف، وهو من ثقيف، ذلك القصص الذي قيل في جدّ ثقيف ولا شك.
وقد أشرت فيما سبق إلى أثر التوراة وأثر نفر من أهل الكتاب ممن ادعوا العلم بكتب الأولين في النسابين والأخباريين ووضعهم أسس النسب، وإرجاعها إلى قحطان وعدنان، وبناء نسب القبائل على هذين الأساسين. وقد وجدنا "يقطان" في التوارة أبًا لشبا وحضرموت وبقية إخوتهما، وهم من العرب الساكنين في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية. ويقطان هو قحطان. ثم وجدنا الإشماعيليين في التوارة كذلك، والإشماعيليون هم الإسماعيليون أبناء إسماعيل جد العرب العدنانيين. ووجدنا نابت وقدار في التوراة كذلك وعند النسابين أيضًا، ونابت هو "نبابوت".
أما الذي يتجلى لنا من استعراض كل هذه الأنساب ودراستها، سواء أكانت قحطانية أم عدنانية، فهو أن الحياة السياسية للقبائل كانت حياة كتل، وهي حياة اقتضتها ضرورات الحياة للدفاع عن النفس والمصالح، كما هو شأن الدول في كل زمان، حيث تعقد بينها المحالفات. فالحلف بين القبائل، هو كالحلف بين الدول بكل ما للحلف من معنى. وقد رأينا نماذج من تلك الكتل الضخمة أشرت إليها في أثناء كلامي على القبائل. ويخيل إليّ أن فكرة رجوع العرب إلى قحطان وعدنان، فكرة تثبتت في الإسلام، ساعد في ترسيخها وتثبيتها تلك العصبية التي أشرت إليها، وتلك النظرية التي انتزعها ابن الكلبي وأضرابه من التوراة ومن أهل الكتاب بخصوص يقطان وقيدار.
__________
1 الإكليل "8/ 100 وما بعدها" "طبعة نبيه أمين فارس"، "10/ 30 وما بعدها".(8/128)
وفي الذي يذهب إليه أهل الأخبار والأنساب من ادعاء وجود خلاف بين القحطانيين والعدنانيين، شيء من الصحة، لا سبيل إلى نكرانه، غير أنه ليس على النحو الذي ذهبوا إليه. والكتابات الجاهلية التي تحدثت عنها سابقًا، وأسماء الأشخاص والأصنام، شواهد على وجود هذا الاختلاف. ولكن ليس اختلافًا بالمعنى الذي ذهب إليه الأخباريون. فبين العرب الذين يطلق الأخباريون عليهم "القحطانيين" اختلاف في اللهجة وفي الأسماء لا يقلّ عن الاختلاف بين القحطانيين والعدنانيين. كذلك نجد مثل هذا الاختلاف بين العدنانيين أنفسهم. وقد وجدنا نص النمارة لامرئ القيس، وهو أصل قحطاني على حد تعبير الأخباريين وأهل الأنساب، بلهجة قريبة من لهجة القرآن الكريم بعيدة عن لهجات أهل اليمن. بلهجة نستطيع أن نقول إنها من الأم التي ولدت عربية القرآن الكريم. كذلك نجد النصوص الأخرى قريبة من هذه العربية، مع أنها لأناس يجب عدّهم من قحطان إن سرنا مع النسابين في مذهبهم في تقسيم العرب إلى قحطانيين وعدنانيين. ثم إن الأخباريين لم يشيروا إلى فروق في اللسان بين القحطانيين والعدنانيين، وإنما جعلوهم يتكلمون بعربية واحدة هي عربية القرآن الكريم، ونسبوا إليهم أصنامًا مشتركة. وشعراء الجاهلية هم في عرفهم من قحطان وعدنان.. ولهذا قالوا عن اللهجات العربية الجنوبية التي ظلت حية في اليمن وفي حضرموت إنها غير فصيحة وأنها ليست بعربية، وأن لسان حمير ليس بلساننا، إلى غير ذلك مما أشرت إليه في أجزاء الكتاب السابقة مأخوذة من أقوال العلماء.
وقد ذكرت في كتابي "تأريخ العرب قبل الإسلام"، في أثناء كلامي على النبط ما كان من وجود أداة "أل" المستعملة في عربية القرآن الكريم، في كتاباتهم، وأشرت إلى استعمالهم أسماء استعملتها قريش وغيرهم من العرب العدنانيين1. وهي أسماء لم نعثر عليها في الكتابات العربية الجنوبية حتى الآن، كما أشرت إلى مشاركتهم العرب الشماليين في أسماء الآلهة التي تعبدوا لها، وأوردت آراء بعض المستشرقين في أصلهم، وفي أنهم عرب مثل العرب الآخرين.
ولهذه الملاحظات أهمية كبيرة في الحديث عن العرب الشماليين، وفي النواحي التي يختلفون فيها عن العرب القحطانيين. كما أن لنص النمارة ولتأريخ "بروكوبيوس"
__________
1 "3/ 13".(8/129)
أهمية خطيرة كذلك في هذا الموضوع لإشارتهما لأول مرة إلى "معدّ". فقد وردت كلمة "معدو" أي معدّ في السطر الثالث من النص، ووردت كلمة "نزرو" أي "نزار" في السطر الثاني منه. يضاف إلى ذلك ورود أسماء قبائل أخرى هي "الأسدين"، أي قبيلة أسد، ومذحج.
أما تأريخ "بروكوبيوس"، فقد وضع "Maddeni" أي معدا في الأقسام الشمالية من الحجاز. وقد ذكر هذا المؤرخ، القيصر "يوسطنيان" طلب من "السميفع أشوع" "Esimiphjius" أن يوافق على تعيين سيد قبيلة اسمه "قيس Caisus" "Kaisus"" رئيسًا على "معدّ"1. وقد ذكرت أن هذا يدلّ ضمنًا على خضوع معد لحمير، ولو كان خضوعًا بالاسم. ولوجود معدّ في هذا الزمن، أي في القرن السادس للميلاد، في أرض كانت مأهولة بالنبط أهمية كبيرة ولا شك.
كما أشرت إلى ورود كلمة "مضر" في نص يماني، وإلى اشتراكها في حرب خاضتها سبأ وحمير ورحبة وكدت ومضر وثعبة2. وهي حرب يظهر أنها كانت واسعة من الحروب التي وقعت قبيل الإسلام. ومضر في هذا النص قبيلة من هذه القبائل التي اشتركت في الحرب، وليس اسمًا عامًّا لقبائل كثيرة، أي على نحو ما يذهب إليه الأخباريون.
فيتبين من هذه النصوص أن معدا ونزارًا ومضر كانت قبائل تقيم في الأقسام الشمالية من جزيرة العرب وفي العربية الغربية. وقد لاحظنا أن نص النمارة قد فرق بين معد ونزار، ولم يشر إلى وجود رابطة بين القبيلتين، بمعنى أن كُلًّا من نزار ومعد كان قبيلة مستقلة، في حين يضع النسابون نسبًا بينهما ويربطون بين القبيلتين. والظاهر أن هذا الارتباط الذي ذهب إليه الأخباريون وأهل الأنساب إنما حدث في صدر الإسلام، بعد تثبيت القبائل في الديوان.
وفي أثناء كلام الأخباريين على تأريخ الحيرة، ذكروا أن معدا كانت خاضعة لها، وأن ملوكها كانوا يحكمون معدا. ذكروهم في جملة من كان قد خضع
__________
1 تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 205 وما بعدها".
2 تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 166".(8/130)
لحكم أولئك الملوك. والذين يستنتج من كلامهم أن معدا كانوا بادين، أي أعرابًا، وأنهم كانوا يقطنون مناطق كانت في نفوذ ملوك الحيرة. فهل قصد الأخباريون معدا الذين كانوا يسكنون في أعالي الحجاز كما ذكر ذلك "بروكوبيوس" أم قصدوا جماعات منهم هاجرت إلى بادية الشام، وخضعوا لحكم أهل الحيرة؟ ويلاحظ أن الأخباريين يتوسعون أحيانًا في مُلك ملوك الحيرة فيبلغون به البحرين والحجاز.
أما كيف تطورت هذه الأنساب، وكيف توزعت، وكيف حصرت في جدّين ومن قام بذلك، وأمثال هذا. فليس من السهل إيجاد جواب لأمثال هذه الأسئلة ما دمنا لا نملك الأسباب التي تهيئ لنا العلم الكافي للإجابة عنها.(8/131)
الفصل الثامن والأربعون: الناس منازل ودرجات
مدخل
...
الفَصْلُ السَّابِعُ والأربَعُون: الناس منازل ودرجات
وأهل الجاهلية مثل غيرهم من شعوب ذلك الزمن: أحرار وعبيد، يستوي في ذلك الأعراب وأهل المدر. والحرّ نقيض العبد، والحرة نقيض الأمة1. والحر هو الذي يتصرف بأموره كما يشاء. وأما العبد فلا، فأمره بيد مالكه، فلا يجوز له أن يفعل شيئًا من غير رضا سيده ومالك رقبته. ويعبر عن الحر بلفظة "حرم" في المسند، فيقال "حرم"، أي "حر". والجمع "أحرر"، أي "أحرار"2.
والجاهليون وإن بدوا "ديمقراطيين" شعبيين، لا فرق عندهم بين حر وعبد، كبير أو صغير. يخاطب الفقير ملكه أو سيد قبيلته بلهجة بسيطة تنم عن "ديمقراطية" عميقة أصيلة إلا أنهم في الواقع طبقيون يعاملون الناس حسب منازلهم ودرجاتهم، ويعملون بمبدأ عدم التكافؤ بين الناس. وآية ذلك عُرف جلوس الناس في مجالس الملوك والمجتمعات، وعرف تقديم الطعام أو الشراب مبتدئين بالملك ثم بمن يجلس على جانبه الأيمن باعتبار أنه أشرف القوم ثم بالجالس على الجانب الأيسر من الملك، على ترتيب الناس في درجات جلوسهم أو حسب إشارة الملك إلى الساقي أو مقدم الطعام. ثم في نظرتهم إلى "الحق" وإلى الأعراف الاجتماعية كالأخذ بالثأر والزواج. فلهم في الأخذ بالثأر مبدأ مقرر
__________
1 اللسان "4/ 181".
2 Rep. Epig, VII, P. 416, Nu. 4912, Philby 84.(8/132)
معروف. هو أن القتيل إذا كان شريفًا في قومه. وكان قاتله وضيعًا صعلوكًا، أو عبدًا فلا يقبل أهل القتيل ب "القود"، بل بعرف تكافؤ الدم. فعندهم أن دم القتيل الشريف، لا يغسل إلا بدم شريف مثله ومن أهل مكانته، ومعنى هذا أن قتل القاتل لا يكفي، بل لا بد لأهل القتيل في هذه الحالة من البحث عن شريف من قوم القاتل يكون مكافئًا للقتيل في المنزلة والمكانة حتى يقتل به، فيغسل عندئذ بقتله دمه. وينام الثأر. وقد يكون المقتول وهو ما يحدث في الغالب بريئًا ولا علاقة له بالقتيل ولا القاتل. ولكن العرف القائم على نظرية التكافؤ بين الطبقات، لا يفهم براءة بريء، وحتى قتل القاتل وحده، بل يدين بعقيدة أن الدم لا يغسل إلا بدم موازٍ له، فلا بد من قتل شريف بشريف إذن حتى ينام أهل القتيل.
وإلى ما تقدم من الإسراف في القتل البريء بدم مقتول، أشير في القرآن الكريم: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} 1. "وذلك أن أهل الجاهلية، كانوا يفعلون ذلك، إذا قتل رجل رجلًا عمد ولي القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل فقتله بوليه، وترك القاتل، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك عباده، وقال لرسوله، عليه السلام، قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله. وإن قتلت القاتل بالمقتول، فلا تمثل به"2.
وعلى هذه النظرية الطبيعية بنوا تقييم أثمان الديات، أي ثمن الدم. فدية الملوك في الجاهلية أغلى ما دفع ثمنًا عن دم. إذْ جعلت دية الملك ألفًا من الإبل، فعرفت لذلك بدية الملك. تليها في الثمن ديات الأشراف وسادات القوم حسب الشرف والمنزلة حتى نصل إلى ديات المغمورين المطمورين فتكون أقلها ثمنًا. إذْ تبلغ خمسًا من الإبل، وقد تنقص في ذلك. وعلى هذه النظرية القائمة على "الفوقية"، و "التحتية"، قدرت فدية الأسرى أيضًا. ففدية الملوك الذين يقعون في أسر آسر ألف من الإبل، وعرفت ب "فدية الملوك" وفدية من هم دونهم أقل حتى تصل إلى أبخس ثمن، وهي فدية سواد الناس. ولهذا حرص
__________
1 "الإسراء"، الآية 33.
2 تفسير الطبري "15/ 59".(8/133)
الأسير الشريف الذي لا يعرفه آسره على إخفاء شخصيته وعلى التظاهر بالإملاق وبأنه من المغمورين ليجنب نفسه دفع فدية عالية قد يفرضها آسره عليه، فتوجعه وتؤلمه.
ومن هذه النظرة أيضًا ولد اعتقاد أهل الجاهلية أن دم الرئيس يشفي من عضة الكلب الكلب1. فإذا كُلب إنسان أتوا رجلُا شريفًا فيقطر لهم من دم أصبعه فيسقون المكلوب فيبرأ. أو يسقونه من دم ملك فيشفى. جاء في المثل: دماء الملوك شفاء الكلب. ودماء الملوك أشفي من الكلب. قال أهل الأخبار عن الكلب: "وأجمعت العرب أن دواءه قطرة من دم ملك يخلط بماء فيسقاه"، فيشفى بذلك من الكلب2. ولو لم يكن للجاهليين رأي خاص في الملوك والأشراف، وفي وجود تفوق لهم على سواد الناس، لما اعتقدوا هذا الاعتقاد في إشفاء دماء الملوك والأشراف لمن يصاب بالكلب. وبعدم إشفاء دم غيرهم لهؤلاء المرضى.
ومن هذه النظرة أيضا، تولد امتناعهم من تزويج بنات الأشراف والأسر من رجال هم دون البنت في المنزلة. وهو عرف يراعونه ويحافظون عليه إلى يومنا هذا. ويزدرون من شأن الخارج على "التكافؤ" بين البنت والولد في الزواج. وقد يرفضون تزويج رجل ثري مكتنز للمال، من امرأة فقيرة شريفة الأصل، إذا كان الرجل من أصل ذابل، كأن يكون أبوه أو جده "صانعًا" أو "خضارًا"، لأن الأصل في نظر العرب فوق المال. والشريفة يجب ألا تتزوج إلا من شريف مثلها، مراعاة منهم لمبدأ نقاوة الأصل وإنجاب الأولاد النجباء. ومن هذه النظرة امتنع العرب من تزويج بناتهم من الأعاجم حتى لو كان ذلك الأعجمي ملكًا. وقد رأينا كيف أن "النعمان بن المنذر"، رد طلب "كسرى" لمّا طلب منه تزويجه إحدى بناته من أحد أبنائه. وشق ذلك عليه حتى إنه لم يتمالك من ضبط نفسه، فقال للرسول: أما في عين السواد وفارس ما تبغون حاجتكم. ومراده من لفظة "عين" البقر. ومن اغتنام "زيد بن عديّ بن زيد العبادي" هذه الفرصة، وكان هو الذي اقترح على "كسرى" أن يزوج أحد ولده من بنات النعمان، فقال لكسرى: "قد كنت أخبرتك بضنهم بنسائهم على غيرهم،
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 319".
2 تاج العروس "1/ 460"، "كلب".(8/134)
وأن ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياش، واختيارهم السموم والرياح على طيب أرضك هذه حتى إنهم ليسمّونها السجن". ومن قوله له: "أيها الملك: إن شر شيء في العرب وفي النعمان أنهم يتكرمون عن العجم"1. فكان ما كان من غضب "كسرى" على النعمان ومن القضاء عليه على النحو الذي تحدثت عنه2.
وقد جعل بعض العلماء تخوف العرب من القهر عليهم ومن طمع غير الأكفاء في بناتهم، في جملة العوامل التي حملتهم على وأد البنات. "قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الأكفاء فيهن"3. ومن شروط الكفاءة في الزواج عند الجاهليين، التكافؤ في النسب والحسب والمكانة وفي الأصل.
وسبب امتناع العربي من تزويج ابنته إلى أعجمي، هو تكرم العرب عن الأعاجم واستعلاؤهم عليهم. ونظرتهم إلى الأعاجم على أنهم دونهم في المنزلة والكرامة. لذلك رأوا أن تزويج بنت عربية إلى علج أعجميّ، خسّة ما بعدها خسّة ودناءة ما وراءها دناءة. حتى وإن كان العربي فقيرًا لا يملك شيئًا. بل عابوا العربي الذي يتزوج أعجمية بسبب النسل، واستصغروا شأن المولود من أب عربي ومن أم أعجمية. فهو وإن كان عربيًّا في عرف العرب من أجل أن النسب إلى الأب، ولكنه أعجمي من ناحية الأم، فهو دون الأصيل في المرتبة.
وفي غنى العربية بالمصطلحات الكثيرة التي تطلق على السادة والأشراف وعلى الفقراء والمعدمين التربين وعلى الطبقات الأخرى، دلالة ليس فوقها دلالة على وجود هذه النظرة الطبقية عندهم، وعلى نظرتهم إلى أنفسهم على أنهم منازل ودرجات، وأنهم غير متكافئين. وأن القيادة في المجتمع يجب أن تكون للبيوت.
__________
1 الطبري "2/ 202 وما بعدها"، "ذكر خبر يوم ذي قار".
2 وقد هجا عبد القيس بن خفاف البرجمي، النعمان بن المنذر، في الجاهلية، وذكر ولادة الصائغ له، فقال:
لعن الله ثم ثنى بلعـ ... ـن ابن ذا الصائغ الظلوم الجهول
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فتيلا
الحيوان، "4/ 379"، "هارون"، الأغاني "9/ 158".
3 القرطبي، الجامع "10/ 117"، "تفسير سورة النحل".(8/135)
ثم إن الأحرار على منازل ودرجات. وهم متفاوتون من حيث الشرف والمال. ويظهر التفاوت بين أهل المدر أكثر مما يظهر بين أهل الوبر، لأن الأعرابي فخور بنفسه، يرى أنه "شريف" مثل غيره نبيل وإن قل ماله وشح. ثم إن التفاوت بين الطبقات لا يمكن أن يظهر في البادية ظهوره بين الضواحي والقرى، لأن طبيعة البادية لا تساعد على ظهور ذلك التباين، حتى إن عبيد الأعراب لم يكونوا يكوّنون طبقة خاصة مضطهدة، ينظر إليها نظرة أهل القرى بازدراء، بل كانوا يعدون في البادية كأعضاء من أعضاء الأسرة1.
والتباين الطبقي هو على أوضح ما يكون في اليمن، لأن الطبيعة قد حبت أرض اليمن خيرات وجوًّا لم تحب المناطق الأخرى من جزيرة العرب مثلها، فكانت نتيجة ذلك ظهور الإقطاع فيها، واشتدت الحاجة إلى شراء الرقيق واستجلابه لاستغلال التربة واستثمار خيرات الأرض وتشغيله في المهن الوضيعة، وظهر في اليمن أغنياء ومتوسطو حال وفقراء معدمون، أي طبقات اجتماعية كونت ذلك المجتمع بشكل واضح لا نراه في المجتمعات العربية الأخرى، أشير إليهم في الكتابات.
__________
1 Ancient Israel, p, 68.(8/136)
رجال الدين:
ورجال الدين طبقة في رأس طبقات المجتمع مكانة ومنزلة، ولها امتيازات خاصة، لأنها ألْسِنة الآلهة الناطقة على هذه الأرض، والآمرة والناهية باسمها، وهي تقرب الناس إلى الآلهة، وتحرّم وتحلّل. وقد رأينا أن أوائل حكام العربية الجنوبية هم "مكربون"، أي رجال دين. ولرجال الدين أملاك وأموال، ولهم على الناس حقوق، يأخذونها منهم، كما تأخذ الحكومة حقها من الشعب. وهم طبقة كبيرة ذات قوة وسلطان مصالحها مع مصالح الحكّام بالرغم من الانفصام الذي وقع فيما بين الدولة والمعبد، وإبعاد "المكرب" عن الحكم، وحصر حق الحكم في الملك وحده، وحصر حق إدارة المعبد في رجال الدين وحدهم، وذلك لأن مصالح الملك ومصالح رجال الدين متشابهة، وكل جهة من(8/136)
الجهتين بها حاجة إلى مساعدة الجهة الأخرى.
وكثيرًا ما نقرأ في كتابات معين: أن ال "شوع" أو ال"رشو" الفلاني قدم قربانًا إلى آلهة معين، أو بنى معبدًا، أو أقام بناء، أو عمل عملاً تقدمة لآلهة معين. ولفظتا "شوع" و "رشو" تعنيان الكاهن والسادن، أي منزلة دينية ذات مركز سام، وهي أعلى درجات الكهنوت في العربية الجنوبية.(8/137)
السادة والأشراف:
ويعبر عن السادة والأشراف بتعابير التعظيم والتفخيم، ومنها "أبعل" "أبعل"، أي سيد ورئيس. وهي لفظة استعملت للآلهة كذلك. استعملت بمعنى رب وإله. فورد "ود بعل ... "و "عشتر بعل ... " وهكذا. وقد استعملت في النصوص القديمة خاصة.
ويقال للسادة "أسود" "أسواد" في العربية الجنوبية، وهم السادة الأشراف1. وتقابل اللفظة لفظة "سادات" في عربيتنا. وهم سادة القوم وأشرافهم وأصحاب المنزلة والمكانة في المجتمع.
ويعد أعضاء الأسرة المالكة في طليعة السادات، وهم في السيادة على حسب قربهم أو بعدهم من الملك، ويقدمون على هذا الأساس عند حضورهم إلى الملك وفي المواسم الرسمية. ولهم أرضون يستغلونها، ورقيق يخدمهم.
ويعبر عن وجيه القوم وذي المنزلة والمكانة بلفظة "كهثم" "كهث"2 وعكسها الوضيع والخامل والصغير والحقير، فقد ورد: "كل إنسم كهثم وقطم"، ومعناها: "كل إنسان: كبير وصغير" أو "كل إنسان وجيه ووضيع". وتطلق لفظة "القطين" وهي "قطنم" و "قطن" في لغة المسند، على الخدم والأتباع والإماء في لغة القرآن الكريم3. فهي إذنْ في نفس
__________
1 Ancient Israel, P. 68.
2 راجع النص: Glaser 509, Rhodokanakis, Stu, I, S. 68.
3 اللسان "17/ 222".(8/137)
المعنى المراد من اللفظة في لغة المسند. وقد ذكر علماء اللغة أن القطين أتباع الملك ومماليكه1.
ويقابل أهل الوجاهة والمنزلة في المجتمع، من يطلق عليهم "ص غ ر م" "صغرم"، أي صغير. ويراد بها سواد الناس، ممن لا وجاهة لهم ولا مركز لدى الحكومة والمجتمع، كما في هذه الجملة: "كبرم فاوصغرم"، ومعناها: "كبير أو صغير"2.
وفي الدرجات العليا من درجات المجتمع، الأقيال وهم إقطاعيون كبار، لهم أرضون واسعة وسلطان، وقد يجد "القول" القَيْلُ قوة في نفسه ومنعة، فينازع الملوك على الملك، ويأخذ الحكم بيده.
وترد في الموارد الإسلامية درجة أخرى تذكر عادة مع الأقيال، هي درجة "ذو" وتجمع أذواء. ويظهر أنها من الدرجات الإقطاعية التي صار لها شأن في العهود المتأخرة القريبة من الإسلام. ويراد بها أصحاب الأرضين ورؤساء الإقطاعيات، كما تطلق على القبائل. وقد أخذت من "ذ" التي ترد في المسند، ومعناها "ذو" في عربيتنا وهي بمعنى "صاحب" في العربيات الجنوبية.
__________
1 اللسان "17/ 222".
2 راجع الفقرة السادسة من النص المرسوم ب: Osiander 35.(8/138)
الوجوه:
وسادة القوم هم وجوه المجتمع وسادات القبائل وقادة الجيوش. من "مقتوين" ومن أمراء حرب، ومن المقربين إلى الملوك وكبار موظفي الدولة. وهم أنفسهم من الطبقات العالية في الغالب. وقد ورثوا منازلهم إرثًا، ولهم أرضون وثراء وقصور يقيمون فيها، وبيوت مشيدة، وخدم يخدمونهم، وقد حصلنا على أسماء عدد منهم من الكتابات.
والتجارة من أشرف ما يشتغل به إنسان عند قريش وعند غيرهم من العرب.(8/138)
وقد اشتغل بها أكثر أشراف مكة، إذ كانوا تجارًا يتاجرون مع اليمن ومع بلاد الشأم والعراق. وقد كانت الحرفة الوحيدة المربحة في جزيرة العرب. فالزراعة لا تدر عليهم ربحًا كبيرًا، لعدم توفر الماء الكافي لزراعة أرضين واسعة تأتي لأصحابها بغلات واسعة وبأموال طائلة، والصناعة غير متيسرة، لذلك عافوها وعابوها، ولم تكن لديهم وسيلة مربحة أخرى غير التجارة.
ومن الألفاظ الدالة على الوجاهة والمكانة عند العرب الجنوبيين، لفظة "قرمن"، أي "القرم"1. وهي في هذا المعنى في عربيتنا كذلك، فيقال للسيد قرم. والقرم من الرجال السيد المعظم و "المقرم"، هو أيضًا السيد المعظم2..
__________
1 Ryckmans 508.
2 اللسان "12/ 473"، تاج العروس "قرم".
قال أوس بن حجر:
إذا مقرم منا زر أحد نابه ... تخمط مناذرا ناب اخر مقرم
أمالي المرتضى "1/ 258".(8/139)
المحاربون:
ويكون المحاربون طبقة خاصة بهم، وهم أناس احترفوا الخدمة العسكرية وعاشوا عليها، وقد أشير إليهم في الكتابات وعرفوا ب"قسم" "قسد" "ق س د". وقد ذكروا بعد أصحاب الأرض في إحدى الكتابات1. وقبل "التجار" "مكر" و "الكيالين" "سلا" في كتابة أخرى2. وقد أشار إليهم "سترابو" إذْ جعلهم في الطبقة الأولى من طبقات المجتمع في "العربية السعيدة". وكان قد قسم هذا المجتمع ثلاثَ طبقات: المحاربين، والمزارعين، وأصحاب الحرف اليدوية3.
ويظهر من دراسة بعض النصوص التي وردت فيها كلمة "قسدن"، أن
__________
1 Glaser 1210, A. Grohmann, S. 123.
2 Glaser 1571, Rhodokanakis, Bodenwirtschaft, S. 183. Altsabaische Texte, I, 105, Kata. Texte, I, 73.
3 Handbuch, I, 123, A. Grohmann, S, 123.(8/139)
"القسود"، كونوا طبقة كبيرة خاصة في دولة سبأ، كانت منزلتها دون منزلة الأشراف وأصحاب الإقطاع وفوق رقيق الأرض، المسمون ب "أدومت"، التابعين للأرض والذين يباعون معها عند بيع الأرض. وكانوا يستغلون الأرض التي تعطى لهم لاستغلالها في مقابل أداء الخدمة العسكرية والاشتراك في القتال عند وقوعه، فهم عساكر وفلاحون في آن واحد. ويشبه حالهم حال العساكر الذين منحهم الخلفاء الراشدون أرضين زراعية لاستغلالها في مقابل هرعهم إلى القتال مع المحاربين عند توجيه الدعوة لهم. وهو نظام كان عند الساسانيين والبيزنطيين.
وقد كان الأشراف وأصحاب الإقطاع يستأجرون من لا أرض له، بإعطائه أرضًا لاستغلالها في مقابل الدفاع عنهم والقتال دونهم. ولذلك كان لكل إقطاعي "قسود" أستطيع تسميتهم بالفلاحين المحاربين. يحاربون معه ويدافعون عنه. وإذا مات سيدهم، صارت السيادة إلى من ينتقل الإرث إليه.
ويعرف المحارب ب "أسدم" "أسد" في العربيات الجنوبية، أي جندي وعسكري في اصطلاحنا اليوم. وهم أحرار وعبيد. ووردت في بعض الكتابات جملة "أسد أملكن" "أسد أملكان"، أي "جنود الملك" و "جنود الملوك" وذلك تعبيرًا عن جماعة اختصت بالخدمة في جيش الملك. وقد أشير إليهم في كتابة بمناسبة إنشاء طريق1.
ويلحق هذه الطبقة طبقة ال "أتمت" ويراد بها الجنود المرتزقة، أو ما يعبر عنه ب "العساكر" في الزمن الحاضر2، وقد كَوّن "العساكر" أو "عساكر السلطان" كما عرفوا في بعض البلاد الإسلامية في أيام الخلافة طبقة خاصة، اعتمدت على سلطانها وقوتها، فلم تحفل بأحد وأخذت تعتدي على الأهلين. وقد كانوا خليطًا من الأحرار ومن الرقيق، واعتمد عليهم الحكّام في الدفاع عنهم وفي القضاء على خصومهم، فعاشوا على خدمة سادتهم، وقد صارت حرفتهم وراثية، فابن ال "أتمت"، ينتسب إلى الخدمة في المعسكر أيضًا حين بلوغه سن الخدمة ويعيش في خدمة سيده.
__________
1 Rep. Epig. 4624, J. Rvckmans, L.htm'institution Monarchique, 147, Arabien, S. 123.
2 A. Grohmann, S. 123.(8/140)
التجار وتوابعهم:
ويكوّن "التجار" طبقة خاصة من طبقات المجتمع العربي الجنوبي، ويقال لهم "مكر" في لغة المسند. وقد كانوا يتاجرون في البر والبحر، ولهم قوافل وطبقات دنيا من رقيق وخدم تؤدي الواجبات التي يريدها سادتهم منهم. وكان لهذه الطبقة شأن خطير في تاريخ العربية الجنوبية في القديم، وأثر بليغ في اقتصاد البلاد، وتزويد الحكومة بمصدر كبير من مصادر دخلها وهو الضرائب التي كانت تدفعها إليها.
وقد تعرض علماء العربية للفظة "المكر"، فقالوا: إن من معانيها السوق، وفيها يقع المكر والخداع. وإن "الماكر" العير تحمل الزبيب، والتمكير احتكار الحبوب في البيوت1. ولهذه المعاني صلة مباشرة بالتجارة وبالإتجار في البرّ والبحر.
وفي العربية طبقة عرفت ب "سلا"، تعاطت تجارة الملح، كانت تبيعه وتستورده وتصدره وتقوم بنقله من مواضعه إلى الأسواق. وقد شبه "رودوكناكس" هذه الطبقة ب "الكواليان" في الوقت الحاضر2.
__________
1 تاج العروس "3/ 549". "مكر".
2 Glser 1571, A. Grohmann, S. 124.(8/141)
الطبقات الدنيا:
ومن الطبقات الدنيا عند العرب الجنوبية: ال "أدم" وال "صغرم" "الصغر" "الصغار"، والأجراء "أجرم"، والمتربون "غبر"، وال "ومي" "أمي".(8/141)
الأدم:
وترد في كتابات المسند كلمة هي "أدم" و "أدومت". وتقابل لفظتي "أدم" و "أدومت" و "آدمي" و "أوادم" في العراق، بمعنى خادم وخدم1. ووردت في صورة: "أديمت" "أد ي م ت" و "أدوم" في الكتابات
__________
1 راجع النصوص الموسومة ب: 689، 697، 704، 707، 712، 725، 726، 730، 784، من كتاب:
Jamme, Southarabian Insctiptions, P. 76, 77.
راجع النقش رقم "16"، "ص23"، من كتاب خليل نامي: نقوش خربة معين.(8/141)
القتبانية المتأخرة1. وتؤدي معنى التبعية. وأعني بالتبعية الاعتراف بسيادة رئيس على مرءوس2. فقد كان أصحاب الأرض يؤجرون الأرض لمن لا أرض لهم، ومن لا مال لهم، فيقيمون فيها يشتغلون لأصحابها، ويكونون تبعًا لهم. ويعبرون عن هذه التبعية بتلك اللفظة المعبرة عنها. فهم في هذه الحالة إذن مزارعون يعيشون من كراء الأرض3.
وقد وردت هذه اللفظة بهذا المعنى، خاصة في النصوص المتعلقة بقبيلة "سخيم"4. وهي ذات أملاك واسعة وأرضين خصبة، وأجرتها لمن لا أرض له من الوافدين عليها من الأماكن الأخرى، لتستغل هذه الأرضين وتعيش عليها، معترفة بذلك أنها في حماية هذه القبيلة وفي خدمتها.
وهي فضلًا عن ذلك تعبر عن التبعية بكل أشكالها، فتعبر عن الانتماء إلى شخص أو قبيلة كذلك، بمعنى أن "الأدم" تابع لذلك الشخص أو القبيلة، منتمٍ إليه. ولذلك يذكر ال "ادم" اسم سيده الذي ينتمي إليه ويحتمي به، كأن يذكر اسمه أو اسم القبيلة التي ينتمي إليها. وقد يعبر باللفظة عن معنى "تابع" و "خادم" بالمعنى المجازي أيضًا، في مثل مصطلح "أدم ملكن" أي "خادم الملك" و "عبد الملك" و "آدم الملك"5. وذلك تعبيرًا عن الاحترام للملك وعن الإقرار بتبعية الشخص المذكور له، وبإخلاصه له إخلاص العبد لسيده، وإن كنا نجد أن للملك حاشية كبيرة هي حاشية "أدم" حقيقية، أي طبقة لا تملك أرضًا ولا ملكًا، ومعاشها من خدمة الملك، حيث يتولى القصر الإنفاق عليها، كما كانت للأسرة الكبيرة جماعات من ال "أدم" تخدمها وتؤدي لها مختلف الأعمال.
__________
1 Glaser 1398, Handbuch, I, S. 122, Anm. 4.
2 Rip. Epig, VII, P. 269, 4651.
3 Rep. Epig, VII, P. Num 4651, 4662.
4 Rep. Epig, VII, P. 301, 4659, P. 302, 4600, P. 303, 4662.
5 SE 80, Rhodokanakis, Die Inschriften an der Mauer von Kohlan-Timna, 25, A. Grohmann, S. 124.(8/142)
فال "أدم" إذن وفي الغالب، تعبير عن جماعات من الناس كانوا أحرارًا، إلا أنهم لم يكونوا من المتمكنين في حياتهم من حيازة أرض أو ملك، لذلك جعلوا أنفسهم في خدمة غيرهم، بأن كروا الأرضين من أصحابها، لاستغلالها في مقابل حق معلوم، أو اتفقوا مع ثري على أداء عمل له في مقابل أجر يقدمونه إليه، وهم طبقة واسعة العدد. وهي لذلك أرقى منزلة وأحسن حالًا من حال العبيد المملوكين، والرقيق المشترى من الأسواق.
وقد فسّر بعض الباحثين كلمة "أدوم" "أدوام" و "أديمت"، و "أدومت"، بمعنى عمال الأرض، أو طبقة واطئة من المزارعين الذين لا يملكون أرضًا، أحوالهم ضعيفة، لأن ما ينتجونه لا يكفي لإعاشتهم. وذكروا أن كلمة "ضعيف" المستعملة في العربية الجنوبية تعبر عن ذلك المعنى المراد من تلك الكلمات1.
وقد ورد في بعض النصوص لفظ "أج ر م" بمعنى "أجير" و "أجراء"2 وهم الأشخاص الذين يشتغلون بأجور يدفعها لهم أصحاب الأرضين أو أصحاب المال أو أصحاب العمل. وقد كانوا طبقة من الطبقات الدنيا، بدليل ذكرهم في هذه الجملة: "كل معنم حرم وأجرم"3، "كلّ معينيّ حرّ وأجير"، أي كل فرد من أبناء معين حر وأجير، بتعبير أوضح، والأجراء هم أكثر حرية من العبيد، لأنهم يشتغلون بأجر وبعقود يتفقون عليها. فإذا انتهى العقد، أو حصل خلاف، جاز للأجير الانتقال إلى موضع آخر، أو إلى صاحب محل آخر للعمل لديه، على حين لا يجوز للعبد فعل ذلك، لأنه ملك يمين. والأجراء أناس أحرار، يستطيعون التنقل والتصرف بحرية، ولكنهم فقراء معدمون لا يملكون شيئا، وعيشتهم من العمل الذي يقومون به لغيرهم مقابل الأجر الذي يقدمه رب العمل لهم.
وقد يكون الأجر الذي يدفع عن عمل مقطوع، وقد يكون عن أمد يحدد كأن يكون أجر يوم واحد أو أيام، فإذا تم النهار دفع الآجر للأجير، وقد
__________
1 A. Grohmann, S. 124.
2 النقش رقم 577، Jamme, Southeratabian Inscriptions.
3 النقش رقم 5، الفقرة 3 من كتاب: نقوش خربة معين "ص5".(8/143)
يكون الأجر لموسم كامل، كموسم زرع، وقد كان الأجراء يشتغلون في الزراعة خاصة كحرث الأرض وزرعها أو حصاد الزرع أو قطف الثمر. ولضعف هذه الطبقة، وعدم تمكنها من أخذ حقها بالقوة، كان بعض من يؤجرهم يأكل حقوقهم، ولا يدفع أجورهم، أو يأكل قسمًا منها. ونجد هذه الطبقة في العراق حيث أشير إليها في شريعة "حمورابي"، كما نجدها في أماكن أخرى من العالم، وما زال العامل يستخدم في مقابل أجور يومية للقيام بمختلف الأعمال1.
وقد ورد في الكتابات القتبانية ذكر جماعتين: جماعة عرفت ب "غبر"، وجماعة عبر عنها ب "ومي"، أو "أمي"2. و "الغبر" في عربية القرآن الكريم هم الفقراء والصعاليك، وفي العربية كلمة أخرى تؤدي هذا المعنى هي لفظة "غبراء الناس"، أي فقرائهم، ومنه قيل للمحاويج بنو غبراء، كأنهم نسبوا إلى الأرض والتراب. وبنو غبراء الفقراء. وأما "الغرباء"، فهم الصعاليك3. فالغبر، إذن هم طبقة من الطبقات البائسة الدنيا التي كانت في قتبان وفي غير قتبان، طبقة من الفقراء والصعاليك، لا تملك شيئًا، ليس لها في حياتها غير البؤس والتعاسة لأنها ولدت بائسة تاعسة فعاشت في تعاستها هذه في هذا العالم على صدقات الناس وعلى ما يحصلون عليه بالسرقة أو بالاستجداء وبالقيام بالخدمات والأعمال المتعبة في سبيل الحصول على ما يقوتهم إلى يوم خلاصهم من هذا العالم بالوفاة.
وبمعنى المحاويج والصعاليك فُسّر بيت "طرفة بن العبد"، بقوله:
رأيت بني غبراء لا ينكرونني
ولا أهل هذاك الطراف الممدّد4
وعرف "بنو غبراء" ب "المدقعين" للصوقهم بالدقعاء، وهي الأرض. كأنهم لا حائل بينهم وبينها5، و "الدوقعة الفقر والذل" و "جوع أدقع وديقوع شديد"6.
__________
1 Ancient Israel, P. 76.
2 A. Grohmann, S. 124.
3 اللسان "5/ 5 وما بعدها".
4 تاج العروس "3/ 437"، "غبر".
5 المصدر نفسه.
6 تاج العروس "5/ 331"، "دقع".(8/144)
وأما "الومي" "أمي؟ "، فطبقة من الطبقات الدنيا كذلك، من هذه الطبقات العاملة البائسة التاعسة التي لا تحصل على عيشها إلا بشق الأنفس. ولعلّها الطبقة التي يقال لها "شفلوت" في العربية الجنوبية في هذه الأيام1. ويجوز أن تكون للكلمة صلة بلفظة "أمي" في عربيتنا التي تعني الجاهل والشخص الذي لا يقرأ ولا يكتب.
وفي العربية لفظة "الحشم"، قيل إنها تعني المماليك والأتباع، مماليك كانوا أو أحرارًا2. وورد أن الحشم الأحرار، والقطين: المماليك3.
__________
1 A. Grohmann, S. 125.
2 اللسان "12/ 136".
3 اللسان "13/ 343".(8/145)
رؤوس وأذناب
...
رءوس وأذناب:
ونجد التفاوت الاجتماعي في ذروته عند العرب الجنوبية كما بينت ذلك من إيرادي للمصطلحات الاجتماعية المتقدمة. ويقع هذا التفاوت في الدولة وفي المجتمع عند الحضر وعند "أعربن" الأعراب. ويقع بين القبائل كما يقع في القبيلة الواحدة. فالقبائل أيضا منازل ودرجات. وعلى رأس القبائل التي ينتسب لها المكربون أو الملوك. مثل "معين" و "سبأ" و "قتبان" و "حضرموت"، و "أوسان". ولهذا ذكرت مع الآلهة والحكّام ونسبت إليها الحكومات. ثم ذكر بعدها القبائل الأخرى التي هي أقل أهمية منها. أما في القبيلة الواحدة، فنجد تفاوتًا بين أبنائها، وقد رتبوا وصنفوا في درجات ومنازل. أعلاها عند السبئيين مثلا أعضاء ال "مزود" و "حسود؟ "، أصحاب المشورة والرأي والذين يستشيرهم الملوك، وهم طبقة ممتازة كانت فوق القانون، ذات امتيازات خاصة. يليها أصحاب الأملاك والأرض والمال المسمّون ب "مسحنن" في السبئية، وب "طبنن" في القتبانية. ثم تليها طبقات أخرى تتدنى حتى تصل إلى أسفل، وهي طبقة "الأدومت" "أدم": "طبقة "الأوادم" أي الخدم.
ويعد المقربون إلى الملوك من أشراف الناس ومن أصحاب الحظوة والجاه.(8/145)
وهذا شيء طبيعي، بالنسبة لكل مكان وزمان، فالذي يصل إلى الملك أو الحاكم لا بد وأن يكون من ذوي الجاه والمنزلة والمكانة. وقد عرف من اختص بالملوك ب "أصفياء الملوك" وب "أحباء الملك" وب "ندماء الملوك"، وهم من الخاصة بالطبع. ويعبر عنهم ب "مودد ملكن" في العربيات الجنوبية.
وأدنى الطبقات منزلةً في المجتمع، هي طبقة العبيد، هي طبقة تقوم بالخدمة وبسائر الأعمال التي يأنف الإنسان الحر من ممارستها. وقد يكون معظم أفرادها من الزنوج المستوردين من إفريقية. وأما الباقون فمن الرقيق الأبيض المستورد من أسواق العراق ومن أسواق بلاد الشأم. وقد كان العبيد ملكًا يباع ويشترى بيع الأموال المنقولة، ويتصرف صاحب العبد به تصرفه بملكه الخاص، ولم يخول القانون العبد حق إبداء رأيه في مستقبله في أي حال من الأحوال، لأنه ملك وبضاعة مملوكة، وكالماشية، وإن كان إنسانًا حيًّا له ما لكل إنسان من روح وإدراك وشعور.
ويعرف العبد بلفظة "عبدم" في الكتابات العربية الجنوبية، أي "عبد" وبلفظة "عبدن"، أي "العبد"1. وتشمل كل العبيد، مهما اختلفت ألوان بشرتهم. وترد هذه اللفظة في عربية القرآن الكريم كذلك، وفي سائر اللهجات العربية الأخرى مثل اللهجة "اللحيانية"2؛ كما ترد في لغة بني إدم "عبدو" وفي اللغة العبرانية3. وتستعمل اللفظة للتعبير أيضًا عن العبودية المعنوية، مثل نسبة عبودية الإنسان إلى الآلهة أو للملوك أو الكبار وللأشراف والسادات.
وتؤدي لفظة "قن" معنى عبد؛ أما "قنت" "قنيت" "قنية"، فتؤدي معنى عبدة. وردت بهذا المعنى في الكتابات الصفوية4. وتعبر عن طبقة العبيد التي كانت منتشرة في كل أنحاء جزيرة العرب، وفي كل أنحاء العالم إذ ذاك. إذ كانت القوانين الحكومية والقوانين الدولية تعد الإتجار ببيع الرقيق تجارة
__________
1 Rep. Epig, VII, P. 148, Num. 4217, P. 155, Num. 4230, Southarabian Inscriptions, P. 444.
2 Lihyan und lihyanisch, S. 143.
3 Hastings, P. 864.
4 Littmann, Safa, P. 139.(8/146)
مشروعة وتعدّ العبد ملك يمين لصاحبه، متى أبق جاز لصاحبه ومالكه قتله. وهو ملك مثل أي ملك، وحق الملكية حقّ مقدس مصون.
و"القن" في عربية القرآن: العبد الذي مُلك هو وأبواه. وعرف أنه العبد الذي ولد عندك، ولا يستطيع أن يخرج عنك. وورد "لم نكن عبيد قن، إنما كُنّا عبيد مملكة". وقيل عبد قن الذي كان أبوه مملوكًا لمواليه، فإذا لم يكن كذلك فهو عبد مملكة1. فالقن إذن هو عبد بالولادة، وقد ورثه سيده: فهو عَبْد عبدٍ، أو عبد عبيدٍ.
و"القني المملوك، فهو في ملك سيد. وقد اقتني وصار في مقتنيات مالكه، فهو من طبقة المملوكين. ومن هذه الطبقة المملوكة جماعة عرفت ب "رب ملكن" "ربب ملكن" "ربيب الملوك" "ربيب الملك"، بمعنى "عبد الملك" و "عبيد الملك"2.
__________
1 اللسان "13/ 348"، تاج العروس "9/ 314"، "قن".
2 Rep. Epig. 4145, Arabien, S. 125.(8/147)
أبناء الحبش والأبناء:
وقد تولد من استيلاء الحبش على اليمن جيل جديد تعرب وكون طبقة خاصة من طبقات مجتمع اليمن. وقد تكون هذا الجيل من عنصرين: حبش ولدوا في اليمن من أبوين حبشيين، ثم بقوا في اليمن وعاش أبناؤهم فيها، وحبش تزوّجوا من اليمن، فنشأ لهم نسل فيه دماء الحبش ودماء أهل اليمن. وقد عاش الجيلان في اليمن وتعربا ونسيا أصلهما وصارا يتكلمان العربية واعتدّاها لغتهما، ولكن ملامحهما الإفريقية، أو الملامح المختلطة دساسة، لم تتمكن من الاختفاء عن الجيلين، بل بقيت تنطق بأصلهما وبصلتهما القديمة بالأرض السوداء.
وعرف الجيل الذي ظهر في اليمن من تزوج الفرس في العرب ب "الأبناء"، وغلب عليهم الإسلام لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم1. وقد كتب إليهم النبي يدعوهم إلى الإسلام. وقد ساعدوا المسلمين ودافعوا عن الإسلام وقاوموا الردة،
__________
1 اللسان "14/ 91"، "بنى".(8/147)
ومنهم وهب بن منبه بن سيج بن ذكبار، وطاووس، وذادوية، وفيروز الديلمي1. وقد قيل عنهم: الأبناء قوم من العجم سكنوا اليمن، وهم الذين أرسلهم كسرى مع سيف بن ذي يزن لما جاء يستنجده على الحبشة فنصره وملكوا اليمن وتديروها وتزوّجوا في العرب؛ فقيل لأولادهم الأبناء، وغلب عليهم هذا الاسم لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم.. وذكر أنهم عرفوا ب "أبناوي" في لغة "بني سعد" و "بنوي" في لغة بعض العرب2.
ويظهر من بعض الأخبار أن العرب توسعت في مفهوم الأبناء فأطلقتها على كل الفرس الذين اجتذبتهم الحروب إلى جزيرة العرب3.
وعرف "الأبناء" بتسمية أخرى أيضا هي "بنو الأحرار". أما الذين ولدوا من آباء فرس وأمهات عربيات فقد عرفوا في الكوفة بالأحامرة، وفي البصرة بالأساورة، وفي جزيرة العرب بالخضارمة، وفي الشأم بالجراجمة4.
وقد ذهبت بعض كتب التواريخ التي ألفها أهل اليمن، "أن أبناء اليمن ينسبون إلى "هرمز" الفارسي الذي أرسله كسرى مع سيف بن ذي يزن. فاستوطن اليمن. وأولد ثلاثة، بهلوان ودادوان وبانيان؛ فأعقب بهلوان بهلول. والدادويون يسعوان، ومنهم بنو المتمير بصنعاء وصعدة وجراف الطاهر ونحر البون. والدادويون خوارج. ومنهم غزا كراذمار وهم خلق كثير"5.
وعرف العربيّ المولود من أمة ب "الهجين". وهو معيب. وقيل هو ابن الأمة الراعية ما لم تحصن، فإذا حصنت فليس الولد بهجين. أو "مَنْ أبوه خير من أمه". "قال المبرد: قيل لولد العربي من غير العربية هجين، لأن الغالب على أولاد العرب الأدمة. وكانت تسمى العجم الحمراء ورقاب المزاود، لغلبة البياض على ألوانهم"6.
__________
1 الروض الأنف "1/ 54".
2 تاج العروس "10/ 48"، "بنى".
3 البيان "3/ 114".
4 الأغاني "16/ 73".
5 تاج العروس "10/ 48"، "بنى".
6 تاج العروس "9/ 365"، "هجن".(8/148)
أما طبقات المجتمع الحضري بالنسبة إلى العرب الآخرين وأسماؤها، فلا ذكر لها في النصوص الجاهلية، وإنما ذكر في الموارد الإسلامية، وأكثره مما يخص عرب الحجاز؛ لأن أكثر ما ورد عن الجاهلية القريبة من الإسلام هو ما يخص موطن الإسلام. فكل اعتمادنا فيه على هذه الموارد الإسلامية.
وفي العربية ألفاظ عديدة تعبر عن منازل الناس في الشرف والسيادة. هي في الواقع من النعوت التي أطلقها الناس على الأشراف مبالغة في مدحهم وتفخيمهم وأشراف القوم هم سادتهم من أرباب البيوت. ونجد في الموارد الإسلامية ذكر "أشراف قريش". وهم كبار قريش وسادتها وأصحاب البيوت فيها. كما نجد تعبيرًا يدل على الرئاسة والزعامة هو "رحى القوم"، يقال لسيد القوم الذي يصدرون عن رأيه وينتهون إلى أمره1.
وقد عُيّر السودان في الجاهلية وفي الإسلام. عُيّروا بسوادهم وبملامح أجسامهم وبطريقة تكلمهم. هذا حسان يهجو أحدهم بقوله:
وأمّك سوداء نوبيّة ... كأن أناملها الحنظب2
و"الخلاسي" الولد3 بين أبوين أبيض وأسود، أبيض وسوداء أو أسود وبيضاء. فهو المضرب. وقال بعض علماء اللغة: تقول العرب للغلام إذا كانت أمه سوداء وأبوه عربيًا آدم فجاءت بولد بين لونيهما غلام خلاسي والأنثى خلاسية قال الجاحظ: "ورأينا الخلاسيّ من الناس، وهو الذي يتخلق بين الحبشي والبيضاء، والعادة من هذا التركيب أنه يخرج أعظم من أبويه وأقوى من أصليه ومثمريه. ورأينا البَيْسريّ من الناس، وهو الذي يخلق من بين البيض والهند، لا يخرج ذلك النتاج على مقدار ضخم الأبوين وقوتهما، ولكنه يجيء أحسن وأملح"4.
وقد شابت السنة هؤلاء "طُمطمانية"، أي عجمة. قال عنترة:
تأوي له قلص النعام كما أوت
خرق يمانية لأعجمَ طمطم5
__________
1 اللسان "14/ 314"، "صادر"، "رحا".
2 العمدة "1/ 300".
3 تاج العروس "4/ 138"، "خلس".
4 الحيوان "1/ 157"، "هارون".
5 تاج العروس "8/ 381"، "طم".(8/149)
السادات:
وسادة القوم أشرافهم ورؤساؤهم، وذكر أن السيد الذي فاق غيره بالعقل والمال والدفع والنفع، المعطي ماله في حقوقه المعين بنفسه. وذكر أن السيد: الحليم لا يغلبه غضبه1.
والسيادة منزلة ودرجة، ولا تأتي أحدًا إلا باعتراف قومه له بسيادته عليهم وبتنصيبهم له سيّدًا عليهم. وكانوا إذا سوّدوا شخصًا عصبوه، والتعصيب التسويد، ولهذا كانوا يسمّون السيّد المطاع معصبًا. وذكر أن العصابة العمامة. وكانت عمائم سادة العرب هي العمائم الحمر2.
وتعدّ الأسر الحاكمة التي ينشأ فيها عدد كبير من الملوك والحاكم أسرًا عريقة في الشرف، وينظر إليها نظرة تقدير واحترام، لأنهم ورثوا المجد عن آبائهم أبًا بعد أب. وينطبق ذلك على سادات القبائل الذين يرثون سيادتهم قبائلهم أبًا عن جد، فإنهم يفتخرون بذلك على غيرهم، لأنهم ليسوا من أولئك الذين انتزعوا السيادة فصاروا سادة، على حين كان آباؤهم أو أجدادهم من الخاملين.
وقصد سادات القبائل وبعض الشعراء الكبار الملوك، ورحلوا إليهم من منازلهم، وتقربوا إليهم، وتوسطوا لديهم لبعض الناس. وقد عرف هؤلاء ب "الرحال". ولهذا نجد في الكتب، أنها إذا تعرضت لمثل هؤلاء قالت عنهم إنهم من "الرحال". فقد عرف "عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب" ب "عروة الرحال"، "وإنما سمّي الرحال لرحلته إلى الملوك"3. كما عرفوا ب "زوّار الملوك"، منهم "أبو زيد الطائي".
وأشراف الناس، هم الذي نالوا الشرف والسؤدد بين قومهم، فسادوهم. والسيد هو الرئيس، ويطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم وعلى من ساد قومه، مثل سادات القبائل. وقد نعت رسول الله "سعد بن معاذ" ب "سيد الأنصار". وتقول العرب "هذا سيدنا" و "فلان سيدنا"،
__________
1 اللسان "3/ 228 وما بعدها".
2 تاج العروس "3/ 386" "طبعة الكويت".
3 البلاذري "1/ 110".(8/150)
أي رئيسنا والذي نعظمه. وتقول "ساد قومه"، أي صار سيدهم ورئيسهم1. ونعت "قيس بن عديّ" ب "سيد قريش"2. وكان يوم وفاة "سعد ب معاذ" بالمدينة يومًا مشهودًا. حتى حضر الرسول جنازته وكبر عليه تسعًا، كما كبر على حمزة، تعظيمًا لشأنه. وشهد دفنه3: وكان من عادة أهل مكة في الجاهلية أنه إذا مات لهم سيد كبير أغلقوا أسواقهم إعظاما لموته، وتعبيرًا عن تقديرهم له4. فغلق الأسواق عند الجاهليين عند وفاة رجل خطير من أمارات التقدير والتعظيم.
ومن أمارات تكريم الميت الشريف، تجمع الناس عند بيته، احتفالًا به لنقله إلى موضع دفنه. وإذا كان الميت خطير الشأن كان الجمع أكبر. وهو يتناسب في كثرته مع مكانة ودرجة الميت في المجتمع. وقد ذكر أنهم كانوا يقولون للرجل الشريف يقتل: "العقيرة"5.
والسادات هم الرءوس، رءوس الناس. أما من دونهم فأذناب. وعرفوا ب "أذناب الناس وذنباتهم"، أي أتباعهم وسفلتهم، والأتباع دون الرؤساء. ويقال: جاء فلان بذنبه، أي أتباعه. قال الحطيئة يمدح قومًا:
قوم هم الرأس والأذناب غيرهم
ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا6
والسادات "مصابيح الظلام" ومشاعله، بنورهم يهتدي الفقراء وأصحاب الحاجة والفاقة، فينالون منهم ما يخفف عن كربهم وفقرهم. يطعمون الناس في الحضر والسفر، فهم سادة الناس وملاذهم حين تغلق كل الأبواب بأوجه الأذناب التاعسين البائسين.
ويقال لأشراف قوم وللبارزين منهم وجوه القوم ووجهاء القوم، فورد "وكان من وجوه القرشيين"، و "كان من وجوه قريش". وأما "سروات" مثل
__________
1 اللسان "3/ 229 وما بعدها"، "صادر"، "سود".
2 نسب قريش "400".
3 الثعالبي، ثمار "64".
4 البلاذري، أنساب "1/ 87".
5 تاج العروس "3/ 415"، "عقر".
6 تاج العروس "1/ 254"، "ذنب".(8/151)
"سروات الأنصار" و "سروات قريش"، ففي هذا المعنى أيضا، وجوه الأنصار وأشرافهم ووجوه قريش وأشرافهم. و "السريّ"، هو الرئيس1. وتعني كلمة "النواصي" خيار العرب وأشرافهم. فيقال هو ناصية قومه، وهو من ناصيتهم ونواصيهم. و "النصية" من القوم الخيار الأشراف2.
ويعرف الأشراف المعرقون ب "النجوم"، وواحدهم "نجم". وقد أشار إليهم "حسان" في شعره، فذكر أن الذين يحملون "اللواء" أي "لواء الحرب"، هم النجوم3. ويقال لسادة الناس "الجحاجح" كذلك4. ويقال لهم: "العرى"، وهم سادات الناس الذين يعتصم بهم الضعفاء، ويعيشون بعُرفهم. شبهوا بعرى الشجر العاصمة الماشية في الجدب5.
وأما لفظة "رب" التي تعني بعلا أيضًا، وإلها، والتي تعبر عن معنى "إله" في الزمن الحاضر؛ فقد أطلقت في لغة المسند على السيد والشريف، لتعبر عن معاني التفخيم والاحترام، وأطلقت في معنى "إله" أيضا في النصوص المتأخرة في الغالب، وهي من الألفاظ السامية القديمة التي وردت في معظم لغات الساميين.
وقد وردت في عربيتنا بمعنى المالك والسيد والمدبر، وأطلقت بمعنى الملك كذلك. وقد كان أهل الجاهلية يطلقونها على الملك، قال الحارث بن حلزة:
وهو الرب والشهيد على يو ... م الحيارين والبلاء بلاء6
هذا وللسنّ أهمية كبيرة عند العرب، لأن الإنسان إذا ما تقدم في السن ازدادت حكمته وتجاربه في الحياة ورجح عقله. لذلك يكون مرجعًا لمن هو دونه في العمر، وملاذًا في المشورات، ويعبر عنهم ب "ذوي الأسنان"7. وهم الطبقة الذكية
__________
1 تاج العروس "10/ 176"، "سره".
2 تاج العروس "10/ 370"، "نصا".
3
لم تطق حمله العواتق منهم ... إنما يحمل اللواء النجوم
البرقوقي "ص380"، ديوان حسان "هرشفلد" "ص19".
4 ديوان حسان "ص36" "هرشفلد".
5 اللسان "15/ 46"، "عرا".
6 تاج العروس "2/ 459" "الكويت"، "رب" "ربب".
7 اللسان "13/ 222"، "صادر"، "سنن".(8/152)
الفطنة المجربة من ذوي المكانة في الناس بالطبع. ولهذا نجد القبائل تتمسك بأخذ الرأي والمشورة من ساداتها المسنين ومن حكمائها المعمّرين، لأنهم عركوا الحياة وخبروها وعرفوا ما فيها من مرّ وحلو. لذلك جعلوا في الطبقات العليا من الناس.
و"الربّ" الرئيس والمرجع ومن تكون إليه الطاعة. والأرباب، هم السادات "قال المنذر يومًا لخالد، وهم على الشراب، يا خالد، من ربك؟ فقال خالد: عمرو بن مسعود ربي وربك. فأمسك عليهما"1. و "المنذر" هو المنذر الأكبر اللخمي، وخالد، هو خالد بن نضلة. ولهذا كان يقول العبد لسيده: ربّي. وتقول حاشية السيّد والملك لسيدها وملكها: ربّنا.
قال الحارث بن حلزة:
ربُّنا وابننا وأفضل من يمـ ... ـشي ومن دُون ما لديه الثناء
وقال لبيد حين ذكر حذيفة بن بدر:
وأهلكن يومًا ربّ كندة وابنه ... وربّ معدّ بين خَبت وعرعر2
و"الخُطر"3 الأشراف من الرجال العظيمو القدر والمنزلة. والخطير الواحد. ويقال للرجال الشريف، هو عظيم الخطر. وقوم خطيرون: قوم أشراف4. ويقال "العبقري" للكامل والسيد من الرجال. وهو سيد القوم وكبيرهم والذي ليس فوقه شيء والشديد القوي5.
وقد عرف سادة قريش ووجوهها ب "خضراء قريش". ولما صعد الرسول "الصفا"، عام الفتح، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا وجاء "أبو سفيان"، فقال: "يا رسول الله أبيدت خضراء قريش! لا قريش بعد اليوم"6. يقصد
__________
1 أسماء المغتالين، "ص133"، "نوادر المخطوطات"، "عبد السلام هارون".
2 الحيوان "1/ 328 وما بعدها"، "هارون".
3 بضم الخاء.
4 تاج العروس "3/ 184"، "خطر".
5 تاج العروس "3/ 379"، "عبقر".
6 صحيح مسلم "5/ 172"، "باب فتح مكة".(8/153)
نخبة قريش وخاصتها، في مقابل "أوباش قريش"، الذين قال عنهم الرسول للأنصار: يا معشر الأنصار! هل ترون أوباش قريش1.
والأخضر عند العرب الأسود. وقد افتخر "الفضل بن عبّاس بن عتبة اللهبي" بلونه، إذ قال:
وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب
يقول: أنا خالص لأن ألوان العرب السمرة، وأنه عربي محض لأن العرب تصف ألوانها بالسواد: وتصف ألوان العجم بالحمرة، والخضرة عند العرب السواد2. وورد "خضر غسان"، و "خضر محارب". قال الشاعر:
إن الخضارمة الخضر الذين غدوا ... أهل البريص ثمانٍ منهم الحكم
والخضارمة جمع خضرم، وهو السيّد الحمول3.
ويقال لمن هم دون الأشراف وفوق الطبقات الدنيا، "أوساط الناس"، و "الأوساط"، و "اللهازم". يقال هو من لهازم القبيلة، أي من أوساطها لا أشرافها4.
__________
1 صحيح مسلم "5/ 170 وما بعدها"، "باب فتح مكة".
2 تاج العروس "3/ 179 وما بعدها"، "خضر".
3 الحيوان"3/ 247"، "هارون".
4 تاج العروس "9/ 69"، "لهزم".(8/154)
المستضعفون من الناس:
والمستضعفون من الناس، كثيرون، وقد نظر إليهم مجتمعهم نظرة ازدراء واستهجان، واعتدّهم من الطبقات الدنيا. إما لفقرهم وضيق ذات يدهم، ومنهم الفقراء والصعاليك والمحتاجون وأبناء السبيل، وإما لطيشهم وخروجهم من مجتمعهم، ومنه الطريد والضال والخليع، وإما لانشغالهم بحرف يدوية، وهي حرف لا تليق بالرجل الكريم، ولا سيما الحرف الدنيا مثل الحلاقة والحجامة والحمالة وأمثالها، وأما من ناحية أصلهم، مثل أن يكونوا عبيدًا أو عبيدًا مملوكين.
ولاستصغارهم شأن، الحرف اليدوية، لم يقبل عليها الأحرار وأبناء البيوت. إلا(8/154)
من اضطرته الفاقة ووجد ألّا سبيل له إلى العيش إلا بالاشتغال بها، فانصرف إليها صاغرًا. ولهذا كان أكثر أصحاب الأعمال اليدوية من الرقيق والأعاجم واليهود. وإذا أخذنا بروايات أهل الأخبار نجد أن عدد أصحاب الحرف اليدوية كان قليلا جدًّا، فلم يكن في مكة مثلًا أحد من النجارين البارعين على ما يفهم من رواياتهم كروايتهم عن إعادة بناء الكعبة قبل النبوة بخمس سنين، أو كانوا قلة يعدون عدًّا. وكذلك يقال عن بقية الحرف، ويقال مثل ذلك عن يثرب. ولا أستبعد أن تكون في روايات أهل الأخبار مبالغات، ولكننا لا نستطيع نكران ازدراء العرب للحرف والصناعات.
وكانوا يعيرون من يتزوج من ابنة صائغ أو حداد أو نجار، ويعيرون نسله، ولا سيما إذا كان من بيت رفيع. وقد وجد أعداء "النعمان بن المنذر" آخر ملوك الحيرة وحساده في أُمه "سلمى" التي قيل إنها ابنة قين أو صائغ يهودي، سببًا قويًّا من أسباب استهزائهم به والاستصغار لشأنه. أما الحرفي، أي الذي يشتغل بالحرف اليدوية، فلم يكن من السهل عليه التزوج من بنات الأحرار، لما قد تتعرض له أسر البنات من تعيير وسبّة وإهانة بين الناس، بتزويجهم ابنة حرة لشخص وضيع مستصغر.
وأدنى المتعيشين بالحرف منزلة، الحلاقون والحجامون والحمالون، ثم أولئك الذي يعيشون على تلهية الناس، مثل سائس قرد، وهو الشخص الذي يربي القردة ويعلمها القيام ببعض الألعاب لتسلية المتفرجين وإضحاكهم في مقابل صدقة يقدمونها لقردته وله، ومثل أناس آخرين يربون حيوانات أخرى للغرض نفسه، أو يتخذون لهم مهنة إضحاك الناس عليهم لدر عطفهم والجود عليهم، ومثلهم المخنثون والمغنون المطربون.
وقد عرف المعدمون المتربون، وهم الذين لا يملكون شيئًا ب "بني غبراء"، للزقهم بغبراء الأرض، ويقال لهم "الصعاليك" أيضا1، وقد ذكرت قبل قليل
__________
1 اللسان "14/ 92"، "بني"، "هم اللصوص والصعاليك المهتدون في مجاهل الأرض، والعالمون بطرقها، وقيل بل هم الفقراء اللاصقون بالغبراء من سوء الحال. على غير غطاء ولا وطاء، وقال طرفة بن العبد:
رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد
يقول: أنا معروف عند الأخيار والأشرار، وعند اللئام والكرام"، الثعالبي، ثمار "1/ 270".(8/155)
ورود لفظة "غبر" في الكتابات القتبانية، وأن لها صلة ب "غبراء الناس" وب "بني غبراء" في عربيتنا. وقد تكون لهذا المصطلح صلة بمصطلح اختلف علماء التوراة في المراد منه، هو مصطلح "عم هـ - أرز"، أي "ناس الأرض" "أهل الأرض"، فقد ذهب بعض العلماء إلى أنها تعني طبقة وضيعة من سواد الناس، أو "الفلاحين" الذين يعيشون على استغلال الأرض.
ونعت الخادم الذي يخدم بطعام بطنه "بالعضروط"، وهو الصعلوك، والعضاريط الصعاليك. وتعهد إلى العضروط مختلف الخدمات، مثل العناية بالراحلة وأداء أي عمل آخر يقوم به في مقابل طعام بطنه1. ويقال للعضروط: اللعموظ، وهو الذي يخدم بطنه. و "العضارط" الأجراء2.
و"الخول" العبيد والخدم، ويقال: القوم خول فلان، أي أتباع، وهم حشم الرجل وأبتاعه. ويقع على العبد والأَمة3 فهم إذن الأتباع المغلوبون على أمرهم الخاضعون لحكم المتحكمين في رقابهم من السادة.
والمملوك خلاف الحر، والرقيق: المملوك واحد وجمع. والرقيق العبد4. ورَقّ صار في عبودية5 والعبد: المملوك خلاف الحر6. ونجد لعلماء اللغة تفاسير كثيرة لمعنى "العبد"، والرقيق، وفي مدى حرية كل واحد منهما. وقد استعملت لفظة "العبد" للدلالة على معان مجازية، ومعان حقيقية. فقد قصد بها الخضوع والتذلل، ولهذا نهي عن استعمالها بهذا المعنى في الإسلام، فورد: "لا يقل أحدكم لمملوكه عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي"7. وقصد بها أيضًا العبودية الحقيقية.
ولفظة "عبد" و "العبد" لفظة عامة في الأصل، وقد وردت بهذا المعنى في أكثر اللغات السامية، فاستعملت في معانٍ مجازية وفي معان حقيقية، ولم تكن
__________
1 اللسان "7/ 351".
2 اللسان "7/ 351، 460".
3 اللسان "11/ 225"، "صادر"، "خول".
4 اللسان "10/ 124"، "صادر "رقق".
5 اللسان "10/ 123"، "صادر"، "رقق".
6 اللسان "3/ 270"، "عبد".
7 اللسان "3/ 271"، "عبد".(8/156)
تعني شخصًا مملوكًا بالمعنى الحقيقي من لفظة "مملوك" بالضرورة. وطالما نقرأ في كتب أهل الأخبار جملًا، مثل: "ومن هو؟ عبد من عبيدي"، و "أنت عبد من عبيدي"، وذلك تعبيرًا عن ازدراء شخص لشخص آخر، واستصغار لشأنه، لأنه جعله في منزلة خدمه وعبيده.
واستعملوا لفظة: "عبد" و "العبد" بالمعنى الحقيقي الخاص بالعبودية، وقصدوا بها "مملوكًا"، فقالوا: "كان عبدًا روميًّا"، وقالوا: "كان عبدًا حبشيًّا"، فقصدوا بها "مملوكًا" كائنا ما كان لونه، أو جنسه. والظاهر أن المتأخرين قد غلَّبوا استعمالها على العبيد والسود، فأطلقوا عليهم من غير ذكر صفتهم، وعنوا بها الرقيق الأسود فحسب.
وقد ذكر بعض علماء اللغة أن "العبد" إذا مُلك ولم يملك أبواه، أو الذي سبي، ولم يُملك أبواه. وقالوا: هم عبيد مملكة، وهو أن يغلب عليهم ويستعبدوا وهم أحرار. وفي الحديث: "أن الأشعث بن قيس خاصم أهل نجران إلى عمر في رقابهم، وكان قد استعبدهم في الجاهلية، فلما أسلموا، أبوا عليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا إنما كنا عبيد مملكة ولم نكن عبيد قن1. أي أن يغلب عليهم فيستعبدهم وهم في الأصل أحرار.
وذكر علماء العربية أن القن: العبدُ الذي مُلك هو وأبوه، وأن العبد القن الذي ولد عندك ولا يستطيع أن يخرج عنك. وعبد قن خالص العبودة2. فالقن إذنْ، هو العبد المملوك، الذي تنقل إليه العبودية عن أبيه. وقد أسلفت أن هذه اللفظة وردت في لغة المسند، وإنها كانت تعني هذا المعنى عندهم أيضا. ويشبه العبد القن، العبد الذي يقال له "CERF" عند الرومان. و "القين": العبد والجمع قيان3.
ويعبر عن العبد بلفظة "مولى" أيضا، ويراد بها المعتق كذلك. وتؤدي معاني اجتماعية أخرى ذكرها علماء اللغة منها: الحليف، والعقيد، والربّ
__________
1 اللسان "10/ 493"، "ملك".
2 اللسان "13/ 348"، "قنن".
3 اللسان "ق/ ي/ ن"، "13/ 351".(8/157)
والمالك، والسيد. ويتبين معناها من الاستعمال1. وقد كان بمكة وسائر الأمكنة الأخرى من جزيرة العرب عدد كبير من الموالي.
والعبيد هم حاصل الحروب. فإذا وقع انسان أسيرًا في غزو أو حرب صار ملكًا لآسره، إن شاء مَنّ عليه ففك رقبته، وإن شاء ملكه فصار عبدًا له. يحتفظ به لنفسه إن أراد، أو أن يهديه لغيره فيصير في ملك من أهدي له، أو أن يبيعه، فيقبض ثمنه، فتنتقل ملكية العبد إلى شاريه، فالسباء هو مصدر مهم من مصادر الرقيق.
ومورد آخر أمدَّ الجاهليين بالعبيد، وهو التجارة: تجارة العبيد. وقد اختص بها قوم عرفوا بالنخاسين. يأتون بالرقيق من مختلف الأماكن ويبيعونه. وكانت تجارة رابحة.
ومن العبيد، قوم كانوا مدينون فلم يتمكنوا من سداد ديونهم فبيعوا رقيقًا. ومنهم من صار رقيقًا لعدم تمكنه من دفع مال يجب عليه تأديته. كالذي روي من تقامر أبي لهب والعاص بن هشام على أن من قمر صار عبدًا لصاحبه، فقمره أبو لهب فاسترقه واسترعاه إبله2.
ويكون عدد ما يملكه الإنسان من الرقيق أمارة على الغنى والمنزلة والجاه والقوة. هم قوة لأنهم عُدّة لسيدهم في القتال وفي الدفاع عنه حتى وإن كرهوه. وهم خدم له يؤدون له كل ما يطلبه منهم من أعمال، ولا يخلو منهم بيت. وذكر أن بعض السادات كان يملك المئات من العبيد فلما وفد "ذو الكلاع ملك حمير" على أبي بكر "ومعه ألف عبد دون من كان معه من عشيرته وعليه التاج، وما وصفنا من البرود والحلل"3.
وكان كثير من ملاك الرقيق ذوو قلوب غلاظ، لا يرحمون عبيدهم ولا يرفقون بهم. وإذا شهد العبد غزوًا أو حربًا وغنم فلا يعطي حقه له. ويؤخذ
__________
1 اللسان "و/ ل/ ي"، "15/ 409".
2 الأغاني "3/ 100".
3 التنبيه "2/ 299"، "باب ذكر خلافة أبي بكر الصديق".(8/158)
سهمه ويعطي إلى سيده. ولم يكونوا يثقون بأمانة رقيقهم1 لذلك حقد العبيد على سادتهم، وانضموا إلى أعدائهم إن وجدوا فرصة مواتية لهم أملًا منهم بإصلاح الحال. ولما حاصر الرسول الطائف نادى مناديه: أيما عبد نزل فهو حر وولاؤه لله ورسوله" فنزل جمع منهم وأسلموا وصاروا أحرارًا2.
ويذكر علماء اللغة طبقة سموها "القطين"، وهم في عرفهم تبّاع الملك ومماليكه، والخدم والأتباع. وقالوا أيضا: إن القطين تبع الرجل، ومماليكه، وخدمه3.
ويقال للرعية من الناس "السُّوقة" سموا بذلك لأن الملوك يسوقونهم فينساقون لهم4. وأما "سواد الناس"، فعامتهم.
وكل من ذكرت من الطبقات الدنيا هم "سوقة". و "عوام"، و "سواد".
ويقال للأخلاط والسفلة من الناس: الأوباش. وهم مثل الأوشاب5. وأما الأشابة فأخلاط الناس تجتمع من كل أوب والتأشب التجمع. ويقال: أوباش من الناس وأوشاب. وهم الضروب المتفرقون6.
ويذكر علماء اللغة أن أهل اليمن يطلقون على المستضعفين من الناس "مستخمرون". و "المستخمرون" هم الجيران الضعفاء. ومن "أخمره الشيء"، بمعنى أعطاه إياه أو ملكه بلغة اليمن7.
ويقال لأوغاد الناس وأرذالهم "الطغام" و "الطغامة". وذكر أن "طغامة"
__________
1 الأغاني "1/ 32"، "14/ 1241".
2 العقد الفريد "3/ 2".
3 اللسان "13/ 343"، "قطن".
4 ديوان بشر بن أبي خازم "ص200".
5 تاج العروس "4/ 361"، "وبش".
6 تاج العروس "2/ 148"، "أشب"، "هل ترون أوباش قريش"، صحيح مسلم "5/ 171"، "فتح مكة".
7 اللسان "4/ 258"، "خمر".(8/159)
و "دغامة" الأحمق. وورد "ياطاسة الأحلام"، بمعنى من لا عقل له ولا معرفة، وقيل: هم أوغاد الناس وأسافلهم1.
وعرف أوغاد الناس ب "أولاد درزة". وذكر أن أولاد درزة: السفلة والسقاط والغوغاء من الناس، كذلك أولاد ترنى. و "أولاد درزة" أيضا الخيّاطون. ويقال: أولاد درزة هم الحاكة، وهم من أسافل الناس، كما صرح به المفسرون في قوله تعالى {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} . وابن درزة الدعي، أو ابن أمة تُساعي، فجاءت به من المساعاة ولا يعرف له أب2.
__________
1 اللسان "13/ 368"، "صادر"، "طغم"، تاج العروس "8/ 380"، "طغم".
2 تاج العروس "4/ 35"، "درز"، "درزة كناية عن السفل والسقاط، ويقال لهم: أولاد درزة. قال المبرد: هم خياطون من أهل الكوفة خرجوا مع زيد بن علي". النيسابوري، ثمار "271".(8/160)
أهل الوبر:
ما ذكرته عن المجتمع يتناول الحضر، أما المجتمع البدوي، أي مجتمع الأعراب، فمجتمع ساذج ليس في تكوينه تعقيد ولا تعدد طبقات. صقلت البادية أهلها، وبسطت لهم أسلوب الحياة، وقلصت من الفروق الطبقية، فلا تجد فيها ما نجده عند الحضر من اختلاف كبير في منازل الناس.
وكل ما هنالك من طبقات: سادات القبائل، وهم رؤساء القبيلة وأشرافها، وأحدهم "سيد القبيلة" أو رئيس القبيلة. ثم أشراف العشائر ومتفرعاتهم. ولهم أموال، ورقيق يخدمونهم. أما سواد القبيلة، فهم منتشرون في أرض القبيلة على هيأة مجتمعات صغيرة متفرقة مبعثرة، لضيق العيش الذي لا يساعد على تجمع أفراد القبيلة تجمعًا كبيرًا في محل واحد، تظهر فيه الحرف وتتنوع الأعمال التي تكون ضرورية لمجتمع الحضر.
ولسادات القبائل المال، وهي: الإبل. ويشربون من ألبانها، ويأكلون لحومها، وهم الذين في استطاعتهم الذهاب إلى القرى والمدن ومواطن الحضارة للعيش فيها زمنا، ولشراء ما يجدون في أسواقها مما يحتاجون إليه من سلع.(8/160)
وللتمتع بمناظر الحضارة. ولزيارة الملوك والحكام. والسكان منهم على مقربة من الحضر، يخالطهم وقد يشتري له ملكًا يعيش فيه بينهم. فإذا جاء الربيع، وحمد وقت البادية عاد إلى وطنه، ليرعى ماله، ولينظر في شئون قبيلته.
وقد استخدم الأعراب "العبيد" أيضًا، ولكنهم لم يكثروا من استخدامه استخدام أهل الحضر له، لعدم وجود حاجة كبيرة عندهم إليه. وقد كان عبيد الأعراب أكثر حرية وأحسن حالا من عبيد أهل الحضر، ذلك لأن البادية لا تعرف الأعمال المرهقة، ولا الحرف الكثيرة التي فرضتها الحضارة على أهل الحضارة، لذلك صارت الأعمال التي يقوم بها عبيد الأعراب أقل بكثير من الأعمال التي يقول بها عبيد أهل القرى، وصار العبد في البادية ألصق بصاحبه من مثيله في القرية، حتى صار وكأنه جزء من أهل البيت الذي اشتراه أو ورثه.(8/161)
بيوت العرب:
لقد تبين لنا مما تقدم أن العرب وإن بدوا وكأنهم سواسية كأسنان المشط، الكل متساوون في المعاملة لا فرق عندهم بين غني وفقير، كل معتز بنفسه فخور بفعاله، إلا أنهم مع ذلك وفي الواقع طبقيون، لكل طبقة عرف وتقاليد، فبيوتهم تتفاوت عندهم في الشرف والمكانة، هناك بيوت اشتهرت في القبيلة وحافظت على فعالها ومكانتها، وكانت تتفاخر وتتباهى على غيرها فلا تزوج أحدًا من أبنائها أو بناتها إلا لمن كان كفؤًا لها.
وقد تحدث أهل الأخبار والأنساب عن بيوت برزت في القبائل وتفوقت على غيرها في ناحية من نواحي الفضل والفخر. فذكر ابن الكلبي: مثلا أن العدد من تميم في بني سعد، والبيت في بني دارم، والفرسان في بني يربوع، والبيت من قيس في غطفان، ثم في بني فزارة، والعدد في بني عامر، والفرسان في بني سليم، والعدد من ربيعة في بكر، والبيت والفرسان في شيبان1.
وكان يقال: إذا كنت من تميم ففاخر بحنظلة، وكاثر بسعد، وحارب بعمرو،
__________
1 العمدة "2/ 191".(8/161)
وإذا كنت من قيس ففاخر بغطفان، وكاثر بهوازن، وحارب بسليم، وإذا كنت من بكر ففاخر بشيبان، وكاثر بشيبان، وحارب بشيبان1.
وقد اشتهرت ثلاثة بيوت شهرة خاصة في الجاهلية القريبة من الإسلام، وهي: بيت بني زرارة، وهم من "بني عبد الله بن دارم" في تميم، وبيت "بني بندر"، وهم من "بني فزارة" من "بني قيس"، وبيت "ذي الجدّين"، وهم من "بني شيبان" من "بكر بن وائل"2.
وجعل "أبو عبيدة" بيوت العرب ثلاثة: فبيت قيس في الجاهلية بنو فزارة، ومركزه بنو بدر، وبيت ربيعة بنو شيبان، ومركزه ذو الجدين، وبيت تميم بنو عبد الله بن درام، ومركزه بنو زرارة3. وذكر أنه قال: ليس في العرب أربعة إخوة أنجب ولا أعدّ ولا أكثر فرسانًا من بني ثعلبة بن عكابة. وكان يقال له الأغر والحصن. وبنوه: شيبان وذهل وقيس وتيم الله. وفارس غطفان الربيع بن زياد العبسي، وفاتكها الحارث بن ظالم، وحكمها هرم بن قطبة، وجوادها هرم بن سنان المريّ؛ وشاعرها النابغة الذبياني. وفارس بني تميم عتيبة بن الحرث بن شهاب أحد بني يربوع. وفارس عمرو بن تميم طريف بن تميم العنبري. وفارس دارم عمرو بن عدس، وفارس سعد فدكي بن المنقري، وفارس الرباب زيد الفوارس بن حصين الضبيّ، وفارس قيس عامر بن الطفيل، وفارس ربيعة بسطام بن قيس4.
وقال أبو عمرو بن العلاء: بيت بني سعد إلى الزبرقان بن بدر من بني بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد، وبيت بني ضبة بنو ضرار بن عمرو الرديم، وبيت بني عديّ بن عبد مناة آل شهاب من بني ملكان، وبيت التيم آل النعمان بن جساس5.
وزعم "ابن الكلبي" أن آل حصن الفزاريين، وآل الجدين الشيبانيين،
__________
1 العمدة "2/ 192"، بلوغ "2/ 189".
2 الكامل "1/ 35".
3 العمدة "2/ 192".
4 بلوغ الأرب "2/ 189".
5 العمدة "2/ 192 وما بعدها".(8/162)
وآل عبد المدان الحارثيين، هم أعلى بيوت العرب. ويقال: بيت تميم في بني حنظلة، أي شرفها1. فهذه البيوت هي البيوت البارزة المسلم لها بالسيادة والشرف عند الجاهليين على رأي "ابن الكلبي".
وذكر "الجمحيّ": أن الفروسية في اليمن في بني زبيد بن عمرو بن معد يكرب. وأن شاعر اليمن امرؤ القيس، وأن بيتها في كندة: في الأشعث بن قيس. لا يختلف في هذا وإنما اختلف في نزار. وقال أخباري: كان بيت قيس في آل عمرو بن الظرب العدواني، ثم في غني في آل عمرو بن يربوع ثم تحول إلى بني بدر. فجاء الإسلام وهو فيهم. وقال الأخفش: فرعا قريش هاشم وعبد شمس. وفرعا غطفان بدر بن عمرو بن لوذان وسيّار بن عمرو بن جابر. وفرعا حنظلة رياح وثعلبة ابنا يربوع. وفرعا ربيعة بن عامر بن صعصعة جعفر وأبو بكر ابنا كلاب. وفرعا قضاعة عذرة والحرث بن سعد2.
وقد ذكر "الجاحظ" أن هناك قبائل في شطرها خير كثير، وفي االشطر الآخر شرف وضعة. "فمن القبائل المتقادمة التي في شطرها خير كثير، وفي الشطر الآخر شرف وضعة، مثل قبائل غطفان وقيس عيلان، ومثل فزارة ومرّة، وثعلبة، ومثل عبس، وعبد الله بن غطفان، ثم غنيّ وباهلة، واليعسوب والطفاوة. فالشرف والخطر في عبس وذبيان، والمبتلى والملقى والمحروم والمظلوم، مثل باهلة وغنيّ. ومن هذا الضرب تميم بن مرّ، وثور وعكل، وتميم ومزينة. ففي عكل وتيم ومزينة من الشرف والفضل ما ليس في ثور"3.
وذكر "الجاحظ" أن بعض الناس تكبّروا على غيرهم، لما وجدوا لأنفسهم من الجاه والثراء والمكانة، ومنهم: بنو مخزوم، وبنو أمية، وبنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عدس. فلم يكونوا كبني هاشم في تواضعهم، وفي إنصافهم لمن دونهم4.
__________
1 تاج العروس "1/ 530"، "بيت".
2 بلوغ الأرب "2/ 190".
3 الحيوان "1/ 359 وما بعدها"، "هارون".
4 الحيوان "6/ 72"، "هارون".(8/163)
الشرف:
وللشرف مقام كبير عند العرب. وإذا دخل شريف قوم في مجتمع جلس في(8/163)
المقام اللائق به. ويلعب هذا المقام دورًا كبيرًا في مجالس الملوك وفي مجالس سادات القبائل وفي أندية الحضر. وإذا لم يأخذ الشريف مكانه، كأن يجلس في مجلس هو دون مجلسه اللائق بمقامه بالنسبة إلى الحاضرين، عد ذلك إهانة له، ومعاملة سيئة متعمدة. قد تأتي بأوخم النتائج إذا كان الشريف من أصحاب الحول والطول. ولهذا كان الملوك خاصة وسادات القبائل يراعون حرمة المكان، ويعينون للقادم مكانة، وبأسلوب لطيف لا يثير مشاعر الجالسين ولا يشعرهم بأنهم قصدوا إهانتهم إن طلبوا من القادم التقدم على الحاضرين، والجلوس على مقربة منهم. وذلك على حسب مكانته ومنزلته، والغالب أن ينص على المكان الذي يجلس به.
والشرف في العرف الجاهلي، هو الحسب بالآباء. والشرف والمجد عندهم لا يكونا إلا بالآباء. أما الحسب والكرم فيكونان، وإن لم يكن له آباء لهم شرف1. ولهذا حرصوا على استمرار الشرف في الأسر الشريفة، وعلى إمدادها بالحيوية والنشاط حتى يبقى الشرف متألقًا لامعًا فيها. ومن ذلك الزواج المكافئ والفعال الحميدة والمحافظة على سجايا الأسرة الطبية، والأعراف المثالية، والتمسك بالنسب وعدم تلويثه بدم من هو دونهم في الشرف، ورعاية ذلك النسب وحفظه، ليكون نسب كل شريف بيّنًا واضحًا ظاهرًا للناس.
ومن الشرف: التخلق بالأخلاق الحميدة، وعمل الأمور المحببة المفيدة التي تخلد الذكر لصاحبها وتجعل الناس يلهجون باسمه من ذلك.
__________
1 اللسان "9/ 169"، "شرف".(8/164)
العرض:
والعرض في معنى الشرف، ويتجلى في مظاهر متنوعة يراد بها صيانة السمعة وطرد سوء الظن وما يخدش شرف الإنسان من سوء أو مكروه. وهو لا يكتفي بالدفاع عن عرضه، بل يلزم نفسه أيضًا بالدفاع عن عرض قبيلته وعن عرض من يدخل في جواره أو في حلفه، لأن أعراضهم عرضه. فهو يلزم نفسه بلوازم كثيرة ثقيلة، يحاول مهما كلفه الأمر الوفاء بها خشية العار. وهو في سبيل الوفاء بالتزامات العرض يفعل ما يشاء، ويدخل في ذلك القتل والعنف في سبيل الدفاع عن الالتزامات التي ألزم نفسه بها في سبيل حماية العرض1.
__________
1 بلاشير "ص38 وما بعدها".(8/164)
وإذا مُسّ عرض امرئ بأذى هاج وأهاج مَنْ هو من ذوي دمه ولحمه، للاقتصاص ممن دنس عرضه. وهو لا يهدأ حتى يأخذ بثأره ممن داس على عرضه. فثأر العرض مثل ثأر القتل، لا يهدأ صاحبه ولا يهجع إلا إذا أخذ بثأره ممن تجاوز على عرضه. والغالب في عقوبة هذا الثأر الذبح. أي بقطع الرأس عن الجسد. يذبح حتى في حالة إذا كان قد توفي من طعنة بخنجر يقضي عليه، فإنه يذبحه عندئذ. ويكون هذا غسلًا للعار الذي ألحقه ذلك المتجاسر بعرض القاتل.(8/165)
المروءة:
وتتمثل المثل الجاهلية العليا في "المروءة"، وقد فسرت المروءة بأنها كمال الرجولية. ومن المروءة: الحلم، والصبر، والعفو عند المقدرة، وقرى الضيف، وإغاثة الملهوف، ونصرة الجار، وحماية الضعيف. فإذا تمثلت أمثال هذه السجايا في رجل، كان كاملًا، عظيم الشأن في قومه. والمروءة عند الجاهليين كالدين عند المسلم.
وقد ورد أن المروءة ألّا تفعل في السرّ أمرًا وأنت تستحي أن تفعله جهرًا1 فهي أقصى ما تكون من أخلاق في الرجال الكامل الشجاع. وقد أقرها الإسلام في جملة ما أقره من فضائل الجاهلية، ورد: الدين، المروءة، ولا دين إلا بالمروءة2.
والشهامة هي من صفات السيد الشريف النبيل. والشهم، وهو السيّد النجد، الذي إذا دعي أنجد، وإذا طلب أجاب3.
__________
1 اللسان "1/ 149"، "1/ 154 وما بعدها"، "صادر"، "مرأ".
2 Muh. Stud, I, S. 14.
3 تاج العروس "8/ 361"، "شهم".(8/165)
الكَمَلة:
وتحدث أهل الأخبار عن جماعة من الجاهليين قالوا إنهم عرفوا بين قومهم بالكملة. منهم "بنو زياد العبسيون"، وهم أنس الحفاظ، ويقال له أيضًا أنس الفوارس، وعمارة الوهاب، وربيع الكامل، وقيس الجواد. وقيل: ربيع الحفاظ، وعمارة الوهاب، وأنس الفوارس، أمهم فاطمة بنت الخُرشب الأنمارية1.
__________
1 العمدة: 2/ 197، المحبر "398".(8/165)
وكان "الربيع بن زياد العبسي" المعروف بالكامل، ممن ينادم الملك النعمان، ويكثر عنده، ويتقدم على من سواه. وينزل في قبة يضربها له. حتى أفسد "لبيد" الشاعر، وكان إذ ذاك غلامًا ما كان بينهما من ودّ في خبر ترويه كتب الأدب والأخبار1.
وعرف قوم ب "الأكابر"، قيل هم: شبيان، وعامر، وجليحة، والحارث بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل2.
والإنسان الكامل عند الجاهليين وفي أول الإسلام، هو الذي يكتب بالعربية، ويحسن العوم والرمي. وقد لقب رجال عديدون بهذا اللقب، منهم: "أوس بن خولي"، وهو من المخضرمين3. قال "ابن سعد" عنه: "وكان أوس بن خَوَلي من الكَمَلة، وكان الكامل عندهم في الجاهلية وأول الإسلام الذي يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي"4.
__________
1 المرتضى، أمالي "1/ 189 وما بعدها"، المعارف "82".
2 العمدة "2/ 196".
3 ابن سعد، الطبقات "3/ 542"، الإصابة "1/ 95 وما بعدها"، "رقم 334".
4 ابن سعد، الطبقات "3/ 542".(8/166)
من الخصال الحميدة:
ومن الخصال الحميدة عند العرب: النخوة. والنخوة في اللغة الافتخار والتعظم، والنخوة الكبر والعظمة. ومن صفات العرب أنها كانت تتنحى من الدنايا أي تستنكف5.
__________
5 تاج العروس "10/ 362"، "نخا".(8/166)
الكرم:
ومن الأعراف عرف إكرام الضيف، وتقديم حق الضيافة له مهما كانت درجة تلك الضيافة ومنزلة المضيف. يقدم له ما يقدر عليه وما يتسع حاله له. والضيافة درس من الدروس التي لقنتها الطبيعة للإنسان أيضًا. لقنته أن الإنسان مهما كان(8/166)
فقيرًا، عليه أن يقدم ما عنده لمن يأتيه من ضيف قريب أو غريب ليضيفه، إنقاذًا لحياته من قحط البادية ومن شحها. فليس في البادية ملجأ يلجأ الفرد إليه غير الخيام المضروبة هنا وهناك، ملاجئ مهما قيل فيها، لكنها قوارب النجاة أو جزر صغيرة في محيط واسع شاسع. لا يطمع الإنسان منها إلا في الاستراحة وإمضاء أمور سفره إلى الموضع الذي يريده، وإذا امتنع صاحب الخيمة عن أداء حق الضيافة، وعرض حياة ضيفه للخطر، وعرض حياه نفسه إلى ذلك الخطر، فلا بد أن تنزل به في يوم ما حاجة ما، ولا بد أن يقطع البادية مرارا في حياته بحثا عن رزق، فإذا بخل ولم يضيّف غيره، لم يستضفه الآخرون فيقع في ضنك قد يكون به هلاكه وهلاك من معه.
والعرف أن الضيافة ثلاثة أيام وثلاث ليال، فإذا انتهت المدة، سقط حق الضيافة من رقبة "المضيف" إلا إذا جددها، وزاد عليها. ويعبر عن منزلة الضيف عند المضيف يحمل وتعابير تعبر عن ترحيب المضيف بضيفه، مثل جملة: "بيتي بيتك"، وعلى الضيف بالطبع أن يتأدب بأدب الضيافة، فيصون حرمة بيت مضيفه، فلا يسرق منه، ولا ينظر إلى العائلة بسوء وألا يقوم بأي عمل يخل بعرف الضيافة1.
ونظرًا إلى ما للمعابد من حرمات، اعتبر الوافدون عليها لزيارتها والتقرب لأصنامها ضيوفًا لها، وعدوا الذي يعتدون عليهم خارجين عن العرف مارقين بالنسبة لمجتمعهم. فمن كان يفد إلى مكة يقال له "ضيف الله"، وقيل للحُجَّاج "ضيوف الكعبة"، فلا يجوز الاعتداء عليهم، ومن وقع اعتداء عليه، يجد حتمًا من بين أهل مكة من يدافع عنه2.
والجود، وهو السخاء صفحة أخرى من صفحات الكرم. وهو أن يمطر الرجل غيره بمعروفه، وأن يجود على غيره بما عنده3. وقد بالغ بعضهم بجوده حتى ضرب به المثل. ومن هؤلاء حاتم الطائي. وهو "حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عديّ بن أحزم" من قبيلة طيء.
__________
1 Smith, Kinship, P. 70.
2 Smith, Kinship, P. 41, Hastings, P. 427.
3 اللسان، العقد الفريد "1/ 337"، نهاية الأرب "3/ 208".(8/167)
وقد ضرب به المثل في الجود والسخاء، فقيل "أجود من حاتم"، ورووا عنه قصصًا كثيرًا في الجود والسخاء، يرينا أن الجود فيه سجية، نبت فيه مُذْ كان صغيرًا، فقد روي أنه اختلف مع والده، وهو صغير، لأنه فرق إبله وغنمه وكان يرعى بها على قوم مرّوا به، فيهم: عَبِيد بن الأبرص، وبشر بن أبي خازم، والنابغة الذبياني، فطرده أبوه، وقال له: إذن لا أساكنك بعدها أبدًا ولا آويك، فقال حاتم: إذا لا أبالي1.
ويذكر: أنه كان إذا أهل شهر رجب نحر في كل يوم عشرة من الإبل، وأطعم الناس، وأنه كان يقول لغلامه يسار، إذا اشتد البرد وكلب الشتاء: أوقد نارًا في يفاع من الأرض: لينظر إليها من أضل الطريق ليلًا فيقصد نحوه2. وكان يوقد نار القرى، ليقصدها من يريد الضيافة من الناس. وذكروا أنه كانت لحاتم قدور عظام بفنائه لا تنزل عن الأثافي، إلى غير ذلك من أخبار في كرمه وسخائه3.
وذكر عنه أنه قسم ماله بضع عشرة مرّة؛ وأنه مرّ في سفر له على بني عنزة ولهم أسير في القدّ، فاستغاث به، ولم يحضره فكاكه، ففاداه وخلّاه، وأقام مقامه في القدّ حتى أُدي فداؤه. ورووا أنه ذبح فرسه، ووزع لحمها على جيرانه، لأن امرأة كانت جارة له جاءت إليه مستغيثة به، تقول له: أتيتك من صبية يتعاوون من الجوع ولم يكن لديه ما يعطيها، فذبح فرسه، مع أنه وعائلته كانوا جياعًا مثل صبيتها، فلما مانعت زوجته في ذبح فرسه، قال لها: إن هذا للُؤم أن تأكلوا وأهل الحي جياع4.
وينسب أهل الأخبار إليه شعرًا، في جملته قصيدة تتعلق بالكرم وبمكارم الأخلاق وبالحكم5، وقد جمعوا من شعره ديوانًا، وذكروا أنه من الشعر
__________
1 بلوغ الأرب: "1/ 72 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "1/ 73، 77 وما بعدها"، العقد الفريد "1/ 332".
3 ثمرات الأوراق للحموي "حاشية على المستطرف"، "1/ 127"، الشعر والشعراء "123 وما بعدها".
4 الثعالبي، ثمار القلوب "97 وما بعدها".
5 بلوغ الأرب "1/ 79".(8/168)
البليغ الجيد1.
وضرب المثل بجود "كعب بن مامة الإيادي". ويذكر أهل الأخبار أنه هلك بسبب جوده، فقد مات عطشًا، لأنه أعطى الماء غيره، فمات هو من العطش2. وقد فضله "الجاحظ" ورَجَّحه على "حاتم الطائي" في الجود. ذلك لأن حاتمًا كان يجود على غيره بماله، أما "كعب"، فقد بذل النفس حتى أعطبه الكرم، وبذل المجهود في المال، فساوى حاتمًا من هذا الوجه وباينه ببذل المهجة. فهو على رأيه فوقه في الكرم بمنازل ودرجات3. وذكر أن من عادة "كعب بن مامة" أنه إذا جاوره رجل قام له بكل ما يصلحه وعياله، وحماه ممن يريد. وإن هلك له بعير أو شاة أو عبد أخلف عليه، وإن مات وداه، فجاوره "أبو دواد الإيادي" الشاعر، فكان يفعل به ذلك ويزيد في بره، فصارت العرب إذا حمدت جارًا بحسن جواره، قالوا: كجار أبي دواد4. وقد افتخرت به إياد. وعدّ من مفاخرها5. وذكر "عبد الملك بن مروان" إيادًا، فقال: هم أخطب الناس لمكان قس، وأسخى الناس لمكان كعب، وأشعر الناس لمكان أبي دواد، وأنكح الناس لمكان ابن الغز6.
و"أوس بن حارثة بن لأم الطائي". يذكرون أن "النعمان بن المنذر" حباه حلة نفيسة بحضور وفود العرب من كل حيّ، وكانوا قد اجتمعوا عنده، فقال لهم: "إني ملبسٌ هذه الحلة أكرمكم" فألبسه النعمان الحلة7. ويذكرون أنه تمكن من الشاعر "بشر بن أبي خازم"، وكان "أوس" قد نذر لئن
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 75"، تأريخ الأدب العربي، ل "كارل بروكلمان"، "1/ 111، 112، 113".
2 بلوغ الأرب "1/ 81"، العقد الفريد "1/ 337"، نهاية الأرب "3/ 208"، ثمرات الأوراق "1/ 127"، "حاشية على المستطرف".
3 الثعالبي، ثمار "126".
4 قال قيس بن زهير:
أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى جار كجار أبي دواد
الثعالبي، ثمار "127 وما بعدها".
5 الثعالبي، ثمار "122".
6 الثعالبي، ثمار "142".
7 الثعالبي، ثمار "118".(8/169)
ظفر به ليحْرِقنه، لأنه أسرف في هجائه، حتى تجاسر فهجا أمه "سُعدى". فلما ظفر به، أشارت "سُعدى" على "أوس" بأن يمنّ على بشر، فخلى سبيله وأكرمه وأحسن كسوته وحمله على نجيبة وحباه، فصار "بشر" يمدحه1 ويذكر أهل الأخبار، أن أوسًا وحاتمًا وفدا على "عمرو بن هند"، فأراد امتحانهما، والوقوف على رأي أحدهما في الآخر، فما انتقص واحد منهما الآخر. فقال عمرو: والله ما أدري أيكما أفضل! وما منكما إلا سيد كريم2.
و"هرم بن سنان المُريّ"، من أجواد الجاهلية أيضا. وهو سيد غطفان. وكان والده سيّد غطفان كذلك. وقد مدحه الشاعر زهير بن أبي سلمى في أبيات لا يزال الناس يحفظونها ويذكرونها عن هرم وقد كان هرم أعطاه مالًا كثيرًا من خيل وإبل وثياب وغير ذلك مما أغناه، وفيه ورد المثل: "أجود من هرم". وقد أدركت بنت له أيام عمر فسألها عن أبيها وعن صلته بزهير3.
قال "أبو عبيدة": "أجود العرب ثلاث: كعب بن مامة، وحاتم الطائي، وكلاهما ضُرب به المثل، وهرم بن سنان صاحب زهير"4.
وقد ضرب المثل بجود "عبد الله بن حبيب العنبري" فقيل: "أقرى من آكل الخبز". ذكر أنه سمي آكل الخبز، لأنه كان لا يأكل التمر ولا يرغب في اللبن. وأكل الخبز ممدوح عند العرب. وهو عندهم من علامات الغنى والمال. وعرف "ثور بن شحمة العنبريّ" بالجود كذلك، وقد كان قومه "بنو العنبر" إذا افتخروا، قالوا: "منا آكل الخبز، ومنا مجير الطير"5. وقد عرف "ثور بن شحمة" ب "مجير الطير" لأنه كان يشفق على الطيور فيطعمها ويشبعها لجوده وكرمه.
واشتهر "عبد الله بن جُدعان" بجوده كذلك، وقد كان يسمى ب "حاسي الذهب"، لأنه كان يشرب في إناء من الذهب، وقيل: "أقرى من حاسي
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 83 وما بعدها".
2 الثعالبي، ثمار "118".
3 بلوغ الارب "1/ 84 وما بعدها"، ثمرات الأوراق "1/ 127" حاشية على المستطرف. العقد الفريد "1/ 337" نهاية الأرب "3/ 208"، الشعر والشعراء "123".
4 الشعر والشعراء "123".
5 بلوغ الأرب "1/ 87".(8/170)
الذهب". وكان يجود على "أمية بن أبي الصلت"، ويقري أهل مكة ومن يأتي إليها، وله جفنة كبيرة يأكل منها الناس، ويصنع لهم "الفالوذج"، ولم يكن معروفًا قبله بمكة، فلما كان بالعراق. أكله واستذوقه، وجاء منه بطبّاخ ليطبخ له "الفالوذج". وهو من "بني تيم". وكان ممن حرم الخمر على نفسه بعد أن كان بها مغرى، لما رأى فيها من ضرر وإسفاف يلحق بشاربها. وذكر أنه لما كَبُرَ وهرِم، أراد قومه أن يمنعوه من تبذير ماله، ولاموه في العطاء، فكان يدعو الرجل، فإذا دنا منه، لطمه لطمة خفيفة، ثم يقول له: قم فانشد لطمتك واطلب ديتها، فإذا فعل، أعطته بنو تيم من مال ابن جُدعان1. وقد ضرب المثل بفالوذج ابن جُدعان في أطايب الأطعمة2.
وقد عدّ في "مطعمي قريش"، وهم سادات قريش وأشرافها ممن كان يطعم الناس ويفتح بيته للضيوف، ولا يمنع جائعًا من دخول داره. كهاشم بن عبد مناف. وكانت له جفان يأكل منها القائم والراكب، إذا وقع في إحداها صبي غرق. فجرى بها المثل في العظم3.
وللتعبير عن إسراف الأجواد في جودهم، وفي قراهم الضيوف، نعت أحدهم ب "مطعم الطير"، كناية عن كرمهم، وعن كثرة طعامهم المهيأ، حتى كانت الطيور تشارك الضيوف في أكل الزاد، وهو كثير. وقد نعت "حسان بن ثابت" عمه "خالد بن زيد" المعروف ب "ابن هند"، وهو من "بني النجّار"، ب "مطعم الطير"، كناية عن أنه كان ينحر الإبل للأضياف، فيأكل منها الناس والطير4. ونعتت "ليلى بنت الخَطِيم بن عدي بن عمرو"، وهي أخت الشاعر "قيس بن الخطيم" أباها بأنه "مطعم الطير ومباري الريح"، وذلك أمام الرسول5.
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 87 وما بعدها"، نهاية الأرب "3/ 217"، مجمع الأمثال "2/ 72"، الثعالبي، ثمار "672"، البيان والتبيين "3/ 124"، الأغاني "8/ 334"، نسب قريش "291".
2 الثعالبي، ثمار "123"، الحيوان، للجاحظ "3/ 403"، عيون الأخبار "3/ 268".
3 الثعالبي، ثمار "609"، البخلاء "210"، سمط النجوم، للعصامي "1/ 200".
4 البرقوقي "117".
5 المحبر "ص96".(8/171)
ومن الأجواد من كان يجود في أوقات الشدة والحاجة بصورة خاصة، في مثل حلول الجدب. وقد عرف نفر من العرب ب "مطاعيم الريح"، وذلك لأنهم كانوا يطعمون إذا هبت ريح الصبا، لأنها لا تهب إلا في جدب، فمدحوا. ومن هؤلاء: "كنانة بن عبد يا ليل الثقفي" عم أبي محجن1. وزعم "ابن الأعرابي" أن "مطاعيم الريح"، هم أربعة منهم: كنانة بن عبد يا ليل الثقفي المذكور و "لبيد بن ربيعة"2.
ويقال للرجل الذي يهتز للمعروف والعطية "الأريحي"، وهو السخي، و "الأريحية" السخاء3.
