23- ثم النعمان بن المنذر. وهو آخر ملوك لخم.
24- ثم إياس بن قبيصة الطائي.
25- ثم زادويه الفارسي.
26- ثم المنذر بن النعمان بن المنذر1.
__________
1 مفاتيح العلوم "68 وما بعدها".(5/314)
فهرس: الجزء الخامس
الفصل الرابع والثلاثون.
مملكة النبط 5
مدن النبط 53
الحجر 55
الكورة العربية 57
أهل الكهف والرقيم 72
الفصل الخامس والثلاثون.
مملكة تدمر 76
الزباء 103
حصن "زنوبية" 131
عانة 138(5/315)
الفصل السادس والثلاثون
الصفويون 142
الفصل السابع والثلاثون.
مملكة الحيرة 155
ملوك الحيرة 176
الفصل الثامن والثلاثون.
عمرو بن هند 239
ذو قار 293
قوائم ملوك الحيرة 304
ملوك الحيرة بحسب رواية "ابن قتيبة" 308
ملوك الحيرة بحسب رواية اليعقوبي 309
ملوك الحيرة بحسب رواية المسعودي 309
قائمة حمزة لملوك الحيرة 310
ملوك الحيرة بحسب رواية الخوارزمي 313
الفهرست 315(5/316)
فهرس الجزء الخامس:
الفصل الرابع والثلاثون.
مملكة النبط 5
مدن النبط 53
الحجر 55
الكورة العربية 57
أهل الكهف والرقيم 72
الفصل الخامس والثلاثون.
مملكة تدمر 76
الزباء 103
حصن "زنوبية" 131
عانة 138(5/315)
الفصل السادس والثلاثون
الصفويون 142
الفصل السابع والثلاثون.
مملكة الحيرة 155
ملوك الحيرة 176
الفصل الثامن والثلاثون.
عمرو بن هند 239
ذو قار 293
قوائم ملوك الحيرة 304
ملوك الحيرة بحسب رواية "ابن قتيبة" 308
ملوك الحيرة بحسب رواية اليعقوبي 309
ملوك الحيرة بحسب رواية المسعودي 309
قائمة حمزة لملوك الحيرة 310
ملوك الحيرة بحسب رواية الخوارزمي 313
الفهرست 315(5/316)
المجلد السادس
الفصل التاسع والثلاثون: مملكة كندة
مدخل
...
الفصل التاسع والثلاثون: مملكة كندة
كندة قبيلة قحطانية في عرف النسابين، تنسب إلى "ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن زيد بن عريب بن زيد ب كهلان بن سبإ"، و"ثور" هو كندة"1.
وقد عرفت عند الأخباريين بـ"كندة الملوك"2؛ لأن الملك كان لهم على بادية الحجاز من بني عدنان3. ولأنهم ملكوا أولادهم على القبائل. وكانوا يتعززون بنسبهم إلى كندة، وإلى "آكل المرار"؛ لأنهم كانوا ملوكًا4.
و"كندة" هي "كدت" القبيلة التي ورد اسمها في نصوص المسند، مثل نص "أبرهة"5. بل ورد اسمها في النصوص المذكورة قبل هذا العهد بكثير.
__________
1 الاشتقاق "2/ 218"، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب "ص399"، الإكليل "10/ 504"، منتخبات "ص94"، ابن خلدون "2/ 276" نهاية الأرب "2/ 287"، البيان والتبيين "3/ 328" "لجنة التأليف والترجمة والنشر"، ENC. II, P. 1018
2 "كندة حي من اليمن منهم كانت الملوك"، منتخبات "ص94"، "فأخبرني عن كندة، قال: "ساسوا العباد، وتمكنوا من البلاد" مروج "2/ 325"، "ذكر خلافة عمر.
3 ابن خلدون "2/ 257".
4 الطبري "3/ 139" "دار المعارف بمصر".
5 Glaser, zei Inschriften uber den Dammbruch von Marib, S. 55, Gunnar olinder, The Kings of Kinda, 1927, P. 33
وسيكون رمزه: Olinder(6/5)
إذ ورد في النص: "JAMME 635". المدون في أيام الملك "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان. وقد كانت قد انضمت إلى حلف معاد للملك المذكور على نحو ما تحدثت عنه. وكان يحكم "كدت" كندة في ذلك الوقت ملك اسمه "ربعت"، أي "ربيعة"، وذكر أنه من "ذ ثورم" "ذ الثورم"، أي من "الثور" "آل ثور"، وأنه كان ملكًا على "كدت" كندة وعلى "قحطن" أي "قحطان"1.
فنحن على هذا النص أمام مملكة كندية كانت قد تكونت في أيام "شعر أوتر" أي في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، وذلك فيما لو جارينا رأي "جامة" وسرنا مسراه في تقديم أيام "شعر أوتر"2. وقبل هذا الوقت فيما لو ذهبنا مذهب غيره ممن يرجعون مبدأ تأريخ سبأ إلى أقدم من تقديره ومن تقدير "ريكمنس". ونحن أيضًا بموجبه أمام ملك من ملوك كندة اسمه "ربعت ذا الثورم". أي "ربيعة" من "الثور"، أي من "آل ثور"، فهو إذن من صميم كندة. وقد رأينا أن أهل الأخبار ينسبون كندة إلى "ثور بن عفير"، ويظهر أنهم أخذوا "ثور" القديم، وهو اسم عائلة أو بيت أو عشيرة من كندة، فصيروه الجد الأكبر لكندة. وأعطوه النسب الطويل المذكور.
ويلاحظ أن الملك "ربيعة" كان يحكم إذ ذاك "كندة"، كما كان يحكم "قحطان". و"قحطان" في هذا الوقت قبيلة، كانت متحالفة مع "كندة". ومن هذا الاسم أخذ الأخباريون قحطانهم، فصيروه جد العرب القحطانيين. وقد ورد اسم قحطان في نص آخر وسم بـ"REP. EPIG, 4304". هذا نصه: "عبد شمس سبأ بن يشجب، يعرب بن قحطان"3. وهو نص سبق أن تحدثت عنه، وقلت إنه في نظري مصنوع موضوع، وأعتقد أن صانعه وضعه لغاية واضحة هي إثبات أن ما يذكره أهل الأخبار عن نسب سبأ، هو صحيح، وأنه وارد مذكور في المسند. وبين "صنعاء" و"زبيد" مدينة تعرف بـ"قطحان"4
__________
1 السطر 27 من النص: "JAMME 635"
2 MAHRAM, P. 391
3 RIP. EPIG. 4304, Orientalia, V, 1936, P. 63
4 MAHRAM, P. 138(6/6)
وكانت كندة "كدت" مستقلة وعلى رأسها ملك، في أيام "الشرح يحضب" كذلك. وكان ملكها إذ ذاك من المناهضين المعادين للملك "الشرح يحضب"، فاشترك كما رأينا في أثناء بحثنا عن "الشرح" في الحلف الكبير الذي تألف ضد مملكة "سبأ وذي ريدان"، والذي امتد من الجنوب نحو الشمال، وشمل البر والبحر. وقد أصيبت "كندة" بهزيمة في القتال الذي نشب بينها وبين جيش "سبأ"، ووقع ملكها واسمه إذ ذاك "ملكم" مع عدد من رؤسائها وكبرائها "مراس وأكبرت"، في الأسر. وسيقوا إلى "مأرب"، وأبقوا في الأسر حتى وافقوا على وضع أولادهم رهائن عند ملك "سبأ وذي ريدان" وعلى إعطاء عهد بعدم التحرش مرة أخرى بمملكة "سبأ وذي ريدان" وبمساعدة أعدائها. وقد وافق "مالك" على إعطاء عهد بما طلب منه ووضع ابنه رهينة، كما وضع رؤساء وكبراء كندة أولادهم رهائن لديه، فأفرج بذلك عنهم1.
وقد فقدت كندة بعد هذا العهد استقلالها في وقت لا نستطيع تحديده الآن، لعدم ورود شيء عنه في النصوص، وصارت خاضعة لحكم دولة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"؛ إذ ورد في النصين "JAMME 660" و"JAMME 665" أنها كانت تابعة إذ ذاك لحكم هذه الدولة. يخبر النص: "JAMME 660"، أن كندة كانت تحت حكم حاكم من حكام "شمر يهرعش"، سقط اسمه الثاني من النص وبقي اسمه الأول وهو: "وهب إوم" "وهب أوم" "وهب أوام"، وأن ذلك الحاكم كان يدير بالإضافة إلى كندة قبائل حضرموت ومذحج و"بهلم" "باهلة" و"حدان" و"رضوم" و"أظلم"، ومعنى ذلك أنه كان يدير منطقة واسعة تسكنها قبائل متعددة، في جملتها كندة التي صارت تحت حكم ملوك سبأ2.
ويخبرنا النص "JAMME 665" أن رجلًا من "جدنم" "جدن" كان كبيرًا "كبر" على "إعراب ملك سبأ" "أعراب ملك سبأ" وعلى "كندة" "كدت" و"مذحج" وعلى "حررم" "حريرم" "حرر" "حرار" "حرير" وعلى "بهلم" "باهلم" "باهل" "باهلة" وعلى "زيد أيل"، وعلى كل
__________
1 Jamme 576, MaMb 212, Mahram, PP. 67, Geukens 3
2 السطر الثاني من النص: Jamme 660, Mamb 156, Mahram, P. 164(6/7)
أعراب سبأ "وكل أعرب سبأ" وعلى حمير وحضرموت ويمنت1. وقد عينه بدرجة "كبر" أي "كبير" وهي من أعلى الوظائف في الدولة الملك "ياسر يهنعم" وابنه "ذرأ أمر أيمن". ومعنى هذا أن كندة كانت تابعة أيضًا في هذا العهد لحكم سبئيين، وأن ذلك الكبير كان يدير منطقة واسعة وضعها الملكان تحت تصرفه.
ويرى "جامة" أن أرض كندة يجب أن تكون في جنوب "قشمم" "قشم" "قشام" "القشم"، وذلك لأن النص: "JAMME 660" يضعها بين "حضرموت" و"مذحج" فيرى لذلك أن منازلها في ذلك الوقت كانت عند هذه المواضع2.
والمعروف اليوم أن أول من ذكر اسم "كندة" من المؤلفين الكلاسيكيين على وجه لا يقبل الشك أو الجدل، هو "نونوسوس"، وقد دعاها باسم "KINDYNOI" أي "كندة" وذكر أنها وقبيلة "مادينوي" "MADDYNOI" "معد" هما من أشهر القبائل العربية عددًا ومكانة، يحكمها رجل واحد اسمه "KAISOS" أي "قيس"3.
وعلى أخبار الأخباريين معولنا في تدوين تأريخ كندة. وفي مقدمة هؤلاء ابن الكلبي الأخباري المعروف، وله مؤلف خصصه بتأريخ كندة، سماه: "كتاب ملوك كندة" ومؤلفات أخرى لها علاقة بهذه القبيلة4، وأبو عبيدة والأصمعي، وعمر بن شبة، وأمثالهم ممن سترد أسماؤهم في ثنايا صحائف هذا الفصل. وهي أخبار تمثل جملة نزعات واتجاهات تصور تحزب أولئك الأخباريين وميولهم إلى هذه القبيلة أو تلك، فبينها أخبار تميل إلى تأييد أهل اليمن، وبينها أخبار ترجح كفة "كندة"، وبينها أخبار ترجع الفضل إلى كلب، وبينها أخبار تؤيد بني أسد، وطبيعتها على العموم من طبيعة ما يرونه لنا الأخباريون من روايات عن تأريخ العرب قبل الإسلام، فيها العصبية القبلية والتحزب، فيجب أن ننظر إليها إذن بحذر شديد.
__________
1 السطر الأول فما بعده حتى السطر الرابع من النص.
2 Mahram, P. 318, 372
3 Olinder, PP. 114
4 راجع أيضًا مقدمة "أوليندر" "OLINDER" عن الموارد التي يستعان بها في تدوين تأريخ كندة من الصفحة التاسعة فما بعد، الفهرست "98"، "طبعة خياط".(6/8)
وقد ذكر حمزة أنه نقل أخبار ملوك كندة من "كتاب أخبار كندة"1، وأظنه قصد كتاب ابن الكلبي، الذي أشرت إليه. وفي استطاعة الباحث العثور على الموارد التي تفيدنا في تدوين تأريخ كندة ومعرفة اتجاهاتها وتعيين أسمائها. و"المفضليات" و"الأغاني" و"النقائض" وأمثالها وبقية كتب الأدب، هي خير أمثلة لتطبيق ما أقول.
ويذكر الأخباريون أن مواطن "كندة" الأصلية كانت بجبال اليمن مما يلي حضرموت2. وقد أطلق "الهمداني" عليها "بلد كندة من أرض حضرموت"3. وذكر ياقوت أن كندة مخلاف باليمن، هو باسم قبيلة كندة4، وروى رواية لابن الكلبي تفيد أن هذه القبيلة كانت تقيم في دهرها الأول في "غر ذي كندة" أي في مواطن العدنانيين، ومن هنا احتج القائلون في كندة ما قالوا من نسبهم في عدنان، وهو يدل على وجود فريق كان يرى أن قبيلة كندة من قبائل عدنان5 ويدل هذا الاختلاف على اختلاط كندة بالقحطانيين والعدنانيين، ومن أمثال هذا الاختلاط تتولد الأنساب.
ولم يتحدث الأخباريون عن مواطن كندة قبل استقرارهم في "غمر ذي كندة" وكيف وصلوا إلى هذا الموضع، ولا عن كيفية انتقالهم إلى حضرموت قبل الإسلام. وقد تحدث اليعقوبي عن حرب وقعت بين كندة وحضرموت. طال أمدها، وهلك فيها جمع من الرؤساء، منهم: "سعيد بن عمرو بن النعمان بن وهب"، و"عمر بن زيد" وكان على "بني الحارث بن معاوية" و"شرحبيل بن الحارث" وكان على السكون، وهؤلاء من كندة، و"مسعر بن مستعر" و"سلامة بن حجر" و"شرحبيل بن مرة" وهؤلاء من حضرموت.
فلما ملكت حضرموت "علقمة بن ثعلب" وهو يومئذ غلام، لانت كندة بعض اللين، وكرهت محاربه حضرموت، وكان القتل قد كثر فيها، فصارت كندة إلى أرض معد، ثم ملكوا رجلًا منهم كان أول ملوكهم يقال له "مرتع بن
__________
1 حمزة "ص92"، "كندة" "السكون" "السكاسك"، الفهرست "1/ 98". "طبعة فلوكل".
2 الصفحة "ص85 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 257".
3 الصفحة "ص85 وما بعدها".
4 البلدان "7/ 284".
5 البلدان "6/ 304". الأغاني "11/ 160" المفضليات "ص427".(6/9)
معاوية بن ثور" فملك عشرين سنة، ثم ملك ابنه ثور، ثم ابنه معاوية بن ثور، ثم الحارث بن معاوية، وكان ملكه أربعين سنة، ثم ملك وهب بن الحارث عشرين سنة، وملك بعده حجر بن عمرو المعروف بـ"آكل المرار" الشهير الذي حالف بين كندة وربيعة بالذنائب وتولى الملك1 فهؤلاء إذن هم أسلاف "حجر بن عمرو"، حكموا كندة ومعدًا على رأي اليعقوبي قبل حجر بسنين.
وفي رواية لابن الكلبي أن "أول من أنسأ الشهور من مضر مالك بن كنانة، وذلك أن مالك بن كنانة نكح إلى معاوية بن ثور الكندي، وهو يومئذ في كندة، وكانت النسأة قبل ذلك في كندة؛ لأنهم كانوا قبل ذلك ملوك العرب من ربيعة ومضر، وكانت كندة من أرداف المقاول"2. وتدل هذه الرواية على أن هذه القبيلة كانت على اتصال وثيق بالقبائل المنتسبة إلى معد، وربما كان اتصالها هذا أوثق وأقوى من اتصالها بقبائل قحطان، مع أن النسابين يعدونها من قبائل قحطان.
وأقدم رجل في كندة تحدث عنه الأخباريون بشيء من التفصيل والوضوح، هو "حجر" الملقب بـ"آكل المرار"3، وهو ينسب إلى "عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتفع بن معاوية" على رواية4، وإلى "عمرو بن معاوية بن الحارث الأصغر بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن كندة" على رواية أخرى5.
__________
1 "الذئاب"، الصفة "ص123، 146، 171، 173، 182، 209"، البلدان "4/ 197 وما بعدها" اليعقوبي "1/ 176 وما بعدها"، "طبعة النجف".
2 الأزرقي: أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار "1/ 118" "المطبعة الماجدية بمكة سنة 1352".
3 المرار: عشب مر إذا أكلته الإبل قلصت عنها مشافرها فبدت أسنانها، قيل سمي حجر آكل المرار لكشر كان به. وقيل لأن ابنه له سباها ملك من ملوك سليح يقال له "زياد بن هبولة" من الضجاعة، فقالت له ابنة حجر: كأنك بأبي قد جاء كأنه جمل أكل المرار. تعني كاشرًا عن أنيابه، وقيل: إنه كان في نفر من أصحابه في سفر. فأصابهم الجوع، فأما هو فأكل المرار حتى شبع، فعرف بآكل المرار. وهناك روايات أخرى في هذا المعنى. راجع: اليعقوبي "1/ 177" أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر "1/ 74" شرح ديوان امرئ القيس ومعه أخبار المراقسة وأشعارهم في الجاهلية وصدر الإسلام "ص6" لحسن السندوبي، اللسان "4/ 171".
4 حمزة "ص92".
5 ابن خلدون "2/273".(6/10)
ورويت روايات أخرى تختلف عن هذه السلسلة بعض الاختلاف1. وذكر أنه كان أخًا لـ"حسان بن تبع" لأمه. فلما دوخ "حسان" بلاد العرب، وسار في الحجاز، وهم بالانصراف، ولَّى أخاه "حجرًا" على "معد بن عدنان" كلها، فدانوا له، وسار فيهم أحسن سيرة2.
وفي رواية أخرى من روايات الأخباريين أن التبايعة كانوا يصاهرون "بني معاوية بن عنزة" من كندة، وكانوا يملكون في "دمون"، ويولونهم على "بني معد بن عدنان" بالحجاز، فكان أول من ولي منهم "حجر آكل المرار"، ولَّاه "تبع بن كرب" الذي كسا الكعبة، وولى بعده ابنه "عمرو بن حجر"3.
فيفهم من هذه الرواية أن "بني معد" كانوا أتباعًا للتبابعة يعينون عليهم من يشاءون من الناس.
وفي رواية ترجع إلى ابن الكلبي، مفادها أن تبعًا المعروف بـ"أبي كرب" حين أقبل سائرًا إلى العراق نزل بأرض معد، فاستعمل عليها "حجرًا آكل المرار"، ومضى لوجهه. فلما هلك، بقي حجر لحسن سيرته مطاعًا في مملكته. وملك الشأم يومئذ "زياد بن الهبولة السليحي" والملك الأعظم في بني جفنة، وزياد كالمتغلب على بعض الأطراف، فقتله حجر. وقد بقي حجر حتى خرف، وله من الولد: عمرو ومعاوية4.
فيظهر من الرواية المتقدمة أن حجرًا كان معاصرًا لـ"زياد بن الهبولة السليحي" وهو ملك عرب الشأم يومئذ، ويذكر حمزة أن "حجرًا "قتله5.
وفي رواية أخرى أن حجرًا هو أول ملوك كندة. وكانت كندة قبل أن يملك حجر عليها بغير ملك، فأكل القوي الضعيف، فلما ملك حجر سدد أموالها وساسها أحسن سياسة، وانتزع من اللخميين ما كان بأيديهم من أرض "بكر بن وائل". وبقي حجر كذلك حتى مات6. فـ"حجر" على هذه الرواية
__________
1 الأغاني "15/ 82".
2 ابن خلدون "2/ 273"، ابن قتيبة: المعارف "ص308".
3 ابن خلدون "2/ 276".
4 حمزة "ص92"، ابن خلدون "2/ 273" الأغاني "15/ 82" المحبر "ص368 وما بعدها".
5 حمزة "ص92".
6 أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر "1/ 74" "المطبعة الحسينية".(6/11)
أول ملك من ملوك كندة، وأول زعيم من زعمائها تمكن من توحيد صفوفها ومن تغليبها على قبائل أخرى، ومن توسيع رقعة أراضيها حتى بلغت حدود مملكة لحم.
وذكر عدد من الأخباريين أن والد "حسان تبع" هو "أسعد أبو كرب" المعروف بـ"تبع الأوسط"، وهو ابن "كلي كرب بن تبع"1. وقد ذهب "هاتمن" "HARTMANN" إلى أن "حسان تبع" هذا هو "شرحبيل يعفر" المذكور في نص "GLASER 554" الذي يعود تأريخه إلى سنة "450" للميلاد، وهو ابن "أب كرب أسعد" الذي حكم على تقدير "هومل" من سنة "385" حتى سنة "420" للميلاد2، غير أننا يجب أن نأخذ أمثال هذه الأمور بحذر3، خاصة فيما يتعلق بفتوحات التبابعة واتساع ملكهم وغير ذلك مما يقصه علينا الأخباريون.
ونزل حجر على رواية بنجد بـ"بطن عاقل" وكان اللخميون قد ملكوا كثيرًا من تلك البلاد، ولا سيما بلاد "بكر بن وائل" فنهض بهم وحارب اللخميين، واستخلص أرض بكر منهم4، ويقع "بطن عاقل" في جنوب "وادي الرمة" على الطريق بين مكة والبصرة5.
ويحدثنا بعض الرواة أن حجرًا بينما كان يغزو عمانًا، بلغ ذلك "الحارث بن الأهيم "الأيهم" بن الحارث الغساني"، فأغار على أرض حجر، وأخذ أموالًا لحجر، وقينة من أحب قيانه إليه، وانصرف، فقال للقينة: "ما ظنك بحجر؟ " فقالت: "لا أعرفه ينام إلا وعضو منه يقظان، وليأتينك فاغرًا فاه كأنه بعير أكل مرارًا، فإن رأيت أن تنجو بنفسك فافعل"، فلطمها الغساني فما لبثوا أن لحقهم حجر كما وصفت، فرد القينة والأموال، وكان حجر قد رجع من غزاة عمان وهو يقول بعد أن بلغه غارة الغساني: "لا غزو إلا بالتعقيب"6 وذكر "الهمداني" في معرض تفسيره لـ"آكل المرار" مضمون هذه الرواية دون
__________
1 المعارف "ص307" حمزة "ص85 وما بعدها".
2 Handbuch, S. 104, Hartmann, Die Arabische Frage, S. 481
3 OLINDER, P. 40
4 ابن الأثير "1/ 209"، شرح القصائد العشر، للزوزني "ص6".
5 البلدان "6/98" OLINDER, P. 42
6 منتخبات "ص97".(6/12)
أن يشير إلى اسم الغساني، أو اسم الموضع الذي كان حجر يغزو فيه1. وذكرت بعض الروايات الحارث بن جبلة بدلًا من الحارث بن الأهيم "الأيهم" بن الحارث الغساني2.
وذكر الميداني القصة نفسها عن "الحارث بن مندلة الضجعمي" من "بني سليح". أما "ابن هشام"، فجعله "عمرو بن الهبولة الغساني"3.
وفي رواية أخرى أن الغازي هو "زياد بن الهبولة" ملك الشأم، وكان من "سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة"، غزا ملك حجر في أثناء إغارة حجر في كندة وربيعة على البحرين، فأخذ الحريم والأموال، وسبى "هندًا بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية" زوجة حجر. فلما سمع حجر وكندة وربيعة، عادوا من غزوهم في طلب "ابن الهبولة" ومع حجر أشراف ربيعة "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، و"عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان"، وغيرهما، فأدركوا "زيادًا" "عمرًا؟ " بـ"البردان" دون عين أباغ، وقد أمن الطلب، فنزل حجر في سفح جبل، ونزلت بكر وتغلب وكندة مع حجر دون الجبل بالصحصحان على ماء يقال له "حفير"، ووقعت معركة تغلب فيها حجر على خصمه، وأخذ زياد أسيرًا، ثم قتل، واسترجعت منه هند في قصة معروفة مشهورة فيها شعر على الطريقة المألوفة عند الأخباريين4. وتقول الرواية أنه بعد أن انتقم وانتصر، عاد إلى الحيرة5. وقد عرفت هذه المعركة بـ"يوم البردان"6.
ويلاحظ أن ابن الأثير أورد في روايته عمرًا بدلًا من زياد، أي زياد بن الهبولة ملك الشأم كما هو مقتضى الكلام، وأورد في نهاية القصة هذه الجملة "ثم عاد إلى الحيرة" وهي تشعر أن موضع حجر كان في الحيرة، ولم يذكر أحد أنه كان فيها.
__________
1 الصفة "ص86".
2 الأغاني "13/ 63" OLINDER, P. 44
3 OLINDER, P. 45
4 ابن الأثير "1/ 207" الأغاني "15/ 82" وما بعدها" البيان والتبيين "3/ 328" "لجنة" OLINDER, P. 43
5 ابن الأثير "1/ 208"، "البردان"، تاج العروس "2/ 300" القاموس "1/ 277".
6 ابن الأثير "1/ 207" وما بعدها.(6/13)
ويظهر أن المورد الذي نقل منه ابن الأثير أو أصحاب القصة، لم يحسن حبكها، أو أنه خلط بين قصتين، فظهرت في هذا الشكل.
وقد انتبه ابن الأثير إلى هذا الاضطراب، فقال: "هكذا قال بعض العلماء: أن زياد بن هبولة السليحي ملك الشأم غزا حجرًا. وهذا غير صحيح؛ لأن ملوك سليح كانوا بأطراف الشأم مما يلي البر من فلسطين إلى "قنسرين"، والبلاد للروم، ومنهم أخذت غسان هذه البلاد، وكلهم كانوا عمالًا لملوك الروم، كما كان ملوك الحيرة عمالًا لملوك الفرس على البر والعرب، ولم يكن سليح ولا غسان مستقلين بملك الشأم، وقولهم ملك الشام غير صحيح.
وزياد بن هبولة السليحي ملك مشارف الشام، أقدم من حجر آكل المرار بزمان طويل؛ لأن حجرًا هو جد الحارث بن عمرو بن حجر الذي ملك الحيرة والعرب بالعراق أيام قباذ أبي أنو شروان، وبين ملك قباذ والهجرة نحو ثلاثين ومائة سنة. وقد ملكت غسان أطراف الشأم بعد سليح ستمائة سنة، وقيل خمسمائة سنة، وأقل ما سمعت فيه ست عشرة سنة وثلاثمائة سنة، وكانوا بعد سليح، ولم يكن زياد آخر ملوك سليح، فتزيد المدة زيادة أخرى، وهذا تفاوت كثير، فكيف يستقيم أن يكون ابن هبولة الملك أيام حجر حتى يغير عليه، وحيث أطبقت رواة العرب على هذه الغزاة، فلا بد من توجيهها، وأصلح ما قيل فيه: إن زياد بن هبولة المعاصر لحجر كان رئيسًا على قوم، أو متغلبًا على بعض أطراف الشأم. وبهذا يستقيم هذا القول والله أعلم.
وقولهم أيضًا أن حجرًا عاد إلى الحيرة لا يستقيم أيضًا؛ لأن ملوك الحيرة من ولد عدي بن نصر اللخمي، لم ينقطع ملكهم لها إلا أيام قباذ، فإنه استعمل الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، كما ذكرنا من قبل، فلما ولي أنو شروان، عزل الحارث، وأعاد اللخميين. ويشبه أن يكون بعض الكنديين قد ذكر هذا تعصبًا، والله أعلم.
إن أبا عبيدة ذكر هذا اليوم، ولم يذكر أن ابن هبولة من سليح، بل قال: "هو غالب بن هبولة ملك من ملوك غسان، ولم يذكر عوده إلى الحيرة، فزال هذا الوهم"1.
__________
1 ابن الأثير "1/ 208 وما بعدها".(6/14)
وبهذا التعليق أراد ابن الأثير إصلاح ما جاء في الرواية المذكورة من أوهام.
ولكن تعليقه نفسه فيه أوهام وأخطاء من حيث عدد السنين وتقدير المدد وما شاكل ذلك من أمور ترد في روايات أهل الأخبار.
ولا نعرف متى توفي حجر، وقد ذكر ابن الأثير أنه توفي بـ"بطن عاقل" وبه دفن1. ويرى "أوليندر" "OLINDER" استنادًا إلى تقدير سنة وفاة الحارث حفيد "حجر" بسنة "528" للميلاد، وإلى تقدير مدة حكم الضجاعمة من "بني سليح"، أنه حكم في الربع الأخير من القرن الخامس للميلاد2.
ويرى بعض الباحثين أن حجرًا هو "OGARUS" المذكور في بعض التقاويم في حوادث السنين 497 و501 و502 للميلاد. وقد ذكر معه اسم أخ له عرف بـ"BADICHARIMUS" أي "معديكرب"، كما ذكر أحد أحفاده وهو "ARETHA" أي الحارث3.
ونسب الأخباريون لـ"حجر" ثلاث زوجات، هن: "هند" ابنة "ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية" وتعرف بـ"هند الهنود" و"أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني" وهي أم "الحارث بن حجر"4، وأما الثالثة فمن حمير5.
وفي ديوان الشاعر الجاهلي "بشر بن أبي خازم الأسدي" قصيدة يمدح فيها "عمرو بن أم أناس"، أو "أم أياس"6، وهو من "كندة". وأم أناس هي ابنة "عوف بن محلم الشيباني" الذي يضرب به المثل، فيقال: "لا حر بوادي عوف". وهو من بيت شرف قديم، لهم قبة يقال لها "المعاذة" من لجأ إليها أعاذوه7. ومما جاء في مدح هذا الشاعر له:
__________
1 ابن الأثير "1/ 209".
2 OLINDER, P. 48
3 Provincia Arabia, III, S. 286
4 الأغاني "9/ 159" "15/ 82"، جمهرة ابن حزم "323"، الزوزني، شرح القصائد العشر "7".
5 OLINDER, P. 41
6 بالياء في ديوان بشر حسب تحقيق الناشر.
7 الاشتقاق "215".(6/15)
وَالمانِحُ المِائَةَ الهِجانَ بِأَسرِها ... تُزجى مَطافِلُها كَجَنَّةِ يَثرِبِ
وَلَرُبَّ زَحفٍ قَد سَمَوتَ بِجَمعِهِ ... فَلَبِستَهُ رَهوًا بِأَرعَن مُطنِبِ
بِالقَومِ مُجتابي الحَديدِ كَأَنَّهُم ... أُسدٌ عَلى لُحُقِ الأَباطِلِ شُزَّبِ1
ويستفاد من هذه القصيدة أن الممدوح، وهو عمرو، كان كريمًا سخيًّا يهب المئات من الإبل الهجان الطيبة الأعراق، وأنه كان صاحب جيش قوي. وينطبق هذا الوصف على "عمرو بن حجر". أكثر من انطباقه على "عمرو بن الحارث" جد "امرئ القيس". وذلك على رواية من زعم أنه كان للحارث جد الشاعر المذكور ولد اسمه "عمرو" من زوجة له دعوها "أم أناس" ابنة "عوف بن محلم الشيباني" إذ لم يكن وضع أولاد الحارث وضعًا حسنًا بعد النكبة التي نزلت بمصيبة والدهم وبتعقب المنذر بن ماء السماء لهم، وبثورة القبائل عليهم.
فليس من المعقول أن يهب "عمرو" تلك الهبات وأن يجمع له جيش لجب.
خاصة وأن الرواة لم يذكروا اسمه في جملة أسماء أبناء الحارث الذين ملكهم على القبائل في حياته أو الذين ورثوا ملكه بعد مماته.
وقد نص "ابن قتيبة" في كتابه: "المعاني الكبير" على أن "عمرو بن أم أناس" هو "عمرو بن حجر الكندي" الذي كان جد "عمرو بن هند"، وهند أم "عمرو بن هند" هي ابنته. وذكر أن "أم عمرو بن حجر" هي "أم أناس بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة" وأنه هو المذكور في شعر الحارث بن حلزة، إذ يقول:
وَوَلَدنا عَمرو بِن أُمِّ أُناسٍ ... مِن قَريبٍ لَمّا أَتانا الحِباءُ2
وقد اختلف أهل الأخبار كما رأينا في السبب الذي حمل الناس على تلقيب "حجر" بـ"آكل المرار". فذهبوا في ذلك جملة مذاهب ذكروها في أثناء حديثهم عنه3.
__________
1 ديوان بشر "39" الأغاني "15/ 82 وما بعدها".
2 كتاب المعاني الكبير "1/ 531 وما بعدها".
3 الأغاني "8/ 60" "طبعة مطبعة التقدم" التبريزي، القصائد العشر، "ص4" الجاحظ، البيان والتبيين "3/ 328" "مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" الكامل، لابن الأثير "1/ 301" "دار الطباعة المنيرية" دائرة المعارف، للبستاني "1/ 122" الأغاني "15/ 83".(6/16)
وصار "عمرو بن حجر "المعروف بـ"المقصور" ملكًا بعد أبيه. ويقولون إنه إنما قيل له "المقصور" لأنه قصر على ملك أبيه، أو لأن "ربيعة" قصرته عن ملك أبيه، وبذلك سمي المقصور1.
وكان لـ"عمرو" كما يقول الأخباريون أخ اسمه "معاوية" ويعرف بـ"الجون"2 "الجوف"3، كان نصيبه "اليمامة". ويظهر من هذا الخبر أنه أخذ من شقيقه هذه المنطقة وترك الأرضين الباقية لأخيه.
ويذكر أهل الأخبار أن "عمرو" و"معاوية" شقيقه هو "شعية بن أبي معاصر بن حسان بن عمرو بن تبع"4. ويظهر من هذا النسب أنها كانت من أسرة يمانية رفيعة ومن البيوتات التي كانت تحكم بعض المقاطعات.
وورد في رواية أن "عمرًا" غزا الشأم ومعه ربيعة، فلقيه الحارث بن أبي شمر الغساني فقتله. ولم يضف "اليعقوبي" صاحب الرواية المذكورة إلى هذه الرواية شيئًا عن حياة "عمرو" المقصور5. أما "حمزة"، فلم يشر إليه بشيء6.
وفي رواية أن ربيعة حينما قصرت عمرًا عن ملك أبيه، استنجد عمرو المقصور "مرثد بن عبد ينكف الحميري" على ربيعة، فأمده بجيش عظيم. فالتقوا بـ"القنان"، فشد عامر الجون على عمرو المقصور فقلته7. فهذه الرواية تنفي رواية من يقول إن الحارث بن شمر الغساني هو الذي قتله.
وإذا صحت الرواية المتقدمة، تكون "ربيعة" قد ثارت على "ابن حجر" لأنها أرادت التخلص من حكم كندة لها. وقد تمكنت من ذلك على الرغم من المساعدة اليمانية التي قدمت له.
ويظهر من الروايات الواردة عن عمرو ومن تلقيبه بلقب: "المقصور" ومن
__________
1 ابن الأثير "1/ 209"، المحبر "ص369"، المفضليات "ص429"، الأغاني "8/ 60".
2 ابن الأثير "1/ 209"، الأغاني "15/ 82"، المحبر "ص369".
3 "الجوف"، الأغاني "8/ 61"، وهو تصحيف، والصحيح "الجون". "9/ 79" "طبعة دار الكتب".
4 الأغاني "8/ 60".
5 اليعقوبي "1/ 177"، الأغاني "8/ 65".
6 حمزة "ص92".
7 يوم القنان، المفضليات "ص429"، البلدان "7/ 165".(6/17)
الشروح التي ذكرها الرواة في تفسير هذه الكلمة، أن "عمرًا" لم يكن قويًّا صاحب عزم وإرادة، وأنه اكتفى بما وقع له من أبيه، فلم يسع في توسيعه وتقويمه، وأن حكمه على ما يظهر لم يكن طويلًا، وقد جعله ابن الكلبي في جملة من كان يخدم "حسان بن تبع" تبع حمير، ولم يلقبه بلقب ملك، بل قال: إنه كان سيد كندة في زمانه. وذكر أن "حسان بن تبع" حين سار إلى جديس، خلقه على بعض أموره. فلما قتل "عمرو بن تبع" أخاه "حسان بن تبع"، وملك مكانه اصطنع "عمرو بن حجر"، وكان ذا رأي ونبل، وكان مما أراد عمرو إكرامه به وتصغير بن أخيه حسان أن زوجة ابنة "حسان بن تبع"، فتكلمت في ذلك حمير. وكان عندهم من الأحداث التي ابتلوا بها؛ لأنه لم يكن يطمع في الترويج إلى أهل ذلك البيت أحد من العرب. وولدت ابنة "حسان بن تبع" لعمرو بن حجر "الحارث" الذي عينه "تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن"، أي خال "الحارث" على بلاد معد1.
ويظهر من رواية مرجعها ابن الكلبي أن الأسود بن المنذر ملك الحيرة، كان قد تزوج ابنة لـ"عمرو بن حجر"، فولدت له "النعمان بن الأسود" الذي حكم في زمن "قباذ" أربع سنين، ولذلك عرفت بـ"أم الملك"2.
وانتقل الملك على رأي أكثر الأخباريين من عمرو إلى ابنه الحارث: وهو المعروف بـ"الحارث الحراب" على بعض الروايات3. وقد ورد في شعر للشاعر "لبيد" هذا البيت:
وَالحارِثُ الحَرّابُ خَلّى عاقِلًا ... دارًا أَقامَ بِها وَلَم يَتَنَقَّلِ
وقد ذهب الأصمعي إلى أن الشاعر المذكور قصد بـ"الحارث الحراب" الحارث الذي نتحدث عنه. وذلك لأن "عاقلًا" من ديار كندة. وهو جبل كان يسكنه "حجر أبو امرئ القيس"4. وإذا أخذنا بهذه الرواية وجب علينا أن نفترض أنه كان قد أقام بموضع عاقل وحكم منه في أغلب الأوقات.
__________
1 الطبري "2/ 86".
2 الطبري "1/ 900"، حمزة "ص69".
3 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "ص55، 275".
4 شرح ديوان لبيد "ص275".(6/18)
وقد نعت "حمزة" الحارث بـ"المقصور"1. وقد رأينا أن جماعة من الأخباريين منحت هذا اللقب لـ"عمرو".
وقد اختلف الرواة في أم "الحارث"، فذهب بعض منهم إلى أنها ابنة "حسان بن تبع"2، وذهب بعض منهم إلى أنها "أم أناس"3 أو "أم إياس"4 بنت "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، وأمها "أمامة بنت كسر بن كعب بن زهير بن جشم" من تغلب5.
وفي رواية أخرى، أن "أم أناس"، وكانت زوجة لـ"حجر" وهي أم "الحارث بن حجر" و"هند بنت حجر". ولذلك فهي ليست أمًّا للحارث بن عمرو المقصور، كما جاء في الرواية المتقدمة. ويظهر أن مرد هذا اختلاف يعود إلى تشابه الاسمين، وإلى عدم تمييز الرواة بينهما. ويكون "الحارث بن حجر" المذكور إذن شقيقًا لعمرو بن حجر6.
وقد ذكر "ثيوفانس" رئيسًا عربيًّا دعاه "الحارث من بني ثعلبة" "ARETAS O. THALABAYNYS"، يظن "أوليندر" أنه "الحارث الكندي"7، ويرجح لذلك الرواية الثانية التي تجعل أم الحارث "أم أناس" "أم إياس". ذلك لأن "أم أناس" من شيبان، وشيبان هو ابن ثعلبة في عرف النسابين، فيكون هذا الحارث على رأيه هو الحارث الكندي.
ولست أستطيع الجزم بهذا الرأي، فإن "الحارث" من الأسماء المعروفة الكثيرة الاستعمال عند العرب في بادية الشأم وفي بلاد الشأم، وشمال الحجاز ونجد، وقد عرفنا أسماء عدد من الأمراء وسادات القبائل عرفوا بهذا الاسم، ثم إن نسبة الحارث إلى الثعلبانية "ثعلبة"، لا يدل على أن الحارث الذي ذكره "ثيوفانس" هو "الحارث الكندي"، بل يدل على أنه كان من قبيلة اسمها "ثعلبة" أو "ثعلبان".
وقد ذكر كتبه اليونان والسريان اسم قبيلة "ثعلبة" وكانت من القبائل الخاضعة
__________
1 حمزة "ص92".
2 الطبري "1/ 100"، حمزة "ص69".
3 المفضليات "ص429"، الأغاني "8/ 62".
4 OLINDER, P. 48.
5 المفضليات "ص429".
6 الأغاني "15/ 83".
7 OLINDER, P. 48(6/19)
للروم. فورد "طايوي ربيث رومرين ديث ثعلبة"، أي "العرب الذين في أرض الروم الملقبون ببني ثعلبة"، وورد ذكرها في أخبار مؤرخي الكنيسة في النصف الثاني من القرن الرابع للميلاد1.
وفي "طيء" ثلاثة بطون عرفت بـ"بني ثعلبة"، هي "ثعلبة بن ذهل"، و"ثعلبة بن رومان" و"ثعلبة بن جدعاء"، وتعرف بـ"ثعالب طيء".
ويوجد أيضًا "بنو ثعلبة بن شيبان" من بطون "تميم"2. وقد عرف "بنو شيبان بن ثعلبة بن عكاية بن صعب بن علي بن بكر بن وائل" و"بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكاية" بـ"بني ثعلبة" في تواريخ الروم والسريان.
ومن "شيبان" كان "حارث بن عباد" سيد شيبان في حرب البسوس. وقد عرفوا بـ"THALABENES" عند الروم3.
وتذكر رواية لابن الكلبي أن "تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن"، أعان "الحارث بن عمرو" وساعده على تولي الملك. و"تبع بن حسان بن تبع"، هو خاله على هذه الرواية. وتزعم أنه بعث إلى ابن أخته بجيش عظيم سار معه إلى بلاد معد والحيرة وما والاها، فسار إلى "النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة"، فقاتله، فقتل النعمان وعدة من أهل بيته، وهزم أصحابه، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر، وملك "الحارث بن عمرو الكندي" ما كانوا يملكون4.
ولا نعرف من الأسماء المذكورة في الكتابات العربية الجنوبية اسم ملك يدعى "تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن". ويرى "هارتمن" "HARTMANN" أن الأخباريين أرادوا به "شرحبيل يكف"، وهو ابن شرحبيل يعف" المذكور اسمه في النص المؤرخ بسنة "467"5.
يظهر من رواية "ابن الكلبي" المتقدمة أن الملك لم ينتقل إلى الحارث من أبيه إرثًا، وإنما جاءه بمساعدة خاله "تبع بن حسان بن تبع". ولم تذكر الرواية
__________
1 شيخو، النصرانية "القسم الأول ص79". ROTHSTEIN, 8. 47
2 النصرانية "القسم الأول، ص127". ابن حزم، جمهرة "ص297".
3 النصرانية "القسم الأول، ص131 وما بعدها"، "القسم الثاني: 2/ 422".
4 الطبري "2/ 86".
5 Olinder, P. 54, Hartmann, S. 497(6/20)
الأسباب التي دعت إلى اعتماد الحارث على "تبع" في تولي الملك. ولو صحت هذه الرواية كان معناها أنه لم يتمكن من الحصول على حقه في الملك إما لامتناع القبائل من قبوله ملكًا عليها، مما دعاه إلى الاستعانة بـ"تبع" أو بغيره، وإما لأن ملك والده يوم توفي لم يكن واسعًا، بل كان مقتصرًا على كندة ومن في حلفها، أو لأنه لقي مقاومة من أشقائه وأقربائه، مما دفعه إلى الاستعانة بالغرباء في تنصيب نفسه ملكًا على كندة وعلى القبائل الأخرى، ثم على توسيع ملكه فيما بعد.
ولدينا رواية أخرى، تذكر أن الذي ساعد "الحارث بن عمرو" على تولي الحكم على بلاده معد، هو "صهبان بن ذي خرب"، وذلك أن معدًا لما انتشرت تباغتت وتظالمت، فبعثت إلى صهبان تسأله أن يملك عليها رجلًا يأخذ لضعيفها من قويها مخافة التعدي في الحروب، فوجه إليها الحارث بن عمرو الكندي، واختاره لها؛ لأن معدًا أخواله، أمه امرأة من بني عامر بن صعصعة، فسار الحارث إليها بأهله وولده. فلما استقر فيها، ولى ابنه حجر، وهو أبو امرئ القيس الشاعر على أسد وكنانة، وولى ابنة شرحبيل على قيس وتميم، وولى ابنه معديكرب، وهو جد الأشعث بن قيس الكندي على ربيعة، فمكثوا كذلك إلى أن مات الحارث، فأقر صهبان كل واحد منهم في ملكه، فلبثوا بذلك ما لبثوا. ثم إن بني أسد وثبوا على ملكهم حجر بن عمرو، فقتلوه. فلما بلغ ذلك صهبان، وجه إلى مضر عمرو بن نابل اللخمي، وإلى ربيعة لبيد بن النعمان الغساني، وبعث برجل من حمير يسمى أوفي بن عنق الحية وأمره أن يقتل بني أسد أبرح القتل. فلما بلغ ذلك أسدًا وكنانة، استعدوا. فلما بلغ أوفي ذلك، انصرف نحو صهبان، واجتمعت قيس وتميم فأخرجوا ملكهم عمرو بن نابل عنهم فلحق بصهبان، وبقي معديكرب جد الأشعث ملكًا على ربيعة1.
أما صهبان، فهو رجل لم يكن من أهل بيت الملك في حمير، بل كان قد وثب على الملك وأخذه عنوة، وذلك حينما تضعضع أمر الحميرية بقتل "عمرو بن تبع" أخاه "حسان بن تبع"، فانتهز صهبان هذه الفرصة، ووثب على "عمرو بن تبع" فقتله واستولى على ملكه وصار الأمر إليه2.
__________
1الديبوري. الأخبار الطوال "ص53 وما بعدها".
2 الأخبار الطوال "ص52 وما بعدها".(6/21)
وهناك رواية أخرى تذكر أن "صهبان بن محرث" هو الذي عين الحارث على معد. فهي تأييد للرواية المتقدمة. سوى أنها عينت اسم والد صهبان، بأن نصت عليه، فجعلته "محرثًا" أما الرواية المتقدمة فدعته "ذي خرب" و"ذي خرب" لقب، يعبر عن منصب وليس باسم علم.
وفي رواية يرجع سندها إلى أبي عبيدة، أن بكر بن وائل لما تسافهت، وغلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامها، ارتأى رؤساؤهم فقالوا: إن سفهاءنا قد غلبوا على أمرنا فأكل القوي الضعيف. فنرى أن نملك علينا ملكًا نعطيه الشاة والبعير، فيأخذ للضعيف من القوي. ويرد على المظلوم من الظالم، ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا، فيأباه الآخرون، فيفسد ذات بيننا، ولكننا نأتي تبعًا فنملكه علينا، فأتوه، فذكروا له أمرهم، فملك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي، فقدم فنزل بطن عاقل1.
ويدرك من هذه الروايات أنه كان للتبايعة نفوذ على قبائل معد، وأن تلك القبائل كانت تستشيرهم في أمورها، وتحتكم إليهم فيما يحدث بينهم من خلاف. وأنه كان لهم يد في تعيين الحارث وتنصيبه على تلك القبائل.
والشيء الوحيد الذي يمكن استخلاصه من هذه الروايات المدونة عن تعيين الحارث ملكًا، أنه تولى الحكم على كندة بعد وفاة أبيه، وأنه وسع ملكه بعد ذلك وقد يكون بمساعدة "تبع"، فصار ملكًا على كندة وبكر وعلى قبائل أخرى وأنه تمكن بشخصيته من رفع شأن قبيلته. ويرى "أوليندر" أنه حكم حوالي سنة "490" للميلاد2.
وليس من السهل تعين اسم "التبع" الذي عين الحارث ملكًا كما جاء ذلك في الروايات اليمانية بالاستناد إلى نصوص المسند، وليس من السهل أيضًا تصور بلوغ نفوذ "ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال وفي تهامة" المواضع التي ذكرها أخباريو اليمن. وقد رأينا آثار الوهن بادية على تلك المملكة، بحيث لم تتمكن من مقاومة غزو الحبشة لها. وليس من السهل أيضًا تصور مجيء "بكر" والقبائل الأخرى مختارة طائعة إلى الحارث تلتمس منه أن
__________
1 نهاية الأرب "15/ 406"، العقد الفريد "6/ 78"، "طبعة العريان".
2 OLINDER, P. 56(6/22)
يتفضل عليها بأن يكون ملكًا عليها، وقد رأيناها كما يقول الأخباريون أنفسهم تنتقض على البيت المالك من كندة وتثور عليه، وتقتل أمراءها منهم، حال علمها بضعف ذلك البيت، وبوفاة الرجل الذي جمع تلك القبائل بقوته، ووحدها بشخصيته. والأقرب إلى المنطق هو أن هذه القبائل لم تعترف برئاسة الحارث عليها، وبتاجه عليها إلا لما رأته فيه من القوة، وإلا بعد استعمال القوة والعنف مع عدد من القبائل، فرضيت به ملكًا ما دام قويًّا والأمر بيديه، وهو منطق السياسة في الصحراء. وبهذا التفسير نستطيع فهم تكون ممالك أو إمارات بسرعة عجيبة، تظهر فجأة قوية تحتضن جملة قبائل، ثم تسير بسرعة فتهدد حدود الدول الكبرى وتهاجمها كالفيضان، فإذا أصيبت بهذه الدول تمزقت أوصالها وتجزأت كما تتجزأ الفقاعة وتذوب، هكذا حياة المالك في البوادي، ممالك تولد، وأخرى تموت.
ويذكر الأخباريون أن الحارث الكندي جمع إلى ملكه ملك الحيرة وآل لحم، وذلك في زمن قباذ. ورووا في ذلك جملة روايات عن كيفية تولي الحارث ملك الحيرة، وطرده لملكها الشرعي وتولي الحكم دونه. فرووا أن الزمن لم يكن مؤاتيًا لـ"قباذ" يوم أوتي الحكم. كانت الأحوال مضطربة، والفتن رافعة رأسها في مواضع متعددة، والنفوذ في المملكة بيد الموابذة، ولموبذان موبذ الكلمة العليا؛ إذ هو الرئيس الروحي الأعلى في المملكة، كما كان للأغنياء وللإقطاعيين الشأن الأول في سياسة الدولة، فلم يعجب قباذ الوضع؛ لأنه "ملك الملوك" "شاهنشاه" ومن حق "ملك الملوك" ألا ينازع في الملك، ففكر في طريقة لتقليص ظل الموابذة والمتنفذين في المملكة من كبار الأغنياء والملاكين، ورأى أن خير ما يفعله في هذا الباب، هو نشر تعاليم مزدك بين الناس، فإذا انتشرت كانت كفيلة بالقضاء على الأغنياء وعلى رجال الدين المتنفذين1. وكان مزدك وأصحابه يقولون إن الناس تظالموا في الأموال والأرزاق، فاغتصبها بعضهم من بعض، وإن الأغنياء قد اغتصبوا رزق الفقراء "وإنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وإنه من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة، فليس هو بأولى به من غيره. فافترص السفلة ذلك، واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتلي الناس بهم، وقوي أمرهم حتى كانوا
__________
1 Noldeke, Aufsatzee zur Persischen Geschichte, Leipzig, 1887, S. 109(6/23)
يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم"1. هكذا وصف الطبري وغيره من الأخباريين دعوة مزدك.
فهي على هذا الوصف دعوة اشتراكية جاءت مقوضة لرجال الدين والإقطاعيين ومتنفذة الأغنياء.
فلما شايع قباذ المزدكية، اجتمعت كلمة "موبذان موبذ" والعظماء على إزالته من ملكه، فأزالوه عنه وحبسوه، وعينوا أخاه جاماسب مكانه، ويذكر الطبري أن ذلك كان في السنة العاشرة لملك قباذ، فيكون ذلك في سنة "498 م" على رأي من جعل ابتداء ملكه في عام "488م"2. وقدر حدوثه أيضًا في سنة "496م"3. وقد مكث أخوه ملكًا ست سنوات ثم أزاله عنه أخوه قباذ الذي أفلت من السجن في قصة يرويها الأخباريون، واستعاد قباذ بذلك ملكه4. فتكون استعادته ملكه في حوالي سنة "504" أو "502م". وقد مكث ملكًا حتى انتقل إلى العالم الثاني في سنة "531م".
وتذكر رواية الأخباريين هذه. أن الملك قباذ طلب من المنذر بن ماء السماء الدخول فيما دخل فيه من مذهب مزدك وزندقته، فامتنع، فاغتاظ قباذ وانزعج منه، ودعا "الحارث بن عمرو" إلى ذلك، فأجابه، فاستعمله على الحيرة. وطرد المنذر من مملكته، فعظم سلطان الحارث، وفخم أمره، وانتشر ولده، فملكهم على بكر وتميم وقيس وتغلب وأسد5. وكان من حل نجدًا من أحياء نزار تحت سلطان الحارث دون من نأى منهم عن نجد6. فتربط هذه الرواية كما نرى بين زندقة قباذ وعزل المنذر وتنصيب الحارث ملكًا على الحيرة، بقبوله مذهب قباذ.
وروى "حمزة" أن الحارث كان قد طمع في ملك "آل لخم". وكان قد وجد أن "قباذ" ضعيف الهمة فاتر العزم، غير ميال إلى القتال، وأنه سوف لا يساعد آل لحم. إن هو هاجمهم، لذلك ساق كندة ومن كان معه من بكر بن وائل عليهم، وباغت سادة الحيرة ولم يتمكنوا من الوقوف أمامه، فهرب.
__________
1 الطبري "2/ 88".
2 ency. brita. vol. 17, p. 547 Ency. 4, p 178
3 noldek , aufs. S. 109
4 الطبري "2/ 87".
5 ابن الأثير "1/ 209"، الطبري "2/ 89 وما بعدها" المحبر "ص369".
6 حمزة "ص92".(6/24)
"المنذر" من دار مملكته بالحيرة ومضى حتى نزل إلى "الجرساء الكلبي" وأقام عنده إلى أن تغير الحال بوفاة قباذ، وتبدل سياسة الحكومة بتولي "كسرى أنو شروان" الملك فعاد إلى ملكه وقهر الحارث وتغلب عليه واستعاد ما اغتصب منه1.
وذكر "حمزة" أن سبب لجوء "بكر بن وائل" إلى الحارث، وخضوعها لحكمه واشتراكها معه في مهاجمة "آل لخم" وانتزاع الحكم منهم، هو أن "امرأ القيس البدء" كان يغزو قبائل "ربيعة"، فينكي فيهم، ومنهم أصاب "ماء السماء"، وكانت تحت "أبي حوط الخطائر" فثارت به "بكر بن وائل" فهزموا رجاله، وأسروه، وكان الذي ولي أسره "سلمة بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان"، فأخذ منه الفداء وأطلقه، فبقيت تلك العداوة في نفوس "بكر بن وائل" إلى أن وهن أمر الملك "قباذ"، فعندها أرسلت بكر إلى الحارث بن عمرو فملكوه، وحشدوا له، ونهضوا معه حتى أخذ الملك ودانت له العرب2.
وبهذه الكيفية شرح "حمزة" كيفية تولي "الحارث" عرش الحيرة، وسبب بغض "بكر بن وائل" لآل لخم، بغضًا دعاها إلى تنصيب "الحارث" ملكًا عليها، وعلى الانتقام من آل لخم.
ولابن الكلبي رواية عن كيفية تولي الحارث ملك الحيرة، ذكر "أن قباذ ملك فارس له ملك كان ضعيف الملك، فوثبت ربيعة على النعمان الأكبر أبي المنذر الأكبر ذي القرنين، وإنما سمي ذا القرنين لضفرين كانا له، فهو ذو القرنين بن النعمان بن الشقيقة. فأخرجوه، فخرج هاربًا حتى مات في إياد، وترك ابنه المنذر فيهم، وكان أرجى ولده عنده، فتنطلق ربيعة إلى كندة، وكان الناس في الزمن الأول يقولون إن كندة من ربيعة، فجاءوا بالحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي، فملكوه على بكر بن وائل، وحشدوا له، وقاتلوا معه، فظهر على ما كانت العرب تسكن من أرض العراق، وأبى قباذ أن يمد المنذر بجيش. فلما رأى ذلك المنذر، كتب إلى الحارث بن عمرو: إني في غير قومي، وأنت أحق من ضمني واكتنفني، وأنا متحول إليك. فحوله إليه، وزوجه
__________
1 حمزة "ص70 وما بعدها".
2 حمزة "ص70 وما بعدها".(6/25)
ابنته هندًا. ففرق الحارث بن عمرو بنيه في قبائل العرب، فصار شرحبيل بن الحارث في بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبني زيد بن تميم وبني أسد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، وصار غلفاء وهو معديكرب في قيس، وصار سلمة بن الحارث في بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة بن تميم ... ومع معديكرب الصنائع، وهم الذين يقال لهم بنو رقية أم لهم ينسبون إليها. وكانوا يكونون مع الملوك من شذاذ الناس. فلما هلك أبوهم الحارث بن عمرو تشتت أمرهم وتفرقت كلمتهم، ومشت الرجال بيينهم، وكانت المغاورة بين الأحياء الذين معهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش ... "1.
ولابن الكلبي رواية أخرى دونها الطبري، هذا نصها: "لما لقي الحارث بن عمرو بن حجر بن عدي الكندي النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك بعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي أنه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهد، وأني أحب أن ألقاك.
وكان قباذ زنديقًا يظهر الخير ويكره الدماء، ويداري أعداءه فيما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه واستضعفه الناس. فخرج إليه الحارث بن عمرو الكندي في عدد وعدة حتى التقوا بقنطرة الغيوم ... فلما رأي الحارث ما عليه قباذ من الضعف، طمع في السواد، فأمر أصحابه مسالحه أن يقطعوا الفرات؛ فيغيروا في السواد، فأتى قباذ الصريخ وهو بالمدائن فقال: هذا من تحت كنف ملكهم. ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو أن لصوصًا من لصوص العرب قد أغاروا، وأنه يجب لقاءه، فلقيه. فقال له قباذ: لقد صنعت صنيعًا ما صنعه أحد من قبلك. فقال له الحارث: ما فعلت ولا شعرت، ولكنها لصوص من لصوص العرب، ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود. قال له قباذ: فما الذي تريد؟ قال: أريد أن تطعمني من السواد ما أتخذ به سلاحًا. فأمر له بما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، وهي ستة طساسيح، فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبع وهو باليمن: إني قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستة طساسيح،
__________
1 المفضليات "ص427 وما بعدها"، النقائض "ص1072 وما بعدها"، "طبعة ليدن".(6/26)
فاجمع الجنود، وأقبل ... فجمع تبع الجنود، وسار حتى نزل الحيرة، وقرب من الفرات، فآذاه البق، فأمر الحارث بن عمرو أن يشق له نهر إلى النجف، وهو نهر الحيرة، فنزل عليه، ووجه ابن أخيه شمر ذي الجناح إلى قباذ، فقاتله فهزمه شمر حتى لحق بالري". وقد ترك ابن الكلبي الإشارة إلى الحارث وظفر إلى الحديث عن فتوحات شمر الذي أوصل فتوحاته إلى القسطنطينية، ثم إلى رومة "رومية"، ثم إلى عودة "تبع" وتهوده بتأثير أخبار يثرب، ثم إلى علم "كعب الأحبار" الذي استمده على حد قوله من بقية ما أورثت أحبار يهود1.
ويرى "موسل" أن التقاء "الحارث" بـ"قباذ" "488-531م" عند قنطرة الفيوم، كان سنة "525" للميلاد2. والفيوم موضع لا يبعد كثيرًا عن "هيت"3:
يفهم من رواية ابن الكلبي هذه أن الحارث التقى بملك الحيرة "النعمان بن المنذر" في معركة أسفرت عن مقتل "النعمان" وفرار المنذر ابنه، وعن انتصار عرب الحارث على عرب الحيرة، واستيلاء الحارث على ما كان يملكه النعمان، فلما حدث هذا ووقع، اضطر "قباذ" إلى ملاطفة الحارث واسترضائه. ولكن الحارث طمع في أكثر من ذلك، طمع في السواد، فأقطعه منه ما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، أقطعه من ستة طساسيح. فليس في هذه إشارة إلى قبول "الحارث". الدخول في المزدكية، ولا إلى طرد النعمان من ملكه نتيجة لرفضه اتباعه في دينه، إنما هو ضعف قباذ وعجزه عن مساعدة صاحبه النعمان وانتهاز الحارث الذكي هذه الفرصة المواتية للاستيلاء على ما طمع فيه من ملك النعمان.
أما الشق الثاني، وهو خبر "تبع"، وحروبه ومساعدته له، فهو على ما يظهر من هذا النحو الذي ألفناه في ربط تأريخ كندة باليمن، والإشادة بماضي القحطانيين وانفرادهم بالملك دون خصومهم العدنانيين، وإلى عدم تمكن كندة من العمل وحدها لولا مساعدة اليمانيين.
يستنتج من كل هذه الروايات أن "الحارث بن عمرو" الكندي اغتصب عرش الحيرة أمدًا، اغتصبه من "النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة"، أو
__________
1 الطبري "2/ 89 وما بعدها".
2 Musil, Middle Euphrates, P. 350
3 البلدان "6/ 414".(6/27)
"المنذر الأكبر بن ماء السماء" أو "النعمان الأكبر أبو المنذر الأكبر ذو القرنين"، و"ذو القرنين"، هو "ذو القرنين بن النعمان بن الشقيقة"1، أو "النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة"2، وذلك في زمن "قباذ" ملك الفرس. ويقصد بـ"قباذ" هذا "قباذ" الأول الذي حكم ثلاثًا وأربعين سنة على ما جاء في الأخبار3. ويقدر العلماء ذلك في سنة "488" حتى سنة "531" بعد الميلاد4.
ولنتمكن من تعيين اسم الملك الذي قصده الرواة، علينا الرجوع إلى أسماء من حكم في أيام قباذ من ملوك الحيرة، وذلك على نحو ما رواه لنا الأخباريون.
إن أول من حكم في عهد "قباذ"، على ما يدعيه "حمزة" هو الملك "الأسود بن المنذر"، وقد حكم في أيامه ست سنين، ثم المنذر بن المنذر، وأمه "هر"، وقد حكم سبع سنين. ثم النعمان بن الأسود، وأمه أم الملك بنت عمرو بن حجر أخت "الحارث بن عمرو بن حجر الكندي"، أربع سنين. ثم أبو يعفر بن علقمة الذميلي، وقد حكم ثلاث سنين. ثم امرؤ القيس بن النعمان بن امرئ القيس، وقد حكم سبع سنين. ثم امرؤ القيس بن النعمان بن امرئ القيس، وقد حكم سبع سنين، ثم المنذر بن امرئ القيس المعروف بالمنذر بن ماء السماء، وهو ذو القرنين، وقد حكم اثنتين وثلاثين سنة من ذلك ست سنين في زمن قباذ. ثم الحارث بن عمرو بن حجر الكندي، ولم يذكر "حمزة" مدة حكمه، إنما قال: "ذكر هشام عن أبيه أنه لم يجد الحارث فيمن أحصاه كتاب أهل الحيرة من ملوك العرب. ثم قال: وظني أنهم إنما تركوه لأنه توثب به الملوك بغير إذن من ملوك الفرس، ولأنه كان بمعزل عن الحيرة التي كانت دار المملكة ولم يعرف له مستقر وإنما كان سيارة في أرض العرب"5. ولم يذكر حمزة مدة حكم "قباذ"6.
أما "الطبري"، فجعل "النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة".
__________
1 المفضليات "ص427".
2 OLINDER , P. 58
3 الطبري "2/ 89".
4 ENCY. IV, P. 178
5 حمزة "ص69-72".
6 حمزة "ص39".(6/28)
الملك الذي كان قد حكم حينما تولى "قباذ" الحكم، وجعل "الحارث بن عمرو بن الحجر" الذي قتل النعمان على روايته من بعده. وقد دام حكمه على ما يظهر من رواية الطبري حتى أيام "كسرى أنو شروان بن قباذ". فلما قوي شأن "كسرى أنو شروان"، بعث إلى المنذر بن النعمان الأكبر، وأمه ماء السماء، فملكه الحيرة وما كان يلي آل الحارث بن عمرو بن حجر1.
أما "ابن الأثير"، وهو عيال على الطبري وناقل منه، فقد ذكر ما ذكره الطبري، وأضاف إليه: أن المنذر بن ماء السماء لما بلغه هلاك قباذ، وقد علم خلافه على أبيه في مذهبه، أقبل إلى "أنو شروان" فعرفه نفسه، وأبلغه أنه سيعيده إلى ملكه، وطلب "الحارث بن عمرو"، وهو بالأنبار، فخرج هاربًا في صحابته وماله وولده، فمر بـ"الثوبة"، فتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء، فلحق بأرض كلب، ونجا، وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسًا من بني آكل المرار، فقدموا بهم على المنذر، فضرب رقابهم بـ"جفر الأميال"2 "جفر الأملاك" في ديار بني مرينا العباديين بين دير بني هند والكوفة3.
ترى مما تقدم اختلاف الروايات وتباينها وتعددها، حتى إن الرواية الواحد مثل "ابن الكلبي" يروي لنا جملة روايات، قد يناقض بعضها بعضًا. لقد وجدنا منها ما زعمت أن قباذ طرد المنذر من مملكته، وأحل الحارث محله، ومنها ما زعمت أن المنذر استرضى الحارث بعد أن رأي عجزه وعجز صاحبه، فحوله إليه، وزوجه ابنته هند، ومنها ما ذكرت أن الحارث قتل النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة، وأن المنذر بن النعمان الأكبر فر ونجا بنفسه، وأن الحارث ملك بالقوة ما كان يملكه ملوك الحيرة وأن قباذ داراه واسترضاه لما وجد فيه من البأس. فماذا نستخلص من مجموع هذه الروايات؟
كل ما يستخلص منها أن الحارث استبد بملك آل لخم، في أيام قباذ، وكان مركز هذا الملك صعبًا بسبب ضعفه، وبسبب العقيدة التي قبلها، وهي عقيدة تناقض ما كان عليه الناس. وقد حكم أمدًا: يظهر أنه امتد مدة حكم قباذ، ثم
__________
1 الطبري "2/ 89" وما بعدها".
2 ابن الأثير "1/ 175".
3 البلدان "4/ 127 وما بعدها".(6/29)
تغيرت به الأحوال، فعاد أصحاب البيت إلى بيتهم، وهرب هو إلى من حيث جاء، ولا نعرف على وجه التحقيق متى ولي الحكم، ولا متى غادره.
لقد ذكرت أسماء الملوك الذي حكموا في أيام "قباذ" على رواية حمزة، وهي رواية تكاد تتفق مع القائمة التي دونها الطبري في آخر كلامه عن "كسرى أنو شروان" نقلًا عن هشام بن الكلبي لأسماء ملوك الحيرة ومدد حكمهم، وذلك قبل عهد "كسرى أنو شروان"1. فأي ملك من هؤلاء يمكن أن يكون هو الملك المقصود؟
لقد ذكر "بوشع العمودي" "JOSHUA THE STYLITE" أن ملك الحيرة "النعمان" اشترك مع "قباذ" في المعارك التي وقت بينه وبين الروم، فأصيب النعمان بجروح بليغة على مقربة من "قرقيسياء" "CLRCESLUM" قضت عليه، وذلك في سنة "503" للميلاد. ولقد انتهز عرب الروم المسمون بالثعلبيين. "بني ثعلبة" هذه الفرصة، فغزوا الحيرة، واضطرت القوة التي تركها النعمان في عاصمته إلى الفرار للبادية.
أفلا يجوز أن يكون هؤلاء الغزاة هم أعراب "الحارث الكندي"، انتهزوا هذه الفرصة فأغاروا على الحيرة واستولوا عليها، فصارت في قبضة "الحارث" على نحو ما رواه بعض الأخباريين؟ ثم ألا يجوز أن يكون بعض الرواة قد سمعوا بمقتل "النعمان"، فظنوا أن القائل هو "الحارث"، أو تعمدوا نسبة القتل إليه للرفع من شأن كندة ومن كان معها من قبائل2؟
ولكن من يثبت لنا أن هؤلاء الأعراب الثعلبيين، أي من "بني ثعلبة"، وهم من عرب الروم على حد قول "يوسع العمودي" هم من أتباع الحارث أو أنهم من "آل الحارث" أي من كندة، وأن العائلة الكندية المذكورة كانت تعرف بـ"بني ثعلبة". وليس في الذي بين أيدينا من موارد، مورد واحد يذكر بأن "آل آكل المرار" هم من "بني ثعلبة" أو أنهم كانوا قد عرفوا بـ"بني ثعلبة" في يوم من الأيام، أو أنهم كانوا قد خضعوا لسلطان الروم، لذلك لا أظن أن "يوشع العمودي" قصد بالثعلبيين عرب الروم، كندة،
__________
1 الطبري "2/ 94".
2 "قرقيسياء"، البلدان "7/ 59"، OLINDER , P. 59. ency, ii, p. 763, musll, euphrates, p. 334(6/30)
وإنما قصد أعرابًا من أعراب الروم، كانوا يعرفون بـ"بني ثعلبة" أو "آل ثعلبة"، وكانوا يتمتعون باستقلالهم تحت حماية الروم. ولما وجدوها فرصة ما حل بالنعمان من جروح في الحرب التي خاضها مع الفرس على الروم، هاجموا الحيرة فانتهبوها، وكانت حاميتها ضعيفة ففرت إلى البادية، ولم يذكر المؤرخ مدة مكوث هؤلاء الأعراب في الحيرة، والظاهر أنها لم تكن سوى مدة قصيرة، وأنها كانت من نوع غارات الأعراب على المدن: غزو خاطف، يعقبه انسحاب عاجل لتأمين سلامة ما ينهبونه وإيصاله إلى ديارهم حتى لا تتمكن القوات التي ستأتي لمعاقبتهم من أخذ ما حصلوا عليه من غنائم وأموال.
ويظهر أن حكم كندة للحيرة لم يكن طويلًا، ويظن أنه كان بين سنة "525" وسنة "528" للميلاد، وذلك في أثناء ظهور فتنة المزدكية في إيران1. وليس بمستبعد أن يكون الحارث قد اتصل بالفرس قبل هذا الزمن. في أثناء صلح سنة "506" للميلاد، أو على أثر الفتور الذي طرأ على علاقاته بالبيزنطيين؛ لأنه وجد أن الاتفاق مع الفرس يعود عليه بفوائد ومنافع لا يمكن أن يغتنمها من الروم، ووجد بكرًا وتغلب قد زحفتا إذ ذاك من مواطنهما القديمة في اليمامة ونجد نحو الشمال تريدان النزول في العراق. وقد أقره الفرس على المناطق الصغيرة أو الواسعة التي استولى عليها لقاء جعل2.
لم يكن من مصلحة ملك الحيرة، بالطبع، الرضى بنزول منافس قوي أو منافسين أقوياء في أرضه أو في أرض مجاورة له. فلما ظهر الحارث في العراق، وعرف ملك الحيرة نياته وتقربه إلى الفرس، وملك الحيرة، هو باعتراف الفرس "ملك عرب العراق"، لم يكن من المعقول سكوته انتظارًا للنتائج. ومن هنا وقع الاختلاف3.
لم تكن العلاقات حسنة بين قباذ والمنذر ملك الحيرة، لسبب غير واضح لدينا وضوحًا تامًّا، قد يكون بسبب المزدكية، وقد يكون بسبب تقرب الحارث إلى الفرس وإقطاعهم إياه أرضًا وتودده الزائد إلى قباذ، وقد يكون لأسباب أخرى
__________
1 Olinder, P. 65
2 O. Blau, Arabien in Sechsten Jahrhundert, in ZdMG. Bd, 23, (1869) , S. 579
3 حمزة "ص65"، olinder, p. 65(6/31)
مثل تردد ملك الفرس وضعفه، فلم تكن له خطة ثابتة مما أثر في وضع "ملك عرب العراق" على كل حال، فقد أدى هذا الفتور إلى استفادة الحارث منه واستغلاله، فتقرب إلى الفرس وتودد إليهم حتى آل الأمر بأن يأخذ ملك الحيرة أمدًا حتى تغيرت الأحوال في فارس بموت قباذ وتولي "كسرى أنو شروان" الملك من بعده، فعاد المنذر عندئذ إلى عرش الحيرة وأبعد الحارث عن ملكه.
وآراء الأخباريين متباينة كذلك في المكان الذي اختاره الحارث للإقامة فيه بعد اغتصابه ملك "آل لخم"، فبينما يفهم من بعض الروايات أنه استقر في الحيرة وأقام فيها، نرى بعضًا آخر يرى أنه أقام في الأنبار1. وبينما يذكر "حمزة" أن الحارث حينما بلغه خبر قدوم المنذر عليه واقترابه من الحيرة، هرب فتبعته خيل المنذر، مما يفهم أنه كان في الحيرة، نجده يقول في موضع آخر: "أن الحارث كان بمعزل عن الحيرة التي كانت دار المملكة، ولم يعرف له مستقر، إنما كان سيارة في أرض العرب"2. ونجد صاحب الأغاني يذكر في موضع أنه كان في الأنبار، ويشير في موضع آخر أنه كان في الحيرة3.
وتتفق روايات الأخباريين على أن مجيء "كسرى أنو شروان" كان شرًّا على الحارث، وخيرًا لآل لخم، فقد كانت سياسة "أنو شروان" مناقضة لسياسة قباذ بسبب المزدكية. وقد ظهر اختلافهما هذا في السنين الأخيرة من سني حكم قباذ4. وقد أدى هذا الاختلاف إلى محاربة المزدكية وسقوطها. ويحدثنا "ملالا" "john malalas" أن سقوطها كان بعد وفاة "الحارث" وقبل غارة المنذر على بلاد الشأم5. وقد قام المنذر بها في شهر آذار من سنة "528" للميلاد على رواية "ثيوفانس"6 "theophanes". وكانت وفاة الحارث في أوائل سنة "528" للميلاد7. ومن رواية هذين الكاتبين يتبين أن الحارث كان قد قضى نحبه قبل
__________
1 اليعقوبي "1/ 177"، ابن الأثير "1/ 209"، الأغاني "8/ 62" "طبعة الساسي".
2 حمزة "ص72، 93"، rothstein, die dynastle der lakhmiden. s. 88
3 الأغاني "8/ 62".
4 Noldede, Die Sasaniden, S. 462, Christensen, Le Regne du Roi Kawadh I, et le Communisme Mazdaqit, PP. 124, Olinder, P. 65
5 John Malalas, Chronographia, Lib, XVIII, Col. 653 olinder, P
6 Olinder, P. 56, 65
7 Olinder, P. 56(6/32)
القضاء على المزدكية بمدة غير طويلة، وأن المنذر كان في آذار سنة "528" للميلاد قد قام بغارته على بلاد الشأم1.
ويستدل من إشارة "ملالا" و"ثيوفانس" إلى موت الحارث في سنة "528م" ومن تلقيبه بلقب "فيلارخس" أي عامل، على أن علاقات الحارث بالروم في أواخر أيام حياته كانت حسنة. ومعنى هذا أن خلافًا أو فتورًا كان قد وقع فيما بينه وبين الفرس، دفعه على التقرب نحو خصوم الساسانيين وهم الروم، فاتصل بهم وذلك في أيام "قباذ"، أو في أيام، "كسرى أنو شروان"2.
ويظهر أن تودد "الحارث" إلى البيزنطيين لم يأت له بنتيجة أو بفائدة تذكر.
إذ يحدثنا الكاتبان "ملالا" و"ثيوفانس" أن قائد أن قائد فلسطين الرومي "ديوميدس" "diomedos" أجبر سيد قبيلة يدعى "أريتاس" "aritas"، أي "الحارث" على التراجع في اتجاه الهند "indica"، ويقصد بذلك جهة الجنوب أو الشرق، حيث كان يطلق البيزنطيون على العربية الجنوبية "الهند". فلما سمع بذلك "الموندارس" "alamoundaros" أي "المنذر" رئيس العرب "السرسيني" "saracens" الخاضعين لنفوذ الفرس، هجم على الحارث فقتله، وغنم أمواله وما ملكه وأسر أهله. فلما بلغ النبأ للقيصر "يوسطنيانوس" "justinianus"، أمر حكام "فينيقية" "phenicia" و"العربية" "arabia" والجزيرة وعامل الحدود بتعقب المنذر ومهاجمته. وقد اشترك في هذه الحملة عدد من القادة والحكام، وفي جملتهم سيد قبيلة اسمه "أريتاس" "aritas"، أي "الحارث". وهو الحارث بن جبلة الغساني على ما يظهر3.
ولم يتعرض الأخباريون للخبر الذي ذكره الكاتبان عن كيفية قتل "الحارث" ولا عن الأمر الذي أصدره القيصر بتعقب "المنذر"، والظاهر أنهم لم يقفوا عليه4.
غير أن للأخباريين رواياتهم الخاصة عن مصير صاحبنا "الحارث" الكندي.
حدث صاحب "الأغاني" أن "أنو شروان" حينما ملك، أمر بقتل الزنادقة،
__________
1 Olinder, P. 65
2 Olindder, P. 66
3 Olinder, P. 53, Noldeke, Sasaniden, S. 171
4 Olinder, P. 66(6/33)
أي أتباع مزدك، "فقتل منهم ما بين جازر1 إلى النهروان إلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم"2، وأعاد المنذر إلى مكانه، وطلب "الحارث بن عمرو، فبلغه ذلك وهو بالأنبار وكان بها منزله ... فخرج هاربًا في هجائنه وماله وولده، فمر بالثوبة3، وتبعه المنذر بالخيل من تغلب وبهراء وإياذ، فلحق بأرض كليب، فنجا وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسًا من بني آكل المرار، فقدمت بهم على المنذر، فضرب رقابهم بـ"جفر الأملاك" في ديار بني مرينا العبادين بين دير هند والكوفة ... "4.
وأضاف "ابن الأثير" إلى هذا الخبر أن "تغلب" قبضت على ولدين من أولاد الحارث هما: "عمرو" و"مالك" في جملة الثمانية والأربعين، فجاءت بهما إلى المنذر في "ديار بني مرينا" فقتلهم5.
ويحدثنا "ابن قتيبة" أن "المنذر" لما أقبل "من الحيرة هرب الحارث، وتبعته خيل فقتلت ابنه عمرًا، وقتلوا ابنه مالكًا بهيت، وصار الحارث بمسحلان فقتله كلب". وزعم غير ابن قتيبة أنه مكث فيهم حتى مات حتف أنفه6.
وذكر "حمزة" الروايات المدونة في كتاب "الأغاني" بحذف بعض كلماتها7.
ولم يشر اليعقوبي إلى من قتل "الحارث" من ملوك الحيرة، بل أوجز فقال: " ... وكانوا يجاورون ملوك الحيرة، فقتلوا الحارث. وقام ولده بما كان في أيديهم، وصبروا على قتال المنذر حتى كافئوه8. ويشعر على كل حال
__________
1 "جازر" قرية من نواحي النهروان من أعمال بغداد قرب المدائن، وهي قصبة طسوح الجازر، والبلدان "3/ 36"، الأغاني "9/ 80" "طبعة دار الكتب المصرية"، "1936"، الأغاني "8/ 62" "طبعة مطبعة التقدم"، وفيها أغلاط عديدة.
2 الأغاني "8/ 63"، "مطبعة التقدم"، "9/ 80" "طبعة دار الكتب المصرية".
3 الثوبة: موضع قريب من الكوفة، وقيل خريبة إلى جانب الحيرة على ساعة منها.
وقيل إنه كان سجنًا للنعمان بن المنذر كان يحبس به من أراد قتله، البلدان "3/ 28".
4 الأغاني "8/ 62"، "9/ 80" "طبعة دار الكتب المصرية".
5 ابن الأثير "1/ 209"، "جفر الأملاك"، البلدان "3/ 115"، ابن الأثير "1/ 304 وما بعدها" "الطباعة المنيرية".
6 الأغاني "8/ 62"، musll, middle euphrates. p. 350
7 حمزة "ص93"، "مسجلان"، البلدان "8/ 51".
8 اليعقوبي "1/ 178".(6/34)
من جملة "وصبروا على قتال المنذر" ومن روايات الأخباريين الأخرى أن القتل كان في أيام المنذر.
وفي رواية أخرى أن الحارث بقي في كلب حتى توفي فيما بينهم حتف أنفه1.
وقد أضافت الرواية التي تنسب إلى "أبي عبيدة" إلى هذا الخبر أنه دفن بـ"بطن عاقل"2. والظاهر أن إضافة "بطن عاقل" إنما وقعت سهوًا واشتباهًا من باب عدم التمييز فيما بين "حجر" الذي زعم أنه دفن بـ"بطن عاقل" وبين "الحارث"3.
وجاء في رواية أن الحارث خرج يتصيد، فرأى جماعة من حمر الوحش فشد عليها، وانفرد منها حمار فتتبعه، وأقسم ألا يأكل شيئًا قبل كبده، فطلبته الخيل ثلاثة أيام حتى أدركته، وأتي به، وقد كاد يموت من الجوع، ثم شوي على النار وأطعم من كبده وهي حارة؛ فمات4.
ولا تخلو هذه الروايات المتعلقة بموت "الحارث" ونهايته من مؤثرات العواطف القلبية التي صبغت كل الأخبار التي يرويها الأخباريون بهذه الصبغة. فكلب تدعي أنها هي التي قتلته، وكندة تنكر ذلك مدعية أنه مات كما يموت سائر الناس، وأهل الحيرة يقولون إنهم هم الذين قتلوه، قتلوه في حرب. وأبو الفرج الأصبهاني يقول: "فكلب يزعمون أنهم قتلوه، وعلماء كندة تزعم أنه خرج إلى الصيد فالظ بتيس من الظباء، فأعجزه فآلى أن لا يأكل أولًا إلا من كبده، فطلبته الخيل ثلاثًا، فأتي بعد ثالثة، وقد هلك جوعًا، فشوي له بطنه فتناول فلذة من كبده، فأكلها حارة فمات"5.
ولورود خبر مقتل "الحارث" مسجلًا تسجيلًا دقيقًا لدى الكاتبين المذكورين: "ملالا" و"ثيوفانس"، ومطابقته لرواية أهل الحيرة في النتيجة، وهو أن مقتله كان على أيدي "المنذر" وجماعته نرجح هذه الرواية على غيرها من الروايات.
__________
1 وزعم ابن قتيبة أنه مكث فيهم حتى مات حتف أنفه" الأغاني "8/ 62"، أبو الفداء "1/ 74".
2 العقد الفريد "3/ 77"، نهاية الأرب "15/ 406"، العقد الفريد "6/ 87 وما بعدها" "طبعة محمد سعيد العريان"، OLINDER, P. 68
3 OLINDER, P.68
4 أيام العرب "46".
5 الأغاني "8/ 62"، ابن الأثير "1/ 210".(6/35)
ويظهر من غربلة الروايات التي. رواها أهل الأخبار عن نهاية "الحارث" أنها قد اختلفت فيما بينها وتضاربت في موضوع نهايته، فزعم بعض منها، أنه قتل وأن قاتله هو "المنذر بن ماء السماء"، وزعم بعض آخر أنه قتل، ولكنه لم يصرح باسم قاتله، وزعم بعض آخر أنه هلك، وأنه لم يقتل، وإنما مات حتف أنفه1. والذي أرجحه أنه قتل، قتل في أثناء المعارك التي وقعت من جراء تعقب المنذر بن ماء السماء له.
ولا نكاد نعرف شيئًا يذكر عن أعمال الحارث في أثناء توليه ملوكية قبائل "معد" غير ما ذكره الرواة من أنه وزع أولاده عليها، وجعلهم ملوكًا على تلك القبائل. كذلك لا نكاد نعرف شيئًا يذكر عن أعماله وهو ملك على الحيرة، فأصحابنا الأخباريون سكوت عن هذه الأمور. ويفهم من كلام بعض الأخباريين عن "الحارث" أنه حينما نزل ببكر بن وائل، أقام بـ"بطن عاقل"، ومنه غزا بهم ملوك الحيرة اللخميين، وملوك الشأم الغسانيين، وفيه كانت نهايته2.
ويفهم من بيت في ديوان "امرئ القيس" أن ملك الحارث قد امتد من العراق إلى عمان، ولا تعني أمثال هذه الأقوال امتلاكًا فعليًّا، بل كانت تتحدث في الواقع عن اتفاقات تعقد بين القبائل يعترف فيها بالرئاسة لمن له النفوذ الأكبر والمكانة، فإذا حدث حادث للرئيس الذي تمكن بمكانته ومنزلته من ضم هذه القبائل وتوحديها، انهد كيان ذلك الاتحاد وتشتت شمله، كالذي حدث بعد وفاة الحارث كما سنرى فيما بعد. وقد لا تعني هذه الأقوال سوى المبالغات والفخر، على نحو ما يرد في شعر غيره من الشعراء من امتلاكهم الدنيا ومن عليها، ومن تدويخهم القبائل والناس، وليس في الواقع أي شيء مما جاء في دعوى أولئك الشعراء المفتخرين.
ويحدثنا "أبي الكلبي" أنه كان للحارث زوجات ثلاث، هن: أم قطام بنت سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية، وأسماء، ورقية أمة أسماء. وقد زعم ابن الكلبي أن أم قطام وأسماء كانتا شقيقتين، وأما رقية، فكانت أمة لأسماء. وقيل أيضًا: "هن أخوات، فجمعهن جميعًا"3. وزوجه بعض
__________
1 البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 208".
2 نهاية الأرب "15/ 406"، العقد الفريد "6/ 78" "طبعة العريان".
3 المفضليات "ص429، 432".(6/36)
الأخباريين بامرأة أخرى هي: "أم أناس" بنت "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، وهي والدة "عمرو بن الحارث" المعروف عندهم بـ"ابن أم أناس" "ابن أم إياس"1. وفي رواية "ابن السكيت" أن "أم قطام بنت سلمى" هي امرأة من "عنزة"2.
وقد دون لنا الرواة أسماء جملة أولاد من أبناء "الحارث"، ذكروا منهم حجر وشرحبيل ومعديكرب وعبد الله وسلمة، ومحرق ومالك وعمر3. وأم "حجر" هي: "أم قطام"4.
ويذكر أهل الأخبار أنه كان للحارث ابن، حج ففقده، فاتَّهم به رجل من بني أسد يقال له حبال بن نصر بن غاضرة، فأخبر بذلك الحارث، فأقبل حتى ورد تهامة أيام الحج، وبنو أسد بها. فطلبهم، فهربوا منه. فأمر مناديًا فنادى من آوى أسديًّا فدمه جبار. ثم إن الملك عفا عنهم وأعطى كل واحد منهم عصا أمانًا له. وبنو أسد يومئذ قليل. فأقبلوا إلى تهامة ومع كل رجل منهم عصا. فلم يزالوا بتهامة حتى هلك الحارث، فأخرجتهم بنو كنانة، وسموا عبيد العصا، بالعصا التي أخذوها5.
ويذكر أهل الأخبار أنه كانت للحارث بن عمرو بنت اسمها هند، وقد تزوجها المنذر بن ماء السماء، وهي والدة الملك "عمرو بن هند" وشقيقة "قابوس" وعمه الشاعر امرئ القيس6.
وهم يذكرون أن ملك الحارث لما توسع واشتغل هو بالحيرة عما كان يراعيه من أمور البوادي، تفاسدت القبائل وفشا بينها الشر، فجاء أشرافها فشكوا ما حل بهم من غلبة السفهاء، وطلبوا إليه أن يملك عليهم أبناءه. فملك ابنه حجرًا على بني أسد وغطفان، وملك ابنه شرحبيل على بكر بن وائل بأجمعها وعلى
__________
1 ابن الأثير "1/ 207".
2 الأغاني "8/ 61".
3 الأغاني "8/ 62 وما بعدها"، المفضليات "ص432، ابن الأثير "1/ 209".
4 شرح القصائد العشر، للزوزني "ص7".
5 ديوان بشر بن أبي خازم الأسدي "ص115 وما بعدها"، مجمع الأمثال، للميداني "2/ 19 وما بعدها".
6 الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها"، "ص43"، "طبعة ليدن".(6/37)
بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة وطوائف من بني درام بن تميم والرباب، وملك ابنه معديكرب على بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة وطوائف من بني دارم بن حنظلة والصنائع، وهم بنو رقية: قوم كانوا يكونون مع الملوك من شذاذ العرب، وملك ابنه عبد الله على عبد القيس، وملك ابنه سلمة على قيس عيلان1. وقيل إن شرحبيل بن الحارث ملك في بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبني زيد بن تميم وبني أسيد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، ومعديكرب في قيس والصنائع، وهم بنو رقية، وسلمة في بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة2.
وقد اكتفى "حمزة" بقوله: "وانتشر ولده، فملكهم على بكر وتميم وقيس وتغلب وأسد"3. وهنالك روايات أخرى تختلف في التفاصيل وفي الأمور الثانوية عن هذه الروايات التي ذكرتها بعض الاختلاف4، سأشير إليها في أثناء البحث عن هؤلاء الأولاد.
وذكر "ياقوت الحموي، رواية رجعها إلى "أبي زياد الكلابي"، خلاصتها أن "مضر" و"ربيعة" اجتمعت على أن يجعلوا منهم ملكًا يقضي بينهم، فكلٌّ أراد أن يكون منهم، ثم تراضوا أن يكون من "ربيعة" ملك ومن "مضر" ملك، ثم أراد كل بطن من ربيعة ومن مضر أن يكون الملك منهم، ثم اتفقوا على أن يتخذوا ملكًا من اليمن. فطلبوا ذلك إلى "بني آكل المرار" من كندة، فملكت بنو عامر شراحيل بن الحارث الملك بن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار. وملكت بنو تميم وضبة محرق بن الحارث، وملكت وائل شراحيل بن الحارث. وتختلف هذه الرواية كما ترى بعض الاختلاف عن رواية لـ"ابن الكلبي" ذكرها "ياقوت" أيضًا، هي أن سلمة بن الحارث ملك "بني تغلب" و"بكر بن وائل"، وأما "غلفاء" وهو "معديكرب" "معديكرب"، فقد ملك بقية "قيس"،
__________
1 الأغاني "8/ 62 وما بعدها"، "9/ 82" "طبعة دار الكتب المصرية"، البلدان "4/ 472" "كلاب"، نقائض جرير والفرزدق "1/ 452" "تحقيق بيفان" "ليدن 1907".
2 المفضليات "ص428" Ency. ii. P. 1018
3 حمزة "ص92".
4 خزانة الأدب "2/ 500".(6/38)
وأما "أسد" و"كنانة، فقد ملكت عليها "حجر بن الحارث"، أي والد امرئ القيس1.
أما "حجر"، فهو أكثر هؤلاء الأولاد ذكرًا عند الأخباريين. وهو والد الشاعر الجاهلي المعروف "امرئ القيس" وقد يعود الفضل إلى هذا الشاعر في ذيوع شهرة والده وانتشار خبره. وحفظ أخبار هذه الأسرة من كندة. وهو أكبر أولاد الحارث، وإليه انتقلت عامة كندة بعد وفاة والده2. وهو ابن "أم قطام بنت سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية" من كندة3.
ملك "الحارث" ابنه "حجرًا" كما ذكرت الأخبار على أسد وكنانة وهما قبيلتان من قبائل مضر. وتقع مواطن "أسد" الرئيسية في القرن السادس للميلاد في جنوب جبلي طيء "أجأ" و"سلمى"، ويسميان جبل شمر في الزمن الحاضر على جانبي بطن الرمة "وادي الرمة"، غير أن بطونها متفرعة منتشرة في مناطق واسعة تمتد من المدينة إلى نهر الفرات4، ولكنها لم تكن سيدة هذه الأرضين، بل كانت تعيش مع غيرها من القبائل متفرقة5. ويظن أنها "أستينوي" "asatynoi" الساكنة في أرض تسمى بهذا الاسم في "جغرافيا" بطليموس6. وتعد هذه القبيلة في عرف النسابين من نسل "أسد بن خزيمة بن مدركة بن مضر"، وهي شقيقة "الهون" و"كنانة"7.
وروى المؤرخ "ثيوفانس" أن "رومانس" "romanus" حاكم فلسطين في أيام "أنسطاسيوس" "anastastus"، هزم في سنة "490" للميلاد سيدي قبيلتين، هما: "جبلس" "gabalas" "jabalas" و"أوكاروس" "ogaros" ابن "أرتاس" "aretas"، أي الحارث من "آل ثعلبة" "thalabanys"، ويظن أن "gabalas" هو "جبلة"، والد الحارث بن جبلة.
__________
1 البلدان "3/ 429".
2 OLINDER, P.76
3 المفضليات "ص429".
4 O. Blay, Arabien Im Sechsten Jahrhundert, In ZDMG, BD, 23, S. 579, Olinder, P. 74
5 Olinder, P. 74 Ency, I, P. 474
6 Ency, I, P. 474
7 Pauly-Wissowa, Ogaros, Olinder, P. 51, Ency, II, P. 1019(6/39)
الغساني. وأما "ogaros"، فيرى بعض المستشرقين أنه "حجر بن الحارث بن عمرو الكندي". وقد وقع أسيرًا في قبضة "رومانوس". ويرى "أوليندر" أن في تقدير هذا المؤرخ بعض الخطإ وأن التاريخ الصحيح هو سنة "497" للميلاد1. ثم أشار هذا المؤرخ إلى تحرش آخر قام به بعد أربع سنوات سيد قبيلة اسمه "madicaripos" "madikaripos" كان شقيقًا لـ"ogaros". أوغل في الغزو وأوقع الرعب في جند الروم. وقد قصد "ثيوفانس" بـ"madikaripos" "معديكرب بن الحارث" شقيق حجر.
وكان من نتائج هذه الغارات كما يقول هذا المؤرخ أن عقد القيصر "أنسطاسيوس" صلحًا مع "aretas" أي الحارث، والد الأخوين المذكورين، فخيم الأمن بذلك على فلسطين والعربية وفينيقية2، وقد أشار إلى هذا الصلح المؤرخ "نونوسوس" "nonnosus"، حيث ذكر أن القيصر "أنسطاسيوس" أرسل جده إلى "aretas" لمفاوضته في عقد صلح. ويظهر من قول هذا المؤرخ أن هاتين الغزوتين كانتا في حياة "aretas".
ولم يشر الأخباريون إلى هذه الغزوات التي قام بها "حجر" و"معديكرب" على حدود سورية وفلسطين في عهد "أنسطاسيوس" كما روى ذلك هذا المؤرخ3.
وورد أن حجرًا أغار على اللخميين في أيام امرئ القيس والد المنذر بن ماء السماء. ويظن "نولدكه" أن هذه الجملة التي لا نعرف من أمرها شيئًا إنما وقعت بعد وفاة الحارث، وقد قصد "حجر" منها استرجاع ما خسره أبوه، وأعادة نفوذ كندة إلى ما كان عليه.
لقد كانت نهاية "حجر" بأيدي "بني أسد"، ويظهر أنهم قبلوه ملكًا عليهم مكرهين. فلما حانت الفرصة قاموا عليه وقتلوه. حدث "ابن الكلبي" أنه كان لحجر على بني أشد إتاوة في كل سنة مؤقتة. فلما كان بتهامة، أرسل جابيه الذي كان يجيبهم، فمنعوه ذلك، وضربوا رسله وضرجوهم ضرجًا شديدًا قبيحًا، فبلغ ذلك حجرًا، فسار إليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من
__________
1 Pauly-Wissowa, Ogaros, Olinder, P. 51, Ency, II, P. 1019.
2 Olinder, P. 51, 74.
3 Olinder, P. 75.
4 Olinder, P. 76, Noldeke Fur,f Mo'Allaqat, I, S. 80.(6/40)
قيس وكنانة، فأتاهم وأخذ سراتهم، فضربهم بالعصا وأباح الأموال وصيرهم إلى تهامة، وحبس سيدهم "عمرو بن مسعود بن كندة بن فزارة الأسدي"، والشاعر "عبيد بن الأبرص"، فأثر ذلك في نفوس "بني أسد وأضمروا له الانتقام"1. ثم إن حجرًا وفد على أبيه الحارث في مرضه الذي مات فيه، وأقام عنده حتى هلك، ثم أقبل راجعًا إلى بني أسد، فلما دنا منهم، وقد بلغهم موت أبيه، طمعوا فيه، لما أظلهم وضربت قبابه، اجتمعت بنو أسد إلى "نوفل بن ربيعة"، فهجم على "حجر" ومن معه، فانهزم جيشه وأسر "حجر" وتشاور القوم في قتله، فقال لهم كاهنهم: لا تعجلوا بقتله حتى أزجر لكم، فلما رأى ذلك "علباء" خشي أن يتواكلوا في قتله، فحرض غلامًا من بني كاهل على قتله، وكان حجر قد قتل أباه، فدخل الخيمة التي احتبس حجر بها فطعنه طعنة أصابت مقتلًا2.
ويزعم أهل الأخبار أن "بني أسد" الذين عصوا حجرًا عرفوا منذ ضربهم حجر بالعصا بـ"عبيد العصا"، وقد أشير إلى هذه التسمية في الشعر، ويذكرون أيضًا أن "عبيد بن الأبرص"، وقف أمام الملك حجر، فقال شعرًا يستعطفه فيه على قومه، فرق لهم ورحمهم وعفا عنهم، وأرسل من يردهم إلى بلادهم، فلما صاروا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم وهو "عوف بن ربيعة بن عامر الأسدي"، بأنهم سيقتلون حجرًا وسينتقمون منه ومن أهله، فصدقوا بنبوءته وعادوا إلى موضع حجر فوجدوه نائمًا، فذبحوه، وشدوا على هجائنه فاستاقوها. وفي رواية أخرى، أنهم هجموا على عسكر حجر ودخلوا قبته، فطعنه علباء بن الحرث الكاهلي، فلما قتل، استصلحت أسد كنانة وقيسًا، ونهبوا ما كان في عسكر حجر وسلبوه، وأجار "عمرو بن مسعود" عيال حجر. وقيل أجارهم غيره، وبذلك تخلصت بنو أسد من حكم كندة3.
__________
1 الأغاني "2/ 63"، ابن خلدون "2/ 274 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 210"، الأغاني "9/ 81" "طبعة دار الثقافة، بيروت 1957"، ابن الأثير "1/304"، "الطباعة المنيرية 1348 هـ". البداية والنهاية. لابن كثير "2/ 218" "القاهرة 1932".
2 أيام العرب "114 وما بعدها".
3 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها"، "دار الثقافة بيروت، 1964"، الأغاني "8/ 6" "التقدم"، البلدان "4/ 172 وما بعدها"، خزانة الأدب "1/ 159 وما بعدها".(6/41)
وهناك روايات أخرى يرجع سندها إلى "ابن الكلبي" وإلى غيره مثل "أبو عمرو الشيباني" و"الهيثم بن عدي" و"يعقوب بن السكيت" وغيرهم تختلف فيما بينها بعض الاختلاف في كيفية قتل "حجر". وقد زعمت بعض الروايات بأن "علباء بن الحرث الكاهلي" هو الذي قتله، طعنه، فقضت طعنته هذه عليه، وكان "حجر" قد قتل أباه. وزعمت رواية أخرى أن الذي قتله هو ابن أخت "علباء"، وكان حجر قد قتل أباه، ضربه بحديدة كانت معه سببت وفاته1.
وتذكر رواية أن "حجرًا" لما علم أنه ميت أوصى ودفع كتابة إلى رجل أمره أن ينطلق إلى أكبر أولاده "نافع"، فإن بكى وجزع، فليذهب إلى غيره حتى يصل إلى أصغرهم وهو امرؤ القيس، فأيهم لم يجزع يدفع إليه الكتاب.
فكان ذلك الولد امرؤ القيس2.
ونجد في شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي" فخرًا واعتزازًا بقتل أسد لحجر والد امرئ القيس، وقد دعاه بـ"ابن أم قطام" في إحدى قصائده، وقال إن قومه علوه بالسيوف البيض الذكور. وأم قطام هي بنت سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية3. ودعاه بـ"حجر" في قصيدة أخرى. وافتخر بأن قومه ضربوا رأس حجر بأسياف مهندة رقاق4. وذكر في قصيدة أخرى أن قومه ضربوا خيل حجر بجنب الردة. والردة موضع في ديار قيس. والظاهر أنهم قتلوا حجرًا بجنب الردة5.
وأما "شرحبيل"؛ فقد ملكه أبوه على "بكر بن وائل" و"حنظلة بن مالك" و"بني أسيد" و"الرباب"، أي على عدد من قبائل ربيعة ومضر، وكان نصيبه القسم الشرقي من مملكة كندة ما عدا البحرين6. وليس بين الذي
__________
1 الكامل، لابن الأثير "1/ 301 وما بعدها"، الأغاني "8/ 64 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 276"، ابن حزم، جمهرة أنساب العرب "تحقيق عبد السلام هارون" "دار المعارف بمصر 1962"، "ص427".
2 أيام العرب "115".
3 ديوان بشر بن أبي خازم، تحقيق الدكتور عزة حسن "ص91".
4 ديوان بشر "ص116".
5 ديوان بشر "ص22".
6 OLINDER, P. 82(6/42)
يروي الأخباريون عنه شيء ذو بال، إلا ما ذكروه عن كيفية مقتله ونهايته، وهذا ملخصه:
لما هلك الحارث بن عمرو تشتت أمر أولاده، وتفرقت كلمتهم، ومشت الرجال بينهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش. وقد بلغت العداوة أشدها بين "شرحبيل" وسلمة، بسبب المنذر الذي عاد إلى الحيرة وأخذ يشعل نار الفتنة بين الأخوين. فسار شرحبيل ببكر بن وائل ومن معه من قبائل حنظلة ومن أسيد بن عمرو بن تميم وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، فنزلت "الكلاب"، وهو ماء بين الكوفة والبصرة على بضع عشرة ليلة من اليمامة، وأقبل "سلمة" في بني تغلب وبهراء والنمر وأحلافها وسعد بن زيد مناة بن تميم ومن كان معهم من قبائل حنظلة وفي الصنائع يريدون الكلاب. وكان نصحاء شرحبيل وسلمة نهوهما عن الفساد والتحاسد، وحذروهما الحرب وعبراتها وسوء مغبتها، فلم يقبلا، ولم يتزحزحا، وأبيا إلا التتابع. فلما تلاقى الجمعان، اقتتلا قتالًا شديدًا. ثم خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل، وانصرفت وثبتت بكر بن وائل، وانصرفت بنو سعد وألفافها عن بني تغلب، وصبرت تغلب، وساء أمر شرحبيل، فجاء إليه من عرف موضعه وقتله1.
ويذكر أهل الأخبار أن العداوة كانت شديدة بين الأخوين، حتى إن كل واحد منهما وضع جائزة لمن يأتي برأس أخيه، فذهب "أبو حنش" وهو عصم بن النعمان بن مالك "عصيم بن مالك الجشمي"، فطعن "شرحبيل"، واحتز رأسه وجاء به إلى أخيه، فطرحه أمامه. ويقال إن شرحبيل لما رأى "أبا حنش" يريد توجيه طعنة إليه قال له: يا أبا حنش اللبن اللبن، فقال أبو حنش: قد هرقت لنا لبنًا كثيرًا. فقال: يا أبا حنش أملك بسوقة2. وذلك أن دم الملوك
__________
1 المفضليات "ص428 وما بعدها، 1072 وما بعدها"، النويري، نهاية الأرب "15/ 406 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 227"، العقد الفريد "6/ 78"، البلدان "3/ 269 وما بعدها"، نقائض جرير والفرزدق "1/ 452" "ليدن 1907"، "تحقيق بيفان"، الكامل لابن الأثير "1/ 231" "الطباعة المنيرية"، البكري: معجم "4/ 1132"، اليعقوبي "1/ 183 وما بعدها" العقد الفريد "5/ 222" "لجنة"، نقائض "2/ 1073"، الكامل لابن الأثير "1/ 379".
2 نقائض جرير والفرزدق "1/ 452" "بيفان"، أيام العرب "47".(6/43)
فوق دم العامة، وهم السوقة. وإن الملك لا يقتل بسبب قتله رجلًا من سواء الناس.
ويظن أن "يوم الكلاب" كان قد وقع سنة "612" للميلاد1.
ويقول الرواة إن "بني تغلب" أخرجت "سلمة"، فلجأ إلى "بني بكر بن وائل"، فانضم إليهم، ولحقت تغلب بالمنذر بن امرئ القيس. وتذكر رواية من الروايات التي يقصها أهل الأخبار عن كيفية نهاية ملوك كندة. أن الأمر لما اشتد على أولاد الحارث، جمع "سلمة" جموع اليمن، فسار ليقتل نزارًا. وبلغ ذلك نزارًا، فاجتمع منهم "بنو عامل بن صعصعة" وبنو وائل: تغلب وبكر، وقيل: بلغ ذلك كليب وائل، فجمع ربيعة، وقدم على مقدمته السفاح التغلبي وأمره أن يعلو "خزازا"2 فيوقد عليه نارًا ليهتدي الجيش بها، وقال له: إن غشيك العدو فأوقد نارين. وبلغ سلمة اجتماع ربيعة ومسيرها فأقبل ومعه قبائل مذحج، وهجمت مذحج على خزاز ليلًا، فرفع السفاح نارين، فأقبل كليب في جموع ربيعة إليهم، فالتقوا بخزاز، فاقتتلوا قتالًا شديدًا فنهزمت جموع اليمن. وفي رواية "أبي زياد الكلابي"، إن الذي أوقد النار على خزاز "خزازا" هو الأحوص بن جعفر بن كلاب، وكان على روايته هذه رئيسًا على نزار كلها. ويذكر الكلابي أن أهل العلم من الذين أدركهم ذكروا له أنه كان على نزار "الأحوص بن جعفر". ثم ذكر ربيعة أخيرًا من الدهر أن "كليبًا" كان على نزار3. أما "محمد بن حبيب" فيروي أن "كليب وائل" هو الذي قاد جموع "ربيعة" و"مضر" و"قضاعة" في يوم خزاز إلى اليمن4.
وقال بعض الأخباريين: كان كليب على ربيعة، والأحوص على مضر5.
__________
1 Naval , p. 233
2 ويعرف أيضًا بيوم خزازا، ويوم خزازي، البلدان "3/ 430"، البلدان "3/ 430" النقائض "ص887"، البكري: معجم "106، 303، 563"، ابن الأثير "1/ 310"، العقد الفريد "6/ 97" "العريان"، نهاية الأرب "15/ 420 وما بعدها"، "طبعة دار الكتب".
3 البلدان "3/ 430".
4 المحبر "ص249".
5 البلدان "3/ 430".(6/44)
ويعود سبب هذا الاختلاف في روايات الرواة إلى النزعات القبلية التي كان يحملها الرواة. فـ"أبو زياد الكلابي" يتعصب كما نرى لـ"بني كلاب"، فيرجع الرئاسة إليهم؛ لأنه منهم، وهذا مما يأباه رواة ربيعة وينكرونه عليه إذ يرون أن الرئاسة فيهم. وتوسط رواة بين رواة ربيعة ورواة مضر حسمًا للنزاع على ما يظهر، فقالوا بالرئاستين: رئاسة كليب على ربيعة، ورئاسة الأحوص على مضر وبذلك أصلحوا ذات البين.
وقد ذكر "أبو زياد الكلابي" أن يوم "خزاز" أعظم يوم التقت فيه العرب في الجاهلية وأنه أول يوم استنصفت فيه نزار من اليمن، وأنها لم تزل منذ هذا اليوم ممتنعة قاهرة لليمن في كل يوم يلتقونه حتى جاء الإسلام1.
وذكر "الأصمعي" أن يوم خزاز كان للمنذر بن ماء السماء ولبني تغلب وقضاعة على "بني آكل المرار" من كندة وعلى بكر بن وائل، وأن المنذر وأصحابه من بني تغلب أسروا في هذا اليوم خمسين رجلًا من بني آكل المرار.
ويفهم من شعر لـ"عمرو بن كلثوم" قيل إنه قاله متذكرًا هذا اليوم، أن رهطه وهم من بني تغلب آبوا بالنهاب وبالسبايا وبالملوك مصفدين. ولم يشر الشاعر إلى هوية هؤلاء الملوك المأسورين، ولكن "الأصمعي" يقول: إنه قصد بقوله: "وأُبنا بالملوك مصفدينا" "بني آكل المرار"2.
فيظهر من الرواية المتقدمة أن يوم خزاز، كان بين سلمة ومن جاء من اليمن وبين تغلب ومن انضم إليها من قبائل ربيعة ومضر. ويظهر من رواية الأصمعي أن ذلك اليوم كان بين المنذر بين ماء السماء وتغلب وقضاعة من جهة وبين "بني آكل المرار"، وبكر بن وائل من جهة أخرى. وهناك روايات أخرى تذكر أن هذا اليوم، إنما كان قد وقع بين ملك من ملوك اليمن وبين قبائل معد، ولا علاقة له بسلمة وببني آكل المرار أو المنذر بن ماء السماء في هذا اليوم، الذي أدى إلى انتصار بني معد على أولاد قحطان3.
__________
1 البلدان "3/ 430 وما بعدها".
2 النقائض "ص887"، من بيت لعمرو بن كلثوم:
وَآبوا بِالنِهابِ وَبِالسبايا ... وَأُبنا بِالمُلوكِ مُصَفَّدينا
3 ابن الأثير "1/ 310"، العقد الفريد "3/ 364"، نقائض جرير والفرزدق "2/ 193"، البكري، معجم "2/ 496".(6/45)
ويذكر بعض أهل الأخبار أنه: "لولا عمرو بن كلثوم ما عرف يوم خزاز".
وأم عمرو بن كلثوم، هي ابنة "كليب بن ربيعة"، المعروف بـ"كليب وائل"1 فذكره في شعره لذلك اليوم ساعد ولا شك في إبقاء اسمه في ذاكرة الناس، حتى دون خبره في الإسلام.
وليوم "أوارة" الأول علاقة وصلة بـ"سلمة بن الحارث" وبـ"المنذر بن ماء السماء" على ما يرويه بعض أهل الأخبار، فهم يذكرون أن تغلب لما أخرجت "سلمة" عنها، التجأ إلى "بكر بن وائل"، فلما صار عند بكر بن وائل أذعنت له، وحشدت عليه، وقالت: لا يملكنا غيرك. فبعث إليهم المنذر يدعوهم إلى طاعته، فأبوا ذلك، فحلف المنذر ليسيرن إليهم، فإن ظفر بهم فليذبحنهم على قلة جبل أوارة. وسار إليهم في جموعه، فالتقوا بأوارة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وأجلت الواقعة عن هزيمة بكر وأسر "يزيد بن شرحبيل الكندي"، فأمر المنذر بقتله وبقتل عدد كبير من بكر2.
وأما "شراحيل بن الحارث"، فقد قتله "بنو جعدة بن كعب بن ربيعة بن صعصعة"3.
ويحدثنا "يعقوب بن السكيت" أنه كان لحجر والد امرئ القيس جملة أولاد أكبرهم "نافع" وأصغرهم "امرؤ القيس"، وبين الأكبر والأصغر جملة أولاد، غير أنه لم يذكر أسماءهم4. وقد ورد اسم "نافع" في بيت شعر لامرئ القيس5.
وذكر "ياقوت" ولدًا لـ"سلمة بن الحارث" سماه "قيسًا" قال: إنه أغار على "ذي القرنين المنذر بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي" فهزمه، حتى أدخله الخورنق ومعه ابناه قابوس وعمرو. فمكث ذو القرنين حولًا، ثم أغار عليهم بـ"ذات الشقوق"، فأصاب منهم اثني عشر شابًّا من بني حجر بن عمرو وكانوا يتصيدون، وأفلت منهم امرؤ القيس على فرس شقراء، فطلبه
__________
1 البكري، معجم "2/ 496".
2 ابن الأثف "1/ 228".
3 البلدان "3/ 438 وما بعدها".
4 الأغاني "8/ 65".
5 الأغاني "8/ 65" OLINDER , P. 94(6/46)
القوم فلم يقدروا عليه. وقدم المنذر الحيرة بالفتية فحبسهم بالقصر الأبيض شهرين ثم أمر بضرب أعناقهم فضربت عند "الجفر"، فعرف منذ ذلك الحين بـ"جفر الأملاك"، وهو موضع "دير بني مرينا". وقد أشير إلى مقتلهم في شعر لامرئ القيس1.
__________
1 البلدان "4/ 127 وما بعدها"، "2/ 648" "طبعة وستنفلد"، التاج "9/ 353".(6/47)
كندة تلحق بحضرموت:
وقد ذكر الرواة أن ملك كندة لما انخرق، وهلك من هلك منهم، قام "عمرو أقحل بن أبي كرب بن قيس بن سلمة بن الحارث، الملك، فقال: يا معشر كندة. إنكم قد أصبحتم بغير دار مقام. وقد ذهب أشرافكم وانخرق ملككم، ولا آمن العرب عليكم، فالحقوا بحضرموت"1.
ويذكر الرواة أن الملك خرج من "بني آكل المرار" وساد بنو الحارث بن معاوية فأول من ساد منهم "قيس بن معديكرب"، ثم ابنه الأشعث بن قيس، وهو الذي أتى النبي في ستين أو سبعين راكبًا من أشراف كندة فأسلموا. أسلم الأشعث، وكانت كندة قد توجته عليها2.
ويذكر "حمزة"، أن المنذر بن ماء السماء تتبع غابرهم، فقتل عامتهم، وصارت رياسة كندة في "بني جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين"، ثم في "معديكرب بن جبلة"، ثم في "قيس بن معديكرب"، وعلى عهده قام الإسلام بمكة، ثم في "الأشعث بن قيس"3.
وقد ذكر "ابن حبيب"، "الأشعث بن قيس بن معديكرب" في جملة الجرارين من اليمن4. والجرارون من كان يرأس ألفًا5 ولا بعد الرجل جرارًا
__________
1 المحبر "ص370".
2 الطبري "3/ 139"، المفضليات "ص441". حمزة "ص93".
3 حمزة "ص93".
4 المحبر "ص251".
5 المحبر "ص246".(6/47)
حتى يقود ألفًا1. وذكره في باب "أعرق العرب في الغدر". فقال عنه إنه غدر بـ"بني الحارث بن كعب". وكان بينهم عهد وصلح، فغزاهم فأسروه، ففدى نفسه بمائتي قلوص، فأدى مائة، ولم يؤد البقية حتى جاء الإسلام، فهدم ما كان في الجاهلية. وغدر الأشعث أيضًا فارتد عن الإسلام.
وقال عن والده "قيس بن معديكرب بن معاوية بن جبلة الكندي"، أنه كان من "أعرق العرب في الغدر" كذلك، وكان بينه وبين مراد ولث إلى أجل، فغزاهم في آخر يوم الأجل غادرًا. "وكان ذلك اليوم يوم الجمعة. فقالوا له: إنه قد بقي من الأجل اليوم. وكان يهوديًّا. فقال: أنه لا يحمل لي القتال غدًا. فقاتلهم، فقتلوا وهزموا جيشه. وكان معديكرب عقد لمهرة صلحًا، فغزاهم غادرًا بالعهد، فقتلوه وشقوا بطنه، فملئوه حصى"2.
وقد لقب "قيس" بالأشج، لأثر شج في وجه، وعرف بالأعشى كذلك وقيل له: "بطريق اليمن". وذكر بعض الرواة أن كلمة "بطريق" تعني الحاذق في الحرب وأمورها3.
وفي حق "قيس" هذا قال "الحارث بن حلزة اليشكري" في جملة ما قاله في قصيدته مفتخرًا بقومه:
حَولَ قَيسٍ مُستَلئِمِينَ بِكَبشٍ ... قَرَظِيٍّ كَأَنَّهُ عَبلاءُ
وقد قال الشراح إن قيسًا جاء على رأس جيش لجب ومعه راياته متحصن بسيد من بلاد القرظ، وبلاد القرظ اليمن، كأنه في منعته وشوكته هضبة من الهضاب، قد لبسوا الدروع، فردتهم "يشكر" قوم الشاعر، وقتلوا منهم4.
ويذكر أهل الأخبار أن الشاعر الأعشى كان ممن يفد على "قيس بن معديكرب"
__________
1 المحبر "ص253".
2 المحبر "ص244 وما بعدها".
3
قيس أو الأشعث بطريق اليمن ... لا يسأل السائل عنه ابن من
اللسان "10/ 21" "طبعة بيروت" الأغاني "8/ 78"، البيان والتبيين "1/ 18"، الأغاني "11/ 126"، الأمالي للقالي "1/ 92".
4 المعلقات السبع، للزوزني "ص164" "طبعة صادر، بيروت" ابن قتيبة، كتاب المعاني الكبير "ص943".(6/48)
من الشعراء. وقد رووا له شعرًا قاله لقيس1. في جملته قوله:
وَجُلُنداءَ في عُمانَ مُقيمًا ... ثُمَّ قَيسًا في حَضرَمَوتَ المُنيفِ2
وقد ذكر "ابن حبيب" أن "خالد بن جعفر بن كلاب"، أسر "قيس بن سلمة الكندي" يوم الحرمان3.
وذكر أهل الأخبار أن ملوك كندة جعلوا ردافتهم في "بني سدوس"4.
وجاء أن "الأشعث بن قيس"، كان قد غلب على أهل نجران وملك رقابهم وجعلهم "عبيدًا مملكة". وذكر أن خاصمهم عند "عمر" في أيام خلافته، فاحتجوا عليه أن ذلك كان في الجاهلية، فلما أسلموا سقطت تلك العبودية عنهم5.
__________
1 الأغاني "2/ 78"، الأمالي "1/ 92"، الجمحي، طبقات الشعراء "ص123".
2 ديوان الأعشى "القصيدة 63، البيت 15".
3 المحبر "ص252".
4 الاشتقاق "ص211".
5 اللسان "10/ 439".(6/49)
امرؤ القيس الشاعر:
ويذكر الأخباريون أن "حجرًا" لم يكن راضيًا عن ابنه "امرئ القيس" فطرده من عنده وآلى ألا يقيم أنفة من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك. فكان يسير في إحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب من طيء وكلب وبكر بن وائل. فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد، أقام فذبح لمن معه في كل يوم، وخرج إلى الصيد فتصيد، ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الحمر وسقاهم وغنته قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بـ"دمون" من أرض اليمن، أتاه به رجل من بني عجل يقال له عامر الأعور أخو الوصاف. فلما أتاه بذلك، قال:
تطاول الليل علي دمون ... دمون، إنا معشر يمانون
وإننا لأهلها محبون(6/49)
ثم قال: ضيعني صغيرًا وحملني دمه كبيرًا، لا صحو اليوم، ولا سكر غدًا، اليوم خمر، وغدًا أمر. فذهبت مثلًا ثم قال:
خليلي، لا في اليوم مصحى لشارب ... ولا في غد إذ ذاك ما كان يشرب
ثم شرب سبعًا فلما صحا آلى ألا يأكل لحمًا ولا يشرب خمرًا ولا يدهن بدهن ولا يصيب امرأة ولا يغسل رأسه من جنابة حتى يدرك بثأره1.
وفي رواية أخرى أنه طرد لما صنع في الشعر بفاطمة ما صنع، وكان لها عاشقًا فطلبها زمانًا، فلم يصل إليها، وكان يطلب غرة حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل ما كان، فقال قصيدته المشهورة: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل". فلما بلغ ذلك والده غضب عليه، وأوصى بقتله ثم طرده2. وهناك من يزعم أنه إنما طرد؛ لأنه تغزل بامرأة من نساء أبيه3.
هذا وصف موجز لأصغر أبناء "حجر": "امرئ القيس بن حجر الكندي" الشاعر الشهير و"الملك الضليل" و"ذي القروح"4.
وللرواة أقوال في اسم "امرئ القيس"، فقد سماه بعضهم "حندجًا"، ودعاه آخرون "عديًّا"، ودعاه قوم "مليكًا" ودعاه نفر "سليمان" وهو معروف عندهم بالإجماع بـ"امرئ القيس"، وهو لقبه5. ويكنى بأبي وهب وأبي زيد وأبي الحارث وذي القروح6.
ولا نعرف سنة ولادة هذا الأمير الشاعر. ويظن "أوليندر" أنه ولد حوالي
__________
1 الأغاني "8/ 65"، ابن قتيبة، الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها" "دار الثقافة بيروت 1964" خزانة الأدب "1/ 159 وما بعدها" شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص6 وما بعدها"، معجم الشعراء، للمرزباني "ص9"، المحبر "ص352"، نزهة الجليس "2/ 148 وما بعدها".
2 الشعر والشعراء "ص31" "طبعة مصطفى السقا"، القاهرة 1932، "32".
3 OLINDER, P. 96.
4 الأغاني "8/ 61"، الشعر والشعراء "ص31"، الخزانة، للبغدادي "3/ 432"، سرح العيون، لابن نباتة "181"، العمدة، لابن رشيق "1/ 41، 42، 97"، تقريب الأغاني، لابن واصل "ص1001".
5 المزهر "2/ 214"، الآمدي: المؤتلف والمختلف، "ص9"، جمهرة أشعار العرب "ص49"، القاهرة 1926"، طبقات فحول الشعراء، "دار المعارف" شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص1 وما بعدها" المحبر "ص233، 349" الاشتقاق "2/ 222"، القاموس المحيط "1/ 546".
6 السندوبي "ص6 وما بعدها" OLINDER, P. 95(6/50)
سنة "500" للميلاد1. أما أمه فهي "فاطمة" بنت ربيعة بن الحارث بن زهير، أخت "كليب" و"مهلهل" التغلبيين2. وورد في بيت شعر ينسب إلى هذا الشاعر: "امرئ القيس بن تملك"3. وقد استنتج بعض العلماء منه أن أمه هي "تملك" ورجعوا نسبها إلى "عمرو بن زبيد بن مذحج رهط عمرو بن معديكرب"، ويرى بعض المستشرقين أنه أدخل في ديوان هذا الشاعر، وأنه يعود إلى شاعر آخر اسمه "امرئ القيس"، وقد عد "آلوارت" "ahlwardt"، ستة عشر شاعرًا أسماؤهم "امرؤ القيس"4. ويلاحظ أن من زعم من الرواة أن أم امرئ القيس هي "تملك" جعل نسبه "امرأ القيس بن السمط بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن ثور"، وهو: كندة"، وهم يخالفون بذلك سلسلة النسب المألوفة عند غالبية الرواة.
وذكر أنه ولد ببلاد بني أسد، وأنه كان ينزل بالمشقر وهو موضع ذكر في شعره5. وروى "ابن قتيبة" أن "امرأ القيس" من أهل نجد، وأن الديار التي وصفها في شعره كلها ديار بني أسد6. وقد تنقل هذا الشاعر في مواضع متعددة من الجزيرة، ووصل إلى القسطنطينية عاصمة الروم.
وكان امرؤ القيس بـ"دمون" حينما جاء إليه نبأ مقتل والده على رواية7. ودمون من قرى حضرموت للصدف في رواية8. وفي رواية أخرى مرجعها "الهيثم بن عدي" أن امرأ القيس لما قتل أبوه كان غلامًا قد ترعرع. وكان في بني
__________
1 OLINDER, P. 95
2 ابن الأثير "1/ 211"، الأغاني "8/ 60" ency, ii, p. 477
3
ألا هل أتاها والحوادث جمة ... بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا
ديوان امرئ القيس "20: 37"، الأغاني "8/ 61"، OLINDER, P. 95
4 Ahlwardt, Bemerkungen uber die echtheit der alten Arbischen Gedichte S. 73
راجع أخبار المراقسة وأشعارهم في الجاهلية وصدر الإسلام: تأليف حسن السندوبي، القاهرة 6939، وقد جمع فيه أشعار من كان شاعرًا ويسمى بـ"امرئ القيس".
5 الأغاني "8/ 61"، البلدان "8/ 65"، معجم ما استعجم "561".
6 الشعر والشعراء "ص31" "طبعة السقا"، القاهرة 1932،
OLINDER, P. 95
Maritm, arabien, s. 53
7 الأغاني "8/ 95".
8 الصفة "85"، البكري، معجم "1/ 348"، "وساكن دمون هو الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار"، البلدان "4/ 85".(6/51)
حنظلة مقيمًا؛ لأن ظئره كانت امرأة منهم، وقد روت شعرًا زعمت أنه قاله حينما بلغه النبأ، وهو:
أتاني وأصحابي على رأس صليع ... حديث أطار النوم عني فأنعما
قلت لعجلي بعيد مآبة ... ابن لي وبين لي الحديث المجمجما
فقال: أبيت اللعن عمرو وكاهل ... أباحا حمى حجر فأصبح مسلما1
ويفهم من هذا أن شاعرنا كان في صيلع حينما أبلغ خبر وفاة والده، أتاه به رجل اسمه "عجل" ويعرف بعامر الأعور2.
أما صيلع، فموضع من شق اليمن، كثير الوحش والظباء. ورد اسمه في خبر مجيء وفد همدان إلى الرسول3. وقد صرح "ياقوت الحموي" أن به ورد الخبر على امرئ القيس بمقتل أبيه حجر4.
وهناك خبر يفيد أنه نزل في "بني دارم" وبقي عندهم حتى قتل عمه "شرحبيل"، وفي رواية تنسب إلى "الهيثم بن عدي" أنه كان مع والده "حجر" حين هاجمته بنو أسد، وأنه هرب على فرس له وتمكن من النجاة5.
ويقول "ابن الكلبي" و"يعقوب بن السكيت" أن امرأ القيس ارتحل بعد أن بلغه نبأ مقتل والده حتى نزل بكرًا وتغلب، فسألهم النصر على بني أسد، فبعث العيون على بني أسد، فنذروا بالعيون ولجئوا إلى بني كنانة، ثم أدركوا أن امرأ القيس يتعقبهم، ونصحهم "علباء بن الحارث" بالرحيل بليل، وألا يعلموا بني كنانة، ففعلوا وتركوا "بني كنانة" وارتحلوا عنهم ليلًا دون أن يشعروا.
فلما وصل امرؤ القيس إلى بني كناية ظانًّا بني أسد بينهم، نادى: يا لثارات الملك. يا لثارات الملك: فأخبروه أنهم تركوهم وارتحلوا عنهم. فتعقبهم مع بكر وتغلب حتى لحق بهم، فقاتلهم، فكثرت فيهم الجرحى والقتلى حتى جاء الليل فحجز بينهم، وهربت بنو أسد فلما أصبحت بكر وتغلب، أبوا أن يتبعوهم وقالوا له: قد أصبت ثأرك. قال: والله، ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل
__________
1 "أباحوا حمى حجر فأصبح مسلما"، السندوبي "181"، الأغاني "8/ 66".
2 الأغاني "8/ 65".
3 البكري، معجم "2/ 614".
4 البلدان "5/ 406".
5 OLINDER , P. 96(6/52)
ولا من غيرهم من بني أسد أحدًا. قالوا. بلى، ولكنك رجل مشئوم، وكرهوا قتالهم بني كنانة، وانصرفوا عنه، ومضى هاربًا لوجهه حتى لحق بحمير1.
ولما أقبل امرؤ القيس من الحرب على فرسه الشقراء، لجأ ابن عمته "عمرو بن المنذر" وأمه "هند بنت عمرو بن حجر آكل المرار"، وذلك بعد قتل أبيه وأعمامه، وتفرق ملك أهل بيته، وكان عمرو يومئذ خليفة لأبيه المنذر بـ"بقة"، فمدحه وذكر صهره ورحمه، وأنه قد تعلق بحباله، ولجأ إليه فأرجاه ومكث عنده زمانًا. ثم بلغ المنذر مكانه عنده، وأنذره عمرو، فهرب حتى أتى حمير2.
وفي رواية يرجعها الرواة إلى "ابن الكلبي" و"الهيثم بن عدي" و"عمر بن شبة" و"ابن قتيبة": أن "امرأ القيس" خرج فورًا بعد امتناع بكر بن وائل وتغلب من أتباع بني أسد إلى اليمن، فاستنصر أزد شنوءة، فأبوا أن ينصروه وقالوا: إخواننا وجيراننا، فنزل بقيل يدعى "مرثد الحير بن ذي جدن الحميري"، وكانت بينهما قرابة، فاستنصره واستمده على بني أسد، فأمده بخمسمائة رجل من حمير، ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس بهم، وقام بالمملكة بعده رجل من حمير يقال له: قرمل بن الحميم، وكانت أمه سوداء، فردد امرؤ القيس، وطول عليه حتى هم بالانصراف ... فأنفذ له ذلك الجيش، وتبعه شذاذ من العرب، واستأجر من قبائل العرب رجالًا، فسار بهم إلى بني أسد، ومر بـ"تبالة"، وبها صنم للعرب تعظمه يقال له "ذو الخلصة"، فاستقسم عنده بقداحه، وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص، فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم، وقال: مصصت بظر أمك لو أبوك قتل ما عقتني، ثم خرج فظفر بـ"بني أسد"3.
فلما ظفر بهم، فقال هذه الأبيات:
قولا لِدودانَ عَبيدِ العَصا ... ما غَرَّكُم بِالأَسَدِ الباسِلِ
قَد قَرَّتِ العَينانِ مِن مالِكٍ ... وَمِن بَني عَمروٍ وَمِن كاهِلِ
وَمِن بَني غَنمِ بنِ دودانَ إِذ ... نَقذِفُ أَعلاهُم عَلى السافِلِ
__________
1 الأغاني "8/ 67"، ابن الأثير، الكامل "1/ 306 وما بعدها".
2 الأغاني "8/ 67".
3 الأغاني "8/ 67 وما بعدها"، البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 219".(6/53)
حَلَّت لِيَ الخَمرُ وَكُنتُ اِمرَأً ... عَن شُربِها في شُغُلٍ شاغِلِ
فَاليَومَ أشْربُ غَيرَ مُستَحقِبٍ ... إِثمًا مِنَ اللَهِ وَلا واغِلِ
وهي أبيات يفهم منها أنه أوقع في "بني دودان" و"بني مالك" و"بني عمرو" و"بني كاهل" و"بني غنم بن دودان"، وهي بطون من بني أسد، وهي التي قتلت أباه حجرًا، قالها بعد أن أنجده "قرمل بن الحميم الحميري" وأنه ألبسهم الدروع المحماة، وكحلهم بالنار، فبر بيمينه، وحل له شرب الحمر1.
وبنو دودان هم بنو ثعلبة بن دودان بن أسد، وإلى ثعلبة هذا تنسب الثعلبية التي بين الكوفة ومكة. وهم جملة بطون ذكرها أهل الأنساب2.
وإلى "قرمل" أشار "امرؤ القيس" في شعره:
وَكُنّا أُناساً قَبلَ غَزوَةِ قُرمُلٍ ... وَرَثنا الغِنى وَالمَجدَ أَكبَرَ أَكبَرا
وهو من "السحول" من "ذي الكلاع"3.
وفي رواية تنسب إلى "الخليل بن أحمد الفراهيدي" أن رجالًا من قبائل "بني أسد" فيهم "قبيصة بن نعيم" وكان في بني أسد مقيمًا، قدموا على امرئ القيس بعد مقتل أبيه؛ ليعتذروا إليه وليسووا قضية قتل والده، فرفض إلا الانتقام من "بني أسد" قائلًا: "لقد علمت العرب أن لا كفء لحجر في دم، وأني لن أعتاض به جملًا أو ناقة، فاكتسب بذلك سبة الأبد وفت العضد. وأما النظرة، فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببًا وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل القلوب حنقًا وفوق الأسنة علقًا"4.
وتذكر الرواية أنه خرج إليهم بعد إبطاء دام ثلاثة أيام، وهو في قباء وخف وعمامة سوداء، وكانت العرب لا تعتم السواد إلا بالثارات، فلما نظروا إليه، وبدر إليه قبيصة، يتكلم باسمهم معتذرًا، طالبًا الصفح عنهم، ودفع الدية عن
__________
1 السندوبي "ص151"، الشعر والشعراء "43 وما بعدها" OLINDER, P. 102
2 جمهرة أنساب العرب، لابن حزم "ص182".
3 الاشتقاق "ص307، 309".
4 الأغاني "8/ 72 وما بعدها".(6/54)
حجر، أخبرهم، أن دم حجر لا يعتاض بجمل أو ناقة، وأنه لا بد من أخذه بالثأر، ثم أمهلهم حتى يجمع طلائع كندة، فيهجم عليهم1.
وهناك روية أخرى تنسب إلى "أبي عبيدة" في هذا المعنى المتقدم مآلها أن "بني أسد" اجتمعت "بعد قتلهم حجر بن عمرو إلى ابنه امرئ القيس على أنه يعطوه ألف بعير دية أبيه، أو يقيدوه من أي رجل شاء من بني أسد، أو يمهلهم حولًا. فقال: أما الدية، فما ظننت أنكم تعوضونها على مثلي. وأما القود، فلو قيد إليَّ ألف من بني أسد ما رضيتهم ولا رأيتهم كفئًا لحجر، وأما النظرة فلكم، ثم ستعرفونني في فرسان قحطان أحكم فيكم ظبا السيوف وشبا الأسنة حتى اشفي نفسي وأنال ثأري"2.
ولم تشر رواية "الخليل" و"أبي عبيدة" إلى ما فعله "امرؤ القيس" بعد ذلك في "بني أسد"، ولكننا إذا ما أردنا ربط هذه الروايات بعضها ببعض وبحسب التسلسل الطبيعي المنطقي، نستطيع أن نجعلها مقدمة لرواية "ابن الكلبي" و"ابن السكيت" و"خالد الكلابي" وملحقها، وهي رواية "محمد بن سلام" عن نزول "امرؤ القيس" بـ"بكر" و"تغلب"، وطلبه النجدة منهم والنصرة على بني أسد، واقتصاصه منهم بعد تركهم لـ"بني كنانة" كما ذكرت ذلك سابقًا. وأن نربطها كذلك برواية "ابن الكلبي" والهيثم بن عدي" و"عمرو بن شيبة" وابن "قتيبة" الملحقة بهذه الرواية، والرواية القائلة بذهاب "امرئ القيس" إلى اليمن واستنصاره بـ"أزد شنونة" و"مرثد الخير بن ذي جدن الحميري" بعد أن امتنعت بكر من وائل وتغلب عن ملاحقة بني أسد.
وقد أشار "ابن قتيبة" أشار مختصرة إلى هجوم "امرئ القيس" على بني أسد حينما كانوا في "بني كنانة"، وذكر أنه أوقع بـ"بني كنانة"، ونجت "بنو كاهل" من بني أسد، فقال:
يا لهف نفسي إذ خطئن كاهلا ... القاتلين الملك الحلاحلا
تالله لا يذهب شيخي باطلا3
__________
1 الأغاني "8/ 72 وما بعدها".
2 الأغاني "19/ 85".
3 الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها"، البداية والنهاية "2/ 218"، شرح القصائد السبع الطوال، للأنباري "ص4 وما بعدها "دار المعارف 1963" ديوان امرئ القيس "ص34" "دار المعارف" "تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم"، الحيوان، للجاحظ "5/ 578".(6/55)
وأما "اليعقوبي" فذكر أن "امرأ القيس" حين بلغه مقتل أبيه جمع جمعًا وقصد "بني أسد"، فلما كان في الليلة التي أراد أن يغير عليهم في صبيحتها، نزل بجمعه ذلك، فذعر القطا، فطار عن مجاثمه فمر ببني أسد، فقالت بنت "علباء بن الحارث" أحد "بني ثعلبة"، وكان القائم بأمر بني أسد: ما رأيت كالليلة قطًا أكثر. فقال علباء: "لو ترك القطا لغفا ونام" فأرسلها مثلًا. وعرف أن جيشًا قد قرب منه، فارتحل، وأصبح امرؤ القيس فأوقع بكنانة، فأصاب فيهم، وجعل يقول: يا لثأرات حجر! فقالوا: والله ما نحن إلا كنانة. فتركهم وهو يقول:
أَلا يا لَهفَ نَفْسِي إِثرَ قَومٍ ... هُمُ كانوا الشِفاءَ فَلَم يُصابواهم
وَقاهُم جِدُّهُم بِبَني أَبيهِم ... وَبِالأَشقينَ ما كانَ العِقابُ
وَأَفلَتَهُنَّ عِلباءٌ جَريضاً ... وَلَو أَدرَكنَهُ صَفِرَ الوِطابُ1
ولم يشر اليعقوبي إلى محاولة "امرئ القيس" تعقيب "بني أسد" وامتناع من كان معه عن الذهاب معه كما رأينا ذلك في الرواية السابقة بل قال: ومضى امرؤ القيس إلى اليمن لما لم يكن به قوة على بني أسد ومن معهم من قيس، فأقام زمانًا، وكان يدمن مع ندامي له، فأشرف يومًا، فإذا براكب مقبل، فسأله: من أين أقبلت؟ قال: من نجد، فسقاه مما كان يشرب، فلما أخذت منه الخمرة، رفع عقيرته وقال:
سَقَينا اِمرَأَ القَيسِ بنَ حُجرِ بنِ حارِثٍ ... كُئوسَ الشَجا حَتّى تَعَوَّدَ بِالقَهرِ
وَأَلهاهُ شُربٌ ناعِمٌ وَقُراقِرٌ ... وَأَعياهُ ثَأرٌ كانَ يَطلُبُ في حُجرِ
وَذاكَ لَعَمري كانَ أَسهَلَ مَشرَعاً ... عَلَيهِ مِنَ البيضِ الصَوارِمِ وَالسُمرِ
ففزع امرؤ القيس لذلك ثم قال: يا أخا أهل الحجاز، من قائل هذا الشعر؟
قال: عبيد بن الأبرص. قال: صدقت. ثم ركب واستنجد قومه، فأمدوه بخمسمائة من مذحج، فخرج إلى أرض "معد"، فأوقع بقبائل معد، وقتل الأشقر بن عمرو، وهو سيد بني أسد وشرب في قحف رأسه، وقال امرؤ القيس في شعر له:
__________
1 اليعقوبي "1/ 178".(6/56)
قولا لِدودانَ عَبيدِ العَصا ... ما غَرَّكُم بِالأَسَدِ الباسِلِ
يَا أيُّها السَّائِلُ عَنْ شَأنِنَا ... لَيْسَ الذي يَعْلَمُ كالجَاهِلِ
حَلَّت لِيَ الخَمرُ وَكُنتُ اِمرَأً ... عَن شُربِها في شُغُلٍ شاغِلِ
وطلبت قبائل معد امرأ القيس، وذهب من كان معه، وبلغه أن المنذر ملك الحيرة قد نذر دمه، فأراد الرجوع إلى اليمن، فخاف حضرموت، وطلبته بنو أسد وقبائل معد، فلما علم أنه لا قوة به على طلب المنذر واجتماع قبائل معد على طلبه ولم يمكنه الرجوع، سار إلى "سعد بن الضباب الإيادي، وكان عاملًا لكسرى على بعض كور العراق فاستتر عنده حينًا حتى مات سعد بن الضباب"، فخرج امرؤ القيس إلى جبل "طيء" ونزل بقوم من طيء، ثم لم يزل في طيء مرة وفي جديلة مرة وفي نبهان مرة حتى صار إلى "تيماء" فنزل بالسموءل بن عادياء فأودعه أدراعه وانصرف عنه إلى قيصر1.
وذكر "ابن خلدون" أن "امرأ القيس" سار صريخًا إلى "بني بكر" و"تغلب" فنصروه، وأقبل بهم، فأجفل "بنو أسد" وساروا إلى "المنذر بن امرئ القيس" ملك الحيرة، وأوقع "امرئ القيس" في "كنانة"، فأثحن فيهم، ثم سار في ملاحقة "بني أسد" إلى أن أعيا ولم يظفر منهم بشيء، ورجعت عنه بكر وتغلب، فسار إلى "مؤثر الخير بن ذي جدن" من ملوك حمير صريحًا بنصره بخمسمائة من حمير، ويجمع من العرب سواهم. وجمع المنذر لامرئ القيس ومن معه، وأمده كسرى أنو شروان بجيش من الأساورة، والتقوا، فانهزم امرؤ القيس، وفرت حمير ومن كان معه، ونجا بدمه، وما زال ينتقل في القبائل والمنذر في طلبه، وسار إلى قيصر صريخًا فأمده، ثم سعى به "الطماح" عند قيصر أنه يشبب ببنته، فبعث إليه بحلة مسمومة كان فيها هلاكه ودفن بأنقرة2.
و"أبو الفداء" من الذين نفوا كذلك خبر إيقاع "امرئ القيس" بـ"بني أسد". فهو يرى أنه لم يظفر بهم، وأن "بني أسد" هربت حينما علمت بمجيء "بكر" و"تغلب". فلما أعجز القبيلتين الطلب، تخاذلتا عن "امرئ
__________
1 اليعقوبي "1/ 180".
2 ابن خلدون "2/ 274 وما بعدها".(6/57)
القيس"، وتركتاه. ولما عرفت جموع "امرئ القيس" بتطلب "المنذر بن ماء السماء" له، تفرقت خوفًا من المنذر، وخاف "امرؤ القيس"، وصار يدخل على قبائل العرب وينتقل من أناس إلى أناس حتى قصد "السموءل بن عاديا" اليهودي، فأكرمه وأنزله، وأقام عنده ما شاء الله، ثم سار إلى قيصر مستنجدًا به1.
ينفي خبر "ابن خلدون" المتقدم، خبر انتقام امرئ القيس من بني أسد، وهو يتفق بذلك مع رواية مؤيدة لبني أسد تنكر أخذ امرئ القيس بثأره من بني أسد، وتروي في ذلك أبياتًا تنسبها أسد إلى "عبيد بن الأبرص" شاعر بني أسد. قال ابن قتيبة: "وقد ذكر امرؤ القيس في شعره أنه ظفر بهم، فتأبى عليه ذلك الشعراء". قال عبيد:
ياذا المخوفنا بقتل أبيه ... إذلالًا وحينا
أزعمت أنك قد قتلت ... سراتنا كذبًا ومينا2
وعبيد هذا هو الذي زعم "ابن الكلبي" وأضرابه أنه قال أبياتًا يتوسل فيها إلى "حجر" أن يترفق بقبائل بني أسد، وأن يعفو عنها، ويقبل ندامتها، فيسمح لها بالعودة إلى مواطنها. وكان قد أمر بإجلائها إلى تهامة؛ لأنها أبت دفع الإتاوة إلى جابي "حجر"، وضربته، وضرجته ضرجًا شديدًا. ومطلعها:
يا عَينِ فَاِبكي ما بَني ... أَسَدٍ فَهُم أَهلُ النَدامَة
ويقول ويقولون: إنه لما سماعها رق على "بني أسد"، فبعث في إثرهم وسمح لهم بالعودة من تهامة3. وهو قول فيه تحيز على بني أسد.
ويفهم من هذه الأبيات:
كَأَنّي إِذ نَزَلتُ عَلى المُعَلّى ... نَزَلتُ عَلى البَواذِخِ مِن شَمامِ
فَما مُلكُ العِراقِ عَلى المُعَلّى ... بِمُقتَدِرٍ وَلا مُلكُ الشَآمِي
__________
1 أبو الفداء "1/ 57"، خزانة الأدب، "3/ 532"، الكامل لابن الأثير "1/ 308 وما بعدها".
2 ابن قتيبة "ص33"، الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها" "دار الثقافة، بيروت، 1964"، خزانة الأدب "1/ 158 وما بعدها" تاريخ اليعقوبي "2/ 189" "طبعة النجف"، الشعر والشعراء "ص39"، "طبعة ليدن".
3 الأغاني "8/ 63".(6/58)
أَصَدَّ نِشاصِ ذي القَرنَينِ حَتّى ... تَوَلّى عارِضُ المَلِكِ الهمَامِ
أَقَرَّ حَشا اِمرِئِ القَيسِ بنِ حُجرٍ ... بَنو تَيمٍ مَصابيحُ الظَلامِ
أن امرأ القيس نزل على "المعلى" أحد "بني تيم بن ثعلبة" فأجاره ومنعه. ولم يكن للملكين: ملك العراق وهو المنذر ولا ملك الشآم أي ملك الغساسنة، اقتدار عليه. وقد بقي لديه زمانًا، ثم اضطر إلى الارتحال عنه1. فذهب ونزل عند "بني نبهان" من طيء. ثم خرج، فنزل بـ"عامر بن جوين الطائي" وهو أحد الخلعاء والفتاك. فبقى عنده زمانًا. ثم أحس منه مارًّا به. فتغفله، وانتقل إلى رجل من "بني ثعل" فاستجار به. فوقعت الحرب بين "عامر" وبين "الثعلي"، فخرج ونزل برجل من "بني فزارة" اسمه "عمرو بن جابر بن مازن" فأشار هذا عليه بالذهاب إلى "السموءل بن عادياء" بتماء فوافق فأرسله في صحبة رجل من "فزارة" اسمه "الربيع بن ضبع الفزاري" كان يأتي السموءل، فيحمله ويعطيه. فنزل عنده وأكرمه، ثم إنه طلب إليه أن يكتب له إلى "الحارث بن أبي شمر" الغساني، ليوصله إلى قيصر. ثم أودعه امرؤ القيس ابنته وأدراعه وأمواله، وأقام ابنته مع "يزيد بن الحارث بن معاوية" ابن عمه وخرج2. وكان المذي أشار على "امرئ القيس" بالتوجه إلى قيصر هو ذلك الرجل الفزاري3.
ويظهر من غربلة كل هذه الروايات، أن مطاردة "المنذر بن ماء السماء" لامرئ القيس كانت أعنف شيء أصاب هذا الشاعر بعد مقتل والده. لقد أخافته وجعلته يتنقل من قوم إلى قوم. فر عنه من انضم إليه من عصبة حمير، ونجا في جماعة من بني آكل المرار. حتى نزل بالحارث بن شهاب في بني يربوع من حنظلة ومعه أدراعه الخمسة: الفضفاضة، والضافية، والمحصنة، والخريق، وأم الذبول، كن لبني مرار يتوارثونها ملكًا عن ملك، فقلما لبثوا عند الحارث بن شهاب حتى بعث إليه المنذر مائة من أصحابه يوعده بالحرب أن يسلم بني آكل المرار فأسلمهم، ونجا امرؤ القيس ومعه ابن عمه يزيد بن معاوية بن الحارث وبنته هند، والأدرع والسلاح، ومال كان بقي عنده، ومضى إلى أرض طيء
__________
1 الأغاني "8/ 68"، السندوبي "ص179"، OLINDER , P.108
2 الأغاني "8/ 70".
3 الأغاني "8/ 68 وما بعدها".(6/59)
ونزل عند المعلي بن تيم الذي مدحه شاعرنا، فأقام عنده، واتخذ إبلًا، ثم خرج فنزل بعامر بن جوين على نحو ما ذكرت1.
ويذكر الأخباريون أن "عمرو بن قميئة" كان قد رافق "امرأ القيس" في سفره إلى "القسطنطينية" وقد أشير إليه في شعر "امرئ القيس" كذلك.
ويذكرون أنه كان من قدماء الشعراء في الجاهلية "وأنه أول من قال الشعر من نزار، وهو أقدم من امرئ القيس، ولقبه امرؤ القيس في آخر عمره، فأخرجه معه إلى قيصر لما توجه إليه، فمات معه في طريقه، وسمته العرب: عمرًا الضائع لموته في غربة وفي غير أرب ولا مطلب"2 بل روي أنه كان من أشعر الناس3. وأنه كان من خدم والد امرئ القيس، وأنه بكى وقال لامرئ القيس غررت بنا، فأنشأ امرؤ القيس شعرًا فيه4.
أما خبر "امرئ القيس" مع الغساسنة في طريقه إلى قيصر، فلا نعلم منه شيئًا، وليس في شعره ما يشير إلى أنه ذهب إليهم رجاء التوسط في الوصول إليه.
ويظهر من شعر لامرئ القيس، أنه سلك طريق الشأم في طريقه إلى "قيصر" وأنه مر بـ"حوران"5 وبعلبك وحمص وحماة وشيزر6. أما ما بعد ذلك حتى عاصمة الروم، فلا نعرف من أمره شيئًا.
ويقول الرواة أن قيصر أكرم امرأ القيس، وصارت له منزلة عنده، وأنه دخل معه الحمام، وأن ابنته نظرت إليه فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه، وأنه
__________
1 الأغاني "8/ 68".
2 الأغاني "16/ 158 وما بعدها".
3 الأغاني "16/ 159".
4 "ثم سار ومعه عمرو بن قميئة أحد بني قيس بن ثعلبة وكان من خدمة أبيه. فبكى ابن قميئة، وقال: غررت بنا، فأنشأ امرؤ القيس يقول:
بكي صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا
الشعر والشعراء "ص45 وما بعدها"، "طبعة ليدن"، أمالي الشريف المرتضى "1/ 629".
5
فلما بدت حوران والآل دونها ... نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا
سندوبي "ص70"
6
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها ... ولابن جريج في قرى حمص أنكرا
سندوبي "ص70"
"ابن جريج"، OLINDER, P. 110(6/60)
نادمه، واستمده فوعده ذلك وفي هذه القصة يقول:
ونادمت قيصر في ملكه ... فأوجهني وركبت البريدا1
ويذكرون أن "القيصر" أنجد "امرأ القيس" وأمده بجند كثيف فيه جماعة من أبناء الملوك، ولكن رجلًا من بني أسد اسمه "الطماح" كان امرؤ القيس قد قتل أخًا له، لحق بامرئ القيس، وأقام مستخفيًا، فلما ارتحل "امرؤ القيس" اتصل بجماعة من أصحابه، اتصلوا بقيصر، وقالوا له: "إن العرب قوم غدر ولا نأمن أن يظفر بما يريد، ثم يغزوك بمن بعثت معه". وفي رواية لابن الكلبي أنه ذهب إلى قيصر، وقال له: إن امرأ القيس غوي عاهر، وإنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وهو قائل في ذلك أشعارًا يشهر بها في العرب فيفضحها ويفضحك. فبعث إليه حينئذ بحلة وشي مسمومة منسوجة بالذهب، وقال له: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إليَّ بخبرك من مزل منزل. فلما وصلت إليه لبسها، واشتد سروره بها، فأسرع فيه السم، وسقط جلده، فلذلك سمي "ذا القروح" ويستشهدون على قولهم هذا بشعر امرئ القيس2.
ويذكر بعضهم أن امرأ القيس كان مصابًا بداء قديم، وقد عاوده في ديار الروم، وهو عائد إلى دياره، فلما وصل إلى "أنقرة"، اشتد عليه المرض، فمات هناك. وأنه رأى قبر امرأة من أبناء الملوك ماتت هناك، فدفنت في سفح جبل يقال له "عسيب"، فسأل عنها فأخبر بقصتها، فقال في ذلك شعرًا.
__________
1 الأغاني "8/ 70"، الشعر والشعراء "ص46"، "ليدن"، أمالي المرتضى "1/ 519".
2 ابن قتيبة "ص33"
Olinder, P. III, FR. Ruckert, Amrllkais der Dichter und Konig, Hannover 1924
الأغاني "8/ 70 ما بعدها"، "الطماح بن قيس الأسدي"، الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها" "دار الثقافة، بيروت 1964"، "ص46"، "ليدن".
قوله:
وَبُدِّلتُ قَرحًا دامِيًا بَعدَ صِحَّةٍ ... فَيا لَكِ مِن نُعمى تَحَوَّل أَبؤُسا
الشعر والشعراء "ص47"، "ليدن".(6/61)
ثم مات فدفن في جنب المرأة، فقبره هناك1.
ويرى بعض المستشرقين إن ذهاب "امرئ القيس" إلى "القيصر" "يوسطنيانوس" كان حوالي سنة "530" للميلاد، وأنه توفي في أثناء عودته بين سنتي "530" و"540" للميلاد2.
وليس في كتب الروم أو السريان الواصلة إلينا إشارة إلى هذه الحوادث التي يرويها الأخباريون عن ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية، وطلبه النجدة من القيصر وموته في أنقرة، ولا عن الشعر الذي قاله في حق القيصر، وفي حق القبر الذي شاهده، وما إلى ذلك مما يذكره الأخباريون.
وأما "المعلى" الطائي أحد بني تيم، من "جديلة" والذي يعرف قومه بـ"مصابيح الظلام"، فقد ذكره أهل الأخبار في عداد الوافين من العرب. قيل إن "المعلى" شخص في يوم لبعض أمره، وبلغ "المنذر بن ماء السماء" أن امرأ القيس عند المعلى وقد أجاره، فركب حتى أتى "ابن المعلي" فعمد ابن المعلى حتى انتهى إلى القبة هو فيها. فقال له: "إن فيها حرم المعلى ولست واصلًا إليها" ونادى في قومه، فمنعوه، فقال امرؤ القيس شعرًا يمدح "بني تيم" وذكر نعتهم "مصابيح الظلام"، وقال:
فَما مُلكُ العِراقِ عَلى المُعَلّى ... بِمُقتَدِرٍ وَلا مُلكُ الشَآمِي3
وإما "عامر بن جوين الطائي" الذي نزل امرؤ القيس عنده، فهو من
__________
1 "ولما صار إلى مدينة بالروم تدعى أنقرة ثقل، فأقام بها حتى مات وقبر هناك.
وقال قبل موته:
رب خطبة مسحنفره ... وطعنة متنجره
وجعبة متحيره ... تدفن غدًا بأنقره
ورأى قبرًا لامرأة من بنات ملوك الروم هلكت بأنقرة، فسأل عن صاحبه فخبر بخبرها، فقال:
أجارتنا أن المزار قريب ... وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا أنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب
الشعر والشعراء "ص47"، "ليدن"، الأغاني "8/ 71"،
Ency. ii, p 477
2 Ency. ii, p 477
3 المحبر "ص353 وما بعدها".(6/62)
"طيء" ثم من "بني جرم". وقد أقام امرؤ القيس عنده، حتى قبل عامر امرأة امرئ القيس، فأعلمته بذلك، فسار امرؤ القيس إلى "جارية بن مر الطائي" ثم "الثعلي" المعروف بـ"أبي حنبل"، فلم يصادفه، وصادف ابنه. فقال له ابنه: "أنا أجيرك من الناس كلهم إلا من أبي حنبل". فرضي بذلك وتحول إليه. فلما قدم أبو حنبل رأى كثرة أموال امرئ القيس وأعلمه ابنه بما شرط له في الجوار. فاستشار في أكله نساءه. فكلهن أشرن عليه بذلك: وقلن له: "إنه لا ذمة له عندك". ولكنه خالفهن بعد أن فكر في نفسه وفي سوء عاقبة الغدر ثم قرر الوفاء، فعقد له جوارًا ثم ركب في أسرته حتى نزل منزل عامر بن جوين ومعه امرؤ القيس، فقال له: "قبل امرأته كما قبل امرأتك. ففعل"1.
وذكر أهل الأخبار أن "المنذر بن النعمان الأكبر"، ضغن على "عامر بن جوين الطائي، لما أجار "امرأ القيس" أيام كان مقيمًا بالجبلين، وقال كلمته التي يقول فيها:
هنالك لا أعطي مليكًا ظلامة ... ولا سوقة حتى يئوب ابن مندلة
فلما وفد عليه، وذلك بعد انقضاء ملك كندة ورجوع الملك إلى لخم. ودخل عليه، أنَّبَه على فعلته وهدده بغزو قومه، وبإنزاله العقوبة الصارمة بهم، فخرج "عامر" من عنده، بعد أن قال له: "إن البغي أباد عَمْرًا، وصرع حجرًا، وكان أعز منك سلطانًا، وأعظم شأنًا، وإن لقيتنا لم تلق أنكاسًا ولا أغساسًا، فهبش وضائعك وصنائعك، وهلم إذا بدا لك، فنحن الأُلَى قسطوا على الأملاك قبلك"، ثم أتى راحلته، وأنشأ يقول أبياتًا يتوعد فيه الملك2.
ويشير أهل الأخبار إلى ملك من ملوك كندة، عرف بـ"أبي جبر". قالوا عنه، إنه كان ملكًا شديد البأس، خرج إلى "كسرى" يستجيشه على قومه، فأعطاه جيشًا من الأساورة، فلما بلغوا "كاظمة" ونظروا إلى بلاد العرب قالوا: أين يمضي بنا هذا الرجل، وعمدوا إلى سم، دفعوه إلى طباخه،
__________
1 المحبر "ص352 وما بعدها".
2 كتاب ذيل الأمالي "177"، "المجلس الأول: مطلب ما دار من الحديث بين المنذر بن النعمان الأكبر وعامر بن جوين الطائي لما وفد عليه".(6/63)
فألقاه في أحب الألوان إليه، فلما استقر في جوفه، مرض وتوجع، فجاء الأساورة إليه، طالبين منه أن يكتب لهم أنه قد أذن لهم بالرجوع، فكتب لهم، فرجعوا وخف ما به، فخرج إلى "الطائف" إلى "الحارث بن كلدة الثقفي"، ليداويه فداواه وبرئ، ثم ارتحل يريد اليمن، فنكس ومات. وكانت له عمة اسمها "كبشة" فرثته1.
هذه قصة "كندة"، وهذه حكاية شاعرها "امرئ القيس" الذي يعود إليه الفضل في حفظ الأخباريين لتأريخ كندة.
أما شعر امرئ القيس وديوانه وصحيحه وفاسده، فقد تحدث العلماء فيه، ولهم فيه كلام يخرجني التعرض له عن صلب هذا الموضوع. فعلى مقالاتهم المعول في هذه الأمور.
يتبين للقارئ بعد غربلة الأخبار المتقدمة، أن كندة كانت قد تمكنت من الهيمنة على القبائل النازلة في أواسط جزيرة العرب، ومن تكوين مملكة لها، بلغت أوج ملكها في القرن الخامس للميلاد، إلا أن ملكها على عادة حكومات القبائل لم يدم طويلًا، فسرعان ما أخذ بنيانه يتآكل ويتداعى، فأخذت أجزاؤه تتساقط، وعادات القبائل التي اضطرت بقانون القوة المتحكم في البادية إلى الانفصال عنها وإلى استعادة حريتها بذلك القانون أيضًا. فخسرت كندة ملكها الذي شمل نجدًا ووصل العراق، وبقي رؤساء منها يتحكمون في حضرموت، ثم أخذوا يتعاملون مع قبائل عربية جنوبية أخرى لتوسيع ملكهم لا سيما بعد تركهم نجدًا ولجوئهم إلى حضرموت، ويقدر بعض الباحثين عدد من جاء إلى حضرموت من كندة بحوالي ثلاثين ألف رجل، نزل أكثرهم في "دمون"2.
__________
1 نزهة الجليس "1/ 484".
2 beltrage, s. 121(6/64)
السموءل:
ولا بد من الإشارة باختصار إلى "السموءل" الذي مر اسمه في أثناء كلامنا على "امرئ القيس"، وقصته هي في الواقع جزء من قصة هذا الشاعر،(6/64)
وذيل لها. وهو على ما يقوله لنا الأخباريون يهودي ثري، شاعر: مقره "الأبلق" بـ"تيماء" يعرف بـ"السموءل بن عاديا" وبـ "السموءل بن غريض بن عاديا" "عادياء" اليهودي1. وبـ "السموءل بن حيان "حسان" بن عادياء2" وبـ"السموءل بن عادياء بن حيا"3، وبـ"السموءل بن حيا بن عادياه بن رفاعة بن الحارث بن ثعلبة بن كعب"4، وبـ"السموءل بن أوفى بن عادياء"5. ويظهر من بيتين من قصيدة للأعشى، هما:
كُن كَالسَمَوءَلِ إِذ سارَ الهُمامُ لَهُ ... في جَحفَلٍ كَسَوادِ اللَيلِ جَرّارِ
جارُ اِبنِ حَيّا لِمَن نالَتهُ ذِمَّتُهُ ... أَوفى وَأَمنَعُ مِن جارِ اِبنِ عَمّارِ
أن المراد بـ"ابن حيا" السموءل، أي أن اسم والد السموءل هو "حيا".
واختلفوا في نسب "عاديا" "عادياء"، فقالوا: "عادياء بن حباء" وقالوا "عادياء بن رفاعة بن جفنة"، وقالوا: إنه من ولد "الكاهن بن هارون بن عمران"6، وقالوا عن قبيلته إنه كان من "بني غسان"7. ونسبه "دارم بن عقال" إلى "رفاعة بن كعب بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء". وهو نسب أنكره "أبو الفرج الأصبهاني" حيث قال: "وهذا عندي محال؛ لأن الأعشى أدرك شريح بن السموءل، وأدرك الإسلام وعمرو مزيقيا قديم لا يجوز أن يكون بينه وبين السموءل ثلاثة آباء ولا عشرة إلا أكثر ... وقد قيل إنه أمه كانت من غسان"8. ونسب السموءل إلى الأزد9.
وللأعشى الشاعر الشهير شعر يرويه الرواة في مدح "الشريح بن السموءل".
__________
1 "عادياء"، الأغاني "19/ 98"، ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء "ص235"، "طبعة دار المعارف"، ency, iv, p. 133
2 الميداني، الأمثال "2/ 276"، المشرق، السنة الثانية عشرة 1909م العدد 3 آذار ص162، "حسان" مروج "2/ 176"، "طبعة دار الأندلس".
3 المعرب، للجواليقي "ص188".
4 الاشتقاق "259".
5 المشرق، العدد المذكور "ص162".
6 المشرق، العدد المذكور، معاهد التنصيص "1/ 131".
7 الاشتقاق "259"، المحبر "349",
8 الأغاني "19/ 98"، المشرق، العدد المذكور.
9 المعرب "ص188".(6/65)
وقد ورد فيه اسم ولدين للسموءل، هما: "حوط" و"منذر"1. ولم يذكر الأخباريون اسم الولد الذي زعم أن "الحارث بن أبي شمر" أو "الحارث بن ظالم" قتله لرفض "السموءل" دفع أدرع الكندي إليه، على نحو ما يذكره الرواة في قصة الوفاء. ونجد مضمون هذه القصة في قصيدة الأعشى الرائية الموجودة في ديوانه. وهي قصيدة تتألف من واحد وعشرين بيتًا، يروي الرواة أنه قالها مستجيرًا بـ"شريح بن السموءل" ليفكه من الأسر. وكان الأعشى على ما يقوله الرواة قد هجا رجلًا من "كلب"، فظفر به الكلبي وأسره، وهو لا يعرفه، فنزل بشريح بن السموءل وأحسن ضيافته، ومر بالأسرى، فناداه الأعشى بهذه القصيدة، فجاء شريح إلى "الكلبي"، وتوسل إليه بأنه يهبه، فوهبه إياه، فأطلقه، وقال له: أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك، فقال له "الأعشى": "إن تمام إحسانك إلى أن تعطيني ناقة ناجية، وتخليني الساعة، فأعطاه ناقة ناجية، فركبها ومضى من ساعته. وبلغ "الكلبي" أن الذي وهبه لشريح "الأعشى"، فأرسل إلى شريح ابعث إليَّ الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه، فقال: قد مضى، فأرسل الكلبي في أثره، فلم يلحقه"2.
وروى "ابن قتيبة" القصة المتقدمة على هذا النحو: "قال أبو عبيدة: أسر رجل من كلب الأعشى فكتمه نفسه وحبسه، واجتمع عند "الكلبي" شرب فيهم "شريح بن عمرو والكلبي"، فعرف الأعشى. فقال للكلبي: من هذا؟ فقال خشاش التقطته. قال: ما ترجو به ولا فداء له! خل عنه. فخلى عنه. فأطعمه شريح وسقاه. فلما أخذ منه الشراب سمعه يترنم بهجاء الكلبي، فأراد استرجاعه. فقال الأعشى:
شُرَيحُ لا تَترُكَنّي بَعدَما عَلِقَت ... حِبالَكَ اليَومَ بَعدَ القِدِّ أَظفاري
كُن كَالسَمَوَءَلِ إِذ طَافَ الهُمامُ بِه ... في جَحفَلٍ كَهزيع اللَيلِ جَرّارِ
بِالأَبلَقِ الفَردِ مِن تَيماءَ مَنزِلُهُ ... حِصنٌ حَصينٌ وَجارٌ غَيرُ غَدّارِ3
__________
1 المشرق، السنة الثانية عشرة، 1909م، العدد 3 آذار، "ص163".
2 الأغاني "19/ 99 وما بعدها"، ديوان الأعشى "ص126 وما بعدها"، "تحقيق رودلف كاير"، "لندن 1928م"، ديوان الأعشى الكبير "ص179"، "تحقيق الدكتور م. محمد حسين".
3 الشعر والشعراء "ص139"، "الأعشى ميمون بن قيس".(6/66)
فجعل الرجل المجير "شريح بن عمرو الكلبي"، أي من العشيرة التي أسر أحد رجالها الأعشى، ولم يجعله ابنًا من أبناء السموءل.
وجاء نسب "شريح" في شرح "أبي العباس ثعلب" على ديوان الأعشى على هذا الشكل: "شريح بن حصن بن عمران بن السموءل بن حيا بن عاديا"1، فصار "السموءل" جدًّا من أجداد "شريح" لا والدًا له.
وقد اختلف الأخباريون في الرجل الذي طالب السموءل بتأدية سلاح "امرئ القيس" إليه، فزعم بعضهم أنه "الحارث بن أبي شمر الغساني"2. وزعم بعض آخر أنه "الحارث بن ظالم" في بعض غاراته بالأبلق، وزعم آخرون أنه "المنذر" ملك الحيرة، وجه بـ"الحارث بن ظالم" في خيل، وأمره بأخذ مال امرئ القيس من السموءل، وزعم أنه "الأبرد" وهو الملك الغساني.
وكان الحارث بن أبي شمس لما قتل المنذر بعين أباغ، وجه ابن عمه الأبرد، فجعله بين العراق والشام. فلما سمع الأبرد بهلاك امرئ القيس، طالب السموءل بدفع الدروع إليه، فامتنع، فذبح ابنه وهو يراه. ولم يصرح بعضهم باسم الملك الذي طالب بتأدية الدروع، إنما ذكروا أنه كان بعض ملوك الشأم3.
وإذا تتبعنا الروايات الواردة في قصة وفاء السموءل، وذبح ابنه، وامتناعه عن تأدية الأمانة المودعة لديه، نجد أنها ترجع إلى موردين: قصة "دارم بن عقال" وشعر الأعشى. ويلاحظ أن في شعر الأعشى كثيرًا من أخبار السموءل، ومن شعره أخذ الأخباريون "تيماء اليهودي"، وهذه ملاحظة تستحق الدرس4. ويفهم منه أن الأعشى كان ممن يرتادون حصن السموءل. أما "دارم بن عقال"، فهو من ولد السموءل. وهو راوي خبر قصة الوفاء، والأشعار المنسوبة إلى امرئ القيس المتعلقة بهذا الموضوع. وقد أشار إلى ذلك مؤلف كتاب "الأغاني" في أثناء كلامه على قصيدة نسبت إلى "امرئ القيس" ابتداؤها:
طرقتك هند بعد طول تجنب ... وهنا ولم تك قبل ذلك تطرق
__________
1 ديوان الأعشى "125"، "تحقيق كاير".
2 طبقات فحول الشعراء "235"، الأغاني "19/ 99".
3 الأغاني "19/ 99"، ديوان الأعشى "126"، "كاير"، المحبر "349".
4 البلدان "3/442"، الحيوان للجاحظ "6/ 188"، المشرق، الجزء المذكور "ص163".(6/67)
فقال: "وهي قصيدة طويلة، وأظنها منحولة؛ لأنها لا تشاكل كلام امرئ القيس، والتوليد فيها بين، وما دونها في ديوانه أحد من الثقات، وأحسبها مما صنعه دارم؛ لأنه من ولد السموءل، ومما صنعه من روى عنه من ذلك فلم تكتب هنا ... "1 ولا أستبعد أن تكون هذه القصة، قصة الوفاء من صنع هؤلاء الصناع.
ويرى "ونكلر" "winckler" أن قصة الوفاء هذه هي أسطورة استمدت مادتها من أسفار "صموئيل الأول" في التوراة، ومن الأساطير العربية القديمة نظمت على هذه الصورة فجعل بطلها شخصان هما: السموءل وامرؤ القيس2.
ولا بد لي وقد انتهت من البحث عن إمارة كندة، من الإشارة إلى "الأكيدر" صاحب "دومة الجندل"، فقد نسبه أهل الأخبار إلى "كندة". وقد ذكروا أنه من السكون، والسكون هم من كندة. ومعنى هذا أن عائلة تنتمي إلى كندة كانت تحكم هذا الموضع المهم في البادية؛ لأنه ملتقى طرق قوافل وسوق معروف من أسواق الجاهليين.
__________
1 الأغاني "8/ 70".
2 H. Winckler, Arabisch-Semitisch-Orientalisch, in Mittei. Der Vorder Asia Gese., 1901, S. 112. 6 Jahrgang(6/68)
كندة في العربية الجنوبية:
وقفنا على أخبار كندة بنجد وفي العربية الشرقية إلى العراق. ثم رأينا ما حل بتلك الإمارة وكيف تشتت شملها. ونريد الآن أن نتحدث عن دور هذه القبيلة في العربية الجنوبية.
يرى بعض الباحثين أن الخصومات التي وقعت في إمارة كندة، وتعقب ملوك الحيرة ولا سيما "المنذر" لساداتها، وانقضاض القبائل التي كانت تخضع لها عنها ثم سقوط إمارة كندة، دفعت بعشائر كندة إلى الاتجاه نحو الجنوب نحو العربية الجنوبية، ولا سيما حضرموت، وهي موطنها القديم، فنزحت إليها واستوطنت بها. وكونت لها إمارة كندية بحضرموت.(6/68)
وهذا القول يجب ألا يفسر على أن مجيء كندة إلى العربية الجنوبية إنما كان بعد سقوط حكومتهم وتشتت أمرهم، فقد أشرت فيما سلف في مواضع إلى وجود كندة في العربية الجنوبية قبل هذا العهد بزمن طويل، وأشرت إلى ورود اسمها في نصوص المسند وإلى الأدوار التي لعبتها في أيام ملوك سبأ وذو ريدان، قبل الإسلام بمئات السنين، بل ربما كان ذلك قبل الميلاد.
وقد رأينا فيما سلف ورود اسم "كندة" كدت" في نص أمر بتدوينه الملك "معديكرب يعفر ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في النجاد وفي المنخفضات". وهو من النصوص التي عثر عليها في "وادي مأسل" "وادي ماسل" "مأسل الجمع"1، وقد دون ووضع في موضع "مأسل الجمح"2 لمناسبة إرسال الحملة العسكرية إلى موضع "كتا" لمحاربة "مذر" أي "المنذر" الذي أعلن الحرب على قبائل هذه الجهات. وقد اشتركت في هذه الحرب قبائل سبأ وحمير و"رحبت" "رحبة" وحضرموت و"يمنت" "اليمن" والأعراب و"كدت" أي "كندة" و"مذحج". واشترك مع المنذر "مذر" بنو ثعلبة "بن ثعلبت" و"شبيع؟ ". وقد أرخ النص بشهر "ذ قيضن" "ذو قيض" "ذو القيض" من سنة "631" من التقويم الحميري أي في صيف سنة 516 للميلاد3.
ويظهر من هذا النص أن "المنذر" كان قد بلغ في حروبه مناطق بعيدة عن قاعدة ملكه، وأنه هو الذي غزا القبائل القاطنة في وادي مأسل الجمع "ما سلم جمحن". ولعله كان يتعقب عشائر كندة ومن كان يؤازرها ويعادي ملك الحيرة، حتى بلغ هذا المكان الذي كان خطًّا أماميًّا من خطوط الدفاع لحكومة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الأطواد والمنخفضات". ولهذا السبب هب الملك "معديكرب" لمساعدة "كندة" على نحو ما ورد في النص.
وقد ذكرت "كدت" كندة مع مراد ومذحج والقبائل الأخرى في الهجوم الذي قام به الملك "يوسف إسار" "يوسف أسأر" على الأحباش في مدينة "ظفار"، وعلى المدن التي كانت تناصرهم. وقد ورد تأريخ هذا الهجوم في
__________
1-
كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأيل
2 "بما سلم جمحن"
3 Le Museon, LXVI, 1953, P. 307, 310, Ryckmans 510-446(6/69)
نص سجله القيل "شرح إيل يقبل بن شرحب إيل يكمل" من "أل يزن" "آل يزن" "آل يزأن" بالاشتراك مع "جدن" "جدنم" و"حيم" "حب" و"نسأ" "نسان" "نسن" و"جبا" "جبأ" لهذه المناسبة.
