حلفائه الحبشة لمحاربة ملكي سبأ, ولكن الإله "المقه" خيب ظنه، وخذله، ونصر الملكين: "ملكي سبأ وذي ريدان".
وقد ساعد "شمر ذي ريدان" واشترك معه في هذه الحرب عددٌ من القبائل منها: "سهرتن" "سهرتان"، و"ردمن" "ردمان"، و"خولن" "خولان"، و"مضحيم" "مضحي", وأرسل قوة لحماية مدينة "باسن" "بأسن" "بأس"، وهي من المدن الواقعة في جنوب غرب "وعلان". وقد تقدم السبئيون في اتجاه مدينة "ظلم" لمحاربة "شمر" ومجابهته، حتى انتصروا عليه في مدينة "ذمر" ذمار1.
وقد كان "شمر" من "ذي ريدان"، أي: من حمير، ويظهر أنه أراد مزاحمة "الشرح يحضب" وأخيه على العرش، أو أنه اختلف معهما؛ فوقعت الحرب بينهما، وتقدم "شمر" بقبائل "حمير" و"أولاد عم" "ولد عم" أي: قتبان والقبائل الأخرى، واصطدم بجيش السبئيين على نحو ما ورد في النص2.
ويظهر أن "شمر ذي ريدان" اضطر بعد ذلك إلى الاتفاق مع "الشرح يحضب" وإلى الخضوع والاستسلام له، فانتهت بذلك معارضته له3، وتولى قيادة جيشه في حربه مع حضرموت4.
ويمكن تلخيص الوضع السياسي في عهد "الشرح يحضب" على هذا النحو: كان خصم "الشرح" ومنافسه على الملك في هذا العهد هو "شمر"، وهو من حمير، أي: سيد "ريدان" "ذ ريدن"، وعاصمته "ظفار". وقد استعان بالحبش، وطلب مساعدتهم على "الشرح يحضب"، فاضطر إلى الاستسلام له، ثم اشترك مع السبئيين في محاربة ملك حضرموت "العز" ... وكان يومئذ تحت حكم السبئيين. أما "شعرم أوتر" الهمداني، فكان من المؤيدين لـ"الشرح يحضب" وكان يحمل أيضًا لقب "ملك سبأ وذي ريدان"5.
وفي هذا النص إشارة إلى تدخل الحبش في شئون العربية الجنوبية في هذا العهد،
__________
1 BOASOOR., NUM. 145, "1957", P.29
2 JAMME 577, BOASOOR., NUM. 145, 1957, P.28
3 CIH 314, GLASER 424
4 BEITRAGE, S. 38
5 BEITRAGE, S. 34(4/92)
وإلى وجودهم في مواضع من السواحل، وإلى تكوينهم مستعمرات فيها تتمون من الساحل الإفريقي المقابل.
وأنا لا أستبعد احتمال اتفاق الرومان مع الحبش يوم أرسلوا حملتهم المعروفة على العربية الجنوبية بقيادة "أوليوس غالوس", وذلك باتفاق عقده حكامهم في مصر وقد كانت خاضعة لهم إذ ذاك مع ممثلي الحبش, يقضي بأن يسهلوا لهم أمر الوصول إلى العربية الجنوبية، ويقدموا لهم المساعدات اللازمة، وأن يتعاونوا جميعًا في الأمور السياسية والاقتصادية، وفي مقابل ذلك يضمن الرومان للحبش مصالحهم في العربية الجنوبية ويقتسمونها فيما بينهم، أو يحافظون على مستعمرات الحبشة فيها.
ويظهر من الكتابات أن الحبش كانوا يغيِّرون سياستهم في العربية تبعًا للأحوال المتغيرة؛ فنراهم مرة مع الحميريين وتارة عليهم، ونجدهم في حلف مع "شعرم أوتر" ثم نراهم في حلف آخر ضده، ونجدهم مرة أخرى على علاقات حسنة بـ"الشرح يحضب" ثم نجدهم على أسوأ حال معه. وهكذا نرى سياستهم قلقة غير مستقرة، كل يوم هي في شأن، وهي بالطبع نتيجة للأحوال القلقة المضطربة التي كانت تتحكم في العربية الجنوبية إذ ذاك، ولمصالح الحبش الذين كانوا يريدون تثبيت أقدامهم في السواحل العربية المقابلة, وتوسيع رقعة ما يملكونه باستمرار.
ويظهر من النص المتقدم أن "بكيل" التي تكون ربع "ذي ريدة" كانت مع الملكين "الشرح" و"يأزل"، و"بكيل" هي عشيرة الملكين، وقد كانت تنزل في أرض "ريدة" إذ ذاك.
وقد رأى بعض الباحثين أن "شمر ذ ريدن" "شمر ذي ريدان" هو "شمر يهرعش"، وأن الذي حارب "الشرح يحضب" وأخاه "يأزل"، هو هذا الملك. ومعنى ذلك أنهم أرجعوا زمان "الشرح يحضب" زهاء "250" سنة, إذ جعلوه في أوائل القرن الرابع للميلاد1، وهو رأي يعارضه باحثون آخرون. وقد صيروا "الشرح يحضب" من المعاصرين للملك "امرئ القيس" المذكور
__________
1 BOASOOR., NUM., 145, 1957, P.75(4/93)
في نص النمارة، والمتوفى سنة "328م"، وذكروا أن "مراقس" الوارد في السطر الثاني من النص: Ry 535 هو "امرؤ القيس" المذكور1.
وقد وردت في النص المتقدم جملة "هجرن صنعو ورحبتن"، أي: "مدينة صنعاء ورحبة" "رحابة"2. وقصد بـ"صنعو" مدينة صنعاء عاصمة اليمن حتى اليوم, وأما "رحبة" أو "رحابة" "الرحبة"، فإنه مكان ذكره "الهمداني"، لا يبعد كثيرًا عن صنعاء3, ويكون هذا النص أول نص على ما نعلم وردت فيه إشارة إلى صنعاء. وهناك موضع آخر اسمه "صنعاء" وموضع اسمه "رحابة" أو "راحبة" يقعان في منطقة "مأرب" على الجهة اليمنى من وادي "ذنة"، ظن بعضهم أنهما الموضعان المذكوران في النص4.
والرأي الغالب أن النص المذكور قصد بـ"صنعو" مدينة "صنعاء"؛ وذلك لورود اسم قصر "غندن" "غ ن د ن" "غندان" أي: "قصر غمدان" في كتابة أخرى من أيام "الشرح يحضب"، و"قصر غمدان" قصر معروف بقي قائمًا إلى الإسلام، وقد كان في صنعاء, ورقم هذه الكتابة هو: CIH 429. وقد ذكر مع القصر اسم القصر "سلحن" "سلحان" "سلحين" وهو دار الملوك الحاكمين في مدينة مأرب، فيكون "الشرح يحضب" قد أقام في القصرين، وحكم منهما. وقد ذكر "الهمداني" أن "الشرح يحضب" هو الذي بنى قصر غمدان، وأن "شاعرم أوتر" "شعرم أوتر" هو الذي أسس سور صنعاء5. ويعرف قصر "غمدان" بـ"غندن" "غندان" في الكتابات، فهو إذن من القصور الملكية القديمة من أيام السبئيين.
وقد أشير إلى مدينة "صنعو" في النص: Rep. EPIG. 4139، وكان أصحابه مقتوين للأخوين الملكين "الشرح يحضب" و"يأزل بين". وقد وردت فيه أسماء أشخاص من "بني سارن" "بني سأران" و"محيلم" و"نعمت"
__________
1 RY 535, LE MUSEON, 69, "1956", P.139, BOASOOR., NUM., 145, 1957, P.25
2 أي النص.
3 "رحبة صنعاء"، "وبلد بكيل من نصف الرحبة، رحبة صنعاء إلى نجران"، الصفة "ص111، 227".
4 GLASER, ABESSI., S. 121
5 "قيل: هو من بناء سليمان"، اللسان "3/ 327"، Beitrage, S. 19(4/94)
"نعمة" و"موضعم"1. وقد جاءت أسماء هؤلاء في النص CIH 411 الذي دونوه تقربًا إلى الإله "المقه ثهون بعل أوم" "المقه ثهوان بعل أوام"2.
ويتحدث النص: Jamme 115 عن معارك وقعت بين أعداء "تجمعوا وقتلوا" في وادٍ سقط اسمه من النص, وقد انتصر "الشرح يحضب" على أعدائه وغلبهم3.
ويتحدث النص بعد ذلك عن حرب أعلنها الملكان على حمير وحضرموت، غير أنه لم يذكر أية تفاصيل عنها. وكل ما ورد فيه أن حمير انضمت من بعد إلى سبأ وذي ريدان، واشتركت معها في بعض الحروب. ومعنى هذا أنها عقدت معاهدة صلح وأنها حالفت الملكين4.
ويرى بعض الباحثين أن النص: REP. EPIG. 4336، الذي ذكرت فيه حرب وقعت بين "شمر ذي ريدان" من جهة و"أبانسم بن معهر"، أي "أبأنس بن معهر" "أب أنس بن معهر", أو من "آل معهر" "معاهر" و"بخولم" وملك سبأ، وملوك حضرموت من جهة أخرى5، هو من النصوص المتأخرة التي دونت بعد النص المتقدم، أي بعد النص:Jamme 115 دون بعد يأس حضرموت وحلفاء "شمر ذي ريدان" من إحراز أي انتصار كان على "الشرح"، فتفرقوا لهذا السبب عن "شمر" وانضموا إلى جانب الملك "الشرح"، وخاصموا "شمر". ولهذا نجد حضرموت مع "الشرح يحضب" في محاربة حليفها السابق "شمر ذي ريدان"6.
ويحدثنا نص ناقص لم يدون تدوينًا صحيحًا حتى الآن أن ثورة صهرت في أيام "الشرح يحضب" قام بها "أيسن"، أي "إنسان" ثار على الآلهة، اسمه: "نمرن" "نمران" أو أنه كان من عشيرة تسمى بـ"نمران"،
__________
1 REP. EPIG., VII, I, P.99
2 CIH 411, CIH, IV, II, I, P.88.
3 MAHRAM, P.323
4 MAHRAM, P.323
5 REP. EPIG. 4336, SE. 101, MAHRAM, P.324
6 MAHRAM, P.324(4/95)
وتجرأ على آلهته بثورته هذه على "ملك سبأ وذي ريدان"1. ثم يذكر النص، إلا أنه بفضل الآلهة ورحمتها تمكن "الشرح يحضب" من تأديب هذا الغر: هذا "الإنسان نمران" "أيسن نمرن" الذي حارب الآلهة والبشر "أنسن"، بل حارب حتى ذوي قرابته ورحمه، فاستحق العقاب, وأنه شكرًا للإله "عثتر ذ ذبن بعل بحر حطبم"، أي الإله "عثتر ذو ذبن رب معبد بحر حطبم" الذي ساعد عبده "الشرح يحضب" ومن عليه بالنصر والعافية والخير، وعلى قصريه: "سلحن" "سلحان" "سلحين" و"غندن" "غندان"، أي "قصر غمدان" بصنعاء، وعلى "صرواح"، وأدام عليه نعمه، ووقاه كل بأس2، تيمن بإعلان ذلك للناس؛ ليحمدوا الإله، وليشكروا نعم الآلهة عليهم، ولتديمها عليه بحق: "عثتر" و"هوبس" و"المقه" و"ذت حمم" "ذات حميم"، "ذات حمى" و"ذات بعدن" "ذات بعدان" "ذات بعدان" و"شمسم" "شمس".
وقد يكون في تعبير "أيسن نمرن" "أنس نمرن"، ومعناه "الإنسان نمران"، بعض الاستهجان والازدراء بهذا الثأر، الذي هو "رب شمس نمرن"، أي "رب شمس نمران" أحد "أقول" أقيال قبيلة "بتع" على رأي بعض العلماء3. وقد ورد اسمه في كتابة دونها رجال يظهر أنهم كانوا من أتباعه، ومن قبيلة "بتع", وذلك لشكر الإله "تالب ريام بعل شصرم"؛ لأنه من عليهم بالعافية، وأسعد قيلهم "رب شمس نمرن" "رب شمس نمران"، وبارك على قبيلته4.
ويظهر أن ثورة "نمران" "نمران أوكان" "نمرن أوكن"، كانت ثورة خطيرة كبيرة على "الشرح يحضب"؛ ولذلك كان القضاء عليها من الأمور المهمة بالقياس إليه5.
__________
1 CIH 429, IV, II, II, P.114, GLASER, ABESSI., S. 107,
H. DERENBOURG, LES MONUMENTS SABEENS ET HIMYARITIS DE LA BIBLIOTHEQUE NATIONALE, 1891, P.11
2 "بن كل باس".
3 SAB. INSCHR., S. 40
4 MM82, RW 118, CIH 164, GLASER 148, REP. EPIG. 3621, IV, I, P.244,
J. RYCKMANS. L'INSTITUTION, P.164, MAHRAM, P.326
5 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.481, A. JAMME, SABEAN INSCRIPTIONS, P.327(4/96)
إن "الإنسان نمران" "أنسن نمرن" "إنسان نمران" الذي ثار على سيده وأغضب آلهته بثورته هذه، هو "رب شمسم نمرن" "رب شمس نمران" أحد أقيال "بتع", على رأي "موردتمن" و"ميتوخ", الذي ورد ذكره في إحدى الكتابات1. وقد دونها رجال يظهر أنهم كانوا من أتباعه، أي: من قبيلة "بتع" شكرًا للإله "تالب ريمم بعل شصرم" "تألب ريام بعل شصر"؛ لأنه من عليهم بالعافية، وأسعد قيلهم "رب شمس نمران"، وبارك في قبيلته2.
وقد ورد في أحد النصوص: "رب شمسم نمرن بن بتع"، أي "رب شمس نمران من آل بتع", والظاهر أنه هو القيل المذكور في النص المتقدم الموسوم بـMM 82، وبـ3ـREP. EPIG. 3621. وقد ذكر "فلبي" أن "رب شمس" هذا, هو الملك "رب شمس نمران ملك سبأ وذي ريدان", وذكر أن هذا الملك عرف بواسطة هذا النص الذي عثر عليه في "مأرب". واستنتج من ذلك أن هذه الأسرة أسرة "بتع" التي تقطن في الهضبة هضبة همدان، امتد نفوذها حتى بلغ السهل الذي تقع به "مأرب"4. ولا أدري كيف توصل "فلبي" إلى أن "رب شمس نمران" الذي هو من "آل بتع" أي هذا القيل, هو الملك "رب شمس نمران" الذي هو "ملك سبأ وذي ريدان"! فليس في هذا النص الذي أشار إليه, إشارة يمكن أن يستدل منها على أن "رب شمس نمران" المذكور فيه، هو ملك من ملوك سبأ وذي ريدان. فهذا النص لا يخصه إذن، وإنما هنالك نص آخر رقمه: REP. EPIG. 4138 ورد فيه "رب شمس نمران ملك سبأ وذي ريدان"5، وهو نص لم يشر إليه "فلبي" سأتحدث عنه في حديثي عن هذا الملك.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن النص المذكور لم يكن يقصد ثائرًا من أهل اليمن ثار على الآلهة والإنسان، وإنما قصد به حملة "أوليوس غالوس"، التي جاءت من الخارج إلى اليمن. وهي معادية بالطبع لأهل اليمن ولآلهتها، فشكر
__________
1 SAB. INSCHR., S. 40
2 MM82, RW 118, CIH 164, GLASER, 148
3 MM82, REP. EPIG. 3621, IV, I, P.244
4 BACKGROUND, P.107
5 REP. EPIG. 4138, VA 3820, 3843, REP. EPIG., VII, I, P.96(4/97)
"الشرح يحضب" الذي كان هو الملك يومئذٍ آلهته؛ لأنها نصرته على القادمين المغيرين، وأنقذت شعبه منهم1.
ويعارض "جامه" Jamme رأي من يقول: إن المراد من النص: CIH 429 حملة "أوليوس غالوس"، ويرى أن المراد من "نمران" هو "نمران أوكان" "نمرن أوكن" الذي ورد اسمه في النصوص 2JAMME 684 JAMME 594 JAMME758 JAMME 739 JAMME 711.
وقد ورد اسم "نمران أوكان" مع اسم أخيه "جحضم أحصن"، وهما ابنا "سعدم" "سعد" في النص Jamme 594، كما ورد في هذا النص اسما الملكين: "الشرح يحضب" و"يأزل بين", أما النصوص الأخرى، فلم يذكر فيها اسم "يأزل بين". وقد استنتج "جامه" من ذلك أن صاحب النص: Jamme 594 كان قد دونه في أيام حكم الملكين. أما النصوص الأربعة الأخرى، قد دونت بعد ذلك، دونت في أيام انتقال الحكم إلى "الشرح يحضب"، أي إلى أيام انفراد هذا الملك بالحكم وحده بعد الحادث المجهول الذي لا نعرف من أمره اليوم شيئًا والذي أدى إلى إغفال اسم "يأزل بين" في النصوص.
ويظهر من النصين: Jamme 739 وJamme 758 أنه كان تحت إمرة الأخوين "نمران أوكان" و"جحضم أحصن" قائدان كبيران بدرجة "مقتوى". ومعنى هذا أن هذين الأخوين كانا من أصحاب القوة والسلطان في هذا العهد، ولا يستبعد أن يكونا قد ألفا جيشا خاصا بهما، يحاربان به. ويرى "جامه" أن الشعور بالعظمة قد ركب رأس "نمران أوكان"، حتى دفعه إلى الثورة على سيده "الشرح يحضب" على النحو المذكور في النص:3 CIH 429.
وقد ذكر اسم "يأزل بين" بعد اسم شقيقه "الشرح يحضب" في الكتابة4 CIH 954, وقد نعتا فيها بـ"ملكي سبأ وذي ريدان", وقد ورد اسم "المقه بعل مسكت وبث وبران". وهي من بقايا نص سقطت أسطره الأولى,
__________
1 RYCKMANS, 122A, CIH 429, BEITRAGE, S. 34
2 MAHRAM, P.327
3 MAHRAM, P.327
4 CIH 954, BOMBAY 30(4/98)
وذكرت فيه أسماء عدد من الرجال من "بني جدن"1.
وذكر اسمهما على الترتيب نفسه في النص CIH 398، وهو نص سقطت منه كلمات، ولا سيما في الأسطر الأولى منه2, فسبب سقوطها عدم فهمنا المراد فهمًا صحيحًا. وقد دعيا في النص بـ"ملكي سبأ وذي ريدان". غير أننا نلاحظ أيضا أنه ذكر في السطر الثامن منه اسم "شعرم أوتر"، ونعته بـ"ملك سبأ وذي ريدان"، مع أن "شعرم أوتر" "شعر أوتر" كان خصمًا للملكين "الشرح يحضب" و"يأزل بين"، فلِمَ ذكر معهما في النص؟ وعلى أي محمل نحمل هذا القول؟ ويلاحظ أن كلمة "مراهم" "مرأهم" أي "سيدهم" "سيده" ذكرت مباشرة قبل اسم "شعر أوتر"، كما ذكرت كلمة "مرايهمي" أي "سيديه" أو "سيديهم" قبل جملة "الشرح يحضب وأخيهو يازل بين" أي: "الشرح يحضب وأخيه يأزل بين". فنرى من هذا النص أن صاحبه نعت الثلاثة: "شعر أوتر" و"الشرح يحضب" وأخاه "يأزل بين" ملوكًا على "سبأ وذي ريدان", فهل يدل هذا على أن هؤلاء الثلاثة حكموا حكمًا مشتركًا وفي وقت واحد, وقد كان "شعر أوتر" يحكم في مكان بينما كان "الشرح" وأخوه "يأزل" يحكمان في مكان آخر؟ وأن صاحب النص أو أصحابه كانوا يملكون أرضين في جزأي المملكة؛ لذلك اضطر أو اضطروا إلى ذكر الملوك الثلاثة في النص؟
هذه أسئلة تصعب الإجابة عنها بالاستناد إلى هذه الكتابة التي لم تتعرض لعلاقات "شعر" مع "الشرح" وأخيه، ولا يمكننا استخراج أي جواب منها مقنع في هذا الوقت.
ويرى "هومل" أن السبب الذي من أجله ذكر اسم "شعر أوتر" في هذا النص هو لأجل أن ينتقم الإله "المقه" الذي دعا في هذا النص منه، ولكي ينزل رحمته ونعمته على "الشرح" وعلى شقيقه يأزل, اللذين استطاعا في النهاية أن ينتصرا على خصمهما "شعر أوتر"، وأن "شعر أوتر"
__________
1 CIH, IV, III, II, P.280
2 CIH 398, GLASER 891, CIH, IV, II, I, P.58, WINCKLER, DIE SAB. INSCHR. DER ZEIT ALHAN NAHFAN'S, S. 347, HARTMANN, DIE ARABISCHE FRAGE, S. 148.(4/99)
هذا هو الذي قصده أحد النصوص، حيث أشير إلى الإنسان الذي ثار على سيده1.
وقد وردت في هذا النص جملة "أرضن خولن"، أي "أرض خولان"، و"محرم بعل أوعلن" "محرم بعل أوعلان"، و"شعب صروح"، أي قبيلة صرواح.
ونشر في مجلة Le Museon نص آخر, ذكر فيه اسم "الشرح يحضب" وقد وردت قبل اسم "الشرح يحضب" جملة "ملك سبأ وذو ريدان ابن"، وقبلها ثلاثة أحرف هي: "ح م د" "حمد"، وهي بقايا كلمة. ويظهر أن أصحاب النص قد تيمنوا بذكر اسم أحد أبناء "الشرح يحضب" ممن كانوا ملوكًا على سبأ وذي ريدان, غير أن هذا الاسم طمست معالمه بفعل العوامل الطبيعية وتقادم العهد، فلم يبقَ منه أثر. وذكرت بعد "الشرح يحضب" جملة "ملك سبأ وذو ريدان"2.
وقد لفتت بعض الكتابات -قَدَّرَ بعض الباحثين عددها بأحد عشر نصًّا، أو أكثر من ذلك بقليل- أنظار العلماء إليها؛ لأنها لم تذكر اسم "يأزل بين" خلافًا للكتابات الأخرى التي يربو عددها على هذا العدد، والتي تذكر اسم الشقيقين معًا. فاستنتج من إغفال تلك النصوص لاسم "يأزل" أن حدثًا وقع له أخذه إلى العالم الثاني، وذلك في حياة أخيه "الشرح يحضب"، فصار الحكم إلى "الشرح يحضب" وحده، وبقي على ذلك إلى أن بدا له ما حمله على إشراك ابنه معه في الحكم، فصار اسم ابنه يرد بعد اسمه في الكتابات3.
ويواجه هذا الاستنتاج مشكلة ليس من السهل حلها, مشكلة عثور الباحثين على كتابات ورد فيها اسم "يأزل بين" مدونًا فيها بعد اسم أحد أبناء "الشرح يحضب". ومعنى هذا أن "يأزل بين" لم يكن قد مات في أيام "الشرح"، بل بقي حيًّا وشهد نفسه وفاة شقيقه ثم عاش فعاصر حكم أحد أبناء شقيقه. فلا يمكن الأخذ إذن برأي من يقول: إنه كان قد أدركه أجله في حياة أخيه، اللهم
__________
1 HANDBUCH, I, S. 93, DERENBOURG, BIBLIO. NATION, 2
2 LE MUSEON, LXII, 1-2, 1949, P.86, NR. 404
3 MAHRAM, P.326(4/100)
إلا إذا قلنا: إن "يأزل بين" المذكور بعد "نشأكرب يهأمن يهرجب"، وهو ابن "الشرح يحضب"، لم يكن "يأزل بين" شقيق "الشرح يحضب"، بل شخصًا آخر، كأن يكون ابنًا لـ"وتر يهأمن" شقيق "نشأكرب"، أو ابنًا لـ"نشأكرب نفسه"؛ وعندئذ يكون في إمكاننا الادعاء بوفاة "يأزل" شقيق "الشرح" في حياة أخيه.
وهناك احتمال آخر قد يكون مقبولًا للعقل أكثر من الاحتمال الأول، هو احتمال بقاء "يأزل" حيًّا وإدراكه أيام حكم أولاد شقيقه. وعندئذ يمكن تفسير اختفاء اسمه في الكتابات في الأيام المتأخرة من حكم "الشرح" بوقوع خصومة بين الأخوين اشتدت حتى أدت إلى وقوع قطيعة بينهما وإلى حذف اسم "يأزل"، وهو أصغر سنًّا من أخيه من الكتابات, أي إلى خلعه وتجريده من اللقب الرسمي وهو لقب الحكم. وقد بقي مخاصمًا لشقيقه حتى أدركت شقيقه منيته، ثم مخاصمًا لابن أخيه "وتر يهأمن" إلى ولاية شقيقه "نشأكرب يهأمن يهرحب" الحكم. فلما ولي "نشأكرب" عرش "سبأ وذي ريدان"، أشرك عمه معه في الحكم؛ ولهذا أدرج اسمه من جديد في الكتابات، أدرج بعد اسم "نشأكرب" الملك الفعلي وارث العرش.
أما كيف أشرك "يأزل" مع ابن أخيه في الحكم، وكيف عاد مرة ثانية إلى الحياة الرسمية العامة؟ فليس في استطاعتنا الجواب عن ذلك جوابًا أكيدًا. ولا يستبعد احتمال قيام أناس بالتوسط بين العم وبين ابن أخيه لإصلاح ذات بَيْنِهما، وقد يكون "نشأكرب" هو الذي صالح عمه وأرضاه؛ لدافع شخصي, أو لمصلحة رآها، أو لاضطراره إلى ترضيته؛ لضعف مكانته أو شخصيته، فأراد الاستعانة به لتقوية مركزه. على كلٍّ, فإذا كان "يأزل بين" هذا، هو "يأزل بين" شقيق "الشرح" فيجب أن يكون قد تقدم في السن حين عاد إلى الحكم.
ولدينا نص من نصوص الـ"وتف" أمر به "الشرح" ولم يذكر اسم أخيه فيه، وقد وجه به إلى قبيلة "يرسم" في شهر "ذو نسور الأول" وفي السنة السادسة من سني "معد يكرب بن تبع كرب" "معد كرب بن تبع كرب" من آل "حزفرم" "حزفر"، وقد ذكرت فيه أسماء عدد من سادات هذه القبيلة. وفي النص حديث عن أحوال المزارعين والفلاحين والآبقين(4/101)
الذين يهربون من المزرعة إلى مزارع أخرى، ولا سيما من الأرض التي يشمل أحكامها هذا النص, وهي: وادي "يفعن" "يفعان"، وأرض "يبلح"، وهي من "رأس مقـ.... ن" إلى "غضران"1.
ويتبين من هذا النص أن الفلاحين، وأكثرهم من المسخرين، كانوا يفرون من مزارعهم؛ للتخلص من عملهم المرهق الشاق فيها، ولعدم تمكنهم من كسب قوتهم، فصدر هذا الأمر في معالجة هذه المشكلة. وهي مشكلة أدت إلى تلف المزارع، وإعراض الناس عن الزراعة بسبب إكراه الفلاحين على العمل فيها سخرة، ولقسوة أصحاب الأرض وموظفي الحكومة عليهم.
وقد عثر في أرض "شبام سخيم" على كتابة، ذكر فيها "الشرح يحضب" وابنه، وأقيال "سمعي" وهم من سخيم، وذكر بيت "ريمان", و"ريمان" هم من القبائل التي ذكرت في عدد من الكتابات2.
وقد جاء اسم "الشرح يحضب" وحده في النصوص: "أحمد فخري: 94، و95، و123"، وهي من نصوص هذا العهد: عهد انفراد "الشرح" بالحكم، متلقبا بـ"ملك سبأ وذي ريدان"3.
ويعود النص Jamme 571 إلى هذا العهد كذلك، وهو نص يتوسل فيه صاحبه إلى إلهه بأن يمن عليه بالسعادة والعافية، وبأن يبارك في ثماره "أثمرن" وفي حاصل حصاده "أفقلم"، وبأن يبعد عنه كل شر، ويرد عنه كيد الكائدين، وحسد الشانئين4.
وأما النص: Jamme 567، فقد كتب في هذا العهد أيضا, دونه رجل اسمه "أبامر أصدق" "أبأمر أصدق" "أب أمر أصدق"، وهو من بني "صريهو معد كرب" "صريهو معد يكرب"، وولداه "برلم" "برل"،
__________
1 REP. EPIG. 4646, VII, II, 289, RHODOKANAKIS, EINE ALTSUDARABISCHE WATF INSCHRIFT, 1937, S. 1-6, J. RYCKMANS, L'INSTITUTION, P.179,
2 SAB. INSCHRI., S. 38, MM 24, BEITRAGE, S. 19
3 MAHRAM, P.326
4 JAMME 571, MAMB 189, MAHRAM, P.57(4/102)
و"كربعثت" "كرب عثت"، وذلك عند تقديمهم ثلاثة تماثيل من ذهب1 إلى الإله "المقه ثهوان"؛ وذلك لمناسبة نوم "برلم" الذي أصابه وألم به، في شهر "عثتر" من سنة "سمهكرب بن أبكرب" "سمهوكرب بن أبكرب" من بني "حذمت" "حذمة"، ولمناسبة الحكم الذي رآه في منامه وتحقق فيما بعد، ولمناسبة شفائه من مرضه, ولكي يديم نعمه عليهم جميعًا، ويعطيهم ذرية طيبة صحيحة، وثمارًا كثيرة وحصادًا جيدًا وغلة وافرة، ويمن على سيدهم "الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان، بن فرعم ينهب ملك سبأ"2.
وإلى هذا العهد أيضا يعود النص: Jamme 572. وقد دونه ضابطان كبيران "مقتوى" من ضباط "الشرح يحضب؛ ملك سبأ وذي ريدان"، لمناسبة تقديمها تمثالًا من رصاص أو نحاس "صرفن" "صراف"، يزن ثلاثمائة "رضف"، تعبيرًا عن حمدهما وشكرهما له؛ لأنه مَنَّ على سيدهما "الشرح يحضب" بالشفاء والصحة، ونجاه من عاقبة مرضه "بن مرض مرض بهجرن مرب"، بمدينة "مأرب", ولكي ينعم عليه ويزيل عنه كل بأس "باستم" وكل أرق "مقيظم" أصابه، ولكي ينعم عليهما ويسعدهما ويبعد عنهما حسد الحاسدين وأذى الأعداء3.
ويتبين من هذا النص أن مرضًا نزل بالملك "الشرح يحضب" وهو بمأرب, وقد أصيب بأرق "مقيظم" وقلق، ولم يذكر النص سبب المرض، ولكن يظهر أنه كان قد أصيب بإعياء وتعب بدني ونفسي، حتى استولى عليه الأرق والاضطراب؛ ولهذا توسل هذان الضابطان إلى الإله "المقه" بأن يُشفي سيدهما مما أَلَمَّ به.
وتعد الكتابات: Jamme 568 وJamme 569 وJamme 570، من نصوص هذا العهد. وصاحب النص الأول رجل اسمه "سعد شمس أسرع" وهو من "جرت" "جرة"، وكان من أقيال عشيرة "ذمري". وقد
__________
1 لقد ترجم "جامه" Jamme لفظة "ذهبن"، أي: ذهب بـ"برونز" Bronze، في كل ترجماته للنصوص إلى اللغة الإنجليزية، مع أن لفظة "ذهب" معروفة لا تحتاج إلى تفسير، وأنا أخالفه في هذا الرأي.
2 JAMME 567, MAMB 291, MAHRAM, P.49
3 JAMME 572, MAMB 112, MAHRAM, P.59(4/103)
قدم هو وابنه "مرثدم يهحمد" مرثد يهحمد، إلى الإله المقه تمثالًا؛ ليمن على سيدهما الملك، وليحفظه من كل سوء، ولكي يبارك فيهما ويزيد نعمه عليهما وعلى أهلهما من "جرت" وعلى قبيلتهما قبيلة "سمهرن" سمهران1.
وقد قدم أصحاب النص: Jamme 569، وهم من عشيرة "مربان" "مربأن" تمثالًا مؤنثًا "صلمتن" -ويظهر أنه يقصد تمثالًا لامرأة- وذلك ليحظوا برضا ملكهم "الشرح يحضب"2. وأما النص: Jamme 570 فقد دونه رجل، سقط اسمه الأول من النص، وبقي نعته فقط، وهو "ركبن"، أي "ركبان"، وقد قال عن نفسه: "عبد ملكن"، أي: عبد الملك، يقصد خادم الملك؛ ذلك لأنه تمهل في عمله، فلم يجمع غلة اليوم الثامن من المزرعة، فكَفَّر عن تمهله هذا وتجاهله أمر الإله "المقه" الذي كان عليه أن يقوم بخدمته وبأن يحضر موضع أداء الشعائر له، وذلك بتقديمه ذلك التمثال وبأن يقوم بجني غلة المزرعة على نحو ما يرام3. ويلاحظ أنه استعمل جملة: "ولشرح يدهو ولسنهو"4، أي: "وليشرح يده ولسانه"، ويقصد بها التوسل إلى الإله "المقه" بأن يبسط يد الملك ولسانه، أي: يبارك في يده ولسانه، كما نقول: يشرح الله قلبه، فهي من التعابير المستعملة عند العرب الجنوبيين في ذلك العهد.
ولم يذكر اسم "يأزل بين" في النصين: REP. EPIG. 3990، وREP. EPIG. 4150. وصاحب النص الأول هو "يجعر بن سخيم" وكان قيلًا "أقول" على عشيرة "سمعي" المؤلفة لثلث "ذي حجرم". وقد قدم إلى الإله "تألب ربام" "بعل كبدم" خمسة تماثيل؛ لينعم ويبارك على سيده "الشرح يحضب"، ملك سبأ وذي ريدان، وعلى ابنه "وترم" "وتر", وليبارك فيه وفي بيته "بيتو" "ريمان"5.
__________
1 JAMME 568, MAMB 295, MAHRAM, P.53
2 JAMME 569, MAMB 188, MAHRAM, P.54
3 JAMME 570, MAMB 227, MAHRAM, P.55
4 الفقرة 13 من النص.
5 REP. EPIG. 3990, MAHRAM, P.328, MM 24, BU. SAN'A 1909, JEMEN, II, 345, SAB. INSCHR., S. 38(4/104)
والنص: REP. EPIG. 4150 صاحباه شقيقان، "شرح عثت أريم" وشقيقه "رثد ثون" تمثالًا إلى الإله "عثتر ذ ذنن" "عثتر ذو ذبان"، "بعل بحر حظيم" حامدين "حمدم" له وشاكرين، إذ من عليهما، وأوفى لهما ما طلبا وسألا، وكان ذلك في أيام "الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان وابنه وتر"1.
ويلاحظ أن النصين لم يذكرا بعد "وترم" لقبه، ولم يكتبا جملة "ملك سبأ وذي ريدان". ويظهر أنهما كُتبا في أيام انفراد "الشرح يحضب" بالحكم, وتولي ابنه "وتر" إدارة الأمور؛ لمساعدة أبيه فقط، ولم يكن قد منحه أبوه يومئذ حق التلقب بألقاب الملوك.
لقد بلغنا الآن نهاية أيام حكم "الشرح يحضب", لقد رأيناه محاربًا مقاتلًا حارب الحبش، وحارب حمير، وحارب حضرموت، وحارب قبائل أخرى. لا يكاد يعود إلى إحدى عاصمتيه "مأرب" أو صنعاء، ليستقر في قصريه ومقري حكمه: قصر "سلحان" أو "غمدان" وليستريح بعض الوقت، حتى تشتعل ثورة هنا أو هناك تدفعه إلى ترك راحته والإسراع نحوها للقضاء عليها وإخمادها حتى لا يمتد لهيبها إلى مكان آخر. لقد أجهدته هذه الحروب وتلك الفتن، فأتعبت جسمه ونهكت أعصابه، حتى أُصيب مرارا بأمراض وطغى عليه الأرق، وهذا ما حمل المقربين إليه على التوسل إلى آلهتهم؛ لتمن عليه بالشفاء وبنوم هادئ مريح، ولتمنحه الراحة والاستقرار، وتبعد عنه الأتعاب وشر الأعداء الأشرار وحسد الحاسدين، دلالة على كثرتهم وتعبيرًا عن تلك الفتن المتتالية التي كانت في تلك الأيام.
وقد كلفت هذه الحروب وتلك الثورات, العربية الجنوبية أثمانًا باهظة، وأنزلت بها خسائر فادحة في الأرواح والأموال، وأحلت بكثير من مواضعها الدمار والخراب، ونَغَّصَتْ عيش أهلها فجعلتهم في حالة نفسية قلقة مضطربة، بدليل ما نجده من توسلات ترتفع إلى الآلهة تدعوها بأن تمن على عبيدها بنعمة الطمأنينة والهدوء والاستقرار، كما نشرت فيها الأوبئة والأمراض التي كانت تفتك بالناس بالجملة
__________
1 REP. EPIG. 4150, VA 3846 + 5334, MAHRAM P.328,
REP. EPIG., VII, I, P.106(4/105)
فتكًا، وأحلت الهلاك بالمزارع والحقول وبالمدن, فردمت آبار، عاشت عليها الزراعة والقرى والمدن، واقتلعت الأشجار، وأتلفت الحقول والمزارع، وأُوذيت مجاري المياه التي تسقيها، وخُربت مدن، وأُعمِل في أهلها السيف، أو سِيقوا أسرى، ووضعٌ على هذا النحو لا بد أن يخلق تعاسةً وبؤسًا، ويؤثر في الوضع العام بجملته تأثيرًا سيئًا، يصير إرثًا ينتقل إلى الطبيعة الجديدة1.
وقد لاحظ "ريكمنس" J. Ryckmans أن هذا الاقتتال وهذا النظام الإقطاعي يصادف زمن حلول الخيل محل الجمل في القتال في أواسط جزيرة العرب وجنوبيِّها، كما لاحظ W. Dostal أن جيوش العربية الجنوبية استعملت سروجا جيدة لدوابها التي تحارب عليها، وأن قبائل أواسط جزيرة العرب حسنت من أنظمتها وكفاءتها في القتال؛ مما أكسبها قدرة في الغزو بسرعة والانتقال من مكان إلى مكان في مدة قصيرة، فأكسبها شأنا عسكريا وسياسيا؛ فأثر كل ذلك في السياسة العامة للجزيرة، إذ لم تبقَ القوى العسكرية محصورة في مناطق الزراعة في هضاب جنوب جزيرة العرب، وإنما انتقلت إلى بقية أنحاء جزيرة العرب؛ إلى مواضع الآبار والرياض والعيون حيث تركزت الزراعة كما حدث في يثرب وفي الطائف وفي أماكن زراعية أخرى، أو إلى مواضع تقع على طرق قوافل مثل مكة، أهلتها لأن تختص بالتجارة، وأن تنال مكانة بها2.
لقد وضع "جامه" حكم "الشرح يحضب" مع أخيه "يأزل بين"، إذ كانا يحكمان حكمًا مشتركًا في حوالي السنة الخمسين قبل الميلاد، وجعل نهاية هذا الحكم المزدوج حوالي السنة الثلاثين قبل الميلاد، حيث حكم "الشرح" حكمًا منفردًا لا يشاركه فيه أحد. وقد دام هذا العهد إلى حوالي السنة العشرين قبل الميلاد أو بعدها بقليل3.
وإذا جارينا رأي "جامه" المتقدم، ورأي الباحثين الذين ذهبوا إلى أن حكم "الشرح يحضب" كان في النصف الأخير من القرن الأول قبل الميلاد، وفي
__________
1 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.451
2 W. DOSTAL, THE EVOLUTION OF BEDOUIN LIFE, L'ANTICA SOCIETA BEDUINA, UNIVERSITA DI ROMA, STUDI SEMITICI 2, 1959, P.11-34, LE MUSEON 1964, 3-4, P.452.
3 MAHRAM, P.390(4/106)
الربع الأخير منه، جاز لنا القول بأن "إلساروس" Ilasaros، الذي ذكره "سترابون" على أنه ملك السبئيين في أيامه، وكانت في عهده حملة "أوليوس غالوس" هو هذا الملك "الشرح يحضب"1. ولكن جمهرة أخرى من الباحثين والمتخصصين في العربيات الجنوبية ترجع أيام "الشرح" إلى ما قبل ذلك, فقد جعل "فلبي" مثلًا حكمه فيما بين السنة "125" والسنة "105" قبل الميلاد2.
هذا، ويلاحظ أن بعض الكتابات التي أغفلت "يأزل"، ذكرت ابن "الشرح" بعد أبيه، ودعت له ولأبيه بالعافية ودوام البركة والنعمة، إلا أنها لم تنعته بنعت، مما يدل على أنه لم يكن يحمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان" آنذاك3.
وقد اختلف الباحثون في ضبط اسم الشخص الذي ولي الحكم بعد "الشرح يحضب"؛ فقد وضع "فلبي" اسم "يأزل بين" بعد "الشرح يحضب"، دلالة على أنه هو الذي حكم بعده، ثم وضع "نشأكرب يهأمن يهرحب" من بعده، وهو ابن "الشرح يحضب"، ومعناه أنه هو الذي حكم بعد وفاة عمه4. إذ إن "يأزل بين" هو شقيق "الشرح يحضب" كما رأينا.
ووضع "فلبي" اسم "وتر يهأمن" بعد "نشأكرب يهأمن يهرحب"، وهو كذلك أحد أبناء "الشرح يحضب". ويرى بعض الباحثين أن "وترًا" اتخذ لقب "يهأمن" بعد اعتلائه العرش، وكان قبل ذلك يعرف بـ"وتر"5, وقد ورد اسمه في عدد من الكتابات6.
أما "ريكمنس" فقد دون اسم "يأزل بين" بعد "الشرح يحضب" وقد جعله شريكًا له في الحكم، ومعاصرًا لـ"حيو عثتر يضع"، وهو ابن "شعر أوتر" والمالك من بعده، وآخر من حكم من أسرة "علهان نهفان",
__________
1 MAHRAM, P.390 BEITRAGE, S. 32, J. RYCKMANS, L'INSTITUTION, P.337
2 BACKGROUND, P.142
3 MM24, BU SAN'A 1909, JEMEN, II, 345, SAB. INSCHR., S. 38
4 BACKGROUND, P.142
5 SAB. INSCHR., S. 39
6 REP. EPIG. 4216, VII, II, P.147, MORDTMANN UND EUGEN MITTWOCH, ALTSUDARABISCHE INSCHRIFTEN, ROMA, 1933, S. 47(4/107)
"علهن نهفن". ثم جعل الحكم في "نشأكرب يهأمن" ابن "الشرح يحضب". وذكر معه اسم "وتر" غير أنه لم يذكر أنه ولي الحكم، كما أنه لم يذكر أي شيء آخر عنه, ثم ترك فراغًا، ذكر بعده اسم "ذمر على بين"1.
وأما "جامه"، فقد نصب "وتر يهأمن" ملكًا من بعد "الشرح يحضب" الذي هو أبوه, وجعل حكمه ملكًا في حوالي السنة "5" قبل الميلاد حتى السنة "10" بعد الميلاد2.
و"وتر يهأمن" هو "وتر" الذي تحدثت عنه، وقلت: إن اسمه قد ورد في النصين: Rep. Epig. 3990 وrep. Epig. 4150 اللذين ورد اسمه فيهما غير مقرون بلقب، ولا جملة "ملك سبأ وذي ريدان". أما في النصوص الأخرى، فقد ذكر فيها لقبه وهو "يهأمن"، وذكر بعده شعار حكمه ملكًا، وهو "ملك سبأ وذي ريدان"3.
ويرى "ميتوخ" و"موردتمن" أن من المحتمل أن يكون "وتر يهأمن" المذكور في النصين: CIH 10 وCIH 258, هو "وتر يهأمن" هذا الذي نبحث عنه. وقد ذكرت بعد "وتر يهأمن" في النص CIH 10 جملة "ملك سبأ". ويرى "ميتوخ" و"موردتمن" أيضا أن ابن "الشرح" كان يعرف بـ"وترم" "وتر" وذلك قبل اعتلائه العرش. فلما أصبح ملكًا، عرف بـ"وتر يهأمن"، أي باتخاذ لقب "يهأمن" لقبًا رسميًّا له4.
ويتحدث النص: Jamme 601 عن معارك وقعت في أرض "خولن جددن" "خولان جددان"، تولى إدارتها وقيادتها "الرم يجعر" "الريام يجعر" "الرام يجعر" "الريم يجعر"، وهو من عشيرة "سخيمم" "سخيم"، وكان قيلًا "قول" على عشيرة "سمعي"، التي تكون ثلث قبيلة "حجرم", وهو صاحب النص، والآمر بتدوينه. وقد ذكر فيه: أن سيده الملك "وترم يهأمن" "ملك سبأ وذي ريدان ابن الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان"
__________
1 J. RYCKMANS, L'INSTITUTION, P.337
2 MAHRAM, P.390
3 CIH 10, CIH 258, GEUKENS 4, JAMME 601, 602, 603, 604, 605, 606, 607, RYCKMANS, IN ORIENS ANTIQUUS, ROMA, 1964, VOL., III, P.68
4 SAB. INSCHR., S. 39(4/108)
أمره بأن يسير إلى عشائر "خولان" "خولن" ويؤدبها؛ لأنها عصت الملك، وشجعت قبائل أخرى على العصيان، فانضمت إليها. وقد استطاع هذا القائد كما يذكر في نصه أن يقهر الثائرين ويحطم مقاومتهم، ثم عاد بعد ذلك بغنائم كثيرة سرت الملك, فشكر الإله "المقه ثهوان" "بعل أوام" الذي وفقه ونصره، فقدم إليه تمثالين له؛ تعبيرًا عن شكره, وعن مننه عليه، إذ نصره في معركتين مع قبائل خولان ومن انضم إليها, اللتين قهر فيهما أولئك الثائرين, ولكي يزيد من نعمه عليه، ويبارك في ملكه وفيه وفي أهله, ويعطيه بركة في زرعه وقوة في جسمه, ويبعد عنه أذى الأعداء1.
والنص: Jamme 602 هو في معنى النص الأول وفي مضمونه، وصاحبه هو "الرم يجعر" نفسه. وأما النص: Jamme 603، فقد أمر بتدوينه "فرعم بن مقرم" "فرع بن مقر" "الفارع بن مقر" وأولاده، وهو من عشيرة "عقبان" "عقبن"؛ وذلك لمناسبة إنشائهم "سقه"، أي: "سقاية" صهريجًا و"مزودًا" وصرحًا في "ذ عقبن" "ذي عقبان". وتيمنًا بهذه المناسبة قدموا إلى الإله المقه تمثالًا حمدًا له وشكرًا على أنعمه عليهم، وكان ذلك في أيام: "وتر يهأمن ملك سبأ وذي ريدان"2.
وشكر "وهبم أصدق" "وهب أصدق" "وهاب أصدق"، الإله "المقه" على نعمه التي أنعمها عليه. وتعبيرا عن حمده وشكره له، قدم إلى معبده "أوام" ثلاثة أصنام" تماثيل"، وذلك في أيام "وتر يهأمن، ملك سبأ وذي ريدان"، ابن "الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان". وقد سجل شكره هذا في نص, وسمه الباحثون بـ Jamme 604. ومما يلفت النظر فيه ورود جملة: "وبشمس ملكن تنف"، أي: وبشمس الملك تنف، ويقصد بها وبشمس إلهة الملك, ونعتها تنف3.
والنصوص الثلاثة الأخرى هي في أمور شخصية، لا صلة لها بالسياسة وبالحرب وببقية النواحي من الحياة العامة، كل ما فيها توسلات وتضرعات إلى الآلهة بأن تمن على أصحابها بالخيرات وبالبركات وبالسعادة وبأولاد ذكور
__________
1 JAMME 601, MAMB 205, MAHRAM, P.102
2 JAMME 603, MAMB 87, MAHRAM, P.104
3 JAMME 604, MAMB 207, MAHRAM, P.107(4/109)
"أولدم أذكرم"، وما شاكل ذلك1. ولذلك لا أجد فائدة في الكلام على مضمونها في هذا المكان.
وقد وضع "جامه" اسم "نشأكرب يهأمن يهرحب" بعد اسم "وتر يهأمن" في الحكم. و"نشأكرب" هذا هو أحد أبناء "الشرح" أيضًا، فهو شقيق "وتر يهأمن"2.
وقد حصل الباحثون على عدد من الكتابات من أيام حكم "نشأكرب"، من جملتها الكتابة: Jamme 619، وصاحبها رجل اسمه "رب إيل أشوع" "ربئيل أشوع"، وابنه "ددال" "دودايل" "دادايل" "داديل" من عشيرة "حلحلم" "حلحل" "حلاحل", وقد كان "رب إيل أشوع" عاقب "عقبت" الملك على مدينة "نشقم" أي: "نشق". ويراد بـ"عقبت" "عاقب"، درجة نائب الملك، أو ممثله الذي يمثله ويدير مكانًا ما, وقد دون كتابته عند شفائه من مرض ألم به وهو في مدينة "نشق"، ومن اضطراب وقع له في معدته، ومن سقوط بعيره بعثرة عثرها، فسقط "رب إيل أشوع" من ظهره على ما يبدو من النص، ولكي يحظى برضا سيده "نشأكرب يهأمن يهرحب، ملك سبأ وذي ريدان ابن الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان"3.
وسجل "رب إيل" وأخواه "يزد" "يزيد" و"هوف ال" "هوف إيل" "هوفئيل"، وهم من "ال ذخرم" "آل ذخر" شكرهم وحمدهم للإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"؛ لأنه نجاهم مما ألم بهم من أمراض، وخفف عنهم كل شين نزل بهم "تشينت هشين"، ومن كل مصيبة ألمت بهم فنهكتهم، سجلوه على لوح وضعوه في معبد ذلك الإله، كما أهدوا إليه صنمًا، أي تمثالًا، تعبيرًا عن شكرهم وحمدهم له، وكان ذلك في عهد هذا الملك الذي نتحدث عنه4.
وجاء اسم "نشأكرب" في النص: REP. EPIG. 3563، وقد نعت فيه
__________
1 السطر الحادي عشر من النص: Jamme 605
2 MAHRAM, P.390, LE MUSEON, 1967, 1-2, P.272
3 JAMME 619, MAMB 178, MAHRAM, P.120
4 JAMME 620, MAMB 150, MAHRAM, P.121(4/110)
بـ"أيمن يهرجب" بدلًا من "يهأمن بهرحب", وفي النص: REP. EPIG. 4191 وقد سقط اسم أصحابه فيه, وكانوا أقيالًا "أقول" على قبيلة سقط اسمها فيه أيضًا، وقد عبروا عن أنفسهم بـ"أدم نشأكرب"، أي "عبيد نشأكرم"، على سبيل الأدب والتعظيم للملك. وقد ذكروا فيه أنهم أهدوا للإله "المقه بعل أوعلن"، أي: المقه رب "أوعلان"، صنمًا "صلمن" مصنوعًا من صريف "صرفن" أي: فضة أو رصاص أو نحاس، بحسب تعريب الباحثين لكلمة "صرف" "صرفان"، وصنمًا آخر من ذهب؛ لأنه من عليهم وأجاب كل ما سألوه1.
وقد سجل الملك "نشأكرب يهأمن يهرحب" نصين آخرين، أحدهما النص: Jamme 611، والآخر النص: Jamme 611، دون في النص الأول أنه أهدى لمعبد "المقه ثهوان"، وهو معبده المسمى "أوام" "بعل أوم"، صنمين, أي: تمثالين من ذهب؛ لأنه أجاب دعواته "واستوفين كل دعت" ووفى له كل ما طلبه منه، وأعطاه "برق الخريف"، "ببرق خرف" أي: الأمطار التي تتساقط في موسم الخريف، فتُحيِي الأرض وتُغِيث الزرع، وذلك في سنة "نشأكرب من معد يكرب" من "فضحم" "فضح الثاني"، ولأنه حفظه من البرد "بردم"، وربما قصد به مرض "البرداء"، أي: "الملاريا" التي تجعل المريض وكأنه يرتجف من البرد, أو ربما قصد به نزلة أصابته, ومن "أربيم" وقد ترجمها "جامه" بـ"جراد"، ومن سحب الهوام والحشرات التي ظهرت في هذا الموسم، بمناسبة حدوث هذا البرق، "بهيت برقن", ولكي يزيد في نعمه عليه ويباركها، ويحفظه ويحفظ ملكه "ملكهمو" ويحفظ جيشه "خمسهمو" "خميسه"، ولكي يثبر "لثبر" ويحط "وضع" من شأن كل شانئ وحاسد وعدو له2.
وأما النص: Jamme 611، فيذكر فيه "نشأكرب يهأمن يهرحب" أنه قدم صنمًا، "صلمن" إلى معبد الإله "المقه"، وهو معبد "أوم"
__________
1 REP. EPIG. 4191, SE. 68, WIEN 72, MAHRAM, 336
2 ومجموع النصوص التي عثر عليها حتى الآن تحمل اسم الملك "نشأكرب" على أنه هو الآمر بتدوينها، هو تسعة نصوصJamme 610, Mamb 208, Mahram, P.107, 336(4/111)
"أوام", حمدًا لذاته؛ لأنه أعطاه كل ما أراده وطلبه منه، ووفاه له، قدمه في شهر "هوبس وعثتر" من سنة "نشأكرب بن معد يكرب" من "حذمت" حذمة الثالث "ثلثن", ولكي يديم نعمه عليه، ويمنحه القوة والحول، ويبارك في ملكه "ملكهمو"، ويعز جيشه، ويقهر أعداءه1.
ولدينا نص آخر من النصوص التي أمر "نشأكرب" بتدوينها، هو النص الذي وسم بـJamme 877، يخبر فيه أنه أهدى لمعبد الإله "المقه ثهوان"، وهو معبد "بعل أوام"، صنمًا "صلمن"؛ لأنه من عليه، وأوحى إليه في قلبه بأن يقدمه إليه, ولأنه أجاب كل ما سأله وطلبه منه. وقد أهداه له في شهر "هوبس" من سنة "سمه كرب" "سمهكرب بن أبكرب" من "حذمت" حذمة الثالث "ثلثن", ولكي يديم نعمه عليه، ويبارك فيه، ويبعد عنه أذى الأشرار والأعداء، وذلك بحق "المقه ثهوان" "بعل مسكت" و"يثو برن" "يثو برءآن"2.
وورد اسم هذا الملك في نص آخر وسم بـJamme 621 وصاحبه من عشيرة "عبلم" "عبال" "عبل" "عبيل"، من بني "أأذنن" "أأذنان" "أأذن". وقد دونه تعبيرًا عن حمده لذات إلهه "المقه" الذي وفى له كل مطلب طلبه منه3، وذلك في عهد "نشأكرب"4، كما ورد اسمه في النص: Jamme 622, وصاحبه "أبكرب أصحح" "أبو كرب أصحح", وولداه "يحمد يزن" "يحمد يزان" "يحمد يزأن" "يحمد يزءان"، و"أحمد يزد" "أحمد يزيد"، وهم من "آل جرت" "جرة" ومن "آل أنبر" "أنبر" "ال أنبر" وقد دونا فيه حمدهما وشكرهما للإله "المقه"، الذي أغناهم وأنعم عليهم بغنائم حرب أرضتهم، ولكي يمن عليهم بتنفيذ أي أمر يكلفهم الملك "نشأكرب" إياه، ولكي يبارك في زرعهم وفي حاصلهم الشتوي وحاصل الخريف وحاصل الصيف، ولكي يمنحهم البركة في أرضهم ويوفر لهم الماء لإسقاء زرعهم, ويبعد عنهم كل بأس "بن باستم" ويبعد الأرق عنهم،
__________
1 JAMME 611, MAMB 21, MAHRAM, P.108
2 MAHRAM, P.336
3 "حمدم بذت هو فيهمو بكل املا ستملوا"، السطر الرابع من النص.
4 Jamme 621, Mamb 171, Mahram, P.122(4/112)
وكل مكروه وكل أذى وحسد الشانئين البعيدين والقريبين1. ويلاحظ ورود اسم "أحمد" و"يحمد" في هذا النص.
ويتحدث النص Jamme 612 عن حملة قام بها "إحمد يغنم" "أحمد يغنم"، وهو ابن "نشاي" "نشأى"، وكان من كبار ضباط "مقتوى" الملك "نشأكرب"، وبأنه أهدى لمعبد "بعل أوام"، المخصص بعبادة الإله "المقه" صنمًا من ذهب؛ لأنه من عليه وأفاض عليه بنعمه، وأيده في الحملة التي قادها مع أقيال "أقولن" وجيش الملك إلى أرض حضرموت، ولأنه أعاده سالمًا بريئًا "أتو ببريتم" معافًى بعد أن قتل رجلين، ولكي يزيد في نعمه عليه وتوفيقه له، وليبعد عنه أذى الشانئين2.
والنص المذكور نص موجز، لم يذكر أسماء المواضع التي حارب فيها جيش "سبأ وذي ريدان" في حضرموت، ولا الأسباب التي أدت إلى إرساله إلى هناك. ويظهر من إيجازه هذا ومن عدم إشارته إلى عودته بغنائم وأسرى وأموال، أن الحملة المذكورة لم تكن حملة كبيرة, وإلا قادها الملك نفسه، فقد كان من عادة الملوك عندهم ترؤس الحملات الكبيرة، وإدارة الحروب بأنفسهم إذا كانت كبيرة، ولو رئاسة شكلية أو رمزية. وعدم إشارة هذا النص إلى وجود الملك مع رجال الحملة، يشير كما قلت إلى صغر حجمها، وإلى أن الغاية التي أرسلت من أجلها لم تكن ذات خطر، وقد تكون لمجرد تأديب قبائل من حضرموت تحرشت بسبأ أو عصت أمر ملك حضرموت, فأرسلها الملك "نشأكرب" لتأديب تلك القبائل الثائرة.
ونقرأ في النص: Jamme 616 خبر معارك اشترك فيها أصحاب النص، وهم من بني "سخيم" سادات "بيت ريمان". وكانوا أقيالا "أقول" على عشيرة "يرسم" من عشيرة "سمعي" التي تؤلف ثلث قبيلة "هجرم" "هجر"، كما كانوا من كبار ضباط الملك "نشأكرب"، أي: من درجة "مقتوى". وقد نشبت تلك المعارك من امتناع عدد من القبائل عن دفع ما استُحِقَّ عليها من ضرائب؛ مما حمل الملك على إرسال حملة عسكرية إليها، تمكنت من
__________
1 JAMME 623, MAMB 238, MAHRAM, P.122
2 JAMME 612, MAMB 88, MAHRAM, P.109, LE MUSEON, 1964, 3-4, P.481(4/113)
تأديبها وإخضاعها، فاضطرت عشائر "خولان جددم" "خولان جدد" إلى إرسال ساداتها وأشرافها إلى مدينة صنعاء "صنعو" لمقابلة الملك وعرض طاعتهم عليه وخضوعهم له. وقد رضي الملك عنهم، وأدوا ما استحق عليهم من إتاوة، وبذلك نجحت هذه الحملة, وسر أصحاب -وهم قادتها- بهذا النصر1.
وتحدث النص بعد ذلك عن عصيان قبيلة "دوات" "دوأت" وعشائرها، وهي: "أباس" "أبأس", و"أيدعن" "أيدعان"، و"حكمم" "حكم", و"حدلنت", و"غمدم" "غمد", و"كهلم" "كاهل", و"أهلني" "أهلاني"، و"جدلت" "جدلة", و"سبسم" "سبس"، و"حرمم" "حرم" "حرام", و"حجرلمد", و"أومم" "أوم", و"رضحتن" "رضحتان" من "حرت" "حرة". وقد ثارت كل هذه العشائر، وعصت الملك، وامتنعت من دفع الضرائب؛ فاضطر الملك إلى إرسال قوة عسكرية عليها، التقت بها في أسفل الأودية "بسفل اوديتن": "بارن" "بئران" "بأرن" "بأران" و"خلب" و"تدحن" "تدحان"، فانتصرت عليها، أي: على العشائر الثائرة، وأخذت منها غنائم كثيرة وأسرى2.
وعثر على كتابات أخرى، ورد فيها اسمه ثم اسم "يأزل بين" من بعده، وذلك على هذا النحو: "نشأكرب يهأمن يهرحب، ملك سبأ وذي ريدان ابن الشرح يحضب، وبأزل بين، ملكي سبأ وذي ريدان". وقد أوجد ورود هذا الاسم -وذلك كما ذكرت سابقًا- للباحثين الذين قالوا بوفاة "يأزل بين" في أيام حياة "الشرح" مشكلة، خلاصتها: أنه إذا كان "يأزل بين" قد توفي في أيام شقيقه، فلِمَ ذكر اسمه في هذا النص وفي نصوص أخرى مثله؟ أفلا يدل ورود اسمه في النص على أنه لم يمت في ذلك العهد ولكن بقي حيًّا، وعاد فحكم مع ابن أخيه "نشأكرب"، بعد ترضيته أو لأسباب أخرى لا نعرفها، فعاد اسمه، فظهر مرة أخرى في الكتابات؟
أما الذين أبقو "يأزل بين" حيا ولم يُميتوه، فإنهم يعتمدون على هذه
__________
1 JAMME 616, MAMB 154, 199, RY. 538, LE MUSEON, 1964, 3-4, P.481
2 الفقرة 23 فما بعدها، وراجع النص: Geukens 6, Mahram P.114(4/114)
النصوص في دعواهم ببقائه على قيد الحياة، وبمشاركته ابن أخيه في الحكم، وأما غيرهم فقد تعمدوا إلى حجج وأعذار في تفسير ما ورد في النصوص، في جملتها أن ذكر اسمه لا يدل على بقائه حيًّا حتى ذلك الزمن، وأن ذكره في الكتابات معناه الإشارة إلى عم الملك، وقد كان ملكًا، وأن "نشأكرب" إنما ذكره ليبين للناس أنه سيسير على سنة أبيه وعمه في مقاومة أعدائه بتجريد الحملات عليهم ومحاربتهم، وأنه سيخالف بذلك سياسة شقيقه "وترم يهأمن" الذي سلك خطة التهدئة وحل المشكلات بطريقة المفاوضات والسلم. ودليلهم على ذلك ورود جملة نصوص من أيامه، فيها أخبار حروب وقتال، على حين لا نجد من أخبار القتال في أيام شقيقه غير خبر واحد ورد في نص واحد، هو النص: Jamme 601 الذي مر ذكره1. ولكن، هل نحن على علم يقين بأننا لن نعثر في المستقبل على نص ما من أيام "وترم يهأمن"، فيه نبأ عن حرب أو حروب؟ ثم من يدري بنا أنه كان مسالمًا؟ أفلا يجوز أن يكون قصر حكمه، هو الذي حال بينه وبين خوض المعارك؟ ثم ما الدليل على أن ذكر اسم "يأزل بين" في نصوص أيام "نشأكرب"، معناه اتباع سياسته وسياسة شقيقه في الحرب؟ وليس في النصوص أية إشارة ولا أي تلميح يدفعنا إلى التفكير في هذا التفسير أو التأويل.
ومن الكتابات التي دون فيها اسم "يأزل بين" بعد اسم "نشأكرب"، الكتابة: Jamme 608. وصاحبها هو الملك "نشأكرب يأمن يهرحب" نفسه2. وقد دونها حمدًا للإله "المقه ثهوان" "بعل أوام" وشكرًا له على نعمه وأفضاله، وذكر أنه قدم في هذه المناسبة صنمًا أي: تمثالًا من صريف "صرفن" فضة أو رصاص أو نحاس, زنته ألف "رضى" "رضيم"؛ ليكون تعبيرا عن شكره، وتقربه إليه3.
وتعد الكتابة: REP. EPIG. 4233 من كتابات هذا العهد، وصاحبها رجل اسمه "يصبح" وقد سقط اسم أبيه من النص. وقد ذكر فيها أنه قدم خمسة
__________
1 Mahram, P.330
2 دون لقبه "يأمن"، أما في بقية النصوص فـ"يهأمن". وقد يكون الخطأ في الاستنساخ.
3 Jamme 608, Mamb 109, Mahram, P.106(4/115)
تماثيل إلى الإله "المقه ثهوان"؛ لأنه من على عبده "يصبح" فأفاض عليه بنعمه، وأجزل له العطاء, ومنحه رضا سيده الملك، ولكي يديم نعمه هذه عليه، ويبعد عنه كل أذى وشر، بحق الإله: المقه1.
وإلى هذا العهد أيضا تجب إضافة النص: Jamme 611، الذي سبق أن تحدثت عنه في أثناء كلامي على الكتابات التي أمر الملك "نشأكرب" بتدوينها باسمه، إذ ذكر فيها اسم عمه "يأزل بين".
لقد انتهيت الآن من كلامي على "آل فرعم ينهب"، ووجب عليَّ التحدث عن أسرة جديدة حكمت "سبأ وذا ريدان"، هي أسرة يبدأ حكمها بحكم "ذمر على بين". ولكنني أرى التحدث عن أسرتين كان لهما شأن في هذا الزمن: أسرة "وهب أوم يضف" "وهب أوم ياضف"، وأسرة "سعد شمسم أسرع" "سعد شمس أسرع".
وقد ورد اسم "وهب أوم يضف" "وهب أوم ياضف" "وهب أوام يضف" في عدد من الكتابات، وذكر مع اسمه اسم شقيق له يعرف بـ"يدم يدرم", وقد عاصرا الملك "الشرح يحضب"، كما عاصرا "نشأكرب يهأمن يهرحب". وقد عرفنا من الكتابات أسماء عدد من أولاد "وهب أوم يأضف" "وهب أوم يضف" هم: "حمعثت أزأد" "حمعثت أزاد"، و"أبكرب أسعد" "أبو كرب أسعد" و"سخيمم يزان" "سخيم يزأن" و"وهب أوم يسبر" "وهب أوم يسبر"، و"نشأكرب يدرم" "نشأكرب يدرم"2.
ويظهر من النص: Jamme 616 أن "وهب أوم" وأخاه، كانا من عشيرة "سخيم"، وكانا "أبعلا" على بيت ريمان "أبعل بيتن ريمن" أي: أصحاب "بيت ريمان"، وكانوا أقيالًا على عشيرة "يرسم" من قبيلة "سمعي" التي تكون ثلث "ذي هجرم". فيظهر منه ومن النص: Jamme 718 أنهما كانا من عشيرة "سخيمم"، أي: سخيم3.
__________
1 REP. EPIG. 4233, BACKGROUND, P.98, REP. EPIG., VII, II, P.166, LE MUSEON, LXI, 3-4, "1948", P.232
2 MAHRAM, P.332
3 JAMME 616, MAMB 199, MAHRAM, P.113, JAMME 718, MAMB 56, MAHRAM, P.202(4/116)
وقد كانت أسرة "وهب أوم" وأولاده، وشقيقه "يدم" تستغل أرضين حكومية تابعة للملك، أجرها لها الملك "الشرح يحضب" وفق أمر ملكي أصدره باسمه، وأعلنه، عثر عليه الباحثون، فوسموه بـREP. EPIG. 4646. وقد ذكر في النص اسما ولدين من أولاد "وهب أوم"، هما: "حمعثت"، و"أكرب"، كما أشير إلى عشيرة "يرسم" و"سخيم". وهو من النصوص المهمة التي تتعلق بالزراعة وباستغلال الأرضين في ذلك الزمن.
وأما أسرة "سعد شمسم أسرع" "سعد شمس أسرع"، فإن أهميتها تزيد على أهمية الأسرة المتقدمة، إذ كانت لاسمها صلة بالملك "الشرح يحضب"، كما جاء في النصوص: Jamme 626 وJamme 627 وJamme 628، Jamme 629 وJamme 630. فقد نسب "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد" في النصوص المذكورة إلى "الشرح يحضب"، فذكر أنهما "ابنا" الملك، ولقبا فيها بـ"ملكي سبا وذ ايدن"، أي ملكي سبأ وذي ريدان، مما يدل على أنهما كانا ملكين1.
وصاحب النص: Jamme 626 رجل اسمه "ينعم إذرح" "ينعم أذرح"، وقد دون مع اسمه اسم ولديه: "إبكرب" "أبكرب" "أبي كرب" و"كبرم" "كبر"، وهم من "غيمان". واشترك معهم في تدوينه رجل آخر اسمه: "ناسم" "نأسم" "نأس", وكانوا أقيالًا على قبيلة "غيمان". وقد ذكروا أنهم أهدوا صنمًا إلى الإله "المقه ثهوان" "بعل أوام" كما أُوحِيَ إليهم، حمدًا له وشكرًا، إذ من عليهم، ومنحهم السعادة والعافية، وجعل "سيديهم: سعد شمس أسرع وابنه مرثد يهحمد، وهما ملكا سبأ وذي ريدان وابنا الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان"2 يرضيان عنهم، ولكي يديم الإله المقه نعمه عليهم، وذلك بحق عثتر وهوبس والمقه وذات حميم وذات بعدان
__________
1 Le Museon, 1967, 1-2, P.272
2 "رضو وحظى مرايهمو سعد شمسم أسرع وبنهو مرثدم يهحمد ملكي سبأ وذ ريدن بني الشرح يحضب ملك سبأ وذ ريدن"، الفقرة 9 وما بعدها من النص:
Jamme 626, Mamb 146, Mahram, P.124, Orlens Antiquus, Vol, III, 1964, P.70(4/117)
وبشمس الآهة الملك الملقبة بـ"تنف" "تنوف" وبحق سيدهم "وبشمهمو" "حجرم قحمم" "حجر قحم" "حجر قحام"، بعل القلعتين "عرنهن": "تنع" و"لمس".
وأما أصحاب النص: Jamme 627، فهم: "هو فعثت يزان" "هو فعثت يزأن" و"آل كبسيم" "آل كبسي"، وهم أقيال "أقول" عشيرتي "تنعمم" "تنعم" و"تنعمت" "تنعمة".
وقد ذكروا فيه أنهم أهدوا لمعبد "أوام"، وهو معبد "المقه"، صنمًا "صلما" لأنه أوحى إليهم أنه سيجيب مطالبهم، ويوفي لهم كل ما سألوه من دعوات، فينزل عليهم الغيث, ويمطرهم بوابل الخير والبركات، ويسقي جانبي وادي "يعد" "يعود" و"إتب" "أتب" وأرضًا من أرض "تنعمم" "تنعم"، ولأنه أنبأهم بأنه سيملأ "ماخذ همو"، أي سد "يفد" وأرض يفد بأمطار الربيع وبأمطار الخريف، وبماء جارٍ دائم، وبأنه سيرفع حظوتهم عند "سعد شمس أسرع وعند ابنه مرثد يهحمد ملكي سبأ وذي ريدان، ابني الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان" وبقربهم إليهما تقربًا يرضيهم، ولأنه وعدهم بأنه سيمنحهم السعادة والمال والطمأنينة، وأنه سيسر خواطرهم، ويمنحهم غلة وافرة وثمارًا غزيرة وحصادًا طيبًا, وذلك بحق الآلهة: "عثتر" و"هوبس" و"المقه" و"بذات حميم" و"بذات بعدان" وبحق "شمس ملكن تنف"، أي: بحق الشمس إلهة الملك الملقبة بـ"تنف"، وبحق "المقه" "بعل شوحط"، وبحق "شمسهمو بعلت قيف رشم"، أي: "الشمس" ربة "قيف رشم" "قيف رشام"، وقد جعلوا نذرهم تقدمة للإله "عثتر شرقن" "عثتر الشارق" و"المقه بعل أوام"1.
وأما النص Jamme 628، فهو النص المتقدم نفسه، فلا حاجة بنا إلى الكلام عليه. وأما النص: Jamme 630، فإنه كالنصوص السابقة, حمد وشكر للإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"؛ لأنه من على "لحيعثت أصححل" وهو من "يهعن" "يهعان"، بكل ما سأله وطلبه منه، وأمطره بشآبيب
__________
1 Jamme 627, Mamb 210, Mahram, P.125(4/118)
نعمه وأفضاله، وبوابل من فضله، ورفع منزلته وأعطاه الحظوة عند "سعد شمس أسرع"، وعند ابنه "مرثد يهحمد"، ملكي سبأ وذي ريدان، ابني الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان, ولكي يديم نعمه عليه، ويتمها عليه وعلى بيته، ويعطيه ثمارًا وحصادًا جيدًا كثيرًا من كل أرضه "بن كل أرضتهمو"، ويقيه من كل الأمراض والآفات ... بحق "عثتر" و"هوبس" و"المقه" و"بذات حميم" و"بذات بعدان" وبحق "شمس ملكن تنف" شمس إلهة الملك تنف1.
والنص Jamme 629 هو من أهم النصوص المذكورة؛ لورود أخبار ومعارك وحوادث تأريخية فيه لم ترد في أي نص آخر من النصوص المعروفة عن هذا العهد وعن هذه الأسرة, وصاحب النص رجل اسمه "مرثدم" وقد سقط لقبه في النص، وقد دون اسم ابنه: "ذرح إشوع" "ذرح أشوع" معه، وهما من "جرفم" "جراف" "جرف" أقيال عشيرة "يهب عيل" "يهبعيل". وقد دوناه عند تقديمهما صنمًا إلى الإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"، حمدًا له وشكرًا؛ لأنه وفقهما وأسبغ نعمه عليهما، ولأنه وفق "ذرحن" "ذرحان" في كل المعارك والحروب التي خاضها لمساعدة سيديه "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد" "ملكي سبأ وذي ريدان"، ابني "الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان"2.
وقد حمد "ذرحن" "ذرحان" إلهه وشكره إذ نجاه من المعارك التي حدثت في أرض عشيرة "ردمان" "ردمن"، تلك المعارك التي هاجمها حلف تكون من "وهب إيل"، الذي هو من "معاهر" ومن "خولان" وحضرموت وقتبان وردمان ومضحيم "مضحي" ومن كل من انضم إليهم من ناس "وكل أنس"3 ومن أعراب؛ وذلك لمغاضبة سيديهما ملكي سبأ ومعارضته4.
__________
1 JAMME 630, MAMB 267, MAHRAM, P.131
2 JAMME 629, MAMB 203, MAHRAM, P.129, ORIENS ANTIQUUS, VOL., III, 1964, P.70
3 "وكل أنس"، السطر السابع من النص.
4 "وأعرب"، السطران السابع والثامن من النص.(4/119)
ويظهر أن "ذرحان" كان قد حُوصر أو وقع في مشكل في أرض ردمان، وربما في "وعلان" عاصمة "ردمان"، وبقي محاصرًا أو في وضع حرج صعب حتى جاءته قوات أنقذته مما وقع فيه، وعاد فالتحق بجيش سيديه الملكين لمحاربة ذلك الحلف1.
وقد أسرع الملكان، فعبَّأا جيشهما ومن كان معهما من تبع "أدمهمي" ومحاربين "ذبن أسبعن" وأقيال، واتجها نحو "وعلان"، حيث واجها الأحلاف"؛ واجها "يدع إيل" ملك حضرموت، ومن معه من أهل حضرموت و"نبطعم" "نبط عم"، ملك قتبان، ومن كان معه من أهل قتبان، و"وهب إيل" من "معاهر" وخولان و"هصبح" و"مضحيم"، ومن كانوا معهم, وقد جرت معارك انتهت بانتصار "ملكي سبأ وذي ريدان" على رجال الحلف2. ولم تذكر الأسطر التي دون فيها خبر هذه المعارك أسماء المواضع التي نشب فيها القتال, ولم تأت كذلك بأية تفاصيل عنها ولا عن فداحة الخسائر التي مُنيت بها قوات ذلك الحلف.
ويظهر أن "ذرحان" كان قد ترأس قوة مؤلفة من مقاتلين من "فيشن" "فيشان" ومن "يهبعيل" "يهب عيل"، وأخذ يهاجم بها بعض الأعداء، إلا أنه وقع في وضع عسكري حرج، إذ حاصره أعداؤه، ولم يتمكن من النجاة بنفسه وبقواته إلا بعد إسراع الملكين أنفسهما على رأس قواتهما لفك الحصار عنه. وقد نجحا في ذلك، وسلم مع قوته من الوقوع في الأسر. ولما خلص ونجا، أخذ يهاجم فلول بعض الأعداء، فنجح في هجومه وحصل على غنائم وأموال3, وعاد فانضم إلى جيش الملكين، وعاد الملكان إلى مدينة "مأرب" سالمين غانمين4.
ويتحدث "ذرحان" بعد ذلك عن معارك نشبت في منطقة مدينة "حلزوم" ومدينة "مشرقتن" "مشرقتان" "المشرقة". وكان "ذرحان" يحارب مع
__________
1 Mahram. P.342
2 السطر التاسع فما بعده من النص.
3 Mahram, P.342
4 الفقرة: 23 من النص.(4/120)
جيش الملكين في خلال هذه المعارك. وقد حاصر جيش الملكين مدينة "حلزوم" ثم افتتحها وأباحها فأخذ ما وجد فيها من أموال، ثم هاجم المواضع الأخرى على جانبي الأودية والسهول، وتركها للنهب والسلب, ودمر المعابد "الحرم" "محرمت" والهياكل "وهيكلت"، وخرب كل المساقي "مسقى" التي تروي الأرضين في هذه المناطق1, وبذلك انتهت معارك هذه المنطقة بتفوق الملكين على أعدائه. ويظهر أن الجيش لم يتمكن من افتتاح مدينة "مشرقتن" "المشرقة"، فبقيت صامدة مقاومة، حتى اضطر إلى ترك حصارها والارتحال عنها.
ثم ينتقل النص إلى الحديث عن معارك أخرى أدت إلى احتلال مدينة "منوبم" "منوب"، وكل مدن "كل هجرن" ومصانع عشيرة "أوسن" أوسان، وإلى الاستيلاء على مدينة "شيعن" "شيعان"2, ولم يذكر شيئًا مفصلًا عن هذه المعارك، ولا عن الأماكن الأخرى التي وقعت فيها، ولا عن الغنائم والأموال التي أخذها الجيش من هذه المواضع. ويرى بعض الباحثين أن مدينة "منوبم"، هي "منوب"، وهي من مدن "بني بدا"، وأن وادي "منوب" من الأودية التي تصب في وادي حضرموت في غرب "الحوطة"، التي تقع على مسافة عشرين كيلومترًا من جنوب شرق "شبام", وأما شيعان فتقع على مسافة ثمانين كيلومترًا جنوب "تمنع"3.
ثم يتحدث النص بعد ذلك عن معارك أخرى اشترك فيها "ذرحان" وقائد آخر اسمه "رب شمسم يعر" "ربشمس يعر" "رب شمس يعر"، وهو من "علفقم" "علفق" "علافق"، وكانا يحاربان في أرض قتبان، وقد وقعا على ما يظهر منه في وضع حرج، وذلك في منطقة مستوطنات حضر "أحضر" وأعراب, حتى وصلت أمداد إلى"تمنع". وتمكنا بفضل "المقه" ورحمته بهما ومساعدته لهما من الخلاص والنجاة مما وقعا فيه، ثم عادا مع الملكين، وشقوا طريقهم إلى "مأرب" وعادوا جميعًا سالمين4.
__________
1 الفقرة "25" فما بعدها إلى الفقرة "30".
2 الفقرتان 29 و30 من النص.
3 Mahram, P.342
4 الفقرة 31 وما بعدها.(4/121)
ويظهر أن "مرثدم" "مرثد" أبا "ذرحان أشوع" كان في مدينة "صنعاء" "صنعو" وذلك بأمر من الملك للقيام بأعمال نِيطت به، كما ناط الملكان بخمسة أقيال آخرين القيام بأعمال خاصة بمدينة "رحبتن" "الرحبة" في خلال الحملتين1, وتقع مدينة "رحبتن" "الرحبة" "الرحابة" "رحبتان" على مسافة عشرين كيلومترًا شمال شرقي مدينة صنعاء2.
ويظن أن الملك "نبطعم" "نبط عم" ملك قتبان المذكور في هذا النص، هو الملك "نبطعم يهنعم بن شهر هلال"، الذي حكم فيما بين السنة "20" والسنة "30" بعد الميلاد على رأي "جامه". وقد حكم أبوه "شهر هلال يهقبض" فيما بين السنة "10" والسنة "20" بعد الميلاد، على رأيه أيضًا. و"نبطعم يهنعم" هو أبو الملك "مرثدم" ملك قتبان الذي حكم فيما بين السنة "30" والسنة "45" بعد الميلاد3.
و"تمنع" المذكورة في هذا النص، هي "تمنع" عاصمة قتبان. ولورود اسمها في هذا النص أهمية كبيرة؛ لأنه يدل على أنها كانت موجودة في هذا الزمن، وأنها بقيت إلى ما بعد الميلاد, أي: إلى القرن الأول منه، إذا ذهبنا مذهب "جامه" في التقدير المذكور4.
هذا، ونحن لا نعلم في الزمن الحاضر عن الملكين المذكورين شيئًا يذكر, وقد وضع "جامه" حكم "سعد شمسم" وابنه "مرثدم يهحمد" فيما بين السنة "20" والسنة "30" بعد الميلاد, أي: إنه جعل حكمهما بعد حكم الملك "نشأكرب يهأمن يهرحب" ابن "الشرح يحضب" الذي انتهى حكمه في حوالي السنة "20" بعد الميلاد على رأيه5.
أما "فون وزمن"، فوضع زمان حكم "سعد شمس أسرع" في حوالي السنة "110" بعد الميلاد, ووضع زمان حكم "مرثد يهحمد" في حوالي السنة "130" بعد الميلاد. وذكر أن "الشرح يحضب"، هو "الشرح يحضب"
__________
1 الفقرة 36 فما بعدها.
2 MAHRAM, PP.322, 342
3 MAHRAM, P.391
4 MAHRAM, P.343
5 MAHRAM, P.390(4/122)
الأول الذي جعل ابتداء زمان حكمه سنة "80" للميلاد, وهو من "مرثد" من "بكيل"، والذي كان يحكم "شبام أقين" "شبام أقيان". وقد أشار إلى وجود ملك آخر اسمه "الشرح يحضب" ميزه عن الأول بإعطائه لقب "الثاني", وقد جعل زمان حكمه سنة "200" أو "206" للميلاد1.
وقد يذهب الظن إلى أن الملكين المذكورين هما في الواقع "سعد شمسم أسرع" وابنه "مرثدم يهحمد", اللذان كانا من "جرت" جرة، وكانا قيلين على قبيلة "ذمرى"، كما نُصَّ على ذلك في الكتابات Jamme 568 وJamme 606 و Jamme 607 وJamme 753. وكانا في خدمة "الشرح يحضب" وفي خدمة ابنه "وترم"؛ لأن اسمي الملكين واسمي القيلين أسماء واحدة، ولأن زمانهما وزمان الملكين زمان واحد، إلا أن هذا الظن يصطدم بكون القيلين من "جرت" "آل جرة"، وبكون الملكين من نسل "الشرح يحضب"، كما يفهم ذلك من كلمة "بني"، أي: ابني بالتثنية الواردة بعد اسمها ولقبهما وقبل اسم "الشرح"، ولم يكن الملك من أسرة "جرت" "جرة"2.
وجملة "سعد شمسم أسرع وبنهو مرثدم يهحمد ملكي سبأ وذ ريدن بني الشرح يحضب ملك سبأ وذ ريدن", ومعناها: "سعد شمس أسرع وابنه مرثد يهحمد ملكا سبأ وذي ريدان، ابنا الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان"، الواردة في النص3 Jamme 629، جملة مثيرة في الواقع تثير التساؤل عن المراد من لفظة "بني" المذكورة فيها، فلو فسرناها بمعنى "ابني" أي: ولدي "الشرح" اصطدمنا بحقيقة أن "مرثدم يهحمد"، لم يكن ابنًا للملك "الشرح" وإنما كان حفيدًا له، والحفيد غير الابن في اللغة وفي التعبير؛ ولذلك صار هذا التفسير غير منسجم مع واقع الحال.
أما لو فرضنا أن البنوة المقصودة، هي بنوة تبنٍّ، أي: إن "سعد شمس أسرع" لم يكن ابنًا من صلب "الشرح يحضب"، بل كان ابنًا بالتبني جُوبهنا بمعضلة أخرى، هي أن "سعد شمس أسرع" لم يكن في عمر يُتَبَنَّى فيه في العادة، ثم إن ابنه نفسه كان قيلًا أي: في عمر لا بد أن يكون قد جاوز
__________
1 LE MUSEON, 1946, 3-4, P.498
2 MAHRAM, P.340, ORIENS ANTIQUUS, III, 1964, P.70
3 الفقرة الخامسة وما بعدها، Le Museon, 1967, 1-2, P.289(4/123)
فيه سن المراهقة، وهو أولى على كل حال من والده بالتبني بالنسبة إلى سنه, ولو كان التبني له، لما جاز لأبيه أن يسمي نفسه ابنًا للملك بالمعنى المفهوم من التبني. لذا فنحن أمام معضلة لا يمكن حلها في الزمن الحاضر، ولا يمكن حلها إلا بعثور المنقبين على كتابات جديدة تتعلق بهذه الأسرة، وبشخصية "الشرح يحضب" نفسه، فلعل "الشرح" رجل آخر، حكم في غير هذا الزمن.
ويفهم من النص: Glaser 1228 أن "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد", وقد لقبا أنفسهما بلقب "ملك سبأ وذي ريدان", كانا حليفي الملك "ذمر على يهبر"، وقد حاربا معه الملك "وهب ال يحز" "وهب إيل يحز"، الذي كان مسيطرًا على نجاد قبيلة "سمعي"1. وقد انتصر "ذمر على يهبر" وحليفاه فيها، غير أن هذا النص لم يكن حاسمًا على ما يظهر.
أسرة فرعم ينهب:
1- فرعم ينهب.
2- الشرح يحضب بن فرعم ينهب.
3- يازل بين بن فرعم ينهب، أي: شقيق الشرح يحضب.
4- نشأكرب يأمن يهرحب، "نشأكرب يهأمن يهرحب", وهو ابن الشرح يحضب.
5- وترم يهأمن "وتر يهأمن", وهو ابن الشرح يحضب, ومنهم من يقدم "وتر يهأمن" على أخيه "نشأكرب يهرحب".
__________
1 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.461, CIH 306 + 598(4/124)
الفصل الثامن والعشرون: سبأ وذو ريدان
مدخل
...
الفصل الثامن والعشرون: سبأ وذو ريدان
أضفت في الفصل السابق اسمي الملكين "سعد شمس أسرع" و"مرثد يهحمد" إلى آخر أسماء الملوك الذين حكموا بعد "الشرح يحضب"؛ وذلك حكاية على لسان "جامه" وبحسب ترتيبه لأولئك الملوك، ولِمَا تراءى له من دراسته لطبيعة الأحجار المكتوبة التي عثر عليها، ومن دراسته أساليب وأشكال الحروف وطرق نقشها على تلك الأحجار. أما غيره من الباحثين القدامى في العربيات الجنوبية فلم يذكروهما؛ لأنهم لم يكونوا قد وقفوا على الكتابات التي أوردت اسميهما، لأنهم لم يكونوا قد عرفوها إذ ذاك، إذ هي من الكتابات التي اكتشفت من عهد غير بعيد.
وقد اختلف الباحثون في تأريخ حكومة سبأ, في تثبيت اسم الملك الذي حكم بعد آخر ابن من أبناء الملك "الشرح يحضب"، وتباينت آراؤهم في ذلك. وترك "ريكمنس" فراغًا بعد اسم "نشأكرب يهأمن يهرحب" و"وتر", دلالة على أنه يرى وجود فجوة في الحكم لا يدري من حكم فيها، وضع بعدها اسم "ذمر على بين". وقد جعله من المعاصرين للملك "العز" ملك حضرموت1. أما "جامه"، فقد وضع كما قلت اسمي الملكين "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد"، بعد اسم الملك "نشأكرب يهأمن يهرحب"، ثم دوَّن اسم
__________
1 J. RYCKMANS, L'INSTITUTION, P.338(4/125)
"ذمر على بين" بعد اسم "مرثد يهحمد"، دلالة على أنه هو الذي كان قد حكم بعده. وقد جعل ابتداء حكمه في حوالي السنة الثلاثين بعد الميلاد، وانتهاء حكمه في حوالي السنة الخامسة والأربعين للميلاد1.
وأما "فلبي"، فقد وضع اسم "وتر يهأمن" بعد اسم "نشأكرب يهأمن يهرحب"، ثم وضع اسم "ياسر يهصدق" من بعده. وقال باحتمال كون "ياسر" ابنًا من أبناء "وتر"، ثم دون اسم "ذمر على يهبر" من بعد "ياسر" وهو ابن "ياسر", ثم دون اسم "ثارن يعب يهنعم" من بعده, ثم وضع اسم "ذمر على يهبر" بعد "ثارن" وعبر عنه بالثاني؛ ليميزه بذلك عن "ذمر على" المتقدم، ثم جعل اسم "ذمر على بين" من بعده2، وهو الملك الذي أتحدث عنه الآن، والذي جعله "ريكمنس" و"جامه" على رأس أسرة جديدة حكمت بعد زوال حكم أبناء "الشرح يحضب" على نحو ما ذكرت.
وسأسير في هذا الفصل في ترتيب حكام "سبأ وذي ريدان"، وفقًا للقائمة التي وضعها ورتبها "ريكمنس" مع مراعاة القائمة التي وضعها "جامه" والإشارة إلى القوائم الأخرى حسب الإمكان.
ولا نعرف من أمر "ذمر على بين" شيئًا يذكر. وقد ورد اسمه في نص وسم CIH 373، غير أنه لم يلقب فيه بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، على حين لقب ابنه به, فحمل هذا بعضهم على التريث في الحكم بأنه كان ملكًا3. وقد جعل "جامه" حكمه فيما بين السنة الثلاثين والسنة الخامسة والأربعين بعد الميلاد4.
وقد ورد في هذا النص المتقدم، أي: النص: CIH 373 اسم ابن من أبناء "ذمر على بين"، هو "كرب إيل وتر يهنعم"، وقد لقب فيه وفي نصوص أخرى بـ"ملك سبأ وذي ريدان"، ومدوّن النص: CIH 373 وصاحبه هو الملك "كرب إيل وتر يهنعم" أمر بتدوينه عند تقديمه نذرًا إلى الإله
__________
1 MAHRAM, P.390
2 BACKGROUND, P.140
3 MAHRAM, P.344
4 MAHRAM, P.390(4/126)
"المقه"؛ ليوفي له وليبارك عليه وعلى قصره "سلحن" "سلحين" "سلحان" وعلى مدينة "مريب" مأرب. وقد ذكر مع اسمه اسم ابن له هو "هلك إمر" "هلك أمر"1.
ووصل إلينا نقد ضرب عليه اسم "كرب إيل"، وأول من أشار إلى هذا النقد "بريدو" Prideaux الذي بين أن الـ"مونكرام" Monogram، أي الحروف المتشابكة المضروبة على النقد، تشير إلى نعت هذا الملك2. وقد بحث "موردتمن" كذلك في هذا الموضوع3.
وقد ذهب "ريكمنس" إلى أن "كرب إيل وتر يهنعم"، كان يعاصر الملك "العز" ملك حضرموت.
وللملك "كرب إيل وتر يهنعم" كتابة أخرى أمر هو نفسه بتدوينها، هي الكتابة التي وسمت بـREP. EPIG. 3895, وهي قصيرة ناقصة، سقطت منها كلمات عدة. وقد ورد فيها اسم ابن الملك، وهو "هلك إمر" "هلك أمر"، ولم يلقب "هلك أمر" فيه بـ"ملك سبأ وذي ريدان".
ويظهر من ورود اسم الملك "كرب إيل وتر يهنعم"، وحده في بعض النصوص ملقبًا بـ"ملك سبأ وذي ريدان" أن هذا الملك حكم وحده في بادئ الأمر، لم يشاركه أحد، ثم بدا له فأشرك ابنه "ذمر على ذرح" معه، وذلك في العهد الثاني، وهو العهد الأخير من حكمه؛ لورود اسم "ذمر على ذرح" من بعد اسم أبيه, منعوتًا بنعت الملوك.
ويلاحظ ورود اسم "هلك أمر" بن "كرب إيل وتر يهنعم" في كتابات الدور الأول من دوري حكم أبيه، إلا أنه لم يلقب فيها بـ"ملك سبأ وذي ريدان". أما كتابات الدور الثاني من أدوار حكم "كرب إيل"، فلا نجد فيها اسمه وإنما نجد فيها اسم شقيقه "ذمر على ذرح", وقد تلقب بـ"ملك سبأ وذي ريدان" دلالة على أنه كان يحكم مع أبيه حكمًا ملكيًّا مزدوجًا. وقد
__________
1 CIH 373, FRESNEL 54, GLASER 482, 483, OSIANDER, IN ZDMG., X, "1856", S. 67, DISCOVERIES, P.222, MAHRAM, P.344
2 HILL, P. IXVIII. PL., XI, I, 2, MULLER, BURGEN, II, S. 904
3 HILL, P.IXVIII, MORDTMANN, IN NUMIS. ZEIT., 1880, S. 308, D.H. MULLER, HOFMUS., S. 71(4/127)
يعني هذا وفاة "هلك أمر" في أيام حكم أبيه؛ ولهذا اختفى اسمه من الكتابات. وقد قدر "ألبرايت" F. P. Albright حكم "كرب إيل وتر يهنعم" وابنه "هلك أمر" في منتصف القرن الأول للميلاد1.
وقد وضع "فلبي" اسم "ذمر على ذرح" بعد "هلك أمر"، وهو شقيقه. وقد ذكر اسمه في النص الموسوم بـCIH 791، وقد كان حكمه بحسب تقدير "فلبي" فيما بين السنة "75ب. م." والسنة "95ب. م."2.
أما الكتابات التي ذكر فيها "ذمر على ذرح" مع أبيه فيها، فهي الكتابة: REP. EPIG. 4132 والكتابة:REP. EPIG. 4771 , والكتابة الأولى قصيرة أصيبت مواضع منها بتلف. ويلاحظ أن النص لم يذكر "ملك سبأ وذي ريدان" بعد اسم "كرب إيل وتر يهنعم" الذي سقط من الكتابة، ولم يبقَ منه إلا الحروف الأخيرة من نعته "يهنعم"3. وأما النصREP. EPIG. 4771، فقد أُهمل فيه لقب "كرب إيل" الذي هو "وتر يهنعم"، واكتُفِيَ بذكر اسمه الأول وحده وهو "كرب إيل"، ثم دونت بعده جملة "ملك سبأ وذي ريدان وذمر على ذرح ملك سبأ وذي ريدان"4. وهو من النصوص التي عثر عليها في مأرب5.
ولدينا عدد من الكتابات دون فيها اسم الملك "ذمر على ذرح"، منها الكتابة: CIH 143، والكتابة CIH 729، والكتابة CIH 791، والكتابة Jamme 644، والكتابة Jamme 878 والكتابة Geukens 12 والكتابة REP. EPIG. 4391. وبعض هذه الكتابات ليست من أيامه ولكنها من أيام ابنه "يهقم"، وقد ذكر فيها لأنه أبوه، كما أن بعضها مثل الكتابة: REP. EPIG. 4391 مؤلف من سطر واحد: "ذمر على ذرح، ملك سبأ وذي ريدان"6.
__________
1 DISCOVERIES, P.222
2 CIH 791, IV, III, I, P.177, REP. EPIG. 631, II, I, P.62, LOUVRE 5
3 راجع السطر الرابع من النص.
4 الفقرة الثانية من النص.
5 REP. EPIG. 4771, REP. EPIG., VII, III, P.357, ORIENS ANTIQUUS, III, 1964, P.70
6 GLASER 462, REP. EPIG. 4391, REP. EPIG., VII, II, P.221(4/128)
ويحدثنا النص: Jamme 644، عن عصيان قام به رجل اسمه "لحيعثت بن سم همسمع" "لحيعثت بن سمهسمع"، ومعه قبيلته قبيلة "شددم" "شدادم" "شداد"، ورجل آخر اسمه "رب أوم بن شمس" "رب أوام بن شمس" ورجال آخرون انضموا إليهما وأيدوا حركتهما. وقد ثاروا على سيدهم "يهقم" وهو ابن "الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان"، وهاجموا قصر "سلحن" "سلحين" "سلحان"، قصر الملوك ومقر الحكم في "سبأ وذي ريدان" ودخلوه، واعتصموا به؛ فهب رجل اسمه "أوس إل يضع" "أوس إيل يضع" "أوسئيل يضع"، وهو من قبيلة "غيمان" وكان قيلها أيضا, فهاجم الثوار, وتغلب عليهم وطردهم من القصر، ويظهر أنه أخذهم غرة، فصان بذلك القصر من الأذى، وهربوا من مأرب، وحمد "أوسئيل" ربه "المقه" إذ وفقه وساعده في انتصاره على الثوار، وقدم إليه تمثالًا من ذهب تعبيرًا عن شكره وحمده له1.
ويحدثنا صاحب النص المذكور، وهو "أوس إيل يضع"، بأن العصاة هربوا من مأرب، وتحصنوا في مواضع أخرى، واستمروا في عصيانهم هذا، فأمر عندئذٍ "يهقم" بعض عشائر "غيمان" أن تهاجم أرض "شددم" "شداد" من مدينة "صنعاء" "صنعو" وتقضي على "لحيعثت بن سمهسمع"، فهاجم جنود "غيمان" العصاة في موضع "كومنن" "كومنان"، وتغلبوا عليهم واستنقذوا منهم خيلًا وإبلًا ودوابَّ أخرى، وأخذوا منهم غنائم وأسرى وحراس الأسرى الذين كانوا قد وضعوهم في "كومنن", وسر قيلهم كثيرًا أن أرضى بذلك قلب سيده "يهقم" وأخذ منهم بثأره2.
وقامت جماعة أخرى من محاربي غيمان بتعقب ثلاثمائة مقاتل من العصاة كانوا قد فروا من مأرب، وكانوا قد ساعدوا رئيس العصابة في هجومه على قصر "سلحن". وقد لحقت بهم وأعملت السيف فيهم، ثم عادت بعد أن أفنتهم. وقد غنم الغيمانيون من المعركتين ستمائة رأس من الماشية وأربعة أفراس3.
ولا نجد في هذا النص إشارة ما، لا إلى الملك "ذمر على"، ولا إلى
__________
1 JAMME 644, MAMB 274, MAHRAM, PP.145
2 الفقرة 15 فما بعدها.
3 الفقرة 21 فما بعدها.(4/129)
موضع وجوده في ذلك العهد. ويظهر أنه كان خارج "مأرب"، وإلا لما أغفل النص الإشارة إليه, أما ابنه فقد كان في مأرب على ما يظهر منه. ويلاحظ أن النص قد ذكر لفظة "مراهموا" أي سيده قبل اسم "يهقم"، ويعود الضمير إلى صاحب الكتابة، أي "سيد صاحب الكتابة"، ولكنه لم يذكر بعد اسم "يهقم" جملة "ملك سبأ وذي ريدان"، دلالة على أنه لم يكن ملكًا إذ ذاك، وأن صاحب الكتابة كان يعترف بسيادته عليه.
وفي النص: Jamme 878، نبأ معارك جرت في أيام "يهقم" كذلك، غير أن النص أصيبت مواضع منه بالتلف، أفسد علينا المعنى، كما أن فيه غموضًا وإيجازًا يصعب معه استخراج شيء مهم منه عن تلك المعارك التي خاضها أصحاب النص مع "يهقم" الذي كتب اسمه على هذه الصورة "يها.."؛ لوجود تلف في بقية الاسم وتلف آخر في أول السطر الجديد يليه اسم " ... مر على ذرح"، مما يدل على أن المراد "يهقم" المذكور، وأنه هو الذي تولى قتال المخالفين.
ووضع "جامه" اسم "كرب إيل بين" "كربئيل بين" بعد اسم "ذمر على ذرح"، وهو ابن "ذمر على ذرح", وجعل حكمه فيما بين السنة الثمانين والسنة الخامسة والتسعين بعد الميلاد1.
وتعود الكتابة: Jamme 642 إلى أيام هذا الملك، وقد دونها شخص اسمه "حربم ينهب" "حرب ينهب" من عشيرة "هللم" "هلال" "هلل"، عند شفائه من مرض "بن مرض"، ألم به ولزمه حتى قدم مأربًا، فعُوفِيَ من مرضه هذا في شهر "ذي ال الت" "ذي الالت" "الئيلت" "الئيلوت". وقد حمد "حرب" ربه وشكره على أن من عليه بالشفاء، وقدم إليه نذرًا: صنمًا "صلمن" تعبيرًا عن هذا الشكر، وليبارك فيه وفي سيده "مرأهم"، "كرب إيل بين ملك سبأ وذي ريدان، ابن ذمر على ذرج, وليديم الإله نعمه عليه ويرزقه أولادًا ذكورًا"2. ويلاحظ أن النص لم يدون جملة "ملك سبأ وذي ريدان" بعد اسم "ذمر على ذرح" على حسب القاعدة المتبعة في تدوين أسماء الملوك.
__________
1 MAHRAM, P.390
2 JAMME 642, MAMB 260, MAHRAM, P.141(4/130)
والنصان: Jamme 643 وJamme 643 Bis، يكمل أحدهما الآخر؛ فالنص الثاني هو تتمة وتكملة للنص الأول, وهما على جانب كبير من الأهمية عند المؤرخ؛ لورود أخبار تأريخية فيهما، لم ترد أية إشارة إليها في نصوص أخرى. وصاحباهما رجلان من عشيرة "جرت" "جرة"، وهي عشيرة معروفة مر بنا اسمها مرارًا، وكان منها أقيال عشيرة "سمهرم" "سمهر"، وصاحبا النصين هما من أقيال "سمهرم"، اسم أحدهما "نشأكرب" واسم الآخر "ثوبن" "ثوبان". وقد دونا في النصين أخبار معارك خاضاها، وكانا قائدين فيها من قواد جيش "كرب إيل بين" "ملك سبأ وذي ريدان"، وقد أمرهما الملك بقيادة كتائب من جيشه وكذلك فرسانه لمحاربة ملك حضرموت ومن عصى أمره فثار عليه، أو من انضم إلى ملك حضرموت من عشائر وحضر.
ويظهر من مقدمة هذا النص أن العلاقات لم تكن حسنة بين "ملك سبأ وذي ريدان" وملك حضرموت، وأن مناوشات ومعارك كانت قد وقعت بين حكومة سبأ وحكومة حضرموت؛ مناوشات أتعبت الطرفين على ما يظهر حتى اضطرا في الآخر إلى عقد صلح بينهما، وأخذا الأيمان على أنفسهما بوجوب المحافظة على ما اتفقا عليه. وقد وافق ملك حضرموت وهو "يدع إيل" فضلًا عن ذلك على أن يكون في جانب ملك "مأرب" وأن يحافظ على حسن الجوار، وأن يضع تحت تصرف الملك "يدع إيل بين" قوة من حرس "يعكرن" "يعكران", وهو ملك آخر من ملوك حضرموت, يوجهها حيث يشاء تكون عنده في مأرب.
غير أن هذا الاتفاق لم يدم طويلًا، فسرعان ما نكث ملك حضرموت بعهده كما يقول النص، وخالف وعده، بحجة أن "كرب إيل بين" أرسل قوة من
محاربي "سمهرم" "سمهر"، وضعها تحت قيادة "نشأكرب" إلى "حنن" "حنان"، وهي مدينة لا تبعد كثيرًا عن "مأرب"، فخالف بذلك ما اتفق عليه، وأحل نفسه بذلك من تنفيذ ما اتفق عليه, وزحف على بعض المواضع ليهدد باستيلائه عليها الملك.
وكان الملك "كرب إيل بين" قد أمر قائده "نشأكرب" بأن يذهب بثلاثمائة محارب من أهل "سمهرم" إلى مدينة "حنن" "حنان"، فلما وصل بهم إليها، اعترضه ملك حضرموت ومنعه من الدخول إليها؛ لكي يقوم فيها(4/131)
بتنفيذ أوامر ملكه التي كلفه تنفيذها، وهي تتعلق ببناء مواضع لتعزيز الأمن في هذه المدينة. وقد عرض "نشأكرب" على الملك "يدع إيل" ملك حضرموت الأمر الملكي الذي يأمره فيه بتنفيذ ما كلفوه إياه، فرفض قبوله، وطلب منه أن يعود برجاله إلى مأرب، فاستاء ملك سبأ، وهاج على ملك حضرموت.
ويظهر أن "يدع إيل" ملك حضرموت كان يريد إبقاء منطقة "حنن" "حنان" بدون حراسة ولا قوات تحميها ليفرض سلطانه عليها. وقد استغل ضعف "سبأ وذي ريدان" في هذا الوقت فأراد التدخل في شئونها، وحل نفسه مع جنوده في مدينة "حنن" "حنان" مع أنها مدينة سبئية تابعة لملك "سبأ وذي ريدان", وكان قد صمم أيضا على إخضاع القسم الجنوبي الشرقي من سبأ لحكمه؛ فارتاع "ملك سبأ وذي ريدان"، وشعر بالخطر الذي سيتهدد مملكته لو تساهل في ذلك، وسمح لملك حضرموت بأن يتصرف في الأمور كيف يشاء فأمر قائده بالذهاب إلى تلك المدينة لتحصينها وإبعاد الحضارمة منها، فلما وصل إليها، صادف وجود ملك حضرموت فيها، وأدرك ملك حضرموت سبب قدوم هذا القائد على رأس هذه القوة، فمنعه من تنفيذ ما كلف إياه، لئلا يتعزز حكم سبأ في هذه المدينة السبئية، وتصرف "يدع إيل" وكأنه ملك سبأ، لا ملك حضرموت ولا ملك آخر غيره هناك. فصرف "نشأكرب" ومن كان معه، ولم يعبأ بأمر ملك "سبأ وذي ريدان" الذي عرض عليه. ثم توجه إلى أرض معين ليهدد سبأ ويفاجئها بحرب.
اتجه نحو مدينة "يثل" أولًا، وهي من مدن معين المهمة القديمة, فلما وصل إلى أبوابها، فتحت له ولجنوده واستقر بها مدة. ثم اتجه منها نحو مدينتي "نشقم" "نشق" و"نشن" "نشان"، وهما من مدن "معين" القديمة المهمة كذلك، فحاصرهما وأخذ يهاجم مواضع التحصين والدفاع فيهما. فقرر ملك "سبأ وذي ريدان" الإسراع بإرسال نجدات إليهما تمكنهما من مقاومة الحضارمة ومن الصمود أمامهم, أمر بوضعها تحت قيادة "نشأكرب" و"سمه يفع" "سمهو يفع" "سمهيفع" وهو من "بتع", وقد تألفت من كتائب محاربة ومن فرسان. ولما جاء خبر وصول المدد إلى المدينتين، أبلغه به "منذر" أي أحد الذين كانوا يسترقون الأنباء ويبعثون بها إلى الحكومات التي أرسلتهم للتجسس على خصومهم، أسرع فترك حصار المدينتين، وعاد إلى "يثل" ليتحصن بها.(4/132)
وقرر الملك "كرب إيل بين" مهاجمة خصمه بنفسه، فسار على رأس قوة من جيشه من عاصمته "مأرب" واتجه نحو "يثل"، وأمر قائديه بالزحف مع قواتهما نحو "يثل" أيضا. وهكذا هاجم "ملك سبأ وذي ريدان" مدينة "يثل" من ناحيتين؛ لتطويق "يدع إيل" فيها, وقد سار القائدان من مدينة "نشق"، فلما بلغا "يثل"، وكان ملكهما قد وصل إليها كذلك، هاجمت قوات "سبأ وذي ريدان" قوات حضرموت فهزموها، واضطر ملك "حضرموت" إلى ترك "يثل" والاتجاه منها نحو "حنن" "حنان". وكان هذا الملك قد حاول قبل ارتحاله نحو "يثل" نهب "المعبد" الحرام "محرمن" وأخذ ما فيه، غير أن قوات القائدين المذكورين الزاحفة من "نشق" أدركته، فخاف من الالتحام بها، وفر نحو "يثل"، وبذلك أنقذ المعبد الحرام من النهب1. ويرى "جامه" أن ذلك المعبد هو المعبد المعروف بـ "محرم بلقيس" بين الناس في هذا العهد2.
ويكمل النص الثاني، وهو النص Jamme 643 Bis، آخر خبر ورد في النص الأول، فيقول: إن قوات إضافية وصلت من مأرب، إلى الملك وقائديه، وعندئذ اتخذت هذه القوات خطة المهاجمة، فهاجمت ملك حضرموت وجيش حضرموت، وأنزلت به خسائر فادحة، فتكت بألفي جندي من جنود حضرموت، واستولى السبئيون على كل ما كان عند الحضارمة من خيل وجمال وحمير ومن كل حيوان جارح "جرح" كان عند ملك حضرموت، وبذلك ختم هذا النص, بالنص على انتصار "سبأ وذي ريدان" على ملك حضرموت3.
ونحن لا نعلم ماذا جرى بعد هذا النصر الذي أحرزه السبئيون على حضرموت؛ إذ ليست لدينا نصوص تتحدث عن ذلك. ولكننا نستطيع أن نقول: إننا تعودنا قراءة أخبار أمثال هذه الانتصارات ثم تعودنا أن نقرأ بعد ذلك أن المهزوم يعود فيحارب المنتصر الهازم، وأن المعارك لم تكن تنتهي حتى تبدأ بعد ذلك معارك انتقامية جديدة أخذًا للثأر. لقد صارت العربية الجنوبية ويا للأسف وكأنها ساحة
__________
1 الفقرة: 28 فما بعدها.
2 Mahram, P.348
3 الفقرة الواحدة حتى الفقرة "10" من النص.
Jamme 643 Bis, Mamb 316, Mahram, PP.144(4/133)
لعب، لا تخلو من اللعب إلا لفترات الراحة والاستجمام.
هذا، ونحن لا نعرف شيئًا يذكر عن الملك "يعكرن" "يعكران" ملك حضرموت الثاني الذي ورد اسمه في النصين المتقدمين، إذ لم يرد اسمه في نصوص أخرى، ولا أمل لنا إلا في المستقبل، فقد يعثر على كتابات جديدة يرد فيها اسم هذا الملك.
وقد قدر "جامه" حكم الملك "يهقم" والملك "كرب إيل بين" فيما بين السنة "80" والسنة "95" بعد الميلاد. وفي هذا الزمن كان أيضًا حكم ملكي حضرموت "يدع إيل" و"يعكرن" "يعكران".
وقد ترك "ريكمنس" فراغًا بعد اسمي "هلك أمر" و"ذمر على ذرح" إشارة إلى فجوة لا يدري من حكم فيها، ثم دون بعده اسم "وتر يهأمن"، ثم ترك فراغًا دوَّن بعده اسم "شمدر يهنعم"، ثم عاد فترك فراغًا ثالثًا دون بعده اسم "الشر يحمل"، ثم ترك فراغًا ذكر بعده "عمدان بين يهقبض"، ثم فراغًا خامسًا دون بعده اسم "لعز نوفان يهصدق"، ختمه بفراغ سادس دون بعده اسم "ياسر يهصدق"1.
ووضع "فلبي" اسم "ياسر يهصدق" "يسر يهصدق" بعد "وترم يهأمن", وجعل مبدأ حكمه حوالي سنة "60ق. م."، وذكر أن من المحتمل أن يكون "وترم" "وتر" هو والده2. وقد ورد اسمه في النص: CIH 41، وهو نص دونه جماعة من أقيال قبيلة "مهانفم"3، عند بنائهم بيتهم "مهورن" "مهور" و"يسر" و"مزودًا" اسمه "حرور"4، وقد وردت فيه أسماء الآلهة: "عثتر شرقن" أي "عثتر الشارق", و"عثتر ذ جفتم بعل علم"، و"شرفن"، و"ذات حميم" "بعلى محرمن ريدان" أي: ربّا "حرم ريدان"، و"الهموبشر"، أي إلههم "بشر". ودون بعد أسماء الآلهة اسم الملك "ياسر يهصدق ملك سبأ وذي ريدان"، ولم يذكر
__________
1 J. RYCKMANS, L'INSTITUTION, P.338
2 BACKGROUND, P.142, ORIENS ANTIQUUS, III, 1964, P.80
3 "أقول شعبن مهانف".
4 "مزود همو حرور".(4/134)
اسم والد "ياسر" في هذا النص1. والكتابة المذكورة من "ضاف" بـ"قاع جهران" شمال "ذمار", و"قاع جهران" هو "مهانفم" في كتابات المسند2.
ويعد النص المذكور من أقدم النصوص الحميرية التي وصلت إلينا. ويرى "فون وزمن"، أنه أول نص يصل إلينا لقب فيه ملك من ملوك حمير بلقب "ملك سبأ وذو ريدان"3. ومعنى هذا أن ملوك حمير كانوا قد نافسوا الأسرة السبئية الشرعية ونازعوها على العرش، وتلقبوا بهذا اللقب الذي هو من ألقاب ملوك سبأ الشرعيين.
وأرض "مهأنف" "مهانفم" هي "قاع جهران"، ومعنى ذلك أن هذه الأرض كانت تابعة لهذا الملك في ذلك العهد4.
ويعد "ياسر يهصدق" "يسر يهصدق" من حمير، ومعنى هذا أن حمير التي نازعت الأسرة القديمة لسبأ عرشها لقب حكامها أنفسهم باللقب الرسمي الذي يتلقب به ملوك "سبأ" الأصليون، تعبيرًا عن إثبات حقهم في الملك. وقد حكم "ياسر" -على رأي "فون وزمن"- في حوالي السنة "75م" أو "80م". وكان يقيم في "ظفار"، في حصن "ريدان". ويرى "فون وزمن" أنه في خلال المدة التي انصرمت بين حملة "أوليوس غالوس" وبين حكم "ياسر يهصدق"، لم يصل إلينا أي نص من نصوص المسند5.
وجعل "جامه" حكم "ياسر يهصدق" بين السنة "200" والسنة "205" بعد الميلاد6.
وقد وضع "فون وزمن" اسم "الشرح" بعد اسم "ياسر يهصدق"، وجعل أيامه في حوالي السنة "90" بعد الميلاد. وقد ذكر أنه من حمير وإلى أيامه تعود الكتابة المرقمة بـ7CIH 140.
__________
1 CIH 41, IV, I, I, P.67, LANGER 2, RHODOKANAKIS, KTB, II, S. 64, SIEGFRIED LANGER'S REISEBERICHTE AUS SYRIEN UND ARABIEN, S. XXXIV, "1866", 34-43,
ZDMG., "1883", S. 352
2 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.448
3 LE MUSEON, 1964, 3-4, PP.448
4 LE MUSEON, 1964, 3-4, PP.448
5 LE MUSEON, 1964, 3-4, PP.450, 495
6 MAHRAM, P.392
7 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498(4/135)
وعرف ولد من أولاد "ياسر" اسمه "ذمر على يهبر"، وقد ذكر في النص1 CIH 365. وقد عثر على بعض النقود ضرب عليها اسم صاحبها، وهو "يهبر"، فلعله هذا الملك2.
وذكر اسم الملك "ذمر على يهبر" واسم أبيه "ياسر يهصدق" في الكتابة المذكورة، وقد جاء فيها: أن هذا الملك قاتل رجلًا من "بني حزفرم" "بني حزفر" "آل حزفر", و"آل حزفر" هم عشيرة من "ذي خليل" وهي عشيرة قديمة شهيرة، أخرجت جملة "مكرب" "مكارب" و"ملوك". ويرى "فون وزمن" أن هذه الحرب كانت ضد الأسرة السبئية المالكة المتوارثة للعرش من عهد قديم، وأن هذا الملك الذي هو من "حمير" استولى على حصن "ذت مخطرن" "ذات مخطران" "ذات المخاطر"، واستولى على "مأرب" عاصمة سبأ في هذه الحرب3.
ومعنى هذا أن حمير استولت على سبأ وحكمتها، فصارت مأرب خاضعة لها. وقد دام خضوع سبأ لحمير إلى أيام "ثأرن يعب" وهو ابن "ذمر على يهبر" "ذمر على يهبأر"، إذ نجد على مأرب ملكًا، هو الملك "ذمر على ذرح", وقد قدر "فون وزمن" زمان استيلاء حمير على مأرب بحوالي عشر سنين4.
وورد اسم "ذمر على يهبر" واسم أبيه "ياسر يهصدق" في الكتابة:REP. EPIG. 310، والآمر بكتابتها هو "تبع كرب" "تبعكرب" من آل "حزفرم" "حزفر"، وقد قدم إلى الإله "المقه" نذرًا يتألف من أوثان لتوضع في معبد هذا الإله "المقه" ولحمايته ولخير أرضه وحصنه. ويظهر أن أملاكه كانت في منطقة "رحب" "رحاب"5.
__________
1 CIH 365, GLASER 612, LUPARENSIS 4105, CIH, IV, II, I, P.6. FF, O. WEBER STUDIEN ZUR SUDARABISCHEN ALTERTUMSKUNDE, "1907", S., 36, REP. EPIG., 310, I, V, P.255, LE MUSEON, LXI, 3-4, "1948", P.232, ORIENS ANTIQUUS, III, 1964, P.80
2 HANDBUCH., S. 94
3 CIH 365 = GLASER 612, M. HOFNER, DIE INSCHRIFTEN AUS GLASER TAGEBUCH XI, WIENER ZLITSCHRIFT FUR DIE KUNDE DES MORGENLANDES 45, 1938, S. 19-21,
LE MUSEON, 1964, 3-4, P.459
4 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498
5 REP. EPIG., I, V, P.255(4/136)
وقد قام "ذمر على يهبر" ومعه ابنه "ثارن يعب يهنعم" الذي أشركه أبوه معه في الحكم، بإعادة بناء سد "ذمر" "ذامر" "ذو أمر" "ذمار" في منطقة "أبين"؛ وذلك لتهدم السد القديم الذي كان يمد أهل مأرب بالماء, فأعادا بذلك الحياة لمساحة واسعة من أرضين موات. وقد قام بهذا العمل عمال من شعب "سبأ" ومن "ذو عذهبن" "ذي عذهب"1، وقدما في ذلك قرابين إلى آلهتهما: "عثتر" و"سحر" نحراها في معبد "نفقن" "نفقان"2.
وذكر "ذمر على يهبر" مع ابنه "ثارن" في الكتابة المرقمة بـREP. EPIG. 4708، وقد كتبت على تمثال من البرونز محفوظ الآن في متحف "صنعاء"، وذكرت فيها أسماء أصحابها، وهم قوم من "آل ذرنح"، وورد فيها اسم معبد "صنع" "صنعو"، ولعله "صنعاء"3.
وقد ورد اسم "ثارن يعب يهنعم" في الكتابة الموسومة بـREP. EPIG. 4909، وهي كتابة سجلها رجلان من أشراف حمير، أوفدهما ملكهما "ثارن يعب" إلى الملك "العذ يلط" "العز يلط" ملك حضرموت، لتهنئته باعتلاء العرش وتلقبه باللقب الملوكي في حصن "أنودم" "أنود"4, ويرى بعض الباحثين أن ذلك كان في حوالي السنة "200ب. م."5. أما "فلبي" فجعل زمانه في حوالي السنة "20ق. م."6. ومعنى هذا أن زمان حكمه كان بعد حملة "أوليوس غالوس" بقليل, وهو تقدير لا يقره عليه أكثر علماء العربيات الجنوبية.
وأما "جامه"، فقد جعل زمان حكمه بين السنة "265" والسنة "275" بعد الميلاد، وجعله معاصرًا للملك "العذ يلط" بن "عم ذخر" "العذ يلط
__________
1 REP. EPIG. 4775, REP. EPIG., VII, III, P.360, GLASER, 551, M. HOFNER, DIE INSCHRIFTEN AUS GLASERS TAGEBUCH XI, "CIT. NOTE 71", S. 15 A. GROHMANN, REALEN. D. CLASS. ALTER., XIV, 2, S. 1739, LE MUSEON, 1964, 3-4, P.459
2 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.459
3 REP. EPIG. 4708, VII, III, P.330, ORIENS ANTIQUUS, III, 1964, P.80
4 SHEBA'S DAUGHTERS, P.449, REP. EPIG. 4909, VII, III, P.414
5 BEITRAGE, S. 133, 144
6 BACKGROUND, P.142(4/137)
ابن عمذخر" ملك حضرموت1. وقد جعله "فون وزمن" معاصرًا للملك "نشأكرب يهأمن يهرجب" "نشأكرب يهأمن يهرحب"، الذي حكم على رأيه في حوالي سنة "230ب. م." إلى "240ب. م."2.
وقد ذكر مع ابنه في الكتابة المعروفة بـREP. EPIG. 3441، وهي تخص أعمالًا عمرانية أمر بها "ذمر على" وابنه "ثارن" تتعلق بسد "ذو أمر" "ذمر" "ذمار"3.
وورد اسم "ثارن يعب" في النص: CIH 457، وقد ذكر معه اسم أبيه "ذمر على يهبر"، وقد دونه جماعة من "بني ذي سحر" عند تقديمهم إلى الآلهة أوثانًا؛ لحماية سيديهم الملكين "ذمر على يهبر" وابنه "ثارن يعب"، ولحماية أملاكهم ورعايتهم. وقد ذكرت في الكتابة أسماء الآلهة التي توسل إليها أصحابها ورجوا منها الحماية والرعاية، وهي: "عثتر" و"سحر بعلى نفقن" و"هبس" و"المقه" و"ذات حميم" و"ذات بعدان" و"شمس"4.
وورد اسم "ثارن يعب" في نهاية النص: CIH 569، وهو نص قصير مؤلف من ثلاثة أسطر5.
وقد خلف "ثارن يعب" على عرش سبأ ابنه الملك "ذمر على يهبر"، الذي يمكن أن نطلق عليه "ذمر على يهبر الثاني"؛ تمييزًا له عن جده. وقد وجد اسمه في نص أرخ بشهر "ذو نسور" "ذ نسور"، وقد سقط اسم السنة التي أرخ بها من النص6.
وقد وضع "فون وزمن" اسم "شمر يهرعش" من بعده، ودعاه بـ"الأول" تمييزا له عن "شمر يهرعش" الآخر الذي ولي الحكم بعده بأمد طويل. وقد جعل "فون وزمن" "شمر يهرعش الأول" معاصرًا لـ"أنمار يهأمن"
__________
1 MAHRAM, P.392, LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498
2 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498
3 REP. EPIG. 3441, VI, I, 158, RHODOKANAKIS, KTB., II, S. 77
4 CIH 457, O. M. 304, CIH., VI, II, II, P.158
5 CIH 569, BENEYTON 4, GLASER 807, 1044, CIH, VI, II, IV, P.353, LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498
6 REP. EPIG., VII, I, P.15, REP. EPIG. 3960, S. E. 103, ORIENS ANTIQUUS, 1964, P.80(4/138)
ولـ"كرب إيل وتر يهنعم" من "بني بتع"، من قبيلة "سمعي". وقد كان حكمه في حوالي السنة "140" بعد الميلاد1.
أما "ريكمنس"، فقد دون اسم "ذمر على يهبأر" بعد "ياسر يهصدق" ونعته بـ"الأول" ثم دون اسم "ثارن يعب يهنعم" من بعده، ثم ترك فراغًا وضع اسم "ذمر على يهبأر" بعده، ونعته بـ"الثاني" ليميزه عن الأول، ثم ترك فراغًا ذكر بعده اسم "رب شمس نمران"، ثم وضع فراغًا آخر، ذكر بعده ملكًا سماه "الشرح يحضب" "الشرح يحب"، ثم ذكر بعده ملكين أحدهما اسمه: "سعد شمس أسرو"، والآخر اسمه مكسور لم يبقَ منه إلا ثلاثة أحرف، هي "حمد"، ثم دون فراغًا بعد هذين الاسمين، وختمه بذكر اسم "ياسر يهنعم"، ثم اسم "شمسر يهرعش" وهو ابنه من بعده، وقد كان معاصرًا للملك "شرح إيل" ملك حضرموت. وبـ"شمر يهرعش" أنهى "ريكمنس" قائمته لملوك "سبأ وذي ريدان"2.
أما "فلبي"، فقد وضع اسم "ذمر على بين" بعد اسم "ذكر على يهبر" الثاني. وقد وضع علامة استفهام أمامه دلالة على أنه غير متأكد من اسم أبيه, وربما كان ابن أخي "ذمر على يهبر الثاني", وزعم أنه حكم حوالي سنة عشرين بعد الميلاد3.
ووضع "فلبي" اسم "كرب ال يهنعم" "كرب إيل وتر يهنعم" بعد اسم "ذمر على بين"، ثم اسم "هلك إمر" "هلك أمر" من بعده، ثم "ذمر على ذرح"، وقد سبق أن تكلمت عنهم، إذ قدمتهم وفقًا لقائمة "ريكمنس".
ووضع "فلبي" اسم "يدع ال وتر" بعد "ذمر على ذرح" أبيه. وقد جعل حكمه من حوالي السنة 95 حتى السنة "115ب. م"4.
ويظن "فلبي" أن "يدع ال وتر"، هو الشخص المسمى بهذا الاسم في النص: CIH 7715, ويحتمل في نظره أن يكون ابنه6.
__________
1 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498
2 J. RYCKMANS, L'INSTIUTION, P.338
3 BACKGROUND, P.142
4 BACKGROUND, P.142
5 CIH 771, CIH, IV, III, I, P.167, HALEVY 640, 642, HANDBUCH, S. 94
6 BACKGROUND, P.105(4/139)
وذكر "فلبي" أنه منذ السنة "115" إلى السنة "245ب. م"، حكم عرش "سبأ وذي ريدان" ملوك من أسرة "بني بتع" من "حاشد"، و"حاشد" قبيلة من "همدان". وقد بلغ عددهم اثني عشر ملكًا، جمعهم في ست مجموعات، ولم يضع أمام كل ملك زمان حكمه كما فعل في قائمته للملوك الذين حكموا قبلهم؛ ذلك لأنه -كما بين هو نفسه- غير واثق من معرفة زمان حكمهم ولا من ترتيب المجموعات, وإنما رتبهم على ما أداه إليه اجتهاده، لا غير1.
ومن هؤلاء الملوك، الملك "شمدر يهنعم" "شمدار يهنعم"، وقد عرف اسمه من نقود عثر عليها, ضربت في مدينة "ريدان"2، وهي مما بعد الميلاد، ولا نعرف من أمره شيئا آخر.
ووضع "فلبي" بعد الملك المذكور اسم "عمدن بين يهقبض" "عمدان بيّن يهقبض"، وقد ورد اسمه في النص الموسوم بـ3Glaser 567, كما وجد مضروبًا على نقد ضُرِبَ في مدينة "ريدان", وقد صور رأسه على النقد، فبدا وجهه حليقًا، وضفائر رأسه متدلية على رقبته. وأول من وجه أنظار الباحثين إلى هذا النقد، "موردتمن" Mordtmann، و"بريدو"4 Prideux.
ووجد اسم "عمدان بين يهقبض" في نص عثر عليه في "حرم بلقيس"، وقد لقب بـ"ملك سبأ وذي ريدان". وهو نص ناقص، ذكر فيه اسم الإله "عثتر"5.
ووضع "فلبي" بعد الملكين المذكورين اللذين كونا المجموعة الأولى، "نشأكرب يزن" "نشأكرب يأزن" ثم "وهب عثت يفد"6. وهما يكوِّنان
__________
1 BACKGROUND, P.142
2 BACKGROUND, P.142, HANDBUCH, S. 95
3 HANDBUCH, S. 94, SAB. INSCHR., S. 9, REP. EPIG. 3433, REP. EPIG., VI, I, P.155, GLASER, ABESSI., S. 32, ANM. I, RHODOKANAKIS, KTP., II, S. 66, LE MUSEON, 1967, 1-2, P.298
4 HILL, P.IXIX, JASB, 1881, P.99 PLATE, X, 3, 4, 5.
5 العظم,
AL-'AZAM 5, 0, LE MUSEON. LV, 1-4, "1942" P.128, REP. EPIG. 5099, LE MUSEON. 1967, 1-2, P.298.
6 "وهب عثت".(4/140)
المجموعة الثانية من المجموعات الست التي تصور أنها حكمت في المدة المذكورة1. وقد ورد اسماهما في النص:2 CIH 336، ولم يلقبا بـ"ملك سبأ وذي ريدان", ولم أجد في هذا النص إشارة ما, يمكن أن يستدل بها على أنها ملكان. ولم يذكر "هومل" اسميهما مع من ذكر من الملوك الذين حكموا بعد "الشرح يحضب" والذين رتب أسماء من عثر عليهم بحسب حروف الهجاء، ويبلغ عددهم، في رأيه، زهاء عشرين ملكًا3.
وذكر "فلبي" أن والد الملكين المذكورين هو "تصح بن يهزحم"4.
ودون "فلبي" اسمي ملكين آخرين بعد الملكين المتقدمين، أحدهما "هوتر عثت يشف"، والآخر "كرب عثت يهقبل"5.
وانتقل بعد ذلك إلى مجموعة أخرى تضمنت اسمي ملكين أيضا، هما "نشأكرب أوتر"، و"شهر أيمن"6. وقد ورد اسم "نشأكرب أوتر" في النص الموسوم: Om II, 2، غير أنه لم يلقب فيه بملك، وقد رجح "هومل" كونه ملكًا؛ للقبه الذي هو من نوع الألقاب التي يستعملها الملوك7.
ودون "فلبي" اسم "رب شمس نمران" "ربشمس نمران"، بعد "شهر أيمن". وذكر أنه مذكور في النص الموسوم بـ8 REP. EPIG. 3621، وهو نص عثر عليه في "مأرب"، ووجد اسمه في نصوص أخرى عثر عليها في "حاز" معقل "همدان" ومقر "رب شمس". وقد استدل "فلبي" من وجود النص المذكور في "مأرب" على بلوغ سلطانه وسلطان قومه "آل بتع" هذا المكان9.
وأما غير "فلبي" مثل "ريكمنس" و"جامه"، فقد قدموا -كما رأينا-
__________
1 BACKGROUND, P.142
2 CIH 336, IV, I, IV, P.385
3 HANDBUCH, S. 94-95
4 BACKGROUND, P.142
5 BACKGROUND, P.142
6 BACKGROUND, P.142
7 HANDBUCH, S. 94
8 REP. EPIG. 3621, REP. EPIG., VI, I, P.244
9 BACKGROUND, P.142(4/141)
مكان الملك "رب شمس نمران" "ربشمس نمران" في القوائم التي رتبوها لملوك "سبأ وذي ريدان". وقد جعل "جامه" زمان حكمه بين السنة "120" والسنة "140" بعد الميلاد1.
وجعل "فون وزمن" زمان حكم الملك "ربشمس نمران" فيما بين السنة "160" والسنة "170" أو "180" بعد الميلاد, وجعله من المعاصرين للملك "يدع أب غيلان" ملك حضرموت, وممن أدرك أيام حكم "علهان نهفان" ملك همدان2.
وورد اسم "رب شمس نمران" في النص: REP. EPIG. 4138, وهو نص مهم وردت فيه أخبار حروب وغزوات قام بها "عبد عثتر" وأخوه "سعد ثون" ابنا "جدنم" "جدن" أو من آل "جدن"، بأمر من سيدهم "رب شمس نمران ملك سبأ وذي ريدان". فلما عادا إلى مواطنهما سالمين، دوَّنا شكرهما وحمدهما للإله "المقه" الذي من عليهما بالعافية وحفظهما وأعادهما بصحة جيدة، وأنقذهما "المقه بعل حروان" من الوباء الذي عَمَّ كل الأرض، وبارك عليهما في مدينة "نعض"، إذ أنعم عليهما سيدهما "رب شمس نمران". وقد دعيا في هذه الكتابة لـ"المقه ثهوان" و"ثور بعلم بعل حروان" بأن يبارك عليهما ويحفظها ويمن عليهما بالعافية وبأولاد ذكور، وبثمار كثيرة وجني جيد، وذلك بحق الآلهة: "عثتر وهوبس والمقه وذات حميم وذات بعدان وشمس"3.
ويظهر من هذا النص أن وباء كان قد عم البلاد في عهد هذا الملك فأهلك خلقًا كثيرًا, وقد حمدا الآلهة التي جعلتهما من الناجين, ويظهر أنهما كانا من قواد جيش هذا الملك الذي كلفهما غزو أعدائه ومحاربتهم. وورد في النص اسم قبيلة "جرش"، ولعل لاسم "جرش" -وهو اسم موضع في اليمن- علاقة باسم هذه القبيلة4.
__________
1 MAHRAM, P.392, LE MUSEON, 1967, 1-2, P.294, H. VON WISSMANN, HIMJAR., S. 458, 496, ZUR GESCHICHTE, S. 322, 326, 392
2 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498
3 REP. EPIG., 4138, REP. EPIG., VII, I, P.96, VA 3820, 3843, ORIENTS ANTIQUUS, III, P.70
4 الصفة "45، 51، 70، 115، 117، 118، 119، 121، 123، 125، 186، 243"، منتخبات "ص19، 20".(4/142)
ويظهر أن الوباء الذي أشار إليه "عبد عثتر" هو الوباء الذي أشير إليه في النص الموسوم بـJamme 645, وصاحبه رجل اسمه "وهب إيل" من "يهعن" "يهعان" ومن "قرضنن" "قرضان". وقد دون هذا الرجل نصه حمدًا للإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"، وشكرًا له على نعمه عليه بأن حفظه وسلمه وصانه من الوباء "بن خوم" والطاعون "وعوس" ومن الموت "موتت" الذي عم البلاد، وذلك في سنة "حيم" "حي" "حيي" "حيوم" "حيو" بن "أبكرب" "أبي كرب" من "كبر خلل ثكمتن" كبراء "خليل ثكمتان". فصانه وحفظه
من هذا الوباء العام الذي انتشر في الأرض "وموتت كون بارضن"، فأهلك خلقًا من الناس, وليمن عليه ويبارك فيه وفي أرضه وزرعه، ويعطيه ثمارًا كثيرة وغلة وافرة من جميع مزارعه في "مأرب" و"نشق" و"رحبتن" "رحبتان", ولينال حظوة ورفعة عند سيده "رب شمس نمران، ملك سبأ وذي ريدان"1.
وليس هذا الوباء الفتاك الذي انتشر في الأرض في أيام هذا الملك، هو أول وباء نسمع به؛ ففي الكتابات إشارات إلى أوبئة عديدة أخرى كانت تعم البلاد بين الحين والحين, ولا سيما بعد الحروب التي لا تكاد تنقطع، وبعد الحروب الكبيرة الماحقة التي قام بها الملوك فخربوا المدن ودمروا مجاري المياه، وأباحوا مواضع السكنى, والبشر، وتركوا جيف القتلى في مواضعها لتنتشر الأوبئة والأمراض.
وقد ذهب "ريكمنس" إلى أن الوباء المذكور هو جزء من وباء عام كان قد انتشر من الهند نحو الخارج، فجاء إلى جزيرة العرب ووصل حوض البحر الأبيض وطفح في "سلوقية" Seleucia وقد وقع ذلك سنة "165" للميلاد2.
وورد اسم "رب شمس نمران" "ربشمس نمران" في نصوص أخرى وسمت بـ: CIH 164، وبـ Geukens 10، وبـ Jamme 496.
__________
1 خليل يحيى نامي: نقوش عربية جنوبية، مجلة كلية الآداب، القاهرة 9، "1947" ص1 = 13، قسم 2، 16، "1954" ص21-43، Jamme 645, Mamb 276
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.496(4/143)
و"رب شمس نمران" معروف لدينا معرفة حسنة، وهو من "بتع"، ومن "ملوك سبأ وذي ريدان"؛ لورود ذلك صريحًا في بضعة نصوص؛ أحدها عثر عليه في مأرب1، وعثر على البقية في "حاز" أي: في بلد همدان.
والنص الذي عثر عليه في مأرب هو النص المعروف بـREP. EPIG. 3621, وهو نص قصير يظهر أنه بقية نص أطول لم تبقَ منه غير كلمات2.
ودون "فلبي" اسم "سخمن يهصبح" "سخمان يهصبح" بعد "رب شمس نمران", وقد ورد اسمه في كتابتين، هما Glaser 208 وGlaser 136، غير أنه لم يلقب فيهما بـ"ملك سبأ وذي ريدان". وقد استدل "فلبي" من كلمة "مراهمو" أي: سيدهم، الواردة قبل اسمه أنه كان ملكًا3. وورد اسم رجل يعرف بـ"أجرم يهنعم بن سخمان", ويرى "فلبي" احتمال كون "سخمان" هذا هو "سخمان يهصبح"، واحتمال كون "أجرم" أحد أبنائه4. ولم يذكر "هومل" اسم "سخمان" في جملة من ذكرهم من ملوك "سبأ وذي ريدان"5.
وللسبب المذكور جعل "فلبي" "أجرم يهنعم" ملكًا بعد "سخمان يهصبح" ثم ذكر من بعده "سعد أوم نمران", وقد ذكر في النص: Glaser 210، وهو من النصوص التي عثر عليها في المدينة الهمدانية "حاز"6. ويرى "هومل" أن " ... نمران ملك سبأ وذي ريدان" الذي سقط اسمه من النص: Glaser 571 وبقي فيه نعته وهو "نمران"، قد ينطبق على "سعد أوم نمران" هذا الذي نتحدث عنه، كما ينطبق على "رب شمس نمران"7.
وبـ"سعد أوم نمران" ختم "فلبي" هذا العهد الذي استمر -على رأيه-
__________
1 BACKGROUND, P.107, LE MUSEON, 1967, 1-2, 294
2 REP. EPG. 3621, REP. EPIG., VI, I, P.244
3 HANDBUCH, S. 95, CIH 153, 224, CIH, IV, I, III, P.214, 258, GLASER 136, 208, JAMME 562, 564, LE MUSEON, 1967, 1-2, P.280
4 Background, P.107
5 Handbuch., S. 94
6 Cih 226, Iv, I, Iii, P.260, Handbuch., S. 95
7 Handbuch., S. 95(4/144)
من سنة "115ب. م." حتى السنة "245". وقد حكم فيه من بني "بتع"، وقد كونوا -على حسب رأيه أيضا- الأسرة السادسة من الأسر التي حكمت عرش "سبأ". ثم وضع بعد هذه الأسرة أسرة جديدة جعلها الأسرة السابعة، وهي من "يكبل", وقد جعل أول رجالها الملك "العذنوفان يهصدق" "العزنوفان يهصدق"، وقد حكم -على حسب رأيه- من سنة "245ب. م." حتى السنة "260 للميلاد"1.
ووضع "فلبي" اسم "ياسر يهنعم" بعد "العذنوفان", وهو على حسب ترتيبه الملك الستون من ملوك سبأ الذين حكموا السبئيين من مكربين وملوك, وهو والد "شمر يهرعش" الملك الشهير المعروف بين الأخباريين. وبذلك ننتقل من أسرة قديمة إلى أسرة جديدة، ومن عهد قديم إلى عهد آخر جديد.
وأما "فون وزمن"، فإنه لم يذكر اسم من حكم مباشرة بعد "ربشمس نمران"، بل ذكر اسم "شعرم أوتر" وهو من "همدان" بعد اسم "علهان نهفان" الذي أدرك أوائل حكم "ربشمس نمران"، كما ذكر اسم "فرع ينهب"، وهو من "جرت" "جرة" وقد جعل حكمه في حوالي السنة "180" بعد الميلاد. وذكر اسم "حيو عثتر يضع" مع اسم "شعرم أوتر", دلالة على أنه حكم معه في أواخر أيام حكمه. ثم ذكر اسم "لحيعثت يرخم" من بعده, وجعله معاصرًا لـ"لعزز يهنف يهصدق" ملك حمير. وجعل "ياسر يهنعم" الأول وهو والد "شمس يهرعش" الثاني معاصرًا لـ"لحيعثت يرخم" وقال: إن في أيامه استولى الحميريون على مأرب, وكان معاصرا لـ"الشرح يحضب الثاني" الذي حكم مع أخيه "يازل بين"2.
وجعل "فون وزمن" زمان حكم "الشرح يحضب" الثاني في حوالي السنة "200" للميلاد. ثم جعل حكمه مع أخيه في حوالي السنة "210"، ثم عاد فجعله يحكم وحده في حوالي السنة "220" إلى السنة "230" حيث ذكر اسم "نشأكرب يأمن يهرحب" من بعده، وجعل على حمير في أثناء هذه المدة "كرب إيل" "ذو ريدان" و"ثأرن يعب يهنعم"، وعلى حضرموت
__________
1 Background, P.143
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.498(4/145)
"العز يلط" الذي تحالف مع "ثارن يعب"1.
وذكر "فون وزمن" اسم "ذمر على وتر يهبر" بعد "ثارن يعب يهنعم" ثم جعل "عمدان بين يهقبض" على عرش سبأ, ثم "ياسر يهنعم الثاني" من بعده، وقد حكم مع ابنه "شمر يهرعش الثالث" الذي انفرد بالحكم في حوالي السنة "300" بعد الميلاد2.
وقبل أن أنتهي من هذا الفصل وأختمه، أود أن أشير إلى منافسة كانت بين الأسرة السبئية الحاكمة المنحدرة من "فيشان" صاحبة قصر مأرب، وبين أسر أخرى لم تكن لها صلة بالعرش, ولكنها ادعت لنفسها حق حكم سبأ وذي ريدان, وتلقب أفرادها باللقب الرسمي المقرر للحكم, ونازعت الملوك الشرعيين في حق الحكم والسلطان. فنجد الهمدانيين مثلًا وهم يحكمون الثلث الشمالي من دولة "سمعي" القديمة من مقرهم "ناعط"، ونجد "بني بتع"، وهم يحكمون الثلث الغربي لمملكة "سمعي"، "حملان" وعاصمته "حاز" وكذلك "مأذن"، ثم نجد "مرثدم" أي "مرثد" ومعها "أقيان" "شبام أقيان"، و"جرت" بما في ذلك كنين "كنن"3.
هذا، ولا بد لي وقد انتهيت من تدوين هذا الفصل من الإشارة إلى أن عهد "ملوك سبأ وذي ريدان" هو من أصعب الفصول كتابةً في تاريخ سبأ، على كثرة ما عثر عليه من كتاباته؛ ذلك لأن الكتابات لا تقدم إلينا مواطئ تمكن الإنسان أن يقف عليها ليتعرف ما حوله من أمور، ثم إن بعضها ناقص أصابه التلف فأثر في معناه، إلى غير ذلك من أمور. لذا نجد علماء العربيات الجنوبية متباينين في تثبت تأريخ هذا العهد وفي أسماء الملوك، وأعتقد أن هذا الخلل لن يُصلَح، وأن الفجوات لن تُحشَى وتُملَأ، إلا بعد أمد؛ بعد استقرار الأمور في اليمن بحيث يسمح لأصحاب العلم بالبحث عن الكنوز المدفونة لاستنباط ما فيها من سر دفين عن هذا العهد, والعهود الأخرى من تأريخ اليمن القديم.
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
3 Le Museon, 1964, 3-4, Pp.454, 498(4/146)
صنعاء:
وقد لمع اسم "صنعو" أي "صنعاء"، في أيام "الشرح يحضب"، وهي لا بد أن تكون قد بنيت قبله بزمن. وقد أشار "الشرح يحضب" إلى قصر له بها، هو قصر "غندن" "غندان" المعروف في المؤلفات الإسلامية بقصر "غمدان"، وقد ذكره بعد قصره القديم الشهير قصر "سلحن" "سلحين" رمز الملكية في سبأ1. وهكذا صارت لصنعاء مكانة ازدادت على مرور الأيام، حتى صارت عاصمة اليمن ومقر الحكام.
__________
1 Cih 429, Beitrage, S. 19(4/147)
قائمة "ريكمنس":
وقد رتب "ريكمنس" أسماء ملوك "سبأ وذي ريدان" على النحو الآتي:
1- فرعم ينهب، وكان معاصرًا لـ"علهان نهفان".
2- الشرح يحضب، وقد حكم على رأيه في حوالي السنة 25 قبل الميلاد, وكان يعاصره "شعرم أوتر" "شعر أوتر". وأما ابنه "يازل بين" "يأزل بين"، فكان معاصرًا لـ"حيو عثتر يضع".
3- نشأكرب يهأمن.
.............
4- ذمر على بين.
5- كرب إيل وتر يهنعم، وكان معاصرًا للملك "العز" ملك حضرموت.
6- "هلك أمر" - ذمر على ذرح.
............
7- وتر يهأمن.
.............
8- شمدر يهنعم.(4/147)
9- الشرح يحمل.
.............
10- عمدان بين يهقبض.
.............
11- لعز نوفان تهصدق "لعز نوفن يهصدق".
.............
12- ياسر يهصدق.
13- ذمر على يهبر "ذمر على يهبأر" الأول.
14- ثارن يعب يهنعم.
15- ذمر على يهبر "ذمر على يهبار" الثاني.
16- رب شمس نمرن "ربشمس نمران".
17- الشرح يحسب.
18-19- سعد شمس أسرو..... "....." حمد.
.............
20- ياسر يهنعم.
21- شمر يهرعش1.
أسرة ذمر على بين:
1- ذمر على بين.
2- كرب إيل وتر يهنعم، "كربئيل وتر يهنعم", وهو ابن ذمر على بين.
3- هلك إمر "هلك أمر", وهو ابن كرب إيل.
4- ذمر على ذرح، وهو ابن كرب إيل وتر يهنعم، وشقيق هلك أمر.
5- يهقم.
6- كرب إيل بين، "كربئيل بين", وهو ابن ذمر على ذرح2.
__________
1 J. Ryckmann, L'institution, P.338
2 Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.70(4/148)
أسرة ياسر يهصدق:
1- ياسر يهصدق.
2- ذمر على يهبر, وهو ابن ياسر يهصدق.
3- ثرن يعب "ثارن يعب يهنعم" "ثارن يركب" "تارن يرحب", وهو ابن ذمر على يهبر.
4- ذمر على يهبر, وهو ابن ثارن يعب يهنعم, ويمكن تلقيبه بالثاني تمييزًا له عن الأول.
5- ثارن يهنعم "ثرن يهنعم"1.
__________
1 Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.80(4/149)
الفصل التاسع والعشرون: ممالك وإمارات صغيرة
مدخل
...
الفصل التاسع والعشرون: ممالك وإمارات صغيرة
وعرف من الكتابات القتبانية شعب يقال له "أوسن" أو "أوسان"1, وكانت أرضوه تكوِّن جزءًا من مملكة قتبان, مثل دهس و"دتنت" "دتنة" و"تبنى" ومناطق أخرى كانت تابعة لقتبان. وقد عرف من الكتابات أن الأوسانيين كونوا حكومة، حكمها ملوك، وصلت أسماء بعضهم إلينا، ولكنها حكومة صغيرة لم تبلغ مبلغ حكومة قتبان، أو حضرموت, أو معين، أو سبأ.
ولعل الأوسانيين الذين أدركوا الإسلام، هم من بقايا "أوسان". وقد كان من جملة من اعتمد عليهم الهمداني في أخبار اليمن القديمة، رجل ينسب إلى أوسان، هو "محمد بن أحمد الأوساني"، زعم أنه كان يحسن قراءة الكتابات العربية الجاهلية المدونة بالمسند2.
وقد وهبت لنا هذه المملكة الصغيرة بضعة تماثيل منحوتة من الرخام، يجوز أن نعدها من أنفس ما عثر عليه من تماثيل في جزيرة العرب حتى الآن. وهي تماثيل بعض ملوك أوسان، وتعد أول تماثيل تصل إلينا من تماثيل ملوك العرب. وقد كتب على قاعدة كل تمثال اسم الملك الذي يمثله، فهذا تمثال كتب عليه:
__________
1 Rep. Epig. 454, Hartmann, Arabische Frage, S. 185, Lidzbarski, Ephemeris, II, S. 385, Beitrage, S. 57. Ff
2 الإكليل "8/ 65، 77، 78" "طبعة نبيه".(4/150)
"يصدق آل فرعم ملك أوسان بن معد ال"، وهذا تمثال ثانٍ نقش على قاعدته اسم الملك الذي يمثله: "زيدم سيلن بن معدال"، وتمثال ثالث كتب تحت قدم صاحبه اسمه "معد ال سلحن بن يصدق ال ملك أوسان"، ورابع كتبت على وجه قاعدته من أمام: "يصدق ال فرعم شرح عت ملك أوسن بن معد ال سلحن ملك أوسن".
ويرى "فون وزمن" أن الملك "يصدق إيل فرعم شرح عت ابن معد إيل سلحن"، هو الملك "يصدق إيل فرعم ملك أوسان ابن معد إيل" نفسه, فالاسمان إذن في نظره لمسمى واحد، ويكون والده الملك "معد إيل سلحن بن يصدق إيل ملك أوسان"، ووالد "معد إيل سلحن" إذن هو "يصدق إيل" الذي لا يعرف اسم أبيه1.
وعثر على اسم ملك آخر من ملوك أوسان، هو "يصدق ال فرعم شرح عت "عثت" "بن ودم" "يصدق إيل فرع "الفارع" شرح عثت بن ود"، ورد لمناسبة تقديمه نذرًا، وهو "معمر" أي "مذبح" أو "مبخرة" إلى أحد الآلهة, ولم يذكر الملك اسم ذلك الإله2. وقد استدل بعض الباحثين من جملة "بن ودم"، أي "ابن ود" على وجود فكرة تأليه الملوك عند الأوسانيين، وأن الجملة تعني أن الملك المذكور كان يرى أنه من نسل الإله "ود"3. وعندي أن لفظة "ود" هنا هي مجرد اسم لشخص ما, وفي كتب الأنساب والأخبار أسماء عدد من الرجال، هي في الوقت نفسه أسماء آلهة. ولم يقل أحد أن أصحاب تلك الأسماء كانوا يرون أنفسهم آلهة، أو من أبناء الآلهة، وبينهم أناس كانوا من سواد الناس.
ولا نعرف من أمر هؤلاء الملوك شيئًا يذكر، والظاهر أن تمثال "معد ال سلحن" "معد إيل سلحان" يمثل والد "يصدق إيل فرعم شرح" كما جاء
__________
1 Beltrage, S. 70
2 وقد اختلف الباحثون في المراد من "معمر"، كما اختلفوا في تفسير النص؛ لأنه من النصوص الغامضة.
Margoliouth, Two South Arabian Inscription, P.6, Margoliouth, In Proceedings. Briti. Academy, Vol, Xi, P.6, Rhodokanakis, Altesabaische Texten, I, S. 96, Orientalia, Vol., I, P.269
3 Beitrage, S. 58, Conti Rossini., 94(4/151)
ذلك مدونًا في قاعدة التمثال الرابع، ويظهر أن "يصدق إيل فرعم" هو غير "يصدق إيل فرعم شرح عثت" كما يتبين ذلك من اختلاف صورتي التمثالين. وتفيدنا هذه التماثيل فائدة كبيرة في تعرف نماذج ملابس الأوسانيين وعلى زينتهم وكيفية تنظيم شعور رءوسهم، وعلى غير ذلك مما له علاقة بمظهر الإنسان، وبالفن من حيث الجودة والخلق والتعبير عن النفس والإتقان.
وجاء اسم الملك "يصدق ال فرعم شرح عت" في كتابة أوسانية أمرت بكتابتها امرأة اسمها "رثدت" "رثدة"، وقد جاء فيها أنها قدمت إلى سيدها المذكور ملك أوسان تمثالًا من الذهب, ليحفظ في معبد "نعمن" "نعمان"1، وهي من كتابات النذور. ويظهر أنها قدمت هذا النذر لحادث وقع للملك، فتوسلت لدى آلهة أوسان بأن تمن على الملك وتبارك فيه، وهي في مقابل ذلك تقدم لها نذرًا تمثالًا من ذهب، ولا بد أن تكون هذه المرأة من الأسر الرفيعة التي لها شأن ومكانة، ولعلها كانت من أسرته.