وقد ضرب المثل بجماعة من الجاهليين عرفوا بجودهم وكرمهم، حفظ العرب ذكرهم لجودهم، وما زالوا يحتفظونه حتى اليوم، يتذاكرونه ويروونه في كتاباتهم وفي أنديتهم وفي كلامهم. من هؤلاء ثلاثة سُمّوا "زاد الراكب" و "أزواد الركب"، لأنهم كانوا إذا سافروا مع قوم لم يتزودوا معهم. كانوا من أهل مكة هم: أبو عمرو بن أمية "مسافر بن أبي عمرو بن أمية"، وأبو أمية بن المغيرة المخزومي، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزّي "زمعة بن الأسود بن المطلب". وقد ضرب بهم المثل، فقيل: أقرى من زاد الراكب4.
وقد كان "عبد الله بن أبي أمية"، المعروف ب "زاد الركب" شديد الخلاف على المسلمين، ثم خرج مهاجرًا من مكة يريد النبي، فلقيه ب "الصلوب" فوق العرج، فأعرض عنه رسول الله، ثم عفى عنه5.
وفي معنى "زاد الركب" معنى "جفنة الركب"، والجفنة: الرجل
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 91 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "1/ 91 وما بعدها".
3 اللسان "2/ 460 وما بعدها"، "صادر"، "روخ".
4 مجمع الأمثال "2/ 72"، اللسان "3/ 198"، "صادر"، "زود"، المحبر "177، 457"، تاج العروس "2/ 366"، "زاد"، نسب قريش "300، 315"، الثعالبي، ثمار القلوب "103".
5 نسب قريش "ص315 وما بعدها".(8/172)
الكريم. قيل له: "جفنة الركب"، لأنه كان مطعامًا يضع جفنته ويطعم الناس فيها، ومن يكون معه في ترحاله فسمي باسمها1.
وكانت العرب تقول: السفر ميزان القوم، كأنه يزنهم بأوزانهم ويفصح عن مقاديرهم في الكرم واللؤم2. إذ يتبين الكريم من اللئيم في سفره. فاللئام إذا ما سافروا ضجروا، لخوفهم من تقديم ما عندهم إلى من هم دونهم من فقير ومحتاج، أما الكريم، فإنه لا يبالي في سفره فيعطي وينفق ويساعد من يسافر معه بما يجود به عليهم. فهو على عكس اللئيم فرح بسفره هذا مستبشر.
وزعم الأخباريون أن "سويد بن هرمي بن عامر الجمحي"، كان أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة3. ومعنى هذا أنه أول من وضع الأرائك لراحة الناس في الجاهلية، ولعلّهم قصدوا أرائك وضعت في الحرم لجلوس الناس عليها. كما ذكروا أن "أبا أمية بن المغيرة المخزومي" و "أبا وادعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم" وكانا يسقيان العسل بمكة، بعد سويد بن هرمي4. وقد كان "عدي بن نوفل" يسقي الحجيج اللبن والعسل على ما ذكره أهل الأخبار5. وقد عدت السقاية من مفاخر قريش.
وقد كان من عادة الأجواد إيقاد النار في الظلام ليراها الغريب والمحتاج والجائع من مسافة بعيدة فيفد إليها، فيجد له من يقريه ويقدم له ما يحتاج إليه من طعام. ويقال لها "نار القرى" و "نار الضيافة". وهي نار توقد لاستدلال الأضياف بها على المنزل، وكانوا يوقدونها على الأماكن المرتفعة، لتكون أشهر. حتى زُعم أن منهم من كان يوقدها بالمندلي الرطب، ليهتدي إليها العميان، بشم رائحة الطيب التي تفوح منها عند الاحتراق. وهي من أجل الأعمال عند العرب. وقد ذكرت في الشعر الجاهلي6.
__________
1 اللسان "13/ 90 وما بعدها"، "صادر"، "جفن".
2 الثعالبي، ثمار القلوب "688".
3 المحبر "ص176 وما بعدها".
4 المحبر "177".
5 نسب قريش "197".
6 بلوغ الأرب "2/ 161".(8/173)
ويعدّ الشتاء محكًّا للأجواد ولكرام الأنفس فالشتاء عدو الفقير، يؤلمه ببرده ويوجعه بفقره ويضيف آلامًا على آلامه. فخيمته الممزقة البالية، لا تقيه من رياح ولا من مطر ولا من برد. والصيد يختفي ويقل، والأعشاب تزول، فلا يجد الفقير أمامه سوى ما ادخره من قوت ليعيش عليه. فإذا أكله أو كان قليلًا، فليس أمامه من ملجأ سوى الاستجارة بأهل الجود والسخاء. ممن كانوا إذا جاء الشتاء أدنوا إليهم الناس وأطعموهم، فيقتلون بذلك جوع الشتاء. ولهذا عرف الواحد منهم ب "قاتل الشتاء"1.
وغاية الجود أن يجود الإنسان بأعز ماله لغيره، يقال: "إنه لمنحار بوائكها، أي ينحر سمان الإبل"، وهو للمبالغة، يوصف للجود2. فهو ليس من أولئك الذين يبخلون بمالهم العزيز، فينحرون الهزيل من الإبل، حرصًا على العزيز، بل يقدم أقصى ما عنده لضيوفه.
ويعد العرب "إقراء الضيف" و "الرفادة": "رفادة الحج" في جملة "إرث إبراهيم وإسماعيل". ويدخل أهل الأخبار في جملة هذا الإرث تعظيم الحرم ومنعه من البغي فيه وقمع الظلام ومنع المظلوم3. فالكرم إذن من السنن القديمة الموروثة عن سنة إبراهيم على أهل الأخبار.
ولا يعد الكريم كريمًا إذا وهب ماله في سبيل غرض. فمن وهب المال لجلب نفع أو دفع ضرر أو خلاص من ذم فليس بكريم4.
ويقال للعطية الجزيلة "الدسيعة". ويقال للجواد، هو ضخم الدسيعة، أي كثير العطيّة. وقيل هي المائدة الكريمة والجفنة على سبيل المجاز5، لما عرف به الأجواد من تقديم الطعام للأضياف. ويقال للجواد المعطاء السيد الحمول: "الخضرم"، تشبيها بالبحر الخضرم وهو الكثير الماء6.
__________
1 تاج العروس "8/ 76"، "قتل".
2 تاج العروس "3/ 558"، "نحر".
3 الكلاعي، الاكتفاء "1/ 150".
4 تاج العروس "9/ 41"، "كرم".
5 تاج العروس "5/ 327"، "دسع".
6 تاج العروس "8/ 280 وما بعدها"، "الخضرم" بكسر الخاء.(8/174)
وقد يعبر عن غاية الجود بقولهم: "هو جبان الكلب"، أي نهاية في الكرم وكثرته، لأنه لكثرة تردد الضيفان إليه يأنس كلبه فلا يهر أبدًا. قال حسان بن ثابت:
يُغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون من السواد المقبل1
ومن الجود والكرم: الرفادة. والرفد: العطاء وإعانة المحتاج. ومن ذلك ما فعلته قريش من "الرفادة"، حيث اتفقت أن يخرج كل إنسان مالًا بقدر طاقته، يشترون به للحاج الجُزر والطعام والزبيب للنبيذ، فيجمعون من ذلك مالًا عظيمًا، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج. وذكر أن "هاشم بن عبد مناف"، كان أول من قام بالرفادة، وأول من هشم الثريد، وقد سُمّي هاشمًا لهشمه الثريد2.
وذكر علماء اللغة أن السخاء مراتب ثلاث: سخاء وجود وإيثار. فالسخاء إعطاء الأقل وإمساك الأكثر. والجود إعطاء الأكثر وإمساك الأقل، والإيثار إعطاء الكل من غير إمساك شيء. وهو أشرف درجات الكرم3.
ويعبر عن السخاء ب "الندى". ويقال "هو ندي الكف"، إذا كان سخيًّا4. و "طلحة الندى"5، أي السخي الكريم.
__________
1 تاج العروس "9/ 159"، "جبن".
2 اللسان "3/ 181"، "صادر" "رفد".
3 نهاية الأرب "3/ 204".
4 تاج العروس "10/ 363"، "ندا".
5 نسب قريش "237".(8/175)
من شيم السادة:
ويعد حمل أثقال الديات من شيم السادة، إذ لم يكن من الممكن للأسر الفقيرة دفع دية القتلى حين توزع في العشيرة أو القبيلة، لذلك يحملها السادة عن الضعفاء. وقد مدح "حسان بن ثابت" "حكيم بن حزام من خويلد"، فكان مما مدحه به أنه "أنه حمال أثقال الديات"1.
__________
1 البرقوقي "70".(8/175)
وممن حمل الدماء ودفع أثمان دياتها: "عمرو بن عصم"، الذي حمل الدماء التي كانت بين "بني سدوس" و "بني عنزة" في الجاهلية1، وهرم بن سنان، والحارث بن عوف، إذ تحمل ديات قتلى الحرب التي وقعت بين عبس وذبيان2.
كما يعد حمل ثقل المولودة التي يراد وأدها من الشيم ومن الأعمال الحميدة التي يحمد القائم بها عليها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء جماعة دفعوا مالا لآباء كانوا قد همّوا بوأد بناتهم لإملاقهم ولضعف حالهم، فأبقوا بذلك على حياتهن. وهو عمل يقدر حقًّا، لأنه عن حس انساني ودافع خيري نبيل.
__________
1 الاشتقاق "192".
2 الشعر والشعراء "61"، "ليدن".(8/176)
فك الأسر:
ومن شيم الرجال المنّ على الأسرى بفك رقابهم وإعطائهم حريتهم. وقد أبت مروءة بعض السادات إلا أن يقوموا بفك أسر الأسرى وإعتاق رقبتهم، ولو بشراء أسرهم بثمن. وقد ذكر العلماء أسماء رجال منهم عاشوا في الجاهلية عرفوا بعدم رضاهم عن الأسر، فكانوا يدفعون مالًا في مقابل فكّ رقبتهم. من هؤلاء "سعد بن مُشمت بن المُخَيّل"، وهو من رجال "بني المخيل" في الجاهلية. وكان آلى أن لا يرى أسيرًا إلا افتكّه1.
ومن شيم الرجال العفو عند المقدرة والحلم والصفح عن المسيء، وكان من عاداتهم في غفران الذنب، حفر بئر، ثم ينادي من يريد غفران الذنب والعفو عن المذنب: اشهدوا أني جعلت ذنبه في هذه البئر. ثم يرد فيها ترابها، وبذلك يغفر الذنب2. وقد ضرب العرب المثل بحلم "قيس بن عاصم"، وب "الأحنف بن قيس" و "قيس بن عاصم"، هو من بني منقر من تميم. وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية، وذكر أنه كان أول من وأد، لأنه خشي أن يخلف على بناته من هو غير كفء لهن. وكان قد وأد ثماني بنات، ووفد في وفد
__________
1 الاشتقاق "193".
2 شرح ديوان حسان. للبرقوقي "107".(8/176)
"بني تميم" على الرسول فأسلم. وقد قال له الرسول لما دنا منه: "هذا سيد أهل الوبر"1.
وأما "الأحنف بن قيس"، فهو تميمي كذلك. أدرك النبي ولم يجتمع به. وكان يضرب بحلمه المثل. وله قصص مع الخلفاء. وسكن البصرة، وبها مات سنة سبع وستين2.
وقد رجّح الجاحظ "الأحنف" على كل من عرف عند العرب واشتهر بينهم بالحلم، حتى رجحه على لقمان ولقيم وقيس بن عاصم ومعاوية بن أبي سفيان. وله قصص مع معاوية3. ونسبوا له حكمًا وشعرًا4. وذكر أنه هو القائل: "لا تزال العرب بخير ما لبست العمائم، وتقلدت السيوف، وركبت الخيل، ولم تأخذها حميّة الأوغاد. قيل: وما حمية الأوغاد؟ قال: أن يروا الحلم ذلًّا، والتواهب ضيمًا"5. وقيل للأحنف بن قيس: بماذا سدت؟ فقال: بثلاث، بذل الندى، وكف الأذى، ونصر المولى. وقال: إنما تعلمت الحلم من قيس بن عاصم: أُتي بقاتل ابنه فقال: رعبتم الفتى. وأقبل عليه فقال: يا بني لقد نقصت عددك، وأوهنت ركنك، وفتت في عضدك، وأشمتَّ عدوك، وأسأت بقومك، خلوا سبيله، وما حل حبوته، ولا تغير وجهه6.
وللعرب كلمة تقولها عند طلب العفو والحلم وفي مواطن الغضب والتشاجر، هي: "إذا ملكت فاسجح"، يقصد بها طلب العفو والحلم عند ثوران الغضب. ولهم كلمات أخرى كثيرة في الحث على التحلي بالحلم والصبر7.
ومن خصال السادة: النخوة. وقد عرف بها العرب حتى ضرب بها المثل، فقيل: نخوة العرب، وورد: "لؤم النبيط ونخوة العرب". وهم ينتخون لمن
__________
1 الإصابة "3/ 242"، "رقم 7196"، أمالي المرتضى "1/ 112".
2 الإصابة "1/ 110"، "رقم 429"، أمالي المرتضى "1/ 112".
3 الثعالبي، ثمار "89". أمالي المرتضى "1/ 273، 275، 292، 298".
4 كتاب فصل ما بين العداوة والحسد، ومن رسائل الجاحظ "1/ 344، 361، 381"، عيون الأخبار "4/ 9"، أدب الدنيا والدين "135".
5 كتاب فصل ما بين العداوة "1/ 361".
6 أمالي المرتضى: "1/ 113 وما بعدها".
7 بلوغ الأرب "1/ 101 وما بعدها".(8/177)
لمن ينتخيهم مع ترفع وتعزز1. فإذا نخي شخص، فعلى من انتخى إجابة داعي النخوة وإلا عدّ جبانًا وصار سبة للناس.
ولا يعني أن ما ذكرته كان يجب أن يتوفر حتمًا في رجل ليستحق أن يكون سيدًا. فقد رمي بعض الرؤساء بالبخل وبشدة الحرص وبإمساك يدهم، ووصف بعض السادات بالظلم وبالقسوة، ومع ذلك، فقد حكموا قبيلتهم وساد بعضهم وهم شُبّان، والعادة عند العرب أن الرئاسة للمسنّ، وإنما الذي ذكرته يمثل رأي ذوي الرأي في الرئيس المثالي الذي يعرف كيف يحكم قومه وكيف يوجه قبيلته. وهي ليست بالضرورة مؤهلات وصفات يجب أن تكون لازمة في الرجل الذي سيسود قومه، لقد ذكرت أن السيادة بالوراثة، وأن هذه الخلال إذا تحلى بها إنسان آخر من رجال القبيلة عدّ أيضا سيدًا من ساداتها، بمعنى أنه صار شريفًا مقدمًا فيها ووجهًا من وجوهها. تمامًا كما يكون لمدينة ما رئيس مدينة، يحكمها بصفة رسمية، ويكون لها في الوقت نفسه وجهاء وأشراف قد يكون من بينهم من هو أكثر ذكرًا وأعلى مكانة وأشرف منزلة من رئيس المدينة، ولكنه مع ذلك لا يمثل المدينة في الحفلات والمجتمعات، لأنه ليس برئيسها العامل المعين. وهكذا هو شأن تلك الخصال، خصال مثالية قد تتوفر في رئيس القبيلة، وقد لا تتوفر فيه، بل تتوفر في غيره من أبناء القبيلة ومن رؤساء فروعها، ليكون لهم السيادة والشرف فيها ويشار إليهم على أنهم سادة القبيلة، ولكنهم لا يعنون بذلك رئاسة فعلية، وإنما رئاسة شرف ومكانة وتقدير في مجتمع. ومن هنا نجد أهل الأخبار يذكرون أسماء جملة سادات، على أنهم سادات قبيلة واحدة وفي وقت واحد، فهم في الواقع سادات مجتمع وفروع قبيلة.
__________
1 الثعالبي، ثمار "161".(8/178)
المدح والهجاء:
وللمدح والهجاء شأن كبير عند الجاهليين إذ كان الجاهليون يقيمون وزنًا كبيرًا للقيم المعنوية. فرب مدح يخلد الممدوح ويبقي ذكره، ورب هجاء يغض من شأن المهجو ويحط من اسمه. ونحن هذا اليوم نقرأ ما ورد عندهم من المدح، ونسمع أسماء الممدوحين وما حصلوا عليه من جاه وفخر بين الناس، ونقرأ ما ورد في ذم أناس وما قيل فيهم من ذمّ وقذع. ولولا الأهمية التي أعطاها الماضون للمدح وللهجاء لما بقي الذم والمديح حتى اليوم.(8/178)
ومن أسباب المدح سخاء الممدوح أو شهامته ونجدته وشجاعته وعفته وحلمه وصبره وتضحيته وما إلى ذلك من صفات وخلال حميدة. فكان إذا جاءه ضيف يعرفه أو لا يعرفه قدم إليه واجب الضيافة، وبالغ في إكرامه وإن كان فقيرًا لا يملك شيئًا. ويقدمه على نفسه وعلى أهله، لأن الضيافة حق وواجب، وعلى من يقصَد للضيافة أداء هذا الواجب.
وقد كان الملوك يهبون على المدح ويثيبون المادح على قدر ما جاء في مدحهم لهم من تفنن في المدح ومن إطراء زائد ومبالغة في المدح. ولما دخل "النابغة الذبياني" على "النعمان بن المنذر"، وحياه بتحية الملوك، ثم مضى مسترسلًا في مدحه، تهلل وجه النعمان سرورًا، وأمر أن يقدم له الدر، و "كسي أثواب الرضى. وكانت جُبّات أطواقها الذهب بقصب الزمرد. ثم قال النعمان: هكذا فليمدح الملوك"1. وفي كتب الأدب والأخبار أشعار قيل عن كل شعر منها "إنها أمدح بيت قالته العرب"2. وفيها مبالغات وغلو في المدح، تجعل الممدوح شمسًا والملوك كواكب، إذا طلعت لم يبد منهن كوكب3. وأمثال ذلك.
وهذا الشعر وشعر الفخر وأمثالهما، يجب أن يكونا موضوعين لدراسات نفسية، لأنهما يمثلان أعمق الأحاسيس النفسية للعرب، ويتحدثان عن المواطن الرقيقة عند العرب، التي تهتز أوتارها بسرعة عند سماعها هذا النوع من المدح. والنواحي العاطفية التي يمكن منها التأثير في العرب. ونحن لا نستطيع بالطبع، أن نأخذ هذا الفخر أو ذاك المدح على أنهما يمثلان الواقع ويمثلان الممدوح تمام التمثيل. أو أنهما تعبير عن نفس صادقة مخلصة في كل ما قالته أو نظمته. فنحن نعلم أن من الشعراء من يمدح للعطاء ويهجو إذا حُرم منه. وأن الممدوح إذا قطع عطاءه عن الشاعر، كفّ شاعر عن مدحه، وربما انقلب عليه فيغسل كل ما قاله في مدحه له، بشعر يشتمه فيه بأبشع أنواع الشتم وأمضه. فشعر مثل هذا، وإن كنا نرويه ونتحدث عنه ونحفظه، ولكنا نرويه ونستلذ بروايته، لأنه لذيذ من
__________
1 نهاية الأرب "3/ 177".
2 نهاية الأرب "3/ 182 وما بعدها".
3 نهاية الأرب "3/ 182".(8/179)
ناحية الأدب، ولأنه شعر قديم يمثل ضربا من ضروب الحياة في ذلك الوقت.
وقد يمدح الشخص بنعته بنعوت مشرفة، مثل "فلان أبيض" و "قوم بيض"، و "البيض المناجيد" وهم لا يريدون من اللفظة بياض البشرة، وإنما يريدون المدح بالكرم ونقاء العرض من الدنس والعيوب1. وقد ينعت قوم بالخضرة، ويريدون بذلك أن المنعوتين قوم عرب خلص. والأخضر بمعنى الأسود، والعرب تسمي الأسود أخضر، يريدون بذلك سواد الجلد، والمراد بسواد الجلد أنهم عرب خلص2.
ويمدح المحافظون على الوفاء بالعهد والمتمسكون بالودّ، والمحامون على عوراتهم الذابّون عنها. ويعبر عنهم ب "أهل الحفاظ"3.
__________
1 البرقوقي "ص134".
2 البرقوقي "ص135".
3 اللسان "7/ 412"، "صادر"، "حفظ".(8/180)
التفاخر:
والتفاخر، وهو التعاظم، من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية عند أهل الجاهلية4. وفي الكتب العربية أمثلة كثيرة من تفاخر الجاهليين بعضهم على بعض، وتباهيهم بالأشياء الخارجة عن الإنسان والتمدح بالخصال. وتكون المفاخر بالآباء والأجداد، وبالسيادة والشرف، وبالكثرة، وبالحسب والنسب، حتى إنهم انطلقوا في بعض الأوقات إلى القبور فكانوا يشيرون إلى القبر بعد القبر، ويقولون: فيكم مثل فلان ومثل فلان؟ وفي ذلك نزلت الآية: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} 5. فذكر أن حيين من قريش، بني عدنان وبني سهم، تكاثروا بالسيادة والأشراف، فقال كل حيّ بهم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} . وقيل: إن قبيلتين من قبائل الأنصار، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى
__________
4 اللسان "ف/ خ/ ر"، "5/ 48 وما بعدها".
5 سورة "التكاثر" "102"، الآية 1 فما بعدها، بلوغ الأرب "1/ 279".(8/180)
الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبر، وقال الآخرون مثل ذلك فأنزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} 1.
وتقع المفاخرات بحضور محكمين في الغالب، أو طرف ثالث محترم، وعلى الطرفين قبول الحكم وإطاعته، وسماع رأي الطرف الثالث في حجج وأقوال المتخاصمين المتفاخرين، وتكون المفاخرة بإظهار كل طرف ما عنده من خصال يفاخر بها، ومن مناقب يستأثر بها، ومن مجد يرى أنه انفرد به دون خصمه، ثم يذكر ما امتاز به على خصمه، بكلام منثور ومنظوم، منسق منمق، وما قام به من أعمال فريدة، وما حل عليه من حروبه مع الناس. وبعد أن يفرغ المتفاخرون من إلقاء ما عندهم من حجج وبيان، ينظر المحكمون في الحجج التي استمعوا إليها، ليبدوا حكمهم بموجبها ويكون حكمهم أصعب شيء يواجهونه، لما يتركه من أثر في نفوس المتخاصمين، ولما سيكون له من تأثير في مكانة من سيخسر المفاخرة.
ويقال للمفاخرة "المنافرة". و "المنافرة" المحاكمة في الحسب، وأن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه، ثم يحكّما بينهما رجلًا، كفعل "علقمة بن علاثة" مع "عامر بن طفيل" حين تنافرا إلى "هرم بن قطبة الفزاري"، وفيهما يقول الأعشى يمدح "عامر بن الطفيل" ويحمل على "علقمة بن علاثة":
قد قلت شعري فمضى فيكما ... واعترف المنفور للنافر
وقد نافر "أنيس" أخو "أبي ذرّ الغفاري" شاعرًا على شعره، إذْ كان يرى أنه أجود منه شعرًا2. وتكون المنافرة في كل شيء، يرى إنسان أنه يفوق به غيره، كالمنعة والعزّ والجاه والكرم وما شاكل ذلك من خصال. قال "ابن سِيده": "وكأنما جاءت المنافرة في أول ما استعملت أنهم كانوا يسألون الحاكم: أينا أعز نفرًا؟ "3.
و"النفار" أن يتنافروا إلى حاكم يحكم بينهم. و "النفورة" الحكومة.
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 279".
2 اللسان "5/ 226".
3 اللسان "5/ 226"، القاموس "2/ 146".(8/181)
وورد "يوم نفورة": أي يوم حكومة، حكم فيه بالنفار1.
ومن المفاخرات، مفاخر وفود ربيعة ومضر ابني نزار عند النعمان بن المنذر. فكان فيمن قدم عليه من وفود ربيعة "بسطام بن قيس" و "الحوفزان بن شريك". وفيمن قدم عليه من وفد مضر من قيس بن عيلان "عامر بن مالك" وعامر بن الطفيل. ومن تميم قيس بن عاصم، والأقرع بن حابس2. ومفاخرة "آل حذيفة بن بدر" و "آل الأشعث بن قيس الكندي" عند كسرى. وهم من أعرق الأسر في أيامهم، وأشرفها. وقد عَجِب "كسرى" بذكائهم وبحدة أذهانهم3. ومفاخرات أخرى مدونة في الكتب.
ومن مفاخرات أهل الجاهلية، منافرة "عامر بن الطفل" مع "علقمة بن علاثة"4 المذكورة، ومنافرة "بني فَزَارة" و "بني هلال"5، ومنافرة "الفقعسي" و "ضمرة"6، ومنافرة "جرير البجلي" و "خالد بن أرطاة الكلبي"7، ومنافرة "القعقاع بن زُرارة بن عدس" و "خالد بن مالك بن رُبعي بن سلم بن جندل بن نهشل"8 ومنافرة "هاشم بن عبد مناف" و "أمية بن عبد شمس"9.
ومن المنافرات، منافرة "عامر بن أحيمر" عند "المنذر بن امرئ القيس بن ماء السماء". فقد ذكر أن "المنذر" أخرج بردين يومًا يبلو الوفود، وقال: ليقم أعز العرب قبيلة، فليأخذهما. فقام "عامر بن أحمير" فأخذهما وائتزر بأحدهما وارتدي الآخر، فقال له المنذر: أأنت أعز العرب قبيلة؟ فقال: العز والعدد في معدّ، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في خندف،
__________
1 البيان والتبيين "1/ 240، 304، 351".
2 بلوغ الأرب "1/ 280 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "1/ 281 وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "1/ 288".
5 بلوغ الأرب "1/ 297".
6 بلوغ الأرب "1/ 298 وما بعدها".
7 بلوغ الأرب "1/ 301".
8 بلوغ الأرب "1/ 306".
9 بلوغ الأرب "1/ 307 وما بعدها".(8/182)
ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عَوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا فلينافرني، فسكت الناس، فقال المنذر: هذه عشيرتك كما تزعم، فكيف أنت في أهل بيتك وفي نفسك؟ فقال: أنا أبو عشرة، وأخو عشرة، وخال عشرة، وعم عشرة، وأما أنا في نفسي، فشاهد العز شاهدي، ثم وضع قدمه على الأرض، فقال: من أزلها عن مكانها، فله مائة من الإبل. فلم يقم إليه أحد من الحاضرين، ففاز بالبردين، وعرف ب "ذي البُردَين"1.
وطالما كانت تؤدي هذه المفاخرات إلى وقوع حروب وسفك دماء، ولذلك أبطلها الإسلام، ونهى عنها؟ وعدّها من شعار الجاهلية2.
والمساجلة في معنى المفاخرة، بأن يصنع مثل صنيعه في جري أو سقي. وتساجلوا بمعنى تفاخروا. ذكروا أن أصل المساجلة: أن يستقي ساقيان، فيخرج كل منهما في سَجْله مثل ما تخرج الآخر، فأيهما نكل فقد غلب، فضربته العرب مثلًا للمفاخرة، فإذا قيل فلان يساجل فلانًا فمعناه أنه يخرج من الشرف مثل ما يخرجه الآخر، فأيهما نكل فقد غلب3.
وتعرف "المفاخرة" ب "المُباهاة" أيضًا. فيقال. تباهوا إذا تفاخروا. وأما إذا صايحه، فيقال هاباه4. وذلك بأن يذكر كل متباه مناقبه ومناقب قومه، يتفاخر بها على خصمه. وطالما أدت المباهاة إلى وقوع خصومات ومعارك.
ومن مفاخر العرب التفاخر بمن برز عندهم في عمل فذ وفي عمل خصال كريمة، أو قام بفعل استحق الإعجاب. فكانت القبائل تتفاخر بذكر أسماء هؤلاء، وتحفظ أسمائهم للتباهي بهم، كما تفعل الدول في التباهي برجالها. ومن مفاخرها: الفروسية، فعد "الحوفزان" مثلًا وهو "الحوفزان بن شريك" فارس بكر بن وائل.
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 76".
2 سورة "لقمان"، "31"، الآية "18"، سورة "الحديد"، "57"، الآية "23"، سورة "النساء" "4"، الآية "36"، العقد الفريد "6/ 101"، "طبعة العريان"، بلوغ الأرب "1/ 278".
3 قال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب:
من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
اللسان "11/ 326"، "صادر"، "سجل".
4 اللسان "14/ 99"، "بها".(8/183)
وافتخروا ب "الأصم عمرو بن قيس"، ولقب عند المتفاخرين به ب "صاحب رءوس بني تميم"، وافتخروا ب "مفروق بن عمرو" "حاضن الأيتام" والظاهر أنه كان يحن على الأيتام ويعطف عليهم، لذلك لقب بهذا اللقب، وافتخروا ب "سنان بن مفروق"، الذي عرف ب "ضامن الدمن". كما افتخر ب "عمران بن مرة" لأنه أسر "يزيد بن الصعق" مرتين1.
__________
1 العمدة "2/ 221".(8/184)
الخيلاء:
وقد عرف بعض الجاهليين بالخيلاء والزهو والتغطرس. وقد اعتبرها الإسلام من سمات أهل الجاهلية. وقد اشتهر "سماك بن خرشة الأنصاري" بمشية خاصة به، فيها تبختر وخيلاء؛ حتى عرفت ب "مشية أبي دجانة"1. والتبختر هي مشية العجب والخيلاء. وكانت من مشية بعض المغرورين المترفين من أصحاب الجاه والمال.
__________
1 الثعالبي، ثمار "87 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 196"، "دجن".(8/184)
الهجاء:
والهجاء عكس المدح، وهو ذم الشخص والانتقاص منه وشتمه. وقد نبغ فيه بعض الشعراء، وتخصص به، ويجب أن نقف منه موقف الحذر الشديد، لما للعواطف والهوى من أثر فيه. وقد يهجو شخص شخصًا أو قومًا لسبب تافه، أو بسبب حادث وقع له لا يستوجب صدور ذلك الهجاء منه. وهناك أشخاص جبلوا على ازدراء الناس وشتمهم والانتقاص منهم، فهجوا أكثرهم، بل بلغ بهم الهجاء حدًّا حملهم على هجر أقاربهم وأهلهم، بل أنفسهم في بعض الأحيان.
ويستحق الهجاء من اتصف بسوء الخصال، واتسم بأخلاق الأرذال، والأنذال، وجعل اللؤم جلبابه وشعاره، والبخل وطاءه ودثاره. وقد حفظ الرواة بعض الأشعار التي قيل إنها كانت من أهجى أشعار العرب في الجاهلية(8/184)
وفي الإسلام. وذكر أن من شعر الهجاء المرّ القاسي قول الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم
وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا1
وقوله في "الزبرقان بن بدر":
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي2
وقول الطرماح:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلّت3
إلى غير ذلك من شعر، يجب أن نأخذه بحذر. وأن نعالجه دائما على أنه يمثل العواطف الشخصية والانفعالات النفسية، والتهيج الآني. وأن شعرًا من هذا القبيل لا يمكن أن يحمل محمل الصدق، وأن نقول عنه إنه يعبر عن الواقع. بل نأخذه كما سبق أن ذكرت عن شعر المديح على أنه تعبير عن نوع من أنواع الأدب في ذلك الوقت. وعلى أنه باب يجب أن يدرس من الوجهة النفسية لأنه يفيد في الوقوف على النفسية العربية والعقلية الجاهلية في ذلك الوقت.
ولم يكن الهجّاءون يراعون الصدق في كلامهم، وكيف يراعونه وهم يريدون هجو خصومهم والإساءة إليهم وإلى سمعتهم بأية طريقة ووسيلة كانت، حتى وإن علموا أن سامعي الهجاء لا يصدقونه. ومن هذا القبيل رمي بعض القبائل أو الأُسر بأنها من أصل أعجمي، وفي كتب الأخبار أمثلة عديدة على ذلك، وقد يكون ذلك بسبب وجود دم أعجمي من أم أو من أب بعيد أو قريب، وقد لا يكون أي أثر من ذلك. شتم "عمرو بن الأهتم" "قيس بن عاصم"، فقال له ولقومه:
إن تبغضونا فإن الروم أصلكم ... والروم لا تملك البغضاء للعرب4
وقد عير "حسان بن ثابت" "بني المغيرة" وسبهم بأنهم عبيد قيون، أبوهم
__________
1 نهاية الأرب "3/ 272".
2 نهاية الأرب "3/ 275".
3 نهاية الأرب "3/ 276".
4 ديوان حسان "ص44" "هرشفلد".(8/185)
قين لدى "كيره" جاثم. يأخذون "الإهالة" وهو الدهن الذي يستخرج من اللحم، ويبيعونه من الدبّاغين1. فما ذكره فيهم هو من أعمال العجم والصعاليك، لا العرب الأصلاء والأقحاح.
وذكر أن "الوليد" المعروف ب "الوليد بن المغيرة" لم يك عربيًّا، وإنما كان عبدًا روميًّا، وكان اسمه "ديم"، واسم أبيه "صقعب"، فرغب فيه "المغيرة"، فادعاه، وألحق صقعبًا بالشام، فاشتاق إليه، فصوره في الحائط. وقد هجاه "حسان بن ثابت"، فقال له إن والدك "صقعبًا" كان قينًا، وأما أمك فهي "حباشة"، وهي عبدة سوداء. وقد تباهيتَ إذ صرت غنيًّا، وإنما صرت ثريًّا بكلبتك هذه، وهي آلة من آلات الحدادين يشير بذلك إلى أنه كان حدادًا، يعرف ضرب النصال، وحسن الرقع للبرم. وهي القدور2. ويظهر من شعر حسان ومن شرح الشراح أن "الوليد" كان مصورًا ماهرًا متمكنًا من فنه، حتى صور أباه، إن صح هذا الادعاء من "حسان".
ولحسان بن ثابت هجاء شديد لثقيف، قال في بعضه خلّوا "معدًّ" ولا تنتسبوا إليها، واتركوا "خندفا"، فما لكم من ولادة فيها، وذلك على عاداته وعادة الشعراء والناس عند هجاء قوم، حيث يرمونهم بكل قبيح، ويجردونهم من كل مكرمة، إلا أنه لم يصرح في شعره بأنهم من ثمود، إذ كانوا وقت هجاء "حسان" إياهم من "قيس". وقد نسبهم بعضهم إلى "الفهود بن بني جائر بن إرم، إخوة ثمود"، ونسبهم آخرون إلى "وحاظة" بن حمير، وقال آخرون إن "ثقيفًا"، هو عبد3. كل ذلك نكاية بثقيف.
وذكر أهل الأخبار أن "الأزرق"، وهو غلام رومي في الأصل كان للحارث بن كلدة الثَّقفي، وقد ادعى نسله أن "الأزرق" هو ابن "عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني"، فهم من غسان. وذكر أنهم ادعوا في أول أمرهم أنهم من تغلب، ثم من بني عكب، ثم أفسدتهم خزاعة، ودعوهم إلى اليمن، وزينوا لهم ذلك، وقالوا: أنتم لا يغسل عنكم ذكر الروم إلا أن تدعوا أنكم
__________
1 البرقوقي "ص403".
2 البرقوقي "ص400 وما بعدها".
3 البرقوقي "ص346".(8/186)
من غسان. فانتموا إلى غسان بعد1.
وقد عَيَّرت العرب وسبت من كان ذا أصل خامل، كأن يكون قينا، والقين العبد والحداد. ولعلها جمعت هذا المعنى من الترابط بين الحرفة والمنزلة، فقد كان القيون من العبيد. وقد عَيّر "حسان بن ثابت" "بني عوف بن عوف" بأنهم منتسبون إلى قريش، ولكن نسبهم ليس منهم، بل من جذع قين لئيم العروق عرقوب والده أصهب2. فرماهم بأنهم ليسوا من قريش، ولا من العرب، بل من الروم، ووالدهم أصهب به حمرة، وليست الصهبة من لون العرب. وقال لهم: وإذا أردتم الانتساب إلى العرب، فانتسبوا إلى "تغلب"، إنهم شرّ جيل، وليس لكم غيرهم مذهب3. ويبعث قول "حسان" هذا "تغلب" على الظن أن أقواما من الغرباء دخلوا في تغلب، وصاروا منهم. ولعله قصد أن من تنصر، دخل في تغلب، حتى دخل فيهم من ليس من العرب بسبب نصرانيته، حتى دخل فيهم قوم أصلهم من الروم.
وعير ب "أولاد درزة"، ويراد بهم الغوغاء. وبنو درز: الخياطون والحاكة، والعرب تقول للدعي: هو ابن درزة وأولاد فرتني. وذلك إذا كان ابن أمة تُساعي، فجاءت به من المساعاة، ولا يعرف له أب، وقال: هؤلاء أولاد درزة وأولاد فرتني للسفلة والسقاط4.
والسب: الشتم، والسباب: الشتائم والمشاتمة. وأما "السبّة" فالعار5. وكانوا يتشاتمون جماعات وفرادى، ويعير بعضهم بعضًا وقد يقذعون في السب، ولا سيما في الأمور التي تتغلب فيها العواطف على العقل.
ومن شتائم الجاهليين وسبابهم "عضضت بأير أبيك"6، ويا ابن الزانية،
__________
1 طبقات ابن سعد "3/ 247"، "دار صادر".
2
إلى جذم قين لئيم العرو ... ق عرقوب والده أصهب
البرقوقي "ص63".
3
على تغلب أنهم شر جيل ... فليس لكم غيرهم مذهب
البرقوقي "ص63".
4 اللسان "5/ 348"، "صادر" "درز".
5 تاج العروس "3/ 34 وما بعدها".
6 البرقوقي "121 وما بعدها".(8/187)
ويا ابن الفاعلة، و "يا عاض أير أبيه"، و "يا مصفر استه"1، و "يا ابن ملقى أرحل الركبان"2.
وعيرت العرب بالبخل. والبخل هو على نقيض الكرم. وقد ذُمّ بعض الجاهليين لبخلهم ولحرصهم الشديد على مالهم وعدم مساعدتهم للفقراء والمحتاجين، وقد انتخبوا من بينهم رجلًا زعم أنه أبخل الناس في الجاهلية اسمه "مادر"، "بخل مادر" و "أبخل من مادر". وهو رجل من "بني هلال بن عامر". ذكر أنه كان إذا أتى ماءً روي وأروى، ملأه مدرًا ضنا على غيره بوروده. وأنه بلغ من بخله أنه سقى إبله، فبقي في الحوض ماء قليل، فسلح فيه ومدر الحوض بالسلح، أي لطخه3. وورد في الأمثال: "ألأم من مادر"4.
وعيّرت بالغدر. قال بشر:
رَضِيعَةُ صَفْحٍ بالجباه ملمة ... لها بَلَقٌ فوقَ الرءوس مشهَّرُ
وصفح رجل من "بني كلب بن وبرة"، جاور قومًا من "بني عامر"، فقتلوه غدرًا. يقول غدرْتكم ب "زيد بن ضباء الأسدي"، أخت غدرتكم بصفح الكلبي5.
وعيرت من ينكر الصنيع الجميل والفعل الحميد، فينسى إحسان من أحسن له، وعيرت من لا يفي، ولا سيما من أكل الخبز والملح، وهما من موجبات الوفاء، فقالوا: "ملحه على ركبته"، في عدم الوفاء6.
وإذا سبت العرب أحد الموالي، قالت: يا ابن حمراء العجان، أي يا ابن الأَمة. كلمة تقولها في السبّ والذمّ. والعرب تسمّي الموالي: الحمراء7. وكانوا يعيرون "الأتاوي"، وهو الغريب في غير موطنه، ولا يعدلون أحدًا من
__________
1 التعالبي، ثمار "21".
2 تاج العروس "7/ 342"، "رحل".
3 الثعالبي، ثمار "127".
4 تاج العروس "3/ 536"، "مدر".
5 تاج العروس "2/ 180"، "صفح"، اللسان "2/ 516"، "صفح".
6 تاج العروس "2/ 230"، "ملح".
7 تاج العروس "3/ 158"، "حمر".(8/188)
الأتاويين بأصحاب المحلات. قال الشاعر:
لا تعدلن أتاويين قد نزلوا ... وسط الفلاة بأصحاب المحلات
وقالت امرأة من الكفار، وهي تحرض الأوس والخزرج، حين نزل فيهم النبي:
أطعتم أتاويّ من غيركم ... فلا من مُراد ولا مذحج
أرادت أن تؤلب وتذكي العصبية1.
وكانوا إذا أرادوا الاستهزاء برجل جاهل سفيه، قالوا له: هذا من أشد سباب العرب، أي أن يقول الرجل لصاحبه إذا استجهله يا حليم! أي أنت عند نفسك حليم وعند الناس سفيه2.
ويعير الإنسان بأبويه، أو بأحدهما، إذا كان بهما أو بأحدهما مثلبة ومنقصة يؤاخذ عليها، كأن يكون ابن أمة أو ابن سبي بيع في السوق. وقد رأينا أنهم كانوا يزدرون الهجين، ولا ينظرون إليه نظرتهم إلى إنسان صريح، كما كانوا يزدرون مَنْ أُمه أو أبوه من أصحاب الحرف. وقد عير "النعمان بن المنذر" لأن أمه "سلمى" كانت ابنة قَيْن، على زعم بعض الرواة. وكانوا إذا شتموا ابن أمة، قالوا له: يا ابن استها3.
وقد كان للجاهليين أعراف في إهانات الناس، من مثل سب الشخص على ما ذكرت، وتحريض الأطفال على العبث بمن يريدون إهانته، ورميه بالحجارة والركض خلفه، وبأمثال ذلك أو بتحريض السفهاء على التحرش بالشخص، أو تحريض النسوة بسبِّه، وبالإقذاع في كلامهم معه، وبما شاكل ذلك من وسائل دنيئة لا تنم على قدرة المحرض ولا على جرأة عنده، فيعمد إلى أمثال هذه الأمور.
وأما المقتدرون المتمكنون، فكانوا إذا أرادوا إهانة إنسان أهانوه بأسلوب يدلّ على قدرة المهين وتمكنه من مُهانه وازدرائه، فكان أحدهم إذا تمكن من عدوه،
__________
1 الحيوان "5/ 97"، "هارون".
2 اللسان "12/ 146"، "صادر"، "حلم".
3 قال الأعشى:
أسفها أوعدت يا ابن استها ... لست على الأعداء بالقادر
وقال حسان بن ثابت:
فما منك أعجب يا ابن استها ... ولكنني من أولى أعجب
البرقوقي "ص61".(8/189)
عمد إلى إهانته بنتف لحيته. ونتف اللحية من الإهانات الشديدة عند العرب، لأن اللحية من سيماء الرجولة، فإذا نتفت عد نتفها انتقاصًا من شأن ذلك الرجل وازدراءً شديدًا به.
وما يقال عن الإهانة التي توجه إلى الرجل بنتف لحيته، ينطبق كذلك على "جز الناصية". فجز الناصية من وسائل التحقير والازدراء، وفيه دلالة على ازدراء مَنْ جَزَّ الناصية بمن جُزّت ناصيته، بعد أن تمكن منه. وقد كان في إمكانه استرقاقه، أو المن عليه بفك أسره، أو بفك رقبته بفدية، ولكنه لم يفعل كل ذلك، ولم يطمح في الفدية إمعانا في ازدراء خصمه بإفهام الناس أن ذلك الشخص لا يساوي شيئًا، وأن المتمكن أرفع من أن يقبل فدية عن رجل وضيع خامل.
وكانوا إذا ذكروا خصومهم، تمنوا لهم الشر والأذى، واستعملوا جملًا فيها هذه المعاني. مثل: أخس الله حظه1، وأبعده الله وقبحه، أو رضيع اللؤم أو أبعد الله دار فلان، وأوقد نارًا في أثره2، وقد يذكرونهم بهزء وسخرية. ويكثر ذلك عند أهل القرار.
ومن معاني الشتم لفظة "لحى"، التي تعني "شتم". يقال "لحى الله فلانا"، أي قبحه ولعنه. و "الملاحاة" المنازعة. وفي المثل من لاحاك، فقد عاداك3.
وكان من دعاء بعضهم على بعض قولهم: "حبنًا وقدادًا". والحبن الاستسقاء، والقداد، وجع في البطن4.
وكان إذا دعا الرجل على صاحبه، يقول: قطع الله مطاك. فيقول الآخر: بسلا بسلًا، أي آمين آمين. وكان يحلف الرجل ثم يقول بسل، أي: آمين. وكان "عمر" يقول في دعائه: آمين وبسلًا، أي إيجابا وتحقيقًا. وهي في معنى الويل، يقال: بسلًا له أي ويلًا له5.
__________
1 تاج العروس "4/ 138"، "خسس".
2 اللسان "3/ 466"، "وقد".
3 تاج العروس "10/ 323 وما بعدها"، "لحا".
4 تاج العروس "2/ 461"، "قد".
5 تاج العروس "7/ 227"، "بسل".(8/190)
191
وكانوا إذا ما أرادوا التكنية عن الكذاب، قالوا: "أبو بنات عبر". و "بنات عبر" الكذب والباطل1.
__________
1
إذا ما جئت جاء بنات عبر ... وإن وليت أسرعن الذهابا
تاج العروس "3/ 377".(8/191)
الخسة والدناءة:
والخسة والدناءة، والخسيس الدنيء والحقير1. والدنيئة النقيصة2. والدنيّة الخصلة المذمومة3. وهي من المثالب التي تكون في الإنسان. فيزدرى من شأنه ويحتقر بين قومه. ومنها الحسد واللؤم وعدم احترام العرض. والعرب تتنخى من الدنايا وتستنكف منها4.
والحسد من الصفات السيئة التي كرهها العرب. وقد كان الحسد إذ ذاك كثيرًا، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفقر. فكان الفقير يحسد غيره على ما عنده، مهما كان ما عنده قليلا، لأنه لا يملك حتى هذا القليل. وقد بحث "الجاحظ" في الحسد، ووضع رسالة فيه دعاها: كتاب فصل ما بين العداوة والحسد. والحسد عنده شيء مألوف يقع لكل طبقة ولكل إنسان. ومن أسبابه: حب للرياسة، ووجود النعمة، وأمور أخرى ذكرها وتحدث عنها. كما تكلم عن مظاهر الحسد وأشكاله عند الجاهليين والإسلاميين، وقد جعله فوق العداوة، لأن العداوة تزول بزوال أسبابها، أما الحسد، فإنه دائم باق5.
و"الجبن"، من الصفات التي يعير "الجبان" بها. وهو الذي لا يحب القتال ولا يستعمل سيفه. ولما كانت الحياة عند العرب حياة قتال صارت الشجاعة في الإنسان صفة من صفات التكريم والتعظيم والتقدير، عكس "الجبن"،
__________
1 تاج العروس "4/ 137"، "خس".
2 تاج العروس "1/ 66"، "دنأ".
3 تاج العروس "10/ 132"، "دنو".
4 تاج العروس "10/ 362"، "نخا".
5 راجع رسالته في رسائل الجاحظ "1/ 325 وما بعدها"، تحقيق "عبد السلام محمد هارون".(8/191)
وينظر الناس إلى "الجبان" نظرتهم إلى النساء، بل هو عندهم دونهن شأنًا. لأن المرأة ولدت وفي طبعها اللين والاستسلام، أما الرجل فقد خلق للعراك والقتال، وقد حفظ أهل الأخبار قصصًا عن الجبناء وعن تحايلهم في سبيل تخليص أنفسهم من القتال ومن استعمال السيف. وقد اتهموا بتهم. منها: أنهم كانوا ينتابهم "الضراط" عند شعورهم بخوف وبأصوات السيوف. حتى استخفَّت النساء بهم من أجل ذلك. قيل في المثل: أجبن من المنزوف ضرطًا. ومن ذلك أن نسوة من العرب لم يكن لهن رجل، فتزوجت إحداهن رجلا كان ينام الصبحة، فإذا أتينه بصبوح، قلن قم فاصطبح، فيقول: لو نبهتُنَّني لعادية، فلما رأين ذلك. قال بعضهن لبعض: إن صاحبنا لشجاع، فتعالين حتى نجربه، فأتينه كما يأتينه، فأيقظنه. فقال: لو لعادية نبهتنني. فقلن هذه نواصي الخيل. فجعل يقول: الخيل الخيل ويضرط، حتى مات. إلى غير ذلك من قصص يرويه الأخباريون1.
__________
1 تاج العروس "5/ 176"، "ضرط".(8/192)
الشرف والخمول في قبائل العرب:
والقبائل كالأفراد والأسر، فيها النابة المذكورة المهاب، وفيها الخامل الهزيل الضعيف الذي لا ينظر إليه نظرة تقدير وتبجيل. والقبيل الكثير الذَّرء والفرسان والحكماء والأجواد والشعراء، وكثير السادات في العشائر، وكثير الرؤساء في الأرحاء، هو القبيل المقدر المعظم، ذو الشأن بين القبائل2. وقد تقع أحداث وعوامل، تؤدي إلى خمول القبيل وإلى انفصام وحدته، وإلى طمع غيره فيه، فيهزل عندئذ ويخمل، ويأخذ مكانه من هو أقوى منه. وقد ذكر "الجاحظ"، أن القبيل الذرء والعدد، والذي لا يكون فيه خير كثير ولا شرّ كثير، ويخمل ويدخل في غمار العرب، ويغرق في معظم الناس، وصار من المغمورين ومن المنسيين، وسلم من ضروب الهجاء ومن أكثر ذلك؛ وسلم من أن يضرب به
__________
1 الحيوان "1/ 357 وما بعدها"، "هارون".(8/192)
المثل في قلة ونذالة إذا لم يكن شر، وكان محلهم من القلوب محل من لا يغيظ الشعراء، ولا يحسدهم الأكفاء.. وإذا تقادم الميلاد ولم يكن الذرء وكان فيهم خير كثير وشر كثير، ومثالب ومناقب، لم يسلموا من أن يُهجوا ويضرب بهم المثل.. وقد يكون القوم حلولا مع بني أعمامهم، فإذا رأوا فضلهم عليهم حسدوهم، وإن تركوا شيئًا من إنصافهم اشتد ذلك عليهم، وتعاظموا بأكثر من قدره، فدعاهم ذلك إلى الخروج منهم إلى أعدائهم. فإذا صاروا إلى آخرين نهكوهم وحملوا عليهم، فوق الذي كانوا فيه من بني أعمامهم، حتى يدعوهم ذلك إلى النَّدم على مفارقتهم، فلا يستطيعون الرجوع، حميّة واتقاء، ومخافة أن يعودوا لهم إلى شيء مما كانوا عليه، وإلى المقام في حلفائهم الذين يرون من احتقارهم، ومن شدة الصولة عليهم"1.
وقد ذكر "الجاحظ"، أن مما تبتلى به القبائل فيصيبها الخمول: الشعر ونبوغ الأقارب أو المنافسين. فالشعر عند العرب يرفع من قدر الناس ويحط من درجاتهم. فقد يقال بيت واحد يربطه الشاعر في قوم ليس لهم جاه، فيرفع من شأنهم، وقد يقال بيت واحد في قوم لهم النباهة والعدد والفعال، فيغض من مكانتهم، ويكون سبّة لهم، ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء، كما بكى مخارق بن شهاب، وكما بكى علقمة بن عُلاثة، وكما بكى عبد الله بن جُدعان، والبلية الأخرى: أن يكون القبيل متقادم الميلاد، قليل الذرء قليل السيادة، وتهيأ أن يصير في ولد إخوتهم الشرف الكامل والعدد التام، فيستبين لمكانهم منهم من قلتهم وضعفهم لكل من رآهم وسمع بهم، أضعاف الذي هم عليه لو لم يكونا ابتلوا بشرف إخوتهم.
ومن شؤم الإخوة أن شرفهم ضعة إخوتهم، ومن يمن الأولاد أن شرفهم شرف من قبلهم من آبائهم ومن بعدهم من أولادهم2. ولذلك كانت القبائل تفخر بنبوغ الشعراء بها، لأنهم لسانها الذابّ عنها، وسيفها المصلت على رقاب
__________
1 الحيوان "1/ 357 وما بعدها"، "هارون".
2 الحيوان "1/ 365".(8/193)
الأعداء. وتتباهى بما يقوم به ساداتها من فعال حميدة وأعمال مجيدة ترفع رأس أبناء القبيلة بين الناس.
ولأهمية الشعراء عند الجاهليين، قال بعض العلماء: كلاب الحيّ شعراؤهم، وهم الذين ينبحون دونهم، ويحمون أعراضهم. وفي هذا المعنى جاء قول عمرو بن كلثوم:
وقد هرَّت كلابُ الحيّ منّا ... وشَذَّبنا قتادة من يلينا1
__________
1 الحيوان "1/ 351"، "هارون"، "كلاب الجن"، الثعالبي، ثمار "69".(8/194)
الإسلام والجاهلية:
وقد أبطل الإسلام كل سمة من سمات الجاهلية وعلامة من العلامات التي كانت تعد من صميم حياة الجاهليين. وفي جملتها المثل الأعرابية والحياة البدوية، فاعتبر الأعرابية بعد الإسلام ردة ونهى عن الهجرة من المدن إلى البوادي، فكان الأعرابي إذا دخل الإسلام، لزم الحضارة، وكلف بواجب الجهاد في سبيل نشر الإسلام، لما في التبدي والأعرابية من ابتعاد عن الجماعة وترك للواجب الملقى على المواطن في الدفاع عن الإسلام وفي العمل على إنهاض المجتمع والإنتاج في سبيل الخير العام. لذلك لام الناس "أبا ذر الغفاري"، حين لجأ إلى "الربذة" فأقام بها وتعزب بذلك عن الجماعة1.
وفي جملة ما حاربه الإسلام من أمور الجاهلية الأصنام والأوثان، فطُمست وأزيلت معالمها، بل غيّر أمورًا أقلّ منها شأنًا وخطرًا، مثل: خضرمة النوق. وكان أهل الجاهلية يخضرمون نعمهم، فلما جاء الإسلام أمروا أن يخضرموا من غير الموضع الذي يخضرم منه أهل الجاهلية2. وذلك منعًا من التشبه بالجاهليين، وإبعادًا للمسلمين عن تذكر أيام ما قبل الإسلام. ونهى عن تسنيم القبور وعن لبس بعض الملابس، وعن أمور أخرى، لأنها كانت من صميم أعمال الجاهليين.
__________
1 تاج العروس"1/ 380"، "عزب".
2 تاج العروس "8/ 281"، "الخضرم".(8/194)
وحارب الإسلام العصبية التي كانت من أهم سمات الجاهلية، والتي بقيت مع ذلك كامنة في نفوس الناس. عصبية القبائل وعصبية القرى والمواضع. من ذلك ما كان بين يمن وأهل مكة من نزاع، تحول إلى نزاع قحطان وعدنان. فعير أهل مكة اليمن بأنهم قيون، وأجابهم أهل اليمن بكلام غليظ شديد. هذا "أمية بن خلف" يهجو حسان بن ثابت بقوله:
أليس أبوك فينا كان قينًا ... لدى القينات فسلا في الحفاظ
يمانيًّا يظل يشدّ كيرًا ... وينفخ دائبًا لهب الشواظ1
وهذا "حسان" يجبيه ويرد عليه في شعر مطلعه:
أتاني عن أميّة زُورُ قولٍ ... وما هو في المغيب بذي حفاظ2
وطالما ظهرت هذه العصبية في أيام الرسول، بتنازغ الأنصار وقريش وتفاخرهم بعضهم على بعض. وذكر أن في جملة أسباب تحريم الخمر، أن رجلا من الأنصار صنع طعامًا، فدعا جمعًا من الأنصار وقريش، وشربوا الخمر حتىانتشوا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضل منكم. وقالت قريش نحن أفضل منكم، وتخاصموا، فبلغ ذلك الرسول، فنزل الأمر بتحريم الخمر3.
وفي جملة ما نهى الإسلام عنه "دعوى الجاهلية" من التفاخر بالأحساب والأنساب والتباهي بالمال والبنين والأموات، وتحريم بعض الطعام والشراب والعادات الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية على نحو ما رأينا فيما تقدم، وما سنراه فيما بعد.
وقد ترك المسلمون أمورًا كثيرة أخرى مما كان مستعملًا في الجاهلية، فمن ذلك تسميتهم للخراج إتاوة، وكقولهم للرشوة ولما يأخذه السلطان: الحُملان والمكس. وكما تركوا: أنعم صباحًا، وأنعم ظلامًا، وصاروا يقولون: كيف أصبحتم؟ وكيف أمسيتم؟ كما تركوا أن يقولوا للملك أو السيّد المطاع:
__________
1 اللسان "7/ 446"، "شوظ".
2 تاج العروس "5/ 254"، "عكظ".
3 تفسير الطبري "7/ 22".(8/195)
أبيت اللعن، وتركوا أن يقول العبد لسيده: ربّي، وأن تقول حاشية الملك والسيد للملك وللسيد: ربنا. وكما تركوا أن يقولوا لقوّام الملوك السدنة وقالوا: الحجبة. كما تركوا أشياء أخرى مثل المرباع والنشيطة والصفايا، إلى غير ذلك، مما كان مستعملًا في الجاهلية. فكره لذلك استعماله في الإسلام1.
__________
1 الحيوان للجاحظ "1/ 327"، "ما ترك الناس من ألفاظ الجاهلية".(8/196)
الفصل التاسع والأربعون: الحياة اليومية
مدخل
...
الفَصْلُ الثَّامِنُ والأرْبَعُون: الحياة اليومية
لا نستطيع أن نتصور وجود حياة يومية صاخبة أو متغيرة عند أهل الوبر، فحياة البادية في غاية البساطة ساذجة إلى أقصى حدّ من السذاجة. تذهب وتأتي على وتيرة واحدة ونمط واحد. فليس للرجل في البادية من عمل سوى رعي الإبل والإشراف عليها. وهو عمل لا يستوجب مجهودًا ولا يتطلب بذل طاقة، لذلك يعهد به إلى الأحداث في الغالب، أما الرجال، فليس لهم عمل مهم يذكر. لذلك يقضون معظم وقتهم جلوسًا بغير عمل، أو في التحديق بعضهم إلى بعض. وحياة على هذا النحو تجبل الإنسان على الكسل والخمول. فصار الأعرابي خاملًا كسولًا على صحة جسمه وتوقد ذهنه وذكائه. يحسن الكلام ويجيد تنميق الحديث ويتلاعب في كلامه وفي إيجاد معانٍ وحيل ومخارج له، ويسترسل في الخيال وفي التصور وفي شعوره الذي سبكه وصاغه في كلام موزون منظوم مقفى، وفي كلام مسترسل غير مقفى، وفي كل حرفة لسانية، أو تعبير عن شعور ذاتي كالحب والبطولة وما شاكل ذلك مما لا يحتاج إلى مجهود وعمل. أما النواحي العملية من الحياة، النواحي التي تحتاج إلى جهد وعمل، فقد ترك أمرها لغيره، بل ازدراها وازدرى شأن من يعمل بها، واحتقر الحرف والصناعات، لأنها من عمل الأعاجم والعبيد. ورأى أن من العار أن يصاهر أهل الصناعات والحرف والزراعة، لأنهم دونه في المنزلة بكثير. وهو غير ملوم على نظرته هذه إلى العمل اليدوي المجهد، فالإنسان عدو ما جهل معظّم لما يكون عنده؛ كاره لما لا يملكه ويكون عند غيره. فقد حرمته الطبيعة من كل(8/197)
ما يحمله على بذل الجهد للاشتغال في صناعات أو حرفة أو زراعة، ولم تهيّئ له البذور والمواد اللازمة لإقامتها، لذلك جهلها فحاربها وازدراها وازدرى شأن من يشتغل بها. كما سأتحدث عن ذلك في المواضع المناسبة لهذا البحث.
والبادية أرضون واسعة شاسعة جرداء في أغلب أيام السنة، خلا مواسم نزول الغيث وهي قليلة، وقد تنحبس. إذا أمطرت السماء ظهر "الربيع"، فتفرح الأرض وتكسى بخضرة تتخللها أوراد وأزهار وشقائق، ويضحك عندئذ وجهها، بعد يبوس وعبوس، ضحكًا يُفهم الإنسان الحضري عندئذ سرّ تعلق الأعرابي بباديته. ففي البادية على ما فيها من شقاء وجفاف ويبوسة؛ سحر ينسي الإنسان صعوبة الحياة، وحلاوة تنسيه مرارة الأيام القاسية التي يعيشها البدوي في باديته. بعيدًا عن الحضر وعن المجتمع المتكثف في مستوطنة أو قرية أو مدينة، بل بعيدًا حتى عن أبناء عشيرته. فمن طبيعة الصحراء أن قلبها لا يتقبل المجتمعات الكبيرة، بل يفضل المجتمعات الصغيرة المتناثرة. فصارت البيوت فيها متباعدة منتشرة هنا وهناك انتشار النجوم في السماء. كل بيت مسئول عن حماية نفسه وعن وقاية أفراده من أذى الإنسان والحيوان، وعن حماية جاره وذوي رحمه وأبناء عشيرته. لأنه إن لم يفعل ذلك، لم يجد من يدافع عنه أيام الشدة والعناء، حتى صار الجار عنده بمنزلة الأهل والدار.
وحياة من هذا النوع هي حياة لا بد وأن تصير بسيطة جدًّا ساذجة إلى أقصى حدود السذاجة. أحاديثها اليومية تكرار وإعادة، وأحاسيسها نسخة لأحاسيس اليوم الماضي والأيام السابقة. وأفق التفكير فيها محدود ضيق. إذ لا مجال فيها للفكر أن يتفتق وأن يتفتح ويتوسع. ومنها طبعت الحياة العقلية والاجتماعية بطابع الفطرة والبساطة. وهي لا يمكن إلا أن تكون كذلك. وكيف تريد منها أن تكون غير ذلك، ومحيطها وظروفها هي على هذا النحو من الحدود والقيود!
وفي وسع الرجل بفضل ما أوتي من قوة ومن بسطة في الجسم، قطع المسافات لزيارة الأقارب والجيران، لقتل الوقت بالكلام معهم، أو للتحدث عن غزو سابق أو عن شئون سيد القبيلة أو عن إشراف العشيرة أو للخروج إلى صيد لاصطياد ما قد يجده من حيوان مسكين، حَتَّم عليه سوء طالعه أن يولد في هذا الأرض الفقيرة، فهو مثل الإنسان تائه بهذه الحياة في هذه البادية الواسعة المكشوفة الشحيحة، يشكو إلى خالقه من ظلم طبيعةٍ أنبتته في هذه الأرض الفقيرة، على(8/198)
حين زرعت غيره في غابات كثيفة ذات ظروف حياتية غنية، فيها من المأكول أشكال وألوان. بينما هو لا يكاد يجد أمامه شيئًا، حتى إذا اشتد عوده واستوى، وقع في قبضة أناس جائعين، لا يقل جوعهم عن جوعه، فلا يخرج من قبضتهم أبدا. يتلذذون في أكله شواءً، ويتحدثون عن صيدهم ويفتخرون به. وقد يكون الصيد ظبيًا أو ضبًّا أو يربوعًا. ويفخرون بصيدهم لأنهم محرومون من اللحم، وكل ما تقع عليه عين المحروم من الأكل، هو أكل لذيذ دسم في نظر المحروم.
أما الأطفال فهم أطفال أينما وجدوا. لا يعرفون من أسرار الحياة وعنائها وشقائها شيئًا. همّهم اللعب، يلعب الذكور مع الإناث، الإخوة مع الأخوات، فهم أطفال البيوت. وقد يلعب معهم أطفال جيرانهم، إذا كانت البيوت متقاربة. يلعبون ألعابا هي من نتاج طبيعة أرضهم ومحيطهم. لا يعبئون بحر ولا برد، ولا بريح أو بأشعة شمس محرقة، وما الذي يفعلونه تجاه طبيعة قوية قهارة لم تعطهم إمكانيات بناء بيوت من مدر يأوون إليها لحماية أنفسهم من أشعة الشمس لهم على الأقل. وإنما مكنت آباءهم من صنع بيوت من وبر أو صوف أو شعر معز قد تقيهم من الأشعة بعض الوقاية، بأن تمنحهم شيئا من ظل. ولكنها عاجزة عن حمايتهم من البرد ومن الحر ومن الغيث إذا نزل عليهم مدرارًا. لا سيما إذا طال عهد هذه البيوت ولعب بها العمر، وصارت مهلهلة بالية، ذات جيوب وشقوق كالغرابيل، تعبث بها الرياح ساخرة من جهل هذا الإنسان القانع الراضي بحياته هذه على ما فيها من شظف وعسر وفقر، بينما هناك مجال واسع له لتحسين حاله، لو حرك نفسه واستخدم عقله وذراعه لتسخير الطبيعة في خدمته، لتحسين وضعه والترفيه عن نفسه ولو إلى حد.(8/199)
الرجل:
والرجل بحكم تفوق بنيته على بنية المرأة، وبفضل قوة عضلاته ومقاومته للطبيعة وللأخطار سيد الأسرة و "رب العائلة" و "بعل المرأة"، أي سيدها. منح نفسه حقوقًا لم يعطها للنساء. وبنى مفاهيم العدل والحق على أساس أن العدل هو القوة، فاغتصب حق المرأة والبنت والولد والرجل العاجز لقوته ولأنه مقاتل، أما غيره(8/199)
من المذكورين فعاجز عن القتال، فحرمهم من الحقوق. ومنها حقوق الإرث، وأباح لنفسه حق الاستمتاع بملاذ الحياة، وفي جملتها الاستمتاع بالنساء وبالخمور وببقية الأطايب. فله أن يتزوج ما يتمكن من النساء، وجعل بيده حق الطلاق، وجوّز لنفسه الاتصال بأية امرأة شاء وإن كان متزوجًا، وله أن يتسرى ما يشاء، وله غير ذلك من امتيازات وحقوق، بسبب قوته وتفوقه على الجنس الآخر وعلى المستضعفين من المخلوقات، لأن الحق للمخلوق القوي، ولا حق عند القوي لإنسان ضعيف.(8/200)
اللحية:
ومن الرجولة الشجاعة والإقدام وعدم المبالاة والمحافظة على مقوّمات الرجل وما منحته الطبيعة إياه من ملامح ميزته عن المرأة، وأهمها: اللحى. فاللحية عند العرب رمز الرجولة وزينتها وسيماء تكريم الرجل وتقديره. وإهانة اللحية عند العرب وعند الساميين هي من أعظم الإهانات التي لا تغتفر، وتقبيلها عندهم من علامات التقدير والاحترام والإجلال. ويعد نتف اللحية أو حزها أو حلقها إهانة كبيرة تنزل بصاحبها. يفعلها من يريد الازدراء بشأن الملتحي، ويعد عدم الاكتراث بتسوية اللحية من سيماء الحزن أو الغيظ أو المرض أو الارتباك وتضعضع الحال. ونجد في التوراة أن في جملة الإهانات التي تلحق بالناس حلق أنصاف لحاهم1. ويقسم باللحية، ويعد القسم بها من الأيمان المغلظة بمسك بها الحالف بيده اليمنى فيحلف بحلقها أنه لا يكذب أو أنه سيفعل، أو ما شابه ذلك، ولكن العادة أن الحلف بها يكون بإمساكها باليد، وإذا مد غريب يده على لحية رجل أكبر منه في المنزلة والدرجة وأقسم بها أو استجار بها، وجب على صاحبها الأخذ بقسمه والاهتمام بأمره ومساعدته. وقد يمسك غريب محتاج أو مطارد بلحية سيد قبيلة أو شريف قوم، ويبين له أنه في حماه ومنعته، وعلى الرجل بذل الحماية والمنعة له.
والعربي يكرم لحيته، ولا يحلقها، وتكون لحيته مدببة في الغالب على نمط
__________
1 صموئيل الثاني، الإصحاح العاشر، الآية 4، قاموس الكتاب المقدس "2/ 291".(8/200)
اللحى الفرنسية. ويصرف بعض الوقت لإصلاحها حتى لا تكون متناثرة بشعة، وقد يعير الإنسان بلحيته، فيقال: له لحية تيس. وتنسب عادة إكرام اللحى إلى سنن إبراهيم. وقد تكون اللحية كثة كبيرة منتظمة. ويقال للرجل ذي اللحية الطويلة: "اللحياني" و "رجل لحيان"1.
ويحلف العربي بشاربه، فإذا أراد إعطاء عهد أو جوار أو أي عهد آخر وأقسم بشاربه، وجب عليه الوفاء بعهده. ومن عادة العرب تخفيف الشارب، وقد تحف وتنسب هذه العادة إلى سنن إبراهيم، ومن السنن الأخرى تقليم الأظافر وحلق العانة2. وذكر أن الرسول كان يقص شاربه وأنه قال: "قصوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس". وورد أنه قال: "خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب"3.
ويعد قص الشارب من "الفطرة". وهي عشرة أو خمسة أمور4. يذكرون أنها من سنن إبراهيم ومن اتبعه من العرب. وفي جملتها الختان.
ويذكر العلماء أن الله ابتلى "إبراهيم" بسنن الفطرة، وهي التي ذكرت في القرآن في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} 5، وهي الكلمات العشر: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فأما التي في الرأس فالمضمضة والاستنشاق وقص الشارب والفرق والسواك. وأما التي في الجسد فالاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان. فلما جاء الإسلام، قررها سنة من السنن6.
والعرب من أصحاب الشعور السوداء. وهم مثل غيرهم يفاخرون بشعر
__________
1 تاج العروس "10/ 324"، "لحى".
2 القسطلاني، إرشاد الساري "2/ 161".
3 زاد المعاد "1/ 45 وما بعدها".
4 زاد المعاد "1/ 44 وما بعدها".
5 "البقرة"، الآية "124".
6 بلوغ الأرب "2/ 287".(8/201)
رأسهم، ويتركونه ينمو ولا يحلقونه على نحو ما كان يفعل اليهود والمصريون1. وكانوا يدهنونه ويمشطونه بالمشط، ويتركونه يتدلى على المنكبين. وقد يضفرونه ضفائر. ومنهم من يضفره ضفيرتين يجعلهما تتدليان على جانبي الوجه. وذكر أن العرب تسمى الخصلة من الشعر أو الضفيرة قرنًا. ولهذا عرف "المنذر بن ماء السماء" جد "النعمان بن المنذر" ب "ذي القرنين" لضفيرتين كانتا في قرني رأسه2. والعرب تكني عن العربي بالجعدي وعن العجمي بالسبط3. والجعد من الشعر خلاف السبط، أو هو القصير منه. وهم يعنون بذلك أن سبوطة الشعر هي الغالبة على شعور العجم من الروم والفرس، وجعودة الشعر هي الغالبة على شعور العرب. وكانوا إذا قالوا رجلا جعدًا عنوا رجلا كريمًا، كناية عن كونه عربيًّا سخيًّا، لأن العرب موصوفون بالجعودة. وقد يقصدون بذلك رجلا بخيلًا لئيمًا، فهو من الأضداد. وذكر أن العرب تقول: رجلًا جعدًا، إذا كان قصيرا متردد الخلق. وإذا قالت جعد السبوطة، فإنها تريد بذلك المدح، إلا أن يكون مفلفلا كشعر الزنج والنوبة، فهو حينئذ ذم4.
وكان الرسول يسدل شعره، ثم فرقه. والفرق أن يجعل شعره فرقتين كل فرقة ذؤابة. والسدل أن يسدله من ورائه ولا يجعله فرقتين5. وذكر أنه كان يضفره غدائر، والغدائر الضفائر. وكان إذا طال شعره جعله غدائر أربعًا. وكان يكثر دهن رأسه ولحيته ويكثر القناع كأن ثوبه ثوب زيّات. وكان يحب الترجل، وكان يرجل نفسه تارة وترجله عائشة تارة6. وترجيل الشعر تسريحه.
__________
1 أشعياء، الإصحاح السابع، الآية 20، حزقيال، الإصحاح الخامس، الآية الأولى، قاموس الكتاب المقدس "1/ 68 وما بعدها".
2 تاج العروس "4/ 307"، "قرن".
3 تاج العروس "5/ 149"، "سبط".
4 تاج العروس "2/ 320 وما بعدها"، "جعد".
5 زاد المعاد "1/ 44".
6 زاد المعاد "1/ 45".(8/202)
وقد تقوم به المرأة1. ويكون ذلك بالمشط. قال امرؤ القيس:
كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حَنّاء بشيب مرجّل2
وللعرب عادات بالنسبة إلى شعرهم. فهم إذا غضبوا وأرادوا الأخذ بالثأر، لم يغسلوا شعورهم وتركوا تدهينها حتى يأخذوا بثأرهم. كالذي رووه من قصة امرئ القيس، حينما جاءه خبر مقتل والده. وهم إذا أرادوا إذلال رجل وإهانته كإذلال سيد قبيلة أو شريف قوم سقط أسيرًا، وأرادوا الإمعان في إذلاله جزوا ناصيته وتركوه يذهب فذلك عندهم شر إذلال. والناصية مقدم الرأس3.
ويستوي الرجل والمرأة في دهن شعر الرأس. ولا زال الأعراب يدهنون شعورهم على الطريقة القديمة. ويستعمل أغنياؤهم الدهون الجيدة المستوردة من الخارج. مثل "الزيت" المطيب بالعطور وبأنواع الطيب، يدهنون به شعورهم ولحاهم في أيام الأفراح بصورة خاصة وفي الأعياد. وكان الرومان واليونان يدهنون الجسم كله بالزيت. ويعد دهن شعر الرأس من علامات الفرح والسرور، وتركه من علامات الغم والحزن4. وقد كان الصحابة يطلون شعر رأسهم ولحيتهم بالدهن ليزيلوا شعث رءوسهم ولحاهم به5.
ويضفر شعر الأولاد والبنات ضفائر، تتدلى على جانبي الوجه ومؤخرة الرأس. وأما الرجل، فكان منهم من يضفر شعر رأسه ضفيرتين يتركهما تتدليان على جانبي وجهه، ومنهم من يضفره جملة ضفائر، قد تبلغ سبعًا. وعادة ضفر شعر الرأس سبع ضفائر عادة معروفة عند غير العرب أيضًا. وكان شعر "شمشون" المشهور مضفورًا في سبع خصل6. ولا زال الأعراب يضفرون شعورهم. ويقال للضفيرة "الذؤابة". والذؤابتان اللتان تسقطان على الصدر.
__________
1 شرح النووي على صحيح مسلم، المطبوع حاشية على إرشاد الساري، للقسطلاني "2/ 338"، "باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله".
2 تاج العروس "7/ 337"، "رجل".
3 تاج العروس "10/ 369"، نصا.
4 مزامير 23، 5، متى 6، 17، صموئيل الثاني الإصحاح 14، الآية 2، قاموس الكتاب المقدس "1/ 522".
5 القسطلاني، إرشاد الساري "2/ 161".
6 قاموس الكتاب المقدس "1/ 619".(8/203)
ويقال لهما "غديرتان". وكل عقيصة غديرة: قال امرؤ القيس:
غدائره مستشزرات إلى العلى ... تضل العقاصي في مثنى ومرسل1
ولما قدم "صمام بن ثعلبة" من "بني سعد على الرسول، كان رجلا جلدًا أشعر ذا غديرتين. فلما ولى قال رسول الله: إن صدق ذو العقيصتين2. ويقال لهما "القرنان" كذلك. والعرب تسمي الخصلة من الشعر القرن. والقرن الذؤابة عامة. ومنه: الروم ذات القرون، لطول ذوائبهم3.
وهم مثل غيرهم من الناس يعتبرون الشعر الأشيب إكليل مجد الشيخ، والشعر الأبيض رمزًا للحكمة والجلالة4. وذلك بسبب أن تقدم العمر بالإنسان يكسبه خبرة وحكمة، لما يراه في حياته من تجارب وعظات. لذلك أقاموا للسن وزنًا كبيرًا في أخذ الرأي وفي التقدم في الدخول وفي الجلوس في المجالس.
ولم يكن شيوخ الجاهلية وشيبها أقل عناية بمظهرهم وبمرآهم من شيوخ هذا اليوم وشيبه، فحاولوا ما قدروا إخفاء شيبهم وإطفاء لعب الزمان بشعرهم وبأوجههم بمختلف الوسائل والسبل، ومنها إخفاء الشيب بصبغه وباستعمال الخضاب، وبعضه أسود، كما خضبوا بالعِظْلم وبالحنّاء5. وصبغوا لحاهم. ولم يهملوا العيون، فاكتحلوا لتظهر براقة مؤثرة. ولا تزال "الوسمة"، وهي خضاب أسود معروف، ويستعملها بعض الناس اليوم.
وذكر بعض علماء اللغة أن الخضاب، إخفاء الشيب بالحناء، وإذا كان بغير الحناء قيل: صبغ شعره، ولا يقال خضبه. وذكر آخر أن أول من خضب بالسواد من العرب "عبد المطلب"6. وقد تعلمه من أهل اليمن. إذْ كان قد زارهم فوجد شيبهم يخضبون شعورهم بالسواد، فأعطوه خضابًا، فجاء إلى مكة، وعنه شاع الخضاب بين أهلها.
__________
1 تاج العروس "3/ 441"، "غدر".
2 الطبري "3/ 124 وما بعدها"، "قدوم ضمام بن ثعلبة وافد عن بني سعد".
3 تاج العروس "9/ 307"، "قرن".
4 دانيال، الإصحاح السابع، الآية 9، قاموس الكتاب المقدس "1/ 619".
5 المعرب "ص16"، تاج العروس "1/ 236"، "خضب".
6 تاج العروس "2/ 366"، "الكويت"، "خضب".(8/204)
وقد استعملوا الزعفران في صبغ لحاهم وشعورهم. واستعملوا لون الزعفران في صبغ ثيابهم أيضا. وذلك لغلاء ثمن "الزعفران" الطبيعي. كما استعمل "العصفر" في الصبغ، وهو نبات ينبت في جزيرة العرب، إذا صبغ الثوب به قيل: عصفر الثوب به1. كما استعملوا "الكتم" في تخضيب الشعر. وهو نبت يخلط بالحناء ويخضب بالشعر فيبقى لونه. وقد أشار إليه "أمية بن أبي الصلت" بقوله:
وسودت شمسهم إذا طلعت ... بالجلب هفا كأنه كتم
والمكتومة: دهن من أدهان العرب أحمر، يجعل فيه الزعفران أو الكتم. وطبخوا الكتم بالماء واستخرجوا منه مدادًا للكتابة2.
ويكون الخضاب بالحناء، كما يكون بالحناء والكتم كما ذكرت، وقد يكون بالحناء والوسمة. وتجعل الوسمة الشعر أسود فاحمًا. وكل هذه من النباتات التي تنبت في الحجاز وفي اليمن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد استعلموا "السواد" ويكون بالوسمة في الغالب لتسويد شعر الجارية والمرأة الكبيرة والشيخ للغش والتدليس، حتى إذا جاء سيد لشراء جارية ظن أن شعرها على هذه الصورة من السواد، أو جاء رجل يطلب المرأة الكبيرة ظن أنها أصغر من عمرها، أو عرض الرجل الشيخ نفسه للزواج، ظهر أصغر من عمره. ونظرًا إلى ما في هذا العمل من غش نهي عنه في الإسلام3.
وخوفًا من أن يقملوا لبّدوا شعر رءوسهم بالخطمي والصمغ. وقد عرف من يفعل ذلك ب "الملبد". وقيل: إن "الملبد" المحرم، الذي لبد شعره حتى لا يقمل، إذا دخله الغبار بعد العرق4. وقد كان القمل قد عشش في آباط كثير من الناس، لا سيما الفقراء والأعراب منهم. وفي شعر رءوسهم في المواضع المشعرة من أجسامهم، نظرًا لسوء وضعهم من الناحية الاقتصادية وفقرهم: وعدم تمكنهم من غسل أجسامهم. وقد أشير إلى القمل والتلبيد في الشعر. ذكر أن القمل
__________
1 تاج العروس "3/ 408"، "عصفر".
2 تاج العروس "9/ 39"، "كتم"، "9/ 93"، "وسم"، العقد الفريد "3/ 49".
3 ابن قيم الجوزية، زاد المعاد "3/ 183 وما بعدها".
4 المعاني الكبير "1/ 426"، تاج العروس "2/ 491"، "لبد".(8/205)
كان يتهافت من رأس "كعب بن عجوة بن عدي" على وجهه، وكان محرمًا، فرآه الرسول، فأمره أن يحلق رأسه وأن يطعم فرقًا بين ستة مساكين1.
وذكر أن التلبيد، أن يأخذ شيئًا من خطمي وآسٍ وسدر، وشيئا من صمغ، فيجعله في أصول شعره وعلى رأسه، كي يتلبد شعره ولا يعرق ويدخله الغبار، فيخمّ ويقمل2.
وتطيب الرجال بالطيب، ودهنوا شعورهم بالدهن المطيب. وكانوا يتطيبون إذا ذهبوا إلى زيارة بيت، وفي المجتمعات العامة كالمواسم والأفراح. وللرجال طيب يختلف عن طيب النساء.
وقد يرقن الرجل كما ترقن المرأة بالحناء والزعفران. يقال: أرقن الرجل لحيته ورقنها، أي خضبها بالحناء وبالزغفران. قال الشاعر:
ومسمعة إذا ما شئت غنت ... مضمخة الترائب بالرقان3
والرقان والرقون الحناء والزعفران.
ويكثر العرب من حمل "العصا" معهم. إذ هي ضرورة بالنسبة لحياتهم. يستعينون بها في طرد الكلاب عنهم، ورد الحيوانات المتوحشة التي قد تصادفهم، كما يستعملونها في ضرب إبلهم حتى تطيع أوامرهم. حتى إنهم جعلوا العصا رمزًا لأمور عديدة. منها الطاعة والجماعة. ومنها "شق العصا" بمعنى مخالفة الجماعة. والعصا الجماعة. ومنها "ألقى المسافر عصاه"، أي بلغ موضعه وأقام. وضرب مثلا لكل من وافقه شيء فأقام عليه. ومنها "هو لين العصا"، أي رقيق لين حسن السياسة، و "هو ضعيف العصا"، أي قليل ضرب الإبل. "وإن العصا من العصية"، يقال ذلك إذا شبه بأبيه، أي: إن بعض الأمر من بعض4.
كما حملوا القضب، وهي من علائم السلطة والقوة والحكم والنفوذ عندهم. وقد ورد في خبر إرسال رسول الله "عباس بن أبي ربيعة المخزومي" إلى
__________
1 الحيوان "5/ 277"، "هارون".
2 المصدر نفسه.
3 تاج العروس "9/ 218"، "رقن".
4 تاج العروس "10/ 244 وما بعدها"، "عصا".(8/206)
"الحارث" و "مسروح" و "نعيم" بني عبد كلال من حمير، أنهم كانوا يحملون قضبًا معهم. وهي من الأثل: قضيب ملمّع ببياض وصفرة وقضيب ذو عُجَر وكأنه خيزران، وقضيب أسود بهيم كأنه من ساسم1. وكان أحدهم إذا جلس وفكر في أمره، أو أراد الإجابة على سؤال يحتاج إلى عمل روية نكت الأرض بالقضيب الذي يحمله بيده.
__________
1 ابن سعد "1/ 282 وما بعدها".(8/207)
المرأة:
والمرأة في المحيط البدوي أنشط وأكثر عملًا من الرجال؛ فعليها تهيئة الطعام وحلب النياق وغسل الملابس وغزل الصوف والوبر، والعناية بالأطفال وتحضير مادة الوقود، إلى غير ذلك من أعمال لا يقوم بها الرجل، لأنها من عمل المرأة، ولا يليق بالرجل القيام بها.
ولم نقرأ في كتب أهل الأخبار ما يفيد سيادة النساء على القبائل، في الجاهلية القريبة من الإسلام. ولم نقرأ في المسند ما يفيد بوجود ملكات حكمن اليمن. بينما قرأنا في الكتابات الآشورية وجود ملكات عربيات حكمن قبائل عربية، كانت تنزل البوادي من بادية الشام. ووقفنا أيضا على حكم الملكة "الزباء" لتدمر وذلك بعد الميلاد. ولكننا نقرأ في أخبار أهل الأخبار أخبار كاهنات، كانت لهن مراكز خطيرة عند القبائل. وكذلك أخبار حاكمات حكمن فيما بين الناس في الخصومات. وقد كان منهن من يقرأ ويكتب كما سنرى فيما بعد.
وللمرأة الشريفة ذات السؤدد حظ في المجتمع لا يدانيه حظ المرأة الحرة الفقيرة. فسؤددها حماية لها ودرع يصونها من الغض من منزلتها ومكانتها. وأسرتها قوة لها، تمنع زوجها من إذلالها أو إلحاق أي أذى بها، وهي نفسها فخورة على غيرها لأنها من أسر كريمة موازية لها في المنزلة والشرف. ومن ذلك قولهم: "استنكح العقائل، إذا نكح النجيبات"1.
__________
1 تاج العروس "9/ 41"، "أكرم".(8/207)
حال المرأة في الجاهلية:
وقد اختلف حال المرأة في الجاهلية عن حالها في الإسلام، بسبب تغير الأحوال(8/207)
وتبدل الظروف. "فلم يكن بين رجال العرب ونسائها حجاب، ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفلتة ولا لحظة الخلسة، دون أن يجتمعوا على الحديث والمسامرة، ويزدوجوا في المناسمة والمثافنة، ويسمى المولع بذلك من الرجال الزِّير، المشتق من الزيارة. وكل ذلك بأعين الأولياء وحضور الأزواج، لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المكر"1. "فلم يزل الرجال يتحدثون مع النساء، في الجاهلية والإسلام، حتى ضرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة"2. "ثم كانت الشرائف من النساء يقعدون للرجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عارًا في الجاهلية، ولا حرامًا في الإسلام"3.
وما نراه اليوم من اعتكاف النساء في بيوتهن ومن عدم اختلاطهن بالرجال ومن التشدد في الحجاب وأمثال ذلك، هو بين أهل الحضر خاصة. وقد كان هذا التحفظ معروفًا نوعًا ما عند أهل الحواضر والقرى في الجاهلية، إلا أن التزمُّت والتشدد في وجوب ابتعاد الرجل عن المرأة وانفصالهما بعضهما عن بعض إنما نشأ في الإسلام، بسبب تغير الظروف واختلاط العرب بالأعاجم، وظهور حالات جعلت العوائل الكبيرة تحرص على حصر المرأة في بيتها. أما في البادية فإن المرأة لا تزال تشارك الرجل في أعماله وتجالسه وتكلمه ولو كان غريبًا عنها، لأن محيط البادية محيط بعيد عن موطن الريبة والشبهات، وينشأ البنات والأولاد فيه سوية، ويلعبون سوية ويشبون سوية، ولذلك لم تنشأ عندهم القيود والحدود التي تفصل بين المرأة والرجل. وقد كان حال المرأة الأعرابية على هذه الحال في الجاهلية.
وقد عرفت المرأة بالكيد بين الجاهليين، ونظروا إليها نظرتهم إلى الشيطان وليست هذه النظرة العربية إلى المرأة هي نظرة خاصة بالجاهليين، بل هي نظرة عامة نجدها عند غيرهم أيضًا. بل هي وجهة نظر الرجل بالنسبة للمرأة في كل العالم في ذلك الوقت. وهي نظرة نجدها عند الحضر بدرجة خاصة، لما لمحيط الحضر من خصائص التجمع والتكتل، والتصاق البيوت بعضها ببعض، ولما لهم من حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية، وقد تجبر المرأة على دس أنفها، والاتصال بالغرباء، فنشأ من ثم هذا الرأي بين أهل الحضر أكثر من الأعراب.
__________
1 كتاب القيان، من رسائل الجاحظ "2/ 148"، "تحقيق عبد السلام هارون".
2 كتاب القيان "2/ 149".
3 كتاب القيان "2/ 149".(8/208)
وعرفت المرأة عندهم بالمكر والخديعة. إذ كان في وسعها استدراج الرجل والمكر به. وهم يتمثلون بمكر "الزبّاء". واستدراجها "جذيمة الأبرش" إليها، ثم فتكها به. على نحو ما ورد من قصص عنها في كتب أهل الأخبار. غير أنهم يروون في الوقت نفسه قصة "قصير" معها، وكيف تمكن من الأخذ بثأره منها، في حيلة ومكر ومكيدة، حتى فتك بها في قصة من قصص المكر والخديعة، ضرب بها المثل1. وعُدَّت المرأة كالحيّة في المكر.
ونظر الرجل إلى رأي المرأة على أن فيه وهنًا وضعفًا وأنه دون رأيه بكثير، وتصور أن مقاييس الحكم عندها، دون مقاييسه في الدقة والضبط، ولهذا رأى العرب أن من الحمق الأخذ برأي المرأة. فكانوا إذا أرادوا ضرب المثل بضعف رأي وخطله قالوا عنه: "رأي النساء"2 و "رأي نساء" وقالوا: شاوروهن وخالفوهن، لما عرف عن المرأة من تأثر بأحكام العاطفة عندها. حتى ذهب البعض إلى عدم وجود رأي للمرأة، ولهذا قالوا: يقال للرجل "الفند" إذا خرف وخف عقله لهرم أو مرض، وقد يستعمل في غير الكبر وأصله في الكبر. ولا يقال "عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي أبدًا فتفند في كبرها. وفي الكشاف: ولذا لم يقل للمرأة مفندة لأنها لا رأي لها حتى يضعف. قال شيخنا: ولا وجه لقول السمين إنه غريب، فإنه منقول عن أهل اللغة. ثم قال: ولعل وجهه أنّ لها عقلًا وإن كان ناقصًا يشتد نقصه بكبر السن"3.
ويكني العرب عن المرأة ب "الدُّمية". والدمية الصنم، وقيل: الصورة المنقشة: العاج ونحوه. وقيل هي الصورة. وقول الشاعر:
والبيض يرفلن في الدُمي ... والريط والمذهب المصون
يعني ثيابًا فيها تصاوير4.
ويقال للمرأة البذيئة القليلة الحياء "العنفص". وقال بعض علماء اللغة إنها
__________
1 الثعالبي، ثمار القلوب "311"، الميداني "2/ 272"، تاج العروس "1/ 237"، "خطب".
2 الثعالبي، ثمار القلوب "306".
3 تاج العروس "2/ 454"، "فند".
4 اللسان "14/ 271"، "دمي".(8/209)
المرأة القليلة الجسم الكثيرة الحركة. أو الداعرة الخبيثة. وقيل هي القصيرة المختالة المعجبة. أو المرأة الكثيرة الكلام، وهي المنتنة الريح1. وقد ذمت المرأة "النمامة"، والبذيئة التي تشتم الناس وتنطق بالبذاء. والسليطة اللسان التي تتطاول على الناس، ولا تبالي أحدًا. وقد كان بعض الناس يحرضون أمثال هؤلاء النسوة لإهانة كرام الناس والتحرش بهم، لما يعرفونه من أن في طبع الرجل الكريم عدم الرد على المرأة ردًّا قبيحًا والتعرض لها بسوء.
وتشاءموا من بعض النسوة. وقالوا: "امرأة مشئومة"، و "عقرى حلقى"، أي عقرها الله وحلقها، بمعنى حلق شعرها أو أصابها بوجع في حلقها، أو أنها تعقر قومها وتحلقهم بشؤمها وتستأصلهم2. وقد كانوا يطلقونها إذا تشاءم الزوج أو أهله منها، لاعتقادهم الشديد بالشؤم. وتشاءموا من الفرس الأشقر ومن عتبة الباب، ومن أشياء أخرى سأتحدث عنها في موضع التفاؤل والتشاؤم عند العرب.
وجمال المرأة في حلاوة العينين، وفي جمال الأنف، والملاحة في الفم. قال الشاعر:
خزاعيّة الأطراف مريّة الحشا ... فزارية العينين طائيّة الفم3
__________
1 تاج العروس "4/ 410"، "العنفص".
2 تاج العروس "3/ 415"، "عقر".
3 الدينوري، عيون الأخبار "4/ 27"، "كتاب النساء".(8/210)
المرأة القبيحة:
وذكر بعض علماء اللغة أن العرب تصف ب "السعلاة" العجائز والخيل، وقيل السعالي: النساء الصاخبات البذيئات، والمرأة القبيحة الوجه السيئة الخلق. ومن ذلك قول الأعشى:
ونساء كأنهم السعالي1.
والعرب تكني عن المرأة بالعتبة والنعل والقارورة والبيت والدمية الغل والقيد والريحانة والقوصرة والشاة والنعجة2.
__________
1 تاج العروس "7/ 376"، "سعل".
2 تاج العروس "1/ 364"، "عتب".(8/210)
وما قلته يمثل الفكرة العامة عن المرأة بين سواد الناس. غير أن هناك نسوة اشتهرن بالعقل والحكمة عند الجاهليين. وكن مرجعًا للرجال في أخذ الرأي. حتى إن منهن من تولين أمر الحكومات، وقد سبق أن ذكرت فيما مضى أن قبائل بادية الشام كانت تحت حكم ملكات في أيام الآشوريين. ومنهن الملكات "شمس" و "زبيبة". كما أشرت إلى الملكة "الزباء". فلم يجد العرب قبل الميلاد ولا بعده غضاضة من تعيين النساء ملكات عليهم. وقد كن يصاحبن الرجال إلى القتال لإثارة هممهم عند اشتداد المعارك ولمداواة الجرحى، وحمل الماء إلى العطشى من المقاتلين. وقد كانت "رفيدة" تداوي جرحى المسلمين في مسجد الرسول بيثرب1. وكانت "زينب" طبيبة "بني أود" تعالج المرضى وحازت على شهرة بين العرب2.
حتى الشعر، برزت به شاعرات. مثل الخنساء، وخرانق، وجليلة، وكبشة أخت عمرو بن معد يكرب، وغيرهن. ومنهن من حكمن بين الشعراء المتنافسين في تفضيل شعر شاعر على شعر شاعر آخر. وكان من بينهن كاتبات ومتاجرات إلى غير ذلك من حقول الأعمال التي تحتاج إلى عقل وذكاء.
__________
1 نهاية الأرب "17/ 191".
2 جرجي زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 40"، "1957م".(8/211)
زينة المرأة:
والمرأة الحضرية أكثر تفننا واعتناءً بنفسها من الأعرابية، بسبب اختلاف المحيط والوضع الاقتصادي. ولها من أمور الزينة ما لا تعرفه الأعرابيات، من وسائل تجميل وتحلية جسم وملبس. ولا سيما النساء الغنيات القريبات من مواطن الأعاجم. فقد تأثرن بالأعجميات وأخذن منهن ما راق لهن من ملبس وزينة وطيب وحلية.
والعادة أن المرأة تضفر شعر رأسها ضفائر وغدائر، أما الرجال فيتخذون لهم ضفيرتين، تتدليان على طرفي الوجه إلى المنكبين1. ويقال للضفيرة:
__________
1 تاج العروس "3/ 352"، "ضفر".(8/211)
العقيصة. وذكر أن "العقيصة" الذؤابة. وذكر بعض علماء اللغة أن كل عقيصة غديرة، والغديرتان الذؤابتان تسقطان على الصدر. وقيل الغدائر للنساء، وهي المضفورة. والضفائر الرجال1. وقيل العقص الفتل، أي فتل الشعر، وهو أن يلوي الشعر حتى يبقى ليُّه ثم يرسل. وذكر بعض علماء اللغة أن العقص أن تأخذ المرأة كل خصلة من شعر فتلويها ثم تعقدها حتى يبقى فيها التواء ثم ترسلها، فكل خصلة عقيصة. وقد عرف "ضمام بن ثعلبة" أحد بني سعد بن بكر ب "ذي العقيصتين"، وكان أشعر ذا غديرتين. وكان خصل شعره عقيصتين وأرخاهما من جانبيه. وهو من الصحابة2.
ويعد شعر المرأة من أثمن الأشياء عندها لذلك تستعز به وتحافظ عليه، وتسعى لإثارته وتنشيطه، وهي لا تحلقه إلا إذا نزلت بها نازلة، مثل موت زوجها أو عزيز آخر عليها، ويعد ذلك غاية في التضحية وفي إظهار حزنها على رجلها الراحل العزيز3. فإذا مات عزيز حلقت المرأة شعرها وذَرَّت التراب أو الرماد على رأسها، إظهارًا لشدة ألمها وحزنها على ميتها. ويقال لها "الحالقة". وقد لعن الرسول من النساء الحالقة والصالقة والخارقة. والحالقة التي تحلق شعرها في المصيبة4. وقد ضرب بها المثل في الشؤم. لأن من عادة الناس في الجاهلية أنهم إذا أصيبوا بمصيبة حلقت النساء شعورهن. وإلى ذاك أشير في شعر الخنساء:
ولكني رأيت الصبر خيرا ... من النعلين والرأس الحليق
وأصل ذلك أن المرأة كانت إذا أصيب لها كريم حلقت رأسها وأخذت نعلين تضرب بهما رأسها وتعفره. وفي هذا المعنى جاء في الشعر:
ألا قومي أولو عقرى وحلقى ... لما لاقت سلامان بن غنم
ولهذا السبب اعتبرت الحالقة علامة من علامات الشؤم ونذيرًا من نذر الفرقة
__________
1 قال امرؤ القيس:
غدائره مستشرزرات إلى العلى ... نضل العقاص في مثنى ومرسل
تاج العروس "3/ 441"، "غدر".
2 تاج العروس "4/ 408"، "عقص".
3 Hastings, A Dictionary of the Bible, II, P. 283.
4 تاج العروس "6/ 320"، "حلق".(8/212)
يضرب بها المثل. وفي الحديث: "دبّ إليكم داء الأمم: البغضاء والحالقة". "هو قطيعة الرحم والتظالم والقول السيء"1.
ويسرح الشعر ب "المشط". وقد عرفه الجاهليون، وهو من آلات التجميل القديمة.. وقد أشير إليه في الحديث. كما أشير إليه في الشعر. ورد قول عبد الرحمن بن حسان:
قد كنت أغنى ذي غنى عنكم كما ... أغنى الرجال عن المشاط الأقرع2
وتمشط شعر العرائس "الماشطة"، فتقوم بترجيله وتجميله لخبرتها فيه3. ويكون المشط من خشب في الغالب، وقد يعمل من ذهب أو فضة أو من معدن آخر، وقد يتخذ من "العاج".
وتغسل المرأة رأسها بطين وأشنان وخطمى ونحوه لتنظيفه. وقد تغتسل بالطيب، وذلك بالنسبة للغنيات. وإذا انتهت من غسله استعملت "الغسلة"4، وهو ما تجعله المرأة في شعرها عند الامتشاط من طيب وورق الآس يطرى بأفاويه من الطيب ويمتشط به5. والطين أنواع، يختلف باختلاف طبقات الأرض. وأجوده الحر النقي الخالص بعد رسوب الماء، ويستعمل في تنظيف الشعر.
وقد كانت القبائل إذا أرادت الصبر في القتال، والوقوف في الحرب إلى النهاية وحتى النصر، حلقت نساؤها شعورهن، لبثّ الشجاعة في نفوس المقاتلين وإذكاء نار الشجاعة فيهم. وذكر أن "يوم تحلاق اللمم"، إنما سمي بذلك، لأن شعارهم كان الحلق. وكان لتغلب على بكر بن وائل6.
وتجملت المرأة الجاهلية وتزينت على قدر حالها وإمكانها، لتظهر بذلك جمالها وأنوثتها على سنة الطبيعة، وعلى عادة المرأة بل والإنسان: رجلا كان أو امرأة
__________
1 تاج العروس "6/ 320"، "حلق".
2
قد كنت أحسبني غنيًا عنكم ... إن الغني عن المشاط الأقرع
تاج العروس "5/ 223"، "مشط"، اللسان "7/ 403".
3 تاج العروس "5/ 224"، "غسل".
4 كسر.
5 تاج العروس "8/ 45"، "غسل".
6 تاج العروس "6/ 320"، "حلق".(8/213)
في كل وقت وزمان، من حبه في إظهار الزينة وحسن المظهر. جملت نفسها بالاعتناء بالنظافة وبالثياب وبالحلية، كالخلخال والسوارين والخاتم والقُلبين والقلب والفتخة والمسكة والقرطين والقلائد الأخرى، وبالتجميل بالكحل وبالمساحيق التي توضع على الوجه والدهن الذي يدهن به الشعر وخضاب الكف والقدم، وبالوشم وما شاكل ذلك من أمور تجميل وتحلية كانت معروفة في ذلك العهد.
ومن وسائل الزينة: الوشم. غرز إبرة ونحوها في عضو حتى يسيل الدم ثم يحشى بنؤور أو بالكحل أو بالنيلج أو نحوها فيزرق أثره أو يخضر1. وكانوا يقصدون بذلك التزين فينقشون به غالب أبدانهم، أنواعًا من النقوش من صور حيوانات أو نبات أو صور إنسان وكذلك الشفاه، فترى غالب شفاه نسائهم زرقًا. والأطفال منهم يوشمون في بعض المحال من وجوههم لقصد الزينة. وكذلك الرجال. وذكر أن الرسول قد نهى عن ذلك في حديث: "لعن الله الواشمة". أو "لعن الله الواشمة والمستوشمة"2.
وكانوا يعتنون بتجميل حواجبهم وإزالة الشعر من وجوههم ب "النماص" وهو "المنقاش". وعرفت مزينة النساء ب"النامصة". وهي مزينة بالنمص. وذكر أن النمص نتف الشعر. وأن المشط ينمص الشعر وكذلك المحسّة لأن لها أسنانا كأسنان المشط. ويقال إن النماص مختص بإزالة الشعر من الحاجبين ليرققهما أو ليسويهما. وفي الحديث: لعنت النامصة والمتنمصة3.
وعنوا بالأسنان فاستعملوا المبرد لبرد ما بين الثنايا والرباعيات، لتجميلها. وقد لعنت المتفلجات في الحديث. والمتفلجات جمع متفلجة التي تفلج بين الأسنان4. وعنوا بتبييض الأسنان باستخدام "المسواك"، وهو ما يدلك به الفم. ويكون من عيدان بعض الأشجار ذات الرائحة الطيبة. وقد أشير إليه في الحديث5.
__________
1 تاج العروس "9/ 94"، "وشم".
2 تاج العروس "9/ 94"، "وشم"، بلوغ الأرب "3/ 10 وما بعدها".
3 تاج العروس "4/ 443"، "نمص"، بلوغ الأرب "3/ 11".
4 بلوغ الأرب "3/ 11".
5 تاج العروس "7/ 146"، "سوك".(8/214)
ويقص الشعر والظفر بالمقص، أي المقراض وهما مقصان1. يقص به الرجل شعره، كما تقص به المرأة. وتتخذ المرأة "القُصة" في مقدم رأسها تقص ناصيتها ما عدا جبينها2.
وذكر أن من نساء الجاهلية من كن يقمحن لثنهن ب "النوور"، حصاة كإثمد تدق فتسفها اللثة. وكن يتّسمن ب "النؤر". وهو دخان الشحم أو دخان الفتيلة، يتخذ كحلًا أو وشمًا، وخصصه بعضهم بالوشم3.
ولم تنس المرأة الجاهلية زينتها، فزينت نفسها ب "الحلي" من ذهب وفضة ومعادن أخرى ومن أحجار كريمة وأحجار تلفت النظر وبالعظام أيضا وبالخرز. ومن الحلي "الأساور" المصنوعة من الذهب. بالنسبة إلى المرأة الموسرة، والحلي المطعمة باللؤلؤ. ومن الحليّ؛ ما يزين به الرأس والعنق، ومنه ما يزين به الأيدي أو الأرجل4. وسأتحدث عنها في القسم الخاص بالحرف، بشيء من التفصيل.
و"الكرم": القلادة. وقيل هي القلادة من الذهب والفضة، وقيل تكون من لؤلؤ أيضًا5.
ويضفر شعر رأس الأطفال ذوائب، أي ضفائر تتدلى على رأسه وعلى ناصيته. ومتى كبر الطفل وبلغ سن الرشد، أو شعر برجولته، ضفرت له ذؤابتان، وهي علامة الشباب والرجولة عندهم. وقد كان الساميون يحتفلون بحلق الذوائب، لأن هذا الحلق معناه انتهاء مرحلة من الحياة ودخول الطفل مرحلة الرجولة، وهي مرحلة الحياة الصحيحة. وكانوا يرمون الذوائب أمام الأصنام. والعادة أنهم يضفرون للأطفال سبع ضفائر. وهي عادة معروفة عند الجاهليين أيضًا. ولا تزال متبعة عند الأعراب وأشباه الحضر. وقد يعلقون حليًّا على
__________
1 تاج العروس "4/ 422"، "قصص".
2 تاج العروس "4/ 423"، "قصص".
3 تاج العروس "3/ 589"، "نور".
4 تاج العروس "10/ 97"، "حلى".
5 تاج العروس "9/ 42"، "كرم".(8/215)
كل ضفيرة، وذلك إمعانًا منهم في تدليل الطفل وفي إراءة جماله. فالزينة وتعليق الحلي من مظاهر التدليل والتجميل.(8/216)
نساء شهيرات:
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نساء ذكروا أنهن عشن في الجاهلية. منهن: صحر بنت لقمان بن عاد. وكان أبوها لقمان وأخوها لقيم خرجا مغيرين، فأصابا إبلا كثيرة فسبق لقيم إلى منزله، وعمدت صحر إلى بعض ما جاء به لقيم، فصنعت منه طعامًا يكون معدًّا لأبيها لقمان إذا قدم، وقد كان لقمان حسد لقيمًا في تبريزه عليه، فلما قدمت صحر إليه الطعام وعلم أنه من غنيمة لقيم، لطمها لطمة قضت عليها، فصارت عقوبتها مثلًا لكل من لا ذنب له ويعاقب1 "فقيل: ما لي ذنب إلا ذنب صحر"، ولم يكن لها ذنب2.
وقد حصلت "الزبّاء" على شهرة بين العرب، ووضعوا حولها القصص. ذكروا أنها امرأة من العماليق، وأمها من الروم. وكانت تغزو بالجيوش، وهي التي غزت ماردًا والأبلق فاستعصيا عليها، فقالت: تمرد مارد وعز الأبلق، فذهبت مثلًا. ويروي أهل الأخبار لها أمثلة أخرى3. ورموها بالغدر، فقالوا: "قال عدي بن زيد يذكر قصة جذيمة الأبرش لخطبة الزباء":
لخطيبي التي غدرت وخانت ... وهن ذوات غائلة لحينا
أي لخطبة زباء. وهي امرأة غدرت بجذيمة الأبرش حين خطبها فأجابته وخاست بالعهد فقتلته4.
واشتهرت "البسوس" بالبؤس والشؤم حتى قالوا "شؤم البسوس". وهي بنت منقذ التميمية، زارت أختها أم جساس بن مرة ومع البسوس جار لها من جرم، يقال له سعد بن شمس، ومعه ناقة له، فرماها كليب وائل لما رآها
__________
1 الثعالبي، ثمار القلوب "307".
2 تاج العروس "3/ 327"، "صحر".
3 الثعالبي، ثمار القلوب "311".