ويتبين من هذا النص أن الملك "يوسف إسار" "يوسف أسأر" هاجم "ظفار" مقر الأحباش، واستولى على الكنيسة "قلسن" "القليس"، ثم سار بعد ذلك على "أشعرن" "الأشعر"، وعين القيل على رأس جيش، ثم سار إلى "مخون" "مخا" فقتل سكانها واستولى على كنيستها، وهدم جميع حصون "شمر" ومعاقلها والسهل. وعندئذ قام بهجوم ماحق على "أشعرن".
وقد قُتل في هذه المعارك عدد كبير من الناس، قُتل ثلاثة عشر ألف قتيل، وأخذ تسعة آلاف وخمسمائة أسير، واستولى على "280" ألف من الإبل والبقر والماعز. وأخذت غنائم عديدة أخرى.
وأمر الملك بعد هذه المعارك القيل "شرح إيل يقبل" شرح آل يقبل" بالالتحاق بالجيش الذي أرسل إلى نجران. وفي صعيد هذه المدينة اجتمع رؤساء "بني أزأن" "آل يزأن" "بن يزن" وقبائل همدان وكندة ومراد ومذحج وأعرابها. فتغلبت جيوش الملك على هذه المدينة، وأنزلت بسكانها خسائر كبيرة في الأموال والأرواح، ووضعت الأغلال في أيدي الأسرى، وقتل من وجد هناك من الأحابيش. وكان مع الملك في جيشه من الرؤساء: "لحيعت برخم" و"سميفع أشوع" و"شرحب إيل أسعد". وقد دون هذا النص في شهر "ذ قبضن" "ذو القيض" من شهور صيف سنة "633" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "518" للميلاد1.
وقد لعبت "كندة" "كدت" دورًا خطيرًا في الأوضاع السياسية والعسكرية في أيام استيلاء الجيش على العربية الجنوبية، كما يتبين ذلك من الفصل الخاص المتعلق بهذا الموضوع. وقد دخل رؤساؤها في الإسلام، فتبعهم أتباعهم، كما يرد ذلك في كتب التواريخ والسير.
ويذكر أهل السير والتواريخ، أن وفدًا من وفود "كندة"، كان في جملة
__________
1 Ryckmans 508, Le Museon, LXVI, PP. 295, Bulletin, P. 458(6/70)
الوفود التي قدمت المدينة لمبايعة الرسول في السنة العاشرة من الهجرة. وكان قد رأسه "الأشعث بن قيس الكندي". "دخلوا على رسول الله مسجده، وقد رجلوا أجممهم، وتكحلوا، عليهم جبب الحيرة، قد كففوها بالحرير"، ثم قال الأشعث: "يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار. وأنت ابن آكل المرار"، يفتخر بجده "آكل المرار"، وبـ "أن كندة كانت ملوكًا"1.
وقد عرف جد "الأشعث بن قيس بن معديكرب بن معاوية"، بمعاوية الأكرمين، وإنما سمي معاوية الأكرمين لأنه ليس في آبائه إلا ملك أو رئيس. وكان كريم الطرفين، وقد ذكره "الأعشى" في شعر له. وكان أحد ملوك كندة بحضرموت2.
وكان "مخوص" "مخوس" ومشرح وجمد وأبضعة بنو معديكرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية من سادات كندة عند ظهور الإسلام. وقد لقب كل واحد منهم نفسه بلقب "ملك"، واختص كل واحد منهم بواد ملكه.
وقد نزلوا المحاجر، وهي أحماء حموها، وقد عرف هؤلاء بالملوك الأربعة من "بني عمرو بن معاوية"، وقد لعنهم النبي3. وقتلوا في الردة4.
ويرجع النسابون نسب كندة إلى جد أعلى قالوا له "عفير بن عدي" وهو والد "ثور". و"ثور" هو كندة5. وولد "كندة" معاوية بن كندة وأشرس، وأمهما هي رملة بنت أسد بن ربيعة بن نزار6. ويمثل هذا النسب صلة كندة بقبائل معد، وارتباط تأريخها بها، وتملكها عليها قبل الإسلام بزمن. وهو تملك جعل "كندة" تفتخر به، حتى صارت تدعو نفسها: "كندة الملوك".
ويذكر "الهمداني"، أن الشاعر "امرؤ القيس"، كان يفتخر ويقول:
لا ينكر الناس منَّا يوم نملكهم ... كانوا عبيدًا وكنا نحن أربابًا7
__________
1 الطبري "3/ 138 وما بعدها"، "قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة".
2 الأكليل "1/ 90".
3 ابن الأثير "2/ 158 وما بعدها"، البلدان "3/ 294"، "حضرموت"، ابن خلدون "2/ 56"، القسم الثاني: الوفود.
4 الاشتقاق "220".
5 الإكليل "1/ 146".
6 الإكليل "1/ 145".
7 الإكليل "1/ 145".(6/71)
وأن "تبعًا الآخر"، وهو "عمرو بن حسان"، عين حجرًا آكل المرار على معد كلها، فالملك على "معد" لكندة. وأن "كندة" كانت تقول: "لم تزل لها نزار ومن نزل الحيرة والشأم من العرب طعمة ورعية".
وقد نسب بضع النسابين "كندة" إلى كندة، وهو ثور بن مرتع بن معاوية بن كندي بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان1. ونسبه بعض آخر إلى "كندة بن عفير بن الحارث"، إلى غير ذلك من آراء. وقد زعم بعض النسابين أن "الصدف" واسمه "مالك"، وهو جد "الصدف"، هو شقيق كندة2.
ومن بطون كندة معاوية بن كندة، ومنه الملوك بنو الحارث بن معاوية الأصغر بن ثور بن مرتع بن معاوية، أسلاف الشاعر امرئ القيس، وقد حكموا القبائل الأخرى من غير كندة، ومنها قبائل من عدنان3.
و"الأشرس بن مرتع"، هو أخو "كندة"، وهو أبو السكون والسكاسك4، ونسب السكاسك إلى "خميس السكسك بن أشرس بن ثور. وهو كندة بن عفير"5.
ومن السكون "نجيب". وكان "أكيدر بن عبد الملك" صاحب دومة الجندل من السكون، وأخوه بشر بن عبد الملك. يذكرون أنه ذهب إلى الحيرة، وتعلم بها الخط، ثم رجع إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان. ومنه تعلم أهل مكة الكتابة6.
ويذكر أهل الأخبار أن كندة لما خرجت من "الغمر": غمر ذي كندة نزلت بحضرموت وتآلفت مع الصدف تذكرت الأواصر والقرابات التي كانت تربطها بـ"الصدف" فصارت تحارب معها7، وجعل "الهمداني" أهل حضرموت من كندة والصدف وحمير.
__________
1 جمهرة أنساب العرب "ص399"، الإكليل "10/ 4"، الإنباه "114"، الاشتقاق "218"، ابن خلدون "2/ 257"، صبح الأعشى "1/ 328"، نهاية الأرب "2/ 303"، الروض الأنف "2/ 345"، تاج العروس "1/ 43"، "2/ 287"، اللسان "4/386".
2 الإكليل "10/ 5".
3 ابن خلدون "2/ 257".
4 الإكليل "1/ 358".
5 الإنباه "115"، الاشتقاق "221"، تاج العروس "7/ 141"، تاريخ العرب قبل الإسلام "4/ 281".
6 جمهرة "403 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 257".
7 الإكليل "2/ 15 وما بعدها". Beitrage , s. 133(6/72)
فلسطين الثالثة:
لقد ذهب "كوسان دي برسفال" "caussin. de perceval" إلى أن "كيسوس" "kaisus،caisus" المذكور عند "بروكوبيوس" و"نونوسوس" "nonnosus" هو "امرؤ القيس"1.
ذكر "بروكوبيوس"، أن القيصر "يوسطنيانوس" "juslinianus"، أرسل رسولًا هو "يوليانوس" "julianus" إلى "esimiphaaeus" "السميفع أشوع" ليطلب منه بحكم رابطة الدين والمصالح المشتركة تنصيب أحد أبناء الأشراف ورؤساء القبائل واسمه "kaisus" "caisus" على "معد" "maddeni"، وأن يرسل قوة كبيرة من رجاله يشتركون مع الـ"سرسين" والـ"massenin" في غزو مملكة الفرس2. وكان "كيسوس" هذا قد قتل أحد أقارب "esimiphaaeus" والتجأ إلى البادية، ولم يقم أي منهما بالغزو، ولم يذكر "بروكوبيوس" شيئًا آخر عن "كيسوس" هذا، أي "قيس"، وقد كانت سفارة "يوليانوس" إلى الحميرين قبل موت "قباذ" أي قبل سنة "531م"3.
وفي الخبر إشارة إلى شجاعة "قيس" وكفاءته وحزمه، لهذه الأسباب ولأسباب سياسية أخرى رغب القيصر في تعيينه رئيسًا على معد.
وذكر "نونوسوس" أن القيصر "يوسطنيانوس" كلفه الذهاب في سفارة إلى "kaisos" "قيس" حفيد "الحارث" "aretas" ورئيس قبيلتين عظيمتين من أعظم قبائل الـ"سرسينوي" "saracynoi" هما "kindyoi" كندة و"معد" "maadynoi" لمواجهته ودعوته للذهاب إلى الإمبراطور إذا أمكنه ذلك. فذهب إليه، ونفذ أوامر القيصر، وعاد إلى بلده سالمًا. وكان القيصر "أنسطاسيوس" "anastasius" قد كلف جد "نونوسوس" أن يذهب إلى الحارث ليعقد عهدًا معه، كما أن القيصر "يوسطينوس"، كلف أبا "نونوسوس" وهو "إبراهام" "إبراهيم" إن يذهب إلى "المنذر" "alamoundaros" رئيس الـ"سرسينوي" لمفاوضته في فك أسر قائدين كانا أسيرين لديه هما "تيموستراتوس"
__________
1 Olinder, p. 114, Caussin de Perceval, Essai, II, P. 317
2 Procopius, History of the Wars, P. 193, I, XX, 9-13
3 Olinder, P. 114(6/73)
و "يوحنا". ثم كلف مرة ثانية في عهد "يوسطنيانوس" "justinianus" سفارة أخرى لدى قيس، لعقد معاهدة معه، وقد تمكن من ذلك، وعاد ومعه أحد أبناء "قيس" واسمه "معاوية" "mauias" ليكون رهينة في "بوزنطية" عند "يوسطنيانوس"، وكلف "إبراهيم" مرة أخرى أن يذهب إلى "قيس" بمهمة سياسية أخرى، فذهب إليه وأقنعه بالقدوم إلى "بوزنطية"، فقسم ولايته على القبائل بين أخوين "يزيد" "jezidos" و"aumros" "عمرو"، ونال من الإمبراطور ولاية "فلسطين"، وجاء معه بعدد لا يحصى من مرءوسيه1.
وقد ذكر "ملخوس الفيلادلفي" "malchus of philadelphia" اسم عامل عربي سماه "amorkesos" أي "امرؤ القيس". كان كما قال رئيسًا على بطن من بطون الأعراب "sareceni" هو بطن "nokalian" "nokhalian".
وذكر أن "بطرس" "peter" أسقف أهل الوبر "saraceni" ذهب في عام "473" للميلاد إلى القسطنطينية ليطلب من القيصر "ليون" "leo" أن يمنح هذا الرئيس. درجة "عامل" "phylarchus" "فيلارخ" على العرب المقيمين في العربية الحجرية.
وكان هذا الرئيس يقيم مع قبيلته في الأصل كما ذكر "ملخوس" في الأرضين الخاضعة لنفوذ الفرس، ثم ارتحل عنها ونزل في أرضين قريبة من حدود الفرس وأخذ يغزو منها حدود الساسانيين، والقبائل العربية المقيمة في الأرضين الخاضعة للروم. فتمكن بذلك من بسط نفوذه وسلطانه على القبائل حتى بلغ ساحل البحر الأحمر، واستولى على جزيرة "إيوتابا" "iotabe"، وهي جزيرة مهمة كان الروم ينزلون فيها لجمع الضرائب من المراكب الذاهبة إلى المناطق الحارة أو الآيبة منها، فتصيب الحكومة أرباحًا عظيمة جدًّا. فلما استولى على تلك الجزيرة، صار يجيبها لنفسه، حتى صار غنيًّا جدًّا. كذلك حصل على ثروة عظيمة من الغنائم التي حصل عليها من غزوه للمواضع المجاورة لهذه الجزيرة والواقعة في العربية الحجرية وأعالي الحجاز2
__________
1 المشرق، السنة الثامنة، العدد 21، 1 تشرين الثاني - سنة 1905م، "ص1005"، شيخو، النصرانية وآدابها، "القسم الثاني، الجزء الثاني" "ص433 وما بعدها".
Migne, Patrol. Gree, Phot, Bibl. CIII, 46-47, Olinder, P. 114
2 Musil, Hegaz, P. 308(6/74)
وأراد "امرؤ القيس" "amorkesos"، بعد أن بلغ من النفوذ مبلغه، الاتصال بالروم، والتحالف معهم، والاعتراف به عاملًا رسميًّا على العرب الذين خضعوا له وعلى العرب المعترفين بسلطان الروم عليهم. ولذلك أرسل الأسقف "بطرس" أسقف قبيلته، ليكون رسوله إلى القيصر. وقد نجح هذا الأسقف في مهمته، وتوسط في دعوة "امرئ القيس" لزيارة القسطنطينية" فلما وصل إليها استقبل بها استقبالًا لائقًا ورحب به ترحيبًا حارًّا، ولا سيما بعد أن أعلن دخوله في النصرانية، فأنعم عليه القيصر بالهدايا والألطاف وعينه "عاملًا" "phylaechus" على تلك الجزيرة وعلى مواضع أخرى وعلى أعراب العربية الحجرية.
ثم عاد مكرمًا، بالرغم من أن معاهدة الصلح التي كانت بين الروم والفرس كانت قد حرمت دخول رؤساء الأعراب وقبائلهم النازحين من مناطق أحد الطرفين في أرضين الطرف الثاني1.
ويحتمل على رأي "إلويس موسل" أن يكون هذا الشيخ قد هاجر من "الوديان" و"الحجيرة" إلى "دومة الجندل" ومنها صار يغزو أعراب "العربية الحجرية"، والمناطق المجاورة لها من "فلسطين الثالثة" "palestina tertia" ويتوسع فيها حتى بلغ ساحل البحر، فتحكم في جزيرة "iotabe" المهمة التي كانت محطة تجارية خطيرة للاتجار مع الهند، وفي الطريق البري المهم الذي يربط ديار الشأم بالعربية الجنوبية، فحصل على سلطان واسع ونفوذ عظيم2.
ولعل هذه الجزيرة هي جزيرة "ainu" التي ذكرها "بطلميوس"، أخذ تسميته هذه من "حينو" "حاينو" "hainu" الاسم الذي كانت تعرف به عند الأنباط3. ويظن أنها جزيرة "تاران" "تيران". وذكر "ياقوت" أن سكانها قوم يعرفون بـ"بني جدان"4.
ويحدثنا "ثيوفانس" أن هذه الجزيرة كانت في عام "490" للميلاد في أيدي
__________
1 Musil, Hegaz, P. 306
2 Musil, Hegaz, P. 306
3 Musil, Hegaz, P. 307, Ptolemy, VI, 7, 43
4 البلدان "2/ 352" Musil, hegaz. P. 306(6/75)
الروم، استولى عليها حاكمهم "dux" على فلسطين بعد قتال شديد1. ويدل خبر هذا المؤرخ على أن الروم انتزعوا هذه الجزيرة من "امرئ القيس" أو من خلفائه بعد مدة ليست طويلة من استيلاء امرئ القيس عليها. ولعلهم استولوا عليها بعد وفاة هذا العامل على أثر نزاع وقع بين أولاده وورثته أضعف مركز الإمارة، فانتهز الروم هذه الفرصة وانتزعوا ما تمكنوا من انتزاعه من أملاك هذا الرئيس.
ويظن أن "nokalian" هو "النخيلة". و"النخيلة" موضع معروف قرب الكوفة على سمت الشام2، وهو موضع ينطبق عليه ما ذكره "ملخوس" من أنه كان في أرض كانت تحت نفوذ الفرس.
وكان يحكم هذه المنطقة في أيام "يوسطنيانوس" "justinianus" "joustinianus" رئيس يدعى "أبو كرب" "abochorabus"، وكانت له واحة خصبة مزروعة بالنخيل، وهبها إلى القيصر. فقبلها منه، وعينه رئيسًا "phylarchus" على أعراب "saracens" فلسطين. فحمى له الحدود من غزو الأعراب، ومنع اعتداء القبائل في الداخل. وذكر "بروكوبيوس" أن هناك أعرابًا آخرين كانوا يجاورون أعراب هذا الرئيس، يدعون بـ"maddeni" أي "معد"، يحكمهم "homeritae" أي الحميريون3. ويظهر من كلام هذا المؤرخ أن قبائل معد كانت في أيامه تابعة لحمير. ومعنى هذا أن نفوذهم كان قد أمتد في هذا العهد حتى بلغ أعالي الحجاز، وفي كلامه هذا تأييد لروايات الأخباريين الذين يتحدثون عن بلوغ التبايعة هذه الأماكن، وعن حروب وقعت بين العدنانيين والقحطانين.
وليس في الذي أورده "بروكوبيوس" أو "نونوسوس"، ما يثبت أن "قيسًا" هو "امرؤ القيس". ومجرد تشابه الاسمين لا يمكن أن يكون حجة على أنهما لمسمى واحد. ثم إن ما ذكره "نونوسوس" من أن "قيسًا" كان رئيسًا على قبيلتي "كندة" و"معد" لا يكون دليلًا على أنه كان حتمًا من "كندة" أو أنه كان حتمًا "امرأ القيس" الشاعر الذي يعرفه الأخباريون.
لذا فنحن لا نستطيع الجزم في الوقت الحاضر بتعيين هوية هذا الرئيس
__________
1 Theophanes, chronographiq, P. 121, Musil, Husil, Hegaz, P. 307
2 البلدان "8/ 276 وما بعدها". Blau., in zdmg , 22, 1868, s. 578
3 Procopius, De Bello Persico, I, 19, Musil, Hegaz, P. 307(6/76)
الفصل الأربعون: مملكة الغساسنة
مدخل
...
الفصل الأربعون: مملكة الغساسنة
وحكم عرب بلاد الشام في دولة البيزنطيين، عرب عرفوا بـ"آل غسان"، وبـ"آل جفنة" وبـ"الغساسنة" وقد استمر ملكهم إلى الإسلام. فلما فتح المسلمون بلاد الشأم، زالت حكومتهم، وذهب سلطانهم كما ذهب ملك "آل لخم" منافسوهم في العراق.
وقد نقلت كلمة "غسان" في زعم الأخباريين من اسم ماء يقال له "غسان"، ببلاد "عك" بزبيد وربيع، نزل عليه آل غسان، وأصلهم من الأزد، بعد خروجهم من اليمن قبيل حادث سيل العرم أو بعده، فلما أقاموا عليه وشربوا منه، أخذوا اسمهم منه، فسموا "غسان"1، وعرف نسلهم بالغساسنة وبـ"آل غسان".
ولم يحدد أهل الأخبار زمان حدوث سبيل العرم، وتهدم السد. لذلك لا نستطيع أن نستنبط شيئًا من رواياتهم عن هذا الحادث في تحديد وقت وصول الغساسنة إلى بلاد الشأم. وحادث تصدع السد لم يكن حادثًا واحدًا، حتى نعتبره مبدأ لتأريخ هجرة الأزد وغيرهم من قبائل اليمن نحو الشمال. فقد تصدع السد مرارًا ورم
__________
1 حمزة "ص76"، المروج "2/ 30"، القاموس "4/ 253"،
أما سألت فأنا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان
البرقوقي "ص413"، شرح ديوان كعب بن زهير لابن سعيد السكري، "ص32 وما بعدها"، "طبعة دار الكتب المصرية" الاشتقاق "ص259" ديوان حسان "ص" "هرشفلد".(6/77)
مرارًا. والذي يفهم من أقوال الأخباريين أن هذا التصدع كان قد وقع قبل الإسلام بزمن، وقد بقيت ذكراه عالقة في الذاكرة إلى أيام الإسلام.
وأما سبب تسميتهم بآل جفنة وبأولاد جفنة، فلانتسابهم إلى جد أعلى يدعونه "جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر" على رأي1، أو إلى "جفنة" قبيلة من غسان من اليمن2. ويذكر "ابن دريد" أن "جفنة" إما من "الجفنة" المعروفة، أو من "الجفن"، وهو "الكرم"، وجفن السيف وجفن الإنسان. ويذكر أن المثل المشهور بين الناس: "وعند جهينة الخبر اليقين"، هو خطأ تقوله العامة، وأن صوابه: "وعند جفينة الخبر اليقين"3.
ولم نظفر حتى الآن باسم غسان في نصوص المسند. كذلك لم نظفر به في الأرضين التي عدها الأخباريون في جملة ممتلكات هذه القبيلة.
ويزعم الأخباريون أن الذي قاد الغساسنة في خروجهم من اليمن، هو عمرو المعروف بـ"مزيقيا"، وهو ابن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث4. ولهم في نسبه على هذا النحو من ذكر الآباء والأجداد والألقاب أقوال وحكايات5.
وروى "ابن قتيبة الدينوري" أن "عمرو بن عامر مزيقياء" لما خرج من اليمن في ولده. وقرابته ومن تبعه من الأزد، أتوا بلاد عك، وملكهم "سملقة" "سلمقة"، وسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام حتى يبعثوا من يرتاد لهم المنازل ويرجعوا إليهم، فأذنوا لهم. فوجه عمرو بن عامر ثلاثة من ولده: الحارث بن عمرو، ومالك بن عمرو، وحارثة بن عمرو، ووجه غيرهم روادًا فمات عمرو بن عامر بأرض عك قبل أن يرجع إليه ولده ورواده، واستخلف ابنه ثعلبة بن عمرو، وأن رجلًا من الأزد يقال له جذع بن سنان احتال في قتل سلمقة "سملقة"،
__________
1
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
شرح ديوان حسان بن ثابت، "إخراج البرقوقي" "طبع المطبعة الرحمانية" القاهرة 1929 م "ص309" شمس العلوم "ج1 ق1 ص342"، اللسان "13/ 91"، "جفن"
2 شمس العلوم، "ج 1 ق 1 ص342".
3 الاشتقاق "ص259"، اللسان "13/ 91"، "صادر"، "ج ف ن".
4 حمزة "ص77".
5 مروج "2/ 30".(6/78)
ووقعت الحرب بينهم، فقتلت عك أبرح قتل وخرجوا هاربين، فعظم ذلك على ثعلبة بن عمرو، فحلف أن لا يقيم، فسار ومن اتبعه حتى انتهوا إلى مكة وأهلها يومئذ جرهم، وهم ولاة البيت، فنزلوا بطن مر وسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام معهم، فقاتلتهم جرهم، فنصرت الأزد عليهم، فأجلوهم عن مكة، ووليت خزاعة البيت، فلم يزالوا ولاته حتى صار "قصي" إلى مكة، فحارب خزاعة بمن تبعه، وأعانه قيصر عليها، وصارت ولاية البيت له ولولده، فجمع قريشًا، وكانت في الأطراف والجوانب، فسمي مجمعًا، وأقامت الأزد زمانًا1.
فلما رأوا ضيق العيش شخصوا، فصار بعضهم إلى السواد، فملكوا بها. منهم "جذيمة بن مالك بن الأبرش" ومن تبعه وصار قوم إلى عمان وصار قوم إلى الشأم، فهم "آل جفنة" ملوك الشأم. وصار جذع بن سنان قاتل سلمقة إلى الشأم أيضًا، وبها سليح، فكتب ملك سليح إلى قيصر يستأذنه في إنزالهم، فأذن له على شروط شرطها لهم. وأن عامل قيصر قدم عليهم ليجيبهم فطالبهم وفيهم جذع، فقال له جذع خذ هذا السيف رهنًا أن نعطيك. فقال له العامل: اجعله في كذا وكذا من أمك، فاستل جذع السيف فضرب به عنقه. فقال بعض القوم: خذ من جذع ما أعطاك، فذهبت مثلًا.
فمضى كاتب العامل إلى قيصر فأعلمه، فوجه إليهم ألف رجل وجمع له خذع من الأزد من أطاعه، فقاتلوهم فهزموا الروم، وأخذوا سلاحهم، وتقووا بذلك، ثم انتقلوا إلى يثرب وأقام بنو جفنة بالشام وتنصروا. ولما صار جذع إلى يثرب وبها اليهود، حالفوهم، وأقاموا بينهم على شروط فلما نقضت اليهود الشروط، أتوا تبعًا الآخر، فشكوا إليه ذلك، فسار نحو اليهود حتى قتل منهم وأذلهم، وصار الأمر في يثرب للأزد2.
وللأخباريين تفاسير في سبب تلقيب عمرو بن عامر بمزيقياء. وقد ذكر "حمزة" بعض الآراء الواردة في ذلك، فقال: "وتزعم الأزد أن عمرًا إنما سمي مزيقياء لأنه كان يمزق كل يوم من سني ملكه حلتين لئلا يلبسهما غيره، فسمي هو مزيقياء، وسمي ولده المزاقية. فهذا قول وقيل: إنما سمي مزيقيا؛ لأن الأزد
__________
1 المعارف "ص640"، "تحقيق ثروت عكاشة".
2 المعارف "ص278 وما بعدها"، "640"، "تحقيق ثروت عكاشة".(6/79)
تمزقت على عهده كل ممزق عند هربهم من سيل العرم، فأتخذت العرب افتراق الأزد عن أرض سبأ بسيل العرم، فقالوا: "ذهبت بنو فلان أيادي سبأ"1. ومال "نولدكه" إلى هذا التفسير الأخير، فرأى أنه مأخوذ من الآية: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} 2.
ويظهر أن الغساسنة اخترعوا أسطورة تمزيق الثياب، للإشارة إلى غنى جدهم "عمرو" واقتداره3. وأما ما ذهب إليه "نولدكه"، فهو في نظري نوع من الظن، استخرجه من هذا التفسير الثاني الذي رواه الأخباريون في تفسير الكلمة الخاص بتفرق الأزد عن أرض سبأ لحدوث السيل.
وقد زعم أنه نزح معهم من اليمن قومهم من الأزد، فنزل المدينة رهط "ثعلبة العنقاء بن عمرو بن عامر ومنهم الأوس والخزرج، ونزل مكة رهط حارثة بن عمرو بن عامر، وهم خزاعة، ونزل جفنة بن عمرو. بن عامر بالشام، وهم الغساسنة ونزل لخم في العراق ومنهم المناذرة أو آل نصر"4. فوصل أهل الأخبار بذلك تأريخ خزاعة والأوس والخزرج وآل لخم بآل غسان. وجعلوا ابتداء ظهورهم في أماكنهم منذ ذلك العهد، أي منذ وقوع حادث "سيل العرم".
وقد روى الأخباريون في ذلك شعرًا لنفر من الأنصار، ورد فيه انتساب أهل يثرب إلى "عمرو بن عامر"، واتصال نسبهم بنسب غسان. ومن ذلك شعر للشاعر الأنصاري المعروف "حسان بن ثابت"، يقول فيه:
أَلَم تَرَنا أَولادَ عَمروِ بنِ عامِرٍ ... لَنا شَرَفٌ يَعلو عَلى كُلِّ مُرتَقي5
ومن ذلك شعر زعم أن قاتله أحد الأنصار هو:
أنا ابن مزيقيا عمرو، وجدي ... أبوه عامر ماء السماء6
__________
1 حمزة "ص77"، "وهو مزيقياء. كان يمزق كل يوم حلة لئلا يلبسها أحد بعده"، الاشتقاق "ص258".
2 سورة سبأ، 34، الآية 18، نولدكه: أمراء غسان، "ص3"، ملحوظة 1 "الترجمة العربية".
3 أمراء غسان "ص3 وما بعدها"، "ص5" من النص الألماني.
4 شرح ديوان حسان، للبرقوقي "ص286".
5 البرقوقي "ص286".
6 شرح ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، للبرقوقي "ص286".(6/80)
فالأنصار، أي أهل يثرب، وهم من الأوس والخزرج، هم من الدوحة التي أخرجت الغساسنة، وقد ظهر تأريخهم من يثرب بعد حادث سيل العرم في نحو ما رأيت.
وافتخار أهل يثرب بآل جفنة يزيد كثيرًا على افتخارهم بآل لخم، مع أنهم على حد قولهم من أصل واحد، وقد افترقوا جميعًا في وقت واحد، وهم في درجة واحدة من القرابة، ونجد لحسان بن ثابت شعرًا في الغساسنة، هو أضعاف ما قاله في المناذرة. ويظهر أن لقرب الغساسنة من يثرب، وللمصالح الاقتصادية وللهبات والعطايا التي كان ينالها حسان وأمثاله من الغساسنة بيسر وسهولة، لقربهم منهم، أثر كبير في هذا المدح والتعصب لغسان على آل لخم.
وأما عن نعت عامر بماء السماء. فقال حمزة: "إنه إنما سمي ماء السماء لأنه أصابت الأزد مخمصة، فمانهم حتى مطروا، فقالوا: عامر لنا بدل ماء السماء"1.
وقد عرف أشخاص آخرون بـ"ماء السماء" من غير غسان، منهم "المنذر بن امرئ القيس اللخمي" و"ماء السماء بن عروة" من ملوك "الحيرة" على زعم "ابن الكلبي"2. وقد نعت "حسان بن ثابت" الغساسنة الذين جاءوا من بعده بـ"أولاد ماء المزن". و"المزن = المطر". يريد بذلك "أولاد ماء السماء"، أي: "بني ماء السماء"، وماء السماء هو المطر، وذلك كناية عن الجود والكرم والإغاثة. والمطر هو غوث للناس ورحمة والجود هو غوث لمن يجاد عليه، فهو بمنزلة المطر للأرضين. فقصد الشاعر بذلك أن "آل غسان". للناس بمنزلة المطر للأرض. وقد يكون جد الغساسنة قد عرف بكرمه وسخائه، فنعت بهذا النعت الدال على السخاء والجود. ولا أستبعد أن تكون هذه النعوت من النعوت التي أطلقها الشعراء على المذكورين، فلازمتهم حتى اليوم3.
ونسب آل غسان إلى جد آخر، يعرف بـ"ثعلبة". وقد أشير إلى "عرب الروم من آل ثعلبة"4. وقد ذكر "محمد بن حبيب"، أن رئيس غسان
__________
1 حمزة "ص77" "مانهم، أي احتمل مؤنتهم، أي قوتهم حتى يأتيهم الخصب"، البرقوقي "ص287".
2 المحبر "ص365".
3
كخفنة والقمقام عمرو بن عامر ... وأولاد ماء المزن وابني محرق
البرقوقي "ص287".
4 غسان "ص4".(6/81)
الذي قضى على "الضجاعمة"، وانتزع الملك من "سليح"، هو "ثعلبة" ابن عمرو بن المجالد بن عمرو بن عدي بن مازن بن الأزد1. ومن نسله كان ملوك غسان، فهو أذن "ثعلبة" المذكور.
ويظهر من روايات الأخباريين أن الغساسنة أخذوا الحكم بالقوة من أيدي عرب كانوا يحكمون هذه المنطقة قبلهم، ويدعون بـ"الضجاعمة"، وهم من "سليح بن حلوان"2.
وبنو سليح، هم عرب ينسبهم النسابون إلى "سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة"3. وقد نسبهم "ابن دريد" إلى "سليح بن عمران بن الحاف"، وجعل لـ"سليح" شقيقًا هو "تزيد" جد "التزيديين"4.
ونسبهم "السكري" إلى "سليح بن عمرو بن الحاف بن قضاعة"5. ولكن اختلاف النسابين هذا في نسبهم، يقف عند نهاية سلاسل النسب، إذ تنتهي هذه النهاية في "قضاعة" حيث يتفق الكل أن "سليحًا" هم من قضاعة. أما صاحب كتاب المعارف، فقد جعل سليحًا من غسان، إلا أنه عاد فاستدرك على ذلك بقوله: "ويقال من قضاعة"6.
وقد ذكر أهل الأخبار أن "بني سليح" بقوا في بلاد الشأم، إذ ذكروهم في أخبار الفتوح، وكانوا في جملة من أقام على النصرانية من عرب الشأم. وقد أسلم قسم منهم، وكانوا في "قنسرين" في أيام المهدي7.
ومن ملوك سليح الذين ذكرهم الأخباريون زياد بن الهبولة ملك الشأم، جعلوه من معاصري حجر بن معاوية بن الحارث الكندي آكل المرار، وذكروا أنه سمع بغارة قام بها حجر على البحرين، فسار إلى أهل حجر ومن تركهم، فأخذ الحريم والأموال وسبى منهم هند بنت ظالم بن وهب بن الحرث بن معاوية. فلما سمع
__________
1 المحبر "ص371".
2 حمزة "ص76 وما بعدها".
3 حمزة "ص76 وما بعدها"، الإكليل "1/ 182".
4 الاشتقاق "2/ 314".
5 المحبر "ص370".
6 المعارف "ص278"، "أول من دخل الشام من العرب: سليح، وهو من غسان، ويقال من قضاعة"، "ص640، "تحقيق ثروت عكاشة".
7 فتوح البلدان، للبلاذري "ص152" "طبعة القاهرة: 190".(6/82)
حجر وكندة وربيعة بغارة زياد، عادوا عن غزوهم في طلب ابن هبولة، ومع حجر أشرف ربيعة: عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، وعمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وغيرهما. فأدركوا قوم زياد بـ"البردان" دون عين أباغ، فحمل أتباع حجر على أتباع "ابن الهبولة"، فانهزموا، ووقع زياد أسيرًا ثم قتل1.
وتذكر رواية أن "حجرًا" أرسل "سدوس بن شيبان" و"صليع بن عبد غنم" إلى عسكر "زياد" يتجسسان له الخبر، ويعلمان علم العسكر، ثم عادا فأخبره، فسار على جيش ابن الهبولة، واقتتلوا قتالًا عنيفًا، فشد "سدوس" على زياد واعتنقه وصرعه، وأخذه أسيرًا، فلما رآه "عمرو بن أبي ربيعة" حسده فطعن زيادًا فقتله، فغضب سدوس لأنه قتل أسيره، وطالب بديته، ودية الملوك، فتحاكما إلى حجر، فحكم على عمرو وقومه لسدوس بدية ملك، وأعانهم من ماله2.
ويقتضي على هذه الرواية أن يكون ملك "زياد بن الهبولة" في وقت متأخر إذ لا ينسجم هذا القول مع ما يذكره أهل الأخبار من أن ملك "بني سليح" كان قبل الغساسنة3. ولو أخذنا بالخبر المتقدم، وجب علينا القول بأن زيادًا كان يحكم في أيام الغساسنة لا قبل ذلك.
وقد ذكر "ابن الأثير" أن "زياد بن هبولة" لم يكن ملكًا على الشأم؛ لأن ملوك سليح كانوا بأطراف الشأم مما يلي البر من فلسطين إلى قنسرين والبلاد للروم، ولم تكن سليح ولا غسان مستقلين بملك الشأم ولا بشبر واحد، وزياد بن هبولة السلخي أقدم من حجر آكل المرار بزمان طويل. ولم يكن زياد آخر ملوك سليح. ثم خلص من قوله برأي توفيقي، بأن افترض أن زياد بن هبولة المعاصر لحجر كان رئيسًا على قوم أو متغلبًا على بعض أطراف الشأم، فهو غير ذلك الملك المذكور4.
__________
1 ابن الأثير "1/ 208"، حمزة "ص92"، الأغاني "15/ 82"، أيام العرب "42".
2 أيام العرب "45".
3 ابن الأثير "1/ 208".
4 أيام العرب "45".(6/83)
وقد تحدث "أبو عبيدة" عن ذلك اليوم، ولم يذكر ان ابن هبولة من سليح بل قال: هو غالب بن هبولة ملك من ملوك غسان1.
وقد تحدثت بعض الروايات عن "زياد بن هبولة" على هذا النحو: "منهم داود اللثق بن هبالة بن عمرو بن عوف بن ضجعم، كان ملكًا، ومنهم زياد بن هبالة بن عمرو بن عوف بن ضجعم، وكان ملكًا، وهو الذي أغار على حجر آكل المرار. وهو محرق، وكان أول من حرق بالنار"2. فجعلت والد زياد رجلًا اسمه "هبالة"، وجعلت "داود اللثق" شقيقًا له. أما الروايات الشائعة، فتجعل "داود اللثق" ابنًا لـ"هبالة" أي أنه أخو "هبولة بن عمرو بن عوف"، فهبولة على هذا وهبالة أخوان، وزياد وداود ابنا عم3.
وأما ملوك "سليح" على رواية "ابن قتيبة الدينوري"، فهم: "النعمان بن عمرو بن مالك"، وقد عينه ملك الروم على قومه -على حد قوله- بعد أن دانوا بالنصرانية، ثم مالك وهو ابنه، ثم "عمرو"، وهو ابن مالك.
قال: ولم يملك منهم غير هؤلاء الثلاثة. إذ انتقل الملك من بعد "عمرو" إلى الغساسنة4.
ونسب الأخباريون "الضجاعمة" إلي "بني ضجعم بن حماطة بن سعد بن سُليح بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة"5. فهم على هذا النسب، ومن "بني سليح" ومن قبايل قضاعة، وقد حكموا بعد حكم "بني سليح".
ونسب بعض الأخباريين "ضجعم" إلى "سعد بن سليح"، أي بإسقاط اسم "حماطة" من النسب، بأن جعلوا "سعد بن سليح" والدًا لضجعم. وقد ذكروا أن منهم "داود اللثق بن هبولة بن عمرو" وهو شقيق "زياد بن هبولة" المذكور. وذكر بعض منهم أن "داود بن هبولة" هو شقيق "هبالة بن عمرو بن عوف بن ضجعم"6.
__________
1 أيام العرب "45".
2 الاشتقاق "2/ 319".
3 الاشتقاق "2/ 319".
4 المعارف "ص278 وما بعدها"، "ص640"، ثروت عكاشة".
5 المحبر "ص370"، الاشتقاق "2/ 319"، ابن خلدون "2/ 279"، حمزة "76"، غسان "6"، الإكليل "1/ 182".
6 الاشتقاق "2/319".(6/84)
ويظهر أن "داود اللثق" كان قد اعتنق النصرانية. وكان قد عمل للروم. وإليه ينسب "دير داود" "دير الداود"1.
ويظهر من بعض الروايات عن "زياد بن هبولة" الذي حارب. "حجرًا آكل المرار"، كان أخًا لـ"داود". ويظهر من روايات أخرى أنه كان ابن عم له2. وإذا أخذنا برواية من زعم أن "زيادًا" هذا حارب "حجرًا أكل المرار"، فمعنى هذا أن "جفنة"، وهو مؤسس إمارة آل جفنة، أي الغساسنة، قد حكم بعد "زياد". وقد زعم "حمزة" أن ملكًا من ملوك الروم اسمه "نسطورس" هو الذي ملك جفنة على عرب الشام3. وذهب بعض أهل الأخبار إلى أن القيصر الذي عين "جفنة" على عرب الشام هو "أنسطاسيوس" "anastasius" الأول، الذي حكم من سنة "491" حتى سنة "518" للميلاد. فتكون نهاية حكم الضجاعمة وبداية حكومة "آل جفنة" في هذا العهد4.
و"ضجعم" هو "zocomus" أحد "العمال" "phylarch" الذي نصبهم الروم على عرب بلاد الشأم، حرف اسمه فصار على الشكل المذكور، وقد حكم في أواخر القرن الرابع للميلاد. وقد ذكره "ثيوفلكتوس" "theophlactus" على هذه الصورة5: "zeokomos"، وذكر أنه هو وقبيلته دخلوا في النصرانية وأن الله وهبه ولدًا بفضل دعاء النساك النصارى6.
وقد كان الضجاعم من القبائل العربية المعروفة عند ظهور الإسلام. وقد كانوا مثل سائر القبائل المستعربة المستنصرة ضد الإسلام. وقد وقفوا مع "دومة الجندل" في عنادهم ومقاومتهم لخالد بن الوليد، وكان رئيسهم إذ ذاك هو "ابن الحدرجان"7. لقد أشار المؤرخون اليونان والسريان إلى ملكة عربية دعوها "ماوية" "mauia" "mavia" "mawiya"، حكمت القبائل العربية الضاربة في بلاد الشأم، وهاجمت
__________
1 Die Araber, II, S. 331
2 الاشتقاق "2/ 319"، ابن الأثير "1/ 372"، ابن خلدون "2/ 278".
3 حمزة "ص77".
4 die araber, ii, s. 332
5 Sozomenus, VI, 38, Teophylactus, 2, 2, Die Araber, II, S. 330
6 غسان "ص6"، "ص8" من النص الألماني.
Zosimus, 6, 38, Socrates, 4, 30, Rufinius, II, 6, Theodoretus, 40, 21
7 الطبري "3/ 378" "خبر دومة الجندل".(6/85)
فلسطين و"فينيقية"، ويظهر أن هذا الهجوم كان قد حدث بعد ترك القيصر "وألنس" "valens" "364-378م" أنطاكية وذلك سنة "378م"1 وقد حاربت الروم مرارًا، وانتصرت غير مرة، ثم تصالحت معهم. وكان من جملة ما اشترطته عليهم أن يسقف على عربها راهب يدعى موسى كان يتعبد في بادية الشأم، فوافق القيصر على ذلك. وكان هذا الراهب كاثوليكيًا معارضًا لمذهب أريوس2.
ويذكر المؤرخون أن غارات تلك الملكة على حدود الروم، كانت عنيفة كاسحة، أنزلت الدمار والخراب بقرى وبمدن عديدة، وألحقت خسائر فادحة بالأرواح والمال. وقد شملت تلك الغارات أرض فلسطين و"الحدود العربية" "arabici limites". وتذكر أن عربها كانوا من الـ"سارسين" "سرسين"3 "saracene".
وقد وليت "ماوية" الحكم بعد وفاة زوجها، ويظهر أن نزاعًا وقع بينها وبين الروم أدى إلى توتر العلاقات بينهما، آل إلى هجوم الملكة على حدود الروم. ولما عجز الروم من الانتصار عليها، استعانوا ببعض سادات القبائل للتغلب عليها، ولما وجدوا أن القبائل لم تفعل شيئًا، اضطروا على التفاوض معها، وعلى ترضيتها على نحو ما ذكرت4.
وقد قام موسى "moses" بنشاط كبير في نشر النصرانية بين العرب. وقد كان من مصلحة الروم تنصر الأعراب؛ لأن في تنصرهم تأييدًا لهم، حتى وإن خالف مذهبهم مذهب الروم5.
وقد حكم قبل "ماوية" "عامل" عربي أشار إليه المؤرخ "أميانوس" "ammianus"، غير أنه لم يذكر اسمه، قال إنه "assanitarum" وإنه من "السرسين"6، "phylarchus saracenorum assanitarum"، وقد حكم
__________
1 Provincia Arabia, III, S. 286, Theophanes, 64, (Ed. De Boor) , Socrates, IV 36, Sozomenus, VI, 38 Eusebios, 2, 2,
2 المشرق، السنة العاشرة، العدد 11، حزيران، 1907، "ص524"، theodoretus, 4, 21. socrates, hist. eccl,4 , 36
3 Die Araber, II, S. 328
4 Die Araber, II, S. 328
5 Die Araber, II, S. 328
6 Ammianus, 24, 4, 2, Provincia Arabia, III, S. 286(6/86)
في أيام "يوليان" جوليان" "julian" "361-363 م". ويظن البعض أن مراد المؤرخ بـ"أسانيته" "assanitae" الغساسنة، أي أن الكلمة من أصل "غسان"1.
غير أن هذا الظن معناه أن حكم الملكة "ماوية"، كان في أيام الغساسنة، وأنها أزعجت الروم في وقت كان فيه "آل جفنة" على عرب بلاد الشأم. وهذا ما لا تؤيده الموارد التأريخية المتوفرة لدينا الآن. لذلك أرى أن حكم "ماوية" كان قبل تولي "الغساسنة" الحكم رسميًّا من الروم، أو أن الملكة كانت تحكم في الأقسام الجنوبية من بادية الشأم، ومنها أخذت تهاجم حدود الروم المؤلفة لكورة فلسطين، وتتوغل بها حتى بلغت "فينيقة" و"مصر"، ولم يكن حكم الغساسنة متمكنًا إذ ذاك، فاستغلت هذا الضعف، وأخذت تهاجم الحدود.
وزعم المسعودي أن ملك العرب بالشأم يعود إلى أيام "فالغ بن هور" فالغ بن يغور". وقد صيره من صميم أهل اليمن. ملك ثم ترك الحكم إلى "يوتاب" سومات"، وهو "أيوب بن رزاح". ثم انتقل ملك الشأم على رأيه أيضًا إلى الروم. وكانت قضاعة من مالك بن حمير أول من نزل الشأم، وانضافوا إلى ملوك الروم، فملكوهم بعد أن دخلوا في النصرانية على من حوى الشام من الرعب. وكان النعمان بن عمرو بن مالك أول من تولى من تنوخ بالشأم. ثم ملك بعده عمرو، ثم "الحواري بن النعمان" ثم انتقل الملك إلى سليح. وانتقل الملك منهم إلى آل غسان2.
وقد كانت سليح -كما يذكر الأخباريون- يجبون من نزل بساحتهم من مضر وغيرها للروم. فأقبلت غسان في جمع عظيم يريدون الشأم حتى نزلوا بهم، فقالت سليح لهم: إن أقررتم بالخرج، وإلا قاتلناكم. فأبوا عليهم، فقاتلهم سليح، فهزموا غسان. ورئيس غسان يومئذ "ثعلبة بن عمرو بن المجالد بن عمرو بن عدي بن مازن بن الأزد". فرضيت غسان بأداء الخرج إليهم. فكانوا يجبونهم لكل رأس دينارًا، ودينارًا ونصفًا، ودينارين في كل سنة على أقدارهم فلبثوا يجبونهم حتى قتل "جذع بن عمرو الغساني" جابي سليح، وهو سبيط بن المنذر بن عمرو
__________
1 Musil, Kusegr 'Amra, Wien, 1907, P. 130
2 مروج "2/ 29 وما بعدها"، "2/ 82 وما بعدها"، "طبعة دار الأندلس".(6/87)
ابن عوف بن ضجعم بن حماطة. فتنادت سليح بشعارها وتنادت غسان بشعارها.
فالتقوا بموضع يقال له "المحفف"، فأبارتهم غسان، وخاف ملك الروم أن يميلوا مع فارس عليه، فأرسل إلى ثعلبة، فقال: أنتم قوم لكم بأس شديد وعدد كثير، وقد قتلتم هذا الحي، وكانوا أشد حي في العرب وأكثرهم عدة وإني جاعلكم مكانهم، وكاتب بيني وبينكم كتابًا: إن دهمكم دهم من العرب أمددتكم بأربعين ألف مقاتل من الروم بأداتهم، وإن دهمنا دهم من العرب فعليكم عشرون ألف مقاتل على أن لا تدخلوا بيننا وبين فارس. فقبل ذلك ثعلبة، وكتب الكتاب بينهم. فملك ثعلبة وتوجه. وكان ملك الروم يقال له "ديقيوس"1.
وقد تحدث الأخباريون وأصحاب كتب الأمثال عن هذا الحادث في معرض كلامهم عن المثل: "خذ من جذع ما أعطاك". وقد اتفقوا كلهم في اسم القائل، هو منصوص عليه في المثل، ولكنهم اختلفوا في اسم المقتول، فقال بعضهم إنه سبيط، وقال آخرون: إنه سبطة2، ويقول بعض آخر: إنه كان رجلًا من الروم3.
وقد زعم بعض أهل الأخبار، إن اليوم الذي انتصر فيه الغساسنة على الضجاعمة هو "يوم حليمة" وذلك أن الحرب لما ثارت بين الضجاعمة والغساسنة للسبب الذي ذكرته، وقالوا "خذ من جذع ما أعطاك"، كان لرئيس غسان ابنة جميلة يقال لها "حليمة"، فأعطاها خلوفًا لتخلق به قومها، وانتصر الغساسنة بذلك اليوم على الغساسنة. فقالوا: "ما يوم حليمة بسر"4.
ونسب ابن خلدون "سبطة" القتيل إلى المنذر بن داود5، ويظهر أنه قصد "داود اللثق". وإلى داود ينسب دير داود، وذلك يدل على أنه كان نصرانيًّا6، كما أشرت إلى ذلك قبل قليل.
وعندي أن "سبطة" هو "aspehetos" "aspehbet" "aspatylatos"،
__________
1 المحبر "ص370 وما بعدها"، حمزة "ص76".
2 ابن خلدون "2/ 279".
3 اليعقوبي "1/ 167" "طبعة النجف".
4 البلدان "2/ 325 وما بعدها" "طهران 1965م".
5 ابن خلدون "2/ 279".
6 غسان "ص7"، الأصل الألماني "ص8".(6/88)
الذي قيل إنه كان عاملًا "فيلارك" "phylarch" عربيًّا من عمال الفرس، فأغار على "الكورة العربية" "arabia provincia"، وذلك في أواسط القرن الخامس للميلاد، وأعلن نفسه عاملًا على الأرضين التي استولى عليها، واعترف به وبأبنائه عمالًا عليها1.
وزعم المؤرخ حمزة أن أول ملك ملك من غسان هو جفنة بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث. وقد زعم أنه ملك في أيام نسطورس، وهو الذي ملكه على عرب الشأم. فلما ملك، قتل قضاعة من سليح الذين يدعون الضجاعمة، ودانت له قضاعة ومن بالشام من الروم، وبني جلق والقربة وعدة مصانع، ثم هلك. وكان ملكه خمسًا وأربعين سنة وثلاثة أشهر2.
وقد ابتدأ "حسان بن ثابت" بجفنة هذا في قصيدته التي افتخر فيها بنسبة3.
وبجفنة هذا سمي ملوك الغساسنة "آل جفنة"، كما سمي خصومهم "المناذرة" بـ"آل لخم". إلى هذا الرأي ذهب "الأصمعي"، حيث قال: "وجفنة أول ملك ملك من غسان، وإليه تنسب ملوك غسان التي ذكرها حسان بن ثابت الأنصاري في شعره"4. وقد نسب الأصمعي له وصية زعم أنه أوصى بها بنيه في كيفية السير بالناس، وتسيير الملك5.
وعند المسعودي أن أول من ملك من بني غسان بالشأم الحارث بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن غسان بن الأزد بن الغوث، ومن بعده الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو بن عامر بن حارثة، وهو ابن مارية
__________
1 Provincia Arabia, III, S. 286, Euthymili Vita, Ed: Cotelerius, Ecclesiae Graeca Monumenta, II, P. 221
2 حمزة "ص76"، "جفنة بن علية بن عمرو بن عامر"، اليعقوبي "1/ 167" "طبعة النجف" "جفنة بن مزيقيا"، ابن خلدون "2/ 281"، شرح ديوان النابغة الذبياني، للبطليموس "ص6"، التنبيه "ص158".
3
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
الأصمعي، تأريخ ملوك العرب الأولية، "ص102"، "محمد حسن آل ياسين"
كجفنة والقمقام عمرو بن عامر ... وأولاد ماء المزن وابني محرق.
البرقوقي "ص287".
4 الأصمعي، تاريخ ملوك العرب الأولية "ص102".
5 المصدر نفسه "ص101".(6/89)
ذات القرطين1. أما ابن قتيبة، فذهب إلى أن أول من ملك منهم هم الحارث بن عمرو المعروف بـ"محرق". وسمي بمحرق لأنه أول من حرق العرب أو ديارها، وهو الحارث الأكبر ويكنى بأبي شمر2.
وقد ذكر ابن دريد أن الحارث بن عمرو بن عامر، "وهو محرق، وهو أول من عذب بالنار"3. فأيد بذلك رواية من يرى أنه أول من عذب وحرق الناس بالنار.
وذهب "محمد بن حبيب" إلى أن أول من ملك من الغساسنة بالشأم هو "ثعلبة بن عمرو بن المجالد بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد"، وذلك بعد فتك "جذع" بالضجاعمة فعهد إليه ملك الروم "ديقيوس" أمر تولي رئاسة عرب بلاد الشأم، وملكه وتوجه، فصار بذلك أول ملك من ملوك غسان4، على نحو ما ذكرته قبل قليل.
و"جفنة" الذي صيره حمزة أول من ملك من غسان، هو "جفنة بن عمرو، وهو مزيقيا بن عامر ماء السماء". وقد نجل عمرو بن عامر على رواية ابن خلدون، جملة أولاد، منهم: جفنة، والحارث وهو محرق، وثعلبة وهو العنقاء "العنقاه"، وحارثة، وأبو حارثة، ومالك، وكعب، ووادعة، وعوف، وذهل، وواكل5. فيكون جفنة على هذه الرواية أخًا للحارث بن عمرو الذي عده المسعودي وابن قتيبة أول من تملك من الغساسنة في ديار الشأم.
وتولى الحكم بعد جفنة على رواية حمزة ابنه عمرو بن جفنة، وكان ملكه خمس سنين. ونسب حمزة إليه بناء عدة أديرة، منها: دير حالي، ودير أيوب. ودير هند6.
أما "الأصمعي" فقد أورد اسم "الحارث بن جفنة بن ثعلبة بن عمرو"، بعد اسم "جفنة". وقال عنه "وهو الحارث الأكبر" ثم ذكر له وصية وصى
__________
1 مروج "1/ 298" "طبع المطبعة البهية".
2 المعارف "ص280"، "ولد عمرو بن عامر الحارث، وهو محرق. وهو أول من عذب بالنار"، الاشتقاق "ص259".
3 الاشتقاق "ص259".
4 المحبر "ص371 وما بعدها".
5 ابن خلدون "2/ 279"، الاشتقاق "259".
6 حمزة "ص77".(6/90)
بها ابنه "عمرو بن الحارث" وهو وصية نظمها شعرًا. وقد قال له فيها إن هذه الوصية هي وصية أبي لي، وبها يا عمر أوصي وفيها الملك مرسوم1.
وأما "محمد بن حبيب"، الذي جعل ثعلبة أول من ملك من الغساسنة، فقد جعل الحكم للحارث بن ثعلبة من بعده، ثم لابنه جبلة بن الحارث بن ثعلبة، ثم لابنه الحارث، وهو ابن مارية ذات القرطين، ثم للنعمان بن الحارث ثم للمنذر بن الحارث ثم للمنيذر بن الحارث، ثم لجبلة بن الحارث2.
وأما "ابن قتيبة"، الذي جعل "الحارث بن عمرو بن محرق" أول ملوك آل غسان، فقد وضع "الحارث بن أبي شمر" من بعده. وقال: إنه الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر، وأمه مارية ذات القرطين. وكان خير ملوكهم، وأيمنهم طائرًا، وأبعدهم مغارًا. وكان غزا "خيبر"، فسبى من أهلها، ثم أعتقهم بعد ما قدم الشأم. وكان سار إليه المنذر بن ماء السماء في مائة ألف، فوجه إليهم مائة رجل، فيهم لبيد الشاعر وهو غلام، وأظهر أنه إنما بعث بهم لمصالحته، فأحاطوا برواقه فقتلوه، وقتلوا من معه من الرواق، وركبوا خيلهم فنجا بعضهم وقتل بعض وحملت خيل الغسانيين على عسكر المنذر فهزموهم، وكانت له بنت يقال لها "حليمة" كانت تطيب أولئك الفتيان يومئذ وتلبسهم الأكفان والدروع وفيها جرى المثل: "ما يوم حليمة بسر". وكان فيمن أسر يومئذ أسارى من بني أسد، فأتاه النابغة، فسأله إطلاقهم، فأطلقهم، وأتاه علقمة بن عبدة في أسارى بن بني تميم، فأطلقهم إكرامًا لشأنه. وفي جملة من أطلق حريتهم شأس بن عبدة شقيق علقمة3.
وروى "ابن قتيبة" أيضًا أن "علقمة بن عبدة" قال في "الحارث بن أبي شمر" هذه الأبيات:
إلى الحارث الوهاب أعلمت ناقتي ... بكلكلها، والقصرين وجبيب
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
فقال الحارث: نعم وأذنبة4.
__________
1 الأصمعي، تاريخ "103وما بعدها".
2 المحبر "ص372".
3 المعارف "ص280"، "ص614 وما بعدها"، "طبعة ثروت عكاشة".
4 المعارف "ص280"، "ص641 وما بعدها"، "ثروت عكاشة".(6/91)
وزعم "ابن قتيبة" أن الذي ولي الملك بعد "الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر"، هو ابنه "الحارث بن الحارث بن الحارث" ويسميه بالحارث الأصغر ابن الحارث الأعراج بن الحارث الأكبر. وكان له إخوة، منهم: النعمان بن الحارث، يقول، وهو الذي قال فيه النابغة:
هَذا غُلامٌ حَسَنٌ وَجههُ ... مُستَقبِلُ الخَيرِ سَريعُ التَمام
لِلحرثِ الأَكبَرِ وَالحرثِ الأَصغَرِ ... والحرثِ َالأَعرَجِ خَير الأَنام
وله يقول النابغة أيضًا، وكان خرج غازيًا:
وَإِن يَرجِعِ النُعمانُ نَفرَح وَنَبتَهِج ... وَيَأتِ مَعَدًّا مُلكُها وَرَبيعُها
وَيَرجِع إِلى غَسّانَ مُلكٌ وَسُؤدُدٌ ... وَتِلكَ المُنى لَو أَنَّنا نَستَطيعُها1
وقد وهم "ابن قتيبة" في "الحارث بن أبي شمر" إذ صيره الملك الثاني، وجعله ابنًا للحارث الأكبر، في حين أنه "الحارث بن جبلة" الذي حارب المنذر بن ماء السماء، وهو صاحب يوم حليمة، ووهم في "الحارث الأصغر" أيضًا حين صيره في هذا المكان، وجعله على هذا النسب، ولابن قتيبة أوهام أخرى من هذا القبيل.
وتولى بعد عمرو بن جفنة ابنه ثعلبة على رواية حمزة، وكان ملكه سبع عشرة سنة. ونسب إليه بناء عقة وصرح الغدير في أطراف حوران مما يلي البلقاء2.
وقد نسب البطليوسي إليه بناء صريح السدير في أطراف حوران مما يلي البلقاء. وذكر مثل حمزة أنه حكم سبع عشرة سنة3.
ثم تولى من بعده "الحارث"، وهو ابنه، وكانت مدة ملكه عشرين سنة، وذكر حمزة أنه لم يبن شيئًا. ثم ذكر من بعده "جبلة بن الحارث"، وهو ابنه، وحكم على روايته عشر سنين4. وجعل "البطليوسي" مدة حكمه عشر سنين أيضًا5.
__________
1 المعارف "ص280".
2 حمزة "ص77".
3 البطليوسي "ص6".
4 حمزة ص77".
5 البطليوسي "ص6".(6/92)
وجبلة هو أول من يمكن أن نطمئن إلى وجوده من ملوك الغساسنة كل الاطمئنان وهو "جبلس" "jabalac" عند ثيوفانس. وقد ذكر عنه أنه غزا فلسطين حوالي سنة 500 للميلاد1. ولا نعرف من أمر هذا الرجل شيئًا يستحق الذكر.
وقد نسب حمزة والبطليوسي إليه بناء القناطر وأدرج والقسطل. وقالا إنه حكم عشر سنين2. وذكره "ابن دريد" على هذا النحو: "ومنهم جبلة بن الحارث الملك. وهو ابن مارية التي يقال لها قرطا مارية"3.
وجاء بعد "جبلة" ابنه "الحارث بن جبلة"، الذي يمكن عده أول ملك نعرف من أمره شيئًا واضحًا يذكر من ملوك آل جفنة. وهو في نظر "نولدكه" "أريتاس" "aretas" "arethas" الذي ذكره المؤرخ السرياني "ملالا" "malalas". وقد ذكر أنه كان عاملًا للروم4. ويظن أن حكمه كان من حوالى سنة "529" حتى سنة "569" للميلاد تقريبًا5. وأرى أن حكمه كان قبل سنة "529" للميلاد بقليل؛ إذ ذكر أنه حارب "المنذر" "alamundarus" في حوالي السنة "528" للميلاد6. ومعنى ذلك أنه ولي الحكم في هذه السنة، أو قبلها بقليل.
وقد عرف الحارث هذا عند أهل الأخبار بـ"الحارث الأعرج" وبـ"الحارث الأكبر".
وذكر حمزة والبطليوسي وآخرون أن والدة الحارث هي "مارية ذات القرطين، بنت عمرو بن جفنة"7. وذكر المسعودي ومحمد بن حبيب أنها "مارية بنت الأرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة". واستدرك "محمد بن حبيب" على ذلك بقوله: "ويقال: بل هي مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية بن ثور، من كندة"8. وهي أخت هند الهنود امرأة حجر الكندي، وقد
__________
1 غسان "ص8"، Theophanes, 218, o leary, p. 164
2 حمزة "ص77"، البطليوسي "ص6".
3 الاشتقاق "ص259".
4 غسان "ص9"، Malalas, "melalas", 2. 166
5 Provincia Arabia, II, S. 174, III, S. 285
6 Provincia Arabia, III, S. 352
7 حمزة "ص87"، البطليوسي "ص6".
8 المحبر "ص372".(6/93)
ضرب المثل بحسنها، فقيل: "خذوه ولو بقرطي مارية". وقالوا: وكان في قرطيها مائتا دينار1.
وذكر البطليوسي أن الحارث كان يسكن البلقاء. وبها بني "الحفير" ومصنعة بين "دعجان" وقصر أبير ومعان2، وكان حكمه على رأيه عشرين سنة3. وهو دون العدد الذي يقدره الباحثون لحكمه، حيث قدر بأربعين سنة؛ إذ حكم على تقديرهم من حوالي السنة "529" حتى السنة "569" للميلاد4.
ويشك بعض الباحثين في صحة نسبة الأبنية الذكورة إلى الحارث؛ إذ يرون أنها من عمل شخص آخر. غير أنهم يرون احتمال بنائه للقصر الأبيض في "الرحبة". ولقصر الطوبة5.
وجعل "ابن دريد" للحارث بن جبلة من الولد: النعمان والمنذر والمنيذر وجبلة وأبا شمر، ذكر أنهم ملوك كلهم6.
وذكر الأخباريون أن الحارث بن مارية الغساني، كان قد اجتبى أخوين من بني نهد اسمهما حزن وسهل، وهما ابنا رزاح، فحسدها زهير بن جناب الكلبي وسعى بهما لدى الحارث، وأظهر له أنهما عين للمنذر ذي القرنين عليه حتى قتلهما. ثم تبين له فيما بعد بطلان قول زهير، فطرده من عنده. واسترضى الحارث والد القتيلين رزاح، وأبقاه عنده، فلم يطق زهير على ذلك صبرًا، حتى تخلص منه بمكيدة انتهت بقتل الحارث له وبرجوع زهير إلى ما كان عليه7.
وهي قصة من هذه القصص التي يرويها الأخباريون تشير إلى معاصرة زهير للحارث وللمنذر الأكبر ذي القرنين، أي المنذر بن ماء السماء.
وقد ذكر ملالا أن الحارث بن جبلة حاربت "المنداروس" "alamundarus" "alamoundros" أمير عرب الفرس، وانتصر عليه في شهر نيسان من سنة "528م"8، وذكر معه اسم أميرين، هما: "جنوفاس" "jnophas"،
__________
1 المحبر "ص372"، البرقوقي "ص309".
2 حمزة "ص78"، البطليوسي "ص7"، provincia arabia, ii, s. 8
3 البطليوسي "ص7"، حمزة "ص87".
4 Provincia Arabia, II, S. 174
5 Probincla Arabia, II, S. 174
6 الاشتقاق "259".
7 الأغاني "5/ 118 وما بعدها".
8 غسان "ص10" Melalas, 2, 166(6/94)
و"نعمان" "naaman". ويرى "نولدكه" أن "جنوفاس" هو "جفنة" وهو اسم أحد الأمراء الجفنيين، سمي باسم جفنة مؤسس تلك الأسرة. وأما نعمان فهو أيضًا اسم أمير من أولئك الأمراء الجفنيين1.
وقد تحدث الطبري عن الحرب التي وقعت بين المنذر بن النعمان ملك الحيرة، والحارث بن جبلة، إلا أنه وهم في اسمه قصيره "خالد بن جبلة" وقال عن الحرب: "وقع بين رجل من العرب كان ملكه يخطيانوس على عرب الشأم، يقال له خالد بن جبلة، وبين رجل من لخم، كان ملكه كسرى على ما بين عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز ومن فيها من العرب، يقال له المنذر بن النعمان نائرة، فأغار خالد بن جبلة على حيز المنذر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، وغنم أموالًا من أمواله، فشكا المنذر إلى كسرى، وسأله الكتاب إلى ملك الروم في إنصافه من خالد. فكتب كسرى إلى يخطيانوس2، إلا أنه لم يحفل بكتاباته فغزا كسرى بلاده. وتوغل فيها واضطر "يخطيانوس" عندئذ إلى عقد صلح معه، وإلى إرضائه.
ويرى "نولدكه" أيضًا أن هذا الحارث هو الحارث الذي ذكر عند المؤرخ ملالا أنه أخمد ثورة السامريين الذين ثاروا في فلسطين في سنة "529"3.
وقد ورد في تأريخ "بروكوبيوس" "procopius" أن المنذر ملك العرب "سركينوي" "sarakynou" الذين كانوا في مملكة الفرس، لما أكثر من الغارات على حدود إمبراطورية الروم، وعجز قواد الروم من أرباب لقب "duxe" "duce" "dux" وسادت القباب من أرباب لقب "فيلارخ" "phylarchus" المحالفين للروم عن صده والوقوف أمامه، رأى القيصر "بسطانوس" "justinianus" أن يمنح الحارث بن جبلة الذي كان يحكم عرب العربية "arabia" لقب "ملك" ليقف بوجه "المنذر" "alamoundaros". وقد ذكر أن هذا اللقب لم يمنح لأحد من قبل. ولكن المنذر لم يرعو مع ذلك من غزو الحدود الشرقية لبلاد الشأم والعبث بها مدة طويلة من الزمن4. وقد ذهب "نولدكه" إلى أن هذه الحوادث
__________
1 غسان "ص10".
2 الطبري "2/ 149 وما بعدها" "طبعة دار المعارف بمصر".
3 غسان "ص10"، O'leary, p. 164, malalas, 2 180
4 Procopius, I, XVII, 43-48, J. B. Bury, II, P. 91(6/95)
كانت في سنة "529 م"1.
وقد بلغ المنذر في هجومه على بلاد الشأم أسوار "أنطاكية"، ولكنه تراجع بسرعة حينما سمع بمجيء قوات كبيرة من قوات الروم، تراجع بسرعة أعجزت الروم عن اللحاق به2. ويشك نولدكه في رواية بروكوبيوس بشأن منح الحارث لقب ملك، ذلك لأن لقب ملك كان خاصًّا بقياصرة الروم، فلا يمنح لغيرهم3.
ويلاحظ أن بعض كتبة اليونان أطلقوا أيضًا لقب ملك على الأمراء العرب، مثل "ماوية"، فقد لقبت بـ"ملكة". ولم يستعملوا كلمة "فيلارخوس" "phylarkos" "phylarque" "phylarcos" التي تعني العامل أو سيد قبيلة.
وأما الكتبة السريان، فقد لقبوا رؤساء القبائل العربية بلقب "ملك" في بعض الأحيان على نحو ما نجده في الشعر العربي4. ولكن نولدكه يرى أن هذا الاستعمال لا يمكن أن يكون سندًا لإثبات أن الروم أطلقوا لقب ملك على الحارث أو على خلفائه رسميًّا؛ لأن الوثائق الرسمية لم تطلق هذا اللقب عليهم.
والذي صح إطلاقه من الألقاب على أمراء الغساسنة، وثبت وجوده في الوثائق الرسمية، هو لقب "بطريق" "patricius"، ولقب "عامل" أو سيد قبيلة "فيلارخوس" "phylarchus" "phylarkos" "phylarcos" مقرونًا بنعت من النعوت التابعة له، أو مجردًا منه، كالذي جاء عن المنذر الذي حكم بعد الحارث بن جبلة البطريق الفائق المديح، ورئيس القبيلة "فلارخوس المنذر"، و"المنذر البطريق الفائق المديح" وما ورد عن الحارث "الحارث البطريق ورئيس القبيلة"5.
ولقب "البطريق" من ألقاب الشرف الفخمة عند الروم، ولذلك فلم يكن يمنح إلا لعدد قليل من الخاصة، ولصاحبه امتيازات ومنزلة في الدولة حتى إن بعض الملوك كانوا يحبذون الحصول على هذا اللقب من القيصر6. وقد منح القيصر
__________
1 غسان "ص11".
2 j. b. Bury, i, p.81
3 غسان "ص12"، المشرق، السنة الأولى، الجزء 11، حزيران 1898 "ص485".
4 غسان "ص12".
5 غسان "ص12 وما بعدها".
6 المشرق. السنة الأولى. الجزء 11، حزيران 1898 "ص485".(6/96)
"يسطنيانوس" "justinianus" "الحارث" هذا اللقب، وكذلك لقب "فيلارخ" فكان بذلك أول رجل من الغساسنة يمنح هذين اللقبين الذين انتقلا منه إلى أبنائه فيما بعد1.
ويلاحظ أن نص أبرهة الذي ذكر في جملة ما ذكره أن الحارث بن جبلة أرسل رسولًا عنه إلى مدينة مأرب ليهنئه بترميمه سد مأرب، لم يدون كلمة "ملك" مع اسم الحارث، ولكن ذكر "ورسل حرثم بن جبلت"، أي: "ورسول الحارث بن جبلة"2. فلم يلقبه بلقب "ملك"، ويدل عدم إطلاق أبرهة لقب ملك على الحارث على أنه اتبع الأصول الدبلوماسية المقررة عند البيزنطيين وإن لقب ملك لم يكن لقبًا رسميًّا له مقررًا دوليًّا. وقد كان وصول رسول الحارث أو رسله في سنة "542م".
ويتبين من رواية المؤرخين بروكوبيوس وملالا أن الحارث بن جبلة كان قد اشترك في المعركة التي نشبت بين الفرس والروم في 19 نيسان سنة "531م"، وانتهت باندحار الروم، وكان قائدهم "بليزاريوس"3. وذكر أن الفرس أسروا رجلًا اسمه "عمرو" "amros" وكان حائزًا على درجة "قائد"4 "dux".
وقد أثار تصرف الحارث في الحرب التي نشبت في سنة "541م" بين الفرس والروم، شبك الروم في إخلاصه لهم، والحذر منه، إذ ما كان يعبر هذا الأمير نهر دجلة مع القائد بليزاريوس حتى بدا له فرجع إلى مواضعه بعد أن سلك طريقًا آخر غير الطريق الذي اتبعه معظم الجيش دون أن يقوم بعمل يذكر في هذه الحرب5. وهذا مما حمل الروم على الشك في صداقته لهم. وجعلهم يحذرون منه ويراقبون حركاته؛ خوفًا من انقلابه عليهم وإلحاقه الأذى بهم وإتفاقه سرًّا مع الفرس.
وقد عاد النزاع فتجدد بين الحارث والمنذر حوالي سنة "544م"، وانتهى
__________
1 Provincia Arabia, II, S. 174
2 راجع النص الموسوم Glaser 618
3 غسان Musil, palmyrena, p. 274, procoplus, i, 8
Malalas, 2, 199
4 غسان "ص18". Malalas, 2, 202
5 غسان "ص18". Malalas, 2, 203, procopius 2, 5, 16, 18,
Musil, palmyrena, 266(6/97)
بسقوط ملك الحيرة قتيلًا في معركة حدثت في سنة "544م"، على مقربة من "قنسرين" بالقرب من الحيار. وهذه المعركة هي معركة يوم حليمة على رأي نولدكه1. ويظهر أن المنذر كان قد هاجم بلاد الشأم، وتوغل فيها حتى وصل إلى حدود قنسرين، فصرع هناك. حدث ذلك في السنة السابعة والعشرين من حكم "يوسطنيانوس" "justinianus" على رواية ابن العبري.
وقد كان سبب اختلاف الحارث مع المنذر. تنازعهما على أرض يطلق الروم عليها اسم "strata" جنوب تدمر، تمر بها الطرق البرية الموصلة إلى بلاد الشأم وهي من الطرق العسكرية المهمة ومرعى مهم للأعراب، يرعى فيها أعراب العراق وأعراب بلاد الشأم. وقد ألف "جستنيان" لجنة تحكيم، لم تتمكن من فض النزاع. وقد اتهم الفرس أعداءهم الروم بأنهم يريدون الاتصال سرًّا بالمنذر ورشوته لتحريضه على القيام على الفرس2.
وقد ذكر ابن العبري في أثناء كلامه على هذه الحرب أن "برحيرت"، "bar-herath" أي "ابن الحارث" سقط قتيلًا في الحرب3. وكان قد ذكر قبل كلمات أن المنذر بن النعمان، لما هاجم منظمة "rhomaye" وتوغل فيها، نازله "الحارث بن جبلة" "herath bar geblala" بهجوم مقابل، فهزمه وقتله في قنسرين. ثم ذكر أن ابن الحارث سقط قتيلًا في هذا الموضع. ويعرف هذا الولد باسم جبلة4.
ونجد في شعر "حسان بن ثابت" إشارة إلى "زمين حليمة" أي زمن حليمة5. كما نجد في الأمثال "ما يوم حليمة بسر6"، دلالة على شهرة ذلك اليوم.
وكان الحارث من أنصار "المنوفستيين" "monophysites"، أي القائلين بوجود طبيعة واحدة في المسيح، ويقال إنه سعى لدى الإمبراطورة "ثيودورة"
__________
1 غسان "ص20".
2 J. B. Bury, II, P. 92
3 Bar Hebraeus, Vol, I, P. 76
4 Michael the Syrian, Chronicle, (ED: Chabot) , Vol, 4, PP. 323, Musil, Palmyrena, P. 144
5 البرقوقي "ص146".
6 كذلك "ص146".(6/98)
في تعيين "يعقوب البرادعي" ورفيقه "ثيودورس"، أسقفين للمقاطعات السورية العربية. فنجح في مسعاه هذا في سنة "542-543م"، وبذلك وطد هذا المذهب في بلاده1.
ونسب المؤرخ السرياني "ميخائيل الكبير" إلى الحارث محاورة جربت بينه وبين البطريق "إفرام" "526-545م" في السريانية أو اليونانية في طبيعة المسيح وفي مذهبه القائل بوجود طبيعة واحدة فيه. وهو مذهب "يعقوب البرادعي" المتوفى سنة "578م". وقد صيغت الحكاية بأسلوب يفهم منه أنه تغلب بأدب ولطف على خصمه البطريق2.
ولمعارضة مذهب اليعاقبة أتباع يعقوب البرادعي لمذهب الكنيسة الرسمي للإمبراطورية عد الروم هذا المذهب من المذاهب المنشقة المعارضة فقاوموه وناضلوا أصحابه ولا سيما في أيام القيصر يوسطنيانوس، باعتباره مذهبًا من المذاهب المناهضة لسياسة الملوك والدولة، كمعارضة الأحزاب السياسية في الزمن الحاضر3. إلا أن الحارث سعى جهد إمكانه في تخفيف حدة غضب الحكومة على رجال هذا المذهب، ومن التقريب ما أمكن بين آراء رجال الكنيستين. ولجهود الحارث ومسعاه في حماية هذا المذهب فضل كبير ولا شك في بقائه، وفي انتشاره بين السريان وعرب الشأم4.
وقد زار الحارث القسطنطينية في تشرين الثاني في سنة "563م"، فاستقبل استقبالًا حافلًا. وأثر أثرًا عميقًا في نفوس أهل العاصمة وفي رجال القصر والحاشية، ويقال إن رجال البلاط كانوا يخوفون القيصر "يوسطينوس" "justinius" بعد خرفه بالحارث، فكان يهدأ ويسكت روعه حين سماعه اسمه5. والظاهر أن الغاية التي من أجلها ذهب الحارث إلى القسطنطينية هي مفاوضة رجال الحكم فيمن سيخلفه على عرشه بعد وفاته من أولاده، وفي السياسة التي يجب سلوكها تجاه عمرو
__________
1 Francois Nay, Les Arabes Chrestiens, PP. 52
2 المشرق، المجلد 34 "السنة 1936"، الجزء الأول "ص61 وما بعدها".
3 E. Gibbon, Der Sieg, S. 66
4 المشرق. السنة الأولى، الجزء 11، حزيران 1898، "ص486".
5 غسان "ص20".
J. of Ephesus Eccl, 3, 2, O'leary, P. 165, Huart, I, 60, Les Arabes Chrestiens, PP. 58, Michel the syrer, Chronique, I, II, P. 314(6/99)
ملك الحيرة1.
وإلى هذا الحارث قصد امرؤ القيس الكندي الشاعر، ليوصله إلى القيصر ليشكو له ظلامته، ويطلب منه مساعدته في استرجاع حقه وأخذه بالثأر حسب رواية الأخباريين، وإليه تنسب أيضًا قصة مطالبة السموءل بن عاديا بإعادة دروع امرئ القيس التي أودعها لديه في القصة الشهيرة التي يحكيها الأخباريون في معرض كلامهم على امرئ القيس وقصة السموءل والوفاء. وهناك جماعة من الأخباريين ترى أن الحارث الذي طالب بتسليم دروع امرئ القيس إليه هو شخص آخر اسمه الحارث بن ظالم2. ولكنها لم تذكر الصلة التي كانت بين الحارث بن ظالم وامرئ القيس، وحملته على المطالبة بتلك الدروع.
وقد ذكر "الجمحي" أن "الحارث بن أبي شمر الغساني" هو الذي طلب إلى "السموءل بن عادياء" أن يدفع إليه سلاح "امرئ القيس" الذي استودعه عنده، فأبى السموءل أن يسلمه إليه3. وقد ذكر "أبو زبيد الطائي" أنه زاره ونعته بأنه "الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام". وقد كان "أبو زبيد" هذا "من زوار الملوك، ولملوك العجم خاصة. وكان عالمًا بسيرها"4.
وقد تعرض "ابن قتيبة" لموضوع "امرئ القيس"، فقال: "وكان امرؤ القيس في زمان أنو شروان ملك العجم؛ لأني وجدت الباعث في طلب سلاحه الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأكبر، والحارث هو قاتل المنذر بن امرئ القيس الذي نصبه أنو شروان بالحيرة. ووجدت بين أول ولاية أنو شروان وبين مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، أربعين سنة"5.
وذكر أيضًا أن "الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأكبر، لما بلغه ما خلف امرؤ القيس عند السموءل، بعث إليه رجلًا من أهل بيته يقال له "الحارث بن مالك" وأمره أن يأخذ منه سلاح امرئ القيس وودائعه فلما انتهى إلى حصن السموءل أغلقه دونه، وكان للسموءل ابن خارج الحصن يتصيد فأخذه
__________
1 غسان "ص20".
2 الأغاني "6/ 331 وما بعدها".
3 طبقات الشعراء "ص70".
4 طبقات الشعراء "ص132".
5 الشعر والشعراء "ص50".(6/100)
الحارث، وقال للسموءل: إن أنت دفعت إلي السلاح وإلا قتلته، فأبى أن يدفع إليه ذلك، وقال له: اقتل أسيرك، فإني لا أدفع إليك شيئًا، فقتله، وضربت العرب المثل بالسموءل في الوفاء"1.
وذكر الأخباريون أن الحارث الأعرج -وهو في روايتهم هذه الحارث بن أبي شمر الغساني- غزا قبيلة تغلب، وكان السبب الذي حمله على هذا الغزو مروره بجماعات منها لم تهتم به كما كان يجب أن يكون. وقد نصحه الشاعر "عمرو بن كلثوم" -على حد قولهم- بعدم غزوهم، واعتذر عنهم إليه.
ولكنه لم يأخذ بنصيحته، فلما تقابل معهم، انهزم مع قومه من غسان، وقُتل منهم عدد كثير كان في جملتهم أحد إخوة الحارث2.
ويظن بعض الباحثين أن الحارث هو الذي أمر ببناء كنيسة الرصافة الكبرى لا الملك يوسنيانوس، ذلك لأن المؤرخ "بروكوبيوس" لم يشر في أثناء كلامه على هذا القيصر إلى أي أثر له في هذه المدينة، على حين أشار إلى تسوير الحارث لها وإلى احترامه العظيم للقديس "سرجيوس" المدفون بها، وهو قديس له منزلة كبرى في نفوس نصارى عرب الشأم3.
وينسب إلى الحارث إصلاح ذات البين فيما بين قبائل طيء، وكانت متخاصمة متحاربة، فلما هلك عادت إلى حربها، ووقع بينها يوم اليحاميم حيث دارت الدائرة فيه على جدلية من طيء، ويعرف أيضًا بقارات حوق4.
ومن الأمراء العرب الذين عاصروا الحارث بن جبلة، أمير اسمه "أبو كرب بن جبلة"، لعله شقيق الحارث، وقد ورد اسمه في نص "أبرهة"، حيث كان "أبو كرب" قد أرسل إليه رسولًا لتهنئته بترميمه سد مأرب. والأمير "قيس" "kaisus" وكان عاملًا على "فلسطين الثالثة" في حوالى سنة 530م. والأسود، ويظهر أنه كان قد تحارب مع الحارث5.
__________
1 الشعر والشعراء "ص46"، "طبعة ليدن".
2 ابن الأثير "1/ 222".
3 Rusafah, P. 12, Hertzfeld, I, S. 167
4 أيام العرب "60".
5 غسان "ص17 ملحوظة 48".(6/101)
وعثر في إحدى الكتابات في حران على اسم أمير يدعى "شرحيل بن ظالم" يرى نولدكه أنه أمير كندي؛ لأن هذين الاسمين من الأسماء الشائعة في كندة ويرجع تأريخ هذه الكتابة المدونة باليونانية والعربية إلى حوالي سنة "568م".
وقد دونت عند تدشين هذا العامل بناء إقامة للقديس يوحنا المعمدان، فيكون "شراحيل" شرحيل إذن من المعاصرين للحارث بن جبلة1. ويستنتج نولدكه من ذلك أن عددًا من المشايخ ظلوا يتمتعون بسلطانهم حتى بعد تألق نجم آل غسان. ويرى أن ذلك مما يوافق سياسة الروم الذين لم يكن من مصلحتهم ظهور أمير واحد قوي وإنما كان من مصلحتهم وجود جملة أمراء متنافسين؛ ليتمكنوا بذلك من السيطرة عليهم جميعًا بضرب بعضهم ببعض2.
وقد دعي الأمير المذكور بـ"asaraelus" ودعي أبوه بـ"talemus" وكان يحكم "اللجاة" فيظهر من ذلك أن إمارات كانت تنافس إمارة الغساسنة في هذا العهد3.
وقد توفي الحارث في سنة "569م" أو "570م" على رأي نولدكه، استنتج ذلك من ورود اسمه في الوثائق الكنسية التي يعود تأريخها إلى سنتي "568 و569"، وإلى ربيع سنة "570م" حيث حل اسم ابنه المنذر في محله، فاستدل من هذا التغيير على أنه توفي في هذا الزمن4.
وقد حكم "المنذر" من سنة "569-570م" حتى سنة "581م"، على تقدير بعض الباحثين5.
وقد عرف المنذر بـ"alamoundaros" "alamundaros" عند اليونان والسريان وقد استهل حكمه بالحرب مع ملك الحيرة قابوس. والظاهر أن عرب الحيرة كانوا هم البادئين بها، فانتصر عليهم في يوم 20 أيار "مايس" من سنة 570م6.
__________
1 غسان "ص17".
Waddington, Inscriptions Grecques, 3, P. 563, ZDMG, 38, 53
2 غسان "ص16"، النص الألماني "ص16".
3 Provincia Arabia, III, S. 268, Waddington 2464, Noldeke, S. 13, Anm: 2
4 غسان "ص25".
5 Die araber, i, s. 10
6 غسان "ص25". Land: i, 13(6/102)
ثم انتصر عليهم في معركة أخرى فيما بعد1. ويرى نولدكه أن المعركة الأولى هي عين أباغ2.
والمنذر هو أبو كرب الذي ذكر اسمه في نص سرياني عثر عليه في إحدى ضواحي تدمر، وهو نص ديني ورد فيه اسم الأسقفين يعقوب وثيودور، وهما: يعقوب البرادعي وصاحبه3.
لقد حث سوء تفاهم بين القيصر "يسطينوس" "justinus" وبين المنذر تطور حتى صار قطيعة. ولما أحس المنذر بأن القصر قد دبر له مؤامرة، وأنه أمر عامله البطريق "مرقيانوس" "marcianus" بأن يحتال عليه ليقتله، تمرد على الروم، وغادر أرضهم إلى البادية، فانتهز عرب الحيرة هذه الفرصة المؤاتية فأمعنوا في غزو بلاد الشام، وإيقاع الرعب في نفوس سكان القرى المجاورة لهذه الحدود مما حمل الروم على مراسلة المنذر والتودد إليه لاسترضائه، حتى إذا ما تلطف الجو أرسلوا إليه البطريق "يوسطنيانوس" ليجتمع به في مدينة الرصافة عند قبر القديس "سرجيوس" لإقناعه بترك موقفه والموافقة على العودة إلى محله. وعند القبر المقدس عقد الصلح بينهما في صيف سنة "578 م". فعاد المنذر إلى أرضه، ليقوم بالدفاع عن حدود الشأم4.
وقد أشار ابن العبري إلى هذا الحادث، فذكر أن العرب "طياية" كانوا منقسمين إلى جماعتين: جماعة المنذر بن الحارث "منذر برحيرت" "mundar bar herath"، وكان نصرانيًّا وكذلك كان جنوده وجماعة قابوس، فهاجم قابوس وجنوده العرب النصارى، وقصد بذلك الغساسنة، واستاق ما وجده أمامه من ماشية، ثم قفل إلى بلاده. فلما رأى المنذر ما حدث، جمع جيشًا هجم به على قابوس، فتغلب عليه، ورجع بغنائم عديدة وعدد كبير من الإبل. وعاد قابوس فهاجم المنذر. غير أنه مُني بهزيمة ثانية اضطرته إلى طلب النجدة من الفرس. فأخبر القيصر يسطينوس بذلك، وطلب منه إمداده بالمال ليؤلف به جيشًا يقف أمام الفرس، فاستاء القيصر منه، وقرر التخلص منه بقتله، لظنه
__________
1 J. of Ephesus, 6, 3
2 غسان "ص27 وما بعدها"، provincia arabia, iii, s. 355
3 غسان "ص27" provincia arabia, ii, s.174
4 غسان "ص26" j. Of ephesus, 6, 3-46, provincia arabia, ii, s. 174(6/103)
أنه كان السبب في غزو الفرس لـ"rhomaye" وكتب إلى عامله مرقيانوس وكان معسكرًا يومئذ في منطقة "نصيبين" "nisibis" أن يتربص بالمنذر فيقبض عليه، ويقطع رأسه، وقد أخطأ كاتب الرسالة، فأرسل الرسالة الخاصة بالبطريق مرقيانوس إلى المنذر، وأرسل الرسالة الخاصة بالمنذر إلى البطريق، فلما قرأ المنذر الكتاب وعرف بما أراد القيصر أن يفعله به، غضب غضبًا شديدًا، وتصالح مع قابوس، وصارا يهاجمان بلاد الشأم. فظن يسطينوس أن مرقيانوس قد خانه، وأنه أخبر المنذر بالمؤامرة، فأمر بالقبض عليه، وحبسه ولما صار "طيباريوس" "tiberius" قيصرَ. ذهب المنذر إلى القسطنطينية، فلامه القيصر على ما صنع، ولكنه قدره واحترمه كثيرًا حينما أراه رسالة يسطينوس التي أراد توجيهها إلى عامله لاغتيال المنذر، وأنعم عليه بهدايا كثيرة، وألطاف سنية، ثم عاد مكرمًا إلى مركزه السابق1.
لقد قام المنذر بالزيارة المذكورة للقسطنطينية في اليوم الثامن من شباط سنة 580م مصطحبًا معه ابنين من أبنائه. فلما بلغها، استقبل بكل احترام وتبجيل، وأنعم القيصر "طيباريوس" "tiberius" عليه بلقب "rex" وبالتاج وهو لقب كان له شأن كبير في إمبراطورية الروم، ويرى نولدكه أن الروم لم يمنحوا عمالهم العرب على بلاد الشأم من قبل إلا "الإكليل"، ودرجته دون درجة "التاج"2. وقد أغدق القيصر عليه بالهدايا الثمينة النفيسة ومن بينها مصوغات من ذهب وفضة، مما لم ينعم به على أي ملك عربي من قبل. كما أنعم على ولديه بدرجات عسكرية3.
وكان المنذر مثل والده من القائلين بمذهب "الطبيعة الواحدة" والمدافعين عنه، ولذلك انتهز فرصة وجوده في القسطنطينية، فسعى في إقناع رجال القصر بالتسامح مع رجال مذهبه والصفح عنهم. ويظهر أنه عقد هناك مجمعًا في اليوم الثاني من شهر آذار سنة "580م" لمعاضدة هذا المذهب والدفاع عنه، كما اتصل بالبطاركة للتوفيق بين رجال الكنيستين، غير أنه خابت مساعيه بالرغم من إظهار البطاركة رغبتهم في ذلك وعدم ممانعتهم فيه4.
__________
1 Bar Hebraeus, Vol, I, P. 80, 82
2 غسان "ص26". j. Of ephesus, 4, 39 , 42, p. 265, 271
3 J. of Ephesus, 4, 39, P. 265, 4, 43, P. 271, Prvincia Arabia, II, P. 174, Die Araber, I, S. 10
4 غسان "ص27"، المشرق، السنة 34 ج1 "ص64"، السنة 1936.
J. of Ephesus, 4, 40, Les Arabes Chrestiens, P. 63, Die Araber, I, S. 10(6/104)
وقد ذكر أن المنذر بنى صهاريج لإيصال الماء إلى الرصافة مدينة القديس "سرجيوس" ذي المكانة العظيمة عند عرب الشأم. وظهر من كتابة عثر عليها في أنقاض كنيسة في الرصافة أن المنذر بنى أو جدد بناء تلك الكنيسة. وأما بناؤها فهو على الطراز البيزنطي1.
ولم تمنع قدسية مدينة الرصافة الأعراب، ولا سيما أعراب العراق من التحرش بها، فغزتها مرارًا، وأخذت قبيلة تغلب صورة القديس بعد عودتها من غزو المدينة2، وهدم أهل الحيرة صهاريج المدينة مرارًا، ولحمايتها من الهجمات أحاطها القيصر "يوسطنيانوس" بسور قوي، بدلًا من سورها القديم3.
وذكر أن المنذر لما كان في القسطنطينية طلب من البيزنطيين مساعدته في بناء قصر يكون أعظم قصر غساني بُني حتى أيامه، وذلك بأن يرسلوا إليه أحسن المعماريين والبنائين الحاذقين. فلبى البيزنطيون طلبه فأمدوه بما يحتاج إليه من معماريين ومن مواد بناء. ومن أبنيته الخربة المعروفة اليوم بناء يعرف باسم "البرج" وقد عثر على اسمه مدونًا على حجارة من ذلك البناء4.
ولما حاول الروم غزو حدود الفرس في سنة "580م"، وجدوا الجسر المنصوب على نهر الفرات مهدمًا، فاضطروا إلى التراجع وترك الغزو. وكان المنذر معهم في هذه الحملة، فذهبوا إلى أن المنذر كان على اتفاق سري مع الفرس، وأنه هو الذي أوعز بهدم الجسر، ليكتب للحملة الإخفاق، وقرروا القبض عليه والإيقاع به؛ انتقامًا منه للخيبة التي منوا بها. ولما عاد المنذر فغزا أرض الحيرة بنفسه فيما بعد ملحقًا بالمدينة أذًى كثيرًا، جاعلًا إياها طعمة للنيران، اتخذ الروم هذه الغزوة دليلًا على تحدي المنذر لهم، ورغبته في الخروج على طاعتهم، فقرروا الانتقام منه بقتله، فأصدروا إلى حاكم بلاد الشأم "ماكنوس" "magnus" صديق
__________
1 Kirchengeschichte, V, S. 315, H. Gelzer in Byzantinischer Zeitschrift, I, 1892, S. 245. Les Arabes Chrestiens, P. 69, Musil, Palmyrena, PP. 165, 264, 323
2 ديوان الأخطل "ص309"، "طبعة الصالحاني".
Musii, palmyrena, pp. 263, 267
3 Musil, Palmyrena, P. 264, Rusafah, P. 12
4 Wetzstein, NO:173, Waddington 2562C, Provincia Arabia III, S. 200(6/105)
المنذر أمرًا سريًّا بالعمل على قتله، وصادف أن الروم كانوا قد انتهوا من بناء كنيسة في "حوارين"، وقد عزم "ماكنوس" على تدشينها، فكتب يدعو صديقه إلى الاحتفال بذلك، فلما كان على مقربة منه، قبض عليه وأرسله محفورًا إلى العاصمة حيث أجبر على الإقامة فيها مع إحدى نسائه وبعض أولاده وبناته، وذلك في أيام القيصر طباريوس وفي ابتداء السنة "582" للميلاد. ولما انتقل العرش إلى موريقيوس، وكان يكرهه ويعاديه، أمر بنفيهما إلى صقلية وبقطع المعونة التي كان الروم يدفعونها إلى الغساسنة في كل عام1.
وقد لقب حمزة المنذر بلقب الأكبر، وجعل مدة حكمه ثلاث سنين، ونسب إليه بناء "حربا" وموضع "زرقا" على مقربة من الغدير2. وقد أخطأ "حمزة" في مدة حكم المنذر، إذ هي تزيد على تلك المدة، فقد حكم على رأي الباحثين من سنة "569" حتى سنة "582" للميلاد3.
أثار عمل الروم هذا ثائرة أبناء المنذر، فتركوا ديارهم، وتحصنوا بالبادية وأخذوا يهاجمون منها حدود الروم ملحقين بها أذًى شديدًا، فاضطر القيصر على أثره أن يوعز إلى القائد "ماكنوس" بتجهيز حملة من أبناء المنذر ألحق بها أحد إخوة المنذر. وكان قد أعد ليتولى مقام أخيه، غير أنه توفي بعد أيام. ولما كان من الصعب على الروم مهاجمة أبناء المنذر في البادية، عمد القائد إلى المكيدة فأرسل إلى النعمان كبير أبناء المنذر أنه يريد مقابلته للاتفاق معه على وضع شروط للصلح، وقد ظن الأمير أن القائد صادق فيما دعا إليه فذهب لمقابلته، فقبض الروم عليه، وأرسلوه مخفورًا إلى العاصمة حيث حجروا فيها عليه4.
وكان موضع "حوارين" في جملة المواضع التي هاجمها النعمان بعد ارتحال "ماكنوس" عنها، وقد استولت عساكره عليها، وقتلوا بعض أهلها، وأسروا قسمًا من الباقين، ثم عادوا بغنائم كثيرة إلى البادية للاحتماء بها من هجمات الروم5.
__________
1 غسان "ص30 وما بعدها".
Evagrius, 6, 2, Bar Gebraeus, Vol, I, P. 82, J. J. of Ephesus, Eccl. His, III, PP. 40, 42, 54, Provincia Arabia, II, P. 175
2 حمزة "ص78"، البطليوسي "ص7".
3 Provincia Arabia, II, S. 174
4 غسان "ص22 وما بعدها" Evagrius, 6-2
5 Musil, Palmyrena, P. 38(6/106)
وذكر ابن العبري أن النعمان لما بلغته رسالة القائد ماكنوس لم يذهب إليه، وإنما أرسل إليه بعض الشبان وأمره أن يتظاهر له بأنه هو النعمان. فلما وصل الشاب إلى القائد، سأله: أأنت النعمان؟ فقال له: نعم، جئتك بحسب أمرك، فقال القائد لمن معه: أقبضوا على عدو الملك، وقيدوه بالحديد. ولما تبين للقائد أنه لم يكن النعمان، هَمَّ بقتله، ثم أمر بإخراجه، فعاد إلى أهله. وتوفي ماكنوس بعد ذلك بأمر قصير1.
ويدعي ابن العبري أن النعمان ذهب بعد ذلك إلى "موريقيوس" "mauricius" واعتذر إليه وبين له أنه إنما حارب مع الفرس ليتمكن بذلك من إنقاذ والده من الأسر.
ولما طلب منه "موريقيوس" أن يدخل في المذهب الخلقيدوني، أجابه أن جميع القبائل العربية "طياية" هي على المذهب الحنيف "الأرثدوكس" "orthodox"، وأنه إذا بدل مذهبه لا يأمن على نفسه من القتل، ولما قفل راجعًا، قبض عليه ونفي2.
لقد تصدع بناء الغساسنة وتفكك، وانقسم الأمراء على أنفسهم، وذلك حوالي سنة "583" أو "584م" على تقدير نولدكه. ويشير ميخائيل السوري وابن العبري إلى أنهم انقسموا بعد القبض على النعمان إلى خمس عشرة فرقة تركت بعضها ديارها فهاجرت إلى العراق وتشتت الباقون، ولم يبق لهم شأن يذكر. ولم يشر الكتبة السريان أو البيزنطيون إلى ملك الغساسنة بعد هذا الحادث3، وهو أمر يؤسف له غاية الأسف. إذ حرمنا بذلك من الحصول على وثائق مهمة تساعدنا في معرفة تأريخ عرب الشام.
وقد عقب هذا التصدع حدوث اضطراب في الأمن وفوضى بين القبائل التي أخذت تتنافس بينها للحصول على الرئاسة والسيادة، ولخطورة مثل هذه الأحوال بالنسبة إلى الروم وسلامة الحدود، كان هذا مما حمل البيزنطيين على التفكير في اختيار رئيس قوي من سادات القبائل المتنافسين ليقوم بضبط هذه القبائل وإعادة الأمن إلى نصابه وحماية الحدود من هجمات عرب الحيرة4.
__________
1 Bar Gebraeus, Vol, I, P. 82
2 Bar Gebraeus, I, P. 82
3 غسان "ص33، 35".
4 Noldeke, S. 31, Ency, II, P. 143(6/107)
ولم يشر الأخباريون إلى هذا الحادث، ويظهر أنهم لم يعرفوه، وقد ذكر حمزة أن الذي حكم بعد المنذر هو شقيقه النعمان. وقد جعل مدة حكمه خمس عشرة سنة وستة أشهر1.
وزاد في رَبْك وضع الغساسنة وفي انقسامهم على أنفسهم، غزو الفرس لبلاد الشأم سنة "613-614م"، فقد اكتسح الفرس كل بلاد الشأم، وصار عرب الشأم أمام حكام جدد، لم يألفوا حكمهم من قبل، ولكن ألفوهم دائمًا في جانب عرب الحيرة أعداء الغساسنة ومنافسيهم.
وقد تمكن الغساسنة من رؤية وجوه البيزنطيين مرة أخرى وذلك في حوالي سنة "629م"، فقد تمكن البيزنطيون من طرد الفرس من الأرضين التي استولوا عليها ومن إجلائهم نهائيًّا عنها، وإعادة فرض حكمهم عليها، غير أن الأقدار أبت أن تبقيهم هذه المرة مدة طويلة في بلاد الشأم، فأكرهتهم على فتح أبوابها للإسلام، فتساقطت مدنها في أيدي المسلمين تساقط ورق الشجر في أيام الخريف. وصارت دمشق درة بلاد الشأم من أهم حواضر الإسلام. أما ملك الغساسنة، فقد ولى، ولم يبقى للغسانيين حكم في هذه البلاد منذ هذا الزمن.
وقد خمد اسم رؤساء غسان في الموارد اليونانية والسريانية منذ قبض على النعمان، فعدنا لا نجد في تلك الموارد شيئًا يذكر عنهم، وفي سكوت هذه الموارد عن إيراد أخبارهم، دليل على زوال شوكتهم وهيبتهم وعدم اهتمام الروم بأمرهم، حيث ضعف أمرهم بسبب تفرق كلمتهم وتنازعهم بينهم. أما الموارد الإسلامية، فإنها بقيت تذكر أسماء رجال منهم زعمت أنهم ملكوا وحكموا، بل زعمت أن بعضهم حكموا دمشق، وبقيت تذكر أسماءهم إلى أيام الفتح الإسلامي، ومن هذه الموارد تأريخ حمزة الأصفهاني، الذي استمر يذكر أسماء من ملك من آل غسان حتى انتهى بآخرهم وهو جبلة بن الأيهم. وفي هذه الأسماء تكرار وزيادات، لذلك زاد عدد من ذكرهم من ملوك غسان على عدد ما ورد عند سواه من المؤرخين.
وأنا لا أستطيع أن أوافق حمزة على العدد المذكور، وأخالفه في مدد حكمهم.
__________
1 حمزة "ص78"، البطليوسي "ص7".(6/108)
وفي ترتيبهم على النحو المدون في تأريخه. فالذين ذكرهم على أنهم ملوك لم يكن مجال حكمهم كبيرًا واسعًا، وهم لم يكونوا في الواقع إلا سادات بيوت أو سادات عشائر منشقة، تمسكت باللقب القديم الموروث: لقب ملك. وقد كان بعضهم يعاصر بعضًا، ويدعي الرئاسة لنفسه، وذلك بسبب تخاصمهم، ولهذا كثرت أسماؤهم في قائمة حمزة. وقد انحسر مد حكمهم وانكمش فاقتصر على البوادي، ولا يتعارض ذلك بالطبع مع ورود أخبار بسكناهم في قصورهم عند أطراف المدن ومشارف القرى، فإن سادات القبائل في هذا اليوم أيضًا يحكمون القبائل ويعيشون في قصور في المدن، وهم لا يحكمون المدن بالطبع.
والذي يظهر من روايات أخرى من روايات أهل الأخبار من غير حمزة أن أبين رجل من غسان ظهر بعد النعمان، هو "الحارث" المعروف بـ"الأصغر" ثم "عمرو بن الحارث"، وهو الذي مدحه "النابغة" ثم "النعمان بن الحارث" وهو شقيق "عمرو" وقد مات مقتولًا كما يظهر ذلك من شعر للنابغة الذبياني، ثم "شرحبيل بن عمرو الغساني"، و"جبلة بن الأيهم".
ولما كنا قد سرنا على قائمة حمزة في ترتيب الملوك، فإننا نجاريه في ترتيبه لهم فنذكر أسماء من حكم الغساسنة بعد النعمان على وفق هذه القائمة، فنقول:
حكم بعد النعمان على رواية حمزة وآخرين "المنذر بن الحارث" أي شقيق المنذر والنعمان، وجعل حمزة مدة حكمه ثلاث عشرة سنة، ولقبه بلقب "الأصغر" وكناه بـ"أبي شمر"1.
وتولى بعده على رواية حمزة أخوه جبلة، وجعل منزله بـ"حارب" ونسب إليه بناء "قصر حارب" و"محارب" و"صنيعة"، وكانت مدة حكمه على رأيه أربعًا وثلاثين سنة 2.
وحكم بعد جبلة على رواية حمزة أخوه الأيهم. وقد حكم على رأيه ثلاث سنين ونسب إليه بناء "دير ضخم" و"دير النبوة" و"دير سعف"3.
ثم انتقل الحكم على رواية حمزة أيضًا إلى عمرو، وهو أيضًا على رأيه أحد
__________
1 حمزة "ص78"، المحبر "ص372".
2 حمزة "ص78"، البطليوسي "ص7".
3 حمزة "ص87".(6/109)
أبناء الحارث بن جبلة، وقد حكم ستًّا وعشرين سنة وشهرين، وذكر أنه نزل السدير، وبنى قصر "الفضا" "قصر الفضة" و"صفاة العجلات" و"قصر منار"1.
وعمرو هذا هو الذي مدحه النابغة الذبياني، وقد كان متكبرًا دميمًا قبيح السيرة أنشأ في دمشق وضواحيها -على حد قول أهل الأخبار- عند قصور شامخات، منها: قصر الفضة، وقصر "صفات العجلات"، وقصر منار. وقد صور في بعض هذه القصور مجالسه وجلساءه ورؤساء دولته، وأشكال صورته.
ثم اتعظ وتغير على أثر شعر قاله له عمرو بن الصعق العدواني، وكان قد أسر الأمير أخته، وحسنت سيرته ومات بعد أن حكم ستًّا وعشرين سنة2.
ويقول أهل الأخبار إن من قديم الشعر الذي قاله النابغة في مدح عمرو بن الحارث، قصيدته البائية التي يقول في جملة ما يقول فيها:
عَلَيَّ لِعَمروٍ نِعمَةٌ بَعدَ نِعمَةٍ ... لِوالِدِهِ لَيسَت بِذاتِ عَقارِبِ
وقد أوغل فيها في مدح الغساسنة وفي ذكر ملوكهم، وهي من عيون شعره. وقد قال هذا الشعر حينما اختلف مع النعمان بن المنذر في موضوع الشعر الذي وصف به زوجة النعمان "المتجردة"، وصفًا استغله أعداؤه، فوشوا به إلى النعمان، فهرب منه، وانحاز إلى خصومه آل غسان. ولجأ إلى زعيمهم في تلك الأيام، وهو "عمرو بن الحارث"3.
وللنابغة أشعار أخرى في مدح "عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني" في جملتها أبيات يعتذر النابغة فيها إليه من وشاية أثارت حنق عمرو عليه، فنظمها في استرضائه، وقد ذكر فيها أنه أكرامه وحباه بمائة من الإبل، وأنه يريش قومًا ويبري آخرين، وأنه يجزي الناس على أفعالهم4.
ونجد في قصيدة للنابغة مطلعها:
أَهاجَكَ مِن أَسماءَ رَسمُ المَنازِلِ ... بِرَوضَةِ نُعمِيٍّ فَذاتِ الأَجاوِلِ
__________
1 حمزة "ص87".
2 البطليوسي "ص7".
3 ديوان النابغة الذبياني "ص9 وما بعدها"، "بيروت 1929".
4 ديوان النابغة "ص46" "بيروت 1929".(6/110)
خبر غزو قام به "عمرو بن الحارث" لبني مرة، وقد أوجعهم فيها على ما يظهر من هذه القصيدة1.
هؤلاء الستة الذين ذكرهم حمزة بعد الحارث بن جبلة، هم أبناؤه إذن، وقد حكموا على زعمه بالتعاقب دون فترة. ثم نقل الحكم من عمرو إلى رجل دعاه جفنة الأصغر، وهو على رأيه ابن المنذر بن الحارث. ولم يذكر أي منذر قصد. وذكر أنه كان سيارة جوابًا. ثم هلك، وكان ملكه ثلاثين سنة2.
وحكم بعد جفنة الأصغر على رواية حمزة النعمان الأصغر بن المنذر الأكبر. حكم سنة واحدة. ولم ينسب إليه بناء ما3.
ثم انتقل الحكم على زعم حمزة إلى النعمان بن عمرو بن المنذر ولم يكن أبوه عمرو على رأي حمزة ملكًا، وإنما كان عازيًا يغزو بها بالجيوش، وكان ملكه سبعًا وعشرين سنة، ونسب إليه بناء "السويدا" و"قصر حارب"4.
وذكر حمزة أن "عمرو" المذكور، أي والد النعمان على زعمه، هو الذي مدحه النابغة بقوله:
عَلَيَّ لِعَمروٍ نِعمَةٌ بَعدَ نِعمَةٍ ... لِوالِدِهِ لَيسَت بِذاتِ عَقارِبِ
وذكر أنه، أي النابغة "ذكر أباه المنذر بقوله"5:
وقصر بصيداء التي عند حارب
وقد أخطأ حمزة في ذهابه إلى أن الشخص الممدوح هو "النعمان بن عمرو"، فإن رواة هذا الشعر يذكرون إن الملك الممدوح الذي قصده النابغة بمديحه، هو "عمرو بن الحارث بن أبي شمر" المتقدم ذكره، وهو شقيق "النعمان بن الحارث بن أبي شمر" الذي مدحه النابغة كذلك، وكانت له صلات حسنة وثيقة به6.
__________
1 ديوان النابغة "ص85" "بيروت 1929م".
2 حمزة "ص78".
3 حمزة "ص79".
4 حمزة "ص79".
5 حمزة "ص79".
6 ديوان النابغة "ص9 وما بعدها".(6/111)
وجعل حمزة بعد النعمان ابنه جبلة وزعم أن منزلة بـ"صفين"، وأنه صاحب "عين أباغ"، وقاتل المنذر بن ماء السماء، وكان ملكه ست عشرة سنة1.
ثم ملك -بعد جبلة- النعمان بن الأيهم بن الحارث بن مارية، وكان ملكه إحدى وعشرين سنة لم يحدث خلالها على حد قول حمزة شيء، فتولى من بعده النعمان بن الحارث، وهو الذي أصلح صهاريج الرصافة، وكان بعض ملوك لخم خربها، وكان ملكه ثماني عشرة سنة2.
ويرى "إلويس موسل" أن النعمان هذا كان قد حارب الفرس من حوالي سنة "604" حتى سنة "616م"، وأنه قد احتمى مرارًا بأسوار الرصافة. وبهذه المناسبات على ما يظهر قام بترميم صهاريج المدينة لخزن الماء3.
وذكر حمزة اسم "المنذر بن النعمان" بعد النعمان بن الحارث، وهو ابنه.
قال: ولم يحدث شيء في أيامه، ثم هلك وكان ملكه تسع عشرة سنة4.
ثم صار الحكم من بعده -على رأي حمزة- إلى عمرو بن النعمان. وهو شقيقه ولم يحدث شيئًا في أيامه، ثم هلك، وكان ملكه ثلاثًا وثلاثين سنة وأربعة أشهر5.
ثم انتقل الحكم إلى حجر بن النعمان، وهو شقيق عمرو، وجعل حمزة ملكه اثنتي عشرة سنة. ثم صير الملك إلى ابنه من بعده، وهو الحارث بن حجر. وجعل ملكه ستًّا وعشرين سنة6.
وصير حمزة الملك إلى جبلة بن الحارث، بعد وفاة والده "الحارث بن حجر". وجعل مدة حكمه سبع عشرة سنة وشهرًا واحدًا7.
ثم صير حمزة الحكم إلى "الحارث بن جبلة"، وهو على رأيه ابن الملك المتوفى "جبلة بن الحارث". وذكر حمزة أنه يسمى أيضًا بـ"الحارث بن أبي شمر"، وهو الذي أوقع ببني كنانة، وكان يسكن الجابية. وكان ملكه
__________
1 حمزة "ص79".
2 حمزة "ص79".
3 Musil, Palmyrena, P. 267
4 حمزة "ص79".
5 حمزة "ص79".
6 حمزة "ص79 وما بعدها".
7 حمزة "ص80".(6/112)
إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر1. ويجب أن يكون هذا الحارث هو "الحارث بن أبي شمر الغساني"، الذي ذكر أن الرسول وجه كتابًا إليه، حمله إليه: شجاع بن وهب كما سيأتي فيما بعد.
وذكر حمزة أن الذي حكم بعد "الحارث بن جبلة" وهو ابنه "النعمان بن الحارث"، وكنيته "أبو كرب" ولقبه "قطام"، وهو الذي بنى ما أشرف على "الغور الأقصى". وكان ملكه سبعًا وثلاثين سنة وثلاثة أشهر2.
وقد أخطأ حمزة في إضافة لقب "قطام" إلى النعمان بن الحارث، ولا نعرف أن أحدًا أضاف هذا اللقب إليه.
ونجد للنابغة الذبياني أشعارًا في مدح "النعمان" المذكور، وكان يزوره ويتوسط لديه في فك أسرى قومه الذين كانوا يقعون في أسر الغساسنة، وذلك بسبب غاراتهم المتوالية على بني غسان وأعرابهم. وكان قومه "بنو ذبيان" وحلفاؤهم "بنو أسد" إلى جانب عرب الحيرة، وكانوا ينقمون على الغساسنة ويغيرون دومًا على أرضهم، فيتدخل النابغة لدى الغساسنة للصفح عن قومه، ويتوسل إليهم في فك أسرهم. ولما أغار قومه على وادي "ذي أقر"، نهاهم النابغة عن هذه الغارة، وحذرهم من عواقبها، وهولهم بكثرة ما لدى "النعمان بن الحارث"، من جموع وحشود، غير أنهم لم يهتموا بنصح النابغة، ولم يحفلوا بتخويفه لهم، بل عدوا نصيحته هذه لهم من إمارات الخوف والجبن، فتصدت لهم أعراب "النعمان" بقيادة "النعمان بن الجلاح الكلبي" وأوقعت بهم خسائر فادحة، ويذكر بعض الرواة أن "ابن الجلاح" سبى ستين أسيرًا وأهداهم إلى قيصر الروم3 ولم يتطرقوا لبيان الأسباب التي أدت بالغساسنة إلى إهداء هؤلاء الأسرى إلى الروم. وأعتقد أن إقحام "قيصر الروم" في هذا الإهداء، هو من مبالغات الرواة، وقد عودونا أمثال هذه المبالغات. إلا أن يكون أولئك الأعراب قد غزوا حدود الروم، فأوجعوا أهلها، فقدم "ابن الجلاح" الذي تعقبهم، من وقع في أسره إلى حاكم من حكام الروم لتأديبهم.
__________
1 حمزة "ص80".
2 حمزة "ص80".
3 ديوان النابغة "ص54" "بيروت 1929م".(6/113)
وقد طلب "النابغة" في شعره في وصف هذه الغارة من "حصن بن حذيفة" سيد "ذبيان" ومن "ابن سيار" فك من وقع أسيرًا من النساء دفعًا للخزي والعار من وقعهن أسيرات في أيدي العضاريط من الأتباع والأجراء.
ونجد النابغة يحذر "النعمان" من غزو "بني حُن بن حرام"، وينصحه بعدم التورط في قتالهم؛ لأنهم أناس محاربون صعاب. فلما أبى إلا قتالهم، بعث النابغة إلى قومه يخبرهم بغزو النعمان لهم، ويأمرهم أن يمدوا بني حُن، ففعلوا. فلما غزاهم النعمان، هزم بنو حُن وبنو ذبيان جمعه، وحازوا ما معهم من الغنائم، فقال النابغة في ذلك شعرًا منه:
لَقَد قُلتُ لِلنُعمانِ يَومَ لَقيتُهُ ... يُريدُ بَني حُنَّ بِبُرقَةِ صادِرِ
تَجَنَّب بَني حُنَّ فَإِنَّ لِقاءَهُم ... كَريهٌ وَإِن لَم تَلقَ إِلّا بِصابِرِ
فهو يعاتب بذلك النعمان، ويذكره بعدم اهتمامه بنصحه له، وتخويفه إياه من عاقبة هذه الغارة1.
وكان في جملة ما قاله النابغة عن بني حُن بن حرام، وهم من غدرة، أنهم كانوا قد منعوا "وادي القرى" عن عدوهم ومن أهله وحموه منهم، وهو كثير النخل، فتمنعوا بثمره، وطردوا "بَليًّا"، وهم من "بني القين" وهم أصحابه من هذا الوادي، واستولوا على نخيلهم، ونفوهم إلى غير بلادهم، وهم الذين ضربوا أنف الفزاري، وهم الذين منعوها من قضاعة كلها ومن "مضر الحمراء"، وقتلوا الطائي بالحجر عنوة، ويريد به "أبا جابر الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد" وكان ممن اجتمع عليه جديلة طيء. ومثل هؤلاء قوم لا يغلبون2.
ويظهر من شعر للنابغة أن "النعمان" كان قد غزا تميمًا وقيس وائل، وأنه أوجعهم، وقد غزاهم في الربيع3.
وللنابغة أشعار أخرى في مدح "النعمان" هذا، ومنها أبيات استهلها بقوله:
__________
1 ديوان النابغة "ص60 وما بعدها" "بيروت 1929م".
2 ديوان النابغة "ص60 وما بعدها".
3 ديوان النابغة "ص82".(6/114)
والله والله لنعم الفتى إذ ... أعرج، لا النكسى ولا الخامل1
وقد أدرك النابغة أجل "النعمان بن الحارث بن أبي شمر"، إذ مات مقتولًا فرثاه بقصيدة، يظهر منها أنه كان يكنى بـ"أبي حجر"، وأنه قبر موضع يقع بين "بصرى" و"جاسم"2.
وقد غزا "النعمان" العراق، ولا يستبعد "نولدكه" أن يكون هو الذي قصده المؤرخ "ثيوفلكتوس" حين تحدث عن غزو قام به عرب الروم على العراق في زمن الصلح أي حوالي سنة "600م"3.
وقد مدح النابغة "النعمان بن الحارث الأصغر" في القصيدة التي تبدأ بقوله:
وَإِن يَرجِعِ النُعمانُ نَفرَح وَنَبتَهِج ... وَيَأتِ مَعَدًّا مُلكُها وَرَبيعُها
وَيَرجِع إِلى غَسّانَ مُلكٌ وَسُؤدُدٌ ... وَتِلكَ المُنى لَو أَنَّنا نَستَطيعُها4
ورثى "النابغة" النعمان في قصيدة جاء فيها أن شيبان وذهلًا وقيس بن ثعلبة وتميمًا سروا بوفاته؛ لأنهم أمنوا بذلك على أنفسهم من غارته ومن غزوه لهم5. ويظهر من شعر النابغة فيه أنه كان محاربًا يغزو القبائل، ولذلك هابته. وقد بكاه بقوله:
بَكى حارِثُ الجَولانِ مِن فَقدِ رَبِّهِ ... وَجورانُ مِنهُ خَاشِعٌ مُتَفائِلُ6
وذكر "ابن قتيبة" أن النابغة لما صار إلى غسان، انقطع إلى "عمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر الغساني" وإلى أخيه "النعمان بن الحارث"، فأقام النابغة فيهم فامتدحهم، فغم ذلك النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وبلغه أن الذي قُذف به عنده باطل، فبعث إليه من يسأله أن يعود، فاعتذر النابغة في شعر، وقدم عليه مع زبان بن سيار ومنظور بن سيار الفزارين، وقبل عذره ورحب به7.
__________
1 ديوان النابغة "ص90".
2 ديوان النابغة "ص84".
3 غسان "ص42"، Theophylactus, Historiae,
4 البطليوسي "ص57".
5 البطليوسي "ص60 وما بعدها".
6 حمزة "ص80".
7 الشعر والشعراء "ص77" "النابغة الذبياني".(6/115)
ثم ملك بعده -على رأي حمزة- الأيهم بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر، وهو على حد تعبيره صاحب "تدمر" و"قصر بركة" و"ذات أنمار" وغير ذلك1.
ثم ملك بعد الأيهم بن جبلة شقيقه المنذر بن جبلة، وكان ملكه على رواية حمزة ثلاث عشرة سنة2.
ثم صار الملك إلى شقيقه "شراحيل بن جبلة" على رواية حمزة. وكان ملكه خمسًا وعشرين سنة وثلاثة أشهر3.
ثم انتقل الحكم إلى "عمرو بن جبلة" بعد وفاة "شراحيل" وهو على رأي حمزة شقيقه، وقد حكم عشر سنين وشهرين4.
ثم حول حمزة الحكم إلى "جبلة بن الحارث"، بعد وفاة "عمرو بن جبلة" وهو على رأيه ابن أخيه. وجعل حكمه أربع سنين5.
ثم صير حمزة الملك إلى "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن مارية" وهو على رأيه آخر ملوك غسان. وكان ملكه ثلاث سنين، وهو الذي كان أسلم ثم تنصر، ولجأ إلى الروم6. وقد سرد المسعودي نسبه على هذه الصورة: "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن حجر بن النعمان بن الحارث بن الأيهم بن الحارث بن جبلة بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة"7، وسرده على هذه الصورة "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن مازن" في مكان آخر8.
وذكره "ابن عبد ربه" على هذه الصورة: "جبلة بن الأيهم بن أبي شمر الغساني"9. وذكر "الذهبي" أن الأصل هو "الأهيم"، لا "الأيهم"، وكناه بـ"أبي المنذر"، وقال إنه كان ينزل "الجولان"10
__________
1 حمزة "ص80".
2 حمزة "ص80".
3 حمزة "ص80".
4 حمزة "ص80".
5 حمزة "ص81".
6 حمزة "ص81"، المحبر "ص372"، لسان العرب "11/ 96".
7 التنبيه "ص158".
8 مروج "2/ 108"، "2/ 30"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
9 العقد الفريد "1/ 187 وما بعدها" "القاهرة 1935م".
10 تأريخ الإسلام، للذهبي "2/ 214" "نسخة دار الكتب المصرية".(6/116)
وقد وصف بأنه كان طويلًا، طوله اثني عشر شبرًا، وكان إذا ركب مسحت قدمه الأرض1.
وقد ورد اسم "جبلة بن الأيهم" في أخبار الفتوحات الإسلامية لبلاد الشأم، إذ ذكر في "فتوح البلدان" للبلاذري: أن "هرقل" لما سمع بتجمع المسلمين ومقدمهم "يوم اليرموك"، بعث على مقدمته "جبلة بن الأيهم الغساني" في مستعربة الشأم من لخم وجذام وغيرهم لمقاتلة المسلمين، غير أن "جبلة" انحاز في القتال إلى الأنصار قائلًا: "أنتم إخواننا وبنو أبينا، وأظهر الإسلام"2.
أما الطبري فقد ذكر: أن خالدًا لما صار إلى "مرج الصفر"، لقي عليه غسان، وعليهم "الحارث بن الأيهم"3. ولم يشر إلى جبلة. فيظهر أن وهمًا في الاسم قد وقع للرواة، فصار "جبلة" عند بعض، وصار" الحارث" عند بعض آخر، ولعل مرده إلى سهور وقع من النساخ.
ولحسان بن ثابت شعر في مدح "جبلة بن الأيهم"، وفي ذكر ملكه وملك "آل جفنة"، يظهر منه شدة تعلقه بهم على بعده عنهم وزوال ملكهم وابتعاده عنهم بالإسلام4. وقد أورد المسعودي بعض الأشعار التي مدح حسان بها "جبلة بن الأيهم" منها:
أشهرنها فإن ملكك بالشا ... م إلى الروم فخر كل يماني5.
وقد ورد في رواية من روايات أهل الأخبار أن حسان بن ثابت زار "جبلة بن الأيهم"، وعنده "النابغة" و"علقمة بن عبدة" فأنشده شعرًا، فأعطاه ثلاثمائة دينار وعشرة أقمصة لها جيب واحد، في كل عام مثلها. وتذكر رواية أخرى أن الشخص الذي زاره "حسان" هو "عمرو بن الحارث الأعرج"، وأنه مدحه فأعطاه ألف دينار مرجوحة، وهي التي في كل دينار عشرة دنانير6.
__________
1المعارف "ص281".
2 فتوح البلدان "141 وما بعدها"، "القاهرة 1901م".
3 الطبري "2/ 410" "دار المعارف بمصر".
4 مروج "2/ 13" "محمد محيي الدين عبد الحميد"، البرقوقي "414 وما بعدها".
5 مروج "2/ 31" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
6 الأغاني "14/ 2 وما بعدها".(6/117)
وذُكر أن "جبلة بن الأيهم" لما سمع، وهو ببلاد الروم، أن حسانًا قد صار مضرور البصر كبير السن، أرسل إليه خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج، فلما سلمها الرسول الذي حمل الهدية إليه، نظم شعرًا في مدحه أوله:
إِنَّ اِبنَ جَفنَةَ مِن بَقِيَّةِ مَعشَرٍ ... لَم يَغذُهُم آباؤُهُم بِاللَؤمِ
لَم يَنسَني بِالشامِ إِذ هُوَ رَبُّها ... كَلّا وَلا مُتَنَصِّرًا بِالرومِ
وأخذ يراجع ذكريات تلك الأيام الخالية التي قضاها معه ومع بقية آل غسان1.
وقد اتفقت روايات أهل الأخبار في موضوع دخول جبلة في الإسلام، ثم في ارتداده، إلا رواية واحدة ذهبت إلى أنه لم يسلم. وقد ذهب أكثرهم في سبب ردته إلى أن أعرابيًّا من فزارة وطئ فضل إزار جبلة وهو يسحبه في الأرض بمكة، فلطمه جبلة، فنابذه الأعرابي إلى عمر، فحكم عمر له بالقصاص، فعد جبلة القصاص إهانة له وهو ملك، ففر إلى بلاد الروم وارتد بها، وبقي بها مرتدًا حتى وافته منيته2. ولكن رواية "ابن قتيبة"، تختلف عن رواية أكثر أهل الأخبار في موضوع المكان الذي كان السبب في ارتداده عن الإسلام، إذ جعلته مدينة "دمشق"، قالت: "وكان سبب تنصره أنه مر في سوق دمشق، فأوطأ رجلًا فرسه، فوثب الرجل فلطمه، فأخذه الغسانيون فأدخلوه على أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم سيدنا. فقال أبو عبيدة بن الجراح: البينة أن هذا لطمك. قال: وما تصنع بالبينة؟ قال: إن كان لطمك لطمته بلطمتك. قال: ولا يقتل؟ قال: لا. قال: ولا تقطع يده. قال: لا. إنما أمر الله بالقصاص، فهي لطمة بلطمة. فخرج جبلة ولحق بأرض الروم وتنصر"3.
ونجد خبر "ابن قتيبة" المذكور مدونًا في كتاب "الطبقات" لابن سعد، حيث جاء: "وكتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأهدى له هدية ولم يزل مسلمًا حتى كان في زمان عمر بن الخطاب،
__________
1 البرقوقي "ص391 وما بعدها".
2 مروج "2/ 31 وما بعدها" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد" ابن خلدون "2/ 586"، تاريخ الخميس "2/ 61"، الأغاني "14/ 2 وما بعدها".
3 المعارف "ص281".(6/118)
فبينما هو في سوق دمشق إذ وطئ رجلًا من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأخذ وانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبيلة، قال: فليلطمه، قالوا: وما يقتل؟ قال: لا، قالوا: فما تقطع يده؟ قال: إنما أمر الله، تبارك وتعالى بالقود. قال جبلة: أو ترون أني جاعل وجهي ندًّا لوجه جدي جاء من عمق! بئس الدين هذا! ثم ارتد نصرانيًّا! وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر، فشق عليه، وقال لحسان بن ثابت: أبا الوليد، أما علمت أن صديقك جبلة بن الأيهم ارتد نصرانيًّا؟ قال: وحق له، فقام إليه عمر بالدرة فضربه بها"1.
وذكر بعض أهل السير والأخبار، أن الرسول كتب إلى جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان، كتابًا دعاه فيه إلى الإسلام. فلما وصل الكتاب أسلم، وكتب إلى الرسول يعلمه بإسلامه2. وذُكر أن "شجاع بن وهب" إنما بعثه رسول الله إلى جبلة، فأسلم3، وأرسل إلى رسول الله هدية. وكان ينزل بالجولان4.
وتزعم بعض الروايات أنه زار المدينة في خلافة "عمر". وقد عد يوم مجيئها إليه من الأيام المشهورة؛ إذ جاء إليها في موكب حافل كبير فيه خيول كثيرة لم تر المدينة مثلها من قبل، وخرج الناس إلى الطرق لرؤية موكبه، وفرح عمر بمجيئه. وعد ذلك توفيقًا من الله للإسلام. وأكرمه غاية الإكرام. وبعد أن قابل الخليفة، استأذن منه بالذهاب إلى الحج، فوقع له عندئذ حادث الإزار مع الأعرابي، ففر إلى بلاد الروم، ويقال: إنه توفي بالقسطنطينية سنة عشرين من الهجرة5. وذكر أنه لما قدم المدينة كان في خمسمائة فارس من عك وجفنة.
فلما دنا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوخ بالذهب والفضة، وليس تاجه وفيه قرط مارية وهي جدته، فلم يبق يومئذ بالمدينة أحد إلا خرج ينظر إليه6.
وقد ذكر "البلاذري" أن "جبلة بن الأيهم" حكم بعد "الحارث بن أبي شمر". وروي أنه لما قدم "عمر" الشأم سنة "17" للهجرة، حدث أن لطم
__________
1 طبقات "1/ 265".
2 تأريخ الخميس "2/ 61".
3 ابن خلدون "2/ 281".
4 تأريخ الإسلام، للذهبي "2/ 214"، "نسخة دار الكتب المصرية".
5 ابن خلدون "2/ 281".
6 العقد الفريد "1/ 187 وما بعدها" "القاهرة 1935م ".(6/119)
"جلبة" رجلًا من مزينة على عينه، فأمره عمر بالاقتصاص منه، فقال: أو عينه مثل عيني! والله لا أقيم ببلد عليَّ به سلطان. فدخل بلاد الروم مرتدًا. وروى رواية أخرى خلاصتها أن جبلة أتى عمر على نصرانية، فعرض عمر عليه الإسلام، ولكنه لم يتفق مع عمر. فلما قال له عمر: ما عندي لك إلا واحدة من ثلاث: إما الإسلام، وإما أداء الجزية، وإما الذهاب إلى حيث شئت.
فدخل بلاد الروم في ثلاثين ألفًا فلما بلغ ذلك عمر ندم1.
وتذكر رواية أن "جبلة بن الأيهم" عاش في القسطنطينية حتى مات سنة عشرين من الهجرة2.
فنحن أمام روايتين بشأن مكان ردة جبلة، وتجاه رواية عن إسلامه. رواية تجعل ارتداده في مكة، ورواية تجعل ارتداده بدمشق، ورواية تذكر أنه لم يدخل مطلقًا في الإسلام. ويظهر أن رواية دمشق هي أقرب إلى المنطق؛ إذ لا يعقل فرار جبلة من مكة إلى بلاد الروم بمثل هذه السهولة التي تخيلها أهل الأخبار، وبينه وبين بلاد الروم مسافات شاسعة ما كان في إمكانه قطعها قط والنجاة من تعقب المسلمين له، لو كان موضع هربه هو مكة. أما دمشق، فإنها قريبة من حدود الروم، ولدى جبلة فيها وسائل كبيرة تساعده على الهرب.
والرأي عندي أن جبلة، لم يدخل أبدًا في الإسلام، وإنما بقي مع الروم.
وغادر بلاد الشأم معهم، وكان يحارب المسلمين إلى جانبهم، وانتقل بأتباعه ممن بقوا على دينهم إلى بلاد الروم فأقاموا بها، وقد مات هناك ودفن في تلك البلاد، وما هذا الذي روي عن إسلامه وعن زيارته ليثرب ولمكة إلا من قصص القصاص وضعوه فيما بعد.
إن ما يذكره أهل الأخبار من ملك "جبلة"، لا يخلو من مبالغة، وما يقال عن ملكه وعن استقبال "هرقل" له، ذلك الاستقبال العظيم، لا يخلو من مبالغة أيضًا. نعم من الجائز أن الروم قبلوه لاجئًا، ورحبوا به وساعدوه على أمل استخدامه لمهاجمة المسلمين، واسترداد بلاد الشأم منهم، غير أننا لا نستطيع أن نوافق على ما ورد في روايات أهل الأخبار من ذلك الوصف الذي ذكروه من احتفال الروم في القسطنطينية. ومن المعيشة التي كان يعيشها في عاصمتهم
__________
1 فتوح البلدان "ص142 وما بعدها".
2 ابن خلدون "2/ 281".(6/120)
إلى حين وفاته1. بل لقد شك بعض المستشرقين مثل "نولدكه" حتى في موضوع تملكه وتولية الحكم له على عرب الشأم2.
ونجد في خبر فتح دومة الجندل، رجلًا من غسان كان قد تزعم قومه وجاء في "طواف من غسان وتنوخ" لنجده أهل "دومة الجندل". وقد دعاه "الطبري"، "ابن الأيهم" ولم يشر إلى اسمه3.
ونجد في "العقد الفريد" وصفًا لمجلس "جبلة" ولمسكنه في القسطنطينية لا يخلو من مبالغة، وقد نسب وصفه إلى رسول ذكر أن الخليفة عمر كان قد أرسله إلى "هرقل" ليدعوه إلى الإسلام. ويذكر الرسول الموفد أن "هرقلًا" هو الذي أشار عليه بزيارة قصر "جبلة" فلما ذهب إليه، وجد على بابه من القهارمة والحجاب وكثرة الجمع مثل الذي على باب "هرقل"، ثم وصف مجلسه وأرائكه المرصعة بالجواهر، وغناء الجواري في مجلسه بغناء حسان بن ثابت مما يجعله في ثراء الملوك الحاكمين لا الملوك الفارين4.
واسم الرسول المذكور هو "جثامة بن مساحق الكناني"5. ويذكر بعض أهل الأخبار أن الخليفة معاوية أرسل "عبد الله بن مسعود الفزاري" إلى ملك الروم فوجد عنده "جبلة بن الأيهم"، فوصف مجلسه وما كان عليه من فاخر الملبس والمأكل والمسكن، وهو كلام فيه مبالغات وغلو في الكلام، على نمط ما رأيناه في وصف "جثامة"6. وهو يتفق معه في الخبر. والظاهر أن الرواة قد أخطئوا في هذا الخبر. فنسبوه مرة إلى رسول عمر، ونسبوه مرة أخرى إلى رسول معاوية.
__________
1 العقد الفريد "1/ 188 وما بعدها".
2 غسان "ص45" من النص الألماني، provincia arabia ii, s. 174
4 الطبري "3/ 378" "خبر دومة الجندل".
3 راجع الوصف في العقد الفريد "1/ 188 وما بعدها".
5 الأغاني "14/ 2 وما بعدها".
6 الأغاني "14/ 2 وما بعدها"، البرقوقي "234 وما بعدها"، ابن قتيبة، الشعر "223".(6/121)
ملوك الغساسنة
وعدة ملوك الغساسنة على رواية حمزة اثنان وثلاثون ملكًا، ملكوا ستمائة وست عشرة سنة1. أما "المسعودي"، فجعل عددهم أحد عشر ملكًا2.
__________
1 حمزة "ص81".
2 مروج "2/ 32" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، ابن خلدون "2/ 281".(6/121)
وقد رتب المسعودي أسماء الملوك على هذا النحو: "الحارث بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس"، ثم "الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو" ثم "النعمان بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن جفنة"، ثم "المنذر أبو شمر بن جبلة بن ثعلبة"، ثم "عوف بن أبي شمر"، ثم "الحارث بن أبي شمر" وكان ملكه حين بعث رسول الله، ثم جبلة بن الأيهم1.
والأسماء المذكورة هي أقل من الرقم المذكور كما نرى بكثير؛ إذ هي سبعة فقط، على حين يجب أن تكون بحسب روايته أحد عشر اسمًا.
وفي الذي ذكره حمزة عن مدة حكم الغساسنة مبالغة. فلو أخذنا بالعدد الذي ذكره لمجموع حكم ملوكهم، وهو ست عشرة وستمائة سنة، لوجب علينا القول بأن ابتداء حكمهم كان حوالي الميلاد. وهو قول لم يقله أحد، ولا يؤيده أي سند أو دليل. والذي نعرفه أن مدة حكمهم هي دون المدة المذكورة بكثير، كما أن في الترتيب الذي ذكره حمزة لملوكهم تكرارًا وزيادات. وهو يخالف ما نراه عند المؤرخين الآخرين الذي تعرضوا لآل غسان.
وتختلف قائمة "ابن قتيبة الدينوري" بأسماء ملوك غسان اختلافًا كبيرًا عن قائمة "حمزة" ومن قائمة "المسعودي". وقد ذكرت فيما مضى أنه جعل "الحارث بن عمرو" المعروف بمحرق أول ملك من ملوك غسان، ثم جعل من بعده الحارث الأعرج، ثم الحارث الأصغر، ثم النعمان، وهو شقيق الحارث الأصغر.
وقد ذكر أنه كان للنعمان بن الحارث ثلاثة بنين هم: حجر بن النعمان وبه كان يكنى، النعمان بن النعمان، وعمرو بن النعمان. وقال إن فيهم يقول حسان بن ثابت:
مَن يَغُرُّ الدَهرُ أَو يَأمَنُهُ ... مِن قَبيلٍ بَعدَ عَمرٍو وَحُجُر
مَلَكا مِن جَبَلِ الثَلجِ إِلى ... جانِبَي أَيلَةَ مِن عَبدٍ وَحُرّ2
وقال "ابن قتيبة الدينوري": ومن ولد الحارث الأعرج أيضًا عمرو بن الحارث، الذي كان النابغة صار إليه حين فارق النعمان بن المنذر، وفيه يقول النابغة:
__________
1 مروج "2/ 30" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، "2/ 83 وما بعدها"، "طبعة دار الأندلس".
2 المعارف "ص281".(6/122)
عَلَيَّ لِعَمروٍ نِعمَةٌ بَعدَ نِعمَةٍ ... لِوالِدِهِ لَيسَت بِذاتِ عَقارِبِ
قال: وكان يقال لعمرو أبو شمر الأصغر، ومن ولده المنذر بن الحارث، والأيهم بن الحارث، وهو والد جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان1.
وقد ذكر في كتب السير والتواريخ اسم أمير غساني، هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الذي أرسل الرسول إليه شجاع بن وهب ليطلب إليه الدخول في الإسلام، وكان ملكه على ما يذكره الأخباريون في الشأم، وكان له قصر منيف وحجاب2. وذكر الطبري أنه كان "صاحب دمشق"3. وقد أدخله "محمد بن حبيب" في جملة "العرجان الأشراف"4. وقد عرف بـ"الحارث الأصغر" في شعر لحسان بن ثابت5.
وأرى أن الحارث بن أبي شمر هذا هو "الحارث" معاصر "جبلة بن الأيهم" الذي أشار حسان إليه.
وقد كان "حسان بن ثابت" زار الحارث بن أبي شمر الغساني، وكان النعمان بن المنذر اللخمي يساميه، فقال له وهو عنده: يابن الفريعة، لقد نبئت أنك تفضل النعمان عليَّ فقال: وكيف أفضله عليك ثم أخذ يشرح تفضيله له على النعمان حتى سر الحارث، ثم عاد حسان فنظم ما قاله نثرًا فيه في أبيات زادت من سروره، وحصل على جوائزه وعطاياه6.
وذكر أن حسان بن ثابت كان يفد على جبلة بن الأيهم سنة، ويقيم سنة في أهله. فقال: "لو وفدت على الحارث أبي شمر الغساني فإن له قرابة ورحمًا بصاحبي، وهو أبذل الناس للمعروف، وقد يئس مني أن أفد عليه لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة". فخرج في السنة التي كان يقيم فيها بالمدينة، حتى قدم على الحارث، وقد هيأ له مديحًا. فقال له حاجبه وكان له ناصحًا: "إن الملك قد سر بقدومك عليه، وهو لا يدعك حتى تذكر جبلة. فإياك أن تقع فيه،
__________
1 المعارف "ص281".
2 السيرة الحلبية "3/ 255"، "طبعة مصر" ابن خلدون "2/ 36".
3 الطبري "2/ 652" "دار المعارف".
4 المحبر "ص304".
5 البرقوقي "ص182".
6 البرقوقي "ص181 وما بعدها"، مروج "2/ 31" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".(6/123)
فإنما يريد أن يختبرك، وإن رآك قد وقعت فيه زهد فيك، وإن رآك تذكر محاسنه ثقل عليه، فلا تبتدئ بذكره، وإن سألك عنه، فلا تطنب في الثناء عليه ولا تعيبه، امسح ذكره مسحًا وجاوزه إلى غيره" ثم نصحه بنصائح أخرى تنم عن سلوك الحارث، وقد أفادته كثيرًا. فلما دخل عليه، حسنت منزلته عنده وصار يدعوه، ثم جباه وأعطاه خمسمائة دينار وكسيّ وألطافًا وعاد إلى أهله1.
ولو صح هذا الخبر، فإنه يدل على أن أمر الغساسنة في هذا الوقت لم يكن واحدًا، وأن حكمهم كان قد تبدد وتشتت. وأن جبلة بن جبلة كان يحكم على جماعة من غسان، والحارث بن أبي شمر كان يحكم في الوقت نفسه على جماعة أخرى، وكل منهما كان يحلي نفسه بحلية الملك، ومن يدري فلعل أشخاصًا آخرين كانوا ينازعونهما الحكم أيضًا، ويحلون أنفسهم بلقب "ملك"، اللقب الحبيب الذي لم يكن يرتفع في الواقع عن درجة سيد قبيلة أو "شيخ" عشيرة في اصطلاحنا في الوقت الحاضر.
وقد ذكر أهل الأخبار اسم رجل قالوا إنه كان قائدًا من قواد "الحارث بن أبي شمر"، ودعوه بـ"النعمان بن وائل بن الجلاح الكلبي"، وذكروا أنه أغار على بني فزارة وبني ذبيان، فاستباحهم، وسبى سبيًا من غطفان. وأخذ "عقرب" بنت النابغة الذبياني. فلما سألها. فانتسبت إلى أبيها، منَّ عليها ثم أطلق له سبي غطفان. فلما سمع بذلك النابغة، مدحه بقصيدة2. وسبق أن تحدثت عن "النعمان بن الجلاح الكلبي" في أثناء كلامي على الملك "النعمان بن الحارث" حين أغار قوم النابغة على أعراب "النعمان بن الحارث" بوادي أقر، وكان النابغة قد نهى قومه وحذرهم من التحرش بهم، فخالفوا رأيه، فأوقع بهم "ابن الجلاح" خسائر فادحة.
وفي ديوان حسان قصيدة، مطلعها:
إِنّي حَلَفتُ يَمينًا غَيرَ كاذِبَةٍ ... لَو كانَ لِلحارِثِ الجَفنِيِّ أَصحابُ
يذكر شراحها أن نظمها في رثاء "الحارث الجفني"، وقالوا: إن الحارث
__________
1 الأغاني "14/ 2 وما بعدها".
2 الاشتقاق "2/ 316"، ديوان النابغة "ص32، 40".(6/124)
الجفني المذكور هو الحارث بن أبي شمر الغساني. وقد ذكروا أن دافع فيها عن هزيمة أدركت الحارث في إحدى حروبه، فعاد ومن معه بغير أسلاب ولا أسرى بل يظهر من أبياتها أن العدو أوقع به فقتل من جمعه، وقد اعتذر الحارث بأن من معه لم يكونوا من "جذم غسان" وإنما كانوا من "مأشبة الناس" أي جماعة أوشاب الناس وأوباشهم أي الأخلاط التي تجتمع من كل أوب. ومثل هؤلاء لا تكرثهم الهزيمة، ولا يسألون بذلك؛ إذ لا أحساب لهم ولا شرف، فلا عجب أن أصيب بخيبة في هذه المعركة ومعه مثل هؤلاء الناس1.
ويظهر من القصيدة المذكورة، أن الحارث بن أبي شمر، كان قد توفي قبل "جبلة بن الأيهم". وذلك لرثاء حسان له ولإجماع أهل الأخبار على أن جبلة عاش أمدًا بعد ظهور الإسلام. وأنه مات في بلاد الروم بعيدًا عن بلاد الشأم وعن أرض آبائه وأجداده. وبدليل ما ورد في تأريخ الطبري من أن الرسول أرسل شجاعًا بن وهب إلى رجل من غسان اسمه "المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني". يدعوه إلى الإسلام2. وهذا الرجل هو أحد أبناء الحارث المذكور.
وذكر الأخباريون رجلًا آخر من غسان، دعوه "عديًا"، وقالوا: إنه ابن أخت الحارث بن أبي شمر الغساني، وإنه أغار على بني أسد، فلقيته "بنو سعد بن ثعلبة بن دودان" بالفرات، ورئيسهم "ربيعة بن حذار الأسدي"، فاقتتلوا قتالًا شديدًا. فقتلت بنو سعد عديًا3. وقد سمي "محمد بن حبيب" هذا اليوم الذي وقع فيه القتال "يوم الفرات"4.
وأشار الواقدي إلى ملك غساني اسمه "شرحبيل بن عمرو الغساني"، وذكر أنه قتل رسولَ رسولِ الله إلى ملك بصرى في مؤتة5. ويشك "نولدكه" في نسبة هذا الأمير إلى الغسانيين، وحجته في ذلك أن الواقدي ذكره في موضع آخر مع أخويه "سدوس" و"بر"، ونسبه في هذا الموضع إلى الأزد. ثم إنه لم يكن من عادة الغساسنة على رأيه ذكر لقب الغساني بعد الاسم6.
__________
1 البرقوقي "ص29".
2 الطبري "2/ 652" "دار المعارف".
3 الأغاني "11/ 199" طبعة دار الكتب المصرية".
4 المحبر "ص247".
5 الواقدي "ص309"، "طبعة ولهوزن"، السيرة الحلبية "3/ 66".
6 غسان "ص48".(6/125)
وأشير في كتب الأدب إلى اسم ملك من ملوك "غسان" قالوا له "قرص"، لم يذكروا عنه شيئًا ذكروه في حديثهم عن "عدي" قالوا: إنه ابن "أخي قرص الغساني"، وكان "عدي" هذا قد غزا "بني أسد" فقتلوه، وأرادوا في ذلك شعرًا نسبوه إلى الغساني:
لعمرك ما خشيت على عدي ... رماح بني مقيدة الحمار
ولكني خشيت على عدي ... رماح الجن أواياك حار1
ولم يرد اسم هذا الملك في القوائم التي وضعها المؤرخون أمثال اليعقوبي والطبري والمسعودي وابن خلدون وأمثالهم لملوك غسان، وعدي المذكور في خبر "قرص" هو "عدي" المتقدم ولا شك.
وقد وفد "حسان بن ثابت" على "عمرو بن الحارث"، فاعتاص الوصول إليه، فلما طال انتظاره، قال للحاجب: "إن أذنت لي عليه، وإلا هجوت اليمن كلها، ثم انقلبت عنكم" فأذن له ودخل عليه، فوجد عنده "النابغة" وهو جالس عن يمينه، و"علقمه بن عبدة" وهو جالس عن يساره، فقال له "عمرو": "يابن الفريعة قد عرفت عيصك ونسبك في غسان فارجع، فإني باعث إليك بصلة سنية، ولا احتاج إلى الشعر، فإني أخاف عليك هذين السَّبُعين: النابغة وعلقمة، أن يفضحاك، وفضيحتك فضيحتي" ثم تلا عليه شعرًا مما قاله الشاعران في مدحه. فأبى إلا أن يقول شعرًا فيه، وطلب من الشاعرين أن يسمحا له بالقول، فقال فيه قصيدته التي تبدأ بقوله:
أَسَأَلتَ رَسمَ الدارِ أَم لَم تَسأَل ... بَينَ الجَوابي فَالبُضَيعِ فَحَومَلِ2
وقد أورد في هذه القصيدة أسماء مواضع، منها: "الجوابي"، أي "جابية الجولان"، و"البضيع" أو "البصيع"، وهو جبل قصير أسود على تل بأرض البلسة فيما بين "سيل" و"ذات الصنمين" و"حومل" و"مرج الصفرين"، وهو موضع بغوطة دمشق، و"جاسم"، وهي قرية بينها وبين دمشق ثمانية فراسخ على يمين الطريق إلى طبرية، وكل هذه الأماكن التي ذكرها
__________
1 ديوان حسان، "ص219"، البرقوقي"، "ص79 "هرشفلد".
2 ديوان حسان "ص305"، "البرقوقي".(6/126)
هي منازل كانت لآل جفنة، إلا أنها خربت، وتركها أهلها حتى صارت دوارس تعاقبها الرياح1.
ثم تطرق إلى ذكر من كان يناديهم بـ"جلق"، وهو موضع قيل إنه يقرب دمشق، وقيل إنه "دمشق": كيف كانوا كرماء أجوادًا يجودون على من يفد عليهم، لا فرق عندهم بين غني وفقير، يمشون في الحلل القشيبة المضاعف نسجها، ويجيرون من يستجير بقبر أبيهم "ابن مارية الكريم المفضل"، فلا يخاف من عدو ولا يخشى من اعتداء يقع عليه. كلابهم لا تهر؛ لأنها ألفت الضيوف وأنست بهم من كثرة تدفقهم عليهم. يسقون ماءً باردًا من "البريص"، ومن "بردا"، وهما نهران بدمشق، ممزوجًا بالرحيق، ثم تذكر "قصر دومة" أي دومة الجندل، وكيف شرب الخمر في حانوتها من ساق منتطف، أي مقرط وضع القرط في أذنه، والمنطقة في وسطه2.
وجلق كما ذكرت موضع من مواضع الغساسنة، ويظهر أن سلطان البيزنطيين لم يكن كبيرًا عليه. وقد اشتهر ببساتينه وبكثرة أشجار الزيتون به، وبوفرة مياهه وقد تغنى به الشعراء في الإسلام، فورد ذكره في شعر أبي نواس3. وكان الغساسنة يدفنون فيه موتاهم. ولهم ضريح ضم رفات ملوكهم. ومع شهرة المكان فقد اختلف الناس في تثبيت موضعه وتعيينه. والرأي الغالب أنه ليس من أطراف دمشق كما ذهب إلى ذلك بعض أهل الأخبار4.
وقد ترك الروم ساقتهم بـ"ثنية جلق" وعليها صاحب الساقة، وذلك ليراقب المسلمين حينما تقدموا لطردهم من بلاد الشام. ولم يرد للغساسنة أي ذكر في الدفاع عن هذا المكان5.
ويظهر من نظم هذه القصيدة، ومن أسلوبها ونفسها، ومن تذكر "حسان" لآل جفنة بعد أن كبر وتقدمت بن السن، أن هذا الشعر هو من الشعر المتأخر،
__________
1 ديوان حسان "ص307"، "البرقوقي"، "ص32"، "هرشفلد".
2 البرقوقي "ص308 وما بعدها".
3 اللسان، مادة "جلق"، البلدان، "جلق".
4 الموسوعة الإسلامية "7/ 86"، الأغاني "14/ 2" اللسان "10/ 36".
5 الطبري "3/ 392".(6/127)
ولا أستبعد أن يكون قد نظمه بعد زوال ملك "الغساسنة"، وقد أنشده أمام أحد الغساسنة المتأخرين، ولم يكن ملكًا بالمعنى المفهوم من الملك.
وقد رثى حسان بن ثابت رجلًا من غسان قتله كسرى، ولم يذكر اسمه، ولا الأسباب التي حملت كسرى على قتله، ولا الأحوال التي قتل فيها1. ويظهر من سياق الشعر الذي رُثي به ذلك القتيل أن هذا القتيل قد وقع بعد أفول نجم آل غسان وإدبار الدنيا عنهم، ولعله كان قد قتله بعد احتلال الفرس لبلاد الشأم. فكان هذا الغساني من المعارضين للفرس المناوئين لهم، ولذلك قتلوه في فترة احتلالهم لها.
وقد أشار "أبو الفرج الأصبهاني" إلى أمير غساني سماه: "يزيد بن عمرو الغساني"، ذكر أنه قتل الحارث بن ظالم2. ولا نعرف من أمر هذا الأمير شيئًا يذكر. وهناك روايات أخرى تنسب قتل الحارث إلى "النعمان الغساني"، على حين تنسبه روايات ثالثة إلى آل لخم ويرجع نولدكه الرأي الأخير3.
وقد ورد في شعر لحسان بن ثابت هجاه لـ"سلامة بن روح بن زنباع الجذامي"، وكان يلي العشور للروم. ولا بد أن يكون ذلك في أيام الغساسنة المتأخرين. وقد شبهه بـ"دمية في لوح باب"، أي كأنه صورة مصورة، أو صنمًا معلقًا على لوح باب4.
ومن الأماكن التي وردت في شعر "حسان بن ثابت" على أنها من مواضع الغساسنة "الجواء" و"عذراء"، وهما موضوعان بالشأم بأكتاف دمشق. وإلى "عذراء" هذه يضاف "مرج عذراء"، وكانت في هذه المواضع منازل بني جفنة، لذلك ذكرها "حصان" في شعره5. وذكر كذلك "بطن جلق" و"البلقاء"، و"المحبس" , و"السند" و"بُصرى" و"جبل الثلج"6.
أما ما يفهم من شعر "حسان" وغير حسان من شمول ملك الغساسنة مدينة
__________
1 البرقوقي "ص387 وما بعدها".
2 الأغاني "10/ 28 وما بعدها".
3 غسان "ص48".
4 البرقوقي "ص219".
5 البرقوقي "ص1 وما بعدها".
6 البرقوقي "ص110".(6/128)
"دمشق" أو تجاوزها ومن وصوله مواضع قريبة منها أو ملتصقة بها، فيجب أن تحمله محمل المجاز أو محمل مبالغات الشعراء في التفاخر والتباهي والمدح. فإذا استثنينا هذا الشعر لا نجد أي مورد تأريخي يقول باستيلاء الغساسنة على "دمشق" أو على مواضع متصلة بها. وكل ما نعرفه من الموارد التأريخية أن سلطانهم كان على أطراف بلاد الشأم، أي على المواضع التي رأى الروم أن من الأصلح لهم تركها إلى أمراء غسان، لصعوبة ضبطها من الوجهة العسكرية بالنسبة إليهم، ولعل ما يذكره أولئك الشعراء هو تعبير عن قصور وأملاك اشتراها ملوك الغساسنة وأمراؤهم في "دمشق" وفي مواضع حضرية أخرى لقضاء بعض الوقت فيها كما يفعل الأمراء في الزمن الحاضر من شراء بيوت وقصور في لبنان وفي أوروبة يقيمون فيها بعض الوقت للتسلية والراحة. فزارهم فيها أولئك الشعراء، ووصفوها وصفًا شاعريًّا، صور الشأم وما حولها كأنها ملك من أملاك الغساسنة.
لقد كان "آل جفنة" كلهم على النصرانية عند ظهور الإسلام، وكانوا أصحاب دين وعقيدة، يدافعون عن مذهبهم كما رأينا. وكانت لهم بيع وكنائس بنوها لهم ولرعيتهم. وقد أشير إلى رجل عرف بـ"أرطبان المرني"، قيل إنه كان "شماسًا" في "بيعة غسان"1، مما يدل على أنها كانت بيعة خاصة بآل غسان.
وقد نسب بعض أهل الأخبار أماكن أخرى إلى الغساسنة، وذلك بالإضافة إلى الأماكن التي سبق أن تحدثت عنها. ومن هذه الأماكن: صفين. وقد زعموا أن منزل "جبلة بن النعمان" كان به. وقد كان في الوقت نفسه صاحب عين أباغ2.
ومن الأماكن المنسوبة إلى الغساسنة موضع "حارب" وقد ورد اسمه في شعر ينسب إلى النابغة حيث يقول:
لئن كان للقرين قبر بجلق ... وقبر بصيداء التي عند حارب3
وورد "قصر حارب". وقد نسبه "حمزة" إلى النعمان بن عمرو بن المنذر4.
__________
1 الإصابة "1/ 102".
2 ابن خلدون: المجلد الثاني من القسم الأول، "ص586".
3 البلدان "2/ 183"، البكري، معجم "1/ 417"، المعاني الكبير "2/ 1015".
4 حمزة "ص79"، الهمداني، صفة "ص179".(6/129)
ويذكر أهل الأخبار "السويداء" في جملة الأماكن التابعة للغساسنة. وقد رجع "حمزة" بناءها إلى "النعمان بن عمرو بن المنذر"1. وتقع في "حوران"2.
والرصافة من المواضع المهمة عند الغساسنة، ففيها مشهد القديس "سرجيوس" وهو من القديسين الجليلين عند الغساسنة، وكانوا يتبركون بزيارة قبره، ويتقربون إليه بالهدايا والنذور. وكان لآل جفنة مساكن فيها، وقد قاموا بإصلاح ما كان يتهدم منها. فقام "النعمان بن الحارث بن الأيهم" بإصلاح وترميم صهاريج المدينة. وكان "النعمان بن جبلة" فيمن أقام بها3.
أما حدود مملكة الغساسنة، فلم تكن على وجه العموم ثابتة، بل كانت تتبدل وتتغير بحسب تبدل سلطة الملوك، وتغيرها. وهي عادة نجدها لدى جميع الممالك والإمارات التي تكونت في البداية أو على أطراف البوادي. حيث تكون معرضة لغزو القبائل، ولنفوذ القبائل الفتية القوية التي تطمع في ملك الإمارات التي تجد فيها شيئًا من الوهن والضعف، وفي رؤسائها دعة أو حزمًا. ولهذا نجد ملك الغساسنة يتوسع ويتقلص بحسب الظروف فيصل إلى مقربة من دمشق، وإلى فلسطين الثانية و"الكورة العربية" و"فلسطين الثالثة" و"فينيقية لبنان". وإلى ولايات سوريا الشمالية في بعض الأحيان4. وفي مساحات شاسعة من البادية إلى المدى الذي يصل إليه سلاحهم. ثم نجده تارة أخرى أقل من ذلك بكثير؛ لضعف الأمير المالك ولطمع القبائل فيه ولاختلافه مع السلطات. ويظهر من شعر حسان بن ثابت أن ملك الغساسنة كان يمتد من حوران إلى "خليج العقبة"5.
وتعد منطقة الجولان من أشهر مناطق الغساسنة. وقد ورد ذكرها في الشعر العربي، وفيها قُبر بعض الأمراء الغسانيين. وهي من الأرضين التابعة لولاية فلسطين الثانية في التقسيم الإداري عند الروم. وبها كان في الغالب مقر آل غسان6.
وقد اشتهرت "الجابية" بأنها كانت مقر الملوك. ولذلك عرفت بجابية الملوك،
__________
1 حمزة "ص79".
2 الحموي، المشترك "ص311"، مراصد الاطلاع "2/ 70 وما بعدها".
3 البلدان، مادة الرصافة، البكري، معجم، الرصافة.
4 غسان "ص51".
5 المشرق، السنة الأولى، حزيران 1898م "485".
6 غسان "ص51 وما بعدها" john of ephesus, 4, 22(6/130)
كما عرفت أيضًا بجابية الجولان1.
وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن قصر المشتى الذي نقلت بعض أحجار جدرانه المحفورة بالصور الجميلة إلى متحف برلين، هو من القصور التي أنشأها الغساسنة، وكذلك بعض الآثار الأخرى الواقعة في البادية.
وفي "البرج" عثر على كتابة يونانية جاء فيها: "البطريق الشريف والأمير المنذر" ويدل ذلك على أنه من آثار "المنذر". أما بقية المواضع، وهي عديدة منتشرة في أماكن واسعة، فللعلماء في أصلها نظريات وآراء.
__________
1 Ency, i, p. 1029(6/131)
أمراء غساسنة:
وذكر الأخباريون أميرًا جفنيًّا دعوه "جفنة من النعمان الجفني"، قالوا إنه غزا الحيرة في أثناء ذهاب النعمان بن المنذر الذي قتله كسرى إلى البحرين، فأصاب في الحيرة ما أحب. وذكروا أنه هو الذي عناه عدي بن زيد العبادي في قصيدة مطلعها:
سَما صَقرٌ فأشعل جانِبَيها ... وَألهاكَ المُرَوَّحُ وَالغَريبُ1
وذكر "أبو حنيفة الدينوري" اسم رجل من غسان، دعاه "خالد بن جبلة الغساني"، قال عنه: "قالوا: وإن خالد بن جبلة الغساني غزا النعمان بن المنذر، وهو المنذر الأخير، وكانا منذرين. ونُعمانين، فالمنذر الأول هو الذي قام بأمر بهرام جور، والمنذر الثاني الذي كان في زمان كسرى أنو شروان، وكان عمال كسرى على تخوم أرض العرب، فقتل من أصحاب المنذر مقتلة عظيمة، واستاق إبل المنذر وخيله، فكتب المنذر إلى كسرى أنو شروان يخبره بما ارتكبه منه خالد بن جبلة"2. وقد ذكره في موضع آخر، في أثناء كلامه على ذهاب "كسرى" إلى قيصر، إذ قال: "وسار كسرى حتى. انتهى إلى اليرموك، فخرج إليه خالد بن جبلة الغساني فقراه، ووجه معه خيلًا حتى بلغ قيصر"3.
__________
1 الأغاني "2/ 117 وما بعدها"، "طبعة دار الكتب".
2 الأخبار الطوال "ص68".
3 الأخبار الطوال "ص91".(6/131)
وقد مدح حسان بن ثابت الأنصاري أميرين من أمراء غسان، هما: عمرو وحجر. وقد ذكر أنهما ملكا من "جبل الثلج" حتى جانبي "أيلة"، وأنهما غزوا أرض فارس1. ويرى "نولدكه" احتمال كون حجر هذا هو أحد أبناء النعمان الذي كُنِّي بأبي حجر2.
وقد ذهب بعض الأخباريين إلى أن عمرًا المذكور في هذه الأبيات هو عمرو بن عدي بن حجر بن الحارث. وأما حجر، فهو حجر بن النعمان بن الحارث بن أبي شمر3. والذي يتبين من هذه القصيدة أن الملكين المذكورين حكما في زمن واحد، وغزوا مشتركين أرض فارس، ويقتضي ذلك أن يكونا قريبين، كأن يكونا أبًا أو ابنًا. أو أخوين، أو أن كل واحد منهما كان يحكم فرعًا من فروع غسان، وذلك بعد تصدع أمر غسان وانقسامهم إلى جملة "مشيخات".
ويرى "ابن الأثير" أن: أبا جبيلة عبيد بن مالك بن سالم، وهو ملك من ملوك غسان على رواية بعض الأخباريين، لم يكن من آل غسان، وإنما كان من "بني غضب بن جشم بن الخزرج"، ذهب إلى غسان فصار عظيمًا عند ملكهم، مطاعًا بينهم، وإليه ذهب "مالك بن العجلان الخزرجي" مستجيرًا به من يهود يثرب، فأنجده وسار معه حتى أوقع في اليهود، ثم رجع عائدًا إلى غسان4.
ولعل "أبا جبيلة الغساني" الذي ذهب إليه الشاعر الجاهلي "الرمق بن زيد بن غنم"5، هو هذا الملك الذي نتحدث عنه.
ويتبين من شعر للأعشى ميمون بن قيس أنه زار الغساسنة، وصحب ملوكهم في ديار الشأم6، واتصل بهم، وقد خاطب أحدهم بقوله: "إليك ابن جفنة"7، غير أنه لم يذكر اسمه.
__________
1
من يغر الدهر أو يأمنه ... من قبيل بعد عمرو وحجر
ملكا من جبل الثلج إلى ... جانبي أيلة من عبد وحر
الأغاني "3/ 16"، "طبعة دار الكتب المصرية"، البرقوقي "ص205".
2 غسان "ص44".
3 الأغاني "3/ 16"، "طبعة دار الكتب المصرية".
4 الكامل، لابن الأثير "1/ 276".
5 البيان "1/ 238".
وصحبنا من آل جفنة أملاكًا ... كرامًا بالشام ذات الرفيف
ديوان الأعشى "ص315"، "طبعة الدكتور م. محمد حسنين"، "ص211"، "طبعة كاير" "geyer"، القصيدة رقم 63، البيت 13.
7
إليك ابن جفنة من شقة ... دأبت السرى وحسرت القلوصا
القصيدة 31، البيت العاشر، ديوان الأعشى "ص207"، "طبعة م. محمد حسنين"، "139"، "طبعة كاير" "Geyer"(6/132)
ووصل إلينا اسم أمير من غسان، هو "الشيظم بن الحارث الغساني"، قتل رجلًا من قومه، وكان المقتول ذا أسرة، فخافهم فلحق بالعراق أو بالحيرة متنكرًا. وكان من أهل بيت الملك، ومكث أمدًا متنكرًا، حتى وافق غرة من القوم، فركب فرسًا جوادًا من خيل المنذر وخرج من الحيرة يتعسف الأرض، حتى نزل بحي من "بهراء" فأخبرهم بشأنه، فأعطوه زادًا ورمحًا وسيفًا وخرج حتى أتى الشام فصادف الملك متبديًا، فأتى قبته، وقص قصته، فبعث إلى أولياء المقتول فأرضاهم عن صاحبهم1.
__________
1 النوادر، للقالي "ص179"، "خير الشيظم الغساني ونزوله بملك الشام مستجيرًا".(6/133)
قوائم ملوك الغساسنة:
ولا بد لي، وقد انتهيت من الكلام على الغساسنة، من الإشارة إلى ضعف مادة الأخباريين عنهم، وقلة معرفتهم بهم، فأنت إذا درست هذا الذي رووه عنهم، وحللته تحليلًا علميًّا لا تخرج منه إلا بنتائج تأريخية محدودة ضيقة تريك أنهم لم يكونوا يعرفون من أمرهم إلا القليل، وأنهم لم يحفظوا من أسماء أفراد الأسرة الحاكمة غير أسماء قليلة، وما عداها فتكرر وإعادة لهذه الأسماء القليلة، أو أوهام. وأنت إذا راجعت التواريخ مثل تأريخ الطبري لا تكاد تجد فيها شيئًا يذكر عن هذه الأسرة. وقد تفوق كتب الأدب كتب التأريخ في هذا الباب.
ويعود الفضل في ذلك إلى الشعر، فلعدد من شعراء الجاهلية أشعار في مدح آل جفنة أو ذمهم، ولهم معهم ذكريات حفظت بفضل هذا الشعر الذي يرويه الرواة ويروون المناسبات التي قيل فيها. فلولاه ضاع أيضًا هذا القليل الذي عرفناه من أخبار الغساسنة.
وحتى القوائم، وهي جافة في الغالب، لا تستند أيضًا إلى علم بالرغم من هذا الترتيب الذي يحاول أصحابه إظهاره لنا بمظهر الواقع والحق. ولن تكسب سنوات الحكم المذكورة مع كل ملك ثقتنا بها. ولا اعتمدنا عليها. وقد اعتمد(6/133)
أكثر من رتب أسماء أمراء الغساسنة على رواية "ابن الكلبي"، غير أنهم كما يظهر من مدوناتهم لم يرووها عنه رواية تامة، بل تصرفوا فيها، فزادوا عليها أو نقصوا منها وحرفوا فيها بعض التحريف. وأخذ آخرون من موارد أخرى، واستعان بعض آخر بما رواه "ابن الكلبي" ومما رواه غيره وأضافوا إليه ما عرفوا من أسماء المذكورين في الشعر، وهم من سادات قبيلة "غسان"، ولم يكونوا كلهم ملوكًا، فجاءت النتيجة قوائم متعددة بتعدد مشارب أصحابها، وهي على العموم شاهد عدل على ضعف الأخباريين في المحاكمات وفي منطق التأريخ.
وقد درس "نولدكه" معظم القوائم التي رواها الأخباريون لأمراء الغساسنة، ونقدها وغربلها، وقارن الحاصل بما وجده في الموارد السريانية والبيزنطية، واستخلص من تلك الدراسة هذه القائمة:
أبو شمر جبلة. حكم حوالي سنة 500م تقريبًا.
الحارث بن جنبلة. استمر حكمه من حوالي سنة 529 حتى سنة 569م.
أبو كرب المنذر بن الحارث. حكم من سنة 569 حتى سنة 582م.
النعمان بن المنذر. وكان حكمه من سنة 582 حتى سنة 583م.
الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر.
الحارث الأعرج بن الحارث الأصغر.
أبو حجر النعمان. بن سنة 583 وسنة 614م.
عمرو.
حجر بن النعمان.
؟ ؟ ؟ ؟
جبلة بن الأيهم. حوالي سنة 635م.
ورتب "ابن قتيبة الدينوري"، أسماء ملوك الغساسنة على هذا النحو:
الحارث بن عمرو بن محرق، وهو "الحارث الأكبر" ويكنى "أبا شمر". الحارث بن أبي شمر، وهو "الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر". وأمه "مارية ذات القرطين".
الحارث بن الحارث بن الحارث. وهو الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر.(6/134)
وكان له أخوة، منهم: النعمان بن الحارث. وهو والد ثلاثة بنين: حجر بن النعمان، وبه كان يُكنى، والنعمان بن النعمان، وعمرو بن النعمان.
ومن ولد الحارث الأعرج أيضًا عمرو بن الحارث، وكان يقال له: أبو شمر الأصغر. ومن ولده: المنذر بن المنذر والأيهم بن الحارث. وهو أبو "جبلة بن الأيهم"، وجبلة آخر ملوك غسان1.
وأما المسعودي، فيرى أن عدة من ملكوا من آل غسان أحد عشر ملكًا، ذكر منهم:
1- الحارث بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن ماس "مازن"، وهو غسان بن الأزد بن الغوث.
2- الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو بن عامر بن حارثة. وأمه مارية ذات القرطين بنت أرقم بن ثعلبة بن جفنة بن عمر.
3- النعمان بن الحارث بن ثعلبة بن جبلة بن جفنة بن عمرو.
4- المنذر أبو شمر بن الحارث بن جبلة بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو.
5- عوف بن أبي شمر.
6- الحارث بن أبي شمر. وكان ملكه حين بعث رسول الله.
7- جبلة بن الأيهم2.
وذكر المسعودي، أن جميع من ملك من ملوك غسان بالشام أحد عشر ملكًا، ولم يذكرهم في قائمته كلهم3.
أما ملوك "الغساسنة"، على ما جاء في "كتاب المحبر"، فإنهم على هذا النحو: "ثعلبة"، فابنه "الحارث"، فابنه "جبلة"، فابنه "الحارث" وهو المعروف بـ"ابن مارية ذات القرطين"، و"النعمان بن الحارث"، و"المنذر" ابنه، و"المنيذر بن الحارث"، و"جبلة بن الحارث"، و"أبو شمر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن عمرو بن جفنة"، و"الحارث الأعراج بن أبي شمر بن عمرو بن الحارث بن عوف بن
__________
1 المعارف "642 وما بعدها"، "طبعة ثروت عكاشة".
2 مروج "2/ 82 وما بعدها"، "دار الأندلس".
3 مروج "2/ 86"، "دار الأندلس".(6/135)
عمرو بن عدي بن عمرو بن الحسحاس" وهو "حارثة بن بكر بن عوف بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد" وليس بحفني، ولكن أمه جفنية، فلم يزل الملك فيهم حتى كان آخرهم "جبلة بن الأيهم بن جبلة"، وهو الذي اتصل ملكه بخلافة عمر بن الخطاب1.
وجاء ترتيب ملوك الغساسنة في التعليقات التي طبعها "هرشفلد" مع ديوان "حسان" على هذا النحو: "كان أول من ملك من غسان: الحارث بن عمرو بن عدي بن حجر بن الحارث، ثم عمرو بن الحارث، ثم الحارث بن عمرو، وهو أبو شمر الأكبر ثم الحارث بن الحارث بن أبي شمر، فالحارث الأصغر بن الحارث الأوسط وهو الأعرج، فالنعمان بن الحارث، فجبلة بن الأيهم، وهو الذي أدرك الإسلام"2.
__________
1 المحبر "ص372".
2 ديوان حسان "ص96"، "هرشفلد".(6/136)
قائمة حمزة:
وأشهر قائمة ذكرها الأخباريون لملوك غسان، القائمة التي ذكرها حمزة الأصبهاني وتتألف من:
1- جفنة بن عمرو المعروف بمزيقياء.
2- عمرو بن جفنة.
3- ثعلبة بن عمرو.
4- الحارث بن ثعلبة.
5- جبلة بن الحارث.
6- الحارث بن جبلة.
7- المنذر بن الحارث.
8- النعمان بن الحارث.
9- المنذر بن الحارث.
10- جبلة بن الحارث.
11- الأيهم بن الحارث.(6/136)
12- عمرو بن الحارث.
13- جفنة بن المنذر الأكبر.
14- النعمان بن المنذر الأكبر.
15- النعمان بن عمرو.
16- جبلة بن النعمان.
17- النعمان بن الأيهم.
18- الحارث بن الأيهم.
19- النعمان بن الحارث.
20- المنذر بن النعمان.
21- عمرو بن النعمان.
22- حجر بن النعمان.
23- الحارث بن حجر.
24- جبلة بن الحارث.
25- الحارث بن جبلة "ابن أبي شمر".
26- النعمان بن الحارث "أبو كرب".
27- الأيهم بن جبلة بن الحارث.
28- المنذر بن جبلة.
29- شراحيل بن جبلة.
30- عمرو بن جبلة.
31- جبلة بن الحارث.
32- جبلة بن الأيهم.