وجاء في كتابة أوسانية أخرى تحطم اسم صاحبها وزالت معالمه: أنه قدم تمثالًا "صلمت" من ذهب إلى سيده "مراس" "مرأس" "يصدق إيل فرعم شرح عتت" ملك أوسان2, ولا بد أن يكون هذا التقديم لمناسبة حدثت للملك، فأراد هذا الوجيه التعبير عن تقديره لسيده الملك بتقديم هذا التمثال المصنوع من الذهب3. وتشبه هذه الكتابة, الكتابة المرقمة بـJaussen Nr. 159 Bis وهي لأخت هذا الملك، وقد سقط اسمها من الكتابة بتهشم حدث في الحجر، وبقيت منه بقية، هي: "ذت بغيثت أخت"4، وجاء فيها أنها قدمت إلى سيدها "سقنيت مراس" صنمًا من ذهب "صلم ذ ذهبم"5، ولم تذكر المناسبة التي دعتها لتقديمه, وكان له شقيق هو "زيد سيلن" "زيد سيلان"6.
__________
1 Rep. Epig., Tome I, 6, 350, 461
2 Orientalia, Vol., 1932, P.127
3 "صلمت ذهبن" "تمثال ذهب"، "صلم من ذهب".
4 Mordtmann Und Eugen Mittwoch, Altusdarabische Inschriften, Roma, 1933, S. 18.
5 Orientalia, Vol., I, P.124
6 Background, P.85(4/152)
ويرى بعض الباحثين أن زمان حكم الملك "يصدق ال فرعم شر حعت" "يصدق إيل فارع شرح عت" كان في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد حتى حوالي السنة "450" قبل الميلاد1. وقد استدلوا على ذلك من طراز التمثال الذي نحت ليمثل ذلك الملك, فإن شكل اللباس الذي نحته النحات ليكون لباس الملك، هو على النسق اليوناني في التماثيل اليونانية المنحوتة قبل منتصف القرن الخامس قبل الميلاد. ويرى الباحثون احتمال شراء مثل هذه التماثيل من "غزة" في فلسطين, إذ كانت سوقًا مهمة يفد عليها العرب للاتجار, وفيها معروضات يونانية وغيرها، ينقلها التجار إلى جزيرة العرب، وفي جملتها الأصنام التي أثرت في الفنانين العرب, فصاروا ينحتون تماثيلهم على شاكلتها, وفي جملتها تمثال الملك المذكور الذي يجب أن يكون قد نحت فيما بين النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد إلى حوالي السنة "450ق. م."2.
وعرفت أسماء ملوك آخرين من ملوك أوسان، لا نعلم من أمر أصحابها شيئًا يذكر، منها "معد إيل سلحان بن ذي يدم"3. وقد رأي "جوسن" Jaussen
أن الاسم الأخير هو "زيدم" بدلًا من "ذيدم"4. ولقب "سلحن" "سلحان" من الألقاب التي تكرر ورودها مدونة على تماثيل ملوك أوسان، وعلى بعض الكتابات التي عثر عليها في "أبنة" وفي المعاهدة المعقودة بين "سلحن" و "زررن" "زراران"، أي: بين ملك "نجاشي" الحبشة وملك "سبأ". ويرى "ميتوخ" أن "سلحن" "سلحان" أحد المتعاقدين في المعاهدة المذكورة ما كان ملكًا حبشيًّا، ولكن ملكًا من ملوك أوسان. وأما "زررن"، فإنه ملك من ملوك قتبان5.
ووجد اسم ملك آخر من ملوك أوسان، هو "عم يثع غيلن لحى"6،
__________
1 Wissmann – Hofner, Beitrage, S. 8, 58, 69, 142, Pirenne, Royaume De Qataban, P.138, 199, Conti Rossinr, Chrest., 93, 94, Le Museon, 1964, 3-4 P.442
2 Beitrage, S. 8, 58, 70
3 "معدال ال سلحن بن ذيدم"، "ذويدوم".
4 Mordtmann Und Eugen Mittwoch, Altsudarabische Inschriften, Roma, 1933, S. 13.
5 Orientalia, I, P.119, Jaussen I, 2, 17, 57
6 "عميثع غيلان لحي" "عم يثع غيلان لحي".(4/153)
محفورًا على تمثال من المرمر مكتوبًا كتابة حسنة1. وقد نعثر في المستقبل على تماثيل أخرى لملوك العرب الجنوبيين من أوسانيين وغيرهم، إذ لا يعقل انفراد أوسان من بين سائر الشعوب العربية الجنوبية بصنع التماثيل.
وذكر "فلبي" ملكًا من ملوك أوسان يقال له "يصدق إيل فرغم زغمهن الشرح"، ولا نعرف من أمره شيئًا. ووردت في الكتابتين الموسومتين بـJaussen 72, 73 وبـJaussen 75, 83، أسماء ملوك أوسانيين منها: "زيحمن بن الشرح ملك أوسان"، و"عم يثع ملك أوسان" و"يصدق إيل فرعم عم يثع"، و"الشرح بن يصدق إيل"، وهي أسماء لقب بعضها بلقب ملك، وحرم بعضها هذا اللقب، ولا نعرف عن أصحابها شيئًا يذكر2.
وقد كانت "أوسان" قبل استيلاء قتبان عليها وإدماجها في حكومة قتبان، مملكة ذات تجارة مع الخارج، تتاجر مع أفريقية، وتحكم أرضين أخرى ليست في الأصل من "أوسان"، مثل: "دهس"، و"تبنو", و"كحد". استدل بعض الباحثين من إطلاق مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" على الساحل الإفريقي الواقع شمال "بمبا" Pemba و"زنزبار" "زنجبار" اسم "الساحل الأوساني" عليه، على أن الأوسانيين كانوا قد حكموه، ونزح بعضهم إليه فسكنه، وصار تابعًا لأوسان، ولا يمكن حدوث ذلك بالطبع لو لم يكن الأوسانيون أقوياء ولهم أرض واسعة في العربية الجنوبية ذات عدد كبير من السكان, بحيث يسمح لهم بالاستيلاء على الساحل الإفريقي. ويرجح العلماء زمان حكم الأوسانيين لذلك الساحل الإفريقي إلى ما قبل السنة "400ق. م"3.
وتقع مملكة أوسان في جنوب "قتبان", وهي من الحكومات العربية الجنوبية الصغيرة، إلا أنها كانت ذات أهمية؛ إذ كانت تمتلك الساحل الإفريقي الذي أشرت إليه، وتتاجر مع سكانه. وقد كان ميناء "عدن" من جملة الأماكن التابعة لهذه المملكة4.
ومن ملوك أوسان، ملك ذكر اسمه في النص الموسوم بـGlaser 1600
__________
1 Orientalia, Vol., I, P.30, 119, "1932"
2 Beitrage, S. 70
3 Beitrage, S. 74, Periplus Maris Erythraei, 22, A. Grohmann, Arabien, S. 25
4 Discoveries, P.39(4/154)
الذي تحدث عن حملة قام بها الملك "كرب إيل وتر" على جملة قبائل وإمارات وحكومات ملكية صغيرة. فبعد أن استولى هذا الملك على مدينة "شرجب"1 بين الجوف ونجران، ساق جيوشه إلى "أوسان"، فقتل ستة عشر ألف رجل، وأسر أربعين، واحتل أماكن أخرى كانت تابعة لأوسان، هي: "حمن" "حمان", و"أنفم" "أنف", و"حبن" "حبان", و"ديب" "دياب", و"رشا" "رشاي"، و"جردن" "جردان"، و"دتنت" "دتنة", و"تفذ" إلى ساحل البحر. وذكر النص بعد ذلك معبد "مرتوم" "مرتم" "مرتو" الذي اسمه "مسور"2، أما ملك "أوسان" فكان اسمه "مرتوم" "مرتو"3.
وقد كانت قتبان حليفة لسبأ في هذه الحرب, وقد يكون تعبيرنا أدق وأصح لو قلنا: إنها كانت تابعة لها في هذا العهد؛ ولذلك اشتركت مع السبئيين ضد الأوسانيين. أما "أوسان" فكان إلى جانبها "دتنت" و"دهس" و"تبنى" وبعض قبائل "كحد", وقد رأيت أن جميع هذه القبائل ومعها "أوسان" كانت تابعة لمملكة قتبان. ويظهر أنها ثارت على قتبان، وانفصلت عنها، فتكونت مملكة أوسان, ودخلت القبائل الأخرى في هذه المملكة, أي: مملكة أوسان، أو أنها تحالفت معها، واستقلت كلٌّ في منطقتها فكونت إمارة أو مملكة صغيرة. فلما انتهى "كرب إيل وتر" من مملكة أوسان, تعقب هذه القبائل وأخضعها لحكمه. ويظهر أن ملك "دهس" الذي كان في حلف مع أوسان، أو خاضعًا لها، انتهز فرصة انتصار "كرب إيل وتر" على أوسان فأعلن انفصاله عنهم وانضمامه إلى السبئيين، فكافأه "كرب إيل وتر" بإعطائه جزءًا من أرض أوسان هو أرض "أدوم" "أود"4.
وقد احتل السبئيون أرض أوسان وأرض تبنى، ووهبوا أرض "كحد ذ حضنم" لإله سبأ "المقه", أي: إن الملك "كرب ال" "كربئيل" "كرب إيل" وهبها لحكومة ولشعب سبأ، وأنعم على قتبان وحضرموت ببعض الأرضين التي
__________
1 Glaser, Skizze, 2, S.89
2 Glaser, Skizze, 2, S. 89, Hartmann, Arabische Frage, S. 185
3 Beitrage, S. 8, Background, P.14
4 Glaser, 1000 A7, Rhodokanakis, Ktb., I, S. 28(4/155)
غنمها من الأوسانيين. ويظهر أنها كانت قتبانية وحضرمية في الأصل، غير أن الأوسانيين اغتصبوها منهم، فأعادها "كرب إيل" إلى قتبان وحضرموت, لمساعدتهما له. وقد كان ملك قتبان الملك "وروإيل" إذ ذاك.
ويظهر من عبارة "وقني كرب إيل كل قسط كحد ... جوم لا لمقه ولسبا"، ومن جملة "كل قسط كحد حرهو وعبد هو"، أن أرض "كحد ذ حضنم" التي وهبت لألمقه ولشعب سبأ، أصبحت ملكا خاصا بالملك "كرب إيل"، وأن جميع أهل "كحد" أحرارًا وعبيدًا صاروا أتباعًا له، يستغلون الأرض ويدفعون إليه الغلات1.
وقد جعل "فلبي" الملك "مرتو" في رأس قائمته التي وضعها لملوك "أوسان"، وجعل زمان حكمه فيما بين السنة "620" والسنة "600ق. م."؛ وذلك ليجعله معاصرا لـ"كرب إيل وتر" الذي جعل حكمه في هذا الزمن2. وهو رأي يعارضه أكثر الباحثين في العربيات الجنوبية، إذ جعلوا حكمه في حوالي السنة "450" قبل الميلاد، أو بعد ذلك بقليل3.
ووضع "فلبي" اسم الملك "ذيدم" "ذيد" "زيد" بعد اسم الملك "مرتو"، وجعل زمان حكمه في حوالي السنة "230ق. م."؛ فترك بذلك فجوة كبيرة لا يدري من حكم فيها, ولم يعرف اسم والد الملك "ذيدم"، وقد ذكر أنه كان من عشيرة "بغيثت"4.
ثم ذكر "فلبي" "معد إيل سلحن" بعد "ذيد"، وجعله ابنًا له, وجعل حكمه في حوالي السنة "210ق. م."، وذلك جريًا على طريقته في وضع مدة "20" سنة لكل ملك يقضيها في الحكم. ثم جعل "يصدق إيل فرعم شرج عت" من بعد "معد إيل" وجعله ابنًا له, وصيَّر زمان حكمه في حوالي السنة "190ق. م." وجعل "زيد سلحن" شقيقًا له، كما جعل له أختا, ثم وضع الملك "معد إيل سلحن" بعد "يصدق إيل فرعم"، وجعله ابنًا له، وجعل زمان حكمه في حوالي السنة "170ق. م.". ثم صير "يصدق
__________
1 Rhodokanakis, Ktb., I, S. 30
2 Background, P.144
3 Beitrage, S. 8
4 Background, P.144(4/156)
إيل فرعم عم يثع" ملكًا من بعده، وهو ابن "معد إيل سلحن"، وجعل حكمه في حوالي السنة "150ق. م.". ثم جعل "فرعم زهمهن الشرح" ملكًا من بعده، وهو ابن "يصدق إيل فرعم عم يثع"، وجعل حكمه في حوالي السنة "135ق. م". ثم ذكر "عم يثع غيلن لحى" من بعده، وهو ابن "يصدق إيل فرعم عم يثع"، وقد جعل حكمه حوالي السنة "120ق. م."1.
ولم يذكر "فلبي" ملكًا آخر بعد هذا الملك، وإنما ذكر أنه في حوالي السنة "115ق. م." ضم "الشرح يحضب" "ملك سبأ وذي ريدان" مملكة أوسان إلى أرض السبئيين2.
ويعارض ترتيب "فلبي" لأسماء ملوك "أوسان" رأي كثير من علماء العربيات الجنوبية؛ فقد ذهب أكثرهم إلى تقديم الملوك الذين ذكرهم "فلبي" بعد الملك "مرتو" عليه، وجعلوا زمانهم أقدم من زمانه، فقدروا زمان الملك "يصدق إيل فرعم شرح إيل" في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد مثلًا، أي: قبل سنة "450ق. م."، وهذا يعني أنه أقدم عهدًا من "مرتو"، أي: إن رأيهم هو عكس ما ذهب "فلبي" إليه3.
وقد ذهبت "بيرين" J. Pirenne إلى أن أوسان كانت مملكة في أواخر القرن الأول قبل الميلاد أو بعد الميلاد بقليل، وأن حكم الملك "يصدق إيل فرعم شرحت بن ودم" كان في حوالي السنة "24ق. م."4.
لقد كان معبد "نعمان" المعبد الرئيسي عند الأوسانيين, وقد خصص بعبادة الإله "ود"، وهو إلههم الكبير. ويقع هذا المعبد في "وادي نعمان"5, وقد ورد اسمه في عدد من الكتابات الأوسانية6.
__________
1 Background, P.144
2 Background, P.144
3 Beitrage, S.8
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.442, Beitrage, S. 58, J. Pireene, Royaume De Qataban, P.138, 199, Rathjens, Kulturelle Einfluse In Sw – Arabien Besondere Berucksichtigung Des Hellenismus, Jahrb. F. Kleinasiat. Forschung., I, 1950, S. 27.
5 Beitrage, S. 58
6 Conti Rossini, 93, 94, 96, Ryckmans 116, Jauusen 137, Beitrage, S. 58(4/157)
الجيانيون
...
الجبانيون:
لقد ورد في تأريخ "بلينيوس" اسم شعب من الشعوب العربية الجنوبية، سماه Gebbanitae، وقال: إن له عدة مدن أكبرها "ناجية" "نجية" Nagia وThamna "تمنة" "ثمنة", وكان في "تمنة" خمسة وستون معبدًا1. وقد يكون في هذا العدد شيء من المبالغة، إلا أنه مع ذلك يدل على ضخامة هذه المدينة وسعتها، بدليل وصول اسمها إلى اليونان، ومبالغة هذا المؤرخ في عدد معابدها. ولما تحدث عن اللبان، قال: إنه لم يكن يسمح بتصديره إلا بواسطة هذه المملكة، وإلا بعد دفع ضريبة إلى ملكها، وتبعد العاصمة مسافة "5/ 148" ميلًا عن "غزة" يقطعها الإنسان في خمس وستين مرحلة على ظهور الجمال2.
وفي أثناء كلام "بلينيوس" عن "المر" ذكر أن ملك الـ"الجبانيين" Gebbanitae كان يأخذ لنفسه ربع الغلة، وذكر أن بلادهم تقع ما بين أرض شعب دعاه Astramitica وأرض شعب آخر يسمى Ausaritae = Ausaritie، وأشار إلى أن للمملكة ميناء يسمى Ocilia، وأن حق بيع القرفة كان محصورًا بالملك وحده3, وذكر أشياءَ أخرى عن هذا الشعب.
ومعارفنا عن هذا الشعب قليلة، ويظن أنه كان من الشعوب التي كانت تؤلف مملكة قتبان، وأنه استقل في زمن ربما لا يبعد كثيرًا عن أيام "بلينيوس".
وكانت مواطنه بعد استقلاله في جوار القتبانيين في الجنوب الشرقي منهم بين قتبان وسبأ على بعض الآراء، أو في غربهم على رأي "كلاسر"4, ويرى "كلاسر" أنه عشيرة أو طائفة من القتبانيين5, ويظن بعض الباحثين أنهم "جبأ"6. وقد ذكر "الهمداني" موضعًا سماه "جبأ" وقال فيه: "جبأ: مدينة المفاخر، وهي
__________
1 Pliny, Nat. Histo., Vi, 154, Vol., 2, P.453, "H. Rackham", "Leob. Clas. Libr.", Beitrage, S. 50
2 Pliny, Book., Xii, 69, Iv, P.51, S. 50, 73, 112
4 Ency., Vol., 2, P.810
5 Ency., Vol., 2, P.812, Glaser, Punt., S. 35, 60
6 Ency., Vol., 2, P.812(4/158)
لآل الكرندي من بني ثمامة آل حمير الأصغير"1، وقال: "إن جبأ وأعمالها هي كورة المعافر، وهي في فجوة بين جبل "صبر" وجبل "ذخر" في وادي الضباب"2. وقد ورد في النصوص المعينية اسم "جبأ" "جبأن" مع اسم المعينيين3, ولكني لا أستطيع أن أوافق على رأي من يقول: إن "الجبئيين" هم Gebbanitae؛ ولذلك دعوتهم بـ"الجبانيين" انتظارًا للمستقبل الذي قد يرشدنا إلى اسم يرد في النصوص العربية الجنوبية يكون مرادفًا للفظة المذكورة.
__________
1 الصفة "ص54".
2 الصفة "ص99".
3 Ency. Vol., 2, P.812(4/159)
نجران:
وذكرنا "نجران" كما رأينا مع "رجمت" "رجمة"، فهي إذن من المواضع القديمة من عهود ما قبل الميلاد، سواء أكان اسم نجران اسم أرض أو اسم مدينة وهي في منطقة خصبة جدا ذات ماء؛ ولذلك صارت طريقًا مهمًّا للقوافل المتجهة من العربية الجنوبية نحو الشمال، أو الآتية من الشمال في طريقها إلى العربية الجنوبية. ولموقعها المهم هذا تعرض للغزو ولطمع الطامعين فيها، فأصيب لذلك بأضرار فادحة مرارًا, وقد سماها "بطلميوس" "نكرا ميتربوليس" Nagara Metropolis، أي مدينة "نكرا"1، وذكرت في نص "النمارة" الذي يعود عهده إلى سنة 328م2.
ومع أهمية "نجران"، فإننا لا نعرف من تأريخها القديم غير شيء قليل.
وقد ورد اسمها في كتابة أشارت إلى حملة على النبط "نباطو"، ويظهر أن أصحاب الحملة أو الغزاة كانوا قد توجهوا من العربية الجنوبية نحو الشمال؛ لأنها تذكر أنها اتجهت من "نجران" نحو "نباطو" فدمرتها، أي: دمرت مدينة النبط3.
__________
1 Beitrage, S. 10
2 المصدر نفسه.
3 Beitrage, S. Ii, Philpy, Motor Tracks And Sabaean Inscriptions In Najd, Geogr Journal, 1950, 211-215, A. Trition, Najran Inscriptions. Journal. Royal. Asiat. Soc., 1944, P.199-129(4/159)
مملكة مهأمر:
و"مهأمرم" "مهأمر" مملكة صغيرة نستطيع أن نقول: إنها إمارة من الإمارات التي لقب سادتها أنفسهم بلقب "ملك"، ومقرها على ما يظهر من الكتابات مدينة "رجمت" "ركمت" "رجمة", وكان لها مجرى ماء منبعه في "نجران". وتقع أرض "أمرم" "أمر" "أمير" في شرقها في امتداد البادية، وفي جنوب "مهأمر" في بعض الأماكن. ويرى بعض الباحثين أن "رجمت" هي في أرض "نجران" في الزمن الحاضر، أو في منطقة تتاخمها في شمالها1.
وقد جاء اسم "رجمت" كما رأينا في الكتابة المعينية التي وسمها العلماء بـ2 Glaser 1150، وقد بحثت عنها في أثناء حديثي عن دولة "معين" وقلت: إن من رأي بعض العلماء أن تلك الحرب نشبت بين الفرس "الماذويين" في أيام ملكهم Atraxerxes Ochus وبين المصريين، في حوالي السنة "343ق. م"3. ويظهر من تلك الكتابة أن مدينة "ركمت" كانت معروفة إذ ذاك، وكانت ذات شأن وخطر، وتقع على طريق القوافل التي تصل "معين" والعربية الجنوبية بمصر4.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "رجمت" هي في الواقع مدينة من مدن "نجران"، وأن "نجران" لم تكن في الأصل مدينة معينة، وإنما هي أرض تضم جملة مدن، منها هذه المدينة، إلا أن الناس خصصوا لفظة "نجران" على مرور الزمان بإحدى المدن هي مدينة "رجمت"، حتى عرفت بها، فضاع بذلك اسمها القديم. ويستشهدون على صحة رأيهم هذا بأمثلة عديدة وقعت في العربية الجنوبية5.
ويحتمل على رأي "موردتمن" أن تكون "رجمت" "ركمت" هي "رعمة"
__________
1 Beitrage, S. 9
2 Glaser 1155, Halevy 535, 578
3 Beitrage, S. 10, Rhodokanakis, Zur Altudarabischen Epigraphik Und Archaologie, Ii, Wzkm, 41, 1934, S. 69
4 Beitrage, S. 10
5 Beitrage, S. 10, Philby, Arabian Highlands, P.257(4/160)
في التوراة و"رعمة" في التوراة الابن الرابع لـ"كوشن"1. وقد ذهب إلى أن مراد التوراة من "كوش" في هذا المكان العربية الجنوبية, ومن أولاد "كوش" "شبا"، أي "سبأ"، و"دادان". وقد ذكر تجار "رعمة" مع تجار سبأ في سفر "حزقيال"2.
__________
1 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية السابعة، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية التاسعة.
2 حزقيال، الإصحاح 27، الآية 22.(4/161)
الفصل الثلاثون: الحميريون
وجب علينا الآن البحث عن شعب لعب دورًا خطيرًا في سياسة العربية الجنوبية، في هذا الوقت وقبله بمئات من السنين، وهذا الشعب هو: "حمير" الذي لا زال قائمًا يلعب دورًا مهمًّا بين القبائل العربية الجنوبية حتى الآن.
كانت حمير من القبائل العربية المعروفة في العربية الجنوبية عند الميلاد، حتى وصل خبرها إلى اليونان والرومان، فدعوها باسم1 Homerital وبـOmyritai وOmeritae وHamiroel ونحو ذلك. وقد اعتبر "بلينيوس" حمير من أكثر الشعوب العربية الجنوبية عددًا، وذكر أن عاصمتهم مدينة2 Sapphar، ويقصد بذلك مدينة "ظفار", وعرفوا باسم Hemer عند الحبش3. وأشار إلى اسم مدينة من مدنهم، سماها "مسلة"4 Mesalum = Mesala = Masala
__________
1 Pliny, Vi, 28
2 Pliny, Nat, Histo., Vi, 104, Ency., Iii, P.292, Mordtmann, Miscellen Zur Himjarischen, Pliny, Vi, Xxxii, 161, Vol., Ii, P.458-459, Alterthumskunde, In Zdmg., 31, 1877, S. 69, His. Ecciex., Ii, 58, Ency., Vol., Ii, P.310, Le Museon, 1964, 3-4, P.438
3 Ency., Ii, P.310, E. Littmann, Sabaische Griechische Und Altarabische Inschriftten, Deutsche Aksum-Expedit Vol., Iv, Berlin, 1913, Miscellanea Academica Berolinsia, 11/ 2, 1950, P.107, Le Museon, Lxxvii, 3-4, 1964, P.429.
4 Pliny, Vi, Xxxii, 158, Le Museon, 1964, 3-4, P.449(4/162)
وفي كلام هذا الكاتب عنهم إشارة إلى أن مدينة "ظفار" كانت عاصمة حمير في أيامه، وأن الحميريين كانوا قد تمكنوا في أيامه من تكوين شخصيتهم, ومن إثبات وجودهم في العربية الجنوبية يومئذٍ.
وقد ذهب "كلاسر" إلى أن المراد بـMasala موضع يدعى اليوم "المشالحة" ويقع شرق "مخا" على الساحل. "أما "شبرنكر"، فرأى أنه موضع "مأسل الجمع"، وأن المقصود بـHomeritae في هذا المكان جماعة أخرى، اسمها: Nomeritae، وأن النساخ حرفوه فكتبوه Homeritae بدلًَا من1 Nomeritae. وهذه التسمية التي يراها "شبرنكر" قريبة من "نمير".
وذكر مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" أن الحميريين كانوا يحكمون في أيامه منطقة واسعة من ساحل البحر الأحمر وساحل المحيط حتى حضرموت، كما كانوا يمتلكون ساحل "عزانيا" Azania في أفريقية، أي: قسمًا من الساحل الشرقي. وكان عليهم ملك يسمى "كرب ال" Charibael، عاصمته مدينة "ظفار" Taphar, وكان على صلات حسنة بالروم2. وعدهم "مرقيانوس" Marcianus، وهو من رجال أوائل القرن الرابع للميلاد، من جملة قبائل الحبشة, ونجد عددًا من الكتاب البيزنطيين يرون هذا الرأي3.
وقد ذكرت حمير في نص "عيزانا" Ezana، ملك "أكسوم" Askum، ودُعيت في النص اليوناني منه بـOmyritai = Omeritai أي4: حمير.
ولم يعثر الباحثون على اسم حمير في الكتابات التي يرجع عهدها إلى ما قبل الميلاد بمئات من السنين مع ورود أسماء قبائل أخرى كانت تقيم في المواضع التي نزل بها الحميريون؛ مثل "حبان" "حبن" و"ذيب". فقد جاء اسم "حبن" "حبان" في الكتابة الموسومة بـREP. EPIG. 3945، وهي كتابة يرجع بعض الباحثين زمان تدوينها إلى حوالي السنة "400" قبل الميلاد5. و"حبان" مدينة وأرض تقع غرب "ميفعة"، على الطريق المؤدية إلى
__________
1 Pliny, Vi, Xxxii, 158, Glaser, Skizze, Ii, S. 137
2 Ency., Ii, P.310
3 Ency., Ii, P.310
4 E. Littmann, Deutsche Aksum, Iv, Berlin, 1913, Reprinted In: Miscellanea Academica Berolinsia, Ii/ 2, 1950, P.107
5 Glaser 1000a, Le Museon, 1964, 3-4, P.445(4/163)
"شبوة". أما "ذيب" "ذيلب" فقبيلة كانت منازلها ما بين "عوالق الأحور" من الغرب ومنطقة "قنا", وتضم "دلتا" "ميفعة"، وهي من القبائل التي كانت تسكن القسم الشرقي من "حمير" أي: الأرض التي هاجمت منها حمير مملكة حضرموت1.
ويذهب "فون وزمن" إلى أن اسم حمير لم يكن قد لمع في هذا العهد على أنه اسم قبيلة حاكمة، وأن اسمها لم يلمع إلا بعد أن تحالف الحميريون مع قبائل أخرى مثل "ذياب"، فصاروا بحلفهم هذا قوة، وصار لهم نفوذ2.
وقد ورد اسم قبيلة "حبن" "حبان" و"ذيب" "ذياب" في النصوص المتأخرة كذلك, مثل كتابات "عقلة"3.
وقد عرف الحميريون عند أهل الأخبار أكثر من بقية الشعوب العربية الجنوبية الأخرى التي نتحدث عنها, وقد جعلوا "حميرًا"، وهو جد الحميريين في زعمهم، ابنًا لـ"سبأ"، وصيروه "حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"4. وقد سموه "العرنج" وزعموا أنه كان ملكًا، وأنه ملك بعد هلاك أبيه "سبأ"، وأنه أول من تتوَّج بالذهب, وملك خمسين سنة، وعاش ثلاثمائة عام، وكان له من الولد ستة، منهم تفرعت قبائل حمير، وكانت بينهم حروب، إلى أمثال ذلك من أقوال5.
وقد حاول بعض أهل الأخبار إيجاد تفسير للفظة "حمير" ولكلمة "عرنج"؛ فذكروا أوجهًا متعددة للتسمية. وقد اعترف "ابن دريد"، بأن من الصعب الوقوف على الأصل الذي اشتق منه اسم "حمير" أو "العرنج"؛ لأن هذه أسماء قد أُميتت الأفعال التي اشتقت منها, وقد ذكر أن بعض أهل اللغة زعموا أنه سمي حميرًا؛ لأنه كان يلبس حلة حميراء6. وذكر أيضا "أن هذه الأسماء الحميرية لا تقف لها على اشتقاق؛ لأنها لغة قد بعدت وقدم العهد بمن كان يعرفها7".
__________
1 Rep. Epig. 2887, Le Museon, 1964, 3-4, P.445
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.446
3 Jamme 959, Le Museon, 1964, 3-4, P.446
4 ابن حزم، جمهرة أنساب العرب "ص406"، "تحقيق ليفي بروفنسال".
5 ابن خلدون "2/ 47"، مروج الذهب "2/ 3" "محمد محيي الدين عبد الحميد".
6 الاشتقاق "2/ 306"، اللسان "4/ 215"، "دار صادر".
7 الاشتقاق "2/ 312"، "والعرنجج: اسم حمير بن سبأ"، اللسان "2/ 323"، "دار صادر".(4/164)
ويطلق أهل الأخبار لقب "تبع" على الملوك الذين حكموا اليمن، وعلى مجموعهم "التبابعة", وهم في حيرة من تفسير المعنى. وقد ذكر أكثرهم أنهم إنما سُمُّوا تبعًا و"تبابعة" لأنهم يتبع بعضهم بعضًا, كلما هلك واحد قام مقامه الآخر تابعًا له على مثل سيرته, أو لأن التبع ملك يتبعه قومه، ويسيرون خلفه تبعًا له, أو لكثرة أتباعه، أو من التتابع، وذلك لتتابع بعضهم بعضًا1. وذكروا أن أحد التبابعة كان قد صنع "الماذيات" من الحديد، وأن الحديد سخر له كما سخر للنبي "داود"2, وأشير إلى "تبع" في القرآن الكريم: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} 3, و {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} 4. وقد ذكر بعضهم أن هذا اللقب لا يلقب به إلا الملوك الذين يملكون اليمن والشحر وحضرموت، وقيل حتى يتبعهم "بنو جشم بن عبد شمس" أما إذا لم يكن كذلك فإنما يسمى ملكًا5. وأول من لقب منهم بذلك "الحارث بن ذي شمر" وهو الرائش، ولم يزل هذا اللقب واقعًا على ملوكهم إلى أن زالت مملكتهم بملك الحبشة اليمن6. وذكر أهل الأخبار أن تبعًا عند أهل اليمن لقبٌ هو بمنزلة الخليفة للمسلمين وكسرى للفرس وقيصر للروم, وكان يكتب إذا كتب: باسم الذي ملك برًّا وبحرًا7.
واختلف علماء التفسير في اسم "التبع" الحميري المذكور في القرآن الكريم، فذهب بعضهم إلى أنه من حمير، وأنه حَيَّر الحيرة وأتى "سمرقند" فهدمها. وذهب بعض آخر إلى أن تبعًا كان رجلًا من العرب صالحًا، وأنه لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك, وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا،
__________
1 المفردات "ص71"، اللسان "8/ 31"، تاج العروس "5/ 387" حمزة "82".
2 قال أبو ذؤيب:
وعليهما ماذيتان قضاهما ... داود أو صنع السوابخ تبع
اللسان "8/ 31" "تبع" "صادر"، المفردات "71"، مجمع البيان "25/ 115"، تفسير الخازن "4/ 115"، تفسير الشربيني "3/ 553"، تفسير ابن كثير "4/ 142".
3 الدخان، الآية 37.
4 ق، الآية 14.
5 ابن خلدون "القسم الأول من المجلد الثاني ص94"، تاج العروس "5/ 287"، "تبع".
6 صبح الأعشى "5/ 480".
7 تفسير النيسابوري، حاشية على تفسير الطبري "25/ 86"، تفسير الطبري "25/ 77"، تفسير ابن كثير "4/ 124".(4/165)
وكانوا يعبدون الأوثان فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دين خير من دينكم, قالوا: فحاكمنا إلى النار. قال: نعم فتحاكموا إليها، وكان معه حبران، فغلب الحبران النار، ونكصت على عقبها، فتهودت حمير، وهدم "تبع" بيت "رئام"، وهو بيت كانوا يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه، وانتصر عليهم1.
وقد ذكروا أن تبعًا أول من كسا البيت، وأن الرسول نهى عن سبه2, ورُوِيَ أنه قال: "لا أدري, تبع نبيًّا كان أم غير نبي"3. ويظهر من هذا القصص المروي عن "تبع" والذي يعود سنده إلى "كعب الأحبار" و"وهب بن منبه" و"عبد الله بن سلام" في الغالب، أنهم قصدوا بـ"تبع" الملك "أسعد أبا كرب" الذي تهود. يؤيد هذا الرأي نص كثير من المفسرين والأخباريين على اسمه، ونسبتهم القصص المذكور إليه4. وذكر "ابن كثير" أن "أسعد أبو كريب بن ملكيكرب اليماني"، هذا هو "تبع الأوسط" وأنه ملك قومه ثلاثمائة سنة وستًّا وعشرين سنة, ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث الرسول بنحو من سبعمائة سنة إلى غير ذلك من قصص يرجع سنده إلى المذكورين5.
هذا وللتبابعة قصص طويل في كتب أهل الأخبار، فيها قصص عن نسبهم، وفيها قصص آخر عن فتوحاتهم وحروبهم، وكلام عن دياناتهم، وحديث عن حكمهم وأحكامهم، تجده مبسوطا مفروشا في صفحات تلك الكتب، تجد فيها بعض التبابعة وقد آمنوا برسالة الرسول ووقفوا على اسمه, وذلك قبل ميلاده بمئات من السنين, وتمنوا لو عاشوا فأدركوا أيامه وذبُّوا عن حياضه. هذا أحدهم وهو التبع "أسعد أبو كرب بن ملكيكرب"، يقول:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
فلو مدَّ عمري إلى عمره ... لكنت وزيرًا له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءَهُ ... وفَرَّجْتُ عن صدره كل هم
__________
1 تفسير الطبري "25/ 77".
2 تفسير الطبري "26/ 97 وما بعدها".
3 تفسير النيسابوري، حاشية على تفسير الطبري "25/ 86".
4 تفسير الطبرسي "25/ 66" "طبعة طهران".
5 تفسير ابن كثير "4/ 144".(4/166)
فهو يشهد برسالة الرسول، ويؤمن بها قبل مبعثه بنحو من سبعمائة سنة، ويرجو لو مد في عمره، فوصل إلى أيام الرسول، إذن لجاهد وحارب معه، وفرج عنه كل هم؛ لأنه كان يعلم بما سيلاقيه الرسول من قومه من أذى وعذاب, ولصار له وزيرًا وابن عم1.
ويذكر بعض الأخباريين، أن تبعًا قال للأوس والخزرج: كونوا هنا حتى يخرج هذا النبي -صلى الله عليه وسلم-, أما أنا لو أدركته لخدمته وخرجت معه2.
إلى غير ذلك من قصص يحاول أن يجعل للتبابعة علمًا سابقًا قديمًا برسالة الرسول باسمه وبمكان ظهوره, وبتهيؤ القحطانيين ومنهم أهل المدينة لتأييده وللذب عنه، ولنشر دينه على رغم قريش أهل مكة، وهم لب العدنانيين.
ونجد في كتب أهل الأخبار بعض التبابعة وقد صيروا مسلمين حنفاء يدعون إلى الدين الحق وينهون قومهم عن عبادة الأصنام. وتجد فيها أحاديث قيل: إن رسول الله قالها في حق التبابعة مثل قوله: "لا تسبوا تبعًا؛ فإنه كان قد أسلم"، أو "لا تسبوا تبعًا؛ فإنه كان رجلًا صالحًا" و"لا تسبوا تبعًا؛ فإنه أول من كسا الكعبة", أو "ما أدري أكان تبع نبيًّا أم غير نبي"3. وتجد فيها أكثر من ذلك فقد بلغ الحال ببعض أهل الأخبار أن صيروا بعض التبابعة أنبياء وفاتحين، بلغت فتوحاتهم الصين في المشرق و"روما" في المغرب. وهذا القصص كله هو بالطبع من حاصل ذلك النزاع السياسي الذي كان بين القحطانيين والكتلة المعادية لها، كتلة العدنانيين.
وما هذا الإلحاح الذي يؤكد إيمان التبابعة بإله واحد وتسليمهم برسالة الرسول وتدينهم بدينه، وفي عدم جواز سب التبابعة أو لعنهم أقول: ما هذا الإلحاح إلا دليل ظاهر محسوس على أن من الناس من كان يلعن التبابعة ويسبهم ويشتمهم، ولم يكن هذا الشتم أو اللعن موجهًا إلى التبابعة بالذات بالطبع، بل كان موجهًا لليمن وللقحطانيين عامة، وللرد عليهم وضعت تلك الأحاديث وأمثالها على لسان
__________
1 أخبار مكة "ص84"، تفسير ابن كثير "4/ 142"، البداية والنهاية "2/ 163" وما بعدها".
2 تفسير الطبري "25/ 115 وما بعدها".
3 اللسان "8/ 31" "صادر"، تفسير الخطيب الشربيني "3/ 553"، تفسير الطبري "26/ 154 وما بعدها"، لباب التأويل في معاني التنزيل والمعروف بتفسير الخازن "4/ 115، 175" "مطبعة الاستقامة، القاهرة، 1955م".(4/167)
الرسول. وقد ظهر أجداد أهل اليمن فيها أحسن وأخير من أجداد قريش وأهل مكة، ظهروا فيها مؤمنين موحدين، كسوا البيت الحرام، وكانوا هم أول من كسوه، وعنوا بالبيت إذ عمروه مرارًا، وقدروا مكانته قبل الإسلام بزمان طويل خير تقدير.
وذكر "المسعودي" أن "تبعًا" المعروف بـ"تبع الأول" كان أول من حكم بعد "الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن الرائش"، وقد ملك -على زعمه- أربعمائة سنة، ثم ملكت بعده بلقيس بنت الهدهاد1. ولم يشر إلى صلة "تبع الأول" بالهدهاد، والظاهر من قوله: "وذكر كثير من الناس أن بلقيس قتلته"2، أنه كان على رأي أهل الأخبار وأصحاب "كتب التبابعة"3، مغتصبًا للعرش ليست له بالهدهاد صلة ونسب. فأول من حكم باسم "تبع" على رواية المسعودي هو تبع المذكور.
وكلمة "تبع" لم ترد في نصوص المسند؛ لا بمعنى ملك، ولا بمعنى آخر له علاقة بحكم أو بوظيفة أو بملك. وقد أطلقت تلك النصوص على اختلاف لهجاتها لقب "ملك" على الملوك، أي: على نحو إطلاقنا لها في عربيتنا؛ ولهذا يرى المستشرقون أن كلمة "تبع" هي "بتع" القبيلة التي تحدثت عنها من "همدان", وحرفت الكلمة فصارت "تبع"4.
وقد كان الحميريون يسيطرون على القسم الجنوبي الغربي من العربية الجنوبية في أيام مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"، ولا سيما في مدينة "ظفار" وحصنها الشهير المعروف بـ"ريدان"5، الذي يرمز إلى ملك حمير والذي يحمي العاصمة من غارات الأعداء, وهو بيت الملوك وقصرهم أيضًا6.
وقد كانت منازل حمير في الأصل إلى الشرق من هذه المنازل التي ذكرها مؤلف الكتاب. كانت تؤلف جزءًا من أرض حكومة قتبان وتتصل بحكومة حضرموت,
__________
1 مروج الذهب "2/ 4" "محمد محيي الدين".
2 المصدر نفسه.
3 كذلك.
4 Ency., II, P.311
5 Beitrage, S. 33
6 Le Museon, 1964, 3-4, P.448(4/168)
وتقع في جنوب "ميفعة"1. وتؤلف أرض "يافع" المسكن القديم للحميريين، وذلك قبل نزوحهم عنها قبل سنة "100" قبل الميلاد إلى مواطنهم الجديدة2, حيث حلوا في أرض "دهس" "داهس" وفي أرض "رعين" حيث كانت "رعين"، فأسسوا على أشلائها حكومة "ذو ريدان"3.
وحدود أرض حمير في مواطنها القديمة: أرض "رشأى" "رشاي" و"حبان" "حبن" في الشمال وأرض حضرموت في الشرق، وأرض "ذيب" "ذياب" في الغرب, وقد كانت في الأصل جزءًا من حكومة قتبان.
ويظهر من الكتب العربية أن الحميريين كانوا يقطنون حول "لحج" في منطقة "ظفار" و"رداع" وفي "سرو حمير" و"نجد حمير"4.
وقد عرفت الأرض التي أقام بها الحميريون بـ"ذي ريدان" "ذ ريدن"، نسبة إلى "ريدن" "ريدان"، قصر ملوك حمير بعاصمتهم "ظفار". وهو عند حمير بمثابة قصر "سلحن" "سلحان" "سلحين"، وقصر "غمدن" "غمدان" عند السبئيين.
وقد أخذ حصن "ريدان" اسمه من حصن أقدم عهدًا منه كان في قتبان، بُنِيَ عند ملتقى أودية في جنوب العاصمة "تمنع", عرف بـ"ذي ريدان" "ذ ريدان"، وقد بني على جبل يسمى بـ"ذي ريدان" يؤدي إلى "حدنم" "حدن". ولما كان الحميريون يقيمون في هذه الأرض المعروفة بـ"ذي ريدان" وذلك حينما كانوا أتباعًا لمملكة قتبان, لذلك أطلقوا على الحصن الذي بنوه بـ"ظفار" اسم حصن "ذي ريدان"؛ تيمنًا باسم قصرهم القديم، وأطلقوا "ذي ريدان" على وطنهم الجديد الذي أقاموا فيه بعد ارتحالهم عن قتبان؛ ليذكرهم باسم وطنهم القديم5.
وقد عثر على كتابة في خرائب حصن "ريدان" القديم، الذي كان قد بناه الريدانيون أيام إقامتهم بقتبان، قدَّر الخبراء زمان كتابتها بحوالي السنة "400"
__________
1 Beitrage, S. 48
2 Beitrage, S. 66
3 Beitrage, S. 73
4 Ency., Ii, P.310
5 Beitrage, S. 48, Discoveries, P.8, Le Museon, 1964, 3-4, P.450(4/169)
قبل الميلاد1. ويقع حصن "حدي" عند حافة الجبل الذي تقع عليه خرائب "ريدان"، وهو اسم يذكرنا باسم "حدنم" المذكور2.
وقد كان الحميريون أتباعًا لمملكة قتبان قبل انتقالهم إلى وطنهم الجديد، فأرضهم كانت خاضعة لحكومة قتبان, تؤدي الجزية لها وتعترف بسيادة ملوك قتبان عليها؛ ولذلك أطلق السبئيون عليهم "ولد عم" أي: ولد الإله "عم" و"أمة عم" "ملة عم" وهو إله قتبان. وتعني تلك الجملة "جماعة عم"، أي: قتبان ومن يخضع لها من قبائل، فـ"عم" هو رمز قتبان3, وهو تعبير يؤدي معنى التبعية والجنسية بالمعنى الحديث. ولما كان الحميريون أتباعا لقتبان في ذلك العهد، وإن لم يكونوا يتعبدون للإله "عم" إله قتبان، أُدخلوا في جملة "ولد عم" للتعبير عن المعنى المذكور.
وقد عثر الباحثون على كتابات مؤرخة سنة 1094, أرخت بالتقويم العربي الجنوبي الذي يرجع عهده إلى السنة "115" أو "109" قبل الميلاد, عثر عليها في أرضين حميرية. وقد تبين من تحويل تلك السنين إلى سنين ميلادية، أنها تعود إلى السنة "400" للميلاد فما بعد4.
ويرى بعض الباحثين أن السنة المقابلة لسنة "115" أو "109" قبل الميلاد، وهي السنة الأولى من سني التقويم العربي الجنوبي، هي سنة نشوء حكومة حمير وظهورها إلى الوجود بصورة فعلية5؛ ولهذا صار الحميريون يؤرخون بها لما لها من أهمية في الناحية السياسية عندهم.
وقد كان الحميريون يغزون أرض حضرموت ويتحرشون بطرق تجارتها، ولا سيما طريق "شبوة" - "قنا" "قانة" المؤدي إلى المدن الجنوبية والساحل؛ لذلك اضطرت حضرموت إلى إقامة سور يسد الوادي "وادي لبنا" "لبنة"، أقيم من حجارة قوية بحيث سد الوادي، فليس للمارة سبيل سوى الباب الذي
__________
1 Rep. Epig. 3871, Le Museon, 1964, 3-4, P.450, J. Pirenne Paleographie, I, "Cit. Note 12", Pl. Xixd
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.450
3 Le Museon Lxxvii, 3-4, 1964, P.429, 450, Ryckmans 535, Jamme 577, 578, 589.
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.429
5 Le Museon, 1964, 3-4, P.430(4/170)
يحرسه حراس أشداء. ويظهر أن إقامة ذلك السور كان قبل السنة "400" قبل الميلاد1.
وقد اكتسح الحميريون أملاك غيرهم من جيرانهم؛ فاستولوا على أرض "رعين", وقد كانت "رعين" مملكة صغيرة حكمها ملوك كما تبين ذلك من الكتابات. وقد كانت هذه المملكة تحكم أرض "عرش" وقد استولى عليها الحميريون أيضا, كما استولوا على كل الأرضين التي كانت خاضعة لحكم ملوك "رعن" "رعين", فأضافوها إلى حكومة "ريدن" "ريدان" "ذي ريدان". وقد حدث ذلك في القرن الثاني قبل الميلاد2.
وقد كانت مملكة "رعين" كما يتبين من الكتابة الموسومة بـGlaser 1693 في حلف مع سبأ ضد مملكة "قتبان"، ويظهر أنها كانت مع سبأ لتدافع بذلك عن نفسها إذ كانت جارة لقتبان، ولقتبان مصالح خطيرة في أرض "رعين"3.
ويتبين من النص الموسوم بـGlaser 1693 -الذي يعود عهده إلى أيام الملك "يدع أب يجل"، والذي يرجع بعض علماء العربيات الجنوبية عهده إلى حوالي السنة "200" قبل الميلاد- أن "رعين" كانت مملكة إذ ذاك، وفي أرض "رعين" أقام الحميريون دولتهم حيث اتخذو "ظفار" عاصمة لهم4, وكانوا قد زحفوا على هذه الأرض وعلى "دهس" "داهس" والمعافر واستقروا بها، حيث تغلبوا على سكانها الأصليين، وأقاموا حكومة حمير5 التي أخذت تنافس سبأ وتتوسع في أرض القتبانيين وغيرهم، متوخية انتزاع السلطة من السبئيين6.
وقد كان "شمر ذي ريدان" الذي تحدثت عنه في أثناء كلامي على "الشرح يحضب" من أقيال حمير ومن ساداتهم البارزين في ذلك الوقت. وقد رأينا أنه كان نشطًا محاربًا يتصل بالحبش وبملك "نجران"، وبملك حضرموت، وبكل من يجد فيه عداوة ونصبًا لـ"الشرح يحضب" ليمكنوه من التغلب عليه، ومن انتزاع الحكم منه. ولكنه لم يتمكن مع كل ذلك من التغلب على "الشرح"، بل
__________
1 Beitrage, S. 44
2 Beitrage, S. 39, 48
3 Beitrage, S. 143
4 Beitrage, S. 69
5 Beitrage, S. 73
6 Beitrage, S. 113(4/171)
اضطر في الأخير إلى التصالح معه، وإلى الاعتراف بسيادته، حتى إنه صار قائدًا من قواد جيشه في حربه التي أثارها "الشرح" على حضرموت. كما عُوقبت "نجران" عقابًا شديدًا نتيجة لاندفاعها مع "شمر" وتأييدها له، وإعلانها الحرب على "ملك سبأ وذي ريدان"1.
ويظهر من وصف "بلينيوس" Pliny، أن القسم الجنوبي من ساحل البحر الأحمر كان تابعًا لملك حمير، صاحب "ظفار". ويظهر من الكتابة CIH 41 أن مملكة حمير كانت تضم "رعين" و"ذمار" "ذمر" والأرض التي تقع في الشمال المسماة بـ"قاع جهران" في الوقت الحاضر؛ فيظهر من ذلك أن الحميريين كانوا قد تمكنوا من الاستيلاء على الهضبة وعلى المناطق الجنوبية من اليمن الممتدة على البحر الأحمر. ونحن لا نملك في الوقت الحاضر أي نصوص تشير إلى الوقت الذي استولت حمير فيه على هذه الأرضين, ويظن البعض أن ذلك قد كان في أيام حملة الرومان على اليمن، فاستغل الحميريون هذه الفرصة، فرصة ضعف حكومة السبئيين، فاستولوا على تلك الأرضين2.
وقد يرجع زمان استيلاء حمير على ميناء "قنا" الشهير، وهو أهم ميناء في حضرموت إلى هذا العهد، أو إلى عهد يقع بعد ذلك بقليل3.
ولم تكن علاقات حمير بسبأ علاقات طيبة في الغالب, بل يظهر أنها كانت نزاع وخصومة في أكثر الأوقات. نجد في كتابات السبئيين إشارات إلى حمير وإلى نزاع سبأ معهم, وقد دعوهم بـ"حمير" "حمر" "حمرم" وبـ"ذي ريدان" "ذ ريدن" و"ببني ذي ريدان"، ودعوا ملوكهم: "ذمر على ذي ريدان" و"شمر ذي ريدان" وبـ"كرب إيل ذي ريدان"4.
وقد استطاع الحميريون من الاستيلاء على "مأرب"؛ استولوا عليها جملة مرات. لقد تمكن أحد ملوكهم من احتلالها ودخولها، ويظهر أن ذلك كان بعد حملة الرومان على اليمن، فعدل في لقبه الملكي الرسمي وهو "ذو ريدان"،
__________
1 Beitrage, S. 38, Ryckmans 535, Jamme 577, Cih 350, Le Museon, 1964, 3-4, P.477
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.449
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.449
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.451(4/172)
وجعله مثل لقب الملوك السبئيين الشرعيين, وهو "ملك سبأ وذي ريدان"، الذي يشير إلى استيلاء سبأ فيما مضى على حمير وضم أرضهم إلى أرض سبأ. والظاهر أن "أقول" أقيال سبأ ثاروا على الحميريين فأخرجوهم من "مأرب"، وأعادوا العرش إلى العائلة السبئية المالكة، فحكموها بصفتهم "ملوك سبأ وذو ريدان"، وإن لم تكن لهم سيطرة فعلية على أرض حمير، واحتفظ ملوك حمير باللقب الجديد الذي لقبوا أنفسهم به، وهو "ملك سبأ وذو ريدان"، مع أنهم كانوا قد أخرجوا من أرض سبأ، وإن لم يكن قد بقي لهم أي نفوذ عليها. وهكذا صرنا نجد حاكمين: أحدهما سبئي وآخر حميري، يلقب كل واحد منهما نفسه بلقب "ملك سبأ وذو ريدان"1.
وقد جعل "فون وزمن" استيلاء حمير على مأرب في حوالي السنة "110" بعد الميلاد, وعاد فذكر أن الحميريين استولوا على "مأرب" مرة أخرى، وذلك في حوالي السنة "200" أو "210" للميلاد, واستند في حكمه هذا على الكتابة الموسومة بـ2 Jamme 653.
ومن ملوك حمير الملك "يسرم يهصدق" "ياسر يهصدق"، الملقب بـ"ملك سبأ وذو ريدان" في الكتابة الموسومة بـCIH 41. ويرى "فون وزمن" أنه حكم بعد الميلاد؛ حكم في النصف الثاني من القرن الأول بعد الميلاد، فيما بين السنة "70" و"80" بعد الميلاد3.
وقد وضع "فون وزمن" اسم "الشرح" بعد اسم "ياسر يهصدق"، وجعل أيامه في حوالي السنة "90" بعد الميلاد. وقد ذكر أنه من حمير, وإلى أيامه تعود الكتابة المرقمة بـ4 CIH 140, ويرى أن هذه الكتابة هي أقدم كتابة ورد فيها خبر حرب وقعت بين حمير وسبأ5.
ثم ذكر "فون وزمن" اسم "ذمر على يهبأر" بعد اسم "الشرح" وقد جعل حكمه في حوالي السنة "100" بعد الميلاد, وإلى زمانه تعود الكتابة
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.451
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.450, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.85
4 Le Museon, 1964, P.498
5 Le Museon, 1964, 3-4, P.459(4/173)
الموسومة بـCIH 365, وكان يعاصره الملك "شهر هلال يهقبض" ملك قتبان1.
ويرى "فون وزمن" أن "ذمر على يهبار" "ذمر على يهبأر" حارب شخصًا من "بني حزفر" "بن حزفرم", و "بنو حزفر" هم من عشيرة "ذ خلل" "ذو خليل"، وهم عشيرة قديمة يرجع إليها نسب مكربي سبأ وأكثر ملوك السبئيين, ويرى احتمال كون هذه الحرب قد وقعت مع أحد أفراد العائلة السبئية المالكة. وقد تمكن "ذمر على" من الاستيلاء على حصن "ذت مخطرن" "ذات مخطران"، ومن دخول "مأرب", وقد قام هو وابنه "ثارن" "ثأران" بترميم سد مأرب وببناء المواضع التي تخربت منه؛ وذلك لأنه كان قد تخرب، وذكر أن تخرب السد هذا، هو تخرب لم يصل خبره إلينا2. وقد قدم الملكان قرابين وهما بمأرب إلى "عثتر" "عثتار" و"سحر" بمعبد "نفقان" "نفقن"3.
وقد بلغ الحميريون على رأي "فون وزمن" أوج أيام عزهم في هذا العهد؛
فقد حكموا السبئيين ومعهم "ذ عذبهن" "ذو عذبهان"، الذين نعتوا أنفسهم بـ"أدم"، أي: الأتباع4.
ثم وضع "فون وزمن" اسم "ثارن يعب" "ثأران يعب" بعد اسم "ذمر على", وإلى زمانه تعود الكتابتان CIH 457 و5CIH 569.
ثم وضع "فون وزمن" اسم "شمر يهرعش الأول" من بعده، وقد كان معاصرًا لـ"أنمار يهأمن" ولـ"كرب إيل وتر يهنعم" من "بني بتع" من قبيلة "سمعي", وقد كان حكمه في حوالي السنة "140" بعد الميلاد6.
وذكر "فون وزمن" أن السبئيين تمكنوا من الاستيلاء على حمير، فصارت تابعة لهم، وكان ذلك في أيام "ملك سبأ وذي ريدان" "شعرم أوتر" "شعر أوتر"، وبقيت حمير خاضعة لهم إلى أن ثارت عليهم بزعامة "لعزز يهنف يهصدق" "العز يهنف يهصدق" "لعز يهنف يهصدق" "لعز نوفن يهصدق"
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.459
3 Cih 365, 457, Le Museon, 1964, 3-4, P.459
4 Glaser 551, Rep. Epig. 4775, Le Museon, 1964, 3-4, P.459
5 Le Museon, 1964, 3-4, P.498, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.81
6 Le Museon, 1964, 3-4, P.498(4/174)
حيث ولي عليهم وحكم بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"1.
وقد جعل "فون وزمن" زمان حكم "لعزز يهنف يهصدق"، فيما بين السنة "190" و"200" بعد الميلاد. وجعل أيام حكمه في أيام استيلاء "جدرت" "جدرة" الحبشي على "ظفار"2.
وقد جاء اسم الملك "لعزز يهنف يهصدق" في الكتابة الموسومة بـJamme 631, وقد لُقِّب فيها بلقب "ملك سبأ وذو ريدان", ذكر بعد أسطر من ورود اسم الملك السبئي "شعر أوتر" "ملك سبأ وذو ريدان", كما جاء اسم الملك "لحيعثت يرخم" الذي لقب أيضا بلقب "ملك سبأ وذو ريدان", وقد سجل هذه الكتابة أحد القادة السبئيين. ويظهر أن السبئيين والحميريين كانوا قد كونوا جبهة واحدة لمحاربة الحبش الذين هاجموا اليمن في عهد "جدرت" "جدرة"3.
وقد وقعت اضطرابات في هذا العهد, دامت حوالي قرن ونصف قرن, لم تنعم اليمن في خلال هذه المدة بالراحة والاستقرار. فنجد في الكتابات التي وصلت إلينا عن هذا العهد ذكر فتن وحروب وأوبئة وغزوات وغارات, ونجد ملوكًا وإقطاعيين يحاربون بعضهم بعضًا, ويعزو "ريكمنس" سبب ذلك إلى إدخال الخيل في الحروب وحلولها محل الجمل؛ مما ساعد على حركة القتال، وفي نقل الحروب بصورة أسرع إلى جبهات كان الجمل يقطنها ببطء. كما يرى "دوستل" W. Dostal أن لتحسين السروج التي كان يستعملها المحاربون الفرسان دخلًا في هذه الحروب والاضطرابات4.
لقد أدى استعمال الخيل في الحروب وتحسين سروجها على رأي الباحثين المذكورين إلى إحداث تطور خطير في أسلوب القتال, كما أدى إلى ظهور قوة محاربة صار لها نفوذ في الأحداث وفي سياسة جزيرة العرب، هي قوة الأعراب. فقد أدى استخدام البدو للخيل إلى إمعانهم في الغزو, وإلى إغارتهم على الحضر طمعًا في أموالهم وفيما عندهم من أمتعة ومال. كما أدى إلى الإكثار من غزوهم بعضهم
__________
1 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498. ORIENS ANTIQUUS, III, 1964, P.85, JAMME, SABAEAN Inscriptions, P.381
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.451
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.452, W. Dostal, The Evolution Of Bedouin Life, L'antica Beduina, Universita Di Roma, Studi Semitici, 2, 1959, Pp.11-34(4/175)
بعضًا، وإلى التدخل في شئون الحكومات, وصار لهم نفوذهم في الأمور السياسية والعسكرية في العربية الجنوبية، واضطرت حكومات هذه الأرضين على أن تحسب لهم حسابًا، كما استخدموا الأعراب في قتالهم مع الحكومات الأخرى المنافسة لها، وفي محاربة الأقيال والأذواء1.
ثم جعل "فون وزمن" اسم "ياسر يهنعم الأول" من بعده، وقد حكم معه ابنه "شمر يهرعش" الذي لقبه بالثاني؛ تمييزًا له عن "شمر" المتقدم. وفي عهدهما احتل الحميريون "مأرب"، وصارت "سبأ" تابعة لهم, وكان ذلك في حوالي السنة "200" للميلاد2. وكان يعاصرهما "عذبة" نجاشي الحبشة في هذا الوقت3.
ويرى "فون وزمن" أن الكتابات العربية الجنوبية انقطعت فجأة بعد هذه الكتابة المتقدمة عن ذكر ملوك "همدان"، فلم تعد تذكر شيئًا عنهم، ويعزو سبب ذلك إلى الأوبئة التي اجتاحت البلاد, وإلى تألق نجم الأسرة الحميرية الحاكمة التي تمكنت على ما يظهر من الاستيلاء على عاصمة سبأ "مأرب" وعلى نجاد سبأ, وإلى انفراد سادة "مضحي" "مضحيم" "مضحم"، وقد تكون استولت على ردمان كذلك.
وفي هذه الظروف حكم "ياسر يهنعم" الذي لقبه "فون وزمن" بالأول مع ابنه "شمر يهرعش" الذي لقبه بـ"الثاني" الذي اشترك معه بالحكم ثم انفرد به وحده فحكم في "ظفار" وفي "مأرب"4.
ثم نصب "فون وزمن" شخصًا دعاه "كرب إيل ذو ريدان" بعد "شمر يهرعش الثاني" وجعله معاصرًا للنجاشي "زوسكالس" Zoskales، وجعل حكمه في حوالي السنة "210" بعد الميلاد5, وهو شخص لا نعرف اسمه الملكي الكامل. ويرى "فون وزمن" أنه هو المقصود في الكتابات Jamme 578, 586, 589، وهي كتابات دونها خصومه, ويظهر من إحدى الكتابات أن جيوش خصميه "الشرح" و"يأزل" بلغت "سرعن" في "ردمان" و"قرننهن" "القرنين"
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.452
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
3 Le Museon, 1964, 3-4, Pp.457, 498
4 Rep. Epig. 4196, 4938, Jamme 647, 653, Le Museon, 1964, 3-4, P.475
5 Le Museon, 1964, 3-4, P.498(4/176)
و"عروشتن" "العرائش" في نجاد قبيلة "حرمتم" "حرمت" "حرمة" في أرض "مراد" بين "مأرب" و"قتبان"، وأنها استولت على الحصن الجبلي المنيع "عر أساي" "عر الآسى" "عر أسأي" شرق "ذمار"1.
وقد نشبت حرب أخرى بينه وبين خصميه، اضطرته إلى الاعتراف بسيادة "الشرح" و"أخيه" عليه، غير أنه عاد فثار على خصميه، فخسر في هذه المرة أيضا؛ خسر مدينة "هكر" التي اشتهرت بقصرها الملكي على قمة التل، وخسر "رداع" و"ظفار"، فاضطر إلى الفرار2.
ثم جعل "فون وزمن" "ثارن يعب يهنعم" من بعده، وقد كان حكمه في حوالي السنة "230" حتى السنة "240" للميلاد3.
ثم ذكر "فون وزمن" اسم "ذمر على وتر يهبأر" من بعده، وقد كان حكمه في حوالي السنة "250" للميلاد. ثم انتقل منه إلى "عمدان بين يهقبض" الذي جعل حكمه في حوالي السنة "260" حتى السنة "270" للميلاد4.
وجعل "فون وزمن" الملك "ياسر يهنعم" من بعد "عمدان بين يهقبض" وقد نعته بالثاني، وجعل حكمه مع ابنه "شمر يهرعش" الذي لقبه بالثالث، والذي انفرد وحده بالحكم بعد وفاة والده, فحكم حتى السنة "300" للميلاد. وقد كان يعاصره الملك "شرح ال" و"رب شمس"5.
وجعل "فون وزمن" حكم الملك "ياسر يهنعم الثالث" و"ثارن أيفع" "ثأرن أيفع" بعد حكم "شمر يهرعش الثالث". وقد كان حكم "ياسر يهنعم" الثالث منفردًا في بادئ الأمر ثم أشرك ابنه "ذرأ أمر أيمن" معه في الحكم, وذلك في الشطر الثاني من أيام حكمه, وقد عاصرا "عزانا" ملك الحبش الذي غزا اليمن. ثم جعل "ذمر على يهبر" من بعد الاثنين المذكورين، وهو ابن "ثارن يكرب" "ثأرن يكرب"6.
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.478
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.478
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
5 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
6 Le Museon, 1964, 3-4, P.498, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.80(4/177)
وذكر "فون وزمن" أن "ذمر على يهبر" حكم مع ابنه "ثارن يهنعم" "ثأران يهنعم" في الشطر الثاني من أيام حكمه، وذلك فيما بين السنة "340" والسنة "360" للميلاد. وجعل في حوالي هذا العهد خراب سد مأرب للمرة الثانية1.
وفي هذا العهد دخل ملك حمير في النصرانية بتأثير "ثيوفيلوس" عليه, وبنيت كنائس في "ظفار" وفي "عدن". كما أشرك الملك "ثأران يهنعم" "ثارن يهنعم" ابنه "ملك كرب يهامن" "ملكيكرب يهأمن" معه في الحكم.
وذكر أنه في حوالي السنة "378" للميلاد ترك معبد "أوم" "أوام"، وأهمل بسبب انصراف أكثر الناس عن التعبد فيه, وتركهم عبادة آلهة سبأ القديمة2.
وذكر "فون وزمن" أن الملك "ملكيكرب يهنعم" "ملكيكرب يهأمن" حكم منذ السنة "380" للميلاد مع ولديه: "أب كرب أسعد" "أبي كرب أسعد" و"ذرأ أمر أيمن", ثم ذكر بعدهم اسم "أبي كرب أسعد" مع ابنه "حسن يهأمن" "حسَّان يهأمن". وقد ذكر أن "أبا كرب أسعد" هو الذي حكم بعد والده "ملكيكرب يهنعم" "ملكيكرب يهأمن"، ثم حكم مع ابنه "حسان يهأمن" حكمًا مشتركًا، مستعملين لقبًا جديدًا هو: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعربهمو طودم وتهمتم", وذلك في حوالي السنة "400" للميلاد3.
ويعرف "أبو كرب أسعد" "أبكرب أسعد" بـ"أسعد تبع" عند أهل الأخبار, ويذكرون أنه اعتنق اليهودية أثناء نزوله بيثرب في طريقه إلى اليمن.
وقد ذهب "فون وزمن" إلى أن الذين حكموا حمير كانوا من أسرة ملكية واحدة, ولكنهم يرجعون إلى فرعين. وذهب "ريكمنس" إلى أن ملوك حمير كانوا أسرتين: أسرة "ياسر يهنعم" وأسرة "ياسر يهصدق"، وقد حكم أعضاء الأسرتين متفرقين, ولكن في وقت واحد4.
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.498, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.80
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.480, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.80
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.493
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.494, J. Ryckmans, Chronologie, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.19-22(4/178)
وظفار هي عاصمة حمير, وقد اشتهرت بجذعها، ولا تزال تشتهر به. وقد تفنن الحميريون في تجميله بحفر صور ونقوش لحيوانات ونباتات وأزهار عليه، وفي صقله، ويستعمل عِقْدًا يوضع حول العنق وخاتمًا لتزيين الأصابع. واشتهرت بأنها موطن لغة حمير, فقيل: من دخل ظفار حمر؛ لأن لغة أهلها الحميرية1.
وقد زالت معالم قصر ريدان بظفار، وموضعه اليوم ربوة مربعة الشكل تعرف بـ"ريدان"، بقي منه "سرعبان"، أي: طوفيان بشكل هندسي، من الحجر المنحوت2. وقد زار "كلاسر" مدينة ظفار والخرائب الواقعة على الربوة المتاخمة لآثار ظفار من الجنوب, وقد سمى تلك الخرائب القائمة على الربوة بـ"حصن زيدان". وقد شك في كونه "حصن ريدان" القديم, ولكن بعض الباحثين لا يؤيدون رأيه هذا3, وأظن أن كلمة "زيدان" هي تحريف للاسم القديم "ريدان".
وقد اشتهرت حمير عند أهل الحجاز بمصانعها، فقيل: مصانع حمير. وفي كلام النبي لوفد كندة: "إن الله أعطاني ملك كندة, ومصانع حمير، وخزائن كسرى وبني الأصفر، وحبس عني شر بني قحطان، وأذل الجبابرة من بني ساسانَ، وأهلك بني قنطور بن كنعان"4.
ترتيب ملوك حمير:
هذا وقد رتب "فون وزمن" بعض ملوك حمير ترتيبًا زمنيًّا على هذا النحو:
1- ياسر يهصدق. وقد حكم بحسب رأيه في حوالي سنة "75ب. م.".
2- ذمر على يهبر. وقد كان حكمه في حوالي سنة "100ب. م.".
3- ثأران يعب. وقد كان حكمه في حوالي سنة "125ب. م.", ثم وضع فراغًا بعده، يدل على حكم ملك من بعده لا يعرف زمانه، ووضع
__________
1 الإكليل "1/ 88".
2 الإكليل "1/ 87".
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.448
4 الإكليل "1/ 66".(4/179)
بعده حكم الملك "شمر يهرعش" الأول، وقد كان حكم ذلك الملك الذي لم يعرف اسمه ولا خبره ولا أسرته, في حوالي سنة "150ب. م.".
4- ثم وضع بعد اسم "شمر يهرعش الأول" فراغًا, ذكر أن حمير صارت فيه تابعة للسبئيين، وذلك في عهد "ملك سبأ وذو ريدان شعرم أوتر" "شعر أوتر". ثم وضع بعده اسم الملك "لعزز يهنف يهصدق" "لعزز يهأنف يهصدق".
5- ثم ذكر بعد "لعزز يهنف يهصدق" اسم الملك "ياسر يهنعم"، وقد نعته بـ"الأول"؛ ليميزه عن ملكين آخرين عرفا بهذا الاسم.
6- ثم وضع بعده اسم ابن له دعاه بـ"شمر يهرعش الثاني".
7- ثم وضع بعده اسم ملك, بقي من اسمِهِ اسمُهُ الأول فقط، وهو "كرب ال" "كرب إيل"، وقد نعته بـ"كرب إيل ذو ريدان"1.
8- ثم وضع اسم الملك "ذمر على وتر يهبر" "ذمر على وتر يهبأر" من بعده.
9- ثم اسم "ثارن يعب يهنعم" ثم ترك فراغًا، ذكر بعده اسمًا.
10- الملك "عمدان بين يهقبض".
11- ثم الملك "ياسر يهنعم الثاني".
12- ثم "شمر يهرعش الثالث".
13- ثم اسم الملك "ياسر يهنعم الثالث".
14- ثم "ثارن أيفع" "ثأران أيفع".
15- ثم "ذرارمر أيمن" "ذرأ أمر أيمن", وهو ابن "ياسر يهنعم الثالث".
16- ثم ذكر اسم ملك لم يتأكد من لقبه هو "ثأران ي ... " "ثأران يـ ... ".
17- وذكر بعده اسم "ذمر على يهبر" "ذمر على يهبأر".
18- ثم ابنه "ثارن يهنعم" "ثأران يهنعم".
19- ثم ذكر اسم ابنه الملك "ملكيكرب يهأمن" "ملك كرب يهأمن".
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, Pp.495, 498(4/180)
20- ثم ذكر اسم ابنه "أبكرب أسعد" "أبي كرب أسعد" و"ذرأ أمر أيمن" "ذرأ أمر أيمن".
21- ثم "أبو كرب أسعد" ومعه ابنه "حسن يهأمن" "حسان يهأمن".
22- ثم اسم "شرحب ال يعفر", "شرحبيل يعفر"، "شرحب إيل يعفر"1.
__________
1 أخذت هذه القائمة من الصفحتين "495" و"498" من مجلة: Le Museon, 1964, 3-4(4/181)
الفصل الحادي والثلاثون: سبأ وذو ريدان وحضر موت ويمنت
مدخل
...
الفصل الحادي والثلاثون: سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت
وفي حوالي السنة "300ب. م." أو بعد ذلك بقليل، لحقت اللقبَ الرسميَّ لملوك "سبأ وذي ريدان" إضافةٌ جديدةٌ، هي "حضرموت ويمنت"، فصار "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، وصرنا نقرأ أسماء الملوك، ونقرأ بعدها هذا اللقب الجديد.
وفي الإضافة الجديدة دلالة على أن مملكة "سبأ وذي ريدان" عدت حضرموت منذ هذا العهد أرضًا تابعة لها وخاضعة لحكمها، ليس لها منذ هذا الضم استقلال ولا ملوك، وأنها عدت أرض "يمنت" خاضعة لها وجزءًا من ممتلكاتها كذلك. ومعنى هذا أن رقعة أرض "سبأ وذي ريدان" قد توسعت كثيرًا بهذا الضم.
وكلمة "يمنت" لم ترد قبل هذا العهد, لا في المسند ولا في كتب "الكلاسيكيين", ولهذا فهي بالنسبة إلينا لفظة جديدة، وقفنا عليها في الكتابات التي دونت بعد الميلاد. وقد يأتي زمان يعثر فيه العلماء على كتابات تحمل هذه الكلمة، وترجع بها إلى ما قبل الميلاد.
ويمنت -في رأي "كلاسر"- كلمة عامة تشمل الأرضين في القسم الجنوبي الغربي من جزيرة العرب؛ من باب المندب حتى حضرموت. وكانت تتألف من مخاليف عديدة، يحكمها أقيال وأذواء مستقلون بشئونهم، ولكنهم يعترفون بسيادة "ظفار" أو "ميفعة" عليهم. ومن أشهر مدن "يمنت" الساحلية في رأي(4/182)
"كلاسر" Ocelis عند باب المندب، و"عدن" Arabia Emporium و"قانة" "قنا" Cane في حضرموت1.
وتعني "يمنت" في العربيات الجنوبية الجنوب، وقد رأى "فون وزمن" أنها تعني القسم الجنوبي من أرض حضرموت، وهي الأرض التي كانت عاصمتها "ميفعت" "ميفعة" في ذلك الزمان2.
ومن "يمنت" ولدت كلمة اليمن التي توسع مدلولها في العصور الإسلامية حتى شملت أرضين واسعة، لم تكن تعد من اليمن قبل الإسلام، تجدها مذكورة في مؤلفات علماء الجغرافيا والبلدان والموارد الأخرى3.
واليمن عند أهل الأخبار أرض واسعة يحدها من الغرب بحر القلزم، أي: البحر الأحمر، ومن الجنوب بحر الهند، أي: البحر العربي في اصطلاحنا, ومن الشرق البحر العربي، وتتصل حدود اليمن الشمالية إلى حدود مكة حيث الموضع المعروف بـ"طلحة الملك"4.
وقد أورد أهل الأخبار على مألوف عادتهم تفاسير لسبب تسمية اليمن يمنًا، فذكروا أن اليمن إنما سميت يمنًا نسبة إلى يمن بن قحطان، وقيل: إن قحطان نفسه كان يسمى بيمن. وقيل: إنما سميت بيمن بن قيدار، وقيل: سميت؛ لأنها يمين الكعبة، وقيل: سميت بذلك؛ لتيامنهم إليها، وقيل: لما تكاثر الناس بمكة وتفرقوا عنها، التأمت بنو يمن إلى اليمن، وهو أيمن الأرض5.
وأول ملك نعرفه حمل اللقب الجديد، لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، هو الملك "شمر يهرعش" المعروف بـ"شمر يرعش" عند الإسلاميين. أما أبوه فهو "يسر يهنعم" "ياسر يهنعم"، المعروف والمشهور أيضا مثل ابنه بين أهل الأخبار.
وقبل أن أدخل في موضوع "شمر يهرعش" وفي أبيه، أودُّ أن أبين أن
__________
1 Glaser, Punt Und Die Sudarabischen Reiche, In Mitteillungen Der Der Vorderasiatischen Gesellschaft, 1899, S. 99
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.456
3 الصفة "ص48"، البلدان "8/ 522".
4 صبح الأعشى "5/ 6".
5 صبح الأعشى "5/ 6"، اللسان "13/ 462، 464".(4/183)
الباحثين في هذا اليوم ليسوا على اتفاق في عدد من تسمى بـ"ياسر يهنعم" وفي أيام حكمهم، وكذلك في عدد من تسمى بـ"شمر يهرعش" وفي أيام حكمهم, فبينما كان قدماؤهم يذهبون إلى وجود "ياسر يهنعم" واحد ووجود "شمر يهرعش" واحد، ذهب بعض المحدثين إلى وجود شخصين اسم كل واحد منهما "ياسر يهنعم"، وشخصين اسم كل واحد منهما "شمر يهرعش" واسم والد كل واحد منهما "ياسر يهنعم"1.
وقد ذهب "فون وزمن" إلى وجود ثلاثة ملوك كان اسم كل واحد منهم "ياسر يهنعم"، وثلاثة ملوك كان اسم كل واحد منهم "شمر يهرعش", واسم والد كل واحد منهم "ياسر يهنعم". أما "ياسر يهنعم الأول"، فجعل زمان حكمه في حوالي السنة "200" للميلاد, وقد حكم معه ابنه المسمى بـ"شمر يهرعش"، وقد لقبه بالثاني ليميزه عن ملك آخر حكم قبله وتسمى بهذا الاسم أيضا، وهو "شمر يهرعش"، الذي دعاه بالأول، وقد حكم في حوالي السنة "140" للميلاد. ولم يعرف اسم والده2.
وجعل "فون وزمن" حكم "ياسر يهنعم الثاني" في حوالي السنة "270" للميلاد، وقد حكم ابنه "شمر يهرعش الثالث" معه، ثم حكم "شمر يهرعش الثالث" وحده. ثم نصب ملكًا آخر من بعده، جعل حكمه في حوالي السنة "330" للميلاد سماه "ياسر يهنعم الثالث" حكم مع ابنه "ثارن يهنعم" "ثأران يهنعم"3.
ويعرف "ياسر يهنعم" عند أهل الأخبار بـ"ياسر أنعم" وبـ"ناشر النعم" وبـ"ياسر ينعم" وبـ"ناشر ينعم" وبـ"ناشر أنعم"، وزعموا أنه إنما عرف بذلك لإنعامه عليهم، ووالده في نظرهم "عمرو بن يعفر بن حمير بن المنتاب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ"4، أو "يعفر بن عمرو بن حمير بن السياب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ"5، أو "عمرو ذي الأذعار"، أو
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.422, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.80
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
4 الإكليل "ص207", الطبري "1/ 566" "دار المعارف" "2/ 11" "دار المعارف", مروج الذهب "2/ 5"، ابن خلدون "2/ 52".
5 التيجان "ص219".(4/184)
"عمرو بن يعفر بن شرحبيل بن عمرو ذي الأذعار". وزعموا أنه سار إلى وادي الرمل بأقصى الغرب، فلم يجد وراءه مذهبًا، فنصب صنمًا من نحاس، وزبر عليه بالمسند: "هذا الصنم لناشر أنعم، ليس وراءه مذهب، فلا يتكلف أحد ذلك فيعطب"1.
وقد حكم "ياسر أنعم" أو "ناشر النعم" أو "ناشر ينعم" بعد "بلقيس بنت إيليشرح" معاصرة "سليمان" "1021-981ق. م."، على رواية من روايات أهل الأخبار2، أو بعد ثلاثين سنة أو أربعين من حكم "سليمان" لحمير، حيث أخذه منه وأعاده إلى حمير, فملكهم هو، وكان ملكه خمسًا وثلاثين سنة3. وهكذا رجع أهل الأخبار زمان "ياسر أنعم" إلى ما قبل الميلاد، وصيروه معاصرًا لسليمان، وهو من رجال أواخر القرن الثالث للميلاد.
أما سبب اشتهاره بين أهل الأخبار بـ"ناشر النعم"، أي: "محيي النعم"4 فلأنه كما يقولون: "أحيا ملك حمير"، أو "لإنعامه عليهم بما قوى من ملكهم, وجمع من أمرهم"5، أو "لإنعامه على الناس بالقيام بأمر الملك, ورده ذلك بعد زواله"6. ولفضله العميم هذا على حمير، نعتوه بالنعت المذكور.
ونسب الأخباريون إلى "ناشر النعم" الغزوات والفتوح, زعموا أنه جمع حميرَ وقبائل قحطان, وخرج بالجيوش إلى المغرب حتى بلغ البحر المحيط, فأمر ابنه "شمر يرعش" أن يركب البحر، فركب في عشرة آلاف مركب، وسار يريد وادي الرمل، ونزل "ناشر النعم" على صنم "ذي القرنين" فأخرج عساكره إلى الإفرنج و"السكس" وأرض "الصقالبة"، فغنموا، وسبوا، ورجعوا إليه بسبي عظيم. ولما رجع "شمر" من المحيط إلى أبيه، أمر بمنارة فبنيت إلى جانب منارة ذي القرنين، ثم أمر فكتب في صدر التمثال الذي عليها من النحاس بالمسند: هذا الصنم لياسر أنعم الحميري، وليس وراءه مذهب،
__________
1 صبح الأعشى "5/ 22".
2 التيجان "ص219"، الطبري "1/ 566" "طبعة دار المعارف بمصر" مروج الذهب "2/ 4 وما بعدها" "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد".
3 التيجان "ص219"، مروج الذهب "2/ 4".
4 التيجان "ص219".
5 الطبري "1/ 566" "دار المعارف".
6 حمزة "ص83".(4/185)
فلا يتكلفن ذلك فيعطب1. ونسبوا إليه فتح الحبشة، وإرسال العساكر إلى أرض "الروم بني الأصفر"، وملكهم يومئذ "باهان بن سحور بن مدين بن روم بن أسطوم بن روم بن ناطس بن سامك بن رومي بن عيص، وهو الأصفر بن يعقوب"، وذكروا أنه غلب على أرض الترك، وسار إلى التبت والصين وأرض الهند. فلما بلغ "نهاوند" و"دينور"، مات بها, فدفنه ابنه "شمر" في ديار الغربة، وولي الملك بعده2.
وأبت قرائح أهل الأخبار إلا أن تضيف إلى "ناشر النعم" شعرًا، فيه فخر وفيه حماسة، زعمت أنه قاله3. وأضافت إلى ابنه شعرًا، زعمت أنه قاله في رثاء أبيه, ولم تنسَ هذه القرائح أن تأتي بنماذج من كلامه العربي العذب؛ لترينا أنه كسائر ملوك اليمن يتكلم بلسان عربي مبين4.
أما نحن، فلا نعلم شيئًا من أمر هذه الفتوح والغزوات، ولا من أمر هذا المنظوم أو المنثور, وإنما الذي نعرفه أنه كان يسمى "ياسر يهنعم"، لا "ناشر النعم" كما جعله الأخباريون، وأنه عاش في القرن الثالث للميلاد، وبينه وبين سليمان مئات من السنين، وأنه لا يمكن أن يكون قد خلف "بلقيس" معاصرة "سليمان" على حد زعم أهل الأخبار، ولا أن يكون قد انتزع الملك من "سليمان", ولا أن يكون صاحب فضل ونعمة على حمير؛ لأنه أنقذهم من حكم "سليمان". وكل ما في الأمر أن الاسم كان بالنسبة إلى أهل الأخبار غريبًا، فصيروه "ناشر النعم"، وابتكروا له قصصًا في تفسير معنى ذلك الاسم.
وإذا كان حكم "ياسر يهنعم" في النصف الثاني من القرن الثالث للميلاد، فإنه يكون من المعاصرين لمملكة "تدمر"، وربما كان قد عاصر الملكة الشهيرة "الزباء"5، وأدرك أيام سادات الحيرة أول مؤسسي أسرة لخم. وقد قدر بعض الباحثين في العربيات الجنوبية زمان حكم "ياسر يهنعم" بأوائل النصف الأول من
__________
1 التيجان "ص221"، الطبري "2/ 3" "المطبعة الحسينية".
2 التيجان "ص221 وما بعدها" "قبر الملك مالك ناشر النعم بأرض نهاوند ودينور بأرض العجم ... "، الإكليل "ص207".
3 التيجان "ص221".
4 التيجان "ص220" الأصمعي، تأريخ ملوك العرب الأولية "ص80، 103"، حمزة "ص83".
5 Carl Rathjens, Sabaeica, I, S. 89., Le Museon, 1961, 1-2, P.172(4/186)
القرن الثالث للميلاد، أي: في حوالي سنة "201" أو "207" للميلاد فما بعدها1.
ولا نعرف اسم والد "ياسر يهنعم" إذ لم يرد ذكره في النصوص, أما أهل الأخبار فقد عينوه وثبتوه على نحو ما ذكرت، وصيره "حمزة" "شراحيل"، -وهو على زعمه- عم "بلقيس" التي حكمت اليمن قبل عمها "ناشر النعم"2. وقد ذهب "فلبي" مستندًا إلى دراسة بعض النصوص إلى احتمال كون "العذ نوفان يهصدق" الذي وضع اسمه قبل اسم "ياسر يهنعم" والدًا له3.
وقد ورد اسم "ياسر يهنعم" في جملة نصوص، منها نص رقمه العلماء بـCIH 46، عثر عليه في موضع "يكرن" "يكاران"4، "يكر" "يكار" أرخ بشهر "ذو المحجة" "ذو محجة" "بورخن ذ محجتن" "ذو الحجة" من سنة "385" من التأريخ الحميري5, الموافقة لسنة "270م" من سني "مبحض بن إبحض" "مبحض بن أبحض"6. وقد جاء فيه اسم الإله "عثتر ذو جوفت" بعل "علم" و"بشر"، أي: إله وسيد موضعي "علم" و"بشر"، واسم قبيلتي "مهأنف" و"شهر"7.
وقد تبين من الكتابات أن "ياسر يهنعم" كان قد حكم وحده في بادئ الأمر، لم يشاركه أحد في اللقب ولا في الحكم، ثم بدا له ما حمله على إشراك ابنه "شمر يهرعش" معه، بدليل ذكر اسمه من بعده، وبعده: "ملك سبأ وذي ريدان"، فصرنا نقرأ الكتابات المتأخرة المدونة في هذا العهد وبها اسم الملكين.
وورد اسم "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش" في نص آخر مؤرخ كذلك، أُرِّخَ في شهر "مذران" "مذرن" سنة "316" من سني تقويم "نبط ال" "نبط إيل" دوَّنه "فرعن يرل بن ذرنح" "فرعان يأزل بن ذرنح"، و"يعجف" رئيس قبيلتي "قشم" "قشمم" و"مضحيم" "مضحي"، وذلك عند
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.456
2 حمزة "ص83".
3 Background, P.109
4 "يكاران" الصفة "ص111 س14"، "يكر". Background, P.109
5 "ذو الحجة"، "ذبخرفن خمست وثمني وثلث ماتم".
6 Cih 46, Iv, I, P.76, Cih 26, Langer 7, D.H. Muller, In Zdmg., Xxxvii, "1883", S.365-370, Background, P.109
7 راجع نهاية النص.(4/187)
بنائها "ماجلهمو" "مأجل" صهريجين يخزنان فيهما المياه لإسقاء أرضين لهما مغروسة بالكروم، وكان ذلك في أيام سيديهما "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش" ملكي "سبأ وذي ريدان"1, ولهذه المناسبة تيمنا بذكر اسمي الملكين.
وقد قدر "فلبي" مبدأ تقويم "نبط إيل" بسنة "40ق. م."، فإذا أخذنا بهذا التقدير، يكون هذا النص قد دون حوالي سنة "276ب. م."2.
وأود أن ألفت نظر القارئ إلى أن أحد النصين قد أرخ بـ"سني نبط" "نبط ال" "نبط إيل"، وأن النص الآخر قد أرخ بسني "مبحض بن أبحض"، كما عثر على نصين آخرين أرخا بسني "مبحض بن أبحض".
وقد ذهب العلماء إلى أن الناس كانوا يؤرخون في ذلك الزمان وفق تقويمين، أي: تأريخين, مبدأ أحدهما تقويم "نبط" "نبط إيل"، ومبدأ ثانيهما تقويم "مبحض بن أبحض", والفرق بين التقويمين خمسون سنة، أو خمس وسبعون سنة. وقد بقي الناس يؤرخون بهذين التقويمين أمدًا، ثم مالوا إلى التوريخ بتقويم واحد، إلى أن أهمل أحدهما إهمالًا تامًّا. ويرى "بيستن" أن التقويم الذي أهمل وترك، هو تقويم "نبط" نبط إيل"، وأن الذي بقي مستعملًا هو تقويم "مبحض بن أبحض"3.
ويرى "بيستن" أن الكتابات السبئية المتأخرة، قد أرخت وفق تقويم "مبحض بن أبحض"، وإن لم تشر إلى الاسم؛ إذ أسقطته من الكتابات.
أما مبدأ هذا التقويم، فيقع فيما بين سنة "118" و"110ق. م.", غير أن الناس لم يؤرخوا به عمليًّا وفي الكتابات إلا في القرن الثالث بعد الميلاد. أما فيما قبل القرن الثالث للميلاد، فقد كانوا يؤرخون على عادتهم بتقاويم محلية مختلفة4.
ويرى "ريكمنس" أن التواريخ التي أرخت بها النصوص المؤرخة في عهد "ياسر يهنعم" وفي عهد ابنه "شمر يهرعش" تختلف عن التقويم السبئي المألوف الذي يبدأ -على رأيه- بسنة "109ق. م." وهي لذلك لا يمكن أن تثبت
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.475, Rep. Epig., Vii, P.138, Rep. Epig. 4196
2 Background, P.110
3 A.F.L. Beeston, Epigraphic South Arabian Calendars And Dating, London, 1956. P.36
4 Beeston, Epigraphic, P.37(4/188)
وفق هذا التقويم1.
وقد حارب "ياسر يهنعم" الهمدانيين الذين تعاونوا مع قبائل "ذي ريدان" لمهاجمة "مأرب"، غير أنه باغت الهمدانيين في غرب "صنعاء" وتغلب عليهم2.
وفي النص الموسوم بـCIH 353 خبر ثورة للحميريين على "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش" في "ضهر", وقد حاصر "ياسر" الحميريين, ويرى "فون وزمن" أن هذه الثورة حدثت في حوالي سنة "300ب. م.". وقد عثر على كتابات في منطقة "ضهر"، وهي لا تبعد كثيرًا عن "صنعاء", وفي هذه المنطقة خرائب "دورم"، كما عثر على كتابات في "ثقبان" بين "ضهر" و"صنعاء"3.
أما الذي حارب "شمر يهرعش بن ياسر يهنعم"، من الحميريين، وذلك كما جاء في النص المتقدم، أي النص الموسوم بـCIH 353 فـ"يرام أيمن" وأخوه "برج" "بارج". فيكون حكمها إذن في أيام "شمر يهرعش"، أي في القرن الثالث للميلاد4. وهذا مما يشير إلى أن العلاقات بين الطرفين أي: بين "سبأ" و"حمير"، كانت قد تعرضت لهزة عنيفة خطيرة حتى تحولت إلى حرب، أشير إليها في هذا النص5.
ومن النصوص التي تعود إلى الدور الثاني من أدوار حكم "ياسر يهنعم" النص: Jamme 646، وصاحبه شخص اسمه "شرح سمد بن يثار" "شر حسمد بن يثأر" وآخر اسمه "الفنم" "الفن" "الفان". وكانا من كبار الضباط في حكومة "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش"، ومن درجة "مقتوى". وقد دونا نصهما حمدًا وشكرًا للإله "المقه" "بعل أوام"؛ لأنه مكنهما من الشخص الذي أراد إحراج "ذ حرجهو" مكانتهما وزعزعتها عند سيدهما "شمر يهرعش"، ولكن "المقه" مَنَّ عليهما وشملهما بفضله ولطفه, فنصرهما عليه وأبطل خطته في إحراج مكانتهما "يحر جنهو" عند سيدهما. وتعبيرًا عن حمدهما وشكرهما له، تقدما إلى الإله "المقه" بصنم "صلمن" وضعاه في
__________
1 Beitrage, S. 116
2 A. Grohmann, Arabien, S. 29
3 Beitrage, S. 20, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.81
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.485
5 Le Museon, 1964, 3-4, P.451(4/189)
معبد "أوام", ولكي يمن عليهما ويبعد عنهما أذى الأعداء وحسد الحاسدين1.
وورد اسم "ياسر يهنعم" واسم ابنه "شمر يهرعش" في النص:Jamme 647, وهو نص دونه ضابطان كبيران "مقتوى" من ضباط الملكين؛ لمناسبة ولادة مولود لهما "هو ولدم"، وقد شكرا فيه الإله "المقه" "بعل أوام" على هذه النعمة، وتوسلا إليه بأن يمن عليهما بأولاد آخرين؛ وبأن يرفع من مكانتهما عند سيديهما الملكين، وبأن ينصر جيشهما ويرفع من مكانة قصر "سلحن" "سلحين" "سلحان" مقر الملوك بمأرب ومن منزلة قصر "ريدان"، وتوسلا إليه بأن يبارك في كل ما قام به الملكان من أعمال، وبأن يبارك في كل مشروع وضعوه في خلال السنين السبع في أي مكان كان, في مأرب أو في صنعاء أو في نشق أو في نشان "نشن"، وفي كل مكان يجتمعون به في أرض البدع الخمس "بارضت خمس بدعتن"2، أو في مواضع السقي "وسقين"، ولكي يحفظهما من كل بأس وأذى، وبأن يبعد عنهما حسد الحاسدين.
وورد اسمهما في النص: Jamme 648، وهو مثل النص المتقدم حمد وشكر للإله "المقه" "بعل أوام"؛ لأنه حفظ صاحب النص وعافاه وأعطاه الصحة وبارك في حياته وفي حياة ابنه، ولكي يرفع من مكانته ومكانة ابنه، ويجعل لهما الحظوة عند الملكين، ويرضيهما عنهما, ولكي يبعد عنهما أذى كل مؤذٍ، وحسد كل شانئ حقود3.
ولـ"شمر يهرعش" قصص ومقام لدى الأخباريين, له عندهم ذكر فاق ذكر والده بكثير. هو عندهم "تبع الأكبر الذي ذكره الله سبحانه في القرآن؛ لأنه لم يقم للعرب قائم قط أحفظ لهم منه ... فكان جميع العرب بنو قحطان وبنو عدنان، شاكرين لأيامه. وكان أعقل من رأوه من الملوك وأعلاهم همةً وأبعدهم غورًا وأشدهم مكرًا لمن حارب، فضربت به العرب الأمثال"4 إلى غير ذلك مما رتبه "وهب بن منبه" عنه, وكان على زعمهم معاصرًا لـ"قباذ بن شهريار" الفارسي. ولما بلغه أن الصغد والكرد وأهل نهاوند ودينور هدموا
__________
1 Jamme 646, Mamb 243, Mahram, P.148
2 الفقرة 29 وما بعدها من النص: Jamme 647, Mamb 265, Mahram, P.149ذ
3 Jamme 648, Mamb 94, Mahram, P.150
4 التيجان "ص222"، تفسير الطبري "25/ 77".(4/190)
قبر "ناشر النعم" وفرقوا رخامه وزجاجه وما كان فيه من جذع وغيره، غضب غضبًا شديدًا ونذر لله نذرًا: "ليرفعن ذلك القبر بجماجم الرجال حتى يعود جبلًا منيفًا شامخًا كما كان". ثم سار بجيوشه وبأهل جزيرة العرب، فسار إلى أرمينية، فبلغ ذلك قباذ، فأمر الترك بالمسير إلى أرمينية، فسارت الترك تريد أرمينية فقاتلهم قتالا شديدا، ثم هزمهم فقتلهم قتلًا ذريعًا، ثم سار نحو المشرق فتغلب على قباذ، واستولى على الفرس، وأعاد بناء قبر أبيه. ثم هدم المدائن بدِينَوَرَ و"سنجار" بين نهاوند ودينور "فجميع الأرض التي خربها شمر يهرعش، سماها بنو فارس شمر كند، أي: شمر خرّب باللسان الفارسي، فأعربته العرب بلسانها، فقالوا: "سمرقند"، وهو اسمها اليوم"1، ثم بسط سلطانه على الهند، وعين أحد أبناء ملوك الهند ملكًا على الصين، ثم عاد فسار إلى مصر، ومنها إلى الحبشة، فاستولى عليها، وهرب الأحباش إلى غربي الأرض إلى البحر المحيط، فتبعهم "شمر" حتى بلغ البحر، ثم رجع قافلًا إلى المشرق، فمر بمدينة "شداد بن عاد" على البحر، فأقام بها خمسة أحوال. ثم ذهب لزيارة قبر والده، ثم رجع إلى بلاده إلى "قصر غمدان"، فأقام فيه إلى أن توفي وعمره ألف سنة وستون عامًا، بعد أن ملك الأرض كلها2. وزعم بعض أهل الأخبار أنه هو الذي بنى الحيرة بالعراق3.
وزعم "حمزة" أن والد "شمر" هو "إفريقيس"، وذكره على هذا النحو: "يرعش أبو كرب بن إفريقيس بن أبرهة بن الرايش، وإنما سمي يرعش لارتعاش كان به". وذكر أن رواة أخبار اليمن تفرط في وصف آثاره، ثم ذكر بعض ما ذكروه عنه، وذكر أن بعض الرواة يزعمون أنه كان في زمان "كشتاسب"، وأن بعضًا آخر يزعم أنه كان قبله، وأن "رستم بن دستان" قتله، وجعل ملكه سبعًا وثلاثين سنةً4.
وقال الأخباريون: إن "شمر يرعش" هو أول ملك أمر بصنعة الدروع المفاضة
__________
1 التيجان "ص227"، ابن خلدون "2/ 52"، البلدان "5/ 122".
2 التيجان "ص222 وما بعدها".
3 صبح الأعشى "5/ 22"، "كان رجلًا من حمير, سار بالجيوش حتى حير الحيرة, ثم إلى سمرقند فهدمها"، تفسير الطبري "25/ 77".
4 حمزة "ص84".(4/191)
التي منها سواعدها وأكفها وهي الأبدان، وقد فرض على فارس ألف درع يؤدونها كل عام، وكان عامله عليهم "بلاس بن قباذ"، وجعل على الروم ألف درع يؤدونها كل عام، وكان عامله على الروم "ماهان بن هرقل", وجعل على أهل بابل وعمان والبحرين ألف درع، وعلى أهل اليمن ألف درع. وجعلوا أهل "التبت" من بقايا قوم "شمر يرعش", وذكروا عنه قصصًا أخرى من هذا القبيل1, ولم ينسوا بالطبع حكمه وشعره، فذكروهما2.
أما علمنا عنه، فيختلف عن علم أهل الأخبار عنه. وقد حصلنا على علمنا عنه من كتابات المسند من أيامه. وهي كلها خرس صامتة، ليس فيها شيء من أخبار تلك الفتوحات المزعومة والحروب الواسعة التي أشعلها "شمر" على زعمهم في جميع أنحاء الأرض، وليس فيها كذلك شيء عن نقل حمير إلى "التبت" وإسكانه لهم في تلك الأرضين البعيدة، وليس فيها شيء ما عن قبر والده بدينور، ولا عن تهديمه لمدينة "سمرقند".
ونستطيع تقسيم كتابات المسند من أيام "شمر يهرعش" إلى قسمين: كتابات من أوائل أيام حكمه، أي: الأيام التي حكم فيها بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، ولم يكن قد استولى بعد على حضرموت ويمنت، وكتابات من العهد الثاني من أيام حكمه، أي: العهد الذي لقب فيه نفسه بلقب "ملك سبأ وذي ريدان ويمنت" حتى وفاته, وانتقال الحكم إلى خليفته في الحكم.
ومن كتابات الدور الأول، الكتابة التي وسمها العلماء بـ Glaser 542، وقد سقطت أسطر منها. وهي على جانب كبير من الأهمية بالنسبة إلى من يريد الوقوف على تأريخ التشريع عند الجاهليين, ترينا قانونًا سنه الملك لشعب سبأ، أهل "مأرب" وما والاها، في تنظيم البيوع بالمواشي والرقيق. فحدد المدة التي يعد فيها البيع تمامًا، وهي أمد شهر، والمدة التي يجوز فيها رد المبيع إلى البائع، وهي بين عشرة أيام وعشرين يومًا. كما بين حكم الحيوان الهالك في أثناء المدة التي يحق للمشتري فيها رد ما اشتراه إلى البائع، فحددها بسبعة أيام؛ فإن مضت هذه الأيام، وهلك الحيوان في حوزة المشتري وجب عليه دفع الثمن كاملًا إلى
__________
1 التيجان "ص240"، الإكليل "211".
2 التيجان "222".(4/192)
البائع، ولا يحق له الاعتراض عليه والاحتجاج بأن الحيوان قد هلك في أثناء مدة أجاز له القانون فيها فسخ عقد الشراء1.
ويعد النص الموسوم CIH 407 من النصوص المهمة, من الأيام الأولى من أيام حكم "شمر يهرعش". وهو يتحدث عن حرب قام بها جيش "شمر" في شمال غربي اليمن، امتدت رقعتها حتى بلغت اليم, شملت أرض "عسير" و"صبية" "صبا"2, بين وادي "بيش" ووادي "سهام", وهي أرض تهامة, قام بها ضد قبائل "سهرت" "سهرة" و"عكم" "عك" وغيرها. وصاحبه رجل اسمه "أبو كرب"، وهو في درجة "مقتوى" أي: قائد في جيش شمر، وقد أبلى في هذه الحرب بلاءً حسنًا، فقتل ثلاثين من الأعداء، وقتل أسيرين، وغنم فيها كثيرًا3. فقدم من أجل ذلك إلى الإله "المقه ثهون بعل أوم"4 تمثالين من الذهب، وتمثالًا من الفضة؛ لأنه من عليه فأنقذه من مرض أصابه في مدينة "مأرب" مدة ثمانية أشهر، ولأنه من عليه في الحرب التي اشتعلت في "وادي ضمد"، وامتدت حتى موضع الـ"عكوتين" "عكوتنهن" وساحل البحر, وقد انتصرت فيها جيوش "شمر" على جمع من قبائل تهامة عسير. ومن القبائل التي ورد اسمها في هذا النص: "ذ سهرتم"، أي: "ذو سهرت" "ذ سهرتن" "ذو سهرت" "ذو سهرة" "سهرة" "ساهرة" و"دوأت" و"صحرم" "صحار" "صحر" و"حرت" "حرة"5, و"عكم"6.
فيتبين من هذا النص أن الملك "شمر يهرعش" سير حملة عسكرية إلى جملة قبائل من قبائل عسير وتهامة حتى ساحل البحر، فانتصرت الحملة عليها، وتعقبت القبائل في البحر، وجرت معارك في وسطه، وأنزلت بالمنهزمين، وهم على أمواج
__________
1 Rep. Epig. 3910, Vi, P.378, Conti Rossini, Ar. Merid., 1931, P.52, Background, P.110, Glaser 542, B. M. 10396
2 Beitrage, S. 119, Le Museon, 1964, 3-4, P.485
3 أغناطيوس غويدي: المختصر في علم اللغة العربية الجنوبية "ص19 وما بعدها".
4 "المقه ثهوان بعل أوَّام".
5 سطر "18 وما بعده".
6 Cih 407, Jamme 649, 650, Jamme, Les Antiquites Sud-Arabes Du Musee Borely, Cahiers De Byrsa 8, 1958/ 9, Pp.151-167, Sabaean Inscriptions, P.369(4/193)
البحر، خسائر فادحة1. وقد استدل بعض الباحثين من إشارة "أبي كرب" إلى الخسائر التي مُنِيَ بها المنهزمون وهم في البحر، إلى أن أولئك المنهزمين كانوا من الحبش الذين كانوا يحكمون ساحل تهامة، وأن المعركة قد وقعت في البحر الأحمر2.
ويقع موضع "عكوتن" "العكوتان"3 شمال "وادي ضمد", وأما "صحار" "صحرم"، فيقيمون اليوم حوالي "صعدة", وأما "سهرتم" "سهرة"، فقبيلة تقع منازلها في تهامة، وربما كانت منازلها من "وادي بيش" في الشمال إلى "وادي سردد" "وادي سردود" في الجنوب, وقد كانت هذه القبيلة على صلات قوية بالحبش في أيام "الشرح يحضب". وقد أدت فتوحات "شمر يهرعش" في هذه الأرضين التي بلغت سواحل البحر الأحمر إلى دخوله في نزاع مع الحبش الذين كانوا يحتلون مواضع من الساحل، ويؤيدون بعض القبائل لوجود أحلاف عقدوها معها4.
و"عكم" "عك" من الأسماء المعروفة التي ترد في كتب أهل الأخبار. أما هنا، فإنه اسم قبيلة5.
وإلى هذا العهد أيضا تعود الكتابة: Jamme 649 وهي من الكتابات التي تتحدث عن حروب وقعت في أيام "شمر يهرعش". وقد دونها رجل اسمه "وفيم أحبر" "وفي أحبر" "وافي أحبار"، وهو من "حبب" "حبيب" و"هينن" "هينان" و"ثارن" "ثأران" "ثئرآن"، وهم من "عمد" و"سارين" "سأريان" و"حولم", أقيال "أقول" عشائر "صروح" "صرواح" و"خولان حضلم" "خولان حضل" و"هينان". وكان "وفيم أحبر" ضابطًا كبيرًا "مقتوى" عند "شمر يهرعش" "ملك سبأ وذو ريدان"، دونها لمناسبة تقديمه صنمًا "صلم" إلى الإله "المقه" "بعل أوام"
__________
1 Rep. Epig. 189, I, Iii, P.150, Hartwig Derenboug, Les Monuments Sabeens Et Himyartes D'musee D'archeologie De Marseille, In Revue Archeologique, 3, Vol., Xxxv, "1899", P.25
2 Beitrage, S. 119
3 والمفرد "عكوت" "عكوة".
4 Cih 407, Beitrage, S. 119
5 Le Museon, 1964, 3-4, P.485(4/194)
لأنه نجاه وحفظه وأعانه في كل المعارك والمناوشات والغزوات "سبات" "سبأت"، التي خاضها لمعاونة "شوعن" سيده الملك، وذلك في "سهرتن ليت" "سهرتان ليت"، و"خيون" "خيوان", و"ضدحن" "ضدحان"، و"تنعم" و"نبعت" "نبعة"، ولأنه ساعده وقواه ومكنه من قتل خمسة محاربين في خلال هذه المعارك، أطار رءوسهم بسيفه، ولأنه مكنه من أخذ أسير، ومن الحصول على غنائم كثيرة، ولأنه أنعم على قبيلته بغنائم كثيرة حصلت عليها من هذه المعارك، وبأسرى جاءت بهم إلى مواطنها, ولأنه عاد معها سالمًا غانمًا معافًى1.
وأرض "سهرتن ليت"، هي جزء من أرض "سهرتن"، وتقع غرب "دوت" "دوات" "دوأة", ويسقيها "وادي ليت" "وادي لية". وأما "خيون" "خيوان"، فموضع يقع على وادي "خبش"، في المنطقة المهمة من "حاشد", وهو مدينة تقع في جنوب شرقي "جيزان"، وعلى مسافة "90" كيلومترًا تقريبا جنوب شرقي صعدة، وحوالي "105" كيلومترات شمال "صنعاء"2.
وأما موضع "ضدحن" "ضدحان"، فإنه وادي "ضدح" "الضدح" الذي يوازي "وادي أملح"، ويقع إلى الجنوب منه, وعلى مسافة "35" كيلومترًا إلى جنوب شرقي "الأخدود"3. وأما موضع "نبعت" "نبعة"، فإنه "نبعة"، وهو تلال تقع بين وادي "حبونت" "حبونة" ووادي "ثار" "ثأر", وقد يكون موضع "نبعة" المكان الذي يسمى اليوم "مجونة" الذي يقع على مسافة "25" كيلومترًا شمال شرقي "بئر سلوى" وعلى مسافة "63" كيلومترًا من شمال غربي "الأخدود". وإذا كان هذا الرأي الأخير صحيحًا، صار موضع "تنعم" فيما بين "صندحان" و"نبعت" "نبعة"4.
وتحدث النص عن معارك أخرى، وقعت بعد المعارك المتقدمة، وقد اشترك
__________
1 Jamme 649, Mamb 223, Mahram, P.151.
2 Mahram, P.369
3 Mahram, P.369, L. Farrer, Sudarabien Nach Al-Hamdani's Beschreibung Der Arabischen Halbinsel, Leipzig, 1942, S. 121, Note 2, H. Von Wissmann, Geographische Grundiagen Und Fruhzeit Der Geschichte Sudarabiens, In Saeculm, 4, "1953", S. 61
4 Mahram, P.369(4/195)
فيها مدون النص. إذ يذكر "وفيم أحبر" أنه قاتل وأعان سيده "شمر يهرعش" وذلك في وادي "ضمدم" "ضمد"، وأنه ذهب مع سرية لاستطلاع الأخبار عن قبيلة "حرت" "حرة"، وقد قتل خمسة محاربين من محاربي العدو، قطع رءوسهم، وقد كان ذلك أمام سريته، مما ترك أثرًا مهمًّا فيهم. ثم يذكر أنه أصيب في هذه المعارك بخمسة جروح، أصابت وركيه وقدميه وفرسه "ندف". وقد خشي من أن يؤدي الجرح الذي أصاب قدميه إلى قطعهما، وخشي على فرسه كذلك من أن تنفق من الجرح الذي أصابها، غير أن الإله "المقه" لطف به، فشفاه وعافاه وشفى فرسه, وأعاده مع قبيلته التي حاربت معه، إلى موطنه، غانما محملا مع عشيرته بالغنائم وبالأموال التي استلبوها من أعدائهم، وبعدد من الأسرى1.
وقد قاتل "وفيم أحبر"، مرة أخرى في وادي "حرب" "حريب"، على مقربة من "قريتهن" "قريتهان" "القريتان"، ثم جاء إليه أمر سيده الملك "شمر يهرعش" بأن يتجه على رأس قوة تتألف من "170" محاربًا من المشاة من عشيرتيه "صرواح" و"خولان", ومن ستة فرسان؛ وذلك لمهاجمة عشائر "عكم" "عك" و"سهرت" "سهرة" ولإنزال ضربة قاصمة بها، فاتجه نحوها، والتقى بها عند "عقبت ذر جزجن" "عقبة ذر جزجان"، وألحق بها خسائر, حاربها من وقت شروق الشمس، وطول النهار وحين اشتدت حرارة الشمس إلى وقت الغروب، وكل الليل حتى طلع "كوكبن ذ صبحن"، كوكب الصبح، فاضطرت إلى الهروب، وعندئذ أدار وجهه نحو فلولها فقتل منها، وقد ذبح محاربًا واحدًا أمام المحاربين، وأخذ أسيرين. وكان عدد من قتل من الأعداء عند المعركة "عقبت ذر جزجن" "عقبة ذر جزجان" مائة وعشرة محاربين، وعدد من وقع في الأسر من المحاربين "46" أسيرًا محاربًا، وعدد من سُبِيَ "2400" سبي، وغنم من الإبل "316" بعيرًا، عدا الماشية الأخرى التي نهبت وأخذت.
وإلى هذا العهد أيضا يعود النص: Jamme 650 وصاحبه شخص اسمه "بهل أسعد" "باهل أسعد" من عشيرة "جرت" "جرة" ومن عشيرة
__________
1 من الفقرة "15" إلى الفقرة "24" من النص.(4/196)
"بدش" أقيال "أقول" عشيرة "ذمرى هوتن" "ذمرى هوتان"، التي تكون ربع قبيلة "سمهرم" "سمهر", وكان ضابطًا كبيرًا بدرجة "مقتوى" عند الملك "شمر يهرعش" "ملك سبأ وذي ريدان". وقد سجله لمناسبة إهدائه معبد "أوام"، وهو معبد الإله "المقه" "بعل أوام" صنمًا، من العُشْر "ابن عشر يعشرن" الذي يعشر من كل زرع ليكون نصيب الإله "المقه ثهوان". أخذه من حاصل زرع الصيف "قيظن" ومن ثمار الجنينات أو الجني "جنين"، وجعله قربة له؛ لكي يمن عليه بالنعم، ويبارك فيه وفي أمواله وفي سيده الملك، ولأنه أسعده وحفظه في كل المناوشات والحروب والغزوات "بكل سبات وحريب سباو" التي خاضها، ولأنه عاون "شوعن" سيده الملك، في المعارك وفي القتال وفي المناوشات التي وقعت بين قوات الملك التي اشترك هو فيها وبين قبيلة "سهرتن" "سهرتان"، والتي انتهت بانتصار "سبأ وذو ريدان"، وعاد الجيش منها محملًا بالغنائم وبالأسلاب وبالماشية التي انتزعت من الأعداء وبالأسرى, وليمن عليه في المستقبل فيعطيه ذرية طيبة "هنام" "هنأم" هنيئة من أولاد ذكور، وليرعاه ويحفظه ويقيه في المعارك التي سيخوضها من أجل سيده الملك1.
فيظهر من هذا النص أن "بهل أسعد"، كان يتحدث عن المعارك والمناوشات التي وقعت في أرض "سهرتن" "سهرتان" "سهرة"، بين الملك "شمر يهرعش" وبين رجال قبيلة "سهرتن" العاصية التي مر اسمها مرارًا فيما سبق في عداد القبائل الثائرة المحاربة لحكومة سبأ، والتي كانت قد مُنيت بخسائر كبيرة ومع ذلك فإنها لم تترك عداءها لملوك مأرب.
وفي النص: Jamme 651 أخبار مهمة سجلها لنا رجل اسمه "عبدعم" من "مذرحم" "مذرح"، ومن "ثفين" "ثفيان"، وكان من كبار ضباط "مقتوى" جيش الملك "شمر يهرعش". وقد ذكر أنه أهدى معبد "أوام" صنما "صلمن"، وهو معبد الإله "المقه"؛ لأنه من عليه وشمله بلطفه وفضله، إذ أعانه وأعان من كان معه من رجال عشيرته "شعبهو" ومن أتباعه ومحاربيه الذين كانوا معه ومن انضم إليه من أهل البيوتات ومن سواد الناس "محقر" "حقراء"، من أبناء البيتين المتصاهرين: "همدان" و"بتع"،
__________
1 Jamme 650, Mamb 200, Mahram, P.153(4/197)
إذ أمره سيده الملك بأن يذهب بهم إلى "مأرب" "مريب"؛ ليحميها ويقيها من الأمطار التي ستتساقط في اليوم التاسع من يوم موسم سقوط المطر المعهود "وذنم ذنم بيوم تسعم عهدتن"، وفي أوائل أيام الشهر، وفي أيام الموسم الثاني من سقوط المطر، وقد أمره الملك بأن يقوم بهذا الواجب، حتى شهر "أبهى"1.
وقد حمد صاحب النص إلهه "المقه" لأنه وحد بين البيتين: بيت "همدان" وبيت "بتع"، ولأنه أعانه في القيام بعمله الذي كلف به، فكافح وهو على رأس جيش "خمس" "خميس" سبأ ومن كان معه لبناء سور وحصون "مأرب" وفي إقامة حواجز وموانع وسدود لتحول بين السيول وبين اكتساحها المدينة، وفي إنشاء مبانٍ وأحواض "مضرفن" في جهة "طمحنين" "طمحنيان"، حتى تمكن من إنجاز كل ما كلف به، دون أن يخسر جنديا واحدا من الجنود الشجعان الذين كانوا من جنود "كبر رحلم" كبير "رحلم" "رحال"، فأرضى بذلك سيده الملك وشرح صدره.
وتوسل بعد ذلك إلى الإله "المقه" لكي يقيه من كل "باس" "بأس"، أي: من كل أذًى وشر، ولكي يرفع من منزلته وينال الرضا والحظوة عند سيده الملك, ويمنحه غلة وافرة وثمارًا كثيرة من ثمار الصيف والخريف في كل مزارعه, وتوسل إليه أيضا بأن يبعد عنه كل نكايات "نكيتن" الأعداء.
ويشير هذا النص إلى سقوط أمطار غزيرة في ذلك الموسم، هددت مدينة "مأرب"، فأمر الملك الشخص المذكور بأن يقوم على رأس قوة من جيش سبأ ومن كبار "همدان" و"آل بتع"، بتقوية سور مأرب وتحصينه وحمايته من مداهمة السيول له، وبإنشاء سدود وموانع لمنع الأمواج العاتية من اكتساح مأرب والأماكن الأخرى, وذلك بمن جمعهم من الناس من سوادهم ومن ساداتهم؛ للقيام بهذه الأعمال, ولمنع المسخرين الذين سخروا من الفرار، وقد وضع الملك جيشًا تحت تصرف هذا القائد، في جملته مفرزة من جنود الكبير "كبر رحلم" "كبير رحلم" "رحال".
وسجل شقيقان كانا من "حظرم عمرت" "حظرم عمرة"، ومن ضباط "مقتوى" الملك "شمر يهرعش" حمدهما وشكرهما في كتابتهما التي وسمها الباحثون
__________
1 Jamme 651, Mamb 108, Mahram, P.155(4/198)
بـ Jamme 652، للإله "المقه"؛ لأنه من على سيدهما بالعافية وبالبركة وأوفى له ما أراد، ولأنه رفع حظوتهما عنده وزاد في رضاه عنهما, وليرعاهما ويحفظهما في أيام الحروب وفي أيام السلم، ويقيهما أذى الأشرار وحسد الحساد، ولكي يعاونهما ويشد الإله أزرهما في إرضاء سيدهما، ويبارك في قصره، أي: قصر الملك "سلحن" "سلحين" "سلحان"1.
ويحدثنا النص: Jamme 653 بحمد "سباكهلن"، أي: "سبأكهلان" لربهم "المقه" وشكرهم له؛ لإفضاله وإنعامه عليهم، بأن استجاب لدعائهم، فأمطرهم بوابل من رحمته، وأنزل الغيث عليهم وذلك مع برق "برق خرف" الخريف، أي: موسم أمطار الخريف، الذي تساقط عليهم سنة "تبع كرب بن ودال" "تبعكرب بن ودايل" من "حزفرم" "آل حزفر" الثالث. وقد استبشروا به وسُروا, وسألوا ربهم "المقه" وذلك في اليوم الرابع من ذي "فقهى"، شهر ذي "مليت" الذي هو من أشهر الخريف "ذ منذ خرفن"، بأن ينزل عليهم غيثًا يسقي أوديتهم ويكفي زرعهم، غيثًا يرضيهم ويسرهم ويثلج صدورهم، وبأن ينال أهل "سبأكهلان" رضا سيدهم "شمر يهرعش" ويرفع من حظوتهم "حظى" عنده2.
وقد كتب النص المذكور بمدينة "مأرب"، قبل ثلاث سنوات من الكتابة المرقمة بـCIH 314 + 954 التي يخلد فيها "الشرح يحضب الثاني" وأخوه "يأزل بين" "يازل بين" "يزل بين" انتصارهما على السبئيين, وطردهما "شمر يهرعش" من مأرب3.
وذكر جماعة من "عقبم" "عقب" "عاقب" "عقاب"، بأنهم أهدوا معبد "أوام" صنمًا "صلمن"؛ وذلك حمدًا للرب "المقه" وشكرًا له لأنه رزقهم ولدًا ذكرًا، ولكي يرزقهم أولادًا ذكورًا، ولكي يبارك فيهم وفي أموالهم ويرضي سيدهم "شمر يهرعش" عنهم ويرفع من منزلتهم وحظوتهم عنده، ولكي يبارك في زرعهم ويعطيهم غلة وافرة وحصادًا جيدًا4.
__________
1 Jamme 652, Mamb 161, Mahram, P.157
2 Jamme 653, Mamb 220, Mahram, P.158
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.476
4 Jamme 654, Mamb 31, Mahram, P.159(4/199)
ويذكر "شرح ودم" "شرحودم" "شرح ودّ"، و"رشدم" "رشيدم" "راشد" "رشيد"، وهو بدرجة "وزع" "وازع"، أي: سيد قبيلة "ماذن" "مأذن"، أنهما قدما صنمًا إلى الإله "المقه ثهوان"؛ لأنه أوحى إلى قلبهما بأنه سيمنحه ولدًا "رشدم" ولذا يسميه "ودًّا" وذلك من زوجته "أثتهر" "حلحلك", وأنه سيعطيه مولودًا غلامًا "غلمم"، عليه أن يسميه "مرس عم" "مرسعم"1، وأنه سيرزق عبده "شرح ودم" ولدًا ذكورًا، وأنه سيمنحهما غلة وافرة وحصادا جيدا، وأنه سيرفع من مكانتهما عند سيدهما الملك، وسيبارك في زرعهما وفي زرع قبيلتهما، وذلك في موسمي الصيف والخريف2.
وفي النصف الثاني من سني حكمه، تلقب "شمر يهرعش الثالث"، أي "شمر يهرعش" الذي نبحث فيه الآن بلقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"3. وتدل هذه الإضافة الجديدة إلى اللقب، على استيلاء "شمر يهرعش" على حضرموت، أو على جزء كبير منها4. أما "يمنت" فيرى "فون وزمن" أن المراد بها الأرضون التي تكون القسم الجنوبي من مملكة "حضرموت", ويستدل على رأيه هذا بوجود عاصمتين لحضرموت، هما: "شبوة" و"ميفعة"، مما يدل على انقسام المملكة إلى قسمين: قسم شمالي يدعى حضرموت، وقسم جنوبي يعرف بـ"يمنت" "يمنات" اليمن5.
ويقع النصف الثاني من حكم "شمر يهرعش" في رأي "فون وزمن"، ما بين "285ب. م." أو "291ب. م." أو "310ب. م." أو "316ب. م." ومعنى هذا في رأيه أن "شمر" كان يعاصر "امرأ القيس بن عمرو" المذكور في نص النمارة, المتوفى سنة "328م" والذي حارب وأخضع قبائل عديدة، منها: مذحج ومعد وأسد "أسدين" ونزار "نزرو"، ووصل إلى "نجران" عاصمة "شمر"6. وقد يعني ذلك أن حروبًا نشبت بين الملكين.
__________
1 يعود الضمير إلى "رشدم"، كما يظهر من النص.
2 Jamme 655, Mamb 253, Mahram, P.160
3 Cih 431, Cih, Iv, Ii, Ii, P.120, Cih 430, 438, Glaser 1050, Le Museon, 1964, 3-4, P.485
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.485
5 Le Museon, 1964, 3-4, P.485
6 "الأسدين" "أسدين" في النص،
Rep. Epg. 483, F. Altheim, Geschichte Der Hunnen, I, 1959, S. 127
Le Museon, 1964, 3-4, Pp.456, 486(4/200)
ولم يشر نص "النمارة" إلى بقية اسم "شمر"؛ لنعرف من كان ذلك الملك الذي كان يحكم في ذلك الزمان، والذي كانت مدينة "نجران" مدينته إذ ذاك. ويظهر من هذا النص أن قتالًا نشب بين قوات "امرئ القيس" و"شمر" صاحب نجران، وأن النصر كان لامرئ القيس1.
وإذا كان ما ذهب إليه "فون وزمن" صحيحًا من معاصرة "امرئ القيس" لـ"شمر يهرعش"، فإن هذا يعني أن جزيرة العرب كانت في ذلك الزمن أي: في أوائل القرن الرابع للميلاد، ميدانًا للتسابق بين رجلين قويين: "شمر يهرعش" وهو من العربية الجنوبية، و"امرئ القيس" وهو من الشمال، وأن العرب كانوا قد انقسموا إلى حزبين: عرب شماليين وعرب جنوبيين، وأن "امرأ القيس" كان قد توغل في جزيرة العرب حتى بلغ "نجران" وأعالي العربية الجنوبية، وأخضع القبائل المذكورة لحكمه, وهي قبائل يرجع النسابون نسب أكثرها إلى "عدنان"، وفي جملتها "الأسدين" أي: "أسد" و"نزار" "نزرو". هذا، وإن وصول "امرئ القيس" إلى نجران، وإخضاعه للأعراب ولقبائل عدنانية يقيم بعضها على حدود العربية الجنوبية الشمالية، جعله أمام "شمر يهرعش"، ووضع مثل هذا لا بد من أن يثير نزاعًا وخصومةً بين الرجلين.
ولا يستبعد اصطدام "امرئ القيس" بـ"شمر يهرعش"، أو بأي ملك آخر ملك "نجران"، ما دام ذلك الملك قد حكم قبائل "معد" النازلة في الحجاز وفي نجد والتي تتصل منازلها بحدود نجران. وقد خضعت "معد" لحكم ملوك الحيرة، كالذي يظهر من نص كتاب "شمعون" الذي هو من "بيت أرشام" Simeon Of Beth Arsham، حيث ذكر "طيايا حنبا "حنفا" ومعدايا" في معسكر "المنذر" الثالث ملك الحيرة. و"طيايا" هم الأعراب الشماليون و"معدايا" هم "معد". وكما يفهم أيضا من نص "مريغان"2.
ويرى بعض الباحثين أن "مرالقس بن عمرم ملك خصصتن" الذي ورد اسمه في النص: Ryckmans 535 الذي سبق أن تحدثت عنه في أثناء كلامي على "الشرح يحضب"، وأخيه "يأزل بين"، هو "امرؤ القيس" البدء، ملك
__________
1 Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.81
2 Ryckmans 506, Die Araber, Ii, S. 321(4/201)
الحيرة, ويرى أيضا أن "شمر ذي ريدان" المذكور في النص أيضًا، هو "شمر يهرعش". وبناء على ذلك يكون "مالك" ملك "كدت" كندة من المعاصرين لامرئ القيس, ولشمر يهرعش أيضًا1.
إننا لا نملك أي نص يشير إشارة صريحة إلى حدوث قتال بين "شمر يهرعش" و"امرئ القيس", غير أن لدينا نصًّا هو النص المعروف بـJamme 658، يرى بعض الباحثين أن فيه تلميحًا إلى أن الحرب المذكورة فيه، هي حرب نشبت بين قوات الرجلين، وأن القائد المذكور فيه، أعني القائد "نشدال" "نشد إيل"، هو قائد عربي شمالي، ويحتمل على رأيهم أن يكون قائدًا من قواد جيش "امرئ القيس". ويظهر من النص أن قوات "شمر يهرعش" كانت قد تجمعت في مدينة "صعدتم"، أي: مدينة "صعدة" في "خولان" العالية، أي: الشمالية "خولان أجددن"2، ثم تقدمت منها نحو الشمال الغربي إلى حدود "خولان" القديمة في "وادي دفاء"، حيث حاربت القبائل المجاورة قبائل "شنحن" "شنحان" الساكنة في الغرب, ثم نزلت من مساكنها إلى أرض "سهرتن" "سهرتان" ثم اجتازت هذه الأرض إلى وادي "بيش"، وهي الحدود القديمة للعربية الجنوبية، ثم تقدمت منها نحو الشمال إلى "وادي عتود" الذي يقع في الأرض المسماة بـKinaidokoltitai عند الكلاسيكيين. وفي هذه الأرض اصطدمت قوات "شمر" بقوات "نشد إيل" القائد المذكور3.
ويظهر من نص عثر عليه منذ عهد غير بعيد, أن قائدًا من قواد "شمر" كان قد قاد أعرابًا غزا بهم ملك "أسد"، وأرض "تنخ" "تنوخ" التي تخص "الفرس" "فرس"، أي: "فارسًا". وذكر أن أرض "تنخ" "تنوخ"، كانت تحت حكم مملكتين، يقال لإحداهما "قطو"، وللأخرى "كوك" أو "كوكب"، وقد أنزل أعراب "شمر" بهما خسائر فادحة. ثم عاد ذلك القائد بعد نجاحه في غزوه هذا صحيحًا معافًى إلى نجران، حيث قدم إلى الآلهة
__________
1 Die Araber, Ii, S. 322, Le Museon, 69, "1956", Pp.139, 152, Pirenne, Le Royaume Sud Arabe, 30, 166, 168, Die Araber, Iv, S. 272
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.486
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.487(4/202)
شكره، وسجل ذلك في النص المذكور1.
وقصد القائد بأرض "تنخ" أرض الأحساء في الزمن الحاضر، وكانت منزل قبائل "تنوخ" في ذلك الزمن. وقصد بـ"قطو" "قطوف" "القطيف" Qtw'f وفي إشارة القائد إلى مهاجمة تلك الأرضين، أي أرض تنوخ، التي كانت تحت سيادة "فرس"، أي الفرس الساسانيين، تأييد لروايات الأخباريين التي تذكر أن "شمر يهرعش" "شمر يرعش" غزا أرض الفرس2.
هذا ولا بد من أن يكون "شمر" قد كان على اتفاق تام مع أعراب نجد، ولا سيما سادة "كدتم" "كدت"، أي: كندة في ذلك الزمن؛ إذ كان من العسير عليه غزو الأحساء وساحل الخليج، لو لم يكن على صلات بهم حسنة, وقد كان هؤلاء الأعراب ينزلون فيما يسمى الأفلاج والخروج في الزمن الحاضر. وتعد الأفلاج من مواطن "كدت" كندة منذ زمن "شعرم أوتر" "شعر أوتر" في حوالي السنة "180م"، وقد عبر عنهم بـ"ذال ثور" أي "ذي آل ثور" في النص Jamme 635، وكذلك في زمن "الشرح يحضب الثاني" في أثناء حكمه مع "يأزل"3، أي في حوالي السنة "210ب. م."4. وربما قبل ذلك أيضا حيث نجد في تاريخ "بلينيوس" ما يشير إليهم، إذ ورد في تأريخه:Dae Aiathuri Fons Aeunuscabales، ويمكن تفسيرها بـ"ذي آل ثور في عين الجبل"5, و"آل ثور" هم كندة، وقد عرفوا بهذا النسب عند أهل الأخبار.
والنص المذكور، هو نص وسمه العلماء بـ"شرف الدين 42". وقد ورد فيه أن الملك "شمر يهرعش" أمر قواته بغزو أرض "ملك" "مالك" ملك "أسد" "ملك أسد". فتقدمت نحوها، واتجهت منها نحو أرض "قطوف"، أي القطيف، حتى بلغت موضع "كوكبن" "كوكبان" "كوكب" ثم "ملك فارس وأرض تنخ" "ملك الفرس" أي: "الأرض التابعة للفرس"
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.487
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.487
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.487
4 وذلك بحسب تقدير "فون زمن"، راجع.Le Museon, 1964, 3-4, P.488
5 Pliny, Vi, 158, Le Museon, 1964 3-4, P.488(4/203)
وأرض تنوخ. وقد دون النص قائدان من قواد "شمر يهرعش"، كانا من "ريمن ذ حزفرم"، أي: من "ريمان ذوي حزفر"، ومن "عنن" "عنان", وذلك بعد عودتهما سالمين غانمين من ذلك الغزو1.
وقد كانت "مذحج" تنزل في الأفلاج أو حولها وفي المنطقة المسماة بـ"جبل طويق" في الزمن الحاضر. والظاهر أن غزو "امرئ القيس" لنجد قد اضطر أكثر قبائل "مذحج" إلى الهجرة نحو الجنوب, وكانت حسنة الصلات بـ"كدت" أي كندة، التي اضطرت أيضا إلى الهجرة إلى الجنوب؛ ولهذا انضمتا إلى جيوش "شمر يهرعش"، وإلى جيوش من جاء بعده من الملوك, وقد أشير إليهما في الكتابات بـ"كدت ومذحجم"2. وقد أدت هجرة كندة ومذحج وبقية أعراب نجد إلى الجنوب نتيجة لغزو العرب الشماليين لهم إلى استيطان قسم كبير منهم في العربية الجنوبية، ودخولهم في جيوش ملوك حمير؛ وذلك لتهديد أعدائهم بهم، إذ كانوا أعرابًا أشداء، يحبون الغزو والقتال، حتى صاروا قوة رادعة مخيفة، ولهذا السبب أدخل اسمهم في لقب الملوك كما سنرى فيما بعد.
ومن جملة القواد الذين تولوا قيادة الأعراب، أو الكتائب الخاصة التي ألفها التبابعة منهم، قائد اسمه "وهب أوم" "وهب أوام"، وكان من قادة "شمر يهرعش"، وقائد اسمه "سعد تالب يتلف" "سعد تألب يتلف"، وكان في أيام "ياسر يهنعم الثالث" وابنه "ذرأ أمر" وذلك على رأي "فون وزمن"3.
إننا لا نعرف حتى الآن كيف استولى "شمر يهرعش" على حضرموت, وكيف ضمها إلى سبأ؛ إذ لم نتمكن من الظفر بكتابة فيها حديث عن كيفية قضاء "شمر" على استقلال تلك المملكة. وعلمنا بضم حضرموت إلى سبأ، مقتبس من اللقب الجديد الذي لقب "شمر" به نفسه على نحو ما ذكرت4.
وقد رأى بعض الباحثين أن سقوط "شبوة" وتدميرها في قبضة قوات "شمر" كان في القرن الرابع للميلاد وقبل استيلاء الحبش على العرببة الجنوبية بزمن قصير5.
__________
1 Sharaffadin 42, Le Museon, 3-4, 1967, Pp.505, 508
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.488, Jamme 660, 665, Ryckmans, 510
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.489
4 Glaser 1050, Beitrage, S. 116
5 Beitrage, S. 144(4/204)
ذهب "ريكمنس" إلى أن الحبش احتلوا العربية الجنوبية حوالي السنة "335" بعد الميلاد، ودام احتلالهم هذا لها إلى حوالي السنة "370م"، ولم يذكر من حكم بعد "شمر يهرعش"، غير أنه وضع "ملكيكرب يهأمن" في نهاية احتلال الحبش لليمن، أي: بعد سنة "370م"، ووضع لفظة "حسن" في قوس قبل "ملكيكبرب يهأمن" ثم ذكر بعد "أب كرب أسعد" "ذرأ أمر أيمن"1.
وفي النص Jamme 656 خبر حرب وقعت بين "شمر يهرعش" وحضرموت, وقد لقب "شمر يهرعش" فيه بلقبه الجديد: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت", وذكر أن حضرموت كانت إذ ذاك تحت حكم ملكين, اسم أحدهما: "شرح ال" "شرح إيل" "شرحئيل"، واسم الآخر "رب شمس" "ربشمس" "رب شمسم". وزعم أن الملكين المذكورين هما اللذان أعلنا "هشتا" الحرب على الملك "شمر يهرعش"، غير أن النص لم يتحدث، كعادة النصوص, إلى الأسباب التي حملت الملكين على إعلان تلك الحرب2. وقد ذكر أن عاقبتها كانت سيئة بالنسبة لحضرموت؛ إذ خسرت فيها، وأن الحرب كانت قد وقعت في "سررن" "سرران"، وأن أصحاب النص وكانوا من "سباكهلن" "سبأكهلان"، عادوا مع عشيرتهم من تلك الحرب سالمين غانمين. وقد قدموا عُشر حاصل غلتهم من زرع أرضهم بـ"رحبتن" "رحابتان" "رحبتان"، للإله "المقه" ليبارك فيهم ويديم نعمه عليهم ويزيد مكانتهم عند سيدهم "شمر يهرعش، ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" ولكي يعطيهم غلة وافرة وحصادًا طيبًا هنيئًا.
وقد شهد أصحاب هذا النص المعركة أو المعارك التي جرت في وادي "سررن" السر، وهو وادٍ يقع على مسافة سبعة كيلومترات من مدينة شبام، ويعرف بـ"وادي سر" "وادي السر", ولم يتحدثوا عن معارك أخرى, مما يدل على أنهم لم يشتركوا في غير هذه المعركة، وأنهم عادوا بعدها مع قبيلتهم التي أسهمت في القتال إلى مواطنهم.
وفي النص: Jamme 662 خبر مهم له علاقة وصلة بالنص السابق وبالعلاقات
__________
1 J. Ryckmans, L'institution, P.338
2 راجع السطر 11 من النص: Jamme 656, Mamb 135, Mahram, PP.161, 371(4/205)
فيما بين سبأ وحضرموت في هذا العهد. خبر يفيد أن "شبوت" "شبوة" كانت في أيدي السبئيين في هذا العهد، وأن الملك "شمر يهرعش" "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، كان قد عين "يعمر إشوع" "يعمر أشوع"، وهو سيد "وزع" من سادات "سبأ"، على مدينة "شبوة"، عينه عليها لحمايتها وللمحافظة على الأمن فيها، وقد ذهب إليها ومعه قوم من "سبأ". وقد سر "يعمر أشوع" بالطبع بهذا التعيين وشكر ربه "المقه" على هذا التوفيق العظيم الذي حصل عليه بفضله1.
فيظهر من هذا النص أن "شبوة" وهي عاصمة حضرموت، كانت في أيدي "شمر يهرعش"، قبل اختيار "يعمر أشوع" ليكون حاكمًا عليها، ومعنى هذا أن جزءًا من حضرموت كان قد أصبح في جملة أملاك سبأ، وهذا ما حمل "شمر يهرعش" على إلحاق جملة "وحضرموت ويمنت" إلى لقبه السابق، وهو "ملك سبأ وذو ريدان". غير أن السبئيين لم يكونوا قد استولوا على كل مملكة حضرموت، بدليل ما ورد في النص السابق من وجود ملكين كانا يحكمان حضرموت وهما: "شرح إيل" و"ربشمس" "رب شمس". ويظهر أن "شرح أيل" هذا هو الملك "شرح إيل" "شرحئيل" المذكور في النص CIH 948. أما الملك "ربشمس" هذا, فهو ملك آخر لا صلة له بـ"ربشمس" الذي هو ابن الملك "يدع إيل بين" ملك حضرموت ووالد ملك آخر اسمه "يدع إيل بين" كذلك2.
ويتبين من النص: CIH 948 -وهو نص فيه أمور غامضة غير مفهومة، وعبارات غير واضحة، أمر الملك "شمر يهرعش" نفسه بتدوينه- أن الملك المذكور حارب الملك "شرح ال" "شرحئيل" "شراحيل" "شرح إيل" ملك حضرموت، وأنه انتصر عليه انتصارًا كاسحًا. ويظهر أن الملك "شمر يهرعش" اضطر إلى قيادة حملة جديدة على حضرموت؛ لأن الحضارمة انتهزوا فرصة عودة الملك "شمر يهرعش" إلى سبأ، وعودة معظم جيشه معه، سوى الحاميات التي تركها في بعض المدن والمواضع مثل "شبوة" التي مر ذكرها،
__________
1 Jamme 662, Mamb 98, Mahram, P.167, Mamb 91, 96
2 Mahram, P.372(4/206)
فثاروا على السبئيين، ثاروا بقيادة الملك "شرح إيل" الذي مر ذكره؛ مما حمل الملك "شمر يهرعش" على الإسراع بالاتجاه نحو حضرموت للقضاء على الثورة1. ويظهر من هذا النص ومن النصوص الأخرى أن الحضارمة وإن اندحروا وأُصيبُوا بهزائم في هذه المعارك, إلا أنهم لم يتركوا النضال في سبيل الاستقلال وفي سبيل التخلص من حكم سبأ، وأن ما تذكره النصوص السبئية من أخبار الهزائم الفادحة والانتصارات الباهرة, هي من قبيل المبالغات في غالب الأحيان.
ويلاحظ أن النص المذكور، قد أغفل اسم الملك الثاني "ربشمسم" "رب شمس" الذي كان يشارك "شرح إيل" في حكم حضرموت, ولا ندري بالطبع سر إغفال اسمه منه. كما يلاحظ أيضا أنه سمى الملك بـ"شمر يرعش" بدلًا من "شمر يهرعش" كما يرد في كل النصوص الباقية2, ويلاحظ أن الأخباريين لا يسمون هذا الملك إلا بـ"شمر يرعش".
وبعد أن عاد الملك "شمر يهرعش" من حملته على وادي حضرموت، عاد فقاد حملة أخرى على أرض "أرض خولان الددن" "أرض خولن الددن", "خولان الدودان". وقد كلف الملك أحد قواده بأن يعسكر في مدينة "صعدة" "بهجرن صعدتم"، ويضع بها حامية, ثم يقوم بقطع الطريق على بعض فلول "خولان الدودان"، وقد نفذ القائد ما طلب منه، فتعقب تلك الفلول. ولما أنهى الملك الحرب التي قام بها في أرض "خولان الدودان" حارب جيشه فلول "سنحن" "سنحان" في وادي "دفا", وقد مَنَّ الإله "المقه" عليه، فأعطاه غنائم وأسرى وسبايا وأموالًا طائلة، أرضته وشرحت صدره3.
وعاد الملك "شمر يهرعش" فأصدر أمره بوجوب الزحف على "سهرتن" "سهرتان" و"حرتن" "حرتان"، أي: أرض قبيلة "حرت" "حرة"4. وهي أرض ورد اسمها قبلًا، حيث سبق للملك أن زحف عليها، وذلك قبل استيلائه على حضرموت. ولما انتهت القوات من مقاتلة "سهرتن" و"حرتن"، اتجهت نحو الشمال لمحاربة فلول "نشدال" "نشد إيل" في وادي "عتود"،
__________
1 Mahram, P.373
2 Mahram, P.373
3 Jamme 658, 659, Mamb 182, 244, Mahram, P.163
4 السطر 19 فما بعده حتى السطر 21 من النص.(4/207)
الذي يصب في البحر الأحمر، والذي يقع على مسافة "85" كيلومترًا إلى الشمال الغربي من "جيزان". وتقع مدينة "جيزان" حوالي ثمانية كيلومترات إلى الشمال الشرقي من مصبه في البحر1.
ويتحدث نص وسم بـJamme 660، عن غارة قام بها رجل اسمه "حرثن بن كعبم" "الحارث بن كعب"، ورجل آخر اسمه "سددم بن عمرم" "سداد بن عمرو" "سدد بن عمر"، وكانا "جرينهن"، وقد تعني اللفظة منزلة من المنازل الاجتماعية، ومعهما محاربان من محاربيهم هما: "نخعن" "النخع" "نخعان" و"جرم"، على "ذخزفن" بمدينة مأرب "هجرن مرب"، فحققوا ما أرادوا ثم خرجوا من "مأرب" ومعهم "يعمر" سيد "وزع" سبأ. فأمر الملك "شمر يهرعش" أحد رجاله واسمه "وهب أوم" "وهب أوام"، بأن يقتفي آثار الجناة ويقبض عليهم, فخرج إليهم وتعقبهم وقبض عليهم، وجاء بهم إلى الملك حيث عرضهم عليه في قصره "سلحن" "سلحين" "سلحان" بمدينة مأرب2.
وكان "وهب أوم"، الذي تعقب الجناة وقبض عليهم، من كبار الموظفين في حكومة "شمر يهرعش"، وكان بدرجة "كبر" أي: "كبير" وهي درجة رفيعة في الحكومة تعني أن صاحبها موظف من أكبر الموظفين في الدولة، وأن الملك عينه ممثلًا عنه لإدارة المقاطعات. وقد وضعت تحت تصرف هذا الكبير إدارة ثماني مقاطعات وقبائل هي: "حضرموت" و"كدت" "كندة" و"مذحجم" "مذحج" و"بهلم" "باهل" و"حدان" "حدأن" و"رضوم" "رضو" و"إظلم" "أظلم" و"إمرم" "أمرم"3. والأسماء الأولى هي أسماء قبائل معروفة؛ معروفة عند أهل الأخبار كذلك, ولا يزال بعضها معروفًا حتى اليوم.
وشخص تناط به إدارة هذه القبائل والأرضين، لا بد وأن يكون من الموظفين الأكْفَاء في عهد "شمر يهرعش". ويظهر من تسلسل أسماء المواضع والقبائل،
__________
1 Mahram, P.373
2 Jamme 660, Mamb 156, Mahram, P.164
3 راجع الأسطر 2-4 من النص.(4/208)
أنها كانت متجاورة يتاخم بعضها بعضًا؛ إذ لا يعقل إدارة شخص في ذلك الوقت مقاطعات متفرقة, وقبائل متباعدة من الوجهة الإدارية.
ويشير هذا النص إلى نوع من التنظيم الإداري الذي كان في حكومة سبأ في أيام هذا الملك1.
ويعد النص: Jamme 657 من النصوص التي تعود إلى هذا العهد أيضا. وهو نص دونه شخص من "مرحبم" أي: "مرحب", لمناسبة تقديمه ثلاثة أصنام إلى ربه "المقه ثهوان"؛ لأنه أجاب طلبه ومَنَّ عليه بتحقيقه كل ما سأله من رجاء وتوسلات, ولكي يحقق كل ما سيطلبه من مطالب؛ من إعطائه ثمارًا كثيرة من كل مزارعه، ومن حمايته وحفظه من كل سوء، ومن رجائه في أن يحظى بمكانة محمودة عند ملكه2.
والنص: Jamme 661، هو كذلك من النصوص التي تعود إلى هذا العهد. وقد كتبه جماعة لمناسبة شفائهم من مرض خطير كاد أن يقضي عليهم، أُصيبُوا "مرضو" به في مدينة "ثت" "ثات"، فلما شُفُوا منه، حمدوا ربهم "المقه ثهوان" "بعل أوام"؛ لأنه من عليهم إذ شفاهم وحفظهم، وتوسلوا إليه أيضًا بأن يعطيهم القوة والمنعة، وبأن يمنحهم غلة وافرة ويبارك في زرعهم، ويبعد عنهم أعداءهم وشانئيهم بحق "المقه ثهوان"3.
وقد استنتج "جامه" من النص: CIH 353، أنه قد كان للملك "شمر يهرعش" شقيق اسمه "ملكم" "ملك" "مالك"، وقد سقط لقبه من هذا النص, وقد استنتج منه أيضًا أنه كان قد حكم مع أخيه "شمر" وشاركه في الحكم. ولم يرد اسم "ملكم" هذا في نص آخر؛ لذلك لم يدخل أكثر الباحثين في العربيات الجنوبية اسمه في عداد ملوك سبأ وذي ريدان4.
وقد وضع "فلبي" اسم "يرم يهرحب" بعد "شمر يهرعش" وقال: إن من المحتمل أن يكون أحد أبناء "شمر"، وقد جعل حكمه في حوالي
__________
1 Mahram, P.372
2 Jamme 657, Mamb 216, Mahram, P.162
3 Jamme 661, Mamb 242, Mahram, P.166
4 Mahram, P.362(4/209)
السنة "310ب. م."1.
أما "فون وزمن"، فجعل من بعده ولدًا له سماه "ياسر يهنعم"، ولقبه بالثالث؛ ليميزه عن "ياسر يهنعم" والد "شمر يهرعش"، وعن "ياسر يهنعم" الأول الذي عاش قبله2.
وأما "ريكمنس", فذهب إلى أن "ياسر يهنعم" هذا لم يكن ابنًا لـ"شمر يهرعش"، بل كان أباه، وقد حكم مع ابنه في بادئ الأمر حكمًا مشتركًا، ثم انفرد ابنه بالحكم وأخذه لنفسه إلى أن مات، فعاد الحكم إلى أبيه "ياسر يهنعم" فأشرك "ياسر" هذا ابنه "ثارن أيفع" "ثأران أيفع" في الحكم، ثم أشرك ابنه الآخر "ذرأ أمر أيمن" معه في الحكم أيضا. ويعارض "فون وزمن" هذا الرأي، إذ يراه تفسيرًا غريبًا لا مثيل له في الحكم، ويقتضي أن يكون عمر "ياسر" إذن عمرًا طويلًا جدًّا3.
وقد جعل "فون وزمن" حكم "ياسر يهنعم" الثالث وابنه "ثارن أيفع" فيما بين السنة "310" و"320" للميلاد. ثم ذكر اسم "ثارن يركب" "ثأران يركب" من بعدهما, وقد جعل زمانه فيما بين السنة "320" و"330" للميلاد4.
ثم وضع "فون وزمن" أيام حكم "ياسر يهنعم الثالث" وابنه "ذرأ أمر أيمن" في النصف الأول من القرن الرابع للميلاد، في حوالي السنة "330" بعد الميلاد و"336" بعد الميلاد. وإذا كان هذا الافتراض صحيحا أو قريبا من الصحيح، فإنه يكون قد عاصر أو أدرك أيام "قسطنطين الكبير" "313-337ب. م."5.
ويظهر من ذلك أن "فون وزمن" عاد, فأعاد الحكم إلى "ياسر يهنعم" الثالث إلا أنه قرن حكمه هذا مع حكم ابن آخر له هو "ذرأ أمر أيمن".
وأما "جامه"، فقد ذهب مذهب "ريكمنس" في أن "ياسر يهنعم", الذي وضع هو أيضًا اسمه بعد اسم "شمر يهرعش", هو والد "شمر يهرعش"
__________
1 Background, P.143
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.489
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.489, Note 165, Von Wissmann,
Zur Geschichte, S. 200, 407
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
5 Le Museon, 1964, 3-4, P.498(4/210)
وقد حكم بعد ابنه "شمر" بسبب حادث لا نعرف سببه، حكم مع ابن له حكمًا مشتركًا، ثم حكم مع ابن آخر له، حكم مع "ذرأ أمر أيمن" من حوالي السنة "305" وحتى السنة "320" للميلاد تقريبًا، ثم حكم مع ابنه الآخر "ثارن أيفع" "ثأران أيفع" من حوالي السنة "320" وحتى السنة "325" للميلاد تقريبا1.
ويرى "جامه" أن تولي الأب الحكم بعد الابن ليس بحادث مستغرب، فهنالك أمثلة لعودة الآباء إلى الحكم بعد حدوث شيء لأبنائهم، وعودة "ياسر يهنعم" إلى الحكم بعد "شمر" هو مثل من تلك الأمثلة. ثم إن اسم "ياسر يهنعم" هو نفس اسم والد "شمر"؛ لذلك يرى "جامه" أنه هو والد "شمر" نفسه وأنه حكم مع أولاده مرارًا2.
وعندي أن في رأي "جامه" هذا تكلفًا وتصنعًا، واتفاق اسمين لا يدل حتمًا على أن الاسمين لمسمًّى واحد، وإن كان الزمن متقاربًا. ثم من يثبت لنا أن "ياسر يهنعم" الذي يرد اسمه في النصين: Jamme 664 وJamme 665 هو "ياسر يهنعم" الأول والد "شمر يهرعش", لا سيما وأن لقب "ياسر يهنعم" في النصين يختلف عن لقب "ياسر" والد شمر؟ وفي افتراض أخذ "ياسر" لقبه الجديد من اللقب الذي أحدثه ابنه في أيامه، تكلف بَيِّن واضح لا يؤيده أيضا دليل، ثم إن تصور اشتراكه في الحكم مع أربعة أولاد، هو تصور غريب أيضا؛ ولذلك أرى أن "ياسر يهنعم" هذا هو شخص آخر، وليس بوالد "شمر". وأما أنه ابن "شمر يهرعش"، فلا أعتقد أنه رأي صحيح أيضا؛ فلو كان ابن "شمر" لذكر اسم والده في النصين، كما هي العادة في النصوص, وقد كان من فخر الملوك ذكر أسماء آبائهم في النصوص، إلا إذا لم يكونوا ملوكًا، فإنهم كانوا يغفلون أسماءهم، أو يذكرونها دون لقب, وقد كان "شمر يهرعش" ملك، وصاحب لقب جديد، فقد كان من فخر "ياسر يهنعم" ذكر اسم والده مع لقبه لو كان ابن شمر حقًّا.
وقد ورد اسم "ذرأ أمر أيمن" مع اسم والده "ياسر يهنعم" في النص:
__________
1 Mahram, P.393
2 Mahram, P.374(4/211)
Jamme 665. وهو نص مهم جدًّا، فيه أخبار حروب وأنباء عن الأعراب، أي: أهل الوبر في العربية الجنوبية، وعن الأدوار التي كانوا يقومون بها من النواحي السياسية والحربية والاجتماعية, كما أن فيه أخبارًا عن التنظيمات الإدارية إذ ذاك. وصاحب النص موظف كبير من موظفي الدولة اسمه: "سعد تالب يتلف بن جدنم"، أو من "آل جدنم"، أي "جدن", وكان بدرجة "كبر"، أي "كبير" على أعراب ملك سبأ "كبر أعرب ملك سبأ" وعلى "كدة" أي كندة وعلى "مذحجم"، أي "مذحج"، وعلى "حرمم" "حرم" "حرام"، وعلى "بهلم" أي "باهلم" "باهلة" وعلى "زيد ال" "زيد إيل"، وعلى كل أعراب سبأ "وكل أعرب سبأ"، وأعراب حمير وأعراب حضرموت وأعراب "يمنت"، أي اليمن1. وقد دونه لمناسبة تخليده ذكرى حروب قام بها في أرض حضرموت وفي مواضع أخرى، كلفه القيام بها سيده الملك "ياسر يهنعم" وابنه "ذرأ أمر أيمن".
وقد أُمِرَ ذلك الكبيرُ بالذهاب إلى حضرموت، فذهب إليها ومعه محاربون من أعراب ملك سبأ ومن كندة "كدة"، وانضم إليه سادات "أبعل" "نشقم" "نشق" و"نشن" "نشان". ولما وصل مدينة "عبرن" "عبران" اصطدم بمحاربيها، وجرت معارك بين الطرفين. وتقع "عبرن" غرب "وادي العبر" ويقال لها "حصن العبر"، وهي مدينة ذات آبار2. وقد اشترك في المعركة محاربون: ركبان "ركبم" وفرسان "أفرسم" ومشاة. ويقصد بـ"ركبم" المحاربون الذين كانوا يركبون الجمال ويقاتلون عليها، وبـ"أفرسم" المحاربون الفرسان، أي: الذين يحاربون وهم على ظهور الجياد. وقد ذكر أن عدد المحاربين الراكبين كان "750" محاربا راكبا، وأن عدد الفرسان كان سبعين فارسا. وقد اصطدمت إحدى المفارز التي كانت مقدمة للجيش "مقدمتن"، بمفرزة أرسلها ملك حضرموت لمباغتة محاربي "نشق" و"نشان" و"مأرب"، وأخذهم على غرة لإيقاعهم في الأمر3.