4 تاج العروس "1/ 237"، "خطب".(8/216)
في مرعى قد حماه، فأقبلت الناقة إلى صاحبها وهي ترعو وضرعها يشخب لبنًا ودمًا، فلما رأى ما بها انطلق إلى البسوس فأخبرها بالقصة، فقالت: وا ذلاه! وا غربتاه! وأنشأت تقول أبياتًا تسميها العرب أبيات الفناء. فسمعها ابن أختها جساس فثار الدم في رأسه، وخرج معقبًا كليبًا حتى وجده فطعنه طعنة قضت عليه. ووقعت الحرب بين بكر وتغلب ودامت أربعين سنة. وسار شؤم البسوس مثلا، ونسبت الحرب إليها لكونها سببها، فقيل: حرب البسوس1. وهكذا فسر أهل الإخبار سبب وقوع حرب البسوس.
وقص أهل الأخبار قصة امرأة أخرى، قالوا إن رغيف خبز لها صار سببًا في وقوع شر بين حيّين، وأدى إلى وقوع قتلى. حتى قيل: أشأم من رغيف الخولاء. والخولاء خبازة في "بني سعد بن زيد مناة"، فمرت وعلى رأسها كارة خبز، فتناول رجل عن رأسها رغيفًا، فاشتكت إلى رجل كان جارًا لها. فثار وثار معه قومه إلى الرجل الذي أخذ الرغيف وقومه بينهم ألف نفس، وسار رغيف الخولاء مثلا في الشيء اليسير بجلب الخطب الكبير2.
وذكر أهل الأخبار اسم امرأة أخرى اشتهرت بعطرها، حتى ضرب به المثل، فقيل: "عطر منشم". ولهم أقوال في سبب ضرب هذا المثل. وخلاصتها أن "منشم" امرأة عطارة تبيع الطيب، فكانوا إذا قصدوا حربًا غمسوا أيديهم في طيبها، وتحالفوا عليه بأن يستميتوا في الحرب ولا يولوا أو يقتلوا، فكانوا إذا دخلوا الحرب بطيب تلك المرأة يقول الناس: قد دقّوا بينهم عطر منشم، فلما كثر القوم صار مثلا. فممن تمثل به زهير حيث قال:
تدراكتما عبسًا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم3
واختار أهل الأخبار من بين النساء امرأة جعلوها مثالا للحمق، حتى قالوا: "حمق دغة". وهي دغة بنت منعج. روي لها حماقات كثيرة. وجعلوها مثلًا
__________
1 الثعالبي، ثمار القلوب "307 وما بعدها"، الميداني، الأمثال "1/ 372".
2 الثعالبي، ثمار "310".
3 الثعالبي، ثمار القلوب "308 وما بعدها"، ديوان زهير "15"، ابن قتيبة، المعارف "613".(8/217)
سائرًا بين الناس في الحمق1.
وضرب المثل ب "أم خارجة" في السرعة، فقال أسرع من نكاح أم خارجة. وهي "عمرة بنت سعد بن عبد الله بن بجيلة". كان يأتيها الخاطب فيقول: خطب، فتقول: نكح. ولدت أم خارجة في نيف وعشرين حيا من آباء متفرقين، وكانت إذا تزوج منها الرجل فأصبحت عنده كان أمرها إليها، إن شاءت أقامت، وإن شاءت ذهبت، وكانت علامة ارتضائها للزوج أن تصنع له طعامًا كلما تصبح2.
وضربوا المثل ب "عز أم قرفة"، فمن أمثالهم إذا أرادوا العز والمنعة قالوا: إنه لأمنع من أمر قرفة. وهي بنت "مالك بن حذيفة بن بدر": وكان يحرس بيتها خمسون سيفًا بخمسين فارسًا، كلهم لها محرم3.
كما ضربوا المثل ب "برد العجوز". ولهم قصص في سبب ضربه وهم متفقون على أن المثل جاهلي، وليس بإسلامي. ذكر بعضهم أن عجوزًا دهرية كاهنة من العرب كانت تخبر قومها ببرد يقع في أواخر الشتاء وأوائل الربيع، فيسوء أثره على المواشي، فقالوا: هذا برد العجوز، يعني العجوز الذي أنذرت به. وذكر بعض آخر؛ أن عجوزًا كانت بالجاهلية ولها ثمانية بنين فسألتهم أن يزوّجوها، وألحت عليهم، فتآمروا بينهم، وقالوا لها: إن كنت تزعمين أنك شابة فابرزي للهواء ثمان ليال، فإننا نزوجك بعدها، فوعدت بذلك، وتعرضت تلك الليلة والزمان شتاء كلب، وبرزت للهواء، وبقيت تفعل ذلك سبع ليال، ثم ماتت في الليلة السابعة. فضرب بها المثل: وقيل برد العجوز4.
__________
1 الثعالبي، ثمار القلوب "309".
2 الثعالبي، ثمار "311 وما بعدها".
3 الثعالبي، ثمار "310 وما بعدها".
4 الثعالبي، ثمار "313 وما بعدها".(8/218)
أهل الحضر:
وما ذكرته يتناول حياة الأعراب، وحياتهم الاجتماعية هي حياة أخرى تختلف(8/218)
عن حياة أهل الحاضرة. ففي حياة الحضر تجمع وتكتل وإذا تجمع الإنسان وتكتل في موضع وكوّن جماعة، ظهرت عنده خلال، لا يمكن ظهورها عند الأعراب. تتسع وتكبر كلما بعدت الشقة بين البداوة والحضارة. لذا فإن بين حياة أهل الحيرة أو يثرب أو مكة أو المستوطنات الحضرية الأخرى المنتشرة في جزيرة العرب وبين حياة أهل البادية فروقًا كبيرة، تختلف في الدرجة والشدة، بدرجة تكاثف السكان في المستوطنة الحضرية، وبدرجة قربها أو بعدها من الأعاجم، وبدرجة اتصالها بالعالم الخارجي. فالمستوطنات التي تقع على سواحل البحر يكون لها اتصال خاص بالعالم الخارجي، لا يمكن أن يتوفر لأهل البواطن، ويؤدي هذا الاتصال إلى التلاحم في الأفكار وإلى الاختلاط والامتزاج وإلى توسع أفق أهل الساحل بالنسبة إلى من وراءهم في الباطن، بسبب هذا الاختلاط في الموقع.
لقد تأثر أهل الحواضر من عرب العراق بأخلاق أهل النبط وغيرهم من أهل العراق، حتى بان ذلك على لسانهم وعلى طراز معاشهم كما بان ذلك على عرب بلاد الشام لاختلاطهم بالروم وبأهل بلاد الشام. فعرفوا عنهم أكل الأعاجم وأحبوا غناء الفرس وغناء الروم. ودخل من دخل منهم في النصرانية. وقلّد ملوك الفرس في بعض شئون حياتهم، وتشبه ملوك عرب الشام بملوك الروم، حتى في أمور دينهم حيث اعتنقوا النصرانية، وجاءوا إلى قصورهم بقيان يغنين بغناء الروم وبقيان يغنين بغناء الفرس. وزار سادات عرب العراق "المدائن"، ووقفوا على حياتها؛ وعاش سادات عرب الشام بدمشق وبمدن بلاد الشام الأخرى، وجلبوا إلى قصورهم وبيوتهم شيئًا مما أعجبهم ونال حبهم. فصارت حياتهم من ثم حياة تختلف عن حياة الأعراب من هذه النواحي.
وكان لأهل قرى العربية الشرقية اتصال دائم بالعراق وبسواحل الهند الغربية، وبإيران وبالتجار الروم، فأخذوا منهم وتأثروا بهم، كالذي يظهر من الآثار التي عثر عليها ويعثر عليها المنقبون في مواضع العاديات. وتأثر أهل العربية الغربية بأهل بلاد الشام والعراق لما كان لهم من اتصال تجاري دائم بهم. ولما كانوا يجلبونه من هذه البلاد من رقيق. كما كان لهم ولأهل العربية الجنوبية اتصال بأهل إفريقية، سكان السواحل المقابلة لبلاد العرب فأثروا فيهم وتأثروا بهم. ومن آيات هذا التأثير الملامح الإفريقية التي ظهرت في العربية الجنوبية بصورة خاصة، لا سيما باستيلاء الأحباش مرارًا على السواحل العربية المقابلة لإفريقية، وظهور جيل أخذ(8/219)
من ملامح الجنسين، نتيجة للازدواج الذي صار بين العرب والإفريقيين.
ونجد أثر هذا الاختلاط في اللغة كما نجده في الغناء وفي آلات الطرب. إذ يختلف غناء أهل سواحل جزيرة العرب عن غناء القبائل الساكنة في الباطن، بعيدة بعض البعد عن السواحل وعن التأثير بمؤثرات الأعاجم الذين يقصدون المواني الساحلية للإتجار.(8/220)
يزال الكثير منها قائما في أنحاء متعددة من العالم. وهي في الغالب مرآة صافية للظروف التي يعيش فيها الناس. وبعض هذه الأنواع زناء معيب في عرفنا، غير أننا يجب أن نفكر دائمًا أن أولئك القوم كانت لهم مقاييس دينية وخلقية خاصة بهم، وهي سليمة صحيحة بالقياس إليهم، وأنهم عاشوا قبل الإسلام وفي ظروف تختلف عن ظروفنا، وأن ما نسميه عيبًا لم يكن عيبًا بالقياس إلى المراحل التي كانوا فيها وإلى عرف ذلك العهد.
ويقال للرجل العزب الذي لا زوج له "الخالي"، قال امرؤ القيس:
ألم ترني أصبي على المرء عرسه ... وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي1
وللرجولة عند العرب أثر بارز، لما في طبيعة بلادهم من الحر وعدم وجود أمور مسلية لديهم تصرف ذهنهم عن التفكير فيه وتلهيهم بعض الشيء عن الغريزة الجنسية. ونجد في الأدب العربي شيئًا كثيرًا مما يتعلق بهذا الموضوع. وللغلمة المفرطة صار العربي مزواجًا، يتشبب بالنساء ويتغزل، والتشبيب من أمارات الرجولة عند الجاهليين.
ونجد في القصص المنسوب إلى الجاهليين وفي شعرهم شيئًا كثيرًا يتعلق بالحب: حب الرجل للمرأة، وليس العكس، ذلك لأن في طبع الرجل التباهي والتفاخر بحبه للنساء. أما المرأة فإن في طبعها الخجل الذي يمنعها من إظهار حبها وتعلقها برجل ما، ثم إن المجتمع لا يسمح لها بذلك، وهو يردعها عن أن تبوح بحبها لرجل ما، ويعد ذلك نوعًا من الخروج على الآداب العامة وجلب العار إلى البنت وإلى الأسرة. ويعبر عن النسيب بالنساء، أي بذكرهن في ابتداء القصائد، ب" التشبيب". ويعد ابتداء القصيدة بالتشبيب من العرف الجاهلي، ويقولون إن في ذلك ترقيقًا للشعر2.
والنسيب في الشعر، التشبب بالمرأة والتغزل بها، وذلك في أول القصيدة، إذا ذكرها في شعره ووصفها بالجمال والصبا، ووصف أعضاء جسمها وغير ذلك، ثم يخرج الشاعر بعد ذلك إلى المديح. ويدخل في النسيب، ووصف مرابع الأحباب ومنازلهم واشتياق المحب إلى لقائهم ووصالهم وغير ذلك3.
__________
1 اللسان "14/ 239"، "خلا"، تاج العروس "10/ 118"، "خلا".
2 تاج العروس "1/ 308"، "شبب".
3 تاج العروس "1/ 183"، "نسب".(8/221)
والغزل في نظر بعض العلماء كالتشبيب والنسيب، كلها بمعنى واحد. وهو وصف الأعضاء الظاهرة من المحبوب، أو ذكر أيام الوصل والهجر أو نحو ذلك. وفرق بعض آخر بينها، بأن جعل التشبيب ذكر صفات المرأة وهو القسم الأول من النسيب، فلا يطلق التشبيب على ذكر صفات الناسب ولا على غيره. والتغزل بمعنى النسيب ذكر الغزل. فالغزل غير التغزل، والنسيب والغزل في رأي بعض آخر هو الأفعال والأقوال والأحوال الجارية بين المحب والمحبوب نفسها. وأما التشبيب فذكر حال الناسب والمنسوب به والأمور الجارية بينهما. وقال بعض: الغزل إنما هو التصابي والاستهتار بمودّات النساء1. وإلى غير ذلك من آراء لا صلة لها بهذا الموضوع.
والعادة أن يتغزل الرجل بامرأة فيجعلها بطلة غزله. يلف ويدور في غزله حولها ويلهج بذكرها. وقد يذكر اسمها وقد لا يذكره. وهي قد تكون امرأة حقًّا، رآها الشاعر فأعجب بها، وقد لا تكون امرأة معينة خاصة، وإنما امرأة تخيلها ذهن الشاعر، فصار يتغزل بها ويلهج بذكرها ويلج في إظهار وصفها وصفاتها وما قالت له وما قال لها إلى غير ذلك. وسبب ذلك هو أذواق أهل ذلك العهد، وعاداتهم في وجوب الابتداء بالقصيدة بهذا النوع من المقدمات، حتى يكون شعرًا رقيقًا مرموقًا، وقد أدى تغزل بعض الشعراء بنساء رجال معروفين أو ببناتهم إلى وقوعهم في مهالك. ومن أمثلة ذلك ما زعم من تغزل "النابغة الذبياني" بالمتجردة زوج الملك "النعمان بن المنذر"، وما كان من غضب الملك عليه وتهديده له بالقتل، مما اضطر النابغة إلى الهرب إلى الغساسنة أعداء النعمان، ليسلم بريشه من سيد الحيرة وما ورد في قصة الشاعر "طرفة بن العبد".
والطابع العام في هذا الغزل البراءة والعفة ونقاء الألفاظ المؤدبة، لا يتطرق فيه الشاعر إلى ما وراء إظهار الوجد والحب والتلهف إلى زيارة معشوقته له، أو زيارته لها، وذكر الأيام الجميلة وأحلام الحب الصافية الخالصة النقية، وقَلَّما نجد في الشعر الجاهلي إقذاعًا وفحشًا. فالشاعر متأدب في شعره، يعرف حدوده في الغزل فلا يتجاوزها، لأنه يعلم حقًا أنه إذا ذكر الفحش في شعره وتعرض بامرأة معينة، فأصابها بسوء قول، فإنها لن تسكت عنه، وإذا سكتت هي، فلن يفلت من عقاب أسرتها وآلها له. وقد يكون ذلك العقاب القتل.
__________
1 تاج العروس "8/ 43"، "غزل".(8/222)
وقد ضرب العرب المثل ببعض الرجال في شدة النكاح وكثرته. ومن هؤلاء "حوثرة" رجل بني عبد القيس، ضربت به العرب المثل في ذلك فقالت "أنكح من حوثرة"1، و "خوات بن جبير الأنصاري"، وكان يأتي أحياء العرب يتطلب النساء، فإذا سئل عن حاجته قال: قد شرد لي بعير فخرجت في طلبه. وأدرك الإسلام، ورأى الرسول، فقال له: ما فعل بعيرك الشرود؟ فقال: أما منذ قيده الإسلام فلا2. وكان يحسن الغناء. وكان إذا رأى النساء لبس حلته وجلس إليهن. وذكر أنه "صاحب ذات النحيين"3.
ويقال: "اغتلم الرجل" إذا هاج من الشهوة، وكذلك الجارية وفي الحديث: "خير النساء الغلمة على زوجها". والغلمة: شهوة الضراب، "وفسره جماعة بالشبق واشتهاء الغلمان"4. و"الشبق" شدة الغلمة وطلب النكاح، يقال: رجل شبق، وامرأة شبقة5. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال عرفوا بالشبق والغلمة، ومن هؤلاء "ابن الغز". فذكر أن عبد الملك بن مروان ذكر إيادًا، فقال: "هم أخطب الناس لمكان قس، وأسخى الناس لمكان كعب، وأشعر الناس لمكان أبي دواد، وأنكح الناس لمكان ابن الغز"6.
وفي المثل: "أنكح من ابن الغز"، وهو من بني إياد، واسمه سعد أو عروة أو الحارث بن أشيم. وذكروا أنه كان نكّاحًا عظيم الأير، زعموا أن عروسه زفت إليه، فأصاب رأس أيره جنبها، فقالت: أتهددني بالركبة7.
وقد عرف من يحب محادثة النساء ومجالستهن ومخالطتهن ب "الزير"8، ومن هنا قيل: "زير نساء". وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر من المشهورين بذلك.
__________
1 الثعالبي، ثمار "141".
2 الثعالبي، ثمار "141".
3 الإصابة "1/ 451 وما بعدها"، "2298".
4 اللسان "12/ 439"، "غلم"، تاج العروس "9/ 4"، "غلم".
5 اللسان "10/ 171"، "شبق"، تاج العروس "6/ 390"، "شبق".
6 الثعالبي، ثمار "142".
7 تاج العروس "4/ 78"، "لغز".
8 تاج العروس "3/ 347"، "زير".(8/223)
ويقال لمن لا يأتي النساء عجزًا أو لا يريدهن" العنين". كما يقال للمرأة التي لا تريد الرجال ولا تشتهيهم "العنينة" على بعض الآراء1. ويقال امرأة مساحقة. وامرأة سحاقة، لمن تشتهي النساء. ويقال إنها لفظة مولدة2.
وقد عرف "التبتل" عند بعض الجاهليين، ممن تأثر بآراء الرهبان. ويراد به ترك النكاح والزهد فيه، ويكون ذلك للرجال كما يكون للنساء. وتعرف المرأة المنقطعة عن الرجال ب" البتول". وقد نهى الرسول "عثمان بن مظعون" عن التبتل. وورد في الحديث: "لا رهبانية ولا تبتل في الإسلام"3. ويقال لمن لم يأت النساء ولم يتزوج "الصارور". و"الصارورة"، المتبتلة، فلم تتزوج ولم تتصل برجل. ومن ذلك: "لا صرورة في الإسلام"4. و "الصرورة" عند الجاهليين أرفع الناس في مراتب العبادة، وقد أطلقت على الراهب المتعبد، كما جاء في شعر "ربيعة بن مقروم" الضبي، من مخضرمي الجاهلية والإسلام:
لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متبتل
لدنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولهمَّ من تاموره بتنزل5
وقد عيب العازف عن اللهو والنساء، والذي لا يطرب للهو ويبعد عنه. ولا يقرب النساء، ولا يحدثهن ولا يلهو. فإن مثل هذا الرجل هو كالحجر الصلد الجلمد، وفيه غفلة. ويقال له "العزهاة"6.
__________
1 تاج العروس "9/ 281"، "عن".
2 تاج العروس "6/ 378"، "سحق".
3 تاج العروس "7/ 220"، "بتل"، "رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل"، الإصابة "2/ 457". "رقم 5455".
4 تاج العروس "3/ 331"، "صرر".
5 الحيوان "1/ 347". "هارون".
6 اللسان "13/ 514 وما بعدها"، "عزه".(8/224)
الزواج:
والزواج هو من أهم ملامح الأفراح في حياة الإنسان؛ وهو ما زال وسيبقى من أهم الأفراح في حياته، لما له من علاقة سعيدة به. ولهذا يحتفل الناس به عادة؛ بإقامة المآدب فيه وبدعوة ذوي القرابة والأصداقاء إليها لمشاركة الزوجين أفراحهما.
وقد صنف "روبرتسن سمث" زواج العرب ثلاثة أصناف: زواج يكون في حدود القبيلة فلا يتعداه، ولا يسمح لرجال القبيلة إلا بالزواج من بنات القبيلة نفسها، وهو ما يسمى ب "Endogamous"، وزواج يفرض فيه على الرجل أن يتزوج امرأته من قبيلة أخرى، وهو ما يعرف ب"Exogamous" أي "زواج خارجي". وزواج يجمع الطريقتين المذكورتين، أي الزواج في داخل القبيلة والزواج من خارجها1.
ويظهر من دراسة كل ما ورد في كتب أهل الأخبار وفي كتب التفسير والحديث عن الزواج والطلاق عند الجاهليين أن أهل الجاهلية لم يكونوا يسيرون على سنّة واحدة في عرف الزواج والطلاق، ولكن كانوا يسيرون على أعراف مختلفة اختلفت باختلاف الأماكن وباختلاف الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية واتصالها بالخارج. وقد وردت إلينا مسميات بعض تلك الأنواع، مثل "الخدن" و "المتعة" و "البدل" و "الشغار" و "البعولة" وزواج ذوات الرايات وغير ذلك مما ورد وصفه وشرحه، ولكنه لم ينعت باسم معين.
وأنواع الزواج هذه، ليست خاصة بالجاهليين، وإنما هي معروفة عند غيرهم أيضًا، ولا سيما عند الشعوب السامية، وهي مراحل مر بها جميع البشر، ولا
__________
1 Kinship and Marriage, P., 60.(8/220)
عدد الزوجات:
ومن حق الرجل في الجاهلية أن يتزوج ما يشاء من النساء من غير تحديد ولا(8/224)
حصر. إذ لم تحدد شرائعهم للرجال عدد ما يتزوجونه من نسائهم. فلما جاء الإسلام، حدد العدد وجوَّز للرجل أن تكون له أربع زوجات في وقت واحد، ومنعه من تجاوز العدد في حالة الجمع، بمعنى أنه لا يسمح له أن يجمع بين خمس زوجات أو أكثر من ذلك في وقت واحد بشرط العدالة بينهن، فإن خاف الزوج ألا يعدل بينهن فواحدة.
ويذكر أهل الأخبار أن أهل الحرم أول من اتخذ الضرائر1، والضرائر زوجات الرجل الواحد، وكل منها ضرة للأخرى.
والغاية الأولى من الزواج هي النسل، لذلك قالت العرب: من لا يلد لا وُلد2. وكرهت العاقر وعدتها شؤمًا. واتخذ العقر من الأسباب الشرعية للطلاق، إذ كان الرجل يأبى البقاء مع امرأة لا تلد. لذلك كان يطلقها في الغالب، لانتفاء الفائدة منها مع إنفاقه عليها، أو يتزوج عليها ليكون له عقب، وعندهم أن المرأة القبيحة الولود، خير من الحسناء العاقر، وأن "سوداء ولودًا خير من حسناء عاقر"3. وليست هذه العادة من عادات العرب وحدهم ولكن يشاركهم فيها أكثر الشعوب الأخرى، ومنها الشعوب السامية.
ولسادات القبائل والأشراف والملوك غرض آخر من الزواج، هو غرض كسب الألفة واجتذاب البعداء، والنصرة، حتى يرجع المنافر مواليًا، ويصير العدو مؤالفًا، فهو زواج "سياسي". يتزوج الملك أو سيد قبيلة ابنة سيد قبيلة أخرى، فيشد بزواجه هذا من أزر ملكه أو من قوة قبيلته. لا سيما إذا كانت البنت من قبيلة كبيرة. وقد عمل بهذا الزواج كثيرًا في الجاهلية، كما عمل به في الإسلام. فقد استفاد معاوية كثيرًا من زواجه من قبيلة "كلب"، إذ ساعدته وأيدته. وروعي هذا الزواج في المواضع التي تغلبت عليها الحياة القبلية بصورة خاصة للتغلب على طباع البداوة، القائمة على النفرة من الخضوع لحكم حاكم غريب عنها. وبهذا الزواج تخف هذه النفرة، فتشعر القبيلة أنها من أصهار هذا الحاكم، وعليها واجب مساعدته بحكم عصبية المصاهرة.
__________
1 اللسان "12/ 121". "حرم".
2 بلوغ الأرب "2/ 9".
3 بلوغ الأرب "2/ 10".(8/225)
وكثرة الإخوة عزة، فمن كثرت إخوته استظهر بهم. فلا يتمكن أحد من النيل منه بسوء، ولا من ابتزاز حق من حقوقه، ولا من الاعتداء عليه1.
وحظ الرجل العقيم خير من حظ المرأة العاقر. فهو يتزوج عدة زوجات فإن لم يلدن منه، آمن عندئذ بعقمه. أما المرأة، فتبقى قانعة راضية في بيت الزوجية، إن أراد زوجها ذلك، لأن من الصعب عليها الحصول على زوج آخر إن طلقت، إذ كان الرجال يفضلون الأبكار على المطلقات، وإذا طلقت المرأة العاقر، بقيت بين أهلها من غير زواج في الغالب.
ويرغب العرب في التزوج بالأبكار، ويفضلون الأبكار الصغار على الأبكار الكبار، والبكارة من الشروط التي يجب توافرها في الزواج، وإذا تبين أن البنت ليست بكرًا، عُدّ ذلك نكبة2 وعير أهلها بها، ولذلك يكون مصيرها القتل تخلصًا من عارها. أما الزواج بالثيب، فلا يشترط فيه البكارة لأن المرأة كانت قد تزوجت من قبل، ثم طلقها زوجها أو مات عنها، فهي مما لا يتوافر فيها شروط البكارة، وهو زواج يعزف عنه الشباب ويعير به من يقدم عليه، إذ يتهم بالوهن الجنسي وبالطمع في مال الزوجة، فليس يجمل بالشاب أن يتزوج امرأة أعطت بكارتها غيره. ومن صارت ثيبًا من النساء، صار نصيبها الثيب من الرجال في الغالب، وإن كانت لا تزال شابة صغيرة السن.
ويكره العرب الجمال البارع، لما يحدث عنه من شدة الإدلال، ومن الخوف من محنة الرغبة وبلوى المنازعة وشدة الصبوة وسوء عواقب الفتنة، لكنهم كانوا يراعون حسن الصورة وجمال الجسم وتناسق أعضائه. ولهم صفات ونعوت ذكروا أنها تمثل جمال المرأة، تختلف باختلاف الأذواق3، كما أن لهم رأيًا في محاسن أخلاق المرأة وفي الخصال التي يجب أن تتحلى بها في معاشرة زوجها وفي العناية ببيتها وفي تربية أولادها4. من ذلك أن تكون حريصة على إرضاء زوجها وخدمة أولادها والعناية ببيتها.
__________
1 الثعالبي، ثمار "143".
2 تاج العروس "3/ 56 وما بعدها"، "بكر".
3 بلوغ الأرب "2/ 13 وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "2/ 14 وما بعدها"، عيون الأخبار "4/ 1 وما بعدها".(8/226)
وللعرب نعوت رأوا أنها إن وجدت في المرأة عابتها، منها أن تكون بذيئة اللسان، نمامة كذوبة، عابسة قطوبًا، كثيرة الانتباه والتدخل، طويلة مهزولة، ظاهرة العيوب، سبابة وثوبة إن ائتمنها زوجها خانته، وإن لان لها أهانته، وإن أرضاها أغضبته، وإن أطاعها عصته، إلى غير ذلك من نعوت رووها عن الجاهليين في ذم المرأة المتخلقة بها1. وقد نعتت المرأة التي تلبس درعها مقلوبًا، وتكحل إحدى عينيها وتدع الأخرى ب "القرثع"، وهي المرأة الجريئة القليلة الحياء البذيئة الفاحشة2.
ويرغب العرب في الزواج بالنساء الشقراوات البيض، ورد أن بعض العرب قالوا الملوك: هل لكم في النساء الزهر، والخيل الشقر، والنوق الحمر3.
والعادة أن أمر الزواج بيد الأبوين، وليس للبنت معارضة وليّها الشرعي في الزواج، غير أن بعض بنات الأسر الشريفة لم يكنّ يقبلن بالزواج بأحد إلا بموافقتهن، فإلى البنت يكون حق قبول الزوج أو رفضه4. كما اشترطت بعض النسوة أنهن إن أصبحن عند زوجهن، كان أمرهن إليهن، إن شئن أقمن معهم، وإن شئن تركنهم، أي أن حق الطلاق بيدهن. وذلك لشرفهن وقدرهن. ومن هؤلاء "سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش"، وهي أم عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، و "فاطمة بنت الخرشب الأنمارية"، وهي أم الكَمَلة من بني عبس، وهم: الربيع الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحفاظ، وأنس الفوارس، بنو زياد5.
ومنهن "عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة"، وهي أم هاشم، وعبد شمس، والمطلب بني عبد مناف. و "السوا بنت
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 22 وما بعدها".
2 عيون الأخبار "4/ 3".
3 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 342".
4 ابن سعد، طبقات ج1 قسم 1 ص41، ابن هشام، سيرة "1/ 148"، القالي أمالي "1/ 198".
5 المحبر "398".(8/227)
الأعيس" من عنزة، وكانت تحت خالد بن جعفر بن كلاب1. و "مارية بنت الجعيد بن صنبرة بن الديل بن شن بن أفصى" من لكيز2.
وقد اشتهرت "أم خارجة" وهي "عمرة بنت سعد بن عبد الله بن قداد بن ثعلبة بن معاوية بن زيد بن الغوث بن أنمار" من بجيلة بأنها كانت قد اشترطت أن يكون طلاقها بيدها، فكانت كما يقول أهل الأخبار تتزوج وتطلق. وقد أكثرت من الولد في العرب، وبها ضرب المثل فقيل: "أسرع من نكاح أم خارجة"3. كان يقال لها: خطب، فتقول: نكح وخارجة ابنها، ولا يعلم ممن هو4. وولدت ل "بكر بن عبد مناة": الليث والدُّول، وعُريجًا، وهي أم العنبر، والهجيم، وأُسيد. وولدت أيضًا في "بني القين" من اليمن، قوم يقال لهم: بنو الحرة، وولدت في بهراء5. وللعداوات بين القبائل أثر بليغ في اختلاق أمثال هذا القصص، كما لا يخفى.
وذكر أهل الأخبار أسماء نساء تزوجن ثلاثة أزواج فصاعدًا. منهن "مارية بنت الجعيد"، ذكر "ابن حبيب" أنها تزوجت من عشرة رجال. ونسوة أخر ذكر أسماءهن "محمد بن حبيب"6.
__________
1 المحبر "399".
2 المحبر "398".
3 المحبر "398، "وهي أم خارجة بنت قراد"، الدينوري، "المعارف"، "ص609".
4 تاج العروس "2/ 29"، "خرج".
5 الدينوري، المعارف "609 وما بعدها".
6 المحبر "435"، "أسماء من تزوج ثلاثة أزواج فصاعدًا من النساء".(8/228)
تخفيف غلمة النساء:
وقد أمر بعض الجاهليين بختان النساء للحدّ من طغيان الشهوة، فإن البظراء تجد من اللذة ما لا تجده المختونة، وفي حديث: يا ابن مقطعة البظور. دعاه بذلك، لأن أمه كانت تختن النساء. والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم،(8/228)
وإن لم تكن أم من يقال له هذا خاتنة1. وذكر أن الرسول قال لأم عطية الخاتنة: "أشميه ولا تنهكيه، فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند البعل". كأنه أراد أنه ينقص من شهوتها بقدر ما يردها إلى الاعتدال، فإن شهوتها إذا قلت ذهب التمتع، ونقص حب الأزواج، وحب الزوج قيد دون الفجور2.
وذكر أن العرب اتخذت بعض الطرق لتضييق فرج المرأة، من ذلك استعمال عجم الزبيب. وذكروا أن نساء ثقيف فعلن ذلك، ويظهر أن أعداء ثقيف أيام الحجاج قد أشاعوا قصصًا من هذا النوع نكاية به. ويقال لذلك التفريب3 والتفريم4.
__________
1 تاج العروس "3/ 52"، "بظر"، وهو حديث مناقض لما عرف عن الرسول من عدم النطق بمثل هذا الجهر. وفي تاج العروس أحاديث ضعيفة أو موضوعة ذكرها من غير روية ولا تثبت.
2 الثعالبي، ثمار "1/ 303".
3 "فربت المرأة تفريبا"، "ضيقت فلهمها، أي فرجها بالأدوية، وهي عجم الزبيب وما أشبه ذلك"، تاج العروس "1/ 417"، "فرّب".
4 الفرام: ككتاب.... دواء تتضيق به المرأة قبلها، فهي فرماء ومستفرمة، وقد استفرمت، إذا احتشت بحب الزبيب ونحوه"، تاج العروس "9/ 11"، "فرم".(8/229)
حق التقدم في الزواج:
ويقدم ابن العم على غيره في الزواج، فإذا جاء رجل يريد خطبة ابنة رجل، سئل ابن عمها إن كان لها ابن عم عن رأيه في بنت عمه، فإن أظهر رغبته في الاقتران بها قدم على غيره، وزوّجت منه، وإن أظهر أنه غير راغب فيها زوجت من غيره. ذلك لأن ابن العم مقدم على كل أحد في الزواج من ابنة العم، وقد يأبى ابن العم من تزويج ابنة عمه من غيره ويصر على أن تكون له. ولكنه يأبى أن يحدد موعدًا للزواج منها، ويتركها أمدًا طويلا تنتظر حتى يرى رأيه، وقد تأبى ابنة العم الزواج من ابن عمها، ويأبى ابن عمها إلا الزواج منها، فتنشأ من ذلك منازعات وخصومات قد تصل إلى إراقة الدم.(8/229)
ومع وجود عرف أن القريب أولى بالبنت من البعيد، فإن العرب تراعي في الغالب إنكاح البعداء والأجانب. يرون أن ذلك أنجب للولد وأبهى للخلقة، وأحفظ لقوة النسل؛ لأن إنكاح الأهل والأقارب يضر بالمولود ويسمه بالضعف والهزل، ويزعمون أن تقارب الأنساب مدح في الإبل، لأنه إنما يكون في الكرائم يحمل بعضها على بعض حفظًًا لنوعها، وذم للناس لأنه فيهم سبّب الضعف. وبهذا المعنى ورد الحديث: "اغتربوا ولا تضووا" أي أن تزوج القرائب يوقع الضوى في الولد، والضوى: الضعف والهزال1. وقد أوصى "حصن بن حذيفة بن بدر" قومه أن "ينكحوا الكفء الدريب، فإنه عز حادث"2. وقال "عمر" مخاطبًا آل السائب: "يا بني السائب، إنكم قد أضويتم، فانكحوا في النزائع". أي تزوجوا في البعاد الأنساب، لا في الأقارب، لئلا تضوى أولادكم. والنزائع جمع نزيعة، وهي المرأة التي تزوج في غير عشيرتها. وأضوى: ولد له ولد ضاو أي ضعيف3.
وروي أن رجلًا قال: بنات العم أصبر والغرائب أنجب، وما ضرب رءوس الأبطال كابن أعجمية4. وقد أدركوا أثر العرق في الولد. قال رجل: لا أتزوج امرأة حتى أنظر إلى ولدي منها، قيل له: كيف ذلك؟ قال: أنظر إلى أبيها وأمها، فإنها تجر بأحدهما5. وقال بعض الشعراء:
إذا كنت تبغي أيّمًا بجهالة ... من الناس فانظر من أبوها وخالها
فإنهما منها كما هي منهما ... كقدّك نعلًا إن أريد مثالها
فإن الذي ترجو من المال عندها ... سيأتي عليه شؤمها وخبالها6
ويراعى التكافؤ في الزواج، فالأشراف لا يتزوجون إلا من طبقة مكافئة لهم، والسواد لا يتجاسرون على خطبة ابنة سيد قبيلة أو ابنة أحد الوجهاء، ويعير السيد الشريف إن تزوج بنتًا من سواد الناس، ولا سيما إذا كانت ابنة
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 10".
2 أمالي المرتضى "1/ 531".
3 الدينوري، عيون "4/ 3".
4 عيون الأخبار "4/ 3".
5 عيون الأخبار "4/ 3".
6 عيون الأخبار "ص6".(8/230)
صائغ أو نجار أو ابنة رجل يشتغل بحرفة من الحرف اليدوية لأنها من حرف العبيد. وقد عيّر "النعمان بن المنذر" بأمه، لأنها كانت ابنة يهودي صائغ، على ما يزعمه أهل الأخبار. ولم يكن من المستساغ عرفًا تزويج ابنة رجل حر من عبد مملوك أو مفكوك الرقبة، ولم يكن من الممكن تزويج البنت الأصيلة الحرة من ابن عبد أو من حفيد عبد، أو من حفيد حفيد عبد، وهكذا لأن سمة العبودية والضعة تلازم الأسر، وإن تحررت وحسن حالها وصارت غنية، وما زال هذا العرف قائمًا في جزيرة العرب.
ويقدم العرب البيت على الجمال. فللبيت أثر في أخلاق المرأة وفي نجابة الأولاد، وهو أثر دائم. والجمال صورة زائلة. فكانوا يهتمون بالبيت المنجب، ليكون النسل نجيبًا صحيح البنية والعقل1 لقد علمتهم الطبيعة، وتبين من تجارب الحياة أن لبيت البنت أثرًا كبيرًا في مستقبل الأسرة وفي نجابة الأولاد وصحة أجسامهم وسلامتهم من المرض. لذلك فضلوا أصالة البيت على جمال المرأة. لما للأصالة من أثر في الوراثة التي تنتقل من الأبوين إلى الأولاد. ونجد هذا المسلك عند غير العرب من الساميين أيضًا، ورد في التلمود: "لا تحفل بجمال المرأة. وانظر إلى أسرتها"2. وروي أن رجلا شاور حكيمًا في التزوج، فقال له: افعل، وإياك والجمال الفائق، فإنه مرعى أنيق. فقال: ما نهيتني إلا عما أطلب، فقال: أما سمعت قول القائل:
ولن تصادف مرعى ممرعًا أبدًا ... إلا وجدت به آثار منتجع3
وورد في الحديث: "إياكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء"4. فللمنبت شأن كبير في الزواج وفي أخلاق الولد، فلا قيمة للمرأة الحسناء إذا كانت من بيت سوء.
__________
1
إذا تزوجت فكن حاذقا ... اسأل عن الغصن وعن منبته
وأول خبث الماء خبث ترابه ... وأول خبث القوم خبث المناكح
"لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء، فإن اللبن يعدي"، المستطرف "2/ 218".
2 Taan IV, 8, Everyman.htm's Talmud, P. 175.
3 عيون الأخبار "4/ 9".
4 ثمار القلوب "1/ 302 وما بعدها".(8/231)
المناكح الكريمة:
وقد روي عن "أكثم بن صيفي" قوله: "المناكح الكريمة مدراج الشرف"1. ولهذا حرصوا على تطبيق قاعدة التكافؤ في الزواج، واختيار كرائم البنات لكرائم الرجال. وروي أن جملة ما أوصى به "الحارث بن كعب" سيد مذحج قومه أن "تزوجوا الأكفاء، وليستعملن في طيبهن الماء، وتجنبوا الحمقاء. فإن ولدها إلى أفنٍ ما يكون، إلا أنه لا راحة لقاطع القرابة"2.
وقد عرفت هذه القاعدة ب "الكفاءة في النكاح". وهي أن يكون الزوج مساويًا للمرأة في حسبها ودينها ونسبها وبيتها وغير ذلك3.
والمرأة في نظر العرب وعاء للولد. هذه نظرتهم إليها في الجاهلية وفي الإسلام. قال "عروة بن الزبير": "لعن الله فلانة، ألفتُ بني فلان بيضًا طوالاً، فقلبتهم سودًا قصارًا". وفي هذا المعنى جاء في الشعر:
وأول خبث الماء خبث ترابه ... وأول خبث القوم خبث المناكح4
وللأم أثر خطير في الولد. وقد ذكر "الجاحظ" أن العرب تقول: "عرق الخال لا ينام". وإن كثيرًا من العلماء يزعمون أن عرق الخال أنزع من عرق العم. ومن دلائل ذلك تباهي الناس بأخوالهم، واعتبار الخال بمنزلة الوالد. وقول العرب: "لئيم الخال"، واحتماء الأولاد بأخوالهم ولجوؤهم إليهم أكثر من لجوئهم إلى أعمامهم5. ودعوتهم لهم عند العصبية. وقول العرب "العرق دساس" و "عرق الخال".
ولكننا لا نستطيع القطع برأي العرب في موضوع "دس العرق". وفي أن أيًّا هو أكثر أثرًا ووضوحًا في الولد: عرق الخال، أم عرق العم؟ فهناك أمثلة في التأريخ الجاهلي تظهر أن من الجاهليين من كان يقدم العم على الخال،
__________
1 ثمار القلوب "691".
2 أمالي المرتضى "1/ 233".
3 تاج العروس "1/ 108"، "كفأ".
4 عيون الأخبار "4/ 2 وما بعدها".
5 الثعالبي، ثمار "343 وما بعدها".(8/232)
ويرى أن العم مقام الوالد. ولما كان الوالد هو الأصل في النسب عند الجاهليين، وهو الولي وصاحب الحق الشرعي الأول في ولده، يكون هذا الحق في إخواته بعد وفاته. كما أننا نجد أن بعض الأولاد كانوا ينزعون إلى أعمامهم أكثر من نزوعهم إلى أخوالهم. وموضوع نزع العرق عند العرب، اعتباري اصطلاحي بالطبع، يمثل وجهة نظرهم في النسب، ولا يقوم على أسس "بيولوجية" أي من ناحية أثر الدم وانتقال الخصائص الدموية من الوالد، أو من الأم إلى الولد. وهو موضوع علمي، يختلف عن هذه النظرة الاعتبارية، حيث إنه يقوم على الدراسات العلمية، ولا يأخذ بالاعتبارات والآراء المبنية على اعتبارات أهل النسب في خصائص الولد.
والظاهر أن الوئام لم يكن واقعًا دائما بين أبناء العم، إذ نجد أن الخصومات طالما كانت تحدث بينهم. ولعل ذلك بسبب ما ألقاه المجتمع على عاتق العم من تبعات أولاد إخوته حين وفاة الأخ، فإنه يكون بحسب العرف القبلي الوصي الشرعي على أولاد المتوفى، وله حق في إرثه بحسب قانون "العصبة" عند وفاة الأخ عن بنات ومن غير أبناء، أو لطمع الأعمام في أموال اليتامى، إلى غير ذلك من أمور سببت حدوث خصومات أحيانًا بين الأعمام وبين أبناء الإخوة، أو بين أبناء الأعمام. ولعل هذه الخصومات هي التي جعلت "الجاحظ" يتصور أن أبناء العم محسودون1.
ونجد العرب يقولون: "عرق فيه أعمامه وأخواله"2، فقدموا الأعمام على الأخوال، واعترفوا بأثر عرق الاثنين في الولد، من كرم أو لؤم، إذ يكون دس العرق في اللؤم والكرم3.
ولاحظ العرب أن الأبوين قد يلدان ولدًا يكون لونه مغايرًا للونهما، فيحدث نزاعًا بين الرجل وزوجته في هذه الولادة الغريبة، وتتهم المرأة أحيانًَا باتصالها برجل غريب جاء منه هذا المولود، إلا أن منهم من أدرك "دس العرق" في هذه الولادة، واحتمال انتقال هذا اللون من آباء أحد الوالدين. وقد اختصم رجل
__________
1 كتاب فصل ما بين العداوة والحسد، من رسائل الجاحظ "1/ 344".
2 تاج العروس "7/ 10"، "عرق".
3 المصدر نفسه.(8/233)
مع زوجته في مولود ولد له، فجاء إلى رسول الله وقال له: إن امرأتي قد ولدت غلامًا أسود، فقال له الرسول: "لعل عرقا نزعه"1. فاعتقاد العرب أن الولد قد ينزعه عرق من الأب. وفي هذا المعنى أيضا قول "ابن الزبير": "لا يمنعكم من تزوج امرأة قصرها، فإن الطويلة تلد القصير، والقصيرة تلد الطويل، وإياكم والمذكَّرة فإنها لا تنجب"2. والمذكرة المتشبهة بالذكور.
وقد حرص العرب لما تقدم على التزوج في الأسر الصحيحة السالمة من الأمراض والعيوب، ليكون النسل صحيحًا نجيبًا. قال أعرابي لصاحب له: "إذا تزوجت امرأة من العرب فانظر إلى أخوالها، وأعمامها، وإخوتها، فإنها لا تخطئ الشبه بواحد منهم"3.
__________
1 الدميري، حياة الحيوان "1/ 4".
2 عيون الأخبار "4/ 3".
3 الحيوان "3/ 165"، "هارون".(8/234)
لبن الأم:
وللبن الأم شأن كبير عند العرب، لما يتركه من أثر في طبيعة الولد، ولذلك كانوا يرون أن تكون الأم مرضعة الولد، إلا إذا تعذر ذلك لسبب، فترضعه مرضعة قريبة من أهل المولود أو من المرضعات السليمات من المرض، ومن ذوات العرق الطيب. لأن اللبن دساس يؤثر في شاربه.
واهتم العرب باختيار المرضعات. لما يكون للبن الرضاع من أثر في الرضيع، ولما يكون للمرضعة ولبيتها من أثر فيه، كما اهتموا باختيار من يتأبط المولود ويحمله، لتسليته وتلهيته، لما يتركه ذلك من أثر في تربيته وخلقه. وفي حديث عمرو بن العاص: "ما تأبطتني الإماء ولا حملتني البغايا في غبرات المآلي" أراد أنه لم تتول الإماء تربيته. وغبرات المآلي: بقايا خِرَق الحيض1.
وإذا أرادوا مدح إنسان والثناء عليه ذكروا مرضعته وصفاء لبنه الذي رضعه، فقالوا "نعمت المرضعة"، , و "نعمت المرضعة مرضعته". وإذا أرادوا
__________
1 تاج العروس "3/ 436"، "غبر".(8/234)
ذم إنسان قالوا: "بئست المرضعة مرضعته"، كناية عن أنها هي التي أرضعته، فخرج رضيعها على شاكلتها. وفي الحديث حين ذكر الإمارة، فقال: "نعمت المرضعة وبئست الفاطمة"، ضرب المرضعة مثلا للإمارة وما يوصله إلى صاحبها من الأحلاب، يعني المنافع، والفاطمة مثلا لموت الذي يهدم عليه لذاته ويقطع منافعها1.
وتعد الرضاعة بمنزلة الأخوة بين المتراضعين، ويفتخر ويتعزز الواحد منهم بالآخر، خاصة إذا كان من السادات والأشراف، والعرب تقول: "هذا رضعيك"، أي أخوك من الرضاع2، وتقول: "استرضع في بني فلان"3. ويصير كأنه واحد من القوم الذين استرضع فيهم. وتكون المراضع بمنزلة الأم للرضيع.
ويبدأ الزواج برغبة يبديها الرجل لوالديه، أو برغبة من والديه، أو من أحدهما تقدم إلى الولد تطلب إليه أن يتزوج، فإن حصلت الموافقة اختيرت له زوجة، وقد يكون الرجل قد اختار خطيبته وعينها، فإذا وافق أهله خطبوها إلى ولي أمرها، وإذا أبوا فعليه أن يختار أخرى زوجًا له، وإذا أبى أهل البنت عليه ذلك تركها، وقد يصر على الزواج بها، ويصر أهله أو أهلها على رفضهم ذلك، وقد يزداد الرجل أو البنت إصرارًا على الاقتران معًا حتى يتحول ذلك إلى هرب من مكانهما إلى مكان آخر. وقد تقع بغضاء بين أهلي الرجل والبنت من وقوع هذا الزواج.
__________
1 تاج العروس "5/ 356"، "رضع".
2 تاج العروس "5/ 356"، "رضع".
3 المصدر نفسه "ص357".(8/235)
الخطبة:
وإذا استقر الرأي على البنت، يذهب ولي أمر الرجل أو أقرب الناس إليه إلى ولي أمر البنت، كالأب أو الأخ أو العم أو بني عمها أو غيرهم ممن هم أقرب الناس إليها، يخطب البنت بعد أن يكونوا قد مهدوا لذلك وحددوا الصداق.(8/235)
وكان الخاطب إذا دخل بيت أهل البنت حياهم ومن كان حاضرًا بتحية أهل الجاهلية، مثل انعموا صباحًا، أو عموا صباحًا، أو أمثال ذلك، فإذا استقر به المقام، تكلم فيما جاء فيه، كأن يقول: نحن أكفاؤكم ونظراؤكم، فإن زوجتمونا فقد أصبنا رغبة وأصبتمونا وكنا لصهركم حامدين، وإن رددتمونا لعلة نعرفها رجعنا عاذرين. ثم يجيب ولي أمر البنت جوابًا مناسبًا يضمنه الرضى والقبول، وبذلك تكون البنت قد خطبت لذلك الرجل1.
ووصف بعض أهل الأخبار طريقة من طرق الخطبة عند بعض الجاهليين، فقال: كان الرجل في الجاهلية يأتي الحي خاطبًا، فيقوم في ناديهم، فيقول: خطب، أي جئت خاطبًا. فيقال له: بعد الموافقة نكح، أي قد أنكحناك إياها، ومن ذلك ما قدمت من خبر أم خارجة إن صح. وذكر أن "نكحًا" هي كلمة كانت العرب تتزوج بها2.
ويرتدي أهل الخاطب وأهل المخطوبة خير ما عندهم من ملابسهم ويزينون أنفسهم عند مجيء أهل الرجل إلى بيت البنت لخطبتها. وإذا تمت الخطبة ضمخ والد الخطيبة بالعبير وخلِّق بالطيب ونُحر بعير وأكثر على حسب منزلة أهل البنت. والعادة عند العرب أن ينحروا بعيرًا أو شاة في المناسبات المفرحة المبهجة، فلا بد لمثل هذه المناسبات من "ذبيحة" وإسالة دم. ولما خطب النبي "خديجة" وأجابته، استأذنت أباها في أن تتزوجه وهو ثمل، فأذن لها في ذلك، وقال: هو الفحل لا يقرع أنفه. فنحرت بعيرًا، وخلّقت أباها بالبعير، وكسته بردًا أحمر3.
وكان الجاهليون يقولون للإبل تساق في الصداق: النوافج. وكانوا يقولون عند تقديمها: تهنئك النافجة. على أن بعضهم من كان يكره ذلك. وقد بطل هذا القول في الإسلام4.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 3".
2 تاج العروس "1/ 237"، "خطب"، "2/ 243"، "نكح"، المحبر "398".
3 تاج العروس "3/ 118"، "حبر".
4 قال الشاعر:
وليس تلادي من وراثة والدي ... ولا شان مالي مستفاد النوافج
الصاحبي "ص92".(8/236)
وتلبس العروس ثوبًا يجعل له ذيل تسحبه حين تمشي. لأنه يكون طويلا، وقد أشير إليه في شعر لامرئ القيس. إذ قال:
لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر
كما أشير إليه في شعر لخداش بن زهير. إذ قال:
لها ذنب مثل ذيل الهديّ ... إلى جؤجؤٍ أيدِ الزافر1
والهديّ: العروس التي تهدى إلى زوجها.
واستعملت المرأة الغنية المسك والطيب في تطييب جسمها وثيابها. حتى كان المسك يفوح من أردانها. قال قيس بن الخطيم:
وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها2
و"الصداق" هو مهر المرأة، أي ما يدفعه الرجل إلى أهل البنت عند عقد الزواج، ويقال له الصَّدَقة والصَّدُقة والصُّدُقة والصَّداق. وترادف هذه الكلمة كلمة أخرى هي "مهر"، وهي من المصطلحات الجاهلية كذلك3.
وطريقة العرب من جاهليين وإسلاميين في دفع الرجل "المهر" للزوجة، تناقض المألوف عند اليونان والرومان، حيث جرت عادتهم أن تقدم المرأة صداقها إلى زوجها نقودًا أو عينًا. وهي الطريقة المألوفة عند الغربيين حتى الآن. وكان الرومان يستغربون طريقة الجاهليين هذه في دفع المهر4.
ويروي "روبرتسن سمث" أن ترادف معنى "الصداق" و "المهر" إنما حدث في الإسلام. أما في الجاهلية، فقد كان هناك فرق بين مدلول الكلمتين. فإن المراد من كلمة الصداق عند الجاهليين هو ما يقدم إلى العروس. أما المهر، فهو ما يقدم إلى الوالدين5.
__________
1 أمالي المرتضى "2/ 94 وما بعدها".
2 اللسان "13/ 177"، "ردن".
3 اللسان "12/ 65"، النهاية "4/ 122"، جامع الأصول "7/ 579"، عمدة القاري "10/ 136"، تاج العروس "3/ 550"، "مهر".
4 Ency. Religi, 8. P. 447.
5 Kinship. P. 76, Ency, III, P. 137.(8/237)
والرجل إما أن يكون من ذوي قرابة البنت وإما أن يكون من الأباعد، أي غريبًا عنها. فإن كان ذوي قرابتها، قال لها ولي أمرها إذا حملت إليه: أيسرتِ وأذكرتِ ولا أنثت، جعل الله منك عددًا وعزًّا وخلدًا. أحسني خلقك، وأكرمي زوجك، وليكن طيبك الماء ... ومثل ذلك من كلام. وإذا زوّجت في غربة قال لها: لا أيسرتِ، ولا ذكرتِ، فإنك تدنين البعداء، أو تلدين الأعداء. أحسني خلقك، وتحببي إلى أحمائك، فإن لهم عينًا ناظرة إليك، وأذنًا سامعة إليك، وليكن طيبك الماء1.
وإذا كان العرس أولموا وليمة، ودعوا إليها ذوي قرابة الزوجين وأصدقاءهم. وتتناسب الولائم مع مكانة العريس وأهله، للهو، فإن كان غنيًا كانت وليمته ضخمة، وربما دعوا إليها أهل الطرب، وقدموا فيها المأكولات الشهية والخمور. ويقال للوليمة التي تقام "الملاك" ويقال "الإملاك"، ويقال للطعام الذي يقدم في "الإملاك" "الشندخ" لأنه يقدم الدخول. وأما ما يصنع للدخول بالمرأة، فيقال له: "وليمة" و "وليمة العرس"2. وكانوا يعدون ولائم العرس من الأمور اللازمة، ويفعل ذلك حتى الفقير الضعيف الحال. وقد حث الإسلام عليها، فورد في الحديث أن الرسول قال لعبد الرحمن بن عوف: "أولم ولو بشاة"3.
وتزف العروس إلى زوجها، ومعها أصدقاؤها وأهلها: وقد يقترن ذلك بضرب الدفوف والغناء. وقد كان الأنصار يعجبهم اللهو، ولهذا كانوا يهتبلون هذه المناسبات للهو فيها. ومما كان يقال في زف العروس:
أتيناكم أتيناكم ... فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمر ... ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمراء ... ما سمنت عذاريكم4
ويقال لليلة التي تزف فيها العروس إلى زوجها ليلة الزفاف. ويعرف موكب
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 3".
2 بلوغ الأرب "1/ 386".
3 البخلاء "246"، المخصص "4/ 120".
4 إرشاد الساري "8/ 67".(8/238)
الزفاف وب "الزفة" ويزف "العروس" إلى بيته أيضًا، فقد كان من عادة ذوي القرابة والأصدقاء إقامة وليمة له، إذا انتهت رافق المدعوون العريس إلى بيته في موكب يغنى فيه ويضرب بالدفوف. وقد يبقى المدعوون إلى الصباح؛ حيث يحيون ليلتهم، وهي ليلة العرس، بالشرب والغناء واللعب.
وتخلّق العروس بالعبير وبأنواع الطيب بحسب سعة حالها وأحوال أهلها المعاشية. وذكر أن "العبير" الزعفران وحده عند أهل الجاهلية. وذكر أنه أخلاط من الطيب يجمع بالزعفران، وورد أن العبير غير الزعفران. وقد اشتهر رداء العروس بطيب رائحته، لما فيه من العبير. قال الأعشى:
وتبرد برد رداء العرو ... س في الصيف رقرقت فيه العبيرا1
وتزف العروس إلى زوجها ليلا: تزف على قدر حال العروسين، وقد تزف في النهار، ويرافق العروس "موكب" موكب من نساء ورجال على الإبل المزينة يسير والنيران بين يدي العروس. وقد توضع الأنماط على هودج العروس وفي بيتها. وقد منع استعمال النيران في الإسلام؛ لما في ذلك من التشبه بالمشركين، كما نهي عن استعمال أنماط الحرير2.
وقد تزف العروس في محفة يقال لها "المزفة"، ومعها أصحاب "الزفة". وذكر أن "الزفة"، الزمرة. ومنه الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم، قال لبلال حين صنع طعاما في تزويج فاطمة، رضي الله عنها: "أدخل الناس عليّ زفةً زفةً" أي: فوجًا بعد فوج؛ وطائفة بعد طائفة3.
وفي المثل: "لا عطر بعد عروس" أول من قال ذلك امرأة اسمها: أسماء بنت عبد الله العذرية، واسم زوجها -وكان من بني عمها- "عروس". ثم مات عنها، فتزوجها رجل من قومها أعسر أبخر بخيل دميم، يقال له "نوفل". فلما أراد أن يظعن بها، قالت: لو أذنت لي، رثيت ابن عمّي، وبكيت عند رمسه؟ فقال: افعلي. فقالت: أبكيك يا عرس الأعراس،
__________
1 تاج العروس "3/ 377"، "عبر"، اللسان "4/ 531"، "عبر".
2 عمدة القارئ "20/ 148، 158".
3 تاج العروس "6/ 128 وما بعدها"، "زفف".(8/239)
يا ثعلبًا في أهله، وأسدًا عند الباس، مع أشياء ليس يعلمها الناس! فقال: وما تلك الأشياء؟ فقالت: كان من الهمة غير نَعّاس، ويعمل السيف صبيحات الباس. ثم قالت: يا عروس الأغر الأزهر، الطيب الخيم، الكريم المحضر، مع أشياء لا تذكر! فقال: وما تلك الأشياء؟ قالت: كان عيوفًا للخنا والمنكر، طيب النهكة غير أبخر، أيسر غير أعسر. فعرف الرجل أنها تعرّض به. فلما رحل بها، قال: ضمّي عطرك. وقد نظر إلى قشوة عطرها مطروحة. فقالت: "لا عطر بعد عروس" فذهبت مثلًا. أو "لا مخبأ لعطر بعد عروس"1.
وتحمل العروس معها أدوات زينتها وموادها الأخرى تضعها في قشوة: قفة من خوص يجعل فيها مواضعها للقوارير بحواجز بينها لعطر المرأة وقطنها، قال الشاعر:
لها قشوة فيها ملابٌ وزنبق ... إذا عزبٌ أسرى إليها تطيبا2
ويقال للبنت العذراء التي لم تفتض "البكر"3. ويقال ذلك للرجل الذي لم يقرب امرأة بعد4. وزوجها الأول هو الذي يفتض بكارتها. وإذ كانت لسلامة بكارة البنت مكانة عند العرب، كانوا يعرضون دم البكارة على الأقارب، ليكون شهادة على سلامة بكارتها. ويكنى عن البكارة والبنت البكر ب "بنت سعد"5.
والزواج حادث مهم في حياة الإنسان، ولذلك يعلن عنه بفرح وسرور، ويقال لذلك "بشاشة العرس"6. يعلن عنه بدعوة "وليمة" تولم لذوي القربى والأحباء والجيران والأصدقاء، تقترن بالغناء وبالضرب على الدفوف أحيانًا، وبارتداء ملابس نظيفة مناسبة، أو ملابس مصبوغة بصفرة، والصفرة عند أهل
__________
1 تاج العروس "4/ 188"، "عرس".
2 تاج العروس "10/ 294"، "قشا".
3 بالكسر.
4 تاج العروس "3/ 57"، "بكر".
5 تاج العروس "2/ 379"، "سعد".
6 عمدة القاري "20/ 138 وما بعدها".(8/240)
الحجاز في ذلك العهد علامة العرس والفرح والسرور، كما كانوا يصبغون أيديهم ولحاهم بالزعفران، ويكحلون عيونهم، والكحل عندهم من الزينة أيضا1. ويقال للطعام يصنع لعرس: "الوليمة". وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى أن اسم الوليمة مختص بطعام العرس. وقد حث الإسلام عليها. ورد في الحديث قوله لعبد الرحمن بن عوف: "أولم ولو بشاة"2.
ويقابل الزوج على تفضله بالدعوة إلى الوليمة بكلمات فيها خير وشكر وتمنيات للحياة الزوجية الجديدة، ويقال له عند الانتهاء والانصراف: على الطائر الميمون، وبالرفاه والبنين. وقد كره في الإسلام القول: بالرفاه والبنين لأنه من أقوال الجاهلية، ولما فيه من الإشارة إلى بغض البنات، لتخصيص البنين بالذكور3، وإحياء سنن الجاهلية4.
__________
1 عمدة القاري "20/ 143 وما بعدها"، "22/ 22".
2 تاج العروس "9/ 96"، "أولم".
3 عمدة القاري "20/ 145 وما بعدها".
4 اللسان "1/ 81"، "رفأ"، تاج العروس "1/ 71"، "رفأ".(8/241)
المال والبنون:
وإذا ولد مولود ذكر، سُرَّ أهله بميلاده. والعرب مثل غيرهم من الشعوب القديمة كانوا يفرحون بميلاد ولد ذكر، ويغتمون إذا ولدت لهم أنثى، ويقيمون وليمة لميلاده، وكثرة البنين من المفاخر التي يفتخر بها أهل الجاهلية. إن كثرتهم نعمة وعزة. والبنون والمال زينة الحياة الدنيا. بالبنين يدافع الرجل عن نفسه وعن بيته، وبهم ينال المال والحق والأخذ بالثأر، فهم الحماية ورأس المال. ونقرأ في أهل الأخبار افتخار الآباء والأمهات بكثرة ما أنجبوا من أولاد، ولا سيما إذا كان الأولاد حازوا شهرة بالجود أو بالشجاعة أو بأمثال ذلك، أو سادوا قومهم ورأسوهم. ورد في القرآن: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1. صحيح أن إعالتهم مسألة صعبة عسيرة، ولا سيما إعالة الفقراء أولادهم، غير أن الحياة الاجتماعية في ذلك العهد لم تكن على مستوى عال من المعيشة تطلب مالًا
__________
1 "الكهف"، الآية 46.(8/241)
يضمن الوالد به عيش أولاده، إنما كانت المعيشة سهلة لا تتطلب حاجات كثيرة، ولم تكن بالناس حاجة شديدة إلى النقود، فما يقوم به المرء من مجهود بدني هو أصيلة1 كل إنسان، وبه يعيش، وبه يحصل على ما يحتاج إليه من وسائل معيشة محدودة. فإذا كثر الأولاد، ازادادت وسائل المعيشة، وعاش الوالد عيشة ناعمة طيبة، وحصل بفضلهم على قوة ومنعة.
وقد ذكر أهل الأخبار عددًا من الرجال عرفوا ببنين حصلوا على شهرة وذكر، فكانوا يفتخرون بهم بين الناس. من هؤلاء "سعد العشيرة"، قيل له "سعد العشيرة" لأنه كان يركب في عشرة من أولاده الذكور، فكأنه منهم في عشيرة، فصار مثلًا للرجل يستكثر بأبنائه وعشيرته ويتعزز بهم2. و "الحارث بن سدوس". وكان له واحد وعشرون ولدًا ذكرًا3.
ويكون الذكور فخرًا للأمهات وقوة لهن، ويقال للمرأة التي تلد الأولاد الكرماء الأشراف منجبة ومنجاب. "ولم تكن العرب تعد منجبة من لها أقل من ثلاثة بنين أشراف"4. وتعرف ب "أم البنين" كذلك. ومنهن "أم البنين بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة"، و "عمرو بن عامر" هو "فارس". ولدت "أبا براء" ملاعب الأسنة، و "طفيلا" فارس قرزل و "ربيعة" ربيع المقترين، و "معاوية" معوذ الحكماء، "سلمى" تزال المضيق، بني مالك بن جعفر بن كلاب5.
وقد أشار القرآن الكريم إلى نفرة العرب من البنات، وما كان يصاب به الرجل من ضيق صدر ومن همّ إذا بلّغ أن مولوده أنثى، قال تعالى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} 6. ويزداد كربه إذا زاد عدد بناته، وقد يعمدون إلى "الوأد"، أي دفنهن أحياء للتخلص منهن.
__________
1 الأصيلة: رأس المال.
2 ثمار القلوب "104".
3 ثمار القلوب "142".
4 المحبر "ص455"، تاج العروس "1/ 477"، "نجب".
5 المحبر "458"، تاج العروس "3/ 423"، "عمر".
6 "النحل"، الآية 58.(8/242)
قيل: "إنهم كانوا يقتلونهن خوف العار"1. وإلى ذلك أشار القرآن الكريم: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} 2، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} 3.
وقد افتخرت "بنو عبس" ب "زهير بن جذيمة بن رواحة" العبسي، لأنه كان أبا عشرة، وعم عشرة، وأخا عشرة، وخال عشرة، ورأس غطفان كلها في الجاهلية ولم يجمع على أحد قبله4. فكثرة البنين من موجبات الفخر والاعتزاز والتباهي عند الجاهليين.
__________
1 المستطرف "2/ 77".
2 "الإسراء، الآية 31.
3 "الأنعام، الآية 151.
4 الإصابة "3/ 266 وما بعدها"، "رقم 7352".(8/243)
العقيقة:
وإذا كانت نهاية الإنسان عند الجاهليين مقترنة بالدم، فإن مبدأ حياته مقترن عندهم بالدم كذلك. لقد كان عادتهم ذبح شاة عند ميلاد مولود وتلطيخ شيء من دمها برأس المولود، ويقال لهذه الذبيحة "العقيقة"، وهي كلمة جاهلية وردت في الشعر الجاهلي1. وتذبح عادة في اليوم السابع من ميلاد المولود2. وقد أقر الإسلام ذلك، فوردت الكلمة في الحديث. ويذكر علماء اللغة أن معنى العقيقة هو شعر كل مولود يخرج على رأسه في بطن أمه، وأنه قيل للشاة المذبوحة لذبحها عند الاحتفال بحلق هذا الشعر. وقد كانوا يعيرون من لم تحلق عقيقته، إذ يرون في ذلك منقصة لا تليق بالرجل الكامل3.
ويستقبل المولود بدلك حنكه بالتمر الممضوغ، أو الحلو مثل عسل النحل،
__________
1 تاج العروس "7/ 15"، اللسان "12/ 129".
2 فهارس البخاري "ص333".
3 في شعر منسوب إلى امرئ القيس:
يا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا
تاج العروس "7/ 15"، البخاري "كتاب العقيقة" حديث "1"، عمدة القاري "31/ 82".(8/243)
وكل ما لم تمسه نار من الحلو1. وكان العبرانيون يفركون المولود بالملح. واستقبال المواليد بمثل هذه الأمور من العادات الشائعة عند كثير من الأمم القديمة، وهي عادات وشعائر دينية أيضًا. فإن الشعوب القديمة لم تكن تفرق كثيرًا بين العادات والشعائر بخلاف الحال في الزمن الحاضر2. ولاستقبال المولود بدلك جسمه بالحلو أو بالملح أو بما شابه ذلك، معنى التفاؤل. فالحلو رمز السعادة والفرح. وأما الملح، فإنه عنصر مهم من عناصر الحياة عند الأمم القديمة. والخبز والملح هما رمز الصداقة والمودة حتى اليوم.
ويسلى الأطفال بإعطائهم العرائس والتماثيل الصغيرة يلعبون بها ويقضون وقتهم بالتسلي بها وبمكالمتها على نحو ما يفعل أطفال اليوم. كما يتسلون باللعب معًا بألعاب خاصة بالصبيان.
__________
1 عمدة القاري "21/ 83"، اللسان "12/ 298"، "حنك".
2 Reste, S. 173.(8/244)
الختان:
ويعد الختان من العادات الجاهلية القديمة، والعرب في ذلك كالعبرانيين. وهو أمر لم يرد ذكره في القرآن إنما ورد ذكره في الحديث، وترجع الكلمة إلى أصل سامي شمالي قديم3. والختان في الأصل نوع من أنواع العبادة الدموية التي كان يقدمها الإنسان إلى أربابه، وتعدّ أهم جزء من العبادات في الديانات القديمة4. فقطع جزء من البدن وإسالة الدم منه، تضحية ذات شأن خطير في عرف أناس ذلك العهد، كما كان حلق الشعر كله أو جزء منه نوعًا من أنواع التقرب إلى الآلهة5. والختان في الإسلام معدود من سنن الفطرة التي ابتلى اللهُ إبراهيمَ بها؛ وهي الكلمات العشر. وفي جملتها الختان6.
وقد كان الجاهليون يسمون من لم يختتن: أقلف وأغلف وأغرل، ويعيبونه،
__________
1 Shorter Ency, P. 254, Ancient Israel. PP. 46.
2 Reste, S.
3 Smith, P. 328.
4 بلوغ الأرب "2/ 287"، الحيوان "7/ 27"، "هارون".(8/244)
ويعدّونه ناقصًا1. وذكر انتشار هذه العادة عند العرب بعض الكتبة "الكلاسيكيين" مثل: "يوسفوس" المؤرخ اليهودي و "أويسبيوس" و ""سوزومينوس" "Sozomenius"2 ويظهر أنه كان معروفًا عند العرب الجنوبيين وعند الحبشة كذلك3. وقد طبق على النوعين الذكور والإناث. وكانت العرب تزعم أن الغلام إذا ولد في القمراء قسحت قلفته فصار كالمختون؛ قال امرؤ القيس وقد كان دخل مع قيصر الحمام فرآه أقلف، على ما يزعمه أهل الأخبار:
إني حلفت يمينًا غير كاذبة ... لأنت أقلف إلا ما جنى القمر4
وذكر "يوسفوس" أن العرب يختنون أولادهم عند بلوغهم عشرة من سنهم5. ومن الضعف قبول خبره، ويظهر من موارد أخرى أن الجاهليين لم يعينوا عمرًا معينًا للاختتان6 وأحسب أن هذا الكاتب اعتمد على ما جاء في التوراة عن اختتان إسماعيل وهو في الثالثة عشر من عمره، أو أنه اعتمد على ما سمعه من بعض القبائل الإسماعيلية الساكنة في المناطق الشمالية الغربية من جزيرة العرب، فظن أن الاختتان عند جميع العرب هو هذه السن.
وقد ورد في بعض الأخبار أن الروم حاولوا منع العرب من الاختتان7.
والاختتان من المناسبات المفرحة المبهجة في حياة الأسرة، لهذا كان من عادة العرب يدعون ذوي القرابة والأصدقاء إلى الولائم ويلبسون الأطفال أحسن ما عندهم من لباس ابتهاجًا وفرحًا بذلك.
__________
1 Reste, S. 174.
2 Josephus, Anti, I, XII, 2, Eusep, VI, II,
3 Ency. Religi, 3, P. 679.
4 تاج العروس "6/ 226"، "قلف". Sozomen, Hist. Ecci, VI, 38.
5 Josephus, Antiq, XX, II, 4.
6 Ency. Religi, 3, P. 679.
7 Ancient Israel, P. 47.(8/245)
الرجولة:
وإذا بلغ الطفل، صار رجلًَا، وجاز له حينئذ أن يفعل فعل الرجال.(8/245)
واحتفل أهله بذلك عند الصنم "Oratal"، الذي يقابل الإله "باخوس" "Bacchus" عند اليونان، ويبلغ الاحتفال غايته عند قص الضفائر ورميها أمامه، لأن ذلك معناه عندهم دخول الشاب في مرحلة الرجولة، ودخوله في عبادة هذا الإله1.
والبلوغ إدراك الغلام والجارية. وقد كان أهل مكة إذا بلغت عندهم الجارية أخذوها إلى "دار الندوة" فدرعوها بها، علامة على بلوغها.
ومن أمثال العرب: "ولدك من دمّى عقبيك"2، أي من نفِست به، وصير عقبيك ملطخين بالدم، فهو ابنك حقيقة، لا من أخذته وتبنّيته وهو من غيرك3. والابن الشرعي، من ينسب إلى أبيه بنسب صحيح، وعزي إلى والده. ويقال: إنه لَحَسن العزوة، أي صحيح النسب حسنه4.
والعادة عند أكثر الساميين نسبة الأولاد إلى الآباء. ونجد أكثر أسماء الجاهليين على هذا النحو. وهناك أشخاص عرفوا بأسماء أمهاتهم، وللأخباريين في تفسيرها آراء، الغالب أنهم اشتهروا بأمهاتهم لما كان لأمهاتهم من كفايات وصفات خاصة جعلت لهن صيتًا بعيدًا طغى على اسم الرجال، فنسب أبناؤهم إليهن لهذا السبب تمييزًا عن بقية الأبناء الذين قد يكونون للرجل من زوجة أخرى. ومن هذا القبيل اشتهار "عمرو" ملك الحيرة ب "عمرو بن هند". واشتهار "المنذر"، وهو أحد الملوك ب "المنذر بن ماء السماء" على رأي من جعل "ماء السماء" اسم والدة الملك.
ولم يكن للجاهليين قواعد ثابتة معينة في تسمية المواليد، ففي بعض الروايات أن الأجداد أو الآباء هم الذي كانوا يقومون بتسمية المولود، وفي روايات أخرى ما يفيد قيام المرأة بهذه المهمة. والذي يتبين من غربلة الروايات أن الرجال هم يسمون الأولاد، فيضعون لهم الأسماء. أما تسمية البنات فكانت في الغالب من اختصاص النساء. وقد يثبت اسم المولود ويحدد في اليوم السابع من مولده، أي
__________
1 Hastings, I, P. 283, Herodotus, III, 8.
2 محركة وكسر الكاف فيهما بناء على أنه خطاب للأنثى.
3 تاج العروس "2/ 540"، "ولد".
4 تاج العروس "10/ 241"، "عزا".(8/246)
في يوم "العقيقة". وتذكر كتب السير أن "عبد المطلب" هو الذي سمى الرسول محمدًا، في يوم سابعه، أخذه فدخل به الكعبة، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، وفي هذا اليوم عقّ له على عادة العرب في ذلك العهد. وتذكر أيضا أن قريشًا "قالوا لعبد المطلب ما سميت ابنك هذا؟ قال سمّيته محمدًا"1.
وتختلف التسميات في جزيرة العرب، كما تختلف معانيها، فالأسماء المشهورة عند العرب الجنوبيين والواردة في نصوص المسند لا ترد في قوائم أسماء الجاهليين الذين كانوا يعيشون قبيل الإسلام في نجد والحجاز. وأسماء أكثر ملوك العرب الجنوبيين ولا سيما الذين عاشوا منهم قبل الإسلام هي أسماء مركبة، ولها صلة بالآلهة. أما أسماء الملوك الشماليين فأكثرها مفردة مثل المنذر والنعمان والحارث وعمرو وأمثال ذلك. والأسماء الشمالية المركبة لها صلة بالأصنام، ولكن بأصنام العرب الشماليين، مثل عبد مناة، وعبد العزى، وامرئ القيس، وعبد ودّ. وأما أسماء سواد الناس، فتختلف كذلك في العربية الجنوبية عنها في الشمال، وفي المواضع الأخرى من جزيرة العرب. وقد أحدث الإسلام تغييرًا كبيرًا في الأسماء، فاجتث منها كلّ ما له صلة بالوثنية والأوثان، وجاء بتسميات لم تكن شائعة بين الجاهليين، مثل: محمد وعلي وأمثال ذلك من أسماء لها صلة بالرسول وبالصحابة وبتأريخ الإسلام.
__________
1 الاشتقاق "6"، المواهب "241"، الحلبية "1/ 94 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 106 وما بعدها"، ابن هشام، سيرة "1/ 166 وما بعدها"، تأريخ الإسلام، للذهبي "7/ 23 وما بعدها"، تفسير روح المعاني "4/ 73".(8/247)
ما كان العرب يسمون به أولادهم:
وقد بحث "الجاحظ" في علل التسميات عند العرب وفي أسبابها، فقال: "والعرب إنما كانت تسمّى بكلب، وحمار، وحجر، وجعل، وحنظلة، وقرد، على التفاؤل بذلك. وكان الرجل إذا ولد له ذكر خرج يتعرض لزجر الطير والفأل، فإن سمع إنسانًا يقول حجرًا، أو رأى حجرًا، سمى ابنه به وتفاءل فيه الشدة والصلابة والبقاء والصبر، وأنه يحطم ما بقي: وكذلك إن سمع إنسانًا يقول ذئبًا أو رأى ذئبًا، تأول فيه الفطنة والخبّ والمكر والكسب. وإن(8/247)
كان حمارًا تأول فيه طول العمر والوقاحة والقوة والجلَد. وإن كان كلبًا تأول فيه الحراسة واليقظة وبُعد الصوت والكسب وغير ذلك". وجاء بآراء آخرين على هذه التسميات وعلى آرائهم فيها1.
وتعرض "الجاحظ" إلى أسماء الحيوان التي تسَمّى بها الناس. فذكر منها: غراب، وصُرد، وفاختة، وحمامة، ويمام، ويمامة، وعقاب، وقطامي، وحجل، وصقر، وصقير، وطاووس، وطويس، وحيقطان، والغرانيق، والغرنوق2.
__________
1 الحيوان "1/ 325 وما بعدها"، "هارون".
2 الحيوان "7/ 53 وما بعدها"، "هارون".(8/248)
المعمرون:
وقد عمر بعض أهل الجاهلية عمرًا طويلا، فعُدّوا من المعمّرين في الجاهلية. وروى أهل الأخبار وألف بعضهم كتبًا فيهم. فلأبي حاتم السجستاني مؤلف في المعمرين1. والعادة عند العرب أن المرء إذا شاخ وكبر بالغوا في تقدير عمره، وزادوا في سني حياته. حتى جعلوا المعمر من عاش فوق المائة عام. ولا يعد المعمر معمرًا عندهم إلا إذا عاش مائة وعشرين سنة وصاعدًا2. ولهذا، فلا نستغرب ما يرويه أهل الأخبار عن بعضهم من أنهم عاشوا فوق المائة بكثير.
ومن المعمرين: الحارث بن كعب بن عمرو بن وعلة بن خالد المذحجي. يزعمون أنه عاش مائة وستين سنة. ورووا له وصية في الأخلاق والآداب والمواعظ والحكم. بَيَّن فيها أنه على دين شعيب النبي، وما عليه أحد من العرب غيره، وغير أسد بن خزيمة، وتميم بن مُرّة. وأنه لم يصافح غادرًا، ولم يتخلق بأخلاق فاجر، ولا صبى بابنة عم له ولا كنة. ولا جاءته مومسة. وأوصى أولاده بالتجمع، وبالموت في سبيل العز، وبالحذر من الناس، وبتزوج الأكفاء وبتجنب الزواج من المرأة الحمقاء، لانتقال الحمق منهن إلى من يلدن. وأوصى بوصل
__________
1 أخبار المعمرين.
2 أمالي المرتضى "1/ 336".(8/248)
الرحم، وبلزوم إطاعة الوالدين، ونبذ الحقد والضغينة1.
ومنهم: المستوغر: وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة. ذكروا أنه عاش ثلاثمائة وعشرين، وأدرك الإسلام أو كاد يدرك أوله. ونسبوا له شعرًا وحكما2.
وحشروا في المعمّرين: "دويد بن زيد" من قضاعة. ذكروا أنه عاش أربعمائة سنة وستًّا وخمسين سنة ونسبوا له وصية فيها: "أوصيكم بالناس شرًّا، لا ترحموا لهم عبرة، ولا تقيلوا لهم عثرة" إلى آخر ذلك من وصية فيها شدة على الناس وحث لأهله على عدم الرحمة بهم، وألا يرحموا أحدًا، وألّا يهنوا3. وهي تمثل وضعًا خاصًّا ورأيًا لواضع هذه الوصية ولراويها من أناس زمانه، فيها سوء ظن، ووجوب الحذر والاعتماد على النفس: حيث لا ينفع الإنسان في حياته إلا نفسه.
ومن المعمرين زهير بن جناب. عاش مائتي سنة وعشرين سنة. وأوقع مائتي وقعة، وكان سيّدًا مطاعًا شريفًا في قومه. فيه عشر خصال لم يجتمعن في غيره من أهل زمانه، كان سيد قومه وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم، وحازي قومه، وكان فارس قومه وله البيت فيهم. وقد نسبوا له وصية، على عادتهم في نسبتهم الوصايا إلى المعمرين. ذكروا أنه أوصى بنيه فيها بوجوب التجمع ومقاومة النوائب وترك التخاذل والاتكال، وبعدم الغرور في هذه الدنيا، فإنما الإنسان في هذه الدنيا غرض تعاوره الرماة فمقصر دونه، ومجاوز موضعه، وواقع عن يمينه وشماله، ثم لا بد أنه مصيبه. ورووا له شعرًا وحكمًا.
وذُكر أنه كان على عهد "كليب وائل"، ولم يكن في العرب أنطق من زهير ولا أوجَه منه عند الملوك، وكان لسداد رأيه يسمى كاهنًا، ولم تجمع قضاعة إلا عليه وعلى رزاح بن ربيعة4.
واختلف في عمر "ذو الأصبع العدواني" يوم مات. فذكر بعضهم أنه
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 232 وما بعدها".
2 أمالي المرتضى "1/ 334 وما بعدها".
3 أمالي المرتضى "1/ 236 وما بعدها".
4 أمالي المرتضى "1/ 240 وما بعدها".(8/249)
عاش مائة وسبعين سنة. واستقل "أبو حاتم السجستاني" هذا المقدار، فجعله ثلاثمائة سنة. وهو من "عدوان". وأحد حكّام العرب في الجاهلية. ونسبوا له على عادتهم بالنسبة للمعمرين حكمًا وشعرًا1.
ومن المعمرين الذين ذكرهم أهل الأخبار "معد يكرب الحميري"، من آل ذي رعين، و "الربيع بن ضبع الفَزاري". ذكر أنه عاش أكثر من مائتي سنة. وأنه لما بلغ مائتين وأربعين سنة قال شعرًا في ذلك. وقد عاش في الإسلام أيضًا وأدرك أيام معاوية2.
وجعلوا عمر "أبو الطحان القيني" مائتي سنة ونسبوا له حكمًا وشعرًا3. وأبي "الكلبيُّ" أن يجعل عمر "عبد المسيح بن بقيلة الغساني"، وهو عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيّان بن بقيلة، أقل من ثلاثمائة وخمسين سنة. وجاراه في ذلك "أبو مخنف" وآخرون. وذكروا أنه عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام فلم يسلم، ومات نصرانيًا. وذكروا أن "خالد بن الوليد" لما نزل على الحيرة، وتحصن منه أهلها أرسلوا إليه "عبد المسيح بن بقيلة" ليكلمه فسأله خالد أسئلة عديدة. منها: أعرب أنتم أم نبط؟ قال عبد المسيح: عرب استنبطنا ونبيط استعربنا. ثم سأله: كم أتى لك؟ قال: ستون وثلاثمائة سنة. ثم عاد إلى قومه فنصحهم بمصالحة خالد. ورووا له شعرًا في دخول المسلمين الحيرة، وكيف صار أمر "آل المنذر"، وقد تحسر فيه على الأيام الماضية، التي ولت حتى آل الأمر بهم أن يؤدوا الخراج إلى "معدّ" التي اقتسمتهم علانية كأقسام الجزور، يؤدون لهم الخراج، بعد خراج كسرى وخراج من قريظة والنضير. ثم خلص إلى أن الدهر هو كذلك لا يدوم على حال. فيوم من مساءة ويوم من سرور4.
وذكر أن بعض سادات أهل الحيرة خرج إلى ظاهرها يختط4 دارًا، فلما احتفر
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 244 وما بعدها"، الأغاني "3/ 94 وما بعدها"، الكامل، للمبرد "5/ 94 وما بعدها".
2 أمالي المرتضى "1/ 253 وما بعدها".
3 أمالي المرتضى "1/ 257 وما بعدها".
4 أمالي المرتضى "1/ 261 وما بعدها".(8/250)
موضع الأساس، وأمعن في الاحتفار أصاب كهيئة البيت، فدخله فإذا رجل على سرير من رخام، وعند رأسه كتابة: أنا عبد المسيح بن بقيلة:
حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى بُلَغَ المزيد
وكافحت الأمور وكافحتني ... فلم أحفل بمعضلة كثود
وكدت أنال في الشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود1
وأدخلوا "النابغة الجعدي"، واسمه "قيس بن عبد الله بن عدس" في المعمّرين. ولكنه لم ينل من أهل الأخبار عمرًا يستحق الذكر. إذ منحوه أقصر ما يمكن من العمر بالنسبة للمعمرين. وهو عشرون ومائة سنة. وتفضل "أبو حاتم السجستاني" عليه فمنحه مائتي سنة2. وأبو حاتم من الكرماء جدًا بالنسبة لمنح الأعمار إلى المعمرين. وقد أدرك الإسلام فأسلم. ومدح الإسلام بشعر. ويذكر أنه جاء الرسول وأنشده من شعره3.
وذكر "الجاحظ" نقلًا عن المتقدمين عليه، أنهم "ذكروا أنهم وجدوا أطول أعمار الناس في ثلاثة مواضع: أولها سرو حمير، ثم فرغانة، ثم اليمامة، وإن في الأعراب لأعمارًا أطول، على أن لهم في ذلك كذبًا كثيرًا"4.
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 263".
2 أمالي المرتضى "1/ 263 وما بعدها"، جمهرة أشعار العرب "301 وما بعدها".
3 أمالي المرتضى "1/ 265 وما بعدها"، أخبار المعمرين "64 وما بعدها"، ابن قتيبة، الشعر والشعراء "247 وما بعدها"، الإصابة "6/ 218 وما بعدها"، الأغاني "4/ 127 وما بعدها".
4 الحيوان "1/ 157"، "أطول الناس أعمارًا"، "عبد السلام محمد هارون".(8/251)
أصحاب العاهات:
والعمى من العاهات المعروفة بين الجاهليين. منهم من ولد أعمى، أو أصيب بالعمى في طفولته، ومنهم من أصابه وهو على كبر. وذكروا أن من أشراف العميان "زهرة بن كلاب" و "عبد المطلب بن هاشم" و "العبّاس بن عبد المطلب"، وغيرهم.
و"العور" من العاهات التي كان الجاهليون يعيبون من أصيب به. وكانوا(8/251)
يرمون العوران باللؤم والخبث. وقد أصيب به بعضهم في الحروب. "كأبو سفيان" فقد أصيب يوم الطائف بالعَوَر، وأصيب غيره في معارك أخرى1.
وأصيب بعض الناس بالبرص. وقد ذكر "السكري" أسماء جماعة من "البرص الأشراف"2، ومن هؤلاء: "جذيمة الأبرش"، الملقب ب"الوضاح"، وذكر أن "الوضح" كناية عن "البرص"3،وكانت قريش تخاف البرص خشية العدوى. فأخرجت "أبا عزة عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب" عنها، مخافة العدوى. فكان يكون بالليل في شعف الجبال، وبالنهار يستظل في الشجر، وسقي بطنه، فأخذ مدية فوجأ بها في معدته. فسال ذلك الماء، فبرأ برصه، ورجع إلى مكة4.
ومن العاهات "الفقم"، وهو تقدم الثنايا العليا، فلا تقع على السفلى، إذا ضم الرجل فاه. ثم كثر حتى صار كل معوج أفقم5 و "العرج"، ومن أشهر "العرجان الأشراف" الحارث بن أبي شمر الغساني"، و "عبد الله بن جدعان"، و "الحوفزان بن شريك الشيباني"، و "النابغة الذبياني"، وغيرهم6.
ومن المعيبات في الإنسان، ألا يكون للرجل شعر في وجهه. ويقال لمن عرى وجهه من الشعر "الكوسج". وذكر أنه الذي عرى وجهه من الشعر إلا كطاقات في أسف حنكه، كالأثط والثط. والثط هو القليل شعر اللحية والحاجبين. ويقال: رجل ثط، وامرأة ثطة الحاجبين7. ومن الثط "الحارث بن أبي شمر الغساني"، و "المنذر بن النعمان بن ماء السماء اللخمي"، و "عبد الله بن جدعان" و "قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري"8.
__________
1 المحبر "302"، "العوران الأشراف".
2 المحبر "299".
3 تاج العروس "2/ 247"، "وضح".
4 المحبر "301".
5 المحبر "304"، تاج العروس "9/ 14".
6 المحبر "304".
7 تاج العروس "2/ 91".
8 المحبر "305".(8/252)
حياة الشبان:
ومن الشبان من كان يقضي وقته بالشراب، وبمصاحبة القيان، وهم أولاد اليسار والمجّان. وكان منهم من يأوي إلى منزل أحدهم فيعكفون على اللهو أو الشرب، لا يعبئون ولا يكترثون1 ومنهم شباب مكة قبل الإسلام. وكان منهم قوم مستهترون لم يبالوا بحرمة ولا بأحد، حتى إن شبابًا من شباب مكة سرق من خزانة الكعبة لينفق مما سرقه على شربه وقيانه. وقد عرف هؤلاء ب "الفتيان". وكانوا يقضون أوقاتهم بالشرب وبلبس الملابس النظيفة، وبالسماع إلى القيان كما عرفوا بالسخاء على من حولهم وعلى من يجتمع معهم من الفتيان. وكانوا شجعانًا، يخرجون إلى القنص والصيد. وقد أشار أهل الأخبار إلى أسماء بعض هؤلاء الفتيان2.
وشباب الجاهلية مثل شباب أهل كل زمان، لا يختلفون عنهم بشيء، في تأنق بعض منهم وفي محاولته إظهار شبابه تجاه البنات. فكان شباب القرى والمدن ولا سيما الوضيئون منهم وأهل الجمال يتسكعون في الأسواق وفي مواضع التجمع، بل وحتى في المعابد ليعبثوا في كلامهم مع البنات وليتحدثوا إليهن، شأن أي شاب في هذه الدنيا بالنسبة إلى الشابات. وقد اضطر آباء وأقرباء بعض هؤلاء الشباب إلى تقريع أبنائهم لتجاسرهم على بنات الحي. حتى منع البعض من الشباب الجميل من التأنق في الملبس حتى لا يلفتوا إليهم أنظار البنات، فيثرن فيهم عاطفة الجموح نحو التشبب والحب.
وذكر "محمد بن حبيب" أسماء رجال من مكة كانوا يتعممون مخافة النساء على أنفسهم من جمالهم3. ويظهر أنهم كانوا يرخون العمائم حتى تنزل على الوجه فتخفي معالمه، ولا يبدو عندئذ شيء من معالم جمال ذلك الشخص. ولم يذكر فيما إذا كانوا قد فعلوا ذلك من أنفسهم ضبطًا للنفس من الوقوع في غوى الشيطان، وتحت تأثير سحر العيون، أم أنهم أجبروا على ذلك إجبارًا، على
__________
1 المحبر "173 وما بعدها"، تاج العروس "10/ 275 وما بعدها"، "فتى" تاج العروس "9/ 341"، "مجن".
2 المحبر "173 وما بعدها".
3 المحبر "ص232".(8/253)
نحو ما كان يفعله أهل مكة بالنسبة إلى المستهترين من شبابهم، ليكون التعميم أحد الحواجز التي تحول دون سقوط عين المرأة على الشاب الجميل أو الرجل الجميل. أو أنهم فعلوه هم، على أنه "موضة" وزِيّ من أزياء الشباب. ومن الرجال الذين ذكر "ابن حبيب" أنهم تعمموا مخافة النساء ولم يكونوا من أهل مكة، "امرؤ القيس بن حجر الكندي"، "قيس بن الخطيم" الأوسي، و "ذو الكلاع الحميري"، و "زيد الخيل بن مهلهل الطائي". ولم يذكر السبب في إقحام مثل هذه الأسماء في موضع التعمم بمكة. هل ذكرهم بمعنى أنهم كانوا إذا قدموا مكة تعمموا، خشية الوقوع في هوى النساء، فيجلب عليهم صداعًا وصدامًا مع أهل أولئك النسوة، أو أنه ذكرهم بمعنى أنهم كانوا يتعممون مثل أهل مكة حذر الوقوع في الحب، فدرج أسماءهم في هذا الموضع لهذه المناسبة.
وقد ذكر "ابن حبيب" أن "الحضر"، وهو أحد من كان يتعمم مخافة الوقوع في حب النساء، لم يكتف بالتعمم، بل تبرقع أيضًا1. ولعله فعل ذلك بتأثير ديني. أخذ ذلك عن الرهبان والمتزمتين بدينهم من أهل الجاهلية الذين حجبوا أنفسهم عن الناس وآووا إلى الغار أو قمم الجبال للتبصر والتأمل والابتعاد عن الملأ، ولا سيما عن النساء.
__________
1 المحبر "231".(8/254)
الفتيان:
وعرف شباب أبناء الأغنياء والجاه ب "الفتيان". وأحدهم "فتى". ويراد به الشاب. وقد تطلق على السخيّ الكريم، وهو من "الفتوة"1. وكثيرًا ما نقرأ في كتب أهل الأخبار جملا تشير إلى"الفتوة" في الجاهلية، مثل "وهو من فتيان قريش أيضًا"2. يريدون بذلك جماعة من أبناء الأسر عاشت عيشة شباب وعبث، تلهو وتشرب، وتنفق وتعطي، وتغيث،
__________
1 تاج العروس "10/ 275"، "فتى".
2 المحبر "ص176".(8/254)
وتتسابق، وتقتل وقتها في اللذة والاستمتاع وفي الإنفاق على الجسد، على نحو ما يفعله أبناء الطبقة المترفة في كل وقت. وقد كانت لها نجدة وشهامة، إذا استنجد بأحدها هبّ لنجدة المستنجد ودافع عنه.(8/255)
الأحامرة:
والحياة عند بعض الناس: خمر ولحم وخُلوق. فهي متع الحياة عندهم. قال الأعشى:
إن الأحامرة الثلاثة أهلكت ... مالي وكنت بها قديمًا مولعا
الخمر واللحم السمين وأطَّلي ... بالزعفران فلن أزال مبقعا1
والحياة عند البعض خمر ونساء. واتهمت المرأة بحبها الحليّ والطيب. ورد: "أهلك النساء الأحمران. يعنون الذهب والزعفران، أي أهلكهن حب الحلي والطيب". وورد "الأحمران: اللحم والخمر". ويقال للذهب والزعفران: الأصفران، وللماء واللبن الأبيضان، وللتمر والماء الأسودان. وفي الحديث: أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض. والأحمر الذهب والأبيض الفضة. والذهب كنوز الروم، لأنها الغالب على نقودهم. وقيل أراد العرب والعجم. وقيل: الأحامرة: اللحم والخمر والخلوق. وورد الأحمران: الخمور والبرود2.
__________
1 تاج العروس "3/ 154"، "حمر".
2 تاج العروس "3/ 154"، "حمر"، الحيوان "3/ 249"، "هارون".(8/255)
الخمور:
وفي مجتمع الحياة فيه على وتيرة واحدة، والفراغ فيه أكثر من العمل، ومرافق اللهو والتسلية فيه قليلة أو ومعدومة، والفقر فيه أكثر من الغنى، وتشغيل الفكر فيه محدود ضيق، في مجتمع كهذا المجتمع لا بد وأن يقبل الناس فيه على قتل فراغهم بالبحث عن شيء ينسيهم فراغهم وفقرهم وشدة حاجتهم، ويلهيهم عن قساوة الطبيعة عليهم، ويبعث فيهم الأمل والطرب والنشوة، والشعور بأنهم(8/255)
سادة ملكوا الدنيا، وأن كل واحد منهم هو "رب الخورنق والسدير"1، فكان إقبالهم على الخمر شديدًا، حتى أفرطوا في شربه وآذى بعضهم نفسه من شدة إقباله عليه، فصار آفة من الآفات، حتى ضحى شاربه بمركزه وماله في سبيله، فكان ذلك من عوامل تحريمه في الإسلام.
وقد كان الخمر من متع الحياة الثلاث بالنسبة للشباب. والمتع الثلاث: الخمر والقمار والنساء2. فإذا أضيف الشجاعة إليها صار الفتى من خيرة الفتيان، لذلك كان الشباب يفتخرون إذا جمعوا بين هذه المتع ويتباهون على غيرهم بها. وربما ارتكبوا المعاصي والمخالفات في سبيل الحصول على المال للإنفاق على متعهم هذه وعلى ملذاتهم وملاهيهم في هذه الحياة.
ومن أسماء الخمر: العقار، سُميت لمعاقرتها أي لملازمتها الدنّ. والمعاقرة الإدمان ومعاقرة الخمر إدمان شربها. وقيل سميت عقارًا لأن أصحابها يعاقرونها أي يلازمونها أو لعقرها شاربها عن المشي، وقيل هي التي لا تلبث أن تسكر3.
والسكران نقيض الصاحي. والسكر حالة تعترض بين المرء وعقله. وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب المسكر. و "السكّير" الكثير السكر4. و "المدمن" هو الملازم للشراب وغيره، لم يقلع عنه، فهو يلازمه ولا يقلع عن شربه أو شرب الخمر5.
وقد أدمن كثير من أهل الجاهلية على شرب الخمر، وهلك قسم منهم بسببها. وقد حذر من ذلك الإسلام فورد: "مدمن الخمر كعابد الوثن"6، و "لا يدخل الجهة مدمن خمر"7.
__________
1 وإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
وقال حسان بن ثابت:
ونشربها فتتركنا ملوكًا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
2 التبريزي، شرح القصائد العشر "43".
3 تاج العروس "3/ 417"، "عقر".
4 تاج العروس "273 وما بعدها"، "سكر".
5 اللسان "13/ 159"، "دمن".
6 اللسان"13/ 159، "دمن".
7 المستطرف "2/ 229".(8/256)
وعرف علماء اللغة "الخمر" بما أسكر من عصير العنب ومن عصير كل شيء يُسكر. ولما نزل الأمر بتحريم الخمر، كان شرابهم بالمدينة يومئذ الفضيخ، البُسْر والتمر في الغالب1. غير أن الجاهليين كانوا يصنعون الخمر من أي شيء يقع في أيديهم مما يمكن تخميره للحصول على مادة مسكرة منه مثل الحبوب والأعشاب وغير ذلك، بل كان منهم من يخمر اللبن، ولا سيما ألبان الإبل، للانتشاء بها. و "النشوة" السكر2.
وكان أهل المدينة يسقون ضيوفهم شرابًا من الفضيح. فإذا جاءهم ضيف سقوه منه. كانوا يضعونه في قلال وجرار وهو خليط من بسر وتمر، ومن تمر وزَهْو. والزهو3 هو البسر الملون الذي ظهرت فيه الحمرة والصفرة4، كما كانوا يصنعونها من خلط الزبيب والتمر5 أيضًا وكانوا يجلسون مجلسهم، ويسقيهم أحد أبناء صاحب الدار أو خادم من خدمه، من قلال أو كئوس يدور بها عليهم قليلا قليلا6.
واستخرج أهل اليمن من الشعير شرابًا عرف عندهم باسم "المزر"7. وذكر أن "المزر" نبيذ الذرة والشعير والحنطة والحبوب، وقيل: نبيذ الذرة خاصة. وذكر أبو عبيد أن ابن عمر فسر الأنبذة، فقال: البتع نبيذ العسل، والجعة نبيذ الشعير، والمزرة من الذرة، والسكر من التمر، والخمر من العنب8.
وورد أن أهل اليمن كانوا يتخذون شرابًا مسكرًا من القمح يستعينون به على برد بلادهم ويتقوون به على عملهم. وقد منعوا عن ذلك في الإسلام حين نزل الأمر بتحريم الخمر9.
__________
1 تاج العروس "3/ 186 وما بعدها"، "خمر"، صحيح مسلم "6/ 85"، "باب تحريم الخمر".
2 تاج العروس "10/ 368"، "نشي".
3 بفتح الزاي وسكون الهاء وبالواو، وقد يضم الزاي.
4 صحيح مسلم "6/ 87 وما بعدها".
5 صحيح مسلم "6/ 89".
6 تاج العروس "3/ 541".
7 صحيح مسلم "6/ 99".
8 تاج العروس "3/ 541"، "مزر"، الإصابة "1/ 466".
9 الإصابة "1/ 466"، "رقم 2409".(8/257)
ومن الخمور نوع اشتهر في العراق باسم "الخمور الصريفية" نُسبت إلى قرية "صريفون" عند "عكبراء" في العراق، وإياها عنى الأعشى بقوله:
وتجبى إليه السيلحون ودونها ... صريفون في أنهارا والخورنق
ووصف الأعشى في شعر آخر الخمر الصريفية فقال:
تعاطي الضجيع إذا أقبلت ... بُعَيْد الرقاد وعند الوسن
صريفية طيب طعمها ... لها زبد بين كوب ودن
وذكر بعض العلماء أنها إنما عرفت بصريفية، لأنها أخذت من الدن ساعتئذ كاللبن الصريف1.
وكانوا يضعون خمرهم في زق يحملونه معهم، فأينما يكون الإنسان يكون خمره معه. وقد كانوا يكثرون من استعماله كما يظهر ذلك من روايات أهل الأخبار مع فقر شاربها وعدم وجود طعام عنده. أما في المدن والقرى والحواضر، فهناك خمارات، جمعت إلى الخمر وسائل المتع الأخرى، يقصدها أهل المكان والغرباء للاستمتاع بها، والترفيه عن خاطرهم. وقد هيأت بعض الخمارات المغنين فيها وجلبوا إلى حاناتهم أنواع الخمور.
وكانت الخمارات منتشرة في كل مكان، ولا سيما على الطرق. حيث ينزل بها المسافرون للاستراحة واستعادة النشاط بعد تعب ونصب. وكان بمكة وبسائر القرى خمارات كذلك. أصحابها نصارى ويهود في الغالب. ومعظمهم من غير العرب، وفودا من الخارج للتكسب والعيش فامتهنوا مهنة بيع الخمر وإسقائها للناس. وقد عرفت "الخمارة" بالحانوت. يذكر علماء اللغة أن "الحانوت دكان الخمير". وقد أشير إلى الحانوت في الشعر الجاهلي. وكانت العرب تسمي بيوت الخمارين الحوانيت. وأهل العراق يسمونها المواخير. وورد أن الخليفة "عمر" أحرق بيت "رويشد الثقفي"، وكان حانوتًا يعاقر فيه الخور ويباع2. وعرفت "الخمارة" بالدكة أيضًا3.
__________
1 تاج العروس "6/ 164"، "صرف".
2 تاج العروس "1/ 539"، "حانوت".
3 تاج العروس "9/ 301"، "دكن".(8/258)
وقد يجتمع فتيان من مواضع شتى للشرب، فيقال لهم "الأندرون" يتنادرون فيما بينهم شذ وخرج من الجمهور. وذكر أن قول عمرو بن كلثوم:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا
هو في هذا المعنى1.
وقد تاجر اليهود بالخمر، وفتحوا لهم الخمارات في الأماكن التي أقاموا بها من جزيرة العرب، فقصدها الناس للشرب. ومن جملتهم الشاعر الأعشى الذي كان كلفًا بشرب الخمر حريصًا على تعاطيها، قيل إنه عزم على الدخول في الإسلام وأراد الذهاب إلى الرسول لينشده ويعلن أمامه دخوله في الإسلام، ونظم شعرًا في مدحه، فأدرك "أبو سفيان" ما في شعر "الأعشى" في مدح الرسول والإسلام من أثر في تصرفه وفي إضعاف قريش، فلقيه وحادثه وكلمه وجاءه من ناحية نقطة الضعف التي كانت فيه. وهي حبه للخمرة. فهيج أشجانه فيها، وأظهر له كيف أن الإسلام حرمها على المسلمين، وجعل في شربها الحد، فهو سيُحرم من متعته الوحيدة التي بقيت له في حياته أن دخل في الإسلام. وأثار فيه الحنين إليها، ورغبه في الذهاب إلى قومه والمكوث هناك سنة يشربها، ثم رأى رأيه بعد ذلك، فإما أن يستمر على شربها، وإما أن يعافها ويدخل في الإسلام، على أن يأخذ مقابل ذلك مائة من الإبل. فأثر كلام "أبو سفيان" فيه، وأخذ الإبل وذهب بها إلى قومه8 وأقام ب "منفوحة" حتى مات بها قبل الحول2.
وذكر "بلينيوس" أن العرب كانوا يصنعون الخمر من النخيل، وذلك كما يفعل سكان الهند3. ويقصد بذلك التمور بالطبع. وقد ذكر ذلك من باب التنويه بالأمور الغريبة. فليس استخراج الخمر من التمور مألوفًا عند اليونان والرومان.
__________
1 تاج العروس "3/ 560"، "ندر".
2 جمهرة أشعار العرب "56"، الشعر والشعراء "135"، الأغاني "8/ 77"، "10/ 143"، "15/ 52"، "16/ 160"، المحبر "321".
3 مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الثالث، الجزء الأول، "ص139"، "1954م"، "بلاد العرب: من تأريخ بلينيوس".(8/259)
ولهذا السبب أشار إليه، ليقف عليه قومه. غير أن العرب كانوا يستخرجون النبيذ من الكروم أيضًا، وذلك في الأماكن التي توفرت فهيا الكروم، مثل الطائف واليمن. وقد أشار "سترابون" إلى صنع الخمر من التمر1.
أما خمور العرب فمن البتع، وهو نبيذ العسل، وهو خمر أهل اليمن. ومن التمر ومن البُرّ والشعير والزبيب. ولأهل اليمن شراب من الشعير، يقال له المزر، أشرت قبل قليل إليه2.
وشرب الجاهليون أشربة استخرجوها من الذرة ومن مواد أخرى. فقد صنع أهل اليمن "المرز" من الذرة أيضًا. فلما أسلم قوم منهم سألوا الرسول عنه. فقال لهم: أله نشوة؟ فلما قالوا له: نعم، قال: فلا تشربوه3.
وانتبذوا في "النقير": أصل النخلة ينقر فينبذ فيه، فيشتد نبيذه. وذكر أن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم يشدخون فيها الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت4 وانتبذوا في "الحنتم": الجرار الخضر، وفي "الدبّاء"، اليقطين، وفي "المزفت" أي ما طلي بالزفت5.
ومن الخمور "المقدى". يتخذ من العسل على بعض الروايات. يقال إنه من قرية تسمى "المقدة" بالأردن، وقيل هي في طرف حوران قرب أذرعات6.
وللخمر أسماء عديدة، ذكرها علماء اللغة. منها ما هي معربة. عربت عن اليونانية، أو الفارسية، أو السريانية، لأنها استوردت من بلاد الشام، أو العراق7.
ومن الخمور خمر يقال له: "الإسفنط". وهو المطيب من عصير العنب.
__________
1 مجلة المجتمع العلمي العراقي، المجلد الثاني، "1952م"، "ص267".
2 العقد الفريد "6/ 356".
3 الإصابة "1/ 133".
4 تاج العروس "3/ 581"، "نقر".
5 القسطلاني، إرشاد الساري "6/ 11".
6 تاج العروس "2/ 460 وما بعدها"، "قد".