وقد نقل ابن خلدون من جملة كتب ألف منها الفصل الذي كتبه من تأريخ آل غسان، وكذلك الفصل الذي دونه عن تأريخ الحيرة. أما الموارد التي نقل منها فصل آل غسان، فتواريخ ابن سعيد والمسعودي وابن الكلبي والجرجاني.
وأما الموارد التي نقل منها ابن خلدون مادة فصله عن تأريخ الحيرة، فتواريخ السهيلي، وأبي عبيدة والطبري وابن إسحاق والمسعودي وابن سعيد والجرجاني والبيهقي1. وأكثر اعتماده في النقل على الطبري
__________
1 ابن خلدون "2/ 259 وما بعدها".(6/137)
وقد اكتفى ابن خلدون بالنبذ التي أخذها من هذه الموارد ولم يُبدِ رأيه فيها ولم يرتبها ترتيبًا زمنيًّا مع ذكر أهم الأعمال التي قام بها كل ملك من أولئك الملوك كما فعل حمزة مثلًا، فأورد أسماء ملوك الغساسنة، كما ذكرتها الموارد التي أخذ منها، أو نقلها في شيء من الاختصار، فنقل قائمة المسعودي، والمسعودي نفسه لا يتقيد بالترتيب والتدقيق، ونقل قائمة الجرجاني وتبدأ بثعلبة بن عمرو شقيق جذع بن عمرو وقائل ملك سليح. وتنتقل بالملك من ثعلبة إلى ابنه الحارث بن ثعلبة، وهو ابن مارية عند بعضهم، يليه ابنه المنذر، ثمن، ثم ابنه النعمان، ثم أبي بشر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة على رواية بعض النسابين أو أبي بشر بن عوف بن الحارث بن عوف بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن، ثم الحارث الأعرض، ثم ابن أبي شمر، ثم عمرو بن الحارث الأعرج، ثم المنذر بن الحارث الأعرج، ثم الأيهم بن جبلة بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، ثم ابنه جبلة1.
وقد ناقش نولدكه في كتابه عن آل غسان هذه القوائم التي نقلها ابن خلدون كما ناقش غيرها من القوائم التي وجدها في التواريخ المخطوطة أو المطبوعة التي تمكن من الحصول عليها، وأظهر ما فيها من خلل ونقص في نهاية ذلك البحث2.
__________
1 ابن خلدون "2/ 280".
2 "ص58 وما بعدها" من النص العربي، "وصفحة 53" من النص الألماني.(6/138)
الفصل الحادي والأربعون: العرب والحبش
مدخل
...
الفصل الحادي والأربعون: العرب والحبش
صلات العرب بالحبشة صلات قديمة معروفة ترجع إلى ما قبل الميلاد. فبين السواحل الإفريقية المقابلة لجزيرة العرب وبين السواحل العربية اتصال وثيق قديم، وتبادل بين السكان. إذ هاجر العرب الجنوبيون إلى السواحل الإفريقية وكونوا لهم مستوطنات هناك، وهاجر الأفارقة إلى العربية الجنوبية، وحكموها مرارًا، وقد كان آخر حكم لهم عليها قبل الإسلام بأمد قصير.
ويرى بعض الباحثين أن أصل الحبش من غير اليمن من سفوح الجبال، وفي اليمن جبل يسمى جبل "حُبَيْش"، قد يكون لاسمه صلة بالحبش الذين هاجروا إلى إفريقيا وأطلقوا اسمهم على الأرض التي عرفت باسمهم، أي "حبشت" أو الحبشة1.
ويرون أيضًا أن "الجعز" أو "جعيزان" كما يدعون كذلك، هم cesani الذين وضع "بليني" منازلهم على مقربة من "عدن". فهم من أصل عربي جنوبي، هاجر إلى الحبشة وكون مملكة هناك2. وإلى هؤلاء نسبت لغة الحبش، حيث عرفت بالجعزية، أي لغة الجعز3.
__________
1 Beitrage, S. 75, 119, Conti Rossini, In Expeditions et Possesslons des gabasat en Arabia, jounal asiatiqye, 1921, p. 5, die araber I, S. 114, E. Littmann, In: Handbuch der orietalistik, III, 2-3, 350, 376
2 Die Araber, II, S. 274
3 Die Araber, I, S. 114(6/139)
ويظن أن العرب الجنوبيين هم الذين موَّنوا السواحل الإفريقية المقابلة بالعناصر السامية. وكانوا قد هاجروا مرارا إليها، ومن بين تلك الهجرات القديمة، هجرة قام بها السبئيون في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد هاجر معهم "الحبش" في ذلك الوقت أيضًا. وقد توقف سيل الهجرات هذا حين تدخل "البطالمة" في البحر الأحمر، وصار لهم نفوذ سياسي وعسكري على جانبي هذا البحر. غير أنها لم تنقطع انقطاعًا تامًّا؛ إذ يرى بعض الباحثين أن العرب كانوا قد دخلوا الحبشة والسواحل الإفريقية المقابلة فيما بعد الميلاد أيضًا. فنزحوا إليها فيما بين السنة "232" والسنة "250" بعد الميلاد مثلًا، حيث ركبوا البحر ونزلوا هناك1.
وقد تبين أن السبئين كانوا قد استوطنوا في القرن السادس قبل الميلاد المناطق التي عرفت باسم "تعزية" ta'izziya من أرض "أريتريا" ونجد الحبشة وكونوا لهم حكومة هناك. وأمدوا الأرضين التي استولوا عليها بالثقافة العربية الجنوبية2. ولم يقطع هؤلاء السبئيون صلاتهم بوطنهم القديم، بل ظلت أنظارهم متجهة نحوه في تدخلهم. وهم في هذا الوطن بشئونه وإرسالهم حملات عليه واحتلالهم له في فترات من الزمن ولعل ما جاء في أحد النصوص من "مصر" الحبشة، قصد به هؤلاء الذين كانوا قد استوطنوا تلك المنطقة من إفريقيا3.
وفي القرن السادس قبل الميلاد، كان الأوسانيون قد نزحوا إلى السواحل الإفريقية الشرقية، فاستوطنوا الأرضين لـpemba ولـ"زنزبار" zanzibar وهي "عزانيا" azania، وتوسعوا منها نحو الجنوب. وقد عرف هذا الساحل في كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"، اسم ausaniteae، وهو اسم يذكرنا بـ"أوسان". وقد ذكر مؤلف الكتاب، أنه كان خاضعًا في أيامه "القرن الأول بعد الميلاد"، لحكام 4mapharitis. ويريد بهم حكام دولة "سبأ وذو ريدان"5.
وقد عثر الباحثون على حجر مكتوب في حائط كنيسة قديمة بالقرب من
__________
1 Die Araber, I, S. 126
2 Arabien, S. 25
3 Glaser 1076, Arabien, S. 25
4 Periplys Maris Erythrael, 22, Arabien, S. 25
5 Arabien, S. 25(6/140)
"أكسوم"، وإذا به كتب بالسبئية، وفيها اسم الآلهة السبئية "ذت بعدن" "ذات بعدن" "ذات البعد" وعثر على بقايا أعمدة في موضع "يحا" الواقع شمال شرقي "عدوة" adua، تدل على وجود معبد سبئي في هذا المكان، كما عثر على مذبح سبئي خصص بالإله "سن" "سين". وعثر على كتابات وأشياء أخرى تشير كلها إلى وجود السبئين في هذه الأرضين1.
وعرف ملك الحبش بـ"النجاشي" عند العرب. واللفظة لقب تطلقه العربية على كل من ملك الحبشة، فهي بمنزلة "قيصر"، اللفظة التي يطلقها العرب على ملوك الروم، و"كسرى" التي يطلقونها على من حكم الفرس، و"تبع" التي يطلقونها على من يحكم اليمن. أما في العربية الجنوبية، فقد أطلقت لفظة "ملك" على من ملك الحبشة. وقد ورد "ملك أكسمن" أي "ملك أكسوم" وورد "ملك حبشت"، أي ملك الحبشة، فأخذ العرب اللفظة من الحبش.
وهي في الحبشية بمعنى جامع الضريبة، والذي يستخرج الضريبة، فهي وظيفة من الوظائف في الأصل، ثم صارت لقبًا2. وورد في بعض النصوص العربية الجنوبية إذ لقب به "جدرة" مثلًا3.
ويظن أن مملكة "أكسوم" التي ظهرت في أوائل أيام النصرانية، قد كانت دولة أقامها العرب الجنوبيون في تلك البلاد، وقد استطاع الباحثون من العثور على عدد من الكتابات تعود إلى ملوك المملكة، دون بعض منها باليونانية مما يدل على تأثر ملوك هذه المملكة بالثقافة اليونانية وعلى وجود جاليات يونانية هناك نشرت ثقافتها في الحبشة، وقد عرفت هذه المملكة بمملكة "أكسوم" "أكسمن" نسبة إلى عاصمتها مدينة "أكسم" "أكسوم"4.
وقد كان ملوك أكسوم وثنيين. بقوا على وثنيتهم إلى القرن الرابع أو ما بعد ذلك للميلاد. ويظن أن الملك "عزانا" EZANA وهو ابن الملك "الأعميدا" ELA - AMIDA، هو أول ملك تنصر من ملوك هذه المملكة وذلك لعثور الباحثين على آثار تعود إلى عهده، ترينا القديمة منها أنه كان وثنيًّا، وترينا الحديثة منها
__________
1 Handbuch, I, S. 34
2 Die Araber, II, S. 293
3 Die Araber, I, S. 115, II, S. 295
4 Die Araber, I, S. 114(6/141)
أنه كان نصرانيًّا، مما يدل على أنه كان وثنيًّا في أوائل أيام حكمه، ثم اعتنق النصرانية، فأدخل شعارها في مملكته، وذلك بتأثير المبشرين عليه1.
وفي جملة ما يستدل به على تأثير العرب الجنوبيين في الحبش، هو الأبجدية الحبشية المشتقة من الخط العربي الجنوبي. وقرب لغة الكتابة والتدوين عندهم من اللهجات العربية الجنوبية. وبعض الخصائص اللغوية والنحوية التي تشير إلى أنها قد أخذت من تلك اللهجات. ثم عثور العلماء على أسماء آلهة عربية جنوبية ومعروفة في كتابات عثر عليها في الحبشة والصومال، ووجودها في هذه الأرضين هو دليل على تأثر الإفريقيين بالثقافة العربية الجنوبية، أو على وجود جاليات عربية جنوبية في تلك الجهات.
وكما تدخل العرب في شئون السواحل الإفريقية المقابلة لهم. فقد تدخل الإفريقيون في شئون السواحل العربية المقابلة لهم. لقد تدخلوا في أمورها مرارًا.
وحكموا مواضع من ساحل العربية الغربية ومن السواحل الجنوبية وتوغلوا منها إلى مسافات بعيدة من الداخل حتى بلغوا حدود نجران.
ويظهر من الكتابات الحبشية، أن الحبش كانوا في العربية الجنوبية في القرن الأول للميلاد، وقد كانوا فيها في القرن الثاني أيضًا. ويظهر أنهم كانوا قد استولوا على السواحل الغربية، وهي سواحل قريبة من الساحل الإفريقي ومن الممكن للسفن الوصول إليها وإنزال الجنود بها. كما استولوا على الأرضين المسماة بـ KINAIDOKOLPITAE في جغرافية "بطلميوس"2.
وورد في نص من النصوص الحبشية، أن ملك "أكسوم". كان قد أخضع السواحل المقابلة لساحل مملكته، وذلك بإرساله قوات برية وبحرية تغلبت على ملوك تلك السواحل من الـ"ARRHOBITE" "الأرحب" "الأرحبية" "أرحب"3 والـ kinaidokolpite، وأجبرتهم على دفع الجزية، وعلى العيش بسلام في البر
__________
1 Handbuch, S. 34, D.H. Muller, Epigraph, S
2 44, Aksum Expedition, 1913, BD, IV. S. 32
3 "أرحب: حي أو مكان. وفي المعجم: أنه مخلاف باليمن يسمى بقبيلة كبيرة من همدان"، "أرحب: بلد على ساحل البحر بينه وبين ظفار نحو عشرة فراسخ"، تاج العروس "2/ 492"، "طبعة الكويت"، "رحب".(6/142)
وفي البحر. ويرى بعض الباحثين أن المراد بـ"Arrhabite" بدو الحجاز. وأن Kinaidokolpite، هم "كنانة". وأن السواحل التي استولى الأحباش عليها تمتد من موضع "لويكه كومه" leuke kome "القرية البيضاء" إلى أرض السبئيين1.
ويرى "فون وزمن" أن احتلال الحبش لأرض Kinaidokolpitae، الأرض المسماة باسم قبيلة لا نعرف من أمرها شيئًا، والتي ورد اسمها في كتابة Monumentum adulitanum فقط وفي جغرافية "بطلميوس"، كان قبل تدوين تلك الكتابة وربما في حوالي السنة "100" بعد الميلاد. ويراد بها ساحل الحجاز وعسير من ينبع ianbia في الشمال إلى السواحل الجنوبية الواقعة على البحر العربي شمال "وادي بيش"، فشملت الأرض المذكورة والتهائم والساحل كله2.
غير أننا نجد أن مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" يشير من جهة أخرى إلى أن الساحل الإفريقي المسمى بـ"تنجانيقا" في الوقت الحاضر كان في أيدي الحميريين في ذلك الوقت3. ومعنى ذلك أن ملك حمير استطاع في أيام ذلك المؤلف من الاستيلاء على ذلك الساحل ومن ضمه إلى ملكه. كما فعل أهل حضرموت وعمان فيما بعد.
ووردت جملة "أحزب حبشت" في النص الموسوم بـ"cih 314 + 954".
وهي تشير إلى وجود "أحزاب" أي جماعات من الحبش في العربية الجنوبية.
وقد يراد بها مستوطنات حبشية وقوات عسكرية كانت قد استقرت في تلك البلاد4.
كما وردت في النص الموسوم بـryckmans 535 الذي يتحدث عن حرب أعلنها "الشرح يحضب" على "أحزب حبشت"، و"ذي سهرتن" و"شمر ذي ريدان"5.
وأشار "أصطيفان البيزنطي" إلى قوم دعاهم abasynoi، يظهر من قوله أن مواطنهم كانت في شرق حضرموت. ويفهم من كلامه أن هؤلاء كانوا حبشًا
__________
1 Beltrage, S. 119
2 Le Museon, 1964, 3-4, P. 472
3 Le Museon, 1964, 3-4, P. 480
4 Die Araber, II, S. 275
5 Le Museon, 1956, P. 154, Die Araber, II, S. 275(6/143)
يقيمون في هذه الأرضين. وقد يكونون قد استولوا عليها بالقوة وألحقوا ما استولوا عليه بمملكة أكسوم1.
وورد في كتابات تعود إلى أيام "علهان نهفان"، بأن هذا الملك كان قد تفاوض مع "جدرت" "جدرة" ملك "أكسوم" والحبشة لعقد صلح معه.
ويظهر من جملة "وأقول وقدمن واشعب ملك حبشت"، أي: "وأقيال وسادات وقبائل ملك الحبشة"، الواردة فيها، أن ملك الحبشة كان يحكم جزءًا من العربية الجنوبية في ذلك الوقت، وإن الملك "علهان نهفان" فتفاوض معه لتحسين العلاقات السياسية فيما بينه وبين الحبش ولضمان مساعدتهم في حروبه مع منافسيه وخصومه2. ويرى "فون وزمن" أن تلك المفاوضات كانت قد جرت في حوالي السنة "180" بعد الميلاد3.
وقد عقد "علهان" حلفًا مع الحبش، ويظهر أنه عقده بعد انتهائه من الحرب التي أعلنها على حمير. تلك الحرب التي اشترك الحبش فيها أيضًا وكذلك أهل حضرموت. ولما عقد "علهان" الحلف مع الحبش، كان ابنه "شعر أوتر" قد اشترك معه في الحكم4.
ولم يدم الحلف الذي عقد بين "علهان" وابنه "شعر أوتر" من جهة والحبش من جهة أخرى؛ إذ سرعان ما نقض ووقعت الحرب بين "شعر أوتر" وبين "الحبش" على نحو ما ذكرت في أثناء حديثي عن حكم "شعر أوتر".
إلا أنه لم يتمكن من القضاء عليهم. ولم يزحهم عن اليمين. بل بقوا في الأرضين التي كانت خاضعة لهم والتي تقع في الجزء الغربي من اليمن5
وقد جاء اسم "جدرت" "جدرة" على هذه الصورة: "جدر نجش أكسم" في النصوص. وورد على هذه الصورة: "جدرت ملك حبشت وأكسمن" في النص الذي وسم بـjamme 6316. ومعنى الجملة الأولى "جدر نجاشي أكسوم".
__________
1 Die Araber, II, S. 275
2 Nami 71 +73, CIH 308
3 Le museon, 1964 3-4, P. 47. F
4 CIH 308, 308a, Le Museon, 1964, 3-4, P. 471
5 Le Museon, 1964, 3-4, P. 475
6 Die Araber, II, S. 284, IV, S. 274(6/144)
ومعنى الجملة الثانية "جدرة ملك الحبشة وأكسوم". وقد قدر بعض الباحثين زمان حكم هذا النجاشي بحوالي السنة "250" بعد الميلاد1.
ويظهر أن الحبش كانوا قد تمكنوا من دخول "ظفار" عاصمة خمير، وذلك فيما بين السنة "190" و"200" بعد الميلاد. وذلك في أيام "لغزز يهنف يهصدق"2.
ولا ندري إلى متى بقوا فيها. والظاهر أن حكمهم فيها كان قصيرًا.
وقد كان نزول الحبش في أرض اليمن في أيام حكم الملك الحبشي "عذبة" على ما يظن. وكان هذا الملك على صلات حسنة بالرومان، ففتح بلاده للمصنوعات الرومانية النفيسة، وظل الحبش في اليمن في أيامه حتى وفاته، فلما توفي أو عزل تولى ملك آخر مكانه هو "زوسكالس zoskales وقد أدى هذا التغير إلى تبدل الحال؛ إذ اضطر الحبش إلى النزوح من الأماكن التي كانوا قد استولوا عليها. ويرى بعض الباحثين أن ثورة قامت في الحبشة على حكم "عذبة" وأحلت "زوسكالس" محله. فانتهز أهل اليمن فرصة انشغال الحكومة بالاضطرابات التي وقعت بهذه الثورة. ونهضوا على الجيش فأخرجوهم عن ديارهم، وأخرج الحبش من السواحل التي كانوا قد استولوا عليها، المعروفة بـ kinaidokolpitae، ويراد بها ساحل الحجاز وعسير3.
ووردت في النص الموسوم بـ"ryckmans 535"، لفظة "وذ ب هـ" "وذبه" ثم ذكرت بعدها جملة: "ملك أكسمن"، أي "ملك أكسوم"، أو "ملك الأكسوميين". وهو الملك الذي استعان به "شمر ذو ريدان". وقد قرأ بعض الباحثين لفظة "وذبه" على هذه الصورة "عذبة" أو "وزبة" وذهبوا إلى أنه ملك الحبشة الذي استعان به "شمر ذو ريدان"4، والذي تدخل في شئون اليمن فيما بين السنة "300" و"320" بعد الميلاد5.
ويظهر من اللقب الطويل الذي تلقب به ملك "أكسوم"، أي الحبشة ethiopia وهو الملك "عيزانا" ezana، أن اليمن وما جاورها من أرضين كانت خاضعة
__________
1 Le Museon, 1958, 147, Die Araber, II, S. 285
2 Le Museon, 1964, 3-4, P. 498
3 Le Museon, 1964, 3-4, P. 480
4 Die Araber, II. S. 285
5 Die Araber, II, S. 295(6/145)
لحكم الحبش في أيامه أيضًا. أما لقبه الذي تلقب به فهو: "ملك أكسوم وحمير وريدان وسبأ وسلحن"، ويذكر بعد هذا اللقب أسماء ثلاثة مناطق إفريقية كانت تحت حكمه، ثم ختم هذا اللقب بتتمته، وهي جملة: "ملك الملوك"1.
و"سلحن" "سلحين"، هو قصر ملوك سبأ وذو ريدان بمأرب.
وكان الملك "عيزانا" "عزانا"، قد دخل في النصرانية بتأثير المبشر "فرومنتيوس"، الذي أرسله إليه الملك "قسطنطين" ملك البيزنطيين عام "350" للميلاد أو "356". وقد فرض هذا الملك النصرانية على شعبه وأعلنها ديانة رسمية لمملكته كما جعلها الديانة الرسمية للعربية الجنوبية2.
وكانت العربية الجنوبية خاضعة لحكم أبيه، ولعله هو الذي أدخلها في حكمه إذ كان أبوه وهو "الأعميدا" ella' amida، قد لقب نفسه باللقب المذكور3.
ويرى بعض الباحثين أن حكم "عيزانا" لم يكن فيما بين السنة "330" و"350" بعد الميلاد أو بعد ذلك كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، بل كان في حوالي السنة "450" للميلاد. ويرى أن ملكًا آخر كان قد تدخل في شئون اليمن واستولى على ساحل Kinaidokolpitae، هو الملك "سمبروتس" sembruthes وقد حكم على رأيهم في حوالي السنة "400" بعد الميلاد4.
ويرى بعض الباحثين أن الحبش استولوا على العربية الجنوبية بعد وفاة "شمر يهرعش"، وأن ذلك كان حوالي السنة "335م". وأن "ثيوفيلس" نصَّر عرب اليمن في حوالي السنة "354م"، إذ أنشأ كنيسة في "ظفار". وقد صار رئيس أساقفة "ظفار" يشرف على الكنائس التي أنشئت في اليمن وفي ضمن ذلك كنيسة "نجران" والكنائس الأخرى التي بنيت في العربية الجنوبية إلى الخليج5.
وأعرف تدخل للحبش في العربية الجنوبية، تدخلهم في شئون اليمن في النصف الأول للقرن السادس واحتلالهم اليمن، إذ بقوا فيها أمدًا حتى ثار أهل اليمن
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P. 448
2 Handbuch, I, S. 35, 36
3 Gandbuch, I, S. 36, 104, E. Littmann, Deutsche Aksum Expedltlon
4 Altheim-Stiehl, Geschichte der Hannen, 5, 175, Die Araber, II, S. 295
5 Grohmann, S.29(6/146)
عليهم، فتمكنوا من إنقاذ بلادهم من الحبش بمعونة من الفرس. وتركوا بذلك اليمن أبدًا.
ويظهر من بعض الكتابات أن حصن "شمر" والسهل المحيط به كان في أيدي الحبش، وقد ورد فيها اسم موضع "مخون"، وهو "مخا". ويرد اسم هذه المدينة لأول مرة. وتتناول هذه الكتابات حوادث وقعت سنة "528" بعد الميلاد1.
وتبدأ قصة دخول الحبش إلى اليمن على هذا النحو: لما قتل ذو نواس من أهل نجران قريبًا من عشرين ألفًا، أفلت منهم رجل يقال له "دوس ذو ثعلبان" أو رجل آخر اسمه "جبار بن فيض" أو غير ذلك، ففر على فرس له، فأعجزهم حتى خرج فوصل الحبشة، وجاء إلى ملكها، فأعلمه ما فعل "ذو نواس" بنصارى نجران، وأتاه بالإنجيل قد أحرقت النار بعضه، فقال له: الرجال عندي كثير، وليست عندي سفن. وأنا كاتب إلى قيصر أن يبعث إليَّ بسفن أحمل فيها الرجال. فكتب إلى قيصر في ذلك وبعث إليه بالإنجيل المحرق. فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة عبر فيها البحر ودخل اليمن2.
وفي رواية أخرى أن "دوس ذو ثعلبان" قدم على قيصر صاحب الروم، فاستنصره على "ذي نواس" وجنوده وأخبره بما بلغ منهم، فقال له قيصر: بعدت بلادك من بلادنا ونأت عنا، فلا نقدر على أن نتناولها بالجنود. ولكني سأكتب لك إلى ملك الحبشة، فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك منا، فينصرك ويمنعك ويطلب لك بثأرك ممن ظلمك. فكتب معه قيصر إلى ملك الحبشة يذكر له حقه وما بلغ منه ومن أهل دينه، ويأمره بنصره وطلب ثأره ممن بغى عليه وعلى أهل دينه. فلما قدم دوس ذو ثعلبان بكتاب قيصر على النجاشي، بعث معه سبعين ألفًا من الحبشة، وأمر عليهم رجلًا من أهل الحبشة يقال له أرياط، وعهد إليه إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم، وأخرب ثلث بلادهم، واسب ثلث نسائهم وأبنائهم. فخرج أرياط ومعه جنوده، وفي جنوده أبرهة الأشرم، فركب البحر ومعه دوس ذو ثعلبان حتى نزلوا بساحل اليمن. وسمع بهم ذو نواس، فجمع إليه حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن، فاجتمعوا إليه على
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P. 438
2 الطبري "2/105"، المحبر "ص368"، تفسير القرطبي "19/ 293".(6/147)
اختلاف وتفرق لانقطاع المدة وحلول البلاء والنقمة، فلم تكن له حرب، غير أنه ناوش ذا نواس شيئًا من قتال، ثم انهزموا ودخلها أرياط بجموعه. فلما رأى ذو نواس ما رأى مما نزل به وبقومه، وجه فرسه إلى البحر، ثم ضربه فدخل فيه، فكان آخر العهد به, ووطئ "أرباط" اليمن بالحبشة، فقتل ثلث رجالها وأخرب ثلث بلادها وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها، ثم أقام بها1.
ويظهر من دراسة هذا المروي أن الرواة كانوا على اختلاف بينهم في حديثهم عن "أصحاب الأخدود" وقد أشار العلماء إلى هذا الاختلاف2. وقد اختلفوا في زمانهم أيضًا، واكتفى بعضهم بقولهم: "وكانوا بنجران في الفترة بين عيسى ومحمد"3. وقال بعضهم: إنهم كانوا باليمن قبل مبعث الرسول بأربعين سنة، أخذهم "يوسف بن شراحيل بن تبع الحميري، وكانوا نيفًا وثمانين رجلًا، وحفر لهم أخدودًا وأحرقهم فيه4. وجعل بعضهم عدد من قتل من نصارى نجران عشرين ألفًا، وجعله بعضهم اثني عشر ألفًا، وذكر بعض آخر أن أصحاب الأخدود سبعون ألفًا. وقد قتلهم "ذو نواس اليهودي" واسمه "زرعة بن تبان أسعد الحميري" واسمه أيضًا "يوسف" وجعله بعضهم "يوسف بن ذي نواس بن تبع الحميري"5. وجعلوا زعيم نصارى نجران، والذي ثبت النصرانية فيها ونشرها بين النجرانيين رجل من أهل نجران، اسمه "عبد الله بن ثامر".
وكان قد أخذ النصرانية عن راهب، رآه فلازمه وتعلق به، وأثر في قومه بشفائه الأمراض بالدعاء لهم إلى الله لشفائهم، فدخل كثير ممن شفوا وبرئوا بدينه، وبذلك انتشرت النصرانية في نجران6.
ولم يبين رواة الخبر المتقدم الأسباب التي دعت نجاشي الحبشة إلى الطلب من قائده "أرياط" بأن يقتل ثلث رجال اليمن، ويخرب ثلث البلاد، ويسبي
__________
1 الطبري "2/ 105 وما بعدها"، ابن قتيبة "ص311"، الكشاف للزمخشري "2/ 1594". تفسير البيضاوي "2/ 295".
2 تفسير القرطبي "19/ 287".
3 تفسير القرطبي "19/ 287".
4 تفسير القرطبي "19/ 289".
5 تفسير القرطبي "19/ 290".
6 تفسير القرطبي "19/ 289 وما بعدها".(6/148)
ثلث النساء وأبناءهم وأن يتبع هذا النظام الثلاثي في العقوبة. ولم يذكروا الموارد التي أخذوا منها خبرهم على طريقتهم في أخذ الأخبار من غير تمحيص.
وزعم "ابن الكلبي" أن السفن لما قدمت على النجاشي من عند قيصر، حمل جيشه فيها، فخرجوا في ساحل المندب. فلما سمع بهم ذو نواس، كتب إلى المقاول يدعوهم إلى مظاهرته، وأن يكون أمرهم في محاربة الحبشة ودفعهم عن بلادهم واحدًا. فأبوا، وقالوا: يقاتل كل رجل عن مقولته وناحيته. فلما رأى ذلك، صنع مفاتيح كثيرة، ثم حملها على عدة من الإبل، وخرج حتى لقي جمعهم فقال: هذه مفاتيح خزائن اليمن قد جئتكم بها. فلما وجه الحبشة ثقات أصحابهم في قبض الخزائن، كتب "ذو نواس" إلى كل ناحية أن اذبحوا كل من يريد إليكم منهم. ففعلوا. فلما بلغ النجاشي ما كان من ذي نواس، جهز سبعين ألفًا، عليهم قائدان: أحدهما أبرهة. فلما صار الحبشة إلى صنعاء ورأى ذو نواس أن لا طاقة له بهم، ركب فرسه واعترض البحر فاقتحمه، فكان آخر العهد به1.
هذا مجمل ما ورد في كتب المؤرخين الإسلاميين والأخباريين عن ذي نواس.
وقد أخذ بعضه مما علق في أذهان أهل اليمن عن ذلك الحادث، وأخذ بعض آخر مما علق بأذهان أهل الكتاب عنه، ويعود الفضل في تدوينه وجمعه إلى القرآن الكريم؛ إذ أشار بإيجاز إليه: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} 2. فكانت إشارته هذه إلى أصحاب الأخدود حافزًا دفع بالمفسرين وأصحاب التأريخ والأخبار على جمع ما علق بالأذهان من هذا الحادث، فجاء على الصورة المذكورة3.
ولم يرد إلينا شيء من هذا القصص الذي رواه الأخباريون عن ذي نواس مكتوبًا في المسند. وكل ما ورد مما له علاقة بحادث دخول الحبشة اليمن، هو ما جاء في النص المهم المعروف بنص حصن غراب والموسوم بـrep - epigr. 2633 من أن الأحباش فتحوا أرض حمير وقتلوا ملكها وأقياله الحميريين والأرحبيين.
__________
1 الطبري "2/ 127" "دار المعارف بمصر"، المحبر "ص368".
2 سورة البروج: رقم 85، الآية 4 وما بعدها.
3 Loth, Tabarl's Korancommentar, Die "Leute der Grbe" in ZDMG, 1881, S. 610(6/149)
ولم يذكر في النص اسم هذا الملك. ويعود تأريخه إلى سنة "640" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "525" للميلاد1.
ويرى ونكلر مستندًا إلى نص "حصن غراب" أن "ذا نواس" كان هو البادئ بالحرب، وأن السميفع أشوع وأولاده أصحاب النص كانوا في معية الملك ذي نواس في حملته على الحبشة، غير أنه لم يكتب له التوفيق، وأصيب بهزيمة إذ سقط فهزم جمعه. وعندئذ غزا الحبش أرض اليمن واستولوا عليها. فأسرع السميفع أشوع وأولاده في الذهاب إلى حصن "ماوية" للتحصن فيه ولتقوية وسائل دفاعه، ولم تكن قلوب هؤلاء مع ذي نواس، وإنما أكرهوا على الذهاب معه. وبقوا في حصنهم هذا إلى أن دخل الحبش أرض اليمن، فتفاهم معهم2.
وقد أشرت إلى ملخص ما جاء في التواريخ الإسلامية عن ذي نواس وعن حادث تعذيب نصارى نجران، وهو حادث لم يكن بعيد العهد عن الإسلام. فقد أشير إليه بإيجاز في القرآن الكريم: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} 3 فجمع المفسرون والأخباريون على ما علق بالأذهان من هذا الحادث ورووا أخبارًا متناقضة متباينة في أصحاب الأخدود.
أما رأي اليهود -وهم طرف من أطراف هذا النزاع- عن حادث نجران فلا علم لنا برأي رجاله المعاصرين في الحادث؛ إذ لم يصل إلينا شيء مدون بقلم مؤلف يهودي معاصر له. وقد أخذ الأخباريون -كما قلت- ما كان علق عن ذلك الحادث بأذهان يهود اليمن ويثرب، على لسان وهب من منبه، وأضرابه، أخذوه عن طريق "الرواية والحفظ، فهذا المدون في كتب أهل الأخبار والمنصوص على سنده هو كل ما نعرفه من رأي اليهود المتأخرين في حادث نجران.
وأما ما رواه النصارى عنه، وهم الطرف الثاني في النزاع، فإنه أطيب جدًّا وأوضح مما ورد في الموارد الإسلامية وفي الرواية اليهودية الشفوية إذا اعتمدت
__________
1 RIP. EPIGR, V. I. P. 5> Glaser, Die Abessinler. S. 131-132 Mordtmann, in ZDMG, XLIV, 1890. S. 176
2 Winckler, AOF, IV, 1896. "Zur Alten Geschichte Temens und Abessiniens" S. 327.
3 سورة البروج: رقم 85، الآية 4 وما بعدها.(6/150)
المواد الإسلامية واليهودية على منابع شفوية، هي السماع والرواية، فجاء وصفها للحادث مزوقًا. أما الموارد النصرانية فقد اعتمدت على السماع والمشافهة أيضًا، ولكنها أخذت من موارد ووثائق مسجلة دون بعضها بعد وقوع الحادث بقليل، وكان لتدوينها الحادث أهمية كبيرة بالنسبة لمن يريد تأريخه والوقوف على كيفية حدوثه، وإن كانت لا تخلو أيضًا من المبالغات والتهويل، والعواطف؛ لأنها كتبت في ظروف عاطفية حماسية. ونقلت من محيط للمبالغة فيه مكانه كبيرة ومن أفواه أناس ليس لهم علم بمنطق المحافظة على صدق الواقع. وقد دونت لبعث حمية النصارى على إنقاذ أبناء دينهم المضطهدين في اليمن.
وقد أدرك بعضها زمن الحادث وأخذ سماعًا من رجال شهدوه، أو من رجال نقلوا رواياتهم من شهود العيان. فلهذه الوثائق إذن شأن عظيم في نظر المؤرخ.
ومن هؤلاء الرحالة: "قزما"، والمؤرخ "بروكوبيوس" المتوفى في حوالي السنة "560" للميلاد1. ومن المتأخرين: المؤرخ "ملالا"2 johannes malala.
وقد نقل من كتابة بعض المؤرخرين المتأخرين عنه، مثل "ثيوفانس"3 "theophanes" "758-818" و"سدرينس" georg cedrenus، و"نيقيفورس كالستي"4 nicephorus callissti.
وكان "قزما" المعروف بـ cosmas indicopleutes أي "قزما بحار البحر الهندي"، وصاحب كتاب "الطبوغرافية النصرانية" christian cosmography وكتاب "البحار الهندية" "بحار البحر الهندي" indicopleutes في مدينة "أدولس" adulis، الواقعة على ساحل الحبشة على المحيط الهندي ينقل كتابة "بطلميوس" ptolemaeus اليونانية بأمر النجاشي "elesboas" "elesboan" في العهد الذي كان فيه النجاشي يتهيأ لغزو أرض حمير5. فكتب في جملة ما كتبه
__________
1 Procopius, Gistory of the wars, Musil, Palmyrena, P. 336
2 Johannes Malala, Chron, ED: Bonn
3 Theophanes, Chronographia, ZDMG, 1881
4 Nicephorus Callisti, Hist, Eccl, Lib, XVII, Cap. 32
5 ED: Montfaucon, P. 141, ZDMG, 1881, S. 5
مجلة المجمع العلمي الغربي بدمشق: المجلد الثالث والعشرون: الجزء الأول، 1948، "ص18 وما بعدها".(6/151)
قصة غزو الحبشة لليمن بعد 25 عامًا من وقوعه1. فلروايته عن الحملة شأن كبير لأنها غير بعيدة عهد عن الحادث، ثم إن صاحبها نفسه كان قد أدركها وقد سمع أخبارها من شهود عيان، ولعله كان نفسه من جملة أولئك الشهود، شاهد السفن وهي تحمل الجنود لنقلهم إلى اليمن، واتصل بالرسميين الحبش واستفسر منهم عن الحملة.
ويفهم من رواية "قزما"، أن الحملة كانت في أوائل أيام حكم القيصر "يسطينوس" justinus "518-527م"2. أما "ثيوفانس" theophanes و"سدرينوس" cedrenus ومن اعتمد عليهما، فقد جعلوا الحملة في السنة الخامسة من حكم هذا القيصر، وذكروا أن الذي حمل النجاشي على هذا الغزو هو تعذيب ملك حمير لنصارى نجران، وقد قتل هذا الملك3.
ويحدثنا "ثيوفانس" و"سدرينوس" عن غزو ثان قام به الحبش على حمير لاعتداءاتهم على تجار الروم، وذلك في السنة الخامسة عشرة من حكم "يوسطنيانوس" justinianus "527-565م"، وفي عهد النجاشي "أدد" adad.أما ملك حمير، فاسمه "دميانوس"damianus. وقد ذكر "ملالا" هذا الحديث محرفًا بعض التحريف، فجعل اسم النجاشي "أندس" andas بدلًا من أدد، وصير اسم ملك حمير "دمنوس" damnus عرضًا عن "دميانوس" damianus، وذكر حملة "أندس" هذه قبل جملة elesbaas. وأشار إلى أن النصرانية كانت قد انتشرت في الحبشة قبل أيام "أندس". وذكر المؤرخان الآخران أن "أدد" تنصر على أثر إحرازه النصر على الحميريين4.
وتحدثنا رواية سريانية أن النجاشي المسمى "أيدوك" aidog حارب الملك "أكسينودون xenedon ملك الهنود. ثم حارب "دميون" dimion ملك حمير لاعتدائه على التجار الروم واستيلائه على أموالهم. فانتصر "أيدوك" على ملك حمير، ثم تنصر، وعين على حمير ملكًا نصرانيًّا. فلما مات هذا الملك،
__________
1 J.B. Bury, Gistory of the roman Empire, II, P. 323
2 Cosmas, P. 141, ZDMG, 31, 1877, 66
3 Mordtmann, In ZDMG, 31, 1877, S. 67, Theophanes,
4 I, 346, Cedrenus, I, 656(6/152)
عذَّب خلفه نصارى نجران، فغزا "أيدوك" حمير وانتصر عليها. وأقام عليها "إبراهام" "إبراهيم"1 abraham. ولا يشك المستشرق "فيل" fell في أن المراد بـ"adad" "andas" "aidog" رجل واحد هو النجاشي "كالب"، وهو elesbaas "كلب إلا أصبحه" "كالب إلا أصبحه". وأما dimion وdimianus وxenodon، فيراد بها "ذو نواس". وقد تحدث "فل" fell بإطناب عن مختلف الروايات الواردة عن النجاشي "كالب" "كلب إلا أصبحه" و"الأعاميدة" "عيلاميده" وعن انتشار النصرانية في الحبشة، وأمثال ذلك، فإليه يرجع من يطلب المزيد2.
وفي المرويات اليونانية عن الشهداء أن الذي قام بتعذيب نصارى نجران هو الملك "ذو نواس" dunaas ملك حمير، وأن ذلك كان في السنة الخامسة من حكم "يوسطينوس" justinus، أن الذي غزا اليمن هو النجاشي ela atzbeha elesbas. فلما دخلت جيوشه أرض حمير، فر dunaas إلى الجبال فتحصن فيها، حتى إذا سنحت له الفرصة خرج فقتل من بقي من جيش النجاشي في اليمن واحتل مدينة "نجران" فقام عندئذ elesbas بحملة ثانية فانتصر بها على "dunaas" وعين abrames في مكانه3.
وفي جملة ما لحق بقصص الشهداء الحميريين، المناظرة التي جرت بين أسقف "ظفار" المسمى "كريكنتيوس" gregentius وبين herban اليهودي، والظاهر أنها من القصص الذي وضع في السريانية وليست لها قيمة تأريخية بالطبع4.
وقد دون "يوحنا الأفسي" john of ephesus المتوفى في حوالي سنة "585" للميلاد في تأريخه الكنسي وثيقة مهمة جدًّا عن حادث تعذيب نصارى نجران، هي رسالة وجهها "مار شمعون" أسقف "بيت أرشام" simon of beth arsham المعاصر لهذا الحادث إلى "رئيس دير جبلة" abt von gabula يصف فيها ما سمعه وما قصَّه عليه شهود عيان من أهل اليمن عن تعذيب نصارى نجران
__________
1 Mordtmann, in ZDMG, 31, 1877, S. 67, Assemani, Bibl. Orient,
2 359, Fell, in ZDMG, 35, 1881, S. 19
3 Mordtmann, in ZDMG, 31, 1877, S. 67, Anecdota Graecca, vol, V, P. I, Cboissonade Ed)
4 Mordtmann, in ZDMG, 31, 1877, S. 69, Bury, I, P. 327(6/153)
وما لاقوه هناك من أصناف العذاب1. ومنه أخذها البطريق "ديونيسيوس" patriarch dionysius، فأدخلها في تأريخه المؤلف بالسريانية. وقد نشرها "السمعاني" في مؤلفه "المكتبة الشرقية". وتجد هذه الرسالة أيضًا في تأريخ "زكريا" zacharias von mitylene المتوفى في حوالي سنة "568" للميلاد، وهو بالسريانية أيضًا2. وفي الرسالة اختلافات على نسخ الرسالة الأخرى، ولكنها غير مهمة على كل حال ولا تغير من جوهرها شيئًا3.
وقد ذكر "شمعون" في رسالته أنه كان قد رافق "إبراهيم" "إبراهام" abraham والد "نونوسوس" nonnosus الشهير في رسالة خاصة أمر بها القيصر "يوسطينوس" justinus الأول إلى ملك الحيرة "المنذر الثالث". وكان ذلك في العشرين من كانون الثاني من سنة "835" من التأريخ السلوقي، وتقابل هذه السنة سنة "524" للميلاد. فلما بلغا قصر الملك، سمعا بأخبار استشهاد نصارى نجران. وعلم به "شمعون" من كتاب وجهه ملك حمير إلى ملك الحيرة، يطلب منه أن يفعل بنصارى مملكته ما فعله هو بنصارى نجران. وقد قرئ الكتاب أمامه، فوقف على ما جاء فيه، وعلم به أيضًا من رسول أرسله في الحال إلى نجران ليأتيه بالخبر اليقين عن هذه الأعمال المحزنة التي حلت بالمؤمنين4.
وقد وجه شمعون في نهاية الرسالة نداء إلى الأساقفة خاصة أساقفة الروم ليعلمهم بهذه الفاجعة التي نزلت بإخوانهم في الدين، وإلى بطريق الإسكندرية ليتوسط لدى
__________
1 مجلة المجمع العلمي العربي، بدمشق، المجلد الثالث والعشرون الجزء الأول السنة 1948 "كتاب الشهداء الحميريين"، لمار أغناطيوس أفرام، النصرانية "1/ 61".
Fell, "Die Christenvetfolgung, in Sudarabien und Himjarish Athiopischen Kriege nach Abessinischer Uberlieferung" in ZDMG 35, 1881, S. 2. Assemani, Bibi. Orient, I, P. 364, Bury, II, P. 323
2 النصرانية "1/ 61"، مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، الجزء المذكور "ص18"، اللؤلؤ المنثور في تأريخ الآداب والعلوم السريانية "254"، حمص سنة 1943.
Assemani, Bibl. Orient, I, 369, ZDMG.. 35, 1881, S. 3
3 Zacharias, Hisroria Miscellanea, by J.P.N. Land, Entitled Zacharlae Epicopi Mitylenes Aliorumquae Scripta Gisrotica Graeca Plerumque
4 ZDMG, 35, 1881, S. 3, Bury, II, P. 323, Fragmanta Histori, Greega, IV, P. 177.(6/154)
نجاشي الحبشة في مساعدة نصارى اليمن، كما وجه نداءه إلى أخبار "طبرية" للتأثير على ملك حمير، والتوسط لديه بالكف عن الاضطهاد والتعذيب1.
وقد درس عدد من الباحثين هذه الرسالة، ونقدوها، وهي في الجملة صحيحة ووثيقة مهمة لا شك في ذلك بالنسبة إلى من يريد الوقوف على موضوع استشهاد نصارى نجران أما ما جاء فيها على لسان ملك حمير من جمل وعبارات استخلصت على حد قول "شمعون" من الرسالة التي وجهها ملك حمير إلى المنذر، فمسألة فيها نظر، وقضية لا يمكن التسليم بها، فلا يعقل أن يكون ما قيل فيها على لسانه قد صدر منه. وما دون فيها من عبارات بحق الشهيد "حارثة" الحارث" arethas ونصارى نجران لا يعقل أن يكون قد صدر من ملك يهودي. ولكننا لا نستطيع أن ننكر أو نتجاهل أمر الرسالة التي أرسلها الملك إلى المنذر لحثه على اضطهاد نصارى مملكته مقابل مبلغ يقدمه ملك حمير إليه. ولا داعي يدعو إلى نكرانها والشك فيها. وكل ما نستطيع أن نقوله إن الرسالة صحيحة، ولكن ما دونه شمعون من جمل وعبارات على أنها من كلام ملك حمير، هو من إنشائه وكلامه، لا ترجمة حرفية للكتاب. وخلاصة ما يقال في الرسالة أنها وثيقة مهمة، ولها قيمة تأريخية في الجملة بغض النظر عن التفصيلات الواردة فيها وعن عواطف كاتبها وعن المبالغات التي وردت فيها. وفي مركز صاحبها والمكانة التي كان فيها ما يسوغ صدور مثل هذه الأمور منه ووقفه عليها2.
ومن الوثائق التأريخية التي تتعلق بشهداء نجران كتاب ينسب إلى "يعقوب السروجي" في السريانية في نصارى نجران، وقصيدة في رثاء الشهداء لـ"بولس" paulus bishop of eddessa أسقف "الرها" eddassa = edessa ومدحه إياهم، ونشيد كنسي سرياني لـ"يوحنا بسالطس" johannes psaltes رئيس دير قنسرين المتوفى سنة "600" للميلاد3، وميمر ليعقوب الرهاوي4.
__________
1 ZDMG. 35, 1881, S. 3
2 ZDMG, 35, 1881, S. 4
3 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، الجزء المذكور "18"، اللؤلؤ المنثور في تأريخ الآدب والعلوم السريانية "254"، وفي رواية أنه توفي في 30 أكتوبر 526 للميلاد راجع:
Bury, II, P. 324, ZDMG, XXXI, 324, 363, 400, XXXV, 1881, S. 4
4 النصرانية "1/ 61"، Bedjan, Acta Martyrum et Sanctorum, I, 372, 397(6/155)
ويظهر مما ورد في "كتاب الشهداء الحميرين"1 وفي رسالة "شمعون الأرشامي" أن "يعقوب السروجي" أسقف "سرجيوبولس" sergiopolis، أي "الرصافة" كان من رجال البعثة المذكورة التي أوفدها القيصر "يوسطين الأول" "يسطينوس" justin I إلى الملك "المنذر". و"الرصافة" sergiopolis هي "متروبولية منطقة الفرات" metropolis of euphratensis بالنسبة إلى نصارى العرب. ويذكر مؤلف الكتاب المذكور أنه عمد وهو في "حيرة النعمان" "حيرتا دي نعمانا" hirtha dhe' na 'mana أحد سادات حمير، واسمه "أفعو"u ' af، وكان أحد الوثنيين الذين جاءوا من اليمن إلى الحيرة، وقد شاهد بنفسه تعذيب نصارى "نجران"2. وقد كلفه ملكه، أي ملك حمير، السفارة عند ملك الحيرة، ولكنه كان رقيق القلب، فرق قلبه وهو في الحيرة على النصرانية، فتنصر على يديه3.
وقد نقل مؤلف كتاب الشهداء الحميريين صورة الكتاب الذي أرسله ملك حمير، وقد دعاه "مسروقًا" masruq، إلى "المنذر بن الشقيقة" "منذر بر شقيقة" mundhar bar zaqiqa وهو يحرضه فيه على النصارى4.
ولا بد من الإشارة إلى الأثر المهم المنشور باليونانية لـ"يوحنا بولند" johann bolland وجماعته في عشرات المجلدات، وإلى أثر آخر نشره "بويسونا" boissona في اليونانية كذلك في خمسة مجلدات5. فقد دونت في الكتاب الأول قصة الشهد القديس "الحارث" arethas وبقية شهداء نجران، وقصة الحرب التي وقعت بين النجاشي وذي نواس، ودونت في الأثر الثاني مضامين رسالة "مار شمعون". وقد بين "فينند فل" winand fell رأيه فيما جاء في مجموعة "بولند"6 bolland
__________
1 Axei Moberg. The Book of the Himyarites, Lund, 1924, Le Museon, 1963, 3-4, P. 349
2 Shshid, The Book of the Himyarites, In, Le Museon, 1963, 3-4, P. 354
3 Le museon, 1963, 3-4, P. 352
4 The book of himyarites, Chapter XXV
5 النصرانية "1/ 61"، وفي مكتبة الآباء اليسوعيين نسخة عربية من هذه الأعمال: "أعمال البولنديين".
Acta Snctorum oct Tem X 721. Antwerp, 1643
6 ZDMG, 35, 1881, S. 5(6/156)
وللنصوص الحبشية ولا شك أهمية عظيمة عند من يريد تدوين غزو الأحباش لليمن وتأريخ شهداء نجران إذ كانوا الطرف الرئيسي في هذا الحادث، وهم الذين أغاروا على اليمن فقتلوا ملك حمير. لذا وجه الباحثون أنظارهم نحوها وفتشوا عنها، غير أنهم لم يعثروا على نصوص فيها أمور جديدة عن الحادث تنفرد بها. وما عثر عليه ليس بكثير. ومن ذلك كتابة عثر عليها "يوسف سابيتو" j. sapeto أشير فيها باختصار إلى القديس الحارث "حيروت" herut وبقية الشهداء، وجملة مخطوطات حبشية محفوظة في المتحف البريطاني وردت فيها أخبار الشهداء وغزو الحبشة لليمن، وأمر "ذو نواس" المسمى فيها بـ"فنحاس"، وهي لا تختلف في الجملة اختلافًا كبيرًا عما جاء في أعمال "البولنديين" وأعمال القديس "أزقير" التي نشرها "روسيني"، وهو الذي استشهد بأمر ملك حمير "شرحبيل بن ينكف" مع "38" آخرين1.
يتبين من بعض الموارد الإغريقية والحبشية أن الأحباش كانوا قد نزلوا بأرض حمير قبل قيام ذي نواس بتعذيب نصارى حمير بسنين، وأنهم انتصروا على5 ذي نواس، فاضطر إلى التقهقر إلى الجبال للاحتماء بها، وأنهم تركوا في اليمن جيشًا لحماية النصارى والدفاع عنهم. فلما مات قائد الجيش ونائب الملك، انتهز ذو نواس هذه الفرصة فأغار على الحبش فتمكن منهم، وعذب من وجد في بلاده من النصارى واضطهدهم، وأغار على نجران، وحاضرها مدة طويلة بلغت سبعة أشهر على زعم الرواية الحبشية. فلما طال الحصار، عمد ذو نواس إلى الخداع والغش، ففاوض النجرانيين على التسليم له، وتعهد إن فتحوا له المدينة، ألا يتعرض لهم بسوء. فلما صدقوه وفتحوا المدينة له، أعمل فيهم السيف، فحمل ذلك الجيش على غزو اليمن2.
وورد في كتاب الشهداء الحميرين، ما يفيد بأن الحبش بعد أن نزلوا أرض حمير، عارضهم رجل اسمه "مسروق" وحاربهم وقاومهم، وهاجم مدينة
__________
1 النصرانية "1/ 61 وما بعدها" Sapeto, Biaggio e Mission e Cattllca fra I Mensa I bogos etc, Roma 1857, P. 412, ZDMG, 35, 1881, S. 9, Conti Rossini, Redic. D. Reale Accad. D. Lencei, 1910, Ser, V, Vol, XIX, P. 705
2 ZDMG, 35, 1881, S. 13. Bury, II. P. 323(6/157)
"ظفار" عاصمة حمير، وكان الحبش قد استولوا عليها وتحصنوا بها، ولما رأى "مسروق" أنه لا يتمكن من التغلب على الحبش الذين كانوا يحاربونه في مدينة "ظفار"، أوفد إليهم كهانًا ويهودًا من طبرية ورجلين من الحيرة كانا نصرانيين في الاسم، يحملون معهم كتابًا يعدهم فيه أنهم إن سلموا له "ظفار" فلن يؤذيهم، بل يعيدهم إلى الحبشة سالمين. فوثقوا بكلامه وصدقوه، وخرجوا إليه وكانوا ثلاث مائة محارب على رأسهم القائد "أبابوت"، فقبض عليهم وغدر بهم، إذ سلمهم إلى اليهود فقتلوهم. ثم أرسل من حرق بيعة ظفار بمن كان فيها من الحبش. عددهم مائتان وثمانون رجلًا، وكتب إلى الحميريين آمرًا بقتل النصارى قاطبة إن لم يكفروا بالمسيح ويتهودوا. وكتب إلى الحارث من أشراف مدينة نجران أن يأتيه مع من عنده من حملة السلاح لحاجته الشديدة إليهم. فلما بلغ الحارث مدينة ظفار، وسمع بما حدث، رجع إلى نجران، فحاصر مسروق المدينة، وطال الحصار، فراسل أهلها على الأمان. فلما فتحوا له مدينتهم، غدر بهم، وأحرق بيعتهم وأحرق خلقًا منهم بالنار رجالًا ونساءً وأطفالًا. وكان بعض قسيسيهم من حيرة النعمان ومن الروم والفرس والحبشة1.
فلما تمادى مسروق في غيه وفي قتل النصارى في نجران وغير نجران من مدن اليمن وقراها، سار سيد من سادات القوم اسمه "أمية" إلى الحبشة فأخبر مطرانها "أوبروبيوس" و"كالب" النجاشي بما حل بنصارى اليمن، فأمر "كالب" جيوشه بغزو حمير، فغزتها وقضى على "مسروق" اليهودي، وهو "ذو نواس" في كتب الإسلاميين2.
هذه رواية في السبب المباشر لغزو اليمن. وفي رواية أخرى أن الملك "دميون" dimion "دميانوس" dimianos، ملك حمير homeritae، كان قد أمر بقتل التجار الروم الذين كانوا في بلاده وبنهب أموالهم انتقامًا من الروم الذين أساءوا في بلادهم معاملة اليهود واضطهدوهم، فتجنب التجار الروم الذهاب إلى اليمن أو إلى الحبشة وإلى المناطق القريبة من حمير، فتأثرت التجارة مع الحبشة، وتضرر الأحباش، فعرض النجاشي على ملك حمير عروضًا لم يوفق عليها، فوقعت
__________
1 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، الجزء المذكور "11 وما بعدها". Fell, in zdmg , 35 1881 , S. 48
2 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، الجزء المذكور "15".(6/158)
الحرب. وتزعم الرواية أن النجاشي لم يكن نصرانيًّا، فقيل له: إن كتب لك النصر فأدخل في دين المسيح. فوافق على ذلك. فلما انتصر، تنصَّر، وانتقم من حمير. ثم أرسل رجلين من ذوي قرابته إلى القيصر يلتمس منه إرسال أسقف وعدد من رجال الدين. وبعد بحث واستقصاء وقع الاختيار على johannes paramonaris من كنيسة القديس يوحنا، فذهب مع عدد من الكهان، فعمد النجاشي وأتباعه، وأقام الكنائس، وأرشد الناس إلى الدين الصحيح1.
وقد عرف ذو نواس في النصوص النصرانية باسم dimnus = damian وdamnus = dimianos و"مسروق"2. ونرى تشابهًا كبيرًا بين dimnus وdamian وdamnus وكلمة "ذو نواس" العربية. فالظاهر أنها تحريف نشأ عن هذا الأصل. وأما النصوص الحبشية فقد دعته "فنحاس" phin 'has، وهو اسم من أسماء يهود3.
أما النجاشي الذي حارب حمير وغزا أرضها، فقد دعاه "بروكوبيوس" باسم 4hellestheaeus. ودعاه غيره بأسماء قريبة منه مثل elisbahaz = elesbowan وelesboas = elesbaas = ela - atzbeha. ويظهر أنها أخذت من "إيلا أصباح" ela - asbah أو "إيلاصباح" ela - sebah في الحبشية5. ودعي أيضًا باسم آخر، هو aidug، دعاه به "يوحنا الأفسي"6 johannes von ephesus و"أندس" andas وقد دعاه "ملالا" بذلك7. وadad ودعاه به "ثيوفانس" و"سدرينوس" edrenus8. أما في الروايات الحبشية، فقد سمي "كالب"
__________
1 Glaser, Die Abesslnler, S. 175, Bury, II, P. 322,
Dillmann, in ZDMG., VII, 357, Noldeke, Tabarl, S. 188
2 Glaser, Die Abessinler, S. 177, Fell, In ZDMG., 35, 8. 17,
1881, Ludolf, Comm. Ad. Hist Aeth., P. 233
مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، الجزء المذكور 15.
3 Fell, In ZDMG., 35, 1881, S. 17, Ludolf, Comm.', P. 233
4 Procopius, History of the Wars, P. .189
5 ZDMG., 35, 1881, s' 18
6 Galser, Die Abesslnler, S. 176, ZDMG., 35, 1881, 8. 19,
Assemani, Blbl. Orient. I, 359-
7 ZDMG., 35, 1881, S. 19, Malala, P. 434, Glaser,
Die Abesslnier, 8. 176
8 Theophanes, I, P. 346, Cedrenus, I, P. 656(6/159)
1kaleb. فهو إذن "إلا أصبحة كالب" elle ' asbeha kaleb وتعني "إلا" elle = ells "ذو" أو من "آل". وأما "أصبحة"، فاسم أجداده وعشيرته التي انحدر منها. كما أن "ذا نواس"، لا يعني اسم الملك، بل لقب أسرته، فاسمه هو "يوسف". ويكون النجاشي، أي ملك الحبشة الذي جهز الجيش وفتح اليمن هو "كالب" من "آل أصبحة" أو "إلا أصبحة كالب". كما عرف بذلك2.
وقد تحول اسم النجاشي ela sebah = elesboass إلى "أصحمة" في العربية. فقد ذكر بعض العلماء أن "أبرهة ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي"3 فـ"أصحمة" إذن هو النجاشي المذكور.
والنجاشي ela atybeba = elesboas، وهو ابن النجاشي tayena الذي كان على النصرانية. وقد خلف هذا النجاشي، النجاشي andas الذي كان قد أقسم أنه إذا انتصر في الحرب يتنصر. فانتصر، فدخل في النصرانية. وصارت النصرانية ديانة رسمية للحبشة. وقد لقب tayena بلقب "ملك أكسوم وحمير homer وريدان وسبأ وسلحين" في كتابة من كتاباته، مما يدل على أنه كان قد حكم اليمن4.
وقد عثر في خرائب مدينة "مأرب" القديمة، على نص مصاب بتلف في مواضع عديدة منه، تبين من دراسة ما بقي منه أنه مدون بلغة أهل الحبشة، وأنه يتحدث عن غزو بحري لميناء لم يذكر اسمه في النص، وقد يكون ذلك بسبب التلف الذي أصاب النص، قام بذلك الغزو مدون النص، وقد كان في سفينة تبعتها إحدى عشرة سفينة أخرى، فنزل بذلك الميناء وتغلب عليه ونزل المحاربون من سفنهم ودخلوا الميناء، فأخذوا غنائم وأسرى. ثم تلت هذه السفن دفعة ثانية من سفن جاءت محملة بالمحاربين، نزلوا في موضع يقع جنوب الموضع الذي نزل هو فيه. لم يذكر اسمه في النص كذلك. وقد انتصر الغزاة على الأماكن
__________
1 ZDMG. 35, 1881, S. 20
2 Die Araber, III, S. 28
3 تفسير النيسابوري "30/ 163"، "حاشية على تفسير الطبري".
4 Dilimann, in ZDmG, VII, 357, Noldke, Tabari, S. 188, Bury, II, P. 223(6/160)
التي هاجموها؛ لأنهم كانوا مع الحق والشرع، فكان الله معهم، وكان أهل الميناء على الباطل وضد الشريعة الحقة فعوقبوا بالهزيمة1.
والنص المذكور -وإن كان خلوًا من كل إشارة إلى "ذي نواس"، أو إلى اسم "نجاشي" الحبشة، أو إلى زمن وقوع الغزو والأماكن التي وقع عليها- يشير إلى غزو الحبش لليمن في حكم "ذي نواس"، وإلى تغلب الحبش عليه.
ويظهر منه القافلة الأولى تركت ساحل الحبشة من موضع "أدولس" "عدولس" "عدولي" adulis على ما يظهر وكانت بإمرة "إلا أصيحة"، فعبرت باب المندب، حتى وصلت إلى ساحل اليمن. وقد اختارت ميناء "مخا" موضعًا للنزول، فنزلت به وتغلبت على أصحابه. ثم جاءت قافلة أخرى نزلت في موضع يقع جنوب هذا الميناء، وتغلبت على أصحابه كذلك. وبذلك تم النصر للحبش. ولم يشر النص إلى أسماء الموانئ التي تحرك منها الجيش، أو الموانئ التي نزل بها في ساحل اليمن.
وقد عالج الباحثون هذه الأسماء. فرأى قسم منهم أنها تعني شخصًا واحدًا هو ملك الحبشة الذي حارب ذا نواس. ورأى آخرون أن المراد بـaidug وadad وandas شخص واحد هو نجاشي حكم قبل هذا العهد، أي في القرن الرابع للميلاد، وهو "إلا عاميدة" "علا عاميدة" ela amida، المعاصر للقيصر قسطنطين، وكان أول من تنصر من ملوك الحبشة على بعض الروايات.
وذلك لعدم انسجام هذه الرواية التي تنص على تنصر aidug بعد انتصاره على حمير، كما أشرت إلى ذلك، مع روايات أخرى تشير إلى تنصر ملوك الحبشة قبل غزو اليمن هذا بكثير2.
وترى الروايات العربية أن ذا نواس لما غُلب على أمره ورأى مصيره السيئ، ركب فرسه وسار إلى البحر فدخله فغرق فيه، أما الروايات الحبشية والإغريقية، فإنها ترى أنه سقط حيًّا في أيدي الأحباش فقتلوه3.
__________
1 Die Araber, III, S. 24. ff, Journ. Af. Semit, Stud, 9 (1964) , p. 56
2 ZDMG, 35, 1881, S. 20
3 ZDMG, 35, 1881, S. 16, Procopius, I, XX, I, Malala. S. 433(6/161)
وهناك شعر نسب إلى علقمة ذي جدن زعم أنه قائله، هو:
أو ما سمعت بقتل حمير يوسفًا ... أكل الثعالب لحمة لم يقتبر؟
وقد استدل منه "فون كريمر" على أن ذا نواس لم يغرق في البحر كما في الروايات العربية الأخرى، بل قتل قتلًا كما ورد في روايات الروم1.
__________
1 ZDMG, 35, 1881, S. 16, von Kremer, Sudarabische Sage, 92, 127(6/162)
حكم السميفع أشوع:
وذكر "بروكوبيوس" أن الذي حكم حمير بعد مقتل ملكهم هو رجل اسمه esimiphaios = esimiphaeus اختاره النجاشي من نصارى حمير ليكون ملكًا على أن يدفع إلى الأحباش جزية سنوية فرضي بذلك وحكم. غير أن من تبقى من جنود الحبشة في أرض حمير ثاروا عليه وحصروه في قلعة، وعينوا مكانه عبدًا نصرانيًّا اسمه "إبراهام" abraham كان مملوكًا في مدينة "أدولس" "عدول" adulis لتاجر يوناني، فغضب النجاشي وأرسل قوة قوامها ثلاثة آلاف رجل لتأديبه وتأديب من انضم إليه. فلما وصلت إلى اليمن، التحقت بالثوار، وقتلت قائدها وهو من ذوي قرابة النجاشي، فغضب hellestheaeus عندئذ غضبًا شديدًا، وسير إليه قوة جديدة لم تتمكن من الوقوف أمام أتباع abram فأنهزمت ولم يفكر النجاشي بعد هذه الهزيمة في إرسال قوة أخرى. فلما مات، صالح abraham خليفته على دفع جزية سنوية، على أن يعترف به نائبًا عن الملك على اليمن، فعين نائبًا عنه1.
وذكر "بروكوبيوس" أيضًا أن القيصر "يوسطنيانوس" أرسل رسولًا عنه إلى النجاشي ela atzbeha hellestheaeus وإلى esimiphaeus اسمه "جوليانوس" julianus ليرجو منها إعلان الحرب على الفرس وقطع العلاقات التجارية معهم؛ لأنهما والقيصر على دين واحد، فعليهما مساعدة أبناء دينهم الروم والاشتراك معهم في قضيتهم، وهي قضية عامة مشتركة، على النصارى جميعًا الدفاع عنها
__________
1 Procopius, L, XX 1-2, Bury, II, P. 324, John Malalas, XVIII, 457(6/162)
وطلب من ملك حمير homeritae خاصة أن يوافق على تعيين "قيس" kaisos = caisus "phylarch" سيدًا على قبيلة معد maddeni، وأن يجهز جيشًا كبيرًا يشترك مع قبيلة معد في غزو أرض الفرس، وكان قيس كما يقول "بروكوبيوس" من أبناء سادات القبائل، وكان شجاعًا قديرًا وكفئًا جدًّا وحازمًا، قتل بعض ذوي قرابة esimiphaeus فانهزم إلى البادية هائمًا. وقد وعد الملك خيرًا، غير أنه لم ينجز وعده، وإذ كان من الصعب عليه اجتياز أرض واسعة بعيدة وطرق طويلة تمر بصحاري وقفار لمحاربة أناس أقدر من قومه في الحرب1.
وقد وصل رسول "جستنيان" "يوسطنيان" justinian سنة "531م" إلى ميناء "أدولس" من البحر، ثم ذهب منه إلى "أكسوم" حيث وجد النجاشي ela atybeba واقفًا على عربة ذات أربع عجلات، وقد ربطت بها أربعة فيلة، وكان عاربيا إلا من مئزر كتان مربوط بذهب، وقد ربط على بطنه وذراعيه حليًا من ذهب، وبعد أداء هذا الرسول رسالته، ثار "إبرام" abram على esimiphios، وقضى على حكمه2.
وقد رجع السفير فرحًا مستبشرًا بنجاح مهمته، معتمدًا على الوعود التي أخذها من الملكين. غير أنهما لم يفعلا شيئًا، ولم ينفذا شيئًا مما تعهدا به للسفير. فلم يغزوا الفرس، ولم يعين "السميفع أشوع" "قيسًا" "فيلارخًا" على قبيلة معد.
وقد تحرش abramos = abram بالفرس، غير أنه لم يستمر في تحرشه بهم، فما لبث أن كف قواته عنهم3.
ولا يعقل بالطبع توسط القيصر في هذا الموضوع لو لم يكن الرجل من أسرة مهمة عريقة، له عند قومه مكانة ومنزلة، وعند القيصر أهمية وحظوة، ولشخصيته ولمكانة أسرته، أرسل رسوله إلى "السميفع" لإقناعه بالموافقة على إقامته رئيسًا على قومه. وبهذا يكتسب القيصر رئيسًا قويًّا وحليفًا شجاعًا يفيده في خططه السياسية الرامية إلى بسط سلطان الروم على العرب، ومكافحة الساسانيين.
وقد زار "إبرام" abram والد "نونوسوس" nonnosus الذي أرسله
__________
1 Procopius, I, XX, 9-13
2 Bury, II, P. 325. f
3 Procopius, I, XX(6/163)
"جستنيان" justinian إلى النجاشي وإلى اليمن وإلى معد kaisos = caisos "قيسًا" هذا مرتين، وذلك قبل سنة "530م"، وزاره "نونوسوس" نفسه في أثناء حكمه، فأرسل "قيس" ابنه "معاوية" معه إلى القسطنطينية إلى "يوسطنيان" ثم استقال "قيس"، وصار أخوه رئيسًا على معد، وزار القسطنطينية، فعين "فيلارخا" على فلسطين1.
ويظهر من دراسة خبر المؤرخ "بروكوبيوس" أن قيصر الروم المذكور كان قد أرسل رسولًا عنه إلى "النجاشي" وإلى السميفع"، إبان حكم السميفع لليمن، أي قبل ثورة "أبرام" "أبرهة" عليه. ولهذا كلمه الرسول في أمر "قيس"، ولكنه أخفق في إقناعه بالعفو عنه وبالاعتراف به رئيسًا على معد، فلم يعترف به إلى مقتله. فلما توفي، جاء رسول القيصر ثانية إلى النجاشي وإلى أبرهة وإلى "قيس" بمهمة تحريضهم لمعارضة الفرس، وتوحيد كلمتهم. وكان "أبرهة" على عكس "السميفع" على علاقة طيبة بـ"قيس"، وقد قرر تنصيبه رئيسًا على معد.
وقد أشار المؤرخ "ملالا" إلى خبر الرسول الذي أرسله القيصر إلى النجاشي لإقناعة بالاشتراك مع الروم في محاربة الفرس، غير أنه لم يذكر اسم الرسول الذي أوفده القيصر إلى بلاط "أكسوم". وقد ذكر أن النجاشي بعد أن تغلب على ملك حمير عين أحد ذوي قرابته ويدعي aggan = anganes على الحميريين2.
وأما "يوحنا الأفسي"، فقد دعاه abramios، ودعاه "ثيوفانس" "الحارث"3 arethas.
وesimiphaeus الذي نصبه النجاشي ملكًا على حمير بعد مقتل ملكهم اليهودي،
__________
1 تأريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي "4/ 394".
Bury, II, P. 26, Fragmenta Historicorum Graecorum, IV, P. 179, Bulletin of the School of oriental and Argican Studies, University of londn, vol, XVI, Part: 3, p. 435.
2 Malala, P. 456, Fell in ZDMG, 35, 1881, S. 34, ZDMG, 7, 473, Bury, II, 324, Malala XVIII, 457
3 Theophanes, I, P. 377, Fell, in ZDMG, 35, 1881, S. 35, Glaser, Mitt, S. 428, S. 69, Seper(6/164)
هو "السميفع أشوع"، صاحب النص الموسوم بـcih 621 بين العلماء. وقد دونه مع أولاده: "شرحبيل" "يكمل" و"معديكرب يعفر"، وجماعة من سادات القبائل منهم: أبناء ملحم "ملحهم"، وكبراء "كبور" قبائل محرج سيبان ذو نف. وقد كان السميفع أشوع من "بني لحيعت يرخم"، وكان هو وأولاده سادة "الهت" على: "كلعن" "كلعان" أي الكلاع , "ذ يزن" "ذي يزان" "ذي يزأن" و"ذي جدن" و"مثلن" "مثلان" "مطلحن" "مطلحان" و"شرفن" "شرفان" "شرقان" و"حب" "حبم" ويثعن "يثعان" و"يشر" يشرم ويزر ومكرب "مكربم" و"عقهت" "عقهة" و"بزاي" "بزايان" ويلجب "يلجبم" وغيمن "غيمان" "جيمان" ويسب وجبح وجدوى "جدويان" و"كزر" "كزران" و"رخيت" وجردان "الجرد" وقبيل "قبلان" وشرجي "شرجا"1.
أما أبناء ملحهم، فقد كانوا على وحظت "وحظة" و"الهان" "الهن" و"سلفن" "سلفان" "السلف"، و"ضيفتن" "ضيفت" "الضيفة" و"ريان" "رثاج" و"رياح" و"ريحن" و"ركب" "ركبن" و"مطلن" "مطلان" و"مطلفن" "مطلفان" و"ساكلن" "ساكلان"، و"زكرد"2.
وقد دونوا النص المذكور، لمناسبة ترميمهم وإصلاحهم أسوار ودروب ومنافذ وصهاريج حصن "مويت" "عرمويت"، "ماويت" ماوية" وتحصنهم فيه بعد أن جاء الحبش على أرض حمير ففتحوها، وقتلوا ملكها وأقياله الحميريين والأرحبيين، وذلك في شهر "ذو حجت" "ذي الحجة" من سنة "640" من
__________
1 CIH 621, CIH, IV, III, I, P. 54, REP. EPIG. 2633, REP. EPIG, V, I, P. 5, Mlaker, in Zeitschrift fur Semitistik, Vii, I, 1929, S. 63, LE Muiseon, LXIII, 3-4, 1950, P. 271.
2 Glaser, Die Abessinier, 132(6/165)
التأريخ الحميري الموافق لسنة "525" للميلاد1.
ويظهر أن "السميفع أشوع"، كان من أهل "نصاب"، وكان قد هاجر لسبب لا نعرفه هو وأولاده إلى الحبشة. فأقام بها، ثم عاد فاستقر في "عر مويت" أي في "حصن ماوية"، وأخذ يوسع من هذا الحصن أرضه ويفتح أرضين جديدة ويتقدم نحو الأرضين التي حكمها "ذو نواس" فلما جاهر "ذو نواس" بمناصبة النصرانية والحبش والروم العداء، كلفه الحبش والروم بمهاجمة "ذي نواس" وقدموا له المساعدات المادية من عون عسكري ومالي؛ ليستعين بها في تنفيذ مشروعه هذا. وأخذ يشتري القبائل ويفرض نفوذه عليها بالقوة وبالمال حتى انتهى الأمر بزوال ملك "ذي نواس"، فعين "السميفع" حاكمًا على اليمن ونائبًا عن ملك الحبشة عليها، إلا أن ثورة وقعت فيها، قضت على حكمه، فولى الأحباش شخصًا آخر في مكانه، وذلك بعد السنة "531" للميلاد2.
و"شرحب آل لحمى عت يرخم" شرحبيل لحيعت يرخم"، وهو والد "السميفع أشوع"، ولم يكن ملكًا، غير أنه لم يكن من العامة، بل كان من "أقول" الأقيال. وذلك لعدم ذكر لقب الملك بعد اسمه. وعدم نص ابنه "السميفع" على أن والده كان ملكًا. ويجوز أن يكون للمسيفع أشوع أبناء آخرون غير الولدين: "شرحب آل يكمل" "شرحبيل يكمل" و"معديكرب يعفر" المذكورين في النص3.
وفي متحف إستانبول نص اسم بـosma. mus. no: 281 نشره وترجمه العالم
__________
1 "سطرو ذن مزندن بعرن مويت"، السطران السادس والسابع من النص، "عرن" الحصن في الحميرية، العرب قبل الإسلام لزيدان "125"، وقد اختلف الباحثون بعض الاختلاف في قراءة أسماء الأعلام الواردة في هذه النص السطر الحادي عشر من النص.
G. Hunt, Himyaric Inscriptions of Hisn Ghurab, Translated and Elucidated, 1848, Praetorius, Himjarische Inschriften, in ZDMG., XXVI, 1872, S. 436, J.H. Mordtmann, Neue Himjarische Inschriften, in ZDMG., XXXIX, 1885, S. 230, Von Maltzen, Reise nach Sudarabien, 1873, S. 225, REP. EPIG. 2633, REP. EPIG., V, I, P. 5, Glaser, Zwei Inschriften, S. 86, M. Hartmann, Die Arabische Frage, 1909, S. 367, J. Raymond Wellsted, Travels to the City of
the Caliphs, P. 21 Rodiger, Versuch, S. 13
2 Beitrage, S. 92, 120
3 Le Museon LXIII, 3-4, 1950, P. 273(6/166)
البلجيكي "ريكمنس" g.ryckmans في مجلة le museon، وردت في مطلعه جملة: "نفس قدس سميفع أشوع ملك سبا"، وفي آخره عبارة: بسم رحمنن وبنهو كرشتش غلبن" ومعناها "بسم الرحمن وابنه المسيح الغالب"1.
وفي هاتين الجملتين دلالة صريحة على أن السميفع أشوع كان ملكًا على سبأ وأنه كان على دين النصارى. وقد استعمل النص كلمة "كرشتس" بمعنى المسيح ويستعملها أهل الحبشة كذلك. وقد أخذوها، ولا شك من الروم. ويؤيد كون "السميفع أشوع" نصرانيًّا، ما ذكره المؤرخ "بروكوبيوس" من أن الحبشة عينت رجلًا نصرانيًّا من حمير اسمه esimiphaeus ملكًا على حمير، وذلك بعد قتل الملك الحميري الذي عذب النصارى في بلاده، ويقصد به ذو نواس.
ولم يكن "السميفع أشوع" ملكًا مستقلًّا كل الاستقلال يتصرف بملكه كيف يشاء، بل كان في الواقع تابعًا لحكومة "أكسوم". يُفهم ذلك صراحة من هذا النص الذي أتحدث عنه. جاء في السطر الثالث منه: "أمراهموا نجشت أكسمن برو وهوثرن"، أي "في أيام أميرهم نجاشي أكسوم بنوا وأسسوا". وجاء في السطر السادس: "أملكن الأبحه ملك حبشت"، أي "ملك الأبخة ملك الحبشة"، ويقصد بـ"الأبخه" نجاشي الحبشة "إلا أصبحة" elle ' asbeha الذي كان ملك الحبشة في ذلك العهد. وعاصمته مدينة "أكسوم"2.
وتعني كلمة "نجشت" الواردة في النص ملكًا أو أميرًا في العربية، وقد أخذها العرب من الحبش، وأطلقوها على ملوك الحبشة، وهي "نجاشي" و"النجاشي" في عربيتنا، كما أطلقوا كلمة "قيصر على أباطرة الروم3.
وقد ذكرت في النص أسماء "ذويزان" "ذو يزن" و"حسن" "حسان" و"شرحبال" "شرحبيل" قيل "ذو معفرن"، أي قيل المعافر. و"أسودن" أي الأسود "وسميفع" قيل "دو بعدان" "ذ بعدن"، وزرعة قيل مرحبم، أي مرحب "المراحب" و"حارث" و"مرثد" أمراء "ثعبان" و"شرحبيل"
__________
1 Handbuch, S. 105, Note: 4, Le Museon, LIX, 1-4, 1964, P. 165, REP. EPIG. 3904, REP. EPIG., VI, II, P. 376, Le MusSon, LXIII, 3-4, 1950, P. 272, Istanbul, 7600, Bis, Conti Rossini, Storia D'EUopia, Milano, 1925, Vol., I, P. 180
2 LeMus6on, LIX, 1-4, 1946, P. 167
3 Ency., m, P. 817(6/167)
يكمل"1 وجاء بعض هذه الأسماء في نصوص أخرى، ومنها نص "حصن غراب" المتقدم وقد اشتهر بعض هذه القبائل في الإسلام.
ولدينا نص غفل من التأريخ وسمه العلماء بـ rep. Epig. 4069، وردت فيه جملة أسماء، هي: "شرحب آل يكمل" "شرحبيل يكمل" و"شرحب آل يقبل" "شرحبيل يقبل"، و"مرثد علن أحسن" "مرثد علن أحسن" "مرثد علان أحسن"، و"سميفع أشوع" أبناء "شرحب آل لحي عت يرخم" "شرحبيل لحيعت يرخم" أقيال "أقول" "ذو يزان" "ذو يزن" و"جدنم" "ذو جدن" و"يلجب" و"يصبر"2. ويظن أن "السميفع أشوع" المذكور هنا هو الملك الذي نتحدث عنه3. ولم يلقب في هذا النص بلقب ملك، كما لم يلقب به والده كذلك. والظاهر أنه كتب قبل عهد توليه الملك، وأنه لم يكن من الأسرة المالكة، ولكن من أبناء الذوات والأعيان.
ووردت في نهاية النص جملة "الرحمن رب السماء والأرض"، وهي عبارة تختلف عن العبارات المألوفة التي نعهدها في النصوص الوثنية القديمة، تظهر منها عقيدة التوحيد والابتعاد عن الآلهة القديمة بكل جلاء4. غير أننا لا نستطيع أن نستخرج منها أن صاحبها كان يهوديًّا كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، أو أنه كان نصرانيًّا5، إنما نستطيع أن نقول إن أصحاب هذا النص كانوا على دين التوحيد وكفى.
ومن الأسماء الواردة في هذا النص: "ضيفتن" "ضيفت" "ضيفة" و"ريحم" "ريح" "رياح" و"مهرت" "مهرة" وقبيلة "سيبن" "سيبان"6.
وقد تكون مهرت "مهرة"، هي مهرة التي تنسب إلى "مهرة بن حيدان بن عمرو بن ألحاف بن قضاعة" في اصطلاح النسابين7.
ويقع "عرمويت"، أي حصن "مويت" "ماوية "في جزيرة بركانية
__________
1 Le Museon, LIX, 1-4, 1946, PP. 167, 171
2 REP. EPIG. VII, I, P. 66, Bosawen, 13
3 Ryckmans 63, Le Museon, LXIII, 3-4, 1950, P. 272, Beitrage, S. 92
4 السطر الحادي عشر من النص.
5 Le Museon, LXIII, 1950, PP. 273, 274
6 السطران الرابع والخامس من النص.
7 منتخبات "100".(6/168)
تسمى "حصن الغراب" وهو الآن خرابز وقد عثر الباحثون في أنقاضه على كتابة وسمت بـ cih 728 دونها" صيد أبرد من مشن" "صيد أبرد بن مشان"، أحد أقيال "بدش" "باداش". وورد فيها اسم "قنا". وقد كان لهذا الحصن شأن كبير في تلك الأيام لحماية الجزيرة والميناء من الأعداء المهاجمين ومن لصوص البحر. وللدفاع عن التجار الذين كانوا يتاجرون مع إفريقيا والهند. ولهذا اهتم "السميفع أشوع" وأولاده بترميمه وبإصلاحه وتقويته1.
وأما ميناء "قنا" الذي ذكرته في مواضع من هذا الكتاب، وهو في الموضع المسمى بـ"بير علي" في الوقت الحاضر على رأي بعض الباحثين، فقد كان من الموانئ المهمة على البحر العربي. وقد كان مرفأ للتجارة الآتية من الشمال، أو من البحر لإرسالها إلى "شبوة" ومواضع أخرى في شمال هذا الميناء2.
ومما يلاحظ أن المواضع الآثارية التي على الساحل الجنوبي لجزيرة العرب قليلة معدودة. وتكاد تنحصر في أرض عدن وأبين وحصن الغراب وفي مواضع من أطراف "ظفار" وحول "المكلا" و"الشحر" وساحل مهرة. مع أن السواحل هي من المواضع التي يجب أن تكون في العادة عامرة بالمدن والمرافئ بسبب سهولة اتصالها بالعالم الخارجي. ووقوعها على طرق مائية تجلب إليهن السفن والناس. والظاهر أن وخامة الجو في هذه السواحل وصعوبة حماية الساحل من لصوص البحر، وتفشي الأمراض، وملوحة المياه الجوفية، وأسبابًا أخرى، كانت في جملة ما حال بين الناس وبين بناء المدن على هذه السواحل3.
وقد اشتهرت "ظفار" بأنها المرفأ المعد لتصدير اللبان والمر وحاصلات البلاد العربية الجنوبية الأخرى. وكان محاطًا بسور. أما المواضع الأخرى، فلم تكن مسورة في الغالب، وقد أشار "كرب أيل وتر" في أخباره عن حروبه في السواحل الجنوبية أنه خرب مدينة "تفض" في "أبين"، وأحرق مواضع أخرى على البحر، يظهر أنها لم تكن مسورة، ويظهر أن هذه السواحل لم تكن مأهولة مثل الأرضين الشمالية العالية، فلم يعثر الباحثون على كتابات كثيرة فيها
__________
1 Beitrage, s. 910
2 Beitrage, s. 930
3 Beitrage, s. 870(6/169)
حتى الآن. وصارت مدينة "عدن" ومدينة "قنا" من أهم المرافئ على الساحل الجنوبي1.
هذا ولا بد لي هنا من الإشارة إلى كتابة حبشية ناقصة عثر عليها "أحمد فخري" سنة "1947م" بمأرب، فيها إشارة إلى دخول الحبشة إلى اليمن وإن لم ينص على ذلك نصًّا. ويظن أنها تشير إلى استيلاء "إلا أصبحة" النجاشي على اليمن سنة "525" للميلاد. وانتصاره على "ذي نواس"2.
ويظهر من هذه الكتابة أن حملة الحبش على اليمن نقلت في قافلتين من السفن: تحركت القافلة الأولى بقيادة النجاشي الذي كان قد احتجز سفينة خاصة به، فعبرت به باب المندب ورست عند ساحل اليمن. وكانت سفينة النجاشي أول سفينة بلغته، ثم تلتها بقية السفن. وقد سقط من الكتابة اسم الموضع الذي رست السفن فيه، ولعله "مخا". فوقعت معارك بين الحبش وبين الحميريين، انتصر فيها الأحباش فأخذوا أسرى وغنائم. ولما كان النص ناقصًا وقد طمست من الكتابة الباقية منه كلمات، فقد صار غامضًا مقتضبًا، لا يفهم منه إلا إشارات3.
__________
1 Beitrage, S. 88
2 Die Araber, III, S. 24
3 Die Araber, III, S. 24(6/170)
أبرهة:
وabraham وabramios، هما اسمان لمسمى واحد، أريد به "أبرهة" المشهور عند أهل الأخبار الذي اغتصب الملك باليمن، ونصب نفسه حاكمًا عليها، ولقب نفسه بألقاب الملوك، وإن اعترف اسميًّا بأنه "عزلي ملكن أجعزين"، أي "نائب ملك الأجاعزة" على اليمن1. وحكم اليمن أمدًا. وترك في نفوس اليمانيين أثرًا قويًّا.
ويرى بعض الباحثين أن "كالب أيلا أصبحة"، كان قد أرسل حملة سنة "523" للميلاد على اليمن، حملتها إليها سفن بيزنطية، نزلت في البلاد وتغلبت على "ذي نواس" فهرب "ذو نواس" من "ظفار"، ثم عاد فباغت
__________
1 راجع السطر الخامس من النص.(6/170)
الحبش وأنزل بهم خسائر كبيرة، واضطهد النصارى وعذبهم. فحمل النجاشي على إرسال حملة جديدة عليه نزلت اليمن سنة "525" للميلاد. وصارت في أيدي الحبش حتى سنة "530" للميلاد. إذ قامت ثورة على الحبشة، وانتهز "أبرهة" الفرصة، فأخذ الأمر بيديه، وبقي حاكمًا على اليمن منذ هذا الوقت تقريبًا حتى سنة "575" للميلاد. وكان قد انتزع الحكم من "السميفع أشوع"، الذي نصبه الحبش ملكًا على اليمن حين دخولهم إليها وعينوا رجلين من الحبش يحكمان معه ويراقبان أعماله لئلا يقوم بعمل يضر مصالحهم1.
ولأهل الأخبار روايات عن كيفية استئثار "أبرهة" بالحكم واغتصابه له.
لهم رواية تقول: إنه جاء إلى اليمن جنديًّا من جنود القائد الحبش "أرياط" الذي كلفه نجاشي الحبشة بفتح اليمن، فلما أقام باليمن سنين، نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي، حتى تفرقت الحبشة، وخرج أبرهة على طاعة قائده، ثم غدر به وأخذ مكانه2. ورواية أخرى، تقول إن النجاشي أرسل جيشًا قوامه سبعون ألفًا، جعل عليه قائدين، أحدهما: أبرهة الأشرم3. فلما ركب ذو نواس فرسه واعترض البحر فاقتحمه وهلك به، نصب أبرهة نفسه ملكًا على اليمن، ولم يرسل له شيئًا، فغضب النجاشي ووجه إليه جيشًا عليه رجل من أصحابه، يقال له أرياط، فلما حل بساحته، بعث إليه أبرهة: "أنه يجمعني وإياك البلاد والدين، والواجب علي وعليك أن ننظر لأهل بلادنا وديننا ممن معي ومعك، فإن شئت فبارزني، فأينا ظفر بصاحبه كان الملك له، ولم يقتل الحبشة فيما بيننا".
فرضي بذلك أرياط، وأجمع أبرهة على المكر به، فاتعدا موضعًا يلتقيان به، وأكمن أبرهة لأرياط عبدًا يقال له: "أرنجده، في وهدة قريب من الموضع الذي التقيا فيه، فلما التقيا سبق أرياط فزرق أبرهة بحربته، فزالت الحربة عن رأسه وشرمت أنفه، فسمي الأشرم، ونهض أرنجده من الحفرة، فزرق أرياط فأنفذه، فقتله"4. وأخذ أبرهة الحكم لنفسه، واستأثر به.
__________
1 J. Ryckmans, L'Inst, P. 320, Grohmann, S. 31
2 الطبري "2/ 125" "دار المعارف".
3 الطبري "2/ 127" "دار المعارف".
4 ويذكر الطبري في خبر آخر أن اسم العبد الذي قتل أرياط "عتودة" الطبري "2/ 128، 129".(6/171)
وتذكر رواية أخرى، أن النجاشي كان قد وجه أرياط أباصحم "ضخم" في أربعة آلاف إلى اليمن، فأداخها وغلب عليها. فأعطى الملوك، واستذل الفقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة الأشرم أبو يكسوم، فدعا إلى طاعته. فأجابوه، فقتل أرياط، وغلب على اليمن1.
وتذكر رواية أن "أرياط" أخرب مع ما أخرب من أرض اليمن سلحين وبينون وغمدان، حصونًا لم يكن في الناس مثلها. ونسبوا في ذلك شعرًا إلى "ذي جدن"، زعموا أنه قاله في هذه المناسبة2. ويظهر من روايات أخرى أن تلك الحصون بقيت إلى ما بعد أيامه، وذكر أن "أرياط" كان فوق أبرهة، أقام باليمن سنتين في سلطانه لا ينازعه أحد، ثم نازعه أبرهة الحبشي الملك3.
وتجمع روايات أهل الأخبار على أن النجاشي غضب على أبرهة لما فعله باليمن ولا أقدم عليه من قتل أرياط، وأنه حلف ألا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده، ويجز ناصيته، ويهرق دمه. فلما بلغ ذلك أبرهة، كتب إلى النجاشي كتابًا فيه تودد واعتذار وتوسل واسترضاء. فرضي النجاشي عنه، وثبته على عمله بأرض اليمن4.
ولما استقام الأمر لأبرهة باليمن، بعث إلى "أبي مرة بن ذي يزن"، فنزع منه امرأته "ريحانة ابنة علقمة بن مالك بن زيد بن كهلان"، و"علقمة" هو ذو جدن. وكانت ولدت لأبي مرة معديكرب بن أبي مرة، وولدت لأبرهة بعد أبي مرة مسروق بن أبرهة، وبسباسة ابنة أبرهة. وهرب منه أبو مرة5.
ولأبرهة ذكر وشهرة في كتب أهل الأخبار والتأريخ. وقد ورد اسمه في الشعر الجاهلي، وضرب به المثل في القوة والصيت والسلطان، حتى لنجد أهل الأخبار يذكرون أسماء جملة أشخاص دعوهم "أبرهة" ذكروا أنهم حكموا اليمن.
__________
1 الطبري "2/ 137" "دار المعارف"، أخبار مكة، للأزرقي "1/ 81 وما بعدها"، "1/ 88"، "طبعة خياط".
2 الطبري "2/ 125"، "دار المعارف".
3 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 87"، "خياط"، الطبري "2/ 128" "سنين"، "دار المعارف".
4 الطبري "2/ 128 وما بعدها" "دار المعارف".
5 الطبري "2/ 130" "دار المعارف".(6/172)
والظاهر أن الشهرة التي بلغها في أيامه وغزوه القبائل العربية واستعماله القسوة معها، أحاطته بهالة في أيامه تضخمت فيما بعد، فأحيط بقصص وأساطير وصير من اسمه جملة حكام حكموا باسم "أبرهة".
فقد ذكروا اسم "أبرهة تبع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ" وكان يقال له "الرائد"1. وجعلوا لأبرهة هذا ولدين، هما: إفريقس، والعبد ذو الأذعار. وأولد إفريقس شمر يرعش2. وذكروا "أبرهة" آخر، قالوا له: "أبرهة بن شرحبيل بن أبرهة" وسمي "الهمداني" جملة رجال "أبرهة"، وأدخلهم في "الأصابح"3. ويظهر من دراسة اسم "أبرهة" ونعته في الحبشية أن الأخباريين أخذوا فصيروا منها أسماء عربية ربطوا بينها وبين تأريخ اليمن كما فعلوا مع أشخاص آخرين.
وقد ضرب "لبيد بن ربيعة العامري" المثل بـ"أبي يكسوم" وهو أبرهة في وجوب الاتعاظ بهذه الدنيا الفانية التي لا تدوم لأحد، فقال:
لو كان حي في الحياة مخلدًا ... في الدهر ألقاه أبو يكسوم4.
والتبعان كلاهما ومحرق ... وأبو قيس فارس اليحموم5.
وقد ترك أبرهة وثيقة مهمة على جانب خطير من الأهمية، وهي النص الذي وسم بـglaser 618 وبـcih 541 عند الباحثين في العربيات الجنوبية6. وهي ثاني نص طويل يصل إلينا من اليمن، يتألف من "136" سطرًا ومن حوالي "470" كلمة7 وتبحث عن ترميم سد مأرب ذي المكانة الخالدة في القصص
__________
1 الطبري "2/ 566" "دار المعارف"، "2/ 111".
2 الإكليل "2/ 53".
3 الإكليل "3/ 143".
4 ديوان لبيد "ص108" "الكويت 1962م".
5 الإكليل "2/ 159".
6 Glaser 618, (+ 553 + 555 + 556) , CIH 541, CIH, IV, II, III, P. 278, Glaser, Zwei Inschriften uber den Dairimbruch von Mareb, in Mlttellungen der Vorderasiatlschen Gesellschaft, , 1897, S. 390, Seper., S. 31-126, Ryckmans, 506, Jamme 546, A. J. Drewes, Inscriptions de L'Ethlople Antique, 1962, 71, 1961, 65.
7 Handbuch, S. 106, Die Araber.J, S. 587, Le Museon, 66, 1953, P. 340, Beeston, In BSOAS, 16, 1954(6/173)
العربي وتجديده مرتين، وذلك في أيام أبرهة. المرة الأولى في شهر "ذو المدرح" من سنة "657" من التأريخ الحميري المقابلة لسنة "542" للميلاد، والثانية في شهر "ذو معان" "ذ معن" من سنة "658" من التأريخ الحميري، أي في سنة "543" من الميلاد1.
وقد افتتح النص بالعبارة الآتية: "بخيل وردا ورحمت رحمنن ومسحو ورح قدس سطر ذن مزندن، إن أبره عزلي ملكن أجعزين رمحز زبيمن ملك سبأ وذ ريدن وحضرموت ويمنت وأعربهموا طودم وتهمت"2 أي "بحول وقوة ورحمة الرحمن ومسيحه وروح القدس سطروا هذا الكتابة. إن أبرهة نائب ملك الجعزيين رمحز زبيمان ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في النجاد وفي تهامة".
ويلاحظ أن أبرهة قد لقب نفسه في هذا النص باللقب الرسمي الذي كان يتلقب به ملوك حمير قبل سقوط دولتهم، مع أنه كان "عزلي ملكن أجعزين"، أي نائب ملك الجعزين. والواقع أنه كان قد استأثر بالحكم في اليمن، وحصر السلطة في يديه، وصار الحاكم المطلق، ولم يترك لنجاشي أكسوم غير الاسم، حتى إنه دعاه في هذا النص بـ"ملك الجعز" حسب3.
وفي النص حديث عن ثورة قام بها "يزد بن كبشت" "يزيد بن كبشة" من السادات البارزين في اليمن. وكان أبرهة قد أنابه عنه، وجعله خليفته على قبيلتي "كدت" و"دا"4، غير أنه ثار عليه لسبب لم يذكر في النص، وأعلن العصيان. وانضم إليه أقيال "أقول" سبأ و"أسحرن"، وهم: "ذو سحر" و"مرة" و"ثممت" "ثمامة" و"حنش" "حنشم" و"مرثد" و"حنف" "حنفم" "حنيف" و"ذخلل" "ذو خليل" و"أزانن" الأزان" والقيل "معديكرب بن سميفع"، و"هعن" "هعان" وإخوته أبناء أسلم. فلما بلغ نبأ هذه الثورة مسامع "أبرهة"، سير إليه جيشًا بقيادة "جرح ذزبنر" "جراح ذو زبنور"، فلم يتمكن أن يفعل شيئًا، وهزمه
__________
1 F. Praetorius, Bemerkungen zur den beiden grossenInschriften vom Dammbruch zu Marib, in ZDMG, 1899, 5, 15
2 السطور الأولى من النص: CIH 541, glaser 618
3 Glaser, Zwei Inschriftten uber den Dammbruch von Marib, II, 1897, S. 421.
4 "خلفتهوذ ستخلفوا على كدت ردا"، السطر الحادي عشر من النص، Glaser, zwei, s. 401, 413, Seper, 42 , 54(6/174)
"يزيد"، واستولى على حصن "كدر" "كدار"، وجميع من أطاعه من "كدت" "كدة" ومن "حريب" حضرموت وهاجم "هجن أذمرين" "هجان الذماري" وهزمه واستولى على أملاكه، وحاصر موضع "عبرن" "عبران" "العبر". عندئذ قرر أبرهة معالجة الموقف بإرسال قوات كبيرة لرتق الحرق قبل اتساعه، فجهز في شهر "ذ قيضن" "ذو القيض" "ذو قيضان" من سنة "657" من التقويم الحميري أي سنة "542" للميلاد جيشًا لجبًا من الأحباش والحميريين، وجهة نحو أودية "سبأ" و"صرواح" ثم "نبط" على مقربة من "الوادي" "عبرن" "عبران" "العبر". وفي "نبط" جعل أهل "ألو" "ألوي" و"لمد" والحميريين في المقدمة. أما القيادة، فكانت بأيدي القائدين: "وطح" "وطاح" و"عوده" "ذو جدن". وبينما كان الجيش في طريقه لحرب "يزيد بن كبشة" إذا به يظهر مع عدد من أتباعه أمام "أبرهة" يطلب منه العفو والصفح. أما الباقون، قد تحصنوا في مواضعهم، وأبو الخضوع والاستسلام.
وبينما كان أبرهة يفكر في أمر بقية الثائرين إذا به يسمع بخبر سيئ جدًّا، هو تصدع سد "مأرب" وتهدم بعض توابعه، وذلك في شهر "ذ مذرن" "ذو مذران" "ذو المذري" من سنة "657" من تقوم حمير، أي سنة "542" للميلاد. فأمر مسرعًا بتحضير مواد البناء والحجارة، وحدد أجل ذلك بشهر "ذ صربن" "ذو الصرب" من السنة نفسها. وفي أثناء مدة التحضير هذه، افتتح أبرهة كنيسة في مدينة مأرب يظهر أنه هو الذي أمر ببنائها، ورتب لخدمتها جماعة من متنصرة سبأ. ولما انتهى من ذلك عاد إلى موضع السد لوضع أسسه وإقامته مستعينًا بحمير وبجنوده الحبش، ولكنه اضطر بعد مدة إلى السماح لهم بإجازة، ليهيئوا لأنفسهم الطعام وما يحتاجون إليه، وليريحهم مدة من هذا العمل المضني الذي تبرموا منه، وليقضي بذلك على تذمر العشائر التي لم تتعود مثل هذه الأعمال الطويلة الشاقة. ورجع أبرهة في أثنائها إلى مأرب، فعقد معاهدة مع أقيال سبأ وتحسنت الأحوال، وأرسلت إليه الغلات والموارد اللازمة للنباء، ووصلت إليه جموع من الفعلة وأبناء العشائر، فعاد إلى العمل بهمة وجد، فأنجزه على نحو ما أراد، فبلغ طوله خمسة وأربعين "أممًا"، أي ذراعًا، وبلغ ارتفاعه خمسة وثلاثين "أممًا". أما عرضه. فكان أربع عشرة ذراعًا، بني بحجارة حمر من "البلق". وأنجزت أعمال قنواته وأحواضه والمشروعات الفرعية(6/175)
المتعلقة به في "خبشم" "خبش" وفي "مفلم" "مفلل" "مفلول". وقد دون أبرهة في نهاية النص ما أنفقه على بناء هذا السد من أموال، وما قدمه إلى العمال والجيش الذي اشترك في العمل من طعام وإعاشة من اليوم الذي بدئ فيه بالإنشاء حتى يوم الانتهاء منه في شهر "ذو معن" "ذو معان" من سنة "658" الموافقة لسنة "543" للميلاد.
مدينة مأرب، وتقع على أنقاض مأرب القديمة من كتاب: (Gataban and Sheba)
ويظهر من النص أن ثورة "يزيد بن كبشة" "يزد بن كبشت" كانت ثورة عنيفة قوية، وأنها شملت حضرموت و"حريب" و"ذو جدن" و"حباب" عند "صرواح". ولكنها فشلت وتغلب أبرهة عليها بمساعدة قبائل يمانية ذكرها في النص1.
أما "يزيد بن كبشة" فلا نعرف من أمره في الزمن الحاضر إلا شيئًا يسيرًا، وهو ما ذكره أبرهة في نصه عنه، من أنه عينه عاملًا، ووكيلًا عنه على قبيلة "كدت" "كدة". وهي كندة على رأي أكثر العلماء2.
__________
1 Beitrage, s. 121
2 Glaser, mitt. S. 434(6/176)
وأما الأقيال الذين انضموا إليه وساعدوه، وهم: "ذو سحر" و"مرة" وثمامة" و"حنش" و"مرثد" و"حنيف" وآل ذو خليل وذو يزان "ذ يزن" "ذو يزن"، و"معديكرب بن سميفع" و"هعن" "هعان" وإخوته أبناء أسلم. فهم يمثلون على الجملة الطبقات الأرستقراطية القديمة في سبأ. فآل ذو خليل وذو سحر، من الأسر التي ذكرت أسماؤها في النصوص المدونة قبل الميلاد. وقد أرخ بأسره "ذي خليل" في نصوص المسند، وذكروا في كتابات السبئيين العتيقة التي تعود إلى أيام المكربين. وكان لهم في أيامهم شأن يذكر في تأريخ سبأ، إذ كان منهم المكربون1. وذكر "الهمداني" اسم جماعة يقال لهم "البحريون"، قال: إنهم من ولد ذي خليل من حمير2.
وليس من السهل تشخيص "مرة" و"ثمامة"، فهما من الأسماء المتعددة المذكورة في الكتب العربية. وقد أشير إلى "ثمامة بن حجر" ملك "قصر الهدهاد" في "عمران"3. وذكر الهمداني "بني ثمامة" وقال: إن جبأ مدينة المعافر، وهي لآل الكرندي من بني ثمامة آل حمير الأصغر4، فهل يكون لهؤلاء صلة بـ"ثمامة" النص؟
وذكر بعض الأخباريين اسم ملك من ملوك اليمن سموه "مرثدًا زعموا أنه كان آخر الملوك، وزعم قسم منهم أنه حكم مدة قصيرة بعد "ذي نواس"، فهل صاحب هذا الاسم هو "مرثد" المذكور في النص؟ ولا عبرة بالطبع بما ذكر من أنه كان ملكًا، فقد كان من عادة الأقيال والأذواء التلقب بلقب ملك5.
وورد "ذو مراثد بن ذو سحر"، في الموارد العربية6، فجمعت بين "مراثد" و"سحر، وورد اسم "سحر" واسم مرثد في النص، فهل هناك صلة بين هذه الأسماء؟
ويرى "كلاسر" أن "أزان"، هم "يزن"، ومنهم "سيف بن
__________
1 Glaser, mitt. S. 465
2 الصفة"112".
3 Glaser, mitt. S. 458
4 الصفة "54".
5.Glaser, mitt. S. 100
6.Glaser, mitt. S. 100(6/177)
ذي يزن" الذي ثار على الحبش واستعان بالفرس لإنقاذ بلاده من أيدي الأحباش1.
وأما معديكرب بن سميفع، فيرى الباحثون أنه ابن "السميفع أشوع"2. وقد جاء اسمه بين أسماء الأقيال الذين ثاروا على أبرهة، وانضموا إلى ثورة "يزيد بن كبشة". فهم من الأقيال الحاقدين على أبرهة لاغتصاب أبرهة الملك من والده. ولهذا انضم إلى "يزين بن كبشة" سيد "كدت" "كندة" وحارب معه الحبش3.
وفي أثناء وجود أبرهة في مأرب قضى على عصيان الأقيال الذين انضموا إلى ثورة "يزيد"، وأبوا الخضوع لحكم أبرهة بعد استسلام يزيد وخضوعه. وكذلك استسلمت قبيلة كدار "كيدار" "كدر"4. وتحسن موقفه بذلك كثيرًا، وأصبح سيد اليمن وصاحب الأمر، أما الذين ساعدوه وآزروه وعاونوه والتفوا حوله، فهم: ذو معاهر5 و"بن ملكن" ابن الملك6 ومرجزف وذو ذرنح7 وعدل "عادل" وذو فيش، وذو شولمان "ذو الشولم"8 و"ذو شعبان"9 "ذو الشعب" وذو رعين "ذرعن"، و"ذو همدان"10 و"ذو الكلاع"11، و"ذ مهدم" "ذو مهد" و"ذ ثت" "ذو ثت" "ذو ثات" و"علسم" و"ذو يزان" "ذ يزن" "ذو يزن"، و"ذو ذبين" "ذو ذبيان" و"كبر حضرموت" كبير حضرموت، وذو فرنة "ذ فرنة". وقد ذكر النص أنهم كانوا إلى جانب الملك، وأنهم كانوا عسل ود وصداقة معه. وهم بالطبع من أسر عريقة، ومن كبراء القوم، وقد وردت أسماء بعض أسرهم في النصوص المدونة قبل الميلاد.
__________
1. Glaser, mitt. S. 101
2 Handbuch, S. 106
3.Beitrage, S. 93
4 "كدر" في النص، السطر 34 من النص.
5 "ذ معهر" في النص السطر 82.
6 "بن ملكن" السطر 83.
7 "ذ ذرنح"، السطر 83 من النص.
8 "ذ شولمن"، السطر 84 من النص.
9 "ذ شعبن"، السطر 84 من النص.
10 "ذ همدن"، السطر 85 من النص.
11 "ذ كلعن"، السطر 85 من النص.(6/178)
ولم يذكر في النص اسم "كبر حضرموت"، أي كبير حضرموت الذي كان يحكم حضرموت في أيام أبرهة، ويظهر من ذكره مع الرجال الذين حضروا إلى مأرب أنه كان تابعًا لأبرهة، أو أنه كان حليفًا له1.
وتدل جملة "بن ملكن"، على أن المراد بها "ابن الملك"، أي "ابن أبرهة"، ولم يشر النص إلى اسمه، فلعله قصد أكبر أولاده. ويرى البعض أنه كان يحكم "وعلان" "ذو ردمان"، وأنه كان يلقب بـ"ذ معهر" "ذو معاهر" "ذو معهر". وقد أشار "الهمداني" إلى "ذي المعاهر". وذكر أنه قصر "وعلان" بـ"ردمان"2.
وفي أثناء وجود أبرهة في مأرب، وفدت إليه وفود من النجاشي ومن ملك الروم "ملك رمن" ومن ملك الفرس "ملك فرسن"، ورسل من "المنذر" "رسل مذرن" ومن "الحارث بن جبلة" "رسل حرثم بن جبلت" ومن "أب كرب بن جبلة" "أبكرب بن جبلة" "رسل أبكرب بن جبلت" ومن رؤساء القبائل3. ويلاحظ أن النص قد قدم النجاشي على ملك الروم، كما قدم ملك الروم على ملك الفرس، ثم ذكر من بعد ملك الفرس اسم المنذر والحارث بن جبلة وأبي كرب بن جبلة "أبكرب من جبلت". أما تقديم النجاشي على غيره فأمر لابد منه، وذلك لسيادة الحبشة ولو بالاسم على اليمن، واعتراف أبرهة بسيادة مملكة أكسوم عليه. وفي إرسال مندوب عن النجاشي إلى أبرهة في مهمة سياسية، ودليل ضمني على انفراد أبرهة بالحكم، واستقلاله في إدارة اليمن حتى صار في حكم ملك مستقل، يستقبل وفود الدول ورسلهم ومن بينهم وفد من ملك قامت حكومته بغزو اليمن والاستيلاء عليها. وأما تقديم ملك الروم على ملك الفرس، فلصلة الدين والسياسة بين الحبشة والروم واليمن، فللروم الأسبقية والأفضلية إذن على الفرس.
ويلاحظ أيضًا أن النص قد استعمل كلمة "محشكت" للوفد أو الرسل الذين جاءوا إلى أبرهة من النجاشي ومن ملك الروم، فكتب "محشكت نجشين"
__________
1. Glaser, mitt. S. 467
2 Beitrage, s. 39
3 السطر 88 من النص، وما بعده إلى السطر 93.(6/179)
و"محشكت ملك رمن" أي "رسل النجاشي "سفراء النجاشي" "سفير النجاشي" و"رسل ملك الروم". وتعني كلمة "محشكت" في اللغة السبئية "الزوجة"، فعبر في هذا النص بهذه الكلمة عن معنى "سفير" "سفراء" و"رسل حكومة صديقة مقربة"، فلها إذن. هنا معنى دبلوماسي خاص1. أما بالنسبة إلى رسل "ملك الفرس"، فقد أطلق عليهم كلمة "تنبلت"، فكتب "تنبلت ملك فرس"، أي "وفد ملك الفرس" وذلك يشير إلى أن لهذه الكلمة معنى خاصًّا في العرف السياسي يختلف عن معنى "محشكت"، وأن الوفد لم يكن في منزلة وفدي الحبشة والروم ودرجتهما.
ولقد أحدث مجيء مندوب النجاشي "رمحيز زبيمن" ومندوب ملك الروم ومبعوث ملك الفرس، ورسل المنذر ملك الحيرة، والحارث بن جبلة وأبي كرب بن جبلة، أثرًا كبيرًا ولا شك في نفوس العرب الجنوبيين، وفي نفوس الأقيال وقبائلهم، فمجيء هؤلاء إلى اليمن، وقطعهم المسافات الشاسعة، ليس بأمر يسير، وفيه أهمية سياسية كبيرة. وفيه تقدير لأبرهة ولمكانته في هذه البقعة الخطيرة المسيطرة على البحر الأحمر وفمه عند باب المندب، وعلى المحيط الهندي. كما أحدثت الأبهة التي اصطنعها أبرهة لنفسه في اليمن. والقوة التي جمعها في يديه أثرًا كبيرًا ولا شك أيضًا في نفوس المبعوثين الذين قطعوا تلك المسافات للوصول إلى عاصمة سبأ ذات الأثر الخالد في النفوس2.
ولم يكن مجيء هؤلاء المبعوثين إلى أبرهة لمجرد التهنئة أو التسلية أو المجاملة أو ما شاكل ذلك من كلمات مكتوبة في معجمات السياسة. ولكن لأمور أخرى أبعد من هذه وأهم، هي جر أبرهة إلى هذا لمعسكر أو ذلك، وترجيح كفة على أخرى، وخنق التجارة في البحر الأحمر، أو توسيعها، ومن وراء ذلك إما نكبة تحل بمؤسسات الروم وتجاراتهم، وإما ربح وافر يصيبهم بما لا يقدر. لقد كان العالم إذ ذاك كما هو الآن، جبهتين: جبهة غربية، وجبهة أخرى شرقية: الروم والفرس. ولكل طبالون ومزمرون من الممالك الصغيرة وسادات القبائل يطلبون ويزمرون، ويرضون أو يغضبون، ويثيبون أو يعاقبون إرضال
__________
1 Glaser, Mitt, S. 408, Praetorius, in ZDMG, 48, S. 650
2 Glaser, mitt. S. 421(6/180)
للجبهة التي هم فيها. وزلفى إليها وتقربًا. لقد سخر الروم كل قواهم السياسية للهيمنة على جزيرة العرب. أو إبعادها عن الفرس وعن الميالين إليهم على الأقل.
وعمل الفرس من جهتهم على تحطيم كل جبهة تميل إلى الروم وتؤيد وجهة نظرهم وعلى منع سفنهم من الدخول إلى البحر الهندي، والإتجار مع بلاد العرب. وعمل المعسكران بكل جد وحزم على نشر وسائل الدعاية واكتساب معركة الدعاية والفكر، ومن ذلك التأثير على العقول. فسعى الروم لنشر النصرانية في الجزيرة، فأرسلوا المبشرين وساعدوهم، وحرضوا الحبشة على نصرها ونشرها، وسعى الفرس لنشر المذاهب النصرانية المعارضة لمذهب الروم والحبشة ولتأييد اليهودية أيضًا. وهي معارضة لسياسة الروم أيضًا. ولم يكن دين الفرس كما نعلم نصرانيًّا ولا يهوديًّا، وإنما هو دين بغيض إلى أصحاب الديانتين. ولم يكن غرض الروم من بث النصرانية أيضًا خالصًا لوجه الله بريئًا من كل شائبة.
أما النجاشي الذي أرسل الوفد إلى أبرهة فاسمه "رمحيز زبيمن" "رمحيز زبيمان" كما ذكر ذلك أبرهة نفسه. ولا يعرف من أمر هذا النجاشي شيء كثير، ولا يعرف كذلك أكان قد خلف النجاشي "كالب إيلا أصبحة" kaleb ela asbeha الذي بأمره كان الفتح أم كان خلفًا لخليفته1. وقد أشرت من قبل إلى ما ذكره "بروكوبيوس" وأهل الأخبار عن التوتر الذي كان بين نجاشي الحبشة وأبرهة، وعن امتناع أبرهة عن دفع جزية سنوية إليه، ويظهر أن أبرهة رأى أن من الخير له مصالحة النجاشي والاعتراف بسلطانه اسميًّا، وفي ذلك كسب سياسي عظيم، كما هو كسب للنجاشي ولو صوريًّا، فدفع الجزية له، وتحسنت العلاقات.
وأما "ملك رمن" ملك الروم، فلم يذكر "أبرهة" اسمه في نصه. ولكن يجب أن يكون هو القيصر "يوسطنيانوس" justinian الذي حكم من سنة "527" حتى سنة "566" للميلاد، وكان حكمه بعد حكم "يسطين" الذي ولي الحكم من سنة "518" حتى سنة "527" للميلاد. وكان "يوسطنيانوس" "يوسطنيان" قد وضع خطة للتحالف مع الحبش ومع حمير للإضرار بالفرس. وراسل "السميفع أشوع" esimiphaeus للاتحاد معه ولمحاربة الفرس، فلما تولى "أبرهة" الحكم عاد القيصر فاتصل به، وتودد إليه لتنفيذ ما عرضه على "السميفع أشوع"
__________
1.Glaser, mitt. S. 427(6/181)
في مهاجمة الفرس. فوافق أبرهة على ذلك، وأغار عليهم، غير أنه تراجع بسرعة1.
وأما "حرثم بن جبلت"، فهو الحارث بن جبلة ملك الغساسنة، وأما "أبكرب بن جبلت"، فإنه abochorabus المذكور في تأريخ "بروكوبيوس". وقد ذكر هذا المؤرخ أن القيصر "يوسطنيانوس" "يوسطنيان" justinian كان عينه عاملًا "فيلارخا" phylarch على عرب السرسين saracens بفلسطين، وأنه كان رجلًا صاحب قابليات وكفاية، تمكن من تأمين الحدود ومن منع الأعراب من التعرض لها، وكان هو نفسه يحكم قسمًا منهم، كما كان شديدًا على المخالفين له. وذكر أيضًا أنه كان يحكم أرض غابات النخيل جنوب فلسطين، ويحاور عربها عرب آخرون يسمون "معديني" "معد" maddeni هم أتباع لـ"حمير" homeritae2.
أراد هذا الرئيس أن يتقرب إلى القيصر، وأن يبالغ في تقربه إليه وفي إكرامه له، فنزل له عن أرض ذات نخل كثير عرفت عند الروم بـ phoinikon "واحة النخيل"، أو "غابة النخيل" وهي أرض بعيدة، لا تُبلغ إلا بعد مسيرة عشرة أيام في أرض قفرة. فقبل القبيصر هذه الهدية الرمزية، إذ كان يعلم، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس" عدم فائدتها له، وأضافها إلى أملاكه، وعين هذا الرئيس عاملًا "فيلارخًا" على عرب فلسطين3.
وقد قام ملك هذا الرئيس على ملك رئيس آخر كانت له صلات حسية بالروم كذلك، هو "امرؤ القيس" amorkesos الذي سبق أن تحدثت عنه في كلامي على علاقة العرب بالبيزنطيين.
و"غابة النخيل" التي ذكرناها، تجاور أرض قبيلة "معد" maddenoi، وكانت معد كما يظهر من أقوال المؤرخ "بروكوبيوس" خاضعة في عهده لحكم الحميريين. وقد ذكرت كيف أن القيصر توسط لدى "السميفع أشوع" ليوافق
__________
1 ZDMG, 35, 1881, S. 36
2 Procopius, I, XIX, 8-16, P. 180, Glaser, Mitt, S. 437
3 Procopius, I, XXX, 2-16, Bulletin of the School of Oriental and African Studies, University of lonon, vol, XVI, Part: 3, 1954, P. 428. Musil, Hegay, P. 307(6/182)
على تعيين "قيس" رئيسًا على معد. وقد تمردت هذه القبيلة على "أبرهة"، فسير إليها قوة لتأديبها، كما يظهر ذلك من كتابة أمر "أبرهة" بكتابتها لهذه المناسبة. أدبها بقوة سيرها إليها في شهر "ذو ثبتن" من شهور فصل الربيع، فانهزمت معد، وأنزلت القوة بها خسائر فادحة. وبعد أن تأدبت وخضعت، اعترف "أبرهة" بحكم "عمرو بن مذر" عليها، وتراجعت القوة عنها1.
وmaddenoi، هي قبيلة ma'addaya التي ذكرها "يوحنا الأفسوسي" john of ephesus مع "طياية" taiyaye في كتابه الذي وجهه إلى أسقف "بيت أرشام" beth arsham، ويظهر من هذا الكتاب أن عشائر منها كانت مقيمة في فلسطين.
وفي القرآن الكريم سورة، أشارت إلى سيل العرم، هي سورة سبأ، ورد فيها: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} 2. ولم يحدد المفسرون الوقت الذي تهدم فيه السد3.
ولـ"أبرهة" نص آخر، كتبه بعد النص المتقدم، لمناسبة غزوه "غزيو" "معدًا"، في شهر "ذ ثبتن" "ذي ثبت" "ذي الثبت" "ذي الثبات" من شهور سنة "662" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "547" أو "535" للميلاد. وهذا النص عثرت عليه بعثة "ريكمنس" مدونًا على صخرة بالقرب من بئر "مريغان". فوسم بـryckmans 506. وقد ترجمه "ريكمنس" g. Ryckmansإلى الفرنسية، ثم إلى لغات أخرى4.
__________
1 Le Museon, LXVI, 1953, 3-4, P. 277, Ryckmans, No. 506
2 سورة سبأ، الآية 15 وما بعدها.
3 تفسيرالطبري "22/ 52 وما بعدها"، تفسير النيسابوري "22/ 50 وما بعدها"، "حاشية على تفسير الطبري" تفسير الآلوسي "22/ 115".
4 تأريخ العرب قبل الإسلام "4/ 396 وما بعدها".
Le Museon, 66, 1953, P. 275, Bulletin of the School of Oriental and African Studies, 1954, vol, XVI, Part, 3, P. 435, W. Caskel, Entdeckungen in Arabien S. 27, Sidney Smith, Events in Arabia in the 6th century A. D. BSOAS 1954, P. 435, A. F. L. Beeston, Notes on the Muraighan Inscriptions, In BSOAS, 1954, P. 389.(6/183)
وفي النص مواضع طمست فيها معالم بعض الحروف، عز بذهابها فهم المعنى وضبط الأعلام. كما أن فيها بعض تعابير معقدة، عقدت على من عالجه فهم المعنى فهمًا واضحًا. ثم هو نص قصير لا يتجاوز عشرة أسطر، واختصر وصف الحوادث حتى صيره وكأنه برقيه من برقيات "التلغراف"، ولكنه مع كل هذا ذو خطر بالغ؛ لأنه يتحدث عن حوادث لم نكن نعرف عنها شيئًا، ويصف الأوضاع السياسية في ذلك العهد، ويشير إلى اتصال ملوك الحيرة بالحبش وإلى سلطان حكام اليمن على القبائل العربية، مثل معد. مع أنها قبائل قوية وكثيرة العدد. وهو ما يؤيد رواية أهل الأخبار في أنه كان لليمن نفوذ على قبائل معد وأن تبايعة اليمن كانوا ينصبون الملوك والحكام على تلك القبائل.
وقد تلقب "أبرهة" في هذا النص كما تلقب في نص سد مأرب بلقب الملك الذي كان يتلقب به ملوك اليمن، وهو: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت "اليمن" وأعرابها في النجاد "طودم"، وفي المنخفضات "تهمتم"، "تهامة"، كما افتتحه بجملة: "نخيل رحمنن ومسحهو"، أي "بحول الرحمن ومسيحه"، وقد سبق لـ"أبرهة" أن افتتح نصه الذي دونه على "سد مأرب" بجملة: "بخيل ودا ورحمت رحمن ومسحهو ورح قدس"، ومعناها: "بحول وقوة ورحمة الرحمن ومسيحة روح القدس"، والجملتان من الجمل التي ترد في نصوص اليمن لأول مرة، وذلك بسبب كون أبرهة نصرانيًّا، وقد صارت النصرانية في أيام احتلال الحبش لليمن ديانة رسمية للحكومة، باعتبار أنها ديانة الحاكمين، وعرف "أبرهة" في النصين بـ"أبره زيبمن"، أي "أبرهة زيبمان"، ولفظه "زي ب م ن" "زيبمن" من ألقاب الملك في لغة الأحباش1.
وإليك هذا النص كما دونه "ريكمنس" عن النص الأصيل:
"بخيل رحمنن ومسحهو ملكن أبره زبيمن ملك سبأ وذ ريدن وحضرموت ويمنت وأعربهمو طودم وتهمت سطرو ذن سطرن كغزيو معدم غزوتن ربعتن بورخن ذ ثبتن كقسدو كل بنيعمرم وذكي ملكن أبجبر بعم كدت وعل وبشرم بنحصنم بعم سعدم وم. خ ض. ووضرو قدمي جيشن على بنيعمرم كدت وعلى ود. ع. ز. رن. مردم وسعدم بود بمنهج تربن وهرجو وأزروا ومنمو ذ عسم ومخض ملكن
__________
1 Le museon, 1953, 3-4 p. 279(6/184)
بحلبن ودنو كظل معدم ورهنو وبعدنهو وزعهمو عموم بن مذرن ورهنهمو بنهو وستخلفهو على معدم معدم وقفلو بن حلبن بخيل رحمنن ورخهو ذ لئي وسثي وست ماتم"1.
ونصه في عربيتنا:
"بحول الرحمن ومسيحه. الملك أبرهة زبيمان ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت "اليمن" وأعرابها في الطود "الهضبة" وفي تهامة "المنخفضات" سطروا هذه الأسطر لما غزت معد: الغزوة الربيعية بشهر ذو الثبات "ذ ثبتن" "ذو الثبت". ولما غلظ "ثار" كل "بنو عامر". أرسل الملك "أبا جبر" بقبيلة "كدت" كندة وقبيلة "عل" و"بشر بن حصن" "بشرم بن حصنم" بقبيلة "سعد" لحرب "بني عامر" فتحركا بسرعة2 وقدما جيشهما نحو العدو: فحاربت "كدت" كندة وقبيلة "عل" بني عامر ومرادًا، وحاربت "سعد" بواد "بمنهج" ينهج" يؤدي" إلى "تربن" "الترب". فقتلوا من بني عامر وأسروا وكسبوا غنائم3. وأما الملك، فحارب بـ"حلبن" حلبان". وهزمت معد، فرهنت رهائن عنده.
وبعدئذ، فاوض "عمرو بن المنذر" "عمرو بن مذرن" وقدم رهائن من أبنائه. فاستخلفه "أقره" على معد. وقفل "أبرهة" راجعًا من "حلبن" "حلبان" بحول الرحمن. بتأريخ اثنين وستين وست مائة".
وقد درس بعض الباحثين هذا النص، فذهب بعضهم إلى أنه يشير إلى حملة أبرهة على مكة في العام الذي عرف عند أهل الأخبار بـ"عام الفيل" وأشير إليها في القرآن الكريم4. وذهب بعض آخر إلى أنه يشير إلى غزو قام به أبرهة تمهيدًا لحملة كان عزم القيام بها نحو أعالي جزيرة العرب، فتوقفت عند مكة5.
__________
1 Le museon, 1953, 3-4, p. 277
2 "ومخضو"، "وفي الحديث: أنه مر عليه بجنازة تمخض مخضًا، أي تحرك تحريكًا سريعًا"، اللسان "7/ 231"، "صادر"، "م/ خ/ ض".
3 "ذعسم" "العسم: الاكتساب، والاعتسام: الاكتساب"، اللسان "12/ 402"، "صادر"، "ع/ س/ م".
4 سورة الفيل، الآية فما بعدها"، F. Altheim- R. Stiehi, Araber und Sasaniden, Beriin, 1954, S. 200-207, Flnanzgeschicht3e der Spatantike, S. 145, 353, Le Museon, 1965, 3-4, P. 426
5 W. Caskel, Entdeckungen in Arabien, S. 30, Le Museon, 1965, 3-4, P. 426(6/185)
وذهب آخرون إلى أن ما جاء في هذا النص لا علاقة له بحملة الفيل، ذلك لأن هذه الحملة كانت في سنة "547" للميلاد على تقديرهم، على حين كانت حملة الفيل سنة:563" على تقديرهم أيضًا1.
وذهب "بيستن" إلى أن هذا النص يتحدث عن معركتين: معركة قام بها "أبرهة" في "حلبان": ومعركة كندة وسعد - مراد بموضع "تربن" "الترب" "تربة"، وقد حاربت فيها جماعة من القبائل2.
ويظهر من النص أن "أبرهة" غزا بنفسه معدًا في شهر "ذي ثبتن" من ربيع سنة "662 من التقويم السبئي، والتقى بها في موضع "حلبن" "حلبان"، فهزمها وانتصر عليها، فاضطرت عندئذ إلى الخضوع له ومهادنته، وإلى وضع رهائن عنده تكون ضمانًا لديه بعدم خروجها مرة ثانية عليه. فوافق على ذلك.
وفيما كان في "حلبان" بعد اتفاقه مع معد، جاءه "عمرو بن المنذر" "عمرم بن مذرن"، وكان أبوه "المنذر" عينه أميرًا على معد، ليفاوضه في أمر "معد" فقابله بـ"حلبان"، وأظهر له استعداد أبيه "المنذر" على وضع رهائن عنده لئلا يتكرر ما حدث، وبحصول اعترافه على تولي عمرو حكم "معد" فوافق أبرهة على ذلك، وقفل "وقفلو" أبرهة راجعًا إلى اليمن، وسوى بذلك خلافه مع معد. وصار "عمرو بن المنذر" رئيسًا على معد بتعيين أبيه له عليها وبتثبيت "أبرهة" هذا التعيين3.
و"حلبان" موضع في اليمن في أرض "حضور"، وذكر أنه موضع في اليمن على مقربة من "نجران"، وأنه موضع ماء في أرض "بني قُشَير". وقد وعت ذاكرة أهل الأخبار على ما يظهر شيئًا عن المعركة التي نشبت في هذا الموضع إذ رووا شعرًا للمخبل السعدي بفخر بنصره قومه "أبرهة بن الصباح" ملك اليمن4. وكانت "خندف" حاشيته. ذكروا أنه قال:
__________
1 A. G. Lundin, Yujnaya Arabia W VI Weke (Palestynski Sbornik, 1961, PP. 73, 852) Le Museon, 1965, 3-4, P. 427
2 Le Museon, 1965, 3-4, P. 426, BSOAS, 1954, P. 391
3 في النص ثغرات وألفاظ تجعل من الصعب على الباحث ضبط الترجمة الحرفية والمعنى للنص.
4 البكري، معجم "2/ 461"، "حلبان" "حلبان من أرض الأخروج بين حضور وحدان"، الإكليل "2/ 158"، "حاشية 1".(6/186)
صَرَموا لِأَبرَهَةَ الأُمورَ مَحَلَّها ... حَلبانُ فَاِنطَلَقوا مَعَ الأَقوالِ
وَمُحَرِّقٌ وَالحارِثانِ كِلاهُما ... شُرَكاؤُنا في الصِهرِ وَالأَموالِ1
وأورد "الهمداني" أبياتًا فيها اسم موضع "حلبان" واسم "أبي يكسوم"، وهي قوله:
وَيَومَ أَبي يَكسومَ وَالناسُ حُضَّرٌ ... عَلى جَلَبانٍ إِذ تَقَضّي مَحاِمله
فَتَحنا لَهُ بابَ الحَصيرِ وَرَبُّهُ ... عَزيرٌ تَمشي بِالسِّيوفِ أَراجِلُه
وقد روى هذان البيتان وهما من شعر "المخيل المعدي" في هذا الشكل:
وَيَومَ أَبي يَكسومَ وَالناسُ حُضَّرٌ ... عَلى جَلَبانٍ إِذ تَقَضّي مَحاِمله
طَوَينَا لَهُم بَابَ الحصينَ ودونَه ... عَزيزٍ يَمشي بالحرابِ مقاولُهُ2.
ويظهر من هذا الشعر أن "أبرهة" لما جاء بجيشه إلى موضع "حلبان"، وجد مقاومة، ووجد أبواب الحصن مقفلة، وقد تحصن فيه المقاومون له ودافعوا عنه، فهجم قوم الشاعر عليه، ففتحوا باب الحصن، ودخلوه.
أما تأديب "بني عامر"، فلم يقم به"أبرهة" بنفسه، بل قام به قائد اسمه "أبجبر" "أبو جبر"، قاد قبيلتي "كدت"، أي "كندة" و"عل"، وقائد آخر اسمه "بشرم بن حصنم"، أي "بشر بن حصن"، قاد قبيلة "سعدم"، أي "سعد" بنو سعد". وسار القائدان بجيشهما وتقدما بهما إلى "بني عامر"، وحاربا على هذا النحو: حاربت "كندة" و"عل" قبائل سقطت بعض الحروف من اسم كل واحدة منها، فبقي من إحداهما "ود. ع" وبقي من الأخرى "زرن" "ز. رن" وقبيلة "مردم"، أي "مراد".
وحاربت "سعد" بوادٍ يؤدي إلى "تربن" "الترب"3، فقتلوا وأسروا "أزروا" وأصابوا غنائم4. ولم يسم النص الوادي الذي يؤدي إلى "الترب".
__________
1 اللسان "1/ 334"، "سادر، تاج العروس "2/ 314"، "طبعة الكويت"، "ضربوا" بدلًا من "صرموا"، البكري "2/ 461".
2 Le museon, 1965, 3-4, p 430
3 "بود بمنهج تربن" السطران الخامس والسادس من النص.
4 السطر السادس من النص.(6/187)
ويظهر أن موضع "تربن" الذي يؤدي إليه الوادي الذي جرت فيه المعركة، هو موضع "تربة"، مكان في بلاد بني عامر، ومن مخاليف مكة النجدية، على مسافة ثمانين ميلًا تقريبًا إلى الجنوب الشرقي من الطائف1. وذكر أنه وادٍ بقرب مكة على يومين منها، يصب في بستان ابن عامر، حوله جبال السراة، وقيل إنه وادٍ ضخم، مسيرته عشرون يومًا أسفله بنجد وأعلاه بالسراة، وقيل: يأخذ من السراة ويفرغ في نجران، وقيل: موضع من بلاد بني عامر بن كلاب واسم موضع من بلاد بني عامر بن مالك2.
و"عمرم بن مذرن"، هو "عمرو بن المنذر" ملك الحيرة، وكان أبوه "المنذر" حليفًا للساسانيين. فيكون قد عاصر "أبرهة" إذن، ويكون "عمرو" ابنه من المعاصرين له أيضًا.
وقصد بـ"بنيعمرم"، "بني عامر". وهم "بنو عامر بن صعصعة" من "هوازن"3.
ومراد، هي قبيلة مراد التي بها "غطيف". وفي أيام الرسول وفد عليه "فروة بن مسيك المرادي" مفارقًا لملوك كندة. وقد كانت بين مراد وهمدان قبيل الإسلام وقعة ظفرت فيها همدان، وكثر فيها القتلى في مراد. وعرفت تلك الوقعة بيوم الروم. ورئيس همدان الأجدع بن مالك والد مسروق4.
وأما "سعدم" أي قبيلة "سعد"، التي قادها "بشر بن حصن" في هذه المعركة، فلم يذكر النص هويتها. غير أننا إذا ما أخذنا بشعر "المخبل السعدي" الذي افتخر به بنصرة قومه لأبرهة في يوم "حلبان" وبانضمامهم إليه، ففي استطاعتنا أن نقول حينئذٍ: إن قومه هم "سعدم" أي "سعد" القبيلة المذكورة في النص.
و"أبجبر" اسم قد يقرأ "أبو جبر"، وقد يكون "أبو جابر" وقد
__________
1 البكري "1/ 309"، "مادة تربة"، Bulletin of the School of Wriental and African Studies, University of London, VOL, XVI, Part 3, 1954, P. 430
2 تاج العروس "2/ 68 وما بعدها" "طبعة الكويت"، اللسان "1/ 231"، "صادر".
3 الاشتقاق "2/ 177، 178"، Le museon, 3-4, 1953, p. 341
4 ابن الأثير "2/ 123".(6/188)
يكون "أبجبر" وقد يكون "أبو جبار". وكل هذه الأسماء هي أسماء معروفة عند الجاهلين. وقد ذهب "كستر"m. J. Kister" إلى احتمال كونه "يزيد بن شرحبيل الكندي" أو "أبو الجبر بن عمرو"، وهو من كندة أيضًا1.
وهو من "آل الجون" من بطون كندة2.
وقد أشير في كتب أهل الأخبار إلى أمير من أمراء كندة عرف بـ"أبي الجبر" وقد ذكر في مقصورة "ابن بريد"3. وروي أنه زار "كسرى" ليساعده على قومه، فأعطاه جماعة من "الأساورة" أخذهم معه ليساعدوه، فلما وصل إلى "كاظمة" سئموا منه، وأرادوا التخلص منه فدسوا السم له في طعامه.
ولكنه لم يمت منه، بل شعر بألم منه، فأكرهه الأساورة على أن يكتب كتابًا لهم يحملونه معهم إلى "كسرى" يذكر فيه أنه سمح لهم بالعودة، فكتب لهم كتابًا ثم سافر إلى "الطائف"، فعالجه "الحارث بن كلدة الثقفي"، حتى شفي، فوهبه جارية كانت له اسمها "سمية" أهداها له "كسرى" ثم ذهب إلى اليمن، ولكن عاوده مرضه في طريقة إليها فمات. وقد رأى "كستر" أنه هو "أبو جبر" المذكور في النص4.
وأما "بشرم بن حصنم" أي "بشر بن حصن"، أو "بشر بن حصين" أو "بشار بن حصن" أو "بشار بن حصين" أو "بشير بن حصن"، فقد ذهب "لندن" ludin، إلى أنه أحد سادات "كندة"5.
لقد أشرت إلى رأي بعض الباحثين في هذه الحملة، وإلى ذهاب بعضهم إلى أنها كانت حملة الفيل، أي حملة أبرهة المذكورة في القرآن الكريم على مكة. كما أشرت إلى رأي آخر، ذكر أن هذه الحملة كانت مقدمة لحملة الفيل، أي حملة
__________
1 Le Museon, 1965, 3-4, P. 434
2 Le museon, 1965, 3-4. p. 436
3 Le museon, 1965, 3-4. p. 434
مقصورة ابن دريد. "ص82" "طبعة الجوائب"، القاهرة 1300 هـ، نزهة الجليس "1/ 484".
4 Le Museon, 1965, 3-4, P. 434
5 Le Museon, 1965, 3-4, P. 435, A. G. Lundin, Yujnaya Arabia W VI Weke Palestyniski Sbornik 1961, PP. 73-84(6/189)
تجريبية سبقت تلك الحملة. وحجة الفريق الأول ما ورد في بعض الروايات من أن مولد الرسول كان بعد عام الفيل بثلاث وعشرين سنة1. أي في حوالي السنة "547" للميلاد. وهو تأريخ ينطبق مع السنة المذكورة في النص، إذا أخذنا برأي من يجعل مبدأ التقويم الحميري سنة "115" قبل الميلاد2. ومن ورود رواية أخرى في حساب السنين عند قريش، تظهر بنتيجة حسابها وتحويلها أن عام الفيل كان في سنة "552" بعد الميلاد، وهو تأريخ ينطبق مع تأريخ النص أيضًا إذا أخذنا برأي "ريكمنس" في مبدإ التقويم الحميري من أنه كان سنة "109" لا "115" قبل الميلاد3.
وأبرهة هذا هو "صاحب الفيل" الذي قصد بفيلته وجنده هدم الكعبة وإكراه الناس على الحج إلى "القُليس" الكنيسة التي بناها بمدينة "صنعاء" في روايات الأخباريين. وهي كنيسة قال عنها أهل الأخبار، إنها كانت عجيبة في عظمتها وضخامتها وتزويقها من الداخل والخارج، حتى إن "أبرهة" لما انتهى من بنائها كتب إلى النجاشي: "إني قد بنيت لك بصنعاء بيتًا لم تبن العرب ولا العجم مثله"4. أو "إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك. كان قبلك"5.
ويبالغ أهل الأخبار في وصفها فيذكر "الأزرق"، أنه بناها بجانب قصر غمدان، وأنه أقامها بحجارة قصر بلقيس بمأرب، نقلها العمال والفعلة والمسخرون من مأرب إلى صنعاء. فهدموا ذلك القصر وأخذوا حجره يصلح للبناء من مادة، ثم نقلوه إلى صنعاء لاستعماله في بناء تلك الكنيسة التي بنوها بناءً ضخمًا عاليًا، وجعلوا جدرانها من طبقات من حجر ذي ألوان مختلفة.
لون كل طبقة يختلف عن الطبقة التي تحتها أو التي فوقها. وزينوا الجدران بأفاريز من الرخام والخشب المنقوش. وجعلوا الرخام ناتئًا عن البناء، وجعلوا فوق الرخام
__________
1 البدء والتأريخ "4/ 131 وما بعدها"، تأريخ العرب في الإسلام "1/ 91".
2 Le museon, 1965, 3-4, pp. 426, 427
3 Le museon, 1965, 3-4, pp. 427, 428.
4 الأزرقي "1/ 82 وما بعدها"، تفسير الطبري "30/ 193"، تفسير القرطبي "20/ 187".
5 ابن هشام "1/ 43"، ابن كثير، البداية "2/ 169"، "2/ 170 وما بعدها، "مطبعة السعادة، سنة 1932م"، "القاهرة، تفسير ابن كثير "4/ 548 وما بعدها"، "عيسى البابي الحلبي".
191(6/190)
حجارة سودًا لها بريق، وفوقها حجارة بيضًا لها بريق، فكان هذا ظاهر حائط القليس. وكان عرضه ستة أذرع. وكان للقليس باب من نحاس عشرة أذرع طولًا في أربع أذرع عرضًا. وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه، طوله ثمانون ذراعًا في أربعين ذراعًا معلق العمد بالسياج المنقوش ومسامير الذهب والفضة، ثم يدخل من البيت إلى إيوان طوله أربعون ذراعًا، عن يمينه وعن يساره، وعقوده مضروبة بالفسيفساء مشجرة، بين أضعافها كواكب الذهب ظاهرة، ثم يدخل من الإيوان إلى قبة ثلاثون ذراعًا في ثلاثين ذراعًا، جدرها بالفسيفساء، فيها صلب منقوشة بالفسيفساء والذهب والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشر أذرع في عشر أذرع، تغشي عينَ من ينظر إليها من بطن القبة تؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة، وكان تحت القبة منبر من خشب اللبخ، وهو عندهم الآبنوس، مفصد بالعاج الأبيض. ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهبًا وفضة. وكان في القبة سلاسل فضة1. وفي القبة أو في البيت خشبة ساج منقوشة طولها ستون ذراعًا يقال لها كعيب، وخشبة من ساج نحوها في الطول يقال لها: امرأة كعيب كانوا يتبركون بهما في الجاهلية. وكان يقال لكعيب الأحوزي، والأحوزي بلسانهم الحر2.
وكان أبرهة قد أخذ العمال بالعمل أخذًا شديدًا، وأمر بالعمل في بناء الكنيسة ليل نهار. وإذا تراخى عامل أو تباطأ عن عمله أنزل وكلاؤه به عقابًا شديدًا، يصل إلى قطع اليد. وبقي هذا شأنه ودأبه حتى أكمل بناؤها وسر من رؤيتها، فأصبحت بهجة للناظرين.
ونجد في وصف "الأزرقي" ومن تقدم عليه من أهل الأخبار للقليس شيئًا من المبالغة، ولكنه على الإجمال وصف يظهر أنه أخذ من موارده وعته وشاهدته وأدركته. لذلك جاء وصفًا حيًّا نابضًا بالحياة، ينطبق على الكنائس الضخمة التي أنشئت في تلك الأيام في القسطنطينية أو في القدس أو في دمشق، أو في المدن الأخرى. والظاهر من هذا الوصف، أن فن العمارة اليماني القديم قد أثر في شكل بناء هذه الكنيسة، التي تأثرت بالفن البيزنطي النصراني في بناء الكنائس.
__________
1 نهاية الأرب "1/ 382".
2 الأزرقي "1/ 84 وما بعدها"، "1/ 90"، "خياط".(6/191)
ويذكر "الأزرقي" أن القليس بقي في صنعاء ما كان عليه حتى ولي أبو جعفر المنصور الخلافة، فولى "العباس بن الربيع بن عبيد الله الحارثي" "العباس بن الربيع بن عبد الله العامري" اليمن، فذكر له ما في القليس من ذخائر، وقيل له إنك تصيب فيه مالًا كثيرًا وكنزًا فتاقت نفسه إلى هدمه. ثم استشار أحد أبناء وهب بن منبه وأحد يهود صنعاء فألحا عليه بهدمه وبيَّن اليهودي له أنه إذا هدمه فإنه سيلي اليمن أربعين سنة، فأمر بهدمه، واستخرج ما فيه من أموال وذهب وفضة وخاف الناس من لمس الخشبة المنقوشة التي كانوا يتبركون بها، ثم اشتراها رجل من أهل العراق كان تاجرًا بصنعاء وقطعها لدار له1. وخرب القليس حتى عفي رسمه وانقطع خبره2.
وإذا كان ما يقوله الأزرقي نقلًا عن رواة أدركوا تلك الكنيسة من أن أبرهة أقامها بأحجار قصر بلقيس باليمن، فإنه يكون بذلك قد قوض أثرًا مهمًّا من آثار مدينة مأرب، وأزال عملًا من الأعمال البنائية التي أقامها السبئيون في عاصمتهم قبله. وهو عمل مؤسف.
وفي صنعاء اليوم موضع يعرف بـ"غرفة القليس"، يظن أنه موضع تلك الكنيسة، وهو موضع حفير صغير ترمى فيه القمامات وعليه حائط ويقع أعلى صنعاء في حارة القطيع بقرب مسجد نصير3.
وذكر "الهمداني" اسم قصر دعاه "القليس" نسب بناءه إلى "القليس بن عمرو"، وهو في زعمه من أبناء "شرحبيل بن عمرو بن ذي غمدان بن إلى شرح يحضب". وقال: إنه بناه بصنعاء، وهو بناء قديم، وذكر أيضًا أن "عمرو ينأر ذو غمدان ابن آلي شرح يحضب بن الصوار" هو أول من شرع في تشييد "غمدان" بعد بنائه القديم4.
__________
1 الأزرقي "1/ 86"، نهاية الأرب "1/ 383"، وفي رواية أخرى، أن السفاح أول خلفاء بني العباس، هو الذي أمر بهدمها، البداية، لابن كثير "2/ 170 وما بعدها". "السعادة".
2 البلدان "7/ 156" "القليس".
3 الإكليل "2/ 87"، حاشية لـ"لمحمد بن علي الأكوع الحوالي"، رحلة في بلاد العرب.
4 الإكليل "2/ 86 وما بعدها".
السعيدة، لنزيه مؤيد العظم، "1/ 165"، مصطفى مراد الدباغ، الجزيرة العربية "1/ 285".(6/192)
وقد أمر "أبرهة" ببناء كنيسة في "مأرب" أشار إلى بنائها في نصه الشهير، أقامها في سنة "542م"، ورتب لخدمتها جماعة من منتصرة سبأ، واحتفل هو نفسه بافتتاحها، ولعله استعان ببنائها بحجارة قصور مأرب ومعبدها الكبير، وذلك لأن حجارتها منحوتة نحتًا جيدًا، يجعل من السهل استعمالها في البناء على حين يتطلب الحجر الجديد وقتًا طويلًا وأموالًا باهظة. ولهذا السبب ذهب أهل الأخبار إلى أنه أمر بنقل حجارة قصر مأرب إلى صنعاء.
جدار معبد "أوم" "أوام" بمأرب، وهو معبد اله سبأ من كتاب (Qataban and Sheba)
لقد أصيب مشروع أبرهة الرامي إلى هدم الكعبة والاستيلاء على مكة بإخفاق ذريع، يذكرنا بذلك الإخفاق الذي مُني به مشروع "أوليوس غالوس". لقد كان في الواقع مشروعًا خطيرًا، لو تم إذن لاتصل ملك الروم بملك حلفائهم وأنصارهم الحبش في اليمن، ولتحقق حلم الإسكندر الأكبر وأغسطس ومن فكر في الاستيلاء على هذا الجزء الخطير من العالم من بعدها، ولتغير الوضع السياسي في الجزيرة من غير شك، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حدث أن مكة التي أريد هدمها هي التي هدمت ملك الحبشة في اليمن، وملك من جاء بعدهم لنجدة أهل اليمن، وملك البيزنطيين في بلاد الشأم وملك الفرس في العراق وفي(6/193)
كل مكان1.
ويظهر من الرواية العربية أن نهاية "أبرهة" كانت بعد عودته من مكة بقليل إذ لازمه الوباء الذي نزل برجال حملته أثناء محاصرتهم لها، ولم يتركه حتى بلغ صنعاء وهو مريض متعب، فهلك بها عند وصوله2. ويجب أن يكون ذلك سنة "570" أو "571" للميلاد. أما المصادر اليونانية، فلم تشر إلى سنة وفاته.
ويذكر الأخباريون أن الذي حكم بعد "أبرهة"، هو ابنه "يكسوم". وبه كان أبرهة يكنى. فذلت حمير وقبائل اليمن ووطئتهم الحبشة، وعم أذاهم وقتلوا خلقًا من رجالهم، وأخذوا نساءهم، وأتخذوا أبناءهم تراجمة بينهم وبين العرب3. ويذكر "المسعودي" أن "يكسوم" كان سيئ السيرة في أهل اليمن فعم أذاه سائر الناس، إلى أن هلك بعد عشرين سنة من الحكم4.
وذكر "أبو حنيفة الدينوري"، أن "النجاشي" أقر "أبرهة" على سلطان اليمن، فمكث على ذلك أربعين عامًا5. أما ابنه "يكسوم"، فمكث على اليمن تسع عشرة سنة6. وصير "حمزة" مدة حكم أبرهة ثلاثًا وعشرين سنة، مذ قتل "أرياطًا"، الذي حكم على زعمه عشرين سنة. جعل حكم "يكسوم" سبع عشرة سنة، وملك مسروق اثنتي عشرة سنة، ومدة حكم الحبشة، اثنتين وسبعين سنة7.
ويرى "كلاسر" أن أبرهة كان قد عين ابنه "أكسوم" "يكسوم" على أرض "معاهر" "معهرن"، وكانت له "ذي معاهر"، فعرف "يكسوم" بـ"ذي معاهر". وفي معاهر "عر وعلن"، أي حصن وعلان8.
__________
1 Noldeke, Geschichte der Perser, S. 188, Paullys – Wissowa Supplementband, VII, 1950, S. 75
2 الطبري "2/ 137" "دار المعارف".
3 الطبري "2/ 139"، مروج "2/ 8 وما بعدها" "محيي الدين"، المعارف "278".
4 مروج "2/ 8 وما بعدها" محيي الدين".
5 الأخبار الطوال "ص62".
6 المصدر نفسه "ص63".
7 حمزة "ص89".
9 Glaser, mitt, s. 420, 461(6/194)
وانتقل الحكم من بعد هلاك "يكسوم" إلى شقيقه "مسروق" وهو من أم عربية هي "ريحانة بنة علقمة بن مالك بن زيد بن كهلان" وهو "ذو جدن" وكانت تحت "أبا مرة القياض ذا يزن فانتزعها منه أبرهة، وأولدها مسروقًا.
ففر "ذو يزن" من اليمن، ولحق ببعض ملوك بني المنذر، ويظن "الطبري" بأنه "عمرو بن هند" وأقام هناك1. وقد كان أسوأ سيرة من "يكسوم"، ويذكر "المسعودي" أنه حكم ثلاث سنين2. وقد قتل الفرس مسروقًا، وذلك حين دخولهم اليمن، وأخرجوا الحبشة عن اليمن3.
وقد ذكر المؤرخ "ثيوفانس" ملكًا من ملوك حمير قال إن الفرس أسروه، وذلك في حوالي السنة "570" للميلاد، دعاه باسم "سنطرق" "سنطرقس" sanaturces. وهو فيما يرى "كلاسر" تحريف "شناتر": والأصل "ذو شناتر". و"شناتر" اسم موضع، والمراد به "مسروق بن أبرهة"، وكان والده قد عينه على هذا الموضع فعرف به. وقد ذكر "ابن قتيبة" أن "ذا شناتر"، هو الابن الثاني لأبرهة، ولهذا يرى "كلاسر" أن sanaturces هو "مسروق"4.
وبهلاك "مسروق" هلك حكم الحبش لليمن؛ إذ أخرجوا بعد انتصار الفرس وأهل اليمن عليهم. ويذكر الطبري، أن حكم الحبشة لليمن دام اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة ملوك: أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن أبرهة ثم مسروق بن أبرهة5.
وجاء في شعر للشاعر "لبيد بن ربيعة العامري" أنه دخل على ملك من ملوك الحبش، اسمه "خمير"، أتاه فكلمه في فداء قوم، فأجازه، وأحسن إليه، وحمله على خيل، "وبذوقه"6، أي: أرسل معه من يحرسه، وأجازه، وأعطاه "طرسًا"، أي كتابًا، كتبه له لأن يعطي، وغلامًا أطلس أي حبشيًّا 7. ولم يذكر كيف
__________
1 الطبري "2/ 142".
2 مروج "2/ 8" "محيي الدين".
3 الطبري "2/ 139".
4 Glaser, Zwei Inschriften, S. 186
5 الطبري "2/ 139".
6 "بذرته: فارسي معرب"، شرح ديوان لبيد "ص155".
7 "والأطلس: الحبشي"، شرح ديوان لبيد "ص155".(6/195)
وصل إلى "خمير"، ولا في أي مكان، كان يحكم. وما علاقة ذلك الملك الحبشي بجزيرة العرب إن صح أنه ملك الحبش حقًّا؟ وإذا أخذنا بقول هذا الشاعر وصدقناه، فقد يكون ذهب ليتوسل إلى الحبش لفك أسر جماعة من قومه أو من أصحابه قد يكونون ذهبوا للإتجار أو لشراء الرقيق، فقبض عليهم لسبب من الأسباب واحتجزوا، فذهب لإلماسهم فنجح في وساطته وقد يكون "خمير" هذا أحد الحكام أو الإقطاعيين، لا النجاشي ملك الأحباش.
ويظهر من كتاب "الإشقاق" أنه كان لأبرهة حفيد اسمه "ابن شمر" إذ ذكر مؤلفه "ابن دريد" اسم رجل سماه "ابن شمر بن أبرهة بن الصباح"، قال: إنه قتل مع "علي بن أبي طالب" بصفين1. ومعنى هذا أنه كان لأبرهة ولد اسمه "شمر". ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء رجال كانوا من حفدة "أبرهة".
وقد سعى الأحباش، مدة مكثهم في اليمن، في نشر النصرانية بين الناس، وبناء الكنائس. ويحدثنا "قزما الرحالة" cosmas indicopleustes في نحو سنة "535م"، أي بعد اندحار "ذي نواس"، عن كثرة الكنائس في العربية السعيدة، وعن كثرة الأساقفة والمبشرين الذين بشروا بين الحميريين والنبط وبني جرم2. وقد اشتهرت كنيسة "نجران"، وكذلك كنيسة صنعاء، وكنيسة "ظفار" التي بناها الحبش، وقد أشرف عليها الأسقف "جرجنسيوس" صاحب "كتاب شرائع الحميريين"، وكان مقربًا لدى النجاشي ومستشاره ومساعده في تنصير الحميريين3.
وورد أن القيصر "يوسطين" "جستين" كان قد أرسل "كريكنتيوس" gregentius of uippana من الإسكندرية إلى "ظفار" ليكون "أسقفًا" على نصاراها. وقد تناظر مع "حبر" من أحبار يهود فيها، فغلبه. وقدم قانون الشرعية إلى "أبرام" "abram" ملك حمير4.
__________
1 الاشتقاق "2/ 361"، جمهرة أنساب العرب، "لابن حزم 435".
2 النصرانية "1/ 56"، MIGNE. Patrolo. Gre, vol, LXXX col. 169
3 النصرانية "1/ 64"، الأغاني "2/ 75".
MIGNE. Patrolo. Gre, vol, 86, col. 567-620
4 Bury, ii, p. 327(6/196)
حملة أبرهة:
وفي أيام عبد المطلب كانت حملة أبرهة على مكة، وهي حملة روعت قريشًا وأفزعتهم، لما عرفوه من قساوة أبرهة ومن شدته في أهل اليمن، ومن انفراده بالحكم، واستبداده في الأمور، حتى إنه لما مات وذهب مع الذاهبين لم تمت ذكراه كما ماتت ذكرى غيره من الحكام، بل تركت أثرًا عميقًا في ذاكرة أهل اليمن، انتقل منهم إلى أهل الأخبار، فرووا عنه أقاصيص، ونسجوا حوله نسيجًا من أساطير وخرافات، على عادتهم عند تحدثهم عن الشخصيات الجاهلية القوية التي تركت أثرًا في أهل تلك الأيام، حتى إنهم لم يكتفوا بكل ما قالوه فيه، وكأنه لم يكن كافيًا، فجعلوا منه جملة رجال سموهم "أبرهة" نصبوهم ملوكًا وتبايعة على مملكة سبأ وحمير.
والرأي الغالب بين الناس أن حملة أبرهة على مكة، كانت قبل المبعث بزهاء أربعين سنة، وميلاد الرسول كان في عام هذه الحملة، وهو العام الذي عرف بـ"عام الفيل". وهو يوافق سنة "570" أو "571م". وإنما عرف بعام الفيل؛ لأن الحبش كما يزعم أهل الأخبار جاءوا إلى مكة ومعهم فيل سموه "محمودًا"، وقد جاءوا به من الحبشة. وفي بعض الروايات أن عدد الفيلة كان ثلاثة عشر فيلًا، أو اثني عشر، أو دون ذلك، أو أكثر، وأوصلوا العدد إلى ألف فيل. ولوجود الفيل أو الفيلة في الحملة، عرفت بحملة الفيل، وعبر عن الحبش في القرآن الكريم بـ"أصحاب الفيل"1.
وقد ذهب بعض الرواة إلى أن عام الفيل إنما كان قبل مولد النبي بثلاث وعشرين سنة، وذكر بعضهم أنه كان في السنة الثانية عشرة من ملك "هرمز بن أنو شروان". ولما كان ابتداء حكم "هرمز بن أنو شروان" سنة "579" فعام الفيل يكون في حوالي السنة "581" للميلاد لا سنة "570" أو "571" للميلاد
__________
1 سورة الفيل، الطبري "2/ 130 وما بعدها" "دار المعارف"، الكامل "1/ 260" تفسير ابن كثير "4/ 548 وما بعدها"، مروج "2/ 71"، روح المعاني "28/ 233"، الطبرسي، مجمع "30/ 191"، الأزرقي "1/ 82 وما بعدها"، البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 170"، تفسير الطبري "30/ 166" "المطبعة الميمنية"، دائرة المعارف الإسلامية "1/ 61 وما بعدها"، ترجمة الشنتاوي.(6/197)
كما يذهب الأكثرون إلى ذلك. وأما إذا أخذنا برواية من قال من الرواة وأهل الأخبار من أن عام الفيل قد كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك "أنو شروان"، فيكون هذا العام قد وقع في حوالي السنة "573" للميلاد1 وهو رقم قريب من الرقم الذي ذهب إليه أكثر المستشرقين حين حولوا ما ذكره أهل الأخبار عن سنة ولادة الرسول إلى التقويم الميلادي.
وقد ورد ذكر هذا الحديث في القرآن الكريم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} 2؟ وقد خاطبت هذه الآيات الرسول بأن قريشًا سوف تخيب وتحل بها الهزيمة، كما حلت بأصحاب الفيل، وأصحاب الفيل أعظم منهم قوة وأشد بطشًا، وهم لا شيء تجاههم، وفيها تذكير لقريش لما حل بالحبش، وما كان عهد الحبش عنهم ببعيد.
وينسب الأخباريون حملة أبرهة على مكة إلى تدنيس رجل من كنانة "القليس" التي بناها أبرهة في اليمن، لتكون محجة للناس. فلما بلغ أبرهة خبر التدنيس كما يقولون، عزم على السير إلى مكة لهدم الكعبة، فسار ومعه جيش كبير من الحبش وأهل اليمن، وهو مصمم على دكها دكًّا، وصرف الناس عن الحج إليها إلى الأبد. فلما وصل، هلك معظم جيشه، فاضطر إلى العودة إلى اليمن خائبًا مدحورًا3.
ويذكر أهل الأخبار أن الرجل الذي دنس القليس، هو من النسأة أحد بني فقيم، ثم أحد بني مالك بن كنانة. وقد غضب لما رآه من شأن تلك الكنيسة، ومن عزم أبرهة على صرف حاج العرب إليها، ومن مبالغته في الدعاية لها، ففعل ما فعل4.
__________
1 تفسير القرطبي "20/ 194".
2 سورة الفيل، الرقم 105، تفسير الطبري "30/ 193"، "بولاق"، القرطبي "20/187 وما بعدها".
3 الروض الأنف "1/ 40 وما بعدها"، تفسير القرطبي "20/ 188"، الأزرقي "1/ 9 وما بعدها"، "خياط".
4 الطبري "3/ 130"، تاج العروس "9/ 14"، الكشاف "4/ 233"، تفسير الطبري "30/ 167"، تفسير النيسابوري "30/ 193"، "حاشية على تفسير الطبري".(6/198)
أحد القصور، وهو يمثل الطراز اليماني في البناء من كتاب: (Gunhther Pawelke) (JEMEN)
وقيل إن الرجل المذكور كان من النساك، من نساك بني فقيم، غاظه ما كان من عزم أبرهة على صرف العرب عن الحج إلى مكة، فأحدث في القليس للحط من شأنها في نظر العرب، ولطخ قبلتها بحدثه، فشاع خبره بين الناس، وهزئ القوم من "قليس" حدث به ما حدث. وغضب أبرهة من عمله المشين هذا الموجه إليه وإلى كل الحبش، فعزم على هدم البيت الذي يقدسه ذلك الكناني(6/199)
ومن يحج إليه1.
وينسب أخباريون آخرون عزم "أبرهة" على دك الكعبة وهدمها إلى عامل آخر، فهم يذكرون أن فتية من قريش دخلوا القليس فأججوا فيها نارًا، وكان يومًا فيه ريح شديدة، فاحترقت وسقطت إلى الأرض، فغضب أبرهة، وأقسم لينتقم من قريش بهدم معبدهم، كما تسببوا في هدم معبده الذي باهى النجاشي به2.
وذكر أن "أبرهة" بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم يُرَ مثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكان نصرانيًّا، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يُبنَ مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليه حج العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي، غضب رجل من النسأة، فخرج حتى أتى الكنيسة، فأحدث فيها، ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة، فغضب عند ذلك، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه. وبعث رجلًا كان عنده إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة، فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل، فزاد أبرهة ذلك غضبًا وحنقًا، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل3.
وذكر "السيوطي" سببًا آخر في قرار أبرهة غزو مكة، زعم أن أبرهة الأشرم كان ملك اليمن، وأن ابن ابنته أكسوم بن الصباح الحميري خرج حاجًّا، فلما انصرف من مكة، نزل في كنيسة بنجران، فعدا عليها ناس من أهل مكة، فأخذوا ما فيها من الحلي وأخذوا قناع أكسوم، فانصرف إلى جده مغضبًا، فبعث رجلًا من أصحابه يقال له: "شهر بن معقود" على عشرين ألفًا من خولان
__________
1 الكامل "1/ 260 وما بعدها"، تفسير البيضاوي "30/ 269"، روح المعاني "30/ 233 وما بعدها"، الكشاف "3/ 288" "بولاق" "3/ 358 وما بعدها" "1948م".
2 الكشاف 4/ 233، روح المعاني "28/ 233"، تفسير الفخر الرازي "31/ 96"، تفسير ابن كثير "4/ 549"، تفسير ابن السعود "5/ 285"، تفسير النيسابوري "30/ 163"، وهو حاشية على تفسير الطبري "بولاق"، التيجان في ملوك حمير، لوهب بن منبه "ص303"، حيدر آباد الدكن" بالهند، تفسير الطبرسي، مجمع "10/539"، "طهران"، ابن هشام السيرة "1/ 44 وما بعدها"، روح المعاني، للألوسي "30/ 233 وما بعدها"، تفسير البيضاوي "30/ 269".
3 "تفسير القرطبي "20/ 188"، تفسير الطبري "30/ 193 وما بعدها".(6/200)
والأشعريين، فساروا حتى نزلوا بأرض خثعم فتيمنت خثعم عن طريقهم. فلما دنا من الطائف خرج إليه ناس من بني خثعم ونصر وثقيف، فقالوا: ما حاجتك إلى طائفنا، وإنها هي قرية صغيرة؟ ولكنا ندلك على بيت بمكة يعبد فيه، ثم له ملك العرب، فعليك به، ودعنا منك، فأتاه حتى إذا بلغ المغمس، وجد إبلًا لعبد المطلب مائة ناقة مقلدة، فأنهبها بين أصحابه. فلما بلغ ذلك عبد المطلب جاءه، وكان له صديق من أهل اليمن يقال له: ذو عمرو، فسأله أن يرد عليه إبله، فقال: إني لا أطيق ذلك، ولكن إن شئت أدخلتك على الملك، فقال عبد المطلب: افعل. فأدخله عليه، فقال له: إن لي إليك حاجة. قال قضيت كل حاجة تطلبها، ثم قص عليه قصة إبله التي انتهبها جيشه. فالتفت إلى ذي عمرو، ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى عجبًا، فقال: لو سألني كل شيء أحوزه، أعطيته إياه، ثم أمر بإرجاع إبله عليه. وأمر بالرحيل نحو مكة لهدمها. وتوجه ألف شهر وأصحاب الفيل، وقد أجمعوا ما أجمعوا نحو مكة، فلما بلغوها، خرجت عليهم طير من البحر لها خراطيم كأنها البلس، فرمتهم بحجارة مدحرجة كالبنادق، فشدختهم، ونزل الهلاك بهم فانصرف شهر هاربًا وحده، ولكنه ما كاد يسير، حتى تساقطت أعضاء جسده فهلك في طريقه إلى اليمن وهم ينظرون إليه1.
ويتفق خبر "السيوطي" هذا في جوهره وفي شكله مع الروايات الأخرى التي وصلت إلينا عن حملة "أبرهة" ولا يختلف عنها إلا في أمرين: في السبب الذي من أجله قرر أبرهة هدم الكعبة، وفي الشخص الذي سار على مكة. أما السبب الذي أورده السيوطي، فهو غير معقول، لسبب بسيط واضح، هو أن ابن أبرهة، وهو أكسوم بن الصباح الحميري، هو رجل نصراني، والنصارى لا تحج إلى مكة؛ لأنها محجة الوثنيين، وقد عزم جده أبرهة على صرف العرب من الحج إليها، فكيف يحج إليها ابن ابنته، وهو على دين جده؟ وأما ما زعمه من أن "شهر بن معقود" "مقصود" هو الذي سار على مكة لهدمها، وذلك بأمر من أبرهة، فإنه يخالف إجماع أهل الأخبار والمفسرين من أن أبرهة هو نفسه
__________
1 السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور "6/ 394"، الأصبهاني، دلائل النبوة "100 وما بعدها"، الكشاف "3/ 288".(6/201)
قاد تلك الحملة، وأنه هو الذي أخذ الفيل أو الفيلة معه، وسار على رأس جيش كبير من الحبش ومن قبائل من أهل اليمن كانت تخضع له. ثم إن السيوطي يشير إلى وجود "الملك" في الجيش، ولم يكن شهر بن معقود ملكًا ولم يلقبه أهل الأخبار بلقب "ملك"، وإنما أنعموا بهذا اللقب على أبرهة وحده. أضف إلى ذلك أن ما ذكره السيوطي من حوار وقع بين عبد المطلب وبين الملك هو حوار يذكر أهل الأخبار أنه جرى بين عبد المطلب وبين أبرهة. لذلك أرى أن الأمر قد التبس على السيوطي، فخلط بين أبرهة وبين شهر أحد قادته من العرب، وأنه قصد بالملك أبرهة لا القائد، وإن لم يشر إليه، بل جعل الفعل كل الفعل للقائد المذكور.
وأورد "القرطبي" رواية أخرى نسبها إلى مقاتل بن سليمان وابن الكلبي، خلاصتها: أن سبب الفيل هو ما روي أن فتية من قريش خرجوا تجارًا إلى أرض النجاشي، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى، تسميها النصارى: الهيكل، فأوقدوا نارًا لطعامهم، وتركوها وارتحلوا، فهبت ريح عاصفة على النار فأضرمت البيعة نارًا واحترقت، فأتى الصريخ إلى النجاشي، فأخبره، فاستشاط غضبًا، فأتاه أبرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل وأبو يكسوم الكنديون وضمنوا له إحراق الكعبة. وكان النجاشي هو الملك، وأبرهة صاحب الجيش، وأبو يكسوم نديم الملك، وقيل وزيره، وحجر بن شرحبيل من قواده. فساروا معهم الفيل، وقيل ثمانية فيلة، ونزلوا بذي المجاز، واستاقوا سرح مكة1.
وتتفق هذه الرواية مع الروايات السابقة من حيث الجوهر، ولا تختلف عنها إلا في جعل الكنيسة المحترقة بيعة في أرض النجاشي، أي في ساحل الحبش، لا في أرض اليمن، وإلا في جعل الآمر بالحملة النجاشي، لا أبرهة نفسه، أما المنفذون لها، فهم أبرهة ومن معه.
وهناك سبب آخر سأتعرض له فيما بعد، يذكره أهل الأخبار في جملة الأسباب التي زعموا أنها حملت أبرهة على السير نحو مكة لتهديمها. وهو سبب أرجحه وأقدمه على السببين المذكورين، لما فيه من مساس بالسياسة؛ ولأنه مشروع سياسي خطير من المشروعات العالمية القديمة التي وضعها ساسة العالم للسيطرة على
__________
1 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 187، 192 وما بعدها".(6/202)
الطرق الموصلة إلى المياه الدافئة وإلى الأرضين المتجه لأهم المواد المطلوبة في ذلك العهد.
وتذكر روايات أهل الأخبار أن أبرهة لما رتب كل شيء وجهز نفسه للسير من اليمن نحو مكة، خرج له رجل من أشراف اليمن وملوكهم، يقال له: "ذو نفر" وعرض له فقاتله، فهزم "ذو نفر" وأصحابه، وأخذ له ذو نفر أسيرًا. ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم، عرض له "نفيل بن حبيب الخثعمي" في قبيلتي خثعم: شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نُفيل أسيرًا وخرج معه يدله على الطريق، حتى إذا مر بالطائف، خرج إليه "مسعود بن معتب" في رجال ثقيف، فقال له: أيها الملك، إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون، ليس لك عندنا خلاف، وليس بيننا هذا بالبيت الذي تريد -يعني اللات- إنما تريد البيت الذي بمكة، يعنون الكعبة، ونحن نبعث معك من يدلك، فتجاوز عنهم، وبعثوه معه أبا رغال، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس، فهلك أبو رغال به. فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس1.
وكان نفيل بن حبيب الخثعمي من سادات خثعم، ولما أخذه أبرهة أسيرًا واحتبسه عنده، جعله دليله إلى مكة، وهو الذي أوصله إلى الطائف، حيث تسلم أبرهة الدليل الآخر من ثقيف، وهو أبو رغال2. وذكر بعضهم أن "نفيل بن حبيب" كان دليل أبرهة على الكعبة، وأنه عرف بـ"ذي اليدين"3.
ولأهل الأخبار قصص عن "أبي رغال" صيره أسطورة، حتى صيره بعضهم من رجال ثمود ومن رجال "صالح" النبي. فزعموا أن النبي كان قد وجهه على صدقات الأموال، فخالف أمره، وأساء السيرة، فوثب عليه "ثقيف" وهو قسي بن منبه، فقتله قتلة شنيعة. وهو خبر وضعه أناس من ثقيف ولا
__________
1 الطبري "2/ 131 وما بعدها"، تفسير الطبري "30/ 167"، "30/ 194" "بولاق"، تفسير القرطبي "20/ 188".
2 الاشتقاق "306"، تفسير الطبري "30/ 194" "بولاق".
وأرجم قبره في كل عام ... كرجم الناس قبر أبي رغال
3 نوادر المخطوطات "ألقاب الشعراء" "ص327".(6/203)
شك، للدفاع عن أنفسهم، إذ اتهموا بأن "أبا رغال" منهم، وقد جاءوا بشعر، زعموا أن "أمية بن أبي الصلت" قاله في حقه، منه:
وهم قتلوا الرئيس أبا رغالٍ ... بمكة إذ يسوق بها الوضينا1
فصيروا القاتل جد ثقيف، ونسبوا له فضل مساعدة نبي من أنبياء الله.
وقد أشار "جرير بن الخطفى" في شعر قاله في الفرزدق إلى رجم الناس قبر أبي رغال، إذ قال:
إذا مات الفرزدق فارجموه ... كرجمكم لقبر أبي رغال2.
وذكر "المسعودي"، أن العرب ترجم قبرًا آخر، يعرف بينهم بقبر العبادي في طريق العراق إلى مكة. بين الثعلبية والهبير نحو البطان. ولم يذكر شيئًا عن سببه، إذ أحال القارئ على مؤلفاته الأخرى3.
وذكر "الهمداني" أن قبر أبي رغال عند "الزيمة". و"الزيمة" موضع معروف حتى هذا اليوم4.
ولما نزل أبرهة المغمس، بعث رجلًا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له، حتى انتهى إلى مكة: فساق إليه أموال أهل مكة من قريش وغيرهم، وأصاب منها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به. فتركوا ذلك. ثم قرروا على أن يرسلوا سيدهم "عبد المطلب" لمواجهة أبرهة والتحدث إليه، فذهب وقابله، وتذكر رواية أهل الأخبار أن أبرهة لما سأله عن حاجته وعما معه من أنباء، قال له: حاجتي إلى الملك أن يرد عليَّ مائتي بعير أصابها لي، فعجب أبرهة من هذا القول وقال له: أتكلمني في مائتي بعير قد أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن
__________
1 مروج "2/ 53".
2
إذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال
مروج "2/ 53"، "دار الأندلس"، البداية "2/ 170 وما بعدها".
3 مروج "2/ 54".
4 الإكليل "1/ 373".(6/204)
للبيت ربًّا سيمنعه1.
وتذكر هذه الرواية أن أبرهة رد على عبد المطلب إبله، فرجع إلى قومه وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفًا عليهم من معرة الجيش. فلما وصل جيش الحبش. لم يجد أحدًا بمكة، وتفشى الوباء فيه، واضطر إلى التراجع بسرعة. فلما وصل أبرهة إلى اليمن، هلك فيها بعد مدة قليلة من هذا الحادث2.