__________
1 Jamme 665, Mamb 290, Mahram, P.169, Le Museon, 1964, 3-4, P.490
2 Mahram, P.375, Sprenger, Die Alte Geographie Arabiens, S. 189, 306
3 السطر الثامن عشر من النص.(4/212)
فوقعت معركة عند موضع "أرك", وقد تمكن قائد الحملة "سعد تألب يتلف" من التغلب على الحضارمة, ومن تخليص مقدمته وإنقاذ من كان قد وقع أسيرًا في أيدي المستوطنين الحضر من أهل المدر, الساكنين في مستوطنات "أحضرن"، ثم اتجه بجيشه نحو "دهر" و"رخيت"، فجرت معركة تغلب فيها على أهل الموضعين وحصل منهم على غنائم وأسرى وأموال، واقتاد جمالًا وثيرانًا وبقرًا وغنمًا كثيرًا، أخذها معه، ثم اتجه نحو الأرضين المنخفضة "سفل" حتى بلغ "عيون خرصم" "أعين خرصم" "أعين خرص"، حيث تحارب مع من كان هناك من العصاة والمنشقين والأعداء.
ودخل السبئيون بعد هذه المعركة معركة أخرى دخلوها مع قطعات "مصر" حضرموت المتقدمة "قدمهو". وكانت تتألف من "3500" جندي راكب "أسدم ركبم" ومن "125" فارسًا "أفرسم"، وكان يقودها قائدان "أسود يهمو", أحدهما: "ربعت بن ولم" "ربيعت بن والم" "ربيعة بن وائل"، وهو من آل "هلم" ومن آل "الين" "ألين"، وثانيهما: "أفصى بن جمن" "أفصى بن جمان"، ثم قائد الركبان "نحل ركبن" وأقيال "أقول" وكبراء "أكبرت" حضرموت وأسباطهم. وقد أصيبت قوات حضرموت بخسائر؛ قُتل منهم "850" محاربًا بحد السيف، وأُسر "أقصى"، وكان قائدا بدرجة "نحل" وأُسر "جشم"، وهو "نحل أفرسم"، أي قائد الفرسان، وأُسر معهما "470" محاربًا، وعدد من أقيال وكبراء حضرموت, وأُسر "45" فارسًا من فرسان حضرموت، وغُنم ثلاثون فرسًا, وأُخذ 1200 جمل ركوب مع رحالها "برحلهن". وهكذا انتهت هذه المعركة بانتصار السبئيين على حضرموت.
وأمر الملك قائده بأن يقاتل "بساعم" "بسأعم"، وأن يذهب لمساعدة قبيلة "جدنم" "جدن". فذهب ومعه "35" فارسًا وقطعات من جيشه على "بسأعم", والتحم به، وتمكن من إنقاذ كل الروايا "كل روتهمو" المحملة على الدواب، وكل الأمتعة المحملة على حيوانات الركوب، كما استولوا على إبل من إبل "بسأعم". وعاد القائد مع جنده بعد ذلك سالمًا غانمًا بفضل الإله "المقه" ونعمه عليه1.
__________
1 الفقرة "40" وما بعدها من النص.(4/213)
ويظهر أن عهد "ياسر يهنعم الثالث" وعهد ابنه "ذرأ أمر أيمن" كانا من العهود السيئة لحكومة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"؛ ففيهما انفصلت "حضرموت" عن تلك الحكومة، واستقلت أرض "سهرت" "سهرتن" "سهرة" "السهرة", واستعاد الحبش سلطانهم في السواحل الغربية للعربية الجنوبية, وانتهز "الأقيال" وسادات القبائل هذه الفرصة، فكونوا حكومات إقطاعية، يحارب بعضها بعضًا، وعمت الفوضى تلك البلاد1.
وأما النص: Jamme 664 الذي دوّن فيه اسم "ياسر يهنعم" و"ثارن أيفع" "ثأران أيفع" "ملك سبأ وذ ريدن وحضرموت ويمنت"، أي: "ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، ويقصد بـ"ملوك" "ملكا"، أي: ملكان اثنان، فصاحبه رجل اسمه "ال أمر ينهب" "إيل أمر ينهب"، وهو من "سحر" "سحار"، وكان قد أهدى معبد "المقه ثهوان" "بعل أوام" صنمًا؛ لأنه أوحى إليه بأنه سيهبه ولدا ذكرا, وقد وهبه ولدا سماه "برلم" "برل" "بارل", ولأنه أوحى إليه بأنه سيهبه أولادًا ذكورًا في المستقبل وأنه سيرفع من منزلته ومكانته عند سيديه: "يسرم يهنعم وثارن أيفع أملك سبأ وذ ريدن وحضرموت ويمنت", أي: "ياسر يهنعم وثارن أيفع ملكي سبأ وذي ريدن وحضرموت ويمنت"، ولأنه أوحى إليه بأنه سيعطيه غلة وافرة وثمارا كثيرة من أرضه الزراعية "أرضهمو" بمأرب وبنشق وبنشان2.
ويلاحظ أن هذا النص لم يشر إلى أن "ثأران أيفع" كان ابنًا لـ"ياسر يهنعم"، إذ لم يورد لفظة "وبنهو" التي تعني "وابنه" بل ذكر "الواو" وحده، أي: حرف العطف, ومعنى هذا أن "ثاران أيفع" لم يكن من أبناء "ياسر يهنعم"، بل كان غريبًا عنه. ثم يلاحظ أن النص ذكر لفظة "أملك" أي: "ملوك" بعد اسم "ثأران أيفع"، والواجب أن يكتب "ملكي"، أي "ملكا"، في حالة التثنية لا الجمع، فلعل ذلك من خطأ الكاتب أو الناسخ للنص.
وقد وضع "جامه" اسم "كرب ال وتر يهنعم" "كرب إيل وتر يهنعم" "كربئيل وتر يهنعم" بعد اسم "ثأران أيفع"، وجعل حكمه من سنة "325"
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.490
2 Jamme 664, Mamb 293, Mahram, P.168(4/214)
حتى السنة "330" للميلاد1. ثم نصب "ثأران يركب" ملكًا من بعده، وقد جعل حكمه من سنة "330" حتى السنة "335" للميلاد. ثم ذكر اسم "ذمر على يهبر" من بعده, وأعطاه لقب "الثاني" ليميزه بذلك عن "ذمر على يهبر" الذي حكم قبله بأمد, وذكر أنه حكم من سنة "335" حتى السنة "340" للميلاد. ثم وضع اسم "ثأران يهنعم" من بعده ثم اسم "ملكيكرب يهأمن" "ملكي كرب يهأمن"، ثم اسمي ملكين هما: "أبكرب أسعد" و"ذرأ أمر أيمن"2.
وأما "فون وزمن"، فوضع اسم "ذمر على يهبر" "ذمر على يهبأر" بعد اسم "ثارن يركب"، ثم عاد فذكر اسم "ذمر على يهبر" مع ابنه "ثارن يهنعم"، بمعنى أنهما حكما معًا فيما بين السنة "340" والسنة "350" للميلاد. ثم ذكر أن "ثأرن يهنعم" حكم مع ابنه "ملكيكرب يهأمن" حكمًا مزدوجًا، ثم حكم "ملكيكرب يهأمن" مع ابنيه "أبي كرب أسعد" و"ذرأ أمر أيمن". ثم أشار إلى انفراد "أبي كرب أسعد" مع ابنه "حسن يهأمن" "حسان يهأمن" بالحكم في حوالي السنة "400" للميلاد3.
وقد ورد اسم الملك "كرب ال وتر يهنعم" "كرب إيل وتر يهنعم" في النص: Jamme 666, وصاحبه رجل اسمه: "أبكرب أبهر" "أبو كرب أبهر"، ورجل آخر اسمه: "عبد عثتر إشوع" "عبد عثتر أشوع"، و"وهب أوم أسعد"، وكانوا أقيالًا "أقول" على عشيرة "عضدن" "عضدان"، وكانوا هم منها. وقد تقدموا إلى الإله "المقه" بصنم هو عبارة عن تمثال فرس وعليه راكبه، "ركبهو"؛ وذلك حمدًا له وشكرًا لأنه من عليهم وحماهم من مالك الأرض "بن محر"، ولأنه أسعدهم، ولكي يبعد عنهم كل أذى وسوء وكل عدو حاسد, ويعطيهم القوة والحظوة والمكانة عند سيدهم "كرب ال يهنعم" "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، ويمنحهم حصادًا طيبًا وغلة وافرة4.
__________
1 Mahram, P.393
2 Mahram, P.393
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
4 Jamme 666, Mamb 140, Mahram, P.172(4/215)
ويلاحظ أن هذا النص سمى الملك "كرب ال يهنعم" "كرب إيل يهنعم" ولم يذكر لفظة "وتر" بين "كرب إيل" و"يهنعم". وقد وضع "جامه" لفظة "وتر" بين الاسمين من عنده لاعتقاده بأن هذا الملك هو الملك "كرب إيل وتر يهنعم" الذي يرد اسمه في نص آخر وسم بـJamme 667.
وأما النص: Jamme 667، فصاحبه رجل اسمه "رببم" "ربيب"، وهو من "خلفن أنمرم" "خلفان أنمر" "خلفان أنمار" ومن "حيم" "حيوم". وقد ذكر فيه أنه قدم صنما إلى الإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"؛ لأنه من عليه بأن حفظه ونجاه من الثورة "بن حبل" والاضطرابات "وقسدت" "ق س د ت" التي وقعت بمدينة "ظفار" وذلك قبل هذا اليوم "بقدمي ذن يومن", ولكي يديم نعمه ومننه عليه وينيله رضا وحظوة "حظى ورضو" سيده الملك "كرب ال وتر يهنعم، ملك سبا وذ ريدن وحضرموت ويمنت"، أي: "كرب إيل وتر يهنعم، ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"1.
وقد ورد اسم الملك "ذمر على يهبر" في النص Jamme 668، وورد معه اسم ابنه "ثأران يهنعم", وأصحابه جماعة من "سباكهلن"، أي "سبأكهلان". وقد حمدوا فيه الإله "المقه"؛ لأنه نجَّى وحمى وحفظ أصحاب النص، ولأنه من عليهم فمكنهم من الحصول على غنائم في المعارك التي خاضوها ومن أخذ سبي من أعدائهم، مما أثلج نفوسهم وشرح صدورهم وأفرحهم، ولكي يبارك فيهم ويرضى عنهم سيدهم الملك "ذمر على يهبر" وابنه "ثارن يهنعم" وهما "ملكا سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، ولكي ينعم عليهم "وليهعننهمو"، ويمتعهم في الحياة "متعنهمو" ويبعد عنهم كل أذى وسوء2.
وورد اسم "ثارن يهنعم" "ثأران يهنعم"، وبعده اسم ابنه "ملك كرب" يهامن" "ملككرب يهأمن" "ملكيكرب يهأمن" "ملكي كرب يهأمن"، في النص: Jamme 669، وهو نص دونه جماعة من عشيرتي: "عبلم" "عبل" "عبال" و"قترن أتون" "قتران أتوان"، حمدوا فيه الإله "المقه" لأنه أنعم عليهم فوهبهم مولودًا ذكرًا، ولأنه أوحى إليهم بأنه سيهبهم أولادًا
__________
1 Jamme 667, Mamb 15, 86, Mahram, P.172
2 Jamme 668, Mamb 236, Mahram, P.173(4/216)
ذكورًا، وأنه سينجيهم من الضر والسوء، ولأنه أمات "وميت" "يحمد" الذي دخل أرضهم وقاتل أولادهم وآذاهم، ولأنه حفظ أخاهم وشفاه، مما أصيب به من مرض جعله صامتا هادئا، وتعبيرًا عن شكرهم وحمدهم هذا، أهدوا معبده صنمًا "صلمن"، وكتابة "مسدم" "مسندم"، وكانت زنتهما "عصيم" "عصى"، وقدموا ثورين "ثنى ثورن" إلى "كلونم" "كلوان"1.
ويلاحظ أن هذا النص لم يذكر مع اسم "ملككرب" "ملك كرب" "ملكيكرب" لقبه وهو "يهأمن" من بعده، بل أهمله.
كما ورد اسمه وبعده اسم ابنه في النص: Jamme 670. وقد دونه "شرحعثت إشوع" "شرحعثت أشوع", وابنه "مرثدم" "مرثد", وهما من "سخيمم" سادات "بيت ريمان" "أبعل بيتن ريمن"، وأقيال عشيرة "يرسم" من قبيلة "سمعي" التي تكوِّن ثلث "حجرم" "حجر". وقد كتباه لحمد الإله "المقه" وشكره؛ لأنه من على عبده "شرحعثت أشوع" فعافاه مما ألَمَّ به من مرض شديد "ضللم" كاد أن يقضي عليه، حل به بمدينة "ظفار", ولأنه أعاد إليه ابنه "كسدم" فساعده, ولكي يبارك فيه وفي ابنه "مرثد"، ويبعد عنهما كل مرض, ويرفع من مكانتهما لدى الملكين: "ثأران يهنعم وابنه ملك كرب يهأمن، ملكي سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"2.
وكتب جماعة من "سخيم" سادات "بيت ريمان" "أبعل بيتن ريمن" وأقيال "أقولن" "يرسم" من عشيرة "سمعي"، التي تكون ثلث عدد "حجرم ذخولن جددتن" "حجر خولان جددتان"، نصًّا وسم بـJamme 671؛ وذلك ليكون معبرًا عن حمدهم وشكرهم للإله "المقه"، الذي من عليهم بنعمه وساعدهم بالقيام بالعمل الذي كلفهم به سيداهم: "ثأران يهنعم" و"مككرب يامن" "ملك كرب يامن" "ملكيكرب يأمن"، "ملكأ سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، وهو أن يتقدموا ويقودوا "لقتد من" جيش الأعراب "خمس بعرب"، ويتجهوا إلى السد "عرمن" الذي تهدم "بكن ثبرت عرمن بحببض"، عند موضع "حببض" "حبابض" وموضع "رحبتن" "رحبتان" "الرحبة" "الرحابة"، فتداعت جدرانة ومبانيه وأحواضه وسدوده
__________
1 Jamme 669, Mamb 183, Mahram, P.174
2 Jamme 670, Mamb, 292, Mahram, P.175(4/217)
الفرعية ومضارفه "مضرفن"، الواقعة فيما بين "حبابض" و"رحبتن" "الرحبة", وخرب منه ما مقداره سبعون "شوحطم" "شوحطا". وقد حمدوا الإله "المقه" وسبحوه لأنه أجاب دعوتهم، فحبس الأمطار والأمواج والسيول عنهم حتى تم العمل وأقاموا الأسس والجدران والسد, ولأنه وفقهم في خدمة سيديهم "ثأران يهنعم"، و"ملككرب يامن" "ملك كرب يأمن" "ملكيكرب يأمن"1.
ويظهر من هذا النص أن خرابًا كان قد حل بسد "حبابض"، فتهدم قسم منه فأضر ذلك بالمزارع التي كانت ترتوي منه, وأن الملك أمر بإصلاحه وبإعادة بنائه، وقد تم هذا العمل في عهده.
وأما الذي حكم بعد "ذرأ أمر أيمن" الذي هو ابن "ياسر يهنعم الثالث"، فهو "ذمر على يهبأر", وكان قد حكم على رأي "فون وزمن" في حوالي السنة "340ب. م.". وقد استنتج "فون وزمن" رأيه هذا من كتابة ورد فيها اسم القائد "سعد تالب يتلف"، وهو في خدمة "ذمر على يهبأر". ولما كان هذا القائد قد خدم في عهد "ياسر" وابنه، رأى أن "ذمر على يهبأر" يجب أن يكون هو الملك الذي تولى الحكم بعد "ذرأ أمر أيمن", وقد نعته بـ"ذمر على يهبأر الثاني" تمييزًا له عن ملك سابق حكم بهذا الاسم2.
وقد تمكن القائد المذكور من الوصول إلى موضع "صوران" "صورأران" الواقع غربي الطريق المؤدية إلى روضة "سررن" "سرران" بوادي حضرموت. واشترك في معركة نشبت في "سرران" على مقربة من موضع "مريمت" "مريمات", وهو موضع تقع آثاره وخرائبه اليوم بين "سيوون" و"تريم"، في المكان الذي سماه "بطلميوس" Marimatha3.
ولا نعلم من أمر "ذمر على يهبأر" شيئًا يذكر. أما الذي جاء بعده في الحكم، فهو "ثارن يهنعم"، "ثأران يهنعم"، وهو ابنه, وقد حكم مع أبيه حكمًا مشتركًا بعد السنة "340م" على رأي "فون وزمن". وقد عثر على
__________
1 Jamme 671, Mamb 294, Mahram, P.176
2 Le Museon, 1964, 3-4, Pp.491, 498
3 J. Ryckmans, Chronologle, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.22, Le Museon, 1964, 3-4, P.491(4/218)
عدد من الكتابات من أيامه, وفي عهده تصدع السد -سد مأرب- للمرة الثالثة على ما جاء في المسند1.
ولعل النصوص الموسومة بـJamme 669 وJamme 670 وJamme 671 هي آخر النصوص التي نقرأ فيها اسم الإله "المقه"، إله سبأ الكبير ورمز السبئيين. وقد عثر عليها المنقبون في معبده بمدينة مأرب، المعبد المعروف بـ"أوم" "أوام"، وهي مكتوبة في عهد الملك "ثارن يهنعم" وابنه "ملككرب يهأمن" "ملكيكرب يهأمن"2. وإذا كان هذا الانقطاع صحيحًا، أي: إن المنقبين لن يعثروا على كتابات أخرى تحمل اسم ذلك الإله وتمجده، فإنه يمكن تفسيره عندئذٍ بإعراض ملوك سبأ منذ عهد هذين الملكين، أي: منذ أواخر القرن الرابع بعد الميلاد، عن عبادة "المقه" وبقية آلهة سبأ، ودخولهم في التوحيد.
ولو افترضنا احتمال عثور الباحثين على كتابات مفقودة فيها اسم "المقه"، فإن عهدها لن يكون طويلًا؛ ذلك لأننا سوف نرى بعد قليل أن الملك "ملك كرب يهأمن" "ملكيكرب يهأمن" وهو ابن الملك "ثأرن يهنعم" "ثاران يهنعم"، يتجاهل بعد توليه الحكم اسم "المقه"، ولا يتقرب إليه على سنة الملوك الماضين، بل يتقرب إلى إله جديد هو الإله "ذ سموى"، أي الإله "رب السماء"، وهو تحول يدل على حدوث تغير عند هذا الملك بالنسبة إلى ديانة آبائه وقومه، ويدل على دخوله في ديانة جديدة، هي ديانة "رب السماء"، أو "رب السماوات"، وهي ديانة تعبر عن عقيدة التوحيد، وعن اعتقاد الملك بوجود إله واحد هو "رب السماء"3.
وقد عثر على الكتابات المذكورة بـ"منكث" خارج خرائب "ظفار"4.
ويرى بعض الباحثين احتمال حدوث هذا التحول في عهد الملك "ثارن يهنعم"، ويرون أن هذا التحول يتناسب كل التناسب مع الرواية المعزوة إلى "فيلوستورجيوس" Philostorgios عن كيفية تنصير الحميريين، إذ زعم أن "ثيوفيلوس" Theophilos كان قد تمكن من إقناع ملك حمير بالدخول في النصرانية، فدان
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.461
3 GLASER 389
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.492(4/219)
بها، وأمر ببناء كنائس في "ظفار" وفي "عدن", وكان القيصر "قسطنطين الثاني" "350-361م" هو الذي أرسله إلى العربية الجنوبية ليدعو إلى النصرانية بين أهلها. ويؤيدون رأيهم هذا بالكتابة المذكورة التي يرجع عهدها إلى سنة "378م" أو "384م"، فهي غير بعيدة عن أيام "ثارن يهنعم"، ويحتمل لذلك أن يكون هو الملك الحميري الذي بدل دينه الوثني، ودخل في ديانة التوحيد1.
ويتحدث النص: Jamme 671 من بين النصوص المذكورة, عن تصدع أصاب وسط سد مأرب الكبير وعن سقوطه، وعن قيام الملك "ثأرن يهنعم" "ثأران يهنعم" بإصلاحه وإعادته إلى ما كان عليه. ويكون هذا الخبر، هو ثاني خبر يصل إلينا مدونًا في كتابات المسند عن تصدع السد إلى هذا العهد2.
أما الكتابة التي ورد فيها اسم الإله "ذ سموى" "رب السماء"، فتعود إلى الملك "ملككرب يهأمن" "ملك كرب يهأمن" "ملكيكرب يهأمن"، وهو ابن الملك "ثارن يهنعم", وقد عثر عليها في "منكث" خارج خرائب "ظفار". وقد ورد فيها مع اسمه اسم ولدين من أولاده، هما: "أبكرب أسعد" "أبو كرب أسعد"، و"ذرأ أمر أيمن" "ورأ أمر أيمن"3، وكانا يشاركانه في الحكم لورود لقب الملوكية الكامل بعد اسميهما. وقد تقربوا بها إلى الإله "ذ سموى"، أي "إله السماء"، وذلك في سنة "493" من التأريخ الحميري، المقابلة لسنة "378" أو "384" للميلاد4.
وقد أغفل "فلبي" الإشارة إلى "ياسر يهنعم الثالث" ثم من جاء بعده إلى "ملك كرب يهأمن"، فلم يذكرهم في قائمته لملوك "سبأ وذي ريدان وحضرموت
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.492, J. Ryckmans, Chronologie, Orients Antiquus, Iii, 1964, P.22
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.491.3
3 "ورأ أمر أيمن" في بعض القراءات، و"ذرأ أمر أيمن" في قراءة أخرى, Le Museon, 1964, 3-4, P.492
4 Glaser, Skizze, I, S. 12, Dammbruch, S. 14, Le Museon, 1950, 3-4, P.270, 1964, 3-4, P.492, Glaser 389, Die Araber, Iv, S. 273
وقد أخطأ هذا المصدر: "Die Araber" في تدوين التأريخ الحميري، إذ جعله "473"، بينما هو "493"، Le Museon, 66, "1953", 303(4/220)
ويمنت". وقد قلت: إنه جعل "يرم يهرحب" بعد "شمر يهرعش"، ومن المحتمل -في نظره- أن يكون أحد أولاد "شمر"، ثم ذكر أن الأحباش استولوا على العربية الجنوبية بعده، وذلك في حوالي السنة "340ب. م."، وقد دام حكمهم حتى سنة "375م"، حيث ثار عليهم "ملكيكرب يهأمن"، ويحتمل في نظره أن يكون أحد حفدة "يرم يهرحب"، فطرد الأحباش من العربية الجنوبية، وأقام نفسه ملكًا1.
وقد ورد اسم "ملك كرب يهأمن" محرَّفًا في كتب أهل الأخبار؛ فدعاه "حمزة" بـ"كلي كرب بن تبع"، وقد جعل حكمه خمسًا وثلاثين سنة2. وسماه "الطبري" "ملكي كرب تبع بن زيد بن عمرو بن تبع"3، وسماه "المسعودي" "كليكرب بن تبع"4، ودعاه "القلقشندي" "كليكرب بن تبع الأقرن"، الذي حكم على زعمه بعد "شمر يرعش" "شمر مرعش" ثلاثًا وخمسين سنة، وقيل: ثلاثًا وستين سنة، واسمه زيد, وهو على زعمه ابن "شمر", وذكر أن الأقرن إنما عرف بالأقرن لشامة كانت في قرنه5.
وانتقل الملك بعد وفاة "ملك كرب يهأمن" إلى ابنه "أب كرب أسعد" "أبي كرب أسعد"، ويرى المستشرقون أنه "أسعد كامل تبع" الذي يزعم الأخباريون أنه أول من تهود من التبابعة ونشر اليهودية بين اليمانيين.
وقد جعل "الطبري" حكم "أبي كرب أسعد" بعد حكم "شمر يهرعش"، إذ قال: "ثم كان بعد شمر يرعش بن ياسر ينعم تبع الأصغر، وهو تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب بن زيد بن تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار، وهو الذي قد قدم المدينة، وساق الحبرين من يهود إلى اليمن، وعمر البيت الحرام وكساه"6, وتهود وطلب من قومه الدخول في اليهودية. "وقال الكلبي: تبع هو أبو كرب أسعد بن ملكيكرب، وإنما سمي تبعًا؛ لأنه تبع من قبله. وقال سعيد بن جبير: هو الذي كسا البيت الحبرات". وذكر أنه قال شعرًا أودعه
__________
1 Background, P.143
2 حمزة "ص85".
3 الطبري "1/ 566" "دار المعارف".
4 مروج "2/ 5, 13" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
5 صبح الأعشى "5/ 23".
6 الطبري "2/ 11"، الإكليل "1/ 34" "حاشية 4".(4/221)
عند أهل يثرب، "فكانوا يتوارثونه كابرًا عن كابر إلى أن هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- فأدوه إليه، ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد"1. وورد في مسند الإمام "أبي حنيفة": "أول من ضرب الدينار تبع، وهو أسعد بن كرب"2.
وقد تحدث "الهمداني" عن "أبي كرب أسعد"، فقال: "فأولد ملكيكرب بن تبع الأكبر: أسعد تبع بن ملكيكرب, وهو أسعد الكامل، وتبع الأوسط" "وكانت أمه من فايش بن شهاب بن مالك بن معاوية بن دومان بن بكيل بن جشم بن جبران بن نوف بن همدان، ومولده بخمر من ديار فايش بن شهاب", و"خمر" موضع بظواهر همدان. "ونشأ بجبل هَنْوَم من أرض همدان ... فأولد أسعد تبع بن ملكيكرب: كربًا وهو الفدى، وبه كان يكنى ... ومعدي كرب وحسان وعمرًا ... وجبلًا ... فهؤلاء ... خمسة نفر بنو أسعد بن ملكيكرب, وقال البلخي وغيره: خطيب بن أسعد. والخطيبون بأكانط ومدر من ولده"3 فيكون ولد "أسعد" ستة نفر على هذه الرواية.
وذكر "الهمداني" أن والد "أسعد" هو "ملكيكرب بن تبع الأكبر, وهو الرائد بن تبع الأقرن بن شمر يرعش بن إفريقس ذي المنار بن الحارث الرائش بن ألي شدد"4. وعرف "تبع الأقرن" بالأقرن؛ لشامة كانت في قرنه5.
وقد أورد "الهمداني" في كتابه "الإكليل" أشعارًا كثيرة نسبها إلى "أسعد بن ملكيكرب"، بعضها قصائد، ذكر أنه نظمها في مناسبات مختلفة. وقد تطرق في بعض منها إلى أنساب الناس وإلى أمور ذكر أنه تنبأ بها قبل وقوعها بمئات من السنين، ومنها ظهور الرسول ومبعثه في قريش. وذكر "الهمداني" أن شعر "أسعد" وفصاحته من شعر وفصاحة "همدان", ونسب له شعرًا في مدحهم6.
__________
1 القرطبي: الجامع لأحكام القرآن "16/ 145".
2 مسند الإمام أبي حنيفة "ص163"، "حلب 1962م".
3 الإكليل "2/ 56 وما بعدها".
4 الإكليل "2/ 54 وما بعدها، 110 وما بعدها".
5 الإكليل "2/ 54".
6 الإكليل "2/ 57".(4/222)
ويلاحظ أن أهل الأخبار قد صيروا اسم "أب كرب أسعد" "أبكرب أسعد" "أبي كرب أسعد" على هذا النحو: "أسعد تبع" و"أسعد تبع بن ملكيكرب" و"أسعد الكامل"، فأسقطوا "أب كرب" "أبكرب" منه، وأخذوا الجزء الأخير منه وهو "أسعد". ويظهر أن فتوحاته كانت قد تركت أثرًا في ذاكرة أهل اليمن، وقد بقي ذلك الأثر إلى الإسلام، ولكن الزمن والعصبية لعبا دورًا خطيرًا في تكييفه حتى طغى عليه الطابع الأسطوري، فوصل إلينا على نحو ما نجده في كتب أهل الأخبار والتواريخ.
وقد تولى هذا الملك -على رأي المستشرقين- الحكم منفردًا من سنة "400" بعد الميلاد حتى حوالي سنة "415" أو "420ب. م." على رأي1، أو من سنة "385" حتى سنة "420ب. م." على رأي آخر2، أو من سنة "378" حتى سنة "415ب. م." على رأي "فلبي"3. والذي أراه أن حكمه امتد إلى ما بعد السنة "430" للميلاد، كما سأشرح ذلك في موضعه. وقد أضاف إلى لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" الذي ورثه من أبيه إضافة جديدة في آخره، هي: "واعربهمو طودم وتهمتم"، أي: "وأعرابها في الجبال وفي التهائم"، فصار بذلك أول ملك يحمل هذا اللقب4.
ولا بد أن تكون للإضافة التي ألحقت بآخر اللقب معنى سياسي مهم، إذ لا يعقل أن يكون هذا الملك قد ألحقها باللقب اعتباطًا من غير قصد. والظاهر أن الذي حمله على إلحاقها به، هو ظهور أهمية الأعراب، ولا سيما أعراب الهضاب وأعراب جنوب نجد من قبائل "معد" وقبائل تهامة أو التهائم، أي: المنخفضات الساحلية، بالنسبة إلى زمانه إذ صاروا يؤثرون في سياسة العربية الجنوبية تأثيرًا واضحًا، وصار في استطاعتهم إحداث تغيير كبير في الوضع السياسي، فانتبه لقوتهم هذه وأعارها أهمية كبيرة، فأضاف اسمهم إلى اللقب؛ دلالة على سيطرته عليهم وخضوعهم له، كما فعل الملوك الماضون بإضافة أسماء جديدة إلى ألقابهم الملكية كلما أخضعوا أرضًا من الأرضين.
__________
1 Handbuch, S. 104, Anm. 3. Background, Pp.116, 143
2 Background, P.143, Beitrage, S. 20, 40
3 Le Museon, "Note On The Last Kings Of Saba", By Philby, Lxiii, 3-4, "1950", P.269
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.492(4/223)
ومعنى ذلك أن حكم "أبي كرب أسعد" كان قد شمل التهائم بأعرابها وقراها, وكذلك قبائل معدّ التي تمتد منازلها من أرض نجران إلى مكة ونجد1.
وعلى مقربة من مدينة "غيمان" قبر ينسب إلى هذا الملك، وقد فتح من عهد غير بعيد. وذكر أن "غيمان" كانت مقرًّا للتبابعة مدة ما، وأن "أب كرب أسعد" أقام بها زمنًا. ويظن أن الرأس المصنوع من البرونز الذي يمثل رأس امرأة والمحفوظ في المتحف البريطاني، والرأس الجميل الذي يمثل مهارة فائقة في الصنعة ويمثل رأس رجل، كلاهما قد أخذ من ذلك القبر2.
ويقع قبر "أسعد أبو كرب" أسفل التل الذي أقيم عليه قصر "غيمان" "حصن غيمان". وقد دل البحث في موضعه على أنه يعود إلى عهود متعددة، وأن جملة ترميمات وإصلاحات أدخلت على هذا القصر3.
وقد ذكر "الهمداني" أن "أبيكرب أسعد" كان قد أقام في مدينة "بينون"، وأقام أيضا في مدينة "ظفار"4. أقام في قصر "ريدان" بـ"ظفار" وفي قصر "هكر" بمدينة "بينون"، كما أقام في قصر "غيمان" وفي قصر "غمدان" بصنعاء, وهي كلها من قصور اليمن وحصونها الشهيرة المذكورة في تأريخ اليمن5.
وقد أخذ جماعة من المستشرقين برواية أهل الأخبار في تهود "أب كرب أسعد" "أبكرب أسعد"، فجعلوه على رأس أسرة متهودة حكمت منذ هذا العهد. وجعله "فلبي" رأس الأسرة الثامنة من الأسرة التي حكمت السبئيين بحسب ترتيبه لقائمة الأسرة الحاكمة6.
ويدل عثور "فلبي" على كتابة دون فيها اسم "أب كرب أسعد" واسم ابنه "حسان يهأمن" في وادي "مأسل الجمح" "ماسل جمح"، في موضع مهم على طريق بين "مكة" والرياض، ولا يزال يعرف اسم جمح على أن هذا الموضع كان من جملة الأرضين الخاضعة لحكم ذلك الملك، وأن نفوذه كان قد جاوز اليمن حتى
__________
1 Die Araber, Ii, S. 321, Iv, S. 274
2 Beitrage, S. 20
3 Arabien, S. 276
4 Beitrage, S. 40
5 Le Museon, 1964, 3-4, P.439
6 Background, P.493, Le Museon, 1964, 3-4, P.493(4/224)
بلغ نجدًا. وبلغ هذه الأرض المهمة التي تجتازها القوافل والتجارات حتى اليوم1، وكانت تعد من منازل قبائل "معد" في ذلك الحين، وهي قبائل متحالفة يجمع شملها هذا الاسم2.
والكتابة التي أقصدها، هي الكتابة التي وسمت بـ3Philby 227، وقد دونت عند إقامة حصن في وادي "ماسل الجمح"، وورد فيها اسم موضع آخر هو "مودم ضمو", ويرى "فلبي" أنه المكان المسمى "دودمي" "دوادمي" في الزمن الحاضر4. وقد وردت فيها أعلام أخرى، منها: "كدت" "كدة"، و"سود"، و"وله" "وده"5.
وقد ذكر "الهمداني" أن "مأسل الجمح" كان من مواضع "نُمَيْر", واسم "نمير" قريب من اسم قبيلة Nomeritae التي ذكرها "بلينيوس" إذ قال: Nomeritae Mesala Oppido؛ ولذلك ذهب بعض الباحثين إلى أن "مأسل الجمح" كان من مواضع "نمير"، وذلك في أيام "بلينيوس"، أي في أواخر القرن الأول قبل الميلاد فما بعده6.
ويظهر أن الملك "أب كرب أسعد" أقام هذا الحصن في "وادي مأسل" ليكون معقلًا تقيم فيه قوات سبئية لحماية الطريق من هجوم القبائل وتعرضها للقوافل التي تسلك هذا الوادي محملة بالبضائع والتجارات بين اليمن ونجد، وهو طريق مهم من الطرق التي تصل أرض اليمن بنجد وبشرق الجزيرة7.
وقد افتتح نص: Philby 227 بجملة: "أبكرب أسعد وبنهو حسن يهأمن ملكي سبا وذ ريدان وحضرموت ويمنت وأعربهمو طودم وتهمتم بن حسن ملك كرب يهامن ملك سبا وذ ريدن وحضرموت ويمنت"، أي "أبو كرب أسعد
__________
1 Beitrage, S. 120, Ryckmans 464, Philby 228
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.492, J. Ryckmans, In: Bibl. Or., 14, 1957, P.93
3 Philby 227, Ryckmans 409, 445, 509, Philby, Motor Tracks And Sabaean Inscriptions In Najd., Geogr. Journ., 1950, Pp.211-215,
Le Museon, Lxiv, 1-2, "1951", P.99
Le Museon, 3-4, 1953, P.303
4 المصادر نفسها, Beitrage, S. 120
5 Le Museon, Lxiv, 1-2, "1951", P.102, Le Museon, 3-4, 1953, P.304
6 Beitrage, S. 120
7 Philpy, In The Geographical Journal, Vol., Cxvi, No. 4-6, "1950", P.214(4/225)
وابنه حسان يهأمن، ملكا سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الأطواد والتهائم، ابنا حسان ملكيكرب يهأمن ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت". فيفهم منها إذن أن اسم والد "أبي كرب أسعد" هو "حسان ملكيكرب يهأمن"، لا "ملكيكرب يهأمن". فهل نحن أمام ملك واحد، عرف بـ"ملكيكرب يهأمن" وبـ"حسان ملكيكرب يهأمن"، أم أمام ملك آخر غير الملك "ملكيكرب يهأمن"؟
ويتبين من هذا النص أن الملكين كانا قد غزَوَا "كسباو" أرض "مودم ضمو", غزواها بجمع من أهل حضرموت وسبأ وبني مأرب, أي أهل مأرب وبأصاغر الناس "صغرم". وكان في جيشهما "المقتوين" "مقتوتهمو"، أي: القادة؛ قادة الجيش. وأشير في النص إلى أعراب كندة "باعربهمو كدت" وإلى "سود" و"وله" "واله"1.
ولدينا كتابة وسمت بـRyckmans 534، ورد فيها اسم الملك "أبي كرب أسعد" وأشير فيها إلى ستة أولاد من أولاده. وهي كتابة مؤرخة، ويقابل تأريخها الحميري "543" السنة "428م" أو "434م"2، كما عثر على كتابة أخرى وسمت بـRyckmans 534 يرى من درسها أنها يجب أن تكون قد كتبت بعد السنة "433" أو "439م"3. ومعنى هذا أن حكم "أبي كرب أسعد"، قد جاوز السنة "428ب. م." أو السنة "430ب. م."، أي: إن تقدير الذين جعلوا نهاية حكم "أبي كرب أسعد" في سنة "415ب. م." أو "420ب. م."، هو تقدير خاطئ. والظاهر أنهم قد وقعوا في هذا الخطأ؛ لأن الكتابتين المذكورتين لم تكونا قد نشرتا في ذلك العهد.
وقد أشير في الكتابة Rossi 24 إلى ستة أو سبعة أبناء للملك "أبي كرب أسعد"4.
وتشير الكتابة الموسومة بـRyckmans 409 إلى حملة قام بها الملك "أبو كرب
__________
1 Philby 227, Ryckmans 509, Le Museon, 1953, 3-4, P.303, Die Araber, Iv, S. 273.
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.492, 1955, P.308, Die Araber, Iv, S. 273
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.492, J. Ryckmans, In Riv. D. Studi. Orient., 37, Rome, 1962, Pp.243, 249, Die Araber, Iv, S. 273
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.492, J. Ryckmans, In Riv. D. Studi. Orient., 37, Rome, 1962, P.249, Die Araber, Iv, S. 273(4/226)
أسعد" وابنه الأول "حسان يهأمن" على "وادي مأسل" في أرض "معد", وقد ساهم بها معه جمع من "كندة"1. ونجد لقبيلة "كندة" ذكر في الكتابات التي يعود عهدها إلى ما بعد الميلاد.
وذهب "كروهمن" إلى أن ورود اسم "أبي كرب أسعد" في النص: Jamme 856 -وهو من النصوص السبئية المتأخرة- يجعل أيامه في السنين الثمانين فما بعد, من القرن الخامس للميلاد2. وقد قدّر أيام حكمه بحوالي السنة "400" بعد الميلاد3.
ويظهر أن حكم الملك "أبي كرب أسعد" كان حكمًا طويلًا، وأن عمره كان عمرًا طويلًا أيضًا؛ وذلك لأنه كان ملكًا إلى ما بعد السنة "430" بعد الميلاد، وإذ قد ذكر ملكًا مع والده في النص المؤرخ بسنة "378ب. م." أو "384ب. م."، فيكون مجموع حكمه قد بلغ زهاء خمسين سنة أو أكثر من ذلك بقليل. ولو فرضنا أنه كان في حوالي العشرين من عمره يوم ذكر مع أبيه في النص، فيكون عمره إذن يوم وفاته حوالي السبعين، أو بعد ذلك بسنين4.
لقد استطاع "أبو كرب أسعد" توسيع ملكه، حتى بلغ البحر الأحمر والمحيط الهندي والأقسام الجنوبية من نجد، وربما كان قد استولى على جزء كبير من الحجاز. وفي روايات أهل الأخبار عن فتوحاته وعن غزواته أساس من الصحة، وإن دخل فيها عنصر المبالغة والقصص. ولا بد أن يكون هذا الملك ذا شخصية قوية وكفاءة مكنته من القيام بتلك الفتوحات والتغلب على القبائل، حتى تركت أعماله أثرًا بقي يتنقل بين الأجيال، ويتطور بمروره على الأفواه حتى وصل إلينا على الشكل الذي نقرؤه في كتب أهل الأخبار.
وقد ذكر "الطبري" أن "أسعد أبا كرب بن ملكيكرب"، ونعته بـ"تبع" كان قد قدم بجيوشه الأنبار، وأسكن من قومه الأنبار والحيرة، ثم رجع إلى
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.492
2 Arabien, S. 29, 273
3 Arabien, S. 276
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.492(4/227)
اليمن1. وذكر غيره أنه "تبان أسعد أبو كرب بن قيس بن زيد الأقرن بن عمرو ذي الأذعار، وهو تبع آخر، ويقال له: الرائد، وكان على عهد يستأسف أحد ملوك الفرس الكيانية وحافده أردشير، وملك اليمن والحجاز والعراق والشام، وغزا بلاد الترك والتبت والصين، ويقال: إنه ترك ببلاد التبت قومًا من حمير ... وغزا القسطنطينية ومر في طريقه بالعراق فتحير قومه فبنى هناك مدينة سماها الحيرة ... ويقال: إنه أول من كسا الكعبة المُلأ وجعل لبابها مفتاحًا وأوصى ولاتها من جرهم بتطهيرها, ودام ملكه ثلاثمائة وعشرين عامًا2".
وهذه الفتوحات التي نسبوها إلى "تبان أسعد"، هي مثل الفتوحات التي نسبوها لـ"شمر يرعش"، وهي في الواقع تكرار لها. والظاهر أنها خلط بين فتوحات الملكين التي وضعها لهما أهل الأخبار.
ونصب بعض أهل الأخبار من بعده "ربيعة بن نصر بن الحارث بن نمارة بن لخم" ملكًا على اليمن، ثم ذكروا أنه رأى "رؤيا هالته فسار بأهله إلى العراق وأقام بالحيرة، وحكم عليها، ومن عقبه كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة"3.
وهناك طريق بري يربط المناطق المرتفعة الزراعية بالمناطق الشمالية، وهي مناطق مأهولة ومن أكثر أرض اليمن كثافة سكان، يسمى بـ"درب أسعد كامل" أو "طريق أسعد كامل"، نسبة إلى هذا الملك, وهو يصل إلى شمال "الطائف" ويتصل بطريق الحجاز4. ويمتد من "خيوان" وأعالي "خولان" في اتجاه "بيشة" و"ريع المنهوت"، ثم في الممر الضيق المؤدي إلى "الطائف". ويستعمل تجار "عمران" هذا الدرب5.
ويظهر هذا الدرب تحولًا خطيرًا في الطرق البرية القديمة التي كانت تسير في محاذاة حافة الصحراء الشرقية المتصلة بالجوف، إذ يشير إلى تحول هذه الطرق من
__________
1 "وفي ذلك يقول كعب بن جميل بن عجرة بن قمير بن ثعلبة بن عوف بن مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل:
وغزا تبع في حمير حتى ... نزل الحيرة من أهل عدن".
الطبري "1/ 612"، "دار المعارف".
2 صبح الأعشى "5/ 23".
3 صبح الأعشى "5/ 23".
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.493
5 Le Museon, 1964, 3-4, P.493(4/228)
الأرض السهلة إلى الهضاب التي يعيش عليها المزارعون الذين يعيشون على الزراعة التي تعتمد على المطر, وقد شمل هذا التحول فيما شمله طريق البخور واللبان القديم1.
وجعل "فلبي" الحكم لـ"ورو أمر أيمن" بعد وفاة "أبي كرب أسعد", وهو شقيقه. قد حكم على رأي "فلبي" من سنة "415م" حتى سنة "425م"، ولما توفي انتقل الحكم إلى "شرحبيل يعفر" "شرحب إيل يعفر"، وهو ابن "أبي كرب أسعد". وقد حكم على تقديم "فلبي" أيضًا من سنة "415ب. م." حتى سنة "455ب. م."2، وحكم على تقدير "هومل" من سنة "420م" حتى سنة "455م"3. ولكن "فلبي" في كتابه "النجاد العربية" عاد فجارى "هومل" فيما ذهب إليه في تقدير مدة حكم "شرحبيل يعفر"، فجعلها منذ سنة "420ب. م." حتى سنة "455ب. م."4.
وأما "جامه"، فوضع "أبكرب أسعد" واسم شقيقه "ذرأ إمر أيمن" "ذرأ أمر أيمن" بعد اسم "ملككرب يهأمن". وقد حكم "أبكرب أسعد" مع والده في حوالي السنة "365" وحتى السنة "375" للميلاد. وأما "ذرأ أمر أيمن"، فجعله مشاركًا لوالده في الحكم وذلك في حوالي السنة "375" وحتى السنة "385" للميلاد5.
ولكن "جامه" عاد فوضع بعد القائمة المتأخرة لحكام سبأ، والتي انتهت في القائمة "E"، باسمي "ذرأ أمر أيمن" و"أبكرب أسعد"، قائمة أخرى دعاها بـ"F"، وقد خصصها بمن حكم في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد، ابتدأها باسم "حسن ملككرب يهأمن" "حسان ملكيكرب يهأمن"، وجعل حكمه من حوالي السنة "415" حتى حوالي السنة "425" للميلاد، ثم وضع اسم "أبكرب أسعد" من بعده، وجعل حكمه في حوالي السنة "425" وحتى السنة "430" للميلاد. ثم ذكر اسم "حسان يهأمن" "حسن يهأمن" من بعده، وقد شارك "أبكرب أسعد" في الحكم من سنة "425" حتى "430" للميلاد، ثم دون اسم "شرحبيل يعفر" من بعد "أبكرب أسعد" وقد جعله شريكًا في
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.423
2 Background, P.143
3 Handbuch, S. 104, Anm. 3
4 Philby, Highlands, P.460, Le Museon, 1961, 1-2, P.174
5 Mahram, P.391(4/229)
الحكم لـ"أبكرب أسعد" من حوالي السنة "450" حتى السنة "440" للميلاد1.
وقد أغفل "فلبي" وغيره اسم "حسان يهأمن"، وهو ابن "أب كرب أسعد"، فلم يذكره بعد اسم أبيه، مع أنه ذكر معه في النص Philby 227، ونعت مثله بـ"ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعراب في الجبال والتهائم".
وقد عرف أهل الأخبار اسم "حسان"، وذكروا أنه حكم من بعد أبيه "أسعد أبي كرب"، وذكروا اسمه على هذا النحو: "حسان بن تبع أسعد أبي كرب"، ولم يذكروا لقبه. وقد زعموا أنه أغار على طسم وجديس باليمامة وأنه حارب "جذيمة" ملك الحيرة، وكان "جذيمة" قد خرج يريد طسم وجديس في منازلهما من "جوّ" وما حولهما، فوجد "حسان" قد أغار على طسم وجديس باليمامة، فانكفأ راجعًا بمن معه، فأتت خيول "تبع" على سرية لجذيمة فاجتاحتها2. فهو من معاصري "جذيمة" على رأي أهل الأخبار.
و"حسان" هذا هو الذي أفنى "جديس" على رواية أهل الأخبار، وهو الذي فقأ عيني "اليمامة" في شعره3، وإن "النمر بن تولب العكلي"، أشار في شعره إلى قصتها أيضا4.
وذكر "الطبري" أن "حسان بن تبع" الذي أوقع بجديس، هو ذو معاهر، وهو تبع بن تبع تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن تبع بن أقرن وهو أبو تبع الذي يزعم أهل اليمن أنه قدم مكة، وكسا الكعبة، وأن الشعب من المطابخ إنما سُمي هذا الاسم لنصبه المطابخ في ذلك الموضع وإطعامه الناس، وأن أجيادًا إنما سمي أجيادًا؛ لأن خيله كانت هنالك، وأنه قدم يثرب فنزل منزلًا يقال له منزل الملك اليوم، وقتل من اليهود مقتلة عظيمة بسبب شكاية من شكاهم إليه من الأوس والخزرج بسوء الجوار، وأنه وجه ابنه حسان إلى المسند وشمرًا ذا الجناح إلى خراسان، وأمرهما أن يستبقا إلى الصين، فمر بسمرقند فأقام عليها حتى افتتحها، وقتل مقاتلتها، وسبى وحوى ما فيها ونفذ إلى الصين فوافى حسان بها، فمن أهل اليمن من يزعم أنهما ماتا هنالك، ومنهم من يزعم
__________
1 Mahram, P.394
2 الطبري "1/ 615، 629 وما بعدها"، "دار المعارف".
3 الطبري "1/ 630"، ديوان الأعشى "72-74".
4 الطبري "1/ 631".(4/230)
أنهما انصرفا إلى تبع بالأموال"1.
وقد ذكر "الطبري" أيضا أن "حسان بن تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار" سار بقومه من أهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض العجم، كما كانت التبابعة قبله تفعل، فلما كان بالعراق قتله أخوه "عمرو بن تبان أسعد أبي كرب" ورجع "عمرو" بمن معه من جنده إلى اليمن, وأصيب بمرض نفسي, وقتل خلقًا من قومه لندمه على قتله أخاه، ثم لم يلبث أن هلك2.
وقد زعم أن "عمرًا" هذا عرف بـ"موثبان"، وأنه قتل أخاه بموضع "رحبة طوق بن مالك"، التي عرفت بـ"فرضة نعم"3.
وقد زعم الأخباريون، أن الأمر قد مرج في حمير بعد وفاة "عمرو" وتفرقوا، فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة منهم، يقال له: "لخنيعة ينوفة ذو شناتر"، فملكهم، فقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، حتى قتله "ذو نواس" في قصة من القصص المألوف وروده من أهل الأخبار4.
وذكر "القلقشندي"، أن الذي حكم بعد "ربيعة بن نصر" الذي حكم اليمن على زعمه بعد "تبان أسعد"، هو "حسان ذو معاهر"، وهو "ابن تبان أسعد أبي كرب"، ثم ملَّك أخاه "عمرو بن تبان أسعد أبي كرب" من بعده، ونعته بـ"الموثبان"، وذكر أنه حكم ثلاثًا وستين سنة، ومات عن أولاد صغار وأكبرهم قد استهوته الجن، فوثب على الملك "عبد كلال بن مثوب"، فملك أربعًا وتسعين سنة، وهو تبع الأصغر5.
قد ترك لنا "شرحبيل يعفر" "شرحب إيل يعفر" نصًّا مهمًّا وسمه علماء العربيات الجنوبية بـ6Glaser 554، وهو وثيقة تتعلق بتصدع سد مأرب الشهير
__________
1 الطبري "1/ 632".
2 الطبري "2/ 115 وما بعدها".
3 الطبري "2/ 117".
4 الطبري "2/ 117" وما بعدها.
5 صبح الأعشى "5/ 23".
6 Cih 540, Glaser 554 + 410 + 408 + 408 Bis + 406 + 407 + 409, Cih, Iv, Ii, Iii, P.262, Glaser, Zwei Inschriften Uber Den Dammbruch Von Marib, In Mitteillungen Der Vorderasiatischen Gesellschaft, Ii, "1897", S. 372, Seper., S. 13, Le Museon, 1964, 3-4, P.493(4/231)
في أيامه وإعادة بنائه، فقصَّ علينا فيه الحادث، وتحدث عن مقدار ما أنفقه على الفعلة والعمال لإعادة البناء. ويتألف هذا النص من مائة سطر, جاء فيه: أن "شرحبيل يعفر ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وأعرابها في النجاد والتهائم ابن أبي كرب أسعد ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في النجاد والتهائم"، قام بتجديد بناء سد مأرب وترميمه على مقربة من موضع "رحب" "رحاب"1, وعند "عبرن" "عبران"، وقام بإصلاح أقسام منه حتى موضع "طمحن" "طمحان" "الطمح"، كما قام بحفر مسايل المياه وبناء القواعد والجدران بالحجارة، وقوَّى فروعه، وبنى أقسامًا جديدة، وأوصلها بعضها ببعض بين "غيلن" "غيلان" "الغيل" و"مفلل" "م ف ل ل" "مفلول"، وجدد سد "يسرن" "يسران"، وقام بإعاشة العمال ومن اشتغل ببنائه، وتمت هذه الأعمال في شهر "ذي داون" "ذي دأون" من سنة "564" "565" من التأريخ الحميري، أي: سنة "449" "450" "456" للميلاد2. ويشير هذا العمل بالطبع إلى حدوث تصدع في السد, اضطر الملك إلى تجديد بناء أقسام منه، وترميم ما أمكن ترميمه من أقسام أخرى، وإضافة أقسام جديدة إليه.
ويظهر من هذا النص أيضًا أن السد قد تهدم بعد مدة قصيرة، وذلك في شهر "ذو ثبتن" "ذو الثبت" من سنة "565" من التقويم الحميري، أي: سنة "450" أو "451"، "455" "456" للميلاد، فأثر ذلك تأثيرا سيئا جدا فيمن كان ساكنًا في جواره، حتى اضطر من كان ساكنًا في "رحبتن" "الرحبة" إلى الفرار إلى الجبال خوف الموت3، فأسرع الملك إلى الاستعانة بحمير وبقبائل حضرموت لإعادة بناء السد، فتجمع لديه زهاء عشرين ألف رجل اشتغلوا بقطع الحجارة من الجبال وحفر الأسس وتنظيف الأودية وإنشاء خزانات لخزن المياه وعمل أبواب ومنافذ لمرور الماء والسيطرة عليه، حتى تم ذلك في شهر "ذو دأو" من سنة "565" من تأريخ حمير4. وذكر ما أنفقه على العمال وما قدمه لهم من
__________
1 "رجم"، السطر السادس وما بعده من النص.
2 Glaser. Mitt., S. 379, Sep., S. 20, Handbuch, S. 105, Background, P.118,
Le Museon, 1964, 3-4, P.494
3 السطر 68 من النص.
4 أي: سنة "450" أو "451" للميلاد.(4/232)
طعام وما ذبحه من بقر وأغنام، وما صرفه من دبس "دبسم" وخمر وغير ذلك مما ذكره وفصله1. وقد استخدم الملك عشرين ألف رجل لإصلاح السد2.
لقد قَلََّ شأن مأرب في هذا العهد، وأخذ الناس يرحلون عنها إلى مواضع أخرى مثل "صنعاء" التي تألق نجمها حتى صارت مقرًّا للحكام الذين أقاموا في قصر "غندن" "غندان"، أي: "غمدان"، وقد يكون لتصدع السد مرارا، دخل في هذا التحول، حيث أجبر المزارعين على ترك أرضهم التي أصابها التلف والجفاف والارتحال إلى أرضين أخرى، فتركوها إلى الهضاب والجبال. وقد يكون للتحول السياسي الذي أصاب هذا العهد دخل أيضًا فيه3.
وفي تصدع السد بعد مدة ليست طويلة من ترميمه وإصلاحه وتجديده، وبعد إنفاق أموال طائلة عليه واشتغال آلاف من العمال في بنائه، شيء يثير السؤال عن سبب سقوطه أو سقوط جزء منه بهذه السرعة، فهل تهدم من سقوط أمطار غزيرة جدًّا في هذا العام لم يكن في طاقة السد احتمالها فسقط؟ أم أن بناء السد لم يكن قد كمل تمامًا، فسقطت أمطار غزيرة سببت انهيار الأماكن الضعيفة من المواضع التي لم تكن قد تمت، فانهار لذلك؟ أم أنه انهار بفعل كوارث طبيعية مثل زلزال أو بركان؟ إلى هذا الرأي الأخير يميل "فلبي" في كتابه "سناد الإسلام"4.
إن مما يؤسف عليه حقًّا أن هذا النص لم يذكر أسماء القبائل التي هربت من "رحبتن" "رحبت" "الرحبة" خوفًا من الهلاك. وعلى الجملة، فالمستفاد منه بكل صراحة أن القبائل التي كانت تقطن هذه المنطقة تفرقت وتشتتت لتهدم السد, وفيه دليل على وجود أصل تأريخي للروايات العديدة التي يرويها الأخباريون عن تهدم سد مأرب وتفرق سبأ5. ولكننا لا نستطيع بالطبع أن نقول: إن هذا الحادث الذي وقع في أيام "شرحبيل" هو الحادث المقصود في روايات الأخباريين، وهي روايات يتغلب عنصر الخيال والابتداع والمبالغات فيها على عنصر الحقيقة والتأريخ.
__________
1 راجع السطر 84 وما بعده حتى نهاية النص, Discoveries, P.74
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.494, Glaser 554, Cih, 540, 554
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.493
4 Background, P.118
5 Glaser, Mitt., S. 387, Sep., S. 28(4/233)
وفي النص كما نرى ونقرأ جملة مهمة تشير إلى انتشار عقيدة التوحيد في ذلك الزمن بين اليمانيين، وإلى الابتعاد عن آلهة اليمن القديمة, وتشير إلى ظهور "إله السماء والأرض" أو "إله السماوات والأرض"، فهو إله واحد، يرعى ملكوت السماء والأرض. وفي هذه العقيدة اعتقاد بوجود إله واحد, فقد ورد في النص: "بنصر وردا الهن بعل سمين وأرضن"1، أي "بنصر وبعون الإله رب السماوات والأرض"، وهي عقيدة ظهرت عند أهل اليمن بعد الميلاد بتأثير اليهودية والنصرانية ولا شك.
وفي جملة "الهن ذلهو سمين وأرض" الواردة في النص: Ryckmans 507 ومعناها: "الإله الذي له السماوات والأرض"2، تعبير عن التوحيد أيضًا, وهي من نص يرجع إلى هذا الملك أيضا. فنحن إذن في عصر أخذت عقيدة التوحيد تنتشر فيه.
وقد انتقل الحكم بعد "شرحبيل يعفر" "شرحب إيل يعفر"3 إلى "عبد كلال" "عبد كللم" "عبد كلالم" على رأي "هومل", وجاراه "فلبي" في رأيه هذا، وجعل حكمه منذ سنة "455م" حتى سنة "460م"4. ولم يشرح "هومل" الأسباب التي دفعته إلى اعتبار "عبد كلال" ملكًا.
أما "فلبي"، فرأى أنه كان كاهنًا وسيد قبيلة, ثار على ملكه؛ طمعًا في الملك أو إخمادًا للثورة التي أجج الملك نيرانها على آلهة قومه، فغلبه، وربما كان ذلك بفضل مساعدة مملكة "أكسوم" له. ولكنه لم ينعم بالملك طويلًا، فلم يزد مدة حكمه على خمس سنين5.
وقد ورد اسم "عبد كلال" في النص الموسوم بـ6Glaser 7, وذكر معه اسم "هنام" "هنم" "هانئ" و"هعلل"، وهما ابناه. ووردت بعد
__________
1 السطر "81" وما بعده.
2 Le Museon, 1961, 1-2, P.174
3 Handbuch, S.104
Handbuch, P.104
4 Background, P.143, Le Museon, 1961, 1-2, P.174
5 Philby, Highlands, P.260
6 Cih 6, Iv, I, I, P.15, Glaser 7, Halevy 3, Guttenden 3, Fresnel 3, D.H. Muller, Siegfried Langer's Reiseberichte, Leipzig, 1884, S. 52(4/234)
أسمائهم عبارة: "ألهت قولم"، أي: "سادة أقيال"، وهي جملة تدل على أنه هو وابنيه كانوا أقيالًا، فإن كانت كلمة "قولم" اسم علم، صار معناها "آلهة قولم"، أي "سادة قول"، على اعتبار أن "قول" اسم قبيلة، ولا يفهم من التفسيرين على كل حال أن "عبد كلال" كان ملكًا. وقد دون هذا النص عند بنائهم بيت "يرت": "براو وهشقرن بتهمو يرت", وذكرت بعد هذه الكلمات جملة: "بردا رحمنن"، أي: "بعون الرحمن" وذلك في سنة "573" من التأريخ الحميري، المقابلة لسنة "458" الميلادية1. وليست في هذا النص إشارة لا إلى ثورة, ولا إلى ملك، ولا إلى تعلق بآلهة قديمة ودفاع عنها بل الأمر على العكس، فجملة "بردا رحمنن" تدل على أنه كان مثل "شرحبيل يعفر" موحدًا أيضا، يدين بإله واحد، هو "الرحمن" الذي ظهرت عبادته متأخرة كذلك، وأنه لم يكن على دين أجداده في عبادة "المقه" وبقية الأصنام.
وذكر الأخباريون أن من ملوك حمير ملكًا اسمه "عبد كلال"، وكان مؤمنًا يدين بدين المسيح، فآمن بالنبي قبل مبعثه. ومن ولده "الحارث بن عبد كلال" وهو أحد الملوك الذين وفدوا على رسول الله من ملوك حمير، فأفرشهم رداءه، وهم: "الأبيض بن حمال"، و"الحارث بن عبد كلال"، و"أبرهة بن شرحبيل بن أبرهة بن الصباح"، و"وائل بن حجر الحضرمي", يضاف إليهم "جرير بن عبد الله البَجَليّ"، و"عبد الجد الحكمي" في رواية أخرى2. ودون اسمه في نسخة "كتاب التيجان" المطبوعة على هذه الصورة "عبد كاليل بن ينوف"، وجعل ملكه أربعًا وستين سنة، وذكر أنه حكم بعد "عمرو بن تبان"، وأنه كان مؤمنًا على دين عيسى، ولكنه ستر إيمانه3.
وجعله بعض المؤرخين "عبد كلال بن مثوب"، وذكروا أنه وثب على ملك التبابعة بعد وفاة "عمرو بن تبان أسعد" عن أولاد صغار، وأكبرهم استهوته الجن، فملك أربعًا وتسعين سنة، وهو تبع الأصغر، وله مغازٍ وآثار بعيدة, فلما توفي ملك أخوه "مرثد"، وقد ملك سبعة وثلاثين عامًا4.
__________
1 Background, P.117, Sab. Inschriften, S. 192
2 منتخبات "ص93".
3 التيجان "ص299"، حمزة "ص87".
4 التيجان "ص299"، صبح الأعشى "5/ 23 وما بعدها".(4/235)
ومن روايات الأخباريين هذه ومن تشابه الاسمين، استنتج "فون كريمر" و"هومل" وغيرهما أن "عبد كلال" المذكور في النص هو "عبد كلال" المذكور عند الأخباريين، وأنه كان لذلك ملكًا1.
و"عبد كلال"، هو رجل ثائر لم يكن من أبناء الملوك، وإنما اغتصب العرش اغتصابًا على رأي أهل الأخبار، وقد زعم بعضهم أن الذي حكم بعده أخوه لأمه واسمه "مرثد"، وقد حكم سبعًا وثلاثين سنة. ثم ملك من بعده ابنه "وليعة بن مرثد"، ثم ملك من بعده "أبرهة بن الصباح بن لهيعة بن شيبة بن مرثد بن ينف بن معد يكرب بن عبد الله بن عمرو بن ذي أصبح، الحارث بن مالك"، وقيل: إنما ملك تهامة فقط2.
وذكر "الهمداني" أن "عبد كلال", ونعته بـ"الكبر ذي الحدث"، كان قائد "حسان بن تبع", وكان على مقدمته إلى اليمامة يوم قتل جديسًا، وقريش تقول: إن "حسان بن عبد كلال هذا حاربهم وأسروه". ثم ذكر أن "حسان بن عبد كلال بن ذي حدث الحميري"، أقبل من اليمن "في حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن؛ ليجعل حج الناس البيت عنده وإلى بلاده، فأقبل حتى نزل نخلة، فأغار على سرح الناس ومنع الطريق، وهاب أن يدخل مكة، فلما رأت كنانة وقريش وقبائل خندف ومن كان معهم من أفناء مضر ذلك، خرجوا إليه ورئيس القوم يومئذٍ "فهر بن مالك"، فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزمت حمير وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر، وقتل في المعركة فيمن قتل: قيس بن غالب بن فهر. وكان حسان عندهم بمكة أسيرًا ثلاث سنين، حتى افتُدِيَ منهم، فخرج به، فمات بين مكة واليمن"3.
وقد عَلَّق "الهمداني" بعد ذلك على هذا الخبر، فقال: "ما سمعت العلماء ولا أحدًا من عُرَّاف حمير، يثبت هذه الحرب التي كانت بين حمير وقريش، وإنما كانت خزاعة الغالبة في عصر فهر على مكة، ولم يكن هَمَّ بحمل حجارة
__________
1 Hartmann, Arabische Frage, S. 486, 492, Wellhausen, Skizzen Und Vorarbeiten, Iv, S. 191, Mordtmann Und Mittwoch, Sab. Inschriften, S. 192
2 صبح الأعشى "5/ 24".
3 الإكليل "2/ 357 وما بعدها".(4/236)
البيت سوى تبع بمشورة هذيل بن مدركة"1. فهو مثل سائر أهل اليمن المتعصبين لقحطان لا يؤيد خبر تلك الحرب، التي تجعل النصر لأهل مكة, ويضع تبعة ما يذكره أهل الأخبار من نقل حجارة الكعبة إلى اليمن على عاتق "هذيل بن مدركة"، من سادات مكة.
وشهدت اليمن في سنة "460" للميلاد أو قبل ذلك بقليل ملكًا جديدًا اسمه "شرحبيل يكف" "شرحب ال يكف" "شرحب إيل يكوف"، كانت نهاية حكمه في سنة "470" للميلاد على تقدير "هومل" و"فلبي"2, وهو ملك لا نعرف اسم أبيه، ولا نعرف علاقته بالملك السابق. ويرى "فلبي" أنه على الرغم من هذا اللقب الطويل: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الأطواد وفي تهامة"، الذي يشير إلى تملك صاحبه العربية الجنوبية الغربية، فقد ظل الأحباش في بقعتهم الضيقة التي ارتكزوا عليها يحاربون حكومة "حمير" وهم البقية الباقية من عهد الاحتلال السابق3.
وقد جاء اسم "شرحب إيل يكف" "شرحبيل يكف" في كتابة مؤرخة بسنة "575" من التقويم الحميري، المقابلة لسنة "460" للميلاد. وقد وردت في الكتابة جملة: "رحمنن وبنهو كرشتش غلبن"، أي: "الرحمن وابنه المسيح الغالب"، وقد استعمل لفظة "كرشتش" في مقابل لفظة Christus, مما يدل على أن صاحبها نصراني. وقد استعمل المصطلح اليوناني، ويظهر أن نصارى اليمن كانوا قد أخذوه من المبشرين، وعربوه على الصورة المذكورة. وقد ذكر بعد تلك الجملة اسم الملك ونعته الذي هو: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في النجاد وفي التهائم"4.
وقد بقي من تأريخ النص اسم الشهر وهو "ذ حجت"، أي: "ذو الحجة" "ذو حجة" والعدد الأول من اسم السنة وهو خمسة. ويرى "فلبي" احتمال كون السنة "585" أو"575" من التأريخ الحميري، أي سنة "470" أو "460"
__________
1 الإكليل "2/ 359".
2 Background, P.143, Highlands, P.260, Handbuch, S. 105,
Le Museon, 1961, 1-2, P.174
3 Philby, Highlands, P.260
4 A. Jamme, La Dynastie De Sharahbi'll Yakuf Et La Documentation Epigraphique Sud-Arabe, Istanbul, 1961, P.4(4/237)
للميلاد1.
وورد اسمه في كتابة أخرى ناقصة, وقد سقطت منها حروف وكلمات2.
وقد ذهب "جامه" إلى أن "شرحبيل يكف" "شرحب إيل يكوف"، كان قد حكم حكمًا منفردًا، وذلك من سنة "570" حتى سنة "580" من التقويم الحميري، ثم أشرك معه أولاده الثلاثة في الحكم، وذلك من سنة "580" حتى سنة "585" من التقويم المذكور، ثم حكم مع ولدين من ولده، وذلك من سنة "585" حتى سنة "590" من التقويم الحميري, ثم حكم ابنان من أبنائه وذلك من سنة "590" حتى سنة "595" من التقويم المذكور، ثم حكم من بعدهما "معد يكرب ينعم" حكمًا منفردًا وذلك من سنة "595" حتى سنة "600" من ذلك التقويم، ثم خلفه "عبد كلال" الذي حكم من سنة "600" حتى سنة "602" من التقويم الحميري3.
ووصل إلينا نص أرخ بسنة "582" من التأريخ الحميري، أي: سنة "467" للميلاد، وفيه كلمات مطموسة، منها كلمة أو كلمات سقطت بعد كلمة "شرحب إيل" "شرحبيل"، وبعدها "معد كرب ينعم" "معد يكرب ينعم". ويستدل بتأريخ هذا النص على أن المراد بـ"شرحبيل" "شرحب إيل" الملك "شرحبيل يكف" "شرحب إيل يكف" الذي نتحدث عنه. ولم يرد في هذا النص اسم ابن آخر من أبنائه غير هذا الابن، وهو "معد كرب ينعم" "معد يكرب ينعم"4.
وقد وجد مدونًا في إحدى الكتابات أسماء ثلاثة أولاد من أولاد "شرحبيل يكف"، هم: "نوفم" "نوف" "نوَّاف" "نائف"، و"لحيعت ينف" "لحيعث ينوف"، و"معد يكرب ينعم" وقد نعتوا جميعًا بالنعت الملكي المعروف5,
__________
1 Cih, Iv, Iii, I, P.78, Le Museon, 3-4, 1964, P.270,
Jamme, La Dynastie De Sharahbi'll Yakuf, P.4
2 Jamme, La Dynastie., P.7
3 Jamme, La Dynastie., P.20
4 Background, P.143, Philby, Highlands, P.260, Handbuch, S. 105, Le Museon, 1961, 1-2, P.174, Joseph Et H. Derenbourg, Etudes Sur L'epigraphie Du Yemen, P.70
5 Jamme, La Dynastie, Pp.8, 19 Rep. Epig. 4919, Cih 537(4/238)
مما يدل على أنهم كانوا قد اشتركوا جميعًا في الحكم.
وقد ورد اسم "شرحبيل يكف" في عدد من كتابات أخرى, وقد ذكر معه في بعضها اسم ولدين من أولاده هما: "لحيعت ينف" و"معد يكرب ينعم" "معد يكرب ينعم"، وقد لقبا بلقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال وفي تهامة"، مما يدل على أنهما حكمَا حكمًا مشتركًا وكان ملكيْنِ1.
وحكم بعد "شرحبيل يكف" -في رأي "هومل"- ولداه "معد يكرب يهنعم" و"لحيعثت ينف" "لحيعث ينف" "لحيعث ينوف"، وذلك من حوالي سنة "470م" حتى سنة "495م"2. أما "فلبي"، فقد وضع في قائمته التي رتبها في كتابه "سناد الإسلام" لملوك سبأ، اسم "نوف" بعد اسم "شرحبيل يكف"، وقدر مدة حكمه منذ سنة "470م" حتى سنة "480" "490م" ووضع اسم "لحيعثت ينف" بعده، وجعل مدة حكمه منذ سنة "480ب. م." حتى سنة "500ب. م."3.
و"لحيعثت ينف" هو "لخيعة بن ينوف ذو شناتر" المذكور عند أهل الأخبار, وقد زعم بعضهم أنه حكم سبعًا وعشرين سنة4.
وقد ورد اسم "معد يكرب يهنعم" "معد يكرب ينعم" واسم شقيقه "لحيعثت ينف" "لحيعت" في النص: Ryckmans 264 وفي النص:5 CIH 620, وورد اسم "لحيعثت" وورد معه اسم "نوف"، وهو شقيقه في النص:6 Ryckmans 203.
__________
1 Cih 537, Iv, Ii, Iii, P.257, Cih 644, 620, Background, P.118, Le Museon, Lxiii, 3-4, "1950", P.270, Ott. Mus. 29, Cih, Iv, Iii, I, P.78, Nordtmann Und Muller, Sabaische Denkmaler, "1883", S. 85, Seetzen 4, Cih, Iv, Iii, I, P.53, J.H. Mortdtmann, Miscellen Zur Himjarischen Alterthumskunde, In Zdmg., Xxxi, "1877", S. 89-90, Hartmann, Arabische Frage, "1909", S. 163,
Jamme, La Dynastie, P.10
2 Handbuch, S. 105
3 Background, P.143, Le Museon, 1961, 1-2, P.174
4 صبح الأعشى "5/ 24", الطبري "2/ 117".
5 Cih 620, Iv, Iii, P.53, Mordtmann Und Muller, Sabaische Denkmaller, 1883, S. 85, Mordtmann, Miscellen, Zur Himjarischen Alterthmskunde, In Zdmg., Xxxi, "1877", S. 89, Jamme, La Dynastie, P.17
6 Le Museon, Lxiii, 3-4, "1950", P.271(4/239)
وقد ذكر "فلبي" أنه في حوالي سنة "495م" شبَّت ثورة قام بها "مرثد ألن" "مرثد علن"، غير أنها أحبطت. ووضع بعد اسم "لحيعثت ينف" اسم "معد يكرب ينعم"، وقدر مدة حكمه بعشر سنين، منذ سنة "490م" حتى سنة "500م"، أي: إنه شارك، على رأيه، أخاه في الحكم1.
أما الذي حكم بعد الأخوين "معد يكرب يهنعم" و"لحيعثت ينف" -في رأي "هومل"- فهو "مرثد ألن" وقال: إنه قد حكم من حوالي سنة "495م" حتى سنة "515م"2.
أما "جامه"، فقد وضع اسم "عبد كللم" "عبد كلالم"، أي: "عبد كلال" بعد اسم "معد يكرب ينعم"، وقد جعل حكم "معد يكرب" فيما بين السنة "595" والسنة "600" من التقويم الحميري، أي: بين سنة "480" أو "486" للميلاد والسنة "485" أو "491" للميلاد, وجعل حكم "عبد كلال" فيما بين السنة "600" والسنة "602" من التقويم الحميري، أي: سنة "485" أو "491" للميلاد، والسنة "487" أو "493" للميلاد. ثم جعل فراغًا لا يدري من حكم فيه، جعله يمتد من السنة "602" حتى السنة "610" من التقويم الحميري، أي: ثماني سنين، ثم ذكر بعده اسم الملك "مرثد ألن ينف" "مرثد علن" "مرثد علان"، وجعل حكمه من سنة "610" حتى السنة "620" من التقويم الحميري، أي: من سنة "495" أو "501" حتى السنة "505" أو "511" للميلاد3.
ووصل إلينا نص وُسِمَ بـCIH 596، وهو ناقص ويا للأسف، ورد فيه اسم الملك "مرثد ألن ينف" "مرثد ألن ينوف" وقد لقب فيه باللقب المألوف: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال وفي التهائم"4، يظهر أنه الملك "مرثد ألن" الذي عناه "هومل". وقد أصيبت أسطر النص بأضرار، أتلفت كلمات منه وأفسدت علينا المعنى. وقد وردت في السطر السابع
__________
1 Background, P.143
2 Handbuch, S. 105, Philby, Highlands, P.260, Le Museon, 1961, 1-2, P.174
3 Jamme, La Dynastie, P.20
4 Cih 596, Iv, Iii, P.1, Rehatsek 2, E. Rehatsek, Twele Sabaean Inscriptions, In Journal Of The Bombay Branch Of The Royal Asiatic Society, X, 1874, P.140(4/240)
منه كلمة "ومهرجتم"، مما يفهم أن حربًا وقعت في البلاد في تلك الأيام؛ فـ"الهرج" في العربيات الجنوبية بمعنى الحرب، وأن فتنة حدثت، لا ندري سببها. ومهما يكن من شيء، فهي لم تكن بعيدة عهد عن أيام حكم "ذي نواس", ذلك العهد الذي انتهى بدخول الحبشة أرض اليمن.
ووضع "هومل" بعد اسم "مرثد ألن" اسم "ذي نواس"، وقد حكم -على تقديره- من سنة "515م" حتى سنة "525م"، وبه ختمت -في رأيه- سلسلة ملوك الحميريين1.
وقد عثر على كتابة وسمت بـPhilby 228 ورد فيها اسم ملك من ملوك "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال وفي تهامة"، هو "معد يكرب يعفر"2. وأُرِّخت هذه الكتابة بشهر "ذي القيض" ذ قيضم" من سنة "631" من التأريخ الحميري, الموافقة لسنة "516م"3, ومعنى هذا أن هذا الملك قد حكم قبل حكم "ذي نواس" بمدة قليلة. ونحن لا نعلم في الزمن الحاضر شيئًا من صلة هذا الملك بـ"ذي نواس".
وقد عبث الدهر ببعض كلمات هذا النص وحروفه، فأضاع علينا معاني مفيدة. وردت فيه أسماء أعلام، هي: "سبأ، و"حميرم" "حمير"، و"رحبتن" أي: "رحبة" "الرحابة". وقد ورد اسم "رحبتن" في عدد من النصوص على أنه اسم موضع4, أما هنا، فهو اسم قبيلة؛ لورود كلمة "أشعبهمو" قبل "سبأ وحميرم ورحبتن"5, ووردت كلمة "واعربهمو"، وبعدها جملة "كدت ومذحجم وبني ثعلبت ومذر وسبع"6. وفي النص حروف طامسة حرمتنا معرفة بعض الأعلام.
وأما "كدت"، فقد قلت: إن رأي علماء العربيات الجنوبية أنها "كندة". ويظهر من ورود اسمها في النصوص التي ترجع إلى ما بعد الميلاد، أنها أخذت
__________
1 Handbuch, S. 105. Le Museon, 1961, 1-2, P.174
2 Le Museon, Lxiv, 1-2, "1951", P.103, The Geographical Journal, Vol. Cxvi, Nos. 4-6, "1950", P.214, Le Museon, 3-4, 1953, P.307, 1961, 1-2 P.174
3 السطر التاسع من النص.
4 Cih 289, Iv, I, Iii, P.300, Glaser, Die Abessinier, S. 74, 117
5 السطر السادس من النص.
6 السطران السابع والثامن من النص.(4/241)
تؤثر تأثيرًا واضحًا في سياسة العربية الجنوبية بعد الميلاد، ولا سيما بعد توسع سلطان القبائل, وتدخل الأعراب في الشئون السياسية لعدم الاستقرار, ولتدخل الحبش في شئون العربية الجنوبية، وتقاتل الملوك والأقيال بعضهم مع بعض.
ويتبين من ورود كلمة "أعربهمو" قبل كلمة "كدت" في النص، أن قبيلة كندة كانت من القبائل الأعرابية أي: البدوية، ولم تكن من القبائل المستقرة، النازلة في منازل ثابتة؛ ولهذا استعان بها حكام اليمن في تأديب القبائل اليمانية أو قبائل معد وقبائل نجد التي كانت تغزو اليمن، كما كانت نفسها تهاجم حكام اليمن وتغزو أرضهم، فصار لها من ثَمَّ شأن يذكر في سياسة اليمن في هذا الوقت.
و"مذحجم" قبيلة "مذحج"، وهي من القبائل المعروفة، وينسبها أهل الأنساب إلى مذحج بن مالك بن أدد, ويذكرون أن مذحج أكمة ولدت عليها أمهم فسموا مذحجًا1. وقد ورد اسم هذه القبيلة في النص: Ryckmans 5082 المدون في أيام الملك "يوسف أسأر" الذي سأتحدث عنه، كما ورد في نص قتباني، هو النص الذي وسم بـREP. EPIG, 46883. وقد ذكر بعده اسم قبيلة "رغض"، ويظن البعض أن في قراءة الحرف الأول شيئًا من التحريف، وأن الحرف الأول هو حرف "ب" لا "راء"، فيكون اسم القبيلة "بغض" لا "رغض"، وهو اسم القبيلة "بغيض", وبغيض من القبائل العربية المعروفة.
وأما "ثعلبة"، فهي قبيلة "ثعلبان" التي ورد اسمها في السطر الثالث عشر من نص "سميفع أشوع" المحفوظ في متحف "إستانبول"4، وفي نص: Philby 123 حيث ورد: "ألهت ثعلبن"، "آلهة ثعلبان"، أي: سادة قبيلة "ثعلبان"5.
وذكر اسم "دوس ثعلبان" في قصة تعذيب "ذي نواس" لنصارى "نجران",
__________
1 الاشتقاق "ص237".
2 الفقرة السابعة منه.
3 السطر الثاني منه، British Museum 125, 349, Le Museon, 1953, 3-4, P.301, Bibliotheca Orientalis, X, 1953, P.150
4 Istanbul 7608, Bis, 13, Le Museon, Lxiv, 1-2, "1951", P.105, Le Museon, Lix, 1-4, "1964", P.171, Rep. Epig. 2633, V, I, P.5
5 Le Museon, Lx, 1-2, "1947", P.150(4/242)
ويرى علماء العربيات الجنوبية وجود صلة بين قبيلة "ثعلبان" و"دوس ثعلبان"1. وورد اسم "دوس ثعلبان" في أثناء كلام الطبري على "ذي نواس"2.
ويعرف "ذو ثعلبان" المتقدم ذكره بـ"ذي ثعلبان الأصغر"، وقد قال عنه "نشوان بن سعد الحميري": إنه من نسل "ذي ثعلبان الأكبر"، وهو ملك من ملوك حمير، وأحد المثامنة منهم, واسمه "نوف بن شرحبيل بن الحارث"، وزعم أن "ذا ثعلبان الأصغر" هو الذي أدخل الحبشة إلى اليمن غضبًا لما فعل ذو نواس بأهل الأخدود من نصارى نجران3.
وأما "مذر" و"سبع", فقبيلتان. وأظن أن في قراءة اسم القبيلة الأولى بعض التحريف, وأن الحرف الذي قُرِئَ بـ"ذ" يجب أن يقرأ "ضادًا" "ض"، وتكون القراءة عندئذ "مضر"، وهو الاسم الشهير المعروف عند النسابين. وقد رجعت إلى الصورة "الفوتوغرافية" المنشورة في مجلة Le Museon، فوجدت أن الحرف المذكور هو أقرب إلى حرف "الضاد" من حرف "الذال"4. والذين يقرءون المسند يعرفون أن من السهل الوقوع في الخطأ في قراءة الحرفين, إذا كان قد كُتبا على أحجار قديمة, وقد عبث الدهر بتلك الأحجار؛ لأن بين الحرفين شيئًا من التشابه. ويظهر لديَّ أن رسم الحرف أقرب إلى الضاد من الذال؛ لوجود أثر لخط في أعلى وفي أسفل الحرف.
ويفهم من هذا النص أن حربًا أو فتنةً كبيرةً كانت قد حدثت في أيام هذا الملك، أسهمت فيها القبائل المذكورة، وهي: سبأ وحمير ورحبة وكدت "كندة" ومضر وثعلبة، وذلك قبل احتلال الحبش لليمن بقليل أو في أيام "معد يكرب يعفر"، وفي سنة "516م"5. وقد مهدت هذه الفتنة الطريق للأحباش أن يدخلوا إلى العربية ويحتلوها بسهولة؛ وذلك بسبب الخصومات التي كانت بين القبائل, وظهور الروح القبلية التي لا تعرف التعاون إلا في سبيل مصلحة القبيلة فحسب.
__________
1 Le Museon, Lxiv, 1-2, "1951", P.105, M. Hartmann, Die Arabische Frage, S. 335.
2 الطبري "1/ 925" "طبعة ليدن"، "2/ 106" "طبعة المطبعة الحسينية بمصر".
3 شمس العلوم "جـ1 ق1 ص251".
4 Le Museon, 3-4, 1953, P.307, Plate Vi, Ryckmans 510
5 The Geographical Journal, Vol., Cxvi, Nos: 4-6, 1950, P.214(4/243)
وتولى المُلْكَ بعد "معد يكرب يعفر" المَلِكُ ذُو نواس، وهو زرعة ذو نواس بن تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو في رأي الأخباريين1، وهو يوسف ذو نواس بعد تهوده في رأيهم أيضا. ولقد زعم بعض أهل الأخبار أنه كان من أبناء الملوك، وزعم بعض آخر أنه لم يكن من ورثة الملك، ولا من أبناء من حازه قبله، وإنما أخذه أخذًا2. قيل: كانت له ذؤابتان تنوسان على عاتقه, بهما سمي ذا نواس3.
ولا يعرف أهل الأخبار اسم الملك "معد يكرب يعفر"، بل ذكروا اسم ملك آخر قالوا: إنه حكم قبل "ذي نواس" زعموا أن اسمه "لخيعة ينوف ذو شناتر"، وقالوا: إنه لم يكن من بيوت المملكة، بل كان من حمير، وثب على الملك، فملك حمير، وقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم. وكان امرأً فاسقًا، إذا سمع بالغلام من أبناء تلك الملوك زرعة ذو نواس بعث إليه؛ ليفعل به كما كان يفعل بأبناء الملوك قبله، فلما خلا به، وثب عليه ذو نواس بالسكين فطعنه به حتى قتله، ثم احتز رأسه، فخرجت حمير والأحراس في أثر ذي نواس حتى أدركوه، فقالوا له: ما ينبغي لنا أن يملكنا إلا أنت؛ إذ أرحتنا من هذا الخبيث فملَّكوه، واستجمعت عليه قبائل حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير4.
أما "ابن قتيبة"، فقد زعم أن "ذا شناتر" رجل لم يكن من أهل بيت الملك ولكنه من أبناء المقاول، أي: من طبقة الأقيال "أقول". وقد اتفق مع غيره من أهل الأخبار في قصة غلظه وفحشه، وفعله القبيح بأبناء الملوك، وفي إرساله إلى ذي نواس يستدعيه إليه ليفعل به ما كان يفعله بغيره، وفي قتله إياه5.
وتهود ذو نواس وتهودت معه حمير، وتسمى "يوسف". هذا ما عليه أكثر أهل الأخبار6,
__________
1 التيجان "300"، الطبري "2/ 103" "المطبعة الحسينية"، المعارف لابن قتيبة "311".
2 الأصمعي، تاريخ ملوك العرب الأولية "ص43 وما بعدها".
3 المعارف لابن قتيبة "311".
4 الطبري "2/ 118 وما بعدها" "دار المعارف".
5 المعارف "277".
6 الطبري "2/ 119" "دار المعارف"، المعارف "277".(4/244)
وقد ذكر "ابن كثير" في تفسيره، أنه كان مشركًا1.
وبهذه القصة والطريقة صيَّر أهل الأخبار ابتداء ملك "ذي نواس".
وذكر "ابن هشام" أن ذا نواس كان آخر ملوك حمير، وذكر آخرون أن ذا جدن وهو ابن ذي نواس, قد خلف أباه على حمير2. وفي رواية أخرى أن ملك حمير لما انقرض وتفرق في الأذواء من ولد زيد الجمهور، قام ذو يزن بالملك، واسمه علي بن زيد بن الحارث بن زيد الجمهور، أو علي بن الحارث بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور، فثار عليه الحبشة وعليهم أرياط، ولقيهم فيمن معه، فانهزم واعترض البحر فأقحم فرسه وغرق، فهلك بعدُ ذو نواس وولي ابنه مرثد بن ذي يزن مكانه، وهو الذي استجاشه امرؤ القيس على بني أسد.
وكان من عقب ذي يزن أيضًا، علقمة ذو قيفال بن شراحبيل بن ذي يزن ملك مدينة "الهون"، فقتله أهلها من همدان3.
ولم يصل إلينا شيء من هذا القصص الذي رواه الأخباريون عن ذي نواس, مكتوب بالمسند, ولم يرد اسمه في أي نص من نصوصه حتى الآن.
وزعم المؤرخ "ابن العبري" Barhebraeus، أن "ذا نواس" واسمه "يوسف"، وكان من أهل الحيرة في الأصل، وكانت أمه يهودية من أهل "نصيبين" Nisibis وقعت في الأسر، فتزوجها والد "يوسف" فأولده منها4, ومعنى هذا أنه لم يكن يمانيًّا، بل يهوديًّا وفد على اليمن من الحيرة. وقد لاحظ بعض المستشرقين أن اسم "يوسف ذي نواس"، ليس على شكل وطراز أسماء وألقاب ملوك اليمن، وهذا ما دعاهم إلى التفكير في احتمال وجود شيء من الصحة في رواية "ابن العبري"، لا سيما وأن يهود اليمن ويثرب وخيبر كانوا من المؤيدين للساسانيين ومن المناصرين لهم5.
وقد اختلف الأخباريون في مدة حكمه؛ فقال بعضهم: إنه ملك ثمانيًا وثلاثين
__________
1 تفسير ابن كثير "4/ 548".
2 ابن هشام "1/ 20"، حمزة "89"، Fell, In ZDMG., 35, 1881, S. 33
3 ابن خلدون "2/ 61"، Caussin, Essai., I, P.135
4 Chron. Eccles., I, 201, 14, Chronik Von Se'ert, I, P.331, Die Araber, I, S. 630
5 Die Araber, I, S. 630, Michael Syrus, 2, "1901", Pp.410, 414(4/245)
سنة1. وذكر المسعودي وآخرون أنه حكم مائتي سنة وستين سنة2, وذكر حمزة أنه ملك عشرين سنة3. وهكذا هم فيه وفي غيره مختلفون.
وإذا ما استثنينا الأخبار التي رُويت عن تعذيب "ذي نواس" لنصارى نجران، فإننا لا نعرف شيئًا آخر مهمًّا عن أعمال هذا الملك، الذي كان متحاملا جدا على النصارى والنصرانية, حتى إنه راسل ملك الحيرة لكي يؤثر عليه فيحمله على أن يفعل بنصارى مملكته ما يفعله هو بهم4. ولعله كان يريد بذلك أن يكوِّن حلفا سياسيا مع ملوك الحيرة ومن ورائهم الفرس لمقاومة الحبش الذين كانوا قد وطئوا سواحل اليمن وأقاموا لهم قواعد فيها وعقدوا معاهدات مع الأمراء المنافسين لملوك حمير، وصاروا يحرضونهم على أولئك الملوك؛ ليتمكنوا بذلك من السيطرة على كل من اليمن والتوسع من ثم نحو الحجاز، للاتصال بحلفائهم الروم, والسيطرة بذلك على أهم جزء من جزيرة العرب، والهيمنة على البحر الأحمر والمحيط الهندي، وإنزال ضربة عنيفة بسياسة خصوم الروم، وهم الساسانيون.
وفي حوالي السنة "525م" كانت نهاية حكم "ذي نواس"، إذ احتل الأحباش اليمن كما سنرى ذلك فيما بعد.
وفي موضع "سلع"، ويسمى "نخلة الحمراء" وهو خربة عادية، موضع زعم أنه قبر "ذي نواس"، المتوفى في حوالي "سنة 525م". وقد فتح الموضع واستخرجت منه آثار فنية ذات قيمة، من بينها تمثالان لزنجيين من البرونز5.
ويظن بأن ما جاء بنص "حصن غراب" الموسوم بين المستشرقين بـREP. EPIG. 2633 من أن الأحباش فتحوا أرض حمير سنة "640" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "525" للميلاد، وقتلوا ملكها وأقياله الحميريين والأرحبيين، يشير إلى الملك "ذي نواس"، وإن لم يرد بالنص على اسمه6.
__________
1 التيجان "301"، الإكليل "226".
2 مروج "1/ 280" "المطبعة البهية"، شرح قصيدة ابن عبدون المعروفة بالبسامة "91".
3 حمزة "89".
4 Die Araber, I, S. Ii
5 Beitrage, S. 22
6 Rep. Epig., V, I, P.5, Glaser, Die Abessinier, S. 131, Mordtmann, In Zdmg., Vliv, "1890", S. 176(4/246)
وقد عثر على نصين مهمين هما: Ryckmans 507 والنص Ryckmans 508، وقد أشير فيهما إلى حروب وقعت بين الأحباش وبين ملك سمي فيهما بـ"يسف أسار" "يوسف أسأر"، ولم يلقب النصان "يوسف" باللقب الطويل المألوف بل نعتاه بـ"ملكن يسف أسأر"، أي: "الملك يوسف أسأر" فقط1, و"يسف أسار" هذا, هو الملك "ذو نواس". وقد كتب النصان في سنة واحدة هي سنة "633" من التقويم الحميري، الموافقة لسنة "518" للميلاد, إلا أنهما كتبا في شهرين مختلفين؛ فكتب أحدهما في شهر "ذ مذرن" "ذ مذران" "ذو مذران"2, وكتب الثاني في شهر "ذ قيضن" "ذو قيضن" "ذو القيض". ويستنتج من عدم تلقيب "يوسف" باللقب الملكي الطويل المألوف، أن ملكه لم يكن متسعًا وأن سلطانه لم يكن عاما شاملا كل اليمن، بل كان قاصرًا على مواضع منها, فقد كان الأحباش يحتلون جزءًا منها بما في ذلك عاصمة حمير مدينة "ظفار" وكان الأقيال ينازعونه السلطة وقد كونوا لهم إقطاعيات مستقلة، نازعت الملك على الحكم والسلطان. وكانت الفتن مستعرة وهذا مكن الحبش من انتهاز الفرص؛ فأخذوا يتوسعون بالتدرج حتى قضوا على استقلال البلاد واستولوا عليها, وتلقب حكام الحبش باللقب الملكي اليماني الطويل المألوف دلالةً على سيطرتهم على اليمن.
وقد سقطت من النص Ryckmans 507 كلمات من صدره، فأثر سقوطها هذا بعض التأثير على فهم المعنى فهمًا واضحًا. وقد وردت في الفقرة الأولى منه كلمات مثل: "أشعبه" أي "قبائله"، و"أقولهمو ومراسهمو"، أي "أقيالهم ورؤساؤهم", وجاءت جملة: "وبنيهمو شرحب ال يكمل" أي "وبنيهم: شرحبيل يكمل"، أي "وابنهم: شرحبيل يكمل". ثم دونت بعد هذا الاسم أسماء: "هعن أسانن"، و"لحيعت يرخم" و"ومرثد ال يملد" "مرثد إيل يملد"، وقد سقطت كلمات بعد لفظة "بني" أي أبناء، وهم من مؤيدي "الملك يوسف أسأر" ومن مساعديه. وقد أشير بعد ذلك إلى
__________
1 راجع الفقرة الثالثة من النص: "Ryckmans 507"، والفقرة الثانية والعاشرة من النص: "Ryckmans 508"، المنشور في مجلة: Le Museon, 3-4, 1953, P.284
2 راجع الفقرة "10" من النص: Ryckmans 507(4/247)
قتال وقع بينهم أي جماعة الملك وبين الحبش "أحبشن" بموضع "ظمو" وفي مواضع أخرى.
وتناول النص الثاني خبر حروب وقعت بين الملك "يوسف أسأر" وبين الحبش ومن كان يؤيدهم من أقيال اليمن. وهو نص سجله القيل "قولن" "شرح إيل يقبل ابن شرح إيل يكمل" من بني "يزأن" "يزن" و"جدن" "جدنم" و"حبم" "حب" و"نسان" "نان" و"جبا" "جبأ".
ويتبين من هذا النص أن الملك "يوسف أسأر" هاجم "ظفر" "ظفار" مقر الأحباش، واستولى على "قلسن"، أي: "القليس"، أي: كنيسة "ظفار". ثم سار بعد ذلك إلى "أشعرن"، أي "الأشعر" "الأشاعر" قبيلة من قبائل اليمن. ثم سار الجيش إلى "مخون" "مخا"، وحارب وقاتل، فقتل كل سكانها "حورهو"، واستولى على كنيستها، وحارب كل مصانع أي: معاقل "شمر" ودكها دكًّا، وحارب سهول "شمر" كذلك, ثم هاجم الملك هجومًا ماحقًا قبيلة "الأشعر" "أشعرن". ثم أحصى عدد من قتل في هذا الهجوم وعدد ما وقع في أيدي جيشه من غنائم، فكان عدد من قتل: ثلاثة عشر ألف قتيل، وعدد من أخذ أسيرًا تسعة آلاف وخمسمائة أسير، واستولى على "280" ألف رأس من الإبل والبقر والمعز "عنزم" "عنز", وأخذت غنائم عديدة أخرى.
واتجه الملك مع جيوشه بعد ذلك إلى "نجرن" "نجران", وفي صعيد هذه المدينة كان قد تجمع "أقرام" "قرم" "بني أزأن" وقبائل همدان وأهل مدنهم وأعرابهم وأعراب "كدت" "كندة" و"مردم" "مراد" و"مذحج"، فأنزلت جيوش الملك خسائر بالأحباش الذين كانوا قد تحصنوا بالمصانع والحصون, وبمن ساعدهم من القبائل, وبمن كان قد تجمع في "نجران" لمساعدتهم. وكان مع الملك وفي جيشه "أقولن" الأقيال: "لحيعت يرخم" و"سميفع أشوع" و"شرحب ال أسعد" "شرحبيل أسعد", أقيال وسادات "يزان" "يزأن" "يزن" ومعهم قبائلهم: قبل "أزانن" "أزأن"1.
__________
1 راجع النص:
Le Museon, 3-4, 1953, P.296, Bulletin Of The School Of Oriental And African Studies, University Of London, Vol., Xvi, Part: 3, 1954, P.434, Ryckmans 508(4/248)
وقد جاءت في هذا النص جملة: "سسلت مدين", وقد قصد بها "حصن المندب"، أي: ما يسمى بموضع "باب المندب" في الوقت الحاضر1.
نرى من خلال قراءتنا لهذين النصين أن الوضع في اليمن كان قلقًا جدًّا، وأن الأمور كانت مضطربة، وأن الفتن كانت تعم البلاد، وأن الأحباش كانوا يمتلكون قسما كبيرا من أرض اليمن, وكان مقرهم مدينة "ظفار", وكان لهم أعوان وأحلاف من الأقيال والقبائل. وقد استعان بهم الحبش في نزاعهم مع "يوسف أسأر" حتى تمكنوا في الأخير من الاستيلاء على كل اليمن ومن انتزاع السلطة من أيدي حكام اليمن الشرعيين، ومن القضاء على الملك سنة "525" بعد الميلاد.
و"بنو يزان" "بنو يزأن"، هم "ذو يزن" عند أهل الأخبار، وكانوا من العشائر البارزة التي ورد اسمها في نصوص عديدة، وإليهم ينسب "سيف بن ذي يزن". وذكر "ابن دريد" أن "يزن" موضع، ويقال: "ذو أزن" و"ذو يزن"، وهو أول من اتخذ أسنة الحديد، فنُسبت إليه، يقال للأسنة: "يزني" و"أزني" و"يزأني"، وإنما كانت أسنة العرب قرون البقر2.
والأقيال المذكورون في النصين وهم: "شرحبيل يكمل" و"لحيعت يرخم" و"شرحئيل يقبل" "شرح ال يقبل" و"السميفع أشوع" و"شرحبيل أسعد" كانوا من أقيال "يزان" "يزن", وقد لعبوا دورا مهما في الميدان السياسي والعسكري لهذا العهد.
وقد ورد ذكر القيل "شرحب ال يكمل" "شرحبيل يكمل" في النص: Ryckmans 512, ومدونه رجل اسمه "حجي إيهر" "حجي أيهر". وذكر اسم قيل آخر اسمه: "شرح ال ذ يزان" "شرحئيل ذي يزأن" "شرحئيل ذي يزن"3.
وورد اسم قيل آخر من أقيال "ذي يزن" عرف بـ"شرحئيل ذي يزن" "شرح ال ذ يزان"4، لعله القيل المتقدم. وقد جاء اسمه في نص عرف بـRyckmans 515، دونه شخص اسمه "معويت بن ولعت" "معاوية بن والعة" و"نعمت بن ملكم" "نعمت بن مالك" "نعمة بن مالك". وقد
__________
1 Le Museon, 3-4. 1953, P.335
2 الاشتقاق "2/ 310".
3 Le Museon, 3-4, 1953, P.311, Kaukab 2
4 Ryckmans 515(4/249)
ختم النص بعبارة مهمة هي: "رب هود برحمنن"1، أي: "بالرحمن: رب يهود"2. ويدل هذا النص على أن صاحبيه كانا من اليهود، أو من العرب المتهودة.
وأما "جدنم" فهم "جدن", وهم أيضا من العشائر اليمانية المعروفة, وقد ورد اسمها في عدد من الكتابات3. وقد ذكر "ابن دريد" أن من رجال "جدن" "ذا قيفان بن عَلَس بن جدن"، الذي ذكره "عمرو بن معدي كرب" في شعره:
وسيف لابن ذي قيفان عندي ... تخيره الفتى من قوم عاد4
وقد أشير في النص: Ryckmans 51 إلى قيل من أقيال هذه القبيلة دعي بـ"لحيعت ذ جدنم" "لحيعت ذي جدن", وقد دونه رجل اسمه "تمم يزد" "تميم يزيد", وقد نعت نفسه بـ"مقتوت لحيعت ذ جدنم"، أي: ضابط وقائد "لحيعت ذي جدن"5. ومعنى هذا أنه قد كان لهذا القيل جيش، وكان "تميم" من قادة ذلك الجيش.
وقد يكون "تميم" هذا هو "تميم" "تمم" مدون النص الموسوم بـRyckmans 513. وقد جاء فيه: "تمم مقتو لحيعت يرخم ذ جدنم وترحم على ابني ملكم ذ جدنم. رحمنن وامنن"6, ومعناه: "تميم ضابط لحيعت يرخم ذو جدن. وترحم على ابن مالك ذو جدن. الرحمن والأمن "الأمان آمين". وإذا كان تميم هو "تميم" المتقدم ذكره، فيكون "لحيعت ذو جدن" المذكور هو "لحيعت يرخم" المذكور في هذا النص إذن.
__________
1 السطر الخامس من النص.
2 Le Museon, 3-4, 1953, P.314
3 Le Museon, 3-4, 1953, P.299
4 الاشتقاق "2/ 311".
5 Le Museon, 3-4, 1953, P.313, Kaukab 4, Ryckmans 511
6 Le Museon, 3-4, 1953, P.312, Ryckmans 513, Kaukab 3.(4/250)
ملوك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت:
وقد رتب "فون وزمن" ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت على النحو الآتي:(4/250)
1- شمر يهرعش الثالث.
2- ياسر يهنعم الثالث مع "تارن أيفع".
3- ثارن يكرب.
4- ياسر يهنعم الثالث مع ابنه "ذرأ أمر أيمن".
5- ذمر على يهبر "ذمر على يهبأر".
6- ذمر على يهبر مع ابنه ثارن يهنعم.
7- ثارن يهنعم مع ابنه ملكيكرب يهامن.
8- ملكيكرب يهامن مع ابنيه أبي كرب أسعد وذرأ أمر أيمن.
9- أبو كرب أسعد مع ابنه حسان يهأمن1.
10- شرحبيل يعفر2.
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
2 Le Museon, 1964, 3-4, P.495(4/251)
الفصل الثاني والثلاثون: إمارات عربية شمالية
لقد استغلت القبائل العربية الضعف الذي ظهر على الحكومة السلوقية، فأخذت تزحف نحو الشمال وتهدد المدن القريبة من البوادي وتحاول الاستيلاء عليها. وقد استولت فعلًا على بعضها وكونت حكومات يمكن أن نطلق عليها مصطلح "مشيخة" أو إمارة بحسب مصطلحاتنا السياسية في الزمن الحاضر. وهي حكومات توقفت حياتها على كفاية من كونها وأقام أسسها، وعلى كفاية من خلف المؤسسين لها من أشخاص. ولذلك كان عمرها قصيرًا في الغالب، وكان حجمها يتوسع أو يتقلص بسرعة؛ لأن قوة الحكومات بقوة الحكام، فإذا كان الحاكم ذا شخصية قوية وإرادة وحزم وذكاء، أغار على جيرانه وهاجم حدود الدول الكبرى، وأصابها بأضرار تضطرها إلى الاعتراف به رئيسًا على قبيلته وعلى الأعراب الخاضعين لسلطانه، ويبقى على مكانته هذه ما دام قويا، فإذا خارت قواه، أو ظهر منافس له أقوى منه، ولا سيما إذا كان منافسه قد جاء حديثًا من البادية بدم نشيط، ومعه قوم أقوياء أصحاب عدد، زعزع عن محله المرموق، وصار الأمر لغيره، وهكذا.
ويجب ألا ينصرف الذهن إلى أن هذه القبائل كانت قد جاءت إلى بادية الشأم في هذا الزمن أو قبله بقليل، فقد سبق أن تحدثت عن وجود الأعراب في هذه البادية قبل هذا العهد بزمان. وقد رأينا كيف حارب الآشوريون الأعراب، ولم يكن أولئك الأعراب الذين كانوا قد كونوا "إمارات" لهم في البادية من أبناء(4/252)
الساعة بالطبع، بل لا بد أن يكونوا قد هبطوا بها قبل حروبهم مع الآشوريين بزمان لا يعرف مقداره إلا الله، ولا بد أن يكون اتصال عرب جزيرة العرب بهذه البادية اتصالًا قديمًا، فالبادية والهلال الخصيب امتداد لأرض جزيرة العرب والهجرة بين هذه المواضع قديمة قدم ظهور هذه المواضع إلى الوجود.
لم يكن أمام أعراب جزيرة العرب من مخرج حينما تجف أرضهم ويقضي الجفاف على البساط الأخضر الذي يفرشه الغيث في بعض السنين على سطح الأرض مدة غير طويلة، إلا الهجرة إلى أماكن يجدون فيها الخضرة والماء؛ ليحافظوا بهما على حياتهم وحياة ماشيتهم، وإلا تعرضوا للهلاك. والخضرة والخصب لا يكونان إلا حيث يكون الجو الطيب والماء الغزير، وهما متوافران في الهلال الخصيب وفي أطراف جزيرة العرب في الجنوب؛ حيث تسعف أبخرة البحر العربي والمحيط تلك الأرضين فتغذيها بالرطوبة وبالأمطار؛ لذلك كانت الهجرات إلى مثل هذه الأرضين دائمة مستمرة.
ويجد أعراب نجد في البادية وفي الهلال الخصيب ملاذهم الوحيد في الخلاص من خطر الفناء جوعًا، فيتجهون بحكم غريزة المحافظة على الحياة نحوهما، غير مبالين بما سيلاقون من صعوبات، وأية صعوبات تواجه الإنسان أعظم من تحمل الموت جوعًا ويبطء.
كانت كل قبيلة من هذه القبائل تضرب خيامها في المواضع التي ترى فيها العشب والماء والمغنم, في البادية أو عند الحضر. فإذا وجدت للحضر حكومة قوية احترمتهم، وإن وجدت فيهم ضعفًا، هزئت بهم، واستولت على ما عندهم، وأخذت ترعى في أرضهم، ثم هي لا تقبل بكل ذلك، بل كانت تفرض عليهم "إتاوة" يؤدونها لهم, مقابل حمايتهم من اعتداء الأعراب الآخرين عليهم. وبذلك تمكن سادات القبائل من فرض سلطانهم على بعض المدن كحمص والرُّها والحضر، وغيرها من المدن التي حكمتها أُسَر عربية، في رأي بعض الباحثين1.
وقد وقف الأعراب وقفة تربُّص وتأهُّب من الحكومات القوية المهيمنة على الهلال الخصيب، كانوا يراقبون ويدرسون بذكائهم وبخبرتهم السياسية أوضاعها،
__________
1 العرب في سورية قبل الإسلام، تأليف رينه ديسو، تعريب: عبد الحميد الدواخلي، من منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، الجمهورية العربية المتحدة "ص4".(4/253)
فإذا أحسوا فيها ضعفًا بادروا إلى استغلاله قبل فوات الأوان. وللأعراب في هذا الباب حاسة غريبة ذات قدرة كبيرة في إدراك مواطن الضعف عند الحضر وعند الحكومات؛ فإذا تيقنوا بقوة شم حاستهم من وجود ضعف عند الحضر أو عند حكومة ما، ووجدوا أن في إمكانهم استغلاله في صالحهم جاءوا إلى من وجدوا فيه ضعفًا بشروط تتناسب مع ضعف مركزه، وبطلبات يملونها عليه، قد تكون طلب زيادة "الإتاوات" أي: الجُعَالات السنوية التي تدفع لهم، وقد تكون السماح لهم بالزحف نحو أرض الحضر والتوسع في الأرضين الخصبة ذات الكلأ والماء، وقد تكون طلبًا بالاعتراف بسيادتهم على ما استولوا عليه وعلى أعراب البادية، وما إلى ذلك من شروط، قد تزيد فيها إن وجدت ممن تتفاوض معهم تساهلًا وقد تتساهل إن وجدت منهم شدة وعجرفة وقوة، مع اللجوء إلى الحيل السياسية وذلك بالاتصال سرًّا مع الجانب الثاني المعادي للانضمام إليه، وتأييده بحصولهم على شروط أحسن، وعلى ربح أعلى وأكثر مما يعطيهم أصحابهم الذين هم على اتفاق معهم. وسنجد فيما بعد أمثلة على أمثال هذه المفاوضات السياسية السرية تجري مع الفرس، وأحيانًا مع الرومان أو الروم.
وقد علَّمت الطبيعة حكومات العراق وبلاد الشأم دروسًا في كيفية التعامل والتفاهم مع الأعراب. علمتهم أن القوة ضرورية معهم، وأن الصرامة لازمة تجاههم؛ لكبح جماحهم والحد من غلواء غزوهم للحدود وللحواضر، وأن التساهل معهم معناه في نظر الأعراب وجود ضعف في تلك الحكومات، وأن معنى ذلك طلب المزيد. ولذلك أقاموا مراكز محصنة على حواشي الصحارى، أقاموا فيها حاميات قوية ذات بأس ولها علم بالبادية وبمعاركها ودروبها، ومعها ما تحتاج إليه من "الميرة" والماء. وبنوا فيها "أهراء" أي: مخازن تخزن فيها الأطعمة لتوزيعها على الأعراب عند الحاجة للسيطرة عليهم بهذا الأسلوب, كما خزنوا فيها كميات من المياه في "صهاريج" تحت الأرض، وحفروا بها الآبار للشرب، ولتموين الأعراب بها أيضا عند انحباس المطر وحلول مواسم الجفاف. وضعوا كل ذلك في حصون محصنة، ليس في استطاعة الأعراب الدنو منها أو اقتحامها؛ لأن عليها أبراجًا وفي أسوارها الحصينة العالية منافذ يرمي منها الرماة سهامًا تخرج منها بسرعة كأنها شياطين، تُخيف ابن البادية، فتجعله يتحرج من الدنو من تلك الحصون.(4/254)
ونجد اليوم في العراق وفي بلاد الشأم آثار بعض تلك الحصون التي أقامها حكام العراق وحكام بلاد الشأم لصد غارات الأعراب عن أرض الحضر، ولتوجيههم الوجهة التي يريدونها، حصون منعزلة نائية كأنها جزر صغيرة برزت في محيط من الرمال والأتربة، بعيدة عن مواطن الحضارة، عند أصحابها على إقامتها في هذه المواضع؛ لتكون خطوط دفاع أمامية تحول بين أبناء البادية وبين الدنو من مواطن الحضر، وتشغل الأعراب بالقتال حتى تأتي النجدات العسكرية فتصطدم بهم إن تمكنوا من اختراق تلك الخطوط.
وقد علمت الطبيعة حكام العراق وحكام بلاد الشأم أن القوة وحدها لا تكفي في ضبط الأعراب وتوجيههم الوجهة التي يريدونها، علمتم أن جيوشهم النظامية لا تستطيع أبدًا أن تتعقب فلول الأعراب التي تتراجع بسرعة لا تبلغها عادة الجيوش النظامية في الوصول إلى البادية حصن الأعراب الحصين. وعلمتهم أيضا أن جيوشهم متى توغلت في البادية فإن احتمالات اندحارها واندثارها تزيد عندئذٍ على احتمالات الانتصار؛ فالأعرابي هو ابن البادية، وهو أخبر بها من الحضر، وهو يعرف مواضع "الإكسير" فيها "إكسير الحياة" وهو الماء. لقد خبر آبارها، وخزن الماء في مواضع احتفرها وجعلها سرية فلا يقف عليها إلا خُزَّانها؛ لهذا فإن من الحماقة محاربة الأعراب في ديارهم، وإن من الخير مداهنتهم واسترضاءهم, وذلك بالاتفاق مع سادات القبائل الأقوياء أصحاب الشخصيات والمواهب، على دفع هبات مالية سنوية لهم ترضيهم, في مقابل ضبط الحدود وحمايتها من خطر مهاجمة الأعراب لها وغاراتهم عليها، مهما كان أصل أولئك الأعراب، وفي مقابل الاشتراك مع أولئك الحكام المتحالفين معهم في حروبهم لأعدائهم، إما بتقديم الخدمات الضرورية اللازمة لهم في الحروب، مثل تقديم الجمال لهم لحمل الجنود والأثقال والماء وكل ما يحتاج إليه الجيش في عبوره إلى البوادي.
وتقرن الجعالات السنوية بهدايا وألطاف يقدمها الحكام إلى سادات الأعراب، وبألقاب مشرفة تبهج النفوس الضعيفة لاستوائهم إلى جانبهم، وبدعوات توجه إليهم في المناسبات لزيارة أولئك الحكام والنزول في ضيافتهم، فتخلع عليهم الخلع التي تستهويهم وتجعلهم إلى جانب أولئك الحكام.
ولأجل الوقوف على حركات الأعراب وسكناتهم، ولمراقبة أعمال سادات القبائل، وضعت الحكومات مندوبين عنها في مضارب أولئك السادات، يتنسمون(4/255)
الأخبار ويبعثون بها إلى الحكام, وقد كانوا في الوقت نفسه بمنزلة المستشارين لهم. وقد يقرنون ذلك بوضع حاميات قوية معهم للدفاع عن أولئك السادات إن جابههم خطر، أو للضغط عليهم ولردعهم في حالة تفكيرهم بنقض حلفهم مع تلك الحكومات. وقد عُرف هؤلاء المستشارون أو "المندوبون الساميون" في عرفنا السياسي في الزمن الحاضر بـ"قيبو" في اللغة الآشورية، وكانوا يرسلونهم إلى مضارب سادات القبال لتوجيههم الوجهة التي يريدها ملوك آشور، وللتجسس عليهم وإرسال أخبارهم إلى أولئك الملوك حتى يكونوا على بيِّنة من أمرهم، ويتخذوا ما يرون من قرارات تجاههم1.
ولم يكن من العسير على حكام العراق وحكام بلاد الشأم، استبدال سيد قبيلة بسيد قبيلة آخر، إذا ما وجدوا في سيد القبيلة المحالف لهم صدا عنهم أو ميلا إلى عدوهم، أو نزعة إلى الاستئثار بالحكم لنفسه والاستقلال.
فالبادية أرض مكشوفة، وأبوابها مفتوحة لا تمنع أحدًا من دخولها، فإذا جاء سيد قبيلة طامعًا في مركز وأرض وكلأ وماء، ووجد في عدده وعدته قوة، نافس من نزل قبله، وطمع في ملكه وتقرب إلى الحكام ليحلوه محله، وليأخذ مكانه. وإذا وجد أولئك الحكام في القادم شخصية قوية وأنه أقوى من السابق؛ لأنه ظهر عليه بعدد من معه وبقوة شخصيته، وأن السيد القديم لم يظل ذا نفع كبير لهم، فلا يهمهم عندئذ إزاحته عن مكانه، وإحلال الجديد محله. وكل ما يطلبه الحكام هو ضمان مصالحهم، ومن يتعهد بحماية مصالحهم صار حليفهم وصديقهم كائنًا من كان. وهكذا البشر في كل مكان وزمان من أية أمة كانوا.
لقد سيطرت القبائل العربية على شواطئ الفرات وهيمنت عليها في أيام السلوقيين. ونجد ساداتها وقد نصبوا أنفسهم عمالًا "فيلاركا" على تلك الشواطئ منذ منتصف القرن الثاني قبل الميلاد وبعده, وتدل أسماء أولئك العمال على أن أصحابها كانوا من أصل عربي، وأن الأسر التي كونوها هي أسر عربية. وكلما كانت أسماء الملوك الأولين لهذه الأسر أسماء عربية، كانت أكثر دلالةً على أصل أصحابها العربي. فقد جرت العادة أن الملوك المتأخرين يتأثرون بتيارات زمانهم الاجتماعية وبرسومه وعاداته، فيتخذون ألقابًا وأسماء يونانية أو سريانية أو فارسية، تظهرهم وكأنهم من أصل يوناني أو سرياني أو فارسي، على حين هم من أصل عربي،
__________
1 Musil, Deserta, P.477(4/256)
ولهذا كانت لأسماء مؤسسي الأسر أهمية كبيرة في إثبات أصل الأسرة1.
وقد استغل الأعراب أهمية الطرق البرية التي تمر بالبوادي، وهي شرايين التجارة العالمية بالنسبة لذلك الوقت، فتحكموا في مسالكها، واستغلوا أهمية الماء بالنسبة للقوافل والجيوش، فلم يكن في وسع جيش قطع البادية من غير ماء، وأخذوا يعاملون المعسكرين: المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي وهو المعسكر الروماني وفقًا لحاجتهما إلى هذه الطرق والماء, ويفرضون على المعسكرين شروطًا تتناسب مع مواقفهما العسكرية ومع الأحوال السائدة بالنسبة لتلك الأيام، وصاروا يجبرون كل معسكر من المعسكرين على تقديم أحسن الترضيات لهم؛ لتقديم خدماتهم له، والانضمام إليه ضد المعسكر الشحيح البخيل.
ومن هذه الإمارات: إمارة الحضر، وإمارة "الرُّها" Edessa، وإمارة "الرستن - حمص" Arethusa – Emesa وإمارة "سنجار" Singara، وحكومة تدمر، ثم حكومة الغساسنة في بلاد الشأم، وحكومة المناذرة في العراق.
ويلاحظ أن بعض هذه الحكومات تكونت في مدن كانت قديمة عامرة، سكانها من غير العرب، ومع ذلك صارت مقرًّا لأسر حاكمة عربية، باستيلاء تلك الأسر عليها وبإخضاعها لحكمها واتخاذها مقامًا لهم، فصار الحكم عليها في أيدي تلك الأسر. أما المحكومون فهم السكان الأصليون، وغالبهم من غير العرب, ولسانهم هو لسان بني إرم في الغالب.
وهناك إمارات تكونت على أطراف الحضارة، وفي مواضع الماء والكلأ في البادية، أو في مواضع غير بعيدة عن حدود الحاضرة من العراق وبلاد الشأم، وخاصة في العُقَد التي تتصل بها طرق القوافل, ويعود الفضل في تكونها وظهورها إلى هذه الأمور المذكورة، ولا سيما موضعها من خطوط سير القوافل، حيث يتقاضى سادات تلك المواضع "إتاوات" عن التجارة التي تمر بها، وعن التجارة التي تحمل إليها لبيعها في أسواقها، فيتجمع لهم دخل لا بأس به من هذه الجباية التي قد ترتفع أحيانًا حتى تصل إلى درجات التعسف بالتجار. ويكون سادات هذه المواضع أصحاب حظ عظيم؛ إذ كانت مواضعهم عصبًا ضروريًّا رئيسيًّا في تجارة البادية، بحيث لا تجد القوافل الكبيرة المحملة بالتجارة النفيسة بدًّا
__________
1 Die Araber, I, S. 313(4/257)
من المرور منها، فإن دخلهم يكون حينئذٍ كبيرًا، يحملهم على التوسع والطموح, وعلى السيطرة على الآخرين بقدر الإمكان.
وكما كانت القوافل التجارية والطرق البرية رحمة للمستوطنات الصحراوية التي نشأت وتكونت عند عقد العصب الحساس لهذه الطرق، كذلك صارت تلك الطرق نقمة على تلك المستوطنات؛ إذ طالما قضت عليها وحكمت عليها بالموت، فقد يجد التجار وأصحاب القوافل طرقًا أسهل وأقصر في قطعهم للبادية، أو معاملة أطيب من سيد قبيلة منافس أو حماية عسكرية أقوى، فيتحولون عن تلك الطرق المسلوكة إلى طرق أخرى، فتموت بذلك المستوطنات المقامة عليها، ويضطر أهلها إلى تركها إلى مواطن جديدة. وقد كان لاستخدام الطرق المائية من طرق نهرية وبحرية، أثر كبير في إماتة الطرق البرية أو في منافستها، كذلك كان للطرق البرية ولا سيما الطرق العسكرية الممهدة التي أقامها الرومان والروم في بلاد الشأم، أو الفرس في العراق أثر كبير في القضاء على المستوطنات التي نشأت في البوادي؛ إذ فضل التجار السير في هذه الطرق المأمونة التي لا يتحكم فيها سادات القبائل في مقدراتهم، ولا يدفعون ضرائب مرور عن الأرضين على تلك الطرق الموحشة المقفرة المملوءة بالمخاطر والتي يتحكم فيها أبناء البادية في مقدرات التجار، فيفرضون عليهم ضرائب مرور من أرضهم كما يشاءون من غير تقدير لما سيجر ذلك عليهم وعلى التجار من أضرار. وبذلك أعان أبناء البادية بأنفسهم على إماتة مستوطناتهم في بعض الأحيان.
ويظهر من "جغرافية" "سترابو" أن أرض الجزيرة ومنطقة الفرات والبادية المتصلة ببلاد الشأم، كانت في حكم سادات قبائل، يحكمون وكأنهم "عمال" فيلارك" Phylarchus. وكان بعض هؤلاء يحكمون أرضين صغيرة، وحكمهم حكم "مشايخ القبائل" في عرف هذا اليوم: يشتغل أتباعهم بالرعي، وبعضهم يشتغلون بالزراعة، وآخرون بالتجارة. وكان قسم منهم أعرابًا يتنقلون في البادية، ومنهم أشباه أعراب، ولا سيما أولئك القاطنين على ساحل العقبة، أي خليج "أيلة" وقد استغل هؤلاء الأعراب طبيعة أرضهم، فكانوا يجبون "العشر" من التجار، أو يشتغلون هم أنفسهم بالاتجار أو يقومون بنقل التجارة لحساب غيرهم من التجار1.
__________
1 Die Araber, I, S. 270(4/258)
وقد كان الأعراب هم الوحيدين الذين في استطاعتهم حماية الطرق البرية الممتدة بين العالم المتحضر القديم: العراق وبلاد الشأم، فهم وحدهم سادة البوادي، وفي أيديهم "إكسير الحياة" الماء؛ لهم آبار أو عيون، و"صهاريج" سرية يخزنون فيها الماء. ولهم مخازن احتياطية مملوءة بهذه المادة الثمينة الضرورية للحياة، يملئونها من أماكن قد تكون بعيدة عنهم، ثم يحملونها معهم حيث ذهبوا، وإلى منازلهم. وهي قِرَبٌ كبيرة يصنعونها من الجلد، تمونهم بالماء، وتمون القوافل المارة بهم بما يحتاجون إليه وبما يكفيهم للتنقل من منزل إلى منزل آخر. وقد أطلق اليونان على أكثر هؤلاء اسمScentitae = Skenitai، بمعنى الساكنين في الخيام؛ لأن "السكينة"Skenai = Skynai معناها الخيمة والبيت، وهي تقابل لفظة "سكوت" "سكوث" Sukkot في العبرانية، التي تعني الخيمة والبيت أيضًا1.
والـ"سكينيتة" Skenitai، هم كما قلت أهل الخيام، الخيام المصنوعة خاصة من شعر المعز2، وهم أعراب يقطنون البادية وطرفي العراق والشأم، تمتد منازلهم في بلاد الشأم حتى تبلغ الخط الممتد بين Europus وThapascus في الشمال على رأي "بلينيوس"3, وتمتد في الغرب حتى تبلغ حدود Apamea على رأي "سترابون". أما حدود مجالات هؤلاء الأعراب من الشرق، فتمتد من أعالي الفرات حتى تبلغ ملتقاه بدجلة في الجنوب على رأي "سترابون" كذلك4. ويفصلهم النهر عن منازل قبيلة "أتالي" Athali في كورة5 Characene.
وذكر "سترابو" أن سادات "سكان الخيام" كانوا يجبون الضرائب من التجار في أثناء مرورهم بمناطق نفوذهم، وكان بعضهم يشتط عليهم فيتقاضى منهم ضرائب عالية، ولا سيما أولئك الذين ينزلون على ضفتي النهر، فتجنب التجار المرور بمناطقهم، ومنهم من كان يتساهل فيعاملهم بلطف ورعاية6. وذكر أيضا أن الرومان وسادات الأعراب كانوا يسيطرون على الجانب الغربي للفرات
__________
1 Die Araber, I, S. 272, W. Gesenius, Hebr. Und Aram. Handworterbuch, "1921", S. 542
2 Paulys – Wissowa, Zweite Reihe, Funfter Halbband, "1927", P.513
3 Pliny, Vi, 21
4 Strabo, Xvi, 2
5 Paulys – Wissowa, Zweite Reihe, Funfter Halbband, "1927" 513
6 Strabo, Xvi, I, 27(4/259)
حتى إقليم بابل، وأن فريقًا من سادات القبائل كانوا يشايعون الرومان، وفريقًا آخر كان يشايع الفرس, وأن الذين كانوا يسكنون على مقربة من النهر كانوا أقل ميلا وتوددا إلى الرومان من الذين كانوا يقيمون على مقربة من العربية السعيدة1.
وبلغت منازل الـ"السكينيتة" سكان الخيام حدود مملكة "حدياب"2 Adiabene والجبال في العراق على رأي "سترابو"3. ويذكر "سترابو" أن من هؤلاء رعاة، وأن منهم متلصصين، يغزون وينهبون، ويتنقلون من مكان إلى مكان حيث يكون المرعى، أو تتوافر الغنائم والأموال4، وأن طريق بابل و"سلوقية" إلى الشأم الذي يسلكه التجار يمر في أرض جماعة من هؤلاء الأعراب يعرفون بـMalli في أيامه, لهم البادية يتحكمون فيها كيفما يشاءون5.
ولا نجد في كتاب "سترابو" شيئًا يتعلق بأصل "السكينيتة"، سكان الخيام، وبالزمن الذي ظهرت فيه هذه التسمية. وقد ذكر أن من مواطنهم مدينة اسمها Skenai، وهي معروفة عندهم، تقوم على "قناة" على حدود أرض "بابل"، وعلى بعد ثمانية عشر "شوينوى" Schoinoi من مدينة "سلوقية"، كما ذكر أنهم يسمون الآن باسم آخر، هو: "ملوي" Malioi "مالي"6 Malli.
وقد ذهب الباحثون مذاهب عدة في تعيين موضع مدينة Skenai، إن جاز التعبير عنها بلفظة "مدينة"؛ فذهب بعضهم إلى أنها "عُكْبَرا"، وذهب بعض آخر إلى أنها "الحيرة"، فالحيرة بمعنى المخيم والمعسكر، وهو معنى قريب من معنى لفظة Skenai. وذهب آخرون إلى أنها "مسكين" أو "مسجين"، وهو موضع يقع شمال بغداد، أو "بيت مشكنة". ولكلٍّ رأيٌ ودليلٌ في اختياره لذلك المكان7.
ويظهر من وصف "سترابو" لأحوال "سكان الخيام"، أي: الأعراب، أنهم كانوا كثرة، وقبائل تنتقل مع الماء والكلأ. أما الـMalioi، فإنهم كان منهم
__________
1 Strabo, Xvi, I, 28
2 Paulys, Zweite Reih, Funter Halbband, "1927", 514, Strabo, Xvi, I, 27
3 Strabo, Xvi, I, 26
4 Strabo, Xvi, I, 26
5 Paulys, Zweite Reihe, Funfter Halbband, 1927, 514, Strabo, Xvi, I, 27
6 Die Araber, I, S. 271, Strabo, 16, 748, Xvi, 26, Paulys, Zweite Reihe, Funfter Halbband, 1927, S. 513
7 Die Araber, I, S. 272, Ed. Sachau, Die Chronik Von Arabela, 1915, 62(4/260)
أشباه مستقرين، وآخرون مستقرون تكاد منازلهم تكون ثابتة، ولهم نظام يمكن أن نسميه نظام حكومة، ويدير شئونهم سادات منهم، يشرفون على أعرابهم ويرعون طرق القوافل التي تمر بأرضهم؛ لأنها تأتي لهم بفوائد كبيرة1.
ومن الإمارات التي يرجع كثير من الباحثين أصول حكامها إلى أصول عربية: الحضر Hetra، و"إمارة حمص" Emesa و"إمارة الرها" Edessa، والرصافة، وتدمر، وإمارات أخرى. وهي إمارات لا يمكن أن نقول: إن ثقافتها كانت ثقافة عربية، وإن غالب سكانها كانوا من العرب، ولكننا نستطيع أن نقول: إن العرب كانوا يتحكمون فيها، وإن هنالك أدلة تزداد يومًا بعد يوم، تزيد في الاعتقاد بأن العنصر العربي كان قويًّا فيها، وأن سكانها كانوا عربًا، ولكنهم تأثروا بالمحيط الذي عاشوا فيه، فتثقفوا على عادة تلك الأيام بثقافة بني إرم، واتخذوا من لسان بني إرم لسانًا لهم في الكتابة، ومن قلم بني إرم قلمًا لهم يكتبون به, ويعبرون عن إحساسهم وشعورهم وعلمهم به.
أما "الحضر"، فهي اليوم آثار شاخصة في البرية بوادي الثرثار جنوب غربي الموصل، على بعد "140" كيلومترًا منها. ولعلماء الآثار آراء في أصل التسمية، فمنهم من ذهب إلى أنها من أصل إرمي، ومنهم من ذهب إلى أنها من أصل عبراني إرمي، ومنهم من رجح أنها من أصل عربي، بمعنى "الحيرة" أي: "العسكر"، وقد عرف بـ"أترا" Atra وAtrai في اليونانية، وبـ"هترا" Hatra في اللاتينية2. وهي "حطرا" في الكتابات التي عُثر عليها في الحضر3.
ويرى "هرتسفلد" E. Herzfeld أن القبائل العربية هي التي أسست هذه المدينة، أسستها في القرن الأول قبل الميلاد حصنًا منيعًا أقام ساداتها فيه مستفيدين من الخلاف الذي كان بين الفرث واليونان، حيث استغلوه بذكاء وحنكة، فحصلوا على أموال من الجانبين، لما لموضعهم من الشأن العسكري والسياسي والاقتصادي. وكانوا كلما ازداد مالهم وبرزت أهميتهم، ازدادت المدينة توسعًا وبهاء وعمرانًا، حتى صارت
__________
1 Die Araber, I, S. 274
2 Brockelmann, Lexi, Syriacum, 1928, 228, Levy – Goldschmid Worterbuch Uber Die Talmudim Und Midraschim, Bd., 2, 1922, 40a, Die Araber, I, S. 275
3 Die Araber, I, S. 275, Ii, S. 225(4/261)
مدينة كبيرة ذات شأن، سكنتها جاليات أجنبية أيضا، أنجزت, وتولت الوساطة في البيع والشراء، ونقل تجارة آسية إلى تجار أوروبا، وتجارة أوروبا وحاصلاتها إلى تجار آسية1.
وقد قوَّت الكتابات الإرمية التي عثر عليها في "الحضر" سنة "1951م" رأي "هرتسفلد"، القائل بأن الذين أسسوا هذه المدينة هم قبائل عربية؛ وذلك لورود أسماء عربية فيها مع أسماء إيرانية وإرمية. وقد وجد أن نسبة الأسماء العربية تزيد على نسبة الأسماء العربية في كتابات مدينة "تدمر"، وهي مكتوبة بلغة "بني إرم" كذلك، وهذا مما يدل على وجود جالية عربية قوية في الحضر2. ولكن ذلك لا يعني في الزمن الحاضر أن غالب السكان كانوا عربًا.
وقد نُعت رئيس معبد الحضر الكبير بـ"سادن العرب"، على غرار تلقيب ملوك الحضر أنفسهم بـ"ملوك العرب"3. واسم هذا السادن، هو "أفرهط"، وقد قال عن نفسه: "رب ي تا دي عرب"، أي: "أفرهط سادن العرب"، وذكر مترجم النص أن المألوف في كتابات الحضر أنها لا تنسب الكاهن إلى عبدة الإله أي: المتعبدين، ولكن تنسبهم إلى الآلهة، بأن يكتب "سادن الإله ... "، لا "سادن عبدة الإله ... "، كما هو في هذا النص، ويرى مترجمه أن "أفرهط" قد خالف المألوف، وخالف عادة القوم، تقليدًا لما فعله الملك "سنطروق" ملك الحضر من تلقيب نفسه بـ"ملك العرب"4 "ملك الأعراب".
وقد عثرت مديرية الآثار العامة في العراق على نص وسمته بـ"79" من النصوص التي عثر عليها في الحضر، جاء فيه اسم المدينة "الحضر" لأول مرة، فلم يسبق ورود هذا الاسم في نصوص سابقة. وقد ورد على هذا الشكل: "حطرا"، على نحو ما ينطق به في لغة "بني إرم"5، كما وردت فيه جملة:
__________
1 E. Herzfeld, Hatra, In Zdmg., 68, 1914, 663, U. Kahrstedt, Artabanss, Iii, 67, Die Araber, I, S., 275, Th. Noldeke, Geschichte Der Perser Und Araber, 1879, 33, F. Altheim, Die Krise Der Alten Welt, I, 1943, 132, 206
2 Die Araber, I, S. 276.
3 مجلة سومر، المجلد الحادي والعشرون، 1965، "كتابات الحضر"، لفؤاد سفر، "ص22".
4 سومر، العدد المذكور "النص رقم 223" "ص38".
5 راجع السطر 14، وهو السطر الأخير من النص المذكور، مجلة سومر، السنة "1961"، المجلد السابع عشر، الجزء الأول والثاني، "ص12، 15، 17".(4/262)
"وبالحظوظ العائدة إلى العرب"1، وهي جملة ذات دلالة مهمة بالطبع؛ لأنها تشير إلى العرب ووجودهم في هذه المنطقة، كما ذكر فيه "عربايا" "عربواو"2، ولاسم إقليم "عربايا" شأن كبير؛ لأنه نسبة إلى العرب، وفيه تقع مدينة الحضر.
أما أسماء ملوك الحضر، فهي أسماء غير عربية النجار، يظهر على بعضها أنها إيرانية، وعلى بعض آخر أنها إرمية, غير أن علينا أن نفكر في أن التسميات لا يمكن أن تكون أدلة يستدل بها على أصل الناس. فقد كانت العادة تقليد الأجانب ومحاكاتهم في اختيار أسمائهم، ولا سيما عند الحكام والملوك, فقد كانوا يختارون لهم في كثير من الأحيان أسماءً أو ألقابًا من الدول القوية التي تتحكم في شئونهم والتي لها سلطان عليهم. فقد لقب جماعة من ملوك "اليطوريين" أنفسهم بـ"بطلميوس" ولقب نفر منهم أنفسهم بـ"ليسنياس" Lysanias وبـ"فيلبيون" Philippion، وهي من التسميات اليونانية، مع أن اليطوريين ليسوا يونانيين3. كذلك نجد اللحيانيين يقلدون اليونان، فيلقبون أنفسهم بـ"بطلميوس"، مع أنهم عرب، وهكذا قُلْ عن أهل "الرها" و"تدمر" وأمثالهم فإنهم هم وملوكهم قد قلدوا اليونان في أسمائهم وفي اتخاذ ألقاب يونانية لهم، وهم مع ذلك ليسوا من اليونان؛ ولهذا لا نستطيع أن نحكم على أصل الإنسان استنادًا إلى الألقاب والأسماء. وينطبق هذا الرأي على ملوك الحضر أيضًا, فإن "سنطروق" وهي تسمية إيرانية فرثية، لا يمكن أن تقوم دليلًا على أن أصله من الفرث4.
ويلاحظ أن كثيرًا من كتابات الحضر، لا يكتفى فيها بذكر اسم الشخص واسم أبيه، وإنما يذكر فيها اسم جده أيضا، واسم والد جده أحيانا, وقد عثر على كتابة ورد فيها اسم ستة أجداد. ونجد هذه الطريقة في الكتابات الصفوية كذلك، وقد استدل "إينو ليتمان" E. Littmann من طريقة تدوين الصفويين لأنسابهم على هذه الصورة على أنهم عرب؛ لأن العرب يعتنون بالنسب أكثر من عناية غيرهم به، فيذكرون أسماء الآباء والأجداد. ولذهاب بعض أهل الحضر هذا المذهب في تدوين أنسابهم، رأى بعض الباحثين أن أصحاب هذه الكتابات
__________
1 العدد المذكور "سطر 10" من النص.
2 العدد المذكور "سطر 14".
3 Die Araber, I, S. 278
4 Die Araber, I, S. 280(4/263)
هم من أصل عربي1.
وما زال تأريخ الحضر غامضًا ناقصًا، فيه فجوات واسعة، لم تملأ حتى الآن. ويرى الذين عنوا بدراسة تأريخها أنها تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، وربما امتد تأريخها إلى ما قبل ذلك. وأما ازدهارها، فقد كان في أيام "الفرث" Parthians، وهم "الإشكاليون" و"ملوك الطوائف" في الكتب العربية. وقد عاركت "الرومان" و"الساسانيين"، وتعرضت للخراب والدمار في أيام "سابور" المعروف بـ"سابور الجنود" في الكتب العربية، وذلك سنة "241" للميلاد. ولم تتمكن بعد هذا الحادث من استعادة نشاطها وقوتها، فذكر أن جيشًا رومانيًّا مر بها سنة "363" للميلاد، فوجدها خرابًا2.
ومن ملوك الحضر، الملك "سنطروق"، وقد ورد اسمه في طائفة من الكتابات, ويظهر أنه كان مؤسس سلالة ملكية من السلالات التي حكمت هذه المدينة. وقد عرف أبوه باسم "نصرو مرى" "نصر"3, ولعله كان أول من ملك الحضر. ويظهر أن أباه لم يكن ملكًا، ولكن كان كاهنًا, وقد ورد اسمه في نص رقم برقم "77" للميلاد. ومعنى هذا أن الملك "سنطروق" كان يحكم في النصف الثاني من القرن الأول للميلاد, ولا يستبعد أن يكون قد حكم قبل هذا العهد. ويعد هذا النص من أقدم النصوص المؤرخة التي عُثر عليها في هذه المدينة4.
وقد عثر على كتابات أخرى، ورد فيها: "سنطروق ملك بن نصرو مريا"5. ولورود جملة "ملك العرب" بعد اسم الملك شأن كبير بالطبع؛ لأنها توضح علاقة هذا الملك بالعرب بكل جلاء.
وقد أمكن الحصول في هذا اليوم على أسماء عدد من حكام الحضر, منهم: "أورودس" "ورود"، وكان يلقب بلقب "مريا"، أي: "السيد"
__________
1 Die Araber, I, S. 280
2 مجلة سومر، المجلد الثامن، الجزء الأول "1952" "ص39 وما بعدها".
3 لعله "نصرو مديا".
4 مجلة سومر، "1961م" المجلد السابع عشر، الجزء الأول والثاني "ص22 وما بعدها".
5 سومر، العدد المذكور "ص22"، حاشية "3".(4/264)
و"الرئيس", و"نصرو" "نصر"، وقد لقب بلقب "مريا" كذلك. وهو ابن "نشرى هبة" "نشرى هاب"1, ووالد الملك "سنطرق" "سنطروق" الموسوم بـ"الأول". ثم "ولجس" "ولجش" "ولوجس"، وقد لقب بـ"مريا" أي: "الرئيس" في أحد النصوص, وبلقب "ملكا ذي عرب"، أي: "ملك العرب" "ملك الأعراب"2 في نص آخر. مما يدل على أنه عاف لقب "مريا"، أي: السيد أو الرئيس، الذي لقب به في أول عهده بالحكم وهو لقب أسلافه، واستبدله بلقب "ملك", وهو أضخم من لقب "مريا" بالطبع.
وقد عثر على تمثال كتبت على قاعدته جملة: "تمثال ولجش ملك العرب", وقد أقام ذلك التمثال وأمر بتسطير الكتابة "جرم اللات بن حيي"3.
ثم الملك "سنطرق" "سنطروق" الأول، وهو ابن "نصرو" "نصر" "نصر ومريا"، وقد لقب بـ"ملكا دي عرب"، أي "ملك الأعراب"4 وقد كان حكمه في النصف الثاني من القرن الأول بعد الميلاد "77 = 78م"5.
ثم الملك "عبد سميا" الملقب بلقب "ملكا ذي عرب" "ملكا دي عرب"، وهو والد الملك "سنطرق" "سنطروق" الثاني6.
والملك "سنطرق" "سنطروق" الثاني، وهو ابن الملك "عبد سميا", وهو والد ملك آخر اسمه "عبد سميا" كذلك7, وملك آخر اسمه "معنا" "معنى" أي: "معن" في عربيتنا8.
ولعل "تراجان" "98-117م" الإمبراطور الروماني ذا المطامع الواسعة في الشرق الأدنى، كان قد فكر في الاستيلاء على الحضر في عهد "سنطرق" "سنطروق" أو أيام "عبد سميا". إذ عثر على منار في طريق سنجار دوّن عليه اسمه، يشير إلى وصوله إلى هذه المواضع من العراق. ولكن الرومان لم
__________
1 النص رقم 194، Die Araber, IV, S. 266
2 النصوص: 140، 193، Die Araber, IV, S. 266
3 Nr. 193, Die Araber, IV, S. 260
4 النص 194، و196، و197، و199.
5 Die Araber, IV, S. 266
6 النص 195.
7 النص 28، و36، و195، Die Araber, IV, S. 267
8 راجع النص في: Die Araber, II, S. 249, 267(4/265)
يتمكنوا من الاستيلاء على الحضر، وبعد أن حاصروها مدة، تراجعوا عنها؛ لأنهم وجدوا صعوبة في فتحها، وعادوا إلى "أنطاكية"1.
وقد ورد في النص "139" اسم "نشرى هب"، وهو ابن "نوهرا"، وهو ابن "سنطرق" "سنطروق"، الملقب بلقب "ملكا" أي: "الملك"2.
ويظن أن حكم "أثل ملكا"، أي: الملك "أثل" "أثال" أو "أثال الملك" بتعبير أصح، والذي ورد اسمه في النصوص، دون أن يذكر اسم والده، كان يحكم الحضر في منتصف القرن الثاني للميلاد، أو في النصف الثاني منه، وهو ملك لا نعرف صلته بالملوك المتقدمين3.
وأما "برسميا"، فقد كان من معاصري "سبتيميوس سفيروس" Septimius Severus الذي كان حكمه في حوالي السنة "193" إلى السنة "211" بعد الميلاد4, وكان من خصومه المزعجين. فقد صبر بجنوده ودافع معهم عن أسوار مدينته حتى أكرهه على فك الحصار عن الحضر وعن التراجع عنها، بسبب العطش الذي أثر في جيشه، على حين كان الماء كثيرًا في المدينة مخزونًا عندهم. وبسبب المقاومة العنيفة التي أظهرها الفرسان العرب، وإلقاء أهل الحضر قنابل النفط على جيوش الرومان ومقاومتهم مقاومة عنيدة حملت الرومان على التراجع عن المدينة وفك الحصار عنها5.
ولما ظهرت الدولة الساسانية كانت الحضر على صلات طيبة بالرومان, وكانت تلعب دورًا خطيرًا في عالم التجارة لموقعها المهم بالنسبة لطرق القوافل لذلك الوقت، فتحرش بها الساسانيون وغزوها، ثم دمروها في الأخير، وكان سبب ذلك هو أن "أردشير" الأول، مؤسس الدولة الساسانية ومهدم كيان الدولة الأشكانية دولة الفرث، لما انتصر على دولة الفرث، حارت الدويلات الصغيرة، وفي جملتها حكومة الحضر, في أمرها، وظنت أن النصر سيكون للفرث، فوقفت موقف الحذر من الساسانيين، ورأى ملك الحضر "الضيزن" أن من الأصلح له
__________
1 Dilleman, Haute Mesop., 129
2 سومر 1961، Die Araber, Iv, S. 259, A. Caquot 258
3 Die Araber, Iv, S. 267
4 Die Araber, Iv, S. 267
5 Dio Cassius, Lxxvi, 2.3, Lxxvi, 9.4, Ii, 12, Herodian, Iii, 9, 12, Fr. Stark, Rome On The Eupfrates, Pp.255.(4/266)
أن ينضم إلى الرومان الذين كانوا قد توجهوا نحو الشرق، واستولوا على "ميديا"، وأن يهاجم الفرس, فهاجمهم وتغلب عليهم في معركة "شهر زور" كما تذكر الموارد العربية، وأسر بنتًا من بنات ملك الفرس1, وكان ذلك في حوالي السنة "232" للميلاد تقريبا. فسار "سابور" الأول، وهو "سابور الجنود"، وهو ابن الملك "أردشير الأول"، إلى الحضر يريد الانتقام من "الضيزن"، فتحصن "الضيزن"، وأناخ "سابور" على حصنه أربع سنين، من غير أن يتمكن من فتحها، ثم إن ابنة للضيزن اسمها "النضيرة" رأت "سابور" فوقعت في حبه، فراسلته وأرشدته إلى طريقة يتمكن بها من إحداث ثغرة في سور المدينة ففتحها، واستولى عليها وقتل أباها، وأباد أهل المدينة، وأخذ "سابور" النضيرة فأعرس بها بعين التمر، ثم تذكر خيانتها "فأمر رجلًا فركب فرسًا جموحًا، ثم عصب غدائرها بذنبه، ثم استركضها فقطعها قطعًا"2.
وقد تعرض "الطبري" لمدينة الحضر، فقال: "وكان بحيال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها: الحضر، وكان بها رجل من الجرامقة، يقال له: الساطرون، وهو الذي يقول فيه أبو داود الإيادي:
وأرى الموت قد تدلى من الحضـ ... ـر على رب أهله الساطرون
والعرب تسميه الضيزن، وقيل: إن الضيزن من أهل باجرمي.
وزعم هشام بن الكلبي أنه من العرب من قُضاعة، وأنه الضيزن بن معاوية بن العبيد بن الأجرام بن عمرو بن النخع بن سليح بن حُلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، وأن أمه من تزيد بن حلوان اسمها جيهلة، وأنه إنما كان يعرف بأمه. وزعم أنه ملك أرض الجزيرة، وكان معه من بني عبيد بن الأجرام وقبائل قضاعة ما لا يحصى، وأن ملكه كان قد بلغ الشأم، وأنه تطرف من بعض السواد في غيبة كان غابها إلى ناحية خراسان سابور بن أردشير. فلما قدم من غيبته، أخبر بما كان منه، فقال: ذلك من فعل الضيزن، عمرو بن إلة بن الجُدَي بن الدهاء بن جشم بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة ... فلما
__________
1 مجلة سومر، المجلد الثامن "1952م"، الجزء الأول، "ص43".
2 الطبري "2/ 49 وما بعدها"، نهاية الأرب "1/ 381 وما بعدها"، Die Araber, III, S. 108(4/267)
أخبر سابور بما كان منه، شخص إليه حتى أناخ على حصنه، وتحصن الضيزن في الحصن، فزعم ابن الكلبي أنه أقام سابور على حصنه أربع سنين، لا يقدر على هدمه ولا على الوصول إلى الضيزن1. ثم ذكر قصة ابنة الضيزن مع سابور وخيانتها لأبيها وكيف كان مصيرها.
ويذكر "الطبري" في روايته التي يرفعها إلى "ابن الكلبي"، أن سابور أباد أفناء قضاعة الذين كانوا مع الضيزن، فلم يبقَ منهم باقٍ، وأصيبت قبائل من بني حلوان، فانقرضوا ودرجوا. ثم ذكر في ذلك شعرًا نسبه إلى "عمرو بن إلة"، وكان مع الضيزن2.
وروى "ابن خلدون" أن الملك بالحضر كان لبني العبيد بن الأبرص بن عمرو بن أشجع بن سليح، وكان آخرهم "الضيزن بن معاوية بن العبيد" المعروف بالساطرون3. وذكر "البكري" أن "سابور ذا الأكتاف" لما أغار على الحيرة وهزم أهلها، سار معظمهم إلى الحضر، يقودهم "الضيزن بن معاوية التنوخي" فنزلوا به، وهو بناء بناه الساطرون الجرمقاني، فأقاموا به مع الزباء, فكانوا رجالها وولاة أمرها. فلما قتلها "عمرو بن عدي" استولوا على الملك حتى غلبتهم غسان, وقد فرق البكري بين الضيزن والساطرون4.
وقد ورد في أثناء القصص المروي عن الضيزن والحضر شعرٌ نسبوا بعضه إلى "أبي دواد الإيادي"، وبعضه إلى "الأعشى ميمون بن قيس"، وبعضًا آخر إلى "عمرو بن إلة" وبعضًا إلى "عدي بن زيد العبادي"5. ونجد في شعر الأعشى، خبر حصار "شاهبور الجنود" حولين للحضر، وذكر "عدي بن زيد العبادي" في شعره أن صاحب الحضر شاد حصنه بالمرمر، وجلله كلسًا، وللطير في ذراه وكور. ثم باد ملكه، فصار بابه مهجورًا، بعد أن كانت دجلة تُجبَى له والخابور6. وهو من هذا الشعر الحزين الذي يغلب عليه طابع الموعظة
__________
1 الطبري "2/ 47 وما بعدها" "دار المعارف"، أيضًا "الضيزن بن جلهمة أحد الأحلاف"، البلدان "3/ 290"، في الأغاني "جبهلة"، الأغاني "2/ 140".
2 الطبري "2/ 49".
3 ابن خلدون "2/ 249".
4 معجم ما استعجم "ص17" "طبعة وستنفلد"، المشرق: السنة الخامسة عشرة، الجزء 7، تموز 1912، ص516، Ency., II, P.207
5 الطبري "2/ 47 وما بعدها"، نهاية الأرب "1/ 381 وما بعدها".
6 الطبري "2/ 50".(4/268)
واحتقار الدنيا وازدرائها، وهو طابع أغلب الشعر المنسوب إلى الشاعر البائس.
والساطرون، هو "سنطروق" في كتابات الحضر، حرّف فصار الساطرون عند أهل الأخبار1. وهو لفظ إيراني الأصل, انتقل من اللسان الإيراني إلى لغة بني إرم فصار "سنطروق"، وصير "سنتروسس" في اللغة الإغريقية. وقد عرف بهذا الاسم أحد الملوك الفرث "الأشكانيين" "سنة 76 أو 75 حتى 70 أو 69ق. م."2.
وإذا أخذنا برواية "الطبري" من أن "الساطرون" كان من الجرامقة، فمعنى ذلك أنه كان من "بني إرم"، أي: من الآراميين, وهم سكان "جرمقايا" "جرمقاية" الواقعة شرق دجلة جنوب "الزاب" الصغير، وقد عُرفوا بالجرامقة نسبة إلى هذه الأرض3. وإذا أخذنا بروايته أيضا من أن الساطرون كان يعرف بالضيزن، وأن "الضيزن" هو من أهل "باجرمي"4، فإن في الرواية الثانية تأييدًا للرواية الأولى من أن الساطرون كان من بني إرم، ولم يكن من العرب5.
غير أن "ابن الكلبي" يقول: إنه من العرب وإنه من قضاعة من جهة الأب، وإنه من "تزيد" من جهة الأم، وإنه ملك أرض الجزيرة، وإن ملكه بلغ الشأم، وكان معه من "بني عبيد بن الأجرام" وقبائل قضاعة, وإنه انتهز فرصة غياب "سابور بن أردشير" إلى ناحية خراسان، وتطرف في بعض ناحية السواد، فلما قدم "سابور" من غيبته أخبر بما كان منه، فشخص إليه حتى أناخ على حصنه أربع سنين في رواية "ابن الكلبي"، وحولين كما جاء في شعر "الأعشى"6.
وقد أنكر "نولدكة" رواية "ابن الكلبي" بشأن حصار "سابور" للحضر, وقد كانت الحضر قد فتحت في عهد "أردشير" الأول، وذلك قبل وفاته في
__________
1 Ency., Ii, P.207, Herzfeld, In Zdmg., Ixviii, Noldeke, Gesch. Der Perser Und Araber, S. 33
2 مجلة سومر، "1952م"، المجلد الثامن, الجزء الأول، "ص40"، Die Araber, IV, S. 267
3 Die Araber, III, S. 13, IV, S. 108
4 الطبري "2/ 47" "دار المعارف".