7 راجع كتب اللغة والأدب.(8/260)
وقيل هي خمر فيها أفاويه، أو أعلى الخمر وصفوتها. وذكر أن اللفظة "رومية". قال الأعشى:
وكان الخمر العتيق من الإ ... سفنط ممزوجة بماء زلال
باكرتها الأغراب في سنة النو ... م فتجري خلال شوك السيال1
واستعمل الجاهليون أواني الشرب المصنوعة من الزجاج والبلور ومن الذهب والفضة، واستعملوا أواني أخرى تتناسب مع منزلة الشارب ومكانته. وقد كان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة يشربون بالآنية الغالية، وبعضها منقوش. وكذلك تفنن أغنياء مكة في الشرب، فاستعمل عبد الله بن جدعان الأواني المصنوعة من الذهب في شربه، حتى ضرب به المثل، فقيل: "أقرى من حاسي الذهب"، وعرف ب "حاسي الذهب". وشرب غيره من أصحاب الثراء بأواني غالية استوردوها من الخارج، على حين كان أكثر سكان مكة فقراء لا يملكون شيئًا. ولهذا ورد في الحديث النهي عن الشرب بآنية الذهب والفضة2. وقد ذكر أن النابغة الذبياني، وهو من شعراء الجاهلية الكبار، كان لا يأكل ويشرب إلا في آنية الذهب والفضة، من عطايا النعمان وأبيه وجده، ولا يستعمل غير ذلك3.
وحرم قوم من الجاهليين الخمر على أنفسهم، وأكثرهم ممن يسمون الأحناف، ومنهم من كان يشربها ويقبل عليها، ولكنه وجد نفسه وقد قم بأعمال لم يرتضها، جعلته يشعر بالخجل منها، فتركها وحرمها على نفسه. ويذكر أهل الأخبار أن أول من حرمها على نفسه وامتنع منها في الجاهلية، هو "الوليد بن المغيرة". وهو رجل ينسب إليه أهل الأخبار جملة أمور، منها أنه أول من خلع نعيه لدخول الكعبة في الجاهلية، فخلع الناس نعالهم في الإسلام، وأول من قضى بالقسامة في الجاهلية فأقرها الإسلام وأول من قطع في السرقة في الجاهلية، فأقرها
__________
1 تاج العروس "5/ 154"، "الإسفنط".
2 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص293"، بلوغ الأرب "1/ 87".
3 بلوغ الأرب "3/ 22".(8/261)
الإسلام. ويذكرون أن الجاهليين كانوا يقولون: "لا وثَوْبي الوليد، الخلق منهما والجديد"1.
وممن ترك الخمر في الجاهلية "عبد الله بن جدعان"، وسبب تركه لها أنه شرب مع أمية بن أبي الصلت الثقفي، فلطم وجه "أمية" بعد أن ثمل، فأصبحت عينه مخضرَّة فخاف عليها الذهاب، فسأله عبد الله: ما بال عينك؟ فقال: أنت أصبتها البارحة. قال: وبلغ مني الشراب ما أبلغ معه من جليسي هذا المبلغ، فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: الخمر علي حرام، لا أذوقها أبدًا2. وذكر أيضًا أنه سكر فجعل يساور القمر. فلما أصبح أخبر بذلك، فحرمها3. إلى غير ذلك من قصص.
وممن حرمها في الجاهلية، قيس بن عاصم المنقري، وعامر بن الظرب العدواني، وصفوان بن أمية بن محرث الكناني، وعفيف بن معد يكرب الكندي، والأسلوم بن اليامي من همدان، ومقيس بن عدي السهمي، والعباس بن مرداس السلمي، وسعيد بن ربيعة بن عبد شمس، وورقة بن نوفل، والوليد بن المغيرة، وأبوه أمية بن المغيرة، والحارث بن عبيد المخزومي، وزيد بن عمر بن نفيل، وعامر بن جذيم الجمحي، وأبو ذر الغفاري، ويزيد بن جعونة الليثي، وأبو واقد الحارث بن عوف الكناني، وعمرو بن عَبَسَة، وقس بن ساعدة الإيادي، وعبيد بن الأبرص، وزهير بن أبي سُلمى المزني، والنابغتان الذبياني والجعدي، وحنظلة الراهب بن أبي عامر، وقبيصة بن إياس الطائي، وإياس بن قبيصة بن أبي غفر، وحاتم الطائي، و "سويد بن عدي بن عمرو بن سلسلة الطائي"4.
وذكر أن ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية: "بشير الثقفي". وكان نذر في الجاهلية ألا يأكل الجزور ولايشرب الخمر5.
__________
1 المعارف "ص240".
2 نهاية الأرب "4/ 88".
3 المحبر "237".
4 المحبر "ص237 وما بعدها"، نهاية الأرب "4/ 88 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 294 وما بعدها"، الأمالي، للقالي "1/ 204 وما بعدها"، الأغاني "5/ 9"، "بيروت".
5 الإصابة "1/ 160".(8/262)
وروي أن "عفيف بن معد يكرب الكندي"، عم الأشعث بن قيس، كان قد طلق الخمر وحرمها على نفسه وحرَّم معها القمار والزنا، والثلاثة من أهم وسائل التلهي والتمتع بالحياة عند الجاهليين1. وكان قيس بن عاصم يأتيه في الجاهلية تاجر خمر فيبتاع منه ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفد ما عنده. فشرب قيس ذات يوم فسكر سكرًا قبيحًا، فجذب ابنته وتناول ثوبها، ورأى القمر فتكلم بشيء ثم نهب ماله ومال الخمار. فلما صحا أخبرته ابنته بما صنع وما قال فآلى لا يذوق الخمر2.
وبعض هؤلاء هم من الحنفاء، وبعضهم من السادة الأشراف الذين لم يتذوقوها، أو أنهم تعاطوها ثم رأوا ضررها فتركوها وحرموها على أنفسهم. ويظهر أن بعضهم قد حرمها على نفسه وعلى آله أيضًا، فذكر مثلا أن الوليد بن المغيرة ضرب فيها ابنه هشامًا على شربها، ولعل منهم من كان يستعمل الحد، وهو الجزاء الذي قرره الإسلام على شاربي الخمر.
وقد أشار أهل الأخبار إلى وقوع حوادث لأكثر من ذكرتهم دفعت بهم إلى تحريم الخمر على أنفسهم، كالذي ذكرته من أمر عبد الله بن جدعان، وكالذي أشار إليه أهل الأخبار من تحرش بعضهم بمحارمهم تحرشًا لا يفعله إنسان سوي، أو تخليطهم أثناء سكرهم وقيامهم بأعمال مضحكة صيرتهم سخرية للحاضرين، فلما صحوا وسمعوا بما فعلا ندموا على ما بدا منهم، وقرروا اجتنابها وتحريمها على أنفسهم منذ ذلك اليوم3.
وكان الجاهليون يشتدون على النساء في شرب الخمر حتى لم يحفظ أن امرأة سكرت4.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 294".
2 بلوغ الأرب "2/ 297".
3 المحبر "ص237 وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "2/ 297 وما بعدها".(8/263)
المخدرات:
لم أعثر على نص جاهلي جاء فيه ذكر لاستعمال الجاهلية للمخدرات، ولم(8/263)
أعثر في أخبار أهل الأخبار على خبر يفيد تعاطي الجاهليين لها. ولكن هذا لا يعني نفي معرفة عرب الجاهلية بالمخدرات، ويظهر أن إفراطهم في تناول الخمور ووجود الخمور الرخيصة لديهم، وتحضيرهم لها بطرق بدائية رخيصة، وتخدرهم بنا، كانت من الأمور التي صرفتهم عن استعمال المخدرات الأخرى التي ربما زاد ثمنها على ثمن الخمر.(8/264)
الانتحار بشرب الخمر:
وقد قتل بعض الجاهليين أنفسهم بشرب الخمر صرفًا، ذكر "السكري" منهم "عمرو بن كلثوم الثعلبي". وكانت الملوك تبعث إليه بحبائه وهو في منزله من غير أن يفد إليها. فلما ساد ابنه الأسود بن عمرو، بعث إليه بعض الملوك بحبائه كما بعث إلى أبيه، فغضب "عمرو" وقالك "ساواني بولدي"، وحلف لا يذوق دسمًا حتى يموت، وجعل يشرب الخمر صرفًا على غير طعام، فلم يزل يشرب حتى مات1.
وأهلك "البرح بن مسهر الطائي" نفسه بشرب الخمر الصرف كذلك، في قصة ذكرها "السكري"2.
و"زهير بن جناب بن هبل"، هو ممن أتلف نفسه بشرب الخمر أيضًا، لمّا خالفه ابن أخيه عبد الله بن عليم بن جناب، فانزعج من ذلك وغضب، وأمات نفسه بشرب الخمر. ذكر أنه قال في ابن أخيه: "عدو الرجل ابن أخيه، غير أنه لا يدع قاتل عمه"3.
وذكر أن "أبا براء بن مالك بن جعفر"، قتل نفسه بشرب الخمر أيضًا انتحر لمخالفة قومه أمره. فدعا قَيْنَتَيْن له، فشرب، وغنتاه، ثم دعا بالشاعر "لبيد"، وطلب منه أن يقول ما يقول فيه من المراثي، فلما أثقله الشراب، اتكأ على سيفه حتى مات4.
__________
1 المحبر "471".
2 المحبر "471".
3 المحبر "471"، الإصابة "2/ 249"، "رقم 4423".
4 المحبر "472 وما بعدها"، الإصابة "2/ 249"، "4423".(8/264)
الاغتيال:
الغيلة: هي الخديعة وإيصال الشر إلى إنسان من حيث لا يعلم ولا يشعر1. وقد كان معروفًا بين الجاهليين، شجع على ظهوره وانتشاره بينهم عرف الأخذ بالثأر، والتنافس الذي كان بينهم على الرئاسة والوجاهة، وقواعد مجتمع ذلك الوقت التي كانت تقيم وزنًا كبيرًا للكلمة، وللمدح والهجاء، ولتقديم شخص على شخص في الجلوس في المجالس، فكانت هذه الأمور وأمثالها تدفع من يتعرض لها على الانتقام ممن أهانه والتربص به وتتبع آثاره حتى يتمكن من قتله أو اغتياله.
وقد اتبع المغتالون أساليب شتى في الاغتيال. منها الطعن بالرمح أو الخنجر أو بالسكين، ومنها الذبح، والخنق، ومنها اللجوء إلى الحيلة بدس السم في الشراب أو الطعام، إلى غير ذلك من أسباب الغيلة.
والغيلة غير الفتك. ذكر أن الفتك أن يقتل الرجل الرجل مجاهرة. وهو أن يأتي الرجل صاحبه وهو غار غافل حتى يشد عليه فيقتله، وإن لم يكن أعطاه أمانا قبل ذلك، ولكن ينبغي له أن يعلمه ذلك.
قال المخبل السعدي:
إذ فتك النعمان بالناس محرما ... فمن ليَ من عوف بن كعب سلاسله
وكان النعمان بعث إلى "بني عوف بن كعب" جيشًا في الشهر الحرام، وهم آمنون غارون فقتل فيهم وسبا2.
ولمحمد بن حبيب السكري، كتاب ذكر فيه أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام، وأسماء من قتل من الشعراء3. بدأ فيه ب "جذيمة الأبرش"
__________
1 تاج العروس "8/ 53"، "غيل".
2 تاج العروس "7/ 166"، "فتك".
3 نوادر المخطوطات، "القاهرة 1954م"، المجموعة السادسة "تحقيق عبد السلام هارون".(8/265)
الذي غدرت به "الزباء" ملكة "تدمر"، فأجلسته على نطع، وسقته الخمر، ثم أمرت بقطع رواهشه، حتى مات. ثم ثنى ب "حسان بن تبع"، فزعم أن أخاه قتله غيلة وهو نائم على فراشه، طمعًا في ملكه، ثم تكلم عن "عمليق" ملك طسم، وكانت منازلهم "عذرة" في موضع اليمامة1. وذكر في جملة من ذكرهم اسم "عمرو بن مسعود" و "خالد بن نضلة" من بني "أسد". وكانت أسد وغطفان حلفاء لا يدينون ويغيرون عليهم، فوفدا سنة من السنين ومعهما "سيرة بن عمير الفقعسي" الشاعر، على "المنذر" الأكبر اللخمي، فكلمهما في أمر دخولهما في طاعته والذب عنه كما ذبت "تميم" و "ربيعة"، فعلم أنهم لا يدينون له. فقرر الكيد بهما، فأومأ إلى الساقي فسقاهما سمًا، فماتا، ثم ندم على ما فعل، فأمر فحفر لهما قبران ودفنا فيهما، وبنى عليهما منارتين، وهما "الغريان" وعقر على كل قبر خمسين فرسًا وخمسين بعيرًا، وغراهما بدمائهما، وجعل يوم نادمهما يوم نعيم، ويوم دفنهما يوم بؤس2.
وقد كان خنق الأشخاص في جملة وسائل الاغتيال والتخلص من الأعداء، وقد ذكر أن الملك "النعمان بن المنذر"، أمر بخنق "عدي بن زيد العبادي"، فمات منه. ويكون الخنق بالضغط الشديد على الرقبة باليد، وباستعمال الحبل أو قطع القماش. ويقال للحبل الذي يخنق به "الخناق"3.
وذكر أن "الحكم بن الطفيل"، لما انهزم في نفر من أصحابه يوم "الرقم" "حتى انتهوا إلى ماء يقال له المرورات، فقطع العطش أعناقهم فماتوا، وخنق ابن الطفيل نفسه مخافة المثلة، فقال في ذلك عروة بن الورد:
عجبت لهم إذ يخنقون نفوسهم ... ومقتلهم تحت الوغى كان أعذرا4
__________
1 "ص117".
2 "ص133 وما بعدها".
3 تاج العروس "6/ 339"، "خنق".
4 ديوان عروة "135"، نهاية الأرب "15/ 364".(8/266)
الصيد:
والصيد في جزيرة العرب رغبة وحاجة. رغبة للملوك والرؤساء والأثرياء للأنس(8/266)
والترويح عن النفس، وحاجة عند السواد وهم فقراء في الغالب لا يملكون شيئا، فلحم الصيد نعمة كبرى لهم وغذاء طيب لا يصل إليهم دائمًا.
أما اصطياد الرؤساء والأثرياء فبالاستعانة بالصقور في الغالب، حتى إذا قيل كنا نتصقر، انصرف الذهن في الحال إلى الصيد، لاستعمال الطيور في الصيد، حيث تدرب تدريبًا خاصًّا وتعلم تعليمًا متقنًا، فإذا رأت الحيوان انقضت عليه، فلا تتركه يستطيع الحركة والهرب إلى أن يصل الصياد إلى الفريسة المسكينة. ويدعى قيم الصقور ومعلمها "الصقار". وتستعمل كلاب الصيد كذلك، وهي كلاب سريعة مدربة تدريبًا خاصًّا، فإذا رأت الصقر فوق الفريسة عدت خلفها لتساعد الصقر في القبض على الحيوان فلا يهرب ويولي. ومنها ما تفتش عن مواضع اختفاء الحيوانات، فإذا شعرت بوجود حيوان في كهف أو مغارة تدخل إليها أو تقوم بحركات تضطره إلى الخروج فيصطاده الصياد. وقد تستعمل الخيل كذلك. وهي لم تكن كثيرة في الجاهلية، ولا يملكها إلا المتمكنون.
وقد ذكر الصيد في آيات القرآن الكريم، مما يدل على أهميته ومكانته في حياة العرب يومئذ. ويقال للصياد القانص كذلك. وأما استثارة الصيد وإخراجه، فيعبر عن ذلك بلفظة "النُّجش"، والمنجاش والنجاش هو المثير للصيد. ويقال: هَبِض الكلب إذا حرص على الصيد وقلق نحوه، ويقال أيضًا: غرَّبت الكلاب، إذا امعنت في طلب الصيد.
وكانت العرب تعيش في الغالب بلحوم الصيد، وكانت خيلهم تسهل عليهم نيل صيدهم، وتعينهم على الوصول إلى غايتهم. فكانت عندهم من أعز الأموال وأثمن الأشياء يُعتنى بها اعتناء الرجل بنفسه، ولولاها حرم من لذة أكل اللحوم. وكانت إذا أغارتها على صيد، خضبوا نحر السابق بدم ما يمسكونه من الصيد، علامة على كونه السبّاق الذي لا يدرك في الغارات1.
ولأهل الجاهلية عناية خاصة ب"الصقور". يربونها تربية خاصة. وذكر علماء اللغة أن كل شيء يصيد من البزاة والشواهين، صقر. وقد أشير إلى صيد "الصقور" في الحديث2.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 18".
2 تاج العروس "3/ 339"، "صقر".(8/267)
وقد استعانوا بالكلاب السريعة الجري في الصيد كذلك. وقد عنوا بتربية أنواع ذكية سريعة الجري منها لمطاردة الفريسة، إذا أدركتها نهشتها أو قبضت عليها، فيأتي الصياد، فيأخذها منها.
ويتحايل الصيادون في الاصطياد، فيحفرون حفيرة تلجف من جوانبها، أي يجعل لها نواحي، وتعرف عندهم بالقرموص، وذلك للتمويه على الحيوان. وقد يتخذ الصياد أو أي شخص آخر موضعا فوق أطراف الشجر والنخل خوفًا من الأسد، فيقال لذلك "العرزال". وأما "الزُّبية" فحفرة تحتفر للأسد، وكذلك "الزونة"، و "القُترة" حفرة يحتفرها الصائد يكمن فيها حتى لا يشعر به الصيد. وقد يدخن الصائد في قترته لكيلا تجد الوحش ريحه، ويقال لذلك "المدمر". و "الروق" موضع الصائد، و "الدجية"، قترة الصائد. وهناك ألفاظ أخرى من هذا القبيل يراد بها الحفر التي يستتر بها الصيادون في الصيد.
ويستخدم الصيادون جملة أدوات في الاصطياد، منها آلة تسمى "الجرة"، وهي خشبة نحو الذراع يجعل في رأسها كفة وفي وسطها حبل، فإذا نشب فيها الظبي ناوصها واضطرب، فإذا غلبته استقر فيها. و "الحبالة" الحبل الذي يصاد به. و "الأحبول" حبالة الصائد. وأما "الشرك" فحبائل الصائد والواحدة "شركة" و "المصلاة" شرك ينصب للصيد، و "الكصيصة" حبالة الظبي التي يصاد بها وهناك آلة تشبه المنجل تشد بحبالة الصائد ليختطف به الظبي يقال لها "الخاطوف". وأما "الرداعة" فمثل البيت تجعل فيه لحمة يصيد الصياد به الضبع والذئب. ويتخذ الصيادون بيتًا يبنونه من حجارة، ثم يجعلون على بابه حجرًا يقال له السهم. والملسن يكون على الباب، ويجعلون لحمة السبع في مؤخرة البيت فإذا دخل السبع لتناول اللحمة، سقط الحجر على الباب فسدها، وبذلك يحبس، فلا يستطيع الخروج. ويقال لذلك البيت "الرواحة". وأما "الجريئة"، فإنها بمعنى "الرداعة". ولعرقبة الحمير الوحشية تستعمل آلة خاصة تشبه الهلال يقال لها "هلال الصيد".
وتستعمل الشباك في الصيد كذلك. تستعمل في صيد البحر والبر. ويغدف الصياد بالشبكة على الصيد ليأخذه. وأما القصبة التي تصاد بها العصافير، فيقال لها الغاية. والغاية الراية كذلك. وأما "الرامق" و "الرامج" فبمعنى الملواح الذي يصاد به البُزاة والصقور، وهو أن يؤتى ببومة فيشد في رجلها شيء أسود،(8/268)
ويخاط عيناها، ويشد في ساقيها خيط طويل، فإذا وقع عليها البازي صاده الصياد من قترته. ويقال إنها لفظة عجمية. وقد تعشى الطيور بالليل بالمنار ليصيدوها، ويعبرون عن ذلك بجملة: قمر القوم الطير.
و"المفقاس" عودان يشد طرفاهما بخيط، كالذي في وسط الفخ، ثم يلوى أحدهما، ثم يجعل بينهما شيء يشدهما، ثم يوضع فوقهما الشركة، فإذا أصابها شيء، وثبت، ثم أغلقت الشركة في صيد. والعطوف والعاطوف مصيدة فيها خشبة منعطفة الرأس، والمقلة والقلة عود يجعل في وسطه حبل، ثم يدفن، ويجعل للحبل كفة فيها عيدان، فإذا وطئ الظبي عليها عضت على أطراف أكارعه. وأما الدواحيل فخشبات على رءوسها خرق، كأنها طرّادات قصار، تركز في الأرض لصيد حمر الوحش. وأما البجة، فإنها "الرداحة". وأما "اللبجة"، فإنها حديدة ذات شعب كأنها كف بأصابعه تنفرج، فيوضع في وسطها لحم ثم يشد إلى وتد، فإذا قبض عليها الذئب، التبجت في خطمه، فقبضت عليه، وصرعته. و "النامرة" مصيدة تربط فيها شاة للذئب.
وقد يستتر الصياد بحيوان أو غيره ليخفي نفسه عن الصيد، ويقال لذلك "الدريئة"، وبهذا المعنى "الذريعة" و "الرقيبة" و "السيفة"، وإذا استتر الإنسان بالبعير من الصيد فيقال لذلك "المسوق".
وفي جزيرة العرب حيوانات وحشية، وقد قتل فيها الأسد الآن. أما في الجاهلية، فقد كان معروفًا في مواضع عديدة عرفت عندهم بالمآسد، جمع مأسدة1، وقد كانوا يصطادونه بطريقة إسقاطه في حفر تغطى، فإذا سار عليها الأسد سقط فيها، وبطرق أخرى. وهناك الفهود والنسور والضباع والذئاب، وتكثر القردة في المناطق الجبلية وفي النجود، وهي لا تزال موجودة في نجود الحجاز واليمن والعربية الجنوبية.
ويقال لمأوى الأسد في خيسه: "العريس" "والعريسة". ويصعب صيده وهو في مكمنه، وضرب المثل بذلك فقيل:
كمبتغي الصيد في عريسة الأسد
__________
1 "وأرض مأسدة: كثير الأسد"، اللسان "2/ 72"، "أسد".(8/269)
وقال طرفة:
كليوث وسط عريس الأجم1
ومن الحيوانات الوحشية المعروفة في جزيرة العرب الحمار الوحشي. ويظهر أن بعض الناس كانوا يأكلونه، بدليل ما ورد في كتب الفقه من النهي عن أكل لحوم الحمر الوحشية. ويذكر علماء اللغة أن الحميريين كانوا يطلقون على الحمار لفظة "العكسوم" و "الكسعوم"2.
ويكثر الظبي في جزيرة العرب، ويطمع فيه الصيادون. وقد كان الجاهليون يلجئون إلى جحوره فيسدون أبوابها ويحفرون من موضع آخر للوصول إليه، كما كانوا يضربون بحجر على الحجر ليفزع الظبي، فإذا فزع تهيأ للقتال، وتهيأ الصياد للقبض عليه، ويتحايل عليه فيقبض عليه من ذيله. وهو ما زال كثيرًا في مواضع عديدة من جزيرة العرب، وقد استعملت السيارة في الزمن الحاضر في صيده وذلك في باب التجديد في الصيد3.
والنعام من الحيوانات المعروفة في جزيرة العرب. وقد ذكر علماء اللغة ألفاظًا كثيرة قالوا إن العرب أطلقوها على النعام، على ذكر النعامة وعلى أنثاها وعلى صغار النعام. ومنها "الجعول" ويراد بها ولد النعام، وهي يمانية. وكذلك لأصوات النعام وجماعاتها4. وورود هذه الألفاظ دليل على كثرة النعام في جزيرة العرب ووقوف العرب عليها.
وأما أهل السواحل، فقد اضطرتهم طبيعة بلادهم على الاصطياد في البحر، على اصطياد سمكه، للاعتياش عليه ولبيع الفائض منه. أو لتجفيف الزائد منه لأكله وقت الحاجة أو لتقديمه علفًا لحيواناتهم. وقد اشتهر سكان الخليج في الجاهلية أيضًا بالغوص لاستخراج اللؤلؤ من الصدف الكامن على قاع البحر. وقد كان يؤتيهم ذلك أرباحا طائلة، أما أهل باطن جزيرة العرب والأماكن البعيدة عن السواحل فقد قل علمهم بالسمك، لعدم وجود أنواع منه في البوادي. وعدم إمكان إيصاله طريًّا إليهم. فقلت أسماء أنواعه في لهجاتهم. بينما نجد له أسماء عديدة في لغات أهل السواحل لوجود أنواع عديدة منه في البحار كانوا يصطادونها. فتكون القسم الغالب من اللحم عندهم.
__________
1 اللسان "6/ 136"، "عرس".
2 المخصص "8/ 47".
3 فؤاد حمزة: في بلاد عسير "ص23".
4 المخصص "8/ 51 وما بعدها".(8/270)
وذكر علماء اللغة أن "السمك" الحوت من خلق الماء1. وذكر أن الحوت ما عظم من السمك2. ومن أنواع سمك الحوت: "القرش"3. وهو من الأسماك العظام.
ومن وسائل صيد السمك "العروك"، خشب يلقي في البحر، يركبون عليه، ويلقون شباكهم، يصيدون السمك4. و "العركي" صياد السمك. ولهذا قيل للملاحين عرك، لأنهم يصيدون السمك. وفي الحديث في كتابه إلى قوم من اليهود: "إن عليكم ربع ما أخرجت نخلكم؛ وربع ما صادت عروككم، وربع المغزل". والعروك هم الذين يصيدون السمك5.
ومن عادة ملوك الحيرة والغساسنة أنهم كانوا يتبدون في المواسم الطيبة من السنة، بعد هطول الأمطار واكتساء البادية بسط الربيع، وتعييد الطيور والماشية بالمناسبة السعيدة. وكانوا يخرجون إلى البوادي للاستمتاع بالمناظر الجميلة وللصيد والقنص، ومن الأماكن التي كان ملوك الحيرة يقصدونها منزل "ماوية"، وهو منزل بين مكة والبصرة6. ذكر أن الملك "النعمان" كان إذا أراد الاستئناس برؤية حلل الربيع والماء، خرج إلى "النجف" وإلى البادية، فتنصب له ولأصحابه القباب ويمضي أيامًا هناك يتصيد ويستمتع بمنظر الشقائق ذوات الألوان الأخاذة للقلوب، حتى زعم أن "شقائق النعمان" إنما سميت بذلك نسبة إليه. جاء إلى موضع وقد اعتم نبته من أصفر وأحمر وإذا فيه من هذه الشقائق ما راقه ولم ير مثله، فقال: ما أحسن هذه الشقائق! احموها! وكان أول من حماها، فسميت شقائق النعمان بذلك7.
ويظهر من حديث جرى بين يدي "النعمان" أن من العرب من كان يذم الصياد، ويفضل صاحب الإبل عليه. فقد روي أن "معاوية بن شكل" ذمَّ
__________
1 تاج العروس "7/ 144"، "سمك".
2 تاج العروس "1/ 529".
3 تاج العروس "4/ 337"، "قرش".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 277".
5 تاج العروس "7/ 161"، "عرك".
6 الاشتقاق "191".
7 تاج العروس "6/ 398"، "شق".(8/271)
"حجل بن نضلة" بين يدي النعمان، إذ قال فيه: "إنه مقبل النعلين، منتفخ الساقين، قعو الإليتين مشاء بأقراء، قتال ظباء، بياع إماء". فقال له النعمان: "أردت أن تذمه، فمدحته"، وصفه بأنه صاحب صيد لا صاحب إبل1. ولعله قصد بذلك أنه كان صيادًا محترفًا، اتخذ الصيد حرفة له. فقد كان بين الصيادين قوم اتخذوا الصيد لهم حرفة. فإذا اصطادوا باعوا صيدهم، ولم يستفد منه، فهو مثل الجزار، الذي يبيع اللحم ولا يطعم أهله منه، ولذلك نظروا إليه نظرة استصغار.
__________
1 اللسان "15/ 179"، "قرا"، تاج العروس "10/ 290"، "قرى"، "وقد وجدنا العرب يستذلون الصيد ويحقرون الصياد"، الحيوان "3/ 309" "هارون".(8/272)
سباق الخيل:
والتسابق على ظهور الخيل رياضة الأثرياء والفرسان القديمة. وهي لا تزال معروفة، وإن كانت قد أخذت تلفظ أنفاسها بسب إقبال الأثرياء على ركوب السيارات الفخمة التي لفتت أنظارهم وجرتهم إليها، فلم يبق من يمارس تلك الرياضة إلا أولئك الذي لم تصل السيارات إليهم بكثرة، لوعورة الطرق وإمعانهم في البوادي وابتعادهم عن المواطن التي أخذت تغزوها منتجات الغرب.
ويذكر أهل الأخبار أن أول من ركب الخيل "إسماعيل"، ولذلك سميت ب "العراب"، وكانت قبل ذلك وحشية كسائر الوحوش. خرج إلى موضع "أجياد"، فنادى بالخيل، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا أجابته فأمكنته من نواصيها وتذللت له. ولذلك قال النبي: "اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسماعيل"1.
وراهن أهل الجاهلية على الخيل، فكانوا يخرجون إلى السباق ويقال: مجتمع الناس للرهان، ثم يتراهنون هنالك على الخيل المتجمعة و "السابق" من الخيل، وهو الأول، هو الذي يأخذ الجائزة الأولى، ويتلوه "المصلَّي" وهو الفائز الثاني2. و "الحلبة" الدفعة من الخيل في الرهان خاصة، وقيل: خيل تتجمع
__________
1 الدميري، حياة الحيوان "1/ 311".
2 العقد الفريد "1/ 206 وما بعدها".(8/272)
للسياق من كل أوب1. ومجمع الخيل.
ويقال للحبل الذي يمد في صدر الخيل عند الإرسال الحلب. والمنصبة الخيل حين تنصب للإرسال. ويقال للسابق من الخيل: الأول، والمصلي الثاني الذي يتلوه. وما سوى ذينك يقال له الثالث والرابع وكذلك إلى التاسع ثم السكيت. فما جاء بهد ذلك لا يعتد به. والغسكل الذي يجيء آخر الخيل. وذكر: أن: أسماء خيل الحلبة عشرة لأنهم كانوا يرسلونها عشرة عشرة، وسمي كل واحد منا باسم. فالأول منها السابق. وهو المجلي لأنه كان يجلي عن صاحبه، والثاني المصلي لأنه يضع جحفلته على صلا السابق، والثالث المسلي، والرابع والخامس المرتاح، والسادس العاطف، والسابع المؤمل، والثامن الحظي، والتاسع اللطيم، والعاشر السكيت، والغسكل الذي يجيء آخر الخيل في الحلبة. ويقال للحبل الذي يجعل في صدور الخيل يوم الرهان المقبض والمقوس. وقيل في أسماء خيل الحلبة أن أولها المجلي ثم المصلي ثم المسلي ثم العاطف ثم المرتاح ثم الحظي ثم المؤمل. هذه السبعة لها حظوظ، ثم التي لا حظوظ لها. اللطيم، ثم الوغد، ثم السكيت2.
وكانوا يضعون عند نهاية الحد الذي يقررونه للسباق قصبة فمن يصل إليها قبل غيره من المتسابقين، يعد السابق لقصبة السبق، ويكون قد أحرز القصب لأن الغاية التي يسبق إليها تذرع بالقصب. وتركز تلك القصبة عند منتهى الغاية، فمن سبق إليها حازها واستحق الخطر3.
و"الخطر" الذي يوضع بين أهل السباق، وقيل الذي يوضع في النضال والرهان في الخيل فمن سبق أخذه. والسابق إذا تناول القصبة، علم أنه قد أحرز الخطر4. وكانوا يقلدون السابق من الخيل؛ ولا يقلد من الخيل إلا سابق كريم. ويقولون للسابق من الخيل: المقلد5.
__________
1 تاج العروس "2/ 311"، "الكويت".
2 نهاية الأرب "2/ 102 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 151"، "روح".
3 اللسان "1/ 677"، "قصب".
4 اللسان "4/ 251"، "خطر"، "10/ 151".
5 تاج العروس "2/ 475"، "قلد".(8/273)
وقد سابق الرسول بين الخيل التي قد ضمرت من موضع "الخفياء" إلى "ثنية الوداع" والمسافة بين الموضعين خمسة أميال أو ستة، وقيل ستة أميال أو سبعة. وسابق بين الخيل التي لم تضمر من "الثنية" إلى مسجد "بني زريق" والمسافة ميل أو نحوه. وسابق بين الخيل على حلل أتته من اليمن، فأعطى السابق ثلاث حلل والمصلي حلتين، والثالث حلة، والرابع دينارًا، والخامس درهمًا، والسادس قصبة. وقد ساهمت خيله في السباق.
وراهن رسول الله على الخيل، وذكر أن أول مسابقة كانت في الإسلام سنة ست من الهجرة. سابق رسول الله بين الخيل، فسبق فرس أبي بكر فأخذ السبق. والمسابقة مما كان في الجاهلية، فأقرها الإسلام1.
وفي الحديث: أحاديث عن الرسول في السبق، منها: " لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر "، فالخف للإبل، والحافر للخيل، والنصال للرمي2 وبقية الأحاديث في كتب الحديث والفقه.
ولم يقتصر السباق عند الجاهليين على السباق بين الخيل، بل سابقوا بين الإبل، وجعلوا للسباق خطرًا، كما سابقوا بين الكلاب والحمير والحيوانات الأخرى.
ومن سباق أهل الجاهلية والإسلام، السبق بالنصل، أي المراماة بالسهم. وذلك بأن يوضع خطر، ويذكر عدد الرمي والهدف، فمن أصاب الهدف أكثر من غيره نال السبق. وقد عرف نفر من الجاهليين بإصابتهم الهدف، وبقوة رميهم، وجعلوا لقوة الرمي وشدته أو لرخاوته ولمكان من إصابته الهدف درجات هي: الخاضل، والخازق والخاسق، والحابي، والمارق، والخارم، والمزدلف. والخاضل الذي يقرع الشن ولا يخدشه، والخازق الذي يخدشه ولا يثقبه، والخاسق الذي يثقبه ويثبت فيه، والحابي أن يدني الرامي يده من الأرض فيرميه فيمر على وجه الأرض فيصيب الهدف، والمارق الذي يمرق الشن
__________
1 نهاية الأرب "9/ 368 وما بعدها"، القسطلاني، إرشاد "5/ 78 وما بعدها".
2 اللسان "10/ 151"، "سبق".(8/274)
أي يثقبه وينفذ فيه، والخارم الذي خرم طرف الشن أي يقطعه، والمزدلف الذي يسقط بقرب الغرض ثم يشتن فيصيب الهدف1.
وفي السباق: المناضلة، وهي المباراة في الرمي: والنضيل هو الذي يرامي ويسابق. والمناضلة المفاخرة والتسابق الأشعار2. وتكون المباراة في الرمي بثلاثة أنواع: مبادرة، ومحاطة، ومناضلة. فالمبادرة أن يشترطا إصابة عشرة من عشرين، فيبتدر أحدهما إلى العشرة فينضل صاحبه، والمحاطة أن يقولا نرمي عشرين رشقًا على أن من فضل صاحبه بخمس إصابات فقد نضله، فإذا اشترطا ذلك، ورمى كل واحد مهما عشرين رشقًا وأصابا إصابات نظر إن استويا في الإصابة لم يحصل النصل، وأن تفاوتا في الإصابة حط الأقل أو الأكثر، فإن بقي لصاحب الأكثر الخمس المشروطة فقد نضل صاحبه، وإن بقي له أقل من الخمس المشروطة لم يحصل النضل. والناضلة أن يشترطا عشرة من عشرين على أن يستوفيا جميعًا، فيرميان معًا جميع ذلك، فإن أصاب كل واحد منهما عشرة أوفوقها أو دونها لم يحصل النضل، وإن أصاب واحد منهما دون العشرة والآخر عشرة فما فوقها، فقد نضل صاحبه3.
وللعرب عناية خاصة بالخيل، وما زالوا يعتنون بها إلى اليوم، حتى لقد حفظوا أنسابها حفظهم لأنساب الناس، وألفوا الكتب فيها. ونجد في كتب الأدب واللغة أسماء خيل اشتهرت في الجاهلية. وذكر "ابن النديم" في كتابه "الفهرست" أسماء كتب ألفت في الخيل، ذهب أكثرها، وبقي بعض منها. ونجد في "تاج العروس" أسماء خيل اشتهر أمرها في الجاهلية ذكرت في مواضع متناثرة من أجزاء الكتاب4. وذكر معها أسماء أصحابها، كما أشار إلى مؤلفات رجع إليها في هذا الموضوع مثل كتاب الخيل لابن الكلبي5، وقد طبع،
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 254".
2 تاج العروس "8/ 138"، "نضل".
3 بلوغ الأرب "3/ 355".
4 تاج العروس "9/ 60"، "لطم".
5 وقد طبع ببولاق بمصر، "أنساب الخيل"، "ليدن".(8/275)
وكتاب الخيل لأبي عبيدة وقد طبع كذلك، ومؤلفات أخرى لم تطبع حتى الآن1.
__________
1 أسماء الخيل، لابن الأعرابي، وقد طبع ب "ليدن"، ولأبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل المعروف بابن الأجدابي، كتاب كفاية المتحفظ ونهاية المتلفظ على ألوان الخيل، مطبوع، نهاية الأرب "10/ 14".(8/276)
ولائم العرب:
الوليمة كل طعام يصنع لعرس وغيره ويدعى إليه. وأما الدعوة: فهي أعم من الوليمة، وأما المأدبة، فكل طعام صنع لدعوة أو عرس. والآدب الداعي إلى الطعام1. وولائم العرب ست عشرة وليمة. هي: وليمة العرس، وهي ما يصنع للدخول بالزوجة، و "الملاك" "الأملاك" وهي ما يصنع للخطبة، و "الخُرس" وهي طعام يصنع للنفساء لسلامة المرأة من الطلق، وقيل: هي طعام الولادة. و "العقيقة" وهي ما يصنع للطفل بعد ولادته وتختص باليوم السابع، و "الأعذار" وهي ما يصنع للختان، و "الشندخ" وهي أيضًا طعام الأملاك، و "الوكيرة" وهي ما يصنع للبناء يعني للسكن المتجدد، و "التحفة" هي ما يصنع للزائر، و "الشندخ" وهي طعام الأملاك كما ذكرت، وما يصنع عند وجود الضالة، و "النقيعة" وهي ما يصنع للقدوم من السفر، وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم والتي تصنع له تسمى "التحفة"، و "القرى" وهي ما يصنع للضيف، و "الوضيمة" وهي ما يصنع للميت، أي لأهل المصيبة.
ويقال للدعوة التي تعم دعوتها "الجَفلى"، وأما "النقرى" فهي التي تخص دعوتها. قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر
__________
1 اللسان "1/ 206"، "أدب"، المخصص، لابن سيده "4/ 188 وما بعدها"، البخلاء، للجاحظ "246"، "دار بيروت، بيروت 1960"، النهاية، لابن الأثير "2/ 34".(8/276)
يفتخر بقومه وأنهم إذا صنعوا مأدبة دعوا عمومًا لا خصوصًا، وخص أيام الشتاء لأنها أيام الشدة والضيق1.
ويقال للطعام المستعجل، وهو الذي يقدم للراكب: "العُجل" و "العجيل"، وهو من السويق والتمر في الغالب. وإذا أكرم رجل رجلا آخر بتقديم "اللبن" إليه، قيل لذلك الكرم "القفي"، ويقال لما يرفع للإنسان من المرق "العفارة". وهنالك أسماء تجدها في كتب اللغة لأنواع المأكول والأطعمة2.
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 385"، البخلاء، للجاحظ "246"، المخصص "4/ 120".
2 المخصص "4/ 120 وما بعدها".(8/277)
فهرس: الجُزْءُ الثَّامِن
الفصل السادس والأربعون
أنساب القبائل 5
الفصل السابع والأربعون
القبائل العدنانية 58
الفصل الثامن والأربعون
الناس منازل ودرجات 132
الفصل التاسع والأربعون
الحياة اليومية 197
الفهرست 279(8/278)
فهرس: الجُزْءُ الثَّامِن
الفصل السادس والأربعون
أنساب القبائل 5
الفصل السابع والأربعون
القبائل العدنانية 58
الفصل الثامن والأربعون
الناس منازل ودرجات 132
الفصل التاسع والأربعون
الحياة اليومية 197
الفهرست 279(8/278)
المجلد التاسع
الفصل الخمسون: البيوت
مدخل
...
الفصل الخمسون: البيوت
ومساكن العرب متباينة مختلفة. منها: البيوت المتنقلة، ومنها المباني المبنية بالمدر أو الحجر، وهي أبنية أهل الحضر. وهي مختلفة أيضًا في طرازها المعماري وفي سعتها ومادتها ويكون اختلافها باختلاف مكانها وباختلاف مكانة صاحبها، ومنزلته من حيث الغنى والفقر.
والبيت لفظة تطلق على الصغير من البيوت وعلى الكبير منها. وقد جعل "ابن الكلبي" بيوت العرب ستة: قبة من أدم، ومظلة من شعر، وخباء من صوف، وبجاد من وبر، وخيمة من شجر، وقنة من حجر، وسوط من شعر، وهو أصغرها. وذكر بعض علماء اللغة أن الخباء بيت صغير من صوف أو شعر، فإذا كان أكبر من الخباء فهو بيت، ثم مظلة إذا كبرت عن البيت. وهي تسمى بيتًا أيضًا إذا كان ضخمًا مزوقًا. وذكر بعض آخر أن الخباء بيت يعمل من وبر أو صوف أو شعر. ويكون على عمودين أو ثلاثة. والبيت يكون على ستة أعمدة إلى تسعة. وذكر أن الخباء هو البيت كيفما كان1.
وذكر علماء اللغة أن البناء المبني، ويراد به أيضا البيت الذي يسكنه الأعراب في الصحراء. ومنه الطراف والخباء والبناء والقبة والمضرب2. والطراف بيت من
__________
1 تاج العروس: "1/ 529"، "بات".
2 تاج العروس: "10/ 46"، "بنى".(9/5)
أدم ليس له كفاء، وهو من بيوت الأعراب ذكر في شعر طرفة بن العبد:
رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد1
وقد اشتهر "بنو قيدار" بخيمهم المصنوعة من شعر الماعز. وقد أشير إليها في التوراة. وهم رعاة في الغالب يعيشون على الرعي، ولذا اتخذوا بيوتهم من شعر الماعز، فصارت ذات لون أسود. وقد اشتهروا ببراعتهم في الرمي بالقوس2.
وأصحاب الخيام المصنوعة من شعر الماعز أو من الصوف، هم من الأعراب أصحاب الماشية، الذين يعيشون في مواضع تكثر فيها الأمطار وتكون غير بعيدة عن المدن والقرى ومواضع الماء، ولذلك يعيشون في الغالب على الرعي.
وفي سعة الخيمة دلالة على منزلة صاحبها ومكانته وثرائه. ولذلك يفتخر العزيز منهم بسعة بيته، أي خيمته. وقد تقطع الخيمة بقاطع، يقسمها إلى قسمين: قسم للحريم، أي للنساء والسكن، لا يدخله غريب. وقسم يكون للرجال وللضيوف، يجلسون ويأكلون فيه. ويكون ناديًا ومضيفًا يخصص للقادمين ولضيوف صاحب ذلك البيت.
ولسيد القبيلة خيمة كبيرة تكون "مضرب القبيلة"، ومقر السيد الرئيس ونادي القوم. يسمر فيها "رب القبيلة"، ويأوي إليها الضيوف3. وإليها يلتجئ المحتاج ومن به حاجة إلى الإقراء أو أية حاجة أخرى. ويفتخر سيد القبيلة بمضربه هذا، ويتباهى به على أقرانه، وتفتخر قبيلته به أيضا؛ لأنه يرفع رأسها بين القبائل. وورد المضرب: الفسطاط العظيم، وهو فسطاط الملك4.
وتضرب للسادات الأشراف والأغنياء قبب خاصة تكون من الأدم. فكان لرؤساء القبائل أصحاب العز قباب من أدم، كما كان من عادة ملوك الحيرة ضرب قباب من الأدم لأصحاب الجاه وسادات القبائل الكبار الذين يفدون عليهم.
وتعتبر هذه القباب من أمارات التعظيم والتفخيم والامتياز والجاه عند الملوك. ولذلك
__________
1 اللسان "9/ 219"، "طرف"،تاج العروس "6/ 179"، "طرف".
2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 230".
3 تاج العروس "3/ 247"، "الكويت" "ضرب".
4 تاج العروس "1/ 348"، "ضرب".(9/6)
يعامل من تضرب له القبة معاملة خاصة. وتعرف قبة الأدم بـ "قبة المبناة" أيضا1.
وذكر بعض علماء اللغة أن القبة هي البناء من الأدم خاصة. وذكر بعض آخر أن القبة من الخباء بيت صغير مستدير، وهو من بيوت العرب2.
وذكر "الطبري" في كلامه عن غزوة الخندق، أن الرسول أدار المعركة "وهو ضارب عليه قبّة تُرْكِيّة"3. ولم يشر إلى شكل هذه القبّة ولا إلى سبب تسميتها بذلك.
وقد اشتهرت "القباب الحُمْر"المصنوعة من أدم، يأوي إليها أصحاب الجاه واليسار والمشهورون. وقد ذكر أن النابغة الذبياني كان يضرب له بسوق عكاظ قبة حمراء من أدم، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها. وكان ممن أنشده "حسان بن ثابت". وقد انتقده النابغة بأدب ولطف4. وقيل: إن بيت الأدم، قبة الملك، يجتمع فيها كل ضرب، يأكلون الطعام5.
ويذكر أهل الأخبار أن العرب تضرب الأخبية لأنفسها، والمضارب لملوكها، والمضارب إنما ترتبط بالأوتاد6. وذكر أن الخباء هو ما كان من وبر أو صوف ولا يكون من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت.
وقيل: الخباء من شعر أو صوف، وهو دون المظلة. وهو من بيوت الأعراب7.
وذكر أن "المظلة" الكبير من الأخبية ذات رواق، وربما كانت شقة وشقتين وثلاثا، وربما كان لها كفاء وهو مؤخرها. قال بعض علماء اللغة: إنها تكون من الشعر، وقال بعض آخر: لا تكون إلا من الثياب8.
و"المضرب" الفسطاط العظيم، وهو فسطاط الملك. وقد استعمل للملوك خاصة، لأصحاب الجاه والعز والمكانة. ولهذا كانوا إذا مدحوا إنسانًا وأرادوا
__________
1 البرقوقي "ص156"، اللسان "14/ 95"، "بني".
2 تاج العروس "1/ 419"، "قبب".
3 تاريخ الطبري "2/ 568".
4 البرقوقي "ص371 وما بعدها".
5 المعاني الكبير "3/ 1254".
6 مجمع الأمثال "1/ 364".
7 اللسان "14/ 223"، "خبي"، "14/ 95"، "بني"، تاج العروس "1/ 59 وما بعدها"، "خبا".
8 تاج العروس "7/ 427"، "ظلل".(9/7)
الإشادة بمكانته وبمنصبه قالوا: "إنه لكريم المضرب شريف المنصب"، وإذا أرادوا ذَمَّ إنسان، قالوا: "مايعرف له مضرب عسلة"1، و"لا منبض عسلة"، أي: من النسب والمال، يقال ذلك إذا لم يكن له نسب معروف ولا يعرف أعراقه في نسبه2. ولما كانت المضارب من بيوت الملوك، وأهل الجاه وهم خيار الناس ونخبتهم، صارت المضارب كناية عن الجاه والشرف والمال.
و"السرادق"، كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء. وقيل: كل بيت من "كرسف" فهو سرادق3. وترد اللفظة في الفارسية بمعنى حائط أو حاجز من نسج غليظ حول خيمة4.
وذكر أن "الفسطاط" ضرب من بيوت الشعر. والظاهر أنه البيت الكبير. وورد "الفسطاط العظيم"، وهو "فسطاط الملك"5. وذكر أن الفسطاط هو مجتمع الناس. وذكر أن الفسطاط ضرب من الأبنية في السفر دون السرادق وبه سميت المدينة: مدينة الفسطاط6. ويظهر أن الكلمة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وهي في هذه اللغة بمعنى "خيمة"7.
و"الطراف" خباء من أدم يتخذه الأغنياء8. و"الطوارف" من الخباء ما رفعت من جوانبه ونواحيه للنظر إلى خارج9. قال عروة بن الورد:
رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد10
يعني أن الفقراء يعرفونني بإعطائي، والأغنياء يعرفونني بفضلي وجلالة قدري وتكون بيوت الأعراب المتناثرة، وهي خيامها، منازل القبيلة ومضاربها.
وتحيط خيامها بخيم الرئيس. فتكون من ذلك مستوطنة بدوية. ومنها يتألف مجتمع
__________
1 بفتح الميم وكسر الراء.
2 تاج العروس "1/ 349"، "ضرب".
3 اللسان "10/ 157 وما بعدها".
4 غرائب اللغة "233".
5 تاج العروس "3/ 247"، "الكويت" "ضرب".
6 اللسان "7/ 371"، "فسط"، تاج العروس "5/ 198 وما بعدها"، "فسط".
7 غرائب اللغة "240".
8 تاج العروس "3/ 437"، "غير".
9 تاج العروس "6/ 178"، "طرف".
10 تاج العروس "3/ 437"، "غبر".(9/8)
البوادي. ويرتبط حجم هذه المستوطنات، بسعة ماء المكان وبعدد بيوت القبيلة النازلة به، فإن كان الماء قليلًا، قل عدد خيامها، وإن كان غزيرًا، كثر عددها. واتسعت رقعة المضارب اتساعًا بتناسب مع كفاءة ذلك الماء وما على الأرض من رزق تعيش إبلهم عليه.(9/9)
بيوت أهل المدر:
أما أهل القرى والمدن، أي أهل المدر، وهم المستقرون وشبه المستقرين، فإنهم يقيمون في بيوت ثابتة أو شبه ثابتة. وهي تتفاوت بالطبع بتفاوت منازل ودرجات أصحابها. فربّ بيت يكون من خيمة أو من أغصان شجر وعيدان وجريد، ويقال له: "العنة". وقد قيل: إن العنة الخيمة تتخذ من أغصان الشجر1.
وقيل: البيت يعمل من الخشب2. وربّ بيت يكون من طين، ويسقف بجريد أو بأغصان أو بحصير يطين أيضًا. ويختلف حجم مثل هذا البيت باختلاف حجم العائلة. وقد يبنى البيت باللبن وهو الغالب، وتكون حالة أصحابها أحسن من حالة أصحاب بيوت الطين.
وكنتيجة لتيسر مواد البناء في العربية الجنوبية، ظهرت مدن لا نجد لها مثيلًا في أنحاء أخرى من جزيرة العرب. مدن كبيرة بيوتها ثابتة وبعضها ذو جملة طوابق، تحاط بأسوار عالية وأبراج وحصون يأوي فيها المدافعون. وقد تمكن المنقبون من التنقيب في بعض خرائبها ومن وضع مخططات لبعض شعابها أو مخططات عامة مبدئية للمدينة كلها وللسور الذي كان يحتضنها.
والقرية في نظر علماء العربية لفظة يمانية الأصل. يقولون: إنها المصر الجامع، وكل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارًا. وتقع على المدن وغيرها3. ولكن الأغلب أنها أصغر حجمًا من المدن. وأنها تكون غير مسورة. فإذا أحاط بها "سور" صارت مدينة. وذلك على نحو ما نفهم من نصوص الجاهليين ومن
__________
1 الاشتقاق "ص312".
2 المعاني الكبير "2/ 1121".
3 تاج العروس "10/ 290"، "قرى".(9/9)
المتعارف عليه بين الساميين من أن القرية أصغر حجمًا من المدينة. وأن المدن هي القرى الكبيرة المسورة1. وقد فهم علماء العربية هذا المعنى بالنسبة للمدينة أيضًا. إذ قالوا: مدينة الحصن يبى في اصطمة الأرض2. وتقابل "مدنتو" Medinto في لغة بني إرم3. وتقابل لفظة "هكر" "هجر" "هجرن" "هكرن" في لغة أهل اليمن. وهي لا تزال مستعملة في العربية الجنوبية لهذا اليوم. وذكر علماء اللغة أن "هجر" هي القرية بلغة حمير4.
وورد أن العرب تسمي "القرى" مصانع، واحدتها مصنعة. يقال: هو من أهل المصانع، أي القرى. و"المصانع" أيضًا المباني من القصور والحصون5.
ويطلق العرب على الرجل من أهل القرى مصطلح: "أخضر النّواجذ"، يريدون أنه ممن يأكل الكرات والبصل والبقول والخضر6. ولا يتناول الأعراب هذه الخضر.
وفي العربية لفظة "الحير" بمعنى شبه الحظيرة والحمى، و"الحيرة" بمعنى المعسكر والمقام، و"الحائر"7 وهي من مواطن الحضر، أي من المستوطنات.
قد كانت مستعملة بين الجاهليين. ومثلها "الحاضرة" و"الحضرة" و"الحضر"، وهي المدن والقرى والريف. وهي من مساكن الحضر وأهل القرار8.
وتسمى المدن بأسماء. أما القرى والمستوطنات الصغيرة، فقد تسمى بأسماء، وقد تنسب إلى أصحابها المالكين لها أو إلى العشائر أو الأفخاذ أو الأسر النازلة بها. ولا تزال هذه العادة متبعة في مواضع من جزيرة العرب. أما بيوت كبار الناس وأغنيائهم، فتستعمل فيها الحجارة والخشب وغير ذلك من مواد تجعل البناء يدوم أمدًا ويعيش مدة طويلة، وبفضل ذلك بقيت آثار بعض منها حتى الآن.
ولا يزال الناس في مواضع من جزيرة العرب، ولا سيما الأماكن المعزولة
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 321"، Hastings, P. 143
2 تاج العروس "9/ 343".
3 غرائب اللغة "205".
4 تاج العروس "3/ 614"، "هجر".
5 تاج العروس "5/ 422"، "صنع".
6 الحيوان "3/ 248"، "هارون".
7 تاج العروس "3/ 164 وما بعدها"، "حار".
8 تاج العروس "3/ 146"، "حضر".(9/10)
القصية، يتخذون بيوتًا تشبه بيوت العرب قبل الإسلام، وخاصة بيوت سادات القبائل والرؤساء. وبعض ذلك قصور وحصون ذوات جدر وأسوار مرتفعة وتقوم في طرف من الأرض أبراج لها مزارق ومرابيع للدفاع، وأبراج مربعة. وقد تقع البيوت في عدة طبقات تحمى بمختلف وسائل الدفاع. وتستعمل الزينة من أصباغ محلية ومن حجارة طبيعية ذوات ألوان مختلفة. وأعتقد أن هذه الأبنية يجب أن يعنى بدراستها المهندسون المعماريون والآثاريون، فإن دراستها تحل لنا مشكلات كثيرة للفن العربي الجاهلي، وتوصلنا إلى وضع مخططات عن بقايا الأبنية الجاهلية القديمة التي تهدمت غالبيتها، أو اعتدى عليها الإنسان ويا للأسف فاستخدم حجارتها في أبنيته الحديثة، وقضى بذلك على معالمها في الغالب، وتجاوز على حجارتها المكتوبة فحطمها وأبادها، وبذلك ألحق بتأريخ العرب قبل الإسلام ضررًا بليغًا.
وأعظم شيء في المدن هو هياكلها، أي معابدها المسماة بأسماء الآلهة التي بنيت لها، وقصور الملوك وسادات القوم وأشرافهم. فلهؤلاء مال مكنّهم من بناء قصور ضخمة ذات جملة طوابق، بنوها بحجارة طبيعية اقتلعت من الصخور، وزخرفوا الوجوه البارزة منها، وافتنَّ فيها الفنانون على وفق أذواقهم وذوق طبيعة بلادهم، ونشروا الرخام الأبيض والملون وشرحوه ألوانًا رقيقة جعلوها في النوافذ بدلًا عن الزجاج. فهذه الأماكن إذن هي التي تتحدث لنا عن العمارة عند الجاهليين.
وقد استعين في بناء بعض المدن بحجارة اقتلعت من مواضع بعيدة بعض البعد عنها في بعض الأحيان. فقد بنيت "قرنو" "معين"، بحجارة جلبت من موضع يبعد عشرين كيلومترًا تقريبًا من شمال "معين"، من "جبل اللوذ" أو من جنوب "جبل يام". ويرى بعض الباحثين احتمال جلب بعض الصخور إليها من مواضع تبعد ثمانين كيلومترًا من المدينة. وبعض هذه الأحجار ثقيل يبلغ طول الواحدة منها خمسة أمتار1. وجاءوا بـ "المرمر" إلى "شبوة" من موضع "مداث" و"كلوة" على مسافة خمسين كيلومترًا من المدينة2.
وقد تبين من الدراسات العامة الأولية التي قام بها الباحثون لخرائب المدن الجاهلية أن بعضها قد بني على شكل مستطيل، ويحيط به سور مستطيل الشكل أيضًا
__________
1 محمد توفيق، آثار معين "7"، ARABIAN s. 140
2 H. V. Wissmann, Geogr. Grundlagen, S. 78, Arabien, S. 140(9/11)
ذو أبراج، وبعضها بني على شكل إهليلجي أو قريب منه، وبعضها على شكل دائري. وقد أحيطت بأسوار لحمايتها من غزو الغزاة وللدفاع عن نفسها والثبات بوجه الأعداء. ولها أبواب تغلق ليلًا وتحرس حراسة شديدة حتى لا تفاجأ المدينة بعدو يأخذ على حين غرة، كما تغلق وتسد سدًّا محكمًا أيام الحروب.
ويظن أن تخطيط المدن على شكل مستطيل كان هو الشكل الغالب، إذ وجد المنقبون أكثر خرائب المدن قد بني في الأصل على هذا النحو فـ "مأرب" بنيت على شكل مستطيل على رأي بعض من درس آثارها. وكذلك خربة "غربون" في جنوب "المشهد" بوادي "حجرين" بحضرموت. وذهب بعض من زارها إلى أنها كانت مربعة الشكل1. وعلى هذا النحو كانت "شبوة" و"حريب"2 و"يلط" "يليط"3، و"قرنو" التي هي معين في الجوف4.
ومن المدن التي بنيت على شكل إهليلجي تقريبًا مدينة "حاز" "حيزم" وهي محاطة بسور يتراوح ارتفاعه من ستة أمتار إلى ثمانية أمتار، تخترقه خمسة أبواب. وبنيت مدينة "بيحان النقب" التي تقع على مسافة عشرة أميال إلى الشمال من "بيحان" على شكل إهليلجي كذلك5.
وقد تبين أن أكثر المدن اليمانية القديمة قد بني في بطون الأودية على مرتفعات طبيعية، أو صناعية، أي من عمل الإنسان. وقد يكون ذلك بسبب خصب الأودية وتوافر الماء فيها بسهولة، بحفر الآبار أو من العيون أو بواسطة بناء السدود.
غير أن هناك مدنًا أقيمت على الهضاب والنجاد وعلى سفوح الجبال، وذلك لتتمتع حماية طبيعية وليكون من الصعب على الأعداء التغلب عليها. ومن المدن القديمة التي أقيمت في بطون الأودية مدينة "قرنو" "القرن" "معين"، فقد بنيت على تل أقامه المعينيون أنفسهم ارتفاعه خمسة عشر مترًا عن سطح أرض الوادي، وذلك لحماية المدينة من طغيان ماء السيول في الوادي في موسم الأمطار6.
__________
1 Arabien, S. 140, Von Wissmann-M. Beitrage, S. 27, 245, Le Museon, 61, 1948, P. 221.
2 وتسمى بـ "الساحل" في هذا اليوم.
3 وتسمى بخربة سعود في هذا اليوم.
4 محمد توفيق، آثار معين، 4، Arabien, S. 141
5 Rathjens-H. V. Wissmann, Vorislamische Altertumer, S. 101, 102, Arabien S. 141.
6 Arabien, S. 141(9/12)
وتحمي المدن حصون وقلاع، وقد تقام الأسوار على مسافة من المدينة لتشغل العدو وتمنعه من الدنو منها، ثم لتحمي مزارع المدينة وأموالها، وتكون أبنيتها حصينة ذات جدر سميكة فيها منافذ ترمي منها السهام، وفي أعلاها أبراج يرمي منها الرماة الحجارة والسهام على المهاجمين. كما تبنى في المدن نفسها خلف الأسوار، لحماية داخل المدينة من العدو عند تغلبه على الحصون والقلاع الخارجية، وأسوار المدن. وبيوت الملوك والأشراف وسادات المدينة، قلاع وحصون في حدّ ذاتها، فيها كل وسائل المقاومة والدفاع ومخازن لحفظ مواد الإعاشة، وآبار.
ويكاد يكون لكل مدينة من المدن حصن يقيها ويحميها، وقد اشتهرت وعرفت به. فاحتمت "ظفار" مثلًا بحصنها "ذو ريدان"، وأقيمت "شبام سخيم" عند حصن "عر ذو مرمر"، و"شبام أقيان" عند "الوة" "كوكبان"، و"بيحان" عند "ذي ريدان"، و"برج أتوت" على "ميفع ظبيان"، وأنشئت "غيمان" على تلّ مرتفع يحمي المدينة من المهاجمين. وأقيم "ذو معاهر" ليحمي مدينة "وعلان" بـ "ردمان"1.
ويظهر من كتابات المسند ومن الآثار أن بعض مدن اليمن كانت مسورة، يحيط بها سور للدفاع عنها. ويقال لمثل هذه المدن "هجرن" في العربيات الجنوبية، أي "المدن". مثل "هجرن قرنو"2، بمعنى المدينة "قرنو" وهي عاصمة معين. وهو "هجرن مرب"، أي المدينة مأرب، و"هجرن نجرن" أي المدينة نجران، المدينة الشهيرة عاصمة مخلاف نجران والتي لا يزال اسمها حيًّا معروفًا في العربية السعودية في هذا اليوم.
وتختلف أطوال أسوار المدن وارتفاعها بحسب حجم المدن وبحسب مواقعها.
فالمدن الكبيرة تكون أسوارها طويلة يتناسب طولها مع سعتها. والمدن التي تبنى فوق الجبال والهضاب والمحلات الحصينة تكون أسوارها أقل ارتفاعًا من أسوار المدن المبنية في السهول. وقد وجد سور مدينة "قرنو" مستطيلًا، وطوله زهاء أربع مئة متر، وعرضه زهاء خمسين ومائتي متر، وعلى كل زاوية من زوايا هذا المستطيل الأربع برج لمراقبة الأعداء ولرميهم بالحجارة والسهام وبوسائل الدفاع
__________
1 Araien, S. 275
2 REP. EPIGR, Tome V, p. 124, NR. 2774(9/13)
الأخرى التي كانت ميسورة لهم1.
وقد وجدت أسس سور مدينة "حيزم" "حزم"، وهي "حاز"، مبنية بحجر بركاني، أخذ من لابة قريبة من المكان2. على حين بنيت أسس أسوار المدن الأخرى وجدرها من أحجار تقع مقالعها على مقربة من المدن المسورة، ليكون في الإمكان نقلها بسهولة إلى مواضع البناء.
وغالب مدن العربية الجنوبية، لها بابان متقابلان، فإذا كان أحدهما في الجدار الشرقي للمدينة كان الثاني في الجدار الغربي. وقد وجد في بعض المدن أربعة أبواب أو خمسة. فـ "شبوة" عاصمة حضرموت كان لها خمسة أبواب، يقع الباب الرئيسي في الجهة الشمالية من المدينة. وتؤدي الأبواب إلى أفنية تكون متجمع الناس3، تعلن على جدرانها الأوامر الحكومية ليقف عليها الغادي والرائح، ويعلن المعلنون فيها أوامر الحكومة، كما ينادي الدلالون بما عندهم من خبر أو بضاعة. وتكون هذه الساحات أسواقًا كذلك، ومواضع لتنفيذ أحكام القتل أو العقوبات الأخرى ليعتبر بها الناس. وهكذا نجد أن أبواب المدن كانت من أهم الأماكن العامة للمدينة في تلك الأيام.
وقد وجد بعض الأبواب، وهي الأبواب الرئيسية، محصنًا من الجهتين ببناءين قويين، للدفاع عن الباب، فيهما منافذ ومواضع يرمي منها المدافعون من يريد اقتحام المدينة. وبين البناءين أو الحصنين باب قوي يغلق في الليل وعند وقوع خطر ما. ويؤدي هذا الباب إلى ساحة تحيط بها غرف ومواضع لإيواء الجنود، ثم تنتهي هذه الساحة بحائط قوي أو سور يخترقه باب آخر يغلق ويفتح ليؤدي إلى المدينة. والغاية من وجود هذا الباب الثاني سد الطريق على الأعداء عند اقتحامهم الباب الأول وتغلبهم على الجواسيس ووصولهم إلى الساحة التي يقيم فيها الجنود، فيقابلهم عندئذ باب ثان يسد عليهم الطريق ولا يمكنهم من دخول المدينة إلا إذا تغلبوا على هذا الباب.
وقد عُني العرب الجنوبيون بزخرفة الأبواب وبزخرفة الإطار الذي ترتكز عليه،
__________
1 Arabien, S. 143
2 Arabien, S. 140
3 R. A. B. Hamilton, Six Weeks in Shabwa, in geogr. Jour, 1942, 100, 112, Arabien, S. 145, Philby, The Land of Sheba, Geogr. Jour, 1938, 92, 110(9/14)
والجدار الذي يضم الإطار، والأعمدة التي تبنى على جانبي الباب أحيانًا والبناءين المحكمين اللذين يبنيان عند طرفي أبواب المدن والقصور والمعابد لحراستها.
وتتصل شوارع المدن والقرى بهذه الساحات. والشوارع الرئيسية مبلطة في الغالب، ولا سيما الشوارع المؤدية إلى قصور الملوك ودور الكبار والحكومة والمعابد، وتؤدي إلى ساحات أمام هذه المواضع المهمة. ويكون تبليط الشوارع عندهم بتغطيتها بصخور عريضة مستطيلة أو مربعة نحتت بأطرافها بحيث يوضع طرف حجر فوق طرف الحجر الذي يليه، فيظهران كأنهما حجر واحد، أو يصقل أطراف الحجر صقلًا جيدًا ووضعه بجانب حجر مصقول آخر ولصقهما لصقًا تامًّا، حتى يبدوَا كأنهما قطعة واحدة. ويظهر أنهم كانوا يعتنون عناية شديدة تامة بالتبليط. وقد تبين من دراسة بعض قطع شوارع مدينة "غيمان" الباقية من أيام الجاهلية حتى اليوم أن أهل هذه المدينة لم يعتنوا بتبليط شوارعهم عناية أهل المدن الأخرى، كما يتبين من طريق رصف الحجر ومن وضعه بعضه إلى بعض ومن دراسة المواد التي توضع تحت الأحجار وبينها1.
وللمدن حدود، ما كان بعدها عُدّ تابعًا للمدينة، وما كان خارجها عُدّ منقطع الصلة بتلك المدينة. وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة "أود" التي ترد في بعض الكتابات تعني "الحد" كما في هذه الجملة "أود هجرن"، أي "حد المدينة"2. وعندي أن المراد بها "السدود" وكل شيء يقي شيئًا. فإن الأياد في العربية ما أيد به من شيء، وإياد كل شيء ما يقوى به من جانبيه، والتراب يجعل حول الحوض والخباء يقوى به أو يمنع ماء المطر3. وعلى هذا فإن تفسير "أود" بسداد تحيط بمدينة أوفق في نظري من تفسيرها بـ "حد" وحدود"
والواقع أن من الصعب علينا في الزمن الحاضر أن نتحدث عن هندسة المدن وتخطيطها وعن طراز أبنيتها وارتفاعها، وعن ساحاتها وأسواقها، لقلة التنقيبات الأثرية العلمية واقتصارها على وجه الأرض وفي بقاع قليلة جدًّا من جزيرة العرب، وانعدامها من أكثر الأنحاء مع وجود آثار كثيرة فيها لا تزال مطمورة تحت الرمال.
__________
1 Arabien, S. 147.
2 Rhodokanakis, Stud. Lexi, II, S. 151
3 تاج العروس "2/ 293"، "آد".(9/15)
ولو تهيأت للجزيرة بعثات أثرية على شاكلة البعثات التي تقصد العراق أو بلاد الشام أو فلسطين أو مصر أو غيرها من أماكن، لكان علمنا بأحوال المدن العربية الجاهلية وبأحوال الجاهلين غزيرًا جديدًا يختلف عن هذا النزر اليسير الذي نتحدث به عن أحوال العرب قبل الإسلام.
أما الحجاز، فالظاهر أن الطائف منه، كانت القرية أو المدينة الوحيدة المحاطة بجدار أو حائط، يمكن أن نسميه سورًا. وكان يحيط بالمدينة وبه مواضع يتحصن فيها، وفيها تحصنت ثقيف يوم قاومت الرسول في أثناء حصاره لها. وكانت له أبواب أغلقوها عليهم، وامتنع على المسلمين عندئذ الدخول منها، والاقتراب من الجدار. ولما اختفى المسلمون تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف، أرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، وقتلوا رجالا من المسلمين1. وأما مكة، فيظهر من وصف أهل الأخبار لها أنها لم تكن مسوّرة. وإنما كانت ذات منافذ وطرق تؤدي إلى داخل المدينة وتمر بالشعاب. وعلى كل شعب حماية حد شعبه من الأطراف عند دنو عدو من مكة. وأما المدينة، فلم يكن لها سور كذلك.
ويمكن أن يقال مثل ذلك عن بقية قرى الحجاز.
ولا نجد في وصف أهل الأخبار لقرى أهل الحجاز وبيوتها، ما يفيد بوجود أبنية ضخمة فيها على طراز أبنية اليمن. فلم يتحدث أهل الأخبار عن وجود قصور فيها تشبه "قصر غمدان" أو "قصر ذو ريدان" أو غير ذلك من القصور.
حتى مكة وهي أم القرى لا يشير أهل الأخبار إلى وجود بناء ضخم فيها على طراز أبنية اليمن، ولا وجد بيت كبير فيها على طراز بيوت سراة اليمن.
و"دار الندوة"، وهي دار قصي، مؤسس ملك قريش، لم تكن دارًا ضخمة ولا كبيرة على ما يظهر من روايات أهل الأخبار ويظهر أن أهل الأخبار لم يحفلوا كثيرًا بالنواحي العمرانية من الجاهلية، لذلك صارت معلوماتنا بسيطة جدًّا عنها من هذه الناحية. فلا نكاد نعرف شيئًا عن بيوت مكة أو غيرها قبل الإسلام.
وقد كانت بيوت المتمكنين من الناس وأصحاب اليسر والمال، مشيدة بالحجارة وباللبن. ويذكر علماء اللغة أن كل بيت مربع مسطح، فهو "أجم". ويظهر
__________
1 الطبري "3/ 83 وما بعدها"(9/16)
من شعر ينسب إلى امرئ القيس:
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ... ولا أجمًا إلا مشيدًا بجندل1
أن آجام "تيماء"، كانت مشيدة بالجندل. والجندل الحجر، وقيل: الصخور، وذكر أنها الصخرة كرأس الإنسان2. وقد استعين بتشييد السقوف بجذوع النخل.
ويقال للآجام: القصور بلغة أهل الحجاز، وعرفت بالآكام كذلك3، وهي حجر، وذكر أن اللفظة "قرشية"4. ووردت لفظة "قصر" و"قصور" في القرآن الكريم5. وقد ذهب المفسرون إلى أن معنى "مشيد" في الآية: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} 6، المجصص. والجص بالمدينة يسمى: المشيد7. فالقصر، البناء الضخم المبني بالجص والحجارة، وقد يكون منفردًا محصنًا، وقد يكون في قرية، مع قصور أخرى، ولكل قصر بئر، يؤخذ منها الماء. وهي ضرورية جدًّا بالنسبة لبيوت ذلك الوقت.
ويظهر من روايات أهل الأخبار عن البيوت أن في بيوت يثرب بيوت تكونت من طابقين. طابق أرضي وطابق علوي. وكانوا يسكنون الطابقين. ولعلهم كانوا يودعون ماشيتهم ودوابهم الطابق الأرضي، أو مواضع خاصة بها ملحقة بهذا الطابق. وكانت دار "أبو أيوب الأنصاري" التي نزل بها الرسول ذات طابقين نزل الرسول بطابق، وسكن "أبو أيوب" بالطابق الثاني8.
وكان سادات القرى قد حلوا مشكلة الدفاع عن أنفسهم وعن مواليهم ببناء
__________
1 تاج العروس "8/ 180"، "أجم"، اللسان "12/ 8".
2 تاج العروس "7/ 226"، "الجندل".
3 النهاية، لابن الأثير "1/ 78".
4 تاج العروس "3/ 494"، "قصر".
5 الحج، الآية 45، الأعراف، الآية 74، الفرقان، الآية 10.
6 الحج، الآية 45.
7 تفسير الطبري "17/ 127 وما بعدها".
8 الطبري "2/ 396".(9/17)
أبنية حصينة ذات جدران سميكة قالوا لها: الحصون والآطام والواحد هو الأطم.
فكان أهل المدينة من الأوس والخزرج يلجئون إلى آطامهم وقت الخطر فيتحصنون بها ويمتنعون، وكذلك كانت ليهود وادي القرى حصون وآطام. بها آبار ومواضع لخزن ذخيرتهم وما عندهم من غال وثمين ودخلوا حصونهم وآطامهم وأغلقوا عليهم الأبواب. وبذلك صارت القرية مجموعة حصون وآطام.
والأطم القصر وكل حصن بني بالحجارة. وقيل: هو كل بيت مربع مسطح. وقد ورد أن "بلالًا الحبشي" كان يؤذن على أطم المدينة. وقد اشتهرت بها المدينة. وذكر أن الأطمة الحصن. وأن "الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم"، بنى أطمًا باليمن، عرف باسمه: "أطم الأضبط". وكان قد أغار على أهل صنعاء. وأشير في شعر "أوس" إلى "آطام نجران". حيث ذكر أن أحد الملوك بث الجنود في الأرض، فأخذوا بقتل أعدائه ما بين بصرى وآطام نجران1.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن قرى الحجاز ومدنها كانت شعابًا، أي أحياء. تكونت على الطريقة البدوية. وذلك بإقامة كل عشيرة في حيّ معين من أحياء القرية أو المدينة. وتكون بين الحيّ عصبية مثل عصبية أفراد القبيلة للقبيلة.
وينتمي الحي إلى القبيلة أو العشيرة التي يرجع إليها، ويتعصب لها. ويشعر أن بين أفراد الحي قرابة ورابطة دم. ويعبر عن سكان الحي بـ"آل ... ".
ويكون وجيه الشعب، هو نقيبه وممثله وسيده.
وقد يقال للمنزل أو المحلة: "الربع" والجمع "الرباع". وذكر أن "الرباع" المنازل وجماعة الناس2. فتتألف كل قرية أو مدينة من رباع.
وقد كانت "الحيرة" على هذه الشاكلة أيضًا. فقد كانت مؤلفة من مواضع حصينة بناها سادات المدينة وأشراف الأحياء، عرفت عندهم بـ"القصور" والمفرد "قصر". فإذا داهم المدينة خطر دخل أهل الحي قصر سيدهم وشريفهم وتحصنوا به.
__________
1 تاج العروس "8/ 187 وما بعدها"، "أطم".
2 اللسان "8/ 102"، "صادر" "ربع".(9/18)
الأبراج:
وتؤلف الأبراج والحصون صفحة من صفحات كتاب الفن المعماري والحربي في التاريخ الجاهلي. فقد بنيت لتؤدي واجب الدفاع والحماية والوقوف بجبروت وتعنت في وجه من يريد الكيد بمن يحتمي وراء تلك الحصون. وطبيعي أن تراعى في تصميمها وبنائها الأغراض التي من أجلها شيدت وبنيت والمكان الذي تقام عليه. ويراعى في جدران الحصون أن تكون سميكة وأن تبنى بمواد متماسكة تماسكًا شديدًا حتى لا تنهار عند ضرب المهاجمين لها ومحاولتهم تهديمها لإيجاد ثغر فيها يهجمون منها، وتنشأ فيها مخازن لخزن الأسلحة، ويُيَسَّر فيها الماء ومواد المعيشة التي يحتاج إليها المدافعون، وتحدث منافذ في أعالي الأبراج لرمي المهاجمين منها.
ويكون سمك الحائط عند القاعدة أكثر من سمكه أعلاه. وأما الأبواب المؤدية إلى الحصن، فإن الطريق إليها لا يكون مستقيمًا ممتدًّا، بل يأخذ اتجاهات مختلفة، ويمر بممرات وقاعات، ليكون في إمكان المدافعين الاحتماء بها حين يتمكن المهاجمون من اقتحام الباب الخارجي.
وتقام الأبراج فوق الأسوار والأبواب لحمايتها من المهاجمين. وتكون هندسة بنائها عندئذ متناسبة مع هندسة بناء السور أو أعلى الباب. وقد تنتهي بما يشبه الأسنان والأفاريز، ليتمكن المدافع من إصابة المهاجمين بما عنده من مواد مؤذية فيمنعهم بذلك من اقتحام السور ومن إلحاق أي أذى به. وذكر علماء العربية أن "البرج" بيت يبنى على السور والحصن. وقد يسمى بيتًا. وذكروا أن برج الحصن ركنه1. ولم يذكر أولئك العلماء أصل الكلمة. وهو من الألفاظ المعربة عن اليونانية، إذ هو Pirghos فيها. بمعنى "بناء" وبرج فوق بناء يدافع به المدافعون ولصدّ المهاجمين من التقدم نحوه2.
__________
1 تاج العروس "2/ 7ح، "برج"، الكشاف "4/ 199" تفسير الطبري "30/ 127 وما بعدها".
2 غرائب اللغة "254".(9/19)
الطرق:
وتوجد آثار طرق جاهلية في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية مبلطة تبليطًا حسنًا،(9/19)
وأخرى ممهدة تمهيدًا فنيًّا. وقد أنشئ بعضها في أرض جبلية وفي أرضين وعرة، وذلك باستعمال آلات بمهارة في قطع الصخور لإنشاء هذه الممرات. وأنشئ بعض آخر في الأودية وفي السهول برفق وعناية وقد كسيت ورصفت بالأحجار رصفًا متينًا قويًّا كالذي يظهر من بقايا هذه الطرق التي لا تزال متماسكة شديدة، تقاوم الأيام بالرغم من طول عمرها ومن عدم اهتمام الناس بها.
ومن الطرق الجاهلية التي وجدها السياح والباحثون، طريق "مبلقة" "مبلقت"1 في وادي بيحان. الذي يتراوح طوله من ثلاثة أميال إلى أربعة أميال، ويرجع عهده إلى حوالي السنة "325" قبل الميلاد في تقدير بعض الباحثين2 وهو يؤدي إلى "حريب". وقد رصف وجهه وكسي بصفاح ضخم عريض. ونحت قسم منه طوله زهاء مئة قدم في الصخر نحتًا إلى عمق ثلاثين قدمًا، وذلك اختصارًا للمسافة. وهو عمل يقدر بالنسبة إلى ذلك الزمن3.
ومن هذه الطرق طريق مدرج عمله الجاهليون في المرتفعات المؤدية إلى "وادي ذنه" على مقربة من مأرب. "مدرج نقيل" "نقيل مدرج". وقد نحت في الصخر4 وطريق آخر عرضه زهاء أربعة أمتار يقع شمال "معبر"، وطريق آخر يؤدي من هضبة "عقبة" إلى وادي عرمة ثم إلى "شبوة"5. وطريق في جنوب حافة جبل اللوذ، نحت نحتًا في الصخر حتى يؤدي بسالكيه من "خربة السود" إلى "كعاب اللوذ"6. ونجد طرقًا نحتت في صخور المرتفعات والهضاب والجبال لتؤدي إلى الحصون "العر" والمحافد والقصور والمدن مثل "عر ذو مرمر" و"عراتوت" "حصن أتوت" في أرحب، و"قصر ريدان" "ذو ريدان" "جبل ريدان في بيحان"7.
وأشير في النص: Glaser إلى طريق جبلي،
__________
1 "مبلقت" في الكتابات.
2 Arabien, S. 146
3 G. Ryckmans, In Le Museon, 62, 1949, Num: 399, P. 74, 77, Arabien, S. 148.
4 Arabien, S. 146
5 المصدر نفسه.
6 كذلك.
7 كذلك.(9/20)
عمل على جبل "جحاف" في هضبة "الضالع"1.
ومن الطرق الجبلية المسماة "منقل" في المسند2، طريق في جبل "علمان" يؤدي إلى "مأرب"3. وقد ذكر علماء اللغة أن "المنقل: الطريق في الجبل"4.
وقد وصفه "هاملتون"، الطريق القديم الذي ربط عدن بالداخل5. وهناك طريق معروف مشهور اشتهر باسم "درب الفيل"، ينسب إلى "التبع أسعد كامل" في حوالي السنة "400" للميلاد، ومنه بقايا بين "تربة" ومواضع أخرى من أعالي اليمن6.
وقد وجدت شوارع المدن وطرقها مبلطة مرصوفة رصفًا حسنًا في بعض الأحيان بحجارة وضع بعضها فوق بعض، وربطت بينها مادة بناء مثل الجبس، ذات قوة وتماسك كقوة "السمنت" وتماسكه حين يجف. وقد رصف بعض آخر بحجارة مربعة أو مستطيلة قدت من صخر، وضع بعضها إلى جانب بعض وضعًا محكمًا بحيث بدت وكأنها حجر واحد، ورصف بعض آخر بحجارة هذبت أوجهها وصقلت وجعلت لها حواشي منخفضة، وحواشي بارزة يكون سمكها سمك القسم المنخفض من الحواشي المنخفضة حتى توضع فوقها فتغطيها، فتكون الأحجار متماسكة بذلك كقطعة واحدة7. وقد وجد بعض الطرق مكسوًّا بـ"الأسفلت".
وقد ذكر علماء اللغة أن "البلق" الرخام، وحجارة باليمن تضيء ما وراءها كالزجاج8. ولم يذكروا أن "مبلقة" بمعنى الطريق الممهد.
وقد تبين من فحص البقية الباقية من الطريق القريب من "غيمان"، وعهده أيام ما قبل الإسلام، أن تبليطه ورصفه لم يكونا على جانب كبير من الدقة
__________
1 Arabien, S. 147, G. U. R. Yule, A Rock-Cut Himyarite Inscription on jabal Jahaf in the aden Hinterland, in PSBA, 27, 1905, 153-155, D. H. Muller, The Himyaritic Inscription from jabal jegaf, PSBA 28, 1906, 143
2 "نقيل" في اللغة اليمانية.
3 CIH, 418, Arabien, S. 147
4 اللسان، "نقل"، تاج العروس "8/ 143"، "نقل".
5 R. A. B. Hamilton, Archaeological Sites in the Western Aden Protectorate Gj, 101, 1943, 113, Rathjens, Sabaeica, I, 94, 139
6 Arabien, S. 147, Philby, Arabian Highlands, 183, 259, 365
7 Arabien, S. 147, Rathjens, Sabaeica, I, 94, 139
8 تاج العروس "6/ 298"، "بلق".(9/21)
والعناية. وهو بعرض أربعة أمتار تقريبًا، ويؤدي إلى "قصر غيمان". وقد أقيم في موضع منه على سدّ ارتفاعه خمسة أمتار، وقد حفظ من الجانبين بجدارين1.
ويقال للطرق الضيقة التي يسلكها الإنسان للوصول إلى أعلى البرج أو القلعة "محول" في اللهجة المعينية. وقد تكون مسقوفة، وقد تكون بغير سقف، كما تكون مدرجة أي ذات سلالم، وربما لا تكون كذلك، وقد تؤدي إلى ارتفاع، وقد تكون ممرًا مستويًا يخترقه الإنسان كالدهليز2.
واتخذ الجاهليون القناطر، والقنطرة لغة في الجسر3. ويراد بها القنطرة المعقودة المعروفة عند الناس. والعرب تسمي كل أزج قنطرة. وقد ورد ذكرها في شعر لطرفة بن العبد. وهي تعقد بالحجارة وتشاد بالجص أو بجياد وهو الكلس4.
ويعبر عليها الناس ووسائط النقل وقد عثر على آثار قناطر في مواضع متعددة من جزيرة العرب، ولا سيما في اليمن وبقية العربية الجنوبية حيث تكثر الأودية والسيول.
وجاء في شعر لـ"طرفة بن العبد"، هذا البيت:
كقنطرة الرومي اقسم ربّها ... لتكتفنن حتى تشاد بقرمد
وقد ذكر "الزوزني"، أن صاحب القنطرة وهو رومي، حلف ليحاطن بها حتى ترفع أو تجصص بالصاروج أو بالآجر. وأن القرمد: الآجر، وقيل: هو الصاروج، والشيد الرفع والطلي بالشيد وهو الجص. ولم يذكر الشارح موضع القنطرة المذكورة التي بناها صاحبها وهو رومي فنسبت إليه5.
__________
1 Rathjans, Sabaeica, I, 77, 141, Arabien, S. 147
2 Rhodokanakis, Stud. Lexi, II, S. 31
3 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص333".
4 الكامل، "1/ 59".
5 شرح المعلقات "للزوزني" "دار صادر" "ص52".(9/22)
أثاث البيوت:
وليست لدينا صور واضحة دقيقة عن بيوت أغنياء المدن، وعن محتوياتها وعما فيها من أثاث وأدوات. غير أن بعضًا منها يجب أن يكون واسعًا كبيرًا حوى(9/22)
كل وسائل الراحة المتوفرة بالقياس إلى ذلك العهد. فرجل مثل "عبد الله بن جدعان" كان ثريًّا ثقيل الثراء، يملك آنية من الذهب والفضة، ويشرب بكئوس غالية، ويأكل أكلات غريبة، ويتفنن في مأكله، وقد استحضر لذلك طباخين من الخارج من العراق مثلًا، ليطبخوا له طعامًا غريبًا عجميًّا، أقول: إن رجلًا مثل هذا لا بُدَّ أن يكون بيته بيتًا كبيرًا يتناسب مع ثراء صاحبه وماله وقد بني بناء محكمًا، وأحصنت جدرانه وارتفعت حتى يكون في مستطاعه التحصن فيه وقت الخطر والمحافظة على نفسه، السراق والطامعين في ماله في الليل والنهار.
ولا بد أن يكون بيت عبد الله بن جُدْعان هذا قد بني من أجنحة متعددة، جناح لسكناه مع نسائه، وجناح لقيانه وخادماته وجناح لخدامه وعبيده، وجناح لاستقبال أصحابه وندمائه وأصحاب الحجات والأشغال، فقد كان يجلس للأصدقاء يتسامر معهم ويسمع معهم غناء قيانه، وعلى رأسهن "الجرادتان"، وهما قينتاه المختارتان، وكان لهما صوتان شجيان، وقد اشتهرتا بمكة، وخلد ذكرهما حتى الآن، فلا يعقل أن يكون بيته صغيرًا أو حقيرًا أو بدائيًّا، إذْ لا يتناسب ذلك مع ما يذكره أهل الأخبار ويروونه عن ثرائه وبذخه وعن شربه بآنية من ذهب وفضة، إلى غير ذلك مما يحملنا –لو صدقنا روايات الأخباريين- على أن بيته يجب أن يتناسب مع ثرائه.
وعاصر ابنَ جُدْعان نفر آخر كانوا من أغنياء مكة ومن أصحاب المال والثراء، لهم ذوق في الجمال وحب للشراب. وكان لهم خدم وحشم، ورجال من هذا الطراز لا بد أن تكون بيوتهم حسنة ومن حجارة، وفيها وسائل الراحة، ولها مواضع خاصة بإقامة النساء، وأماكن خاصة باستقبال الضيوف، ومواضع لإقامة الخدم والعبيد. والحيوانات التي يرتبطها للركوب، وحجر لحفظ الأطعمة والأشربة بمقادير كافية احتمالا لحالات الطوارئ.
وعرفت الزرابي، وهي "الطنافس"، في بيوت أثرياء الجاهليين وقصور الأمراء. وقد ذكرت "الزرابي" و"النمارق" في القرآن الكريم1. وورد أن الزرابي ضرب من الثياب محبر، منسوب إلى موضع2، وذكرت "الزرابي" في شعر "حسان"3.
__________
1 الغاشية، الآية 16.
2 المفردات، للأصفهاني "ص211".
3
تَرى فَوقَ أَثناءِ الزَرابِيِّ ساقِطًا ... نِعالًا وَقَسّوبًا وَرَيطًا مُعَضَّدا
البرقوقي "ص146".(9/23)
وعرف عند الجاهليين نوع خاص من الطنافس قيل له: "الرحال"، ذكر أنه من طنافس الحيرة. وإليه أشار الأعشى بقوله:
وَمَصابِ غادِيَةٍ كَأَنَّ تِجارَها ... نَشَرَت عَلَيهِ بُرودَها وَرِحالَها1
وقد استعملت الكراسي والأسرة في بيوت الأغنياء. والكرسي السرير. وأما السرير، فهو ما يجلس عليه وينام فوقه أيضًا. وقد عبر به عن الملك والنعمة2.
والظاهر أن ذلك بسبب كونه من مظاهر الغنى والجاه. و"الخلب" الكرسي قوائمه من حديد3.
ويقال للمجلس "الموثب" في لغة "حمير". ويراد بها أسفل الشيء وما يستقر على الأرض. وهي قريبة في المعنى من لفظة "شت" و"اشدو"4.
وقد استورد أهل مكة الأواني الغالية والأثاث الراقي من بلاد الشام، لما عرفت به هذه البلاد من التقدم في الصنعة وحسن الذوق، ولقربها من الحجاز، كما استوردوها من العراق. ويمكن معرفة أصولها والأماكن التي وردت منها بدراسة أسمائها. فأكثر أسماء الأشياء المستوردة، هي أسماء معربة. عربت من أصول أعجمية، ويمكن الوقوف على أصلها بدراسة أصولها اللغوية التي جاءت منها.
وقد تبنى "دكك" عند باب البيت، يجلس عليها الدرابنة، أي "البوابون"، لمنع الغرباء من الدخول داخل البيت، ولحراسة الدار. وقد أشير إليها في شعر ينسب للمثقب العبدي:
فَأَبقى باطِلي وَالجِدُّ مِنها ... كَدُكّانِ الدَرابِنَةِ المَطينِن5
أما بيوت الفقراء، فهي كما يظهر من روايات أهل الأخبار، بيوت حقيرة إن جاز إطلاق لفظة "بيت" و"بيوت" عليها. وهي من طين ومن بيوت شعر، لا تقي من برد ولا من حر، لذلك فإن الطبقة الفقيرة عاشت عيشة
__________
1 تاج العروس "7/ 342"، "رحل".
2 تاج العروس "3/ 264 وما بعدها"، "سرر".
3 اللسان "1/ 365"، "خلب".
4 Rhodokanakls, Stud., II, S.37
5 تاج العروس "7/ 130"، "دك".(9/24)
بؤس وشقاء. وليس في مثل هذه البيوت مرافق صحية ولا مغاسل ولا حمامات، فكان أصحابها يقضون حاجاتهم في خارج البيوت. وإذا كان من السهل على الذكور أداء هذا الواجب، فإن ذلك كان من أصعب الأشياء بالنسبة للأثاث.(9/25)
وسائل الركوب:
وكان السير على الأقدام للوصول إلى المواضع المقصودة هو المألوف عند أكثر الناس، بسبب فقرهم وعدم تمكنهم من امتلاك دابة ركوب. لقد كان أكثرهم يقطع مسافات طويلة مشيًا على قدميه في ذهابه إلى قبيلته أو للتنقل من مكان إلى مكان. أما المتمكنون منهم، فقد ركبوا الجمال في قطع المسافات البعيدة والأرضين الصحراوية، وركبوا الخيل والبغال والحمير في القرى وفي الأرضين التي لا تغلب عليها الطبيعة الصحراوية.
ولحماية النفس أثناء النوم من "البعوض" والحشرات الأخرى استعملوا "الكلل".
و"الكلة" ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقى به من الحشرات1. ومن هذه الحشرات والهوام: البعوض، وأكثر ما يكون في بيوت الحضر، حيث تتوفر له وسائل النمو والمعيشة، من أوساخ ورطوبة وماء. في المواضع التي يكثر وجود الماء بها، مثل خيبر، حيث عرفت بكثرة بعوضها الحامل للبرداء "الملاريا".
و"الناموس"، و"البرغوث" الذي يزعج الإنسان ويقلقه، فلا يجعله يستريح في نومه، ثم الذباب.
__________
1 تاج العروس "8/ 102"، "كلل".(9/25)
آداب المجالس:
وللقوم آداب في مجالسهم على الإنسان اتباعها ومراعاتها، من ذلك أن لكل بيت مهما كان حجمه أو مكانته حرمة. وأن على كل إنسان صيانة حرمة بيته وبيت غيره سواء بسواء. لأن بيوت الناس هي في الحرمة سواء. ومن ينتهك حرمة بيت غيره يكون قد قام بإثم كبير وعرض نفسه لانتقام أهل البيت المنتهك(9/25)
منه. وقد يؤدي ذلك إلى وقوع قتال بنداء العصبية وبتجمع أهل البيت للأخذ بثأرهم ممن ثلب حرمة بيتهم وتطاول عليه، ودنس شرفه، بالإساءة إليه. ولن تغفر الإساءة ولا يغسل عارها إلا بالانتقام وبالانتقاص من شأن ذلك الإنسان الذي انتهك حرمة بيت غيره.
ومن حرمة البيت عدم جواز دخوله إلا بإذن من صاحبه. فإن دخل إليه دون إذن، عنف الداخل وأنب، وإن ثبت أنه دخله عن غاية وتصميم عد معتديًا عليه منتهكًا لحرمته. ويكون جزاءه الانتقام منه. وعلى من يريد دخول بيت الاستئذان من أصحابه حتى وإن كان البيت خيمة مهلهلة تذروها الرياح.
لأن تلك الخيمة هي بيت ومأوى. ولا ينظر الناس إلى نوع البيت وإلى جنسه بل إلى أهله، فالبيت بأهله لا بكيفيته، وحرمته من حرمة أصحابه.
وقد كان بعض الجاهليين يدخلون البيوت من غير استئذان، ولا سيما الأعراب.
ومنهم من كان يقف عند الباب فينادي: يا فلان اخرج، أو يا فلان أأدخل. ونجد في كتب السير والأخبار أن من الأعراب من كان يقف أمام حجر النبي وينادي: أخرج يا محمد؟ ولهذا شدد على "الاستئذان" وعلى السلام في الإسلام1.
ولا يخاطب الرجل الرجل الأكبر منه سنًّا أو منزلة باسمه، وإنما يخاطبه بكنيته.
كأن يقول يا أبا فلان، وتكون الكنية باسم الابن الأكبر، إلا إذا حدث ما يستوجب عدم ذكر اسمه. فيكنى بغيره ممن يختارهم ذلك الرجل. وقد لا يكون ولدًا، ولكنه يكنى مع ذلك بكنية يختارها هو، أو تكون متعارفة عن الاسم بين الناس. ولا تزال عادة التكنية مستعملة عند الحضر وعند الأعراب. وقد عرف بعضهم الكنية بـ"اسم يطلق على الشخص للتعظيم نحو أبي حفص وأبي حسن، أو علامة عليه". وتقوم الكنية مقام الاسم فيعرف صاحها بها كما يعرف باسمه كأبي لهب عرف بكنيته. وأبو فلان كنيته2.
__________
1 إرشاد الساري "9/ 130، 140" "باب الاستئذان".
2 تاج العروس "10/ 319"، "كنى".(9/26)
التحية:
والعادة عند الجاهليين أن يحيي الصديق صديقه إذا رآه. والتحية: السلام.(9/26)
ومن تحياتهم: حياك الله أو حياك ... ثم يذكر الصنم1. وإذا كان صباحًا قالوا: أنعم صباحًا وعم صباحًا، أما إذا كانوا جماعة فيقول عندئذ: أنعموا صباحًا، وعموا صباحًا، وإذا كان الوقت مساء، قال: أنعم مساءً وعم مساءً وأنعموا مساءً إذا كانوا جماعة.
والمصافحة معروفة عند الجاهليين. وتكون باليد اليمنى. وقد يتصافحون باليدين2. وقد يتعانقون، إذا كانوا قد جاؤوا من سفر أو من فراق3. وقد أشير في الحديث إلى المصافحة باليدين عند اللقاء4.
وتكون إجابة الصغير للكبير بتلبية مؤدبة. فإذا سأل إنسان ذو منزلة إنسانًا آخر أقل منزلة منه أجابه بجمل فيها أدب وتقدير مثل لبيك وسعديك5. أي لزومًا لطاعتك، وأنا مقيم على طاعتك، وإجابة لك، وأنا مقيم عندك، واتجاهي إليك وقصدي لك وما شاكل ذلك من معان ذكرها علماء اللغة. ومن هنا قيل لقول الحجاج في الحج: لبيك اللهم لبيك، التلبية6. ويجاب بـ"نعم" وبـ"نعم وكرامة". وقد يكون الجواب لطلب عمل عملٍ. كأن يطلب رجل من رجل آخر عمل عملٍ، فيقول له: "نعم"، و"نعم وكرامة"، و"نعم عين ونعمة عين"، و"نعام عين"، و"نعيم عين"، و"نعام عين"7.
وتعد لفظة "بلى" من ألفاظ الإجابة كذلك.
ومن آداب البيت الامتناع عن قول الفحش بحضور النساء. وعدم النظر بسوء إلى البنات والنساء، وعدم تركيز النظر عليهن. لأن معنى ذلك توجيه إهانة إلى رب البيت، وإظهار أنه إنما قصد من دخول البيت التمتع برؤية النساء. وعليه السيطرة على نفسه وضبطها فلا يسمح لنفسه بإخراج الريح من جوفه، لأن ذلك عند العرب عيب كبير. فالضراط والفساء إذا وقعا من إنسان بحضرة غرباء عدّا
__________
1 تاج العروس "10/ 106 وما بعدها"، "حيى".
2 إرشاد الساري "9/ 154"، اللسان "2/ 514".
3 إرشاد الساري "9/ 155".
4 تاج العروس "2/ 181"، "صفح".
5 إرشاد الساري "8/ 210".
6 تاج العروس "1/ 465"، "لبب".
7 تاج العروس "9/ 78"، "نعم".(9/27)
من المغامز التي قد يؤاخذونها على الرجل. لا سيما إذا كان الرجل معروفًا مشهورًا وله حساد.
ومن عاداتهم: تشميت العاطس، لا سيما إذا كان كبيرًا ذا جاه. كأن يدعى له بطول العمر. وقد أكده الإسلام. فإذا عطس إنسان قال: الحمد لله؛ فيجيبه الحضار بـ"يرحمك الله". ويحمد العطاس عند العرب، ما لم يكن من زكام ويذم التثاؤب1. وذكر أن كل دعاء بخير فهو تشميت2.
ويقال للشاب إذ سعل: عمرًا وشبابًا. أما إذا كان الساعل شيخًا أو رجلًا بغيضًا، فيقال لهما: وريًا وقحابًا. وللحبيب إذا سعل: عمرًا وشبابًا3.
وكانت تحيتهم للملك أن يقولوا: أبيت اللعن. وإذا قال أحدهم للآخر: أنعم صباحًا، أو أنعم مساءً، أو أنعم ظلامًا، أجابه صاحبه: نعمتَ4.
__________
1 إرشاد الساري "9/ 125"، "باب مشروعية تشميت العاطس"، تاج العروس "5/ 192" "عطس".
2 تاج العروس "1/ 559"، "شمت".
3 تاج العروس "1/ 421 وما بعدها".
4 الحيوان "1/ 328"، "هارون".(9/28)
ثقال الناس:
ومن الناس مَنْ يُستَثْقل ظلهم ويرجى انصرافهم بسرعة. لثقل طبعهم ووجود جفاوة فيهم، أو تلبد في طبعهم يجعلهم لا يدركون طباع الناس. ويقال لأمثال هؤلاء: الثقلاء. وثقال الناس وثقلاؤهم من تكره صحبته ويستثقله الناس. يقال: مجالسة الثقيل تضني الروح. ويقال: هو ثقيل على جلسائه، وما أنت إلّا ثقيل الظل بارد النسيم1.
ومن الثقلاء من يطيل الجلوس في المجالس: أو يدخلها دون دعوة، أو يتدخل فيما لا يعنيه أو فيما يجهله ليظهر علمه وفهمه. أو يزور صديقًا في وقت لا تستحب زيارة أحد فيه، أو يعود مريضًا ثم يطيل الجلوس عنده. وكانوا إذا وجدوا من الثقيل بلادة، فلربما أسمعوه كلامًا يشعر بتثاقلهم منه، فإذا لم ينتبه أشعروه بصور أخرى تفهمه أنه ثقيل الظل حتى يرحل عن المجلس.
__________
1 تاج العروس "7/ 245"، "ثقل".(9/28)
و "الظريف" على عكس "الثقيل"، يستظرفه الناس ويستملحون كلامه ويحبون مجالسته. وهو البليغ الجيد الكلام، أو هو حسن الوجه والهيئة، كما يكون في اللسان. وقيل الظرف: البزاعة وذكاء القلب. والبزاعة هي الظرافة والملاحة والكياسة1.
وقد يدعون بالشر على الأعداء والحساد والثقلاء، فيقولون: رماه الله في الدوقعة، أي في الفقر والذل2، و"أخسّ الله حظه"3، و"أبعد الله دار فلان، وأوقد نارًا إثره". والمعنى لا رجعه الله ولا ردّه. و"أبعده الله وأسحقه وأوقد نارًا إثره"4.
__________
1 تاج العروس "6/ 187"، "ظرف".
2 تاج العروس "5/ 131"، "دقع".
3 تاج العروس "4/ 138"، "خس".
4 اللسان "3/ 466"، "وقد".(9/29)
الصلف:
وأما "الصلف"، فالتمدح بما ليس عندك، وقيل: مجاوزة قدر الظرف والبراعة فوق ذلك تكبرًا. وفي الحديث: آفة الظرف الصلف. وهو الغلو في الظرف والزيادة على المقدار مع تكبر1. وهو مكروه ويستثقل صاحبه ويقل أصحابه.
__________
1 تاج العروس "6/ 167"، "صلف".(9/29)
المجالس:
والعادة عندهم أنهم إذا زاروا ملكًا أو سيد قبيلة أو عظيمًا، لبسوا أحسن ما عندهم من لباس، وتزينوا بأجمل زينة يعرفونها ومنها التكحل والترجيل ولبس جبب الحبرة المكففة بالحرير، كالذي فعله سادات نجران1 يوم وفدوا على الرسول.
والتكحل عادة منتشرة عند جميع الجاهليين رجالًا ونساء وفي كل جزيرة العرب.
كما كانوا يتطيبون بالطيب والعطر2.
__________
1 نهاية الأرب "18/ 87 وما بعدها".
2 نهاية الأرب "17/ 75".(9/29)
ومن آدابهم في مجالسهم قيام القاعد للقادم عند قدومه وتوجيه التحية لهم. ولا سيما إذا كان القادم شريفًا وله منزلة عند قومه ومكانة. فيقف القوم على أرجلهم ويجيبون المحيي على تحيته هي خير منها، هذه سنة كانت معروفة عندهم، ولا تزال. وقد تطرق "الجاحظ" إلى هذه القاعدة، ثم قال: "قالوا: ومن الأعاجيب أن الحارث بن كعب لا يقوم لحزم، وحزم لا تقوم لكندة، وكندة لا تقوم للحارث بن كعب". ثم قال: "قالوا: ومثل ذلك من الأعاجيب في الحارث: أن العرب لا تقوم للترك، والترك لا تقوم للروم، الروم لا تقوم للعرب"1.
وتفرش أرض سيد القبيلة وذوي اليسار من الناس، وكذلك غرف بيوتهم بالفرش، كالبسط، وتوضع الوسد في صدر المجلس ليتكئ عليها الجالسون.
وليتوسدوها عند النوم2. ويعد تقديم الوسادة إلى الضيوف من أمارة التكريم والتقديس بالنسبة لمن قدمت له. ولا تزال هذه العادة متبعة عند الأعراب.
ويجلس العرب على الأرض وعلى الحصير والبساط. وقد يجلسون على وسادة وقد يستلقون ويضعون إحدى رجليهم على الأخرى، وقد يتكئون على الوسادة، وربما اتكأوا على اليمين وربما اتكأوا على اليسار3. والحصير سقيفة تصنع من بردى وأسل ثم يفترش. سمي بذلك لأنه يلي وجه الأرض. وتصنع الحصر من خوص السعف أيضًا، وتفرش على الأرض. يستعملها أهل القرى والمدن والأرياف، وفي بيوت الفقراء. وذلك لعدم تمكن الفقير من شراء بساط منسوج، ولا سرير يجلس عليه. قال شاعر:
فأضحى كالأميرِ على سرير ... وأمسى كالأسيرِ على حصير4
وقد عدّ "السرير من أمارات الغنى والرفاه والنعمة، حتى عبروا عنه بالملك.
فقالوا: "سرير الملك"5.
__________
1 مناقب الترك، من رسائل الجاحظ "1/ 81 وما بعدها".
2 تاج العروس "2/ 534"، "وسد".
3 زاد المعاد "1/ 43".
4 تاج العروس "3/ 143 وما بعدها"، "حصر".
5 إرشاد الساري "9/ 161"، "باب حكم اتخاذ السرير".(9/30)
ويقال للحصير المنسوج من القصب "البارية" و"البوري". وقد عرف أهل الحجاز "البارية". وأشير إليها في الحديث1.
ويتناول الإنسان عند نهوضه من نومه "الصبوح". ويحيي أهله ومن هو حوله بتحية الصباح: عم صباحًا وعموا صباحًا إذا كانوا جماعة. وهي تحية الجاهلية. و"الصبوح" كل ما أكل أو شرب من أكل أو لبن2. وهم يستحبون الجلوس من النوم صباحًا، لأن ذلك عندهم أنشط للجسم وأدعى للصحة، ثم إن الغارات تقع في الصباح، وإذا أغاروا صاحوا: يا صباحاه! ينذرون الحي أجمع بالنداء العالي، ويسمون الغارة يوم الصباح. ولكن أكثرهم كانوا ينامون الصباح أي نوم الغداة، ويسمون ذلك النوم "الضجة" ولا ينهضون إلا متأخرين أو بعد حيل وإزعاج لهم، لإكراههم على النهوض. وقد كره الإسلام هذه النومة، فجاء النهي عنها في حديث الرسول3.
__________
1 تاج العروس "3/ 60 وما بعدها"، "بور".
2 تاج العروس "2/ 175"، "صبح".