ويذكر "الطبري" أن الأسود بن مقصود لما ساق أموال أهل مكة من قريش وغيرهم، وفي ضمنها إبل عبد المطلب، وأوصلها إلى أبرهة، وأن قريشًا وكنانة وهذيل ومن كان معهم بالحرم من سائر الناس عزمت على ترك القتال؛ إذ تأكدوا أنهم لا طاقة لهم به. بعث أبرهة "حناطة الحميري" إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قل له إن الملك يقول لكم: إني لم آتِ لحربكم، إنما جئت لهدم البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن لم يُرد حربي فائتني به، فلما دخل حناطة مكة، سأل عند سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب، فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فوالله ما عندنا له من دافع عنه. ثم انطلق معه إلى أبرهة. فلما وصل المعسكر سأل عن "ذي نفر"، وكان له صديقًا، فدل عليه، فجاءه وهو في محبسه، فكلمه، ثم توصل بوساطته إلى سائق فيل أبرهة وهو أنيس، وأوصاه خيرًا بعبد المطلب، وكلمه في إيصاله إلى أبرهة، وأن يتكلم فيه عند أبرهة بخير. ونفذ أنيس طلب "ذو نفر" وأدخله عليه، فكان ما كان من حديث3.
وذكر الطبري: أن بعض أهل الأخبار زعموا أن نفرًا من سادات قريش رافقوا عبد المطلب في ذهابه مع حناطة إلى أبرهة، ذكروا منهم: يعمر "عمرو"
__________
1 الطبري "2/ 132 وما بعدها" "دار المعارف"، ابن الأثير "1/ 321"، تفسير القرطبي "20/ 189".
2 الطبري "2/ 137 وما بعدها".
3 تفسير الطبري "30/ 194 وما بعدها" "بولاق"، تفسير القرطبي "20/ 189 وما بعدها".(6/205)
ابن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، وهو يومئذ سيد بني كنانة، وخويلد بن واثلة الهذلي، وهو يومئذ سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم1.
ويذكر أهل الأخبار أن جيوش "أبرهة" حين دنت من مكة، توسل عبد المطلب إلى ربه وناجاه بأن ينصر بيته ويذل "آل الصليب" وأنه أخذ بحلقة باب الكعبة وقال:
يا رب أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا
وقال:
لاهُمّ إن العبدَ يمنع رَحْله فامْنَعْ حِلالَكْ
لا يَغْلِبَنّ صليبُهم ومحالهم عَدْوًّا محالك
وانْصرْ عَلَى آل الصَّلِيبِ وعَابدِيهِ اليَومَ آلك2
وقد بلغ أبرهة مكة، غير أنه لم يتمكن من دكها ومن هدمها، وخاب ظنه؛ إذ تفشى المرضى بجيشه وفتك الوباء به، فهلك أكثره، واضطر إلى الإسراع في العودة، وكان عسكره يتساقطون موتى على الطريق، وهم في عودتهم إلى اليمن. وذكرت بعض الروايات أن أبرهة نفسه أصيب هذا المرض. ولم يبلغ صنعاء إلا بعد جهد جهيد. فلما بلغها، مات إثر وصوله إليها3.
وعلى هذه الصورة أنهى أهل الأخبار أخبار حملة أبرهة، فقالوا إنها انتهت
__________
1 تفسير الطبري "30/ 195"، الطبري "2/ 134" "دار المعارف"، تفسير القرطبي "20/ 190".
2 السيرة الحلبية "1/ 24 وما بعدها"، يرد البيت الثاني بشكل آخر في كتاب أخبار مكة للأزرقي "1/ 283"، تفسير الطبري "30/ 195 وما بعدها" "بولاق".
3 تفسير الطبري "30/ 195 وما بعدها" "بولاق"، تفسير البيضاوي "1/269"، مروج "2/ 46"، روح المعاني "30/ 233"، تفسير القرطبي، "20/ 187"، تفسير الخطيب الشربيني، السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير "4/ 563"، تفسير الرازي "31/ 96"، البداية والنهاية "2/ 169"، ابن هشام "1/ 28"، الكامل "1/ 254"، الطبرسي "25/ 191" حمزة "89/ 94".(6/206)
بإخفاق ذريع، انتهت بإصابة أبرهة بوباء خطير، وبإصابة عسكره بذلك المرض نفسه: مرض جلدي، أصاب جلود أكثر جيشه، فمزقها، وأصابها بقروح وقيوح في الأيدي خاصة، وفي الأفخاذ، أو بمرض وبائي هو الحصبة والجدري، فيذكر أهل الأخبار في تفسير سورة الفيل، وفي أثناء تحدثهم عن هذه الحملة وبعد شرحهم لمعنى "طير أبابيل": مباشرة، هذين المرضين ويقولون: "إن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام"1. وتفسير ذلك بعبارة أخرى أن ما أصاب الحبش، هو وباء من تلك الأوبئة التي كانت تكتسح البشرية فيما مضى، فلا تذهب حتى تكون قد أكلت آلافًا من الرءوس.
وكان لرجوع الأحباش إلى اليمن وهم على هذه الصورة من مرض يفتك بهم، وتعب ألمَّ بهم، أثر كبير أثر فيهم وفي قريش، ثم ما لبث أبرهة إن مات بعد مدة غير طويلة، فازداد اعتقاد قريش بـ"رب البيت" وبأصنامها، وهابت العرب مكة، فكانت نكسة الحبش نصرًا لقريش ولأهل مكة قوَّى من معنوياتها, ويتجلى ذلك في القرآن الكريم في سورة الفيل، وهي من السور المكية القديمة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} 2.
وقصة تدنيس "القليس"، قد تكون حقيقية وقعت وحدثت، وقد تكون أسطورة حيكت ووضعت، على كل حال، وفي كلتا الحالتين لا يعقل أن تكون هي السبب المباشر الذي دفع النجاشي إلى السير إلى مكة لهدم البيت ونقضه من أساسه ورفع أحجاره حجرًا حجرًا، على نحو ما يزعمه أهل الأخبار بل يجب أن يكون السبب أهم من التدنيس وأعظم، وأن يكون فتح مكة بموجب خطة تسمو على فكرة تهديم البيت وتخريبه، خطة ترمي إلى ربط اليمن ببلاد الشأم، لجعل العربية الغربية والعربية الجنوبية تحت حكم النصرانية، وبذلك يستفيد الروم والحبش
__________
1 تفسير الطبري "30/ 196" "بولاق"، "وهو أول جدري ظهر في الأرض"تفسير النيسابوري "30/ 165"، "حاشية على تفسير الطبري"، "أول ما رُئِيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأول ما دعي من مراير الشجر: الحوامل والحنظل والعشر، ذلك العام"، الأزرقي "1/ 97 وما بعدها"، "خياط".
2 السورة رقم 105.(6/207)
وهم نصارى، وإن اختلفوا مذهبًا، ويحققون لهم بذلك نصرًا سياسيًّا واقتصاديًّا كبيرًا، فيتخلص الروم بذلك من الخضوع للأسعار العالية التي كان يفرضها الساسانيون على السلع التجارية النادرة المطلوبة التي احتكروا بيعها لمرورها ببلادهم؛ إذ سترد إليهم من سيلان والهند رأسًا عن طريق بلاد العرب، فتنخفض الأسعار ويكون في إمكان السفن البيزنطية السير بأمان في البحار العربية حتى سيلان والهند وما وراءهما من بحار.
وآية ذلك خبر يرويه أهل الأخبار يقولون فيه: إن "أبرهة" توَّج "محمد بن خزاعي بن خرابة الذكواني"، ثم السلمي، وكان قد جاءه في نفر من قومه، مع أخ له، يقال له: "قيس بن خزاعي"، يلتمسون فضله، وأمره على مضر، وأمره أن يسير في الناس، فيدعوهم في جملة ما يدعوهم إليه إلى حج "القليس"، فسار محمد بن خزاعي، حتى إذا نزل ببعض أرض نبي كنانة، وقد بلغ أهل تهامة أمره، وما جاء له، بعثوا إليه رجلًا من هذيل، يقال له عروة بن حياض الملاصي فرماه بسهم فقتله. وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس، فهرب حين قتل أخوه، فلحق بأبرهة، فأخبره بقتله، فغضب وحلف ليغزون بني كنانة وليهدمن البيت1.
فمقتل "محمد بن خزاعي"، هو الذي هاج أبرهة وحمله على ركوب ذلك المراكب الخشن. ولم يكن هياجه هذا بالطبع بسبب أن القتيل كان صاحبه وصديقه بل لأن من قتله عاكس رأيه وخالف سياسته ومراميه التوسعية القاضية بفرض إرادته وإرادة الحبش وحلفائهم على أهل مكة وبقية كنانة ومضر. وبتعيين ملك أو أمير عليهم، هو الشخص المقتول، فقتلوه. ومثل هذا الحادث يؤثر في السياسة وفي الساسة، ويدفع إلى اتخاذ إجراءات قاسية شديدة، مثل إرسال جيش للقضاء على المتجاسرين حتى لا يتجاسر غيرهم، فتفلت من السياسي الأمور.
ومن يدري؟ فلعل الروم كانوا هم المحرضين لأبرهة على فتح مكة وغير مكة حتى تكون العربية الغربية كلها تحت سلطان النصرانية، فتتحقق لهم مآربهم في طرد سلطان الفرس من بلاد العرب. وقد حاولوا مرارًا إقناع الحبش بتنفيذ
__________
1 الطبري "2/ 131"، تفسير الطبري "30/ 194"، "بولاق"، الأرزقي "1/ 86 وما بعدها".(6/208)
هذه الخطة والاشتراك في محاربة الفرس، وهم الذين حرضوا الحبشة وساعدوهم بسفنهم وبمساعدات مادية أخرى في فتح اليمن. وهم الذين أرسلوا رسولًا اسمه "جوليانوس" julianus، وذلك في أيام القيصر "يوسطنيان" justnian لإقناع النجاشي hellestheaeus و"السميع أشوع" esimiphaeus بالتحالف مع الروم، وتكوين جبهة واحدة ضد الفرس والاشتراك مع الروم في إعلان الحرب على الفرس بسبب الرابطة التي تجمع بينهم، وهي رابطة الدين1. وكان في جملة ما رجاه القيصر من "السميفع أشوع"، هو أن يوافق على تنصيب "قيس" casius رئيسًا على "maddeni" معد2.
وقد ذكر "المسكري"، أن "محمد بن خزاعي بن علقمة بن محارب بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان السلمي" كان في جيش أبرهة مع الفيل، أي أنه لم يقتل كما جاء في الرواية السابقة3.
وقد ورد في بعض الأخبار أن عائشة أدركت قائد الفيل وسائسة، وكانا أعميين مقعدين يستطعمان. وقد رأتهما4.
وقد كان من أشراف مكة في هذا العهد غير عبد المطلب، المطعم بن عدي. وعمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم، ومسعود بن عمرو الثقفي، وقد صعدوا على حراء ينظرون ما سيفعل أبرهة بمكة5.
وذكر بعض أهل الأخبار، أن فلالًا من الحبش من جيش أبرهة وعفاء وبعض من ضمه العسكر، أقاموا بمكة، فكانوا يعتملون ويرعون لأهل مكة6.
وليس في كتب أهل الأخبار أسماء القبائل العربية التي جاءت مع "أبرهة" للاستيلاء على مكة بتفصيل. وكل ما نعرفه أنه كان قد ضم إلى حبشه قوات عربية قد يكون بينها قوم من كندة، وقد أشير إلى اشتراك خولان والأشعريين فيها، وذكر أن "خندقًا" كانوا ممن اشترك في جيش أبرهة، وكذلك "حميس بن أد"7.
__________
1 Procopius, I, XIX, 8-16, P. 180, Glaser, Mitt, S. 437
2 Procopius, I, XX, 9-12, P. 193
3 المحبر "130".
4 الكشاف "4/ 233".
5 تفسير ابن كثير "4/ 548 وما بعدها".
6 الأزرقي "1/ 97، وما بعدها"، "خياط".
7 Le museon, 1965, 3-4, p. 433(6/209)
وقد أشير إلى أبرهة الأشرم وإلى الفيل في شعر شعراء جاهليين ومخضرمين وإسلاميين. وقد ورد في شعر "عبد الله بن الزبعرى" أنه كان مع "أمير الحبش" ستون ألف مقاتل1. وورد في شعر "أمية بن أبي الصلت" أن الفيل ظل يحبو بـ"المغمس" ولم يتحرك، وحوله من ملوك كندة أبطال ملاويث في الحروب صقور2. ومعنى هذا أن سادات كندة كانوا مع الحبش في زحفهم على مكة.
وذكر "عبد الله بن قيس الرقيات": أن "الأشرم" جاء بالفيل يريد الكيد للكعبة، فولى جيشه مهزومًا، فأمطرتهم الطير بالجندل، حتى صاروا وكأنهم مرجومون يمطرون بحصى الرجم3.
وذكر أن "عمر بن الخطاب" كان في جملة من ذكر "أبا يكسوم أبرهة" في شعره، واتخذه مثلًا على من يحاول التطاول على بيت الله وعلى "آل الله" سكان مكة. وذكر أهل الأخبار أنه قال ذلك الشعر في هجاء "زنباع بن روح بن سلامة بن حداد بن حديدة" وكان عشارًا، أساء إلى "عمر بن الخطاب" وكان قد خرج في الجاهلية تاجرًا وذلك في اجتيازه وأخذ مكسه، فهجاه عمر، فبلغ ذلك الهجاء "زنباعًا" فجهز جيشًا لغزو مكة. فقال عمر شعرًا آخر يتحداه فيه بأن ينفذ تهديده إن كان صادقًا؛ لأن من يريد البيت بسوء يكون مصيره مصير أبرهة الأشرم، وقد كف زنباع عن تنفيذ ما عزم عليه ولم يقم به4.
لقد تركت حملة "الفيل" أثرًا كبيرًا في أهل مكة، حتى اعتبرت مبدأ تقويم عندهم، فصار أهل مكة يؤرخون بعام الفيل "في كتبهم وديونهم من سنة الفيل". فلم تزل قريش والعرب بمكة جميعًا تؤرخ بعام الفيل، ثم أرخت بعام الفجار، ثم أرخت ببنيان الكعبة5.
لقد كان لأهل مكة صلات باليمن متينة؛ إذ كانت لهم تجارة معها، تقصدها قوافلها في كل وقت، وخاصة في موسم الشتاء، حيث تجهز قريش قافلة كبيرة يساهم فيها أكثرهم، وإليها أشير في القرآن الكريم في سورة قريش:
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 258"، روح المعاني "28/ 233".
2 بلوغ الأرب "1/ 260".
3 بلوغ الأرب "1/ 260".
4 بلوغ الأرب "1/ 261 وما بعدها"، الاشتقاق "225".
5 الأزرقي "1/ 102".(6/210)
{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} 1. ولهذا فقد كان من سياستهم مدارة حكام اليمن وإرضاؤهم، ومنع من قد يعتدي منهم على أحد من أهل اليمن أو الحبش ممن قد يقصد مكة للإتجار أو للاستراحة بها في أثناء سيره إلى بلاد الشأم؛ خوفًا من منع تجارهم من دخول أسواق اليمن، فلما وثب أحدهم على تجار من اليمن كانوا قد دخلوا مكة، وانتهبوا ما كان معهم، مضت عدة من وجوه قريش إلى "أبي يكسوم"، أي أبرهة وصالحوه أن لا يقطع تجار أهل مكة عنهم. وضمانًا لوفائهم بما اتفقوا عليه وضعوا "الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار" وغيره رهينة، فكان "أبرهة" يكرمهم ويصلهم، وكانوا يبضعون البضائع إلى مكة لأنفسهم2.
وقد وضع أهل الطائف رهائن عند أبي يكسوم كذلك، ضمانًا لحن معاملتهم للحبش ولمن يقصد الطائف للإتجار من الحبش أو من أهل اليمن3.
__________
1 الآية الأولى وما بعدها.
2 Le museon, 1965m 3-4, p.432
3 Le museon, 1965m 3-4, p.431(6/211)
طرد الحبشة:
لقد عجل الحبش في نهايتهم في اليمن، وعملوا بأيديهم في هدم ما أقاموه بأنفسهم من حكومة، باعتدائهم على أعراض الناس وأموالهم، وأخذهم عنوة كل ما كانوا يجدونه أمامهم، حتى ضج أهل اليمن وضجروا، فهبوا يريدون تغيير الحال، وطرد الحبشة عن أرضهم، وإن أدى الأمر إلى تبديلهم بأناس أعاجم أيضًا مثل الروم أو الفرس، إذا عجزوا هم عن طردهم، فلعل من الحكام الجدد من قد يكون أهون شرًّا من الحبش، وإن كان كلاهما شرًّا، ولكن إذا كان لا بد من أحد الشرين فإن أهونهما هو الخيار ولا شك.
وهب اليمانون على الحبش، وثار عليهم ساداتهم في مواضع متعددة غير أن ثوراتهم لم تفدهم شيئًا؛ إذ أخمدت، وقتل القائمون بها. ومن أهم أسباب إخفاقها أنها لم تكن ثورة عارمة عامة مادتها كل الجماهير والسادات، بل كانت ثورات سادات، مادة كل ثورة مؤججها ومن وراءه من تبع. هنا ثورة وهناك(6/211)
ثورة، ولم تكن بقيادة واحدة، أو بإمرة قائد خبير أو قادة متكاتفين خبراء بأمور الحرب والقتال، فصار من السهل على الحبش، الانقضاض عليها وإخمادها، أضف إلى ذلك أنها لم تؤقت بصورة تجعلها ثورات جماعية، وكأنها نيران تلتهب في وقت واحد، يعسر على مخمدي النيران إخمادها، أو إخمادها على الأقل بسهولة.
ولتحاسد الأقيال وتنافسهم على السيادة والزعامة نصيب كبير في هذا الإخفاق، لذلك وجه بعض السادة أنظارهم نحو الخارج في أمل الحصول على معونة عسكرية أجنبية خارجية، تأتيهم من وراء الحدود، لتكره الحبش على ترك اليمن. وكان صاحب هذا الرأي والمفكر فيه "سيف بن ذي يزن"، من أبناء الأذواء ومن أسرة شهيرة. وقد نجح في مشروعه، فاكتسب صفة البطولة وانتشر اسمه بين اليمانيين، حتى صير أسطورة من الأساطير، وصارت حياته قصة من القصص أمثال قصة أبي زيد الهلالي وعنترة وغيرهما ممن تحولوا إلى أبطال تقص حياتهم على الناس في المجالس وفي المقاهي وحفلات السمر والترفيه، أو تقرأ للتسلية واللهو.
و"سيف بن ذي يزن"، هو "معديكرب بن أبي مرة"، وقد عرف أبوه أيضًا بـ"أبي مرة القياض"، وكان من أشراف حمير، ومن الأذواء1.
وأمه "ريحانة بنة علقمة"، وهي من نسل "ذي جدن" على نحو ما ذكرت يقال إن أبرهة لما انتزع ريحانة من بعلها "أبي مرة"، فر زوجها إلى العراق فالتجأ إلى ملك الحيرة "عمرو بن هند" على ما يظن، وبقي "معديكرب" مع أمه في بيت "أبرهة" على ذلك مدة، حتى وقع شجار بينه وبين شقيقه من أمه "مسروق" الذي ولي الملك بعد موت أخيه "يكسوب" فأثر ذلك في نفسه وحقد على "مسروق" فلما مات يكسوم، خرج من اليمن، حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا ما هم فيه، وطلب إليه أن يخرجهم عنه، ويليهم هو ويبعث إليهم من يشاء من الروم، فيكون له ملك اليمن، فلم يشكه ولم يجد عنده شيئًا مما يريد، فخرج حتى قدم الحيرة على النعمان بن المنذر، فأسكنه عنده ثم أوصله بكسرى، وحدثه في شأنه وفي خاطره في قومه، فأمده بثماني مائة محارب، وبـ "وهرز" أمره عليهم، وبثماني سفن جعل في كل سفينة مائة
__________
1 الطبري "2/ 130، 143"، "معديكرب بن سيف"، مروج "2/ 55"، "دار الأندلس".(6/212)
رجل وما يصلحهم في البحر، فخرجوا، حتى إذا لجوا في البحر غرقت من السفن سفينتان بما فيها، فخلص إلى ساحل اليمن من أرض عدن ست سفائن فيهن ستمائة رجل فيهم وهرز وسيف بن ذي يزن، نزلوا أرض اليمن، فلما سمع بهم مسروق بن أبرهة، جمع إليه جنده من الحبشة، ثم سار إليهم، فلما التقوا رمى "وهرز" مسروقًا بسهم، فقتله، وانهزمت الحبشة، فقتلوا، وهرب شريدهم، ودخل "وهرز" مدينة صنعاء، وملك اليمن ونفى عنها الحبشة، وكتب بذلك إلى كسرى، فكتب إليه كسرى يأمره أن يملك سيف بن ذي يزن على اليمن وأرضها وأن يرجع وهرز إلى بلاده، فرجع إليها. ورضي سيف بدفع جزية وخرج يؤديه في كل عام1.
وذكر "الطبري" في رواية له أخرى عن "سيف بن ذي يزن" وعن مساعدة الفرس له، فقال: "فخرج ابن ذي يزن قاصدًا إلى ملك الروم، وتجنب كسرى لإبطائه عن نصر أبيه، فلم يجد عند ملك الروم ما يحب، ووجده يحامي عن الحبشة لموافقتهم إياه على الدين، فانكفأ راجعًا إلى كسرى"2. فقابله وحياه وقال لكسرى: "أنا ابن الشيخ اليماني ذي يزن، والذي وعدته أن تنصره فما ببابك وحضرتك، فتلك العدة حق لي وميراث يجب عليك الخروج لي منه.
فرقَّ له كسرى، وأمر له بمال. فخرج، فجعل ينشر الدراهم، فانتهبها الناس. فأرسل إليه كسرى: ما الذي حملك على ما صنعت: قال: إني لم آتك للمال، إنما جئتك للرجال، ولتمنعني من الذل، فأعجب ذلك كسرى، فبعث إليه: أن أقم حتى انظر في أمرك. ثم إن كسرى استشار وزراءه في توجيه الجند معه، فقال له الموبذان: إن لهذا الغلام حقًّا بنزوعه وموت أبيه بباب الملك وحضرته، وما تقدم من عدته إياه، وفي سجون الملك رجال ذو نجدة وبأس، فلو أن الملك وجههم معه، فإن أصابوا ظفرًا كان له، وإن هلكوا كان قد استراح وأراح أهل مملكته منهم، ولم يكن ذلك ببعيد الصواب. قال كسرى: هذا الرأي. وعمل به"3.
__________
1 الطبري "2/ 136" "دار المعارف" ابن خلدون "2/ 63"، المعارف "278".
2 الأخبار الطوال "ص63 وما بعدها"، مروج "2/ 55"، "دار الأندلس".
الطبري "2/ 144"، "دار المعارف".
3 الطبري "2/ 144"، "دار المعارف".(6/213)
ويظهر من هذه الرواية، أن "أبا مرة"، والد "معديكرب"، كان قد فر من اليمن إلى العراق، وقد حاول عبثًا حث كسرى على تقديم العون العسكري له لطرد أبرهة وقومه الحبش عن اليمن، وبقي يسعى ويحاول حتى مات بالعراق، مات بالمدائن على حد زعم هذه الرواية، ويظهر منها أيضًا، أن سيف بن ذي يزن، أي ولد أبي مرة، كان قد أيس هو من كسرى بعد أن رأى ما رأى من موقفه مع أبيه، فذهب أولًا إلى ملك الروم، على أمل مساعدته ومعاونته في طرد الحبش عن بلاده، حتى وإن أدى الأمر إلى استيلاء الروم على اليمن، فلما خاب ظنه ذهب إلى الفرس، فساعدوه.
وذكر "الطبري" أن وهرز لما انصرف إلى كسرى، ملَّك سيفًا على اليمن، فـ"عدا على الحبشة فجعل يقتلها ويبقر النساء عما في بطونها، حتى إذا أفناها إلا بقايا ذليلة قليلة، فاتخذهم خولًا، واتخذ منهم جمَّازين يسعون بين يديه بحرابهم، حتى إذا كان في وسط منهم وجئوه بالحراب حتى قتلوه، ووثب بهم رجل من الحبشة، فقتل باليمن وأوعث، فأفسد، فلما بلغ ذلك كسرى بعث إليهم "وهرز" في أربعة آلاف من الفرس، وأمره ألا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من أسود إلا قتله، صغيرًا كان أو كبيرًا، فأقبل وهرز، حتى دخل اليمن ففعل ذلك. ثم كتب إلى كسرى بذلك. فأمره كسرى عليها. فكان عليها، وكان يجبيها إلى كسرى حتى هلك"1.
لقد كان استيلاء الحبشة على اليمن بأسرها سنة "525" للميلاد. أما القضاء على حكمهم فكان قريبًا من سنة "575" للميلاد2. ولكن الحبش كانوا في اليمن قبل هذا العهد؛ إذ كانوا احتلوا بعض الأرضين قبل السنة "525" للميلاد، وكانوا يحكمونها باسم ملك الحبشة.
وجاء في تأريخ الطبري وفي موارد أخرى أن حكم الحبشة لليمن دام اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة: أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن أبرهة، ثم مسروق بن أبرهة3. وهو رقم فيه زيادة، إذا اعتبرنا أن نهاية
__________
1 الطبري "2/ 148" "دار المعارف"، المعارف "278".
2 W. Phillips, p. 223.
3 الطبري "2/ 139".(6/214)
حكم الحبش في اليمن، كانت في حوالي السنة "575م" أما أخذنا برواية أهل الأخبار مثل حمزة، الذي ذكر كما سبق أن بينت أن حكم "أرياط" دام عشرين سنة، وأن حكم أبرهة ثلاثًا وعشرين سنة، وأن حكم "يكسوم" سبع عشرة، وأن حكم مسروق اثنتي عشرة سنة، فيكون ما ذكره "الطبري" وحمزة صحيحًا من حيث المجموع؛ لأن مجموعه "72" سنة. ولكني أشك في أن حكم "أرياط" كان "20" سنة؛ إذ يعني هذا أن حكمه استمر إلى سنة "545" للميلاد، والمعروف من نص "أبرهة" المدون على جدار سد مأرب، أن أبرهة رمم السد وقوَّى جدرانه سنة "542" للميلاد. ومعنى هذا أنه كان قد استبد بأمر اليمن قبل هذا الزمن.
وقد تعرض "حمزة" لهذا البحث، ولفت النظر إلى تفاوت الرواة في مدة لبث الحبشة باليمن وفي تأريخ اليمن كله. فقال: "وليس في جميع التواريخ تأريخ أسقم ولا أخل من تأريخ الأقيال ملوك حمير، لما قد ذكر فيه من كثرة عدد سني من ملك منهم، مع قلة عدد ملوكهم"، و"قد اختلف رواة الأخبار في مدة لبث الحبشة باليمن اختلافًا متفاوتًا"1. والواقع أننا نجد اختلافًا كبيرًا بين أهل الأخبار في تأريخ اليمن، حتى في المتأخر منه القريب من الإسلام.
ويذكر "أبو حنيفة الدينوري"، أن "وهرز" كان شيخًا كبيرًا، وقد أناف على المائة، وكان من فرسان العجم وأبطالها، ومن أهل البيوتات والشرف، وكان أخاف السبيل، فحبسه كسرى. ويقال له "وهرز بن الكاسجار"، فسار بأصحابه إلى "الأبلة" فركب منها البحر. وذكر أن "كسرى" لما رده إلى اليمن، بعد وثوب الحبش بـ"سيف بن ذي يزن"، وبقي هناك إلى أن وافاه أجله، قُبر في مكان سمي "مقبرة وهرز"، وراء الكنيسة، ولم يشر إلى اسم الكنيسة2، ولعله قصد موضع "القليس".
أما "المسعودي، فصير "وهرز" موظفًا كبيرًا بدرجة "أصبهبذ"، ودعاه بـ"وهرز أصبهبذ الديلم". أي أنه كان أصبهبذًا على الديلم إذ ذاك.
وذكر أنه ركب ومن كان معه من أهل السجون البحر في السفن في دجلة ومعهم
__________
1 حمزة "ص89".
2 الأخبار الطوال "ص64".(6/215)
خيولهم وعددهم وأموالهم حتى أتوا "الأبلة"، فركبوا في سفن البحر، وساروا حتى أتوا ساحل حضرموت في موضع يقال له "مثوب"، فخرجوا من السفن فأمرهم "وهرز" أن يحرقوا السفن؛ ليعلموا أنه الموت. ثم ساروا من هناك برًّا حتى التقوا بـ"مسروق"1.
وذكر "المسعودي"، أن "كسرى أنو شروان"، اشترط على "معديكرب" شروطًا: منها أن الفرس تتزوج باليمن ولا تتزوج اليمن منها، وخراج يحمله إليه. فتوج "وهرز" معديكرب بتاج كان معه وبدنه من الفضة ألبسه إياها، ورتبه بالملك على اليمن، وكتب إلى "أنو شروان" بالفتح2.
قال "المسعودي" ولما ثبت "معديكرب" في ملك اليمن، أتته الوفود من العرب تهنِّيه بعود الملك إليه، وفيها وفد مكة وعليهم عبد المطلب، وأمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وخويلد بن أسد بن عبد العُزى، وأبو زمعة جد أمية بن أبي الصلت، فدخلوا إليه، وهو في أعلى قصره بمدينة صنعاء المعروف بغمدان وهنئوه، وارتجل عبد المطلب خطابًا، ذكر المسعودي وغيره نصه، وأنشد "أبو زمعة" شعرًا، فيه ثناء على الملك وحمد للفرس "بنو الأحرار" الذين ساعدوا أهل اليمن، على "سود الكلاب"3.
وإذا أخذنا برواية "المسعودي" عن وفد مكة، وبما يذكره أهل الأخبار عن مدة حكم الحبش على اليمن، وهي اثنتين وسبعين سنة، وجب أن يكون ذهاب الوفد إلى صنعاء بعد سنة "597" للميلاد، وهذا مستحيل. فقد كانت وفاة "عبد المطلب" في السنة الثامنة من عام الفيل، والرسول في الثامنة إذ ذاك فتكون وفاة "عبد المطلب" إذن في حوالي السنة "578" أو "579" للميلاد، أي في أيام وجود الحبش في اليمن، وقبل طردهم من بلاد العرب، أما لو أخذنا برواية الباحثين المحدثين التي تجعل زمن طرد الحبش عن اليمن سنة "575" للميلاد، أو قبلها بقليل، فيكون من الممكن القول باحتمال ذهاب "عبد المطلب" إلى اليمن، على نحو ما يرويه "المسعودي".
__________
1 مروج "2/ 55 وما بعدها".
2 مروج "2/ 56 وما بعدها"، دار الأندلس.
3 مروج "2/ 58 وما بعدها".(6/216)
لم يذكر أهل الأخبار السنة التي تولى فيها "سيف بن ذي يزن" الحكم على اليمن بعد طرد الحبش عنها، ويرى بعض الباحثين أنها كانت في حوالي السنة "575" للميلاد. وأن حكمه لم يكن قد شمل كل اليمن، بل جزءًا منها. ويظهر أن الفرس استأثروا بحكم اليمن لأنفسهم؛ إذ نجد أن رجالًا منها تحكمها منذ حوالي السنة "598" للميلاد تقريبًا، وكان أحدهم بدرجة "ستراب" "سطراب"1 Satrapie.
وذكر "ابن دريد" أن من ذرية "سيف بن ذي يزن"، "عُفير بن زرعة بن عفير بن الحارث بن النعمان بن قيس بن عبيد بن سيف". وكان سيد حمير بالشأم في أيام عبد الملك بن مروان2.
ورووا أن "وهرز" كان يبعث العير إلى كسرى بالطيوب والأموال فتمر على طريق البحرين تارة وعلى طريق الحجاز أخرى. فعدا بنو تميم في بعض الأيام على عيرة بطريق البحرين، فكتب إلى عامله بالانتقام منهم، فسار عليهم وقتل منهم خلقًا، وذلك يوم "الصفقة"3. وعدا بنو كنانة على عيره بطريق الحجاز حين مرت بهم، وكانت في جوار رجل من أشراف العرب من قيس، فكانت حرب الفجار بين قيس وكنانة4.
وأمر كسرى بتولي ابن وهرز، وهو "المزربان بن وهرز" منصب أبيه، لما توفي والده. فكان عليها إلى أن هلك5.
ثم أمر كسرى "البينجان بن المرزبان" أي حفيد "وهرز" بتولي منصب أبيه حين داهمته منيته. فأمر كسرى بعده "خُرخرة بن البينجان"، فكان عليها، ثم غضب كسرى عليه. واستدعاه إلى عاصمته، فذهب إليها، فخلعه كسرى وعين باذان "باذام" في مكانه، فلم يزل على اليمن حتى بعث الرسول6، وذكر بعض أهل الأخبار أن "خذ خسرو بن السيحان بن المرزبان" هو الذي
__________
1 BEITRAGE, S. 121, W. PHILLIPS, P.223.
2 الاشتقاق "2/ 360".
3 ابن خلدون "2/ 65"، الأغاني "11/ 131".
4 ابن خلدون "2/ 65"، اللسان "6/ 354"، القاموس "2/ 108".
5 الطبري "2/ 148"، صبح الأعشى "5/ 25".
6 الطبري "2/ 148".(6/217)
حكم بعد "المرزبان بن وهرز"، وهو الذي عزله كسرى، وولى "باذان" باذام" بعده على اليمن1.
لقد كانت السنة السادسة من الهجرة، سنة مهمة جدًّا من تاريخ اليمن. فيها دخل "باذان" "باذام" في الإسلام، وفيها قضى الإسلام على الوثنية واليهودية والنصرانية وعلى الحكم الأجنبي في البلاد، فلم يبق حكم حبشي ولا فارسي2.
ويرى بعض المستشرقين أن دخول باذان في الإسلام كان بين سنة "628 و"630" للميلاد3. ويذكر "الطبري"، أن إسلام "باذان"، كان بعد قتل "شيرويه" لأبيه "كسرى أبرويز"، وتوليه الحكم في موضع والده. فلما جاء كتاب شيرويه إليه يبلغه بالخبر، ويطلب من الطاعة، أعلن إسلامه، وأسلم من كان معه من الفرس والأبناء4. وقد ولي "شيرويه" الحكم في سنة "628" للميلاد، ولم يدم حكمه أكثر من ثمانية أشهر. وقد عرف بـ"قباذ"5.
وقد ذكر أن "باذان" باذام" كان من "الأبناء"، أي من الفرس الذين ولدوا في اليمن، وأن الرسول استعمل ابنه "شهر بن باذان" مكانه، أي بعد وفاة والده6.
ويذكر أهل الأخبار أن الفرس الذين عاشوا في اليمن وولدوا بها واختلطوا بأهلها، عرفوا بـ"الأبناء"، وبـ"بني الأحرار"7.
ولما قتل "الأسود العنسي" "شهر بن باذام" "شهر بن باذان"، واستبد "العنسي" بأمر اليمن، خرج عمال الرسول عن اليمن. فلما قتل "العنسي" ورجع عمال النبي إلى اليمن، استبد بصنعاء "قيس بن عبد يغوث المرادي"، وتوفي الرسول والأمر على ذلك. ثم كانت خلافة أبي بكر، فولى على اليمن "فيروز الديلمي"8.
__________
1 صبح الأعشى "5/ 25".
2 الطبري "2/ 655 وما بعدها".
3 W. PHILLIPS, P.223.
4 الطبري "2/655، وما بعدها"، "دار المعارف".
5.ENCY, 4, P. 178
6 الإصابة "1/ 170".
7 الأغاني "16/ 73".
8 صبح الأعشى "5/ 26، 46".(6/218)
وقد تطرق "ابن قتيبة" إلى "ملوك الحبشة في اليمن"، فذكر اسم "أبرهة الأشرم"، ثم "يكسوم بن أبرهة"، ثم "سيف بن ذي يزن"، فقال عنه: أنه "أتى كسرى أنو شروان بن قباذ" في آخر أيام ملكه -هكذا تقول الأعاجم في سيرها، وأنا أحسبه هرمز بن أنو شروان على ما وجدت في التأريخ"1.
مما يدل على أنه نقل أخباره عن حملة الفرس على اليمن من كتب سير ملوك العجم، المؤلفة بلغتهم، كما نقل من موارد أخرى غير أعجمية. وقد ذكر أيضًا أن المؤرخين اختلفوا اختلافًا متفاوتًا في مكث الحبشة في اليمن2
وكون الأبناء طبقة خاصة في اليمن، ولما قدم "وبر بن يحنس" على الأبناء باليمن، يدعوهم إلى الإسلام، نزل على بنات النعمان بن يزرج فأسلمن، وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم، وإلى "مركبود" وعطاء ابنه، ووهب بن منبه، وكان أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بن مركبود ووهب بن منبه3.
ونجد عهد استيلاء الحبشة الأخير على اليمن عهدًا كريمًا من ناحيته التأريخية؛ إذ دون جملة نصوص، تحدثت عنها فيما سلف. أما عهد استيلاء الفرس على اليمن إلى دخولها في الإسلام، فلم يترك شيئًا مدونًا ولا أثرًا يمكن أن يفيدنا في الكشف عن اليمن في هذا العهد. لم يترك لنا كتابة ما، لا بالمسند ولا بقلم الساسانيين الرسمي بشرح الأوضاع السياسية أو أي وضع آخر في هذا العهد.
وحالنا في النصوص الكتابية في أول عهد دخول اليمن في الإسلام، مثل حالنا في استيلاء الفرس عليها، فنحن فيه معدمون لا نملك ولا نصًّا واحدًا مدونًا من ذلك العهد. وهو أمر مؤسف كثيرًا، وكيف لا وهو والعهد الذي قبله المتصل به، ومن أهم العهود الخطيرة في تأريخ اليمن وجزيرة العرب، ونص واحد من هذين العهدين ثروة لا تقدر بثمن لمن يريد الوقوف على التطورات التأريخية التي مرت بالعرب قبيل الإسلام وعند ظهوره.
__________
1 المعارف "ص638"، "ثروت عكاشة".
2 المصدر نفسه.
3 الطبري "3/ 158".(6/219)
بئر من آبار صنعاء
من كتاب: Jemem, das Verbotene Land
لمؤلفه: Gunther Pawelke
هذا ولا بد لي من الإشارة إلى أن حكم الفرس لليمن لم يكن حكمًا فعليًّا واقعيًّا، فلم يكن ولاتهم يحكمون اليمن كلها، وإنما كان حكمهم حكمًا اسميًّا صوريًّا، اقتصر على صنعاء وما والاها، أما المواضع الأخرى، فكان حكمها لأبناء الملوك من بقايا الأسر المالكة القديمة وللأقيال والأذواء. ذلك أن أهل كل(6/220)
ناحية ملكوا عليهم رجلًا من حمير، فكانوا "ملوك الطوائف"1 فكان على حمير عند مبعث رسول الله سادات نعتوا أنفسهم بنعوت الملوك، من بينهم "الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر وزرعة ذو يزن بن مالك بن مرة الرهاوي" وقد أرسلوا إلى الرسول مبعوثًا عنهم يخبره برغبتهم في الدخول في الإسلام، وصل إليه مقفلة من أرض الروم، ثم لقيه بالمدينة وأخبره بإسلامهم وبمفارقتهم الشرك، فكتب إليهم رسول الله كتابًا يشرح فيه ما لهم وما عليهم من واجبات وحقوق2.
__________
1 المعارف "278".
2 "قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله بكتابهم"، الطبري "3/120" "دار المعارف".(6/221)
همدان وصنعاء ومأرب:
وكانت همدان عند مبعث الرسول، مستقلة في إدارة شئونها، وقد أسلمت كلها في يوم واحد على يد علي بن أبي طالب1.
ولقد صارت "صنعاء" عاصمة لحكام اليمن منذ عهد الحبش حتى هذا اليوم، أما "مأرب" فقد صارت مدينة ثانوية، بل دون هذه الدرجة، وأفل كذلك شأن ظفار، وسائر المواضع التي كان لها شأن يذكر في عهد استقلال اليمن وفي عهد الوثنية، ويرجع بعض أهل الأخبار بناء صنعاء إلى "سام بن نوح"، وزعموا أنها أول مدينة بنيت باليمن، وأن قصر "غمدان" كان أحد البيوت السبعة التي بنيت على اسم الكواكب السبعة، بناه "الضحاك" على اسم الزهرة. وكان الناس يقصدونه إلى أيام "عثمان" فهدمه، فصار موضعه تلًّا عظيمًا2.
__________
1 الطبري "3/ 132"، "دار المعارف".
2 صبح الأعشى "5/ 39 وما بعدها"، "وكان الضحاك بناه على اسم الزهرة، وخربه عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فهو في وقتنا هذا -وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- خراب قد هدم فصار تلًّا عظيمًا، وقد كان الوزير علي بن عيسى الجراح، حين نفي إلى اليمن وصار إلى صنعاء، بنى فيه سقاية وحفر فيه بئرًا. ورأيت غمدان ردما وتلًّا عظيمًا قد انهدم بنيانه، وصار جبل تراب كأنه لم يكن"، "وقد قيل إن ملوك اليمن كانوا إذا قعدوا في أعلى البنيان بالليل واشتعلت الشموع، رأى الناس ذلك من مسيرة ثلاثة أيام"، مروج "2/ 229 وما بعدها"، "والبناء القائم مكانه يدعى باسمه ويختصر في صنعاء، فيقولون: القصر، وفيه معمل للخرطوش"، مصطفى مراد الدباغ، الجزيرة العربية "1/ 284".(6/221)
وقد ورد اسم "صنعاء" لأول مرة على ما نعلم في نص يعود عهده إلى أيام الملك "الشرح يحضب" "ملك سبأ وذي ريدان"، ودعيت فيه بـ"صنعو"1.
وذكر الأخباريون أنها كانت تعرف بـ"أزال" وبـ"أوال"2. أخذوا ذلك على ما يظهر من "أزال" في التوراة بواسطة أهل الكتاب مثل "كعب الأحبار" ووهب بن منبه3. وذكروا أن قصر غمدان الذي هو بها قصر "سام بن نوح"، أو قصر "الشرح يحضب" "ليشرح يحضب"4. وذكروا أيضًا أنها أول مدينة اختطت باليمن بنتها "عاد"5. ورووا قصصًا عن "غمدان"، فزعم بعضهم أن بانيه "سليمان" أمر الشياطين، فبنوا لبلقيس ثلاثة قصور: غمدان وسلحين وبينون. وزعم بعضهم أن بانيه هو: "ليشرح يحضب" أراد اتخاذ قصر بين صنعاء و"طيوة"، فانتخب موضع "غمدان"6. وقد وصف "الهمداني" ما تبقى منه في أيامه، وأشار إلى ما كان يرويه أهل الأخبار عنه7.
__________
1 Giaser 424.
2 "وكانت تسمى أوال من الأولية بلغتهم"، مختصر تاريخ اليمن المنقول عن كتاب العبر لابن خلدون، "ص125"، تحقيق "h. C. Kay" لندن 1892م. Ency, iv, p. 144, glaser, Skimme, II, S. 310, 424.
3 الإكليل "ص18".
4 الإكليل "ص4"، القزويني، آثار البلاد "51".
5 مختصر تأريخ اليمن "125".
6 البلدان "6/ 301 وما بعدها".
Ency, ii. P. 166, niebuhr, reisebeschreibung nach arabien, i, s. 418, 421.
7 الإكليل "8/ 12 وما بعدها".(6/222)
نجران:
وأما "نجران"، فقد كانت مستقلة بشئونها، يديرها ساداتها وأشرافها، ولها نظام سياسي وإداري خاص تخضع له، ولم يكن للفرس عليها سلطان، وكان أهلها من "بني الحارث بن كعب"، وهم من "مذحج" و"كهلان"،(6/222)
وكانوا نصارى. ومن أشرافهم "بنو عبد المدان بن الديان"، أصحاب كعبة نجران1، وكان فيها أساقفة معتمون، وهم الذين جاءوا إلى النبي ودعاهم إلى المباهلة، مع وفد مؤلف من ستين أو سبعين رجلًا راكبًا، فيهم أربعة عشر رجلًا من أشرافهم، منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم. العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرن إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم "وهب"، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مِدْراسهم2.
ويذكر الأخباريون أن أبا حارثة كان قد شرف في أهل نجران ودرس الكتب حتى حسن علمه في دينهم، وصار مرجعهم الأكبر فيه. وكانت له حظوة عند ملك الروم، حتى إنه كان يرسل له الأموال والقلعة ليبنوا له الكنائس لما كانت له من منزلة في الدين وفي الدنيا عند قومه. وكان له أخ اسمه "كوز بن علقمة" وقد أسلما مع من أسلم من الناس بعد السنة العاشرة من الهجرة3.
ويظهر من الحبر المتقدم أن ملوك الروم كانوا على اتصال بنصارى اليمن، وأنهم كانوا يساعدون أساقفتهم ويمولونهم، ويرسلون إليهم العطايا والهبات. وقد أمدوهم بالبنائين والفعلة وبالمواد اللازمة لبناء الكنائس في نجران وفي غيرها من مواضع اليمن، وقد كان من مصلحة الروم مساعدة النصرانية في اليمن وانتشارها؛ لأن في ذلك كسبًا عظيمًا لهم. فبانتشارها يستطيعون تحقيق ما عجز عنه "أوليوس غالوس" حينما كلفه إمبراطور روما اقتحام العربية السعيدة والاستيلاء عليها.
وذكر أهل الأخبار أيضًا، أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبًا عندهم، كلما مات رئيس منهم فأضيفت الرئاسة إلى غيره، انتقلت الكتب إليه، وقد عرفت
__________
1 الطبري "3/ 132" "دار المعارف". صبح الأعشى "5/ 39 وما بعدها".
2 ابن هشام "2/ 222 وما بعدها"، ابن الأثير "2/ 122"، ابن خلدون "2/ 57" "الوفود"، البلدان "8/ 258 وما بعدها"، الطبري "3/ 139"، تاج العروس "1/ 389"، raccoita, iii, p. 128.
3 ابن هشام "2/ 222 وما بعدها".(6/223)
تلك الكتب بـ"الوضائع". وكانوا يختمونها، فكلما تولى رئيس جديد ختم على تلك الكتب فزادت الخواتم السابقة ختمًا1، وذكر علماء اللغة أن الوضائع هي كتب يكتب فيها الحكمة. وفي الحديث: أنه نبي وأن اسمه وصورته في الوضائع2.
ونجران أرض في نجد اليمن خصبة غنية، وفيها مدينة نجران من المدن اليمانية القديمة المعروفة قبل الميلاد. وقد ذكرها "سترابون" في جغرافيته، وسماها negrana = negrani في معرض كلامه على حملة "أوليوس غالوس" على العربية، كما ذكرها المؤرخ "بلينيوس" في جملة المدن التي أصابتها يد التخريب في هذه الحملة3. كما ذكرها "بطلميوس"، فسماها negara metropolis = nagera mytropolis4.
وفي ذكر "بطلميوس" لها على أنها "مدينة دلالة على أنها كانت معروفة أيضًا بعد الميلاد. وأن صيتها بلغ مسامع اليونان.
وبعد النص الموسوم بـglaser 418, 419، من أقدم النصوص التي ورد فيها اسم مدينة نجران؛ إذ يرتفع زمنه إلى أيام "المكربين". وقد ذكر كما سبق في أثناء كلامي على دور المكربين، في مناسبة تسجيل أعمال ذلك "المكرب" وتأريخ حروبه وما قام به من فتوح. وورد ذكرها في النص "glaser1000"، الذي يرتقي زمنه إلى أيام المكرب والملك "كرب إيل وتر" آخر "مكربي" سبأ، وأول من تلقب بلقب "ملك سبأ"5. فورود اسم "نجران" في النصين المذكورين يدل على أنها كانت من المدن القديمة العامرة قبل الميلاد، وأنها كانت من المواضع النابهة في أول أيام سبأ.
وورد اسمها في نصوص أخرى. كما ذكرت في جملة المواضع التي دخلها رجال
__________
1 ابن هشام "2/ 222 وما بعدها".
2 اللسان:8/ 399"، "و/ ض/ ع".
3 Strabo, xvi, iv, 24, vol, iii, p. 212, pliny, nat. Histo, ii. P. 458, vi, 160
4 Ptolemy, vi, 7, 37
5 Beitrage, S,9(6/224)
حملة "أوليوس غالوس" على اليمن. وذكرها نص "النمارة" الذي يرتقي زمنه إلى سنة "328" بعد الميلاد. وقد كانت في أيدي الملك "شمر يهرعش" إذ ذاك على رأي أكثر الباحثين. إذ كان قد وسع رقعة حكومة "سبأ وذي ريدان وحضرموت" وأضاف إليها أرضين جديدة منها أرض "نجران"1، وأشار إلى تدمير ذلك الملك لـ "نبطو"، أي النبط2.
وقد ذهب "ريتر" إلى أن negara mytropolis، هو الموضع المسمى بـ"القابل" على الضفة الغربية لوادي نجران3. أما "هاليفي"، فذهب إلى أنها الخرائب المسماة "الأخدود"4. وذهب "كلاسر" إلى أنها الأخدود أو "رجلة"، أو موضع آخر في "وادي الدواسر"5.
وقد ذكر "الهمداني" أن موضع "هجر نجران" أي مدينة نجران، هو الأخدود، ومدح خصب أرض نجران. ولم يكن "نجران" اسم مدينة في الأصل كما يتبين من النص cih 363، بل كان اسم أرض بدليل ورود أسماء مواضع ذكر أنها في "نجرن" نجران. ويرى بعض الباحثين أن مدينة "رجمت" كانت من المدن الكبرى في هذه الأرض، ثم تخصص اسم نجران فصار علمًا على المدينة التي عرفت بنجران6.
وذهب بعض الباحثين إلى أن "رجمت" "رجمة" هي "رعمة" المذكورة في التوراة. وقد تحدثت فيما سلف عن "رعمة" وعن إتجار أهلها وإتجار "شبا" sheba مع "صور" 7tyrus.
__________
1 Beitrage, s, 11
2 Beitrage, s, 11
3 Paulys - wissowa, 32 ter halbband, 1574
4 Halevy, Rapport sur une Mission Archeologique dans le yemen, in jornal Asia, VI, XIX, 1872, 39, 90
5 Glaser, skizze, ii
6 Beitrage, s. 10
7 أخبار الأيام، الأول، الإصحاح الأول، الآية 9، التكوين الإصحاح العاشر، الآية 7، حزقيال، الإصحاح 27، الآية 22، Beitrage, s. 11(6/225)
ويذكر الأخباريون أن قومًا من "جرهم" نزلوا بنجران، ثم غلبهم عليها بنو حمير، وصاروا ولاة للتبايعة، وكان كل من ملك منهم يلقب "الأفعى". ومنهم "أفعى نجران" واسمه "القلمس بن عمرو بن همدان بن مالك بن منتاب بن زيد بن وائل بن حمير"، وكان كاهنًا. وهو الذي حكم على حد قولهم بين أولاد نزأر. وكان واليًا على نجران لبلقيس، فبعثته إلى سليمان، وآمن، وبث دين اليهودية في قومه، وطال عمره، وزعموا أنه ملك البحرين والمشلل.
ثم استولى "بنو مذحج" على نجران. ثم "بنو الحارث بن كعب"، وانتهت رياسة بني الحارث فيها إلى بني الديَّان، ثم صارت إلى بني عبد المدان، وكان منهم "يزيد" على عهد الرسول1.
ويرى بعض أهل الأخبار أن "السيد" والعاقب أسقفي نجران الذين أرادا مباهلة رسول الله هما من ولد الأفعى بن الحصين بن غنم بن رهم بن الحارث الجرهمي، الذي حكم بين بني نزار بن معد في ميراثهم، وكان منزله بنجران2.
وقد سميت "نجران" بنجران بن زيد بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قطحان على رأي بعض أهم الأخبار. وقد اشتهرت بالأدم3.
وقد أرسل الرسول خالد بن الوليد إلى "بني الحارث بن كعب" بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، فإن استجابوا إليه قبل منهم، وإن لم يفعلوا قاتلهم. فلما دعاهم إلى الإسلام أجابوه، ورجع خالد مع وفد منهم إلى رسول الله، فأعلنوا إسلامهم أمامه، ثم رجعوا وقد عين الرسول "عمرو بن حزم" عاملًا على نجران. فبقي بنجران حتى توفي رسول الله4.
ولما عاد خالد بن الوليد من نجران إلى المدينة، أقبل معه وفد الحارث بن
__________
1 "مختصر تأريخ المنقول من كتاب العبر لابن خلدون "133 وما بعدها"، مطبوع من كتاب تأريخ اليمن لعمارة اليمني، سنة 1892، بلندن، بعناية: henry cassels kay. صبح الأعشى "5/ 45".
2 المحبر "132".
3 صبح الأعشى "5/ 40 وما بعدها"، الإكليل:"1/ 14".
4 الطبري "3/ 126 وما بعدها" "سرية خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب وإسلامهم".(6/226)
كعب"، فيهم قيس بن الحصين بن يزيد بن قنان ذي الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قريظ الزيادي، وشداد بن عبد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي. فلما رآهم الرسول، قال: "من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند؟ " ثم كلمهم، وأمر قيس بن الحصين عليهم، ورجعوا، وكان ذلك قبل وفاة الرسول بأربعة أشهر1.
وقد اشتهرت نجران بثيابها، ولما توفي الرسول، كفن في ثلاثة أثواب نجرانية2.
وقد زار "فلبي" وادي نجران، وعثر على خرائب قديمة، يرجع عهدها إلى ما قبل الإسلام، كما تعرف على موضع "كعبة نجران" ووجد صورًا قديمة محفورة في الصخر على مقربة من "أم خرق"، وكتابات مدونة بالمسند. وعلى موضع يعرف بـ"قصر بن ثامر"، وضريح ينسب إلى ذلك القديس الشهيد الذي يرد اسمه في قصص الأخباريين عن شهداء نجران. ويرى "فلبي" أن مدينة "رجمت" "رجمة" هي "الأخدود"، وأن الخرائب التي لا تزال تشاهد فيها اليوم تعود إلى أيام المعينيين3. ويقع "قصر الأخدود" الأثري بين "القابل" و"رجلة"، وهو من المواضع الغنية بالآثار4. وقد تبسط "فلبي" في وصف موضع الأخدود، ووضع مخططًا بالمواضع الأثرية التي رآها في ذلك المكان5.
ويتضح من مخطط "فلبي" لمدينة "نجران" أنها كانت مدينة كبيرة مفتوحة وعندها أبنية محصنة على هيئة مدينة مربعة الشكل، وذلك للدفاع عنها، وبها مساكن وملاجئ للاحتماء بها ولتمكين المدافعين من صد هجمات المهاجمين لها6.
__________
1 الطبري "3/ 128"، سيرة ابن هشام "2/ 347 وما بعدها".
2 اللسان "5/ 195"، "ن/ ج/ ر".
3 Philby, arabian highlands, pp. 221, 238, 252, 257
4 فؤاد حمزة، في بلاد عسير "190" "القاهرة 1951م".
5.Philby, arabian highlands, p 237
6 Beitrage, s. 11. beitrage, s. 17(6/227)
أثر الحبش في أهل اليمن:
ولا بد أن يكون فتح الحبش لليمن قد ترك أثرًا في لهجات أهلها، ولا سيما بين النصارى منهم، ممن دخلوا في النصرانية بتأثير الحبش من ساسة وإداريين ومبشرين، فاستعملوا المصطلحات الدينية التي كان يستعملها الأحباش لعدم وجود ما يقابلها عندهم في لهجاتهم لوثنيتهم. ولكني مع ذلك لا أستطيع أن أقول إن تلك المصطلحات كانت كلها حبشية الأصل والأرومة؛ لأن الكثير منها لم يكن حبشيًّا في المنشإ والوطن، وإنما كان دخيلًا مستوردًا، جاءت به النصرانية من لغة بني إرم، أو من اللغات الأخرى المتنصرة، فأدخلتها إلى الحبشة، فاستعملها الأحباش وحرفوا بعضها على وفق لسانهم، ومنهم انتقلت بالفتوح وبالاتصال إلى اليمن.
وقد عرض علماء اللغة المسلمون والمستشرقون لعدد من الألفاظ العربية، ذكروا أنها من أصل حبشي، وهي من الألفاظ التي كانت مستعملة معروفة قبل الإسلام، وقد ورد بعضها في القرآن الكريم وفي الشعر المنسوب إلى الجاهليين. ومثل هذه الألفاظ تستحق أن تكون موضع درس وتمحيص لمعرفة صحة أصلها ونسبها ودرجة أرومتها في الحبشية، لمعرفة أثر الأحباش في العرب، وأثر العرب في الأحباش؛ لأن بعض ما نسب إلى الأحباش من كلم هو من أصل عربي جنوبي، هاجر من اليمن بطرق متعددة إلى إفريقية، واستعمل هناك، ظن أنه حبشي الأصل، وأن العرب أخذوه من الأحباش.
وقد أثر فتح الحبش لليمن على سحن الناس أيضًا. فظهر السواد على ألوانهم عند غلبة الحبشة على بلادهم. وقد تأثروا بأخلاق الحبش كذلك1.
__________
1 الروض "2/ 315".(6/228)
فهرس الجزء السادس
الفصل التاسع والثلاثون
مملكة كندة 5
كندة تلحق بحضرموت 47
امرؤ القيس الشاعر 49
السموءل 64
كندة في العربية الجنوبية 69
فلسطين الثالثة 73
الفصل الأربعون
الغساسنة 77
ملوك الغساسنة 121
أمراء غساسنة 131(6/229)
قوائم ملوك الغساسنة 133
قائمة حمزة 136
العرب والحبش 139
حكم السميفع أشوع 162
أبرهة 170
حملة أبرهة 197
طرد الحبشة 211
همدان وصنعاء ومأرب 221
نجران 222
أثر الحبش في أهل اليمن 228(6/230)
المجلد السابع
الفصل الثاني والأربعون: مكة المكرمة
مدخل
...
الفصل الثاني والأربعون: مكة المكرمة
ومكة بلد في وادٍ غير ذي زرع، تشرف عليها جبال جُرْد، فتزيد في قسوة مناخه, ليس بها ماء غير ماء زمزم، وهي بئر محفورة، وآبار أخرى مجة حفرها أصحاب البيوت. أما مياه جارية وعيون غزيرة، على ما نرى في أماكن أخرى، فليس لها وجود بهذا المعنى هناك. وكل ما كان يحدث نزول سيول، قد تكون ثقيلة قوية، تهبط عليها من شعاب الهضاب والجبال، فتنزل بها أضرارًا فادحة وخسائر كبيرة، وقد تصل إلى الحرم فتؤثر فيه، وقد تسقط البيوت، فتكون السيول نقمة، لا رحمة تسعف وتغيث أهل البيت الحرام1.
لذلك لم تصلح أرض مكة لأن تكون أرضًا ذات نخيل وزرع وحب؛ فاضطر سكانها إلى استيراد ما يحتاجون إليه من الأطراف والخارج، وأن يكتفوا في حياتهم بالتعيش مما يكسبونه من الحجاج، وأن يضيفوا إلى ذلك تجارة تسعفهم وتغنيهم، وتضمن لهم معاشهم، وأمانًا وسلمًا يحفظ لهم حياتهم، فلا يطمع فيهم طامع، ولا ينغص عيشهم منغص: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ... } 2.
__________
1 تأريخ مكة، للأزرقي "1/ 38 وما بعدها", البلاذري، فتوح "65 وما بعدها".
2 البقرة، الآية 126.(7/5)
ويعود الفضل في بقاء مكة وبقاء أهلها بها إلى موقعها الجغرافي، فهي عقدة تتجمع بها القوافل التي ترد من العربية الجنوبية تريد بلاد الشام، أو القادمة من بلاد الشام تريد العربية الجنوبية، والتي كان لا بد من أن تستريح في هذا المكان؛ لينفض رجالها عن أنفسهم غبار السفر, وليتزودوا ما فيه من رزق. ثم ما لبث أهلها أن اقتبسوا من رجال القوافل سر السفر وفائدته، فسافروا أنفسهم على هيئة قوافل، تتولى نقل التجارة لأهل مكة وللتجار الآخرين من
مكة المكرمة
أهل اليمن ومن أهل بلاد الشام. فلما كان القرن السادس للميلاد, احتكر تجار مكة التجارة في العربية الغربية، وسيطروا على حركة النقل في الطرق المهمة التي تربط اليمن ببلاد الشام وبالعراق1.
__________
1 W. M. Watt. Muhammad at Mecca, p. 3.(7/6)
وللبيت فضل كبير على أهل مكة، وبفضله يقصدها الناس من كل أنحاء العالم حتى اليوم للحج إليه. وقد عرف البيت بـ"الكعبة"؛ لأنه مكعب على خلقة الكعب, ويقال له: "البيت العتيق" و"قادس" و"بادر"، وعرفت الكعبة بـ"القرية القديمة" كذلك1.
وبمكة جبل يطل عليها, يقال له: جبل "أبي قبيس"، ذكر بعض أهل الأخبار أنه سُمِّيَ "أبا قبيس" برجل حداد؛ لأنه أول من بنى فيه، وكان يسمى "الأمين" لأن الركن كان مستودعًا فيه2, وأمامه جبل آخر؛ وبين الجبلين وادٍ، فيه نمت مكة ونبتت, فصارت محصورة بين سلسلتين من مرتفعات.
وقد سكن الناس جبل "أبي قبيس" قبل سكنهم بطحاء مكة؛ وذلك لأنه موضع مرتفع ولا خطر على من يسكنه من إغراق السيول له، وقد سكنته "بنو جرهم"، ويذكر أهل الأخبار أنه إنما سمي "قبيسًا" بـ"قبيس بن شالخ" رجل من جرهم, كان في أيام "عمرو بن مضاض"3.
__________
1 نهاية الأرب "1/ 313".
2 نزهة الجليس "1/ 27".
3 اللسان "ق ب س", "وأبو قبيس مصغرًا: جبل بمكة, هذه عبارة الصحاح. وفي التهذيب: جبل مشرف على مسجد مكة، سمي برجل من مذحج حداد؛ لأنه أول من بنى فيه. وفي الروض للسهيلي: عرف أبو قبيس بقبيس بن شالخ, رجل من جرهم كان قد وشى بين عمرو بن مضاض وبين ابنة عمه مية، فنذرت ألَّا تكلمه وكان شديد الكلف بها، فحلف: ليقتلن قبيسًا، فهرب منه في الجبل المعروف به، وانقطع خبره، فإما مات وإما تردى منه، فسمي الجبل أبا قبيس. قال: وله خبر طويل ذكره ابن هشام في غير هذا الكتاب. وكان أبو قبيس الجبل هذا يسمى الأمين؛ لأن الركن أي: الحجر كان مستودعًا فيه، كما ذكره أهل السير والمغازي" تاج العروس "4/ 212" "قبس", "والأخشبان: جبلا مكة، وفي الحديث في ذكر مكة: "لا تزول مكة حتى يزول أخشباها" أي: جبلاها ... الأخشبان: الجبلان المطيفان بمكة، وهما: أبو قبيس وقعيقعان ويسميان الجبجاب أيضا. ويقال: بل هما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان. وقال ابن وهب: الأخشبان: جبلا منى اللذان تحت العقبة، وكل خشن غليظ من الجبال فهو أخشب, وقال السيد العلوي: الأخشب الشرقي أبو قبيس والأخشب الغربي وهو المعروف بجبل الخط, والخط من وادي إبراهيم -عليه السلام-. وقال الأصمعي:=(7/7)
ويظهر أنه كان من المواضع المقدسة عند الجاهليين، فقد كان نُسَّاك مكة وزهادها ومن يتحنف ويتحنث ويترهب من أهلها في الجاهلية يصعده ويعتكف فيه. ولعله كان مقام الطبقة المترفة الغنية من أهل مكة قبل نزوح "قريش" إلى الوادي، وسكنها المسجد الحرام المحيط بالبيت.
ويظهر من سكوت أهل الأخبار عن الإشارة إلى وجود أُطم أو حصون في مكة للدفاع عنها، أن هذه المدينة الآمنة لم تكن ذات حصون وبروج ولا سور يقيها من احتمال غزو الأعراب أو أي عدو لها. ويظهر أن ذلك إنما كان بسبب أن مكة لم تكن قبل أيام "قصي" في هذا الوادي الذي يتمركزه "البيت"، بل كانت على المرتفعات المشرفة عليه.
أما الوادي، فكان حرمًا آمنًا يغطيه الشجر الذي أنبتته السيول ورعته الطبيعة بعنايتها، ولم يكن ذا دور ولا سكن ثابت متصل بالأرض، بل كان سكن من يأوي إليه بيوت الخيام، وأما أهل المرتفعات فكانوا، إذا داهمهم عدو أو جاءهم غزو، اعتصموا برءوس المرتفعات المشرفة على الدروب، وقاوموا العدو والغزو منها, وبذلك يصير من الصعب على من يطمع فيهم الوصول إليهم, ويضطر عندئذ إلى التراجع عنهم، فحمتهم الطبيعة بنفسها ورعتهم بهذه الرءوس الجبلية التي أقامتها على مشارف الأودية والطرق. فلما أسكن "قصي" أهل الوادي في بيوت ثابتة مبنية، وجاء ببعض من كان يسكن الظواهر لنزول الوادي، بقي من فضل السكن في ظواهر مكة, أي: على المرتفعات، يقوم بمهمة
__________
= الأخشبان أبو قبيس، وهو الجبل المشرف على الصفا، وهو ما بين حرف أجياد الصغير المشرف على الصفا إلى السويداء التي تلي الخندمة. وكان يسمى في الجاهلية الأمين، والأخشب الآخر الجبل الذي يقال له الأحمر، وكان يسمى في الجاهلية الأعرف، وهو الجبل المشرف وجهه على قعيقعان", تاج العروس "1/ 234"، "خشب"، "قال الزبير بن بكار: الجباجب جبال مكة -حرسها الله تعالى- أو أسواقها أو منحر، وقال البراقي: حفر بمنى كان يلقى به الكروش، أي: كروش الأضاحي في أيام الحج, أو كان يجمع فيها دم البدن والهدايا، والعرب تعظمها وتفخر بها", تاج العروس "1/ 174" "جبب".(7/8)
حماية نفسه وحماية أهل البطحاء من تلك المرتفعات، وهم الذين عرفوا بقريش الظواهر، فلم تعد لأهل مكة سكان الوادي ثمة حاجة إلى اتخاذ الأطم والحصون، وبناء سور يحمي المدينة من الغزو، لا سيما والمدينة نفسها حرم آمن وفي حماية البيت ورعايته. وقد أكد "قصي" على أهلها لزوم إقراء الضيف ورعاية الغريب والابتعاد عن القتال وحل المشكلات حلًّا بالتي هي أحسن. كما نظم أمور الحج، وجعل الحجاج يفدون إلى مكة؛ للحج وللاتجار, ثم أكد من جاء بعده من سادة قريش هذه السياسة التي أفادت البلد الآمن، وأمنت له رزقه رغدًا.
ولم يرد اسم "مكة" في نص الملك "نبونيد" ملك بابل، ذلك النص الذي سرد الملك فيه أسماء المواضع التي خضعت لجيوشه ووصل هو إليها في الحجاز, فكانت "يثرب" آخر مكان وصل إليه حكمه في العربية الغربية على ما يبدو من النص.
ولم نتمكن من الحصول على اسم "مكة" من الكتابات الجاهلية حتى الآن, أما الموارد التأريخية المكتوبة باللغات الأعجمية، فقد جاء في كتاب منها اسم مدينة دُعيت بـ"مكربة" "مكربا" "Macoraba"، واسم هذا الكتاب هو "جغرافيا" "جغرافية" "للعالم اليوناني المعروف "بطلميوس" "ptolemy" الذي عاش في القرن الثاني بعد الميلاد, وقد ذهب الباحثون إلى أن المدينة المذكورة هي "مكة"1. وإذا كان هذا الرأي صحيحًا يكون "بطلميوس" أول من أشار إليها من المؤلفين وأقدمهم بالنظر إلى يومنا هذا، ولا أستبعد مجيء يوم قد لا يكون بعيدًا، ربما يعثر فيه المنقبون على اسم المدينة مطمورًا تحت سطح الأرض، كما عثروا على أسماء مدن أخرى, وأسماء قرى وقبائل وشعوب.
ولفظة "مكربة" "Macoraba"، لفظة عربية أصابها بعض التحريف ليناسب النطق اليوناني، أصلها "مكربة" أي: "مقربة" من التقريب. وقد رأينا في أثناء كلامنا على حكومة "سبأ" القديمة، أن حكامها كانوا كهانًا
__________
1 Ptolemy, Geography, vl, 7, 32.(7/9)
أي: رجال دين، حكموا الناس باسم آلهتهم، وقد كان الواحد منهم يلقب نفسه بلقب "مكرب" أي: "مقرب" في لهجتنا. فهو أقرب الناس إلى الآلهة وهو مقرب الناس إلى آلهتهم، وهو مقدس لنطقه باسم الآلهة، وفي هذا المعنى جاء لفظة "مكربة"؛ لأنها "مقربة" من الآلهة، وهي تقرب الناس إليهم، وهي أيضا مقدسة و"حرام", فاللفظة ليست علمًا لمكة، وإنما هي نعت لها، كما في "بيت المقدس" و"القدس" إذ هما نعت لها في الأصل، ثم صار النعت علمًا للمدينة.
أما ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن المعبد الشهير الذي ذكره "ديودروس الصقلي" "Diodorus Siculus" في أرض قبيلة عربية دعاها "1Bizomeni"، وقال: إنه مكان مقدس له حرمة وشهرة بين جميع العرب، هو مكة -فهو رأي لا يستند إلى دليل مقبول معقول، فالموضع الذي يقع المعبد فيه، هو موضع بعيد عن مكة بعدًا كبيرًا وهو يقع في "حسمى" في المكان المسمى "روافة" "غوافة" على رأي "موسل". وقد كانت في هذه المنطقة وفي المحلات المجاورة لها معابد أخرى كثيرة أشار إليها الكتبة اليونان والرومان، ولا تزال آثارها باقية، وقد وصفها السياح الذين زاروا هذه الأمكنة2.
وإذا صح رأينا في أن موضع "Macoraba" هو مكة، دل على أنها كانت قد اشتهرت بين العرب في القرن الثاني بعد الميلاد, وأنها كانت مدينة مقدسة يقصدها الناس من مواضع بعيدة من حضر ومن بادين، وبفضل هذه القدسية والمكانة بلغ اسمها مسامع هذا العالم الجغرافي اليوناني البعيد، ودل أيضا على أنها كانت موجودة ومعروفة قبل أيام "بطلميوس"؛ إذ لا يعقل أن يلمع اسمها وتنال هذه الشهرة بصورة مفاجئة بلغت مسامع ذلك العالم الساكن في موضع بعيد, ما لم يكن لها عهد سابق لهذا العهد.
__________
1 C.H. Oldfather, Diodorus Siculus, Bibliotheca, Book, III, XXXI, Booth The Historical Library of Diodorus The Sicilian, 105, Gerald De Gury, Rulers of Mecca, London, 1951, P. 12
2 تاريخ العرب قبل الإسلام "3/ 353".(7/10)
وقد عرفنا من الكتابات الثمودية أسماء رجال عرفوا بـ"مكي", ولم تشر تلك الكتابات إلى سبب تسمية أولئك الرجال بـ"مكي". فلا ندري اليوم إذا كان أولئك الرجال من "مكة", أو من موضع آخر، أو من عشيرة عرفت بـ"مكت" "مكة"؛ لذلك لا نستطيع أن نقول: إن لهذه التسمية صلة بمكة.
ولم يشر الأخباريون ولا من كتب في تأريخ مكة إلى هذا الاسم الذي ذكره "بطلميوس"، ولا إلى اسم آخر قريب منه, وإنما أشار إلى اسم آخر هو "بكة", وقد ذكر هذا الاسم في القرآن1, قالوا: إنه اسم مكة، أبدلت فيه الميم باءً، وقال بعض الأخباريين: إنه بطن مكة، وتشدد بعضهم وتزمت، فقال: بكة موضع البيت، ومكة ما وراءه، وقال آخرون: لا, والصحيح البيت مكة, وما والاه بكة، واحتاجوا إلى إيجاد أجوبة في معنى اسم مكة وبكة، فأوجدوا للاسمين معاني وتفاسير عديدة تجدها في كتب اللغة والبلدان وأخبار مكة2.
وذكر أهل الأخبار أن مكة عرفت بأسماء أخرى, منها: صلاح؛ لأمنها, ورووا في ذلك شعرًا لأبي سفيان بن حرب بن أمتة3, ومنها أم رخم، والياسّة، والناسة4, والحاطمة, و"كوثي"5, وذكرت في القرآن الكريم
__________
1 آل عمران: الآية 69: "وتسمى بكة، تبكّ أعناق البغايا إذا بغوا فيها، والجبابرة", الطبري "2/ 284", نزهة الجليس "1/ 27".
2 المفردات، للأصفهاني "ص56 وما بعدها"، البلدان "2/ 256 وما بعدها", صبح الأعشى "4/ 248"، تاج العروس "7/ 179"، الصحاح للجوهري "4/ 1609", القاموس "3/ 319", أخبار مكة "1/ 188", ابن هشام, سيرة "1/ 125 وما بعدها", الطبرسي، مجمع البيان "3/ 477 وما بعدها"، البلدان "8/ 134", نهاية الأرب "1/ 313".
3 بلوغ الأرب "1/ 228"، القاموس المحيط "1/ 235"، فتوح البلدان "1/ 60 وما بعدها", الأحكام السلطانية "57 وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "1/ 288", الطبري "2/ 284", أخبار مكة "1/ 189 وما بعدها", صبح الأعشى "4/ 248", القاموس "1/ 239".
5 القاموس المحيط "3/ 79", صبح الأعشى "4/ 248"، أخبار مكة "1/ 189".(7/11)
بـ"أم القرى"1.
ولعلماء اللغة بعد، تفاسير عديدة لمعنى "مكة"2, يظهر من غربلتها أنها من هذا النوع المألوف الوارد عنهم في تفسير الأسماء القديمة التي ليس لهم علم بها، فلجئوا من ثم إلى هذا التفسير والتأويل. ولا أستبعد وجود صلة بين لفظة مكة ولفظة "مكربة" التي عرفنا معناها, ولا أستبعد أن يكون سكان مكة القدامى هم من أصل يماني في القديم، فقد أسس أهل اليمن مستوطنات على الطريق الممتد من اليمن إلى أعالي الحجاز، حيث حكموا أعالي الحجاز وذلك قبل الميلاد. وقد سبق أن تحدثت عن ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب، فلا يستبعد أن تكون مكة إحداها، ثم انضم إليهم العرب العدنانيون، ولأهل الأخبار روايات تؤيد هذا الرأي.
وقد ذهب "دوزي" إلى أن تأريخ مكة يرتقي إلى أيام "داود" ففي أيامه -على رأيه- أنشأ "الشمعونيون" "السمعونيون" الكعبة, وهو "بنو جرهم" عند أهل الأخبار3. وهو يخالف بذلك رأي "كيين" "GIBBON"، ورأي جماعة من المستشرقين رأت أن مكة لم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الأول قبل الميلاد، مستدلة على ذلك بما ورد في تأريخ "ديودورس الصقلي" من وجود معبد ذكر عنه أنه كان محجة لجميع العرب، وأن الناس كانوا يحجون إليه من أماكن مختلفة. ولم يذكر "ديودورس" اسم المعبد، ولكن هذه الجماعة من المستشرقين رأت أن هذا الوصف ينطبق على الكعبة كل الانطباق، وأن "ديودورس" قصدها بالذات4.
وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن "العماليق" كانوا قد انتشروا في البلاد، فسكنوا مكة والمدينة والحجاز، وعتوا عتوًّا كبيرًا، فبعث إليهم موسى جندًا
__________
1 الأنعام, السورة, الرقم 6, الآية 92, الكشاف "2/ 25" البيضاوي "184", تفسير ابن عباس "107", نهاية الأرب "1/ 313".
2 تاج العروس "7/ 179" "مَكّ".
3 R. Dozy, Die Israeliten zu Mekka, S. 15.
4 Dozy, Die Israeliten, S. 13. Gibbon, History of the Decline and fall of the roman empire, Cha. 50. Cussin De Perceval, Essai sur L'Histoire des Arabes Avant L'Islamisme, I, P. 174.(7/12)
فقتلوهم بالحجاز, وجاء اليهود فاستوطنوا الحجاز بعد العماليق1. ويظهر أنهم أخذوا أخبارهم هذه من اليهود، ففي التوراة أن العماليق "العمالقة" هم أول الشعوب التي حاربت العبرانيين, لما هموا بدخول فلسطين، وقد حاربهم موسى, فوسع يهود الحجاز هذه القصة ونقلوا حرب موسى مع العمالقة إلى الحجاز؛ ليرجعوا زمان استيطانهم في الحجاز إلى ذلك العهد.
ثم جاءت "جرهم" فنزلت على قطورا، وكان على "قطورا" يومئذٍ "السميدع بن هوثر"، ثم لحق بجرهم بقية من قومهم باليمن وعليهم "مضاض بن عمر بن الرقيب بن هاني بن نبت بن برهم" فنزلوا بـ"قعيقعان", وكانت قطورا بأسفل مكة, وكان "مضاض" يعشر من دخل مكة من أعلاها، و"السميدع" من أسفلها. ثم حدث تنافس بين الزعيمين فاقتتلا، فتغلب "المضاض" وغلب "السميدع".
وجرهم قوم من اليمن، فهم قحطانيون إذن، جدهم هو ابن "يقطن بن عابر بن شالخ", وهم بنو عم "يعرب", كانوا باليمن وتكلموا بالعربية, ثم غادروها فجاءوا مكة2.
والعمالقة من الشعوب المذكورة في "التوراة", وقد عدهم "بلعام" "أول الشعوب"3. وقد كانوا يقيمون بين كنعان ومصر وفي "طور سيناء", أيام الخروج، وبقوا في أماكنهم هذه إلى أيام "شاءول" "4Saul". وقد تحدثت عنهم في الجزء الأول من هذا الكتاب5.
ومن جرهم تزوج "إسماعيل بن إبراهيم" على رواية الأخباريين، وبلغتهم تكلم. وكانت "هاجر" قد جاءت به إلى "مكة", فلما شب وكبر، تعلم لغة جرهم، وتكلم بها. وهم من "اليمن" في الأصل، وكانت لغتهم هي اللغة العربية6. تزوج امرأة أولى قالوا: إن اسمها "حرا" وهي بنت "سعد بن
__________
1 ابن رستة، الأعلاق "60 وما بعدها".
2 مروج الذهب "1/ 54".
3 العدد، الإصحاح 24, آية 20.
4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 112 وما بعدها".
5 "ص345 وما بعدها".
6 اللسان "12/ 97".(7/13)
عوف بن هنئ بن نبت بن جرهم" ثم طلقها بناءً على وصية أبيه إبراهيم له, فتزوج امراة أخرى هي السيدة بنت "الحارث بن مضاض بن عمرو بن جرهم", وعاش نسله في جرهم، والأمر على البيت لجرهم إلى أن تغلبت عليهم "بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر" وهم خزاعة في رأي بعض أهل الأخبار1.
وطبقت خزاعة على جرهم قانون الغالب, فانتزعت منها الملك، وزحزحتها من مكة, وأقامت عمرو بن لحي -وهو منها- ملكًا عليها، وكان دخول خزاعة مكة على أثر خروجها من اليمن؛ بسبب تنبؤ الكاهن بقرب انفجار السد, في قصة يذكرها الأخباريون. وظلت خزاعة صاحبة مكة، إلى أن كانت أيام عمرو بن الحارث وهو "أبو غبشان" "غبشان" فانتزع قصي منه الملك, وأخذه من خزاعة لقريش2.
وكان "عمرو بن لحي" أول من نصب الأوثان, وأدخل عبادة الأصنام إلى العرب، وغير دين التوحيد على زعم أهل الأخبار. ويظهر مما يرويه الأخباريون عنه أنه كان كاهنًا، حكم قومه ووضع لهم سنن دينهم على طريقة حكم الكهان، واستبدَّ بأمر "مكة" وثبت ملك خزاعة بها, فهو مثل "قصي" الذي جاء بعده، فأقام ملك "قريش" في هذه المدينة. ويظهر من بقاء خبره في ذاكرة أهل الأخبار أن أيامه لم تكن بعيدة عن الإسلام، وأن حكمه لمكة لم يكن بعيد عهد عن حكم "قصي" وأن إليه يعود فضل تنحية "جرهم" عن مكة, وانتزاع الحكم منه ونقله إلى قومه من "خزاعة", وذلك بمساعدة "بني إسماعيل" أسلاف "قريش" من "بني كنانة"3.
وهو أول رجل يصل إلينا خبره من الرجال الذين كان لهم أثر في تكوين مكة وفي إنشاء معبدها وتوسيع عبادته بين القبائل المجاورة لمكة، حتى صير لهذه
__________
1 الطبري "1/ 251 وما بعدها", أخبار مكة "1/ 42", ابن خلدون "2/ 331 وما بعدها", الأحكام السلطانية "160".
2 ابن خلدون "2/ 332 وما بعدها", الأزرقي, أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار "1/ 46 وما بعدها", "طبعة المطبعة الماجدية بمكة المكرمة", "ص51 وما بعدها", "طبعة وستنفلد", "لايبزك 1858م".
3 الأصنام "ص5".(7/14)
المدينة شأن عند القبائل المجاورة, وذلك بإتيانه بأصنام نحتت نحتًا جيدًا بأيدٍ فنية قديرة، وعلى رأسها الصنم "هبل" ووضعها في البيت، فجلب بذلك أنظار أهل مكة وأنظار القبائل المجاورة نحوها، فصارت تقبل عليها، وبذلك كوّن للبيت شهرة بين الأعراب، فصاروا يقدمون عليه للتقرب إلى "هبل" وإلى بقية الأصنام التي جاء بها من الخارج فوضعها حوله وفي جوفه.
ومن بطون خزاعة: "بنو سلول", و"بنو حُبْشية بن كعب"، و"بنو حليل", و"بنو ضاطر", وكان "حُلَيْل" سادن الكعبة, فزوج ابنته "حبى" بقصي، و"بنو قمير" ومن "بني قمير" "الحجاج بن عامر بن أقوم" شريف، و"حلحة بن عمرو بن كليب" شريف، و"قيس بن عمرو بن منقذ" الذي يقال له: "ابن الحدادية" شاعر جاهلي1, و"المحترش"، وهو "أبو غُبشان" الذي يزعمون أنه باع البيت من "قصي"2. ومن خزاعة "بديل بن ورقاء بن عبد العزى"، شريف, كتب إليه النبي يدعوه إلى الإسلام, وكان له قدر في الجاهلية بمكة3.
"وكنانة" التي استعان بها "عمرو بن لحيّ" في تثبيت حكمه بمكة، هي من القبائل العدنانية في عرف أهل الأنساب، ومن مجموعة "مضر". ولما استبد "عمرو بن لحي" ومن جاء بعده بأمر مكة، وأخذوا بأيديهم أمر مكة، تركوا إلى "كنانة" أمورًا تخص مناسك الحج وشعائره، وهي الإجازة بالناس يوم "عرفة" والإضافة والنسيّ, وهي أمور سأتحدث عنها في أثناء كلامي عن الحج.
ويذكر أهل الأخبار أن "الإسكندر" الأكبر دخل مكة، وذلك أنه بعد أن خرج من السودان قطع البحر فانتهى إلى ساحل "عدن" فخرج إليه "تبع الأقرن" ملك اليمن، فأذعن له بالطاعة, وأقر بالإتاوة, وأدخله مدينة "صنعاء", فأنزله وألطف له من ألطاف اليمن، فأقام شهرًا، ثم سار إلى "تهامة" وسكان مكة يومئذ خزاعة, وقد غلبوا عليها, فدخل عليه "النضر بن كنانة",
__________
1 الاشتقاق "ص276 وما بعدها".
2 الاشتقاق "ص277".
3 الاشتقاق "ص280".(7/15)
فعجب الإسكندر به وساعده، فأخرج "خزاعة" عن مكة، وأخلصها للنضر ولبني أبيه، وحج الإسكندر، وفرق في ولد معد بن عدنان صلات وجوائز ثم قطع البحر يؤم الغرب1.
وإذا كان أهل الأخبار قد أدخلوا "الإسكندر" مكة، وصيروه رجلًا مؤمنًا، حاجًّا من حجاج البيت الحرام، فلا غرابة إذن أن جعلوا أسلاف الفرس فيمن قصد البيت وطاف به وعظمه وأهدى له, بعد أن صيروا "إبراهيم" جدًّا من أجدادهم وربطوا نسب الفرس بالعرب العدنانيين, فقالوا: وكان آخر من حج منهم "ساسان بن بابك"، وهو جد "أردشير", فكان ساسان إذا أتى البيت طاف به وزمزم على بئر إسماعيل، فقيل: إنما سميت زمزم لزمزمته عليها هو وغيره من فارس. واستدلوا على ذلك بشعر، قالوا عنه: إنه من الشعر القديم، وبه افتخر بعض شعراء الفرس بعد ظهور الإسلام، وقالوا: وقد كان "ساسان بن بابك" هذا، أهدى غزالين من ذهب وجوهرًا وسيوفًا وذهبًا كثيرًا، فقذفه، فدفن في زمزم. وقد أنكروا أن يكون بنو جرهم قد دفنوا ذلك المال في بئر زمزم؛ لأن جرهم لم تكن ذات مال فيضاف ذلك إليها2.
ويزعم الإخباريون أن "حسان بن عبد كلال بن مثوب ذي حرث الحميري"، "أقبل من اليمن مع حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن؛ ليجعل حج الناس عنده ببلاده, فأقبل حتى نزل بنخلة فأغار على سرح الناس، ومنع الطريق، وهاب أن يدخل مكة. فلما رأت ذلك قريش وقبائل كنانة وأسد وجذام ومن كان معهم من أفناء مضر، خرجوا إليه، ورئيس الناس يومئذ فهر بن مالك، فاقتتلوا قتالا شديدا, فهزمت حمير, وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر، وقتل في المعركة -فيمن قتل من الناس- ابن ابنة قيس بن غالب بن فهر، وكان حسان عندهم بمكة أسيرًا ثلاث سنين، حتى افتدى منهم نفسه، فخرج به، فمات بين مكة واليمن"3.
ويشير هذا الحادث إن صح وقوعه وصدق ما رواه أهل الأخبار عنه, إلى
__________
1 الأخبار الطوال "33 وما بعدها".
2 مروج "1/ 265 وما بعدها"، "ذكر ملوك الطوائف".
3 الطبري "2/ 262 وما بعدها".(7/16)
طمع الملك "حسان", وإلى خطة وضعها للاستيلاء عليها. وهو شيء مألوف، فقد كانت قبائل اليمن تتجه دومًا نحو الشمال، غير أن أهل مكة قاوموا الملك وتمكنوا من الصمود تجاهه، بل من التمكن من جيشه, ومن إلحاق هزيمة به.
ويذكر أهل الأخبار حادثًا آخر مشابهًا لهذا الحادث، بل يظهر أنه الحادث نفسه وقد صِيغ في صيغة أخرى، خلاصته: أن "الملوك الأربعة" الذين لعنهم النبي، ولعن أختهم "أبضعة"، ولم يذكروا أسماءهم، لما هموا بنقل "الحجر الأسود" إلى صنعاء ليقطعوا حج العرب عن البيت الحرام إلى صنعاء، وتوجهوا لذلك إلى مكة، فاجتمعت "كنانة" إلى "فهر بن مالك بن النضر"، فلقيهم, فقاتلهم، فقتل ابن لفهر يسمى الحارثة، وقتل من الملوك الأربعة ثلاثة، وأسر الرابع، فلم يزل مأسورًا عند "فهر بن مالك" حتى مات.
وأما "أبضعة"، فهي التي يقال لها "العنققير"، ملكت بعد إخوتها على زعم أهل الأخبار1.
ويشير الإخباريون إلى احترام التبابعة لمكة، فيذكرون مثلا أن التبع "أسعد أبا كرب" الحميري وضع الكسوة على البيت الحرام، وصنع له بابًا، ومنذ ذلك الحين جرت العادة بكسوة البيت2, ويذكرون غير ذلك من أخبار تشير إلى اهتمام التبابعة بمكة. أما نحن، فلم يصل إلى علمنا شيء من هذا الذي يرويه الإخباريون مدونًا بالمسند، كما أننا لا نعلم أن أصنام أهل اليمن كانت في مكة حتى يتعبد لها التبابعة. ولسنا الآن في وضع نتمكن فيه من إثبات هذا القصص الذي يرويه الإخباريون والذي قد يكون أُوجد؛ ليوحي أن ملوك اليمن كانوا يقدسون الكعبة، وأن الكعبة هي كعبة جميع العرب قبل الإسلام.
ولا نملك اليوم أثرًا جاهليًّا استنبط منه علماء الآثار شيئًا عن تأريخ مكة قبل الإسلام؛ ولذلك فكل ما ذكروه عنها هو من أخبار أهل الأخبار، وأخبارهم عنها متناقضة متضاربة، لعبت العواطف دورا بارزا في ظهورها, ولا يمكن لأحد أن يكتب في هذا اليوم شيئا موثوقا معقولا ومقبولا عن تأريخ هذه المدينة المقدسة في أيام الجاهلية القديمة؛ لأنه لا يملك نصوصًا أثرية تعينه في التحدث عن ماضيها
__________
1 الأخبار الطوال "ص39 وما بعدها".
2 وقد نسبوا إلى الرسول أحاديث في هذا المعنى, أعتقد أنها من الأحاديث الموضوعة, راجع الأزرقي, أخبار مكة "1/ 165".(7/17)
القديم، وأملنا الوحيد هو في المستقبل، فلعل المستقبل يكون خيرًا من الحاضر والماضي، فيجود على الباحثين بآثار تمكنهم من تدوين تأريخ تلك المدينة, تدوينا علميا يفرح نفوس الملايين من الناس الذين يحجون إليها من مختلف أنحاء العالم، ولكنهم لا يعرفون عن تأريخها القديم، غير هذا المدون عنها في كتب أهل الأخبار.
وإذا كنا في جهل من أمر تأريخ مكة قبل أيام "قصي" وقبل تمركز قريش في مكة، فإن جهلنا هذا لا يجوِّز لنا القول بأن تأريخها لم يبدأ إلا بظهور قريش فيها وبتزعم قصي لها، وأن ما يروى من تأريخها عن قبل هذه المدة هو قصص لا يعبأ به؛ لأن ما يورده أهل الأخبار من روايات تفيد عثور أهل مكة قبل أيام الرسول على قبور قديمة وعلى حلي وكنوز مطمورة وكتابات غريبة عليهم، يدل كل ذلك على أن المدينة كانت مأهولة قبل أيام قصي بزمن طويل، وأن مكة كانت موجودة قبل هذا التأريخ، وأن تأريخها لذلك لم يبدأ بابتداء ظهور أمر قصي، ونزول قريش مكة في عهده.
وتأريخ مكة حتى في أيام قصي، وما بعدها إلى ظهور الإسلام لا يخلو مع ذلك من غموض ومن لبس وتناقض, شأنه في ذلك شأن أي تأريخ اعتمد على الروايات الشفوية, واستمد مادته من أقوال الناس ومن ذكرياتهم عن الماضي البعيد؛ لذلك نجد الرواة يناقضون أنفسهم تناقضًا بينًا في أمر واحد، ما كان في الإمكان الاختلاف فيه لو كانوا قد أخذوه من منبع قديم مكتوب. وسنرى في مواضع من هذا الكتاب وفي الأجزاء التي قد تتلوه عن تأريخ العرب في الإسلام نماذج وأمثلة تشير إلى تباين روايات أهل الأخبار في أخبارهم عن مكة في تلك الأيام.(7/18)
قريش:
و"قصي" من "قريش", و"قريش" كلها من نسل رجل اسمه "فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان", فهي من القبائل العدنانية، أي: من مجموعة العرب المستعربة في اصطلاح علماء النسب. ومن "فهر" فما بعده عرف اسم "قريش" في رأي أهل الأخبار, أما ما قبل "فهر" من آباء فلم يعرفوا بقريش. فقريش إذن هم "فهر".(7/18)
وأبناؤه, من سكان مكة أو من سكان ظواهرها، أي: كل من انحدر من صلبه من أبناء1, وما كان فوق "فهر" فليس يقال له "قرشي", وإنما يقال له كناني2.
ومعارفنا عن "قريش" لا بأس بها بالنسبة إلى معارفنا عن خزاعة وعمَّن تقدم عليها من قبائل ذكر أهل الأخبار أنها سكنت هذه المدينة, وتبدأ هذه المعرفة بها, ابتداء من "قصي" زعيم قريش ومجمعها، والذي أخذ أمر مكة فوضعه في يديه، ثم في أيدي أولاده من بعده، فصارت "قريش" بذلك صاحبة مكة.
وقد اشتهرت قريش بالتجارة، وبها عرفت وذاع صيتها بين القبائل وتمكن رجالها بفضل ذكائهم وحذقهم بأسلوب التعامل من الاتصال بالدول الكبرى في ذلك العهد: الفرس والروم والحبشة، وبحكومة الحيرة والغساسنة, وبسادات القبائل، ومن تكوين علاقات طيبة معها، مع تنافر هذه الدول وتباغضها. كما تمكنوا من عقد أحلاف مع سادات القبائل، ضمنت لهم السير طوال أيام السنة بهدوء وطمأنينة في كل أنحاء جزيرة العرب, والطمأنينة أهم أمنية من أماني التاجر. وبذلك أمنوا على تجارتهم، ونشروا تجارتهم في كل أنحاء جزيرة العرب, حتى عرفوا بـ"قريش التجار", جاء على لسان كاهنة من كهان اليمن قولها: "لله در الديار، لقريش التجار"3.
وليس لنا علم بتأريخ بدء اشتغال قريش بالتجارة واشتهارها بها. وروايات أهل الأخبار، متضاربة في ذلك, فبينما هي ترجع ظهور "قريش" بمكة إلى أيام قصي, ومعنى ذلك أن تجارة قريش إنما بدأت منذ ذلك الحين، نراها ترجع تجارتها إلى أيام النبي "هود" وتزعم أنه لما كان زمن "عمرو ذي الأذعار الحميري"، كشفت الريح عن قبر هذا النبي، فوجدوا صخرة على قبره كتب عليها بالمسند: "لمن ملك زمار؟ لحمير الأخيار. لمن ملك ذمار؟ للحبشة الأشرار. لمن ملك ذمار؟ لفارس الأحرار. لمن ملك ذمار؟ لقريش التجار"4.
والرواية أسطورة موضوعة، ولكنها تشير إلى أن اشتغال قريش بالتجارة يرجع
__________
1 البلاذري, أنساب "1/ 39", نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار "9".
2 ابن سعد, طبقات "1/ 55".
3 رسائل الجاحظ, "جمع السندوبي"، "ص156" "المطبعة الرحمانية 1958م".
4 الإكليل، الجزء الثامن "خبر آخر عن قبر هود, وقبر قضاعة بن مالك بن حمير".(7/19)
إلى عهد قديم، عجز أصحاب هذه الرواية عن إدراك وقته، فوضعوه في أيام هود.
ثم نرى روايات أخرى ترجع بدء اشتهار قريش بالتجارة إلى أيام "هاشم"، وهي تزعم أن تجارة قريش كانت منحصرة في مكة، يتاجر أهلها بعضهم مع بعض, فتُقْدِم العجم عليهم بالسلع، فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها لمن حولهم من العرب, فكانوا كذلك حتى ركب "هاشم بن عبد مناف" فنزل بقيصر، وتعاقد معه على أن يسمح له ولتجار قريش بالاتجار مع بلاد الشام, فوافق على ذلك, وأعطاه كتابا بذلك. فلما عاد, جعل كلما مر بحي من العرب بطريق الشام، أخذ من أشرافهم إيلافًا، أي: عقد أمان، فضمن بذلك لقومه حرية الاتجار بأمن وسلام، واشتهرت قريش بالتجارة منذ ذلك العهد1.
وقد علَّمت الأسفار سادة قريش أمورًا كثيرة من أمور الحضارة والثقافة، فقد أرتهم بلادًا غريبة ذات تقدم وحضارة، وجعلتهم يحتكون بعرب العراق وبعرب بلاد الشام، فتعلموا من "الحيرة" أصول كتابتهم، وهذَّبوا لسانهم, ودونوا به أمورهم. وذكر أنهم كانوا من أفصح العرب لسانًا, وقد شهد العرب لهم بفصاحة اللسان، حتى إن الشعراء كانوا يعرضون عليهم شعرهم، وذكر أن الشاعر "علقمة الفحل" عرض عليهم شعره، فوصفوه بـ"سمط الدهر"2.
وقد علمت الطبيعة أهل مكة أنهم لا يتمكنون من كسب المال ومن تأمين رزقهم في هذا الوادي الجاف، إلا إذا عاشوا هادئين مسالمين، يدفعون الإساءة بالحسنة، والشر بالصبر والحلم، والكلام السيئ اليذيء بالكلام الحسن المقنع المخجل. فتغلب حلمهم على جهل الجاهلية، وجاءت نجدتهم في نصرة الغريب والذب عن المظلوم والدفاع عن حق المستجير بهم، بأحسن النتائج لهم، فصار التاجر والبائع والمشتري يفد على سوق مكة، يبيع ويشتري بكل حرية؛ لأنه في بلد آمن، أخذ سادته على أنفسهم عهدًا بألا يتعدى أحد منهم على غريب؛ لأن الإضرار به يبعد الغرباء عنهم، وإذا ابتعد الغرباء عن مكة، خسروا جميعًا موردًا من موارد رزقهم, يعيش عليه كل واحد منهم بلا استثناء. لذلك
__________
1 ذيل الأمالي "ص199", الثعالبي, ثمار القلوب "115 وما بعدها".
2 الأغاني "21/ 112".(7/20)
كان الغريب إذا ظُلِمَ، نادى: يا آل قريش، أو يا آل مكة, أو يا آل فلان، ثم يذكر ظلامته، فيقوم سادة مكة أو من نُودي باسمه بأخذ حقه من الظالم له.
وقد اصطلحت قريش على أن تأخذ ممن ينزل عليها في الجاهلية حقًّا, دعته: "حق قريش". وفي جملة ما كانوا يأخذونه من الغريب القادم إليهم عن هذا الحق بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر. ويأتي أهل الأخبار بمثل على ذلك هو مثل: "ظويلم ويلقب مانع الحريم، وإنما سمي بذلك؛ لأنه خرج في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المخزومي، فأراد المغيرة أن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية, وذلك سمي: الحريم, وكانوا يأخذون بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، فامتنع عليه ظويلم"1. وظويلم منع عمرو بن صرمة الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان2.
وقد جعلت طبيعة هذا الوادي أهل مكة يميلون إلى السلم، ولا يركنون إلى الحرب والغزو إلا دفاعًا عن نفس، وهو شيء منطقي محترم، فأهل مكة في وادٍ ضيق بين جبلين متقابلين، وفي استطاعة الأعداء إنزال ضربات موجعة بهم من المرتفعات المسيطرة عليه، وبسد منفذيه، يحصر أهله فتنقطع عنهم كل وسائل المعيشة من ماء وطعام. لذلك لم يجدوا أمامهم من سبيل سوى التجمل بالحلم والصبر واتباع خطة الدفاع عن النفس، بالاعتماد على أنفسهم وعلى غيرهم من أحلافهم كالأحابيش حلفائهم وقريش الظواهر. وقد أدت هذه الخطة إلى اتهام قريش أنها لا تحسن القتال، وأنها إن حاربت خسرت، وأنها كانت تخسر في الحروب؛ فخسرت ثلاث حروب من حروب الفجار الأربعة، إلى غير ذلك من تهم. ولكن ذلك لا يعني أن في طبع رجال قريش جبنًا، وأن من سجية قريش الخوف، وإنما هو حاصل طبيعة مكان، وإملاء ضرورات الحياة لتأمين الرزق. ولو أن أهل مكة عاشوا في موضع آخر، لما صاروا أقل شجاعةً وأقل إقبالًا في الاندفاع نحو الحرب والغزو من القبائل الأخرى.
وقد تمكنت مكة في نهاية القرن السادس وبفضل نشاط قريش المذكور من القيام بأعمال مهمة، صيرتها من أهم المراكز المرموقة في العربية الغربية, في التجارة
__________
1 الاشتقاق "ص171 وما بعدها".
2 الاشتقاق "172".(7/21)
وفي إقراض المال للمحتاج إليه، كما تمكنت من تنظيم أمورها الداخلية ومن تحسين شئون المدينة، واتخاذ بيوت مناسبة لائقة لأن تكون بيوت أغنياء زاروا العالم الخارجي, ورأوا ما في بيوت أغنيائه من ترف وبذخ وخدم وإسراف.
وقد ذكر "الثعالبي" أن قريشًا صاروا "أدهى العرب، وأعقل البرية, وأحسن الناس بيانًا" لاختلاطهم بغيرهم ولاتصالهم بكثير من القبائل, فأخذوا عن كل قوم شيئًا، ثم إنهم كانوا تجارًا "والتجار هم أصحاب التربيح والتكسب والتدفيق والتدقيق", وكانوا متشددين في دينهم حمسًا، "فتركوا الغزو كراهة السبي واستحلال الأموال" إلى غير ذلك من أمور جلبت لهم الشهرة والمكانة1. وقد أُشيد أيضا بصحة أجسامهم وبجمالهم حتى ضرب المثل بجمالهم فقيل: "جمال قريش"2.
وقصى رئيس قريش، هو الذي ثبت الملك في عقبه, ونظم شئون المدينة وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حين شعر بدنو أجله. فلما أشرق الإسلام, كانت أمور مكة في يد قريش، ولها وحدها الهيمنة على هذه المدينة، حتى عرف سكانها بـ"آل قصي", فكان أحدهم إذا استغاث أو استنجد بأحد صاح: "يا لقصي"، كناية عن أنهم "آل قصي", جامع قريش3.
وهو أول رئيس من رؤساء مكة يمكن أن نقول: إن حديثنا عنه, هو حديث عن شخص عاش حقا وعمل عملا في هذه المدينة التي صارت قبلة الملايين من البشر فيما بعد. فهو إذن من الممهدين العاملين المكونين لهذه القبلة، وهو أول رجل نتكلم عن بعض أعماله ونحن واثقون مما نكتبه عنه ونقوله. وهو أول شخص نقض البيوت المتنقلة التي لم تكن تقي أصحابها شيئًا من برد ولا حر، والتي كانت على أطراف الوادي وبين أشجار الحرم، وكأنها تريد حراسة البيت، وحوَّلها من خيام مهلهلة إلى بيوت مستقرة ثابتة ذات أعمدة من خشب شجر الحرم, وذات سقوف.
__________
1 الثعالبي, ثمار القلوب "11 وما بعدها".
2 الثعالبي، ثمار القلوب "29".
3
يا لقصي لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنَّفَر
الأحكام السلطانية "ص78 وما بعدها".(7/22)
ولم نعثر حتى الآن على اسم قريش أهل مكة في نص جاهلي, كذلك لم نعثر عليه أو على اسم مقارب له في كتب اليونان أو اللاتين أو قدماء السريان ممن عاشوا قبل الإسلام, فليس في إمكاننا ذكر زمن جاهلي نقول: إننا عثرنا فيه على اسم قريش، وإنها كانت معروفة يومئذٍ فيه.
وقد وردت لفظة "قريش" اسمًا لرجل عرف بـ"حَبْسل قريش". وذلك في نص حضرمي من أيام الملك "العز" ملك حضرموت1.
هذا، وإن لأهل الأخبار كلامًا في سبب تسمية قريش بقريش, فقيل: سُميت بقريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة؛ لأن عير بني النضر كانت إذا قدمت، قالت العرب: قد جاءت عير قريش، قالوا: وكان قريش هذا دليل النضر في أسفارهم، وصاحب ميرتهم، وكان له ابن يسمى بدرًا، واحتفر بدرًا, قالوا فيه: سميت البئر التي تدعى بدرًا, بدرًا، وقال ابن الكلبي: إنما قريش جماع نسب, ليس بأب ولا بأم ولا حاضن ولا حاضنة, وقال آخرون: إنما سمي بنو النضر من كنانة قريشًا؛ لأن النضر بن كنانة خرج يومًا على نادي قومه، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى النضر، كأنه جمل قريش.
وقيل: إنما سميت بدابَّةٍ تكون في البحر تأكل دوابَّ البحر, تدعى القرش, فشبه بنو النضر بن كنانة بها؛ لأنها أعظم دواب البحر قوةً2.
وقيل: إن النضر بن كنانة كان يقرش عن حاجة الناس، فيسدها بماله، والتقريش -فيما زعموا- التفتيش وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيسدونها بما يبلغهم3. "وقيل: إن النضر بن كنانة كان اسمه قريشًا، وقيل: بل لم تزل بنو النضر بن كنانة يدعون بني النضر حتى جمعهم قصي بن كلاب, فقيل لهم: قريش، من أجل أن التجمع هو التقرش، فقالت العرب: تقرش
__________
1 تأريخ العرب في الإسلام "1/ 41".
2 وقريش هي التي تسكن البحر, بها سميت قريش قريشًا. تفسير الطبري "25/ 199".
3 الطبري "2/ 263 وما بعدها".(7/23)
بنو النضر، أي: قد تجمعوا. وقيل: إنما قيل: قريش؛ من أجل أنها تقرشت عن الغارات"1.
وذكر أن قريشًا كانت تدعى "النضر بن كنانة"، وكانوا متفرقين في "بني كنانة", فجمعهم "قصي بن كلاب"، فسموا قريشًا, التقرش: التجمع, وسمي قصي مجمعًا. قال حذافة بن غانم بن عامر القرشي ثم العدوي:
قصي أبوكم كان يدعى مجمعًا ... به جمع الله القبائل من فهر2
وذكر أن قريشًا إنما قيل لهم "قريش"؛ لتجمعهم في الحرم من حوالي الكعبة بعد تفرقهم في البلاد حين غلب عليها "قصي بن كلاب". يقال: تقرش القوم إذا اجتمعوا, وقالوا: وبه سمي قصي مجمعا، أو لأنهم كانوا يتقرشون البياعات فيشترونها، أو لأن النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يومًا، فقالوا: تقرش، فغلب عليه اللقب، أو لأنه جاء إلى قومه يومًا، فقالوا: كأنه جمل قريش أي: شديد، فلُقب به، أو لأن قصيًّا كان يقال له القرشي، وهو الذي سماهم بهذا الاسم، أو لأنهم كانوا يفتشون الحاج فيسدون خلتها، فمن كان محتاجًا أغنوه ومن كان عاريا كسوه ومن كان معدما كسوه ومن كان طريدا آووه، أو سموا بقريش بن مخلد بن غالب بن فهر، وكان صاحب عيرهم، فكانوا يقولون: قدمت عير قريش وخرجت عير قريش، فلقبوه به, أو نسبة إلى "قريش بن الحارث بن يخلد بن النضر" والد "بدر", وكان دليلًا لبني "فهر بن مالك" في الجاهلية، فكانت عيرهم إذا وردت "بدرًا" يقال: قد جاءت عير قريش، يضيفونها إلى الرجل حتى مات, أو لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع وزرع, أو إلى قريش بن بدر بن يخلد بن النضر, وكان دليل بني كنانة في تجارتهم, فكان يقال: قدمت عير قريش, فسميت قريش بذلك, وأبوه بدر بن يخلد، صاحب بدر، الموضع المعروف3.
__________
1 الطبري "2/ 264"، ابن كثير، البداية "2/ 201".
2 العقد الفريد "3/ 312 وما بعدها".
3 تاج العروس "4/ 337"، "قرش"، كتاب نسب قريش، للزبيري "ص12".(7/24)
ونعتت قريش بـ"آل الله" و"جيران الله" و"سكان حرم الله"1 وبـ"أهل الله"2.
إلى غير ذلك من آراء حصرها بعضهم في عشرين قولًا في تفسير معنى لفظة "قريش"، ومن أين جاء أصلها, تجدها في بطون الكتب التي أشرت إليها في الحواشي، وفي موارد أخرى. وهي كلها تدل على أن أهل الأخبار كانوا حيارى في أمر هذه التسمية، ولما كان من شأنهم إيجاد أصل وفصل ونسب وسبب لكل اسم وتسمية، كما فعلوا مع التسميات القديمة، ومنها تسميات قديمة تعود إلى ما قبل الميلاد، أوجدوا على طريقتهم تلك التعليلات والتفسيرات لمعنى "قريش". وقد نجد هذه التعليلات تُروَى وتُنسَب إلى شخص واحد كابن الكلبي مثلًا، وهو ينسب روايتها عادة إلى رواة تقدموا عليه أو عاصروه، وقد لا يرجعها إلى أحد، وربما كانت من وضعه وصنعته أو من اجتهاده الخاص في إيجاد علل للمسميات3.
فهذا هو مجمل آراء أهل الأخبار في معنى اسم قريش.
أما رأيهم في أول زمن ظهرت فيه التسمية، فقد اختلف في ذلك وتباين أيضًا؛ فذكر قوم "أن عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير: متي سميت قريش قريشًا؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها, فذلك التجمع التقرش. فقال عبد الملك: ما سمعت هذا, ولكن سمعت أن قصيًّا كان يقال له القرشي، ولم تسمّ قريش قبله"، وورد: "لما نزل قصي الحرم وغلب عليه، فعل أفعالًا جميلة، فقيل له: القرشي، فهو أول من سُمِّيَ به". وورد أيضا أن "النضر بن كنانة كان يسمى القرشي"4.
وقد نسب إلى علي وابن عباس قولهما: إن قريشًا حي من النبط من أهل كوثى5. وإذا صح أن هذا القول هو منهما حقًّا، فإن ذلك يدل على أنهما قصدا بالنبط "نبايوت" وهو "ابن إسماعيل" في التوراة. وأما "كوثى"
__________
1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
2 الثعالبي، ثمار القلوب "10".
3 نهاية الأرب "16/ 16", تاج العروس "4/ 337"، "قرش".
4 الطبري "2/ 264 وما بعدها".
5 البرقوقي "ص228".(7/25)
فقصدا بذلك موطن إبراهيم، وهو من أهل العراق على رواية التوراة أيضا ولعلهما أخذا هذا الرأي من أهل الكتاب في يثرب.
ويذكر أن جِذْم قريش كلها "فهر بن مالك" فما دونه قريش وما فوقه عرب، مثل كنانة وأسد وغيرهما من قبائل مضر. وأما قبائل قريش, فإنما تنتهي إلى فهر بن مالك لا تجاوزه1, ومن جاوز "فهرًا" فليس من قريش2. ومعنى هذا أن جذم قريش من أيام "فهر بن مالك" فما فوقه، كانت متبدية تعيش عيشة أعرابية، فلما كانت أيام "فهر" أخذت تميل إلى الاستقرار والاستيطان، ولما استقرت وأقامت في مواضعها عرفت بـ"قريش".
وذكر أن قريشًا قبيلة، وأباهم النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فكل من كان من ولد "النضر"، فهو "قرشي" دون ولد كنانة ومن فوقه. وورد كل من لم يلده "فهر" فليس بقرشي, وهو المرجوع إليه3.
وقد صيرت رابطة النسب هذه قريشًا قبيلة تامة تقيم مجتمعة في أرض محدودة، وبصورة مستقرة في بيوت ثابتة فيها بيوت من حجر، بين أفرادها وأسرها وبطونها عصبية، وبينهم تعاون وتضامن. كما جعلت أهل مكة في تعاون وثيق فيما بينهم في التجارة, حتى كادوا يكونون وكأنهم شركاء مساهمون في شركة تجارية عامة. يساهم فيها كل من يجد عنده شيئًا من مال، وإن حصل عليه عن طريق الاقتراض والربا؛ ليكون له نصيب من الأرباح التي تأتي بها شركات مكة.
ويقسم أهل الأخبار قريشًا إلى: قريش البطاح، وقريش الظواهر, ويذكرون أن قريش البطاح بيوت، منهم: بنو عبد مناف, وبنو عبد الدار, وبنو عبد العزَّى, وبنو عبد بن قصي بن كلاب، وبنو زهرة بن كلاب, وبنو تيم بن مرة, وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم، وبنو جمح ابنا عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو عدي بن كعب، وبنو حسل بن عامر بن لؤي، وبنو هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وبنو هلال بن
__________
1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".
2 نهاية الأرب "16/ 15".
3 تاج العروس "4/ 337"، "قريش".(7/26)
مالك بن ضبة بن الحارث بن فهر, وبنو عتيك بن عامر بن لؤي1, و"قصي" هو الذي أدخل البطون المذكورة الأبطح, فسموا البطاح2. ودخل "بنو حسل بن عامر" مكة بعد، فصاروا مع قريش البطاح، فأما من دخل في العرب من قريش فليسوا من هؤلاء, ولا من هؤلاء3.
ويذكر أهل الأخبار أن "قريش البطاح", الذين ينزلون أباطح مكة وبطحاءها, أو هم الذين ينزلون الشعب بين أخشبي مكة، وأخشبا مكة: جبلاها؛ أبو قبيس والذي يقابله، ويقال لهم: قريش الأباطح وقريش البطاح؛ لأنهم صبابة قريش وصميمها الذين اختطوا بطحاء مكة ونزلوها4. وهم أشرف وأكرم من قريش الظواهر, ذكروا أن سادة قريش نزول ببطن مكة، ومن كان دونهم, فهم نزول بظواهر جبالها، أي: قريش الظواهر5.
أما قريش الظواهر فهم: بنو معيص بن عامر بن لؤي، وتيم الأدرم بن غالب بن فهر، والحارث ابنا فهر، إلا بني هلال بن أهيب بن ضبة, وبني هلال بن مالك بن ضبة6, وعامة بني عامر بن لؤي وغيره7. عرفوا جميعًا بقريش الظواهر؛ لأنهم لم يهبطوا مع قصي الأبطح، إلا أن رهط "أبي عبيدة بن الجراح", وهم من "بني الحارث بن فهر" نزلوا الأبطح فهم مع المطيبين أهل البطاح8. وورد أن "بني الأدرم من أعراب قريش ليس بمكة منهم أحد"9.
__________
1 المحبر "ص167 وما بعدها", العمدة "2/ 193", رسائل الجاحظ "ص156", "السندوبي", "المطبعة الرحمانية 1933م", مروج الذهب "1/ 58" "1958م".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 71".
3 البلاذري، أنساب "1/ 40".
4 فلو شهدتني من قريش عصابة
قريش البطاح لا قريش الظواهر
تاج العروس "2/ 125", "بطح".
5 تاج العروس "3/ 372", "ظهر".
6 المحبر "168", البلاذري, أنساب "1/ 39", الثعالبي, ثمار القلوب "97".
7 العمدة "2/ 194".
8 ابن سعد, طبقات "1/ 71".
9 نهاية الأرب "16/ 17".(7/27)
ويبدو من وصف أهل الأخبار لقريش البطاح، أنهم إنما سُموا بالبطاح لأنهم دخلوا مع قصي البطاح، فأقاموا هناك1. فهم مستقرون حضر، وقد أقاموا في بيوت مهما كانت فإنها مستقرة، وقد انصرفوا إلى التجارة وخدمة البيت، فصاروا أصحاب مال وغنًى، وملكوا الأملاك في خارج مكة، ولا سيما الطائف، كما ملكوا الإبل، وقد تركوا رعيها للأعراب. وعرفوا أيضا بقريش الضب؛ للزومهم الحرم2.
وأما قريش الظواهر3, فهم الساكنون خارج مكة في أطرافها، وكانوا على ما يبدو من وصف أهل الأخبار لهم أعرابًا، أي: إنهم لم يبلغوا مبلغ قريش البطاح في الاستقرار وفي اتخاذ بيوت من مدر. وكانوا يفخرون على قريش مكة بأنهم أصحاب قتال، وأنهم يقاتلون عنهم وعن البيت. ولكنهم كانوا دون "قريش البطاح" في التحضر وفي الغنى والسيادة والجاه؛ لأنهم أعراب فقراء، لم يكن لهم عمل يعتاشون منه غير الرعي, وكانوا دونهم في مستوى المعيشة بكثير وفي الوجاهة بين القبائل. ومع اشتراكهم وقريش البطاح في النسب، ودفاعهم عنهم أيام الشدة والخطر، إلا انهم كانوا يحقدون على ذوي أرحامهم على ما أُوتوا من غنى ومال وما نالوه من منزلة، ويحسدونهم على ما حصلوا عليه من مكانة دون أن يعملوا على رفع مستواهم، وترقية حالهم، والاقتداء بذوي رحمهم أهل الوادي في اتخاذ الوسائل التي ضمنت لهم التفوق عليهم وفي جلب الغنى والمال لهم. كان شأنهم في ذلك شأن الحساد الذين يعيشون على حسدهم، ولا يبحثون عن وسائل ترفعهم إلى مصافّ من يحسدونه، ولعل نظرتهم الجاهلة إلى أنفسهم من أنهم أعلى وأجل شأنًا ممن يحسدونهم, وإن كانوا دونهم في نظر الناس في المنزلة والمكانة، حالت دون تحسين حالهم والتفوق على المحسود بالجد والعمل، لا بالاكتفاء بالحسد وبالتشدق بالقول والمباهاة.
ويذكر أهل الأخبار أن قسما ثالثا من قريش، لم ينزل بمكة ولا بأطرافها،
__________
1 المحبر "168".
2 ابن الأثير "2/ 8"، البلاذري، أنساب "1/ 39".
3 "قريش الظواهر: الذين ينزلون خارج الشعب"، تاج العروس "2/ 125", "بطح"، البلاذري، أنساب "1/ 39"، "كانوا يفخرون على قريش الظواهر لظهورهم للعدو، ولقائهم المناسر", البلاذري، أنساب "1/ 40".(7/28)
وإنما هبط أماكن أخرى، فاستقر بها، وتحالف مع القبائل التي نزل بينها. من هؤلاء: سامة بن لؤي وقع إلى عمان، فولده هناك حلفاء أزد عمان، والحارث بن لؤي وقع إلى عمان، فولده هناك حلفاء أزد عمان، والحارث بن لؤي، وقع إلى اليمامة، فهم في بني هزان من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار, والحارث، هو جُشَم, وخزيمة بن لؤي، وقعوا بالجزيرة إلى بني الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان وسعد بن لؤي، وبنو عوف بن لؤي، وقعوا إلى غطفان ولحقوا بهم، ويقال لبني سعد بن لؤي بنانة، وبنانة أمهم، فأهل البادية منهم، وأهل الحاضرة ينتمون إلى قريش. ويقال لبني خزيمة بن لؤي: عائذة قريش، وكان عثمان بن عفان ألحق هذه القبائل، حين استخلف بقريش1.
ويلاحظ أن هذا الصنف من أصناف قريش، هو من نسل "لؤي"، أي: من نسل "لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر". وقد تباعدت مواطنهم عن قريش.
ومن قريش الظواهر: بنو الأدرم من نسل الأدرم، وهو تيم بن غالب, ومن رجالهم: عوف بن دهر بن تيم الشاعر، وهو أحد شعراء قريش، وهلال بن عبد الله بن عبد مناف، وهو صاحب القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي، وهو ابن الخطل الذي كان يؤذي النبي وارتد فأهدر النبي دمه يوم الفتح، قتله أبو برزة الأسلمي وهو متعلق بأستار الكعبة، أو سعد بن حريث المخزومي على رواية قريش2. ومن قريش الظواهر أيضا: بنو محارب، والحارث بن فهر, وبنو هصيص بن عامر بن لؤي.
ولم يكن أهل مكة كلهم من قريش، بل ساكنهم أيضًا من كان بها قبلهم، مثل خزاعة وبني كنانة. وقريش وإن كانت من "كنانة"، إلا أنها ميزت نفسها عنها، وفرقت بينها وبين كنانة. ولكنانة إخوة, منهم: أسد وأسدة, ووالدهم هو "خزيمة" وهو جد من أجداد قريش، كما أن "كنانة" هو
__________
1 المحبر "ص168 وما بعدها", الطبري "2/ 261", "وفي قريش من ليس بأبطحية ولا ظاهرية", تاج العروس "2/ 125" "بطح".
2 الاشتقاق "ص66".(7/29)
جد من أجدادهم, وللأخباريين رأي في معنى كنانة1.
وقد عرفت قريش بين أهل الحجاز بسخينة. والسخينة: طعام رقيق يتخذ من سمن ودقيق, وقيل: دقيق وتمر, وهو دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء. وإنما لقبت قريش بسخينة لاتخاذها إياه، أي: لأنهم كانوا يكثرون من أكلها؛ ولذا كانت تُعيَّر به2.
__________
1 الاشتقاق "ص18", الطبري "2/ 226".
2 "وفي الحديث: أنه دخل على حمزة -رضي الله تعالى عنه- فصنعت لهم سخينة فأكلوا منها. قال كعب بن مالك:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
وفي حديث معاوية -رضي الله عنه- أنه مازح الأحنف بن قيس، فقال: ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال: هو السخينة يا أمير المؤمنين! الملفف في البجاد: وطب اللبن يلف به ليحمى ويدرك, وكانت تميم تعير به. والسخينة: الحساء المذكور يؤكل في الجدب, وكانت قريش تعير بها، فلما مازحه معاوية بما يعاب به قومه مازحه الأحنف بمثله"، تاج العروس "9/ 232".(7/30)
الأحابيش:
ومن أهل مكة جماعة عرفت بـ"الأحابيش", وذكر أهل الأخبار أنهم حلفاء قريش، وهم: بنو المصطلق، والحياء بن سعد بن عمرو، وبنو الهون بن خزيمة، اجتمعوا بذنب حبشي -وهو جبل بأسفل مكة- فتحالفوا بالله: إنا ليَدٌ على غيرنا, ما سجا ليل وأوضح نهار، وما أرسى حبشي مكانه, وقيل: إنما سموا بذلك لاجتماعهم. والتحابش: هو التجمع في كلام العرب1. وذكر أنهم اجتمعوا عند "حبشي" فحالفوا قريشًا. وقيل: أحياء من القارة انضموا إلى "بني ليث" في الحرب التي نشبت بينهم وبين قريش قبل الإسلام, فقال إبليس لقريش: إني جارٌ لكم من بني ليث فواقعوا دمًا، سموا بذلك لاسودادهم، قال:
ليث ودِيل وكعب والذي ظأرت ... جمع الأحابيش، لما احمرت الحدقُ
__________
1 العمدة "2/ 194", اللسان "6/ 278" "حبش".(7/30)
فلما سميت تلك الأحياء "الأحابيش" من قبل تجمعها، صار التحبيش في الكلام كالتجميع1.
وورد أن "عبد مناف"، و"عمرو بن هلال بن معيط الكناني"، عقدا حلف الأحابيش. والأحابيش: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، وبنو الهون بن خزيمة بن مدركة، وكانوا مع قريش2. وقيل أيضا: إن الأحابيش، هم: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وعضل، والديش من بني الهون بن خزيمة، والمصطلق، والحيا من خزاعة3.
وقد وصف "اليعقوبي" "حلف الأحابيش" بقوله: "ولما كبر عبد مناف بن قصي, جاءته خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، يسألونه الحلف ليعزوا به. فعقد بينهم الحلف الذي يقال له: حلف الأحابيش, وكان مُدبّر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف عمرو بن هلل "هلال" بن معيص بن عامر. وكان تحالف الأحابيش على الركن, يقوم رجل من قريش والآخر من الأحابيش فيضعان أيديهما على الركن، فيحلفان بالله القاتل وحرمة هذا البيت والمقام والركن والشهر الحرام على النصر على الخلق جميعًا حتى يرث الله الأرض ومن عليها, وعلى التعاقد وعلى التعاون على كل من كادهم من الناس جميعا، ما بل بحر صوفة، وما قام حر أو ثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة, فسمي حلف الأحابيش"4.
وقد ذكر أن "المطلب بن عبد مناف بن قصي"، قاد بني عبد مناف وأحلافها من الأحابيش, وهم من ذكرتُ يوم ذات نكيف، لحرب بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة5. كما ورد أن "الأحابيش"، الذين ذكرت أسماءهم, كانوا يحضرون مع من يحضر من طوائف العرب مثل: قريش, وهوازن, وغطفان
__________
1 اللسان "6/ 278".
2 قال الشاعر:
إن عميرًا وإن عبد مناف ... جعلَا الحلف بيننا أسبابَا
البلاذري، أنساب "1/ 52، 76".
3 المحبر "ص246".
4 اليعقوبي "1/ 212" "طبعة النجف 1964م".
5 المحبر "ص246".(7/31)
وأسلم، و"طوائف من العرب" سوق عكاظ، فيبيعون ويشترون1. كما ذكر أنهم كانوا مثل قريش يقدسون إسافًا ونائلة2.
وورد في بعض أخبار الأخباريين، أن يوم "ذات نكيف"، وقع بين قريش وبني كنانة؛ فهزمت قريش بني كنانة، وعلى قريش عبد المطلب3. وقد بقي "الأحابيش" بمكة، إلى أيام الأمويين، فذكر أن "عبد الله المتكبر", وكان من أشراف قريش في أيام "معاوية" ومن أغناها مالًا، لما وفد على "معاوية" وكان خليفة إذ ذاك، كلَّمه في "قريش" ووجوب الاعتماد عليهم ثم في "الأحابيش"، إذ قال له عنهم: "وحلفاؤك من الأحابيش" قد عرفت نصرهم ومؤازرتهم، فاخلطهم نفسك وقومك4.
وقد بحث "لامانس" في موضوع الأحابيش، فرأى أنهم قوة عسكرية أُلفت من العبيد السود المستوردين من إفريقيا ومن عرب مرتزقة، كونتها مكة للدفاع عنها. وقد بحث مستشرقون آخرون في هذا الموضوع، فمنهم من أيده، ومنهم من توسط في رأيه، ومنهم من أيد الرواية العربية المتقدمة التي ذكرتها. وعندي رأي آخر، قد يفسر لنا سبب تسمية "بني الحارث بن عبد مناة" من "كنانة" ومن أيدها من "بني المصطلق"، و"بني الهون" بالأحابيش, هو أن من الممكن أن تكون هذه التسمية قد وردت إليهم من أجل خضوعهم لحكم الحبش، وذلك قبل الإسلام بزمن طويل، فقد سبق أن ذكرت في الجزء الثالث من كتابي: "تأريخ العرب قبل الإسلام"، وفي أثناء كلامي على "جغرافيا بطلميوس"5, أن الساحل الذي ذكره "بطلميوس" باسم: "Cinaedocolpitae" إنما هو ساحل "تهامة", وهو منازل "كنانة". وقد بقي الحبش به وقتا طويلا واختلطوا بسكانه، فيجوز أن تكون لفظة "الأحابيش" قد لحقت بعض "كنانة"
__________
1 المحبر "ص267".
2 المحبر "318".
3 اللسان "9/ 342" "نكف", قال ابن سغلة الفهري:
فلله عينا من رأى من عصابة ... غوت غي بكر يوم ذات نكيف
أناخوا إلى أبياتنا ونسائنا ... فكانوا لنا ضيفًا لشر مضيف
تاج العروس "6/ 261", "نكف".
4 نسب قريش "389".
5 "393".(7/32)
من خضوعهم للحبش، حتى صارت اللفظة لقبًا لهم، أو علمًا لكنانة ومن حالفها. ويجوز أن تكون قد لحقتهم ولحقت الآخرين معهم لتميزهم عن بقية "كنانة" ومن انضم إليهم ممن سكن خارج تهامة، أو لتزوج قسم منهم من نساء حبشيات حتى ظهرت السمرة على سحنهم؛ ولهذا وصفوا بالأحابيش. فليس من اللازم إذن أن يكون "الأحابيش"، هم كلهم من حبش إفريقيا، بل كانوا عربًا وقومًا من العبيد والمرتزقة ممن امتلكهم أهل مكة. ومما يؤيد رأيي هذا هو ورود "من بني كنانة" مع أهل تهامة في أخبار معارك قريش مع الرسول. ففي معركة "أحد"، نجد "الطبري" يقول: "فاجتمعت قريش لحرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة"1. ونجد مثل ذلك في أخبار معارك أخرى, مما يشير إلى أن الأحابيش، ليسوا عبيد إفريقيا فحسب، بل هم عرب وحبش ومرتزقة، وأن أولئك الأحابيش هم من ساحل تهامة في الغالب من كنانة، أي: ممن أقام بذلك الساحل المستقر به من الحبش واندمج في العرب، فصار من المستعربة الذين نسوا أصولهم وضاعت أنسابهم، واتخذوا لهم نسبا عربيا.
وقد كان للأحابيش سادة يديرون أمورهم، منهم "ابن الدغنة" وهو "ربيعة بن رفيع بن حيَّان بن ثعلبة السلمي" الذي أجار "أبا بكر", وشهد معركة حنين2.
ومن سادات الأحابيش "الحليس بن يزيد", ويظهر أنه كان يتمتع بمنزلة محترمة بمكة. وقد ذكر "محمد بن حبيب" "الحليس" على هذه الصورة: "الحليس بن يزيد", وذكر أنه من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة", وكان من رؤساء حرب الفجار من قريش3. وذكره غيره على هذه الصورة: "وحليس بن علقمة الحارثي, سيد الأحابيش ورئيسهم يوم أحد, وهو من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"4.
وقد حارب الأحابيش مع قريش يوم أحد، وقد رأسهم "أبو عامر"
__________
1 خبر "غزوة أحد"، "فخرجت قريش بحدها وجَدّها وأحابيشها، ومن معها من بني كنانة وأهل تهامة", الطبري "12/ 501".
2 تاج العروس "9/ 200", "دغن".
3 المحبر "169 وما بعدها".
4 تاج العروس "4/ 130", "حلس".(7/33)
المعروف بـ" الراهب"1, وقاتل بهم، مع أن رئيسهم وسيدهم إذ ذاك هو "الحليس بن زبان" أخو "بني الحارث بن عبد مناة", وهو يومئذٍ "سيد الأحابيش". وقد مر بـ"أبي سفيان"، وهو يضرب في شدق "حمزة" بزج الرمح، فلامه على فعله وأنبه2. ولعل هذا الحليس هو الحليس المتقدم, كتب اسم والده بصور مختلفة بحذف اسم والده, وإضافة جده أو غيره إليه، فصار وكأنه إنسان آخر.
وقد ورد ذكر "الحليس" في خبر "الحديبية"؛ فقد ذكر الطبري أن قريشًا أوفدت "الحليس بن علقمة" أو "ابن زبان", وكان يومئذ سيد الأحابيش, وهو أحد "بلحارث بن عبد مناة بن كنانة", إلى رسول الله، فلما رآه الرسول, قال: "إن هذا من قوم يتألهون"، فلما رأى الحليس هدْيَ المسلمين في قلائده، وأحسن أن الرسول إنما جاء معتمرًا لا يريد سوءًا لقريش، قص عليهم ما رأى، فقالوا له: اجلس، فإنما أنت رجل أعرابي لا علم لك، فغضب "الحليس" عند ذلك وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أن تصدوا عن بيت الله من جاء معظمًا له، والذي نفس الحليس بيده, لتخلُّن بين محمد وبين ما جاء له, أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد! فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نوصي به3.
وقد ساهم "الأحابيش" في الدفاع عن مكة عام الفتح، وكانوا قد تجمعوا مع "بني بكر" و"بني الحارث بن عبد مناة" ومن كان من الأحابيش أسفل مكة, كما أمرتهم قريش بذلك. فأمر رسول الله خالد بن الوليد أن يسير إليهم، فقاتلهم حتى هزموا, ولم يكن بمكة قتال غير ذلك4. ولم يذكر "الطبري" اسم سيد الأحابيش في هذا اليوم.
ويتبين من دراسة أخبار أهل الأخبار عن الأحابيش، ومن نقدها وغربلتها، أن الأحابيش كانوا جماعة قائمة بذاتها، مستقلة في إدارة شئونها، يدبر أمورها رؤساء منهم، يعرف أحدهم بـ"سيد الأحابيش". وقد ذكرت أسماء
__________
1 الطبري "2/ 512", "غزوة أحد".
2 الطبري "2/ 527", "غزوة أحد".
3 الطبري "2/ 627 وما بعدها", "الحديبية".
4 الطبري "3/ 56"، "فتح مكة".(7/34)
بعض منهم قبل قليل. وقد عاشوا عيشة أعرابية، خارج مكة على ما يظهر من الروايات, وذلك بدليل قول قريش للحليس: "اجلس، فإنما أنت رجل أعرابي، لا علم لك"1, أي: إنهم كانوا أعرابا ويعيشون عيشة أعرابية. ويظهر من هذه الأخبار أيضا أن "الحليس" "سيد الأحابيش"، كان من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"، وأن "ابن الدغنة" كان من "بني سليم". ولم ينص أهل الأخبار فيما إذا كانا عربيين صريحين أو أنهما كانا من "بني الحارث" ومن "بني سليم" بالولاء، فنسبهما إلى القبيلتين، هو نسب ولاء.
ويظهر من خبر "الحديبية" ومن قول النبي لما رأى "الحليس" قادمًا إليه: "إن هذا من قوم يتألهون" , أن الأحابيش لم يكونوا على دين مكة أي: من عباد الأصنام, بل كانوا مؤلهة، يدينون بوجود إله. وقد يشير الرسول بذلك إلى أنهم كانوا نصارى، أخذوا نصرانيتهم من الحبش؛ ولذلك كانوا من المؤلهة بالنسبة لقريش. وأنا لا أستبعد أيضا أن تكون تلك التسمية قد غلبت على هؤلاء؛ لأنهم كانوا من الساحل الإفريقي المقابل لجزيرة العرب. جاءوا إليها بالفتوح وبالنخاسة، وأقاموا في تهامة إلى مكة، وعاشوا عيشة أعرابية متبدية، وتحالفوا مع القبائل العربية المذكورة، وتخلقوا بأخلاق عربية حتى صاروا أعرابًا في كل شيء. وقد لازمتهم التسمية التي تشير إلى أصلهم، وإنما تحالفوا مع "بني الحارث" وبقية المذكورين، عرف حلفهم بـ"حلف الأحابيش"، ثم عرف المتحالفون بـ"الأحابيش". وقد نسي الأصل وهو الأحابيش, أي: اسم الحبش الذين تحالفوا مع "بني الحارث" و"عضل" و"الديش" و"المصطلق" و"الحيا"؛ لسبب لا نعرفه, قد يكون بسبب كونهم عبيدًا سودًا، وأطلق الحلف على المذكورين. غير أن روايات أهل الأخبار تشير إلى كثير من الأحابيش في مثل قولها: "وخرجت قريش بأحابيشها" إلى أن الأحابيش المذكورين كانوا في حكم قريش, أي: جماعة من الحبش من أهل إفريقيا, كانت كما ذكرت تكوّن وحدة قائمة بذاتها، ولكنها تدين بولائها لقريش، ولها حلف مع بعض كنانة ومع قبائل أخرى. ولما كان عام الفتح أمرتها قريش بالتعاون مع "بني بكر" و"بني الحارث بن عبد مناة"؛ للدفاع عن مكة من جهة الجنوب, فامتثلت لأمر قريش، وأخذت مواضعها هنالك، حتى زلزلها "خالد بن الوليد".
__________
1 الطبري "2/ 627", "الحديبية".(7/35)
وقد منح "لامانس" الأحابيش درجة مهمة في الدفاع عن قريش, حتى زعم أن قريشا ركنت إليهم في دفاعهم عن مكة، وعهدت إليهم دورا خطيرا في حروبها مع الرسول. وقد استند في رأيه هذا إلى ما رواه أهل الأخبار من اشتراكهم مع قريش في تلك الحروب، غير أننا نجد من دراسة أخبار الحروب المذكورة، أن الأحابيش وإن ساهموا فيها، إلا أنهم لم يلعبوا دورا خطيرا فيها, وأنهم لم يكونوا في تلك الحروب سوى فرقة من الفرق التي ساعدت قريشًا، مقابل مال ورزق ووعود. ولم يكن الأحباش وحدهم قد ساعدوا أهل مكة في حروبهم مع غيرهم, فقد ساعدهم أيضا طوئف من الأعراب أي: من البدو الفقراء الذين كانوا يقاتلون ويؤدون مختلف الخدمات في سبيل الحصول على خبز يعيشون عليه.
وقريش جماعة استقرت وتحضرت، واشتغلت بالتجارة، وحصلت منها على غنائم طيبة. ومن طبع التاجر الابتعاد عن الخصومات والمعارك والحروب؛ لأن التجارة لا يمكن أن تزدهر وتثمر إلا في محيط هادئ مستقر. لذلك، صار من سياستها استرضاء الأعراب وعقد "حبال" مع ساداتهم؛ لتأمين جانبهم، ليسمحوا لقوافلها بالمرور بسلام. كما صار من اللازم عليها عقد أحلاف مع المجاورين لهم من الأعراب مثل "قريش الظواهر" و"الأحابيش" وأمثالهم للاستعانة بهم في الدفاع عن مكة والاشتراك معهم في حروبهم التي قد يجبرون على خوضها مع غيرهم. بالإضافة إلى عبيدهم "الحبش" الذين اشتروهم لتمشية أمورهم, وليكونوا حرسًا وقوة أمن لهم.
ولم تكن قريش تعتمد على القوة في تمشية مصالحها التجارية، بقدر اعتمادها على سياسة الحلم واللين والقول المعسول والكلام المرضي في الوصول إلى غايتها, وأهدافها ومصالحها التجارية. وبهذه السياسة: سياسة اللين والمفاوضة والمسالمة, كانت تبدأ بحل ما يقع لها من صعوبات مع الناس. ولم يكن من السهل عليها في الواقع إرضاء الأعراب وإسكاتهم لولا هذه السياسة الحكيمة التي اختاروها لأنفسهم, وهي سياسة أكثر سكان القرى العامرة الواقعة في البوادي بين أعراب جائعين، سياسة الاسترضاء بالحكمة واللسان الجميل, وأداء المال رشوة لهم بأقل مقدار ممكن؛ لأن الإكثار من السخاء يثير في الأعرابي شهوة طلب المزيد, وشهوته هذه متى ظهرت، فسوف لا تنتهي عند حد. وأهل مكة بخبرتهم الطويلة في تجولهم بمختلف أنحاء جزيرة العرب أعرف من غيرهم بنفسية الأعراب.(7/36)
وكان لأشرافها أحلاف مع سادات القبائل، تحالفوا معهم لتمشية مصالحهم ولحماية تجارتهم, فكان "زرارة" التميمي مثلًا حليفًا لـ"بني عبد الدار", وكان عامر بن هاشم بن عبد مناف قد تزوج "بنت النباش بن زرارة", وأولد منها "عكرمة بن عامر بن هاشم" الشاعر, و"بغيض بن عامر" الذي كتب الصحيفة على "بني هاشم" في أمر مقاطعة قريش لبني هاشم1.
وقد عيرت قريش بأنها لا تحسن القتال, وأنها تجاري وتساير من غلب, وأنها لا تخرج إلا بخفارة خفير, وبحلف حليف، وبحبل من هذه الحبال التي عقدتها مع سادات القبائل. فلما سمع "النعمان بن قبيصة بن حيَّة الطائي" ابن عم "قبيصة بن إياس بن حية الطائي" صاحب الحيرة, بـ"سعد بن أبي وقاص"، سأل عنه، فقيل: "رجل من قريش، فقال: أما إذا كان قرشيًّا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال. إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيرًا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير"2. ونجد أمثلة أخرى من هذا القبيل تشير إلى ميل قريش إلى السلم، وعدم قدرتها على القتال.
وذكر الإخباريون أنه كان لكنانة جملة أولاد، ذكر ابن الكلبي منهم: النضر، والنضير، ومالكًا, وملكان، وعامرًا وعمرًا، والحارث، وعروان "غزوان"، وسعدًا، وعوفًا، وغنمًا، ومخرمة، وجرولًا, وهم من زوجته "برة بنت مرّ" أخت "تميم بن مرّ"؛ ولهذا رأى النسابون وجود صلة بين أبناء هؤلاء الأولاد وقبيلة "تميم". وأما "عبد مناة"، فإنه ابن كنانة من زوجته الأخرى، وهي "الذفراء بنت هانئ بن بليّ" من قضاعة؛ ولذلك عد أبناؤه من قضاعة.
ويذكر أهل الأخبار أن من أجداد "قصي"، رجلًا كانت له منزلة في قومه اسمه "كعب بن لؤي", كان يخطب للناس في الحج، وكان رئيسًا في "قريش", فلما توفي أرخت قريش بموته إعظامًا له، إلى أن كان عام الفيل فأرخوا به3. وذكر بعض أهل الأخبار أن أم "كعب" هي من "القين بن
__________
1 نسب قريش "254".
2 الطبري "3/ 572 وما بعدها", "دار المعارف".
3 البلاذري, أنساب "1/ 41".(7/37)
جسر" من قضاعة، وأن كعبًا هذا أول من سمى يوم الجمعة الجمعة, وكانت العرب تسمي يوم الجمعة: العروبة, وأول من قال: "أما بعد"، فكان يقول: "أما بعد، فاستمعوا وافهموا", وأن بين موته والفيل خمسمائة سنة وعشرين سنة1.
وفي قول أهل الأخبار عن وقت موت كعب مبالغة شديدة بالطبع، فإن كعبًا هو والد "مرة" و"مرة" هو والد "كلاب" و"كلاب" هو والد "قصي". فلا يعقل إذن أن يكون بين موت "كعب" وبين الفيل هذا المقدار من السنين.
وهم يذكرون أيضا أن والد "قصي" وهو "كلاب" كان قد نزوج "فاطمة بنت سعد بن سيل", فأنجبت له "قصيا". وهي من الأزد, من نسل "عامر الجادر", وقد عرف بـ"الجادر" لأنه بنى جدار الكعبة بعد أن وهن من سيل أتى في أيام ولاية جرهم البيت، فسمي الجادر. وذكر أيضا أن الحاج كانوا يتمسحون بالكعبة، ويأخذون من طيبها وحجارتها تبركًا بذلك، وأن عامرا هذا كان موكلا بإصلاح ما شعت من جدرها فسمي الجادر. وذكر أن "سعد بن سيل" كان أول من حلَّى السيوف بالفضة والذهب, وكان أهدى2 إلى "كلاب" مع ابنته "فاطمة" سيفين محليين, فجعلا في خزانة الكعبة. وذكر أن "كلابًا" هو أول من جعل في الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة ذخيرة للكعبة3. وجاء أيضا أنه أول من جدر الكعبة4.
و"قصي" رئيس قريش، هو الذي ثبت الملك في عقبه، ونظم شئون المدينة، وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حين شعر بدنو أجله. فلما أشرق الإسلام، كانت أمور مكة في يد قريش، ولم يكن لغير قريش نفوذ يذكر على مكة. فهو الذي بعث الحياة إلى قومه من قريش، وجعل لهم مكانة في هذه القرية ونفوذًا وشهرة في الحجاز، وهو الذي أوجد لمكة مكانة، وخلق
__________
1 نهاية الأرب "16/ 18".
2 البلاذري، أنساب "1/ 48", "كلاب", الدميري، حياة الحيوان "2/ 278".
3 نهاية الأرب "16/ 19".
4 نسب قريش، للزبيري "ص14".(7/38)
لها نوعًا من التنظيم والإدارة. ومن عهده فما بعد, نجد في أخبار مكة ما يمكن أن يركن ويطمأن إليه من أخبار.
وقد روى "ابن قتيبة" خبرًا مفاده: أن "قيصر" أعان "قصيًّا" على "خزاعة"1. وإذا صح هذا الخبر، فإن مساعدة "قيصر" له قد تكون عن طريق معاونة الغساسنة له، وهم حلفاء الروم. وقد تكون قبيلة "بني عذرة" وهي من القبائل المتنصرة التي عاشت على مقربة من حدود بلاد الشام، هي التي توسطت فيما بين قصي والروم, وقد كانت خاضعة لنفوذهم، فأعانه أحد الحكام الروم -وقد يكون من ضباط الحدود، أو من حكام المقاطعات الجنوبية, مثل "بصري" بأن أمده بمساعدة مالية أو بإيعاز منه إلى الأعراب المحالفين للروم بمساعدته في التغلب على خزاعة2. ولا أهمية كبيرة في هذا الخبر لكلمة "قيصر", فقد جرت عادة أهل الأخبار على الإسراف في استعمالهم لهذه اللفظة. وقد ورثوا هذا الإسراف من الجاهليين، فقد كان من عادتهم تسمية أي موظف بارز من موظفي الحدود الروم, أو من حكام المقاطعات بـ" قيصر". وفي روايات أهل الأخبار أمثلة عديدة من هذا القبيل.
ويذكر أن "عثمان بن الحويرث"، وكان من الهجائين في قريش ومن العالمين بأخبار رجالها، قد توسط فيما بعد لدى البيزنطيين لتنصيب نفسه ملكًا على مكة، وهو من "بني أسد بن عبد العزى". ويظهر أنه أدرك المرارة التي أصيب بها البيزنطيون من خروج الحبش عن اليمن ومن دخول الفرس إليها, وسيطرتهم بذلك على باب المندب، ومفتاح البحر الأحمر، فتقرب إلى الروم وتوسل إليهم لمساعدته بكل ما عندهم من وسائل لتنصيب نفسه ملكًا على مكة, علمًا منه أن هذا الطلب سيجد قبولًا لديهم، وأن في إمكانهم في حالة عدم رغبتهم بمساعدته مساعدة عسكرية أو مالية, الضغط على سادات مكة ضغطًا اقتصاديًّا، بعرقلة تجارتهم مع بلاد الشام، أو بمنع الاتجار مع مكة، أو برفع مقدار الضرائب التي تؤخذ عن تجارتهم، وبذلك يوافقون على الاعتراف به ملكًا
__________
1 المعارف "ص640", "وأعانه قيصر عليها",
Lammens, Macque, p. 269.
2 W. M. Watt, Muhammad at Mecca, p. 13.(7/39)
عليه، على نحو ما كان عليه الملوك الغساسنة, وكما سأتحدث عن هذا الموضوع فيما بعد.
والظاهر أن مشروعه هذا لم يلاقِ نجاحًا؛ لأن سادات مكة وفي جملتهم رجال من "بني أسد بن عبد العزى"، مثل "الأسود بن المطلب" و"أبي زمعة"، والأثرياء من الأسرة الأخرى عارضوه؛ لأنهم كانوا تجارًا يتاجرون مع الفرس والروم، وانحيازهم إلى الروم معناه خروج مكة عن سياسة الحياد التي اتبعوها تجاه المعسكرين: الفرس والروم، وسيؤدي هذا الانحياز إلى عرقلة اتجارهم مع الفرس ومع الأرضين الخاضعة لنفوذهم, وتؤدي هذه العرقلة إلى خسارة فادحة تقع بتجارتهم، لا سيما وأن الفرس كانوا قد استولوا على اليمن, ولأهل مكة تجارة واسعة معها. ثم إن بين أهل مكة رجالًا لهم شأن ومكانة في قومهم، وكانوا أرفع منزلة من "عثمان بن الحويرث"؛ لذلك لم يكن من الممكن بالنسبة لهم الانصياع له, حتى وإن أرسل الروم جيشًا قويًّا منظمًا على مكة؛ لذلك لم يتحقق حلم "عثمان" في الرياسة ولو بمساعدة قوات أجنبية.
وزعم بعض أهل الأخبار أن "الحارث بن ظالم المري"، ذكر "آل قصي" في شعره، ودعاهم بـ"قرابين الإله", إذ قال:
وإن تعصب بهم نسبي فمنهم ... قرابين الإله بنو قصيّ1
وهو في عرف بعض النسابين: "قصي بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن فهر"2, و"قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضَر بن نزار بن معد بن عدنان"، في شجرة نسبه التي توصله إلى جده الأعلى "عدنان"3. فأبوه هو كلاب, أما أمه فهي "فاطمة بنت سعد بن
__________
1 الثعالبي، ثمار "16".
2 ابن الأثير، الكامل "2/ 7 وما بعدها", المعارف "70، 117، 120، 130"، ابن سعد، طبقات "1/ 68".
3 الطبري "2/ 661 وما بعدها", "دار المعارف بمصر", مروج "2/ 164", "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد", الذهبي، تأريخ الإسلام "1/ 18", أبو الفداء، المختصر "1/ 112".(7/40)
سيل بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر بن عمرو بن جعثمة بن يشكر" من أزد شنوءة حلفاء في "بني الدِّيل"1. توفي أبوه وهو صغير، وتزوجت أمه بعد وفاة "كلاب" أبيه من رجل من بني عذرة، هو ربيعة بن حرام. ولصغر سن قصي، أخذته أمه معها إلى أرض زوجها في بني عذرة، على مقربة من تبوك، وتركت أخاه الأكبر "زهرة" في أهله بمكة. ولما شب قصي وترعرع، وعرف من أمه أصله وعشيرته، رجع إلى قومه، فنزل بمكة وأقام بها, ونظم أمر قريش2.
ولم يكن اسم قصي قصيًّا يوم سُمي، بل كان "زيدًا" وإنما سمي قصيا بعد ذلك، سمي قصيا على ما يذكر أهل الأخبار؛ لأنه قصيٌّ عن قومه، فكان في بني عذرة، فسمي قصيا لبعد داره عن دار قومه3. وبينا قصي بأرض قضاعة لا ينتمي إلا إلى ربيعة بن حرام, زوج أمه، وهو من أشراف قومه، إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء، فأنبه القضاعي بالغربة, فرجع قصي إلى أمه, وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي, فسألها عما قال له ذلك الرجل، فقالت له: أنت، والله، يا بني أكرم منه نفسًا وولدًا. فأجمع قصي الخروج إلى قومه واللحوق بهم، فقالت له أمه: يا بني, لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فتخرج في حاج العرب، فإنني أخشى عليك أن يصيبك بعض البأس، فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام، خرج حاج قضاعة، فخرج فيهم حتى قدم مكة فلما فرغ من الحج، أقام بها واتخذها له مستقرًّا ومقامًا4.
وتعرف قصي وهو بمكة على "حليل بن حبشية الخزاعي" وكان يلي الكعبة وأمر مكة، ثم خطب إليه ابنته، وهي "حبى" فزوجه إياها، وولدت
__________
1 الطبري "2/ 254", "دار المعارف بمصر", "وسيل: هو خير بن حمالة, من الجدرة من أزد شنوءة", المحبر "52".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 66 وما بعدها".
3 واسمه "زيد" وكنيته "أبو المغيرة", ابن الأثير, الكامل "2/ 7 وما بعدها", "فاطمة بنت سيل بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر", الاشتقاق "13, 25", الطبري "2/ 255", "دار المعارف بمصر", الأزرقي، أخبار مكة "1/ 57" السويدي، سبائك "67".
4 الطبري "2/ 255", "دار المعارف بمصر", نهاية الأرب "16/ 20 وما بعدها".(7/41)
له ولده: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزَّى، وعبد قصي. وكثر ماله، وعظم شرفه، فلما توفي "حليل" رأى قصي أنه أولى من خزاعة بولاية البيت, وأن قريشًا فرعة إسماعيل وإبراهيم، واستنفر رجال قريش، ودعاهم إلى إخراج خزاعة من مكة. وكتب إلى أخيه من أمه، وهو "رزاح بن ربيعة بن حرام العذري" يستنصره، فأجابه ومعه قومه من بني عذرة من قضاعة، ووصلوا مكة ونصروه؛ وغلبت قضاعة وبنو النضر خزاعة، وزال ملكهم عن مكة, وصار الأمر إلى قصي وقريش1.
وفي رواية أنه اشترى ولاية البيت من "أبي غَبْشان" بزق خمر وبعود. وكان "حليل" كما يقول أصحاب هذه الرواية قد جعل ولاية البيت إلى ابنته "حُبى", فقالت: قد علمت أني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه, قال: فإني أجعل الفتح والإغلاق إلى رجل يقوم لك به، فجعله إلى "أبي غبشان", وهو "سليم بن عمرو بن بويّ بن ملكان بن أفصى", فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وبعود. فلما سمعت خزاعة ذلك، تجمعت على قصي، فاستنصر أخاه، فقاتل خزاعة وأصيب خزاعة بوباء العدسة، حتى كادت تفنيهم, فلما رأت ذلك، جلت عن مكة. ويذكرون أن العرب لما سمعت بقصة "أبي غبشان" قالت: "أخسر صفقة من أبي غبشان", فذهب القول مثلًا2.
وأبو غبشان، هو "المحترش"3, وقد ورد اسم رجل عرف بالحارث, قيل عنه: إنه غبشان بن عبد عمرو, وإنه كان قد حجب البيت4, فلعل له علاقة بأبي غبشان المذكور، كأن يكون ابنه.
وفي رواية: أن القتال حينما اشتدَّ بين قصي وخزاعة، تداعوا إلى الصلح؛ على
__________
1 الطبري "2/ 255 وما بعدها", ابن الأثير "2/ 7 وما بعدها", الأزرقي "1/ 55 وما بعدها", "طبعة الماجدية", "65 وما بعدها", "طبعة وستنفلد", ابن سعد، الطبقات "1/ 68", "صادر", البلاذري, أنساب "1/ 47 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 256" "دار المعارف بمصر", ابن الأثير، الكامل "2/ 8", السويدي, سبائك "67", المسعودي, مروج "2/ 58 وما بعدها".
3 الاشتقاق "ص277".
4 الاشتقاق "ص282".(7/42)
أن يحكم بينهم "عمرو بن عوف بن كعب بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة" "يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث" فوافق. فكان حكمه أن قصيًّا أولى بالبيت ومكة من خزاعة, وأن كل دمٍ أصابه من خزاعة موضوع، فيشدخه تحت قدميه، وأن كل دمٍ أصابت خزاعة وبنو بكر حلفاؤهم من قريش وبني كنانة، ففي ذلك الدية مؤداة؛ وبذلك انتصر قصي على خصومه. ويقولون: إن "عمرًا" سمي منذ الحين الشداخ، بما شدخ من الدماء1.
ولم يشر بعض أهل الأخبار إلى أن شدخ الشداخ الدماء بين قريش وخزاعة كان في عهد قصي، فأغفلوا اسم "قصي", بل اكتفوا بالإشارة إلى شدخه الدماء وإصلاح ما بين قريش وخزاعة، وذكر بعضهم أنه حكم في جملة ما حكم به, على ألا يخرج خزاعة من مكة2. وأكثر الرواة على أن اسمه "يعمر بن عوف"، لا "عمرو بن عوف" كما جاء في الرواية المتقدمة3.
ولم تشر رواية أخرى ذكرها "ابن دريد" إلى وقوع نزاع بين قصي وبين خزاعة، بل قالت: إن حليلًا سادن الكعبة، كان قد أوصى إليها أمر الكعبة وأعطاها مفتاحها، فأعطته زوجها قصيًّا، فتحولت الحجابة من خزاعة إلى بني قصي4.
وترجع بعض الروايات نزاع خزاعة مع قصي إلى عامل آخر غير ولاية البيت، فتذكر أن خزاعة كانت قد سلمت لقصي بحقه في ولاية البيت، وأنها زعمت أن "حليلًا" أوصى بذلك قصيًّا، وبقيت على ولائها له، إلى أن اختلف "قصي" مع "صوفة". وكانت "صوفة" وهي من "جرهم" تتولى أمر الإجازة
__________
1 ابن الأثير "2/ 8", "الشداخ: وهو يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر", المحبر "ص133"، "يعمر بن عوف", ابن سعد، الطبقات "1/ 69", "صادر", نهاية الأرب "16/ 38".
2 المحبر "ص133 وما بعدها".
3 المحبر "ص133", الاشتقاق "ص106", سيرة ابن هشام "1/ 79 وما بعدها", الطبري "1097" "طبعة ليدن", "2/ 258", "طبعة دار المعارف بمصر".
4 الاشتقاق "ص276".(7/43)
بالناس من عَرَفَة, فتجيزهم إذا نفروا من "مِنى", تولت ذلك من عهد جرهم وخزاعة. فلما كان قصي, أتاهم مع قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقالوا: نحن أولى بهذا منكم، فناكروه فناكرهم، فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك، وحال بينهم وبينه، فانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي بن كلاب، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، فوقع من ثَمَّ ما وقع على نحو ما مر1.
غير أن الرواة يذكرون في مكان آخر أن قصيا أقر للعرب في شأن حجهم ما كانوا عليه، وذلك أنه كان يراه دينًا في نفسه، لا ينبغي له تغييره، وكانت صوفة على ما كانت عليه، حتى انقرضت, فصار ذلك من أمرهم إلى "آل صفوان بن الحارث بن شجنة" وراثةً2. فهذه الرواية تنافي ما ذكرته آنفًا من قولهم بقتال قصي لهم, وغلبته عليهم. وبقي أمر "عدوان" والنسأة، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام، فهدم به ذلك كله3.
ويذكر الإخباريون أن قصيًّا بعد أن تمت له الغلبة، جمع قومه من الشعاب والأودية والجبال إلى مكة، فسُمِّي لذلك مجمّعًا، وأنه حكم منذ ذلك الحين فيهم، وملك عليهم، فكان قصي أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكًا، وأطاعه قومه به، وأنه قسم مكة أرباعا بين قومه، فبنوا المساكن، وأن قريشًا هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده, وأعانوه, وأنها تيمنت به, فكانت لا تعقد أمرًا، ولا تفعل فعلًا إلا في داره، فما تنكح امرأة ولا رجل من قريش إلا في دار قصي، وما يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقدها لهم بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره، يشق عليها فيها درعها ثم تدرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها، فكان أمره في قومه من قريش في حياته وبعد موته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره تيمنًا بأمره ومعرفة
__________
1 الطبري "2/ 257 وما بعدها", ابن سعد, الطبقات "1/ 68".
2 الطبري "2/ 259".
3 نهاية الأرب "16/ 29".(7/44)
بفضله وشرفه، واتخذ قصي لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها1.
ويذكر الإخباريون أيضا، أن قريشا كانوا إذا أرادوا إرسال عيرهم، فلا تخرج ولا يرحلون بها إلا من دار الندوة, ولا يقدمون إلا نزلوا فيها تشريفًا له وتيمنًا برأيه ومعرفةً بفضله، ولا يعذر لهم غلام إلا في دار الندوة. وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة وحكم مكة، وكان يعشر من دخل مكة سوى أهلها2.
وقد وردت في الشعر لفظة "مجمع":
أبونا قصي كان يدعى مجمعًا ... به جمع الله القبائل من فهرِ3
فيظهر من هذا البيت أنه جمع قبائل فهر، ووحَّدها.
ويذكر الرواة أن "بني بكر بن عبد مناة" صاروا يبغضون قريشا لما كان من "قصي" حين أخرجهم من مكة مع من أخرج من خزاعة, حين قسمها رباعًا وخططًا بين قريش. فلما كانوا على عهد "المطلب"، وهموا بإخراج قريش من الحرم وأن يقاتلوهم حتى يغلبوهم عليه، وعدت "بنو بكر" على نعم لبني الهون فأطردوها، ثم جمعوا جموعهم وجمعت قريش واستعدت, وعقد المطلب الحلف بين قريش والأحابيش، فلقوا بني بكر ومن انضم إليهم وعلى الناس "المطلب"، فاقتتلوا بـ"ذات نكيف", فانهزم بنو بكر، وقتلوا قتلًا ذريعًا، فلم يعودوا لحرب قريش.
وقتل يومئذٍ "عبيد بن السفاح القاري" من القارة, قتادة بن قيس أخا
__________
1 الطبري "2/ 258 وما بعدها", ابن الأثير، الكامل "2/ 13 وما بعدها", ابن هشام, سيرة "2/ 124 وما بعدها", "طبعة مصطفى البابي", البلاذري, أنساب "1/ 52".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 70".
3 الاشتقاق "97"، وفي رواية "أبوكم قصي"، الطبري "2/ 16" "الاستقامة", اليعقوبي "1/ 210"، المقدسي، البدء والتأريخ "4/ 109", ابن سعد, طبقات "1/ 71" "بيروت", السويدي، سبائك "76", البلاذري, أنساب "1/ 50".(7/45)
" بلعاء بن قيس", والقارة من ولد "الهون بن خزيمة"1.
ويظهر من هذه الروايات أن أرض حرم مكة كانت مشجرة، وأن تلك الأشجار كانت مقدسة، وأن بعض بيوت مكة كانت ذات أشجار, ويظهر أنها انتزعت من أرض الحرم؛ ولذلك كانوا يهابون قطعها ولا يتجاسرون على إلحاق سوء بها. فلما جاء قصي، خالف عقيدة القوم فيها، فقطعها, ولما وجد أهل مكة أن قطعها لم يلحق أي سوء بقصي، وأنه بقي سالمًا معافًى، تجاسروا هم وفعلوا فعله في قطع الشجر2.
وذكر العلماء: أن "الحرم"، أي: حرم مكة، ما أطاف بمكة من جوانبها، وحدُّه من طريق المدينة دون "التنعيم" عند بيوت "بني نفار" على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق على ثنيَّة جبل بالمنقطع على سبعة أميال، ومن طريق الجِعرانة بشِعْب "آل عبد الله بن خالد" على تسعة أميال، ومن طريق الطائف على عرفة من بطن "نمرة" على سبعة أميال، ومن طريق "جُدَّة" منقطع العشائر, على عشرة أميال3.
والحرم المذكور، هو الأرض الحرام التي كانت مقدسة عند الجاهليين أيضا, وهي مكة وأطرافها إلى حدودها التي اصطلح عليها. وأما الحرم الذي أحاط بالكعبة فقد عرف بـ"المسجد" وبـ"المسجد الحرام" وبـ"الحرم". ولا نعرف حدوده في الجاهلية على وجه واضح معلوم. وقد كان الجاهليون قد وضعوا أنصابًا على الحدود ليعلم الناس مكان الحرم، ولم يكن له جدار محيط به. وذكر أنه كان في عهد الرسول وأبي بكر فناء حول الكعبة للطائفين، ولم يكن له على عهدهما جدار يحيط به. فلما استخلف "عمر" وكثر الناس، وسع المسجد، واشترى دورًا هدمها وزادها فيه، واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه، فكان عمر أول من اتخذ جدارا للمسجد.
__________
1 البلاذري, أنساب "1/ 75 وما بعدها", المحبر "646", نهاية الأرب "16/ 35 وما بعدها".
2 البلاذري, أنساب "1/ 58", ابن سعد، طبقات "1/ 71", "صادر", السيرة الحلبية "1/ 14"، اليعقوبي "1/ 210".
3 الأحكام السلطانية "164 وما بعدها".(7/46)
ثم وسَّع المسجد "عثمان" ومن جاء بعده، ثم صار كل من ولي من الخلفاء والسلاطين يزيد في اتساع الحي، حتى صار على ما هو عليه الآن1.
ودار الندوة إذن هي دار مشورة في أمور السلم والحرب، ومجلس المدينة التي عرف رؤساؤها كيف يحصلون على الثروة كيف يستعيضون عن فقر أرضهم بتجارة تدرُّ عليهم أرباحًا عظيمة وبخدمة يقدمونها إلى عابدي الأصنام، جاءت إليهم بأموال وافرة من الحجيج. في هذه الدار يجتمع الرؤساء وأعيان البلاد للتشاور في الأمور والبتِّ فيها. وفي هذه الدار أيضا تجري عقود الزواج، وتعقد المعاملات, فهي دار مشورة ودار حكومة في آنٍ واحدٍ, يديرها "الملأ"، وهم مثل أعضاء مجلس الشيوخ "أثينا" الذين كانوا يجتمعون في "المجلس" "Ekklesia" للنظر في الأمور2. يمثلون زعماء الأسر، ورؤساء الأحياء, وأصحاب الرأي والمشورة للبت فيما يعرض عليهم من مشكلات3.
وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن دار الندوة لم يكن يدخلها إلا ابن أربعين أو ما زاد، فدخلها أبو جهل وهو ابن ثلاثين؛ لجودة رأيه4, ودخلها غيره للسبب نفسه. فيظهر من ذلك أن المراد من دخول الدار، هو حضورها للإسهام في إبداء رأي وتقديم مشورة.
ولما كانت سن الأربعين في نظر العرب هي سن النضج والكمال، أخذوا بمبدأ تحديده باعتباره الحد الأصغر لسن من يسمح له بالاشتراك في الاجتماعات وإبداء الرأي، إلا إذا وجدوا في رجل أصغر سنًّا جودة في الرأي, وحدة في الذكاء, فيسمح له عندئذٍ بالاشتراك وبإبداء الرأي بصورة خاصة.
وذكر أيضا، أنه لم يكن يدخل دار الندوة أحد من قريش لمشورة حتى يبلغ أربعين سنة، إلا حكيم بن حزام، فإنه دخلها وهو ابن خمس عشرة سنة. وكان ولد في الكعبة، وذلك أن أمه دخلت الكعبة مع نسوة من قريش وهي حامل به، فضربها المخاض في الكعبة، وأعجلها عن الخروج، فوضعت به بها، وجاء
__________
1 الأحكام السلطانية "162", نزهة الجليس "1/ 24".
2 Watt, p. 9.
3 Oleary, p. 183.
4 الاشتقاق "ص97".(7/47)
الإسلام ودار الندوة بيد حكيم، فباعها بعد من معاوية بمائة ألف درهم1.
فدار الندوة إذن، هي دار "ملأ" مكة, وهم سادتها ووجوهها وأشرافها وأولو الأمر فيها, ولم تكن "برلمانًا" أو "مجلس شيوخ" على النحو المفهوم من اللفظتين في المصطلح السياسي, وإنما كانت دار "أولي المشورة" و"الرأي", تتخذ رأيًا عند ظهور حاجة أو أخذ "الرأي", وعند وجوب حصول زعماء الملأ على قرار في أمر مهم. ولم تكن قراراتها ملزمة، بل قد يخالفها سيد ذو رأي ومكانة، فينفرد برأيه, ولا يحصل الإجماع إلا باتفاق, والغالب ألا يحصل هذا الاتفاق. ويتوقف تنفيذ رأي "الملأ" على شخصية المقررين وعلى كفاءتهم وعلى ما يتخذونه من إجراء بحق المخالفين المعاندين من مقاطعة ومن مساومة ومن إقناع. والغالب أن الملأ لا يتخذون رأيًا إلا بعد دراسة وتفكير, ومفاوضات يراعى فيها جانب المروءة والحلم والمرونة، حتى لا يقع في البلد انشقاق قد يعرِّض الأمن إلى الاهتزاز.
وربما قام وجوه "الشعب" وهم سادة الأسر, بدور هو أكثر فعاليةً من دور "دار الندوة" في فضِّ الخصومات. والعادة عندهم أن الخصومات الداخلية للأسر, تفض داخل الأسرة؛ لأن "آل" الأسرة أقدر على حل خلافاتهم من تدخل غيرهم في شئونهم، ثم إنهم لا يقبلون بتدخل غريب عن الأسرة في شأن من شئون تلك الأسرة؛ لذلك كان "الملأ" لا ينظرون إلا في الأمور التي هي فوق مستوى الأسر و"الشعاب", والتي تخص أمور المدينة كلها، والتي قد تعرض أمنها إلى الخطر، أو التي يتوقف على قراراتهم بصددها مستقبل المدينة.
والإنسان بمكة بأسرته وبمقدرته وقابلياته وكفاءته, وقد يرفع الأشخاص من مستوى أسرهم، وقد يهبط مستوى الأسر ومكانتها بسبب هبوط مستوى رجالها وعدم ظهور رجال أغنياء أقوياء فيها. ولما كانت مكة مدينة عمل وتجارة ومال, والمال يتنقل بين الناس حسب اجتهاد الأفراد وجدهم في السعي وراءه؛ لذلك تجد من بين رجالها من يخمل ذكره بسبب خمول أولاده وتبذيرهم لما ورثوه من مال، وعدم سعيهم لإضافة مال جديد إليه، ويستتبع ذلك تنقل النفوذ من بيت إلى بيت.
فالحكم في مكة إذن حكم لا مركزي، حكم رؤساء وأصحاب جاه ونفوذ ومنزلة
__________
1 الثعالبي، ثمار القلوب "518 وما بعدها".(7/48)
تطاع فيها الأحكام، وتنفذ الأوامر، لا لوجود حكومة قوية مركزية مهيمنة لها سلطة على أهل مكة، بل لأن الأحكام والأوامر هي أحكام ذوي الوجه والسن والرئاسة والشرف، وأحكام هؤلاء مطاعة في عرف أهل مكة وفي عرف غيرهم من أهل جزيرة العرب، حكمت بذلك العادة وجرى عليه العرف, ولا مخالفة للعرف والعادة. فالعرف قانون أهل جزيرة العرب حتى اليوم, وانتهاك أحكامهما معناه انتهاك سيادة القانون، وتمرد على الهيئة والنظام، وتحقير الحاكمين وإهانة لهم ولأتباعهم، ليس لأحد الخروج على أوامر سادات القوم وذوي الحسب والشرف والسن والعقل.
ولم تكن في مكة حكومة مركزية بالمعنى المفهوم المعروف من الحكومة، فلم يكن فيها ملك له تاج وعرش، ولا رئيس واحد يحكمها على أنه رئيس جمهورية أو رئيس مدينة، ولا مجلس رئاسة يحكم المدينة حكمًا مشتركًا أو حكمًا بالتناوب، ولا حاكم مدني عام أو حاكم عسكري. ولم يتحدث أهل الأخبار عن وجود مدير عام فيها واجبه ضبط الأمن, أو مدير له سجن يزج فيه الخارجين عن الأنظمة والقوانين أو ما شابه ذلك من وظائف نجدها في الحكومات, وكل أمرها أنها قرية تتألف من شعاب، كل شِعْب لعشيرة, وأمر كل شعب لرؤسائه، هم وحدهم أصحاب الحل والعقد والنهي والتأديب فيه. وليس في استطاعة متمرد مخالفة أحكامهم, وإلا أدبه حيه، وملؤه أي: أشرافه. هولاء الرؤساء هم الحكام الناصحون وهم عقلاء الشعب.
وقد أشير إلى رؤساء مكة في القرآن الكريم في آية: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 1. فرؤساء مكة هم علماؤها وساداتها, وهم أعلى الناس منزلة ودرجة ومكانة فيها, و"عظماء" مكة أو "عظماء الطائف" هم الطبقة "المختارة" والصفوة المتزعمة في الناس, وإليها وحدها تكون الزعامة والرئاسة والرجاحة في الرأي.
وقانون القوم ودستورهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 2. فهم محافظون حريصون على كل ما وصل إليهم، لا يريدون له تغييرا ولا تبديلا, مهما بدا لهم في الجديد من منطق وحق. {قَالَ أَوَلَوْ
__________
1 الزخرف، الآية 31.
2 الزخرف, الآية 32.(7/49)
جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 1. وفي القرآن الكريم آيات أخرى ترينا تمسك نخبة مكة ورجال الملأ بحقوقهم وبما ورثوه من عرف مكنهم من الملأ، وفي تمسكهم بها محافظة على حقوقهم الموروثة وعلى مصالحهم وعلى زعامتهم في الناس.
فملأ مكة أناس محافظون لا يقبلون تجديدًا ولا تطويرًا، سنتهم التعلق بالماضي، وكره الثورة والخروج عن العرف والعادة مهما كانت. فالعرف جرى الناس عليه, فلا خروج على العادة والعرف. أما المستهين بالعرف المخالف لسنة الآباء والأجداد، فيعاقب حتى يعود إلى رشده وصوابه. وهم باستماتتهم في التمسك بالماضي كيف كان، وبتطرفهم في المحافظة على العرف، إنما يراعون بذلك حقوقهم الموروثة ومكانتهم الاجتماعية ومصالحهم الاقتصادية، فالعرف جعلهم الطبقة الحاكمة بالتقاليد، المحافظة على مصالحها، استنادًا إلى العادات. هم يحكمون بهذا القانون الموروث غير المسجل، وعلى الناس الطاعة والانقياد. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} 2.
وقد توارث بنو عبد الدار الندوة، حتى باعها "عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار" من معاوية، فجعلها دار الإمارة بمكة، ثم أدخلت في الحرم3. وورد في رواية أخرى أن "حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسلمي" وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد، كان هو الذي باعها من معاوية وكانت بيده، باعها بمائة ألف درهم4, وكان قد اشتراها من منصور بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار5.
ودار الندوة، هي أول دار بنيت بمكة على حد قول الرواة، وكانت أشهر
__________
1 الزخرف، الآية 24.
2 البقرة، الآية 170.