5 Die Araber, III, S. 108
6 الطبري "2/ 47".(4/269)
سنة "241" للميلاد. وكان ابتداء حكم "سابور" الأول سنة "241"؛ لذلك رأى "نولدكة" وغيره أن قصة "الضيزن" لا علاقة لها بهذا "السابور"، بل بملك آخر من ملوك الساسانيين, وأن "الضيزن" المذكور كان رئيسًا من رؤساء قبائل عربية متنفذة, كانت تغير من "الجزيرة" ومن الغرب على أرض السواد1.
ورجحوا كون "سابور" -أهل الأخبار- هو "سابور" الثاني الذي حكم من سنة "309" حتى سنة "379" للميلاد. وقد عرف هذا الملك بغزوه للعرب، وهو صاحب "الأنبار" و"خندق سابور" الذي حفره لحماية الأرض الخصبة المأهولة من هجمات الأعراب. وقد كان هذا الملك قد غزا "خراسان" وغزا أرض بكر وتغلب التي تقع بين الروم والفرس "المناظر"، حيث كانت تنزل قضاعة أيضا2.
وقد رأى بعض الباحثين أن تعبير "سابور الجنود" "شاهبور الجنود" الوارد في شعر "الأعشى" و"عمرو بن إلة" تعبير يشير إلى أن "سابور" المذكور لم يكن ملكًا، بل كان قائدًا من قادة الجيش، وأن هذا التعبير هو ترجمة لمصطلح "أصبهبذ" Spahbad الذي يعني "صاحب الجيش", وأن المقصود به رجل اسمه "شابور" "سابور" وكان بدرجة "أصبهبذ" "أسبهبذ" على "الري", وذلك في أيام "قباذ" الأول "448-531م". وأما "الضيزن"، فهو عامل من العمال العرب من سادات القبائل، قد يكون "طيزانيس" الذي كان في أيام "قباذ"، الذي يجوز أن يكون صاحب المدينة المسماة "طيزن آباد" و"مرج الضيازن" على الفرات3.
ومن القبائل التي ورد اسمها في كتابات الحضر، قبيلة عرفت بـ"بني تيمو"4 "بني تيم". وهي قبيلة قد تكون لها صلة بقبيلة ورد اسمها في كتابات عُثر عليها في وادي حوران بالعراق، وفي كتابات عُثر عليها في تدمر. ويظهر أنها
__________
1 Die Araber, III, S. 109
2 الطبري "2/ 55 فما بعدها" "ذكر ملك سابور ذي الأكتاف".
3 Die Araber, III, S. III
4 سومر، "1965"، المجلد الحادي والعشرون، الجزء الأول والثاني، "ص33"، النص رقم 214.(4/270)
كانت من القبائل المعروفة في الجزيرة وفي بادية الشأم في القرن الأول قبل الميلاد فما بعده، ويدل اسمها على أنها من القبائل العربية المتنقلة التي انتشرت بطونها في منطقة واسعة في ذلك العهد1.
هذا ما عرفه أهل الأخبار عن الحضر وعن أهل الحضر, فهم على رأيهم من عرب قضاعة نزلوا هذه المواضع في زمن لم يحددوه، وأقاموا هناك.
ولا أظن أن ما أورده "ابن الكلبي" عن الحضر قد جاء به من عنده، فلا بد أن يكون قد أخذه من موارد فارسية أو إرمية، وأغلب ظني أنه أخذ ذلك عن أهل الحيرة، وقد كان لرجال الدين فيها من النصارى علم بالتواريخ، أخذوا علمهم هذا من موارد متعددة، وعنهم نقل ما أورده عن الحضر.
وأما مملكة "الرها" Edessa، وتعرف بـ"أورفة" "أُرفة" أيضا، فإن معارفنا عنها من ناحية صلتها بالعرب لا تزال ضئيلة، وهي من مدن الجزيرة العليا. وقد أزهرت قبل الميلاد، وظهرت مثل جملة مدن في هذه المنطقة، منها: "بتنى"، ونصيبين، و"سنكارا" Singara أي: "سنجار"2.
وقد أدخل "بلينيوس" "الرها" Edessa وCallirhoe = Carrhoe في جملة مدن "العربية"3, ويقال للرها "أورهة" Orhai = Orrhoe في السريانية, وهي من "ديار مضر" المعروفة باسم Osrhoene = Orrhoene قديمًا4, وهي Orroei في تأريخ "بلينيوس"5, ومن جملة الأرضين الداخلة في العربية6، ومن المدن التي جدد بناءها "سلوقيوس الأول"7 Seleuces. وعرفت أيضا باسم "أنطوخية"، نسبة إلى "أنطيوخس" Antiochus الرابع8.
__________
1 المصدر نفسه، القسم الإنجليزي "ص10".
2 مجلة سومر، "1952م"، المجلد الثامن، الجزء الأول، "ص38".
3 Pliny., V, XXI, 86, Vol., II, P.287
4 المشرق: السنة الخامسة عشرة: الجزء 3, آذار 1952 "ص201 وما بعدها"، Ency., Iii, P.993, Hill, P.Xgiv, Lane, P.263
5 Pliny., V, Xx, 85, Vi, 25, 129, Vi, Ix. 25, Vol. Ii. P.285, 355, 437
6 Pliny., V, Xx, 85, Vol. Ii, P.284, 285
7 Eusebius – Hieronumus, Chron., P.127
8 Pliny., V, Xx, 86, Ency., Iii, P.993, Hill, P. Xgiv(4/271)
وقد تكونت في القرن الثاني قبل الميلاد مملكة في هذه المقاطعة، مقاطعة Osrhoene = Orroei, مملكة عَدَّ الكَتَبَة اليونان والرومان ملوكها من العرب، وعدوا سكانها عربًا كذلك، ويعزو "روستوفتزيف" Rostovtzeff سبب تكونها إلى حالة الفوضى التي ظهرت في "ما بين النهرين" على أثر انحلال دولة السلوقيين واحتلال الفرث "الأشكانيين لها"1. وذكر "بروكوبيوس" أن هذه المقاطعة إنما دُعيت Osroes نسبة إلى ملك اسمه Osroes كان يحكم هذه الأرض في الأيام الغابرة، وكان حليفًا للفرس2.
وقد وجدت أسماء ملوك "الرها" مرتبة ترتيبا زمنيا بحسب حكم الملوك في "حولية الرها" Edessene Chronicle المدونة حوالي سنة "540" بعد الميلاد، وفي حوليه أخرى هي "حولية زقنين" على مقربة من "آمد" المدونة حوالي سنة "775" بعد الميلاد، كما وجدت أسماء بعضهم على نقود ضربت في أيامهم3. ويظهر من دراسة هذه الأسماء أن بينها أسماء عربية نبطية، مثل: "معنو" وهو "معن"، و"بكرو" وهو "بكر"، و"عبدو" وهو "عبد"، و"سهرو" أو "سحرو" أي: "سهر" أو "سحر"، و"أبجر"، و"مزعور" أو "مذعور"، و"وائل"4. وقد استدل بعض الباحثين من تسمي ملوك "الرها" بأسماء عربية، ولا سيما الملوك الأولين منهم، ومن نص "بلينيوس" على أن كورة Osrhoene هي كورة عربية، ومن الوضع السياسي العام في الجزيرة Mesopotamia في القرن الثاني وما بعده قبل الميلاد، إذ كانت القبائل العربية قد توغلت في هذه المنطقة، استدل من كل ذلك على أن أهل الرها وحكامها كانوا من أصل عربي5.
وقد نسب بعض أهل الأخبار بناء "الرها" إلى رجل سموه "الرهاء بن البلندي بن مالك بن دعر" "ذعر"، أو إلى "الرهاء بن سبند بن مالك بن
__________
1 Rostovtzeff, The Social, Ii, P.842, Poidebared, Texte, P. X, 72, 94, 129, 138, 148, 198.
2 Procopius, I, Xvii, 24
3 Ency., Iii, P.994, Hill, P.Xgv, Xgvi
4 Ency., Iii, P.994
5 Die Araber, I, S. 312(4/272)
دعر بن حجر بن جزيلة بن لخم"1. وذكر "ياقوت" نقلًا عن "يحيى بن جرير النصراني" أن اسم "الرها" هو "أذاسا" في الرومية، وقد بُنيت في السنة السادسة من موت الإسكندر، بناها الملك "سلوقس"2. وقد أخذ "يحيى بن جرير" قوله هذا من كتب سريانية أو يونانية ولا شك, وقد انتزعها المسلمون في سنة "639م" من أيدي الروم3.
ومن آلهة "الرها"، الإلهان: Azizos = Azizus وMonimos، ويرى "موردتمن" Mordtmann أن اسمي هذين الإلهين ليسا إرميين، ولكنهما عربيان أصليان، وأن أحدهما -وهو Azizus- هو عزيز، والآخر -وهو Monimos- هو عربي كذلك، وهم منعم. ودليله على ذلك ورود اسميهما في الكتابات اليونانية التي عثر عليها في "الكورة العربية" Provincia Arabia, وهما في رأيه من آلهة عرب هذه المنطقة، وإن أضافهما بعض الكتاب إلى السريان الوثنيين, والإله "بعل" و"نبو"4.
وللرها شأن خطير في الأدب السرياني والأدب النصراني وتأريخ النسطورية، وقد أزهرت هذه المدينة خاصة في أواسط القرن الرابع وفي القرن الخامس للميلاد5. وتنسب إلى ملكها "أبجر" Abgar رسالة قيل: إنه بعثها إلى "المسيح", ومراسلات مع الحواريين الأولين6.
ويراد بـ"كاليرهو" Kallirrhoe = Callirhoe الموضع الذي يعرف اليوم باسم "بركة إبراهيم"7 "نبع خليل الرحمن"8.
وذكر "بلينيوس" أن سكان "الجزيرة" Mesopotamia
__________
1 البلدان "4/ 340"، البكري، معجم "1/ 425" "طبعة وستنفلد"، الإصطخري "76"، ابن حوقل "154" "ذعر".
2 البلدان "4/ 340".
3 Ency., III, P.996
4 Mordtmann, Mythologische Miscellen, In Zdmg., 32, 1878, S. 564, Hill P.Xgv
5 المشرق، السنة الخامسة عشرة، 1912م، الجزء 3 "ص204".
6 Eusebius, The Ecclesiastical History, I, Xiii, "Kirsopp Lake", "Loeb Classical Library", Vol., I, Pp.85
7 Hill, P.Xgv, Buckingham, Travels In Mesopotamia, 1827, I, Iii, E. Sachau, Reise In Syrien Und Mesopotamien, 1883 S. 196
8 المشرق، السنة الخامسة عشرة، 1912م، الجزء 3 "ص201".(4/273)
Arabes, Qui Praetavi Vocantur عرب, مقرهم Singara، أي سنجار، وهو موضع قديم كان معروفًا في أيام الآشوريين. ويظن أن "تراجان" نزل به في أثناء سيره على الحضر قطيسفون1 Ktesiphon.
أما Emesa = Homesa = Hemesa أي: حمص، فيشبه تأريخها من أوجه عديدة تأريخ مدينة تدمر؛ فقد حكمتها أسرة عربية، وأزهر تأريخها في الزمن الذي أزهرت فيه حكومات المدن الأخرى التي ظهرت على أثر الضعف الذي حل بالسلوقيين. وتقع في السهل الذي يرويه نهر العاصي Orontes وعلى مسافة ميل منه, وعرفت بـEmesa أيضا عند اليونان والرومان2. وفي أيام "بومبيوس" كانت مدينة Arethusa المجاورة لحمص، وهي "الرستن"، مقر أسرة عربية حاكمة3, وفيها ولد القيصر4 Elagabalus. وبلغت أوج ازدهارها في أيام "سبتيموس سفيروس"Septimius Severus وفي أيام Elagabalus وإسكندر سفيروس Alexander Severus، وكانت أسقفية في عهد البيزنطيين.
وقد استدل بعض الباحثين من صُوَرِ أسماء ملوك حمص على أصلهم العربي؛ فالأسماء Sampsigeramus وIamblichus = Jamblichus وAzizus وSoemus هي أسماء تحمل طابعًا عربيًّا خالصًا. وهي أسماء ترد في نصوص صفوية، وفي نصوص عربية أخرى أيضا، مما يحملنا على الذهاب إلى أن ملوك حمص هم عرب كذلك5. فالاسم الأول وهو Sampsigeramus يمكن أن يقرأ "شمس جرم"، والاسم Jamblichus يمكن أن يكون "يملك" أو "جميل" أو ما شابه ذلك، والاسم Azizo هو "عزيزو"، أي "عزيز"، وأما الاسم Soemus، فيمكن أن يكون "سخيم" أو "سهيم" أو ما شاكل ذلك.
__________
1 Pliny., V, Xxi, 86, Vol., Ii, P.286, Sarre Und Ernest Herzfeld, Archeo. Reise, I, S. 203, Ency., Iv, P.435, Lane P.263
2 Ency., Ii, P.309, Berytus, Viii, Fasc., I, 1943, P.54-55, Pauly Emesa
3 "الرستن بفتح أوله وسكون ثانيه وتاء مثناة من فوق وآخره نون، بليدة قديمة كانت على نهر الميماس، وهذا النهر هو اليوم المعروف بالعاصي الذي يمر قدَّام حماة"، البلدان 4/ 249".
4 Ency., II, P.309
5 العرب في سوريا قبل الإسلام، تأليف رينه ديسو، تعريب عبد الحميد الدواخلي، "ص11"، R. Dussaud, 10, Die Araber, III, S. 126(4/274)
وقد كان حكام "حمص" المذكورون كهنة يخدمون هيكل "الشمس"، شأنهم في ذلك شأن سادات القبائل العربية الذين كانوا كهنة يخدمون آلهة القبيلة, ويتحدثون باسمها بين أتباعهم1.
وقد ذكر "أصطيفانوس البيزنطي" أن شيخًا عربيًّا اسمه "مانيكو" Maniko كون مشيخة في Chalcis أي: "قنسرين" من بلاد الشأم2.
وكانت القبائل العربية قد استقرت في هذه المنطقة قبل أيام "أصطيفانوس" بمدة طويلة. وفي "الحيار"، وهي من أعمال قنسرين، اصطدم الغساسنة بالمناذرة في سنة "554" بعد الميلاد؛ فانتصر الغساسنة على خصومهم انتصارًا كبيرًا. ولما استولى الفرس على "قنسرين" وانتزعوها من البيزنطيين، كان للقبائل العربية سلطان واسع في مناطق قنسرين وحلب ومنبج وبالس3.
ويعد "اليطوريون" Ituraean من القبائل العربية البدوية، وهي في التوراة من نسل "إسماعيل"4, وهم من نسل "يطور" بن إسماعيل. وتقع أرضهم بين "اللجاة" Trachonitae والجليل، وتسمى "جدورا"، وتقع في جنوب غربي دمشق, وهي من المناطق التي امتزج فيها العرب ببني إرم5.
وقد توسع اليطوريون فدخلوا لبنان، وسكنوا البقاع Massyas، واستولوا على "بعلبك" Heliopolis، وتوسعوا نحو الغرب حتى هددوا "جبيل" Byblos وبيروت Berytos. وذلك في أيام ملكهم المعروف بـ"بطلميوس" Ptolmaios بن6 Mennaios.
وقد استدل بعض العلماء من حشر التوراة اليطوريين في "الإشماعيليين" ومن اسم Mennaios وهو اسم والد الملك "بطلميوس" الذي عاش في القرن الأول
__________
1 Die Araber, Iii, S.126
2 Rostovtzeff, Vol., Ii, P.482, Poidebard, Texte, P.42, 207
3 Ency., Ii, P.1021
4 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 15، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 31، الإصحاح الخامس، الآية 19، قاموس الكتاب المقدس "2/ 513".
5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 513"، Paulys, 18 Ter Halbband, 2377-2378.
6 Die Araber., I, S. 314(4/275)
قبل الميلاد1، ومن عثورهم على أسماء يطورية في كتابات لاتينية ويونانية تشير إلى أنها أسماء عربية الأصل، استدلوا من هذا كله على أنهم من العرب وإن كانوا قد تأثروا بثقافة بني إرم؛ فقد تأثر بهذه الثقافة أكثر العرب الشماليين2.
ويعلق بعض العلماء أهمية كبيرة على أسماء الأشخاص في إثبات أصولهم. ووجهة نظرهم هذه في الأسماء، هي التي جعلتهم يذهبون إلى أن من ذكرناهم هم عرب في الأصل؛ فإن الطابع الظاهر على أسمائهم هو طابع عربي. وترد تلك الأسماء في الكتابات الصفوية، وأصحابها هم عرب من غير شك، وإن دونوا بقلم نبطي وبلغة نبطية, فالنبط أنفسهم هم عرب، كما أشرت إلى ذلك في مواضع من هذا الكتاب، وكما سأشير إلى ذلك في مواضع تأتي.
إن تدوين أهل الشرق الأدنى لأفكارهم ولما يجول في خاطرهم بلغة بني إرم وقلمهم، جعل من العسير على الباحثين الحكم في أصول الشعوب التي دونت بتلك اللغة, والتي عاشت في الهلال الخصيب. ويدفعنا هذا التدوين إلى وجوب اتخاذ موقف حذر ومتأنٍّ في إبداء آراء قطعية في أصول من ذكرنا، فنظرية الحكم على أصول الناس استنادًا إلى أسمائهم وإن بدت أنها نظرية معقولة مقبولة، لكنها مع ذلك غير علمية؛ فأكثر أسماء المسلمين في هذا اليوم هي أسماء عربية خالصة، ما في ذلك شك، فهل يجوز لنا أن نستنبط من هذه الأسماء بأن حملتها هم من أصل عربي؟ ثم إن علينا أن نتذكر أن أسماء القبائل والأشخاص عند الشعوب السامية هي متقاربة ومتشابهة، وهي واحدة في كثير من الأحايين، بل إن علينا أن نتذكر أن ثقافة تلك الشعوب وآراءها متقاربة، ويعني هذا أن من الواجب علينا ألا نتسرع فنحكم بأن ذلك مأخوذ من هذا الشعب أو من تلك الشعوب، وأن ذلك الشعب أو هذا هو الأصل. فمسألة تشابه الأسماء وتقارنها في النطق، لا يمكن أن تكون في نظري ميزانًا توزن به أصول الناس, وهل يعقل أن يكون الأعاجم المسلمون عربًا؛ لأن أسماءهم عربية، أو أن زنوج الولايات المتحدة هم من أصل أوروبي؛ لأن أسماءهم أوروبية؟.
__________
1 كان يهدد مدينة "دمشق" سنة 83-84 قبل الميلاد، Die Araber, I, S. 314.
2 العرب في سورية قبل الإسلام، رينه ديسو "ص11 وما بعدها"، Die Araber, I, S. 315(4/276)
ويتصل الحديث عن هذه الإمارات بالحديث عن "تدمر" المدينة المعروفة بـ"بالميرا" Palmyra عند الغربيين الذين ورثوا هذه التسمية من الإغريق واللاتين, وهي "تدمر أمورو" في كتابات "تغلات فلاصر الأول" "تغلث فلاسر" "تغلت فلاسر"1 في رأي بعض الباحثين2. وسأتكلم عنها بعد حين.
__________
1 "تغلث فلاسر"، قاموس الكتاب المقدس "1/ 288".
2 Ency., Iii, P.1020, Syria, Revue D.htm'art Oriental Et A'archeologie, Tome Vii, Paris, 1926, P.77, Dhorme, Palmyre Dans Les Textes Assyriens, In Revue Biblique, 1924, Pp.106, Ency., Brita., Vol., 17, P.161, Hommel, In Zdmg., Xliv, 547(4/277)
الفصل الثالث والثلاثون: ساسانيون وبيزنطيون
حدث تطور خطير في الشرق الأدنى بعد الميلاد؛ فقد زالت حكومة "البارثيين" "الفرث" "البرث" The Parthians، في حوالي سنة "226ب. م."، وحلت محلها حكومة عرفت بحكومة "الساسانيين". وهي حكومة نبعت من ثورة على الحكومة السابقة، تولى كبرها ملوك أقوياء أظهروا حزمًا وشدة جعلت الروم يهابونهم، ويرون أنهم مكافئون لهم في القوة، ولم يكن الروم ينظرون إلى "الفرث" بهذه النظرة من قبل1.
وحدث تطور مشابه في إمبراطورية "روما"، فقد انقسمت الإمبراطورية إلى قسمين، وصارت "القسطنطينية" عاصمة للجزء الشرقي، الذي كون الإمبراطورية "البيزنطية"، وذلك في سنة "330م"، وتولت هذه الإمبراطورية إرث النزاع مع الفرس، النزاع الموروث من الإسكندر، وأصبحت بحكم وجودها في بلاد الشأم وفي مصر على اتصال بالعرب في البر وفي البحر.
وكان لا بد للساسانيين والبيزنطيين من التعامل مع العرب، ومن استرضائهم، ووضع حساب لهم. فقد كانت لكل من الإمبراطوريتين حدود واسعة طويلة معهم كما كان في كل من الإمبراطوريتين قبائل ذات شأن نازلة في أرضها في مناطق
__________
1 J. B. Bury, History Of The Later Roman Empire, Vol., I, P.90
وسيكون رمزه: Bury(4/278)
حساسة هي حافات الحدود. وأما البادية: بادية الشأم التي تملأ الهلال الخصيب، فقد كانت مملوءة بقبائل عربية تعرف عند الروم باسم Saracens وScenites، وتعني الكلمة الأخيرة سكان الخيام، أو أهل الخيام، وهي كما قال أحد المؤرخين "الكلاسيكيين" في تنقل مستمر وحركة دائمة من مكان إلى مكان1؛ إذا وجدت أرضًا خصبة عاشت عليها، وإلا كسبت معيشتها بالغزو, تغير على أرض الفرس أو الروم، فإذا جابهتها قوة، تقهقرت إلى البادية حيث يعسر على غير الأعراب ولوجها لتأديبهم. ولهذا لم يكن أمام الحكومات الكبيرة إلا استرضاء تلك القبائل؛ لصيانة حدودها وللاستفادة منها في إلقاء الرعب في قلوب الأعداء والخصوم2.
وسلك البيزنطيون السياسة التي سلكها حكام "روما" من قبلهم، وهي سياسة التقرب إلى سادة "أكسوم"، وعقد اتفاقيات ود وصداقة معهم؛ لضمان مصالحهم وللضغط على حكام السواحل العربية المقابلة لهم, لجلبهم إلى جانبهم ولمنعهم من التحرش بسفنهم وبتجارهم الذين كانوا يرتادون البحار إلى الهند والسواحل الإفريقية ويقيمون في مواضع من السواحل والجزر على شكل جاليات، كما هي الحال في جزيرة "سقطرى". وقد نجحت سياستهم هذه نجاحًا أدى إلى غزو الجيش لليمن بتحريض من الروم فيما بعد.
وسلكوا سياسة حكام "روما" أيضا في تقوية حدود بلاد الشأم وضمان سلامتها من غارات الأعراب أو الفرس عليها، ببناء سلسلة من الاستحكامات في البوادي وفي مفارق الطرق المؤدية إلى تلك البلاد، وبتقوية "خطة ديوقليطيان" Diocletian الدفاعية الشهيرة التي وضعها، بالدفاع عن الحدود من مصر إلى نهاية الفرات, وفي جملتها تحصين مدينة "تدمر" قلب الدفاع، والمواقع العسكرية الأخرى المقامة في البادية؛ لتكون الموانع الأولى للأعراب من مهاجمة بلاد الشأم، والرادع الذي يردعهم عن التفكير في الغزو3.
وفي جملة ما اتخذه البيزنطيون من وسائل التأثير في الشرقيين، وفي جملتهم
__________
1 Ammianus Marcellinus, Rerum Gestarum, Bk., Xiv, 4, I
2 Bury, I, P.95
3 John Malalas, Xii, P.308, Bury, I, P.96, Arabien, S. 23(4/279)
العرب، نشر النصرانية، الديانة التي قبلوها ودانوا بها، واتخذوها ديانة رسمية للدولة. وفي نشر النصرانية تقوية لنفوذهم، وسند لسياستهم في نزاعهم مع الساسانيين؛ ولهذا نراهم يشجعون إرسال البعثات التبشيرية والإرساليات الدينية إلى إفريقيا وإلى بلاد العرب وإلى الهند، وينفقون بسخاء لبناء الكنائس في تلك الأرضين, يرسلون الخشب النفيس اللازم للبناء، و"الفسيفساء" التي امتازوا بصنعها، والعمال الروم المهرة في البناء؛ ليبنوا كنائس فخمة جميلة تبهر العيون, وتقر الأفئدة، وتؤثر في العقول, فتجلب إليها الناس وتستهويهم، وهناك يتلقاهم المبشرون الذين أوفدوا للتبشير، بتلقينهم النصرانية والإخلاص لإخوانهم في الدين, وفي طليعتهم الروم بالطبع، وفي ذلك كسب سياسي عظيم. وبذلك صارت "الكنائس" دورًا لعبادة الله، ودورًا للتبشير السياسي والثقافي، ومركزًا من مراكز الاستعلامات والتبادل الثقافي في مصطلح هذا الزمن.
وتمكنت النصرانية من كسب بعض العرب، فجرَّتهم إليها. جذبت إليها القبائل الساكنة على حدود الأرياف والأطراف، أي: سكان المناطق الحساسة الدقيقة بالنسبة إلى الخطط السياسية والعسكرية للساسانيين وللبيزنطيين على حد سواء. وقد كان من سوء المصادفات أن النصرانية كانت قد تجزأت إلى شِيَعٍ، وأن غالبية النصارى العرب تمذهبت بمذهب يخالف مذهب الروم، ولكنها كانت تشعر على كل حال أنها مع الروم على دين واحد؛ ولهذا لم يحفل ساسة "القسطنطينية" كثيرًا بموضوع اختلاف المذهب، وإن تألموا من وجوده وظهوره، فساعدوا نصارى اليمن ونصارى الأماكن الأخرى من جزيرة العرب على اختلافهم عنهم، وعملوا في الوقت نفسه على نشر مذهبهم بين العرب؛ ليتمكنوا بذلك من إيجاد محيط ثقافي سياسي يؤيد البيزنطيين.
وعني الساسانيون بتقوية حدودهم مع البادية كما فعل البيزنطيون، وكما فعل "الفرث" وغيرهم ممن حكم قبلهم, وسعوا في استرضاء سادات القبائل وأصحاب السلطان من حكام البوادي، وبنوا "المسالح" في المشارف المؤدية إلى أرياف العراق لحمايتها من الغزو، ولتقوم بتأديب الأعراب ومراقبة حركاتهم وتجمعاتهم؛ لتكون الحكومة على علم بما يريدون فعله، ووضعوا في الخليج سفنًا لحماية سفنهم من التحرش بها، ولحماية حدودهم الجنوبية الواقعة على الخليج من التعرض للغزو, وأقام "أردشير الأول" "225-241م" عدة موانئ بحرية ونهرية لهذا الغرض.(4/280)
وتقابل هذه "المسالح" ما يقال له "المناظر" في عربيتنا, بالنسبة إلى حماية بلاد الشأم. فقد كان اليونان والرومان ثم البيزنطيون قد أقاموا خطوطًا Limes من التحصينات أسكنوا بها حاميات ألقوا عليها مهمة الدفاع عن الحدود, وهي تتكون من قلاع Castella ومن حصون "أبراج" Burgi ومن Centenaria وTurres. وخطوط التحصينات هذه، هي "المناظر" عند العرب و"المسالح" بالنسبة لخطوط دفاع الفرس, وواجبها حماية ما يليها من تحصينات أخرى وحاميات أقيمت على "الخنادق" في الإمبراطورية الساسانية، أو ما يقال له Fossatum عند الروم, فهي الخطوط الأولى من خطوط الدفاع. أما الذين يقومون بحراستها وبالدفاع عنها، فإنهم لا يتقاضون أجرًا، أي: رواتب على عملهم؛ لأنهم Limitanei كما يقال لهم في اليونانية, ومعاشهم مما يزرعونه بأنفسهم، أو يدفع لهم من غلات الفلاحين الذين يعفون من دفع ما عليهم من استحقاق للدولة, أي ما نسميه بضرائب Capitatio. وينتخب هؤلاء من السكان المحليين؛ ليكون من السهل عليهم السكن في هذه المواضع البعيدة, وعليهم مشرفون من الفرس أو الروم لتوجيههم ولقيادتهم في أثناء وقوع غزو أو تحرش قبائل بهذه الخطوط1.
وشجع الساسانيون مذهب "نسطور" مع أنهم كانوا مجوسًا، ولم يكونوا نصارى. شجعوه؛ لأنه مذهب يعارض مذهب الروم، فانتشر في العراق وفي إيران وفي سائر الأرضين الخاضعة للحكم الساساني, ودخل في هذا المذهب أكثر النصارى العرب في العراق. ومن يدري, فلعلهم أسهموا من طرف خفي في توسيع الشقة بين هذا المذهب ومذهب الروم, ولإلقاء العداوة بين هؤلاء النصارى والروم.
كانت بادية الشأم ميدانًا للقبائل، تتصارع فيه كيف تشاء, تبرز فيه قبيلة ثم ينطفئ اسمها، لتظهر قبيلة أخرى. ولم يكن ذلك ليهم الدول الكبرى، ما دام ذلك الصراع في مواضع بعيدة عن حدودها، فإذا بلغ الحد، اضطرت تلك الدول إلى الوقوف بحزم وصرامة أمامه، إذا كانت تملك الحزم والقوة.
__________
1 DIE ARABER, II, S. 350, ALTHEIM – STIEHL, FINANYGESCHICHTE DER SPATANTIKE, 31. FF., 117,. F., 162, F(4/281)
ولصعوبة قيام جيوشها النظامية بتعقب القبائل المغيرة وملاحقتها في البادية، عمدت إلى استرضاء سادات القبائل الكبيرة ذات العدد الكبير، بالهدايا والمنح المالية المغرية وبالامتيازات وبالألقاب للقيام بحراسة الحدود ومراقبتها، وبتعقب القبائل التي قد تتجاسر فتغزو الحدود، منتهزة مواطن الضعف والثغرات. فالتجأ الساسانيون إلى عرب "الحيرة"، والتجأ البيزنطيون إلى الضجاعمة وإلى أهل تدمر والغساسنة فيما بعد؛ للقيام بهذه المهمة.
ولم تكن مهمة حفظ الحدود مهمة سهلة هينة، حتى على أهل البادية أنفسهم، فمنطق القبائل: إن القبيلة إذا كانت قوية ذات بأس، وشعرت بقوتها، جاز لها أن تطلب لنفسها ما تشاء وأن تغزو من تشاء كائنًا من كان. وطالما صار من توكل إليه حراسة الحدود نفسه هدفًا للغزو؛ لأنه لم يطعم الغازين، ولم يقدم لهم ما يرضيهم من ترضيات وأعطيات، أو لأن الغازين رأوا في قرارة أنفسهم أنهم أحق بحماية الحدود من الذين يقومون بحمايتها في هذا الزمن؛ ولهذا يرون وجوب انتزاعها منهم بالقوة، كما انتزعها هؤلاء القائمون بالحماية ممن سلفهم؛ فلا يكون أمام الدول الكبرى غير الموافقة والتسليم، ودفع الجعالات التي كانوا يدفعونها إلى الحرس القديم، وإلى الحرس الجدد الذين أظهروا قوة فاقت قوة القدماء في ميدان التنافس والقتال, وما الذي يهم الدول الكبرى في مثل هذه المواقف غير حماية الحدود.
ومع رغبة الدول الكبرى في التعامل جهد الإمكان مع أصحابهم القدماء الذين اطمأنوا إليهم، فأوكلوا لهم حراسة حدودهم، وكانوا يهددون ذلك الحرس بجعل حراستهم إلى خصومهم ومنافسيهم إذا ما شعروا بسوء نيتهم أو طمعهم أو إلحافهم في زيادة الجعالات، أو بضعف أو تهاون في الدفاع عن الحدود وفي إنزال القصاص بالمغيرين. وقد يوكلون الحراسة في الحالات الشاذة إلى قوادهم الأشداء؛ لتعقب المغيرين، وإنزال ضربات شديدة بهم، إلى أن يتفقوا مع حارس جديد أو أن يتفق أهل الحارس القديم على اختيار شخص جديد كما في حالات وفاة أحد رؤساء آل نصر أو آل غسان.
وليس من الصعب بالطبع على حماة الحدود إدراك الأدوار الخطيرة التي يقومون بها، والخدمات الكبيرة التي كانوا يؤدونها للدولة التي يتولون حماية حدودها وضبطها من غارات الأعراب عليها؛ ولهذا صاروا يتحينون الفرص السانحة والظروف(4/282)
المواتية لإرغام الدولة على رفع جعالاتهم ولزيادة امتيازاتهم، وإلا أضربوا عن الحراسة، وأثاروا الأعراب عليهم، وهاجموا هم أنفسهم تلك الحدود حتى تجاب مطالبهم أو يسترضوا، وعندئذٍ يقبلون بالعودة إلى عملهم. وفي تواريخ المناذرة والغساسنة، أمثلة عديدة من أمثلة خروج أمراء هاتين الحكومتين على الساسانيين والبيزنطيين؛ لعدم تلبية مطالبهم في زيادة الجعالات وفي الحصول على امتيازات جديدة تزيد على امتيازاتهم السابقة الممنوحة لهم.
وكان من نتائج العداء الموروث بين الساسانيين والبيزنطيين أن انتقلت عدواه إلى العرب أيضا، فصار أناس منهم مع الفرس، وآخرون مع الروم، وبين العربين عداوة وبغضاء، مع أنهما من جنس واحد وكلاهما غريب عن الساسانيين والبيزنطيين. وقد تجسمت هذه العداوة في غزو عرب الحيرة للغساسنة، وفي غزو الغساسنة لأهل الحيرة، حتى في الأيام التي لم يكن فيها قتال بين الفرس والروم؛ مما أدى أحيانًا إلى تكدير صفو السلم الذي كان بين البيزنطيين والساسانيين، وتجسمت في شعر المدح والهجاء الذي نجده في حق آل نصر أو آل لخم، من الشعراء الذين وجدوا في هذه البغضاء متسعًا لهم ومفرجًا في الرزق؛ فصار بعضهم يساوم في أجور المدح وفي أجور الذم.
وقد انتهت حدود الأرضين التي خضعت لحكم البيزنطيين أو سلطانهم عند حدود "المقاطعة العربية" الجنوبية، فلم تتجاوزها إلى ظهور الإسلام. ولعل محاولة "أبرهة" الاستيلاء على "مكة" كانت خطة سياسية عسكرية من خطط البيزنطيين, كانت ترمي إلى الاستيلاء على الشقة التي بقيت تفصل بين الروم والحكم الحبشي في اليمن، فيبسط بذلك البيزنطيون سلطانهم السياسي على العربية الغربية كلها, وعلى قسم كبير من العربية الجنوبية، ومن يدري, فلعلهم كانوا يبغون من بعد ذلك احتلال العربية الجنوبية كلها، لغرض سيطرتهم على أهم جزء من خطوط الملاحة البحرية العالمية المؤدية إلى الهند والسواحل الإفريقية.
أما فيما عدا ذلك من جزيرة العرب، فلم يكن للبيزنطيين سلطان سياسي أو تدخل فعلي؛ ولهذا انفردت فعالياتهم السياسية والعسكرية مع العرب النازلين في الأرضين التي خضعت لحكمهم ولسلطانهم، ومع عرب بادية الشأم وعرب العراق.(4/283)
ولا نعلم أن ملوك الروم كانوا يرسلون قوافل تجارية خاصة بهم؛ لتتاجر مع جزيرة العرب، أو أن حكام مقاطعاتهم في بلاد الشأم كانوا يتاجرون باسم حكومتهم أو بأسمائهم مع بلاد العرب. وكل ما نعرفه هو أن التجار العرب كانوا هم الذين يرسلون القوافل إلى بلاد الشأم, فكانت إذا دخلت مناطق الحدود، تؤدي ضرائب المرور و"المكس" إلى رجال "مصلحة الضرائب" التابعين للروم؛ وعندئذٍ يسمح لهم أن يذهبوا إلى الأسواق لبيع ما يحملونه وشراء ما يحتاجون إليه. وكانت "بصرى" حاضرة "المقاطعة العربية"، هي السوق الرئيسية للتجار العرب، ومنتهى قوافلهم في الغالب, فكانت علاقة أهل الحجاز، ولا سيما أهل مكة، بالروم علاقة اقتصادية. وعلى هذه العلاقة كانت تتوقف العلاقات السياسية في غالب الأحيان؛ فقد كان الروم يزيدون الضرائب أحيانًا، ويتعسفون في الجباية، فيتضرر بذلك التجار العرب، فكانوا يشتكون ويراجعون حكام المقاطعات، وقد يرفعون إلى كبار القادة والحكام التماسًا، أو يرسلون إلى عاهل القسطنطينية رسلًا، كما تقول بعض روايات أهل الأخبار؛ للتوسل برفع هذه المظالم عنهم ولتخفيض الضرائب، وتنتهي مثل هذه الشكايات بترضيات يراد بها أن تكون ترضيات سياسية، لتوجيه عرب الحجاز ضد الفرس، أو لفتح المجال لتجار الروم بالمرور من الحجاز إلى الجنوب، أو للضغط على التجار لمنع القبائل من التجاوز على حدود الروم, إلى ما شاكل ذلك من أمور.
أما ملوك الساسانيين، فقد كانوا يتاجرون مع العرب، يشترون منهم ويبيعونهم ويرسلون القوافل بأسمائهم إلى العربية الجنوبية؛ لبيع ما تحمله في أسواقها، ولشراء سلع العربية الجنوبية يحملونها إلى أسواق العراق. وقد كانوا يوكلون حراستها إلى جماعة يختارونها من سادات القبائل المهيبين المعروفين، بُجْعلٍ يدفعونه لها، وسأتحدث عن ذلك فيما بعد. ولا أستبعد أن يكون بين تلك القوافل، قوافل حملت ما كان يرسله الأكاسرة إلى عمالهم في اليمن بعد استيلائهم عليها من مؤن وبضائع؛ لتعود بما يفضل من الجباية التي يجبيها مرازبتهم على اليمن، لتكون حصتهم وحصة الخزينة من مال اليمن.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن جماعة من أهل مكة قد تخصصت بالاتجار مع العراق, وقد كان لها تعامل مع كسرى وربما مع كبار رجال دولته أيضًا من أولئك الذين اقتدوا بملوكهم في الاشتغال بالتجارة وبالنزول إلى الأسواق. فإنا(4/284)
نجد أناسًا من كبار تجار مكة كانوا يفدون على المدائن، ويتصلون بديوان كسرى، ويتعاملون هناك بيعًا وشراءً, وكانت لهم دالة على ملك المدائن، وربما كان يساعدهم هو نفسه في مال القوافل، أو يُجعَل له نصيب من الأرباح.
أما حدود الدولة الساسانية مع البلاد العربية، فلم تكن ثابتة، بل كانت تتبدل وتتغير بحسب الظروف والأحوال. فقد كانت تتوسع أحيانا، وتتراجع وتتقلص أحيانا أخرى, وكان الساسانيون يتقدمون نحو الجنوب في اتجاه "العروض" وبقية الأقسام الشرقية من جزيرة العرب حين تكون لهم قوة بحرية كافية، وكانوا ينسحبون منها حين تضعف هذه القوة، وحين تلهيهم الأحداث الداخلية وحروبهم مع الروم عن التفكير في الجنوب. وقد كان العرب في عهد الساسانيين وقبله قد استوطنوا السواحل الجنوبية من إيران، وهيمنوا عليها، وكان لقبائلهم أثر خطير هناك, ولا سيما قبل أن تكون الدولة الساسانية, إذ وجدوا في انشغال الدولة إذ ذاك في المنازعات الداخلية فرصة ملائمة لهم، فبسطوا سلطانهم على مناطقهم مثل "كرمان" Karmania وغيرها1؛ ولهذا كان أول ما فعله مؤسس الدولة الساسانية "أردشير الأول" "224-240م"، "225-241م" "226-241م" أن حارب عرب هذه الأرضين ليخضعهم إلى حكمه، في جملة سياسته التي قررها، وهي القضاء على الإقطاع وعلى الإمارات التي تعددت في هذا العهد نتيجة ضعف الحكومة.
فورد أن "أردشير" سار بعد أن تغلب على خصومه في إيران، لقتال ملك "الأهواز"، فغلبه في معركة حاسمة، واستولى على ولايته، ثم سار نحو "ميسان"، وكان حاكمها عربيًّا، فاستولى عليها2، وبذلك خضع له العرب الساكنون في المناطق الجنوبية من بلاد إيران.
وذكر "حمزة الأصفهاني" أن "أردشير" ابتنى مدينة بالبحرين سماها "بتن أردشير"، "وإنما سماها بتن أردشير؛ لأنه بنى سورها على جثث أهلها، لأنهم فارقوا طاعته، وعصوا أمره، فجعل سافًا من السور لبنًا، وسافًا جثثًا؛ فلذلك
__________
1 Die Araber, I, S. 38
2 أرثر كريستينسن، تعريب يحيى الخشاب والدكتور عبد الوهاب عزام، إيران، القاهرة 1957م "ص75".(4/285)
سماها أردشير"1. ويفهم من هذه الرواية الفارسية التي لا تخلو من الخيال أن أردشير كان قد استولى على البحرين. وقد ورد أن "أردشير" كان قد أنشأ عدة موانئ على الأنهار وعلى البحار2، بعد أن قضى على مقاومة القبائل العربية النازلة في المناطق الجنوبية من إيران، وعندئذٍ صار من الميسور له ركوب البحر والاستيلاء على البحرين وعلى الأرضين العربية الأخرى من جزيرة العرب. ولهذا نص بعض الكتبة "الكلاسيك" على أن ساحل عمان Oman كان تابعًا للفرس يومئذ، أي: لحكم "أردشير"3.
وذكر الطبري أن "أردشير" بنى بالبحرين مدينة سماها "فنياذ أردشير" وقال: إنها مدينة "الخط"4.
ويفهم من تأريخ "الطبري" أن "عمرو بن عدي"، وهو أول ملك من ملوك الحيرة، كان "مستبدًّا بأمره، يغزو المغازي، ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأول، لا يدين لملوك الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس"5، ولم يشرح "الطبري" صلته بـ"أردشير". ولكن الذي يتعمق في دراسة معنى هذه العبارة يخرج منها بأن أردشير فرض سلطانه عليه، وأنه أطاعه، فلم يعد يغزو المغازي، ويصيب الغنائم كما كان يفعل أيام ملوك الطوائف.
أما "سابور الأول" "241-272م"6، وهو ابن الملك "أردشير" مؤسس الدولة الساسانية، فقد ذكر أنه تلقن درسا مهما في السلوك من "أذينة" ملك تدمر، إذ يقولون: إنه لما تمكن من القيصر "فالريان" "فالريانوس"7 Valerian وأسره وانتصر على جيشه انتصارًا كبيرًا، تملكه الغرور والعجب،
__________
1 تأريخ سني ملوك الأرض والأنبياء "ص34".
2 العرب والملاحة "ص91".
3 Die Araber, I. S. 37, 41, 56, 61, 109, 343
4 الطبري "2/ 41"، "طبعة دار المعارف بمصر".
5 الطبري "1/ 627" "دار المعارف".
6 "240-272م"، في بعض المراجع،
Ency., Vol., 4, P.178, Die Araber, II, S. 67.
7 "أولارينوس"، مختصر تأريخ الدول، لابن العبري "ص128" "بيروت 1890".(4/286)
وصار يشعر أنه ملك الدنيا، فلما أرسل إليه "أذينة" رسالة مع هدايا تحملها قافلة كبيرة من الجمال، وصلت إليه في أثناء عودته منتصرًا، تملكه العجب من تجاسر "أذينة" على مخاطبته بلهجة ليس فيها كثير من التعظيم والتفخيم والاحترام، وهو "ملك الملوك" و"أذينة" رئيس موضع في البادية، فأخذته العزة وأمر برمي هداياه في "الفرات" قائلًا: "ومن هو أذينة Odenathus هذا؟ ومن أي أرض هو حتى يوجه هذه الرسالة إلى سيده؟ فليأتِ حالًا إذا أراد أن يخفف من العقاب الذي سينزل به، وليسجد أمامي بعد أن توثق يداه إلى ظهره! ". فلما سمع "أذينة" بهذه الإهانة، جمع ما عنده من قوة، وأسرع فباغت الساسانيين مباغتة أفزعتهم، فوقع الرعب فيهم، حتى تركوا له أكثر ما حصلوا عليه من غنائم من حربهم مع الرومان، وفقدوا بعض زوجات الملك، إذ وقعن أسرى في أيدي قوات "أذينة". ولم يكتفِ ملك "تدمر" بهذا الانتقام، بل أسرع في سنة "263م" فهاجم الجزيرة، فانتصر على "سابور"، ثم حاصر عاصمته "طيفسون"1.
وقد استمر الساسانيون في محاربة "أذينة" رجاء التغلب عليه والانتقام منه إلى سنة "265م" من غير جدوى، إذ قتل "أذينة" دون أن يتمكن "سابور" من أخذ الثأر منه2.
ولما تغير الزمن، واتبعت "الزباء" سياسة معادية للرومان، وحاصرها "أورليان" Aurelian, اتصلت بالساسانيين رجاء الحصول منهم على مساعدة عسكرية؛ لتتخلص بها منهم، إلا أن الملك "بهرام" لم ينجدها؛ فسقطت أسيرة في أيدي الرومان سنة "272م"، وأخذ نجم المدينة المهمة التي اتخذها "هادريان" Hadrian قاعدة عسكرية لحماية حدود بلاد الشأم من المغيرين، في الأفول منذ ذلك الحين. وكان تقاعس "بهرام" عن مساعدة "الزباء" من ضعف سياسة ذلك الملك، الذي لم يكن ذا همة في إدارة الملك3.
__________
1 Sir Percy Sykes, A History Of Persia, Vol., I. P.402.
2 أرثر كريستينسن، إيران في عهد الساسانيين "ص213 فما بعدها"، Ency., Vol., 4, P.312, Pauly-Wissowa, 2, II, Reihe, I, 2328, 2331
3 إيران في عهد الساسانيين "ص215"، Sykes, History Of Persia, Vol., I, P.207(4/287)
ولا نعلم شيئًا يذكر بعدئذ عن صلات الفرس الساسانيين بالعرب منذ عهد "بهرام الأول" إلى عهد "سابور الثاني" "310-379م"، فالموارد صامتة لا تتحدث عنها بأي حديث، إلى عهد هذا الملك، وإنما هي تتحدث عن غارات قاسية أغارها هذا الملك على العرب في المنطقة العربية من إيران وفي الخليج العربي وفي العراق.
ويحدثنا "المسعودي"، أن "سابور بن هرمز" المعروف بـ"سابور ذي الأكتاف" "310-379م"، كان قد أوقع في العرب موقعة عظيمة؛ وذلك لأن القبائل العربية وفي طليعتها قبيلة "إياد"، كانت قد غلبت على سواد العراق، وأطبقت على البلاد؛ ولذلك قيل لها "طبق" في أيام ملكها "الحارث بن الأغر الإيادي"، وكانت تصيف بالجزيرة وتشتو بالعراق، فلما كبر "سابور" وأخذ أمور الملك بيده من مستشاريه ووزرائه، إذ جاء الملك إليه بوفاة أبيه وكان في بطن أمه، أراد الانتقام من إياد، وإخضاعها للساسانيين كما كانت من قبل، فأرسل سراياه نحوها، وكان في حبسه رجل من إياد اسمه "لقيط"، سمع بعزم سابور فأرسل إليها شعرًا ينذرها به، ولكنها لم تحفل بإنذاره، ففاجأتها جيوشه، وأوقعت بهم، فما أفلت منهم إلا نفر لحقوا بأرض الروم، وخلع بعد ذلك أكتاف العرب، فسمي سابور ذا الأكتاف1.
ويفهم من البيت الأول من شعر لقيط، وهو قوله:
سلام في الصحيفة من لقيط ... على من في الجزيرة من إياد2
أن إياد كانت قد استبدت في أرض الجزيرة وعصت الفرس هناك, وكانت قد استوطنت منذ أمد فيها؛ ولذلك حذرها "كسرى".
وإذا كان هذا البيت الذي نسب إلى "علي بن أبي طالب":
لقريب من الهلاك كما أهـ ... ـلك سابور بالسواد إيادا
__________
1 مروج الذهب "1/ 215 وما بعدها".
2 الأغاني "20/ 24"، الآمدي، المؤتلف "ص175".(4/288)
حقًّا وصحيحًا، فإن قوله هذا يكون أقدم مورد جاء فيه خبر إيقاع "سابور" بإياد1.
وفي خبر "المسعودي" وَهْمٌ وتسرعٌ؛ فإن الذي حارب إياد وأنزل بهم خسائر فادحة، لم يكن "سابور ذا الأكتاف"، بل كان "كسرى أنو شروان"، أو "كسرى بن هرمز"، وإن "كسرى" هذا أرسل جيشًا ضدهم، وضعه بقيادة "مالك بن حارثة" ومعه قوم من "بكر بن وائل" فأرسل عندئذ "لقيط" إليهم إنذاره فلم يحفلوا به، فوقعت بهم خسائر كبيرة في "الحرجية"، وفر قسم كبير منهم إلى بلاد الشأم2.
وينسب بعض الرواة الشعر المذكور إلى "عمرو بن جدي"، ويرجع جماعة من الرواة أيام "لقيط بن معمر" إلى أيام "كسرى أنو شروان" "الأول". وفي القولين دلالة على أن الأبيات الشعرية التحذيرية لا يمكن أن تكون قد أرسلت في أيام "سابور" المذكور، بل في أيام ملك آخر حكم بعده بسنين3.
وفي رواية أخرى أن "سابور" سار في البلاد حتى أتى بلاد البحرين، وفيها يومئذ بنو تميم، فأمعن في قتلهم, ففر من قدر منهم على الفرار، فأراد اللحاق بهم، ولكن "عمرو بن تميم بن مر" وهو سيد تميم يومئذ، وكان قد بلغ ما بلغ، تحدث إليه حديثًا لطيفًا أقنعه بالكف عمن بقي، فتركهم وشأنهم4.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن السبب الذي دعا بـ"سابور" إلى الفتك بالعرب، هو أن القبائل العربية كانت قد توغلت في جنوب إيران، وصار لها سلطان كبير هناك، وتزايد عددها، ثم صارت تتدخل في الأمور الداخلية للدولة الساسانية. فلما أخذ الأمور بيديه، بدأ يضرب هذه القبائل؛ للقضاء على سلطانها ثم قطع البحر، فورد "الخط"، فقتل من بلاد البحرين خلقًا كبيرًا، وأفشى القتل في "هَجَر"، وكان بها ناس من أعراب تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، ثم عطف على بلاد عبد القيس فأباد أهلها، إلا من هرب منهم فلحق
__________
1 ENCY., VOL., 4, P.315
2 ENCY., II, P.565
3 DIE ARABER, III, S. III
4 مروج الذهب "1/ 217".(4/289)
بالرمال، ثم أتى اليمامة فقتل بها كثيرًا أيضًا، وسار على خطة طمّ المياه وردم الآبار؛ ليحرم الناس الانتفاع بها, ثم سار حتى بلغ قرب "المدينة"، فقتل من وجد هناك من العرب، وأسر. ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب فيما بين مملكة فارس و"مناظر الروم" بأرض الشأم، ففعل بها ما فعله في الأرضين الأخرى، وأسكن من كان من بني تغلب من البحرين "دارين" واسمها "هيج" و"الخط"، ومن كان من عبد القيس وطوائف من بني تميم "هجر"، ومن كان من بكر بن وائل "كرمان" وهم الذين يدعون "بكر بن أبان"، ومن كان من بني حنظلة بـ"الرميلة" من بلاد الأهواز1.
فحملة "سابور" على البحرين وساحل الخليج، إنما هي جزء من الحملة العسكرية التي وضعها ذلك الملك للقضاء على نفوذ القبائل العربية التي كانت قد سكنت السواحل الجنوبية من إيران, وأقامت بها قبل أيامه بزمن. والظاهر أنها انتهزت فرصة ضعف الدولة الساسانية، وتناحر الرؤساء ورجال الجيش على السلطة فأخذت تزحف نحو الشمال وتقوي سلطانها في الأرضين الجنوبية من المملكة, فلما انتقل الحكم إلى "سابور" وكان من سياسته إعادة السلطة المركزية للدولة والقضاء على الإقطاعيين وعلى منازعي الحكومة، حمل على عرب إيران حملة شديدة عنيفة حتى أخضعهم، ثم نزل نحو الجنوب فعبرت جيوشه إلى جزر البحرين والسواحل العربية المقابلة؛ فأوقع بالعرب وآذاهم على نحو ما نجد وصفه في كتب أهل الأخبار.
وقد كان نزوح العرب إلى إيران عن طريق البحر، حيث زحف أهل ساحل الخليج من الخط والبحرين وكاظمة وعمان، إلى السواحل المقابلة: السواحل الجنوبية من أرض الفرس. كما نزحوا إليها من مملكة "ميسان" Mesene، فتوغلوا شرقا إلى "عيلام" Elam، أي: "خوزستان" ثم الأقسام الجنوبية من فارس. ويفهم مما كتبه "كورتيوس روفوس" Curtius Rufus، الذي عاش في العشرات الأولى من القرن الثالث للميلاد، أن العرب كانوا إذ ذاك في "كرمان" وفي "فارس"2. ولا بد وأن يكون وجودهم في هذه الأماكن قبل هذا العهد
__________
1 الطبري "2/ 67"، "2/ 57"، "دار المعارف".
2 Curtius Rufus, I, 36-39, Die Araber, II, S. 345, 349(4/290)
بأمد طويل. وذلك مما يؤيد ما جاء في تأريخ "الطبري" وغيره من وجود العرب في إيران قبل قيام حكومة الساسانيين.
وقد أنشأ "سابور" أسطولًا قويًّا في الخليج العربي؛ ليحافظ على حدود إمبراطوريته، وعلى التجارة في هذا الماء، مع مساهمة أهل الخليج العرب أنفسهم في ركوب البحر وفي نقل التجارة ما بين الهند وسيلان وجزيرة العرب والعراق. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن "سابور" نفسه كان في الأسطول الذي وصل إلى البحرين للانتقام من العرب الذين كانوا يهاجمون سواحل حكومته الجنوبية المطلة على الخليج1.
وفي رواية أخرى نقلها "الطبري" من مورد آخر غير مورد ابن الكلبي: أن سابور، بعد أن أثخن في العرب وأجلاهم عن النواحي التي صاروا إليها، مما قرب من نواحي فارس والبحرين واليمامة، استصلح العرب، وأسكن بعض قبائل تغلب وعبد القيس وبكر بن وائل كرمان وتوّج والأهواز2, وقد كان ذلك بعد حربه مع الروم. والظاهر أن الأوضاع السياسية اضطرته إلى استصلاح العرب، بعد أن تبينت له صعوبة الاستمرار في سياسة العنف والقوة إلى أمد غير معلوم، وبعد ما وجد من خطر في الاستهانة بشأن القبائل، ولا يستبعد أن يكون للدرس الذي تعلمه من "أذينة" نصيب في هذا التبدل الذي أدخله على سياسته.
ويتبين من وصف "الطبري" لحملات "سابور" على العرب، أنها كانت حملات واسعة، شملت أرضين بعيدة. بدأت بمن نزل أرض فارس من العرب ممن أناخ على "أبر شهر وسواحل أردشير خرة وأسياف فارس"، ثم السواحل المقابلة لإيران من بلاد العرب، ثم امتدت نحو الغرب حتى بلغت "المدينة"، ثم منها نحو بلاد بكر وتغلب، فيما بين مسالح الساسانيين و"مناظز" الروم, أي: إنه حارب قبائل بادية السماوة. وهي حملات إن صح أنها وقعت فعلًا، فلا بد وأن تكون قد نجحت وتمت بقبائل عربية مؤيدة لـ"سابور"، إذ يصعب
__________
1 العرب والملاحة "ص91", SYKES, HISTORY OF PERSIA, P.412
2 الطبري "2/ 69 وما بعدها", "2/ 61", "دار المعارف".(4/291)
تصور قيام الفرس وحدهم وبدون مساعدة باجتياز البوادي الشاسعة المنهكة لملاحقة العرب، وهم سادة البادية. ولم يكن في وسع الفرس، مهما بلغ جيشهم من التدريب والتنظيم, تحمل العطش وحرارة البادية وجوها القاسي الصارم.
وفي رواية المؤرخ "أميانوس" Ammianus عن حروب "سابور" "شابور" الثاني تأييد لرواية "الطبري" عن تلك الحروب وتوثيق لأكثرها. وقد وقعت تلك الحروب في أرض أغلب سكانها من عشائر قضاعة1.
ولضمان الحدود من غارات الأعراب عليها، قوّى "سابور" "المسالح"، بأن وضع بها حاميات عسكرية قوية؛ لمنع الأعراب من التعرض بالحدود, كما أقام خندقا عرف بـ"خندق سابور" ليحول بين الأعراب والدنو من الحضر. وقد أباح لرجال الحاميات التي وضعت على الخندق، إقامة الأبنية وزرع الأرض واستثناهم من دفع الخراج2.
وقام "سابور" بعمليات واسعة لإجلاء القبائل من منازلها إلى منازل أخرى جديدة؛ تأديبًا لها، وضمانًا لعدم قيامها بغارات على الحدود. وهي سياسة قديمة معروفة، استعملتها الحكومات في تأديب القبائل؛ فكان الآشوريون يجلون القبائل من مواطنها إلى مواطن جديدة، قد تكون بعيدة عن منازل القبيلة القديمة. وقد أجلى "سابور" بعض عشائر "تغلب" إلى البحرين, حيث أنزلو "دارين" وهي "هيج"، وأسكن عشائر أخرى "الخط", ونقل بعض عشائر "بكر وائل" إلى "كرمان" و"أبان"، حيث عرفوا بـ"بكر أبان", ونقل "بني حنظلة" إلى "الرملية" من "الأهواز" "خوزستان". ويرى "نولدكة" احتمال كون "الرملية" موضع "قرية الرمل"، الواقع على مسيرة يوم واحد عن "شوشتر", ونقل قومًا من "عبد القيس" وتميم إلى "هجر"3.
وفي جملة ما وضعه "سابور" من خطط لحفظ "السواد" وحفظ الحدود، إقامة "أنابير" أي: مخازن في المواضع المهمة؛ لخزن الأسلحة والأطعمة لتوزيعها
__________
1 AMMIANUS, 16, 9, 3-4, DIE ARABER, III, S. 110, AULTHEIM-STIEHL,
FINANZGESCHICHTE DER SPATANTIKE, "1957", S. 35, 38
2 DIE ARABER, II, S. 349
3 DIE ARABER, II, S. 351(4/292)
على حاميات "المسالح" وعلى الأعراب عند الحاجة. ومن هذه المواضع: "الأنبار" و"عكبرا", وقد وضعت كلها تحت حماية عسكرية قوية. كذلك عهد إلى "آل نصر" مهمة حماية الحدود, بضبط العشائر والسيطرة عليها, بأن جعلهم يقومون بدور الشرطة المسئولة عن حماية الحدود1.
ولا أستبعد احتمال تقليد "سابور" للرومان في خططهم العسكرية التي كانوا وضعوها لحماية حدودهم في بلاد الشأم وفي إفريقية من غزو القبائل. فقد كانوا قد حموا حدودهم بسلسلة من التحصينات ضمت Castella وBurgi وCentenaria، وخطوطًا دفاعية حصينة أقيمت في مؤخرة التحصينات الأمامية عرفت بـFossatum. و"المسالح" التي أقامها الفرس أمام "الخندق" أو أمام الخطوط الدفاعية المحصنة هي محاكاة لخطط الرومان, وتقابل ما يقال له Limitanei في اللاتينية2.
ولما تحرش "سابور" سنة "337م" بحدود الروم, كلف العرب الهجوم على حدودهم أيضا وغزوها3. والظاهر أن هؤلاء العرب كانوا من العرب المحالفين له، ولعلهم عرب الحيرة. وقد وقع هذا الغزو في أيام "قسطنطين" Constantine ملك الروم.
ونجد في الروايات الأعجمية تأييدًا للرواية العربية القائلة باسترضاء "سابور" للعرب؛ للاستفادة منهم في محاربة الروم وفي الوقوف أمامهم. إذ ورد في الأخبار اليهودية أنه أثناء الحروب الفارسية الرومية الطويلة التي امتدت من سنة "338" حتى سنة "363" للميلاد، استدعى "سابور" قبائل عربية عديدة, وأسكنها في مواضع متعددة من العراق؛ وذلك لتساعده في حربه مع الروم4.
وفي رواية في تأريخ الطبري: أن "لليانوس" ملك الروم حارب "سابور"، فضم إلى جيشه من كان في مملكته من العرب، أي: عرب الروم، "وانتهزت
__________
1 DIE ARABER, II, S. 352
2 DIE ARABER, II, S. 350
3 SYKES, HISTORY OF PERSIA, I, P.413
4 THE BABYLONIAN TALMUD, SEDER NEZIKIN, II, P.735, V. FUNK, DIE JUDEN IN BABYLONIAN, II, 41(4/293)
العرب بذلك السبب الفرصة من الانتقام من "سابور" وما كان من قتله العرب، واجتمع في عسكر "لليانوس" من العرب مائة ألف وسبعون ألف مقاتل، فوجههم مع رجل من بطارقة الروم بعثه على مقدمته، يسمى "يوسانوس". أما من بقي في عسكر "لليانوس" من العرب، فقد سألوه أن يأذن لهم في محاربة "سابور"، فأجابهم إلى ما سألوه، فزحفوا إلى "سابور" فقاتلوه، ففضُّوا جمعه، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب "سابور" فيمن بقي من جنده، واحتوى "لليانوس" على مدينة "طيسفون" محلة سابور. وظفر ببيوت أموال سابور وخزائنه فيها"1. عندئذ استنجد سابور بقواده فلما وصل إليه العون، استخلص طيسفون، ثم تصالح بعد مقتل "لليانوس" مع "يوسانوس" الذي انتخبه الجيش ملكًا على أثر قتل "لليانوس".2
وقصد "الطبري" بـ"لليانوس" الإمبراطور "جوليان" "بوليان" Julian، فقد تقدم هذا بجيوشه سنة "363م"، نحو الدولة الساسانية فاكتسح حدودها، وهرب الفرس من أمامه، حتى بلغت جيوشه "طيسفون" عاصمة الساسانيين، إلا أنه لم يلحق ضربة شديدة قاصمة بـ"سابور"، بل ترك عاصمته، وتراجع حيث لاقى مصيره في المعركة في أثناء رجوعه إلى بلاده, فانتخب "يوسانوس", وهو"جوفيان" Jovian في لغة الروم، خلفًا له3.
وقد ورد في بعض الروايات أن "لليانوس" "يوليان" Julian قيصر الروم، كان متعجرفًا متغطرسًا فلما كلف جماعة من العرب Saracen أن ينضموا إلى جيشه، لمحاربة الفرس، وافقوا على ذلك وحاربوا معه، إلا أنهم لما طالبوه بعطاياهم وبهدايا، أجابهم جوابًا غليظًا: "الإمبراطور الشجاع المقدام عنده الحديد، لا الذهب"، فتركوه وانقلبوا عليه، وألحقوا به خسائر كبيرة4.
ويذكر المؤرخ "أميانوس مرسيللينوس" Ammianus Marcellinus: أن "يوليان" Julian لما بلغ "الفرات" ليلحق بالأسطول الذي بناه في هذا النهر
__________
1 الطبري "2/ 68"، اليعقوبي "1/ 131".
2 الطبري "2/ 68 وما بعدها".
3 SYKES, HISTORY OF PERSIA, I, P.422
4 SYKES, HISTORY OF PERSIA, I, P.418(4/294)
ويسير به لمحاربة الساسانيين ولينقل جيشه إلى حيث يلتقي بالجيش الآخر الزاحف من "دجلة" والطرق البرية، قدمت له قبائل عربية Saracens الطاعة، إلا أن هؤلا أناس لم يكونوا يعرفون هل هم أعداء أم أصدقاء؟ 1 ولذلك صار الروم على حذر شديد منهم؛ خشية الانقلاب عليهم عند الشدائد.
وذكر هذا المؤرخ: أن سادات القبائل قدموا إلى القيصر تاجًا من ذهب؛ ليعبر عن خضوعهم له, ولقبوه بلقب "ملك كل العرب" فقبل الملك منهم التاج واللقب؛ لما في ذلك من أثر معنوي يحدثه في نفوس العرب, وحاربت القبائل التي انضمت إلى الفرس في معارك صغيرة2. فكافأها القيصر على عملها هذا, إلا أنه لم يقدم لها معونات الذهب التي كانت تقدم عادة إلى سادات القبائل؛ فاستاء الرؤساء من ذلك، وانحاز قسم منهم إلى الفرس, وأخذوا يتحرشون بعسكر "يوليانوس"، وألحقوا به خسائر في الأرواح، وباعوا من وقع في أيديهم أسيرًا من الروم، في أسواق النخاسة3.
وكان سبب انضمام تلك القبائل إلى الروم، ما لاقته من شدة "سابور" "شابور الثاني" ومن تنكيله بها، فأرادت بانضمامها إلى "يوليانوس" الانتقام من الفرس، وأخذ ثأرها منهم عند سنوح أول فرصة. وقد آذوه فعلًا، مما حمله على تغيير سياسته تجاههم، فأخذ يسترضيهم فعاد إليه من عاد منهم4.
وذكر "أميانوس" أن ممن انضم إلى الفرس من الأعراب Saraceos، سيد قبيلة اسمه "مالك" Malechus, وقد عرف والده بـ5Podosacis. وقد تمكن بمعاونة رجل عربي آخر اسمه: "سورينا" Surena من الفتك بكتيبة من كتائب الروم, وذلك بنصب شرك لها، فوقعت تحت سيوف العرب. وذكر أن "مالكًا"، كان عاملًا "فيلارخا" على قبيلة اسمها Assanitarum، يرى البعض أنهم الغساسنة6.
__________
1 SKYES, I, P.419
2 AMMIANUS, 23, 5, I, 24, I, 10, DIE ARABER, II, S. 324
3 AMMIANUS, 25, 8, I, DIE ARABER, II, S. 325.
4 DIE ARABER, II, S. 325
5 AMMIANUS, 24, 2, 4, DIE ARABER, II, S. 325
6 DIE ARABER, II, S. 325(4/295)
ويذكر أهل الأخبار أن "سابور" إنما لقب بـ"ذي الأكتاف"؛ لأنه خلع أكتاف العرب1. ويرى "نولدكة" أن هذا التفسير مصنوع، وأن اللقب إنما جاء عند الساسانيين في معنًى آخر لا علاقة له بخلع الأكتاف، بل قُصد به "ذو الأكتاف"، أي: صاحب الأكتاف دلالةً على الشدة والقوة، فهو لقب تمجيد وتقدير. وقد حوله أهل الأخبار إلى معنى آخر، هو المعنى المتقدم لبطش "سابور" بالعرب وإيقاعه القاسي بهم. أما "أرثر كريتنسن"، فيرى أن تفسير أهل الأخبار تفسير صحيح، وهو لا يستبعد خلع "سابور" لأكتاف العرب، فقد كان مثل هذا التعذيب القاسي المؤلم معروفًا في تلك الأيام2.
وذكر "حمزة الأصفهاني" أن التسمية المذكورة إنما جاءته من الجملة الفارسية، وهي "شابور هويه سنبا" "وهويه اسم للكتف, وسنبا أي نقاب. قيل له ذلك؛ لأنه لما غزا العرب كان ينقب أكتافهم، فيجمع بين كتفي الرجل منهم بحلقة ويسبيه، فسمته الفرس بهذا الاسم وسمته العرب ذا الأكتاف"3, فالتسمية إذن هي تسمية فارسية. ولا أستبعد أن تكون القصة شرحًا تكلفه القصاصون، لتفسير هذا اللقب، وهناك ألقاب عديدة، فسرت تفسيرا أسطوريا على هذا النحو من المبالغة والتهويل.
وقد نسب إلى "سابور" "شابور" هذا بناء الأنبار، ذكر أنه بناها فسميت بـ"فيروز شابور", وقد صيرها العرب "الأنبار"4. وكانت من المدن التي تغلب عليها العنصر العربي عند ظهور الإسلام، كما نسبوا إليه بناء "عكبرا"5.
ويذكر "المسعودي" أن "سابور بن سابور"، ويريد به "سابور الثالث" "383-388م"6، كانت له حروب كثيرة مع إياد بن نزار وغيرها من العرب. ويتبين من بيت شعر نسبه إلى شاعر نعته بأنه: "شاعر إياد" ولم
__________
1 الطبري "2/ 67"، مروج الذهب "1/ 216".
2 إيران في عهد الساسانيين "ص225".
3 حمزة "ص36".
4 "والأنبار: أهراء الطعام، واحدها: نبر، ويجمع: أنابير"، اللسان، مادة "نبر" "5/ 190" "صادر"، حمزة "34".
5 حمزة "37".
6 أو سنة "387م" في بعض الروايات.(4/296)
يسمه، أن إيادا استعادت مكانتها، وأصبحت قبابها و"حولها الخيل والنعم" وذلك "على رغم سابور بن سابور"1. ويظهر أن إياد التي كانت قد لحقت بأرض الروم في أيام "سابور ذي الأكتاف" عادت فرجعت إلى العراق وحلت في محلها.
ويذكر "المسعودي" رواية أخرى، خلاصتها أن إياد بعد أن رجعت من أرض الروم، دخلت في جملة "ربيعة" من ولد "بكر بن وائل"، وأن ربيعة كانت قد غلبت على السواد، وشنت الغارات في ملك هذا الملك، فصارت إياد في جملة "ربيعة"2. فإياد وإن عادت إلى العراق، لم تتمكن من أن تستعيد مكانتها، فدخلت في قبائل "ربيعة" التي هي من "بكر وائل"، وهي قبائل كانت قد كسبت سلطانًا ومكانة مستغلة فرصة ضعف هذا الملك، فسادت من ثَمَّ على "إياد".
وقد وقع هذا التطور بعد وفاة "سابور ذي الأكتاف"، وإذا أخذنا برواية "المسعودي" هذه، وجب أن يكون زمانه ما بين سنة "383-388م". ففي خلال هذه المدة كان حكم "سابور الثالث"3.
ولا تتحدث الموارد العربية بشيء يذكر بعد ذلك عن علاقة الساسانيين بالعرب إلى أيام "بهرام جور" "بهرام كور" "420-438م"، وهو المعروف بـ"بهرام الخامس" عند المؤرخين4. ثم نجدها تعود فتتكلم عن علاقتهم بعرب الحيرة، حيث يحتل الكلام عليهم الجزء الأكبر من صفحات تأريخ العلاقات العربية الساسانية؛ ولهذا السبب وجب البحث في الحيرة وفي علاقاتها بالساسانيين في فصل خاص.
وكان لملك الحيرة فضل في تولي "بهرام" عرش الدولة الساسانية بعد أن قرر الأشراف وأصحاب الجاه والسلطان من رجال الدين والجيش انتزاعه من أولاد
__________
1
على رغم سابور بن سابور أصبحت ... قباب إياد حولها الخيل والنعم
روج الذهب "1/ 211".
2 مروج "1/ 221".
3 Ency., Vol., 4, P.178
4 Ency., Vol., 4, P.178, R. Ghrishman, Iran, P.299(4/297)
"يزدجرد" والده. فقد أمده بجيش أفزع أولئك الأقوياء فوافقوا على أن يمنحه التاج، كما سأتحدث عن ذلك في أثناء كلامي على ملوك الحيرة.
ويذكر "الطبري" أن "بهرام" المذكور كان قد رُبِّيَ تربيةً عربيةً؛ ذلك لأن أباه "يزدجرد" "يزدكرد" كان قد أرسله إلى الحيرة لتربيته تربية صحيحة، فأقام في البادية وبين الأعراب حتى شبَّ مثلهم قويا شجاعا مغامرا، ينظم الشعر بالعربية، ويتكلم بها بطلاقة وفصاحة. ويرى بعض المؤرخين المحدثين أن إقامة "بهرام" إنما كانت في قصر الخورنق, ويرون أن بناء هذا القصر كان قد تم قبل ذلك بزمن, ويرون أن إرساله إلى الحيرة، لم يكن على نحو ما زعمته الروايات العربية، وإنما كان نفيًا له في الواقع لخلاف بينه وبين أبيه, ولأن أباه لم يكن يعطف عليه عطفه على ولديه الآخرين1.
وهذا القسم من تأريخ صلات الساسانيين بعرب الحيرة، واضح ومفصل بالقياس إلى القسم المتقدم، وإنه يدل على أنه أخذ من موارد تأريخية منظمة غير ساسانية, وهي موارد دونها أهل الحيرة أنفسهم، وفي مقدمتهم رجال الكنيسة الذين ألفوا تدوين التواريخ، وقد صار رجال الدين النصارى هم رواة التأريخ وحفظته منذ تفشي النصرانية، فمن هذه الموارد نقل "ابن الكلبي" وأضرابه ممن دونوا تأريخ الحيرة.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "كسرى برويز" "كسرى أبرويز"، لما انهزم من "بهرام شوبين"، كان فراره على فرس من خيل رجل من طيء، فنجا بفضله، وذكروا أن ذلك الفرس هو "الضبيب"، وهو من خيل العرب المعروفة2.
وذكر "حمزة الأصفهاني" أن من جملة قواد "كسرى أبرويز" القائد "فنابرزين"، وهو "نكهان". وكان "فنابرزين" متوليًا على ما يلي الريف من البادية إلى حد الحيرة إلى حدود البحرين، والعرب تسميه "خنابززين ساسان بن روزبة"3.
__________
1 إيران في عهد الساسانيين "ص260".
2 الاشتقاق "ص117".
3 حمزة "ص91".(4/298)
وفي أيام "كسرى أنو شروان"، طرد الأحباش من اليمن، إذ أرسل إليها نجدة بقيادة "وهرز"، وبذلك دخل الفرس اليمن، وصاروا على مقربة من الحبش حلفاء الروم. وقد لاقت السياسة البيزنطية بذلك ضربة شديدة عنيفة؛ لأن الفرس بدخولهم اليمن صار في إمكانهم الضغط على التجارة البحرية للروم، وصار في إمكانهم الهيمنة على منفذ البحر الأحمر، البحر الذي تلج منه سفن الروم إلى المحيط الهندي وبالعكس، كما صار في إمكان الفرس الاتصال بعرب الحجاز وعقد اتفاقيات تجارية مع أهل مكة، وهم إذ ذاك من أهم تجار بلاد العرب.
وقد بقي الفرس في اليمن حتى ظهور الإسلام، فأسلم آخر عامل فارسي، وزال ملك الفرس عنها بذلك، كما زالت الدولة التي كان العامل الفارسي يحكم باسمها.
وكانت للفرس قوة في عمان عند ظهور الإسلام، وقد ذكر أن أول من أغار عليهم "نعام بن الحارث" من "عتيك"، وكان من فرسانهم في آخر الجاهلية وأول الإسلام1.
وذكر "الطبري": أن "كسرى أنو شروان" "انصرف نحو عدن، فعسكر ناحية من البحر هناك بين جبلين مما يلي أرض الحبشة, بالسفن العظام والصخور وعمد الحديد والسلاسل. وقتل عظماء البلاد ... ثم انصرف إلى المدائن، وقد استقام له ما دون هرقلة من بلاد الروم وأرمينية، وما بينه وبين البحرين من ناحية عدن"2. وفرق "كسرى" الولاية والمرتبة بين أربعة أصبهذين, منهم: أصبهذ نيمروز وهي بلاد اليمن3.
وذكر "حمزة" أنه في زمن "كسرى أنو شروان" ولي "أنوش بن حشنشبندة" ناحية من أرض العرب، وبقي عليها بعض أيام هرمز بن كسرى4.
وكان الساسانيون كالبيزنطيين قد اتخذوا "مسالح" لهم على مشارف البوادي والحدود لحماية أملاكهم من الغزو، ولإخبار الحكومة عند دنو العدو وحالة حدوث خطر. وهي أبنية حصينة، وضعوا فيها قوات تحت إمرة أمراء منهم، يقيمون
__________
1 الاشتقاق "2/ 284".
2 الطبري "2/ 103"، "دار المعارف".
3 الطبري "2/ 99"، "دار المعارف".
4 حمزة "ص91".(4/299)
فيها، واتخذوا فيها مخازن لخزن الأسلحة والأطعمة, وحفروا فيها آبارًا، وصنعوا "كهاريز" تخزن الماء. ولما ظهرت جيوش الإسلام لفتح العراق، كان على هذه المسالح إخبار "طيسفون" بما حدث، والوقوف أمام تلك الجيوش، حتى تجيء جيوشهم فتلتحم بالمسلمين.
وفي جزر البحرين قنوات يظن أنها من عمل الساسانيين، أقاموها للاستفادة من المياه المتدفقة من العيون، وهي أخاديد حفرت في الأرض ثم بطنت بمادة تمنع الماء من التسرب إلى التربة ثم سقفت بصفائح من الحجر، أُهِيلَ عليها التراب لتمنع أشعة الشمس من الوصول إلى الماء فتبخره، وبذلك تقل كمياته. وبين مسافة وأخرى تقدر ما بين عشر وعشرين ياردة توجد منافذ لمرور الهواء منها إلى باطن القناة, وقد بطنت هذه المنافذ بالحجارة، وقد أقيمت جدر عند مخارجها إلى الأرض لتحميها من سقوط الأتربة فيها, ولا تزال بعضها عامرة تجري فيها مياه العيون حتى الآن. وهناك آثار قنوات مشابهة لها تقع في السواحل المقابلة للبحرين من المملكة العربية السعودية تعود إلى هذا العهد أيضا1.
وقد كانت البحرين تخضع لحكم الساسانيين عند ظهور الإسلام، أما حاكمها الفعلي فهو رجل من العرب على دين النصرانية، وعلى مذهب النساطرة. وكان للنساطرة عدة أساقفة في مواضع من الخليج، كما كانت لليهودية وللمجوسية مواضع في بلدان الخليج أيضا, أما غالبية العرب، فعلى الوثنية2.
وقد كانت "الأبُلَّة" من أهم المواضع المهمة في نظر الساسانيين من الوجهة الحربية، وكانت تعد عندهم "فرج أهل السند والهند"3. وكان "فرج الهند" أعظم فروج فارس شأنًا، وصاحبه يحارب العرب في البر، والهند في البحر4, وقد وضعوا هذا الفرج تحت إمرة قواد عسكريين. ولما سمعوا بمجيء خالد بن الوليد من اليمامة، أسرع كسرى فأمر قواده بالاتجاه إلى "الكواظم" وإلى "الحفير" لمقابلته. وقد التقى به "هرمز" بكاظمة، وكان جبارًا، كل العرب عليه مغيظ، وقد كانوا ضربوه مثلًا في الخبث، حتى قالوا: "أخبث من
__________
1 James H. D Delgrave, P.68
2 Belgrave, P.61
3 الطبري "3/ 347".
4 الطبري "3/ 348".(4/300)
هرمز" و"أكفر من هرمز". فلما التحم العرب والعجم ومن معهم من العرب, قُتل هرمز وفر العجم وأفلت "قباذ" و"أنو شجان"، وكان على مجنبة الفرس. وقد عرفت هذه الوقعة بـ"ذات السلاسل"؛ لاقتران العجم في السلاسل حتى لا يكون لهم أمل في الفرار1.
وفي الحروب الأخرى التي وقعت بين الفرس والمسلمين، توالت الهزائم على العجم على الرغم من كثرة عددهم, ولم يكن الفرس يحاربون وحدهم، بل حارب معهم "عرب الضاحية"، وآخرون2. ففي "وقعة الولجة"، مما يلي "كسكر" من البر، كان يحارب إلى جانب الفرس قوم من العرب من عرب الضاحية، وقد أسر فيها ابن لجابر بن بجير وابن لعبد الأسود، وهلك عدد كبير من "بكر بن وائل" وكانوا نصارى، فغضبت لذلك بقية نصارى بكر بن وائل وغضب نصارى عرب آخرون، فكاتبوا الأعاجم وكاتبتهم الأعاجم، فاجتمعوا إلى موضع "أليس"، وعليهم "عبد الأسود العِجْلي" في نصارى العرب من بني عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة، وكان جابر بن بجير نصرانيًّا، فساند عبد الأسود، فقابلهم "خالد" وجالد العرب أولًا، فسقط "مالك بن قيس"، وهو رأس من رءوسهم، ثم تهاوت صفوف الفرس أمام سيوف خالد، ولم تثبت أمامه3.
ولما قصد خالد للحيرة، وجد قائد الفرس، وهو "الأزاذبة" قد ولى هاربًا، وكان عسكره بين الغَرِيَّيْن والقصر الأبيض، فدخل خالد "الخورنق" وأمر بكل قصر رجلًا من قواده يحاصر أهله ويقاتلهم، فحاصروا "القصر الأبيض" وفيه "إياس بن قبيصة الطائي"، وحاصروا "قصر العدسيين" وفيه "عدي بن عدي" المقتول, وحاصروا "قصر مازن" وفيه "ابن أكال"، وحاصروا "قصر ابن بقيلة"، وفيه عمرو بن عبد المسيح، وكل هؤلاء عرب نصارى. ولكنهم لم يثبتوا أمام المسلمين، وتهاوت قصورهم، وطلبوا الصلح.
وكان أول من طلب الصلح "عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث" وهو بقيلة، وتتابعوا على ذلك، فخلا خالد بأهل كل قصر منهم
__________
1 الطبري "3/ 348" وما بعدها".
2 الطبري "3/ 353 وما بعدها".
3 الطبري "3/ 355 وما بعدها".(4/301)
دون الآخرين، وبدأ بأصحاب عدي وقال: ويحكم ما أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أم عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا, فقال له عدي: ليدلك على ما نقول, أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت. ثم صالحوه على الجزية1.
وصالح "صلوبا بن نسطونا" "صاحب قس الناطف" خالد بن الوليد على "بانقيا" و"بسما" بدفع الجزية له, وقد نقبه خالد على قومه. ولما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد واستقاموا أتته دهاقين "الملطاطين"2، وأتاه "زاذ بن يهيش" دهقان فرات سرايا، و"صلوبا بن بصبهري"، فصالحوه على ما بين الفلالج إلى "هرمز جرد"، ودخل أهل "البهقباذ" الأسفل وأهل "البقباذ" الأوسط والأماكن التابعة للمذكورين في الصلح3 ونزل خالد الحيرة، واستقام له ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد، وأقر المسالح على ثغورهم، ورتب القواد وموظفي الخراج وسائر الأعمال استعدادًا لطرد الفرس4.
وكان أهل الأنبار عربًا، يكتبون بالعربية ويتعلمونها، وكان عليهم حينما بلغها "خالد" "شيرزاذ" صاحب "ساباط". ولما وجد الفرس أن من غير الممكن لهم الوقوف أمام المسلمين، تركوا المدينة لخالد، وخرج "شيرزاذ" في جريدة خيل ليلحق بأصحابه، ثم صالح أهل "كُلواذى"5، ثم قصد خالد "عين التمر" وبها يومئذ "مهران بن بهرام جوبين" في جمع عظيم من العجم، و"عقة بن أبي عقة" في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لافَّهم، فهجم خالد على عقة ومن معه من العرب، فأسره وانهزم عسكره،
__________
1 الطبري "3/ 359 وما بعدها".
2 "ومنه حديث علي -كرم الله وجهه-: فأمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتى يأتيهم أمري، يريد به شاطئ الفرات"، اللسان "7/ 408" "صادر"، مادة "ملط"، الطبري "3/ 367"، البلدان "1/ 331"، "بيروت 1955م"، البكري، معجم "1/ 222"، "طبعة السقا"، اليعقوبي "1/ 131"، مراصد الاطلاع "1/ 123".
3 الطبري "3/ 368".
4 الطبري "3/ 372 وما بعدها".
5 الطبري "3/ 374 وما بعدها".(4/302)
ثم سقط الحصن، وانهزم الفرس, وأمر خالد بعقة وكان خفير القوم، فضربت عنقه ثم دعا بعمرو بن الصعق، فضرب عنقه، وانتهى أمر عين التمر1.
وحاول الفرس جمع صفوفهم ثانية، للوقوف أمام خالد واسترداد ما أُخذ منهم. وكان خالد أقام بدومة الجندل، فظن الأعاجم به، وكاتبهم عرب الجزيرة غضبًا لعقة، فخرج "زرمهر" من بغداد ومعه "روزبة"، يريدان الأنبار، واتعدا حصيدًا والخنافس، وانتظرا من كاتبهما من ربيعة، غير أن المسلمين هاجموا الساسانيين بحصيد، فقتل "زرمهر" وقتل "روزبة" وفر من كان معهما إلى "الخنافس" فلما أحس "المهبوذان" بقدوم المسلمين إلى المكان، هرب ومن معه إلى "المُصيخ" وبه الهذيل بن عمران، وخرج "خالد" من "العين" قاصدًا للمصيخ، فأغار على الهذيل ومن معه ومن أوى إليه، فقتلوهم، وأفلت الهذيل في أناس قليل2.
وأخذ "ربيعة بن بجير التغلبي" يجمع الجموع لمحاربة المسلمين غضبًا لعقة، وواعد الفرس والهذيل، فباغت خالد جموع "ربيعة" بالثني، فانتصر عليها وأسر ابنةً له، ثم باغت موضع "الزميل" وكان "الهذيل" قد أوى إليه، ثم باغت موضع "البشر"، وكانت تغلب به، فقتل منهم عددًا كبيرًا، ثم تحرك من البشر إلى "الرُّضاب"، وبها "هلال بن عقة"، فارفضَّ عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد منه, وانقشع عنها هلال3.
ثم قصد خالد "الفراض"، والفراض: تخوم الشأم والعراق والجزيرة، فاغتاظت الروم وحميت، واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر، فأمدوهم، ثم عبروا الفرات إلى الجانب الآخر حيث كان جيش خالد فهُزموا، وانتصر المسلمون4.
وكانت صفوف الساسانيين متضعضعة، والخصومات بينهم شديدة فتهاوى ملكهم، وسقطت "طيسفون" عاصمتهم، ثم تهاوت مدنهم في إيران، وزالت الحكومة من الوجود على نحو ما سنراه فيما بعد.
__________
1 الطبري "3/ 376 وما بعدها".
2 الطبري "3/ 379 وما بعدها".
3 الطبري "3/ 382 وما بعدها".
4 الطبري "3/ 383".(4/303)
وأما صلات "البيزنطيين" بالعرب، فلا نعلم عن بدايتها إلا شيئًا قليلًا؛ لأن الموارد التأريخية لم تهتم بغير الأحداث الكبرى، التي كان لها شأن في تأريخ الروم, فلم تشر إلى العرب إلا في أثناء اشتراكهم اشتراكا جماعيا في جيش البيزنطيين في قتال الساسانيين أو في جيش الفرس إبان قتال البيزنطيين. وأما القبائل العربية وغاراتها على حدود بلاد الشأم، فلم تتعرض لها؛ لأنها لم يكن لها شأن، فهي حوادث اعتيادية محلية، ثم أنها إذا تطرقت إلى المهم منها تطرقت إليه بإيجاز؛ ولهذا حرمنا الوقوف على صلات العرب بالبيزنطيين بصورة مفصلة, وعلى أخبار الإمارات العربية التي حكمت في البادية الملاصقة لبلاد الشأم وفي بلاد الشأم, ما بين ظهور دولة البيزنطيين وبزوغ نجم آل غسان.
لقد كابد الساسانيون والبيزنطيون من القبائل العربية عنتًا شديدًا مثل ما كابده المتقدمون عليهم منهم. فقد كانت تراقب الفرص لتهاجم الحدود أو الجيوش النظامية في أثناء انتقالها إلى ساحات القتال أو اشتغالها في القتال، أو في أثناء تراجعها أو هزيمتها، فتوقع بها وتكبدها خسائر، وتربك وضعها، ثم إنها كانت تنتقل من موضع إلى موضع، من الأرضين الخاضعة لسلطان البيزنطيين إلى الأرضين التابعة للساسانيين وبالعكس، وقد تثور وتهاجم القرى في دولة، فإذا عقبتها، هاجرت إلى الدولة الأخرى المعادية لها؛ ولهذا السبب وجد الساسانيون والبيزنطيون أن من مصلحتهما عقد اتفاقية تحرم انتقال الأعراب من أرض إحدى الحكومتين إلى أرض الحكومة الأخرى من غير ترخيص وتخويل، وذلك في أيام السلم بالطبع1.
لقد أخذت الدولة البيزنطية الأرضين التي كانت خاضعة لروما، وصارت تديرها من "القسطنطينية"، وتعين حكامها وترسل الجيوش إليها، وتطبق عليها القوانين التي تصدرها "القسطنطينية". بقي الحال على هذا المنوال إلى أن طرد البيزنطيون عن بلاد الشأم بظهور الإسلام، وإرساله الجيوش إلى تلك البلاد لنشر دين الله فيها. فذهب الحكم البيزنطي عنها، وبقي الأثر الثقافي أمدًا يهيمن على البلاد المفتوحة.
وقد كانت بصرى من أهم المدن التي يرد إليها عرب الحجاز للاتجار, وكانت
__________
1 Musii, Hegaz, P.306(4/304)
آخر مكان يصل إليه تجار أهل مكة في الغالب في الشمال. يقيمون فيه، يبيعون ويشترون ويدفعون للروم العشور، وهي الضرائب المتعارف عليها إذ ذاك، ثم يعودون إلى ديارهم، ومعهم ما اشتروه من تجارات بلاد الشأم، من طرف مصنوع في هذه البلاد، أو مستورد إليها من بلاد الروم ومن أوروبا، ومن سلع حية هي الرقيق الذي يباع في سوق بصرى، وقد استورد إليها من مختلف الأنحاء.
وتعرف بصرى بـBostra عند الرومان واليونان1, ولأهميتها الحربية والسياسية والتجارية كان يقيم بها حاكم روماني، ثم حكمها حكام من اليونان بعد انتقالها إلى حكم اليونان، كما وضعوا بها حاميات بيزنطية؛ وذلك لقربها من الأعراب وللدفاع عن الحدود المهددة بهجوم أبناء البادية عليها. وقد أُصيبت بخسائر جسيمة ونزل بها خراب شديد على أثر مهاجمة الفرس لبلاد الشأم واستيلائهم عليها، فتهدم قسم كبير من أبنيتها، كما تهدم قسم من أبنية "أذرعات" وذلك سنة "613م"2.
و"بصرى" هي الآن قرية مهملة من قرى حوران، ولا تزال بها بقية قائمة من آثار, وقد ورد ذكرها في سيرة الرسول، حيث كان قد نزل بها مع عمه "أبي طالب" حينما قدمها عمه للاتجار. وذكر أن "بحيرا" الراهب الذي يرد اسمه في كتب السير، كان من رهبان بصرى، وقد كان يقيم في دير هناك.
وكانت "غزة" من المواضع الأخرى المهمة عند أهل مكة ويثرب؛ لأنها كانت المورد الأخير لتجار هاتين المدينتين على البحر الأبيض. وكانت من المواضع التابعة للروم, ترد إليها السفن الواردة من بلاد الروم وموانئ إيطالية ومصر ولبنان، فتفرغ ما لديها من تجارة ويشتري أصحابها ما يجدون في غزة من أموال؛ ولهذا صارت فرضة مهمة لتجار أهل الحجاز.
ومن سادات القبائل الذين انتقلوا من أرض كانت خاضعة للساسانيين إلى أرض كانت تابعة للبيزنطيين, سيد قبيلة ذكره "ملخوس الفيلادلفي" Malchus
__________
1 Hastings, P.102
2 دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية"، "3/ 672".(4/305)
Philadelphus في تأريخه، وسماه "امرأ القيس" Amorkesos = Amerkesos وقال: إنه كان يقيم في الأصل في الأرضين الخاضعة لسلطان الفرس، ثم ارتحل عنها ونزل في أرضين قريبة من حدود الفرس، وأخذ يغزو منها حدود الساسانيين والعرب Saracens المقيمين في الأرضين الخاضعة للروم. وتوغل في "المقاطعة العربية" حتى بلغ البحر الأحمر، واستولى على جزيرة "إيوتابا" Iotaba Jotaba، وهي جزيرة مهمة كان الروم قد اتخذوها مركزًا لجمع الضرائب من المراكب الآتية من المناطق الحارة أو الذاهبة إليها، فتصيب الحكومة أرباحا عظيمة جدا. فلما استولى على تلك الجزيرة، طرد الجباة الروم، وصار يجبيها لنفسه، فاغتنى. كذلك حصل على ثروة عظيمة من غنائم غزوه للمواضع المجاورة لهذه الجزيرة والواقعة في العربية الحجرية وأعالي الحجاز والأرضين الخاضعة لسلطان الساسانيين.
وأراد "امرؤ القيس"، بعد أن بلغ من السلطان مبلغه، الاتصال بالروم، والتحالف معهم، والاعتراف به عاملًا رسميًّا أي: Phylarch أو Satrap على العرب الذين خضعوا له وعلى العرب المعترفين بسلطان الروم عليهم في "المقاطعة العربية"، فأوفد رجلًا من رجال الدين اسمه "بطرس" إلى "القسطنطينية" يعرض رغبته هذه على القيصر "ليو". فلما قابل هذا رجال البلاط، أظهر لهم أنه يريد الدخول في النصرانية, فأظهر القيصر "ليو" رغبته في مقابلة "امرئ القيس" للتحادث معه. فقصده "امرؤ القيس"، فاستقبله استقبالًا حسنًا، وعامله معاملة طيبة، وأجلسه على مائدته، ومنحه لقب Patrician، وجالس رجال مجلس "السنات" Senate، فأدى ذلك إلى استياء الروم من سياسة القيصر هذه مع رجل مشرك, ولكنه بين لهم أنه يريد تنصيره بذلك، وإخضاعه لسلطانه. ولما قرر العودة أعطاه القيصر صورة ثمينة وهدايا نفيسة، وحث رجال مجلس الدولة أن يمنحوه هدايا سخية، ثم منحه درجة "عامل" Phylarch على الجزيرة وعلى جميع ما استولى عليه وعلى أرضين أخرى جديدة لم يكن قد أخذها من قبل، إلا أن الروم لم يرتاحوا من هذه المعاملة، وانزعجوا من إسراف القيصر(4/306)
في إكرامه ومنحه تلك الأرضين، ولا سيما تلك الجزيرة التي استرجعوها بعد ذلك بمدة ليست طويلة, وفي مدة حكم القيصر "أنستاس" "أنسطاس" "أنسطاسيوس"1 Anastasius.
ولما كان القيصر "ليو" Leo "لاون" "اليون"، قد حكم من سنة "457م" حتى سنة "474م"2، فيكون اعتراف "ليو" بحكم "امرئ القيس"، ومنحه لقب "فيلارخ" "فيلارك" قد وقع في أثناء هذه المدة.
ويظهر من تأريخ "ثيوفانس" أن هذه الجزيرة كانت في سنة "490م" في أيدي الروم، استولى عليها حاكمهم Dux على فلسطين بعد قتال شديد3. ويدل خبر هذا المؤرخ على أن الروم انتزعوا هذه الجزيرة من "امرئ القيس" أو من خلفائه بعد مدة ليست طويلة من استيلاء "امرئ القيس" عليها، ولعلهم استولوا عليها بعد وفاة هذا العامل على أثر نزاع نشب بين أولاده وورثته، أضعف مركز الإمارة، فانتهز الروم هذه الفرصة، وانتزعوا ما تمكنوا من انتزاعه من أملاك.
وإذا كانت هذه الجزيرة، قد كانت في جملة أملاك الروم في سنة "490م" كما يدعي "ثيوفانس" ذلك، وجب أن تكون استعادة حاكم فلسطين لها في أيام القيصر "زينو" "زينون" Zeno الذي ولي الحكم من سنة "474" حتى سنة "491". أما سنة "491م" فقد انتقل فيها الحكم إلى القيصر "أنسطاس"4.
وكان "امرؤ القيس" المذكور سيد قبيلة سماها المؤرخ "ملخوس الفيلادلفي" "نكليان" "نخليان" Nokalian. ويظهر أن هذا الاسم هو "النخيلة"5, موضع معروف قرب "الكوفة" على سمت الشأم، وهو موضع ينطبق عليه ما ذكره "ملخوس" من أنه كان في أرض في سلطان الفرس6.
__________
1 MALCHUS OF PHILADELPHIA, IN FRAGMENTA HISTORICORUM GRAECORUM, VOL., 4, PARIS, 1951, PP.112, MUSIL, HEGAZ, P.308, BURY, HISTORY OF THE LATER ROMAN EMPIRE, LONDON, 1931, VOL., I, P.8, 95, SOCRATES, IV, 36, SOZOMEN, VI, 38
2 RUNCIMAN, BYZANTINE CIVILISATION, LONDON, 1959, P.301
3 THEOPHANES, CHRONOGRAPHIA, P.121, MUSIL, HEGAZ, P.307
4 RUNCIMAN, BYZANTINE CIVILISATION, P.301
5 البلدان "8/ 276 وما بعدها".
6 BLAU, IN ZDMG., 22, 1868, S. 578(4/307)
ولم يذكر "ملخوس الفيلادلفي" أسماء الأرضين التي كانت في حكم "امرئ القيس"، ويرى "موسل" أن هذا الرئيس كان ينزل في بادئ الأمر مع قبيلته في "الوديان" و"الحجيرة" أيام كانت علاقاته بالفرس حسنة. ومن "الحجيرة" هاجر مع قبيلته إلى "دومة الجندل"، ومنها توسع فاستولى على أرضين من "فلسطين الثالثة" Palestina Tertia وهي "العربية الحجرية". ثم استولى على جزيرة Iotaba، وهي على رأيه جزيرة "تاران" "تيران"1, وذكر "ياقوت" أن سكانها قوم يعرفون بـ"بني جدان"2.
ولعل هذه الجزيرة هي جزيرة Ainu التي ذكرها "بطلميوس"3، أخذ تسميته هذه من "حنو" "حاينو" Hainu "حينو" الاسم الذي كانت تعرف به عند الأنباط4.
وامرؤ القيس هذا، هو مثل واحد من أمثلة عديدة على سادات قبائل راجعوا البيزنطيين لاستمداد العون منهم، وللحصول منهم على اعتراف رسمي بتنصيبهم رؤساء على الأعراب النازلين في ديار خاضعة لسلطانهم أو لمساعدتهم في مقارعة عرب الحيرة أو الفرس.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال, قالوا: إنهم ذهبوا إلى الروم لهذه الغاية، وبعضهم ممن كان يقيم في أرضين بعيدة عن سلطانهم، والظاهر أن مثل هذا الاعتراف كان يكسب الرئيس قوة، ويمنحه منزلة ومكانة في تلك الأيام، وإن كان الروم على مبعدة من الرئيس وليس لهم حول مادي يقدمونه إليه.
ولا نجد في الموارد اليونانية أسماء من حكم من رؤساء القبائل في بلاد الشأم بصورة منتظمة قبل الغساسنة، إلا أن الإخباريين يذكرون أن الغساسنة لما جاءوا إلى بلاد الشأم من اليمن بعد "انتقاص العرم"، وجدوا "الضجاعمة" قد ملكوا البلاد قبلهم، وهم "آل سليح بن حلوان"، وهم من قضاعة، فقتلوهم وأخذوا مكانهم5. ولا بد أن يكون الضجاعمة قد سُبِقُوا بغيرهم ممن لم يقف أهل الأخبار
__________
1 Musil, Hegaz, P.306
2 البلدان "2/ 352".
3 Ptolemy, VI, 7, 43
4 Musil, Hegaz, P.307
5 حمزة "ص76".(4/308)
على أسمائهم، فقد كانت القبائل تهاجم إحداها الأخرى، فتأخذ مكانها، ولا يستبعد أن يكون "الضجاعمة" قد انتزعوا السلطان من قبائل أخرى, لم تبلغ أنباؤها أهل الأخبار.
إن حدود الإمبراطورية البيزنطية الجنوبية مع العرب، لم تتغير ولم تتبدل تبدلًَا محسوسًا عما كانت عليه في زمان الرومان, وهي بصورة عامة الحدود الجنوبية للمقاطعة العربية. وكانت لهم الجزر المقابلة للمقاطعة العربية في "خليج القلزم"، وقد اتخذوها مراكز لجباية الضرائب من أصحاب السفن, ولحماية البحر من لصوصه مثل جزيرة Iotba التي تحدثت عنها. ولم يشر أحد من المؤرخين المعاصرين للبيزنطيين إلى تقدم الروم أكثر من ذلك في جزيرة العرب.
وكان للبيزنطيين بعض المرافئ على سواحل البحر الأحمر، منها ميناء "كليزما" Clysma، وهو "القلزم" Qulzum، ويقع على مسافة قليلة من "السويس"، تأتي إليه السفن محملةً ببضائع الهند وبالسلك وبالمواد الأخرى المستوردة من السواحل الإفريقية والعربية الجنوبية. وبه يقيم "الوكيل" Agens In Rebus؛ الوكيل التجاري الذي عليه مراقبة سير السفن والتجارة، ووضع التعليمات لتنظيم التجارة البحرية، وعرف بـLogothete في نهاية القرن الرابع للميلاد1.
وكانت تجارة الحرير، من أهم المواد المطلوبة في أسواق البيزنطيين. وقد كان الساسانيون قد احتكروها تقريبًا، وعبثًا حاول الإمبراطور "جستنيان" "يستنيانوس" Justinian تحطيم ذلك الاحتكار، وأخذه من أيديهم بالتوسل إلى "نجاشي" الحبشة؛ لإرسال سفنه إلى "سيلان" ولشراء السلك منها، ومنافسة التجار الفرس الذين كانوا قد سيطروا على تجارة هذه المادة المستوردة من الصين إلى هذه الجزيرة، فكانوا ينقلونها إلى بلادهم، بل إلى "القلزم" و"أيلة" وموانئ أخرى وأسواق تابعة للبيزنطيين، فيربحون من هذه التجارة ربحًا حسنًا2.
وكان القيصر "يوسطنيان" "527-567م"3، قد نصب "أبا كرب
__________
1 BURY, II, 318
2 BURY, II, PP.320
3 RUNCIMANN, BYZANTINE CIVILISATION, P.301(4/309)
ابن جبلة"، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس" "عاملًا"، أي: "فيلاركا" "فيلارخا" Phylarch على عرب "سرسينس" Saracens فلسطين، وكان "أبو كرب" كما يقول "بروكوبيوس"، رجلًا صاحب مواهب وكفاءة، تمكن من حفظ الحدود ومن منع الأعراب من التعرض لها، وكان هو نفسه يحكم قسمًا منهم، كما كان شديدًا على المخالفين له. وذكر أيضًا أنه كان يحكم أرض غابات النخيل جنوب فلسطين، وهي أرض واسعة تمتد مسافات شاسعة في البر ليس بها غير النخيل. وقد قدمها هدية إلى الإمبراطور، فقبلها منه، وعدها من أملاكه، مع أنه كان يعرف جيدا أنها فيافٍ وبادية لا يمكن الاستفادة منها؛ ليس فيها غير النخيل، وليس لهذا النخيل فائدة تذكر. ويجاور عربها عرب آخرون يسمون "معديني" "مديني" Maddeni، هم أتباع لـ"حمير"1 Homeritae.
وهذه الأرض التي حكمها "أبو كرب بن جبلة"، هي الأرض التي حكمها "امرؤ القيس" سابقًا نفسها, أو يظهر أن الروم لم يتمكنوا من ضبطها ومن تعيين حاكم بيزنطي عليها؛ فاضطر إلى الاعتراف بالأمر الواقع، فثبتوا "أبا كرب" في مكانه، واعترفوا به اعترافا رسميا "عاملا" على هذه المنطقة التي تقع في جنوب أرض الغساسنة، وفي الأردن وأعالي الحجاز. ويظهر من ذلك أيضا أن "أبا كرب" كان عاملًا مستقلًّا بشئونه عن الغساسنة؛ ونكون بذلك أمام إمارتين مستقلتين.
وإذن يكون "أبو كرب" من المعاصرين للحارث بن جبلة ملك الغساسنة, وقد كان حكمه قبل السنة "542م" بدليل إرساله رسولًا إلى أبرهة لتهنئته عند ترميمه سد مأرب الذي أنجز في هذه السنة.
إن اسم "أبو كرب بن جبلة" يثير فينا الظن بأن هذا الرجل كان من آل غسان؛ فهذا الاسم هو من الأسماء التي ترد بكثرة عندهم. وقد يحملنا على تصور أنه كان شقيقًا للحارث بن جبلة، غير أني لا أستطيع الجزم بذلك؛ لسكوت الموارد السريانية واليونانية عن التصريح بذلك أو التلميح إليه.
لقد كان من نتائج توثيق الروم صلاتهم بمملكة "أكسوم"، تهديدهم اليمن
__________
1 PROCOPIUS, I, XIX, 8-16, P.180-181, GLASER, MITT., S. 437, S. 78-79, SEP(4/310)
بغزوها, إن قاومت مصالحهم وتعرضت لسفنهم ولتجارتهم، وذلك بتحريض الجيش على النزول بها. وقد سبق للأحباش أن استولوا عليها، كما سبق للرومان أن استولوا على بعض مواضع من العربية الجنوبية مثل "عدن" في أيام "كلوديوس" "41-54م" أو قبل ذلك بقليل1. ولا يستبعد أن يكون للروم دخل في الغزو الذي قام به الأحباش لليمن والذي بقي من سنة "300" حتى سنة "370ب. م"2. وقد ذكر أن القسطنطينية كانت المحرضة لحكومة الحبشة على غزو اليمن أيضًا في سنة "525م"، وقد امتد حتى سنة "570م" أو "575م"3.
ولما عاد الأحباش إلى اليمن حيث بقوا فيها مدة قصيرة، كَرَّ الفرس عليهم فطردوهم منها في حوالي سنة "575م" "595م"، وصارت اليمن من سنة "575م" "595م" حتى الفتح الإسلامي مقاطعة تابعة للساسانيين4. وقد أصيبت مصالح البيزنطيين بأضرار بليغة من هذا التحول السياسي العسكري، وأصيبت بضرر بليغ آخر كذلك في أيام "كسرى برويز" "590-628م" الذي هاجم الإمبراطورية البيزنطية واستولى على مصر وفلسطين، وقطع بذلك عنها شرايين التجارة العالمية المهمة. والبيزنطيون وإن استعادوا ما فقدوه في مصر وبلاد الشأم بعد مدة قصيرة، فعاد الساسانيون إلى مواضعهم، إلا أن الحروب المتوالية كانت قد أنهكت الطرفين: البيزنطيين والساسانيين، وأضرت بالوضع الاقتصادي، وجعلت الناس يتذمرون في كل مكان من سوء سياسة الإمبراطوريتين، ويودون التخلص من الفرس واليونان؛ لذلك لم يكن من المستغرب سقوط الأرضين التي كانت خاضعة لهم بسرعة مدهشة في أيدي المسلمين.
ولما وصلت الجيوش الإسلامية بلاد الشأم، رَحَّبَ أهلها بصورة عامة بها. وقد نظر البيزنطيون إلى الإسلام على أنه نوع من أنواع "الآريوسية" Arrianism المنسوبة إلى الكاهن "آريوس" المتوفى سنة "336م", أو أنه مذهب من المذاهب النصرانية المنشقة عن الكنيسة الرسمية, وقد تعودوا على سماع أخبار وقوع
__________
1 العرب والملاحة "ص79".
2 STUHLMANN, S. 13
3 STUHLMANN, S. 14
4 STUHLMANN, S. 14, PHILLIPS, P.223(4/311)
الانشقاق في الكنيسة، وظهور مذاهب جديدة1؛ لهذا لا يستغرب ما أظهره أساقفة بلاد الشأم من تساهل في تسليم المدن إلى المسلمين, وما بدر من القبائل العربية المتنصرة من تعاون مع المسلمين في طرد البيزنطيين عن بلاد الشأم2.
__________
1 VASILIEV, A. A. HISTOIRE DE L.htm'EMPIRE BYZANTIN, 279, FR. STARK, ROME, P.388
2 DIEHL AND G. MARCAIS, LE MONDE ORIENTAL, PARIS, 1936, P.104, FR. STARK, ROME, P.388(4/312)
فهرس: الجزء الرابع
الفصل الخامس والعشرون
همدان 5
الفصل السادس والعشرون
أسر وقبائل 42
سخيم 46
خسأ 50
عقرب 51
خولان وردمان 52
جدن 57
أربعن 58
بتع 59
سمعي 61(4/313)
حملان 63
يهيب 64
يرسم 64
بنو سمع 65
رمس 66
سقران 67
قرعمتن 67
الفصل السابع والعشرون
ملوك سبأ وذو ريدان 68
الفصل الثامن والعشرون
سبأ وذو ريدان 125
صنعاء 147
قائمة ريكمنس 147
الفصل التاسع والعشرون(4/314)
ممالك وإمارات صغيرة 150
الحيانيون 158
بخران 159
مملكة يهيأمر 160
الفصل الثلاثون
الحميريون 162
الفصل الحادي والثلاثون
سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت 182
ملوك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت 250
الفصل الثاني والثلاثون
إمارات عربية شمالية 252
الفصل الثالث والثلاثون
ساسانيون وبيزنطيون 278
الفهرس 313(4/315)
المجلد الخامس
الفصل الرابع والثلاثون: مملكة النبط
مدخل
...
الفصل الرابع والثلاثون: مملكة النبط
مملكة النبط، مملكة عربية لم يعرف الأخباريون من أمرها شيئًا. سداها ولحمتها النبط. وهم قوم من جبلة العرب، وإن تبرأ العرب منهم، وعيروا بهم، وأبعدوا أنفسهم عنهم، وعابوا عليهم لهجتهم، حتى جعلوا لغتهم من لغات العجم، وقالوا إنهم نبط، وإن في لسان من استعرب منهم رطانة. وسبب ذلك، هو أنهم كانوا قد تثقفوا بثقافة بني إرم، وكتبوا بكتابتهم، وتأثروا بلغتهم، حتى غلبت الإرمية عليهم؛ ولأنهم فضلًا عن ذلك خالفوا سواد العرب باشتغالهم بالزراعة وبالرعي وباحترافهم للحرف والصناعات اليدوية، وهي حرف يزدريها العربي الصميم، ويعير من يقوم بها ويحترفها.
وتكمن عوامل ظهور النبط وغلبتهم على المنطقة التي عرفت بهم، وتكوينهم دولة بعد أن كانوا أعرابًا يعيشون عيشة ساذجة، تكمن في أسباب وأسس اقتصادية1 فقد تمكن هؤلاء النبط الأذكياء من استغلال موقع بلادهم لمرور شرايين التجارة بين العربية الجنوبية وبلاد الشام بها، ففرضوا ضرائب على التجار وعلى التجارة عادت عليهم بفوائد كبيرة، كما قاموا أنفسهم بالوساطة في نقل التجارة بين بلاد الشأم ومصر ومواضع من جزيرة العرب، فدرت هذه الوساطة عليهم أموالًا طائلة جعلتهم من الشعوب العربية الغنية بالنسبة على غيرهم ممن يسكنون البوادي، والمواقع المقفرة المنعزلة.
__________
1 Die Araber, I, S., 288(5/5)
وقد كان ميناء "غزة"ميناء النبط المفضل على البحر المتوسط. وهو في الواقع ميناء كل التجار العرب، إذ كان المرفأ الوحيد الذي ترفأ إليه تجارة العرب. وقد استفادوا منه كثيرًا لقربه من النبط، صاروا يشترون منه ما يرد عليه من بضائع من موانيء البحر المتوسط، ثم يحملونها إلى بلادهم فيبيعونها للتجار العرب القادمين إليهم من الحجاز ومن العربية الجنوبية ومن أماكن أخرى من جزيرة العرب، كما أنهم صاروا يشترون من التجار العرب ما عندهم من تجارة، ثم يحملونها إلى ذلك الميناء لبيعه في أسواقه، وبذلك حصلوا على أرباح من هذه الوساطة في الاتجار.
وقد نشأت دولة النبط التي نتحدث عنها قبل الميلاد في المنطقة الشمالية الغربية من جزيرة العرب، في المكان الذي عرف باسم "العربية الحجرية" "Arabia Petraea" عند اليونان والرومان.
وأما أخبارنا عنها، فمستمدة من كتب الكلاسيكيين، ومن مؤلفات المؤرخ اليهودي ""يوسفوس فلافيوس" "Josephus Flavius" "37 -100 بعد الميلاد". صاحب "Ioudaike Archaeologia" و"Periton Ioudaikon Polemon"1، ومن كتابات عثر عليها في "العربية الحجرية" وفي الأخرى التي خضعت لحكمها وهي نبطية ولاتينية ويونانية. وعلى هذه الموارد يعول المؤرخ الحديث في تدوين تأريخ قوم كان لهم نفوذ وسلطان وصوت مسموع وكلمة، ثم إذا هم في الذاهبين {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} 2.
وقد تضمن القسم الأكبر من كتابات النبط، كتاب: Corpus Inscriptionum Semiticarum وقد أشير فيه إلى المواضع التي عثر فيها على تلك الكتابات، وإلى السمات التي وسمت بها لتميز بعضها عن بعض. وأسهمت كتب أخرى بالطبع في هذا المجهود العسير، مجهود نشر الكتابات النبطية القديمة وغيرها، ككتاب: "Handbuch Der Nordsemitischen Epigraphik"، وكتاب: Corpus Inscriptionum Semiticarum، للعالم المعروف "مارك ليدربارسكي"
__________
1 Harvey, P.228, A. R. Shilleto, The Works Of Flavius Josephus In 5 Vol., “Bohn’s Standard Library”
2 سورة آل عمران: رقم3، الآية 140.(5/6)
"Mark Lidzbarski"1, وكتاب: "A Text Book Of North-Semitic Inscriptions" لـ"كوك" "G. A. Cooke"2 وكتاب "REP. EPIG"3، وكتب أخرى سأشير إليها في أثناء الحديث، يضاف إليها ما نشر في المجلات العلمية الاستشراقية كمجلة "ZDMG" وأمثالها4.
أما لغة النصوص النبطية، فلغة "بني إرم"5، وأما خطها فبالقلم الإرمي، ولكنه "إرمي" مأخوذ من القلم الإرمي القديم، وقد عرف عند المستشرقين بـ"القلم النبطي" تمييزًا له عن بقية الأقلام6. وأما المواضع التي عثر على هذه الكتابات فيها فهي عديدة، منها "بطرا" و"الحجر" "Hegra" و" العلا" و"تيماء" و"خيبر" و"صيدا" "Sidon" و"دمشق" ومواضع متعددة من "حوران" ومن "اللجاة"7 و"طور سيناء" والجوف واليمن ومصر وإيطاليا وأماكن أخرى سترد أسماؤها في ثنايا هذا الفصل8.
وتختلف الكتابات النبطية القديمة، من حيث رسم الحروف، بعض الاختلاف عن الكتابات النبطية المتأخرة المدونة بعد الميلاد، وتختلف أيضًا باختلاف الأماكن التي وجدت فيها، فلكتابات "طور سيناء" مثلًا خصائص. كتابية محلية لا نجدها في النصوص الأخرى. وتفيدنا هذه الخصائص المحلية والتطورات التي طرأت بمرور العصور على أشكال الحروف في مثل "التربيع" والانفصال والاتصال وتقاربها وتباعدها من الخط الكوفي في دراسة تطور الخطوط السامية، وعلاقاتها بعضها ببعض9.
__________
1 Mark Lidzbarski, Handbuch Der Nordsemitischen Epigraphik Nebst Aus-Gewahlten Inschriften, Weimar, 1989, Ephemeris Fur Semitische Epigraphik, I, Giessen 1901, 11, 1903, Iii, 1912
2 G. A. Cooke, A Text-Book Of North-Semitic Inscriptions: Moabite, Hebrew, Phoenician, Aramaic, Nabataean, Palmyrene, Jewish, Oxford, 1903
3 Repertoire D’epigraphie Semitique
4 Zeitschrift Der Deutschen Morgenlandischen Geselschaft
5 "بنو إرم"، الطبري "1/ 220" "طبعة ليدن".
6 Lidzbarski Nord. Epig., I, S., 180
7 البلدان "7/ 323".
8 Musil, Deserta, P.,471,Lidzbarski, I, S. 121, 122
9 Lidzbarski, I, S. 121, 194(5/7)
وهي على اختلافها تشارك الكتابات العربية التي عثر عليها في العربية الحنوبية أو في المواضع الأخرى من جزيرة العرب في كونها شخصية في الغالب. كتبت في أمور خاصة، لا علاقة لها بالمجموع. فهي لا تفيد المؤرخ إفادة مباشرة، ولكنها تفيد الباحثين من غير شك في أمور أخرى، تفيدهم في الدراسات اللغوية مثلًا، فهي كنز لا يقدر بثمن من هذه الناحية. أما الكتابات العامة، أعني النصوص التي لها علاقة مباشرة بالدولة وحياة الشعب وبساسة الحكومة أيام السلم أو الحرب، فهي قليلة جدًّا -ويا للأسف- مع أنها المادة الأساسية في كتابة التاريخ1.
والكتابات النبطية المؤرخة مثل الكتابات السامية الأخرى، قليلة بالنسبة إلى الكتابات الغفل من التأريخ. أما طرائق توريخ الحوادث عند النبط، فكانت متعددة منها التوريخ بأيام الملوك كأن يذكر اسم الشهر الذي دون فيه النص، ثم يذكر بعده عام التدوين، فيقال مثلًا: "في شهر كذا من سنة كذا من حكم الملك....." "بيرح.... شنت.... ملك نبطو....". وقد استعملت هذه الطريقة في أيام استقلال النبط خاصة. والتوريخ بسني حكم قياصرة "رومة" وذلك بذكر الشهر الذي دونت فيه الكتابة، ثم السنة المصادفة من سني حكم القيصر الذي في أيامه جرى التدوين، أو السنة المصادفة دون الإشارة إلى اسم الشهر2.
وقد عثر على كتابات مؤرخة بسني حكم "القناصل"، وعلى كتابات أخرى أرخت بتقويم "بصرى"، ومبدأه اليوم الثاني والعشرون من شهر "آذار" من سنة "106" بعد الميلاد، وقد أرخ به في كتابات "طور سيناء" كذلك3. وظلت الأقسام الجنوبية من "الكورة العربية" تؤرخ به حتى بعد فصلها من هذه الكورة وإلحاقها بـ "كورة فلسطين"4. وأرخ بالتقويم "السلوقي"، وأوله
__________
1 Lidzbarski, I, S., 163
2 Lidzbarski, I, S., 112, Rep. Epig., 128, I, Ii, P.,113, Euting, Sinai. Inschr., No: 457.
3 Lidzbarski, I, S., 113, Euting 319, 457, 463, Berger, No: 1060
4 Provincia, III, S., 303(5/8)
اليوم الأول من شهر "تشرين الأول" "أكتوبر" من سنة "312" قبل الميلاد1.
وأرخ بأيام القيصر "بومبيوس" حيث اتخذت مبدأ لتقويم يبدأ بشهر "تشرين الأول". "أكتوبر" من سنة "63" قبل الميلاد، أرخ به في الكتابات وفي النقود2.
وأرخ في بعض الكتابات النبطية بتواريخ محلية كانت متعارفة عندهم مشهورة. كما فعل غيرهم في جزيرة العرب حيث أرخوا بالحوادث المحلية المهمة، نظرًا لما كان لها من شهرة بينهم. وقد تمكن العلماء من تشخيص بعض منها، ولم يتمكنوا من تشخيص بعض آخر. ومن الكتابات المؤرخة محلية كتابة عثر عليها في مدينة "فيليبوبولس" "Philippopolis"، وقد أرخت بتقويم يبدأ بسنة "248" تقريبًا أو بين سنة "247" وسنة "249"3. مدينة "شقا" "شقة"، وقد أرخت في عدد من كتاباتها بسنة "92" بعد الميلاد. ومدينة "Constantia" وهي "البراك" في "اللجاة" وفي عدد من الكتابات التي عثر عليها في موضع "شيخ مسكين"، وهو "Maximinopolis" على رأي بعض الناس4.
والرأي السائد اليوم بين العلماء أن النبط عرب مثل سائر العرب، وإن استعملوا الإرمية في كتاباتهم، بدليل أن أسماءهم هي أسماء عربية خالصة، وأنهم يشاركون العرب في عبادة الأصنام المعروفة عند عرب الحجاز، مثل "ذي الشرى" و"اللات" و" العزى"، وأنهم رصعوا كتاباتهم الإرمية بكثير من الألفاظ العربية، وبدليل إطلاق اليونان واللاتين والمؤرخ اليهودي "يوسفوس" كلمة "العرب" على النبط، وإطلاق اسم "Arabia Petraea" أي "العربية الحجرية" على أرضهم، ولو لم يكن النبط عربًا، لما أطلق "الكلاسيكيون" كلمة العرب عليهم، وما كانوا يدخلون بلادهم في ضمن العربية ويجعلونها جزءًا من أجزائها الثلاثة.
وقد كان النبط من أهل جزيرة العرب في الأصل، نزحوا من البوادي إلى
__________
1 Berytus, archeological studies, published by the museum of archeology of the american university of beirut, vol.. I. American press beirut, 1934. P.,36.
2 Provincia, III, S., 304
3 Provincia, III, S., 205
4 Provincia, III, S., 305, 306(5/9)
أعالي الحجاز فأقاموا بها، ثم سرعان ما استقروا وتحضروا وأقاموا يفلحون الأرض ويزرعونها، فأقاموا لهم مستوطنات زراعية. واستقروا في المدن والقرى، محترفين بمختلف الحرف وفي طليعتها التجارة وبالاشتغال بالقوافل التجارية التي تنقل التجارة بين مختلف الأمكنة، فجمعوا من ذلك مالًا وثراءً. وقد ذهب. بعضهم إلى أن أصلهم من العربية الجنوبية، وأن عرقهم هذا هو الذي جعلهم يشتغلون بالزراعة وبالعمارة وبالحرف التي كانت مألوفة عند العرب الجنوبيين منذ العهود القديمة1.
ولقد وجدنا طائفةً من العلماء تتنكر لهذا الرأي ولا تراه، وترى في الألفاظ العربية الممزوجة في الإرمية بكثرة، وفي تشابه الأسماء واشتراكها بين النبط والعرب، أثرًا من آثار الاختلاط والاتصال بحكم السكنى المشتركة والجوار، ولا علاقة له بوحدة الجنس، وترى لذلك أن النبط إرميون احتكوا بالعرب وتأثروا بهم، أو أنهم إرميون استعربوا من بعد2.
أما أن النبط من بني "إرم"؛ لأنهم كتبوا بلغتهم، واستخدموا قلمهم، فهو قول مردود، فقد كتب غير النبط ومن غير "بني إرم" بلغة "إرم" وبقلم "إرم"، ولم يقل أحد من العلماء إن جميع من كتب بلغة الإرميين وبقلمهم هم من "بني إرم" حتمًا. ولا يمكن أن يقال ذلك؛ لأن الإرمية كانت قد تغلبت على أكثر لغات الشرق الأدنى وصارت لغة الكتابة والتدوين قبل الميلاد وبعده بقرون. تغلبت على العبرانية مثلًا وزاحمتها حتى فضلت عليها عند المتكلمين بها من الخاصة والسواد إلى نهاية القرن السابع بعد الميلاد، فدونت بها كتب من "التركوم" والأدعية والشروح و"مجلة تعنيت" و"أنطيوغيوس" وغيرها من مؤلفات القرنين الثاني والأول قبل الميلاد3. وألفت بها فيم بعد الميلاد، فلا عجب إذن إذا ما دون النبط أو غيرهم من العرب بالإرمية لغة الفكر والثقافة، وتكلموا بلغة أخرى هي لغة اللسان4. وقد كان الأعاجم في الإسلام يتكلمون بألسنة أعجمية، ويدونون باللسان العربي لسان العلم الفكر والقرآن.
__________
1 DEITIES, P.,4
2 Kennedy, P., 34
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 58".
4 Ency. Bibli., P., 277, 282(5/10)
تلك هي آراء المستشرقين في أصل النبط. أما رأي أصحابنا الأخباريين فيهم فخلاصته أن النبط "جيل من العجم ينزلون البطائح بين العراقين، سموا بذلك لكثرة النبط عندهم، وهو الماء. وسمي أولاد شيث أنباطًا؛ لأنهم نزلوا هناك. هذا أصله، ثم استعمل في عوام الناس وأخلاطهم ... "1 والعرب تنفر من النبط وتنظر إليهم نظرة ازدراء واحتقار، وإذا أراد أحدهم الاستهانة بأحد قال له "يا نبطي". "وفي حديث الشعبي أن رجلًا قال لآخر يا نبطي، فقال: لا حد عليه كلنا نبط، يريد الجوار والدار دون الولادة"2. وورد في الأخبار: "أهل عمان عرب استنبطوا، وأهل البحرين نبط استعربوا"3. وضرب المثل في رطانة كلام النبط بالعربية وقبحه: "وقد قبح الكلام، وصار على كلام النبط"4. إلى غير ذلك من كلام فيهم يشير إلى ازدراء العرب بنبط العراق، ونبط الشأم وبالنبط عامة.
وقد أشار المسعودي إلى أن "من الناس من رأى أن السريانيين هم النبط ... " وقال في معرض حديثه عن أهل نينوي: "وكان أهل نينوي ممن سمينا نبيطًا وسريانيين، والجنس واحد، واللغة واحدة، وإنما بان النبط عنها بأحرف يسيرة في لغتهم، والمقالة واحدة". وجعل النبط أهل بابل، وملوك بابل هم ملوك النبط. وذكر أيضًا أن هنالك من يزعم أن النبط هم "نبيط بن ماش بن إرم ابن سام بن نوح"5. فيفهم من كلام "المسعودي" أنه لم يكن على علم واضح بأصل أهل نينوي وبأصل أهل بابل، فجعلهم من السريان ومن النبط. والمسعودي مثل بقية الأخباريين عني بالنبط المتكلمين بالإرمية "الآرامية" من أهل العراق. والسريانية كلمة حديثة عهد، يراد بها لغة بني إرم، أي "الإرمية". ولا يرتقي اسم "السريان" "Syrians" على كل حال أكثر من خمسمئة سنة أو أربعمئة
__________
1 تاج العروس "5/ 229"، القاموس "2/ 387"، اللسان "9/ 288 وما بعدها"، البستان "2/ 350".
2 تاج العروس "5/ 230".
3
استعجم العرب في الموامي ... بعدك واستعرب النبيط.
الأغاني "5/ 61"، صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار، محمد بن عبد الله بن بليهد النجدي، القاهرة "195م" "2/ 189".
4 الأغاني "5/ 16".
5 مروج الذهب "1/ 129، 133، 134، 266"، "طبعة المطبعة البهية".(5/11)
سنة قبل الميلاد، وأما إطلاق اسم السريان على الإرميين الشرقيين، أي إرمي العراق، فقد حدث بعد الميلاد. أطلق على متنصرة الإرميين ليميزوا عن بني جنسهم الوثنيين، فصار له مفهوم خاص، وصارت كلمة "إرمي" "آرامي" تعني الصابئ والوثني أما كلمة "سرياني" فتعني النصراني حتى اليوم1.
أما "ماش" "Mash"، فهو أحد أبناء "أرام" ذكر في "التكوين"، مع "عوص وحول وجائر" بمعنى أنهم أخوته2. ودعي "ماشك" في "أخبار الأيام الأول"3. ويظن أنهم سكان "ماش" "ماشو" في النصوص الأشورية، أي بادية الشأم4. و"إرم" هو ابن "سام بن نوح" في التوراة5. وتتفق رواية "المسعودي" المأخوذة من أقوال أهل الكتاب ولا شك، مع ما جاء في التوراة من أن "ماش" هو ابن "آرام"، وهو "إرم". وأما ما ذكره على لسان غيره أو لسانه من أن النبط هم "نبيط", وأن "نبيطًا" هو ابن "ماش"، فهو قول لم يرد في التوراة. ولا يعرف العهد القديم شخصًا اسمه "نبيط بن ماش بن أرام". ويقصد المسعودي من "نبيط" "نبايوت"، ولا شك، و" نبايوت" هو الابن البكر لإسماعيل في التوراة6.
أما أنهم سموا نبطًا لكثرة النبط عندهم وهو الماء، أو لاستنباطهم الماء، وإنباطهم الآبار، وما شاكل ذلك من تفاسير وردت في معنى النبط7، فهو كلام كان يسمع في القديم. أما اليوم فلا يمكن أن يقام له وزن.
والنبط في عرف الباحثين هم "نبط" و"نبطو" في الكتابات8، والكلمة
__________
1 لمعرفة ما قيل في أصل لفظة "السريان" وتكونها، راجع: "دليل الراغبين في لغة الآراميين" تأليف القس يعقوب أوجين حنا الكلداني، طبع مطبعة دير الآباء الدومنيكيين في الموصل سنة 1900م "ص 9 وما بعدها".
2 التكوين: الإصحاح العاشر، الآية 22.
3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 207" الإصحاح الأول، الآية 17.
Ency. Bibli., P.,2972
4 Hastings, Pp.,606
5 التكوين: الإصحاح العاشر، الآية 22.
6 التكوين: الإصحاح 25، الآية 3، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 29.
7 ابن دريد: الاشتقاق "2/ 236" طبعة وستنفلد".
"نبطو"، CIS, II, I,P., II 157(5/12)
اسم علم ليس غير مثل سائر أسماء الأعلام، لا علاقة له لا بالماء ولا باستنباط الماء. حار الأخباريون فيه فعالجوه على مألوف طريقتهم بإيجاد معان للأسماء، وتعليلات وأسباب، وظنوا أنهم بهذا التعليل وجدوا سر التسمية ووقفوا عليه، ولا سيما أن النبط زراع، ولهم مياه غزيرة وعلم بالماء، وأن النبط: الماء الذي ينبط من قعر البئر إذا حفرت، فقالوا: النبط من نبط، فالمسألة إذن سهلة هينة. إنهم سموا نبطًا لاستنباطهم ما يخرج من الأرضين، وهو الماء1.
وأشير إلى النبط في حديث عمر: "ولا تستنبطوا"، أي تشبهوا بمعد ولا تشبهو بالنبط. وفي الحديث الآخر: "لا تنبطوا في المدائن" أي لا تشبهوا بالنبط في سكناها واتخاذ العقار والملك. وورد ذكر النبط في خبر مرفوع على ابن عباس: "نحن معاشر قريش من النبط من أهل كوثى ريا، قيل: إن إبراهيم الخليل ولد بها، وكان النبط سكانها"2. وورد في حديث "عمرو بن معد يكرب" حين سأله "عمر" عن "سعد بن أبي وقاص"، فقال: "أعرابي في حبوته، نبطي في جبوته"، أراد أنه في جباية الخراج وعمارة الأرضين كالنبط حذقًا بها ومهارة فيها؛ لأنهم كانوا سكان العراق وأربابها. وفي حديث أبي أوفى: "كنا نسلف نبيط أهل الشأم"3.
ويقال الآن في نجد للشعر العامي "الشعر النبطي" أو "شعر النبط"، ويرى الباحثون في هذا النوع من الشعر أنه منسوب إلى نبط العراق4. وعلى كل فإن لهذه التسمية علاقة باسم هذا الشعب العربي القديم الذي نتحدث عنه.
والنبط الذين قصدهم الأخباريون إذن، هم قبط آخر لا نريدهم نحن في هذا الفصل ولا نقصدهم، هم يقصدون بقايا الشعوب القديمة خاصة النازلين في البطائح منهم، ومنهم مترسبات الإرميين في العراق والشأم، وذلك قبيل الإسلام وفي الإسلام، وكانوا يتكلمون بلهجات عربية ولكن برطانة أعجمية وبلكنة غريبة
__________
1 اللسان "7/ 411" "صادر"، البستان "2/ 2250".
2 اللسان "7/ 411".
3 اللسان "7/ 412".
4 خالد بن محمد المفرج: ديوان النبط، مجموعة من الشعر العامي في نجد. دمشق 1952م "ص: ط"، محمد بن عبد الله بن بليهد النجدي: صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار، القاهرة، 1951م "2/ 189".(5/13)
ظاهرة. أما نبطنا، فهم أصحاب كتابات مدونة بالإرمية، وقد عاشوا في "العربية الحجرية" وفي مناطق أخرى خضعت لسلطانهم لم تكن البطائح منها على كل حال، كما عاش فرع آخر منهم في "تدمر"، وسيأتي الحديث عنهم.
وعندي أن النبط عرب، بل هم أقرب إلى قريش وإلى القبائل الحجازية التي أدركت الإسلام من العرب الذين يعرفون بـ"العرب الجنوبيين". والنبط يشاركون قريشًا في أكثر أسماء الأشخاص، كما يشاركونهم في عبادة أكثر الأصنام. وخط النبط قريب جدًّا من خط كتبة الوحي، وقد قلت إن من العلماء من يرى أن قلمنا هذا مأخوذ من قلم النبط. يضاف إلى ذلك ما ذكرته من وجود كلمات عربية كثيرة من النصوص النبطية المدونة بالإرمية، هي عربية خالصة من نوع عربية القرآن الكريم. لهذه الأسباب أرى أن النبط أقرب إلى قريش وإلى العدنانيين على حد تعبير النسابين من العرب الجنوبيين الذين تبتعد أسماؤهم وأسمء أصنامهم بعدًا كبيرًا عن أسماء الأشخاص والأصنام عند قريش وبقية العدنانيين. أضف إلى هذا ما ورد في التوراة وما عند أهل الأخبار من أن "نبايوت" وهو "نابت" أهل الأخبار، هو الابن الأكبر لإسماعيل، وإسماعيل في عرف النسابين هو جد العرب العدنانيين.
وقد سبب تدوين النبط كتاباتهم بالإرمية خسارة فادحة لنا لا تقدر بثمن؛ لأنه حرمنا الحصول على نصوص بلهجات عربية قديمة نحن في أشد الحاجة إليها، لما لها من فائدة في دراسة تطور اللهجات العربية واللهجة التي نزل بها القرآن الكريم والمراحل التي مرت بها. وخاصة أننا لا نملك من النصوص العربية المدونة باللهجات العربية الشمالية القريبة من عربية القرآن سوى بضعة نصوص.
وبعد "ديودورس الصقلي" أقدم كاتب "كلاسيكي" تحدث عن النبط. يليه "سترابون"، فبقية "الكلاسيكيين" الذين عاشوا بعدها. وفي تأريخ "يوسفوس" اليهودي المتوفى حوالي سنة "95" بعد الميلاد، أخبار مفيدة عن النبط، ولا سيما علاقتهم بالعبرانيين الذين كانوا على اتصال وثيق بهم بسبب الجوار.
وقد تطرق "سترابون" إلى أمور لم يتطرق لها "ديودورس"، أخذها من صديق له اسمه "أثينودورس" "Athenodrous"، وكان فيلسوفًا ولد بين النبط وعاش بينهم. وقد حدثه هذا الفيلسوف أن عددًا كبيرًا من الرومان ومن الغرباء(5/14)
من الجنسيات الأخرى كانوا يعيشون بين النبط، وكانوا في نزاع وخصام بينهم. أما النبط فكانوا على صفاء ووئام، يعيشون عيشة سلام وراحة1. ويتبين أثر اختلاط الغرباء بالنبط، في الآثار الباقية وفي الكتابات اليونانية والرومانية التي عثر عليها في أرض النبط وعلى النقود.
وقد شملت مملكة النبط في أوج أيامها منطقة واسعة ضمت "دمشق" و"سهل البقاع" "بقأث هـ - لينون" "Biq'ath Ha-Lebanon" "Coelesyria"، والأقسام الجنوبية والشرقية من فلسطين وحوران و"أدوم" "Idunaea"، ومدين إلى "ددن" "ددان" وسواحل البحر الأحمر. وثبت أيضًا أن جماعة من النبط سكنت في الأقسام الشرقية من "دلتا" النيل، وقد تركت لنا عددًا من الكتابات2.
ولا يعرف الموطن الأصلي الذي جاء منه النبط على وجه التحقيق، ولا الزمان الذي هاجروا فيه منه. ويظن بوجه عام أنهم كانوا بدوًا في الأصل من سكان البادية الواقعة شرق شرقي الأردن. ثم ارتحلوا نحو الغرب فنزلوا أرض "أدوم" وضايقوا الأدوميين الذين ارتحلوا نحو الشمال والغرب اختيارًا أو كرهًا، فسكنوا في المناطق الخصبة المشرفة على البحر المتوسط. وكان ذلك حوالي "587" قبل الميلاد. ولا يعرف على وجه العموم في الزمن الحاضر شيء ما عن مبدأ تأريخ النبط3.
ويرى بعض العلماء أن النبط هم "نبياطي" المذكورون في أخبار الملك "أشور بنبال" "Aschurbanipal"، وهم أيضًا "نبايوت" "Nebjot= "Nabatene" أولاد إسماعيل في التوراة4. وهم سكان أرض "Nabatene"5.
__________
1 Sir Alexander B.W. Kennedy, Petra, Its History And Monuments, London, 1925, P.,33.
وسيكون رمزه: Kennedy
2 Ency., Vol. Iii, P.801, Clermont Ganneau, Les Nabatiens En Egypte, In Recueil D’arch. Or., Viii, 1924, Pp.229
3 Kennedy, P.29
4 J. Hastings, Encyclopaedia Of Religion And Ethice, Vol., Ix, P.121
وسيكون رمزها: Ency, Relig
5 Josephus Flavius, Antiquities Of The Jews, I, Xii, 4, Col., I, P.,103, A. R(5/15)
ويعارض هذا الرأي بعض آخر، ولا يرى وجود صلة ما بين النبط و" نبياطي" أو "نبايوت"1. وأما النبط المذكورون في "المكابيين"، فهم النبط جماعتنا الذين نتحدث عنهم الآن2.
وقد أطلق "يوسفوس" اسم "النبطية" "Nebaioth" على منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات فتصل بحدود الشأم إلى البحر الأحمر، وهي من مناطق أولاد إسماعيل3. ويظهر من تأريخ "يوسفوس" أن مؤلف هذا التأريخ كان يرى وجود صلة بين اسم "نبايوت" وهو اسم ابن "يشمعيل" "اسماعيل" وبين اسم النبط، وإلى هذا الرأي ذهب أيضًا "جيروم" "Jerome"4.
ومن أخبار "ديودورس" عنهم أن معظم بلادهم قفرة قليلة الماء والقسم المنبت منها قليل، لذلك عاش سكانها عيشة أعرابية، على الغزو، وعلى التحرش بحدود جيرانهم، لعلمهم أن من الصعب على الجيوش تعقب آثارهم والالتحام بهم في البادية لقلة الماء، وإلا تعرضت للتهلكة والموت عطشًا.
أما هم، فلهم آبار مخفية، وكهاريس أغلقت فتحاتها، فلا يعلم أحد من الناس سواهم أين هي؟ يشربون منها متى شاءوا، ويأخذون منها ما يحتاجون إليه. وهم قوم يحبون الحرية ويقدسونها، ويأبون الخضوع لحكم الغرباء. ولهذا لم يخضعوا لحكم الأشوريين أو الميديين أو الفرس أو لحكم ملوك المقدونيين، مع أن هذه الدول أرادت استعبادهم فأرسلت عليهم جيوشًا قوية، ولكنها لم تنجح في تحقيق ما أرادت، ولم تتمكن من السيطرة على هؤلاء الأنباط5.
وقد ذكر عنهم أنهم كانوا يجمعون المطر ويخزنونه في الصهاريج، التي لا يعرف موقعها أحد غيرهم، وأنهم كانوا لا يذيقون ماشيتهم الماء إلا في كل ثلاثة أيام، حتى تتحمل عطش البادية وقلة مائها، وبذلك تتعود هذه البوادي القاسية.
__________
1 E. Schrader, K.L.T., S., 151
2 المكابيون الأول، الإصحاح الخامس، الآية 25، الإصحاح التاسع، الآية 35،
Hastings, P.,649
3 Josephus, Antiqu., I, 12, 4
4 Ency. Bibli., P.,3254
5 Diodorua, 19, 94, 1-100, 3, Die Araber, I, S. 31, 284, J. Cantineau, Nabateen Et Arabe, I, In L’inst. Des Etudes Orient D’alger, 1934-1935, 4(5/16)
أما الناس، فكانوا يعيشون على اللحوم والحليب، يضاف إلى ذلك نوع من "الفلفل" ولب بعض الشجر، حيث تخلط بالماء1.
وقد أخذ "ديودورس" أخباره عن النبط من مؤرخ قبله هو "Hieronymos Of Kardia = Hieronymos Of Cardia، ويعود خبره إلى حوالي السنة "312" قبل الميلاد، إذ تحدث هذا المؤلف عن حملة "انطيغونس" "انتيكونس" "Antigonos" على القبائل العربية، فذكر "النبط" Nabataioi = Nabatoioi وأشار إلى الحملة التي أرسلت عليهم2.
ويتبين من أقدم الأخبار الواردة في الكتب "الكلاسيكية" عن النبط أنهم كانوا في بادئ أمرهم أعرابًا رعاة ماشية، ومنهم أصحاب قوافل يتعاطون التجارة، ويقيمون حول البحر الميت، وكانوا يستخرجون "الاسفلت" من سواحله الشرقية فيحملونه إلى مصر لبيعه إلى المصريين3. وكانت لهم أماكن محصنة تحصينًا طبيعيًّا يلتجئون إليها فيصعب على العدو مباغتتهم ومهاجمتهم في هذه الحصون، كما أن لهم علمًا بصحاريهم وبمواضع الماء فيها، يحتمون بها عند الحاجة، ويتخلصون بذلك من تعقيب الجيوش، ويذكر أنهم جنوا أرباحًا كثيرةً من اتجارهم بالاسفلت، إذ كان المصريون يشترونه منهم لاستعماله في "المومياء"، ولهذا أقبلوا عليه إقبالًا كبيرًا، در على النبط ربحًا طيبًا4.
وقد وصفوا بأنهم كانوا يكرهون الزراعة ويزدرونها، كما كانوا يزدرون السكنى في بيوت مستقرة، وكانوا رعاة يربون الأغنام وبقية الماشية. إذا وجدوا غريبًا بينهم قتلوه؛ لأنهم كانوا يخشون أن يقعوا تحت حكم الأجانب فيفقدوا حريتهم5. ووصف "سترابو" النبط، فقال: إنهم تجار، أقاموا في بيوت من الحجر، وقد اشتغل قوم منهم بالزراعة6.
لقد أظهر هؤلاء الرعاة مقدرة فائقة وكفاية لا تقدر في تكييف أنفسهم وفي
__________
1 Diodorus, 19, 49, Die Araber, I, S., 32
2 Diodorus, 19, 49, 1-100, 3, Die Araber, 1,31
3 Ency., Vol., Iii P., 801, Deities, P.4
4 Die Araber, I, S., 34
5 Die Araber, I, S., 283
6 Dieties, P., 4(5/17)
أخذهم بالأساليب الحديثة في الحياة. تمكنوا من استغلال أرضهم وما فيها من موارد طبيعية، وتعلموا استغلال مناجم النحاس والحديد القديمة في "أدوم"، واستخدام هذين المعدنين المهمين في صنع المواد اللازمة لشؤون الحياة. وأخذوا من "الهللينية" تنظيم المدن وأصول الإدارة والفن وحولوا مدينتهم الصخرية إلى مدينة حديثة جميلة تنطق حتى اليوم بكفاية أصحابها وبقابلياتهم للمدنية. كما اقتبسوا من "الفرث" "Parthian" ما يلائمهم ويوائم حياتهم وحاجاتهم1. وضربوا النقود على طريقة اليونان والرومان فأحسنوا في صنعها وأجادوا وأثبتوا أن العربي كيفما كان أمره قابل للتطور والإبداع والأخذ والاقتباس، وأنه إذا هيئت له الظروف وأرشده المرشدون ووجهوه توجيهًا حسنًا، أفاد نفسه وقومه والبشرية خير إفادة.
ومن النبط انتقلت المصنوعات النحاسية والحديدية المصنوعة في بلاد اليونان أو الشأم أو في بطرا إلى اليمن، وقد كانوا واسطة لنقل "الهيللينية" إلى العرب الجنوبيين. وقد عثر في "خولان" من اليمن على رأس مصنوع من النحاس، محفوظ الآن في المتحف البريطاني، يشبه وجهه الوجوه المطبوعة على النقود النبطية المضروبة في القرن الأخير قبل الميلاد، لذلك يرى الباحثون أنه من صادرات مملكة النبط إلى اليمن، وأنه من المصنوعات المتأثرة بالطابع "الهيلليني"2.
ويحدثنا "ديودورس" أن "انطيغونس" "Antigonus" الذي خلف الإسكندر في سورية، جرد حملة على النبط قوامها أربعة آلاف جندي من المشاة وستمئة فارس جعلها في قيادة صديقه "أثينيوس" "Athenaeus" ليجبرهم على التحالف معه وتأييد مصالحه. وأمره بمباغتتهم وسلب كل ما يمتلكون من ماشية. فسار القائد من مقاطعة "أدوم" "Idumaea" بكل حذر وتكتم لكيلا يعلم أحد من النبط به. وباغت الصخرة في منتصف الليل، فقتل من حاول المقاومة وأسر خلقًا منهم، وترك الجرحى، واستولى على ما وقعت عليه يده من البخور والتوابل والطيب والفضة. ثم أمر قوته بالإسراع بالرجوع، فلما قطعت مسافة مئتي "اسطاديون" أضناها التعب، ونهكها قطع الطريق، فاضطرت إلى قطع
__________
1 M. Rostovtzeff, Ii, Pp.853
2 Rostovtzeff, Ii, P., 855, R. P. Hings, In British Museum Quarterly, Xi, 1937, Pp., 153, H. Shlobies, Forschungen Und Fortschritte X, 1934, S., 242(5/18)
السير للاستراحة في معسكر إقامته. وفيما كان الجنود ينعمون بنومهم، هاجمهم النبط وأعملوا فيهم السيوف، فلم ينج من رجال الحملة إلا خمسون فارسًا هربوا بسلام بعد أن أثخن أكثرهم بالجراح. وكان ذلك كما يزعم "ديودورس" بسبب تهاون رجال الحملة بأمر الحراسة وعدم تصورهم ملاحقة النبط لهم، وتمكنهم من الوصول إلى هذا الموضع في خلال يومين أو ثلاث1.
وذكر "ديودورس" أن اليونان تخيروا الوقت المناسب حينما باغتوا "الصخرة" فقد كان من عادة أهلها الذهاب إلى أسواق مجاوريهم للامتيار ولمبادلة سلعهم بسلع يحتاجون إليها من جيرانهم، تاركين في صخرتهم أموالهم ونساءهم وأطفاهلم وعجزتهم وشيوخهم. ولم تكن الصخرة من حصانتها، مسورة، فانتهز رجال الحملة هذه الفرصة، وباغتوا الحصن على نحو ما ذكرت. فلما بلغ الخبر النبط، تركوا السوق وتراكضوا إلى الصخرة، وأسرعوا يتعقبون أثر اليونان حتى أدركوهم في ذلك الموضع، فانتقموا منهم شر انتقام، وعلموهم درسًا لا ينسى ولا شك في وجوب اتخاذ الحذر والحيطة وتقدير كل أمر حق قدره مهما صغر وتفه، وقد تأتي التوافه بنتائج لا تأتي من عظائم الأمور. أما تأريخ إرسال هذه الحملة، فكان في سنة "312" قبل الميلاد2.
وبعد انتقام النبط ممن حاول استرقاقهم، عادوا إلى الصخرة راضين مطمئنين، فنظموا أمورهم، ثم كتبوا إلى الملك "انطيغونس" كتابًا كتب بالأبجدية السريانية يلومون فيه "أثينيوس" "Athenaeus" على ما فعل بهم، ويعتذرون فيه عما بدر منهم، ويحملون صاحبه وزر صنعه. وقد أجابهم الملك بأن ما حدث لم يكن بعلمه ورضاه، وأن قائده عمل برأيه فخالف أمره، ولذلك فهو يحمله وزره، ويرجوا أن تتحسن العلاقات فيما بينهم وبينه، وأن ينسى ما حدث، وكان غرضه من هذا الكلام التأثير عليهم، وجلبهم إليه ولو إلى حين حتى يرى أمره، فإن أبوا ضرب ضربته. ونال ما أراد.
وبعد مدة هيأ قوة قوامها أربعة آلاف مسلح من المشاة، وأربعة آلاف من الفرسان جعل قيادتها تحت إمرة ابنه "ديمتريوس" "Demetrius"، للانتقام
__________
1 Die Araber, I, S., 33, J. Cantineau, Le Nabateen, I, 1932, Ii
2 Booth, P., Book, Xix, Vi, Kennedy, Pp., 30, Deities, P., Ency. Relig., Vol., 9, P.121, Ency., Iii, P., 801, Die Araber, I, S., 33(5/19)
من النبط بأية طريقة كانت، فلما سمع النبط بقدومها، أمنوا أموالهم في مواضع حصينة يصعب الوصول إليها، ووضعوا عليها حراسة كافية، وسلكوا طرقًا متعددة تؤدي بهم إلى البادية. فلما وصل "ديمتريوس" إلى "الصخرة"، هاجمها بعنف وشدة، غير أنه لم يفلح في اقتحامها والاستيلاء عليها، ورجع بجيوشه قانعًا بالهدايا التي قدمت إليه1.
ويذكر "ديودورس" أن النبط كانوا قد لجأوا إلى اتخاذ أماكن حراسة وضعوا فيها حراسًا، واجبهم تنبيه النبط حين تبدو ظاهرة خطر عليهم، بإيقاد نيران في مواضع مرتفعة من تلك الأماكن، تكون علامة على وجود الخطر. فلما ظهر "ديمتريوس" متجهًا نحو الصخرة، أوقد الحراس النار، فهرب النبط إلى مواضع أمينة من البادية، وتخلصوا مع أموالهم منه؛ لأنه خاف من ملاحقتهم لعدم تمكن جيشه من تعقب آثارهم ولخوفهم من ولوج البادية، وقد كان "المقدونيون" يخشون من دخولها2.
كان النبط من الشعوب العربية التي جمعت ثروة عظيمة، واكتنزت الذهب والفضة بفضل اشتغالها في التجارة وموقعها الممتاز الذي تلتقي عنده جملة طرق تجارية برية كانت عماد طرق القوافل في ذلك الزمن إليها يصل طريق اليمن والعربية الجنوبية المهم الموازي للبحر الأحمر، ومنها يتفرع الطريق إلى مصر والشأم وغزة والمدن الفينيقية على البحر المتوسط، وإليها يصل طريق تجاري آخر مهم يصل الخليج بمدينة "بطرا". ويصل مدينة تجارية أخرى لم يكن شأنها في التجارة أقل من شأن عاصمة النبط، وأعني بها مدينة جرها "Gerrha" على الخليج. فتحمل إليها تجارة الهند وما وراء الهند، وحاصلات إيران والعربية الشرقية لتوزع منها في الشأم ومصر وموانئ البحر المتوسط. وقد عمل ملوك النبط بكل ذكاء على الاستفادة من هذه الطرق واستغلالها لمصحلتهم ومصلحة مملكتهم3. وقد اقتضى ذلك بالطبع وضع حرس قوي لحماية القوافل وإجراء التسهيلات الضرورية لأصحابها والاتفاق مع سادات القبائل لضمان سلامتها مقابل مبالغ تدفع لهم عن المرور "الترانزيت".