3 تاج العروس "2/ 175"، "صبح"، "5/ 176"، "ضرط".(9/31)
تنظيف الأجسام:
ولتنظيف الجسم من الأوساخ والأدران استعملت الحمامات. وذلك عند الحضر بالطبع. أما حمامات البدو، فهي بيوتهم والعراء، يسكبون الماء على أجسامهم ويغتسلون. وقد عرف أهل القرى والمدن الحمامات ولها مساخن تسخن لهم الماء ليغتسلوا بها. وكانوا يستعملون النورة في الحمامات لإزالة الشعر. وإذا خرج أحدهم من الحمام قيل له: طابت حمتك1. وذكر أن من أسماء الحمام "الديماس".
وزعم بعضهم أن الديماس من الألفاظ المعربة. عربت من لغة الحبشة2.
وكانت الحمامات العامة قليلة العدد وربما لم تكن معروفة، إذ لم تكن شائعة بين الناس في الشرق الأدنى، لأنهم كانوا يستحمون في بيوتهم في الغالب، فجزيرة العرب حارة ومن الممكن الاغتسال في البيوت بكل سهولة.
ولم يعرف
__________
1 تاج العروس "8/ 260"، "حم"، المعرب، للجواليقي "341".
2 تاج العروس "4/ 154"، "دمس".(9/31)
اليهود الحمامات العامة، وإنما تعلموها من الروم والرومان. وكانوا يستحمون في المياه الجارية وفي البيوت1. وقد ورد أن الرسول لم يدخل حمامًا قط، ولم يصح في الحمام حديث2. مما يدل على أن الحمام العام لم يكن شائعًا في أيامه. فكان الرسول يغسل جسمه في بيته. وإذا وجد الحمام العام فلم يكن الأغنياء وذوو اليسار وأهل البيوت يقصدونه، إذْ كانوا يرون أن في تعري الرجل من ملابسه أمام الغرباء زراية ومنقصة، وأن في مخالطة الناس والاغتسال معهم في حمام، مثلبة ودلالة على نقص في البيت. فاستحموا في بيوتهم.
وقد قام السدر في الحجاز مقام الصابون في الاغتسال، فكانوا إذا أرادوا تنظيف أجسامهم استعملوا ورق السدر مع الماء، فيخرج له رغاء أبيض، وذلك بعد طحن الورق أو دقه. وقد جرت العادة بغسل الميت به. وذكر أن الرسول أمر قيس بن عاصم بأن يغتسل بالماء والسدر3.
وعندما تغتسل المرأة، تغسل رأسها بالخطمي والطين الحرّ والأشنان ونحوه.
ثم تمشط شعرها. وقد تستعمل المرأة المتمكنة ورق الآس يطرى بأفاويه من الطيب لتمشيط شعرها به4.
ونظرًا لقلة وجود الماء في البادية، اقتصدوا في استعماله كثيرًا، حتى أنهم لم يكونوا يشربون منه إلا قليلًا وعند الضرورة، وذلك خوفًا من الإسراف فيه، فينفد ويهلكون عطشًا، لذلك كان من الطبيعي بالنسبة لهم عدم غسل أجسامهم حتى صار عدم الاستحمام بالماء شبه عادة لهم. وقد أدى ذلك إلى توسخ أجسامهم وظهور رائحة الوسخ منهم. ورد في حديث "عائشة": "كان الناس يسكنون العالية فيحضرون الجمعة وبهم وسخ، فإذا أصابهم الروح سطعت أرواحهم، فيتأذى به الناس. فأمروا بالغسل"5. وكان منهم الفقراء من أهل الحضر كذلك، ممن لا يملكون بيتًا ولا يجدون لهم مكانًا يغسلون أجسادهم فيه. وكان من بينهم
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 388". Hastings, P. 86
2 زاد المعاد "44".
3 الطبقات "7/ 36".
4 تاج العروس "8/ 45"، "غسل".
5 تاج العروس "2/ 148"، "روح".(9/32)
وكانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة دخلوا "الخلاء". وهو موضع قضاء الحاجة1.
وتكون في بيوت الحضر. وقد تكون غرفة وقد تكون سترًا. ويستنجى بالماء إن وجد وبالحجارة. والنجو ما يخرج من البطن من ريح أو غائط. وقيل: العذرة نفسها. واستنجى مسح النجو أو غسله2. وكانوا إذا ذهبوا في سفرهم للحاجة انطلقوا إلى موضع يتوارون فيه عن أصحابهم، ليقضوا حاجتهم به. وربما تستروا بالهدف وبحشائش النخل وبشجر الوادي. ويقال للكنيف المشرف في أعلى السطح المتصل بقناة إلى الأرض "الكرياس". أما إذا كان أسفل فليس بكرياس. وقد تكون للغرف "مراحيض"3. والكنيف المرحاض كأنه كنف في أستر النواحي4.
وكانوا إذا أرادوا أن يبولوا ابتعدوا عن أصحابهم بعض الشيء ثم بالوا.
وأكثر ما يبولون قعودًا. ولكنهم كانوا يبولون وقوفًا أيضًا، وهو في الأقل. وإذا أرادوا قضاء حاجتهم أو التبول لم يرفعوا ثوبهم بل جعلوه يتدلى حتى يدنوا من الأرض، إلا من الأمام حيث يرتفع بعض الشيء، ويبعد من الخلف أو يرفع قليلًا حتى لا يتأذى بالعذرة5.
ويرى العرب أن ما بين السرة والركبة من الرجل عورة، لذلك يجب ستره.
والعورة السوأة من الرجل والمرأة6. وكانوا يرون ظهورها عارًا أي مذمة. لذا حرصوا على إنزال ثيابهم إلى الأرض لسترها قدر الإمكان، وذلك عند قضاء الحاجة.
__________
1 تاج العروس "10/ 120"، "خلا".
2 تاج العروس "10/ 358"، "نجو".
3 تاج العروس "4/ 232"، "كرس".
4 تاج العروس "6/ 239"، "كنف".
5 زاد المعاد "1/ 43 وما بعدها".
6 تاج العروس "3/ 429 وما بعدها".(9/33)
الخدم والخصيان:
وتحتاج البيوت الكبيرة إلى خدم، لتحضير ما يحتاج البيت إليه من طعام وماء ولتنظيفه وللعناية بدوابه وبما يربط في مرابطه من حيوان. كما يوكل إليهم خدمة الضيوف وتقديم الشراب إلى المتنادمين. وكانوا يستخدمون "الخصي" لخدمة أهل(9/33)
البيت من النساء، لأنهن محرم، ولا تصح خدمة الرجال لمحارم البيت ونظرًا إلى ضرورة استخدام الرجال في بعض أمور البيت، استعاضوا عنهم باستخدام "الخصي" في هذه الأمور. وقد كان "مأبور" القبطي الخصي، الذي قدم مع "مارية القبطية" أم ولد الرسول من مصر يدخل عليها ويجلس في بيتها، وكان خصيًّا.
__________
1 الإصابة "3/ 315"، "رقم 7583".(9/34)
الحياة الليلية:
والحياة الليلية حياة هادئة على وتيرة واحدة، يأوي الناس إلى بيوتهم مع غروب الشمس في الغالب، أما وجهاء القوم، فقد كانوا يتسامرون في بيوتهم وفي مضاربهم، وذلك بأن يأتي أصدقاؤهم إليهم فيتحدثون معهم ويتذاكرون الأيام الماضية وما يقع من أحداث إلى ساعات من الليل ثم يعودون إلى بيوتهم. ويكون السمر في الليل خاصة، والسمر الظلمة. ولهذا كانوا يقسمون بالسمر والقمر.
أي بالظلمة والقمر. ثم أطلق السمر على السمر عامة في الليل أو في النهار1.
وقد صار هذا "السمر" أساسًا للقصص العربي وللأدب العربي والتاريخ الجاهلي. وعلى الرغم من أن طابع السمر -أي القص والتحدث والاتصالات إلى المسامر- لا يتفق مع الطابع التأريخي، إلا أنه موّن المؤرخين مع ذلك بشيء من أخبار أيامها ورجالها في صورة من الصور المعروفة عن القص. والعادة أن الذين يبرزون ويظهرون في رواية القصص هم أصحاب الألسنة، اللبقون الذين أوتوا مواهب خاصة، والذين يجيدون معرفة نفسيات من يحيط بهم للاستماع إلى قصصهم. فيحدثون السامعين إليهم بما سمعوه ممن تقدم عليهم أو من يعاصرهم من أخبار وحوادث مسليّة طريفة كان الجاهليون إذ ذاك يتشوقون إلى الاستماع إليها. ومن ذلك قصص الأيام والأبطال الشجعان الذين ساهموا فيها، وقد يكون المتكلم نفسه ممن شهد الأيام وقاتل فيها. وهذا النوع من السمر، لا يتقيد بالصدق وبالتعقل، كما أن المستمعين لا يهمهم فيه إذا كان معقولًا أو غير معقول.
__________
1 تاج العروس "3/ 277"، "سمر".(9/34)
وكل ما يهمه منه هو التلذذ بسماع القصص أو الأشعار أو الأخبار وأمور الشجعان أو غير ذلك ولما كان السمر يكون في كل بيت وفي كل مكان. وهو يتناسب مع عقلية القاص أو المتكلم وعقلية السامع وحالاته النفسية التي يكون عليها عند الاستماع إلى السمر، لهذا كان السمر ألوانًا وأشكالًا، منه ما يتناول أخبار العالم، كما وصلت إلى البادية، ومنه ما يتناول أخبار الملوك وأخبار سادات القبائل، ومنه ما يتناول الشعر والمناسبات التي قيل الشعر فيها، ومنها ما يتناول الجن والأساطير والخرافات وأمثال ذلك من غريب، قد يبهر لب أذكى الناس، ويلهب في السامعين نيران العواطف، فيجعلهم يقبلون على الاستماع إليه بكل قلوبهم. على الاستماع إلى هذا العنصر: عنصر التصنع في القص والإغراب، لأن من طبع الإنسان البحث والتفتيش عن كل شيء غريب عجيب.
ويتخذ الملوك والأشراف وذوو اليسر لهم ندماء، يشربون معهم ويقضون وقتهم بالمنادمة. وهم من المقربين إلى الملوك ومن ضيوفهم الذين تكون لهم عندهم مكانة خاصة، وكان من عادة أهل القرى، اتخاذ الندماء، والغالب أن المنادمة تكون على الشراب1. ونجد في أخبار "مكة" التي يذكرها أهل الأخبار، أسماء جماعة من أشرافها، اختصوا بمنادمة بعضهم بعضًا. يبقون في منادمتهم مدة طويلة وقد يقع سوء فهم بينهما، فيترك أحدهما منادمة صاحبه، لينادم غيره.
ويجلس الملك أو سيد القبيلة في صدر المجلس، ودونه بقية الجالسين على حسب المنازل والدرجات، وقد عطر نفسه، وتطيب، وتضمخ بالعنبر وبالمسك.
والظاهر أنهم كانوا يكثرون من وضع المسك على رءوسهم حتى كان يبدو واضحًا جليًّا من مفارقهم. وقد أشير إلى هذه العادة في الشعر والأخبار2.
وكان من عادة سادة العرب استعمال الخلوق والطيب في الدعة وفي جلوسهم مجالس أنسهم، مثل مجالس السماع والغناء3. وكان المتمكنون منهم وعلى رأسهم الملوك يضمخون أجسادهم ورءوسهم بالطيب حتى يقطر منهم4 فكانت
__________
1 تاج العروس "9/ 74" "ندم"، اللسان "ندم".
2 الكامل "1/ 36"، العقد الفريد "2/ 23 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 267"، "ضمخ".
3 الروض الأنف "2/ 67".
4 تاج العروس "2/ 267"، "ضمخ".(9/35)
تفوح منها رائحة الطيب، فضلًا عن البخور الذي يتبخر به.
وقد كان الأغيناء والمتمكنون من الناس يشترون العطور ويكثرون من التطيب بها. وقد تباهى "كعب بن الأشرف" بأنه كان يملك أطيب العطور المعروفة عند العرب1.
وتكون ملابسهم بالطبع من أحسن الملابس، من الديباج أو من الخز أو من الكتان، وتوشى بالذهب، وتقصب به. وقد تكون للملك دور خاصة بنسيجه، تنسج فيها حلله وما يجود به على ضيوفه وزائريه. ولديه ملابس كثيرة حاضرة، إذ طالما كان يخلع ملابسه التي يرتديها في المجلس ليعطيها إلى حاضر مدحه فأجاد في مدحه، أو لشخص قال كلامًا ظريفًا استحسنه، ومن يناله هذا التكريم يفتخر به بين أقرانه ويتباهى، فهي من المفاخر التي كان يتباهى بها في ذلك الزمان.
وعادة الخلع، خلع الحلل والملابس التي يلبسها الملوك على السادة رؤساء القبائل والأشراف، أمارة على التكريم والتقدير، هي عادة معروفة في الجاهلية، وطالما أثارت حسد الرؤساء وتباغضهم، إذ عدّ خلع الملوك لملابسهم على السيد، تفضلًا له وتقديمًا على غيره من السادة رؤساء القبائل. وكان لهذه الرسوم والعادات التي لا نعيرها اهتمامًا في زماننا ولا نقيم لها وزنًا، أهمية كبيرة في عرف ذلك العهد، وقد عرفت هذه العادة في الإسلام أيضًا. وقد كان المسلمون يتباهون بالحصول على خلع من الرسول، يخلعها عليهم من ملابسه التي يلبسها، فإن فيها تكريمًا، وفيها بركة لمن خلعت عليه، لأنها من ملابس الرسول.
وقد عرفت هذه الحلل والخلع بـ"أثواب الرضى"، لأنها لا تعطى إلا تعبيرًا عن رضى الملك عن الشخص الذي أعطيت له. وكان جباب أطواقها الذهب بقصب الزمرد. وقد أغدق "النعمان" بها على مادحيه. وكان يقول: "هكذا فليمدح الملوك"2.
وقد ذكر أهل الأخبار أن أولئك الملوك اتخذوا ندماء من الفرس والروم أيضًا، فذكروا مثلًا أن الملك النعمان كان له نديمان، يعرف أحدهما بـ"النطاسي" واسمه "سرجون"، ويعرف الآخر بـ "توفيل"، وكلاهما من الروم3. وورد
__________
1 تاج العروس "3/ 409"، "عطر".
2 نهاية الأرب "3/ 177".
3 مجمع الأمثال "2/ 49 وما بعدها".(9/36)
في رواية أخرى: أن أحد النديمين هو "سرجون بن توفل"، "توفيل"، وكان رجلًا من أهل الشأم تاجرًا حريفًا للنعمان يبايعه، وكان أديبًا حسن الحديث والمنادمة: فاستخفه النعمان. وكان إذا أراد أن يخلو عن شرابه بعث إليه وإلى "النطاسي"، وهو رومي كذلك متطبب، وهو النديم الآخر له1، وكان طبيبًا بارعًا، ضرب به المثل عند العرب لبراعته بالطب.
وفي منادمة النعمان للنطاسي ولابن توفيل، أشير في بيت شعر للشاعر الربيع ابن زياد المعروف بالكامل، وهو:
أبرُقْ بأرضك يا نعمان متّكِئًا ... مع النطاسيّ يومًا وابن توفيلا2
وممن ذكرهم أهل الأخبار من ندماء قريش عبد المطلب بن هاشم. كان نديمًا لحرب بن أمية حتى تنافرا إلى "نفيل بن عبد العزى". فلما نفر عبد المطلب افترقا. ونادم حرب عبد الله بن جدعان. ونادم حمزة عبد الله بن السائب المخزومي، وكان أبو أحيحة سعيد بن العاص نديمًا للوليد بن المغيرة المخزومي، وكان معمر بن حبيب الجمحي نديمًا لأمية بن خلف بن وهب بن حذافة. وكان عقبة بن أبي معيط نديمًا لأبيّ بن خلف. وكان الأسود بن المطلب بن أسد نديمًا للأسود بن عبد يغوث الزهري. وكان من أعز قريش في الجاهلية وكانا يطوفان بالبيت متقلدين بسيفين سيفين. وكان أبو طالب نديمًا لمسافر بن أبي عمرو بن أمية. فمات مسافر. فنادم أبو طالب بعده عمرو بن عبد ود بن نضر.
وكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس نديمًا لمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف.
وكان أبو سفيان نديمًا للعباس بن عبد المطلب. وكان الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم نديمًا لعوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة.
وكان زيد بن عمرو بن نفيل نديمًا لورقة بن نوفل بن أسد. وكان شيبة بن ربيعة بن عبد شمس نديمًا لعثمان بن الحويرث. وكان العاص بن سعيد بن العاص نديمًا للعاص بن هشام بن المغيرة. وكان يدعيان أحمقيْ قريش. وكان أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب نديمًا للحارث بن عامر بن نوفل. وكان الوليد بن عتبة
__________
1 الأغاني "16/ 22".
2 الأغاني "16/ 23".(9/37)
ابن ربيعة نديمًا للعاص بن منبّه السهمي. وكان ضرار بن الخطّاب بن مرداس الفهري الشاعر نديمًا لهبيرة بن أبي وهب المخزومي. وكان أبو جهل بن هشام، وهو عمرو بن هشام نديمًا للحكم بن أبي العاص بن أمية. وكان الحارث بن هشام بن المغيرة نديمًا لحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد. وكان العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم نديمًا لهشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أبي جهل. وكان نبيه بن الحجاج بن عامر السهمي نديمًا للنضر بن الحارث. وكان عمارة بن الوليد بن المغيرة نديمًا لحنظلة بن أبي سفيان بن حرب. وكان الزبير بن عبد المطلب، وهو من فتيان قريش، نديمًا لمالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار. وكان الأرقم بن نضلة بن هاشم بن عبد مناف -وهو من فتيان قريش أيضًا- نديمًا لسويد بن هرمي بن عامر الجمحي. وكان سويد أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة. وكان الحارث بن حرب بن أمية نديمًا للحارث بن عبد المطلب. فلما مات نادم العوام بن خويلد بن أسد. وكان الحارث بن أسد بن عبد العُزى نديمًا لعبد العزى بن عثمان بن عبد الدار. وكان أبو البختري العاص بن هاشم بن الحارث بن أسد نديمًا لطلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار.
وكان منبه بن الحجاج السهمي نديمًا لطعيمة بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب نديمًا لعمرو بن العاص بن وائل السهمي. وكان أبو أمية بن المغيرة المخزومي نديمًا لأبي وداعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، وكانا يسقيان العسل بمكة بعد سويد بن هرمي. وكان أبو قيس بن عبد مناف نديمًا لسفيان بن أمية بن عبد شمس. وكان أبو العاص بن أمية نديمًا لقيس بن عدي بن سهم. وكان يأتي الخَمَّار وبيده مقرعة. فيعرض عليه خمره، فإن كانت جيدة، وإلا قال له: أجد خمرك، ثم يقرع رأسه وينصرف1.
وقد يستدعي الملوك في مجالس أنسهم الخاصة من يضحكهم ويسليهم ويجلب لهم البهجة والسرور. من أمثال القصاصين الذي يقصون لهم القصص، والمسامرون الذين يسامرون الملوك بأنواع قصص السمر والحكايات المضحكة الغريبة والأمور المثيرة، والمضحكون الذين يأتون بالنكت وبالأفعال المضحكة لإضحاك الملك.
__________
1 المحبر "ص173 وما بعدها".(9/38)
وقد كان للملك "النعمان بن المنذر" مضحك اسمه "القرقرة"، كان يضحك منه "النعمان"، واسمه "سعد"1. والقرقرة: نوع من الضحك، اختص بالضحك العالي منه. وقد أدخلوه في المستأكلين والمتطفلين. قالوا: سأله أحد الأشخاص يومًا ما رأيناك إلا وأنت تزيد شحمًا وتقطر دمًا. فقال: لأني لا آخذ ولا أعطي، وأخطئ ولا ألام، فأنا طول الدهر مسرور ضاحك2.
وقد جاء في شعر للشاعر "لبيد" وصف مجلس للنعمان، وقد وقف فيه "الهبانيق" أي الوصفاء بأيديهم الأباريق ينتظرون إشارة من أحد جلساء النعمان ليصبوا له خمرًا طيبة من خمور تلك الأباريق. فإذا طلب منهم ملء كأس ساروا إلى الطالب سيرًا فاترًا وبتؤدة ليملأوا له الكأس3.
وكانت لهم عادات وتقاليد في مجالس الشرب وفي مجالس الطعام على نحو ما نفعل اليوم في المآدب الرسمية، فكان من عادة ملوك الغساسنة والمناذرة إجلاس السادة الرؤساء والمقربين إليهم على يمينهم وعلى مقربة منهم، تعظيمًا لشأنهم، ودلالة على مكانة الشخص عندهم. فإذا قدم الشراب أو الطعام، قدم إلى الملك أولًا، فإذا شرب منه، أو ذاقه، أمر فقدم الشراب أو الطعام إلى من هو في يمينه. وقد اتبعت هذه العادة عند سائر الناس في الولائم والدعوات. فكان "النعمان بن المنذر" مثلًا إذا همت الوفود التي تفد إليه بالانصراف، أمر باتخاذ مجلس لهم، يطعمون فيه معه، ويشربون. وكان إذا وضع الشراب سقي النعمان، فمن بدأ به على أثره فهو أفضل الوفد. ويذكر أنه أقام مجلسًا ذات يوم ضم فيه من وفود "ربيعة" "بسطام بن قيس" و"الحوفزان بن شريك" البكريّان.
وفيمن قدم عليه من وفد "مضر" من قيس عيلان: "عامر بن مالك" و"عامر بن الطفيل"، ومن تميم "قيس بن عاصم" و"الأقرع بن حابس"، فلما انتهوا إلى النعمان أكرمهم وحباهم، وأمر "القينة" أن تسقي "بسطام بن قيس"، المعروف بـ"ذي الجدين" أولًا، ثم تسقي الآخرين. فانزعج بقية
__________
1 اللسان "5/ 98".
2 الثعالبي، ثمار "109".
3 المعاني الكبير "1/ 466 وما بعدها". قال لبيد:
وَالهَبانيقُ قِيامٌ مَعَهُم ... كُلُّ مَحجوبٍ إِذا صُبَّ هَمَل
ويروى كل ملثوم، تاج العروس "7/ 93"، "الهبنق".(9/39)
سادات الوفود من هذه المعاملة التي اعتبروها إهانة متعمدة ألحقت بهم1.
وإلى هذه العادة، عادة تقديم الأيمن، أشير في شعر عمرو بن كلثوم في هذا البيت:
صَبَنتِ الكَأسَ عَنّا أُمَّ عَمرٍو ... وَكانَ الكَأَسُ مَجراها اليَمينا2
و"الردف"، هو الذي يجلس على يمين الملك في قصور الحيرة. فإذا شرب الملك، شرب الردف قبل الناس. وإذا غزا الملك، جلس الردف في مجلسه، وخلفه على الناس حتى يرجع من غزاته. وله المرباع، فهي منزلة كبيرة، ولهذا شرف بالجلوس على يمين الملك، والشرب من بعده. وقد اتخذت هذه المنزلة لإرضاء سادات القبائل وإسكاتهم، ومنعهم بذلك من التحرش بعرب الحيرة. وقد خصصت في "بني يربوع"، وكانوا من القبائل القوية التي تكثر الغارات3.
وقد تأثر رؤساء الحيرة وأصحاب الحل والعقد والجاه منهم، والمتصلون بالحكومة الساسانية، بالعادات والرسوم المتبعة عند الفرس، فإذا هم يحاكونهم في مآكلهم وفي مجالس شربهم وأنسهم، وفي طريقة معيشتهم. جاء ذلك إليهم عن طريق اختلاطهم بهم بالطبع وشدة امتزاجهم بهم، فنرى عديّ بن زيد العبادي يذكر "النستق" في شعره.
وقد دخلت على الحسناء كلتها ... بعد الهدوء تضيء البيت كالصنم
يَنْصِفُها نُسْتُق تكادُ تُكْرِمهم ... عن النَّصافة كالغِزْلانِ في السَّلَم
و"النستق" الخدم، وهي من الألفاظ المعربة4. و"الكلّة"، هي الستر الرقيق، ولا تزال تعرف بهذه التسمية في العراق، توضع فوق الفراش وينام تحتها، فتكون كالقبة فوقها، لتمنع البعوض والذباب والحشرات الأخرى من الدخول إلى داخلها ومن إزعاج النائم. وهي "كلتو" Kelto في لغة بني إرم5.
__________
1 العمدة "2/ 220 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "1/ 394"، تاج العروس "9/ 258"، "صبن".
3 اللسان "9/ 116".
4 الجواليقي "ص343"، تاج العروس "7/ 76"، "النستق".
5 غرائب اللغة "ص204".(9/40)
وكان المتمكنون من أهل الجاهلية يستعملون "الكلل" للتخلص من البعوض.
ينصبونها على سرير المنام وينامون تحتها1.
ولا بد في المجالس والأندية التي يقصدها الضيوف أو في البيوت من تكريم الرجل بتقديم طيب إليه أو تجميره. ويكون التجمير بمبخرة فيها نار، يرمى عليها شيء من بخور أو مواد أخرى عطرة لتنبعث منها رائحة طيبة تتجه نحو الشخص المراد تكريمه، فيتبخر بها. والتجمير علامة بالطبع من علامات التقدير والتكريم.
وهي ما زالت معروفة، وإن أخذت شأن كثير من العادات والتقاليد القديمة بالانقراض. وقد كانوا يجمرون الميت كذلك، إكرامًا له، وهو تبخيره بالطيب. لتكون رائحته طيبة. ورد في الحديث: إذا أجمرتم الميت، فجمروه ثلاثًا2.
ونظرًا إلى شح البادية وفقر الحياة وصعوبتها في تلك الأيام، صار الملوك ملاذًا لذوي العسر والحاجات، ولا سيما لأصحاب الألسنة من الشعراء الذين كان للسانهم خطر وأثر في نفوس المجتمع إذ ذاك، فللمديح قيمة وللهجاء أثر في الناس ينتقل بينهم من مكان إلى مكان. فكان هؤلاء يتحايلون ويبحثون عن مختلف المناسبات للوصول إلى الملوك لنيل عطائهم وألطافهم. وكانت مناسبات الشرب والأنس من خيرة المناسبات بالنسبة إليهم، لجو السرور والمرح الذي كان يخيم فيه على الملوك، فيعطون ويجودون ولا يبالون بما يعطون إذا كان صاحب الحاجة لبقًا لطيفًا حلو المعشر، يسيطر بلسانه على الملك، وقد يجعله في عداد المقربين إليه.
ولما كانت الدنانير والدراهم، قليلة إذ ذاك، صارت أعطية الملوك لسادات القبائل مالًا في الغالب، والمال عندهم: الإبل. ويعطون الأكسية والألبسة والطعام لهم ولسواد الناس من الفقراء المحتاجين الذين يقفون عند أبواب الملك يلتمسون منهم الرحمة والشفقة والإنقاذ من الجوع.
والجائزة العطية. فكان الملوك يجيزون من يطلب منهم الجوائز3 ومنها: "القطوط"، جمع "قط"، وهي الصك بالجائزة والصحيفة للإنسان بصلة يوصل بها. قال الأعشى:
__________
1 تاج العروس "8/ 102"، "كلل".
2 تاج العروس "3/ 109"، "جمر".
3 اللسان "5/ 327 وما بعدها"، "صادر"، "جوز".(9/41)
ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته، يعطي القطوطَ ويأفق1
ولسادات القبائل أنديتهم أيضًا، يقصدها أشراف القبيلة والناس. وكانوا إذا اجتمعوا تداولوا أمور قبيلتهم وما وقع بين القبائل ونظروا في أيامهم الماضية وقد يتناشدون الأشعار ويتفاخرون2. ويذكر علماء اللغة أن "النادي المجلس يندون إليه من حواليه ولا يسمى ناديًا حتى يكون فيه أهله. وإذا تفرقوا لم يكن ناديًا. وفي التنزيل العزيز: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَر} . قيل: كانوا يحذفون الناس في المجالس، فأعلم الله تعالى أن هذا من المنكر وأنه لا ينبغي أن يتعاشروا عليه ولا يجتمعوا على الهزء والتلهي وأن لا يجتمعوا إلا فيما قرب من الله وباعد من سخطه"3. وقد كان ملأ مكة إذا اجتمعوا في نواديهم تذاكروا أمور ساداتها فغض قوم من قوم، وسخر بعض من بعض وروى بعض عن بعض قصصًا للغض من شأنهم، شأن المجتمعات الفارغة التي لا لهو فيها يلهي ولا عمل فيها يشغل. فكان هذا شأنهم حتى نزل التنديد بفعلهم في القرآن. كما نزل يندد في أمور أخرى كانت من هذا القبيل، مثل "المشمعة"، العبث والاستهزاء والضحك بالناس والتفكه بهم.
وفي الحديث: "من تتَبَّعَ المَشْمَعَةَ يُشَمِّعُ اللهُ به". أراد من كان شأنه العبث والاستهزاء والضحك بالناس والتفكه بهم جازاه الله جزاء ذلك. وقال الجوهري: أي من عبث بالناس أصاره الله إلى حالة يعبث به فيها"4.
وقد لجأ العرب إلى اتخاذ وسائل للتخفيف من شدة وطأة الحرّ عليهم. إذْ أن الجو حار في بلاد العرب بالصيف. وفي جملة ما استخدموه: "المراوح".
ورد أن الناس كانوا يستعملونها للترويح عن أنفسهم5. وللريح أهمية كبيرة في جزيرة العرب وفي البلاد الحارة. إذ أن وقوفه يزعج الناس ويؤذيهم، فلا غرابة إذا ما اعتبروا الرياح رحمة تغيث الناس وتفرج عن كربهم. وتغَنّوا بها وسروّا بهبوبها سرورًا كبيرًا. بهبوب الرياح المنعشة المرطبة التي تحمل المزن لهم. فتصيب الأرض وترويها بما تحمله معها من مزن. ولريح الصبا، ذكريات طيبة عند العرب.
__________
1 اللسان "7/ 382"، "صادر"، "قطط".
2 الأغاني "2/ 52".
3 تاج العروس "10/ 363"، "ندا".
4 تاج العروس "5/ 403"، "شمع".
5 تاج العروس "2/ 152"، "روح".(9/42)
ولها أثر خالد في الشعر، حتى أنهم كانوا يطعمون عند هبوبها. وهي ريح معروفة تقابل الدبور. سميت بذلك لأنها تستقبل البيت وكأنها تحن إليه. قال ابن الأعرابي مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. وتزعم العرب أن الدبور تزعج السحاب وتشخصه في الهواء ثم تسوقه، فإذا علا كشفت عنه واستقبلته الصبا، فوزعته بعضه على بعض حتى يصير كسفًا واحدًا، والجنوب تلحق روادفه به وتمده من المدد، والشمال تمزق السحاب1.
ومن وسائل التلطيف من حدة الحر، رش الأرض بالماء. أي نفح المكان بالماء2. ورش الحصر المنسوجة من جريد النخل أو من الحلفاء أو من غيرها بالماء، حتى تبرد فينام الإنسان عليها، أو تعليقها ونضحها بالماء. فيبرد الهواء الذي يمر من مساماتها بعض الشيء3. ورش ستر الكرباس والخيش بالماء، ليبرد الهواء الذي يخترق مساماتها، فينعش الجالس أمامها.
وكان الوجوه وأشراف البلد إذا أرادوا الانشراح شربوا وسمعوا القيان، وكان لأكثرهم قيان امتلكوها للترفيه عنهم بالغناء. و"القينة" الأمة المغنية أو أعم. يذكر علماء اللغة، أن اللفظة من "التقين" التزين، لأنها كانت تزين. وذكر أن القينة الأمة والجارية تخدم حسب4. و"المغنية" هي التي تغني للناس، والتي اتخذت الغناء حرفة لها، تعيش عليها.
ومنهم من يستدعي إليه أصحاب المجون والنوادر والفكاهات والملح للترفيه عنهم. وقد اشتهر بالمزاح رجل اسمه "نعيمان" وكان من أصحاب رسول الله البدريين5. والمجون ألا يبالي الإنسان بما صنع. والماجن عند العرب: الذي يرتكب المقابح المردية والفضائح المخزية، ولا يمضه عذل عاذله ولا تقريع من يقرعه6، ولا يبالي قولًا وفعلًا لقلة استحيائه7.
__________
1 تاج العروس "10/ 206"، "صبا".
2 تاج العروس "4/ 312"، "رش".
3 تاج العروس "3/ 144"، "حصر".
4 تاج العروس "9/ 316"، "قان".
5 نهاية الأرب "4/ 3".
6 اللسان "13/ 400"، "صادر" "مجن".
7 تاج العروس "9/ 341"، "مجن".(9/43)
والمزاح: الدعابة، والمزح نقيض الجد1. وليس في طبع العربي ميل إلى المزاح، إذ يراه منقصة بحق الرجل وإسفافًا يعرضه إلى التهكم والازدراء به.
وذكر بعض علماء اللغة أن الدعابة المزاح مع لعب2. وقيل: يتكلم بما يستملح3.
__________
1 اللسان "2/ 593"، "صادر" "مزح"، تاج العروس "2/ 222"، "مزح".
2 تاج العروس "2/ 407"، "الكويت"، "دعب".
3 تاج العروس "1/ 247"، "دعب".(9/44)
الخصومات:
ويقع النزاع بين الناس، يقع بين الأهل كما يقع بين الجيران أو بين الأباعد. وقد يتحول إلى "عراك" وإلى وقوع معارك1. والمشاجرة الخلاف والاشتباك. وقد تكون المشاجرة بسيطة بأن يشاتم ويسابب طرف طرفًا آخر. ويعبر عن ذلك باللحاء. ونظرًا لجهل الناس في ذلك الوقت، فشا السباب والتشاتم بينهم. بين الرجال والرجال وبين النساء والنساء وبين الجنسين. وإذا طال واشتد تدخل الناس في الأمر لإصلاح ذات البين. وقد تتطور الخصومة البسيطة فتتحول إلى خصومة كبيرة يساهم فيها آل المتخاصمين وأحياؤهم، وقد يقع بسبب ذلك عدد من القتلى. وقد حفظت كتب الأخبار والأدب أسماء معارك وأيام، سقط فيها عدد من القتلى بسبب خصومات تافهة، كان بالإمكان غض النظر عنها، لو استعمل أحد الجانبين الحكمة والعقل في معالجة الحادث.
__________
1 الحيوان "7/ 96"، "عداوات الناس"، "هارون".(9/44)
قتل الوقت:
وقد أشرت إلى أن "النعمان بن المنذر" كان يستخدم المضحكين، وعلى رأسهم "سعد القرقرة" لإضحاكه. وقد عد في المستأكلين والمتطفلين. وقد استعان السادة والأشراف بالمضحكين أيضًا ليقصوا لهم القصص المضحك. والقرقرة الضحك إذا استغرب فيه. وقد لقب بها سعد هازل النعمان بن المنذر ملك الحيرة. كان يضحك منه1. وكان من أهل هجر2.
__________
1 تاج العروس "3/ 488 وما بعدها"، "قرر".
2 تاج العروس "6/ 136"، "سدف".(9/44)
والمخنثون مادة من مواد التسلية والفكاهة والطرب. وقد خصي بعضهم، وعادة الخصاء عادة قديمة معروفة عند مختلف الشعوب، ذلك لأنهم كانوا يدخلون على النساء في البيوت، فخصوا اتقاء حدوث اتصال بين هؤلاء والنساء. وكان في المدينة على عهد الرسول ثلاثة من المخنثين: هيت، وهرم، وماتع، فسار المثل من بينهم بهيت، فقيل: أخنث من هيت1. ومن المخنثين في الإسلام طويس، ويقال له: إنه أول من غنى بالمدينة في الإسلام، ونقر الدفّ المربع.
وكان أخذ طرائف الغناء عن سبي فارس. وقد خصي مع غيره من المخنثين.
وكان مألوفًا خليعًا يضحك كل ثكلى2.
وقد عير العرب بالخنث، والخنث من فيه انخناث وتثن. وهو المسترخي.
وهو جبان لا يطيق القتال. وتكون المرأة أشجع منه مع أنه رجل. ويقال للجمع: "الخناث". قال الشاعر:
لعمرك ما الخناث بنو قشير ... بنسوان يلدن ولا رجال3
والمحمقون مادة من مواد التسلية والترويح عن النفس. ومنهم من اتخذ التحمق وسيلة للوصول إلى الملوك والسادات. ومنهم من كان محمقًا بطبعه. مثل هؤلاء يكونون وسيلة من وسائل السمر، بما يظهر منهم طبعًا أو تصنعًا من حمق. وقد عرف "نعامة"، واسمه "بيهس"، بالتحمق، فقيل: "أحمق من بيهس".
وهو من "بني ظالم بن فزارة"4. وذكر أنه أحد الأخوة السبعة الذين قتلوا وترك هو لحمقه. وهو القائل:
ألبس لكل حالة لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها5
واشتهرت بمكة امرأة عرفت بالحمق. قيل لها: "خرقاء مكة". ذكر أنها كانت إذا أبرمت غزلها نقضته. فاشتهر أمرها حتى ضرب بها المثل. وإليها أشير
__________
1 مجمع الأمثال "1/ 260"، إرشاد الساري "10/ 26 وما بعدها".
2 مجمع الأمثال "1/ 268 وما بعدها".
3 تاج العروسة "1/ 619 وما بعدها"، خنث".
4 المعارف "ص37"، "83"، "طبعة ثروت عكاشة".
5 تاج العروس "9/ 79"، "نعم".(9/45)
في القرآن في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} 1. "وقيل: المراد امرأة معينة من قريش: ريطة بنت سعد بن تيم. وكانت خرقاء. اتخذت مغزلًا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع. وهي الحديدة في رأس المغزل وفلكه عظيمة على قدرها. وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن"2. وذكر أن تلك المرأة هي: "ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة"، وكانت امرأة حمقاء بمكة، وكانت تفعل ذلك3. والظاهر أن أهل مكة كانوا يتندرون بذكر حمقها، فضرب القرآن بها المثل لتذكير قريش قومها بها، لئلا يكونوا مثلها في الحمق.
وعرف الجاهليون لونًا آخر من ألوان الترويح عن النفس والترفيه عنها، هو التنزه في البساتين وفي مواطن الكلأ والأماكن الجميلة من البادية في أيام الربيع حيث تكتسي ببسط من الخضرة، وحيث تظهر الأزهار البرية، ذات الروائح الزكية.
فكان ملوك وأهل الحيرة يقضون أيامًا في المتنزهات القريبة منهم وفي مواطن في البادية يروحون عن أنفسهن ويتلهون بالصيد. وكان أهل يثرب يخرجون إلى "العقيق" متنزههم للتسلية4. وهكذا فعل غيرهم من سكان بلاد الشام وجزيرة العرب.
ومن ملوك الحيرة الذين ارتبط اسمهم باسم الأزهار التي تجود بهام البوادي أيام الربيع الملك "النعمان بن المنذر" فقد قيل للشقائق التي تنبتها البادية، مثل أرض النجف، "شقائق النعمان". قيل: إنها دعيت باسمه لأنه جاء إلى موضع وقد اعتم نبته من أصفر وأحمر، وإذا فيه من هذه الشقائق ما راقه ولم ير مثله، فحماها فسميت "شقائق النعمان" بذلك5.
وكان من عادة أهل مكة الذهاب إلى الطائف في أيام القيظ، للتخلص من حر مكة الشديد، لطيب هواء الطائف واعتداله، ولوجود الماء البارد بها الخارج من العيون والآبار. ولوجود مختلف الأثمار والخضرة بها. وقد كان لأغنياء مكة
__________
1 سورة النحل، 16، الآية 92، تفسير الطبري "14/ 11".
2 تفسير النيسابوري، حاشية على تفسير الطبري "14/ 113".
3 الجامع لأحكام القرآن "10/ 171".
4 الأغاني "2/ 167" "طبعة الساسي".
5 تاج العروس "6/ 398".(9/46)
أملاك بها وبساتين استغلوها. ومنهم من كان يذهب إلى بلاد الشام للاتجار ولتمضية الصيف هناك.
وكان في جملة ما ابتكره الجاهليون لقطع الوقت "الأغلوطات"، وهي صعاب المسائل، فيطرح سائل ما سؤالًا عويصًا على المستمعين، ويطلب منهم أن يعملوا فكرهم لحلّه، وقد ورد في الأخبار أن الرسول نهى عن "الأغلوطات"1. وقيل: "الغلوطات". وهي الكلام الذي يغلط فيه ويغالط به2.
وكان تناشد الشعر والتساجل فيه من جملة الأمور التي أمضوا أوقاتهم بها.
فكان أحدهم يطارح صاحبًا له أو جملة أصحاب له الشعر، وقد يجتمع الأصدقاء حولهم ليروا الفائز من المتبارين. والفائز هو من يبز غيره في الحفظ، إذ يبقى يطارح أصحابه ما يحفظ حتى يعجزهم، فيغلبهم ويكسب الفوز. وقد يكون ذلك برهن يعطى للغالب، وقد يكون بغير رهن. والمساجلة المباراة والمفاخرة في الأصل، بأن يصنع كل من المتبارين صنعه في شيء فمن بقي وبز صاحبه غلبه.
وهكذا تكون في الشعر، فمن يثبت يكسب المساجلة3.
__________
1 العقد الفريد "2/ 225"، تاج العروس "5/ 193"، "غلط".
2 اللسان "7/ 363".
3 تاج العروس "7/ 370"، "سجل".(9/47)
اللباس:
جاء في بعض الأخبار: "كل ما شئت والبس ما شئت"1. ولكن الشائع بين الناس "كل ما شئت والبس ما يشتهي الناس"، ذلك لأن اللباس مظهر، وعلى الإنسان أن يظهر في خير مظهر أمام الناس. وقد ورد أن العرب تلبس لكل حالة لبوسها2. وينطبق ذلك على السراة وذوي اليسار والثراء بالطبع، أما سواد الناس، فلم يكن من السهل عليهم الحصول على اللباس. إذ كان غاليًا مرتفع الثمن بالنسبة لأوضاعهم الاقتصادية. فكانوا يسترون أجسامهم بأسمال بالية وبكل ما يمكن أن يستر الجسم به.
وكسوة العرب، تختلف وتتباين، باختلاف الشخص وباختلاف الجماعة التي
__________
1 إرشاد الساري "8/ 417"، عيون الأخبار "1/ 296"، "باب اللباس".
2 اللسان "6/ 202 وما بعدها".(9/47)
ينتسب إليها والمكان الذي يعش فيه. فللأعراب ألبسة وذوق، ولأهل المدر أذواق وأمزجة في اللباس، تتباين فيما بينها، بتباين المنزلة والمكانة والحرفة. ولذوي اليسار والثراء ألبسة فاخرة، يستوردونها من الخارج في بعض الأحيان، فيها أناقة وفيها تصنع، وهي من المواد الغالية الثمينة في الغالب، لا يتاح لغير الموسرين الحصول عليها. ثم إن بعض الناس يفضلون لونًا يعافه بعض آخر ويتجنبه.
فكان الكاهن لا يلبس المصبغ، والعرف لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه، والحكم لا يفارق الوبر، ولحرائر النساء زيّ، ولكل مملوك زي، يتساوى في ذلك لباس الرأس ولباس البدن1.
وقد كان أثرياء مكة ويثرب والقرى والقبائل يلبسون الملابس الفاخرة المصنوعة من الحرير ودقيق الكتان والخز، وغير ذلك من الثياب الغالية الرقيقة، المستوردة من دور النسيج المعروفة في جزيرة العرب ومن خارجها، ويلبسون النعال الجيدة، مثل النعل الحضرمية المشهورة بمكة، ويتعطرون بعطور غالية ثمينة2، ويركبون الدواب الحسنة المطهمة مبالغة في التباهي والتظاهر.
وتختلف كسوة الرأس عند العرب باختلاف منزلة الرجل ومكانته ووضعه وحاله.
و"العمامة" هي فخرهم وعزهم وأفخر ملبس يضعونه على رءوسهم. حتى قيل: "عمم الرجل: سوّد؛ لأن تيجان العرب العمائم، فكما قيل في العجم: توج من التاج، قيل في العرب: عمم"، "والعرب تقول للرجل إذا سود: قد عمم، وكانوا إذا سودوا رجلًا عمموه عمامة حمراء"3. وورد عن عمر قوله: "العمائم تيجان العرب4". وهي تعد عادة من عادات العرب5. خاصة العرب أصحاب الجاه والمكانة والنفوذ من حضر وبادية، فإنها تميزهم عن بقية الناس.
وقد جاء في الخبر: "أن العمائم تيجان العرب". "وكان يقال: اختصت
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 406 وما بعدها".
2 طبقات ابن سعد "3/ 116" "طبعة صادر".
3 اللسان "12/ 425" "صادر".
4 البيان والتبيين "2/ 88".
5 بلوغ الأرب "3/ 410"، اللسان "12/ 424 وما بعدها".(9/48)
العرب من بين الأمم بأربع: العمائم تيجانها، والدروع حيطانها، والسيوف سيجانها، والشعر ديوانها"1.
وتعد العمامة من لبس الطبقة العالية والمترفة، وذلك لأن الطبقة الفقيرة والعامة لم تكن تتمكن من اقتنائها، وإنما تضع على رأسها أغطية أخرى، أخف وزنًا وثمنًا من العمامة، ولذلك كانوا إذا أرادوا التعبير عن رخاء شخص، قالوا: "أرخى عمامته: أمن وترفه، لأن الرجل إنما يرخي عمامته عند الرخاء"2.
وجاء في الحديث: أنه كان يتعوذ من الحور بعد الكور، أي من النقصان بعد الزياد. وهو من تكوير العمامة، لأن الكور تكوير العمامة، والحور نقضها، وتكوير العمامة دلالة على الرخاء وحسن الحال، والحور يعني تغير الحال كما ينتقض كور العمامة بعد الشد3. ففي تكوير العمائم، دلالة على النعمة والرخاء. إذ لم يكن في وسع الفقير شراء قماش يعمم به رأسه على سنة الأغنياء. فكيف به يعمم رأسه بعمامة كبيرة.
ولم يكن تكوير العمامة العلامة الوحيدة الدالة على الغنى والجاه، بل كان الإسراف في إطالة الردن والذيل في الثوب من علائم الغنى والجاه أيضًا. فقد كان السادات والأغنياء يطيلون الأردان وأذيال الثياب، حتى تصير تلامس الأرض، للتعبير عن غناهم وكثرة مالهم وأنهم لا يبالون بالمال ولا بالثياب فيتركونها تجر الأرض وراءهم من سعة عيشهم. بينما لم يكن في وسع الفقير أكساء جسمه حتى بالأسملة.
وللعمامة منزلة كبيرة عند العرب. فهي تعبر عن شرف الرجل وعن مكانته، فإذا اعتدي عليها أو أهينت، لحق الذل بصاحبها، وطالب بإنصافه وبأخذ حقه.
وإذا أهين شخص أو شعر بإهانة لحقت به، ألقى بعمامته على الأرض، ونادى بوجوب إنصافه. ويعدّ اللوذ بعمامة رجل، وذكرها من موجبات الوفاء والإنصاف لمن لاذ بها. "وإذا قالوا سيد معمم، فإنما يريدون أن كل جناية يجتنيها الجاني في تلك العشيرة، فيه معصوبة برأسه"4. كما يريدون بذلك السيادة لأن تيجان العرب العمائم، فكما قيل في العجم: توج من التاج. قيل في العرب: عمم. وكانوا
__________
1 الثعالبي، ثمار القلوب "159".
2 اللسان "12/ 425".
3 اللسان "5/ 155 وما بعدها"، "صادر"، "كور".
4 بلوغ الأرب "3/ 409"، البيان والتبيين "3/ 52".(9/49)
إذا سودوا رجلًا عمموه عمامة حمراء. وكانت الفرس تتوج ملوكها فيقال له: المتوج1.
ويدل سيماء العمامة على مكانة حاملها، فلقماش العمامة وللونها ولشكلها العام، أي كيفية تكويرها، دلالة على مكانة صاحبها ومنزلته في المجتمع. فعمامة المترفين المتمكنين هي من أقمشة فاخرة، نسجت بعناية، منها عمائم الديباج والخز، وذكر أن العمائم المهراة، وهي الصفرة، هي لباس سادة العرب2. وأن بعض السادة مثل "الزبرقان بن بدر" كانوا يصبغون عمائمهم بصفرة، ويعصفرونها بالعصفر وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله:
وَأَشهَدُ مِن عَوفٍ حُلولًا كَثيرَةً ... يَحُجّونَ سَبَّ الزَبرَقانِ المُزَعفَرا
والسب: العمامة3.
وورد في الحديث "كانت عمائم العرب محنكة" أي طرف منها تحت الحنك4.
وقد جرت عادة العرب بإرخاء العذبات، وقد يزيدون في ذلك دلالة على الوجاهة والغنى5.
ويذكر علماء اللغة أن "من أسماء العمامة: العصابة، والمقطعة، والمعجر، والمشوذ، والكوارة"6. وقيل: إن العصابة والعمامة سواء7.
وقد كان السادات يتفننون في لبس العمامة وفي اختيار ألوانها، فكانوا يختارون لكل مناسبة لونًا، فكان بعضهم إذا قاتل لبس عمامة حمراء، ولبس بعضهم عمامة صفراء أو سوداء. يتبع ذلك مزاج لابسها وعمره، ونُظر إليها على أنها جمال الرجل، ومظهره الذي يظهر به. ورد أن علي بن أبي طالب كان يقول:
__________
1 تاج العروس "8/ 410"، "عم".
2 بلوغ الأرب "3/ 408"، فقه اللغة، للثعالبي، "242"، "مطرف خز وعمامة خز وجبة خز"، الطبقات، لابن سعد "7/ 37".
3 بلوغ الأرب "2/ 408"، شرح ديوان حسان "ص245" "للبرقوقي"، تاج العروس "1/ 292"، "سب".
4 بلوغ الأرب "3/ 408".
5 إرشاد الساري "8/ 420".
6 بلغ الأرب "3/ 408".
7 البيان والتبيين "3/ 95".(9/50)
جمال الرجل في عمته، وجمال المرأة في خفها1.
وفي الأمثال: "أجمل من ذي عمامة"، وهو مثل من أمثال مكة، قيل: إنهم قالوه لسعيد بن العاص بن أمية، المعروف عندهم بـ"ذي العمامة".
وكان في الجاهلية إذا لبس عمامة، لا تلبس قريش عمامة على لونها. وقيل: إنه كناية عن السيادة. وذلك لأن العرب تقول: فلان معمم، يريدون أن كل جناية يجنيها الجاني من تلك القبيلة والعشيرة، فهي معصوبة برأسه. وإلى مثل هذا ذهبوا في تسميتهم سعيد بن العاص، ذا العمامة، وذا العصابة2.
وربما جعلوا العمامة لواء، فينزع سيد القوم عمامته، ويعقدها لواء، وفي ذلك معنى التقدير والاحترام، لأنها عمامة سيد القوم، وربما شدوا بها أوساطهم عند التعب والمجهدة3.
وما يكون تحت الحنك من العمامة هو "الحنكة". أما ما أرسل منها على الظهر فهو الذؤابة. وأما "القفدة" فأعلى العمامة. والعمة العجراء. هي العمة الضخمة. وفي العمامة الكور، وهي الطرائق التي يعصب بها الرأس4.
ولطريقة شد العمامة ووضعها على الرأس أسماء، وضعت لكل شدة أو طريقة من طرق وضعها فوق الرأس. ويختلف حجم العمامة وألوانها باختلاف العمر أيضًا. فللشاب عمائم تميزهم عن الكهول والشيوخ. كما يختلفون عنهم في اختيار ألوان الألبسة. وذكر أن الرسول كانت له عمامة تسمى السحاب، وكان يلبسها ويلبس تحتها "قلنسوة". وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ويلبس العمامة بغير قلنسوة.
وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه. ولما دخل مكة، دخلها وعليه عمامة سوداء5.
ووضعت القلنسوة على الرأس كذلك، فورد أن خالد بن الوليد كان يضع قلنسوة على رأسه6. وقد لبسها الرسول. وكانت معروفة عند الجاهليين وأشير إليها في الشعر. ولفظة "قلنسوة" من الألفاظ المعربة عن "اللاتينية". عربت من Calantica. ويراد بها ضرب من ملابس الرأس7.
__________
1 البيان والتبيين "2/ 88".
2 مجمع الأمثال "1/ 197".
3 البيان "3/ 105"، بلوغ الأرب "3/ 412".
4 بلوغ الأرب "3/ 412".
5 زاد المعاد "1/ 34 وما بعدها"، "فصل في ملابسه".
6 الأغاني "15/ 12".
7 غرائب اللغة "279".(9/51)
وقد كان الجاهليون يوفقون أيضًا بين نوع ملابسهم، فكانوا يلبسون مثلًا عمامة خز مع جبة خز ومطرف خز1 وذلك للتناسق في اللباس.
وجعلوا العمامة شعارًا للعرب ورمزًا لهم، إذا زال زالت عروبتهم. "قال غيلان بن خرشة للأحنف: يا أبا بحر. ما بقاء ما فيه العرب؟ قال: إذا تقلدوا السيوف، وشدوا العمائم، واستجادوا النعال، ولم تأخذهم حمية الأوغاد"2.
وورد "في الخبر، إن العمائم تيجان العرب، فإذا وضعوها وضع الله عزهم".
وقيل: اختصت العرب: بالعمائم تيجانها، وبالدروع وبالسيوف وبالشعر3.
وعرفت "المساتق" في الحجاز. وهي فراء طوال الأكمام، واحدتها "مستقة". وذكر الجواليقي أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأنها "مشته" في لغة الفرس. وروي أن الرسول كان يصلي وعليه مستقة، وأن مستقته من سندس مبطنة بالحرير، أهديت إليه4. ذكر أن ملك الروم أهداها إليه5.
وأما الجبة، فهي من ألبسة الموسرين كذلك، لأنها غالية، تكون من خز، وتكون من ديباج ومن أقمشة أخرى. وقد ذكر أن الأكيدر أهدى إلى الرسول جبة من ديباج منسوج فيها الذهب6. وقد تكون واسعة الكمين، كما تكون ضيقتهما. وقد لبس الرسول في السفر جبة ضيقة الكمين7. وذكر أنه قد كانت عند "أسماء بنت أبي بكر" جبة لرسول الله، "طيالسية خسروانية لها لينة ديباج وفرجاها مكفوفان بالديباج. فقالت هذه كانت عند عائشة حتى قبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يلبسها، فنحن نغلسها للمريض نستشفي بها"8.
وتعدّ الجبب من مقطعات الثياب. فقد اصطلح علماء اللغة على تقسيم الثياب إلى مقطعات وغير مقطعات. والمقطع من الثياب كل ما يفصل ويخاط من قميص
__________
1 الطبقات "7/ 23".
2 بلوغ الأرب "3/ 409".
3 الثعالبي، ثمار "159".
4 الجواليقي "ص308".
5 زاد المعاد "1/ 35".
6 الطبقات "7/ 23"، الإصابة "1/ 126".
7 زاد المعاد "1/ 35".
8 زاد المعاد "1/ 35"، مسند ابن حنبل "4/ 307".(9/52)
وجباب وسراويلات وغيرها، وما لا يقطع منها كالأردية والأزر والمطارف، والرياط التي لم تقطع، وإنما يتعطف بها مرة ويتلفع بها أخرى1.
والجبب مثل سائر الثياب، لا تكون بلون واحد. فقد تكون بيضاء، وقد تكون سوداء، وقد تكون حمراء، وقد تكون خضراء، ويختار لابسها اللون الذي يلفت نظره. وقد تكون له جملة جبب بألوان مختلفة، يلبس صاحبها الجبة التي يلائم لونها المناسبة والمكان الذي يذهب إليه.
و"البرنس"2: قلنسوة طويلة، أو كل ثوب رأسه منه، ملتصق به، درّاعة كان أو جبة، أو ممطرًا. وكان النساك يلبسونها في صدر الإسلام3.
واللفظة من الألفاظ المعربة عن اليونانية، عربت من أصل "فيروس" Virros، بمعنى ثوب عريض الكمين، غطاء الرأس ملتص به، أي: هو جزء منه. ويلبس عندهم فوق الثياب4.
و"القميص" من الثياب المقطعة. ذكر بعض علماء اللغة أنه لا يكون إلا من قطن أو كتان. وأما من الصوف فلا. والظاهر أنهم خصصوه بالقطن أو الكتان للغالب5. وذكر أن الرسول لبس قميصًا من قطن، وكان قصير الطول، قصير الكمين. والظاهر أن هذه الصفة كانت هي الصفة الغالبة على القمصان، ثم طولت فيما بعد ووسعت أكمامها6.
و"الخميصة" من الألبسة القديمة. وهي ثياب من خز ثخان سود وحمر ولها أعلام ثخان أيضًا. وذكر أن الخميصة كساء أسود مربع له علمان، فإن لم يكن معلمًا، فليس بخميصة. وذكر أنها قد تكون من خز أو صوف. والظاهر أنهم كانوا لا يسمون الخميصة خميصة، إلا إذا كانت ذات أعلام. وهي من ألبسة الموسرين7.
و"الرداء"، الوشاح، ويقع على المنكبين ومجتمع العنق8. وهو ما يشمر
__________
1 اللسان "8/ 283"، "قطع"، تاج العروس "1/ 172"، "جيب".
2 بالضم.
3 اللسان "6/ 26"، "برنس"، تاج العروس "4/ 108"، "البرنس".
4 غرائب اللغة "255".
5 تاج العروس "4/ 428"، "قمص".
6 زاد المعاد "1/ 43"، ابن سعد، الطبقات "3/ قسم1 ص17".
7 تاج العروس "4/ 390"، "خمص".
8 تاج العروس "10/ 148"، "ردى".(9/53)
على النصف الأعلى من الجسم لتغطيته، ويكون من قطعة واحدة من القماش، يلف على هذا النصف. قد يكون طويلًا واسعًا، وقد يكون قصيرًا. وقد يلف على الجسم رأسًا، وهو الغالب، وقد يلف فوق ألبسة أخرى.
و"الإزار" الملحفة، وما يستر أسفل البدن، والرداء ما يستر به أعلاه. وكلاهما غير مخيط. وقيل: الإزار ما تحت العاتق والظهر. ولا يكون مخيطًا فهو قطعة قماش، يلف به القسم الأسفل من البدن لستره1. يختلف طوله وعرضه حسب رغبة لابسه. ويلبس الإزار مع الرداء في الغالب، وقد تلبس معه ألبسة أخرى.
و"النمرة" شملة فيها خطوط بيض وسود، وبردة مخططة من صوف تلبسها الأعراب. وذكر أن كل شملة مخططة من مآزر الأعراب، فهي نمرة. وجمعها أنمار ونمار. كأنها أخذت من لون النمر، لما فيها من السواد والبياض. وقد لبس النبي النمار. وورد: نبطي في حبوته، أعرابي في نمرته أسد في تامورته2.
والمطرف: رداء من خز مربع، له أعلام. وهو من الأردية التي يلبسها الأغنياء وذوو اليسار. وذكر أن المطرف رداء في طرفيه علمان3.
ولبس الجاهليون القباء. وقد كان كسرى قد أهدى "الأكيدر" قباءًَ من ديباج منسوج بالذهب4. وكان من عادة الأكاسرة أن يكسوا الرؤساء وسادات القبائل أقبية من الديباج، للتلطف والاسترضاء.
واكتسبت البرد اليمانية شهرة كبيرة بين الجاهليين، وبقيت شهرتها في الإسلام، وهي ذات ألوان. وفي كتب الأخبار: إن وفد رؤساء مكة حينما ذهبوا على سيف بن ذي يزن، لتهنئته، ودخلوا عليه في قصر غمدان، وجدوه متضمخًا بالعنبر، يلمع وبيص المسك في مفرق رأسه، وعليه بردان أخضران قد ائتزر بأحدهما5.
واشتهرت برود "تزيد" عند العرب كذلك وضرب بها المثل، كما يضرب
__________
1 تاج العروس "3/ 11"، "أزر".
2 تاج العروس "3/ 585"، "نمر".
3 فقه اللغة "246". الطبقات "7/ 23"، البيان "1/ 206".
4 الإصابة "1/ 126".
5 العقد الفريد "2/ 23 وما بعدها"، الثعالبي، ثمار القلوب "598".(9/54)
ببرود اليمن. وذكر أن العرب تنسب البرود الفاخرة إلى تزيد، وتزعم أنها قبيلة للجن1.
ولبس الجاهليون الألبسة الحمراء مثل: المياثر الحمر والألبسة الحمراء البحتة القانية. وذكر أن الرسول نهى عن لبس الألبسة الحمراء الخالصة التي لا يخالط لونها هذا لون آخر. ولم ينه عن لبس الألبسة المخططة بحمرة مع لون آخر، مثل الحلل اليمانية، وهي إزار ورداء، منسوجان بخطوط حمر مع الأسود. كما نهى الرجال من لبس الربط المضرجة بالعصفر، لأنها من لبس الكفار2.
ولبس العرب الثياب المصبغة، وذكر أن ساداتهم كانوا يصبغون ثيابهم بالزعفران.
وأن من صبغ ثيابه به "ذو المجاسد"3. وهو من حكام الجاهلية وفقهائها.
وذكر أن العرب كانت مصفقة على توريث البنين دون الأناث، فورث ماله لولده في الجاهلية للذكر مثل حظ الأنثيين. فوافق حكم الإسلام4. وورد أن ملحفة رسول الله التي يلبس في أهله مورسة حتى أنها لتردع5 على جلده6.
وقد كان الأغنياء والشباب يبالغون في ألبستهم، فكان منهم من يشمر ثوبه، ومنهم من يسبله ويتركه يجر الأرض، ومنهم من يبالغ في ردائه خيلاء وتيهًا وتكبرًا. ونظرًا إلى ما يتركه من أثر في نفوس الفقراء، وإلى ما فيه من إسراف وتبذير في استعمال الأقمشة، نهي عن فعل ذلك في الإسلام. وورد النهي عن ذلك في كتب الحديث7. وورد النهي عن لبس القمصان ذات الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج، لأنها من جنس الخيلاء8.
ويلبس العرب النعال في أرجلهم، ويفضلونها على غيرها من ألبسة الرجل مثل الخف. وقد ورد ذكرها في شعر النابغة9. وتصنع من الجلود المدبوغة، ولا سيما
__________
1 الثعالبي، ثمار "598".
2 زاد المعاد "1/ 35".
3 تاج العروس "2/ 320"، "جسد".
4 المحبر "236، 324".
5 تردع تنفض صبغها.
6 عيون الأخبار "1/ 296"، "باب اللباس".
7 إرشاد الساري "8/ 416"، "كتاب اللباس".
8 زاد المعاد "1/ 35".
9
رِقاقُ النِعالِ طَيِّبٌ حُجُزاتُهُم ... يُحَيّونَ بِالريحانِ يَومَ السَباسِبِ
البيان "3/ 107".(9/55)
جلود البقر1. ويذكر بعض أهل الأخبار أن أول من حذا النعال هو جذيمة الأبرش بن مالك2.
وقد ضرب العرب المثل بموضع تجميع الأنعلة في الذلة والهوان. فقيل: هو في صف النعال، لا في صف الرجال3. دلالة على أن الرجل من الطبقة الذليلة.
والخفاف، جمع الخف، هي في منزلة النعل عند العرب. لبسوها في أرجلهم، وشاع استعمالها بين أهل المدر في الحجاز وفي الأمكنة الأخرى. وذكرت في كتب الفقه، في باب الوضوء والصلاة، حيث جوز الفقهاء المسح على الخفين.
وورد النهي باستعمال الخفين للمحرم إلا عند عدم النعلين4، وذلك يدل على استعمال أهل الحجاز للخفاف قبيل الإسلام.
ومن الخفاف، نوع يقال له: "الموزج"، ويذكر بعض علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن أصلها "موزه"5. وهناك نوع آخر يسمى "الموق" ويجمع على "أمواق"، وقد عرف بأنه خف غليظ يلبس فوق الخف. ويظهر من بيت للشاعر المخضرم النمر بن تولب، إن العباديين كانوا يلبسون الأمواق إذ وصف مشية النعاج بمشي العباديين في الأمواق6.
وورد في الأخبار: أن العرب تلهج بذكر النعال، والفرس تلهج بذكر الخفاف7.
وورد أن النساء كن يلبسن الخفاف، وقد ورد أن أصحاب رسول الله كانوا ينهون نساءهم عن لبس الخفاف الحمر والصفر. ويقولون: هو من زينة آل فرعون8. ويعني هذا أن نساء الجاهلية كن يلبسن الخفاف الملونة، فوجد المسلمون أن في ذلك تقليدًا للأعاجم فأمروهن بنبذ الملون منها.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 415".
2 المعارف "ص241".
3 الثعالبي، ثمار "607".
4 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص149".
5 الجواليقي "ص311".
6
فترى النعاج به تمشي خلفه ... مشى العبادين في الأمواق
الجواليقي "ص311"، جمهرة ابن دريد "3/ 166".
7 البيان "3/ 106".
8 بلوغ الأرب "3/ 413".(9/56)
وقد ضرب العرب المثل بخفي حنين عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة.
فيقال: رجع بخفي حنين. وكان حنين إسكافًا من أهل الحيرة، فساومه أعرابي بخفين، فاختلفا حتى أغضبه الأعرابي، وأراد حنين غيظ الأعرابي، فلما ارتحل أخذ أحد خفيه، فطرحه، ثم ألقى الآخر في مكان آخر، فلما مر الأعرابي بأحدهما قال: ما أشبه هذا الخف بخفي حنين ولو معه الآخر لأخذته، ومضى فلما انتهى إلى الآخر ندم على تركه الأول، فأناخ راحلته ورجع في طلب الأول، وقد كان حنين كمن له، فعمد إلى راحلته وما عليها فذهب بها، وأقبل الأعرابي وليس معه إلا خفان. فقال له قومه: ماذا جئت به من سفرك؟ قال جئتكم بخفي حنين. فذهبت كلمته مثلًا1.
وحيث أني سأتكلم عن ملابس الجاهليين بشيء من الإطناب في أثناء حديثي عن الحرف، لذلك أكتفي بما ذكرته في هذا الموضع عن الملابس، على أمل التحدث عنها في ذلك المكان.
ومن عادة أهل "نجد" الاستصباح بـ "الداذين". مناور من خشب الأرز ليستصبح بها. وهي بنجد من شجر المظ2.
ومصابيح القوم من الفخار، أي الطين المشوي بالنار، يوضع في بطنه زيت الوقود تتصل به فتيلة تولع بالنار، ليستضاء بها، وذلك في الأماكن التي يندر فيها استعمال الحجر. أما في الأماكن الجبلية ذات الحجر، فتستعمل كذلك المصابيح المستعملة من الحجر، وخاصة في بيوت الكبار والموسرين. ويستعملون فيها زيت الزيتون. ولا يزال بعض الناس يستعملون هذه "الضواية" في الإنارة3، وتعرف بـ "المسرجة" كذلك. و"السراج" هو المصباح والنبراس. و"القراط" شعلة السراج، و"الذبال" ما يحمل "السراج". ويقال: سَغْم المصباح، أي مده بالزيت. والنسيلة الفتيلة في بعض اللغات. والمشاعل القناديل والزهليق السراج في القنديل4.
أما الأعراب، فلم يكونوا يعرفون المصابيح، ومصابيحهم نجوم السماء وضوء القمر يهتدون بها ويستلهمون منها معنى الحياة.
__________
1 الثعالبي، ثمار "606".
2 تاج العروس "9/ 198"، "ددن"، اللسان "13/ 153"، "دذن".
3 نزية مؤيد العظم "ص78".
4 المخصص "11/ 38 وما بعدها".(9/57)
المأكل والمشرب:
يختلف أكل العرب عن أكل الأعراب. كما يختلف أكل أهل كل مكان عن أكل أهل مكان آخر من جزيرة العرب. وأكل الحضر، متنوع نوعًا ما بالنسبة إلى مأكول أهل الوبر. لفقرهم ولشح باديتهم ولذلك صار طعام الأعراب على العموم بسيطًا. وقد أثر اختلاف نوع الطعام على هيئة الإنسان ووزن جسمه.
فصار جسم الأعرابي نحيفًا في الغالب، لبساطة أكله، وقلة المواد النشوية والدهنية فيه.
ومن عادات العرب أنهم يقلون من الأكل. ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، و"البطنة تأفن الفطنة". وكانوا يعيبون الرجل الأكول الجشع. ويرون أن "الأزم"، أي قلة الأكل أفضل دواء لصحة الأبدان. قيل للحارث بن كلدة، طبيب العرب في الجاهلية: ما أفضل الدواء؟ قال: الأزم. ولهم في ذلك أمثلة كثيرة في الأزم، وضرر البطنة. رووا بعضًا منها على لسان لقمان، ورووا بعضًا آخر على ألسنة الحكماء العرب. وهم يعالجون البطنة بالحمية. لأن المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء1. وهم يرون أن الشبع والامتلاء يضعف الفطنة.
أي الشبعان لا يكون فطنًا2 لبيبًا. فللأكل علاقة كبيرة بالفطنة والعقل والذكاء.
وللعرب مصطلحات عديدة في درجات الأكل. أي من حيث كيفية تناول الطعام، ومن حيث الإقبال عليه إلى حد التخمة. ولما كان الإكثار من الأكل معيبًا عندهم وضعوا ألفاظًا في هؤلاء الذين كانوا يسرفون في الأكل، فإذا دعوا إلى وليمة أسرفوا في الأكل، وأقدموا عليه، وكأنهم جاءوا من سني قحط.
وعابوهم، ومدحوا من اعتدل في أكله وتوسط فيه، وأظهر نظافة وأدبًا في تعاطيه3.
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 370 وما بعدها".
2 اللسان "13/ 19"، "أفن".
3 بلوغ الأرب "1/ 379".(9/58)
ومن عادات العرب، أنهم كانوا يبكرون في الغداء، ويرون أن ذلك أقرب إلى راحة البدن وصحته، ويؤخرون العشاء1.
ومآكل الأعراب قليلة شحيحة مثل شح البادية، خاصة إذا انحبس المطر وهلك الزرع. فإن رزقه يقل وقد يذهب ما معه من زاد فيهلك خلق من الأعراب من شدة الجوع. قيل لأعرابي: ما طعامكم؟ قال: "الهبيد، والضباب واليرابيع، والقنافذ والحيات، وربما والله أكلنا القد، واشترينا الجلد، فلا نعلم والله أحدًا أخصب منا عيشا"2. و"الهبيد" حب الحنظل، تنقعه الأعراب في الماء أيامًا، ثم يطبخ ويؤكل3. وأما القد، فجلد السخلة. "وفي حديث عمر، رضي الله عنه، كانوا يأكلون القد. يريد جلد السخلة"4.
وكانوا يفصدون عرق الناقة ليخرج الدم منه فيشرب، يفعلونه أيام الجوع.
كما كانوا يأخذون ذلك الدم ويسخنونه إلى أن يجمد ويقوى فيطعم به الضيف في شدة الزمان، إذا نزل بهم ضيف فلا يكون عندهم ما يقويه، ويشح أن ينحر المضيف راحلته فيفصدها. و"الفصيد" دم كان يوضع في الجاهلية في معي من فصد عرق البعير ويشوى وكان أهل الجاهلية يأكلونه وتطعمه الضيف في الأزمة.
وأما "الفصيدة"، فتمر يعجن ويشاب بدم. وهو دواء يداوى به الصبيان5.
ويقال للفصيد: "البجة" كذلك. و"البجة" دم الفصيد، يأكلونها في الأزمة. والبج الطعن غير النافذ، فقد كانوا يفصدون عرق البعير ويأخذون الدم يتبلعون به في السنة المجدبة. جاء في الحديث: "إن الله قد أراحكم من الشجة والبجة"، وورد "أراحكم الله من الجبة والسجة"6. أي قد أنعم عليكم بالتخلص من مذلة الجاهلية وضيقتها ووسع لكم الرزق وأفاء عليكم الأموال.
وكان أحدهم إذا نال شربة من اللبن الممذوق بالماء، وخمس تميرات صغار، ظن نفسه ملكًا، ودب إليه نشاطه، قال الشاعر:
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 371".
2 رسالة في الحنين إلى الأوطان "2/ 394".
3 المصدر نفسه.
4 كذلك.
5 تاج العروس "2/ 453"، "فصد".
6 تاج العروس "2/ 6"، "بج".(9/59)
إذا ما أصبنا كل يوم مُذيقة ... وخمس تميرات صغار كنائز
فنحن ملوك الأرض خصبًا ونعمة ... ونحن أسود الغاب عند الهزاهز
وكم متمن عيشنا لا يناله ... ولو ناله أضحى به حق فائز1
وأكل الجراد معروف مشهور عند الأعراب. يأكلونه نيئًا، وقد يطبخونه أو يحمصونه ويلقون عليه شيئًا من الملح. وقد يأكلونه بالتمر. وبغيره، وهو عندهم طعام لذيذ. يذكر بعضهم أن الإنسان قد يصاب بالشري من أكله، وقد يشكو من بطنة قد تصيبه2.
وغالب أكل الأعراب لحوم الصيد والسويق والألبان. وكانوا لا يعافون شيئًا من المآكل لقلتها عندهم. حتى أنهم كانوا يأكلون كل شيء تقع أيديهم عليه. ولا نجد من كتب أهل الأخبار ما يفيد تحريم العرب لأكل بعض الحيوان. بل نجد أن أغلبهم قد استباحوا أكلها جميعًا. مهما كان ذلك الحيوان صغيرًا أوكبيرًا حسن المنظر أو قبيحه، من ذات الأظلاف أو من غيرها. حيًّا كان أم ميتًا3.
وذلك لفقرهم ولشدة الجوع عندهم. فلما جاء الإسلام حرم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير والمختنقة وحدد الذبح وما يمكن أكله من الحيوان، بسبب ما كان يصيب الناس من أكل لحومها من أضرار.
وقد أكلوا لحوم الحمر الوحشية والحمر الأهلية، فنهى الإسلام عن أكلها لما في ذلك من ضرر. وتمنى أحد الرجّاز لو اصطاد ضبًّا سحبلًا سمينًا، ليفوز بلحمه من شدة الفاقة والحاجة إلى اللحم4.
نعم لقد ورد أن بعض القبائل عافت أكل لحوم بعض الحيوانات، أو عابت أكل بعض أجزائها، إلا أن هذا لا يعتبر عامًّا، كما أنه من قبيل العرف والعادة أو مما له علاقة بالعقائد عندهم. فقد ذكر أن قبيلة "جعفي" كانت تحرم أكل "القلب"5، إلا أن هذا التحريم هو تحريم خاص بهذه القبيلة. أما القبائل الأخرى فقد كانت تأكله ولا تبالي، لأنه غير حرام عندها.
__________
1 رسالة في الحنين إلى الأوطان "2/ 394".
2 تاج العروس "2/ 318 وما بعدها"، "جرد"، "8/ 311"، "رزم".
3 بلوغ الأرب "1/ 380".
4 تاج العروس "7/ 352"، "رمل".
5 نهاية الأرب "18/ 83".(9/60)
وفي أيام الشدة وفي الأيام الأخرى أيضًا يرسل الأعراب أولادهم لجمع الحنظل، فإذا جمع نُقِف، لإخراج هبيدة، أي حَبّه، لطبخه، أو تحميصه لأكله.
وقد تفاخر "حسان بن ثابت" بالغساسنة، لأنهم كانوا في بحبوحة من العيش، وليسوا بصعاليك يرسلون ولائدهم لنقف الحنظل1. وإلى ذلك أشار "امرؤ القيس" بقوله:
كأني غداة البين حين تحملوا ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل2
وقد كانوا يقاسون من شدة الجوع والفقر في بعض السنين حتى يموت من يموت منهم من الجوع. قيل: "كانوا إذا اشتد بهم الجوع وخافوا أن يموتوا أغلقوا عليهم بابًا وجعلوا حظيرة من شجرة يدخلون فيها ليموتوا جوعًا"، "ولقي رجل جارية تبكي فقال لها: ما لك؟ فقالت نريد أن نعتفد"، "والاعتفاد أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل حتى يموت جوعًا"3. فالاعتفاد انتحار للتخلص من ألم الجوع.
قال بعض المدنيين لبعض الأعراب: أتأكلون الحيّات والعقارب والجعلان والخنافس؟ فقال: نأكل كل شيء إلا أم حُبين. فقال المدني: لتَهْنِ أم الحُبَينِ العافية4. فالفقر كافر، والجوع يدفع الإنسان إلى أكل كل شيء.
والعرب تكني عن الجوع بـ"أبي مالك". وتسمي الخبز جابرًا وعاصمًا وعامرًا5. وقد كنّت عنه وعن الإفلاس بـ"أبي عمرة"6.
وهو على فقر أكله وبساطته وجوعه يهزأ بأكل الحضر ويسخر منه، ويرى فيه طعامًا صعبًا لا يهضم. وأكلًا لا يناسب مزاج العرب. إذا أكله آكل أصيب بمرض. وهو محق في ذلك، فرجل ذو معدة فارغة، لا يذوق إلا القليل من الأكل والماء، لا تتمكن معدته من هضم طعام مهما كان بسيطًا، فإنه ثقيل بالنسبة
__________
1 البرقوقي "ص310"، ديوان حسان "ص33" "هرشفلد".
2 تاج العروس "6/ 260"، "نقف".
3 تاج العروس "2/ 426"، "عقد".
4 الحيوان "3/ 526"، "هارون".
5 الثعالبي، ثمار "6/ 249".
6 الثعالبي، ثمار "1/ 248".(9/61)
إلى معدة الأعرابي، فإذا أقبل على أكل طعام أهل الحضر، وهو طعام غير مألوف عنده أصيب ببطنة تجعله يكره أكل الحضر، وطعام أهل القرى والمدن، ويعجب كيف يأكله أولئك ثم لا يصابون بمكروه. قال أعرابي قدم الحضر فشبع فأتخم:
أقول للقوم لما ساءني شبعي ... ألا سبيل إلى أرض بها الجوع
ألا حيل إلى أرض يكون بها ... جوع يصدع منه الرأس ديقوع1
وقد كان الجاهليون يأكلون كل ما وقع تحت أيديهم من حيوان مقتول أو ميت، فنزلت الحرمة عن ذلك في الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} 2. وذكر أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها، فإذا ماتت أكلوها. وأنهم كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها. وذكر أن الموقوذة: هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصًا حتى تموت من غير تذكية. والوقذة شدة الضرب3.
وأما المتردية، فهي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت، كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه. وسواء تردت بنفسها أو ردّاها غيرها. وكانت الجاهلية تأكل المتردي، ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف.
فأما هذه الأسباب، فكانت عندها كالذكاة. فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة. وبقيت هذه كلها ميتة. وكذا النطيحة وأكيلة السبع التي فات نفسها بالنطح والأكل4. وكانت الجاهلية تأكل النطيحة الميتة كما تأكل الشاة التي يأخذها السبع فتخلص منه، وكذلك إن أكل بعضها5.
وقد كان الجاهليون يستحلون أكل المحرمات المذكورة التي حرمت في الإسلام، ويأكلون ما يذكى من الحيوان على الأنصاب للأصنام، وما يذكى على غير
__________
1 تاج العروس "5/ 331"، "دقع".
2 المائدة، الآية3.
3 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي "6/ 47 وما بعدها".
4 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي "6/ 49".
5 المصدر نفسه "ص50".(9/62)
الأنصاب على نحو ما يفعل القصاب. والذكاة في كلام العرب الذبح. فلما جاء الإسلام حدد الذبح، على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة، ولو بعض حياة. فأبطل ذكاة ما خمد نفسه من حيوان1. وهو بهذا خالف الجاهليين، إذ لم يشترطوا الشروط التي اشترطها الإسلام في الذبح.
وللأغنياء والحضر آداب في مآكلهم، تبدأ بغسل الأيدي في الغالب، لإزالة ما قد يكون قد علق بها من أتربة وأوساخ، فإذا انتهوا من غسل الأيدي، أكلوا بها. إذ قلما كانوا يستعملون السكاكين و"الملاعق" و"الشوكات" في أكلهم على نحو ما كان يفعله أغنياء العجم. وإذا انتهوا من طعامهم غسلوا أيديهم كذلك لتنظيفها من الدسم ومن المواد الأخرى التي تكون قد علقت بها من بقايا الطعام. والأكل باليد عادة شائعة بين الشعوب السامية، يرون لها مزايا على الاستعانة بأدوات الأكل في الأكل، حتى صارت في حكم العرف والعادات، بل جعل الأكل باليد من السنن المحببة في الدين.
وتستعمل "الربطة" وهي المنديل و"الفوطة" لمسح اليد وتنشيفها من الماء2. وقد استعمل الملوك والأغنياء المناديل المصنوعة من الحرير أو من الكتان، وهي غالية ثمينة. وذكر بعض علماء اللغة أن الربطة لا تكون إلا بيضاء3.
والمنديل الذي يتمسح به من أثر الماء وغيره4. ويظهر أن "الفوطة" و"الفوط" من الألفاظ المعربة، ذكر أنها من لغة سندية معربة "بوته".
وهي في الأصل ثياب تجلب من السند، غلاظ قصار تكون مآزر، أو هي مآزر مخططة يشتريها الجمالون والعراب والخدم وسفل الناس، فيأتزرون. ثم استعملت في معنى "منديل" و"مناديل"، يضعها الإنسان على ركبتيه ليقي بها ملابسه عند الطعام5.
وقد استخدم الملوك والأغنياء الخدم في تقديم الأطعمة والأشربة، وكما كان يفعل ملوك الفرس والروم وسراتهما، في كسو خدمهم أكسية خاصة نظيفة
__________
1 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي "6/ 50 وما بعدها".
2 البرقوقي "ص146".
3 تاج العروس "5/ 145"، "ريط".
4 تاج العروس "8/ 132"، "ندل".
5 تاج العروس "5/ 200"، "فوط".(9/63)
وإلباسهم "سرابيل"، معتملة، كذلك فعل ملوك العرب وسراتهم ولا سيما عرب العراق وبلاد الشام، بخدمهم، وقد قرطوا آذانهم بالنطف -أي: الأقراط- أحيانًا مبالغة في تزيينهم، حتى يعطي جو المآدب والضيافة لونًا شعريًّا خاصًّا.
فإذا قدم شيئًا، وضع المنديل أو الديباجة على كتفه، ووضع تحت صحن الطعام شيئًا، ثم يقدمه إلى الضيوف1.
ويختلف الحضريّ عن الأعرابي في طريقة أكله. فإذا تناول الحضري لقمة صغرها وأكلها بأطراف الأسنان، وحاول جهده ألّا يملأ فمه بلقمة كبيرة، فيبدو الفم منتفخًا منها. وهذا ما يخالف مألوف الأعرابي. "قدم أعرابي على ابن عم له بمكة، فقال له: إن هذه بلاد مقضم وليست ببلاد مخضم". والخضم أكل بجميع الفم. والقضم دون ذلك2. وقيل: الخضم: ملء بالمأكول3.
ويعد أكل "اللحوم" من أطايب الحياة، ومن المفاخر التي يتباهى بها الناس على غيرهم، إذ لم يكن في ميسور كل إنسان الحصول على اللحم، ولا سيما "اللحم السمين". وإذا أضيفت إليها الخمور والطيب، والنساء، تمت بذلك مباهج الحياة. وقد عبر عن "الخمور واللحم والطيب"، بالأحامرة الثلاثة.
وكانت هذه تستنزف المال، لما ينفق الإنسان في الحصول عليها من ماله. قال الأعشى:
إن الأحامرة الثلاثة أهلكت ... مالي وكنت بها قديمًا مولعًا
وقال:
الخمر واللحم السمين وأطلي ... بالزعفران فلن أزال مولعا4
وكان من تنصر من العرب يأكلون لحم الخنزير، يأكلونه أشد الأكل، ويرغبون في لحمه أشد الرغبة5. وذكر أن غيرهم كانوا يأكلونه أيضًا. وزعم
__________
1
وذا نطف يسعى ملصق خده ... بديباجة تكفافها قد تقددا
البرقوقي "ص146".
2 تاج العروس "9/ 29"، "قضم".
3 تاج العروس "8/ 279"، "خضم".
4 اللسان "4/ 208 وما بعدها".
5 الحيوان "4/ 41 وما بعدها"، "هارون".(9/64)
"أن العرب لم تكن تأكل القرود"، وروي أنهم كانو يأكلون كل شيء يقع بين أيديهم لشدة الفاقة والحاجة، ولا سيما الأعراب1. فأكلوا دم "الفصيد"، وكانوا يحبونه، ويرون أنه يورث القوة2.
وورد في ألسنة الناس "أهلك الرجال الأحمران: اللحم والخمر". وورد أيضًا "أهلك النساء: الأحمران، الذهب والزعفران". وذلك لما كان الرجال والنساء ينفقونه من مال للحصول على هذه الأشياء3. وورد أيضًا: "الأحمران: الطيب والذهب"4.
وتسربت إلى أهل الحجاز وسائر جزيرة العرب مأكولات أعجمية أخرى، حافظت بعضها على أصالتها وعلى عجمتها. فذكر أن أهل المدينة، لما نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر، علقوا ببعض مأكولاتهم، فسموا السميط "الرزدق" والمصوص المزور، والبطيخ الحريز5، ومأكولات أخرى، أدخلها هؤلاء الفرس وأمثالهم بحكم نزولهم على العرب قبل الإسلام.
والثريد هو طعام محبوب مشهور عند العرب. وهو طعام يتكون من فت الخبز وتهشيمه ثم بله بالمرق. والغالب أن يكون بالمرق واللحم. وقد اشتهر "هاشم بن عبد مناف"، بتقديمه الثريد لقومه6.
ومن أكلات العرب المعروفة "الحريقة"، وهي أن يذر الدقيق على ماء أو لبن حليب فيحتسى، وهي أغلظ من السخينة يبقى بها صاحب العيال على عياله وقت الشدة7. و"الحيسة" وهي تمر وسمن وأقط، وقد أهدت "أم سليم" حيسة إلى الرسول وضعتها في "برمة" في قدر من حجر، وأرسلتها إليه، لمناسبة دخوله بـ"زينب"8.
__________
1 الحيوان "4/ 44 وما بعدها"، "هارون".
2 الحيوان "4/ 96"، "هارون".
3 تاج العروس "3/ 154"، "حمر".
4 اللسان "4/ 408"، "حمر".
5 البيان "1/ 19".
6 وفيه يقول مطرود بن كعب الخزاعي:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
معجم الشعراء "ص200".
7 بلوغ الأرب "1/ 383".
8 إرشاد الساري "8/ 68".(9/65)
وعند العرب أكلات تعير بها من يأكلها، منها "السخينة"، وهي تتخذ من الدقيق، دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء، وإنما يأكلونها في شدة الدهر وغلاء السعر وعجف المال. والظاهر أنها كانت أكلة معروفة عند قريش خاصة، لذلك عُيّرت بها. وقد عَيَّرها "حسان بن ثابت" بها، فدعاها "سخينة"1، كما سماها بهذه التسمية كعب2.
وقد مازح "معاوية" "الأحنف بن قيس"، فقال: ما الشيء المُلفَفُ في البجاد؟ قال: هو السخينة يا أمير المؤمنين3. وإنما أراد معاوية قول الشاعر:
إذا ما مات ميّت من تميم ... فسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز أو بتَمر أو بسمن ... أو الشيء الملفف في البجاد
تراه يطوف في الآفاق حرصًا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
وكان الأحنف من تميم، وإنما أراد الأحنف بالسخينة رمي قوم معاوية بالبخل، لأنهم كانوا يقتصرون عليها عند غلاء السعر حتى صار هذا اللفظ لقبًا لقريش4.
والشواء هو الطريقة الشائعة بين الأعراب وأهل الريف في طبخ اللحوم. فهو وطريقته سهلة: توقد نار، ثم يوضع اللحم عليها، ومتى نضج أُكل. فكان أهل الوبر إذا اصطادوا أو ذبحوا لضيف، أوقدوا نارًا، واشتووا اللحم وأكلوه.
ونجد في قصص أجواد العرب، مثل حاتم، أنهم كانوا ينحرون الإبل أو يذبحون فرسًا، ثم يوقدون نارًا فيشوون اللحم عليها. ويدعى الناس إلى الأكل، فإذا فرغوا منه، مَشوا أيديهم بكل ما يكون أمامهم، حتى أعراف الجياد. كما نجد ذلك في شعر لامرئ القيس5.
وللعرب أواني استخدموها لتقديم الطعام بها إلى الضيوف. منها: الفيخة والصحفة، وهي تشبع الرجل، ولمكتلة تشبع الرجلين والثلاثة، والقصعة تشبع
__________
1
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
اللسان "13/ 206"، "سخن"، تاج العروس "9/ 232"، "سخن"، ونسب.
2 هذا الشعر إلى "كعب بن مالك"، بلوغ الأرب "1/ 382".
3 اللسان "13/ 206"، "سخن"، تاج العروس "9/ 232"، "سخن".
4 بلوغ الأرب "1/ 382".
5
نمش بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب
الثعالبي، ثمار "219".(9/66)
الأربعة والخمسة، والجفنة تشبع ما زاد على ذلك، والدسيعة وهي أكبر الأواني عندهم. وقيل: أكبرها الجفنة التي ورد ذكرها في شعر الشعراء على سبيل الفخر والمدح1.
__________
1 تاج العروس "9/ 162"، "جفن"، بلوغ الأرب "1/ 387".(9/67)
الذبح:
والغالب على الجاهليين ذبح الحيوان، لأخذ لحمه، وذلك بقطع الحلقوم بسكين1.
يفعلون ذلك في الشياه والكباش والتيوس والطيور والدجاج. أما بالنسبة إلى السمك وما يستخرج من البحر، فإنهم يتركونه حتى يموت، أو يشقون بطونها وقد يذبحونها أيضًا. ويأكلون الميت منه كذلك. وأما الإبل، فإنهم ينحرونها، ونحر البعير طعنه في منحره2. وكانوا إذا أرادوا نحر البعير عقروه، أي قطعوا أحد قوائمه ثم ينحر، يفعل ذلك به كيلا يشرد عند النحر3.
هذا هو الأصل في الحصول على اللحم، ولكنهم كانوا كما جاء في القرآن الكريم لا يعافون أكل الميتة والمختنقة والمتناطحة، لفقرهم وجوعهم. مع ما كان يلحقهم من ضرر من أكلها بسبب فسادها. ولذلك حرم أكل لحومها في الإسلام.
والعادة عند العرب أن من العيب بيع شيء من طعام لمن هو في حاجة إليه.
وهم يشعرون بالخجل وبالإهانة إذا طلب معسر طعامًا أو شرابًا كلبن أو ماء ثم لا يجاب طلبه، أو يطلب عن ذلك ثمنًا يقبضه مقابل ما قدم من طعام أو شراب.
لأن القرى واجب على كل عربي، ولا يكون القرى بثمن. فكيف يقف إنسان موقف بخل وإمساك أمام مرمل محتاج4.
ويقال لكل ما يؤكل "الطعام"، فالطعام اسم جامع، وجمع أطعمة.
وأشهر وجبات الطعام عند العرب الغداء والعشاء. فالغداء وقت الغدي، والعشاء وقت العشي. أما الفطور، وهو ما يتناوله الإنسان صباحًا، أي عند نهوضه
__________
1 اللسان "2/ 436" وما بعدها، "ذبح".
2 تاج العروس "3/ 557"، "نحر".
3 تاج العروس "3/ 415"، "عقر".
4 تاج العروس "7/ 351"، "رمل".(9/67)
من نومه، فليس له عند غالبية العرب مقام كبير، كمقام الغداء أوالعشاء ولا سيما عند أهل الوبر، وحظفه مع ذلك عند أهل المدر أحسن حالًا وأكثر مكانة.
والطعمة: الدعوة إلى الطعام1.
ويعبر عن الطعام بـ"الزاد" كذلك. وورد أن الزاد: طعام السفر والحضر.
وورد: التزود بمعنى اتخاذ الزاد. وأما "العيش"، فالزاد والطعام في لغة أهل اليمن2.
__________
1 المخصص، لابن سيده "4/ 118".
2 المخصص "4/ 119"، تاج العروس "2/ 366"، "زاد".(9/68)
الضيافة والأضياف:
وعرف الجاهليون بالقرى -أي: إطعام الأضياف- والجود خلة يتفاخر بها العرب ويتسامون، حتى إن بعضهم أوقد نارًا ليراها الأضياف فيستدلون بها على المنزل، وتسمى هذه النار: "نار القرى"، أي نار الضيافة. وأفقر رجل عندهم يقوم قدر حاجته وإمكانه بإكرام من يفد عليه. والبخل سجية مذمومة يعاب بها، وتكون سبة بين الناس. وهو لؤم، واللؤم قبيح بالعربي.
ولا يقتصر واجب المضيف على تقديم الطعام لضيفه والترحيب به، بل عليه حمايته والدفاع عنه ما دام في بيته. فإذا اعتدى عليه، كان الاعتداء كأنه وقع على المضيف، وخزي وكسف اسمه بين الناس. يلحق العار به وبأسرته، فلا بد له من حماية ضيفه والدفاع عنه مهما كان شأنه وحاله من ضعف وفقر، فإن كان عاجزًا استدعى قومه للدفاع عن اسمه من المعتدين.
وخفرة الجار ثلاث، فإذا انتهى الأجل ومضى اليوم الثالث، انتهت خفرة الجوار، وعلى الضيف الخروج. وفي أثناء الضيافة ونزول الضيف في خفرة مضيفه، يكون في مأمن وفي حمى جاره، فإن وقع عليه شيء، طالب مضيفه بالانتصاف ممن أهان ضيفه، لأنه في ضيافته، وتكون الإهانة كأنها قد لحقت به1.
وورد في الأخبار أن العرب أصحاب حياض. وأنهم كانوا يقرون في الحياض
__________
1 الفاخر "220".(9/68)
وينفون الأقذاء عن الماء1، وذلك لما للماء من أهمية في جزيرة العرب، فعليه تتوقف حياة الإنسان. ولذلك عدت السقاية في مكة مفخرة من مفاخر قريش. وقد فسرت هذه السقاية بأنها وضع الماء في حياض داخل الحرم ليستقي منها الحاج، والاستقاء مجانًا من ماء زمزم للفقراء والمعوزين. وقد يكون هذا هو الأصل من السقاية.
غير أن أهل الأخبار يشيرون أيضًا إلى نوع آخر من السقاية كان يليها الهاشميون في مكة وذلك بإسقاء الحاج الزبيب المنبوذ في الماء مجانًا لهم2. وهو أغلى وأثمن من الماء.
وذكر أن "بني أفصى بن نُذير بن قسر بن عبقر"، وهم من بجيلة، كانوا "لم ينزل بهم نازل قط إلا عمدوا إلى ماله فحبسوه ودفعوه إلى رجل يرضون أمانته ومانوه بأموالهم ما أقام بين أظهرهم. فإذا ظعن أدوا إليه ماله ورحلوا معه. فإن مات ودوه، وإن قتل طلبوا بدمه، وإن سلم ألحقوه بمأمنه. وفي ذلك يقول عمرو بن الخثارم:
ألا من كان مغتربًا فإني ... لغربته على أفصى دليل
يعينون الغني على غناه ... ويثرو في جوارهم القليل3
وطبيعي أن يكون بينهم من يشذ عن العرف ويخالف المألوف، فيمسك يديه ويبخل. فقد روي أن ناسًا سافروا من الأنصار فأرملوا فمروا بحي من العرب فسألوهم القرى فلم يقروهم، وسألوهم الشراء فلم يبيعوهم، فأصابوا منهم وتضبطوا، أي: أخذوه على حبس وقهر4.
__________
1 الميداني، مجمع الأمثال: "1/ 364".
2 تاج العروس "10/ 181"، "سقى".
3 المحبر "ص243".
4 تاج العروس "5/ 175"، "ضبط".(9/69)
إلى الطعام في أوقات الأتراح أيضًا، وذلك مثل وفاة عزيز، أو مرور أمد على ذكراه، ولهم ولائم أيضًا في المناسبات الدينية. والغاية من كل ذلك هو مشاطرة من يدعون أصحاب الدعوة في مشاعرهم والاجتماع بهم. ويذكر علماء اللغة أن "الوليمة" طعام العرس، أو كل طعام صنع لدعوة وغيرها. وقد كانت العادة إيلام الولائم في الأعراس، لذلك غلب اسم الوليمة على وليمة العرس. وذكر أن الرسول قال لعبد الرحمن بن عوف: أولم ولو بشاة. أي اصنع وليمة1.
والدعوة اسم لكل طعام دعيت إليه الجماعة. فهي تشمل كل أنواع الطعام والدعوات. وبهذا المعنى ترد لفظة: المأدبة. حيث يدعى الناس إلى الطعام لمختلف المناسبات. وهي أعم من الوليمة2.
وتذبح الذبائح في الولائم والمناسبات إكرام الضيوف. والمفرد "ذبيحة".
وإن كانت تدل على أنثى، غير أنها قد تكون حيوانًا ذكرًا. فلا يشترط فيها أن تكون شاة، بل يجوز أن تكون خروفًا، وهي لا تختص بحيوان معين، فقد تكون جملًا وقد تكون ناقة. ويقال لما يهلّ للآلهة: "ذبائح" كذلك. وتكون الذبائح في مناسبات إكرام الضيف، تبعًا لمنزلة الضيف. فإذا كان الضيف ملكًا مثلًا أو سيد قبيلته بولغ في عدد الذبائح التي تقدم له، إكرامًا لمنزلته ومكانته.
والوليمة هي طعام الإملاك، وقد تطلق على الولائم عامة، ولكن الناس يخصصونها في الغالب بمثل هذه الحالات. فيقولون: وليمة العرس، ووليمة الختان، ونحو ذلك. والدعوة أعم من الوليمة. وأما "الخُرس" فطعام الولادة، وقيل: الطعام الذي يصنع للنفساء لسلامة المرأة من الطلق. و"العقيقة"، وهي طعام سابع الولادة، و"الأعذار" "العذيرة" الطعام يصنع للختان، و"النقيعة" طعام الإملاك، أي: التزويج، وقيل: وما يصنع للقدوم من السفر، وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم، والتي تصنع له تسمى التحفة، و"الملاك" ما يصنع للخطبة، ويقال: "الأملاك"، ودعي طعام "الأملاك" بـ"الشدخ" كذلك3.
__________
1 تاج العروس "9/ 96"، "أولم".
2 بلوغ الأرب "1/ 386".
3 العقد الفريد "6/ 292"، بلوغ الأرب "1/ 386"، الفاخر "ص98"(9/70)
وقيل: إنما قيل لطعام الإملاك "الشندخ"؛ لأن الشندخ هو الفرس الذي يتقدم بقية الخيل. وحيث إن طعام الإملاك هو طعام يتقدم العرس. أي: هو طعام الزفاف، أو ما يصنع للخطبة، لذلك قيل له: الشندخ. وذكر بعض العلماء الشندخ1: الطعام يجعله الرجل إذ ابتنى دارًا أو عمل بيتًا2، أو قدم من سفر أو وجد ضالته3.
وقد أشير إلى "النقيعة" على أنها الطعام الذي يصنع للقادم، والناقة التي ينحرها القادم للطعام الذي يتخذه، في شعر ينسب إلى "مهلهل" هو:
إنّا لنضرب بالسيوف رءوسهم ... ضرب القدار نقيعة القُدّام4
وذكر أن النقيعة كل جزور جزرت للضيافة. ومنه قولهم: الناس نقائع الموت.
وذهب بعضهم إلى أن النقيعة طعام الرجل ليلة يملك5.
وورد أيضًا أن "المنقع"، طعام المآتم، وأن النقيعة الذبيحة التي تذبح عند الوفاة، والنقع، رفع الصوت وشق الجيب6. وهذا المعنى يخالف بالطبع المعنى المتقدم لذلك الطعام.
وإذا قام الإنسان بعمل مفيد جديد، فقد بصنع وليمة لهذه المناسبة فإذا قام إنسان ببناء بيت، أو أي بناء آخر جديد، أو استفاد الرجل شيئًا جديدًا، يتخذ طعامًا يدعو إليه إخوانه وأصدقاءه، ويسمون ذلك: العذار7. وذكر أيضًا أن العذار طعام البناء وطعام الختان، وأن تستفيد شيئًا جديدًا فتتخذ طعامًا تدعو إليه إخوانك8.
وأما "الوكيرة"، فهي طعام يصنع عند تمام البيت يبنيه الرجل لنفسه، مشتقة من "الوكر"، وهو المأوى والمستقر. وعادتهم عند الانتهاء من البناء
__________
1 المخصص "4/ 120".
2 اللسان "3/ 31"، "شندخ".
3 تاج العروس "2/ 265"، "شندخ".
4 الفاخر "ص98"، اللسان "8/ 362"، "نقع".
5 تاج العروس "5/ 530"، "نقع".
6 القاموس "3/ 289" "النقع"، المخصص "4/ 120".
7 اللسان "4/ 551"، "عذر".
8 تاج العروس "3/ 387"، "عذر".(9/71)
بيت، دعوة الأقرباء والأصدقاء إلى وليمة لمشاركة صاحب البيت في أنسه وفرحه بتمام البيت1.
و"العقيقة" من الولائم التي يدعى الناس إليها، لمناسبة المساهمة بفرح أهل مولود، حينما يحلقون شعر رأسه لأول مرة، أي: الشعر الذي ولد به2. وقد تكون العقيقة في الأسبوع الأول من ولادة المولود. وعندئذ يعلن عن اسم المولود الذي سيعرف به.
والختان من المناسبات المبهجة في حياة الأسر. لذلك يولم الناس ولائم لهذه المناسبة يدعونها "العذيرة"، والجمع الإعذار. والمعذور هو المختتن. وقد كان الاختتان معروفًا بين الجاهليين. ويقال للعذيرة أيضًا: العذار والإعذار والعذير.
وكل ذلك في معنى طعام الختان. وفي الحديث: الوليمة في الإعذار حق. وورد في الحديث أيضًا: كنا إعذار عام واحد، أي ختنا في عام واحد. وكانوا يختتنون لسن معلومة فيما بين عشر سنين وخمس عشرة3.
و"القِرَى": ما يصنع للضيف، و"المأدبة": كل طعام يصنع لدعوة، و"الآدب" صاحب المأدبة4.
وإذا كانت الدعوة عامة مفتوحة للجميع، قيل لها: "الجَفلَى"، أما إذا كانت خاصة فيقال لها: "النقرى". وفي هذا المعنى ورد في شعر طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجَفَلى ... لا نرى الآدِبَ منها ينتقر5
ويقال انتقر الرجل إذا دعا بعضًا دون بعض، فكأنه اختارهم واختصهم من بينهم6.
__________
1 العقد الفريد "6/ 292"، بلوغ الأرب "1/ 386"، الفاخر "ص98"، البخلاء "246"، تاج العروس "3/ 608"، "وكر".
2 القاموس "3/ 266"، شرح ابن عقيل "1/ 223"، البخلاء "246"، محيط المحيط "2/ 1442".
3 البخلاء "246"، اللسان "4/ 551"، المخصص "4/ 120".
4 العقد الفريد "6/ 292"، بلوغ الأرب "1/ 386".
5 بلوغ الأرب "1/ 386".
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا نرى الآدب فينا ينتقر
تاج العروس "7/ 258"، "جفل".
6 تاج العروس "3/ 852"، "نقر".(9/72)
وورد أن الجَفَلى، ويقال لطعامها الجفالة: الوليمة، التي ينادي الداعي فيها جميع القوم، أي كل من حضر إلى الطعام. ولا يستثني أحدًا، فكل من حضر يحضر تلك الوليمة عكس النقرى، حيث ينتقر الداعي، أي: صاحب الوليمة الأشخاص بأن يذكر أعيانهم، ولا يدعي غير هؤلاء المنتقرين إلى تلك الوليمة، وهي لذلك مذمومة. يقال: نقرت باسمه، أي: اسميته بين جماعة1.
وقد يقدم طعام يتعلل به قبل الطعام، يعرف عندهم بـ"السُّلْفَة". وإذا أريد أن يكرم الرجل بطعامه عبر عن ذلك بلفظة "القفي". وأما ما يرفع من المرق للإنسان، فيقال له: "القفاوة"2، وذلك دلالة على التكريم والتقدير.
وإذا هل هلال شهر رجب، دعي بعض الناس إلى وليمة يسمونها "العتيرة"3.
ولشهر رجب حُرمة ومكانة ومنزلة خاصة في نفوس الجاهليين. وقد كان الجاهليون ينذرون، أنهم إذا كثر مالهم، فإنهم يذبحون منه، ما يذكرون عدده في هذا الشهر. وكان منهم من يذبح من الإبل حين يبلغ الحد الذي ذكر في النذر، ومنهم من يذبح الشاة. كما كانو ينذرون بتقديم عتيرة في كل نذر آخر يريدون تحقيقه. فإذا أولموا لذلك وليمة أو وزعوا لحم العتيرة أو طعامها على الناس فعملهم هذا عتيرة4. وهناك عتيرة أخرى، هي الذبيحة التي كانت تذبح للأصنام ويصب دمها على رأسها، فهذه عتيرة أيضًا5.
__________
1 البخلاء "546"، القاموس "3/ 349"، البخلاء "247".
2 العقد الفريد "6/ 292"، اللسان "9/ 161"، "سلف"، "10/ 192 وما بعدها".
3 بلغ الأرب "1/ 386".
4 اللسان "4/ 537"، المخصص "13/ 98".
5 المصدر نفسه.(9/73)
المتطفلون:
وقد عاب أهل الجاهلية أهل التطفل ومن يتحين طعام الناس، أو يكثر من السؤال. وقالوا للحريص من الرجال: "الفلحس". وقالوا: أسأل من "فلحس"، و"تفلحس الرجل"، إذا تطفل. وذكر أهل الأخبار أن "الفلحس" رجل من بني شيبان، زعموا أنه كان إذا أعطي سهمه من الغنيمة، سأل سهمًا لامرأته(9/73)
ثم لناقته، وكان يسأل سهمًا في الجيش، وهو في بيته، فيعطى لعزه وسؤدده، فقالوا: "أسأل من فلحس"1. وذكر أنه كان حريصًا رغيبًا وملحفًا ملحًا، وكل طفيلي، فهو عندهم فلحس2.
والطفيلي الذي يدخل الولائم والمآدب بلا دعوة. وقد نسب التطفل إلى رجل من أهل الكوفة، زعموا أن اسمه "الطفيل بن زلال"، وهو من "بني عبد الله بن غطفان"، كان يأتي الولائم بلا دعوة، وكان يقول: وددت أن الكوفة مصهرجة، فلا يخفى علي منها شيء. فنسب الطفيليون إليه3.
__________
1 تاج العروس "4/ 210"، "الفلحس".