3 ابن الأثير، الكامل، "2/ 14 وما بعدها", تاج العروس "10/ 362 وما بعدها", ابن سعد، طبقات "1/ 77"، "وعكرمة بن عامر بن هشام بن عبد الدار بن قصي", الأحكام السلطانية "ص164", البلاذري, أنساب "1/ 53".
4 ديوان حسان "69", "البرقوقي".
5 نسب قريش "254".(7/50)
دار بمكة وأنشرها في الناس خبرًا1, ثم تتابع الناس فبنوا من الدور ما استوطنوه. ويذكر أهل الأخبار: أن مكة لم تكن ذات منازل، وكانت قريش بعد جرهم والعمالقة ينلجعون جبالها وأوديتها ولا يخرجون من حرمها انتسابًا إلى الكعبة لاستيلائهم عليها وتخصصًا بالحرم لحلولهم فيه. ولما كان "كعب بن لؤي بن غالب" جمع قريشًا صار يخطب فيها في كل "جمعة"، وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية "عروبة" فسماه كعب "الجمعة". وبذلك ألف بين قريش حتى جاء "قصي" ففعل ما فعل2.
ولدينا خبر آخر، يذكر أنه قد كان حول الحرم شجر ذو شوك، نبت من قديم الزمن وكون غوطة، فقطعها "عبد مناف بن قصي" وهو أول من بني دارا بمكة، ولم تُبْنَ دار قبلها، بل كان بها مضارب للعرب من الشعر الأسود3.
وزعم بعض أهل الأخبار أن أهل مكة كانوا يبنون بيوتهم مدورة تعظيمًا للكعبة, وأول من بنى بيتا مربعا "حُمَيْد بن زهير" فقالت قريش: "رَبَّعَ حميد بن زهير بيتًا, إما حياةً وإما موتًا"4, و"الربع": المنزل ودار الإقامة والمحلة5, وهو أحد "بني أسد بن عبد العزى", وأن العرب تسمي كل بيت مربع كعبة، ومنه كعبة نجران6. وذُكر أيضا أن "حميد بن زبير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى" هو أول من خالف سنة قريش وخرج على عرف أهل مكة فبنى بيتًا مربعًا، وجعل له سقفًا. وفي عمله هذا قال الراجز:
اليوم يبنى لحُمَيْدٍ بيته ... إما حياته, وإما موته7
وورد في رواية أخرى، أن ثاني دار بنيت بمكة بعد دار الندوة، هي "دار
__________
1 الأحكام السلطانية "ص163 وما بعدها", البلاذري, فتوح "64".
2 الأحكام السلطانية "ص162 وما بعدها".
3 نزهة الجليس "1/ 24".
4 نهاية الأرب "1/ 313".
5 اللسان "8/ 102".
6 ابن رستة، الأعلاق النفيسة "58".
7 الثعالبي، ثمار القلوب "13", مؤرج السدوسي، حذف من نسب قريش "54", الزبير بن بكار، نسب قريش "1/ 443", Kister, p. 126.(7/51)
العجلة" وهي دار سعيد بن سعد بن سهم, وزعم "بنو سهم" أنها بنيت قبل "دار الندوة"1.
ويظهر من روايات أهل الأخبار عن بيوت مكة أن بيوتها، وهي بيوت أثريائها وساداتها، بيوت كانت مقامة بالحجر، وبها عدد من الغرف، ولها بابان متقابلان؛ باب يدخل منها الداخل وباب تقابلها يخرج منها الخارج، ولعلها بنيت على هذا الوضع ليتمكن النساء من الخروج من الباب الآخر عند وجود ضيوف في رحبة الدار عند الباب المقابلة. ومعنى هذا أن أمثال هذه الدور كانت واسعة تشرف على زقاقين. ولبعض الدور "حجر" عند باب البيت، يجلس تحته ليستظل به من أشعة الشمس، وكان منزل "خديجة" ذو حجر من هذا الطراز2.
ولو أخذنا بالرواية المتقدمة عن التغيير الذي طرأ على طراز العمارة في مكة، فإن ذلك يحملنا على القول: إنه يجب أن يكون قد حدث في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، في وقت ليس ببعيد عهد عن أيام النبي؛ لأننا نجد أن أحد أبناء "حميد" وهو عبد الله، كان قد حارب في معركة "أحد"3.
ويتبين من غربلة روايات الإخباريين المتقدمة عن مدى سعة الحرم وعن زمان بناء الدور بمكة، أن بطن مكة لم يعمر ولم تبن البيوت المستقرة فيه إلا منذ أيام "قصي". أما ما قبل ذلك، فقد كان الناس يسكنون "الظواهر": ظواهر مكة، أي أطرافها, وهي مواضع مرتفعة تكون سفوح الجبال والمرتفعات المحيطة بالمدينة. أما باطن مكة, وهو الوادي الذي فيه البيت, فقد كان حرما آمنا, لا بيوت فيه، أو أن بيوته كانت قليلة حصرت بسدنة البيت وبمن كانت له علاقة بخدمته. لذلك نبت فيه الشجر حتى غطى سطح الوادي، من السيول التي كانت تسيل إليه من الجبال، ولم يكن في وسع أحد التطاول على ذلك الشجر؛ لأنه شجر حرم آمن، وبقي هذا شأنه يغطي الوادي ويكسو وجهه بغوطة، حتى جاء "قصي", فتجاسر عليه بقطعه كما ذكرنا، وخاف الناس من فعله، خشية
__________
1 البلاذري، فتوح "64".
2 الطبري "2/ 282", "ذكر تزويج النبي".
3 Kister, p, 127.(7/52)
غضب رب البيت، ونزول الأذى بهم إن قطعوه. فلما وجدوا أن الله لم يغضب عليهم، وأنه لم ينزل سوءًا بهم، اقتفوا أثره، فقطعوا الشجر، واستحوذوا على الأرض الحرام, وظهرت البيوت فيه، وأخذت تتجه نحو البيت حتى أحاطت به، وصغرت مسجده، ولم يكن له يومئذ جدار. وظلت البيوت تتقرب إليه حتى ضايقته وصغرت فناءه، مما اضطر الخليفة "عمر" ومن جاء بعده إلى هدم البيوت التي لاصقته لتوسيع مسجده، ثم إلى بناء جدار ليحيط به حتى صار على نحو ما هو عليه في هذا اليوم.
ويتبين من خطبة الرسول عام الفتح ويوم دخوله البيت الحرام وقوله: "لا يُختلى خلا مكة, ولا يعضد شجرها" 1، أن حرم مكة كان لا يزال ذا شجر, ولم يكن قد قطع تمامًا منه في أيام الرسول.
وتذكر بعض الموارد أن قصيًّا أول من بنى الكعبة بعد بناء تبع، وكان سمكها قصيرا، فنقضه ورفعها2, وإذا صحت الرواية، يكون قصي من بناة الكعبة ومن مجدديها. وذكر أنه كان أول من جدد بناء الكعبة من قريش، وأنه سقفها بخشب الدوم وجريد النخل، وقد أشير إلى هذا البناء في شعر ينسب إلى الأعشى3. وهذه الرواية تناقض بالطبع مما يرويه الإخباريون من أن الكعبة لم تكن مسقفة، وأنها سقفت لأول مرة عندما جدد بناؤها في أيام شباب الرسول, وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة4.
والظاهر من روايات الإخباريين، أن البيت كان في الأصل بيتا مسقفا، غير أنه أصيب بكوارث عديدة، فتساقط وتساقط سقفه مرارًا بسبب السيول، وبسبب حريق أصيب به، فصار من غير سقف في أيام شباب الرسول, حتى إذا ما نقضت قريش البيت وأعادت بناءه سقفته, وزوقت جدره الداخلية والخارجية بالأصنام والصور, وأعادت إليه خزائنه حتى كان يوم الفتح، إذ أمر الرسول
__________
1 فتوح البلدان، للبلاذري "ص55".
2 الاشتقاق "97", ابن كثير، البداية والنهاية "2/ 207".
3 بلوغ الأرب "1/ 232":
حلفت بثوبي راهب الشام والتي ... بناها قصي جده وابن جرهم
لئن شبَّ نيران العداوة بيننا ... ليرتحلن منى على ظهر شيهم
الأحكام السلطانية "160".
4 الأحكام السلطانية "160", الطبري "2/ 283", "دار المعارف".(7/53)
بتحطيم الأصنام وبطمس الصور على نحو ما سأتحدث عنه في تأريخ الكعبة, وذلك في القسم الخاص بأديان الجاهليين.
وفي روايات أهل الأخبار عن البيت -كما سنرى فيما بعد حين أتكلم عنه في هذا القسم الخاص بأديان أهل الجاهلية- غموض وتناقض، يجعل من الصعب تكوين رأي واضح عنه. فبينما هو يقولون: إنه كان من غير سقف وإن الطيور كانت تقف عليه، وإن الأتربة المحملة بالأهوية كانت تتساقط في أرض البيت، نراهم يذكرون أنه كان مسقفًا، وأنه سقف بالخشب في أيام قصي وأنه احترق، ثم يقولون: إنه كان في داخله أصنام قريش، مع أن الوصف الذي يقدمونه لنا عن الكعبة من أنها "كانت ضمة فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرًا من قريش وغيرهم سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة"1, لا يمكن أن يجعل البيت سوى غرفة بسيطة ساذجة من أحجار رصت بعضها فوق بعض.
وفي رواية: أن قصيًّا هو أول من أظهر "الحجر الأسود"، وكانت "إياد" دفنته في جبال مكة، فرأتهم امرأة حين دفنوه، فلم يزل "قصي" يتلطف بتلك المرأة حتى دلته على مكانه، فأخرجه من الجبل، واستمر عند جماعة من قريش يتوارثون حتى بنت قريش الكعبة فوضعوه بركن البيت، بإزاء باب الكعبة في آخر الركن الشرقي2.
ويذكر أن قصيًّا بعد أن تمكن من مكة، حفر بها بئرًا سماها "العجول" وهي أول بئر حفرتها قريش3. وكانت قريش قبل قصي تشرب من بئر حفرها لؤي بن غالب خارج مكة تدعى "اليسيرة" ومن حياض ومصانع على رءوس الجبال, ومن بئر حفرها "مرة بن كعب" مما يلى عرفة, تدعى "الروى"، ومن آبار حفرها "كلاب بن مرة"، هي "خم" و"رم" و"الجفر"
__________
1 الطبري "2/ 283".
2 نزهة الجليس "1/ 26", البلاذري، أنساب "1/ 51", نهاية الأرب "16/ 31".
3 ابن الأثير "2/ 9", البلاذري, أنساب "1/ 51".(7/54)
بظاهر مكة1. فكانت "بئر العجول" أول بئر حفرتها قريش في مكة2.
وازدادت حاجة أهل مكة بعد قصي, وقد تزايد عددهم, إلى الماء، ولم تعد "العجول" تكفي لتموينهم به، فاقتفى أولاده أثره في حفر الآبار، واعتبروا حفرها منقبة ومحمدة؛ لما للماء من أهمية لأهل هذا الوادي الجاف. وقد حازت بئر زمزم على المقام الأول بين آبار مكة، فهي بئر البيت وبئر الحجاج, تمونهم مما يحتاجون إليه من ماء3.
وذكر أهل الأخبار أن في جملة ما أحدثه قصي في أيامه وصار سنة لأهل الجاهلية، أنه أحدث وقود النار بالمزدلفة؛ حيث وقف بها حتى يراها من دفع من عرفة، فلم تزل توقد تلك النار تلك الليلة في الجاهلية4. ويظهر أن قريشا حافظت على هذه السنة أمدًا في الإسلام, وكانت تلك النار توقد على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان5.
ويذكرون أيضا أن في جملة ما أحدثه: "الرفادة"، وهي إطعام الحجاج في أيام موسم الحج حتى يرجعوا إلى بلادهم. وقد فرضها على قريش إذ قال لهم: "يا معشر قريش, إنكم جيران الله وأهل مكة وأهل الحرم، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق بالضيافة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام الحج، حتى يصدروا عنكم". ففعلت قريش ذلك، فكانوا يخرجون في كل عام من أموالهم خرجًا, فيدفعونه إلى قصي؛ لكي يصنعه طعاما للناس أيام منى وبمكة, وقد بقيت هذه السنة في الإسلام6. وذكر أن الرفادة شيء كانت
__________
1 البلاذري، فتوح البلدان "ص60"، "المكتبة التجارية".
2 البلاذري، فتوح "60", وفيها قال بعض رُجَّاز الحجاج:
تروى على العجول ثم تنطلق ... أن قصيا قد وفى وقد صدق
بالشبع للناس وري مغتبق
البلاذري، أنساب "1/ 50", "دار المعارف".
3 البلاذري، فتوح البلدان "ص60 وما بعدها".
4 الطبري "2/ 265", ابن الأثير، البداية "2/ 207", السويدي، سبائك الذهب "119"، ابن سعد, طبقات "1/ 72" "بيروت".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 72" "صادر".
6 ابن كثير، البداية "2/ 207 وما بعدها", ابن خلدون "2/ 693" "بيروت", الطبري "2/ 19" "الاستقامة" "2/ 260" "دار المعارف", ابن سعد، الطبقات "1/ 73".(7/55)
تترافد به قريش في الجاهلية، فيستخرج فيما بينها كل إنسان مالًا بقدر طاقته وتشتري به للحاج طعامًا وزبيبًا للنبيذ، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج1.
وكانت إلى قصي أيضا: الحجابة، والسقاية, واللواء؛ فحاز شرف قريش كله2, وصار رئيسها الوحيد المطاع، الناطق باسمها, الآمر والناهي، إذ لا أحد أحكم وأعقل وأحسن إدارةً للملك منه.
وذكر أن قصيا أول من أصاب الملك من قريش بعد ولد إسماعيل، وذلك في أيام المنذر بن النعمان ملك الحيرة، وملك الفرس الساسانيين "بهرام جور"3. وقد كان حكم "بهرام جور" من سنة "420م" حتى سنة "438م"4، أي: في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد، وإذا أخذنا برواية من جعل قصيًّا من المعاصرين لهذا الملك، يكون حكم قصي إذن في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد.
وقد نسب أهل الأخبار إلى قصي أقوالا وأمثالا وحكما وجعلوه غاية في الحكمة والمنطق. ورُوي: "إن أمر قصي عند قريش دين يعملون به, ولا يخالفونه"5.
وقد ترك قصي أثرا كبيرا في أهل مكة، وعدوه المؤسس الحقيقي لكيان قريش, وكانوا يذكرون اسمه دائما بخير، وكانوا لا يطيقون سماع أحد يستهين بشأنه, فلما تطاول الشاعر "عبد الله بن الزِّبَعْرَى"، على ما جاء في بعض الروايات، وتجاوز حده بذكر قصي بسوء في شعر له، كتبه كما يقولون في أستار الكعبة، غضب بنو عبد مناف، واستعدوا عليه "بني سهم"؛ لأنه كان من "بني سهم"، فأسلموه إليهم، فضربوه وحلقوه شعره وربطوه إلى
__________
1 تاج العروس "2/ 355"، "رفد".
2 ابن الأثير، الكامل "2/ 13 وما بعدها"، الأزرقي، أخبار مكة "1/ 61", ابن كثير, البداية والنهاية "2/ 207".
3 بلوغ الأرب "1/ 247".
4 Ency.,4, p. 178.
5 أنساب الأشراف، للبلاذري "1/ 52".(7/56)
صخرة، فاستغاث قومه، فلم يغيثوه، فجعل يمدح قصيا ويسترضيهم، فأطلقه بنو عبد مناف وأكرموه، فمدحهم بأشعار كثيرة1.
ولم نعثر في نصوص المسند على اسم رجل يدعى قصيًّا، وإنما ورد في النصوص النبطية اسم علم لأشخاص, وهذا الاسم هو اسم صنم في الأصل، بدليل ورود عبد قصي. أما حديث الإخباريين عن أصله وفصله، فهو مما لا قيمة له, وقد ابتدعته مخيلتهم على الطريقة المألوفة في اختراع تفاسير لأسباب التسميات. والظاهر أن هذا الاسم من الأسماء التي كان يستعملها العرب النازلون في أعالي الحجاز، وربما في بلاد الشام.
وفي جملة النصوص النبطية التي عُثر عليها في "صلخد" اسم رجل عرف بـ"روحو بن قصيو" "روح بن قصي"، كما عثر على نص جاء فيه اسم "مليكو بن قصيو" "مالك بن قصي" وورد اسم "قصيو بن أكلبو" أي: "قصي بن كلاب". وقد تبين من هذه الكتابات أن المذكورين هم من أسرة واحدة، وقد كانوا كهانًا أو سدنةً لمعبد من معابد "صلخد"2, فقصي إذن من الأسماء الواردة عند النبط. والغريب أننا نرى بين قصي صلخد وقصي مكة اشتراكًا لا في الاسم وحده، بل في المكانة أيضا، فلقصي صلخد مكانة دينية، ولقصي مكة هذه المكانة أيضا في مكة.
ويلاحظ أن الاسم الذي زعم الإخباريون أنه اسم قصي الأصلي الذي سمي به يوم وُلِدَ بمكة، وهو "زيد"، هو أيضا اسم صنم، فقد نص أهل الأخبار على أن "زيدًا" هو صنم من أصنام العرب3.
ويذكر الإخباريون أنه كان لقصي أربعة أولاد، ورووا قولًا زعموا أنه قاله. فقد ذكروا أنه قال: "وُلد لي أربعة، فسميت اثنين بصنمي، وواحدًا بداري، وواحدًا بنفسي". وكان يقال لعبد مناف: القمر، واسمه المغيرة, وكانت أمه "حُبَّى" دفعته إلى مناف، وكان أعظم أصنام مكة، تدينًا
__________
1 ابن هشام، السيرة "1/ 143".
2 رينو ديسو: العرب في سورية قبل الإسلام، تعريب عبد الحميد الدواخلي "ص116", تأريخ العرب في الإسلام, لجواد علي "1/ 40".
3 الاشتقاق "13".(7/57)
بذلك، فغلب عليه عبد مناف1. وأولاده هم: "عبد مناف"، واسمه "المغيرة"، وعبد الله وهو "عبد الدار", و"عبد العزى"، و"عبد قصي"، و"هند" بنت قصي، تزوجها "عبد الله بن عمَّار الحضرمي"2.
ولما مات قصي، دفن بالحَجُون، وقد كانوا يزورون قبره ويعظمونه3. والحجون جبل بأعلى مكة كان أهل مكة يدفنون موتاهم فيه4, فعليه مقبرة جاهلية من مقابر مكة القديمة, وقد ذكر في شعر جاهلي5.
وقد أنكر بعض المستشرقين وجود "قصي", وعدوه شخصية خرافية من شخصيات الأساطير، واستدلوا على ذلك بالأقاويل التي رواها ابن الكلبي وابن جريج عنه، وهي ذات طابع قصصي6. غير أن هذه المرويات لا يمكن أن تكون دليلًا قويًّا وسندًا يستند إليه في إنكار وجود رجل اسمه قصي، وإذا كان ما قيل عنه خرافة، فلن تكون هذه الخرافة سببًا لإنكار وجود شخص قِيلت عنه.
وقد ترك "قصي" جملة أولاد, هم: عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف وعبد بن قصي. وقد تكتل أبناء هؤلاء الأولاد وتحزبوا، ونافسوا بعضهم بعضا، فنافس بنو عبد مناف بني عبد الدار، وكونوا حلفًا فيما بينهم كان جماعته وأنصاره بنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم والحارث بن فهر. وتراص بنو عبد الدار وجمعوا شملهم وشمل من انضم إليهم، وكونوا جماعة معارضة تألفت من بني مخزوم وبني سهم وبني جمح وبني عدي بن عامر بن لؤي ومحارب, وهم من "قريش الظواهر". وقد عرف حلف "بني عبد مناف" بـ"حلف المطيبين"
__________
1 الطبري "2/ 254"، نهاية الأرب "16/ 32".
2 البلاذري، أنساب "1/ 52".
3 ابن الأثير "2/ 9"، "2/ 14 وما بعدها" "المطبعة المنيرية"، اليعقوبي "1/ 212", ابن سعد, الطبقات "1/ 73", البلاذري، أنساب "1/ 52", نهاية الأرب "16/ 31", تاج العروس "10/ 211" "صفا".
4 البلدان "2/ 225".
5 قال "عمرو بن الحارث بن مضاض" أو الحارث الجُرهمي:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس، ولم يسمر بمكة سامر
اللسان "13/ 109", تاج العروس "9/ 171" "حجن".
6 Ency., vol., ll, pp. 1158.(7/58)
وبـ" المطيبون"، وعرف بنو عبد الدار بـ"الأحلاف".
ولما ظهر الإسلام, كان هذا النزاع العائلي على رئاسة مكة قائمًا، وقد تمثل في تنافس الأسر على الرئاسة, اشتهر بعضها بالثراء والغنى، واشتهر بعضها بالوجاهة الدينية أو بالمكانة الاجتماعية.
ويلاحظ أن هذا النزاع لم يكن نزاعا عائليا تماما، قام على النسب إلى الأب والجد, بل كان نزاعا على الرئاسة والسيادة في الغالب، فنجد جماعة من عائلة تنضم إلى العائلة الأخرى المنافسة، وتترك عشيرتها؛ لأن مصلحتها الخاصة وتخاصمها مع أحد أقربائها, دفعاها على اتخاذ ذلك الموقف.
ولما أسن قصي، جعل لابنه "عبد الدار" -على حد رواية أهل الأخبار- دار الندوة والحجابة, أي: حجابة الكعبة، واللواء, فكان يعقد لقريش ألويتهم، والسقاية وهي سقاية الحاج، و"الرفادة" وهي خَرْجٌ تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي ليصنع به طعاما للحاج يأكله الفقراء، وكان قصي قد قال لقومه: "إنكم جيران الله وأهل بيته، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شرابا وطعاما أيام الحج، حتى يصدروا عنكم", ففعلوا، فكانوا يخرجون من أموالهم، فيصنع به الطعام أيام منى، فجرى ذلك من أمره على قومه في الجاهلية، حتى قام الإسلام1.
ويذكر الإخباريون في تعليل إعطاء عبد الدار هذه الامتيازات أن عبد الدار كان ضعيفًا، وأن عبد مناف شقيقه كان قد ساد في حياة أبيه، وكثر ماله، فأراد قصي بذلك تقويته بهذه الامتيازات2.
وقد توارث بنو عبد الدار اللواء، فلا يعقد لقريش لواء الحرب إلا هم, وهي وظيفة مهمة جدا؛ لما للواء من أثر خطير في الحروب والمعارك في تلك الأيام. ولهذا كانوا يتدافعون في الذب عن اللواء، حتى لا يسقط على الأرض بسقوط حامله، وسقوطه معناه نكسة معنوية كبيرة تصيب المحاربين تحت ظل
__________
1 الطبري "2/ 259 وما بعدها", ابن الأثير "2/ 10 وما بعدها", اللسان "3/ 181", تاج العروس "2/ 355", الأزرقي "1/ 61 وما بعدها".
2 ابن الأثير "2/ 9"، نسب قريش، للزبيري "14".(7/59)
ذلك اللواء. ولما أسلم "بنو عبد الدار" قالوا: يا نبي الله، اللواء إلينا, فقال النبي: "الإسلام أوسع من ذلك"؛ فبطل اللواء1.
ويذكر الإخباريون أن قصيًّا لما هلك، قام "عبد مناف بن قصي" على أمر قصي بعده، وأمر قريش إليه، واختط بمكة رباعًا بعد الذي كان قصي قطع لقومه2.
ويذكر أهل الأخبار أن بني عبد مناف أجمعوا على أن يأخذوا من بني عبد الدار "الرفادة" و"السقاية", فأبى بنو عبد الدار ترك ما في أيديهم وأصروا على الاحتفاظ به، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد الدار، وطائفة مع بني عبد مناف، وتحالف كل قوم مؤكدًا، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبًا، فوضعوها عند الكعبة، وتحالفوا، وجعلوا أيديهم في الطيب، فسموا المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم, وتحالفوا, فسموا الأحلاف، وتعبئوا للقتال، ثم تداعوا إلى الصلح، على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة, فرضوا بذلك، وتحاجز الناس عن الحرب، واقترعوا عليهما فصارتا لهاشم بن عبد مناف3.
وأما الذين كونوا حلف الأحلاف ولعقة الدم، فهم: بنو مخزوم، وبنو جمح، وبنو سهم، وبنو عدي بن كعب4.
وقد خرجت من ذلك "بنو عامر بن لؤي" و"بنو محارب بن فهر", فلم يكونوا مع واحد من الفريقين5.
__________
1 البلاذري، أنساب "1/ 45 وما بعدها".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 47", نهاية الأرب "16/ 32".
3 ابن الأثير "2/ 9" "1/ 267" "المنيرية"، "1/ 183", "الطبري "8/ 11" "طبعة ليدن", اللسان "10/ 400", ابن هشام "1/ 143", المعارف "604" "دار الكتب", اليعقوبي "1/ 287" "طبعة هوتسما"، التنبيه "180", "الصاوي", ابن كثير, البداية "2/ 209", ابن خلدون "2/ 694", مروج "2/ 59" "السعادة", المحبر "166", تاج العروس "6/ 75", القاموس "3/ 280"، ابن سعد, طبقات "1/ 77".
4 البلاذري، أنساب "1/ 56".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 77".(7/60)
وتذكر بعض الروايات أن "آل عبد مناف" قد كثروا، وقلَّ "آل عبد الدار"، فأرادوا انتزاع الحجابة من "بني عبد الدار", فاختلفت في ذلك قريش، فكانت طائفة مع "بني عبد الدار" وطائفة مع "بني عبد مناف"، فأخرجت "أم حكيم البيضاء" توءمة أبي رسول الله، جفنة فيها طيب، فوضعتها في الحجر، فقالت: من كان منا فليدخل يده في هذا الطيب, فأدخلت عبد مناف أيديها, وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا المطيبين. فعمدت بنو سهم بن عمرو فنحرت جزورًا، وقالوا: من كان منا، فليدخل يده في هذه الجزور، فأدخلت أيديها عبد الدار, وسهم، وجمح، ومخزوم، وعدي، فسُميت الأحلاف، وقام الأسود بن حارثة بن نضلة، فأدخل يده في الدم، ثم لعقها، فلعقت بنو عدي كلها بأيديها، فسموا لعقة الدم1.
وتذكر رواية أن "بني عبد مناف" اقترعوا على الرفادة والسقاية فصارتا إلى "هاشم بن عبد مناف"، ثم صارتا بعده إلى "المطلب بن عبد مناف" بوصية, ثم لعبد المطلب، ثم للزبير بن عبد المطلب، ثم لأبي طالب, ولم يكن له مال، فاستدان من أخيه العباس بن عبد المطلب عشرة آلاف درهم، فأنفقها، فلما لم يتمكن من رد المبلغ تنازل عن الرفادة والسقاية إلى "العباس", وأبرأ أبا طالب مما له عليه2.
وتذكر رواية أخرى، أن هاشمًا وعبد شمس والمطلب ونوفلًا بني عبد مناف أجمعوا أن يأخذوا ما بأيدي "بني عبد الدار" مما كان قصي جعل إلى "عبد الدار" من الحجابة واللواء والرفادة والسقاية والندوة، ورأوا أنهم أحق بها منهم، فأبت "بنو عبد الدار"، فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا. وعرف حلف "بني عبد مناف" بحلف المطيبين, وعرف حلف "بني عبد الدار" بحلف الأحلاف ولعقة الدم. ثم تداعوا إلى الصلح، على أن تكون الحجابة واللواء ودار الندوة إلى بني عبد الدار، وأن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة3. وولي هاشم بن عبد مناف السقاية
__________
1 نسب قريش "383".
2 البلاذري، أنساب "1/ 57".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 77".(7/61)
والرفادة1. وتصرح بعض الروايات, أن هاشمًا هو الذي قام بأمر بني عبد مناف، ثم عامر بن هاشم2.
ومعنى هذا أن الحلفين المذكورين: حلف المطيبين وحلف "الأحلاف", إنما عقدا في حياة "هاشم بن عبد مناف", أي: قبل ميلاد الرسول، وأن حلف "لعقة الدم" هو نفسه حلف الأحلاف، أو من حلف الأحلاف, عرف بهذه التسمية؛ لأن بني عدي بن كعب، الذين حالفوا عبد الدار وانضموا إليهم, لعقوا الدم، فقيل لهم: لعقة الدم؛ تمييزًا لهم عن الذين لم يلعقوا الدم، وهم الأحلاف3. وذُكر أن "بني عبد الدار" و"بني عدي", أدخلوا جميعًا أيديهم في ذلك الدم في الجفنة، فسموا كلهم "لعقة الدم" بذلك4.
ولكننا نصطدم بروايات أخرى، ترجع تأريخ حلف "لعقة الدم" إلى أيام بنيان الكعبة، الذي كان قبل المبعث بخمس سنين، وعمر الرسول يومئذ خمس وثلاثون سنة. فهي تذكر أن أهل مكة لما وصلوا إلى موضع الركن اختصموا في وضع الحجر الأسود، حتى تجاوزوا وتحالفوا وتواعدوا على القتال، "فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماء, ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في الجفنة، فسموا لعقة الدم بذلك"5, ثم اتفقوا على أن يجعلوا بينهم حكمًا، يحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون، على أن يكون أول من يدخل من باب المسجد، فكان أول من دخل عليهم رسول الله, فحكم على نحو ما هو معروف.
كما نصطدم بروايات أخرى تذكر أن حلف المطيبين إنما عرف بذلك؛ لأن خمس قبائل هي: بنو عبد مناف، وبنو أسد، وبنو تيم، وبنو زهرة، وبنو الحارث بن فهر، لما أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي بني عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية, وأبت بنو عبد الدار تسليمها إياهم -اجتمع المذكورون في دار عبد الله بن جدعان، وعقد كل قوم على أمرهم حلفًا
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 78".
2 نهاية الأرب "16/ 34 وما بعدها".
3 البلاذري، أنساب "1/ 56".
4 الطبري "2/ 289 وما بعدها".
5 الطبري "2/ 290".(7/62)
مؤكدًا على التناصر وألَّا يتخاذلوا، ثم أخرج لهم بنو عبد مناف جفنة ثم خلطوا فيها أطيابًا وغمسوا أيديهم فيها وتعاقدوا, ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدًا فسُمُّوا المطيبين. وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها, وهم ست قبائل: عبد الدار وجمح ومخزوم وعدي وكعب وسهم, حلفًا آخر مؤكدًا، فسموا بذلك الأحلاف1.
وقيل: بل قدم رجل من بني زيد لمكة معتمرًا ومعه تجارة اشتراها منه رجل سهمي, فأبى أن يقضيه حقه فناداهم من أعلى أبي قبيس، فقاموا وتحالفوا على إنصافه، وكان النبي من المطيبين لحضوره فيه، وهو ابن خمس وعشرين سنة, وكذلك أبو بكر، وكان عمر أحلافيا لحضوره معهم2.
وقد وهم بعض أهل الأخبار فجعلوا حلف المطيبين هو حلف الفضول، ويظهر أنهم وقعوا في الخطأ من كون الذين دعوا إلى عقد حلف الفضول وشهدوه هم من "المطيبين"، فاشتبه الأمر عليهم، وظنوا أن الحلفين حلف واحد. وقد رد عليهم بعض أهل الأخبار أيضا, إذ ذكروا أن الرسول لم يدرك حلف المطيبين؛ لأنه كان وقع بين بني عبد مناف، وهم هاشم وإخوته ومن انضم إليهم, وبين بني عمهم عبد الدار وأحلافهم، فقيل لهم الأحلاف، قبل أن يولد الرسول3.
أما أن الحلفين قد عقدا في أيام "عبد الله بن جدعان" فخطأ، فقد أجمع أهل الأخبار على أن بني عبد مناف كانوا يَلُونَ الرفادة والسقاية قبل هذا العهد، وأن "هاشمًا" كان يليهما في حياته، وأما أنهما وقعا في أيام "هاشم" أو في أيام أبنائه، فإن ذلك أقرب إلى المنطق، وذلك فيما إذا أخذنا برواية من يقول: إن "قصيًّا" أوصى بالرفادة والسقاية واللواء والحجابة ودار الندوة إلى ابنه "عبد الدار", وحرم بذلك ابنه "عبد مناف" من كل شيء, بحجة أنه كان غنيا وجيها, وقد ساد في حياة أبيه, فلا حاجة له به إليها، فتأثر هاشم أو أبناؤه من ذلك, فأجمعوا على انتزاعها من أيدي "بني عبد الدار" وحدث ما حدث، وتولى هاشم الرفادة والسقاية على النحو المذكور4.
__________
1 تاج العروس "1/ 359 وما بعدها", العمدة "2/ 194"، البلاذري, أنساب "1/ 56 وما بعدها", ابن سعد, طبقات "1/ 77".
2 تاج العروس "1/ 360".
3 السيرة الحلبية "1/ 156".
4 "ولما صارت الرفادة والسقاية لهاشم، كان يخرج من ماله كل سنة للرفادة مالًا عظيمًا"، البلاذري, أنساب "1/ 60".(7/63)
وهناك رواية أخرى رواها "اليعقوبي", تفيد أن قصيًّا كان قد قسم السقاية والرفادة والرئاسة والدار بين ولده؛ فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد الدار، والرفادة لعبد العزى, وحافة الوادي لعبد قصي1, وأخذ كل ابن ما أعطاه والده له.
ويتبين من دراسة الروايات المختلفة الواردة عن الحلفين المذكورين, أنهما قد عقدا لأغراض أخرى لا صلة لها بالسقاية والرفادة، وربما كانا قد عقدا قبل أيام هاشم؛ بسبب نزاع وقع بين بطون قريش على الزعامة، فتحزبت تلك البطون وانقسمت على نفسها إلى "مطيبين" و"أحلاف"، وربما كان حلف لعقة الدم حلفًا آخر عقده "بنو عدي" فيما بينهم، وهم الذين انحازوا إلى الأحلاف، ودخلوا معهم في حلف، خاصة ونجد "اليعقوبي" يشير إلى حلف عقده "عبد مناف"، بعد وفاة والده "قصي" مع "خزاعة" و"بني عبد مناة بن كنانة"، عرف بحلف "الأحابيش", وكان مدبّر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف "عمرو بن هلل بن معيص"2. مما يشير إذا صح هذا الخبر إلى أن "بني مناف" أو الذين انضموا إليهم، كما يقول ذلك "اليعقوبي" أرادوا تقوية أنفسهم وتكوين قوة مهابة بتأليف ذلك الحلف. وربما كان هذا الحلف موجهًا ضد "بني عبد الدار" مما دفع "بني عبد الدار" إلى جمع صفوفهم وتأليف حلف بهم؛ للدفاع عن مصالحهم.
واسم هاشم على رواية الإخباريين "عمرو" وهو أكبر أولاد عبد مناف, وإنما قيل له هاشم؛ لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه. ذكر أن قومه من قريش، كانت أصابتهم لزبة وقحط، فرحل إلى فلسطين، فاشترى منها الدقيق، فقدم به مكة، فأمر به فخبز له ونحر جزورًا، ثم اتخذ لقومه مرقة ثريد بذلك3. ويذكرون أن شاعرًا من الشعراء، هو مطرود بن كعب الحزاعي,
__________
1 اليعقوبي "1/ 211" "طبعة النجف".
2 اليعقوبي "1/ 212".
3 الطبري "2/ 251 وما بعدها"، اللسان "12/ 611", القاموس "4/ 190", الكامل لابن الأثير "2/ 9".(7/64)
أو ابن الزبعرى، ذكر ذلك في شعره, حيث قال:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مُسْنِتُونَ عجافُ1
ويظهر من وصف الإخباريين لهاشم أنه كان تاجرًا، له تجارة مع بلاد الشام, وأنه جمع ثروة من تجارته هذه، حتى زعموا أنه هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف2.
ويذكر أهل الأخبار أن هاشمًا كان يحث أهل مكة على إكرام الحجاج وإضافتهم وتقديم كل معونة لهم؛ لأنهم يأتون يعظمون بيت الله، ويزورونه، وهم جيران بيت الله، وقد أُكرموا به، وشرفوا بالبيت على سائر العرب، فعليهم تقديم كل معونة لحجاج البيت. وكان يطلب منهم مساعدته بإخراج ما يتمكنون من إخراجه من أموالهم يضعونه في دار الندوة, ليخدم به الحجاج؛ لأنه لا يتمكن وحده من إكرامهم وتقديم الطعام من ماله وحده إليهم3. فكان هاشم يخرج في كل عام مالا كثيرا، وكان قوم من قريش أهل يسار يترافدون، وكان كل إنسان يرسل بمائة مثقال هرقلية، فيجمع هاشم ما يتجمع ويصنع به طعامًا للحجاج4.
ولشح الماء في مكة، واضطرار الناس إلى جلبه من أماكن بعيدة، فعل "هاشم" ما فعله قصي حين حفر بئرًا على نحو ما ذكرت، فحفر بئرًا عرفت بـ"بذَّر" وهي البئر التي في حق "المقوم بن عبد المطلب" في ظهر دار الطلوب مولاة زبيدة بالبطحاء في أصل المستنذر, وحفر بئرًا أخرى, وهي البئر التي يقال لها بئر "جبير بن معطم", ودخلت في دار القوارير5. فيسَّر بذلك لمكة الماء، وساعد على إكثاره عندهم.
__________
1
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
الطبري "2/ 252", الاشتقاق "9", أمالي المرتضى "2/ 269"، أخبار مكة, للأزرقي "1/ 67"، ابن سعد, طبقات "1/ 76"، نهاية الأرب "16/ 33".
2 الطبري "2/ 252" "دار المعارف بمصر".
وهو الذي سن الرحيل لقومه ... رحل الشتاء ورحلة الأصياف
البلاذري، أنساب "1/ 58", ابن سعد، طبقات "1/ 75".
3 النويري، نهاية الأرب "16/ 34".
4 ابن سعد، الطبقات "1/ 78".
5 ابن سعد، الطبقات "1/ 75", الأزرقي، أخبار مكة "1/ 67", تاج العروس "3/ 36", "بذر".(7/65)
وأخذ "هاشم" عهدًا على نفسه بأن يسقي الحجاج ويكفيهم بالماء، قُرْبَةً إلى رب "البيت" ما دام حيًّا. فكان إذا حضر الحج، يأمر بحياض من أدم، فتجعل في موضع "زمزم", ثم تملأ بالماء من الآبار التي بمكة, فيشرب منها الحاج. وكان يطعمهم قبل التروية بيوم بمكة، وبمنى وعرفة، وكان يثرد لهم الخبز واللحم، والخبز والسمن والسويق والتمر، ويحمل لهم الماء, فيستقون بمنى، والماء يومئذ قليل في حياض الأدم إلى أن يصدروا من "منى", ثم تنقطع الضيافة، ويتفرق الناس إلى بلادهم1.
وموضوع السقاية موضوع غامض؛ فبينما نجد أهل الأخبار يفسرون السقاية بإسقاء المحتاجين من الحجاج بالماء مجانا، نجدهم يتحدثون عن السقاية على أنها إسقاء الحجاج من الزبيب المنبوذ بالماء، وذكر أن العباس كان يليها في الجاهلية والإسلام2.
وتحدث أهل الأخبار عن "سقاية" عرفت بـ"سقاية عدي"، زعموا أنها كانت بالمشعرين بين الصفا والمروة، وأن مطرودًا الخزاعي ذكرها حين قال:
وما النيل يأتي بالسفين يكفّه ... بأجود سيبًا من عدي بن نوفل
وأنبطت بين المشعرين سقاية ... لحجاج بيت الله أفضل منهل
وذكر أن هذه السقاية، كانت بسقاية اللبن والعسل3.
ويظهر من وصف الإخباريين لهاشم أنه كان تاجرًا، له تجارة مع بلاد الشام، وأنه جمع ثروة من تجارته هذه، حتى زعموا أنه هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف4, وأنه كان صاحب "إيلاف قريش"5.
__________
1 ابن سعد، الطبقات "1/ 78" النويري، نهاية الأرب "16/ 35".
2 تاج العروس "10/ 181", "سقى".
3 نسب قريش "197".
4 الطبري "2/ 252", "دار المعارف بمصر".
وهو الذي سن الرحيل لقومه ... رحل الشتاء ورحلة الأصياف
البلاذري، أنساب "1/ 58", ابن سعد، الطبقات "1/ 75", تفسير القرطبي "20/ 205", "سورة قريش".
5 نهاية الأرب "16/ 33".(7/66)
وذلك أن قريشًا كانوا تجارًا, ولكن تجارتهم -كما يقول أهل الأخبار- لم تكن تتجاوز مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم، ثم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها على من حولهم من العرب. فكانوا كذلك حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام، فكان يذبح كل يوم شاة, ويصنع جفنة ثريد ويجمع من حوله فيأكلون. وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر، فدعا به فلما رآه وكلمه، أعجب به, فكان يبعث إليه في كل يوم، فيدخل عليه ويحادثه, فلما رأى نفسه تمكن عنده، قال له: أيها الملك, إن قومي تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابًا تؤمن تجارتهم, فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، فتباع عندكم، فهو أرخص عليكم, فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم. فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من العرب بطريقه إلى مكة، عقد معهم عقدًا على أن تقدم قريش إليهم ما يرضيهم من بضائع وهدايا تؤلف بينهم وبين قريش، فكان الإيلاف. فلما وصل إلى مكة, كان هذا الإيلاف أعظم ما جاء به هاشم إلى قريش، فخرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يجوزهم, يوفيهم إيلافهم الذي أخذ من العرب, حتى أوردهم الشام، وأحلهم قراها، فكان ذلك بدء إيلاف قريش1.
وذكر أن متجر "هاشم" كان إلى بلاد الشام2, ويصل بتجارته إلى "غزة" وناحيتها، وربما توغل نحو الشمال، حتى زعم بعض أهل الأخبار أنه كان ربما بلغ "أنقرة" "فيدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه"3. ويجب علينا ألا نتصور دائما أن أي "قيصر" يرد ذكره في أخبار أهل الأخبار، هو قيصر الروم حقا، بل هو أحد عماله في الغالب، وأحد الموظفين الروم في بلاد الشام. وربما أخذوا اسم "أنقرة" من قصة للشاعر امرئ القيس، فأدخلوها في قصة "هاشم", فلم تكن "أنقرة" مقرًّا
__________
1 القالي، ذيل الأمالي والنوادر "ص199", الثعالبي, ثمار القلوب "1/ 8 وما بعدها",
Caetani, Annali, i, 109, "90", M.J. Kister, P. 116.
2 المحبر "162".
3 ابن سعد، الطبقات "1/ 75 وما بعدها", نهاية الأرب "16/ 33", البلاذري, أنساب "1/ 58".(7/67)
للقياصرة إذ ذاك حتى يذهب هاشم إليها ليدخل على قيصر ويزوره فيها، بل كانت "القسطنطينية" هي عاصمة البيزنطيين.
وقد فسر "الجاحظ" "الإيلاف"، أنه جُعْلٌ فرضه هاشم على القبائل لحماية مكة من الصعاليك ومن المتطاولين، إذ قال: "وقد فسره قوم بغير ذلك. قالوا: إن هاشما جعل على رءوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة, فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الطوائل، كانوا لا يؤمَنون على الحرم، لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدرا, مثل طيء وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب"1. فيفهم من ذلك إذن أن الإيلاف، هو نوع من تأليف قلوب سادات القبائل؛ لصدهم عن التحرش بأهل مكة ومن التعرض بقوافلهم، فألفهم هاشم وصاروا له مثل "المؤلفة قلوبهم" في الإسلام, ولا سيما وأن بين الإيلاف و"ألف" "ألف بينهم" و"المؤلفة" صلة, وأن فيما قاله "الجاحظ" عن "هاشم" من قوله: "وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ... وجعل لهم معه ربحًا"2,
وبين تأليف القبائل صلة تامة، تجعل تفسير الإيلاف على أنه عهود ومواثيق مع سادات القبائل في مقابل إسهامهم بأموالهم وبحمايتهم لقوافل قريش, في مقابل ضرائب معينة تدفع لهم، وسهام من الأرباح تؤدى لهم، مع إعطائهم رءوس أموالهم وما ربحته في الأسواق هو تفسير منطقي معقول, وبذلك كسبت قريش حياد هذه القبائل ودفاعها عن مصالحها.
وقد تعرض "الثعالبي" لموضوع "إيلاف قريش" فقال: إيلاف قريش: كانت قريش لا تتاجر إلا مع من ورد عليها من مكة في المواسم وبذي المجاز وسوق عكاظ، وفي الأشهر الحرام لا تبرح دارها، ولا تجاوز حرمها؛ للتحمس في دينهم، والحب لحرمهم، والإلف لبيتهم، ولقيامهم لجميع من دخل مكة بما يصلحهم، وكانوا بوادٍ غير ذي زرع ... فكان أول من خرج إلى الشام ووفد إلى الملوك وأبعد في السفر ومر بالأعداء وأخذ منهم الإيلاف الذي ذكره الله, هاشم بن عبد مناف، وكانت له رحلتان: رحلة في الشتاء نحو العباهلة من
__________
1 رسائل الجاحظ "70"، "السندوبي" Kister, p. 143.
2 رسائل "70", "السندوبي" "70", الثعالبي، ثمار القلوب "115 وما بعدها".(7/68)
ملوك اليمن ونحو اليكسوم من الحبشة، ورحلة في الصيف نحو الشام وبلاد الروم. وكان يأخذ الإيلاف من رؤساء القبائل وسادات العشائر لخصلتين: إحداهما أن ذؤبان العرب وصعاليك الأعراب وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمَنون على أهل الحرم ولا غيرهم، والخصلة الأخرى أن أناسًا من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدرًا، كبني طيء وخثعم وقضاعة، وسائر العرب يحجون البيت ويدينون بالحرمة له. ومعنى الإيلاف إنما هو شيء كان يجعله هاشم لرؤساء القبائل من الربح، ويحمل لهم متاعًا مع متاعه، ويسوق إليهم إبلًا مع إبله؛ ليكفيهم مؤنة الأسفار, ويكفي قريشًا مؤنة الأعداء، فكان ذلك صلاحًا للفريقين، إذ كان المقيم رابحًا، والمسافر محفوظًا, فأخصبت قريش، وأتاها خير الشام واليمن والحبشة، وحسن حالها، وطاب عيشها. ولما مات هاشم قام بذلك المطلب، فلما مات المطلب قام بذلك عبد شمس، فلما مات عبد شمس قام به نوفل، وكان أصغرهم1.
وإلى هذا الإيلاف, أشير في شعر "مطرود الخزاعي" بقوله:
يأيها الرجل المحول رحله ... هلا حللت بآل عبد مناف
الآخدين العهد في إيلافهم ... والراحلين برحلة الإيلاف2
وعمل قريش هذا هو عمل حكيم، بدَّل وغيَّر أسلوب تجارة مكة، بأن جعل لها قوافل ضخمة تمر بأمن وبسلام في مختلف أنحاء الجزيرة جاءت إليها نتيجة لذلك بأرباح كبيرة، ما كان في إمكانها الحصول عليها، لو بقيت تتاجر وفقا لطريقتها القديمة، من إرسالها قوافل صغيرة للمتاجرة مع مختلف الأسواق, فكانت القافلة منها إذا سلبت، عادت بأفدح الأضرار المادية على صاحبها أو على الأسرة التي أرسلتها، وربما أنزلت الإفلاس والفقر بأصحابها، بينما توسعت القافلة وفقًا للطريقة الجديدة بأن ساهم بأموالها كل من أراد المساهمة، من غني أو صعلوك أو متوسط حال، ومن سادات قبائل. وبذلك توسع الربح، وعمت فائدته عددًا كبيرًا من أهل مكة، فرفع بذلك من مستواها الاجتماعي، كما ضمن لقوافلها الأمن والسلامة، وصيَّر مكة مكانا مقصودا للأعراب.
__________
1 الثعالبي، ثمار القلوب "115 وما بعدها".
2 الثعالبي، ثمار القلوب "116".(7/69)
ويذكر أهل الأخبار أنه كان المطلب وهاشم وعبد شمس، ولد عبد مناف من أمهم: "عاتكة بنت مرة السُّليمة"، و"نوفل" من "واقدة"، قد سادوا بعد أبيهم عبد مناف جميعًا، وكان يقال لهم: "المجبرون"، وصار لهم شأن وسلطان، فكانوا أول من أخذ لقريش "العِصَم"1, أي "الحبال"، ويراد بها العهود. أخذ لهم هاشم حبلا من ملوك الروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الأكبر، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلا من الأكاسرة، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض العراق وأرض فارس، وأخذ لهم المطلب حبلا من ملوك حمير، فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن، فجُبرت بهم قريش، فسموا المجبرين2, حتى ضرب بهم المثل، فقيل: أقرش من المجبرين. والقرش: الجمع والتجارة، والتقرش: التجمع, والمجبرون هم الأربعة المذكورون3.
وفي رواية أخرى أن "المطلب" هو الذي عقد الحلف لقريش من النجاشي في متجرها إلى أرضه، وأن هاشمًا، هو الذي عقد الحلف لقريش من "هرقل" لأن تختلف إلى الشام آمنة. ولو أخذنا بهذه الرواية وجب أن يكون هاشم قد أدرك أيام "هرقل" "610-641" "Heracleous l"، وهو أمر غير ممكن؛ لأن معنى ذلك أنه عاش في أيام الرسول وأدرك رسالته، ولا يهم ورود اسم "هرقل" في هذه الرواية؛ فأهل الأخبار لا يميزون بين ملوك الروم، ويذكرون اسم "هرقل"؛ لأنه حكم في أيام الرسول وفي أيام الخلفاء الراشدين الأُوَل.
وإذا صحت الرواية، يكون "آل عبد مناف" قد احتكروا التجارة وصاروا من أعظم تجار مكة. وقد وزعوا التجارة فيما بينهم، وخصوا كل بيت من بيوتهم الكبيرة بالاتجار مع مكان من أمكنة الاتجار المشهورة في ذلك العهد، وأنهم تمكنوا بهذه السياسة من عقد عقود تجارية ومواثيق مع السلطات الأجنبية التي تاجروا معها لنيل حظوة عندها، ولتسهيل معاملاتها التجارية؛ فجنوا
__________
1 العِصَم، بكسر ففتح.
2 الطبري "2/ 252"، اليعقوبي "1/ 200", ذيل الأمالي "ص199", أمالي المرتضى "2/ 268".
3 مجمع الأمثال "2/ 72", البلاذري، أنساب "1/ 59".(7/70)
من هذه التجارة أرباحًا كبيرة.
فما كان في استطاعة "قريش" إرسال "عيرها" إلى بلاد الشام أو العراق أو اليمن أو العربية الجنوبية، بغير رضاء وموافقة سادات القبائل التي تمر قوافل قريش بأرضها، ورضاء هؤلاء السادات بالنسبة لقريش هو أهم جدًّا من رضاء حكومات بلاد الشام أو العراق أو اليمن عن مجيء تجار مكة إلى بلادها للاتجار في أسواقها, فما الفائدة من موافقة حكومات تلك البلاد على مجيء تجار مكة للبيع والشراء في أسواقها, إن لم يكن في وسع أولئك التجار تأمين وصول تجارتهم إليها، أو تأمين سلامة ما يشرونه من أسواقها لإيصاله إلى مكة أو إلى الأسواق الأخرى؟!. لهذا كان من أهم ما فعله تجار مكة في هذا الباب، هو عقدهم "حبالًا" و"عصمًا" وعهودًا مع رؤساء القبائل؛ لترضيتهم بدفع جعالات معينة لهم أو تقديم هدايا وألطاف مناسبة مغرية لهم، أو اشتراكهم معهم في تجارتهم, يقول الجاحظ في باب "فضل هاشم على عبد شمس": "وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب...... وجُعل لهم معه ربح"1. وبهذه العقود المتنوعة سيطر تجار قريش على الأعراب، وحافظوا على أموالهم، وحَدُّوا من شره فقراء أبناء البادية إلى الغنائم, وصار في إمكانهم الخروج بكل حرية من مكة ومن الأسواق القريبة منها بتجارتهم نحو الأماكن المذكورة بكل أمن وسلام.
ولما كان البحث في هذا الموضع، هو في تأريخ مكة بصورة عامة؛ لذلك فسأترك الكلام عن "الإيلاف" إلى الموضع المناسب الخاص به، وهو التجارة والاتجار، وعندئذ سأتكلم عنه بما يتمم هذا الكلام العام.
ويذكر أهل الأخبار أن عبد شمس وهاشمًا توءمان، وقد وقع بينهما تحاسد، وانتقل هذا التحاسد إلى ولد الأخوين، حتى في الإسلام.
وذكروا أن "أمية بن عبد شمس" حسد عمه هاشمًا، وكان أمية ذا مال, فدعا عمه إلى المنافرة, فرضي عمه بذلك مكرهًا، على أن يتحاكما إلى الكاهن "الخزاعي"، فنفَّر هاشمًا عليه، فأخذ هاشم الإبل التي نافر عليها من أمية، فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، بحسب حُكم الكاهن، وكان هاشم قد نافر على الجلاء عن مكة عشر سنين.
__________
1 الجاحظ، رسائل "70", "السندوبي".(7/71)
فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية1.
ويذكر أهل الأخبار أن أمية بن عبد شمس كان من جملة من ذهب من رجال مكة إلى "سيف بن ذي يزن" لتهنئته بانتصار اليمن على الحبش وطردهم لهم، وقد دخل عليه مع وفد مكة في "قصر غمدان", وكان مثل أبيه عبد شمس حامل لواء قريش، أي: إنه كان يحملها في الحرب2.
وكان هاشم أول من مات من ولد عبد مناف، مات بغزة فعرفت بـ"غزة هاشم"، وكان قد وفد بتجارة إليها فمات بها، ومات عبد شمس بمكة، فقبر بأجياد، ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق، ثم مات المطلب بردمان من أرض اليمن3. ويتبين من ذلك أن جميع هؤلاء الإخوة، ما خلا عبدَ شمس, ماتوا في أرض غريبة، ماتوا تجارًا في تلك الديار.
وورد في رواية أخرى، أن هاشمًا خرج هو وعبد شمس إلى الشام، فماتا جميعًا بغزة في عام واحد، وبقي مالهما إلى أن جاء الإسلام4.
وأجياد: جبل مكة على رأي، وموضع مرتفع في الذرا غربيّ "الصفا" كما ورد ذلك في شعر للأعشى؛ ذكر أن "مضاضًا" ضرب في ذلك الموضع أجياد مائة رجل من العمالقة، فسمي الموضع بذلك "أجياد"5.
ويذكر الإخباريون: أن هاشمًا كان قد خرج في عير لقريش فيها تجارات، وكان طريقهم على المدينة، فنزلوا بـ"سوق النبط", فصادفوا سوقًا مقامة، فباعوا واشتروا، ونظروا إلى امرأة على موضع مشرف من السوق تأمر بما يشترى ويباع لها, وهي حازمة جلدة مع جمال، فسأل هاشم عنها: أَأَيِّم هي، أم
__________
1 الطبري "2/ 252 وما بعدها"، ابن الأثير، الكامل "2/ 9", "الطباعة المنيرية"، ابن سعد، طبقات "1/ 76", نهاية الأرب "16/ 34"، أنساب العيون "1/ 40", سيرة ابن دحلان "1/ 15 وما بعدها".
2 الاشتقاق "ص103"، دائرة المعارف الإسلامية "1/ 324".
3 الطبري "2/ 254", ابن الأثير "2/ 7", شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد "1/ 83", ذيل الأمالي "ص199", البلاذري, أنساب "1/ 63"، ابن سعد، طبقات "1/ 79".
4 نهاية الأرب "16/ 37"، الكامل لابن الأثير "2/ 4 وما بعدها"، الطبري "2/ 176".
5 تاج العروس "2/ 330"، "الجيد".(7/72)
ذات زوج؟ فقيل له: أيم، كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها: فإذا كرهت رجلًا، فارقته، وهي "سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنيم بن عدي بن النجار"، وهو "تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج"، فخطبها، فزوجته نفسها ودخل بها، وصنع طعامًا، دعا إليه من كان معه من أهل مكة، ودعا من الخزرج رجالا، وأقام بأصحابه أيامًا، وعلقت "سلمى" بعبد المطلب1. وكانت "سلمى"، قد تزوجت من "أُحَيْحَة بن الجُلَّاح بن الحريش بن جَحْجَبَا الأوسي"، وهو من المعروفين في قومه كذلك2.
ويذكر أهل الأخبار، أن عمر هاشم لما توفي، كان عشرين سنة، ويقال: خمسًا وعشرين 3. وهو عمر قصير إذا قِيسَ بما يذكره أهل الأخبار ويوردونه عنه من اتجار وأعمال, أعمال لا تتناسب مع تلك السن.
ومن سادات مكة في هذه الأيام "قيس بن عدي بن سهم" من بني هصيص بن كعب، قد تكاثروا بمكة، حتى كادوا يعدلون بعبد مناف. وهو الذي منع "عدي بن كعب" و"زهرة بن كلاب" من "بني عبد مناف"، ومنع "بني عدي" أيضا من "بني جمح". وكان "عبد المطلب بن هاشم" ينفر ابنه "عبد المطلب" وهو صغير، ويقول:
كأنه في العز قيس بن عديّ ... في دار قيس ينتدى أهل الندى4
مما يدل إن صح أن هذا الشعر هو من شعر "عبد المطلب" حقا، على أن "عديا" كان أعز رجال قريش في أيامه، حتى ضربوا به المثل في العز، وأنه كان سيد قومه, بني سهم بن هصيص بن كعب.
ومن ولد هاشم "عبد المطلب"، وأمه من أهل يثرب من بني النجار, فهي
__________
1 ابن سعد، الطبقات "1/ 76"، ابن هشام، السيرة "1/ 144"، نهاية الأرب "16/ 36 وما بعدها"، المحبر "ص398"، الطبري "2/ 246 وما بعدها"، "دار المعارف".
2 المحبر "ص456"، البلاذري، أنساب "1/ 64".
3 البلاذري، أنساب "1/ 63".
4 نسب قريش "400".(7/73)
خزرجية تدعى "سلمى بنت عمرو بن زيد" على نحو ما ذكرت قبل قليل, تزوجها هاشم في أثناء رحلة من رحلاته التي كان يقوم بها إلى الشام للاتجار. ولما مات هاشم بغزة ولدت سلمى "عبد المطلب"، ومكث عند أخواله سبع سنين، ثم عاد إلى قومه بمكة، عاد به عمه "المطلب". ولما كبر تولى السقاية والرفادة وتزعم قومه.
ويذكر أهل الأخبار، أن هاشمًا كان قد أوصى إلى أخيه "المطلب"، فبنو هاشم وبنو المطلب يد واحدة, وبنو عبد شمس وبنو نوفل يد1. ومعنى هذا أن نزاعًا كان قد وقع بين أبناء هاشم وأبناء إخوته، جعلهم ينقسمون إلى فرقتين.
ويذكر أهل الأخبار أن اسم عبد المطلب هو "شيبة", وقد عرف بين الناس بعبد المطلب؛ لأن عمه "المطلب" لما حمله من يثرب إلى مكة، كان يقول للناس: هذا عبدي، أو عبد لي، فسمي من ثم بعبد المطلب، وشاعت بين قومه أهل مكة حتى طغت على اسمه، وقيل: إنه عرف بين أهل مكة بـ"شيبة الحمد" لكثرة حمد الناس له، وكان يقال له "الفياض" لجوده، و"مطعم طير السماء" و"مطعم الطير" لأنه كان يرفع من مائدته، للطير والوحوش في رءوس الجبال2.
وقد كان "المطلب" عم "عبد المطلب" مثل سائر أفراد أسرته وأهل مكة تاجرًا، فخرج إلى أرض اليمن تاجرا، فهلك بـ"ردمان" من اليمن3.
وهم يروون أنه كان مَفزَع قريش في النوائب، وملجأهم في الأمور، وأنه كان من حلماء قريش وحكمائها، وممن حرم الخمر على نفسه، وهو أول من
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 79".
2 وفيه يقول حذافة بن غانم:
بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه ... يضيء ظلام الليل كالقمر البدر
"شيبة الحمد لنور وجهه، وذلك أنه كانت في ذؤابته شعرة بيضاء حين ولد، فسمي شيبة الحمد"، الثعالبي، ثمار القلوب "79"، الطبري "2/ 247 وما بعدها" "دار المعارف بمصر"، الأصنام "28", بلوغ الأرب "1/ 324", ابن حزم, جوامع السير "2/ 2"، البداية لابن كثير "2/ 252", السيرة الحلبية "1/ 22 وما بعدها", شرح نهج البلاغة, لابن أبي الحديد "1/ 81", ابن سعد, الطبقات "1/ 83".
3 طبقات ابن سعد "1/ 83", اليعقوبي "1/ 216".(7/74)
تحنث بغار حراء, والتحنث: التعبد الليالي ذوات العدد. وكان إذا دخل شهر رمضان، صعده وأطعم المساكين، وكان صعوده للتخلي من الناس؛ ليتفكر في جلال الله وعظمته1. وكان يعظم الظلم بمكة، ويكثر الطواف بالبيت2.
وذكر أنه كان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق, وينهاهم عن دنيات الأمور، وكان يقول: لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه، وإن وراء هذه الدار دارًا, يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام، ووحد الله. وروي: أنه وضع سننًا جاء القرآن بأكثرها، وجاءت السنة بها، منها: الوفاء بالنذر, وتحريم الخمر والزنا، وألا يطوف بالبيت عُريان3. وذكر أنه كان أول من سن دية النفس مائة من الإبل، وكانت الدية قبل ذلك عشرًا من الإبل, فجرت في قريش والعرب مائة من الإبل, وأقرها رسول الله على ما كانت عليه4.
ويذكرون أن قريشًا كانت إذا أصابها قحط شديد، تأخذ بيد عبد المطلب، فتخرج به إلى جبل ثَبِير، تستسقي المطر5.
وقد وقع خلافٌ بين عبد المطلب وعمه "نوفل"، كان سببه أن نوفل بن عبد مناف، وكان آخر من بقي من بني عبد مناف، ظلم عبد المطلب على أركاح له، وهي الساحات، فلما أصر نوفل على إنكاره حق عبد المطلب, تدخل عقلاء قريش في الأمر على رواية أهل مكة, أو أخوال عبد المطلب, وهم من أهل يثرب، فأكره "نوفل" على إنصاف عبد المطلب حتى عاد إليه حقه6.
ومن أهم أعمال "عبد المطلب" الخالدة إلى اليوم "بئر زمزم" في المسجد الحرام، على مقربة من البيت. وهي بئر يذكرون أنها بئر إسماعيل، وأن جرهمًا
__________
1 السيرة الحلبية "1/ 22 وما بعدها".
2 البلاذري، أنساب "1/ 84".
3 السيرة الحلبية "1/ 24 وما بعدها".
4 ابن أبي الحديد "1/ 89"، ابن سعد، الطبقات "1/ 89".
5 السيرة الحلبية "1/ 24 وما بعدها".
6 الطبري "2/ 248 وما بعدها", "دار المعارف".(7/75)
دفنتها، وأنها تقع بين إساف ونائلة في موضع كانت قريش تنحر فيه. فلما حفرها "عبد المطلب"، أقبل عليها الحجاج وتركوا سائر الآبار1.
ويذكر أهل الأخبار أن عبد المطلب لما كشف عن بئر زمزم، وجد فيها دفائن، من ذلك: غزالان من ذهب كانت جرهم دفنتهما، وأسياف قلعية, وأدراع سوابغ، فجعل الأسياف بابًا للكعبة، وضرب في الباب أحد الغزالين صفائح من ذهب، وجعل المفتاح والقفل من ذهب, فكان أول ذهب حُلِّيَتْهُ الكعبة2. وجعل الغزال الآخر في الجب الذي كان في الكعبة أمام هبل. وذكر أن قريشًا أرادت منعه من الحفر، ولكنه أصر على أن يحفر حتى يصل إلى موضع الماء, وذلك بسبب رؤيا رآها، عينت له المكان، وأوحت إليه أنه موضع بئر قديمة طمرت وعليه إعادة حفرها3.
ويذكر الإخباريون, أن عبد المطلب لما حلى بالمال الذي خرج من بئر زمزم الكعبة، جعله صفائح من ذهب على باب الكعبة، فكان أول ذهب حليته الكعبة4. وتذكر بعض الروايات أن ثلاثة نفر من قريش عدَوْا على هذا الذهب وسرقوه5, وتذكر رواياتهم أنه ضرب الأسياف التي عثر عليها في البئر بابًا للكعبة، وضرب بالباب الغزالين من ذهب6.
ويظهر من وصف أهل الأخبار لما فعله "عبد المطلب" من ضرب الغزالين صفائح في وجه الكعبة، ومن جعل المفتاح والقفل من ذهب، أو من ضرب أحد الغزالين صفائح على الباب، وجعل الغزال الآخر في الجب الذي كان أمام "هُبَل" أي: الغبغب، أن الكعبة لم تكن على نحو ما يصفها أهل الأخبار من البساطة والسذاجة؛ بغير سقف وذات جدر ضمة بقدر قامة إنسان, إذ لا يعقل
__________
1 ابن الأثير "2/ 5 وما بعدها", الطبري "2/ 247", البلاذري, أنساب "1/ 78".
2 الطبري "2/ 251", البداية "2/ 216، 225، 245", أخبار مكة "1/ 282", ابن الأثير "2/ 7 وما بعدها", ابن سعد، الطبقات "1/ 85", البلاذري، أنساب "1/ 78".
3 أخبار مكة "284 وما بعدها".
4 اليعقوبي "1/ 218"، الطبري "2/ 251", ابن سعد، الطبقات "1/ 85".
5 ابن سعد، الطبقات "1/ 85".
6 سيرة ابن دحلان "1/ 26", "حاشية على السيرة الحلبية".(7/76)
أن يضرب وجه باب الكعبة بالذهب وتوضع في داخلها تلك النفائس وهي على تلك الحالة، اللهم إلا إذا شككنا في أمر هذه الروايات وذهبنا إلى أنها من نوع القصص الذي وضعه أهل الأخبار.
وقد طغى ماء "بئر زمزم" على مياه آبار مكة الأخرى؛ فهو أولًا ماء مقدس، لأنه في أرض مقدسة، وفي المسجد الحرام، ثم هو أغزر وأكثر كميةً من مياه الآبار الأخرى, وهو لا ينضب مهما استقى أصحاب الدلاء منه, ثم إنه ألطف مذاقًا من مياه آبار مكة الأخرى. وقد استفاد "عبد المطلب" من هذه البئر، ماديا وأدبيا، وصارت ملكًا خالصة له، على الرغم من محاولات زعماء مكة والمنافسين له مساهمتهم له في حق هذه البئر؛ لأنها في أرض الحرم، والحرم حرم الله، وهو مشاع بين كل أهل مكة. وصار يسقي الحجاج من هذه البئر، وترك السقي من حياض الأدم التي كانت بمكة عند موضع بئر زمزم، وصار يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقي الحاج1.
وكان أبناء "قصي" قبل حفر بئر "زمزم" يأتون بالماء من خارج مكة -كما يقول أهل الأخبار- ثم يملئون بها حياضًا من أدم ويسقون الحجاج، جروا بذلك على سنة "قصي". فلما حفرت بئر زمزم, تركوا السقي بالحياض من المياه المستوردة من خارج مكة، وأخذو يسقونهم من ماء زمزم2.
وقد كان عبد المطلب يزور اليمن بين الحين والحين، فكان إذا وردها نزل على عظيم من عظماء حمير. ويذكر أهل الأخبار أن أحد هؤلاء عَلَّم عبد المطلب صبغ الشَّعر، وذلك بأن أمر به فخضب بحناء، ثم عُلِيَ بالوسمة، وصار يصبغ شعره بمكة، وخضب أهل مكة بالسواد3. ويذكر أهل الأخبار أيضا أنه اتصل بملوك اليمن، وأخذ منهم إيلافًا لقومه، بالاتجار مع اليمن, وكانت قريش تنظم عيرًا إلى اليمن في كل سنة4.
__________
1 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 83"، سيرة ابن هشام "1/ 89", أخبار مكة "285 وما بعدها", السيرة الحلبية "1/ 37", الروض الأنف "1/ 97".
2 ابن سعد، الطبقات "1/ 83".
3 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 86"، ابن سعد، الطبقات "1/ 86".
4 ذيل الأمالي "ص199".(7/77)
وبذكر "المسعودي" أن "معديكرب" حينما ولي الملك باليمن، أتته الوفود لتهنئه بالملك, وكان فيمن وفد عليه من زعماء العرب، "عبد المطلب", و"خويلد بن أسد بن عبد العزى", وجد أمية بن أبي الصلت، وقيل: أبو الصلت أبوه، فدخلوا عليه في قصره بمدينة صنعاء: قصر غمدان. ويذكر له كلامًا, قاله عبد المطلب له، وجواب "معديكرب" عليه. ويذكر أيضا أن "عبد المطلب" كان فيمن وفد على "سيف بن ذي يَزَن" ليهنئه بطرد الحبش1.
ولم يكن عبد المطلب أغنى رجل في قريش، ولم يكن سيد مكة الوحيد المطاع كما كان قصي، إذ كان في مكة رجال كانوا أكثر منه مالًا وسلطانًا. إنما كان وجيه قومه؛ لأنه كان يتولى السقاية والرفادة وبئر زمزم، فهي وجاهة ذات صلة بالبيت. وقد تكون صلته هذه، هي التي جعلته يذهب إلى أبرهة لمحادثته في شئون مكة والبيت.
ويروي أهل الأخبار أن عبد المطلب كان قد نذر: لئن أكمل الله له عشرة ذكور حتى يراهم أن يذبح أحدهم. فلما تكاملوا عشرة، همَّ بذبح أحدهم، فضرب بالقداح فخرج القداح على عبد الله، ولكن القوم منعوه، ثم أشاروا عليه بأن يرضي الله بنحر إبل فدية عنه، وكان كلما ضرب القداح يخرج على عبد الله حتى بلغ العدد مائة, فخرج على الإبل، فنحرها بين الصفا والمروة, وخلى بينها وبين كل من يريد لحمها, من إنسيّ أو سبع أو طائر، لا يذب عنها أحدًا، ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئًا2. وكان نحر الإبل قبل الفيل بخمس سنين3, إذن فيكون ذلك حوالي سنة "565" للميلاد.
وكان لعبد المطلب ماء بالطائف، يقال له: "ذو الهرم", وكان في أيدي ثقيف ردحًا، ثم طلبه عبد المطلب منهم، فأبوا عليه. وكان صاحب أمر
__________
1 المسعودي، مروج الذهب "2/ 10 وما بعدها"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
2 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 88 وما بعدها", ابن سعد، الطبقات "1/ 88 وما بعدها".
3 البلاذري، أنساب "1/ 79".(7/78)
ثقيف: "جندب بن الحارث" فأبى عليه وخاصمه فيه، فدعاهما ذلك إلى المنافرة إلى الكاهن "العذري"، وكان يقال له: "عزى سلمة"، وكان ببلاد الشام، وتنافرا على إبل، وأتيا الكاهن، فنفر عبد المطلب عليه، فأخذ عبد المطلب الإبل فنحرها1.
وقد نادم "عبد المطلب" على عادة أهل مكة جماعة من أقرانه، لقد كانت عادتهم أن يجتمعوا مساءً فيتحادثوا, أو يشربوا ويأكلوا, أو يستمعوا إلى غناء، حتى يحل وقت النوم، وكان ممن نادمهم عبد المطلب "حرب بن أمية"، ثم اختلف معه، ونافره عند "نفيل بن عبد العزى" جد "عمر بن الخطاب"، فنفره على "حرب"، فافترقا2. وكان سبب افتراقه عنه، إغلاظ "حرب" القول على يهودي كان جوار عبد المطلب3. وتذكر رواية أخرى أن عبد المطلب و"حربًا"، تنافرا أولًا إلى النجاشي الحبشي، ولكنه أبى أن ينفر بينهما، فذهبا إلى نفيل, وأن "حرب بن أمية" غضب حين نفر عبد المطلب عليه، وقال له: إن من انتكاس الزمان أن جعلناك حكمًا، وصار نديمًا لعبد الله بن جدعان4.
وذكر "ابن الأثير" أن سبب افتراق "عبد المطلب" عن "حرب" كان بسبب جار عبد المطلب اليهودي، واسمه "أُذَيْنَة"، وكان تاجرا وله مال كثير، فغاظ ذلك "حرب بن أمية"، فأغرى به فتيانًا من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله، فقتله "عامر بن عبد مناف"، و"صخر بن عمرو بن كعب التيمي"، فلم يعرف عبد المطلب قاتله، فلم يزل يبحث حتى عرفهما، وإذا هما قد استجار بحرب بن أمية، فأتى حربًا ولامه وطلبهما منه, فأخفاهما، فتغالظا في القول حتى تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة، فلم يدخل بينهما، وذهبا إلى نفيل. وترك عبد المطلب منادمة حرب، ونادم عبد الله بن جدعان، وأخذ من
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 51 وما بعدها", ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 88", ابن سعد، طبقات "1/ 88"، "دار صادر".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 51 وما بعدها"، "1/ 87", "صادر".
3 السيرة الحلبية "1/ 25", البلاذري، أنساب "1/ 74".
4 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 87", ابن سعد، الطبقات "1/ 87", "صادر".(7/79)
حرب مائة ناقة فدفعها إلى ابن عم اليهودي، وارتجع ماله إلا شيئًا هلك, فغرمه من ماله1.
وقد صاهر عبد المطلب, رجال من أسر معروفة بمكة، فصاهره "كُريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس"، وكانت عنده "أم حكيم"، وهي "البيضاء بنت عبد المطلب", وصاهره "أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكانت عنده "عاتكة بنت عبد المطلب"، و"عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم", وكانت عنده "برة بنت عبد المطلب". وناسبه "أبو رُهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي"، خلف على "برة" بعد عبد الأسد، وصاهره "جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة", وكانت عنده "أميمة بنت عبد المطلب"، و"العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى", خلف على "صفية بعد عمير بن وهب"2.
ويذكر أن "عبد المطلب" كان يفرش له في ظل الكعبة، ويجلس بنوه حول فراشه إلى خروجه، فإذا خرج قاموا على رأسه مع عبيده؛ إجلالًا له3. وكانت عادة سادة مكة تمضية أوقاتهم في مسجد الكعبة، حيث يجلسون في ظل الكعبة أو في فنائها يتحدثون ويتسامرون، ثم يذهبون إلى بيوتهم.
وفي أيام عبد المطلب كانت حملة "أبرهة" على مكة، وقد أرخت قريش بوقوعها، وصيرت الحملة مبدأ لتأريخ؛ لأهميتها بالنسبة لمكة. وقد تركت أثرا كبيرا في نفوس قريش، بدليل تذكير القرآن لهم بما حل بـ"أصحاب الفيل"4, وعلى نحو ما تحدثت عنه في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب.
وقد رأينا أن "عبد المطلب" وقد أشار على قومه بالتحرز بشعاب الجبال,
__________
1 الكامل "2/ 8 وما بعدها".
2 المحبر "ص62 وما بعدها"، ابن سعد، "8/ 27 وما بعدها".
3 البلاذري, أنساب "1/ 81".
4 الفيل، رقم 105, الآية1 وما بعدها، تفسير الطبري "30/ 299", تفسير ابن كثير "4/ 549", الأزرقي "1/ 85", مروج الذهب "2/ 71", الكامل لابن الأثير "1/ 260", البداية "2/ 170، 145", الملل والنحل "3/ 279".(7/80)
وبترك البيت وشأنه؛ لأن للبيت ربًّا يحميه، وبعدم التحرش بالحبش وتركهم وشأنهم. والظاهر أنه وجد أن عدد الأحباش كان كبيرًا وأن من غير الممكن مقاومتهم والذب عن مكة في الوادي. ثم إنها حرم آمن، لا يجوز القتال فيه، وليس فيها حصون وآطام يُتحصَّن بها؛ لهذا رأى الرحيل عن الوادي والاحتماء برءوس الجبال، والإشراف منها على الدروب والطرق، فذلك أنفع وأحمى للمال وللنفس. ثم إن من الممكن مباغتة الحبش منها ومهاجمتهم وإنزال خسائر بهم حين يشاءون ويقررون، على حين تكون القوة والمنعة في أيدي الأحباش لو حصروا أنفسهم بمكة، إذ يكونون في منخفض بينما العدو على شُرف يشرف عليهم، وليس في إمكانهم مقاومته، وليس لهم حصون ولا مواضع دفاع؛ فتكون الغلبة لأبرهة حتما، وقد نجحت فكرة عبد المطلب، ولم يصب أهل مكة بسوء.
وقد كان من عادة أهل مكة، أنهم إذا داهمهم الخطر توقَّلُوا الجبال واعتصموا بها، ولما حاصرهم الرسول عام الفتح، هرب أكثرهم واعتصموا برءوس الجبال؛ إذ ليس في إمكانهم الحرب والصمود في البطحاء1.
ومات "عبد المطلب" بعد أن جاوز الثمانين. مات في ملك "هرمز بن أنوشروان"، وعلى الحيرة قابوس بن المنذر, أخو "عمرو بن المنذر" على رواية, وعمر الرسول ثماني سنين, ومعنى ذلك أنه توفي في حوالي السنة "578" للميلاد. ولما حمل على سريره، جزت نساء "بني عبد مناف" شعورهن، وشق بعض الأولاد قمصانهم، حزنًا على وفاته, ودفن بالحجون2. وذكر أنه لم يقم بمكة سوق أيامًا كثيرة لوفاة عبد المطلب3.
وذكر أن عبد المطلب كان أول من تحنث بحراء، وكان إذا أهلَّ هلال شهر رمضان دخل بحراء، فلم يخرج حتى ينسلخ الشهر، ويطعم المساكين، وكان يعظم الظلم بمكة ويكثر الطواف بالبيت4.
ومن ولد عبد المطلب: عبد الله وهو والد الرسول، وأبو طالب واسمه
__________
1 البلاذري، أنساب "1/ 355".
2 البلاذري، أنساب "1/ 84 وما بعدها".
3 البلاذري، أنساب "1/ 87".
4 البلاذري، أنساب "1/ 84".(7/81)
عبد مناف، والزبير، وعبد الكعبة، وعاتكة، وبَرَّة, وأميمة1. وعدة ولده اثنا عشر رجلًا وست نسوة2.
ولم يكن ولد عبد المطلب من رجال مكة الأثرياء، وكل ما كان عندهم ثراء روحي، استمدوه من اسم "قصي" وهاشم، فكانوا من وجهاء مكة من هذه الناحية, أما من ناحية المادة والمال، فلم يكونوا من السباقين فيه. لقد كانوا وسطًا، وربما كانوا دون أوساط تجار مكة؛ مات "عبد الله" ولم يخلف لأهله شيئًا، ومات أبو طالب وحالته المالية ليست على ما يرام. لقد كانوا تجارًا يخرجون بتجارتهم على عادة فيهم إلى بلاد الشام، أو إلى اليمن فيبيعون ويشترون، ولكنهم على ما يبدو من الأخبار لم يتمكنوا من جمع ثروة تغنيهم وتجعلهم من أغنياء مكة. وقد توفي "عبد الله" وهو في طريقه من "غزة" إلى مكة، وكان قد أقبل بتجارة له، فنزل بالمدينة وهو مريض، وتوفي هناك3, وإن "عبد المطلب" بعث إليه "الزبير بن عبد المطلب" أخاه، ودفن في دار النابغة4, وإنه ترك عند وفاته "أم أيمن" حاضنة الرسول، وكان يسميها: "أُمّي"، فأعتقها وخمسة أجمال أوراك، وقطعة غنم، وسيفا مأثورا، وورقا5.
وخرج "أبو طالب" بتجارة له في "عير قريش" ولكنه لم يتمكن من كسب شيء يريحه ويسعده من كل تجاراته، وآية ذلك أن الرسول أخذ منه ابنه "عليًّا"؛ ليخفف عنه مشقة الإنفاق على ولده، وأخذ "العباس" "جعفرًا" منه لينفق عليه. ووضعٌ مثل هذا لا يدل على يسر6, وكانت له مع فقره هذا وجاهة عند أهله وقومه. قيل: "لم يسد من قريش ممق إلا عتبة وأبو طالب، فإنهما سادا بغير مال"7. وقال "علي" في والده: "أبي ساد فقيرًا وما
__________
1 الطبري "2/ 239" "دار المعارف".
2 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 89".
3 الطبري "2/ 246" "دار المعارف"، البلاذري، أنساب "1/ 92"، ويقال: كان عبد المطلب بعثه إلى المدينة يمتار له تمرًا. ويقال: بل أتاهم زائرًا لهم، ويقال: بل قدم من غزة بتجارة له.
4 البلاذري، أنساب "1/ 92"، ابن سعد، طبقات "1/ 99".
5 البلاذري، أنساب "1/ 96".
6 ابن الأثير، الكامل "2/ 37" "المنيرية"، الطبري "2/ 312" "الحسينية".
7 السهيلي, الروض الأنف "1/ 121".(7/82)
ساد فقيرٌ غيره"1. وذكر أن عياله كانوا في ضيقة وخدة، لا يكادون يشبعون لقلة ما عندهم2.
وعتبة بن ربيعة، هو أبو هند زوج "أبي سفيان"، وهي أم معاوية. ويذكر أهل الأخبار أيضا: "ساد عتبة بن أبي ربيعة وأبو طالب، وكانا أفلس من أبي المزلق، وهو رجل من بني عبد شمس، لم يكن يجد مؤنة ليلته، وكذا أبوه وجده وجد جده كلهم يعرفون بالإفلاس"3.
ويظهر أن "عبد شمس" و"نوفلًا" و"مخزومًا"، كانوا قد تمكنوا من منافسة "عبد المطلب" و"آل هاشم" على التجارة، ومن انتزاع تجارة بلاد الشام منهم، ومن مزاحمتهم في الاتجار مع اليمن والعراق، حتى حصلوا على ثراء طائل، صيرهم من أغنى رجال مكة، وجعل لهم التفوق على البلد، حتى صار رجال من "بني مخزوم" من أغنى رجال مكة, وكذلك رجال من "عبد شمس".
وتعد "أيام الفجار" من الحوادث المؤثرة في تأريخ مكة, وهي أفجرة. وإنما سميت بذلك؛ لأنها كانت في الأشهر الحرم، ومن أهمها "فجار البراض"، نسبت إلى "البراض بن قيس" الذي قتل "عروة الرحال" "عروة بن عتبة الرحال"، إلى جانب "فدك" بأرض يقال لها "أوارة"، فأهاج مقتله الحرب بين "قريش" ومن معها من "كنانة" وبين "قيس عيلان"، وكانت الدبرة على "قيس"4. وذكر في رواية أخرى، أن الفجارات الأربعة: فجار الرجل، أو فجار بدر بن معشر الغفاري، وهو الفجار الأول، وفجار القرد، وفجار المرأة، والفجار الرابع هو فجار البراض5, وأن يوم "البراض" أو يوم نخلة, هو أعظم أيام الفجار, وكان البراض قد قدم باللطيمة إلى مكة فأكلها, وهي لطيمة "النعمان بن المنذر"، التي وضع "النعمان" زمامها بيد "عروة بن عتبة الرحال"، وكان سُمي الرحال لرحلته إلى الملوك، فكان ذلك مما أهاج
__________
1 اليعقوبي "2/9".
2 البلاذري، أنساب "1/ 96".
3 السيرة الحلبية "1/ 153".
4 تاج العروس "3/ 465"، "فجر"، عن حروب الفجار، العمدة "2/ 218 وما بعدها".
5 المسعودي، مروج "2/ 271"، تاج العروس "3/ 465".(7/83)
الحرب. وقد رأس قريشًا: حرب بن أمية، وكان موضعه في القلب، وعبد الله بن جدعان في إحدى المجنبتين، وهشام بن المغيرة في الأخرى، فالتقوا بـ"نخلة"، فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجن عليهم الليل, فكان اليوم لهوازن1.
وذكر أن هذا اليوم قد وقع بعد عشرين سنة من عام الفيل, وقد شهده الرسول, وعمره عشرون سنة.
ثم إن قريشًا وبني كنانة لقوا هوازن بشمطة, وعلى بني هاشم: الزبير بن عبد المطلب، وعلى بني عبد شمس وأحلافها: حرب بن أمية، وعلى بني عبد الدار وحلفائها: عكرمة بن هاشم، وعلى بني أسد بن عبد العزى: خويلد بن أسد، وعلى بني زهرة: مخرمة بن نوفل، وعلى بني تيم: عبد الله بن جدعان، وعلى بني مخزوم: هاشم بن المغيرة, وعلى بني سهم: العاص بن وائل, وعلى بني جمح: أمية بن خلف، وعلى بني عدي: زيد بن عمرو بن نفيل، وعلى بني عامر بن لؤي: عمرو بن شمس، وعلى بني فهر: عبد الله بن الجراح، وعلى بني بكر: بلعاء بن قيس، وعلى الأحابيش: الحليس الكناني، فالتقوا أول النهار على هوازن، فصبروا, ثم استحرَّ القتل في قريش، وانهزم الناس2.
ورُوي أن "البراض بن قيس" لقي "بشر بن أبي خازم" الأسدي الشاعر، فأخبره الخبر، وأمر أن يعلم ذلك "عبد الله بن جدعان" و"هشام بن المغيرة"، و"حرب بن أمية"، و"نوفل بن معاوية الديلي"، و"بلعاء بن قيس"، فوافى "عكاظًا"، فأخبرهم فخرجوا إلى الحرم، وبلغ "قيسًا" الخبر، فخرجوا في آثارهم فأدركوهم وقد دخلوا الحرم، ولم تقم في تلك السنة "عكاظ". ومكثت "قريش" وغيرها من "كنانة" و"أسد" بن خزيمة ومن لحق بهم من الأحابيش، وهم الحارث بن عبد مناة وعضل والقارة وديش والمصطلق من خزاعة لحلفهم بالحارث بن عبد مناة، سنة يتأهبون للحرب، لإنذار "قيس" لها. وتأهبت "قيس عيلان" وسارت على "قريش"، وكان فيها "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر", و"سُبَيْع بن ربيعة بن معاوية
__________
1 البلاذري، أنساب "1/ 43، 101 وما بعدها"، السيرة الحلبية "1/ 152".
2 البلاذري، أنساب "1/ 102 وما بعدها".(7/84)
النصري" و"دريد بن الصمة"، و"مسعود بن معتب الثقفي" و"أبو عروة بن مسعود" و"عوف بن أبي حارثة المري" و"عباس بن رعل السلمي". واستعدت "قريش" ورؤساؤها "عبد الله بن جدعان"، و"هشام بن المغيرة"، و"حرب بن أمية" و"أبو أحيحة سعيد بن العاص"، و"عتبة بن ربيعة"، و"العاص بن وائل"، و"معمر بن حبيب الجمحي"، و"عكرمة بن هاشم"، وخرجوا متساندين, ويقال: بل أمرهم إلى عبد الله بن جدعان. فالتقوا فكانت الدبرة أول النهار لقيس على قريش وكنانة ومن ضوى إليهم، ثم صارت الدبرة آخر النهار لقريش وكنانة على قيس، فقتلوهم قتلا ذريعا, فاصطلحوا على أن عدوا القتلى، وردت قريش لقيس ما قتلت فضلًا عن قتلاهم، وانتهت الحرب. وقد شهد الرسول هذه الفجار، ورمى فيها بسهم، فكان يوم حضر ابن عشرين سنة، وكان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة1.
وأغلب حروب الفجار معارك ومناوشات، ولم تكن حروبًا بالمعنى المفهوم من كلمة "حرب". أما أهميتها وسبب اشتهارها فلوقوعها في شهور حرم, ولخروج المتحاربين فيها على سنة قريش ودينهم في تحريم القتال في هذه الشهور, ولهذا السبب حفظ ذكرها وجاء خبرها في كتب أهل الأخبار. وقد كان النصر فيها على كنانة وقريش في الغالب, وهو شيء مفهوم معقول؛ فقد كانت "قيس عيلان" كما كانت "هوازن" قبائل محاربة تعيش على الغزو والقتال، بينما كانت "قريش" قبيلة مستقرة اتخذت التجارة لها رزقًا، كما عاشت على الأرباح التي تجنيها من مجيء الأعراب إليها في مواسم الحج أو أيام العمرة ومن الامتيار من أسواقها. وقوم هذا شأنهم في حياتهم وفي تعاملهم, لا يمكن أن يميلوا إلى الغزو والقتال، بل كانوا يحبون حياة السلم والاستقرار؛ يشترون السلم ولو عن طريق ترضية الأعراب بتقديم الأموال لهم والهدايا والهبات؛ لذلك لم يصر رجالها رجال حروب وقتال، بل صاروا رجال سياسة ومساومة ومفاوضات تنتهي بنتائج طيبة بالنسبة لهم، لا يمكن أن يحصلوا عليها من القتال.
وقد رأس "الزبير بن عبد المطلب" بني هاشم، غير أن رئاسته هذه
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 128"، السيرة الحلبية "1/ 152".(7/85)
لم تكن متينة, وقد كان في جملة من شهد "حلف الفضول" في دار "عبد الله بن جدعان"1, كما رأس "بني هاشم" في حرب الفجار2. وذكر أنه كان نديمًا لمالك بن عُميلة بن السباق بن عبد الدار3, وقد تاجر الزبير مع بلاد الشام إلا أنه لم ينجح في تجارته على ما ظهر، بدليل أنه لم يكن موسرًا، وذكر أنه كان أحد حُكام العرب الذين يتحاكمون إليهم4.
وحلف الفضول من الأحداث المهمة التي يذكرها أهل السير والأخبار في تأريخ مكة, وإذا صح ما يذكرونه من أنه عقد بعد الفجار بشهور، وفي السنة التي وقع فيها الفجار الذي حضره الرسول، ومن أن الرسول حضره وهو ابن عشرين سنة، فيجب أن يكون عقد هذا الحلف قد تم في حوالي السنة "590" للميلاد5. ويذكر أن الذي دعا إليه هو الزبير بن عبد المطلب6.
وقد شهد حلف الفضول بنو هاشم وبنو زهرة وبنو تيم, وذكر أنهم تعاهدوا على أن يكونوا مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه، وفي التآسي في المعاش, وقد عقد منصرف قريش من الفجار وكان الفجار في شوال, وعقد الحلف في ذي القعدة7. وذكر أيضا أنهم "تحالفوا ألا يُظلم أحد بمكة إلا قاموا معه حتى ترد ظلامته", وقد ذكره الشاعر "نبيه بن الحجاج السهمي"8. وليس لأهل الأخبار رأي ثابت عن سبب تسمية هذا الحلف بحلف الفضول؛ فذكر بعضهم أنه سمي بذلك لأنهم تحالفوا أن يتركوا عند أحد فضلًا يظلمه أحدًا إلا أخذوه له منه. وقيل: سمي به تشبيهًا بحلف كان قديمًا بمكة أيام جرهم, على التناصف والأخذ للضعيف من القوي والغريب من القاطن. وسمي حلف الفضول؛ لأنه قام به رجال
__________
1 المحبر "ص167".
2 المحبر "ص169".
3 المحبر "ص176".
4 البلاذري، أنساب "1/ 88".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 128 وما بعدها".
6 السيرة الحلبية "1/ 153 وما بعدها".
7 ابن سعد، طبقات "1/ 128 وما بعدها".
8 نسب قريش "291", الأغاني "16/ 64".(7/86)
من جرهم كلهم يسمى الفضل، فقيل: حلف الفضول جميعًا لأسماء هؤلاء1. وذكر أنه سمي حلف الفضول؛ لأن قريشًا قالت: هذا فضول من الحلف، فسمي حلف الفضول2. وقيل: لأن قريشًا تعاقدوا فيما بينهم على "مواساة أهل الفاقة ممن ورد مكة بفضول أموالهم"3, وهو في بعض الروايات تحالف ثلاثة من الفضليين على ألا يروا ظلمًا بمكة إلا غيَّروه. وأسماؤهم: الفضل بن شراعة، والفضل بن قضاعة، والفضل بن نصاعة، فسمي من ثم باسمهم: حلف الفضول4.
وذكر أكثر أهل الأخبار, أن الغاية التي أريد بها منه، هي إنصاف المظلومين من أهل مكة، من الضعفاء والمساكين ومن لا يجد له عونًا ليحميه ويدافع عن حقوقه، وإنصاف الغرباء الوافدين على مكة من حجاج أو تجار، ممن يعتدي عليهم فيأخذ أموالهم أخذًا ويأكلها ولا يدفع لأصحابها عنها شيئًا. فذكر أن رجلًا من "زبيد" من اليمن، وكان باع سلعة له "العاصَ بن وائل السهمي"، فمطله الثمن حتى يئس، فعلا جبل "أبي قبيس"، وقريش في مجالسها حول الكعبة، فنادى رافعًا صوته يشكو ظلامته، ويطلب إنصافه مستجيرًا بقريش، فمشت قريش بعضها إلى بعض، وكان أول من سعى في ذلك "الزبير بن عبد المطلب"، واجتمعت في "دار الندوة"، وكان ممن اجتمع بها من "قريش" "بنو هاشم" و"بنو المطلب" و"زهرة" و"تيم" و"بنو الحارث"، فاتفقوا على أنهم ينصفون المظلوم من الظالم، فساروا إلى دار عبد الله بن جدعان، فتحالفوا هنالك5.
وذكر أن رجلًا من "بني أسد بن خزيمة" جاء بتجارة, فاشتراها رجل من "بني سهم"، فأخذها السهمي وأبى أن يعطيه الثمن، فكلم قريشًا وسألها إعانته على أخذ حقه، فلم يأخذ له أحد بحقه، فصعد الأسدي "أبا قبيس",
__________
1 تاج العروس "8/ 63".
2 اليعقوبي "2/ 14"، "طبعة النجف".
3 kister, p. 124.
4 الثعالبي، ثمار القلوب "104".
5 مروج الذهب "2/ 270 وما بعدها", السيرة الحلبية "1/ 156 وما بعدها", الثعالبي، ثمار القلوب "140".(7/87)
وصرخ بشعر يشكو فيه ظلامته، فتداعيت قريش، وعقدت حلف الفضول.
وقيل: لم يكن من "بني أسد"، ولكنه "قيس بن شيبة السلمي"، باع متاعًا من "أبي خلف الجمحي" وذهب بحقه، فاستجار بـ"آل قصي"، فأجاروه، فكان ذلك سبب عقد حلف الفضول1. وقيل: بل كان الرجل من "بارق"، فلما يئس من أخذ حقه من "أبي"، صعد في الجبل ورفع عقيرته بقوله:
يا للرجال لمظلومٍ بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر
إن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فلما سمعه "الزبير بن عبد المطلب", أجابه:
حلفتُ لنعقدن حِلْفًا عليهم ... وإن كنا جميعًا أهل دارِ
نُسميه الفضول إذا عقدنا ... يقربه الغريب لذي الجوارِ
ثم قام وعبد الله بن جدعان، فدعوا قريشًا إلى التحالف والتناصر والأخذ للمظلوم من الظالم، فأجابوهما، وتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان، فهذا حلف الفضول2.
وذكر أن رجلًا من "خثعم" قدم مكة ومعه بنت وضيئة، فاغتصبها منه "نبيه بن الحجاج"، فقيل له: عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى: يا لحلف الفضول، فاجتمعوا حوله، واستردوا الجارية من نبيه, وقالوا له: "ويحك, فقد علمت من نحن وما تعدهدنا عليه" فأعادها إليه3.
ويظهر من هذا الخبر أن حلف الفضول كان قد عقد قبل هذه الحادثة، وأن جماعته كانت شديدة متراصة في دفع الحق إلى أهله واسترجاعه ممن اغتصبه كائنًا ما كان.
ويظهر أن هذا الحلف استمر قائمًا إلى وقت ما في الإسلام، ثم فقد
__________
1 اليعقوبي "2/ 13 وما بعدها".
2 الثعالبي، ثمار القلوب "141"، السهيلي، الروض الأنف "1/ 91".
3 السيرة الحلبية "1/ 157".(7/88)
قيمته، فمات. فورد أنه كان بين "الحسين بن علي بن أبي طالب" وبين "الوليد بن عتبة بن أبي سفيان" منازعة في مال متعلق بالحسين، فماطله الوليد. "فقال الحسين للوليد: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم لأدعون لحلف الفضول، فلما بلغ ذاك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه"1.
وقد تفسر دعوة "الحسين" المذكورة, بأن الحسين لم يقصد بقوله: "لأدعون لحلف الفضول"، الحلف القديم المعروف، وإنما قصد: لأدعون لحلف كحلف الفضول، وهو نصرة المظلوم على ظالمه، وقد أيده على حقه جماعة، منهم عبد الله بن الزبير، مما دفع الوليد إلى إرجاع حق الحسين؛ خشية وقوع فتنة وتدخُّل في هذه الخصومة2. ومعنى هذا أننا لا نستطيع أن نستنتج من الخبر المتقدم، أن حلف الفضول كان قد بقي إلى ذلك العهد.
ويرجع حلف الفضول إلى أحلاف سابقة على ما يتبين من أخبار أهل الأخبار، إلى عهد "هاشم" وإلى ما قبل أيام هاشم. والظاهر أن أهل مكة، بعد أن اجتمعوا وتكتلوا في وادٍ ضيق وفي أرض فقيرة، وجدوا أن من العسير عليهم رؤية حفنة منهم وقد استأثرت بالمال والغنى، بينما عاش الكثير بينهم في فقر وفاقة، وأنهم إن أصموا آذانهم عن سماع نداء الإغاثة، فإن حالة من الذعر ستسود مدينتهم؛ لذلك تواصوا فيما بينهم على مواساة أهل الفاقة وجبر خاطر المحتاج، وعلى تراحمهم فيما بينهم وتواصلهم. وكان مما فعلوه لرفع مستوى الفقير، وللقضاء على الفوارق الكبيرة التي صارت فيما بين سادات مكة وسوادها، أن حثوا كل مكي على المساهمة في أموال القوافل، حتى إذا ما عادت رابحة، وُزِّعت أرباحها على هؤلاء أيضا، كل حسب مقدار ما ساهم به من مال في القافلة. وبذلك خفف أهل مكة من حدة التضاد الذي كان بين النقيضين, وأمنوا من تطاول الشباب الفقراء على الأغنياء، بأن فتح بعض الأغنياء أبواب بيوتهم
__________
1 السيرة الحلبية "1/ 157".
2 السيرة الحلبية "1/ 157".(7/89)
للجياع، فآووهم وساعدوهم على نحو ما جاء في شعر لمطرود بن كعب الخزاعي, إذ يقول:
هبلتك أمك لو حللت بدارهم ... ضمنوك من جوع ومن إقراف1
وقوله:
والخالطين غنيهم بفقيرهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي2
والعطف على الفقراء ومواساة الضعفاء وذوي الحاجة من خلال الأشراف السادات؛ لأنهم إن لم يغثيوا الغائث ويرحموا المسكين فمن يرحمهم إذن على وجه هذه الأرض! وقد مدح من يخلط الفقير بالغني فيساوي بينهما، وذم من يبيت شبعان وجاره يبيت خامصًا لا شيء عنده يعتمد عليه3.
وكان من أهم الأحداث التي وقعت في أيام الرسول، يوم كان في الخامسة والثلاثين، بناء الكعبة؛ بسبب سيل ملأ ما بين الجبلين، ودخل الكعبة حتى تصدعت، أو بسبب حريق أصاب أستار الكعبة، فتصدعت، فعزمت قريش على بنائها، فهدمتها وأعادت بناءها. وذكر أن قريشًا كانت قد أفردت ببناء كل ربع من أرباع البيت قومًا، وكان ذلك بقرعة بينهم. فلما انتهوا إلى موضع الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يضعه وتشاحّوا عليه، فرضوا بأول من يدخل من الباب, فكان أول من دخل رسول الله، فوضعه بيده، بعد أن قال: "ليأتِ من كل ربع من قريش رجل"، وبذلك فضَّ النزاع4. ويجب أن يكون حادث بناء البيت إذن في حوالي السنة "605" للميلاد.
__________
1 اليعقوبي "1/ 214"، "طبعة النجف 1964م".
2 "فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن من العرب بنو أب أكثر مالًا ولا أعز من قريش, وهو قول شاعرهم:
والخالطون فقيرهم بغنيهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي
فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله"، تفسير القرطبي، "20/ 205", الطبرسي، مجمع البيان "10/ 546"، "طبعة طهران"، البلاذري، أنساب "1/ 58"، ابن العربي، محاضرات الأبرار "2/ 19".
3 القالي، الأمالي "2/ 158", kister, p. 123.
4 البلاذري، أنساب "1/ 99"، ابن رستة، الأعلاق النفيسة، "وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذٍ, قد ناهز الحلم"، "ص29".(7/90)
وجهاء مكة:
وكان أمر مكة إلى وجهاء أمرها، مثل: "بنو مخزوم"، و"بنو عبد شمس" و"بنو زهرة" و"بنو سهم" و"بنو المطلب"، و"بنو هاشم" و"بنو نوفل" و"بنو عدي" و"بنو كنانة" و"بنو أسد" و"بنو تَيْم" و"بنو جمح" و"بنو عبد الدار" و"بنو عامر بن لؤيّ" و"بنو محارب بن فهر". وذكر بعض أهل الأخبار، أن الشرف والرياسة في قريش في الجاهلية في "بني قصي"، لا ينازعونهم ولا يفخر عليهم فاخر, فلم يزالوا ينقاد لهم ويرأسون. وكان لقريش ست مآثر كلها لبني قصي دون سائر قريش؛ منها الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء والرياسة. فلما هلك "حرب بن أمية"، وكان حرب رئيسًا بعد المطلب، تفرقت الرياسة والشرف في "بني عبد مناف". فكان في بني هاشم: الزبير وأبو طالب وحمزة والعباس بن عبد المطلب، وفي بني أمية: أبو أحيحة، وهو سعد بن العاص بن أمية، وهو "ذو العمامة"، كان لا يعتم أحد بمكة بلون عمامته إعظامًا له. وفي بني المطلب: عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، و"عبد يزيد" هو "المحض لا قذى فيه" وفي "بني نوفل": المطعم بن عدي بن نوفل، وفي بني أسد بن عبد العزى: خويلد بن أسد، وعثمان بن الحويرث بن أسد. وقد كانت النبوة والخلافة لبني عبد مناف، ويشركهم في الشورى: زهرة وتيم وعدي وأسد1.
وقد اختص "بنو كنانة" بالنسيء, فكان نسأة الشهور منهم, وهم "القلامسة", وكانوا فقهاء العرب والمفتين لهم في دينهم2. فمكانتهم إذن بين الناس هي مكانة روحية، فبيدهم الفقه والإفتاء.
ومكة وإن كانت مجتمعا حضريا، أهله أهل مدر في الغالب، غير أنها لم تكن حضرية تامة الحضارة بالمعنى الذي نفهمه اليوم؛ لأن الحياة فيها كانت مبنية على أساس العصبية القبلية. المدينة مقسمة إلى شعاب، والشعاب هي وحدات اجتماعية مستقلة، تحكمها الأسر، وبين الأسر نزاع وتنافس على الجاه والنفوذ
__________
1 المحبر "ص164 وما بعدها، 169".
2 المحبر "ص156".(7/91)
نزاع وإن لم يقلق الأمن ويعبث بسلام المدينة، إلا أنه أثر في حياتها الاجتماعية أثرًا خطيرًا، انتقلت عدواه إلى أيام الإسلام.
لقد حاول بعض رؤسائها ووجوهها التحكم بأمر مكة، وإعلان نفسه ملكا عليها, يحلي رأسه بالتاج شأن الملوك المتوجين، ولكنه لم يفلح ولم ينجح، حتى ذكر أن بعضهم التجأ إلى الغرباء؛ لمساعدتهم بنفوذهم السياسي والمادي والعسكري في تنصيب أنفسهم ملوكا عليها، فلم ينجحوا، كالذي ذكروه عن "عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى"، المعروف بـ"البطريق"، من أنه طمع في ملك مكة، فلما عجز عن ذلك خرج إلى قيصر، فسأله أن يملِّكه على قريش، وقال: أحملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل، وكتب له عهدًا وختمه بالذهب، فهابت قريش "قيصر" وهموا أن يدينوا له، ثم قام الأسود بن المطلب أبو زمعة فصاح، والناس في الطواف: إن قريشا لقاح! لا تملك ولا تملك, وصاح الأسود بن أسد بن عبد العزى: ألا إن مكة حي لقاح، لا تدين لملك. فاتسعت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان مما جاء له، ولم يتم له مراده، فمات عند ابن جفنة؛ فاتهمت بنو أسد ابن جفنة بقتله1, وابن جفنة هو عمرو بن جفنة الغساني2.
ولم يكن عثمان بن الحويرث أول زعيم جاهلي فُتن بالملك وبلقب ملك, الحبيب إلى النفوس، حتى حمله ذلك على استجداء هذا اللقب والحصول عليه بأية طريقة كانت، ولو عن سبيل التودد إلى الأقوياء الغرباء والتوسل إليهم؛ لمساعدتهم في تنصيبهم ملوكًا على قومهم، ففي كتب أهل الأخبار والتواريخ أسماء نفر كانوا على شاكلته، فتنهم الملك وأعماهم الطمع وحملهم ضعف الشخصية وفقر النفس حتى على التوسل إلى الساسانيين والروم، لتنصيبهم على قومهم ومنحهم اللقب الحبيب، ووضع التاج على رأسهم، في مقابل وضع أنفسهم وقومهم في خدمة السادة المساعدين أصحاب المنة والفضل.
ولقد استمات عثمان بن الحويرث في سبيل الحصول على ملك مكة، حتى ذكر
__________
1 نسب قريش "209 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 146".
2 جمهرة ابن حزم "190"، الروض الأنف "1/ 146", نسب قريش "209 وما بعدها".(7/92)
أنه تنصر وتقرب بذلك إلى الروم، وحسنت منزلته عندهم، ومن يدري؟ فلعله كان مدفوعًا مأمورًا حرضه الروم ودفعوه للحصول على المدينة المقدسة؛ ليتمكنوا بذلك من السيطرة على الحجاز والوصول إلى اليمن والسيطرة على العربية الغربية والعربية الجنوبية، وإخضاع جزيرة العرب بذلك لنفوذهم. ولقد جمع القوم ورغبهم وأنذرهم وحذرهم بغضب الروم عليهم إن عارضوا مشروعه وقاوموا تنصيبه ملكًا عليهم, قائلًا لهم: "يا قوم، إن قيصر قد علمتم أمانكم ببلاده، وما تصيبون من التجارة في كنفه, وقد ملكني عليكم، وأنا ابن عمكم، وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة من السمن والأوهاب، فأجمع ذلك ثم أذهب إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام، فلا تتجروا به وينقطع مرفقكم منه"1.
وإذا صح أن هذا الكلام هو كلام "عثمان بن الحويرث" حقًّا، وأنه خاطب به قومه لحثهم على الاعتراف به ملكا على مكة، فإنه يكون كلام رجل عرف من أين يكلم قومه، وكيف يأتيهم! فقد هددهم بأن الروم سيمنعونهم من الاتجار مع الشام إن خالفوه ولم يبايعوه ولم يسلموا له بالملك، وقد كلفه "قيصر" به؛ لأنه يعلم أن تجارة قريش مع بلاد الشام هي مصدر من أهم مصادر رزقهم, ولهذا ظن بأنهم سيخضعون له ويقبلون بما جاء به. ولكن أشراف مكة من أصحاب المال والنفوذ، لم يحملوا هذا التهديد محمل الجد، فالروم لا يهمهم أمر "عثمان" كثيرًا، ثم إن تهديدهم بقطع تجارة قريش مع الشام تهديد لا يمكن تحقيقه، وحدود الشام طويلة ومفتوحة، ولعلهم وجدوا أن كلام "عثمان" هو ادعاء لم يصدر عن الروم، تفوه به، من حيث لا يعلمون, فلم يقيموا له وزنًا.
ولم يذكر أهل الأخبار شيئا عن لقب "البطريق" الذي منحوه لـ"عثمان بن الحويرث"2. ولا أظن أن الروم قد منحوه له؛ لأنهم لم يكونوا يمنحون هذا اللقب المهم إلا لكبار العاملين في خدمتهم، ممن أدى لهم خدمات جليلة، ولا أظن أنه يشير إلى درجة دينية؛ لأنه لم يشتهر بين النصارى شهرة كبيرة ولم ينل من العلم والمكانة ما يؤهله لأن يكون "بطريارخًا" على الكنيسة. وقد ذكر
__________
1 الروض الأنف "1/ 146".
2 نسب قريش "209 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 146".(7/93)
علماء اللغة أن "البطرق", القائد، معرب، وهو الحاذق بالحرب وأمورها، وهو ذو منصب عند الروم1. فلا يعقل أن يكون "عثمان" قد نال هذه المنزلة عند البيزنطيين, وهي منزلة لم ينلها إلا بعض ملوك الغساسنة مع صلتهم القوية بهم.
ومما يذكره أهل الأخبار عن "عثمان" هذا، أنه كان في رؤساء حرب الفجار من قريش, وأنه كان من "بني أسد بن عبد العزى"، وأنه كان أحد الهجائين2.
ومن وجهاء مكة وساداتها المقدمين المعروفين: عبد الله بن جدعان، وكان ثريًّا واسع الثراء، كما كان كريمًا، أسرف في أواخر عمره في إكرام الناس وبالغ في إعطائهم حتى حجر رهطه عليه لما أسن، فكان إذا أعطى أحدًا شيئًا، رجعوا على المعطى فأخذوه منه. فكان إذا سأل سائل، قال: "كن مني قريبا إذا جلست، فإني سألطمك، فلا ترضَ إلا بأن تلطمني بلطمتك، أو تفتدي لطمتك بفداء رغيب ترضاه"3. وإلى هذا الحادث أشار ابن قيس الرقيات:
والذي إن أشار نحوك لطمًا ... تبع اللطم نائل وعطاء4
وينسبه النسابون إلى "بني تيم بن مُرَّة"، ويقولون في نسبه: إنه "عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة", وهو ابن عم والد الخليفة "أبي بكر"5, ويذكرون "أنه كان في ابتداء أمره صعلوكًا ترب
__________
1 اللسان "10/ 9"، "بطريق".
2 الاشتقاق "59"، نسب قريش "210"، المحبر "165، 170".
3 المحبر "ص138"، نسب قريش "256", عيون الأخبار لابن قتيبة "1/ 335", تأريخ الخميس "1/ 256"، سمط النجوم "1/ 201 وما بعدها".
4 المحبر "ص 138"، نسب قريش "293"، وهو من "بني تيم"، وقد أخطأ المستشرق "ليفي بروفنسال" أو من أشرف نيابة عنه على طبع كتاب "نسب قريش", فصير: "بنو تيم" "بنو تميم"، راجع "ص292 س10", و"ص293 س1". والخطأ خطأ مطبعي ولا شك، ولأهميته أشرت إليه.
5 ابن خلدون، القسم الأول، المجلد الثاني "ص674" "بيروت", ابن كثير، البداية والنهاية "2/ 217" "مطبعة السعادة"، ابن حزم، جمهرة أنساب العرب "136".(7/94)
اليدين، وكان مع ذلك شريرًا فاتكًا، لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه، وحلف ألا يؤويه أبدًا، فخرج في شعاب مكة حائرا مائرا يتمنى الموت أن ينزل به، فرأى شقا في جبل، فظن أن فيه حية، فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح، فلم يجد شيئا، فدخل فيه"، فإذا به أمام غار هو مقبرة من مقابر ملوك "جرهم"، وفيه كنوز وأموال من أموالهم ثمينة, من بينها "ثعبان" مصنوع من ذهب، له
الكعبة الشريفة
عينان من ياقوت. ووجد جثث الملوك على أسرَّة، لم ير مثلها، وعليها ثياب من وشي، لا يُمَسُّ منها شيء إلا انتثر كالهباء من طول الزمان، فأخذ من الغار حاجته ثم خرج، وعلَّم الشق بعلامة، وأغلق بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به منه يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم، فسادهم، وجعل ينفق من ذلك الكنز، ويطعم الناس، ويفعل المعروف. وكان(7/95)
كلما احتاج إلى مال ذهب، فاستخرج ما يحتاج إليه من ذلك الكنز, حتى صار من أغنى أغنياء مكة1.
فثراء "عبد الله بن جدعان" هو من هذا الكنز, على زعم رواة هذه القصة التي يتصل سندها بـ"عبد الملك بن هشام" راوية "كتاب التيجان"، وهو كتاب مليء بالأقاصيص والأساطير، وقد تكون القصة صحيحة، فعثور الناس على كنوز ودفائن من الأمور المألوفة، وقد عثر غيره ممن جاءوا قبله أو جاءوا بعده على كنوز، بل ما زال الناس حتى اليوم يعثرون عليها مصادفة أو في أثناء الحفر والتنقيب. والشيء الغريب فيها هو هذا التزويق والنتميق، وهو أيضا شيء مألوف بالنسبة إلينا، وغير غريب وقد تعودنا قراءته، فمن عادة القصاصين ورواة الأساطير والأباطيل الإغراب في كلامهم والكذب فيه لأسباب لا مجال لذكرها هنا، وعلى رأس هذه الطائفة "وهب بن منبه" صاحب "كتاب التيجان".
وذكر أنه لثرائه كان لا يشرب ولا يأكل إلا بآنية من الذهب والفضة, فعرف لذلك بـ"حاسي الذهب"2.
ويذكر أهل الأخبار أن "عبد الله بن جدعان" كان نخاسًا، له جوارٍ يساعين، ويبيع أولادهن. فكانت جواريه تؤجر للرجال، وما ينتج عن هذا السفاح من نسل يربى، فيبقي منه عبد الله ما يشاء ويبيع منه ما يشاء3. ولكنه مع اتجاره بالرقيق، وعلى النحو المتقدم، كان -كما يقولون- يعتق الرقاب, ويعين على النوائب، ويساعد الناس, ويقضي الحاجات4، ولا سيما بعد تقدمه في السن.
__________
1 البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 217 وما بعدها"، تأريخ الخميس "1/ 255", عبد الملك بن حسين بن عبد الملك العصامي المالكي، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي "1/ 199", ابن الأثير، الكامل "1/ 359".
2 أيام العرب "248".
3 المسعودي، مروج "4/ 145" "طبعة باريس"، الثعالبي، لطائف المعارف "128" "الأبياري", المعارف لابن قتيبة "576".
4 البداية، لابن كثير "2/ 229".(7/96)
ولا يستبعد أن يكون ما ذكره أهل الأخبار عن "عبد الله بن جدعان"، هو من صنع حساده ومبغضيه ممن حسدوه على ما بلغ إليه بمكة من مركز وجاه. ومثل هذا التشنيع على الناس شائع مألوف, لا سيما وقد كان في الأصل فقيرا غير موسر، فغني بجده واجتهاده, فتقوَّل عليه حساده من أهل زمانه تلك الأقوال.
وقد عرف "ابن جدعان" بإكرام الناس وبالإنفاق على أهل مدينته, وروى أهل الأخبار أمثلة عديدة على جوده وسخائه. من ذلك: ما رووه من أنه كان قد وضع جفنة كبيرة ملأها طعامًا ليأكل منها الناس، وكانت الجفنة على درجة كبيرة من السعة بحيث غرق فيها صبي كان قد سقط فيها. وذكروا أن الرسول قال: "لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكَّة عُمَيّ" أي: وقت الظهيرة1. ووصفوا الجفنة فقالوا: إنها "كانت لابن جدعان في الجاهلية، يطعم فيها الناس، وكان يأكل منها القائم والراكب لعظمها"2. يأكل الراكب منها، وهو على بعيره من عرض حافتها وكثرة طعامها3.
وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق ويسقي اللبن، حتى سمع قول أمية بن أبي الصلت:
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ... فرأيت أكرمهم بني الديَّان
البر يُلْبَك بالشهاد طعامهم ... لا ما يعللنا بنو جدعان
فبلغ ذلك عبد الله بن جدعان، فوجه إلى اليمن من جاءه بمن يعمل الفالوذج بالعسل، فكان أول من أدخله بمكة، وجعل مناديا ينادي كل ليلة بمكة على ظهر الكعبة: أن هلموا إلى جفنة ابن جدعان. فقال أمية بن أبي الصلت:
له داعٍ بمكة مشمعل ... وآخر فوق كعبتها ينادي4
إلى ردحٍ من الشيزي ملاءٍ ... لُباب البر يلبك بالشهاد5
__________
1 ابن كثير، البداية "2/ 217"، اللسان "10/ 457"، عيون الأخبار "3/ 268", "كتاب الطعام".
2 ابن كثير, البداية "2/ 217"، سمط النجوم "1/ 199"، اللسان "10/ 457".
3 ابن كثير "2/ 229".
4 وفي رواية أخرى: "فوق دارته" بدلًا من "فوق كعبتها"، وهناك اختلافات أخرى في رواية هذه الأبيات وغيرها.
5 البداية "2/ 217"، وذيل الأمالي والنوادر للقالي "38", الأغاني "8/ 329".(7/97)
ويذكر أهل الأخبار أن "أمية" كان قد أتى "بني الديان" فدخل على "عبد المدان بن الديان" من بني الحارث بن كعب بنجران، فإذا به على سريره وكأن وجهه قمر، وبنوه حوله، فدعا بالطعام، فأُتي بالفالوذج، فأكل طعامًا عجيبًا ثم انصرف فقال في ذلك الشعر المذكور، فلما بلغ شعره "ابن جدعان", أرسل ألفي بعير إلى الشام تحمل إليه البُرَّ والشهد والسمن، وجعل له مناديين يناديان: أحدهما بأسفل مكة والآخر بأعلاها، وكان أحدهما سفيان بن عبد الأسود، والآخر أبا قحافة، وكان أحدهما ينادي: ألا من أراد اللحم والشحم، فليأتِ دار ابن جدعان، وينادي الآخر: إن من أراد الفالوذج فليأتِ إلى دار ابن جدعان. وهو أول من أطعم الفالوذج بمكة1.
وذكر "الجاحظ" أن من أشرف ما عرفه أهل مكة من الطعام، هو "الفالوذ", ولم يطعم الناس منهم ذلك الطعام، إلا عبد الله بن جدعان2.
ولبعض أهل الأخبار رواية أخرى في كيفية وقوف "ابن جدعان" على الفالوذ "الفالوذج" وإدخاله إلى مكة، وترجع هذه الرواية إلى الفرس، فيقول: وفد "ابن جدعان" على كسرى، فأكل عنده الفالوذ، فسأل عنه فقيل له: هذا الفالوذ، قال: وما الفالوذ؟ قالوا: لُباب البُرِّ يُلْبَكُ مع عسل النحل؛ فأعجبه، فابتاع غلامًا يعرف صنعه، ثم قدم به مكة معه، ثم أمره فصنع له الفالوذ بمكة، فوضع الموائد بالأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أراد الفالوذ فليحضر، فحضر الناس. فكان فيمن حضر أمية بن أبي الصلت3.
وذكر أنه كان يضع "الحَيْس" على أنطاع على الأرض ليأكل منها القاعد والراكب, والحيس: الأَقِطُ يخلط بالتمر والسمن. وقد يُجعل عوض الأقِط الدقيقُ والفتيت. وقيل: الحيس: التمر والأقط يُدقان ويعجنان بالسمن عجنا شديدا حتى يندر النوى منه نواةً نواةً، ثم يسوى كالثريد. وهو الوَطْبة أيضا، ألا أن الحيس ريما جعل فيه السويق، وإما الوطبة فلا4.
__________
1 سمط النجوم "1/ 199"، ذيل الأمالي والنوادر "38".
2 البخلاء "210" "طه الحاجري".
3 الأغاني "8/ 329".
4 الجاحظ، الحيوان "3/ 403"، لسان العرب "6/ 61".(7/98)
ويروي أهل الأخبار أن أهل مكة كانوا يفدون على مائدة "ابن جدعان", وأن رسول الله كان فيمن حضر طعامه1.
ورُوِيَ أن الرسول لما أمر بأن يستطلع خبر القتلى من قريش يوم بدر، وأن تلتمس جثة "أبي جهل" في القتلى، قال لهم: " انظروا إن خفي عليكم في القتلى، إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يومًا أنا وهو على مأدبة لعبد الله بن جدعان، ونحن غلامان، وكنت أشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه، فخدشت ساقه وانهشمت ركبته، فأثرها باقٍ في ركبته ", فوجدوه كذلك2.
ويذكر أهل الأخبار أن "عبد الله بن جدعان" كان قد مثل قومه "بني تيم" في الوقت الذي أرسلته قريش إلى "سيف بن ذي يزن"، واسمه "النعمان بن قيس"؛ لتهنئته بظفره بالحبشة، وإخراجهم من وطنه. وكان هذا الوفد في وفود من العرب جاءته لتهنئته، وفيها شعراء وأشراف وسادات قبائل. وقد كان في وفد قريش: عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وخويلد بن أسد، ووهب بن عبد مناف. وقد قدمت تلك الوفود إلى صنعاء، ودخلت قصره: قصر غُمدان3.
ويروى أن عبد الله بن جدعان كان عقيمًا، لم يولد له ولد4, فتبنى رجلًا سماه "زهيرًا" وكناه "أبا مليكة"، فولده كلهم ينسبون إلى "أبي مليكة", وفقد "أبو مليكة" فلم يرجع5.
وكانت له بئر بمكة تسمى "الثريا", وقد ذكر أن "بني تيم" حفروها6.
__________
1 اللسان "10/ 457"، أيام العرب "329". "2/ 217".
2 ابن هشام "2/ 288"، سمط النجوم "2/ 202"، البداية لابن كثير "2/ 217".
3 ابن عساكر, التأريخ الكبير، "1/ 361"، العقد الفريد "2/ 23" "لجنة التأليف" ابن كثير، البداية والنهاية "2/ 328".
4 المحبر "ص97"، "ومن ولده: عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة بن عبد الله بن جدعان ... وعلي بن عبد الله بن أبي مليكة بن عبد الله بن جدعان", نسب قريش "293".
5 المعارف "ص475"، المحبر "ص307".
6 الحموي، المشترك "87"، البلدان "2/ 77"، الأزرقي، أخبار مكة "440", "لايبزك".(7/99)
وذكر أن دار عبد الله بن جدعان كانت في "ربع بني تيم"، وكانت شارعة على الوادي.1 وكانت دارا فخمة، وبقيت مشهورة معروفة بمكة حتى بعد وفاته.
وبهذه الدار عقد "حلف الفضول"؛ وذلك لشرفه ومكانته بين أهل مكة إذ ذاك, ولثرائه الضخم دخل كبير في ذلك، ولا شك. وقد صنع للمدعوين طعاما كثيرا قدمه إليهم، ثم عقد الحلف. وكان الرسول ممن شهده، وهو ابن عشرين أو خمس وعشرين, وكان يتذكره ويقول: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أُحب أن لي به حمر النعم, ولو دعي به في الإسلام لأجبت "2, أو " أما لو دعيت في الإسلام لأجبت، وأحب أن لي به حمر النعم، وإني نقصتُه وما يزيده الإسلام إلا شدة "3.
وقد تكون حلف الفضول من هاشم، و"المطلب"، و"أسد"، و"زهرة"، و"تيم"، وربما من "بني الحارث بن فهر" أيضًا, وهم الذين كونوا حلف المطيبين. ولذلك ذهب بعض الباحثين إلى أن حلف الفضول, هو استمرار للحلف المذكور, إذ تألف من الأسر التي كانت ألفت ذلك الحلف ما خلا "بني عبد شمس" و"بني نوفل". وكان قد وقع نزاع بين "نوفل" و"عبد المطلب بن هاشم"، فعلَّه كان السبب في عدم انضمام "نوفل" إلى هذا الحلف، وقد تعاون "نوفل"، و"عبد شمس"، ووجدا في استطاعتهما التعاون بينهما من غير حاجة إلى الدخول في حلف الفضول؛ ولهذا لم يكن حلف الفضول في نظر هؤلاء، غير حلف من أحلاف الأسر، ولم يكن على رأيهم لنصرة الضعيف وإنصاف المظلوم، على نحو ما جاء في روايات أهل الأخبار.4
__________
1 أخبار مكة "ص 468" "لايبزك".
2 المقدسي، البدء والتأريخ "4/ 137", تأريخ الخميس "1/ 261"، النويري، نهاية الأرب "6/ 267"، البخلاء "2/ 12", ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "15/ 203"، طبقات ابن سعد "1/ 126، 128"، مروج "4/ 122 وما بعدها" "باريس".
3 النويري، نهاية الأرب "6/ 267"، سمط النجوم العوالي "1/ 190", ابن هشام "1/ 190"، البداية "2/ 291 وما بعدها"، ابن خلدون "القسم الأول، المجلد الثاني ص706 وما بعدها" ابن الأثير، الكامل "ذكر حلف الفضول"، اللسان "11/ 527".
4 Annail I, 164, Watt, Muhammad at Mecca. P. 6,.(7/100)
وروي أنه لمكانة "عبد الله" التي بلغها عند قومه وعند العرب، كانت العرب إذا قدمت عكاظًا دفعت أسلحتها إليه حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم، ثم يردها عليهم إذا ظعنوا.
وكان يحافظ على الأمانات محافظة شديدة، فلما جاءه "حرب بن أمية" صديقه، وهو من وجهاء مكة وأثريائها كذلك، قائلًا له: أحتبس قِبَلَكَ سلاحَ هوازن وذلك يوم نخلة من أيام الفجار الثاني، أجابه ابن جدعان: أبالغدر تأمرني، يا حرب؟ والله لو أعلم أنه لم يبقَ منها سيف إلا ضُربت به، ولا رمح إلا طعنت به، ما أمسكت منها شيئًا. ثم أبى إلا تسليم السلاح إليهم1.
وقد أسهم "ابن جدعان" في أيام الفجار، وكان على "بني تيم"2, وأمد قومه بالسلاح والمال, فأعطى مائة رجل سلاحا تاما كاملا وذلك "يوم شمطة", غير ما ألبس من بني قومه والأحابيش3, وحمل مائة رجل على مائة بعير، وقيل: ألف رجل على ألف بعير، وذلك يوم "يوم شرب"4, أو يوم عكاظ5, وله أخ اسمه "كلدة بن جدعان" قتل في الفجار6.
وكان "ابن جدعان" يشرب الخمر على عادة الجاهليين في شربها، بقي يشربها حتى كبر فعافها، ودخل فيمن عاف الخمر على كِبَره من سادات قريش وأشرافها. وكان من عادتهم إذا كبروا ولعب بهم العمر، حرموا شرب الخمر على أنفسهم، "ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية إلا ترك الخمر استحياءً مما فيها من الدنس. ولقد عابها ابن جدعان قبل موته"7.
ويروون في سبب تركه لها قصتين: قصة تقول: إنه عافها؛ لأنه سكر مرة
__________
1 أيام العرب "329".
2 ابن الأثير، الكامل "1/ 359 وما بعدها"، تأريخ الخميس "1/ 255"، البدء والتأريخ "4/ 134 وما بعدها".
3 ابن الأثير، الكامل "1/ 361"، الصحاح "2/ 778", نهاية الأرب "15/ 427 وما بعدها", أيام العرب "331".
4 سمط النجوم "1/ 196"، نهاية الأرب "15/ 429".
5 أيام العرب "334".
6 نسب قريش "291".
7 الأغاني "8/ 332", نسب قريش "292 وما بعدها".(7/101)
ففقد رشده فاعتدى على أمية بأن لطم عينه، فندم على ما فعل حين سمع بالخبر، وقال: "وبَلَغَ مني الشراب ما أبلغ معه من جليس هذا المبلغ؟ فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: الخمر عليَّ حرام، ألا لا أذوقها أبدًا", ثم قال شعرًا في ذم الخمر وفي وصف حاله إذ ذاك1.
ومن الرقيق الذي كان في ملك "ابن جدعان" واكتسب شهرة في الإسلام "صهيب الرومي". بِيعَ في سوق النخاسة، ثم وضع في شراء "ابن جدعان"، وبقي في ملكه إلى أن هلك سيده، ويقال: إنه أعتقه وهو في حياته, وإنه لازمه حتى مماته2.
وقد كان "ابن جدعان" يلتزم من يستجير به، ويحمي من يأوي إليه. وكان "الحارث بن ظالم" قاتل "خالد بن جعفر بن كلاب" وهو في جوار ملك الحيرة, في جملة من لجأ إلى "ابن جدعان" حين طلبه ملك الحيرة، وبقي في جواره وبمكة حتى أتاه ملك الحيرة. ويقال: إن "الحارث بن ظالم" قدم على عبد الله بن جدعان بعكاظ، وهم يريدون حرب قيس، فلذلك نكس رمحه، ثم رفعه حين عرفوه وأمن. وكانو إذا خافوا فوردوا على من يستجيرون به، أو جاءوا لصلح، نكسوا رماحهم, ويوم عكاظ من أيام الفجار3.
ورجل ثري وجيه له مكانة ومنزلة عند بني قومه، لا بد أن يصير مرجعًا للناس، يرجعون إليه في المنازعات والخصومات، ليحكم بينهم بما لديه من رجاحة عقل وسلطان؛ لذلك كان في جملة حكام العرب الذين تُحُوكِمَ إليهم4.
ولأمية بن أبي الصلت شعر في مدح "عبد الله بن جدعان"، نجده في ديوان أمية وفي كتب الأدب. وقد كان من المقربين عند "أبي زهير"5, ومن المكرمين له بسخاء، وكان يعطيه دائمًا. ونجد لأمية شعرًا يطلب فيه من
__________
1 نهاية الأرب "4/ 88".
2 المعارف "264"، أنساب الأشراف "1/ 180".
3 أنساب الأشراف "1/ 42 وما بعدها".
4 البخلاء "ص214".
5 الجاحظ, البيان والتبيين "1/ 17"، الأغاني "8/ 327 وما بعدها".(7/102)
"ابن جدعان" إعطاءه مالًا1.
وكان هلاك "ابن جدعان" قبل سنوات من المبعث2, وذكر "البلاذري" أن هلاكه كان قبل المبعث ببضع عشرة سنة3, ولما مات دفن بمكة4. وذكر في رواية أخرى أنه دفن بموضع "برك الغماد"، وراء مكة بخمس ليالٍ بينها وبين اليمن مما يلي البحر أو بين حلى وذهبان.
وفيه يقول الشاعر:
سقى الأمطار قبر أبي زهير ... إلى سقف إلى برك الغماد 5
ومن رجال مكة الأغنياء "الأسود بن المطلب" المعروف بـ"أبي زمعة", و"زمعة" ابنه، قُتل يوم "بدر" في جملة من قُتل من رجال قريش, وكان يقال له: "زاد الركب"6. وقد عرف ولده الأسود بـ"زاد الركب" كذلك7. وكان الأسود ممن أدرك أيام الرسول وعارضه, وعده "ابن حبيب" في جملة المستهزئين من قريش بالرسول، وممن مات كافرا بعد أن أصابه العمر8.
وكان "الأسود" نديمًا للأسود بن عبد يغوث الزهري, وكانا من أعز قريش في الجاهلية، وكانا يطوفان بالبيت متقلدين بسيفين سيفين, وكانا من المستهزئين بالرسول9. وذكر أن "الأسود بن عبد يغوث" كان إذا رأى المسلمين، قال لأصحابه: "قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى وقيصر. ويقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أما كلمت اليوم من السماء، يا محمد؟
__________
1
أأطلب حاجتي؟ أم قد كفاني ... حياؤك؟ إن شيمتك الحياء
ابن عساكر، التأريخ الكبير "3/ 122".
2 الإصابة "2/ 279"، البداية "2/ 218"، تأريخ الخميس "1/ 256", سمط النجوم "1/ 202".
3 أنساب الأشراف "1/ 180".
4 المعارف "ص175".
5 تاج العروس "7/ 107"، "برك".
6 الاشتقاق "ص58"، نسب قريش "218 وما بعدها".
7 المحبر "ص137".
8 المحبر "ص159"، البلاذري، أنساب "1/ 149 وما بعدها".
9 المحبر "174".(7/103)
وما أشبه هذا القول". مات حين هاجر النبي, ودفن بالحجون1.
وكان "زمعة بن الأسود" تاجرًا، متجره إلى الشام. وعرف بالدقة في العمل وفي وضع خطط سفره وتجارته, "فكان إذا خرج من عند أبيه في سفر، قال: أسير كذا وكذا، وآتي البلد يوم كذا وكذا، ثم أخرج يوم كذا وكذا، فلا يخرم مما يقول شيئًا"2.
ومن سادات قريش: "يزيد بن زمعة بن الأسود", وكانت إليه المشورة. وذلك أن رؤساء قريش لم يكونوا مجتمعين على أمر حتى يعرضوه عليه، فإن وافقه ولاَّهم عليه، وإلا تخير، وكانوا له أعوانا. وقد أسلم، واستشهد مع الرسول بالطائف3.
ويعد حرب بن أمية من وجهاء مكة وسيدًا من سادات كنانة، وكان أمر كنانة كلها إليه يوم شمطة4. واشترك يوم عكاظ، وقيد نفسه ومعه سفيان وأبو سفيان بن أمية بن عبد شمس؛ وذلك كي يثبتوا في أماكنهم ويتقوى بذلك قومهم, فيثبتوا في القتال5. وكان من أثرياء مكة المعروفين.
ومن سادات مكة: "هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم" وكان له ولبنيه صيت بمكة وذكر عالٍ6. وذكر أنه كان سيد قريش في دهره، ولما مات صار يوم موته من أيام مكة المشهورة حتى إنهم أرخوا بموته7, ونادى منادي مكة في أمثال هذه المناسبات: "اشهدوا جنازة ربكم", وكان سيدًا مطاعًا8. وظل يوم وفاة "هشام" يومًا يؤرخ به سبع سنين إلى أن
__________
1 البلاذري، أنساب "1/ 131 وما بعدها".
2 المحبر "ص 158 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "1/ 249".
4 أيام العرب "331".
5 أيام العرب "334".
6 الاشتقاق "60".
7 وأصبح بطن مكة مقشعرًّا
كأن الأرض ليس بها هشام
الاشتقاق "92"، نسب قريش "301".
8 الاشتقاق "63", المحبر "139"، المعارف "32".(7/104)
كانت السنة التي بنوا فيها الكعبة، فأرخوا بها1. وهو من الرجال الذين نعتوا بين قومهم بـ"زاد الركب"؛ لأنه كان يُقري المسافرين الذين يسافرون معه2.
ومن أبناء "هشام بن المغيرة" المذكور "أبو جهل" و"الحارث بن هشام". أما "الحارث بن هشام" فقد عرف بالكرم والجود. ذكر أن داره كانت مفتوحة للضيوف يدخلون, وإذا جفانٍ مملوءة خبزًا ولحمًا, وهو جالس على سرير يحث الناس على الأكل. ويروى أن "أبا ذر" قدم مكة معتمرًا، فقال: "أما من مضيف؟ " قالوا: "بلى كثير, وأقربهم منزلًا الحارث بن هشام". فأتى بابه، فقال: "أما من قِرًى؟ " فقالت له جارية: "بلى". فأخرجت إليه زبيبًا في يدها. فقال: "ولِمَ لَمْ تجعليه في طبق؟ " فعُلم أنه ضيف, وقالت: "ادخل" فدخل, فإذا بالحارث على كرسي وبين يديه جفانٍ فيها خبز ولحم, وأنطاع عليها زبيب. فقال: "أصب" فأكل, ثم قال: "هذا لك". فأقام ثلاثًا ثم رجع إلى المدينة، فأخبر النبي خبره، فقال: "إنه لسري ابن سري, وددت أنه أسلم"3. وكان نديمًا لحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد4.
وأما "أبو الحكم: عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن مُرَّة"، فكان من رجال "بني مخزوم" المعدودين ومن المعادين للإسلام، بل كان على رأس أشد الناس عداوةً للرسول، وقد كناه الرسول بـ"أبي جهل" لأنه كان يكنى قبل ذلك بـ"أبي الحكم" فاشتهر بهذه الكنية، حتى لم يعد يعرف إلا بها في الإسلام5. وكان من المقتسمين، وهم سبعة عشر رجلًا من قريش اقتسموا عقاب مكة, فكانوا إذا حضروا الموسم يصدون الناس عن رسول الله, وفيهم نزلت: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} 6.
__________
1 المحبر "139"، الأغاني "15/ 11".
2 الاشتقاق "92".
3 المحبر "ص139 وما بعدها", نسب قريش "301".
4 المحبر "ص176".
5 المحبر "ص139"، البلاذري، أنساب "1/ 125".
6 المحبر "160".(7/105)
وكان من المطعمين لحرب يوم بدر, نحر عشرًا1. وكان نديمًا للحكم بن أبي العاص بن أمية, و"الحكم" هذا هو الطريد2.
وأخبر "ابن الكلبي" أن أخوين من "بني سليم"، دخلا مكة معتمرين, فما وجدا بها شراء ولا قرى، فبينا هما كذلك إذ رأيا قوما بمضون، فسألا: "أين هؤلاء القوم؟ " فقيل لهما: يريدان الطعام. فمضيا في جملتهم حتى أتوا دارًا فولجوها، فإذا رجل آدم، أحول، على سرير وعليه حلة سوداء, وإذا جفانٍ مملوءة خبزا ولحما. فقعدوا فأكلوا, فشبع أحد الأخوين وقال لأخيه: "كم تأكل؟ أما شبعت؟ ". فقال الجالس على السرير: "كُلْ, فإنما جعل الطعام ليؤكل". فلما فرغوا, خرجوا من باب الدار غير الذي دخلوا منه, فإذا هم بإبل موقوفة، فقالوا: "ما هذه الإبل؟ " قيل: للطعام الذي رأيتم. وكان الرجل الجالس على السرير صاحب الطعام, فإذا به أبو جهل بن هشام3.
ويظهر أنه كان قاسيًا قسا حتى على النساء، فعذب عددًا منهن بنفسه عذابًا أليمًا. عذب "زنيرة"، وكانت لبني مخزوم حتى عميت، وعذب غيرها حتى هلكت، وممن هلكن "سمية" أم عمار بن ياسر4. وكان يأتي من يسلم، فيكلمه ليفتنه عن دينه: يأتي الرجل الشريف، ويقول له: أتترك دينك ودين أبيك، وهو خير منك؟ ويقبح رأيه وفعله, ويسفه حلمه. وإن كان تاجرًا يقول له: ستكسد تجارتك، ويهلك مالك. وإن كان ضعيفًا, أوصى بمن يعذبه حتى يترك دينه. جاء مرة دار أبي بكر، فلما لم يجده لطم خد أسماء ابنته لطمة طرح قرطها. وكان فاحشًا بذيئًا5.
ويذكر أهل الأخبار أنه كان لا يبالي في أكل حقوق الغرباء القادمين إلى
__________
1 المحبر "161".
2 المحبر "ص176".
3 "فاذا هو أبو جهل بن هشام"، هكذا في نهاية الخبر. بينما الخبر يخص الحارث بن هشام، كما جاء في أوله، راجع المحبة "ص139", ويظهر أن مراده من الخبر الثاني الخاص بالأخوين: "أبو جهل"؛ لأنه كان أحول كما هو بهذا الخبر, وقد كان أبو جهل من الحولان الأشراف، المحبر "ص303".
4 ابن الأثير، الكامل "2/ 47 وما بعدها".
5 ابن الأثير, الكامل "2/ 47 وما بعدها".(7/106)
مكة، فماطل مرة في أثمان إبل اشتراها من رجل من "أراش"، وماطل مرة أخرى في إبل أخذها من رجل من "زبيد"، ولم يدفع أثمانها ولم يعوض عنها إلا بالتجاء الرجلين إلى النبي، فأخذ حقهما منه، وانتصف منه. ويظهر أن "أبا جهل" وإن كان قاسيًا بغيضًا للرسول مؤذيًا له، غير أنه كان يخشاه إذا رآه ووقف أمامه، وأما إيذاؤه له, فكان بانتهاز غفلة يعتدي فيها على الرسول, أو بتحريض غيره للتحرش به1.
وعرف "عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية" بالجود، وذكر أنه كان معرقًا به. كان جوادًا ابن جواد ابن جواد ابن جواد2.
وكان الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، من أشراف مكة وسادتها, وقد عرف بين قومه بـ"العدل". وذكر أنه إنما عرف بذلك؛ لأنه كان يعدل قريشًا كلها، فكانت قريش تكسو الكعبة جميعها، ويكسوها الوليد وحده، وذلك لثرائه وغناه. قيل: إنه كان له مال وزرع بالطائف، وكان يملك حديقة بها غرس فيها الأشجار والفواكه3, وقد كان لذلك متعاليًا متغطرسًا. فلما أظهر الرسول الإسلام، كان مثل بقية سراة مكة وأغنيائها من المعادين له؛ لأنه أنف أن يتبع رجلًا هو دونه في المال والاسم والثراء, فكافح الإسلام, واستهزأ بالرسول وبالإسلام، وكان أحد "المستهزئين" الذين نزلت بحقهم آيات تعنفهم وتوبخهم وتصفهم بالكفر وبالغرور والاستكبار، وأنه كان يرى أن من الذلة الخضوع للرسول؛ لأنه دونه مالًا ونفرًا4.
وقد كان "الوليد" من الحكام الذين تُحُوكِمَ إليهم, وإليه تحاكم بنو عبد مناف في موضوع قتل "خداش" إنسانًا منهم5. وقد عرف بـ"ابن صخرة" نسبة إلى أمه6, وذكر أنه كان في جملة من حرَّم في الجاهلية الخمر على نفسه
__________
1 البلاذري، أنساب "1/ 130".
2 المحبر "ص140 وما بعدها".
3 Ency., Iv, p. 111.
4 تفسير الطبري "5/ 36"، ابن هشام "1/ 72 وما بعدها".
5 المحبر "ص337".
6 المحبر "ص337".(7/107)
وضرب فيها ابنه هشامًا على شربها1. وقد عده "ابن حبيب" في جملة زنادقة قريش، وذكر أنه وجماعته تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة2، ولم يفسر قصده من الزندقة.
ويذكرون أن "الوليد" كان أسنَّ قريش يوم حكم في قضية "خداش"، وحكم فيها بـ"القَسامة"، فكان بذلك أول من سن "القسامة" في قريش3.
ومات الوليد بعد الهجرة بثلاثة أشهر أو نحوها، ودفن بالحجون4. وذكر "محمد بن حبيب" أن "أبا أحيحة" كان نديمًا للوليد بن المغيرة, على عادة القوم في اتخاذ الندماء5.
وأبو "أحيحة" هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، المعروف بـ"ذي العمامة"؛ لأنه كان لا يعتم أحد بمكة بلون عمامته إعظامًا له6, كما عرف بـ"ذي التاج" وذلك للسبب نفسه7, وقد ذكره "أبو قبيس بن الأسلت" في شعر ينسب إليه8. وكان مثل أكثر رجال تاجرًا, قدم مرة الشام في تجارة، فحبسه "عمرو بن جَفْنَةَ"؛ حبسه مع هشام بن سعد العامري، وبقي في محبسه حتى جاء بنو عبد شمس، فافتدوه بمال كثير9.
وكان أبو أحيحة ممن أخذتهم العزة من أشراف مكة، فلم يقبلوا الدخول في الإسلام, وممن أظهر عداوته للرسول، خاصة بعد تحريض النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة له على معاداته. وقد كان مثل سائر أشراف مكة يرى أن الأمر العظيم يجب أن يكون في العظماء, وهو من العصبة التي أشير إليها في هذه
__________
1 المحبر "237".
2 المحبر "161".
3 المحبر "ص337".
4 البلاذري، أنساب "1/ 134".
5 المحبر "174"، البلاذري، أنساب "1/ 134".
6 المحبر "ص165", الاشتقاق "ص49".
7 الطبري "2/ 398"، المحبر "165", البلاذري، أنساب "1/ 141".
8 البيان والتبيين "3/ 97"، البلاذري، أنساب "1/ 141".
9 البيان والتبيين "3/ 97"، الإصابة "3859".(7/108)
الآية: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ, أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} 1.
وقد مات أبو أحيحة بماله في الطائف في السنة الأولى، أو في السنة الثانية من الهجرة, مات كافرًا وقد بني له قبر مشرف. وقد رأى أبو بكر قبره فسبه، فسب ابناه أبا قحافة، فنهى النبي عن سب الأموات؛ لما يثير ذلك من عداوة بين الأحياء، ولما فيه من إهانة للأموات2.
وقد ساهم "أبو أحيحة" بثلاثين ألف دينار في رأس مال القافلة التي تولى قيادتها أبو سفيان. ومبلغ مثل هذا ليس بشيء قليل بالنسبة إلى الوضع المالي في تلك الأيام.
ومن سادة قريش: الأسود بن عامر بن السبَّاق بن عبد الدار بن قصي3.
ومن رجال بني فِهر: ضِرار بن الخطاب بن مرداس بن كبير بن عمرو بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب. وكان فارس قريش في الجاهلية، وأدرك الإسلام. وكان شاعرًا فارسيًّا, وقد أخذ مرباع بني فهر في الجاهلية4.
ومن رجال بني عامر بن لؤي: عمرو بن عبد ود بن أبي قيس، كان فارس قريش في الجاهلية، بل فارس كِنانة, قتله علي بن أبي طالب5. ومن "بني عبد ود" سهيل بن عمرو، وكان من رجال قريش في الجاهلية، ثم أسلم، وهو الذي بعثته قريش يحكم الهدنة بينهم وبين النبي, يوم الحديبية6.
ومن سادات قريش: قيس بن عدي بن سعد بن سهم. وقد ضرب به المثل في العز حتى قيل: "كأنه في العز قيس بن عدي", وكان يأتي الخمار وبيده مقرعة، فيعرض عليه خمره، فإن كانت جيدة، وإلا قال له: "أجد
__________
1 الزخرف، الرقم 43, الآية 31 وما بعدها، البلاذري، أنساب "1/ 141".
2 الطبري "2/ 398"، أنساب الأشراف "1/ 142".
3 الاشتقاق "ص100".
4 الاشتقاق "ص64".
5 الاشتقاق "ص68".
6 الاشتقاق "ص69".(7/109)
خمرك، ثم يقرع رأسه وينصرف"1. وذكر أنه كانت له قينتان يجتمع إليهما فتيان قريش: أبو لهب وأشباهه، وهو الذي أمرهم بسرقة الغزال من الكعبة، ففعلوا فقسمه على قيانه، وكان غزالًا من ذهب مدفونًا، فقطعت قريش رجالًا ممن سرقه، وأرادوا قطع يد أبي لهب، فحمته أخواله من خزاعه2. وذكر أن "مقيس بن عبد قيس بن قيس بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم"، هو صاحب قصة الغزال3.
وكان "الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم"، أحد المستهزئين المؤذين لرسول الله، وهو "ابن الغيطلة". وهو الذي نزلت فيه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ، وكان يأخذ حجرًا، فإذا رأى أحسن منه تركه وأخذ الأحسن. وكان دهريا يقول: "لقد غر محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث"4.
وممن اشتهر من بني عبد شمس: "عتبة بن ربيعة بن عبد شمس"5، وكان نديمًا لمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف6.
أما أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن مناف، ويكنى أيضًا بأبي حنظلة، فكان مثل سائر رجال مكة تاجرًا صاحب أسفار، ثريًّا، جمع مالًا من تجارته. وكان صاحب "عير قريش"، فهو المؤتمن عليها وهو قائدها، وهو رجل جد خبير بالطرق والمسالك. وقد نجح في كل أسفاره، وأوصل تجارة مكة إلى أماكنها سالمة مضمونة، فلم يتمكن المسلمون من مفاجأته وأخذه مع أموال قريش وتجارتهم العظيمة التي تحت قيادته، حينما كان قافلًا من
__________
1 المحبر "ص178"، جمهرة النسب "156".
2 فلذلك يقول بعض شعرائها:
همو منعوا الشيخ المنافيَّ بعدما
رأى حمة الأزميل فوق البراجم
الاشتقاق "76".
3 شرح ديوان حسان "47"، "للبرقوقي".
4 البلاذري، أنساب "1/ 132".
5 المحبر "ص160", ابن هشام، السيرة "2/ 262".
6 المحبر "ص175".(7/110)
بلاد الشام يريد مكة، إذ أحس بالخطر، فغير طريقه وسلك طريق الساحل, وأفلت مع قافلته ورجالها، وعدتهم سبعون، ووصل إلى مكة سالمًا، فنشبت على أثر ذلك معركة بدر1.
وكانت قيادة قريش في الحرب إلى أبي سفيان أيضًا، ورثها من أبيه2. ورجل له فضل قيادة عير قريش، وقيادة مكة في الحرب، لا بد أن يكون في مقدمة سادات مكة وعلى رأس طبقتها المحافظة ذات العنجهية، التي ترى أن لها حق الرئاسة والزعامة والكلمة والرأي.
وليس لأحد مكانة إلا إذا كان ذا مال وجاه وحَسَب، وعلى الباقين طاعة السادة، ومراعاة سنن الآباء والأجداد، والإخلاص لعبادة الآباء والأجداد، والدفاع عن آلهة الكعبة التي كانت السبب في إعطاء قريش منزلة خاصة عند العرب.
وكان -فضلًا عن هذا وذاك- رجلًا صاحب لسان، ينظم الشعر ويجيد الهجاء, ويحسن النزول إلى أسوأ مستوًى يصل إليه السوقي والحوشة من الإقذاع في الكلام وإلحاق الأذى بالناس. وقد أظهر قابلياته في ذلك في عناده ضد الإسلام, وفي إيذائه الرسول وفي إلحاقه الأذى بالمسلمين, وقد هيأ كل ما عنده من مواهب وكفايات وقدرات مالية لمقاومة الإسلام ولمحاربة الرسول وللقضاء على الدعوة التي جاءت مقوضة لديانة الآباء والأجداد من عبادة الأصنام، ومن المحافظة على العرف، ومن تحطيم الزعامة، والخضوع لحكم الفقراء والرقيق. وفي القرآن الكريم آيات نزلت في حقه، وقد كان من المحرضين العاملين في معركة أحد3. ويذكر أنه ذهب إلى الشام واتصل بـ"هرقل" وأخذ يحرضه على الرسول, ولكن الروم لم يبالوا بتحريضه, فعاد إلى مكة4.
__________
1 الطبري "2/ 131".
2 أخبار مكة "1/ 66".
3 البداية "4/ 9"، "المطبعة السلفية"، اليعقوبي "2/ 35"، الطبري "2/ 157" "الاستقامة" الطبرسي، مجمع "سورة آل عمران، الآية 172".
4 الأغاني "6/ 329"، "بيروت 1956م", تهذيب ابن عساكر "73".(7/111)
ويُعد "عبد العزى بن عبد المطلب" من هذا الرعيل من وجهاء مكة الذين حاربوا الرسول، ونصبوا له العداوة. كان موسرًا جمع مالًا طائلًا، كما يفهم ذلك من "سورة المسد": {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} . وكان من التجار، له تجارة مع بلاد الشام1, وكان من هؤلاء الذين أبوا التنكر لدين آبائهم وأجدادهم وإطاعة رجل فقير، وهم أكثر منه مالًا وأكبر سنًّا. رُوي أن رسول الله كان بسوق ذي المجاز يقول: "أيها الناس, قولوا: لا إله إلا الله, تفلحوا" وإذا برجل يأتي من خلفه ويرميه بحجارة أدمت ساقيه وعرقوبيه، وهو يقول للناس: إنه كذاب لا تصدقوه2.
ويعد "أبو لهب" وهو "عبد العزى" ويكنى أيضا بـ"أبي عتبة"، من هذه الطبقة الوجيهة المعروفة من قريش. وهو عم الرسول3, وكان مع ذلك من الذين حملوا حقدًا شديدًا عليه. وكانت زوجته تحرضه على معاداته وإيذائه، وفي حقهما نزلت سورة "تبت", وهي السورة الحادية عشرة من السور التي نزلت بمكة على رأي أكثر العلماء.
وكان بيته في جوار بيت رسول الله, فذكر أن رسول الله قال: "كنت بين شر جارين: بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط, إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحونها في بابي". وكان النبي يقول: "يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟ " ثم يميطه عن بابه4.
ويذكر أهل الأخبار أن هنالك عشرة أبطن من بطون قريش انتهت إليها الشرف في الجاهلية، ووصل في الإسلام، وهم: أمية، ونوفل، وعبد الدار، وأسد، وتيم، ومخزوم، وعدي، وجمح، وسهم5.
__________
1 حاشية الشهاب "8/ 409".
2 الطبرسي "10/ 559".
3 ابن أبي الحديد "1/ 89".
4 البلاذري، أنساب "1/ 131".
5 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".(7/112)
كسب مكة:
ومكة كما ذكرت بلد في وادٍ غير ذي زرع؛ لذلك كان عماد حياة أهلها التجارة, والأموال التي تجبى من القوافل القادمة من الشام إلى اليمن والصاعدة من اليمن إلى الشام، وما ينفقه الحجيج القادمون في المواسم المقدسة؛ للتقرب إلى الأصنام, وهناك مورد آخر درَّ على أثرياء هذه المدينة المقدسة ربحًا كبيرًا، هو الربا الذي كانوا يتقاضونه من إيداع أموالهم إلى المحتاجين إليها, من تجار ورجال قبائل.
ولقد استفادت مكة كثيرًا من التدهور السياسي الذي حل باليمن، ومن تقلص سلطان التبابعة، وظهور ملوك وأمراء متنافسين، إذ أبعد هذا الوضع خطر الحكومات اليمانية الكبيرة عنها، وكانت تطمع فيها وفي الحجاز؛ لأن الحجاز قنطرة بين بلاد الشام واليمن، ومن يستولي عليه يتصل ببلاد الشام وبموانئ البحر الأبيض المهمة. وأعطى تدهور الأوضاع في العربية الجنوبية أهل مكة فرصة ثمينة عرفوا الاستفادة منها, فصاروا الواسطة في نقل التجارة من العربية الجنوبية إلى بلاد الشام، وبالعكس، وسعى تجار مكة جهد إمكانهم لاتخاذ موقف حياد تجاه الروم والفرس والحبش، فلم يتحزبوا لأحد، ولم يتحاملوا على طرف، وقوَّوْا مركزهم بعقد أحلاف بينهم وبين سادات القبائل، وتوددوا إليهم بتقديم الألطاف والمال إليهم؛ ليشتروا بذلك قلوبهم. وقد نجحوا في ذلك، واستفادوا من هذه السياسة كثيرًا.
وفي القرآن إشارة إلى تجارة مكة، وإلى نشاط أهلها ومتاجرتهم مع الشام واليمن: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} 1. قال المفسرون: إن رحلة الشتاء كانت إلى اليمن، أما رحلة الصيف فكانت إلى بلاد الشام، وإنهم كانوا يجمعون ثروة طائلة من الرحلتين تدرُّ على قريش خيرًا كثيرًا، وتعوضهم عن فقر بلادهم.
ويظهر أن أهل هذه المدينة كانوا يسهمون جميعًا في الاتجار, فيقدم المكي
__________
1 سورة قريش، الآية الأولى والثانية.(7/113)
المتمكن كل ما يتمكن تقديمه من مال ليستغله ويأتيه برزق يعيش عليه؛ ولذلك يعد رجوع القافلة آمنة مطمئنة بُشرى وسرورًا للجميع.
وقد أدى نشاط بعض أسر مكة في التجارة إلى حصولها على ثروات كبيرة طائلة، وقد أسهم رجل واحد من أهل هذه المدينة هو "أبو أحيحة", بثلاثين ألف دينار في رأس مال القافلة التي تولى قيادتها أبو سفيان. ومبلغ مثل هذا ليس بشيء قليل بالقياس إلى الوضع المالي في تلك الأيام, كذلك كان "عبد الله بن جدعان" و"الوليد بن المغيرة المخزومي" من أثرياء مكة، وقد اشتهر بنو مخزوم بالثروة والمال.
وكانت لأسر مكة تجارات خاصة مع العراق وبلاد الشام واليمن ومواضع من جزيرة العرب, تجارات لا علاقة لها برحلتي الشتاء والصيف، وكان لبعضها تجارة مع الأنبار والحيرة في العراق، وكان لبعض آخر تجارة مع "بصرى" و"غزة" وأذرعات في بلاد الشام, وكان لآخرين تجارة مع بلاد اليمن, وكان للأسر الغنية الثرية اتصال تجاري مع كل هذه المواضع, وتعاملت مع كل الأماكن المذكورة، ولها وكلاء يبيعون لها ويشترون, كما كانت هي تتوكل لتجار العراق وبلاد الشام واليمن، وتجني من هذا التعامل أرباحًا طيبة.
وقد تحدثت عن النزاع الذي كان قد نشب بين أهل مكة و"أبرهة"، وهو نزاع ذو طبيعة سياسية في الأغلب، وإن جعله أهل الأخبار ذا طبيعة دينية. والأغلب أن الروم حثوا أبرهة على السير إلى مكة والاتجاه منها نحو الشمال، للاتصال ببلاد الشام، والاستيلاء بذلك على العربية الغربية، وبذلك يكون لهم سلطان على القسم الغربي من جزيرة العرب، فيأمنون على مصالحهم الداخلية وينزلون بذلك ضربة كبيرة بأعدائهم الساسانيين, وبمن كان يساعدهم من سادات قبائل1. ولكن أخفق التدبير، ورجع "أبرهة" خائبًا لم يحقق شيئًا.
وأدى استيلاء الفرس على اليمن إلى حدوث تطور في علاقات أهل مكة بالفرس وبالروم. وقد أخذ الفرس يتدخلون في تجارة العربية الجنوبية، فصاروا يرسلون ببضائع من أسواق العراق إلى اليمن، ويأخذون في مقابلها بضائع من أسواق
__________
1 Ency., III, p. 440.(7/114)
إفريقيا والعربية الجنوبية، كما أخذ ملوك الحيرة يرسلون بـ"لطائمهم" إلى اليمن للبيع والشراء.
وقد أثر هذا الوضع في تجارة أهل مكة أثرًا كبيرًا، إذ انتزع الفرس وملوك الحيرة من أيديهم قسطًا من أرباحهم، وربما لا يبعد أن يكون الهجوم الذي وقع على "لطيمة" "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، بتشجيع من أهل مكة، ذلك الهجوم الذي عرف بـ"الفجار"؛ وذلك للإضرار بالفرس وبملوك الحيرة, ولتخويف القوافل التي صارت تسلك طريق "الطائف"، ثم منها إلى مواضع في البادية إلى الحيرة متجنبة طريق مكة1.
وكانت "الشعيبة" ميناء مكة، إليها ترد السفن قبل جُدَّة، ثم أخذت جدة موضعها في أيام الخليفة عثمان بن عفان2.
وقد قصدت ميناء "الشعيبة" سفن الروم وسفن الحبش، إذ كانت السفن القادمة من إفريقيا، لبيع تجارتها لأهل مكة، ترسو في هذا الميناء.
ويظهر من كتب أهل الأخبار أن تجار مكة لم يكونوا يملكون سفنًا خاصة بهم لنقل تجارتهم إلى موانئ إفريقيا، أو لنقل ما يشترونه من الموانئ الإفريقية لتصريفه في أسواق العراق أو أسواق بلاد الشام، فنحن لا نكاد نجد في هذه الكتب شيئًا يفيد أن أهل مكة كانوا يملكون سفنًا يسيرها بحارة منهم. بل نجد أنهم كانوا يركبون سفنًا حبشية عند ذهابهم إلى الحبشة، وهي سفن لم تكن شيئًا بالقياس إلى سفن الروم في ذلك العهد.
ولمركز مكة ونشاطها في التجارة، توافد عليها أيضًا تجار من الخارج من بلاد الشام ومن العراق ومن بلاد الروم والفرس وغيرهم. ساكنوا المكيين، وتحالفوا مع أثريائهم، ومنهم من أقام فيها في مقابل دفع جزية لحمايته ولحفظ أمواله وتجارته. وكان تجار بلاد الشام خاصة يجلبون القمح والزيوت والخمور الجيدة إلى تجار مكة, وقد اتخذوا مستودعات فيها لخزن بضاعتهم هذه ولتصريفها.
__________
1 الأزرقي، أخبار مكة "128"، المرزوقي، الأزمنة والأمكنة "2/ 161", الأغاني "6/ 64", "بيروت 1956م", صبح الأعشى "1/ 201 وما بعدها".
2 البلدان "5/ 276", Ency., lll, p. 440.(7/115)
ولا يستبعد "أوليري" أن يكون من بين تجار الروم في مكة من كان عينًا للبيزنطيين على العرب، يتجسس لهم، ويتسقط أخبارهم، ويكتب لهم عن صلاتهم بالفرس، وعن أنباء الفرس في جزيرة العرب واتصالهم بالقبائل, لشدة حاجة الروم إلى تلك الأخبار، لإفساد خطط الفرس وإبعادهم عن بلاد العرب وعن البحار، والعالم يومئذ معسكران متخاصمان: معسكر للروم، ومعسكر للفرس1.
وقوم هم أصحاب تجارة واتصال بالعالم الخارجي بحكم اتجارهم معه، وذهابهم إليه، لا بد أن يكون لهم اهتمام بما كان يجري ويقع في السياسة الدولية. وكان لهم علم بما يحدث بين الفرس والروم، وبين الحبش وأهل اليمن؛ لأن لما يحدث علاقة كبيرة بتجارتهم وبالأسواق التي كانوا يخرجون إليها للبيع والشراء.
ونجد في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك, فلما وقعت الحرب بين الفرس والروم، هذه الحرب التي استولى فيها الفرس على القدس، وعلى "الصليب" المقدس عند النصارى، كان اهتمام مكة بها كبيرًا, وانقسم أهل مكة فريقين: مؤيد للروم، ومؤيد للفرس، مما يدل على وقوف أهل مكة على ما كان يقع في الخارج، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في سورة "الروم".
وقد كان المكيون يهتمون اهتمامًا خاصًّا بما كان يقع في بلاد الشام وفي اليمن من أحداث، إذ كانت تجارتهم مرتبطة بهذه البلاد بالدرجة الأولى، فما يقع فيها يؤثر تأثيرًا مباشرًا في تجارتهم، ولذلك حاولوا جهد إمكانهم إنشاء صلات حسنة مع الحاكم على بلاد الشام والحاكم على اليمن, كما كان من مصلحة الروم مصالحة حكام العربية الغربية وترضيتهم؛ ليأمنوا بذلك على سلامة تجارتهم في البحر الأحمر، وعلى وصول بضائع إفريقيا والبلاد العربية الجنوبية والهند إليهم عند تعسف الفرس بالتجارة البرية التي كانت تأتي من الهند ومن الصين لتباع في بلاد الروم، وعند نشوب الحرب، وهي متوالية كثيرة فيما بينهما، فتنقطع التجارة عندئذ بينهما، وترتفع الأسعار. أما التجارة عن طريق العربية الغربية، فلم تكن تصاب بأذى الحروب وبالنزاع بين الفرس والروم؛ لأنها كانت بعيدة عن ساحة الحروب، وهي في مأمن من الغارات.
__________
1 Oleary, p. 184.(7/116)
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن سادات مكة والمواضع الأخرى من الحجاز كانوا يتوددون إلى الروم وإلى حكام اليمن ليمكِّنوهم من التحكم في شئون مواطنيهم وللسيادة عليهم, وقد روى "ابن قتيبة" أن قصيًّا" استعان بـ"قيصر" في نزاعه مع خزاعة1. وقد تكون مساعدة قيصر له، بإشارته على الغساسنة حلفاء الروم لتقديم العون إليه، ويجوز أن يكون "بنو عذرة" وهم من العرب النصارى النازلين في أطراف بلاد الشام قد ساعدوه بطلب من الروم2.
ولا يستبعد أن يكون تجار اليمن في أيام قصي وبعد موته كانوا يأتون بتجارتهم إلى "مكة"، ثم يقوم تجار مكة بنقلها إلى بلاد الشام، أو بشرائها من تجار اليمن، ثم يقومون هم ببيعها على حسابهم في "بُصْرَى" أو غزة من بلاد الشام. وقد كان يقع اختلاف في بعض الأحيان بين تجار اليمن وتجار مكة، وقد يقع اعتداء على تجار اليمن فيصادر بعض أهل مكة أموالهم ويغتصبونها، كالذي حدث لتاجر من تجار اليمن، مما حداه بالاستجارة بأشراف مكة وسادتها لإنصافه، وأدى الحال إلى عقد حلف الفضول3.
ولطبيعة أهل مكة المستقرين التجار، لزم الابتعاد عن الحروب وعن خلق المشكلات، وحل كل معضلة بالمفاوضات أولًا وبالسلم, كما سعت للاتفاق مع القبائل المجاورة على محالفتها ومهادنتها. وقد أفادت هذه السياسة قريشًا كثيرًا، فظهرت زعامة مكه على القبائل بعد تدهور ملك حمير في السياسة وفي الدين والاقتصاد, ولارتفاع مستوى مكة الثقافي بالنسبة إلى الأعراب، ولزعامتها الدينية على القبائل المجاورة لها، ولاتصال سادتها بالعالم الخارجي، ولوجود جاليات أجنبية فيها طورت حياتها الاقتصادية والصناعية مما جعل القبائل تعترف لها بالتفوق عليها، وتسير في ركابها، وتتبع تقويمها، وتحضر في مواسمها، حتى صارت مكة عند ظهور الإسلام القاعدة للغربية العربية والزعيمة لها، ولذلك كانت رمز مقاومة الإسلام، والحصن العتيد المقاوم له. فلما دك هذا الحصن، دكت المقاومة دكا، واستسلمت المواضع والقبائل للإسلام دون مقاومة تذكر4.
__________
1 المعارف "ص313".
2 Lammens, Mecque, 269, Watt, Muhammad at Mecca, P. 13.
3 Watt, Muhammad at Mecca, P. 13.
4 Wellhausen, Reste, S. 92.(7/117)
وبلد مثل مكة فيها تجار وتجارة ورقيق وغنى وفقر وراحة وأصنام وعبادة وحجاج يأتون للتقرب إلى الأصنام، لا بد أن يضع أهله لهم وللقادمين إليه أنظمة وقوانين لتنظيم الحياة، وتأمين الأمن وحفظ الحقوق وحماية من يفد إليه من الأذى؛ لدوام مجيء الحاج إليه على الأقل.
فالكعبة، وهي بيت الأصنام، أرض حرام لا يجوز البغي فيها، ولا المعاصي واقتراف الآثام. والمدينة, وهي في جوار البيت ذات حرمة وقدسية، ودار الندوة دار مشورة وحكم وزعامة. وسكان البلد الحرام هم في حمى البيت وفي جواره، ولا بد من إنصافهم وإحقاق حقهم. ولإنصافهم ودفع الأذى عن فقيرهم، عقد حلف الفضول، وتعهد سادات مكة بالدفاع عمن يستجير بهم، وبتأديب من يتجاسر منهم على العرف والسنة؛ وبذلك جعلوا مكة بلدًا آمنًا مستقرًّا في محيط تتعارك فيه الأمواج.
ولسياسة أهل مكة القائمة على المسالمة وحل الخلاف بالتشاور والتفاوض، رميت قريش البواطن، وهم غالبية أهل المدينة, بعدم القدرة على القتال وبالاتكال على غيرهم في الدفاع عن بلدهم، وباعتمادهم على الأحابيش وعلى قريش الظواهر وعلى القبائل المحالفة لهم في الدفاع عن مكة. ولم تكن مكة وحدها بدعًا في هذا الأمر، إذ كان أهل يثرب وأهل الطائف وسائر أهل القرى والمدر مثل أهل مكة، غير ميالين إلى الغزو والقتال، ولهم حبال وأحلاف مع القبائل الساكنة بجوارهم، لمنع تعدياتهم عليهم، ولمنع من يطمع فيهم من تنفيذ ما يريد.(7/118)
الرقيق:
وقد كانت بمكة جالية كبيرة من أصل إفريقي عرفت بـ"الأحابيش"، وهم سود البشرة، اشتراهم أثرياء مكة للعمل لهم في مختلف الأعمال ولخدمتهم. وقد كان هذا الرقيق ضرورة لازمة لاقتصاد مكة ولنظامها الاجتماعي في ذلك الزمن, فقد كان يقوم مقام الآلة في خدمة التاجر وصاحب العمل، فكان مصدرًا من مصادر الثروة، وآلة مسخرة تخدم سيدها بأكل بطنها، كما كان سلاحًا يستخدم(7/118)
للدفاع عن السادة في أيام السلم, وفي أيام الحرب1.
وقد سبق أن أشرتُ إلى وجود "أحابيش" بين أهل مكة، زعم الإخباريون أنهم عرب، وأنهم إنما عرفوا بالأحابيش؛ لأنهم تحابشوا, أي: تحالفوا وتعاهدوا على التناصر والتآزر عند جبل "حبشي"، فهم على زعم هؤلاء الإخباريين أحابيش آخرون لا صلة لهم بالأحابيش الذين أتحدث عنهم.
وقد أشار أهل الأخبار إلى أن قومًا من أشراف مكة تزوجوا حبشيات, فأولدن لهم أولادًا. ذكروا منهم "نضلة بن هاشم بن عبد مناف" و"نفيل بن عبد العزى" و"عمرو بن ربيعة" و"الخطاب بن نفيل" والد "عمر بن الخطاب", ويذكر أن "ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري" عيَّر "عمر بن الخطاب" فقال له: يابن السوداء, فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} 2, و"عمرو بن العاص" وجماعة آخرين3.
وقامت بخدمة قريش طائفة أخرى من الآلات الحية، هي أدق عملًا وأحسن خدمةً وأرقى في الإنتاج من الطائفة الأولى: الأحابيش، استوردت من الشمال من بلاد الشام والعراق، هي الأسرى البيض الذين كانوا يقعون في أيدي الروم أو الفرس أو القبائل المغيرة على الحدود، فيباعون في أسواق النخاسة, ومنها ينقلون إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب للقيام بمختلف الأعمال. يضاف إلى هؤلاء، الرقيق المستورد من أسواق أوروبا، لبيعه في أسواق الشرق، وأسعار هذه البضاعة وإن كانت أغلى ثمنًا من أسعار البضاعة المستوردة من إفريقيا، إلا أن الجودة في الإنتاج والتفنن فيه، والبراعة في الصناعات التي لا تعرفها بضاعة الجنوب تعوِّض عن هذا الفرق.
__________
1 راجع مقال الأب لامانس في مجلة المشرق، السنة الرابعة والثلاثون "1936" "ص1 وما بعدها", "ص527 وما بعدها", وعنوانه: "الأحابيش والنظام العسكري في مكة".
2 الحجرات, الآية 11.
3 المحبر "ص306", "أبناء الحبشيات".(7/119)
ومن جملة ما وُكل إلى رقيق العراق وبلاد الشام والروم وغيرهم من ذوي البشرة البيضاء من أعمال, إدارة المبيعات، والقيام بالحرف التي تحتاج إلى خبرة ومهارة وفن، وهي من اختصاص أهل المدن والمستقرين, مثل: أعمال البناء والتجارة والأعمال الدقيقة.
وهذه البضاعة التي استوردتها قريش إلى مكة -وإن كانت تابعة، تُؤْمَرُ فتفعل، وتُكَلَّفُ فتستجيب- كانت بضاعة حية، لها قلب نابض، ودماغ يعمل، ولحم ودم، ولبعضها علم وفهم ومعرفة تفوق معرفة أصحابها المالكين لها. فبضاعة هذا شأنها لا بد أن تترك أثرًا في البيئة التي استوردت إليها. والإخباريون الذين هم مرجعنا الوحيد في رواية أيام الجاهلية قبيل الإسلام، وإن لم يحدثونا عن أمر هؤلاء القوم في نفوس ساداتهم والذين اختلطوا بهم، نستطيع بالاعتماد على نقد بعض النتف من رواياتهم أن نصل إلى هذه النتيجة التي هي شيء طبيعي وأمر ليس بغريب؛ نتيجة تقول: إن هذه البضاعة تركت في نفوس أهل مكة وفي نفوس العرب الآخرين ممن كان لهم رقيق، أثرًا ليس إلى إنكاره من سيبل، وإن بعض المصطلحات الفارسية والرومية والحبشية التي كانت معروفة عند العرب قبيل الإسلام، والتي أكدوا هم أنفسهم أنها لم تكن عربية، ولا سيما ما كان يتعلق منها بالصناعات والأعمال التي يأنف العربي من الاشتغال بها، إنما دخلت لغتهم وشاعت بينهم من طريق هؤلاء1.