__________
1 Booth, Pp., 650, Book, Xix, Vi, Kennedy, P.,31, Die Araber, I, S., 32
2 Diodorus, 19, 94, 6, 19, 2, Die Araber, I, S., 284
3 M. Rostovtzeff, The Social, Ii, P.,481(5/20)
وقد أدت سياسة البطالمة الرامية إلى السيطرة على البحر الأحمر واحتكار التجارة البحرية إلى إلحاق أضرار فادحة بالنبط وبغيرهم من العرب الذين كانوا يتاجرون في البحر الأحمر، فاضطر النبط إلى التحرش بسفن البطالمة وبمهاجمة السفن التي تتجه نحو مصر وبأخذ ما فيها، فاضطر "بطلميوس الثاني" "285-246 قبل الميلاد" إلى إنشاء قوة بحرية لحراسة السفن التجارية، وقد ألحقت هذه القوة خسائر فادحة بأسطول النبط1، منعت النبط أمدًا من التعرض لقوافل البطالمة، غير أن النبط كانوا ينتهزون الفرص، فلما انشغل "بطلميوس" بالحرب مع "سلوقي" سورية عادوا إلى مهاجمة سفن البطالمة والسفن الذاهبة أو الآيبة من مصر2.
وألحقت سياسة "بطلميوس فيلادلفيوس" ومشروعاته الرامية إلى السيطرة على البحر الأحمر وعلى تجارة البلاد الحارة، أضرارًا خطيرة بالتجارة العربية، أثرت تأثيرًا سيئًا جدًا في الوضع السياسي في جزيرة العرب. إذ أفقدت العرب السيطرة على البحر الأحمر وأوجدت لهم منافسين خطيرين نافسوهم في أسواق إفريقية والهند، ولم يكن من السهل التغلب عليهم، بفضل ما أدخلوا على سفنهم من تحسينات فنية وابتكارات، وما خصصوا بها من قوات لحمايتها من تعرض سفن العرب لها. وقد ابتنى "بطلميوس فيلادلفوس" مدينة "Berenice" على خليج العقبة "Atlantic Gulf" لحماية التجار والسفن من تعرض النبط. ولعل ميناء "امبلونه" "Ampelone" الذي أسسه تجار الروم في جزيرة العرب على ساحل البحر الأحمر تجاه "العلا" على رأي بعضهم، هو من المواضع التي أنشئت لهذه الغاية في هذا الزمن3. وبإنشاء هذه المواضع سيطر اليونان على البحر والطريق التجاري القريب منه، كما تمكنوا من ضمان الحصول على حاجاتهم بشراء ما يريدون من حاصلات الجزيرة ومن بيع ما يريدون بيعه في هذه الموانئ أيضًا.
وكان من نتائج هذه السياسة التي اقتفى أثرها من جاء بعد "بطلميوس فيلادلفوس" من الملوك والقياصرة، مشاطرة تجار العرب أرباحهم العظيمة التي
__________
1 Strabo. Iii, P.,204
2 Murry, The Rock City Petra, P.,80, Die Araber, I, S., 285
3 M. Rostovitzeff, The Social., Vol., I, P.,387(5/21)
كانوا يجنونها من الاتجار مع مصر والشأم. فلم يدخل في إمكانهم وضع الأسعار كما يريدون ويشتهون كما كان ذلك سابقًا. إذ وضع سادة بلاد الشأم ومصر الجدد أسعارًا ثابتةً للبضائع العربية والهندية التي تصل إلى بلادهم، كما فرضوا عليها ضرائب معينة بحسب قوائم جديدة. وبذلك تحكموا في الأسعار التجارية العالمية، وحرموا تجارة جزيرة العرب وسادتها من ملوك متاجرين وأسر غنية متنفذة ربحًا عظيمًا، وألحقوا بخزانتهم خسائر كبيرة. وكان من أثر هذه السياسة الصارمة هبوط الأسعار هبوطًا بينًا في الأسواق1.
وقد تمكن الباحثون في تأريخ النبط من ضبط أسماء جملة ملوك حكموا النبط. ولا نستطيع اليوم ذكر اسم أول من أسس مملكة النبط، ولا الزمن الذي أسست فيه تلك المملكة ولا الأسرة التي نسلت أولئلك الملوك. وكل ما نستطيع قوله هو أن استقلال النبط كان قبل الميلاد، وأننا نعرف أسماء بضعة ملوك حكموا قبل الميلاد، بصورة أكيدة لا مجال فيها لأي شك، كما نعرف أسماء ملوك كان حكمهم بعد الميلاد.
ويكثر اسم "الحارث" "أرتاس" "ارتياس" Aretas = Arethas بين أسماء الملوك، حتى لقد ذهب الظن ببعض الباحثين إلى أن هذا الاسم هو لقب، وأنه في معنى "فرعون" بالنسبة إلى ملوك مصر، و" قيصر" بالنسبة إلى ملوك الرومان والروم، و"النجاشي" بالنسبة إلى ملوك الحبشة، و"كسرى" بالنسبة إلى ملوك الفرس، و"تبع" بالنسبة إلى ملوك اليمن2. أما الاسم الذي يليه في المرتبة فهو "عبادة" و"مالك" و"رب ال" "رب ايل". وذهب بعض آخر إلى أن لفظة "Aretas" هي اسم الأسرة الحاكمة التي حكمت النبط، وأنها من أصل "آرامي" هو "حرتت" "Charethath"3.
وفي الفصل الخامس من أسفار "المكابيين الثاني" أن "أرتاس" زعيم العرب طرد "ياسون" "Jason" من أرضه "فجعل يفر من مدينة إلى مدينة والجميع ينبذونه ويبغضونه بغضة من ارتد عن الشريعة، ويمقتونه مقت من هو قتال لأهل
__________
1 Rostovtzeff, The Social., Vol., I, P., 387
2 The Bible Dictionary, Vol., I, P.107
3 Hastings, P.48(5/22)
وطنه حتى دحر إلى مصر"1. ويظهر من هذه الآية أن الحارث كان قد طرد "ياسون" من أرضه، وتغلب عليه، وصار يتعقبه حتى هرب إلى مصر. وكان "ياسون" قد اختلف مع أخيه "أونياس الثالث" "Onias III" في يهوذا على الكهانة العظمى. وقد حكم "أرتاس" أي "الحارث" المعروف بـ"حرثت" "حرتت" "حارثة" "Harithat" في الكتابة النبطية في حوالي سنة "169" قبل الميلاد. ونظرًا إلى أنه أول ملك وصل اسمه إلينا في الأخبار، أطلق الباحثون عليه لقب "الأول" تمييزًا له عن بقية من جاء بعده حاملًا هذا الاسم2.
ويلاحظ أن الآية المذكورة لم تلقب "الحارث" بلقب "ملك"، وإنما نعتته بـ "زعيم"، أو بما شابه ذلك من معان، هي دون درجة "ملك". أما الموارد التأريخية، فقد لقبته بلقب "ملك"3.
وقد وردت كلمة "النباطيين"، وهم النبط، في موضع من الفصل الخامس من سفر المكابيين الأول، وذكرت بعدها بجملة آيات كلمة "العرب". وكان هؤلاء العرب يشدون أزر "تيموتاوس" الذي حارب "يهوذا المكابي" "يهوذا مكابيوس" "Judas Maccabaeus" "161 ق. م."4 أما النبط فكانوا على وئام مع المكابيين: "يهوذا المكابي" وأخوه "يوناتان" وكانت صلاتهم بجيرانهم المكابيين حسنة. ويظهر من الآية التي ذكر فيها اسم "العرب" أن "تيموتاوس" وأنصاره كانوا قد استأجروا العرب للقتال معهم5. وأغلب الظن أن المراد بـ "العرب". في هذه الآية هم جماعة من الأعراب.
وطلب "يوناثان" "المتوفى سنة 143ق. م." –الذي انتخب مكان أخيه يهوذا المكابي بعد مقتله- من النبط مساعدتهم، أن يعيروه عدة يستعين بها على أعدائه، وذلك حين طلب "بكيديس" قتله. وأرسل "يوحنا أخاه في جماعة
__________
1 المكابيون الثاني، الفصل الخامس، الآية 8.
2 Ency. Bibli., Vol., 9, P.121, 296
3 Die Araber, I, S. 290
4 Ency.. Vol., Iii, P.801, Ency Relig Vol., 9, P.121, E. Schrader, Klt, S., 152, Ency. Bibli., P.2853
5 المكابيون الأول، الفصل الخامس، الآية24 وما بعدها.(5/23)
بقيادته يسأل النباطيين أولياءه. أن يعيروهم عدتهم الوافرة"1. فلما كان يوحنا في "ميدبا" "مأدبا"، خرج عليه "بنو يمرى" وقبضوا عليه وعلى كل من كان معه وذهبوا بالجميع2. ويظهر من إرسال "يوناثان" أخاه النبط ومن جملة "يسأل النباطيين أولياءه" الواردة في "المكابيين" أن علاقة المكابيين بالنبط كانت حسنة جدًّا، وأن النبط كانوا إذ ذاك أقوياء أصحاب عدة وعتاد.
وأما "بنو يمري" Bene- Amri/Jambri الذين قتلوا "يوحنا" شقيق "يوناثان"، وهو المعروف بـ "يوحنا المكابي"3، فقبيلة عربية يظهر أن منازلها كانت في "ميدبا" "مادبا" من أقدم مدن "مؤاب"4، وهي تبعد ثمانية أميال إلى الجنوب الشرقي من "حسبان" "Heshbon" و"14" ميلًا شرقي بحر "لوط"5، وهي مدينة "Mydava" التي ذكرها "بطلميوس" وذكر أنها تقع في "العربية النبطية" "Arabia Petraea" و"اندبه" "Undaba" و" Unddaba" لدى "أويسبيوس" و"Medaba" لدى "جيروم"6. وصارت في العصور المسيحية مركزًا لأسقف المقاطعة المعروفة باسم "المقاطعة العربية" "Provincia Arabia". ولا نعرف في الزمن الحاضر شيئًا من أمر هذه القبيلة "Bene Amr"، التي لا يستبعد أن يكون اسمها الصحيح "بنو عمرو".
وذكر "يوسفوس" أن "يوناثان" وشقيقه "سمعان" "Simon" سمعا أن "بني عمرى" "Bene Amri" "Amaraeus" سيقيمون عرسًا عظيمًا ويزفون العروس من مدينة "Gabatha" = "Gabbatha"، وهي من أشراف العرب، فقررا الانتقام من قتلة شقيقهما، فذهبا مع قوة كبيرة ووضعا كمينًا في "ميدابا" "مادبا". فلما وصل الموكب، خرج الكمين، فسقط قتلى كثيرون، وهرب من تمكن من النجاة إلى الجبل7.
__________
1 سفر المكابيين الأول، الفصل التاسع، الآية 35.
2 سفر المكابيين الأول، الفصل التاسع، الآية 36،
DUBNOW, II, S., 79, JOSEPHUS, ANTIQU., XIII, I, II
3 "يوحنا مكابيوس"، قاموس الكتاب المقدس "2/ 397".
4 "مادبا" DUBNOW, II, S., 79
5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 397"، Ency. Bibli., P.3002
6 Ency. Bibli., P.3003
7 Josephus, Antiq., Xiii, I, Iv(5/24)
وحكم بعد "الحارث الأول" الملك "زيد ال" "زيد ايل"، وذلك في حوالي السنة "146" قبل الميلاد. ثم الملك "الحارث الثاني" "حرتت" حرثت"، الذي حكم حوالي سنة "110" قبل الميلاد، ودام حكمه حتى حوالي عام "96" قبل الميلاد1.
ويرى "شرادر" أنه حكم حوالي سنة "139" قبل الميلاد، ودام حكمه حتى سنة "97" قبل الميلاد2. ويرى بعض آخر أنه حكم حوالي سنة "120ق. م." 3. ويظهر أنه كان يعرف بـ "ايروتيموس" "Erotimus" = "Herotimus"4 ويظن "شرادر" أنه هو الذي قصده "يوسفوس" حين ذكره في حوادث سنة "97" قبل الميلاد5.
وتوقف بعض آخر في تثبيت اسم من حكم بعد الحارث الأول، فوضع فراغًا قدره بنحو نصف قرن، ذكر أنه لا يدري من حكم فيه، ثم وضع بعده اسم "الحارث" الثاني المعروف بـ "Erotimus II"، وقد قدر حكمه فيما بين السنة "120" والسنة "96" قبل الميلاد6.
ولم تصل إلينا أخبار واضحة أكيدة عن هذا "الحارث". ويذكر المؤرخ اليهودي "يوسفوس" أن أهل "غزة" طلبوا منه العون والمساعدة ليتمكنوا من الثبات أمام محاصرة "اسكندر جنيوس" "Alexander Jannaeus" لمدينتهم، غير أنه خيب آمالهم، فلم يساعدهم. وقد نعته هذا المؤرخ بـ "ملك"، مما يدل على أن هذا اللقب صار لقبًا رسميًّا لحكام النبط في هذا العهد7.
وذكر أن "ايروتيمس" "Erotimus" = "Herotimus" "الحارث الثاني"، كان قد اهتبل فرصة ضعف الأوضاع في مصر وبلاد الشأم، فهاجم بأولاده وبجنوده تلك الأرضين، وغنم منها غنائم كثيرة، فكون بذلك لنفسه وللعرب
__________
1 Ency., Iii, P.801, Ency. Relig., Vol., 9, P.121
2 Schrader, Klt, S. 153
3 Die Araber, I, S., 290
4 Ency., Iii. P.,801, Ency. Relig., Vol., 9, P.121
5 Schrader, Klt, S., 153
6 Deities, P.540
7 Josephos, Ant., 13, 360, Die Araber, I, S., 290(5/25)
صيتًا بعيدًا1.
وتبين للنبط على ما يظهر أنهم إذا استمروا في تأييدهم ومساعداتهم للحسمونيين "Hasmoneans" المناضلين للخلاص من حكم السلوقيين السوريين، ألحقوا أضرارًا بمصالحهم الخاصة وبحكومتهم نفسها، فلم تكن سياسة المكابيين مقتصرة على طلب الاستقلال التام والخلاص من الحكم الأجنبي، بل كانت تنطوي على الاستيلاء على الأردن والتوغل في مناطق النبط نفسها، وإنشاء حكومة قوية قد تزاحم حكومتهم في يوم من الأيام، فرأوا أن من الخير لهم أن يدعوا هذا التأييد، وأن يقاوموا إن احتاج الأمر إلى المقاومة. وقد حدث ذلك بالفعل في عهد الملك المكابي "اسكندر جنيوس" "اسكندر ينيوس" "Alexander Jannaeus" "103-76 قبل الميلاد" حيث وقعت حرب بينه وبين النبط بسبب الأردن2.
فلما تمكن الملك الماكبي مستعينًا بجنود مرتزقة من اليونان ومن أهل آسية الصغرى ومن "المؤابيين" ومن "الجلعاديين" أهل "جلعاد"، وهم من العرب كما يقول المؤرخ اليهودي "يوسفوس"3، وأجبرهم على دفع الجزيرة اصطدم بمعارضة الملك "عبادة" "Obedas" الذي أعلن حربًا عليه، كان "اسكندر" يهلك فيها لولا الأقدار التي احتضنته ففر مسرعًا هاربًا بنفسه إلى القدس، وبذلك كتب لنفسه السلامة والنجاة4.
إن "عبادة" "Obedas" = "Obedas" = "Obedath" هذا الذي ذكره "يوسفوس"، هو "عبادة" المعروف عند المؤرخين بـ "عبادة الأول" تمييزًا له عن ملوك آخرين عرفوا بـ Obedas، وقد حكم حوالي سنة تسعين قبل الميلاد5. وجعل "شرادر" حكمه في عام "93" قبل الميلاد. وقد ورد اسمه مضروبًا على النقود6.
__________
1 Die Araber, I, S. 290
2 The Universal Jewish Encyclopedia, Vol., 8, P.79
3 Josephus, Antiq., Xiii, Xiii, 5, The Jewish War, Book, 1, Iv, 3-4
4 Dubnow, Ii, S., 160, The Cambridge Ancient History, Vol., Ix, Pp.399
5 Ency. Relig., Vol., 9, P.121, Ency., Iii, P.801, The Cambridge Ancient History, Vol., Ix, P.409
6 Die Araber, I, S., 291, Schrader, Klt., S. 153(5/26)
لم ينعم "اسكندر جنيوس" "اسكندر يانيوس" بعد عودته إلى القدس بأيام طيبة هادئة، فلقد جوبه بمعارضة قوية وبجماعة شديدة أخذت تعارض سياسته وتقاومه، ودبت الفتنة في كل مكان من مملكته وبلغ من حقد الجماعة عليه أنها استدعت "ديمتريوس أويكروس" "Demetrius Eukarus III" المعروف بالثالث من بقايا حكام مملكة السلوقيين السوريين المتداعية ونصبته ملكًا عليها وحاكمًا1.
وهكذا نجد الشعب اليهودي الذي استعاد استقلاله يعود إلى طبيعته الأولى، فينقسم على نفسه، ويشعل نار حرب أهلية في مملكته، ويفضل حكم الغرباء على حكم أبنائه. ولما وجد الملك المكابي مركزه حرجًا وخصمه قويًّا وأنه قد يتغلب عليه، وأن له في الجنوب خصمًا آخر طموحًا أقوى من خصمه "ديمتريوس" وأعنف، رأى التودد إلى العرب والتحبب إليهم، فنزل لهم عن "موآب" و" جلعاد" وعن أماكن أخرى كان يخشى من احتمال انضمامها إلى خصومه، وقدمها إلى ملك النبط وتساهل في أمور أخرى ليأمن على ما تبقى من مملكته على الأقل2.
وأما "ديمتريوس" الذي ترك "يهوذا" "Jubaea" وارتحل عنها، فقد ذهب إلى "حلب" "Boroea"، وانتصر على أخيه "فيليب" "Philip"3. غير أن "ستراتو" "Strato" حليف "فيليب" وأحد حكامه، أسرع فاستنجد في "Zizus" بسادات القبائل العربية وبالفرث "Parthians"، فأنجدوه وساروا بقوات كبيرة على "ديمتريوس" فانتصروا عليه4.
وحكم بعد "عبادة الأول" ملك اسمه "رب ال" "Rabb'il" = "Rabilus". يظهر أن حكمه كان حوالي السنة "87" أو "86" قبل الميلاد. ويعرف عند المؤرخين بـ "رب ايل الأول" تمييزًا له عن عدد من الملوك حكموا بعده عرفوا باسم "رب ايل"5. وقد عثر على كتابة وسمت بـ "CIS II, 349"6، مؤرخة في شهر "كسلو" وشهر "شمادا" "Schemada" في قراءة7 و" شمارة"
__________
1 Dubnow, Ii, 160
2 Josephus, Antiq., Xiii, Xiv, 3, Note 2
3 Josephus, Antiq., Xiii, Xiv, 3, Note 2
4 المصدر نفسه.
5 Ency., Iii, P.801, Ency. Reli., Vol., 9, P.121, Schrader, Klt, S., 153.
6 Cis, Pars, Secunda, Tomus, I, Fasculus Tertius, P.306.
وسيكون رمزه: CIS.
7 Provincia Arabia, R, S., 312(5/27)
"شمرة" "Schamara" في قراءة أخرى1 من سنة "18" على قراءة2 أو سنة "16" على قراءة أخرى من سني ملك اسمه "حرتت ملك"، أي "حارث الملك"، أو "الملك الحارث" بتعبير أصح. وقد دونت هذه الكتابة على قاعدة تمثال عثر عليه سنة "1898م" عند "بطرا" "Petra"3 دونت عليها: "هذا تمثال رب ايل ملك النبط بن ... ت ملك النبط عملها.... ب رحيم "حيم" "ننى" "مجنى" الأقدم"4. فيظهر من هذه الكتابة أن تمثالًا أقيم للملك "رب ايل" عمل في السنة الثامنة عشرة أو الساسة عشرة من سني ملك اسمه "حرتت"، أي "الحارث"، وأن الذي عمل التمثال شخص لعب القدر ببعض حروف اسمه الأول، فلم يبق منه إلا الحرف الأخير، وهو "ب"، كما لعب في طمس معالم بعض الحروف الأخرى من الاسم، حمل الباحثين على الاختلاف في قراءتها.
أما اسم الملك وهو "رب ال ملك نبطو"، فهو ظاهر واضح. وأما اسم أبيه الذي هو "ملك نبطو" أي ملك النبط، فقد سقطت حروفه ولم يبق منه إلا الحرف الأخير وهو "ت"، لذلك اختلف فيه الباحثون، فمنهم من قرأه "عبدت"، أي "عبادة"، فجعل لذلك "رب ايل" ابنًا له، أي لـ"عبادة الأول"، ومنهم من قرأه "حرتت"، أي "الحارث"، فجعل أباه ملكًا اسمه "الحارث"5.
ولا نعرف شيئًا يذكر من أعمال "رب ايل". ولعل ما ذكره "اصطيفان البيزنطي" "Stephanos Of Byzanz" نقلًا عن "أورانيوس" من أن ملك العرب المسمى "ربليوس" "Rabilus" = "Rabilos" قتل "انتيغونس" "Antigonos" المقدوني في موضع يقال له "Matho"، وهو قرية عربية، أريد به الملك "رب ايل" الذي نتحدث عنه. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن المراد
__________
1 Cis, Ii, I, Iii, P.306
2 Provincia Arabia, I, S., 312
3 Provincia Arabia, I, S., 312, Nr. 405, J. Cantineau, 2, I
4 Cis, Ii, I, Iii. P.306, Provincia Arabia, I, S., 312, Clermont-Ganneau, Recueil D’archeol. Orientale, Ii, Pp.221, Syria, Tome, Iv, 1923, P.152
5 Die Araber, I, S., 295, Deities, P.540(5/28)
من لفظة "موثو" "موتو" الموت، وأن المقصود موضع الموت أو قرية الموت، لما وقع فيها من موت، فعرفت به1.
ولا نعلم من أمر "رب ايل" شيئًا يذكر، والظاهر أن حكمه كان قصيرًا جعله بعضهم نحو سنة، أي سنة "87 "قبل الميلاد، ثم وضع بعده حكم "الحارث" المعروف بالثالث2. وهو من أشهر الملوك المتقدمين من النبط، وأخباره أوضح من أخبار من تقدمه ممن ذكرت. وقد ذهب بعضهم إلى احتمال كونه هو "اروتيموس" "Erotimus" المذكور في التواريخ اليونانية3. وذهب بعض الباحثين إلى أن حكم الحارث كان من سنة "85" حتى سنة "60 "قبل الميلاد، أو من سنة "87" حتى سنة "62" قبل الميلاد4. وإذ صح أنه أدرك سنة "62" أو "60" قبل الميلاد، يكون الرومان قد استعادوا مدينة دمشق في أيام هذا الملك، إذ يرى كثير من المؤرخين أن "اللجيونات" الرومانية العاملة بإمرة القائدين "لوليوس" "Lollius" و"ميتيلوس" "Metellus" قد احتلت المدينة عام "65" قبل الميلاد، ثم دخلها "بومبيوس" في سنة "64" قبل الميلاد5. وذهب بعض الباحثين إلى أنه اضطر إلى إخلاء "دمشق" سنة "70" قبل الميلاد، إذ لم تستطع جيوشه الوقوف أمام جيش الملك الأرمني "تيكرانس" "Tigranes" التي زحفت على بلاد الشأم6.
وقد عرف الحارث الثالث بـ "فيلهيلن" "Philhellen"، وهو لقب يوناني "Aretas Philhellene"، معناه محب اليونان. وقد اشتهر بتوسيعه رقعة ملك النبط. فما هاجمه "أنطيوخس الثاني عشر" "أنطيخس" "Antiochus XII" وأخذ يتوغل في أرض النبط، أسرع "الحارث" فجمع قواته ووقف بحزم أما القوات المهاجمة، ثم اصطدم به عند موضع "Kana" "Cana"، حيث قضى على معظم جيش "أنطيوخس" وألحقه مع من قتل بالعالم الآخر. وقد
__________
1 DIE ARABER, I, S., 294.
2 DIE ARABER, I, S., 291
3 DIE ARABER, I, S., 292
4 SCHRADER, KLT, S., DEITIES, P.540
5 ENCY. BIBLI., P.991, DEITIES, P.540
6 DEITIES, P.541(5/29)
وقعت هذه المعركة في سنة "86" أو "84-83" قبل الميلاد1.
ويرى بعض الباحثين استنادًا إلى النقود التي ضربت باسم "أنطيوخس"، بسنة "87-86" قبل الميلاد، والتي استمر ضربها ثلاث أو أربع سنين، ثم انقطعت
أن نهاية هذا الملك كانت بسنة "85-84" أو "84-83"، وهي السنة التي قتل فيها، وانتهت بانتصار "الحارث" عليه2.
وقد مكن سقوط "أنطيوخس" في تلك المعركة النبط من تقوية أنفسهم ومن شد عزمهم، فلما مات الملك "رب ايل" الأول سنة "87" قبل الميلاد على بعض الآراء، وتولى "الحارث" الثالث "حارثة" "Aretas" الحكم من بعده انتهز تلك الفرصة فاستولى سنة "85ق. م." على دمشق، وتوسعت بذلك رقعة مملكته وأحاطت بملكة المكابيين من الشرق والجنوب3.
وقد افتتح عهد "الحارث الثالث" باستيلائه على "دمشق" وعلى "سهل البقاع" "Coike-Syria" = "Koike-Syria"، فقد استدعاه أهلها لإنقاذهم من مهاجمة "اليطوريين" "Ituraer" لهم، بقيادة ملكهم "بطلميوس بن منيوس" "Ptolemaios Mennaios"، أي "بطلميوس بن معن". وهو من أصل عربي أيضًا، فاسرع إليها، وكانت يومئذ قصبة "السلوقيين"، فاستولى عليها، ودخلت في جملة أملاكه4، ولقبه أهلها "محب اليونان وحاميهم" "Philhellen"؛ لأنه أنقذهم من "غزو الأعراب" لهم5.
الآن وقد أصبح "الحارث" ملكًا على مملكة واسعة الأطراف، وتشرف على مملكة "يهوذا" المتداعية، وبإمرته جيش قوي، كان لا بد له من التداخل في
__________
1 “Cana” “Kana” على ساحل البحر المتوسط عند "يافا"،
The cambridge ancient history, vol., 9, p.400, josephus, antiq., xiii, xv, i. Vol., 2, p.428, the jewish war, book, i, iv, 7-8, die araber, i, s., 294, dubnow, ii, s., 163, Hastings, p.147, deities, p.540.
2 Die araber, i, s., 294
3 Bernhard stade, geschichte des volkes israel, ii, s., 504, berlin, 1888, deities, p.540
4 Die araber, i, s., 294, b. Stade, ii, s., 405
5 Die araber, i, s., 298, r. Dussaud, penetration, 55, a. Kammerer, petra et la Nabatene, 1929, i, 515, a. R. Bellinger, 78(5/30)
شؤون هذه الجماعات المتخاصمة المتنافرة التي تكون مملكة، ولكنها لا تخضع لملك ولا لسلطان. وإذا لم يتدخل هو بنفسه فإن الأحزاب اليهودية نفسها لا تتركه على الحياد. وهذا ما حدث. فغزا "الحارث" أرض يهوذا، وفي معركة واحدة وقعت عند موضع "اديدا" "Addida" = "Adida" انهار الجيش اليهودي، وتشتت شمله، فلم يبق أمام "اسكندر ينيس" "Alexander Jannaeus" = "Alexander Jannaios" غير طلب الصلح، فعقد الصلح، وعاد النبط إلى ديارهم إلى حين1. ولم يشر المؤرخ "يوسفوس" إلى محتويات معاهدة الصلح2.
أما "Adida "= "Addida" المكان الذي وقعت فيه المعركة، فهو "الحديثة" على مقربة من "اللد" "Ludda"، المسماة أيضًا باسم "Diospolis"3، وقد عرفت "Adida" باسم "حاديد" "Hadid" و"حديد"Hadid" و"Aditha"4.
لقد تمكن "الحارث" من بناء جيش يعتمد عليه في المعارك، فبعد أن كان جيش النبط في بادئ أمره جماعات غزو غير منظمة ولا منسقة تهاجم عدوها وتباغته على طريقة الأعراب ثم تتراجع، يسيرها العرف القبلي، تحسن جيش النبط بعض التحسن، وأدخلت على القوات الراكبة بعض الإصلاحات، غير أنها بقيت مع ذلك متأثرة بروح البداوة، التي لا تقبل الخصوع للأنظمة والأوامر، والتي لا تهتم إلا بالغنائم، فإذا حصلت عليها رجعت إلى مواطنها دون تفكير في العاقبة. فلما استولى "الحارث" علىدمشق، وفيها عدد كبير من اليونان، انضم بعضهم إليه، فعملوا على تحسين جيشه وتدريبه، وعلى تكوين جيش مدرب نظامي، استعان به في تقوية مركزه حتى صار به من أقوى ملوك النبط الذين حكموا حتى أيامه، مما حمله على التدخل في شؤون مملكة يهوذا، ثم على مجابهة الرومان، وهم أصحاب جيوش منظمة مدربة، بجيش لم يتعود دخول الحروب النظامية، فتغلب الرومان من ثم عليه.
__________
1 Josephus, XIII, XV, 2, Vol., II, P.428, Dubnow, II, S., 163, The Cambrodge Ancient History, Vol., IX, P.400
2 DIE ARABER, I, S., 298.
3 Hastings, P.12, 324, ncy Bibli., P.1932
4 المكابيون الأول، الفصل الثاني عشر، الآية 38، الفصل الثالث عشر، الآية 13،
Ency. Bibli., P.65, 1932. Jerome, Onom., 93, Die Araber. I, S., 298(5/31)
فلما دب الخلاف بين الأخوين "أرسطوبولس" "Aristobolus" و"هركانوس" "Hyrcanus"، ابني "اسكندرة" "Alexandra" على الملك، وانقسمت "يهوذا" إلى أحزاب وجماعات أبرزها جماعة "الفريسيين" "Pharise'es" يؤيدون "هركانوس" وجماعة "الصدوقيين" "Sadduce'es" أنصار "أرسطوبولس"، وجمع "أرسطوبولس" حوله أنصاره وجيشًا من العرب ومن جنود مرتزقة، وتفوق على أخيه، طلب "هركانوس" مساعدة النبط، وبعث صديقه "انتيبطر" "انتيباطر" "Antipater" إلى "بطرا" ليتوسط لدى "الحارث"، وكان صديقًا له، في أمر مساعدة "هركانوس" وفي أمر الالتجاء إليه. فلما نجحت الوساطة، هرب من القدس ليلًا متجهًا إلى النبط، وطلب من الملك بإلحاح أن يعيده إلى "يهوذا"، وأن يأخذ له التاج من أخيه، ويثبته في ملكه، ويتعهد في مقابل هذه المساعدة بإعادة المدن الاثنتي عشرة التي أخذها أبوه "اسكندر" من العرب، وهي: "مادبا" "مأدبا" "Medaba" و"نبالو" "Naballo" و"ليبياس" "Libias" و"ثربسة" "Tharabasa" و"اكله" "Agalla" و"اتونه" "Athone" و"زوره" "Zoara" و"اورونه" "Oronae" و"ريده" "Rydda" و"لوسه" Lusa" و"اوريبه" "Oryba" و"مريسه" "Marissa" إلى النبط. فوافق "الحارث" على هذه الشروط، وهجم على "يهوذا" "66-65ق. م." بجيش قوامه خمسون ألف جندي راجل وفارس شتت شمل أصحاب "ارسطوبولس" وتركه وحده، فهرب إلى القدس، فتعقبه الحارث على رأس جيش عربي يهودي كبير، وأحكم عليه الحصار، وكادت العاصمة تسقط في يديه لولا حدوث تطور سياسي عسكري خطير قلب الوضع، ذلك هو هجوم الرومان فجأة في أيام "بومبيوس" على دمشق وسورية وهجوم قائدهم "سكورس" "Scaurus" على "يهوذا" وتدخله في هذا النزاع1.
لقد كان تقدم الرومان هذا في بلاد الشأم تهديدًا صريحًا لليهود وللنبط. أدى بعد قرون إلى الاستيلاء التام على كل فلسطين والأردن وإلحاقهما بالمستعمرات الرومانية. وقد كانت فاتحة ذلك تدخل الرومان في شؤون يهوذا. وتوجيه إنذار
__________
1 Joseohus, XIV, I, 4, II, 1-3, Dubnow. II, S., 172, Josephus, The Jewish WAR, 302.
تاريخ يوسفوس اليهودي، المطبعة العلمية، بيروت "ص 115".(5/32)
إلى "الحارث" بوجوب فك الحصار عن "القدس" والتراجع عن يهوذا مع جميع جيشه فورًا إن أراد أن تكون علاقاته بـ "رومة" حسنة، وإلا عد عدوًّا لها ومشاكسًا. وقد أدرك "الحارث" أن جيشه لا يستطيع الوقوف أمام جيوش الرومان المدربة المنظمة المسلحة تسليحًا جيدًا حديثًا بالنسبة إلى أسلحة النبط. ففك الحصار، وتراجع ومعه "هركانوس"، فاغتنم "أرسطوبولس" الفرصة، وكان قد اكتسب ثقة "سكوروس" قائد الرومان، وتعقب المتراجعين في طريقهم إلى "ربت – عمان" "فيلادلفيا" "عمان"، فالتحم بهم في معركة عند موضع اسمه "بابيرون" "Papyron"، فانتصر على "الحارث" وقتل ستة آلاف من أتباعه1.
وتعقدت الأمور ثانية بين الرومان والنبط، وهدد "سكوروس" النبط بالزحف عليهم وتخريب بلادهم، وقرر الحارث في بادئ الأمر تحديه، ثم وجد أن من المستحيل عليه الثبات له، وتوسط "انتيباتر" فيما بينه وبين "سكوروس" بأن يدفع الحارث جعالة للرومان، وتصالح بذلك معهم، وقد سر "بومبيوس" من هذه النتيجة حتى أنه أمر بوضع صورة "الحارث" في موكب نصره، كما سر "سكوروس" بذلك إذ أمر بضرب نقد، صور الحارث عليه وقد أحنى رأسه راكعًا وحاملًا سعفة تعبيرًا عن استسلامه له2.
لقد وقع كل ذلك في حوالي السنة "62" قبل الميلاد، السنة التي هلك فيها هذا الملك، وذهبت بوفاته معه كل آماله وأحلامه في أن يكون وريث مملكة السلوقيين في بلاد الشأم. ولعل النكسة التي وقعت له قد أثرت فيه فجعلت منيته.
وقد ورد اسم "الحارث" في كتابة عثر عليها في القسم المعروف بـ "المدراس" "المدرس" "Elmadras" من "بطرا"3. و"المدراس" معبد خصص بعبادة الإله "ذو الشرى" "Duschara" إله النبط الكبير. وقد دونها أحد قواد الملك في السنة السادسة عشرة أو السابعة عشرة من حكم "حرتت" "Haritat"
__________
1 Josephus, XIV, II, 1-3, Vol., 3, PP.4, Dubnow, II, S., 176, The Cambridge Ancient History, Vol., IX, P.382, Die Araber, I, S., 302.
2 Die Araber, I, S., 303, J. De Morgan, Manuel De Numisme Orient., 2, 1924, 237.
3 Provincia Arabia, I, S., 209.(5/33)
في مناسبة تقربه إلى الإله "ذو الشرى" بصنم لخيره ولخير ملكه1.
وحكم بعد "الحارث الثالث" ابنه الملك "عبادة الثاني"، حكم من سنة "62" حتى سنة "47" قبل الميلاد، أو من سنة "62" حتى سنة "60" على رأي آخر2. ولا نكاد نعرف من أمره شيئًا يذكر. وقد عثر على نقد، من الفضة ضرب بأمره وهو من فئة الـ "دراخما" "Dirakhma"، ضرب في السنة الثانية أو الثالثة من سني حكمه. وقد صور عليه وجه الملك حليقًا، وشعر رأسه قصيرًا3.
ويظهر من رواية أوردها المؤرخ "يوسفوس" أن القائد "A. Gabinius"، انتصر على النبط في إحدى المعارك، وأن النبط قد هزموا هزيمة منكرة. ولم يذكر اسم الملك الذي انتصر عليه هذا القائد. وإذا أخذنا برواية من يجعل هذا الانتصار في السنة "55" قبل الميلاد4. فمعنى هذا أن الملك المغلوب هو "عبادة الثاني" على رأي من يرى أنه حكم من سنة "62" حتى سنة "47" قبل الميلاد، أو في أيام "مالك الأول" على رأي من يجعل ابتداء حكم هذا الملك من سنة "60" قبل الميلاد.
وحكم الملك "مالك" "Malichus" = "Malchus" المعروف بـ "الأول" بعد "عبادة الثاني"، وهو ابنه، من سنة "47" حتى سنة "30" على رأي. ومن سنة "50" أو حوالي السنة "47 حتى سنة "30" قبل الميلاد على رأي آخر5 وذهب بعض المؤرخين إلى أن "مالكًا" كان قد حكم بعد "الحارث الثالث"، وأن حكمه كان فيما بين السنة "62" والسنة "30" قبل الميلاد6.
وقد أنجد النبط في أيام ملكهم "ملكوس" "مالكوس" "Malichus"،
__________
1 Provincia Arabia, I, S., 210, Cis, Ii, 442, Euting 16, Lagrange 56, Lagrange, Revue Biblique, Vii, 1898, P.165, Clermont-Ganneau, Recueil D’archeol. Orient., Ii, P.379.
2 اختلف في تاريخ حكمه ولبعض الباحثين رأي آخر، راجع:
Ency., Iii, P.801, Dillmann, Neue Petra-Forschungen, 1912, S., 99.
3 Hill, P.Xii, 3, Pl., Xlix, 2, 3.
4 Josephus, Antiqu., 14, 103, Jud., I, 178, Die Araber, I, S., 306.
5 Hill. P. Xiii, Ency. Relig. Vol., 9, P.121, Ency., Vol., Iii, P. Schrader, Klt., S., 153.
6 Deities, P.541.(5/34)
أي "مالك الأول"، "يوليوس قيصر" "Julius Caesar" سنة "47" أو "48" قبل الميلاد في حصاره لمدينة الأسكندرية، فأمده بقوة من جيشه1. كما ساعده أيضًا عدد من سادات القبائل توسط في إرسالهم إليه "أنتيباطر" "Anripater"، لعلهم من سادات قبائل طور سيناء2.
وكان "انتيباتر" قد تزوج امرأة عربية من أسرة كبيرة معروفة، نجلت له أربعة أولاد وبنتًا، وتمكن بهذا الزواج من تكوين صداقة متينة مع ملك العرب "النبط" كما يقول ذلك "يوسفوس"، ولما وقعت الحرب بينه وبين "أرسطوبولس" "Aristobolus، أرسل أولاده إلى جدهم ملك العرب ليكونوا في مأمن هناك3.
وكان لـ"بطرا" أثر مهم في الخصومات الشخصية التي وقعت في مملكة "يهوذا" أيام الملك "هركانوس بن إسكندر"، هذه الخصومات التي أدت إلى تدخل "الفرث" "Parthians" من جهة، وإلى تدخل الرومان من جهة أخرى في شؤون مملكة يهوذا، ولكل دولة مصلحة في هذا الجزء المهم من الشرق الأدنى ومطمع. وللدولتين أنصار وأعوان، وطامعون في الملك يريدون المساعدة والمعونة للحصول على العرش. والطامعون في العرش والراغبون في الفتن والخصومات في "يهوذا" كثيرون. فلما بلغت جيوش الفرث حدود "القدس"، بتحريض من "انطيغونس" ابن أخ "هركانوس"4، أسرع "هيرودوس" "Herodus" ابن القتيل "انتيباتر" الذي كان الحاكم الحقيقي في "يهوذا"، وصاحب النفوذ في المملكة، وصاحب الحظوة عند الرومان، فهرب إلى النبط، إلى ملكهم "مالك" "Malchus" في عاصمة "بطرا"، يلتمس منه العون والمساعدة والمال على سبيل الهبة أو الدين لما كان لوالده القتيل من صداقة به، ليرشو به من ينقذ حياة أخيه. فلما كان في طريقه إلى بطرا وصلت رسل الملك تخبره أن الملك لن يتمكن من مقابلته، وذلك بناءً على طب ورجاء تقدم به الفرث إليه، واتصل عندئذ بسادات قبائل عربية كانت لهم صلات وصداقة بوالده، فلما رأى ذلك آثر
__________
1 Deities, P.541, Die Araber, I, S., 306.
2 Josephus, Antiq., Xiv, Viii, I, Vol., 3, P.22.
3 Josephus, The Jewish War, Book, I, Viii, 8.
4 تأريخ يوسفوس "ص 146" “Antigonus”
Josephus, Antiqu., Xiv, Xiii, 3, Dubnow, Ii, S., 250.(5/35)
الذهاب إلى مصر ومنها إلى إيطالية حيث كان له فيها أصدقاء ليساعدوه في الانتقام من قتلة أبيه1. وإلى هذا الملك، أي ملك النبط "مالك" هرب "يوسف" "Joseph" شقيق "هيرودس" مع مئتي رجل من رجاله، على أثر هجوم "انطيغونس"، وحينما بلغه تغير رأيه بالنسبة إلى "هيرودس" أخيه2.
وعاد "هيرودس" من "رومة" ملكًا، لقد تفضل "أغسطس" و"أنطونيوس" ومشايخ الرومان عليه فنصبوه ملكًا على اليهود، على مملكة يعين ملوكها الرومان أو الفرث. عاد بفضل الرومان، فصار بالطبع آلة في أيدي سادة "رومة"، ولما نشبت الحرب بين "انطونيوس" و"أوكتافيوس" سنة "32" قبل الميلاد، انضم إلى حزب "أنطونيوس" صاحب الفضل عليه. أما واجبه الذي كلفه، فقد كان محاربة النبط، الذين رفضوا دفع الجزية للرومان، وأبوا الخضوع لهم، والذين أيدوا الفرث. ولما تمكن القائد "فنتديوس باسوس" "Ventidus Bassus" من ضرب الفرث ومن إنزال هزيمة بهم، أصاب الضرر الملك "مالك" حليف "الفرث" فانتزعت منه بعض أملاكه. لذلك فرح "هيرودس" بهذا التكليف، وشجعته على ذلك "كليوبطرة" ملكة مصر وصاحبة "أنطونيوس"، التي طلبت منه الإسراع في محاربة "ملك العرب" الذي أبى دفع الجزية لها، وكانت تكره "هيرودس" وتريد هلاكه إن أمكن، فأرادت بعملها هذا أن تقضي عليه، أو أن تضعف من مركزه ومن مركز ملك العرب، بمحاربتهما بعضهما بعضًا فتتمكن من الملكين فيخضعان لها وتكون سيدة "العربية"، وبادر "هيرودس" بمحاربة النبط، فالتقى بهم عند "اللد" "Diospolis" وانتصر عليهم، ثم التحم بهم في "قنا" "Cana" "قنوات" "Canatha" في البقاع "Coele Syria" وكاد يتغلب عليهم لولا هجوم "أثنياوس" "Atheniaus" فتغيرت الحال، وهاجمه النبط أيضًا فسقط عدد كبير من جيشه في ساحات القتال وأسروا من فر منهم إلى "Ormiza" فاضطر عندئذ إلى الرجوع إلى "القدس"3.
__________
1 Josephus, Antiq., Xiv, Xiv, 1-3, The Jewish War, I, Xiii, 8, Book,, I, Xiv, 1-2,
2 Josephus, The Jewish War, Book, I, Xv, I.
3 تأريخ يوسفوس ص 167 وما بعدها".
Josephus, Antiq., Xv, 110, 119, The Jewish War, I, Xviii, 4, 1-4, Die Araber, I, S., 306, 307.(5/36)
وفي القدس أخذ "هيرودس" يحرض قومه على الانتقام من العرب، والأخذ بالثأر، ولا سيما بعد هجوم العرب على مملكته ومباغتة مدنه، فنشبت سلسلة من الحروب كلفت اليهود والعرب خسائر كبيرة، إذ طالت الحروب، ولم تنته إلا بعد مشقة. ويدعي المؤرخ "يوسفوس" أن النصر، كان في الخاتمة في جانب اليهود. فقد جمع "هيرودس" كل قواته وأعاد تنظيمها، ثم عبر الأردن، ولما بلغ "عمان" "Philadelphia" التحم بالنبط، فأنزل بهم خسائر كبيرة. إذ سقط منهم خمسة آلاف قتيل، واستسلم منهم أربعة آلاف رجل كانوا قد تحصنوا في معسكر حصين، ولكن أجبرهم العطش في الأخير على الاستسلام. كما قتل سبعة آلاف آخرون كانوا حاولوا الفرار من الحصار، فتعقبهم اليهود وقتلوهم1. واضطر النبط عندئذ إلى دفع الجزية إلى "هيرودس"، وعقدوا صلحًا معه، ولم تخالفه العرب بعد ذلك2.
يقول "يوسفوس": إن العرب كانوا يكرهون "هيرودس" وحاولوا الثورة عليه والانتقام منه حتى بعد عقد هذا الصلح، وقد كان في جملة من دفع الجزية إليه العرب الساكنون في "حوران" "Aurantitis"، بحكم تبرع القيصر "أغسطس" بأرضهم له، إلا أنهم كانوا يدفعون الجزية إليه أحيانًا، وكانوا يمتنعون من دفعها أحيانًا، أخرى، ويحاولون التخلص منه. ولم تكن قوة "هيرودس" في الحقيقة هي التي جعلت هؤلاء الأعراب يقبلون بمصالحة اليهود أو دفع الجزية لهم، إنما كانت قوة الرومان التي تسخرها أيد إدارية قوية تحسن التوجيه للبطش في القبائل المتعادية وفي سادات القبائل المتنافسين على الزعامة المتباغضين، وفي العساكر المسخرين الذين أكرهو على القتال، ولم يكن لديهم علم بأسلوب القتال ولا بكيفية استخدام الأسلحة، ولا عزم على الوقوف في وجه الخصم، وليس لهم ضباط وقادة مجربون محنكون، لهم هدف وطني وخبرة بأساليب القتال، ولم يكونوا يرون في الفرار ما لا يتفق مع واجبهم العسكري.
ولا ندري متى كانت نهاية الملك "مالك" بعد هذه الخسائر التي حلت بالنبط. والظاهر أنه لم يعمر بعدها طويلًا، أو أنه مات في أثنائها، فإن المؤرخ "يوسفوس"
__________
1 Josephus, Antiq., 15, 153, 157-158, Jewish War, I, 383, Die Araber, I, S., 306.
2 تأريخ يوسفوس "ص 168 وما بعدها".
Josephus, Antiq., Xv, V, 1-5, The Jewish War, Book, I, Xix, 1-6.(5/37)
الذي هو مرجعنا في أخبار هذه الحروب لم يشر إليه ولم يذكره في الغارة الانتقامية التي أغارها النبط على أسطول "كليوبطرة" عند موضع "Actium" التي أدت إلى إحراق السفن المتجمعة هناك1.
وقد خلف "عبادة" "Obodas" المعروف بالثاني عند بعض المؤرخين وبالثالث عند بعض آخر الملك "مالك الأول". خلفه على الحكم سنة "30" قبل الميلاد، ودام حكمه حتى سنة "9" قبل الميلاد. ويظن أنه مات مسمومًا سنة "9ق. م." سمه وزيره ومستشاره "صالح" "Syllaeus" الذي قطع رأسه في "رومة" سنة "5" قبل الميلاد2. وفي أيام هذا الملك كانت حملة الرومان التي أرسلها "أغسطس" بقيادة "أوليوس غالوس" لفتح بلاد اليمن. وهي حملة أسهم فيها النبط بتقديم قوات لمساعدة الرومان، كما أسهم فيها "هيرودس" ملك "يهوذا" بخمسمئة رجل يهودي، ضمهم الرومان وسار بهم إلى اليمن، كما تحدثت عنها في كلامي على السبئيين.
ويصف "يوسفوس" "عبادة" بالضعف وفتور الهمة والكسل، ووصف وزيره "صالح" "Syllaeus" بالقدرة والكفاية على صغر سنه. وأنه لذلك كان هو المتصرف في الأمر والمدير لشؤون المملكة ورجل الدولة الحقيقي. وكان صديقًا لـ"هيرودس" يزوره وينزل عليه. وكان يتزوج أخته لولا اختلاف الدين، ورفض "Syllaeus" الدخول في الديانة اليهودية ليسمح له بالزواج3.
وقد انقلبت المودة التي كانت بين "هيرودس" و"صالح" "Syllaeus" عداوة شديدة، فسعى "صالح" حين ذهب إلى "رومة" لإثارة حفيظة "أغسطس" على "هيرودس" بسبب الحملات العسكرية التي قام بها على أرض "اللجاة" "Trachonites" 4 على العرب الذين آووا أهل "اللجاة" وساعدوهم. فلما
__________
1 Dio., 51, 7, I, Zon., 10, 30, Plutarch, Anti., 69, Die Araber, I, S., 307.
2 Deities, P.541, Ency., Iii, P.801, Ency., Relig., Vol., 9, P.121, Die Araber, I, S., 286.
3 Josephus, Antiq., Xvi, Vii, 6, The Jewish War, Book, I, Xxvii, I, Xxiii, 6.
4 واللجاة اسم للحرة السوداء التي بأرض صلخد من نواحي الشام فيها قرى ومزارع وعمارة واسعة يشملها هذا الاسم، البلدان "3/ 323".
Xvi, Ix, 1-4.(5/38)
ذهب "هيرودس" إلى "رومة" ليرفع شكايته عن ابنه "اسكندر" إلى القيصر، والتماسه من القيصر شمول ابنه الآخر "انتيباتر" بالعطف والحماية، انتهز أهل اللجاة "Trachonites" فرصة غيابه فأعلنوا الثورة وهاجموا الحدود، وعادوا إلى الغزو، وكان "هيرودس" قد منعهم منه، وضرب على أيديهم بشدة. فلما تعقبهم وكلاء "هيرودس" وقتلوا خلقًا منهم، هرب عدد من رؤسائهم إلى النبط واحتموا بهم. ولما عاد "هيرودس" أراد الانتقام منهم، فطلب الإذن من حكام سورية الرومان بتأديبهم والموافقة على إرسال قواته إلى المقاطعة لمقاتلتهم. ورجا من "عبادة" ومن وزيره "صالح" إجلاء رؤساء أهل "اللجاة" عن أرض النبط وعدم حمايتهم. فلما رفضا ذلك، طلب من "صالح" إعادة المال الذي اقترضه منه "عبادة" بوساطته. ولما لم تثمر المفاوضات شيئًا، هجمت قوات "هيرودس" على المناطق التي التجأ إليها الهاربون من أهل "اللجاة"، فاستولت على "Raipta" معقلهم وهدمته. فلما سمع النبط بذلك، بادرت جماعة منهم برئاسة قائد يدعى "Nacebus" لمساعدتهم، فاصطدمت بجنود "هيرودس" وسقط "Nacebus" مع زهاء عشرين رجلًا من أتباعه قتلى في هذه المعركة. ثم أمر "هيرودس" بإسكان الأدوميين في "اللجاة"، وكتب بذلك إلى حاكم "فينيقية" يبين له الأسباب التي حملته على إرسال هذه الحملة على "التراخونيين" أهل اللجاة. ويدعي "يوسفوس" أن "Syllaeus" استغل فرصة وجوده في "رومة" وذهب إلى القيصر شاكيًا من العمل الذي قام به "هيرودس" ووشى به كثيرًا، فغضب عليه "أغسطس"1. غير أن القيصر بدل رأيه في "صالح" حين اطلع على الخبر الصحيح، ولما بلغته أخبار وفاة الملك "عبادة" وانتقال العرش إلى "Aeneas" الذي غير اسمه حينما تولى الملك ودعا نفسه "Aretas" على عادة أكثر ملوك النبط دون أن يكتب ملك النبط إليه ويخبره بالحدث، فغضب على "صالح" وأمر بمعاقبته"2. ويدعي "يوسفوس" أن الملك الجديد كان مبغضًا لـ "صالح"؛ لأنه كان يعتقد أنه كان نفسه يطمع في الملك لما كان له من نفوذ ومال، وأنه كتب إلى "أغسطس" يخبره بأنه سم "عبادة" الملك
__________
1 Josephus, Antiqu., Xvi, Ix, 1-4.
2 Josephus, Antiq., Xvi, Ix, 4, X, 8.(5/39)
السابق، وأنه قتل عددًا من أشراف المملكة في "بطرا"، من بينهم "Sohemus" السيد النبيل، الذي يحترمه قومه ويجلونه، وأنه قتل "Fabatus" خادم "أغسطس" وفعل أمورًا أخرى منكرة تستوجب العقاب1.
أما "Nacebus" الذي قتل في معركة "Raipta"، وهو في موضع في العربية، فكان صديقًا لـ" Syllaeus" ومن أبناء عشيرته. ويخيل إلي أن كلمة "Nacebus" ليست علمًا لقائد الحملة، وإنما هي درجة ومنزلة، وأن معناها "نقيب"، وهي درجة من درجات الجيش، ولكني لا أستبعد كونها اسمًا حرف في اليونانية حتى صار على الشكل المذكور، وأن الأصل هو "نقيب" أو "نسيب" أو "نجيب" أو ما شاكل ذلك من أسماء. وأما "Sohemus"، فهو اسم علم قد يكون "سخيمًا" أو "سحيمًا" أو "سهيمًا"، وكلها أسماء معروفة في الجاهلية.
وقد أشار "موسل" إلى رواية ذكرها "أورانيوس" "Uranius" و" اصطيفان البيزنطي" عن تأسيس مدينة "Auara" في أيام الملك "عبادة"، خلاصتها أن "حارثة "Aretas" ابن الملك حلم أن والده سينشئ مدينة، وأن هذه المدينة هي "Auara" من كلمة "حوراء" أي "البيضاء". فلما قص "حارثة" حلمه على والده، أخذ يفتش عن موضع أبيض ينشئ عليه المدينة، وبينما كان يفتش عن هذا الموضع تراءى له شبح رجل أبيض على جمل أبيض استخفى فجأة، فلما دنا من مكان الشبح، وجد بقايا شجرة ذات عروق ممتدة، فأمر أن يكون موضع "حوراء" "Auara"2.
ويرى "موسل" أن هذه المدينة هي "الحميمة" 3، وهي أيضًا "Auara" التي ذكرها "بطلميوس" وتقع في "العربية الحجرية" "Arabia Petraea" على الطريق بين "أيلة" و"بطرا"4، وأن الملك المقصود هو "عبادة الأول". وأما الوقت، فكان في حوالي سنة "93" قبل الميلاد. وقد ذكرت أنه حكم على
__________
1 Josephus, Antiq., Xvii, Iv, 2.
2 Musim, Hegaz, P.59, Note 20, Uranius, Arabica, “Muller, Fragmenta”, Vol., 4, P. 523, Stephen Of Byzantium, Ethnica, “Meineke”, Vol., 1, P.144.
3 البلدان "3/ 346".
4 Musil, Hegaz, P.69, Tabula Paulingeriana, Sheet, 8, “Vienna”, 1888.(5/40)
رأى أكثر الباحثين حوالي سنة "90" قبل الميلاد. وأرى أن "Obadas" الذي ذكر "أورانيوس" و"اصطيفانوس البيزنطي" أنه كان صاحب ولد اسمه "حارثة" "Areta"، هو "عبادة" الثالث، فقد كان صاحب ولد اسمه "حارثة" وهو المعروف عندنا بـ" Aretas" الرابع. أما "عبادة"، فالذي خلفه هو "رب ايل"، لذلك يكون "عبادة" الثالث الذي نتحدث عنه أكثر ملاءمة لرواية المؤرخين من "عبادة الأول".
وحكم بعد "عبادة الثالث" الملك "الحارث" "حرتت" "Aretas" المعروف بـ"الرابع" والمقلب بـ "راحم عمه" "Philopatris" وبـ "ملك النبط"1. وقد حكم من حوالي سنة "9" قبل الميلاد حتى حوالي سنة "40" بعد الميلاد. وورد اسمه في عدد من الكتابات، منها النصوص المرقمة بـ "CIS 11, 160" و" CIS II, 197-217" و" CIS II, 354". أما الكتابة الموسومة بـ" CIS 11, 160" فقد أرخت بالعام الخامس من حكمه، أي سنة "4" قبل الميلاد2، وقد ورد فيها اسم الإله "دوشرا" أي "ذو الشرى"3.
وأما النص الموسوم بـ "CIS II, 197"، فأرخ بشهر نيسان من السنة التاسعة من حكم "حرتت" "الحارث"، "بيرح نيسن شتت تشع لحرثت ملك نبطو"4، أي في السنة الأولى للميلاد، وورد فيه أسماء الآلهة: "دو شرا" "ذو الشرى"، و"منوتو" "مناة" "Manutu" و"قيشح"5. وقد ذكرت في هذا النص بعد جملة: "لحرثت ملك نبطو ... " جملة "رحم عمه"، أي "محب شعبه"، وهي من النعوت التي ظهرت في الكتابات في هذا العهد.
وأرخ بأيام صاحبنا "حرثت" "الحارث" النص المعروف بـ "CIS 11, 198" وهو أيضًا من النصوص التي عثر عليها في "الحجر"6. ويعود عهده إلى شهر
__________
1 Ency. Relig., Vol., 9, P.121.
2 Ency., Iii, P.801, Ency. Relig., Vol., 9, P.121, Schrader, Klt, S., Provincia Arabia, I, S., 152. Die Araber, I, S., 304.
3 Cis Ii, 160, M. A. Levy, In Zdmg., 1869, Xxiii, P.435.
4 Cis Ii, I, Ii, Pp.223, Cis Ii, P.194, 4, 197.
5 Cis Ii, 197, 5, Huber, 29, Euting 2.
6 Cis Ii, I, Ii, P.224. Douthy 2, Euting 3.(5/41)
"طبت" من السنة التاسعة من حكم هذا الملك، أي إلى السنة الأولى للميلاد1. وقد وردت فيه بعض الأسماء، مثل "كمكم" "كمكام" و" ودلت" و"ودلات" و"حرم" "حرام" و"كلبت" "كلبة" "كليبت" "كليبة" و"وهب اللات" و"عبد عبادة". وأسماء الآلهة: "دوشرا" و"هبلو" و" هبل" و"منوتو" "مناة" و"اللت" "اللات".
أما النص "CIS 11, 199"، فقد كتب في شهر "شباط" من السنة الثالثة عشرة من سني حكم "الحارث" "حرثت" وهي السنة الرابعة بعد الميلاد2. وقد أرخت بقية النصوص من "CIS 11, 200" حتى "CIS 11, 217" بسني "الحارث" كذلك، وهي تفيذ مثل غيرها فائدة كبيرة من حيث تتبع تأريخ الأسماء، فوردت فيها أسماء كثيرة مثل "كهلن" "كهلان" و "وعلن" "وعلان" و"سعد الله" و"مرت" "مرة" و"سكينت" "سكينه" و"حميد" و"حوشب" و"خلف" و"قين" و"جلهمة" و"تيم الله" و" عميرت" "عميرة" و"وهب" وأمثالها مما كان شائعًا معروفًا عند العرب قبل الإسلام3.
وذكرت في الكتابة "CIS 11, 354" مع اسم "الحارث" أسماء "شقيلت" "شقيلة" ملكة النبط و" مالك" و"عبادت" "عبادة" و"رب ال" "رب ايل". وقد دونت في السنة التاسعة والعشرين من حكم الملك، وهي سنة عشرين بعد الميلاد، وذلك عند صنع صنم يوضع في معبد "بطمون". ويلاحظ أن معظم المقابر الكبيرة التي عثر عليها في "الحجر" هي من السنين الأخيرة من حكم "الحارث"4.
وإلى هذا الملك يرجع النص الموسوم بـ"REP. EPIG. 54" ويرجع تأريخه إلى السنة الثالثة والأربعين من حكم "الحارث"، وقد دعي فيه بـ" محب شعبه" "رحم عمه" "رحبم عمه" كما ذكر فيه اسم زوجته "شقيلة"5. وكذلك
__________
1 Cis Ii, I, Ii, P.226.
2 Cis Ii, 199, Huber 30, Euting 4, Cis Ii, I, Ii, P.227.
3 Cis Ii, I, Ii, P.229.
4 Cis Ii, 354, Euting 47, Cooke, North-Semitic Inscriptions, Pp.244, Provincia Arabia, I, S., 283.
5 Rep. Epig., I, Ii, P.44.(5/42)
النص الموسوم بـ "REP. EPIG. 1103" المكتوب في سنة "40" من حكم "الحارث"، أي سنة "31" للميلاد، وهو من النصوص التي عثر عليها في "مدائن صالح"1.
وأرخ بحكم هذا الملك النص "REP. EPIG. 674"، وهو شاهد قبر من مدينة "مأدبا" يرجع تأريخه إلى سنة "37" بعد الميلاد2.
و"الحارث" "Aretas" الذي أمد القائد الروماني "واروس" "فاروس" "Varus" بقوة من المشاة والفرسان حين زحف على "يهوذا"، هو "الحارث" الرابع الذي نتحدث عنه، فعل ذلك كما يقول "يوسفوس" انتقامًا من "هيرودس" وتقربًا إلى الرومان. وبعد أن استولى "فاروس" على مدن عدة وهو ذاهب إلى القدس، منها مدينة "عكا" "Ptolemais"3 "Acco"، اتجه نحو "الجليل" "Galile'e" ثم السامرة فالقدس. أما القوات العربية، فقد سارت إلى مدينة "Arus" فأحرقها ثم سارت إلى مدينة "Sampho" وهي مدينة محصنة جدًّا فاستولت عليها وأحرقتها، واستولت على أماكن أخرى. حدث ذلك حوالي سنة "4" قبل الميلاد4.
واصطدم النبط باليهود في أيام القيصر "طيباريوس"5 و"هيرودس" ملك "يهوذا" المعروف بـ"هيرود انتيباس" "Herodes Antipas"6، وذلك في سنة "36" بعد الميلاد7، بسبب زواج "هيرودس" من زوج أخيه على زوجه الأولى، وهي ابنة "الحارث" "حرثت". وسبب اختلافهما على حدود منطقة "Gamalites"، فجرت حروب بين الطرفين انتهت بانتصار "الحارث" على خصمه انتصارًا كبيرًا في "جلعاد" "Gilead" وبتشتيت شمل جيوشه، فاستنجد "هيرودس" بسيده وحاميه القيصر "طيباريوس"، فغضب القيصر وكتب إلى
__________
1 Rep. Epig., Ii, Iii, P.377.
2 Rep. Epig., Ii, I, P.101, Cis, Ii, 196.
3 Josephus, Antiq., Vol., 3, P.253, “Bohn’s Standard” Library”, Xvii, X, 9.
4 Dubnow, Ii, S., 302.
5 "طيباريوس بن اغوسطوس"، "الطبري "1/ 741، 744"، "طبعة ليدن".
6 Dubnow, Ii, S., 381, Josephus, 3, P.283.
7 Dubnow, Ii, S., 384, The Bible Dictionary, I, P.107.(5/43)
عامله على سورية "فيتليوس" "Vitellius" أن يسير فورًا بجيشه لمحاربة "الحارث" والقبض عليه حيًّا وإرساله مكبلًا بالسلاسل إلى "رومة" أو إرسال رأسه إليه إن قتل1. وبينما كان العامل يهم بالزحف على مملكة النبط وتنفيذ أمر القيصر، جاءته الأخبار بوفاة "طيباريوس" سنة "37" بعد الميلاد فتوقف عن الحرب، وقرر الرجوع إلى مكانه. وساء موقف "هيرودس" ثم نحاه الرومان عن عرشه ونفوه إلى "اسبانية"، حيث مات هناك2.
ويظهر من رسالة "بولس" الرسول الثانية إلى أهل "كورنتوس" أن "دمشق" كانت في أيدي ملك اسمه "الحارث"، وأنه هم بالقبض عليه، غير أنه هرب ونجا منه. قال: "في دمشق وإلى الحارث الملك كان يحرس مدينة الدمشقيين يريد أن يمسكن، فتدليت من طاقة في زنبيل من السور ونجوت من يديه"3. ونرى "بولس الرسول" أيضًا في رسالته إلى أهل "غلاطية" وفي حديثه عن نفسه وعن كيفية اهتدائه إلى ديانة المسيح، يقول: "ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي، بل انطلقت إلى العربية، ثم رجعت أيضًا إلى دمشق، ثم بعد ثلاث سنين صعدت إلى أورشليم لأتعرف ببطرس فمكثت عنده خمسة عشر يومًا"4. فهو يذكر هنا العربية وبعدها دمشق. فهل أراد بالعربية البادية؟ أو أراد بها عربية النبط، وأنه من عربية النبط أو البادية عاد إلى دمشق؟.
والرأي الراجح بين علماء العهد الجديد، هو أن "الحارث" الذي قصده "بولس الرسول" هو هذا "الحارث"، أي "الحارث" الرابع، وأما الوقت الذي استولى فيه "الحارث" على دمشق، فقد كان في حوالي سنة "37" بعد الميلاد، وذلك على أثر الحرب التي شنها على "هيرود انتيباس"، وتدخل
__________
1 إنجيل مرقس، الإصحاح السادس، الآية 17 وما بعدها تأريخ يوسيفوس "ص 213"، Josephus, Antiq, Xviii, V, I, 4.
2 Josephus, Antiq., Xviii, V, I, Dubnow, Ii, S., 384.
Josephus, Antiq., V, 3.
تأريخ يويسفوس ص "214 وما بعدها".
3 رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنتوس، الإصحاح الحادي عشر، الآية 32 وما بعدها.
4 رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية، الإصحاح الأول، الآية 17 وما بعدها،
N. Gluck, Deities And Dolphins, P.542, The Story Of The Nabataeans, New York, 1965.(5/44)
"طيباريوس" في الموضوع1. ويظهر أن تدخل الرومان هذا أثار غضب "الحارث" عليهم، فسار بعد انتصاره على "يهوذا" إلى "دمشق" فاستولى عليها وأعادها بذلك مدة لا نعلم طولها إلى مملكة النبط. ويتخذ هؤلاء من وجود فجوة في النقود الرومانية الدمشقية، تبدأ بسنة "34" بعد الميلاد وتنتهي بسنة "62-63" بعد الميلاد دليلًا على صحة نظريتهم في أن المدينة تحررت في خلال هذه الفجوة من حكم الرومان ودخلت في حكم النبط، ولهذا السبب حدثت هذه الفترة في ضرب النقود الرومانية في الشأم2.
وفي أيام هذا الملك دونت الكتابة المعروفة بـ "REP. EPIG. 1108"، وهي من الكتابات المدونة في "الحجر" "Hegra"، أي "مدائن صالح"، دونت في السنة "38" للميلاد. وفي جملة الأسماء المذكورة في هذا النص اسم "عبد عدلون" أي "عبد عدنان"3.
وقد عثر على كتابة قبرية مؤرخة بالتقويم السلوقي من سنة "4-5" قبل الميلاد، وهي أيام حكم "الحارث" الرابع، صاحبها رجل اسمه "قصي بن تعجلة"، ولم يشر في الكتابة إلى حكم ملك النبط الذي في أيامه دونت هذه الكتابة. ويرى "ليتمان" أن الذي حمل "قصي" على إغفال الإشارة إلى اسم الملك هو أن القيصر "أغسطس" كان قد فوض أمر "Trachonitis" و"Batanaea" "Artanitis" في عام "23" قبل الميلاد إلى ملك "يهوذا" "هيرودس" "Herodes"، وقد كان صاحب الكتابة من سكان هذه الأرضين، فلم يؤرخ بسني حكم ملك النبط الذي في أيامه أنشأ ذلك القبر4.
لقد كان الحارث الرابع من المتأثرين بالثقافة الهيللينية وبالحياة الهيللينية. ويظهر هذا الأثر في المباني العامة التي أقيمت في أيامه5 وفي الكتابات اليونانية من عهده. ولا يستبعد أن يكون قد أتقن اللغة اليونانية وأخذ يتكلم بها مع اللسان الإرمي والنبطي، إذ كانت تلك اللغة هي لغة القوة والثقافة في تلك الأيام.
__________
1 Hastings, P.48, Ency. Bibli., Pp.206.
2 Hastings, P.48.
3 Rep. Epig., Ii, Iii, P.381.
4 Ephemeris, Ii, S., 259.
5 N. Glueck, Rivers, P.195.(5/45)
وحكم بعد "الحارث الرابع" ابنه الملك "ملكو" "مالك" المعروف بالثاني وذلك من سنة "40" حتى سنة "71" أو "75" بعد الميلاد1. ويظهر أن النص المعروف بـ" CIS 11, 195" لصاحبه "عبد ملكو بن عبيشو"، أي "عبد الملك ابن عبيش" والمؤرخ بالسنة الأولى من حكم "ملكو" "مالك"، قصد بـ "ملكو" "مالك الثاني" هذا2، ويرجع تأريخه إلى سنة "41" بعد الميلاد. أما ناشر النص في "CIS 11"، فقد ذهب إلى أنه "مالك الثالث"، وأنه كتب في حوالي سنة "39" بعد الميلاد، ومعنى هذا أن "مالك الثالث" حكم في سنة "38" بعد الميلاد، وهو وهم. وقد عثر على هذا النص في موضع "أم الرصاص" 3.
وفي السنة الأولى من حكم "ملكو" "مالك" دونت الكتابة الموسومة بـ "CIS 11, 218"4. وقد ذكر ناشرها أن "ملكو" المقصود هو "ملكو" الثالث، وأن تأريخها يرجع إلى سنة "39" بعد الميلاد5، وهو وهم. وأما النص "CIS 11, 182"6، فقد أرخ كذلك بأيام "ملكو"، أرخ بشهر "اب" "آب" من السنة السابعة عشرة من حكم "ملكو ملك نبطو برحرثت"7، أي من حكم الملك "مالك النبط بن حارثة". ويصادف هذا التأريخ عام "57" بعد الميلاد. أما ناشر النص، فقد جعله أيضًا "ملكو" مالك"، وجعل تأريخ التدوين في حوالي سنة "50" بعد الميلاد8. وهو يناقض ما ذهب إليه كثير من الباحثين من أن حكم الملك "مالك الثاني" كان من سنة "40" حتى سنة "71" بعد الميلاد. ثم إن ما ذهب إليه ناشر النص من أن تأريخه يوافق سنة "50" بعد الميلاد، هو وهم أيضًا، إذ يجب أن يكون سنة "57" للميلاد؛ لأن ابتداء حكم هذا الملك
__________
1 ENCY., VOL., Lll, P.801, Ency., Relig., Vol., 9, P.121, Hill, P.Xix, Littmann, In Princeton University Archaelogical Expedition To Syria In 1904-1905, Div., Iv, Sect., A, P.21, W. Glueck, Deities, P.542.
2 Cis Ii, 195, Cis, Ii, I, Ii, P.217.
3 Cis, Ii, I, Ii, P.218.
4 Cis, Ii, 218, Euting 21, Doughty, I.
5 Cis, Ii, I, Ii, P.256.
6 Cis, Ii, 182, Vogue, N. 6.
7 Cis, Ii, I, Ii, Pp.206.
8 Cis, Ii, I, Ii, P.207.(5/46)
كان سنة "40"، ولما كان النص قد أرخ بالسنة السابعة عشرة من حكمه تكون السنة إذن سنة "57" للميلاد.
لقد انتزعت "دمشق" من حكم "مالك الثاني"، في زمن لا نعرفه، إلا أن الأرضين في شرقها وفي جنوب شرقيها بقيت جزءًا من مملكة النبط1.
وانتقل الحكم إلى "رب ال" "رب ايل" ربئيل" الثاني المعروف بـ "سوتر" "سوطر" "Soter" بعد وفاة "ملكو" "مالك" الثاني. وقد حكم من حوالي سنة "70" حتى سنة "106" بعد الميلاد على رأي، ومن سنة "75" حتى سنة "101" على رأي آخر، أو شيئًا آخر قريبًا من ذلك أو بعيدًا بعدًا قليلًا، بحسب تعدد أنظار الباحثين2، لعدم وجود تقاويم ثابتة لدينا أو كتابات تنص على تواريخ حكم كل ملك من هؤلاء الملوك.
وإلى عهد هذا الملك تعود الكتابة المعروفة بـ "CIS 11, 183" المؤرخة في السنة الخامسة والعشرين من سني حكم "رب ال" "رب ايل"، وصاحبها رجل اسمه "قصي بن ادينت"، أي "قصي بن أذينة"3. وتكون سنة تدوين هذه الكتابة إذن في سنة "95" أو "100" بعد الميلاد. أما الكتابة "CIS 11, 161"، فتعود إلى أيامه كذلك، وقد دونت في شهر "أيار" من السنة الرابعة والعشرين من حكم "رب ايل"، وقد دون مع التأريخ النبطي ما يقابله بالتقويم المستعمل عند الرومان آنئذ وهو سنة "405"4.
والتقويم الروماني هو تقويم السلوقيين. وتقابل هذه السنة سنة "94" للميلاد ويكون مبدأ حكم "رب ايل" إذن في سنة "381" من التقويم السلوقي، أي سنة "70" بعد الميلاد. ووردت في هذه الكتابة بعض الأسماء، مثل: "هنى" "هانئ" و"جدلت" "جدلة" و"بجرت" "بجرة" "بجيرة" و"ادرم" و"عبد الملك"، وهي من الأسماء المعروفة أيضًا عند عرب الحجاز ونجد5.
__________
1 Deities, P.542.
2 Ency., Iii, P.801, Ency. Religi., Vol., 9, P.121.
3 Cis Ii, I, Ii, Pp.208, Levy, In Zdmg, 1868, I, Xxii, S., 262. Vogue, Syrie Centr., Inscr. Semit., P.112.
4 Cis Ii, I, Ii, P.191, Cis 11, 161.
5 Cis Ii, I, Ii, P.192.(5/47)
وإلى عهد الملك "رب ايل" الثاني تعود كذلك الكتابة التي دونها "منعت بن جديو" "منعة بن جدي" "ببصر ابشنت23 لرب ايل ملكًا ملك نبطو"، أي بمدينة "بصرى"، وذلك في السنة الثالثة والعشرين لحكم "رب ايل" ملك النبط، وقد دونت هذه الكتابة بمناسبة تقرب صاحبها إلى الإله "دوشرى واعرى" بتقديمه مذبحًا إلى معبده في مدينة "بصرى"1. ويكون تأريخ تدوين هذه الكتابة سنة "93" للميلاد. وكذلك الكتابة القبرية المؤرخة بالسنة الثالثة والعشرين من حكم "رب ايل"، أي في سنة "93" للميلاد2. ولدينا كتابة أخرى سجلت في أيام هذا الملك صاحبها رجل اسمه "عذرو برجشمو"، أي "عاذر بن جشم" "عذره بن جشم" "عذير بن جشم" "عذر بن جشم"، ورد فيها اسم الإله "شيع القوم" دونها في السنة السادسة والعشرين من حكم الملك، أي في حوالي سنة "96" بعد الميلاد3.
وترينا الكتابة الموسومة بـ "REP. EPIG. 1434" أن للملك شقيقين هما: "جميلت" أي "جميلة" و" هجرو" أي "هاجر"، وقد نعتتا فيها بـ "ملكتي النبط". ويظهر أن هنالك شقيقة ثالثة اسمها "فصائل"، وربما كانت له شقيقة رابعة سقط اسمها من النص4.
وقد ذركت "شقيلت" "شقيلة" أم الملك "رب ايل" الثاني مع ابنها في نقد، وذلك في أثناء عهد وصايتها عليه حين انتقل العرش إليه، وكان على ما يظهر صغيرًا. وكان للملك شقيق ساعدها في تحمل أعباء الحكم اسمه "انيشو" "Oneishu" لعله "أنيس". ولما تزوج "رب ايل" من زوجه "جميلت" "جميلة" "Gamilath" أمر بضرب اسمها مع اسمه على النقود5.
وقد ذكر بعض الباحثين أن بعض ملوك النبط ولا سيما المتأخرين منهم، أقاموا في أكثر أوقاتهم في "بصرى" "Bostra"، مما أدى إلى إضعاف شأن
__________
1 Mark Lidzbarski, Ephemeris Semitische Epigraphik, S., 330, “Giessen 1902”, Clermont-Ganneau, Receuil, P.170, Rep. Epig. 83.
2 Rep. Epig. 83, I, Ii, P.67.
3 Ephemeris, Ii, I, S., 252, Rep. Epig. 468.
Ephemeris, S., 332, Receuil, P.173, Rep. Epig. 886
4 Rep. Epig., Iii, I, P.141.
Hill, P.Xx, 12-13, Pl., Ii, 18-23.(5/48)
عاصمتهم القديمة "بترا" وإلى إضعاف إدارة أمور النبط1.
وآخر ملك نعرفه من ملوك النبط، هو الملك "ملكو" "مالك" الثالث، الذي حكم من سنة "101" حتى سنة "106" بعد الميلاد على بعض الآراء، وفي أيامه قضى "تراجان" في سنة "106" بعد الميلاد على استقلال هذه المملكة وجعلها تحت حكم حاكم "سورية" "كورنليوس بالما" "Cornelius Palma" "98 -117م"، وأطلق عليها اسم "الكورة العربية" "Provincia Arabia"2. وقد نقل مقر الحكم من "بترا" إلى "بصرى"، فتضاءل بذلك شأن العاصمة القديمة فلما كان القرن الثالث للميلاد، صارت "بترا" مجرد موضع قليل الشأن3.
لقد قضى الرومان على استقلال النبط في العربية الحجرية، فأضافوا بلادهم إلى جملة الأرضين التي استولوا عليها. وخسر النبط ملكهم ودولتهم، ثم خسروا أرضهم فيما بعد. واضطرهم ضغط القبائل العربية الأخرى عليها إلى الرحيل إلى أماكن أخرى، والهجرة إلى مواطن جديدة طلبًا للرزق. كما هاجر من قبلهم سكان الأرضين التي استولى النبط عليها في أيام عزهم وملكهم واندمج أكثرهم في القبائل الجديدة الفتية التي سادت على أرض النبط، وتسموا باسمهم وانتسبوا إليهم حتى نسوا أصلهم القديم فزال النبط بزوال دولتهم، وبقي اسمهم، وبعض رسومهم التي يعود الفضل في إحيائها إلى المستشرقين.
وقد بقي النبط يمارسون التجارة وقيادة القوافل حتى بعد فتح الرومان لبلادهم كما يتبين من بعض الكتابات النبطية المؤرخة التي عثر عليها في "طور سيناء" وفي مصر. ومنها كتابة مؤرخة بسنة "160" من تقويم "بصرى" المقابلة لسنة "266" بعد الميلاد. وقد تبين أن أكثر الكتابات التي عثر عليها في الأماكن المذكورة وفي أماكن أخرى هي كتابات وجدها العلماء والباحثون والسياح على الطرق القديمة الموصلة إلى جزيرة العرب أو البحر الأحمر، وفي وجودها في هذه الأماكن دلالة على أن أصحابها كانوا أصحاب تجارة يتجرون بين مصر وجزيرة العرب
__________
1 Deities, P.543.
2 Die Araber, I, S., 304, Groag Stein, Prosopographia, 2, 346, Nr: 1412, 1936, Schrader, Klt, S., 153.
3 N. Glueck The Story Of The Nabataeans, P.543.(5/49)
وموانئ ساحل البحر الأحمر ولا سيما ساحل النبط المقابل لبر مصر1.
ويظن جماعة من المستشرقين أن عرب "الحويطات" الساكنين في منطقة "حسمى" في الأقسام الشمالية من الحجاز، في المنطقة التي كانت تسكنها "جذام"، هم من بقايا النبط2.
وتنسب "الحويطات" إلى جد أعلى لهم اسمه "حويط"، وهو على زعمهم من أهل مصر، جاء بيت الله الحرام حاجًا فمات في "العقبة" ودفن في "حسمى". وهم عشائر يتراوح عددها من عشر عشائر إلى اثنتي عشرة عشيرة تسكن في طور سيناء وفلسطين والحجاز3، وتجاور قبيلتي "بلى" و"جهينة"4. وهم في الجملة ميالون إلى الحرب والغزو، ولذلك كانوا يغزون العشائر المجاورة لهم، ويأخذون الأتاوة من القرى والمدن الواقعة في مناطق نفوذهم في أيام العثمانيين5.
وتتألف "الحويطات" من ثلاثة بطون هي: "حويطات التهمة" و"حويطات العلويون" "العلاوين" ويعرفون أيضًا بـ "حويطات ابن جاد" "حويطات ابن جازى"6. وتتألف "حويطات التهمة" "حويطات التهم" التي تقعه منازلها على ساحل البحر الأحمر حتى "الوجه" في الجنوب، من عشائر عديدة هي: "العمران"7 و"العميرات" و"المساعيد" والذبابين والزماهرة والطقيقات والسليمانيين والجرافين والعبيات والمواسة والمشاهير والفرعان والجواهرة والقبيضات والفحامين. وأما "حويطات العلويون"، فتتألف من: "الصوياحين" و"المقابلة"
__________
1 Winkler, Rock Drawing Of South Upper Egypt, “1938”, L.A. Tregena And Dr. John Walker, Bulletin Of The Faculty Of Arts, Fouad University, Vol., Xi, Part Ii, December, 1949, Enno Littmann, Nabataean Inscriptions From Egypt, In Bulletin Of The School Of Oriental And African Studies, University Of London, 1953, Pp.1.
2 Ency., Vol., I, P.368, Iii, P.802.
3 Ency., Ii, P.349, Burkhardt, Notes On The Bedouins And Wahabys, London, 1831, P.29, Doughty, Travels In Arabia Deserta, I, 16, 29, 45, 46, 137, 233, 390, Ii, 24, 323.
4 Ency., Ii, P.349, Musil, Arabia Petraea, Iii, P.48.
5 Euting. Tabuch Einer Reise In Inner-Arabien, Ii, S., 103, Ency., 11, P.349.
6 قلب جزيرة العرب "ص 144".
Musil, Hegaz, P.6, Petraea, Bd., Bd. 3, S., 48, 51.
7 "حويطات التهم" قلب جزيرة العرب "ص 72، 131، 425"، "حويطات التهامة"، "عمران". Ency., Ii, P.349.(5/50)
و"المحاميد" و"الخضيرات" و"السلامين" و"العزاجين و"القدمان و"العواجة" و" السلامات". ومن "حويطات ابن جازى" "المطالقة" و"الدراوشة" و" العمامرة" و"المرايع" و"الدمانية" و" العطون" و"التوايهة"1.
لقد عثر على كتابات مدونة بالنبطية وعلى كتابات مدونة بثلاث لغات هي النبطية والإرمية واليونانية، بعضها من بعد ضم مملكة النبط إلى "الكورة العربية"، أي بعد سقوطها في أيدي الرومان، وقد تبين منها أن النبط بقوا أمدًا يكتبون ويدونون بلغتهم، وإن كانوا يستعملون معها اليونانية أو الإرمية أو كلتا اللغتين في بعض الأحيان، كما تبين أن اليهود دونوا بالنبطية أيضًا، أولئك اليهود الذين كانوا على اتصال بالنبط، وكانت لهم صلات تجارية بهم. وقد دونوا بهذه اللغة حتى بعد سقوط دولة النبط. وقد وصلت كتابات أصحابها يهود فيها عقود بيع وشراء مع النبط، كما وصلت كتابات نجد فيها خلاصات من عقود ومكاتبات دونت باليونانية أو بالإرمية، على حين دونت الخلاصات بالنبطية وبالعكس2.
ولا نعرف شيئًا يذكر عن أصول تنظيم الدولة وكيفيتها عند النبط. والملك بالطبع هو رئيس الدولة والشخص الوحيد الأعلى للحكومة. وهو الذي يختار من يوكل إليهم إدارة الأعمال وتسيير أمور الرعية. وللملك حاشية القربة عنده، وكل إليها النظر في المسائل العليا للدولة وتقديم الاستشارة إلى الملك، ويقال للواحد منها "اخ ملكا"، أي "أخو الملك"، ويظهر أنها كانت طبقة خاصة من الطبقات الأرستقراطية انحصرت فيها هذه الوظائف انحصار الملكية في الأسر المالكة3.
ومما يلاحظ على النبط أن ملوكهم كانوا ينعتون أنفسهم بنعوت لا نجدها في الكتابات العربية الأخرى، فجملة: "ملك رحم عمه"، أي "الملك الرحيم بشعبه"، أو "الملك المحب لشعبه" لا نجد لها مثيلًا في الكتابات الأخرى من كتابات ما قبل الإسلام. لكنهم لم يتركوا الجمل التي تنعتهم أيضًا بـ "ملوك
__________
1 وأسماء أخرى، راجع: قلب جزيرة العرب "ص 144".
Ency., Ii, P.349, Musil, Petraea, Iii, 48, 51, 407.
2 Deities, P.8.
3 Rep. Epig. 675, 1100, M. Lidzbarski, In Ephemeris, 3, “1909-1915”, 89, 297, Die Araber, I, S., 287.(5/51)
النبط"، إذ نجدهم يكتبون بعد اسمهم: "ملك ملك نبطو"، أي "الملك: ملك النبط".
ويلاحظ أنه قد كان للمرأة منزلة رفيعة عند النبط، بدليل ما نجده في كتاباتهم وفي نقودهم من ذكر اسم الملكات مع الملوك. فقد كان من عادتهم ورسومهم ذكر الملكات مع الملوك رسميًّا، فقد ورد مثلًا: "شقيلت أخته، ملكت نبطو". أي "شقيلة أخته، ملكة النبط". وورد: "شقيلت أمه، ملكت نبطو"، أي "شقيلة أمه: ملكة النبط"، وهكذا. ونجد النقود النبطية وقد أشارت إلى اسم الملك الذي أمر بضرب ذلك النقد، كما نجد اسم زوجته أو أمه معه. وقد ضربت صورة رأس الملك ورأس الملكة معه في النقود المضروبة باليونانية1.
وبالرغم من ظفر العلماء بنقود نبطية ويونانية، لم يتمكنوا حتى الآن من الاتفاق على تثبيت أسماء ملوك النبط تثبيتًا زمنيًّا، ولم يتمكنوا أيضًا من تعيين مدة حكم كل واحد منهم تعيينًا مضبوطًا قاطعًا، فما سنذكره عنهم لا يعني إذن أنه شيء ثابت وأكيد2.
وقد تأثر النبط بالثقافة اليونانية تأثرًا كبيرًا. ويظهر هذا الأثر في نقودهم، إذ قلدوا في ضربها النقود اليونانية، بل ضربوها بكتابة يونانية في الغالب. وقد نعت "عبادة الثالث نفسه بـ "الها" في نقد ضربه باسمه، محاكاة للسلوقيين الذين لقبوا أنفسهم بـ "ديوس" "Deos"، أي "الإله". كما يظهر هذا الأثر في إدارة الدولة وفي الحجارة المكتوبة، إذ نجد أصحابها بكتبون بالنبطية وباليونانية، بل نجد هذا الأثر على شواهد القبور وغير ذلك3. ولعلهم كانوا قد أخذوا من مناهل العلم اليوناني، وتعلموا العلوم الشائعة في ذلك العهد من اليونان الذين سكنوا بين النبط، ومن بلاد الشأم حيث كانوا على اتصال دائم بها، وفي بلاد الشأم جاليات قوية من الرومان واليونان. ولهذا ظهر أثر اللاتينية واليونانية في الأنباط4.
__________
1 Deities. P.11.
2 J. Cantineau. Le Nabateen, I. 6, R. Dussaud. Penetration, 51, Die Araber. I. S., 289.
3 Le Nabateen, 2, “1932”, P.5, 6, 152, Die Araber, I, S., 288.
4 N. Glueck. Rivers, P.194.(5/52)
ويظهر أن النبط كانوا مولعين بالشراب والخمور، ونجد لصور الكروم مكانة بارزة في فن النحت والنقش عندهم، وقد أظهروا براعة فائقة في حفر صور الكروم وعناقيدها على الألواح، كما يظهر ذلك من آثارهم التي درسها الباحثون في النبطيات1.
__________
1 Deities, P.4.(5/53)
مدن النبط:
و"بترا" "البتراء" "بطرا" "Petra"، هي عاصمة النبط القديمة، ومعنى "Petra" "بطرا" في العربية "الصخر". أما اسمها القديم فـ "هـ - سلع" "ها – سلع"، "Sela" = "Selah"، ويعني أيضًا "الصخر" لغة الأدوميين. وهي على خمسين ميلًا تقريبًا إلى الجنوب من البحر الميت. ولما افتتحها "أمصيا" "837-809ق. م."، سماها "يقتئيل" أي "الخاضع لله"1. وكانت عاصمة "أدوم"، وكانت من أشهر المدن في العالم القديم، ثم صارت
لمؤاب2. وقد ذكرها "ياقوت الحموي" في مادة "سلع"، فقال: "وسلع أيضًا حصن بوادي موسى عليه السلام بقرب بيت المقدس"3. وتقع آثار المدينة وبقاياها اليوم في وادي موسى، ويسمى أيضًا "وادي السيق"4. وقد عرف هذا الوادي بوادي موسى، لما زعم أن موسى ضرب الصخر بعصاه فشقه فجرى الماء من موضع العين إلى النهر، فسميت لذلك بعين موسى. وكان السيق مبلطًا، ولا تزال آثار التبليط باقية في بعض المواضع. وتجاه نهاية السيق هيكل منحوت في الصخر، يسمى: "خزنة فرعون"، وداخل باب الهيكل دار، وعلى بعد "600" قدم تقريبًا من هذا الهيكل بقايا آثار مسرح عظيم منحوت في الصخر يستع لزهاء أربعة آلاف إنسان.
__________
1 قاموس الكتاب المقدس، "1/ 528".
Die Araber, I, S., 283, Kennedy, Pp. 78, Hasting, P.835.
2 قاموس الكتاب المقدس، "1/ 528".
3 البلدان "5/ 107" Ency, Bibli., P.4344, Noldeke, In Zdmg., 55, S., 259
4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 529 وما بعدها"، "باب السيق".
Provincia, I, S., 195, 215.(5/53)
ومن آثارها المهمة، الأثر المعروف باسم "خزنة فرعون"1، وقوس النصر وهياكل وقبور عدة، بعضها على الطراز النبطي القديم، وبعضها متأثرة بالفن المصري الآشوري أو اليوناني أو الروماني2.
وتشاهد في "بطرا" كتابات كثيرة، منها ما هو مؤرخ يعود بعضها إلى ما قبل الميلاد، أكثرها كتابات نبطية من نوع الكتابات التي توضع على القبور، وبعضها لاتينية وأخرى يونانية. ووجدت كتابة باليونانية دونها أسقف سكن معبدًا من معابد المدينة القديمة التي تعود إلى ما قبل الميلاد في حوالي سنة "447" للميلاد. كما وجدت كتابة لاتينية على قبر بني على النمط "الروماني" صاحبها ضابط روماني اسمه "سكستيوس فلورنتينوس" "Sextius Florentinus" لا يعلم زمانه على وجه الصحة، ويرى بعضهم أنه من أيام "هدريانوس" "Hadrianus" أو "أنطونيوس بيوس" "Antoninus Pius"3.
وقد منحت "بطرا" درجة "Colonia" رومانية في أيام حكم الرومان كما يظهر ذلك من بعض النقود الرومانية التي عثر عليها. ويرى بعض الباحثين أن ذلك كان في أيام حكم "Elagabalus" "218-222" للميلاد4. ولكن هنالك من يعارض هذا الرأي من الباحثين في علم النميات5.
وقد وصف "سترابو" "بطرا" "بترا" بقوله: كانت "بطرا" عاصمة النبط ومقر حكمهم ودولتهم وهي لا تبعد إلا أربعة أيام عن "أريحا" "Jericho" وخمسة أيام عن غابة النخيل "بوسيديون" "Poseidion". وهي موضع غني بالماء كثير البساتين بالنسبة إلى من يأتي إليها من البوادي القاحلة الجرد. وقد زارها "أثينودور" "Athinodor" صديق "سترابو"، فوصفها له، وذكر له أنه وجد بها أجانب، بينهم جمع من الروم. ويظهر من أخبار "سترابو" أن النبط
__________
1 راجع وصف "خزنة فرعون" في الجزء الـ "21" من السنة الثامنة من مجلة المشرق الصادر في 1 تشرين الثاني من سنة "1905" "ص 965 وما بعدها".
2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 529 وما بعدها".
3 Kennedy, P.76.
4 Provincia, Iii, S., 291.
5 Berytus, Vol., Ix, Fasc., I, 1918, P.40, “Petra, Colonia”, By Stella Ben-Dor, De Saulcy, Numisme De La Terre Sainte, 1874, Pp.292, 353.(5/54)
كانوا قد بنوا بيوتًا لهم في هذه المدينة كذلك. وقد أيدت التنقيبات التي أجريت عند مدخل المدينة هذا الرأي1.
__________
1 Die Araber, I, S., 285, Strabo, 16, 779, A. Kranner, Petra Et La Nabatene, 1929, P.510.(5/55)
الحجر:
أما "الحجر"، فمدينة من مدن النبط القديمة المهمة، تقع على شريان التجارة في العالم القديم، وهي "Egra" = "Hegra" التي أشار إليها "سترابو" في أثناء حديثه عن حملة "أوليوس غالوس" و"Haegra" = "Hegra" التي ذكرها "بلينيوس" على أنها مقر القبيلة المسماة "ليانيته" "Laenitae"1. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها "مدائن صالح"2، وذهب بعض آخر إلى أن "مدائن صالح"، هي "العلا" لا "الحجر"3. وفرق بعض آخر بين موضع مدائن صالح و"العلا"4.
وقد ذكر "بطلميوس" المدينة أيضًا، وذكرها المؤرخ "اصطيفانوس البيزنطي" كذلك5. وقد كانت من مواضع النبط المهمة، وقد عثر على خمس كتابات في "مدائن صالح" خرج بعض الباحثين من دراستها إلى أن "الحجر" هي من الأماكن التي أنشأها "المعينيون". وقد كان اسمها القديم "حجرا" "هجرا" أو "حجرو" "هجرو" و"الـ - حجر" في الكتابات6.
و"حجرو" و"الـ - حجرو" هي "الحجر" في العربية. وقد ذكر هذا الموضع في المؤلفات العربية. وذكر "ابن حبيب" أن قوم ثمود نزلوا الحجر7. وذكر علماء اللغة أن "الحجر" ديار ثمود ناحية الشام عند وادي القرى،
__________
1 Musil, Hegaz, P.291, 299.
2 Arabien, S., 55, 59.
3 Arabien, 4, 15.
4 Arabien, S., 39, 40.
5 Ptolemaus, Vi, 7, 29, Stephanus Byzantius, I, 260, Arabien, S., 44.
6 Jaussen-Savignac, I, 157, Nr. 9, Arabien, S., 39.
7 المحبر "ص 384".(5/55)
وهم قوم صالح النبي، وقد جاء ذكر الموضع في القرآن: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} 1، كما جاء ذكره في كتب الحديث2. وقد تضاءل شأنها في الإسلام، حتى صارت قرية صغيرة في القرن العاشر للميلاد، ثم تركها أهلها، وتقع خرائبها اليوم بين "جبل اثلت" و"قصر البنت" وخط سكة حديد الحجاز، حيث تشاهد آثار حصن قديم وبعض بقايا أبراج وآثار سور، كما عثر على بقايا تيجان أعمدة قديمة وعلى مزولة شمسية، وعلى نقود يرجع عهدها إلى "الحارث الرابع". ويظهر من أسس بعض الدور أنها بنيت بالحجارة. أما الجدران، فقد بني أكثرها باللبن. وتقع خرائب "العلا" إلى الجنوب من "الحجر"3.
وقد عثر الباحثون على قبور من بقايا قبور الحجر القديمة، نقشت مداخلها وجدرانها بنقوش تدل على حذق ومهارة، ولا سيما المقبرة التي هي من القرن الأول للميلاد، ومن عهد الملك "الحارث الرابع". وقد تألفت من غرف نحتت في الصخور، ولبعضها دروب وطرق توصل بعضها ببعض. وهي قبور لأسر، ومن هذه المقابر الموضع المعروف بـ "قصر البنت"، وقد نحت في داخل تل، ويعد من أغنى تلك المقابر من الناحية الفنية، وله مدخل خارجي، ارتفاعه عشرون مترًا. وقد زين بالزخارف والنقوش4.
ويعد الموضع المعروف بـ "ديوان" من الآثار القيمة الباقية من "الحجر"، وقد عمل في "جبل اثلب". وهو معبد يذكرنا بمعابد "بطرا". وهو على قاعة ذات زوايا مربعة، عرضها عشرة أمتار، وعمقها اثنا عشر مترًا، وارتفاعها ثمانية أمتار، ولها مدخل عرضه ثمانية أمتار و"35" سنتمترًا، واراتفاعه سبعة أمتار وزهاء خمسة سنتيمترات، على كل جانب منه عمود من حجر، جعلت زواياه مربعة. أما الباب، فقد تلف. ويوصل إلى هذا المدخل مدرج. وهناك معبد آخر صغير يقع على مسافة "150" مترًا إلى الجنوب من "جبل اثلب"5.
__________
1 الحجر، الرقم 15، الآية 80، المفردات "107"، تفسير القرطبي "10/ 45 وما بعدها".
2 اللسان "4/ 170".
3 Arabien, S., 44.
4 Arabien, S., 60, Jaussen-Savignac, Mission, I, 316.
5 Arabien, S., 66, Jaussen-Savignac, Mission, I, 118, 405, Doughty, I, 118, Musil, Arabia Petraea. “1907” 133, 146.(5/56)
وقد وجدت في "القرية" بالحجاز وهي أطلال، مدينة قديمة على خمسة وأربعين ميلًا إلى الشمال الغربي من "تبوك" في أرض "حسمى" كتابات نبطية ويونانية، كما عثر على معبد قريب منها في البادية دعاه "موسل" "غوافة" و"روافة"، وجدت عليه كتابة نبطية يونانية طويلة ورد فيها اسم "مارقوس أورليوس انطونينوس" "Marcus Aurelius Antmninus" و"لوقيوس أورليوس فيروس" "Lrcius Aurelius Verus"1. ويظهر أن هذه المدينة كان لها شأن في أيام النبط، ولا سيما في أواخر أيام مملكتهم، وأن هذا المعبد كان قد ابتناه قوم ثمود في أوائل منتصف القرن الثاني للميلاد2.
__________
1 Musil, Hegaz, P.185, 258.
2 Musil, Hegaz, P.185, 258, The Geographical Journal, Vol., Cxvii, Part, 4, 1951, Pp.448, “The Ruins Of Quraiya”, By H. St. J. B. Phiby.(5/57)
الكورة العربية:
ضمت "العربية النبطية" سنة "105" أو "106" بعد الميلاد إلى الأملاك الرومانية وكون منها ومن أرضين أخرى ضمت إليها مقاطعة جديدة عرفت باسم "الكورة العربية" "Provincia Arabia" "المقاطعة العربية" وجعلت تحت حكم حاكم بلاد الشأم المدعو "كورنليوس بالما" "A.Cornelius Palma"1. ولا يعلم على وجه التحقيق أعين الرومان واليًا على هذه الكورة حال تكوينها أم أنها جعلت تحت إدارة حاكم "سورية" المباشرة ثم عين لها حاكم خاص. والمعروف أن أول والٍ "Legat" عين عليها إنما عين في سنة "111" بعد الميلاد2.
ولم تكن حدود "الكورة العربية" "المقاطعة العربية" ثابتة، بل كانت تتغير وتتبدل، وتتقلص وتتوسع تبعًا لمراكز الحكام ومنازلهم. ففي سنة "195" بعد الميلاد مثلًا أضيف إليها بعض الأرضين الجنوبية من مقاطعة "سورية الفينيقية" "Syria Phonice"، ولكن هذه الحدود تغيرت مرارًا قبل هذا التاريخ وبعده. وتساعدنا "السكة الرومانية" التي أنشأها "تراجان" ثم وسعت فيما بعد مساعدة
__________
1 Provincia, Iii, S., 250.
2 Provincia, Iii, S., 250.(5/57)
كبيرة في تعيين حدود ومساحة هذه المقاطعة. وقد أنشئت هذه السكة لأغراض عسكرية لتيسر للجيوش الرومانية الوصول بسرعة إلى المواضع المهمة من الوجهة العربية، ولتتمكن بواسطتها من السيطرة على الوطنيين وضبط الأمن1.
ويمكن الاستدلال من أنصاب الأميال، التي وضعها الحاكم "قلوديوس سويروس" "قلوديوس سفيروس" "Claudius Severus" على هذه الطرق للوقوف بواسطتها على الأبعاد والمسافات والاتجاه، على معرفة طريقين مهمين: أولهما طريق جديد انتهى منه في نسة "111" للميلاد، يمتد من الحدود الشمالية للمقاطعة العربية أي من بلاد الشأم إلى "بصرى" "Bostra". ثم إلى "فيلادلفيا" "عمان" "Philadelphia"، ومنها في اتجاه الحنوب ثم الغرب على طريق "بطرا" حتى البحر الأحمر. وثانيها الطريق الممتد من "فيلادلفيا" مارًّا بـ"جرش" "Gerasa" وربما بـ "أذرح" "Adra" نحو "بصرى" "Bostra". وقد كان هذا الطريق معروفًا قبل سنة "105" للميلاد، غير أنه أصلح وعمر، وربما حول إلى طريق عسكري في سنة "112" للميلاد، أي في أيام "تراجان"2.
وقد عرفت أسماء أكثر الحكام الذين تولوا منصب حاكم المقاطعة العربية من رومان وبيزنطيين، وردت أسماؤهم مدونة على أنصاب الأميال وفي الكتابات الأخرى التي عثر عليها في مواضع متعددة من هذه المقاطعة. وأولهم "كورنليوس بالما". وقد تبين أن الألقاب الرسمية التي كان يتلقب بها حكام هذه المقاطعة في القرن الثاني بعد الميلاد كانت من درجة الألقاب الرفيعة التي تمنح عادة لحكام مقاطعة "قيصرية" مثل لقب: "Legatus Augusti Pro Praetore" أو "Augustorum" تضاف إليه جملة: "Consul Designatus" متى يكون الحاكم في درجة "قنصل" "Consul"، وذلك يكون عادة بالنسة إلى حكام المقاطعات من درجة "Legatus Pro Praetore" وقد يقتصر اللقب على كلمة "Consulares" إذا كان صاحبه قنصلًا. غير أن هذه الألقاب الرسمية لم تكن ثابتة، بل كانت تتغير بحسب أهمية الحاكم ومنزلته، والوظيفة التي يشغلها، والزمان الذي حكم فيه3.
__________
1 Provincia, Iii, S., 250, 264.
المشرق: السنة الثامنة، العدد 10، 15 إيار 1905، ص 457 وما بعدها.
2 Provincia, Iii, S., 264.
3 Provincia, Iii, S., 281.(5/58)
وتفيدنا وثائق المجامع الكنسية التي انعقدت في أوقات مختلفة لمعالجة المشكلات التي جابهت الكنيسة، وحضرها ممثلون عن كنائس "الكورة العربية" فائدة كبيرة في تعيين أسماء مدن هذه الكورة وتأريخها، ومن هذه المجالس مجلس "نيقية" "Nicaea" الذي انعقد في سنة "325" بعد الميلاد1، ومجمع "أنطاكية" "Antiochia" المعقود في سنة "341" بعد الميلاد2، ومجمع "Sardica" الملتئم عام "347" للميلاد3، ومجمع "القسطنطينية" المنعقد عام "381" بعد الميلاد، ومجمع "أفسوس" "Ephesus" المجتمع عام "431"، ومجمع "خلقدونية" "Chalcedon" الذي انعقد في عام "451"، للميلاد، ومجمع "القسطنطينية" المنعقد سنة "536" للميلاد، ومجمع "القدس" الملتئم عام "536" بعد الميلاد وغيرها من المجالس والمجامع الدينية4.
وقد عثر على نقود ضربت في أيام الرومان والبيزنطيين في عدد من مدن "الكورة العربية"5. مثل "Adra" "أذرعات" و"بصرى" "Charachmoba" و"ديوم" "Dium" و"Eboda" و"Esbu" و"جرش" و"مأدبا" "Medaba" و"Moca" و"بطرا" و"فيلادلفيا" "Philadelphia" و"فيليب بوليس" "Philippolis" و"Rabbathmoba"6.
أما "Adra"، فهي "أذرعات" المشهورة عند العرب في الجاهلية والإسلام7. وتعرف في الزمن الحاضر بـ "درعة" و"درعا" كذلك، وهي "أذرعى" "Edrei" في التوراة، بمعنى قوة أو حصن8. وهي من مدن "باشان"
__________
1 Provincia, Iii, S., 253, Gelzer, Geographische Bemerkungen Zu Dem Verzelchnis Der Vater Von Nikaea, In Der Festschrift Fur Heinrich Kaipert. Berlin, 1898, S., 47-61.
2 Provincia, Iii, S., 253, Ency., I, P.359.
3 Provincia, Iii, S., 253.
4 Provincia, Iii, S., 255.
5 Hill, P. Xxii, Journal Of Roman Studies, Vol., Vi, “1961”.
6 Hill, P.Xxii-Xxiv.
7 البلدان "1/ 162 وما بعدها"، البكري "1/ 83"، المقدس "ص 162"، الأب 01 س0 مرمرجي الدومنكي: بلدانية فلسطين العربية، مطبعة "جان دارك"، بيروت، 1948م "ص4".
8 Ency. Bibli., Pp.118, Hastings, P.203.(5/59)
العظيمة1. وقد اشتهرت "أدرعات" بخمرها عند العرب، وقال عنها علماء اللغة إنها موضع بالشأم تنسب إليه الخمور2.
و"أذرعات" موطن "عوج" "Og" ملك "باشان"، وكان جبارًا قامة وبأسًا3، من سلالة الرافئيين، حاول أن يمنع مرور بني إسرائيل بأرضه، فاصطدم بهم بأذرعات، وتغلبوا عليه، فقتل هو وبنوه، وانقسمت مدنه الستون المحصنة بين "الرأوينيين" و" الجاديين" ونصف سبط "منى"4. وتقع "أذرعات" في واد يكون القسم الجنوبي من وادي "حوران" وعلى مسافة ستة أميال إلى الشرق من طريق الحج، وفيها كهوف عديدة وصهاريج كبيرة، وبها خرائب وآثار يقرب محيطها من ميلين يظهر أنها من عهد الرومان5.
ومن بقاياها "قناة فرعون"، وهي تأخذ مياهها من بحيرة صغيرة قرب موضع "يابس" في حوران. ومسجد يشبه بناؤه "كاتدرائية" بصرى، وآثار الشوارع والحوانيت التي كانت عليها، وموضع سوق. وعثر في خرائبها على كتابات باليونانية كما عثر فيها على نقود ضربت فيها من سنة "83" قبل الميلاد. وقد ألحقها "بومبيوس" "Pompeius" بمقاطعة سورية الرومانية، وألحقها "تراجان" بالمقاطعة العربية، وذكر "أويسبيوس" "Eusebius" و"جيروم" أنها من أشهر مدن "العربية"، وكان بها أسقف حضر مع من حضر من الأساقفة في المجالس الكنسية التي انعقدت في "سلوقية" "Seleucia" و" القسطنطينية" و"خلقدونية" "Chalcedon" "45 م"6.
وفي المتحف البريطاني قطع من النقد المضروب في هذه المدينة، وقد أشير في
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 56"، التثنية، الإصحاح الأول، الآية "4"، Ency. Bibli., Pp.1188, Hill, P.Xxiii.
2 اللسان "8/ 97".
3 التثنية، الإصحاح الثالث، الآية 11، يشوع، الإصحاح الثالث عشر، الآية 12.
4 العدد، الإصحاح 32، الآية 2 وما بعدها، تثنية، الإصحاح الثالث، الآية 3 وما بعدها، و12-17، قاموس الكتاب المقدس "2/ 124".
5 قاموس الكتاب المقدس "1/ 56" و Ency. Bibli., P.1189.
6 Ency. Bibli., P.1189, Wetzstein. Ausgewaste Griechische Und Lateinische Inschriften, Gesammelt Auf Reisen In Den Trachonen Des Haurangebirges, Reiseberichte Uber Hauran Und Trachonen, 47, On Mast., 118, 4, 213, 379, Hastings, P.203.(5/60)
بعضها إلى "دو شرى" "ذي الشرى" إله النبط. كما صور على بعضها صور القياصرة الذين في أيامهم ضرب ذلك النقد1.
و"باشان"، ومعناها "التربة الخفيفة"، مقاطعة من أرض كتعان واقعة شرقي الأردن بين جبلي حرمون و"جلعاد"، وسميت "باشان" من جبل في البلاد2. وسكانها القدماء هم "الرفائيون" "Rephalite"، ولهم مملكة ذكر في التوراة من ملوكهم اسم الملك "عوج" الذي قتله الإسرائيليون، وهو المعروف بـ "عوج بن عوق" عند أهل الأخبار، والمعروف بـ "عوج بن عنق" عند العوام. وقد ذكر الأخباريون أنه رجل "ذكر من عظم خلقه شناعة"، وأنه كان ولد في منزل آدم فعاش إلى زمن موسى، وقد قتله موسى3. وقد أخذوا أخبارهم هذه عنه عن أهل الكتاب، أو من وقوفهم على ما جاء في أسفار "التثنية" و" يشوع" و"العدد" عنه. وكان قد حاول منع الإسرائيليين من المرور بأرضه، فقتلوه، وجاء أنه كان ينام على سرير من حديد طوله تسع أذرع وعرضه أربع أذرع4، وذلك لبيان ضخامة جسمه. ونجد في الأسفار المذكورة أخباره مع بني إسرائيل ومقاومته لهم5.
وكانت باشان تشمل حوران والجولان واللجاة، وكلها مؤلفة من صخور وأتربة بركانية، وتربتها مخصبة، وماؤها غزير، ويحدها شمالًا أرض دمشق، وشرقًا بادية الشأم، وجنوبًا أرض "جلعاد"، وغربًا "غور الأردن"، ويخترق جانبها الشرقي جبل الدروز، وهو جبل "باشان" القديم. ويمر بالجولان سلسلة تلال من الشمال إلى الجنوب. أما مقاطعة "اللجاة"، فهي حقل من "اللافا" أي الصخر البركاني، سالت من "تل "شيحان"، وهو فم بركان
__________
1 Hill, P.Xxiii, Dussaud, Notes De Mythologie Syrienne, Pp.167, De Sauley, Terre Sainte, Pp. 373.
2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 206"، المزامير، 68، الآية 15.
3 اللسان "2/ 335"، "10/ 281".
4 التثنية، الإصحاح الثالث، الآية 11 وما بعدها.
5 التثنية، الآية1 وما بعدها، والإصحاح32. الآية1 وما بعدها، ويشوع، الإصحاح 13، الآية 11 وما بعدها، والعدد، الإصحاح 21، الآية 34، و32، والآية 2 وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "2/ 124".(5/61)
قديم بقرب شحبة1.
ومن أشهر مدن "باشان" "الجولان" "Golan"، وهي من منطقة "الجولان" "Gaulanitis"، وتعني الكلمة "الدائرة"، وأصلها مدينة "جولان"، وبها سميت المقاطعة. وتقع في "باشان"2. و"عشتاروت" "عشتروت" "بعشترة" "Aschtaroth" = "Ashtoreth" = "Be- Eshterah"، ويظهر أنها "تل عشترة" "تل أشعرى" في الجولان"3. ومدينة "عشتاروت قرنايم" "Asther Karnaim" وهي "قرنيون" "Carnion" أو "قرنين" "Carnain" التي استولى عليها "يهوذا المكابي" "Judas Maccabaeus" سنة "164" قبل الميلاد على ما يظن. وهي من مدن "الرفائيين" في "باشان"4. وقد اختلف الباحثون في مكانها في هذا اليوم، فذهب بعضهم إلى أنها "الصنمان" وذهب بعض آخر إلى أنها "قنوات" وذهب آخرون إلى أنها "تل عشترة"5.
ويظهر أن كثيرًا من "الباشانيين" كانوا يعيشون عيشة سكان المغاور والكهوف "Troglodytes"، إذ تبين أن قسمًا منهم سكن الكهوف والمغاور، وسكن بعض منهم في أنفاق وكهوف تحت الأرض يبلغ طولها "150 قدمًا، وتتفرع منها أزقة تحت الأرض بجانبها بيوت تنتفتح كواها في سقوفها، فهي في الواقع مدن تحت الأرض. وفضل نفر آخر السكنى في بيوت منقورة في الصخر.
وسكن بعض منهم في بيوت منفردة منية من الحجر6.
وأما "بصرى" وتعرف بـ "Bostra"، فقصبة "حوران"، ومن أشهر مدنها7. وقد عرفت في أيام الرومان بـ "Nova Trajana Bostra"8. وقد ألحقت بالمقاطعة العربية في مبدأ تأسيس هذه المقاطعة، أي في أيام "تراجان"،
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 206".
2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 345".
Hastings, P.303, Schumacher, Across The Jordan, 92.
3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 102" Hastings, P.57.
4 التكوين، الإصحاح الرابع عشر، الآية 5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 102".
5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 102" Hastings, P.57.
6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 206" Ency. Bibli., P.4976.
7 البلدان "2/ 208"، المشترك "طبعة "وستنفلد" "57"، بلدانية فلسطين 1 ص 23 وما بعدها"، عيون الأخبار "2/ 331".
8 Ency., I, P.765, Hill, P.Xxiv.(5/62)
وصارت عاصمتها وقصبتها العظمى بعد أيام "ديوقليتيان" "Diocletian" "286-337" بعد الميلاد1، ومركزًا من مراكز النصرانية المهمة. وفي القرن السادس للميلاد كانت أسقفية "Avara"، وهي "الحميمة" على رأي "موسل" تراجع "بصرى"2. ويظهر أنها لم تكن تابعة للغساسنة، وإنما كانت في إدراة البيزنطيين. وقد تضررت مثل "أذرعات" في أثناء غزو الفرس لديار الشأم عام "64" للميلاد ضررًا بالغًا، وفقدت مكانتها المهمة من ذلك الحين3.
وقد ورد اسم "بصرى" في السيرة في قصة ""بحيرا" الراهب، كما ورد اسمها في خبر فتوح الشأم. وكان أهلها من "قيس" من "بني مرة". وذكر "أبو الفداء" أنها من ديار "بني فزارة" و"بني مرة"4. وقد اشتهرت بصنع السيوف المعروفة بـ "السيوف البصرية"5.
وعثر على نقود ضربت في مدينة "بصرى"، منها ما يعود تأريخها إلى أيام "أنطونيوس بيومس" "Antonius Pius"، ومنها ما يعود إلى أيام "هدريانوس" "Hadrianus"، وهي النقود التي ضرب على أحد أوجهها النصف الأعلى لإنسان يظهر أنه يرمز إلى "العربية "Arabia" حاملًا جسمين يشيران، على رأي بعض الباحثين، إلى كورة "Auranitis" أي "حوران" و"العربية الحجرية" "Arabia Petraea" ومنها ما يعود إلى آخرين، وهم: "ديفا فاوسطينا" الأول "Diva Farstina"، وقد صور النصف الأعلى من الجسم على أحد وجهي النقد، "ومارقوس أورليوس قيصر" "Marcus Aurelius Caesar" و"كومودوس قيصر" "Commodus Caesar" و"كومودوس أغسطس" "Commodus Augustus" و"سبتيميوس سويروس" "Septimius Severus" و" يولية دومنا" "Jullia Domina" و"ايلاغبالوس" "Elagabalus"6.
ودعيت "بصرى" في النقود التي ضربت باسم "سويروس اسكندروس"
__________
1 History Of The World, Vol., Vi, P.X, Ency., I, P.765.
2 Musil, Hegaz, P.60.
3 Ency., I, P.765.
4 بلدانية فلسطين "ص 23"، Ency, I, P. 765..
5 اللسان "4/ 68"، "صادر"، "ب ص د".
6 Hill, P.Xxiv.(5/63)
"Severus Alexanderus"، بـ"مستعمرة بصرى" "Colonia Bostra"1. ويعني هذا حدوث تغير في النظام الإداري لهذه المدينة في هذا العهد. ويرى بعض الباحثين أنها جعلت في درجة مستعمرة، أي "Colonia" قبل أيام "سويروس"، وبقيت في هذه المرتبة حتى عهد "سبتيميوس سويروس" "Septimius Severus" غير أن "هل" وآخرين يعارضون هذا الرأي ويرفضونه، ويرون أن ذلك كان في أيام "سويروس اسكندروس"، لا قبله، وأنها لم تعرف بـ "Colonia Bostra Nova Traiana Alexandiana" إلا في أيامه2. وأما في نقود "يولية مامية" "Julia Mamaea"، فقد دعيت بـ "Colonia Bostra" كذلك3.
وأعيد النظر في مرتبتها في أيام "فيليب سنيور" "فيليب الأقدم" "Philip Senior" على ما يظهر، فجعلت في درجة "متروبوليس" "Metropolis"، فدعيت "Colonia Metropolis Bostra". وحافظت على درجتها هذه في أيام "فيليب الأصغر" "Philip Junior"4. ولم يعثر على نقود ضربت في "بصرى" بعد أيام "تراجان دسيوس" "Trajan Decius" أو "تويبونيانوس غالوس" "طريبونيانوس غالوس" "Trebonianus Gallus"5.
وأما "Charachmoba"، فإنها "قير موآب" "Kir Moab" في التوراة والتركوم. و"قير حاراش" "قير حراشات" "قير حارسة" من "موآب" وهي "الكرك"6. وقد عثر على نقد يعود إلى عهد "Elagabalus" يظن أنه من نقود هذه المدينة، وأن الصورة المضروبة في الوجه المقابل لصورة "Elagabalus" ترمز إلى الإله "دو شرى"7.
__________
1 Hill. Pp. Xxiv. Morey. In Rev. Numes., P.81, 1911, Berytus, Vol., Ix, Fasc., I, “1948”, P.43.
2 Hill. P.Xxv-Xxvi.
3 Hill, P.22.
4 Hill., P.24, The Quarterky Of The Department Of Antiquities In Palestine Vol., No. 3, 1931, P.135.
5 Hill, P.Xxvi.
6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 230".
Hill, P.Xxx. Xxxi, Ency., Ii, P.855, Musil, Petraea, S., 45-62.(5/64)
وتختلف وجهات نظر الباحثين في موضع مدينة "ديوم" "Dium" "ديون" "Dion"، فمنهم يرى أنها "الحصن" "قلعة الحصن" على مقربة من "اربد" وأنها "Dia" عند "بلطميوس"1 ومنهم من يرى أنها "كفر أبيل"، وآخرون يرون أنها "تل الأشعري"، وهكذا2. وهي من مدن "Decapolis"، ثم ألحقت بـ "المقاطعة العربية" في عهد "سبتيميوس سويروس" "Septimius Severus" على ما يظن3. وقد عثر فيها على نقد ضرب باسم "Geta"4، وأرخ تأريخ الضرب بتقويم "بومبيوس"، وأشير في أحد وجهي النقد إلى الإله "هدد" الذي صورته بعض النقود المضروبة في بعض المدن السورية. وهو يقابل الإله "زيوس" "Zeus" عند اليونان5.
ويراد بـ "Decaplis" الحلف المؤلف من عشر مدن، تحالفت لدفع غزو القبائل لها. ويظهر أنه ظهر إلى الوجود في القرن الأول للميلاد. والمدن المذكورة هي: "Pella" و"Scythopolis" و"Dion" و"Gerasa" و"Philodelphia" و"Gadara" و"Raphana" و"Kanatha" و"Hippos" و"دمشق". وقد انضمت إليه مدن أخرى بين حين وآخر. فلكون أرض هذا الحلف ممتدة من دمشق إلى الجنوب الشرقي لبحر الجليل "Sea Of Galilee"6.
ومدينة "Eboda"، هي "عبدة" "العبدة" في "العربية الحجرية" "Arabia Petraea"7. وقد أشار "بطلميوس" إلى أن "Eboda" = "Oboda" و "Gerasa" و"Gypsaria" و"Lysa" هي من مدن "العربية الحجرية"، وجعلها بعضهم من "النقب"8. وتقع خرائب "عبدة" في جنوب "بئر السبع" "Beerscheba" وفي غرب "بطرا" وفي جنوبها سباخ، غير أن من المشكوك
__________
1 عن "اربد"، البلدان، "1/ 170"، بلدانية فلسطين "ص5".
Provincia, Iii, S., 265, Hill, P.Xxxi.
2 Hill, P.Xxxi.
3 Hill, P.Xxxi. Provincia, Iii, S., 264.
4 Hill, P.28.
5 Hill, P.Xxxi-Xxxii, 28.
6 Hastings, P.183.
7 Provincia, Iii, S., 268, Hill, P.Xxxii.
8 Provincia, Iii, S., 268, Rev. Bibl., 1904, Pp.403, 1905, Pp.74.(5/65)
فيه أن تكون هذه السباخ موضع "Ge'ham Maleh"، أي وادي الملح1. وأما صنم "Eboda"، فقد عرف باسم "زيوس "عبودة" "Zeus Oboda"2.
وأما "Esbus"، فإنها "حشبون" "Heshbon" في التوراة، وتعرف اليوم بـ "حسبان"، وتقع بين "فيلادلفيا" "عمان" و"مأدبا"، وعلى مسافة "26" كيلومترًا من شرق النهاية الشمالية للبحر الميت في صعيد "موآب"3. وهي من مدن العربية القديمة الشهيرة4. وفي التوراة أنها كانت من مدن "الموآبيين" ثم استولى عليها الملك "سيحون" ملك "الأموريين" وجعلها عاصمة له، ثم تغلب عليها الإسرائيليون، ثم استعادها "الموآبيون"5. والظاهر أنها كانت من مدن النبط، ثم دخلت أخيرًا في أملاك الرومان فالبيزنطيين. ولا تزال آثار المدينة القديمة باقية حتى الآن. وأما النقود التي ضربت فيها، فهي من أيام "Elagabalus" وبعضها من عهد "كركلا" "كاركلا" "Caracalla". ويظهر من بعض النقود أنها كانت تعرف أيضًا بـ "Aurelia"6. و"Gerasa" هي "جرش" في الزمن الحاضر، ونسبها "ياقوت الحموي" إلى رجل زعم أن اسمه هو "جرش بن عبد الله بن عليم بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر ابن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة"7. وتقع عند الحافة الجنوبية الشرقية لسلسلة "عجلون"، ولا يعرف أصلها ومبدأ تأريخها على وجه التحقيق. ولم يرد اسمها في التوراة8. وقد أشير إليها في كتب "الحديث"9.
__________
1 Musil, Hegaz, P.253, 255.
2 Hill, P.Xxxii.
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 374".
Hill, P.Xxxii, Reallexikon, Vi, S., 613, Musil, Petraea, I, P.383.
4 Ency., Bibli., P.2044.
5 العدد، الإصحاح 21، الآية 25 وما بعدها، الإصحاح 32، الآية 37، اشعيا، الإصحاح 15، الآية4، والإصحاح 16، الآية8 وما بعدها، وأرميا، الإصحاح 48، الآية 2، 34، 45، والإصحاح 49 الآية 3.
6 Hill, P.Xxxiii, Hastings, P.346.
7 البلدان "3/ 85"، بلدانية فلسطين "52".
8 Ency., I, P.1017, Hastings, P.290.
9 اللسان "6/ 272".(5/66)
ويظن بعض الباحثين أنها "راموت جلعاد" "Ramoth-Gilead" المذكورة في العهد العتيق1. ويظهر أنها من المدن التي عرفت بعد عهد "إسكندر الكبير"، وقد استولى عليها "إسكندر ينيوس" "إسكندر جنيوس" ملك "يهوذا"، ثم تحررت من اليهود في عهد "بومبيوس"، وألحقت بكورة "سورية الرومانية"، ثم أضافها "تراجان" في عام "106" بعد الميلاد إلى "الكورة العربية"، وضمت بعد ذلك إلى كورة "فلسطين الثانية" "Palestina Secunda" أي الأردن2.
وكانت "جرش" مركزًا لعبادة الإله "ارتيمس" "Artemis"، وهو "ديانا" "Diana" عند الرومان، وابنة "زيوس" "Zeus"، و"ليتو" "ليطو" "Leto" عند الإغريق3، كما كانت أسقفية معروفة قبل الإسلام، وتشاهد آثار كنائس ومباني رومانية وبيزنظية ونبطية لا تزال باقية حتى اليوم4.
وأما "Medaba" = "Medeba"، فهي "مأدبا" وهي "ميدبا" في التوراة. وهي من أقدم مدن "موآب"، وقد ذكرت في سفر "العدد" مع "حشبون" و"ديبون"5، وكانت في أيدي "العمونيين" في ملك "داود"، وفي أيام "أشعيا" عادت إلى يد "موآب"6. وفيها قتل "يوحنا مكابيوس" يوحنا المكابي"7. وسبق أن ذكرت أن "بني يمرى" "Bne- Imri" = "Bne-Amri" قتلة "يوحنا" كانوا من سكان "ميدبا" مأدبا"، وهم من العرب، وقد جعلها "بطلميوس" في جملة مدن "العربية الحجرية"8. أما "أويسبيوس" "Eusebius" و"جيروم"، فذكراها في جملة مدن "العربية"9. وتقع خرائب تلك المدينة القديمة على مسافة "14" ميلًا شرقي "بحر لوط"، وهي مبنية على رأس تل وحوله، وفيه آثار المدينة القديمة. وإلى الجهة الجنوبية منها
__________
1 Hastings. P.290.
2 Ency., I, 1017, Schurer: Geschichte Des Judischen Volkes, Ii, S., 182.
3 Hastings, P.290, Harvey, P.52.
4 Ency., I, P.1017.
5 عدد، الإصحاح 21، الآية 30.
6 أشعيا، الإصحاح الخامس عشر، الآية 2.
7 قاموس الكتاب المقدس "2/ 397".
8 Ptolemy, V, 17, 6, Viii, 20, 20, Ency. Bibli., P.3003.
9 Eusebius. 138, 32, 279, 13, Ency. Bibli., P.3003.(5/67)
بركة، وإلى الشرق والشمال برك أخرى. وتوجد آثار هيكل كبير بينها عمودان واقفان1. ومن أنفس من عثر عليه في هذه المدينة القديمة خارطة من "الموزاييك" الفسيفساء "Mosaic" لفلسطين النصرانية ومصر2، كما عثر فيها على نقود من أيام الرومان واليونان3. وقد ازدهرت بعد الميلاد: فصارت مركز "أسقف"، ومثلث في مجمع "خلقيدون" "Chelcedon"4.
وأما "فيلادلفيا" "Philadelphia"، فهي "ربة" و"ربة بني عمون" "Rabbath- Bene- Ammon" في التوراة. وهي في "جلعاد" بالقرب من مخرج نهر "يبوق" وعاصمة "بني عمون"5. وذكر "اصطيفانوس البيزنطي" أنها كانت تعرف بـ "Astarty". وقد يكون لهذا القول أصل، فقد ورد في بعض الكتب أن من مدن "سورية" مدينة عرفت بـ "Asteria"، وللتسميتين علاقة بالصنم "عشتروت" "Asteria"6. وعلى أنقاض هذه المدينة القديمة تقع "عمان" عاصمة المملكة الأردينة الهاشمية. وأما سبب تسميتها بـ "فيلادلفيا" فلتجديد بنائها وإعادة تعميرها في عهد "بطلميوس فيلادلفوس" Ptolemy "Philadelphia" "285-247" قبل الميلاد فعرفت به7. وصارت من أشهر مدن "Decapolis"8. وقد انتزعها "أنطيوخس أبيفانوس" "Antiochus Epiphanes" من "بطلميوس فيلوباتر" "بطلميوس فيلوباطر" "Ptolemy Philopater" في سنة "218" قبل الميلاد9، وكان يحكمها في أيام "هركانوس" ملك "يهوذا" "135-107" قبل الميلاد، حاكم اسمه "زينو كوتيلوس" "Zeno Cotyles"10.
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 398".
2 Ency. Bibli., P.3093, Hastings, P.596, Clermont Ganneau, In: Recueil D’archeol. Orient., Xi, P.161, 1897”, A. Jacoby, Das Geogr. Mosaik Von Medaba, 1905, Musil, Petraea, I, Pp.113.
3 Hill, I, Xxxv, 33.
4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 297". Hastings, P.596.
5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 473".
6 N. Glueck: The River Jordan, 1946, P.839, 93, 189, Hill, P.Xxxix.
7 Hastings, P. 780, Ency., Bibli., P.3998.
8 N. Glueck, P.48, 89, 175, 189, Ency. Bibli., P.3998.
9 Polybius. “Polubios”, 5, 17, Ency. Bibli., P.3998.
10 Josephus, Antiq., Xiii, 8, I, 15, 3, Ency. Bibli., P.3998.(5/68)
وكانت بأيدي النبط في سنة "65" قبل الميلاد1.
وتنسب "فيليب بولس" "Philippoplis"، وهي "شهبة" "شحبة" في الزمن الحاضر2، وتقع على مسافة سبعة كيلومترات شمال "القنوات" إلى "فيليب" "فيلفوس"3 المعروف بالعربي "M.Julius Philippus Arabus" "244-249م"4. وقد عرف بالعربي؛ لأنه كان عربي المولد5. وكان قد نشأ وترعرع في "بصرى"، ثم دخل الجيش الروماني وتقدم فيه، وأصبحت له مكانة كبيرة أوصلته إلى أعلى مراتب الدولة، وهي "قيصر"6.
ويرى بعض الباحثين أنه أنشأ هذه المدينة في سنة "248" بعد الميلاد أو بين "247" و"248" بعد الميلاد. ويرى "كوبيجك" "Kubitschek" أنه أسسها في عام "244"، أي قبل ذهابه إلى "رومة"7. وجعلها في درجة "مستعمرة" "Kolonia" = "Colonia" رومانية. ولا تزال أنقاض هذه المدينة باقية حيث تشاهد آثار معابدها وشوارعها وبعض أبنيتها ومسرح وغير ذلك مما جاء وصفه في كتاب: "Die Provincia Arabia"8، كما عثر فيها على كتابات ورد فيها اسم "القيصر" "فيليب"9، كما عثر فيها على نقود10.
وأما "Rabbathmoba"، وتعرف في اليونانية باسم "Areoplis"، فإنها "ربة" "ربا"، وهي مدينة بنيت في عهود الرومان المتأخرة على رأي بعض الباحثين11. وقد عثر فيها على نقود ضرب عليها اسم "سبتيميوس سويروس" وأسرته. ويظن أن الصورة الرمزية المضروبة على عدد من نقود "ربة" تشير إلى
__________
1 Ency. Bibli., P.3998.
2 "شحبة". Provincia, Iii, S., 145, 147.
3 "فيلفوس" الطبري "1/ 694، 719"، فهرست تأريخ الطبري، عمل "دي غويه" "ص 454".
4 Hill, P.Xxxix, Die Araber, Ii, 4.
5 The Historians’ History Of The World, Vol., Iv, P.412.
6 Leopold Von Ranke: Weltgeschichte, Bd., 5, S., 163,
7 Hill, P. Xiii, Provincia, Iii, S., 305.
8 Hill, P. Xiii, Provincia, Iii, S., 305.
9 Hill, P.Xiii.
10 Provincia, Iii, S., 145.
11 Hill, Xiii, Provincia, I, S., 55, Burckhardt, 337, H.B. Tristram: The Land Of Israel, 110.(5/69)
إله لعله الإله "Kemosh" أو إلى معبده الخاص به، على نحو ما رأينا في بعض النقود من ذكر "متاب"، وهو معبد "دوشرى" ليرمز إلى الإله1. ويرى بعض الباحثين أن "Kemosh" هو إله الحرب2.
ومن مدن الكورة العربية الأخرى: "Sodoma"، ولعلها "الزوراء"3، و"السويداء" "Dionysias"، و"Beretana"، وقد وردت أسماؤها في مجمع "نيقية". وقد ألحقت "السويداء" بالكورة العربية في أيام "سويروس" و"Adrama" و"Constantine" و"Neapolis"، وقد وردت أسماؤها في جملة الأسماء المدونة في أعمال مجمع "القسطنطينة" المنعقد عام "381" للميلاد4. و"Ziza" و"Dia-Fenis" و"Tricomia" و"Areopolis" و"Camotha" و"Nela" و"Zeraben" و"Anetha" و"Eutymia" و"Chrysopolis" و"Erra" و"Neve" و"Maximianopolis" و"Phaena" و"Aena"، وقد وردت أسماؤها في سجلات أعمال مجمع "خلقدون" "خلقيدون" "Chalcedon" "451م"5.
وذكر "بطلميوس" أسماء مواضع أخرى يقع بعضها في النقب "Negeb" = "Negev" غرب "العربة"6. وسجلت في "Notitia Dignitatum" أسماء "Motha"، وهي: "أمنان" "Speluncae"، وهي "دير الكهف"، "Mofa" و"Gadda" وهي "خو"، و"Betthoro" و"Dia-Fenis" و"Auatha" و"Gomotha" و"Libona" و"Naarsafari" و"Thainatha" و"Adittha" وهي "الحديد" و"Asabaia" و"Uitha" و"Uade Afar" و"Castra" و"Arnonensia"7، على أنها من مواضع الكورة العربية. وهناك أماكن أخرى ذكرت أسماؤها في كتاب: "Die Provincia Arabia"، قد يخرجنا تعدادها عن
__________
1 Hill., P.Xiii.
2 Hill, Xiii, Baethgen: Beitrage Zur Semit, Religiongeschichte, S., 14.
3 Provincia, Iii, S., 253.
4 Provincia, Iii, S., 252, 353.
5 Provincia, Iii, S., 263, Harduin, Kritische Angabe Der Unterschriften Von Geltzer, Leipzig, 1893.
6 Provincia, Iii, S., 256, Ptolmey, V, 16.
7 Provincia, Iii, S., Notitia Dignitatum. Ori., 37.(5/70)
أصل الموضوع1.
وقد أوكلت مهمة المحافظة على الأمن في "الكورة العربية" إلى الكردوس "اللجيون" "Legion VI Ferrata" الروماني الذي كان معسكرًا منذ أمد في "سورية"، فصدر الأمر إليه في سنة "106" للميلاد على ما يظهر بنقل مقره من شمال سورية إلى هذه الكورة الجديدة التي أنشأها "تراجان"2. ثم نقل مقره في أيام "هدريانوس" "Hedrianus" إلى "اللجون" "Caparvonta" في "الجليل" "Galilee"3. وفي أيام "هدريانوس" أيضًا وفي سنة "135" للميلاد وهي سنة استيلائه على القدس وإخماده الثورة التي قامت في "اليهودية" أمر بإنشاء "Aelia Capitolina". لأغراض عسكرية على ما يظهر4.
ويرى بعض الباحثين أن الكورة العربية قد قسمت في القرن الثالث للميلاد وفي "ديوقليطيان" "ديوقلطيانوس" "Diocletianus" = "Diocletian" إلى كورتين: كورة شمالية عاصمتها "بصرى" وعرفت بـ "كورة بصرى" "Provincia Bostron"، وكورة جنوبية وعاصمتها "بطرا" وعرفت باسم "كورة بطرا"، وبعبارة أصح "الكورة الحجرية" "Provincia Petrae"، وتعرف بـ "العربية" أيضًا5.
أما في القرن الرابع وفي حوالي سنة "307" للميلاد تقريبًا، فقد اقتطعت منها بعض المدن، مثل "أيلة" "Pheinon" وألحقت بفلسطين، وبذلك تقلصت "Praeses Arabiae" وتوسعت رقعة فلسطين "Praeses Palestinae" كثيرًا. ويظهر أن الضرورات العسكرية هي التي دفعت إلى إحداث هذه التغيرات6.
وحدثت تغيرات أخرى في "الكورة العربية" في القرنين الخامس والسادس
__________
1 Provincia, Iii, S., 253.
2 The Quarterly Of The Department Of Antiquities In Palestine, Vol., Ii, Iii, 121, Harvard Excavations At Samaria, 1908-1910, I, 251, I, Ii, Plate 59.
3 The Quarterly, Ii, Iii, P.121, 1933.
4 The Quarterly, Ii, Iii, P.120.
5 Provincia, Iii, 271, Mommsen: Verzeichnis Der Romischen Provizen, S., 501.
6 Provincia, Iii, S., 275.(5/71)
للميلاد، فانتزعت منها مدن أخرى ألحقت بـ "فلسطين الثالثة" "Palestina Tertia" وتعرف أيضًا بـ "Palestina Salutaris"1.
__________
1 Provincia, Iii, S., 280.(5/72)
أهل الكهف والرقيم:
ولا بد لي وقد انتهيت من الحديث عن النبط وعن "الكورة العربية" من الكلام عن أهل الكهف والرقيم، الذين ذكروا في القرآن الكريم: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} 1. إذ ذهب بعض علماء التفسير إلى أن الرقيم واد دون فلسطين فيه الكهف، وهو قريب من "أيلة". كان اليهود قد أوحوا إلى المشركين من أهل مكة، أن يسألوا الرسول عنهم، امتحانًا له. وكانوا يتداولون أخبارهم، ويروون قصصًا عنهم، كان شائعًا فاشيًا إذ ذاك بين النصارى أيضًا، فجاء الجواب عنهم في سورة "الكهف"2.
وهناك من زعم أن "الرقيم" على فرسخ من "عمان"، أو قرية صغيرة بالقرب من البحر الميت، أو أنها "البتراء": وذلك بالإضافة إلى روايات أخرى رجعت مكان "الكهف" إلى "أفسس" "أفسوس"، بالأناضول، أو إلى أماكن أخرى لا داعي إلى ذكرها في هذا المكان، لعدم وجود علاقة لها بهذا البحث. وقد بحث عنها المتخصصون، كما قامت بعثات آثارية بالبحث عن كهف "أهل الكهف" في الأماكن المذكورة، للتأكد عما جاء عنه في الموارد النصرانية والإسلامية، فإليها أحيل من يريد التبسط في الكلام عنه3.
__________
1 سورة الكهف، الآية 9.
2 تفسير الطبري "15/ 126 وما بعدها". "طبعة بولاق"، تفسير النيسابوري "15/ 116 وما بعدها"، "حاشية على تفسير الطبري، طبعة بولاق"، تفسير القرطبي "10/ 356 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "3/ 73".
3 راجع دائرة المعارف الإسلامية. Encyclopedia Of Islam، ومجلة: Review De Qumran, Vol. 5, No. 18, 1965.
وما كتبه "ماسنيون" و"بارنيوس" Baronius، و" تاليمونت" Talimont. عن الكهف.
وأشكر دائرة الآثار بعمان في المملكة الأردنية الهاشمية لتفضلها علي بإرسال صورة كتابة "بئر أم الرجوم"، ومقال يقع في "3" صفحات للسيد رفيق وفا الدجاني عنوانه: كهف، أهل الكهف في الرجيب، وذلك بكتابها المرقم بـ2 – 14 -4 1958 والمؤرخ لـ "18-8-1966م".(5/72)
ولقد تبين الآن أن الكتابات المدونة عند مدخل "الشق" في "البتراء"، لا صلة لها بأهل الكهف، وإنما كتبت تخليدًا لذكرى جماعة من اليونان البارزين جاءوا من "جرش" فوافاهم أجلهم بـ "البتراء"، ماتوا قبل "أصحاب الكهف" بأمد. وقد شرح تلك الكتابات "ستاركي" "Starkey"1. وذهب الباحثون في "دائرة الآثار في المملكة الأردنية الهاشمية" إلى أن كهف "أهل الكهف"، هو "كهف الرجيب"، وهو على مقربة من قرية صغيرة تدعى "الرجيب"، وجدت بداخله مدافن يرجع عهدها إلى زمان القيصر "ثيودوسيوس الثاني" "Theodosius II" "408-450م"، الذي في زمانه كان بعث أهل الكهف. وذهبوا إلى أن اسم هذا الموضع في القديم هو "الرقيم"، تحول إلى "الرجيب" فيما بعد. وأيد هذا الرأي الأستاذ "هج نيلي" "Hugh Nilley" الذي زار الموضع ودرسه، وكتب مقالًا عنه2.
وذهب من رأى أن كهف الرجيب هو "كهف أهل الكهف"، إلى أن دخول الفتية الكهف، كان في أيام الطاغية "تراجان" "91-117م" المشهور، فاتح "الكورة العربية" ومؤسسها والآمر بإنشاء الممر الحربي المعروف باسم "طريق تراجان" وباني مدينة "أيلة" الرومانية وصاحب الملعب الروماني والآثار العديدة للمباني التي أقامها بعمان وبمدن أخرى من الأردن. وقد كان شديدًا عاتيًا قاسيًا على النصارى، عدهم خونة مرقة خارجون على الدولة والقانون لذلك أصدر أمره سنة "112م" بقتل كل نصراني لا يخلص للقيصر والدولة، فخاف منه النصارى وتكتموا، وكان من جملة من تكتم وانزوى "أصحاب الكهف"3.
ووجدت البعثة الأميركية لمدرسة الأبحاث الشرقية بالتعاون مع دائرة الآثار الأردنية في موضع "أم الرجوم" الواقع على بعد "15" كيلومترًا شمال "عمان"،
__________
1 "ص2" من مقال السيد رفيق وفا الدجاني، المرسل إلى، وهو يشير إلى الجزء العاشر من حوليات دائرة الآثار.
2 من مقال السيد رفيق وفا الدجاني، المرسل لي بكتاب دائرة الآثار الأردنية المشار إليه، وقد أشار إلى مجلة Review De Qumarn, Vol., 5, No: 18, 1965..
3 المصدر المذكور.(5/73)
آثار بئر قديمة استدل من كتابة عثر عليها مدونة على جدارها أنها تعود إلى ما قبل الميلاد. وأن الموضع المذكور هو حصن من الحصون التي كانت تدافع عن مدينة "ربة عمون"، عاصمة مملكة "عمون"، التي عاشت بين القرن الثالث عشر والقرن السادس قبل الميلاد. و"ربة عمون"، هي "عمان" العاصمة
هذه صورة الكتابة التي دونها الباحثون لكتابة بئر أم الرجوم
أهدتها لي دائرة الآثار الأردنية بعمان، فلها شكري.
الآن. وقد كتبت الكتابة بخط مشتق من القلم العربي الجنوبي، يظن البعض أنها من كتاباب القرن السابع قبل الميلاد.
ويظهر من هذه الكتابة المهمة، أن أصحابها كانوا يكتبون بقلم قريب من(5/74)
75
القلم المسند، وقريب من القلم اللحياني والثمودي والصفوي، وأن لهجتهم كانت لهجة عربية، أي أن أصحابها من العرب. وقد كتبوها لمناسبة إقامة تلك البئر التي حفرها وهيأها "شمان" ,"سمان" و"ساعدن" "سعد" "ساعد" وهما أصحاب هذه الكتابة والبئر1.
__________
1 كتاب دائرة الآثار الأردنية المؤرخ لـ18 8-1966م والمرقم بـ "2-14-4-1958".(5/75)
الفصل الخامس والثلاثون: مملكة تدمر
مدخل
...
الفصل الخامس والثلاثون: مملكة تدمر
ويتصل الحديث عن النبط بالحديث عن مكان آخر له علاقة بهم أيضًا، هو "تدمر" المعروف بـ "Palmyra" عند الغربيين الذين ورثوا هذه التسمية عن الرومان واليونان. وهو "تدمر امور" المذكور في كتابة من كتابات "تغلت فلاصر الأول" "Tiglat- Pileser I" = "Tiglath- Piles" "1117-1080 ق. م."1 على رأي بعض الباحثين. وقد ورد اسم المدينة وهو "تدمر" في عدد من الكتابات كما ورد اسم علم للأشخاص.
وقد رأى بعض الباحثين أن "Palmyra" من لفظة "Palma" اللاتينية ومعناها "نخل" "نخلة"، وأن الإسكندر ذا القرنين لما تغلب عليها أطلق عليها "Palmyra" أي مدينة النخل، وذلك لما يكتنفها من غابات النخل العظيمة، فعرفت عند اليونان والاتين منذ لك الحين بهذا الاسم2. غير أن هذا رأي يحتاج إلى إثبات، فليس لدينا دليل من عهد الإسكندر يؤيد هذا القول. وليست لدينا حجة دامغة تثبت وجود النخل في هذه المدينة إثباتًا يستوجب تسمية الموضع
__________
1 Ency., Vol., Iii, P.1020, Hommel, In Zdmg., Xiiv, 547, Syria, Revue D’art Oriental Et D’archeologie, Tome, Vii, Paris, 1926. P.77, Dhorme: Palmyre Dans Les Textes Assyriens, Revue Biblique, 1924, Pp.106, Ency. Brita., Vol., 17, P.161, Reallex., I, Iv, S., 280.
2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 282". Ency., Iii, P.1020.(5/76)
بـ "Palmyra" أي مدينة النخل1.
وهناك آراء متباينة في سبب تسمية "تدمر" بهذا الاسم، هي موضع جدل، وليس فيها رأي يمكن الاطمئنان إلى صحته وترجيحه على غيره، لذلك أترك البحث عنه إلى المراجع التي بحثته2.
ويظن بعض الباحثين أن "Palmyra" هي ترجمة لكلمة "تمار" "تامار" "تمر" "Tamar" العبرانية ومعناها "نخلة" "Date- Palm"، وهي في الأصل اسم موضع إلى الحنوب الشرقي من يهوذا ورد ذكره في "حزقيال"، لا يعرف موضعه اليوم على وجه التحقيق3. ويرى علماء التوراة أنه الموضع الذي بناه سليمان والمذكور في "الملوك الأول" وأن خطأ وقع قديمًا في تعيين الموضع فجعل "تدمر"، سببه أن كتبة أسفار "أخبار الأيام" أو الكتبة قبلهم أخطأوا في معرفة موضع "تامار" "Tamar" الواقع في الصحراء اليهودية جنوب البحر الميت، فظنوا أنه "تدمر" المدينة الشهيرة المعروفة، وكتبوه "تدمر" في محل "تامار"4. فالأصل إذن هو "تامار". وصارت "تدمر" نتيجة لهذا التغير في جملة المدن التي بناها "سليمان". وقد كتبت "أسفار أخبار الأيام" "Chronicles" في حوالي سنة "300" أو "200" قبل الميلاد، لذلك يكون هذا التبديل والتغير قد ظهر في حوالي هذا الوقت5. ومنه صارت "تامار" "تدمر" ومنه أصبح معنى "تدمر" مدينة النخل، أي "Palmyra" عند اللاتين واليونان وقد ظهرت هذه الترجمة بعد تدوين أخبار الأيام بالطبع. ومنها جاءت أسطورة بناء سليمان لمدينة "تدمر" في هذه المنطقة البعيدة عن حدود مملكة إسرائيل6.
__________
1 Hasting, P.889, Johannes Oberdick: Die Romerfeindlichen Bewegungen Im Orient, Berlin, 1869, S., 44.
2 Ency., Iii, P.1020, Hommel, In Zdmg., Xliv, 547, M. Hartmann, In Zdmg., Xxlii, 128.
3 حزقيال، السفر 47، الآية 19، والسفر 28، قاموس الكتاب المقدس "1/ 300".
4 الملوك الأول، الإصحاح التاسع، الآية 18، قاموس الكتاب المقدس "1/ 282 وما بعدها".
Hastings., P.892,Ency.. 892 Ency.. Iii, P.1020, The Universal Jewish Encyclopedia Vol., 8, P.381.
5 Ency. Brita. Vol. 17, P.161, Hastings, P.889.
6 Ency. Bibli, P.4886, Hastings. P.889.(5/77)
وعلى كل حال، فإن الذي نستنبطه من قصة إضافة "تدمر" إلى المباني التي نسب بناؤها إلى سليمان، هو أن هذه المدينة كانت قد اكتسبت شهرة في أيام تدوين أسفار "أخبار الأيام" وأنها كانت مدينة عامرة شهيرة فيما بين السنة "300" و"200" قبل الميلاد1.
ويجوز أن تكون الشهرة التي اكتسبتها مدينة "تدمر" "تذمر" في أيام كتبة أسفار "أخبار الأيام" هي التي حملتهم على إضافتها إلى أعمال "سليمان"؛ لأنها "بمباني سليمان" أليق وأنسب من موضع صغير هو "تامار"، فأضافوا هذه المدينة الشهيرة إليه، لتدل على شهرته وعلى مدى بلوغ ملكه في أيامه. وقد أضيف إلى ملك سليمان على هذا النحو من الإضافات ما لا تصح إضافته إليه، وبولغ في ملكه وحكمه في الأيام القديمة التي تلت أيامه؛ لأنه كان من أشهر ملوك "بني إسارئيل"، حتى صارت أخباره من قبيل الأساطير.
وذهب المؤرخ اليهودي "يوسفوس فلافيوس" هذا المذهب أيضًا، فنسب بناء "تدمر" إلى "سليمان"2. أخذ رأيه هذا من هذا الموضع من التوراة بالطبع، ومن الروايات التي وصلت إليه وكانت قد ظهرت قبله، للسبب المذكور.
أما الروايات العربية، فهي لا تفيد علمًا ولا تصلح أن تكون دليلًا، فهي روايات متأخرة دخلت إلى المسلمين من أهل الكتاب، أشاعها وروجها أمثال "ابن الكلبي" بين الأخباريين، فأخذوها بغير تحقيق ولا تدقيق. وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن قومًا يزعمون أنها مما بنته جن سليمان، وأن أهل تدمر يزعمون أن ذلك البناء قبل سليمان بزمان3.
ولدينا أبيات نسبت إلى "النابغة الذبياني" تتضمن أسطورة بناء جن سليمان لتدمر، امتثالًا لأمره الذي أصدره إليها، فقد نسب إليه قوله:
__________
1 Hastings, P.889, Die Araber, I, S., 344.
2 Hommel, In Zdmg., Xiiv, 547, Ency., Iii, P.1020, P. Dhorme. Palmyre Dans Les Textes Assyriens, In: Revue Biblique, 1924, Pp.106.
3 البلدان "2/ 369"، "ثم عاد إلى الشام، فوافى تدمر، وكانت موطنه". "ملك سليمان"، الأخبار الطوال "20".(5/78)
إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند
وجيش الجن إني قد أمرتهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد1
ولا يصلح شعر النابغة ولا أمثاله من شعراء الجاهلية أن يكون حجة في بناء "سليمان" لتدمر. فمن الجائز أن يكون النابغة أو غيره، قد أخذ فكرته هذه من أهل الكتاب، ومن الجائز أن يكون هذا الشعر من وضع الوضاعين نسبوه إليه. وقد وضعت أشعار في الإسلام ونسبت إلى الجاهليين، وإلى آدم وهابيل وقابيل والجن وإبليس.
وبين الأخباريين من ينسب بناء "تدمر" إلى "تدمر بنت حسان بن أذينة بن السميدع بن يزيد بن عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح". وذكروا قصة تفيد عثورهم على قبر "تدمر بنت حسان"2. وقد أعجبوا ببنائها ووصف الشعراء صورتين جميلتين من بقية صور كانت فيها. وقد حاصرها خالد بن الوليد ثم ارتحل عنها فبعث أهلها رسلًا وصالحوه على ما أدوه له ورضي به3. أما قصة العثور على قبر في تدمر ووجود جثة فيه، فأمر ليس ببعيد ولا بغريب. وأما قصة "تدمر بنت حسان" ونسبها والكتابة التي على قبرها، فهي من وضع الأخباريين والقصاص ولا شك4.
وقد أشار "بلنيوس" "بلينيوس" إلى مدينة "Palmyra"، وهو أول كاتب "كلاسيكي" عرض لها، فذكر أنها مدينة شهيرة، ولها موقع ممتاز أرضها خصبة، وبها ينابيع وعيون، تحيط بحدائقها الرمال. وقد عزلتها الطبيعة عن العالم ببادية واسعة الأطراف، بعيدة المسافات، وتقع بين إمبراطوريتين عظيمتين إمبراطورية "رومة"، وإمبراطورية "الفرث" "Parthia"، ولهذا
__________
1 "وخيس الجن. إني قد أذنت لهم". اللسان "خ/ ي/ س"، معجم ما استعجم "1/ 194"، "وستنفلد"، البلدان "/ 369"، المشرق، السنة الأولى العدد 11، حزيران، 1898م "ص 496"، مروج الذهب "2/ 244"،
"دار الأندلس"، "ذكر الأخبار عن بيوت النيران، وغيرها".