2 الحيوان "1/ 257"، "هارون".
3 تاج العروس "7/ 418"، "طفل"، الميداني، أمثال "1/ 317".(9/74)
المعاقرة:
العقر قطع الفرس أوالإبل أو الشاة بالسيف، وهو قائم. يقال: جمل عقير. بمعنى مقطوع القوائم وكذلك ناقة عقيرة، أي قطعت إحدى قوائمها أو قوائمها. وكان الموسرون منهم يتعاقرون، يفاخر بعضهم بعضًا ويتفاضلون في عقر الإبل، ويتبارون في ذلك ليرى أيهم أعقر لها، فيكون له الفضل والفخر على الغير. ومن ذلك معاقرة "غالب بن صعصعة" أبي الفرزدق و"سحيم بن وثيل الرياحي"، لما تعاقرا بـ"صوأر"، موضع من أرض "كلب" من طرف السماوة، مسافة يوم وليلة من الكوفة مما يلي الشام1. فعقر "سحيم" خمسًا ثم بدا له، وعقر غالب مائة2. ذكر أنهم كانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرًا، ولا يقصدون به غير ذلك، ولهذا نهي عنه في الإسلام، لأنه لم يقصد به وجه الله. جاء في حديث ابن عباس: "لا تأكلوا من تعاقر الأعراب، فإني لا آمن من أن يكون مما أهل به لغير الله. قال ابن الأثير: هو عقرهم الإبل. كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء، فيعقر هذا وهذا حتى يعجز أحدهما الآخر، وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرًا ولا يقصدون به وجه الله تعالى فشبهه بما ذبح
__________
1 تاج العروس "3/ 322"، "صوأر".
2 تاج العروس "3/ 415"، "عقر".(9/74)
لغير الله. وفي الحديث: "لا عقر في الإسلام". قال ابن الأثير: كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى أي ينحرونها ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. وأصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. وفي الحديث: "لا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة"، "وإنما نهي عنه؛ لأنه مثلة وتعذيب للحيوان"1.
__________
1 تاج العروس "3/ 415"، "عقر".(9/75)
مبرات جاهلية:
وكانت للجاهليين مناقب ومبرات ومكرمات، فعلوها في جاهليتهم وقبل إسلامهم.
لا ندري إذا كانوا فعلوها عن دين وعقيدة في ثواب تثيبهم الآلهة عليها في هذه الدنيا أو في الدنيا الآخرة، وذلك بالنسبة لمن آمن بوجود عالم ثان، أم أنهم فعلوها عن مروءة وكرم نفس. فمنها "السقاية:" سقاية مكة، وهي ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وذلك في أيام الجاهلية. وكانت تعد مأثرة من مآثرهم، أو إقامة البيوت في المواسم وعلى الطرق وفي المعابد تتخذ سقاية يستقي منها الناس بلا ثمن. وقد ورد في الحديث: أنه كان يستعذب الماء من بيوت السقيا1.
ومن مبراتهم قبة عوف بن أبي عمرو بن عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، لا يدخلها جائع إلا أشبع، ولا خائف إلا أمن2.
ومنها نخل ربيعة بن الأسود اليشكري، وكان جعلها لابن السبيل وكل مقطوع وقبره فيها. فلما كانت حجة الوداع، ووضع رسول الله كل دم ومكرمة في الجاهلية إلا السدانة والسقايا، قام ابن ربعة بن الأسود، فقال: يا رسول الله إن أبي كان وقف نخلًا له على أبناء السبيل أفهي مكرمة له؟ فأمضها. فأمره النبي بإمضائها. وقد مدح أولاده ونسله فنعتهم أحد الشعراء بـ"بني مورث
__________
1 اللسان "14/ 390 وما بعدها"، "سقي"، تاج العروس "10/ 179".
2 المحبر "341 وما بعدها".(9/75)
الأضياف من آل أسود". وتذكرهم معاوية، فقال: "وددت أن صاحب نخل ربيعة بن أسود مكان الخلافة لي"1.
__________
1 المحبر "ص242".(9/76)
مياه الشرب:
ولما كان الجفاف هو الغالب على طبع جزيرة العرب، لذلك قل الماء فيها، واضطر الناس إلى قطع المئات من الأميال للوصول إلى موضع ماء للتزود به. ولهذا صار عزيزًا عندهم ثمينًا، فقد تنقذ كمية قليلة منه حياة شخص. وتكثر الحاجة إليه بصورة خاصة في الصيف، حيث تكثر الحرارة، فيشتد العطش، ويضطر الإنسان إلى الإكثار من شرب الماء لكسر حدة ذلك العطش. ولذلك يقترب الناس في موسم الصيف من مواضع الماء، حتى إذا نفد ما عندهم منه، ذهبوا إلى أقرب ماء إليهم، للتزود به.
وألذ المياه عند العرب ماء الغيث. أي: ماء المطر، فإذا جادت السماء به، سال إلى المواضع المنخفضة وتجمع بها، فيأتي الأعراب إليها للاستقاء منها. ولهم أسماء ومصطلحات عديدة لأنواع المطر ولمواضع تساقطه، نظرًا لما لذلك من علاقة بحياتهم، ولما لهم من حاجة شديدة إلى الغيث.
والعيون والآبار والحسي، هي من المنابع الأخرى التي أمدت العرب بالماء والعين، هي ينبوع الماء الذي ينبع من الأرض. وقد تطلق على موضع تجمع مطر خمسة أو ستة أيام أو أكثر1. والبئر، هي القليب. قد تكون بئرًا عادية، وهي البئر القديمة التي لا يعلم لها حافر ولا مالك، وقد تكون بئرًا يعرف صاحبها وحافرها ومالكها. وقد كان الجاهليون يحفرون الآبار لأنفسهم للاستقاء منها وللزرع بمائها، كما كانوا يبيعون ماءها لغيرهم. وقد كانت لليهود آبار بالحجاز حصلوا منها على أموال بسبب بيع مائها للمحتاج إليه، وأما "الحسي"، فهي المواضع التي يظهر فيها الماء من جوف الأرض على وجه التربة. ومنها حسي المواضع التي يظهر فيها الماء من جوف الأرض على وجه التربة. ومنها حسي الأحساء وأحساء خرشاف، وأحساء "بني وهب" على خمسة أميال من المرتمى،
__________
1 تاج العروس "9/ 289".(9/76)
فيه بركة وتسع آبار كبار وصغار بين القرعاء وواقصة على طريق الحاج، وإحساء "غنى" وأحساء اليمامة، أحساء جديلة1.
ويشرب الأعراب الماء بأيديهم، بأن يمدوا أيديهم في عين الماء أو في مستجمعه ثم يغرفوا منه، فيشربوه وهكذا حتى يرتووا. وقد ينبطح أحدهم على الأرض، ثم يمد فمه إلى الماء فيشرب منه. أما بالنسبة إلى الآبار والقرب ومخازن الماء، فإنهم قد يشربون من أفواه الدلاء أو القرب، وقد يستعملون أواني يشربون بها منها: الغمر، وهو قدح صغير، والقدح والتبن، والصحن والقعب، وغير ذلك من أسماء ذكرها علماء اللغة2.
وقد يتجمع الماء في حفر، فيكوِّن بركًا. وذكر أن البركة مثل الحوض يحفر في الأرض لا يجعل له أعضاد فوق صعيد الأرض. وذكر أن العرب يسمون الصهاريج التي سويت بالآجر وصرجت بالنورة في طريق مكة ومناهلها بركًا.
وربَّ بركة تكون ألف ذراع وأقل وأكثر. وأما الحياض التي تسوى لماء السماء ولا تطوى بالآجر، فهي الأصناع3.
وذكر علماء اللغة أن "الصنع"، مصنعة الماء، وهي خشبة يحبس بها الماء وتمسكه حينًا، والجمع "أصناع". وذكر أن "المصنعة" كالحوض أو شبه الصهريج يجمع فيها ماء المطر، يحتفرها الناس فيملأونها ماء السماء يشربونها. وورد أن "الحبس" مثل المصنعة4.
ولهم في سقي إبلهم عادات. وكانوا يسمّون كل سقية حسب يومها. فإذا سقوا الإبل كل يوم، قالوا: سقيناها رفهًا، وإذا أوردوها يومًا وتركوها في المرعى يومًا، قالوا: سقيناها غبًّا. وإذا أقاموها في المرعى بعد يوم الشرب يومين ثم أوردوها في اليوم الثالث يقولون: سقيناها ربعًا، وهكذا. وتمام ظمأ الإبل في الغالب ثمانية أيام فإذا أوردوها في اليوم التاسع منه، وهو العاشر من الشرب الأول، قالوا: سقيناها عِشرًا بالكسر. إلى غير ذلك مما تجده في كتب اللغة عن هذا الموضوع5.
ومن أوعية الماء "المهراس". حجر منقور ضخم لا يقله الرجال ولا يحركونه
__________
1 تاج العروس "10/ 9"، "حسى".
2 بلوغ الأرب "1/ 393 وما بعدها".
3 تاج العروس "7/ 106"، "برك".
4 تاج العروس "5/ 422"، "صنع".
5 بلوغ الأرب "1/ 394 وما بعدها".(9/77)
لثقله، يسع ماء كثيرًا. يؤخذ منه الماء للشرب وللاستعمال، وقد استعمل في الإسلام للوضوء منه1.
والحب، معروف عند الجاهليين، يختزن فيه الماء للشرب، يعمله الكواز والفخار. والكوز إناء يشرب به، ذكر أنه يكون بعروة، أما إذا لم تكن به عروة فهو "كوب"2. وهناك الأباريق وأوان أخرى استعملت في الشرب.
__________
1 اللسان "6/ 248"، "هرس".
2 تاج العروس "4/ 76"، "كاز".(9/78)
طرق معالجة الماء:
وللعرب طرق في معالجة المياه المالحة، مثل ماء البحر، وفي معالجة المياه الكدرة. من ذلك أنهم كانوا إذا اضطروا إلى شرب ماء البحر، وضعوه في قدر، وجعلوا فوق القدر قصبات وعليها صوف جديد منفوش، ويوقد تحت القدر حتى يرتفع بخارها إلى الصوف، فإذا كثر عصروه، ولا يزالون على هذا الفعل حتى يجتمع لهم ما يريدون. فيكون ما استخرج من الماء من عصر الصوف ماء عذب، ويبقى في القدر الزعاق1.
وربما حفروا على ساحل البحر أو شاطئ مجتمع الماء المالح حفرة، يرشح الماء من الماء المالح إليها، ويحفرون حفرة أخرى على مسافة منها، يرشح إليها الماء من الحفرة الأولى، ثم يحفرون ثالثة، وبذلك يتحايلون على ملوحة الماء، حتى يعذب، فيكون صالحًا للشرب2.
ولهم في دفع كدرة الماء حيل. من ذلك أنهم كانوا إذا اضطروا إلى شرب الماء الكدر، ألقوا فيه قطعة من خشب الساج أو جمرًا ملتهبًا يطفأ فيه، أو طينًا أو سويق حنطة، فإن كدورته ترسب إلى أسفل3. وقد يضعون إناء تحت حب الماء، لتتجمع قطرات الماء الصافية فيه، فيشربون منه ماءً صافيًا لا كدرة فيه. وربما عرفوا استعمال "الشب" في إزالة كدرة الماء. وهو أنواع، منه شب يماني4.
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 396".
2 بلوغ الأرب "1/ 396".
3 بلوغ الأرب "1/ 396".
4 تاج العروس "1/ 308"، "شبب".(9/78)
الفصل الحادي والخمسون: فقر وغنى وأفراح وأتراح
مدخل
...
الفصل الحادي والخمسون: فقر وغنى وأَفراح وأَتراح
وبين الجاهليين أناس عرفوا بالغنى وبالثراء وبكثرة المال، كالذي ذكرته عن بعض رجال مكة. فقد كان بينهم رجال متخمون شبعون، سكنوا بيوتًا حسنة، زينوها بأثاث جيد وثير، ولبسوا ملابس الحرير والألبسة الجيدة المستوردة من بلاد الشام واليمن، وأكلوا أكلات الأعاجم وتفننوا في الطبخ، وشربوا بآنية من ذهب وفضة وبلور. وساهموا في قوافل تجارة مكة الجماعية. كما كانت لهم قوافل خاصة بهم، تأتي إليهم بأرباح طيبة. ومنهم من استغل ماله بالربا وبامتلاك الأرض لاسغلالها، كما فعلوا بالطائف، إلى غير ذلك من وسائل اتبعوها في جمع المال.
وكان منهم أناس ذوو حس وعاطفة، فعطفوا على المحتاج وأطعموا الناس، رقة بحالهم أو طلبًا للشهرة والاسم. فهم جماعة محسنة على كل حال، وكان بينهم من لم يكن له قلب ولا حس، فلم يعرف محتاجًا أو فقيرًا ولم يفهم معنى للإحسان على الفقير. فاشتط وأبى وقسى في رباه، ولم يتساهل فيه. ومنهم من أكل أموال اليتامى ومنع الماعون. وإذا باع أنقص في المكيال، ليزيد في ماله. وفي القرآن الكريم آيات في وصف حال هؤلاء الأغنياء، وتقريع لهم وتوبيخ على ما فعلوه: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} 1. أي يدفع
__________
1 سورة الماعون، الآية2 وما بعدها.(9/79)
اليتيم عن حقه، ويقهره ويظلمه. وأنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار، ويقولون: "إنما يحوز المال من يطعن بالسنان، ويضرب بالحسام"1.
وكان منهم من يبخل بماله فلا ينفق منه على المحتاجين والمساكين. وكان منهم من يعتذر عن بخله وحرصه، فيقول: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} فنزلت هذه الآية: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} فيهم، "وتوجه الذم إليهم. فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عسروا"2.
وكان بين الجاهليين فقراء معدمون مدقعون لم يملكوا من حطام هذه الدنيا شيئًا. وكانت حالتهم مزرية مؤلمة. منهم من سأل الموسرين نوال إحسانهم، ومنهم من تحامل على نفسه تكرمًا وتعففًا، فلم يسأل غبًّا ولم يطلب من الموسرين حاجة، محافظة على كرامته وعلى ماء وجهه، مفضلًا الجوع على الشبع بالاستجداء.
حتى ذكر أن منهم من كان يختار الموت على الدنية. والدنية، أن يذهب رجل فيتوسل إليه بأن يجود عليه بمعروف. ومنهم من اعتفد. والاعتفاد أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل أحدًا حتى يموت جوعًا. وكانوا يفعلون ذلك في الجدب. قيل: كانوا إذا اشتد بهم الجوع وخافوا أن يموتوا أغلقوا عليهم بابًا وجعلوا حظيرة من شجرة يدخلون فيها ليموتوا جوعًا3.
وكان بعض تجار مكة إذا أفلسوا أو ساءت حالتهم، خرحوا إلى البادية سرًّا، وأقاموا هناك حتى يهلكوا جوعًا. خشية معرة وقوف رجال مكة على حالهم، وإشفاقًا على أنفسهم من التوسل بالأغنياء لمساعدتهم4. فالموت على هذه الصورة أسهل عندهم من الاستجداء. روي "عن ابن عباس" في تفسير {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} ،قوله: "وذلك أن قريشًا كانوا إذا أصابت واحدًا منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا"5.
وكان منهم من رضي وقنع بالدون من المعيشة، فعاش في فقر مدقع. والدقع
__________
1 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 211".
2 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 211".
3 تاج العروس "2/ 246"، "عفد".
4 السيوطي، الدر المنثور "4/ 397".
5 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 204"، تفسير سورة قريش.(9/80)
الرضا بالدون من المعيشة وسوء احتمال الفقر واللصوق بالأرض من الفقر والجوع.
فهم ينامون على التراب ويلتحفون السماء. والدوقعة الفقر والذل، وجوع أدقع وديقوع شديد1. وهم مثل "بنو غَبْراء" في الفقر والحاجة، أولئك الذين توسدوا الغبراء واتخذوا التربة فراشًا لهم، لعدم وجود ملجأ لهم يأوون إليه، ولا مكان يحتمون به.
ولم يكن في وسع كثير من الجاهليين الحصول على اللحم لفقرهم فكانوا يأتدمون "الصليب" وهو الودك. ودك العظام. يجمعون العظام ويكسرونها ويطبخونها، ثم يجمعون الودك الذي يخرج منها ليأتدموا به. وقد عرفوا بـ"أصحاب الصلب".
ولما قدم الرسول مكة "أتاه أصحاب الصلب الذي يجمعون العظام إلا لحب عنها لحماتها فيطبخونها بالماء ويستخرجون ودكها ويأتدمون به"2.
ولم يكن في استطاعة الفقراء أكل الخبز لغلائه بالنسبة لهم. لذلك عدّ أكله من علائم الغنى والمال3. وكان الذي يطعم الخبز والتمر يعد من السادة الكرام.
وكان أحدهم يفتخر بقوله: "خبزتُ القومَ وتمرتهم"، بمعنى أطعمتهم الخبز والتمر4. وقد افتخر "بنو العنبر" بسيدهم "عبد الله بن حبيب العنبري"، لأنه كان لا يأكل التمر ولا يرغب في اللبن، بل كان يأكل الخبز. فكانوا إذا افتخروا قالوا: منا آكل الخبز. وكانوا يقولون: "أقرى من آكل الخبز"5 لأنه كان جوادًا. وذكر أن "كسرى" حين سأل "هوذة بن علي الحنفي" عن غذائه ببلده، قال له هوذة: الخبز. "فقال كسرى: هذا عقل الخبز لا عقل اللبن والتمر"6.
وكان منهم من لا يستطيع شراء الملابس ليلبسها، فيستر جسمه بالأسمال البالية وبالجلود، ويعيش متضورًا جوعًا. وقد ذكر أن الفقراء من الصحابة كانوا لا يملكون شيئًا، ويتضورون جوعًا، وينامون في صفة المسجد، يرزقهم الرسول
__________
1 تاج العروس "5/ 330"، "دقع".
2 تاج العروس "1/ 337"، "صلب".
3 بلوغ الأرب "1/ 87".
4 تاج العروس "4/ 32"، "خبز".
5 بلوغ الأرب "1/ 87".
6 بلوغ الأرب "1/ 87".(9/81)
من رزقه، تنبعث منهم روائح كريهة، من عدم الغسيل. ويلعب القمل في شعرهم، ويتنقل على أجسامهم حيث يشاء.
ويظهر أن بعض زعماء مكة قد شعر بخطر ظاهرة انتشار الفقر بمكة، وبما سيتركه الاعتقاد من أثر في مجتمعها، فعمل على معالجة مشكلة الفقر والجوع والتسول، حفظًا لمصالح الأغنياء على الأقل. فهم إن تركوا الفقر ينتشر ويتفشى، ولم يعملوا على معالجته، تطاول الفقراء منهم على أموال الأغنياء، وقاموا عليهم وأرغموهم على أخذ أموالهم أو على أن يساهموهم فيه. أضف إلى ذلك ما سيحدثه اعتداء الفقراء على أموال الأغنياء من خوف، ومن فزع في نفوس أهل هذه المدينة المتاجرة، لذلك سعوا لإقناع تجار المدينة على إنصاف الفقراء والمحتاجين ومساعدتهم للتخفيف من شدة الجوع والفقر.
ويظهر أن المخمصة، كانت شديدة، شدة حملت البعض على السطو على أموال الناس وعلى سرقة ما يجدونه أمامهم. ففزع من ذلك أهل مكة، وعمل زعماؤها على التفكير في اتخاذ أقسى العقوبات في حق السارق، فكان أن حكم "الوليد بن المغير" بقطع يد السارق، ذكر أنه كان أول من حكم بقطع يد السارق في الجاهلية1 فصار القطع سنة عندهم.
وكان أن نادى "هاشم"، وهو "عمرو بن عبد مناف" إنصاف الفقراء والمحتاجين وتقديم المعونة لهم، حتى يصير فقيرهم كالكافي، فما ربح الغني أخرج منه نصيبًا ليكون للفقراء2. وبذلك يخفف من حدة وطأة الفقر في هذه المدينة المتاجرة.
وذكر في تعليل دعوة "هاشم" إلى إنصاف الفقراء ومساعدتهم، أنه "كان سيدًا في زمانه، وله ابن يقال له: أسد، وكان له ترب من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه. فقال له: نحن غدًا نعتفد. فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أيامًا. ثم إن تربه أتاه أيضًا، فقال: نحن غدًا نعتفد، فدخل أسد على أبيه
__________
1 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "6/ 160".
2
والخالطون فقيرهم بغنيهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 205".(9/82)
يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيبًا في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنكم أحدثتم حدثًا تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعزّ العرب، وأنتم أهل حرم الله جل وعز، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع.
قال: ابتدئوا بهذا الرجل -يعني: أبا ترب أسد- فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا.
ثم إنه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس، فسمي هاشمًا. وفيه قال الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
تم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسّمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالًا ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم:
والخالطون فقيرهم بغنيّهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي
فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} بصنيع هاشم {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أن تكثر العرب ويقلوا1.
وورد أن "حكيم بن حزام" كان يقاسم ربحه من تجارته الفقراء وأهل الحاجة والمحاويج2. وذكر أن قريشًا كانت تتراحم فيما بينها وتتواصل. وأن تفسير "لإيلاف قريش"، هو "لتراحم قريش وتواصلهم". فالإيلاف التراحم والتواصل.
__________
1 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 205"، وينسب البيت:
والخالطون فقيرهم بغنيهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي
إلى مطرود بن كعب، راجع البكري، سمط "547 وما بعدها"، القالي، أمالي "1/ 241"، الطبرسي، مجمع البيان "10/ 546، طبعة طهران"، اليعقوبي، "1/ 202"، البلاذري، أنساب "1/ 58"، ابن العربي، محاضرات الأبرار "2/ 1190"، تاريخ الخميس للدياربكري "1/ 156"، المرتضي، أمالي "1/ 178 وما بعدها".
الزبير بن بكار، نسب قريش "1/ 367"، رقم "644".(9/83)
وذكر أن قريشًا كانوا "يتفصحون عن حال الفقراء ويسدون خلة المحاويج"1.
ويظهر أن هذا إنما حدث بفعل "هاشم" وبتنظيمه وجمعه وبدعوته تلك. فصار أصحاب القلوب الرقيقة يخرجون منذ يومئذ من دخلهم نصيبًا يجمعونه ويوحدونه، لينفقوا منه على من به حاجة من أهل مكة ومن الغرباء.
والإيلاف هو التطبيق العملي لدعوة "هاشم" إلى إنصاف الفقراء والمساكين والمحاويج. فبعقد "الإيلاف" وإجماع قريش على تلبية دعوة هاشم بإخراج نصيب من أموالهم يخصص لمساعدة المحتاج، تمكن "هاشم" من تطبيق دعوته تطبيقًا عمليًّا، ومن مساعدة المحتاجين. حتى صار عمله سنة لمن جاء بعده. فحسن حال المحتاجين، ونعش فقراء مكة. يؤيد ذلك ما نجده من قول "ابن حبيب": "أصحاب الإيلاف من قريش الذي رفع الله بهم قريشًا ونعش فقراءها"2.
والرفادة والسقاية، هما من ثمرات دعوة "هاشم"، فالرفادة، هي إقراء ضيوف مكة وإطعام المحتاجين من أهلها. والسقاية إسقاءهم الماء، والنبيذ واللبن.
فلم تقتصر السقاية على تقديم الماء بلا ثمن إلى العطشان والمحتاج إلى الماء. بل اشتملت على تقديم اللبن والنبيذ بل والعسل كذلك إلى المحتاج بلا ثمن. وقد ذكر أن "سويد بن هرمي بن عامر الجمحي"، كان "أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة"3. وأن "أبا أمية بن المغيرة المخزومي": المعروف بـ"زاد الركب"، و"أبا وادعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم"، "كانا يسقيان العسل بمكة بعد سويد بن هرمي"4. وكل هذه الأعمال، هي من الأعمال الخيرية النافعة، التي تدل على نفس طيبة، تسعى للتخفيف عن مصاعب الناس، وعن رغبة في مساعدة الفقراء والمحتاجين. فصار في وسع من يقصد البيت الجلوس على أرائك ليرتاح عليها، كما صار في وسعه الحصول على ماء أو سقاء لبن أو ماء معسل، أي محلى، مجانًا إن لم يتمكن من دفع الثمن.
وفي حلف "الفضول" دعوة لـ"مواساة أهل الفاقة ممن ورد مكة بفضول أموالهم"5، وذلك لمنع الظالمين من أهل مكة من اغتصاب أموال أهل الفاقة
__________
1 تفسير النيسابوري، حاشية على تفسير الطبري "30/ 169"، "طبعة بولاق".
2 المحبر "162".
3 المحبر "176 وما بعدها".
4 المحبر "177".
5 ابن هشام "1/ 141".(9/84)
والغرباء ممن يرد إلى المدينة وليس لهم من جار ومعين، ومن أهل مكة كذلك.
فهو توثيق وتتمة لعمل "هاشم".
ونجد هذه الدعوة الإنسانية في مساعدة الجار والفقير في الشعر: في مثل قول الشاعر:
يبيتون في المشتى ملاء بطونهم ... وجاراتهم غرثى يبتن خمائصًا1
وهو بيت يمثل المثل الجاهلية العليا التي تجسمت في الجوار وفي المروءة والإحسان والحميّة وأمثال ذلك.
ونجد مثل هذه النزعة في قول الشاعر:
هنالك إن يُستحبلوا المال يُحبلوا ... وإن يسألوا يُعطوا وإن ييسروا يُغْلوا
على مُكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المُقِلّين السماحةُ والبذل
وفي قول "الخرنق بنت هفان" ترثي زوجها "عمرو بن مرثد" وابنها "علقمة بن عمرو" وأخويه حسان وشرحبيل، حيث قالت في جملة ما قالته:
والخالطين نَحيِتهم بنضارهم ... وذوي الغنى منهم بذي الفقرِ2
والنحيت الدخيل في القوم، والنضار الخالص النسب3. فهم قوم كرام، لم يفرقوا بين الدخيل والأصيل، ولا بين الغني والفقير، فنال الدخيل ما عند الأصيل، وشارك ذو الفقر والمدقعة الغني في ماله، وهو أعز شيء عند الإنسان، لأنه أبى أن يستأثر به، وجاره فقير ليس عنده ما يسد حاجته.
فمجتمعهم مجتمع "خليط، و"الخليط: القوم الذين أمرهم واحد"، والمشارك الحقوق. وفي الحديث: الشريك أولى من الخليط. والخليط أولى من الجار.
وأراد بالشريك: المشارك في الشيوع4.
ونجد فكرة مساعدة الفقير، والاستهانة بالمال بإنفاقه على المعوزين، والإنعام به على الفقراء، في أبيات أخرى في مثل:
__________
1 الأمالي للقالي "2/ 158".
2 الأمالي للقالي "2/ 158".
3 ويروى لحاتم الطائي، تاج العروس "1/ 591" "نحت".
4 تاج العروس "5/ 132"، "خلط".(9/85)
والخالطين غنيّهم بفقيرهم ... والمنعمين على الفقير المرمل1
وفي مثل قول الأعشى:
وأهان صالح ماله لفقيرها ... وآسى وأصلح بينها وسعى لها2
وقول الشاعر عمرو بن الأطنابة:
والخالطين حليفهم بصريحهم ... والباذلين عطاءهم للسائل3
وأرى أنّ في ورود لفظة "الخالطين" في هذه الأبيات، بمعنى خلط المال، وتخصيص الأغنياء نصيبًا من أموالهم للفقراء، دلالة على أن من الجاهليين الأغنياء من كان قد وضع في ماله حقوقًا للمحتاجين، بحيث صاروا كالمخالطين لهم في مالهم، وفي منزلة الشركاء لهم في المال. من دون إرغام لهم ولا إكراه، أو طمع في ثواب دنيوي أو في عالم ما بعد الموت. وذلك غاية الجود والكرم.
وفي شعر للنعمان بن عجلان الأنصاري، إشادة بعمل قومه الأنصار، إذ قَسَّموا أموالهم وديارهم بينهم وبين المهاجرين. فيقول:
وقلنا لقولم هاجروا مرحبًا لكم ... وأهلًا وسهلًا قد أمنتم من الفقر
نقاسمكم أموالنا وديارنا ... كقسمة أيسار الجزور على الشطر4
ويذكرنا شعره هذا الذي افتخر فيه بقومه الأنصار بالمؤاخاة، إذ آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار. بعد مقدمه بخمسة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر.
فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الإسلام إرثًا مقدمًا على القرابة. ثم نسخ التوارث بالمؤاخاة بعد بدر5. والمؤاخاة هي "المخالطة" الجاهلية في صورة أخرى.
وقد كان بين الجاهليين من حبس الحبوس، لتكون وقفًا على الفقراء والمحتاجين.
__________
1 الخالديان، الأشباه والنظائر "1/ 20"، ديوان حسان "308".
2 ديوان الأعشى "3/ 35".
3 الحماسة، لابن الشجري "56".
4 الإصابة "8748"، "3/ 532"، "القاهرة 1939م"، الاستيعاب "298"، Journal of the Economic and social History of the orient, vol. VIII, part II, 1965 P. 125
5 إمتاع الأسماع "1/ 49 وما بعدها".(9/86)
وأبناء السبيل. ومنهم من ساعد الفقراء والصعاليك بتقديم الخيل لهم للإغارة بهما واكتساب الرزق عن طريق الغارات. كالذي روي عن "الريّان بن حويص العبدي" من أنه كان قد جعل فرسه "هراوة" موقوفة على الأعزاب من قومه. فكانوا يغزون عليها ويستفيدون المال ليتزوجوا، فإذا استفاد واحد منهم مالًا وأهلًا دفعها إلى آخر منهم، فكانوا يتداولونها كذلك، فضربت مثلًا، فقيل: أعز من هراوة الأعزاب1. وذكر أنها جاءت سابقة طول أربع عشرة سنة، فتصدق بها على العزاب، يتكسبون عليها في السباق الغارات2.
ومن تقاليد العرب مساعدة الضال والمنقطع والمعزب، وهو الذي عزب عن أهله في إبله وانقطع عنهم. ومن ذلك ما ورد في الحديث: أنهم كانوا في سفر مع النبي، فسمع مناديًا، فقال: انظروا ستجدوه معزبًا أو مكلئًا. والتعزب: الابتعاد عن الجماعات بسكنى البادية، وقد نهي عن ذلك في الإسلام. كما أشير إلى ذلك في حديث "ابن الكوع" لما أقام بالزبدة "أبو ذر الغفاري"، قال له الحجاج ارتددت على عقبيك تعزبت3.
ومنهم من جعل في ماله صدقة يؤديها إلى الفقراء على وجه القربة إلى الآلهة أو عن دافع إنساني أو عن حب للظهور والفخر. ويقال لمن يتصدق على غيره "المتصدق". وهو عمل تطوعي، يقوم به الإنسان اختيارًا وتطوعًا، لمساعدة المعوز والمحتاج.
و"ابن السبيل" هو "ابن الطريق"، الذي قطع عليه الطريق، ولا يجد ما يتبلغ به. والضيف المنقطع به، فيجب أن يعطى ما يتبلغ به إلى وطنه4.
وقد تتعرض السابلة إلى لصوص الطرق، يسلبونهم ما معهم، وقد يأخذون حتى ملابسهم، فيتعرض مثل هؤلاء للهلاك والأخطار، حتى يتهيأ لهم من له شفقة ورحمة فيغيثهم بما يتمكن منه، وقد يحملهم معه.
وكان لفقر الكثير منهم، يصعب عليهم دفع ديونهم، ويماطلون في الأداء
__________
1 تاج العروس "1/ 380"، "عزب"، نهاية الأرب "10/ 44 وما بعدها، 46"، العمدة "2/ 235".
2 العمدة "2/ 235 وما بعدها".
3 تاج العروس "1/ 380"، "عزب".
4 تاج العروس "7/ 366"، "سبل".(9/87)
حتى أنهم كانوا إذا رأوا الهلال، قالوا: لا مرحبًا بمحل الدين ومقرب الآجال1.
وذلك لأنهم كانوا يتواعدون في دفع الديون على مطالع القمر2.
ومما زاد في فقر بعضهم، شرب الخمر والمقامرة. فكان بعضهم يفني ماله في شرب الخمر، "وكان الجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقعد حزينًا سليبًا، ينظر إلى ماله في يدي غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضًا"3.
فعلوا ذلك أملًا في التخلص من ألم الفقر والحرمان باللجوء إلى الخمور لطمس ألم الفقر والذل، وإلى القمار، أملًا في الكسب والربح، فزادوا بذلك فقرهم، وعرضوا أنفسهم إلى الخسارة.
__________
1 تاج العروس "7/ 286"، "حلل".
2 تاج العروس "9/ 72"، "نجم".
3 تفسير الطبري "7/ 21 وما بعدها".(9/88)
الوأد:
والوأد من ذيول الفقر. وقد جاء ذكره في الآية: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 1. والوأد على ما يذكر علماء التفسر وأهل الأخبار هو دفن البنات وهن أحياء، وذلك خوفًا من العار أو لوجود نقص فيها أو مرض أو قبح كأن تكون زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء وأمثال ذلك، وهي من الصفات التي كان يتشاءم منها العرب2، أو خوفًا من الفقر والجوع، أو مخافة العار والحاجة3.
ورجع "القرطبي" أسباب الوأد لخصلتين: "إحداهما، كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية، إما مخافة الحاجة والإملاق وإما خوفًا من السبي والاسترقاق"4. وذكر غيره أن سنين شديدة كانت تنزل بالناس تكون قاسية على أكثرهم، ولا سيما على الفقراء، فيأكلون "العِلْهِز".
__________
1 سورة التكوير، الآية 7.
2 بلوغ الأرب "3/ 43"، اللسان "3/ 442"، "وأد".
3 تاج العروس "2/ 520"، "وأد". اللسان "3/ 442".
4 القرطبي، الجامع "19/ 232".(9/88)
وهو الوبر بالدم، وذلك من شدة الجوع1. فهذا الفقر وهذه الفاقة وذلك الإملاق، كل ذلك حملهم على وأد البنات حذر الوقوع في الغواية، فتلحق السُّبَّة بأهل البنت وبعشيرتها وقبيلتها. وذكر أيضًا أن من جملة أسباب الوأد وجود نقص في الموؤودة أو مرض أو قبح، كأن تكون زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء وأمثال ذلك، وهي من الصفات التي كان يتشاءم منها العرب2.
وذكر بعض أهل الأخبار، أن بعض العرب كانوا يتشاءمون من البنت الزرقاء أو الشيماء، أو الكسحاء، فكانوا يئدون من البنات من كانت على هذه الصفة، ويمسكون من لم يكن على هذه الصفة. وذكروا أن والد "سودة بنت زهرة" الكاهنة، وهي عمة "وهب"، والد "آمنة" أم الرسول، أرسل بها إلى "الحجون" لوأدها، للصفة المذكورة، ثم تركها في قصة يروونها، وصارت كاهنة شهيرة3. فسبب الوأد عند هؤلاء، هو هذه العقيدة القائمة على التشاؤم من البنت الزرقاء والشيماء.
ويذكرون أنهم كانوا يحفرون حفرة، فإذا ولدت الحامل بنتًا ولم يشأ أهلها الاحتفاظ بها رموا بها في الحفرة، أو أنهم كانوا يقولون للأم بأن تهيئ ابنتها للوأد وذلك بتطييبها وتزيينها. فإذا زينت وطيبت، أخذها أبوها إلى حفرة يكون قد احتفرها، فيدفعها فيها، ويهيل عليها التراب حتى تستوي الحفرة بالأرض.
وذكر أيضًا، أن بعضهم كان يغرقها، أو يقوم بذبحها، ليتخلص بهذه الطرق منها4.
وذكر أن الرجل منهم كان إذا ولدت له بنت، فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها: طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إحماتها، وقد حفر لها بئرًا في الصحراء فيبلغ بها البئر، فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب، حتى تستوي البئر بالأرض. وروي عن
__________
1 الكامل "1/ 288".
2 نهاية الأرب "3/ 126 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 43".
3 السيرة الحلبية "1/ 50"، "مطبعة الاستقامة"، "القاهرة 1962"، "1/ 53"، "المكتبة التجارية"، "القاهرة"، "باب تزويج عبد الله".
4 الكشاف "4/ 188"، سورة التكوير، تاج العروس "2/ 520"، "وأد"، بلوغ الأرب "3/ 42 وما بعدها، 52".(9/89)
ابن عباس أنه قال: كانت الحامل إذا قربت ولادتها حفرت فمخضت على رأس تلك الحفرة، فإذا ولدت بنتًا رمت بها في الحفرة وردت التراب عليها، وإذا ولدت ولدًا حبسته1. ومنه قول الراجز:
سميتها إذ ولدت تموت ... والقبر صهرٌ ضامن زميّتُ
الزميت: الوقور2.
وفاعل العمل هو "الوائد" والبنت المدفونة وهي حية "الموؤودة"، والعادة "الوأد".
ويرجع بعض أهل الأخبار تاريخ الوأد إلى أيام "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، فيقولون: إن "بني تميم" منعوا الملك ضريبة الإتاوة التي كانت عليهم، فجرد الملك حملة عليهم كان أكثر رجالها من بني بكر بن وائل، أو قعت بهم وسبت ذراريهم. فلما ارضوا الملك وكلّموه في الذراري، "حكم النعمان بأن يجعل الخيار في ذلك إلى النساء، فأية امرأة اختارت زوجها، ردّت عليه، فاختلفن في الخيار. وكانت فيهن بنت لقيس بن عاصم المنقري، فاختارت سابيها على زوجها، فنذر قيس بن عاصم أن يدسَّ كل بنت تولد في التراب، فوأد بضع عشرة بنتًا.
وبصنيع قيس بن عاصم وإيجاده هذه السنة نزل القرآن في ذم. وأد البنات3. ورجع بعض الأخباريين الوأد إلى قبيلة ربيعة. زعموا أن بنتًا لرئيسها وسيدها وقعت أسيرة في أيدي قبيلة أغارت عليها: فلما عقد الصلح، لم تشأ البنت العودة إلى بيتها، فاختارت بيت آسرها، فغضب رئيس ربيعة لذلك، واستنّ هذه السنة، وقلدته بقية العرب حتى فشت بين القبائل4. وهي رواية قريبة في مضمونها وفي فكرتها
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 43"، تفسير البيضاوي "1/ 670"، تفسير القاسمي "17/ 6069 وما بعدها"، تفسير الشربيني "4/ 471 وما بعدها"، روح المعاني "28/ 30 وما بعدها".
2 القرطبي، الجامع "19/ 233"، الطبرسي، مجمع البيان "10/ 444"، "طبعة طهران"، "13/ 45 وما بعدها"، "بيروت". الكشاف "3/ 315"، تفسير الخازن "3/ 119"، "4/ 356".
3 بلوغ الأرب "3/ 42 وما بعدها"، الأغاني "12/ 150"، تفسير الطبري "30/ 45 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 404"، "اختارت صاحبها وعمرو بن المشمرج"، نهاية الأرب "3/ 927".
4 بلوغ الأرب "3/ 43"، تفسير الخازن "3/ 119".(9/90)
من الرواية الأولى. والفرق بين الروايتين هو في تسمية القبيلة والأشخاص.
وورد أن "قيس بن عاصم" التميمي، جاء إلى النبي، فقال: إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية. قال: فأعتق عن كل واحدة منهن بدنة1. أو: فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة2.
ويذكر الأخباريون أن "الوأد كان مستعملًا في قبائل العرب قاطبة، فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة فجاء الإسلام، وقد قل ذلك فيها إلا من بني تميم، فإنهم تزايد فيهم ذلك قبيل الإسلام"3. وقبيلة كندة وقيس وهذيل وأسد وبكر ابن وائل من القبائل التي عرف فيها الوأد، وخزاعة، وكنانة، ومضر، وأشدهم في هذا تميم زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الأكفاء فيهن4. وذكر بعض أهل الأخبار أن الوأد كان في تميم، منهم انتقل إلى غيرهم. وقيل: إنه كان في تميم، وقيس، وأسد، وهذيل، وبكر بن وائل، وهم من مضر5.
فهي عادة تفشت في قبائل مضر خاصة. وقيل: إنها كانت في غير مضر كذلك.
وذكر أنها كانت في ربيعة ومضر6، أي: في العرب الذين تغلب الأعرابية على حياتهم.
وذكر "عكرمة" في تفسير الآية: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، أنها نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر. كان الرجل يشترط على امرأته، أن تستحيي جارية وتئد أخرى. فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل أو راح من عند امرأته، وقال لها: أنت علي كظهر أمي إن رجعت إليك ولم تئديها، فتخد لها في الأرض خدًّا وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها، ثم يتداولنها حتى إذا أبصرته راجعًا دستها في حفرتها ثم سوت عليها التراب"7.
أما أن أول من سن الوأد في العرب، هو "قيس بن عاصم المنقري"
__________
1 تفسير الطبري "30/ 46"، "بولاق".
2 القرطبي، الجامع "19/ 233"، ابن كثير، تفسير "4/ 478".
3 بلوغ الأرب "3/ 42".
4 القرطبي، الجامع "10/ 116 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 83"، الكامل "1/ 288".
5 الكامل "1/ 288".
6 تفسير الطبري "7/ 38".
7 تفسير الطبري "8/ 38".(9/91)
للسبب المذكور، فدعوى من الدعاوى المألوفة عن أهل الأخبار، وقصة من القصص الذي كانوا يضعونه أحيانًا حين يقفون عند أمر غريب عليهم، ليس لهم علم به، فكانوا يوجدون قصصًا في تفسيره وتعليله، وقفنا على كثير منه.
والظاهر أن وأد "قيس" لبنات من بناته، ووجوده في تميم خاصة بعد أن خف عند بقية العرب، حمل أصحاب الأخبار على إرجاع أصله وأساسه إلى "قيس"، مع أنهم يذكرون حوادث عن الوأد، مثل ما ذكروه عن "سودة بنت زهرة" الكاهنة، تتقدم في الزمن على "قيس". والوأد عند العرب أقدم منه، وربما يعود إلى ما قبل الميلاد. وفي القرآن الكريم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} .1 وفي هذه الآية وصف للحالة النفسية التي كانت تعتور الأب عند إخباره بميلاد بنت له، وشرح لبعض الأسباب التي كانت تحمل الآباء على وأد البنات. ويروى أن بعض الجاهليين يتوارى في حالة الطلق، فإن أُخبر بذكر ابتهج أو بأنثى حزن، وبقي متواريًا أيامًا يدبر ما يصنع أيتركه ويربيه على ذل، أم يدسه في التراب، بأن يئده ويدفنه حيًّا حتى يموت، أم يهلكه بأمر آخر، بأن يلقيه من شاهق. روي أن رجلًا قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت. وقد كانت لي في الجاهلي بنت وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتَها فلما انتهيت إلى وادٍ بعيد القعر ألقيتها، فقالت: يا أب قتلتني! فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال الرسول: "ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام، وما في الإسلام يهدمه الاستغفار ". وكان بعضهم يغرقها وبعضهم يذبحها2.
وقد ذكر العلماء في تفسيرهم: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 3. أن الله "أخبر بخسرانهم لوأدهم البنات وتحريمهم البحيرة وغيرها بعقولهم، فقتلوا أولادهم سفهًا
__________
1 النحل، الآية: 58، تفسير الطبري "14/ 83 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "2/ 51 وما بعدها".
3 الأنعام، الآية 139وما بعدها.(9/92)
خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم ولم يخشوا الإملاق، فأبان ذلك عن تناقض رأيهم"1.
قال "القرطبي": "إنه كان من العرب من يقتل ولده خشية الإملاق، كما ذكر الله -عز وجل- في غير هذا الموضع. وكان منهم من يقتله سفهًا بغير حجة منهم في قتلهم، وهم ربيعة ومضر، كانوا يقتلون بناتهم لأجل الحمية. ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات بالبنات. وروي أن رجلًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان لا يزال مغتمًّا بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "مالك تكون محزونًا؟ " فقال: يا رسول الله، إني أذنبت ذنبًا في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله لي وإن أسلمت. فقال له: "أخبرني عن ذنبك": فقال: يا رسول الله، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إليّ امرأتي أن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زواج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت علي المواثيق بألا أخونها، فذهبت إلى رأس بئر فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر فالتزمتني، وجعلت تبكي، وتقول: يا أبت، أيش تريد أن تفعل بي؟ فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت، لا تضيع أمانة أمي! فجعلت مرة انظر في البئر ومرة أنظر إليها فأرحمها حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت، قتلتني. فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت. فبكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وقال: "لو أمرت أن أعاقب أحدًا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك" 2.
فالفاقة والحمية واعتقاد بعض منهم أن الملائكة بنات الله، فيجب إلحاق البنات بالبنات، هي عوامل دفعت بالعرب إلى الوأد. فهي بين عامل اقتصادي نص عليه في القرآن الكريم، وعامل اجتماعي، هو الحمية، وخشية لحوق العار بالإنسان
__________
1 القرطبي، الجامع "7/ 96"، تفسير الخازن "3/ 163، 356".
2 القرطبي، الجامع "7/ 97".(9/93)
من السبي والغارات وعامل ديني، يرجع إلى رأي في دين. لقد تعرض "قتادة" إلى قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، فقال: "هذا صنيع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ويغذو كلبه. وقوله: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} الآية وهم أهل الجاهلية جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميًا تحكمًا من الشياطين في أموالهم"1. ولكن أغلب الوأد هو عن العامل الأول، وهو الخشية من العيلة والفقر والإملاق، وهو ما نص عليه في الآيات المتعلقة بالوأد وبقتل الأولاد2. وورد أن الجاهلية كانوا يدفنون البنات وهن أحياء. خصوصًا كندة، خوف العار، أو خوف الفقر والإملاق"3.
ومن النساء من تكون خصبة في ولادة البنات، فيجلب لها هذا الخصب هجر زوجها لها وفراره منها ومن رؤية بناته. يحدثنا الأصمعي أن امرأة ولدت لرجل بنتًا سمتها الذلفاء، فكانت هذه البنت سببًا في هرب الرجل من البيت، فقالت:
ما لأبي الذلفاء لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا؟
يحرد أن لا نَلِدَ البنينا ... وإنما نأخذ ما يعطينا4
ومثل تلك المرأة المسكينة كثير من النساء هجرهن أزواجهن لكثرة ما كن يلدن لهم من البنات، ولسان حالهن يكرر كلمات أم الذلفاء.
وبمكة جبل يقال له "أبو دلامة" كانت قريش تئد فيه البنات5. وذكر أن هذا الجبل يطل على "الحجون". وقيل: كان الحجون هو الذي يقال له:
__________
1 تفسير الطبري "8/ 38".
2 تفسير الطبري "15/ 57"، القرطبي، الجامع "10/ 252".
3 السيرة الحلبية "1/ 53"، "باب تزويج عبد الله".
4 ونسبت هذه الأبيات إلى امرأة أبي حمزة الضبي، الذي هجر زوجته ولجأ إلى خيمة جيرانه يبيت فيها فرارًا من زوجته التي ولدت له بنتًا، وقد وردت على هذه الصورة:
ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا ... تالله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما يعطينا ... ونحن كالأرض لزارعينا
ننبت ما قد زرعوه فينا
بلوغ الأرب "3/ 51"، البيان والتبيين "1/ 104"، "1/ 186"، "عبد السلام محمد هارون"، روح المعاني، للآلوسي "14/ 153"، تفسير الطبري "14/ 83".
5 المستطرف "2/ 77".(9/94)
أبو دلامة1.
وورد في القرآن الكريم ما يشير إلى قتل بعض الجاهليين أولادهم خشية الإملاق وخوف الفقر. وهم الفقراء من بعض قبائل العرب وفيهم نزلت الآيات: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} 2. و {كَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 3. و {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 4. و {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} 5. وظاهر لفظ الآيات النهي عن جميع أنواع قتل الأولاد ذكورًا كانوا أو إناثًا مخافة الفقر والفاقة6.
وذكر أن المراد من كلمة "أولادكم" البنات، وأن المقصود بذلك الوأد7.
أي: وأد البنات، لا قتل الأبناء. وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بها الأولاد ذكورًا كانوا أو إناثًا. "فقد كان الرجل في الجاهلية يحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلامًا لينحرن أحدهم، كما فعله عبد المطلب حين نذر ذبح ولده عبد الله"8. فنحن أمام هذه الآيات تجاه موضوعين: وأد البنات وقتل الأولاد الذكور عند الجاهليين. وأد البنات للأسباب المذكورة الواردة في كتب التفسير والحديث، وقتل الأولاد للأسباب المذكورة في تلك الكتب أيضًا، وفي كلتا الحالتين نتيجة واحدة، هي القضاء على حياة إنسان.
قتل الأولاد الذكور عند الجاهليين هو أقل استعمالًا من وأد البنات بكثير.
ويظهر أنه كان عن عامل ديني في الأغلب، كما يتبين ذلك من قصة إقدام
__________
1 اللسان "12/ 205"، "صادر"، "دلم".
2 الإسراء، الآية 31، تفسير الطبري "15/ 75".
3 الأنعام، الآية 137".
4 الأنعام، الآية 140.
5 الأنعام، الآية 151.
6 بلوغ الأرب "3/ 44".
7 تفسير الطبري "8/ 32 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 44".
8 القرطبي، الجامع "7/ 91".(9/95)
عبد المطلب على قتل ابنه عبد الله بسبب النذر الذي أخذه على نفسه على ما جاء في روايات أهل الأخبار1.
وهذا العامل هو الذي يفسر ما جاء في التوراة عن إقدام إبراهيم على ذبح ابنه، ويشير إلى وجود هذه العادة عند الإسرائيليين. وسبب قلة قتل الأولاد بالقياس إلى وأد البنات أن الولد عنصر مهم في الحياة الاقتصادية وفي الحياة الاجتماعية حيث يكون عُدة لوالده ولأهله وعشيرته في الحروب، ثم أن أسره في الحروب لا يعد شائنًا مثل أسر البنات. والمرأة بالأسر تكون فريسة للآسرين. والمرأة ليست قادرة كالرجل على إعاشة نفسها وغيرها ولا على الغزو، ولذلك صارت البنت هدفًا للوأد أكثر من الذكر2.
وقد تأثر بعض ذوي القلوب الرقيقة من عادة "وأد البنات"، وسعوا لإبطالها.
وكان بعض الموسرين منهم يفتدي البنات من القتل بدفع تعويض إلى أهلهن، وأخذهن لتربيتهن. فكان "صعصعة بن ناجية" جدّ الفرزدق الشاعر المعروف، ومن أشراف تميم، يشتري البنات ويفديهن من القتل كل بنت بناقتين عشراوين وجمل3. فجاء الإسلام وعنده ثلاثون موؤودة4. وذكر أنه فدى أربعمائة جارية، وقيل: ثلاثمائة جارية من الجاهلية حتى مجيء الإسلام. وذكر على لسان الفرزدق أنه قال: "أحيا جدي اثنتين وتسعين موؤودة"5. وأنه منع الوئيد في الجاهلية فلم يدع تميمًا تئد وهو يقدر على ذلك6. وذكر أنه قال للرسول إنه اشترى "280" موؤودة، دفع عن كل واحدة منهن ناقتين عشراوين وجملًا7. وأنه كان لا يسمع بموؤودة يراد وأدها، وهو يتمكن من إحيائها، إلا جاء والدها
__________
1 القرطبي، الجامع "7/ 91"، الماوردي، أعلام النبوة "126"، بلوغ الأرب "3/ 46 وما بعدها"، السيرة الحلبية "1/ 39"، البداية والنهاية، لابن كثيرط 2/ 248 وما بعدها".
2 الأمومة عند العرب "ص50".
3 المستطرف "2/ 77"، القرطبي، الجامع "10/ 117" وضع لفظة "عمي" في موضع "جدي" في شعر "الفرزدق"، و"صعصعة" جد الفرزدق، لا عمه، الإصابة "2/ 179"، "رقم 4068".
4 الاشتقاق "1/ 147"، المرزباني، معجم الشعراء "2/ 486".
5 أمالي المرتضي "2/ 284 وما بعدها"، الأغاني "19/ 2 وما بعدها".
6 أمالي المرتضي "2/ 284"، الأغاني "19/ 3"، تيسير الوصول "3/ 113".
7 نهاية الأرب "3/ 126 وما بعدها".(9/96)
ففداها، وأنه سأل قومه في ترك الوأد، فخفف بذلك منه. وعد ذلك مكرمة ما سبقه إليها أحد من العرب1.
وإلى "صعصعة بن ناجية"، أشار الشاعر "الفرزدق"، مفتخرًا به في شعره، إذ قال:
وجديّ الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم يوأد2
وله أشعار أخرى في هذا المعنى.
وكان "عمرو بن نفيل" يحيي الموؤودة لأجل الإملاق. يقول للرجل إذا أراد أن يفعل ذلك: لا تفعل! أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها3.
وذكر "القرطبي" في تفسير الآية: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} 4. أنها "نزلت في خزاعة وكنانة، فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون: ألحقوا البنات بالبنات"5. فنسب فعلهم الوأد إلى هذه العقيدة.
ولست أستبعد ما ذكره أهل الأخبار من وجود دافع ديني حمل الجاهليين على قتل الأولاد وعلى الوأد، بأن يكون ذلك من بقايا الشعائر الدينية التي كانت في القديم، وتقديم الضحايا البشرية إلى الآلهة لخير المجتمع وسلامته، وإرضاء الآلهة هي شعيرة من الشعائر الدينية المعروفة. فليس بمستبعد أن الوأد والقتل من بقايا تلك الشعائر، والغريب في الوأد أنه يكون بالدفن، بينما العادة في الضحايا التي تقدم إلى الآلهة أن تكون بالذبح أو بالطعن وبأمثال ذلك، كي يسيل الدم من
__________
1 الأغاني "19، القسم الأول، ص3 وما بعدها".
2 اللسان "3/ 442 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 520 وما بعدها"، "وأد".
وقال:
ومنا من أحيا الوئيد وغالب ... وعمرو ومنا حاملون ودافع
تفسير الطبري "30/ 46".
ومنا الذي أحيا الوئيد وغالب ... وعمرو ومنا حاجب والأقارع
3 السيرة الحلبية "1/ 53".
4 النحل، الآية 57 وما بعدها.
5 القرطبي، الجامع "10/ 116"، تفسير الخازن "3/ 119"، في تفسير سورة النحل.(9/97)
الضحية، والدم هو الغاية من كل ضحية، لأنه الجزء المهم من الضحايا المخصص بالآلهة. وعلى الجملة إن الوأد هو نوع أيضًا من القتل، وذبح الأولاد وتقديمهم قرابين إلى الآلهة Infantcide، عبادة معروفة عند أمم أخرى كانت تمارسها لترضي بذلك الآلهة وتجيب مطالبها1.
وعد من الوأد "العزل"، وهو أن يعتزل الرجل امرأته لئلا تنجب له أولادا. وقد عرف في الإسلام بـ"الوأد الخفي" وبـ "الوأد الأصغر".
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: "ذلك الوأد الخفي"، وفي حديث آخر: "تلك الموؤودة الصغرى" 2. وقد بحث عنه في كتب الفقه والتفسير. وروي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في ناس: "لقد هممت أن أنهي عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم، ولا يضر أولادهم ذلك شيئًا". ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي، وهو {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} " 3. والغيلة إذا أتيت المرأة وهي ترضع ولدها، وكذلك إذا حملت أمه وهي ترضعه4. وقد جعل الحديث "العزل" عن المرأة بمنزلة الوأد إلا أنه خفي؛ لأن من يعزل عن امرأته إنما يعزل هربًا من الولد. ولذلك سماه الموؤودة الصغرى؛ لأن وأد البنات الأحياء الموؤودة الكبرى5.
ولم ينفرد العرب بقتل الأولاد وبوأد البنات، بل نجد ذلك عند غيرهم من الشعوب كذلك، مثل المصريين واليونان والرومان وشعوب أسترالية. أما العوامل التي حملت تلك الشعوب عليها فهي عديدة، منها عوامل دينية مثل الاعتقاد بحلول الأرواح، ومنها اقتصادية كالخشية من الفقر، ومنها ما يتعلق بالصحة كأن يكون المولود ضعيفًا فيقضي عليها الوالدان6.
ومن ذيول الفقر وسوء الأوضاع الاقتصادية، انتشار اللصوصية والاعتداء على أموال الناس، وابتزازها وقطع الطرق وسلب الناس. وما الذي يفعله الفقير
__________
1 Ency. Relig I, P. 669, Smith, Kinship, P. 370
2 بلوغ الأرب "3/ 53"، النهاية في غريب الحديث "4/ 189"، اللسان "3/ 442 وما بعدها"، "وأد".
3 تفسير ابن كثير "4/ 477".
4 تاج العروس "8/ 53"، "غيل".
5 اللسان "3/ 443"، "وأد".
6 Ency. Brita., 12, P. 322(9/98)
والمحتاج ومن له منعة في الجسم وضعف شديد في الجيب لإعاشة نفسه وأهله غير اللجوء إلى هذه الطرق في الحصول على لقمة العيش، إن لم يجد له وسيلة كسب أخرى؟
واللص، هو السارق. وذكر أن اللفظة من لغة طيء وبعض الأنصار1.
وتقابل Listis في اليونانية، بمعنى السارق. لذلك ذهب البعض على أنها من هذا الأصل2.
ونظرًا لتستر اللص في حرفته، وممارسته لها بتكتم وحذر خوفًا من الفضيحة والقبض عليه. مارس عمله بالليل في الغالب، حيث يرقد الناس. مارسه بخفة ومهارة، فكنى عنه بكنى. منها: "ابن الليل" و"ابن الطريق"، لأنه يمارس اللصوصية بالليل وعلى الطرق3.
ويقال لمن يسرق الدراهم بين أصابعه "القفاف". يقال: "قف الصيرفي قفوفًا"، بمعنى سرق الدراهم بين أصابعه4. وأظن أن هذا الاستعمال استعمال مولد، ولد في الإسلام.
ويعبر عن السطو والاستيلاء عنوة وعن سرقة أموال الناس، بتعابير أخرى في اللغات العربية الجنوبية، منها "خرط"5، بمعنى سرق، و"حلص"6، بمعنى سرق ونهب وسلب، وكل ما يؤخذ حيلة وسرقة.
وتعدّ السرقة عيبًا عند العرب، لأنها تكون دون علم صاحب المسروق وبمغافلته. والمغافلة والاستيلاء على شيء من دون علم صاحبه عيب عندهم، وفيه جبن ونذالة. أما الاستيلاء على شيء عنوة وباستخدام القوة، فلا يعد نقصًا عندهم ولا شيئًا ولا يعد سرقة، لأن السالب قد استعمل حق القوة، فأخذه بيده من صاحب المال المسلوب. فليس في عمله جبن ولا غدر ولا خيانة. ولذلك فرقوا بين لفظة "سرق" وبين الألفاظ الأخرى التي تعني أخذ مال الغير، ولكن من
__________
1 تاج العروس "4/ 432"، "لص".
2 غرائب اللغة "268".
3 اللسان "بني"، "14/ 92".
4 تاج العروس "6/ 224"، "قف".
5 South Arabian Inscriptions, P. 436
6 المصدر نفسه.(9/99)
غير تستر ولا تحايل. فقالوا: "السارق عند العرب من جاء مستترًا إلى حرز، فأخذ مالًا لغيره. فإن أخذه من ظاهر، فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس، فإن منع ما في يده، فهو غاصب"1.
ولم تعد "الغارة" سرقة ولا عملًا مشينًا يلحق الشين والسبة بمن يقوم به. بل افتخر بالغارات وعدّ المكثر منها "مغوارًا". لما فيها من جرأة وشجاعة وإقدام وتكون الغارة بالخيل في الغالب، ولذلك قال علماء اللغة: "أغار على القوم غارة وإغارة دفع عليهم الخيل"2. وقد عاش قوم على الغارات، كانوا يغيرون على أحياء العرب، ويأخذون ما تقع أيديهم عليه، ومن هؤلاء "عروة بن الورد"، إذ كان يغير بمن معه على أحياء العرب، فيأخذ ما يجده أمامه، ليرزق به نفسه وأصحابه. بعد أن انقطعت بهم سبل المعيشة، وضاقت بهم الدنيا. فاختاروا الغارات والتعرض للقوافل سببًا من أسباب المعيشة والرزق. وذكر أهل الأخبار أسماء رجال عاشوا على الغارات وعلى التربص للمسافرين لسلب ما يحملونه معهم من مال ومتاع.
__________
1 تاج العروس "6/ 379"، "سرق".
2 تاج العروس "3/ 458"، "غور".(9/100)
الأفراح:
الأفراح، عامة أو خاصة، فمن الأفراح العامة، الأعياد والمناسبات المماثلة، مثل انتصار في حرب وغزو أو تولي ملك عرشًا أو سيد رئاسةَ قبيلة، ومن الخاصة، الزواج والبرء من مرض، والعود من سفر، وأمثال ذلك.
ولما كان العرب في جاهليتهم قبائل وشيعًا وكان الاتصال بينهم صعبًا، صارت أعيادهم كثيرة غير متفقة في زمان أو مكان، ذات صفة محلية، لا يشترك فيها كل عرب جزيرة العرب. وهي مرتبطة بالأصنام في الغالب وبالمواسم التجارية التي تتجلى في انعقاد الأسواق.
ولذلك، فأنا حين أتحدث عن أعياد الجاهلية فلن أستطيع أن آتي باسم عيد واحد، أقول إن جميع العرب كانوا يعيدون ويفرحون جميعهم به، لما ذكرته من انقسام الجاهليين إلى قبائل وشيع وعدم وجود دين واحد لهم، يجمع(9/100)
شملهم. والدين من أهم العوامل المساعدة لظهور الأعياد وجمع شمل المؤمنين به للاحتفال بها. ولذلك فأعياد الجاهليين هي أعياد موضعية تعيّد قبيلة أو مدينة أو مملكة بعيد، ولا يعرف عنه بقية العرب أي شيء.
أما أعياد اليهود والنصارى والعرب فأمرها أمر آخر؛ لأن اليهودية والنصرانية قد حددتا تأريخًا ثابتًا للأعياد فيها، فصارت معروفة عند أتباع الديانتين يحتفلون بها في الأجل الموقوت.
وكان الحج إلى مكة من أهم مواسم العرب في الحجاز، وهو عيد، يجتمع فيه الناس من مختلف القبائل ومختلف الأماكن للتقرب إلى الأصنام وللتلاقي في ظروف أمن وسلام لا يحل فيها قتال ولا اعتداء ولا لغو ولا فحش. ويقوم أهل مكة بخدمة الوافدين الضيوف، ضيوف "البيت"، وتمر أيام خالية من غدر واعتداء وقتل وأخذ بثأر يلبس فيها الناس خير ما عندهم من لباس ويتجلون بأحسن صورة. فإذا انتهت الأيام عادوا إلى ديارهم.
وذكر أنه كان لأهل "يثرب" يومان يعيّدون فيهما، يلعبون فيهما ويستأنسون، هما: النيروز، والمهرجان. فلما قدم الرسول المدينة أبدلهما بيوم الفطرة والأضحى1. والظاهر أن اليثربيين أخذوا عيديهما المذكورين من الفرس2، "النيروز" عيد شهير من أعياد الفرس من أصل "نو" بمعنى جديد و"روز" بمعنى يوم، أي: أول يوم من السنة الإيرانية الشمسية. وأما "المهرجان"، فإنه عيد من أعياد الفرس كذلك، يعيّد به في الشهر السابع من شهورهم الشمسية، وهو شهر "مهر" "مهرماه"، ويدعى العيد "مهركان". وقد بقي الفرس يحتفلون به في الإسلام، حتى زماننا هذا، وورد ذكره في الأشعار3.
ولم يذكر أهل الأخبار كيف عيد أهل "يثرب" بهذين العيدين اللذين هما من أعياد الفرس. ولا ما هي صلتهم بهما.
وذكر أهل الأخبار عيدًا سموه "يوم السبع"، قالوا: إنه عيد كان لهم في
__________
1 جامع الأصول "10/ 166"، عن العيد، راجع المخصص "13/ 102"، اللسان "3/ 318 ومابعدها"، تاج العروس "2/ 438"، المحكم والمحيط الأعظم "2/ 232"، معجم مقاييس اللغة "4/ 181، 182"، القاموس "1/ 319"، مقدمة الصحاح "1/ 512".
2 بلوغ الأرب "1/ 347"، اللسان "5/ 416".
3 بلوغ الأرب "1/ 352 وما بعدها". غرائب اللغة "ص246".(9/101)
الجاهلية، يشتغلون فيه بلهوهم وعيدهم من كل شيء1. ولم يتحدثوا بشيء مفصل عنه، ولم يذكروا أنه عيد من.
وورد في بيت شعر للنابغة اسم عيد دعاه "السباسب"، وقد ذكر أهل الأخبار أنه كان عيدًا لقوم من العرب في الجاهلية وكانوا يحيون فيه بالريحان.
رقاق النعال طيّبٌ حُجُزاتهم ... يحيّون بالريحان يوم السَّباسِبِ2
وهو في الواقع عيد من أعياد النصارى، كما أشار إلى ذلك أهل الأخبار. إذ ذكروا أنه "عيد للنصارى ويسمونه يوم الشعانين"3
وقد كان هذا العيد معروفًا في الحجاز أيضًا، ورد في الحديث: "إنّ الله تعالى أبدلكم بيوم السباسب يوم العيد"4. وإذا صح ورود هذا الحديث عن الرسول، كان ذلك دليلًا على أن أهل مكة كانوا قد عرفوا هذا العيد وعيدوه وربما كانوا أخذوه عن النصرانية.
ولم ترد في نصوص المسند إشارات إلى أعياد العرب الجنوبيين ولم ترد إشارات إلى الأعياد في النصوص الثمودية أو اللحيانية أو الصفوية. لذلك لا أستطيع أن أتحدث عن العيد عند العرب الجنوبيين أو اللحيانيين أو الصفويين أو قوم ثمود. وقد أشار بعض الكتبة "الكلاسيكيين" إلى تعييد النبط وعرب أعالي الحجاز واحتفائهم فيها بأصنامهم وحجّهم إلى معابدهم، إلا أنهم لم يسموا تلك الأعياد بأسمائها.
وقد عيد يهود جزيرة العرب بأعيادهم أيضًا. وكانوا يحافظون عليها، لأنها في عقيدتهم عمل من الأعمال الدينية. ولم يكونوا يشتغلون فيها5، إذ يرون في
__________
1 تاج العروس "5/ 372"، "سبع"، بلوغ الأرب "1/ 347"، اللسان "8/ 148".
2 بلوغ الأرب "1/ 347"، تاج العروس "3/ 41"، "الكويت" "سبب" اللسان "سبب"، ديوان النابغة "45".
3 تاج العروس "1/ 294"، "سبب".
4 تاج العروس "3/ 41"، "طبعة الكويت"، "سبب"، "1/ 294"، "المطبعة الخيرية".
5 صبح الأعشى "2/ 426 وما بعدها".(9/102)
الخروج عليها خروجًا على الدين الذي منعهم من الاشتغال في أيام السبت والأعياد وحتم عليهم وجوب مراعاة حرمة تلك الأيام مراعاة تامة.
ومن أعياد اليهود التي عرفها الجاهليون عيد رأس السنة، وعيد الصوم الكبير "الكبور"، و"عيد المظال" وأعياد أخرى.
أما العرب النصارى، فقد عيّدوا بأعيادهم الدينية، واحتلفوا بها، وفي المواضع التي كانت فيها جماعة كبيرة منهم كانت احتفالاتهم بها أوضح وأفرح.
وفي الحيرة، حيث تفشت النصرانية وانتشرت، كان الناس يتزينون ويتجملون ويلبسون أحسن ما عندهم من حلل في أيام أعيادهم، مثل "عيد السعانين" "عيد الشعانين"، ويحتفلون في البيع والكنائس والأديرة فرحًا بذكرى العيد، ويخرجون بصلبانهم1.
وذكر أن "يوم السعانين" "يوم الشعانين"، هو "يوم السباسب"، العيد الذي مر ذكره، وقد كان من أعياد النصارى2. وقد اشتقت كلمة "السعانين" "الشعانين" من العبرانية، أخذت من لفظة "هوشعنا"، التي كان يتهلل بها اليهود أمام المسيح. و"السباسب": الأغصان، يريدون منها سعف النخيل الذي قطعه اليهود يوم استقبلوا المسيح في دخوله أورشليم3.
وذكر أن "الهنزمر"، و"الهنزمن"، و"الهيزمن"، كلها: عيد من أعياد النصاى أو سائر العجم، وهي أعجمية. قال الأعشى:
إذا كان هنزمن ورُحْتُ مخشما4
واشتهر "عيد الفصح"، وهو عيد فِطر النصارى، إذا أفطروا وأكلوا اللحم. وقد أشار إليه الأعشى بقوله:
__________
1 الأغاني "2/ 30"، "طبعة ساسي"، صبح الأعشى "2/ 415 وما بعدها"، اللسان "13/ 209".
2 اللسان "1/ 460"، "صادر"، "سبب"، المخصص "13/ 102" تاج العروس "4/ 294"، نهاية الأرب "1/ 191 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 235".
3 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص215"، المخصص "13/ 102"، ديوان النابغة "ص15".
4 المخصص "13/ 102"، الآثار الباقية "292"، اللسان "5/ 267"، "هنزمر"، تاج العروس "3/ 623"، "هنزمر".(9/103)
بهم تقرّب يوم الفصح ضاحية ... يرجو الإله بما سدّى وما صنعا1
وذكر العلماء اسم عيد آخر من أعياد النصارى دعوه "السلاق"، ذكروا أنه مشتق من تسلق المسيح إلى السماء2. والكلمة من أصل إرمي، هو Souloqo بمعنى صعود. وقصد به عيد صعود المسيح إلى السماء3.
وللنصارى عيد آخر اسمه "خميس الفصح"، وعرف أيضًا بـ"خميس العهد".
وقد احتفل به نصارى الحيرة4. وذكر علماء اللغة أن للنصارى عيدًا من أعيادهم اسمه "دنح"، وتكلمت به العرب5. وهو من أصل إرمي هو "دنحو"، بمعنى إشراق وظهور. ويراد به "عيد الغطاس"6.
وتضاف إليها الأعياد المحلية، التي كان يحتفل فيها بأيام القديسين. فقد كان الغساسنة يحتلفون مثلًا في الرصافة بعيد "القديم سرجيوس". وكان لنصارى العراق أعيادهم الخاصة بهم حسب مذاهبهم. يكرسونها تخليدًا لذكرى قديسيهم.
وقد اشتهر النصارى بين الجاهلين وفي الإسلام بمحافظتهم على أعيادهم حتى ضربوا المثل بأعياد النصارى. فقال العجاج:
واعتاد أرباضًا لها آريّ ... كما يعود العيد نصرانيّ7
والعادة –كما هو شأن كل الأمم- أن يتزين في أيام الأعياد بأحسن الثياب والملابس المفتخرة والحلل المثمنة والبرود المعجبة، وأن يظهر الشبان مقدرتهم وبراعتهم في التسابق على الخيل وفي الألعاب وفي الظهور أمام النساء، ويلعب الصبيان أنواعًا من الملاعب، وأن يتغنى ويزمر بالدفوف والمزاهر وأمثال ذلك،
__________
1 ديوان الأعشى "القصيدة 13، سطر 69"، اللسان "2/ 545"، القاموس "1/ 240"، مقاييس اللغة "4/ 507"، مقدمة الصحاح "1/ 391".
2 اللسان "10/ 163"، "صادر"، "سلق".
3 غرائب اللغة "ص188".
4 الأغاني "3/ 23"، النصرانية، القسم الثاني الجزء الثاني القسم الأول "ص216"، نهاية الأرب "1/ 191 وما بعدها".
5 اللسان "2/ 436"، "دنح"، تاج العروس "2/ 136"، "دنح"، المخصص "13/ 102".
6 غرائب اللغة "181"، نهاية الأرب "1/ 191 وما بعدها"، الآثار الباقية "292 وما بعدها".
7 تاج العروس "2/ 438"، "عود".(9/104)
لتكسب الأيام بهجتها وروعتها. وكان من عادة أشراف الحيرة اللعب على الخيل بالصوالجة، وذلك على طريقة العجم1.
وقد يخضب الرجال والنساء أيديهم بالخضاب، ولا سيما "الحناء". ولكن هذا النوع من إظهار الفرح والسرور، غالب في الأعراس وفي الختان، حيث تولم الولائم وتقام الأفراح، ويخضب بالحناء.
__________
1 الأغاني "2/ 19"، "طبعة ساسي".(9/105)
اللعب في العيد:
ومما كان يتلقى به المعيدون ويتسلون به، الغناء، واللعب بمختلف أنواعه. وفي جملته استخدام السودان للعب بلعبتهم الشهيرة لعبة الدرق والحراب1. وقد برع في الغناء نساء ورجال. وذكر أن أهل "يثرب" كانوا أهل طرب وكانوا يحبون الغناء2، وأنهم استخدموا "الحبش" للضرب على الدف والغناء في أيام الأعياد. وقد كانوا يلعبون في المسجد بالدرق والحراب ولم ينههم الرسول عن ذلك، لأن اللعب كان في أيام العيد3. وقد غنت جاريتان لـ"عائشة" بإنشاد العرب بغناء بعاث، كما أذن الرسول للسودان باللعب في مسجده في الحراب والدرق، ونشطهم بقوله: "يا بني أرفدة"4.
__________
1 نهاية الأرب "4/ 138".
2 نهاية الأرب "4/ 139 وما بعدها"، "أما كان معكن لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو"، نهاية الأرب "4/ 148".
3 القسطلاني، إرشاد الساري "6/ 20".
4 القسطلاني، إرشاد "2/ 204 وما بعدها"، "باب إباحة الحراب والدرق يوم العيد".(9/105)
الغناء:
وطرب الأعراب، طرب ساذج يتناسب مع طبيعة بيئاتهم، وكذلك كان غناؤهم غير معقد ولا متنوع. أما طرب أهل الحضر، فكان أكثر تعقيدًا وتفننًا ولا سيما طرب أهل الحضر الساكنين في ريف العراق وفي بلاد الشأم، وعند أهل(9/105)
اليمن، فاستعملوا آلات طرب متعددة، أخذوا بعضها من الأعاجم الذين اتصلوا بهم، كما أخذوا من أولئك الأقوام ألوانًا من ألوان الغناء وفنونه. هذا الاختلاف لا بد أن يقع، لاختلاف أهل الوبر وأهل المدر في البيئات، وفي الطباع والعادات.
وللشعر علاقة كبيرة بالغناء. فالغناء هو التغني بالشعر. ولذلك قالوا: تغنى بالشعر، وفلان يتغنى بفلانة إذا صنع فيها شعرًا. وله علاقة بالحداء أيضًا.
قالوا: حدا به، إذا عمل فيه شعرًا1، فالغناء نغم ووزن ويكون لذلك بكلام موزون. وهو الشعر الذي يناسب نغم الغناء. أما النثر، فلا يناسب طبعه طبع الغناء. ويكون بينهما جفاء. إذ لا يستقيم النثر العربي مع الوزن دائمًا. لذلك فلا يمكن للمغني أن يغني به. قال "الجاحظ": العرب تقطع الألحان الموزونة والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في الوزن اللحن، فتضع موزونًا على غير موزون2. وذكر أن الغناء من الصوت ما طرب به3.
وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يستمعون إلى القيان. وأن فارس كانت تعد الغناء أدبًا والروم فلسفة. وأن الملوك العرب كانوا يملكون القيان أيضًا.
ومنهم أشراف مكة وعلى رأسهم "عبد الله بن جدعان"4.
وقد عرف غناء أهل البادية بـ"غناء الأعراب"، وذلك لاختلافه عن غناء الحضر5.
فكان لأهل الحيرة مزاج في الغناء يختلف عن مزاج أهل البادية، بل حتى عن مزاج غيرهم من الحضر. وذلك للظروف الخاصة التي تحيط بهم، مثل اختلاطهم بالفرس، ووجود النصرانية والمؤثرات اليونانية فيما بينهم. وقد كان في كنائس العباديين نصارى الحيرة، تراتيل وترانيم، وهي بالطبع نوع من الغذاء الروحي، وقد كان عندهم خمر تبعث على الانشراح والانبساط، وأديرة مزدانة بالخضرة والرياحين والأزهار، وفيها ماء طيب وغناء رهبان وراهبات،
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 369"، تاج العروس "10/ 272"، "غنى"، اللسان "15/ 135"، "غنى".
2 بلوغ الأرب "1/ 369".
3 تاج العروس "10/ 272"، "غنى".
4 رسائل الجاحظ "2/ 158".
5 نهاية الأرب "4/ 193".(9/106)
فلا عجب إن طرب سكانها وتفننوا في غنائهم، وتميزوا به عن بقية الغناء العربي، حتى قيل له: غناء أهل الحيرة، وقد ذكر: أنه بين الهزج والنصب، وهو إلى النصب أقرب، كما كانت لهم لغة امتازت عن لغات العرب الآخرين غنوا بها، فأكسب غناؤهم طابعًا حيريًّا خاصًّا1.
ومن مرادفات الغناء "السمود" بلغة حمير. وقيل السمود اللهو وبصورة خاصة الغناء2.
وللفقهاء في الإسلام آراء في قراءة القرآن. منهم من جوز قراءته بالألحان، ومنهم من جوز قراءته بالترجيع، وغير ذلك3. والترجيع ترديد الصوت في الحلق في قراءة أو غناء أو زمر أو غير ذلك مما يترنم به. وقيل: الترجيع هو تقارب ضروب الحركات في الصوت4.
وأما "العزف"، فالملاهي واللعب بالمعازف، وهي الدفوف وغيرها مما يضرب. والعازف اللاعب بها والمغني. وعزف الدف صوته. والمعزف، ضرب من الطنابير يتخذه أهل اليمن وغيرهم، ويجعل العود معزفًا5.
ويعبر عن الاستماع إلى الغناء والإنصات لصوت المغني بـ"السماع". ويحدث السماع طربًا في النفس. وقد صار للكلمة معنى خاص في الإسلام، إذ حولت إلى سماع الترانيم الدينية في الغالب، لذلك لم ينظر إليه نظرة الناس إلى الغناء6.
وتغني أهل الجاهلية في كل المناسبات المبهجة، وضربوا على آلات الطرب.
ومن هذه المناسبات الزواج والعودة من الأسفار، كما كانوا ينذرون أنه إن تحقق مطلب لهم فإنهم يقيمون مجلس طرب يتغنى فيه: كمناسبة شفاء من مرض أو عودة من حرب7. وكان شبان مكة يذهبون إلى السمر ويلهون بسماع الغناء وبالضرب على الدفوف والاستماع إلى تزمير المزمار8. كما استعمل الغناء في الغزو، وذلك
__________
1 الأغاني "2/ 121" "طبعة ساسي".
2 اللسان "3/ 219"، نهاية الأرب "4/ 134".
3 ابن قيم الجوزية "1/ 134"، "في هديه صلى الله عليه وسلم، في قراءة القرآن"
4 تاج العروس "5/ 351"، "رجع".
5 اللسان "9/ 244"، المخصص "13/ 12"، تاج العروس "6/ 197"، "عزف".
6 نهاية الأرب "4/ 161 وما بعدها".
7 نهاية الأرب "4/ 140 وما بعدها".
8 نهاية الأرب "4/ 145 وما بعدها".(9/107)
لتنشيط الغازين وتحريضهم على القتال. ومن هذا القبيل ما يرتجز به الشجعان عند اللقاء في الحرب. واستعمل في الختان وفي العقيقة والولائم1.
__________
1 نهاية الأرب "4/ 168 وما بعدها".(9/108)
آلات الطرب:
وآلات الطرب عند العرب ثلاثة: آلات ذات أوتار كالعود وآلات نفخ، وآلات ضرب كالصنوج والطبل والدف.
والطرب: الفرح والحزن وهو ضد، أو هو خفة تلحقك سواء تسرك أو تحزنك. فهي تعتري عند شدة الفرح أو الحزن أو الغم. والتطريب التغني. ويقال: طرب فلان في غنائه تطريبًا إذا رجع صوته وزينه1.
والدفّ من آلات الطرب القديمة المشهورة ويستعمل. للتعبير عن العواطف في الفرح والسرور. وهو معروف عند الساميين ويسمى "توف" "تف" Toph عند العبرانيين. وقد ورد ذكره في التوراة. وتنقر به النساء أيضًا2.
وقد كان شائعًا عند العرب، ينقرون به في أفراحهم. ولما وصل الرسول إلى يثرب، استقبل بفرح عظيم وبالغناء وبنقر الدفوف. وأكثر ما استعمله العرب في المناسبات المفرحة، كالنكاح. ورافقوا الضرب به أصوات الغناء3.
وقد وردت في الشعر الجاهلي أسماء آلات طرب عرفت في ذلك العهد، فورد في شعر للأعشى: الناي، والبربط، والصنج، وهي آلات عرفت عند الفرس.
وقد دعي "الناي" بـ"ناي نرم".
والناي نرم وبربط ذي بُحة ... والصنج يبكي شجْوَهُ أن يوضعا4
وقد ذكر الجواليقي أن الربط معرّب، وهو من ملاهي العجم، شبّه بصدر
__________
1 تاج العروس "1/ 354"، "طرب".
2 Smith, Diction, Vol. III, P. 1502, Hastings, P. 638, A Relig. Ency Vol. III, P. 1599
3 تاج العروس "6/ 108"، "دف".
4 المعرب "ص72، 214، 340"، العقد الفريد "6/ 23".(9/108)
البط. والصدر بالفارسية "بر"، فقيل: بربط1. وقد ورد في العقد الفريد: "العود الكران. والمِزْهر أيضًا هو العود، وهو البربط"2. والبربط من آلات الملاهي المشهورة عند الروم.
وعرف الجواليقي "الصنج" فقال: "والصنج الذي تعرفه العرب هو الذي يتخذ من صفر، يضرب أحدهما بالآخر ... فأما الصنج ذو الأوتار، فتختص به العجم، وهما معربان. وسمّوا الأعشى "صناجة العرب" لجودة شعره3.
وذكر أن اللاعب بالصنج هو "الصنّاج" و"الصنّاجة"4.
وجاء الأعشى باسم آلة طرب أخرى من آلات الملاهي عند العجم، دعاها "الوَنّ".
بالجُلسَّان وطيب أردانه ... بالوَن يضرب لي يكرُّ الإصبعا5
ويظهر من هذا البيت أن ألون آلة طرب ذات أوتار، يضرب عليها بالأصابع.
وقد ذكر بعض العلماء أن الونّ: "الصنج الذي يضرب بالأصابع وهو الونج، كلاهما دخيل مشتق من كلام العجم6. وعرف بعضهم "الونج" بأنه "المعزف أو العود، فارسي معرب. وأصله بالفارسية وَنَهْ. وقد تكلمت به العرب"7.
ومنهم من جعل "الونّ" و"الونج" شيئًا واحدًا.
ويذكر علماء اللغة أن "العَرْطَبة" هي اسم للعود، وقيل: الطبل، وقيل: الطنبور: وقد ورد ذكرها في الحديث مع اسم آلة أخرى من آلات الملاهي، هي "كوبة"8. ويرى العلماء أن "الكوبة"، الطبل الصغير، وهي "النرد"، بلغة اليمن9. وذكر أن "المرطبة" طبل الحبشة خاصة10، وأن "الكوبة".
__________
1 المعرب "ص71"، ابن خلكان، الوفيات "2/ 400"، تاج العروس "5/ 105".
2 "2/ 27"، تاج العروس "5/ 104 وما بعدها"، "البربط".
3 المعرب "ص214"، الأغاني "8/ 75". قال الأعشى.
ومستجيبا تخال الصنج يسمعه ... إذا ترجع فيه القينة الفضل
اللسان "2/ 311"، "صنج"، تاج العروس "2/ 67".
4 تاج العروس "2/ 67"، "صنج".
5 المعرب "ص344"، تاج العروس "9/ 363"، "الون".
6 المعرب، الحاشية، تاج العروس "9/ 363"، "الون".
7 المعرب "ص344"، تاج العروس "9/ 363"، "الون".
8 المعرب "ص234"، تاج العروس "1/ 377"، القاموس "1/ 103".
9 المعرب "ص295"، تاج العروس "1/ 464".
10 تاج العروس "1/ 377"، "عرطبة".(9/109)
البربط والشطرنج والطبل الصغير1.
وذكر أهل الأخبار أن "النضر بن الحارث بن كلدة" كان يغني بالعود2.
والعود من جملة آلات الطرب القديمة. وهو "عوديت" عند العبرانيين. وقد أشير إليه في جملة آلات الموسيقى المستعملة في أيام داود، وذلك في المزامير3.
وذكر أن من أساء العود "الكران"، وأن "الكرينة" المغنية الضاربة بالعود أو الصنج4.
ويعرف الوتر بـ"اليم"، ويقال هو الوتر الغليظ من أوتار المزهر5.
و"الناي" من آلات الطرب، ينفخ فيه، يصنع من الخشب ومن القصب6.
وذكر أن الناي من أسماء "المزمار"، وهو من آلات النفخ كذلك. و"القصاب"، وهو الذي ينفخ في القصب الزمار7.
وأما "الهيرعة"، فالقصبة، التي يزمر فيها الراعي8.
وذكر أن "القنين" طنبور الحبشة "وفي الحديث: إنّ الله حرم الخمر والكوبة والقنين". والتقنين الضرب بالقنين. وذكر أن الكوبة: الطبل9.
وأما "الكبر"، فهو الطبل، وقيل: طبل له وجه واحد. وقيل: هو الطبل ذو الرأسين10. ويقال للطنبور: "طبن" كذلك11.
و"المزمار" و"الزمارة": ما يزمر فيه. ويقال للقصبة التي يزمر
__________
1 تاج العروس "1/ 464"، "كوب".
2 المعارف "ص250".
3 Smith, A Diction III, P. 1304
4 قال لبيد:
صعل كسافلة القناة وظرفه ... وكأن جؤجؤه صفيح كران
تاج العروس "9/ 320"، "كرن"، اللسان "13/ 357"، "كرن".
5 شمس العلوم "جـ1 ق1 ص118"، الأغاني "2/ 120" "ساسي" اللسان "3/ 36".
6 العقد الفريد "6/ 23".
7 المخصص "13/ 15".
8 المخصص "13/ 14"، تاج العروس "5/ 556"، "هرع".
9 اللسان "13/ 349"، تاج العروس "9/ 315".
10 اللسان "5/ 130"، تفسير الطبري "28/ 66".
11 اللسان "13/ 264".(9/110)
بها زمّارة1. وأما "الرباب"، فمن آلات اللهو كذلك2. وقد اشتهر الغناء بالمزمار عند العرب، وأجادوا فيه.
وقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الساميين يستخدمون الغناء في عباداتهم، وربما استخدموا معه بعض آلات الطرب. وذلك تعبيرًا عن بهجتهم وسرورهم بتعبدهم للآلهة وتقربًا إليها بهذا الغناء الذي يدخل السرور إلى نفوسها. وقد ذكر المفسرون أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بالبيت يصفرون ويصفقون3. وإذا صح قولهم هذا، فإنه يعني استعمال نوع من الطرب في حجهم وطوافهم بالبيت.
وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع الغناء العربي وما يختلف به ويمتاز عن غناء الأعاجم، فقال: "العرب تقطع الألحان الموزونة على الأعشار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونًا على غير موزون"4.
واللحن: الغناء. وفي الحديث: "اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل العشق"5. ويراد به التطريب وترجيع الصوت وتحسين القراءة والشعر والغناء. وقد كان اليهود والنصارى يقرءون كتبهم نحوًا من ذلك6.
__________
1 اللسان "4/ 327".
2 تاج العروس "2/ 472".
3 تفسير الطبري "9/ 157 وما بعدها".
4 العمدة "314".
5 اللسان "13/ 383"، "صادر"، "لحن".
6 المصدر نفسه.(9/111)
أصول الغناء الجاهلي:
ويرجع أهل الأخبار غناء الجاهليين إلى ثلاثة أوجه: النصب، والسناد، والهزج.
فأما النصب، فغناء الركبان وغناء الفتيان والقينات، ويغنى به في المراثي كذلك.
وقد دعاه إسحاق بن إبراهيم الموصلي، الغناء الجنابي نسبة إلى رجل من كلب يقال له: جناب بن عبد الله بن هبل. وهو الذي يقال له "المراثي"، ومنه كان أصل الحداء، وكله يخرج من الطويل في العروض. وأما السناد، فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات. وأما الهزج، فالخفيف الذي يرقص عليه(9/111)
ويمشي بالدف والمزمار فيطرب ويستخف الحليم1.
ويذكر أهل الأخبار أن الأنواع المذكورة كانت غناء العرب، حتى جاء الإسلام وفتحت العراق، وجلب الغناء والرقيق من فارس والروم، فغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية، وغنوا جميعًا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير2. وذكر أيضًا أن الغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن للعرب قبل ذلك إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمونه "الركباني" "الركبانية"3. والنشيد رفع الصوت، ومن المجاز الشعر المتناشد بين القوم ينشده بعضهم بعضًا4.
وذكر "المسعودي" أن غناء العرب النصب، ثلاثة أجناس: الركباني، والسناد الثقيل، والهزج الخفيف5.
ويرى بعض أهل الأخبار أن أصل الغناء ومعدنه إنما كان في أمهات القرى من بلاد العرب، حيث فشا بها، وانتشر. ومن هذه مكة والمدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب.
ورووا أن أول من غنى في العرب قينتان لعاد، يقال لهما: الجرادتان6. وهما قينتا "معاوية بن بكر الجرهمي" "معاوية بن بكر العملقي" غنّتا لوفد "عاد" بمكة، فشغلوا عن الطواف بالبيت وسؤال الله فيما قصدوا، فهلكت عاد وهم سامدون.
فلما رأى الجرهمي، وهو معاوية بن بكر، أحد العماليق، ذلك قال: هلك أخوالي "عاد"، ولو قلت لضيوفي شيئًا، ظنوا بين البخل، فألقى إلى الجرادتين شعرًا يذكر بمحنة "عاد"، فأنشدتاه الضيوف. وكان الجرهمي سيد مكة حين وفدت عاد تستقي في قحطها. وكان "قيل ابن عتر" أحد الرءوس الثلاثة لوفد عاد، حين ذهبوا في القحط إلى مكة يستسقون لقومهم7.
__________
1 العقد الفريد "6/ 27"، بلوغ الأرب "1/ 369 وما بعدها"، اللسان "2/ 390 وما بعدها"، العمدة "313"، اللهو والملاهي، لابن خرداذبه "ص18".
2 العمدة "314".
3 نهاية الأرب "4/ 239".
4 تاج العروس "2/ 514"، "نشد".
5 مروج "4/ 133"، "دار الأندلس".
6 العقد الفريد "6/ 27".
7 الأمثال للميداني "1/ 87"، رسالة الغفران "243"، مروج "4/ 133"، "دار الأندلس".(9/112)
وورد أيضًا أن الجرادتين كانتا مغنيتين للنعمان. كما ورد ذكر الجرادتين وغناءهما لأبي رغال. وورد أنه كان بمكة في الجاهلية قينتان يقال لهما: الجرادان مشهورتان بحسن الصوت1. وقيل: إن الجرادتين كانتا أمتين تتغنيان في الجاهلية وكانتا لعبد الله ابن جدعان2.
وقد ذكر "أبو العلاء المعري"، أن العرب تسمي كل قينة جرادة، حملًا على أن قينة في الدهر الأول كانت تدعى الجرادة. واستشهد بهذا البيت:
تغنينا الجراد ونحن نشرب ... نعلّ الراح خالطها المشور3
وذكر بعض العلماء أن "جذيمة الخزاعي بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة ابن عمرو بن عامر"، المعروف بـ"المصطلق"، كان من أحسن الناس صوتًا، وقد غنى بعد "الجرادتين"، غنى غناء النصب4. وذكر أنه أول من غنى في خزاعة5. ثم غنى بعده "ربيعة"، وهو "ضبيس بن حزام بن حيشة بن سلول بن كعب بن عمرو بن عامر" الخزاعي، ثم غنى بعده "زمام بن خطام الكلبي"، وقد ذكره "الصمة القشيري"، بقوله:
دعوت زمامًا للهوى فأجابني ... وأي فتى للهو بعد زمام6
وذكر "المسعودي"، أن غناء أهل اليمن بالمعازف وإيقاعها جنس واحد، وغناؤهم جنسان: حنفي، وحميري. والحنفي أحسنها7، فهذا هو غناء أهل اليمن. ورجع بعض أهل الأخبار غناء أهل اليمن إلى "علس بن زيد ذي جدن"، زعموا أنه أول من تغنى باليمن8. وزعموا أنه كان من ملوك اليمن، لقب بذي جدن، لجمال صوته. فالجدن الصوت عند أهل اليمن9.
__________
1 اللسان "3/ 118"، "صادر"، "جرد"، تاج العروس "2/ 318" "جرد".
2 الأغاني "8/ 2" "طبعة ساسي".
3 رسالة الغفران "244".
4 كتاب اللهو والملاهي "18".
5 تاج العروس "6/ 412".
6 كتاب اللهو والملاهي "18".
7 مروج "4/ 134".
8 الأغاني "4/ 37".
9 اللهو والملاهي "20".(9/113)
وذكر أن قريشًا لم تكن تعرف من الغناء، إلا النصب، حتى قدم "النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي" العراق، فعلم ضرب العود وغناء العباديين، فقدم مكة، فعلم أهلها، فاتخذوا القيان1.
ويظهر من غربلة ما ورد في الأخبار عن الغناء، أن المراد به، تلحين ما يراد التغني به وتطريبه، حتى يثير الطرب في نفوس السامعين، لا سيما إذا اقترن بآلة من آلات الطرب. ونادرًا ما يكون غناء دون "موسيقى". فالموسيقى تصاحب الغناء. والغناء: تلحين ما يراد التغني به بتقطيعه قطعًا موزونة تكون نغمة، يوقع على كل صوت منها بإيقاع يناسبه، فيزيده لذة في السماع2.
وذهب "المسعودي" إلى أن أول من اتخذ القيان من العرب، أهل يثرب.
أخذوا ذلك من بقايا عاد3. بينما يذكر الأخباريون، أن أول من غنى من العرب العاربة الجرادتان، وكانتا فينتين على عهد عاد، لمعاوية بن بكر العمليقي4.
وفي جملة من قال ذلك "ابن خرداذبه"، الذي اعتمد "المسعودي" عليه في موضوع الغناء، ونقل من كتابه "اللهو والملاهي" بالنص5.
والقينة عند علماء اللغة: الأمة المغنية، وذكروا أنها كلمة هذلية. وقال بعض آخر: مغنية كانت أو غير مغنية. وإنما قيل للمغنية قينة، إذا كان الغناء صناعة لها، وذلك من عمل الإماء دون الحرائر6. والظاهر أنها من الألفاظ المعربة، فالغناء في لغة "بني إرم" هو "قنتو" Qinto والمغنية "قينة" من الغناء "قنتو"7.
وذكر أن من أسماء "القينة" "الزمّارة" و"الزامرة"، وقيل للمغني: "الزمار"، وذلك من التزمير بالمزمار8.
__________
1 كتاب اللهو والملاهي "19"، مروج الذهب "4/ 134"، المخصص "2/ 142 وما بعدها"، "4/ 54".
2 مقدمة ابن خلدون "758"، "دار الكتاب، بيروت 1961"، اللسان "15/ 135".
3 مروج الذهب "4/ 134"، كتاب اللهو والملاهي "19".
4 كتاب اللهو والملاهي "18".
5 راجع كتاب اللهو والملاهي وقارنه بكتاب مروج الذهب، للمسعودي "4/ 131 وما بعدها".
6 اللسان "13/ 351 وما بعدها".
7 غرائب اللغة "202".
8 اللسان "4/ 327"، "ذمر".(9/114)
ويقال للمغنية: "الكرينة" أيضًا1. وقد وردت اللفظة في شعر لبيد:
بصبوح صافية وجَذْب كرينة ... بموترٍ تَأتاله إيهامها2
وذكر أن "الكرينة" المغنية الضارية بالعود أو الصنج، والضاربة بـ"الكران".
و"الكران" هو العود3.
وذهب أهل الأخبار إلى أن الغناء محدث في العرب، أخذ من "الحداء".
وكان الحداء في العرب قبل الغناء. وكان أول السماع والترجيع في العرب، ثم اشتق الغناء من الحداء. اشتقه "حباب بن عبد الله الكلبي"، فغنى النصب4.
وقد أشير إلى غناء النصب في كلام ينسب إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب، فذكر أنه قال: مَرَّ بنا ابن الخطّاب، وأنا وعاصم بن عمر نغني غناء النصب، فقال: أعيدا علي5. وورد أن أنس بن مالك سمع أخاه البراء بن مالك يغني، فقال: ما هذا؟ قال: أبيات عربية أنصبها نصبًا6. مما يدلّ على أن غناء النصب إنما ورد من هذا المعنى كذلك أشير إلى الحداء في خبر ينسب إلى ابن جريج، قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على ألحان الغناء والحداء7. وقد أخرج هذا الخبر الحداء من الغناء.
وعرف بعض العلماء النصب: أنه غناء الرُّكبان. وعرف أنه "العقيرة"، يقال: رفع عقيرته إذا غنى النصب. وعرف أنه ضرب من أغاني العرب "وفي حديث نائل مولى عثمان: فقلنا لرباح بن المغترف: لو نصبت لنا نصب العرب، أي: لو تغنيت، وفي الصحاح: لو غنيت لنا غناء العرب. "وكان رباح بن المغترف يحسن غناء النصب وهو ضرب من أغاني العرب، شبيه الحداء، وقيل:
__________
1 العقد الفريد "6/ 27"، كتاب اللهو والملاهي "ص16".
2 شرح القصائد العشر، للتبريزي "214 وما بعدها"، "295" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
3 العقد الفريد "6/ 27".
4 اللهو والملاهي "18".
5 العقد الفريد "6/ 8".
6 المصدر نفسه.
7 العقد الفريد "6/ 9"، تاج العروس "1/ 485".(9/115)
هو الذي أحكم من النشيد، وأقيم لحنه ووزنه"1. وعرف النصب: أنه ضرب من مغاني العرب أرق من الحداء2.
وقد أشار أهل الأخبار إلى أن العرب كانت "تتغنى بالركباني، إذا ركبت الإبل، وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يكون هجيراهم بالقرآن مكان التغني بالركباني، وأول من قرأ بالألحان عبيد الله بن أبي بكرة، فورثه عند عبيد الله بن عمر، ولذلك يقال: قرأت العمري، وأخذ ذلك عنه سعيد العلاف الإباضي"3. وذكر أن "عمر" سمع "عبد الرحن بن عوف" وهو يتغنى وينشد بالركبانية، وهو غناء يحدى به الركاب4.
والحداء، هو من أقدم أنواع الغناء عند العرب، يغنى به في الأسفار خاصة، ولا زال على مكانته ومقامه في البادية حتى اليوم. ويتغنى به في المناسبات المحزنة أيضًا لملاءمة نغمته مع الحزن. وقد كان للرسول حادي هو "البراء بن مالك بن النضر الأنصاري" وكان حداءً للرجال5. وكان له حداء آخر، يقال له "أنجشة الحادي" وكان جميل الصوت أسود، وكان يحدو للنساء6، نساء النبي، وكان غلامًا للرسول7. وذكر أن النبي قال لقوم من بني غفار -سمع حاديهم بطريق مكة ليلًا- قال لهم: "إن أباكم مضر خرج إلى بعض رعاته فوجدها قد تفرقت، فأخذ عصًا فضرب بها كفَّ غلامه، فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح: وا يداه، وا يداه، فسمعت الإبل ذلك فعطفت، فقال مضر: لو اشتق مثل هذا لانتفعت به الإبل واجتمعت، فاشتق الحداء"8.
وذكر بعض أهل الأخبار "أن أول من أخذ في ترجيعه الحداء "مضر بن نزار"9
__________
1 اللسان "1/ 762"، "نصب".
2 تاج العروس "1/ 486"، "نصب".
3 اللسان "15/ 137".
4 الروض "2/ 219".
5 الإصابة "1/ 143"، اللسان "14/ 168".
6 الإصابة "1/ 67"، الاستيعاب "1/ 117" "حاشية على الإصابة".
7 إرشاد الساري "9/ 92".
8 العمدة "314 وما بعدها"، المعارف "241"، الروض الأنف "1/ 60"، العقد الفريد "6/ 27"، إرشاد الساري "9/ 88".
9 مروج الذهب "4/ 159".(9/116)
فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول: وا يداه وا يداه، وكان أحسن الله جرمًا وصوتًا، فأصغت الإبل إليه وجدت في السير، فجعلت العرب مثالًَا لقوله هايدا هايدا يحدون به الإبل"1. وللأخباريين كلام آخر من هذا النوع عن الحداء2. يتفق كله في أن هذا النوع من الغناء كان من خصائص غناء مضر3.
وكان "عامر بن سنان الأكوع بن عبد الله بن قشير الأسلمي" المعروف بـ"ابن الأكوع" رجلًا شاعرًا وراجزًا، وكان يحسن الحداء، فطلب منه أصحاب الرسول أثناء سيرهم إلى خيبر أن يحدو بهم. فسمع الرسول حداءه4.
وهناك أخبار أخرى يفهم منها أن العرب لم تدخل الحداء في الغناء، وإنما ذكرته معه، على أنه باب خاص5. والعادة أن يجعل المسافرون معهم حاديا أو جملة حداة يحدون بهم في السفر. وكان أبو هريرة أحد الصحابة المحدثين عن رسول الله، يحدو لركب بسرة بنت غزوان6.
والحداء إذن ضرب مخصوص من الغناء، ويكون بالرجز غالبًا لأن طبيعة الرجز تلائم هذا النوع من الغناء7. ويذكر "المسعودي" أن الحداء كان في العرب قبل الغناء. وكان أول السماع والترجيع في العرب، ثم اشتق الغناء من الحداء8. فالحداء متقدم على الغناء إذن، وهو الباب الذي ولج العرب منه إلى الغناء. والحداء، هو في الواقع غناء أهل البادية، وفي إرجاع أهل الأخبار أصله إلى "مضر" أو غيره من الرجال صحة، إذا اعتبرنا أن "مضر" أو غيره كناية عن الأعراب. لأن هذا النوع من الغناء مما يتناسب مع لحن البوادي ونغمها الحزينة البسيطة التي تطرب بها طبيعة البداوة نفس الأعراب. ولا زال غناء أهل البادية متأثرًا بهذه الضربات من العزف، التي تعزفها البادية للتخفيف عن كآبة.
__________
1 العمدة "314".
2 المعارف "241"، العمدة "314".
3 العقد الفريد "6/ 27"، الروض "1/ 60"، بلوغ الأرب "1/ 369 وما بعدها".
4 إرشاد الساري "9/ 90 وما بعدها".
5 المعارف "ص232"، اللسان "14/ 168".
6 المعارف "ص120"، نهاية الأرب "4/ 164".
7 إرشاد الساري "9/ 88".
8 مروج "2/ 133"، "دار الأندلس".(9/117)
الطبيعة وللتعبير عن الروح الحزينة التي تحملها هذه الطبيعة من نشوئها ونموها في هذه الفيافي الساحقة الشاسعة التي لا ترى حدودها العين، والتي ترشق الأوجه برشقات من الرمال، تسد العين، حتى لا تتجاسر فتمد بصرها لتسترق سر هذه المحيطات ذات الأمواج المتفاوتة في الارتفاع من تموجات الرمال.
وقد تخصص أناس من رجال ونساء بالغناء، واتخذوه حرفة لهم يتكسبون بها. والمغنون المحترفون هم من سواد الناس، ومن الرقيق. لأن من طبع الشريف والحر الابتعاد عنه. وقد احترف هؤلاء الغناء وتعيشوا عليه. فكانوا يدعون إلى إحياء الحفلات في مقابل أجر يدفع لهم. وقد كان من بينهم من يغني بلغته كالرومية والحبشية، ولهذا فلم يكن من المستبعد سماع غناء أجنبي في موضع مثل مكة أو يثرب لوجود رقيق فيه.
وقد تغنى بشعر بعض الشعراء الجاهليين، ومن هؤلاء شعر الشاعر "مرة بن الرواغ". ويذكر أهل الأخبار أن "امرئ القيس بن حجر"، كان يأمر قيانه أن يغنين بشعره. وأن قيان الملوك كن يغنين به أيضًا1، وقد كان النخاسون في الجاهلية يعلمون المغنيات الشعر، للتغني به.
وقد كان أغنياء مكة والقرى الأخرى يملكون القيان، ومنهم من كان يملك عددًا منهن. مثل "عبد الله بن جُدْعان". وكان "لمقيس بن عبد قيس بن قيس بن عدي"، قينتان تغنيان، وكان بيته مألفًا لشباب قريش ينفقون عنده ويشربون ويتهاتكون يبقون على ذلك ليالي وأيامًا2.
ومن القيان: "هريرة" التي شبب بها "الأعشى". وهي أمة سوداء، لحسان بن عمرو بن مرثد. ولها أخت اسمها "خليدة": كانت قينة كذلك. وقد ورد في رواية أخرى، أنهما كانتا قينتين لـ"بشر بن عمرو بن مرثد"، وكانتا تغنّيانه النصب. وقدم بهما اليمامة، لما هرب من "النعمان"3.
وذكر أنه كان لـ"عائشة" جاريتان تغنيان بغناء بعاث، أي تنشدان الأشعار التي قيلت يوم بعاث4.
__________
1 الآمدي، المؤتلف "ص127"، معجم الشعراء "ص382".
2 شرح ديوان حسان "47" "البرقوقي".
3 الأغاني "9/ 113".
4 اللسان "15/ 137".(9/118)
ومن أهل الحداء حاد يقال له: "أنجشة" أشرت إليه قبل قليل، وكان حسن الصوت. وهو من الصحابة. "وفي الحديث: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأنجشة وهو يحدو بالنساء: "رفقًا بالقوارير ... " وكان أنجشه يحدو بهن ركابهن ويرتجز بنسيب الشعر والرجز وراءهن"1. وهو من أصل حبشي، يكنى "أبا مارية"2.
وكان يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال3. وربما كان على النصرانية قبل دخوله في الإسلام.
وكان "البراء بن مالك بن النضر الأنصاري"، حسن الصوت كذلك.
وكان يرجز لرسول الله في بعض أسفاره، كما أشرت إلى ذلك قبل قليل. وذكر أنه كان حادي الرجال. وكان يتغنى بالشعر. وقد شهد المشاهد مع رسول الله إلا بدرًا، وله يوم اليمامة أخبار. واستشهد في أيام عمر4. وكان من الشجعان5.