وقد كان أغلب الرقيق الأبيض على النصرانية، وقد ذكر الإخباريون أسماء لبعضهم من نزلاء مكة تشير بوضوح إلى تنصرهم. وقد كان فيهم من يتقن العربية، ويعبر عن أفكاره بها تعبيرًا صحيحًا واضحًا, وفيهم من لا يفقه هذه اللغة؛ لأنه حديث عهد بها، فكان يتكلم بلسان أعجمي أو بعربية ركيكة، ومنهم من كان يتباحث في أمور الدين ويشرح لمن يجالسه ما جاء في ديانته وفي كتبه المقدسة. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآيات: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ
__________
1 صحيح مسلم: "2/ 189", أسد الغابة "5/ 579", المشرق, السنة "35" "1937" "82".(7/120)
مُبِينٌ} 1. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا, وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 2.
وقال "ابن هشام" في تفسير الآية: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} : "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني، كثيرًا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني، يقال له جبر، عبد لبني الحضرمي، وكانوا يقولون: والله ما يعلِّم محمدًا كثيرًا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بني الحضرمي، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ....} "3. وهناك أشخاص آخرون كانوا موالي لا يحسنون العربية ولا يجيدون النطق بها4.
وروي عن "عبد الله بن مسلم الحضرمي" أنه "قال: كان لنا عبدان أحدهما يقال له يسار، والآخر يقال له جبر، وكانا صيقلين, فكانا يقرآن كتابهما ويعملان عملهما, وكان رسول الله يمر بهما فيسمع قراءتهما, فقالوا: إنما يتعلم منهما, فنزلت: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُون} "5.
وأشير إلى غلام آخر كان بمكة، اسمه "بلعام"، وكان قينًا، ذكر أن الرسول كان يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنه كان يتعلم منه، وقيل: إن ذلك الرجل الذي قال أهل مكة: إن الرسول كان يتعلم منه، اسمه "أبو اليسر"، وكان نصرانيًّا6.
وفي جملة من أشار إليهم أهل اليسر من النصارى الذين كانوا بمكة, رجل اسمه "نسطاس"، وكان من موالي "صفوان بن أمية"7, ونسطور الرومي،
__________
1 النحل 16, الآية 103.
2 الفرقان، الآية 4 وما بعدها.
3 ابن هشام: السيرة "ص260".
4 الواحدي: أسباب النزول "212"، أسد الغابة "3/ 131"، "5/ 194، 462".
5 الإصابة "1/ 222".
6 الإصابة "1/ 165".
7 الأغاني "4/ 42"، ابن هشام, السيرة "640"، أسد الغابة "2/ 240"، المشرق, السنة الخامسة والثلاثون، "1937م" "ص88".(7/121)
ويوحنا مولى صهيب الرومي، وصهيب الرومي نفسه، وهو من الصحابة، جاء من بلاد الشام، ونزل بمكة، وتشارك مع مثري قريش عبد الله بن جدعان, ثم استقل عنه، وصار ثريا من أثرياء مكة. ثم دخل في الإسلام1, ومنهم مولى يوناني تزوج سمية أم بلال2. وقد بقي نفر من النصارى محتفظين بدينهم بمكة في أيام الرسول3.
وفي حديث الإخباريين عن بناء الكعبة أن قريشًا استعانت بعامل من الروم، أو من الأقباط اسمه باقوم، كان نجارًا مقيمًا بمكة، في تسقيف البيت. وفي حديث آخر لهم: إن هذا الرجل كان في سفينة جهزها قيصر الروم لبناء كنيسة, وقد شحنها بالرخام والخشب والحديد، فجنحت عند "الشعيبة" فاستعانت قريش بما تبقى من أخشابها وبخبرة هذا الرومي في تسقيف البيت4. وقد دعى بـ"بلقوم الرومي" أيضًا5.
وفي كتب السير وكتب تراجم الصحابة أسماء جوارٍ يونانيات أو من بلاد الشام أو من العراق، وقد تزوجن في مكة ونسلن ذرية كانوا فيها قبل الإسلام, وقد كان منهن في مواضع أخرى من جزيرة العرب بالطبع.
ويعود قسط كبير من وجود الكلمات الحبشية والرومية والفارسية في العربية إلى الرقيق الأسود والأبيض. وهذه الكلمات هي مسميات لأمور غريبة عن العربية لم يكن لأهل مكة ولا لغيرهم علم بها، فاستعملوها كما وردت وأخذت، أو صقلت حتى لاءمت اللسان العربي، كما حدث ويحدث في اللغات الأخرى، وعربت وصارت من ألفاظ العربية، وقد لاحق قسمًا منها علماء اللغة، فوضعوا فيها كتبًا بحثت في تلك المعربات، وفي القرآن الكريم طائفة منها لم يغفل عنها أرباب اللغة والمفسرون6.
__________
1 ابن هشام "321".
2 المشرق، الجزء المذكور "ص89".
3 "ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نصراني بمكة دينارًا كل سنة"، كتاب الخراج ليحيى بن آدم "53"، ابن سعد، الطبقات "1/ 39", المشرق, الجزء المذكور "ص95".
4 الطبري "2/ 200", السيرة الحلبية "1/ 143"، الإصابة "1/ 136 وما بعدها ",
Ency., III, P. 584.
5 الإصابة "1/ 166".
6 المعرب، للجواليقي.(7/122)
أغنياء ومعدومون:
كان أهل مكة بين غني مُتْخَم وفقير معدم, وبين الجماعتين طبقة نستطيع أن نقول: إنها كانت متوسطة. وأغنياء مكة، هم أصحاب المال، وقد تمكنوا من تكثيره بإعمال ما عندهم من مال بالاتجار وبإقراضه للمحتاج إليه، وبإعماله بالزراعة، واستغلاله بكل الطرق المربحة التي يرون أنها تنفحهم بالأرباح.
وقد تمكن هؤلاء الأغنياء من بسط سلطانهم على قبائل الحجاز، ومن تكوين صلات وثيقة مع أصحاب المال في العربية الجنوبية وفي العراق وبلاد الشام، بحيث كانوا يتصافقون في التجارة ويشاركونهم في الأعمال، حتى صاروا من أشهر تجار جزيرة العرب في القرن السادس للميلاد.
ويظهر مما جاء في القرآن الكريم أن بعض هؤلاء الأغنياء كان قاسيًا، لم تدخل الرحمة ولا الشفقة قلبه. فكان يقسو على المحتاج، فلا يقرضه المال إلا بربا فاحش وكان يشتط عليه. وكان بعضهم لا يتورعون من أكل أموال اليتيم والضعيف، طمعًا في زيادة ثرائه، وكان يستغل رقيقه استغلالًا شنيعًا، حتى إنه كان يكره فتياته على البغاء ليستولي على ما يأتين به من مال. وفي ذلك نزل النهي عنه في الإسلام: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1. قال "الطبري": "كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا, يأخذون أجورهن. فقال الله: لا تكرهوهن على الزنا من أجل المنالة في الدنيا, ومن يكرههن, فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهن, يعني: إذا أكرهن" وقال: "كانوا يأمرون ولائدهم يباغين، يفعلن ذلك، فيصبن فيأتينهم بكسبهن". وروي أن هذه الآية نزلت في حق "عبد الله بن أبي سلول"2.
__________
1 النور الآية 33.
2 تفسير الطبري "18/ 103 وما بعدها"، سورة النور.(7/123)
وكان من أغنياء مكة من يأكل بصحاف من ذهب وفضة، ويشرب بآنية من ذهب وفضة ومن بلور، ويأكل على طريقة الروم والفرس بسكاكين وشوكات مصنوعة من ذهب أو من فضة, على حين كان أكثر أهل مكة فقراء لا يملكون شيئًا, وكانوا يلبسون الحرير، ويتحلون بالخواتم المصنوعة من الذهب، تزينها أحجار كريمة. ولعل هذا الإسراف والتبذير كانا في جملة العوامل التي أدت إلى منع المسلمين من استعمال الأواني المصنوعة من الذهب والفضة للأكل والشرب، ومن صدور النهي من استعمال الحرير للرجال1.
وقد حرص هؤلاء الأغنياء على إكثار أموالهم, وعلى توسيع تجارتهم، لذلك كانت هجرة الرسول إلى يثرب وتحرش المسلمين بقوافلهم الذاهبة الآيبة بين بلاد الشام ومكة لطمة كبيرة أصابتهم. لقد اجتمع ملؤهم بعد وقعة بدر للتداول في أمرهم. فقال قائل منهم: "قد عور علينا محمد مَتْجَرنا وهو على طريقنا. وقال أبو سفيان وصفوان بن أمية: إن أقمنا بمكة أكلنا رءوس أموالنا. قال زمعة بن الأسود: فأنا أدلكم على رجل يسلك بكم النجدية، لو سلكها مغمض العينين لاهتدى. قال صفوان: من هو, فحاجتنا إلى الماء قليل, إنما نحن شاتون؟ قال: فرات بن حيان، فدعواه فاستأجراه، فخرج بهم في الشتاء، فسلك بهم على ذات عرق، ثم خرج بهم على "غمرة"، وانتهى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر العير وفيها مال كثير, وآنية من فضة حملها صفوان بن أميه، فخرج زيد بن حارثة فاعترضها، فظفر بالعير، وأفلت أعيان القوم، فكان الخمس عشرين ألفًا، فأخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقسم أربعة الأخماس على السرية، وأتى بفرات بن حيان العجلي أسيرًا، فقيل: إن أسلمت لم يقتلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلم، فأرسله"2. وقد عرفت هذه الغزوة بـ"غزوة القردة", وقد كانت في السنة الثالثة من الهجرة.
وقد أشير في ديوان "حسان بن ثابت" إلى "فرات" هذا, كما أشير
__________
1 شمس العلوم "جـ1, قسم 2, ص293".
2 الطبري "2/ 492"، "دار المعارف"، الاشتقاق "208"، البلاذري، أنساب "1/ 374".(7/124)
إلى رجل آخر هو "قيس بن امرئ القيس العجلي"، استأجرته قريش كذلك؛ ليكون لها دليلًا يهدي قوافلها الطريق1.
وقد كانت قريش، كما كان غير قريش، ومنهم المسلمون يستعينون بالأدلاء لإرشادهم الطرق، ولا سيما في أيام الخطر. وأيام جزيرة العرب كلها خطر دائم بالنسبة للتجار, لما كانوا يحملونه معهم من أموال، تسيل لعاب الطامعين في المال، وتنسيهم كل عهد وموثق. لذلك كانوا يتحسسون جهدهم الطرق، ولا يسيرون إلا في الطرق الآمنة التي يوثق من ذمم أصحابها ومن قدرة سادتها على ضبطها وعلى إنزال أقصى العقوبة بالخلعاء وبالخارجين على الطاعة والعرف, ويستأجرون الأدلاء أصحاب العلم والدراية العملية بالطرق وبمخارجها وبكيفية الخروج من مآزقها ومهالكها وأخطارها، ينفقون معهم على إرشادهم، على أن يكون لهم أجر حسن إن نجت القافلة من الخطر ووصلت سالمة إلى مكانها المقصود.
وقد استغل تجار مكة أموالهم في الخارج، وامتلكوا الضياع، فامتلك "أبو سفيان بن حرب" أيام تجارته إلى الشام في الجاهلية ضيعة بالبلقاء تدعى بقبش، فصارت لمعاوية وولده2.
ولم يبالِ رجال مكة من الاشتغال بالصناعات، فقد اشتغل قوم منهم بالبزازة، واشتغل بعض منهم بالخياطة، فكان "العوام أبو الزبير خياطًا" و"كان الزبير جزارًا، وكان عمرو بن العاص جزارًا، وكان عامر بن كريز جزارًا، وكان الوليد بن المغيرة جزارًا، وكان العاص بن هشام أخو أبي جهل حدادًا، وكان عقبة بن أبي معيط خمارًا، وكان عثمان بن أبي طلحة الذي دفع إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفتاح البيت خياطًا، وكان قيس بن مخرمة خياطًا، وكان أبو سفيان بن حرب يبيع الزيت والأدم, وكان عتبة بن أبي وقاص أخو سعد نجارًا، وكان أمية بن خلف يبيع البرم، وكان عبد الله بن جدعان نخاسًا، له جوارٍ يساعين ويبيع أولادهن، وكان العاص بن وائل أبو عمرو بن العاص يعالج الخيل والإبل, وكان النضر بن الحارث بن كلدة
__________
1 ديوان حسان "295"، "البرقوقي"، "ص38"، "هرشفلد".
2 البلاذري، فتوح "125".(7/125)
يضرب بالعود ويتغنى، وكان الحكم بن أبي العاص أبو مروان بن الحكم حجامًا, وكذلك حريث بن عمرو"1.
وإذا صح ما ذكرته من كلام نقلته من "الأعلاق النفيسة" لابن رستة, فإن ذلك ينفي ما يذكره أهل الأخبار من عدم وجود "نجار" في مكة كالذي ذكروه من عدم وجود نجار بها يوم جددوا بناء الكعبة، فحاروا في كيفية العثور على نجار يقوم بتسقيف البيت، وبقوا في حيرتهم حتى اهتدوا إلى رومي تحطمت سفينته عند الساحل، فجاءوا به وبخشب سفينته فسقف الرومي "باقوم" لهم عندئذ الكعبة. وتنفي رواية "ابن رستة" ما ذكره غيره من ترفع ذوي الأسر من قريش من الاشتغال بالحرف اليدوية؛ لأنها حرف لم تخلق للأشراف، ويكون ذلك دليلًا على أن بعض ما يذكره أهل الأخبار عن أهل مكة بعيد عن الواقع وتناقض فيما يروونه، لم يفطنوا إليه؛ لأنهم كانوا ينقلون الأخبار، ويأخذونها أنَّى جاءت، وغايتهم الجمع، وعلينا الآن واجب التمحيص بين تلك الروايات ونقدها وغربلتها، لاستخراج اللب من القشور.
وعندي أن الإسلام هو الذي صير قريشًا, قريشًا المذكورة في الكتب, وهو الذي سودها على العرب, وجعل لها المكانة الأولى بين القبائل، والخلافة فيها، بفضل كون الرسول منها وظهور الإسلام في مكة. ولولا الإسلام، لكانت مكة قرية من القرى، لبعض أسرها ثراء حصلت عليه بفضل نشاطها وتقرب رجالها إلى سادات القبائل وحكام العراق وبلاد الشام واليمن، وبفضل دعوة رجال قريش القبائل المحيطة بمكة لحج البيت والتقرب إلى الأصنام التي كدسوها فيه وحوله, ومنها أصنام القبائل التي لها تعامل مع مكة، فحصلت على ربح هو "حق قريش" من الغرباء وحق تعشير التجار وتعاطي البيع والشراء معهم.
ويبدو من أخبار الإخباريين عن البيت، أن العناية لم توجه إليه إلا قبيل الإسلام، وأن الإسلام هو الذي رفع قواعده، وعني بعمارته، وهو الذي فرش مسجده بالرخام، وجعل له أشياء كثيرة لم تكن موجودة في أيام الجاهلية. وقد صرف عليه الخلفاء أموالًا طائلة؛ وذلك قربة لله رب البيت.
والواقع أن في كثير مما يذكره أهل الأخبار عن مكة, ما يناقض بعضه
__________
1 ابن رستة، الأعلاق "215".(7/126)
بعضًا، وما لا يلتئم مع ما يذكرونه عنها, وهو في حاجة إلى نقد وغربلة. والظاهر أن الرواة عندما وجهوا عنايتهم نحو تدوين تأريخ مكة, وعمدوا إلى الشيبة يسألونهم عن تأريخها، تكلم كل منهم بحسب ما بقي في ذهنه عنها، وبما سمعه من آبائه، فجاء متناقضًا، لا توافق ولا تناسق فيما بين تلك الروايات التي أخذت من الأفواه, وقد زوَّقها بعضهم بعض التزويق، أو هذَّب فيها وشذب، حتى وصلت إلى الشكل الذي بلغته إلينا. وإني أرجو أن يعثر في المستقبل على كتابات جاهلية قد تلقي بعض الضوء على تأريخ هذه المدينة المقدسة قبلة المسلمين، وأن يقوم العلماء بتخصيص وقت كافٍ لدراسة ما ورد في كتب التفسير والحديث والموارد الأخرى عن مكة؛ لتقديم تأريخ واضح عن مكة.
هذا ما عندي عن تأريخ مكة, أما عن "الكعبة" وعن الحج وعن المسائل الأخرى المتعلقة بالدين أو بالتجارة أو بالحكم وبما شاكل ذلك، فسيكون الكلام عنها في المواضع المناسبة، فإليها المرجع إذن.(7/127)
الفصل الثالث والأربعون: يثرب والطائف
يثرب
...
الفصل الثالث والأربعون: يثرب والطائف
وكان ليثرب مكان مهم عند ظهور الإسلام، وفيها وفي أطرافها سكنت جاليات من يهود, وهي من المواضع التي يرجع تأريخها إلى ما قبل الميلاد. وقد ذكرت في الكتابات المعينية، وكانت من المواضع التي سكنتها جاليات من معين، ثم صارت إلى السبئيين بعد زوال مملكة معين1. ولعل هذا السكن هو الذي حمل النسابين على إرجاع نسب أهل يثرب إلى اليمن، فقالوا: إنهم من الأزد، وإنهم من "قحطان".
وللإخباريين كعادتهم آراء في الاسم، قالوا: إنها سميت "يثرب" نسبةً إلى "يثرب بن قانية بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوص بن إرم بن سام بن نوح"، وكان أول من نزلها فدعيت باسمه. وقالوا: بل قيل لها "يثرب" من التثريب، وقالوا أشياء أخرى من هذا القبيل2.
وزعم أهل الأخبار أن الرسول لما نزلها كره أن يسميها "يثرب"، فدعاها "طيبة"، و"طابة", وذكروا لها تسعةً وعشرين اسمًا، منها "جابرة"
__________
1 Ency. III, P. 83. Hartmann, Die Arabische Frage, S. 253, H. Winckler, Arabisch-Semitisch-orientalisch, in Mitteilungen der borderasiatischen Gesellschaft, 1901. S. 63.
2 البلدان "8/ 498"، ابن خلدون "2/ 286".(7/128)
و"مسكينة" و"محبورة" و"يندر الدار" و"دار الهجرة"1.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن أقدم من سكن "يثرب" في سالف الزمان قوم يقال لهم "صُعل" و"فالج"، فغزاهم النبي "داود" وأخذ منهم أسرى، وهلك أكثرهم وقبورهم بناحية "الجرف"، وسكنها "العماليق", فأرسل عليهم النبي "موسى" جيشًا انتصر عليهم، وعلى من كان ساكنًا منهم بـ"تيماء"، فقتلوهم، وكان ذلك في عهد ملكهم الملك "الأرقم بن أبي الأرقم", ولم يترك الإسرائيلون منهم أحدًا، وسكن اليهود في مواضعهم2, ونزل عليهم بعض قبائل العرب، فكانوا معهم واتخذوا الأموال والآطام والمنازل. ومن هؤلاء "بنو أنيّف"، وهم حي من "بليّ"، ويقال: إنهم بقية من العماليق، و"بنو مُريد" مزيد "مرثد"، حي من "بلي"، وبنو معاوية بن الحارث بن بُهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، وبنو الجدمى "الجدماء" حي من اليمن، فعاشوا مع من كان بيثرب وأطرافها من اليهود، واتخذوا المنازل والآطام يتحصنون فيها من عدوهم إلى قدوم الأوس والخزرج إياها3.
وكان قدوم "الأوس" و"الخزرج" على أثر حادث "سيل العرم"، فأجمع "عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة"، الخروج عن بلاده وباع ما له بمأرب، وتفرق ولده، فنزلت الأوس والخزرج "يثرب" وارتحلت "غسان" إلى الشام، وذهبت "الأزد" إلى عمان, وخزاعة إلى تهامة. وأقامت الأوس والخزرج بالمدينة ووجدوا الأموال والآطام والنخل في أيدي اليهود, ووجدوا العدد والقوة معهم، فمكثوا معهم أمدًا وعقدوا معهم حلفًا وجوارًا يأمن به بعضهم بعضًا ويمتنعون به ممن سواهم، فلم يزالوا على ذلك زمانًا طويلًا، حتى نقضت اليهود عهد الحلف والجوار، وتسلطها على يثرب، فاستعان الأوس والخزرج
__________
1 البلدان "7/ 425"، "8/ 498"، المقدسي: أحسن التقاسيم "ص30", "الطبعة الثانية" "ليدن 1906م"، ابن رستة، الأعلاق "ص59"، "للمدينة في التوراة "التوريه" أحد عشر اسمًا"، ابن رستة "ص78".
2 ابن رستة، الأعلاق "60 وما بعدها"، ياقوت، البلدان "4/ 461 وما بعدها", الأغاني "19/ 94".
3 ابن رستة، الأعلاق "62".(7/129)
بأقربائهم على اليهود، فغلبوهم، وصارت الغلبة للعرب على المدينة منذ ذلك العهد, على نحو ما سأتحدث عنه بعد قليل1.
وأقدمُ مورد أشير فيه إلى "يثرب"، هو نص الملك "نبونيد" ملك بابل، الذي سكن "تيماء" أمدًا، وذكر فيه أنه بلغ هذه المدينة، كما سلف أن تحدثت عن ذلك في أثناء حديثي عن صلات العرب بالبابليين. وقد عرفت بـ"يثربة" "Jathripa" في جغرافيا "بطلميوس" وعند "إصطيفان البيزنطي"2. وعرفت بـ"المدينة" كذلك من كلمة "Medinto" "Medinta" الإرمية، التي تعني "مدينة" في عربيتنا و"هكر" في العربية الجنوبية3. وقد ورد اسمها في الكتابات المعينية4.
ويظهر أنها عرفت بـ"مدينة يثرب" على نحو ما وجدنا في كتاب "إصطفيان البيزنطي"، ثم اختصرت، فقيل لها "مدينتا"، أي: "المدينة". ولما نزل الرسول بها، عرفت بـ"مدينة الرسول" في الإسلام5.
ولقدم تأريخ "يثرب" ولورود اسمها في نص "نبونيد"، الذي يدل على أنها كانت معروفة إذ ذاك، لا يستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على كتابات وآثار قد تكشف عن بعض تأريخ هذه المدينة في أيام ما قبل الإسلام.
ولم يشر أهل الأخبار إلى وجود حرم أو بيت بيثرب، كما يتعبد فيه اليثربيون ويتقربون إليه بالنذور، مع أنهم أشاروا إلى بيت اللات في الطائف. ويثرب مدينة مثل الطائف ومثل مدن أخرى كانت ذات محجات ومعابد، وقد كان أهل يثرب -مثل غيرهم من العرب- مشركين يتقربون إلى الأصنام، وكانوا يحفظون
__________
1 ابن رستة، الأغلاق، "62 وما بعدها"، البداية والنهاية لابن كثير "2/ 160", "مطبعة السعادة، 1932م".
2 تأريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي "3/ 395"، "4/ 181", Ptolemy, VI, 7, 31.
3 Blay, in ZDMG, 22, 1868, S. 668, Ency, III, P. 83. Paulys-Wissowa, 17 ter Halbband, 1914, 791.
4 Ency, III, P. 83, Winckler, Arabisch –Semitiseh in Mitteilungen der vorderasiatischen Gesellschaft, 1901, S. 63.
5 Ency. III, P. 83.(7/130)
أصنامًا لهم في بيوتهم يتقربون إليها، كما كانوا يحجون إلى محجَّات كانت على مسافة من يثرب؛ ولذلك يبدو غريبًا سكوت أهل الأخبار عن ذكر بيت في هذه المدينة، يحج له الأوس والخزرج ومن والاهم من قبائل وعشائر.
وعثر في مواضع لا تبعد كثيرًا عن "يثرب" على كتابات جاهلية, لم تعرف هويتها الآن؛ لأن الباحثين لم يتمكنوا من فحص مواضعها ومن نقلها إلى العلماء المختصين لقراءتها, كما أنهم لم يتمكنوا من تصويرها ولا من التنقيب في تلك الأماكن تنقيبًا علميا. وقد أشار "عثمان ورستم" إلى وجود كتابات من هذا النوع على جبل "سلع"، وعند موضع "بئر عروة"، بوادي العقيق وفي أماكن أخرى1, أرجو أن يصل إليها الباحثون للتنقيب فيها ولحل رموز هذه الكتابات.
وقد يعثر على كتابات أخرى مطمورة في تربة "يثرب" وفي الأماكن القريبة منها، تكشف للقادمين من بعدنا أسرار هذه المدينة المقدسة.
ويثرب, مثل مكة من شعاب، تسكنها بطون الأوس والخزرج: الأوس في شعاب، والخزرج في شعاب, اليهود في شعاب. وفي الشعاب "حوائط" بساتين صغيرة، وفي الحوائط "آبار" يستقون منها للشرب وللسقي وللغسل2, كما كانت فيها دور مبنية بالآجر ودور مبنية باللبن، وبعضها ذو طابقين. وقد احتفر اليهود آبارًا، كانوا يبيعون الماء منها بالدلاء، مثل "بئر أرومة"، وكانت ليهودي، وقد أمر الرسول بشرائها، فاشتراها عثمان3. ومن آبار المدينة "بئر ذروان"، وهي البئر التي ذكر أن لبيد "ابن الأعصم" اليهودي سحر بها الرسول4.
ويثرب على شاكلة مكة, بغير سور ولا حائط يحيط بها، ولا خندق يقف حائلًا أمام من يريد بالمدينة سوءًا. وقد كان عماد دفاع أهلها بالتحصن في بيوتهم وبسد منافذ الطرق في أثناء الخطر, والأغنياء الموسرون يعتمدون على آطام هم
__________
1 Osman R. Rostem, Rok Inscriptions in the Hijaz. PP. 4.
2 الطبري "2/ 357" "دار المعارف", اللسان "7/ 279".
3 المعارف "ص83".
4 نزهة الجليس "1/ 61", تفسير النيسابوري "30/ 215"، حاشية على تفسير الطبري.(7/131)
وحصونهم وقصورهم، يلجئون إليها عند الشدة ومن معهم من أتباعهم يرمون أعداءهم من فوق السطوح بالسهام وبالحجارة، إذ لا حائط يحيط بها على نحو ما كان لمدينة الطائف. وقد تحارب الأوس والخزرج على الآطام، وأرخوا بتلك الحرب، وصاروا يؤرخون بـ"عام الآطام". وذكر أن أهل المدينة من الأوس والخزرج كانوا يمتنعون بها، فأخربت في أيام عثمان1.
ويظهر من وصف أهل الأخبار ليثرب، أنها كانت تشبه مدينة "الحيرة" بالعراق, من حيث خلوها من سور ومن تكونها من "قصور" هي بيوت السادة ومعاقل المدينة ومواضع دفاعها آناء الشدة وأوقات الحروب, وقد عرفت بـ"أطم" و"آطام" عند أهل يثرب. وذكر أن "الأطم" كل حصن بُني بحجارة، أو كل بيت مربع مسطح. وورد أن "الأُطوم": القصور والحصون لأهل المدينة والأبنية المرتفعة كالحصون2.
والمدينة عند "وادي إضم". يقال للقسم الذي هو عند المدينة منه "القناة", والذي هو أعلى منها عند السد: الشظاة، أما ما كان أسفل ذلك فيسمى أضمًا إلى البحر. وذكر أن أضم وادٍ يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر, وأعلى أضم القناة التي تمر دُوين المدينة3, وأن المدينة هي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف, وما بين الماء الذي يقال له "ألبوا" إلى "زبالة"4.
وجو "يثرب" على العموم خير من جو مكة، فهو ألطف وأفرح. ولم يعانِ أهلها ما عانى أهل مكة من قحط في الماء ومن شدة الحصول عليه، حتى بعد حفر "بئر زمزم". فالماء متوفر بعض الشيء في المدينة، وهو غير بعيد عن سطح الأرض، ومن الممكن الحصول عليه بسهولة بحفر آبار في البيوت. ولهذا صار في إمكان أهلها زرع النخيل، وإنشاء البساتين والحدائق، والتفسح فيها، والخروج إلى أطراف المدينة للنزهة، فأثر ذلك في طباع أهلها فجعلهم ألين عريكةً وأشرح صدرًا من أهل البيت الحرام.
__________
1 الأغاني "1/ 14" "ساسي", التنبيه "ص176".
2 تاج العروس "8/ 187"، "أطم"، اللسان "12/ 19"، "أطم".
3 تاج العروس "8/ 187" "أضم".
4 ابن رستة، الأعلاق "62".(7/132)
وتأريخ المدينة مثل سائر تواريخ هذه الأماكن التي نتحدث عنها، مجهول لا نعرف من أمره شيئًا يذكر، وإنما ما يذكره الإخباريون عن وجود العماليق وجرهم بها1 فأمر وإن قالوه، لا يستند إلى دليل، وحكمه حكم الأخبار الأخرى التي يروونها والتي عرفنا نوع أكثرها وطبيعته, ولكن الشيء الذي نعرفه يقينًا أن أهل المدينة كانوا ينتسبون عند ظهور الإسلام إلى يمن، وكانوا يقسمون أنفسهم فرقتين: الأوس والخزرج، وبين الفرقتين صلة قربى على كل حال. ثم يذكرون أنه كان بينهم يهود، وهم على زعمهم من قدماء سكان يثرب.
ويلاحظ أن الأوس والخزرج لا يدعون أنفسهم بأبناء حارثة، وإنما يدعون أنفسهم بـ"بني قيلة" وبـ"ابني قيلة", ويقصدون بها "قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة"، أو "قيلة بنت هالك بن عُذْرة" من قضاعة، أو "قيلة بنت كامل بن عذرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن إلحاف بن قضاعة"2. ولا بد أن يكون لهذه الامرأة التي ينتسبون إليها شهرة في الجاهلية حملتهم على الانتساب إليها. وقد ورد أن "قيلة" اسم أم الأوس والخزرج, وهي قديمة3.
وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن الأوس والخزرج ابني قيلة لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته، فغزاهم تبع أبو كرب، فكانوا يقاتلونه نهارًا ويخرجون إليه العشاء ليلًا، فلما طال مكوثه ورأى كرمهم رحل عنهم4.
ويرجع الإخباريون مجيء الأوس والخزرج إلى المدينة إلى حادث سيل العرم، ويقولون: إنهم لما جاءوا إلى يثرب وجدوا اليهود وقد تمكنوا منها، فنزلوا في ضنك وشدة، ودخلوا في حكم ملوك يهود إلى أيام ملكهم المسمى "الفيطوان"
__________
1 البلدان "7/ 427 وما بعدها", ابن خلدون "2/ 286 وما بعدها".
2 البلدان "7/ 428"، الكامل "1/ 275", ابن حزم، جمهرة "1/ 232"، ابن خلدون، المجلد الثاني، القسم الأول "596"، "منشورات دار الكتاب اللبناني 1956م, بيروت".
3 اللسان "11/ 580"، "صادر" "قيل".
4 العقد الفريد "1/ 192 وما بعدها"، الأصمعي، ملوك العرب الأولية "87 وما بعدها".(7/133)
أو "الفيطون" أو "الفِطيون"، وكان رجلًا شديدًا فظًّا يعتدي على نساء الأوس والخزرج، فقتله رجل منهم اسمه "مالك بن العجلان" وفر إلى الشام إلى ملك من ملوك الغساسنة اسمه "أبو جبيلة", وفي رواية: أنه فر إلى "تبع الأصغر بن حسان". وتذكر الرواية أن أبا جبيلة سار إلى المدينة ونزل بذي حرض، ثم كتب إلى اليهود يتودد إليهم، فلما جاءوا إليه قتلهم، فتغلبت من يومئذ الأوس والخزرج، وصار لهم الأموال والآطام. ثم رجع "أبو جبيلة" إلى الشام, وصارت اليهود تلعن "مالك بن عجلان", وهم يروون في ذلك أبياتًا ينسبونها إلى شاعر اسمه "الرمق بن زيد الخزرجي"1. ويذكر الإخباريون أن اليهود صورت "مالك بن عجلان" في كنائسهم وبيعهم؛ ليراه الناس فيلعنوه2.
وذكر "ابن دريد" أن "الفِطيون" اسم "عبراني"، وكان تملك بيثرب، وكان هذا أول اسم في الجاهلية الأولى. وقد شهد بعض ولد الفطيون بدرًا، واستشهد بعضهم يوم اليمامة، فمن ولد "الفطيون": أبو المقشعر، واسمه أسيد بن عبد الله3. ويذكر بعضهم أن اسم "الفطيون"، وهو "عامر بن عامر بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الحارث المحرق بن عمرو مزيقياء"4, فهو من العرب على رأي هذا البعض، ومن اليمن، وليس من أصل عبراني.
وأبو جبيلة عند بعض الإخباريين، هو "عبيد بن سالم بن مالك بن سالم"، أحد بني غضب بن جشم بن الخزرج. فهو على هذة الرواية رجل من الخزرج ذهب إلى ديار الشام، فملك على غسان، وذهب بعض آخر من الإخباريين إلى أنه لم يكن ملكًا, وإنما كان عظيمًا ومقربًا عند ملك غسان5. ونسبه بعض
__________
1 البلدان "7/ 428 وما بعدها"، الاشتقاق "ص259"، الكامل "1/ 275", البداية، ابن كثير "2/ 160"، "مطبعة السعادة، 1932م".
2 ابن خلدون "2/ 287"، الاشتقاق "ص270", الأغاني "19/ 95 وما بعدها", السمهودي خلاصة الوفاء "82 وما بعدها"، الطبري "2/ 371"، تأريخ اليهود في بلاد العرب، إسرائيل ولفنسون "56 وما بعدها",
Graetz, bd., 3, s., 91, 410.
3 الاشتقاق "ص259".
4 الاشتقاق "ص259".
5 الكامل "1/ 276", ابن خلدون "2/ 286 وما بعدها".(7/134)
أهل الأخبار إلى "بني زريق"، بطن من بطون الخزرج, ونعته بـ"أبي جبيلة الملك الغساني"1.
ونحن إذا أخذنا بهذه الرواية، وجب علينا القول: إن أخذ الأوس والخزرج أمر المدينة بيدهم، وزحزحة اليهود عنها، يجب أن يكون قد وقع في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، أي: في زمن لا يبعد كثيرًا عن الإسلام؛ لأننا نجد أن أحد أولاده وهو "عثمان بن مالك بن العجلان" في جملة من دخل في الإسلام وشهد بدرًا, كما نجد جملة رجال من "بني العجلان"، من أبناء إخوة "مالك" وقد شهدوا "بدرًا" ومشاهد أخرى2, وهذا مما يجعل زمن "مالك" لا يمكن أن يكون بعيدًا عن الإسلام.
ويظهر من دراسة هذه الأخبار المروية عن اليهود وملكهم "الفطيون" وعن الأوس والخزرج وما فعلوه باليهود، أن عنصر الخيال قد لعب دورًا في هذا المروي في كتب أهل الأخبار عن الموضوع. ونجد في القصص المروي عن ملوك اليمن وعن ولعهم بالنساء وعملهم المنكر بهن، ما يشبه هذا القصص الذي نسب إلى "الفطيون", ونجد للعلاقات الجنسية مكانة في هذا القصص الجاهلي الذي يرويه أهل الأخبار عن ملوك الجاهلية، وما قصة "الفطيون" إلا قصة واحدة من هذا القصص الذي نجد للغرائز الجنسية مكانة بارزة فيه.
ويظهر أن كلمة "الأوس" هي اختصار لجملة "أوس مناة", و"مناة" كما نعلم صنم من أصنام الجاهلية، و"الأوس" هو جد الأوس، وهو في عرف النسابين "أوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد"3.
__________
1 الاشتقاق "ص272".
2 الاشتقاق "ص271 ومواضع أخرى".
3 البلدان "7/ 428"، "أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"، ابن الأثير، الكامل "1/ 275"، ابن خلدون "2/ 288"، اللسان "4/ 18 وما بعدها", تاج العروس "4/ 103"، ابن حزم، جمهرة "ص322", العقد الفريد "3/ 36، 159"، "لجنة"، ابن هشام "2/ 347"، دائرة المعارف الإسلامية "3/ 150".(7/135)
وينقسم الأوس إلى بطون، منهم: عوف، والنبيت، وجشم، ومرة، وامرؤ القيس, وقد عرف "بنو مرة" بالجعادرة كذلك. واتفقت جشم ومرة وامرؤ القيس وكونت حلفًا عرف بـ"أوس اللات", وبـ"أوس" كذلك. وانقسمت هذه الكتلة إلى أربعة أقسام، هي: ختمة وهي "جشم" في الأصل، وأمية، ووائل وهي مرة، وواقف وهي امرؤ القيس. وانقسمت هذه البطون إلى أفخاذ عديدة، حدثت بينها منازعات وحروب1.
ويرجع أهل الأخبار نسب أهل "قباء" إلى "عوف"، ونسب "النبيت" إلى "عمرو"، ونسب "الجعادرة" إلى "مرة", وقيل: إنهم سموا بذلك؛ لأنهم كانوا يقولون للرجل إذا جاورهم: "جعدر حيث شئت، فأنت آمن، أي: اذهب حيث شئت". ومنهم بنو كلفة وبنو حنش وبنو ضبيعة2.
ومن الأوس "أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبا"، سيد الأوس في الجاهلية شاعر, وكانت عنده "سلمى بنت عمرو التجارية"، وأولاده منها إخوة عبد المطلب، وهو من "بني جحجبا". ومن ولده "المنذر بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح"، شهد بدرًا وقتل يوم بئر معونة3, وله أشعار ذكرها الرواة، منها أبيات في رثاء ابن له4.
وأما الخزرج، فإنهم إخوة الأوس في عرف النسابي,. فالخزرج، وهو جد الخزرج، هو شقيق أوس, وهو "الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد" وقد جاء نسله كما جاء نسل الأوس من اليمن بعد حادث سيل العرم، وسكنوا يثرب وإلى الشمال منها حتى "خيبر" و"تيماء". وتأريخهم مثل تأريخ الأوس في رأي الإخباريين بدأ بالاتصال باليهود وبالعيش معهم وبينهم إلى أن تمكنوا منهم بعد الحادث الذي ذكرته, وبعد مجيء أبي جبيلة لنصرتهم5.
__________
1 الاشتقاق "ص259".
2 الاشتقاق "ص259 وما بعدها".
3 الاشتقاق "ص362".
4 رسالة الغفران "554، 562".
5 البلدان "7/ 428"، الكامل "1/ 275"، السويدي، سبائك الذهب "63"، المعارف لابن قتيبة "260", دائرة المعارف الإسلامية "3/ 150"، السهيلي، الروض الأنف "1/ 14"، سيرة ابن هشام "2/ 204"، "القاهرة 1936م",
ENCY., I, P. 523.(7/136)
ومن سادات الأوس عند ظهور الإسلام "سعد بن معاذ"، الذي قتل يوم "الخندق"، وأخوه "عمرو بن معاذ"، وقتل يوم أحد, و"سماك بن عتيك" فارسهم في الجاهلية، وابنه "حضير الكتائب"، وكان سيد الأوس ورئيسهم يوم بعاث, وابنه "أسيد بن حضير"، شهد بدرًا1. ومنهم "أبو الهيثم بن التيهان"، وكان نقيبًا، شهد العقبة وبدرًا، و"قيس بن الخطيم بن عدي" الشاعر2, و"سعد بن خيثمة"، وكان نقيبًا، وقتل يوم بدر، وأبو قيس بن الأسلت الشاعر, و"شاس بن قيس بن عبادة"، وكان من أشراف الأوس في الجاهلية3.
والخزرج أيضًا بطون، أشهرها: بنو النجار وينتسبون إلى "تيم الله بن ثعلبة", والحارث، وجشم، وعوف، وكعب4. ويلاحظ أن جشمًا وعوفًا هما اسما بطنين أيضًا من بطون الأوس.
ومن الخزرج "أبو أيوب خالد بن زيد", نزل عليه النبي أيام قدم المدينة، و"نعيمان بن عمرو"، وكان النبي يستخف نعيمان، لم يلقَهُ قط إلا ضحك إليه, و"أسعد الخير بن زرارة بن عدس"، شهد العقبة وكان نقيبًا، و"أبو أنس بن صرمة" الشاعر، وهو جاهلي5، و"ثابت بن قيس بن شاس"، خطيب رسول الله، وعمرو بن الأطنابة الشاعر، جاهلي وهو أحد فرسان الخزرج6, و"سعد بن عبادة بن دليم"، وابنه "قيس بن سعد بن عبادة" وكان نقيبًا سيدًا جوادًا، وابنه قيس أجود أهل دهره في أيام معاوية، ومنهم "مالك بن العجلان" قاتل "الفطيون"، وابنه "عثمان بن مالك بن العجلان"، شهد "بدرًا"7, و"خالد بن قيس بن العجلان"، شهد بدرًا، و"عمرو بن النعمان بن كلدة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة",
__________
1 الاشتقاق "ص263".
2 الاشتقاق "ص264".
3 الاشتقاق "ص265 وما بعدها".
4 الاشتقاق "ص266".
5 الاشتقاق "ص267".
6 الاشتقاق "ص268".
7 الاشتقاق "270 وما بعدها".(7/137)
رأس الخزرج يوم بُعاث1, و"رافع بن مالك بن العجلان"، وهو أول من أسلم من الأنصار، و"النعمان بن العجلان"2, و"مرداس بن مروان"، شهد يوم الحديبية، وبايع تحت الشجرة، وكان أمين النبي على سُهمان خبير3, و"خشرم بن الحباب"، وكان حارس النبي, و"البراء بن معرور"، عقبيّ وكان نقيبًا، وهو أول من أوصى بثلث ماله وأول من استقبل القبلة، وأول من دفن عليها4, و"أبو قتادة بن ربعي" فارس النبي.
ويذكر الإخباريون أنه كان للخزرج رئيس منهم، هو "عمرو بن الأطنابة"5، وقد ملك الحجاز. وكان ملكه على رأيهم في أيام "النعمان بن المنذر"، قتله الحارث بن ظالم قاتل خالد بن جعفر بن كلاب6, وكانت بينه وبين "عمرو" خصومة. وذكر أن "عمرًا" قال شعرًا يهزأ فيه بالحارث جاء فيه:
أبلغ الحارث بن ظالم المُوعِدَ ... والناذر النذور عَلَيّا
إنما تقتل النيام ولا تقتل ... يقظان ذا سلاحٍ كميّا
وكان عمرو شاعرًا, ومن الفرسان7.
وبالرغم من صلة الرحم القريبة التي كانت بين الأوس والخزرج، فقد وقعت بينهما حروب هلك فيها من الطرفين خلق كثير. وأول حرب وقعت بين الأوس والخزرج هي على رواية الإخباريين حرب "سمير" "سميحة". و"سمير" في روايتهم رجل من الأوس من بني عمرو، شتم رجلًا اسمه كعب بن العجلان، وهو من بني ثعلبة من سعد بن ذبيان، نزل على مالك بن العجلان رئيس الخزرج وحالفه وأقام معه، ثم قتله. فثارت الثائرة بين الأوس بسبب هذا القتل وبسبب دفع دية القتيل، ثم وقعت الحرب. ثم اتفقوا على أن يضعوا حكمًا بينهم يفصل في الأمر، فوقع اختيارهم على "المنذر بن حرام النجاري الخزرجي"، وهو
__________
1 الاشتقاق "ص271 وما بعدها".
2 الاشتقاق "272".
3 الاشتقاق "273".
4 الاشتقاق "273".
5 الاشتقاق "275".
6 ابن خلدون "2/ 289"، الأغاني "11/ 121 وما بعدها".
7 الاشتقاق "ص268".(7/138)
جد حسان بن ثابت، فحكم بينهم بأن يؤدوا لكعب دية الصريح، ثم يعودوا إلى سنتهم القديمة، وهي دفع نصف الدية عن الحليف. فرضوا وتفرقوا، ولكن بعد أن تمكنت العداوة والبغضاء في نفوس الطرفين1.
واشتعلت نيران حرب أخرى بين الأوس والخزرج بسبب امرأة من "بني سالم", وقد كانت الحرب في هذه المرة بين "بني جحجبا" من الأوس, و"بني مازن بن النجار" من الخزرج. وقد وقعت في موضع "الرحابة" انهزمت فيه "بنو جحجبا"2.
ثم تجددت الحرب بين "عمرو بن عوف" من الأوس وبني الحارث من الخزرج بسبب مقتل رجل من بني عمرو، وقد عرفت هذه الحرب باسم: "يوم السرارة". وقد كان على الأوس "حضير بن سماك"، وهو والد "أسيد بن حضير"، وكان على الخزرج "عبد الله بن سلول" "عبد الله بن أُبَيّ" المعروف في الإسلام بـ"رأس المنافقين". وقد انتهت بانصراف الأوس إلى دورها، فعدت الخزرج ذلك نصرًا لها3.
ووقعت حرب أخرى لأسباب تافهة كهذه الأسباب، وما كانت لتقع لولا هذه العصبية الضيقة, يثيرها في الغالب أفراد لا منازل كبيرة لهم في المجتمع, ومنهم من الصعاليك والمغمورين بأمور سخيفة، فإذا وقع على أحدهم اعتداء نادى قومه للأخذ بثأره، فتثور الحرب. ومن هذه الحروب، حرب بني وائل بن زيد الأوسيين وبني مازن بن النجار الخزرجيين، وحرب بني ظفر من الأوس وبني مالك من الخزرج، وحرب فارع، وحرب حاطب, ويوم الربيع, وحرب الفجار الأولى, وهي غير حرب الفجار التي وقعت بين قيس وكنانة، ثم حرب معبس ومضرس، وحرب الفجار الثانية، ثم يوم بعاث. وكان هذا
__________
1 الكامل "1/ 277"، الأغاني "3/ 18 وما بعدها" "20/ 24 وما بعدها"، المفضليات "ص135"، الاشتقاق "ص266"، ابن رستة، الأعلاق "64", البلخي, البدء والتأريخ "3/ 130".
2 الكامل "1/ 277".
3 الكامل "1/ 278 وما بعدها"، "فمن بني الحبلى: عبد الله بن أبي بن مالك، الذي يقال له ابن سلول، وسلول أمه، وكان رأس المنافقين، وكان ابنه عبد الله من خيار المسلمين"، الاشتقاق "271".(7/139)
اليوم آخر الأيام المشهورة التي وقعت بين الأوس والخزرج1.
وكان رئيس الخزرج في يوم بعاث "عمر بن النعمان بن صلاءة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة", أما رئيس الأوس، فكان "حضير الكتائب بن سماك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل", وقد ساعد الخزرج في هذا اليوم أشجع من غطفان، وجهينة من قضاعة، وساعد الأوس مزينة من أحياء طلحة بن إياس, وقريضة, والنضير. وقد قتل فيه "عمرو بن النعمان" رئيس الخزرج, فانهزم الخزرج، وانتصرت الأوس2.
وكان "حضير الكتائب بن سماك" سيد الأوس ورئيسهم يوم بعاث، ركز الرمح في قدمه وقال: ترون أفر؟! فقتل يومئذ, وابنه "أسيد بن حضير" من الصحابة الذين شهدوا العقبة وبدرًا3.
وقد تخلل أخبار هذه الأيام كالعادة شعر، ذكر أن شعراء الطرفين المتخاصمين قالوه على الطريقة المألوفة في الفخر، وفي انتقاص الخصم، وفي إثارة النخوة لتصطلم الحرب ويستميت أصحاب الشاعر في القتال. وقد كان المحلّق في هذه الأيام حسان بن ثابت الشاعر المخضرم الشهير، شاعر الرسول, وهو لسان الخزرج والمدافع عنهم، و"قيس بن الخطيم" وهو من الأوس، ثم جماعة ممن اشتركوا في المعارك مثل عامر بن الأطنابة، والربيع بن أبي الحقيق اليهودي، وعبد الله بن رواحة, وآخرين.
ويظهر من روايات أهل الأخبار عن يثرب أن الأوس والخزرج، لم يكونوا كأهل مكة من حيث الميل إلى الهدوء والاستقرار، بل كانوا أميل من أهل مكة إلى حياة البداوة القائمة على الخصومة والتقاتل. وقد بقي الحيان يتخاصمان حتى جاء الرسول إليهما، فأمرهما بالكف عنه، ووجههما وجهة أخرى أنستهما الخصومة العنيفة التي كانت فيما بينهما. ويظهر من رواياتهم أيضا أن الأوس والخزرج، وإن
__________
1 الكامل "1/ 280 وما بعدها".
2 ابن خلدون "2/ 289 وما بعدها"، ابن هشام "ص385", البرقوقي "ص278 وما بعدها"، البلدان، لياقوت "1/ 451", الميداني، الأمثال" 1/ 2"، اللسان "6/ 18"، "أوس"، تاج العروس "1/ 604"، البكري، معجم "1/ 260".
3 الاشتقاق "263".(7/140)
كانوا قد تحضروا واستقروا، غير أنهم لم يتمكنوا من التخلص من الروح الأعرابية تخلصًا تامًّا، بل بقوا محافظين على أكثر سجاياها، ومنها النزعة إلى التخاصم والتقاتل، فألهتهم هذه النزعة عن الانصراف إلى غرس الأرض والاشتغال بالزراعة كما فعل اليهود، وعن الاشتغال بالتجارة بمقياس كبير على نحو ما فعل أهل مكة.
ونظرًا لمساعدة أهل يثرب للرسول ومناصرتهم له وللمهاجرين، عرف الأوس والخزرج بـ"الأنصار" في الإسلام. وصاروا يفتخرون بهذه التسمية، حتى غلبت عليهم، وصارت في منزلة النسب.
وكان أهل "يثرب" مثل غيرهم تجارًا، يخرجون إلى أسواق الشام فيتجرون بها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال منها تاجروا مع بلاد الشام، وكان "يهود" يثرب يتاجرون أيضًا، ويأتون إلى أهل "يثرب" بما يحتاجون إليه من تجارات. كما "كانت الساقطة تنزل المدينة في الجاهلية والإسلام يقدُمون بالبر والشعير والزيت والتين والقماش، وما يكون في الشام"1, وكانوا يتسقطون الأخبار وينقلونها إلى الروم عند ظهور الإسلام. فقدم بعض الساقطة المدينة، وأبو بكر ينفذ الجيوش، وسمعوا كلام أبي بكر لعمرو بن العاص، وهو يقول: عليك بفلسطين وإيليا، "فساروا بالخبر إلى الملك هرقل"2, وتهيأ لملاقاة المسلمين.
ولم يذكر الرواة جنس هؤلاء "الساقطة"، الذين كانوا يأتون بالتجارة من بلاد الشام إلى المدينة، هل كانوا رومًا, أم عربًا، أم يهودًا، أم كانوا خليطًا من كل هؤلاء؟. على كلٍّ, كانوا تجارًا يأتون يثرب في الجاهلية لبيع ما يحملونه من تجارة، ولشراء ما يجدونه هناك، وبقوا شأنهم هذا إلى الإسلام، كما نرى من الخبر المتقدم.
هذا هو مجمل ما نعرفه عن تأريخ "يثرب" وهو شيء قليل، لا يكفي المتعطش لمعرفة تأريخ هذه المدينة التي تعد من المواضع المقدسة في الإسلام, ولا بد وأن يأتي يوم سنكتشف فيه الأقنعة عن تأريخ المدينة قبل الإسلام، وذلك حين يقوم المنقبون المتخصصون بالبحث في تربتها عن الماضي المستور الدفين.
__________
1 الواقدي، فتوح "ص16", "طبعة بيروت 1956م".
2 الواقدي، فتوح "16 وما بعدها".(7/141)
الطائف:
والطائف على مسافة خمسة وسبعين ميلًا تقريبًا إلى الجنوب الشرقي من مكة، وهي على عكس مكة أرض مرتفعة ذات جو طيب في الصيف, فيه زرع وضرع، وغنى جادت الطبيعة به على أهله. وقد كان وما زال مصيفًا طيبًا يقصده أهل مكة فرارًا من وهج الشمس.
وتقع الطائف على ظهر جبل غزوان، وهو أبرد مكان في الحجاز، وربما جمد الماء في ذروته في الشتاء، وليس بالحجاز موضع يجمد فيه الماء سوى هذا الموضع, وبينها وبين مكة وادٍ اسمه نعمان الأراك. وهي كثيرة الشجر والثمر، وأكثر ثمارها الزبيب والرمان والموز والأعناب، ولا سيما الصديفي، وفواكه أخرى عديدة. وهي تمون مكة بالفواكه والبقول1, وتحيط بها الأودية. ومن مواضعها "الوهط"، وهو واد، أو مكان مطمئن من الأرض مستوٍ، تنبت فيه العضاه والسمر والطلح والعرفط، وقد اتخذ بستانًا، صار لـ"عمرو بن العاص"، ثم لابنه، وقد عرف بكثرة كرمه وأنواع أعنابه2.
وإلى الشرق من الطائف وادٍ يقال له "لِيَّة"، ذكر بعض أهل الأخبار أن أعلاه لثقيف, وأسفله لـ"بني نصر بن معاوية" من هوازن3.
وتأريخ مدينة الطائف تأريخ غامض، لا نعرف من أمره شيئًا؛ إذ لم تمس تربتها أيدي علماء الآثار بعد، كما أن السياح لم يجدوا في الطائف كتابات قديمة بعد. ولكن مكانًا مثل الطائف لا بد أن يكون له تأريخ قديم، ولا يعقل أن يكون من الأمكنة التي ظهرت ونشأت قبيل الإسلام, وليس لنا من أمل في
__________
1 تقويم البلدان "95"، صورة الأرض، لابن حوقل "39"، البكري، معجم "3/ 31، 886".
2 تاج العروس "5/ 243"، "وهط".
3 صفة "120"، تاج العروس "10/ 334"، "لوو".(7/142)
الحصول على شيء من تأريخ الطائف إلا بقيام العلماء بمناجاة تربتها واستدراجها لتبوح لم بما تكنه من كتابات مسجلة في الألواح تتحدث عن تأريخ هذا المكان المهم.
وقد عثر الباحثون فعلًا على كتابات مدونة على الصخور المحيطة بمدينة الطائف الحديثة وفي مواضع غير بعيدة عنها. وقد تبين أن بعضًا منها بالنبطية وبعضًا آخر بالثمودية، وأن بعضًا بأبجدية أخرى، وأن بعضًا بأبجدية القرآن الكريم، أي بقلم إسلامي. ولا يستبعد عثور العلماء في المستقبل على كتابات ستكشف عن تأريخ هذه البقعة، وعن تأريخ من سكنها قبل الإسلام وقبل ثقيف. وذُكر أن بعض كتابات يشبه شكلها شكل الأبجدية اليونانية، وكتابات أخرى يشبه خطها الخط الكوفي, عثر عليها في "بستان شهار" على مسافة كيلومترين إلى الجنوب من الطائف1, غير أنها لم تدرس حتى الآن. ومكان مهم بالنسبة للطرق التجارية ولموقعه المعتدل الجميل، لا بد وأن يكون قد لفت أنظار سكان العربية الغربية قبل الميلاد فسكنوه، ولا أستبعد إمكانية تدوين تأريخ صحيح لهذه المدينة إذا ما قام المنقبون بالبحث فيها وفي الأماكن القريبة منها لاستنطاقها، لتتحدث لهم عما عرفته من أخبار تلك الشعوب التي سكنت هذا الموضع قبل ثقيف.
ويزعم أهل الأخبار أن الطائف إنما سيمت طائفًا، بحائطها المطيف بها, أما اسمها القديم فهو "وج". ولهم روايات عن كيفية قيام ذلك الحائط، وقد حاول بعض أهل الأخبار إعطاء الطائف مسحة دينية، فزعموا بأنها من دعوات إبراهيم، وأنها قطعة من أرض ذات شجر كانت حول الكعبة، ثم انتقلت من مكانها بدعوة إبراهيم، فطافت حول البيت، ثم استقرت في مكانها، فسميت الطائف، وزعمت أن جبريل اقتطعها من فلسطين، وسار بها إلى مكة فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حول الطائف2. وهكذا أكسبت هذه الروايات الطائف
__________
1 OSman r. rostem, rock inscriptions in the Hijaz, p. 11.
2 البلدان "3/ 499 وما بعدها"، المقدسي, البدء والتأريخ "2/ 109"، الكامل، لابن الأثير "1/ 420 وما بعدها"، "والطائف من بلاد ثقيف. قال أبو طالب بن عبد المطلب:
منعنا أرضنا من كل حي ... كما امتنعت بطائفها ثقيف
وهي في وادٍ بالغور، أول قراها لقيم وآخرها الوهط، سميت لأنها طافت على=(7/143)
قدسية، وجعلت لها مكانة دينية، وهي روايات يظهر أنها وضعت بتأثير من سادات ثقيف المتعصبين لمدينتهم، والذين كانوا يرون أن مدينتهم ليست بأقل شأنًا من مكة أو يثرب. وقد كان بها سادات وأشراف كانوا أصحاب مال وثراء.
وقد زعم بعض أهل الأخبار أن الذي أقام حائط الطائف رجل من الصدف، يقال له "الدمون بن عبد الملك"، قتل ابن عم له يقال له "عمرو" بحضرموت، ثم فر هاربًا، ثم جاء إلى "مسعود بن متعب الثقفي" ومعه مال كثير، وكان تاجرًا، فقال: أريد أن أحالفكم على أن تزوجوني وأزوجكم
__________
= الماء في الطوفان، أو لأن جبريل -عليه السلام- طاف بها على البيت سبعًا. نقله الميورقي عن الأزرقي، أو لأنها كانت قرية بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم -عليه السلام- اقتلاعًا من تخوم الثرى بعيونها وثمارها ومزارعها, وذلك لما قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} . نقله أبو داود الأزرقي في تاريخ مكة وأبو حذيقه إسحاق بن بشر القرشي في كتاب المبتدأ، وهو قول الزهري. وقال القسطلاني في المواهب: إن جبريل -عليه السلام- اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصريم فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت ثم أنزلها حيث الطائف، فسمي الموضع بها, وكانت أولًا بنواحي صنعاء, واسم الأرض وج, وهي بلدة كبيرة على ثلاث مراحل أو اثنتين من مكة من جهة المشرق كثيرة الأعناب والفواكه. وروى الحافظ بن عات في مجالسه أن هذه الجنة كانت بالطائف، فاقتلعها جبريل وطاف بها البيت سبعًا ثم ردها إلى مكانها ثم وضعها مكانها اليوم. قال أبو العباس الميورقي: فتكون تلك البقعة من سائر بقع الطائف, طِيف بها بالبيت مرتين في وقتين، أو لأن رجلًا من الصدف، وهو ابن الدمون بن الصدف. واسم الصدف: مالك بن مرتع بن كندة من حضرموت أصاب دما في قومه بحضرموت ففر إلى وج ولحق بثقيف وأقام بها وحالف مسعود بن معتب الثقفي أحد من قيل فيه: إنه المراد من الآية: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} ، وكان له مال عظيم. فقال لهم: هل لكم أن أبني لكم طوفًا عليكم يطيف ببلدكم يكون لكم ردءًا من العرب. فقالوا: نعم فبناه وهو الحائط المطيف المحدق به. وهذا القول نقله السهيلي في الروض عن البكري وأعرض عنه. وذكر ابن الكلبي ما يوافق هذا القول, وقد خصت بتصانيف. وذكروا هذا الخلاف الذي ساقه المصنف وبسطوا فيه، أورد بعض ذلك الحافظ ابن فهد الهاشمي في تأريخ له خصه بذكر الطائف"، تاج العروس "1/ 184"، "طوف".(7/144)
وأبني لكم طوفًا عليكم مثل الحائط لا يصل إليكم أحد من العرب. فوافقوا على ذلك، وبنى لهم طوفًا عليهم، فسميت الطائف, فزوجوه1.
وقد كان لأهل الطائف معبد يحجون إليه، هو معبد "اللات"، وكانوا يعظمونه ويتبركون به. ويذكر أهل الأخبار أن اللات كان صخرة مربعة يلتّ يهودي عندها السَّوِيق، وكان سدنتَه "بنو عتاب بن مالك" وهم من ثقيف, وقد بنو له بناء ضخمًا. وكانت العرب، ومنها قريش، تعظمه وتحج إليه وتطوف به, وقد هُدم في الإسلام عند فتح الطائف ودخول أهلها فيه. وقد هدم الصنم: المغيرةُ بن شعبة، وأحرقه بالنار, ويقع موضعه تحت منارة المسجد، الذي بني على أنقاض ذلك المعبد، وهو مسجد المدينة. فمسجد الطائف إذن هو معبد اللات القديم، وهو في الطائف نفسها2.
ويرجع أهل الأخبار زمان الطائف إلى العمالقة، ويقولون: إنها إنما سميت "وَجًّا" بوج بن عبد الحي، من العماليق، وهو أخو "أجأ" الذي سمي به جبل "طي", ثم غلب عليها "بنو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر"، ثم غلبهم "بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن"، وذلك بعد قتال شديد. ثم استغلت ثقيف الظروف، فاستولت عليها، وأخذتها من "بني عامر"، فارتحل "بنو عامر" عنها، ونزحوا إلى تهامة، وتحكم بها بنو ثقيف3.
__________
1 البلدان "6/ 10 فما بعدها".
2 ابن الكلبي، الأصنام "16 وما بعدها"، القزويني، آثار البلاد "64 وما بعدها".
3 الكامل، لابن الأثير "1/ 420 وما بعدها"، ابن قتيبة، المعارف "91"، "ووج اسم وادٍ بالطائف بالبادية, سمي بوج بن عبد الحي من العمالقة, وقيل من خزاعة.
قال عمرو بن حزام:
أحقًّا يا حمامة بطن وج ... بهذا النوح إنك تصدُقينا
غلبتك بالبكاء لأن ليلي ... أواصله وإنك تهجعينا
وإني إن بكيت بكيت حقًّا ... ولكني أسر وتعلنينا
فنوحي يا حمامة بطن وج ... فقد هيجت مشتاقًا حزينا
قرأت هذه الأبيات في الحماسة لأبي تمام, والذي ذكرت هنا رواية المعجم، وبينهما تفاوت قليل"، تاج العروس "2/ 110"، "الوج"، "ووج موضع بالبادية، وقيل: هي الطائف" "وفي الحديث: "صيد وج وعضاهه حرام محرم", قال: هو موضع بناحية الطائف ويحتمل أن يكون حرمه في وقت معلوم ثم نسخ. وفي حديث كعب: أن وجًّا مقدس، منه عرج الرب إلى السماء", اللسان "2/ 397"، "وجج".(7/145)
ويذكر بعض أهل الأخبار أن أول من ملك الطائف "عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر". فلما كثر "بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن"، غلبوهم على الطائف بعد قتال شديد1. وقد كانت مواطن "بني عامر" بنجد, وكانوا يصيفون بالطائف، حتى غلبتهم ثقيف, فخرجوا إلى تهامة. وكان منهم "عامر بن الظرب العدواني" أحد الحكماء العرب2.
وقد ورد في بعض الأخبار أن قوم ثمود هم الذين نزلوا بالطائف بعد العماليق، فأخذوها منهم، وذلك قبل ارتحالهم عنها إلى وادي القرى، بسبب منازعة القبائل لهم، ومن ثم ربط رواة هذه الأخبار نسب ثقيف بثمود، وقد صير بعض أهل الأخبار ثقيفًا مولى من موالي هوازن، ونسبهم آخرون إلى إياد3.
وجاء في رواية أخرى أن أقدم سكان الطائف هم بنو مهلائيل بن قينان, وهم الذين عمروها وغرسوها وأحيوا مواتها, وقد سكنوها قبل الطوفان، فلما وقع الطوفان, كانوا في جملة من هلك فيه من الأمم الباغية. فخلت الطائف منهم، وسكنها بعدهم بنو هانئ بن هذلول بن هوذلة بن ثمود، فأعادوا بناءها وعمروها حتى جاءهم قوم من الأزد على عهد "عمرو بن عامر"، فأخرجوهم عنها، وأقاموا بها وأخذوا أماكنهم، ثم توالى عليها العرب حتى صارت في أيدي ثقيف4.
وصير بعض أهل الأخبار ثقيفًا رجلًا متشردًا، اتفق مع ابن خاله النخع على الهجرة في طلب الرزق والعيش، فذهب النخع إلى اليمن، فنزل بها، وذهب "ثقيف" إلى وادي القرى، فنزل على عجوز يهودية لا ولد لها، واتخذها ثقيف أمًّا له. فلما حضرها الموت، أوصت له بما كان عندها من دنانير وقضبان، ثم دفنها وذهب نحو الطائف، فلما كان على مقربة منها، وجد أمة
__________
1 الكامل، لابن الأثير "1/ 420 وما بعدها".
2 ابن خلدون "5/ 63".
3 ابن خلدون "2/ 641 وما بعدها".
4 الهمداني، صفة "1/ 312 وما بعدها", البلدان "3/ 498 وما بعدها", اللسان "9/ 225"، صورة الأرض "39".(7/146)
حبشية ترعى غنمًا, فأراد قتلها ليستولي على ماشيتها، فارتابت منه، وأخبرته بأن يصعد إلى الجبل، فيستجير بـ"عامر بن الظرب العدواني" فإنه سيجيره ويغنيه، ويربح أكثر من ربحه من استيلائه على هذه الغنم، فذهب إليه، وأجاره، وأغناه، وأنزله عنده، وزوجه ابنة له، وبقي مقيمًا في الطائف، وتكاثر ولده، حتى زاحموا بني عامر، وتلاحيا ثم اقتتلا، فتغلبت ثقيف على بني عامر، واستولت على الطائف1.
ويذكر هؤلاء الرواة أن ثقيفًا اتفقوا مع "بني عامر" على أن يأخذوا الطائف لهم ويرحل بنو عامر عنها، فيدفعوا لهم نصف ما يحصلون عليه من غلات. وقد بقوا على ذلك أمدًا، حتى ثبتت ثقيف نفسها في الطائف وقوت دفاعها وأحكمت مواضعها، ثم امتنعت عن دفع أي شيء كان لبني عامر، فوقع قتال بين الطرفين انتهى بانتصار ثقيف. وصارت بذلك سيدة الطائف بلا نزاع.
وقد حسدهم طوائف من العرب، وقصدوهم لما صار لهم من مركز ومن رزق رغد وأثمار وجنان، ولكنهم لم يتمكنوا من الظفر بطائل، وتركوهم على حالهم2.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "عبد ضخم" كانوا فيمن سكن الطائف, وقد كانوا من عاد الأولى، وهلكوا فيمن هلك من عاد ومن أقوام بائدة.
وذكر أنه كان بالطائف قوم من يهود، طُردوا من اليمن ومن يثرب, فجاءوا إلى الطائف، وسكنوا فيها، ودفعوا الجزية لساداتها، ومن بعضهم ابتاع "معاوية" أمواله بالطائف3.
وقد كان لوقوع الطائف على مرتفع، ولحائطها المزود بأبراج واستحكامات
__________
1 البلدان "3/ 498 وما بعدها"، "وثقيف كأمير، أو قبيلة من هوازن واسمه قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان. وقد يكون ثقيف اسمًا للقبيلة والأول أكثر. قال سيبويه: وأما قولهم هذه ثقيف فعلى إرادة الجماعة. وإنما قال ذلك لغلبة التذكير عليه, وهو مما لا يقال فيه من بني فلان"، تاج العروس "6/ 51"، "ثقف".
2 البلدان "3/ 498 وما بعدها".
3 البلاذري، فتوح "68".(7/147)
الفضل بالطبع في صد الأعراب ومنعهم من نهبها وغزوها. والظاهر أن أهل الطائف كانوا قد اقتفوا أثر اليمن في الدفاع عن مدنهم وقراهم, حيث كانوا يبنونها على المرتفعات في الغالب، ثم يحيطون ما يبنونه بأسوار ذات أبراج لمنع العدو من الدنو منها, ولا سيما الأعراب الذين لم يكونوا بحكم طبيعة معيشتهم في أرض منبسطة مكشوفة، ولفقرهم وعدم وجود أسلحة حسنة لديهم يستطيعون مهاجمة مثل هذه التحصينات، وأخذها على غِرَّة حيث تقفل أبواب الأسوار وتغلق ليلًا، وفي أوقات الخطر, فلا يكون في استطاعة أحد ولوجها؛ لذلك صارت هذه التحصينات من أثقل الأعداء على قلوب الأعراب.
ولما هم "أبرهة" بالسير إلى مكة، كانت الطائف في جملة المواضع التي نزل بها في طريقه إليها. وقد خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف، فأتوه بالطاعة، وبعثوا معه "أبا رغال" دليلًا، فأنزله المغمس بين الطائف ومكة، فهلك "أبو رغال" هناك وقبره في ذلك الموضع.
وعند ظهور الإسلام كان أغلب سكان هذا الموضع ينتسبون إلى قبيلة ثقيف. وترجع هذه القبيلة نسبها مثل القبائل الأخرى إلى جد أعلى، يقولون: إن اسمه "قسي بن منبه"، ويقول الإخباريون: إنما دعي قسيًّا؛ لأنه قتل رجلًا، فقيل: قسا عليه، وكان غليظًا قاسيًا1.
والنسابون يختلفون في نسبه، فمنهم من ينسبه إلى إياد، فيجعله قسي بن نبت بن منبه بن منصور بن مقدم بن أفصى بن دُعْمِيّ بن إياد بن معد، ومنهم من يجعله من هوازن، فيقول: قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان2.
ونحن إذا درسنا ما رواه أهل الأخبار عن نسب ثقيف، وعن القبائل التي اتصلت بها، نجد أنها كانت ذات صلة وثيقة بقبائل "قيس عيلان" من مجموعة مضر. ومعنى هذا أنها كانت على مقربة منها، وأنها كانت من قبائل مضر, كما نجد في الوقت نفسه أنها كانت على صلات وثيقة مع بعض قبائل اليمن. وقد
__________
1 الاشتقاق "183".
2 ابن الأثير، الكامل "1/ 288"، الأغاني "4/ 74"، البلاذري، أنساب الأشراف "25 وما بعدها",
ency., iv, p, 734.s(7/148)
فسرت هذه الصلات بوجود نسب لثقيف باليمن، وهذا النسب المزدوج، هو كناية عن الصلات التي كانت تربط بين "ثقيف" ومجموعة "مضر", وبينها وبين قبائل اليمن. وهو تعبير عن موضع الطائف المهم الوسط، الذي يربط بين اليمن والحجاز والطرق المارة إلى نجد، مما جعله وسطًا وموضعًا للاحتكاك بين قبائل هذه الأرضين.
وصيروا ثقيفًا في رواية أخرى ابنًا لأبي رغال, ثم رفعوا نسب الابن والأب إلى قوم ثمود، وجعله حماد الراوية ملكًا ظالمًا على الطائف، لا يرحم أحدًا، مر في سنة مجدبة بامرأة ترضع صبيا يتيما بلبن عنز لها، فأخذها منها فبقي الصبي بلا مرضعة، فمات، فرماه الله بقارعة فأهلكه، فرجمت العرب قبره، وصار رجم قبره سنة للناس1. فهل تجد رجلًا ألأم من هذا الرجل على هذا الوصف؟.
وقد قيل في "أبي رغال": إنه كانت رجلًا عشَّارًا في الزمن الأول, جائرًا, وقيل: كان عبدًا لشعيب، وقيل: اسمه "زيد بن مخلف" عبدٌ كان لصالحٍ النبي، وأنه أرسله إلى قوم ليس لهم لبن إلا شاة واحدة، ولهم صبي قد ماتت أمه يغذونه بلبن تلك الشاة، فأبى أن يأخذ غيرها، فقالوا: دعها نحايي بها هذا الصبي، فأبى "فيقال: إنه نزلت به قارعة من السماء, ويقال: بل قتله رب الشاة. فلما فقده صالح، قام في الموسم ينشد الناس، فأخبر بصنيعه فلعنه، فقبره بين مكة والطائف يرجمه الناس"2.
__________
1 الأغاني "4/ 74".
2 "عن أنس, قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال: "هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود, وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه" الحديث. وأورده القسطلاني هكذا في المواهب في وفادة ثقيف, وبسطه الشراح. وقول الجوهري والصاغاني كذلك أنه كان دليلًا للحبشة حين توجهوا إلى مكة -حرسها الله تعالى- فمات في الطريق بالمغمس, قال جرير:
وإذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال
غير جيد. وكذا قول ابن سيده كان عبدًا لشعيب -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-. وكان عشارا جائرا فقبره بين مكة والطائف يرجم اليوم. وقال ابن المكرم: ورأيت في هامش الصحاح ما صورته: أبو رغال اسمه: زيد بن مخلف, عبد كان لصالح النبي=(7/149)
وفي رأيي أن معظم هذه الروايات التي يرويها الإخباريون عن ثقيف إنما وضعت في الإسلام، بغضًا للحَجَّاج الذي عرف بقسوته وبشدته، فصيروا ثقيفًا عبدًا لأبي رغال, وجعلوا أصله من قوم نجوا من ثمود. وأبو رغال نفسه جاسوس خائن في نظر الإخباريين، حاول إرشاد أبرهة إلى مكة، فكيف يكون إذن حال رجل من قوم فَسَقَة كَفَرَة, ثم صار عبدًا لجاسوس لئيم! وقد رأيت أن من أهل الأخبار من صير "ثقيفًا" رجلًا مهاجرًا، هاجر في البلاد يلتمس العيش حتى جاء وادي القُرَى، فتبنته عجوز يهودية، وعطفت عليه، حتى إذا ما ماتت أخذ مالها، وهاجر إلى الطائف، وكان لئيما فطمع في غنم لأمة حبشية، وكاد يقتلها لولا إشارتها عليه باللجوء إلى "عامر بن الظَّرِب"، الجواد الكريم، وصاحب الطائف، فأعطاه وحباه، ولكن أبى لؤم ثقيف إلا أن ينتقل إلى ولده، فتنكروا لبني عامر وأخرجوهم عن الطائف، واستبدوا وحدهم بها.
وبنو ثقيف حزبان: الأحلاف ومنهم: "غيلان بن سلمة" و"كنانة بن عبد ياليل" و"الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب"، و"ربيعة بن عبد ياليل" و"شرحبيل بن غيلان بن سلمة" و"عثمان بن أبي العاص" و"أوس بن عوف" و"نمير بن خرشة بن ربيعة"، وقد ذهب هؤلاء إلى الرسول وأسلموا، فاستعمل عليهم "عثمان بن أبي العاص". وأما القسم الثاني، فعُرف بـ"بني مالك"، وقد ذهب نفر منهم مع هذا الوفد إلى الرسول، فضرب لهم قبة في المسجد, وأما الأحلاف فنزلوا ضيوفًا على "المغيرة بن شعبة" وهو من ثقيف1.
__________
= -عليه السلام- بعثه مصدقًا، أنه أتى قوما ليس لهم لبن إلا شاة واحدة ولهم صبي قد ماتت أمه، فهم يعاجونه بلبن تلك الشاة، يعني: يغذونه، فأبى أن يأخذ غيرها. ففالوا: دعها نحايي هذا الصبي فأبى، فيقال: إنه نزلت به قارعة من السماء, ويقال: بل قتله رب الشاة، فلما فقده صالح -عليه السلام- قام في الموسم ينشد الناس، فأخبر بصنيعه فلعنه، فقبره بين مكة والطائف يرجمه الناس"، تاج العروس "7/ 348" "رغل", "والمغمس كمعظم ومحدث، الأول هو المشهور عن أهل مكة والثاني نقله الصاغاني، وقال لغة فيه بطريق الطائف بالقرب من مكة, فيه قبر أبي رغال دليل أبرهة الحبشي إلى مكة ويرجم إلى الآن. قال أمية بن أبي الصلت:
حبس الفيل بالمغمس حتى
ظل فيه كأنه مقبور"، تاج العروس "4/ 203"، "غمس".
1 ابن سعد، طبقات "1/ 312 وما بعدها".(7/150)
ومن الأحلاف في الإسلام: المختار بن أبي عبيد، والحجاج بن يوسف.
ومن زعماء الأحلاف عند ظهور الإسلام: أمية بن أبي الصلت، والحارث بن كلدة، ومعتب، وعتاب، وأبو عتبة، وعتبان1.
ويذكر أهل الأخبار أن حربًا وقعت بين "مالك" والأحلاف، فخرجت الأحلاف تطلب الحلف من أهل يثرب على "بني مالك"، وعلى رأسها "مسعود بن معتب" رأس الأحلاف. فقدم على "أحيحة بن الحلاج"، أحد بني عمرو بن عوف من "الأوس", فطلب منه الحلف، فأشار عليه "أحيحة"، أن عليه أن يعود إلى الطائف ويصالح إخوانه، فإن أحدًا لن يبر له إذا حالفهم, فانصرف "مسعود" عن "عتبة" بعد أن زوده بسلاح وزاد وأعطاه غلامًا يبني الأسوار، فلما وصل، أمر الغلام ببناء سور حول الطائف، فبناه له، وأحيطت الطائف بسور قوي حصين، وآمنت بذلك على نفسها من غارات الأعراب2.
ويختلف أهل الطائف عن أهل مكة، وعن الأعراب من حيث ميلهم إلى الزراعة واشتغالهم بها وعنايتهم بغرس الأشجار. وقد عرفت الطائف بكثرة زبيبها وأعنابها واشتهرت بأثمارها، وقد كان أهلها يُعنون بزراعة الأشجار المثمرة, ويسعون إلى تحسين أنواعها وجلب أنواع جديدة لها، فقد استوردوا أشجارًا من بلاد الشام ومن أماكن أخرى وغرسوها، حتى صارت الطائف تمون مكة وغيرها بالأثمار والخضر.
وثقيف حضر مستقرون متقدمون بالقياس إلى بقية أهل الحجاز, فاقوا غيرهم في الزراعة إذ عنوا بها كما ذكرت، واستفادوا من الماء فائدة كبيرة، وأحاطوا المدينة ببساتين مثمرة، كما فاقوا في البناء فبيوتهم جيدة منظمة، وكان لهم حذق ومهارة في الأمور العسكرية. وقد تجلى ذلك في دفاعهم عن مدينتهم يوم حاصرها الرسول وتحصنهم بسورهم، ورميهم المسلمين بالسهام وبالنار من فوق سورهم، يوم لم يكن لمكة ولا للمدينة سور ولا خنادق.
كذلك اختلف أهل الطائف عن غيرهم من أهل الحجاز في ميلهم إلى الحرف
__________
1 المعارف "91".
2 ابن الأثير، الكامل "1/ 420 وما بعدها".(7/151)
اليدوية مثل الدباغة والنجارة والحدادة، وهي حرف مستهجنة في نظر العربي، يأنف من الاشتغال بها. ولكن أهل الطائف احترفوها، وربحوا منها، وشغَّلوا رقيقهم بها. وقد استفادوا من خبرة الرقيق, فتعلموا منهم ما لم يكن معروفًا عندهم من أساليب الزراعة وأعمال الحرف، فجددوا وأضافوا إلى خبرتهم خبرة جديدة.
وقد عاش أهل الطائف في مستوى هو أرفع من مستوى عامة أهل الحجاز، فقد رزقوا فواكه أكلوا منها، وجففوا بعضًا منها مثل "الزبيب"، وأكلوا وصدروا منه ما زاد عن حاجتهم، كما اقتاتوا بالحبوب واللحوم, حتى حظ فقراء الطائف هو أرفع وأحسن درجة من حظ فقراء المواضع الأخرى من الحجاز.
وقد ذهب المفسرون إلى أن كلمة القريتين الواردة في القرآن الكريم، تعني مكة والطائف. {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 1.
وكان رؤساؤها من المثرين الكبار، لهم حصون يدافعون بها عن أنفسهم وعن أموالهم، ولهم علم بالحرب. ولحماية مدينتهم أقاموا حصونًا على مسافات منها، وحوطوا مدينتهم بسور حصين عالٍ، يرد من يحاول دخولها، وجمعوا عندهم كل وسائل المقاومة الممكنة التي كانت معروفة في ذلك العهد، مثل أوتاد الحديد التي تحمى بالنار لتلقى على الجنود المختفين بالدبابات، وغير ذلك من وسائل المقاومة والدفاع، كما كانوا قد تعلموا من أهل اليمن مثل مدينة "جرش" صناعة العرادات والمنجنيق والدبابات2.
وكان أغنياء "الطائف" كأغنياء مكة وأغنياء المواضع الأخرى من جزيرة العرب, أصحاب ربا. ولما أسلموا اشترط عليهم الرسول ألا يرابوا، ولا يشربوا الخمر، وكتب لهم كتابًا3. وكانت لهم تجارة مع اليمن، ولكننا لا نسمع
__________
1 الزخرف، الآية 31، الطبرسي، مجمع "5/ 46"، تفسير الطبري "25/ 39".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 312" "بيروت 1957م"، السيرة الحلبية "3/ 131 وما بعدها".
3 البلاذري، فتوح "67".(7/152)
شيئًا عن قوافل كبيرة كقوافل أهل مكة، كانت تتاجر مع بلاد الشام أو العراق، ولعلهم كانوا يساهمون مع تجار مكة في اتجارهم مع تلك الديار.
وقد اشتهرت الطائف بدباغة الجلود، وذكر أن مدابغها كانت كثيرة، وأن مياهها كانت تنساب إلى الوادي، فتنبعث منها روائح كريهة مؤذية1, واشتهرت بفواكهها وبعسلها2.
وقد استغل أثرياء قريش أموالهم في الطائف، فاشتروا فيها الأرضين وغرسوها واستثمروها، واشتروا بعض المياه، وبنوا لهم منازل في الطائف ليتخذوها مساكن لهم في الصيف، وأسهموا مع رؤساء ثقيف في أعمال تجارية رابحة، وربطوا حبالهم بحبالهم، وحاولوا جهد إمكانهم ربط الطائف بمكة في كل شيء3.
ولما فتحت مكة وأسلم أهلها, طمعت ثقيف فيها، حتى إذا فتحت الطائف أقرت في أيدي المكيين، وصارت أرض الطائف مخلافًا من مخاليف مكة4.
وقد كان بين أهل مكة وأهل الطائف تنافس وتحاسد، وقد حاول أهل الطائف جلب القوافل إليهم، وجعل مدينتهم مركزًا للتجار يستريحون فيه، وقد نجحوا في مشروعهم هذا بعض النجاح يوم استولى الفرس على اليمن، وتمكنوا فيه من طرد الحبش عن العربية الجنوبية, فصارت قوافل "كسرى" التجارية و"لَطائم" ملوك الحيرة تذهب إلى اليمن وتعود منها من طريق الطائف, ونغصت بذلك عيش أهل مكة, غير أن أهل مكة تمكنوا من التغلغل إلى الطائف ومن بسط سلطانهم عليها، بإقراض سادتها الأموال، وبشراء الأرضين, فبسطوا بذلك سلطانهم عليها، وأقاموا بها أعمالًا اقتصادية خاصة ومشتركة، وهكذا استغل أذكياء مكة هذا الموضع المهم، وحولوه إلى مكان صار في حكم التابع لسادات قريش.
ومن سادات الطائف: "عبد ياليل" وإخوته "حبيب" و"مسعود" و"ربيعة" و"كنانة" وهم "بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن
__________
1 البلدان "6/ 10 وما بعدها".
2 البلاذري، فتوح "68 وما بعدها".
3 البلاذري، فتوح "68".
4 البلاذري، فتوح "68".(7/153)
غيرة الثقفي"، وكانوا أثرياء أجوادًا يطعمون بالرياح1. وأمهم "قلابة بنت الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج" الثقفي2, وبيت "بني علاج" من البيوت القديمة المعروفة بالطائف3.
ولقد لقي الرسول مقاومة عنيفة من أهل الطائف حين حاصرها وأحاط بها، فقد تحصن أهلها بحائطهم وبحصونهم, وأغلقوا عليهم أبواب مدينتهم، وصنعوا الصنائع للقتال. أما من كان حول الطائف من الناس, فقد أسلموا كلهم، ولما ضيق المسلمون الحصار عليها، وقربوا من الحائط، دخل نفر من أصحاب رسول الله تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، وقتلوا رجالا، فأمر رسول الله بقطع أعناب ثقيف؛ كي يحملهم على فتح أبواب مدينتهم ومهادنة الرسول، للإبقاء على أموالهم، غير أنهم لم يبالوا بما رأوا من قطع أعنابهم وتخريب بساتينهم، وبقوا على عنادهم، مما حمل الرسول على ترك حصارهم والرحيل عنهم انتظارًا لفرصة أخرى4.
ويذكر أهل الأخبار، أن "سلمان الفارسي" اتخذ منجنيقًا نصبه المسلمون على الطائف، وأن المسلمين كانت لهم دبابة، جاء بها "خالد بن سعيد بن العاص" من "جرش"5.
ويذكر الطبري أن عروة بن مسعود، وهو من وجوه الطائف، كان قد تعلم مع غيلان بن سلمة صنعة الدبابات والضبور والمجانيق من أهل جرش6. وقد اشتهرت هذه المدينة بصنع آلات الحرب.
ولما انصرف الرسول عن الطائف، اتبع أثره "عروة بن مسعود بن متعب" حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم. فلما رجع إلى الطائف على أمل
__________
1 المحبر "460".
2 المحبر "460".
3 الاشتقاق "185".
4 الطبري "3/ 82 وما بعدها" "غزوة الطائف".
5 البلاذري، أنساب "1/ 366".
6 الطبري "3/ 82".(7/154)
إقناع أهلها بالدخول في الإسلام، لمكانته فيهم، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله. ثم أقامت ثقيف بعد مقتل عروة أشهرًا، ثم إنهم ائتمروا بينهم ألا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب, فأرسلوا وفدًا إلى المدينة لمفاوضة الرسول على الدخول في الإسلام. فلما دخلوا عليه أبوا أن يحيوه إلا بتحية الجاهلية، ثم سألوه أن يدع لهم "الطاغية" وهي اللات لا يهدمها, إلى أجل؛ لأنهم أرادوا بذلك "فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروِّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام. فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها. وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله: "أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه. وأما الصلاة، فلا خير في دين لا صلاة فيه". فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة"1.
فلما وصل الوفد ومعه أبو سفيان والمغيرة بن شعبة إلى الطائف، وأرادا هدم الصنم، "أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم2, فلما دخل المغيرة بن شعبة، علاها يضربها بالمعول، وقام قوم دونه -بنو معتب- خشية أن يرمى أو يصاب.... وخرجن نساء ثقيف حسَّرًا يبكين" "ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واهًا لك، فلما هدمها المغيرة، أخذ مالها وحُليَّها، وأرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع، ومالها من الذهب والجزع، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا سفيان أن يقضي من مال اللات دين عروة والأسود ابني مسعود، فقضى منه دينهما"3.
وذكر عن "عروة بن مسعود الثقفي" أنه كان من الرجال الذين كان عندهم عشر نسوة عند مجيء الإسلام4, وأنه نادى على سطحه بالطائف بالأذان
__________
1 الطبري "3/ 99 وما بعدها".
2 "الهدم".
3 الطبري "3/ 99 وما بعدها".
4 المحبر "ص357".(7/155)
أو التوحيد، فرماه رجل من أهل الطائف فقتله، وأن الرسول قال فيه: "مثله مثل صاحب ياسين" 1. "ويقال: إنه الذي ذكره الله عز وجل في التنزيل: {مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} ، وذكر بعض أهل العلم أن أربعة سؤددهم في الجاهلية والإسلام: عروة بن مسعود، والجارود واسمه: بشر بن المعلى، وجرير بن عبد الله، وسراقة بن جعشم المدلجي"2.
وثقيف أقرب في الواقع إلى اليمن منهم إلى أهل الحجاز، وتكاد تكون ثقافتهم ثقافة يمانية، وحياتهم الاجتماعية حياة اجتماعية من النوع المألوف في اليمن, حتى في الوثنية نجد لهم معبدًا خاصًّا بهم، يتقربون إليه ويحجون له. ولعل هذه الاختلافات وغيرها هي من جملة العوامل التي صيرت ثقيفًا مجتمعًا خاصًّا معارضًا لمجتمع مكة, وجعلت أهل الطائف يكرهون أهل مكة الذين امتلكوا أملاكًا في الطائف، وكانوا يأتون إليها في الصيف هربًا من جو مكة المحرق.
ومن بطون ثقيف: "بنو الحطيط" و"بنو غاضرة"، ومن بني الحطيط "مالك بن حطيط"، وكان من ساداتهم في الجاهلية، ومن ثقيف الشاعر أمية بن أبي الصلت، وكان بعض العلماء يقول: لولا النبي -صلى الله عليه وسلم- لادعت ثقيف أن أمية نبي؛ لأنه قد دارس النصارى وقرأ معهم ودارس اليهود وكل الكتب قرأ, ولم يسلم ورثى قتلى بدر3. ومن رجالهم "أبو محجن"، كان شاعرًا فارسًا شجاعًا شهد يوم القادسية، وكان له فيها بلاء عظيم، وقد شهد يومئذ "عمرو بن معد يكرب" وغيره من فرسان العرب, فلم يبل أحد بلاءه, و"الأخنس بن شريق", وتزعم ثقيف أنه أحد الرجلين اللذين ورد ذكرهما في القرآن, {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَينِ عَظِيم} : الأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة, وقد كان حليفًا لبني زهرة. وقد خنس ببني زهرة يوم بدر4.
ومن ثقيف "بنو علاج"، ومنهم "الحارث بن كلدة", "كان طبيب
__________
1 المحبر "ص106".
2 الاشتقاق "186".
3 الاشتقاق "184".
4 الاشتقاق "185".(7/156)
العرب في زمانه وأسلم ومات في خلافة عمر"1, والمغيرة بن شعبة2.
ومن بني ثقيف عثمان والحكم ابنا أبي العاص بن بشر بن دهمان الثقفي، كانا شريفين عظيمي القدر، ولى "عمر" عثمان عمان والبحرين وأقطعه الموضع المعروف بالبصرة بـ"شط عثمان". ومنهم "تميم بن خَرشة بن ربيعة"، أحد وفد ثقيف إلى رسول الله، ومن فرسانهم في الجاهلية: "أوس بن حذيفة" وأدرك الإسلام، و"ضبيس بن أبي عمرو"، و"همام بن الأعقل", وآخرون3.
__________
1 الاشتقاق "ص185 وما بعدها".
2 الاشتقاق "186".
3 الاشتقاق "184".(7/157)
الفصل الرابع والأربعون: مجمل الحالة السياسية في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام
استعرضنا في الفصول المتقدمة من هذا الكتاب حالة العرب السياسية قبل الإسلام, على قدر ما أدى إليه بحثنا، وساعفتنا عليه الموارد. أما في هذا الفصل وهو خاتمة فصول القسم السياسي، فنستعرض حالة العرب السياسية في القرن السادس للميلاد بوجه عام.
والقرن السادس للميلاد فترة من الفترات المهمة في تأريخ البشرية، فيه ظهرت أمارات الشيخوخة على الإمبراطورية الساسانية التي شيدها "أردشير الأول" على أثر الثورة التي اندلعت عام "224م" أو "226م"، ثم لم تلبث أن انهارت في القرن السابع للميلاد بسرعة عجيبة، وبأيدٍ لم يحسب لوجودها حساب، ومن مكان لم يكن له قبل ظهور الإسلام أثر ما فعال في السياسة العالمية. وفي هذا القرن أيضًا برزت الأمراض العديدة التي ألمت بالقيصرية، والأملاك التي كانت خاضعة لها، وهي أمراض لم تنجُ منها إلا ببتر بعض أطرافها في القرن التالي له, فخرجت من ردهة العمليات تئن من فاجعة الألم الذي حل بها، ومن هول ما أصيب به بذلك البتر.
وفي النصف الثاني من هذا القرن وُلِدَ الرسول، وبميلاد الرسول ظهر حدث تأريخي خطير للبشرية في النصف الأول من القرن السابع للميلاد، يكفي أن أثره(7/158)
قائم حتى الآن، وأنه سيقوم إلى ما شاء الله، وأنه أوجد مفاهيم خلقية جديدة للبشرية، وأنه بشَّر برسالة قائمة على أن الدين لله، وأن الناس أمامه سواء, لا فرق بين فرد وآخر وجنس وجنس، ولا تمييز للون على آخر، ثم لم يلبث أن انتشر بسرعة عجيبة لم ينتشر بمثلها دين من الأديان، فقضى على إحدى الإمبراطوريتين العظيمتين في عالم ذلك العهد, واستأصل الأعضاء الثمينة من الإمبراطورية الأخرى، وأوجد من أشتات سكان جزيرة العرب أمة، ومن قبائلها المتنازعة حكومة ذات سلطان، وفاض على سداد الجزيرة، وسقى ما وراءها من أرضين، ثم وحد بين أقوام عديدين وجمعهم في صعيد دين الله.
وقد ابتُلِيَ هذا القرن والنصف الأول من القرن التالي له بأوبئة وبآفات وبمجاعات زادت في مشكلاته الكثيرة التي ورثها من القرون السابقة له، ففيه انتشرت أوبئة ابتلعت بضع مئات من البشر في كل يوم من أيام انتشارها، كانت كالعواصف تنتقل من مكان إلى مكان مكتسحة من تجده أمامها من مساكين، وتعود بين الحين والحين لتبتلع ما يسد حاجتها من البشر والحيوانات. وفيه مُنِيَ العالم بزلازل وبنقص كبير في الغلات أوجد قحطًا ومجاعةً وفقرًا في كثير من الأقطار، حتى اضطر كثير من الناس إلى هجر الأماكن المنكوبة والارتحال عنها إلى أماكن أخرى فيها النجاة والسلامة.
ولا ريب أن ظروفًا هذه حالتها، لا بد أن تتولد منها مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية للحكومات وللرعية، فاختل الأمن خاصة في المناطق الواقعة تحت أقدام الجيوش، فيومًا تكتسحها جيوش الفرس فتهدم كل ما تجده أمامها من حاصلات زراعية ومن أموال. وفي ظروف هذه شأنها لا بد أن يجد الخارجون على النظام والطامعون في الربح السهل الحرام فرصًا مواتية, لا يفرَّط فيها, للكسب والظفر بما يرغبون فيه، فتأثرت بذلك حالة سكان هذه الأرضين، كما تعرضت التجارة للأخطار، واضطر التجار إلى سلوك طرق نائية ليكونوا بمأمن من شر قطاع الطرق وفسادهم، وترك أكثر الناس مزارعهم وقراهم فرارًا من هذا الوضع إلى المدن الكبيرة البعيدة عن مواطن الغزو والأخطار، فتحولت خيرة الأرضين الخصبة إلى أرضين مجدبة؛ نتيجة لهذه الهجرة, ولتراكم الأتربة في شبكات(7/159)
الري. ولكن هذا القرن لم يعدم مع ذلك حكامًا حاولوا جهد إمكانهم إصلاح الخطأ، وأناسًا كان لهم حسٌّ وشعورٌ بما وصلت إليه الحالة، فنادوا بإصلاح. ولكن صيحاتهم لم تكن ذات أثر خطير في قوم قلقين حائرين، وليس في أيديهم زمام أمورهم، وقد اعتراهم ذهول جعلهم لا يعرفون كيف يتصرفون. ثم إن الحمل كان ثقيلًا والأخطاء كثيرة، والأمراض عديدة، لا يقومها طبيب واحد أو أطباء معدودون.
لقد عزم "كسرى" الأول "531-579م" المعروف بـ"كسرى أنوشروان"، على إصلاح الحال في مملكته، فأمر بوضع دستور جديد للجباية يخفف عن كاهل الدافعين بعض الثقل، وأمر بإصلاح الأرض وتوزيعها على شعبه بالعدل وبالإنصاف بين الناس حتى عرف لذلك بالعادل، واستعان بمستشارين حكماء كانوا يعظونه ويرشدونه بطريقة الحكم والأمثال والعظات إلى كيفية سياسة الرعية وتدبير أمورها، كما ولى النواحي الروحية عنايته كذلك، فأعاد الزردشتية القديمة، وقاوم الحركة المزدكية التي قام بها "مزدك" في عهد والده "قباذ الأول" "483-531م" "488-531م"1 وهي حركة تدعو إلى إلغاء الملكية، وإلى الإباحية، وإلى القضاء على امتيازات النبلاء ورجال الدين على ما تقوله الموارد التأريخية العربية المستندة إلى موارد "فهلوية" شجعها "قباذ" لما وجد فيها من مبادئ توافق سياسته الرامية إلى مقاومة تلك الطبقات المتنفذة التي عارضت في انتقال العرش إليه، والتي اجتمعت كلمتها برئاسة "موبذان موبذ" والعظماء على إنزاله من عرشه، لما بدا لهم من ازوراره عنهم، وانحرافه عن الزردشتية إلى تعاليم مزدك المناهضة للموابذة ولعظماء المملكة الذين كانوا يتمتعون في المملكة بنفوذ واسع حد من سلطان "شاهنشاه".
ورساله مزدك وتعاليمه غامضة، لا نعلم من حقيقتها شيئًا، فقد أبيدت كتبهم وطمست معالم دينهم في عهد "أنو شروان"، ولم يبق منها إلا هذه النتف المدونة في الكتب العربية عن موارد "فهلوية" دُونت في أيام محنة المزدكية وبعدها. ويظهر من هذه النتف أنها حركة دينية اجتماعية سياسية تدعو إلى توزيع الثروات بين الناس بالتساوي، وإلى انتزاع الأموال والأرضين من الأغنياء لإعطائها
__________
1 ENCY., IV, P, 178.(7/160)
للمقلين، حتى من كان عنده جملة نساء تؤخذ منه لتعطى لغيره من المحتاجين، فهي على هذا التعريف فكرة اشتراكية متطرفة عارضت النظم الاجتماعية القائمة، وهددت الدين القائم، وجرَّأت العامة على تلك الطبقات، كان الملك في حاجة إليها للانتقام ممن عارضه فأيدها1.
هذا وحيث إننا قد تعلمنا من التجارب التي تجري في الوقت الحاضر, ومن دراستنا للموارد التأريخية القديمة، أن ما يكتب عن قوم غضب الحاكمون عليهم، لا يمكن أن يكون مرآة صافية يعبر عن وجه أولئك القوم وعن ملامحهم الحقيقية؛ لذا فإننا لا نستطيع أن نقول: إن ما وصل إلينا عن المزدكية يمثل رأيها وعقيدتها تمام التمثيل، إذ يجوز أن يكون منه ما هو مصنوع موضوع حمل عليهم، وأن رواة الأخبار قد غرفوا منه، ودونوه على نحو ما وصل إلينا في كتبهم. لذلك يجب الانتباه إلى هذه الملاحظة.
وحمل عدل الملك الساساني وحلمه وتسامحه مع رعيته ومساعدته للخارجين على الكنيسة الرومية الرسمية "من الفلاسفة والمثقفين بالثقافة الإغريقية القديمة ممن كانوا هدفًا لهجمات الكنيسة الأرثوذكسية في الإمبراطورية البيزنطية" على الهجرة إلى المملكة الساسانية، طامعين في عدل الملك وحمايته، وفي بيئة تكون فيها الحرية الفكرية مكفولة مضمونة، لا ضغط فيها ولا إكره. ولكنهم ما لبثوا أن وجدوا أن الزردشتية التي نصرها وأيدها "كسرى أنوشروان"، وهي ديانة المملكة غير ملائمة للفلسفة، وأنها ليست أرحب صدرًا من "الأرثوذكسية"، وأنهم لم يكونوا على صواب بمجيئهم إلى هذه الأرض, فرجوا من "ملك الملوك" الترفق بهم، بالسماح لهم بالعودة إلى بلادهم. فلما كانت الهدنة، طلب "كسرى" من قيصر في سنة 549م إباحة العودة إلى ديارهم والتلطف بهم والعفو عما بدر منهم من الذهاب إلى مملكته2.
__________
1 الطبري "2/ 87 وما بعدها".
Noldeke, Geschichte der Perser, S. 455, A. Christensen, Le Ragne du Roikawadh I et le Communisme Mazdakite In der Kongl. Danske Viedenskalernes Selskab. Copenhagen. 1935.
2 H. G. Wells. The outlind of History, P. 564.(7/161)
وكان مما فعله "كسرى أنوشروان" أن هاجم الإمبراطورية البيزنطية وقيصرها في عهد "يوسطفيان" "يسطنيانوس" "جستنيان" "527-565م" واشتبك معها في جملة حروب، ووسع حدوده في الشرق، وساعد الأحزاب المعارضة للروم، وأرسل حملة إلى اليمن بناء على طلب الأمراء المعارضين لحكم الحبشة عليها، ساعدتهم في وضع خطة لإزاحة الحبشة عنها1. والحبش هم حلفاء البيزنطيين، وإخوانهم في الدين وهم الذين حثوا النجاشي على فتح اليمن بعد أن يئسوا من الاستيلاء عليها, ومن الاستيلاء على الحجاز وبقية جزيرة العرب.
واتبع "كسرى الثاني" "590-628م" المعروف بـ"كسرى أبرويز"، وهو ابن "هرمز بن كسرى أنوشروان" خطوات جده وأسلافه الملوك الماضين في الحرب مع البيزنطيين، فبلغ "خلقيدونية" ثلاث مرات، واستولى على بلاد الشام، ودخلت جيوشه القدس في سنة "614م". ثم استولى على مصر في سنة "619م", ودوخ بفتوحاته الروم إلى أن عاجله ابنه بخلعه, فاستراح الروم منه، ثم لم يلبثوا أن استردوا من الفرس أكثر ما أخذوه منهم في تلك الحروب.
وقد أضعف هذه الحروب المتوالية الحكومة الساسانية وآذت الشعوب التي خضعت لحكمها وأفقرتها، وأثرت على الأمن الداخلي وعلى الأوضاع الاقتصادية والعمرانية تأثيرًا كبيرًا, ولا سيما في البلاد التي صارت ساحة تعبئة وتلاحم جيوش، وهي بلاد العراق. ولم يعد الإنسان يأمن على حياته وعلى ماله، وصار سواد الناس وكأنهم أبقار واجبها إعطاء الحليب وأداء الأعمال الأخرى للحكام، والذبح للاستفادة من لحومها ومن جلودها وعظامها, حينما تنتفي الحاجات الأخرى منها. وتأسد المرازبة وقادة الجيوش في الحكم، حتى صار الحكم حكم عواطف وأهواء ومصالح، "والشاهنشاه" عاجز عن عمل كل شيء؛ لأن "الشاهنشاهية" لم تعد متقيدة بالوراثة القديمة وبالآداب السلطانية، بل صارت لمن يستعين بأصحاب العضلات ويمثيري الفتن والاضطرابات. أضف إلى ذلك أن من بيده مفتاح الدفاع عن الدولة، وهم الجنود والضباط الصغار، شعروا أنهم يقاتلون لا في سبيل وطن ودين وعقيدة، بل يقاتلون لأنهم يساقون إلى القتال قسرًا، وهم في حالة سيئة ووراءهم عوائلهم لا تملك شيئًا، وقد جيء بهم إلى الجيش قسرًا وعلى
__________
1 الطبري "2/ 93 وما بعدها".(7/162)
طريقة "السخرة". وهم يحاربون ولا سلاح لهم؛ لأن الحكومة لا تملك سلاحًا, ولا نظام لهم؛ لأنهم لم يدربوا على القتال ولم يعلموا أصوله، أجسامهم تقاتل، وقلوبهم مشغولة في مصير أولادهم وزوجاتهم وبيوتهم، وهم المعيلون لهم، ليس لهم غيرهم من معين.
وحكومة هذا شأنها، لا يمكن لها أن تحافظ على حدود طويلة مفتوحة سهلة تقيم عليها قبائل غازية، تترقب الفرص لتجد فرصة تهتبلها لتغير فيها على الحضر، فتنتزع منهم ما قد تقع أيديهم عليه من أي شيء. فصار الأعراب يغيرون على الحدود من كل مكان فيه نفوذ وجنود للساسانيين، ولا سيما بعد معركة "ذي قار" التي منحتهم قوة معنوية عالية، وعلمتهم مواطن الضعف عند الساسانيين. فلما جاء الإسلام من جزيرة العرب صاروا عونًا له في تقويض تلك الدولة، ودالة ساعدته في تفهم مواطن الضعف فيها، ومنها نفذ الإسلام إلى ما وراء البحار، وقوض الحكومة الضخمة بسرعة عجيبة وبمحاربين لم يكونوا قد عرفوا من قبل أساليب القتال المنظم، ولا المعارك الضخمة التي صادفوها لأول مرة في حروبهم مع الساسانيين والبيزنطيين.
وقد طمعت القبائل في حكومة الحيرة أيضًا، هذه الحكومة التي ظهر عليها الوهن كذلك. فأخذت تغير عليها وتتعرض بحدودها، وتتحرش بقوافلها التي كان يرسلها ملوكها للاتجار في أسواق الحجاز واليمن، حتى صارت الطرق التي تسلكها خطرة غير آمنة، لا يتمكن رجالها من المرور بها بسلام. ولم يستطع الساسانيون من مساعدتها وحمايتها؛ لأن أوضاعهم الداخلية كانت كما ذكرتُ على غير ما يرام, وهذا مما زاد في تصميم القبائل على مهاجمة ملوك الحيرة وحدود الفرس في آن واحد. ولعل هذه الغارات كانت في جملة الأسباب التي حملت "كسرى" على القضاء على النعمان وعلى إنهاء حكم "آل نصر"، إما بسبب ما رآه "كسرى" من عدم تمكن الملك "النعمان" من تأديب القبائل ومن ضبط الطرق والأمن، فارتأى استبداله بعربي آخر أو برجل قوي من قادة الجيوش الفرس، وإما لظنه أو لما وصل إلى علمه من خبر يفيد بأن النعمان قد أخذ يفاوض سادة القبائل الكبار لإرضائهم وضمهم إليه، وفي هذا العمل تهديد لمصالح الفرس ومحاولة للابتعاد عنهم. فأراد لذلك القضاء عليه وعلى الأسرة الحاكمة، قبل أن(7/163)
يتمكن من الحصول على تأييد أولئك السادة الذين أدركوا نواحي الضعف في حكومة الساسانيين.
وهناك روايات يُشْتَمُّ منها أن "النعمان" قال لسادات القبائل: "إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكتُ وعززتُ بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم.... ليعلم أن العرب على غير ما ظن وحدث"1, وروايات تفيد أن "كسرى" إنما قتل "النعمان"؛ لأنه وسائر أسرته سايروا سادات القبائل وتواطئوا معهم على الساسانيين2. ولعل عجز ملوك الحيرة عن حماية قوافل الفرس الذاهبة إلى اليمن والآيبة منها، وعن حماية الطرق البرية المهمة التي توصل العراق باليمن، ثم عجز ملك الحيرة من منع الأعراب من الإغارة على حدود الساسانيين، ثم اضطرار الملك "النعمان" إلى الاتصال بسادات القبائل لترضيتهم ولضمهم إليه لتأييده ولتقوية ملكه الضعيف, الذي كان يهدده خصوم له. لعل هذه الأسباب وغيرها، كانت في جملة العوامل التي حملت "كسرى" على القضاء على "النعمان" وعلى استبدال الأسرة الحاكمة بأسرة أخرى، أو تسليم أمور الحيرة نهائيا إلى قائد فارسي, يحكمها حكمًا عسكريًّا3.
وقد نصب الفرسُ حاكمًا منهم على الحيرة، لكنه لم يتمكن من سد أبواب الحدود الطويلة وغلقها، ومنع الأعراب من دخولها. لقد اجتازوها ثم جاوزوها إلى مسافات بعيدة في الإسلام، أوصلت العرب إلى الصين والهند وتركستان الصينية؛ ذلك لأن الفرس كانوا منهوكي القوى في الداخل وفي الخارج، وقد أتعبتهم الأوجاع, بينما جاء العرب بإيمان برسالة، وبعزم وتصميم، وباعتماد على النفس، من أن النصر سيكون لهم حتمًا. لقد بدأ هذا العزم قبل "ذي قار"، ثم تجسم في "ذي قار"، فكان نصر المعركة في هذا الموضع ناقوس النصر، و"الهرمون"
__________
1 ابن عبد ربه، العقد "1/ 169".
M. J. Kister, In Journal of Journal of the Economic and Social History of the Orient, vol, VII, Part: II, November 1965, P. 114.
2 Rothstein, PP. 116, Kister, P. 115.
3 Noldeke, Geschichte der Perser, S. 332, Rothstein, S. 116, Levi Della Vida In the Arab Heritage, P. 50. Brockelmann, History of the Islamic Peopl P. 8, Kister, P. 114.(7/164)
الذي بعث الحيوية في جسم القبائل، فجعلها تشعر أن في استطاعتها أن تفعل شيئًا لو وحدت نفسها، وعلمت عملًا إيجابيًّا منتظمًا، بعد دراسة وتفكير, وباعدت نفسها عن الهياج والحماس والكلام الكثير، الذي يذهب بعد تكلمه مع الهواء.
ولم تكن مشكلات الروم أقل خطورة أو عددًا من مشكلات الساسانيين. لقد تمكنت النصرانية، بعد عنت واضطهاد ومقاومة, أن تكون ديانة رسمية للحكومة والشعب. وكان المأمول أن تتوحد بذلك صفوف الأمة، غير أن التصدع الذي أصاب هذه الديانة لم يحقق لها ذلك الأمل، فتدخلت المذهبية في السياسة؛ في المذهبيات. وتولدت من هذا التدخل مقاومة رسمية من الحكومة للمذاهب المعارضة، واضطهاد لكل من يعارض مذهب القيصر, وظهرت كنيسة شرقية وكنيسة غربية، وتجزأ النصارى الشرقيون إلى شِيَعٍ وفِرَقٍ عُدَّ بعضها خارجًا على تعاليم الحق والإيمان -هي في نظر "الأرثوذكسية" مذاهب إلحادية باطلة- فعُوملت كما عاملت وثنية روما النصرانية حين ظهورها، فحوربت بغير هوادة واضطر الكثير من المخالفين إلى التكتم أو الهرب إلى مواضع ليس للبيزنطيين عليها سلطان.
والحروب المتوالية التي شنها الفرس على البيزنطيين, والبيزنطيون على الفرس، وانقسام الإمبراطورية إلى حكومتين: حكومة روما وحكومة القسطنطينية، ثم مهاجمة الملوك والأقوام الساكنة في أوروبا لهاتين الحكومتين من الشمال والغرب، كل هذه أنتجت مشكلات خطيرة للعالم الغربي عامة وللروم خاصة. وقد كان إزعاج الروم وإقلاقهم، مما يفيد بالطبع منافسيهم الفرس ويسُرُّهم، فكانوا يشجعون الثائرين ويتحالفون معهم لأن في ذلك قوة لهم، كما كان الروم أنفسهم يشجعون الأحزاب المعارضة للفرس ويحرضونها على الثورة على الساسانيين والتمرد عليهم، وعلى مهاجمة حدودهم نكاية بأعدائهم وللانتقام منهم حتى صارت الحروب بين الإمبراطوريتين تقليدًا موروثًا، لا يتركها أحد الطرفين إلا اضطرارًا، ولا تعقد هدنة بينهما إلا بدفع جزية تكون مقبولة لدى الطرف الغالب تغنيه عن المكاسب التي يتأملها من وراء الحرب، يدفعها المغلوب صاغرًا بسبب الأحوال الحرجة التي هو فيها، آملًا تحسن الموقف للانتقام من الخصم. فتأريخ الساسانيين والروم, هو تأريخ هدن وحروب عادت إلى بلاد الطرفين بأفدح الأضرار, وما الذي يكسبه الإنسان من الحروب غير الضرر والدمار؟.(7/165)
لقد وجد "كسرى أنوشروان" "531-579م" في انشغال "يوسطنيان" "جستنيان" "jUSTINIAN" "527-565م" بالحروب في الجبهات الغربية, فرصة مواتية للتوسع في المناطق الشرقية من الإمبراطورية البيزنطية، فتحلل من "الهدنة الأبدية" التي كانت قد عقدت بين الفرس والروم, وهاجم الإمبراطورية منتحلًا أعذارًا واهية، واشترك في قتال دموي مر بجيوش الروم. ولم يفلح مجيء القائد "بليزاريوس" "BELISARIUS" من الجبهات الإيطالية لإيقاف تقدم الفرس، فسقطت مدن الشام وبلغت جيوش الفرس سواحل البحر المتوسط، وبعد مفاوضات ومساومات طويلة تمكن الروم من شراء هدنة من الفرس أمدها خمس سنوات بشروط صعبة عسيرة، وبدفع أموال كثيرة. ثم مُدت هذه الهدنة على أثر مفاوضات شاقة مع الفرس خمسين عامًا, حيث عقد الصلح في سنة "561" أو "562م", تعهد الروم لكسرى بدفع إتاوة سنوية عالية، وتعهد الفرس في مقابل ذلك بعدم اضطهاد النصارى، وبالسماح للروم في الاتجار في مملكتهم على شرط معاملة الروم لرعايا الفرس المعاملة التي يتلقاها تجار الروم في أرض الساسانيين1.
و"يوسطنيان" معاصر "كسرى أنوشروان" شخصية فذة مثل شخصية معاصره، ذو آراء في السياسة وفي الملك، من رأيه أن الملك يجب أن يكون دليلًا وقدوةً ونبراسًا للناس، وأنه لا يكون عظيمًا شهيرًا لحروبه ولكثرة ما يملكه من سلاح وجند، إنما يكون عظيمًا بقوته وبقدرته وبالقوانين التي يسنها لشعبه للسير عليها، تنظيما للحياة. فالملك في نظره قائد في الحروب ومرشد في السلم، حامٍ للقوانين، منتصر على أعدائه. وكان من رأيه أن الله قد جعل الأباطرة ولاته على الأرض، وأدلة للناس، قوامين على الشريعة، ولذلك فإن من واجب كل إمبراطور أن يقوم بأداء ما فرضه الله عليه, بسن القوانين وتشريع الشرائع، ليسير الناس عليها. ولما كانت القوانين التي سارت عليها الإمبراطورية الرومانية كثيرة جدًّا، حتى صعب جمعها وحفظها، تطرق إليها الخلل، وتناقضت
__________
1 A. A. Vasillev, History of the Byzantine Empire, 1952, PP. 138, K. Guterbck, Byzants und Persien in 9hren Dipkomatischen Wolkerrechtlioden Beziehungen in Zeitalter Justinains, S. 57, 105. Bury, Later Roman Empire, II, PP. 120.(7/166)
الأحكام، لذلك رأى أن من واجبه جمعها وتنسيقها وتهذيبها وإصدارها في هيئة دستور إمبراطوري يسير عليه قضاة الإمبراطورية في تنفيذ الأحكام بين الناس. وعهد بهذا العمل الشاق إلى "تريبونيان" "TRIBONIAN" من المشرعين المعروفين في أيامه1. فجمع هذا المشرع البارع القوانين في مدونات، ورتبها في كتب وأبواب، وصان بتدوينه هذا بعض القوانين البيزنطية والرومانية من الضياع، وأورث المشرعين ذخيرة ثمينة من ذخائر البشرية في التشريع.
ويعد هذا العمل من الأعمال العظيمة في تأريخ التشريع، ولم يكن "يوسطنيان" أول من فكر في جميع القوانين السابقة في مدونة، ولكنه كان أول من أقدم على تنسيقها وجمع ما تشتت منها وتيسيرها للمشرعين، وقد وحد بذلك قوانين الإمبراطورية, فعُدَّ صنيعه هذا إصلاحًا كبيرًا يدل على شعور الملك وتقديره للعدالة في مملكته. وقد أدخل معاصره "كسرى أنوشروان" إصلاحات على قوانين الجباية، فعد القرن السادس من القرون المهمة في تأريخ التشريع. ولكن الذي يؤسفنا أننا لا نملك موارد تفصل إصلاحات "كسرى", وهل هي نتيجة شعور بضرورة ملحة وحاجة، أم هي صدى للعمل الذي قام به "يوسطنيان"؟ ثم أي مدى بلغته تلك الإصلاحات؟
وفكرة إخضاع الإمبراطورية لقانون واحد نابعة من أصل عام كان يدين به "يوسطنيان"، يتلخص في دولة واحدة وقانون واحد وكنيسة واحدة. كان يوسطنيان يرى أن الدولة المنظمة هي الدولة التي يخضع فيها كل أحد لأوامر القيصر، وأن الكنيسة إنما هي سلاح ماضٍ يعين الحكومة في تحقيق أهدافها؛ لذلك سعى لجعلها تحت نفوذ الحكومة وفي خدمة أغراضها، فتقرب إلى رجال الدين، وساعد على إنشاء كنائس جديدة، واستدعى إلى عاصمته رؤساء الكنيسة "المتوفيزيتية" "MONOPHYSITES" القائلين بالطبيعة الواحدة واليعاقبة وأتباع "آريوس" "ARIAUS" وغيرهم من المعارضين لمباحثتهم ولعقد مناظرات بينهم وبين الكنيسة الرسمية للتقريب فيما بينهم, وإيجاد نوع من الاتفاق يخدم أهداف الملك المذكور. ولكن هذه المحاولة لم تنجح، ومحاولات التوفيق لم تثمر، ولتحقيق نظريته في الكنيسة الواحدة اضطهد أصحاب المذاهب المعارضة، وكذلك اليهود.
__________
1 VASiIiEW., PW,PP. 142.(7/167)
واضطر بعضهم إلى ترك الإمبراطورية والهجرة إلى مملكة الساسانيين وإلى المحلات التي ليس للحكومة عليها سلطان1.
وزادت نظريته المذكورة في الدولة وفي الكنيسة من حدة المشكلات التي ورثها من أسلافه وجاءت بنتائج معاكسة لما كان يريد منها. فمحاولة تقربه من "البابا" وتأييده له، اصطدمت بفكرة كانت مسيطرة عليه، هي أن علمه باللاهوت لا يقل عن علم رجال الدين به، وأن من حقه التدخل في أمور الكنائس وفي تسيير المجامع الكنيسية، لتوحيد الكنائس وإعادتها إلى أصلها، فأزعج بذلك "البابا"، وصار من أضداده، وأزعج أصدقاءه ومعارضيه من رجال المذاهب الأخرى؛ لأنه خالفهم، وجاء بتفسيرات لم ترضِ أي مذهب منها. واضطر أخيرًا إلى الخضوع لعقيدته المهيمنة على عقله، وهي أن ما يراه في الدين هو الصحيح، وهو الحل الوسط للنزاع الكنسي، وهو الأصلح للدولة, فخلق معارضين له, وأغلق "جامعة أثينا" ومدارس البحث، وأصدر أمرًا بمنع الوثنيين وكل من ليس نصرانيًّا من الاشتغال في الدولة. وهكذا ولدت نظريته في "أنا الدولة" مشكلات خطيرة لدولته, ولدولة من جاء بعده من قياصرة.
وكانت لدى الروم مثل هذه المشكلة التي كانت عند الفرس: مشكلة تهرب كبار الملاكين والمتنفذين من دفع الضرائب، وزيادة نفوذهم وسلطانهم في الدولة. فعزم "يوسطنيان" على الحد من سلطانهم، والتشديد في استيفاء الضرائب لمعالجة الوضع الحربي الناتج من قلة المال اللازم للإنفاق على جيش كبير، مما اضطر الحكومة إلى تقليص عدد الجنود. فأصدر أوامر عديدة بالتشديد في جمع الضرائب، وبإجراء الإصلاحات في الإدارة، غير أن إصلاحاته هذه لم تنفذ؛ إذ لم يكن في مقدور الحكومة تنفيذها لعدم وجود قوة لديها تمكنها من الحد من نفوذ المتنفذين ورجال أكفاء أقوياء يقومون بالتنفيذ.
واهتم "يوسطنيان" بأمر التجارة، والتجارة مورد رزق للدولة كبير، ولا سيما مع الأقطار الشرقية، فقد كانت بضائعها مرغوبًا فيها في أوروبا ومطلوبة, تجني الحكومة منها أرباحًا كثيرة، وفي مطلع قائمة هذه البضائع النفيسة الأموال
__________
1 Vasiliev, PP. 150, Knecht, Die Religions Politik Kaser Justinianus, S. 36.(7/168)
التي ترد إلى الإمبراطورية من الصين والهند، فقد كانت تلاقي إقبالًا كبيرًا من أثرياء الإمبراطورية ومن أثرياء إمبراطورية روما الغربية وبقية أنحاء أوروبا.
وأثمن بضاعة في قائمة البضائع الواردة من الصين مادة الحرير، ولثمن الحرير الباهظ حرص الصينيون على ألا يسمحوا لأي غريب كان أن ينقل معه البيض أو الديدان التي تتولد منه إلى الخارج، خشية المزاحمة والمنافسة التي تلحق بهم أفدح الأضرار. وتلي هذه المادة البضائع النفيسة الأخرى مثل: العطور والقطن الوارد من الهند والتوابل وأمثالها من المواد التي كان يعجب بها أصحاب الذوق في ذلك الزمن. كل هذه يشتريها تجار الروم، وبعد أن تأخذ الدولة البيزنطية الضرائب المفروضة، تسمح للتجار بالتصرف فيها وبيعها على بقية الأوروبيين.
وأسعار هذه المواد عالية باهظة إلى درجة كبيرة صارت مشكلة من مشكلات الدولة البيزنطية؛ ولهذا كانت تتصل دومًا بالإمبراطورية الساسانية لمحاولة الاتفاق على تحديد الأسعار، وتعيين مقدار الضرائب، وذلك بسبب ورود أكثرها من هذه الإمبراطورية، إذ كان التجار يأتون بالأموال من أسواق الصين تنقلها القوافل التي تجتاز أرض الدولة الساسانية لتسلمها إلى حدود الإمبراطورية البيزنطية، ومنها إلى العاصمة لتوزع في الأسواق الأوروبية.
هذا طريق، وهناك طريق آخر هو طريق البحر، يحمل تجار الصين أموالهم على سفن توصلها إلى جزيرة "تبروبانة" "TAPROBANE" وهي جزيرة "سيلان" ثم تفرغ هناك، فتحمل في سفن تنقلها إلى خليج البصرة، ثم تحمل في سفن أخرى تمخر في دجلة والفرات إلى حدود الروم.
ولما كانت علاقات الروم بالساسانيين غير مستقرة، والحروب بين الإمبراطوريتين متوالية, صارت هذه التجارة معرضة للتوقف والانقطاع طوال أيام الحروب، وهي كثيرة، فترتفع أسعارها هناك، كما أن الساسانيين كانوا يزيدون في أسعار البيع وفي ضريبة المرور، فتزيد هذه في سعر التكليف؛ ولهذا فكَّر "يوسطنيان" في التحرر من تحكم الساسانيين في مورد مهم من موارد رزقهم، وذلك باستيراد(7/169)
بضائع عن طريق البحر الأحمر، وهو بعيد عن رقابة الساسانيين1.
والخطة التي اختطها "يوسطنيان" لتحرير التجارة البيزنطية من سيطرة الساسانيين عليها، هي الاتصال بالأسواق الرئيسية المصدرة، ونقل المشتريات إلى الإمبراطورية بالبحر الأحمر الذي كان يسيطر الروم على أعاليه. لقد كان ميناء "أيلة" في أيدي البيزنطيين، وكان هذا الميناء موضعًا لتفريغ السفن الموسقة بالبضائع المرسلة من الهند إلى فلسطين وبلاد الشام، كما كان ميناء "القلزم" "CIYSMA" في أيديهم كذلك، تقصده السفن التي تريد إرسال حمولتها إلى موانئ البحر المتوسط. أما جزيرة "أيوتابة" "IOTABE" وهي جزيرة "تاران" "تيران"، فقد كانت مركزًا مهمًّا لجباية الضرائب من السفن القادمة من الهند، وكانت في أيدي بعض سادات القبائل، فأمر "يوسطنيان" بإقامة موظفي الجباية البيزنطيين بها؛ ليقوموا بالجباية. وأما ما بعد هذه المنطقة حتى مضيق المندب والمحيط الهندي فلم يكن للبيزنطيين عليه نفوذ2.
ولتحقيق هذه الخطة، كان عليه وجوب السيطرة على البحر الأحمر والدخول منه إلى المحيط الهندي، للوصول إلى الهند وجزيرة "سيلان". ولا يمكن تحقيق هذه الخطة إلا بعملين: عمل عسكري يعتمد على القوة، وعمل سياسي يعتمد على التقرب إلى الحبشة الذين كانوا قد استولوا على اليمن، فصار مدخل البحر الأحمر: "مضيق باب المندب" بذلك في أيديهم. ثم بالتودد إلى سادات القبائل العربية النازلة في العربية وفي بادية الشام؛ لضمهم إلى صفوف البيزنطيين، ولتحريضهم على الفرس، وبذلك يلحق البيزنطيون ضررًا بالغًا بالفرس ويكون في استطاعتهم نقل التجارة نحو الغرب عن جزيرة العرب والبحر الأحمر إلى أسواقهم بكل حرية وأمان.
أما العمل العسكري، فلم يكن في وسع البيزنطيين القيام به في ذلك الوقت؛ لعدم وجود قوات برية كبيرة كافية، لتتمكن من اجتياز العربية الغربية للوصول
__________
1 Vasiliev, P. 163 Bulletin of the School of Oriental and Argican, Studies University of London, Vol, XVI, Parts 3, 4954, P. 425.
2 W. Heyd, Histoire du Commerce du Lavant au Moyen Age, I, 10, 1885, 1935, 2 end, Vasiliev, P. 167.(7/170)
إلى اليمن، حيث الحبش هناك إخوان البيزنطيين في الدين. وقد علموا من التجارب السابقة, أن الجوع والعطش يفتكان بالجيش فتكًا، وأن القبائل لا يمكن الاطمئنان إليها والوثوق بها أبدًا؛ لذلك تركوا هذا المشروع, فلم يبقَ أمامهم غير تنفيذه من ناحية البحر، وقد وجدوا أن هذا التنفيذ غير ممكن أيضًا؛ لأن أسطولهم في البحر الأحمر لم يكن قويا، ولم يكن في استطاعته السيطرة عليه سيطرة تامة، فتركوه ولو إلى حين، مفضلين عليه العمل السياسي.
أما العمل السياسي، فقد تم بالاتصال بالحبش، وقد كان ملكهم على النصرانية، لذلك كان من الممكن جلبه إلى البيزنطيين بالتودد إليه باسم الأخوة في الدين. كما تم بالتقرب إلى سادات القبائل المنتصرين، والتودد إليهم باسم الدين أيضًا، وتم بإرسال المبشرين إلى جزيرة العرب، وبتشجيعهم على المعيشة بين الأعراب وفي البوادي لتنصير سادات القبائل، وللتأثير عليهم بذلك، وبإقامة الكنائس وإرسال المال وعمال البناء لبنائها بأسلوب يؤثر في عقول الوثنيين، فيجعلها تميل إلى النصرانية، ولتكون هذه المعابد معاهد تثقيف تثقف بالثقافة البيزنطية كما تفعل الدول الكبرى في هذه الأيام.
وأرسل "يوسطنيان" -كما سبق أن بينا ذلك1- رسولًا عنه يدعى "يوليانوس" "جوليانس" "julIANUS" إلى النجاشي وإلى "السميفع أشوع" "ESIMBHANUS" حاكم اليمن في ذلك العهد، ليتودد إليهما، وليطلب منهما باسم "العقيدة المشتركة" التي تجمعهم أن يكوِّنا مع الروم جبهة واحدة في محاربة الساسانيين، وأن يقوما مع من ينضم إليهم من قبائل العرب بمهاجمتهم، وحمل السفير إلى "السميفع أشوع" رجاء آخر، هو موافقته على تعيين رئيس عربي اسمه "KAISOS" أي "قيس" عاملًا "فيلارخ" "BHYLARCH" على قبيلة عربية تدعى "معديني" "MADDENI"، أي قبيلة "معد"، ليشترك معه ومع عدد كبير من أفراد هذه القبيلة بمهاجمة الساسانيين.
وقد رجع السفير فرحًا مستبشرًا بنجاح مهمته، معتمدًا على الوعود التي أخذها من العاهلين، غير أنهما لم يفعلا شيئًا، ولم ينفذا شيئًا ما مما تعهدا به
__________
1 الجزء الثاني والثالث من هذا الكتاب.(7/171)
للسفير، فلم يغزوا الفرس، ولم يعين "السميفع أشوع" "قيسًا" "فيلارخًا" عاملًا على قبيلة معدّ.
وورد أيضًا أن القيصر جدد في أيام "أبراموس" "ABRAMOS" الذي نصب نفسه في مكان "ESIMIBHAEUS"، طلبه ورجاءه في محاربة الفرس، فوافق على ذلك وأغار عليهم، غير أنه تراجع بسرعة1.
ويظهر أن اتصال البيزنطيين بـ"أبراموس" "ABRAMOS" كان بعد القضاء على "السميفع أشوع" الذي لم يتمكن من مهاجمة الفرس؛ إذ كان من الصعب عليه اجتياز أرض واسعة بعيدة وطرق بعيدة تمر بصحارى وقفار لمحاربة أناس أقدر من رجاله على القتال2. فلما تمكن "أبراموس" من التحكم في شئون اليمن ومن تنصيب نفسه حاكمًا عامًّا على اليمن وصارت الأمور بيديه تمامًا، فكر البيزنطيون في الاستفادة منه بتحريضه على الساسانيين، وذلك باسم الأخوة في الدين.
وقد تحرش "أبراموس" بالفرس، غير أنه لم يستمر في تحرشه بهم، فما لبث أن كف قواته عنهم3. ولم يذكر المؤرخ "بروكوبيوس" كيف هاجم "أبراموس" الساسانيين، ومن أين هاجمهم ومتى هاجمهم. لذلك أبقانا في جهل بأخبار الهجوم.
و"أبراموس" هو "أبرهة" الذي تحدثت عنه في أثناء كلامي عن اليمن، أما ما أشار إليه "بروكوبيوس" من تحرشه بالفرس ومن تركه لهم بعد قليل, فقد قصد به حملته على "مكة" على الغالب، وهي حملة قصد بها "أبرهة" على ما يظهر الاتصال بالبيزنطيين عن طريق البر, وإخضاع العربية الغربية بذلك إلى حكمه وهو من المؤيدين البيزنطيين. وبذلك تؤمن حرية الملاحة في البحر الأحمر، ويكون في إمكان السفن البيزنطية السير به بكل حرية، ولعله كان يقصد بعد ذلك مهاجمة الفرس من البادية بتحريض القبائل المعادية للساسانيين عليهم، وبتأليف حلف من قبائل يؤثر عليها فيهاجم بها الفرس.
__________
1 Procopius, I, XX, 1-13, ZKMG, 1881, S. 36.
2 Procopius, I, XX, 9-13.
3 Procopius, I, XX, 9-13.(7/172)
أما "KAISOS" "CAISUS"، فكان كما وصفه المؤرخ "بروكوبيوس" شجاعًا ذا شخصية قوية مؤثرة, حازمًا, من أسرة سادت قبيلة "معد", وقتل أحد ذوي قرابة "السميفع أشوع" "ESIMABHAIOS""ESIMAPHAEUS" فتعادى بذلك معه، حتى اضطر إلى ترك دياره والهرب إلى مناطق صحراوية نائية1. فأراد القيصر الشفاعة له "ESIMAPHAIOS" والرجاء منه الموافقة على إقامته رئيسًا "PHYLARCH" على قبيلته قبيلة معد.
ولا يعقل بالطبع توسط القيصر في هذا الموضوع، لو لم يكن الرجل من أسرة مهمة عريقة، لها عند قومها مكانة ومنزلة، وعند القيصر أهمية وحظوة, ولشخصيته ومكانة أسرته أرسل رسوله إلى حاكم اليمن لإقناعه بالموافقة على إقامته رئيسًا على قومه. وبهذا يكتسب القيصر رئيسًا قويًّا وحليفًا شجاعًا يفيده في خططه السياسية الرامية إلى بسط نفوذ الروم على العرب، ومكافحة الساسانيين.
ونحن لا نعرف من أمر "قيس" هذا في روايات الإخباريين شيئًا غير أن هناك رواية لابن إسحاق جاء فيها أن أبرهة عين محمد بن خزاعى عاملًا له على مضر، وأن "قيسًا" كان يرافق أخاه حين كان في أرض كنانة. فلما قتل "محمد"، فر إلى "أبرهة"2. وقد ورد نسب "محمد" على هذه الصورة: "محمد بن خزاعى بن علقمة بن محارب بن مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان السلمي" في بعض الروايات، وذكر أنه كان في جيش أبرهة مع الفيل3.
فهل قيس هذا هو قيس الذي ذكره "بروكوبيوس", اتصل مع أخيه محمد بأبرهة، وصار من المقربين لديه؟ أم هو رجل آخر لا علاقة له بـ"قيس" الذي ذكره "ابن إسحاق"؟
وقد زار والد "نونوسوس" "NONNOSOS" "قيسًا" هذا مرتين، وذلك قبل سنة "530م", وزاره "نونوسوس" نفسه في أثناء حكمه. وأرسل "قيس"
__________
1 Procopius, I, XX, 9-13
2 Bulletin of the School of Oriental and African Studies, University of London Vol, XVI, Part: 3 1954, PP. 434.
3 المحبر "130".(7/173)
ابنه "معاوية" إلى "يوسطنيان"، ثم أعطى أخاه ثم ابنه الإمارة، وعينه القيصر عاملًا "PHYLARCH" على فلسطين1.
وكانت للقيصر "يوسطنيان" صداقة مع رئيس آخر اسمه "أبو كرب" "ABOCHORABUS"، يقع ملكه في أعالي الحجاز وفي المناطق الجنوبية من فلسطين. عرف هذا الرئيس بالحزم والعزم فخافه الأعداء، واحترمه الأتباع، واتسع لذلك ملكه، وتوسع سلطانه حتى شمل مناطق واسعة، ودخلت في تبعيته قبائل عديدة أخرى على القانون الطبيعي في البادية الذي يحتم دخول القبائل طوعًا وكرهًا في تبعية الرئيس القوي.
أراد هذا الرئيس أن يتقرب إلى القيصر، وأن يبالغ في تقربه إليه وفي إكرامه له، فنزل له عن أرض ذات نخيل كثيرة، عرفت عند الروم بـ"فوينيكون" "PHOINIKON" "واحة النخيل"، أو "غابة النخيل". وهي أرض بعيدة، لا تُبلَغ إلا بعد مسيرة عشرة أيام في أرض قفرة، فقبل القيصر هذه الهدية الرمزية، إذ كان يعلم، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس", عدم فائدتها له، وأضافها إلى أملاكه، وعين هذا "الشيخ" عاملًا "فيلارخًا" على عرب فلسطين2.
وقد قام ملك هذا الرئيس على ملك رئيس آخر كانت له صلات حسنة بالروم كذلك، هو "امرؤ القيس" "AMORKESOS" وكان "AMORKESOS" في الأصل من عرب المناطق الخاضعة للفرس، ثم هجر دياره لسبب لا نعرفه إلى الأرضين الخاضعة لنفوذ الرومان، وأخذ يغزو الأعراب، حتى هابته القوافل، فتوسع نفوذه، وامتد إلى العربية الصخرية، واستولى على جزيرة "تاران" "IOTABA"، وترك رجاله فيها يجبون له الجباية من السفن القادمة من الهند، حتى حصل على ثروة كبيرة، وعزم في سنة "473م" على إرسال الأسقف "بطرس" أسقف الأعراب التابعين له, إلى القسطنطينية؛ ليتصل بالقيصر، وليتوسط لديه هناك أن يوافق على تعيينه عاملًا "PHYLARCH" على الأعراب المقيمين في العربية الحجرية
__________
1 Bulletin, Vol. XVI, Part: 3, P. 435, Muller, Fragmenta Historicorum, Graecorum IV, 179.
2 Procopius, I, XIX. 2-16, Bulletin, Vol, XVI, 1954, P. 428, Musil, Hegaz, P. 307.(7/174)
والخاضعين لنفوذ الروم مقابل دخوله في حلف معهم، فاستجاب القيصر "ليون" "LEO" إلى طلب "بطرس"، فأرسل دعوة إلى "امرئ القيس" لزيارة القسطنطينية، فذهب إليها بالرغم من وجود شرط في معاهدة الصلح التي كانت قد عقدت بين الفرس والروم لا يسمح بموجبه لعربي ما من سَكَنَة المناطق الخاضعة لنفوذ الإمبراطورية الساسانية بالذهاب إلى مناطق الروم. ولما وصل إلى القسطنطينية، رحب به البيزنطيون ترحيبًا جميلًا واستقبلوه استقبالًا حسنًا, فأعلن هناك دخوله في النصرانية، وأغدق عليه القيصر الهدايا والألطاف, ومنحه لقب "فيلارخ" "PHYLARCH"، وثبته على المواضع التي أرادها، وعلى جزيرة "تاران"1 "IOTABA".
وكان دخل البيزنطيين كبيرًا من الضرائب التي يجبيها موظفو الجمارك المقيمون في جزيرة "تاران""IOTABA". وكان لهؤلاء الموظفين واجب آخر، هو واجب مكافحة التهريب، والقبض على كل مهرب يريد إدخال التجارة خلسة إلى بلاد الشام أو مصر، ومصادرة الأموال التي يحملها معه، ولهم حق مكافأة المخبرين الذين يرشدونهم للقبض على المهربين2.
و"غابة النخيل" التي ذكرناها، تجاور أرض قبيلة "معد" "Maddenoi" وكانت معد خاضعة لحكم حمير، وقد رأينا كيف أن القيصر "يوسطنيان" توسط لدى "السميفع أشوع" ليوافق على تعيين "قيس" رئيسًا على معد، وقد تمردت هذه القبيلة على "أبرهة" فسير إليها قوة لتأديبها، كما يظهر ذلك من كتابة أمر "أبرهة" بكتابتها لهذه المناسبة: أدبها بقوة، سيرها إليها في شهر "ذو ثبتن" من شهور فصل الربيع، فانهزمت معد، وأنزلت القوة بها خسائر فادحة. وبعد أن تأدبت وخضعت، اعترف "أبرهة" بحكم "عمرم بن مذرن" عليها, وتراجعت القوة عنها3.
و"عمرم بن مذرن", أي "عمرو بن المذر" هو "عمرو بن المنذر" ملك الحيرة. وقد كانت "معد" في حكم ملوك الحيرة، وعلى هذا تكون هذه الغزوة "غزوتن" التي قام بها "أبرهة" على قبيلة "معد" موجهة إلى "عمرو
__________
1 Malchus of Philadelphia, Muller ed, PP. 112, Musil, Hegaz P. 306.
2 Bury, Later Roman Empire, Vol, II, P. 8, Runciman, P. 165.
3 Le Museon, LXVI, 1953, 3-4. P. 277< Ryckmans, 506.(7/175)
ابن المنذر" حليف الفرس، بمعني أنه تعرض لجماعة كانت في جانب الساسانيين. فهل الغزاة التي أشار إليها المؤرخ "بروكوبيوس" هي هذه الغزاة؟
و"Maddenoi" هي قبيلة "معداية" "Ma'addaye" التي ذكرها "يوحنا الأفسوسي" "John Of Ephesus" مع "طياية" "طيايا" "طيايه" "Tayaye" "Taiyaya" في كتابه الذي وجهه إلى أسقف "بيت أرشام" "Beth Arsham" ويظهر من هذا الكتاب أنها كانت مقيمة في فلسطين.
وقد تحدثتُ سابقًا عن ورود اسم قبيلة "معد" في نص النمارة الذي يرجع عهده إلى سنة "328م" حيث ورد أن "امرأ القيس بن عمرو" ملك العرب ملك على "معد" وعلى قبائل أخرى ذكرها النص، منها أسد ونزار ومذحج. ويربط الإخباريون في العادة بين ملوك الحيرة وقبيلة معد، وطالما ذكروا أن ملوك الحيرة غزوا بمعد، مما يدل على وجود صلة تأريخية متينة بين الحيرة وهذه القبيلة المتبدية التي كانت تمعن في سكنها مع البادية.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أنه قد كان للتبابعة شأن في تنصيب سادات على معد. فهي تذكر أنهم هم الذين كانوا يعينون أولئك السادة، فينصبونهم "ملوكًا" على معد. وذلك بسبب تنازع سادات معد فيما بينهم وتحاسدهم وعدم تسليم بعضهم لبعض بالزعامة. ولهذا كانوا يلجئون إلى التبابعة لتنصيب "ملوك" عليهم. يضاف إلى ذلك أن معدا كانت قبائل متبدية, منتشرة في أرضين واسعة تتصل باليمن، وقد كان أهل اليمن المتحضرون أرقى منهم، وجيوشهم أقوى وأنظم نسبيا من محاربي معد ومقاتليهم الذين كانوا يقاتلون قتال بدو، لا يعرفون تنظيمًا ولا تشكيلًا ولا توزيعًا للعمل. وكل ما عندهم هو كر وفر, إذا وجدوا خصمهم أشطر منهم وأقدر على القتال هربوا منه.
وقد مُنيت الإمبراطورية البيزنطية بانتكاسات عديدة بعد وفاة "يوسطنيان"، فاشتد الاضطهاد للمذاهب المخالفة للمذهب الأرثوذكسي، وعادت الفوضى إلى الحكومة بعد أن سعى القيصر الراحل في القضاء عليها، وتجددت الحروب بين البيزنطيين والساسانيين، وعاد الناس يقاسون الشدائد بعد فترة من الراحة لم تدم طويلًا، وبعد حروب متتالية دخل الساسانيون بلاد الشام. وفي سنة "614م" احتل أتباع ديانة زرادشت عاصمة النصرانية القدس، فأصيبت المدينة بخسائر كبيرة(7/176)
في أبنيتها التأريخية وفي ثروتها الفنية التي لا تقدر بثمن، ثم أصيبت الإمبراطورية بنكبة عظيمة جدا هي استيلاء الفرس على مصر، وبلوغ جيوش الساسانيين في هذه الأثناء الساحل المقابل للقسطنطينية عاصمة الإمبراطورية1.
لقد وقعت هذه الأحداث ونزلت هذه الهزائم بالروم في وقت كان أمر الله قد نزل فيه على الرسول بلزوم إبلاغ رسالته للناس, والرسول إذ ذاك بمكة، يدعو أهلها إلى دين الله. فلما جاء الخبر بظهور فارس على الروم، فرح المشركون، وكانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب. فلقي المشركون أصحاب النبي، فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون, وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب, وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله: {الم, غُلِبَتِ الرُّومُ, فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ, بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العزيزُ الرَّحِيمُ} 2. وفرح المسلمون بنزول هذه الآيات المقوية للعزيمة وأيقنوا أن النصر لا بد آتٍ, وأنهم سينتصرون على أهل مكة أيضًا ويغلبونهم بإذن الله، وخرج أبو بكر إلى الكفار "فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا, فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فوالله ليظهرن الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فقام إليه أبي بن خلف فقال: كذبت يا أبا فضل. فقال له أبو بكر رضي الله عنه: أنت أكذب يا عدو الله. فقال: أناحبك على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس على الروم غرمت إلى ثلاث سنين، ثم جاء أبو بكر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره, فقال: "ما هكذا ذكرت, إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايدْه في الخطر وماده في الأجل". فخرج أبو بكر فلقي أبيًّا، فقال: لعلك ندمت؟ فقال: لا. فقال: أزايدك في الخطر وأمادك في
__________
1 Vasiliev, pp. 193.
2 سورة الروم, الآية 1 وما بعدها، تفسير الطبري "21/ 11 وما بعدها"، تفسير القرطبي "14/ 1 وما بعدها".(7/177)
الأجل، فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين. قال: قد فعلت"1.
لقد وقعت هذه الهزائم الحربية الكبيرة في عهد القيصر "هرقل" "Heraclius" "610-641م". ففي عهده, اقتطعت بلاد الشام ومصر من جسم الإمبراطورية، وهي أعضاء رئيسية في ذلك الجسم. غير أن طالع هذا القيصر لم يلبث أن تحسن بعد سنين من النحس، فاستعاد تلك الأملاك في المعارك التي نشبت بين سنة 622 وسنة 628م. في هذه الفترة نال هرقل أعظم نصر له في ثلاث معارك كبيرة, ولكن نصره الأكبر جاءه يوم قتل "كسرى أبرويز" صاحب هذه الفتوحات بيد ابنه "شيرويه"2, فورد طائر السعد على القيصر بهذا الخبر المفرح، ثم تحققت البشرى بالصلح الذي عقد بين القيصر وبين "شيرويه". وفيه نزل الفرس عن كل ما غنموه, ورضوا بالرجوع إلى حدودهم القديمة قبل الفتح. فعادت الشأم وفلسطين ومصر إلى البيزنطيين، وأعيد الصليب المقدس إلى موضعه في القدس, في موكب حافل عظيم3.
وسُر المسلمون وهم بالمدينة بانتصار الروم على الفرس، وزاد أملهم في قرب مجيء اليوم الذي ينتصر فيه المسلمون على المشركين، وقويت عزيمتهم في التغلب على قريش، "وأسلم عند ذاك ناس كثير"4, وتضعضعت معنويات قريش، وغلب "أبو بكر" أبيا على الرهان، وكسبه، أخذه من ورثته، لأنه كان قد توفي من جرح أصيب به، فلم يدرك زمن طرد من تعصب له من بلاد الشام وخسارته الإبل التي تراهن عليها.
وشاء ربك ألا يكون النصر في هذه المرة لا للروم ولا للفرس، بل للمسلمين، وشاء ألا يبقى الروم في بلاد الشام إلا قليلًا، إلا سنين، إذ تهاوت مدن بلاد الشام ثم مصر فشمال إفريقيا، الواحدة بعد الأخرى، في أيدي أناس لم يخطر ببال الروم أبدًا أنهم سيكونون شيئًا ذا خطر في هذا العالم، أعني بهم أبناء مكة ويثرب ومن تبعهم من أهل جزيرة العرب. تهاوت بسرعة عجيبة لا تكاد
__________
1 تفسير الطبري "21/ 13"، تفسير القرطبي "1/ 14 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 108 وما بعدها".
3 vasiliev, p, 198.
4 تفسير القرطبي "2/ 14".(7/178)
تصدق، وبطريقة تشبه المعجزات. وقد بدأ هذا الانهيار بكتاب يذكر أهل السير والأخبار أن الرسول أرسله إلى "هرقل عظيم الروم"، يدعوه فيه إلى الإسلام, فإن أبى وبقي على دينه فعليه تبعته، فلما لم يسلم، جاءه الإنذار، قوات صغيرة لا تكاد تكون شيئًا بالنسبة إلى جيوش الروم الضخمة، أخذت تمهد الطريق لنشر الإيمان في بلاد رفض حكامها الدخول فيه. طهرت الأرض الموصلة إلى الحدود من المخالفين، ثم أحذت تتحرش ببلاد الشام، ولم يأخذ الروم ذلك التحرش مأخذًا جديًّا، إذ تصوروه غزوًا من غزو العرب المألوف يمكن القضاء عليه بتحريك عرب بلاد الشام من الغساسنة ومن لف لفهم عليهم، أو بإشارة رؤسائهم بالهدايا والمال وتنصيبهم ملوكًا على عرب بلاد الشام في موضع الغساسنة كما كانوا يفعلون مع القبائل القوية الكبيرة التي كانت تتحرش بالحدود، وينتهي بذلك الغزو وتصفو الأمور.
ولم يعلم البيزنطيون أن المسلمين يختلفون عن الجاهليين، يختلفون عنهم في أن لهم عقيدة ورسالة، وأن من يسقط منهم يسقط في سبيل إعلاء كلمة ربه، وله الجنة، وأن من يعيش منهم وينجو فلن يركن إلى الدعة والحياة الهادئة والرجوع إلى البادية بل لا بد له من أحد أمرين: إما نصر حاسم، وإما موت شريف في سبيل الله ورسوله. وبقوا في جهلهم هذا إلى أن نبهتهم الضربات العنيفة التي وقعت بينهم وبين العرب في "أجنادين" "Gabatha" وفي "اليرموك" "Hieromax" بأن المعارك التي وقعت ليست غزوًا من الغزو المألوف، بل خطة مهيأة لطرد الروم الذين لا يؤمنون برسالة الرسول من كل بلاد الشام وما وراءها من أرضين، وعندئذ جمعوا جموعهم، وألفوا قلوب العرب المستعربة، أي: العرب النصارى القاطنين في بلاد الشام، بالمال وباسم الدين، وجعلوهم معهم وتحت قيادتهم في جيوشهم الضخمة لمقابلة المسلمين الذين لم يعرفوا الحروب الكبيرة، ذات العدد الضخم من المحاربين، والأسلحة المتنوعة الحديثة، بالنسبة إلى أسلحتهم المكونة من سيوف وسهام ورماح وحجارة وخناجر. وهنا وقعت غلطة فنية حربية أخرى من الروم، إذ قابلوا المسلمين بجيوش ضخمة، يسيرها قواد كبار تعودوا الحرب بأساليبها النظامية وبالطرق المدرسية الموروثة عن الرومان وتزودوا بالخبرة الفنية العالية التي كسبوها من حروبهم مع الفرس ومع الأوروبيين، فظنوا أن الحرب مع(7/179)
المسلمين شيئًا بسيطًا، بل أبسط من البسيط, حتى إن كبار القادة وجدوا أن من المهانة الاهتمام بأمر أولئك البدو الغزاة, فتركوا الأمر لمن دونهم في الدرجات يديرونها مع العرب الذين أظهروا ذكاء فطريا عظيما في هذه الحروب، بتجنبهم الالتحام بالجيوش، إذ لا قبل لهم بمقاتلتها، وباتخاذهم خطة المناوشات والكر والفر بقوات غير كبيرة العدد، وبذلك تتوفر لهم السرعة في العمل ومباغتة الجيوش الضخمة من ورائها ومن مجنباتها، وبغزو خاطف كالبرق يلقي الفزع في القلوب، وبذلك أفسدوا على الروم خطتهم بالهجوم على العرب، بجيوش نظامية كبيرة مدربة على القتال يكون في حكم المحال بالنسبة للعرب الوقوف أمامها لو أنهم حاربوهم حربهم، ووقفوا أمامهم وجهًا لوجه. وبركون العرب إلى هذه الخطة المبتكرة، وبمعاملتهم من خضع لهم واستسلم لأمرهم معاملة حسنة، وبتحريض "العرب المستعربة"، "العرب المتنصرة"، وسكان بلاد الشام من غير الروم، بل ومن الروم على الانضمام إليهم، غلبوا البيزنطيين، وحصلوا ما حصلوا عليه من أرضين.
وعند ظهور الإسلام كانت اليمن في حكم الساسانيين كما رأينا، غير أن حكمهم لم يكن في الواقع حكمًا تامًّا فعليًّا، بل كان حكما شكليا اسميا، محصورًا في صنعاء وما والاها. أما الأطراف والمدن الأخرى, فكان الحكم فيها لسادات اليمن من حضر ومن أهل وبر, وهو حكم نسميه حكم "أصحاب الجاه والنفوذ". وقد شاء بعض منهم أن يظهر نفسه بمظهر الملوك المنفردين بالحكم والسلطان والجاه، فلقبوا أنفسهم بلقب "ملك" وحملوه افتخارًا واعتزازًا، ولم يكن أولئك الملوك ملوكًا بالمعنى المفهوم، إنما كانوا سادات أرض وقبائل، جملوا أنفسهم بألقاب الملك.
فقد نعتت كتب التواريخ والسير سادات حمير في أيام الرسول: الحارث بن عبد كلال، وشريح بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، و"النعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر"، و"زرعة ذو يزن" "زرعة بن ذي يزن" بـ"ملوك حمير"، وذكرت أنهم أرسلوا إلى الرسول رسولًا يحمل إليه كتابًا منهم يخبرونه فيه بإسلامهم، وقد وصل إليه مقفله من تبوك، ولقيه بالمدينة، فكتب الرسول إليهم جوابه، شرح لهم فيه ما لهم وما عليهم، وما يجب عليه(7/180)
مراعاته من أحكام1. ويذكر "ابن سعد" أن هذا الرسول هو "مالك بن مُرارة الرهاوي" "مالك بن مرة الرهاوي"، وقد وصل المدينة في شهر رمضان سنة تسع، وذلك بعد رجوعه من أرض الروم2.
ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول أرسله إلى "الحارث" و"مسروح" و"نعيم" أبناء "عبد كلال" من حمير, حمله إليهم "عياش بن أبي ربيعة المخزومي". وأوصاه بوصايا ليوصي بها أبناء "عبد كلال" إن أسلموا, منها أنهم إذا رطنوا "فقل ترجموا"، حتى يفقه كلامهم, وإذا أسلموا، فليأخذ قضبهم الثلاثة التي إذا حضروا بها سجدوا, وهي من الأثل قضيب ملمع ببياض وصفرة، وقضيب ذو عجر كأنه خيزران، والأسود البهيم كأنه من ساسم، ثم أخرجها فحَرِّقها بسوقهم. فذهب إليهم ووجدهم في دار ذات ستور عظام على أبواب دور ثلاثة. فكشف الستر ودخل الباب الأوسط، وانتهى إلى قوم في قاعة الدار. ففعل بمثل ما أمره به الرسول3.
ويظهر من قوله: "فإذا رطنوا فقل ترجموا"، أنهم لم يكونوا يحسنون عربية أهل مكة، وأنهم كانوا يتكلمون فيما بينهم بلهجاتهم الخاصة بهم, وأن معنى تحريق القضب الثلاثة، هدم ما كان لهم من عزة وسلطان وتكبر على الرعية؛ لأن الإسلام قد أمر باجتثات ذلك، وبأن يكون الحكم للرسول وحده، ولما كانت تلك القضب رمزًا للحكم والسلطان، وقد جعل الإسلام الحكم للرسول وحده، لهذا أمر الرسول بكسر تلك القضب، وفي كسرها إشعار لهم بأن حكمهم القديم قد زال عنهم، وأن الحكم الآن للرسول.
ويظهر من نص الكتاب الذي وجهه الرسول إلى "زرعة بن ذي يزن"، وفيه: "أما بعد، فإن محمدًا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرة الرهاوي قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير, وقتلت
__________
1 الطبري "3/ 120 وما بعدها" "دار المعارف"، ابن الأثير "2/ 121"، ابن خلدون "2/ 52" "القسم الثاني" "الوفود", الطبري "3/ 153، 156", البلاذري, فتوح "81"، "اليمن", و"شرح بن عبد كلال"، و"نعمان قيل ذي يزن"، "وزرعة ذي رعين"، ابن سعد، طبقات "1/ 264", نهاية الأرب "18/ 118".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 356".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 283".(7/181)
المشركين....إلخ"1، أن "زرعة" هذا كان رأس حمير، والمطاع فيها، ولهذا أرسل إليه رسولًا خاصًّا به هو "مالك بن مرة الرهاوي"، واستلم جوابًا خاصًّا من الرسول كتب باسمه، ولم يذكر اسمه في الجواب الذي أرسله إلى الباقين بصورة مشتركة.
وذكر "ابن سعد" أن رسول الله كتب كتابًا إلى "بني عمرو" من حمير، ولم يذكر من هم "بنو عمرو"، وأشار إلى أن في الكتاب: "وكتب خالد بن سعيد بن العاصي"2, ما يدل على أنه كان كاتب ذلك الكتاب. ويشير "ابن سعد" أيضًا إلى أن الرسول أرسل "جرير بن عبد الله البجلي" إلى "ذي الكلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تبع" وإلى "ذي عمرو" يدعوهما إلى الإسلام، فأسلما وأسلمت "ضريبة بنت أبرهة بن الصباح" امرأة "ذي الكلاع"، وتوفي رسول الله، وجرير عندهم، فأخبره "ذو عمرو" بوفاته3.
ويشير نسب "ذي الكلاع" المذكور إلى أنه من الأسرة التي كانت تحكم اليمن قبيل غزو الحبش لها. فهو من الأسر الشريفة الحميرية في اليمن، وقد عرف بـ"ذي الكلاع الأصغر" عند أهل الأخبار تمييزًا له عن "ذي الكلاع الأكبر" الذي هو في عرفهم "يزيد بن النعمان الحميري" من ولد "شهال بن وحاظة بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن شدد بن زرعة بن سبأ الأصغر".
وأما صاحبنا "ذو الكلاع" الأصغر الذي راسله الرسول وأسلم، فهو أبو "شراحيل سميفع بن ناكور بن عمرو بن يعفر بن ذي الكلاع الأكبر". قال أهل الأخبار: التكلع: الحلف "وبه سمي ذو الكلاع الأصغر؛ لأن حمير تكلعوا على يده، أي: تجمعوا، إلا قبيلتين: هوازن وحراز، فإنهما تكلعتا على ذي الكلاع الأكبر: يزيد بن النعمان"4.
وذكر نسب "ذي الكلاع الأصغر" على هذا الشكل: "سميع بن ناكور
__________
1 الطبري "3/ 121 وما بعدها".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 265"، نهاية الأرب "18/ 168".
3 ابن سعد، طبقات "8/ 265 وما بعدها".
4 تاج العروس "5/ 496"، "كدع".(7/182)
ابن عمرو بن يعفر بن يزيد بن النعمان الحميري", و"يزيد" هذا هو "ذو الكلاع الأكبر". وذكر أن "أبا شراحيل" هو الرئيس في قومه المطاع المتبوع، أسلم في حياة النبي، فكتب إليه النبي على يد جرير بن عبد الله البجلي كتابًا في التعاون على الأسود ومسيلمة وطليحة. وكان القائم بأمر معاوية في حرب صفين، وقتل قبل انقضاء الحرب، ففرح معاوية بموته، وذلك أنه بلغه أن "ذا الكلاع" ثبت عنده أن عليا بريء من دم عثمان، وأن معاوية لبس عليهم ذلك، فأراد التشتيت عليه فعاجلته منيته بصفين وذلك سنة سبع وثلاثين1.
ويكون "ذو الكلاع" الأصغر، قد تزوج بنتًا من بنات أبرهة هي "ضريبة"2.
ونسب إلى النابغة قوله:
أتانا بالنجاشة مجلبوها ... وكندة تحت راية ذي الكلاع
يريد تميمًا وأسدًا وطيًّا أجلبوا الجيش على بني عامر مع أبي يكسوم وذو الكلاع كان معه أيضًا3.
وذكر أن رسول الله كتب إلى "معد يكرب بن أبرهة" أن له ما أسلم عليه من أرض خولان4. ولم يشر "ابن سعد" إلى بقية اسم أبرهة أو إلى شهرته؛ لذلك لا ندري إذا كان قصد "أبرهة" المعروف, أو شخصًا آخر اسمه أبرهة. ولكننا نعرف اسم قيل عرف بـ"معد يكرب" اسم والده "أبو مرة الفياض" ذو يزن، كان متزوجًا من "ريحانة" ابنة "ذي جدن" فولدت له "معد يكرب" المذكور. ثم انتزعها منه "الأشرم"، ونشأ "معد يكرب" مع أمه "ريحانة" في حجر "أبرهة"5, فلعله نسب إليه، لذلك قال له "ابن سعد" "معد يكرب بن أبرهة".
وكان للفرس وللجيل الجديد الذي ظهر في اليمن من تزاوجهم باليمانيين، وهو
__________
1 تاج العروس "5/ 389".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 266".
3 تاج العروس "5/ 496".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 266".
5 الطبري "2/ 142 وما بعدها".(7/183)
الجيل الذي عرف بـ"الأبناء" نفوذ كبير في اليمن، وقد تحدثت عنه في الجزء السابق من هذا الكتاب، وإلى هذا الجيل أرسل الرسول "وبر بن يحنس"، يدعوه إلى الإسلام، فنزل على بنات "النعمان بن بزرج" فأسلمن، وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم، وإلى مركبود وعطاء ابنه، ووهب بن منبه. وكان أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بن مركبود ووهب بن منبه1.
وقد كان الفرس الذين أقاموا باليمن مثل سائر الفرس على المجوسية، ولما دخل أهل اليمن في الإسلام، دخل بعض هؤلاء فيه, وأقام بعض آخر على دينه، وفرض الرسول على من بقي على دينه جزية2. وقد نفر منهم بعض سادات اليمن من الأسر القديمة، بسبب أنهم غرباء عن اليمن، جاءوا إلى اليمن فحكموها، ولهذا انضم بعض منهم إلى "الأسود" في ردته؛ لأن "الأسود العنسي" كان كارهًا للأبناء، حاقدًا عليهم, يرى أنهم عصابة دخيلة، استأثرت بحكم اليمن3. وقد شاءت الأقدار أن تكون نهايته بأيديهم؛ إذ كان قاتله منهم فكأن قلبه كان يعلم بما سيفعلونه به، ولهذا كرههم.
وكانت الأزد من القبائل المعروفة في اليمن، وقد جاء وفد منهم إلى الرسول, على رأسه "صرد بن عبد الله" في بضعة عشر، فأسلم، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من أهل بيته المشركين من قبائل اليمن، وكان أول ما فعله أنه حاصر "جرش", وكانت قد تحصنت وضوت إليها خثعم, فلما وجد أن من العسير عليه فتحها بالقوة آوى إلى جبل "كشر"، فظن أهل جرش، أنه إنما ولى عنهم منهزمًا، فخرجوا في طلبه، حتى إذا أدركوه عطف عليهم فقتلهم قتلًا, ثم أسلم من نجا منهم. وحمى الرسول لهم حمى حول قريتهم على أعلام معلومة للفرس، وللراحلة، وللمثيرة تثير الحرث، فمن رعاها من الناس سوى ذلك فماله سحت4.
وكتب الرسول كتابًا إلى "خالد بن ضباد الأزدي" أن له ما أسلم عليه من
__________
1 الطبري "3/ 158".
2 البلاذري، فتوح "83".
3 البلاذري، فتوح "113 وما بعدها".
4 الطبري "3/ 130 وما بعدها", "دار المعارف"، ابن سعد، طبقات "1/ 337 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 96 وما بعدها".(7/184)
أرضه، وكان كاتب كتابه "أبي"1, وكتب مثل ذلك لجنادة الأزدي وقومه, وكان كاتب هذا الكتاب "أبي" كذلك2. وكتب الرسول إلى "أبي ظبيان الأزدي" من "غامد" يدعوه ويدعو قومه إلى الإسلام, فأجابه في نفر من قومه بمكة, وكانت لأبي ظبيان صحبة، وأدرك عمر بن الخطاب3.
وذكر أن "ضماد بن ثعلبة" الأزدي، كان صديقًا للرسول في الجاهلية، وكان يتطبب ويرقي من هذه الرياح، ويطلب العلم، فقدم مكة قبل الهجرة، واجتمع بالرسول وكلمه، ثم أسلم، وهو من "أزد شنوءة"4.
ونجد "ابن سعد" يدون صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لبارق من الأزد. نظم فيه حقوقهم مثل ألا تُجذ ثمارهم وألا ترعى بلادهم في مربع ولا مصيف إلا بمسألة من بارق، وغير ذلك. وكتب الكتاب "أبي بن كعب"، وشهد عليه أبو عبيدة الجراح وحذيفة بن اليمان5.
ويجاور الأزد من الشرق "خثعم" و"مذحج" و"مراد" و"همدان" و"بلحارث"، ويجاورهم في غربهم "بنو كنانة" و"بنو عك". أما من الجنوب، فتتصل ديارهم بديار "همدان" و"حمير".
وتجمع بعد وفاة النبي قوم من الأزد وبجيلة وخثعم، عليهم حميضة بن النعمان وذلك بـ"شنوءة"، وعلى أهل الطائف "عثمان بن ربيعة"، فبعث إليهم "عثمان بن أبي العاص" عامل النبي على الطائف, بعثًا التقى بهم بشنوءة، فهزموا تلك الجُمَّاع، وتفرقوا عن "حميضة"، وهرب وفسدت ثورة هؤلاء المرتدين6.
وتمرد قوم من "خثعم" على "أبي بكر" حينما بلغهم نبأ وفاة الرسول وخرجوا غضبًا إلى "ذي الخلصة" يريدون إعادته، فأمر "أبو بكر" جرير
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 267".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 270".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 280".
4 نهاية الأرب "18/ 7 وما بعدها".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 287".
6 الطبري "3/ 320"، "دار المعارف".(7/185)
ابن عبد الله" أن يدعو من قومه من ثبت على أمر الله، وأن يستنفر "مُقويهم"، فيقاتل بهم خثعم, فنفذ أمره فتبعهم وقتلهم وعاد إلى الإسلام من تاب1. وكان الرسول قد بعث سنة تسع للهجرة "قطبة بن عامر بن حدية" إلى خثعم بناحية "تبالة"، فتغلب عليهم2.
وبقيت "همدان" قبيلة قوية من قبائل اليمن، وقد أسلمت كلها في يوم واحد، أسلمت يوم مقدم "علي بن أبي طالب" إلى اليمن على رأس سرية أمر الرسول بإرسالها إلى هناك. وقد فرح الرسول بإسلامها، وتتابع أهل اليمن على الإسلام3.
وقد كانت همدان بطونًا عديدة؛ من بطونها "بنو ناعط"، ومن رجالهم "حمرة ذو المشعار بن أيفع"، وكان شريفًا في الجاهلية، والظاهر أنه كان صاحب موضع "المشعار"4, وهو "أبو ثور". وقد وفد على الرسول, ووفد معه "مالك بن نمط"، و"مالك بن أيفع"، و"ضمام بن مالك السماني"، و"عميرة بن مالك الحارفي"، فلقوا رسول الله بعد مرجعه من تبوك، وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم المعدنية، برحال اللبس على المهرية والأرحبية5.
ويذكر أهل الأخبار، أن الوفد لما وصل المدينة، ارتجز "مالك بن نمط" رجزًا، ثم خطب بين يدي الرسول ذاكرًا له أن نصية، أي: أخيارًا أشرافًا من همدان، يريد رجال الوفد، قدمت إلى الرسول، وهي "من كل حاضر وبادٍ"، أي: من أهل الحضر ومن أهل البادية، ومن أهل مخلاف خارف ويام وشاكر، ومن أهل الإبل والخيل، قدموا إليه، بعد أن عافوا الأصنام واعتنقوا الإسلام، فأثنى الرسول عليهم وشكرهم وكتب لهم كتابًا وجهه "لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب، وحقاف الرمل مع وافدها, ذي المشعار: مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه", ثم بين لهم ما عليهم وما لهم6.
__________
1 الطبري "3/ 322".
2 نهاية الأرب "17/ 250".
3 الطبري "3/ 131 وما بعدها".
4 الاشتقاق "ص251".
5 نهاية الأرب "18/ 10 وما بعدها".
6 نهاية الأرب "18/ 11 وما بعدها".(7/186)
وورد أن "قيس بن مالك بن سعد بن لأي الأرحبي" قدم على رسول الله وهو بمكة، فعرض رسول الله عليه الإسلام فأسلم، ثم خرج إلى قومه فأسلموا بإسلامه، ثم عاد إلى الرسول فأخبره بإسلامهم، فكتب له عهدًا على قومه "همدان". وذكر أن رجلًا مر بالرسول، وهو من "أرحب" من "همدان"، اسمه "عبد الله بن قيس ابن أم غزال" فعرض عليه الرسول الإسلام، فأسلم، فلما عاد إلى قومه قتله رجل من "بني زُبَيْد"1، وجاء وفد آخر من "همدان" إلى الرسول فأسلم على يديه، وكان فيه "حمزة بن مالك" من "ذي شعار"، وكان على الوفد مقطعات الحبرة مكففة بالديباج، فكتب الرسول لهم كتابًا، وأوصاهم بقومهم من بقية بطون همدان2.
وورد أن الرسول كتب لـ"قيس بن مالك بن سعد الأرحبي" عهدًا ثبته فيه على قومه "همدان: أحمورها وعربها وخلائطها ومواليها أن يسمعوا له ويطيعوا"3. وذكر أن الأحمور: قدم، وآل ذي مران، وآل ذي لعوة، وأذواء همدان, وقيل: حمورها: أهل القرى. وأرى أن المراد بالأحمور هم بقايا حمير الناطقون بالحميرية وهم سكان القرى والمدن، ذُكروا وخُصوا بالذكر؛ لأنهم اختلفوا عن غيرهم ممن كان يتكلم بلهجات أخرى, ولهذا ميزوا عن "عربها"، أي عرب همدان وهم الأعراب، وعن الخلائط وهم الذين يكونون أخلاط الناس وعن الموالي. وذهب بعض الباحثين إلى أن "عربها" بالغين، أي: "غربها", ويراد بهم: أرحب، ونهم وشاكر ووداعة ويام وموهبة ودالان وخارف وعذر وحجور4.
وأما "بنو زبيد" فكان على رأسهم "عمرو بن معد يكرب الزبيدي"، وكان قد قدم على الرسول في أناس من قومه، ليعرض عليه الإسلام، فأسلم وأسلم من كان معه5. وقد نعت بالشجاعة فدعي بـ"فارس العرب"6، وهو
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 340 وما بعدها", نهاية الأرب "18/ 9 وما بعدها".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 340 وما بعدها".
3 نهاية الأرب "18/ 9".
4 الطبري "3/ 132 وما بعدها"، "دار المعارف".
5 الاشتقاق "ص245".
6 الطبري "3/ 134 وما بعدها", ابن سعد، طبقات "1/ 328".(7/187)
لقب يلقب به الشجعان الفرسان, وأقام في قومه من بني زبيد، وعليهم "فروة بن مسيك المرادي"، الذي كان قد استعمله الرسول على مراد وزبيد ومذحج كلها. فلما توفي رسول الله ارتد عمرو بن معد يكرب, ووثب "قيس بن عبد يغوث" على "فروة بن مسيك"، وهو على مراد، فأجلاه ونزل منزله1.
وكان "عمرو بن معد يكرب" قد لقي "قيس بن مكشوح المرادي" حين انتهى إليه أمر رسول الله، فعرض عليه أن يذهب معه إلى رسول الله حتى يعلم علمه، فإن كان نبيا، فإنه لا يخفى أمره عليهم، وإن كان غير ذلك علم علمه أيضا وتركه، فلم يأخذ "قيس" برأيه وسفه فكرته، ثم أوعد "قيس" "عمرو بن معد يكرب" يوم سمع بذهابه إلى الرسول وباعتناقه الإسلام، وقال: "خالفني وترك رأيي"2.
وكان "فروة بن مسيك المرادي" من "بني مراد"3. وقد عده "ابن حبيب" في جملة الجرارين، أي: الذين قادوا ألفًا4. وقد كان مفارقًا لملوك كندة، ومعاندًا لهم, وقد شهد يوم الرزم، وهو يوم كان بين مراد قوم فروة وبين همدان، انتصرت فيه همدان على مراد. وقد نسبوا شعرًا لفروة ذكروا أنه قاله يعتذر فيه عن الهزيمة التي أصابت مرادًا في ذلك اليوم، وكان الذي قاد همدان فيه "مراد الأجدع بن مالك"5.
ولما وصل "فروة" المدينة، نزل على "سعد بن عبادة"، وقد أكرمه الرسول، واستعمله على مراد وزبيد ومذحج، وبعث معه "خالد بن سعيد بن العاص" على الصدقات6.
وإلى بني الحارث بن كعب أرسل الرسول خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام,
__________
1 الطبري "3/ 185".
2 الطبري "3/ 132 وما بعدها"، "قدوم وفد زبيد"، نهاية الأرب "18/ 85".
3 الاشتقاق "ص246".
4 المحبر "ص252".
5 الطبري "3/ 134 وما بعدها", "دار المعارف".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 327", نهاية الأرب "18/ 84 وما بعدها".(7/188)
أو البقاء على دينهم وهو النصرانية مع دفع الجزية. فأسلم أكثرهم، وذهب وفد منهم فيه "قيس بن الحصين بن يزيد بن قنان ذي الغصة"، و"يزيد بن عبد المدان"، و"يزيد بن المحجل"، و"عبد الله بن قريظ الزيادي"، و"شداد بن عبد الله القناني"، و"عمرو بن عبد الله الضبابي"، فقابل الرسول، وكان السواد غالبًا على لونهم، فقال الرسول لما رآهم: "من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال من الهند؟ ". قيل: يا رسول الله، هؤلاء بنو الحارث بن كعب1. وأمر رسول الله "قيس بن الحصين" على "بني الحارث بن كعب", كما زار الرسول "عبدة بن مسهر الحارثي" في المدينة، وأسلم على يديه2.