2 البلدان "2/ 369"، معجم ما استعجم "1/ 194".
3 البلدان "2/ 371".
4 Lidzbarski, Ephemeris, I, S., 207.(5/79)
استرعت أنظار الدولتين1. وورد اسمها في كتب "الكلاسيكيين" الذين عاشوا بعد "بلينيوس" مما يدل على ازدياد شهرة هذه المدينة بعد الميلاد2.
ويعود الفضل في حصولنا على معارفنا التأريخية عن تدمر إلى الكتابات التدمرية التي درسها المستشرقون وترجموها إلى لغاتهم وشرحوا ما جاء فيها، وهي بالإرمية واليونانية ثم اللاتينية والعبرانية، نشرت في كتب خاصة وفي كتب الكتابات السامية وفي ثنايا المجلات3. وإلى كتب المؤلفين اليونان والاتين والسريان. من هذه الموارد الرئيسية استقى المؤرخون معارفهم عن تأريخ هذه المدينة، تضاف إليها موارد ثانوية ذكرت "تدمر" عرضًا لوجود مناسبة دعت إلى ذلك مثل سجلات المجامع الكنيسية والتلمود.
أما تأريخ المدينة فلا نعرف من أمره شيئًا يذكر يعود إلى ما قبل الميلاد. وأكثر ما كتب عن مدينة "تدمر" يعود إلى ما بعد الميلاد.
وكان غالبية أهل "تدمر" برغم كتابة أمورهم بالإرمية وبالقلم الإرمي من العرب على رأي أكثر الباحثين، شأنهم في ذلك شأن نبط "بطرا"4. وهم يرون أن القبائل العربية التي أخذت تستولي على المناطق الخصبة الواقعة في شرقي أرض "كنعان"، بعد سقوط الدولة البابلية، كتبوا بالإرمية؛ لأنها كانت لغة الكتابة
__________
1 Pliny, Nat. Histo., V, Xxi, 88, William Wright, An Account Of Palmyra And Zenibia With Travels And Adventures In Bashan And The Desert, London, Wright: وسيكون رمزه 1896, P.110.
2 Ency. Bibil. P.4886.
3 راجع الموراد الآتية فيما يتعلق بكتابات تدمر:
Repertoire D’epigraphie Semitique, Corpus Inscriptionum Latinarum, Corpus Inscriptionum Graecarum: Cantineau. Inventaire Des Inscriptions De Palmyre, Beyrouth 1930: Littmann: Semitic Inscription, Part Iv Of “The Publications Of An American Archeological Expedition To Syria In 1899-1900”: Sabernheim: Palmyrenische Inschriften, In: Mittellungen Der Vorderasiatischen Gesellschaft, 1905: De Vogue: Syrie Centrale – Insciptions Semitiques, 1868: J.B. Chabot: Notes D’epigraphie D’archeolegie Orientales, In: Journal Asiatique, 1897-1901: Cooke: Textbook Of North Semitic Inscriptions: Syria, Tome Xiv, 1933, Pp.158, 169: Cantineau: Inscriptions Palmyrennes, Damas 1930: Fr. Rosenthal: Die Sprache Der Palmyrenischen Inschriffen.
4 Fr. Rosenthal, Das Sprache Der Palmyren Inschriftten.(5/80)
والثقافة في المنطقة الواسعة الواقعة غربي الفرات1. وتظهر في بعض الكتابات بعض المصطلحات والكلمات العربية الأصيلة، كما نجد فيها أسماء أصنام عربية مع أصنام إرمية2. وبالجملة فإن في "تدمر" ثقافة هي خلاصة جملة ثقافات: عربية وإرمية ويونانية ولاتينية، وأقدم كتابة عثر عليها فيها لا يتجاوز تأريخها سنة "304" من التأريخ السلوقي، أي سنة "9" قبل الميلاد3.
كانت تدمر عقدة من العقد الخطيرة في العمود الفقري لعالم التجارة بعد الميلاد تمر بها القوافل تحمل أثمن البضائع في ذلك الوقت. كانت على اتصال بأسواق العراق وما يتصل بالعراق من أسواق في إيران والهند والخليج والعربية الشرقية، كما كانت على اتصال بأسواق البحر المتوسط ولا سيما ديار الشأم ومصر، كما كانت على اتصال بالعربية الغربية وبأسواقها الغنية بأموال إفريقية والعربية الجنوبية والهند. إن هذه التجارة هي التي أحيت تلك المدينة. كما أن تغير طرق المواصلات بسبب تغير الأوضاع السياسية هو الذي شل جسم تلك المدينة فأقعدها عن الحركة بالتدريج.
لقد كانت القوافل الذاهبة من العراق إلى بلاد الشأم، أو القادمة من بلاد الشأم إلى العراق، تمر بمدينة "تدمر". وكان الموضع الذي تحط فيه قوافل "تدمر" هو موضع "Vologesies" = "Vologesokerta" على نهر الفرات. ومن هذا المكان تنقل التجارة إلى الجهات المقصودة في العراق، ومنه تحمل تجارة العراق بالبر إلى "تدمر" فدمشق4.
ويظهر من كتابة عثر عليها في إحدى المقابر أن القوافل التجارية كانت تمر في حوالي سنة مئة قبل الميلاد بمدينة "تدمر" في أثناء أسفارها بين مدينة "دورا" "Doura" والشأم. وبين الطريق القديم وهذا الطريق، تسكن قبائل عربية من سكان الخيام. أي من النوع المعروف باسم "سكينيته" "Skenita" عند "الكلاسيكيين"5.
__________
1 Ency. Brita, 17, P.161.
2 Syria, Xiv, 1933, Noldeke: Uber Orthographie Und Sprache Des Palmyrener, In Zdmg., Xxiv, 1870, S., 85.
3 Cook: Northsemitic Inscriptions, No. 141, Vogue: Syrie Centrale, No. 30a.
Ency., Brita., 17, P.162.
4 Die Araber, Ii, S., 61.
5 The Cambridge Ancient History, Vol., Ix, P.599.(5/81)
وقد اقتضت هذه الأعمال التجارية الواسعة تكوين علاقات سياسية واقتصادية مع الفرس والرومان والروم والقبائل العربية في البادية التي لم يكن من الممكن مرور قوافلها في أرضها بسلام ما لم يتفق مع سادتها على دفع إتاوة سنوية، أو جعل معلوم. ولضمان سلامة قوافلها، اضطرت كما اضطر غيرها إلى إرسال حراس معها وإلى إنشاء مواضع للحماية والاستراحة في مواضع متعددة من البادية. ونجد في الأخبار أن التدمريين جمعوا فأول أهل المدينة الذين سرحوا من الجيش الروماني أو الذين أجبرهم الاضطراب أو ضعف قادة الجيش الروماني، أو عنجهيتهم على ترك الخدمة في جيش الرومان، وألفوا منهم جيشًا درب تدريبًا حسنًا، وصار قوة مقاتلة متفوقة على قوات الأعراب بما توفر عندها من حسن التدريب والطاعة والنظام، واستطاعوا بهذه القوات من الهيمنة على أبناء البادية الجياع إلى الغزو والسلب ونهب القوافل، ووضعوا لهم حاميات في المراكز الضرورية الحساسة. فقد ورد في الكتابات أنه كان لهذه المدينة حامية "Militia" في "عانة" "عاناتا" "Anath" = "Anatha" في عام "132" و"225" بعد الميلاد، وفي "الحيرة "Hirtha" في سنة "132" بعد الميلاد وفي "دورا" "Doura" في سنة "168" و"170" للميلاد1.
وقد عثر على مدافن بمقربة من القدس وجدت فيها كتابات تدمرية دونت عليها أسماء أصحاب تلك القبور، ويظهر أنهم من جنود "تدمر" الذين التحقوا بالجيش الروماني، وخدموا فيه، وقد اشتركوا مع الرومان في محاصرة القدس. ويجوز أن يكون بعضهم من التجار جاؤوا إلى هذه المدينة، فأقاموا بها للاتجار.
وقد كون الرومان فرقًا من الجنود التدمريين المرتزقة الذين التحقوا بالجيش الروماني، فاستفادوا منهم في قتال القبائل الغازية بصورة خاصة وفي القتال في البوادي لخبرتهم بها ولقدرتهم على القتال في هذه المواضع وتمكنهم منها، كما استخدموهم في قتال الفرس ومن كان في خدمتهم من الأعراب. واشتهر التدمريون في فن الرماية، فكانوا في أيامهم من خيرة الرماة بالسهام، ولذلك استعان بهم الرومان وألفوا كتائب منهم اشتهرت في الحروب. ولما سقطت "تدمر" احتفظ
__________
1 Byrtus. Vol., Iii, Fasc., I, 1943, P.25, 55, Cih. Ii. 3973. A. Cantineau: Syria.(5/82)
الرومان بهم في جيوشهم، فاستخدموهم في حروبهم في شمال إفريقية. وقد عثر على كتابات أثبتت أنهم كانوا في جملة القوات الرومانية التي كانت في بريطانية1.
واشتهر التدمريون بفرسانهم كذلك، فقد ألف "أذينة" قوة من القوات الراكبة لمحاربة أعدائه، جهزها بأسلحة واقية من دروع ومن صفائح من المعدن يلبسها الفارس من أعلى رأسه إلى أسفل قدمه، فلا يستطيع عدوه أن يناله بأذى، كما درعت الخيل والجمال بصفائح الوقاية، على نحو ما كان يفعله الفرس في قوافلهم الراكبة في أثناء القتال. وقد اكتسبت هذه القوات شهرة واسعة في حروبها مع الفرس والرومان2.
وكان أهل تدمر خليطًا من تجار ومزارعين. أما أطرافها وحواليها، فكانوا أعرابًا ورعاةً. وكانت مدينة يونانية ولكنها لم تكن مثل المدن الأخرى المتأثرة بالهيلينية في الشرق، ولم تخضع لنظام المدن اليونانية "Greek Polis"، وكانت خاضعة للرومان وبها حامية رومانية، ولكن خضوعها كان في الواقع صوريًّا، كما أن الحامية لم تكن شيئًا تجاه أهل المدينة والقبائل المحيطة بها. كانت المدينة بالرغم من الطابع الهليني –الروماني الذي يبدو عليها، مدينة شرقية، الحكم فيها في يد الأسر ذات السلطان في البلدة تحكمها في السلم والحرب. لقد خلقت الاضطرابات السياسية التي حدثت في الشرق لضعف الحكومات الكبرى وانحلالها وانقسامها إلى "ملوك طوائف" جماعة من الحكام السادات "Tyrannies" تزعموا القبائل أو المدن، وشاركوا الحكومات في الحكم. ومن هؤلاء الأسرة التي حكمت "تدمر". والأسرة التي حكمت "حمص" "Emesa"= "Hemesa"3.
وكانت في تدمر جاليات يونانية ورومانية، أقامت فيها وفضلت السكنى فيها على المواضع الأخرى. أقامت بين أهل المدينة حتى صارت من سكان المدينة، كما كانت فيها جاليات يهودية نزحت إليها في زمن لا نستطيع تعيينه بالضبط، قد يكون قبل سقوط القدس في أيدي الرومان بأمد للاتجار، قامت بأعمال التبشير بين
__________
1 Enc. Brit. 17, P.163, Cooke, Nsi, Pp.250 312, Lidzbarski, Ephemeris. Ii, S., 92.
2 Die Araber, Ii, S., 259.
3 Byrtus, Vol., Iii, I, 1943, P.,54, M. Rostovtzeff: Social And Economic History Of The Hellenistic World, Ch., Vi., Pp., 842, 852.(5/83)
السكان، فتهود أناس منهم، ورحل قسم من هؤلاء المتهودين إلى القدس، وأقاموا فيها قبل خراب الهيكل بأمد1.
تمكنت هذه المدينة الصحراوية من رفع منزلتها من منزل منعزل في البادية تنزل به القوافل إلى مكانة مدينة من الدرجة الأولى، ومركز ديني خطير لعبادة الأصنام يحج إليه أعراب البادية، وسوق للتجارة تكدست فيه أنفس البضائع وأثمنها وتجمعت فيه رؤوس الأموال والذهب والفضة والجواهر ولا سيما بعد سقوط "بطرا" بأيدي الرومان، وذهاب ملكهم، فانتقلت أسواقهم إلى أيدي التدمريين. وتولت قوافل "تدمر" نقل البضائع بين العراق والشأم مختقرة البادية إلى المرافئ العراقية على الفرات. وقد عادت هذه القوافل على المدينة بخير عميم من أجور الوساطة في البيع والشراء ومن الضرائب التي تجبيها عن البضائع التي تمر بها أو تباع فيها، والتي يحددها مجلس سادات المدينة. وتتبين مظاهر هذه الثروة في المباني الجميلة المنقوشة والتي تتحدث آثارها عنها، وفي بقايا الهياكل والأعمدة المرتفعة الجميلة المصنوعة من الحجر الصلد المصفوفة على جانب الشارع الكبير من قوس النصر المقام عند المعبد الكبير إلى نهايته في مسافة لا تقل عن "1240" ياردة2.
ولما كانت "تدمر" مدينة حياتها الأساسية بالتجارة، صار للتجار وأرباب القوافل ولزعماء القوافل شأن خطير في الحياة الاجتماعية للمدينة، حتى أشير إليهم في الكتابات، حيث كثر فيها ورود ذكر "زعيم القافلة" و"زعيم السوق"3.
ومدينة مهمة لها مال وثروة وليس لها جيش ضخم قوي ولا مجال لتكوين هذا الجيش فيها، لا يمكن أن تبقى في مأمن ومنجاة من مطامع الطامعين. ولو كانت في بقعة منعزلة وفي بادية بعيدة. فقد كان لعاب الدول القوية يسيل عند سماعها بوجود شعوب صغيرة أو حكومات مدن أو مواضع ذات ثراء ومال، فتكتب إليها إما بإعطاء ما عندها إليها، وإما بدفع جزية ترضيها، راضية مرضية، وإما أن تمتنع فتزحف جيوشها عليها عندئذ فيكون كل ما يصل إليه يدها حلالًا طيبًا، ويكون الناس لها عبيدًا وخولًا، لا نستثني "تدمر" من هذا الولع
__________
1 The Universal Jewish Encyclopedia, 8, P.,381.
2 Ency. Brita., 17, P.,162, Syria , Xxiv, 1933, P., 396, “Premieres Restaurations A L’arc Monumental De Palmyre”, By Robert Amy:
3 Cooke: North-Semitic, Pp., 274, 279.(5/84)
الإنساني بالحصول على الثراء السهل بالطبع. لذلك طمع فيها الطامعون من شرقيين وغربيين. طمع فيها أهل العراق، وطمع فيها الفرس، وطمع فيها اليونان والرومان والبيزنطيون. وكان أول طامع فيها وصل خبره إلينا من الفاتحين الأقوياء هو الملك "تغلت فلاصر" "تغلات بليزر" "Tiglath-Pilezer" الأول، تلاه جملة غزاة ورثوا الحكم والملك والتسلط في أرض الشرق الأدنى.
وإذا عرفنا أن "تغلت فلاصر الأول" "1117-1080ق. م."، كان قد استولى عليها، فإن ذلك ينفي ما ورد في أخبار اليهود من بناء سليمان لتلك المدينة على نحو ما ذكرت. فقد جاء حكم "سليمان" بعد حكم هذا الملك الآشوري بنحو قرن، وقد كانت المدينة قائمة قبل ذلك الملك بالطبع.
وقد صارت "تدمر" في جملة الأرضين التي أخضعها "الإسكندر" الكبير لحكمه. لحكم تلك الإمبراطورية التي أراد أن يكونها في ذلك العالم، ليوحد فيها الأجناس والأديان، وليقيم مملكة واحدة على هذه الأرض. ومن عهد الإسكندر ظهر اسم "تدمر" الأجنبي، أي "بالميرا" "Palmyra" بين اليونان واللاتين1.
ولما انقسمت دولة "الإسكندر" قسمين، صارت "تدمر" من نصيب "السلوقيين" على ما يظهر. ولكننا لا نعلم شيئًا عن عهد استيلائهم عليها، ولا عن مدة بقائهم فيها. وقد حاولت "تدمر" أن تقف موقف الحياد بين "الفرث" والرومان، وتمكنت من ذلك أمدًا، إذ كان من مصلحة الدولتين المتنافستين وجود محل منعزل محايد، كي يتمكن تجار الدولتين من الاتجار فيه ومن التسوق منه2.
وقد قام أحد القادة السلوقيين ببناء حصن ليضم إليه الجنود المقدونيين في مدينة "تدمر". فعل ذلك سنة "280" قبل الميلاد. ولعل هذا الحصن، هو واحد من سلسلة حصون أقامها السلوقيون في المواضع المهمة ذات المكانة الخطيرة من الوجهة السياسية والعسكرية والتجارية لحماية مصالحهم فيها3.
ولا يعرف تأريخ خضوع تدمر للرومان معرفة أكيدة. وقد ورد في تأريخ "أفيفانوس" أن "مرقس أنطونيوس" القائد الروماني بعد أن حارب الملوك
__________
1 Agnes Carr Vaughan, P.,7, New York, 1967.
وسيكون رمزه. Vaughan
2 Vaughan, P., 8.
3 Freya Sterk: Rome On The Euphrates, P.,242, New York, 1967.(5/85)
"الأرشكيين"، ودارت عليه الدوائر توجه إلى الشأم عائدًا من ثم إلى "رومة" فلما قرب من "تدمر" أوفد إلى أهلها رسلًا يخبرونهم أنه قاصد مدينتهم ليريح فيها جنوده من أتعاب الحرب ومشقة الطريق. وكان يريد في نفسه الاستيلاء على المدينة وأخذ ما فيها من أموال ونفائس ... فأحسن التدمريون بالمكيدة، وبادروا إلى نقل أموالهم وما يملكون من أشياء ثمينة، فتعقبهم الرومان حتى أدركوهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا كانت الغلبة فيه للتدمريين1. أما المدينة نفسها فقد حل بها الخراب وأصبحت ركامًا، وكان ذلك في حوالي سنة "41" قبل الميلاد2.
وفي أيام القيصر "طيباريوس" "طبريوس" "Tiberius" "14-17م" كانت "تدمر" في جملة الأرضين التابعة لحكم الرومان3.
ونجد بين الكتابات التي عثر عليها في هذه المدينة قوائم "كمركية" تبين بعض الرسوم التي كانت تجبى عن البضائع وأثمانها باليونانية والتدمرية يعود تأريخها إلى سنة "17" بعد الميلاد4.
ويظهر من قائمة الضرائب التي وضعت في أيام "جرمانيكوس" "Germanicus" "17-19م" لجبايتها عن البضائع التي ترد دوائر "كمارك" المدينة، وفي أيام "دوميطيوس كوربولو" "Domitius Corbulo" "57-66م" أن مدينة "تدمر" كانت في نفوذ وحكم "رومة" في العصر الأول للميلاد. وقد كانت تابعة للرومان في أيام الانبراطون "فيسبسيان" "Vespasian" "60 -79م". غير أن هذا لا يعني أنها كانت خاضعة للرومان خضوعًا تامًا، وأن الإشراف على شؤون المدينة كان كله بأيدي موظفي "رومة"، بل كان ذلك إشرافًا عامًّا، أما الإدارة فكانت بأيدي أهل المدينة5. وأن الحكم الروماني لم يتدخل في أمورها تدخلًا فعليًّا. حتى إن الرومان سمحوا للمدينة الاحتفاظ بحامياتها "Militia" التي
__________
1 المشرق، السنة الأولى، العدد 13، 1 تموز 1898 "ص 588".
Appian: De Bello Civili, V, 9. Wright, P.,110.
2 Oberdick: Syria, Tome, Vii, S., 46, 1926, P.,77, Mommsen: Romische Geschichte, 1894, V.S., 243, Ency. Brita., 17, P.,162, Syria. Xxii, 1941, Pp.,170.
3 Vaughan, P.,8.
4 Cooke, Pp.,313-332, J. A. Chabot, Ii, 301
5 Ency. Brita., 17, P.162, Jean Starcky: Palmyre, Paris, 1952, Pp.,27.(5/86)
كانت لها في الخارج في مثل موضع "Vologasia" وفي مواضع أخرى1.
وقد زارها الانبراطور "هدريانوس" "Hadrianus" "117-138م" "سنة "130" بعد الميلاد، ومنحها لقب "هدريانا بالميرا" "Hadriana Palmyra" و"هدريا نوبوليس" "Hadrianopolis"2. وعثر فيها على كتابة مدونة بالإرمية واليونانية يرتقي تأريخها إلى سنة "137" بعد الميلاد، أي إلى أيام هذا الانبراطور، جاء فيها أشياء تخص الأحوال التجارية في هذه المدينة أصدرها مجلس سادات المدينة لتنظيم التجارة، وتثبيت الضرائب، وكيفية الجباية وما إلى ذلك من أمور. وهي من الكتابات المهمة الطويلة التي ترينا ناحية خطيرة من نواحي حياة تدمر3.
وقد بذل "هدريانوس" عناية كبيرة بـ "تدمر"، حتى قيل فيه أنه مؤسس المدينة الثاني، واعتنى عناية خاصة بحماية الطرق البرية التي تصلها بنهر "الفرات" الذي كان شريانًا مهمًّا من شرايين التجارة العالمية في ذلك العهد، فقد كان يقوم بالمهمة التي عهدت إلى "قناة السويس"، فيما بعد. ولأهمية هذا النهر الذي هو الممر المائي الذي يوصل تجارة ذلك المحيط الغالية إلى الموانئ الواقعة عليه، سعى لتحسين صلاته بالفرس وبالمحافظة على الأمن في البادية، لتتمكن القوافل من المرور منها بأمن وسلام. وأوصل حامياته إلى شواطئ الفرات الغربية، بل يقال أنه أنشأ أسطولًا فيه، وأن التجار التدمريين أقاموا في مدينة "Vologasia" وأقاموا لهم معبدًا هناك، ليتعبدوا فيه لإلههم الذي منحهم الخير والرفاه4.
وقد منحت "تدمر" درجة مستعمرة رومانية عليا، فاكتسبت بذلك حق الامتلاك التام والإعفاء من الخراج، والحرية الكاملة في إدارة سياسة المدينة. ونالت الحقوق الإيطالية "Colonia Juris Italici" "Italici Juris" "Jus Italicum".
__________
1 Freya Stark: Rome On The Euphrates, P.,244.
2 "هدريانوس"، الطبري "1/ 742"، "طعبة ليدن"، "2/ 25" "طبعة المطبعة الحسينية".
3 المشرق، السنة الأولى، الجزء 12، 15 حزيران، 1898، "ص 538".
Ency. Brita., 17, P.,162, Cooke, P.,322, Mommsen: Romische Geschichte, V., S., 423, Wright, P.,Iii.
4 Mommsen: Provinces Of The Rome Empire, Ii, P.236, Rostovtzeff: Caravan Cities, Oxford, 1932, P.,144, Leon Homo: Le Siecle D’or De L’empire Romain, Paris, 1947, P.,224 Fr. Stark: Rome, P.,253.(5/87)
منحت هذه الدرجة في أيام "هدريانوس" على رأي، أو في أيام "سبتيميوس سويروس" "Septimius Severus" "193-211م" على رأي آخر1. وكانت تتمتع بهذه المنزلة في أيام: كراكلا" "Caracalla" "211 -217م" كذلك2. ولكن منحها درجة "مستعمرة" لا يعني أنها صارت مقاطعة رومانية مئة بالمئة، بل كانت في الواقع حكومة مستقلة ذات سلطة واستقلال في إدارة شؤونها خاضعة خضوعًا شكليًّا لحكم الرومان3.
وقد استفادت "تدمر" من سياسة "هدريانوس" المنطوية على الميل إلى السلم ومجانبة الحرب، ومن سياسة "انطونينوس بيوس" "Antoninus Pius" "138-161م" الذي نشر ألوية السلم والطمأنينة، فوسعت تجارتها، وزادت في عدد قوافلها، وحصلت على ثروة طائلة. وتعد المدة المنصرمة بين سنة "130" و"270" بعد الميلاد من أحسن أيام هذه المدينة. فإلى هذه الأيام ترجع معظم النصب والآثار العظيمة التي ما برحت تشاهد بقاياها في جملة ما يشاهد من أشلاء المدينة وجدثها المهشم بين الأتربة والصخور.
وقد كانت في تدمر حامية رومانية أيام "ماركوس أوريليوس" "مارقوس أوريليوس" "Marcus Aurelius" "161-180م"، على طريقة من سبقه من الحكام في وضع حامية رومانية في هذه المدينة.
ولسلطان "رومة" على تدمر، استفاد الرومان من المحاربين التدمريين وكونوا منهم فرقًا وكراديس لحماية الطرق ومصالحهم الممتدة في البوادي، فأودعوا أمر
__________
1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 12، 1 تموز "ص 589". Wright, P.,112. Syria, Tome, Xiv, 1933, P.,32, The Cambridge Ancient History,Xii, 1, 2, P.,18.
2 المشرق، الجزء المذكور،
Syria, Xiv, 1933, P., 32, Rowell: Inscriptions Grecqes De Doura Europos, 1929-1930, Pp.,265.
3 Rostovtzeff: Social And Economic History Of The Roman Empire, P.,235, Syme: Cambridge Ancient History, Xi, P.,139, Dessau: Geschichte Der Romischen Kaiserzeit, Ii, S.,627: Kornemann-Volker: Staaten: Ency. Brit., 17, P.,163: Cooke, Nsi, Pp.,250, 312, Lidzbarski: Ephemeris: Manner, S., 99, Iii, Jonnes: Cities Of The Eastern Roman Empire, P.267, Fevrier: Essai Sur History De Palmyre, P.14.(5/88)
الدفاع عن "دورا" "Doura" إلى الكردوس التدمري العشرين "Xxth Cohore Palmyrenorum"1. وتركوا مهمة حراسة "الفنادق" "Funduq" التي أقامها الرومان على الطريق إلى كراديس الرماة التدمريين لحماية القوافل من لصوص الطرق والسالبين2.
وقد تأثرت "تدمر" بأصول اليونان والرومان وطرقهم في إدارة الحكم، فكان للمدينة مجلس "شيوخ" "Senatus" له سلطة سن القوانين والتشريع، وله رئيس وكاتب وجملة أعضاء، ويشرف على السلطة الإجرائية شيخان "Archontes" وديوان يتألف من عشرة حكام، أما السلطة القضائية فينظر فيها بعض الوكلاء "Syndices" وغيرهم من العمال3.
ويحمل موظفوا المدينة عناوين يونانية تشير إلى أثر التنظيم اليوناني فيها، وإلى أنها كانت تنفذ النظم الإدارية اليونانية في أعمال الشعب. فالرئيس هو "Proedros" والكاتب أي "السكرتير" هو "Grammateus"، وهنالك عناوين وظائف أخرى هي: "Archontes" و"Syndicus" و"Dekaprotoi"، وهي المجالس المحلية التي يتألف كل مجلس منها من عشرة أعضاء. جرى هذا التنظيم على وفق نظام المدن اليونانية في حماية "الانبراطورية" الرومانية4.
ودعيت السلطة التنفيذية، المؤلفة من أعظاء مجلس الشيوخ، وكذلك الشعب بـ "Strategoi" وهي تعادل "Duumviri" "Dumviri" عند الرومان5.
وتجمل التدمريون الذين حصلوا على حقوق "مواطن روماني" بأسماء رومانية مثل "سبتيميوس" "Septimius" و"يوليوس أوريليوس" "Julius Aurelius" وضعوها في مقدمة أسمائهم النبطية أو العربية6. وقد فعل ذلك قبلهم العبرانيون ونبط "بطرا" وسكان بلاد الشأم وغيرهم من الضعفاء الذين يظنون أنهم سيكتسبون بهذه المحاكاة الاحترام والتقدير. والضعيف إنما يتشبه بالأقوياء ليخفي ضعفه.
__________
1 Ancient Cambridge History, Xi, 3, 4, P.116.
2 R. Dussaud: Penetration Des Arabes En Syrie, 73.
3 المشرق، السنة الأولى، الجزء 12، 15، حزيران، 1968م "ص 542".
4 Ency. Brita., 17, P.161.
5 Ency. Brita., 17, P.162.
6 Ency. Brita., 17, P.162.(5/89)
أسرة "أذينة":
كان للانقلاب الذي وقع في مملكة الفرث أثر كبير في حياة مدينة تدمر، وأعني بهذا الانقلاب ثورة "أردشير بن بابك بن ساسان" على الملك "أرطبان" الخامس ملك الفرث، وتأسيسه حكومة جديدة هي دولة "الساسانيين" 226م"1. فكان من نتائج ظهور الدولة الساسانية تجدد الحروب بين الرومان والفرس ووقوع معارك بين الدولتين.
وقد أحسنت أسرة عريقة من أسر "تدمر" الاستفادة من هذه الحروب، وجر المغانم إليها، والحصول على مركز عال لدى الرومان. وزعيم هذه الأسرة هو "أذينة" من "بني السميدع"، ينسبه "الطبري" إلى "هوبر العمليقي" "العملقي" من عاملة العماليق، فهي من بقايا "العماليق" على رأي الأخباريين2.
و"أذينة" من أسرة قديمة معروفة، تولى رجالها رئاسة تدمر والزعامة عليها، واستطاعت بفضل تأييدها للرومان وتقربها إليهم أن تكتسب ود القياصرة وعطفهم عليها والإنعام على أفرادها بالألقاب والأوسمة وبالمال في بعض الأحيان. وبالقوة والمعونة وهي غاية كل سيد قبيلة وأمنية كل رئيس في مجتمع قبلي يقوم النظام السياسي والاجتماعي فيه على مفهوم الحكم القبلي في كل زمان ومكان. ولم يتعرض الرومان لحكم أفرادها على المدينة إذ كانت أحكامهم لا تعارض أحكام "رومة" ولا تصطدم بها. فتركوهم يديرون شؤونها على وفق السياسة الرومانية وإرادة القياصرة وأوامرهم التي يصدرونها إلى "المشيخة"، فكانوا يعدونهم "Procuratores" لدى قياصرة الرومان3.
ووردت في الكتابات التدمرية أسماء نفر من رجال هذه الأسرة، منهم "نصور" "Nasores" "Naswar" "نصر" "ناصور"، وهو جد "أذينة". واسمه يشير إلى اسم عربي الأصل هو "نصور" أو"ناصر" أو "نصر" تحول
__________
1 الطبري "1/ 354، 687، 704-708، 710، 711، 744، 747، 799، 813-825، 831-833 ومواضع أخرى"، "طبعة ليدن"، مروج الذهب "1/ 206" "طبعة دار الرجاء".
2 "أذينة بن السميدع بن هوبر"، مروج الذهب "2/ 16"، "الطبري "2/ 31".
3 Zosim, I, 39, Oberdick, S., 22.(5/90)
إلى "نصرو" ليلائم النطق النبطي. وهو والد "وهبلات" "وهب اللات" "Vahballatat" "Vaballathus"، و"وهب اللات"، هو والد ولد اسمه "خيران" "حيران" "Airanes". و"حيران" "خيران"، هو والد "أذينة"1.
و"نصور" إذن هو أقدم من وصل إلينا اسمه من أسماء الأسرة التي حكمت مدينة "تدمر". وهو شخص لا نعرف عنه شيئًا ما. وقد يكون من سادات القبائل في الأصل من جاء إلى هذا المكان فاستقر فيه، وتولى نسله أو هو الحكم فيه. وقد يكون لهذا الاسم صلة بـ "نصر" الذي ينسب أهل الأخبار ملوك الحيرة إليه، فيقولون أنهم من "آل نصر".
وكان "سبتيميوس خيران"، على رأس مجلس المدينة، ولقبه الرسمي الذي عرف به عند أهل مدينته "رأس تدمر" "رش تذمور" إضافة إلى لقبه الذي لقبه به الرومان2. وقد تمكن من تثبيت حكم أسرته ومن الهيمنة على شؤون المدينة ومن توسيع تجارتها، فاكتسب بذلك منزلة كبيرة عند أهل تدمر، وعند الرومان. ورافق "سبتيميوس سويروس" "193-211م" في حروبه مع الفرث وتقرب إليه، ولقب نفسه بـ "سبتيميوس"، فصار اسمه "سبتيميوس خيران" "سبتيميوس حيران"3.
وقد عثر على كتابة يرجع الباحثون زمان كتابتها إلى حوالي السنة "235" للميلاد، أو بعد ذلك بشيء قليل، ورد فيها اسم "أذينة بن خيران بن وهب اللات بن نصور". وقد لقب "أذينة" فيها بلقب "سقلطيق" "Skiltyk". وقد كان يحمل لقب عضو في مجلس "الشيوخ" الروماني4.
وقد نعت "سبتيميوس أذينة" بـ "سقلطيقا" "Skiltyka" في الكتابة التي دونت لتكون شاخصًا لأحد القبور. وقد حصل على لقب عضو مجلس الشيوخ، ثم لقب نفسه بلقب "ملك" "Rex"، وذلك في حوالي سنة "250" للميلاد5.
__________
1 J. Cantinau: Inventaire Des Inscriptions De Palmyra, 8, 1936, No. 55, Die Araber, Ii, S., 252: Oberdick, S., 152, Syria, Tome Xii, 1931, J. Cantineau:
Palmyrenien Provenant Du Temple De Bel, Pp.138.
2 Cooke, Nsi, No. 125, Die Araber Ii, S. 252
3 المشرق، السنة الأولى، الجزء 13، تموز 1898م "ص 590".
4 Die Araber, Ii, S., 252.
5 المشرق: السنة الأولى، الجزء 13، تموز 1898م، "ص 592".(5/91)
وجمع الناس عليه، فأدرك الرومان ما وراء هذه الدعوة من خطر على مصالحهم، فأوعز القيصر إلى "روفينوس" "Rufikus" باغتياله، فقتل وتخلص الرومان منه1.
ومن ولد "أذينة"، "سبتيميوس خيران" "حيران" "Septimius Hairan" تولى رئاسة تدمر بعد مقتل أبيه2. وقد ذكر اسمه في كتابة دونت سنة "251" للميلاد، ولم يصطدم بالرومان. وقد كان مثل أبيه بدرجة "Senator" كما لقب أيضًا بلقب "رش تدمور"، أي "رأس تدمر" "رئيس تدمر"3. ولقب بلقب "Exarkus" "Exarchus"4.
ولما مات "سبتيميوس خيران"، خلفه "أذينة" "Odenaus" على شؤون المدينة. ولم يرد نسبه في النصوص، فلا ندري أكان ابنًا أم شقيقًا لـ "سبتيميوس خيران"5. وقد ذهب بعضهم إلى أنه كان أخاه6. وكان شجاعًا فارسًا ألف حياة البداوة جريئًا، محبًّا للصيد ولا سيما صيد الذئاب والفهود والأسود7. تولى قبل انتقال الحكم إليه قيادة الجيش والقوافل ورئاسة قبائل البادية، فكانت له مؤهلات خاصة وكفايات حسنة مكنته من رفع شأن "تدمر" في أعين الرومان، ومن تكوين اسم لها عند رجال الدولتين المتزاحمتين.
وقد تبين من كتابه دونت سنة "258" للميلاد ومن كتابتين أخريين أنه كان يحمل درجة قنصل "Vir Consularis" في عهد القيصر "فاليريانوس" "Valerianus"8 كما كان يحمل لقب "مرن"، أي "سيدنا"، وهو اللقب الذي يستعمله أهل "تدمر"، وهو يعادل لقب "Exarkos" "Exarchos" في اليونانية9.
__________
1 Oberdick, S. 22, Wright, P.115.
2 يرى "Oberdick" أن "روفينوس" قتل "سبتيميوس خيران" الابن الأكبر لـ "أذينة" مع والده، لذلك تولى "أذينة" الثاني الحكم بعد مقتل أبيه فورًا
Oberdick S. 22.
3 Die Araber Ii, S. 252.
4 Die Araber, Ii, S., 252, Cantineau, 3, No. 16.
5 Die Araber, Ii, S., 252, J. Cantineau, 3, No. 16.
6 المشرق: السنة الأولى، الجزء 13، السنة 1898م "ص 592".
Die Araber, Ii, S., 252, J. Cantineau, 3, No. 22.
7 المشرق: السنة الأولى، الجزء 13، السنة 1898م "ص 592".
8 Ie Araber, Ii, S., 253, H. Seyrg, In: Annales Archeol. De La Syrie, 13, 1963, 9, 162, J. Cantineau, 3, No. 17, Ency. Brita., 17, P.162, Cooke, Nsi, No. 126.
9 Die Araber, Ii, S. 253.(5/92)
وقد ذكر بعض المؤرخين أن "أذينة" الذي نتحدث عنه كان ابنًا لـ "أذينة" ابن "خيران" ووالد "سبتيميوس خيران"، وأنه كان قد هرب إلى الجبال وألف حياة البداوة والربى منذ صغره لينتقم من الرومان الذين اغتال قائدهم "روفينوس" "Rufinus" أباه1. فلما انتقل الحكم إليه، عمل جهده على الأخذ بثأر أبيه، فراجع "فاليريانوس" "والريانوس" شاكيًا إليه ما فعله "روفينوس" بأبيه، طالبًا منه إنزال العقاب به. أما القيصر، فلم يأبه لهذه الشكوى, ولم يحسب لها حسابًا، فغاظ ذلك "أذينة" وأزعجه وحمله على التفكير في الاتصال بأعداء الرومان، وهم الفرس2. فلما بلغه نبأ زحف "فاليريانوس" على الفرس في عام "259" بعد الميلاد وخيانة قائده "مكريانوس" وسقوط القيصر أسيرًا في أيدي الفرس على مقربة من "الرها"، أرسل رسلًا إلى "سابور" حملهم هدايا كثيرة وكتابًا يتودد فيه إليه ويظهر رغبته في مصالحته ومحالفته. فلما بلغ الرسل معسكر الملك، وطلبوا ملاقاته لإبلاغه الرسالة، استكبر عليهم وتجبر، وأظهر عجبه من تجاسر "شيخ" على الكتابة إليه، ومخاطبته مع أنه "ملك الملوك"، وهو رئيس مدينة في بيداء قفرة لا قيمة لها ولا أهمية! ومن يكون أذينة؟ هذا الرجل الذي دفعته حماقته إلى التجاسر على سيده بالكتابة إليه؟ فإن كان له أمل في عقوبة خفيفة، فليأت إلي ويداه مغلولتان على ظهره! وإن لم يفعل، فليعلم بأني سأهلكه وأهلك أسرته وأنزل الدمار بمدينته؟ ثم مزق الرسالة، ورمى بالهدايا تحت قدميه3. فعاد الوفد كاسف البال خائفًا مما قد يقوم به هذا الملك المغرور الطائش من عمل تجاه مدينة خسرت الرومان، ولم تحظ بالاتفاق مع الساسانيين.
ولما رجع الرسل إلى تدمر وأعلموه بما جرى، قرر الأخذ بثأره من هذا الملك المتغطرس الطائش، فجمع القبائل بظاهر تدمر وجعلها تحت امرة ابنه "هروديس"، وضم إليها فرسان تدمر بقيادة "زبدا" كبير قواده، وقواسيها
__________
1 Oberdick, S. 22, Wright, P.115.
2 "والريانوس"، "والريبانوس"، الطبري "1/ 743"، "ليدن".
3 أمر سابور برمي الهدايا في النهر،
Oberdick, S., 23, Wright, P.118 Gibbon: The Decline And Fall Of The Roempire, Vol., I, P.236.(5/93)
بقيادة "زباي"، وهما من "آل سبتيميوس" أي من أقرباه أذينة، وحشد معهم بعض الكتائب الرومانية وفلول جند "والريانوس" وسار على رأس هذا الجيش قاصدًا المدائن للانتقام من "سابرو" الذي كان قد انشغل بغزو الأنحاء الشمالية، ولإنقاذ القيصر من الأسر1.
وفي أثناء زحف "أذينة" على المدائن، وصلته أنباء تغلب القائد الروماني "كاليستوس" على الفرس، وتشتت شملهم وهربهم، فغير اتجاهه وأسرع إليهم لملاقاتهم، وقد أدركهم قبل تمكنهم من عبور نهر الفرات، فالتحم بهم وتغلب عليهم، وولى "سابور" مع فلول جيشه مذعورًا تاركًا أمواله وحرمه غنيمة في أيدي التدمريين ولم يتمكن الفرس من عبور نهر الفرات إلا بعد تعب. ولما عبروه هنأ بعضهم بعضًا على السلامة والنجاح2. أما أذينة، المنتصر الظافر، فكتب إلى "غاليانوس ابن والريانوس" "كاليانوس بن والريانوس" يخبره بهزيمة الفرس، وبإخلاصه للامبراطورية، ففرح القيصر بالطبع بخبر النصر فرحًا عظيمًا، وأنعم عليه بدرجة قائد عام على جميع عساكر المشرق "Dux Romanorum"، وحثه على مواصلة الحرب لإنقاذ "والريانوس" والده من الأسر3.
وقد أشار المؤرخ "ملالا" "ملالس" إلى ملك دعاه "Enath"، ذكر أنه كان ملك العرب "السرسين" "Saracens" الأجلاف الغلاظ وحاكم "العربية" وحليف الرومان، وذكر أنه هاجم ملك الفرس "سابور" في أيام "والريانوس" وكان قد سار إلى حدود الامبراطورية الساسانية، وتوغل فيها وأوقع خسائر بالفرس4. وقد قصد به الملك "أذينة" هذا الملك الذي نتحدث عنه.
ويظهر أن "أذينة" كان يتحبب إلى الرومان، فأنعموا عليه بالألقاب، ومن ذلك لقب "Vir Consularis" الذي كان يحمله في عام "258" للميلاد. وقد منح قبل هذه السنة على ما يظهر. ولعل ضغطه المتزايد على الفرس هو
__________
1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 13، السنة 1898م، "ص 637 وما بعدها".
Oberdick, S., 23, Wright, P.118.
2 المشرق، السنة الأولى، الجزء 13، السنة 1898م، "ص 637 وما بعدها". ويروى "بالستا"، Wright, P.118, 119, 120, Eberdick, S., 23, 24.
3 المشرق، السنة الأولى، الجزء 13، "ص 639"، 1898م.
Wright, P.120, Ency. Brita., 23, P.944.
4 Malalas, Xxiii, 5, 2, Musil, Palmyrena, P.247.(5/94)
الذي حملهم على ترك "دورا" "Dura" "Doura" ففسح بذلك المجال لعودة الحامية الرومانية إلى هذه المدينة، فرفع ذلك من شأنه في أعين الرومان1.
وتمكن "أذينة" من تحرير الجزيرة من الفرس، وفتح "نصيبين" "Nicibis" "Nisibis" و"حران" فاستقبل هو وجنوده استقبالًا عظيمًا. وكان الناس يذكرون بازدراء "غاليانوس" الذي تركهم فريسة للفرس2. ثم سار بجيوشه إلى "طيسفون" "Ktesiphon"3 "264م"، فخاف "سابور" وأمر بجمع كل ما عنده من قوات للدفاع عن عاصمته، غير أنها لم تتمكن من وقف زحف التدمريين فوصل "أذينة" إلى "المدائن" وحاصرها، ونصب المجانيق وآلات الحصار لفتحها، وكاد "سابور" يلتمس منه الأمان لولا حدوث حادث أكره أذينة على ترك الحصار والتراجع، هو خروج "مكريانوس" "Macrianus" "Macrinus" القائد الذي كان السبب في وقوع "والريانوس" في الأسر على القيصر "غاليانوس" وتنصيبه نفسه قيصرًا على آسية الصغرى ومصر وفلسطين والشأم. فاضطر هذا الانقلاب "أذينة" إلى الرجوع إلى مدينته بسرعة، لاتخاذ موقف حاسم تجاه هذا الوضع السياسي الجديد4.
لم يكن "أذينة مطمئنًّا إلى "مكريانوس" "Macrianus" "Macrinus" كان يكرهه ويخشى أن يستولي على ملكه إن تمكن واستأثر في الحكم، فقرر منازلته قبل منازلة "مكريانوس" له. وبينما كان يهم بالزحف على "حمص" "Emisa" "Emissa" جاء نبأ مقتل "مكريانوس"، فأعلن السوريون ولاءهم لأذينة وخروجهم على "كياثوس بن مكريانوس"، وساروا مع التدمريين لمحاصرة "كياثوس" في مدينة "حمص"، ولما اشتد الحصار على المدينة وطال، قتل
__________
1 Berytus, Viii, Fascl., I, P.56.
2 المشرق، السنة الأولى، الجزء 13، سنة "1898م" "ص 641".
Oberdick. S., 25. Berytus, Vol., Viii, Fasc., I, 1934, P.34, Zosim, I, 39, Trebell, Poll. Vaier, Vii, Rostovtzeff: Res Gestae Divi Saporis: Dura, By Michael, I.
3 "طيسفون"، بفتح أوله وسكون ثانيه وسين مهملة وفاء وآخره نون، هي مدينة كسرى التي فيها الإيوان. البلدان "6/ 80".
4 Syria, Xviii, 1937, P.2. Note Sur Herodien, Prince De Palmyre By Henri Seyric, Oberdick, S., 25.(5/95)
"كاليستوس" سيده "كياثوس" ورمى برأسه من فوق السور تحت قدمي "أذينة" ثم فتح له أبواب المدينة والتمس منه الأمان، فمنحه إياه ودخل المدينة في سنة "262" للميلاد1.
ولم يكن استسلام أهل "حمص" للتدمريين أمرًا سهلًا عليهم فقد كانت بين الفريقين شحناء وبغضاء. نظر أهل حمص إلى أهل تدمر نظرة ازدراء وغضاضة، إذ كانوا يرونهم ناسًا أجلافًا، ليس لهم حظ من حضارة وثقافة، أهل بادية حفاة جفاة. وقد يكون لاتصال حدود "تدمر" بحدود حكومة "حمص" وغارات أعراب تدمر على أرض حمص يد في خلق هذا النزاع. وقد لاقت حمص من استيلاء أهل تدمر عليها عنتًا شديدًا إذ حل بها دمار وخراب لرفضها الاستسلام لـ "برابرة تدمر"2.
لقد سقطت حمص في أيدي التدمريين، بالرغم من تضرع أهلها وتوسلهم بالإلهة "الشمس" لتنصرهم على أعدائهم وتنزل بهم خسائر فادحة. وقد كانوا من عبادها المخلصين. ولكن أهل تدمر كانوا يتعبدون للشمس كذلك، وقد توسلوا وتضرعوا إليها لتنصرهم على أعدائهم أهل حمص. لقد كان موقف "الشمس" موقفًا حرجًا. فالطرفان المتخاصمان من عبادها. وقد أقام كل منهما معبدًا ضخمًا فخمًا لعبادتها، زوقت أبوابه وذهبت قبابه، وكل منهما يتوسل إليها، فأي طرف تؤيد إذن؟ والظاهر أن اختيارها وقع على تدمر إذ انتصروا على أهل حمص ودخلوا المدينة ظافرين3.
وسر "أذينة" ولا شك من هذه النتيجة، فقرر بعد استراحة جنوده بضعة أيام أن يسير نحو الشمال للقضاء على المنشقين. وبينا هو في طريقه، تلقى أنباء تمرد "كاليستوس" وخروجه عليه وإعلان نفسه ملكًا، فأمر نفرًا من رجاله بالذهاب إلى معسكر "كاليستوس" لاغتياله، فذهبوا إليه، وتمكن فارس من الدخول إلى خيمته وقتله4. عندئذ تحسن موقفه، فسار إلى الجزيرة، وتعقب الفرس فقبض على عدد من "المرازبة" "Satrapen" وأرسلهم إلى "رومة"، وأظهر
__________
1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 15، آب 1898م "ص 687".
2 Petr. Patr. Fra., 167, Dio, Ed: Boiss, 3, 744, A. Alfoldi In: Berytus, 5, 84, Die Araber, Iii, S., 251.
3 Die Araber Ii, S., 250.
4 المشرق، العدد نفسه "ص 687". Trebellius, Trig. Tyr., 17,(5/96)
إخلاصه وطاعته لقيصر، فرضي عنه واطمأن إليه، وأعطاه منزلة رفيعة هي: "Imperator Totius" "Dux Orientis" ودعاه انبراطورًا على جميع أنحاء المشرق، أي على الشأم والجزيرة وآسية الصغرى عدا "بتينية" وبضع نواح شمالية، "264م"1. وضربت نقود باسمه صور عليها أذينة ووراءه بعض أسرى الفرس. وجعل تحت إمرته جميع القوات الرومانية المعسكرة في المشرق. وكلفه القضاء على فلول جيش "مكريانوس" وتطهير المقاطعات الرومانية منهم2.
واختار أذينة لنفسه لقبًا آخر حبيبًا إلى نفوس الشرقيين هو لقب "ملك الملوك" "ملك ملكا"3، لعله فعل ذلك محاكاة لملوك الفرس، ومنح لقبًا آخر هو "أغسطس" "Augustus" لقب قياصرة الرومان4. والإنسان متى أبطرته النعمة مال إلى اتخاذ أمثال هذه الألقاب! وفي رواية أن مجلس الشيوخ الروماني منحه لقب "أغسطس"، فصار مساويًا للقيصر، وأنه أمر بوضع صورته مع صورة الانبراطور على النقود التي أخذت غنيمة من الفرس5.
وعرف "أذينة" بـ "متقنا دي مدنحا كله"، "متقنا متقنانوتا"، وتقابل معنى "Reparator Totius Orientis" أو "Correctores Italiae" "Utriusque Italiae, Italiae Regionis Transpadanae"6، وتقابل درجة "Correctores" منزلة "رئيس" "Praesides"7، أي رئيس مقاطعة من المقاطعات.
وقام "أذينة" بإصلاحات جمة أظهر فيها أنه لم يكن قائدًا قديرًا فقط، بل كان إلى ذلك رجل إدارة وسياسة وتسامح أيضًا. فمنع تعصب الوثنيين على النصارى واضطهادهم لهم، ومنح كل طائفة حريتها في ممارسة شعائر دينها، وخول
__________
1 المشرق، العدد نفسه "ص 688"، Oberdick, S., 31, Ency. Brita., 17 P.162.
2 المشرق، العدد نفسه "ص 688"، Oberdick, S., 31.
3 Die Araber, Ii, S., 253.
4 المشرق، السنة الأولى، الجزء 15، السنة "1898م"، "ص 688".
Gibbon, I, P.241.
5 Wright, P.121.
6 Die Araber, Ii, S., 253, Cambridge Ancient History, 12, 175.
7 Die Araber, Ii, S. 253.(5/97)
النصارى حق بناء الكنائس حيثما شاؤوا1. وتعقب اللصوص وقطاع الطرق من الجنود الهاربين والمسرحين من الخدمة والصعاليك الذين وجدوا في الاعتداء على الآمنين، ومهاجمة القوافل والقرى والمدن خير مصدر للحصول على الكسب والمغانم والمال، وقتل "كاليستوس" زعيم الصعاليك الذي اسمال من لا عمل له إلا الفتنة والاعتداء على الناس، وبذلك أراح أذينة نفسه وأراح المقاطعات الرومانية من شر هؤلاء، واطمأن الناس على أنفسهم، وعادوا إلى أماكنهم التي اضطروا إلى تركهم لها بسبب تلك الاعتداءات التي قام بها من أطلق عليهم الكتاب اسم "الظالمون"2.
وصمم "انبراطور الشرق" و"ملك الملوك" بعد هذه الأعمال على انتزاع القيصر "والريانوس" من أيدي الفرس، ومحاربة خصمه المتغطرس المتلقب بلقب "ملك الملوك" كذلك. قد يكون حبًّا في إذلال من استهان به فمزق رسالته أمام أعين رسله، وقد يكون تقربًا للرومان وتوددًا إلى القيصر "غاليانوس". والشرقيون مبالغون ويا للأسف في إكرام الغرباء، متزلفون إلى القوي منهم، ولو كان في ذلك هلاك الوطن والرعية. عين ابنه البكر "سبتيميوس هيرودس" "Septimius Herodes" من زوجته الأولى نائبًا عنه في إدارة شؤون الملك، وأخذ هو جيشه وسار به لمحاربة الفرس في أوائل عام "265" بعد الميلاد. سار به إلى "طيسفون" عاصمة "سابور" فحاصرها أمدًا، ويظهر أن "سابور" أظهر استعداده لعقد صلح لولا اشتراط "أذينة" فك أسر "والريانوس"، وهو شرط كان في نظر الفرس جد عظيم3.
ووقع حادث مهم اضطر "أذينة" إلى تبديل خططه العسكرية وترك حصار "طيسفون"، ذلك هو انتهاز "القوط" فرصة محاصرة "أذينة" للمدائن وابتعاده عن آسية الصغرى وبلاد الشأم، فعبروا بحر "بنطس" "Pontus" أي البحر الأسود4. ونزلوا بميناء "هرقلية" "Heraclea" ثم زحفوا على "بتينية"
__________
1 المشرق، العدد المذكور "ص 689".
2 "الظالمون الثلاثون"، المشرق "ص 689". Tribelius: Trig. Tyr., 14.
3 Oberdick, S., 35, Hieronym. Cliron. Xii, Gallieni: “Odenatum Persas Ita Cecidisse. Ut Castra A Ctesiphontem Poneret”, Zosim, I, 39, Trebellius, Poll., 2, Gall 10 “Ctesiphon”.
4 "بنطس"، البلدان "2/ 66، 293"، ويعرف أيضًا ببحر "طرابزندة" البلدان "2/ 66".(5/98)
و"فريجية" و"غلاطية" و"قيادوقية"، وكانوا يقصدون من وراء زحفهم هذا التوسع والاستيلاء على آسية الصغرى وبلاد الشأم وكل ما يمكن الاستيلاء عليه من بلاد الشرق. فلما علم "القوط" بمجيء "أذينة" هربوا إلى ميناء "هرقلية" مسرعين، ومنه ركبوا إلى بلادهم التي جاءوا منها1. فقرر عندئذ الرجوع إلى العراق لفتح "طيسفون". ويبنما كان "أذينة" في "حمص" لإراحة الجند، أعد وليمة كبيرة تذكارًا ليوم ميلاده حضرها قواده وكبار القوم. فانتهز "معنى" "Maeonius" ابن أخيه "خيران" هذه الفرصة، فقتل هو وعصابته عمه "أذينة "وابن عمه "هيرودس" "Herodus"، لاغتصاب عمه منه ملكه الذي ورثه من أبيه. ونادى بنفسه ملكًا على المملكة التي أنشأها وكونها "أذينة" القتيل، وبذلك استرجع حقه من المقتول. ولكن حياة القاتل كما يقول المثل الشرقي لا تطول، وذلك قولهم: "بشر القاتل بالقتل"، فما كاد يتربع على العرش أيامًا حتى انتقمت منه سيوف "حمص"، وألحقته بالعالم الواسع الذي ذهب إليه القتيلان "266-267م"2.
ما أعجب الحياة. في مدة قصيرة طفر فيها رجل "تدمر" من رئيس في مدينة صحراوية إلى ملك على عرش مملكة، فقائد كبير في أعظم انبراطورية في عالم ذلك الزمن، ومنافس للقيصر وملك على الشرق، وفي لحظة واحدة انتقل فيها هذا القائد الملك من هذا العالم إلى عالم القبر، إنها الحياة لا بد لها من نهاية مهما بلغ الإنسان من منزلة ومكانة، لا تعرف قوة وصولة ولا فقرًا وضعفًا، الجميع إلى هذه النهاية منتهون، وللفيلسوف أن يستخرج منها حكمة الحياة.
هل قتل "معنى" عمه لاغتصابه حقه الطبيعي في الملك؟ أو قتله لأسباب أخرى؟ وهل كان لأحد مثل الملكة "الزباء" ضلع في الحادث؟ وهل كان للرومان يد في هذه الجريمة؟ وهل كان للحزب الوطني التدمري الذي كان يكره اليونان والرومان وكل سيطرة غريبة يد في هذا الاغتيال؟ لما عرف عن "أذينة"
__________
1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 15، "1898م"، "ص 691".
2 راجع خبر مقتل "أذينة" والعداء الذي كان بينه وبين "معنى" والنزاع الذي حدث بينهما حين كانا في الصيد في مجلة المشرق، السنة الأولى، الجزء 15، "1898م"، "ص 691 وما بعدها".
Oberdick, S., 38, Zosim, I, 39, Treb. Poll., 30, Tyr. 15, Gibbon, I, P.263, Vaughan: Zenobia, P.60.(5/99)
من دفاعه عن الانبراطورية الرومانية وحماسته في الدفاع عنها؟ هذه أسئلة سألها المتعمقون في تأريخ "تدمر" والباحثون فيه، وأجابوا عنها أجوبة مختلفة. فمنهم من رأى أن الجريمة هي انتقام شخصي بسبب اغتصاب "أذينة" حق القاتل الذي ورثه من أببه، ومنهم من رأى أنها مسألة مدبرة مدروسة وأن للزباء يدًا فيها. ومنهم من رأى أنها بتدبير الرومان وعلمهم، فعلوها للتخلص من رجل أخذوا يشكون في إخلاصه، ويرتابون منه. ومنهم من رأى عكس ذلك: رأى أنها فاجعة للرومان وخسارة كبيرة لسياستهم في الشرق، وأنها من أعمال الوطنيين الذين رأوا في ملك تدمر أداة طيعة مسخرة في أيدي سادة "رومة" فقرروا لذلك الانتقام منه.
أما نحن فنرى أن من الصعب البت في سر قتل "أذينة" وابنه، فالأخبار الواردة في هذا الموضوع غامضة، والأدلة غير متوفرة، ومبايعة الجيش وقواده للقاتل في سرعة ومن غير كلام أو قتال، ثم قيام أهل حمص بقتل القاتل بعد أيام، وتولي الملكة "الزباء" الحكم بعده وبسرعة هي قضايا فيها نظر. ولهذا تعددت الآراء، ولن تتفق ما دامت الروايات المقدمة إلينا على هذا النحو من التعقد والأمور1.
أظهر "أذينة" مقدرة فائقة جديرة بالإعجاب، استطاع أن يكون جيشًا قويًّا يخيف الفرس ويلحق بهم الخسائر ويكتسب تقدير الرومان واحترامهم في مدة قصيرة، واستطاع أن يكون من القلعة الصغيرة المبنية في البادية مملكة كان لها أثر خطير في النزاع السياسي العسكري بين الرومان والفرس. لقد قام بعمل عسكري عظيم في محاولاته الحربية لإنقاذ القيصر "والريانوس" محاولات لم يقم بها سيد "رومة" وابن القيصر الأسير ولا أتباعه الرومان. لقد "أرسلته الشمس أسدًا مخيفًا مرعبًا"2.
لقد وقعت في أيام "أذينة" أحداث خطيرة عظيمة في الشرق الأدنى بين المعسكرين: المعسكر الشرقي وهو معسكر الفرس، والمعسكر الغربي وهو معسكر الرومان يساعدهم التدمريون. كانت انتصارات الفرس في سنة "260" بعد الميلاد،
__________
1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 15، "1898م"، "ص 693".
Oberdick, S., 40, Gibbon, I, P.263, Vaughan: Zenobia, P.60.
2 Oracula: Sibyllinus, Vv, 169, Berytua, Vol., Viii, Fasc., I, 1943.(5/100)
ثم أسر القيصر "والريانوس"، وغزو بلاد الشأم، وقيام "أذينة" بالهجوم على الفرس، وطردهم من الأرضين التي احتلوها من الأمور الخطيرة التي وقعت في ذلك العهد، أفادت الرومان ولا شك كثيرًا، ولكنها لفتت أنظارهم في الوقت نفسه إلى الخطر الجديد الذي أخذ يتهددهم من ظهور قوة "تدمر"، وتدمر في بلاد الشأم. وقد تتزعم الحركات الوطنية المعادية للر ومان في الشرق، فتكون كارثة على "رومة". ونجد أخبار "أذينة" وأعماله خاصة بعد معركة "الرها" "Edassa" في تأريخ "سوزيموس" "Zosimus"1.
ولا بد لي في هذا الموضع، وقد انتهيت من الحديث عن أذينة، من الإشارة إلى رجل كان له شأن وذكر في أيام "أذينة"، وكان أقوى شخصية في تدمر إلا وهو "ورود" "Worod" الذي ورد ذكره في عدد من الكتابات، أقدمها الكتابة المدونة بشهر نيسان من سنة "262" للميلاد وقد لقب فيها بـ "Procurator Ducenarius"2. كما لقب بلقب "مرن" الذي تلقب به "أذينة" أيضًا، أي "سيدنا" و"أميرنا"، وبألقاب أخرى مثل "Cursus Honorum" و"قائد القافلة" و"شريف المستوطنة" وغير ذلك من نعوت حملها "أذينة "نفسه، مما يحملنا على الاعتقاد بأنه كان الرجل الثاني في تدمر بعد "أذينة"، ومن الغريب أن اسمه اختفى مع اسم أذينة في السنة التي قتل فيها الملك نفسها، فلم نعد نقرأه في الكتابات3.
وكان "ورود" يقوم مقام "أذينة" بأعباء الحكم عند غياب "أذينة" عن عاصمته. ويرى بعض الباحثين أن اسمه الكامل هو "يوليوس أورليوس سبتيميوس ورود" "جوليوس أورليوس سبتيميوس ورود" "Julius Aurelius Septimius Worod" وأنه كان من الطبقة "الأرستقراطية"، وهو من أصل فارسي روماني. وقد نال أعلى الألقاب المعروفة في أيامه، حتى ضاهت الألقاب التي لقب بها "أذينة". والظاهر أنه كان شخصًا كفؤًا حازمًا لذلك نال مركزًا لم يبلغه أحد غير "أذينة"، إذ كان الرجل الثاني في تدمر بعد الملك4.
__________
1 Oracula: Sibyllinus, Xviii, Zosimus, I, 27, I, 36, I, 39.
2 J. Cantineau, 3n. Ii, Die Araber, Ii, S., 255.
3 Die Araber, Ii, S., 255.
4 Vaughan, P.58.(5/101)
ولا نعرف شيئًا كثيرًا عن المكانة التي حصل عليها بعد مقتل "أذينة" وتولي "الزباء" أعباء الحكم نيابة عن ابنها "وهبلات"، والظاهر أنه لم ينل عند الملكة المنزلة التي بلغها عند "أذينة"، وأن عينته الملكة نائبًا عنها في بعض الأوقات، وكل ما وصل إليه عندها هو منصب "مستشار"، فقد كانت تستدعيه عند الحاجة لاستشارته في بعض الأمور الخطيرة. وقد كان لها جماعة مستشارين تستعين بآرائهم في إدارة الحكم وفي تنظيم الأمور المالية، ولا سيما الجباية من التجارة والتجار.
ولم يشر "الطبري" ولا غيره من المؤرخين المسلمين إلى حروب "أذينة" مع "سابور" على أهميتها وبلوغ ملك "تدمر" فيها العاصمة "طيسفون". وهذا أمر يدعو إلى العجب حقًّا إذ كيف يهمل المؤرخون والأخباريون هذا الحدث الخطير؟ فلا بد أن يكون هنالك سبب. ورأيي أن سببه الموارد الأصلية التي اعتمد عليها المؤرخون المسلمون والأخباريون وأخذوا منها، وهي موارد فارسية الأصل متعصبة للفرس، أو موارد عراقية ميالة إليهم.
وقد أخذ المؤرخون المسلمون تأريخ الفرس من موارد فارسية، أما تأريخ الرومان واليونان، فقد أخذوه من موارد نصرانية سريانية في الغالب، ولكنهم أخذوه بقدر، ولم يتوسعوا في الطلب، لذلك كان تأريخ الرومان واليونان مختصرًا جدًّا وضعيفًا بالقياس إلى ما دون عن تأريخ الفرس. عبارة عن جريدة بأسماء القياصرة جافة في الغالب، ونتف وقطع مبثوثة هنا وهناك في الفصول المدونة عن تأريخ الدول الفارسية ذكرت في المواضع التي تكون لها صلات بتأريخ الفرس، ولذلك أيضًا أدمج أكثر ما دون عن تأريخ الغساسنة وعرب الشأم في الأوراق التي دونت عن تأريخ الحيرة وعرب العراق. وقد انتزعت من موارد فارسية –عراقية، ففيها تعصب للفرس وللعراق على الروم والرومان وبلاد الشأم1.
وأظن أن الموارد الأولى التي نقل منها الأخباريون والمؤرخون كلامهم عن تأريخ الفرس لم ترقها الإشارة إلىانتصارات ملك كون مملكة في البادية بنفسه، على "سابور" صاحب انبراطورية واسعة تتباهى بنفسها على الرومان، فأهملت الكلام عنها بدافع العاطفة والنزعات القومية. فلما ترجمت تلك الموارد إلى العربية أو نقل.
__________
1 مجلة المجمع العلمي العراقي، الجزء الأول والجزء الثاني.(5/102)
منها، لم يجد الأخباريون والمؤرخون شيئًا يقولونه عن انتصارات "أذينة" على "سابور"، وإلا ذكروه كما ذكروا حادث أسر "سابور" للقيصر "والريانوس" في أثناء كلامهم عن سابور. وقد ذكره الطبري فقال: "وأنه حاصر ملكًا كان بالروم يقال له الريانوس بمدينة أنطاكية، فأسره وحمله وجماعة كثيرة معه وأسكنهم جنديسابور"1.
__________
1 الطبري "2/ 61" "طبعة المطبعة الحسينية".(5/103)
الزباء:
انتقل الملك بعد مقتل "أذينة" و"معن" إلى "وهبلت" و"هبلات" "وهب اللات"، وهو ابن "أذينة" من زوجه "الزباء" ويعرف في اليونانية بـ "اتينودورس" "Athenodorus". وكان لوهبلات أخوة هم: "حيران" "خيران" و"تيم الله" من أذينة ""أذينة" وأمه "الزباء". وكان قاصرًا، لذلك تولت الوصاية عليه وتأديبه بأدب الملوك حتى يبلغ سن الرشد، فعلمته "اللاتينية" والفروسية، وهيأته لكيون ملكًا كبيرًا كقياصرة الرومان أو أكاسرة الفرس وسعت هي لتهذيب الدولة وتوسيعها وبسط نفوذها على أماكن واسعة لم تكن خاضعة لتدمر، لذلك كان لا بد من حدوث احتكاك وتصادم بينها وبين الرومان.
وللأخباريين أحاديث وأقاصيص عن الزباء، واسمها عندهم "نائلة بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العميلقي "العملقي" من العماليق1. و"الزباء بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر" على زعم2، و"ليلى" في زعم آخر. وزعموا أن لها أختًا اسمها "زبيبة" بنت "الزباء" لها قصر حصين على شاطئ الفرات الغربي، فكانت تشتو عند أختها وتربع ببطن النجار، وتصير إلى تدمر. كما كان لها جنود هم في نظرهم بقايا من العماليق والعاربة الأولى، وتزيد وسليح ابن "حلوان بن عمران
__________
1 الطبري "2/ 31"، ابن خلدون "2/ 261"، حمزة "65".
2 مروج "2/ 16".(5/103)
ابن الحاف بن قضاعة" ومن كان معهم من قبائل قضاعة1. وذكر "ابن خلدون" أن ملك العرب بأرض الحيرة ومشارف الشأم كان لعمرو بن الظرب، وكان جنود الزباء من بقايا العمالقة من عاد الأولى ومن نهد وسليح ابني حلوان ومن كان معهم من قبائل قضاعة، وكانت تسكن على شاطئ الفرات وقد بنت هنالك قصرًا، وتربع عند بطن المجاز، وتصيف بتدمر، أخذ قوله هذا من تأريخ الطبري وتصرفه فيه بعض التصرف2. أما الأصل، فخبر من أخبار الأخباريين، وأما النقل فحكمه حكم الأصل بالطبع. وأما أن جنود "الزباء" من بقايا "العمالقة، فهو أمر مقبول في نظر أصحابنا الأخباريين، ولم لا؟ إن "الزباء" في رأيهم من بقايا العمالقة، أي من العرب الأولى فلم لا يكون جنودها إذن من أولئك القوم؟
وزعم بعض الأخباريين أن "الزباء" من ذرية "السميدع بن هوثر" من "بني قطورا" أهل مكة، وهي بنت "عمرو بن أذينة بن الظرب بن حسان". وبين "حسان" و"السميدع"آباء. وزعم آخرون أن "عمرو بن الظرب" كان على مشارف الشأم والجزيرة، وكان منزله بين "الخابور" و"قرقيساء"، فوقعت بينه وبين "مالك بن فهم" حروب هلك "عمرو" في بعضها، فقامت بملكه من بعده ابنته "الزباء". وقد استمرت الحرب بين "مالك" و" الزباء" إلى أن ألجأها إلى أطراف مملكتها. وكان "مالك" على ما يصفه الأخباريون رجلًا قديرًا يغير على ملوك الطوائف حتى غلبهم على كثير مما في أيديهم3. وهو في نظرهم أول من ملك من "عرب الضاحية". وكان منزله مما يلي "الأنبار"، ثم ملك بعده أخوه "عمرو بن فهم". فلما هلك تولى من بعده "جذيمة الأبرش" الشهير في تأريخ الحيرة4.
والذي حارب "عمرو بن الظرب" على رواية منسوبة على "ابن الكلبي" ذكرها "الطبري" هو "جذيمة الأبرش". وكان جذيمة على هذه الرواية قد جمع جموعًا من العرب سار بها يريد غزاة "عمرو"، وأقبل "عمرو" بمجموعة
__________
1 الطبري "2/ 32".
2 ابن خلدون "2/ 261".
3 ابن خلدون "2/ 259 وما بعدها".
4 الطبري "2/ 28".(5/104)
من الشأم فالتقوا فاقتتلو قتالًا شديدًا فقتل "عمرو بن الظرب" وانفضت جموعه، فأجمعت الزباء رأيها لغزو "جذيمة" للأخذ بثأر أبيها، واستعدت لذلك. غير أن أختًا لها هي "زبيبة"، وكانت ذات رأي ودهاء وأدب، نصحتها بترك الحرب، فإن عواقبها غير مضمونة، فاستجابت لنصيحتها، وعمدت إلى طرق المكر والحيل فراسلته واستدرجته إلى عاصمتها في قصة معروفة مشهورة لا حاجة بي إلى إعادتها، فغدرت به وقتلته1. وطلب "قصير بن سعد بن عمرو ابن جذيمة بن قيس بن ربي بن نمارة بن لخم"، وكان أريبًا حازمًا أثيرًا عند "جذيمة بن الأبرش" من "عمرو بن عدي" خليفة "جذيمة" على الحيرة الخروج لقتال "الزباء"، فأحجم فلما رأى ذلك منه، صمم على أن يأخذ هو بالثأر، فذهب إليها مدعيًا أنه مضطهد ممقوت لتهمة نسبت إليه هي أنه ساهم في قتل "جذيمة" فوثقت به واطمأنت إليه وهي لا تعلم ما يخفي لها، ثم طلب منها أن يعود إلى بلده ليعود بأمواله ونفائس ما لديه فسمحت له وأعطته تجارة لتصريفها هناك، فباعها وعاد بأرباح طائلة وبأموال كثيرة، فزادت ثقتها به وتكرر الحال، حتى إذا ما وثق من اطمئنانها إليه عاد في المرة الأخيرة برجال أشداء من بني قومه ومعهم "عمرو بن عدي"، وضعهم في جوالق كبيرة فلما توسطوا في المدينة، أنزلت الجوالق وخرج الرجال منها، فوضعوا سيوفهم في رقاب أهلها، فلما رأت الزباء ذلك، أرادت الهرب من نفق حفرته لمثل هذه الأيام، اطلع قصير عليه، فوضع "عمرو بن عدي" على بابه. فلما رأته الزباء مصت خاتمها، وكان فيه سم، قائلة: "بيدي لا بيدك يا عمرو"، وتلقاها عمرو بن عدي بالسيف فجللها به وقتلها، وغنم كثيرًا، وانكفأ راجعًا إلى العراق2.
وهي قصة محشوة بالأمثال المنسوبة إلى أبطالها: جذيمة وقصير والزباء وعمرو
__________
1 حمزة "65".
2 الطبري "2/ 34 وما بعدها"، مروج "2/ 19 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 261" وما بعدها" البلدان "3/ 379"، مروج الذهب "2/ 69 وما بعدها"، "قصة جذيمة". فلما نظرت الزباء إلى مشي الجمال، قالت:
ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا؟
أم صرفانا باردًا شديدا ... أم الرجال جثيًّا قعودا؟
مروج "2/ 72"، "دار الأندلس".(5/105)
ابن عدي، وفيها على عادة الأخباريين في رواية أمثال هذا القصص شعر نسب بعضه إلى هؤلاء الأبطال، ونسب بعضه الآخر إلى شعراء أقحمت أسماؤهم في القصة ليؤكد واضعوها ولا شك صدق حديثهم، وليلونوا كلامهم بعض التلوين.
ونجد قصة الزباء وجذيمة وقصير المطالب بالثأر في شعر ينسب إلى "عدي بن زيد العبادي"، جاء فيه:
ألا أيها الملك المرجى ... ألم تسمع بخطب الأولينا
دعا بالبقة الأمراء يومًا ... جذيمة عصر ينحوهم ثبينا
فطاوع أمرهم وعصى قصيرًا ... وكان يقول لو تبع اليقينا
ثم يستمر في نظم القصة شعرًا حتى تنتهي. وقد ختمت بنصح للإنسان ليتعظ بالحوادث والمنايا، التي لا تعرف أحدًا مهما كانت درجته ومنزلته، إلا أخذته، ثم صيرته أثرًا بعد عين1.
وذكر أهل الأخبار أن "الزباء" كانت تأتي الحصون، فتنزل بها، فلما نزلت بـ "مارد"، حصن دومة الجندل، وبالأبلق، حصن تيماء، قالت تمرد مارد وعز الأبلق، فذهبت مثلًا2.
ولم يبخل الأخباريون على الزباء، فمنحوها أبياتًا زعموا أنها قالتها، وجعلوها أديبة في العربية بليغة إلى أعلى درجات البلاغة. لها حكم وأمثال بهذه العربية، عربية القرآن الكريم. ولا غرابة في ذلك، فالذي ينسب شعرًا عربيًّا إلى آدم وإبليس ويرويه مشكلًا مضبوطًا على وفق قواعد النحو والصرف، لا يعجز عن رواية شعر ينسب إلى "عمرو بن الظرب" وإلى ابنته الزباء.
وذكر أن معاوية ذكر في أحد مجالسه "الزباء" وابنة "عفزر"، فقال: "إني لأحب أن أسمع حديث ماوية وحاتم، فقال رجل من القوم: أفلا أحدثك يا أمير المؤمنين؟ فقال: بلى، فقال: إن ماوية بنت عفزر، كانت ملكة وكانت تتزوج من أرادت"3.
__________
1 الشعر والشعراء "112 وما بعدها"، "عدي بن زيد العبادي"، وفي الكتب الأخرى اختلاف في الألفاظ والعبادات، مروج "2/ 73"، "دار الأندلس".
2 مروج "2/ 73"، "دار الأندلس".
3 البيان والتبيين "3/ 9".(5/106)
ويذكر أهل الأخبار أن "ابنة عفزر" قينة كانت في الدهر الأول، لا تدوم على عهد، فصارت مثلًا. وقيل: قينة كانت في الحيرة، وكان وفد النعمان إذا أتوه لهوًا بها. وذكر أن "عفزر" اسم أعجمي، ولذلك لم يصرفه "امرؤ القيس" في قوله:
أشميم بروق المزن اين مصابه ... ولا شيء يشفي منك يا ابنة عفزرا1
ولم تشأ الكتابات التدمرية الإعلان عن اسم ملكة تدمر، بل ذكرتها على هذه الصورة: "بت زباي" أي "بنت زباي"2. و"زباي" هو اسم والد الملكة، حذفت كلمة "بت" وهي "بنت" في العربية، وقلب الحرف الأخير وهو الباء من كلمة "زباي" وصير همزة، فصار "زباء"، وعرفت ملكة تدمر عند العرب باسم "الزباء".
وقد ذكر المؤرخ "فلافيوس فوبسكوس" "Flavius Vopiscus" أن والد "الزباء" رجل من تدمر اسمه "اخليو" "Achilleo"3، و"Achilleo" هو "انطيوخس" "Antiochus" في رواية أخرى4.
وقد أثنى عليها المؤرخ "تريبليوس يوليو" "Trebellius Pollio" ووصفها وصفًا جميلًا، وأشار إلى مقدرتها وقابليتها، وذكر أنها كانت تتكلم اليونانية وتحسن "اللاتينية"، وتتقن اللغة المصرية وتتحدث بها بكل طلاقة، وتهتم بشؤون المملكة، وتقطع المسافات الطويلة سيرًا على الأقدام في طليعة رجال جيشها، إلى غير ذلك من كلام فيه ثناء وإطراء على هذه الملكة5.
وقد بلغتنا روايات تفيد أن الملكة ادعت أنها من مصر، من سلالات الملوك وأنها من صلب الملكة الشهيرة "قلبطرة"6 "كليوبطرة" "Cleopatra"، وأنها كانت نفسها تتكلم المصرية بطلاقة، وأنها ألفت كتابًا كتبته بخط يدها اختصرت
__________
1 اللسان "4/ 591".
2 المشرق، السنة الأولى، "1898م"، آب، الجزء 15، "ص 693".
3 Flavius Vopiscus Aur., 31, Oberdick, S., 143.
4 Zosimus, I, 61, Oberdick, S., 143.
5 Trebellius Pollio: Hist. August., P.192, 199, Xxx, Tyranni., C., 14.
6 مروج "1/ 259" "طبعة دار الرجاء". Oberdick, S., 47, Gibbon, I, P.202.(5/107)
فيه ما قرأته من تواريخ الأمم الشرقية ولا سيما تأريخ مصر1، وأنها استقدمت مشاهير رجال الفكر إلى عاصمتها، مثل الفيلسوف الشهير "كاسيوس ديونيسيوس لونجينوس" "Cassius Lunginus" "220 – 273م" بعد الميلاد. وكان فيلسوفًا على مذهب الأفلاطونية الحديثة ومن أصدقاء الفيلسوف "فرفوريس" "Phorphyrios"، استقدمته الملكة إلى عاصمتها واستضافته عندها وجعلته مستشارًا لها، فأخلص لها في مشورته، فكان ذلك سببًا في قتله. فقتله القيصر "أوريليانوس" "Aurelianus"، لاتهمامه أنه كان يحرض الملكة على الرومان2.
ومثل الكاتب المؤرخ "كليكراتس الصوري"، و"لوبوكوس" البيروتي اللغوي الفيلسوف، و"بوسانياس" الدمشقي المؤرخ، و"نيوكوماخس" "Nicomachus" من زمرة الكتاب المؤرخين، المتضلعين بالإغريقية، ومن الفلاسفة، وقد تولى الكتابة باللغة الإغريقية، وصار من مستشاريها كذلك3. ولذلك أمر به القيصر "أورليانوس" فقتل بعد محاكمته بمدينة حمص، في الوقت الذي حوكمت فيه الملكة والفيلسوف "لونجينوس"، الذي قطع رأسه بعد أن مثل به4. وفي حشد هذا النوع من الرجال دلالة على ميول الملكة الفلسفية الأدبية وثقافتها العالية ولا شك.
وملكة شأنها هذا، لا بد أن تكون حرة الفكر، متساهلة مع أصحاب العقائد والآراء. وهذا ما كان، ففي مدينة "تدمر" الوثنية عاشت جالية كبيرة من اليهود تمتعت بممارسة شعائرها الدينية بكل حرية، ونالت حقوق المواطنة التي كان يتمتع بها التدمريون، جاءت إلى المدينة مهاجرة من فلسطين خاصة بعد خراب القدس على أيدي القيصر "طيطوس" "تيتوس" "Titus" في سنة "70" بعد الميلاد5. فاشتغلت فيها بالتجارة، فحصلت على أرباح طائلة جدًّا، وصار لها في المدينة اسم وشأن حتى إن مجلس المدينة والشعب أقام تمثالًا في سنة "569"
__________
1 Oberdick, S., 47, Vaughan, P.79.
2 فقدت مؤلفات هذا الفيلسوف ولم يبق منها غير: “Le Sublime”
2 أي كتاب الإيغال، المشرق، السنة الأولى الجزء 20، السنة 1898م، "ص 921". Hervey, P.245.
3 المشرق، الجزء نفسه "921". Vaughan, P.192.
4 Vaughan, P.192.
5 المشرق، السنة الأولى، الجزء 20 "1898م". ص"924".(5/108)
السلوقية المقابلة لسنة "257" الميلادية ليهودي يدعى "يوليوس أورليوس شلميط" "Julius Aurelius Schalmath" قائد القافلة؛ لأنه ترأس القافلة، وأنفق عليها من ماله1.
وقد بالغ بعض المؤرخين في عدد اليهود الذين كانوا في "تدمر" أيام حكم الزباء فزعم أنه بلغ نصف عدد سكان المدينة، وهو زعم يحتاج إلى إثبات. وزعم القديس "أثناسيوس" "St. Athanasius" أن ملكة تدمر كانت تدين باليهودية2 ولكنها مع تهودها لم تهب أبناء دينها الكنائس لتكون لهم مجامع ومحافل3. وذهب إلى هذا الرأي المؤرخ "فوتيوس" "Photius"4. وذكر "فيلاستريوس" "Philastrius" أن الذي هود الملكة هو "بولس السميساطي "Paulus Samosatius"5 وهو أسقف كان مقربًا إلى الزباء، وله منزلة عالية لديها. ونسبت إليه آراء في المسيح وفي بعض الأمور الدينية الأخرى دعت إلى محاكمته في مجمع "أنطاكية" الذي انعقد في سنة "264" للميلاد، فوجد المجمع أن تعاليمه تشبه تعاليم "أرتاماس" "أرتامون" الذي حكم عليه قبلًا، فحرموا آراءه كذلك، ثم حكم عليه في "أنطاكية" سنة "269" بعزله عن الأسقفية، ولم تتدخل "الزباء في القرارات التي اتخذها رجال الكنيسة تجاه بولس، كما أنها لم تنفذ قراراتهم بحقه، بل أبقته في مركزه وتركته على ما كان عليه6.
ويرى بعض المؤرخين أن خبر تهود الملكة خبر مختلق، وضعه آباء الكنيسة للإساءة إلى سمعة "بولس السميساطي" والطعن فيه والحط من تعاليمه وللتأثير في نفوس أتباعه7. وقد لاقى "بولس" من خصومه عنتًا شديدًا. ولا يعقل بالطبع أن يعمد رجل كنيسة إلى تهويد شخص مهما كان مذهبه ورأيه في طبيعة المسيح
__________
1 Oberdick, S., 65, Corpus, Insc. Grea., Iii, Nr. 4486, Levy: Palmyr. Inschr. In Zdmg., Vii, 1864, S. 88.
2 المشرق، السنة الأولى، الجزء 20، "1898م" "ص 924"،
Oberdick, S., 71, Milman: History Of The Jews, Iii, P.175.
3 المشرق، الجزء 21 "1898م"، "ص 995".
4 Oberdick, S., 71, G. Moss: Jews And Judaism In Palmyra, In: Palestine Exploration Fund Qjuarterly, Vol., 60, 1928, 100-107.
5 المصدر نفسه.
6 المشرق، السنة الأولى، الجزء 21، 1898م "ص 991 وما بعدها".
7 Oberdick, S., 72.(5/109)
واللاهوت، بل المعقول أن يعمد للتأثير فيه وإدخاله إلى مذهبه. ولدينا خبر آخر أراه من جنس خبر "فيلاستريوس" ذكره "تيودوريت" "Theodoret" خلاصته: أن الأسقف "بولس" أخذ رأيه في "الثالوث" من آراء الملكة المتأثرة باليهودية، وأنه كان قد تأثر بالمرأة حتى سقط إلى الحضيض1. ولا يخفى ما في هذا الخبر من طعن في عقيدة الرجل الذي أبدى رأيًا في "الثالوث" سبب غضب الآباء عليه.
ولم نجد في الآثار اليهودية التي بين أيدينا ما يفيد تهود "الزباء"، نعم ورد في التلمود خبر يفيد حماية "الزباء" للأخبار2، غير أنه وردت أخبار أخرى تفيد أن اليهود كانوا ناقمين على "تدمر" حاقدين عليها يرجون من الله أن يطيل في عمرهم ليروا نهايتها. هذا الحبر الكبير "يوحانان" "يوخانان" "Johanan" "Jochanan" رئيس "أكاديمية" "طبرية" والمعاصر لأذينة والزباء، يقول: "مخلد وسعيد من يدرك نهاية أيام تدمر". ولو كانت الملكة على دين يهود، لما صدرت هذه الجملة من فم ذلك الحبر ولا شك. ويفهم من بعض الروايات المروية عن فقهاء اليهود وأحبارهم في فلسطين في ذلك العهد، أن الملكة اضطهدت اليهود وعذبتهم. وهي روايات لا يمكن التسليم بصحتها أيضًا، ويجوز أنها ظهرت على أثر توسع الملكة في الأرضين التي كانت تحت سيطرة الرومان ومنها "اليهودية" غير أن هذا الاستيلاء لم يكن أمده طويلًا3.
ووردت روايات أخرى تشير إلى كراهية يهود منطقة الفرات لتدمر، ورد أن الحبر "يهودا" "R.Juda" تلميذ الحبر "صموئيل" "Samuel" تحدث عن تدمر، فقال: "سيحتفل الإسرائيليون في أحد الأيام بعيد، أنه عيد هلاك ترمود "Tarmud"، أنها ستهلك كما هلكت تمود "Tamud". وقد هلكت". وورد أن الحبر "آشة" "R.Asche" ذكر "ترمود" "Tarmud" فقال: "ترمود مثل تمود، أنهما شيئان لأمر واحد، إذا هلك أحدهما قام الثاني مقامه"
__________
1 Oberdick, S., 73.
2 Talmud Jeru. Ter., Viii, 46b, Ency. Brita., 23, P.945.
3 Simon Dubnow: Weltgeschichte Des Judischen Volkes, Iii, S., 179, The Universal Jewish Encyclopedia, Vol., 10, P.639, Graetz: History Of The Jews, Vol., 2, Pp.528, 1927, Yer. Taan., Viii, 465.(5/110)
ويراد بـ "ترمود" مدينة "تدمر"1. وقد اشترك عدد كبير من اليهود في صفوف أعداء الزباء، واشتركوا مع الفرس في حروبهم مع تدمر كما اشتركوا مع الرومان. وقبض على عدد من الأحبار أحضروا إلى الملكة كانوا يحرضون الناس على التدمريين2.
أما "تمود"، الذين هلكوا قبل هلاك "ترمود"، فهم قوم ثمود. ويظهر أنهم حلت بهم نكبة أدت إلى هلاكهم حتى صار هلاكهم مضرب الأمثال. ولم يشر إلى زمن حلول تلك النكبة. ولكن ذلك كان قبل سقوط "تدمر" في أيدي الرومان على كل حال، كما يفهم من كلام الحبر "يهودا" المتوفى سنة "257" للميلاد3.
أما أسباب هذا البغض، فلم تذكر. ويظهر أن هنالك جملة عوامل دعت إلى ظهوره، منها آراء الملكة الفلسفية وآراء الفلاسفة والكتاب الذين كانوا يحيطون بها، وكانوا يبثونها في تدمر وفي البقاع التي استولى عليها التدمريون، فنفقت نفاقًا كبيرًا بين يهود "تدمر" ويهود "الكالوتات" على نهر الفرات، فأثارت هذه الآراء "الإلحادية" عند اليهود حقد الأحبار والمتدينين. ومنها الزواج المختلط الذي انتشر في تدمر بين اليهود وغير اليهود، ونشوء جيل جديد من هذا الزواج أضاع الدين وتقاليد الإسرائيليين. وهو أمر نهي عنه اليهود. ومنها الحالة السياسية التي نشأت من أسر الفرس للقيصر "والريانوس"، وهجوم أذينة على الفرس وما أعقب ذلك من حروب ألحقت ضررًا كبيرًا بالجاليات اليهودية الكبيرة التي كانت تسكن شواطئ الفرات، ومعظمها من التجار الذين كانوا يتاجرون مع الفرس والروم، وبين العرق وديار الشأم، فأصيبت هذه "الكالوتات" اليهودية التي كانت تتمتع بشبه استقلال بأضرار كبيرة، وفقدت استقلالها خلال مدة استيلاء التدمريين على شواطئ الفرات. فلهذه الأسباب كانت نقمة اليهود على التدمريين4.
__________
1 Oberdick, S., 80, Jebam 17b.
2 ذكر "Oberdick، أمثلة عديدة على ذلك في "ص 80" وما بعدها من كتابه، راجع أيضًا:
Gratz: Geschichte Der Juden, Iv, S., 336, Levy, In Zdmg, Xviii, S., 97.
Jost: Geschichte Des Judenthums Und Seiner Sekten, Ii, S., 156.
3 Oberdick, S., 79.
4 Jost: Geschichte Der Juden, 4, 14, 7, Oberdick, S., 78.(5/111)
وحرص بعض المؤرخين على إدخال الملكة في زمرة النصارى فزعموا أنها كانت على دين المسيح. وتساهل آخرون بعض التساهل فقالوا أنها لم تكن نصرانية أصيلة ولكنها كانت قريبة منها ميالة إليها، وجحد حجج من قال بتهود الملكة وسخفها. وتوسط آخرون فقالوا إنها لم تكن يهودية محضة، ولا نصرانية خالصة، إنما كان دينها وسطًا بين الدينين: كانت تعتقد بوجود الله، وترى التوحيد، ولكنها لم تكن على اليهودية وعلى النصرانية، بل رأت الخالق كما يراه الفيلسوف1.
وللمؤرخين آراء في أصل "الزباء" ونسبها وأسرتها، فمنهم من ذهب إلى أنها مصرية، ومنهم من ذهب إلى أنها من العماليق ومن هؤلاء المؤرخ "آيشهورن" "Eichhorn"2. وقد أخذ هؤلاء آراءهم من الكتب العربية على ما يظهر. وذهب المؤرخ اليهودي "كريتس" "Graetz" "Gratz" إلى أنها "ادومية" من نسل "هيرودس" وأنها يهودية الدين3. ورأى "رايت" "Wreght" و"أوبردك" "Oberdick" وآخرون أنها من أب عربي ولكنها من دم مصري من ناحية الأم. والذي عليه أكثرهم أنها عربية الأصل4.
وقد ذكر "المسعودي" أن بعض المؤرخين كانوا يزعمون أنها "رومية" تتكلم العربية5.
أظهرت "الزباء" مقدرة فائقة في إدراة شؤون الملك، فخاف منها الرومان، وعزم "غاليانوس" بتحريض من شيوخ "رومة" على القضاء عليها قبل استفحال أمرها، فأرسل جيشًا إلى الشرق تظاهر أنه يريد من إرساله محاربة "سابور" غير أنه كان يريد في الواقع مهاجمة تدمر وإخضاع الملكة. فبلغ خبره مسامع "الزباء" فاستعدت لمقابلته وخرجت له، والتحمت فعلًا بكتائب الرومان، وانتصرت عليها انتصارًا باهرًا، وولت هاربة تاركة قائدها "هرقليانوس" "Heraclianus" قتيلًا في ساحة الحرب6.
__________
1 Oberdick, S., 72, 73.
2 Eichhorn, Fundgr. Des Orients, Ii, S., 365, Oberdick, S., 47.
3 Graetz, Geschichte Der Juden, Iv, S., 335.
4 Wright, P.131, Oberdick, S., 47.
5 مروج "1: 259".
6 المشرق، السنة الأولى، ايلول 1898م، 18 "ص 824 وما بعدها"،
Zosimus, I, 40 Oberdick, S., 43, Trebellius Pollio, Gall. 31, Trig. Tyr., 29. Hist. August., P.180, 181, Gibbon, I, P.263.(5/112)
ورأت الملكة الحذر من الفرس، وذلك بتقوية حدود مملكتها، فأمرت بإنشاء حصن "زنوبيا" "Zenobia" على نهر الفرات، ليقف أمام الهجمات التي قد يوجهها الساسانيون عليها من الشرق1. ويقول "بوركوبيوس" أنه سمي بهذا الاسم نسبة إلى الملكة مؤسسته2.
وقد اتبعت "الزباء" بعد مقتل زوجها سياسة عربية، سياسة تعتمد على التقرب من الأعراب والتودد إليهم، والاعتماد عليهم في القتال والحروب. وذلك بعد أن رأت أن الرومان هم أعداء تدمر، وأنهم لا يفكرون إلا في مصالح الرومان الخاصة. وبهذه السياسة تقربت أيضًا إلى العناصر العربية المستوطنة في المدن، وأخذت تعمل على تكوين دولة عربية قوية واحدة بزعامتها، وخاصة بعد أن أدركت أن الأعراب قوة لا يستهان بها، وأنهم لو نظموا واستغلوا استغلالًا جيدًا، صاروا قوة يحسب لها كل حساب، فأخذت تعمل لتكوين هذه القوة، ولكن الرومان كانوا أسرع منها، فقضوا على مآربها قبل أن تتحقق، فاستولوا على تدمر وأزالوا مملكة ملكة الشرق3.
وجهت "الزباء" أنظارها إلى مصر، ووضعت الخطط للاستيلاء على هذا القطر، بعد أن مهدت لنفسها الدعوة فيه بإعلانها أنها مصرية وأنها من نسل الملكة "كليوبطرة" "قلبطرة" فلها إذن فيه ما يسمح لها بالتدخل في شؤونه، وأخذت تترقب الفرص وتتحين الأسباب، فلما قتل القيصر "غاليانس" سنة "268" للميلاد، وانتقل الحكم إلى "أوريليوس فلوديوس" "Marcus Aurelius Claudius" "268-270م"، وجدت الجو صالحًا للتدخل، كان الألمان "Alemannen" قد هاجموا حدود الانبراطورية في مطلع هذا العام، وكان "الغوط" "القوط" "Gothen" "Goths" قد أربكوا الدولة. وكان أثر الخسارة التي ألحقتها الملكة في الجيش الروماني، ومقتل "هرقليانوس" بالغًا في نفوس الرومان، يتجلى في صياح أعضاء مجلس الشيوخ بصوت واحد سبع مرات في أثناء مبايعة القيصر الجديد: "ياقلوديوس أغسطس نجنا من فكتوريا ومن زنوبيا، ياقلوديوس
__________
1 Oberdick, S., 43.
2 Procopius, History Of The Wars, Ii, V, Iv-Vi, P.295.
3 Die Araber, Ii, S., 270, Vi, S., 270(5/113)
أغسطس أغثنا من التدمريين"1. وفي الرسالة المؤثرة التي وجهها القيصر إلى مجلس الشيوخ ومدينة "رومة" وهو في طريقه لتأديب المهاجمين، وفيها "إن جبيني ليندى خجلًا كلما تذكرت أن جميع الرماة بالقسي هم في خدمة زنوبية"2. فانتهزت الملكة هذه الفرصة المؤاتية وأرسلت جيشها لاحتلال مصر.
كان القيصر قد أمر عالمه على مصر المدعو "بروبوس" "Probus" بالخروج على رأس أسطول الأسكندرية إلى عرض البحر: لمطاردة "الغوط" "القوط" "Goths" ولمنعهم من الهرب عبر المضايق، فخرج على رأس قوة كبيرة من الرومان لمطاردتهم، فانتهز الوطنيون والمعارضون لحكم الرومان –وعلى رأسهم "تيماجينيس" "Timagenes"، وهو رجل يوناني الأصل مبغض للرومان- هذه الفرصة، فكتبوا على الملكة يحضونها على تحرير مصر من حكم "رومة" وتولى الحكم فيها. وأظهر "فيرموس" "Firmus"، وهو رجل ثري جدًّا، استعداده لمساعدة الملكة بالمال وبكل ما ينبغي إذا أرادت الاستيلاء على مصر. فأمرت "الزباء" قائدها" "زبدا" بقصد مصر على رأس جيش قوامه سبعون ألف رجل. وقد قاتل الجيش الروماني الذي كان مؤلفًا من خمسين ألف مقاتل وتغلب عليه، ثم قرر العودة إلى تدمر تاركًا في مصر حامية صغيرة من خمسة آلاف رجل، ويظهر أنه تركها تحت إمرة "تيماجينيس" الذي عين نائبًا عن الملكة على مصر. فلما سمع "بروبوس" بهجوم التدمريين وتغلبهم على الرومان، أسرع عائدًا إلى مصر، فألف جيشًا من المصريين الموالين للرومان، وزحف على الأسكندرية، وأخذ يتعقب التدمريين، وأعمل فيهم السيف. فلما سمعت "الزباء" بذلك، أمرت قائدها بالعودة ثانية إلى مصر، فجرت معارك بين الطرفين انتهت بانتصار التدمريين على "بروبوس" عند "بابلون" أي "الفسطاط"، وكتب النصر لجيش الملكة في مصر3.
__________
1 المشرق، الجزء المذكور "ص 825".
Oberdick, 53, Trebellius Pollius, Claud., 4, Triq. Tyr., Vaughan, P.83.
2 المشرق، الجزء المذكور "ص 826".
Oberdick, S., 54, Trebellius Pollius, Claud., 7.
3 "بروباتوس"، المشرق، السنة الأولى، أيلول 1898م, الجزء 18 "ص 826"،
Zosimus, I, 39, 44, Hist. August., P.198, “Pollius, Xxx, Tyrani, G. 29”, Oberdick, S., 54, Vaughan. P.84, 122, 130.(5/114)
وقد ساعد عرب مصر من سكان الأقسام الشرقية من مصر، جيش تدمر مساعدة كبيرة، ولا سيما فيما جرى من قتال حول حصن "بابلون" "Babylon" الذي عرف بـ "الفسطاط" فيما بعد. ويظن بعض الباحثين أن "تيماجينس" "Timagenes" الذي وصفة المؤرخ "زوسيموس" "Zosimos" "Zosimus" بأنه مصري، كان في الحقيقة عربيًّا، واسمه عربي أخذ من "تيم اللات"، أو من "تيم جن"1. وكان من المبغضين للرومان.
ولم تتحدث الموارد التأريخية عن الحوادث التي جرت في مصر بعد هذا النصر ولا عن موقف الرومان من هذا التطور الذي وقع في منطقة خطيرة من مناطق الانبراطورية. ويظهر أن الملكة تراضت مع "رومة" وعقدت اتفاقية معها، وافقت "رومة" فيها على بقاء جيوش تدمر في مصر، مع اعتراف "تدمر" بسيادة الرومان على وادي النيل. وقد عقدت هذه الاتفاقية في أواخر أيام حكم "قلوديوس". كما يتبين ذلك من خبر ذكره "تربيليوس بوليو" "Tribellius Pollio" مآله حلف المصريين يمين الولاء والإخلاص للقيصر، وقد دام هذا الاتفاق في أوائل سني حكم القيصر "أورليانوس" "Aurelianus" "270-275م" أيضًا كالذي يتبين من نقد ضرب في الأسكندرية في سنتي "270" و"271" للميلاد، وقد ضربت على أحد وجهي النقد صورة مزدوجة لوجه القيصر "أورليانوس" "Aurelianus" حاملًا لقب "أغسطس" "Augustus" مع وجه "وهبلات"، وقد نعت بـ: "Vir Consularis Romanorum Imperator Dux Romanorum" "Vir Consularis Rex Imperator Dux Romanorum"، ويشير إلى اللقب الذي تلقب به أيام حكمه. وأما ازدواج صورة القيصر مع صورة "وهبلات"، فيشير إلى الحكم المزدوج على مصر2.
ولم يدم هذا الاتفاق بين الرومان وبين الملكة طويلًا. فقد ضغط سادات
__________
1 Die Araber, Ii, S,. 272, G. Ryckmans: Les Noms Propres Sud-Semitisques, 62, H. Wuthnow: Die Semitischen Menschennamen In Griech. Inschriften Und Papyri, 1930, 39.
2 Mattingly-Sydenham, V, I, 308, No: 381, H. Mattingly, In Cah, 12, 301, Ency. Brita., 17, P.163, Oberdick, S., 61, Wright, P, 137, Die Araber, Ii, S., 254.(5/115)
"رومة" على الانبراطور بأن ينقذ الامبراطورية مما حاق بها من تصدع في أوروبة وفي الشرق. وفي جملة هذا التصدع ظهور ملكة "تدمر" وأطماعها في مصر وفي الأرضين الأخرى من بلاد الشأم وآسية الصغرى. واضطر القيصر "أوريليانوس" بعد الانتهاء من فتنة "رومة" ومن تأديب الجرمان إلى التدخل والعمل للقضاء على عصيان العصاة وطمع الطامعين. وبلغ سمع الملكة من أصدقائها ومخبريها في "رومة" عزم الانبراطور على القضاء عليها، فقررت القيام بعمل سريع قبل مباغتة القيصر لها، فألغت الاتفاق المعقود مع الرومان في أيام "قلوديوس"، وأمرت بمحو صورة "ارريليانوس" من النقود لتبرهن على قطع علاقتها بالقيصر، وعدم اعترافها بسيادة "رومة" الاسمية عليها، وأمرت بضرب صورة "وهبلات" وحده، مع اللقب "الانبراطوري" المخصص بقياصرة "رومة" وذلك في السنة الخامسة من حكمه. وقد تلقبت الزباء نفسها بهذا اللقب في النقود التي ضربت باسمها في الخارج. أما نقود "تدمر"، فقد لقبت فيها بلقب "ملكة"1، ولقبت في مصر هي وابنها بلقب "أغسطس". وهو لقب القيصر "أوريليانوس". وفي هذا التحدي الصريح، دليل واضح على ما حدث من نزاع شديد في العلاقات السياسية بين تدمر ورومة2.
وتفاوضت الملكة "الزباء" على رواية مع الملكة "فيكتوريا" فيكتورية" "Victoria" عاهلة إقليم "الغال"، لتوحيد الخطط في مهاجمة القيصرية الرومانية واقتسامها، وأمرت جيوشها بالسير إلى "بيتينية" "Bithynia" فاستولت عليها، وظلت تتقدم دون ملاقاة معارضة تذكر حتى بلغت "خلقيدون" بإزاء "القسطنطينية"3. ويقال إن الملكة كانت قد أمرت بصنع عجلة فاخرة للدخول بها في موكب الظفر إلى عاصمة الرومان4.
واضطرت الملكة لتنفيذ خطتها هذه إلى سحب القسم الأعظم من جيشها المعسكر في مصر معتمدة على دفاع المصريين أنفسهم إذا هجم عليهم الرومان. فانتهز
__________
1 Cooke, Nsi, No: 131, Wadd., 2628.
2 Ency. Brita., 17, P.163.
3 المشرق، السنة الأولى، الجزء "22 "1898م" ,"ص 1033".
Oberdick, S., 84, Vaughan, P.117, 130, 133.
4 Oberdick, S., 83.(5/116)
"أوريليانوس" هذه الفرصة فأرسل مددًا إلى "بروبس"، وكان القائد "زبدا" قد وصل إلى مصر لمساعدة "فيرموس" نائب الملكة على صد الرومان. فوقعت معارك بين الفريقين كاد يكون النصر فيها للتدمريين لولا استمالة "بروبس" جماعة من المصريين، فآزروه ودحروا جيش "زبدا" في سنة "271" للميلاد، واضطر التدمريون إلى ترك مصر إلى أعدائهم، فكانت هذه أول نكبة عظيمة تنزل بالزباء1، ومنذ "29" أغسطس من سنة "271م" انقطع في الأسكندرية ضرب النقود التي تحمل صورة الزباء ووهبلات2.
ولا نعرف اليوم شيئًا من الموارد التأريخية عن الأثر الذي تركه انتصار "بروبس" في مصر على التدمريين. ولكننا نستطيع أن نقول أنه وقع وقعًا عظيمًا على الملكة "الزباء". فخسارة مصر على هذه الصورة، كانت خسارة كبيرة عليها، ولا بد أن تكون قد أثرت فيها، فقد مكنت الرومان من القضاء على سلطان الملكة في تلك البقعة المهمة وجعلت في إمكانهم تهديدها من الجنوب، كما أن توقف جيشها عند "خلقيدون"، وعدم تمكنها من الاستيلاء على "نيقية" وتوقف خططها العسكرية الهجومية، ثم اتخاذها خطة الدفاع ثم التراجع ومجيء "أورليانوس" بقوات كبيرة نحو الشرق، كل ذلك قد يكون نيتجة من نتائج هذا الاندحار الذي مني به جيش الملكة وأحزابها الموالية لها بمصر، فأضعف معنويات التدمريين ومن كان يواليهم وشد من أزر الرومان ومن كان يناصرهم.
قاوم أهل "خلقيدون" التدمريين، وأبوا التسليم لهم، وأرسلوا إلى القيصر لينجدهم، ويظهر أن الملكة عرفت حراجة وضعها العسكري، وعدم استطاعتها التقدم، فقررت التراجع إلى مواضع جديدة تدافع فيها عن نفسها إذا هاجمها الرومان. وقد هاجمها الرومان فعلًا، إذ عبر القيصر مضيق "البسفور" وفاجأ التدمريين في "بيثينية" في أواخر سنة "271م" أو أوائل السنة التالية، وأجلاهم عنها، ثم سار إلى "غلاطية" "Galatia" و" قفادوقية" "Cappadocia" حتى بلغ "أنقرة" "Ancyra"، فسلمت له. وأخذ الرومان يتقدمون بسرعة إلى بلاد الشأم3.
__________
1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 22، "1898م"، "ص 1034".
2 Oberdick, S. 84.
3 المشرق، الجزء المذكور "ص 1034". Oberdick, S. 87.(5/117)
أفزع تقدم الرومان السريع الزباء ورجالها ولا شك، وأخذت المدن التي كانت تساندها تشك في تمكن الملكة من الدفاع عن نفسها، وشاعت بين الناس قصص عن نهاية تدمر وخرابها بأيدي الرومان وعن سقوطها لا محالة، أثيرت مع وصول أنباء اعتزام القيصر القضاء على حكم الملكة وإخضاع "تدمر" لحكم الرومان. ومن يدري؟ فلعل الرومان وأنصارهم وأعوانهم وجواسيسهم هم الذين صنعوها وأذاعوها بين الناس لإماتة همة جيش الملكة وأعوانها، والإيحاء إليه أنه مغلوب لا محالة وأن إرادة الآلهة قد قضت بذلك ولا راد لها. فكان من بين ما أشيع أن معبد "الزهرة" في "أفقة" "Aphaca" أنبأ الحجاج التدمريين الذين حجوا قبل سنة من سقوط مدينتهم، يستفتون "الزهرة" فيما سيحل بهم في السنة المقبلة بمصير سيئ سيلحق بتدمر، وأن كارثة ستنزل بهم، أنبأهم بذلك على عادة المعبد في موسم الحج الذي يلي الموسم الذي سئل فيه السؤال1.
وكان من بين ما أشيع تخرصات زعم أنها صدرت من معبد "أبولو" "Apollo" تنبئ بزوال دولة التدمريين ومشيئة الآلهة بانتصار "أورليانوس" على الزباء، وتخرصات تزعم أن الحبر "يهودا" "R.Juda" تلميذ الحبر "صموئيل" "Samuel" تنبأ بها عن تدمر، إذ كان قد قال: "سيحتفل الإسرائيليون في أحد الأيام بعيد، إنه عيد هلال "ترمود" "Tarmud"، إنها ستهلك كما هلكت "تمود" "Tamud" وقد هلكت". وورد أن الحبر "أشه" "R.Asche" ذكر "ترمود" "Tarmud" فقال: "ترمود مثل تمود، إنهما شيئان لأمر واحد، إذا هلك أحدهما قام الآخر مقامه". ويراد بـ "ترمود" مدينة "تدمر"2.
إلى غير ذلك من تخرصات أوحت بها دعاية الرومان، وأعداء الملكة من يهود ومن قوميات أخرى قهرتها "الزباء" فأذاعتها بين الناس، لإفهامهم أن من العبث مقاومة القيصر وجنوده، وأن من الخير ترك المقاومة والاستسلام، وأن اليوم الذي ستحرر فيه تلك الشعوب من حكم الملكة آت قريب؛ لأن إرادة الآلهة قضت أن يكون ذلك، ولا راد لأمر الآلهة: نعم، لم تصدق الملكة العاقلة
__________
1 Zosimus, I, 54, 57, 58.
2 Oberdick, S., 80, Jebam, 17b.(5/118)
الحكيمه بهذه الخرافات، فحاربت. ولكن عقول العامة لم تكن على شاكلة عقل الملكة، لقد أثرت فيها هذه الدعاية، وقضت على معنويات التدمريين الوثنيين الذين يدينون بهذه الخرافات ويؤمنون بها، وما زال من طرازهم خلق كثير في القرن العشرين الميلادي هذا.
تهيأت الملكة "الزباء" لملاقاة "أورليانوس" عند مدينة "أنطاكية" "Antiochia"، وكانت هي على رأس الجيش فارسة تحارب في الطليعة، أما القيادة، فكانت لقائدها "زبدا". وفي الوقعة الأولى هجم فرسان تدمر على الكتائب الرومانية فشتتوا شملها، فأمر القيصر جنوده بالرجوع إلى مسافات بعيدة، ليوهم التدمريين أنه قد فر، فإذا ساروا في أثرهم وابتعدوا عن قواعدهم باغتهم بالهجوم، فلا يتمكن فرسان تدمر من الهزيمة لثقل أسلحة الفرسان ومعداتهم وبطء خيلهم بالقياس إلى خيل الرومان. وهو ما حدث. فقد خدع التدمريون وظنوا رجوعهم هزيمة، فتعقبوهم إلى مسافات بعيدة، وفجأة انقلبت الكتائب الرومانية على التدمريين، وأطبقوا عليهم، وأعملوا فيهم السيوف وانهزموا هزيمة منكرة إلى مدينة "أنطاكية". وفي هذه المدينة قر رأي الملكة على ترك أنطاكية والارتحال عنها بسرعة لأسباب، منها وجود جالية يونانية كبيرة فيها كانت تفضل حكم الرومان على حكم الشرقيين عليهم، وقد كان لها النفوذ والكلمة في المدينة، ومنها نفرة النصارى من الملكة بسبب موقفها من "بولس السميساطي" الذي قرر مجمع "أنطاكية" عزله من وظيفته، فلم تنفذ الملكة قرار المجمع، وتركته يتصرف في أموال الكنيسة، ولم تكتف بذلك بل عينته "Procurator Decenarius" على المدينة، أي أنها جعلته الرئيس الروحي والدنيوي على الأنطاكيين. أضف إلى ذلك كره اليهود الذين في المدينة للتدمريين. وقد نفذت الملكة هذا القرار في اليوم الذي دخلت فيه جيوشها المدينة، فأمرت قائدها بتركها والسير إلى "حمص" فورًا. وفي اليوم الثاني دخل "أورليانوس" تلك المدينة وأعطاها الأمان1.
وتعقب القيصر أثر الملكة ففتح جملة مدن حتى بلغ "حمص" "Emisa"، وهناك وجدها على رأس جيش قوامه سبعون ألفًا في مفازة عريضة تقع شمالي المدينة.
__________
1 المشرق، الجزء المذكور "ص 1035".
Oberdick, S., 92, Ritter, Erdkunde, 17, 2, S., 1160, 8, Zosimus, I, Ii; 50; 51; PP.44.(5/119)
فاشتبك الرومان والتدمريون في معركة حامية ربح فيها التدمريون الجولة الأولى، فولى الرومان مدبرين مذعورين تفتك فيهم سيوف تدمر. غير أن القيصر حزم رأيه، وأدرك وجود ضعف في خطة قتال الملكة، سببه ابتعاد فرسان تدمر عن مشاتهم في أثناء تعقب فرسان الروم، فأمر جنوده بالهجوم على مشاة التدمريين، ولم يكونوا في التدريب والقابلية مثل مشاة الرومان، فمزقوا مشاة الملكة كل ممزق وحلت هزيمة منكرة عامة بجيش الزباء اضطرتها إلى ترك "حمص" وتفضيل الرجوع إلى عاصمتها تدمر للدفاع عنها، فلعل البادية تعصمها منه وتمنعه من الوصول إليها. ودخل القيصر مدينة "حمص"، فتوجه بالشكر والحمد إلى إله "حمص" "الشمس" قاطعًا على نفسه عهدًا أن يوسع المعبد ويجمله ويزينه أحسن زينة، مقدمًا له نذورًا هي أكثر ما غنمه من الغنائم من التدمريين1.
أدرك القيصر أن النصر الحقيقي لن يتم له إلا بالقبض على "الزباء" وفتح "تدمر"، وأنه لن يدرك هذا إلا إذا سار هو بنفسه على رأس جيشه لفتح تلك المدينة. لذلك قرر الزحف إليها بكل سرعة قبل أن تتمكن الملكة من تحصين مدينتها ومن الاتصال بالفرس وبالقبائل العربية الضاربة في البادية، فيصعب عندئذ الاستيلاء عليها. فسار مسرعًا حتى بلغ المدينة برغم الصعوبات والمشقات التي جابهت الكتائب "اللجيونات" الرومانية في أثناء قطعها الصحراء، وألقى الحصار على "تدمر" القلعة الصحراوية الحصينة، غير أن المدافعين عنها قابلوه بشدة وصرامة برمي الحجارة والسهام والنيران على جيشه وبالشتائم والسخرية والهزء ترسل إليه من أعالي السور. ويظهر أن "رومة" سمعت بذلك فسخرت من عجز القيصر عن احتلال مدينة صحراوية، ومن التغلب على امرأة، فساء "أورليانوس" ذلك كثيرًا، فكتب إلى مجلس الشيوخ يقول: ".... قد يستضحك مني بعض الناس لمحاربتي امرأة.... فاعلموا أن الزباء "Zenobia" إذا قاتلت كانت أرجل من الرجال...."2. وبعثت سخرية أهل تدمر وهزؤ أهل "رومة" منه في القيصر عزمًا جديدًا على فتح المدينة ودكها دكًّا مهما كلفه الأمر، ليمحوا عنه هذه الوصمة
__________
1 المشرق، الجزء المذكور "ص 1036".
Oberdick, S., 102, Zosimus, I, 53, Flav. Vop. Aur., 25, Gibbon, I, P.256.
2 المشرق، الجزء المذكور "ص 1038".
Oberdick, S., 108, Flav. Vospicus Aur., 26-27, Hist. August., P.218, Wright, P.167, Gibbon, I, P.266.(5/120)
المخجلة التي لحقت به. فكاتب الملكة طالبًا منها التسليم والخضوع للرومان لتنال السلامة وتستحق العفو، فيسمح لها بالإقامة مع أسرتها في مدينة يعينها مجلس الشيوخ لها. أما جواب الملكة، فكان: "إن ما التمسته مني في كتابك لم يتجاسر أحد من قبلك أن يطلبه مني برسالة. أنسيت أن الغلبة بالشجاعة، لا بتسويد الصفحات. إنك تريد أن أستسلم لك. أتجهل أن كليوبترة "كليوبطرة" قد آثرت الموت على حياة سبقها عار الدبرة، فها أنا ذي منتظرة عضد الفرس والأرمن والعرب "Saracens" لفل شباتك وكسر شوكتك. وإذا كان لصوص الشأم قد تغلبوا عليك وهم منفردون، فما يكون حالك إذا اجتمعت بحلفائي على مقاتلتك. لا شك أنك ستذل وتخنع لي فتجرد نفسك من كبريائها التي حملتك على طلب المحال كأنك مظفر منصور في كل أين وآن"1.
لم ينجد الفرس ملكة الشرق، ولم يرسلوا إليها مددًا ما. فقد كانوا هم أنفسهم في شغل شاغل عنها. توفي "سابور" الأول في عام "271" للميلاد، فتولى "هرمز" "Ormidus" الملك من بعده، وكان رجلًا ضعيفًا خائر القوى،
فعزل بعد سنة قضاها ملكًا، وظهرت فتن داخلية بسبب ذلك لم تسمح للفرس وهم في هذه الحال أن يرسلوا قوة لمساعدة ملكة البادية عدوة "أورليانوس" قيصر الروم. وأما القبائل، فأمرها معروف، إنها مع القوي ما دام قويًّا، فإذا ظهرت عليه علائم الضعف، صارت مع غيره، تحرش قسم منها بجيوش الرومان المحاصرة للمدينة هاجمتها، غير أنها منيت بخسائر فادحة، فتركت التحرش بالمحاصرين. ورأى قسم منها الاتفاق مع القيصر، ففي الاتفاق الربح والسلامة. وما الذي يجنيه سادات القبائل من ملكة محاصرة، لم يبق من ملكها غير مدينة في بادية وثروة سيستولي عليها الرومان. وإن بقيت لها فلن يصيبها منها ما يصيبهم من القيصر من مال كثير، ومن لقب وجاه يأتيهم من حاكم مدني قوي، وقد عرف القيصر فيهم هذه الخصلة فاشترى أنفس الرؤساء بالمال. فأمن بذلك شر القبائل، وسلم من عدو يحسب لعداوته ألف حساب2.
__________
1 المشرق، الجزء المذكور "ص 1038".
Oberdick, S., 109, Flav. Vop. Aur., 26, 27, Wright, P.157, Vaughan, P.173.
2 Oberdick, S., 108, III.(5/121)
ولما رأت الزباء أن ما كانت تأمله من مساعدة الفرس والقبائل والأرمن لم يتحقق، وأن ما كانت ترجوه من مساعدة الحظ لها بإطالة أمد الدفاع لإكراه عدوها على فك الحصار والرجوع لم يتحقق كذلك، وأن وضع القيصر قد تحسن بوصول مدد عظيم إليه من الشأم وبوصول مواد غذائية إليه كافية لإطالة مدة الحصار، قررت ترك عاصمتها للأقدار، والتسلل منها ليلًا للوصول بنفسها إلى الفرس علهم يرسلون لها نجدة تغير الموقف وتبدل الحال. ودربت أمر خطتها بكل تكتم وهربت من مدينتها من غير أن يشعر بخروجها الرومان، وامتطت ناقة واتجهت نحو الفرات، ولعلها كانت تقصد الوصول إلى حصنها "زنوبية" ومنه إلى الفرس1. على كل حال، فقد حالفها الحظ في أول الأمر، فأوصلها سالمة إلى شاطئ النهر، عند "الدير" "دير الزور" قريب من "زليبية"2 "Halebiya" ثم خانها خيانة فظيعة. فلما علم "أورليانوس" بنبأ هرب الملكة، أيقن أن أتعابه ستذهب كلها سدى إن لم يتمكن من القبض عليها حية. لهذا أوعز إلى خيرة فرسانه وأسرع رجاله فاقتفاء أثر الملكة والقبض عليها مهما كلفهم الأمر. وقال الحظ كلمته. أنه سيكون في جانب القوي ما دام الناس في جانبه. نقل فرسان القيصر إلى موضع وجود الملكة على الشاطئ، في اللحظة الدقيقة الفاصلة الحاسمة بين الموت والهلاك والدمار وبين العز والسلطان واسترجاع ما ذهب من ملك. كانت الملك تهم بوضع نفسها في زورق لينقلها إلى الشاطئ الثاني من نهر الفرات، ولو عبرت لتغير إذن كل شيء. وإذا بالفرسان ينقضون عليها ويأخذون "ملكة الشرق" معهم مسرعين إلى معيد الشرق للرومان: "Recepto Orientis"، وهو على رأس جنوده يحاصر هذه المدينة العنيدة التي أبت الخضوع لحكمه والتسليم له3.
من الباحثين من يرى أن الملكة هربت من نفق سري يصل معبد المدينة بالخارج يمر من تحت السور له باب سري خارج الأسوار أعد لمثل هذه المناسبات، أو من أنفاق أخرى، إذ يصعب تصور خروج الملكة ليلًا من مدينتها ولو بحفر نفق في السور دون أن يشعر بذلك الرومان. ويستشهدون على صحة رأيهم هذا
__________
1 Oberdick, S., III.
2 المشرق، السنة الأولى. الجزء 23 "1898م".
WRIGHT, P.160, Freya Stark, Rome, P.367.
3 “Recepto Igitur Orientis”, Flav. Vop. Aur., 25.(5/122)
بالسراديب والقنوات التي ترى بقاياها تحت أسوار تدمر وقلاعها إلى اليوم1.
أحضرت الزباء أمام القيصر، فقال لها: "صرت في قبضتنا يا زينب، ألست أنت التي أدت بك الجسارة إلى أن تستصغري شأن قيصر روماني"، فأجابت: "نعم، إني أقر لك الآن بكونك قيصرًا، وقد تغلبت علي. وأما غاليانوس وأورليوس وغيرهما، فلست أنظمهم في سلك القياصرة. وإنما بارتني فيكتورية في السلطنة والعز، فلولا بعد الأوطان لعرضت عليها أن تشاركني في الملك"2. فأثرت كلمات الملكة في نفس "أوريليانوس"، فمنحها الأمان. وقد أثر أسرها في نفوس التدمريين المتحصنين في بلدتهم، فرأى قسم منهم الاستمرار في الدفاع وعدم تسليم المدينة مهما كلف الأمر، ورأى قسم آخر فتح الأبواب والتسليم، وصاحوا من أعلى الأسوار في طلب الأمان، وفتحوا له أبواب المدينة في بدء السنة "273" للميلاد3. فدخلها دخول الظافرين، فقبض على حاشية الملكة السابقة ومستشاريها ومن كان يحرض على معارضة الرومان، واستصفى أموال الملكة وجميع كنوزها، وأخذ الزباء ومن قبض عليهم معه وتوجه بهم إلى "حمص"4.
وتذكر بعض الروايات أن القيصر كان أول ما فعله عند دخوله إلى المدينة أن توجه إلى معبد الإله "بعل" "Bel"، فشكر الإله وحمده على توفيقه له ونصره له على أهل تدمر. ثم اختار له قائدًا نصبه على "تدمر" اسمه "Sandarion" على رواية و"Apsaeus" على رواية أخرى، ليحافظ على الأمن ويحكم المدينة. وجعل في إمرته حامية فيها ستمائة من الرماة، ثم غادر تدمر تاركًا أمرها إلى هذا القائد5.
__________
1 المشرق، الجزء المذكور "ص 1058".
Oberdick, S., Iii, Ritter: Erdunde, Xviii, 2, S., 1521.
2 المشرق. الجزء المذكور، "ص 1058".
Oberdick, S., 112, Ritter, Erdunde, Xvii, 2, Hist. August., P.199, 218, Wright, Pp.160, Vospicus Aurel., C. 28, Zosimus, I, I, C. 55, P.50, Gibbon, I, P.267, Trebellius Poll., 30. Tyr., 29.
3 المشرق، الجزء المذكور "ص 1059" Leopold Von Ranke: BD, 5, S. 189..
4 Zosimus, I, 56.
5 Vaughan, P.187.(5/123)
وفي حمص كما زعم المؤرخ "زوسيموس" "Zosimus" حاكم القيصر الملكة وأصحابها "استحضر القيصر سلطانة تدمر وأشياعها فلما مثلت بين يديه، جعلت تعتذر إليه وتتنصل وتدافع عن نفسها مدافعة الداهية حتى قرفت كثيرين من أصحابها بأنهم أصلوها بسوء نصائحهم وورطوها في الغرور. وكان من جملة الذين وشت بهم عند القيصر "لونجينوس" ... فحكم عليه القيصر من ساعته بالموت بعد أن مثل به. فكابد لونجينوس العقاب بشجاعة وصبر جميل حتى إنه عند وفاته كان يعزي أصدقاءه وأقاربه. وكذلك نكل بكل من تجرمت زينب عليه"1.
وقد اختلف الباحثون في صحة رواية هذا المؤرخ، فمنهم من شك فيها ومن هؤلاء "الأب سبستيان رتزفال" الذي نقلت ترجمته العربية لرواية "زوسيموس" فقد استبعد صدور الوشاية والخيانة من ملكة كانت على جانب عظيم من سمو الأخلاق والثقافة2. ومنهم من اعتقد بصحتها وسلم بها ولام الزباء على صدور مثل هذا العمل الشائن منها، ومن هؤلاء المؤرخ الألماني "مومزن" "Mommsen" الشهير في تأريخ الرومان3.
وغادر "أورليانوس" مدينة حمص إلى "رومة" ومعه "الزباء" وأبناؤها وعدد من الأسرى أراد إلحاقهم بموكب النصر الذي سيقيمه عند دخوله العاصمة ليتفرج عليهم الناس. وفي أثناء عبور "البسفور" غرق عدة من أصحاب "الزباء" في جملتهم "وهبلات" على رواية المؤرخ "زوسيموس"4. وبينما كان القيصر في "تراقية" "Thrazien" إذ جاءته الأخبار تنبئ بثورة أهل تدمر على قائد المدينة "سنداريون" "Sandarion" الذي عينه القيصر حاكمًا على تدمر5، وبظهور ثورة أخرى في مصر بطلها "فيرموس" "Firmus" الثري الشهير. وكان هدف الثورتين واحدًا، هو التحرر من حكم الرومان والحصول على الاستقلال،
__________
1 أخذت ترجمة "زوسيموس" من مجلة المشرق السنة الأولى، الجزء 23، السنة 1898م "ص 1059"، راجع الأصل في:
Zosimus, I, I, C. 56, P.49, 51. Vopiscus: Hist. August., P.219, “Aurel. C. 30”
2 المشرق، الجزء المذكور "ص 1059".
3 Oberdick, S., 113, Georg Finaly: Griechenland Unter Romern, 1861, Leipzig, S., 104. Mommsen The Provinces Of The Roman Empire, Vol., Ii, P.748.
4 Zosimus, I, 58, Zdmg., 1864, S., 748.
5 المشرق، الجزء المذكور "ص 1060".(5/124)
فأنفق "فيرموس" وهو من كبار رجال المال في العالم في ذلك الحين أموالًا كبيرة على الجمعيات الوطنية المناهضة لرومة، وألف جيشًا تمكن به من الاستيلاء على الأسكندرية، وجمع حوله أشياع "الزباء" في مصر، ولقب نفسه بألقاب القياصرة، وأخذ يتفاوض مع التدمريين في توحيد الخطط والعمل بجد في تقويض الانبراطورية الرومانية في الشرق1.
وقرر القيصر الإسراع في العودة إلى الشرق لمعالجة الحالة قبل فوات الوقت، فوصل إلى "تدمر" بسرعة كبيرة أذهلت المدينة الثائرة، فلم تدر ما تصنع. كانت قد قتلت القائد "سنداريون" "سوداريون" "Sandauion"2، وفتكت بالحامية الرومانية، ورفعت راية العصيان في الشرق وتزعمت الحركة الوطنية المعادية للدخلاء وتبنتها، فبأي وجه ستقابل "أورليانوس" القيصر المتغطرس الجبار؟ وماذا سيكون موقفه منها؟ وهي في وضع حرج لا تأمل الحصول على مساعدة لا من الفرس ولا من المصريين. وتداعت المدينة بسرعة حينما مثل أمامها الرومان وسلمت نفسها للقيصر، فسلمها هو غنيمة إلى جنده يفعلون بها ما يشاءون بغير حساب.
عفا القيصر "أنطيوخس" عن أقارب الزباء، وكان التدمريون أقاموه ملكًا عليهم. ولم يعف عن الرعية فتناولتهم سيوف الرعاع من جنود "رومة" وخناجرهم من غير تمييز في العمر أو تفريق في الجنس3. وأباح القيصر لجنوده تهديم أبنية المدينة، فدكت الأسوار وهدمت الأبراج وقوضت الأبنية4، حتى أن القيصر نفسه رق قلبه على من تبقى حيًّا من المدينة، فكتب إلى "Cirronius Bassus قائد المدينة أن يصفح عنهم، وأن يعيد بناء هيكل الشمس على ما كان عليه، وكان جنود "اللجيون" الثالث قد نهبوه وخربوه، وأمر بالإنفاق عليه وبتزيينه وتجميله من الأموال التي استصفيت من خزائن "الزباء" وطلب من مجلس الشيوخ في "رومه" إرسال كاهن ليدشن المعبد5. وأرسل
__________
1 Oberdick, S., 115.
2 "سوداريون": المشرق، الجزء المذكور "ص 1060".
3 Oberdick, S., 116, Gratz: Geschichte Der Juden, Iv, S., 336.
4 المشرق، الجزء المذكور "ص 1060". Vaughan, Pp.208.
5 Vopiscus: Hist. August., P.21. Vaughan, P.209.(5/125)
بعض نفائس الهيكل على عاصمته لتوضع في معبد الشمس الذي أقامه هناك، ومنها أعمدة مصورة1. غير أن ما أفسده الدهر لا يصلحه العطار. ولم يتمكن القيصر من إصلاح ما أفسده الدهر على يديه، فلم يعد المعبد معبدًا كما كان، ولم تعد "تدمر" تدمر الزباء.
وقبل أن يرحل "أوريليانوس" عن أرض تدمر، غزا الفرس. ويظهر أنه غزا قوة كانت قد أرسلت لمساعدة "تدمر"، فأرجعها على أعقابها. ثم عين قائده المحنك "ساترنينوس" "Saturninus" بدرجة "Dux" قائدًا على الحدود لحمايتها من الفرس2، وتوجه إلى مصر للقضاء على ثورة "فيرموس"، فكان الحظ فيها حليفه. احتل الإسكندرية وقبض على التاجر الحاكم الذي لقب نفسه قيصرًا فأمر بمعاقبته بعقاب السراق واللصوص، أي بصلبه على الصليب3. وبذلك أعاد معيد الشرق إلى الرومان الشرق المنفتل منهم مرة أخرى إلى الرومان.
بعد هذه الانتصارات وانتصارات أخرى أحرزها في غالية، عاد إلى عاصمته في سنة "274" للميلاد في موكب قيصري عظيم وصفه المؤرخ "Flavius Vupiscus" وصفًا رائعًا، اشترك فيه "1600" مصارع وعدد غفير من الأسرى من مختلف الأقوام، ومن بينهم الملكة الزباء ومعها أحد أبنائها، وقيل كلاهما، وبعض رعاياها، وثلاثة عجلات ملكية: عجلة "أذينة" زوج الزباء وهي مزينة بالذهب والجواهر، وعجلة أهداها "هرمز بن سابور" إلى القيصر، وعجلة "الزباء" الخاصة التي أعدتها لتدخل فوقها منتصرة عاصمة الرومان. وتقدم الموكب عشرون فيلًا وعدة وحوش وحيوانات جيء بها من فلسطين وليبيا ومصر وأماكن أخرى. سار إلى "الكابيتول" ثم إلى قصر "الانبراطور". واحتفل الشعب في اليوم الثاني احتفالًا خاصًّا كانت فيه ألعاب مختلفة وكان فيه تمثيل وسباق مختلف الأنواع4.
كان هذا الاحتفال نهاية فصل وبداية فصل جديد، قضى على الملكة أن تقبع
__________
1 Zosimus, I, 61, Oberdick, S., 116.
2 Oberdick, S., 118.
3 Flavius Vopiscus, Aur., C. 32, 45, Firmus, C. 2, Hist. August., P.219, Oberdick, S., 118, Gibbon, I, P.268.
4 Oberdick, S., 119, Flavius Vopiscus Aur., C. 33, Hist. August., P.220, Gibbon, I, P.269.(5/126)
منذ نهايته في بيت خصص بها في "تيبور" "Tibur" مع أولادها، وأن تعتزل السياسة والشرق. عاشت في عزلة في هذه البقعة من إيطالية، ولم يتحدث عنها مؤرخو عصر "أورليانوس" شيئًا بعد أن صارت من سواد الناس. ويظهر أن ما ذكره بعض المؤرخين اليونان عن زواج الزباء بعضو من أعضاء مجلس الشيوخ هو أسطورة من الأساطير العديدة التي راجت بعد ذلك عن حياة ملكة الشرق1. وأما أولاد الملكة، فقد ذكرت قريبًا أن بعض المؤرخين أشار إلى غرق "وهبلات" في أثناء عبور القيصر مضيق "البسفور". وأشار آخرون إلى أنه نقل مع أمه إلى "رومة". وأما "تيم الله" "Timnlaus"، فأسكن مع أمه أيضًا في "تيبور". وزعم في رواية أنه مات مع أخيه "خيران" "حيران" "Herennianus" في أثناء الاحتفال بموكب النصر. وزعم أيضًا أنه عاش وصار خطيبًا مصقعًا من خطباء "اللاتين"2. وروي أيضًا أنها زوجت بناتها بأعيان من الرومان. وروى المؤرخ "تربيليوس بوليو" "Trebellius Pollio"، وهو من رجال القرن الرابع للميلاد "حوالي سنة 304م"، أن ذرية الزباء كان في أيامه3. وذكر أن الأسقف الشهير القديس "زنوبيوس" "Zenobius" أسقف مدينة "فلورنسة" ومعاصر القديس "أنبروسيوس" "Ambrosius" كان من نسلها أيضًا4.
ولم تكن تدمر في عهد "ديوقليطيانوس" "ديوكليتيانوس" "Diocletian" "Diocletian" "285-305م" سوى قرية صغيرة وقلعة من قلاع الحدود لحمايتها من هجمات القبائل وغزوها للمدن القريبة من البادية5. ويخبرنا المؤرخ "ملالا" أن "دويقليطيانوس" ابتنى "Castra" فيها، وذلك بعد عقده الصلح مع الفرس6، ورممم بعض أبنيتها. ويرى "الأب سبستيان رتزفال" أنه اضطهد نصارى تدمر كما فعل في سائر الأقاليم7.
__________
1 Oberdick, S., 120.
2 المشرق، الجزء المذكور "ص 1063".
3 Oberdick, S., 120, Trebellius Pollio, 20.
4 المشرق، الجزء المذكور "ص 1062".
Oberdick, S., 120, Eutrop. 9, 13, Hieron, Chron., P.758. Vol., Baronius, Ann., Iii, P.146.
5 المشرق، الجزء المذكور، "ص 1062". Oberdick, S., 116
6 Oberdick, S., 117, Malalas, S., 308.
7 المشرق. الجزء المذكور "ص 1063".(5/127)
وفي حوالي القرن الخامس للميلاد "400م" كانت تدمر مقاطعة تابعة لولاية "فينيقية" وقد عين "تاودوسيوس" "تيودوسيوس" ثيودوسيوس" الثاني "408-450م" فرقة من الجند لحراسة "تدمر"1. والظاهر أن وظيفتها كانت حماية الحدود من هجمات رجال البادية. أما الكتيبة الرومانية التي عسكرت فيها في حوالي سنة "400" بعد الميلاد، فهي "اللجيون الأليري" "Illyrian" الأول2.
وذكر الراهب "إسكندر" "Alexander The Acoemete" المتوفى في حوالي سنة "430" للميلاد أنه في أثناء سفره من الفرات إلى مصر قابله الجنود الرومان المعسكرون في القلاع بكل ترحاب وقدموا له ولمرافقيه كل المساعدات الممكنة، وأنه وجد قلاعًا مقامة على طول حدود الفرس والروم على مسافات تتراوح من عشرة أميال إلى عشرين ميلًا رومانيًّا. وقد قطع الحدود هذه حتى بلغ مدينة "سليمان"، ويقصد بها مدينة تدمر3.
وأمر القيصر "يوسطنيانوس" "جستنيانوس" "Justinianus" "527-565م" في أوائل تبوئه الحكم "527م" "أرمينيوس" "Armenius" بالذهاب إلى "تدمر" لترميم ما تهدم من المباني وإعادة المدينة إلى ما كانت عليه. وأمده بالأموال اللازمة لهذا المشروع4، كما أمر بتقوية حامية المدينة، وأن تكون مقر حاكم "Dux" مقاطعة "فينيقية لبنان" "Phoenice Libanesia" وذلك لحماية الحدود خاصة حدود الأرض المقدسة5، وذكر المؤرخ "بوركوبيوس" "Procopius" أن القيصر المذكور قوى أسوار المدينة وقلاعها وحصنها تحصينًا قويًّا، وحسن موارد
__________
1 المشرق. الجزء المذكور "ص 1063".
Oberdick, S., 117, Wright, P.169, Notitia Dign Orien, P.84, 380, “Ed. Bocking”.
2 Ency. Brita., 17, P.163, Notita Dign., I, 85.
3 Musil: Palmyrena, P.248, De S. Alexandra Fundatore Acoemetorum, Constantinopli, In: Bolland “Acta Sanctorum” P.1025, Edition, E. De Stoop: Vii D’alexandre Acemete, In: Patrologia Orientalis, P.683.
4 المشرق. الجزء المذكور "ص 1063". Oberdick, S., 117.
5 Oberdick, S., 117, Procoptus: De Aedif. Just., Ii, Ii, De Bello Persico, 2, I, P.88, Theophanus, Chro., I, P.267, “Ed. Bonn”, Malalas, P.426, Syria, Vii, 1926, P.77.(5/128)
مياهها، ولا تزال آثار هذا العهد باقية حتى الآن1.
وقد كانت مدينة "تدمر" على الحدود الداخلية "Limes Interior" للانبراطورية في أيام "يوسطينيانوس"2. ويسكن في المناطق التي بين هذه الحدود وبين الحدود الخارجية "Limes Exterior" القبائل المحالفة للرومان. ومن هذه المنطقة تغزو القبائل الحدود3. وقد كان سلطان الروم وقواتهم العسكرية أقوى في الحدود الداخلية منها على الحدود الخارجية التي كان يقوم بالدفاع عنها رجال القبائل الحليفة بالدرجة الأولى بأجور ومخصصات تدفعها الحكومة إلى رؤسائها لضمان حماية تلك الحدود.
وقد كانت القبال العربية قبل الميلاد وبعده تقلق راحة سكان الحدود وتزعج الحاميات الموكول إليها أمر سلامتها، وتكون مصدر خطر دائم للحكومات، وكان من الصعب الاطمئنان إليها، ثم إن البادية كانت تصدر لهما بين حين وآخر بضاعة جديدة منها، وموجة عنيفة تزعج القبائل القديمة والحدود معًا، فكان على تلك الحكومات مداراتها واكتساب ود القوية منها، ويقال إن القيصر "دقيوس" "Decius" "249-251م" سئم في زمانه من هذا الوضع وبرم به، ففكر في إدخال الرعب في نفوس هذه القبائل وقهرها، فجاء بأسود اصطادها من إفريقية في البادية لتتناسل وتتوالد ولتكون مصدر خطر ورعب للأعراب4.
وقد اتخذ بعض ملوك الغساسنة تدمر منزلًا لهم ومحل إقامة. ولم تزل على هذا الشأن حتى فتحها المسلمون سنة "634م"5. غير أنها منذ تركتها الزباء لم ترجع إلى ما كانت عليه. وقد أثر تحول الطرق التجارية في مركز هذه المدينة كثيرًا ولا شك.
وانتهت إلينا أسماء عدد من أساقفة مدينة "تدمر" مدونة في سجلات الأعمال الكنيسة، منهم: الأسقف "مارينوس" "Marinus" وقد حضر المجمع النيقاوي "Nicaa" "Nicaea" الذي انعقد سنة "325" للميلاد6، والأسقف "يوحنا" "357م" وقد ورد اسمه في سجلات أعمال مجمع "خلقيدون" "Chalcedon"
__________
1 المشرق، الجزء المذكور "ص 1036".
2 Musil, Palmyrena, P.248, Theophanes, Chronographia “Migne”, Col: 404.
3 Musil, Palmyrena, P.248.
4 Musil, Palmyrena, P.247, The Chronicon Paschale, “Migne”, Col: 669.
5 المشرق، السنة الأولى، الجزء 23 "1898م"، "ص 1063".
6 المشرق، الجزء المذكور "ص 1063". Oberdick, S., 117.(5/129)
المنعقد عام "451م"1، و"يوحنا" الثاني المشهور في أيام "انستاس" "أنسطاس" "نسطاس" القيصر "491 -581م". وكان نفي في عهد "يوسطينوس" خليفته لدفاعه عن "المجمع الخلقيدوني" ولقوله بطبيعتين في المسيح سنة "518م"2. ويستدل من وجود أساقفة في تدمر على انتشار النصرانية في هذه المدينة.
وفي "تدمر" في الزمن الحاضر ثروة تأريخية مطمورة تحت الأنقاض ستفيدنا ولا شك فائدة كبيرة في تدوين تأريخ المدينة وتأريخ صلاتها بالخارج، لقد عثر فيها على كتابات أفادتنا كثيرًا في تدوين تأريخ المدينة، ولكن ما سيعثر عليه منها مما هو مطمور سيفيدنا أيضًا، وقد يفيدنا أكثر من كتابة تأريخها. وقد قام علماء بالتنقيب في مواضع منها، للكشف عن المواقع المهمة منها، وكتبوا عنها3.
غير أن المدينة لا تزال في انتظار من يكشف عنها.
ووردت في الكتابات التدمرية أسماء أصنام عديدة عبدها التدمريون، بلغ عددها زهاء اثنين وعشرين صنمًا، منها ما هو معروف ومشهور عند العرب، وأسماؤها أسماء عربية. ومنها ما هو إرمي، وعلى رأس آلهة تدمر الإله "شمش" "شمس". وقد اتصفت دياناتهم بمزايا النظام الشمسي الذي تركزت عليه ديانة عرب الشمال. ومن هذه الأصنام "بل"، أي "بعل"، و"يرح بل" "يرح بول" "يرح بعل"، و"عجل بل" "عجل بول" و"عجل بعل"، و"الت" أي "اللآت"، و"رحم" "رحيم"، "اشتر" أي "عشتار"، و" عثتر" عند العرب الجنوبيين4، و"ملك بل" "ملك بعل"5، و"عزيزو" "عزيز"
__________
1 Oberdick, S., 117.
2 المشرق، الجزء المذكور "ص 1036".
3 Syria, Tome, Vii, 1926, Pp.70, “Recherches Archeologiques A Palmyre”, By Albert Gabriel, Pp.128. Syria, Tome, Xi, 1930, Pp.242, Tome, Xvii, 1936, Pp.229 Bounni A. Les Annales Archeologues De Syrie, Vol., 15, 1955.
4 Ency. Brita., 17, P.163, Syria, Tome, Ix, 1928, Pp.101, Tome, Xiii, 1932, Pp.139, Tome Xiv. 1933. Pp.171, J. Fevrier, La Religion Des Palmyreniens, Pp.57.
5 Syria, Xiv, 1933, P.169.(5/130)
و"سعد"، و"اب جل"، و"اشر"1، و"بل شمن" "بل شمين" "بعل شمين"، أي "بعل السماوات" "رب السماوات"2، و"جد" "جد بعل"، وغيرها.
وعثر في تدمر على مقابر عديدة خارج أسوار المدينة على التلال المشرفة عليها تذكر الأحياء عباد المال بالمصير المحتوم الذي سيواجه كل حي غني أو فقير أو متوسط، تضم رفات من تستقبلهم ثم لا تسمح لهم بالانتقال منها إلى دار أخرى، أنها دور الأبدية والاستقرار، وقد أجاد أهل المدينة كل الإجادة بإطلاقهم "بيت الأبدية" على القبر3. ضمت بيوت الأبدية هذه رفات الآباء والأبناء إلى الأبد: بعضها على هيأة أبراج ذوات غرب تودع فيها الموتى، وبعضها على هيأة بيوت ذوات غرفة واحدة مزينة بالنقوش وأنواع الزخرفة كتبت على جوانبها أسماء ساكنيها في الأبدية ورسمت صورهم عليها4. هذه هي مدينة الأموات تشرف على مدينة الأحياء وتضحك منها.
__________
1 Syria, Xv, 1934, Pp.173, Tome Xviii, 1937, P.9, Xviii, 1937, 198, Baethgen, Beitrage Zur Semitishen Religionglschichte, S., 84.
2 Syria, Xviii, 1937, P.5, Rep. Epig., 30, Tome, I, I, P.28.
3 Ency. Brita., 17, P.162, Syria, Xxvi, 1949, Pp.87, “La Tour Funeraire De Palmyre”, By Ernest Will, Wood, The Ruins Of Palmyra, Pl. 56.
4 Ency. Brita., 17, P.162.(5/131)
حصن "زنوبية":
لم تفكر "الزباء"، على ما يظهر، في نقل عاصمتها إلى موضع آخر، وقد علمت على تقوية "تدمر" وتحصينها وتجميلها، ومعظم الآثار الباقية فيها هي من أيامها. ولو أن كثيرًا من الأبنية التي كانت فيها قبل أيام الملكة قد صيرت باسمها، غير أنها عنيت عناية فائقة بتحسين عاصمتها ولا شك. وابتنت مدينة على نهر الفرات لحماية حدودها من الشرق عرفت بـ "زنوبية" وهو اسمها باليونانية. ويظهر أن هذه المدينة هي التي أشار إليها "الطبري" بقوله: "وكانت للزباء أخت يقال لها زبيبة، فبنت لها قصرًا حصينًا على شاطئ الفرات الغربي"1،
__________
1 الطبري "2/ 32".(5/131)
فجعل المدينة قصرًا، وصير اسم المدينة وهو "زنوبية" "زبيبة" وجعله اسم أخت للزباء. وذكر "المسعودي" أن مدائن الزباء على شاطئ الفرات من الجانب الشرقي والغربي، "وكانت فيما ذكر قد سقفت الفرات وجعلت من فوقه أبنية رومية، وجعلته أنقابًا بين مدائنها"1. وذكر أيضًا أنها حفرت سربًا من تحت سريرها وبنته حتى خرج من تحت الفرات إلى سرير أختها2. وقد أشير إلى هذا النفق في قصة مقتلها. وذكر "ابن الكلبي" أن أبا الزباء اتخذ النفق لها ولأختها، وكان الحصن لأختها داخل المدينة3.
وذكر "البكري" أن المدينة التي بنتها الزباء على شاطئ الفرات هي "الخانوقة"، وزعم أن "الزباء" "عمدت إلى الفرات عند قلة مائه فسكر، ثم بنت في بطنه ازجًا جعلت فيه نفقًا إلى البرية وأجرت عليه الماء، فكانت إذا خافت عدوًّا دخلت إلى النفق وخرجت إلى مدينة أختها الزبيبة"4. وسمى "ياقوت الحموي" تلك المدينة "الزباء"، قال: إنها "سميت بالزباء صاحبة جذيمة الأبرش"5. ودعاها في موضع آخر "عزان"6 وقال: إن في مقابلها على الضفة الثانية من الفرات مدينة تدعى "عدان"، وهي لأخت الزباء7.
ويظهر أن هرب "الزباء سرًّا من نفق سري، يمر من داخل المدينة من معبدها أو من قصر الملكة ومن تحت السور إلى الخارج، هو الذي أوحى إلى أهل الأخبار قصة ذلك النفق الطويل الذي زعموا أن الملكة بنته تحت الأرض من قصرها إلى نهر الفرات، حيث مدينتها الثانية، وهو نفق يجب أن يكون طوله مئات الأميال. وقد عثر على بقايا سراديب وقنوات. تحت أسوار تدمر وقلاعها تشير إلى وجود أنفاق للهرب منها عند الاضطرار8، ولكنها لا يمكن أن تكون على شاكلة نفق أهل الأخبار بالطبع.
__________
1 مروج "2/ 19".
2 مروج "2/ 21".
3 "الطبري "2/ 34" "طبعة المطبعة الحسينية".
4 البكري، معجم "1/ 320"، "طبعة وستنفلد".
5 البلدان "4/ 372".
6 البلدان "6/ 126".
7 البلدان "6/ 126".
8 المشرق، الجزء المذكور "ص 1058".
Oberdick, S., Iii, Ritter, Erdkunde, Xvii, 2, S., 1521.(5/132)
ولا يستبعد احتمال وجود نفق في حصن "زنوبية" على الفرات أيضًا، ساعد وجوده في تثبيت هذه القصة في رواية الأخباريين.
ويرى "هرتسفلد" "E.Herzfeld" أن هذه المدينة هي الموضع الذي يعرف اليوم باسم "الحلبية"، ويقابله في الضفة الثانية من النهر موضع آخر يسمى "الزليبية". وهو يعارض رأي من يدعي أن "الزليبية" هي المدينة التي بنتها الزباء. وينسب بناء موضع "حلبية" "الحلبية" إلى "الزباء" كذلك1. ويرى بعض الباحثين احتمال كون "الحلبية" القصر الثاني الذي نسب بناؤه إلى الزباء، وذكر في الروايات العربية. وذهب بعض آخر إلى أن "زنوبية" هي "مدينة "السبخة" الحالية2.
ويرى "موسل" أن "الحلبية" هي "دور كرباتي" "Dur Karpati" "Nibarti Aschur" التي بنيت بأمر "آشور نصربال الثالث" "Asurnazirpal" عام "877" قبل الميلاد، وأنها عرفت بـ "زنوبية" ثم "الزباء" فيما بعد3.
ويعزو "سبستيان رتزفال" سبب بناء مدينة "زنوبية" إلى عزم الملكة على إذلال مدينة "فولوغيسية" "Vologasia" "Vologesias" المعروفة في الكتابات التدمرية باسم "أجليسيا" "Ologesia" "ألجاشيا"، وهي في نظر بعض الباحثين "الكفل" على نهر الفرات في لواء الحلة بالعراق، بناها "فلوجاس" "فوكاس" من ملوك "الأرشكيين" "بنو أرشك" حوالي سنة "60" للميلاد. وذلك لاستجلاب التجارات الواردة عن طريق نهر الفرات من أقاصي الهند والشأم وآسية الصغرى4. فرأت "الزباء" منافسة هذه المدينة ببناء مدينة جديدة تقع في منطقة نفوذها على نهر الفرات.
__________
1 المشرق، السنة الأولى، الجزء الـ20، السنة 1898م، "ص 920".
Friedrich Sarre Und Ernst Herzfeid. Archaologische Reise Im Euphart Und Tigris-Gebiet, Berlin. 1911, I, S., 167, Ii, 365.
2 المشرق، السنة الأولى، السنة 1898م، "ص 495، 920".
Sarre – Herzfeid, Archaologische, I, S., 164.
3 Musil. Euphrates. P.331, Rawlinson, Cuneiform Inscriptions. “1861-1884”, Vol., I, Pl. 24. Col., 3. Ii. 49, Budge And King. Annals, 1902, Pp.360.
4 المشرق، السنة الأولى، السنة 1898م، "ص 495، 920"، سماها "الأب رتزفال" "الكفيل"،
Rostovtzeff. Melange Gloz, 749, Seyrig. Syria, XIII, 1932, P.272.(5/133)
وكانت قوافل "تدمر" تتاجر مع هذه المدينة العراقية "ألجاشيا"، تحمل إليها بضائع الشأم وسواحل البحر المتوسط، وتنقل منها إلى "تدمر" بضائع الهند وإيران والخليج والعراق. يقود هذه القوافل زعماء شجعان خبروا الطرق وعرفوها معرفة جيدة، ولهم في المدينة مقام محترم. وطالما عمل لهم رجال القافلة والمساهمون في أموالها، التماثيل، تقديرًا لهم وتخليدًا لأسمائهم وكتبوا شكرهم لهم على الحجارة، ولدينا نماذج عديدة منها، من ذلك كتابة دونها رجال قافلة لزعيمهم وقائدهم "يوليوس أورليوس زبيد بن مقيمو بن زبيدا عشتور بيدا"؛ لأنه أحسن إليهم حين قاد قافلتهم وأوصلها سالمة إلى "الجاشيا" في العراق. وكتابة أخرى دونها جماعة قافلة تولى قيادتها زعيم اسمه "نسي بن حالا" لمناسبة توفيقه في حمايتهم وحماية أموالهم في أثناء ذهابهم وعودتهم إلى "الفرات" وإلى "ألجيسيا" "Ologesia" وقد صنعوا لذلك تمثالًا له في شهر "نيسان" من سنة "142" للميلاد تخليدًا لاسمه1.