ومما يلفت النظر أن الأخباريين حين يتحدثون عن مجلس طرب وشرب وغناء، يذكرون أن صاحب المجلس أمر قينتين له بأن تغنيا له أولهم، وذلك في الغالب، ولم يذكروا قينة أو أكثر إلا في الأقل، حتى ليشعر القارئ أن العرف في ذلك الوقت أن تكون للسادة وللأشراف قينتين تغنيان تكونا في البيت بصورة دائمة.
فلما اغتاظ "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر" ما قيل عنه، وأراد الترفيه عن نفسه قبل أن يقتل نفسه "دعا قينيتن له فشرب وغنتاه"6. وكان "عبد الله بن جدعان" إذا أراد سماع الغناء أمر قينتين له تسميان "الجرادتين" بالغناء7.
ولا يستبعد استخدام الجاهليين آلات الطرب والغناء في معابدهم وفي أعيادهم. فقد كان الساميون كالعبرانيين يستعملون أنواع آلات الموسيقى في معابدهم وفي أعيادهم تقربًا إلى آلهتهم8. وقد وصلت إلينا أسماء بعض آلات الطرب التي استعملها الجاهليون ولكن معارفنا لا تزال مع ذلك قليلة ضعيفة. وستزيد ولا شك
__________
1 اللسان "5/ 87 وما بعدها.
2 الإصابة "1/ 80"، "رقم261".
3 الاستيعاب "1/ 121 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
4 الإصابة "1/ 147"، "رقم 620".
5 الاستيعاب "1/ 141 وما بعدها".
6 شرح ديوان لبيد "ص61".
7 الأغاني "8/ 2"، البيان والتبيين "1/ 71" "لجنة".
8 A Relig. Ency., Vol. III, P. 1598(9/119)
متى قام الآثاريون بالتنقيب تنقيبًا علميًّا عميقًا في مواضع الآثار في مختلف الأنحاء.
أما العرب في العراق وفي بلاد الشام، فقد تأثروا بالغناء الأعجمي، واستعملو آلات الطرب المعروفة عند الفرس واليونان، وسمعوا الغناء بالفارسية والرومية واستحسنوه، بل استحسنه أناس من عرب الحجاز أيضًا. سمع حسان بن ثابت غناء "رائقة"، فلما عاد إلى بيته، تذكر ليلة قضاها في الجاهلية مع "جبلة بن الأيهم"، لم ينسها قط، قال: "لقد رأيت عشر قيان: خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط، وخمس يغنين غناء أهل الحيرة وأهداهن إليه إياس بن قبيصة. وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها. وكان إذا جلس للشرب، فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحاف الفضة والذهب، وأتي بالمسك الصحيح في صحاف الفضة، وأوقد له العود المندى إن كان شاتيًا، وإن كان صائفًا بطّن بالثلج، وأتي هو وأصحابه بكساء صيفية ينفصل هو وأصحابه بها في الصيف، وفي الشتاء بفراء الفَنَك وما أشبهه، ولا والله ما جلست معه يومًا قط إلا وخلع عليّ ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه، هذا مع حلم عمن جهل، وضحك وبذل من غير مسألة"1.
وإذا كان الغناء للطرب بوجه عام، فإن هنالك نوعًا آخر من الغناء هو "الترنيم"، وهو تطريب الصوت، ويستخدم في الغالب في التلاوة، أي: تلاوة الأدعية والتراتيل الدينية. فقد كان الجاهليون يرتلون أغانيهم الدينية أمام أصنامهم، كما فعل ذلك اليهود والنصارى ويترنمون بها. وتصحب هذه الترانيم آلات موسيقية لتعزف الألحان المناسبة الموافقة لها.
وذكر علماء العربية أن "الرنم" المغنيات المجيدات، والرنم الصوت. والرنيم والترنيم ترجيع الصوت وتطريبه2. وعرف "الترجيع" بـ"ترديد الصوت في الحلق في قراءة أو غناء أو زمر أو غير ذلك مما يترنم به". وقيل: "الترجيع هو تقارب ضروب الحركات في الصوت"3. وقد كان الجاهليون يرجعون الشعر، بأن يقرأونه على الألحان والتطريب والإيقاع ليؤثر في السامعين.
__________
1 الأغاني "16/ 14".
2 تاج العروس "8/ 320"، "رنم"، إرشاد الساري، القسطلاني "7/ 480 وما بعدها" اللسان "12/ 256".
3 تاج العروس "5/ 351"، "رجع".(9/120)
أما المناسبات المحزنة كالموت والكآبة، فقد كانوا يستعملون فيها نغمات حزينة وهادئة للتخفيف من شدة الحزن والكآبة والألم. وقد كانت لهم في ذلك ألحان وأوزان ونغم.
وأما "الهزج"، فالخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدف والمزمار، فيطرب ويستخف الحليم1.
وذكر أن الهزج من الأغاني ما فيه ترنم، وصوت مطرب، وقيل: هو صوت فيه بحح، وصوت دقيق مع ارتفاع. وكل كلام متدارك متقارب في خفة هزج2. فهو الخفيف المطرب من الغناء.
وكانت المناسبات المفرحة مثل الزواج تقترن بالعزف والغناء. روي أن رسول الله لما كان غلامًا يرعى غنمًا ومعه غلام من قريش يرعى معه كذلك قال له: "لو أنك أبصرت غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر بها كما يسمر الشباب، قال: أفعل. فخرجت أريد ذلك حتى جئت أول دار من ديار مكة، سمعت عزفًا بالدفوف والمزامير. فقلت ما هذا؟ فقالوا: فلان تزوج فلانة بنت فلان.
فجلست أنظر إليهم"3. وذكر أن من عادة أهل مكة أن يفعلوا ذلك عند الزواج.
وفعل أهل يثرب ذلك أيضًا في مثل هذه المناسبات وفي مناسبات الفرح الأخرى4.
__________
1 العمدة "2/ 314"، كتاب اللهو والملاهي، لابن خرداذبه "ص16 وما بعدها"، "المطبعة الكاثوليكية، بيروت".
2 تاج العروس "2/ 116"، "هزج".
3 نهاية الأرب "4/ 145".
4 رغبة الآمل من كتاب الكامل "6/ 908"، "للمرصفي".(9/121)
الرقص:
والرقص وجه آخر من وجوه التسلية والتفريج عن النفس.
يرقصون في المناسبات، مثل الأعراس والأفراح الأخرى. وهو في الغالب ارتفاع وانخفاض، وقد يكون ذلك هو الذي حمل علماء اللغة على تفسير الرقص أنه ارتفاع وانخفاض1. والراقصون هم من الشباب في الغالب، أما الشيوخ، فكانوا لا يرقصون، لعدم ملاءمة الرقص مع جلال السن.
__________
1 اللسان "7/ 42 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 399"، "رقص".(9/121)
وذكر علماء اللغة أن من الرقص نوع يقال له: "الدرقلة". وذكر بعض آخر أن "الدرقلة" الرقص. "قال محمد بن إسحاق: قدم فتية من الحبشة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يدرقلون، أي يرقصون". وقيل: الدرقلة: لعبة للعجم معربة1. وهي من الحبشة على بعض آراء علماء اللغة. ونطقت بـ"الدركلة" كذلك. وذكروا أن الرسول "مرّ على أصحاب الدركلة فقال: "جدّوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة" 2. قيل: إن الدركلة ضرب من الرقص ولعبة للعجم معربة.
وقد عرف الحبش بحبهم للرقص. وكان أهل مكة وغيرهم من أهل الحجاز إذا أرادوا الاحتفال بعرس أو ختان أو أية مناسبة مفرحة أخرى أحضروا الحبش للرقص والغناء على طريقتهم الخاصة. وورد في الحديث أنه قال للحبشة: "دونكم يا بني أرفدة". وقيل: هم جنس من الحبشة يرقصون. وقيل: "أرفدة" لقب لهم، هو اسم أبيهم الأقدم يعرفون به3.
وقد كان الرقص عند الشعوب السامية نوعًا من أنواع التعبير عن الفرح والشكر تجاه آلهتهم4. ويدخل في جملة الشعائر الدينية. ولا يستبعد أن يكون الجاهليون مثل غيرهم قد رقصوا لآلهتهم في المناسبات الدينية، تعبيرًا عن شكرهم للآلهة.
ولكن معارفنا عن ذلك قليلة جدًّا، فلا نجد في الكتابات الجاهلية أية إشارة إليه، أما أخبار أهل الأخبار عن الرقص عند الجاهليين، فهي قليلة. ولا أستبعد أن يكون السعي بين الصفا والمروة كان رقصًا في الأصل فكان الساعون يرقصون ويغنون أغاني دينية، في تمجيد رب البيت والتقرب إليه. كما كانوا يرقصون في المعابد الأخرى.
ويعدّ يوم وصول الملوك والأمراء والسادات إلى مكان ما، يومًا مشهودًا يجلب الفرح والسرور إلى قلوب الناس، ويعطي ذلك اليوم بهجة وسرورًا. وكانوا يستقبلون كبار الوافدين عند قدومهم بأصناف اللهو. ويخرج "المقلسون" بالسيوف والريحان وبالدفوف والغناء. ولذلك قيل: "القلس"، و"التقليس": الضرب
__________
1 اللسان "11/ 244".
2 اللسان "11/ 244".
3 اللسان "3/ 183"، "رفد"، تاج العروس "2/ 356"، "رفد".
4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 489"، "رقص".(9/122)
بالدف والغناء. و"المقلس": الذي يلعب بين يدي الأمير. ولما قدم "عمر" الشام لقيه المقلسون بالسيوف والريحان. والقلس: الرقص في غناء، وقيل: هو الغناء الجيد1.
__________
1 اللسان "6/ 180"، "صادر"، "قلس"، تاج العروس "4/ 221 وما بعدها" "قلس".(9/123)
ألعاب مسلية:
وقطع الجاهليون وقتهم ببعض الألعاب المسلية، مثل "النرد" وقد أشير إليه في الحديث بـ"النردشير" وبـ"النرد". وذكر بعض العلماء أن "النرد" هو "الكوبة"، بلغة أهل اليمن1. وأشير إليه في حديث أهل الأخبار عن "امرئ القيس الكندي" وعن الناعي الذي أوصل الخبر إليه، فقالوا: "فوجده مع نديم له يشرب الخمر، ويلاعبه بالنرد، فقال له: قتل حجر، فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه، فقال له امرؤ القيس: اضرب، فضرب، حتى إذا فرغ، قال: ما كنت لأفسد عليك دستك"2 والدست مصطلح فارسي، أي ما كنت لأفسد عليك لعبك.
وكان في الجاهلية إذا خاب قدح أحدهم ولم ينل مرامه قيل: تم عليه الدست. وقيل: الدست: هو دست القمار، كان في اصطلاح الجاهلية. وفلان حسن الدست: شطرنجي حاذق3.
واللعب اللهو والتسلية، وهو أنواع. كما أن لكل عمر نوع من اللعب يليق به. و"التلعابة" و"التلعاب" الكثير اللعب، والكثير المزح والمداعبة.
و"الشطرنج" لعبة، والنرد لعبة كذلك، وكل ملعوب به فهو لعبة. و"اللعبة" الأحمق الذي يسخر به ويلعب ويطرد عليه4.
ويعبر عن اللهو واللعب بلفظة "الديدان"، و"الددن"، و"الدد"،
__________
1 صحيح مسلم "2/ 199"، الجواليقي "ص331"، تنوير الحوالك، "2/ 237"، اللسان "3/ 421".
2 الأغاني "8/ 65" "طعة ساسي" غرائب اللغة "ص227".
3 تاج العروس "1/ 543"، "دست".
4 تاج العروس "1/ 471"، "لعب".(9/123)
و"الددا"، و"ديد"، و"ديدان"، و"الديدبون". وفي الحديث: "ما أنا من دد ولا الددُ مني". أي: ما أنا في شيء من اللهو واللعب. وورد لعديّ بن زيد العباديّ:
أيها القلب تعلل بددن ... إن همّي في سماع وأذن
وذكر أن الدد: هو الضرب بالأصابع في اللعب، وأن الديدبون: اللهو1.
وللأطفال ألعاب تتناسب مع سنهم، منها: "الجماح"، وهي سهيم يلعب به، يجعلون مكان زجه طينًا2، و"البقيري"3، ولعبة "الغراب"، وقد ذكر أن صبيانًا كانوا يلعبونها ليلًا4. و"الكعاب" و"الفيال"، وهي لعبة كانوا يلعبون بها، يجمعون ترابًا ويخبئون فيها خِبْئًا، ويقولون لصاحبه: في أي الجانبين هو5؟.
ومن ألعاب الصبيان لعبة يقال لها "الدخرجاء" و"الدحيريجاء"، وفيها قال الشاعر:
عليك الدحيريجا فاتبع صحابها ... سيكفيك زين الحرب أروع ماجد6
ومن ألعاب الصبيان، لعبة "عظم وضاح" "عظيم وضاح"، أن يأخذ بالليل عظمًا أبيض، فيرمونه في ظلمة الليل، ثم يتفرقون في طلبه، فمن وجده فله القمر. وذكر أن من وجده يركب الفريق الآخر من الموضع الذي وجدوه فيه إلى الموضع الذي رموا به منه. وورد في الحديث أن النبي لعب وهو صغير بعظم وضاح7.
و"البُقيَّري": أن يجمع يديه على التراب في الأرض إلى أسفله، ثم
__________
1 اللسان "13/ 151 وما بعدها"، "ددن"، تاج العروس "9/ 198"، "الددن".
2 الأغاني "8/ 75" "طبعة ساسي".
3 شمس العلوم الجزء الأول، القسم الأول "ص180".
4 المعارف "ص121".
5 شرح ديوان لبيد "ص80".
6 الاشتقاق "2/ 306".
7 الحيوان "6/ 145"، "هارون".(9/124)
يقول لصاحبه: اشته في نفسك، فيصيب ويخطئ. وذكر أنهم يأتون إلى موضع قد خبئ لهم فيه شيء، فيضربون بأيديهم بلا حفر يطلبونه1.
والخطرة، أن يعملوا مخراقًا، ثم يرمي به واحد منهم من خلفه إلى الفريق الآخر، فإن عجزوا عن أخذه رموا به إليهم، فإن أخذوه ركبوهم2. وأما "الدارة"، ويقال لها: "الخراج"، أن يمسك أحدهم شيئًا بيده ويقول لسائرهم: أخرجوا ما في يدي. و"الشحمة"، أنه يمضي واحد من أحد الفريقين بغلام فيتنحون ناحية ثم يقبلون، ويستقبلهم الآخرون، فإن منعوا الغلام حتى يصيروا إلى الموضع الآخر فقد غلبوهم عليه، ويدفع الغلام إليهم، وإن لم يمنعوه ركبوهم، وهذا كله يكون في ليالي الصيف، عن غب ربيع مخصب3.
وسابق الأطفال والشبان بعضهم بعضًا. سابقوا على الخيل وسابقوا على الأقدام فكان السابق يفخر على المسبوقين، وربما خاطروا في السباق، فيأخذ السابق "الخطر"، وهو ما جعلوه رهنًا للسابق. وصارعوا. واعتبروا المصارعة رياضة وفخرًا. فالقوي يصرع الضعيف. ولهذا كان المصارع الذي لا يصرع يتباهى ويفخر بنفسه على غيره وقد سابق رسول الله بنفسه على الأقدام4. ويقال للمصارعة: "المراوغة"، لما فيها من مرواغة الواحد منهما للآخر، للتغلب عليه5. وقد صارع النبي "ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب"، فصرعه مرتين.
"وكان شديدًا. يحكى أنه كان يقف على جلد بعير لين جديد حين سلخه، فيجذبه من تحته عشرة فيتمزق الجلد ولا يتزحزح هو عن مكانه"6.
ومن ألعاب الصبيان "الطبن"، وهو خط مستدير يلعب به الصبيان7.
و"الشعارير" وهي من لعب الصبيان8. وأما البنات فالتماثيل الصغار التي يلعب
__________
1 الحيوان "6/ 145"، "هارون".
2 الحيوان "6/ 145 وما بعدها"، "هارون".
3 الحيوان "6/ 146"، "هارون".
4 زاد المعاد "1/ 41".
5 تاج العروس "6/ 14"، "روغ".
6 تاج العروس "9/ 219"، "ركن".
7 اللسان "13/ 263"، تاج العروس "9/ 267"، "طبن".
8 اللسان "4/ 416"، تاج العروس "3/ 305"، "شعر".(9/125)
بها. وفي حديث عائشة: كنت ألعب مع الجواري بالبنات1. و"الدحندح" لعبة للصبية يجتمعون لها فيقولونها، فمن أخطأها قام على رجل وحجل سبع مرات2.
ومن ألعاب الغلمان "الحكة"، وهي لعبة لهم يأخذون عظمًا فيحكونه حتى يبيض ثم يرمونه بعيدًا فمن أخذه فهو الغالب3. واللعبة التمثال يلعب به الصبيان.
و"الملعبة" ثوب بلا كم يلعب فيه الصبي4.
وعرفت ألعاب الشدة والقوة عند الجاهليين. ومن هذه لعبة "الربع"، وهي رفع الحجر باليد وشيله امتحانًا للقوة. وفي الحديث: أنه مر بقوم يربعون حجرًا، فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا الأشداء5.
__________
1 تاج العروس "10/ 48"، "بنى".
2 تاج العروس "2/ 135"، "دح".
3 تاج العروس "7/ 122"، "حك".
4 تاج العروس "1/ 471"، "لعب".
5 تاج العروس "5/ 338"، "ربع".(9/126)
القمار:
و"القمار" من الألعاب المتفشية كثيرًا بين الجاهليين، ولم يكن الباعث عليه التسلية واللهو في الغالب، وإنما كان طمعًا في الربح. ويسمى "الميسر" في العربية التي نزل بها القرآن الكريم. وقد أشير إليه في الشعر الجاهلي. وقد حرمه الإسلام، ونزل الأمر بالنهي عنه في القرآن الكريم. ويذكر أهل الأخبار أن أول من حرم القمار في الجاهلية "الأقرع بن حابس التميمي"، ثم جاء الإسلام بتقريره1.
وذكر أن كل شيء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز. وعرف الميسر: أنه القمار بالقداح في كل شيء2. وقامر الرجل راهنه3. وذكر أن الياسرين: الذين يلون قسمة الجزور، والميسر الجزور نفسه، سمي ميسرًا لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضع التجزئة، وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح
__________
1 صبح الأعشى "1/ 435".
2 اللسان "5/ 298".
3 اللسان "5/ 115".(9/126)
والمتقامرين على الجزور: الأيسار1. وذكر أن اشتقاق "الميسر" إما من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، أو من اليسار لأنه سلب يساره2.
وقد ألف بعض العلماء كتبًا في الميسر، منها كتاب ألفه "ابن قتيبة الدينوري" وكتاب ألفه "الزبيدي" دعاه "نشوة الارتياح في بيان حقيقة الميسر والقداح"3.
وآراء العلماء متباينة في الميسر وفي المراد منه، وفي طريقته. ويظهر أن قسمًا ممن كان يلعب الميسر لم يكن يلعبه ابتغاء الكسب، وإنما كان يلعبه للتسلية وللترفيه عن الآخرين، وذلك بإعطائه ما يكسبه للمحتاجين وللفقراء، ولذلك افتخروا بعملهم هذا وعدوه مفخرة من مفاخر العرب، لأنهم كانوا يفعلونه في أيام الشدة وعدم اللبن وأيام الشتاء4. فيعطون اللحم للمحتاج إليه، إذ عيب من كان يأخذه لنفسه، وعدوه عارًا5. وقد افتخروا به في شعرهم6، ومدحوا من يأخذ القداح وعابت من لا ييسر ودعته "البرم"7، وذلك لبخله وظنه بماله من أن يذهب إلى غيره، مع أن الناس في حاجة شديدة إليه.
وإلى لعب الموسرين الأيسار في الشاء لمساعدة ذوي الحاجة، أشار طرفة في شعره إذ قال:
وهم أيسار لقمان إذا ... أغلت الشتوة أبداء الجزور8
وأما القسم الآخر ممن كان ييسر، فكان يبغي الكسب والمال، لذلك كان يقامر بكل ما يملك في سبيل الحصول على المال للمياسرة. روي عن "ابن عباس" أنه "كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله" في سبيل
__________
1 اللسان "5/ 298" وما بعدها.
2 بلوغ الأرب "3/ 53".
3 بلوغ الأرب "3/ 64"، تاج العروس "1/ جي" "الكويت".
4 بلوغ الأرب "3/ 54 وما بعدها".
5 بلوغ الأرب "3/ 60".
6 بلوغ الأرب "3/ 57".
7 بلوغ الأرب "3/ 65".
8 اللسان "5/ 298"، بلوغ الأرب "3/ 60".(9/127)
المياسرة1. وكان يلجأ إلى الغش والخداع والسرقة وإضاعة العيال، ولأضراره هذه حرمه الإسلام2.
وقد ييسرون على الأسرى، فقد وقع "سحيم بن وثيل اليربوعي" في سباء، فضرب عليه بالسهام، فقال في ذلك:
أقول لهم بالشعب إذ ييسروني ... ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم3
وصفة الميسر: أن القوم كانوا يجتمعون فيشترون الجزور بينهم، فيفصلونها على عشرة أجزاء يُؤتى بالحرضَة وهو رجل يتأله عندهم لم يأكل لحمًا عندهم قط بثمن، ويؤتى بالقداح وهو أحد عشر قِدْحًا، سبعة منها لها حظ إن فازت، وعلى أهلها غرم إن خابت، بقدر من الحظ إن فازت، وأربعة ينفل بها القداح، لا حظ لها إن فازت ولا غرم عليها إن خابت.
فأما التي لها الحظ: فأولها الفذ في صدره حز واحد، فإن خرج أخذ نصيبًا، وإن خاب غرم صاحبه ثمن نصيب، ثم التوأم، له نصيبان إن فاز، وعليه ثمن نصيبين إن خاب، ثم الضريب، وله ثلاثة أنصباء، ثم الحلس وله أربعة، ثم النافس وله خمسة، ثم المسبل، وله ستة، ثم المُعَلّى وله سبعة. والمسبل يسمى: المصفح، والضريب يقال له: الرقيب.
وأما الأربعة التي ينفصل بها القداح، فهي: السفيح، والمنيح، والمضعف، والوغد.
وقيل: إن للمنيح موضعين: أحدهما لا حظ له، والثاني له حظ؛ فكأنه الذي يمنح الحظ، واستدلوا على ذلك بقول عمرو بن قبيصة:
بأيديهم مقرومة ومغالق ... يعود بأرزاق العيال منيحها4
فيؤتى بالقداح كلها وقد عرف كل ما اختار من السبعة ولا يكون الأيسار إلا
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 53 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "3/ 65"، اللسان "5/ 300"، اليعقوبي "1/ 300" "طبعة هوتسما".
3 اللسان "5/ 298"، بلوغ الأرب "3/ 54".
4 نهاية الأرب "3/ 117 وما بعدها".(9/128)
سبعة، لا يكونون أكثر من ذلك، فإن نقصوا رجلًا أو رجلين، فأحب الباقون أن يأخذوا ما فضل من القداح، فيأخذ الرجل القدح والقدحين فيأخذ فوزهما إن فازا، ويغرم عنهما إن خابا ويدعى ذلك، التميم. قال النابغة:
إني أتمم أيساري وأمنحهم ... من الأيادي وأكسوا الجفنة الأدما
فيعمدون إلى القداح، فتشدّ مجموعة في قطعة جلد، ثم يعمد إلى الحرضة فيلف على يده اليمنى ثوبًا لئلا يجد مس قدحٍ له في صاحبه هوى، فيحابيه في إخراجه، ثم يؤتى بثوب أبيض يدعى المجول، فيبسط بين يدي الحرضة، ثم يقوم على رأسه رجل يدعى الرقيب، ويدفع ربابة1 القداح إلى الحرضة وهو محول الوجه عنها، فيأخذها ويدخل شماله من تحت الثوب، فينكسر القداح بشماله، فإذا نهد منها قدح تناوله فدفعه إلى الرقيب فإن كان مما لا حظ له ردَّ إلى الربابة، فإن خرج بعده المسبل، أخذ الثلاثة الباقية، وغرم الذين خابوا ثلاثة أنصباء من جزور أخرى، وعلى هذه الحال يفعل بمن فاز ومن خاب، فربما نحروا عدة جُزُر ولا يغرم الذين فازوا من ثمنها شيئا، وإنما الغرم على الذين خابوا ولا يحل للخائبين أن يأكلوا من ذلك اللحم شيئًا، فإن فاز قدح للرجل فأرادوا أن يعيدوا قدحه ثانية على خطار فعلوا ذلك به2.
و"الحرضة"، الذي يضرب للأيسار بالقداح لا يكون إلا ساقطًا، يدعونه بذلك لرذالته، وعرف أنه من المقامرين، ومن شأنه المعروف له أنه الرجل الذي لا يشتري اللحم ولا يأكله بثمن إلا أن يجده عند غيره أو يهدي له الأيسار3.
ويظهر من هذا الوصف ومن أوصاف أهل الأخبار له، ومن قول للطرماح في وصف حمار، فتعرض بهذه المناسبة لذكر الحرضة:
ويظلُ المليء يوفى على القّر ... عذوبًا كالحرضة المستفاض4
__________
1 الربابة: ما يجمع فيها القداح.
2 نهاية الأرب "3/ 118 وما بعدها".
3 اللسان "7/ 136"، بلوغ الأرب "3/ 61"، صبح الأعشى "1/ 400 وما بعدها".
4 اللسان "7/ 135".(9/129)
إن الناس كانوا ينظرون إلى "الحرضة" نظرة استصغار وازدراء ويعرف أيضًا بـ"الضريب".
ويسمى "الرقيب" "رابئ الضرباء" يقعد خلف ضارب قداح الميسر يرتبي لهم فيما يخرج من القداح فيخبرهم به ويعتمدون على قوله فيه، ثم يجلس الأيسار حوله دائرين به. ثم يفيض الضريب بالقداح، فإذا نشز منها قدح استسله الحرضة من غير أن ينظر إليه، ثم ناوله الرقيب فينظر الرقيب لمن هو فيدفعه إلى صاحبه، فيأخذ من أجزاء الجزور على قدر نصيب القدح منها وذلك هو الفوز.
فإن شاء بعد ذلك أمسك، وإن شاء أعاد السهم على "خطار" آخر، وهو السبق يراهن عليه، وهو ما يوضع بين أهل السباق. وإعادة السهم تسمى التثنية1.
وقد وصفت "القداح" بأنها عيدان من نبع، قد نحتت وملست وجعلت سواء في الطول. وهي عشرة من رواية أخرى غير الرواية المتقدمة. هي: الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد. وللأول سهم إن فاز، وفوزه خروجه وعليه عزم سهم إن خاب، وكذلك باقيها على الترتيب فيما له وعليه إلى المعلى، وهو السابع، وله سبعة وعليه سبعة يفرض في كل سهم منها بحسب ماله، وعليه حز وتكثر هذه السهام بثلاثة أخر أغفال ليس فيها حزوز ولا لها علامات ليكون ذلك أنفى للتهمة وأبعد من المحاباة. وهي: المنيح والسفيح والوغد، وتسمى القداح مغالق، لأنها تغلق الرهن إذا ضربوا بها2.
وإذا حضرت القداح وحضر الأيسار أخذ كل منهم من القداح على قدره وطاقته ورياسته، فمنهم من لا يبلغ حاله أكثر من الفذ فأخذه له، فإن خاب غرم سهمًا، وإن فاز أخذ سهمًا، ومنهم من يأخذ المعلى ولا يبالي بالغرم إن خاب وينال النصيب الأوفر إن فاز. ومنهم من يأخذ المعلى وسهمًا إن لم يحضر من يتمم السهام، فيأخذ ما فضل من القداح، ويقول للأيسار قد تممتكم3.
ويقع الغرم -أي: ثمن الجزور- على من لم يخرج سهمه وهم أربعة: أصحاب الرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل. ولجملة هذه القداح ثمانية عشر سهمًا، فيجزأ الثمن على ثمانية عشر جزءًا. ويلزم كل صاحب قدح من هذه القداح مثل ما كان
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 61 وما بعدها".
2 بلوغ الأرب "3/ 58 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "3/ 59".(9/130)
نصيبه من اللحم لو فاز قدحه، فإن لم يخرج الفذ ولا التوأم وخرج الرقيب أخذ صاحبه ثلاثة أجزاء، ثم ضربوا ثانية فخرج المعلى، أخذ صاحبه السبعة الأجزاء الباقية، وهي تتمة الجزور، وكانت الغرامة على من لم يخرج قدحه، وهم أصحاب القداح الخمسة التي خابت. وقد ينحرون جزورًا آخر لأن في القداح التي خابت نصيبًا يزيد على نصيب ما بقي من اللحم. وإن فضل من أجزاء اللحم شيء وقد خرجت القداح كلها كانت تلك الفاضلة لأهل الوبد من العشيرة، وهم أهل الضعف وسوء الحال1.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 62 وما بعدها".(9/131)
الأسفار:
ومن أيام الفرح والسرور عندهم يوم العودة من السفر ومن حقهم أن يفرحوا به. فقد كان السفر شاقًّا خطرًا في تلك الأيام، ولا سيما إذا طال. فقد يتعرض المسافر فيه للهلاك والموت جوعًا أو عطشًا، عدا ما يتعرض له من السلب والنهب.
لذلك كانوا يحاولون جهدهم أن يسافروا جماعة وقوافل يتعاونون ويشد بعضهم أزر بعض. وكانوا إذا عادوا فرح أهلهم بعودتهم سالمين، وتلقوهم بالبشر والتهنئة، وذبحوا الذبائح ووزعوا لحومها بين الأصدقاء والفقراء، وأولموا الولائم للمهنئين والجيران. وكان أول ما يفعله المسافر إلى مكة عند عودته إلى مدينته الذهاب إلى "البيت" للطواف به ولشكر رب البيت على حمايته له وإغداقه نعمته عليه بالعودة سالمًا.
وقد عثر السياح والمنقبون عن الآثار في جزيرة العرب على كتابات جاهلية توسل فيها أصحابها إلى آلهتهم لترعاهم في سفرهم، وتحفظهم من لصوص الطرق ومن كل شر وسوء. وقد تعهدوا فيها بتقديم نذور لمعابدها بعد عودتهم سالمين غانمين.
كما عثر على كتابات فيها حمد وشكر لتلك الآلهة لأنها أجابت دعوة أصحاب الكتابات، فحمتهم ورحمتهم في سفرهم ويسرت لهم العودة سالمين.
وكانوا إذا أرادوا السفر عمدوا إلى فعل الجاهلية في زجر الطير والاستقسام بالأزلام لاختيار الطالع، فإذا خرج سهم "الأمر" فسروه بالأمر بالسفر، وإذا(9/131)
خرج "النهي" "الناهي"، انتهوا عنه1.
وكانوا إذا خرجوا إلى الأسفار أوقدوا نارًا بينهم وبين المنزل الذي يريدونه.
ولم يوقدوا بينهم وبين المنزل الذي خرجوا منه تفاؤلًا بالرجوع إليه2.
وللمهنئين بسلامة العودة، تعابير خاصة يقولونها للمسافرين حين السفر وحين العودة. وفي جملة ما كانوا يقولونه للإياب من السفر: "سفر رجيع". وسفر رجيع: مرجوع فيه مرارًا3.
ومن مناسبات الفرح والسرور، الإبلال من مرض والشفاء منه. فالشفاء من المرض عودة إلى الحياة وولادة من جديد، وعمر يضاف إلى عمر المريض. لذلك كان المرضى يتوسلون إلى آلهتهم أن تمن عليهم بالصحة والشفاء والعافية مما ابتلوا به، ويعدونها بتقديم نذر إن أعادت إليهم صحتهم وعافيتهم. وقد حصل المنقبون على ألواح كثير كتب فيها شكر وحمد وثناء على الآلهة لأنها أجابت دعوة صاحب الكتابة، فعافته من مرضه، ومنت عليه بالصحة والعافية، وأبرأته مما أصيب به من أمراض أو جروح في معارك، فهو يوفي بوعده لها ويقدم لها نذره ويحمدها على نعمها عليه. وقد يولمون وليمة يقولون لها "البلة"، و"البلّة" العافية من المرض4.
ويعود أهل الجاهلية مرضاهم، للإعراب لهم عن تمنياتهم لهم بالشفاء العاجل والإبلال من المرض، كما يعودونهم بعد الشفاء لتهنئتهم على عودة الصحة إليهم، وشفائهم مما ابتلوا به من مرض. ويقع "العود" من الرجال والنساء5. ويقال لمن حسنت حاله بعد الهزال، ولمن شفي من مرض "بل الرجل"، من مرضه و"بل من مرضه"، و"أبل"6.
__________
1 ابن قيم الجوزية، كتاب الهدي النبوي "2/ 31"، "في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار السفر وآدابه".
2 بلوغ الأرب "2/ 324".
3 تاج العروس "5/ 351"، "رجع".
4 تاج العروس "7/ 233"، "بلل".
5 تاج العروس "2/ 436"، "عود".
6 تاج العروس "7/ 233"، "بلل".(9/132)
مواسم الربيع:
وللربيع مكانة خاصة في نفوس العرب، حتى صار في منزلة العيد عندهم.
ففيه يطيب الجو، ويرق الهواء، وتكسى الأرض بأكسية خضراء ويبسط منمقة مزركشة، تسحر مناظرها الألباب، تسير عليها الإبل بفخر وإعجاب، تقضم ما تجده فوقها من طعام. فتشبع وتسمن بعد فقر وجوع وضنك. وفيه يكثر مال العرب، ومال العرب إبلهم، وتكثر مواضي الحضر، من غنم وبقر.
وتكون سنة الربيع للعربي سنة يمن وبركة. وسنة انحباس الغيث وانقطاع المطر، سنة بؤس وشقاء.
ولا يفرح العربي بشيء فرحه بالغيث وبظهور الربيع، أي موسم اخضرار الأرض واكتسائها ببساط سندسي يبهر العين ويؤثر في النفس فيجعلها فرحة مستبشرة، فيخرج السادات إلى المرابع، يتلذذون هناك بمنظر الربيع وبرؤية أموالهم وهي فرحة مستبشرة ترعى فيه، فيزيد بذلك مالهم ويكثر لبن نوقهم وتنشط إبلهم في إنجاب الولد. ويتوجه سادات القبائل إلى المرابع الجيدة، التي يجود فيها الربيع، وليس في بلاد العرب مربع كالدهناء1. ويترك الملوك قصورهم على ما فيها من وسائل الراحة، للذهاب إلى البادية، للاستمتاع بما خلقته الطبيعة هناك، وبما أوجدته من صنعة متقنة وفن عجيب لا يضاهى. يبقون هناك أيامًا وأسابيع، يجددون فيها عهدهم بالبوادي وبما فيها من هواء صحيح سليم، يعطي الجسم نشاطًا، ويبعث فيه "اكسير" الحياة.
__________
1 تاج العروس "9/ 205"، "دهن".(9/133)
البغاء:
البغاء الفجور. و"البغي" الأمة فاجرة كانت أو غير فاجرة، والجمع البغايا. والزنا هو الفجور، وهو عيب كبير عند العرب، فلا تقربه الحرة. أما الرجال، فلا يرونه عيبًا، بل قد يتبجح بعضهم به، لأنه من أمارات الرجولة. وقد كانوا يذهبون إليهن ويتصلون بهن في مقابل أجر، وكن من الإماء.(9/133)
لأن المرء في الحياة لبطنه وفرجه. ومنه المثل: "المرء يسعى لِغاريَهْ" أي يكسب لبطنه وفرجه1.
وعرفت "البغي" بـ"القحبة". قيل لها: قحبة لأنها كانت في الجاهلية تؤذن طلابها بقحابها، وهو سعالها2. فقد كان من عادة "قحبة" الجاهلية أن تسعل أو تتنحنح، تراود بذلك عن نفسها، وتشعر الرجل أنها حاضرة للفجور إن أراد ذلك، فيتفق معها.
و"المسافحة"، المزاناة لأن الماء يصب ضائعًا. و"السفاح" أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح، وفي الحديث: "أوله سفاح وآخره نكاح". وهي المرأة تسافح رجلًا مدة فيكون بينهما اجتماع على فجور، ثم يتزوجها بعد ذلك. وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل المرأة قال: أنكحيني، فإذا أراد الزنا، قال: سافحيني3.
ويقال للزنا: الفاحشة، والفاحشة الزانية وكل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي وكل ما نهي عنه، وكل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال والأفعال4.
فاللفظة عامة تتناول الفحش الذي هو الزنا كما تتناول غيره من الأعمال والخصال القبيحة. ويقال للبغي وللأمة "تزني". ويقال لابنها "ابن تزني" و"ابن درزة"5.
ولما نزلت الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 6، وفرغ رسول الله من بيعة الرجال بمكة واجتمع إليه نساء من قريش فيهن: "هند بنت عتبة" وأخذن يبايعن الرسول، فلما وصل إلى قوله تعالى: {وَلا يَزْنِينَ} ، فقالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة7؟.
__________
1 تاج العروس "10/ 177"، "سعى".
2 تاج العروس "1/ 421"، "قحب".
3 تاج العروس "2/ 164"، "سفح"، تفسير الطبري "5/ 14".
4 تاج العروس "4/ 331"، "فحش".
5 تاج العروس "9/ 153"، "تزن".
6 سورة الممتحنة، الآية 12.
7 تاريخ الطبري "3/ 62"، "فتح مكة"، تفسير الطبري "28/ 50".(9/134)
وفي القرآن الكريم آيات ذكرت الزنا في الجاهلية، من ذلك آية سورة النور: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 1. قال المفسرون: قدم المهاجرون إلى المدينة وفيهم فقراء ليست لهم أموال، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات يكرين أنفسهن، وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المهاجرين، فقالوا: لو إنا تزوجنا منهن فعشنا معهن إلى أن يغنينا الله تعالى عنهن. فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم، في ذلك، فنزلت هذه الآية وحرم فيها نكاح الزانية صيانة للمؤمنين عن ذلك. وقال عكرمة: نزلت الآية في نساء بغايا متعالمات بمكة والمدينة، وكن كثيرات، ومنهن تسع صواحب رايات، لهن رايات كرايات البيطار يعرفونها: أم مهدون "أم مهزول" جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، و"أم غليظ" "أم غليط" جارية صفوان بن أمية، و"حبة القبطية" "حنة القبطية" جارية العاص بن وائل، و"مرية" جارية مالك بن عميلة "عمثلة" بن السباق بن عبد الدار، و"حلالة" "جلالة" جارية سهيل بن عمرو، و"أم سويد" جارية عمرو بن عثمان المخزومي، و"شريفة" "سريفة" جارية زمعة بن الأسود، و"قرينة" "فرسة" جارية هشام بن ربيعة بن حيب بن حذيفة بن جبل بن مالك بن عامر بن لؤي، و"فرنتا" "قريبا" جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر بن غالب بن فهر. وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية "المواخير" لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلا زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن ليتخذوهن مأكلة، فأنزل الله تعالى، هذه الآية، ونهى المؤمنين عن ذلك، وحرمه عليهم"2.
وورد أن امرأة يقال لها: أم مهدون "أم مهزول" كانت تسافح وكانت تشترط للذي يتزوجها أن تكفيه النفقة. وأن رجلًا من المسلمين أراد أن يتزوجها، فذكر ذلك للنبي، صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ} 3. وكان لمرثد صديقة في الجاهلية، يقال لها: عناق، وكان مرثد
__________
1 سورة النور، الآية3.
2 أسباب النزول "236 وما بعدها"، تفسير الطبري "18/ 55 وما بعدها".
3 أسباب النزول "236".(9/135)
رجلًا شديدًا، وكان يقال له: دلدل، وكان يأتي مكة فيحمل ضعفة المسلمين إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلقي صديقته، فدعته إلى نفسها، فقال: إن الله قد حرم الزنا، قالت: إني تبرز. فخشي أن تشيع عليه، فرجع إلى المدينة فأتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كانت لي صديقة في الجاهلية، فهل ترى لي نكاحها؟ قال: فأنزل الله: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ ... } 1. وذكر أنهن كن بغايا متعالمات كنّ في الجاهلية، بغي آل فلان وبغي آل فلان، فأنزل الله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، فحكم الله بذلك من أمر الجاهلية على الإسلام2. وورد: كان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية التي قد علم ذلك منها، يتخذها مأكلة، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة، فنهوا عن ذلك"3.
وفي القرآن الكريم: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4. قال المفسرون: نزلت في معاذة ومسيكة جاريتي عبد الله بن أبي المنافق، كان يكرهها على الزنا لضريبة يأخذها منها. وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم. فلما جاء الإسلام، قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين، فإن يك خيرًا فقد استكثرنا منه، وإن يك شرًّا فقد آن لنا أن ندعه. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في ست جوار لعبد الله بن أُبي كان يكرههن على الزنا ويأخذ أجورهن، وهن: معاذة، ومسيكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقتيلة، فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى بدونه، فقال لهما: إرجعا فازنيا. فقالتا.: والله لا نفعل، قد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا. فأتيا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشكتا إليه. فأنزل الله تعالى هذه الآية"5. وذكر أن رجلًا من قريش
__________
1 تفسير الطبري "18/ 56".
2 تفسير الطبري "18/ 75"، ابن قيم الجوزية، زاد المعاد "4/ 7".
3 تفسير الطبري "18/ 58".
4 سورة النور، الآية 23.
5 أسباب النزول "245 وما بعدها"، "مصر 131هـ"، تفسير الطبري "18/ 103 وما بعدها".(9/136)
أسر يوم بدر، وكان عبد الله بن أُبي أسره، وكان لعبد الله جارية يقال لها: معاذة، فكان القرشي الأسير يراودها عن نفسها، وكانت تمتنع منه لإسلامها.
وكان ابن أُبي يكرهها على ذلك ويضربها، لأجل أن تحمل من القرشي، فيطلب فداء ولده، فقال الله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ....} 1
ويرى بعض علماء اللغة أن "المساعاة" تكون في الحرة وفي الأمة. وذهب بعض آخر إلى أنها تكون في الإماء خاصة بخلاف الزنا والعهر، فإنهما يكونان في الحرة وفي الأمة. "وفي الحديث إماء ساعَيْن في الجاهلية. وأتي عمر برجل ساعي أمة. وقيل: مساعاة المرأة أن يضرب عليها مالكها ضريبة تؤديها بالزنا. وفي الحديث: لا مساعاة في الإسلام، ومن ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته"2 والمساعاة الزنا3. وذكر ابن فارس أن المساعاة الزنا بالإماء خاصة4.
ولم تكن للمسافحة أجور ثابتة، بل كانت تتوقف على المعاملة والتراضي، وقد تكون نقدًا، دنانير أو دراهم، وقد تكون عينًا مثل برد أو أنسجة أو طعامًا أو ما شاكل ذلك، لقلة العملة في ذلك العهد.
ويلحق أهل الجاهلية نسب ولد المساعية بها إذا ولدت، ويكون الولد رقيقًا لمن يملك رقبة الأم إن شاء جعلهم في ملكه وإن شاء باعهم لأن الأمة وما تملك ملك للمالك. وقد تاجر ملاك الرقيق بأولاد الإماء، وربحوا من هذه التجارة ربحًا حسنًا. فلما جاء الإسلام أبطل المساعاة، ولم يلحق النسب بالأمة، وعفا عما كان منها في الجاهلية ممن ألحق بها. وفي حديث عمر: أنه أتي في نساء أو إماء ساعين في الجاهلية، أمر بأولادهن أن يقوموا على آبائهم ولا يسترقوا. فصاروا أحرارًا لاحقي الأنساب بآبائهم الزناة5. وقد ورد في الحديث: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " 6 وبموجبه حكم الشرع على من ولد من الزنا في الجاهلية وأدرك الإسلام.
ولم يرد في نصوص المسند ذكر للزنا وعقوبة الزاني والزانية عند الجاهليين.
وأقصد بالزنا هنا الزنا الذي يكون بين المحصن والمحصنة أو بين المحصن والبكر،
__________
1 تفسير الطبري "18/ 103"، أسباب النزول "247".
2 تاج العروس "10/ 177"، "سعي".
3 اللسان "14/ 387"، "سعا".
4 الصاحبي "ص265".
5 اللسان "14/ 387"، "سعا".
6 إرشاد الساري "10/ 11 وما بعدها".(9/137)
أو بين البنت الحرة والرجل العزب أو الذي لم يتزوج، أي الزنا مع غير الإماء. أما الزنا مع الإماء، فلم يكن الجاهليون يعيبون الإنسان عليه كما بينت ذلك.
ويظهر من بعض الأخبار الواردة عن الزنا أن من الجاهليين من كان يأخذ الفدية عنه. فقد روي أن رجلًا من الأعراب قام فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلا ما قضي بيننا بكتاب الله وائذن لي. فقال رسول الله: "قل" قال: "إن ابني كان عسيفًا على هذا -وأشار إلى أعرابي كان جالسًا إلى جانبه- فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم ثم سألت رجالًا من أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم لإحصانها". فقال النبي: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذكره: المائة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها ". "فغدا عليها فاعترفت فرجمها"1. وقد كان هذا الحادث بعد نزول الأمر بالرجم. فيظهر منه أن من جملة عقوبات الزنا عند الجاهليين كان أخذ فدية، أو أخذ فدية وتغريب.
واختلاف وجهة نظر الجاهليين إلى الزنا، هو بسبب اختلاف عاداتهم وعرفهم وتعدد قبائلهم، وعدم وجود دين واحد لهم يخضعون جميعًا لحكمه. فلما جاء الإسلام وجعل الزنا من المحرمات، تغير حكمهم عليه، وصار شرعهم في ذلك هو شرع الإسلام.
و"المواخير"، بيوت أهل الفسق ومجالس الخمارين، ومواضع الريبة.
والماخور: بيت الريبة ومن يلي ذلك البيت ويقود إليه2. واللفظة من الألفاظ المعربة. يرى بعض علماء اللغة أنها معربة عن أصل فارسي "ميخور" "مي خور"، أي شارب الخمر، وذهب بعض آخر إلى أنها من أصل عربي3. ولكن الصحيح أنها فارسية معربة. وقد كانت المواخير في الجاهلية موجودة في القرى والمدن وعلى طرق التجارة. حيث يأوي التجار وأصحاب الأسفار للراحة، فيجدون أمامهم تلك المواخير. ذكر عن "ابن عباس" في تفسير قوله تعالى:
__________
1 إرشاد الساري "10/ 17".
2 اللسان "5/ 161"، تاج العروس "3/ 534"، "مخر".
3 اللسان "5/ 161"، تاج العروس "3/ 534"، غرائب اللغة "245".(9/138)
{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 1 أنه قال: "كانت بيوت تسمى المواخير في الجاهلية، وكانوا يؤاجرون فيها فتياتهن، وكانت بيوتًا معلومة للزنا لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلى زان"2.
وكان من الرجال من يتهم أزواجه بالزنا ويرميهن بالفاحشة، لأسباب عديدة، منها الرغبة في التخلص منهن أو انتقامًا من أهلهن أو عضلًا لهن، فلا يتزوجن ويحبسن في البيوت حتى يتوفاهن الموت، وقد حدثت مثل هذه الحوادث في الإسلام، فنزل الحكم فيها في القرآن الكريم3.
__________
1 النور، الآية 4.
2 تفسير الطبري "18/ 57".
3 النساء، الآية 15، تفسير الطبري "4/ 197".(9/139)
صواحب الرايات:
وهن البغايا كنّ ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، وتفاوض معهن على أجورهن في مقابل دخوله بهن1. وذكر أن تلك الرايات كانت رايات حمرًا2. وروي أنه "كان لبعضهن راية منصوبة في أسواق العرب فيأتيها الناس فيفجرون بها. فأذهب الإسلام ذلك، وأسقطه فيما أسقط"3.
وقد وجد بعض الناس صعوبة في تقبل حكم الإسلام في تحريم الزنا والخمر.
"وفي حديث عليّ كرم الله وجهه، لما طلب إليه أهل الطائف أن يكتب لهم الأمان على تحليل الزنا والخمر، فامتنع، قاموا ولهم تَغَذْمُرٌ وبَرْبَرة"4، من شدة غضبهم ونفورهم من هذا التحريم.
وأما اليهود، فقد ساروا على وفق ما جاء في التوراة في أمر الزنا. وهو من الخطايا المنهي عنها في الوصية السابعة من الوصايا العشر. ويقاص الرجل الذي يضاجع امرأة غيره بالموت، وتعاقب المرأة بالعقوبة نفسها5. وإذا ضاجع رجل
__________
1 تفسير الطبري "18، 57 وما بعدها، 103 وما بعدها".
2 تفسير المنار "5/ 22".
3 المحبر "340".
4 تاج العروس "3/ 38"، "بر"، اللسان "4/ 56"، "برر".
5 اللاويون، الإصحاح 20 الآية 10، تثنية، الإصحاح 11، الآية 22.(9/139)
ابنة مخطوبة ولم تصرخ الابنة رجم الاثنان، وإذا صرخت رجم هو فقط1. وإذا ضاجع رجل ابنة حرة غير مخطوبة، فوجدا، لزم عليه إعطاء والدها خمسين شاقلا من الفضة، ويلتزم أن يأخذها له امرأة2. وإذا كانت الابنة غير حرة، كأن يقدم الرجل تقدمة حظيته3. وقد نص في سفر "العدد" على طريقة إظهار زنا المرأة المتهمة ومعاقبتها4.
ويظهر من كتب السير والحديث أن يهود المدينة في أيام الرسول، كانوا قد تساهلوا في تطبيق أحكام التوراة بشأن الزنا، وابتدعوا طرقًا أخرى غير طرق العرف والعادة. فقد روي أنه أتي رسول الله بيهودي ويهودية، وقد أحدثا جميعًا، أي زنيا. فقال رسول الله لليهود: "ما تجدون في كتابكم؟ " قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبية. أي الإركاب معكوسًا، وقيل: إن يحمل الزانيان على حمار مخالفًا بين وجهيهما. قال عبد الله بن سلام: ادعهم يا رسول الله بالتوراة، فأتي بها، وقرأ موضع الرجم، فرجما5.
وعرفت "القيادة" عند الجاهليين. قالت "عائشة رضي الله عنها: ليست الواصلة بالتي تعنون، وما بأس إذا كانت المرأة زعراء أن تصل شعرها، ولكن الواصلة أن تكون بغيًّا في شبيبتها، فإذا أسنت وصلته بالقيادة"6. والقوادة هي التي تجلب البغايا للرجال، وأما القواد، فالذي يقوم بالقيادة. و"التدييث" القيادة. و"الديوث" القوّاد على أهله والذي لا يغار على أهله. وقيل: الديوث والديبوب الذي يدخل الرجال على حرمته بحيث يراهم، كأنه لين نفسه على ذلك.
وقيل: هو الذي تؤتى أهله وهو يعلم7.
__________
1 التثنية، 22 الآية 23 وما بعدها.
2 التثنية، 22 الآية 28 وما بعدها.
3 اللاويون، 19، الآية 20 وما بعدها.
4 العدد، الإصحاح5، الآية 11 وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "1/ 520".
5 إرشاد الساري "10/ 11 وما بعدها، 30" زاد المعادن لابن قيم الجوزية "3/ 207 وما بعدها".
6 عيون الأخبار، للدينوري "4/ 102"، "باب القيادة"، اللسان "11/ 727"، "وصل".
7 اللسان "2/ 150"، "ديث" تاج العروس "1/ 622"، "ديث"، "2/ 478" "قود".(9/140)
وضرب المثل بـ"ظلمة" في القيادة. وكانت "صبيّة في الكتاب، فكانت تضرب دويّ الصبيان وأقلامهم، فلما شبت زنت، فلما أسنَّت قادت، فلما قعدت اشترت تيسًا تنزيه على العنز"1. وذكر أنها كانت فاجرة هذلية. فضرب بها المثل فقيل: "أقود من ظلمة" و"أفجر من ظلمة"2.
__________
1 عيون الأخبار، للدينوري "4/ 103".
2 الميداني، الأمثال "2/ 60"، "بولاق"، تاج العروس "8/ 386"، "ظلم".(9/141)
المخادنة:
وهناك نوع آخر من العلاقات يكون بين الرجل والمرأة بغير عقد ولا نكاح يكون الرجل خدنًا للمرأة أي: صديقًا لها، تكون هي خدنة له، أي: صديقة له1، ولذلك عبر عن هؤلاء النسوة المتخادنات بـ"ذوات الأخدان" و"متخذات أخدان". جاء ذكر هذه المخادنة في الآية الكريمة: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} 2. أي أصدقاء على السفاح. وقد ذكر أن ذلك قيل كذلك، لأن الزواني كُنّ في الجاهلية المعلنات بالزنا والمتخذات الأخدان اللواتي قد حبسن أنفسهن على الخليل والصديق للفجور بها سرًّا دون إعلان بذلك. وقد ذكر أن متخذات الأخدان ذوات الخليل الواحد. قالوا: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي، يقولون: أما ما ظهر منه فهو لؤم، وأما ما خفي فلا بأس بذلك.
فأنزل الله تباك وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 3.
فذات الخدن، المرأة ذات الخليل الواحد المستسرة به. وقد يقيم معها وتقيم معه4 وقد عد صداقة ومودة، لذلك اختلفت وجهة نظر أهل الجاهلية إليه عن وجهة نظرهم إلى الزنا، فلم يعدوه من الزنا الشائن.
__________
1 تاج العروس "9/ 190" "خدن".
2 النساء، الآية 25.
3 تفسير الطبري "5/ 13 وما بعدها".
4 المصدر نفسه.(9/141)
المضامدة:
والمضامدة قريبة من المخادنة. والضمد أن تخالَّ المرأة ذات الزوج رجلًا غير زوجها أو رجلين. والضاد أن تصادق المرأة اثنين أو ثلاثة في القحط لتأكل عند هذا وهذا لتشبع. و"الضمد" الخل1.
__________
1 اللسان "2/ 266"، "ضمد"، تاج العروس "2/ 406"، "ضمد".(9/141)
الشذوذ الجنسي:
والشذوذ الجنسي معروف عند الجاهليين أيضًا كما هو عند جميع الأمم منذ القدم، وليس من المعقول استثناء الجاهليين من ذلك، بدليل ورود النهي عنه والتحذير منه في القرآن الكريم وفي الحديث. ومن الشذوذ الجنسي، الشذوذ المعروف، وهو ذهاب الرجل مع الرجل ومزاولته عمل الجنس معه، أو اتصال المرأة بالمرأة اتصالًا جنسيًّا، أوإتيان الرجل المرأة من دبر، كما كان الحال عند أهل مكة فقد ذكر أن منهم من كان يأتي النساء من أدبارهن، وقد منع ذلك في الإسلام1. وقد عرف إتيان المرأة في دبرها بـ"التحميض" ويقال للتفخيذ في الجماع "التحميض" أيضًا2. وذكروا في تفسير الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} 3: "إنما كان هذا الحي من الأنصار، وهم أهل وثن، مع هذا الحي من يهود، وهم أهل كتاب، وكانوا يرون لهم فضلًا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحًا منكرًا، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات. فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك، فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف! فاصنع ذلك، وإلا فاجتنبني، حتى شرى أمرهما فبلغ ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد4. وذكر أن
__________
1 تفسير الطبري "2/ 230 وما بعدها"، القرطبي الجامع لأحكام القرآن "3/ 91"، في تفسير الآية، {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، الآية 223 من سورة البقرة.
2 تاج العروس "5/ 23"، "حمض".
3 سورة البقرة، الآية 223.
4 تفسير تفسر الطبري "2/ 234"، القرطبي، الجامع "3/ 92 وما بعدها"، تاج العروس "10/ 66".(9/142)
أهل مكة كانوا يجبون النساء، وكانت الأنصار لا تجبي وتنكر فعل ذلك، وإنما يؤتين على جنوبهن. فوقع خلاف بين أهل مكة ممن تزوج من أهل المدينة وبين من تزوجوا في كيفية إتيانهن، فنزلت الآية في شرح ذلك، وأنه يكون على أي شكل كان، ما دام في وضع الحرث. والإجباء: أن تكون المرأة منكبة على وجهها كهيئة السجود، فيأتيها الرجل على هذه الهيئة. وذكر أن يهود يثرب، كانت تقول: إذا نكح الرجل امرأته مجببة جاء الولد أحول1.
وتستعمل لفظة "اللواطة" للتعبير عن إتيان الذكران في أدبارهم2 وأرى أن هذا المعنى إنما وقع في الإسلام. أخذ مما جاء في القرآن الكريم عن عمل قوم لوط: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} 3، {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ، أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 4. {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 5، فنسب فعل إتيان الرجال بعضهم بعضًا إلى قوم "لوط"، واشتق الفعل من اسمه. ونرى أن الآيات قد استعملت: "لتأتون الرجال"، للتعبير عن هذا الفعل. واستعمل المفسرون هذا التعبير وتعبير "المجامعة" للتعبير عنه. وقد استعمل الجاهليون "لاط" في معانٍ أخرى لا صلة لها بالمعنى المذكور. وفي ذلك دلالة واضحة على أن استعمال "اللِّواط" إنما وقع في الإسلام. والمأبون الذي تفعل به الفاحشة، وهي الأبنة6. ومن المجاز برقع لحيته، أي صار مأبونًا، تزيا بزي من لبس البرقع، ومنه قول الشاعر:
ألم تر قيسًا قيس عيلان برقعت ... لحاها وباعت نبلها بالمغازل7
__________
1 تاج العروس "10/ 66"، "جبى".
2 تفسير الطبري "20/ 1".
3 العنكبوت، الآية 28 وما بعدها.
4 النمل، الآية 54.
5 الأعراف الآية80 وما بعدها، تفسير الطبري "8/ 164 وما بعدها".
6 تاج العروس "9/ 116"، "ابن".
7 تاج العروس "5/ 274"، "برقع".(9/143)
وذكر "ابن قيم الجوزية" أن هذا الفعل لم يكن معروفًا بين العرب ولم يرفع إلى الرسول في أيامه حادث به1.
وتعبير "السحاق" و"المساحقة" و"امرأة سحاقة" من التعابير التي انتشرت في الإسلام وقال الأزهري: ومساحقة النساء لفظة مولدة2. ومن علماء اللغة من يرجع عهدها إلى الجاهلية، ويجعلها من الألفاظ العربية الأصيلة. واللفظة عربية ولا شك، ولكن استعمالها في المعنى المذكور مجازي، وقول الأزهري إنها مولدة غير صحيح.
وكان منهم من يضرب جاريته على ظهرها ثم يجامعها3. كأنهم كانوا لا يشعرون بشهوة الجنس على ما يظهر إلا بعد ضرب الجارية، ويعبرون عن ذلك بقولهم: "صلق جاريته"، ويعرف هذا بين الغربيين في العصر الحاضر بالسادية Sadism نسبة إلى "الكونت دي ساد". كناية عن الابتهاج بالقسوة. وعن انحراف جنسي يتلذذ فيه المرء بإنزال أصناف العذاب بمحبوبه.
ومن الشذوذ أيضًا إتيان الحيوان. فقد ذكر أن "بني كليب" كانوا يرمون بإتيان الضأن، وكذلك بنو الأعرج وسُلَيم وأشجع تُرمى بإتيان المعز. ونجد ذلك واضحًا مذكورًا في شعر الشعراء كالنجاشي والفرزدق4. ورميت "بنو دارم" بإتيان الأتن5. وتعرض "الجاحظ" في أثناء حديثه عن زواج الإنس بالجن لهذا الموضوع فقال: ونحن نجد الأعرابي والشاب الشبق، ينيكان الناقة والبقرة والعنز والنعجة، وأجناسًا كثيرة، فيفرغون نطفهم في أفواه أرحامها، ولم نرَ ولا سمعنا على طول الدهر، وكثرة هذا العمل الذي يكون من السفهاء، القح منها
__________
1 زاد المعاد "3/ 209".
2 تاج العروس "6/ 378"، "سحق".
3 تاج العروس "6/ 411"، "صلق".
4
ألست كليبًا وأمك نعجة ... لكم في سمان الضأن عار ومفخر
وقال النجاشي:
ولو شتمتني من قريش قبيلة ... سوى ناكة المعزي سليم وأشجع
فخر السودان على البيضان، من رسائل الجاحظ "1/ 189".
5
إذا أحببت أن تغلي أتانا ... فدل الدارمي على شراها
يقبل ظهرها ويكاد لولا ... قحول الظهر يدنو من قفاها
وود الدارمي لو أن فاه ... إذا نال الحمارة نال فاها
فخر السودان، من رسائل الجاحظ "1/ 189".(9/144)
شيء من هذه الأجناس، والأجناس على حالهم من لحم ودم، ومن النطف خلقوا1.
ورميت "بنو فزارة" بإتيان الإبل. رماها بذلك "بنو هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن" في ملاحاة كانت بين الحيين. والعادة أن القبائل إذا تخاصمت رمت بعضها بعضًا بالتهم، وذلك في الجاهلية وفي الإسلام.
فلما رمى "بنو هلال" "بني فزارة" بأكل أير الحمار، وبإتيان الإبل، قالت بنو فزارة: أليس منكم يا بني هلال من قرا في حوضه فسقى إبله، فلما رويت سلح فيه ومدره بخلًا أن يشرب من فضله2.
__________
1 كتاب البغال، من رسائل الجاحظ "2/ 371".
2 قال الكميت بن ثعلبة:
نشدتك يا فزار وأنت شيخ ... إذا خيرت تخطئ في الخيار
أصيحانية أدمت بسمن ... أحب إليك أم أبر الحمار؟
بلى أير الحمار وخصيتاه ... أحب إلى فزارة من فزار
وقال سالم بن دارة:
لا تأمن فزاريًا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
لا تأمننه ولا تأمن بواثقه ... بعد الذي أمتك أير العير في النار
فقال الشاعر:
لقد جللت خزيًا هلال بن عامر ... بني عامر طرًّا بسلحة مادر
فأف لكم لا تذكروا الفخر بعدها ... بني عامر أنتم شرار المعاشر
تاج العروس "3/ 536"، "مدر".(9/145)
الأتراح والأحزان:
وإذ كنت قد تحدثت عن الأفراح في حياة الإنسان، وما كان يفعله أهل الجاهلية فيها، فلا بد لي من التحدث هنا عن الأتراح والأحزان عندهم، وما كانوا يفعلونه عند نزول مصيبة بهم أو وقوع حادث محزن مفجع لهم، فأقول:
يلعب الحزن دورًا كبيرًا في حياة الشرقيين، بل نستطيع أن نقول إن الحزن أظهر في حياتهم من الفرح، وأن المبالغة في إظهاره عندهم هي من المظاهر البارزة في مجتمعاتهم. وطالما يلجأ الحزين إلى المبالغة في حزنه، ليظهر نفسه وكأنه كان أكثر الناس تحملًا للمصائب والأهوال والنكبات، وما قصة "أيوب" الواردة في التوراة إلا نوعًا من هذا القصص: قصص الحزن وتحمل الصبر من شدة البلاء.(9/145)
وفقدان المال بعد ثراء وغنى وجاه والعلل والأسقام التي تنزل بالإنسان، والكوارث والموت وأمثال ذلك، هي مما يثير الحزن والأشجان في النفس، فتجعل الإنسان يحزن على ما أصابه ويظهر جزعه أو تحمله للآلام أمام الناس، وذلك بمختلف أساليب التعبير عن الحزن الذي نزل بالحزين.
والحزن: الهمّ. وقيل: خلاف السرور. وقد فرّق بعضهم بين الهمّ والحزن. وقال بعض علماء اللغة: الحزن: الغمّ الحاصل لوقوع مكروه أو فوات محبوب في الماضي ويضاده الفرح. وقد سمى رسول الله العام الذي ماتت فيه "خديجة" وعمه "أبو طالب" "عام الحزن"، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، لما أصابه فيه من همّ وغمّ1.
وللعرب كما لغيرهم من الشعوب مصطلحات وتعابير خاصة، يعبرون بها عن آلامهم وأحزانهم وما يجيش في صدورهم من أحزان. منها تعابير يستخدمها المحزون نفسه تعبيرًا عن حزنه وآلامه الشديدة، ومنها تعابير يستعملها المحزون في الرد على من يتفضل عليه بمواساته للتخفيف عن آلامه، بأن يدعو لهم ويشكرهم على تكليف أنفسهم مشقة المجيء إليه لمؤاساته أو مشاركتهم له في حزنه. ومنها تعابير يقولها المؤاسون للشخص المحزون للتخفيف عن مصابه وللترويح عنه ولإظهار حزنهم له ومشاركتهم له في أحزانه.
كما أن لهم كما لغيرهم علامات وشعارات يظهرونها للناس لإشعارهم بأنهم مصابون بآلام وأحزان، وبحلول نكبات وكوارث بهم. وذلك مثل لبس ألبسة خاصة تكون شعارًا خاصًّا بالحزن، وذرّ الرماد أو التراب على الرأس أو تلطيخ الرأس والوجه بالطين، وترك الشعر ينمو دون حلق ولا إجراء تعديل فيه أو ترك دهنه مدة معينة إظهارًا للحزن على ميت، وما إلى ذلك من علامات، هي ضرورية ولازمة جدًّا، بالنسبة للمحزون أو للمحزونين والمفجوعين ولأصدقائهم، إذ أن إهمالها وتركها هو في نظرهم عيب ومنقصة على المفجوع وعلى أصدقائه وعلى آله على حدّ سواء. ثم هي تقاليد لا بد من مراعاتها والمحافظة عليها.
ومن ذلك أيضًا: النداء وذلك بإعلان شخص عن المصيبة بصوت عال يسمع حتى يشاركه الناس مصيبته أو ليحصل منهم على ما يرجوه من مساعدة.
__________
1 تاج العروس "9/ 74"، "حزن".(9/146)
مثل وأسوء صباحاه: في المصيبة التي تقع في آخر الليل وأول النهار. أو أن يعلن عن وفاة كبير وذلك بأن ينادي بصوت عال في الأحياء وفي الأماكن العامة عن موت ذلك الكبير بعبارات مؤثرة وبصوت رخيم. ليكون ذلك معلومًا لأهل المكان، فيتجمعون حول المفجوع ويشاطرونه حزنه ويشتركون في تشييع الجنازة.
ويعبر عن الكوارث والآفات والمصائب بلفظة "لمت"، في بعض اللهجات العربية الجنوبية، كما في هذه الجملة: "كل لمت لمت"، ومعناها من كل ملمة ألمت، أو من كل نازلة نزلت1. وفي هذا المعنى أيضًا جملة: "بعد حدثت حدثت"2 أي: بعد حادثة حدثت، أو بعد الحادثة التي حدثت، أو بعد الفاجعة التي حدثت.
ويقال: لا يصيب الناس من عظيم نوب الدهر: "دواهي الدهر". وإذا نزلت بشخص مصيبة قالوا: "دهنة داهية"، وقد يقولون: "داهية دهياء" على سبيل التوكيد والمبالغة. ويقول الشخص: دهيت. وتقول ما دهاك؟ أي: ما أصابك؟ وكل ما أصابك من منكر من وجه المأمن فقد دهاك دهيًا. والدهياء: الداهية من شدائد الأمر.
أَخُو مُحافَظَةٍ إِذا نزَلَتْ به ... دَهْياءُ داهِيَةٌ من الأَزْمِ3
والاصطلاح الشائع عن هلاك الإنسان وفقده الحياة هو "الموت"4. وقد وردت هذه اللفظة في لهجات عربية أخرى، مثل اللهجة الصفوية واللحيانية5 وهناك ألفاظ أخرى تؤدي معنى الموت والهلاك. مثل الهلاك والمنايا والأحداث والحِمام والأجل والحتف والقدر والمنون والزمان والسأم والنحب وغير ذلك6. وهي مصطلحات جاهلية، بعضها من المصطلحات القديمة، لها معان أوسع من مصطلحات الموت.
ولكن ربط بينها وبين هذا المصطلح لما لها من صلة بهلاك الإنسان وبمصيره، فجعلت تؤدي معنى الموت.
__________
1 راجع السطر السادس من النص: Glaser 131, CIH 99
2 Rhodokanakis, Stud., II, S. 160
3 اللسان "14/ 275"، "دها".
4 المخصص "6/ 119" "أسماء الموت".
5 W. Caskel, Lihyan Und Lihyanisch
6 اللسان "20/ 161"، تاج العروس "10/ 347".(9/147)
وهلك بمعنى مات، معروف عند أهل اللغة1. وقد وردت اللفظة بهذا المعنى في نص النمارة الذي يعود تأريخه إلى سنة 328م. وأما المنية، فالموت كذلك في نظر علماء اللغة، لأن المنى القدر والموت قدر علينا2. وأما الحتف، فهو الموت أيضًا، وجمعه حتوف. وهو معنى مجازي جاهلي متأخر، ورد في المثل: "مات حتف أنفه". أي على فراشه من غير ضرب ولا قتل ولا غرق ولا حرق، وخص الأنف لأنهم كانوا يتخيلون أن روح الرجل تخرج من أنفه، فإن جرح خرجت من جراحته. وهناك مثل آخر يشبهه وهو "مات حتم فيه" لأن الفم مجرى النفس كذلك3.
وترادف لفظة "الميت" و"ميت" لفظة "جنز" في العربيات الجنوبية4.
وذكر علماء العربية أن الجنازة الميت5، فهي في معنى لفظة "جنز" الواردة في المسند.
وقريب من معنى "مات حتف نفسه"، ما ورد في بعض النصوص الصفوية من تعبير "رغم مني"6، فإنه يريد أن الشخص لم يمت قتلًا، وإنما مات رغمًا منه، مات بمنيته وبأجله.
ويعبّر مصطلح "مات بحد السيف" أو "مات صبرًا"، عن معنى أن الوفاة لم تكن طبيعية، وإنما كانت قتلًا، إما بضرب عنقه، وإما بوسائل أخرى من وسائل التعذيب، صبر عليها ذلك الشخص، حتى مات.
وورد: "الموت الأبيض" و"الموت الأحمر". الأبيض الفجأة، أي ما يأتي فجأة، ولم يكن قبله مرض يغير لونه. والأحمر الموت بالقتل لأجل الدم7.
والانتحار، أي: قتل الإنسان نفسه، معروف عند الشعوب القديمة، ويكون إما بإزهاق الإنسان روحه باستعمال آلة حادة، مثل سكين أو خنجر وما شابه ذلك، وإما برمي الشخص نفسه من محل مرتفع، أو بإغراق نفسه، أو بإحراق
__________
1 اللسان "12/ 394"، تاج العروس "7/ 194".
2 اللسان "20/ 161"، تاج العروس "10/ 347".
3 اللسان "10/ 382"، تاج العروس "6/ 64"، القاموس "حتف".
4 South Arabian Inscriptions, P. 430
5 تاج العروس "4/ 18"، "جنز".
6 Annual Of the Department Of Antiquities Of Jordan, II. 1953, P. 20
7 تاج العروس "5/ 10"، "بيض".(9/148)
نفسه بنار، وما إلى ذلك. ويعد من الأعمال الشريرة في الأديان. ويعبّر في العربية بـ"قتل نفسه" عن "الانتحار".
ومن الألفاظ التي تعني الموت: القشم. يقال: قشم الرجل قشمًا، أي مات1. وأم قشعم، فإنها تعني المنية، كما تعني الحرب والداهية2. والحِمام، لأنه قضاء الموت وقدره3. و"أم اللهيم": ويراد بها "الحمى"، ويكنى بها عن الموت، لأنها تلتهم كل أحد. وقيل: هي "المنية"، وكنية الموت، لأنها تلتهم كل أحد4.
ويعبّر عن الحالات التي يكون فيها المرض قد اشتد بالمريض حتى صار يشرف على الموت بتعابير خاصة مثل: "سكرات الموت" و"الحشرجة"، ويراد بها تردد النفس5.
ويعبّر عن القتل المعجل بالقصص، فيقال: مات فلان قصصًا، إذ أصابته ضربة أو رمية فمات مكانه. ويقال: ضربه فأقصصه، أي قتله في مكانه6.
وللدهر والحدثان والزمان والقدر، صلات قوية بالموت، إذ تنسب إليها إماتة الإنسان. والدهر على الأخص مسئول في نظر أهل الجاهلية عن قوارع الزمان وحوادثه التي تنزل بالإنسان. إنه هو المبيد، وهو المهلك، وهو المفقر، فهو إذن بالنسبة إلى الجاهليين رأس كل بلاء. ولكنهم بدلًا من التقرب إليه والتودد له ليبتعد عنهم، وليرأف بحالهم كانوا لا يستطيعون ضبط أعصابهم عند نزول الشدائد بهم، فيسبّونه، لذلك ورد أن الرسول نهى عن سب الدهر فقال: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر". وجعل الدهر في الإسلام من أسماء الله الحسنى، وذكر أنه ورد في الحديث القدسي: "يؤذيني ابن آدم، يسبّ الدهر، وإنما أنا الدهر" 7.
والموت في نظر الجاهليين مفارقة الروح للجسد لسبب من الأسباب التي تؤول
__________
1 اللسان "12/ 484"، "صادر".
2 اللسان "12/ 485"، "صادر"، قاموس المحيط "4/ 165"، "1935م".
3 تاج العروس "8/ 258".
4 اللسان "12/ 554".
5 تاج العروس "2/ 22".
6 اللسان "7/ 78"، "صادر"، تاج العروس "4/ 424".
7 تاج العروس "3/ 218"، اللسان "2/ 437"، "6/ 382".(9/149)
إلى هلاكه. تخرج الروح من الأنف أو من الفم وذلك في الموت الطبيعي وفي موت الفجأة. أما إذا كان الموت بسبب جرح، فإن الروح تخرج على ما ذكره الأخباريون من الجرح1. والروح قد تتحول وتصير طائرًا يرفرف فوق قبر الميت يسمى "الهامة" في حالة كون الميت قتيلًا.
واعتقد بعض الجاهليين أن الموت أجل مثبت وأمر معين محتم، وهو لا يأتي إلا في حينه. فإذا جاء الأجل كان حذر الإنسان وجبنه غير دافع عنه المنية إذا حلت به. وذكر أن أول من قال ذلك "عمرو بن مامة" في شعره وفي حديث عامر بن فهيرة:
والمرء يأتي حتفه من فوقه
ولحنش بن مالك بيت في الحتوف، إذ يقول:
فنفسك إحرز فإن الحتوف ... ينبان بالمرء في كل واد2
وكلمة "الروح" من الكلمات المعروفة عند الجاهليين. وقد صورتها بعض الأخبار الإسلامية حفظة على الملائكة، وجعلت لها وجهًا كوجه الإنسان وجسدًا كجسد الملائكة، ولا يمكن رؤيتها كما لا يمكن رؤية الملائكة3. بها يعش الإنسان وبها حياة الأنفس. وقد سأل الجاهليون الرسول على ماهية الروح، فنزلت الآية: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 4.
ويذكر المفسرون أن سائليه هم اليهود5 أو أن اليهود علموا المشركين أن يسألوه عن الروح محاولين بذلك إثارة مشكلة للرسول كانت مهمة في أعين الناس يومئذ، مما يدل على أهمية هذه القضية في ذلك العهد.
ويظهر من تمحيص الأخبار الواردة عن الموت والقبر وأشباه ذلك أن عقيدة الجاهليين أن الروح متصلة بالجسد ملازمة له في أثناء الحياة، فإذا وقع الموت انفصلت عن الجسد وفارقته. ثم اختلفوا فيما بينهم في مصير الروح، فمنهم من
__________
1 اللسان "10/ 382"، تاج العروس "6/ 64".
2 اللسان "9/ 38"، "حتف"، تاج العروس "6/ 64"، "حتف".
3 تاج العروس "2/ 147"، اللسان "3/ 281 وما بعدها".
4 الإسراء، الآية 85.
5 الجلالين "1/ 220"، الروض الأنف "1/ 196 وما بعدها".(9/150)
تصورها وهي ملازمة "قبر صاحبها لا تفارقه، وكأنها لا تريد أن تفارق الجسد الذي كانت مستقرة فيه" فصارت المقابر موضع تجمع الأرواح، ومنهم من ذهب إلى هلاكها بهلاك الجسد أو تحولها أرواحًا تسبح في عالم الأرواح. ونجد في حديث "مجاهد" أن "الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك"1. تفسيرًا لرأي بعض الجاهليين في مدة بقاء الروح حول القبر.
وهناك أحاديث أخرى يظهر منها أن الروح تلازم القبور فلا تفارقهم.
وهناك كلمة أخرى لها صلة وعلاقة متينة بهذه الكلمة. هي لفظة "النفس".
وهي من الكلمات الجاهلية القديمة التي وردت في النصوص، معناها الروح والشخص والذات والجسد. وقد ذكر لها علماء اللغة جملة معان استعملت في الأكثر على سبيل المجاز. ولم يفرق بعض هؤلاء بين الروح والنفس2. ويظهر من بعض التعابير والجمل التي كان يستعملها الجاهليون مثل "خرجت نفس فلان" و"فاظت نفسه" "فاضت نفسه" أن المراد بالنفس الروح3. وقد تصور بعضهم أن النفس الدم، وإنما سمي الدم نفسًا لأن النفس تخرج بخروجه. وفي الحديث: "ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه4" ولبعضهم آراء في التفريق بين الاثنين نشأت في العهد الإسلامي. ولا سيما من ورود استعمال الكلمتين في معان متعددة في القرآن الكريم وفي الحديث.
ويُعَدّ "المرض" من جملة الآثام التي تنزلها الآلهة بالإنسان، لخروجه على أوامرها ولعدم أداء ما عليه من واجبات وفروض تجاهها، ومنها الحقوق التي فرضتها عليه، وفي رأسها النذور والصدقات والزكاة التي أمرت الآلهة بتقديمها
__________
1 كتاب الروح: لابن قيم الجوزية "ص115".
2 المخصص "2/ 62"، الروض الأنف "1/ 196 وما بعدها".
3 "وكذلك فاضت نفسه، أي: خرجت روحه. نقله الجوهري. عن أبي عبيدة والفراء، قال: وهي لغة في تميم وأبو زيد مثله. قال: وقال الأصمعي: لا يقال: فاض الرجل، ولا فاضت نفسه. وإنما يفيض الدمع والماء. زاد في العباب: ولكن يقال: فاظ بالظاء إذا مات، ولا يقال: بالضاد البتة"، تاج العروس "5/ 71"، "فاض"، "قال الجوهري: وكذلك فاظت نفسه، أي خرجت روحه. عن أبي عبيدة والكسائي وعن أبي زيد مثله، وقال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: لا يقال: فاظت نفسه، ولكن يقال: فاظ إذا مات"، تاج العروس "5/ 258"، "فيظ".
4 اللسان "6/ 233 وما بعدها".(9/151)
على معابدها. ولهذا نجد المريض يتوسل بآلهته لكي تصفح عنه وتعفو عن تقصيره تجاهها، وأن تعيد إليه ما أخذته منه من صحة وعافية في مقابل تقديم نذر لها ووفائه بقيامه بكل ما أمرت به من واجبات تجاهها. وفي المتاحف الخاصة والعامة مئات من الكتابات الجاهلية في هذا المعنى، ومئات أخرى، كتبت شكرًا وحمدًا للآلهة، إذ سمعت توسلات عبيدها بأن تمن عليهم بالصحة والعافية، فمنت عليهم؛ ولهذا فإنهم كتبوا كتاباتهم تلك للتعبير عن شكرهم لها، ولمناسبة تقديمهم النذر الذي نذروه لمعابد الآلهة.(9/152)
نعي الميت:
ويكون الإعلان عن موت شخص بالبكاء وبالنعي، ويتوقف نعي الميت والبكاء عليه على قدر منزلة الميت ودرجة أهله ومكانتهم الاجتماعية. ويعد نعي الميت وشق الجيوب عليه من وسائل التقدير والإكرام وتبجيل الميت، ولذلك كانوا يوصون قبل موتهم بنعيهم للناس نعيًا يليق بهم، ويقوم بذلك ناع أو جملة نعاة.
يركب الناعي فرسًا ويسير ينعي الميت بذكر اسمه وتمجيده ليسمع بذلك القوم، قائلًا: "نعاء فلان ... " وترد كلمة "الناعي" و"النعاة" كثيرًا في الشعر وفي النثر1. وقد كان الجاهليون يستغلون نعي القتلى للتحريض على القتال والأخذ بالثأر، ويقال لذلك: "التناعي"2.
وقد نُهي في الإسلام عن "نعي الجاهلية"، وذلك لما كانوا يبالغون من النداء بموت الشخص وذكر مآثره ومفاخره ورثاءه رثاء يتجاوز الحد3.
والولولة والنياحة على الميت من التقاليد التي تشدد فيها أهل الجاهلية، وكانت عندهم سمة من سمات التقديس. ولهذا كان أهل الجاه والغنى والأشراف يستأجرون النائحات للنياحة على الميت في بيته وخلف نعشه إلى القبر وفي مأتمه، ويبالغون في ذلك تبعًا لمنزلة المتوفي. وتلك عادة متبعة عند غيرهم أيضًا، فقد كان العبرانيون
__________
1
أقول لما أتاني الناعيان به ... لا يبعد الرمح ذو النصلين والرجل
بلوغ الأرب "3/ 13"، تاج العروس "10/ 373"، "نعي".
2 تاج العروس "10/ 373"، "نعي".
3 القسطلاني، إرشاد "2/ 378"، "باب الرجل ينعي إلى أهل الميت نفسه".(9/152)
يستأجرون النادبات ليندبن الموتى1.كما كان الرومان يتبعون هذه السنة.
وكلمة "الرثاء" من الكلمات الجاهلية وهي تعني بكاء الميت وتعديد محاسنه، ونظم الشعر فيه، ويقال للمرأة النواحة، والتي ترثي بعلها أو غيره من الأقارب والأعزاء ممن يكرم عندها "الرثاءة" و"الرثاية"2. وأما "المناحة"، فهي اجتماع النساء في مناحة لإظهار حزنهن على الميت. ويقال للاجتماع "نياحة" أيضًا. والكلمة من الكلمات الجاهلية كذلك3. ويفهم كثير من الناس من كلمة "مأتم" المصيبة وإظهار الحزن والنوح والبكاء، وليس هو كذلك، وإنما "المأتم" في عرف أهل اللغة المجتمع يجتمع فيه النساء في حزن أو فرح في خير أو شرّ، ويطلق على اجتماعات الرجال والنساء4.
وفي الشعر الجاهلي أبيات يحث فيها الشعراء أهلهم ويوصونهم بالبكاء وبالنوح عليهم إذا ماتوا. فقد ذكروا أن طرفة بن العبد خاطب ابنة أخيه معبد بهذا البيت:
فَإِن مُتُّ فَاِنعيني بِما أَنا أَهلُهُ ... وَشُقّي عَلَيَّ الجَيبَ يا اِبنَةَ مَعبَدِ5
وذكروا أن الشاعر حازم بن أبي طرفة الحارث بن قيس الشدّاخ الكناني، وهو شاعر جاهلي أوصى ابنته لما شعر بدنو أجله بأن تبكي والدها وأن تندبه وتذكر محامده وفعاله، وذلك في هذين البيتين:
بنية إنّ الموت لا بد لاحق ... بشيخك ماضي الأنام المودع
فإن قمت تبكيني فقولي أبو الندى ... ومأوى رجال بائسين وجوّع6
أما الشاعر لبيد، فقد أوصى ابنته بهذه الوصية لما حضرته الوفاة:
تَمَنّى اِبنَتايَ أَن يَعيشَ أَبوهُما ... وَهَل أَنا إِلّا مِن رَبيعَةَ أَو مُضَر؟
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 200".
2 تاج العروس "10/ 144".
3 تاج العروس "2/ 243"، "نوح".
4 تاج العروس "8/ 179".
5 بلوغ الأرب "3/ 101".
6 الآمدي المؤتلف "ص100".(9/153)
فَقوما وَقولا بِالَّذي تَعْلمانه ... وَلا تَخمِشا وَجهًا وَلا تَحلِقا شَعَر
وَقولا هُوَ المَرءُ الَّذي لا خَليلَهُ ... أَضاعَ وَلا خانَ الصَديقَ وَلا غَدَر1
وهي وصية فيها تعقل واقتصاد بالنسبة إلى طلبات غيره ممن كان يرى البكاء والنياحة وخمش الوجوه وحلق الشعور وإظهار أكثر ما يمكن من مظاهر الحزن والتوجع والتألم وأمثال ذلك، هي سيماء من سيماء التقدير والتعظيم والاحترام للميت بل للأحياء من آله وأقربائه أيضًا؛ لأنها دلالة على شدة تألمهم لذهاب فقيدهم، وعلى أنهم لا يبالون في الإنفاق في شيء حتى في إيلام أنفسهم وتوجيع أجسامهم وهلاكهم في سبيله، وأنهم كرماء لا يبالون في البذل في سبيل من يفتقدونه.
وما كان لبيد، ليقنع بهذا المأتم لو كان على رأي أهل الجاهلية. فمأتمه هذا مأتم بارد لا يليق بمقام رجل جاهلي، ولكنه كان مسلمًا، دفعه إسلامه على القناعة في مأتمه وعلى الاكتفاء بهذا القليل. فقد ورد في الحديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله"، وأن الرسول قال: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية"، وأنه: "بريء من الصالقة والحالقة والشاقة"، وأنه قال: "اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" إلى غير ذلك من أحاديث تنهى عن هذه المظاهر، التي هي في نظر الإسلام من سيماء أهل الجاهلية2.
ويصحب البكاء شق الجيب وتعفير الرأس بالتراب واجتماع النسوة أيامًا لندب الميت وذكر مناقبه. تقوم بذلك نادبات ممتهنات أو غيرهن ممن رزقن موهبة القول في مثل هذه الأحوال من أفراد الأسرة أو القبيلة أو الحي أو القرية. وفي بيت لـ"طرفة بن العبد" نجده يوصي بنعيه بما يستحقه وبشق الجيب عليه3. وقد يمتد نعي الميت ورثاؤه حولًا كاملًا، وهي مدة عزاء أهل الجاهلية4. فإذا انتهى
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 11".
2 بلوغ الأرب "3/ 12 وما بعدها"، "النياحة على الميت من أمر الجاهلية " "البخاري: التاريخ الكبير" "1/ 232"، "ثلاث من قبل الجاهلية لا يدعهن أهل الإسلام: استسقاء بالكواكب وطعن في النسب، والنياحة على الميت"، الإصابة "1/ 247" القسطلاني إرشاد الساري "2/ 404"، "باب ما يكره من النياحة على الميت".
3
فَإِن مُتُّ فَاِنعيني بِما أَنا أَهلُهُ ... وَشُقّي عَلَيَّ الجَيبَ يا اِبنَةَ مَعبَدِ
بلوغ الأرب "3/ 11".
4 تاج العروس "6/ 320"، بلوغ الأرب "3/ 12".(9/154)
الحول وقد بكوه البكاء الذي استحقه الميت عذر أقرباؤه عن الاستمرار في بكائه إلا في المناسبات. قال لبيد لابنتيه لما حضرته الوفاة:
إِلى الحَولِ ثُمَّ اِسمُ السَلامِ عَلَيكُما ... وَمَن يَبكِ حَولًا كامِلًا فَقَدِ اِعتَذَر1
وتعرف التي ترفع صوتها بالنياحة بـ"الصالقة". وأما التي تحلق شعرها عند نزول المصيبة فيقال لها: "الحالقة". وأما التي تشق جيبها، فيقال لها: "الشاقة".
ويقال لتعديد النادبة بأعلى صوتها محاسن الميت النادبة ولعملها الندب2. والظاهر أن الندب كان خاصًّا بالنساء، وإن وردت كلمة "نادب" عند اللغويين3.
وقد نهى الإسلام عن "الصلق"، ورد في الحديث: "ليس منا من صلق أوحلق أو خرق". أي: ليس منا من رفع صوته عند المصيبة وعند الموت. ويدخل فيه النوح أيضًا4. و"السالقة"، هي بمعنى "الصالقة"، وهي لهجة ولا شك من لهجات القبائل، وقد وردت في رواية أخرى للحديث المذكور أيضًا5. ولطم الخدود وخمشها وشق الجيوب وذر التراب أو الرماد أو وضع الطين على الرأس والخدود عادة لا ينفرد بها العرب وحدهم، بل هي موجودة عند غيرهم من الأمم أيضًا. وفي التوراة آيات تشير إليها كلها وتعدها من دلائل الحزن والأسى الشديد والتوجع على الميت. وهي كلها مذكورة فيها من البكاء والنحيب على الميت إلى ذرّ الرماد والتراب أو وضع الطين على الرأس إلى شق الجيوب ولطم الصدر والخدود.
وليست عادة استئجار النادبات بعادة خاصة بالعرب الجاهليين، فقد كان العبرانيون يستأجرون النادبات كذلك ليندبن الميت، وقد أشير إلى ذلك في التوراة6، ولعلها من العادات السامية القديمة المعروفة عند بقية الساميين.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 12".
2 بلوغ الأرب "3/ 13".
3 تاج العروس "1/ 481"، "ندب".
4 "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، برئ من الصالقة والحالقة والشاقة"، صحيح مسلم "1/ 70 وما بعدها"، "باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية" تاج العروس "6/ 411".
5 تاج العروس "6/ 320 وما بعدها، 382".
6قاموس الكتاب المقدس "2/ 200".(9/155)
ويقال لمد الصوت بالنحيب "النقع"، وأما مدّ اللسان بالولولة ونحوها، فيقال له: "اللقلقة"1.
ويحترم الجاهليون الموت والميت فكانوا يقومون إذا مرت بهم جنازة، ويقولون إذا رأوها: "كنت في أهلك مائتًا مرتين". أما أهل الميت وأقرباؤه وأصدقاؤه فكانوا يسيرون أمام الجنازة وخلفها إلى المقبرة2.
وتعفر النساء رءوسهن بالتراب وبالرماد وبالطين ويلطمن خدودهن بأيديهن، كما كن يلطخن رءوسهن بالطين ويسرن مع الجنازة إظهارًا للحزن والجزع على الفقيد. وترافقهن النادبات والمولولات، يندبن الميت يولولن عليه، يسرن حافيات مبالغة في إظهار الحزن.
وكانت العرب لا تندب قتلاها ولا تبكي عليها حتى يثأر بها، فإذا قتل قاتل القتيل، بكت عليه وناحت3.
ويتبين من حديث "عمرو بن العاص" أن من عادات الجاهليين حمل النار مع الجنازة تصطحبها اصطحاب النائحة لها. وقد أباح "عمرو" لأهله نحر جزور عند قبره لتوزيع لحمها على المحتاجين، وأن يقيموا حول قبره حتى يستأنس بهم، وينظر ماذا يراجع به رسل ربه4. ونجد مثل ذلك في خبر يذكر أن "أبا موسى الأشعري" لما حضره الموت دعا ابنه، فقال: "انظروا إذا أنا مت فلا تؤذنن بي أحدًا ولا يتبعني صوت ولا نار"5. ويدل ذلك على أن عادة حمل النار مع الجنازة بقيت زمنًا في الإسلام.
ويؤخذ من شعر للأفوه الأودي إن الجاهليين كانوا يغسلون موتاهم قبل دفنهم6.
وذكر "اليعقوبي"، أنه لما مات عبد المطلب "أعظمت قريش موته وغسل بالماء والسدر. وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، ولف في حلتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال ذهب وطرح عليه المسك حتى ستره، وحمل على
__________
1 الأغاني "15/ 12".
2 عمدة القاري "16/ 293".
3 نهاية الأرب "3/ 132".
4 صحيح مسلم "1/ 78"، "كتاب الإيمان" كتاب الروح، لابن القيم الجوزيه "ص10" "الطبعة الثالثة" حيدر آباد 1357هـ.
5 طبقات ابن سعد "4/ 115"، "صادر".
6 الطبري "2/ 288"، بلوغ الأرب "2/ 288".(9/156)
أيدي الرجال عدة أيام إعظامًا وإكرامًا لتغيبه في التراب"1.
وغسل الجاهليون موتاهم بالخطمي والأشنان2، وما شابه ذلك من مواد لإزالة الأوساخ عن جسم الميت وتطهيره. كما وضعوا الطيب مع الكفن ليطيب الميت فيذهب مطيبًا إلى قبره.
ويحمل سرير الميت الذي وضع عليه على الأكتاف لإيصاله إلى قبره، ويقال له: "النعش" كذلك. وقد يحمل في محفة، وقد يحمل على الإبل لإيصاله إلى قبره إذا كان القبر بعيدًا. ويتبارى الأقرباء والأصدقاء في حمل نعش الميت احترامًا له وتقديرًا لشأنه. وورد أن "السرير -النعش- قبل أن يحمل عليه الميت، فإذا حمل عليه فهو جنازة"3.
وذكر بعض أهل الأخبار أن النعش لم يكن معروفًا عند العرب، وأن أول من عمل له النعش "زينب بنت جحش" زوج النبي، أو فاطمة الزهراء، أي في الإسلام. وقد قلد في ذلك أهل الحبشة الذين كانوا يصنعون نعوشًا لموتاهم4.
وذكر أن "النعش" في الأصل الذكر الحسن. "إذا مات الرجل، فهم ينعشونه، أي: يدركونه ويرفعون ذكره". و"النعش شبه محفة كان يحمل عليها الملك إذا مرض وليس ينعش الميت. وأنشد للنابغة الذبياني:
أَلَم تَرَ خَيرَ الناسِ أَصبَحَ نَعشُهُ ... عَلى فِتيَةٍ قَد جاوَزَ الحَيَّ سائِرا
وَنَحنُ لَدَيهِ نَسأَلُ اللَهَ خُلدَهُ ... يَرُدَّ لَنا مُلكًا وَلِلأَرضِ عامِرا
قال: فهذا يدل على أنه ليس بميت. وقيل: هذا هو الأصل ثم كثر في كلامهم حتى سمي سرير الميت نعشًا. وإنما سمي لارتفاعه، فإذا لم يكن عليه ميت محمول فهو سرير"5.
وقد كنى "الأسود بن يعفر النهشلي" عن النعش، أي سرير الميت بـ"ذي
__________
1 اليعقوبي "2/ 10" "النجف".
2 تاج العروس "8/ 44"، "غسل".
3 تاج العروس "3/ 265"، "سرر".
4 المعارف "ص241".
5 تاج العروس "3/ 357"، "نعش"، المخصص، لابن سيده، "6/ 130 وما بعدها(9/157)
الأعواد". وسبب ذلك على ما يقوله علماء اللغة أن البوادي لا جنائز لهم، فهم يضمون عودًا إلى عود ويحملون الميت عليها إلى القبر وذكر أنه أراد بقوله:
ولقد علمتُ سِوى الذي نبأتِني ... أنَّ السبيلَ سبيلُ ذي الأعوادِ
لو أغفل الموت أحدًا لأغفل ذا الأعواد، وأنا ميت مثله. وذو الأعواد الذي قرعت له العصا، "غويّ بن سلامة الأسيدي"، أو هو "ربيعة بن مخاشن الأسيدي"، أو هو "سلامة بن غوي" على اختلاف في ذلك. قيل: كان له خرج على مضر يؤدونه إليه كل عام، فشاخ حتى كان يحمل على سرير يطاف به في مياه العرب فيجبيها. وفي اللسان: قيل: هو رجل أسن، فكان يحمل على محفة من عود، أو هو جد لأكثم بن صيفي المختلف في صحبته. وهو من بني أسيد بن عمرو بن تميم. وكان أعز أهل زمانه، فاتخذت له قبة على سرير، ولم يكن يأتي سريره خائف إلّا أمن، ولا ذليل إلا عزّ ولا جائع إلا شبع وهو قول أبي عبيدة. وبه فسر قول الأسود بن يعفر النهشلي1.
ويحمل الموتى على "الحرج" أيضًا. والحرج خشب يشدّ بعضه إلى بعض ثم يحمل فيه الموتى2.
وللعلماء آراء في الجنازة. ذكر بعض منهم أن الجنازة من الجنز بمعنى الستر، وذكر بعض آخر أن اللفظة من ألفاظ النبط، وتعني جنز في لغتهم الإخفاء، ويقصدون بالنبطية لغة بني إرم3. معنى جملة "جنز الميت" عندهم، وضع الميت على السرير وصلاة الكاهن عليه4. وذكر بعض العلماء أن الجنازة بالكسر، الميت وبالفتح السرير، وذكر بعض آخر العكس. وذهب فريق آخر إلى أن الجنازة الميت نفسه، لذلك لا تكون جنازة حتى يكون ميت، وإلا، فهو سرير أو نعش. فالجنازة على هذا الرأي، الميت محمولًا على سريره أو نفش، أو تابوت في الاصطلاح الحديث5. وبهذا المعنى يعبر عن الجنازة في الوقت الحاضر.
__________
1 تاج العروس "2/ 440"، "عود".
2 المخصص "6/ 130 وما بعدها".
3 تاج العروس "4/ 18".
4 غرائب اللغة "177".
5 تاج العروس "4/ 18"، "جنز".(9/158)
وصلاة الجنائز، هي الصلاة التي تقام على جنازة الميت -أي: الميت وهو في تابوته- ليرسل إلى القبر، وهي صلاة أقرها الإسلام، وقد أفرد لها باب في كتب الحديث والفقه يعرف بـ"كتاب الجنائز"1.
والعادة عند أكثر الساميين السير بسرعة في الجنازة. فيسرع المشيعون الذين يسيرون مع الجنازة إلى موضع القبر في مشيهم للوصول بالجنازة بسرعة إليه. وقد أشير إلى هذه العادة في كتب الحديث2. والظاهر أن لطبيعة الجو دخل في ظهور هذه العادة.
ويقال لتهيئة الميت ودفنه في القبر "تجهيز الميت". ويقوم الأبناء والأقرباء بوضعه في لحده. وإذا كان الميت عزيزًا كريمًا في قومه سيدًا رئيسًا اشترك الرؤساء في إدخاله القبر، وقد يتنافسون في نيل هذا الشرف، وقد يؤدي هذا التنافس إلى وقوع الشر بين المتنافسين، لأن تجهيز الميت ووضعه في لحده من علامات تقدير الميت وتعظيمه، ومن دلائل قرب من دخل القبر من الميت واتصالهم الوثيق به3.
ويقال للميت عند وضعه في قبره: "لا تبعد"4، أي: أنه وإن ذهب عنهم سيكون دائمًا معهم وفي قلوبهم. ولعل هذا التفكير هو الذي حملهم على إخراج حصته مما كانوا يأكلونه ويشربونه يسمّونها باسم الميت، وعلى زيارة قبور الموتى والجلوس عندهم وضرب الخيام حولها، وعلى مناجاة صاحب القبر بذكر اسمه وتحيته، لأن روح الميت في رأيهم حية لا تموت. ولهذا السبب أيضًا كانوا يسقونها بصب شيء من الماء على القبر، كما كانوا ينضحونه بالدم. وبهذا المعنى يفسر ما ورد في الشعر وفي النثر من سقي الغمام للقبر، ونزوله عليه، وما ورد من شرب الخمر على القبر وسكب بعضه عليه. وقد كان العبرانيون يخرجون.
__________
1 صحيح مسلم "6/ 219".
2 إرشاد الساري "2/ 240 وما بعدها".
3 Hasting, Vol, II, P. 731
4 وفي هذا المعنى ورد في شعر مالك بن الريب المزني:
يَقولونَ لا تَبعُد وَهُم يَدفِنونَني ... وَأَينَ مَكانُ البُعدِ إِلا مَكانِيا
بلوغ الأرب "3/ 14 وما بعدها" الأمالي، للقالي "3/ 137".(9/159)
حصة مما يأكلونه لتكون من نصيب الموتى1. ويذكر أهل الأخبار أن الناس كانوا يسكبون الخمر على قبر "الأعشى" بـ"منفوحة" اليمامة، وذلك لولعه بها وتقديرًا لذكراه.
ويدفن بعض العرب الميت بملابسه، ويغطى رأسه. ويكفن بعضهم موتاهم ويدفنونهم مكفنين. ويذكر علماء اللغة أن من أسماء الكفن الجنن، واستشهدوا على ذلك ببيت للأعشى2. وفي الحديث: "أن ثمود لما استيقنوا بالعذاب تكفنوا بالأنطاع وتحنطوا بالصبر، لئلا يجيفوا وينتنوا. يضعون الحنوط في أكفان الميت"3. كما وردت كلمة "أكفاني" في بيت لامرئ القيس4، مما يدل على معرفة الجاهليين للكفن. وقد كان قدماء العبرانيين يدفنون موتاهم بملابسهم التي كانوا يستعملونها -أي: ما كان يفعل قدماء الجاهليين- ثم كفَّن المتأخرون منهم موتاهم بكفن مكوّن من قماش أبيض مصنوع على الأكثر من الكتان على هيأة البرد اليماني يلفّ على جسم الميت، وربطوا الرأس بمنديل، كما ربطوا يدي الميت وقدميه برباط خاص، على النسق الذي أقر في الإسلام5.
ويظهر من الأخبار الواردة عن تكفين رسول الله، أن أهل مكة أو الحجاز عامة كانوا يفضلون الأكفان السحولية، وهي أثواب بيض سحولية من كرسف، أي: من قطن. وقد نسجت في "سحول"، وهي قرية باليمن منها هذه الثياب.
وقد كره الإسلام تكفين الموتى بالمصيّغات ونحوها من ثياب الزينة، كما كره التكفين بالحرير، بل حرم بعض العلماء التكفين فيه6. وقد كان أغنياء الجاهلية يكفنون موتاهم بالألبسة الغالية، مبالغة منهم في تقديرهم لمنزلة ميتهم عندهم.
__________
1 Reste, S. 183
2
وَهالِكِ أَهلٍ يُجِنّونَهُ ... كَآخَرَ في أهلهِ لَم يُجَن
اللسان "16/ 245"، تاج العروس "9/ 321" "المطبعة الخيرية".
المحبر "ص319 وما بعدها".
3 اللسان "9/ 148"، صحاح الجوهري، "6/ 2188" المخصص لابن سيده "6/ 130 وما بعدها".
4 اللسان "17/ 239".
5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 199 وما بعدها".
Ency. Relih, 4, P. 498, Hastings. A Dectionary of Chrt. And Gospels, vol. I, p. 241.
6 صحيح مسلم "7/ 2".(9/160)
وقد ذكر "اليعقوبي"، أن "عبد المطلب" لفّ في حلتين يمانيتين ثمينتين1 وكانت البرود اليمانية مفضلة على غيرها في التكفين. وذكر أنه كان من المستحسن عندهم الإحسان في الكفن. ورويت أحاديث في تحسين الكفن. منها: "إذا كفن أحدكم أخاه، فليحسن كفنه" 2.
وذكر أن "التحسيب"، بمعنى التكفين وأن لفظة "محسب" بمعنى مكفن.
وذكر أيضًا أن التحسيب دفن الميت بالحجارة3.
عند وضع الميت في قبره يقوم من يذكر محاسنه وأعماله، ثم يظهر حزنه وحزن الناس لفراقه، ويقال لذلك "الصلاة". وقد أطلق الإسلام على هذه وعلى الندب والأعمال الأخرى "دعوى الجاهلية"، ونهى عنها4.
ويوارى الميت في حفرته ثم يهال التراب عليه. وإذا كان الميت من أصحاب الاسم والجاه فقد يجصص قبره ويبنى عليه، ويكتب على قبره اسم صاحبه وما يناسب المقام5. وكثيرًا ما نسمع بنحر الإبل أو عقرها على القبور لتبتل بدماء الإبل6. ولا سيما إذا كان الهالك من سادات القبائل والأجواد. وإذا حلقت النساء شعورهن حزنًا على الميت، وضعن شعورهن على القبر7.
وقد اختلف العلماء في سبب عقرهم للإبل على القبور، فقال قوم: إنما كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت على ما كان يعقره من الإبل في حياته وينحره للأضياف8.
وقال قوم: إنما كانوا يفعلون ذلك إعظامًا للميت كما كانوا يذبحون للأصنام. وزعم بعض آخر أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك، لأن الإبل كانت تأكل عظام الموتى إذا بليت فكأنهم يثأرون لهم فيها. وقيل: إن الإبل أنفس أموالهم، فكانوا يريدون بذلك أنها قد هانت عليه لعظم المصيبة، وقد نهى الإسلام ذلك بحديث: "لا عقر في الإسلام" 9.
__________
1 اليعقوبي "2/ 10"، "النجف".
2 اللسان "13/ 358"، "صادر" تاج العروس "9/ 321"، اللسان "1/ 246".
3 تاج العروس "1/ 213"، "حسب".
4 إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، للقسطلاني "2/ 406".
5 شمس العلوم الجزء الأول، القسم الثاني "ص291".
6 الأغاني "19/ 88".
7 الأغاني "15/ 12".
8
وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخادم وذبائح
بلوغ الأرب "2/ 310".
9 بلوغ الأرب "2/ 311".(9/161)
وإذا وضع الميت في لحده، أهالوا التراب عليه. وقد ينظم الشعراء شعرًا لهذه المناسبة ينشدونه على القبر إظهارًا لحزنهم ولحزن الناس على فراقه.
وطريقة دفن الميت هي العادة الشائعة المعروفة بين الجاهليين، غير أن هناك من كان يوصي بحرق جثته وذرّ رماده في الهواء، أو بدفن الرماد في الأرض1.
وطريقة حرق الموتى ليست من العادات السامية -أي: من العادات المنتشرة بين الساميين- إذ يرون أنها تنافي حرمة الميت وأحكام الآلهة. وكانوا إذا سبوا شخصًا أو أرادوا به سوءًا دعوا له بالحرق، أو قالوا له: يابن المحروق.
وقد وجد من فحص القبور التي عثر عيها خارج سور "مأرب" أن من الموتى من دفن على هيأة إنسان نائم، أي: وضع متمددا في لحده، كما نفعل في موتانا، وأن بعضهم لم يدفن على وفق هذه الطريقة، ولكن دفن قائمًا. وقد عثر في بعض هذه القبور على كتابات قصيرة، كما عثر فيها عل رءوس منحوتة دفنت مع الميت، لعلها ترمز إلى رمز ديني، أو عقيدة من عقائدهم في الموت، أو تمثل الميت نفسه لتكون شاهدًا عليه2.