وكتب الرسول لبني الضباب من "بني الحارث بن كعب" أن لهم ساربة ورافعها، لا يُحاقّهم فيها أحد ما داموا مسلمين، وكتب كتابهم هذا المغيرة3. وكتب لبني قنان بن وعلة من بني الحارث كتابًا أن لهم محبسًا وأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، كتبه له المغيرة أيضا. وأمر الرسول كاتبه: الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، أن يكتب لعبد يغوث بن وعلة الحارثي، أن له ما أسلم عليه من أرضها وأشيائها، أي نخلها ما دام يقوم بما يفرضه الإسلام عليه من واجبات, وكتب له "علي بن أبي طالب" أن لبني زياد بن الحارث جماء وأذنبة. وأمر رسول الله المغيرة بن شعبة أن يكتب ليزيد بن المحجل الحارثي، أن له ولقومه نمرة ومساقيها ووادي الرحمان من بين غابتها، وأنه على قومه من "بني مالك" و"عقبة" لا يغزون ولا يحشرون4.
وأمر الرسول أن يكتب كتابًا لـ"قيس بن الحصين ذي الغصة" أمانة لبني أبيه بني الحارث ولبني نهد حلفاء بني الحارث، يؤمنهم على أموالهم ما داموا مسلمين، وكتب كتابًا يشهد بإسلام "بني قنان بن يزيد" الحارثيين، ويؤمنهم فيه أيضا أن لهم مذودًا وسواقيه. وكتب مثل ذلك لعاصم بن الحارث الحارثي،
__________
1 الطبري "3/ 126 وما بعدها", "دار المعارف بمصر"، ابن سعد، طبقات "1/ 339 وما بعدها".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 340".
3 ابن سعد "1/ 267 وما بعدها".
4 ابن سعد "1/ 268".(7/189)
أن له نجمة من راكس لا يحاقه فيها أحد1.
وكان "عوز بن سُرير الغافقي" في جملة من وفد من "غافق" على الرسول، كما كان فيهم "جليحة بن شجار بن صُحار الغافقي"2.
وقد آلم -ولا شك- خروج الحبش من اليمن البيزنطيين كثيرًا, وأصيبوا بخروجهم منها بخسارة من الوجهة العسكرية والاقتصادية، غير أن مما خفف من هذه المصيبة أن الفرس لم يكن لديهم آنذاك أسطول قوي يستطيع الهيمنة على مضيق المندب، مدخل البحر الأحمر، بل ولا سفن كافية يكون في وسعها حماية سواحل اليمن والعربية الجنوبية. لذلك لم يهدد دخولهم اليمن السواحلَ الإفريقية المقابلة لسواحل جزيرة العرب، وهي مهمة بالنسبة للروم، ثم إنهم عوضوا عن خسارتهم الكبيرة الفادحة التي نزلت بهم باحتلال الفرس لبلاد الشام، بطردهم الفرس وإجلائهم عن كل الأرضين التي استولوا عليها, وبإعادتهم "الصليب المقدس" إلى مكانه. فرفعوا بذلك من معنوياتهم في الشرق الأوسط وفي إفريقيا.
وقد سُرَّ اليهود من خروج الحبش من اليمن ومن استيلاء الفرس عليها، إذ صاروا في حكم حكومة لا تحقد عليهم، حكومة لا يهمها أمر اليهود لعدم وجود علاقة لها بها. بل ربما ساعدتها لأنها تناهض الروم على عكس النصرانية التي كانت قد وجدت في الحبشة نصيرًا ومساعدًا؛ لذلك قل أتباعها وانحسروا تدريجيا وبقيت متمركزة بمدينة نجران.
ولنجران وضع خاص, فقد تمتعت باستقلال ذاتي في الغالب, وقد تحرشتُ بتأريخها في مواضع متعددة من هذا الكتاب وبحسب المناسبات. ولما استولى الفرس على اليمن لم تدخل في طاعتهم ولم تخضع لحكم "عاملهم"، بل أخذت تدير شئونها بنفسها وبمجلس تنفيذي حصر أمور البلد في أيدي سادات ثلاثة اختص أحدهم بالحكم المدني، واختص ثانيهم بالنظر في أمور الدين، واختص الثالث في شئون الأمن والدفاع عن المدينة، وقد عرفوا بالعاقب والسيد والأسقف، وقد قدموا على الرسول وباهلوه، وكتب لهم كتاب الصلح وذلك سنة عشر للهجرة,
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 268".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 352".(7/190)
واشترط عليهم في جملة ما اشترطه فيه، ألا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به1, وكتب الكتاب: المغيرة2.
وذكر أن الوفد الذي خرج إلى الرسول من نجران كان مؤلفًا من أربعة عشر رجلًا من أشرافهم نصارى، فيهم: العاقب، وهو عبد المسيح، رجل من كندة، وأبو الحارث بن علقمة، رجل من بني ربيعة، والسيد وأوس ابنا الحارث، وزيد بن قيس، وشيبة، وخويلد، وخالد، وعمرو، وعبيد الله، وفيهم ثلاثة نفر يتولون أمورهم، والعاقب، وهو أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، والسيد، وهو صاحب رحلهم. فتقدمهم "كرز" أخو "أبي الحارث"، ثم قدم الوفد بعده، فدخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير، ثم كلموا الرسول، وصالحهم على شروط، ثم عادوا إلى ديارهم، ثم عاد السيد والعاقب إلى المدينة فأسلما، وبقي الآخرون على دينهم إلى زمن "عمر" فأجلاهم؛ لأنهم أصابوا "الربا" وكثر بينهم، واشترى عقاراتهم وأموالهم، فتفرقوا، فنزل بعضهم الشام ونزل بعضهم "النجرانية" بناحية الكوفة3.
وكان الحكم في نجران لـ"بني الأفعى"، ثم تحول إلى "بني الحارث بن كعب"، فلما ظهر الإسلام كان حكامها من بني الحارث بن كعب. أما بنو الأفعى فكانوا كثرة فيها, غير أن الحكم لم يكن في أيديهم4.
ولما توفي رسول الله، كان عامله "عمرو بن حزم" بنجران5. ولما قام "ذو الخمار عبهلة بن كعب" وهو "الأسود"، بعامة مذحج على الإسلام في حياة الرسول وكان كاهنًا شعباذًا، يُرِي الناس الأعاجيب، ويسبي قلوب من سمع منطقه، أخرج "عمرو بن حزم" من نجران، واستولى عليها ثم سار
__________
1 الطبري "3/ 139", "دار المعارف", البلاذري، فتوح "75 وما بعدها".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 266".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 358 وما بعدها", البلاذري, فتوح "75 وما بعدها", نهاية الأرب "18/ 121 وما بعدها".
4 الطبري "3/ 321 وما بعدها".
5 الطبري "3/ 130".(7/191)
"عبهلة" إلى صنعاء فأخذها، وأخذ يدعو الناس إليه، حتى قضى عليه1.
وأرسل الرسول قبل وفاته بقليل "وبر بن يُحنس" إلى "فيروز" و"جُشيش الديلمي"، و"داذوية الإصطخري"، و"جرير بن عبد الله" إلى "ذي الكلاع" و"ذي ظليم"، و"الأقرع بن عبد الله الحميري" إلى "ذي زود" و"ذي مران"؛ وذلك للقضاء على "الأسود" وعلى من استجاب إليه، فقتل. قتله "فيروز الديلمي" و"قيس بن مكشوح المرادي"، وعاد من ارتد واتبعه إلى الإسلام، ولم يكن الرسول قد فارق الدنيا بعد2.
وكان النبي حين وفاته قد نصب عمالًا على عمالات تمتد من مكة إلى اليمن، فكان على مكة وأرضها "عتاب بن أُسَيْد" و"الطاهر بن أبي هالة"؛ عتاب على بني كنانة والطاهر على عك, وعلى "الطائف" وأرضها "عثمان بن أبي العاص" و"مالك بن عوف النصري"؛ "عثمان" على أهل المدر ومالك على أهل الوبر أعجاز هوازن, وعلى نجران وأرضها عمرو بن حزم وأبو سفيان بن حرب؛ عمرو بن حزم على الصلاة، وأبو سفيان بن حرب على الصدقات, وعلى ما بين "رمع" و"زبيد" إلى حد "نجران" خالد بن سعيد بن العاص، وعلى همدان كلها "عامر بن شهر"، وعلى "صنعاء" فيروز الديلمي يسانده داذوية وقيس بن المكشوح، وعلى الجند يعلى بن أمية، وعلى مأرب أبو موسى الأشعري، وعلى الأشعريين مع عك الطاهر بن أبي هالة، ومعاذ بن جبل يعلم القوم، يتنقل في عمل كل عامل. بقي الحال على هذا المنوال حتى نزا بهم الأسود الكذاب3.
وورد في رواية أخرى، أن رسول الله وجه "خالد بن سعد بن العاص" أميرًا على صنعاء وأرضها، وذكر أنه ولى "المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي" صنعاء، فقبض وهو عليها. وقال آخرون: إنما ولى "المهاجر" "أبو بكر"، وولى "خالد بن سعيد" مخاليف أعلى اليمن. وذكر أيضا أن رسول الله ولى "المهاجر" كندة والصدف، فلما قبض رسول الله، كتب
__________
1 الطبري "3/ 185", "ثم دخلت سنة إحدى عشرة".
2 الطبري "3/ 187، 227 وما بعدها", "بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي".
3 الطبري "3/ 318 وما بعدها".(7/192)
أبو بكر إلى "زياد بن لبيد البياضي" من الأنصار بولاية كندة والصدف إلى ما كان يتولى من حضرموت, وولى المهاجر "صنعاء". والذي عليه الإجماع أن رسول الله ولى "زياد بن لبيد" حضرموت1.
ولما ارتد "قيس بن عبد يغوث المكشوح" ردته الثانية، وعمل في قتل فيروز وداذوية وجشيش، وكتب إلى "ذي الكلاع" وأصحابه: "إن الأبناء نُزَّاع في بلادكم، وثقلاء فيكم، وإن تتركوهم لن يزالوا عليكم، وقد أرى من الرأي أن اقتل رءوسهم، وأخرجهم من بلادنا"، كتب "أبو بكر" إلى "عمير ذي مران" وإلى "سعيد ذي زود" وإلى "سميفع ذي الكلاع" وإلى "حوشب ذي ظلم"، وإلى "شهر ذي يناف"، يأمرهم بالتمسك بالإسلام، وبمقاومة "قيس" والمرتدين. فكاتب "قيس" "تلك الفالة السيارة اللحجية، وهم يصعدون في البلاد ويصوبون, محاربين لجميع من خالفهم" "وأمرهم أن يتعجلوا إليه، وليكون أمره وأمرهم واحدًا، وليجتمعوا على نفي الأبناء من بلاد اليمن"؛ فاستجابوا له، ودنوا من صنعاء. وعمد إلى الحيلة لقتل "فيروز"، و"داذوية" و"جشيش", وتمكن من "داذوية"، فقتله. فأحس "فيروز" و"جشيش" بالمكيدة، فهربا إلى "خولان"، وهم أخوال "فيروز"، وامتنع "فيروز" بأخواله، فثار "قيس" بصنعاء، وجمع "فيروز" من تمكن جمعه من الأبناء، وكتب إلى "بني عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة" وإلى "عك" يستنصرهم ويستمدهم على "قيس". فساروا إليه ووثبت "عك" وعليهم "مسروق"، وسار "فيروز" بهم نحو "قيس", فهرب في قومه والتحق بفلول "العنسي" التي تذبذبت بعد مقتله، وسار فيما بين صنعاء ونجران، وانضم إلى "عمرو بن معد يكرب". وكان "عمرو" قد فارق قومه "سعد العشيرة" في "بني زبيد" وأحلافها وانضم إلى "العنسي".
ولما أرسل "أبو بكر" مددًا إلى من أرسله إلى اليمن، انضم إليه قوم من "مهرة" وسعد زيد والأزد وناجية وعبد القيس وحُدبان من بني مالك، وقوم من العنبر, والنخع، وحمير، واختلف "قيس" مع "عمرو بن معد يكرب"،
__________
1 البلاذري، فتوح "80".(7/193)
وانفلَّ من كان معهما وأُخذا أسيريْنِ إلى أبي بكر، فعفا عنهما, وانتهت بذلك ردة هذين المرتدين1.
ومن "بني خُشَين" "أبو ثعلبة الخشي"، وقد وفد على الرسول وأسلم, ووفد عليه نفر من "خشين", فنزلوا عليه وأسلموا وبايعوه ورجعوا إلى قومهم2.
وكان من جملة وفود أهل اليمن إلى الرسول، وفد "بهراء", جاءوا إلى المدينة فأسلموا، وقد نزلوا على "المقداد بن عمرو"3.
ومن قبائل اليمن قبائل "مذحج"، وتقع منازلها جنوب منازل "خثعم" وفي شمال ديار "فهد". ومن بطونها "الرهاويون"، وهم حي من مذحج، قدم وفد منهم على الرسول سنة "عشر" للهجرة فأسلموا, وقدم رجل منهم اسمه "عمرو بن سبيع" على الرسول فأسلم، فعقد له رسول الله لواء4.
وأرسل "النخع" رجلين منهم إلى النبي: "أرطاة بن شراحيل بن كعب" من "بني حارثة بن مالك بن النخع" و"الجهيش"، واسمه "الأرقم" من "بني بكر بن عوف بن النخع" فأسلما، وعقد لأرطاة لواء على قومه، وجاء وفد آخر من وفد النخع من اليمن سنة إحدى عشرة، وهم مائتا رجل، وكان فيهم "زرارة بن عمرو" وقيل: هو "زرارة بن قيس بن الحارث بن عداء"، وكان نصرانيا، فأسلموا، وبايعوا الرسول، وكانوا قد بايعوا "معاذ بن جبل" باليمن5.
وقدم "جرير بن عبد الله البجلي" سنة عشر المدينة على رأس وفد من قومه "بجيلة", فأسلموا وبايعوا الرسول. وقدم وفد آخر منهم فيه "قيس بن عزرة الأحمسي" فأسلموا وعادوا إلى ديارهم6.
__________
1 الطبري "3/ 323 وما بعدها".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 329", نهاية الأرب "18/ 23".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 344 وما بعدها".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 331".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 346", "زرارة بن قيس بن الحارث بن عدي بن الحارث بن عوف", نهاية الأرب "18/ 110".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 347".(7/194)
وجاء وفد "خثعم" وفيه "عثعث بن زحر" و"أنس بن مدرك", فأسلموا، وكتب النبي لهم كتابا1. وقد دون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لـ"خثعم" "من حاضر بيشة وباديتها"، وأن الذي كتبه له وشهد عليه "جرير بن عبد الله" ومن حضر2. ودون "ابن سعد" صورة كتاب آخر، أمر الرسول بكتابته لـ"مطرف بن الكاهن الباهلي", جاء فيه: "هذا كتاب من محمد رسول الله لمطرف بن الكاهن, ولمن سكن بيشة من باهلة"3. ويظهر منه أن "مطرفًا" المذكور وقومه من باهلة كانوا يقيمون إذ ذاك بـ"بيشة", ودون "ابن سعد" صورة كتاب آخر كتبه الرسول إلى "نهشل بن مالك الوائلي" من "باهلة"4, ولم يذكر الكتاب مواضع منازلهم.
وكان من رجال "جُعْفى" الذين وفدوا على الرسول: "قيس بن سلمة بن شراحيل" و"سلمة بن يزيد"، فأسلما واستأذنا الرسول بالعودة إلى منازلهما. فلما كانا في الطريق، لقيا رجلًا من أصحاب رسول الله، معه إبل من إبل الصدقة، فطردا الإبل، وأوثقا الراعي. ومن "جعفي" "أبو سيرة", وهو "يزيد بن مالك بن عبد الله الجعفي" وابناه "سبرة" و"عزيز"، قدم بهما أبوهما على الرسول، وأسلموا5.
وأما "تهامة"، فكان بها عك والأشعرون، وكانوا قد ارتدوا بعد سماعهم خبر وفاة الرسول، ولكنهم غُلبوا على أمرهم، وعادوا إلى الإسلام6.
ولما توفي الرسول، كان أول منتقض بعد النبي بتهامة عك والأشعرون, وذلك أنهم حين بلغهم موت النبي تجمعوا وأقاموا على الأعلاب طريق الساحل, فسار إليهم "الطاهر بن أبي هالة" ومعه "مسروق المكي" فهزمهم وقتلهم كل قتلة, وعرفت الجموع من عك ومن تأشب إليهم: الأخابث, وسُمِّي
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 348".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 286".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 284".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 284".
5 نهاية الأرب "18/ 83 وما بعدها".
6 الطبري "3/ 320 وما بعدها".(7/195)
الطريق الذي تجمعوا به "طريق الأخابث"1.
وجاء وفد من الأشعريين، فيه "أبو موسى الأشعري" ومعه رجلان من "عك", قدم في سفن في البحر، ثم نزلوا الساحل وذهبوا برًّا إلى المدينة, فرأوا الرسول وبايعوه2.
وأرسلت "جبشان" نفرًا إلى المدينة فيهم "أبو وهب الجشاني"، فأسلموا3.
وكان الحكم في حضرموت إلى الأقيال كذلك. وفي أيام الرسول قدم عليه "وائل بن حجر" راغبًا في الإسلام، وكانت له مكانة كبيرة في بلده، وقد نعته كتاب الرسول الذي كتبه إليه بـ"قيل حضرموت"4. وقد كان لكندة والسكاسك والسكون والصدف أثر كبير في تأريخ حضرموت في هذا العهد الذي نتحدث عنه.
وذكر "ابن سعد" أن الرسول كتب إلى أقيال حضرموت وعظمائهم؛ كتب إلى "زرعة" و"فهد" و"البسّي" و"البحيري" و"عبد كلال" و"ربيعة" و"حجر"5.
وكانت كندة هي القبيلة المتنفذة بحضرموت. كان "الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي" من رؤساء هذه القبيلة البارزين, وقد مدح الأعشى "قيس بن معد يكرب" بقوله:
وجُلُنداء في عُمان مُقيمًا ... ثم قيسًا في حضرموت المُنيف6
وكان "الأشعث بن قيس" على رأس وفد كندة الذي وفد على الرسول سنة عشر، فأسلم مع قومه على يديه7. وقد كان رجال الوفد قد رَجَّلوا جمعهم واكتحلوا، ولبسوا جباب الحبرة قد كَفّوها بالحرير، وعليهم الديباج ظاهر مخوص بالذهب، فأمرهم الرسول بترك ذلك، فألقوه8.
__________
1 الطبري "3/ 320 وما بعدها".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 348"، نهاية الأرب "18/ 23".
3 ابن سعد, طبقات "1/ 359".
4 ابن خلدون "2/ 56 وما بعدها", "القسم الثاني", "الوفود".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 283 وما بعدها".
6 ديوان الأعشى "القصيدة 63، البيت 15".
7 الطبري "3/ 138 وما بعدها" "قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة", نهاية الأرب "18/ 87 وما بعدها".
8 ابن سعد, طبقات "1/ 328".(7/196)
وذكر "أبو عبيدة"، أن "الأشعث بن قيس" لم يكن كِنديًّا، وإنما صار في كندة بالولاء. وزعم أن والد "قيس" وهو "معد يكرب" كان علجًا من أهل فارس إسكافًا اسمه "سيبخت بن ذكر", قطع البحر من توج إلى حضرموت, وللفرزدق شعر في ذلك قاله في حق "عبد الرحمن" حين خالف عبد الملك بن مروان. كما زعم أن "وردة بنت معد يكرب" عمة الأشعث كانت عند رجل من اليهود، فماتت ولم تخلف ولدًا، فأتى الأشعث "عمر بن الخطاب" يطلب ميراثها، فقال له عمر: لا ميراث لأهل ملتين1.
وقد عرف ملوك كندة الذين راسلهم الرسول بـ"بني معاوية"2، وهم الذين عرفوا بـ"بني معاوية الأكرمين" في شعر مُدحوا به.
وكان مخوص "مخوس" ومشرح وجمد "حمدة" وأبضعة, بنو معد يكرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية من الرؤساء الملقبين بلقب ملك؛ لأن كل واحد منهم قد اختص بوادٍ ملكه، ولقب نفسه بلقب ملك3. وقد نزلوا المحاجر، وهي أحماء حموها، وقد عرف هؤلاء بالملوك الأربعة من بني عمرو بن معاوية وقد لعنهم النبي4. وعرفوا بـ"بني وليعة" ملوك حضرموت وقد جاءوا إلى الرسول مع وفد كندة فأسلموا5.
ووفد رئيس آخر من رؤساء حضرموت على الرسول اسمه "وائل بن حجر"، ويظهر أنه كان ذا منزلة كبيرة عند قومه، فلما وصل المدينة أمر الرسول "معاوية بن أبي سفيان" باستقباله وبإنزاله منزلا خاصا بـ"الحرة", وأمر بأن ينادى ليجتمع الناس: الصلاة جامعة، سرورًا بقدومه، ولما أراد الشخوص إلى بلاده كتب له الرسول كتابًا دعاه فيه بـ"قيل حضرموت"، وذكر فيه أنه جعل له في يديه من الأرضين والحصون. ولما أمر الرسول معاوية بأن ينزل "وائلًا" بالحرة، مشى معاوية معه ووائل راكب, فقال معاوية: الق إليَّ
__________
1 ابن رستة, الأعلاق "205".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 265".
3 البلدان "3/ 294" "حضرموت", ابن خلدون "2/ 56", "القسم الثاني", "الوفود" البلاذري، فتوح "109".
4 ابن الأثير "2/ 158 وما بعدها".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 349".(7/197)
نعليك أتوقَّ بهما من الحر، فقال له: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك، ولما قال له: فأردفني، قال: لستَ من أرداف الملوك، ولكن إن شئتَ قصرت عليك ناقتي فسرتَ في ظلها، فأتى معاوية النبي، فأنبأه بقوله، فقال رسول الله: "إن فيه لعُبَيّة من عُبَيّة الجاهلية"1.
وكان "الأشعث الكندي" وغيره من "كندة" نازعوا "وائل بن حجر" على وادٍ بحضرموت فادعوه عند رسول الله، فكتب به رسول الله لوائل بن حجر, بعد أن شهد له أقيال حمير وأقيال حضرموت. فكتب له بذلك، وأقره على ما في يده من الأرضين2.
ومن قرى حضرموت: تريم ومشطة والنجير وتنعة وشبوة وذمار3.
وكان الرسول قد استعمل "المهاجر بن أبي أمية" على كندة والصدف, و"زياد بن لبيد البياضي" من "بني بياضة" على حضرموت، و"عكاشة بن محصن" على "السكاسك" و"السكون"4. ولما توفي الرسول, خرج "بنو عمرو بن معاوية" إلى محاجرهم، ونزل "الأشعث بن قيس الكندي" محجرًا، و"السمط بن الأسود" محجرًا، وطابقت "معاوية" كلها على منع الصدقة وأجمعوا على الردة، إلا ما كان من "شرحبيل بن السمط" وابنه، فإنهما خالفاهم في رأيهم، فهجم المسلمون على المحاجر، وقتلوا الملوك الأربعة, وساروا على "الأشعث" ومن انضم إليه من "كندة", والتقوا بمحجر الزرقان، فهزمت كندة وعليهم الأشعث, فالتجأت إلى حصن النجير، ومعهم من استغووا من السكاسك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، فلحقتهم جيوش المسلمين ومنعت المدد عنهم، وأخضعت من بقرى "بني هند" إلى "برهوت"، وأهل الساحل وأهل "محا"، فخاف من بالحصن على نفسه، واستسلم الأشعث وانتهت
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 287".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 349 وما بعدها".
3 المحبر "ص185".
4 المحبر "ص186 وما بعدها", الطبري "3/ 330", "ذكر خبر حضرموت في ردتهم".(7/198)
فتنته1. وأُخذ إلى المدينة، فحقن "أبو بكر" دمه، وزوَّجه أخته، ثم سار إلى الشام والعراق غازيًا ومات بالكوفة2.
وكان "شرحبيل بن السمط" الكندي مقاومًا للأشعث بن قيس الكندي في الرئاسة، وانتقل العداء إلى الأولاد3.
وينسب "الصدف" إلى الصدف بن مالك بن مرتع بن معاوية بن كندة, فهم إذن من كندة.
وذكر أن من سادات حضرموت في هذا العهد: "ربيعة بن ذي مرحب الحضرمي", وقد كتب إليه الرسول كتابًا أقره فيه وأقر أعمامه وإخوته وكل "آل ذي مرحب" على أرضهم وأموالهم ونحلهم ورقيقهم وآبارهم ونخلهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشراجعهم وأن "أموالهم وأنفسهم وزافرًا حائط الملك الذي كان يسيل إلى آل قيس" هو لهم. وكتب الكتاب للرسول معاوية بن أبي سفيان4.
وكان يتنازع على رئاسة مهرة رجلان منهم عند ظهور الإسلام، أحدهما "شخريت" وهو من "بني شخراة"، وكان بمكان من أرض مهرة يقال له: "جَيْروت" إلى "نضون"، وأما الآخر فبالنجد. وقد انقادت مهرة جميعًا لصاحب هذا الجمع, عليهم "المصبح" أحد بني محارب, والناس كلهم معه، إلا ما كان من شخريت، فكانا مختلفين، كل واحد من الرئيسين يدعو الآخر إلى نفسه. وقد قتل "المصبح" في أثناء ردة مهرة، أما شخريت الذي كان قد أسلم ثم ارتد، فقد سلم على نفسه بعودته إلى الإسلام، وأرسل مع الأخماس إلى "أبي بكر"5.
ويذكر أهل الأخبار أن بعض رجال "مهرة" وفدوا على الرسول، منهم "مَهْري بن الأبيض", وقد كتب له الرسول كتابًا, و"زهير بن قِرْضم
__________
1 الطبري "3/ 332 وما بعدها".
2 البلاذري، فتوح "110".
3 البلاذري، فتوح "143".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 266".
5 الطبري "3/ 316 وما بعدها"، "ذكر خبر مهرة بالنجد".(7/199)
ابن العُجيل بن قباث بن قمومي"، وقد أسلم، وكتب له الرسول كتابًا حين همَّ بالانصراف إلى قومه1.
ومن مواضع "مهرة" "رياض الروضة", بأقصى أرض اليمن من مهرة, و"جيروت" و"ظهور الشحر" و"الصبرات" و"ينعب" و"ذات الخيم"2.
وأما عمان، فكان المتنفذ والحاكم فيها "الجلندي بن المستكبر"، وكان قد نصب نفسه ملكًا عليها، ويفعل في ذلك فعل الملوك، فيعشر التجار في سوق "دبا" و"سوق صحار". وكانت سوق دبا من الأسواق المقصودة المشهورة, يأتي إليها البائعون والمشترون من جزيرة العرب ومن خارجها، فيأتيها تجار من السند والهند والصين3.
وورد في باب الرسل الذين أرسلهم رسول الله إلى الملوك، أنه أرسل "عمرو بن العاص" إلى "جيفر بن جلندي" و"عباد بن جلندي" "عبيد" "جيفر بن جلندي بن عامر بن جلندي" "عبدا" الأزديين صاحبي عمان4. مما يدل على أنهما كانا هما الحاكمين على عمان في هذا الوقت. وتعني لفظة "جلنداء" الواردة في شعر الأعشى في مدح "قيس بن معد يكرب" "الجلندي" صاحب عمان5, وتذكر الروايات أن "جيفر"، كان هو الملك منهما, وكان أسن من أخيه6.
وكان يُسامي "الجلندي" "ذو التاج" "لقيط بن مالك الأزدي"، وقد ارتد وادعى بمثل ما ادعى من تنبأ, وغلب على عمان، والتجأ "جيفر" و"عباد" إلى الجبال". فأرسل "أبو بكر" إليهما مددًا، فتغلبا عليه وعلى من
__________
1 ابن سعد، طبقات "3551 وما بعدها".
2 الطبري "3/ 317".
3 المحبر "ص265 وما بعدها"، البلاذري "87"، "عمان".
4 الطبري "3/ 645"، "المحبر "ص77"، "الطبري" 3/ 29" "دار المعارف".
5 وجلنداء في عمان مقيمًا
ثم قيسًا في حضرموت المنيف
ديوان الأعشى "312" "طبعة الدكتور م. محمد حسين"، القصيدة 63، البيت 15، البلاذري، فتوح "87", ابن الأثير، الكامل "2/ 252"، تاج العروس "2/ 323"، "جلد".
6 نهاية الأرب "18/ 167 وما بعدها".(7/200)
التف حوله1. ويظهر أن "لقيطا" كان ينافس ال الجلندي بن المستكبر" على السلطان، وقد اعتصم ال الجلندي" بالإسلام, وانتصروا بفضل المدد الذي وصل إليهم عليه. وقد قتل "لقيط" وسبي أهل "دبا".
وكلمة "الجلندي" على ما يظهر من روايات الإخباريين ليست اسمًا لشخص, وإنما هي لقب، وقد تعني "لقبا" أو "قيلا" أو "كاهنا" في لهجات أهل عمان. ويؤيد ذلك ما ورد من أنه "ادعى به من كان نبيا"2.
وارتدت طوائف من أهل "عمان"، ولحقوا بالشحر، وارتد جمع من "مهرة بن حيدان بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة"، فجهز عليهم "أبو بكر" "عكرمة بن أبي جهل بن هشام المخزومي" و"حذيفة بن حصن البارقي" من الأزد، فتغلبا عليهم جميعًا، وعادوا عن ردتهم إلى الإسلام3.
ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لرجل من "مهرة" اسمه "مهري بن الأبيض", كتبه له "محمد بن مسلمة الأنصاري"4.
وغالب أهل عمان من الأزد, وهم من القحطانيين على رأي أهل الأنساب" من نسل "أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ". وقد عرفوا بـ "أزد عمان"، تمييزًا لهم عن أزد شنوءة وأزد السراة وعن أزد غسان. وذكر أن أصل كلمة "أزد" هي "أسد"، وأن "أسد" أفصح من "أزد"5, وأن الأزد نزلت عمان بعد سيل العرم، فغلبت على من كان بها من ناس6. وأما أزد "شنوءة" فقد اتجهوا نحو الشمال، فذهب قوم منهم إلى العراق، وذكر أنهم سموا "شنوءة" لشنآن، أي: تباغض وقع بينهم أو لتباعدهم عن بلدهم7. وإذا أخذنا بهذا التفسير، قلنا: إنه يعني أن هذه الجماعة من الأزد، كانت مستبدية أعرابية، عاشت متباغضة يقاتل بعضها بعضًا، وهذا ما دفع فلولها إلى الارتحال
__________
1 الطبري "3/ 213 وما بعدها"، "دار المعارف"، ابن الأثير "2/ 156، 252".
2 الطبري "3/ 314".
3 البلاذري، فتوح "87 وما بعدها".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 286".
5 اللسان "3/ 71 وما بعدها"، الاشتقاق "283"، تاج العروس "2/ 389".
6 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 7".
7 تاج العروس "1/ 82".(7/201)
عن مواضعها الأصلية وعلى الانتشار والتفكك والذهاب إلى أماكن بعيدة عن مواطنها شأن الأعراب المتقابلين المتخاذلين.
ثم نراهم يذكرون أن أول من لحق بعمان من الأزد: "مالك بن فهم بن غانم بن دوس بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن عبد الله بن مالك" وكان سبب خروجه عن قومه إلى عمان: أن كان له جار وكان لجاره كلبة، وكان بنو أخيه "عمرو بن فهم بن غانم يسرحون ويروحون على طريق بيت ذلك الرجل، وكانت الكلبة تعوي عليهم وتفرق غنمهم، فرماها أحدهم بسهم فقتلها, فشكا جار مالك إليه ما فعل بنو أخيه، فغضب مالك وقال: لا أقيم في بلد ينال فيه هذا من جاري، ثم خرج مراغمًا لأخيه عمرو ابن فهم، ثم لحقت به قبائل أخرى من الأزد"1.
ويذكر الإخباريون أن "عمان" نسبة إلى رجل اسمه "عمان بن قحطان", وكان أول من نزلها بولاية أخيه يعرب، وذكر أيضًا أن "عمان" اسم وادٍ، كان ينزل الأزد عليه حين كانوا بمأرب، وأن الفرس كانوا يسمون "عمان" "مزون"2. وذكر أن العرب كانت تسمي "عمان" المزون. وذكر أن "أردشير بابكان" جعل الأزد ملاحين بشحر عمان قبل الإسلام بستمائة سنة، وقيل: إن المزون، قرية من قرى عمان يسكنها اليهود والملاحون ليس بها غيرهم3.
ونزل بعمان ناس من غير الأزد, منهم جمع من "بني تميم"، ومنهم "آل جذيمة بن حازم"، وقوم من "بني النبيت" من الأنصار، ومنازلهم في قرية يقال لها "ضنك" من أعمال "السر"، و"بنو قطن"، من أهل يثرب كذلك، ومنازلهم "عبرى" و"السليف" و"تنعم" من أرض السر، وقوم من "بني الحارث بن كعب"، وآخرون من "قضاعة"، وفروع من "عبس"4.
وكان في جملة من وفد من أزد عمان على الرسول، "أسد بن يبرح
__________
1 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 9".
2 اللسان "13/ 289"، السالمي، تحفة الأعيان "1/ 7".
3 اللسان "13/ 407".
4 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 9".(7/202)
الطاحي، خرج في وفد، فبايعوا الرسول وطلبوا منه أن يرسل إليهم رجلًا يقيم أمرهم، فأمر رسول الله "مخربة العبدي"، واسمه "مدرك بن خُوط" بأن يذهب إليهم، ويعلمهم القرآن والأحكام. وجاء بعده وفد آخر فيه "سلمة بن عياذ "عباد" الأزدي"1.
ومن عمان "صحار"، وقد اشتهرت بسوقها, و"قلهات" وهي فرضة عمان على البحر، إليها ترفأ أكثر سفن الهند2, و"دبا" "دمار", و"مهرة"3. ويعقد سوق صحار في أول يوم من رجب، ولا يختفر فيها بخفير، ثم يرتحلون إلى سوق دبا، فيعشرهم "آل الجلندي"4.
ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه إلى وفد "ثُمالة" و"الحُدان", جاء فيه: "هذا كتاب من رسول الله لبادية الأسياف ونازلة الأجواف مما حاذت صحار"، ثم ورد بعدها ما وضع عليهم الرسول من حقوق. وقد كتب الصحيفة "ثابت بن قيس بن شماس"، وشهد عليها: سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة.
وأما البحرين، فجلُّ سكانها من "بني عبد القيس" وبكر بن وائل وتميم, وهم بين أهل شرك أو نصرانية وبين شراذم من يهود ومجوس. أما الوالي عليها في أيام ظهور الرسول، فكان "المنذر بن ساوي"5, وهو من بني عبد الله بن زيد من "بني تميم". وكانوا ملوك المشقر بهجر، وكانت ملوك الفرس قد استعملتهم عليها6. و"عبد الله بن زيد" هذا هو "الأسبذي"، نسبة إلى قرية بـ"هجر" يقال لها "الأسبذ"، ويقال: إنه نسب إلى "الأسبذيين"، وهم قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين7.
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 351"، نهاية الأرب "18/ 115".
2 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 8"، البكري، معجم "3/ 109".
3 البلاذري، فتوح "88".
4 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 8".
5 ابن الأثير "2/ 89", الطبري "2/ 161 وما بعدها"، البلدان "2/ 74", المحبر "ص265".
6 المحبر "ص265".
7 البلاذري، فتوح "89"، تاج العروس "2/ 564"، "السبذة".(7/203)
و"المشقر" حصن آخر من حصون البحرين المعروفة، وهو من الحصون العادية لذلك نسب بعض أهل الأخبار بناءه إلى "سليمان بن داود" على عادتهم في إرجاع نسب الأبنية العادية إليه في الغالب, عند عجزهم عن معرفة أصل الأبنية. وذكر بعض آخر أنه من بناء "طسم", وقد كان لعبد القيس، ولهم حصن آخر يليه اسمه "الصفا" قبل مدينة "هجر"، وبين الصفا والمشقر نهر يجري يقال له "العين"، ويذكر أهل الأخبار أن "بني عبد القيس" لما جاءوا بها "إيادًا" فأخرجوهم عنها قهرًا، وأخذوا مكانهم, وأن "كسرى" حبس "تميما" بهذا الحصن، وفيه فتك "المكعبر" والي "كسرى" ببني تميم. وعرف الموضع لذلك بـ"فج بني تميم"1.
وقد ورد اسم هذا الحصن في شعر "لبيد بن ربيعة العامري"، إذ قال:
وأعوصن بالدومي من رأس حصنه ... وأنزلن بالأسباب رب المشقر
وقد ذكر شارح الديوان أن الشاعر "لبيدًا" قصد بالدومي ملك دومة الجندل, وأن المشقر حصن بالبحرين. "قال أبو عمرو: كان ربه رجلًا من الفرس"2. وجاء في هامش التحقيق أن "المشقر: قصر بالبحرين بناه معاوية بن الحارث بن معاوية الملك الكندي، وكانت منازلهم ضرية، فانتقل أبوه الحارث إلى الغمر، وبنى ابنه المشقر، وقال ابن الأعرابي: المشقر بمدينة قديمة في وسطها قلعة، وهي مدينة هجر"3.
وتقع ديار "عبد القيس" إلى الشمال من ديار "أزد عمان"، وهي تشرف على الخليج، وتمتد نحو الشمال حتى تصل إلى منازل قبائل "بكر بن وائل"، وقد خالطتها قبائل أخرى، وسكنت إلى الغرب من ديار "عبد القيس" قبائل "تميم" التي تمتد ديارها موازية لديار "بني عبد القيس" الواقعة إلى شرقها حتى تصل إلى ديار "بكر بن وائل" وديار "أسد" التي تؤلف الحدود الشمالية الغربية لها. وأما القبائل النازلة إلى الغرب من ديار تميم، فهي: أسد وهوازن
__________
1 وهناك مواضع أخرى عرفت باسم "المشقر"، البلدان "4/ 615" "طهران"، القزويني، آثار البلاد وأخبار العباد "73"، مراصد الاطلاع "3/ 1275"، البكري، معجم "3/ 1232".
2 شرح ديوان لبيد "ص56".
3 شرح ديوان لبيد "ص56"، هامش رقم "1".(7/204)
و"غني" و"باهلة"، وأما القبائل النازلة إلى الجنوب من بلاد تميم، فهي: "أزد عمان" و"عبد مناة" و"ضبة".
ويظهر من دراسة الروايات التي يرويها أهل الأخبار عن هجرة القبائل، أن "بني عبد القيس" لما جاءوا إلى البحرين، كانت البلاد إذ ذاك لإياد، فجلت إياد من البحرين ونزحت نحو العراق، فكان ما كان لها من مواقف هناك مع الفرس1.
وسبب غدر "المكعبر" ببني تميم، هو وثوبهم على قافلة كانت محملة بالطرف والأموال أرسلها "وهرز" عامل كسرى على اليمن إلى كسرى، فاغتاظ "كسرى" من ذلك، وأراد إرسال جيش عليهم، فأخبر أن بلادهم بلاد سوء، قليلة الماء، وأشير إليه أن يرسل إلى عامله بالبحرين أن يقتلهم، وكانت تميم تصير إلى هجر للميرة، فلجأ العامل إلى الغدر بهم، فأمر مناديه أن ينادي: لا تطلق الميرة إلا لتميم، فأقبل إليه خلق كثير، فأمرهم بدخول المشقر وأخذ الميرة، والخروج من باب آخر، فدخل قوم منهم فقتلهم, ثم أجهز على الباقين، وبعث بذراريهم في سفن إلى فارس2.
وذكر أن "المكعبر" واسمه "فيروز بن جشيش"، تحصن بـ"الزارة" وانضم إليه مجوس كانوا تجمعوا بالقطيف، وامتنعوا عن أداء الجزية، فحاصرها "العلاء" وفتحها في أول خلافة "عمر". وفتح "العلاء" "السابون" و"دارين" في الساحل المقابل من الخليج3.
وتميم من القبائل الكبيرة التي كان لها شأن عند ظهور الإسلام، وقد سكنت في مواضع متعددة من جزيرة العرب وفي العراق وبادية الشام. وكان من أشرافها عند ظهور الإسلام: عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي، والأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، وقيس بن عاصم4,
__________
1 الأغاني "20/ 23"، البكري "1/ 67، 82", البلاذري، أنساب "1/ 25", الجاحظ، البيان "1/ 121".
2 آثار البلاد "ص73".
3 البلاذري، فتوح "95 وما بعدها".
4 الطبري "3/ 115"، "قدوم بني تميم ونزول سورة الحجرات", نهاية الأرب "18/ 32 وما بعدها".(7/205)
وربيعة بن رفيع، وسبرة بن عمرو، والقعقاع بن معبد، ووردان بن محرز, ومالك بن عمرو، وحنظلة بن دارم، وفراس بن حابس1، وقيس بن الحارث, ونعيم بن سعد، ورباح بن الحارث2, و"سفيان بن الحارث بن مصاد"3.
وكان "الزبرقان بن بدر" على الرباب وعوف والأبناء، وقيس بن عاصم على "مقاعس" والبطون، و"صفوان بن صفوان" على "بهدى"، و"سبرة بن عمرو" على "خضم" من "بني عمرو", و"بهدى" و"خضم" قبيلتان من "بني تميم"، و"وكيع بن مالك"، و"مالك بن نويرة" على "بني حنظلة", و"وكيع" على "بني مالك"، و"مالك" على "بني يربوع". ولما وقعت "الردة"، ارتبك موقف زعماء "تميم"، وكانوا متخاصمين غير متفقين فيما بينهم، وبينهم تحاسد وتباغض، منهم من أدى الصدقة ومنهم من امتنع، وتخاصموا فيما بينهم بسبب ذلك. وزاد في ارتباكهم هذا قدوم "سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان" من الجزيرة، وكانت ورهطها في "بني تغلب" تقود أفناء "ربيعة"، ومعها "الهذيل بن عمران" في "بني تغلب" و"عقة بن هلال" في النمر، و"تاد" في إياد، و"السُّليل بن قيس" في "شيبان"، وحاروا في أمرهم، منهم من انضم إليها ومنهم من خالفها وقاتلها، ثم اتجهت نحو"مسيلمة" باليمامة واتفقت معه، ثم غادرته راجعةً إلى قومها4.
ولما امتنع "مالك بن نويرة" عن دفع الصدقة، سار إليه "خالد بن الوليد", إلى "البطاح"، وكان قد فرق قومه، وأمرهم بعدم التعرض والمقاومة، ولكنه قتل، وانتهى بذلك أمر تميم5.
وكان "الأقرع بن حابس بن عقال" المجاشعي الدارمي في جملة المؤلفة
__________
1 الطبري "3/ 157".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 293 وما بعدها".
3 ابن سعد، طبقات "3/ 267 وما بعدها".
4 الطبري "3/ 267 وما بعدها".
5 الطبري "3/ 276 وما بعدها"، "ذكر البطاح وخبره", الميداني، مجمع الأمثال "2/ 139"، العقد الفريد "3/ 264"، زهر الآداب "3/ 761"، تأريخ خليفة بن خياط "1/ 70".(7/206)
قلوبهم1, وهو من سادات تميم. وذكر أنه كان على دين المجوس2.
ولقبيلة تميم صلات بملوك الحيرة، وقد كانت "الردافة" إليها, وهي مكانة ودرجة مهمة جدا، لا تعطى إلا للقبائل المتنفذة القوية. ومع ذلك فقد وقعت بينها وبينهم خطوب ومعارك, لما في طبع القبائل من شق عصا الطاعة عند شعورها بوجود وهن في الحكم, وبأن في إمكانها الانفراد بنفسها في الحكم. كما كانت لها صلات متينة برجال مكة التجار، ولها معهم أعمال وتجارة وعهود وحبال؛ لحماية قوافل قريش ولتأمين وصولها سالمة إلى الأماكن التي كانت تقصدها.
ونجد تميمًا تحارب "بكر بن وائل" ومن يشد أزرها ويعاونها من "الأساورة" وذلك يوم "الصليب". وقد انتصر "بنو عمرو" وهم من تميم على "بني بكر"، وقُتل "طريف" "رأس الأساورة"3. وقد كانت "بكر بن وائل" من القبائل المؤيدة للساسانيين, وكان الفرس يقومونهم ويجهزونهم، ويشرف على تجهيزهم عاملهم على "عين التمر"4.
وتظهر صلات "تميم" الطيبة بقريش من أخبار أهل الأخبار عن تجارة قريش وعن الطرق التي كان يسلكها تجارهم لوصولهم إلى الأسواق، مثل سوق دومة الجندل والمشقر والأسواق الأخرى. لقد كانت الطرق المؤدية إلى تلك الأسواق تمر بأرضين هي لأحياء من تميم، ولم تكن هذه الأحياء تتعرض لتجار مكة أو للتجار المتحالفين معهم والذين يتاجرون باسمهم، بأي سوء. على العكس كانت تحترمهم وتقدم لهم المعونة؛ لوجود حبال وعهود عقدها ساداتهم مع سادات قريش. ونظرًا إلى ما كان من حلف بين "كلب" و"تميم"، فقد صار في وسع تاجر مكة ومن هو في حلفه أو يتاجر بحماية تجار مكة، المرور في منازل "كلب" بأمن وسلام5.
ومن ديار تميم "الحزن"، وهو لـ"بني يربوع", وهو مرتع من مراتع
__________
1 تاج العروس "6/ 44"، "ألف".
2 الأعلاق النفيسة "217".
3 M. J. Kister, VIII, II, November, 1965, p. 114.
4 النقائض "581", Kister.
5 Kister, p. 128.(7/207)
العرب، فيه رياض وقيعان، وقيل: هو صقع واسع نجدي بين الكوفة وفيد، وقيل: هو قف غليظ، ومربع من مرابع العرب، بعيد عن المياه، فليس ترعاه الشياه ولا الحمر، فليس فيها دمن ولا أرواث1, وعرف بأنه بلاد بني يربوع. وهناك حزن آخر ما بين زبالة فما فوق ذلك مصعدًا في بلاد نجد, وفيه غلظ وارتفاع. وقد ورد ذكر "الحزن" في شعر للأعشى، حيث يقول:
وما روضة من رياض الحزن، معشبة ... خضراء جاد عليها مُسبل هطل
وذكر أنه موضع كانت ترعى فيه إبل الملوك، وهو من أرض "بني أسد"2.
وكانت قوافل قريش إذا قصدت "دومة الجندل"، وسلكت السبل التي تمر بـ"الحزن"، فإنها تكون آمنة مطمئنة؛ لأنها تمر ببلاد مضر، ولا يتحرش مضري بمضري. وكان إذا عادت وأرادت سلوك مواضع الماء، مرت بديار كلب، فتكون عندئذ آمنة مطمئنة؛ لأن لكلب حلفًا مع "تميم" و"تميم" من مضر ولها صلات وعلاقات بمكة. وإذا مرت بحزن أسد، فإنها تكون آمنة كذلك؛ لأن "بني أسد" من مضر. وإذا دخلت ديار "طيء"، صارت آمنة أيضًا؛ لأن لطيء حلفًا مع بني أسد.3
ويظهر أنه قد كانت لتميم صلات بقريش وبمكة تعود إلى أيام سابقة على الإسلام, إذ نجد في روايات أهل الأخبار أن نفرًا منهم كانوا يذهبون إلى مكة ومنهم من كان يذهب إليها للاتجار. فقد ذكر أن تميميا كان متجره بمكة، وقد اختلف مع "حرب" فاعتدى عليه "حرب", فذهب التميمي إلى "بني هاشم" واستجار بهم، فأجاره "الزبير بن عبد المطلب" رئيس "بني هاشم"4, وذكر أن نفرًا من "بني دارم" كانوا في جوار رجال من "بني هاشم"5.
بل يظهر أنه قد كان لهذه القبيلة علاقة بمكة نفسها وبسوق عكاظ، وهو
__________
1 اللسان "13/ 113"، "حزن"، تاج العروس "9/ 174"، "حزن".
2 اللسان "13/ 113"، "حزن"، تاج العروس "9/ 174 وما بعدها"، "حزن".
3 المرزوقي، الأمكنة "2/ 162".
4 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "3/ 465"، ابن عساكر، تأريخ "7/ 329", سيرة ابن دحلان "1/ 22"، Kister, p. 130.
5 Kister, p. 131.(7/208)
سوق مهم تقصده قريش، وكانت تتحكم في شئونه، فلتميم صلة بـ"الإفاضة"، ولها صلة بالحكومة في سوق عكاظ، وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من حكام تميم حكموا بعكاظ. وكانت هي وقريش وكنانة، تدير مراسم الحج وتحافظ على شعائره، مما يدل على أنها كانت ذات صلة قديمة بمكة، ولا سيما بعض أحياء منها، مثل "بني دارم" الذين ظهروا على أكثر أحياء تميم. ولعل ابتعادها عن مكة وارتحال أحيائها إلى مواطن بعيدة عن مكة، قد باعد فيما بينها وبين قريش، وقلل من صلاتها بهم.
وتتجلى هذه العلاقة في تزوج قريش من "تميم"، مع ما عرف عن قريش من الامتناع من التزوج من غير قريش، وقد روى أهل الأخبار أسماء جماعة من أشراف مكة، كانت أمهاتهم من "تميم". ونجد في مكة رجالًا من تميم تحالفوا مع رجال من مكة، فصاروا من حلفائهم1.
وقيام "تميم" بمهمة "الحكومة" قي سوق عكاظ، وبـ"الإجازة"، يدل على أهمية مركز هذه القبيلة بالنسبة لقريش, وما كانت قريش تعطي "الإجازة" لتميم لولا ما كان لها من نفوذ ومن علاقات طيبة بقريش. وقد افتخر "بنو تميم" بالحكومة في "عكاظ", وبالإجازة في الجاهلية وفي الإسلام2.
وكان "بنو عبد القيس" من قبائل البحرين المتنفذة, وكانت غالبيتهم على النصرانية، ومنهم كان "الجارود بن عمرو بن حنش بن المعلي"، الذي قدم في وفد عبد القيس إلى الرسول، فأسلم على يديه، وقد رفض الدخول فيما دخل فيه قومه من الردة عن الإسلام والعودة إلى النصرانية وتأييد "الغرور": المنذر بن النعمان بن المنذر3. وكان في جملة الوفد الذي قدم على الرسول عام الفتح: "عبد الله بن عوف الأشج"، و"منقذ بن حيان"، وهو ابن أخت الأشج، فأسلما وعادا إلى ديارهما4.
ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول وجهه إلى "الأكبر بن عبد القيس", ولم يشر إلى المراد من "الأكبر بن عبد القيس". ومما جاء فيه
__________
1 المصعب الزبيري، نسب قريش "267", Kister, p. 157.
2 Wellhausen, Peste, S. 57, Gipebaum, Mohammadan Festivals, P. 32. F, Kister, P. 155.
3 الطبري "3/ 1136"، "قدوم الجارود في وفد عبد القيس".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 341"، نهاية الأرب "18/ 65 وما بعدها".(7/209)
أن "العلاء بن الحضرمي" "أمين رسول الله على برها وبحرها وحاضرها وسراياها وما خرج منها، وأهل البحرين خفراؤه من الضيم وأعوانه على الظلم وأنصاره في الملاحم"1.
وكان الرسول قد أرسل "العلاء بن الحضرمي" سنة ثمانٍ قبل فتح مكة إلى "المنذر بن ساوي العبدي"، يدعوه إلى الإسلام، فأسلم، فهلك بعد وفاة الرسول بشهر، وارتد بعده أهل البحرين2. واجتمعت "ربيعة" بالبحرين وارتدت، وملكوا عليهم "المنذر بن النعمان بن المنذر الغرور"، وكان يعاونه "الغرور بن سويد" أخي النعمان بن المنذر، ويسمى "المنذر بن سويد بن المنذر"3, وكان رأس أهل الردة "الحطم بن ضبيعة" أخو بني قيس بن ثعلبة، فجمع من اتبعه من بكر بن وائل، حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط ومن فيها من الزط والسيابجة، وبعث بعثًا إلى "دارين" وبعث على "جواثي" فحصرهم4, وكان قد منى "سويد بن المنذر" بأن يجعله كالنعمان بالحيرة، غير أنه فشل وغلب المسلمون أهل الردة، وقتل "الحطم"5.
وكان "المنذر بن النعمان" يسمى "الغرور"، فلما ظهر المسلمون قال: لست بالغرور ولكني المغرور، ولحق هو وفُلّ "ربيعة" بالخط، فأتاها "العلاء" ففتحها وقتل المنذر ومن معه. وذكر أنه نجا فدخل إلى "المشقر"، ثم لحق بسليمة فقتل معه. وذكر أنه قتل "يوم جواثا"، وذكر أنه استأمن ثم هرب فلحق فقتل6, وقيل: إنه أسلم.
والمنذر بن ساوي هو رجل عربي من "بني تميم" من "بني دارم" على رأي أكثر أهل الأخبار، وقد ذهب بعضهم إلى أنه من "بني عبد القيس". ولكن أكثرهم على أنه "المنذر بن ساوي بن الأخنس بن بيان بن عمرو بن عبد الله بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي"7. وكان هو المتولي على البحرين في أيام الرسول.
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 283".
2 الطبري "3/ 136 وما بعدها", "30", البلاذري، فتوح "89".
3 الطبري "3043/ 309 وما بعدها".
4 وهو حصن بالبحرين، البلاذري، فتوح "94".
5 الطبري "3/ 304 وما بعدها".
6 البلاذري، فتوح "95".
7 أسد الغابة "4/ 417".(7/210)
ونجد في طبقات ابن سعد صورة كتاب أرسله الرسول إلى "المنذر بن ساوي", يذكر فيه أن رُسُل رسول الله قد "حمدوك، وأنك مهما تصلح أصلح إليك وأثبتك على عملك وتنصح لله ولرسوله"، كما نجد للرسول كتابًا آخر، يخبر "المنذر" فيه أنه قد بعث إليه "قدامة" و"أبا هريرة"، و"فادفع إليهما ما اجتمع عندك من جزية أرضك". وأرسل كتابًا مثله إلى "العلاء بن الحضرمي" يخبره فيه، أنه بعث إلى المنذر بن ساوي من يقبض منه ما اجتمع عنده من الجزية، فعجله بها, وابعث معها ما اجتمع عندك من الصدقة والعشور, وكاتب الكتابين أبي1. وكتب المنذر كتابًا إلى الرسول، جاء فيه: "إني قرأت كتابك على أهل هجر، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه"2.
وفي طبقات ابن سعد كتاب من الرسول، ذكر أنه أرسله إلى "الهلال صاحب البحرين"، فيه دعوة لهلال إلى الإسلام وإلى عبادة الله وحده والدخول في الجماعة فإن ذلك خير له3. ويظهر أن هلالًا هذا كان أحد سادات البحرين في هذا الوقت، وأنه كان قد تأخر عن "الجماعة" أي: قومه, في الدخول في الإسلام، فكتب الرسول له ذلك الكتاب.
وأما "هجر"، فكان عليها عند ظهور الإسلام مرزبان يدعى "سيبخت" وإليه ذهب أيضًا العلاء بن الحضرمي يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وأسلم معه جميع العرب وبعض العجم4, وأما أهل الأرض هناك من اليهود والنصارى والمجوس، فقد صالحوا العلاء على الجزية5. وهَجَر سوق من أسواق الجاهلية، يؤمها "بنو محارب" من "عبد القيس"6. ويظهر من كتاب أمر رسول الله بتدوينه إليه، أنه لما أسلم وصدق أرسل إلى رسول الله رسولًا يخبره بذلك اسمه "الأقرع"، فكتب إليه الرسول كتابًا حمله إليه الأقرع صاحبه، ويذكر رسول الله فيه أنه
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 276".
2 نهاية الأرب "18/ 167".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 275".
4 البلدان "2/ 74"، البلاذري، فتوح "89 وما بعدها".
5 أسد الغابة "4/ 7"، فتوح البلدان "86", البلدان "2/ 72".
6 صفة "136 وما بعدها", "ابن بليهد 1953م".(7/211)
علم بما جاء في كتاب "سيبخت" إليه، وأنه يحثه ويدعوه إلى القيام بشعائر الإسلام1.
وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى أن هجرًا كانت قاعدة البحرين، وقال بعض آخر: إنها اسم لجميع أرض البحرين، وقد اشتهرت بالتمر، فقيل في المثل: كمُبضِع التمر إلى هجر، كما عرفت بأوبئتها. وقد رُوي أن الخليفة عمر قال: "عجبت لتاجر هجر وراكب البحر"، كأنه أراد ذلك لكثرة وبائها، فعجب من تاجر يذهب لذلك إليها، كما عجب من راكب البحر؛ لأنه سواء في الخطر. ويظهر أنها كانت كثيرة المياه ذات مستنقعات؛ لذلك تفشت بها الأوبئة. وذكر الإخباريون أنها عرفت بـ"هجر"، نسبة إلى "هجر بنت المكفف"، وكانت من العماليق، أو من العرب المتعربة، وكان زوجها محلم بن عبد الله صاحب النهر الذي بالبحرين، ويقال له: نهر محلم, وهناك عين ماء عرفت بعين هجر وبعين محلم2.
وذكر أهل الأخبار أن "ملك هجر"، ولم يشيروا إلى اسمه، كان قد سوَّد "زُهرة بن عبد الله بن قتادة بن الخوية"، ووفده على النبي، وأنه كان في جيش "سعد بن أبي وقاص" الذي أرسله إلى العراق، فجعله "سعد" من "أمراء التعبية"3. ولعلهم قصدوا بذلك المرزبان "سيبخت"، الذي ذهب إليه "العلاء بن الحضرمي" بأمر الرسول ليدعوه إلى الإسلام، فأسلم على يديه.
ويعرف الساحل المقابل لجزيرة "أوال" من جزر البحرين، بـ"السيف" سيف البحر، والسيف في اللغة: ساحل البحر4, ويليه "الستار": "ستار البحرين"5.
و"كاظمة" جو على سيف البحر، وفيها ركايا كثيرة وماؤها شروب6.
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 275".
2 تاج العروس "3/ 613 وما بعدها"، البكري، معجم "3/ 346"، البلدان "5/ 393"، المعاني الكبير، لابن قتيبة "2/ 954".
3 الطبري "3/ 488".
4 اللسان "9/ 167".
5 صفة "136 وما بعدها", "طبعة ابن بليهد"، اللسان "4/ 345".
6 اللسان "12/ 521 وما بعدها".(7/212)
وعرفت بـ"كاظمة البحور"1, وقد أكثر الشعراء من ذكرها2. وهي موضع مجهول في الوقت الحاضر، يظن أن مكانه على ساحل الجون المقابل لموضع "الجهرة"، ويعرف ذلك الموضع بـ"دوحة كاظمة"3.
وكان على الأبلة وما والاها "قيس بن مسعود بن خالد"، فلما علم بما فعله كسرى بملك الحيرة، تفاوض سرًّا مع بكر، واتفق معها على مساعدتها. فلما انتهت معركة "ذي قار" لم يجرؤ كسرى أن يلحق به أذى ما هو في أرضه، فعمد إلى الحيلة للانتقام منه، بأن كتب إليه يطلب منه المجيء لرؤيته، فلما ذهب إليه، قبض عليه وحبسه في قصره بالأنبار أو بساباط4. وقد عده أهل الأخبار في المعدودين من "أجواد الجاهلية", وذكروا أنه كانت له مائة ناقة معدة للأضياف, إذا نقصت أتمها؛ وقد مدحه لذلك الشعراء. وعد من "ذوي الآكال", وذكر أن كسرى كان قد أطعمه "الأبلة" وثمانين قرية من قراها5.
وكان على اليمامة "هوذة بن علي الحنفي"، وكان ملكًا على دين النصرانية، وإليه أرسل رسول الله "سليط بن عمرو" "سليط بن قيس بن عمرو الأنصاري" يدعوه إلى الإسلام. فأرسل "هوذة" وفدًا إلى الرسول ليقول له: "إن جعل الأمر له من بعده أسلم، وسار إليه ونصره، وإلا قصد حربه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا، ولا كرامة"6. ثم مات بعد قليل، وذكر أنه كان شاعر قومه وخطيبهم، وكانت له مكانة عند العرب7.
وذكر أنه كان من "قُرَّان" من مواضع اليمامة، وأهلها أفصح بني حنيفة.
__________
1 صفة "136 وما بعدها"، "ابن بليهد".
2 البلدان "4/ 431"، "بيروت 1957م"، صبح الأعشى "3/ 247"، تقويم البلدان "5/ 65"، البكري "4/ 110", شرح مقامات الحريري "2/ 359", "الشريشي".
3 التحفة النبهانية في تأريخ جزيرة العرب، لخليفة بن أحمد آل نبهان "8/ 57".
4 ديوان الأعشى "القصيدة 26"، "ص128"، "طبعة كاير", Geyer.
5 المحبر "ص143 وما بعدها، 253".
6 ابن الأثير "2/ 89"، البلاذري، فتوح "97".
7 "سليط بن عمرو العامري"، نهاية الأرب "18/ 166".(7/213)
وأنه كان من وجهاء قومه. وقد نسب على هذه الصورة: "هوذة بن علي بن ثمامة بن عمرو الحنفي" من بكر بن وائل1. وورد أن تميمًا كانت قد قتلت والد "هوذة"، وأن هوذة كان يكره بني تميم كرهًا شديدًا حتى إن كسرى حين سأله عنهم, أجابه: "بيني وبينهم حساء الموت، فهم الذين قتلوا أبي". وورد أن كسرى سأل هوذة عن عيشه وعن ماله، فقال: "أعيش عيشة رغيدة، وأغزو المغازي، وأحصل على الغنائم"2. ولكن الظاهر أنه لم يكن كفؤًا لبني تميم, وأن ملكه لم يتجاوز حدود اليمامة.
وزعم أهل الأخبار أن "كسرى" توجَّه إلى اليمامة، أو أنه سمع بجوده وكرمه، فاستدعاه إليه، ولما وجد فيه عقلًا وسياسة ورجاحة رأي توَّجه بتاج من تيجانه؛ ولذا لقب هوذة بـ"صاحب التاج"، وأقطعه أموالًا بـ"هجر"، وكان نصرانيا. وقيل: إن كسرى دعا بعقد من الدر فعقد على رأسه وكساه قباء ديباج مع كسوة كثيرة، فمن ثم سمي هوذة ذا التاج. وذكر أن سبب استدعاء كسرى له، أنه أكرم رجال العير التي حملت ألطاف وهدايا وأموال "وهرز" التي أرسلها من اليمن إلى "كسرى"، وكانوا قد انتُهبوا حتى لم يبق عندهم شيء، فصاروا إلى "هوذة"، فأكرم مثواهم وآواهم وكساهم وزودهم وحماهم، وسار معهم إليه، فأكرمه كسرى على النحو المذكور3. وقيل: إنه لم يكن صاحب تاج، وإنما كان يضع على رأسه إكليلًا رصعه بأحجار ثمينة كأنه التاج تشبهًا بالملوك4.
ويروي أهل الأخبار أن الشاعر الأعشى قال في حق هوذة:
له أكاليل بالياقوت فصَّلها ... صوَّاغها لا ترى عيبًا ولا طبعا
__________
1 البكري، معجم "ص1063"، "وقران كرمان باليمامة. وهي وملهم لبني سحيم من بني حنيفة"، تاج العروس "9/ 309"، "قرن".
2 الكامل، لابن الأثير "1/ 378", المعارف، لابن قتيبة "97 وما بعدها", الأغاني "16/ 75 وما بعدها".
3 الأغاني "16/ 75 وما بعدها"، العمدة، لابن رشيق "2/ 206"، الطبري "2/ 169 وما بعدها" "طبعة دار المعارف بمصر".
4 العقد الفريد "2/ 243".(7/214)
وذكر أنه كان أول معدّيّ لبس التاج، ولم يلبس التاج معدي غيره1.
ويظهر من روايات أهل الأخبار عن يوم الصفقة وعن يوم المشقر، أن نفوذ "هوذة" لم يكن واسعًا بعيدًا، بل كان محدودًا بحدود قبيلته، وأنه لم يكن في مستوى ملوك الحيرة أو آل غسان، بل كان سيد قومه إذ ذاك، حتى إنه لما طمع في الجعالة التي كان الفرس يعطونها لمن يتولى خفارة قوافلهم الآتية من اليمن إلى العراق أو الذاهبة من العراق إلى اليمن، ووافق الفرس على أن يعطوه ما أراد، وسار مع القافلة خفيرًا لها من "هجر" حتى "نطاع"، وبلغ "بني سعد" ما صنعه "هوذة", خرجوا عليه وأخذوا ما كان مع الأساورة والقافلة وما معه، وأسروه، حتى اشترى منهم نفسه بثلاثمائة بعير، وقد عُيِّر في ذلك، وتغنى شاعر "بني سعد" بذلك اليوم، الذي سيق فيه هوذة, وهو مقرون اليدين إلى النحر، فلما استلم بنو سعد الإبل المذكورة جاءوا به إلى اليمامة فأطلقوه2.
ويذكر أهل الأخبار أن هوذة سار مع من تبقى من الأساورة وبقية فلول القافلة إلى "كسرى"؛ ليخبره بما حدث له، وبما فعلت به بنو تميم، ودخل على ملك الفرس فأكرمه، وأمر بإسقائه بكأس من ذهب، ثم أعطاه إياه وكساه قباء, له ديباج منسوج بالذهب واللؤلؤ وقلنسوة قيمتها ثلاثون ألف درهم وحباه ثم عاد إلى بلاده. ولو كان هوذة قد جاء كسرى بخبر انتصار وإنقاذ للقافلة جاز لنا أخذ هذا الوصف على محمل الصدق، أما وأن الرواية هي في موضوع هزيمة واندحار، فإن من الصعب علينا التصديق بها، ولا سيما وأن ملوك الفرس كانوا أصحاب غطرسة وكانوا إذا جاءهم أحد بخبر هزيمة قابلوه بالازدراء والتبكيت وبإنزال اللعنات عليه في الغالب، وليس في هذا الموقف ما يدعو إلى إسقاء هوذة بكأس من ذهب.
ويذكر أهل الأخبار أن اليمامة من نجد، وقاعدتها "حجر"، وكانت
__________
1 وكل زوج من الديباج يلبسه
أبو قدامة مجبورًا بذاك معا
له أكاليل بالياقوت زينها
صواغها، لا ترى عيبًا ولا طبعا
الأمالي, للمرتضى "2/ 172"، ديوان الأعشى "86".
2 الأغاني "5/ 8", الطبري "1/ 581".(7/215)
تسمى "جدا" في الأصل، كما عرفت بـ"جو". وذكروا أنها سميت "يمامة" نسبة إلى "اليمامة بنت سهم بن طسم"، وكانت منازل طسم وجديس في هذا المكان, وقد تناولتها الأيدي حتى صارت في أيدي "بني حنيفة" عند ظهور الإسلام, في قصص من قصص أهل الأخبار1.
واليمامة من الأماكن الخصبة في جزيرة العرب، وبها "وادي حنيفة", وبه مياه ومواضع كانت عامرة ثم خربت، وهي اليوم خراب أو آثار, وقد اشتهرت قراها ومزارعها، وكانت من أهم الأرضين الخاضعة لمملكة كندة. ويظهر أن سيلًا جارفًا أو سيولًا عارمة اكتسحت في الإسلام بعض قراها فهجرت, إذ ترى في هذا اليوم آثار أسس بيوت مبنية من اللبن ومن الطين، يظهر أنها اكتسحت بالسيول وجاءت الرمال فغطتها بغطاء لتستر بقاياها عن رؤية النور2. وقد ذكر أهل الأخبار أن اليمامة كانت من "أحسن بلاد الله أرضًا وأكثرها خيرًا وشجرًا ونخيلًا"3, وبها مياه كثيرة, وقد عرف أهلها بالنشاط وبالتحضر، وذلك بسبب وجود الماء بها، إذ أغرى سحر الماء الناس على الإقامة عند مواضع المياه، فنشأت مستوطنات كثيرة. ولا زال أهل اليمامة يعدون من أنشط سكان المملكة العربية السعودية.
وحدود اليمامة من الشرق البحرين ومن الغرب تنتهي إلى الحجاز، وأما من الشمال فتتصل بوادٍ متصل بالعذيب والضرية والنباج وسائر حدود البصرة وجنوبها بلاد اليمن, هذا على تعريف "ابن رستة", وتبعد "جو" وهي الحضارم عن حجر يومًا وليلة4. ومن مواضع اليمامة "منفوحة"، وهي قرية مشهورة كان يسكنها الأعشى وبها قبره, وهي لبني قيس بن ثعلبة بن عكابة5. ومن مواضع اليمامة الأخرى "المعلاة" من قرى "الخرج"6.
__________
1 البلدان "5/ 441"، فتوح البلدان "118"، البكري, معجم "1/ 83", المعاني الكبير لابن قتيبة "2/ 1041", الهمداني, صفة "141", تاج العروس "9/ 114 وما بعدها", "يمم".
2 Naval, R., 233.
3 تاج العروس "9/ 15"، "يمم".
4 ابن رستة، الأعلاق "182"، تاج العروس "9/ 115", "يمم".
5 تاج العروس "2/ 242"، "نفح".
6 تاج العروس "10/ 250"، "علا".(7/216)
ومن أبرز قبائل اليمامة في أيام الرسول "بنو حنيفة"، و"حنيفة" لقب "أثال بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل". ويذكر أهل الأخبار، أن "الأحوى بن عوف" المعروف بجذيمة، لقي أثالًا فضربه فحنفه، فلقب حنيفة، وضربه أثال فحذمه جذيمة, فقال جذيمة:
فإن تَكُ خنصري بانت فإني ... بها حنفت حاملتي أثال1
وقد وفدَ وفدٌ منهم، فيه "مسيلمة بن حبيب" الذي عرف بـ"الكذاب" لادعائه النبوة، وكان قد طلب من الرسول أن يشركه معه في الأمر, وادعى النبوة، ثم قتل, وكان يسجع السجعات مضاهاة للقرآن2. وممن كان في هذا الوفد: "رحال بن عنفوة"، وقد شهد لمسيلمة أن رسول الله أشركه في الأمر فافتتن الناس به، و"سلمي بن حنظلة السحيمي" و"طلق بن علي بن قيس" و"حمران بن جابر بن شمر" و"علي بن سنان" و"الأقعس بن مسلمة" و"زيد بن عبد عمرو"، وعلى الوفد "سلمي بن حنظلة"3.
ويذكر أن "سجاح"، وهي "سجاح بنت أوس بن العنبر بن يربوع" التميمية التي تكهنت وادعت النبوة، أتت "مسيلمة الكذاب"، وهو بـ"حجر", فتزوجته، وجعلت دينها ودينه واحدًا، وكان قد اتبعها قوم من "بني تميم" وقوم من أخوالها من "بني تغلب"4.
ومن "بني حنيفة": "عُمير" و"قُرين" ابنا "سلمي". وكان "عمير" أوفى العرب، قتل أخاه "قرينًا" بقتيل قتله من جيرانه5. ومنهم "مجاعة بن مرارة بن سلمي"، وكان رسول الله قد أقطعه "الغورة" و"غرابة" و"الحبل", ثم أقطعه "أبو بكر" "الخضرمة" ثم أقطعه "عمر" "الرياء", ثم أقطعه "عثمان" قطيعة أخرى6.
__________
1 تاج العروس "6/ 78"، "حنف".
2 الطبري "3/ 137 وما بعدها"، "دار المعارف"، "قدوم وفد بني حنيفة وفيهم مسيلمة".
3 ابن سعد، طبقات "316 وما بعدها".
4 البلاذري، فتوح "108".
5 الاشتقاق "ص209".
5 البلاذري، فتوح "89، 102 وما بعدها".(7/217)
ومن رجال اليمامة "محكم بن الطفيل بن سبيع" الذي يقال له "محكم اليمامة"، وقد ارتد وقتل مع من قتل من المرتدين1.
ومن قبائل اليمامة: بنو باهلة بن أعصر، وبنو نمير, وأحياء من تميم. واستقرت بطون من بكر وعنزة وضبيعة في القسم الشرقي من اليمامة حتى البحرين، واتصلت منازل بطون منها بالعراق2, كما كان بها "بنو هزان" وهم من قطنة اليمامة القدامى, إذ نجد أهل الأخبار يرجعون تأريخهم بها إلى أيام طسم، أي: إلى أيام العرب العاربة أو العرب البائدة الأول. والظاهر أن أهل الأخبار قد حاروا في أمر "هزان", فجعلوهم من العرب البائدة ودعاهم الهمداني بـ"هزان الأولى"3, وجعلوهم من اليمن ونسبوهم إلى "قحطان" وجعلوهم من "معد", وهم الذين بقوا في يارهم اليمامة إلى الإسلام وفي الإسلام4.
ويظهر من روايات أهل الأخبار، أنهم قصدوا قبائل مختلفة لا قبيلة واحدة هي "هزان" التي ظلت باقية ولها بقية في اليمامة حتى اليوم. ولكننا نستبعد كون القبائل الثلاث قبيلة واحدة في الأصل, بدليل أن أهل الأخبار يذكرون أن هزان اليمانية الأصل كانت تقيم في اليمامة, وأن هزان "معد" هم من أهل اليمامة أيضا، أي: إن مواطن القبيلتين واحدة، بل إن منهم من يرجع مواطن هزان الأولى إلى اليمامة كذلك، وهذا ما يحملنا على القول: إن الهزانيين كلهم من قبيلة واحدة، بقيت فروعها في مواطنها القديمة اليمامة حتى اليوم، ولا قيمة لما يرويه أهل الأنساب من سرد نسب كل قبيلة من القبائل الثلاث إلى العرب البائدة أو إلى العرب العاربة أو إلى العرب المستعربة.
والظاهر أن "بني حنيفة" ضغطوا على الهزانيين، فاغتصبوا معظم أرضهم باليمامة، فقل بذلك شأنهم، وصاروا دون "بني حنيفة" في القوة. ومن "بني هزان" تزوج الأعشى، ثم أكرهوه على تطليقها، فطلقها حين ضربوه، وأصروا عليه بلزوم تخليه عنها ففعل، فقال في ذلك شعرًا، رواه الرواة.
__________
1 البلاذري، فتوح "98", الاشتقاق "210".
2 البكري، معجم "4/ 85 وما بعدها".
3 الإكليل "1/ 73 وما بعدها".
4 العرب، الجزء السابع، السنة الثالثة، نيسان 1969م, الرياض.(7/218)
ومنهم نفر أسروا "الحارث بن ظالم المري"، ولم يكونوا يعرفونه، وظنوه صعلوكًا، ثم باعوه إلى نفر من القيسيين بزق خمر وشاة، وقيل: من بني سعد. ومنهم كان قاتل حيان بن عتبة بن جعفر بن كلاب، وهو المعروف بصاحب الرداع1.
ومن مواطن "هزان" العلاة، وهو جبل من جبال اليمامة، وبرك, ونعام، وشهوان، وماوان، والمجازة. ويلاحظ أن أخلاطًا من قبائل أخرى جاورت "بني هزان" وسكنت معهم, منهم "بنو جرم" و"بنو جشم" و"الحارث بن لؤي بن غالب بن فهر" من قريش، و"ربيعة" وهم من اليمن2.
وأما منازل طيء عند ظهور الإسلام فجبلَا طئ: أجأ وسلمى، غير أن هناك بطونًا من طيء كانت قد انتشرت في أماكن أخرى، فنزلت في العراق وفي بلاد الشام وفي أماكن أخرى في جزيرة العرب.
وطيء من القبائل التي كان لها شأن كبير قبل الإسلام, ولعلها كانت من أشهرها وأعرفها قبيل الميلاد وفي القرون الأولى للميلاد، بدليل إطلاق السريان كلمة "طيايا" على كل العرب، من أي قبيلة كانوا, أي: إنها استعملت عندهم بمعنى "عرب"، وأصلها من اسم القبيلة التي نتحدث عنها وهي قبيلة "طيء".
ولم تكن طيء متصافية فيما بينها متحابة، فوقعت بين عشائرها حروب، حتى تداخل "الحارث بن جبلة" الغساني فيما بينها, فأصلح حالها، فلما هلك عادت إلى حربها، فالتقت جديلة وغوث بموضع تحاربتا فيه، قتل فيه قائد بني جديلة، وهو أسبع بن عمرو بن لأم، وأخذ رجل من سنبس أذنيه فخصف بهما نعليه، فعظم ما صنعت الغوث على أوس بن خالد بن لأم، وعزم على لقاء الغوث بنفسه، وحلف ألا يرجع عن طيء حتى ينزل معها جبليها أجأ وسلمى، وتجبى له أهلها، وكان لم يشهد الحروب المتقدمة، لا هو ولا أحد من رؤساء طيء، كحاتم، وزيد الخيل، وغيرهما من الرؤساء. فلما أقبلت جديلة وعلى
__________
1 الاشتقاق "321"، العرب, نيسان "1969م", "ص665 وما بعدها".
2 العرب، نيسان 1969م "262 وما بعدها".(7/219)
رأسها أوس بن حارثة بن لأم، وبلغ الغوث جمع أوس لها، أوقدت نارًا على ذروة أجأ، وذلك في أول يوم توقد فيه النار، فأقبلت قبائل الغوث، كل قبيلة وعليها رئيسها، ومنهم زيد الخيل، وحاتم، وتلاحمت بجديلة في يوم اليحاميم ويعرف أيضًا بقارات حوق، الذي انتهى بهزيمة منكرة حلت بجديلة, فلم تبق لها بقية للحرب، فدخلت بلاد كلب، وحالفتهم وأقامت معهم1.
وكان سيد طيء في أيام الرسول "زيد الخيل بن مهلهل الطائي"2, وهو ممن قدم على الرسول في وفد طيء, وقد قطع له الرسول فيدًا وأرضين معه، وكتب له بذلك، ولكنه توفي في موضع يقال له "فردة" من بلاد نجد من حمى علقت به أثناء إقامته بيثرب، فلما يبلغ مكانه3. وقد مدحه الرسول وأثنى عليه4, و"زيد الخيل" الذي سماه الرسول "زيد الخير" هو من "بني نبهان" من "طيء". وكان في الوفد رجال آخرون منهم: "وزر بن جابر بن سدوس" من "بني نبهان"، و"قبيصة بن الأسود بن عامر" من "جرم طيء"، و"مالك بن عبد الله بن خيبري"، من "بني معن"، و"قُعين بن خليف بن جديلة"5.
ومن "طيء" الرجل الذي ضرب بجوده المثل، والذي لا زال الناس يذكرون اسمه على أنه المثل الأعلى في الكرم، وهو "حاتم الطائي", مقري الضيوف ومغيث الفقراء. فمدحه لجوده الشعراء: عبيد بن الأبرص والنابغة الذبياني وبشر بن أبي حازم وغيرهم, وكان مضربه ملجأ للمحتاجين ولمن يسلك الطريق يريد "الحيرة". ونظرًا لجوده وكرمه هابته العرب وصارت له دالة ومكانة عند ملوك الحيرة وعند آل غسان6. وذكر أنه "إذا أسر أطلق، ومر في سفره على عنزة وفيهم أسير، فاستغاث به الأسير ولم يحضره فكاكه, فاشتراه من العنزيين،
__________
1 ابن الأثير "1/ 388", أيام العرب "60".
2 المحبر "ص233".
3 الطبري "3/ 145".
4 الاشتقاق "236"، الطبري "3/ 145"، "قدوم زيد الخيل في وفد طيء".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 321 وما بعدها".
6 الأغاني "16/ 93 وما بعدها، 104 وما بعدها"، العقد الفريد "1/ 332" "طبعة اللجنة".(7/220)
وأقام مكانه في القدّ حتى أُدي فداؤه1.
وقد توفي "حاتم الطائي" قبل الإسلام، وانتقلت رئاسة طيء منه إلى ابنه "عدي بن حاتم طيء"، وكان نصرانيا يسير في قومه بالمرباع، وكان بمثابة الملك فيهم، فلما جاءت خيل الرسول سنة تسع بلاد طيء، قرر اللحوق بأهل دينه من النصارى بالشام، ثم ترك الشام ولحق بالمدينة فأسلم وأكرمه الرسول2, وعينه الرسول على صدقة طيء وأسد3.
وذكر أن "عمرو بن المسبح بن كعب بن عمرو بن عصر بن غنم", الذي كان أرمى العرب، وهو الذي ذكره "امرؤ القيس" في شعره وأشار إليه، هو من "طيء"، كان قد أدرك الرسول، ووفد عليه4.
وقد وقع بين طيء نزاع أدى إلى وقوع حروب وأيام بينها، ومن بينها يوم عرف بـ"يوم اليحاميم". وقد كان "الحارث بن جبلة الغساني" قد أصلح بين قبائلها، فلما هلك عادت إلى حروبها، فالتقت جديلة والغوث، فقتل "أسبع بن عمرو بن لأم"، وهو من جديلة وقائدها، قُتل في موضع يقال له "غرثان"، وأخذ رجل من "سنبس" أذنيه فخصف بهما نعليه، فغضبت "بنو جديلة"، وأقسم "أوس بن خالد بن لأم" على الانتقام من "الغوث" ومنهم "بنو سنبس", وأخذ في حشد قومه "جديلة"، وبلغ الغوث ذلك، فأوقدت النار على "أجأ"، فأقبلت قبائل الغوث، وعلى رأسها ساداتها ومنهم "زيد الخيل" و"حاتم الطائي"، ووقع القتال بين جديلة والغوث في موضع يقال له "قارات حوق"، فانهزمت جديلة، وقتل فيها أبرح القتل، حتى لم تبق لها بقية للحرب، فدخلت بلاد كلب وحالفوا كلبًا وأقاموا معهم, وعرف هذا اليوم بـ"يوم اليحاميم"5.
وكتب الرسول كتبًا إلى جماعة من "طيء", منهم "بنو معاوية بن جرول"،
__________
1 الشعر والشعراء "ص123".
2 الطبري "3/ 112 وما بعدها"، "دار المعارف"، نهاية الأرب "18/ 77 وما بعدها".
3 الطبري "3/ 147"، "خروج الأمراء والعمال على الصدقات"، ابن سعد، طبقات "1/ 322" "وفادات أهل اليمن: وفد طيء".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 322 وما بعدها".
5 ابن الأثير, الكامل "1/ 266".(7/221)
و"عامر بن الأسود بن عامر بن جوين الطائي"، وجماعة من "بني جوين"، و"لبني معن" الطائيين.1
وتقع إلى الشرق من ديار "طيء" منازل "أسد" وإلى الشمال من ديار أسد منازل "بكر", وأما إلى الجنوب من منازل "أسد" فديار "هوازن"، و"غطفان"، وتتاخم ديار أسد من الشرق قبائل "عبد القيس" و"تميم".
ولما أخذت الوفود تترى على المدينة لمبايعة الرسول والدخول في الإسلام، كان وفد "أسد" في جملة الوفود التي بايعت الرسول ودخلت في الإسلام، وذلك سنة تسع للهجرة. وكان فيه "حضرمي بن عامر" و"ضرار بن الأزور" و"وابصة بن معبد" و"قتادة بن القايف"، و"سلمة بن حبيش" و"طلحة بن خويلد" و"نقادة بن عبد الله بن خلف"، ومعهم قوم من "بني الزنية"، وهم من "مالك بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد".2
وكتب رسول الله كتابًا إلى "بني أسد" كتبه له "خالد بن سعيد"، ورد فيه: "ألا يقربن مياه طيء وأرضهم, فإنه لا تحل لهم مياههم ولا يلجن أرضهم من أولجوا"، وأمَّر عليهم "قضاعي بن عمرو"، وهو من "بني عذر" بأن جعله عاملًا عليهم3. وكتب الرسول إلى "حصين بن نضلة الأسدي" "أن له آراما وكسة، لا يحاقه فيها أحد".4
ومن ديار "بني أسد بن خزيمة"، "قطن"، وهو جبل بناحية "فيد" به ماء. وأمر الرسول "أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي" بغزوه، لما بلغه أن "طليحة" و"سلمة" ابني "خويلد" قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوانهم إلى حرب الرسول، فذهب إلى "قطن", ثم عاد ومعه إبل وشاء.5
وتقع إلى الشمال الغربي من ديار "طيء"، ديار "بكر"، وهي "بكر بن وائل". وهي قبائل ضخمة ذات فروع عديدة، سكنت في مواضع عديدة أخرى غير هذه المواضع.
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 269".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 292 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 31".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 270".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 274".
5 نهاية الأرب "17/ 127 وما بعدها".(7/222)
وذكر في خبر فتوح السواد, أن "المثني بن حارثة الشيباني" كان يغير على السواد، فبلغ "أبا بكر" خبره, فسأل عنه، فقال له قيس بن عاصم بن سنان المنقري: هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، وأثنى عليه. ثم إن المثنى قدم على "أبي بكر"، فقال له: يا خليفة رسول الله, استعملني على من أسلم من قومي أقاتل هذه الأعاجم من أهل فارس، فكتب له أبو بكر في ذلك عهدًا, فسار حتى نزل "خفان" ودعا فيه إلى الإسلام فأسلموا. ثم إن أبا بكر أمر "خالد بن الوليد" بالمسير إلى العراق، وكتب إلى "المثنى بن حارثة" يأمره بالسمع والطاعة له وتلقيه. وكان "مذعور بن عدي العجلي", قد كتب إلى أبي بكر يعلمه حاله وحال قومه ويسأله توليته قتال الفرس, فكتب إليه يأمره أن ينضم إلى خالد ويسمع له بالطاعة1.
و"خفان"2 مأسدة وموضع أشبّ الغياض كثير الأسد، أو أجمة قرب "الكوفة"3.
ونجد في موارد أخرى أن "المثنى بن حارثة الشيباني" و"سويد بن قطبة العجلي"، وكلاهما من "بكر بن وائل", كانا يغيران على الدهاقين، فيأخذان ما قدرا عليه. فإذا طُلبا أمعنا في البر فلا يتبعهما أحد, وكان المثنى يغير من ناحية الحيرة و"سويد" من ناحية "الأبلة". فكتب إلى "أبي بكر"، يعلمه ضراوته بفارس ويعرفه وهنهم, ويسأله أن يمده بجيش, فكتب إليه "أبو بكر" يخبره أنه مرسل إليه "خالد بن الوليد" وأن يكون في طاعته، فكره "المثنى" ورود خالد عليه، وكان ظن أن أبا بكر سيوليه الأمر، ولكنه لم يتمكن أن يفعل شيئًا فانضم إلى خالد4.
ومن "بني عجل" "فرات بن حيان العجلي"، كان دليل "أبي سفيان"
__________
1 البلاذري، فتوح "242".
2 "وخفَّان كعفَّان" بتشديد الفاء، تاج العروس "6/ 93"، "خَفَّ".
3 قال الأعشى:
وما مخدر ورد عليه مهابة
أبو أشبل أضحى بخفان حاردا
تاج العروس "6/ 93", اللسان "9/ 81", "خفف".
4 الأخبار الطوال "111 وما بعدها".(7/223)
إلى الشام1. وذلك أن قريشًا خافوا طريقهم الذي كانوا يسلكون إلى الشام حين وقعة "بدر"، فكانوا يسلكون طريق العراق، فخرج بهم دليلهم "فرات" في السنة الثالثة من الهجرة، ومعه أبو سفيان, وصفوان بن أمية, وحويطب بن عبد العزى، وعبد الله بن أبي ربيعة، ومعهم مال كثير فيه فضة كثيرة، وهي أعظم تجارتهم. فلما بلغوا موضع "القردة"، وكان "فرات" قد سلك بهم على ذات عرق، اعترض "زيد بن حارثة" القافلة، وكان الرسول قد أرسله للتحرش بها، يوم بلغه أمر القافلة, فهرب أعيانها واستولى زيد على العير, وجاء بها إلى الرسول، وأسر فرات، فأسلم2.
ويذكر أهل الأخبار أن قبائل مضر كانت تنزع إلى العراق، وكان أهل اليمن ينزعون إلى الشام، وأنه لم يكن أحد من العرب أجرأ على فارس من ربيعة, وقد قيل لها لذلك: ربيعة الأسد، وكانت العرب في جاهليتها تسمى: فارس الأسد3.
وقد قدم وفد من "بكر بن وائل" على الرسول، فيه "بشير بن الخصاصية" و"عبد الله بن مرثد"، و"حسان بن حوط" "خوط"، فأسلموا وعادوا إلى ديارهم4, وذهب "حريث بن حسان الشيباني" في وفد من "بكر بن وائل" إلى الرسول، فأسلم على يديه5. وذكر أن "عبد الله بن أسود بن شهاب بن عوف بن عمرو بن الحارث بن سدوس" قدم مع الوفد المذكور، وكان ينزل اليمامة، فباع ما كان له من مال باليمامة واستقر بالمدينة6.
وذكر أن رسول الله كتب كتابًا إلى "بكر بن وائل"، فما وجدوا رجلًا يقرؤه حتى جاءهم رجل من "بني صبيعة بن ربيعة" فقرأه. وكان الذي أتاهم بكتاب رسول الله: "ظبيان بن مرثد السدوسي"7.
وخرج "خالد" إلى العراق، فمر بـ"فيد" و"الثعلبية" وأماكن أخرى
__________
1 الاشتقاق "ص208".
2 نهاية الأرب "97/ 80".
3 الطبري "3/ 487"، "دار المعارف".
4 طبقات ابن سعد "1/ 315".
5 طبقات ابن سعد "1/ 318 وما بعدها".
6 نهاية الأرب "18/ 67".
7 ابن سعد، طبقات "1/ 81 وما بعدها".(7/224)
منها "العذيب" و"خفان"، ثم سار قاصدًا "الحيرة" وهي أهم موضع للعرب في العراق، فخرج إليه ساداتها في هذا الوقت: "عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة"، وهو من الأزد وصاحب القصر الذي يقال له: "قصر بني بقيلة" بالحيرة، وهو من "بني سبين", وكان من المعمرين1, و"هانئ بن قبيصة بن مسعود الشيباني"، ويقال: "فروة بن إياس"، وكان "إياس" عامل كسرى أبرويز على الحيرة بعد النعمان بن المنذر، و"عدي بن عدي بن زيد العبادي"، وأخوه "عمرو بن عدي"، و"عمرو بن عبد المسيح" و"حيري بن أكال"، وهم نقباء أهل الحيرة. فصالحوه على دفع الجزية وعلى أن يكونوا عيونًا للمسلمين على أهل فارس2.
وفيد موضع مهم بطريق مكة في نصفها من الكوفة، به حصن عليه باب حديد، وعليه سور دائر. كان الناس يودعون فيه فواضل أزوادهم وما ثقل من أمتعتهم إلى حين رجوعهم. وذكر أن فيدًا فلاة في الأرض بين أسد وطيء في الجاهلية، فلما قدم "زيد الخيل" الفارس المشهور على رسول الله أقطعه فيدًا, وذكر أهل الأخبار أن فيدًا إنما سميت فيدًا بفيد بن حسام أول من نزلها. والظاهر أنها من المواضع القديمة وقد ورد اسمها في الشعر الجاهلي والإسلامي3.
و"العذيب" إذ ذاك مسلحة كانت للفرس على طريق البادية، ومن القادسية التي تبعد عن الكوفة "15" ميلًا إلى العذيب "6" أميال، ويؤدي الطريق من العذيب إلى البرية4, وكان لبني تميم5. وذكر أهل الأخبار أن "محلم بن سويط الضبي" أخا بني صباع، قاد الرباب كلها, وهو الرئيس الأول: أول من سار في أرض مضر برئاسة، وغزا العراق وبه كسرى حتى بلغ العذيب, فجعلت الإبل تتهيب خرير الماء. ويظهر من شعر لبعض الضبيين أن العذيب كان أحساء، يخرج الماء فيه من باطن الأرض ويندفع مكونًا خريرًا؛
__________
1 الاشتقاق "285"، الطبري "3/ 345، 364"، "دار المعارف"، البلاذري, فتوح "244".
2 البلاذري، فتوح "244"، الطبري "3/ 364"، "دار المعارف".
3 تاج العروس "2/ 457"، "فاد".
4 ابن رستة، الأعلاق "175".
5 تاج العروس "1/ 370"، "عذب".(7/225)
لذلك هابته الإبل، فكانت تتخوف من الشرب منه1. وبعد العذيب نهاية حد نجد في الشمال2.
ويذكر "ابن رستة" أن "البطانية"، هو "قبر العبادي"3، وسماه بعضهم "بطان". وذكر اليعقوبي أن هذا الموضع من ديار "بني أسد"4.
وكان للثعلبية شأن يذكر، فقد ذكر أنها كانت موضعًا معروفًا، بل ذكر أنها مدينة عامرة عليها سور وفيها حمامات وسوق، وهي على ثلث الطريق للقادم من بغداد إلى مكة. وقد صار لها شأن في صدر الإسلام فيما بعد؛ لأنها تقع على طريق التجارة والحاج، وهي على جادة مكة من الكوفة، ومن منازل أسد بن خزيمة5.
وكان أهل الحيرة قد تحصنوا بقصورهم: في القصر الأبيض، وهو قصر "النعمان بن المنذر", وقصر ابن بقيلة، قصر العدسيين، والعدسيون من "كلب" نسبوا إلى أمهم وهي كلبية أيضًا6. وذكر أنه كان في طرف الحيرة, لبني عمار بن عبد المسيح بن قيس بن حرملة بن علقمة بن عدس الكلبي، نسبوا إلى جدتهم "عدسة بنت مالك بن عوف الكلبي"، وهي أم "الرماح" و"المشظ" ابني عامر المذمم7.
وعدة قصور الحيرة ثلاثة على ما ورد في بعض الروايات, وهي عدة الحيرة وملاجئها أيام الخطر، فإذا سقطت، سقطت الحيرة؛ لأنها هي المكونة لها. وقد صالحت "خالد بن الوليد" لما وجدته أن ليس في استطاعتها الصمود أمام المسلمين8, ولم يكن لها على ما يظهر من روايات أهل الأخبار سور.
ومن مواضع الحيرة "ربيعة بني مازن"، لقوم من الأزد من بني عمرو
__________
1 المحبر "248".
2 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "81".
3 ابن رستة، الأعلاق "175".
4 اليعقوبي، البلدان "311".
5 ابن رستة، الأعلاق "175"، اليعقوبي، البلدان "311".
6 البلاذري، فتوح "245".
7 البلاذري، فتوح "284".
8 الأخبار الطوال "112"، تاج العروس "3/ 165" "حارة".(7/226)
ابن مازن من الأزد، وهم من غسان1, و"دير هند"، لأم "عمرو بن هند بن ماء السماء"، و"ربيعة بني عدي بن الذميل" من لخم2.
وقد هدمت قصور الحيرة التي كانت لآل المنذر واستخدمت حجارتها وأنقاضها لبناء المسجد الجامع بالكوفة ولأبنية أخرى، وقد عوض أصحاب القصور عنها, وفقًا لما جاء في "قراطيس هدم قصور الحيرة"3. وقد هدم بعض الخلفاء العباسيين قصور الحيرة وأزالوا بذلك من معالمها, منهم الخليفة "أبو جعفر المنصور"، فقد هدم "الزوراء"، وهي دار بناها النعمان بن المنذر على ما يذكره أهل الأخبار4.
وذكر "اليعقوبي" أن الحيرة "هي منازل آل بقيلة وغيرهم"، وأن علية أهل الحيرة نصارى، منهم من قبائل العرب من بني تميم ومن "سليم" ومن "طيء" وغيرهم, وأن "الخورنق" بالقرب منها مما يلي المشرق، وبينه وبين الحيرة ثلاثة أميال، والسدير في برية5.
وكان الفرس يستعينون بعرب الحيرة في أمر الترجمة فيما بينهم وبين العرب. ومن هؤلاء أسرة "عدي بن زيد العبادي" على نحو ما ذكرت, وترجمان كان يترجم لـ"رستم" اسمه "عبود"، وكان عربيا من أهل الحيرة6. كما استخدم المسلمون تراجمة؛ ليترجموا ما كان يدور بينهم وبين الفرس من حوار، أو بينهم وبين من يقبضون عليه من أسرى الفرس، ومن هؤلاء رجل اسمه "هلال الهجري". واستخدموا كتبة لكتابة الكتب والأخبار، ذكروا منهم "زياد بن أبي سفيان"7.
وقد استعان الفرس ببعض "آل لخم" لمحاربة العرب, ولإشغالهم في معارك
__________
1 البلاذري، فتوح "280".
2 البلاذري، فتوح "282".
3 البلاذري، فتوح "284".
4 تاج العروس "3/ 246"، "زار".
5 البلدان "309"، "مع ابن رستة", تاج العروس "3/ 261"، "سدر" "6/ 332".
6 الطبري "3/ 524".
7 الطبري "3/ 489".(7/227)
صغيرة، من هؤلاء "قابوس بن قابوس بن المنذر"، وقد كلفه "الآزاذبة مرد بن الآزاذبة" بالذهاب إلى "القادسية" لإشغال المسلمين، وأن يكون للفرس كما كان آباؤه قبله من النصر والعون، فنزل القادسية، وكاتب بكر بن وائل، بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به، فلما بلغ خبره المسلمين حاصروه1.
والقادسية موضع مهم جدًّا من الوجهة العسكرية، وقد قال عنه الخليفة "عمر" في كتابه الذي وجهه إلى "سعد" بأنه "باب فارس"، وأجمع أبوابهم لمادتهم2. وقد وضعوا ما بعده الحصون والقناطر والأنهار لحماية مواقعهم من وقوعها في أيدي من قد يأتي إليهم من البادية، وأهله من العرب، وكان الفرس قد أقاموا فيه مسالح عبئت بجنود من فارس، للدفاع عن خطوطهم الأمامية، ولمشاغلة الغزاة إلى حين وصول المدد الكبير.
وممن ساعد الفرس ودافع عنهم "النعمان بن قبيصة"، وهو ابن "حية الطائي" ابن عم "قبيصة بن إياس بن حية الطائي" صاحب الحيرة، وكان مرابطًا في قصر "بني مقاتل"، وكان منظرة له. وقد قتله "سعد بن عبد الله بن سنان الأسدي" لما سمعه يستخف بقريش وبالقريشيين. فلما سأل عن "سعد بن أبي وقاص"، قيل له: إنه من قريش، قال: "أما إذا كان قرشيًّا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال، إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيرًا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير"3.
ونجد في "فتوح الشام" للواقدي، خبرًا مفاده أن "سعد بن أبي وقاص" لما وجهه الخليفة "عمر" إلى العراق قدم أرض "الرحبة"، فاتصلت الأخبار بـ"اليعمور بن ميسرة العبسي"، فكتب إلى كسرى يخبره بمجيئه إلى هذا المكان، وأن "سعدًا" لما ارتحل من "الرحبة" إلى "الحيرة البيضاء" في ثلاثين ألفًا من بجيلة والنخع وشيبان وربيعة وأخلاط العرب، وجد هناك جيش "النعمان بن المنذر"، وقد ضرب خيامه والسرادقات إلى ظاهرها، وهو في ثمانين ألفًا من جميع عرب العراق، فكتب "النعمان" إلى "كسرى" بمجيئهم
__________
1 الطبري "3/ 489".
2 الطبري "3/ 491".
3 الطبري "3/ 572 وما بعدها".(7/228)
وحث عربه على الصمود وعلى مقاومة سعد قائلًا لهم: "إن هؤلاء عرب وأنتم عرب, وهلاك كل شيء من جنسه" "وليس لأصحاب محمد فخر يفتخرون به علينا، ولكن نحن لنا الفخر عليهم. وهم يزعمون أن الله بعث فيهم نبيا وأنزل عليهم كتابًا يقال له القرآن، ونحن لنا الإنجيل وعيسى ابن مريم وجميع الحواريين، ولنا المذبح، ولنا القسوس والرهبان والشمامسة، وعلى كل حال ديننا عتيق ودينهم محدث، فاثبتوا عند اللقاء, وكونوا عند ظن الملك كسرى بكم"1.
ويذكر رواة هذا الخبر أن عم "النعمان بن المنذر"، وكان صاحب حرسه، دخل إليه وقال له: إن أعداءنا قد أنفذوا إلينا رسولًا، فأمر بإدخاله عليه، وكان الرسول "سعد بن أبي عبيد القاري"، فلما وقف بين يدي النعمان صاح به الحجاب والغلمان: قَبِّل الأرض للملك, فلم يلتفت إليهم، وقال: إن الله أمرنا ألا يسجد بعضنا لبعض، ولعمري إن هذه كانت العادة المعروفة في الجاهلية قبل أن يبعث الله نبيه محمدًا، فلما بعث جعل تحيته السلام، وكذا كانت الأنبياء من قبله. وأما السلام، فهو من أسماء الله تعالى، أما تحيتكم هذه، فهي تحية جبابرة الملوك. فقال النعمان: لسنا من الجبابرة، بل نحن أجلُّ منكم؛ لأنكم توحدون في دينكم وتقولون: إن الله واحد وتجحدون ولده عيسى ابن مريم". ويذكرون أن "سعدًا" جادل "النعمان" في طبيعة المسيح"، فأعجب بكلامه، ثم كلمه في الإسلام أو دفع الجزية، فغضب "النعمان"، وقال له: "يا ويح قومك، فليس عندنا جواب إلا السيف"2.
وتقدمت جيوش المسلمين حتى التحمت بجيش "النعمان" بظاهر الحيرة، وإن "القعقاع بن عمرو التميمي" أو "بشر بن ربيعة التميمي"، أحدهما التقى بالنعمان في كبكبة من الخيل والازدهارات على رأسه، فحمل القعقاع أو بشر على الكبكبة ففرقها، وعلى الكتيبة فمزقها وعلى النعمان بطعنة في صدره فقتل. فلما نظرت جيوش الحيرة إلى الملك النعمان مجندلا ولوا الأدبار يريدون القادسية نحو جيش الفرس. وأخذ المسلمون أسرى وغنائم، واحتوى "سعد" على قصري الخورنق والسدير، وترك جميع ما أخذه بالحيرة, وتحرك نحو القادسية. وكانت أخبار هزيمة النعمان
__________
1 الواقدي، فتوح الشام "2/ 185 وما بعدها".
2 الواقدي، فتوح الشام "2/ 186".(7/229)
وقد وصلت الفرس وهم بالقادسية، وقد وصلت إليهم الفلول المنهزمة من جيش النعمان، فوقع التشويش في عسكر الفرس، وخارت قواهم؛ مما أدى إلى انتصار المسلمين عليهم في هذا المكان1.
ولا نجد هذا الخبر في أي مورد آخر من موارد أهل الأخبار، فقد نصت جميع الموارد الأخرى على أن النعمان كان قد لقي مصرعه على نحو ما تحدثت عنه في أثناء كلامي على مملكة الحيرة, فلعل "النعمان" هذا هو أحد أبناء "آل لخم", واستعان به الفرس للدفاع عن الحيرة ومنّوه في مقابل مساعدته لهم بالملك، كما استعانوا بـ"قابوس بن قابوس". وقد يكون خبره من صنع أهل الأخبار، أقحموا اسمه إقحامًا، وما فطنوا إلى أنه كان قد توفي قبل هذا الوقت بسنين. على كلٍّ, ففي الخبر كلام منمق وحوار وجدل ينبئك لونه أن فيه تكلفًا وصنعة، وأن الخبر قد وضع, وضعه أناس لغايات لا مجال للبحث عنها في هذا المكان.
وسار "خالد" من "الحيرة" إلى الأنبار فحاصرها، وكان أصحاب النعمان وصنائعه يعطون أرزاقهم منها، ثم صالحهم، ثم أتى "خالد" بعد مواقع أخرى "عين التمر"2.
وكان على رأس العرب الذين عاونوا الفرس وانحازوا إليهم: "عقة بن أبي عقة"، و"هلال بن عقة بن قيس بن البشر" الثمري، على النمر بن قاسط بعين التمر، و"عمرو بن الصعق" و"بجير" أحد بني عتبة بن سعد بن زهير، والهذيل بن عمران، ومعهم رجال من قبائلهم3. ولكنهم لم يتمكنوا من الوقوف أمام "خالد بن الوليد"، إذ انهزم جندهم, وأُسر "عقة" و"عمرو بن الصعق", وكان "عقة" خفير القوم، وسقط حصن عين التمر في الإسلام4. وورد في خبر آخر أن "خالدًا" قتل "هلال بن عقة" "هلال بن عقبة" وصلبه، وكان من "النمر بن قاسط"، وكان خفيرًا بعين التمر5.
__________
1 الواقدي، فتوح الشام "2/ 187 وما بعدها".
2 البلاذري، فتوح "246 وما بعدها".
3 البلاذري، فتوح "249".
4 الطبري "3/ 376 وما بعدها".
5 الأخبار الطوال "112".(7/230)
وتعرف "عين التمر" بـ"شفاثا" "شفاثى" وبـ"عين شفتة"، وقد اشتهرت بالقسب والتمر، وكانت تصدرهما إلى البادية وإلى أماكن أخرى، ويقصدها الأعراب للامتيار, وبها حصن يتحصن به وعين ماء. ولما اقترب المسلمون منها، كان بها "مهران بن بهرام جوبين"، في جمع عظيم من الفرس للدفاع عنها ومعه جمع عظيم من النمر وتغلب وإياد ومن لافهم، ولكنهم غلبوا على أمرهم، وفر الفرس1. وكان بعين التمر مسلحة لأهل فارس2.
وقد وجد "خالد" في كنيسة "عين التمر" جماعة سباهم، ووجد أولادًا كانوا يتعلمون الكتابة في الكنيسة، وقد اشتهر وعرف عدد من هؤلاء الذين سبوا, واشتهر أولادهم أيضًا. وقد كان من هؤلاء من كان من "بني النمر بن قاسط" النازلين بعين التمر3.
وكانت قُريَّات السواد وهي: بانقيا وباروسما وأُلّيس خليطًا من العرب ومن النبط وسواد العراق، وقد صالح أهلها "خالد بن الوليد" حينما ظهر أمامها، صالحوه على الجزية، وكان الذي صالحه عليها "ابن صلوبا السوادي" المعروف بـ"بصبرى بن صلوبا"، ومنزله بشاطئ الفرات. وقد ورد في كتاب الصلح الذي أعطاه "خالد بن الوليد" له: "وقد أعطيت عن نفسك وعن أهل خرجك وجزيرتك ومن كان في قريتك -بانقيا وباروسما- ألف درهم"4.
وذكر "البلاذري" أن الخليفة "عمر" وجَّه "أبا عبيدة الثقفي" إلى العراق، فلما وصل إلى هناك، وهزم "جابان" بالعذيب، ثم هزم الفرس في معارك أخرى حتى بلغ "باروسما"، صالحه "ابن الأنذر زعر" "ابن الأندر زعر" عن كل رأس على أربعة دراهم5, ولم يشر إلى الصلة التي كانت بين "ابن صلوبا" و"ابن الأنذر".
ويرجع أهل الأخبار تأريخ "بانقيا" إلى أيام "إبراهيم"، فهم يذكرون
__________
1 الطبري "3/ 376"، "دار المعارف بمصر".
2 الأخبار الطوال "112".
3 البلاذري، فتوح "249"، تأريخ خليفة بن خياط "1/ 86".
4 الطبري "3/ 344، 346".
5 البلاذري، فتوح "251", تأريخ خليفة "92".(7/231)
أنه كان ينزل بها, وأن اليهود كانوا يدفنون موتاهم بها, ويذكرون أنها أرض بالنجف دون الكوفة، وأن سكانها كانوا على النصرانية عند ظهور الإسلام, وأن الساسانيين كانوا هم الذين يدافعون عنها ويتولون أمر إدارتها، أما شئونها المحلية فكان أمرها بيد ساداتها ورؤسائها1.
وكانت عشائر "إياد" من العشائر التي نزحت إلى العراق قبل الإسلام بوقت طويل، نزل بعضهم بـ"عين أبَّاغ"، ونزل بعض منهم بسنداد. فأمروا هناك، وكثروا، واتخذوا بسنداد بيتًا ذا شرفات تعبدوا له, ثم انتشروا وغلبوا على ما يلي الحيرة، وصار لهم "الخورنق" و"السدير", فلهم "أقساس مالك", وهو مالك بن قيس بن زهر بن إياد، ولهم دير الأعور، ودير السواء، وديرة قرة، ودير الجماجم. وإنما سمي دير الجماجم لأنه كان بين إياد وبهراء القين حرب، فقتل فيها من إياد خلق، فلما انقضت الحرب، دفنوا قتلاهم عند الدير, فكان الناس بعد ذلك يحفرون فتظهر جماجم, فسمي دير الجماجم2. وقيل غير ذلك مما لا مجال لذكره في هذا الموضع.
وكانت إياد تغير على السواد وتفسد، فجعل "سابور" ذو الأكتاب مسالح بالأنبار وعين التمر وغير هاتين الناحيتين؛ لحماية الحدود منهم. ثم إن إيادًا أغارت على السواد في ملك كسرى أنوشروان، فوجه إليهم جيوشًا كثيفة، فخرجوا هاربين, واتبعوا, فغرق منهم بشر، وأتى فُلُّهم "بني تغلب"، فأقاموا معهم على النصرانية، فأساءت "بنو تغلب" جوارهم, فصار قوم منهم إلى الحيرة، ودخل منهم في جند ملوك الحيرة، ولحق جُلّهم بغسان بالشام, فلما جاء الإسلام دخل بعضهم بلاد الروم، ودخل منهم قوم في خثعم وفي تنوخ وفي قبائل أخرى.
ويقال: إن مواطن إياد قبل نزوحها إلى العراق كانت بالبحرين، واجتمعت عبد القيس والأزد على إياد، فأُخرجوا عن الدار, فأتت العراق3.
__________
1 البلدان "1/ 331" "طبعة بيروت"، البكري، معجم "1/ 221"، "طبعة السقا", اليعقوبي "1/ 131"، مراصد الاطلاع "1/ 123".
2 البلاذري، أنساب "1/ 26".
3 البلاذري، أنساب "1/ 29".(7/232)
وقد وصف "ابن قتيبة" إيادًا على هذا النحو: "وكانت إياد أكثر نزار عددًا وأحسنهم وجوهًا وأمدهم وأشدهم، وأمنعهم, وكانوا لقاحًا لا يؤدون خرجًا، وهم أول معدي خرج من تهامة, ونزلوا السواد وغلبوا على ما بين البحرين إلى سنداد والخورنق". فاصطدموا بالساسانيين؛ لأنهم أغاروا على أموال فأخذوها، فهزموهم إلى الجزيرة, ووجه إليهم "كسرى" ستين ألفًا فكتب إليهم "لقيط" ينبههم. وانتصر عليهم كسرى، وانقسموا ثلاث فرق, فرقة لحقت بالشام, وفرقة أقامت بالجزيرة، وفرقة رجعت إلى السواد1.
ولما سار "خالد" من "عين التمر" أتى "صندوداء" وبها قوم من كندة وإياد والعجم، وتركها واتجه نحو جمع من "تغلب" كانوا بـ"المضيح" و"الحصد" مرتدين, عليهم "ربيعة بن بجير", فأتاهم فقاتلوه فهزمهم. ثم أغار "خالد" على "قراقر"، وهو ماء لكلب، ثم فوَّز منه إلى "سُوى" وهو ماء لكلب أيضًا، ومعهم فيه قوم من "بهراء" فقتل "حرقوص بن النعمان البهراني" من "قضاعة". وكان المسلمون لما انتهوا إلى "سوى" وجدوا "حرقوصًا" وجماعة معه يشربون ويتغنون فهجموا عليهم وقتلوا "حرقوصا", وخرج خالد من "سوى" إلى "الكوائل"، ثم أتى "قرقيسيا" وانحاز إلى البر، وأتى "أركة" "أرك"، فأغار على أهلها، وفتحها، وسار منها نحو"دومة الجندل"2.
وذكر "ابن سعد" أن الرسول كتب إلى "نفاثة بن فروة بن الدئلي ملك السماوة"3, ولم يشر إلى موضع ملكه من بادية السماوة ومقداره في البادية.
وكانت "دومة الجندل" عند ظهور الإسلام في ملك "أكيدر بن عبد الملك الكندي السكوني"، والسكون من كندة، فهو كندي النسب أيضًا، وكان يتنقل في البادية فيصل إلى الحيرة وإلى أرض الغساسنة، ويقال: إنه ملك "دومة الحيرة"، ونزل بها قبل جلائه عن "دومة الجندل" أو بعده على رأي أهل الأخبار. وكان مثل أكثر رؤساء القبائل في العراق وفي البادية وبلاد الشام على
__________
1 الشعر والشعراء "97 وما بعدها".
2 البلاذري، فتوح "119", الواقدي، فتوح الشام "1/ 30".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 284".(7/233)
النصرانية، وله عقود ومعاهدات مع القبائل العربية الشمالية الضاربة في البادية، تأتي إلى مقره في الموسم أيام افتتاح السوق لتمتار ولبيع ما تحمله من تجارات.
وكان لأكيدر بن عبد الملك أخٌ اسمه "بشر بن عبد الملك", يذكر أهل الأخبار أنه ذهب إلى الحيرة, وتعلم بها الخط، ثم رجع إلى مكة فتزوج "الصهباء بنت حرب" أخت أبي سفيان1.
وقد أرسل الرسول خالد بن الوليد إلى دومة الجندل ليفتحها، فسار خالد على رأس خيل إلى "دومة"، فلما بلغها وجد الأكيدر خارج حصنه يصطاد مع نفر من قومه فيهم أخ له يقال له: حسان، فهجم رجال خالد على الأكيدر وأسروه، وقتل حسان، وأخذ خالد قباء "أكيدر" وكان من ديباج مخوص بالذهب، وبعث به إلى الرسول ليقف عليه المسلمون، فلما رأوه عجبوا منه وجعلوا يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه، فقال رسول الله: "أتعجبون من هذا, فوالذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا" 2.
وقد زاد عجبهم حين وصل خالد ومعه أسيره "أكيدر"، فحقن له دمه وصالحه الرسول على الجزية، ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته3.
ويذكر الرواة أن الرسول استقبل خالدًا ومعه أسيره "الأكيدر" في المدينة، فعرض الرسول الإسلام على الأكيدر، فقبله وحقن الرسول دمه وكتب له كتابًا، وعاد إلى "دومة". فلما قبض النبي منع الصدقة وارتدَّ إلى النصرانية ديانته الأولى, وخرج من دومة الجندل فلحق بالحيرة وابتنى بها بناء على مقربة من "عين التمر" سماه "دومة" أو "دومة الجندل" على اسم موضعه، وسكن هناك. ثم عاد إلى "دومة الجندل"، وتحصن بها، فأمر "أبو بكر" خالد بن الوليد بالتوجه إليها، فسار إليه وقتله. أما أخوه "حريث بن عبد الملك" فقد أسلم، وحقن دمه, وقد تزوج "يزيد بن معاوية" ابنة له4.
__________
1 جمهرة "ص403 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 257".
2 الطبري "3/ 108 وما بعدها"، "طبعة دار المعارف"، ابن هشام "2/ 319", البلاذري, فتوح "72 وما بعدها".
3 الطبري "3/ 108", البكري، معجم "2/ 564 وما بعدها"، فتوح البلدان "223", الكامل "2/ 192" "المنيرية", تاج العروس "3/ 518" "كدر".
4 فتوح البلدان "223", البلدان "2/ 625 وما بعدها"، البلاذري، فتوح "73", تأريخ خليفة بن خياط "1/ 56", "تحقيق أكرم ضياء العمري".(7/234)
وتذكر رواية أخرى أن "الأكيدر" بعد أن نقض الصلح وعاد إلى نصرانيته, أجلاه "عمر" من "دومة" فيمن أجلى من مخالفي الإسلام إلى الحيرة، فأقام في موضع قرب "عين التمر"، ابتناه فسماه "دومة" وقيل "دوماء" باسم حصنه1. وهي رواية لا تتفق مع المشهور بين أهل الأخبار من أن خالدًا قتل "الأكيدر" في السنة الثانية عشرة أو السنة الثالثة عشرة من الهجرة، وذلك في أيام "أبي بكر" بعد أن أمره الخليفة بالتوجه إليه، وهي رواية أقوى من الرواية المتقدمة في نظر المؤرخين.
ويظهر أن أهل "دومة الجندل" كانوا قد سمعوا بخبر مسير "خالد" إليهم، فأرسلوا إلى حلفائهم وأحزابهم من بهراء وكلب وغسان وقبائل تنوخ والضجاعم ليساعدوهم في الوقوف أمامه. فأتاهم "وديعة" في "كلب" وبهراء وسانده "رومانس بن وبرة بن رومانس" الكلبي، وجاءهم "ابن الحدرجان" في الضجاعم، و"جبلة بن الأيهم" في طوائف من غسان وتنوخ، وكذلك "الجودي بن ربيعة الغساني"، وكان من المتزعمين في "دومة"، وقد احتمى أهل "دومة" بحصنهم وخلف أسوار المدينة، والتفت حول السور من الخارج نصارى العرب الذين جاءوا لمساعدة أهلها. وقد تمكن "خالد" يساعده "عياض" من التغلب على أهل المدينة وحلفائهم, وقتل رؤساءهم, ودخل المدينة منتصرًا فغنم جيشه غنائم كثيرة وقُتل من أهلها خلق كثير، وسبى ابنة "الجودي" وكان الأكيدر في جملة القتلى2.
وكان الرسول قد غزا "دومة الجندل" بنفسه، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة الخامسة من الهجرة، وبلغها ولم يلق كيدًا. كان سبب غزوه لها، أن رسول الله أراد أن يدنو إلى أراضي الشام؛ لأن ذلك مما يفزع الروم، ثم إن أهل دومة الجندل كانوا يظلمون من يمر بهم وينزل عندهم، ومن يحل بسوقهم للبيع والشراء، وقد كان الناس يذهبون إليها ويعودون إلى المدينة، فقرر غزوها، فلما وصل الرسول كان أهلها قد فروا وتركوا قريتهم، فنزل بها
__________
1 البلدان "2/ 625 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 578 وما بعدها"، "القاهرة 1939م", الكامل "2/ 270", الطبري "3/ 378، 385" "دار المعارف", البلاذري، فتوح "74".(7/235)
ولم يجد أحدًا، فرجع عنها، وذلك قبل غزو خالد لها1.
وورد في سبب غزو الرسول لها، أن جمعًا من قضاعة ومن غسان تجمعوا، وهموا بغزو الحجاز, فسار في ألف انتخبهم، فلما انتهى إلى موضعهم ألفاهم قد تفرقوا أو هربو، ولم يلق كيدًا2.
وفي هذه الغزوة وادع رسول الله "عيينة بن حصن" على أن يرعى بـ"تغلمين" وما والاه إلى "المراض"3.
ويفهم من حديث بعض أهل الأخبار عن "دومة الجندل"، أنها كانت قرية عادية، إلا أن الدهر كان قد لعب بها، فخربت وقل عدد من كان بها، إلى أن نزل بها "أكيدر"، فأعاد إليها رواءها، وغرس الزيتون بها، فتوافد إليها الأعراب. ويذكر هؤلاء أن "أكيدر"، كان ينزل مع إخوته قبل مجيئه إلى "دومة" "دومة الحيرة"، ولما جاء يزور أخواله من "كلب" ونزل بخرائب "دومة الجندل" أعجبته فنزل بها، وأمر بإعادة بناء ما تهدم من حائطها وببعث الحياة بها حتى صارت قرية عامرة يقصدها الأعراب للبيع والشراء4. وصار "أكيدر" يتردد بينها وبين "دومة الحيرة"5.
ويحمي "دومة" سور قديم، بُني قبل "أكيدر" في زمان لا يحيط علم أهل الأخبار به, يقولون: إنه بني من "الجندل"، وإنه هو الذي جعل الناس يسمون الموضع بـ"دومة الجندل"، ويذكرون أنه كان في داخل السور حصن منيع يقال له "مارد"، وهو حصن "أكيدر بن عبد الملك بن الحي بن أعيا بن الحارث بن معاوية بن خلادة بن أبامة بن سلمة بن شكامة بن شبيب بن السكون بن أشرس بن شور بن عفير، وهو من كندة"، فهو سكوني كندي6.
__________
1 الطبري "2/ 564" "دار المعارف", ابن عساكر، التأريخ الكبير "1/ 17"، ابن خلدون, القسم الأول من المجلد الثاني "ص773"، ابن هشام "2/ 668" "الطبعة الأوروبية"، شرح المواهب "3/ 360"، الكامل "2/ 270 وما بعدها".
2 البلاذري، أنساب "1/ 341".
3 نهاية الأرب "17/ 163", "غزوة دومة الجندل".
4 البلاذري, فتوح "ص223" "بيروت 1957م".
5 البلدان "2/ 625 وما بعدها" "طهران 1965م"، "4/ 106" "طبعة 1906".
6 البلدان "2/ 625 وما بعدها" "طبعة طهران 1965م".(7/236)
وحصن "مارد"، حصن شهير له ذكر بين أعراب الشمال بُني قبل أيام "أكيدر". قال عنه بعض أهل الأخبار: إنه حصن عادي، أي من الحصون الجاهلية القديمة. وقد رأينا فيما سلف أن "دومة" من المواضع المعروفة التي يعود عهدها إلى ما قبل الميلاد. وذكر أهل الأخبار، أن سكانها كانوا أصحاب نخل وزرع، ويسقون على النواضح، وحولها عيون قليلة وزرعهم الشعير، وأنها "دوماء الجندل" أيضًا1.
وكان أكثر سكان "دومة الجندل" من "بني كنانة" من "كلب", ويعدها بعض أهل الأخبار من "القريات" ويقصدون بمصطلح "القريات": دومة وسكاكة وذو القارة2. وتحيط بدومة مستوطنات وقرى تحتمي بسلطان حاكم "دومة", وكان "أكيدر" يلقب نفسه بلقب "ملك" على عادة ذلك الوقت في تلقيب سادات المواضع أنفسهم بهذا اللقب، وإن كان لا يعني في الواقع أكثر مما يعنيه مصطلح "شيخ" في الوقت الحاضر.
وكان أهل "دومة" على النصرانية، شأنهم في ذلك شأن أكثر أهل القرى في العراق وفي بادية الشام وبلاد الشام. وكان أهل "أكيدر" على هذه الديانة أيضًا، إذ ورد أن الرسول أرسل "عبد الرحمن بن عوف" على رأس جيش إلى دومة، فذهب إليها ودخلها، وأسلم "الأصبغ"، وتزوج عبد الرحمن ابنته "تماضر"، إذ كان الرسول قد كتب إليه أن يتزوج ابنة ملكها، أي ملك "دومة" وهو "الأصبغ"3. فيظهر من هذا الخبر، أن "الأصبغ" كان يلقب نفسه بلقب "ملك أيضًا, وأنه كان يحكم "دومة" في أيام الرسول، في نفس الوقت الذي كان فيه "الأكيدر" يحكم "دومة"، ويلقب نفسه بلقب "ملك".
__________
1 التأريخ الكبير، لابن عساكر "1/ 89 وما بعدها"، "مطبعة روضة الشام", تاج العروس "8/ 297", "دوم".
2 البلدان "2/ 625 وما بعدها"، "طهران 1965م", مراصد الاطلاع "2/ 542 وما بعدها".
3 التأريخ الكبير، لابن عساكر "1/ 89 وما بعدها"، البكري، معجم "2/ 564 وما بعدها", المحبر "ص120".(7/237)
وذكر بعض الإخباريين أن أهل دومة الجندل كانوا من عُباد الكوفة1, ويقصدون بذلك أنهم نصارى، فقد كانت عادتهم إطلاق لفظة "عباد" على النصارى العرب، عرب الحيرة بصورة خاصة. وقصدوا بالكوفة, الحيرة؛ لأن الكوفة لم تكن موجودة في الجاهلية، إذ بنيت في أيام الخليفة "عمر".
ويظهر من أهل الأخبار أن "أكيدر السكوني" لم يتمكن من تثبيت ملكه على "دومة الجندل" بصورة دائمة، إذ كان ينافسه زعماء كلب الأقوياء. فقد ذكر "محمد بن حبيب" أن ملكها كان بين "أكيدر العبادي ثم السكوني وبين قنافة الكلبي، فكان العباديون إذا غلبوا عليه وليها أكيدر، وإذا غلب الغسانيون ولوها قنافة. وكانت غلبتهم أن الملكين كانا يتحاجيان فأيما ملك غلب صاحبه بإخراج ما يلقى عليه، تركه والسوق فصنع فيها ما شاء. ولم يبع بها أحد شيئًا إلا بإذنه حتى يبيع الملك كل ما أراد بيعه مع ما يصل إليه من عشورها"2. ويؤيد هذا الخبر ما ذكرته من وجود ملك آخر على دومة، هو "الأصبغ" الكلبي المتقدم الذكر.
وهناك خبر آخر يفيد أن "الجودي بن ربيعة"، كان مثل "الأكيدر" رئيسًا على "دومة", وأن الاثنين كانا رئيسين عليها3. وورد أنه كان من غسان وأن اسمه "عدي بن عمرو بن أبي عمرو الغساني", وأن "عبد الرحمن بن أبي بكر"، "كان يختلف إلى الشام في تجارة قريش في الجاهلية، فرأى هناك امرأة يقال لها: ابنة الجودي من غسان، فكان يهذي بها، ويذكرها كثيرًا في شعره"، "وأصيبت حين غزو الروم ليلى بنة الجودي، فبعثوا بها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر لذكره إياها"4. فهو إذن على هذه الرواية من غسان.
ويظهر من غربلة روايات الإخباريين أن هنالك موضعًا آخر عرف بـ"دومة" و"دوماء", يقع في العراق على مقربة من "عين التمر". ذكر الإخباريون
__________
1 البلاذري، فتوح "74".
2 المحبر "ص263 وما بعدها", الأزمنة والأمكنة "2/ 161 وما بعدها".
3 الكامل "2/ 270 وما بعدها".
4 نسب قريش "276".(7/238)
أن اسمه "دومة" و"دوما" و"دومة الجندل"، ونسبوا كما ذكرت قبل قليل بناءه إلى "الأكيدر". وهو موضع لا نعرف من أمر تأريخه شيئًا يذكر.
وذكر أن "حارثة بن قطن"، و"حمل بن سعدانة بن حارثة بن مغفل"، وهما من "كلب" قدما إلى رسول الله وأسلما، فكتب رسول الله لحارثة كتابًا "لأهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب مع حارثة بن قطن"، ثم بين ما على المذكورين من حقوق وواجبات، وما عليهم من أحكام فرضها الإسلام على المسلمين1.
وترك "خالد" "دومة الجندل"، ثم أتى "قصم"، فصالحه "بنو مشجعة بن التيم بن النمر بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة"، وكتب لهم أمانًا، ثم أتى "تدمر"، فأمنهم، ثم أتى "القريتين"، ثم "حوارين" من "سنير"، ثم أتى "مرج راهط"، فأغار على "غسان"2.
وكان "حاضر" "قنسرين" لتنوخ، من أول ما تنخوا بالشام، نزلوه وهم في خيم الشعر. ثم ابتنوا به المنازل، فدعاهم "أبو عبيدة" إلى الإسلام، فأسلم بعضهم وأقام على النصرانية "بنو سليح". وكان بهذا الحاضر قوم من "طيء" نزلوه بعد حرب الفساد التي كانت بينهم حين نزلوا الجبلين، فلما ورد "أبو عبيدة" عليهم أسلم بعضهم وصالح كثير منهم على الجزية، ثم أسلموا بعد ذلك3.
وقضاعة قبائل عديدة، منها "بنو جرم بن ربان" و"بنو سليح" و"تزيد" ابنا "عمران بن إلحاف بن قضاعة" و"كلب بن وبرة"، وهو قبيل عظيم, منهم "الأسبع". ومن قبائل قضاعة "عذرة بن زيد اللآت" و"العبيد بن زيد اللآت", و"بنو كنانة"، و"بنو جناب بن هبل"، و"بنو عليم بن جناب"، و"بنو مصاد"، و"بنو حصن"، و"بنو معقل". ومن "بني جناب" "بحدل بن أتيف"، "يزيد بن معاوية" لأمه، ومن رجالهم "ابن الجلاح"، وكان قائدًا للحارث بن أبي شمر الجفني,
__________
1 نهاية الأرب "18/ 93 وما بعدها".
2 البلاذري، فتوح "118 وما بعدها"، الطبري "3/ 417"، تأريخ خليفة "1/ 87".
3 البلاذري، فتوح "151".(7/239)
واسمه "النعمان". وهو الذي أغار على "بني فزارة" و"بني ذبيان"، فاستباحهم وسبى "عقرب" بنت النابغة، ومن عليها، فمدحه "النابغة"1.
وقد انتشرت بطون "كلب" في أرضين واسعة، شملت دومة الجندل وبادية السماوة والأقسام الشرقية من بلاد الشام. ولما أُخرج الروم عن ديار الشام، لعبت بطون كلب دورًا بارزًا في السياسة، إذ أيدت الأمويين، وتزوج "معاوية" "ميسون" أم "يزيد" وهي كلبية، فصارت كلب في جانب الأمويين.
ومن قبائل "قضاعة"، "بنو عامر الأجدار", ومن رجال "بني وبرة" غير كلب، "بنو القيس بن جسر"، و"بنو مصاد بن مذعور"، و"بنو زهير بن عمرو بن فهم". ومن قبائل "جرم بن ربان": "بنو أعجب" و"بنو طرود" و"بنو شميس", ومن بطون "جرم": "بنو خشين"، ومن رجالهم "رأس الحجر"، وقد رأس في الجاهلية وأخذ المرباع. ومن رجال "جرم"، "عصام بن شهبر"، حاجب النعمان، وكان النعمان إذا أراد أن يبعث بألف فارس بعث بعصام2.
وقد ذهب وفد من "جرم" إلى المدينة، فيه "الأصقع بن شريح بن صريم" و"هوذة بن عمرو"، فأسلما، وكتب الرسول لهما كتابًا3, وذهب وفد آخر، أخبر الرسول بإسلام حواء من جرم، كان عليه "سلمة بن قيس الجرمي"، ومعه ابنه "أبو زيد عمرو بن سلمة بن قيس الجرمي"4.
وقد ساعد الغساسنة الروم في حروبهم مع المسلمين، وكان على رأسهم "جبلة بن الأيهم الغساني"، الذي حارب مع مقدمة جيش الروم في مستعربة الشام من غسان ولخم وجذام وغيرهم يوم اليرموك، ثم انحاز "جبلة" إلى المسلمين، وأظهر الإسلام, ثم عاد ففر إلى بلاد الروم, واستقر بها, وبها مات5. وقد استمر "المستعربة" يناصرون الروم، فلما تراجع قوادهم نحو الشمال لضغط
__________
1 الاشتقاق "313 وما بعدها".
2 "عصام بن شهبر الجرمي، حاجب النعمان بن المنذر ملك العرب، ومنه قولهم: ما وراءك يا عصام؟ يعنون به إياه"، تاج العروس "8/ 399"، "عصم".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 335"، "الأسقع"، نهاية الأرب "18/ 94 وما بعدها".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 336 وما بعدها".
5 البلاذري، فتوح "140 وما بعدها", البلاذري، فتوح "169".(7/240)
المسلمين عليهم، التحق بهم هؤلاء "المستعربة" من غسان وتنوخ وإياد، وقد التحموا بالمسلمين في "درب بغراس"1.
ويذكر الإخباريون أن "دمشق" كانت منازل ملوك غسان، وبها آثار لآل جفنة. والظاهر، أنهم كانوا قد اشتروا وابتنوا بها قصورًا عاشوا فيها، ومنها كانوا يتصلون بكبار الموظفين الحاكمين البيزنطيين، فإذا أرادوا الاتصال بقومهم الغساسنة عادوا إلى قصورهم بين قومهم. وكانت الغوطة: غوطة دمشق من المناطق التي سكن بها الغساسنة2.
ويظهر من رواية يرجع سندها إلى "محمد بن بكير الغساني" عن قومه "غسان" أن الغساسنة لم يقبلوا على الإسلام إقبال غيرهم من العرب، وأنهم لم يسلموا إلا بعد فتوح الشام. ولما ذهب ثلاثة نفر منهم إلى المدينة، وأسلموا وبايعوا الرسول، لم يستجب قومهم لهم في دعوتهم إلى الإسلام، فكتموا أمرهم عنهم، خوفًا من بطش قومهم بهم3.
وورد في أخبار الرسل الذين أرسلهم الرسول إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام, أن الرسول أرسل "شجاع بن وهب" إلى "الحارث بن أبي شمر الغساني" من غسان، وكان يقيم إذ ذاك بغوطة دمشق في قصر منيف، ليدعوه إلى الإسلام، فلما دفع "شجاع" كتاب رسول الله إلى "الحارث" رمى به، ولم يدخل في الإسلام وبقي على النصرانية حتى توفي عام الفتح4.
وكان "جبلة" مع الروم يوم "اليرموك" ومعه "المستعربة" من غسان وقضاعة وذلك سنة "15" للهجرة، وكان قد انضم إلى المسلمين بعض لخم وجذام، فلما وجدوا جدّ القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى وخذلوا المسلمين5.
وقد كان "جبلة بن الأيهم" على رأس "العرب المتنصرة" يحارب مع
__________
1 البلاذري، فتوح "169".
2 ابن رستة، الأعلاق "326".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 338 وما بعدها".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 261", نهاية الأرب "18/ 165".
5 الطبري "3/ 570 وما بعدها".(7/241)
الروم، لمنع المسلمين من التقدم نحو "قنسرين"، ويذكر أهل الأخبار أن محاورات جرت بينه وبين المسلمين في موضوع اشتراكه مع الروم, ومنها محاورات مع "خالد بن الوليد" صاغوها بأسلوب قصصي منمق، وذكروا أنه كان جالسًا "على كرسي من ذهب أحمر وعليه ثياب الديباج الرومي وعلى رأسه شبكة من اللؤلؤ وفي عنقه صليب من الياقوت"1. وكان ذلك بعد ارتداده عن الإسلام2، فلما غلب الروم، "كان جبلة أول من انهزم والعرب المتنصرة أثره"3.
ومن الغساسنة "شرحبيل بن عمرو الغساني"، الذي قتل رسولَ رسولِ الله "الحارث بن عمير الأزدي", الذي كان الرسول قد بعثه إلى ملك "بصرى". فلما نزل "مؤتة" قتله "شرحبيل", فأمر رسول الله بإرسال حملة إليه سنة ثمانٍ للهجرة, جعل أميرها "زيد بن حارثة"، ولما سمع بها "شرحبيل" جمع جمعًا من قومه وتقدم نحوهم، وكانوا قد نزلوا "معان". وبلغ المسلمين أن "هرقل" كان قد نزل "مآب" من أرض البلقاء في جمع من بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام والقين، عليهم "مالك بن رافلة" الإراشي من "بلي"، فانحازوا إلى "مشارف"، ولما دنا العدو انحازوا إلى "مؤتة"، وقتل فيها "جعفر بن أبي طالب"، و"عبد الله بن رواحة", و"ثابت بن رواحة", و"ثابت بن أرقم"، ثم "زيد بن حارثة"، ثم تراجعوا إلى المدينة, وقتل من العرب الذين كانوا مع الروم "مالك بن رافلة" "زافلة"4. واعتزل بعض "حَدَس" وهم "بنو غنم" الحرب، لإشارة كاهنتهم عليهم بذلك، فأخذوا بقولها، فاعتزلوا عن "بني لخم" وصلم الحرب بعض منهم، وهم "بنو ثعلبة"5.
وكان بقرب "حلب" حاضر، عرف بـ"حاضر حلب"، جمع أصنافًا من العرب من تنوخ، فصالحهم "أبو عبيدة" على الجزية6. ويرجع هذا
__________
1 الواقدي، فتوح الشام "1/ 106"، و"ذكر فتح قنسرين".
2 الواقدي "1/ 110".
3 الواقدي "1/ 114".
4 نهاية الأرب "17/ 277"، "سرية مؤتة".
5 الطبري "3/ 41"، ذكر الخبر عن غزوة مؤتة.
6 البلاذري، فتوح "151".(7/242)
الحاضر إلى أيام الجاهلية، فقد كان العرب قد توغلوا إلى هذه الديار قبل ظهور الإسلام، وأقاموا في الحواضر بظواهر المدن يتعيشون من اتصالهم بأهل تلك المدن.
ولم تكن الرابطة الدينية التي ربطت بين أكثر عرب بلاد الشام والبيزنطيين، هي العامل الوحيد الذي جعل أولئك العرب ينضمون إلى صفوف الروم في الدفاع عنهم وفي مقاومة جيوش المسلمين، بل كانت هنالك عوامل أخرى، مثل المنافع المادية التي كان يجنيها سادات الأعرب من البيزنطيين، حيث كانوا ينالون هدايا ورواتب منهم في مقابل حماية الحدود والمحافظة عليها من غارات الأعراب، وفي مقابل الغارات التي كان البيزنطيون يكلفونهم بها لغزو حدود العراق؛ لإزعاج أعدائهم الفرس وقت الحاجة والضرورة، ومثل التسهيلات التي كانوا ينالونها من البيزنطيين في الاتجار مع مدن الشام وفي معاملات البيع والشراء والرواتب السخية التي تدفع للأعراب إذا خدموا في صفوف العساكر المتطوعة، وهي رواتب سخية إذا قِيسَتْ بالنسبة لحالة أهل البادية المنخفضة من الناحية المادية كثيرًا بالنسبة إلى حالة سكان بلاد الشام.
وكان "الحيار": "حيار بني القعقاع" بلدًا معروفًا قبل الإسلام، وبه كان مقيل "المنذر بن ماء السماء" اللخمي، ملك الحيرة, فنزله "بنو القعقاع" من "عبس بن بغيض"1.
وكانت البلقاء في أيدي قبائل من العرب مثل لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي، وهي قبائل يطلق عليها المؤرخون اسم "المستعربة"2. وكانوا على النصرانية في الغالب؛ لذلك كان هواهم إلى جانب الروم, فكانوا معهم في غزوة "مؤتة" يقاتلون مع "هرقل" ضد المسلمين وعليهم "مالك بن رافلة"، وهو من "بلي" ثم أحد إراشة. وكان المسلمون إذ ذاك في "معان"، وهي من أعمال البلقاء يستعدون للروم3, وكان صاحب هذه المدينة في أيام الرسول رجلًا من "جذام"، هو "فروة بن عمرو الجذامي"، وكان عاملًا للروم على من
__________
1 البلاذري، فتوح "151 وما بعدها".
2 الطبري "3/ 37" "دار المعارف".
3 ابن الأثير "2/ 97", الطبري "3/ 108"، "غزوة مؤتة"، البلدان "8/ 93" "معان".(7/243)
يليهم من العرب، ومنزله بمعان. فلما أرسل فروة رسولًا عنه إلى الرسول يبلغه بإسلامه، قبض الروم عليه وحبسوه، ثم ضربوا عنقه وصلبوه1.
ومن "لخم" "بنو الدار بن هانئ". وقد قدم وفد منهم على رسول الله منصرفه من "تبوك"، فيه: "تميم بن أوس بن خارجة الداري"، و"نعيم بن أوس بن خارجة", و"يزيد بن قيس بن خارجة", و"الفاكه بن النعمان بن جبلة بن صفارة"، و"جبلة بن مالك بن صفارة"، و "أبو هند" و"الطيب" ابنا "ذر", وهو "عبد الله بن رزين بن عِمّيت بن ربيعة دراع"، و"هانئ بن حبيب", و"عزيز" و"مرة" ابنا "مالك بن سواد بن جذيمة"، فأسلموا، وأهدى "هانئ بن حبيب" لرسول الله راوية خمر وأفراسًا وقباء مخوصًا بالذهب، فقبل الأفراس والقباء. وقال تميم: لنا جيرة من الروم لهم قريتان, يقال لإحداهما "حِِبرى" والأخرى "بيت عينون"، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لي، فوهبهما رسول الله له. فلما توفي الرسول وقام أبو بكر أعطاه ذلك وكتب له كتابًا2.
ولما أمر الرسول "أسامة بن زيد بن حارثة" أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، تجهز معه المهاجرون الأولون، ولكن وفاة الرسول لم تمكنه من السفر، فكان أول ما فعله خليفته "أبو بكر" أن أمره بتنفيذ ما أمره به رسول الله3. ولكنه لم يتقدم كثيرًا, بل بلغ الموضع الذي قُتِلَ أبوه زيد بن حارثة فيه، وهو من أرض الشام فرجع؛ لأن الرسول أمره في حياته بالمسير إليه4.
و"الداروم" قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر, يجاورها عربان بني ثعلبة بن سلامان بن ثعل من بني طيء، وهم درماء وزريق5.
__________
1 ابن الأثير "2/ 124"، البكري "4/ 1242" "معان"، ابن سعد، طبقات "1/ 261 وما بعدها".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 343 وما بعدها".
3 الطبري "3/ 184 وما بعدها"، "ثم دخلت سنة إحدى عشرة".
4 الطبري "3/ 241"، نهاية الأرب "17/ 370".
5 تاج العروس "8/ 288"، "درم".(7/244)
وكانت "جذام" نازلة في "حسمى" عند ظهور الإسلام، وهي من مواطن "ثمود". و"جُذام" من نسل "جذام" شقيق "عاملة" و"لخم" أبناء "عدي بن الحارث بن مرة بن كهلان", واسم "جذام" الحقيقي في رأيهم "عمرو"1. وتقع أرض جذام في الأقسام الجنوبية من بلاد الشام، وتصل إلى "أيلة" ثم تمتد مع الساحل حتى تبلغ "ينبع"2.
ويرجع بعض النسابين نسب جذام إلى اليمن، ويرجعها بعض آخر إلى مضر، وتوسط قوم فقالوا: إنهم كانوا من مضر في الأصل، ثم غادروا ديار مضر فذهبوا إلى اليمن, وعاشوا بين قبائل قحطان، فنسوا أصلهم بتقادم العهد، وعُدوا في القحطانيين. ويظهر أن هذا الرأي هو محاولة للتوفيق بين الرأيين السابقين، أما الذي عليه غالبية جذام، فهو أنها من قحطان3.
وقد وفد رجال من "جذام" على رسول الله، منهم "رفاعة بن زيد بن عمير بن معبد الجذامي" ثم أحد "بني الضبيب"، فأسلم وكتب الرسول له كتابًا. أما "فروة بن عمرو بن النافرة" الجذامي، فقد كان كما سبق أن ذكرت عامل الروم على ما يليهم من العرب، وكان منزله "معان" وما حولها أو على "عمان"، فلما بلغهم أنه كاتب الرسول وأنه أسلم أخذوه فحبسوه، ثم ضربوا عنقه4. ويذكر أهل الأخبار أن "فروة" كتب إلى الرسول كتابًا أرسله مع "مسعود بن سعد"، وبعث إليه ببغلة وفرس وحمار وأثواب لِين وقباء سندس مخوص بالذهب5, وأن الرسول كتب إلى فروة جواب كتابه. ويذكر أهل الأخبار أن الروم لما قبضوا على "فروة"، قال شعرًا يذكر فيه
__________
1 البلدان "3/ 276"، الاشتقاق "225"، المعارف "ص50".
2 صفة "129".
3 "وجذام قبيلة من اليمن تنزل بجبال حسمى، وراء وادي القرى. وهو لقب عمرو بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وهو أخو لخم وعاملة وعفير, ويقال: اسم جذام عوف وقيل: عامر, والأول أصح. وتزعم نساب مضر أنهم من معد بن عدنان"، "وإنما سمي جذام جذامًا؛ لأن أخاه لخمًا وكان اسمه مالكًا، اقتتل وإياه، فجذم أصبع عمرو فسمي جذاما، ولخم عمرو مالكًا فسمي لخمًا"، تاج العروس "8/ 323"، "جذم".
4 طبقات ابن سعد "1/ 354 وما بعدها".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 281".(7/245)
نفسه والرسول، وقال مثل ذلك لما نقله الروم إلى موضع يقع على ماء لهم بفلسطين اسمه "عفراء"، فلما أرادوا ضرب عنقه، قال بيتًا من الشعر في إسلامه وفي إيمانه1.
وقد انتشرت النصرانية بين كلب، كما انتشرت بين أكثر القبائل النازلة بديار الشام. والظاهر أنها كانت على مذهب القائلين بالطبيعة الواحدة "Monophysities"2.
وفي جوار "الحجر" وفي شرق "حرة ليلي" أقامت بنو عذرة، وهي من قبائل قضاعة، وتنسب إلى "عُذرة بن سعد بن هُذيم بن زيد بن ليث بن أسلم بن إلحاف بن قضاعة"3. ولا نعلم من تأريخ هذه القبيلة في الجاهلية شيئًا يذكر, ولم يرد اسمها كثيرًا في الأيام, والظاهر أن ذلك لقلة شعرائها، فإن شعر الشعراء هو الذي خلد أسماء القبائل عند الإخباريين، ويظن أنها قبيلة "Adritai" "Adraetai" التي ذكرها "بطلميوس"4.
أما ديار هذه القبيلة, فكانت في وادي القرى وتبوك، ولكنها امتدت حتى بلغت قرب أيلة5, ويذكر الإخباريون أن هذه القبيلة هاجرت مع من هاجر من قبائل قضاعة بعد حربها مع حمير، فنزلت هذه الديار5, وتعاهدت مع قوم من يهود على مجاورتهم, وإلا تتحرش بهم وبنخيلهم وبساتينهم. وتجاور ديار عذرة ديار قبائل أخرى من قضاعة مثل: نهد وجهينة وبلي وكلب، كما جاورت من الشمال قبيلة غطفان6.
ولعذرة حلف مع عدد من بطون سعد هذيم، مثل بني ضنة، ويعدهم النسابون بطنًا من عذرة، وكذلك مع بني سلامان، وقد عرفوا بصحار، وكان لهم مع جهينة, ويرجع الإخباريون عهد هذا الحلف إلى أيام حرب قضاعة، وهي الحرب المسماة بـ"حرب القريض"7.
__________
1 نهاية الأرب "18/ 29".
2 Ency., II, P. 689.
3 Ency., II, P. 989.
Sprenger, Geographie, s., 205, 333. 4
5 البكري "18، 22، 27"، الأغاني "16/ 161".
6 Ency., Iv, p. 988.
7 البلدان "3/ 368"، وهم أبناء "صحار"، الاشتقاق "320", Ency., Iv, P. 988.(7/246)
وهنالك جملة قبائل ذكر الإخباريون أربعًا أو خمسًا قالوا: إنها كانت تعرف بـ"عذرة"1, وقد سبب تعدد هذه الأسماء للنسابين بعض التشويش.
ويظهر من روايات الإخباريين أنه كان لهذه القبيلة صلة بقريش، فزعموا أن أم "قصي" تزوجت رجلًا من "بني عذرة"، وأن أخاه من أمه "رزاح بن ربيعة بن حرام" اشترك مع قريش في الدفاع عن الكعبة وفي طرد خزاعة عنها. ورووا أيضًا أنه كان لها صلة بالأوس والخزرج كذلك؛ لأن أم القبيلتين، وهي "قيلة بنت كاهل أو بنت هالك", كانت من هذه القبيلة2.
ولما قدم وفد "عذرة" على الرسول في صفر سنة تسع، وفيه "حمزة بن النعمان العذري", و"سليم" و"سعد" ابنا مالك، و"مالك بن أبي رباح"، سلموا على الرسول "بسلام أهل الجاهلية، وقالوا: نحن إخوة قصي لأمه، ونحن الذين أزاحوا خزاعة وبني بكر عن مكة، ولنا قرابات وأرحام". وكان من رجال عذرة الذين وفدوا على الرسول "زمل بن عمرو العذري"3.
وذكر "ابن سعد" أن الرسول كتب إلى "عذرة" في "عَسيب", وبعث به مع رجل من "بني عذرة", فعدا عليه "ورد بن مرداس" أحد "بني سعد هذيم"، فكسر العسيب وأسلم واستشهد مع "زيد بن حارثة" في غزوة وادي القرى أو غزوة القردة4.
وكانت مواطنها عند ظهور الإسلام في منطقة مهمة جدا تقع بين الحجاز وبلاد الشام ومصر، فتمتد من منازل "كلب" في "الشمال" حتى منطقة المدينة, وكانت بطونها منتشرة في "وادي القرى" وحول "تبوك" وعند "أيلة" وفي طور سيناء. ولمرور طريق القوافل منها، تولى رجالها حراستها وجباية رسوم المرور منها. ولما رأى بعض المستشرقين أنها تقطن منطقة كان يسكنها "أهل
__________
1 محمد بن حبيب، مختلف القبائل "ص37"، "طبعة وستنفلد", Ency., II, P. 289.
2 Ency., IV, P. 989, Wustenfeld, Genealo, I, 24.
3 ابن سعد، طبقات "1/ 331 وما بعدها".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 284".(7/247)
مدين" وكذلك النبط، ذهبوا إلى أنها من نسل "مدين" أو من بقايا "النبط"1.
ومن المستشرقين من يرى أن "بني النضير" هم فرع من جذام، دخلوا في دين يهود، ودليلهم على ذلك انتشار اليهودية بين بعض بطون جذام التي تقع منازلها على مقربة من "يثرب", وكانت النصرانية قد وجدت لها سبيلًا بين جذام، وذلك باتصالها ببلاد الشام ومصر. وقد كانت مع "المستعربة" أي: النصارى العرب, تحارب المسلمين مع الروم في حروب بلاد الشام2.
وفي أرض جذام موضع يقال له "السلاسل"، وقعت غزوة عرفت بـ"ذات السلاسل". وقد قام بها "عمرو بن العاص"، وكان الرسول قد بعثه إلى أرض "بلي" و"عذرة" يستنفر الناس إلى الشام3.
ومن جذام "رفاعة بن زيد الجذامي" ثم "الضُّبيبي"، وكان قد قدم إلى الرسول فأسلم، وكتب الرسول له كتابًا، وذهب إلى قومه ونزل الحرة: حرة الرجلاء4, و"ضبيب" بطن من جذام. ولما أغار "الهُنيد بن عوص"، وهو من "الضليع"، بطن من جذام على "دحية بن خليفة الكلبي"، حين قدومه من بلاد الشام، وكان رسول الله بعثه إلى "قيصر" صاحب الروم ومعه تجارة له، فأصاب كل شيء كان مع "دحية" -نَفَرَ "رفاعة" وقومه ممن أسلم إلى "الهنيد"، فاستنقذوا ما كان في يده، فردوه على "دحية"، وكان المعتدون يقيمون بحسمى5.
ومن "جذام" "زنباع بن روح بن سلامة بن حُداد بن حديدة"، وكان عَشَّارًا، مر به "عمر بن الخطاب" في الجاهلية تاجرًا إلى الشام، فأساء إليه في اجتيازه وأخذ مكسه، فقال "عمر" فيه شعرًا يتوعده ويهجوه، فبلغ ذلك "زنباعًا" فجهز جيشًا لغزو مكة، فنُهي عن ذلك وأشير عليه بعدم تمكنه منها، فكف عنها6.
__________
1 Ency., I, P. 1058.
2 Ency., I, P. 1058.
3 الطبري "3/ 32".
4 الطبري "3/ 140"، "قدوم رفاعة بن زيد الجذامي".
5 نهاية الأرب "17/ 207".
6 بلوغ الأرب "1/ 361 وما بعدها"، الاشتقاق "225".(7/248)
وكانت "أيلة" في أيام الرسول، في أيدي "يوحنا بن رؤبة" "يحنة بن رؤبة". ولما سمع "يوحنا" بمجيء الرسول مع جيش إلى "تبوك"، جاء إليه وصالحه على الجزية، وصالحه أهل "جرباء" و"أذرح" على الجزية أيضًا، كما صالح أهل "مقنا" على ربع كروعهم وغزولهم وحلقتهم وعلى ربع ثمارهم، وكانوا يهودًا1. وقد دون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لـ"يحنة بن رؤبة" "يحنة بن رَوْبَةَ" وأهل أيلة "لسفنهم وسيارتهم في البر والبحر ... ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر"2.
وأورد "ابن سعد" نص كتاب أرسله الرسول إلى "يوحنا بن رؤبة" "يحنة بن روبة" و"سَرَوات" أهل أيلة, جاء فيه أن رسول الله قد أرسل إليه رسلًا هم: "شرحبيل" و "أبي" و"حرملة" و"حريث بن زيد الطائي" و"أن حرملة" قد شفع له ولأهل أيلة لدى الرسول, وأن عليه أن يكسو "زيدا" كسوة حسنة, وأنه قد أوصى رسله بهم. ويظهر من هذا الكتاب أن حامله كان "زيدا"، وجاء فيه "وجهزوا أهل مقنا إلى أرضهم"3.
وكتب الرسول كتبًا إلى أهل "أذرح" و"جربا" ولأهل مقنا، وذكر أن أهل مقنا كانوا يهودًا على ساحل البحر, وأهل جربا وأذرح يهود أيضًا4.
أما "كلب" التي كانت ديارها تتاخم ديار جذام، فينسبها النسابون إلى "كلب بن وبرة", وهي من القبائل التي كانت تنزل ديار الشام عند ظهور الإسلام. غير أننا لا نعرف من تأريخها شيئًا يذكر قبل الإسلام5.
وتتصل بديار كلب من الشرق أرض الحيرة وديار "بني بكر"، ومن الجنوب ديار طيء، ومن الغرب ديار "بنو بلي" و"جذام"، ومن الشمال "بنو بهراء" وقبائل غسان.
ويرجع نسب "كلب" في عرف النسابين إلى قبائل "قضاعة". ومن كلب
__________
1 الطبري "3/ 108"، البلاذري، فتوح "71".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 289"، نهاية الأرب "17/ 357".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 278".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 29 وما بعدها".
5 Ency., II, P. 688.(7/249)
الأسبع, وهي بطون ثعلب وفهد ودب والسيد والسرحان وبرك. ومن قبائلها: ثور وكلب ورفيدة وعوذي وعرينة وقبائل أخرى يذكرها النسابون1
وينسب إلى هذه القبيلة "زهير بن جناب الكلبي"، وهو في جملة من يذكرهم الإخباريون من المعمرين. ويذكرون أنه كان رئيسًا من رؤساء هذه القبيلة, وأنه كان شاعرًا، وأنه كان في أيام "كليب وائل" و"المهلهل بن ربيعة"، ومعنى ذلك أنه عاش في القرن السادس للميلاد2
وقد ذكر الإخباريون أسماء رجال برزوا في الجاهلية، ينتمون إلى بطون هذه القبيلة، منهم "هوذة بن عمرو"، نعتوه بـ"رب الحجاز"3, وهذا النعت يدل على منزلة الرجل ومكانته التي كان عليها قبل الإسلام. وهو من "حَرْدش" وقد مدحه "النابغة الذبياني". وقد نسب الإخباريون هوذة إلى "عص" أو "عيثر بن لبيد"، وهو في زعمهم من المعمرين في الجاهلية4
وقد وفد رجل من "كلب" على الرسول اسمه "عبد عمرو بن جبلة بن وائل بن الجَلَّاح الكلبي"، ومعه "عاصم" من "بني وقاش" من "بني عامر"، فأسلما, ووفد "حارثة بن قطن بن زائر بن حصن بن كعب بن عليم الكلبي" و"حمل بن سعدانة بن حارثة بن مغفل بن كعب بن عليم"، فأسلما. وكتب الحارثة بن قطن كتابًا لأهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب، دوَّن فيه أوامره لهم ونواهيه وشروطه إن أرادوا الدخول في الإسلام5
وأورد "ابن سعد" صورة كتاب، ذكر أن الرسول كتبه "لبني جناب" من كلب وأحلافهم ومن ظاهرهم. وقد بين فيه الأمور التي يجب عليهم مراعاتها من حقوق وأحكام, وأشهد عليه فيه: سعد بن عبادة، وعبد الله بن أنيس, ودحية الكلبي6
__________
1 الاشتقاق "ص314 وما بعدها".
2 الاشتقاق "ص204", 1237. Ency., Iv, P.
3 الاشتقاق "320".
4 الاشتقاق "320", Ency., Iv, P. 989.,
5 ابن سعد, طبقات "1/ 334 وما بعدها".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 286".(7/250)
ولعذرة عدة بطون، منها: بنو الجلحاء، وبنو جلهمة، وبنو زقزقة، وبنو ضنة، وبنو حردش، وبنو حنّ، وبنو مدلج1. ويظهر من أبيات للشاعر النابغة أن "النعمان بن حارث الغساني" لما همّ بغزو "بني حن" في موضعهم بـ"برقة صادر", نهاه عن ذلك، غير أنه لم ينتهِ، فأصيب غزوه بهزيمة2. وحن هم الذين قتلوا "الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد" من طيء، في الحجر, وكان الجلاس ممن اجتمعت عليه جديلة طيء3.
وتبوك هي من جملة مواضع بني عذرة، وهي موضع "Thapaua" الذي ذكره "بطلميوس"4، ولا نعرف من أمرها قبل الإسلام شيئًا يذكر. وقد ذكرت في الفتوح، إذ وصل الرسول إليها، وصالح أهلها على الجزية، مما يدل على أن سكانها كانوا من أهل الكتاب5.
وكان غزو الرسول لها سنة تسع للهجرة، إذ بلغه أن الروم قد جمعت جموعًا كثيرة بالشام، وأنهم قد جمعوا إليهم جمعًا من لخم وجذام وعاملة وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فأراد الرسول مباغتتهم قبل أن يباغتوه، فلما وصل إليها وجد أن الروم بعيدون عنه فرجع6.
ويذكر أهل الأخبار أن "بني عذرة" نصروا قصيا وساعدوه، لوجود صلة له بهم. ويظهر أنه قد كان عند القدامى من "بني عذرة" كتاب في أخبارهم كانوا يرجعون إليه إذا احتاجوا إلى الوقوف على خبر يخص هذه القبيلة, فقد ذكر "أبو عمرو بن حريث العذري"، أنه رجع إلى كتاب من كتب آبائه في أمر "وفد عذرة" الذي ذهب إلى الرسول7.
__________
1 الاشتقاق "320", Ency., Iv, P. 989.
2 الاشتقاق "320"، البلدان "2/ 143".
3 البلدان "7/ 74"، "قرى".
4 ptolemy, Geography, vI, 7, 27.
5 البلدان "1/ 824", ابن هشام "902"، الطبري "1/ 1692"، غزوة تبوك، فتوح البلدان "59", شمال الحجاز, تأليف ألويس موسل, ترجمة: الدكتور عبد المحسن الحسيني, سنة 1952م، "ص140 وما بعدها".
6 نهاية الأرب "17/ 352 وما بعدها".
7 عن أبي عمرو بن حريث العذري قال: وجدت في كتاب آبائي، قالوا.....", ابن سعد، طبقات "1/ 331".(7/251)
وتقع ديار "غطفان" جنوب "طيء" وشمال "هوازن" و"خيبر", وإلى الغرب من بلي وديار سعد. وهم من القبائل الكبيرة التي يرجع النسابون نسبها إلى "سعد بن قيس بن مضر", فهي من القبائل المضرية في اصطلاح أهل الأنساب, وهم قبائل منهم: ريث وبغيض وأشجع، ومن بغيض ذبيان، وهو والد عبس، وإنما أجداد قبائل كبيرة1. وتقع ديار أشجع على مقربة من المدينة، وأما ديار "بغيض" فتقع عند شربة والربذة، وتجاورها "خصفة بن قيس عيلان"، وسليم الذين تقع ديارهم في جنوبهم.
ومن رجال "أشجع": "مسعود بن رخيلة بن نويرة بن طريف"، وقد وفد على الرسول على رأس وفد قوامه مائة رجل، وادعوا رسول الله، ثم أسلموا2.
وقد كانت بين "غطفان" وبين "بني عامر بن صعصعة" وهم بطن من هوازن حوادث وأيام. من ذلك "يوم النفراوات", وفيه قتل خالدُ بن جعفر بن كلاب العامري زهيرَ بن جذيمة سيد عبس، وكانت هوازن تخضع لزهير, وتقدم له الإتاوة كل سنة في سوق عكاظ. فلما استبد بهم زهير، ولم يرعَ لهم حرمة، ولم ينصفهم، نقموا عليه, وأقسم جعفر ليقتلنه، وقد وفى بقسمه في يوم "النفراوات"3.
وقد غزا الرسول قومًا من "غطفان"، هم من "بني محارب"، و"بني ثعلبة"، حتى نزل نخلًا فلقي جمعًا من "غطفان"، ولم تقع بينهم حرب، وعرفت الغزوة بـ"غزوة ذات الرقاع"4. وكانت هذه الغزوة في أول السنة الثالثة من الهجرة، وعرفت أيضًا بـ"غزوة ذي أمر" ناحية "النخيل". وكان قد جمعهم رجل يقال له: "دعثور بن الحارث" من "بني محارب"، وهم من الأعراب، فلما وصل الرسول إليهم هربوا في رءوس الجبال، ثم
__________
1 الاشتقاق "164 وما بعدها", ابن حزم, جمهرة "ص237 وما بعدها", Ency., II, P. 144.
2 نهاية الأرب "18/ 22".
3 العقد الفريد "3/ 304"، الأغاني "10/ 10".
4 الطبري "2/ 555 وما بعدها".(7/252)
أسلم "دعثور" ودعا قومه إلى الإسلام1.
وقد تجمع جمع من غطفان بالجناب، وأرادوا مباغتة المسلمين، فوصلت الأنباء بذلك إلى الرسول، فأرسل سرية عليهم فلّت ذلك الجمع2.
وقد استجابت "غطفان" لدعوة سادات "بني النضير" أمثال: "سلام بن أبي الحقيق"، و"حيي بن أخطب"، و"كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق"، ودعوة نفر من "بني وائل"، فيهم "هوذة بن قيس الوائلي" و"أبو عمار الوائلي"، ولزعماء مكة وعلى رأسهم "أبو سفيان"، فخرجت وقائدها "عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري" في بني فزارة, و"الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري" في "بني مرة", و"مسعود "مِسْعر" بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة الأشجعي" فيمن تابعه من أشجع, واستجابت لهم "بنو سليم"، يقودهم "سفيان بن عبد شمس" وهو أبو "أبي الأعور السلمي"، وانضمت إليهم "بنو أسد" يقودهم "طليحة بن خويلد الأسدي"، وكونوا الأحزاب, وساروا باتجاه المدينة, فوجدوا المسلمين وقد حفروا خندقًا حولها، حال بينهم وبين اقتحامها. ووقعت مناوشات انتهت برجوع الأحزاب, ونجاح المسلمين في الدفاع عن أنفسهم3.
ومن رجال "عبس" الذين وفدوا على الرسول: "ميسرة بن مسروق"، و"الحارث بن ربيع" وهو الكامل، و"قنان بن دارم"، و"بشر بن الحارث بن عبادة", و"هِدْم بن مسعدة"، و"سباع بن زيد", و"أبو الحصن بن لقمان"، و"عبد الله بن مالك"، و"فروة بن الحصين بن فضالة". وذكر أن رسول الله سأل نفرًا من "عبس" عن "خالد بن سنان", فقالوا: لا عقب له، فقال: "نبي ضيعه قومه"، ثم أنشأ يحدث أصحابه حديث خالد4.
__________
1 نهاية الأرب "17/ 77 وما بعدها".
2 الطبري "3/23".
3 الطبري "2/ 564 وما بعدها"، "غزوة الخندق"، نهاية الأرب "17/ 166 وما بعدها".
4 طبقات ابن سعد "1/ 295 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 17".(7/253)
وقد كتب الرسول إلى "بني زهير بن أقيش" كتابًا، أمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم1. و"بنو أقيش" هم حي من "عكل", و"عكل" من "الرباب", وهم "تيم" و"عدي" و"عكل" و"مزينة". وذكر أن الرسول كتب لبني أقيش في ركية بالبادية2.
ومن ديار "هوازن"، "تربة"، وهي ناحية "العبلاء" على طريق صنعاء ونجران, وتقع في "عجز هوازن".
وقد أرسل الرسول عليهم سرية بقيادة "عمر" وذلك سنة سبع للهجرة3. وتقع ديار هوازن بغور تهامة إلى إلى بيشة والسراة وحنين وأوطاس4.
وفي جنوب شرقي "حسمى" أقامت بطون "فزارة"5, وتنسب إلى "فزارة بن ذبيان بن بغيض بن غيث بن غطفان". وقد اشتركت في حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان، وفي معارك أخرى، وتعاونت مع يهود خيبر ضد الرسول6. ومن رجال "فزارة" "خارجة بن حصن"، وكان فيمن وفد على النبي من وفد "بني فزارة" سنة تسع للهجرة7.
ومن "بني فزارة" في أيام الرسول "عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر"، أغار على لقاح رسول الله وهي ترعى بالغابة، وهي على بريد من المدينة، فوجه رسول الله جمعًا إليه، قتل "مسعدة بن حَكَمَة بن مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري" و"حبيب بن عيينة"، ثم لحقهم الرسول بـ"ذي قرد" فوجدهم قد مضوا8. وقد نعت النبي "عيينة" بـ"الأحمق المطاع في قومه"9.
ومن بني فزارة الذين وفدوا إلى الرسول بعد رجوعه من تبوك سنة تسع للهجرة,
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 279".
2 الاشتقاق "111/ 113".
3 نهاية الأرب "17/ 270".
4 البكري، معجم "1/ 88".
5 Musil, Hegaz, p. 315.
6 Ency., II, p. 93.
7 الطبري "3/ 122".
8 البلاذري، أنساب "1/ 348 وما بعدها".
9 الاشتقاق "173".(7/254)
"خارجة بن حصن" و "الحر بن قيس بن حصن". وذكر أن "عيينة بن حصن" كان من المؤلفة قلوبهم، شهد حنينًا والطائف, وكان أحمق مطاعًا دخل على النبي بغير إذن وأساء الأدب، فصبر النبي على جفوته وأعرابيته. وقد ارتد وآمن بطليحة، ثم أسر، فمنَّ عليه الصديق، ثم لم يزل مظهرًا للإسلام. وكان يتبعه عشرة آلاف قناة, وكان من الجرارة, واسمه حذيفة ولقبه عيينة لشتر عينه.1
ولما خرج "زيد بن حارثة" في تجارة له إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب رسول الله، وكان دون "وادي القرى", لقيه ناس من "فزارة" من "بني بدر"، فضربوه وأخذوا ما كان معه، فعاد "زيد" إلى المدينة وأخبر الرسول بما حدث, فأعاده مع سرية لغزوهم، فحاصرهم، ولكنهم كانوا قد هربوا، فأسر منهم "فاطمة بنت ربيعة بن بدر"، وابنتها "جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر"، وقُتل "النعمان" و"عبد الله" ابنا "مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر"2.
وعلى السُّنة الجارية بين القبائل، تشتَّت شمل عشائر غطفان بسبب الحروب التي نشبت بينها من جهة، وبينها وبين بطون خصافة من جهة أخرى, ونعني بخصافة هوازن وسليمًا. وقد استمر التنافس بين عشائر غطفان وعشائر خصافة إلى ظهور الإسلام، وتميز بحوادث الفتك والاغتيالات، وبرز في هذا النزاع اسم "دريد بن الصمة" وهو من هوازن، ومعاوية وصخر أخوي الحنساء, وهما من سليم3.
ولما انتقل الرسول إلى جوار ربه، ارتد كثير من غطفان، وأيد بعضهم طليحة، ولم يرجعوا إلى الإسلام إلا بعد انتصاره على المرتدين.
وكان من وجوه "بني عامر بن صعصعة"، عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس بن مالك بن جعفر، "أربد بن ربيعة بن مالك بن جعفر"، وجبار بن
__________
2 تاج العروس "6/ 45", "ألف" و"عين".
3 نهاية الأرب "17/ 210 وما بعدها".
4 Ency., II, p. 145.(7/255)
سلمى بن مالك، وكان هؤلاء رءوس القوم وشياطينهم. وقد وفدوا على الرسول, ولم يسلم "عامر بن الطفيل"، بل رجع كافرًا ومات على الشرك1. وكان معجبًا بنفسه، جريئا على الناس2, من الفرسان3، طلب من الرسول أن يجعل الأمر له من بعده في مقابل إسلامه، أو أن يقتسم معه الحكم على الناس مناصفة، فيكون للرسول حكم أهل المدر، وله حكم أهل الوبر. فلما قال له الرسول: "لا, ولكني أجعل لك أعنة الخيل؛ فإنك امرؤ فارس" قال: أَوَلَيست لي؟ لأملأنها خيلًا ورجالًا. ثم ولى، فلما كان في طريقه إلى منازله مرض وهلك4.
وكان "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر" المعروف بـ"ملاعب الأسنة الكلابي"، بعث إلى رسول الله أن ينفذ إليهم قومًا يفقهونهم ويعرضون عليهم الإسلام وشرائعه، فبعث إليهم قومًا من أصحابه، فعرض لهم "عامر بن الطفيل" يوم بئر معونة فقتلهم أجمعين, واغتم "أبو براء" لإخفار عامر بن الطفيل ذمته في أصحاب رسول الله، ثم توفي بعد ذلك بقليل, وكان سيد "بني عامر بن صعصعة" في أيامه5. و"بئر معونة"، أرض بين أرض "بني عامر" و"حرة بني سليم"، وهي إلى حرة بني سليم أقرب6. وقد استصرخ "عامر بن الطفيل" جماعة من "بني سليم" و"عصية" و"رعلا" و"ذكران" فنفروا معه على المسلمين7.
ولما أرسل "أبو بكر" "خالد بن الوليد" إلى "بني عامر بن صعصعة"، لم يقاتلوه ودفعوا الصدقة. وكان "قرة بن هبيرة القشيري" امتنع من أداء الصدقة، وأمدَّ "طليحة الأسدي"، فأخذه خالد، فحمله إلى "أبي بكر" فحقن أبو بكر دمه8.
__________
1 الطبري "3/ 144"، "وفد بني عامر بن صعصعة".
2 مروج "2/ 328"، "دار الأندلس".
3 الاشتقاق "180، 215".
4 نهاية الأرب "18/ 51 وما بعدها".
5 المحبر "472", الطبري "3/ 545"، "ذكر خبر بئر معونة".
6 الطبري "2/ 546".
7 نهاية الأرب "17/ 130 وما بعدها".
8 البلاذري، فتوح "106".(7/256)
ومن بني "عامر بن صعصعة"، بنو "رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة", ومنهم "عمرو بن مالك بن قيس" الذي وفد على الرسول فأسلم1, ومنهم "بنو البكاء", ووفدَ وفدٌ من "بني البكاء" على الرسول كان فيه "معاوية بن ثور بن عبادة بن البكاء"، و"الفُجيع بن عبد الله بن جندح بن البكَّاء" و"عبد عمر البكائي"، وهم الأصم2.
وتقع ديار "بني عامر بن صعصعة" في الأقسام الغربية من نجد وتمتد إلى الحجاز. وذكر انهم كانوا يصيفون بالطائف لطيب هوائها، فلما اشتد عود ثقيف وقوي أمرهم، منعوهم منها، واستقلوا بها وحدهم3.
ويرجع نسب "بني سليم" إلى "قيس عيلان"، وتقع منازلها في مواطن حرار ذات مياه ومعادن عرفت بـ"معدن سليم"، وكانوا يجاورون عشائر غطفان وهوازن وهلال. ولخيرات أرضهم ووقوعها في منطقة مهمة تهيمن على طرق التجارة، صارت بنو سليم من القبائل الغنية، وكانت صلاتها حسنة بيهود يثرب، كما كانت صلاتها وثيقة بقريش. وقد تحالف عدد كبير من رجالات مكة مع بني سليم، واشتغلوا معهم في الاستفادة من المعادن والثروة في أرض سليم4.
وقد قدم رجل من "بني سليم" اسمه "قيس بن نسيبة"، على الرسول فأسلم. ذكر أنه كان على علم بلسان الروم وبهينمة الفرس، وبأشعار العرب، وأنه كان ذا حظ بثقافة ذلك اليوم. فلما رجع إلى قومه، وكلمهم بالإسلام، اقتنعوا بحديثه فأسلم منهم عدد كبير، وذهب وفد عنهم إلى الرسول، فيه "العباس بن مرداس" و"أنس بن عياض بن رعل" و"راشد بن عبد ربه"، فأسلموا على يديه. وكان "راشد" يسدن صنمًا لبني سليم، وكان اسمه "غاوي"، وكان قد رأى ثعلبين يبولان على صنمه فشد عليه فكسره، ثم جاء مع الوفد إلى الرسول فأسلم، وسماه الرسول "راشدًا" على طريقته في تغييره
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 300".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 304".