وقد استولى "خسرو" الأول في حوالي سنة "540" بعد الميلاد على "زنوبية" فدمرها. فلما استرجعها "يوسطنيانوس" "جستنيانوس" "Justinianus" "527-565 م"، أعاد بناء ما تهدم منها. وقد عثر على بقايا المباني التي تعود إلى أيامه، وبعضها من عمل معماريه "يوحنا البيزنطي" و"أزيدوروس الملطي" "Isidoros Miletus" حفيد البناء البيزنطي الشهير "أيا صوفيا" "Hagia Sophia" كلفهما القيصر إنشاء تلك العمارات2. غير أن إصلاحات هذا القيصر لم تضف إلى حياة المدينة عمرًا طويلًا، لقد كانت نوعًا من أنواع الحقن المقوية تقوم الجسم إلى حين ولكنها لا تمنحه الأبدية. ففي سنة "610" للميلاد. وفي أيام القيصر "فوقاس" "Phokas" هاجمها "خسرو" الثاني وأنزل فيها الخراب والدمار3. فقد عبر "شهربراز" "Shahrvaraz" نهر الفرات في اليوم السادس من شهر "أغسطس" من عام "610" للميلاد، واستولى على مدينة "زنوبية" "Zenobia"4. وأخذ نجمها منذ ذلك الحين في الأفول، فلم يسمع
__________
1 Rep. Epig., I, Vi, P.342.
2 Sarre-Herzfeld, Archaologische Reise, I, S., 167, Ii, S., 365.
3 المصدر نفسه، Land, Anecdota Syriaca, I, 16.
4 Musil, Euphrates, P.332.(5/134)
عنها شيء، حتى إنها لم تذكر في أخبار الفتوح، ويدل هذا على أنها لم تكن شيئًا يذكر في ذلك الحين1.
ويحدثنا المؤرخ "بروكوبيوس" أن الأيام أثرت في مدينة "زنوبية" "Zenobia" مدينة "الزباء"، فأنزلت فيها الخراب، وتركها أهلها، فانتهز الفرس هذه الفرصة ودخلوها وتمكنوا بذلك من الولوج في الأرضين الخاضعة للروم دون أن يشعر الروم بذلك، ولذلك أعاد "يوسطنيانوس" بناء هذه المدينة وأحكم حصونها وجدد قلاعها وأنزل الناس فيها، وأسكن فيها حامية قوية جعلها تحت إمرة قائد، وأقام لها سدودًا من الحجارة لحمايتها من فيضان الفرات، وقد كانت مياه الفيضان تصل إليها فتلحق بها أضرارًا جسيمة2.
وذكر المؤرخ "بروكوبيوس" أن الفرس والروم ابتنوا قلاعًا بنيت جدرانها باللبن لحماية كورة "قوماجين "Commagene" وهي الكورة التي كانت تعرف قبلًا باسم "كورة الفرات" "Euphratesia"، وحماية حدود الانبراطورية الفارسية الواسعة المشرفة على البادية من الغزو أيضًا. ومن جملة هذه الحصون ثلاثة حصون أمر القيصر "ديوقلطيانوس" "ديوقليتيانوس" "Diocletianus" ببنائها، منها حصن "Mabri" "Mambri" الذي أصلحه القيصر "يوسطنيانوس" "جستنيانوس "Justinianus" ورممه. ويقع على مسافة خمسة أميال رومية من "زنوبية" Zenobia". و" Mambri"، هو خرائب "شيخ مبارك" على مسافة سبعة كيلومترات من "الحلبية"3.
ولم يبق من آثار عهد "تدمر" في "الحلبية" إلا مقابر خارج أسوار المدينة. وهي على هيأة أبراج تتألف من طابقين أو ثلاثة طوابق وأهرام بنيت على الطريقة التدمرية في بناء القبور، غير أنها دونها كثيرًا في الصنعة وفي الفن، وتشاهد بقايا قبور مشابهة لهذه القبور في المدن الواقعة في منطقة الفرات الأوسط. أي المنطقة التي خضعت لنفوذ حكومة "تدمر"4.
__________
1 Land, Anecdota Syriaca, I, 16, Sarre-Herzfeld, Arch., I, S., 167, Ii, S., 365.
2 Procopius, De Bello Persico, Ii, 5. 4-7, Musil, Euphrates, P.332.
3 Musil, Euphrates, P.332. Procopius, De Aedificus, Ii, 8, 4-8.
4 Sarre-Herzfeld. Arch., Ii. S., 367.(5/135)
ويلاحظ انتشار هذا النوع من القبور في المناطق التي سكنها العرب في أطراف الشأم والعراق في العهد البيزنطي، خاصة في "تدمر" وفي "حمص" و"الرها" "Edassa" وفي "الحضر" كذلك1. بل وفي "بطرا" أيضًا حيث نجد شبهًا كبيرًا في أشكال القبور المنحوتة من الصخر على هيأة أبراج ذوات رؤوس تشبه الهرم في بعض الأحيان، ولانتشار هذا النوع من القبور في مناطق سكنتها أغلبية من العرب المتحضرين، نستطيع أن نقول إنها نمط خاص من أنماط بناء القبور كان خاصًّا بالعرب المتحضرين2.
وذكر "بطلميوس" أسماء عدد من المواضع جعلها في عداد أماكن "كورة تدمر" "Palmyrena"3 وهي: "Resapha" و"Cholle" و"Oriza" و"Putea" و"Adaba" و"Palmyr" و"Adacha" و"Danaba" و"Goaria" و"Aueria" و"Casama" و"Admana" و"Atera" و"Alalis" و"Sura" و"Alamatha"، وتقع هذه المواضع الثلاثة الأخيرة على نهر الفرات4.
أما "Palmyra"، فهي "تدمر" العاصمة، وأما "Resapha"، فهي "الرصافة" وهي مدينة قديمة ورد خبرها في النصوص المسمارية فدعيت فيها بـ "Ra-Sap-Pa" ومن ذلك نص يعود إلى سنة "840" قبل الميلاد، وقد اشتهرت بوجود ضريح القديس "سرجيوس" "St.Sergius" بها، المقدس عند الغساسنة5.
وأما "Cholle"، فهي "الخولة" "الخلة"، وأما "Oriza"، فهي "الطيبة"، وتقع هذه المواضع على السكة الرومانية الممتدة من الفرات إلى "تدمر"6.
ويرى "موسل" أن "Putea"، هو "Beriarac"، وهو موضع "بيار جحار"، ويقع على السكة الرومانية المارة من "تدمر" إلى موضع "Occaraba"7.
__________
1 Sarre-Herzfeld, Arch., Ii, S., 367, W. Andrae, Hatra, Ii, S., 76-106.
2 Sarre-Herzfeld, Arch., Ii, S., 367, Eissfeldt, Tempel Und Kulte Syrischer Stadte In Hellinistisch-Romischer Zeit, 1941.
3 Ptolemy, Geography, V, 14: 19
4 Musil, Palmyena, P.233.
5 Winckler, Keilinschriftliches Textbuch, 1909, S., 75, Musil, Palmyrena, P.262.
6 Musil, Palmyrena. P.233
7 Musil, Palmyrena. P.233(5/136)
أما المستشرقان "ميلر" "Muller"1 و"موريتس" "Moritz"2، فقد ذهبا إلى أنه "أبو الفوارس" الوقاع على مسافة سبعة كيلومترات في غرب جنوب غربي تدمر. وذهب "موريتس" أيضًا إلى احتمال كونه "القطار"، وهو على مسافة خمسة وعشرين كيلومترًا إلى الشمال الشرقي من "تدمر"3.
أما موضع "Adaba"، فكان حصنًا رومانيًّا كذلك، يعرف في الزمن الحاضر بـ "الحير"، ويقع على أربعة عشر كيلومترًا إلى الجنوب الشرقي من "الطيبة" "Oriza"، وعند الحافات الغربية لمرتفع "Adidi"، وهو اسم قريب من ""Adaba"4 وقد ذهب "ميلر" إلى أنه الموضع المسمى بـ "خربة العاشجة" "خربة العاشقة" الواقع على الحافات الشمالية لهضبة تدمر5.
ويرى "موسل" أن في كلمة ""Adacha" بعض التحريف، وأن الأصل الصحيح هو "Archa" و"Harac"، وهو "أرك" "رك" الواقع على طريق تدمر وفي الشمال الشرقي من المدينة6.
وأما "Danaba"، فيقع على طريق "دمشق" "تدمر"، وهو موضع خرائب "البصيري" على رأي "موسل"7.
وأشار المؤرخ "اصطيفانوس البيزنطي" إلى ""Goaria" كذلك، ذكرها على هذا الشكل "Goaria"8. ويظهر أن هذه المدينة كان لها شأن في تلك الأيام، وإذ أطلق اسمها على منطقة واسعة دعيت باسم "Goarene"، ويظن أنها "البخراء" وهي في زمننا خرائب تعق على ستة وعشرين كيلومترًا إلى الجنوب من "تدمر". وقد عرفت بـ "Goaria" عند بني إرم "الآراميين"9. وذهب "ميلر" و"بينتزنكر" "Benzinger" إلى أن "Goaria" هو الموضع المسمى بـ "Cehere"
__________
1 Muller, Ptolemy. Geography. P.983.
2 Moritz, Palmyrena “1889”, S., 8.
3 Musil, Palmyrena. P.233.
4 Musil, Palmyrena. P.233.
5 Muller, Ptolemy, Geography, P.984.
6 Musil Palmyrena, P.234.
7 Musil Palmyrena, P.234.
8 Stephen Of Byzantium. Ethnica, P.210.
9 Musil, Palmyrena, P.234.(5/137)
على الخارطة الرومانية لأيام الانبراطورية1. وهو رأي يعارضه "موسل"، ويرى أن "Cehere" هو المكان المسمى بـ "خان عتيبة" الواقع على مسافة تزيد على مئة كيلومتر في جنوب غرب "البخراء"2.
ويظهر أن "Aueria" "Aueria" "Aberia"، هو موضع "Eumari" "Euhara" "Euarirs" في مؤلفات أخرى، وهو موضع "الحوارين"3.
وأما "Casama"، فهو على طريق دمشق المؤدي إلى تدمر، وهو خرائب خان "المنقورة" على رأي "موسل"4. وأما "Admana" "Odmana" "Ogmana"، فهو موضع "Ad-Amana" في الخارطات الرومانية للانبراطورية على ما يظهر، وهو موضع "خان التراب" على رأي "موسل" كذلك5.
وأما "Atera"، فالظاهر أنه موضع "Adarin" على الخارطة الرومانية، وهو موضع "خان الشامات" "أبو الشامات" "خان أبو الشامات" على رأي "موسل". أما "ميلر" فيرى أنه موضع "دير عطية"6، وهو رأي لا يقره "موسل" عليه7.
وموضع "Sura" هو "سورية" على رأي "موسل". وأما "Alalis" فيقع في غرب "Sura" عند "بطلميوس". ويظن "موسل" أنه يقع بين موضعي "Sura" و"Alamatha" في مقابل "طابوس"8.
عانة:
ذكرت أن التدمريين كانوا قد وضعوا حاميات لهم في مدينة "Alalis"، أي "عانة"9، وهي لا تزال موضعًا معروفًا حيًّا على نهر الفرات في العراق.
__________
1 Muller. Ptolemy. Geography. P.984, Muller, Palmyrena, S., 22, Paulywisowa, Real-Lex., Bd., 7, 1547, Peutingeriana Tabua Itineraria, Wien, 1888.
2 Musil, Palmyrena, P.234.
3 Musil, Palmyrena, P.235.
4 Musil, Palmyrena, P.235.
5 Musil, Palmyrena, P.235.
6 Muller, Palmyrena, Geography, P.985.
7 Musil, Palmyrena, P.235.
8 Musil, Palmyrena, P.235.
9 Syria, Xiv, 1933, Pp.179, Musil, Palmyrena, P.234.(5/138)
وعرفت "عانة" بـ "Anat" و" An-At" و" A-Na-At" و" A-Na-Ti "في الكتابات المسمارية. وعرف موضعها بـ "خـ - نا" "H-Na" و"خا – نا – ت" "" Ha-Na-At" في النصوص البابلية القديمة، وقد تكونت مملكة صغيرة بهذا الاسم امتدت رقعتها على الخابور، وعرفت المدينة بـ "Anatha" في مؤلفات "الكلاسيكيين"1.
ويشك المسشرق "أدور ماير" "Eduard Meyer" في وجود صلة بين اسم الإله "Ana-Tu" "Anat"، واسم مدينة "An-At"، أي "عانة"2.
ومركز "عانة" الجزر الواقعة في النهر، وهي خصيبة، وفي مأمن من غارات الأعراب. وقد تمكن أصحابها بفضل موقعهم هذا من التحكم في القبائل المجاورة لها ومن أخذ الجزية منها. ولهذا السبب استعمل الآشوريون في الغالب رجالًا من أهلها لحكم منطقة "سوخي" "Suhi". وفيها كان يقيم "ايلو ابني" "Ilu-Ibni" حاكم "سوخي" "الذي دفع الجزية إلى الملك "توكلتي أنورتا الثاني" "Tukulti Enurta" "889-884" قبل الميلاد3.
وقد ذكر اسم "عانة" و"الحيرة" في الكتابة المرقمة برقم "Littmann 6"4. ويرجع تأريخها إلى شهر أيلول من سنة "443" من التأريخ السلوقي، أي شهر "سبتمبر" من سنة "132" للميلاد، وورد فيها اسم الإله "شيع القوم" حامي القوافل والتجارات. ويظهر أن المراد بـ "حيرتا" الحيرة الشهيرة في العراق5. فإذا كان ذلك صحيحًا، دل على أن نفوذ تدمر قد بلغ هذا المكان، وأن للقصص الذي يرويه الأخباريون عن ملوك الحيرة والزباء أصلًا تطور على مرور الأيام.
__________
1 Sarre-Herzfeld, Arch., Ii, S., 313, Ency., I, P.344-345, G. Bell, In Georgr. Journ., Xxxvi, P.535, Zdmg., Ixi, 701, Pauly-Wissowa, Real-Lexi., I, S., 2069, I, Ii, S., 104.
2 Eduard Meyer, In Zdmg., 31, 1877, S., 716.
3 Musil, Euphrates, P.345 Sheil, Annales, PL. 3, 1909, Ii, 69-73.
4 CIS, II, III, I, P. 156, 3973, Lidzbarski, Ephemeris Fur Semi Epigr, I, S. 345-346, REP. EPGR. 285, G. A. Cooke, NSI NO: 140, Littmann, In Part IV, Of The Puplications Of An American Archaelogical Expedition To Syria In 1899-1999, Palmyrene Inscriptions NO: 6, P. 70, Syria Tome IV, 1923, P. 156, Hartwig Derenbourg Un Dieu Nabateen, 1902, PP. 124, REP EPIG. 285, I, IV, PP. 230.
5 CIS, II, III, I, P. 157.
والموارد المتقدمة، تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 81".(5/139)
فتكونت منه قصة "جذيمة" والزباء".
وصاحب هذه الكتابة رجل اسمه "عبيدو بن غانمو بن سعدلات"، من قبيلة "روحو" أي "روح"، وكان فارسًا في حامية مدينة "عنا" وهي "عانة". وقد دون كتابته هذه بمناسبة تقديمه مذبحين إلى الإله "شيع القوم" الذي لا يشرب خمرًا، وهو حامي القوافل. ويلاحظ أن أكثر الكتابات تذكر جملة "الذي لا يشرب خمرًا" بعد اسم هذا الإله. وهي تعني أن هذا الإله كان يشرب الخمر ولا يحبها، فعلى أتباعه تجنبها. ويظهر أن طائفة من الناس حرمت عليها الخمرة، ودعت إلى مقاطعتها، واتخذت "شيع القوم" حاميًا لها. وهي على نقيض عباد الإله "دسره" "دشرة" "Dussares" أي "ذو الشرى" الذين كانوا يتقربون على إلههم هذا بشرب الخمر1.
ولا نعرف متى استولى الرومان عليها. ولم يرد ذكرها في قائمة "ماريوس مكسيموس "Marius Meximus" التي عثر عليها في "Dura" والتي يعود تأريخها إلى سنة "211" للميلاد في ضمن المخافر الرومانية التي كانت في المناطق الوسطى لنهر الفرات. ويظهر منها أن "عانة" "Anath" كانت في ذلك الوقت في أيدي "الفرث" "Parthians"، وأن الرومان دخلوها بعد ذلك. قد يكون في أثناء حملة "اسكندر سويرس" "Alexander Severus" كما ذهب "روستوفستزف" "Michael Rostovtzeff" إلى ذلك، أو في أيدي "غورديانوس" "Gordianus" كما ذهب "أولمستيد" "A.T.Olmstad" إلى ذلك2.
وقد ذكر "عانة" "Anatha" المؤرخ "أريان" في أثناء حديثه عن أسطول "تراجان" الذي مر بها. وورد اسمها "Anath" في خبر "معين" "Ma'ajn" أحد قواد الملك "سابور الثاني" "309-379م"، وكان قد اعتنق النصرانية وبنى جملة ديارات، ونصب القس على "سنجار "شجار" "Schiggar"، ثم لم يكتف بذلك، فذهب إلى "عانة"، فبنى على شاطئ الفرات وعلى مسافة ميلين منها ديرًا استقر فيه سبع سنوات3.
__________
1 CIS. II, 182, Lidzbarski, Ephemeris, I, III, 1902, S. 345, REP. EPIG. I, IV, P. 232, Syria, Tom, IV, 1923, P. 156.
2 Berytus, VIII, Fasc, I, 1943, P. 25.
3 Musil, Palyrena, P. 345.(5/140)
وفي سنة "363" للميلاد حاصرها الروم، وألحقوا بها أضرارًا كبيرةً. وأجلوا السكان عنها. ولما أرسل "فاراموس" "Varamus" "Varaious" في عام "591" للميلاد قوة على "عانة" لمناوشة "كسرى" "Chosroes" وصده عن الرجوع إلى فارس، قتل الجنود قائدهم، وانضموا إلى "كسرى". وفي القرن السابع للميلاد، كان مقر أسقف قبيلة "الثعلبية" في هذه المدينة1.
__________
1 Ammianus Marceliianus, Rerum Gastarum, XXIV, I, 6-9 Musil. Euqhrates. P. 346.(5/141)
الفصل السادس والثلاثون: الصفويون
وإلى هذا العهد تجب إضافة قوم من العرب أطلق المستشرقون عليهم لفظة "الصفويين"، نسبة إلى أرض "الصفاة"1. وهم أعراب ورعاة كانوا يتنقلون من مكان إلى آخر طلبًا للماء والكلأ. وقد دونوا خواطرهم أحيانًا على الأحجار، وتركوها في مواضعها، ومنها استطعنا الإلمام بعض الشيء بأحوالهم وأخبارهم. وقوم تنتشر الكتابة بينهم على هذا النحو، لا يمكن أن نتصورهم أعرابًا على النحو المفهوم من الأعرابية، بل لا بد أن نتصور أنهم كانوا على شيء من الثقافة والإدراك.
وإذا سألتني علن سبب اختيار المستشرقين لهذه التسمية وإطلاقها على أصحاب هذه الكتابات، فإني أقول لك: إنهم أخذوها من اسم أرض بركانية عرفت بالصفا وبالصفاة، تغطي قشرتها الخارجية حتى اليوم صخور سود تقول لك أنها خرجت إلى هذا المكان من باطن الأرض، وأن براكين ثائرة مزمجرة غاضبة كانت قد قذفت بها إلى ظهر الأرض فاستقرت في أمكنتها هذه، ومن يدري؟ فلعلها أصابت أقوامًا كانت تعيش في هذه المواضع أو مارة بها فأهلكتها. وهي تسمية
__________
1 E. Littmann, Thamud Und Safa, In Abhandlung Fur Die Kunde Des Morgenianbses, 1940, 25, I, M. Hofner, Die Befuinen In Denvorisamischen Arabischen Inschrriften In L'antica Societa Beduina Studi Semitici 2, 195(5/142)
قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام. بدليل أنها وردت في نص يوناني على هذه الصورة: "Safathene"1. وورود اسم إله عرف بـ "زيوس الصفوي" "Zeus Safathenos"، أي نسبة إلى هذه الأرض2.
أما "الصفوية"، فتسمية ليست بتسمية عربية قديمة، وليست علمًا على قوم معينين أو على قبيلة معينة، وإنما هي تسمية حديثة أطلقها المستشرقون على قبائل عديدة كانت تنتقل من مكان إلى مكان طلبًا للماء وللكلأ، لرعي ماشيتها التي تكون ثروتها ورأس مالها، تراها يومًا في أرض النبط، ويومًا آخر في بلاد الشأم حيث كان الومان ثم البيزنطيون يسيطرون. فنحن في هذا الموضع لسنا أمام مملكة أو حكومة مدينة، بل أمام قبائل عديدة حرفتها الرعي والغزو وكفى.
ومن نسميهم بالصفويين إذن ليسوا بقبيلة واحدة ولا بجنس معين، وإنما هم قبائل متنقلة، كانت تنتقل في هذه الأرضين الواسعة، في أزمنة مختلفة متباينة. ويعود الفضل إلى الكتابات التي عثر الباحثون عليها في إعطائنا فكرة عن تلك القبائل المتنقلة، وفي حصولنا على أسماء بعض تلك القبائل التي كان ينتسب إليها أصحاب تلك الكتابات.
وقد جمعت الكتابات الصفوية من أرضين واسعة، تمتد من "حماه" في سورية إلى نهر الفرات في العراق في الشرق، وإلى فلسطين والمملكة الأردنية الهاشمية فأعالي الحجاز، وكلها كتابات شخصية في موضوعات متعددة، ليس بينها وثائق تتعرض للمسائل العامة مثل القوانين والحروب بين الدول بتفصيل وتبسط، ذلك؛ لأن الكتابات الصفوية هي كما قلت كتابات أفراد كتبوها تعبيرًا عن أمور شخصية لا غير، ومثل هذه الكتابات لا تتعرض لما يبحث عنه المؤرخ إلا بقدر، وهو قدر لا يقدم في الغالب اللمؤرخ ما يبحث عنه، ولهذا انحصرت فوائدها في مسائل
__________
1 العرب في سوريا قبل الإسلام "ص 27".
2 العرب في سوريا قبل الإسلام "ص 162".
G. Ryckmans, Inscriptions Safaitiques. Extrait Du Museon, Tome, 1-2, Louvain. 1951, Handbuch. S. 46 Dirlef Nieisen. Uber Die Nordarabischen Gotter In Mittei Der Vorderas Gesellsch, Bd 21, 1916, E. Littmann, Safaitic Inscriptions, Leden, 1943, Annual Deprtment Of Antiquities Of Jordan, Vol, I, 1951, P. 17.
وكذلك الأعداد التالية لهذه المجلة التي تصدرها مديرية الآثار في المملكة الأردنية الهاشمية.(5/143)
أخرى، في مثل الدراسات اللغوية والدينية وتطور الخطوط ودراسة أسماء الأشخاص والقبائل وما شاكل ذلك.
وانتشار هذه الكتابات وتناثرها في أرضين صحراوية، أمر يلفت النظر ويدعو إلى العجب من أمر الأعراب في ذلك العهد الذين كانوا يقرأون ويكتبون مع أنهم أبناء بادية، وقد عاشوا قبل الإسلام بزمان طويل، ثم إن خطها يلفت إليه النظر أيضًا، فهو خط عربي، ولد من الأم التي نسلت الخط العربي الجنوبي، وهو قريب من الخط الثمودي والخط اللحياني، ويعني هذا أن العرب كانوا يكتبون قبل الميلاد بخط أود أن أسميه بالقلم العربي الأول، أو القلم العربي القديم منه تفرعت الأقلام العربية المتنوعة فيما بعد، فوجد ما نسميه بالقلم المسند وبالأقلام العربية الشمالية، وذلك لظروف كثيرة لا مجال للكلام عليها في هذا المكان، وهو يدل على أن الصفويين وأمثالهم من الأعراب لم يتأثروا بالثقافة الإرمية مع قربهم منها واتصالهم بها، وطغيانها على الثقافات الأخرى في العراق وفي بلاد الشام، فبقوا مخلصين لقلمهم القديم، فكتبوا به، ولم يستعملوا قلم بني إرم كما فعل "أهل المدر" المقيمين في مدن العراق والشأم وقراهما. وكتبوا بلهجاتهم أيضًا ولم يكتبوا بلغة بني إرم كما فعل غيرهم من العرب الحضر.
وقد رأى "دوسو" "Dussaud" أن الصفويين كانوا يحاكون الجنود الرومان واليونان في تسجيلهم خواطرهم وذكرياتهم على الحجارة، فقد وجد الباحثون أحجارًا دون عليها أولئك الجنود في أثناء أدائهم واجباتهم العسكرية في بلاد الشأم وعلى الطريق الرومانية ذكرياتهم وخواطرهم ونزولهم في تلك الأمكنة. ولكن وجود كتابات صفوية عديدة من القرن الأول قبل الميلاد يثبت أن الصفويين كانوا يدونون خواطرهم بهذا الأسلوب، وذلك قبل شروع أولئك الجنود الرومان واليونان في تدوين خواطرهم على هذا الأسلوب، وأنهم كانوا يدونون خواطرهم هذه على الأحجار وبهذا الشكل؛ لأن هذه الحجارة كانت هي ورق كتابة أهل البادية، فكتبوا عليها كما يكتب أهل الحضر على الرق والخشب والورق وغيرها من وسائل الكتابة1.
ويرجع علماء الصفويات عمر أقدم الكتابات الصفوية إلى القرن الأول قبل الميلاد.
__________
1 Winnett, P. I.(5/144)
أما آخر ما عثر عليه من كتابات، فيرجع إلى القرن الثالث بعد الميلاد، على رأيهم أيضًا1. فما عثر عليه من الكتابات الصفوية، هو من عهد تبلغ مدته زهاء أربعة قرون.
وقد أرخت بعض هذه الكتابات بحوادث محلية عرفت عند أصحابها، إلا أنها مجهولة لدينا، لذلك لم نستطع الاستفادة منها في تكوين رأي في زمن كتابتها. فقد أرخ بعضها بسنة وفاة قريب لصاحب الكتابة، أو بوقت نزوله في المكان الذي كتب به الكتابة، أبو بوقت هربه من الرومان أو بعد كذا من الأيام أو من السنين من رؤية قريب له أو وفاته، ومثل هذه الحوادث، لا تفيد المتأخرين شيئًا، ولا تساعدهم في تثبيت زمن تدوينها بوجه صحيح مضبوط. وأرخ بعضها بحوادث أعم، إلا أنها ذكرت بأسلوب فوت علينا معرفة زمان وقوع الحادث بوجه مضبوط، فقد أرخت كتابة منها بـ "سنت نزز اليهد"، أي "سنة الخصام مع اليهود"2. وهي سنة كان يعرفها صاحب الكتابة وأصحابه. أما نحن فلا نعلم من أمرها شيئًا، فقد خاصم العرب اليهود كثيرًا في تأريخهم. فأية خصومة من تلك الخصومات قصد صاحب الكتابة، فإذا كان قد قصد ثورة العرب أهل اللجاة "Trachonitis" على "هيرود الكبير" الملك المكابي، فهذه الثورة يجب أن تكون قد وقعت فيما بين السنة "23ق. م." والسنة "14ق. م."3. أما إذا كان صاحب النص قد قصد خصامًا آخر، فإننا لا نستطيع التكهن عنه من نصه هذا، لما قلناه من تعدد الخصومات بين العرب واليهود.
وأرخت كتابة أخرى بزمن تمرد صاحب الكتابة على الروم، وذلك سنة مجيء "الميديين" الفرس إلى "بصرى"، "ومرد على رم سنت أتى همذى بصرى"4 وقصد بـ "همذى" "الماذويين"، أي الميديين من الفرس، ولما كانت الأخبار لم تشر إلى اكتساح الفرس لـ "بصرى" قبل سنة "614 م"، ظن من عالج هذه الكتابة أن أصحابها قصد استيلاء الفرس عليها في ذلك الزمن، أي في السنين الأولى من سني مبعث الرسول، حيث غلبت الفرس على الروم، كما أشار إلى
__________
1 Winnett, P. I,
2 Winnett, P. 95.
3 Winnett, P. 95, Josephus, Antiq, XVI, IX.
4 F. V. Winnett, Safaitic. P. 19. 323. M43, Harding 37. T31(5/145)
ذلك القرآن الكريم. غير أن هذا الفريق عاد فأبدل رأيه؛ لأنه وجد أن هذا الرأي لا ينسجم مع نوع الكتابة والأبحاث الآثارية التي دلت على أن الكتابة يجب أن تكون أقدم عهدًا من سنة "614م"، ورأى لذلك أن استيلاء الفرس على "بصرى" يجب أن يكون قبل ذلك بكثير، وقد يكون وقع في القرن الأول قبل الميلاد، غير أننا لا نملك نصوصًا تأريخية تشير إلى وصول الفرس إلى هذا المكان، واستيلائهم عليه في ذلك الزمن. وهكذا نجد أن تلك الكتابة المؤرخة قد أوجدت لنا مشكلة، لم نتمكن من حلها بسبب الغموض الوارد فيها عن سنة استيلاء الفرس على بصرى1.
وطالما قرأنا في الكتابات أن أصحابها "نجوا من الروم" أو فروا من الروم، أو تمردوا على الروم وأمثال ذلك من تعابير، وقد قصدوا بالروم بلاد الشأم التي كانت في أيدي الرومان، ثم انتقلت إلى الروم، وهم اليونان البيزنطيون. ولما كانت بلاد الشأم تحت حكم المذكورين، عبروا عنها بـ "رم" "روم" أي "الروم" "وبلاد الروم".
لقد كان الصفويون بحكم نزولهم في أطراف بلاد الشأم على اتصال بالروم بل اضطروا إلى الخضوع لحكمهم والاعتراف بسيادتهم عليهم. والتوغل شمالًا وجنوبًا في بلاد الشأم بحثًا عن الماء والكلأ وعن القوت، كما اضطروا إلى مراجعة قرى بلاد الشأم ومدنها للامتيار ولبيع ما عندهم من فائض من منتوج أيديهم ومن حاصل حيواناتهم. وهذا مما يدفعهم إلى التخاصم أحيانًا مع موظفي الأمن الروم وحراس الحدود ورجال الجباية و"الكمارك"، في شأن أمور الأمن، أو أخذ حقوق الحكومة منهم، فيقبض الروم على من يقاوم منهم، أو يتهرب من الأداء، أو يقتل، أو يقوم بأعمال مخالفة، فيلقونه في السجن أو يقتلونه، ولهذا نجد بعض الكتابات وقد سجلت حين هرب صاحبها من سجن الروم. وعاد إلى حريته. وهربه من الروم واستنشاقه نسيم الحرية، معناه اللجوء إلى البادية والاحتماء بها حيث يصعب على الجنود الروم الوصول إليها للقبض عليهم والاقتصاص منهم. والبادية حصن أمين للأعراب.
__________
1 Winnett, P. 3, 19, BASOAR, Num: 122, P. 50, Die Araber I, S. 75, CIS 5, 4448, J. Pirenne I, 212.(5/146)
ويظهر من هذه النصوص أن شأن الصفويين بالروم لم يكن يختلف عن شأن سائر العرب بهم وبأمثالهم من الدول الأجنبية مثل الفرس، فهم مضطرون بحكم وضعهم إلى التسليم لسلطان الدول الأجنبية ما داموا ضعفاء لا يستطيعون مقاومة الأعاجم، فإذا تغيرت الأحوال، وظهرت مواضع ضعف في الأجنبي، اهتبل الأعراب الفرص، فانقلبوا عليه حتى يرضيهم أو يظهر قوته، وهكذا كان الصفويون ينتهزون الفرص، فمتى وجدوا ثغرة في سلطان الروم وموضع ضعف في حراسة حدودهم، هاجموهم منها حتى ينالوا ما يبتغون من مغنم، وقد ينقلب الحادث عليهم بالطبع، لسوء تقدير في الموقف، وهذا ما يحدث في كل غزو أو حرب، وهو شيء طبيعي فقد ينتصر المحارب فيربح، وقد يندحر فيخسر كل شيء.
ويلاحظ من الكتابات الصفوية أن أصحابها كانوا ينزعون نزعة شديدة إلى تخليد أنفسهم وإبقاء آثارهم وذكرياتهم بكل الطرق الممكنة، فأرخوا بكل حادث كان معروفًا عندهم، حتى بحادث ولادة ماشيتهم، أو مقتل أحدهم، أو فرض غرامة مالية على أحدهم، أو سفر أحد منهم وبأمثال ذلك من حوادث صغيرة تافهة، ولكنها مع ذلك وعلى الرغم مما يبدو عليها من سذاجة تدل على وجود نزعة قوية لديهم لتأريخ كل ما يقع عندهم وتدوينه، ليطلع عليه غيرهم ممن يمر بالأماكن التي نزلوا بها1. هذا وما زال الأعراب وأهل القرى عندنا يسجلون حوادثهم على النحو المذكور من تسجيل التواريخ.
وللطابع الشخصي الذي تحمله الكتابات الصفوية، لم نتمكن من الاستفادة منها من الوجهة السياسية والعسكرية، فلم نعثر فيها على اسم ملك، لا عربي ولا أجنبي، ولم نعثر فيها على موضوع سياسي يشير إلى الحالة السياسية التي كانت في العراق أو في بلاد الشأم أو في جزيرة العرب في تلك الأيام، ولم نتمكن أيضًا من الخروج منها بأية فكرة عن نوع الحكم الذي كان يعيش فيه الصفويون: أكانوا في حكم ملوك، على شاكلة عرب الغساسنة؟ أم كانوا قبائل متنقلة خاضعة لسلطان الروم، حين تكون في بلاد الشأم، وحرة طليقة حين ترد البادية؟
وقد وردت في الكتابات الصفوية أسماء قبائل، منها: "بدن" و"بعر"
__________
1 راجع النصوص الصفوية.(5/147)
و"تر"، و"هجدل" "هكدل"، و"جر" "كر" و"حزن" و"حضى"، و"حولت" "حوالة"، و"دمصى" و"سلم"، و" صبح"، و"ضف"، و"عبد"، و"عوذ"، و"غر"، و"فرث"، "وقمر"، و"يحرب"، و"همضر"، و"املكت"1.
ومن القبائل الصفوية: "اشلل"، و" بكس"، و"جعبر"، "جوا"، و"حمد"، و"حرم"، و"حظى" "حضى"، و"حمي"، و"زد" "زيد"، و"زهر"، و"عذل"، و"عمرت" "عمرة"، و"فضج"، و" مسكت" "ماسكة"، و"معصى" "معيص"، و"نمرت" "نمرة" "نمارة" "نميرة"، و"هذر" "هذير" "هذار"2، و"نسمن" أي "نسمان"3، و"حمد" "حماد" "حميد"4.
وترد لفظة "ال" قبل اسم القبيلة في كثيرة من الكتابات الصفوية، وتؤدي فيها معنى "آل" عندنا، مثل: "ال تم"، أي "آل تيم"5، و"ال عوذ" بمعنى "آل عوذ"6 و"ال ادم" "آل آدم"7، و"ال حد" "آل حد"8. وهي بمعنى أن المذكور أو المذكورين من القبيلة المسماة، أو من العشيرة المذكورة، أو من البيت المسمى.
وورود "ال" بهذا المعنى في النصوص الصفوية يدل على أن لغة هذه القبائل وهي قبائل عربية شمالية تشارك لغة القرآن الكريم في هذه الخاصية.
وقبيلة "عوذ" ورد اسمها في عدد من الكتابات الصفوية. وقد ورد في إحداها أن حربًا كانت قد نشبت بينها وبين قبيلة أخرى، اسمها "وعل" أو "ويل" أو "وائل"9. وقد يكون لاسم هذه القبيلة صلة باسم الإله "جد عوذ".
__________
1 Winnett. P. 4.
2 Jordan, II, PP. 14.
3 Littmann, Safa, S. 53, 55.
4 Safa, S, 62.
5 Annual Report Of The Department Of Antiquities Of Jordan Vol, I, P. 26.
6 Jordan, I, P. 27.
7 G. Ryekmans, Inscriptions Safaitiques Au Britisch Museum Et Au Musee De Damas, Louvain, 1951, P. 88.
8 Jordan, I, P. 24.
9 Jordan, I, P.(5/148)
وقد عثر على اسم قبيلة "نعمن"، أي "نعمان" في بعض الكتابات الصفوية التي عثر عليها في "وادي حوران" بالعراق. ويرد "نعمان" اسمًا لأشخاص، ومنهم بعض ملوك الحيرة1.
وقد ورد اسم قبيلة في إحدى الكتابات التي عثر عليها في العراق، وهي قبيلة "ال صح"، أي "آل صح"، أو "آل صائح"، أو "آل صيح"، أو "الصائح"2، وما زال اسم "الصائح" معروفًا في العراق، وهو اسم عشيرة فقد يكون له صلة بهذه التسمية القديمة. وقد أفادتنا هذه الكتابات من الناحية الجغرافية، إذ قدمت إلينا أسماء مواضع عديدة لا يزال بعضها يسمى بالأسماء الواردة في تلك الكتابات، وقد يمكن في المستقبل دراسة الأسماء الأخرى لتثبيت مواضعها وتعيينها على مصورات الأرض "الخارطات".
ومن المواضع التي ورد اسمها في الكتابات الصفوية، موضع "رحبت"، وهو "الرحبة". وقد ورد في نص سجله رجل اسمه "حنن بن هعتق"، "حنان ابن العاتق"، أو "حنين بن العاتق"، أو "خنن بن العاتق"، وذكر أنه "بن ال – رحبت"، أي "من الرحبة"، أو "من آل زحبة"، وأنه كتب كتابته هذه في السنة التي دار فيها قتال مع قبيلة "ال حمد" "الحمد" أو "آل حمد"3. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه "الرحبة" هو اسم موضع، كما أن "الحمد" هو اسم موضع كذلك، وأن الذين نزلوا في هذين المكانين وفي أمكنة أخرى نسبوا أنفسهم إليها فقالوا: "آل رحبة" و"آل حمد"، وذلك على نحو ما نجده في عربيتنا من ذكر "آل" في الانتساب، وأن هذا معناه أن أولئك الأعراب الذين نزلوا في الموضعين انتسبوا إلى المكانين، فاستعملوا لذلك لفظة "ال"، أي "آل"، قبل الموضع، فظهر الاسم "ال رجبت" "ال رجبة" وكأنه اسم قبيلة4.
__________
1 مجلة سومر، المجلد العشرون، 1964، الجزء الأول والثاني "ص 27" من القسم الانكليزي.
2 مجلة سومر، المجلد العشرون، السنة 1964، الجزء الأول والثاني "ص 18، 27" من القسم الانكليزي.
3 العرب في سوريا قبل الإسلام "ص 105".
4 العرب في سوريا "ص 105 وما بعدها".(5/149)
ولهذا المظهر من التسميات والانتساب شأن كبير في موضوع دراسة أنساب القبائل، إذ فيه برهان ودليل على أن الإقامة في موضع تكون سببًا للانتساب إليه، ثم لتحويل ذلك النسب إلى اسم جد، وأن ما يرويه أهل الأخبار في هذا الباب مثل انتساب الغساسنة على "غسان"، وأن "غسان" اسم موضع ماء نزلوا عليه، فدعوا به، يجب أن ينظر إليه نظرة اعتبار، لا رفض وازدراء. وفي أسماء القبائل العربية المدونة في كتاب الأنساب والأدب، أو الواردة في الكتابات الجاهلية أمثلة عديدة من هذا القبيل.
ومن الأماكن التي ورد ذكرها في النصوص الصفوية: "بصرى" وقد ذكرت على هذه الصورة "بصر"، و"هنمرت"، "النمرت"، أي "النمارة"، و"هشبكي" أي "الشبكي"1، و"حجر"2.
و"حجر" موضع قد يراد به "الحجر" المعروف في عربيتنا، وهو "Hegra" و"Hegrae" عند اليونان واللاتين، و"حجرا" و"حجرو" عند النبط3.
وورد اسم مدينة "تيما" أي "تيماء" في الكتابات الصفوية كذلك، كالذي ورد في نص دونه رجل اسمه "خل – ال بن شبب" أي "خليل – ايل ابن شبيب"، وقد تذكر فيه رجلًا اسمه "أبرش"، وهو من أهل "تيماء"4.
ولم يكن الصفويون كما يبدوا بوضوح من كتاباتهم ومن صور الحيوانات التي نقشوها على الأحجار أعرابًا ممعنين في الأعرابية على نحو عرب البوادي البعيدين في البادية، حيث يقضون حياتهم فيها، فلا يختلطون بالحضر، ولا يمتزجون بالحضارة، وإنما كانوا أشباه أعراب وأشباه حضر، وربما كان تعبير "رعاة" خير تعبير يمكن إطلاقه عليهم ليميزهم عن غيرهم. فقد كان الصفويون أصحاب ماشية، لهم إبل، يعيشون عليها، ويتاجرن بها، ولهم خيل يركبونها، والخيل كما هو معروف لا تستطيع الحياة في البوادي القاحلة العميقة والرمال القليلة المياه،
__________
1 العرب في سوريا "106".
2 Jordan, II, P. 42.
3 Jordan, I, P. 48.
4 Enno Littmann, Zur Entzifferung Der Safa – Inschriften, Leipzig, 1901, S. 51.(5/150)
ولهم المعز والغنم والحمير والبقر، وهي من الحيوانات التي تحتاج إلى رعي ومراعي1. ولذلك يجب أن يكون أصحابها من طبقة الرعاة. وقد كانت حياتهم حياة رعي، نجدهم في الشتاء في مكان، ثم نجدهم في الصيف في مواضع أخرى قريبة من الجبال حيث يكون الجو لطيفًا والمياه كثيرة، ليكون في استطاعتهم الابتعاد من حر الحرار ومن سموم الأرض القاحلة في الصيف، ولتستمتع ماشيتهم بجو لطيف فيه ما يغريها من خضرة نضرة ومن ماء عذب زلال.
إن في بعض هذه الكتابات تعبيرًا عميقًا عن ذكاء فطري يعبر عن طراز حياة الصفويين، فكتابة مثل: "ورعى همعز وولد شهى"، ومعناها: "ورعت المعز وولدت الشياه"، أو "ورعى بقر هنخل"، أي "ورعت البقر في هذا الوادي"، أو "وقف على قبر فلان وحزن"، هي تعابير، وإن بدت ساذجة مقتضبة لا يكتبها حضري، غير أنها تمثل في الواقع ذكاءً فطريًّا عميقًا، ونوعًا من التعبير عن حس أهل البادية أو أهل الرعي، وهو حس مرهف فيه بساطة وفيه اقتضاب نبتا من وحي الصحراء البسيطة الممتدة إلى ما وراء البصر على نمط واحد، وشكل لا تغيير فيه ولا تبديل. وكتابات يكتبها أناس يحيون بعيدين عن حضارة المدن، ويعيشون بين أشعة الشمس وضوء القمر في بيوت وبر أو شعر معز ولا تقي ولا تنفع إلا بمقدار، لا يمكن أن تكون إلا على هذا النحو من البساطة، ولكنها بساطة ذكي يحاول بذكائه التعبير عن حياته تلك.
ونجد هذا الذكاء الفطري في الصور المرسومة للحيوانات، فقد أراد مصوروها أن يعبروا عن غرائزهم الفنية بصورة محسوسة ترى، فرسموا صور حيوانات ألفوها ورأوها، بصورة بدائية، ولكنها معبرة أخاذة، ورسموا بعض المناظر المؤثرة في حياتهم مثل الخروج للصيد ومعارك الصيد، فنرى على بعض الأحجار فارسًا وقد حمل رمحًا طويلًا، ونرى مشاة وقد حملوا أقواسًا وتروسًا صغيرة مستديرة لوقاية أجسامهم من السهام أو من الحيوان، ونرى رجالًا يطاردون غزالًا أو ضأنًا، ونرى أناسًا فرسانًا ومشاةً يطاردون أسدًا2، ونرى غير ذلك من صور بدائية من هذا القبيل، مهما قيل فيها، فإنها صور رائعة لا يمكن أن يحفرها
__________
1 العرب في سوريا "107".
2 العرب في سوريا قبل الميلاد "ص 107 وما بعدها".(5/151)
فنان بأحسن من هذا الحفر، وهو في مثل هذا المحيط، وليست لديه من آلات الحفر غير هذه الآلات.
والصور المنقوشة على الأحجار التي ترينا الصفوي وقد ركب حصانه معتقلًا رمحًا طويلًا، هي صورة المحارب الفارس عند الصفويين، وهي في الواقع صورة الفرسان الأعراب، سلاحهم الرئيسي الرماح، يطعنون بها خصمهم. وما زال البدو في بعض البوادي من جزيرة العرب يحملون ذلك السلاح التقليدي القديم، يحاربون به خصومهم في المعارك القبلية البدائية، وأما المحارب الماشي، فإنه يحارب بالقوس وبيده الترس كما يظهر من بعض الصور، وهو لا بد أن يكون قد استعان بأسلحة أخرى بالطبع، مثل السيوف والفؤوس والحجارة وكل ما تقع يده عليه مما يصلح أن يكون مادة للقتال والعراك1.
إن الصور التي تمثل الناس، وهم يطارون الغزلان أو بقر الوحش أو الأسد أو الحمار الوحشي، هي صور مفيدة جدًّا تتحدث عن وجود تلك الحيوانات في تلك الأماكن وفي تلك الأوقات، وعن طرقهم في صيدها. وقد كانت لحوم بعض تلك الحيوانات طعامًا شهيًّا لمن يصطادها ولآلهم وجماعتهم، كما أن لوجود صورة الحصان شأنًا في إظهار أن الصفويين وغيرهم كانوا يعرفون الخيل في تلك الأزمنة، وأن الحصان العربي كان موجودًا يومئذ2.
وفي جملة ما عثر عليه من أسماء آلهة الصفويين اسم إليه عرف بـ "إله هجبل" "إلاه هاجبل" "إله الجبل"، وهي تسمية تدل على أن عبدته كانوا من سكان جبل أو أرض مرتفعة، ولهذا نعتوا إلههم بـ "إله الجبل" أو أن عبدته هؤلاء قد أخذوه من أناس كانوا قد خلقوا إلههم من ارتفاع أرضهم، وصار إلهًا من آلهة الصفويين. وهو يقابل الإله المسمى بـ "الاجبل" "Elagabal" وهو كناية عن الشمس، وكان يعبد في "حمص" "Emesa" فإن لفظة "Elagabal" تعني "إله الجبل". وقد رمز إليه بـ "حجر أسود" وعباد الحجر الأسود كانت معروفة عند الجاهليين. وقد كان أهل مكة يقدسون الحجر الأسود في مكة ويتقربون إليه3.
__________
1 العرب في سوريا "107 وما بعدها".
2 العرب في سوريا "ص 108".
3 F. Altheim, Aus Spatantike Und Christentum, 1951, 28, Die Araber, I, S. 362.(5/152)
153
ولا ندري من حل في محل الصفويين فأخذ مواطنهم، ولم اختفت كتاباتهم بعد عهدهم هذا؟ هل كان الذين أخذوا مكانهم أميين لا يقرأون ولا يكتبون فكانت أيامهم صمًّا بكمًا؟ الذين أخذوا مكانهم هم أعراب مثلهم، كانوا أقوى منهم، لذلك تغلبوا عليهم على وفق سنة البادية. هذا جواب لا شك فيه. ولكننا لا نستطيع تحديد هوية أولئك الأعراب وتعيين أسماء قبائلهم، كما أننا لا نستطيع التحدث عن سبب سكوتهم وعدم ترك آثار كتابية لهم تتحدث عن أيامهم وعن قبورهم وأصدقائهم وما شاكل ذلك من أمور إلى زمن مجيء الإسلام، إن الغساسنة، هم آخر من نعرف أنهم كانوا في هذه الأرضين، وفيما جاورها وكذلك قبائل عربية أخرى مثل لخم وكلب، ولكننا لا نعرف أنهم تركوا كتابات تتحدث عنهم.
وبين أسماء الأشخاص المدونة في النصوص الصفوية أسماء تشبه أسماء أهل مكة والعرب الشماليين شبهًا كبيرًا، ويحملنا هذا على تصور أن ثقافة الصفويين عربية شمالية. ونجد هذا التشابه في أمور ثقافية أخرى، سأتحدث عنها في الأماكن المناسبة.
ومن الأسماء الواردة في النصوص الصفوية: "قصيو"، أي "قصي". وقد ورد اسم "قصيو بن كلبو"، أي "قصي بن كلاب" في أحد النصوص، وكان من رجال الدين. وورد "قصيو بن روحو" أي "قصي بن روح". و"قصيو بن اذينت"، أي "قصي بن أذينة"1.
ويرى بعض المستشرقين أن الصفويين هم مثل سائر القبائل العربية الشمالية هاجروا من جزيرة العرب إلى الشمال، فسكنوا في منطقة "الصفاة"، غير أنهم لم يكونوا قد اندمجوا في أثناء تدوينهم كتاباتهم بالثقافة السامية الشمالية كما اندمج غيرهم مثل النبط، بل كانوا لا يزالون محافظين على صلاتهم بالجزيرة ولا سيما بالعربية الجنوبية منها موطنهم القديم، وتعبر عن هذه الصلة بعض الخصائص اللغوية التي ترجع على رأيهم إلى أصل عربي جنوبي، غير أنهم تأثروا بالطبع بمن اختلطوا بهم وبمن تجاوروا معهم من الساميين الشماليين أو العرب الشماليين، ويظهر أثر هذا الاختلاط على رأيهم أيضًا في الأسماء والكلمات والتعابير الخاصة التي نقرأها في هذه النصوص2.
__________
1 رنيه ديسو، العرب في سوريا، "ص 116".
2 Handbuch, S. 48 Ff, Rene Dussaud, Les Arabes En Syrie Avant L'Islam, E. Littmann. Gotting. Gelberte Angeiger, 1908, S. 144.(5/153)
قلت: إن كلمة "الصفويون" لا تعني شعبًا معينًا أو قبيلة معينة، وإنما هي اصطلاح أوجده "هاليفي" ليطلق على الكتابات التي عثر عليها في مواضع متعددة من "اللجاة" و"حوران" ومواضع أخرى، لذلك يجب ألا يفهم أننا نقصد أناسًا تركوا لنا كتابات متاشبهة كتبت بقلم واحد، ليظهر أنهم كانوا بين البداوة والحضارة فلاحين ورعاة لهم قرى ومزارع، وربما كانت لهم تجارات أيضًا، غير أننا لا نعرف من أمرهم شيئًا كثيرًا. فقد يكونون إذن من قبيلة واحدة، وقد يكونون جملة قبائل، وقد تكون لهم "أمارة" لا نعرف من أمرها شيئًا، وربما لا يكون لهم ذلك. وربما كانوا أتباعًا للسلطة القائمة في بلاد الشأم تتحكم فيهم بنفسها أو بواسطة أمراء أو سادات قبائل.
وقد يكون الصفويون أناسًا وصلت أسماؤهم إلينا، وكتب المؤرخون عنهم، ولكننا لا نعرف أنهم هم الذين نبحث عنهم؛ لأننا أمام اصطلاح جديد مبهم، ظهر كما قلنا في القرن التاسع عشر، ليست له حدود واضحة ولا معالم مرسومة، فلا ندري نحن في الواقع ما نريد، قد يكون هؤلاء أسلاف غساسنة الشأم، وقد يكونون غيرهم.(5/154)
الفصل السابع والثلاثون: مملكة الحيرة
مدخل
...
الفصل السابع والثلاثون: مملكة الحيرة
وللإخباريين واللغويين وعلماء تقويم البلدان، آراء في أصل اسم "الحيرة"، وبينهم في ذلك جدل على التسمية طويل عريض، كما هو شأنهم في أكثر أسماء المدن القديمة التي بعد عهدها عنهم فحاروا فيها. وإيرادها هنا يخرجنا عن صلب الموضوع، وهي أقوال لا تستند إلى نصوص جاهلية، ولا إلى سند جاهلي محفوظ، ومن أحب الوقوف عليها، وتعرف مذاهب القوم فيها، فعليه بمراجعة تلك المظان1، كما أن لبعض المحدثين آراء في هذا الباب2.
ومعظم المستشرقين، يرون أنها كلمة من كلمات بني إرم، وأنها "حرتا" "Harta" "Hirta" "He'rta" "حيرتا" "حيرتو" السريانية الأصل، ومعناها المخيم والمعسكر وأنها تقابل في العبرانية كلمة "حاصير" "Haser"3، وأن "حيرتا" "حيرتو"
__________
1 ابن الفقيه "181"، البلدان "2/ 375"، أبو تمام، الحماسة "811" البيت "2"، "والحيرة ... قرب الكوفة، والنسبة حيري وحاري"، القاموس "2/ 16"، البكري، معجم "2/ 478 وما بعدها". "طبعة السقا"، المشرق، السنة 1908، "77"، "والحيرة، بالكسر: بلد بجنب الكوفة ينزلها نصارى العباد، والنسبة إليها حيري وحاري"، اللسان: مادة "حير".
2 يوسف رزق الله غنيمة، الحيرة، المدينة والمملكة العربية، بغداد، سنة 1936م. "ص 11".
3 Ency, II, P. 314, Rothstein, Die Dynastie Der Lakhmiden, S. 12.
وسيكون رمزه: Rothstein
Frankel, Aram. Fremdworter In Arabish. XV, XVIII, Noldeke, Sasa, S. 25.(5/155)
في التواريخ السريانية تقابل "العسكر" عند الإسلاميين1. وهي في معنى "الحضر" و"حاضر" و"الحاضرة" كذلك، ولهذا زعم بعض المستشرقين أن "الحضر" اسم المكان المعروف في العراق أخذ من هذا الأصل العربي، أي من "الحضر"2.
وقد عرفت "الحيرة" في مؤلفات بعض المؤرخين السريان، فعرفت بـ "الحيرة مدينة العرب"3، "حيرتا دي طياية"، كما عرفت بأسماء بعض ملوكها مثل "النعمان"، فورد "حيرتو د نعمان دبيث بورسويي"، أي: "حيرة النعمان التي في بلاد الفرس"4.
ويلاحد أن تعبير "حيرة النعمان" "حيرتا دي نعمان"، تعبير شائع معروف في العربية كذلك، ولابد أن يكون لاشتهار "الحيرة" باسم "النعمان" سبب حمل الناس على نسبة هذه المدينة إليه.
ويرى بعض علماء التلمود أن مدينة "حواطره" "حوطرا" التي ورد في التلمود أن بانيها هو "برعدي" "بن عدي"، هي الحيرة5. وقد حدث تحريف في الاسم، بدليل أن التلمود يذكر أنها لا تبعد كثيرًا عن "نهر دعه" "Nehardea"، وأن مؤسسها هو "برعدي"، ويقصد به "عمرو بن عدي"6.
ويظن أن موضع "حرتت دارجيز" "حارتا دار جيز" "حرته دار جيز"، الوارد في التلمود، هو "الحميرة"7. وقد ورد أن "ارحيز" وهو ساحر، هو الذي بنى تلك المدينة، ويرى بعض الباحثين احتمال وجود صلة بين هذا الساحر وبين قصة "سنمار" باني "الخورنق"8. وعرفت في التلمود بـ "حيرتا
__________
1 Musil, Palmyrena, P. 289, Hoffmann, In ZDMG, 32, 1878 753, F. Altheim, Geschichte Der Hunnen, I, 1959, S. 130. Die Araber, I, S. 275, Hoffmann, In ZDMG, 32, 1878, 753, F. Altheim, Geschichte Der Hunnen, I, 1959,S. 130.
2 Die Aravber, I, S., 275, Hoffmann, In ZDMG., 32, 1878, 753, F. Altheim, Geschichte der Hunnen, I, 1959, 130, Anm. 34, Brockelmann, Lexi.
Syriacum, 2, 1928, 228a, Die Araber, II, S. 225.
3 الديورة في مملكتي الفرس والعرب "ص 32، 47".
4 Rothstein. S. 13, John Of Ephesus, 352, 10, 13, John Of Ephesus, 3, 216, Die Araber, I, S. 275, II, S. 225. S. Funk. Die Juden In Babylonien, II, S. 154, Sabbat I, 14.
5 S. Funk, Die Juden, II, S. 154.
6 Sanhedrin 5b, S. 154.
7 Sanhedrin 5b Sabbat 19b, Erubin 63a.
8 Die Juden. II. S. 155, J. Obermeyer, Babylonien, S. 234.(5/156)
دي طيبه" أيضًا، أي "معسكر العرب" و"حيرة العرب"1.
وقد ذكر اسم الحيرة في تأريخ "يوحنا الأفسوسي" "Joghn Of Ephesus" من مؤرخي القرن السادي الميلاد "توفي سنة 585م"، فقال: "حيرتود نعمان دبيت بور سوبي"، أي "حيرة النعمان التي في بلاد العرب الفرس"2، كما ذكرها "يشوع العمودي" "Josua Stylites"3. وورد اسمها في المجمع الكنسي الذي انعقد في عام "410 م"، وكان عليها إذ ذاك أسقف اسمه "هوشع" "Hosha" اشترك فيه ووقع على القرارات باسم "هوشع" اسقف "حيرته" "حيرتا"4.
وقد أشرت في أثناء حديثي عن مملكة "تدمر" إلى ورود اسم مدينتين هما "حيرتا" "الحيرة" و"عاناتا" "عانة" في كتابة يرجع تأريخها إلى شهر أيلول من سنة "132" للميلاد5. وقلت باحتمال أن تكون "حيرتا" هذه هي الحيرة التي نبحث فيها الآن. فإذا كان ذلك صحيحًا، كانت هذه الكتابة أقدم كتابة وصلت إلينا حتى الآن ورد فيها هذا الاسم6.
ومدينة "Eertha" التي أشار إليها "كلوكس" "Glaucus" و" اصطيفان البيزنطي" "Stephen Of Byzantium"7، وذكر أنها مدينة "فرثية" "Parthian" تقع على الفرات، هي هذه الحيرة على ما يظن8.
وورد في بعض مؤلفات السريان مع "الحيرة" اسم موضع آخر قريب منها هي "عاقولا"9، وقد ذهب "ابن العبري" إلى أنه "الكوفة"10،
__________
1J. Obermeyer, S. 234.
2 John Of Ephesus, 352, 10, 13.
3 Rothstein, S. 13.
4 Musil, Palmyrena, P. 20. ZDMG, 43, S. 388.
5 راجع تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 81"، لجواد علي، "4/ 6".
6 Littmann, 6, CIS, II, III, P. 156, 3073.
7 Glaucus, Fragmenta, P. 409, Muller, Stephen Of Byzantium, Ethnica, P. 276, Meineke, Paulys –Wissowa Elfer Halbbend, 1907, S. 552.
8 Musil, Euphrates, P. 102.
9 الديورة في مملكتي الفرس والعرب "ص 59".
10 Bar Hebraeus, PP. 94, 101.(5/157)
وأشار "ياقوت" إلى "عاقولاء" غير أنه لم يحدد موقع هذا المكان1.
وقد اشتهرت الحيرة في الأدب العربي بحسن هوائها وطيبه، حتى قيل "يوم وليلة بالحيرة خير من دواء سنة"2، وقيل عنها أنها "منزل بريء مريء صحيح من الأدواء والأسقام"3. وهي على "سيف البادية"4 ليست بعيدة عن الماء، وقد ورد ذكرها كثيرًا في شعر الشعراء الجاهليين والإسلاميين، وهي لا تبعد كثيرًا عن "النجف" و" الكوفة"5.
وقد ذكر "حمزة الأصفهاني" أنه بسبب حسن هواء الحيرة وصحته لم يمت بالحيرة من الملوك أحد، إلا قابوس بن المنذر، أما بقية الملوك، فقد ماتوا في غزواتهم ومتصيدهم وتغربهم، وأنه بسبب ذلك قالت العرب: "لبيتة ليلة بالحيرة أنفع من تناول شربة"6.
وقد نعتت في المؤلفات الإسلامية بنعوت منها: "الحيرة الروحاء"7 و" الحيرة البيضاء"8، أخذوا ذلك من شعر الشعراء، وزعم بعض أهل الأخبار: أن وصفهم إياها بالبياض، فإنما أرادوا أحسن العمارة.
ويظهر من وصف أهل الأخبار للحيرة أنها لم تكن بعيدة عن الماء وأن نهرًا كان يصل بينها وبين الفرات، بل يظهر أن هذا النهر كان متشعبًا فيها، بحيث كون جملة أنهار فيها. أما نواحيها، فكانت قد بنيت على بحر النجف وعلى شاطئ الفرات، وربما كانت مزارع الحيرة وأملاك أثريائها قائمة على جرف
__________
1 البلدان "6/ 98".
2 الاصطخري، المسالك "82".
3 الطبري "1/ 850".
4 الاصطخري "82"، ابن حوقل "163"، البلدان "2/ 375".
5 اليعقوبي، البلدان "ص 309"، و"طبعة دي غويه"، رحلة ابن جبير "ص 210"، "دي غويه"، الاصطخري "163"، "دي غويه".
6 حمزة "75".
7 قال عاصم بن عمرو:
صبحنا الحيرة الروحاء خيلًا ... ورجلًا فوق أنباح الكلاب
البلدان "3/ 376".
8 قال الشريف الرضي:
بالحيرة البيضاء حيث تقابلت ... شمم العباد عريضة الأعطان
ديوان الشريف الرضي "2/ 885 وما بعدها"، البلدان "3/ 377".(5/158)
البحر وشاطئ النهر1 ومن أنهار الحيرة نهر كافر2. ويرى بعض أهل الأخبار أنه هو نهر الحيرة3.
وقد أدى ميلاد الكوفة في الإسلام إلى أفول نجم الحيرة، إذ انتقل الناس من المدينة القديمة إلى المدينة الإسلامية الجديدة، واستعملوا حجارة الحيرة وقصورها في بناء الكوفة، وهذا مما ساعد على اندثار تأريخ تلك المدينة الجاهلية ولا شك، غير أنها ظلت أمدًا طويلًا تقاوم في الإسلام الهرم إلى أن جاء أجلها فدخلت في عداد المدن المندثرة.
وقد عرف ملوك الحيرة عند أهل الأخبار بـ "آل لخم" وبـ "آل نصر"، كما عرفوا بـ "النعامنة" وبـ "المناذرة"، وذلك لشيوع اسم النعمان واسم المنذر فيما بينهم4. وعرفوا أيضًا بـ "آل محرق"، وفيهم يقول الشاعر الأسود بن يعفر:
ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد
أرض الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد5
وفي طليعة أهل الأخبار الذين عنوا بجمع أخبار الحيرة الأخباري الشهير، بل رأس أهل الأخبار في أمور الجاهلية: "هشام بن الكلبي". فله كتاب في "الحيرة" سماه "ابن النديم" "كتاب الحيرة وتسمية البيع والديارات ونسب العباديين"، وكتاب ثان سماه "ابن النديم" كتاب المنذر ملك العرب"، وكتاب ثالث اسمه "كتاب عدي بن زيد العبادي"6. وهي مؤلفات لم تصل إلينا –ويا للأسف! – نرجو أن تكون في عالم الوجود، ليتمكن من يأتي بعدنا من الظفر بشيء جديد فيها، قد يفيد عشاق تأريخ الحيرة ويزيد في معارفهم.
__________
1 تقويم البلدان، لأبي الفداء "299".
2 شرح القصائد السبع الطوال الحاهليات، للأنباري "124".
3 "قال أبو عمرو: كافر نهر بالحيرة"، الأغاني "21/ 125"، "فقذف المتلمس صحيفته في نهر الحيرة"، الأغاني "21/ 126 وما بعدها"، ابن حبيب، أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام "نوادر المخطوطات"، "ص 213".
4 التنبيه "ص 158".
5 المعارف "ص 282".
6 الفهرست "146 وما بعدها"، "أخبار هشام الكلبي".(5/159)
وقد زارها نفر من السياح وكتبوا عنها، كما نبشت بعض البعثات الآثارية آثارها، وعالجت مديرية الآثار القديمة في العراق بعض نواح من تأريخها، وقد توصل الحفارون إلى العثور على نقوش من الجبس مما تكسى به الجدر للزينة، وعلى جرار متعددة وآثار من هذا القبيل صغيرة بعضها من العهد الجاهلي وبعضها من العهد الإسلامي1. غير أنهم لم يعثروا حتى الآن على كتابات جاهلية تتحدث عن تأريخ تلك المدينة القديمة السيئة الحظ.
وتأريخ هذه المدينة قبل الميلاد غامض لا نكاد نعرف من أمره شيئًا، فلم يرد خبرها في نص تأريخي مدون أو كتابة مدونة قبل الميلاد، وأقدم ذكر لها هو ما أشرت إليه، غير أن ذلك لا يتخذ دليلًا على أنها لم تكن مولودة قبل هذا العهد، إذ يجوز أنها كانت قبل هذا العهد قرية صغيرة، أو مدينة تسمى باسم غير هذا الاسم، ولعل المستقبل سيكشف عن تأريخها القديم بالسماح لبطن الأرض بإخراج ما في جوفها من أسرار عن ذلك التأريخ.
أما الأخباريون، فيرجعون عهدها إلى أيام "بختنصر". هم يقولون: إن "برخيا" لما قدم من "نجران" وأخبر "بختنصر" بما أوحى الله إليه، وقص عليه ما أمره به من غزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب، وأن يطأ بلادهم بالجنود فيقتل مقاتلتهم ويستبيح أموالهم، وأعلمه كفرهم به، واتخاذهم آلهة دون الله، وتكذيبهم الرسل والأنبياء، وثب "بختنصر" على من كان في بلاده من تجار العرب، وكانوا يقدمون عليه بالتجارات والبياعات، ويمتارون من عندهم الحب والتمر والثياب وغيرها، فجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرا على النجف وحصنه ثم ضمهم فيه، ووكل بهم حرسًا وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهبوا لذلك، وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب فخرجت إليه طوائف منهم سالمين مستأمنين. فاستشار "بختنصر" فيهم "برخيا"، فقال: إن خروجهم إليك من بلادهم قبل نهوضك إليهم رجوع منهم عما كانوا عليه، فأقبل منهم، فأحسن إليهم، فأنزلهم "بختنصر" السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا موضع عسكرهم بعد،
__________
1 D. Talbot Rice, The Oxford Excavation At Hira, In Ars. Islamica, Vol, I, Part, I, MCM, XXXIV, P. 51.
Ann Arbar University Press, Journal Of The Royal Central Aaian Society, Vol, XIX, April, 1932, P. 254, Vol, Sept, 1932, P. 276.(5/160)
فسموه "الأنبار"، ثم سار "بختنصر" لمقاتلة العرب، فنظم "بختنصر" ما بين "أيلة" و"الأيلة" خيلًا ورجلًا. ثم دخلوا على العرب. وسار "بختنصر" بجيشه حتى التقى بموضع "ذات عرق" بعدنان فهزمه، وسار إلى بلاد العرب حتى قدم إلى "حضور" وقد اجتمع أكثر العرب من أقطار "عربة"، فخندق الفريقان، ثم تصالح "بختنصر" و"عدنان"، بعد أن أكلت السيوف العرب. وعاد "بختنصر" بمن أخذ معه من سبايا العرب فأسكنهم "الأنبار"، وذهب قوم ممن أفلت قبل الهزيمة إلى "ريسوب" وعليهم "عك"، وذهب الباقون إلى "وبار". ولما رجع "بختنصر"، مات "عدنان"، وبقيت بلاد العرب خرابًا حياة "بختنصر"، فلما مات "بختنصر" خرج "معد بن عدنان" ومعه الأنبياء أنبياء بني إسرائيل حتى أتى "مكة" فحج وحج الأنبياء معه، ثم خرج حتى أتى "ريسوب" فاستخرج أهلها، وقتل أكثر "جرهم"، ثم تزوج ابنة معانة، فولدت له نزار بن معد1.
فمؤسس الحيرة على رواية هؤلاء الأخباريين هو "بختنصر". وهو مؤسس "الأنبار" في نظرهم أيضًا. وقد كان ذلك في أيام عدنان.
وقد سبق لي أن تعرضت لهذه الرواية ولجذورها وأصولها في مواضع من الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب.
وفي بعض روايات الأخباريين أن "الأردوان" ملك النبط، وكان معاصرًا لـ "أردشير"، هو الذي بنى الحيرة. كما أن "بابا" خصم "الأردوان" هو الذي أنزل من أعانه من الأعراب "الأنبار". فالحيرة والأنبار إذن هما من عمل ملكين متخاصمين من ملوك النبط تخاصمًا في أيام أردشير. ولأهل اليمن، ويمثلهم "الهمداني"، رواية أخرى في بناء "الحيرة"، فهم يرجعون بناءها إلى "تبع"2.
ويحدثنا "ابن الكلبي" بأن تبعًا المعروف بالرائد –وهو تبان أسعد أبو كرب ابن ملكي كرب تبع بن زيد بن عمرو بن تبع وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ- لما سار في أيام "بشتاسب
__________
1 الطبري "1/ 291 وما بعدها".
2 البلدان "3/ 377".(5/161)
وأردشير بهمن بن اسفندريار بن يشتاسب" متوجهًا من اليمن في الطريق الذي سلكه "الرائش" قبله، خرج على جبلي طيء، ثم سار يريد الأنبار، فلما انتهى إلى موضع الحيرة ليلًا، تحير، فأقام مكانه، وسمي ذلك الموضع الحيرة. ثم سار وخلف به قومًا من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة، فبنوا وأقاموا به. ثم انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيء وكلب والسكون وبلحارث بن كعب وإياد، ثم توجه إلى الأنبار1.
وروى الطبري رواية أخرى تشبه هذه الرواية، ولكنها رواية مختصرة لم تذكر اسم تبع، وقد أخذ الطبري روايته هذه عن شيخه عبد الله بن أحمد المروزي2.
هذه هي أقوال الأخباريين في كيفية مجيء العرب إلى العراق وفي سكانهم الحيرة والأنبار وما بين المكانين من أرضين. وهي أقوال فيها شيء من الحق، ولكن فيها شيء كثير من الخطأ والضلال. فنحن لا نريد أن ننكر هجرة القبائل العربية من الجزيرة إلى العراق، فهذا أمر ليس على نكرانه من سبيل، ولكننا لا نستطيع أن نوافقهم على أقوالهم في مبدأ تلك الهجرة وفي تواريخها، وفي كيفيتها فتلك أمور لا يعرفها الأخباريون. كما أننا لا نستطيع أن نوافقهم في زعمهم على من قاد تلك الهجرة والهجرات التي تلتها من رجال، فنحن نعلم حق العلم أن من تحدثوا عنهم وجعلوهم في الدهر الداهر وفي العرب العاربة أو في أيام ملوك الطوائف هم في الأكثر أناس عاشوا بعد الميلاد، وبينهم رجال لا تبعد أيامهم كثيرًا عن الإسلام، وبينهم أناس اخترعتهم مخيلة الأخباريين.
وتأريخ الحيرة مع سعته وكثرة ما يرويه الأخباريون منه، لا يخلو من اضطراب ومن تناقض يدفعنا أحيانًا إلى العجب من قول "ابن "الكلبي" مثلًا: "إني كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى وتأريخ سنيهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها"3. وهو كما نعرف سند الأخباريين ومرجعهم الأول في تأريخ الحيرة. فرجل يدعي هذه الدعوى ويستقي أخباره من مواردها الأصلية. لا يجوز صدور روايات منه يناقض بعضها بعضًا، وأخبار لا تؤيد هذا الزعم. فللرجل روايات عن حادث
__________
1 الطبري "2/ 3".
2 الطبري "2/ 3".
3 الطبري "2/ 37".(5/162)
واحد تثبت، إن صح أنها له، أن الرجل لم يكن صاحب رأي ولا اجتهاد فيما يرويه، وأنه يروي كل ما يقال له دون نقد أو تمحيص. فهو يروي خبرًا عن حادث في شكل، ثم يرويه في شكل آخر يختلف عما رواه كل الاختلاف أو بعض الاختلاف، ثم هو يزيد وينقص في أسماء الملوك وفي مدد حكمهم، ويذكر إجمالًا، ثم يناقض ما قاله تفصيلًا. غير أن علينا –ونحن أحياء نكتب عن شخص مضى على وفاته أكثر من ألف عام- أن نكون حذرين في القول. فنحن لا نستند في حكمنا هذا إلى مؤلف كامل الرواية لذلك الرجل، إنما نستند إلى كتب اقتطعت من مؤلفات ابن الكلبي وروت عنها. فما يدرينا لعل الخطأ في هذه الكتب، والاضطراب فيها، أو أن أصل الاضطراب في الموارد التي نقل ابن الكلبي منها. فما رواه ابن الكلبي إذن هو حكاية لما وجده هو أو أخذه من أفواه الرواة، فلا لوم عليه في هذا الشأن ولا تثريب. ولسنا في هذا المكان قضاة نحاول توجيه اللوم لأحد، أو نسحب اللوم من أحد، فهذا ليس من شأننا في هذا الموضع ولا من اختصاصنا، إنما نريد أن نشير إلى هذا التناقض العجيب الغريب الذي نراه فيما وصل إلينا من روايات تتعلق بحادث واحد، والذي نراه بين تواريخ الأخباريين عن ملوك الحيرة مثلًا، فما ذكره "الطبري" من أسماء ملوك لخم ومدد حكمهم، يختلف بعض الاختلاف عما ورد في تأريخ "حمزة" مثلًا أو في "مروج الذهب" للمسعودي، أو في المؤلفات الأخرى التي سترد أسماؤها في ثنايا البحث، مع أنها تشير أحيانًا إلى المورد الذي استقت منه، كابن الكلبي مثلًا. وهذا هو الذي يحملنا على العجب من وقوع هذا الاختلاف.
فهل نقل هؤلاء من كتاب واحد من كتب "ابن الكلبي" مثلًا، أو أنهم نقلوا من مؤلفات متعددة لابن الكلبي، فحدث من أجل ذلك هذا الاختلاف على أنه، مع افتراض هذه الحالة، لا يحوز وقوع مثل هذا الاختلاف، إذ لا يعقل أن يكتب مؤلف واحد فاهم للمادة هاضم لها، له نقد وتفكير تأريخي، خبرًا في كتاب يختلف اختلافًا بينًا عما كتبه في كتاب له آخر، إلا أن يكون قد عثر على موارد جديدة وروايات حصل عليها بعد تأليف الكتب السابقة. ومهما يكن من شيء فإن أمر مناقضة الأخباريين أنفسهم في رواية الأخبار، وفي عدم تنسيقها، من الأمور التي لا ينفرد بها أخباري واحد، وتجد في تأريخ الطبري أمثلة من هذا القبيل حيث يناقض خبره في موضع خبره المروي في موضع آخر(5/163)
دون أن يشير إليه أو يشير إلى وقوعه من الأخباريين. وقد فطن "ابن الأثير" إلى ذلك فأشار إلى أنه ناقل، وذاكر ما وجده وما قاله مختلف الأخباريين ليقف عليه القارئ. ثم لم يغفل، فذكر ما هو مرجح لديه، أو ما هو مرجح لدى أكثرية الأخباريين.
ومن مواضع الاختلاف بين الأخباريين، اختلافهم في تسلسل من حكم "الحيرة" من ملوك، وفي مدد حكمهم. ومن عادتهم ذكر مدة حكم الملك إجمالًا، كأن يقولوا: "حكم مدة كذا من السنين"، ثم يذكرون ذلك تفصيلًا محسوبًا بالنسبة إلى مدة حكم من عاصر ذلك الملك من ملوك الفرس، كأن يقولوا: "منها كذا في حكم الملك الفلاني، وكذا في حكم الملك الفلاني"، وهكذا إن كان الملك قد أدرك جملة ملوك من ملوك الفرس، وأنت إذا فحصت ما ذكروه إجمالًا، ثم ما ذكروه تفصيلًا وجمعته بعضه مع بعض تجد اختلافًا بين حاصل الجمع والعدد المذكور إجمالًا في بعض الأحايين. وقد أوجد اختلاف الأخباريين في تسلسل الملوك وفي مدد الحكم صعوبات جمة للباحثين في هذا التأريخ في تثبيت تواريخ الملوك، وفي تعيين أيامهم على وجه مضبوط ما برحت قائمة في هذا المدون عن تأريخ آل لخم وتأريخ آل غسان.
وقد درج بعض المؤرخين مثل الطبري وأبي حنيفة الدينوري وابن الأثير على إدماج تأريخ الحيرة في تأريخ الفرس في الجملة، فهم وأمثالهم يذكرون في كلامهم على ملك من ملوك الساسانيين صلات ذلك الملك بعرب الحيرة، ويشيرون إلى ملكها الذي كان يحكم في أيامه، وإلى عدد من عاصر من ملوك الفرس، ولذلك تجزأ تأريخ الحيرة وتناثر في صفحات فصول هؤلاء المؤرخين عن تأريخ الساسانيين.
ودرح فريق آخر كاليعقوبي وحمزة والمسعودي على تدوين تأريخ الحيرة في باب مستقل بني على حسب تسلسل حكم الملوك كما استقر ذلك في ذهن الكاتب، مع ذكر بعض الأمور المتعلقة بالملك من سني حكم، أو من معاصرة لملوك الساسانيين أو من بناء أو ما شابه ذلك. وتجد في مؤلفات هؤلاء الأخباريين أمورًا لم يتطرق إليها أصاحب الطريقة الأخرى في بعض الأحيان. وتفيدنا مؤلفات هؤلاء من هذه الناحية في زيادة علمنا بتأريخ الحيرة المستقى من المورد الأول.
ويؤسفنا جدًّا أن لا نملك حتى الآن دراسة علمية دقيقة للتأريخ وللمؤرخين الإسلاميين وللموارد التأريخية وكيفية أخذ بعضها من بعض، وهي دراسة لا بد(5/164)
منها، إذ بغيرها لا نتمكن من كتابة تأريخ بالمعنى العلمي للعرب قبل الإسلام. وهي تيسر لنا فهم اتجاهات المؤرخين، وتصنيف الموارد على أساس الأسبقية، وبذلك تتيسر مهمة المؤرخ بعض التيسر، وتمهد له الجادة بعض التمهيد.
ومن المؤسف حقًّا أن الأخباريين كانوا يتصرفون بالنصوص وبالمقتبسات التي يعتمدون عليها، ويجرون فيها بعض التغيير، وربما أغفلوا أسماء أصولها، فتظهر كأنها منهم على حين أنها نقل وأخذ، ولو أشاروا إلى المقتطفات والمقتبسات في الموضع المناسب، لكان في إشارتهم هذه خدمة كبرى لمن جاء بعدهم، وهداية إلى الموارد الأصلية التي يجب أن يرجع إليها ويعتمد عليها.
ومن حسن الحظ أن بين أيدينا جملة مؤلفات لاتينية ويونانية، وردت في ثناياها إشارات إلى "عرب الروم" و" عرب الفرس"، أي عرب الشأم من "آل جفنة" وعرب الحيرة من "آل لخم". وقد عاصر بعض أصحاب هذه المؤلفات أولئك القوم، واشتركوا هم أنفسهم في الحملات لكونهم مؤرخين رسميين يسيرون مع القيصر أو القواد لتدوين الحوادث والمشاهدات. وقد أفادتنا إشاراتهم هذه فوائد كبيرة، وعليها كان جل اعتماد الباحثين في إيجاد مواضع ارتكاز يطمئن إليها في تعيين تواريخ "آل جفنة" أو "آل لخم"، وبها تمكنا من تصحيح أكثر أغلاط الأخباريين. ولقدمها –بالنسبة إلى مؤلفات الإسلاميين- ولكون معظمها من عهد ما قبل الإسلام، وكان لها حق التقديم بالطبع في نظر المؤرخ الحديث، ولكن هذا لا يدفع عنها مع ذلك مواطن النقد والشبهات.
وللمؤلفات السريانية فضل يجب ألا ينسى أيضًا في تدوين هذا التأريخ، ولكنها ليست على الإجمال كالمؤلفات اليونانية واللاتينية في الدقة وفي النقد. ولما كان الكثير منها تواريخ كنسية، تعرضت لتأريخ الحيرة أو عرب الشأم أو العرب الآخرين بقدر ما لهؤلاء من صلة بالكنيسة وبالنصرانية، وهي على الجملة تمزج الأخبار بالمعجزات وبخوارق العادات وبرواية كرامات الآباء في هداية الملوك الوثنيين وسادات القبائل، وهي لا تخلو أيضًا من العصبية التي اتسم بها ذلك الزمن في النزاع المذهبي الذي منيت به النصرانية وفي محاولة الغض من الطرف النصراني الثاني، كالذي نجده بين المؤلفات النسطورية واليعقوبية والملكية وأمثالها، فلكل منها رواية بأسلوبها الخاص، لذلك وجب علينا الانتباه لهذه الناحية حين الرجوع إليها، وتخليص رواياتها من شوائب العصبية للمذهب، ونقدها لاستخلاص(5/165)
العنصر التأريخي منها في تدوين تأريخ صحيح لعرب العراق أو عرب بلاد الشأم أو عرب جزيرة العرب.
وأهل الحيرة عرب، يقسمهم الأخباريون إلى طبقات ثلاث: تنوخ، والعباد، والأحلاف1. هؤلاء في نظرهم من قبائل متعددة، فيها من قحطان وفيها من عدنان. وقد ذكروا أن في لهجة أهل الحيرة هجنة، رجعوا سببها إلى اختلاط هؤلاء العرب بمن كان يفد عليهم من النبط ممن كانوا يثيرون الأحداث فيلتجئون إلى هذا المكان2. ولذلك شابت لهجتهم رطانة نبطية. وقد كتبوا بقلم "بني إرم"، شأنهم في ذلك شأن تدمر وأهل "بطرا" إذ استعملوا قلمًا نبطيًّا متأخرًا في الكتابات.
أما تنوخ، فهم قبائل سكنوا بيوت الشعر والمظال والوبر غربي الفرات بين الحيرة والأنبار فما فوقها في اصطلاح أهل الأخبار3. ويظهر من وصفهم لتنوخ أنهم قصدوا بهم من كان يشتغل بالزراعة ومن كان يعيش عيشة أهل البادية من سكان هذه المنطقة: منطقة ما بين الحيرة والأنبار. ولم يقصدوا قبيلة معينة4.
وللأخباريين رأي خاص في تفسير أصل كلمة "تنوخ" خلاصته: أنه لما مات "بختنصر"، انضم الذين كان أسكنهم الحيرة من العرب إلى أهل الأنبار، وبقيت الحيرة خرابًا، فغبروا بذلك زمانًا طويلًا لا تطلع عليهم طالعة من بلاد العرب ولا يقدم عليهم قادم، وبالأنبار أهلها ومن انضم إليهم من أهل الحيرة من قبائل العرب من بني إسماعيل وبني معد بن عدنان. فلما كثر أولاد معد بن عدنان ومن كان معهم من قبائل العرب، وملأوا بلادهم من تهامة وما يليهم، فرقتهم حروب وقعت بينهم وأحداث حدثت فيهم، فتشتتوا. وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين، وبها جماعة من الأزد كانوا نزلوها في دهر "عمران ابن عمرو" من بقايا "بني عامر"، وهو: "ماء السماء بن حارثة"، وهو: "الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة"، و" مالك بن زهير بن عمرو بن فهم بن تيم الله
__________
1 حمزة "66".
Die Araber, I, S. 268, Noldeke, Geschichte Der Perser. 1879, S. 24.
2 البلدان "3/ 380"، Rothstein, S. 18.
3 حمزة "66"، و"تنوخ: حي من اليمن", اللسان "نوخ".
4 Rothstein, S. 28, Noldede, Sassa, S. 24, Anm. 3.(5/166)
ابن أسد بن وبرة" في جماعة من قومهم، و"الحيقار بن الحيق بن عمير بن قنص بن معد بن عدنان" في "قنص" كلها. ولحق بهم "غطفان بن عمرو ابن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أنصى بن دعمى بن إياد بن نزار بن معد ابن عدنان"، و"زهر بن الحارث بن الشلل بن زهير بن إياد"، و"صنح ابن الحارث بن أفصى بن دعمى بن إياد". فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على التنوخ، وهو المقام، وتعاقدوا على التوازر والتناصر، فصاروا يدًا على الناس، وضمهم اسم تنوخ.
وتنخ على تنوخ بطون من "نمارة بن لخم"، ودعا "مالك بن زهير" "جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي" إلى التنوخ معه، وزوجه أخته "لميس" ابنة "زهير"، فتنخ "جذيمة بن سالك" وجماعة ممن كان بها من قومهم من الأزد، فصار "مالك" و"عمرو" ابنا "فهم" والأزد حلفاء دون سائر تنوخ. وكلمة تنوخ كلها واحدة. أما اجتماع من اجتمع من قبائل العرب بالبحرين وتحالفهم وتعاقدهم، فكان على حد قول "ابن الكلبي" في أزمان ملوك الطوائف الذين ملكهم الإسكندر وفرق البدان بينهم عند قتله "دارا" ملك فارس إلى أن ظهر "أردشير بن بابك" ملك فارس على ملوك الطوائف، وقهرهم، ودان له الناس.
وفي هذا العهد عهد ملوك الطوائف، تطلعت أنفس من كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق وطمعوا فيه، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمعوا على السير إلى العراق. وكان أول من طلع منها "الحيقار بن الحيق" في جماعة قومه وأخلاط من الناس، فوجدوا الأرمانيين "بني إرم"، وهم الذين بأرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل، يقاتلون الأردوانيين، وهم ملوك الطوائف، فاستفادوا من ذلك وانتشروا في السواد، وسكن قسم منهم بين عرب الأنبار، وسكن قسم آخر منهم بين عرب الحيرة. ثم طلع "مالك" و" عمرو" ابنا "فهم بن تيم الله"، و"مالك بن زهير بن فهم بن تيم الله"، و" غطفان ابن عمر بن الطمثان"، زهر بن الحارث"، و"صنح بن صنح" فيمن تنخ عليهم من عشائرهم وحلفائهم على الأنبار على ملك الأرمانين، فطلع "نمارة بن قيس بن نمارة" و"النجدة"، وهم قبيلة من العماليق، يدعون إلى "كندة" و"ملكان بن كندة" و"مالك" و"عمرو" ابني "فهم"(5/167)
ومن حالفهم، وتنخ معهم على "نفر" على ملك الأردوانيين، فأنزلهم الحير، أي الحيرة، فلم تزل طالعة الأنبار وطالعة "نفر" على ذلك لا يدينون للأعاجم ولا تدين لهم الأعاجم حتى قدمها تبع، وهو: "أسعد أبو كرب بن ملكيكرب" في جيوشه فاستولى عليها، ونزل الحيرة فيمن معه1.
وروى "ابن الكلبي" أن كثيرًا من تنوخ نزلوا الأنبار والحيرة وما بين الحيرة وطف الفرات وغربيه إلى ناحية الأنبار وما والاها. نزلوا في المظال والأخبية لا يسكنون بيوت المدر، ولا يزاوجون أهلها. وكانوا يسمون "عرب الضاحية". فكان أول من ملك منهم في زمان الطوائف "مالك بن فهم"، وكان منزله مما يلي الأنبار، ثم مات مالك بن فهم، فملك من بعده أخوه "عمرو بن فهم"، ثم هلك عمرو بن فهم، فملك من بعده "جذيمة الأبرش ابن مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي"2.
وقد أخذ الطبري ما ذكره عن "تنوخ" من روايات ترجع إلى "ابن الكلبي" وإلى "ابن إسحاق"، وتختلف روايات "ابن إسحاق" التي أخذها "الطبري" عن شيخه "ابن حميد" عن "سلمة" عن "ابن إسحاق" بعض الاختلاف عن روايات "ابن الكلبي".
ولدينا رواية تذكر أن "بني زهير بن عمرو بن فهم"، ومنهم "مالك ابن فهم" الذي تنخت عليه تنوخ. هو ومالك بن فهم بن غنم الأزدي، تنخوا بعين هجر، وتحالفوا هناك، فاجتمعت إليهم قبائل من العرب، فنزلوا الحيرة، فوثب "سليمه بن مالك بن فهم" على أبيه، فرماه فقتله،
فقال أبوه:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
فتفرقت بنو مالك، وكانوا عشرة، ولحقوا بعمان، وملك جذيمة بن مالك عشرين ومئة سنة. وذلك في أيام ملوك الطوائف. وهو أول من اتخذ دارًا3.
__________
1 الطبري "2/ 27 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 195 وما بعدها"، البلدان "3/ 377 وما بعدها".
2 الطبري "3/ 28 وما بعدها".
3 الاشتقاق "2/ 317 وما بعدها".(5/168)
أما ما زعمه أهل الأخبار في معنى تنوخ، فقد أشرت مرارًا إلى جنوح الأخباريين إلى أمثال هذه التفاسير، حين ترسو سفينة علمهم على شاطئ الجهل بالأشياء. وما تنوخ في نظري إلا "Tanueitae" "Thanuitae" القبيلة
التي ذكرها "بطلميوس" في جملة القبائل التي كانت في أيامه1. وهي وإن كانت في جغرافيته في مواضع بعيدة عن الحيرة غير أن ذلك لا يمنع من انتقال بطون منها إلى الحيرة وبادية الشأم وإقامتها فيها، وهو حادث مألوف ليس بغريب، أو أنها كانت في هذه المواضع في أيام "بطلميوس" كما كانت بطون منها تقيم في المواضع التي ذكرها أو أنه أخطأ في تعيين مواضعها الصحيحة فظن أنها حيث وضعها من الأماكن، وهو أمر ليس وقوعه من الكتاب في الزمن الحاضر بغريب، فكيف بالنسبة إلى تلك الأيام.
فتنوخ إذن على الوصف المتقدم، هم أعراب الحيرة، لا حضرها وأهل مدرها، وكانوا يعيشون في أطرافها وحولها، في بيوت الشعر والمظال، على نقيض "العباديين". وقد تبين من بعض الموارد أن بطونًا من تنوخ نزلت أرضين تابعة للروم2.
وأما العباد، فهم الذين سكنوا رقعة الحيرة فابتنوا بها، فهم حضر مستقرون3. ويقول معظم الأخباريين أنهم كانوا على دين المسيح. ويقول بعضهم: إنهم قبائل شتى من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية، والنسبة إليهم عبادي4. وذهب بعض إلى أنهم بطن في جزيلة من لخم5. وخالف فريق فذهبوا إلى أنهم كانوا من قبائل شتى انفردوا من الناس في قصور ابتنوها لنفوسهم ظاهر الحيرة6. وأنهم دانوا لأردشير7.
ونسبهم بعض أهل الأخبار إلى "بني عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة
__________
1 Sprenger, Alte Geography, 341, Glaser, Skizze, II 283, Blay, In ZDMG 22, 1868, S. 660, Forster, II, P. 247.
2 Die Araber, II, S. 251.
3 حمزة "66"، Die Araber, I, S. 269.
4 الاشتقاق "1/ 7" "طبعة وستنفلد". Rothstein, S. 19.
5 العقد الفريد "2/ 253".
6 ابن القفطي: الحكماء "199"، غنيمة "16".
7 الطبري "2/ 43".(5/169)
ابن أسد بن ربيعة"، وذكروا أنهم من نسل أربعة، هم: عبد المسيح، وعبد كلال، وعبد الله، وعبد ياليل1. وأشار "السهيلي" إلى ورود اسمهم في الحديث، فقال: "وفي الحديث المسند: أبعد الناس عن الإسلام، الروم، والعباد، وأحسبهم هؤلاء؛ لأنهم تنصروا. وبهم من ربيع، ثم من بني عبد القيس"2.
وللأخباريين أقوال في أصل كلمة "العباد"، فمنهم من يقول أنهم إنما سموا بذلك؛ لأن وفدًا وفد على كسرى كانت أسماؤهم تبتدئ بكلمة عبد، فقال كسرى: أنتم عباد كلكم فسموا العباد3. ومنهم من يقول: لا، إنما قيل لهم العباد؛ لأنهم كانوا يعبدون الله، فسموا بهذا الاسم4. ومنهم من يرى أنهم سموا بذلك؛ لأنهم لما قاتلهم سابور الأكبر، اتخذوا شعارًا لهم، هو يا آل عباد، فسموا العباد5. إلى غير ذلك من أمثال هذه التعليلات.
وأظن أن خير ما نفعله في هذا الباب لمعرفة من كانت تنطبق عليهم هذه التسمية، هو أن ندرس أسماء مشاهير من نسبوا إلى العباديين من أسر ورجال، مثل: أسرة عدي بن زيد العمادي، وبني مرينا، وبقيلة، وأمثالهم ممن حشروا في العباديين. فقد شملت التسمية هؤلاء وهم من قبائل مختلفة. كان آل عدي ابن زيد مثلًا من تميم، وكان بنو مرينا من لخم، وكانت بقيلة من الأزد6. فهم إذن من قبائل مختلفة، ومع ذلك عرفوا بالعباديين، وذلك يدل على أن هذا الاسم لم يكن يعني قبيلة، أو بطنًا، وإنما يعني جماعة من قبائل شتى جمعت بينها وحدة الدين، ووحدة الموطن. لذلك لم يطلق إلى على النصارى العرب من أهل الحيرة. أما غيرهم من نصارى العرب، فلم يشملهم اسم العباديين7.
__________
1 الروض الأنف "1/ 53".
2 الروض الأنف "1/ 53".
3 اللسان "3/ 272"، "عبد"، ابن قتيبة المعارف "649"، ابن العبري، تأريخ مختصر الدول "250".
4 تاج العروس "2/ 410 وما بعدها"، "عبد" ابن القفطي، "173 وما بعدها"، اللسان "3/ 272"، الروض الأنف "1/ 53".
5 الأغاني "11/ 156".
6 Rothstein, S. 20.
7 Rothstein, S. 20.(5/170)
ويمكن أن نقول استنادًا إلى روايات الأخباريين في تحديد مدلول الكلمة، واقتصارها على نصارى الحيرة دون غيرهم من نصارى العرب: إن هذه الكلمة أطلقت في الأصل على من تنصر من أهل الحيرة، ليميزوهم عن غيرهم من سكان المدينة من الوثنيين. ولم يكن أولئك النصارى في بادئ أمرهم بالطبع إلا فئة قليلة، ثم توسعت من بعد. فلما انتشرت النصرانية في الحيرة لازمت هذه التسمية جميع نصاراها، كائنًا من كانوا، وصارت علمًا لهم، لم تميزهم عن الوثنيين حسب، وإنما ميزتهم أيضًا عن بقية النصارى العرب من غير أهل الحيرة فلما مضى زمان طويل على هذا الاستعمال، ظن المتأخرون أنه علم، ثم حاروا في تعليله، فأوجدوا على طريقتهم تلك التعليلات.
ولعل العباد والعباديين من كلمة "عبد" في الأصل، أطلقها متنصرة الحيرة الأولى على نفسها؛ لأنها تعبدت لإله، لتميز نفسها عن الوثنيين. أو أن أولئك الوثنيين أطلقوها على أولئك المتنصرة، تمييزًا لهم عن سائر الوثنيين. وقد يكون لـ "عبد المسيح" علاقة بهذه التسمية كذلك. وهي تسمية شائعة بين النصارى شيوع "عبد الله" بين المسلمين1.
ولا أستبعد أن يكون العباد والعباديين، هم بقية "اباديدي" "Abadidi" أو "إباديدي" "Ibadidi"، الذين تحدثت عنهم في أثناء كلامي عن الآشوريين.
وقد كان العباديون أكثر أهل الحيرة ثقافة، حذق بعضهم الصناعات ودرس بعضهم العلوم، وفاق بعض آخر في اللغات فحذق العربية وتعلم الفارسية، وكانوا يتقنون في الغالب لغة بني إرم بحكم تنصرهم واعتبار النصارى لها لغة مقدسة؛ لأنها لغة الدين، لذلك كان لهم وجه ومقام في الحيرة، ولهذا السبب اختار الفرس تراجمتهم ومن كان يتولى المراسلة بينهم وبين العرب من هؤلاء، كالذي كان مع "زيد العبادي" والد "عدي".
وأما "الأحلاف"، فهم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيها، ولم يكونوا في الأصل لا من تنوخ، ولا من العباد الذين دانوا لـ "أردشير"2.
وقد كان بين أهل الحيرة جماعة من النبط3، كما كانت بينهم جماعات من
__________
1 Noldede, Sassa, S. 24, Rothstein, S. 21.
2 حمزة "66".
3 الأغاني "8/ 61".(5/171)
الفرس ومن اليهود. والنبط هم من بقايا قدماء العراقيين، وقد كان بعضهم يتكلم العربية برطانة ظاهرة، فتأثر بعض عرب الحيرة بهذه الرطانة، فبدت على ألسنتهم، وذلك باختلاطهم بتلك البقية التي تكلمت بلهجة بني إرم وهي التي عرفت بلغة "النبط" عند المسلمين1.
وكانت للوثنيين من أهل الحيرة أصنام، منها: اللآت، والعزى، وسبد2، و"محرق" وبه تسمى بعض الرجال تبركًا وتقربًا إليه3.
لقد كان معظم نصارى الحيرة على مذهب النساطرة، وهو مذهب شجعه الفرس في بلادهم نكاية بالروم. غير أن هنالك جماعة كانت على مذهب اليعاقبة، كما كان بعضهم على مذاهب نصرانية أخرى لا مجال للحديث عنها في هذا المكان. وقد حاول أصحاب هذه المذاهب كسب أكبر عدد ممكن من الناس إلى مذاهبهم. وطبيعي ألا يجد مذهب الروم صدرًا رحبًا في الأرضين الخاضعة للفرس، لما في ذلك من أخطار سياسية تهدد مصالحهم.
وقد كانت الحيرة من المراكز المهمة في حركة التبشير بالنصرانية بين العرب. ومن الحيرة ذهب قسم من المبشرين إلى اليمن والأجزاء الأخرى من جزيرة العرب لنشر النسطورية والمذاهب النصرانية الأخرى هناك، وفيها انعقد مجمع "دار يشوع" في سنة "424"4، وفي هذه المدينة توفي هذا الجاثليق "دار يشوع" ودفن فيها على بعض الروايات5.
ما ذكرته عن أهل الحيرة، هو ما يخص أهل المدينة وما حولها من الحضر المستقرين. أما من كان قد خضع لملوك الحيرة، فكانوا قبائل يعيشون في أرضين واسعة، كانت تتقلص سعتها وتتوسع بحسب قدرة "ملك الحيرة" ومكانته، فقد حكم "امرؤ القيس" مثلًا "كل العرب" على حد قول النص: "نص النمارة" الذين وجد على قبره. ويقصد بذلك "كل الأعراب"، وخص منهم "أسدًا" و"نزارًا" و"مذحجًا" وغيرها، حتى بلغ حدود "نجران"،
__________
1 "عرب استنبطنا، ونبط استعربنا"، أمالي المرتضي، "1/ 177".
2 الأغاني "2/ 104"، "طبعة دار الكتب المصرية"، "2/ 20"، "ساسي".
3 Rothstein, S. 95 Noldeke, In ZDMG, 1887, S. 712.
4 الديورة في مملكتي الفرس والعرب "10".
5 أوحين نسران، خلاصة تأريخية للكنيسة السريانية، "تعريب القس سليمان الصائغ"، والموصل 1939 "ص 26 وما بعدها".(5/172)
كما ملك "معدًّا"1. ولكننا لا نستطيع أن نؤكد أن ملك ملوك الحيرة قد شمل القبائل المذكورة في كل الأوقات، بل في كل أيام حكم "امرئ القيس"، فقد تعودت القبائل الانتفاضة على من يفرض حكمه عليه عند أول فرصة يشعرون فيها بضعف الحاكم، أو أن الأوضاع أخذت تسير عكس ما يريد، فتنقلب عليه وتخرج على طاعته.
ونجد في رسالة "شمعون الأرشامي" الحيرة أن في جملة من كان في معسكر "المنذر" الثالث، "طيايه حنبه ومعدايه"، أي "طيء" ومعد. والأغلب أنه قصد بـ "طياية" الأعراب، فقد كانت تطلق بهذا المعنى في هذا المعهد. ولعله قصد بـ "حنبه" "حنفه" قبيلة "بني حنيفة" أو قبيلة أخرى اسمها قريب من هذا الاسم.
ويلاحظ أن اسم "معد" كان معروفًا مشهورًا على أنه من القبائل العربية الكبيرة التي تشمل منازلها أرضين واسعة. وقد ميز بينها وبين "نزار" في "نصر النمارة" مما يدل على أن "نزارًا" كانت منفصلة عن "معد" ولها اسم خاص في القرن الرابع للميلاد.
أما الأنبار التي زعم الأخباريون أنها بنيت في أيام بختنصر، فقد كانت من المدن المعروفة في أيام الساسانيين، تلي شهرتها في العراق شهرة مدينة "طيسفون" "Ktesiphon". وقد تبين من فحص آثارها ومعالمها الباقية أنها من المواضع التي كانت قبل عهد الدولة الساسانية، غير أننا لا نعرف من أمرها شيئًا يذكر قبل عهد هذه الدولة، والذي بعث فيها الحياة وأنشأ فيها الأبنية والعمارات، هو الملك الساساني "سابور الثاني" "شابور" "Shapur II" "310-379 م"2، أو سابور الأول في بعض الروايات3. وقد حصنت وقويت وجعلت قلعة حربية لصد غارات الروم على حدود هذه المملكة من ناحية الفرات. وكان لها أثر مهم في الحملة التي قام بها الانبراطور "يوليانوس" "Julianus" على مملكة الساسانيين في سنة 363 للميلاد، إذ دافعت عن نفسها دفاعًا شديدًا. ولما تمكن يوليانوس منها، بعد ذلك الحصار المتعب صارت ركامًا وتلالًا من الرماد، فأمر عندئذ ببناء "هيليوبوليس" "Heleopolis". وقد وصف المؤرخ "أميانوس مرسليانوس" "Ammianus Mercellianus" الأنبار،
__________
1 تأريخ العرب قبل الإسلام، لمؤلف هذا الكتاب "4/ 33 وما بعدها"،
Die Araber, II, S. 313.
2 Paulys – Wissowa, 64, Halbband, 1950, 1725, Ency, I, P. 348.
3 Paulys-Wissowa, 2 Halbband, 1894, 1791, Musil, Euqhrates, P. 354.(5/173)
وذكر قلاعها الحصينة1.
وفي جنوب هذه المدينة وعلى مسافة قليلة منها، يقع نهر عيسى الذي يصل الفرات بدجلة، وهو نهر قديم يرجع عهده إلى ما قبل الإسلام، عرف بـ "Naarsares" أو "Narsares"2 ويظن أن الملك سابور الثاني المذكور هو الذي أمر بحفره. وقد اكتسبت المدينة بهذا النهر شأنًا خاصًّا إذ صارت فرضة مهمة، ومخزنًا للأموال، ومركزًا عظيمًا في وسط العراق للتجارة ولتبادل السلع المرسلة عن طريق دجلة إلى الفرات وبالعكس. ولاسم هذه المدينة، وهي الأنبار، علاقة بهذا المعنى على ما يظن. وهو من "Ham-Bara" الإيرانية القديمة، ومعناها المخزن، ومنها "أنبار" "Anbar" بالفارسية الحديثة. وقد عرف العلماء المسلمون معنى الكلمة فذكروه3. ومن هذه الكلمة أخذ البيزنطيون "Anbara" "Abbareny" "Abara"، ويقصدون بها الأنبار4.
وقد عرفت المدينة بـ "فيروز سابور" "بيروز شابور" "Peroz Shapur" كذلك. ومعنى هذه الكلمة "سابور المنتصر". ومنها جاء اسمها "بيريسابورا" "Pirisaboora" "Bersabora" "Pirisaboras" المذكور في تأريخ "أميانوس مارسليانوس" و"زوزيموس". وقد ذكر هذا الاسم في المؤلفات السريانية. وكان عليها أسقف نسطوري5.
ويظن أن موضع "أنكوباريتيس" "Ankobaritis" المذكور في جغرافية
__________
1 Paulys-Wissowa, 64 Halbband, 1950, 1725, Ammianus, XXIV, 2, 9, XXIV, 2, 18, Musil, Euphrates, PP. 234, 236, 240, 354.
2 "نهر صرصر". Paulys-Wissoma, 64 Halbband, 1950, 1725.
3 "وإنما سميت الأنبار أنبار؛ لأنها كانت تكون فيها أنابير الطعام، وكانت تسمى الأهراء؛ لأن كسرى يرزق أصحابه رزقهم منها"، الطبري "2/ 28"، البلدان "1/ 368"، اللسان "5/ 190"، "صادر"، "نبر"،
Ency, I, P. 348, Frankel, Die Aramaischen Fremdworter In Arabischen S. 136, Scheftelwitz In ZDMG, IX 699, Noldede Grammatik Der Neusyrichen Sprache, S. 403, Paulys – Wissowa, Zwiter Halbband, 1894, 1461.
4 Ency, I, P. 348.
5 Ammianus Marcellianus, XXIV, 29, 5, 3, Paulys-Wissowa, 2 Halbband. 1894, 1791.(5/174)
"بطلميوس" يعني المنطقة التي تقع فيها الأنبار، فإذا كان هذا الظن صحيحًا، كان اسم هذه المدينة معروفًا إذن قبل أيام الساسانيين1.
ولم يذكر "ايزيدور الكركسي" "Isidorus Of Charax" الذي ساح حوالي ميلاد المسيح في إنبراطورية الفرث، اسم هذه المدينة، ولا اسمًا آخر يقع في هذا المكان، لذلك يرى بعض الباحثين أن الأنبار لم تنشأ إلا بعد أيام "ايزيدور" وربما في القرن الأول للميلاد، وأنها أنشئت في بادئ الأمر لخزن المواد فيها وتموين الحاميات بما تحتاج إليه، ثم توسعت في العصر الساساني حتى أصبحت المدينة الثانية في إقليم بابل بعد طيسفون2.
وفي رواية لـ "ثيوفيلكتس" "Theophylactus" أن "كسرى برويز الثاني" "Khusrave Abharvez" "590-628م تقريبًا"، حينما هرب من وجه "بهرام جوبين" حوالي سنة 590 للميلاد، وترك العاصمة طيسفون عبر دجلة واختراق البادية حتى جاء الأنبار، ومنها ذهب إلى عانة "Anatha"، ومنها ذهب إلى "قرقيساء" حيث اتصل بالروم3.
وقد صارت "الأنبار" من أهم المواضع العلمية ليهود العراق في عهد "هرمز الرابع" "578-591م" أو "579 -590م"، فلما اضطهد هذا الملك اليهود، وأمر بإغلاق مدارسهم الدينية التي كانت من أهم مدارس اليهود في ذلك العهد في مدينتي "سورا" "Sura'" و"بومبيدثا"، "فومبيديثه" "Pombeditha"، انتقل أحبار المدينتين إلى مدينة "فيروز سابور" "Peroz Shapur" أي الأنبار. وكانت إذ ذاك في حكم ملوك الحيرة4، وصارت منذ ذلك العهد مركزًا من مراكز الثقافة اليهودية في العراق.
وتقع "فومبديثه" "Pombeditha" بجوار الأنبار، وتعني "فم البداة"، وقد كانت من أهم المستوطانت اليهودية في العراق، ومن أهم المراكز العلمية التي أخرجت طائفة من كبار أحبار اليهود، أسهموا في تدوين التلمود وفي جمع التراث اليهودي القديم. ومن علمائها "مار رابة الغاؤون" وآخرون. وقد قدم
__________
1 Ptolemy, V, 18, 4, Paulys-Wissowa, 2 Halbband, 1894, S. 1791.
2 Paulys-Wissowa, 2 Halband, 1849, 1791.
3 Theophylactus, IV, 10, 4, Paulys-Wissowa, 2 Halbband, 1894, 1794.
4 Die Araber, I, S. 630, Th. Noldeke, Tabari, 57, Anm, 5.(5/175)
إليها اليهود من فلسطين هربًا من الرومان الذين لم يعطوا اليهود الحرية الدينية الكافية للانصراف إلى ممارسة شعائرهم الدينية والتعليم على وفق ديانتهم. فأسسوا مستوطنات مهمة في العراق، منها: هذه المستوطنة، ومستوطنة "نهر دعة" وغيرهما، وفي هذه المستوطنات دون التلمود البابلي الذي هو من أهم أركان كتب التشريع عند اليهود1.
وقد جاء في "بابا بثرا" أن العرب أتوا إلى "فومبديثه"، استولوا على أرض اليهود. وقد جاء اليهود إلى حبرهم "أبيه" "Abaya" ليكتب لهم نسختين من نسخ تملك الأرض، حتى إذا
استولى غريب على نسخة التملك تكون لديه نسخة ثانية. وكان ذلك على أثر هذا الحادث2. وكان العرب عندما ينتزعون تلك الأرضين يأخذون سندات التملك أيضًا. ولهذا راجع اليهود هذا الحبر ليكتب لهم سندي تملك، حتى إذا أخذت نسخة، احتفظ صاحب الأرض بالنسخة الثانية فيكون في إمكانه مقاضاة المغتصب3.
ونجد في "نده" "Niddah"، وهو "كتاب الحيض" من باب "كتاب الطهارة" "Seder Toheroth" في الفقه العبراني، قصة تاجر عربي كان في "فومبديثه"، وكان يرتدي عباءة أو جبة سوداء حالكة السواد، ولما كان السواد من الألوان المكروهة عند اليهود، جاءه أحد زوار المدينة من اليهود، فسأله عن هذا السواد، فقال التاجر: وهل يوجد لون كهذا اللون! فقام عليه اليهود، وانتزعوا منه عباءته أو جبته ومزقوها، ثم استرضوه بأن عوضوه بأربعمئة "زوز"4.
__________
1 J. Obermeyer, Die Landschaft Babylonien, S. 215.
2 Baba Bathra 168b.
3 The Babylonian Talmaud, Sedr Nezikin, II, P. 735.
4 Niddah 20a, The Babylonian Talmud, Seder, P. 131.(5/176)
ملوك الحيرة:
وقد عرف ملوك الحيرة بـ "آل نصر"، وبـ "آل لخم"، وبـ "آل محرق"، وبـ "آل النعمان"، وبـ "آل عدي". وورد أن العرب كانت تسمي بني المنذر الملوك "الأشاهب" لجمالهم5.
__________
5 الاشتقاق "ص 116".(5/176)
ويظهر أن شهرة ملوك الحيرة بـ "آل نصر"، هي شهرة قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام بزمن طويل. فقد ورد في الأخبار عن "نهر دعة" "Nehardea" وهي مستوطنة من المستوطنات اليهودية القديمة الكبيرة التي تأسست في العراق، وتقع عند فم نهر ملكا "Nehr Malka"، أي مخرج نهر الملك من الفرات1، أنه في سنة "570" من التقويم السلوقي الموافقة لسنة "259" للميلاد، جاء "بابا ابن نصر" إلى مدينة "نهر دعة" وخربها، فهربت بعض أحبارها إلى مواضع يهودية أخرى، كانت ملجأ لليهود2. ويظهر أن الأمير المهاجم، وقد سمي في الخبر بـ "بابا" "Papa"، كان من أبناء سيد قبيلة عربية اسمه "نصر"، وقد عرف بـ "برنصر" و"بن نصر" في التلمود3، وقد ذهب الباحثون إلى أن المراد به أحد أمراء الحيرة من "آل نصر"4، أما
4. أما "كريتز" "Gratz"، وهو من المؤرخين اليهود المشهورين، فقد ذهب إلى أنه "أذينة" زوج الملكة "زنوبيا" "الزباء" "Zenobias" ملكة تدمر5. غير أن هنالك أدلة تأريخية لا تؤيد هذا الرأي، ثم إن الموارد العربية تنعت ملوك الحيرة بـ "آل نصر"، ولم يشتهر ملوك تدمر فيها بـ "آل نصر".
وقد تحدثت إليك برأي أهل الأخبار في أول من حكم الحيرة من الملوك، ورأينا أن "مالك بن فهم" هو أول ملك حكم هذا الموضع على زعم، وهو في نظرهم من الأزد6. وقد حكم مدة عشرين عامًا على رواية الأخباريين7.
وقد زعم "حمزة الأصفهاني" أن "ملك بن فهم" تملك تنوخ العراق في زمان ملوك الطوائف، وأن منزله كان بالأنبار، وأنه بقي بها إلى أن رماه ابنه "سليمة بن مالك بن فهم" رمية بالنبل، وهو لا يعرفه. فلما علم أن سليمة راميه، قال.
__________
1 J. Obermeyer, Die Landschaft Bavylonien, S. 254
2 J. Obermeyer, Die Landschaft Bavylonien, S. 254
3 Kethuboth 51b.
4 J. Obermeyer, Die Landschaft Bavylonien, S. 255
5 Gratz,Geschichte Der Juden, IV, S. 295.
6 الطبري "2/ 27".
7 اليعقوبي "1/ 169"، المعارف "281".(5/177)
جزاني لا جزاه الله خيرًا ... سليمة إنه شرًّا جزاني
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
فلما قال هذين البيتين فاظ أي مات، وهرب سليمة هرب إلى عمان1.
وحكم بعد "مالك بن فهم" أخوه" عمرو بن فهم" على رواية2، و"جذيمة الأبرش" المعروف بجذيمة الوضاح أيضًا على رواية أخرى, ولا نعرف من أمر "عمرو" هذا شيئًا يستحق الذكر.
وتزعم رواية أن الذي حكم بعد "مالك بن فهم" هو "جذيمة الأبرش"، وقد جعلته ابنًا لمالك، وجعلت نسبه على هذه الصورة: "جذيمة بن مالك بن فهم ابن غانم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن الغوث". وقالت: إن والده "مالك هو أول من ملك الضاحية في حكم ملوك الطوائف3.
أما حظ جذيمة الأبرش، فهو خير من حظ الرجلين السابقين عند الأخباريين، فله في رواياتهم شعر وحديث. وقد تحدثوا عنه، ونسبوا إليه الغزوات، وجاد عليه بعض الرواة فرفعوا زمانه وجعلوه في العاربة الأولى. جعلوه من بني "وبار ابن أميم بن لوذ بن سام بن نوح"، وصيروه "من أفضل ملوك العرب رأيًا، وأبعدهم مغارًا، وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزمًا. وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضم إليه العرب، وغزا بالجيوش"4، وذكر "المسعودي" أنه أول من ملك الحيرة5.
وقد وصفوه أيضًا، فقالوا: إنه "كان به برص، فكنت العرب عنه، وهابت العرب أن تسميه به، وتنسبه إليه، إعظامًا له. فقيل: جذيمة الوضاح وجذيمة الأبرش"6. وذكر "المسعودي" أن جذيمة هو صاحب النديمين اللذين
__________
1 حمزة "64"، الاشتقاق "317".
2 الحيرة "118".
3 الطبري "1/ 612"، "دار المعارف"، البلدان "3/ 379"، مفاتيح العلوم، للخوارزمي "ص 68".
4 الطبري "2/ 29"، البلدان "3/ 379". أسماء المغتالين، لمحمد بن حبيب، "نوادر المخطوطات"، "ص 112".
5 مروج "2/ 16".
6 الطبري "2/ 29"، الكامل "1/ 136"، الاشتقاق "2/ 291".(5/178)
يضرب بهما المثل، واستشهد على ذلك بشعر لـ "متمم بن نويرة اليربوعي" في مرثيته لأخيه مالك بن نويرة:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا1
وقد ذكر أن النديمين المذكورين هما: مالك وعقيل، وهما ابنا "فرج بن مالك" من "بلقين"، وكانا قد قدما من الشام، يريدان جذيمة، فوجدا فتى قد تلبد شعره، وطالت أظافره، وساءت حاله، أسرع نحوهما يرجو الطعام والرعاية، فلما سألاه عن حاله، وتبين لهما أنه "عمرو بن عدي"، سرًّا به كثيرًا، وعنيا به، وأخذاه معهما إلى "جذيمة"، فلما رآه، فرح به فرحًا كبيرًا، لعودته إليه، ونظر إليه، ثم أعاد عليه الطوق، وكان جذيمة قد صنعة له قبلًا، ثم قال: "كبر عمرو عن الطوق". وكان الجن قد استطارته، أي خطفته. وقال جذيمة لمالك وعقيل: ما حكمكما، أي ما طلبكما! قالا حكمنا منادمتك. فأصبحا يضرب بهما المثل2.
وذكر "المسعودي" أن كنية "جذيمة" التي عرف بها هي "أبو مالك"، وروى في ذلك شعرًا، زعم أن قائله هو سويد بن كاهل اليشكري":
إن أذق حتفي، فقبلي ذاقه ... طسم وعاد وجديس ذو السبع
وأبو مالك القيل الذي ... قتلته بنت عمرو بالخدع3
وذكر الأخباريون أن جذيمة غزا طسمًا وجديسًا، غزاهم في منازلهم من "جو" وما حولهم. فأصاب "حسان بن تبع أسعد أبي كرب"، وقد أغار على طسم وجديس باليمامة، فانكفأ جذيمة راجعًا بمن معه، وأتت خيول تبع على سرية لجذيمة، فاجتاحها وبلغ جذيمة خبرهم، فقال في ذلك شعرًا دون منه الطبري
__________
1 التنبيه "158 وما بعدها"، ابن قتيبة، عيون الأخبار "1/ 274"، الروض الأنف "2/ 303".
2 الكامل، لابن الأثير "1/ 197"، التنبيه "158 وما بعدها"، "أنا شهدت ندماني جذيمة: مالكًا وعقيلًا، وصبحتهما الخمر المشعشعة لما وجدا عمرو بن عدي، فكنت أصرف الكأس عنه"، رسالة الغفران "278".
3 مروج "2/ 16"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".(5/179)
أحد عشر بيتًا. وقد أراد ابن "الكلبي" أن يكون حذرًا في هذه المرة، أو أن يظهر نفسه في مظهر الحذر الناقد، فقال: "ثلاثة أبيات منها حق، والبقية باطل"1. وجميل صدور هذا الحذر من الطبري، أو من ابن الكلبي، وقد عودانا سرد أبيات من الشعر العربي، نسباها إلى من هو أقدم عهدًا من جذيمة ولم يذكرا أنه باطل، أو أن فيه حقًّا وباطلًا.
وفي جملة ما تحدث به الأخباريون عن جذيمة أنه تكهن وتنبأ، وأنه اتخذ صنمين يقال لهما الضيزنان، وضعهما بالحيرة في مكان معروف، وكان يستسقي بهما ويستنصر بهما2. فلم يقنع الأخباريون بالحديث عن ملك جذيمة وحده، فأضافوا إليه التنبؤ والكهانة وعبادة الأصنام.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "جذيمة بن مالك بن فهم" وهو جذيمة الأبرش كان ينزل الأنبار ويأتي الحيرة ثم يرجع، وكان لا ينادم أحدًا ذهابًا بنفسه، وينادم الفرقدين. فإذا شرب قدحًا، صب لهذا قدحًا ولهذا قدحًا، وهو أول من عمل المنجنيق، وأول من حذيت له النعال، وأول من رفع له الشمع3. بقي على ذلك حتى نادمه مالك وعقيل4، إلى غير ذلك من أقوال وروايات عنه. وهي تدل على أنه كان قد ترك أثرًا في المجتمع في أيامه غير أثر الملك، مما حدا بالقوم أن يضعوا هذه الأقوال فيه.
واشتهر "جذيمة" عند أهل الأخبار بفرس له، ذكر أنها كانت من سوابق خيل العرب، اسمها "العصا". وفيها ورد في المثل: "إن العصا من العصية". وقد نجا "قصير بن سعد اللخمي" على فرسه هذه، فأخذ بثأره وقتل "الزباء" على زعم أهل الأخبار.
وهم يروون أن جذيمة كان يغازي إيادًا النازلين بـ "عين أباغ"، فذكر له اسم غلام من لخم في أخواله من إياد، هو عدي بن نصر، له جمال وظرف، فغزاهم. فبعثت إياد قومًا سقوا سدنة الصنمين الخمر، وسرقوا الصنمين، فأصبحا
__________
1 الطبري "2/ 29".
2 الطبري "2/ 29"، اليعقوبي "1/ 169"، الكامل، لابن الأثير "1/ 196".
3 المعارف "281"، "ويذكر أيضًا أنه أول من أوقد الشمع"، الروض الأنف "2/ 303".
4 اللسان "15/ 68"، و"عصا"، الخيل لابن الكلبي "31"، نوادر المخطوطات "199".(5/180)
في إياد، فبعث إليه تفاوضه على إرجاع الصنمين إليه على أن يكف عن غزوهم، ولكنه اشترط عليهم إعطاءه عدي بن نصر مع الصنمين، فوافقوا على ذلك. فانصرف عنهم وضم عديًّا إليه، وولاه شرابه. ويدعون أنه تزوج أخته "رقاش" التي أحبته فيما بعد، في قصة يروونها، ومن هذا الزواج المزعوم كان "عمرو ابن عدي" ابن أخت جذيمة الذي خلف خاله على الملك1.
وفي رواية من روايات الأخباريين أن جذيمة زوج أخته من ابن عمه: "عدي بن ربيعة بن نصر"، فولدت له "عمرو بن عدي" الذي استطار به الجن2.
وفي جملة ما نسبه أهل الأخبار إلى جذيمة من حروب حربه مع "عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العملقي" "العمليقي" من عاملة العماليق. وعمرو هذا هو أبو الزباء عند الأخباريين. ويذكر هؤلاء أن الطرفين استعدا للقتال استعدادًا كبيرًا، فجمعا كل ما أمكنهما جمعه. ولما اصطدما، قتل عمرو، فانهزم أصحابه، وعاد جذيمة بعد هذا النصر إلى قواعده سالمًا ولم يشر الطبري إلى اسم الموضع الذي وقع فيه هذا القتال. وملك من بعد "عمرو" ابنته الزباء3.
أما ملك جذيمة، فكان على حد قول الأخباريين ما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتهما وعين التمر وأطراف البر إلى الغير والقطقطانة وخفية وما والاها4 ورقة وسائر القرى المجاورة لبداية العرب. ويفهم من بعض الروايات أيضًا أنه ملك معدًّا وبعض اليمن5. وكانت داره بالموضع المعروف بـ "المضيق" بالمصيرة بين الخانوقة وقرقيسيا6.
__________
1 الطبري: "2/ 30 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير: "1/ 196"، ابن خلدون "القسم الأول"، المجلد الثاني "542، 586، 626"، العقد الفريد: "5/ 260"، الحموي، المشترك: "319"، الهمداني، صفة: "178"، مراصد الاطلاع: "2/ 976".
2 الأخبار الطوال: "56".
3 الطبري: "2/ 31"، الكامل، لابن الأثير: "1/ 199"، مروج: "2/ 90 وما بعدها"، نوادر المخطوطات، "أسماء المغتالين" "ص 112 وما بعدها"، الأغاني: "14/ 71".
4 الطبري: "2/ 29"، بلوغ الأرب: "2/ 175"، محمد بن حبيب، أسماء المغتالين "نوادر المخطوطات"، "112".
5 حمزة "64".
6 البلدان "3/ 378".(5/181)
أما الأنبار، فقد تحدثت عنها. وهي –على ما يظهر من روايات الأخباريين- من المواضع التي كان يخضع أعرابها في الغالب لحكم اللخميين. وأما بقة، فتقع على الفرات بين هيت والأنبار. وأما هيت، فهي من المواضع القديمة المعروفة قبل الميلاد، وقد ورد اسمها في نص "توكلتي أنورتا الثاني" "Tukulti Enurta II" الذي يعود عهده إلى حوالي سنة 885 قبل الميلاد1. وقد عرفت بـ "ايد" "Id" و"ايت" It"2". وهي "ايس" "اس" Is"3" و"ايس بوليس" "اسبولسي" "Ispolis" "Ispoolis"4 و" ايديكاره" "Idikara"5 و"دياكيرة" "Diakira"6" في مؤلفات الكلاسيكيين. و"ايهي" "Ihi" و" ايهيداكيرة" "Ihidakira" في مؤلفات عصر التلمود7.
وفي بقة استشار جذيمة قصيرًا على حد قول الأخباريين في أمر زيارته للزباء8. وتقع بقة على مقربة من الحيرة, وقيل هي حصن كان على فرسخين من هيت على رواية ياقوت9. وقد جعلها "اليعقوبي" على شط الفرات بالقرب من الأنبار وفي ملك الزباء10. وهي على الفرات بين الأنبار وهيت، في رواية أكثر الأخباريين11.
وأما القطقطانة، فموضع في البرية لا يبعد كثيرًا عن الكوفة، وهو بالطف12. وأما خفية، فهي أجمة في سواد الكوفة، بينها وبين الرحبة، ينسب إليها
__________
1 Scheil And Gatuier, Annales De Takulti Ninip II, Rol D'Assyrie, 889-84, Paris, 1910, P. 38, Ency, II, P. 322, Musil. Euqhrates, P. 350.
2 Musil, Euqhrates P. 350.
3 Heradotus, I, 179.
4 Isidore Of Charax, Mansiones Parthiace, Muller, P. 249.
"ايوبوليس"، المشرق، السنة 1903، العدد 10، "ص 440".
5 Ptolemy, Geography, V. 19, 4.
6 Ammianus Marcellianus, Rerum, XXIV, 2, 3, Zosimus, III, 15.
7 Musil, Euphrates, P. 350.
8 "ببقة خلفت الرأي"، البلدان "2/ 253"، الطبري "2/ 37 وما بعدها"، "كما لم يطع فيما أشار قصير"، رسالة الغفران "533".
9 البلدان "2/ 253"، الطبري "2/ 32".
10 اليعقوبي "1/ 169".
11 البكري، معجم "1/ 264" وما بعدها"، مراصد الاطلاع "1/ 166"، والبلدان "1/ 473"، Musil, Euphrates, P. 160..
12 البلدان "7/ 125".(5/182)
الأسود المعروفة بأسود خفية، وهي غربي الرحبة، ومنها إلى عين الرهيمة مغربًا. وقيل أيضًا عين خفية1.
وقد اشتهرت "عين التمر" القريبة من "شفاثا" بالقصب والتمر، وهي على طرف البادية، فتحها المسلمون على يد "خالد بن الوليد" في سنة 12 للهجرة في أيام أبي بكر2.
وقد طال عمر جذيمة على حد قول "حمزة الأصبهاني" إلى أن لحق ملك "سابور بن أشك الأشغاني" "شابور بن أشك"، وحكم على حد قوله أيضًا ستين سنة. أما نهايته، فكانت على يد الزباء في قصة مشهورة معلومة، رصعها الأخباريون بشعر وأمثلة3، تحدثت عنها في أثناء كلامي على الزباء. وجعل بعضهم مدة حكمه مئة وثماني عشرة سنة، إذ ملك في زمن ملوك الطوائف خمسًا وتسعين سنة، وفي ملك أردشير بن بابك وسابور الجنود ثلاثة وعشرين سنة4. وملك يحكم هذه المدة لا بد أن تكون مدة حياته أطول من مدة حكمه.
وذكر "أبو حنيفة الدينوري" أن جذيمة لم يزل ملكًا مقيمًا بالخورنق، حتى دعته نفسه إلى تزويج "مارية" ابنة الزباء الغسانية. وكانت ملكة الجزيرة، ملكت بعد عمها الضيزن الذي قتله "سابور"، فقتلت جذيمة، ثم قتلها قصير مولاه5. فجعل الملكة القاتلة بنتًا من بنات الزباء عينها، فدعاها مارية، وبذلك أنقد الزباء من تهمة القتل التي ألصقها الأخابريون بهذه الملكة، وجعلها ملكة على الجزيرة، وجعل نسبها في غسان، وغسان معادون منافسون لآل لخم، ثم أبى إلا أن يجعل لجذيمة قصرًا منيفًا، فوقع اختياره على الخورنق، وهو قصر لائق أن يكون قصر ملك، وخالف في ذلك رأي الأخباريين الذين ينسبون هذا القصر إلى ملك آخر هو النعمان.
وقد جاء اسم "جذيمة" "جديمت" في نص نبطي ويوناني عثر عليه في
__________
1 البلدان "3/ 452".
2 البلدان "6/ 253".
3 حمزة "64 وما بعدها"، البلدان "3/ 379"، الكامل، لابن الأثير "1/ 199"، الطبري "1/ 448".
4 مروج "2/ 90 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 20".
5 الأخبار الطوال "56".(5/183)
"أم الجمال"، جاء فيه: "هذا موضع أي قبر فهر بن شلي "سلي" مربي جديمت ملك تنوح". ولهذا النص على قصره أهمية بالغة؛ لأنه يشير إلى الصلة التي كانت بين الأسرة الحاكمة في الحيرة وعرب الشام1. ومن الصعب بالطبع استنتاج كيفية وفاة مربي الملك في هذا الموضع: أكان زائرًا هذه الديار فأدركه أجله فقبر هناك! أم جاء مع سيده في حرب فتوفي في ذلك المكان! مهما يكن من شيء، فقد أفادنا الحجر فائدة كبيرة بتدوينه اسم صاحب القبر، واسم جذيمة ملك "تنوح" تنوخ.
ويلاحظ أن النص دون اسم "جذيمة" بحرف "الدال" وكتب اسم "تنوخ" بحرف الحاء "تنوح" بدلًا من الخاء. ويكون هذا النص من أقدم النصوص التي ورد فيها اسم "تنوخ". ويرجع عهده إلى حوالي السنة "270" بعد الميلاد2.
وجعل "ابن دريد" لجذيمة نسلًا، سماهم "بني جهضم"، وجعل لفظة "جهضم" من "التجهضم"، ومعناه التكبير3.
وذكر "حمزة الأصفهاني" أنه لم يلد لجذيمة غير "زينب بنت جذيمة"، وهي أم مرتع. واسمه "عمرو بن معاوية بن كندة"، فغزا في آخر عمره الشأم، فقتل "عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة" ملك العمالقة والد الزباء، فانطوت له الزباء على طلب الثأر حتى قتلته4.
وانتقل الملك بعد وفاة جذيمة إلى ابن أخته "عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مسعود مالك بن غنم بن نمارة بن لخم"5. أما أمه، فهي أخت جذيمة، وهي: "رقاش بنت مالك بن فهم بن غنم بن عدثان" على رواية من ينسب مالك بن فهم إلى عدثان6.
__________
1 Rep. Epig, 1097, II, III, P. 373, Enno Littmann, Nabatalsh-Griechische Bilinguen, In Le Florlleglum Melchior De Vogue, P. 375, Die Araber, II, S. 251.
2 Die Araber, I, S. 198, Altheim-Stiehi, Geschiche Der Hunnen I, S. 151, 154.
3 الاشتقاق "2/ 292".
4 حمزة "65".
5 الطبري "2/ 30 وما بعدها"، معجم الشعراء "205"، الأغاني "14/ 72". رسالة الغفران "278"، فرائد اللال "2/ 108".
6 حمزة "65"، مروج "2/ 92"، "محمد محيي الدين عبد الحميد"، التنبيه "158"، نزهة الجليس "2/ 59 وما بعدها".(5/184)
ويلاحظ أن "الطبري" لم يكن مستقرًّا في موضوع اسم "عدي" والد عمرو، إذ يجعله "نصرًا" في موضع، فيقول "عدي بن نصر بن ربيعة"1، ويجعله "ربيعة" في موضع آخر، فيقول: "عدي بن ربيعة بن نصر"2. ويظهر أن ذلك إنما وقع له بسبب أخذه من روايات مختلفة، وعدم تدقيقه ونقده لتلك الروايات.
ويفهم من رواية يرجع "الطبري" سندها إلى "ابن حميد" عن "سلمة" عن "ابن إسحاق" أن زمان حكم "ربيعة بن نصر اللخمي" كان بين ملك "تبان أسعد أبو كرب" وملك ابنه "حسان بن تبان أسعد"3. والرواية مضطربة مشوشة، يفهم منها أن "ربيعة بن نصر" كان نفسه قد حكم اليمن في الفترة الواقعة بين "تبان أسعد" وبين حكم ابنه "حسان"، وأن "حسان" هذا لم يتمكن من الحكم إلا بعد هلاك "ربيعة بن نصر"4. ويزيدها اضطرابًا وتشويشًا ذكر "الطبري" رواية الرؤيا التي رآها "ربيعة بن نصر" وعرضها على "سطيح" و"شق" لتفسيرها له، وما كان من جوابهما له في تفسيرها، حيث "وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور خرزاذ، فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ربيعة بن نصر، كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة"5. فيتبين منها أن "ربيعة بن نصر" كان مقيمًا باليمن، وقد أقام بها حياته، وأن بنيه هم الذين ذهبوا إلى العراق، ولكنها لم تشرح كيف وجد "ربيعة" في اليمن وكيف حكمها وهو من لخم؟ وهي رواية شاذة، دسها بعض المتعصبين لليمن –على ما يظهر- على "ابن إسحاق"، فدونها في أخباره، وقد دست أخبار وأشعار على ابن إسحاق، فرواها وصدق بها من غير نقد ولا تحقيق. وللعلماء رأي فيه.
ويزعم بعض أهل الأخبار أن "سطيحًا" و"شقًا" أخبرا "ربيعة بن نصر"
__________
1 الطبري "1/ 614، 627"، "دار المعارف".
2 الطبري "2/ 61، 112"، "دار المعارف".
3 الطبري "2/ 61، 111 وما بعدها"، "دار المعارف".
4 "فكل هؤلاء ملكة قبل ملك ربيعة بن نصر اللخمي، فلما هلك ربيعة بن نصر، رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد الطبري "2/ 112، 115".
5 الطبري "2/ 114".(5/185)
في تأويلهما لرؤيا بما يكون من غلبة الحبش على أرض اليمن، وبغلبة الفرس بعدهم. فلما سمع بذلك، أوجس في نفسه خيفة، فأحب أن يخرج ولده وخاصة أهله من أرض اليمن، فوجه ابنه عمرًا إلى يزدجرد بن سابور، أو إلى سابور ذي الأكتاف، فأنزله الحيرة، فيومئذ بنيت، فضم عمرو إليه أخوته وأهل بيته، فمن هناك وقع آل لخم إلى الحيرة، واتصلوا بالأكاسرة فجعلوا لهم على العرب سلطانًا، فلما مات خلفه من بعده ابنه "جذيمة بن عمرو"1.
وزعم "الدينوري" أن وفاة ربيعة بن نصر كانت في أيام "قباذ بن فيروز" وأنه بوفاته رجع الملك إلى حمير، فملك ذو نواس من بعده، وهو ذو نواس صاحب تعذيب نصارى نجران نفسه. فأرجع أيام ربيعة إلى قباذ "قباد"، وهو قول يخالف ما يرويه الأخباريون2. وجعل ذا نواس المالك من بعده، وقد عاش ذو نواس بعد قباذ أمدًا، فخالف في ذلك التأريخ وأقوال الأخباريين.
ووصف "الطبري" عمرو بن عدي، فقال عنه: "هو أول من اتخذ الحيرة منزلًا من ملوك العرب، وأول من مجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق، وإليه ينسبون، وهم ملوك آل نصر، فلم يزل عمرو بن عدي ملكًا حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة، منفردًا بملكه، مستبدًّا بأمره، يغزو المغازي ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأطول، لا يدين لملوك الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس"3.
وذكر الطبري أن الحيرة خربت بعد هلاك بختنصر، لتحول الناس عنها إلى الأنبار، وبقيت خرابًا إلى أن عمرت في زمن عمرو بن عدي، باتخاذه إياها منزلًا4.
وثم رواية تنسب نصرًا إلى الساطرون ملك الحضر5، وتجعل آل نصر من الجرامقة، من "رستاق باجرمي"6، ورواية أخرى تجعل ملوك الحيرة من
__________
1 الأخبار الطوال "56".
2 الأخبار الطوال "62 وما بعدها".
3 الطبري "1/ 627"، "دار المعارف"، حمزة "65"، مفاتيح العلوم، للخوارزمي "68".
4 الطبري "2/ 43"، "دار المعارف".
5 Rothstein, S. 42.
6 "وهو جرمقاتي من أهل الموصل من رستاق يدعى باجرمي"، معجم الشعراء، "205"، Rothstein, S. 42.(5/186)
"أشلاء قنص بن معد"، فقد ذكر أن "عمر بن الخطاب" لما أتى بسيف النعمان بن المنذر، دعا جبير بن مطعم فسلمه إياه، ثم قال: يا جبير، ممن كان النعمان؟ قال: من أشلاء قنص بن معد. وهو من ولد عجم بن قنص، إلا أن الناس لم يدروا ما عجم، فجعلوا مكانه لخمًا، فقالوا هو من لخم ونسبوا إليه1. وكان جبير من أنسب العرب2. والذي عليه أكثر أهل الأخبار أن "آل نصر" هم من اليمن، كانوا قد تركوا اليمن وهاجروا حتى استقروا بالعراق، ونزلوا الحيرة، وأسسوا ملكهم بها3.
ويذكر الأخباريون أن عمرًا انتقم من الزباء لقتلها جذيمة، ورووا في ذلك رواياتهم المرصعة بالشعر والأمثال4. وهي روايات لا تستند إلى أسس تأريخية، إذا قصدوا بذلك الزباء ملكة تدمر التي عرفنا تأريخها ونهايتها في مكان آخر من هذا الكتاب.
وجعل "الدينوري" مدة حكم "عمرو بن عدي" نيفًا وستين سنة5.
وتولى الملك بعد وفاة عمرو ابنه امرؤ القيس. ويقال له امرؤ القيس البدء وامرؤ القيس الأول. أما أمه، فهي ماوية بنت عمرو أخبت كعب بن عمرو الأزدي على رواية حمزة6. وقد عاصر جملة من ملوك الفرس، هم: سابور ابن أردسير "شابور بن أردشير"7، وهرمز بن سابور، وبهرام بن هرمز، وبهرام بن بهرام، وبهرام بن بهرام بن بهرام، ونرسي بن بهرام بن بهرام، وهرمز بن نرسي، وسابور ذو الأكتاف على رواية تجدها مدونة في تأريخ حمزة. وجعل مدة ملكه مئة وأربع عشرة سنة، وهي مدة تتفق مع ما ذكره الطبري حكاية على لسان ابن الكلبي.
__________
1 الروض الأنف "1/ 18".
2 الجاحظ، البيان "1/ 303".
3 مفاتيح العلوم "68".
4 الطبري "2/ 35"، الكامل "1/ 137"، الأغاني "14/ 73"، الأمثال، للميداني "1/ 158، 246"، ابن دريد، المقصورة
"17"، مروج "2/ 17 وما بعدها" حمزة "58".
5 المعارف"282".
6 حمزة "66".
7 الطبري "2/ 64"، حمزة "67".(5/187)
غير أننا إذا ما وازنا بين ما ذكره الطبري حكاية على لسان ابن الكلبي في عدد ملوك الفرس الذين حكم "امرؤ القيس" في أيامهم، وفي مدة حكمه في عهد كل ملك من هؤلاء الملوك1. وبين ما ذكره حمزة نجد اختلافًا في العدد واختلافًا في المدة، مما يدل على أن حمزة نقل من مورد آخر يختلف عن مورد الطبري2.
وإذا كانت مدة حكم امرؤ القيس على نحو ما ذكره ابن الكلبي وغير ابن الكلبي من رواة، فكم تكون مدة حياة هذا الملك؟ إنهم لم يعينوا هذه المدة، ولكنها مدة تزيد بالطبع على هذه السنين في نظر أصحاب تلك الروايات، ولم لا تطول؟ وقد ساروا على خطة إطالة أعمار الملوك الأولين. فملك يتجاوز حكمه مئة عام بسنين أمر لا بأس به في نظر هؤلاء الرواة.
غير أننا نلاحظ أنهم بخلوا على الملوك المتأخرين، فلم يمنحوهم هذه النعمة، نعمة إطالة مدة الحكم أو مدة العمر، فجعلوا لهم مددًا مقبولة في الغالب معقولة. ولو عاش هؤلاء المتأخرون في زمن بعيد عن أولئك الرواة، بعيد عن أيام تدوين أخبار ملوك الحيرة، لما حرمهم الأخباريون كرمهم هذا، ولأعطوهم ولا شك ما أعطوه من سبقهم من الملوك جملًا من السنين.
وقد نعت امرؤ القيس في بعض الروايات بـ "المحرق"3، ونعت أيضًا بـ "محرق الحرب"4. ونصادف كلمة المحرق ومحرق وآل محرق في مواضع من التواريخ المتعلقة بالحيرة، وقد أطلقها بعض الأخباريين على الغساسنة أيضًا5. وهم يرون أنها لقب ألحق بأولئك الملوك؛ لأنهم عاقبوا أعدائهم في أثناء غزوهم لهم بحرق أماكنهم بالنار. ويرى "روتشتاين" أنه تفسير لظاهر الكلمة، وهو تفسير مغلوط. والصحيح في نظره أنها اسم علم لأشخاص عرفوا بمحرق، ولذلك قيل "آل محرق" لا "آل المحرق"6.
__________
1 الطبري "2/ 65".
2 حمزة "67".
3 المعارف "282".
4 Rothstein, S. 64.
5 "ومحرق أيضًا: لقب الحرث بن عمرو ملك الشام من ال جفنة، وإنما سمي بذلك؛ لأنه أول من حرق العرب في ديارهم، فهم يدعون ال محرق"، اللسان "حرق".
6 Rothstein, S. 47(5/188)
وفي أصنام الجاهليين صنم يدعي محرق والمحرق، تعبدت له بعض القبائل مثل بكر بن وائل وربيعة في موضع "سلمان"1. وقد ورد بين أسماء الجاهليين اسم له علاقة بهذا الصنم، هو عبد محرق2، أفلا يجوز أن يكون للمحرق إذن علاقة بهذا الصنم، كأن يكون قد اتخذ من باب التيمن والتبرك للملك الذي عرف بالمحرق أو أنه قدم قربانًا لهذا الإله أحرقه على مذبحه بالنار، وكان يكثر من حرق القرابين للآلهة، وتلك عادة معروفة وقد وردت أيضًا عند العرانيين، فقيل له لذلك المحرق؟ وإلى هذا الاحتمال ذهب بعض المستشرقين3.
ويظهر أن محرقًا كان من الشخصيات الجاهلية القديمة الواردة في الأساطير، وقد اقترن اسمه بالدروع، وورد "بردي محرق" كما اقترن اسمه بـ "نسيج داوود"، مما يدل على أن هذا الاسم من الأسماء المعروفة قديمًا في أساطير الجاهليين4.
وقد ورد أيضًا صوت محرق وفرخ محرق5، وذلك يدل على أن "محرقًا" في هذا الموضع حيوان قد تكون له علاقة أيضًا بأساطير الجاهليين6.
ومما حكاه الأخباريون عن هذا الملك أنه كان قد تنصر، وأنه لذلك أول من تنصر من آل نصر7. وهو أمر يحتاج إلى دليل، كما ذكروا أن ملكه كان واسعًا وأنه كان عاملًا للفرس "على فرج العرب من ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة"8.
ويظن بعض الباحثين أن امرأ القيس، هو امرؤ القيس الذي ورد اسمه مدونًا في نص "النمارة". فإذا كان هذا الظن صحيحًا، كان أمرؤ القيس أول ملك من ملوك الحيرة يصل خبره إلينا مدونًا، وكذلك خبر تأريخ وفاته في سنة 328
__________
1 J. Wellhausen, Reste Arabischen Heidentums, S. 57.
2 Rothstein, S. 48.
3 Reste, S. 57.
4 Rothstein, S. 49.
5 الأغاني "8/ 65".
6 Rothstein, S. 49.
7 الطبري "2/ 65"، ابن خلدون "2/ 263".
8 الطبري "2/ 64 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 171".(5/189)
للميلاد، المقابلة لسنة 223 من تقويم بصري، التقويم المعمول به في تلك الجهات التي قبر فيها امرؤ القيس1.
ويظهر من نص النمارة أن امرأ القيس صاحب القبر، كان رجلًا محاربًا، وقائدًا كبيرًا، أخضع قبيلتي أسد ونزار، وهزم مذحجًا، وأخضع معدًّا، ووزع بنيه في القبائل، وبلغت فتوحاته أسوار "نجران" مدينة "شمر"، وهو
بهذه الفتوحات قد تمكن من معظم أنحاء الجزيرة. وهذا النص يناقض الروايات التي تنسب الفتوحات العظيمة إلى "شمر يهرعش" "شمر يرعش"، فتجعله فاتح العراق وما وراء العراق إلى الصين، وتعكس القضية عكسًا تامًّا. وروايات فتوحات "شمر"، هي روايات يمانية وضعها أناس متعصبون لليمن ولا شك.
وقد سبق لي أن بينت أن المستشرقين يرون أن "شمرًا" المذكور في هذا النص أي صاحب "نجران"، هو "شمر يهرعش" "شمر يرعش". وقد ذكرته في باب "ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت". ومعنى هذا أن "نجران" كانت في ملكه يوم أغار "امرؤ القيس" عليها فوصل أسوارها، ويظهر أنه لم يتمكن منها وأنه فرض سلطانه على القبائل الساكنة في البادية، فاعترفت بسيادته عليها. ولها لقب في النص بلقب "ملك العرب كلهم الذي نال التاج"، وختمت الكتابة بجلمة "فلم يبلغ ملك مبلغه"، وهي جملة تعبر عن اتساع ملكه وامتداده مسافات شاسعة.
ويظهر من ورود كلمة "التبع" أي التاج في هذا النص أن هذه الكلمة كانت معروفة عند العرب الشماليين في ذلك الحين، أي في القرن الرابع للميلاد، وأنها وردت بالمعنى المفهوم منها في الزمن الحاضر، أي ما يوضع على الرأس تعبيرًا عن الملك والحكم.
ويفهم من هذا النص أن "امرأ القيس" كان قد بسط سلطانه على كل العرب، أي الأعراب، فملكهم وملك خاصة "بني نزار" و"أسد" وقبائل "معد"، وأنه نصب أولاده على القبائل ليضمن طاعتها وخضوعها له، وأن
__________
1 Francis Nau, Les Arabes Chrestiens, P. 32, Rene Dussaud, Arabes En Syrie Avant L'Islam, Paris, 1907, P. 35, REP. EPIG, I, 1900-1905, 361, NR. 483, R. Dussaud, Mission, 314, J. Cantineau, Le Nebateen, 1932, 49, Die Araber, II, S. 313.(5/190)
سلطانه بلغ بذلك حدود أرض اليمن. فامتد حكمه إذن من الحيرة وبلاد الشام إلى نجد والحجاز، حتى بلغ حدود مدينة "نجران". وقد كانت منازل "معد" في الحجاز وفي ضمن أرضها "مكة" وتمتد إلى "نجران"1.
ويظهر من دفن "امرئ القيس" في موضع "النمارة" من بلاد الشأم أن "امرأ القيس" كان في بلاد الشأم حينما نزل به أجله. ويرى بعض الباحثين أنه كان قد جاء إلى بلاد الشأم؛ لأنه كان من حزب "بهرام" الثالث ومن مؤيديه، فلما وقع الخلاف بين الفرس على العرش وانتصر "نرسي" "293-302م" "293-303"، خرج امرؤ القيس من العراق، وقصد بلاد الشأم، فأقام هناك، وما إلى الروم فأيدوه وأقروه على عرب بلاد الشأم، فيكون قد عمل للفرس وللروم معًا2.
وكتابة "النمارة" هي شاهد قبر ملك عربي يدعى "امرأ القيس"، عثر عليها في موضع "النمارة" وهو في الحرة الشرقية من جبل الدروز، ويرجع تأريخها إلى اليوم السابع من شهر "كسلول" من سنة "223" من تقويم "بصرى" أي في اليوم السابع من شهر كانون الأول من سنة "328" بعد الميلاد3. دونت على ضريح الملك، وهو بناء مربع، لتكون دليلًا للناس يعرفون منها اسم صاحب القبر. وتتألف من خمسة أسطر، هذا نصها:
1- تي نفس مر القيس بن عمرو ملك العرب كله ذو اسر التج.
2- وملك الأسدين ونزرو وملوكهم وهرب مدحجو عكدى وجا.
3- بزجي في حبج نجرن مدينة شمر وملك معدو ونزل بنيه.
4- الشعوب ووكلهن فرسو لروم فلم يبلغ ملك مبلغه.
5- عكدى. هلك سنة 223 يوم بكسلول بلسعد ذو ولده4.
__________
1 Die Araber II, S. 321.
2 رينه ديسه، العرب في سورية قبل الإسلام "ص 36 وما بعدها".
Die Araber, II, S. 319.
3 REP. EPIG, I, VII, P. 361, No. 483, Syria, Tome. IV, 1932, P. 154.
4 ولفنسون "190"، زيدان، العرب قبل الإسلام "203"، رينه ديسو، العرب في سورية قبل الإسلام "ص 33".
Lidzbarski Ephemeris, Zweiter Band, Erstr Hert, S. 34. REP. EPIG, I, VI, P. 362, Dussaud, Nabateo-Arabe D'An-Nemara In Rev. Arch, 1902, II, 409-421, Halevy, In Rev. Sem, 1903, P. 58-82, Peiser Die Arabische Inschrift Von En-Nemara In Orientalis. Literatur-Zeitung, VI 15, Col. 277-281.(5/191)
وإذا أردنا تقريب هذه الكتابة إلى أفهامنا وتدوينها بلهجتنا العربية، لهجة القرآن الكريم، كتبناها على هذا الشكل:
1- هذا قبر امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي نال التاج.
2- وملك الأسدين ونزارًا وملوكهم، وهزم مذحجًا بقوته وقاد.
3- الظفر إلى أسوار نجران، مدينة شمر. وملك معدًّا واستعمل أبناءه على.
4- القبائل. ووكلهم لدى الفرس والروم، فلم يبلغ ملك مبلغه.
5- في القوة. هلك سنة 223 يوم 7 بكسلول. ليسعد الذي ولده1.
وقد استدل المستشرقون من عبارة "ذو أسر التاج" "الذي نال التاج" على أن صاحب هذا التاج هو من الملوك الذين كان لهم اتصال بالفرس، وأن المقصود به ملك من ملوك الحيرة، لوجود صلة لهم بالانبراطورية الفارسية2. ودعواهم في ذلك أن هذه الجملة، وكلمة "تج" "تاج" هما من الاصطلاحات المستعملة عند الفرس وعند من خالطهم من الملوك، فلا بد أن يكون حاملها من الملوك المحالفين لهم, وكلمة "تاج" من الألفاظ المعربة عن الفارسية، من أصل "تاك"3. ولما كان هذا ملكًا عربيًّا، فهو إذن امرؤ القيس ملك الحيرة4.
__________
1 تختلف الترجمات بعضها عن بعض بعض الاختلاف، بسبب اختلاف العلماء في القراءات، راجع جواد علي: تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 437 وما بعدها".
Rene Dussaud, Mission, 1903, P. 314-323, R. Dussaud, In Revue Archeologique, 1902, III, Tome 41, PP. 409-421, Les Araves En Syrie Avant L'Islam, P. 34 Hommel, Grundriss, I, S. 155, Clermont-Ganneau, Recueii D'Archeologie Orient, VI, P. 395, VII, P. 167.
2 زيدان، العرب قبل الإسلام "203"، تأريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي "3/ 441".
3 غرائب اللغة "221".
4 Hommel, I, S. 155, De Lagarde, Armen. Stud, 834.(5/192)
وكان من عمال "سابور بن أردشير" و"هرمز بن سابور" و"بهرام ابن سابور" "على فرج العرب من ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة" في تأريخ الطبري1. وورد في تأريخ ابن خلدون نقلًا عن "السهيلي": أن "امرأ القيس" كان عاملًا للفرس على مذحج وربيعة ومضر وسائر بادية العراق والجزيرة والحجاز2. ويظهر أن المورد الذي نقل منه "السهيلي" و"الطبري" يرجع إلى منبع واحد، هو "ابن الكلبي". وما رواه "ابن الكلبي" يتفق بوجه عام مع ما جاء في نص "النمارة" من أمر ملك وفتوح "امرئ القيس".