ولم نعثر على جثث في جزيرة العرب محنّطة على طريقة المصريين، والذي نعرفه الآن أن الجاهليين كانوا يضعون الحنوط في أكفان الميت وملابسه ليطيب به جسمه وليحفظه مدة طويلة3. ويظهر من التفسير الذي يرويه علماء اللغة لجملة "عطر منشم" الواردة في شعر "زهير بن أبي سلمي"، أن "خزاعة" وربما غيرها كانت تشتري "الكافور" لموتاها4. وقد كانت قريش تضع الكافور مع الميت، وهي عادة استمرت في الإسلام أيضًا.
ويقال: إن منشمًا امرأة كانت تبيع الحنوط في الجاهلية، فقيل للقوم إذا تحاربوا: دقوا بينهم عطر منشم، يراد طيب الموتى5، مما يدل على أن تطبيب الميت عادة جاهلية قديمة، ويقال لطيب الموتى: الحنوط. وقد طرح المسك على
__________
1 النهاية "2/ 115".
2 BEITRAGE., S. 28
3 اللسان "9/ 148" الصحاح، للجوهري "3/ 1120".
4 شرح ديوان زهير لثعلب "15"، "دار الكتب المصرية".
"1944م"، ديوان زهير "110"، "طبعة كرم البستاني".
5 المعارف "ص265".(9/162)
عبد المطلب لتطييه1، "وكل ما يطيب به الميت من ذريرة أو مسك أو عنبر أو كافور من قصب هندي أو صندل مدقوق، فهو كله حنوط"2.
وقيل: إن منشمًا، هي ابنة "الوجيه" العطارة بمكة من حمير، وقيل: من همدان، وقيل: من خزاعة، وقيل: من جرهم. وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال وتطيبوا بطيبها كثرت القتلى فيما بينهم. وذكر أنهم كانوا إذا قصدوا الحرب غمسوا أيديهم في طيبها وتحالفوا عليه بأن يستميتوا في الحرب ولا يولوا أو يقتلوا. وقال "الكلبي": "جرهمية. وكانت جرهم إذا خرجت لقتال خزاعة خرجت معهم فطيبتهم فلا يتطيب بطيبها أحد إلا قاتل حتى يقتل أو يجرح.
وقيل: امرأة كانت صنعت طيبًا تطيب به زوجها، ثم أنها صادقت رجلًا وطيبتها بطيبها، فلقيه زوجها فشم ريح طيبها عليه فقتله. فاقتتل الحيّان من أجله.
قال الكلبي: "ومن قال منشم بفتح الشين فهي امرأة كانت تنتجع العرب تبيعهم عطرها فأغار عليها قوم من العرب فأخذوا عطرها، فبلغ ذلك قومها فاستأصلوا كل من شموا عليه ريح عطرها. وقد ضرب بها المثل في الشر، فقالوا: أشأم من عطر منشم"3.
وورد أن "المنشم" عطر شاق الدق أو شيء يكون في قرون السنبل، يسميه العطارون "روقا". وهو سم سوعة. وقيل: ثمرة سوداء منتنة الريح، أو حب البلسان4.
ويجعل الحنوط في مرافق الميت وفي بطنه وفي مربع رجليه ومآبضه ورفغيه وعينيه وأنفه وأذنيه. يجعل يابسًا.
ونظرًا لوجود لفظة "حنط" في العربية في المعنى الذي نفهمه من التحنيط، أي: حفظ الجسد، ولاستعمال الجاهليين "الحنوط" في تجهيز موتاهم، وهي مواد عطره5 ذات رائحة طيبة ولورود اللفظة في العبرانية وفي السريانية "حونطو"، نرى أن نوعًا من التحنيط كان معروفًا عند الساميين5. وإن لم يكن بالشكل الذي
__________
1 اليعقوبي "2/ 10"، "النجف".
2 اللسان "7/ 279"، "صادر".
3 تاج العروس "9/ 76"، "نشم".
4 تاج العروس "9/ 76"، "نشم".
5 غرائب اللغة "ص179".
J. W. gibbs, A Hebrew and English Lexicon, London, 1827, P. 201, Smith, A Dictionary of Bible, vol, I, p. 545(9/163)
كان عند المضريين. ولا يستبعد أن يكون أهل الجاهلية قد مارسوا التحنيط أيضًا، وذلك بالنسبة إلى أغنيائهم وأصحاب الثراء منهم. ويؤيد هذا الاحتمال ما رواه أهل الأخبار من عثور الجاهليين وبعض الإسلاميين على جثث عادية كانت محافظة على هيأتها حتى أنها تبدوا وكأنها دفنت بالأمس، وما رووه من عثورهم على نفائس وأواني وكتابات، إلى جانب تلك الجثث. مما يبعث على الظن بأن تلك الجثث كانت محنطة بطريقة ما.
ولم تستعمل التوابيت المصنوعة من الحجارة في نجد والحجاز. أما في بطرا وتدمر فقد اتخذت التوابيت المصنوعة من الحجر والنواويس1.
والتابوت، هو الصندوق الذي يوضع فيه الميت. ويصنع من الخشب والحجر. أو من مواد أخرى. وهو "تبا" في العبرانية. وقد ذكر بعض علماء اللغة، أن "التابوه" لغة في التابوت2. والتابوت في الأصل "صندوق من الخشب وقد أشير إليه في القرآن الكريم"3.
وقد عرف العرب لفظة أخرى استعملوها في معنى "التابوت" هي لفظة "إران"، ويراد بها صندوق من خشب يوضع الميت فيه4. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الإران تابوت يضع النصارى فيه أمواتهم ويدفنونه مع الميت. واللفظة عبرانية، وقد وردت جملة "حمل على الإران"، أي: حمل في التابوت5. وذكر علماء اللغة أن "الإران" الجنازة، وخشب يشد بعضه إلى بعض تحمل فيه الموتى، وسرير الموتى، وتابوت الموتى6.
والعادة أن تذكر مناقب الميت عند قبره في أثناء الاحتفال بدفنه إذا كان عظيمًا سيدًا، وأن يعجل بدفنه في مقبرة القبيلة أو القرية أو في بيته. وقد كان من
__________
1 Reste, S. 178
2 تاج العروس "9/ 381".
3 البقرة الآية 248، طه الآية 39، اللسان "2/ 17"، "طبعة صادر".
4 غرائب اللغة "ص211".
5 المخصص، "6/ 130 وما بعدها".
6 قال الأعشى:
أثرت في جناجن كاران ال ... ميت عولين فوق عوج رسال
وقال طرفة:
أَمونٍ كَأَلواحِ الأَرانِ نَسَأتُها ... عَلى لاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهرُ بُرجُدِ
اللسان "13/ 14 وما بعدها"، "أرن".(9/164)
عادتهم دفن الميت في البيوت أو على مقربة منها. أما الأعراب، فقد كانوا يدفنون موتاهم في المنازل التي يكونون فيها، وإذا كانوا في أثناء رحيلهم دفنوهم على قارعة الطرق ولا سيما على المرتفعات المشرفة عليها.
ويعجل العرب بدفن موتاهم. والتعجيل بدفن الميت من الضرورات التي اقتضتها طبيعة الجو. فجو جزيرة العرب لا يساعد على بقاء جسد الميت مدة طويلة، وإلا تعرض للفساد، ولحق الأذى به ولهذا صار من الاستحباب التعجيل بدفن الميت ليس في العرف حسب، بل من الناحية الدينية كذلك.
ويحلق بعض الجاهليين شعر الرأس كله أو بعضه ويرمونه على القبر. وحلق شعر الرأس أو جز الناصية أو حلقها أو حلق الضفيرتين من التقاليد القديمة.
وكانوا يقومون بذلك؛ إكرامًا وتعظيمًا لشأن الأرباب، وعند الحج إلى بيوت الآلهة، فيرمون بالشعر أمام الأصنام تعظيمًا لها وبيانًا عن مقدار احترامهم لها حتى ضحوا بأعز رمز لديهم في سبيلها، ولهذا كان لرمي ضفائر شعر الرأس عند القبر أهمية خاصة في نظر الجاهليين1.
وكان في روع الأمم القديمة أن الشعر للفرد قوة وحياة، فحلقه أوجز جزء منه، معناه تضحية كبيرة وصلة تربط الميت بالحي2.
__________
1 Muh. Stud. I, S. 247
2 Ency. Relig, VI, P. 476(9/165)
القبر:
ويدفن الموتى عادة في حفر تحفر يقال لها: قبر، وجدث، ومقبر، ووجر، ورمس، وجنن1. أما في "بطرا"، وفي بعض المناطق الجبلية والصخرية، فقد نقرت المقابر في الصخور، فصنعت على هيأة حجر وضعت جثث الأموات فيها، كما استعملت المقابر المرتفعة في مدينة "تدمر"، وذلك بتشييد مبان وضعت فيها جثث الموتى في حجر صغيرة تعمل في تلك الأبنية.
واستعملت الكهوف مقابر كذلك. ففي المناطق الصخرية توجد كهوف طبيعية
__________
1 جنن، ويجمع على أجنان، اللسان "16/ 245"، Littmann, Safa, P. 69(9/165)
سكنها الإنسان، واتخذها مقبرة له. وذلك بدفن الأموات فيها وسد بابها. وقد عثر الباحثون والسياح على عدد منها.
والقبر هو التسمية المعروفة الشائعة في أغلب أنحاء جزيرة العرب، وقد وردت في نص النمارة، وجمعها القبور. ذكر علماء اللغة أن "القبر" مدفن الإنسان وأن "المقبر" موضع القبر. وأما "المقبرة". فهي موضع القبور1. وقد وردت لفظة "مقبر" و"مقبرت" أي: مقبرة، و"مقبرتم" أي: "مقبرة" في حالة التنكير في نصوص المسند2.
وأما "الجدث" فالقبر، والمجمع أجداث وأجدث، وهو قلة. وورد "الجدف" في بعض الروايات3.
وأما الوجر، فهو كالكهف عند علماء اللغة4. فهو يؤدي معنى قبر على سبيل المجاز. وقد ورد في نص مدون بالمسند يعود إلى القرن السادس للميلاد، عثر عليه في العربية الشرقية. وهو شاهد قبر رجل اسمه "إيليا".
ويذكر علماء اللغة، أن الجنن: القبر، سُميّ بذلك لستره الميت، وأيضًا الميت لكونه مستورًا فيه، وأيضًا "الكفن" لأنه يجن الميت، أي يستره، فالأصل في الكلمة الستر5، ويجمع على أجنان6.
وقد وردت لفظة "ضرح"، أي "ضريح" بمعنى قبر في اللغة الصفوية7.
ولكن من الجائز أن تكون قد وردت فيها بالمعنى المفهوم من الكلمة في عربيتنا.
كما وردت فيها ألفاظ أخرى بمعنى قبر، مثل: "نفست" أي، "نفس"، و"مقل"، بمعنى "مقيل"، أي موطن الراحة ومحلها، و"نيت".
ويظهر أن لفظة "نفست" قد أخذت من أصل إرمي هو "نفسا" "نفشا"،
__________
1 اللسان "6/ 376"، المخصص "6/ 130 وما بعدها".
MM8, REP. EPIGR. 3974, CIH 20, 21, F.V. Winnett, A Monotheistic Himjarite Insctiption, in BASOOR, NUM: 83, 1961, p. 24.
2 تاج العروس "3/ 599".
3 اللسان "3/ 433"، تاج العروس "1/ 609" "المطبعة الخيرية".
4 تاج العروس "3/ 599، "وجر".
5 تاج العروس "9/ 163"، المخصص "6/ 130" وما بعدها".
6 اللسان "16/ 245".
7 E. Littmann, in Safaitic Inscriptions, Leyden, 1943, p. X(9/166)
وقد وردت لفظة "نفش" و"نفس" في النصوص النبطية واللحيانية والسبئية وفي نصوص دُوّنت بلهجات عربية أخرى1. ولعل للفظة "نيت"، علاقة بـ"منوت" و"منايا" و"منون"، وهي تعني في الصفوية: المسافر والسفر، أي: في معنى أدبي لطيف، له صلة بالموت، باعتبار أن الميت مسافر من هذا العالم إلى عالم آخر، وأن القبر هو مستقر ذلك السفر.
ويلحد أهل الحجاز لحدًا في القبر لوضع الميت فيه. ويقال للذي يلحد القبر ويضع الميت فيه: "اللاحد". ويقال للذي يعمل الضريح: "الضارح"2.
وكان من عادة الجاهليين رجم القبور -أي: وضع أحجار فوقها- وذلك على سبيل التقدير والتعظيم للميت. فإذا زار قريب أو صديق قبر قريب أو صديق له رجمه -أي: وضع أحجارًا فوقه- والرجام الحجارة. والرجمة أحجار القبر ثم يعبر بها عن القبر وجمعها رجام ورجم. وقد ورد في كتب الحديث أن الرسول قال: "لا تُرَجِّمُوا قَبْرِي"3، وأن "عبد الله بن مغفل المزني" قال: "لا تُرَجِّمُوا قَبْرِي، أي: لا تجعلوا عليه الرجم. وأراد بذلك تسوية القبر بالأرض"4، وعدم نصب أحجار فوقه ليظهر واضحًا شاخصًا.
وتؤدي لفظة "رجم" و"رجمت" و"هرجم" أي "الرجم"، معنى قبر أيضًا. وترد بكثرة في الكتابات الصفوية. ويراد بها الأحجار التي تكوم فوق قبر5.
والعادة عندهم أن الشخص الذي يمر على قبر ما، أو يزور قبر قريب له، يضع حجرًا أو أحجارًا فوق القبر، تكريمًا لصاحبه وتخليدًا لذكره، حتى وإن لم يعرفه، لأن ذلك من باب احترام الموت والميت. فالرجام إذن، هي قبور غطيت بأحجار.
وقد عثر على عدد من الرجام المكتوب الذي اتخذ شواخص للقبور فيه اسم الميت ودعاء على من يحاول نقل الرجمة من محلها أو على من يحاول تغيير معالم
__________
1 المصدر نفسه.
2 تاج العروس "2/ 492" "لحد".
3 المفردات، للأصفهاني "ص189".
4 اللسان "12/ 226"، "صادر"، "رخم" تاج العروس "8/ 304"، "رجم"، قاموس المحيط "4/ 117".
5 Annual of the Department of Antiquities of Jordan, vol. II, 1953, P. 15, 20, 23(9/167)
القبر وإزالته أو على من يريد اتخاذه قبرًا له أو لأحد أفراد أسرته أو يدفن أي أحد فيه. وقد أفادتنا هذه الشواهد في معرفة لهجة القوم وفي بعض الأمور التي لها صلة بالأصنام وبالدين.
وقد استعملت اللحيانية لفظة "قبر" ومنها "هنقبر"، أي "القبر"، للتعبير عن القبر، كما استعملت لفظة أخرى هي "مثبر" "م ث ب ر" ومنها "همثبر"، أي "المثبر" في معنى قبر1. وللثبر بالطبع صلة بالموت.
وتعبر لفظة "كهف" في هذه اللهجة عن هذا المعنى أيضًا2.
ويقال للقبر المسوى مع الأرض "رمس" فإذا كان مرفوعًا عن الأرض فهو قبر مسنم3. ويظهر أن الجاهليين كانوا يسنمون قبورهم. وقد ورد في حديث "ابن غفل": "ارمسوا قبري رمسًا"4. أي سووه بالأرض ولا تجعلوه مسنمًا. والرمس تراب القبر والمَرْمَس موضع القبر5.
ووردت لفظة "مقبر" في الكتابات الصفوية، بمعنى "القبر"، أي: الموضع الذي يقبر به. وهم يرصفون القبر، ويعبرون عن ذلك بكلمة "ارصف".
كما يرجمونها بالرجم ويعتبرون ذلك من أمارات التقدير والاحترام6.
وعرفت مقابر النصارى بـ"الناووس". وقد شك بعض علماء اللغة في أصلها، فذهب إلى احتمال كونها من أصل أعجمي7، وهي من أصل يوناني، ومعناها فيها: حجر منقور لدفن ميت، كما أطلقت على مقبرة النصارى وعلى المعبد والكنيسة، لأن كثيرًا ما كان النصارى القدامى يقبرون موتاهم في الكنائس8.
وقد حارب الإسلام عادة أهل الجاهلية في تسنيم القبور ورفعها عن سطح الأرض، وشدد على ذلك في الحديث، وجعلت القبور المسنمة في حكم
__________
1 W. caskel, Lihyan und lihjanisch, S. 84
2 راجع النصوص: 1، 2، 36، 93 في المصدر المذكور.
3 اللسان "7/ 405"، "15/ 199".
4 اللسان "7/ 405"، تاج العروس "4/ 163"، النهاية "2/ 109".
5 بوزن المذهب، مختار الصحاح "198"، الصحاح، للجوهري "2/ 933".
6 Littmann, Saf. P. 55, 69
7 تاج العروس "4/ 265"، "نوس".
8 غرائب اللغة "270".(9/168)
الأوثان1. ولا بد أن يكون لهذا التشديد سبب، إذ لا يعقل ورود تلك الأحاديث في موضوع طمسها بغير داع ولا أساس. وسبب ذلك هو تقديس أهل الجاهلية لتلك القبور تقديسهم الأوثان وتقربهم إليها، وهو ما لا يتفق ومبادئ التوحيد في الإسلام.
ونهى الإسلام عن تكليل القبور. "أي رفعها تبنى مثل الكلل. وهي الصوامع والقباب التي تبنى على القبور. وقيل: هو ضرب الكلة عليها. وهي ستر مربع يضرب على القبور"2. وقد كانوا يبنون البيوت والأبنية فوق القبور. وقد نادى الشاعر "لبيد" باني قبر عزيز له بأن يضعف من سمك القبر وأن يرفع الحائط أو السقف؛ حتى يكون هناك متسع من فضاء فوق القبر3. وذكر أنه كانت على قبر "أبي أحيحة" قبة مشرفة4.
وقد ورد في شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي" ما يفيد بناء أضرحة فوق القبور، ورفع القبر عن الأرض حتى يكون كسنام الجمل بارزًا ظاهرًا. وقد عبر عن بناء القبر ورفعه عن الأرض وبناء ضريح عليه بـ"ارتفد الضريح"5 والضريح في تعريف علماء اللغة، الشق في وسط القبر، وقيل: القبر كله أو قبر بلا لحد. وذلك لأنهم يجعلون اللحد في جانب القبر6.
ويظهر أن يهود الحجاز ونصاراه كانوا قد بالغوا في ضرب القباب والأضرحة على قبور موتاهم وفي تعظيم قبور أحبارهم وقسسهم، حتى تحولت قبورهم إلى أضرحة ومزارات. تزار في المناسبات وقد دفنوهم في المعابد. لذلك نهي عن التشبه بفعلهم في الإسلام. وأشير إلى عملهم هذا في القرآن الكريم وفي كتب
__________
1 "عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته"، صحيح مسلم "3/ 61" "باب الأمر بتسوية القبر".
2 تاج العروس "8/ 103"، "كلل".
3 شرح ديوان لبيد "ص292".
4 أنساب الأشراف "1/ 142".
5
سَنامًا يَرفَعُ الأَحلاسَ عَنهُ ... إِلى سَنَدٍ كَما اِرتُفِدَ الضَريحُ
ديوان بشر "ص50".
6 اللسان "2/ 526". مختار الصحاح "73"، تاج العروس "3/ 187"، اللسان "2/ 526"، المخصص، "6/ 130 وما بعدها".(9/169)
الحديث. وقد وضع اليهود والنصارى شعار اليهود والنصارى على قبورهم لتمييزها عن مقابر الوثنيين1.
ويقال للحائر الذي يحيط بالقبر "الودع" وقيل: الودع القبر، أو الحظيرة حوله، أو المدفن يحير به حائر2.
وتعرف علامات القبر ومعالم حدوده بـ"الآيات"، والآية هي العلامة3.
وقيل للرجمات التي وضعت على القبر: الأحجار والأطباق والصفيح والصفائح والصفاح4.
ويراد بالصفائح الحجارة العريضة التي توضع على القبر لتغطيته5.
وكان منهم من يضع الجريد على القبر، ومنهم من يضعه داخل القبر6.
وقد تغرز الجريدة في القبر فيكون رأسها بارزًا فتكون علامة تشير إلى القبر. وذكر أن رسول الله أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة7.
ولا زال الناس يتبعون هذه العادة. وقد استعملوا الأذخر والحشيش في قبورهم كذلك. كانوا يضعون الأذخر في الفرج التي تكون بين اللبنات، ويضعون الحشيش تحت الميت وفوقه8.
وعثر في مواضع من جزيرة العرب على مقابر دعاها الباحثون: "تمولي" Tamuli لأنها على شكل تلال أو هضاب. وقد اتخذت مدافن. منها "تمولي" البحرين.
وسأتحدث عنها في أثناء حديثي عن الفن والعمارة عند الجاهليين.
وقد عثر المنقبون على مقابر جاهلية عامة، على نحو ما نجده من المقابر العامة في هذا الوقت. وقد نبش عدد منها في الإسلام، لاتخاذها أملاكًا أو مساجد، كما حول بعضًا منها إلى مقابر إسلامية، دفن فيها المسلمون بعد أن أزيلت ونبشت قبور الجاهليين. وأشير إليها في كتب الحديث. ويظهر أن بعضًا منها كان ذا أضرحة وقبور مرتفعة عن الأرض9.
__________
1 إرشاد الساري "1/ 429".
2 تاج العروس "5/ 537"، "ودع".
3 تاج العروس "10/ 26"، Muh. Stud. I, S. 233, Noldeke, Beitrage, S. 99
4 Muh, Stud., I, S. 233
5 تاج العروس "2/ 181".
6 إرشاد الساري، للقسطلاني "2/ 452 وما بعدها".
7 المصدر نفسه.
8 إرشاد الساري "2/ 442 وما بعدها".
9 إرشاد الساري "1/ 429"، "2/ 437".(9/170)
ولا يدفن في المقابر إلا أفراد العائلة التي تمتلكها، أو من يؤذن بدفنه فيها.
ويعد الإذن بدفن غريب في مقبرة خاصة من علامات التقدير والاحترام بالنسبة للمتوفى الغريب. وقد تحجز مناطق من مقبرة عامة لتكون مقبرة خاصة، فلا يسمح لأحد بالدفن فيها إلا لمالكها. وقد تسور ويعمل لها باب، وقد يقام ضريح أو بناء ضخم، مع أن المقبرة هي جزء من مقبرة عامة. ولا تزال هذه العادة متبعة وقد تشترى الأرض ممن يتولى أمر المقبرة العامة. ويحافظ أهل المقابر الخاصة على مقابر أسرهم فيتعهدونها بالرعاية والعناية وبإدامتها على خير وجه. وهي تزار في المناسبات تقربًا إلى أصحاب القبور، لئلا تنقطع صلتهم بموتاهم. وورد أن بعضًا من الجاهليين كان يضرب قبة على قبر عزيز له مدة سنة "للاستمتاع بقربه وتعليلًا للنفس وتخييلًا باستصحاب المألوف من الأنس ومكابر للحسن. كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية ويخاطب المنازل الخالية"1.
وتراعى القرابة والمنزلة في دفن الموتى في المقابر فتدفن الزوجة على مقربة من زوجها في الغالب والابن على مقربة من أبيه، وهكذا فكأنهم يريدون بذلك جمع شمل العائلة، وإعادتها إلى ما كانت عليه يوم كانوا أحياء. وإذا كان المتوفى عظيمًا وذا مكانة ومنزلة حرص أقرب الناس إليه من أصحابه على نيل شرف الدفن على مقربة منه عند دنو أجلهم. وقد تتحول أمثال هذه المقابر إلى مزارات، خاصة إذا كانت مقابر كهنة وسدنة ورجال دين.
أما قبور الأعراب والفقراء والسواد، فهي بسيطة، حفرة تحفر في الأرض يوارى فيها الميت، ثم يهال عليه التراب أو الرمال أو الحجارة حسب طبيعة الأرض فتكون قبر ذلك الميت. وقد يسوى القبر بالأرض فلا تظهر آثاره ولا تبرز معالمه عن معالم القشرة، وقد يرفع التراب بعض الشيء ليكون علامة عليه. وقد توضع عصي أو أحجار فوقه لتكون إشارة تشير إلى مكانه. وليس في إمكان الأعراب النازلين في البوادي البعيدة عن الحضر، فعل غير ذلك، ولا سيما إذا كان الموت قد وقع في حين نزول القبيلة في أرض جاءت إليها في الموسم لترعى العشب أو في اثناء تنقل فإنها لا تستطيع أن تصنع قبرًا لميتها غير هذا القبر.
ومدة العزاء عند الجاهليين حول -أي: سنة- لا يترك أهل الميت فيها ذكرى
__________
1 إرشاد الساري "2/ 429 وما بعدها"(9/171)
فقيدهم، فيندبونه في أوقات معينة ويبكون عليه عند قدوم قادم إليهم، وينحرون لذكراه ويكرمون من يأتي إليهم لتعزيتهم1. وقد كانت مدة العزاء حولًا عند العبرانيين أيضًا وعند غيرهم من الساميين والشعوب الأخرى، يقوم فيها أبناء الميت أو بناته بتلاوة صلوات خاصة في خلالها على الميت ليرحمه الله وليغفر له وليسعد روحه2. وتكاد هذه المدة تكون أمدًا للعزاء ولذكرى الميت عند كل الشعوب إلى هذا اليوم.
وأما مدة المناحة فهي في العادة سبعة أيام. فلما مات "زيد الخيل"، الشاعر الفارس، وهو في طريقه إلى دياره، أقام "قبيصة بن الأسود" المناحة سبعة أيام3. ولا تزال هذه المدة مرعية في العراق، حيث تنوح وتبكي النسوة فيها موتاها، ويكون اليوم السابع هو ختام العزاء. أما الرجال، فيقيمون العزاء ثلاثة أيام، ويسمونه "الفاتحة" في الإسلام بالعراق في هذه الأيام. ويجلس أقرباء الميت وأهله عند العبرانيين سبعة أيام في البيت حزنًا عليه وتقبلًا لتعازي الناس.
وقد ورد أن مدة النياحة قد تستمر عند الجاهليين فتكون حولًا4.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 12".
2 Isidor Epstein, Judaism, P. 178
3 الأغاني "16/ 48".
4 اللسان "3/ 216".(9/172)
ملابس الحزن:
ويلبس أهل الميت وأقرباؤه ملابس الحزن مدة العزاء أو حولًا كاملًا. واللونان الأبيض والأسود هما اللونان اللذان تتخذ منهما الملابس في الحزن، فقد لبسوا الملابس البيض، ولبسوا الملابس السود، وما زال اللونان شعاري الحزن حتى الآن. فاللون الأبيض هو شعار الحزن في الحجاز والشام، أما الأسود، فهو شعار الحزن في العراق.
وحداد المرأة على زوجها حداد صعب عسير، عليها في هذه المدة الامتناع عن الزينة والطيب امتناعًا تامًّا، ويقال لها في هذه الأثناء: "الحادة" لأنها حدت على زوجها، وفي خلال الحداد يمتنع الخطاب من خطبتها والطمع فيها حتى تنتهي منه1.
__________
1 عمدة القاري "21/ 2 وما بعدها".(9/172)
ويفهم من بعض روايات الأخباريين أن من عادة الجاهليين حجز المرأة عند وفاة زوجها في بيت صغير، قد يكون خيمة أو بناء يسمونه "الحفش"، لتقضي فيه مدة العدة. فإذا كانت في هذا البيت، لبست شرّ ثيابها، وامتنعت عن الطيب وعن تزيين نفسها مدة عام1. فإذا انتهت المدة افتضت عدتها "بمس الطيب أو بغيره كقلم الظفر أو نتف الشعر من الوجه أو دلكت جسدها بدابّة أو طير، ليكون ذلك خروجًا عن العدة. أو كان من عادتهم أن تمسح قُبُلها بطائر، وتنبذه فلا يكاد يعيش"2.
وتصف رواية أخرى دخول المرأة الحفش وخروجها منه على هذه الصورة: "كانت إذا توفي زوجها دخلت حفشًا ولبست شر ثيابها حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة، شاة أو طير فتفتض بها، فقلما تفتض بشيء إلا مات. ثم تخرج فتعطي بعرة ترمى بها". وجاء: و"كانت لا تغتسل ولا تمس ماء ولا تقلم ظفرًا ولا تنتف من وجهها شعرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتض بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش"3.
ومن عادات بعض الجاهليين ضرب القباب على قبور موتاهم أيامًا أو أشهرًا قد تبلغ عامًا، يقيم فيها نساء الميت أو ذوو قرابته، ليجاوروا الميت، وليستقبلوا فيه من يفد لزيارة القبر4. واعتقادهم بإحساس روح الميت بوجودهم هناك وبمجيئهم إلى القبر لمؤانستهم له هو الذي حملهم، ولا شك، على ضرب هذه القباب وعلى مجاورتهم لتلك الأجداث. ومن هذه القباب المؤقتة ظهرت الأضرحة الثابتة ذات القباب السامقة الشامخة، كما أن من المعابد المتنقلة، أي: الخيام المقدسة، نشأت المعابد الثابتة عند العبرانيين وعند الجاهليين وعند غيرهم من الشعوب.
ومن عادة الجاهليين إسالة دم الذبائح على القبر أو تضريجه بتلك الدماء. فيعقر على قبور الموتى، وعند إهالة التراب على الميت، وقد يعقر على القبر كل عام وفي أثناء المناسبات إذا كان الميت من السادة المشهورين المعروفين بالخصال الحميدة كالشجاعة والكرم. وفي الشعر الجاهلي والأخبار أسماء أناس كانوا من المشاهير في
__________
1 تاج العروس "4/ 300"، اللسان "8/ 174 وما بعدها".
2 تاج العروس "5/ 70"، صبح الأعشى "1/ 403".
3 تاج العروس "5/ 70"، نهاية الأرب "3/ 120".
4 Muh. Stud., I, S. 257(9/173)
أيامهم، جرت العادة بأن تذبح الذبائح عند قبورهم إكرامًا لهم. وقد بقيت هذه العادة الجاهلية خالدة حتى اليوم مع إبطال الإسلام لها بحديث: "لا عقر في الإسلام " 1. وليس من الضروري أن يكون أصحاب العقائر من ذوي قرابة صاحب القبر أو من قبيلته. ومن هذه القبور قبر "ربيعة بن مكدم" من "بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة"2. وكان الناس يعقرون على قبره. ويظهر من شعر لحسان بن ثابت قاله لما مر بقبره، أن قبره كان قبرًا مبنيًّا بني من حجارة حرة3.
والعادة في العقر، عقر قوائم الدابة، وقد تعقر الدابة ثم تذبح، والغالب أن تكون الدابة جملًا أو ناقة، ولكن بعضهم كان يعقر شاة كذلك، وذلك إذا كان أهل الميت من طبقة ضعيفة، يصعب عليها عقر جمل أو ناقة. وقد ورد النهي عن ذلك في حديث آخر هو: "لا تعقرن شاة أو بعيرًا إلا لمأكلة"4.
وقوم كانوا يحبسون ناقة الرجل، وذلك بأن يشدوا الناقة إلى قبر الرجل، ويعكسو رأسها إلى ذنبها، ويغطو رأسها بولية، وهي البردعة، وتربط برباط وثيق حتى لا تهرب، فإن أفلتت لم ترد عن ماء ولا مرعى، وإذا بقيت على القبر، فإنها تبقى في حفرة لا تعلف ولا تسقى حتى تموت عطشًا وجوعًا، ويقال لهذه الناقة السيئة الحظ: البلية. ويزعمون أنهم إنما يفعلون ذلك، ليركبها صاحبها في المعاد، ليحشر عليها فلا يحتاج أن يمشي. قال أبو زبيد:
كَالبَلايا رُءوسُها في الوَلايا ... مانِحاتِ السَموم حَرَّ الخُدودِ5
ووجدت في قبور الجاهليين أشياء مما يستعمله الإنسان في حياته مما يدل على أنهم كانوا كغيرهم يدفنون مع الموتى ما يشعرون أن الميت قد يحتاج في حياته الأخرى إليه6. أما الأعراب فلا نتصور أنهم كانوا يدفنون مع الموتى أشياء ثمينة
__________
1 "لا فرع ولا عتيرة" الحديث رقم6، 7، من أحاديث كتاب العقيقة، صحيح البخاري.
2 بلوغ الأرب "2/ 125 وما بعدها". Muh. Stud. I, S. 241
3
نفرت قلوصي من حجارة حرة ... بنيت على طلق اليدين وهوب
بلوغ الأرب "2/ 125".
4 اللسان "4/ 592".
5 النهاية، لابن الأثير "1/ 95"، نهاية الأرب "3/ 121".
6 Reste, S. 180(9/174)
لفقرهم وبساطة معيشتهم. وقد عثر في مقابر أهل العربية الجنوبية مثل اليمن وحضرموت على حليّ وأحجار نفيسة وأمثال ذلك مما دفنه أهل تلك البلاد مع موتاهم، ليتزينوا بها في العالم الثاني.
وتؤيد روايات أهل الأخبار عن فتح القبور في الإسلام بحثًا عن الغنى والمال، ما ذكرته من احتمال وجود رأي عند عرب ما قبل الإسلام، بأن الميت سيحتاج إلى هذه الأشياء التي دفنت معه، وأنه سيستفيد منها في عالمه الثاني الذي رحل إليه. ولكني لا أستبعد احتمالًا آخر، قد يكون أهل الجاهلية قصدوه من دفن الذهب والفضة من حلي أو سبائك أو صفائح مكتوبة مع الميت، هو رغبة أهل الميت في إظهار شعور الود والمحبة نحو ذلك الميت، بدفن تلك النفائس العزيزة معه، لإظهار أنهم لا يبالون بها بعد فقدهم عزيزهم الميت، وأنهم يريدون دفن كنوزه معه، تعففًا عنها وازدراء بها وقد ورد في بعض الأخبار أن امرأة ماتت، فدفنوها مع متاعها1.
ولصيانة القبر وبقائه على حاله أهمية كبيرة عند الجاهليين، تتجلى في الجمل التي دونوها على شواخص قبورهم، هذه الشواخص التي عثر عليها السياح والباحثون في مواضع متعددة من جزيرة العرب، وهي تطلب إلى الآلهة بأن تنزل الآلام والأمراض والعاهات بمن يتجاسر فينقل شاخص القبر من مكانه، أو يكسره ويأخذه ليستعمله، أو ما شاكل ذلك2. وجملة "عور لذ عور سفر" أي: "عور للذي يعور الشاخص"، أو جملة "وعور دشر وخبل"، أي: عمى وجنون "خبل" من الإله "ذو الشرى"، على من يحوّر هذا الشاخص ويغيره أو يأخذه ويغيره لغرض ما3، وأمثالها، هي من العبارات المألوفة التي نقرأها بكثرة على شواخص القبور.
ومن الطبيعي أن نجد هذه العبارات وعبارات أخرى أشد منها مدونة على تلك الشواخص، راجية من الآلهة أن تنزل عقابها على من يحاول التطاول على حرمة
__________
1 اللسان "12/ 484"، "صادر"، "قشم".
2 South Arabian Inscriptions, p. 53, Annual of the Department of Antiquities of Jordan, vol. II, 1953, p. 33
3 Annual of the Departmenf of Antiquities of Jordan, vol. I, 1951, P. 27(9/175)
القبر بدفن غريب فيه. ويظهر من هذه العبارات أن من الجاهليين من كان يتطاول على القبور، ولا سيما القبور المنحوتة والقبور الجيدة المبنية على شكل غرف، وأضرحة، فيدفنون موتاهم فيها، وبذلك تدخل جثث غريبة في تلك القبور، أو يحولوا تلك المقبرة القديمة إلى مقبرة جديدة. وقد يزيلون معالمها تمامًا، أو يدفنون أمواتًا فوق أموات على نحو ما نفعل اليوم في المقابر القديمة المشهورة المقامة حول الأولياء، حيث تتحول المقابر القريبة من الولي إلى مقبرة قد ترتفع من كثرة ما يدفن عليها، حتى تكون مرتفعًا عن ظاهر الأرض.
وتزار قبور السادات والأشراف، وخاصة قبور كبار سادات القبائل، ويذبح عندها، ويحلف بها، ويلجأ إليها طلبًا للأمان والسلامة، فلا يستطيع أحد التحرش بمن التجأ إلى صاحب القبر ولا ذويه. وقد هجا "بشر بن أبي خازم الأسدي" "أوس بن حارثة" من "آل لأم"، فكان في جملة ما قاله في هجائه:
جَعَلتُم قَبرَ حارِثَةَ بنِ لَأمٍ ... إِلَهًا تَحلِفونَ بِهِ فُجورا
وحارثة بن لأم صاحب القبر، هو أبو أوس المهجو1.
وقد أشار أهل الأخبار إلى قبور سادات جاهليين كان الناس يفدون إليها، ويعظمونها، ويلوذون بها، ويطوفون حولها، منها قبر "تميم" بموضع "مر الظهران"، وقبر "عامر بن الطفيل"، وقد وضعوا الأنصاب حول القبر لتكون علامة له، فلا يدخل الساحة التي يكون فيها القبر إلى موضع الأنصاب حيوان أو راكب ولا يهتك حرمتها إنسان. كذلك كان الناس يحلقون شعورهم عند مثل هذه القبور، كالذي كانوا يفعلونه عن الأصنام2.
وقد حجت قبائل قضاعة إلى قبر كان على مرتفع من الشحر، زعم أنه قبر جدّ قبائل قضاعة3. وكانت أمثال هذه القبور ملاذًا يلوذ بها أصحاب الحاجات، كما قصدها الشعراء لإنشاد قصائدهم في مدح صاحب القبر والتغني بمجده وبمجد
__________
1 ديوان بشر "ص91".
2 Reste, S. 184, Muh. Stud. I, S. 231, Smith, Dictionary p. 1
3 Muh. Stud, I, S. 231, 235(9/176)
قبيلته. ولها حمى حكمه حكم الحمى الذي يحيط ببيوت الأصنام. ويقسم بهذه القبور وبحق أصحابها، ما يقسم بالأجداد، ويعد هذا النوع من القسم يمينًا لا يجوز الكذب فيه، وهو كالأيمان المغلظة التي يحلف بها الناس ويذكرون فيها الآلهة وأسماء الأصنام.
وفي كتب الحديث أن النبي نهى عن الحلف بالآباء والأجداد وبتربهم، لأن ذلك من عمل أهل الجاهلية. وقد كانت قريش تحلف بآبائها وبأجدادها فتقول: وأبي أفعل هذا، أو وأبي لا أفعل وحق أبي أو تربة أبي أو وتربة جدك، ونحو ذلك. وهي أيمان من أيمان الجاهلية نهى النبي عنها1.
__________
1 عمدة القاري "16/ 292"، Muh. Stud. I, S. 229(9/177)
الفصل الثاني والخمسون: الدولة
مدخل
...
الفصل الثاني والخمسون: الدولة
أقصد بالدولة الشعب والحزب أو الجماعة الحاكمة له في أرضه وتحت سلطانه وفي حيازته وملكه. لذلك لا أشترط في هذه الدولة أن تكون دولة كبيرة كالدولة الرومانية أو اليونانية أو الساسانية، فقد تكون الدولة حكومة قَرْيَة مثل يثرب أو مكة، وقد تكون حكومة قبيلة، وقد تكون أكبر من ذلك وأوسع مثل دولة الحيرة ودولة الغساسنة ودول اليمن. فلا علاقة إذن لكبر أو لصغر الحكومة بمفهوم الدولة في نظري، فكل حكومة جاهلية مستقلة، هي عندي مع شعبها -أي: التابعين لها- دولة صغرت أم كبرت.
والشعب في الجاهلية وعند الجاهليين، هو القبيلة. فالقبيلة هي أصل الدولة ونواتها، وتقوم على رابطة الدم، أي: على فكرة أن القبيلة هي من صلب رجل عاش حقًّا ومات، وأن أفرادها من هنا يرتبطون بينهم برابط الدم، أي: أن بينهم قرابة وصلة رحم. أما وطن القبيلة، فالأرض التي نشأت فيها، ثم الأرض التي هي عليها. فمن القبيلة ومن أرضها، تكونت دولتها، وعلى رأسها سيد القبيلة.
هذا بالنسبة إلى الأعراب، أما بالنسبة إلى الحضر، فإن فكرة الدولة عندهم تختلف باختلاف درجة أولئك الحضر. فالدولة في العربية الجنوبية، تجمع شمل قبائل عديدة كما تضم طوائف وفئات رُسمت لها حدود معينة وحددت بحدود وقيود، فلا تتجاوزها. وقد حدد المجتمع مكانتها ومنزلتها بحيث جعل من المجتمع العربي الجنوبي مجتمعًا طبقيًّا. يتمتع فيه الملوك ومن يأتي بعدهم من حكام(9/178)
وأصحاب معبد وأرض بأعلى المنازل، ثم تليهم بقية الطبقات حسب قوتها ومكانتها إلى أن تصل إلى سواد الناس، وأقلهم منزلة الرقيق وأصحاب الحرف المبتذلة.
وهو نظام بقيت روحه وجذوره قائمة في اليمن إلى الوقت الحاضر، ولكنه بدأ يجابه بمقاومة روح العصر وتقدم البشرية، فأخذ يتهدم بعض التهدم حسب مواطن الضعف في البناء. وأما في الأماكن الحضرية الأخرى، مثل العربية الشرقية وفي الحجاز، أو نجد، فإن درجة فهم الناس فيها للدولة، اختلف فيها، باختلاف تقدم ذلك المكان في الحضارة وباتصاله بالعالم الخارجي.
وبفضل عثور الباحثين على كتابات تعود إلى عهود مختلفة من تاريخ العربية الجنوبية، استطعنا الإلمام بعض الإلمام بشيء من نظم الدولة في تلك الأرضين.
وفي جملتها طرق الحكم فيها ونفوذ رجال الدين وأصحاب الأرض والحياة الاقتصادية التي جعلت العربية الجنوبية مجتمعًا مكونًا من طبقات، يسيره الحكام ورجال الدين وأصحاب المال والأرض. أما بالنسبة إلى المواضع الأخرى، فإن علمنا عن هذه الأمور هو دون علمنا عن العربية الجنوبية بكثير، بسبب عدم عثور الباحثين على كتابات جاهلية فيها، نستطيع أن نستلهم منها وحينا عن الماضي البعيد. ولذلك فعلمنا عنها ضحل، استمد أكثره من أخبار أهل الأخبار، وهي فجة أو مصنوعة، أو محرفة حرفها مرور الزمن، أو مدسوسة عمدًا من إخباري أراد إظهار علمه للناس، أو من متعصب لقبيلة أراد بدسه الأخبار التفريج عن عاطفة التعصب الكامنة في نفسه.
ويعبر عن سكان القرى والمدن بـ"أهل" وبـ"آل". فيقال: "أهل مكة" و"أهل يثرب"، ويراد بهم قطان مكة وسكّان يثرب، و"شعب" في التعبير الحديث، على اعتبار أن كل مدينة مستقلة بشئونها قائمة بإدارة أمورها وهي حكومة ذاتية يدير حكمها سادات المدينة. على نحو ما كان عليه الوضع في القرى الأخرى من الحجاز وفي نواح عديدة من جزيرة العرب. وإذا أصيب أحدهم بضيم، أو أراد شيئًا يتطلب العون والمساعدة نادى: "يا أهل مكة" أو "يا آل مكة"، فيلبي ساداتها نداءه ويمضون في معالجة أمره، والغريب عن "أهل مكة"، له حق النخوة والاستجارة، فإذا نادى بشعارهما حصل على من يدافع عنه ويأخذ حقه ممن ظلمه.
ويشعر سكان المدن والقرى أنهم كالقبيلة من أصل واحد، وأن لهم جدًّا(9/179)
أعلى، يرجع نسبهم إليه، أو جدة إن انتمى أهل المدينة إلى امرأة. وذلك، لاعتقادهم أنهم من قبيلة واحدة في الأصل، هاجرت إلى هذا المكان فسكنت فيه. فمرجع نسب مكة إلى "قريش"، ونهاية نسب أهل يثرب من الأوس والخزرج إلى "قيلة" جدتهم، ونسب أهل الطائف إلى ثقيف. فنحن إذن وإن كنا أمام مدن وقرى، أي: أمام عرب حضر، لكننا نجد أنفسنا أمام نظم تقوم على أسس قبلية وعقلية قبلية. فالقرية في الواقع قبيلة مستقرة تمركزت في مكان واحد. وقد تمسكت بنظم تفرع القبيلة وبالعصبية، وبما إلى ذلك من عرف مجتمع أهل البادية. وقد بقيت رابطة النسب وصلة الدم بها قوية. ذلك لأن تلك القرى، وإن جلبت إليها الجانب والغرباء، غير أنها بقيت مجتمعات منعزلة، لأن وسائل الاختلاط لم تكن متهيئة لها في ذلك الوقت، حتى تجبرها على الخروج عن العزلة، والاختلاط بالغير، اختلاطًا شديدًا على نحو ما يحدث للحضر في الأمكنة المتحضرة الممتزجة بالسكان.
وجد القبيلة، هو مصدر إلهامها، ورابطها الروحي الذي يربط بينها. باسمه تتنادى في الغزوات والحروب، لتبعث حرارة الاندفاع والحماسة في القتال، وبه يدعو للنخوة أبناؤها ومن يلتجئ إلى القبيلة من مولى أو جار، وبقبره يلاذ إن كان له قبر، وباسمه يحلف كما يحلف بأسماء الآلهة.
وللقبائل مصدر إلهام روحي آخر، هو أصنامها. فكان "المقه" صنم سبأ، وكان "ود" صنم "معين"، وكان للقبائل العربية الشمالية التي حاربت الأشوريين أصنام يحملونها معهم في سلم وفي حرب. ويستمدون منها المدد والعون في الغزوات والحروب. ويعد سقوط الصنم في أيدي الأعداء نكسة للقبيلة وعارًا على أبنائها، لذلك كانوا لا يهدأ لهم بال حتى تعاد إليهم أصنامهم. وكان من أهم ما يدعو القبائل العربية إلى التهادن مع الأشوريين رغبتهم في استعادة أصنامهم وضمان عودتها من المنفى والأسر إلى الحرية.
ولما ظهر الإسلام كانت القبائل لا تزال تحتمي بأصنامها وتدعوها لتنصرها في الحرب، حتى من تحضر منها واستقر، مثل أهل مكة الذين كانوا ينادون: "أُعْلُ هُبَلْ. أُعْلُ هُبَلْ" في حربهم مع المسلمين. أما الذين غيروا دينهم وتنكروا لعبادة الأصنام فقد احتموا بشفعاء جدد، أخذوهم من النصرانية التي دخلوا فيها، فكان لهم قديسون يلوذون بهم في أثناء القتال.(9/180)
ويعبّر عن القبيلة بلفظة "شعب" في العربيات الجنوبية1. فالقبيلة والشعب إذن لفظان مترادفان على معنى واحد. الشعب بمعنى قبيلة في عربية القرآن الكريم، والقبيلة بمعنى شعب في العربيات الجنوبية. ولكن علماء العربية يفرقون بين اللفظتين، فيجعلون الشعب أكبر من القبيلة. والظاهر أن هذا التفريق قد وقع في الجاهلية القريبة من الإسلام، ونجده في القرآن الكريم في آية الحجرات: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2. فذكر المفسرون أن الشعب أكبر من القبيلة. غير أن كثيرًا من علماء العربية يرون أن الشعب والقبيلة في معنى واحد3.
وقد وردت كلمة "شعب" في الكتابات السبئية بمعنى قبيلة كما ذكرت، فورد: "شعب سبأ"، بمعنى قبيلة سبأ. وورد "سبأ واشعبهموا" بمعنى "سبأ وأشعبهم"، أي السبئيون وقبائلهم، ويراد بقبائلهم القبائل الأخرى الخاضعة لهم4.
ويرى بعض الباحثين في العربيات الجنوبية، أن لفظة "شعب" لا تعني عند العرب الجنوبيين معنى "قبيلة" بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا، بل تعني جماعة ترتبط بالدولة وبالآلهة: آلهة الدولة ارتباطًا ثقافيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا. فإذا قلنا: شعب سبأ "شعبن سبا"، فإننا لا نقصد قبيلة سبأ، بل أمة سبأ، أو شعب سبأ بالاصطلاح الحديث. أي: رابطة مواطنة تجمع شمل جميع المواطنين بالدولة جمعًا روحيًّا وماديًّا، أي: أن أمة سبأ تجمع السبئيين وغيرهم من الغرباء من أتباع حكومة سبأ، الخاضعين لحكم هذه الحكومة، ويدينون بالولاء لها ولأنظمتها ولقوانينها الروحية المادية5.
ونجد في النصوص العربية الجنوبية إشارات إلى وجود ثلث أو ربع أو نصف قبيلة. فورد: "ثلثن سمعي"، أي: "ثلث سمعي". ومعنى هذا أن جزءًا
__________
1 Jamme, South Arabian Inscriptions, P. 448
2 الحجرات، الآية 13.
3 تاج العروس "3/ 134"، "شعب".
4 يراجع السطر التاسع من النص في: REP. EPIG V, 2726
5 Grohmann, S. 122, Rhodokanakis, Der Grundsatz der Offentichkeit in Sudarabischen Urkunden, S. 42. 1945, Bldenwirtschaft, 181, 183 Handbuch I, S. 119.(9/181)
من قبيلة ما تعاون مع سكان منطقة ما لاستغلال أرض وللاستفادة من غلاتها.
فيذكر عندئذ رقم الجزء الذي نزل في هذا المكان. ولا يعني هذا بالضرورة ثلث أبناء القبيلة أو ربعها أو نصفها أو خمسها على الوجه المفهوم من القبيلة عندنا.
بل يعني ذلك توزيع الأعمال والشغل على المجتمعين الذين تجاوزوا ورضوا بالعمل معًا حسب الأجزاء المذكورة، التي تمثل نسب اشتراك المشتركين في العمل.
وفي العربيات الجنوبية مصطلح، له صلة بمعنى "المواطنة" والمواطنين بالمعنى الحديث. وهو مصطلح: "خمس" ويجمع على "اخمس" "أخمس"، ويراد به مواطنو مملكة أو إمارة. فهو بمعنى المواطنة أو الرعاية في الاصطلاح الحديث.
فكل من يعيش في حكومة ما في أي مكان كان، من قرية أو مدينة، فهو "خمس"، أي: مواطن ومن رعايا تلك الحكومة، كما نرى في هذه الفقرة في نص "معيني": "ركل الالت معنم ويثل وكل الالت ذا خمسم واشعبم"، ومعناها: "وكل آلهة معين ويثل وكل آلهة المواطنين والقبائل". ويراد بـ"اشعبم" هنا القبائل، أي: الأعراب. وأما "أخمس"، فيظهر أن المراد بها الرعايا الحضر المستقرون. وورد في نص سبئي: "خمسيهو وحميرم"، أي: "مواطنو سبأ وحمير".
وترد لفظة "جوم" "كوم" في النصوص السبئية القديمة بوجه خاص، مثل هذه الجملة "هوصت كل جوم"1. ويرى بعض الباحثين أن "هوصت" بمعنى "ملة". و"الملة"، في الإسلام، يراد بها نظام ديني واقتصادي واجتماعي، ارتبط أفراده بمجتمع واحد، برابط الأمور المذكورة2. أما لفظة "جوم" "كوم"، فترادف لفظة "قوم" في عربيتنا. وقد يكون القوم عددًا صغيرًا، وقد يكون كبيرًا ويرتبط القوم برباط متين يربط أفراده، هو الإله الذي ينتمي القوم إليه. فورد "جوم عثتر" و"كوم ود"، أي: "قوم عثتر" "وقوم ودّ". فالقوم إذن جماعة وإخوان في دين، تؤمن بإله يجمع شمل المؤمنين به، ويربط بينهم برباط العقيدة والإيمان به، لا برباط النسب وصلة الرحم والدم.
هذا، ويذكر علماء اللغة أن "الملة"، الشريعة والدين، كملة الإسلام
__________
1 يراجع النص: Glaser 484
2 Rhodokanakis, Stud. II, S. 8. WZKM, 28, 110, Note: 2(9/182)
والنصرانية واليهودية. وهي في اللغة السنة والطريقة1. وقد وردت في خمسة عشر موضعًا من القرآن الكريم2. استعملت في ثمانية مواضع منها للتعبير بها عن دين إبراهيم: "ملة إبراهيم". وللمستشرقين آراء متضاربة في أصل الكلمة3.
والمواطنون هم أبناء "القبيلة"، التي هي نواة الحكومة وجرثومتها، والتي بقوتها تكونت تلك الحكومة، والقبائل المتحالفة معها، أو التي خضعت لحكمها فتبعتها. ولهذا تذكر القبيلة ويشار إليها، باعتبار أن الحكومة هي حكومتها في الأصل ثم يشار إلى القبائل الخاضعة لها للدلالة على أنها في حكم تلك الحكومة.
فقد ورد في الكتابات السبئية "سبأ واشعبهمو"، بمعنى سبأ والقبائل التابعة لها4.
وورد: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في المرتفعات وفي التهائم"، وهو لقب ملوك سبأ بعد توسع رقعة سبأ واستيلاء السبئيين على غيرهم وضمهم أرضهم إلى أرض دولتهم. فدوّن اسم سبأ أولًا، باعتبار أن السبئيين هم العنصر الحاكم المكون الأول للدولة، ثم أشار إلى من تبعهم وانضم إليهم سلمًا أو حربًا.
وبين "الشعب" وإلهه رابطة مقدسة وصلة متينة لا انفصام لها. وفي استطاعتنا أن نقول: إن مجتمعات العرب الجنوبيين كانت مجتمعات دينية؛ فالشعب عبيد الإله، والإله بالنسبة لأتباعه أب غفور رحيم. شفيق قدير. "الجوم" "الكوم" أي: القوم أبناؤه وأولاده. فالسبئيون هم ولد "المقه". أي: أولاد المقه، إله سبأ، والمعينيون هم "ولد ود"، وقد خاطبوا إلههم" ودًّا" بعبارة: "ودم ابم" أي: "ودّ أب" و"ودّ الأب". وقال القتبانيون عن أنفسهم: "ولد عم" و"أولد عم"، أي: ولد الإله "عم" وأولاد الإله "عم". وفي هذه الجمل أجمل تعبير عن وجهة نظر المجتمع إلى ربه. إن رب القبيلة، هو الرابط المقدس الذي يربط شملها ويجمع بين أبنائه، وبه يعتصم الناس، وإليه يلاذ في الخير وفي الشر. وقد عبر عن هذه الرابطة بلفظة جميلة هي "حبلم" في بعض
__________
1 اللسان "13/ 631"، المفردات "488".
2 Dictionary of Islam, P. 348
3 Shorter Ency. Of Islam, P. 380
4 يراجع السطر التاسع من النص المنشور في: REP. EPIG. V. 2726(9/183)
الكتابات1. والحبل يربط ويجمع ويجعل من المتفرق وحدة. وهو مصطلح يذكرنا بالآية الكريمة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} 2، وبالآية: {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} 3. فلفظة "ولد" إذن بمعنى قوم وأبناء صنم أو موضع.
فهي في معنى أبناء في اصطلاحنا الحديث، تستعمل قبل اسم الصنم أو الموضع أوالقبيلة، لتدل على معنى المواطنة. ولا يشترط فيها أن تكون مواطنة نسب، أي: صلة رحم وقرابة دم، بل مواطنة دينية ورابطة سياسية واجتماعية واقتصادية.
والإله حامي شعبه والذاب عنه، والمؤيد له في السلم وفي الحرب. لذلك نعت بـ"شيمم" "ش ي م م" أي: "شيم"، وتعني اللفظة معنى حام وحافظ ومدافع. ونجد الناس وهم ينعتون آلهتهم بهذا النعت في كتاباتهم طالبين منهم العون لشفائهم من أمراضهم ولحمايتهم من الأسوأ.
وفي جملة "أهل عثتر" وأمثالها التي ترد في مختلف كتابات المسند، تعبير عن هذه الرابطة المتينة التي تربط القوم بإلههم. تعبير عن صلة ملة عثتر بربهما.
الجماعة المؤمنة بالإله عثتر. وتعبير عن جماعات انتمت إلى آلهة أخرى، وقالت عن نفسها: "أهل". ويشبه هذا التعبير تعبير "أهل الله" الوارد في الإسلام ويراد بهم المؤمنون بالله، المنقطعون له وحده، العابدون القانتون الزاهدون.
وهكذا نجد شعوب حكومات العربية الجنوبية، مؤلفة من وحدات سياسية دينية. لكل وحدة رابطة روحية تربط أفرادها، جعلت "المؤمنين إخوة"، في عقيدتهم وفي تمسكهم واعتقادهم بإله قبيلتهم الخاص، هو إله القبيلة.
ونحن إذ نقرأ لفظة "شعب" في الكتابات العربية الجنوبية، يجب أن لا نفهم منها ما نفهمه من لفظة "قبيلة" في نظر الأعراب، وعند العرب الشماليين، أي: رابطة دموية تجمع أبناء القبيلة، ترجع بهم إلى جد واحد أعلى. بل يجب علينا أن نفهمها على وجه آخر. يجب أن نفهمها بمفهوم "الملة" أو "الأمة" في المصطلح الإسلامي، وعلى النحو الذي فهمه المسلمون الأول من مصطلح "أمة" و"ملة"، أي: رابطة تجمع بين شمل جماعات شعرت بوجود روابط دينية
__________
1 Glaser 484, Skyye I. S. 68
2 آل عمران، الآية 103
3 السورة نفسها، الآية 112.(9/184)
وفكرية واقتصادية واجتماعية بينها، وبوجود إخوة في العقيدة والرأي. على نحو ما نفهمه من آية الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1. وذلك كما سبق أن تحدثت عن ذلك قبل قليل.
وترد لفظة "عم" بمعنى شعب في الكتابات النبطية، وترد بهذا المعنى في لهجات عربية أخرى2. وقد نعت ملوك النبط أنفسهم بـ"رحم عمه" "راحم عمه"، أي "رحيم شعبه" أو "راحم شعبه"، بمعنى أنه محب لشعبه رحيم به3. وأن ملوك النبط رحماء بشعبهم محبون له.
والذي يجمع شمل الدولة ويقويها ويأخذ بها إلى الحكم ثلاثة أركان: إله أو آلهة، يدافع أو تدافع عن الحاكم وعن رعيته، وحاكم قد يكون "كاهنًا" وقد يكون ملكًا، وقد يكون أميرًا، وقد يكون سيد قبيلة، واجبه حكم رعيته وإرشادهم وقيادتهم في السلم والحرب، ثم رعية طيعة طائعة تدين بالولاء للآلهة وللحكام، ليس لها الاعتراض على "حق الحكم"، لأنه حق إلهي مقرر، ولا اعتراض على قدر الآلهة ومقدراتها: ومن يخالف أوامر السلطان، كان كمن يخالف أمر ربه، عاصيًا خارجًا عن سواء السبيل، فيجب تأديبه، ولو بالقتل، لأن جزاء من يخرج على أمر الآلهة القتل.
ومن سيماء الإخلاص للدولة ذكر أسماء الآلهة التي يتعبد لها الحكام، أي: آلهة الشعب الحاكم، تيمنًا بها، وتقربًا إليها، وذكر أسماء الحكام في الكتابات في المناسبات تعبيرًا عن ولاء صاحب الكتابة وإخلاصه للحاكم. وذكر اسم القبيلة الحاكمة مع اسم القبيلة التي ينتمي إليها صاحب الكتابة، ليكون ذكرها تعبيرًا عن الاعتراف بسيادتها عليه وعلى قبيلته.
__________
1 الحجرات، الآية 10.
2 GIS, II, 197, 5, Huber 29, Euting 2
3 GIS, II, 197. 5. Huber 29, Euting 2(9/185)
أصول الحكم:
المجتمع العربي الجاهلي: بدوٌ وحضر، أهل وبر وأهل مدر. يتساوى في ذلك عرب العراق وعرب بلاد الشام وعرب جميع أنحاء جزيرة العرب.(9/185)
وفي كل مجتمع من هذين المجتمعين تكوّن نظام من أنظمة الحكم يتناسب مع المحيط، لأنه نبات ذلك المحيط، وحاصله، وما ينبت في مكان ينبت وقد اكتسب خصائص التربة وخصائص الجو، وما يحيط بالنبات من مؤثرات طبيعية أو بشرية.
ومن هنا صارت "الرئاسة" قاعدة الحكم عند أهل الوبر، و"الملكية" و"رئاسة القرى والمدن"، أداة الحكم عند أهل المدر.
ولا ينال الحكم في المجتمعات البدوية وفي المجتمعات الصغيرة التي لم تبلغ مرحلة متقدمة من الحضارة، والتي لم تنل حظًّا من الغنى والمهارة في العمل وفي كثرة الإنتاج وتنويعه، إلا من كان ذا قابلية عالية وذو شخصية قوية، وذو أسرة متجانسة متآلفة متماسكة كثيرة العدد، وذا عشيرة أو قبيلة تندفع في تأييده لمزاياه المذكورة أو لخوفها منه، أضف إلى ذلك: العصبية والرغبة في كسب المال عن طريق الاندفاع معه في غزو القبائل الأخرى. فمجتمع من هذا النوع تكون قيادته بيد "سادته"، وقد يفرض أحدهم نفسه على الآخرين، طوعًا أو كرهًا فيكوّن حكومة تنسب في الغالب إليه، قد يطول أجلها إذا جاء من بعده حكام أكفاء لهم قابلية وشخصية، وقد تموت بموته، لعدم كفاءة من يخلفه، ولأنه كون دولته بشخصيته، وليس عن دوافع أخرى مثل إيمان بعقيدة وإخلاص لها، أو وجود وعي مشترك وحس بوجوب التكاتف والتآزر، لتأليف مجتمع متكاتف يعيش فيه المواطنون عيشة مؤاخاة ومواطنية بالعدل والإنصاف، حتى يطول عمر تلك الحكومة، ولما كانت تلك الدولة قد تكونت إما عن مصلحة أو عن خوف وقهر أو عن طمع، وقد زالت هذه بموت صاحبها، لذلك يصيبها التفكك وانهيار البناء. ومما يؤيد ذلك ردة من ارتد بعد وفاة الرسول عن الإسلام، فقد كانت حجتهم في ردتهم أنهم إنما بايعو الرسول وآمنوا به، ولم يبايعوا غيره. وبوفاته انتهى حكم البيعة، فلن يخضعوا لغيره ولن يدفعوا صدقة ولا زكاة ولن يطيعوا أحدًا. ولو لم يؤدبهم "أبو بكر"، بأدب القوة، لما عادوا ثانية إلى الإسلام.
وللحكم الملكي صلة كبيرة بحياة الاستقرار والاستيطان، فهو لا ينمو ولا يظهر إلا في المجتمعات المستقرة وفي المواضع الغنية بالماء وفي القرى والمدن. فنرى أن حكام قرى فلسطين ومدنها كانوا قد لقبوا أنفسهم بلقب "ملك" في أيام "إبراهيم" مع أنهم لم يكونوا إلا رؤساء قرى أو مدن وقد كان أكثرهم كهنة في الأصل،(9/186)
أي حكامًا حكموا رعيتهم باسم الآلهة، فكان لهم الحكم في الدين وفي تدبر أمور الرعية من الناحية الدنيوية، ثم عافوا هذا المركز وتركوا المعبد، وخصصوا أنفسهم بالنظر في الأمور الدنيوية.
ولما تقدمت وسائل الحروب وتفنن الإنسان في صنع الأسلحة، وفي استذلال الحيوان وتسخيره لنقل محاربيه وأسلحتهم ومواد إعاشتهم، توسعت سلطة كبار الملوك، وتضخمت حدود ممالكهم، فظهرت الملكيات الكبيرة: ظهرت على أنقاض "ممالك القرى" و"ممالك المدن". حيث حكم التاريخ بتسلط الممالك القوية على الممالك الصغيرة، وبأكل القوي منها الضعيف، لأن الحق للأقوى والبقاء للقوي المكافح المناضل المكالب في هذه الحياة تكالب الكلاب فيما بينها، لمجرد شعور كلب قوي بتفوقه على كلب آخر غريب أو كلاب غريبة عنه.
ولعب "المال" دورًا خطيرًا في ظهور "الملوك الكبار" وفي تكوين "الحكومات الملكية الكبيرة"، ونضيف إليه شخصية صاحب المال والطبيعة التي عاش بها، من برودة وحرارة وتبدل في الضغط الجوي، ومن تربة ومعدن ونبات وماء.
فالمال وحده لا يكفي لخلق دول كبرى، وهو لا يدوم إذا لم يقرن بعقل فطن خلاق يعمل على الإيجاد والتكوين وتسخير الطبيعة في خدمته وخلق قوة تكون سندًا له وسدًّا منيعًا يقف حائلًا منيعًا أمام المعتدين. والاستفادة من المال بتشغيله بحكمة وبعلم، وبإيجاد موارد جديدة تحل محل الموارد القديمة إن نفقت.
وقد كان ظهور الحكومات الملكية الكبيرة في الأرضين الغنية بخيراتها ذات الماء الغزير والجو المساعد على العمل. فوسعت رقعتها وطمعت في غيرها فابتلعتها وقوَّت نفسها بخيراتها وعبأت كل قواها لخدمتها، وأخذت تكتسح غيرها وتتوسع وكونت الممالك الكبيرة المشهورة في التاريخ. وقد سمح بعض ملوك الحكومات الكبيرة لملوك الممالك الصغيرة بالاحتفاظ بحمل لقب "ملك"، على أن يكون ذلك مقرونًا باعتراف أولئك الملوك بحماية الملوك الكبار لهم، وبوجوب عدم الخروج على طاعتهم وبلزوم الاشتراك معهم في الحروب إن طلب منهم الاشتراك فيها، وبدفع جزية مرضية لهم. فلم تتمكن الحكومات الصغيرة التي عاش على التجارة والاتجار من العيش بأمن وسلام، إذ طمعت فيها الدول القوية، فأرسلت إليها من يخيرها بين الاستسلام والطاعة أو الهلاك وإحراق الدور وإنزال الدمار. وقد رأينا أمثلة عديدة على ذلك فيما سلف من هذا الكتاب. من ذلك تهديد حكومات العراق(9/187)
لحكومات مدن الخليج، وتهديد الرومان واليونان للنبط. وحملة "أوليوس غالوس" على اليمن، لضم أصدقاء أغنياء إلى إمبراطورية الرومان، يؤدون لها الخراج ويقدمون لها ما عندهم من ذهب إبريز، وإلا فالنار والخراب والدمار والقتل.
فلا مجال للحكومات الغنية الصغيرة من العيش بأمن وسلام. وليس عندها سوى الاختيار بين أمر من أمرين. فإما دفع جزية ثقيلة ترضي القوي، وإما الاستسلام وإنزال النار بها والدمار.
أما البوادي والأرضين القفرة الفقيرة القليلة الماء، فلا يمكن أن تنبت بها "ممالك" كبيرة، لعدم توفر مستلزمات المعيشة والتجمع الكبير فيها، لهذا صارت حكوماتها حكومات "رئاسات" رئاسة قبيلة أو أحلاف. وقد يحلو للرئيس أن يختار له "ملك"، لقب لا يعني في الواقع العملي أكثر من سيد قبيلة. وحكومات باطن جزيرة العرب هي من هذا النوع في الأكثر. أما الملكيات فقامت في مواضع الحضارة، حيث التربة الصالحة الخصبة المساعدة على حياة التجمع والاستقرار.
ووجود حضر، يقبلون بالطاعة والخضوع لحكم حاكم، ومال يجبى من الناس ليستعين به الحاكم على الإنفاق على نفسه وعلى جيشه، وعلى من ينصبهم لإدارة الأمور، قامت تلك الملكيات في العراق وفي بلاد الشام وفي أطراف جزيرة العرب، وفي مواضع الماء من نجد كاليمامة. وقد تكلمت عنها في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب.
أما الرئاسة، فهي درجات تبدأ برئاسة بيت، وتنتهي برئاسة قبيلة. ولكل رئيس سلطان على أتباعه وحقوق وواجبات. وعليه أيضًا حقوق وواجبات يجب أن يوفي بها لأتباعه ومن هم في عنقه ويمينه. والرئيس هو "بعل" و"رب" و"سيد" جماعته والمسئول الشرعي عن أتباعه، وهو ممثلهم ولسانهم الناطق باسمهم وحاميهم في الملمات.
وقد عرف "هشام بن المغيرة" بـ"رب قريش" ونسبت قريش إليه في الجاهلية، فقال الشاعر:
أحاديث شاعت في معدٍّ وغيرها ... وخبّرها الركبان حيّ هشامِ
وذلك تعظيمًا له واحترامًا لشأنه1
__________
1 الاشتقاق "ص94".(9/188)
ويعرف رئيس القبيلة بـ"سيد القبيلة"، وسادات القبائل هم رؤساء القبائل. وقد ينعت رجل بـ"سيد العرب" وبـ"سيد مضر" وبـ"سيد أهل الوبر"، وذلك للتعبير عن سلطانه وعن مكانته وعن حكمه لقبائل كثيرة عديدة. فقد نعت "الأفكل"، وهو "عمرو بن جعيد" بـ"سيد ربيعة" لرئاسته على ربيعة1. وعرف "حذيفة بن بدر" بـ "سيد غطفان"، وكان يقال له: "رب معد"2.
وعرف "قيس بن عاصم بن سنان المنقري" بـ"سيد أهل الوبر"، فلما وفد على رسول الله في وفد "تميم"، قال رسول الله: "هذا سيد أهل الوبر".
وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية؛ لأنه سكر فعبث بذي محرم له3.
وعرف حاكم "تدمر" بـ"رش تذمور"، أي: "رأس تدمر" و"رئيس تدمر"، في الكتابات التدمرية القديمة. ثم عرف بـ"ملك"، في الكتابات المتأخرة المدونة وصار اللقب الرسمي لحكام "تدمر" في أيام "الزبّاء" فما بعد، إلى احتلال الرومان لتدمر وإلغائهم الحكم التدمري4.
ولقب "أذينة" ملك "تدمر" نفسه بـ"ملك ملكا" أي: "ملك الملوك"5 أيضًا، تشبهًا بملوك الفرس وبملوك حكموا قبلهم، مثل: الملوك الأشوريين، واتخذ لنفسه ألقابًا يونانية لاتينية تقليدًا للرومان. ولم نعثر في النصوص العربية الجنوبية على لقب "ملك الملوك". ويظهر أن الملوك العرب لم يتلقبوا بهذا اللقب الأعجمي.
__________
1 الاشتقاق "ص197".
2 المعارف "ص38".
3 معجم الشعراء "ص324".
4 المشرق، السنة الأولى، تموز 1898م، "ص590".
5 Die Araber II, S. 254(9/189)
المكربون:
وترينا أقدم الكتابات العربية أن العربية الجنوبية حكمها قبل الملوك أناس حكموا حكمًا مزدوجًا، أي: حكمًا دينيًّا ودنيويًّا، على نحو ما حدث في العراق وفي(9/189)
مصر وفي أماكن أخرى من الشرق، قبل أن ينتقل الحكم إلى الملوك، ويتحول إلى حكم زمني، ينصرف فيه الملك إلى الأمور الزمنية لرعيته، تاركًا الشئون الدينية لرجال الدين، حكموا الأرض باسم السماء، وحكموا حكم الساسة والحكام، ونطقوا باسم الآلهة، فحكمهم حكم إلهي مقدس، على أتباعهم ومن يؤمن بهم إطاعتهم، لأنهم ألسنة الآلهة الناطقة على هذه الأرض1.
ويعرف هذا الكاهن الملك بـ"مكرب"، أي: "مقرب". وقد حصلنا من كتابات المسند على أسماء عدد من "المكربين"، غير أن تلك الكتابات خرساء، لم تبح لنا بشيء ما عن أصول حكمهم للمعابد ولإدارة الدولة ولا عن كيفية تلقيهم الأوامر الإلهية التي يطلبون من أتباعهم تنفيذها، هل كانت وحيًا من الآلهة، يحملها إليهم ملائكة مقربون، أو إلهامًا يتجلى في نفوسهم فينطق به المكربون ويبلغونه للناس، أو صوتا يخرج من رَئِيّ أو صنم أو ما شاكل ذلك يسمعه "المكرب" فيفسره للناس على طريقة الكهان؟
وليس في نصوص المسند تعليل ما للدوافع والأسباب التي حملت آخر "مكرب" في كل دولة من الدول العربية الجنوبية على تغيير لقبه القديم، الموروث عن آبائه، واتخاذ لقب له جديد، لقب "ملك"، وهو لقب يشير إلى الحكم الدنيوي فقط، وإلى ابتعاد الملك عن الحكم الديني وتركه لغيره غير أننا نستطيع أن نقول باحتمال تأثر هؤلاء "المكربين" بالمظاهر الخارجية التي كانت عند الدول المعاصرة التي لقبت حكامها بلقب ملك، وهي دول كبيرة ذات جاه واسم وسلطان فأراد أولئك الحكام، حكام حكومات اليمن، التشبه بهم، ومحاكاتهم في المظهر، فغيروا لقبهم، ليظهروا أنفسهم أنهم مثلهم، وأنهم ليسوا أقل شأنًا من أقرانهم الملوك.
ولا يظن أن التغيير الذي حدث فأدى إلى إبدال حكم "المكربين" بحكم الملوك كان تغييرًا قسريًّا، أي: نتيجة انقلاب عسكري أو ثورة، ذلك لأننا نعلم أن آخر مكرب من مكربي سبأ كان هو المكرب "كرب ال وتر" "كرب إيل وتر". وقد كان هذا المكرب أول من افتتح العهد الملكي في سبأ، وأول من حمل لقب "ملك" وذلك يدل على أنه هو الذي اختار اللقب الجديد، واستبدله باللقب القديم.
__________
1 A. Grohmann, S. 122(9/190)
ولم يكن "المكرب" رجل دين بالمعنى المفهوم من الجملة، أي: عالمًا بأمور الدين فقيهًا بها كرس وقته لها، ومتوليًّا إمامة الناس في صلواتهم وفي أداء الشعائر الدينية للأرباب في معابدها، مقدمًا القرابين بنفسه إليها، بل يرى بعض الباحثين أنه مجرد منصب له صبغته الدينية، وأنه يشبه منصب "الخليفة" في الإسلام، حيث كان الخليفة يعد "أمير المؤمنين" ورئيس المسلمين. ولم يكن مع ذلك أعلم المسلمين بأمور الدين ولا أفقههم بالأحكام، وإنما هو "خليفة الله" في أرضه. وكذلك كان المكربون خلفاء الآلهة على الأرض1.
وقد استتبع انتقال الحكم من "المكربين" إلى الملوك، حدوث تغيير في أصول الحكم. فانقطعت صلة الملك بالمعبد، ولم يعد الرئيس المباشر له ولرجال الدين، وإن بقي الملك حامي الدين والمعبد. لما للمعبد من ارتباط بالدولة ولما للاثنين من مصالح مشتركة مترابطة، إذا اختلت أصاب الأذى الجهتين. وانصرف رئيس المعبد إلى إدارة المعبد وأملاكه الكثيرة الواسعة، وإلى جباية الضرائب الدينية، أي: حقوق الآلهة على الناس. وهي حقوق واجبة مفروضة. وانصرف الملك إلى إدارة الدولة، وجباية حقوقه على شعبه. وإدارة أملاكه الخاصة وأملاك الدولة، التي هي أملاك الملك أيضًا. حيث لم يفرق الملوك بين جيبهم الخاص وبين جيب الدولة. لأن الدولة الملك، والملك الدولة. وبيت المال هو بيت مال واحد، للملك أن يتصرف به كيف شاء.
__________
1 A. Grohmann, S. 122(9/191)
الملك:
وأما "الملك"، فهو الرئيس الأكبر والإنسان الأعلى في مجتمعه. ولفظة "ملك" من الألفاظ العربية القديمة التي ترد في جميع اللهجات العربية1، وهي أيضًا من الألفاظ التي ترد في أغلب اللغات السامية. وقد تلقب بها ملوك العربية الجنوبية، وتلقب بها ملوك الحيرة وملوك آل غسان وملوك كندة، بل طمع في هذا اللقب أمراء وسادات قبائل، أعجبهم فلقبوا أنفسهم به.
__________
1 اللسان "12/ 381"، "ملك"، تاج العروس "7/ 180 وما بعدها"، "ملك"، مقدمة ابن خلدون "143"، تفسير الطبري "2/ 595"، روح المعاني "13/ 223".
"16/ 9".(9/191)
ولا يعني هذا أن حكم الملك كان دائمًا حكمًا شاملًا واسعًا بالمعنى المفهوم من هذا اللقب، فقد كان سلطان الملك في بعض الأحيان لا يتجاوز سلطان سيد قبيلة، أو سلطان صاحب قرية أو أرض. وعلى ذلك نجد في العربية الجنوبية وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب عشرات من أمثال هؤلاء الملوك يحكمون قبائلهم أو أرضهم بهذه النعوت والصفات المغرية المحببة إلى النفوس والقلوب، ذلك لأنهم أحبوا هذا اللقب، فلقبوا أنفسهم به، وصاروا ملوكًا، وهم في الواقع سادة قبائل أو أرض صغيرة. ونجد في كتب السير والتواريخ أسماء جملة "ملوك" عاشوا قبيل الإسلام وعند ظهوره، لم يكونوا في الواقع سوى سادات "شيوخ" قبائل أو قرى، ولم يكن لهم على من حولهم نفوذ أو سلطان.
ومعنى "ملك"، الرأي والمشورة والنصيحة. و"مَلَكَ"، بمعنى قدم رأيًا أو نصيحة أو مشورة، وذلك في بعض اللغات السامية. وتعني كلمة "شارو" "شرو"، "الملك" في الأشورية، وهي في معنى "الحكيم" في الأصل، أي: في المعنى المتقدم. وتعني كلمة "مليخ" "ملخ"، أي: "ملك" في العبرانية، الحكيم الذي يقدم رأيًا وحكمة ومشورة، فهي في معنى Adviser وCounseller في الإنكليزية1. إذ كان الملوك بمنزلة الحكماء القضاة في شعوبهم، ثم تخصصت بالحاكم الذي يحكم شعبه على النحو المفهوم من اللفظة عندنا.
وقد وردت لفظة "ملك" في نصوص المسند. وردت على هذه الصورة: "ملكن"، أي: "الملك"، و"ملكم"، أي: "ملكٌ". ووردت على هذه الصورة: "ملك" في النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية. و"ملكو" في النصوص النبطية. أما في النصوص العربية الشمالية، فإن أقدم نص وردت فيه هذه اللفظة، هو نص "أم الجمال"، الذي يعود عهده إلى سنة "250" أو "270" بعد الميلاد2. وهو شاهد قبر رجل اسمه "فهر بن سلى مربّي جذيمة ملك تنوخ" ونص "النمارة" الذي هو شاهد قبر الملك "امرؤ القيس"، وقد دوّن سنة "328" للميلاد3.
__________
1 Hastings, P. 515
2 السامية "139"، خليل يحيى نامي، أصل الخط العربي وتطوره إلى ما قبل الإسلام، محلة كلية الآداب، مايو 1935م، "سنة 270م"، De Vogue, Syrie Centrale, P. 1, 15, II
3 Littmann, Nabataen Inscriptions from the Southern Hauran, p. 37 Cantineaue, Nabateen et Arabe, p. 27(9/192)
ولا نعرف في الزمن الحاضر مكانة درجة من يحمل لقب "أخ ملكا" أي: "أخي الملك" الوارد في النصوص النبطية. فلسنا ندري أكانت تعني "وصاية" أو "وزارة" أو مقربًا من الملك، أم تعني أن حامله من الأسرة المالكة1.
ونطلق لفظة "تبع"، والجمع "التبابعة"، على ملوك حمير، تطلقها الموارد الإسلامية في بعض الأحيان على كل ملوك اليمن. فهي في معنى "ملك".
ولا يطلقونها على غيرهم، أي: على الملوك الآخرين من ملوك العرب. فهي إذن اصطلاح خاص بأولئك الملوك. كما اصطلحوا على تسمية كل من ملك الحبشة "النجاشي"، وكل من ملك الروم "قيصر"، وكل من ملك الفرس "كسرى". وقد ذكر علماء اللغة في تفسيرها: "وتبع كانوا رؤساء، سمّو بذلك لاتباع بعضهم بعضًا في الرئاسة والسياسة. وقيل: تبع ملك يتبعه قومه والجمع التبابعة"2. وورد في القرآن الكريم: "وقوم تبع" في جملة الأقوام التي كذبت فحق عليها وعيد3.
وذكر بعض أهل الأخبار "أن العرب لم تكن تسمي أحدًا تبعًا حتى يملك اليمن والشحر وحضرموت، وقيل: حتى يتبعه بنو جشم بن عبد شمس".
فإن لم يكن كذلك سمي ملكًا. وأول من لقب منهم بذلك "الحارث بن ذي شمر" وهو الرائش. ولم يزل هذا اللقب ملازمًا لملوكهم إلى أن زالت مملكتهم بملك الحبش اليمن4.
وذكر أن العرب كانت تسمي الملك "الحصير" كذلك. لأنه محجوب عن الناس، أو لكونه حاصرًا، أي: مانعًا لمن أراد الوصول إليه. قال لبيد:
وَقَمَاقِم غُلبِ الرِقابِ كَأَنَّهُم ... جِنٌّ على باب الحَصيرِ قِيام
ُوالمراد به النعمان بن المنذر. وروي لدى طرف الحصير قيام. أي عند طرف بساط النعمان
__________
1 Die Araber I, S. 288
2 المفردات "ص71"، اللسان "8/ 31"، تاج العروس "5/ 287"، المحكم "2/ 44"، صبح الأعشى "5/ 23"، مجمع البيان، للطبرسي "9/ 66، العبر "2/ 112".
3 الدخان، 44، الآية 37، سورة ق، رقم 50، الآية 14، روح المعاني "15/ 116 وما بعدها"، الطبري "1/ 404"، ابن الأثير، الكامل "1/ 156 وما بعدها".
4 صبح الأعشى "5/ 480". ابن خلدون، العبر "القسم الأول من المجلد الثاني"، "ص92 وما بعدها" مروج الذهب "2/ 88".
5 تاج العروس "3/ 144"، "حصر".(9/193)
وذكر بعض أهل الأخبار أن "حمير" تسمي الحاكم "الفتاح" بلغتها1.
والعادة أن الملكية وراثية، تنتقل من الآباء إلى الأبناء، ويتولاها الابن الأكبر في الغالب. فإذا حكم هذا وتوفي، انتقلت إلى ابنه الأكبر، وهكذا. وبذلك يحرم إخوته الآخرون، إلا إذا نص الأب الملك على خلاف ذلك، كأن يذكر اسم الذي سيخلفه، أو يعين جملة أبناء أو أشخاص يحكمون من بعده على التوالي، فإذا توفي الابن الأكبر مثلًا، انتقل الحكم إلى أخيه الذي يليه، وهكذا إلى نهاية الوصية. وقد يوصي المتوفي لأخيه من بعده، أو لإخوته، بدلًا من ابنه أو أولاده، فنظام الحكم إذن نظام وراثي في العادة، ينتقل طبيعة إلى الابن الأكبر للحاكم المتوفي، إلا إذا حدث خلاف ذلك، لوصية يوصيها المتوفي ولرأي يراه، أو لأحوال قاهرة كأن يكون الشخص المتوفي عقيمًا لا عقب له، ففي مثل هذه الحالة ينتقل الحكم إلى أقرب الناس إليه، بحسب وراثة الدم، أو بحسب رأي الأسرة التي ينتمي إليها المتوفي فيكون عندئذ لها وللمسنين والوجهاء الرأي والاختيار2.
والعادة أن الحكم يكون في الأسر الكبيرة الرفيعة، ينتقل إما من أب إلى ابن على حسب العمر، وإما إلى أخ أو غيره من أفراد الأسرة. وقد ينشب خصام بين أفراد هذه الأسرة في موضوع تولي العرش، ولا سيما في العهود القديمة، حيث لم يكن العرف قد استقر على ضرورة انتقال الحكم من الأب إلى ابنه الأكبر.
فتنقسم الأسرة، وقد يطول انقسامها، عند تكافؤ المتخاصمين واستعانة كل فريق على الآخر بمؤيدين أقوياء، فيدعي حق الحكم له، ويلقب زعيمه بلقب "ملك".
وتفتح هذه الخصومات الأبواب لزعماء الأسر الكبيرة الأخرى، لمنافسة الأسرة الحاكمة على الحكم، فتدعيه أيضًا لنفسها وقد تنجح مدة، وقد تنجح في انتزاعه من الأسر الحاكمة وابتزازه لنفسها.
وقد يقارع تلك الأسر شخصٌ من سواد الناس من المغمورين، وينتزع الحكم من أصحابه، وذلك بفضل كفاية فيه، وقوة شخصية دفعته للتزعم وللطموح.
وفي تاريخ الحكم في العربية الجنوبية أمثلة عديدة على ذلك. وقد يصير هذا الشخص مؤسس أسرة حاكمة جديدة، إذ ينتقل الحكم منه إلى أبنائه أو أعضاء أسرته
__________
1 تاج العروس "2/ 195"، "فتح".
2 Grohmann, S. 128, Ryckmans, L'institution. P. 39, 41(9/194)
بعد وفاته، وقد يقتصر الحكم عليه، فإذا توزع وقتل أو مات، قتل حكمه بقتله، ومات اغتصابه له بموته.
وقد أرتنا بعض كتابات المسند أن العرب الجنوبيين، لم يجدوا غضاضة في تلقب أب وابنه أو أب وأبنائه أو أخ وإخوته بلقب "ملك" في وقت واحد، فقد انتهت إلينا كتابات عديدة، وفيها أب يحمل لقب ملك، ومعه أبناؤه يحملون هذا اللقب كذلك، كما انتهت إلينا كتابات يحمل فيها أخ وإخوته لقب "ملك". وقد يدل ذلك على اشتراك المذكورين في الكتابة إشتراكًا فعليًّا في الحكم، غير أن ذلك لا يعني الحتمية، فقد يجوز أن يكون "الملك" مجرد لقب يمنح لذلك الشخص أو لأولئك الأشخاص ليشير إلى صلة الشخص أو الأشخاص به، أو إلى منزلته ومنزلتهم بين الناس.
وقد يكون ذلك للتخفيف عن أعمال الملك بسبب من كثرة عمله أو من عدم تمكنه من القيام بأعمال الملك كلها لضعف شخصيته وقابلياته، أو لمرض ألمَّ به، أو لأن الملك أراد بذكرهم معه تدريبهم على أعمال الحكم، حتى يكونوا قد خبروا أمور الملك إذا انتقل الحكم إليهم، مع بقاء الملك الأصل في عرشه ومكانه، يمارس أعماله على نحو ما يريد.
ولم يصل إلينا نص ما من العربية الجنوبية يشير إلى وجود اسم ملكة على عرش إحدى الحكومات التي تكونت هناك. أما خارج العربية الجنوبية، وخارج جزيرة العرب، فقد وردت في الكتابات الأشورية وفي كتابات غيرها أسماء ملكات عربيات، وكل ذلك دليل على أن العرب الشماليين لم يجدوا ما يمنعهم من تعيين ملكات عليهم، وإن ملكات ولين حكومات.
وقد كان ذلك قبل الإسلام بزمن طويل. أما في الأيام القريبة من الإسلام، فلم نعثر على اسم ملكة حكمت فيها، لا في الكتابات ولا في القصص الذي يرويه الأخباريون عن تلك الأيام.
ولا نعرف في جزيرة العرب نظامًا انتخابيًّا عامًّا ينتخب الشعب فيه ملكه على النحو الذي نفهمه في الزمن الحاضر، أو على النحو الذي كان معروفًا عند الرومان أو اليونان في زمن من الأزمان، انتخابًا لأمد محدود معين بسنين أو لأمد طويل يحد بحياة الإنسان، فلم يرد نص ما فيه شيء من ذلك، ولم يرد في قصص الأخباريين ما يشير إلى وجود مثل هذا الانتخاب.(9/195)
ولا نعرف أيضًا أن المزاود وهي المجالس أو طبقة قادة الجيش أو سادة المدن والقبائل كان لها رأي في تعيين الملوك، أو إقرارهم على نحو ما كان يجري في الدولة البيزنطية. ولا نعرف كذلك أكان لأحد حق إقالة الملوك وتنحيتهم عن عرشهم إذا تبين أنه غير صالح لتولي الحكم لسبب من الأسباب، فإننا لم نعثر حتى الآن على نصوص تتحدث عن مثل هذه الأمور. وأما قيام شخص من الأسرة المالكة أو من غيرها بمنافسة الملك أو بالثورة عليه وانتزاع الملك منه، فإن ذلك شيء آخر، يعود إلى استعمال القوة والخروج عن الطاعة، وهما بالطبع من الأمور المخالفة في كل عهد وزمان.
لقد تحدث "الهمداني" عن طريقه من طرق تعيين الملك عند "حمير"، فقال: "وبأسفل المعافر قصرُ ذي شمر، ويدخلون في قيالة حمير، وكانت أقوالها تكون في كل عصر ثمانين قيلًا من وجوه حمير وكهلان، فإذا حدث بالملك حدث، كانوا الذين يقيمون القائم من بعده ويعقدون له العهد. وكان قيام الملك من قدماء حمير عن إجماع رأي كهلان، وفي الحديث عن رأي أقوال حمير فقط، وكانوا إذا لم يرتضوا بخلف الملك، تراضوا لخيرهم، وأدخلوا مكانه رجلًا ممن يلحق بدرجة الأقوال، فيتم الثمانين قيلًا، ولم يكن هذا في حمير إلا مرات يسيرة لأن الملك لم يكن يعدو آل الرائش، إلا أن يُتوفى الملك وأولاده صغار، أو يكل1، فيفعل ذلك حتى يتدبر في سواه من آل الرائش"2.
وما ذكرته عن حكاية "الهَمْداني" عن كيفية تعيين الملوك في حمير، يؤيد كون الملكية في اليمن ملكية وراثية تنتقل في الأصل بالإرث من الأب إلى الابن، إلا في الحالات الطارئة، مثل موت ملك فجأة وأولاده صغار، أو موته وهو عقيم لا خلف له، ولم يوص لأحد بالحكم من بعده، فيكون الرأي لسادات المملكة الذين جعل "الهمداني" عدة مجلسهم ثمانين قيلًا، فيختارون للملك من يرون أنه أكفأ الناس للملك، وينصبونه ملكًا. وقد رأينا أنه نص في حديثه هذا على أن ما ذكره يتناول حالات خاصة، وقد وقع في مرات يسيرة، لأن الملك لم يكن يعدو الإرث المعهود عنهم الذي ينتقل في الأسرة المالكة.
__________
1 أي: يموت عقيمًا لا أولاد له.
2 الإكليل "2/ 114".(9/196)
ولعلّ هذه الظروف الطارئة هي التي حملت الملك على تنصيب ابن له أو ابنين أو أخ له ملكًا معه يلقب بلقب الحكم في أثناء حياته، ويذكر ويذكرون بعده في الكتابات. وغايته من هذا النص هو أن الشخص المذكور اسمه بعد اسم الملك، هو الذي يرث الملك بعد وفاة الملك لسبب من الأسباب، فلا يقع حينئذ خلاف ما في تعيين الشخص الذي سيلي الملك. ولعل ذلك كان يحدث عند مرض الملك أو عند تقدمه في السن وشعوره بالعجز والكلال، أو لكونه محاربًا فهو يخشى أن يقتل في المعارك، وما أشبه هذا، فكان يحتاط لذلك بالنص على اسم من يليه وتعيينه معه ليعينه في تحمل أعباء الحكم، حتى إذا حدث له حادث يكون قد تدرب على إدارة الملك.
وذكر بعض أهل الأخبار أنه لم يكن لملوك اليمن نظام، وإنما كان الرئيس منهم يكون ملكًا على مخلافه لا يتجاوزه. وإن تجاوز بعضهم عن مخلافه بمسافة يسيرة من غير أن يرث ذلك الملك عن آبائه فلا يرثه أبناؤه عنه، وإنما هو شأن شذاذ المتلصصة، يغيرون على النواحي باستغفال أهلها، فإذا قصدهم الطلب لم يكن لهم ثبات. وكذلك كان أمر ملوك اليمن، يخرج أحدهم من مخلافه بعض الحيان، ويبدو في الغزو والإغارة، فيصيب ما يمر به، ثم يرجع عنه، عند خوف الطلب، زاحفًا إلى مكانه من غير أن يدين له أحد من غير مخلافه بالطاعة أو يؤدي إليه خراجًا1.
وقد أخذوا وصفهم هذا للملوك من الحالة السياسية التي كانت في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية، أيام تدهور الأوضاع بعد الميلاد، ولا سيما في أوائل القرن السادس للميلاد إلى دخوله العربية الجنوبية في الإسلام. فقد استبد الحكام وأصحاب الإقطاع بالمخاليف، ولقبوا أنفسهم بألقاب الملك، وأخذ بعضهم يغير على بعض، ويغزو أرض جاره على طريقة الأعراب.
والسيادة على القبيلة، هي كالملكية تنتقل إلى مستحقها بالوراثة في الغالب. فإذا توفي سيد قبيلة، انتقلت سيادتها إلى ابنه الأكبر. هذا عامر بن الطفيل، وهو ابن سيد قبيلة، وقد صار سيدها بعد وفاة والده، يفتخر بنفسه، ويذكر
__________
1 ابن خلدون، العبر: القسم الأول من المجلد الثاني "ص111 وما بعدها"، "بيروت 1956م".(9/197)
أنه ورث السيادة من وراثة، إذ أتته من والده، هذا صحيح، وليس في ذلك من شك، لكن قومه لم يسودوه ولم يعينوه مكان أبيه، لهذا السبب، وإنما سودوه لأنه كان يحمي حمى قبيلته ويذب عنها، ولأن فيه شروط السيادة وحقوقها، فهو سيد قومه، قبل أن تأتي السيادة إليه من والده:
وإني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر من وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب1
وهذا "بشامة بن الغدير"، خال "أبي سلمى" والد زهير، يقول في شعر له:
وجدت أي فيهم وجَدّي كليهما ... يطاع ويؤتى أمره وهو مُحْتبي
فلم أتعمّل للسيادة فيهم ... ولكن أتتني طائعًا غير متعب2
فهو رئيس ابن رئيس قبيلة، أتته السيادة من أبيه طائعة، لفضل فيه واستحقاق لها، دون أن يعمل وأن يركض للحصول عليها. فالسيادة إذن عند العرب، تتبع نظام الإرث في الغالب، إلا إذا حدث حادث يجعل أهل بيت السيادة، يعرضون عن الابن الأكبر إلى غيره، كأن يكون الابن الأكبر معتوهًا أو سفيهًا أو ضعيفًا، وأخوته أو أقرباؤه أقوى منه.
__________
1 الحيوان "2/ 95"، "هارون".
2 الحيوان "2/ 96"، "هارون".(9/198)
الأمراء:
والأمير ذو الأمر، أي: الآمر. وأولو الأمر: الرؤساء وأهل العلم. وذكر أن الأمير الملك لنفاذ أمره، والجمع أمراء، وهو يأمر إمارة1. ولما كان
__________
1 اللسان "4/ 27 وما بعدها"، "أمر"، تاج العروس "3/ 18 وما بعدها"، "1/ 41"، "2/ 189 وما بعدها".(9/198)
الخليفة في الإسلام أميرًا على المسلمين، نعت بـ"أمير المؤمنين". ولم ترد اللفظة في النصوص الجاهلية بمعنى "ملك". ويظهر أنها كانت تعني عند أهل الحجاز الرئيس الآمر. وقد ورد في كتب التاريخ أن الأنصار لما اختلفوا مع المهاجرين بعد وفاة الرسول على "الإمارة" واجتمعوا في "سقيفة بني ساعدة" قالوا: "منا أمير ومنكم أمير"1. وفي استعمال الأنصار لهذه اللفظة، دلالة على وجودها عند الجاهليين واستعمال أهل الحجاز لها بهذا المعنى في أيام الجاهلية.
ويظهر من الموارد "البيزنطية" ومن روايات أهل الأخبار، أن الملوك الغساسنة والملوك من "آل نصر"، أي ملوك الحيرة، لم يكونوا ملوكًا بالمعنى العلمي الصحيح المفهوم من الكلمة، وإنما كانوا "عمالًا"، إذا كاتبهم الروم أو الفرس، لقبوهم بـ"عامل". إذ عينوهم عمالًا على الأعراب ولم يعينوهم "ملوكًا". فلقب "ملك" من الألقاب الخاصة بملوك الروم لم يمنحوه لغيرهم2.
وكذلك كان الشأن عند الفرس. نعم لقد ذكر المؤرخ "بروكوبيوس" Procopius أن القيصر "يسطنيانوس" Justinianus منح "الحارث بن جبلة" لقب "ملك" ولقب بعض الكتبة اليونان سادات غسان باللقب المذكور، غير أن هذا التلقيب لا يمكن أن يكون دليلًا على أن الدولة البيزنطية كانت تطلق عليهم بصفة رسمية وأنه كان لقبهم الرسمي المعترف به عند الدول الأجنبية. ومن هنا شك المستشرق "نولدكه" في صحة رواية "بوكوبيوس" بشأن منح الحارث لقب "ملك"، ذلك لأن لقب "ملك" كان خاصًّا كما ذكرت بقياصرة البيزنطيين، فلا يمنح لغيرهم، ولأن الوثائق الرسمية لم تطلق هذا اللقب عليهم3. ثم إن نص أبرهة الشهير الذي تحدثت عنه أثناء حديثي عن "أبرهة"، لم يلقب "المنذر" ولا "الحارث بن جبلة" بلقب "ملك"، بل لم يلقبهما بأي لقب، بما في ذلك لقب "عامل". وهذا مما يدل على أن "آل نصر" و"آل غسان" وإن لقبوا أنفسهم بلقب "ملك" أو لقبهم العرب به، إلا أن ذلك التلقيب لم يكن
__________
1 الطبري "3/ 218"، "ذكر الخبر عما جرى بين المهاجرين والأنصار في أمر الأمارة في سقيفة بني ساعدة".
2 غسان "ص12"، المشرق: السنة الأولى، الجزء11، حزيران 1898م، ص485"، جواد علي تاريخ العرب قبل الإسلام "4/ 129".
3 غسان "ص12"، جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام "4/ 129".(9/199)
بصفة دولية رسمية، وإنما كان بصورة غير رسمية وعلى سبيل التجمل بهذا اللقب والتشبه بالملوك الأجانب، استعمله الناس من باب التزلف والتقرب إلى أولئك الحكام، أو أنهم نظروا إليهم من وجهة نظرهم الخاصة، فدعوهم ملوكًا، لأنهم كانوا رعيتهم وكانوا هم مالكي رقبتهم. ومن هنا اعترفوا بهم ملوكًا، أما الدول الأجنبية فقد اعتبرتهم مجرد عمال وسادات قبائل.
والذي صح إطلاقه على أمراء الغساسنة، وثبت وجوده في الوثائق الرسمية، هو لقب "بطريق" Patricius، ولقب "عامل" أو رئيس قبيلة Phylarcos = Phylarkos = Phylarchus مقرونًا بنعت من النعوت التابعة له، أو مجردًا منه، كالذي جاء عن المنذر الذي حكم بعد الحارث بن جبلة "فلابيوس المنذر البطريق الفائق المديح، ورئيس القبيلة"، و"المنذر البطريق الفائق المديح، وما ورد عن الحارث "الحارث البطريق ورئيس القبيلة"1.
ولقب "البطريق" من ألقاب الشرف الفخمة عند الروم، ولذلك فلم يكن يمنح إلا لعدد قليل من الخاصة، ولصاحبه امتيازات ومنزلة في الدولة حتى أن بعض الملوك كانوا يحبذون الحصول على هذا اللقب من القيصر، ويفضلونه على غيره من الألقاب2.
ويلاحظ أن بعض كتبة اليونان أطلقوا لقب "ملك" على الأمراء العرب، مثل "ماوية" فقد لقبوها بـ"ملكة". ولم يستعملوا كلمة "فيلارك" فيلارخ" "فيلاركس" "فيلاركوس" التي تعني "العامل" أو "سيد قبيلة" والظاهر أنهم نهجوا في ذلك نهج الكتبة "السريان"، فقد لقبوا سادات القبائل العربية بلقب "ملك" على نحو ما نجده في الشعر العربي3. ويظهر أن عرب العراق كانوا قد لقبوا حكام "الحيرة" بلقب "ملك" و"ملوك"، وأن عرب بلاد الشام لقبوا حكامهم الغساسنة بلقب "ملك" كذلك، وذلك على سبيل التفخيم والتعظيم كما ذكرت، وباعتبار أنهم حكاهم ومالكو أمرهم. كما لقب من خضع لـ"آل آكل المرار" حكامهم من هذه العائلة بلقب "ملك". وكما
__________
1 غسان "ص12".
2 المشرق: السنة الأولى: الجزء11، حزيران 1898م "ص485".
3 غسان "ص12"، المشرق: السنة الأولى: الجزء11، حزيران 1898م "ص485".(9/200)
لقب بعض سادات القبائل أنفسهم بلقب "ملك"، ولم يكونوا ملوكًا، بل كانوا سادات قبائل و"أمراء".
ومما يؤيد أن حكام الحيرة وغسان، لم يكونوا "ملوكًا" في نظر الدول الأجنبية بل عمالًا، ما نجده من إطلاق أهل الأخبار عليهم لقب "عامل" ولقب "ملك" أيضًا. فكانوا إذا تحدثوا عن صلاتهم بالفرس، أو نقلوا من موارد فارسية قالوا لهم: "عمالًا"، وقالوا عنهم جملًا مثل: كان يلي ذلك من قبل ملوك الفرس من آل نصر ... وقدر ولاية كل من ولي منهم1. وأمثال ذلك من جمل تشعر أنهم كانوا عمالًا وولاة. أما إذا تحدثوا عنهم من ناحية حكمهم للحيرة وللعرب وعن صلاتهم بالشعراء وبمدد حكمهم لقبوهم بـ"ملك" وقالوا: "وقد ملك"، وسبب ذلك أنهم أخذوا أخبارهم من منبعين: منبع أجنبي يوناني وفارسي، وهو منبع وثائقه مدونة ومورده من الموارد الرسمية التي تنعتهم بـ"عمال". ومنبع عربي يلقبهم بـ"ملوك"، استند على العرف العربي، أي: على ما كان يخاطب به العرب أولئك الملوك، فوقع من ثم هذا الالتباس.
__________
1 الطبري "2/ 89، 213 ومواضع أخرى"، "في سياقة تواريخ اللخميين من ملوك عرب العراق"، "في سياقة تواريخ غسان ملوك عرب الشام"، "كان آل جفنة عمال القياصرة على عرب الشام، كما كان آل نصر عمال الأكاسرة على عرب العراق" حمزة "63 وما بعدها، 76".(9/201)
السادات:
وسادة القوم أشرافهم ورؤساؤهم، وذكر أن السيد الذي فاق غيره بالعقل والمال والدفع والنفع، المعطى ماله في حقوقه المعين بنفسه. وذكر أن السيد الحليم الذي لا يغلبه غضبه1.
والسيادة منزلة ودرجة، ولا تأتي أحدًا إلا باعتراف قومه له بسيادته عليهم وبتنصيبهم له سيدًا عليهم. إذا سوّدوا شخصًا، عصبوه. والتعصيب التسويد.
ولهذا كانوا يسمّون السيد المطاع معصبًا. وذكر أن العصابة العمامة. وكانت عمائم
__________
1 تاج العروس "2/ 384"، "سود".(9/201)
سادة العرب هي العمائم الحمر1.
وتعد الأسر الحاكمة التي ينشأ فيها عدد كبير من الملوك والحكام أسرًا عريقة في الشرف. وينظر إليها نظرة تقديم واحترام، لأنهم ورثوا المجد عن آبائهم أبًا بعد أب وينطبق ذلك على سادات القبائل الذين يرثون سيادتهم على قبائلهم أبًا عن جد، فإنهم يفتخرون بذلك على غيرهم، لأنهم ليسوا من أولئك الذين انتزعوا السيادة فصاروا سادة، على حين كان آباؤهم أو أجدادهم من الخاملين.
ويعبر عن السادة والأشراف بتعابير التعظيم والتفخيم، ومنها لفظة "ابعل" "أبعل"، أي سيد ورئيس. وهي لفظة استعملت للآلهة كذلك. استعملت بمعنى رب وإله. فورد "ود بعل"، و"عثتر بعل"، وهكذا.
وقد استعملت في النصوص القديمة خاصة.
ويقال للسادة: "أسود" "أسواد" في العربية الجنوبية، وهم السادة الأشراف2.
وتقابل اللفظة لفظة سادات في عربيتنا. وهم سادة القوم وأشرافهم وأصحاب المنزلة والمكانة في المجتمع.
ويعد أعضاء الأسر المالكة في طليعة السادات، وهم في السيادة على حسب قربهم أو بعدهم من الملك، ويقدمون على هذا الأساس عند حضورهم إلى الملك وفي المواسم الرسمية. ولهم أرضون يستغلونها، ورقيق يخدمهم.
وكانوا يقولون: "هذا سيدنا"، و "انظروا إلى سيدكم"، و "جاء سيدنا"، تعبيرًا عن السيادة والرئاسة. وقد كره الرسول أن يقال له: "أنت سيد قريش"، و"أنت سيدنا"، كما كانوا يدعون رؤساءهم3.
__________
1 ومنه قول المخبل الزبرقاني:
رأيتك هريت العمامة بعدما ... أراك زمانًا حاسرًا لم تعصب
وهو مأخوذ من العصابة، وهي العمامة. وكانت التيجان للملوك والعمائم الحمر للعرب. ورجل معصب ومعمم، أي: مسود. قال عمرو بن كلثوم:
وَسَيِّدِ مَعشَرٍ قَد عَصَّبوه ... بِتاجِ المُلكِ يَحمي المُحجَرينا
فجعل الملك معصبًا أيضًا، لأن التاج أحاط برأسه كالعصابة التي عصبت برأس لابسها. ويقال: اعتصب التاج على رأسه، إذا استكف به. ومنه قول ابن قيس الرقيات:
يَعتصبُ التاجُ فَوقَ مَفرِقِهِ ... عَلى جَبينٍ كَأَنَّهُ الذَهَبُ
وكانوا يسمون السيد المطاع معصبًا، لأنه يعصب بالتاج، أو يعصب به أمور الناس، أي ترد إليه وتدار به. والعمائم تيجان العرب، تاج العروس "1/ 385" "عصب"، اللسان "3/ 228 وما بعدها"، "سود"، تاج العروس "2/ 384"، روح المعاني "3/ 130 وما بعدها"، تفسير الطبري "3/ 72، 254 وما بعدها".
2 راجع النصوص.
3 ابن الأثير، النهاية "2/ 189 وما بعدها".(9/202)