3 البكري، معجم "1/ 77 وما بعدها".
4 البلدان "2/ 250"، "8/ 94"، Ency., Iv, p. 518.(7/257)
أمثال هذه الأسماء, وأعطاه الرسول "رهاطا" وفيها عين ماء.
ويذكر أهل الأخبار، أن سيدًا من سادات "بني سليم"، اسمه "قِدْر بن عمَّار"، كان قد قدم على النبي بالمدينة فأسلم، وعاهده على أن يأتيه بألف من قومه، فلما ذهب إلى قومه، وعاد ليأتي إلى الرسول برجاله، نزل به الموت، فأوصى إلى رهط من "بني سليم" بالذهاب إلى الرسول، هم "عباس بن مرداس" و"جبار بن الحكيم" و"الأخنس بن يزيد" وأمَّر كل واحد منهم على ثلاثمائة، ليقدموا على الرسول، ثم جاء من بعدهم "المنقع بن مالك بن أمية" وهو على مائة رجل، فصار عددهم ألفًا1.
وكتب الرسول إلى "سلمة بن مالك بن أبي عامر السلمي" من "بني حارثة"، أنه أعطاه مَدْفَوًا لا يحاقه فيه أحد2, وأعطى "العباس بن مرداس" "مدفورا" لا يحاقه فيه أحد، كتبه له العلاء بن عقبة، وشهد عليه3. ويظهر أن "سلمة بن مالك السلمي" الذي ذكر "ابن سعد" أن الرسول "أعطاه ما بين ذات الحناظى إلى ذات الأساور"4, هو "سلمي بن مالك بن أبي عامر" المتقدم.
وكان العباس بن مرداس يهاجي "خفاف بن ندبة السلمي" أحد الشعراء المعروفين، ثم تمادى الأمر إلى أن احتربا، وكثرت القتلى بينهما. ولما تماديا في هجائهما، ولم يسمعا نصيحة "الضحاك بن عبد الله السلمي"، وهو يومئذ صاحب أمر بني سليم، ولجَّا في السفاهة، خلعتهما بنو سليم. ثم أتاهما "دريد بن الصمة" و"مالك بن عوف النصري" رأس هوازن، وأصلحا بينهما، واستراح منهما بنو سليم5.
وأسلم "العباس بن مرداس" قبل فتح مكة, وحضر مع النبي يوم الفتح في جمع من "بني سليم" بالقنا والدروع على الخيل، وله ولد اسمه جلهمة، روى
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 307 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 24".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 273".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 273".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 285".
5 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "ص467 وما بعدها".(7/258)
عن النبي1. ويروى أن العباس بن مرداس، شهد حنينًا على فرسه العُبيد، فأعطاه النبي أربع قلائص، فقال العباس: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع؟، فقال النبي: "اقطعوا عني لسانه"، فأعطوه ثمانين أوقية فضة2. وكان فيمن اشترك مع العباس بن مرداس من قومه في فتح مكة، "أنس بن عباس بن رعل" و"راشد بن عبد ربه" وقد طلب العباس وقومه من الرسول، أن يجعل لهم لوء أحمر، وشعارًا مقدمًا, ففعل ذلك بهم3. وكان للعباس أخ اسمه "عمرو بن مرداس"، ويعد مثل أخيه في جملة المؤلفة قلوبهم كذلك4.
وأعطى الرسول "هوذة بن نبيشة السلمي" من "بني عُصَيَّة" "ما حوى الجفر كله"5, وكتب للأجبّ رجل من "بني سليم" أنه أعطاه فالسًا", وكتب كتابه وشهد عليه "الأرقم"6. وأعطى الرسول "راشد بن عبد السلمي" "غَلْوتين بسهم, وغلوة بحجر برهاط" "لا يحاقه فيها أحد"7, كما أعطى "حرام بن عبد عوف" من "بني سليم" "إذامًا وما كان له من شواق"8.
ومن "بني سليم" "نبيشة بن حبيب"، قاتل "ربيعة بن مكدم" الكناني, وكان فارس كنانة9.
ويذكر أن الردة لما وقعت بوفاة الرسول، جاءت "بنو سليم" إلى "أبي بكر"، فطلبوا منه أن يمدهم بالسلاح لمقاتلة المرتدين، فأمر لهم بسلاح، فأقبلوا يقاتلون "أبا بكر", فبعث أبو بكر خالد بن الوليد عليهم، وجعلهم في حظائر ثم أضرم عليهم النيران10.
__________
1 ابن قتيبة، الشعر "ص467 وما بعدها"، المعارف "336".
2 الاشتقاق "188".
3 نهاية الأرب "18/ 24".
4 تاج العروس "6/ 45".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 273".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 273 وما بعدها".
7 المصدر نفسه "1/ 274".
8 المصدر المذكور.
9 الاشتقاق "189".
10 تأريخ خليفة بن خياط "1/ 68".(7/259)
ومن ديار "بني سليم" معدن بني سليم، وهو منزل كثير الأهل فيه أعراب بني سليم، وماؤه من "البرك"، وهي قرى قديمة1. وقد غزا الرسول على رأس ثلاثة وعشرين شهرًا من مهاجره "قرقرة الكدر" "قراقرة الكدر"، ناحية معدن "بني سليم" بينه وبين المدينة ثمانية بُرُد، وذلك لما سمع أن بهذا الموضع جمعًا من "بني سليم" و"غطفان"، فلما لم يجد أحدًا، أخذ ما عثر عليه من جمال تعود إليهم، كانت ترعى هناك، ورجع إلى المدينة2. وغزا الرسول في السنة الثالثة من الهجرة موضعًا آخر من مواضع "بني سليم" اسمه: "بحران" من ناحية الفرع، وهي قرية من ناحية المدينة؛ لما بلغه أن بها جمعًا كثيرًا من "بني سليم"3.
وكانت منازل عجز هوازن بموضع شربة4. ومن رجال "هوازن" في أيام الرسول "مالك بن عوف النصري" أحد بني نصر, وهو الذي جمع جموع هوازن وثقيف وأقبل عامدًا إلى النبي، حتى وافاه بـ"حنين" فوقعت غزوة حنين. وقد جمعت نصر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء وغابت عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب. وفي جشم "دريد بن الصمة" شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخًا كبيرًا مجربًا. وفي ثقيف سيدان لهم في الأحلاف: قارب بن الأسود بن مسعود، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وأخوه الأحمر بن الحارث في بني هلال5.
وبنو سليم أيضًا قبائل, منها: بنو ذكوان، وبنو بهثة، وبنو سمال، وبنو بهز، وبنو مطرود، وبنو الشريد، وبنو قنفذ، وبنو عصية، وبنو ظفر6. وقد نجلت هذه القبائل رجالًا عرفوا في الجاهلية والإسلام، منهم: العباس بن مرداس الشاعر الشهير، ممن شهدوا معركة حنين مع الرسول، ومجاشع بن مسعود
__________
1 ابن رستة، الأعلاق "179".
2 نهاية الأرب "17/ 71 وما بعدها".
3 نهاية الأرب "17/ 79".
4 الطبري "3/ 22"، "دار المعارف"، نهاية الأرب "17/ 323 وما بعدها".
5 الطبري "3/ 70 وما بعدها".
6 الاشتقاق "187 وما يعدها".(7/260)
ممن قاد الجيوش، وهو من المهاجرين، والعباس بن أنس الأصم من فرسان الجاهلية، ورجال آخرون. ولسليم شقيق في عرف النسابين اسمه "مازن", أما أبوهما فهو منصور1.
و"جهينة" بطن مثل "بلي" و"بهراء" و"كلب" و"تنوخ" من بطون "قضاعة"، كانت ديارها في نجد، ثم هاجرت إلى الحجاز، فسكنت على مقربة من يثرب في المنطقة التي بين البحر الأحمر ووادي القرى، عند ظهور الإسلام. وقد دخلت في الإسلام في حياة الرسول ولم تشترك مع من اشترك في الردة بعد وفاته2. وينسب النسابون جهينة إلى صحار والد جهينة، ومن بطونها بنو حميس3.
ومن ديار "جهينة" موضع "بواط"، وهو من "جبال جهينة" من ناحية "رضوى" قريب من "ذي خشب" مما يلي طريق الشام, وبين "بواط" والمدينة نحو أربعة برد، ويمر به طريق إلى بلاد الشام. ولما سمع الرسول، وهو على رأس ثلاثة عشر شهرًا من مهاجره، أن قافلة لعير قريش, فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة من رجال قريش وألف وخمسمائة بعير, تمر من هناك، خرج في مائتين لاعتراضها، ولكنها فرت ونجت، فلم تقع في الأسر4.
وكان في جملة من وفد على الرسول من جهينة: "عبد العزى بن بدر بن زيد بن معاوية الجهني" من "بني الربعة بن رشدان بن قيس بن قيس بن جهينة", ومعه أخوه لأمه "أبو روغة". وكان لهم وادٍ اسمه "غويّ". ومن "بني جهينة" "بنو دهمان" ومنهم "عمرو بن مرة الجهني"، وكان سادن صنمهم, فأسلم وكسر الصنم، وقدم المدينة, وأعلن إسلامه أمام الرسول5.
وقد كتب الرسول كتابًا لبني زرعة وبني الربعة من جهينة، أمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم6. كما كتب لعَوْسَجَة بن حرملة الجهني من "ذي المروة"
__________
1 الاشتقاق "189"، الصفة "132، 154، 170".
2 Ency., I, p. 1060.
3 الاشتقاق "ص319 وما بعدها".
4 نهاية الأرب "17/ 4 وما بعدها".
5 طبقات ابن سعد "1/ 33 وما بعدها", نهاية الأرب "18/ 18 وما بعدها".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 270".(7/261)
وقد "أعطاه ما بين بَلَكثة إلى المصنعة إلى الجفلات إلى الجد جبل القبلة, لا يحاقه أحد"، وشهد على صحة الكتاب وكتبه "عقبة"1. كما كتب الرسول كتابًا لقوم آخرين من جهينة، هم من "بني شنخ"، وقد "أعطاهم ما خطوا من صفينة وما حرثوا"، وكتب الكتاب وشهد عليه "العلاء بن عقبة"2. كما كتب الرسول كتابًا لبني الجرمز بن ربيعة، وهم من "جهينة"، كتبه المغيرة3, وكتب كتابًا لـ"عمرو بن معبد الجهني" و"بني الحرفة" من جهينة وبني الجرمز، أهم ما جاء فيه "وما كان من الدين مدونة لأحد من المسلمين قضى برأس المال وبطل الربا في الرهن، وأن الصدقة في الثمار العشر"4.
ويظهر من ذلك أن هذا الكتاب قد دون بعد نزول الأمر بتحريم الربا.
وبلي من قبائل قضاعة كذلك، وتنسب إلى بلي بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة, وتقع ديارها على مقربة من تيماء بين ديار جهينة وديار "جذام"، وهي مثل أكثر قبائل قضاعة لا نعرف من تأريخها في الجاهلية شيئًا يذكر. أما في أول ظهور الإسلام, فقد اشتركت مع القبائل النصرانية في جانب الروم ضد المسلمين5, ومنهم "مالك بن رافلة" قاتل "زيد بن حارثة" يوم "مؤتة"6.
وفي سنة ثمانٍ من الهجرة أرسل الرسول "عمرو بن العاص" إلى أرض "بلي" و"عذرة", فلما بلغ موضع "السلاسل" خاف، فبعث إلى رسول الله يستمده، فأمده بجماعة من المهاجرين الأولين، فيهم "أبو عبيدة بن الجراح" و"أبو بكر" و"عمر", وقد عرفت تلك الغزوة بـ"ذات السلاسل"7.
وقد دخل دين يهود فرعٌ من بلي, ينسب إلى "حشنة بن أكارمة"، وسكن
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 271".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 271".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 271".
4 ابن سعد, طبقات "1/ 271 وما بعدها".
5 الطبري "1/ 1604، 1610 وما بعدها"، ابن هشام "792", الاشتقاق "322", Ency., I, p. 618, Caussin de perceval, Essai., III, 212, Blau, in ZDMG., XXII, 664, xxIII, 573.
6 الاشتقاق "ص322".
7 الطبري "3/ 32".(7/262)
على مقربة من تيماء مع يهود، وظل في هذا الدين وفي هذه الديار إلى أن أمر "عمر" بإجلائهم عنها في الإسلام1.
وقد وفد نفر من "بلي" على الرسول، وكان "شيخ الوفد" "أبو الضباب" "أبو الضبيب", فأسلم وأسلم من كان معه، ثم عادوا إلى ديارهم2.
وتقع إلى الجنوب من ديار "بلي" ديار "مزينة"، وهي في الشرق من منازل "جهينة" وإلى الغرب من ديار "سعد" وإلى الشمال من بلاد "خزاعة", ويرجع نسب "مزينة" إلى "مضر". وقد وفد قوم منهم إلى الرسول فيهم "خزاعي بن عبد نهم", فبايع الرسول على قومه مزينة، وقدم معه جماعة من أعيان مزينة منهم: "بلال بن الحارث" و"النعمان بن مقرن" و"عبيد الله بن درة"، و"بشر بن المحتقر". و"خزاعي" هو الذي حمل لواء مزينة يوم الفتح، وكانوا يومئذ ألف رجل، وهو أخو المغفل أبي عبد الله بن المغفل, وأخو عبد الله ذي البجادين3.
وأما وادي القرى، فهو وادٍ كثُرت قراه؛ لذلك قيل له وادي القرى, وأهله عرب ويهود. وهو من المواضع المعروفة بالخصب في جزيرة العرب، وبه عيون وآبار؛ لذلك اشتهر بالعمار منذ أيام ما قبل الميلاد، فنزلت به قبائل عديدة، منها قوم ثمود. وقد جلب خصب هذا الوادي أنظار من نزح إليه من اليهود، فحفروا فيه الآبار وأساحوا العيون, وزرعوا فيه النخيل والحبوب, وعقدوا بينهم حلفا وعقدا, ودفعوا عنه قبائل بلي بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة، وغيرهم من القبائل4, وعقدوا لهم أحلافًا مع القبائل القوية؛ لتحميهم ولتدافع عنهم، مقابل جعل سنوي.
وقد غزا الرسول بعد فراغه من خيبر هذا الوادي، فقاتله أهله، ففتحه
__________
1 Ency., I, p. 618.
2 ابن سعد، طبقات "1/ 330"، نهاية الأرب "18/ 90".
3 طبقات ابن سعد "1/ 291 وما بعدها"، "دار صادر", نهاية الأرب "18/ 19 وما بعدها".
4 البكري، معجم "11/ 45 وما بعدها".(7/263)
عنوة، وترك الرسول النخل والأرض في أيدي اليهود، وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر1.
وكانت "فدك" حكومة مستقلة كسائر الواحات والقرى في أعالي الحجاز، وأهلها من اليهود، وعليهم في أيام الرسول "يوشع بن نون اليهودي"، وإليه بُعث "مُحيصة بن مسعود" لدعوته ولدعوة قومه إلى الإسلام2, وبها قوم من "بني مرة"3, وقوم من "بني سعد بن بكر"4.
وكان أهل خيبر من يهود كذلك، يتحكم فيهم رؤساء منهم، ولهم حصون وآطام تحمي أموالهم ومساكنهم، فُتحت في أيام الرسول بسبب معاداة أهلها للإسلام واتفاقهم مع المشركين, وكان يظاهرهم "غطفان". ومن حصونهم "حصن ناعم" و"حصن القموص", حصن "أبي الحقيق"، و"الوطيح" و"السلالم"، وكان آخر حصون خيبر، و"الشق" و"النطاة"5.
وكاتب الرسول "بني غاديا"، وهم قوم من يهود, وكتب كتاب رسول الله إليهم: "خالد بن سعيد"6. وكتب "خالد" كتابًا آخر إلى "بني عريض" وهم أيضًا قوم من يهود، حدد لهم الرسول ما فرضه عليهم، يؤدونه لحينه في كل عام7.
وكان يهود "بني قينقاع" قد تحالفوا مع الأوس والخزرج، تحالفوا مع "عبد الله بن أبي سلول"، كما تحالفوا مع "عبادة بن الصامت", وكانوا صاغة، ولهم سوق عرف بـ"سوق بني قينقاع"، وكانوا أشجع يهود. فلما كانت وقعة "بدر" أظهروا ميلًا إلى قريش، فحاصرهم الرسول، ثم غلبهم فأجلاهم عن ديارهم ولحقوا بأذرعات8.
__________
1 البلدان "8/ 275" "وادي القرى"، "5/ 343" "بيروت 1957"، تأريخ الخميس "2/ 58"، البلاذري، فتوح "47".
2 ابن الأثير "2/ 93"، البلدان "6/ 343 وما بعدها".
3 الطبري "3/ 32", "ذكر مقاسم خيبر وأموالها"، نهاية الأرب "17/ 272".
4 نهاية الأرب "17/ 209".
5 الطبري "3/ 9 وما بعدها".
6 ابن سعد، طبقات "1/ 279".
7 المصدر نفسه.
8 نهاية الأرب "67/ 67"، "ذكر غزوة بني قينقاع".(7/264)
ومن منازل "بني لحيان" موضع "غُرَّان"، وادٍ بين أمج وعُسفان إلى بلد يقال له "ساية". وهو موضع مرتفع غزاه الرسول غزوته التي عرفت بـ"غزوة بني لحيان" في سنة ست للهجرة1, وكان بنو لحيان ومن لافهم من غيرهم قد استجمعوا، فلما بلغهم إقبال الرسول إليهم هربوا، فلم يلقَ كيدًا2, واعتصموا في رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد, ولم تستطع السرايا أن تقبض على أحد منهم، فرجع الرسول3.
وأقام "القُرطاء"، وهم "بنو قرط"، "قريط" من "بني كلاب"، بناحية "ضرية"، فبعث رسول الله إليهم "محمد بن مسلمة"، فاستاق إبلًا وغنمًا منهم، وهرب القرطاء4. وقد أرسل الرسول "أبا بكر" لغزو "بني كلاب" بنجد، وذلك سنة سبع للهجرة, وذكر أنه غزا "بني فزارة"5. وأرسل إليهم سنة تسع "الضحاك بن سفيان الكلابي"، ومعه "الأصيد بن سلمة بن قرط"، فلقيهم بـ"الزج" موضع بنجد، وتغلب على "القرط"6.
ولما غزا الرسول غزوة "الأبواء"، وهي غزوة "ودَّان"، وكانت أول غزوة غزاها الرسول، وادعه "مخشي بن عمرو الضميري"، وكان سيد "بني ضمير" "بني الضمير" في ذلك الوقت. والأبواء قرية من أعمال "الفرع" من المدينة، بينها وبين "الجحفا" مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا7.
وتقع ديار "بني مدلج" بناحية "ينبع"، ومن أرضهم "ذو العشيرة" وهو لبني مدلج. وقد غزاهم الرسول غزوته المعروفة بـ"ذي العشيرة" على رأس ستة عشر شهرًا من مُهاجَره، فوادعهم ووادع حلفاءهم من "بني سمرة"8.
__________
1 الطبري "2/ 595".
2 البلاذري، أنساب "1/ 348".
3 نهاية الأرب "17/ 200 وما بعدها".
4 نهاية الأرب "17/ 200".
5 نهاية الأرب "17/ 271".
6 نهاية الأرب "17/ 350 وما بعدها".
7 نهاية الأرب "17/ 4".
8 نهاية الأرب "17/ 6".(7/265)
ويظهر أن هذا الموضع إنما سمي بـ"ذي العشيرة"، نسبةً إلى الصنم "ذي العشيرة"، كان له معبد في هذا المكان، فعرف به.
ومن القبائل التي أقامت على مقربة من مكة "خزاعة"، ومن رجالهم عند ظهور الإسلام "عمرو بن الحمق" الكاهن، صحب النبي وشهد المشاهد مع "علي" وقتله "معاوية" بالجزيرة, وكان رأسه أول رأس نصبت في الإسلام1, و"عمرو بن سالم الخزاعي"، الذي جاء إلى الرسول يشكو تظاهر "بني بكر بن عبد مناة بن كنانة" وقريش على خزاعة، ونكث قريش عهدهم الذي قطعوه للرسول ألا يظاهروا أحدًا على خزاعة، فكان ذلك من عوامل فتح مكة2.
ومن رجال خزاعة "بديل بن ورقاء بن عبد العزى"، شريف كتب إليه النبي يدعوه إلى الإسلام، وكان له قدر في الجاهلية بمكة3. ومن بطون خزاعة "بنو المصطلق"، وعرفوا بـ"بلمصطلق" أيضًا، وقد كانوا ينزلون بـ"المريسيع"، وهو ماء لهم، من ناحية "قُديد" إلى الساحل. وقد كان قائدهم وسيدهم "الحارثُ بن أبي ضرار"، أبو "جويرية" التي تزوجها النبي بعد أن خرج إليهم في غزوة "بني المصطلق" من سنة ست، وهم من "خزاعة"4. وكان "الحارث" قد سار في قومه ومن قدر عليه من العرب, ودعاهم إلى حرب الرسول. فلما وصل الرسول إلى "المريسيع"، تفرق من كان مع الحارث من العرب، وتغلب الرسول على "بني المصطلق" وأخذ منهم أسرى وغنائم، وكانت "جويرية" في جملة من وقع في الأسر فتزوجها الرسول. ومن بطون خزاعة "بنو الملوّح"، وكانوا بـ"الكديد"5.
وكان في جمله من يقيم بتهامة "بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة"، ومن مياههم "الغميصاء"6. ولما توفي الرسول تجمعت بتهامة جموع من مدلج،
__________
1 الاشتقاق "279".
2 الطبري "3/ 42"، الاشتقاق "280"، البلاذري، أنساب "1/ 353".
3 الاشتقاق "280".
4 الطبري "2/ 604"، "دار المعارف"، إرشاد الساري "6/ 336".
5 الطبري "3/ 27 وما بعدها"، الاشتقاق "280 وما بعدها".
6 الطبري "3/ 66 وما بعدها".(7/266)
تأشب إليهم شذاذ من خزاعة وأفناء من كنانة، عليهم جندب بن سلمى، أحد "بني شنوق"، من بني مدلج، فحاربهم "خالد بن أسيد"، وشتت شملهم, وأفلت جندب، ثم ندم على ما صنع1.
وكتب الرسول لقوم من "أهل تهامة": بديل وبسر وسروات بني عمرو, ذكر فيه أنه لم يأثم مالهم، ولم يضع في جنبهم، ثم قال لهم: "وإن أكرم أهل تهامة علي وأقربهم رحمًا مني أنتم, ومن تبعكم من المطيبين". ثم أخبرهم أن "علقمة بن علاثة" قد أسلم, وأسلم "ابنا هوذة وهاجرا وبايعا على من تبعهم من عكرمة"2.
وينقل "ابن سعد" صورة كتاب كتبه "أبي بن كعب" وجهه "لجماع كانوا في جبل تهامة, قد غصبوا المارة من كنانة ومزينة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد"، فلما ظهر رسول الله، وقوي أمره، وفد منهم وفد على النبي, فكتب لهم كتابًا جاء فيه: "هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لعباد الله العتقاء. إنهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فعبدهم حر ومولاهم محمد, ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها, وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه فهو لهم, وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم، ولا ظلم عليهم ولا عدوان"3.
ويظهر من مضمون هذا الكتاب, ومن بيان أهل الأخبار عن الذين كانوا قد اعتصموا في جبل تهامة، أنهم كانوا من الخارجين على الأعراف، ومن الرقيق الآبق، تجمعوا في هذا المكان المرتفع وتحصنوا وأخذوا يغتصبون منه المارة. وبقوا على ذلك حتى ظهر الإسلام على أعدائه، فوجدوا إذ ذاك أنهم لن يتمكنوا بعد ظهور الرسول من الاستمرار في التحرش بالمارة والتحرز بهذا الجبل، وأن ظروفًا جديدة فد ظهرت، ستؤمن لهم سبل العيش، وأن الرسول سيعفو عنهم
__________
1 الطبري "3/ 67 وما بعدها".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 272".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 278".(7/267)
ويغفر لهم ما وقع منهم قبل الإسلام، فجاءوا إليه وأسلموا عنده, وكتب لهم كتاب أمان بذلك.
ومنازل "كنانة" بتهامة، وهم فيها قبل الإسلام بأمد طويل.
و"علقمة بن علاثة" هو "علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب"1. وهو الذي نافر "عامر بن الطفيل" عند "هرم بن قطبة بن سنان"2.
وأما "ابنا هوذة" فهما: العداء وعمرو ابنا خالد بن هوذة, من بني عمرو بن ربيعة بن عامر بن صعصعة3.
وأما "عكرمة"، فعكرمة بن خصفة بن قيس عيلان, وذكر أن مراد الرسول بـ" ومن تبعكم من المطيبين"، "بنو هاشم"، وبنو زهرة، وبنو الحارث بن فهر، وتيم بن مرة، وأسد بن عبد العزى4.
وكتب الرسول إلى "العداء بن خالد بن هوذة"، ومن تبعه من "عامر بن عكرمة"، أنه "أعطاهم ما بين المصباعة إلى الزح ولوابة", يعني لوابة الحرار. وكتب لهم الكتاب: خالد بن سعيد5.
ومن منازل "هذيل" "الرجيع"، وهو ماء لهم6. ويقع إلى الشرق من "هذيل" ديار "ضبة" وديار "عبد مناة"، أما في جنوبها فتقع ديار "خثعم" وثقيف، وتمتد ديارها في الشمال حتى تتصل بديار "بني سليم"، ومن "هذيل" "سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي"، وكان قد جمع جمعًا ليغزو به الرسول، وكان قد نزل "نخلة" أو "عرنة"، موضعًا بقرب عرفة، أو قرية بوادي عرفة، فأرسل رسول الله إليه "عبد الله بن أنيس"
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 272".
2 المحبر "135".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 273".
4 ابن سعد، طبقات "1/ 273".
5 ابن سعد، طبقات "1/ 273".
6 البلاذري، أنساب "1/ 375".(7/268)
فقتله1. ومن القبائل المجاورة لهذيل: "فهم" و"عدوان", وكانت ديارهم بالسراة2.
وممن كتب إليهم الرسول، ودون "ابن سعد" صور كتبه إليهم: "سعيد بن سفيان الرعلي", وقد أعطاه الرسول "نخل السوارقية وقصرها، لا يحاقه فيها أحد", وكتب الكتاب وشهد عليه "خالد بن سعيد"3, و"عتبة بن فرقد", وقد أعطاه الرسول موضع دار بمكة، يبنيها مما يلي المروة4.
على هذا النحو كان الوضع السياسي في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام وفي أوائل أيامه: قوى مستقلة تخشى القبائل المحيطة بها, وأذواء وأقيال في اليمن وحضرموت ورؤساء قبائل يتحكمون في مناطق نفوذ قبائلهم، ويعيشون على ما يأخذونه من أتباعهم من حق الرئيس على المرءوس في السلم وفي الحرب، وهم فيما بينهم في خصام وتنافس، لم تتركهم الخصومة من الانصراف إلى شئون رعيتهم، وهم أنفسهم لم يفكروا في الانصراف إلى ذلك. فتدهورت الأحوال، وظهر أفراد ينادون بإصلاح السال، وبالتفكير في تحسين الأوضاع وبالتعقل, وكان الصراع بين الفرس والروم, قد جسَّر الأعراب على الدولتين, وأخذت النصرانية ترسل المبشرين إلى العرب، لنشر النصرانية بينهم. وتغلب القلم المتصل الحروف، الذي صار قلم العرب والإسلام على القلم المنفصل الحروف, قلم العرب القديم، القلم المسند, وانتشر في مكة ويثرب. ونادى الأحناف بنبذ الوثنية والأوثان, ونزل الوحي على الرسول في أول العشر الثاني من القرن السابع للميلاد. وظهر الإسلام داعيًا العرب وغيرهم إلى الإيمان بإله واحد خالق لهذا الكون, وبرسالة رسوله وبما جاء به من أوامر وأحكام. فكان ظهوره نهاية للجاهلية، وبداية لعهد جديد، عهد الإسلام.
وبظهور الإسلام على أعدائه في جزيرة العرب، وبقضائه على أهل الردة، أوجد لجزيرة العرب وجهًا جديدًا من وجوه الحياة، لم تشهده في حياتها ولم
__________
1 نهاية الأرب "17/ 128 وما بعدها".
2 البكري, معجم "1/ 88".
3 ابن سعد, طبقات "1/ 285".
4 ابن سعد, طبقات "1/ 285".(7/269)
تعرفه. وقد أوجد الإسلام موارد غنية من موارد الرزق، وبسط لهم الأرض من الصين إلى المحيط "الأطلنطي", وأخرج سكانها من ديارهم الفقيرة وأنزلهم في ديار غنية كثيرة السكان. وعرفوا بذلك نظمًا لم تكن مألوفة عندهم، وأممًا لم يسمع أكثرهم بها، وخرج المؤمنون الأولون والمؤلفة قلوبهم ومن دخل الإسلام وقلبه غير مطمئن به، إلى خارج جزيرة العرب يحكمون باسم الإسلام, حدث كل ذلك في مدة لا تعد طويلة بالنسبة إلى ما وقع فيها من أحداث.
فالإسلام، إذن نهاية حياة قديمة، وبداية حياة جديدة، وتختلف عن الحياة الأولى كل الاختلاف.(7/270)
الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي
مدخل
...
الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي
المجتمع العربي: بدو وحضر, أهل وبر وأهل مدر، يتساوى في هذه الحال عرب الشمال وعرب الجنوب وعرب جميع أنحاء جزيرة العرب الأخرى.
وقسم بعضهم عرب الجاهلية إلى ملوك وغير ملوك، وقسموا سائر الناس بعد الملوك إلى طبقتين: أهل مدر وأهل وبر. فأما أهل المدر فهم الحواضر وسكان القرى، وكانوا يعيشون من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض للتجارة. وأما أهل الوبر فهم قطان الصحاري, يعيشون من ألبان الإبل ولحومها، منتجعين منابت الكلأ، مرتادين لمواقع القطر، فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي، ثم يتوجهون لطلب العشب وابتغاء المياه، فلا يزالون في حل وترحال1.
ويعرف الحضر، وهم العرب المستقرون بـ"أهل المدر"، عرفوا بذلك لأن أبنية الحضر إنما هي بالمدر, والمدر: قطع الطين اليابس. قال "عامر للنبي -صلى الله عليه وسلم-: لنا الوبر, ولكم المدر"، فعنى به المدن أو الحضر2, ومن هنا قيل للحضر: بنو مدراء3. وورد في حديث "الجسَّاسة والدجال":
__________
1 ابن العبري، مختصر الدول "158 وما بعدها".
2 اللسان "5/ 162"، "مدر".
3 اللسان "5/ 162"، "مدر".(7/271)
"تبعه أهل الحجر وأهل المدر، يريد أهل البوادي الذين يسكنون مواضع الأحجار والرمال، وأهل المدر، أهل البادية"1. ويظهر من روايات أخرى أن "أهل المدر" هم أهل البادية، ولكن أكثرها أن "أهل المدر" هم الحضر؛ لأن اتخاذ بيوت المدر لا يكون في البادية، بل في الحضر.
وورد أن أهل البادية إنما قيل لهم "أهل الوبر"؛ لأن لهم أخبية الوبر, تمييزًا لهم عن أهل الحضر الذين لهم مبانٍ من المدر، ومن هنا قيل للقرية "المدرة"؛ لأنها مبنية بالطين واللبن، وذكر أن "المدرة" القرية والمدينة الضخمة أيضًا؛ لأن المدن تبنى بالمدر أيضًا, ومن هنا قيل للحضر عمومًا: بنو مدراء2.
ويذكر علماء اللغة أن الحضر والحاضرة والحضارة خلاف البادية والبداوة والبدو. والحضارة الإقامة في الحضر, والحاضر والحضر هي المدن والقرى والريف، سميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار3. وقد عرفوا بأهل القارية، وذلك في مقابل أهل البادية، لأهل البدو4.
و"أهل القرار" هم الحضر؛ لأنهم اختاروا القرار وأحبوا الاستقرار والإقامة في مكان واحد, ولأن الطبيعة حبتهم بكل شيء يغري على الارتباط بالأرض, ولو ولد الأعرابي بين الحضر وتوفر لديه ما يؤمن له رزقه الدائم في مكانه الذي ولد فيه، لما تنقل وارتحل، ولصار حضريا من دون شك مثل سائر أهل الحضر. ولكن الطبيعة حرمته من نعم الاستقرار، فصار بدويًّا يتتبع العشب والماء, فالطبيعة هي المسئولة عن البداوة وعن انتشارها في جزيرة العرب.
ومن هنا قيل للحضري الذي لا ينتجع ويكون من أهل الأمصار "القراري", ولما كان أكثر "أهل القرار" هم من الصناع، قيل لكل صانع: "قراري".
__________
1 اللسان "4/ 166"، "حجر".
2 تاج العروس "3/ 535"، "مدر".
3 تاج العروس "3/ 146"، "حضر".
4 اللسان "15/ 178"، "قرا".(7/272)
وذكر بعض علماء اللغة أن "القراري": الخياط, واستشهدوا على ذلك ببيت شعر للأعشى، هو:
يشق الأمور ويجتابها ... كشق القراري ثوب الردن
وذكر بعض آخر أنه القصَّاب. وقد تجوَّز الناس فيما بعد، فقالوا: خياط قراري، ونجَّار قراري1.
ويقال لساكن القرية القاري، كما يقال لساكن البادية البادي. والقارية سَكَنَة القرى أي خلاف البادية والأعراب, والقرية كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارًا, وتقع على المدن وغيرها2, وسكانها من الحضر. ويذكر علماء اللغة أن المدينة من مَدَنَ، بمعني: أقام بمكان, ويراد بها الحصن يبنى في أصطمة الأرض3، وتقابلها لقظة "مدينتو" في الأرمية4. و"هكرن" "هكر" "هجر" في العربية الجنوبية. وأما "البلدة"، فذكر علماء اللغة أنها كل موضع أو قطعة من الأرض مستحبزة عامرة أو عامرة، خالية أو مسكونة5. فالبلدة، إذن من مواطن الحضر أيضًا.
وقد كان من الصعب التمييز عند الشعوب القديمة بين القرى والبلدان والمدن، وكل بلدة أو مدينة كانت قرية في الأصل، أي: مستوطنة صغيرة غير محصنة، وعندما ازداد عدد سكانها، وكثر عمرانها ومالها لأسباب عديدة، توسعت وحصن أهلها أنفسهم بحصون وبأطم أو بسور وخندق يحيط به لمنع العدو من الدنو منها6. وبهذه التحصينات وبكثرة عدد السكان تميزت هذه المستوطنات السكنية بعضها عن بعض، ولهذا كانت الشعوب القديمة لا تطلق لفظة "مدينة" إلا على القرى المحصنة المسورة، وفي ضمن هذه الشعوب العرب.
وتطلق لفظة "عرب" على أهل المدر خاصة، أي: على الحضر، و"الحاضر"
__________
1 تاج العروس "3/ 490"، "قرر".
2 تاج العروس "10/ 290"، "قرى".
3 تاج العروس "9/ 342"، "مدن".
4 غرائب اللغة "205".
5 تاج العروس "2/ 305"، "بلد".
6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 321"، "مدينة", Hastings, p. 143, 944, 958.(7/273)
و"الحاضرة" من العرب، أما أهل البادية فعرفوا، بـ"أعراب"، مع أن كلمة "العرب" قد أطلقت في لغتنا لتشمل العربين: عرب الحاضرة وعرب البادية1. ويظهر أن هذا الإطلاق إنما وضع قبيل الإسلام، فقد سبق لي أن بينت في الجزء الأول من هذا الكتاب تأريخ كلمة "عرب"، وبينت كيف تطورت اللفظة إلى ظهور الإسلام، وقد رأينا أنها كانت تعني أهل البادية، أي: الأعراب في الأصل. أما الحضر فعرفوا بأسماء أماكنهم أو قبائلهم، وآية ذلك أن التوراة والكتابات الآشورية والبابلية بل والجاهلية، أي الكتابات العربية التي تعود إلى ما قبل الإسلام، كانت كلها إذا ذكرت الحضر، ذكرتهم بأسمائهم ولم تطلق عليهم لفظة "عرب"، أما إذا ذكرت أهل البادية، فإنها تستعمل لفظة "عرب" و"عربي"، أي أعراب وأعرابي مع أسمائهم، وذلك مثل "جندب"، وهو رئيس قبيلة، وقد حارب الآشوريين، فقد دعي في الكتابات الآشورية بـ"جندب العربي"، أو "جندب الأعرابي" بتعبير أصح، ومثل "جشم" الذي نعت في سفر "نحميا" من أسفار التوراة بـ"جشم العربي" إشارة إلى كونه من الأعراب، لا من الحضر، وهو من الملوك كما سبق أن تحدثت عنه في الجزء الأول من هذا الكتاب2, إلى غير ذلك من أمثلة تحدثت عنها في أثناء حديثي عن لفظة عرب.
أما "يقطن" وهو "قحطان", ونسله مثل: سبأ وحضرموت. وأما "إسماعيل" ونسله، وأما أهل "تيماء" و"مدين" وأمثالهم فلم تطلق التوراة عليهم لفظة "عرب"؛ لأنهم لم يكونوا أعرابًا، بل كانوا حضرًا؛ ولهذا ذكرتهم بأسمائهم، فاستعمال "عرب" إذن بمعنى أهل الحاضر والحاضرة، أو أهل المدر، هو استعمال متأخر، ظهر بعد الميلاد.
لقد ذهب علماء العربية كما سبق أن بينت في الجزء الأول من هذا الكتاب، إلى أن العربية هي لغة "يعرب"، وهو أول من أعرب بلسانه على حد قولهم، وذهبوا إلى أن العدنانيين متعربون، ولم يكونوا عربًا في الأصل، ثم تعلموا
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 12".
2 "ص646 وما بعدها".(7/274)
واختلطوا بالعرب، حتى صاروا طبقة خاصة منهم1. وذهبوا إلى أن التبابعة كانوا عربًا ينظمون الشعر بالعربية التي نظم بها الشعراء الجاهليون شعرهم, ثم ذهبوا إلى أن "حمير" كانت تتكلم بلسان غريب عده بعض العلماء غير عربي2, مع أنها من لب العرب الصرحاء على حسب رأيهم، ولم يبينوا كيف وقع ذلك عندهم، إلى آخر ما نراه عندهم من آراء، لم تبن على دراسات تأريخية أصلية ونصوص جاهلية.
ولو كان المذكورون أحياء في هذا اليوم، ولو كانوا قد وقفوا على النصوص الجاهلية المختلفة وقرءوها لغيروا رأيهم حتمًا من غير ريب، ولقالوا قولًا آخر غير قولهم المتقدم في العربية وفي سبب تسميتها. فعربية القرآن الكريم هي عربية أهل مكة وما والاها، وهي عربية الأعراب، أي: عربية أهل البادية، أما عربية أهل اليمن، وهم صلب القحطانية، فعربية أخرى، وإن أردت قولًا أصح تعبيرًا وأدق تحديدًا، فقل: عربيات أخرى، فعربية يعرب إن تجوزت وجاريت رأي أهل الأنساب والأخبار وقلت قولهم في وجود جد وهو يعرب، يجب أن تكون عربية أخرى، بل عربيات مخالفة لعربية أهل مكة، وذلك استنادًا إلى النصوص الجاهلية المدونة بأقلام أبنائه وحفدته والواصلة إلينا. ولما كانت اللغة العربية، هي عربية القرآن الكريم في رأي علماء اللغة، وهي عندهم وحدها اللغة الفصحى، وأشرف لغات العرب، إذن فلغة يعرب على هذا القياس لغة أعجمية غير عربية, أو عربية من الدرجات الدنيا إن أردنا التساهل في القول. وعندئذ يكون يعرب هو العربي المتعرب، ويكون نسله على وفق هذا المنطق، هم العرب المستعربة، لا العرب العدنانيين.
ويكون العدنانيون هم أصل العرب ولبّها والعرب العاربة الأولى، أي عكس ما يراه ويزعمه أهل الأخبار. أحكي هذا القول بالطبع متجوزًا أو مجاريًا رأي أهل الأخبار ولا أحكيه لأني أراه، فأنا لست من المؤمنين بمثل هذه الأقاصيص التي يقصها علينا القصاص، ولا سيما قصاص أهل اليمن من أمثال وهب بن منبه وابن أخته، أو ابن الكلبي، وبعض القصاص الذين هم من أصل يهودي
__________
1 تاج العروس "1/ 371"، "عرب".
2 المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام "1/ 15 وما بعدها".(7/275)
مثل وهب المذكور ومحمد بن كعب القرظي، فرأيي أن كل لغات العرب الجاهلية هي لغات عربية، وأنها كانت متباينة عديدة، وبعضها لغات وصلت مرحلة التدوين مثل المعينية والسبئية والقتبانية والحضرمية وغيرها، ولغات تصل إلى درجة التدوين عند المتكلمين بها، لا يمكن أن تعد لغات سوقة ولهجات عامة.
وبعد, فلست أرى أن بين "يعرب" المزعوم، وبين لفظة "العربية" والعرب أية رابطة أو صلة، وأن الصلة المزعومة المذكورة التي يذكرها أهل الأخبار في تفسير اللفظة، هي صلة خلقت خلقًا وصنعت صنعًا؛ لكي يجد صانعوها لهم مخرجًا في تفسيرها، وليس تفسيرهم هذا هو أول تفسير أوجدوه، فلدينا مئات من التفاسير المصنوعة، لألفاظ أشكل أمرها على الرواة وأهل الأخبار، فوضعوا لها تفسيرات على هذا النمط، ليظهروا أنفسهم مظهر العالمين بكل شيء.
هذا وقد قلنا: إن العربية هي بمعنى الأعرابية، أي: البداوة في لغة الأعاجم وفي لغات أهل جزيرة العرب أنفسهم، وهي نسبة إلى العرب، والعرب هم الأعراب في البدو في لغات المذكورين. فتكون العربية إذن بمعنى عربية الأعراب, أي: لغة أهل الوبر، وقد نسبت إليها، لا إلى يعرب بن قحطان. وهي بالطبع لم تكن لهجة واحدة، أي عربية واحدة، بل كانت لهجات, قيل لها عربية؛ لأن الأعراب وإن كانوا قبائل، تجمع بينهم رابطة واحدة هي رابطة البداوة, فكأنهم طبقة واحدة، تقابلهم طبقة "أهل المدر" وهم الحضر؛ لذلك نعت لسانهم بلسان عربي. ولما كانت البداوة أعم من الحضارة في بادية الشام وفي طرفي الهلال الخصيب ونجد والحجاز والعربية الشرقية، صار لسانها اللسان الغالب في هذه الأرضين، وبلسانها نظم الشعراء شعرهم، وبلسان عرب الحجاز نزل القرآن الكريم، فصار لسانهم لسان الوحي والإسلام.
ومن ثَمَّ صار اعتماد أوائل علماء العربية في دراستهم لقواعد اللغة من نحو وصرف ومن استشهاد بشواهد على "العرب"، أي أهل الوبر من أبناء البادية، من الأعراب المعروفين بصدق لسانهم وبصحة أعرابيتهم وبعدم تأثر ألسنتهم بألسنة الحضر من أهل الحواضر, بل لم يكتف أولئك العلماء بألسنة هؤلاء الأعراب القادمين عليهم من البوادي، لأسباب لا مجال لذكرها هنا، فركبوا إبلهم وذهبوا بأنفسهم إلى صميم البوادي البعيدة عن الحضر؛ ليأخذوا اللغة صافية نقية من أفواه رجالها الأصلاء الذين لم يتعلموا خدع أهل الحاضرة وغشهم وكذبهم، ولم تنحرف(7/276)
ألسنتهم عن ألسنة أجدادهم، ولم تتأثر بأحرف الأعاجم المندسِّين في القرى والمدن والأرياف. فكان "سيبويه" مثلًا إذا استشهد بشاهد أشار إلى أنه من "العرب الذين ترضى عربيتهم" أو من "العرب الموثوق بعربيتهم"1, أو من "العرب الموثوق بهم"، أو من "فصحاء العرب". وكان يرى أن لسان أهل الحجاز هو "الأول والأقدم"2, وكان علماء اللغة إذا اختلفوا في شيء من اللغة من ألفاظ أو قواعد، حكَّموا أهل البادية، أي: الأعراب, فيما شجر بينهم من خلاف، حتى وإن كان أولئك العلماء من أوثق الناس علمًا بعلم العربية، فحكموا الأعراب مثلًا في المناظرة اللغوية التي وقعت بين سيبويه والكسائي والأخفش في حضرة "يحيى بن خالد" مع أنهم أعلم الناس بعلوم العربية3. وقد أورد "ابن النديم" أسماء عدد من "الأعراب" كان علماء العربية يلجئون إليهم في الملمات، ويأخذون عنهم، ويحكمونهم فيما يقع بينهم من خلاف، فهم "حكام" ذلك الزمن وقضاته، يحكمون في منازعات الناس في اللغة4.
والحد الفاصل بين الحضارة والبداوة، هو طراز الحياة ونوعها؛ فالحضر أهل قرار، والأعراب ينتجعون ويتتبعون مساقط الغيث, يرعون الكلأ والعشب إذا أعشبت البلاد، ويشربون "الكرع" وهو ماء السماء، فلا يزالون في النجع إلى أن يهيج العشب من عام قابل وتنش الغدران، فيرجعون إلى محاضرهم على إعداد المياه5, وحياتهم على الإبل فلا يعتنون بتربية ماشية غيرها. ومن هنا اقترنت البداوة بالبادية وبتربية الإبل, التي تنفرد عن غيرها من الحيوانات بقابليتها على المعيشة في البادية, وبقوة صبرها على تحمل الجوع والعطش أيامًا, بينما تقصر همم الحيوانات الأخرى عن مجاراتها في هذا الباب. ومن هنا نقصد بالأعراب البدو الحقيقيين أبناء البادية, وأصحاب الجمال الذين ينتجعون ويتتبعون مساقط الغيث ويشربون الكرع ويكون تماسهم بالحضارة والحضر قليلًا6.
__________
1 الكتاب "1/ 93، 153، 451"، "2/ 264، 423، 451".
2 الكتاب "2/ 41، 424"، يوهان فك، العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب, "ص50 وما بعدها", "تعريب عبد الحليم النجار".
3 الفهرست "82 وما بعدها".
4 الفهرست "ص71 وما بعدها".
5 تاج العروس "5/ 519"، "نجع".
6 De Vaux, Ancient IsraeI, P. 3.(7/277)
وما أقوله يخص أعراب نجد وبادية الشام بالدرجة الأولى. أما أعراب العربية الجنوبية، فإن وضعهم يختلف عن وضع هؤلاء الأعراب، فهم وإن عدوا أعرابًا ونُص عليهم بـ"أعرب" "أعراب" في نصوص المسند، لكنهم لم يكونوا أعرابًا نقلًا، يعيشون على تربية الإبل والغارات وعلى بعض الزراعة وكره الاشتغال بالحرف، بل كانوا شبه مستقرين سكنوا خارج المدن والقرى في مستوطنات متجمعة مؤلفة من بيوت وأكواخ وعشش من طين، ومارسوا تربية الإبل والماشية الأخرى, واشتغلوا بالزراعة وبالحرف اليدوية لم يجدوا في ذلك بأسًا, وكانوا يغيرون على الحضر إن وجدوا فرصة مواتية ولم يكونوا أقوياء بالنسبة إلى الحضر، لوجود حكومات منظمة في استطاعتها ضربهم إن تحرشوا بأهل المدن والقرى، ولهذا لا نجد للأعراب ذكرًا في نصوص المسند القديمة ولم يظهر اسمهم فيها كقوة ضاربة إلا بعد الميلاد وقبيل الإسلام، حين ارتبك الوضع السياسي في العربية الجنوبية، وتدخل الحبش في شئونها، وولع بعض ملوكها مثل الملك "شمر يهرعش" في إثارة الحروب، مما أفسح المجال للأعراب فجربوا حظهم بالدخول في لعب الحروب. فلما وجدوا لهم حظا حسنا وربحا طيبا, مارسوها مع هذا الحاكم أو ذاك, وظهر اسمهم عندئذ في المسند, بل دخل في اللقب الرسمي الذي حمله الملوك, فصار اللقب: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في الهضاب وفي التهائم", وطمع أعراب نجد في الحصول على مغانم في العربية الجنوبية فارتحلوا نحوها، وزاد بذلك عدد الأعراب. ومن هؤلاء كندة الذين تركوا ديارهم بنجد بعد نكبتهم وانضموا إلى إخوانهم في العربية الجنوبية, فصار لهم فيها شأن كبير, حتى ذُكروا في النصوص، ومنها نصوص أبرهة.
ومعاش الحضر على الأرض, يزرعونها ويعيشون عليها، أو على التجارة أو على الحرف اليدوية ونحوها، ومن طبيعة أهل الحضر الاستقرار في أرض تكون وطنًا ثابتًا لهم، ومقامًا يقيمون فيه فيحبونه ويموتون في سبيله. أما أهل الوبر، فهم رحل، يتنقلون طلبًا للماء والكلأ والامتيار، فموطنهم متنقل قلق غير مستقر, الأرض كلها وطنهم، ولكنها الأرض التي يكونون فيها, فإذا ما ارتحلوا عنها، صارت الأرض الجديدة وطنًا لهم جديدًا. أما الأرض القديمة فتكون وطنًا لمن يحل فيها من طارئ جديد أو طارئ قديم.
والمشهور عند العرب وعند الأعاجم، أن العرب قوم يكرهون الزراعة والاشتغال(7/278)
بالحرف والصناعات، ويستخفون بشأن من يشتغل بها ويزدرونه، فلا يتزوجون منه ولا يزوجونه منهم، وينطبق هذا القول على الأعراب وعلى بعض الحضر إلى حد ما، لكنه لم ينطبق على كل العرب. فالعرب الحضر، الذين وُجد الماء بغزارة عندهم، غرسوا الأشجار أيضًا وزرعوا، ولم يجدوا في ذلك خسة ولا دناءة. والعرب الذين توفرت لهم مواد العمل وظروف العمل، اشتغلوا بالحرف وبالصناعات، كما هو شأن الطائف والعربية الجنوبية بل وبعض رجال مكة أيضًا, أما الذين ازدروها وكرهوها فهم الذين لم تتوفر لهم الأسباب التي تغريهم على الاشتغال بالحرف والصناعات، ولم تتوفر لديهم المواد الأولية ولا الظروف المساعدة على قيام الحرف؛ لذلك كرهوها كره من يكره شيئًا لأنه لا يملكه ولا يناله، أو لأن يده لا تصل إليه، ولو ملكه لغيَّر حكمه عليه من غير شك.
وقد أشار "أمية بن خلف الهذلي" إلى اشتغال أهل اليمن بالحرف، بقوله:
يمانيًّا يظل يشد كيرًا ... وينفخ دائبًا لهب الشواظ1
وقد أمدَّ أهل اليمن الحجاز وأماكن أخرى من جزيرة العرب بالسيوف وبمصنوعات المعادن وبالبرد والأنسجة الأخرى. كما عرفوا بإتقانهم البناء والنجارة وغير ذلك من حرف الحضر التي أشير إليها في الشعر الجاهلي.
وقد عِيبَ على أهل اليمن اشتغالهم بالحرف: كالحدادة والحياكة والصياغة وما شاكل ذلك من حرف، على نحو ما تحدثت عن ذلك في فصل: "طبيعة العقلية العربية". ولكن من عابهم كان عالة عليهم وعلى غيرهم من أهل الحرف في أكثر الأمور التي كانت تخص شئون حياتهم اليومية، كالسيوف والخناجر الجيدة مثلًا التي هي عماد المحافظة على حياة الإنسان في البادية. كما اعترف لهم بالتفوق على من كان يزدري الصناعة والحرف، فكانوا يخافونهم في الحروب، ويهابونهم عند القتال، لامتلاكهم أسلحة لا يملكونها هم، وكانوا يلجئون إليهم لتنصيب رئيس منهم عليهم تهابه القبائل؛ لصعوبة انصياع القبائل لقيادة رئيس منها، بسبب التحاسد القبلي، كما كانوا يخضعون لحكم أهل اليمن بسبب تفوقهم عليهم في السلاح وفي الثقافة إلى غير ذلك من أسباب ترجع في الواقع إلى الطبيعة التي
__________
1 تاج العروس "9/ 371"، "يمن".(7/279)
عطفت على اليماني وعلى العربي الجنوبي، ففوَّقته على الأعراب.
ولما كانت طبيعة الجفاف هي الغالبة على جزيرة العرب, كان لهذه الطبيعة أثرها في حياة العرب، فغلبت البداوة على الاستقرار, وأثرت في النظم والآراء السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحربية وفي سائر نواحي الحياة الأخرى. لقد حالت دون قيام المجتمعات الكبرى القائمة على الاستقرار والاستيطان واستغلال الأرض, وجعلت من الصعب قيام الدول الكبيرة في هذه البلاد، وتكوين حكومات تقوم على احترام حقوق جميع أبناء الحكومة دون نظر إلى البيوتات والعشائر والقبائل والرئاسات.
وفي الأماكن التي توافرت فيها المياه، المياه النابعة من الأرض أو النازلة من السماء، نشأت مجتمعات مستقرة، وظهرت حكومات، غير أنها حكومات اختلف طابعها وشكلها باختلاف المحيط الذي ظهرت فيه, والأحوال الطبيعية التي ألمت بها, والقدرة المادية التي تيسرت لديها, فيها الحكومات الصغيرة التي قد تكون حكومات "قرية"، أو رئاسات عشائر, وفيها ما يمكن أن يعبر عنه بحكومات مدن، إن جاز إطلاق مصطلح "المدن" عليها، وفيها حكومات أكبر وأوسع مثل حكومات الحيرة والغساسنة, وفيها حكومات مثل حكومات العرب الجنوبيين, وهي حكومات كبيرة إذا قيست إلى الحكومات التي كونها سادات القبائل في أنحاء أخرى من جزيرة العرب، ولم تعمر طويلًا، بل كانت مثل رغوة الصابون، لا تكاد تنتفخ حتى تزول؛ وذلك لأسباب وعوامل لا يتسع لها صدر هذا المكان.
فالطبيعة هي التي صيرت العرب على هذا الحال، وهي التي غلبت عليهم البداوة, إذ حرمتهم من الماء وجادت عليهم برمال تلفح الوجوه، وبسموم مؤذية وبحرارة شديدة، وبأرض متسعة تظهر وكأنها بحر من رمل لا حد له، صيرت من وُلد فيها إنسانًا قلقًا هائمًا على وجهه، يتنقل من مكان إلى مكان بحثًا عن ماء وأكل, خلا الأماكن السخية التي خرجت منها دموع جرت فوق الأرض بقدر وبمقدار، أو مواضع قَرُبَ الماء فيها من سطح التربة فاستنبطه الإنسان، أو أماكن انهمرت من سمائها العاشقة للأرض دموع حبها في مواسم من السنة فأصابت الأرض بطلٍّ، فاستهوت الإنسان، واستقر بها وتحضر, وصار العرب من ثم بدوًا وحضرًا، أهل بادية وأهل حاضرة.(7/280)
ومن آيات ذلك، أننا نجد قبيلة واحدة، فيها بادية وفيها حاضرة، استقرت وتحضرت وسكنت في بيوت ثابتة، لا يهمنا أكانت بيوتها من صخر أم من حجر أم من مدر أم من بيوت شعر, إنما المهم أنها بيوت ثابتة ارتبطت بالأرض، شعر قطانها أن لهم صلة بهذه الأرض وأن لهم بها رابطة، لا يحل عقدها إلا الموت أو الضرورات القصوى، فقريش حاضرة وبادية، وجهينة حضر، أقاموا بينبع وقرية "الصفراء"، وأعراب هبطوا رضوى و"عَزْوَر"1. و"همدان" حاضرة وبادية, ونهد حضر، وهم من سكن الصفراء منهم، وأهل وبر، وهم من سكن دون المدر في جبلي رضوي وعزور2. وتنوخ حضر، وتنوخ أهل بادية وتنقل, إلى غير ذلك من قبائل استقرت أحياء منها، وتبدت أحياء أخرى منها.
ثم إننا نجد قرى منتشرة في مواضع من العربية الغربية وفي نجد والعربية الشرقية أو العربية الجنوبية، وقد سكنها قوم عرب حضر زرعوا وحفروا لهم الآبار وتعهدوا العيون بالرعاية ليستفيدوا من مياهها، وجاءوا بأشجار من الخارج لزرعها هناك. وفي كتب "الهمداني" و"عرام"، وكتب غيرهما ممن بحث عن جزيرة العرب أسماء قرى ومدن جاهلية، كانت ذات مزارع وحدائق، أما اليوم، فبعضها أثر, وبعض منها قد زال وذهب مع الذاهبين، لم يترك له حتى بقية من أثر. وتلك المواضع هي دليل في حد ذاته على أن الماء إذا وُجد في مكان ما أكره سكانه على الاستقرار به، وأجبر قسمًا من أهله على الاشتغال بالزرع. ولم ينضب الماء من تلقاء نفسه عن المواضع التي اندثرت وماتت وإنما وقعت أحداث لا مجال لي للبحث عنها في هذا المكان، ومنها الهجرة إلى خارج جزيرة العرب بالفتح وتحول الطرق التجارية العامة وإعراض الحكومات عن الاهتمام بشئون جزيرة العرب ونحوها, فأكرهت السكان على الارتحال عنها، فأهملت آبارها وترستها الرمال فجفت وذهب ماؤها عنها.
وفي تلك المواضع التي توفرت فيها المياه, من مطر وعيون وآبار ومياه جوفية
__________
1 بفتح العين وسكون الزاي وفتح الواو، اللسان "4/ 563"، "عزر"، عرام، أسماء جبال تهامة "8 وما بعدها".
2 عرام "7".(7/281)
قريبة من سطح الأرض, ظهرت الحضارة على شكل قرى ومستوطنات وأسواق موسمية، كان لها كلها أثر خطير في حياة العرب عمومًا من عرب وأعراب, لما كان يقع فيها من اتصال ومن تبادل آراء بين الحضر والبدو، وبين هؤلاء جميعًا وبين الأعاجم الذين كانوا يؤمونها للاتجار بها بصورة مؤقتة أو دائمة، حيث كانوا يقيمون بها إقامة طويلة أو أبدية، وبالأعاجم الذين كانوا يقيمون فيها رقيقًا مملوكًا لمن اشتراهم من الملاكين. وبذلك حدث نوع من التلقيح في الآراء والأفكار وفي شئون الحياة، تلقيح مهما قيل فيه وفي درجته فإنه تلقيح على كل حال1. وهذه المواضع هي التي كونت وخلقت تأريخ العرب فيما قبل الإسلام.
وقد نبه "الجاحظ" إلى الاختلاف بين البدوي والحضري، والسهلي والجبلي، فأشار إلى اختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، وإلى اختلاف ما بين من نزل البطون وبين من نزل الحزون، وبين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار، ثم إلى ما ترك هذا الاختلاف في المواضع والمكان من أثر في اختلاف اللغة, فتحالفت عليا تميم، وسفلى قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز في اللغة. وهي في أكثرها على خلاف لغة حمير، وسكان مخاليف اليمن, "وكذلك في الصورة والشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي خالص". وأشار إلى ما تركه هذا السكن من أثر في أخلاق العرب، حتى ليقال: "إن هذيلًا أكراد العرب"2؛ بسبب طباعهم وصبرهم على تحمل القتال.
كما أشار "الجاحظ" إلى أن هذا الاختلاف ظاهر في العرب جميعًا، قحطانيين وعدنانيين. ومع ذلك فهم كلهم عرب؛ لأنهم استووا في التربة وفي اللغة والشمائل والهمة وفي الأنفة والحمية، وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكًا واحدًا، وأفرغوا إفراغًا واحدًا3.
وكان من أثر اختلاف طبيعة الجو والأرض والضغوط الجوية في أهل جزيرة العرب، أن صار لأهل المدر مجتمع يختلف في شكله وتكوينه عن مجتمع أهل الوبر، وأن صار مجتمع أهل المدر جملة مجتمعات اختلفت في تكوينها باختلاف
__________
1 Hastings, Dlctionary of the Bible, l, p. 133.
2 رسائل الجاحظ "1/ 10، 71"، "مناقب الترك".
3 رسائل الجاحظ "1/ 10 وما بعدها"، "مناقب الترك".(7/282)
الظروف المؤثرة التي تحدثت عنها, وباختلاف المؤثرات الخارجية المحيطة بها أو المجاورة لها والقريبة منها في ظروف تلك المجتمعات. وصار من ثم مجتمع العرب الجنوبيين، ولا سيما مجتمع اليمن، مجتمعًا خاصًّا له طبيعة خاصة وشخصية مستقلة متأثرة بظروف اليمن الكلية من طبيعة أرض وطبيعة جو، وصار لأهل مكة وهم أشبه بأهل الحضر مجتمع خاص له طابع متميز، وصار لأهل الحيرة طابع خاص بهم، وصار لأهل يثرب كذلك مجتمع وطبيعة خاصة متميزة, وهكذا قل عن بقية المجتمعات الحضرية.
فمجتمع اليمن مثلًا مجتمع خاص نجد فيه صفات المجتمع الحضري أكثر مما نراه في أي مجتمع حضري آخر في جزيرة العرب، مجتمع يختلف حتى "عربه" أي بدوه وهم الطبقة الثانية من هذا المجتمع، عن أعراب بقية جزيرة العرب. فهم بالقياس إلى بدو الجزيرة شبه أعراب، ووسط بين البداوة الصرفة وبين أدنى درجات الحياة الحضرية الساذجة المستندة إلى الاستقرار والتعلق بالأرض. ومجتمع اليمن الحضري مجتمع استغل عقله ويده في سبيل تكييف حياته وإسعاد أيامه في الدنيا، فاستغل الأرض وكيفها بحسب قدره واستعداده في إنتاج الغلة الزراعية وفي إنتاج المعادن وفي تربية الحيوان، وأقام له قصورًا وحصونًا، واستورد آلات حية يستعملها وتُيسر له ما يحتاج إليه، واستوردها من كل الأنحاء من الشمال ومن العراق ومن بلاد الشام, واستوردها من إفريقيا, وسخرها في استغلال الأرض وفي إقامة الأبنية وفي أداء الأعمال اليدوية التي تحتاج إلى حذق ومهارة، فتفوق هذا المجتمع من ثم وبمزايا إقليمه من جو وأرض على المجتمعات العربية الأخرى، وأنتج حضارة لا نجد لها مثيلًا في بقية أنحاء جزيرة العرب.
فعرف اليمني في جاهليته واشتهر بمهارته وبحذقه بحرف وبمنتجات بقى ذكرها خالدًا إلى الإسلام, وتميز عن غيره بحسن الذوق وبالبراعة في استعمال أنامله. وحين برع بقية عرب الجزيرة في التعبير عن أحاسيسهم بكلام منظوم، نجد عرب اليمن وبقية العربية الجنوبية يعبرون عن أحاسيسهم بنقشها على المرمر، وعلى بقية الأحجار وعلى المعادن والخشب، ونجد السيوف اليمانية، ولها شهرة وخبر، ونجد بُسُط اليمن وبرودهم وأكسيتهم مشهورة لها صيت في كل مكان، لا يدانيه صيت أي صنف مما ينتج في مكان آخر من أمكنة جزيرة العرب، ونجد لهم ذكرًا في الصياغة وفي سوق الأحجار الكريمة والعطور، وغير ذلك من المنتجات التي تحتاج إلى يد وفكر.(7/283)
ومجتمع اليمن المحتضر، مجتمع طبقي، تكوَّن من طبقات: طبقات رفيعة ذات منزلة ومكانة عالية، تتلوها طبقات أخرى أقل درجة ومنزلة حتى تنتهي بالطبقات الدنيا التي تكون قاعدة لهرم هذا المجتمع وسواد الناس. وهي طبقات تكاد تكون مقفلة، أو شبه مقفلة إن صح هذا التعبير، ولا سيما بالقياس إلى الطبقات الدنيا, التي تجنبت الطبقات التي هي فوقها التصاهر معها والاتصال بها، للفروق المنزلية التي تشعر بوجودها فيما بينها. ثم إن الناس فيها يرثون منازل آبائهم ودرجاتهم، فابن النجار نجار، وابن الحداد حداد في الغالب، وابن التاجر يرث عمل والده, ويستطيع تغيير حرفته وتحسين حاله، إذ ليس لديهم قوانين إلزامية تجبر الناس على البقاء في طبقتهم إلى أبد الآبدين، ولكن مثل هذا التغيير لا يقع إلا إذا كان الشخص ذا استعداد وكفاية وطموح، فيشق طريقه بنفسه هاتكًا ستور الأعراف والعادات.
وما زالت الحياة الاجتماعية في العربية الجنوبية، تستمد قوتها وحياتها من جذور الحياة الاجتماعية القديمة التي كانت عليها قبل الإسلام. فقد نشأت هذه الحياة ونبتت من حاصل ظروف ذلك المجتمع الذي تحدثت عنه، وحافظ على خصائصه إلى هذا اليوم؛ لأنه عاش في عزلة عن العالم الخارجي أو في شبه عزلة؛ ولهذا بقي يعيش على ما تغذيه به بقايا جذور تلك الأيام من غذاء1.
والحضر، وإن استوطنوا واستقروا في أماكن ثابتة، لم يكونوا حضرًا بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا، فلم يكونوا على شاكلة حضر الروم أو الفرس، ولا على شاكلة حضر العراق أو حضر بلاد الشام من غير العرب. إنهم حضر من ناحية السكنى والاستقرار، أي: من ناحية تعلقهم بالأرض ونزولهم بها واستيطانهم فيها، وعدم ارتحالهم عنها على نحو ما يفعل الأعراب، واتخاذهم مساكن دائمة في مكان ما. أما من ناحية التفكير وطراز المعيشة ونظم الحياة الاجتماعية, فقد بقوا مخلصين لمُثُل البوادي ولطبيعتها في الحياة, فهم في قراهم ومدنهم "بيوت" و"بطون"، يقيمون في "شعاب" ولهم عصبية، وهم مثل الأعراب في أكثر مألوف حياتهم. وما زال هذا الطابع الأعرابي باديًا على حياة من نسميهم الحضر في جزيرة العرب وفي خارجها، مؤثرًا في حياتهم السياسية والاجتماعية بل
__________
1 Naval.,P. 405.(7/284)
في عقلية من نسميهم "المثقفين" الدارسين من مدنيين وعسكريين؛ ذلك لأن عقول هؤلاء المثقفين وإن حُشيت بالمعلومات وبالعلوم، لم تتمكن مع ذلك من التخلص من إرث البداوة المستمدة من طبيعة الجو وأثرها في الناس، في الماضي السحيق وفي الحاضر، ومن طبيعة المجتمع الذي خلقته هذه الطبيعة وجبلت الناس عليه. ومن أهم صفاته: العنجهية، والتغني بذكريات الماضي, والابتعاد عن الواقع وعن مشكلات الحياة العلمية، واللجوء إلى العواطف والخيال، والإسراف في تمجيد النفس إلى حد أدى إلى ازدراء كل ما هو غير عربي من إنسان ومن نتاج إنسان, أضف إليها "العصبية" بأنواعها: العصبية للأهل والعصبية للعشيرة ثم القبيلة فالحلف في حالة الأعرابية، والعصبية للأهل والبيوت والشعاب ثم للقرية أو المدينة والقبيلة التي يرجع أهل القرى نسبهم إليها في الأخير، وذلك بالنسبة إلى أهل المدن، ثم الفردية المفرطة التي جعلت من الصعب على الفرد الانقياد لغيره والخضوع لأحد إلا إذا وجد نفسه أمام مصلحة خاصة أو أمام قوة؛ ذلك لأنه يرى نفسه أشرف الناس، وأن من المذلة خضوعه لحكم أحد، ولا سيما إذا كان من يحكمه من أناس هم دون أهله، ومن عشيرة دون عشيرته, ثم ليس هو من أهل الجاه ولا من أهل المال، فيكف يسلم أمره إليه؟!(7/285)
الرعاة:
وندخل في الحضر الرعاة: رعاة الغنم والمعز والبقر؛ ذلك لأنهم اضطروا بحكم طبيعة حياة حيواناتهم إلى شيء من الاستقرار، وإلى عدم التنقل مسافات بعيدة طويلة في البوادي على نحو ما يفعل الأعراب، ثم إنهم يعيشون على الآبار وبرك الماء وعلى مقربة من الحضر، وفي وضع يجعلهم شبه مستقرين في أكثر أيام حياتهم. وهم "أعراب الضواحي"، وعنصر مهم من عناصر تكون القرى والمستوطنات، إذ إن قربهم من الحضر واعتماد حياتهم عليهم، يحملانهم على التأثر بهم، وعلى التقرب منهم ومن مستوطناتهم، فتصير "الخيمة" بيتًا مستقرًّا، ثم تصير "كوخًا" من طين أو من أغصان شجر, ثم تتحول بيتًا من بيوت قرية أو حي من أحياء مدينة، لما في المدينة من وسائل معاشية تستهوي الناس، لا تتوافر في الضواحي البعيدة، فتحول الرعاة قطان مدن.(7/285)
ولا يشترط في الرعاة الاقتصار في حياتهم على تربية الغنم، إذ فيهم من يربي الإبل أيضًا, وهم "رعاة الإبل"1. والفرق الوحيد بينهم وبين الأعراب وهم رعاة الإبل, أن الرعاة يلازمون أرضهم وإذا تنقلوا طلبًا للماء والكلأ, فلا يذهبون إلى مسافات بعيدة ولا يمعنون في اختراق البوادي؛ لأنهم لا يستطيعون الابتعاد عن الماء كثيرًا ولا يستطيعون الاكتفاء بكلأ البادية لوجود ماشية أخرى عندهم, لا تستطيع الصبر على الجوع طويلا، كما أن اتصالهم بالحضر أكثر من اتصال الأعراب بهم. ومنازلهم هي في الغالب خليط من بيوت مدر ومن بيوت وبر, ولكنها ثابتة على العموم وحياتهم حياة وسط بين البداوة والحضارة, والأرض التي يقيمون بها تكون ذات آبار وعيون ومتجمعات أمطار، وهم لا يبتعدون عنها كثيرًا ولا يفارقونها لارتباط معيشتهم بها, بينما تكون حياة الأعراب على الغيث في الغالب، وعلى الآبار والتنقل.
وفي العربية لفظة "جشر", ذكر علماء اللغة أنها تعني القوم يبيتون مع الإبل في المرعى لا يأوون بيتوتهم, والقوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم لا يأوون البيوت, والمال الذي يرعى في مكانه لا يرجع إلى أهله بالليل, وأن تخرج بخيلك فترعاها أمام بيتك2, إلى آخر ذلك من معانٍ تدل على أن الجشر رعاة يخرجون إلى المجاشر، أي: المراعي لرعي إبلهم أو خيلهم بعض الوقت, إذا شبعت إبلهم واكتفت عادوا بها إلى بيوتهم فأقاموا بها.
__________
1 تاج العروس "10/ 152", "رعى".
2 اللسان "5/ 207", تاج العروس "3/ 100"، "جشر".(7/286)
الأعراب:
أما أهل الوبر، وهم الأعراب، فحياتهم حياة تنقل وارتحال، وعماد حياتهم "الإبل"، ولولا هذا الحيوان الصبور لما تمكن الأعرابي أن يقهر البوادي، وأن يوسع تنقله في أنحائها، وأن يعيش في هذه الأرضين المقفرة الشحيحة التي يشح فيها سقوط المطر، ويضطر الإنسان فيها إلى ضرب الأرض بأرجل جمله بحثًا عن الكلأ والماء. ولهذا صار "الجمل" "المالَ" الوحيد الذي يملكه(7/286)
الأعرابي، به يقدر الأسعار، وبه يقدر "الصداق" وثراء الإنسان.
وقد سبق لى أن تحدثت عن معنى "عرب"، وعن المراد منها إلى قبيل الإسلام، فلا حاجة لي هنا إلى إعادة الكلام عن شيء سبق أن تكلمت عنه. أما مصطلح "أهل الوبر" فمعناه "عرب"، أي: أعراب بالمعنى الجاهلي القديم؛ وذلك لأن الأعراب قوم نقل، يتنقلون من مكان إلى مكان، حاملين بيوتهم وما يملكونه معهم، وبيوتهم هي الخيام، وهي مصنوعة من "الوبر" وبر الإبل في الغالب؛ ولذلك عرفوا بها1. وعرفوا في الموارد اليونانية بـ"أهل الخيام" وبـ"سكنة الحيام"، وقد استعمل أعراب العراق وبادية الشام وأعراب بلاد الشام الخيام المصنوعة من شعر الماعز، وهي خيام لونها السواد، وقد أشير إليها في التوراة وفي موارد تأريخية أخرى.
وذكر علماء اللغة أن العرب: سكان القرى والمدن أي: الحضر، أهل الحاضرة, أما الأعراب، فهم سكان البادية من هذا الجيل. ويقال للرجل أعرابيا إذا كان بدويًّا همه البحث عن الكلأ وتتبع الغيث والرعي، وأما من ينزل الريف ويستوطن القرى والمدن فهو عربي، وإن كان دون الأعراب في الفصاحة وفي سلامة اللغة, ويقال للأعراب "الأعاريب" وذلك جمع للأعراب. فالأعرابي البدوي، وهو صاحب نجعة وانتواء وارتياد للكلأ، وتتبع لمساقط الغيث، وسواء كان من العرب أو من مواليهم2, ومن نزل البادية أو حاور البادين وظعن بظعنهم، وانتوى بانتوائهم: فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها مما ينتمي إلى العرب، فهم عرب، وإن لم يكونوا فصحاء.3
ويذكر علماء اللغة أن البادية من البروز والظهور, قيل للبرية لكونها ظاهرة بارزة، وأن البادية اسم للأرض التي لا حضر فيها، وهي خلاف الحاضرة
__________
1 تاج العروس "3/ 594"، "وبر".
2 روح المعاني، للألوسي "11/ 4"، "المنيرية"، اللسان "1/ 586"، "صادر" "عرب".
3 اللسان "1/ 586" "صادر"، "عرب"، تاج العروس "1/ 371"، "عرب".(7/287)
والحضارة. وقيل لسكان البادية البدو والبداة1. ومن هذا الأصل جاءت لفظة "Bedouin" في الإنجليزية وفي عدد من اللغات الأوروبية الأخرى، بمعنى أعراب.
والأعرابي بالمعنى العلمي المفهوم من اللفظة، هو -كما قلت قبل قليل- المتبدي، أي: الذي قطن البادية وعاش معظم حياته فيها وانقطع معظم حياته عن القرى والمدن, مكتفيًا باتخاذ الإبل شريكة له في حياته هذه, قاطعا البوادي الجافة التي يقل معدل سقوط الأمطار فيها عن "4" عقد في السنة، للبحث عن الكلأ والماء2, قانعًا بحياته التي يحياها والتي أحبها وتعلق بها على ما فيها من قساوة وضراوة وفقر وشح في العيش, حتى صار لا يفارقها لأنه ولد بها. فهو لا يعرف دنيا غيرها، ولا يعرف أن في الدنيا مكانا أطيب من وطنه الذي يعيش فيه, وكل مولود على ما يولد عليه.
وتعيش بين الحضر والبادية قبائل، صيرتها إقامتها بين العالمين عالمًا وسطًا، لا هو مجتمع حضري ولا هو بدوي أصيل، حافظ على خصائصه البدوية الموروثة من البادية، واكتسب باحتكاكه بالحضر ما يلائم طبعه وما فرضه عليه محيطه الجديد من حياة أهل الحضر. فصار يزرع بعض الزرع ويرعى البقر والخيل والأغنام والمعز ويأتي إلى القرى والمدن للامتيار، ويستخدم مواد لا يستخدمها الأعراب لعدم وجود حاجة لهم بها، ولفقرهم الذي لا يسمح لهم بشرائها، وأخذ يبيع لأهل الحضارة ما يفيض عن حاجته من الألبان والزبد والجلود والأصواف والحيوانات. فأهل هذا لعالم إذن هم عالم وسط عالمين، وقنطرة تربط بين العتبة الأولى من عتبات الحضارة والدرجة الأولى من درجات البداوة. وخير مثل على هؤلاء هم عرب مشارف الشام، وعرب مشارف العراق. ويراد بالمشارف القرى والمستوطنات والمضارب القائمة على ما بين بلاد الريف وبين البوادي3.
و"الريف" في رأي بعض علماء اللغة الخصب والسعة في المأكل والمشرب, وما قارب الماء من الأرض. أو حيث يكون الخضر والمياه والزرع؛ ولهذا قيل: "تريف" إذا حضر القرى وهي المياه، و"راف البدوي" يريف
__________
1 De vaux p, 3.
2 تاج العروس "10/ 32", "بدا".
3 تاج العرس "6/ 154"، "شرف".(7/288)
إذا أتى الريف، ومن هنا عرف البدوي بأنه جوَّاب بيداء، لا يأكل البقل ولا يريف1.
وورد في الحديث: "كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، أي: إنا من أهل البادية, لا من أهل المدن"2. ولكن المفهوم من لفظة "ضرع"، أنها لفظة تطلق على الماشية ذوات الظلف والخف، أو للشاء والبقر3، ولهذا فيجب تفسيرها بإنا من أهل ذوات الظلف والخف، أي: من الرعاة لا أهل الزرع -والرعاة هم قُطَّان المشارف- القريبين من القرى والريف، ولا يقيمون في البادية؛ لأن الشاء والبقر وبقية الماشية باستثناء الإبل لا تعيش في البادية, وإنما ترعى الأماكن الخصبة من الماء والريف.
والحاضرة خلاف البادية، وهي القرى والمدن والريف، سموا بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار. وذكر أن كل من نزل على ماء عدّ ولم يتحول عنه شتاءً ولا صيفًا، فهو حاضر، سواء نزلوا في القرى والأرياف وبيوت المدر أو بنوا الأخبية عند المياه فقروا بها ورعوا ما حواليها من الكلأ؛ ولهذا قالوا: الحاضر: القوم نزول على ماء يقيمون به ولا يرحلون عنه. وقد يكون ذلك في البوادي، إذ يقيمون حول بئر أو ماء دائم، ولا يرتحلون عنه. فهذا نوع من أنواع الحاضرة في جزيرة العرب4, وهم بهذا حضر جزيرة العرب، فهم سكان مستوطنات صغيرة ظهرت في مواضع الماء وعند مفترق الطرق، في هذه البوادي الجافة الواسعة.
وفي هذه الحواضر التي أسعفها الحظ بالماء، ظهرت مجتمعات متحضرة، أي مستقرة، استفادت من الماء فبنت بعض البيوت وزرعت بعض النخيل والأشجار. ومقياس هذه الحواضر هو الماء, فإذا وجد بغزارة أو كان قريبًا من سطح الأرض, توسعت به رقعة الحضارة بمقدار سعة الماء, وسعد الناس بالعيش في بيوت
__________
1
جواب بيداء بها غروف ... لا يأكل البقل ولا يريف
ولا يرى في بيته القليف
اللسان "9/ 128 وما بعدها"، "ريف"، تاج العروس "6/ 123"، "تريف".
2 اللسان "9/ 128"، "ريف".
3 اللسان "8/ 23"، "ضرع"، تاج العروس "5/ 430"، "ضرع".
4 اللسان "4/ 197 وما بعدها"، "حضر".(7/289)
مستقرة دائمة ثابتة، أما إذا كانت الأرض شحيحة بخيلة، لا تسعف من يعيش فوقها بماء، فإن الإنسان يتحاشاها بالطبع ويبتعد عنها خلال أيام الغيث. وحواضر البوادي هي المواضع التي يجب أن نوجه إليها أنظارنا للبحث فيها عما قد يكون الدهر قد خبأه فيها من كنوز وآثار. وهي منتشرة في مواضع عديدة من جزيرة العرب، ولا سيما عند الأودية وقرب الحسي والجعافر والعيون.
و"عرب الضاحية" أو "عرب الضواحي"، هم العرب النازلون بظواهر الريف والحضارة وبظواهر البادية، و"الضاحية" الظاهرة الخارجة من الشيء التي لا حائل دونها، و"الضامنة" ما أطاف بالشيء مثل سور المدينة، أي: ما كان داخل شيء, وضواحي الروم: ما ظهر من بلادهم وبرز1. ويراد بـ"عرب الضاحية"، عرب مشارف العراق وعرب مشارف الشام؛ لأنهم أقاموا بضواحي العراق وبلاد الشام، وعلى تخوم البادية2. وقد تأثر أكثر الأعراب الساكنين بأطراف الحضارة وبأخلاق الحضر، ودخلوا مثلهم في النصرانية، بحكم تأثرهم بهم وبعوامل التبشير والسياسة، إلا أن نصرانيتهم كانت نصرانية أعرابية مكيفة بالعقيدة الوثنية الموروثة من السنين الماضية التي كونتها طبيعة البداوة في عقلية أهل الجاهلية.
وسوف نجد في بحثنا عن اللغة، أن لغة "أهل المشارف" أو "أهل الضواحي" و"عرب الأرياف"، قد تأثرت بلهجات "إرم" العراق وبلاد الشام, فظهرت في لغتهم رطانة، وبرزت فيها ألفاظ آرمية وأعجمية، وانحازت في النطق بعض الانحياز عن عربيات أهل البوادي، وكتبوا بقلم نبطي وبلهجات عربية، لا تقرها عربية القرآن الكريم، التي صارت لسان الإسلام. ولهذا حذر علماء اللغة من الاستشهاد بشعر شعراء القرى والريف وأهل المشارف والضواحي؛ لاعوجاج لسانهم بالنسبة إلى لسان الإسلام.
فأعراب الضواحي، أو عرب الضاحية، هم أعراب أيضًا, لكنهم لم يعزلوا أنفسهم عن العالم الخارجي، وإنما عاشوا على مقربة منه ومن مواطن الحضر، فصار حالهم أحسن من حال الأعراب الأقحاح، وارتفع مستواهم العقلي عن أولئك
__________
1 اللسان "14/ 474 وما بعدها"، "ضحا".
2 تأريخ الطبري "3/ 353"، "ذكر وقعة الولجة".(7/290)
المعنيين في حياة الأعرابية؛ بسبب اتصالهم بالأجانب وأخذهم عنهم واحتكاكهم بالحضر، الذين هم أرقى من الأعراب بكثير, فأخذوا عنهم وتعلموا منهم أشياء كثيرة, من مادية ومعنوية, سأتحدث عنها في المواضع المناسبة من أجزاء هذا الكتاب.
وقد عرفت الأرض التي تقع بين الفرات وبين بَرِّيَّة العرب بـ"العبر". قال علماء اللغة: "والعبر بالكسر: ما أخذ على غربي الفرات إلى برية العرب"1؛ لأنها المعبر الذي يعبر عليه للوصول إلى البادية، أو الدخول من البادية إلى الفرات. وقد تكونت بها قرى عربية لعبت دورًا مهمًّا في تأريخ العراق لموقعها العسكري المهم، ولأنها الخط الأمامي الذي كان يواجه الأعراب الغزاة ومن كان يحكم بلاد الشام من حكام، ولكونها المنطلق الذي تنطلق منه الجيوش التي تريد غزو بلاد الشام، أو صد القوات الزاحفة على العراق من الغرب.
والبداوة هي التي أمدت العراق وبلاد الشام وسائر جزيرة العرب بالحضر، فقد كان الأعراب يأتون الحواضر وينيخون هناك، ويستقرون ثم يتحولون إلى حضر. لذلك تكون البادية المنبع الذي يغذي تلك الأرضين بالعرب الحضر.
__________
1 تاج العروس "3/ 377"، "عبر".(7/291)
عُبَيَّة الجاهلية:
ولقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن العقلية العربية بصفة عامة: عقلية العرب أي الحضر وعقلية الأعراب. وأعود في هذا الموضع إلى الحديث عن عقلية الأعراب وما رماهم به أهل الحضر من الغلظة والجفاء والجهالة والعنجهية والكبر, إلى غير ذلك من نعوت عرفت عند العلماء بـ"عبية الجاهلية"؛ وذلك لما لهذه العبية من صلة بهذا الموضوع في هذا المكان.
وإذا أردت الوقوف على عنجهية الجاهلية وتكبر سادات القبائل وعلى نظرتهم إلى من هم دونهم في ذلك الوقت، فخذ ما روي عن قصة وقعت لمعاوية بن أبي سفيان على ما يرويه أهل الأخبار. فقد رُوي أن الرسول أمر معاوية بإنزال "وائل بن حجر" الحضرمي منزلًا بالحرة، فمشى معه ووائل راكب وكان(7/291)
النهار حارًّا شديد الحرارة، فقال له معاوية: ألق إليَّ نعلك، قال: لا، إني لم أكن لألبسها وقد لبستها. قال: فأردفني، قال: لست من أرداف الملوك, قال: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي، قال: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك, ولكن إن شئت قصرت عليك ناقتي فسرت في ظلها. فأتى معاوية النبي، فأنبأه فقال: "إن فيه لعُبَيَّة من عُبَيَّة الجاهلية"1.
و"العبية" الكبر والفخر, "وعبية الجاهلية: نخوتها, وفي الحديث: إن الله وضع عنكم عبية الجاهلية، وتعظمها بآبائها، يعني الكبر". وقد وصفت "قريش" ونعتت بتكبرها حتى قيل: "هذه عبية قريش"2, ونجد في القرآن الكريم إشارات إلى عبية زعماء قريش وفخرهم على غيرهم بالآباء وبالأحساب وبأمور لا تستوجب فخر مفاحر؛ لأنها لا تتناول عمل إنسان ليحمد أو ليذم عليه. وقد ذمها الإسلام ونهى المسلمين عن عبية الجاهلية.
ونظرًا إلى ما للبداوة من فقر وقساوة وغلظ في المعاش، ومن ضيق أفق في المدارك وقصر نظر في شئون هذا العالم الخارجي وفي فهم الحياة -نظر العربي إلى الأعرابي نظرة استجهال وازدراء، ونظر إلى نفسه نظرة فيها علو واستعلاء. فورد أن الأعرابي إذا قيل له: يا عربي, فرح بذلك وهش له، والعربي إذا قيل له: يا أعرابي! غضب له3؛ لما بين الحياتين من فروق وتضاد. فقد جبلت البادية أبناءها على أن يكونوا غرباء عن العالم الحضر وعن عقلية أهل القرى والمدن, متغطرسين مغرورين على فقرهم وفقر من يحيط بهم، فخورين بأنفسهم إلى حد الزهو والإعجاب والخروج عن الحد، فكانوا إذا تكلموا رفعوا أصواتهم، وظهرت الخشونة في كلماتهم، وإذا تعاملوا مع غيرهم ظهر الحذر عليهم، خشية الغدر بهم. ولهذا قال الحضر: "أعرابي جلف"، أي جاف4, وفي الحديث: "من بدا جفا"، أي: غلظ طبعه لقلة مخالطة الناس5. وقالوا: "أعرابي قح" و"أعرابي قُحاح"، وهو الذي لم يدخل الأمصار ولم يختلط
__________
1 ابن سعد، طبقات "1/ 349 وما بعدها"، "وفد حضرموت".
2 تاج العروس "1/ 574 وما بعدها"، "عبب".
3 اللسان "1/ 586"، "صادر"، "عرب".
4 تاج العروس "6/ 60"، "جلف".
5 تاج العروس "6/ 74"، "جفا".(7/292)
بأهلها1. ولهذه الخشونة التي خلقتها طبيعة البادية في الأعرابي، وهو لا دخل له بها الطبع، كما أنه لا يشعر بها ولا يرى أن فيه شيئًا منها، كان العرب إذا تحدثوا عن شخص فيه عنجهية وخشونة، قالوا عنه: فيه أعرابية، كالذي ذكروه مثلًا عن "عيينة بن حصن الفزاري"، من أنه كان أحمق مطاعًا، دخل على النبي من غير إذن وأساء الأدب فصبر النبي "على جفوته وأعرابيته"2. إلى غير ذلك من نعوت تصف الأعرابي بالغلظ والقسوة والأنانية وما شاكل ذلك من نعوت تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب. وهي حاصل هذا المحيط الذي وُلد فيه وعاش، والظروف التي ألمت به، فعزلته عن العالم الخارجي، وأبعدته عن التحسس بتنوع مظاهر الطبيعة وبتغيرها، فلم يرَ الثلج في حياته وهو يتساقط من السماء، ولم يتعود على رؤية الأمطار وهي تتساقط عليه على نحو ما يقع في عالم أوروبا أو في البلاد الحارة ذات الأمطار الموسمية الواضحة، حتى يستفيد منها في استغلال أرضه، ولم تعطِه الطبيعة أنهارًا ومياهًا جارية، إلى غير ذلك من أمور تحدثت عنها أثناء كلامي على العقلية العربية, في الجزء الأول من هذا الكتاب.
ووصف الأعرابي بالجهل، بل بالجهل المطبق. فهو وثني ولكنه لا يفهم شيئًا من أمور الوثنية، وهو نصراني، لكنه نصراني بالاسم، لا يعرف عن النصرانية في الغالب شيئًا، وهو مسلم ولكنه لا يعرف عن الإسلام إلا الاسم. ونجد في كتب أهل الأخبار والأدب قصصًا مضحكًا يمثل هذا الجهل الذي رُمي به الأعراب في بعضه حق بعض وفي بعضه باطل؛ لأنه موضوع حمل عليهم حملًا للانتقاص منهم وليكون قصصًا وتفكهةً وتسلية يتسلى بها الحضر في مجالسهم, في أثناء قتلهم للوقت.
وهو حقود، لا يرى أن يغفر ذنب من أساء إليه, بل يظل في نفسه حاقدًا عليه حتى يأخذ بثأره منه. "قيل لأعرابي: أيسرك أن تدخل الجنة ولا تسيء إلى من أساء إليك؟ فقال: بل يسرني أن أدرك الثأر وأدخل النار"3.
ويذكر أن الرسول كان يميز بين الأعراب وبين البادية، وهم الذين كانوا
__________
1 تاج العروس "2/ 202"، "قح".
2 تاج العروس "6/ 45"، "ألف".
3 نهاية الأرب "6/ 67".(7/293)
ينزلون أطراف القارة "القارية" وحولهم. فلما أهدت "أم سنبلة" الأسلمية لبنًا إلى بيت رسول الله، أبت عائشة قبوله؛ لأن الرسول قد نهى أهله عن قبول هدية أعرابي. وبينما كانت أم سنبلة في بيته، دخل رسول الله، فقال: "ما هذا؟ " قالت عائشة: يا رسول الله، هذه أم سنبلة أهدت لنا لبنًا، وكنت نهيتنا أن نقبل من أحد من الأعراب شيئًا، فقال رسول الله: "خذوها، فإن أسلم ليسوا بأعراب، هم أهل باديتنا"1. ويفهم من هذا الخبر، أن الرسول فرق بين العرب البادية المقيمين حول "القارية" أهل الحاضرة، الذين هم على اتصال دائم بالحضر، وبين الأعراب، وهم البادون البعيدون عن أهل الحواضر، وهم الذين نهى الرسول عن قبول هدية منهم؛ وذلك بسبب جفائهم على ما يظهر ولأنهم لا يهدون شيئًا إلا طمعوا في رد ما هو أكثر منه لغلظ معاشهم وضيق تفكيرهم, وآية ذلك ما ورد عنهم في القرآن الكريم.
فأهل البادية المجاورون للحضر أخف على النفس من الأعراب، لتأثرهم بحياة الحضر, ولعل منهم من شارك أهل الحضر في التعاطي والتعامل. ونرى أهل الأخبار يروون أن أهل القرى كانوا أصحاب زرع ونخيل وفواكه وخيل وشاء كثير وإبل، يقيم حولهم أناس بادون, كالذي كان حول مكة ويثرب والطائف وقرى الحجاز واليمن وغير ذلك، فإن هؤلاء لم يكونوا أعرابًا أي: بدوًا صرفًا, هجروا الحواضر وأقاموا في البوادي البعيدة، بل هم وسط بين الحضر وبين الأعراب. فأخلاقهم ألين من أخلاق الأعراب وأرق, ويمكن الاعتماد عليهم نوعًا ما، بينما لا يمكن الركون إلى قول أعرابي.
وقد بلغ من استعلاء الحضر على أهل البادية، أن الأعراب لما أرادوا التسمي بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا، منعوا من ذلك، فأعلموا أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين، وعليهم التسمي بها2.
والأعراب أهل منة، إذا فعلوا معروفًا بقوا يتحدثون عنه، ويمنون بصنعه على من قدموه له, وهم يريدون منه صنع أضعاف ما صنعوه له. وهم خشنون إذا تكلموا رفعوا أصواتهم, وقد وبهخم القرآن وأنبهم لفعلهم هذا, فجاء فيه:
__________
1 ابن سعد، الطبقات "8/ 215".
2 تفسير الطبري "26/ 9".(7/294)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ, إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} 1. وأمر المسلمين بالتأدب بأدب الإسلام, فقال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير} 2, وقد كانوا يجهرون له بالكلام ويرفعون أصواتهم، فوعظهم الله ونهاهم عن ذلك، يقول تعالى ذكره: "يأيها الذين صدقوا الله ورسوله, لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهمونه بالكلام, وتغلظون له في الخطاب"3.
وكان من خشونتهم وأعرابيتهم أن أحدهم إذا جاء الرسول فوجده في حجرته نادى: يا محمد, يا محمد؟ وذكر أن وفدًا من "تميم" وفد على رسول الله, فوجده في حجرته، ونادى مناديه: اخرج إلينا يا محمد؟ فإن مدحنا زين وذمنا شين, أو: يا محمد! إن مدحي زين وإن شتمي شين، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ, وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4.
وقد اتهم الأعرابي بماديته المفرطة وبطمعه الفظيع. فهو يحارب معك، ثم ينقلب عليك ويصير مع خصمك، إذا وجد أن في الجانب الثاني حلاوة، وأنه مستعد لإعطائه أكثر مما أعطيته، حاربوا مع الرسول ثم صاروا عليه وانتهبوا عسكره، وجاءوا إليه فعرضوا عليه الإسلام، فلما أرادوا العودة إلى بلادهم وهم مسلمون، وجدوا رعاء للرسول، فانتهبوه وقتلوا حماته مع علمهم بأنه له، وأن انتهاب مال المسلم حرام، فكيف بهم وهم ينتهبون مال رسول الله. وقد ندد القرآن الكريم بطمعهم في الآية: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فهؤلاء قوم من بوادي العرب، قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة طمعًا في الصدقات، لا رغبة في الإسلام، فسماهم الله تعالى
__________
1 الحجرات, الآية 2 وما بعدها.
2 لقمان, الآية 19.
3 تفسير الطبري "26/ 74 وما بعدها".
4 الحجرات, الآية 4 وما بعدها، تفسير الطبري "26/ 76 وما بعدها".(7/295)
الأعراب. ومثلهم الذين ذكرهم الله في سورة التوبة، فقال: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} 1. وذكر عن "قتادة" قوله: "قالت الأعراب آمنا، قل: لم تؤمنوا، ولعمري ما عمت هذه الآية الآعراب. إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ولكن إنما أنزلت في حي من أحياء الأعراب امتنوا بإسلامهم على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. فقال الله تعالى: لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا"2. "وقال آخرون: قيل لهم ذلك؛ لأنهم منوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسلامهم. فقال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: "قل لهم لم تؤمنوا ولكن استسلم خوف السباء والقتل"3.
ولا يعرف الأعرابي شيئًا غير القوة ولا يخضع إلا لسلطانها، وبموجب هذه النظرة بنى أصول الحق والعدل، وما يتبعهما من حقوق, كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد، وهو فخور بنفسه متباهٍ بشجاعته، لكنه لا يصبر إذا طال القتال وجد، ولا يتحمل الوقوف طويلًا في ساحة المعركة، لا سيما إذا شعر أن القتال غير متوازن، وأن أسلحة خصمه أمضى وأقوى في القتال من أسلحته، فيولي عندئذ الإدبار، ولا يرى في هروبه هذا من المعركة شيئًا ولا عيبًا. وفي تأريخ معارك الجاهلية ولا سيما في معاركهم مع الأعاجم ومع القوات النظامية العربية أمثلة عديدة من هذا القبيل. ففي الحروب التي وقعت بين المسلمين والفرس أو الروم، خذلت بعض القبائل المسلمين، وتركتهم لما رأت جد القتال وألا فائدة مادية ستحصل عليها منه. "وقد كان انضم إلى المسلمين حين ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام, فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى، وخذلوا المسلمين"4, فروا وهربوا لأنهم وجدوا أن القتال قد طال وأنه قتال جد، ولا قبل للقبائل على القتال الطويل الشديد الجد، فاختاروا الهروب دون أن يفكروا في عقدهم الذي عقدوه مع إخوانهم في الجنس على القتال معهم والاستمرار فيه حتى النهاية، فإما نصر وإما هزيمة وموت وهلاك، ولكن طبيعة الأعراب لا تقيم
__________
1 اللسان "1/ 586"، "عرب".
2 تفسير الطبري "26/ 90".
3 تفسير الطبري "26/ 90".
4 الطبري "3/ 571"، "دار المعارف".(7/296)
وزنًا ولا تعطي أهمية للعقود في مثل هذه المواقف, إن رأت هواها في القتال قد تغير وتحول، وأن الأمن في كسب مغنم قد تضاءل، انسحبت منه بعذر قد يكون تافهًا وبغير عذر أيضًا. وقد لا تنسحب، وإنما تبدل الجبهة، بأن تذهب إلى الجانب الآخر فتحارب معه، وتقاتل عندئذ من كانت تقاتل معه؛ لأنها وجدت أن الربح من هذا الجانب مضمون، وأن ما ستناله منه من فائدة أكثر. وذلك بعد مفاوضات سرية تجري بالطبع, وهذا ما أزعج الروم والفرس وجعلهم لا يطمئنون إلى قتال العرب معهم وفي صفوفهم، فرموهم بالغدر، فكانوا إذا كلفوهم بالحرب معهم عهدوا إليهم القيام فيها بأعمال حربية ثانوية، أو الانفراد بحرب الأعراب الأعداء الذين هم من أنصار الجانب الآخر. فقد حدث مرارًا أن هرب الأعراب من ساحة القتال حين سعرت نار الحرب، وارتفع لهيبها، فأحدث هروبهم هذا ارتباكًا في جانب من كان يقاتلون معه, أدى إلى هزيمته هزيمة منكرة، لما أحدثه فرارهم هذا من فجوة في صفوف المقاتلين، وقد أشارت إلى هذه الحوادث مؤلفات الكتاب اليونان واللاتين.
وهو صارم عبوس، إذا ضحك ضحك بقدر، وكأنه يدفع بضحكته هذه ضريبة فرضت عليه. يكره الدعابة، ويرى فيها تبذلًا لا يليق صدوره من إنسان كريم، بقي هذا شأنه حتى في الإسلام فلما وصف "أبو عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري" "عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق" قال عنه: "كان امرأً صالحًا. وقد كانت فيه دعابة"1, حتى إن من العلماء من عد "الدعابة" من الشوائب التي تنقص المروءة، وتؤثر في صاحبها، وتطعن فيه، فلا تجعله أهلًا لأن يؤخذ عنه الحديث، أي جعلوه شخصًا غير موثوق به.
وقد بحث "غوستاف لبون" و"رينان" و"الأب لامانس" في عقلية الأعرابي، وما رأوه فيه من وجود "فردية" متطرفة عنده، إلى درجة تجعله يقيس كل شيء بمقياس الفائدة التي يحصل عليها من ذلك الشيء. ثم ما وجدوه فيه في الوقت نفسه من خوفه من الإمعان في القسوة، ومن الإمعان في القتل، لما يدركه من رد الفعل الذي سيحدث عند أعدائه ضده إذا تمكنوا منه، ومن
__________
1 نسب قريش "278".(7/297)
نتائج الأخذ بالثأر. كما بحثوا عن ميل الأعرابي إلى المبالغة؛ المبالغة في كلامه والمبالغة في إعطائه إذا أعطى، والمبالغة في مدح نفسه، والتباهي بشجاعته وبكرمه وبشدة صبره إلى غير ذلك، مع وجود تناقض فيه بالنسبة إلى دعاويه هذه. وهو يحب المديح كثيرًا, وهو على حد قولهم إذا أعطى، صور ذلك غاية الجود، وبالغ فيه، ويظل يذكره في كل وقت ويحب أن يطرى عليه، لا سيما إذا كان من شاعر وهو صحافي ومذيع ذلك الوقت1.
وللفوارق الموجودة بين العرب والأعراب، بين الحضر وبين أهل البوادي رأى "الأزهري" وجوب التفريق بين الاثنين. إذ قال: "والذي لا يفرق بين العرب والأعراب والعربي والأعرابي، ربما تحامل على العرب، بما يتأوله في هذه الآية. وهو لا يميز بين العرب والأعراب, ولا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب؛ لأنهم استوطنوا القرى العربية، وسكنوا المدن, سواء منهم الناشئ بالبدو ثم استوطن القرى, والناشئ بمكة ثم هاجر إلى المدينة. فإن لحقت طائفة منهم بأهل البدو بعد هجرتهم واقتنوا نعمًا ورعوا مساقط الغيث بعد ما كانوا حاضرة أو مهاجره، قيل: قد تعربوا أي: صاروا أعرابًا بعد ما كانوا عربًا, وفي الحديث تمثل في خطبته مهاجر ليس بأعرابي؛ جعل المهاجر ضد الأعرابي، قال: والأعراب، ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة. وقال أيضًا: المستعربة عندي قوم من العجم دخلوا في العرب فكانوا بلسانهم وحكوا هيئاتهم وليسوا بصرحاء فيهم. وتُعربوا مثل استعربوا"2. وقد ذهب هذا المذهب "ابن خلدون", إذ رأى أن الأعراب يختلفون عن العرب؛ ولذلك فإن ما أشار إليه "ابن خلدون" من أن العرب إذا دخلوا بلدًا أسرع إليه الخراب إنما قصد به الأعراب, لا العرب الحضر.
ولكي نكون منصفين في الأحكام عادلين غير ظالمين علينا التفريق بين الأعراب وبين العرب, فما يقال عن الأعراب يجب ألا يتخذ قاعدة عامة تطبق على العرب؛ لما بين العرب والأعراب من تباين في الحياة وفي النفسية والعقل. ثم علينا لكي
__________
1 المشرق, عدد "2" سنة 1932 "ص101 وما بعدها".
2 تاج العروس "1/ 371"، "عرب".(7/298)
نكون منصفين أيضًا أن نفرق بين عرب وعرب؛ لما أصاب عرب كل أرض من أرض العرب من أثر تركه الأجانب فيهم، ومن امتزاج الأعاجم في العرب ودخولهم فيهم واندماجهم بهم حتى صاروا منهم تمامًا. والامتزاج والاندماج يؤثران بالطبع في أخلاق أهل المنطقة التي وقعا فيها, أضف إلى ذلك عوامل البيئة والمحيط؛ ولهذا يرى المرء تباينًا بينًا بين عرب كل قطر، تباينًا يلمسه حتى الغريب. فبين أهل العراق وأهل بلاد الشام العرب تباين وفروق في الملامح الجسمية وفي المظاهر العقلية والاجتماعية وغيرها, مع أنهم جميعا عرب يفتخرون بانتسابهم إلى العروبة، وبين عرب العربية الجنوبية وبين عرب عالية نجد فروق واضحة جلية, هكذا قل عن بقية بلاد العرب. بل نجد هذا التباين أحيانًا بين أجزاء قطر واحد, فإذا كان هذا هو ما نراه ونلمسه في الجاهلية وفي الإسلام، فهل يجوز لأحد التحدث عن عقلية عامة جامعة تشمل كل العرب؟!
وقد أدرك المتقدمون علينا بالزمن اختلاف العرب في الصفات والشمائل، فتحدثوا عن "حلم قريش"، وعن لينها ورقة ذوقها وعن براعتها في التجارة, وتحدثوا عن عمق تفكير أهل اليمن وعن اشتهارهم بالحكمة، حتى قيل: الحكمة يمانية. وورد أن "علي بن أبي طالب" لما وافق على اختيار "أبي موسى الأشعري" ليكون ممثله في التحكيم، قال له "أبو الأسود الدؤلي": "يا أمير المؤمنين لا ترض بأبي موسى، فإني قد عجمت الرجل وبلوته، فحلبت أشطره، فوجدته قريب القعر، مع أنه يمان"1.
__________
1 أمالي المرتضى "1/ 292".(7/299)
الحنين إلى الأوطان:
ومع فقر البادية وغلظ معاشها وشحها، فإن الأعرابي يحن إليها، ولا يصبر عن فراقها حتى وإن أخذ إلى جنان الريف. قال الجاحظ: "وترى الأعراب تحن إلى البلد الجدب, والمحل القفر, والحجر الصلد, وتستوخم الريف"1. "واعتل أعرابي في أرض غربة، فقيل له: ما تشتهي؟ فقال: حل
__________
1 رسالة في الحنين إلى الأوطان، من "رسائل الجاحظ" "2/ 388"، "تحقيق عبد السلام هارون".(7/299)
فلاة، وحسو قلات"1. ويروى أن "ميسون بنت بحدل" الكلبية، زوجة معاوية، كانت تحن إلى وطنها، وقد سمعها زوجها وهي تنشد أبياتًا فيها شوق وحنين إلى البادية، فخيمتها التي تلعب الأرياح بها خير عندها وأحب لها من العيش في قصر منيف، ورجل من بني عمها نحيف أحب إليها من "علج عليف", أي: حضري سمين من كثرة الأكل2, وانتقل أعرابي من البداوة إلى الحضارة، فرأى المكاء في الحضر، فقال يخاطبه: فارق هذا المكان؛ فإنه ليس لك فيه الشجر الذي تعشش عليه, وأشفق من أن تمرض كما مرضت3.
والعربي الذي ألف الحضارة وأمعن في الترف وتفنن في العيش بالمدن، لا يفقه سحر البادية الذي يجلب إليه أهل البادية؛ لأنه يرى أن كل ما فيها ضيق وجوع وحر شمس وفقر, فيسخر من الأعرابي ويضحك عليه لحنينه إلى باديته. ولما استظرف "الوليد بن عبد الملك" أعرابيا واستملحه، فأبقاه عنده وسأله عن سبب حنينه إلى وطنه, أجابه جوابًا خشنًا مثل جفاء الأعراب وصلفهم. فقال الوليد، وهو يضحك: أعرابي مجنون4. ولم يتأثر منه؛ لأنه أعرابي، والأعرابي في حكم المجانين, وقد سقط حكم القلم عنه.
ويروي أهل الأخبار حديثًا لكسرى أنوشروان مع وفد وفدَ عليه فيه بعض خطباء العرب, فسألهم عن سبب تفضيلهم السكن بالبادية وعن حياتهم بها وعن طبائعهم إلى غير ذلك من أسئلة وأجوبة دونوها على أنها أسئلة كسرى وأجوبة العرب عليها5, وفيها أمور مهمة عن حياة الأعراب. وقد يكون الخبر قصة موضوعة، غير أننا لا ننظر إليها من جهة تأريخية, إنما نأخذها مثالًا على ما كان يدور في خلد من صنعها عن نفسية الأعراب, وعن نظرة الحضر إلى أهل البوادي.
وللمسعودي كلام في اختيار العرب سكنى البادية وسبب ذلك, كما تحدث
__________
1 المصدر المذكور "2/ 390".
2 بلوغ الأرب "3/ 426 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "3/ 428".
4 رسالة في الحنين إلى الأوطان "2/ 397".
5 بلوغ الأرب "3/ 433".(7/300)
عن أثر البوادي في صحة أجسام العرب وفي تكوين أخلاقهم، مما جعلهم يختلفون بذلك عن بقية الناس.
والعرب وإن عرفوا بالترحل والتنقل؛ بسبب البداوة، إلا أنهم يحنون إلى أوطانهم، ولا ينسون موطنهم القديم، يستوي في ذلك العربي والأعرابي. وهم يرون أن في الغربة كربة، وأن الإنسان إذا صار في غير أهله ناله نصيب من العذل1. "وكانت العرب إذا غزت وسافرت حملت معها من تربة بلدها رملًا وعفرًا تستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع"2, "وقيل لأعرابي: كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظله؟ قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحدنا ميلًا فيرفضّ عرقًا, ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه, ويجلس في فيئة يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى"3.
وجاء أن "الوليد بن عبد الملك" استظرف أعرابيا فاحتبسه عنده وحباه, فمرض فبعث إليه "الوليد" بالأطباء، وعالجوه، ورأى من الخليفة كل رعاية, لكن هواه بقي في وطنه، ولم يطق على هذه المعيشة الراضية الطيبة صبرًا، فهلك بعد قليل4, إلى غير ذلك من قصص وشعر ورد في الحنين إلى الأوطان, وفي تفضيل الوطن على كل منزل آخر، ولو كان آية في الجمال ومثالًا من الراحة والاطمئنان.
وهو يعجب من لغة أهل الحضر, ولا سيما حضر ريف العراق وريف بلاد الشام, ومن الأكرة الذين لا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فكان يجد نفسه وكأنه في سجن مطبق، يريد الخلاص منه. حدث ذلك حتى في الإسلام، وقد ذكر "أبو عثمان الجاحظ"، أنه رأى أعرابيًّا، وكان عبدًا حبشيًّا لبني أسيد، وقد صار "ناظورًا"، وكأنه أصيب بمس من الجن، فلما رآه، قال له: لعن الله أرضًا ليس بها عرب5.
__________
1 رسالة في الحنين إلى الأوطان "2/ 390 وما بعدها".
2 رسالة في الحنين إلى الأوطان "2/ 392".
3 المصدر نفسه.
4 رساله في الحنين إلى الأوطان "2/ 397 وما بعدها".
5 رسائل الجاحظ "2/ 403 وما بعدها".(7/301)
حياة الأعراب:
وحياة الأعراب حياة تكاد تكون حياة واحدة لا تغير فيها ولا تبدل، فهي على وتيرة واحدة, على تعدد القبائل وابتعاد مواضع بعضها عن بعض. ذلك لأن الظروف المخيمة عليهم، ظروف واحدة لا اختلاف فيها ولا تبدل, إلا ما كان منها بالنسبة إلى أعراب الضواحي والحواضر, فإن ظروفهم تختلف عن هؤلاء، ومجال تفكيرهم أوسع من مجال تفكير الأعراب؛ بسبب نوع المعيشة المتغير، المتصل بالأرض، وقربهم من الحضر. ولو درسنا حياة القبائل في الجاهلية, وجمعنا دراستنا من المروي عنها في الكتب, وجدنا أن بين الماضي البعيد وبين الحاضر شبهًا في نمط الحياة، وأن ما ذكرته عن قبائل الجاهلية يكاد ينطبق على حياة قبائل البادية في وقتنا هذا؛ ذلك لأن الظروف والمؤثرات بالنسبة إلى حياة الأعراب الممعنين في البادية لا تزال كما كانت عليه, ولكنها سوف لن تبقى على ما هي عليه وإلى أبد الآبدين بالطبع؛ لأن التقدم الحضاري والاكتشافات المادية، قد أخذت تغزو الأعراب وتضيق الخناق عليهم، لتغير من حالهم. فبعد أن كان البدو قوم غزو، أكرهتهم الحكومات القوية على الابتعاد عن الغزو ونبذه، حتى اضطروا إلى توديعه إلى الأبد أو كادوا وصاروا مغزوين، تغزوهم الحضارة الحديثة والآليات بما لا قبل لهم بمقاومته، لتفرق الغزو الجديد عليهم. وهم سيكونون ولا شك بمرور الوقت على شاكلة النصف الآخر من العرب, أي: إخوانهم الحضر, يوائمون أنفسهم مع التطور الجديد. وسوف يبدل هذا من حياتهم ولا شك، ومن أهم ما سيفعله فيهم، تحويل حياتهم من حياة غير مرتبطة بالأرض، إلى حياة ترتبط بها ارتباطًا وثيقًا, فتتحول البداوة عندئذ إلى حضارة, وسيشعر الأعرابي عندئذ أنه مواطن له أرض ووطن وقوم هم إخوة له يشعرون بشعوره, وأن من يعزل نفسه عن العالم، فلن يعزل بذلك إلا نفسه، ولن يضر إلا بصالحه, وأن الإنسان بغير عمل ولا إنتاج، إنسان تافه لا قيمة له، وأن العنتريات والعبية الجاهلية من جملة مؤخرات الحياة في كل الأزمنة والأوقات.(7/302)
ملامح العرب:
والعرب وإن كانوا من الجنس السامي، إلا أنهم يختلفون عن بقية "أبناء سام" في الملامح الجسمانية وفي فصائل الدم، وفي أمور أخرى؛ ذلك لأن السامية(7/302)
كما سبق أن قلت, جنسية ثقافية. أما من الناحية "البيولوجية" وهي تتعلق بالملامح وبأمور بيولوجية أخرى فليست بجنسية خاصة يمكن تمييزها من بين قبائل الأجناس البشرية، لما نراه فيما بين شعوبها من تباين. ثم إن بين العرب أنفسهم، تباينًا واختلافًا في الملامح، بسبب قرب العرب وبعدهم من الأعاجم, وأثر فعل الرقيق والأسرى في امتزاج الدم بينهم, ثم أثر فعل الطبيعة وعملها في الإنسان، وما تقدمه له من غذاء ونوع ماء وحر وبرد ومطر وضغط جوي ونوع تربة.
واليهود هم من الجنس السامي، جنس خليط كذلك في القديم وفي الحديث, فقد دخل اليهود دم غريب أيضًا، ونجد في التوراة وفي أسفار المكابيين والكتب العبرانية الأخرى، إكراه اليهود للشعوب التي استولوا على أرضها على التهود, فدخلت في اليهودية، وهي ليست من أصل يهودي، وصارت من يهود. وقد دخلت اليهودية في حمير وبني كنانة وبني الحارث كعب وكندة، وهم من العرب1, ودخل آخرون في اليهودية، وصاروا يهودًا. فاليهود مثل غيرهم، فيهم اليهودي الخالص، وفيهم اليهودي الغريب, وفي ملامحهم المتباينة ما هو دليل على وجود الاختلاط في الدم.
وأنا إذ أتكلم عن ملامح العربي، فإني لا أزعم أن لدي أو لدى الباحثين مقاييس خاصة ثابتة نستطيع أن نقيس بها ملامح العرب, بحيث نحددها في حدود ونرسم لها رسومًا لا تتعداها ولا تتخطاها. فحدود مثل هذه لا يمكن أن توجد ولا يمكن أن ترسم؛ لأن بين العرب تباينًا وتنابزًا في الصور وفي الملامح بحيث يكون من الصعب علينا وضع حدود ثابتة لملامح العرب، يخضع لها كل العرب أو أكثرهم. وسبب ذلك اتساع جزيرة العرب, ووجود سواحل طويلة جدا تقابل قارتين: قارة سوداء هي إفريقيا، وقارة أخرى هي آسيا، لون بشرة سكان سواحلها الجنوبية الشرقية السواد والسمرة الغامقة. وهي سواحل مفتوحة غذَّت جزيرة العرب بعناصر ملونة اختلط دمها بالدم العربي حتى أثر ذلك اللون في سحن الناس هناك, فبان السواد أو اللون الداكن على السواحل العربية المقابلة لسيلان وللهند, وظهرت الملامح الإفريقية على سحن الساحل الغربي لجزيرة العرب من تهامة فيما بعد حتى ساحل عمان، وظهرت سحن وملامح أقوام بيض من روم
__________
1 الأعلاق النفيسة "217".(7/303)
ورومان وأهل فارس في مواضع أخرى من جزيرة العرب، بسبب سياسة الحكومات القاضية بالتهجير نكاية بالمهجرين، أو بسبب تنقلات الجيوش والحروب، أو التجارة، أو الخطط العسكرية القاضية بحماية المصالح الاقتصادية, وذلك بوضع حاميات عسكرية على سواحل الجزيرة لحماية السفن من غارات الأعراب ولصوص البحر. ثم يحدث أن تنقطع الأسباب برجال تلك الحاميات، وتنقطع صلاتهم بالأم لعوامل عديدة، فيستقروا في مواضعهم ويتعربوا حتى صاروا عربًا نسوا أصلهم وعدوا من خلص العرب, ولكن العرق دساس كما يقول الناس، فبقي أثره بارزًا ظاهرًا على الوجوه، نراه حتى اليوم في تغاير وتمايز سحن سكان السواحل فيما بينها، وفي تغايرها عن سحن أهل باطن جزيرة العرب تغايرًا ملحوظًا. وقد أشرت في كتابي "تأريخ العرب قبل الإسلام" وفي الجزء الأول والثاني من هذا الكتاب إلى أثر المستعمرات اليونانية في سحن العرب، كما هو الحال في جزيرة "فيلكة" في الكويت وإلى أثر الرقيق والتجارة في باطن جزيرة العرب مما يجعلني في غنى عن إعادة الكلام عن ذلك مرة أخرى.
وقد ذكر أهل الأخبار أن الروم سكنت في الجاهلية جبل "ملكان" وهو جبل في بلاد طيء1, فلا يستبعد بقاء هؤلاء فيه وسكنهم فيه، وتحولهم إلى عرب بتعربهم كما تعرب غيرهم من اليونان ممن نزل المستوطنات اليونانية في بلاد العرب.
ونجد بمكة ويثرب وبمواضع أخرى من جزيرة العرب موالي أصلهم من الفرس أو الروم, برز منهم بعض الصحابة مثل: "سلمان الفارسي" و"رومان الرومي", وهو من موالي الرسول2, وغيرهم. وقد ترك هؤلاء الموالي أثرًا في ملامح الناس ولا شك.
ثم يلاحظ أن أجسام سكان السواحل أقصر من أجسام أبناء الجبال والنجاد, وأن أهل التهائم والسواحل الجنوبية لجزيرة العرب أقصر قامة من أهل نجاد اليمن أو أهل نجد. كما نجد اختلافًا بين ملامح القبائل لا زال بارزًا حتى اليوم، اختلافًا يتحدث عن طبيعة الامتزاج الذي وقع في الدم في أيام الجاهلية أيضًا،
__________
1 تاج العروس "7/ 184"، "ملك".
2 تاج العروس "8/ 320"، "روم".(7/304)
لاختلاط الدماء وامتزاجها بالعوامل التي ذكرتها، وإن ذهب البعض إلى أن جزيرة العرب كانت في عزلة عن العالم, فهذه العزلة التي يتحدثون عنها، هي عزلة لم تكن عامة ولا يمكن أن نسميها عزلة صحيحة إلا بالنسبة للقبائل المتبدية التي عاشت في صميم البوادي، غير أن تلك القبائل لم تتمكن مع ذلك من عزل نفسها عن الرقيق والأسرى الغرباء.
ثم نجد فروقًا بين العرب والأعراب، سببه اختلاف المحيط والظروف والغذاء, فالعربي ممتلئ الجسم بالقياس إلى الأعرابي الرشيق القليل اللحم، الدقيق العظم. وتظهر هذه النحافة في وجه الأعرابي أيضًا، فوجهه ممشوق قليل اللحم، دقيق ممتد, ذو ذقن بارز، وأنف دقيق، وعينين براقتين. وتعد الرشاقة في جسم العربي من محاسنه؛ لأنها تجعله معتدل القوام، خفيف الحركة، وقد مدح "امرؤ القيس" الغلام الخف، أي: الخفيف الجسم، السريع الحركة الذي ينزل عن صهواته ويلوي بأثواب العنيف المثقل, أي: الثقيل الجسم السمين. وقيل: الخفيف في الجسم والخفاف في التوقد والذكاء1, ويعد ثقل الجسم من المعيبات. ومن المجاز التخفيف ضد التثقيل والخفيف ضد الثقيل, وقد اعتبروا الثقل ذمًّا في الإنسان, فقيل: هو ثقيل على جلسائه، وهو ثقيل الظل، ويقال: مجالسة الثقيل تضني الروح، حتى ألف بعض العلماء في أخبار الثقلاء2.
و"الربع" من الرجال، أي المتوسط القامة، النموذج الأوسط للإنسان وحد الكمال في الجسم عند العرب, ويقال له: "ربعة", و"مربوع". وقد نعت رسول الله بأنه "ربعة" من الرجال، وورد أنه كان أطول من المربوع وأقصر من المشذب3. والوسط عند العرب هو بين الجيد والرديء, وأوسط الشيء أفضله وخياره, ومنه الحديث: "خيار الأمور أوساطها"4. وقد هابت العرب أصحاب الطول في الجسم، والكبر في الرأس, واحترموا أصحاب الهيبة والتأثير في النفس، وقد ذكر بعض منهم في كتب أهل الأخبار. وقد رموا القصير
__________
1 تاج العروس "6/ 92 وما بعدها"، "خف".
2 "قال الراغب: الثقل في الإنسان يستعمل تارة في الذم وهو أكثر في التعارف، وتارة في المدح"، تاج العروس "7/ 245"، "ثقل".
3 تاج العروس "5/ 338"، "ربع".
4 تاج العروس "5/ 240 وما بعدها"، "وسط".(7/305)
بالمكر والخديعة، ولكنهم اعتبروا القصر في الجسم من العيوب، لا سيما إذا كان ذلك القصير غليظ البطن, وقد عرف الإنسان الموصوف بهذه الصفة بالدحداح وبالداح وبالدودح وبالذحذاح1. والدودحة القصر مع السمن2, وأما "الدرحاية"، فالرجل الكثير اللحم القصير السمين البطين، اللئيم الخلقة, وعرف الرجل المسن الذي ذهبت أسنانه بـ"الدردح"3.
واعتبر العرب طول العنق من سمات المدح؛ ولذلك وصف رؤساء العرب بطول العنق. وعُبر عن الرؤساء والكبراء والأشراف بـ"الأعناق"، و"أعناق", وعبر عن الجماعة الكثيرة بـ"الأعناق" كذلك4. وذكر الشاعر "عروة بن الورد" عنق الآرام في شعر له, وصفه للناشئات الماشية بتبختر. إذ قال:
والناشئات الماشيات الخوزرى ... كعنق الآرام أوفى أو صرى5
والعرب مثل غيرهم لا يحبون الصلع، ويكثر ظهوره بين العجزة والمسنين والأشراف. وقد ذكر أن أكثر الأشراف من العرب كانوا من الصلع، وتفسير ذلك أن أكثر الأشراف هم من ذوي الأسنان، وأن الإنسان إذا تقدمت به السن، أخذ الصلع يجد له مكانًا في رأسه فيلعب فيه. ومن ذلك قول الناس يوم بدر: "ما قتلنا إلا عجائز صلعًا" أي: مشايخ عجزة عن الحرب. وأنشد "ابن الأعرابي": "يلوح في حافات قتلاه الصلع" أي: يتجنب الأوغاد ولا يقتل إلا الأشراف6.
وهم يفضلون "الأفرع" على الأصلع, والأفرع هو الكثير الشعر, وكان "أبو بكر" أفرع، وكان عمر أصلع, وكان رسول الله أفرع ذا جمة7. والصلع خير من "القرع"؛ لأن القرع داء يصيب الرأس، فيؤثر في منظره
__________
1 تاج العروس "2/ 135"، "دح".
2 تاج العروس "2/ 136"، "دودحة".
3 تاج العروس "2/ 136"، "دردح".
4 تاج العروس "7/ 26"، "عنق".
5 اللسان "4/ 237"، "خزر".
6 تاج العروس "5/ 416"، "صلع".
7 تاج العروس "5/ 449"، "فرع".(7/306)
ويسبب سقوط شعره وحدوث أثر دائم فيه، وقد تنبعث رائحة كريهة منه1. وقد ذكر الإخباريون أسماء عدد من الأشراف عرفوا بقرعهم.
وقد اشتهر بعض العرب بطول القامة، حتى زعم أن بعضًا منهم كان إذا ركب الفرس الجسام خطت إبهاماه في الأرض, وذكروا من هؤلاء: "جذيمة بن علقمة بن فراس"، المعروف بـ"جذل الطعان" الكناني، و"ربيعة بن عامر بن جذيمة بن علقمة بن فراس"، وكان يماشي الظعينة فيقبلها، فسمي "مقبل الظعن"، و"زيد الخيل بن المهلهل الطائي"، و" أبا زيد حرملة بن النعمان الطائي"، وعدي بن حاتم بن عبد الله الطائي، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وأباه سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وعبد الله بن أبي بن سلول، وبشير بن سعد أخا بني الحارث بن الخزرج، وجبلة بن الأيهم الغساني، وحمل بن مرداس النخعي، ومالكًا الأشتر بن الحارث النخعي, وعبد الله بن الحصين ذي الغصة الحارثي، وعامر بن الطفيل الجعفري، وقيس بن سلمة بن شراحيل بن أصهب الجعفي2.
__________
1 تاج العروس "5/ 463"، "قرع".
2 المحبر "ص233 وما بعدها".(7/307)
العرب أفخر الأمم:
يرى الجاحظ أن العرب أفخر الأمم، وأرفعها وأحفظها لأيامها، وينسب ذلك إلى طبيعة بلادهم، إذ "كانوا سكان فيافٍ وتربية العراء, لا يعرفون العمق ولا اللثق، ولا البخار ولا الغلظ ولا العفن ولا التخم، أذهان حداد، ونفوس منكرة، فحين حملوا حدهم ووجهوا قولهم لقول الشعر وبلاغة المنطق, وتشقيق اللغة وتصاريف الكلام، بعد قيافة الأثر وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كل أمنية. وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع من جميع الأمم وأفخر، ولأيامهم أحفظ وأذكر"1. وهم
__________
1 مناقب الترك، من رسائل الجاحظ "1/ 70".(7/307)
لطبيعة الأرض التي وُلدوا بها صاروا على هذه الحال, ولم يصيروا كاليونان في الحكمة وفي العلوم، ولا كالصين في السبك والصياغة والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنحت والتصاوير، ولا كالهنود أو الفرس1.
وقد وصف الأعرابي بالتفاخر وبالتباهي، فهو فخور معجب بنفسه مترفع عن غيره حتى لكأنه النمر، مع أنه من أفقر الناس؛ ولهذا صاروا إذا أرادوا وصف شخص متغطرس متجبر مع أنه لا يملك شيئًا يفوّق به نفسه على غيره, قالوا عنه: "نبطي في حبوته, أعرابي في نمرته، أسد في تامورته"2.
__________
1 مناقب الترك, من رسائل الجاحظ "1/ 66 وما بعدها".
2 تاج العروس "3/ 585"، "نمر".(7/308)
العجم:
ويطلق العرب على غيرهم ممن لا ينتمون إلى العرب، لفظة "أعاجم", و"العجم" عندهم خلاف العرب, والرجل الواحد "أعجمي", ولعلماء اللغة آراء في تفسير هذه اللفظة1. وهي من الألفاظ الجاهلية؛ لورودها في القرآن الكريم, ففيه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} 2, و {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} 3, و {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} 4، و {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ, فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} 5. ففي هذه الآيات دلالة واضحة على أن المراد من "أعجمي" خلاف العربي, وأن هذا المصطلح كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام.
ويطلق العرب على العجم "الحمراء" لبياضهم, ولأن الشقرة أغلب الألوان عليهم. وكانت العرب تقول للعجم الذين يكون البياض غالبًا على ألوانهم مثل الروم والفرس ومن صاقبهم: إنهم الحمراء، والعرب إذا قالوا: فلان أبيض
__________
1 تاج العروس "8/ 389 وما بعدها"، العقد الفريد "3/ 229".
2 النحل، الآية 103.
3 فصلت, الآية 44.
4 فصلت, الآية 44.
5 الشعراء, الآيتان 198, و199.(7/308)
وفلانة بيضاء، فمعناه الكرم في الأخلاق لا لون الخلقة. وإذا قالوا: فلان أحمر وفلانة حمراء عنوا بياض اللون, والعرب تسمي الموالي: الحمراء1. جاء في الحديث: "بعثت إلى الأحمر والأسود"، أي: إلى العجم والعرب كافة2.
وورد أن العرب تقول: جاء بغنمه حمر الكلى وجاء بها سود البطون، معناهما المهازيل، وهو مجاز3. ويذكرون أن معنى حمر الكلى الامتلاء والسمن، والسواد بمعنى الهزال والرشاقة. ولما كان الأعاجم ممتلئي الجسم بالنظر إلى العرب، قالوا لهم "الحمراء". وقد كان العرب يطلقون على الموالي "الحمراء"، واذا سبُّوا أحدهم قالوا: "يابن حمراء العجان, أي: يابن الأمة، كلمة في السب والذم"4. ولعلهم فعلوا ذلك بسبب امتلاء أجسام الموالي ولا سيما العجان، الذين لا يتحركون ولا يتنقلون من أماكنهم، ويأكلون الخبز فامتلأت لذلك بطونهم وتكرشوا.
ولم يشرح علماء العربية الأسباب التي حملت العرب على تلقيب العجم بـ"رقاب المزاود" "رقاب المزود"5. وقد ذكر بعض العلماء، أن العرب إنما لقبت العجم بـ"رقاب المزاود"؛ لطول رقابهم أو لضخامتها كأنها ملأى6.
ويكنى العرب بـ"السبط" عن العجمي, وبـ"الجعد" عن العربي7؛ وذلك لأن سبوطة الشعر هي الغالبة على شعور العجم من الروم والفرس وجعودة الشعر هي الغالبة على شعور العرب. ولكنهم كانوا يفرقون بين جعودة شعر العرب وجعودة شعر الزنج والنوبة؛ لأنهم ينظرون إلى الزنج والسود على أنهم دونهم في المنزلة والمكانة؛ ولهذا قالوا: إن العرب تمدح الرجل إذ تقول: رجل جعد، أي: كريم جواد كناية عن كونه عربيًّا سخيًّا؛ لأن العرب موصوفون بالجعودة، وتذم الرجل أيضًا حين تقول: رجل جعد، إذ يقصدون بذلك
__________
1 اللسان "4/ 210"، "حمر"، تاج العروس "3/ 154"، "حمر".
2 تاج العروس "3/ 154"، "حمر".
3 تاج العروس "3/ 158".
4 تاج العروس "3/ 158".
5 اللسان "ز/ و/ د"، "3/ 198".
6 تاج العروس "2/ 366"، "زاد".
7 تاج العروس "5/ 149"، "سبط".(7/309)
رجلًا لئيمًا لا يبض حجره، وقد يراد به رجل قصير متردد الخلق, فهو من الأضداد؛ لذلك فالجعد في صفات الرجال يكون مدحًا وذمًّا. وإذا قالوا: رجل جعد السبوطة فمدح، إلا أن يكون قططًا مفلفل الشعر فهو حينئذ ذم1.
ومن المجاز قول العرب: الأعداء صهب السبال وسود الأكباد، وإن لم يكونوا كذلك، أي صهب السبال، فكذلك يقال لهم. ورد في الشعر:
جاءوا يجرون الحديث جرًّا ... صهب السبال يبتغون الشرَّا
وإنما يريدون أن عداوتهم كعداوة الروم, والروم صهب السبال والشعر، وإلا فهم عرب وألوانهم الأدمة والسمرة والسواد2.
ويذكر علماء اللغة أن العرب تصف ألوانها بالسواد، وتصف ألوان العجم بالحمرة, وقد افتخر الشعراء بذلك في الجاهلية وفي الإسلام. من ذلك قول الفضل بن عباس بن عتبة اللهبي:
وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب
يقول: أنا خالص؛ لأن ألوان العرب السمرة. ومن ذلك قول مسكين الدارمي:
أنا مسكين لمن يعرفني ... لوني السمرة ألوان العرب3
قال "الجاحظ": "والعرب تفخر بسواد اللون ... وقد فخرت خُضر محارب بأنها سود، والسود عند العرب الخضر". ثم ذكر أمثلة من أمثلة افتخار بعض القبائل والأشخاص بكونهم "خضرًا", حتى قال: "وخضر غسان بنو جفنة الملوك, قال الغساني:
إن الخضارمة الخضر الذين ودوا ... أهل البريص ثمانى منهم الحكم
وقد ذكر حسان أو غيره الخضر من بني عكيم، حين قال:
ولست من بني هاشم في بيت مكرمة ... ولا بني جمح الخضر الجلاعيد
__________
1 تاج العروس "2/ 320 وما بعدها", "جعد".
2 تاج العروس "1/ 342"، "صهب".
3 تاج العروس "3/ 179 وما بعدها"، "خضر"، رسائل الجاحظ، كتاب فخر السودان على البيضان "1/ 207"، "تحقيق عبد السلام هارون".(7/310)
قالوا: وكان ولد عبد المطلب العشرة السادة دُلمًا ضخمًا، نظر إليهم عامر بن الطفيل يطوفون كأنهم جمال جون، فقال: بهؤلاء تمنع السدانة.
وكان عبد الله بن عباس أدلم ضخمًا، وآل أبي طالب أشرف الخلق، وهم سود وأدم ودلم"1.
واشتهر بعض سودان العرب بالشجاعة والإقدام، منهم أربعة عرفوا بـ"أغربة العرب" وذؤبان العرب, منهم: عنتر وخفاف بن ندبة السلمي، سار فيه السواد من قبل أمه، وهو من حرة بني سليم، أدرك النبي، وكان شاعرًا شجاعًا، وقل ما يجتمع الشعر والشجاعة في واحد. ومنهم السليك بن السلكة2.
وهناك قبائل غلب على لونها السواد، حتى عبر عنها بـ"دلم", والدلم: الرجل الشديد السواد3. جاء إليها السواد؛ لكون أصلها من إفريقيا على ما يظهر، وكانت قد استقرت بجزيرة العرب وتعربت، حتى عدت من العرب, أما الأسر والأفراد الدلم، فقد ظهر السواد على لونهم بالتزاوج من الملونين. فقد كان من عادة الأشراف الاتصال بالإماء السود، فإذا ولدن منهم أولادًا نجبًا شجعانًا ألحقهم آباؤهم بهم، ونسبوهم إليهم كالذي كان من أمر عنترة العبسي، وقد مال قوم من قريش إلى التزوج بالإماء السود، وقد ظهرت هذه النزعة بين السادات والأشراف.
وقد ذكر "الجاحظ" في معرض حجج السودان على البيضان، وعلى لسان الزنج قولهم للعرب: "من جهلكم أنكم رأيتمونا لكم أكفاء في الجاهلية في نسائكم، فلما جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسدًا, وما بنا الرغبة عنكم، مع أن البادية منا ملأى ممن قد تزوج ورأس وساد، ومنع الذمار، وكَنَفَكم من العدو"4. وفي هذا القول إشارة إلى التزاوج الذي كان بين العرب والزنج, أي: السودان المجلوبين من إفريقيا، في أيام الجاهلية، وإلى انصراف العرب عنه
__________
1 فخر السودان، للجاحظ "1/ 207 وما بعدها"، من "رسائل الجاحظ"، تحقيق "عبد السلام هارون".
2 الثعالبي، ثمار "159 وما بعدها".
3 تاج العروس "8/ 292", "دلم".
4 من رسائل الجاحظ "1/ 197".(7/311)
في الإسلام، ما خلا البادية؛ وذلك بسبب إقبالهم على التزوج بالفارسيات والروميات وبغيرهن على ما يظهر، بسبب الفتوح وتوسع أسواق النخاسة في هذا الوقت, وارتفاع مستوى الوضع الاقتصادي للعرب في الإسلام عنه في الجاهلية؛ مما مكنهم من التزوج بالأجنبيات البيض الجميلات وتفضيلهن على السودانيات. وظهور نظرة الازدراء إلى السودان في الإسلام؛ بسبب الأعاجم المسلمين الذين كانوا يزدرون العبيد وينظرون إليهم على أنهم دونهم في المنزلة، فانتقلت هذه النظرة منهم إلى العرب.
ويظهر من رسالة الجاحظ: "فخر السودان على البيضان"، أن نزاعًا كان قد دبَّ بين السودان والعرب في الإسلام؛ بسبب نظرة الازدراء التي أخذ الفاتحون ينظرون بها إليهم, فصاروا يترفعون عنهم ولا يخالطونهم، وهذا مما أغاظهم، وحملهم على نبش الماضي، والإتيان بالأخبار وبالأشعار عن دور الحبش في جزيرة العرب قبل الإسلام، وكيف أنهم كانوا قد ملكوا "بلاد العرب من لدن الحبشة إلى مكة"1، وهزموا ذا نواس، وقتلوا أقيال حمير، فملكوا العرب ولم يملكهم العرب2, إلى غير ذلك من دعاوٍ تجدها في قصيدة الشاعر الزنجي "الحيقطان", التي يفتخر فيها بالحبش على العرب, على نحو فخر الشعوبية بأصولهم على العرب. وهي قصيدة شهيرة، قالها يوم سمع "جرير" يسخر منه بشعر قاله في وصفه, فرد عليه ردًّا شديدًا بقصيدته هذه التي نظمها وهو باليمامة3.
وقد عُرفت بعض القبائل ببياض بشرتها، واشتهرت نساؤها ببياض البشرة، ورد "في الحديث: أنه لما خرج من مكة قال له رجل: إن كنت تريد النساء البيض والنوق الأدم, فعليك ببني مدلج"4. ويقال للمرأة التي يغلب على لونها البياض: "الحمراء"، وقد لقب الرسول زوجته "عائشة" بـ"الحميراء"؛ لبياض لونها.
__________
1 رسائل الجاحظ "1/ 193 وما بعدها".
2 المصدر نفسه.
3 رسائل الجاحظ "1/ 180، 182 وما بعدها".
4 تاج العروس "8/ 181 وما بعدها"، "أدم".(7/312)
القبيلة:
والقبيلة هي عماد الحياة في البادية، بها يحتمي الأعرابي في الدفاع عن نفسه وعن ماله، حيث لا "شُرَط" في البوادي تؤدب المعتدين، ولا سجون يُسجن فيها الخارجون على نظام المجتمع، وكل ما هناك "عصبية" تأخذ بالحق و"أعراف" يجب أن تطاع.
والرابط الذي يربط شمل القبيلة ويجمع شتاتها هو "النسب", ويفسر ذلك بارتباط أبناء القبيلة كلها بنسب واحد وبدم واحد وبصلب جد أعلى, من صلبه انحدر أفراد القبيلة في اعتقادهم؛ ولهذا نجد أهل الأنساب يرجعون نسب كل قبيلة إلى حد أعلى، ثم يرجعون أنساب الجدود، أي: أجداد القبائل إلى أجداد أقدم، وهكذا حتى يصلوا إلى الجدين العرب: قحطان وعدنان.
وقد حفظت الكتابات العربية الجنوبية أسماء عدد كبير من القبائل، لم يعرف أسماء أكثرها أهل الأخبار. وهي تفيدنا من هذه الناحية فائدة كبيرة في الوقوف على هذه القبائل، وبعضها كان قد هلك وانحلَّ واختلط في القبائل الأخرى قبل الميلاد وبعضها بعد الميلاد وقبل الإسلام بأمد.
وتتألف القبيلة من بيوت، يختلف عددها باختلاف حجم القبيلة، وباختلاف المواسم. ففي مواسم الربيع، تضطر أحياء القبيلة إلى الانتشار والابتعاد؛ لتتمكن إبلها من الرعي ومن إملاء بطونها بالعشب, فتتجمع على شكل مستوطنات يتراوح عدد بيوت كل مستوطنة منها ما بين الخمسين والمائة والخمسين بيتًا. أما في المواسم الأخرى، حيث تنحبس الأمطار وتجف الأرض، فتعود أحياء القبيلة إلى تكتلها وتجمعها، فتكون كل مجموعة حوالي "500" بيت أو أكثر, تتجمع حذر وقوع غزو عليها، وللتعاون فيما بينها عند الشدة والعسر1.
والقبيلة في عرف علماء اللغة: جماعة من أب واحد، والقبائل في نظرهم من قبائل الرأس لاجتماعها، أو من قبائل الشجرة وهي أغصانها2، فهي إذن جماعة من الناس تضم طوائف أصغر منها، وهي تنتمي كلها إلى أصل واحد، وجذر
__________
1 W. Caskel, Die Bedeutung der Beduinen, S., 8.
2 تاج العروس "8/ 72"، "قبل".(7/313)
راسخ، ولها نسب مشترك يتصل بأب واحد هو أبعد الآباء والجد الأكبر للقبيلة. فالرابط الذي يربط بين أبناء القبيلة ويجمع شملها ويوحد بين أفرادها هو "الدم"، أي النسب، والنسب عندهم هو القومية ورمز المجتمع السياسي في البادية. والقبيلة هي الحكومة الوحيدة التي يفقهها الأعرابي, حيث لا يشاهد حكومة أخرى فوقها. وما تقرره حكومته هذه من قرارات يطاع وينفذ، وبها يستطيع أن يأخذ حقه من المعتدي عليه.
وهذه النظرة الخاصة بتعريف القبيلة, هي التي حملت أهل الأنساب والأخبار على إطلاق لفظة "القبيلة" على الحضر أيضًا, مع أنهم استقروا وأقاموا. فقريش عندهم قبيلة، والأوس والخزرج قبيلة، وثقيف قبيلة؛ ذلك لأن هؤلاء الناس وإن تحضروا واستقروا وأقاموا وتركوا الحياة الأعرابية، إلا أنهم بقوا رغم ذلك على مذهب أهل الوبر ودينهم في التمسك بالانتساب إلى جد أعلى وإلى أحياء وبطون, وفي إجابة النخوة والعصبية، وما شابه ذلك من سجايا البداوة، فعدوا في القبائل، وإن صاروا حضرًا وأهل قرار، وقد طلقوا التنقل وانتجاع الكلأ.
وتشارك الشعوب السامية العرب في هذه النظرة؛ لأن نظامها الاجتماعي القديم هو كالنظام العربي قائم على القبيلة, والقبيلة عندها جماعة من بيوت ترى أنها من أصل واحد، وقد انحدرت كلها من صلب جد واحد. فهم جميعًا أبناء الجد الذي تتسمى به القبيلة، وهم مثل العرب في النداء وفي النسب, قد يذكرون الاسم فقط, فيقولون مثلًا: أدوم ومؤاب وإسرائيل ويهوذا، أو أبناء إسرائيل وأبناء يهوذا، وبنو إسرائيل وبنو يهوذا، وقد يقولون: بيت إسرائيل وبيت يوسف وبيت خمرى وبيت أديني بمعنى أبناء المذكورين، تمامًا كما نقول: غسان، وآل غسان، وأبناء غسان, وأولاد غسان, ومن غسان، وغساني، وما شاكل ذلك، ويريدون بها شيئًا واحدًا، وهو النسب، أي: الانتماء إلى جد واحد, به تسمى القبيلة وإليه يرجع نسبها.
وهم يشعرون كالعرب أن أبناء القبيلة هم إخوة وهم من دم واحد, ومن لحم ودم ذلك الجد. وهم يخاطبون بعضهم بعضًا بقولهم: "أنت من لحمي ودمي", وفي التوراة أمثلة عديدة من هذا القبيل. فلما ذهب "أبو مالك بن(7/314)
يربعل" إلى عشيرة أمه خاطب أبناءها بقوله: "أيما خير لكم! أن يتسلط عليكم سبعون رجلًا جميع بني يربعل، أم أن يتسلط عليكم رجل واحد, واذكروا أني أنا عظمكم ولحمكم"1. وقد اعتبر "داود" جميع أبناء عشيرته إخوة له2, وخاطب "شيوخ يهوذا" بقوله: "أنتم إخوتي، أنتم عظمي ولحمي"3. فأبناء القبيلة هم إخوة من دم واحد, يسري في أجسامهم جميعًا ما دامت القبيلة حية باقية. ووحدة الدم هذه هي الرابط الذي يجمع شمل القبيلة, وهي صلة رحم، وعصبية، والحكومة الصحيحة التي يجب أن تطاع.
والعربي مثل بقية الساميين لم يفهم الدولة إلا أنها دولة القبيلة, وهي دولة صلة الرحم التي تربط الأسرة بالقبيلة، دولة العظم واللحم، دولة اللحم والدم, أي: دولة النسب. فالنسب هو الذي يربط بين أفراد الدولة ويجمع شملهم، وهو دين الدولة عندهم وقانونها المقرر المعترف به. وعلى هذا القانون يعامل الإنسان، وبالعرف القبلي تسير الأمور، فالحكام من القبيلة، وأحكامهم أحكام تنفذ في القبيلة، وإذا كانت ملائمة لعقلية القبيلة والبيئة، وهذا هو ما يحدث في الغالب, تصير سنة للقبيلة، نستطيع تسميتها بـ"سنة الأولين". ووطن القبيلة هو بالطبع مضارب القبيلة حيث تكون، وحيث يصل نفوذها إليه، فهو يتقلص ويتوسع بتلقص وبتوسع نفوذ القبيلة.
وقد واجه المسلمون في أيام الفتوح صعوبة كبيرة في فتوحهم؛ بسبب العقلية القبلية وضيق أفقها، وعدم تمكنها من التخلص من مثلها الجاهلية بسهولة. فقد كان على القائد أن يقاتل عدوه بجيش يحارب على شكل كتل قبائل، تتكون كل كتلة من مقاتلي قبيلة واحدة، لا من جنود ينتمون إلى أمة هي فوق الكتل والقبائل. وكان على رأس كل وحدة مقاتلة رؤساء من القبيلة التي ينتمي إليها الجنود، وقد واجه الإمام "علي" صعوبة حينما حارب في معركة الجمل وفي معركة صفين وغيرها، إذ اشترطت عليه القبائل المحاربة، ألا تحارب إلا رجال قبيلتها الذين يكونون ضده، فالهمدانيون الذين معه يحاربون الهمدانيين الذين يحاربون مع خصمه. وهكذا فعلت بقية القبائل، للعصبية القبلية؛ لأنهم لم يكونوا يستطيعون رؤية قبيلة غريبة تفتك
__________
1 سفر القضاة، الإصحاح التاسع، الآية 2.
2 صموئيل الأول، الإصحاح 20, الآية 29.
3 صموئيل الثاني، الإصحاح التاسع عشر, الآية 13.(7/315)
بإخوانهم من قبيلتهم، وهم ينادون بشعار العصبية، شعار القبيلة. أما هم فإن قاتلوا إخوانهم من قبيلتهم، فإن قتالهم هذا يختلف عن قتال الإخوة حين يقتتلون قتالًا قد يكون أشد ضراوة من قتال الغرباء، لا يلتفت فيه إلى وجود دم واحد بين المتقاتلين، وإلى أنهم من بيت أب وأم، يحتم عليهم التكتل والتعصب، إذ لا غريب هنا أمامهم في هذا القتال.
ولست بحاجة وأنا في هذا المكان، لتكرار قول سبق أن قلته في الجزء الأول من هذا الكتاب, من أن أسماء القبائل لا تعني بالضرورة أنها أسماء أجداد حقيقيين عاشوا وماتوا. فبينها كما سبق أن قلت أسماء مواضع، مثل غسان، وبينها أسماء أصنام مثل "بني سعد العشيرة", وبينها أسماء أحلاف مثل "تنوخ", وبينها نعوت وألقاب ... إلى آخر ذلك من أسماء قبائل وصلت إلى علم علماء الأنساب, فأوجدوا لها معاني واعتبروها أسماء رجال حقيقيين تزوجوا ونسلوا ومنهم من كان عاقرًا فلم ينسل، فذهب أثره، ولم تبق له بقية1.
والمفهوم من لفظة "القبيلة" في العادة: القبائل التي تتألف من عمائر وما وراء العمائر من أقسام. فإذا ذكرت القبيلة انصراف الذهن إلى آلاف من البيوت تجتمع تحت اسم تلك القبيلة. ولكن الناس يتجوزون في الكلام، وفي الكتابة أحيانًا فيطلقونها على عدد قليل من الناس, قد يبلغ ثلاثة نفر أو أربعة مثل: "بني عبد الله بن أفصي بن جديلة"، و"بني جساس بن عمرو بن خوية بن لوذان" من "بني فزارة"، و"كليب بن عدي بن جناب بن هبل"، و"بني شقرة" من تميم. وقد يطلقونها على أكثر من ذلك، ولكن على عدد قليل من الناس أيضًا، كأن يكون خمسين رجلًا أو ستين2, وهذا الاستعمال، هو على سبيل التجوز لا الاصطلاح.
ويرى علماء العربية أن هناك تجمعات، هي في نظرهم أكبر حجمًا من القبيلة, أطلقوا عليها "الشعوب". فذكروا أن الشعوب فوق القبائل، ومثاله: بنو قحطان، وبنو عدنان، فكل منهما شعب, وما دونهما قبائل. وذهب بعض منهم إلى أن "الشعوب" للعجم، فإن الشعوب بالنسبة لهم، مثل القبائل
__________
1 راجع الجزء الأول من كتابي "ص294 وما بعدها".
2 المحبر "ص256"، "القبائل التي لا يزيد عددها".(7/316)
للعرب، ومنه قيل للذي يتعصب للعجم "شعوبي"، وقيل: بل هي للعرب وللعجم. والذي عليه أكثر علماء الأنساب أن الشعب أكبر من القبيلة، وأن الشعب أبو القبائل الذي ينتسبون إليه، أي: يجمعهم ويضمهم1.
ويظهر أن مرد هذا الاختلاف هو ما ورد في القرآن الكريم من قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} 2. فقدم "الشعوب" على القبائل, فذهب أكثر المفسرين والعلماء إلى أن هذا التقديم يعني أن الشعب أكبر من القبيلة، وأن الشعوب الجمَّاع والقبائل البطون، أو الشعوب الجمهور والقبائل الأفخاذ، أو الشعوب: النسب البعيد، والقبائل: دون ذلك، كقولك فلان من بني فلان، وفلان من بني فلان. وتأول بعض آخر هذا المعنى، فذهبوا إلى أن هذا التقديم أو التأخير، لا علاقة له بالكبر، أي: بحجم الشعب أو القبيلة، والآية لا تريد ذلك، وإنما تريد الأنساب، وأنها نزلت في بيان أن الإنسان لا بنسبه، وإنما بعمله. وعلى هذا, فإن الشعب في نظرهم دون القبيلة في الترتيب, والشعب بعد القبيلة في الدرجة3.
وقد أخذ العلماء بالتأويل الأول للفظة "الشعب" حتى صار هذا المعنى هو المعنى المفهوم منها عند الناس في الإسلام، فهي إنما تعني اليوم جنسًا من أجناس البشر له خصائصه ومميزاته، كالشعب العربي والشعب اليوناني والشعب التركي والشعب البريطاني والشعب الأمريكي، وهكذا, أو جزءًا كبيرًا مستقلًّا من أجزاء أمة واحدة، كأن نقول: الشعب العراقي، والشعب السوري، والشعب السعودي، والشعب المصري، أي: وحدة جغرافية سياسية ذات كيان.
ولفظة "الشعب" من الألفاظ الواردة في نصوص المسند, وهي فيها بمعنى قبيلة، وتكتب "شعبن"، بمعنى "الشعب"، وحرف النون في أواخر الأسماء أداة للتعريف في العربيات الجنوبية. فهي إذن مرادف "قبيلة" بالضبط, والجمع "أشعب"، أي "شعوب". ورد "سباواشعبهمو"، أي "سبأ وشعوبهم",
__________
1 تاج العروس "1/ 318"، الخوارزمي، مفاتيح العلوم "74".
2 سورة الحجرات، السورة رقم 49، آية 13، تفسير الطبري "26/ 88", تفسير الألوسي "26/ 147".
3 تفسير الطبري "26/ 88".(7/317)
أو "سبأ وقبائلهم" بتعبير أدق وأصح. وورد "شعبن معن"، أي "قبيلة معين"، و"شعين همدان", أي "قبيلة همدان". والظاهر أن أهل مكة وقفوا في الجاهلية على هذه اللفظة أيضًا فاستخدموها, وأن قبائل حجازية مجاورة لمكة، كانت تستعمل لفظة "شعب" و"الشعب" بمعنى قبيلة، ونظرًا لورودهما معًا في القرآن الكريم، فرَّق العلماء بين اللفظتين، باعتبار أن ذكرهما معًا يعنى وجود بعض الاختلاف في المراد منهما. فوقع من ثَمَّ بين المسلمين هذا التمييز، وصارت لفظة "الشعب" تدل على معنى يختلف عن معنى كلمة "قبيلة" و"القبيلة".
ويلي الشعب في اصطلاح أهل النسب: القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة. فالشعب النسب الأبعد مثل عدنان وقحطان، والقبيلة مثل ربيعة ومضر، والعمارة مثل قريش وكنانة، والبطن مثل بني عبد مناف وبني مخزوم، ومثل بني هاشم، وبني أمية، والفصيلة مثل بني أبي طالب وبني العباس1. وجعل "ابن الكلبي" مرتبة بين الفخذ والفصيلة هي مرتبة العشيرة, وهي رهط الرجل2.
وورد أن البطن دون القبيلة أو دون الفخذ وفوق العمارة. وذكر بعضهم أن أول العشيرة: الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ3. وذلك على رأي من جعل العشيرة: العامة، مثل: بني تميم وبني عمرو بن تميم، أي: الجماعة العظيمة4.
وزاد بعض العلماء الجذم قبل الشعب، وبعد الفصيلة العشيرة، ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة، ثم العترة. ورتبها آخرون على هذه الصورة: جذم, ثم جمهور، ثم شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم عشيرة,
__________
1 اللسان "14/ 57"، "16/ 199"، بلوغ الأرب "3/ 187 وما بعدها"، "تاج العروس "8/ 72"، السيرة الحلبية "1/ 37"، العمدة "2/ 191"، "محمد محيي الدين عبد الحميد", تاج العروس "9/ 141"، "بطن".
2 العقد الفريد "3/ 283 فما بعدها", المقريزي، النزاع والتخاصم "65", نهاية الأرب للنويري "2/ 262 وما بعدها".
3 تاج العروس "9/ 141"، "بطن".
4 تاج العروس "3/ 403"، "عشر".(7/318)
ثم فصيلة، ثم رهط، ثم أسرة، ثم عترة، ثم ذرية. وزاد غيرهم في أثنائها ثلاثة هي: بيت، وحي، وجماع1. وذكر بعض علماء اللغة أن "الجذم"، الأصل في كل شيء؛ فيقال: جذم القوم: أهلهم وعشيرتهم, ومنه حديث حاطب: "لم يكن رجل من قريش إلا له جذم بمكة"2.
وذكر بعض العلماء أن العمارة الحي العظيم يقوم بنفسه3, وأن الفرق بين الحي والقبيلة هو أن الحي لا يقال فيه: بنو فلان نحو قريش وثقيف ومعد وجذام, والقبائل يقال فيها: بنو فلان مثل بني نعيم وبني سلول4. وذكر أيضًا أن العمارة: الحي العظيم الذي يقوم بنفسه، ينفرد بظعنها وإقامتها ونجعتها, وقيل هو أصغر من القبيلة. وفي الحديث: "أنه كتب لعمائر كلب وأحلافها كتابًا". قال التغلبي:
لكل أناس من معد عمارة ... عروضٌ، إليها يلجئون، وجانب5
وقسم "النويري" النظام القبلي عند العرب إلى عشر طبقات6, وابتدأ بـ"الجذم" وهو الأصل, وهو قحطان وعدنان، والطبقة الأولى، ثم الجماهير وهي الطبقة الثانية، ثم الطبقة الثالثة: الشعوب، والطبقة الرابعة: القبيلة، وهي التي دون الشعب تجمع العمائر، ثم الطبقة الخامسة: العمائر، وهي التي دون القبائل، وتجمع البطون، ثم الطبقة السادسة: البطون، وهي التي تجمع الأفخاذ, والطبقة السابعة: الأفخاذ, وهي أصغر من البطن، والفخذ تجمع العشائر, والطبقة الثامنة: العشائر، واحدها عشيرة، وهم الذين يتعاقلون إلى أربعة آباء, والطبقة التاسعة: الفصائل، واحدها فصيلة، وهم أهل بيت الرجل وخاصته، والطبقة العاشرة: الرهط، وهم الرجل وأسرته7.
__________
1 اللسان "18/ 235"، نهاية الأرب، للنويري "3/ 262 فما بعدها", الخوارزمي، مفاتيح العلوم "74".
2 تاج العروس "8/ 222".
3 المفضليات "ص414"، القاموس "2/ 95".
4 الخوارزمي، مفاتيح "ص74".
5 اللسان "4/ 606"، "عمر".
6 نهاية الأرب "2/ 277"، "الباب الرابع من القسم الأول من الفن الثاني في الأنساب".
7 نهاية الأرب "2/ 284 وما بعدها".(7/319)
ما ذكرته يمثل مجمل آراء علماء النسب عند العرب في موضوع كيان القبيلة وفروعها التي تتفرع منها درجة درجة، حتى تصل إلى البيت الذي يتكون من الأب والأم وأولادهما. وقد رأينا أنهم قد اختلفوا فيما بينهم وتباينوا في الترتيب وفي العدد, منهم من يقدم، ومنهم من يؤخر، ومنهم من يزيد، ومنهم من ينقص. واختلافهم هذا فيما بينهم، هو دليل يشعرنا أن التقسيم المذكور لم يكن تقسيمًا ثابتًا عند كل القبائل وأنه لم يكن تقسيمًا جاهليًّا بل كان تقسيمًا محليًّا اختلف بين قبيلة وأخرى، وأن أسماء أجزاء القبيلة، لم تكن أسماء عامة متبعة عند الجميع، أي أسماء مقررة عند كل قبيلة، بل هي أسماء أخذها العلماء من هنا وهناك، ولهذا وقع بينهم هذا الاختلاف، ولو كان عند الجاهليين تقسيم واحد لأجزاء القبيلة فما كان من المعقول أن يقع علماء النسب واللغة فيما رأينا من تباين واختلاف, ولوجب اتفاقهم في الترتيب وفي العدد. فالتقاسيم المذكورة إذن، هي من وضع وترتيب وجمع علماء النسب واللغة في الإسلام.
وأصغر وحدة من وحدات القبيلة هي: الأسرة، أي "البيت". فهي نواة القبيلة وبذرتها وجرثومتها، ومن نموها ظهرت شجرة القبيلة التي يختلف حجمها وتختلف كثرة أغصانها وفروعها باختلاف منبت الشجرة والظروف والعوامل التي أثرت في تكوينها، من بذرة جيدة ومن تربة صالحة وماء كافٍ. والبيت هو نواة القبيلة عند العرب، وهو نواة القبيلة عند كل الشعوب القبلية, بل هو نواة المجتمع في كل مجتمع إنساني.(7/320)
القحطانية والعدنانية:
تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن القحطانية والعدنانية بما فيه الكفاية1, وأعود هنا فأقول: إن ما ذكرته عن أهل المدر وأهل الوبر، أي: عن الحضر والبدو أو الأعراب وهم أهل البادية، لا يعني أن الحضر هم القحطانيون، وأن الأعراب هم العدنانيون, كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين باعتبار أن غالبية من نسميهم القحطانيين هم حضر، أو أقرب من غيرهم إلى الحضر، وأن غالبية العدنانية
__________
1 "1/ 493 وما بعدها".(7/320)
أعرابية متبدية، والصواب عندي: أن في القحطانيين عربًا وأعرابًا، وفي العدنانيين حضرًا وبادية، وإن غلبت البداوة على العدنانيين؛ لأن من وجد الماء الدائم تنخ عليه وتحضر، قحطانيًّا كان النازل أو عدنانيًّا، فالحضارة تنبت حيث يكون الماء، والماء لا يعرف النسب والقبائل, من وجده وظفر به وأقام عليه تحضر واستقر فصار حضريًّا.
ولهذا نجد أن في حضر جزيرة العرب أقوامًا يحشرهم أهل الأنساب في قحطان, ونجد في حضرها أقوامًا يرجعون نسبهم إلى عدنان.
ونحن إذا ما رسمنا خارطة لكيفية توزع الحضر والأعراب, أو كيفية انتشار القبائل، فإننا نجد أن منازل القبائل متداخلة مشتبكة، ليست بينها حدود ولا أسوار حاجزة تحجز القبائل القحطانية عن القبائل العدنانية, إلا في العربية الجنوبية حيث يرجع النسابون نسب أكثر قبائلها إلى أصل قحطاني. أما في الأماكن الأخرى، فإن القبائل القحطانية وكذلك القبائل العدنانية منتشرة انتشارًا لا يدل على وجود تكتل وتحزب, بل نجد القحطانية تجاور العدنانية وتخالطها ونجد القحطانية في جوار القحطانية، والعدنانية في جوار العدنانية، مما يدل على أن هذا التوزيع لم يقم ولم يستند على عنصرية وحزبية وعلى هجرات منتظمة، وإنما قام على حق القوة وتحكم القوي في الضعيف، مهما كان عنصر القوي وأصله, وأن التكتل قد حدث بدوافع سياسية عسكرية لعبت دورًا خطيرًا في تكون النسب.
وظاهرة أخرى نراها عند القبائل، تتجلى في أن القبائل وإن تنقلت وارتحلت من مكان إلى مكان، سعيًا وراء الماء والكلأ، كما يذكر أهل الأخبار، إلا أن ذلك لا يعني أن هذه الحركة هي حركة دائمية مستمرة، وأن القبائل كانت تنتقل دومًا من مكان إلى مكان، بحيث صار الترحل لها سنة دائمة لازمة. فلو ثبتنا منازل القبائل على "خريطة" صورة جزيرة العرب، استنادًا إلى روايات أهل الأخبار عنها، وجدنا أن منازل القبائل لم تتبدل إلا للضرورات ولأسباب قاهرة تكره القبيلة على ترك ديارها والارتحال عنها إلى منازل جديدة، كأن تغزوها قبائل كثيرة العدد أقوى منها أو ينحبس عنها المطر سنين، تهلك الضرع، أو تحاربها قوة نظامية أقوى منها، كالذي وقع لـ" إياد"، حيث أزاحها "بنو عبد القيس" عن مواطنها في البحرين، ثم شتت الفرس شملها في العراق فعندئذ تضطر القبيلة وهي مكرهة مجبورة على ترك ديارها للبحث عن ديار أخرى(7/321)
جديدة. وتكاد تكون أكثر أسباب هجرات القبائل وارتحالها من أماكنها إلى أماكن أخرى هي الأسباب المذكورة.
وطراز حياة القبائل في جزيرة العرب باستثناء العربية الجنوبية، متشابه، بحيث يصعب أن نجد فروقًا واضحة ظاهرة بين القبائل التي ينسبها النسابون المسلمون إلى قحطان أو إلى عدنان، فهي متشابهة وعلى وتيرة واحدة. وأما اللغة، فإننا لا نجد فيما بين القبائل العدنانية والقحطانية أي خلاف يذكر على ما يظهر من روايات علماء اللغة، بل نجد أن لهجات القبائل القحطانية الشمالية هي لهجات عدنانية، مخالفة للهجات أهل اليمن المعروفة التي كانت سائدة في اليمن إلى ظهور الإسلام. فلهجات أهل اليمن من الحميرية وغيرها، بعيدة عن لهجات القبائل القحطانية والعدنانية بعدًا متساويًا، حتى بالنسبة إلى القبائل اليمانية التي غادرت اليمن في عهد متأخر، كما سأبحث عن ذلك فيما بعد، وفي القسم الخاص بلغات أهل الجاهلية. ولهذه الظاهرة أهمية كبيرة بالنسبة إلى دراسة اللغة والنسب عند العرب الجاهليين.
وعندي أن ما يذهب إليه المستشرقون من تقسيم العرب إلى عرب جنوبيين وعرب شماليين، هو تقسيم لا يمكن اعتباره تقسيمًا علميًّا؛ فإن ما نشاهده من فروق في الملامح والمظاهر بين أهل العربية الجنوبية من أهل اليمن وحضرموت ومسقط وعمان, وبين أهل الحجاز ونجد والعرب الشماليين الآخرين، وإن كان واضحًا ظاهرًا ولا مجال إلى نكرانه, إلا أن هذه الفروق لا يمكن اعتبارها مع ذلك حدًّا فاصلًا يقسم العرب إلى مجموعتين: مجموعة شمالية ومجموعة جنوبية، لسبب بسيط جدا سبق أن بينته في الجزء الأول من هذا الكتاب، وتحدثت عنه في مواضع أخرى منه، وهو أن كل مجموعة من المجموعتين لا تكون في نفسها وحدة متناسقة متجانسة، بل تتألف من مجموعات يختلف بعضها عن بعض في السحن وفي الملامح؛ بسبب عوامل الاتصال بالعالم الخارجي، وبسبب اختلاف الظروف الطبيعية التي يعيش فيها أفراد كل مجموعة. فأهل جبال اليمن والجبال المتصلة بها الممتدة إلى عمان، يختلفون اختلافًًا بينًا عن أهل السواحل والأرضين المنخفضة، ليس في الملامح والسحن فحسب، بل وفي العمل وفي النشاط وفي المدارك أيضًا. وأهل السراة في العربية الغربية يختلفون عن أهل تهامة وبقية ساحل البحر الأحمر، وأهل نجد يختلفون عن أهل ساحل الخليج. يختلفون عنهم في السحن والملامح كما(7/322)
يختلفون عنهم في المدارك وفي حدة الذهن. وهذا الاختلاف هو شيء واقعي بين العيون، يراه كل إنسان حين يزور بلاد العرب، وهو في حد ذاته شاهد على فساد نظرية المستشرقين في تقسيم العرب إلى مجموعتين.
وبعد، فهذه الطبيعة طبيعة جزيرة العرب؛ من جو وأرض، من انحباس مطر ومن ارتفاع في درجات الحرارة, ومن يبوسة في الهواء، وقلة في الرطوبة, ومن اختلاف في ضغط الجو اختلافًًا يخل بتوازنه فيثير فيه أعاصير وعواصف، تعتدي على حرمة التربة الهادئة الراقدة، فترتفع رمالها إلى ارتفاعات متباينة، وتلفح الأوجه والأجسام بـ"سموم" وبما شاكله من أهوية مزعجة تثير الغضب وتلهب العصب، وتجعل الجو داكنًا أظلم مغبرا. أضف إلى ذلك ما نراه من نور ساطع وأشعة لامعة تحمل أمواجًا غير مرئية تؤثر في خلايا البشرة وفي النفس، ثم هذه الرطوبة المفرطة المتحكمة في التهائم، وهذه الندرة في الأنهار، والإسراف في ظهور البوادي والصحاري، وتحكم الطبيعة تحكمًا جائرًا في توزيع النبات والحيوان على أهل جزيرة العرب, كل هذه الأمور وأمثالها أثرت أثرًا كبيرًا في نفس أهل جزيرة العرب، وفي شكل أجسامهم، وفي حالة معيشتهم, فجعلتهم يختلفون عن غيرهم بأمور، ويتباينون فيما بينهم بأمور، وذلك لاختلاف طبيعة أجزاء الجزيرة نفسها. ونحن لن نستطيع فهم العرب فهمًا صحيحًا دقيقًًا إلا إذا درسنا هذه الأمور المذكورة وأمثالها دراسة علمية دقيقة؛ وعندئذ فقط نستطيع فهم سبب تفشي البداوة بين العرب، وسبب تطبع العرب بطباع خاصة, واتسامهم بسمات وعلامات خاصة وبملامح ومظاهر جسمية متباينة، وأمثال ذلك مما تعرضت له في بحث الجنس والسامية، وفي بحث طبيعة العقلية العربية، وما قيل في حقها من أقوال، وما ورد في العرب من مدح أو ذم, ومن وصف صادق أو كاذب.(7/323)
أركان القبائل:
يرجع كل العرب من حيث النسب إلى ركن من "أركان القبائل". فقد اصطلح علماء النسب على أن للنسب عند العرب بعد قحطان وعدنان أربعة أركان:(7/323)
ربيعة ومضر ويمن وقضاعة1. وذلك على رأي من جعل قضاعة ركنًا قائمًا بذاته, ولا يمكن أن يخرج نسب عربي أصيل عن أصل من هذه الأصول.
وورد أن العرب في النسب على أربع طبقات: خندفي, وقيسي، ونزاري، ويمني2, ويمن هي قحطان. وكان العرب يتعززون بانتسابهم إلى اليمن، فكان من ينقلب على نسبه يتخذ لنفسه نسبًا يمانيًّا. "وأكثر العزوة لمن ينقلب عن نفسه إلى اليمن، لأجل أن الملوك كانت في اليمن مثل: آل النعمان بن المنذر من لخم، وآل سليح من قضاعة، وآل محرق، وآل العرنج، وهو حِمْيَر الأكبر ابن سبأ كالتبابعة والأذواء, وغيرهم. والعرب يطلبون العز ولو كان في شامخات الشواهق، وبطون الأمالق البوالق، فينتسبون إلى الأعز لحماية الحمية وإباءة الدنية ... "3.
ورجع بعض النسابين المعروفين نسب العرب إلى ثلاث جراثيم: نزار، واليمن, وقضاعة4. ويمثل رأيهم هذا رأي القائلين بالأركان الأربعة للقبائل بالضبط؛ لأن نزارًا هو في عرفهم والد ربيعة ومضر، وكل ما فعلوه هنا هو أنهم حذفوا اسمي الولدين وأحلوا اسم والدهما في محلهما.
ورجع "المأمون" الخليفة العباسي، أصول العرب إلى: قيس ويمن وربيعة ومضر. فلما تعرض عربي بالمأمون وهو في زيارته لبلاد الشام، ولامه في تقديم أهل خراسان على العرب، بقوله: "يا أمير المؤمنين, انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان"، أجابه الخليفة: "أكثرت عليَّ يا أخا أهل الشام، والله ما أنزلت قيسًا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد. وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط. وأما ربيعة فساخطة على ربها منذ بعث الله نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاربا, اغرب عني فعل الله بك......"5.
فأركان العرب في رأي المأمون أربعة: قيس ويمن وربيعة ومضر. وهي كتل
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 203".
2 نهاية الأرب "3/ 278".
3 نهاية الأرب "2/ 283".
4 الإنباه "63".
5 الإسلام والمشكلة العنصرية، لعبد الحميد العبادي "ص90 وما بعدها".(7/324)
كانت على عادة العرب متنافسة متحاسدة متباغضة، ترى كل واحدة منها نفسها وكأنها أمة دون سائر الأمم، و"يمن" كناية عن العرب الجنوبيين من همدان وحمير وكندة وأمثالها، وأما قيس وربيعة ومضر، فكناية عن تكتلات وتجمعات العرب من غير اليمن.
وذهب "ابن حزم" إلى أن جميع العرب من أب واحد، سوى ثلاث قبائل هي: تنوخ، والعُتق، وغسان، فإن كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون؛ وذلك أن تتوخًا اسم لعشر قبائل اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسموا تنوخًا, والعتق: جمعٌ اجتمعوا على النبي، فظهر بهم فأعتقهم فسموا بذلك، وغسان عدة بطون نزلوا على ماء يسمى غسان فسموا به1.
ولما جاء "خالد بن الوليد" إلى العراق كان جيشه من "ربيعة" و"مضر"2 ومن قبائل يمانية، ومعنى هذا وجود ثلاثة أركان قبائل محاربة. ولما قال "خالد بن الوليد" لـ"عدي بن عدي بن زيد العبادي: "ويحكم! ما أنتم! أعرب, فما تنقمون من العرب؟ أم عجم, فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ قال عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا, فقال له عدي: ليدلك على ما نقوله أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت"3. ولا تعني جملة "بل عرب عاربة وأخرى متعربة" معنى: أن العرب عربان، عرب عاربة وعرب متعربة، على النحو المفهوم منها عند أهل الأخبار. بل هي تعبر عن واقع أصل أهل الحيرة, فقد كان أهلها بين عرب صرحاء وبين عرب متعربة أي جماعة لم تكن عربية في الأصل, وإنما كانت من أصل عراقي وفارسي أقامت في الحيرة، وتأثرت بأهلها العرب فتكلمت العربية حتى صارت العربية لسانها، فهي من العرب المتعربة. وقد كان كل عرب العراق على هذا النحو في ذلك الوقت، فهم بين عرب خلص وبين عرب متعربة، لم تكن أصولها من منبت عربي، وإنما دخلت في العرب فتطبعت بطباعهم وأخذت لسانهم حتى نسيت ألسنتها القديمة، وصارت من العرب.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 191".
2 الطبري "3/ 347"، "مسير خالد إلى العراق وصلح الحيرة".
3 الطبري "3/ 361".(7/325)