و"شمر" صاحب مدينة "نجران"، هو "شمر يهرعش" في رأي أكثر المستشرقين، وينطبق زمانه على زمان "امرئ القيس"3. وإذا صح هذا الرأي نكون قد حصلنا على أول نص عربي جاهلي يشير إلى حرب نشبت بين مملكة الحيرة ومملكة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" في عهد أول ملك من ملوكها وهو "شمر يهرعش" المعروف بـ "شمر يرعش" عند الإسلاميين.
وفي روايات الأخباريين ما يؤيد نشوب حرب بين عرب الحيرة وعرب اليمن في أيام "شمر يرعش"، غير أنها تناقض هذا المدون في النص عن تغلب "امرئ القيس" على نجران مدينة "شمر". فـ "شمر" عندها بطل من الأبطال، فتح الفتوح العظيمة، وبلغ ملكه حدًّا لم يصل إليه ملك "اسكندر ذي القرنين". وعندهم أيضًا أنه هو باني مدينة "سمرقند"، وهو الذي حير "الحيرة". وهو تبع الأكبر وهو وهو، على حين هو –في هذا النص- ملك مغلوب، لم يتمكن من الوقوف أمام "امرئ القيس" الذي بلغت جيوشه مدينة "نجران". فهل تجد تناقضًا أغرب من هذا التناقض؟ على أننا لو فرضنا أن "شمرًا" صاحب نجران هو رجل آخر غير "شمر يرعش"، فهذا النص يهدم بنيان الأخباريين اليمانيين القائم على أساس المبالغة في المفاخرات والمباهاة بالأجداد نكاية بالعدنانيين الذين تعالوا عليهم في الإسلام بفضل النبي وشرق الإسلام، فأحفظهم4 ذلك جدًّا.
وقد سبق أن تحدثت عن عثور العلماء منذ عهد غير بعيد على نص أشار إلى
__________
1 الطبري "2/ 64 وما بعدها".
2 ابن خلدون "2/ 171 وما بعدها"، "بولاق 1284هـ".
3 جواد علي تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 141 وما بعدها".
4 أغضبهم.(5/193)
غزو غزاه قائد من قواد "شمس" على "ملك أسد" وأرض "تنوخ" التي تخص الفرس، وذكرت أن "شمر" المذكور هو "شمر يهرعش" في رأي الباحثين1. وقد تحدثت عنه حديثًا فيه الكفاية في موضعه، وفي أثناء كلامي على "شمر يهرعش"، فلا حاجة بي هنا لإعادة الكلام عليه.
ويرى بعض الباحثين أن "المشتى" الأثر الشهير المعروف الذي نقلت أحجار جدرانه المزخرفة إلى متحف "قيصر فريدرش ويلهم" ببرلين، ولا تزال آثاره باقية، هو من بناء "امرئ القيس". وقد استدلوا على ذلك بطراز بنائه الذي يشبه الطراز "الحيري" على رأيهم، وذهبوا إلى أنه أقامه في هذا المكان بعد فراره من أرض الحيرة ومن الساسانيين سنة "293م"، ليكون قصر له وحصنًا يدافع به عن ملكه الجديد2.
ويذكر الطبري أن وفاة "امرئ القيس" كانت في عهد "سابور"، أي سابور ذي الأكتاف "310-379 م"، وأنه كان عامل "سابور" على ضاحية مضر وربيعة، وأن سابور استعمل ابنه عمرو بن امرئ القيس في مكان والده3.
وحكم بعد امرئ القيس البدء ابنه عمرو. وأمه هند بنت كعب بن عمرو على رواية4. و"مارية البرية" أخت "ثعلبة بن عمرو" من ملوك الغساسنة في رواية أخرى5. وكان يعصر من ملوك الفرس سابور ذا الأكتاف "310-379م" وأخاه "أردشير بن هرمز بن نرسي" "379-383م" وسابور بن سابور "سابور الثالث" "383-388م"6. وقد نعته بعض الأخباريين بموقد الحرب "مسعر حرب". وذكروا أنه حكم خمسًا وعشرين سنة7. ونعت الأخباريين له هذا النعت، يدل على أنه كان محاربًا، ولكنهم لم يذكروا شيئًا من تلك الحروب.
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P. 487.
2 Die Araber, II, S. 258, 318, 320.
3 الطبري "2/ 61 وما بعدها"، "دار المعارف".
4 حمزة "ص 67".
5 المروج "3/ 199"، "2/ 23". "طبعة دار الرجاء".
6 الطبري "2/ 70".
7 شرح قصيدة ابن عبدون المعروفة بالبسامة "ص 100".(5/194)
وقد ذهب بعض الأخباريين إلى أن مارية التي ضرب المثل بقرطيها فقيل قرطًا مارية، هي مارية هذه أم عمرو1.
وقد وضع اليعقوبي بعد امرئ القيس شقيقه الحارث بن عمرو بن عدي ملكًا وجعل مدة ملكه سبعًا وثمانين سنة، ثم وضع عمرًا ابن امرئ القيس ملكًا من بعده. وحكم هذا على زعمه مدة أربعين عامًا2.
ولا نعرف من أعمال عمرو هذا شيئًا. وللأخباريين في مدة حكمه أقوال عدة تتراوح عندهم من25 سنة إلى60 سنة3. وقد ذكر الطبري أن عمرًا "بقي في عمله بقية ملك سابور وجميع أيام أردشير بن هرمز بن نرسي، وبعض أيام سابور بن سابور"، ثم قال أن جميع مدة ملكه فيما ذكره ابن الكلبي ثلاثين سنة4. وإذا أخذنا برواية الطبري المذكورة، تكون مدة حكمه حوالي الستين سنة، ومعنى هذا أن عمرًا كان قد عمر أكثر من ستين سنة، وأنه توفي بعد وفاة سابور ذي الأكتاف وبعد سنة "383م"؛ لأن حكم "سابور بن سابور" المعروف عند المؤرخين بـ "سابور" الثالث كان في حوالي السنة "383م". فقد تولى سابور هذا الحكم فيما بين "383" حتى سنة "387" أو "388م"5. وإذا أخذنا برواية من يقول أنه حكم "25" سنة، أو "30"، وجب أن تكون وفاته في أيام "سابور ذي الأكتاف".
وقد جعل الطبري في موضع آخر من تأريخه وفاة "عمرو" في عهد "سابور ابن سابور"، أي "سابور" الثالث6. وبذلك يكون قد أطال مدة حكمه وعمره.
ويذكر الطبري أن "سابور بن سابور" استخلف "على عمله أوس بن قلام في قول هشام"، وذلك بعد مهلك "عمرو"7. ولم يذكر الأسباب التي حملت سابور على هذا التعيين. ويظهر أنه كان من أسرة غريبة عن أسرة "آل لخم"
__________
1 البسامة "ص 101".
2 اليعقوبي "1/ 170".
3 الطبري "2/ 70"، ابن الأثير "1/ 158"، حمزة "67"، مروج "3/ 199".
4 الطبري "2/ 62"، "دار المعارف".
5 Ency. 4, P. 178.
6 الطبري "2/ 65".
7 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر"، مفاتيح العلوم "69".(5/195)
الحاكمة. ويرجع ابن الكلبي نسبه إلى العماليق، فيقول إنه من "بني عمرو بن عمليق"1. وذكر حمزة نسبه على هذه الصورة: أوس بن قلام بن بطينا بن جمهير بن لحيان العمليقي2. وجعله ابن خلدون من بني عمرو بن عملاق3.
ويتبين من خبر ورد في "الأغاني" أن أوسًا كان من أسرة كانت تقيم في الحيرة، وهي من بني الحارث بن كعب4. وقد ورد اسم رجل آخر من هذه الأسرة، ذكر أنه بنى ديرًا في الحيرة5.
ولا نعرف من أعمال أوس هذا شيئًا، وكل ما نعرفه عنه أنه حكم خمس سنوات6. وأن امرءًا اسمه "جحجبن بن عتيك بن لخم" "جحجبا" ثار به فقتله على رواية لابن الكلبي ذكرها الطبري7. أما حمزة فذكر اسمه ونسبه على هذه الصورة، "ححجنا بن عبيل أحد بني فاران". وقال: "قال ابن الكلبي: وهو فاران ابن عمرو بن عمليق، وهم بطن بالحيرة يقال لهم بنو فاران، وححجنا منهم. فقتل ححجنا أوسًا، فرجع الملك إلى آل بني نصر"8.
فنحن إذن أمام روايتين في أصل جحجبي "جحجبا" أو ححجنا: رواية ترجعه إلى لخم، ورواية أخرى ترجعه إلى بني فاران، وترجع بني فاران إلى "عمرو بن عمليق"، أي إلى العشيرة التي رجع الأخباريون نسب أوس بن قلام إليها، إذن فهو بموجبها من العماليق.
أما هذا الاختلاف الذي نراه بين الرواة في كيفية ضبط اسم هذا الثائر في جحجبا أو حججنا، وفي عتيك أو عبيل، فيمكن رجعه إلى خطأ وقع في تدوين الروايات، إما سهوًا وإما جهلًا بحقيقة الاسم، فمن هذين نشا لدينا هذا الاختلاف.
ولم يذكر الأخباريون الأسباب التي حملت "جحجبى" على الثورة والمنافع
__________
1 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر".
2 حمزة "ص 67".
3 ابن خلدون "2/ 48".
4 الأغاني "2/ 18، 26".
5 Rothstein, S. 64.
6 الطبري "2/ 72"، "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر"، حمزة "ص 67".
7 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر".
8 حمزة "ص 67".(5/196)
التي جرها لنفسه منها، وكل ما ذكروه عنه أنه ثار به جحجبى فقتله، وأن هلاكه كان في عهد "بهرام بن سابور" "388-399م"، وأن "بهرام" استخلف بعده في عمله "امرئ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس البدء" خمسًا وعشرين سنة. وكان هلاكه في عهد يزدجرد الأثيم1.
فيتبين من ذلك أن "جحجبا" "جحجبى"، قاتل أوس، لم يحكم الحيرة وأن حكمها عاد فانتقل إلى آل نصر.
ولم يذكر اليعقوبي أوس بن قلام ولا الثورة التي قام بها جحجبا "جحجبى"، بل نصب رجلًا آخر بعد عمرو بن امرئ القيس هو المنذر بن امرئ القيس، ونعته بالمحرق، نعته بذلك؛ لأنه أخذ قومًا حاربوه، فحرقهم، فسمي لذلك محرقًا، وجعل بعده النعمان2.
ولم يذكر المسعودي كذلك أوس بن قلام ولا جحجبا "جحجبى"، بل ذكر النعمان بن امرئ القيس رأسًا بعد عمرو بن امرئ القيس، وقال أنه قاتل الفرس خمسًا وستين سنة، وأن أمه الهيجانه بنت سلول، وكانت من مراد أو من إياد3.
وقد نعت الطبري امرأ القيس هذا بالبدء4. أما حمزة فلقبه بالبدن5. وأظن أن مرد هذا الاختلاف خطأ وقع في الروايات من الرواة أو الكتابة للحرف الأخير من كلمة البدء أو البدن، فصارت الكلمة الواحدة في الأصل كلمتين.
وذكر ابن الأثير أن بهرام بن سابور استخلف من بعد أوس امرأ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الكندي، فبقي خمسًا وعشرين سنة، وهلك في أيام يزدجرد الأثيم6، وإضافة الكندي إلى امرئ القيس خطأ، ولا شك، فلم يرو أحد من الأخباريين أن امرأ القيس هذا كان كنديًّا. ومن المعروف أن ابن الأثير قد اعتمد على تأريخ الطبري اعتمادًا كليًّا، حتى ليمكن أن يقال أنه اختصره، والعبارتان خلا زيادة كلمة "الكندي" متشابهتان، ففي استطاعتنا أن نقول بحدوث هذه الزيادة في تأريخ ابن الأثير إما من النساخ وإما من ابن الأثير نفسه، إذ
__________
1 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر".
2 اليعقوبي "1/ 170".
3 مروج "2/ 23" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
4 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف".
5 حمزة "ص 67"، "ثم امرؤ القيس البدن"، مفاتيح العلوم "69".
6 ابن الأثير: الكامل "1/ 176".(5/197)
استعجل دون تفكير فأضاف كلمة الكندي إلى نسب امرئ القيس، لشهرة امرئ القيس الكندي.
ولا نعرف من خبر امرئ القيس شيئًا يذكر. وقد ذكر حمزة أنه هو محرق الأول، وأنه أول من عاقب بالنار. وفي روايته هذه أنه حكم إحدى وعشرين سنة1. أما الطبري، فذكر أنه حكم خمسًا وعشرين سنة2.
وذكر الطبري أن "يزدجرد" المعروف بالأثيم "399-420م"، الذي في أيامه كان هلاك "امرئ القيس" استخلف مكان "امرئ القيس" ابنه "النعمان". وهو فارس حليمة، وصاحب الخورنق3.
وهذا النعمان المعروف عند المؤرخين بالنعمان الأول، هو أول ملك نستطيع أن نتحدث عنه بشيء من التأكيد والتحقيق والتفصيل، وهو كما يقول الأخباريون: النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي، أما أمه، فهي شقيقة ابنة أبي ربيعة ابن ذهل بن شيبان4، وهي أخت عمرو المزدلف.
وقد عرف النعمان بالنعمان الأعور كذلك، كما عرف أيضًا بالسائح5. وكان له شقيق من أمه شقيقة، هو "حسان بن زهير"6.
ويظهر من وصف الأخباريين للنعمان أنه كان رجلًا حازمًا قويًّا، محاربًا من أشد الناس نكاية في عدوه. غزا عرب الشأم مرارًا كثيرة فسبى منهم وغنم. وكان يغزو بكتيبتين كانتا عنده: دوسر وأهلها تنوخ، والشهباء وأهلها الفرس. يغزو بهما من لا يدين له من العرب7. وقد اشتهرت دوسر بشدة ضربتها حتى قيل أبطش من دوسر8. وقد نسب بعضهم له خمس كتائب، هي: الرهائن
__________
1 حمزة "ص 67"، "وهو محرق الأول؛ لأنه أول من عاقب بالنار"، مفاتيح العلوم "69".
2 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر".
3 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر".
4 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف". ابن الأثير "1/ 176" ابن خلدون "2/ 48".
5 حمزة "ص 68"، مفاتيح العلوم "69".
6 حمزة "ص 68".
7 الطبري "2/ 73"، "2/ 67" "دار المعارف"، حمزة "ص 67".
8 الميداني: مجمع الأمثال "1/ 78"، "ضربت دوسر فيه ضربة"، اللسان "4/ 285"، "صادر"، مادة "دسر".(5/198)
والصنائع والأشاهب، والكتيبتان المذكورتان، أما الرهائن، فذكروا أنها كانت تتألف من خمسمائة رجل رهائن لقبائل العرب، يقيمون على باب الملك سنة، ثم يجيء بدلهم خمسمائة أخرى، وينصرف أولئك إلى أحيائهم، فكان الملك يغزو بهم ويوجههم في أموره. وأما الصنائع، فهي: بنو قيس وبنو تيم اللات بن ثعلبة، وكانوا خواص الملك لا يبرحون بابه.
وذكر أنه كانت له كتيبة تسمى "الوضائع"، وقوامها ألف رجل من الفرس يضعهم ملوك الفرس بالحيرة نجدة لملوك العرب، وكانوا يقيمون سنة، ثم يأتي بدلهم ألف رجل، وينصرف أولئك1.
وقيل إن وجوه العرب وأصحاب الرهائن كانوا يفدون عند رأس كل سنة، وذلك في أيام الربيع، إلى النعمان وبقية من تولى الملك بعده، وقد صير لهم أكلًا عنده، وهم ذوو الآكال، فيقيمون شهرًا، ويأخذون آكالهم ويبدلون رهائنهم وينصرفون إلى أحيائهم. والآكال هم سادة الأحياء. وكانوا يأخذون المرباع، أي ربع الغنيمة في الحرب والغزو2.
ونعت بعض المؤرخين مثل الطبري وحمزة النعمان بأنه فارس حليمة3، أي معركة حليمة المعروفة التي وقعت في أيام المنذر بن ماء السماء، لا في أيام النعمان على روايات آخرين4.
وإلى النعمان هذا ينسب أكثر الأخباريين بناء قصر الخورنق الشهير في الأدب العربي. قيل: أنه بناه لبهرام جور بن يزدجرد الأول "399-420م" المعروف بالأثيم. وكان يزدجرد لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل بريء مريء صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا، وأمره ببناء الخورنق مسكنًا له، وأنزله إياه، وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب5.
__________
1 بلوغ الأرب "2/ 176".
2 بلوغ الأرب "2/ 176".
3 الطبري "2/ 65" "دار المعارف"، حمزة "ص 68"، مفاتيح العلوم "69".
4 البلدان مادة حليمة، الميداني: مجمع الأمثال "1/ 231"، "2/ 150".
5 الطبري "2/ 73" "2/ 65" "دار المعارف" الأغاني "2/ 144"، "طبعة دار الكتب المصرية".(5/199)
وذكر "السهيلي" أن الخورنق قصر بناه النعمان الأكبر ملك الحيرة لسابور كون ولده فيه عنده، وبناه بنيانًا عجيبًا لم تر العرب مثله، واسم الذي بناه له سنمار، وكان بناه في عشرين سنة1. ويذكر بعضهم أنه بني على نهر "سنداد"2.
وقد ارتبط اسم الخورنق في القصص الذي شاع حوله باسم بانيه المسمى سنمار، هو في زعم الأخباريين بناء رومي كلفه النعمان بناء القصر، فلما انتهى منه وكمل تعجب من حسنه وإتقان عمله، وبدلًا من أن يوفيه النعمان وفاءً حسنًا، أمر به فطرح من رأس الخورنق، فمات في قصص يرويه الأخباريون. ويضرب بهذه لنهاية المثل في الأدب العربي في الجزاء السيئ، فيقال "جزاه جزاء سنمار"3.
وقد وردت قصة سنمار في أبيات تنسب لعبد العزى بن امرئ القيس الكلبي، وكان أهدى أفراسًا إلى الحارث بن مارية الغساني ووفد عليه، فأغره وأكرمه، ثم عاقبه لما بلغه خبر وفاة ولد للحارث وكان قد استرضعه لدى بني الحميم بن عوف من بني عبد ود من كلب، نهشته حية فتوفي، فظن الملك أنهم اغتالوه، لذلك طلب من عبد العزى أن يجيء بهم إليه. فلما أبى، أنزل به العقاب، وقد
__________
1 الروض الأنف "1/ 67"، "والخورنق: نهر. والخورنق: المجلس الذي يأكل فيه الملك ويشرب، فارسي معرب، أصله خرنكاه، وقيل: خرنقاه معرب، قال الأعشى:
ويجيء إليه السيلحون ودونها ... صريفون في أنهارها والخورنق
والخورنق: نبت. والخورنق: اسم قصر بالعراق، فارسي معرب، بناه النعمان الأكبر الذي يقال له الأعور، وهو الذي لبس المسوح فساح في الأرض"، اللسان "10/ 79"، مادة "خرنق".
2 بلوغ الأرب "1/ 376".
3 الطبري "2/ 65 وما بعدها"، "دار المعارف"، البلدان "2/ 1 وما بعدها"، دائرة المعارف الإسلامية "9/ 35"، الميداني، مجمع الأمثال "1/ 167"، البكري، معجم "2/ 516"، "وسنمار: اسم رجل أعجمي، قال الشاعر:
جزتنا بنو سعد بحسن فعالنا ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
وحكي فيه السنمار بالألف واللام. قال أبو عبيد: سنمار اسم إسكاف بنى لبعض الملوك قصرًا، فلما أتمه أشرف به على أعلاه فرماه منه غيرة منه أن يبني لغيره مثله، فضرب ذلك مثلًا لكل من فعل خيرًا فيجزى بضده. وفي التهذيب: من أمثال العرب في الذي يجازي المحسن بالسوأى قولهم: جزاه جزاء سنمار، قال أبو عبيد: سنمار بناء مجيد رومي فبنى الخورنق الذي بظهر الكوفة للنعمان ابن المنذر، وفي الصحاح: للنعمان بن امرئ القيس، فلما نظر إليه النعمان كره أن يعمل مثله لغيره، فلما فرغ منه ألقاه من أعلى الخورنق فخر ميتًا" اللسان "4/ 383" "صادر"، مادة "سنمر".(5/200)
ورد في هذه الأبيات أن سنمار صرف عشرين حجة في بنائه البنيان بالقرميد والسكب، فلما كمل البناء وآض كمثل الطود، وظن سنمار أنه سينال من صاحبه المودة والقرب، إذ بصاحب القصر يأمر بقذفه من فوق برجه فيموت. ولم يذكر الشاعر اسم الملك ولا اسم الخورنق، وهو يخاطب في هذه الأبيات ابن جفنة، كما أشير إلى "المرء حارث" ويقصد به الحارث الغساني1.
وقد نسب بعض أهل الأخبار قصة نهاية "سنمار" إلى "أحيحة بن الجلاح". فذكروا أن أحيحة أراد بناء أطم له، فبناه له "سنمار". فلما كمل، عجب من بنائه، فقال له "سنمار": "إني لأعرف فيه حجرًا لو انتزع لتقوض من عند آخره، فسأله عن الحجر، فأراه موضعه، فدفعه أحيحة من الأطم، فخر ميتًا2.
وقد ذكر "جزاء سنمار" في شعر لأبي الطمحان القيني، وآخر لسليط بن سعد وآخر ليزيد بن إياس النهشلي3.
واقترن اسم هذا القصر في الغالب باسم قصر آخر نسب بناؤه أيضًا إلى هذا النعمان، هو السدير4.
ويتبين من روايات أهل الأخبار عن "الخورنق" و"السدير" أن القصر الأول لم يكن بعيدًا عن الحيرة، وإنما كان على مقربة منها، وربما كان على مسافة ميل من الحيرة. أما "السدير"، فكان على مسافة بعيدة، وقد ورد أنه كان في وسط البرية التي بينها وبين الشأم.
__________
1 "ودعا ابنيه: شراحيل وعبد الحارث، فكتب معهما إلى قومه:
جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رصه البنيان عشرين حجة ... يعلي عليه بالقراهيد والسكب
فلما رأى البنيان تم سموقه ... وآض كمثل الطود ذي الباذخ الصعب
فاتهمه من بعد حرس وحقبة ... وقد هره أهل المشارق والغرب
وظن سنمار به كل حبرة ... وفاز لديه بالمودة والقرب
فقال: اقذفوا بالعلج من فوق برجه
فهذا لعمر الله من أعجب الخطب"
الطبري "2/ 66 وما بعدها"، "دار المعارف".
2 الميداني، مجمع الأمثال "2/ 167".
3 الطبري "2/ 66 "دار المعارف".
4 البلدان "السدير"، حمزة "ص67"، البكري "3/ 729"، الروض الأنف "1/ 66".(5/201)
ويظهر من وصف أهل الأخبار للسدير، ومن أنه كان قبة في ثلاث قباب متداخلة1، ومن وصفهم للخورنق، أن السدير لم يكن في مثل ضخامة قصر الخورنق، وأن الخورنق كان قصرًا كبيرًا أعد للسكنى وليكون حصنًا يهيمن على مشارف البادية.
ويرى بعض الباحثين أن قصر الخورنق لم يكن من بناء "النعمان"، وأنه إنما بني قبل ذلك، ويرى أن النعمان قد أسكن "بهرام" فيه2.
وقد ورد ذكر الخورنق في شعر لحسان بن ثابت:
وحارثة الغطريف أو كابن منذر ... ومثل أبي قابوس رب الخورنق3
وقد ذهب بعض شراح هذا البيت إلى أن المراد بـ "ابن منذر" "عمرو ابن هند"، وأن المراد من "أبي قابوس"، "النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن عدي اللخمي"، الذي لبس المسوح وساح في الأرض، والذي نعته الشاعر عدي بن زيد العبادي بـ "رب الخورنق"4. وهو تفسير ينسجم مع رأي المؤرخين في باني القصر، إلا أنه يتعارض معهم في تسمية الملك، فالمعروف عندهم أن "أبا قابوس" هو "النعمان بن المنذر" آخر ملوك الحيرة، وهو قاتل الشاعر "عدي بن زيد العبادي" لا "النعمان السائح"5. ولا يوجد أحد غيره عرف عندهم بـ "أبي قابوس". وقد حكم هذا بعد "عمرو بن هند" بأمد، فيكون هو مراد الشاعر المذكور. غير أن هذا يدفعنا إلى تخطئة "حسان" في نسبة الخورنق إلى هذا الشاعر، أو تخطئة المؤرخين في نسبتهم القصر إلى "النعمان
__________
1 "والسدير: بناء، وهو بالفارسية سهدلي أي ثلاث شعب أو ثلاث متداخلات. وقال الأصمعي: السدير فارسية، كان أصله سادل أي قبلة في ثلاث قباب متداخلة، وهي التي تسميها الناس اليوم سدلي، فأعربته العرب، فقالوا سدير، والسدير: النهر، وقد غلب على بعض الأنهار، قال:
الابن امك ما بدا
ولك الخورنق والسدير
التهذيب: "السدير نهر بالحيرة"، اللسان "4/ 355"، "صادر"، نهاية الأرب "1/ 385 وما بعدها".
2 إيران في عهد الساسانيين، أرثر كريستين، ترجمة يحيى الخشاب "ص 260".
3 البرقوقي "ص 287".
4 الخورنق "ص 287".
5 المحبر "358 وما بعدها".(5/202)
السائح". والذي أراه أن هذا التفسير، لا يتعارض مع روايات المؤرخين في باني القصر، وأن مراد الشاعر من "ومثل أبي قابوس رب الخورنق"، أنه صاحب الخورنق، أي مالكه والنازل فيه، لا الباني له. وقد ذكره لشهرة القصر في أيامه وبذلك فلا يقع التعارض بين التفسيرين، ويكون الملك المقصود هو "النعمان أبو قابوس".
وممن أشار إلى القصرين: الخورنق والسدير في شعره من الشعراء الجاهليين، المنخل، قال:
وإذا صحوت فإنني ... رب الشريهة والبعير
وإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وقد نشأ لقب "السائح" الذي لقب به النعمان من القصة الشهيرة التي يرويها الأخباريون عن هذا الملك، وهي أن النعمان جلس في يوم من أيام الربيع في قصره الخورنق فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار ... فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار، فقال لوزيره وصاحبه: هل رأيت مثل هذا المنظر قط؟ فقال: لا، لو كان يدوم! قال: فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة، قال: فيم ينال ذلك؟ قال: بترك الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده. فترك ملكه من ليلته، ولبس المسوح مستخفيًا هاربًا لا يعلم به، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله، فحضروا بابه، فلم يؤذن لهم عليه كما كان يفعل. فلما أبطأ الإذن عليهم، سألوا عنه، فلم يجدوه، وساح الملك منذ ذلك الحين في الأرض، فلم يره إنسان1.
ويلحق الأخباريون بهذه القصة أبياتًا ينسبونها لعدي بن زيد العبادي. ذكروا أنه خاطب بها النعمان بن المنذر، هي في الواقع اختصار للقصة، لم يذكر فيها اسم النعمان، وإنما اكتفى الشاعر بذكر رب الخورنق، ورب الخورنق هو النعمان في تفسير الأخباريين2.
__________
1 الطبري "2/ 73 وما بعدها"، "2/ 67"، "دار المعارف"، حمزة "ص 68". المعارف "ص 282".
2 الطبري "2/ 67 وما بعدها"، حمزة "ص 69"، المعارف "ص 282"، نهاية الأرب "1/ 387".(5/203)
والأبيات المنسوبة إلى عدي بن زيد، وهي:
وتذكر رب الخورنق إذ فكـ ... ر يومًا، وللهدى تفكير
سره ملكه وكثرة ما يملـ ... ك والبحر معرضًا والسدير
فارعوى جهله فقال وما غبـ ... طة حي إلى الممات يصير
تشير إلى النعمان السائح، وتذكر قصة مفارقته ملكه، ولبسه المسوح وإعراضه عن الملك بعد أن كان ملكًا. ولم يقصد بالنعمان: النعمان بن أبي سلمى صاحبه، كما تصور بعض الناس1 ويظهر أنه نظمها للنعمان صاحبه على سبيل العظة والتذكير، ليدخله في النصرانية، وذلك بعد أن كان يتعبد للأوثان. وقد تمكن من التأثير فيه، فأدخله فيها كما يذكر الأخباريون.
وقد ورد في بعض الروايات تنصر النعمان2، ونسب تنصره إلى سلطان القديس "سمعان العمودي" "Symion Stylites" عليه، وكان يقوم، بالتبشير بين أهل الحيرة3. وذكر أنه شفاه ببركته من مرض كان به، فتنصر4. وهي رواية في حاجة إلى دليل. فليم يثبت أن آل لخم كانوا قد تنصروا في هذا العهد.
وقد ذكر الطبري أن تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن، تبع حمير أرسل حينما ولى الملك ابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش عظيم إلى بلاد معد والحيرة وما والاها، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس ابن الشقيقة، فقاتله، فقتل النعمان وعدة من أهل بيته، وهزم أصحابه، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر، وأمه ماء السماء امرأة من النمر. فذهب ملك آل النعمان، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كانوا يملكون5.
وقد استدرك الطبري على هذه الرواية، فذكر بعدها مباشرة هذه الجملة، قال: "وقال هشام: ملك بعد النعمان بن المنذر ابنه المنذر ابن النعمان، وأمه
__________
1 رسالة الغفران "555", "تحقيق الدكتورة عائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ".
2 ابن خلدون "2/ 271".
3 شيخو: النصرانية 82.
4 السمعاني "1/ 247"، الحيرة "151". Causin, 254.
5 الطبري "2/ 86"، "2/ 89 وما بعدها" "دار المعارف".(5/204)
هر ابنة زيد مناة بن زيد الله بن عمرو الغساني أربعًا وأربعين سنة"1. وذلك يدل على أن هذه رواية أخرى منسوبة إلى ابن الكلبي أيضًا، ولكنه أخذها من مورد آخر غير المورد الذي نقل منه الرواية السابقة، وهي منسوبة أيضًا إلى ابن الكلبي استهلها الطبري بقوله: "حدثت عن هشام بن محمد"2. وهو ابن الكلبي.
وحديث الطبري عن قتل الحارث بن عمرو الكندي للنعمان بن امرئ القيس ابن الشقيقة، يناقض ما رواه هو نفسه وما رواه غيره عن تنسك النعمان واعتزاله الملك وسياسته في الأرض وعن اللقب الذي منحه الأخباريون إياه وهو "السائح"، ويظهر أن ابن الكلبي وأضرابه رواة هذه الروايات كانوا قد أخذوا رواياتهم من مصادر عربية مختلفة، غير مدونة، فوقع هذا التناقض بين الروايتين.
وعاد الطبري فتكلم على هذا الموضوع في أثناء حديثه عن الأحداث التي وقعت بين العرب في أيام قباذ، فقال: "وحدثت عن هشام بن محمد، قال: لما لقي الحارث بن عمرو بن حجر بن عدي الكندي النعمان بن المنذر بن امرئ القيس ابن الشقيقة، فقتله، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك، بعث قباذ بن فيروز ملك الفرس إلى الحارث بن عمرو الكندي: أنه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهد، وأني أحب أن ألقاك. وكان قباذ زنديقًا يظهر الخير ويكره الدماء3. فجعل الطبري والد النعمان في هذه الرواية المنذر بن امرئ القيس مع أن والد النعمان المقصود هو امرئ القيس.
وقد ذكر الطبري أن ملك النعمان إلى أن ترك ملكه وساح في الأرض تسع وعشرين سنة وأربعة أشهر. من ذلك في زمن يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة4. وإذا أخذنا بهذه الرواية وجب أن يكون ابتداء حكم الملك النعمان في سنة "405م"، وتركه الملك واختياره في الأرض وحياة الزهد في حوالي السنة "434م". فقد حكم بهرام بن يزدجرد، المعروف بـ "بهرام الخامس" عند المؤرخين فيما بين السنة "420م" والسنة "438"5.
وصار عرش الحيرة بعد النعمان إلى ابنه المنذر، وكانت أم المنذر من غسان.
__________
1 الطبري "2/ 90" "دار المعارف".
2 الطبري "2/ 89" "دار المعارف".
3 الطبري "2/ 89" "2/ 95" "دار المعارف".
4 الطبري "2/ 68" "دار المعارف".
5 Encuy., 4, P. 178.(5/205)
وهي هند بنت زيد مناة بن زيد بن عمرو الغساني1. أما المسعودي، فذكر أنها: هند بنت الهيجانة من آل بكر2.
وقد ذكر الطبري أن يزدجرد لما ولد بهرام جور، اختار لحضانته العرب، فدعا المنذر بن النعمان واستحضنه بهرام، فسار به المنذر، واختار لرضاعته ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة وأذهان ذكية وآداب حسنة، من بنات الأشراف، وهن عربيتان وعجمية، فأرضعنه ثلاث سنين، فلما بلغ خمس سنين، أحضر له مؤدبين، فعلموه الكتابة والرمي والفقه. وأحضر له حكيمًا من حكماء الفرس، ثم أحضر له معلمي الفروسية، فتعلم الرماية والصيد وركوب الخيل حتى صار من أمهر الناس. وظل هذا شأنه لدى المنذر حتى مات يزدجرد. ففرح الناس بوفاته وقرر الأشراف والموبذان والمرازبة صرف الملك عن أسرة يزدجرد، لسوء سيرته في الناس، ونصبوا شخصًا آخر مكانه. فلما رأى بهرام ذلك، طلب مساعدة المنذر، فأرسل المنذر قوة بقيادة ابنه النعمان، وسار هو على رأس قوة أخرى قوامها ثلاثون ألفًا من فرسان العرب، ومعه بهرام، وبعد مفاوضات وافق الفرس على خلع من نصبوه كسرى عليهم، وتعيين بهرام، وبفضل هذه المساعدة استعاد التاج3.
وتناقض هذه الرواية كما نرى من الرواية السابقة التي دونها الطبري نفسه في تعليل سبب بناء الخورنق والتي تحدثت عنها قبل قليل. وقد فطن ابن الأثير الذي نقل الروايتين أيضًا لهذا التناقض، فقال: "هكذا ذكر أبو جعفر، في اسم بهرام جور، أن أباه أسلمه إلى المنذر بن النعمان كما تقدم، وذكر عند يزدجرد الأثيم أنه سلم بهرام إلى النعمان بن امرئ القيس. ولا شك أن بعض العلماء قال هذا وبعضهم قال ذاك، إلا أنه لم ينسب كل قول على قائله"4. وأبو جعفر هذا هو الطبري.
ولا نعلم شيئًا من أمر النعمان بن المنذر الذي تولى قيادة القوة التي أمر والده بإرسالها للتحرش بمملكة الفرس، بعد أن رفضوا نصب بهرام جور ملكًا عليهم
__________
1 حمزة "ص 69"، الطبري "2/ 86"، "2/ 68 وما بعدها"، "دار المعارف".
2 مروج "2/ 23".
3 الطبري "2/ 74 وما بعدها"، الدينوري، الأخبار الطوال "ص57 وما بعدها"، تحقيق "فلاديمير جرجاس" "طبعة ليدن".
Noldeke, Aufsiltye. S.104.
4 ابن الأثير: الكامل "1/ 162".(5/206)
على نحو ما رأيناه في رواية الطبري الثانية1. فقد سكت الطبري عنه كما سكت الآخرون.
ونجد رواية نشأة بهرام جور بأرض العرب في رواية لليعقوبي مختصرة، هي في الواقع جمع للروايتين السابقتين. ذكر اليعقوبي أن يزدجرد دفع بهرام جور إلى النعمان، فأرضعته نساء العرب، ونشأ على أخلاق جميلة. ولما مات يزدجرد كرهت الفرس أن تولي ابنًا له لسوء سيرته، وقالوا: "بهرام ابنه قد نشأ بأرض العرب لا علم له بالملك". وأجمعوا على أن يملكوا رجلًا غيره، فسار بهرام في العرب، فلما لقي الفرس، هابته، فأذعنوا له وأعطوه الطاعة فوعدهم من نفسه خيرًا. وكتب إلى الآفاق يعدهم بذلك. وقدم المنذر بن النعمان عليه، فرفع منزلته2. فلم تنكر هذه الرواية رواية من زعم أن يزدجرد سلم ابنه إلى النعمان، ولم تنكر صلة المنذر ببهرام جور، ولكنها كما نرى لم تشر إلى اسم من قاد الجيش من العرب وسار إلى الفرس.
ولا يمنع على كل حال قول الأخباريين في بناء النعمان الأول الخورنق لبهرام من كون ابنه هو الذي ساعد بهرامًا على أخذ التاج. لقد سلمه والده صغيرًا إلى النعمان، فلما كبر وترعرع، ومات والده وهو بين عرب الحيرة، وامتنع الفرس من توليه التاج، ساعده المنذر في ذلك. وأخذ له حقه ممن اغتصبه منه.
ويظهر من أخبار الأخباريين أنه كانت للمنذر منزلة عند "يزدجرد". ذكر الطبري أن يزدجرد "دعا بالمنذر بن النعمان، واستحضنه بهرام، وشرفه وأكرمه، وملكه على العرب وحباه بمرتبتين سنيتين، تدعى إحداهما "رام أبزوذ يزدجرد" وتأوليها "زاد سرور يزدجرد"، وتدعى الأخرى "بمهشت" وتأويلها "أعظم الحول"، وأمر له بصلة وكسوة بقدر استحقاقه لذلك في منزلته، وأمره أن يسير ببهرام إلى بلاد العرب3.
وتناقض هذه الرواية رواية الطبري المذكورة في قصة بناء الخورنق، ورواية بقية أهل الأخبار عن قصة بناء ذلك القصر، وتؤكد أن وفاة "النعمان" الأول
__________
1 الطبري "2/ 72" "دار المعارف".
2 اليعقوبي "1/ 132".
3 الطبري "2/ 68 وما بعدها"، Rothstei,N S. 69.(5/207)
كانت في أيام يزدجرد، لا في أيام بهرام بن يزدجرد، وتفيد أن انتقال الحكم إلى المنذر كان في عهد يزدجرد.
واشترك المنذر في الحرب التي وقعت بين الروم والفرس بعد مدة قصيرة من تولي بهرام جور الملك، واختار بلاد الشأم ساحة لهجومه. والظاهر أن إسهامه في هذه الحرب كان بطلب من بهرام الذي لم يكن موقفه حسنًا فيها، فكلف المنذر مهاجمة بلاد الشأم، ليخفف من شدة ضغط الروم عليه. غير أن التوفيق لم يحالف المنذر في هجومه هذا، فمني بخسارة كبيرة وهو يحاول مع جيشه عبور الفرات، فغرق أكثرهم في النهر. وكان ذلك في سنة 421م. ولحقت به خسارة أخرى في السنة نفسها، أو في السنة التي تلتها حينما أعاد الكرة على الروم1. وقد ذكر المؤرخ "سقراط" "Socrates" المتوفى في حوالي سنة 439م غرق زهاء مئة ألف رجل من رجال المنذر في النهر، وهو عدد مبالغ فيه ولا شك.
وقد استند الطبري إلى رواية يتصل سندها بابن الكلبي، فجعل مدة حكم المنذر بن النعمان أربعًا وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشرة سنة، وفي زمن فيروز ابن يزدجرد سبع عشرة سنة2. وهذه الرواية تناقض روايات ابن الكلبي السابقة عن تولي المنذر الحكم في أيام يزدجرد الأثيم والد بهرام جور، كما مر معنا، وقد أغفلت أمر "هرمز" وهو ابن يزدجرد ابن بهرام جور، المعروف بالثالث، الذي حكم من حوالي السنة457 حتى السنة 459 للميلاد، فإذا فرضنا أن حكم المنذر كان ثماني سنين وتسعة أشهر من زمان بهرام جور الذي حكم من حوالي السنة 420 للميلاد حتى السنة 438 للميلاد، صارت السنة 429 هي السنة 430 للميلاد التي يجب أن تكون سنة توليه الحكم، وإذا أضفنا إلى هذا الرقم أربعًا وأربعين سنة، وهي مدة حكم المنذر، إلى هذه الرواية، صارت السنة 473-474 للميلاد، هي سنة انتهاء حكم المنذر بوفاته. وتكون سنة وفاته إذن في زمن "فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور" الذي حكم من حوالي السنة 459 حتى السنة
__________
1 Rothstein, S. 69, Socrates, VII, 18, Bar Hebraeus, Chron. Syriac, 75, Caussin, Essai, II 63, Noldede, Sas, 86, Paulys-Wissowa, Erster Galbband, S. 1281.
2 الطبري "2/ 90" "دار المعارف".(5/208)
484 للميلاد. وبحسب هذه الرواية يكون المنذر قد عاصر بهرام جور المعروف بـ "بهرام الخامس" عند المؤرخين وعاش في زمن يزدجرد الثاني، وهو ابن "بهرام جور"، وفي زمن "هرمز بن يزدجرد"، ثم في زمن شقيقه فيروز ابن يزدجرد بن بهرام جور1.
وتولى بعد المنذر ابنه الأسود من زوجته هر ابنة النعمان من بني الهيجمانة ابنة عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان على رواية الطبري2. ومن لخم على حد قول حمزة3.
وأما "الدينوري"، فذكر أن الذي ولي الملك بعد "النعمان بن امرئ القيس" الأعور والسائح، أخوه "المنذر بن امرئ القيس"، وكانت أمه من "النمر بن قاسط" ويقال لها: "ماء السماء" لجمالها وحسنها. وأبوها "عوف بن جشم" وقد ولاه "كسرى أنو شروان" العرش، وزعم أنه تزوج "هندًا" ابنة الحارث ابن عمرو الكندي آكل المرار، وهي التي أولدته ثلاثة أولاد هم: عمرو بن هند المعروف بمضرط الحجارة، وقابوس المعروف بقينة العرس، والمنذر بن المنذر. وذكر أنه بقي ملكًا على الحيرة إلى أن غزا "الحارث ابن أبي شمر الغساني"، وهو الأعرج، فقتله الأعرج بالحيار4.
وجعل "الدينوري" "المنذر بن المنذر بن امرئ القيس" بعد "المنذر" المذكور، وقال: إنه خرج يطلب دم أبيه، فقتله الحارث أيضًا بعين أباغ، ويقال: إن قاتله هو "مرة بن كلثوم التغلبي"، أخو عمرو بن كلثوم، ثم نصب من بعده شقيقه عمرو بن هند، ثم النعمان بن المنذر أبا قابوس، وبذلك أنهى قائمته لملوك الحيرة5. وهي قائمة سقط منها عدد من الملوك.
ولا نعرف من أخبار الأسود شيئًا كثيرًا. وقد ذكر حمزة أنه حكم عشرين عامًا. وذلك في زمن فيروز بن يزدجرد وبلاش بن فيروز وقباذ بن فيروز6.
__________
1 راجع ترتيب وسن ملك الساسانيين في: Ency. 4, P. 178.
2 الطبري "2/ 86"، "2/ 90" "دار المعارف".
3 حمزة "ص 69".
4 المعارف "ص 283".
5 المعارف "ص 283"، عيون الأخبار "1/ 330".
6 حمزة "ص 69".(5/209)
وروى أنه حارب الغساسنة وانتصر عليهم، وأسر منهم، كما روى أنه وقع في إحدى معاركه في أيدي الغساسنة، فقتله1. وذكر الطبري أن الفرس أسرته2، ولم يذكر سبب هذا الأمر. وأنه حكم عشرين سنة، من ذلك في زمن فيروز ابن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن يزدجرد أربع سنين، وفي زمان قباذ بن فيروز، ست سنين3.
وقد حكم "فيروز" من سنة "459م" حتى سنة "484م"، ويكون حكم "الأسود" بحسب رواية الطبري المتقدمة في حوالي السنة "474م" تقريبًا، وقد حكم "بلاش" أربع سنين، من سنة "484م" حتى سنة "488م"، ثم حكم "قباذ الأول"، وهو ابن فيروز من بعده، حكم من سنة "488" حتى سنة "531" للميلاد. ولما كان "الأسود" قد حكم ست سنين من زمان حكم "قباذ"، تكون سنة وفاته في حوالي السنة "494م"4.
وورد في رواية أنه كان للأسود بن المنذر ولد اسمه شرحبيل، قتل، قتله الحارث بن ظالم، وكان طفلًا مسترضعًا عند سنان بن أبي حارثة المري5.
وكان سبب ذلك على ما تذكره الرواية أن "خالد بن جعفر بن كلاب" كان قدم على "الأسود بن المنذر" أخي النعمان، ومعه "عروة بن عتبة بن جعفر"، فالتقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم بن غيط بن مرة بن سعد بن ذبيان عند الأسود بن المنذر، فجعل خالد يقول للحارث: يا حمار، أما تشكر يدي عندك إن قتلت عنك سيد قومك زهيرًا وتركتك سيدهم؟ فقال: سأجزيك شكر ذلك فلما خرج الحارث، قال الأسود لخالد. ما دعاك إلى أن تتحرش بهذا الكلب. وأنت ضيفي؟ فقال: إنما هو عبد من عبيدي، ولو وجدني نائمًا ما أيقظني. وانصرف خالد إلى قبته، فلامه عروة الرحال، ثم ناما وأشرجت عليهما القبة، فلما هدأت العيون، انطلق الحارث حتى أتى قبة خالد، فهتك شرجها، ثم ولجها
__________
1 الحيرة "ص 156 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 86"، "2/ 90" "دار المعارف".
3 الطبري "2/ 86"، "2/ 90" "دار المعارف".
4 راجع أزمنة حكم الملوك الساسانيين في: Ency. 4, P. 178.
5 ابن الأثير. الكامل "1/ 229 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 353 وما بعدها".(5/210)
وقتله. فنادى عروة: واجوار الملك! فأقبل الناس، وسمع الأسود الهتاف، وقرر الانتقام ممن خرق جوار الملك. وهرب الحارث منه1.
ولما هرب الحارث تنقل في القبائل، فلجأ إلى صديق له من كندة. فطلبه الملك فشخص من عند الكندي، وأضمرته البلاد حتى استجار بزياد أجد بني عجل ابن لجيم، فقام بنو ذهل بن ثعلبة وبنو عمرو بن شيبان، فقالوا لعجل: أخرجوا هذا الرجل من بين أظهركم، فإنه لا طاقة لنا بالشهباء والدوسر، وأبت عجل ذلك عليهم، فلما رأى الحارث ذلك، كره أن تقع الفتنة بينهما بسببه، فارتحل من بني عجل إلى جبلي طيء، فأجاروه، فمكث عندهم حينًا. ثم إن الأسود لما أعجزه أمره، أرسل إلى جارات كن للحارث بن ظالم استاقهن وأموالهن، فبلغ ذلك الحارث، فخرج من الجبلين، حتى علم مكان جاراته، فأتاهن، واستنقذهن، واستاق إبلهن، فألحقهن بقومهن. واندس إلى بلاد غطفان حتى أتى سنان بن أبي حارثة المري، وهو أبو هرم بن سنان ممدوح زهير. وكان الأسود قد استرضع ابنه شرحبيل عند سنان، ترضعه امرأته. فاستعار الحارث سرج سنان، وهو في ناحية الشرية، فأتى به سلمى امرأة سنان، وقال لها: يقول لك بعلك، ابعثي شرحبيل مع الحارث، وهذا سرجه لك آية. فدفعته إليه، فأتي به من ناحية من الشرية فقتله، وهرب من فوره، وهرب سنان لما سمع بخبر قتله.
فلما بلغ الأسود قتل ابنه شرحبيل غزا بني ذبيان، فقتل وسبى، وأخذ الأموال وأغار على بني دودان رهط سلمى، ثم وجد بعد ذلك نعلي شرحبيل في جانب الشرية عند بني محارب بن خصفة، فغزاهم وأسرهم وأحمى لهم الصفا، وقال إني أحذيكم نعالًا، فأمشاهم عليها، فسقطت أقدامهم، ثم إن سيار بن عمرو ابن جابر الغزاوي احتمل للأسود دية ابنه ألف بعير، ورهنه بها قوسه، فوفاه بها.
ثم هرب الحارث، فلحق بمعبد بن زرارة فاستجار به، فأجاره، وكان من سببه وقعة رحرحان، ثم هرب حتى لحق بمكة، ثم غادرها إلى الشأم، فلحق بيزيد بن عمرو الغساني، فأجاره وأكرمه، ومكث عنده. ثم افتقد يزيد ناقة له، ولم يعلم خبرها، فأرسل إلى الخمس التغلبي، وكان كاهنًا، فسأله عنها،
__________
1 نهاية الأرب "15/ 348 وما بعدها".(5/211)
فأخبره أن الحارث صاحبها، فهم به الملك ثم تذمم من ذلك، فأوجس الحارث في نفسه شرًّا، فأتى الخمس التغلبي فقتله. فلما فعل ذلك دعا به الملك، وأمر به ابن الخمس فقتله بأبيه، وأخذ ابن الخمس سيف الحارث، فأتى سوق عكاظ في الأشهر الحرم، فأراه قيس بن زهير العبسي، فضربه به قيس فقتله1.
وذكر أن الأسود غزا بني ذبيان وبني أسد بشط أربك وأوقع فيهم، وأنه وجد نعل ابنه شرحبيل القتيل في بني محارب بن خصفة بن قيس عيلان. فانتقم منهم شر انتقام، وأنه قبل من الحارث بن سفيان دفع دية شرحبيل، فدفعها إليه، وهي ألف بعير، "دية الملوك"2.
وخبر هذه الغزوة هو جزء متمم لخبر قتل الحارث بن ظالم لابن الأسود، كما جاء في رواية أخرى.
وروايات أهل الأخبار عن قتل الحارث بن ظالم لخالد بن جعفر بن كلاب، وعن قتل ابن الملك، روايات متناقضة مضطربة قلقة، والتبس الأمر فيها على الرواة، ولا سيما "ابن الكلبي" و"أبي عبيدة" اللذين هما مرجعا أكثر رواة تلك الروايات. يتداخل فيها اسم النعمان بن امرئ القيس مع اسم النعمان بن المنذر واسم الأسود بن المنذر، وتنسب القصة مرة إلى هذا الملك، ومرة إلى ذاك. وقد تتداخل، فيذكر اسم الملك الأسود، ثم يورد بعده اسم الملك النعمان.
يذكر الرواة رواية كالرواية السابقة، جعلت الولد القتيل شرحبيل بن الأسود، وجعلت الحارث بن ظالم يسير متخفيًا إلى الحيرة ليفتك بالأسود، ولكنهم جعلوه في هذه الرواية يسمع صراخ امرأة أخذ جمع الأسود صرمة من إبلها، فتوجع لها، ووعدها على إعادة إبلها فطلب منها أن تذهب إلى موضع عينه لها، ليأتي لها بإبلها. فلما وردت إبل النعمان، أخذ مالها، فسلمه إليها، ثم فر يطلب له مجيرًا فلم يجره أحد قائلين له: من يجيرك على هوازن والنعمان؟ ويختفي اسم المنذر فجأة في هذه الرواية، ويظهر اسم الملك النعمان كما في الرواية السابقة، ولكن دون تصريح باسم والد النعمان، وهو امرؤ القيس3.
__________
1 نهاية الأرب "15/ 353"، "يوم الخريبة"، "العقد الفريد "6/ 7 وما بعدها".
2 الأغاني "10/ 22 وما بعدها".
3 الكامل "1/ 223 وما بعدها".(5/212)
ثم تستمر الرواية فتأخذ الحارث إلى الشأم، ليستجير بيزيد بن عمرو الغساني من النعمان وهوازن، فيجيره ويكرمه، ولكنه يذبح ناقة ليزيد، ثم يقتل امرأة أرسلها يزيد لتحري بيت الحارث، ثم يقتل الكاهن الذي تكهن بعقر الحارث للناقة وبقتله للمرأة. فلم يبق أمام يزيد إلا قتل الحارث، فأمر به فقتل1. وعلى هذه الصورة انتهت حياة رجل هو في نظر الأخباريين بطل من أبطال المغامرات والمفاجآت.
وأما الرواية التي تذكر أن ذلك الملك هو النعمان بن امرئ القيس فتقول إن النعمان بن امرئ القيس كان قد تزوج بنتًا من بنات زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي، وهو من السادة الأشراف، فأرسل النعمان ذات يوم إلى زهير يستزيره بعض أولاده، فأرسل ابنه شأسًا، وكان أصغر ولده، فأكرمه وحباه، ورجع بهدايا وألطاف كثيرة. فلما بلغ ماء من مياه غني بن أعصر، طمع به رباح بن الأشل، فقتله، واستلب ما كان معه. فلما سمع زهير بمقتل ولده، جاء ديار غني، وأخذ يغير عليها، حتى قتل منها مقتلة عظيمة، فاستجارت غني بحلفائهم بني عامر بن صعصعة، فأنجدوها. وتوسعت الحرب، فاشتركت بها هوازن، وكانت تحقد على زهير؛ لأنه كان يسر بها خسفًا ويجبيها الإتاوة كل سنة بعكاظ، وترأس خالد بن جعفر بن كلاب غنيًّا وبني عامر وهوازن، فقتل زهيرًا، وعاد أبناؤه بجسده ليواروه التراب. وذهب خالد بعد مصرع زهير إلى النعمان مستجيرًا به حين علم أن غطفان ستطلبه به، فأجاره، وضرب له قبة وحماه. وبينما كان في مجلس النعمان، قدم الحارث بن ظالم إلى المجلس، وجرى بينه وبين خالد كلام، أغلظ فيه خالد على الحارث، فحقد الحارث عليه وقرر الانتقام منه، فاغتاله وهرب. فجعل النعمان يطلبه ليقتله بجاره، وهوازن تطلبه لتقتله بسيدها خالد. فلحق ببني دارم من تميم، واستجار بهم، فأجاروه على النعمان. فلما علم النعمان ذلك، جهز جيشًا إلى بني دارم، فلما سمعوا بمجيء الجيش عليهم، استعدوا له، وأرسلوا أموالهم إلى بلاد بغيض، واستعدوا مع بني مالك بن حنظلة وبني عامر للقتال. فلما التقوا بجيش النعمان، قتل رئيس جيش النعمان، وانهزم الجيش. وقيل: إن الحارث بن ظالم ركب إلى الحيرة متخفيًّا، واستقا إبلًا
__________
1 الكامل "1/ 234".(5/213)
له كان قد استولى عليها النعمان، وقتل أحد أبنائه، وفر1.
وهناك رواية تجعل النعمان المذكور النعمان بن المنذر، وتجعل الولد القتيل ابنًا لهذا النعمان. وجعلت رواية أخرى قتل الحارث لخالد في عهد الأسود، ثم تذكر أنه هرب منه. ثم إن رجلًا من بني زيد مناة كان بعض حشم النعمان قد أخذوا إبله وأهله، استجار بالحارث فركب الحارث حتى أتى النعمان، فقال: أبيت اللعن! إنك أخذت نساء جاري، وماله، وأنا له جار. فذكره النعمان بقتله خالدًا، وهو في جوار الأسود أخيه. ثم إن النعمان أوعد الحارث وعيدًا شديدًا. فمضى الحارث، وندم النعمان على تركه، وطلبه ففاته، وكان للنعمان ابن مسترضع عند "سنان بن أبي حارثة"، وكانت سلمى بنت ظالم تحت سنان، فجاء الحارث إلى أخته على لسان سنان، حتى أعطته ابن النعمان، فضرب عنقه ولحق بمكة فجاور عبد الله بن جدعان2.
وأما قتل "الحارث بن ظالم"، فالروايات مختلفة فيه، منها ما جعل قاتله: "يزيد بن عمرو الغساني" على نحو ما رأيت. ومنها ما جعل قاتله ملكًا من ملوك غسان تسميه النعمان. ومنها، وهي رواية من روايات أهل الكوفة، ما جعل قاتل الحارث هو الملك النعمان بن المنذر، وتذكر قصة كيفية استدراج النعمان للحارث ومراسلته له مصرحًا له أنه قد رضي عنه وعفا عما بدر منه حتى أمن الحارث. فلما جاء إلى النعمان، وكان في قصر بني مقاتل، أمر به فقتل. قتله ابن الخمس التغلبي، وكان الحارث قد قتل أباه3.
وجاء في رواية أن "عمرو بن الخمس" هو الذي قتل الحارث، قتله بأمر الملك الأسود بن المنذر4. وذكر "ابن دريد" أن قومًا زعموا أن النعمان قتل "الحارث بن ظالم"، وهذا وهم؛ لأن الذي قتله إنما هو "المنذر بن المنذر أبو النعمان"5. وذكر "محمد بن حبيب". أن "سيار بن عمرو الفزاري" المعروف بـ "ذي القوس"، كان قد رهن قوسه على ألف بعير في قتل الحارث ابن ظالم من النعمان الأكبر6.
__________
1 الكامل" 1/ 229 وما بعدها".
2 المحبر "193 وما بعدها".
3 الأغاني "10/ 27 وما بعدها".
4 الاشتقاق "2/ 203" "طبعة أوربة".
5 الاشتقاق "175".
6 المحبر "461".(5/214)
ويظهر من "رسالة الغفران" أن "آل لخم" كانوا يعظمون "الأسود بن المنذر"1، ولم يذكر سبب هذا التعظيم.
وحكم بعد الأسود أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان، وأمه هر ابنة النعمان. حكم على رواية لابن الكلبي سبع سنين2، وذلك في زمان قباذ بن فيروز3. ولما كان حكم قباذ، وهو "قباذ الأول" ويسمى بـ "قباذ بن فيروز" قد امتد من سنة "488" حتى سنة "531" للميلاد4، فيكون حكم المنذر إذن قد وقع في خلال هذه المدة.
وإذا أخذنا بهذه الرواية، وجب أن يكون ابتداء حكم المنذر بن المنذر في حوالي سنة "494م"، وانتهاء حكمه في حوالي السنة "501م"، وذلك بحسب سني حكم ملوك الفرس عند المؤرخين5. ولكننا نواجه روايات أخرى رواها ابن الكلبي أيضًا وغيره تخالف هذا التقدير.
وبعد المنذر انتقل الملك إلى ابن أخيه النعمان بن الأسود، وأمه هي "أم الملك ابنة عمرو بن حجر، أخت الحارث بن عمرو الكندي"6. إذن فهي أميرة من أمراء كندة. وقد حكم هذا الملك على رواية لابن الكلبي أربع سنين7. وذلك في زمن قباذ8.
يظهر من رواية لـ "ثيوفانس" أن النعمان هذا أغار على حدود الروم وعلى العرب المحالفين لهم، فاصطدم بالقائد "أوجينيوس" "Eugenius" عند موضع "بثرابسوس" "Bithrapsos" "البئر" على الفرات، فأصيب بخسارة فادحة. ولا نعرف على وجه التحقيق سنة وقوع هذا الحادث، والمظنون أنه كان حوالي سنة "498م"9.
__________
1 رسالة الغفران "133".
2 الطبري "2/ 94"، "2/ 104" "دار المعارف".
3 حمزة "ص 69".
4 Ency, 4, P. 278.
5 Ency, 4, P. 178.
6 الطبري "2/ 94"، "2/ 104"، "دار المعارف"، حمزة "69".
7 الطبري "2/ 94"، "2/ 104"، "دار المعارف".
8 حمزة "ص 69".
9 Rothstein S. 74, Theophanes, 217, Huart, I, S. 66, J. Bury: History Of The Later Roman Empire, London, 1931, Vol, I, P. 434.(5/215)
واشترك النعمان أيضًا في الحرب التي وقعت بين الروم والفرس حوالي سنة "502 للميلاد"، إذ رجا منه قباذ أن يهاجم حدود الروم من جهة الجنوب، فهاجمها في قطاع "حران1" "Carrhae" واصطدم بالقائدين "أوليمبيوس" "Olympius" و" أويجينيوس" "Eugenius" فتغلبا عليه، غير أنه أعاد الكرة فتغلب عليهما. وفي المعركة التي وقعت على مقربة من "قرقيسياء" "Circesium" على الخابور أصيب بجرح بليغ في رأسه فقضى عليه2.
وفي أثناء غياب النعمان ومعظم جنوده عن الحيرة، انتهز العرب الذين في بلاد الروم الملقبون بـ "بني ثعلبة" "طايوس دبيت روموين د متقربن دبيت ثعلبة"3 هذه الفرصة، فأغاروا على عاصمته، وأخذوا كل ما أمكنهم أخذه، فاضطر من كان قد تخلف في الحيرة من جيش النعمان إلى الفرار إلى البادية4. ويخيل إلي أن ذلك كان على أثر إصابة الملك بجرحه المميت.
وتولى الحكم رجل من "آل لخم" اسمه "أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي بن الذميل بن ثور بن أسس بن ربي بن نمارة بن لخم"، بعد النعمان5، فهو من "ذميل" و "ذميل" بطن من بطون لخم6، ولم يتحدث أصحاب الأخبار عن علاقة هذا الرجل بالأسرة المالكة ولا عن كيفية تعيينه والأسباب التي أدت إلى اختياره لهذا المنصب، وكل ما ذكرته أنه حكم ثلاث سنين، ثم انتقل الحكم من بعده إلى المنذر بن امرئ القيس البدء، وهو ذو القرنين، وذلك في رواية للطبري عن ابن الكلبي7.
أما حمزة الأصبهاني، فجعل بعد أبي يعفر ابنًا للنعمان الأعور سماه امرأ القيس ابن النعمان ابن امرئ القيس. قال: أنه هو الذي غزا بكرًا يوم "أوارة" في دارها، وكانوا أنصار بني آكل المرار وهزمهم. وكانت بكر قبله تقيم أود ملوك الحيرة وتعضدهم. ونسب إليه بناء حصن "الصنبر" زاعمًا أن الذي بناه
__________
1 Josua Stylites, 51, Rothstein, S. 74.
2 Josua Stylites, 51, Rothstein, S. 74.
3 Rothstein, S. 74.
4 Rothstein, S. 74.
5 الطبري "2/ 94"، "2/ 104"، "دار المعارف".
6 حمزة "ص 69".
7 الطبري "2/ 94"، "2/ 104"، "دار المعارف".(5/216)
له هو البناء الرومي الشهير سنمار، وأنه هو الذي قتل ذلك البناء. وجعل مدة حكمه سبع سنين1، وذلك في زمن قباد2.
وقال "حمزة": وفيه قال المتلمس:
جزاني أخو لخم على ذات بيننا ... جزاء "سنمار" وما كان ذا ذنب3
وذكر حمزة أن حصن صنبر المذكور، وهو من عمل "سنمار"، هو الذي قال فيه أحد الشعراء:
ليت شعري متى تخب به النا ... قة نحو العذيب والصنبر4
ويعرف المنذر هذا عند أكثر الأخباريين بالمنذر بن امرئ القيس بن النعمان وبـ "ذي القرنين" وبـ "المنذر بن ماء السماء" وبـ "ابن ماء السماء". وماء السماء هي أمه على زعمهم، وهي: مارية ابنة عوف بن جشم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط في رواية ابن الكلبي التي دونها الطبري5. وذكر حمزة نسب ماء السماء كما ذكره الطبري، غير أنه جعل الاسم ماوية بدلًا من مارية6، ولا أراه إلا خطأ من النساخ في كتابة الاسم أدى إلى هاتين الصورتين.
وأما سبب تلقيبه بذي القرنين، فيقال إنه لقب بذلك لضفيرتين كانتا له من شعره، فعرف بهما لذلك7.
وتلقيب ابن الكلبي امرأ القيس والد المنذر بالبدء هو خطأ ولا شك، إذ لا يعقل أن يكون هذا المنذر ابنًا لامرئ القيس البدء المتوفى سنة 328 للميلاد.
ويلاحظ أن الأخباريين لقبوا امرأ القيس الآخر الذي حكم بعد أوس بن قلام
__________
1 حمزة "ص 70"، "وهو صاحب سنمار الذي قتله حين بنى له الحصن الذي يسمى الصنين"، مفاتيح العلوم "ص 69".
2 حمزة "ص 70".
3 حمزة "ص 70".
4 حمزة "ص 70".
5 الطبري "2/ 94"، الروض الأنف "1/ 22".
6 حمزة "ص 70" "وكانت تسمى مارية"، مفاتيح العلوم "ص 69".
7 الطبري "2/ 94".(5/217)
بالبدء كذلك، مع أنه مسبوق على حد قولهم بملك آخر اسمه هذا الاسم. فلا يجوز تلقيب صاحبنا هذا إذن بالبدء. ولا يجوز بالطبع تلقيب امرئ القيس الآخر الذي زعم أنه والد المنذر بالبدء أيضًا؛ لأنه ثالث المراقسة في ترتيب أسماء الملوك بحسب رواية الأخباريين.
ولا نعلم شيئًا يذكر من أمر امرئ القيس والد المنذر، فهم لم يشيروا إشارة صريحة إلى أنه كان ملكًا،
فهل هو امرؤ القيس بن النعمان الذي جعله حمزة ملكًا بعد أبي يعفر؟ لا يستبعد أن يكون هو إن صحت رواية حمزة.
بعد أبي يعفر؟ لا يستبعد أن يكون هو إن صحت رواية حمزة.
ويلاحظ أن المؤرخين البيزنطيين واللاتين قد أطلقوا على المنذر "Alamoundaros O Sacicus" و"Alamundarus O Sacices" و "Alamundarus O Sacicis" وغير ذلك1، مما يفهم منه أنهم قصدوا بـ "Sacicus" و"Sacicis" "Sacices"وأمثال ذلك كلمة "شقيقة" "الشقيقة" العربية، وأنهم أرادوا المنذر بن الشقيقة، وهو هذا المنذر الذي نتحدث عنه في رأس المستشرقين، لذلك ذهب بعض المستشرقين إلى أن أم المنذر هي "الشقيقة" "شقيقة"، وذهب آخرون إلى أنها لم تكن أمه، وإنما قيل له ذلك؛ لأنه كان من آل الشقيقة الشهيرة، فعرف عند أولئك المؤرخين بابن الشقيقة أو بالمنذر ابن الشقيقة كما دعي الملوك بعد المنذر ببني ماء السماء2.
أما الأخباريون فقد جعلوا شقيقة أمًّا للنعمان الأعور كما رأيت، ولم يشيروا إلى ملك اسمه المنذر واسم أمه شقيقة، فأيهما المصيب؟ الأخباريون أم المؤرخون اليونان واللاتين والسريان؟ وهل نحن أمام ملك آخر اسمه المنذر بن الشقيقة حكم في أوائل القرن السادس للميلاد؟
وذكر الأخباريون أن المنذر كان قد تزوج هندًا بنت آكل المرار3، فولدت له أولادًا منهم عمرو بن هند الذي ولى الملك بعده، وقابوس، ثم تزوج أختها أمامة فولدت له ولدًا اسمه عمرو وهو المقتول بوادي القضيب4.
__________
1 Rothstein, S. 76.
2 Rothstein, S. 76.
3 الروض الأنف "1/ 22".
4 البلدان "7/ 118"، "وهو ابن أمامة"، الروض الأنف "1/ 22".(5/218)
ويرى بعض الباحثين أن حكم "المنذر" كان في حوالي السنة "508م"، أو قبل ذلك بقليل في حوالي السنة "506م". وأما انتهاء ملكه فكان في حوالي السنة "554م"1.
وكان قباذ قد عقد صلحًا في عام "506" للميلاد مع الروم بعد الحرب التي استمرت من سنة "502" حتى سنة "506م"، غير أن هذا الصلح لم يدم طويلًا. ففي سنة "518" للميلاد تجدد الخلاف بين الفرس والروم، وذلك على أثر مطالبة قباذ القيصر "جستينوس" "يوسطينوس" "Justinus" الأول بدفع الإتاوة التي اتفق في صلح "506م" على دفعها للفرس. وبناء على تباطؤ القيصر في دفعها حرض قباذ المنذر على التحرش بحدود الروم، وقام المنذر بغزوها في سنة "519م"2.
لقد تمكن المنذر في بعض حروبه مع الروم من أسر قائدين هما "ديموستراتوس" "تيموستراتوس" "Timostratus" "Denostratus" ويوحنا3 "Johannes". وأراد القيصر أن يفك أسر هذه القائدين ويعقد صلحًا وحلفًا بين الروم والمنذر، فأرسل –على ما يظهر- رسولًا خاصًّا إلى المنذر هو "إبراهيم" "Abraham" والد الكاتب المؤرخ "نونوسوس" "Nonnosus"، ومعه "شمعون الأرشامي" "Symeon Of Beth Arsham" و"سرجيوس" "Sergius" أسقف الرصافة "بيت رصافة". وقد وصل الوفد إلى المنذر في السنة السادسة "السنة السابعة" من حكم "جستينوس" "يوسطينوس" الموافقة لسنة "835" من التقويم السلوقي ولسنة "524" للميلاد4. وكان المنذر آنئذ في البادية في موضع اسمه "رمله" "الرملة"، وقد نجحت مهمته فيما يخص فك أسر القائدين.
و"سرجيوس" هو مؤلف القسم السرياني الخاص بشهداء العربية الجنوبية، أي شهداء نجران5. وقد دونت في عهد أسقفيته على الرصافة أسماء الشهداء على
__________
1 J. B. Bury, II, P. 91.
2 Rothstein, S. 79.
3 Rothstein, S. 80, Land, Anecd, III, 235.
4 Kitab Al-Unvan, Histoire Universelle Ecrite, Par Acapius Magbub, De Menbidj, Seconde Partie, II, P. 425.
5 Musil: Pamyrena, P. 267, Guidi: La Lattera Di Simeone Bescova Di Beth Arsham, P. 507.(5/219)
الجدار الشمالي للكنيسة الكبرى، كنيسة القديس سرجيوس1.
وصادف وصول وفد الروم إلى المنذر وصول وفد آخر من اليمن أرسله ذو نواس الملك الشهير المعروف بتعذيبه نصارى نجران إلى المنذر ليفاوضه على تعذيب من في مملكته من النصارى. وقد دون "شمعون الأرشامي" قصة تعذيب هذه مدعيًا أنه نقلها من الكتاب الذي قرئ على الملك ومن أقوال من عرفه من الحاضرين، دونها في صورة كتاب ليقرأ في الكنائس ويطلع عليه المؤمنون. وقد نشر هذا الكتاب، وطبعت ترجمته كذلك2.
وذكر أن القيصر "جستينوس" "يوسطينوس" "Justinus" كتب إلى المنذر بن النعمان طالبًا منه إخراج من في أرضه من القائلين بالطبيعة الواحدة3. وقد جادلهم في مجلس عقده بحضرة المنذر "شيلا" الجاثليق. فلما سمع هؤلاء بذلك، هرب بعضهم إلى نجران وأقاموا هناك. وكان من مؤيديهم الحجاج بن قيس الحيري صاحب المنذر.
يظهر أن أمل القيصر في عقد هدنة أو معاهدة مع المنذر لم يتحقق، أو أنه تحقق ولكن إلى حين، فلما ساءت العلاقات بين الروم والفرس، ووقعت الحرب سنة "528م" بين الجانبين، هاجم المنذر الروم مؤيدًا الفرس، وكان له أثر خطير في هذه الحرب، وقد توغل في بلاد الشأم، وغنم منها غنائم كثيرة،
ولكنه لم يبق فيها أمدًا طويلًا، فعاد مع جنوده سريعًا إلى قاعدته كعادة سائر الملوك بعد أن أشبع نفسه من غنائم الحرب4.
ونجد المنذر يجدد هجومه على بلاد الشأم، بعد مدة قصيرة من هجومه الأول. لقد هاجمها سنة "529م". وتوغل فيها حتى بلغ حدود أنطاكية، وأحرق
__________
1 Musil, Palmyrena, P. 265.
2 Land: Anecs, 3, 235, Assemani: Bibl. Orient, I, 364.
3 "يوسطينيانس"، "وفي هذه السنة وجه يوسطينيانس وفدًا إلى المنذر ملك العرب ليصالحه؛ لأنه كان غزا الروم وخرب وسبا، وكان سبب الفتنة بين العرب والروم اضطهاد الملك يوسطينيانس الآباء، القائلين بالطبيعة الواحدة؛ لأن النصارى العرب يومئذ إنما كانوا يعتقدون اعتقاد اليعقوبية لا غير" ابن العبري، تأريخ مختصر الدول "ص 148". Histoire Nestorienne Chronique De Seert, Seconde Partie, P. 143.
4 Noldeke: Sasa, II Anm. 3, Malalas, II, 166, Rothstein, S. 81.(5/220)
عددًا من المواضع ومنها موضع "خلقيدون" "خلقيدونية" "Chalcedon" وقد زعم بعض المؤرخين السريان أنه ضحى بأربع مئة راهبة للعزى1، وهي دعوى تحتاج بالطبع إلى درس.
وقد عرض ابن العبري لتوغل المنذر في أرض الروم، واستيلائه على أرضين واسعة شملت كل منطقة الحدود، ومنها أرض الخابور ونصيبين، حتى بلغ "حمص" "Emessa" و"أباميا" "فامية" "Apamea" وأنطاكية "Antioch" زاعمًا أنه قتل عددًا كبيرًا من السكان، وخرب أكثر تلك الأرضين، ذاكرًا أنه اختار من بين الأسرى أربعمئة راهبة أخذهن لنفسه، غير أنه لم يذكر أنه قدمهن قربانًا إلى العزى2.
وقد اضطر هذا الغزو القيصر "يوسطنيانوس" "Justinianus" الذي خلف "يوسطينوس" إلى نصب الحارث الجفني "فيلارخا" "فيلاركا" "Phylarch"، أي عاملًا على عرب بلاد الشأم لحماية الحدود من اعتداءات المنذر وعرب العراق3.
وقد عوض قباذ الخسارة التي لحقت به عند موضع "دارا" بربح ناله بواسطة المنذر. لقد قام المنذر وأحد القواد الفرس بمهاجمة منطقة الفرات "Euphratesia" وهي منطقة "قوماجين" "Commagene"، فلما تصدى لها القائد "بليزاريوس" "Belisarius" تراجعًا، ثم التقيا به عند الرقة "Callinikos" فانتصرا عليه. وقد كان ذلك في السنة الرابعة من حكم "يوسطنيانوس" "Justinianus" أي في سنة "531م"4.
وقد اشترك الحارث بن جبلة في هذه الحرب مع الروم، وأنيطت به حماية الجانب الأيمن في القتال الذي اضطرم مع الفرس، أما المنذر وجيشه، فكان يكون الجناح الأيسر لجيش الفرس، أي الجناح المقابل لعرب الروم5.
__________
1 Malals II, 166, Noldeke: Ghass, II, Theophanes, 237 Land: Anecd: Syr, III, P. 247, Rothstein, S. 81, Pauly-Wissoa, Erster Band, 1893, S. 1281.
2 Bar Hebraeus, 78, Noldeke: Aufstaze, 112.
3 Rothstein, S. 81.
4 Procopius, I, 17, 18, Rothstein, S. 81.
5 Musil: Palmyrena, P. 274, Procopius: De Bello, I, 17.(5/221)
وعلى الرغم من الصلح الذي عقد في عام "532م" بين الفرس والروم، لم ينقطع النزاع بين الحارث الجفني والمنذر بسبب اختلافهما على الإتاوة التي تجبى من أعراب الـ "Strata"، أي المنطقة الواقعة في جنوب تدمر، وهي منطقة رعي لا شجر فيها ولا زراعة. وقد زعم "بروكوبيوس" أن كسرى، حرض المنذر على التحرش بالحارث، للإخلال بشروط الصلح، وإيجاد سبب لتجديد الحرب، وأن القيصر يوسطنيانوس "Justinianus" كلف رجلين من ثقاته وهما "ستراتيجيوس" "Strategius"، وهو من أصحاب الخبرة والحنكة في الشؤون الإدارية، و"سوموس" "Summus" وهو ممن قادوا الجيوش في فلسطين ومن السفراء الذين سبق أن كلفوا القيام بمهمات سياسية فأرسل رسولًا إلى نجاشي الحبشة وإلى ملك حمير "Homeritae" دراسة النزاع وإيجاد حل للمشكلة، فأشار "سوموس" على القيصر بعدم إجابة طلب المنذر وبالاحتفاظ بالأرض، أما "ستراتيجيوس"، فقد رأى أن الموضوع تافه وأن الأرض المتنازع عليها لا تستحق كل هذا الاهتمام. وقد مضى وقت طويل دون أن يجزم القيصر برأي1.
وفي هذه الأثناء ادعى كسرى أن القيصر قد أخل بشروط الصلح باتصاله بالمنذر "Alamoundarus" وبمحاولته التأثير عليه وجره إليه. وبإرساله "سوموس" إلى المنذر مع كتاب خاص من القيصر يمنيه بالوعود وبمبالغ كبيرة من المال إذا انضم إلى الروم، وبأمور أخرى اتخذها حجة لإعلان إخلال الروم بالصلج2. وصار يتهيأ لحرب جديدة حتى تهيأت له الأسباب، وذلك في عام "540م"3.
وبعد مراسلات بين الفرس والروم دون بعضها "بروكوبيوس"، وهي مراسلات جميلة ترينا فن الدبلوماسية ومنطق الملوك في ذلك العهد، هاجم الفرس الروم. وغزا الحارث أرض الجزيرة للوقوف على قوة الفرس، ومقدرتهم4، وهاجم المنذر بلاد الشأم فبلغ فينيقية، وتوغل في مناطق واسعة من لبنان5.
وقد أشار الطبري إلى هذا النزاع الذي وقع بين المنذر والحارث بن جبلة،
__________
1 Procopius, II, I, Gibbon, II, P. 607, The Modern Library.
2 Procopius, II, 12-15.
3 Procopius, II, V, Vol, I, P. 295, Dewing.
4 Procopius II, XVI, 4-6, II, XIX, 15-20.
5 Procopius, II, XII, XIX, 32-46.(5/222)
في أثناء كلامه على الحبشة في اليمن وعلى دخول الفرس إليها، كما أشار إلى الموادعة والهدنة التي عقدت بين كسرى أنو شروان والقيصر، وقد سماه "يخطيانوس" أي "جستنيان" "جستنيانوس" "Justinianus"، فقال: "وكان فيما ذكر بين كسرى أنو شروان وبين يخطيانوس ملك الروم موادعة وهدنة. فوقع بين رجل من العرب كان ملكه يخطيانوس على عرب الشأم يقال له خالد بن جبلة وبين رجل من لخم كان ملكه كسرى على ما بين عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز ومن فيها من العرب يقال له المنذر بن النعمان نائرة. فأغار خالد بن جبلة على حيز المنذر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة وغنم أموالًا من أمواله فشكا ذلك المنذر إلى كسرى وسأله الكتاب إلى ملك الروم في إنصافه من خالد، فكتب كسرى إلى يخطيانوس يذكر ما بينهما من العهد على الهدنة والصلح ويعلمه ما لقي المنذر عامله على العرب من خالد بن جبلة الذي ملكه على من في بلاده من العرب، ويسأله أن يأمر خالدًا أن يرد على المنذر ما غنم من حيزه وبلاده ويدفع إليه دية من قتل من عربها وينصف المنذر من خالد وأن لا يستخف بما كتب به من ذلك فيكون انتقاص ما بينهما من العهد والهدنة بسببه، وواتر الكتب إلى يخطيانوس في إنصاف المنذر فلم يحفل بها. فاستعد كسرى فغزا بلاد يخطيانوس في بضعة وتسعين ألف مقاتل فأخذ مدينة دارا ومدينة الرهاء ومدينة منبج ومدينة قنسرين ومدينة حلب ومدينة أنطاكية وكانت أفضل مدينة بالشام ومدينة فامية ومدينة حمص ومدنًا كثيرة متاخمة لهذه المدائن عنوة واحتوى على ما كان فيها من الأموال والعروض وسبي أهل مدينة أنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد"1.
ويظهر من سياق هذه الرواية أن الطبري لم يكن على علم واضح بالمنذر بن النعمان ولا بخالد بن جبلة. وقد نقل روايته هذه من غير نقد ولا مناقشة، فالشخص الذي تخاصم المنذر معه هو الحارث بن جبلة، لا خالد بن جبلة. وقد وهم المورد الذي نقل الطبري منه، فظن أنه خالد بن جبلة. وهو مورد يظهر كما يتبين من سياق الحديث أنه اعتمد على كتاب من كتب التأريخ، لعله من المؤلفات الفارسية أو السريانية، وقد نقل الدينوري منه أيضًا، فذكر خالد بن جبلة2.
__________
1 الطبري "2/ 121 وما بعدها"، "2/ 149"، "دار المعارف".
2 الأخبار الطوال "70 وما بعدها".(5/223)
وفي رواية الطبري عن ملك المنذر مبالغة على ما يظهر، فليس في الأخبار التي يرويها الأخباريون عن هذا الوقت رواية واحدة يفهم منها أن نفوذ الفرس قد شمل هذه الأرضين الواسعة الممتدة من الحجاز إلى ساحل الخليج، وليس فيها خبر واحد يفهم منه أن ملك المنذر قد شمل الطائف وسائر الحجاز. ولو كان ملكه قد بلغ هذه البلاد لوعت ذلك ذاكرة أهل الأخبار شيئًا عنه، إذ أنه لم يكن بعيد عهد عن الإسلام.
ولم تنقطع المناوشات بين الحارث والمنذر، بالرغم من الهدنة التي اتفق الفرس والروم على عقدها لمدة خمس سنوات وذلك في سنة "545م"1. فبعد مدة قصيرة من التوقيع عليها، عادت نيران الحرب فاستعرت بين الحارث والمنذر من غير أن يتدخل الفرس أو الروم في هذا النزاع، وقد تمكن المنذر من بماغتة أحد أبناء الحارث: وكان يكلئ خيله في البادية، فأسره، وقدمه على ما يقوله بروكوبيوس ضحية إلى العزى2 "Aphrodite". وبعد أن جمع كل واحد منهما كل ما يملك من قوة ومن حديد، اشتبكا في حرب جديدة انتصر فيها الحارث انتصارًا كبيرًا، وقتل عددًا كبيرًا من جنود خصمه. فلما رأى ما حل به، فر هو ومن بقي حيًّا من أتباعه، تاركًا اثنين من أبنائه في جملة من وقع في الأسر3.
وقد تكون غارة قيس بن سلمة بن الحارث الكندي على الحيرة غارة انتقامية من المنذر لما أنزله بآل كندة من خسائر. ويظهر أن قيسًا قد باغت المنذر وفاجأه بغارة خاطفة اضطرته إلى الهزيمة والالتجاء إلى الخورنق مع ابنيه عمرو وقابوس. وبعد مضي عام على هذه الهزيمة، انتقم المنذر لنفسه بغارة أغارها على كندة كلفت الكنديين اثني عشر أميرًا من بني حجر بن عمرو وقعوا في أسره في مكان يسمى ذات الشقوق، ثم أمر بعد ذلك بضرب أعناقهم في الجفر، وهو الموضع الذي أطلق عليه لهذه الحادثة جفر الأملاك، وهو موضع "دير بني مرينا" الذي أشير إليه في الشعر المنسوب لامرئ القيس4.
ويذكر أهل الأخبار أن الشاعر "امرأ القيس الكندي" كان في جملة من
__________
1 Procopius, II, 28, 9-11.
2 Procopius, II, 28, 12-14.
3 Procopius, II, 28, 13-14.
4 شعراء النصرانية "ص4".(5/224)
وقع أسيرًا، إلا أنه أفلت من الأسر ونجا بنفسه، فقال شعرًا يرثي به من قتل، منه:
ملوك من بني عمرو بن حجر ... يساقون العيشة يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا
ولم تغسل جماجمهم بغسل ... ولكن في الدماء مرملينا
فهو يتألم ويتأفف من سقوط قومه قتلى، لا في حرب ولا في معركة، ولكن في "ديار بني مرينا"، فأية مصيبة أعظم من هذه المصيبة؟ ملوك أحرار شجعان يقتلون في مثل هذه الديار.
وفي رواية أن الذين قتلوا من بني حجر آكل المرار في جفر الأملاك هم تسعة واستشهدت على ذلك بشعر للحارث بن حلزة جاء فيه:
وفديناهم بتسعة أملا ... ك كرام أسلابهم أغلاء1
وأشير في قصيدة هذا الشاعر إلى الجون. وهو جون آل بني الأوس، وهو في شرح الرواة ملك من ملوك كندة، وهو ابن قيس بن معد يكرب. قالوا: وكان الجون جاء ليمنع بني آكل المرار، ومعه كتيبة خشناء، فحاربته بكر، فهزموه، وأخذوا بني الجون، فجاءوا بهم إلى المنذر، فقتلهم2.
وفي بعض الروايات أن المنذر توسط لعقد الصلح بين بكر وتغلب واشترط أن أي رجل وجد قتيلًا في دار قوم فهم ضامنون لدمه، وإن وجد بين محلتين قيس ما بينهما، فينظر أقربهما إليه، فتضمن ذلك القتيل. وأخذ من الفريقين رهنًا بأحداثهم، فمتى التوى أحد منهم بحق صاحبه أقاد من الرهن3.
وفي عهد هذا الملك وقع "يوم طخفة" بحسب رواية بعض الأخباريين.
__________
1 الأغاني "11/ 48" "طبعة دار الكتب المصرية"، شرح المعلقات السبع للزوزني "دار صادر" "ص166".
2 الأغاني "11/ 48" "طبعة دار الكتب"، الزوزني، شرح المعلقات السبع "ص 165". "صادر".
3 الأغاني "11/ 44" "دار الكتب المصرية".(5/225)
ويذكر هؤلاء أنه وقع بسبب "الردافة" وقيل: "الرفادة". فقد كانت ردافة ملوك الحيرة في "بني يربوع"، وكانت لعتاب بن هرمي بن رياح بن يربوع في عهد "المنذر بن ماء السماء". فلما توفي، صارت إلى ابنه "قيس ابن عتاب" "عوف بن عتاب الرياحي". بحكم الوراثة، وكان حديث السن، فأشار "حاجب بن زرارة" على الملك أن يجعلها لرجل كهل له سن وعقل، وأشار عليه باختيار "الحارث بن بيبة المجاشعي" "الحارث بن مرط بن سفيان ابن مجاشع"1 ولما فاتح الملك "بني يربوع" برأيه هذا: غضبوا وأبوا، وأصر الملك على رأيه، وإلا حاربهم، فأبوا واستعدا للقتال، وساروا إلى موضع "طخفة" وتحصنوا به، فأرسل المنذر في أثرهم جيشًا كبيرًا من أفناء الناس، عليه حسان أخوه وقابوس ابنه وبعث معهم الصنائع والوضائع، اشتبك مع "بني يربوع" في هذا المكان، وصبر بنو يربوع وثبتوا، ثم أغاروا على جيش المنذر، فانهزم ووقع القتل فيه، وانهزم قابوس ومن معه، وضرب طارق أبو عميرة "طارق ابن عميرة" فرس قابوس فعقره وأسره، وأراد أن يجز ناصيته، فقال: إن الملوك لا تجز نواصيها، وأسر حسانًا بشر بن عمرو بن جوين2، فعاد المنهزمون إلى المنذر، وكان المنذر قد احتبس "شهاب بن عبد "قيس" بن كياس اليربوعي" عنده، فلما رأى سوء العاقبة، استدعاه، فقال له: "يا شهاب، أدرك ابني وأخي، فإن أدركتهما حيين، فلبني يربوع حكمهم، وأرد عليهم ردافتهم، وأترك لهم من قتلوا وما غنموا، وأعطيهم ألفي بعير"، فذهب إلى قومه وأعادهما، ووفى الملك بما قال. ونجد للأحوص وللفرزدق ولأم موسى الكلابية شعرًا في هذا اليوم3.
وفي عهد المنذر، كان يوم "أوارة الأول" على قول أهل الأخبار. وسببه
__________
1 نهاية الأرب "15/ 413". "22 نهاية الأرب "15/ 413"، الاشتقاق "147"، "ومنه طخفة لبني يربوع على قابوس بن المنذر بن ماء السماء"، اللسان "9/ 213"، "دار صادر" "طخف".
2 نهاية الأرب "15/ 413"، "بشر بن عمرو والرياحي"، العمدة لابن رشيق "2/ 201".
3 البلدان "6/ 32"، النقائض "1/ 66، 285"، "2/ 924"، الأغاني "3/ 176"، ابن الأثير "1/ 396"، العقد الفريد "3/ 359"، أيام العرب "94".(5/226)
أن تغلب لما أخرجت "سلمة بن الحارث" عنها، التجأ إلى "بكر بن وائل" ولما بلغ بكرًا أذعنت له تغلب ودانت لحكمه، وقالت له: "لا يملكنا غيرك"، فأرسل إليهم "المنذر" يدعوهم إلى طاعته، فلم يجيبوه، فحلف المنذر ليسيرن إليهم فإن ظفر بهم ذبحهم على قلة جبل أوارة حتى يبلغ الدم الحضيض، وسار إليهم بمجموعه ليبر بقسمه، والتقى بهم بأوارة، فهزمت بكر، وأسر "يزيد بن شرحبيل الكندي"، فأمر المنذر بقتله فقتل، وقتل خلق كثير من بكر، وأمر المنذر بذبح الأسرى الرجال على قلة جبل أوارة، وبإحراق النساء، وإلى ذلك أشار الأعشى بقوله:
سبايا بني شيبان يوم أوارة ... على النار إذ تجلى به فتياتها1
وختم عام "554م" هذا النزاع العنيف الذي أتعب الحارث والمنذر فاستراح الجانبان، ختم بسقوط المنذر بن النعمان" مونذر بر نعمن" "ملك العرب" صريعًا بيد خصمه الحارث بن جبلة بعيدًا عن عاصمة ملكه، ففي منطقة قنسرين على روايات المؤرخين السريان، ففي السنة السابعة والعشرين من حكم القيصر "يوسطنيانوس" "جستنيان" "Justinianus" هاجم المنذر منطقة "Rhomaye" التابعة لحكم الروم، فنازله الحارث بن جبلة، وتغلب عليه، وقتله عند عين "عودايا" "Wdaja" في منطقة قنسرين. وقد سقط في هذه المعركة أحد أبناء الحارث، فدفنه أبوه في قلعة هذا الموضع2.
و"عودايا"، هو "العذية" على رأي موسل، وهو من مواضع منطقة "بالميرينا" "Palmyrena"، أي منطقة تدمر، ومعظم هذه المنطقة هي من أعمال قنسرين3.
__________
1 الأغاني "1/ 122"، الكامل، لابن الأثير "1/ 259"، العقد الفريد "3/ 154"، العمدة لابن رشيق "2/ 215 وما بعدها"، المختصر في أخبار البشر "1/ 100"، مراصد، "1/ 127"، اللسان "4/ 35"، البكري، معجم "1/ 207"، البلدان "1/ 273"، أيام العرب "99".
2 أمراء غسان "ص 18".
Bar Hebraeus, 81, Vol, I, P. 76.
The English Translation, London, 1932, Michael The Syrian, Chronicle, Vol, 4, P. 323, Musil, Palmyrena, P. 144, Rothstein, S. 83.
3 Musil, Palyrena, P. 144.(5/227)
وقد فهم "أوليري" من رواية للمؤرخ "ثيوفانس" أن المنذر كان حيًّا حتى سنة "562م"، وهي السنة التي عقد فيها الصلح بين الروم والفرس، وفيها توفي1.
وقد ذكر "هارتمن" "Hartmann" أن المنذر هذا حارب في صفوف الرومان في أيام القيصر "طيباريوس الثاني" "Tiberius II"، غير أنه خانهم وغدر بهم في إحدى المعارك التي قادها "مرويقيوس" "Mauricius" فلما صار "موريقيوس" قيصرًا قبض عليه، ونفى معه زوجته وبعض أبنائه إلى جزيرة صقلية2. ولم يقل هذا القول أحد، وإنما قصد المورد الذي استند إليه هارتمن وهو "ايواكريوس" "Evagrius" منذرًا آخر غير المنذر الذي نتحدث عنه3.
وسبق لأوليري أن ظن هذا الظن، فذكر أن المنذر حدس أن في الفرس ضعفًا، وذلك بسبب انقطاع الحروب مدة بين الفرس والروم، فانضم إلى الروم وصار حليفًا لهم، وحارب معهم. فلما تبين لديه الأمر، عاد إلى حلفائه القدامى الفرس. فلما وقع في إحدى المعارك أسيرًا في أيدي الروم، نفاه القيصر موريقيوس سنة "580م" ونفى معه زوجته وبعض أولاده إلى صقلية4. ومصدر وهمهما هو اعتمادهما على رواية للمؤرخين "ايواكريوس" "Evagrius" و" نيقيفورس كالستوس" "Nicephorus Callistus" من غير أن يمحصاها. فالمنذر المقصود في هذه الرواية ليس هذا المنذر، وإنما هو المنذر بن الحارث بن جبلة الذي نفي بعد أن اتهمه الروم باتصاله من طرف خفي بالفرس، وأنه كان السبب في إخفاق الحملة التي قادها "موريقيوس" يوم كان قائدًا، فلما صار قيصرًا، انتقم منه بالنفي.
أما الذي عليه أكثر الأخباريين فهو: أن قتل المنذر كان في عين أباغ في
__________
1 O'Leary, P. 160, Theophanes, P. 205.
2 Paulys-Wissowa, Erster Halbband, S. 1281.
3 Evagrius Scholasticus, V, 20, VI, 2, Paulys-Wissowa, Erster Halbband, S. 1281.
4 O'Leary, P. 160, Evagrius, Hist. Eccl, 5, 60, 6, 2: Nicephorus Callistus, 18, 10.(5/228)
المعركة التي عرفت بـ "يوم عين أباع"1. وعين أباغ بحسب وصف بعض الأخباريين واد من أودية العراق وراء الأنبار على الفرات بين الكوفة والرقة، لا يبعد كثيرًا عن الحيرة2. وسبب وقوع هذه المعركة على ما يقولونه، هو أن المنذر بن ماء السماء سار من الحيرة في معد كلها حتى نزل بعين أباغ، وأرسل إلى الحارث الأعرج بن جبلة: إما أن تعطيني الفدية فأنصرف عنك بجنودي، وإما أن تأذن بحرب. فأرسل إليه الحارث: أنظرنا ننظر في أمرنا. فجمع عساكره وسار نحو المنذر فلما التقى به في عين أباغ، اقتتلا، فقتل المنذر، وقتل فيها ابنان للحارث. فسار الحارث بولديه القتيلين إلى الحيرة، فأنهبها وأحرقها ودفن ابنيه بها ثم عاد3.
ويذكر أهل الأخبار أن "عين أباغ" كانت منازل "إياد"، وأن "أباغ" رجل من العمالقة نزل ذلك المكان فنسب إليه. وقد اختلفت الأقوال في "عين أباغ فمنهم من جعلها موضعًا بين الكوفة والرقة، ومنهم من جعلها عين ماء، ومنهم من ينكر أنها عين ماء، ويرى أنها واد وراء الأنبار على طريق الفرات إلى الشأم، ومنهم من يجعلها في "ذات الخيار"4.
ويظهر من تعليقات ابن الأثير على هذه المعركة أن من كان يرى أن اسم الملك الغساني الذي انتصر في هذا اليوم هو أبو شمر عمرو بن جبلة بن الحارث ابن حجر بن النعمان بن الحارث بن الأيهم بن الحارث بن مارية الغساني، أو هو رجل من الأزد تغلب على غيرهما، وقد رجح هو رواية من قال إنه الحارث
__________
1 حمزة "ص 70"، ابن الأثير، الكامل "1/ 222"، العقد الفريد 3/ 374"، ديوان الحماسة "2/ 346"، اللسان "10/ 298"، أيام العرب "51".
2 البلدان "1/ 73"، "6/ 251"، "1/ 73"، "طهران"، البكري "1/ 64"، ابن دريد، الاشتقاق "209"، الأغاني "27/ 198"، الحموي، المشترك "319"، اللسان "8/ 417".
Noldeke, Hgass, 18, Rothstein, S. 2, 38.
3 ابن الأثير، الكامل "1/ 222 وما بعدها"، "1/ 320 وما بعدها" "المنيرية". أبو الفداء، المختصر "1/ 97"، ديوان النابغة "74"، البلدان "1/ 73"، ابن خلدون "الجزء الثاني"، القسم الثالث "ص 542"، "بيروت"، "حتى نزل بعين أباغ في ذات الخيار"، ابن الأثير، الكامل "1/ 320 وما بعدها".
4 أبو الفداء، المختصر" 1/ 97"، ديوان النابغة "74"، البلدان "1/ 73"، ابن خلدون "الجزء الثاني" القسم الثالث "ص 542"، "بيروت"، "حتى نزل بعين أباغ في ذات الخيار"، ابن الأثير، الكامل "1/ 320 وما بعدها".(5/229)
الأعرج بن جبلة، وهي رواية أكثرية الأخباريين1. ويؤيد هذه الرواية روايات المؤرخين السريان الذين سموا اسم ملك عرب الشأم، فدعوه "حرث برجابالا" أي الحارث بن جبلة "حارث بن جبل". ويلاحظ أن ابن العبري استعمل جملة "ملك العرب" للمنذر2. كما استعملها غيره من المؤرخين.
ويرى "ابن الأثير": أن "الحارث" لما بلغ "عين أباغ" أرسل إلى "المنذر" يقول: إنا شيخان هنا، فلا تهلك جنودي وجنودك، ولكن ليخرج رجل من ولدك، وليخرج رجل من ولدي، فمن قتل خرج عوضه، فإذا فني أولادك وأولادي خرجت أنا إليك، ومن قتل صاحبه ذهب بالملك. فتعاهدا على ذلك. فعهد المنذر إلى رجل من شجعانه، فأمره أن يخرج، ويظهر أنه ابن المنذر. فلما خرج، أخرج إليه الحارث ابنه "أبا بكر". فلما رآه، رجع إلى أبيه، وقال: إن هذا ليس بابن المنذر، إنما هو عبده أبو بعض شجعانه، فقال له الحارث: يا بني أجزعت من الموت؟ فعاد إليه وقاتله، فقتله الفارس، فألقى رأسه بين يدي المنذر. وعاد فأمر الحارث ابنه الآخر بقتاله والطلب بثأر أخيه، فخرج إليه، فشد عليه الفارس وقتله. فلما رأى ذلك" شمر بن عمرو الحنفي"، وكانت أمه غسانية، وهو مع المنذر، غضب، وقال للمنذر. أيها الملك، إن الغدر ليس من شيم الملوك ولا الكرام. وقد غدرت بابن عمك. فغضب المنذر. وهرب "شمر" إلى الحارث فأخبره. فلما كان الغد، أرسل الحارث أصحابه، وحرضهم، وكانوا أربعين ألفًا، واصطفوا للقتال، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وقتل المنذر وهزمت جيوشه. فأمر الحارث بابنيه القتيلين فحملا على بعير، وسار إلى الحيرة فانتهبها وأحرقها، ودفن ابنيه بها، وبنى الغريين عليهما في قول بعضهم3. والمعروف أن الذي بنى الغريين هو النعمان بن المنذر فوق قبري نديميه.
وأشار حمزة أيضًا إلى اختلاف الرواة في القاتل والمقتول في يوم عين أباغ،
__________
1 ابن الأثير "1/ 222".
2 مختصر تأريخ الدول "ص148"، "بيروت 1890".
Bar Hebraeus, 81, Vol, I, P. 76.
3 الكامل "1/ 320 وما بعدها"، العقد الفريد "3/ 374".(5/230)
فقال: وقتله الحارث الأعرج، وهو الحارث الوهاب الجفني يوم عين أباغ. وهو اليوم الذي قيل فيه ما يوم حليمة بسر. وفي كتاب المعارف: أن الذي قتله الحارث الأعرج في يوم حليمة هو المنذر بن امرئ القيس. وكان يوم عين أباغ بعد يوم حليمة. والمقتول في يوم عين أباغ المنذر بن المنذر. وكان خرج يطلب بدم أبيه. فقتله الحارث الأعرج أيضًا. وقد سمعنا أن قاتله مرة بن كلثوم أخو عمرو بن كلثوم التغلبي1.
وقد ذكر "ابن قتيبة" في "كتاب المعارف" أن الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأعرج، هو الذي قتل المنذر بن امرئ القيس، قتله بـ "الخيار2". ويظهر من خبره هذا أن قتل المنذر إنما كان بـ "الخيار"، لا في "يوم حليمة"، وأن "الخيار" أو "الحيار" موضع أقرب ما يكون إلى الحيرة منه إلى بلاد الشام.
وهناك رواية أخرى عن مقتل المنذر بن ماء السماء نجدها مدونة في الأغاني، لم تشر إلى عين أباغ ولا إلى يوم حليمة، أو ذات الخيار، خلاصتها. أن شمرًا ابن عمرو الحنفي أحد بني سحيم هو الذي قتل المنذر بن ماء السماء، قتله غيلة لما حارب الحارث بن جبلة الغساني، فبعث إلى المنذر بمئة غلام تحت لواء شمر هذا، يسأله الأمان على أن يخرج له عن ملكه، ويكون له من قبله. فركن المنذر إلى ذلك، وأقام الغلمان معه، فاغتاله شمر بن عمرو الحنفي، فقتله غيلة. وتفرق معه من كان مع المنذر، وانتهبوا عسكره3. وذكر "ابن دريد" أن قاتل المنذر الأكبر، وهو جد النعمان بن المنذر، يوم عين أباغ، هو "شمر بن يزيد". وهو من "بني حنيفة"، وكان في جند الملك الغساني"4.
وتحدث "ابن خلدون" عن "يوم عين أباغ"، فقال: "كان جبلة بن النعمان صاحب يوم عين أباغ، يوم كانت الهزيمة له على المنذر بن ماء السماء. وقتل المنذر في ذلك اليوم"5. ولكننا نجده يقول في موضع آخر: "عمرو بن
__________
1 حمزة "ص70".
2 المعارف "ص 283" "طبعة محمد إسماعيل عبد الله الصاوي".
3 الأغاني "11/ 46" "دار الكتب المصرية"، العقد الفريد "2/ 66"، الاشتقاق "209"، البكري "1/ 64".
4 الاشتقاق "2/ 209".
5 ابن خلدون، الجزء الثاني، القسم الثالث "ص 586" "بيروت".(5/231)
عمرو بن عبد الله بن عبد العزى، قاتل المنذر بن ماء السماء في يوم عين أباغ"1. وذكر أن "عمرًا" هذا هو ابن عم" علي بن ثمامة بن عمر بن عبد العزى بن سحيم بن مرة" وهو الذي توجه كسرى2. وقد ذكر أن "جبلة بن النعمان" صاحب يوم عين أباغ، كان منزله بصفين.
وفي رواية أخرى أن "حليمة" كانت قد أخرجت خلوقًا، فخلقت به الفتيان. ولما خلقت أحدهم، واسمه "لبيد بن عمرو"، دنا منها فقبلها، فلطمته وبكت، فأمسكها أبوها، ثم ذهب من ذهب وفيهم "شمر بن عمرو الحنفي" وكانت أمه من غسان، إلى "المنذر" متظاهرين أنهم جاؤوا إليه ليخبروه أن الحارث يدين للمنذر، وهو يريد أن يعطيه حاجته، فتباشر أهل عسكر المنذر، وغفلوا بعض غفلة، فحمل الغلمان على المنذر وقتلوه، فقيل: "ليس يوم حليمة بسر"، فذهب مثلًا3.
وذكر "ابن قتيبة" أن "الحارث ابن أبي شمر الغساني، وهو الأعرج وجه إلى المنذر بن ماء السماء مئة فارس، فيهم الشاعر "لبيد بن ربيعة"، وأمره عليهم، فصاروا إلى عسكر المنذر، وأظهروا أنهم أتوه داخلين في طاعته، فلما تمكنوا منه قتلوه وركبوا خيلهم فقتل أكثرهم ونجا لبيد، حتى أتى ملك غسان، فأخبره الخبر، فحمل الغسانيون على عسكر المنذر فهزموهم. وهو يوم حليمة. وكانت حليمة بنت ملك غسان. وكانت طيبت هؤلاء الفتيان حين توجهوا وألبستهم الأكفان والدروع وبرانس الأضريج"4.
وقد جعل بعض الأخباريين عين اباغ "ذات الخيار"5، ويفيد قولهم هذا أن عين أباغ هو موضع يقع في منطقة تسمى ذات الخيار "الحيار"، ويرى "نولدكه" أن موضع "الحياران" الوراد في معلقة "الحارث" هو أيضًا هذا
__________
1 المصدر نفسه "ص 626".
2 المصدر نفسه.
3 الميداني، مجمع الأمثال "2/ 295 وما بعدها".
4 الشعر والشعراء "ص 148"، "طبعة ليدن".
5 ابن الأثير "1/ 222".(5/232)
المكان1. وللتثبت من هذا القول، لا بد من الوقوف على موضع ذات الخيار "الحيار" و"الحياران". وقد ذكر ياقوت الحموي أن الحيار صقع من برية قنسرين، كان الولد بن عبد الملك أقطعه القعقاع بن خليد بينه وبين حلب يومان2.
وهذا الوصف لموقع الحيار ينطبق على ما رواه المؤرخون السريان عن موضع مقتل المنذر كما يوافق رأي من جعل عين أباغ ذات الخيار.
وممن ذهب هذا المذهب، "أبو الفداء"، فقال في حديثه عن "يوم عين أباغ"، "ومن أيام العرب يوم عين أباغ، وكان بين غسان ولخم، وكان قائد غسان الحارث الذي طلب أدراع امرئ القيس، وقيل: غيره. وكان قائد لخم المنذر بن ماء السماء. وقتل المنذر في هذا اليوم، وانهزمت لخم، وتبعهم غسان إلى الحيرة، وأكثروا بينهم القتل. وعين أباغ في موضع يقال له ذات الخيار"3.
وذكر ابن عبد ربه المتوفي سنة 328هـ أن القتيل في يوم عين أباغ هو المنذر ابن ماء السماء وهو الذي تولى ملك الحيرة بعد قابوس وقبل النعمان بن المنذر، الذي قربه "عدي بن زيد العبادي" إلى كسرى. وأما القاتل، فهو الحارث الغساني4. ومرد أمثال هذا الاختلاف في أسماء الملوك في الروايات، إلى تشابه الأسماء إذ يصعب على الرواة، وهم يعتمدون في رواياتهم على الحفظ، أن يميزوا بعد مدة بين أمثال هذه الأسماء، فيحدث لهم مثل هذا الاضطراب.
ونجد هذا الرأي عند "النويري" كذلك، إذ جعله أيضًا والد "النعمان" الملك الأخير من ملوك الحيرة، والذي قتله كسرى كما سنرى فيما بعد5.
والنويري هو عيال على "ابن عبد ربه" في كثير من الأخبار، ولا سيما أخبار الأيام.
__________
1 وهو الرب والشهيد على يوم الحيارين والبلاء بلاء.
المعلقة. البيت 82، شرح الزوزني "ص 169".
2 البلدان "3/ 375".
3 المختصر في تأريخ البشر "1/ 97" "بيروت".
4 العقد الفريد "6/ 110"، "5/ 260" "لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1946م".
5 نهاية الأرب "1/ 430 وما بعدها".(5/233)
ويتبين من غربلة الأخبار الواردة عن "يوم أباغ"، "يوم عين أباغ" أن من الأخباريين من يرى أن يوم عين أباغ ويوم حليمة، هما يوم واحد، ولا فرق بينهما، وقالوا إنما عرف ذلك اليوم بـ "يوم حليمة"، لبروز اسم "حليمة" فيه، وهي بنت ملك غسان، تخلق المحاربين وتحثهم على القتال. وأن من الأخباريين من جعل "يوم حليمة" يومًا آخر مغايرًا ليوم عين أباغ، ثم اختلفوا فيه، فمنهم من جعله قبل يوم عين أباغ، ومنهم من جعله بعده. وقد ذكروا أنه كان يومًا عظيمًا، اشترك فيه عدد كبير من المقاتلين، "وعظم الغبار حتى قيل: أن الشمس قد انحجبت وظهرت الكواكب المتباعدة من مطلع الشمس"1. وهذا مما يدل على اشتراك عدد كبير من المقاتلين فيه. وممن ذهب إلى أن "يوم حليمة" هو يوم آخر "ابن الأثير"، وقد جعله بعد "يوم عين أباغ". وقال: أنه وقع في موضع يعرف بـ "مرج حليمة"، وسببه أن المنذر لما قتل أراد ابنه "الأسود" الأخذ بالثأر، فسار في جيش لجب، والتقى بجيش "الحارث" في "مرج حليمة". ولما طالت الحرب، أمر الحارث ابنته "هند" بأن تخلق فتيان غسان، ونادى فتيان غسان: من قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي هند فقال لبيد بن عمرو الغساني لأبيه: يا أبي أنا قاتل ملك الحيرة أو مقتول، ثم ركب فرسه، وشد على الأسود، فقتله، وانهزمت لخم ثانية، وقتلوا في كل وجه. وانصرفت غسان بأحسن ظفر في تفاصيل أخرى لا مجال لشرحها هنا2.
فيتبين من خبر "ابن الأثير" هذا أن الموضع الذي وقع فيه القتال اسمه "مرج حليمة"، وأن اسم ابنة الحارث هو "هند" لا حليمة، وأن المقتول فيه هو "الأسود" لا المنذر، وأن هذا اليوم قد وقع بعد "يوم عين أباغ".
وفي رواية أن الغساسنة تمكنوا في المعركة التي سقط فيها المنذر من أسر أحد أبنائه وهو امرؤ القيس، وبقي في أسرهم على أن أغارت بكر بن وائل على بعض بوادي الشام، فقتلوا ملكًا من ملوك غسان، واستنقذوا امرأ القيس بن المنذر، وأخذ عمرو بن هند بنتًا لذلك الملك يقال لها ميسون3. وقد ذهب "كوسان دي برسفال" إلى أن هذه الغارة كانت بقيادة أحد أبناء المنذر القتيل، وأنها
__________
1 البلدان "2/ 325 وما بعدها"، أبو الفداء، المختصر "1/ 97".
2 الكامل "1/ 320 وما بعدها".
3 الأغاني "11/ 48".(5/234)
كانت عارة انتقامية وقعت بعد المعركة التي سقط فيها ابن ماء السماء1. وقد أشار الحارث بن حلزة إلى ذلك في شعره مفتخرًا:
وفككنا غل امرئ القيس عنه ... بعد ما طال حبسه والعناء
وقد زعم الشراح أن امرأ القيس هذا كان معروفًا بماء السماء2 أما الملك الغساني القتيل، فلم يشيروا إلى اسمه، وأشك في الذي رواه الأخباريون من أنه كان ملكًا. وأرى احتمال كونه أحد أبناء الملوك. واستعمال جملة "رب غسان"، هي من باب التفخيم للعمل الذي قامت به بكر.
وذكر بعض الرواة أن حجرًا الكندي، وهو في نظرهم حجر بن أم قطام، غزا امرأ القيس هذا، وكانت مع حجر جموع كثيرة من كندة، غير أن بكرًا التي كانت مع امرئ القيس قاتلته، وقتلت جنوده3.
وذهب بعض الأخباريين إلى أن مقتل المنذر بن ماء السماء هو في يوم حليمة، قتله الحارث بن أبي شمر الغساني. وسبب تسمية ذلك اليوم بيوم حليمة أن حليمة ابنة الحارث كانت تخلق قومها وتحرضهم على القتال في ذلك اليوم. وذهب آخرون إلى أنه موضع4.
وفي رواية تنسب إلى ابن الأعرابي أن بني تغلب حاربوا المنذر بن ماء السماء، ولكنهم غلبوا على أمرهم، فلحقوا بالشأم خوفًا منه. وبقوا هناك، فمر بهم عمرو بن أبي حجر الغساني في رواية، أبو الحارث بن أبي شمر الغساني في رواية أخرى، فلم يستقبلوه، فانزعج من ذلك، وتوعدهم، وأن عمرو بن كلثوم نهاه عن ذلك5.
وقد روى بعض أهل الأخبار أبياتًا من الشعر، زعموا أن ابنة المنذر قالتها في رثاء والدها، ففي جملتها:
__________
1 Caussin, Essai, II, 116.
2 الأغاني "11/ 48 وما بعدها" "دار الكتب المصرية".
3 الأغاني "11/ 49" "دار الكتب المصرية".
4 البلدان "3/ 320"، الكامل، لابن الأثير "1/ 326 وما بعدها".
5 الأغاني "11/ 57 وما بعدها".(5/235)
وقالوا فارسًا منكم قتلنا ... فقلنا الرمح يكلف بالكريم
بعين أباغ قاسمنا المنايا ... فكان قسيمها خير القسيم1
وينسب إلى المنذر بناء الغريين في بعض الروايات، وكان السبب في ذلك كما يقول الأخباريون أنه كان له نديمان من بني أسد يقال لأحدهما خالد بن نضلة "مضلل" "خالد بن المضلل" والآخر عمرو بن مسعود" عمرو بن مسعود الأسدي"، فثملًا، فراجعا الملك ليلة في بعض كلامه، فأمر وهو سكران فحفر لهما حفيرتان فدفنا حيين. فلما أصبح استدعاهما، فأخبر بالذي أمضاه فيهما، فغمه ذلك، وقصد حفرتهما، وأمر ببناء طربالين عليهما، وهما صومعتان، فقال المنذر: ما أنا بملك إن خالف الناس أمري، لا يمر أحد من وفود العرب إلا بينهما، وجعل لهما في السنة يوم بؤس ويوم نعيم، يذبح في يوم بؤسه كل من يلقاه ويغري بدمه الطربالين، ويحسن في نعيمه إلى كل من يلقى من الناس ويحملهم ويخلع عليهم. وقد ظل المنذر على عادته هذه إلى أن حدث له حادث، أظهر فيه رجل ظهر يوم بؤسه وفاءً عظيمًا، فعفا عنه، وترك تلك العادة وتنصر، وكان الرجل الذي بر بوعده فحضر بعد عام ليأخذه سيف الجلاد نصرانيًّا، ولذلك تنصر المنذر. وذكروا أنه لم يكن يتورع من ذبح أعز الناس عليه إذا ظهر له يوم بؤسه. فلما ظهر الشاعر الشهير عبيد بن الأبرص الأسدي، لم ينجه شعره من مصير ذلك اليوم2. وذكروا أن الرجل كاد يسلمه سوء طالعه إلى يد الجلاد، هو حنظلة الطائي، وأنه ترهب بعد هذا وابتنى ديرًا له هو الدير المعروف بدير حنظلة. وأما الذي كفل ذلك الرجل حتى يعود بعد عام، فرجل من أشراف القوم هو شريك بن عمرو، وذكروا أيضًا أن حنظلة هذا هو عم أياس بن قبيصة الطائي ملك الحيرة3.
__________
1 اللسان "8/ 417" "بيروت".
2 البلدان "6/ 283 وما بعدها"، الأغاني "5/ 213" "دار الكتب المصرية"، البكري، معجم "ص694. "طبعة ليدن"، ابن قتيبة. الشعر "ص 144"، الأغاني "19/ 86"، القالي، الأمالي "3/ 195"، "طبعة دار الكتب المصرية"، "ابن هشام "1/ 401"، شرح قصيدة ابن عبدون "132"، شعراء النصرانية "ص600"، الحور العين، للحميري "ص 76". رسالة الغفران "182"، طبقات ابن سلام "31".
3 شعراء النصرانية "ص 89".(5/236)
وورد في بعض الروايات أن "المنذر بن ماء السماء"، خرج في يوم بؤسه، وكان يومًا يركب فيه فلا يلقى أحدًا إلى قتله، فلقي في ذلك اليوم "جابر بن رألان" أحد "بني ثعل" ومعه صاحبان، فأخذتهم الخيل بالثوية، فأتى المنذر فقال: اقترعوا، فأيكم قرع، خليت سبيله، وقتلت الباقين. فاقترعوا فقرعهم جابر، فخلى سبيله، وقتل صاحبيه، فلما رآهما يقادان ليقتلا، قال عز بز. ورووا في ذلك شعرًا نسبوه إلى جابر1.
ومن الأخباريين من نسب بناء الغريين إلى النعمان الثالث. ومنهم من نسبهما إلى جذيمة، وذهب آخرون إلى نسبة الغري إلى الحارث الغساني2. ويرينا هذا الاختلاف مبلغ جهلهم بأصل الغريين.
وقد ذكر "النويري" أن الغريين أسطوانتان كانتا بظاهر الكوفة، بناهما "النعمان بن المنذر بن ماء السماء" على جاريتين كانتا قينتين تغنيان بين يديه، فماتتا، فأمر بدفنهما، وبنى عليهما الغريين. وذكر أيضًا أن "المنذر غزا الحارث ابن أبي شمر الغساني، وكان بينهما وقعة عين أباغ، وهي من أيام العرب المشهورة، فقتل للحارث ولدان، وقتل المنذر، وانهزمت جيوشه، فأخذ الحارث ولديه وجعلهما عدلين على بعير، وجعل المنذر فوقهما، وقال: ما العلاوة بدون العدلين؟ فذهبت مثلًا، ثم رحل إلى الحيرة، فانتهبها وحرقها، ودفن ابنيه بها، وبنى الغريين عليهما". وقد ذكر أن "المنصور" أمر بهدم أحدهما، لكنز توهم أنه تحتهما، فلم يجد شيئًا3.
وهذا الذي يرويه أهل الأخبار عن سبب بناء الغريين، هو من القصص الذي ألفناه، وعودنا أصحاب الأخبار سماعه، فلا قيمة تأريخية له في نظرنا، وإن أكد لنا الأخباريون أو حاولوا التأكيد بأنه حق، وأنه أمر مسلم به وشائع معروف، وأن عبيدًا لقي حتفه لظهوره يوم بؤس المنذر أو النعمان. وقد يكون ذلك مسلمًا به عندهم، غير أننا لسنا من السذاجة بحيث نصدق بأمثال هذا القصص لمجرد أنه شائع معروف، فليس كل شائع معروف أمرًا صحيحًا يجب الأخذ به.
__________
1 الفاخر "ص73".
2 Rothstein, S. 140.
3 نهاية الأرب "1/ 387".(5/237)
ونحن لا نريد أن ننكر وجود الغريين، فليس إلى نكرانهما أو نكران "الغري" من سبيل. ولكننا كما قلت ننكر هذا القصص الذي يرويه الأخباريون عن هذين الغريين؛ لأنه قصص نشأ كما نشأ أمثاله عن جهل الناس أو أهل الأخبار بأصول الأشياء، فلما احتاجوا إلى معرفة الأسباب، أوجدت لهم مواهبهم هذا القصص الطريف، وهو أمر لم ينفرد به زمان دون زمان، فما زال الناس يبتدعون قصصًا ثم يروونه، ويتناقلونه على أنه شائع صحيح. مع أن تأريخ ابتداعه لا يبعد عن زماننا بكثير، وأهل الحي بهذا القصص عارفون.
أما أن الغريين حفرتان دفن في كل حفرة منهما رجل حي؛ لأنه عربد وسكر، وتحدث بكلام غاظ الملك، وما أشبه ذلك من قصص، فأمر لا نستطيع أن نقف منه موقفًا إيجابيًّا، ولا نسلم به. ففيه شيء من أثر الصنعة والتكلف، ولكننا نستطيع أن نقول أن الغري أو الغريين من المواضع التي كانت لها صلة بعبادة الأوثان، ومن الجائز أنهما كانا مخصصين لتقديم الذبائح والقرابين في المواسم الدينية وفي الأعياد. وقد عرفت مثل هذه العادات عند شعوب أخرى، فكانت تهرق دماء الذبائح عند الأنصاب ثم تطلى بها، وما الغريان إلا نصبان من هذه الأنصاب. على أن الأخباريين أنفسهم قد ذكروا أن الغري نصب كان يذبح عليه العتائر، كما ذكروا أن الغريين كانا طربالين، والطربال صومعة على رأي، وشيء مرتفع عند الأكثرين1. فلا يستبعد أن يكون الغريان موضعين من مواضع ذبح القرابين للأصنام.
ويذكر أهل الأخبار أن "شريك من مطر"، وهو جد "معن بن زايدة"، كان من أكبر الناس عند المنذر. وكان له ولد اسمه "الحارث" ويلقب بـ "الحوفزان" وهو من بني "شيبان"2.
__________
1 البلدان "6/ 282".
2 الاشتقاق "ص 215".(5/238)
الفصل الثامن والثلاثون: عمرو بن هند
مدخل
...
الفصل الثامن والثلاثون: عمرو بن هند
والذي خلف المنذر على ملك الحيرة بعد وفاته، هو ابنه عمرو بن هند المعروف بـ "مضرط الحجارة"، وهو لقب يشير بالطبع إلى قوة ابن هند وشدة بأسه، وقد عرف عمرو بأمه "هند بنت عمرو بن حجر الكندي آكل المرار"، فهو كندي من جهة أمه، وعرف أيضًا بـ "محرق الثاني" على رواية حمزة1، وبـ "المحرق" في رواية لغيره2. وقد كان له من الأشقاء من أمه: قابوس والمنذر.
ويرى بعض الباحثين احتمال كون "هند" من "آل غسان"، وإليها ينسب دير هند. ويرى أن حكم ابنها عمرو كان فيما بين السنة "554" والسنة "569م".
وزعم ابن الأثير أن الذي تولى الملك بعد المنذر بن ماء السماء هو ابنه المنذر ابن المنذر بن ماء السماء المعروف بـ "الأسود"، وأنه لما استقر الأسود وثبت قدمه جمع عساكره وسار إلى الحارث الأعرج طالبًا بثأر أبيه، ونزل برج حليمة، ووصل الحارث إلى هذا الموضع كذلك، واقتتل الطرفان أيامًا ولم ينتهيا إلى
__________
1 حمزة "ص 72"، معجم الشعراء "ص 205 وما بعدها"، مفاتيح العلوم "69".
2 شرح ديوان لبيد "263".(5/239)
نتيجة. فلما رأى الحارث طول الوقت، نادى في فتيان غسان: "يا فتيان غسان من قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي هندًا". فلما سمع ذلك لبيد بن عمرو الغساني، شد على الأسود فقتله، وانهزم أصحابه، فنزل لبيد واجتز رأس الأسود، وأقبل به إلى الحارث، فألقى الرأس بين يديه، فوافق الحارث على إعطاء لبيد ابنته، ثم إن لبيدًا انصرف ليواسي أصحابه، فرأى أخًا للأسود يقاتل الناس، فتقدم لبيد فقاتل فقتل، ولم يقتل في هذه الحرب بعد تلك الهزيمة غيره. وانهزمت لخم ثانية، وكثر فيها القتل. وذكر الأخباريون أن هذا اليوم هو من أيام العرب الكبرى إذ سار الأسود بجمع من عنده من عرب العراق، وأقبل الحارث بجميع من كان عنده من عرب الشأم. فجعلت هذه الرواية بعد المنذر ابنه المنذر الأسود وجعلته صاحب مرج حليمة1.
وتذكر رواية أن جيش الحارث الأعرج بن جبلة أسر كثيرًا ممن كان مع المنذر من العرب، وفيهم مئة من تميم، فيهم شأس بن عبدة. ولما سمع أخوه علقمة، وفد إلى الحارث مستشفعًا وأنشده قصيدة مدح طويلة، فمن عليه، وأطلق له الأسرى من تميم، وكساه وحباه2.
وهناك رواية أخرى عن مقتل المنذر بن المنذر، خلاصتها: أن الحارث بن أبي شمر جبلة بن الحارث الأعرج خطب إلى المنذر ابنته هندًا، وقصد انقطاع الحرب بين لخم وغسان فوافق المنذر على ذلك. غير أن هندًا أبت عليه ذلك، فحقد الحارث على آل لخم. فلما خرج المنذر غازيًا، بعث الحارث جيشًا إلى الحيرة، فانتهبها وأحرقها، فانصرف المنذر عن غزاته وسار يريد غسان. وبلغ الخبر الحارث، فجمع أصحابه وقومه، فسار بهم، فتوافقوا في عين أباغ. فاصطفوا للقتال، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وحلمت ميمنة المنذر على ميسرة الحارث وفيها ابنه، فتقلوه وانهزمت الميسرة. وحملت ميمنة الحارث على ميسرة المنذر، فانهزم من بها وقتل مقدمها "فروة بن مسعود بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل ابن شيبان"، وحملت غسان من القلب على المنذر فقتلوه، وانهزم أصاحبه في كل وجه، وقتل منهم خلق كثير، منهم ناس من بني تميم، ومن بني حنظلة،
__________
1 ابن الأثير "1/ 223 وما بعدها، 225"، البلدان "3/ 330".
2 أيام العرب "55 وما بعدها".(5/240)
241
ووقع عدد في الأسر، ومن هؤلاء الأسرى: "شأس بن عبدة" شقيق علقمة ابن عبدة من شعراء الجاهلية المعروفين. فالقتيل في هذه المعركة وعلى هذه الرواية إذن هو المنذر بن المنذر بن ماء السماء، لا المنذر بن ماء السماء.
وقد تشكى ابن الأثير كما تشكى قبله حمزة من اختلاف الأخباريين في الروايات، ومن تضارب الروايات بعضها ببعض، ومن تقديم الأيام وتأخيرها، وفي الشخص المقتول، فذكر أن من الأخباريين من يقول أن يوم حليمة هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن ماء السماء، ويوم أباغ هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن المنذر، ومنهم من يقول بضد ذلك، ومنهم من يجعل اليومين واحدًا، فيقول لم يقتل إلا المنذر بن ماء السماء، وأما ابنه المنذر فمات بالحيرة. وقيل أن المقتول من ملوك الحيرة غيرهما. وقد رجح ابن الأثير رواية القائلين أن المقتول هو المنذر بن ماء السماء، ورجح أيضًا رواية من يقول إن المنذر بن المنذر لم يقتل، وإنما مات حتف أنفه1.
ويذكر أن "علقمة بن عبدة" الشاعر الجاهلي، ذهب إلى الحارث، فمدحه بقصيدة شهيرة، رجاء استعطاف الملك، ليمن عليه بالعفو عن أخيه، فيفكه من أسره، فاستحسن الملك شعره وفرح به، ومن عليه بفك أسره، وبفك أسر جميع من وقع من قومه في الأسر. فلما عادوا إلى ديارهم، أعطوا شأسًا أموالًا وأكسيةً وإبلًا، فحصل من ذلك له مال كثير2.
وفي يوم "حليمة" ورد المثل. "ما يوم حليمة بسر"3.
أعود بعد الكلام على "المنذر بن المنذر" إلى الحديث عن عمرو بن هند شقيقه، فأقول: يظهر من هذه الروايات المذكورة عنه، ومن هذا الشعر الوارد اسمه فيه، أنه كان رجلًا سريع الانفعال، يتألم بسرعة مما يقال له، ولذلك حدثت له مشكلات عديدة لم تكن لتحدث لولا هذا الحس المرهف عنده، الذي جعله عرضة لهجو الشعراء، والشعراء ألسنة الناس وأبواق الدعاية في ذلك العهد، وقصته مع طرفة بن العبد والمتلمس معروفة مشهورة4.
__________
1 ابن الأثير "1/ 225".
2 ابن الأثير "1/ 326 وما بعدها".
3 مجمع الأمثال، للميداني: "2/ 408".
4 "صحيفة المتلمس"، الأغاني "21/ 194"، خزانة الأدب "1/ 412"، اليعقوبي "1/ 172"، الفاخر "ص 60"، شعراء النصرانية "ص 337".(5/241)
ويصفه أهل الأخبار بالشدة والصرامة، بل جعلوه شريرًا، وزعموا أنه كان له يوم بؤس ويوم نعيم، فيوم يركب في صيده يقتل أول من لقي، ويوم يقف الناس ببابه فإن اشتهى حديث رجل أذن له، فكان هذا دهره1. وقالوا: إنه كان لا يبتسم ولا يضحك. وكانت العرب تسميه "مضرط الحجارة" لشدة ملكه، وكانوا يهابونه هيبة شديدة، وكان عاتيًا جبارًا ويسمى محرقًا أيضًا؛ لأنه حرق بني تميم، وقيل: بل حرق نخل اليمامة2.
وقد وصف الشاعر "الرهاب العجلي" الملك "عمرو بن هند" بأنه ملك "يعتدي ويجور" وذلك في معرض وصفه للسدير3. وقد أصحبت الحيرة موئل الشعراء في أيام عمرو بن هند، فلأكثر مشاهير الشعراء الجاهليين خبر مع هذا الملك، كانوا يحضرون إليه من أماكن نائية لإنشاده شعرهم ولنيل جوائزه، ولم تكن مجالسه لتخلو من منافسة الشعراء بعضهم لبعض، ومن نقد بعضهم شعر بعض، كالذي حدث بين طرفة والمسيب بن علس على ما يذكره الأخباريون4. وقد كانت لمثل هذه المنافسات أهمية كبيرة في مجتمع ذلك اليوم، لما كان لها من أثر في نفوس القبائل، وطالما أدت إلى غضب القبائل وغضب الملك نفسه، وغضب الشعراء على منافسيهم وعلى الملك، لاعتقادهم بتحزبه لأحد الخصمين.
وذكر بعض الرواة أن سبب هجاء "طرفة" عمرو بن هند أن عمرو بن هند كان يتباطأ في مجلسه في استقبال الناس. فإذا جلس لشرابه، أخذ الناس بالوقوف على بابه حتى ينتهي من مجلس أنسه، فيسمح عندئذ لذوي الحاجات بالدخول عليه، كما كان يصرف وقته بالتلهي بالصيد والقنص، مما جعل وقته
__________
1 شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، للأنباري "ص 122"، العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهليين "ص317".
2 خزانة الأدب "1/ 417"، شعراء النصرانية "1/ 305".
3
أبى القلب أن يهوى السدير وأهله ... وإن قيل: عيش بالسدير غرير
فلا أنذر الحي الذي نزلوا به ... وإني لمن لم يأته لنذير
به البق والحمى وأسد خفية ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور
الأغاني "21/ 295" "القسم الثاني"، بيروت "1957".
4 شعراء النصرانية "ص 304، 350 وما بعدها".(5/242)
يضيق عن استقبال الناس، فصاروا يتكالبون على بابه ليجدوا وقتًا يدخلون فيه عليه، فاستاء طرفة من هذه المعاملة. وقال شعرًا يهجوه فيه، كان في جملة ما جاء فيه.
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثًا حول قبتنا تخور
لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير
قسمت الدهر في زمن رخي ... كذلك الحكم يقصد أو يجور
فبلغ الشعر "عمرو بن هند"، أبلغه إياه "عبد عمرو"، وكان من سادات الناس في زمانه، وكان زوج أخت "طرفة"، وقد هجاه "طرفة" أيضًا. فلما أنشد "عمرو بن هند" هجاء طرفة له على سبيل المزاح والاستخفاف بشأنه، قال له "عبد عمرو": أبيت اللعن! ومما قال فيك أشد مما قال في فأنشده الأبيات. فقال عمرو بن هند: أو قد بلغ من أمره أن يقول في مثل هذا الشعر. فكتب إلى رجل من عبد القيس بالبحرين، وهو المعلى ليقتله. فقال له بعض جلسائه: إنك إن قتلت طرفة، هجاك المتلمس وهو رجل مسن مجرب، وكان حليف طرفة، وكان من بني ضبيعة. فأرسل عمرو إلى طرفة والمتلمس فكتب لهما إلى عامله بالبحرين ليقتلهما، وأعطاهما هدية من عنده وحملهما، وقال1: قد كتبت لكما بحباء، فأقبلا حتى نزلا الحيرة، وارتاب المتلمس بأمر الصحيفة واستقبال عمرو لهما، ففك ختمها وعرضها على غلام من أهل الحيرة، فقرأها، فإذا فيها أمر بقتله، فأخذ الصحيفة فقذفها في البحيرة وقال:
وألقيتها بالثني من جنب كافر ... كذلك ألقي كل رأي مضلل
وأشار على طرفة بفك خاتم صحيفته أيضًا ليقرأها له، ولكنه أبى، وذهب إلى صاحب البحرين، فوجد هناك نهايته في قصص منمق محبر يرويه أهل الأخبار2.
__________
1 الشعر والشعراء "ص89 وما بعدها"، "ليدن".
2 شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص42 وما بعدها"، الأغاني "21/ 125". ديوان طرفة بن العبد "ص9". شرح القصائد العشر، للزوزني "10"، الشعر والشعراء "ص85 وما بعدها".(5/243)
ويذكر بعض أهل الأخبار أن قبر طرفة بهجر، وهو معروف هناك1.
وللشاعر "طرفة بن العبد" شعر يعاتب به "عمرو بن هند"، ويحرضه فيه على الطلب بحق أخيه "معبد"، الذي أغير على إبل له، وكانت في جوار "عمرو بن هند" فانتهبت. ويقول فيه: نحن في طاعتك، ومضر في طاعتك، فما بالنا أغير علينا، وكلنا ندين لك2.
ولطرفة شعر في هجاء "قابوس" كذلك، ونرى بعض الأخباريين ينسبون إليه يومين: يومًا يصيد فيه، ويومًا يشرب فيه، فيقف الناس ببابه حتى يأذن لهم بالدخول إليه، ولذلك سئم منه طرفة فهجاه وهجا عمرو بن هند شقيقه معه3. وينسب بعض أهل الأخبار هذه القصة إلى عمرو بن هند.
ويتبين من حديث الأخباريين عن صحيفة المتلمس، ومن قصة نهاية طرفة في البحرين، أن البحرين كانت تابعة في ذلك العهد لملك الحيرة، وأن حاكمها كان عاملًا لعمرو بن هند4. وقد ورد في رواية أن اسم عامل عمرو بن هند هو "أبو كرب ربيعة بن الحرث"، وهو من ذوي قرابة "طرفة" فلما علم بخبر "طرفة" لم يقتله، وكتب إلى "عمرو بن هند" أنه لن يقتله، وقد اعتزل عمله5. فعين عمرو عاملًا آخر مكانه اسمه في بعض الروايات "عبد هند". وتقول رواية أخرى أن قاتل طرفة هو "المكعبر" عامل البحرين، قتله بكتاب عمرو بن هند6. وكان "المكعبر" عامل عمرو بن هند على عمان والبحرين على رواية هؤلاء الرواة7. وتزعم رواية أخرى أن الذي قتله رجل من "الحواثر"
__________
1 خزانة الأدب، "1/ 416"، مجمع الأمثال "1/ 412"، الأغاني "23/ 523 وما بعدها" "بيروت 1955م"، أمالي المرتضى "1/ 183 وما بعدها". الشعر والشعراء "131 وما بعدها".
2 لعمرك ما كانت حمولة معبد
على جدها حربا لدينك من مضر
المعاني الكبير "2/ 1118"، شرح القصائد العشر "ص 182".
3 شعراء النصرانية "1/ 305".
4 البطليوسي. الاقتضاب "104"، شعراء النصرانية "ص 321، 330 وما بعدها"، شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص 42 وما بعدها"، "دار صادر"، البلدان "7/ 208".
5 مجمع الأمثال "1/ 412 وما بعدها".
6 معجم الشعراء "ص 201"، الأغاني "3/ 524".
7 شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، للأنباري "ص 116"، الشعر والشعراء "ص 91".(5/244)
اسمه "التربيع بن حوثرة" "أبو ريشة" "أبو رائشة الحوثري" وكان "عمرو بن هند" قد اختاره وعينه على البحرين: حين همت "بكر بن وائل" بعامل "عمرو بن هند". وتزعم رواية أخرى، أن قاتله هو "المعلي بن حنش العبدي" وأن الذي تولى قتله بيده هو "معاوية بن مرة الأيفلي" من "حي صسم وجديس"1.
وفر المتلمس إلى بلاد الشأم حيث الغساسنة أعداء المناذرة، وصار يمدحهم ويهجو عمرو بن هند، واستقر بـ "بصرى" إلى أن هلك. وقد خلف ولدًا اسمه "عبد المنان". وهناك قصص عن كيفية عودته إلى زوجته، وعن وصوله إليها ساعة عقد قرانها لرجل جديد في كنيسة، لظن أهلها أنه كان قد مات2.
وقد سخر "المتلمس" في أشعاره من "عمرو بن هند"، وأقذع في هجائه حتى قال فيه:
ملك النهار فأنت الليل مومسة ... ماء الرجال على فخذيك كالقرس
ووصفه فقال: إنه "أخنس الأنف"، وأن أضراسه كالعدس، إلى غير ذلك من هجاء مر شديد.
وأود أن أبين أن من الرواة من ينسب هذا الهجاء إلى شاعر آخر، قالوا إن اسمه "عبد عمرو بن عمارة"، وذكروا أنه قاله في هجاء "الأبيرد الغساني"3.
ويظهر من رسالة الغفران، أن للناس أقاويل في مقتل "طرفة"، ورد فيها:
__________
1 ديوان طرفة بن العبد "ص5" "كرم البستاني"، الشعر والشعراء لابن قتيبة "137، 144".
2 راجع عن طرفة. الأغاني "21/ 120 وما بعدها"، شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، للأنباري "ص115 وما بعدها"، شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص98"، رسالة الغفران، لأبي العلاء المعري "ص 326 وما بعدها"، "تحقيق الدكتورة بنت الشاطئ"، طبقان ابن سلام "16"، الشعر والشعراء "ص88"، شعراء النصرانية، للويس شيخو، "ص 298 وما بعدها"، شرح ديوان الحماسة، للمرزوقي، ديوان طرفة. بيروت، شرح المعلقات السبع للزوزني "دمشق 1963م"، خزانة الأدب، للبغدادي "1/ 414" الحيوان "3/ 66"، معجم الشعراء، للمرزباني "ص201 وما بعدها"، المؤتلف والمختلف، للآمدي "ص 146".
3
قولا لعمرو بن هند غير متئب ... يا أخنس الأنف والأضراس كالعدس
الأغاني "1 من القسم الثاني ص 293"، الأغاني "14/ 30".(5/245)
"ولقد كثرت في أمرك أقاويل الناس: فمنهم من يزعم أنك في ملك النعمان اعتقلت، وقال قوم: بل الذي فعل به ما فعل عمرو بن هند"1.
وتطرق "الشريف المرتضى" في أماليه إلى موضوع قتل "عمرو بن هند" لطرفة، فذكر أن عامل البحرين يومئذ هو "المعلى بن حنش العبدي" وذهب إلى احتمال كون قاتل "طرفة" هو "النعمان بن المنذر"، استدل على ذلك بقول طرفة:
أبا منذر كانت غرورًا صحيفتي ... ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
قال: "وأبو المنذر هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة النعمان فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان"2.
هذا وللمتلمس أشعار في هجاء "عمرو بن هند"، وقد ظل يهجوه إلى أن توفي وهو في الغربة في بلاد الشأم. وفي جملة ما قاله فيه.
أطردتني حذر الهجاء ولا ... والله والأنصاب لا تئل
فهو يعيره بأنه إنما أبعده عنه وطرده؛ لأنه كان يهجوه؛ ولأنه كان يحذر هجاءه ويقول في أبيات أخرى.
ألك السدير وبارق ... ومرابض ولك الخورنق
والقصر ذو الشرفات من ... سداد والنخل المسبق
فلئن تعشق فلتبلغن ... أرماحنا منك المخنق3
وللشاعر "سويد بن خذاق" شعر في هجاء "عمرو بن هند"، وهو أخو الشاعر "يزيد بن خذاق"، وهما من "عبد القيس". وذكر أن "يزيد بن
__________
1 رسالة الغفران "338".
2 أمالي المرتضى "1/ 183، 185" مجمع الأمثال "1/ 350 وما بعدها"، ديوان المتلمس "172 وما بعدها".
3 شعراء النصرانية "3/ 339".(5/246)
خذاق"، كان أول من ذم الدنيا في شعر1. وفي جملة ما قاله "سويد" في هجاء "عمرو بن هند"، قوله:
أبى القلب أن يأتي السدير وأهله ... وإن قيل عيش بالسدير غزير
به البق والحمى وأسد خفية ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور
و"المنخل اليشكري" من معاصري "عمرو بن هند" كذلك. وكان يشبب بـ "هند" أخت "عمرو بن هند"، واتهم بامرأة لعمرو بن هند، فقتله على رواية2. وذكر أنه اتهم بالمتجردة امرأة النعمان بن المنذر، وأنه كان ينادم النعمان، وهو الذي أوقع فيما بينه وبين النابغة لحقده عليه، حتى سبب في فرار النابغة إلى "آل غسان" ليخلص نفسه من غضب النعمان عليه3، ومعنى هذا أن "عمرو بن هند" لم يقتله بل عاش إلى أيام النعمان.
وقد مدح "المثقب العبدي" "عمرو بن هند" وكان في زمانه، بقوله:
غلبت ملوك الناس بالحزم والنهى ... وأنت الفتى في سورة المجد ترتقي
ونجب به من آل نصر سميدع ... أغر كلون الهندواني رونق
ونعته بالحلم والرزانة "والحلم الرزين"، وبالفعلات4.
وقد عد "ابن قتيبة" الشعراء الذين عاصروا "عمرو بن هند" من قدماء شعراء الجاهلية. فلما تحدث عن الشاعرين "سويد" و"يزيد"، قال: "وهما قديمان كانا في زمن عمرو بن هند"5. ولما تحدث عن "المثقب العبدي" قال عنه": "وهو قديم جاهلي. كان في زمن عمرو بن هند"6. وعد "المنخل اليشكري" من قدماء الشعراء الجاهليين، فقال عنه "وهو قديم جاهلي"7.
__________
1 الشعر والشعراء "ص 228".
2 "وقتله عمرو بن هند. وقال قبيل قتله ... "، الشعر والشعراء "ص239".
3 الشعر والشعراء "ص 238".
4 الشعر والشعراء "ص 234".
5 الشعر والشعراء "ص 228".
6 الشعر والشعراء "ص 234".
7 المصدر نفسه "ص 238".(5/247)
ويجب أن نتذكر أن الشاعر "امرؤ القيس" كان أيضًا من معاصري "عمرو بن هند"، وهو شاعر جاهلي قديم، في نظر علماء الشعر، فيكون زمن أقدم شعر جاهلي، وصل خبره إلينا، هو النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، أي في سنين لا تبتعد كثيرًا عن زمن ميلاد الرسول، كما سأتحدث عن ذلك في القسم الخاص بالناحية الثقافية للعرب قبل الإسلام.
وورد في إحدى قصائد الأعشى ما يفيد اتساع ملك عمرو بن هند وجباية كل ما بين عمان و"ملح" له1. ويذكر بعض الرواة أن المراد بـ "عمان" هنا "عمان" بلاد الشأم، وأما "ملح" ففي اليمامة من بلاد بني جعدة2.
ويذكر بعض الأخباريين أن عمرو بن هند كان على "بقة" يدير أعمالها في أيام أبيه المنذر، وإليه لجأ امرؤ القيس الشاعر المعروف مستجيرًا به؛ لأنه كان ابن عمته، فأجاره، ومكث عنده زمانًا. فلما سمع به المنذر، وكان يتعقبه، طلبه من ابنه، فأنذره عمرو، فهرب حتى أتى حمير مستجيرًا3.
وقد نسب إلى ابن هند غزوة غزا بها تغلب، فقيل: طلب "عمرو" من بني تغلب، حينما تولى الملك مساعدته على أخذ الثأر من بني غسان قتلة أبيه، وكانوا انحازوا عنه، وطلب منهم الرجوع إلى طاعته والغزو معه، فأبوا، وقالوا: مالنا نغزو معك. نحن رعاء لك فغضب عمرو بن هند، وجمع الجموع. فلما تهيأت، كان أول عمل قام به غزو تغلب، فأوجعهم وآذاهم، انتقامًا منهم، لامتناعهم عن نصرته ومعاضدته4. وقد أشار إلى هذا الحادث "الحارث بن حلزه اليشكري"5 الشاعر الجاهلي أحد أصحاب المعلقات.
ويذكر أهل الأخبار أن "الحارث بن حلزة" حضر مجلس "عمرو بن هند"،
__________
1
آفقا يجبى إليه خرجه ... كل ما بين عمان فملح
ديوان الأعشى "القصيدة 36، البيت9".
2 ديوان الأعشى "ص 160" "طبعة كاير "Geyer"، "ص237" "طبعة الدكتور م. محمد حسين"، البلدان "8/ 147".
3 الأغاني "8/ 67".
4 الأغاني "9/ 173" "11/ 47" "ط. دار الكتب المصرية".
5
كتكاليف قومنا إذ دعا المنذر ... هل نحن لابن هند رعاء
المعاني الكبير "2/ 1012"، شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص 162" "طبعة صادر".(5/248)
وأنشده معلقته، أنشده إياها من وراء سبعة ستور، وذلك لبرص به. وكان الملك يأمر بعد خروج "الحارث" بغسل أثره بالماء، كما يفعل بسائر البرص. فلما أنشده قصيدته هذه، طرب لها الملك كثيرًا، فأمر برفع الستور من بينهما، وأدناه منه، وأطعمه في جفنته، وأمر أن لا ينضح أثره بالماء، ثم جز نواصي البكريين السبعين الذين كانوا رهنًا عنده وسلمها إليه1، تعظيمًا لشأنه، وتقديرًا له ولقومه اليشكريين.
وقد حرض "الحارث" في قصيدته تلك الملك على التغلبيين، وسرد حوادث تأريخية لها علاقة في هذا التعريض مما هاج الملك، وراد في حدة غضبه عليهم.
ذكره بالأراقم، وهم بطون من تغلب، وصورهم كأنهم أناس عزموا على الاعتداء على قومه انتقامًا منهم، لوقائع وقعت بينهم وبين قومه ما بين "ملحة فالصاقب"، حيث ثأر قومه بقتلاهم. أما تغلب، فلم تثأر بقتلاهم، ثم ذكر التغلبيين خصومه، بأن قومه أناس أشداء في الحروب، يعتمدون في القتال على أنفسهم، ولا يركنون إلى أحد، ساروا من البحرين سيرًا شديدًا، حتى بلغوا "الأحساء"، طووا المسيرة سيرًا وإغارة على القبائل، ثم لم يكتفوا بذلك، فأغاروا على "تميم" فلما دخل الشهر الحرام، كفوا عن القتال، حرمةً له، وعندهم سبابا من بنات القبائل صرن إماءً لهم. ثم ذكر الملك بامتناع "تغلب" من الانضمام إليه للحرب معه، على حين نصره قومه، وحاربوا معه. وكيف غلبوا على أمرهم، غلبهم الملك. وكيف ذهبت دماء تغلب هدرًا، لم يؤخذ بثأرها وهو لا يترك قومه دماؤهم هدرًا، إذ يأخذون بالثأر من قتلة قتلاهم. ثم انتقل إلى يوم "الشقيقة"، حيث جاءت "معد"، ولكل حي منها لواء حول "قيس بن معد يكرب" من ملوك حمير، وبين كيف أن قومه تعرضوا لقيس ولمن معهم، حتى ردهم بطعن خرج به الدم من جروحهم خروج الماء من أفواه القرب، ثم انتقل إلى وصف قتالهم مع "حجر بن أم قطام"، وكانت له كتيبة فارسية خضراء لما ركب دروع الكتيبة، وجلا صدأها، ثم حدث عن كيفية فكهم غل "امرئ القيس" من حبسه بعد أن طال حبسه ونال منه العناء2.
__________
1 شرح المعلقات للزوزني، "ص154"، دار صادر"، "بيروت 1958م".
2 ويرى بعض علماء الأدب أن المراد "فارسية خضراء"، دروع وبيض فارسية، ركبها الصدأ، شرح الزوزني "ص 165" "صادر".(5/249)
وتعرض لذكر "الجون: جون آل بني الأوس" ومعه كتيبة شديدة العناد. ولت الأدبار بعد قتالها مع "بني يشكر" قومه. ثم تعرض لقتالهم مع الغساسنة انتقامًا منهم، لقتلهم "المنذر" والد "عمرو بن هند" وأسرهم تسعة من الملوك. وأخذهم أسلابهم منهم، وأسلابهم غالية الأثمان، لعظم أخطارهم وجلالة أقدارهم. ثم انتقل إلى ذكر يوم "ذي المجاز" وكيف جمع "عمرو بن هند" بني "بكر"
و"تغلب" وأصلح بينهما، وأخذ منهما الوثائق والرهون، وكتب العهد بينهما بوجوب الوفاء بما اتفق عليه في هذا اليوم، ثم أخذ يعيرهم ويذكر هزائمهم التي ألحقتها "كندة" و"إياد" و"تميم" و"بنو حنيفة" و"قضاعة" وقبائل أخرى بهم، ويتهمهم بخرق العهد والمواثيق وبالغدر. وقد جاءت هذه القصيدة معبرة عن حقد "عمرو" على التغلبيين وعن غضبه عليهم لمقاومتهم له.
وغزا عمرو بن هند طيئًا، بتحريض زرارة بن عدس بن عبد الله بن دارم الحنظلي إياه على غزوها، ويقول أهل الأخبار أن عمرو بن هند امتنع في بادئ الأمر عن غزو طيء، لوجود حلف بينه وبينهم، غير أن زرارة ألح عليه بغزوهم، فغزاهم وأخذ أسرى منهم1.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن عمرو بن هند كان قد عاقد طيئًا ألا ينازعوا ولا يغزوا ولا يفاخروا. ثم غزا اليمامة، فرجع منفضًّا، فمر بطيء، فحرضه زرارة عليهم، ولم يزل به يحرضه ويغريه بالغنائم، حتى غزا طيئًا، وأسر من بني عدي رهط حاتم الطائي سبعين رجلًا، وفيهم قيس بن جحدر ابن خالة حاتم الطائي، وحاتم يومئذ بالحيرة. فلما بلغ عمرو بن هند الحيرة، توسط "حاتم" لديه في فك الأسرى فوهبهم له2.
وغزا "عمرو بن هند" تميمًا فقتل من "بني دارم" مئة نفس انتقامًا منهم لقتلهم أخاه سعدًا أو ابنه مالكًا في رواية أخرى. وكان ذلك في يوم أوارة الثاني3 "يوم أوارة الأخير". ويزعم الأخباريون أنه ألقى بالقتلى في النار، ولهذا السبب عرف بـ "المحرق" "محرق" "المحرق الثاني"4. ولبعض الأخباريين تفاسير
__________
1 الأغاني "19/ 127 وما بعدها"، شعراء النصرانية "124".
2 أيام العرب "102".
3 حمزة "ص 73"، معجم الشعراء "ص 205"، البلدان "1/ 392"، الكامل "1/ 295"، العقد الفريد "3/ 154" الأغاني "1/ 122".
4 الأغاني "19/ 129"، الكامل "1/ 228"، الميداني "1/ 226"، اللسان "10/ 42".(5/250)
أخرى في منشأ هذا اللقب1، تحاول إيجاد مخرج لمعنى "محرق" التي ترد مقرونة بأسماء بعض ملوك "آل جفنة" و"آل لخم".
وفي كتب الأمثال مثل هو: "إن الشقي وافد البراجم"، زعم أصحاب الأخبار أن قائله هو الملك "عمرو بن هند" قاله يوم قتلت "البراجم" –وهم أحياء من "تميم": عمرو وقيس وغالب وكلفة وظليم، وهم "بنو حنظلة بن زيد مناة" تحالفوا على أن يكونوا كبراجم الأصابع في الاجتماع- شقيق "عمرو ابن هند"، فسار إليهم وآلى أن يحرق منهم مئة، فقتل تسعة وتسعين، وأحرق القتلى بالنار، فمر رجل من البراجم وراح رائحة حريق القتلى، فحسبه قتار الشواء، فمال إليه، فلما رآه عمرو قاله له: ممن أنت؟ قال: رجل من البراجم فقال: إن الشقي وافد البراجم. وأمر فقتل وألقي في النار، فبرت به يمينه2.
وورد أن عمرًا بقي ينتظر وافدًا من البراجم ليلقي به في النار فيكمل بذلك العدد، حتى إذا طال انتظاره قيل له: لو تحللت بامرأة منهم، فدعا بامرأة منهم، فدعا بامرأة من بني نهشل بن دارم اسمها الحمراء بنت ضمرة بن جابر، فأمر بإلقائها في النار. فكمل بذلك العدد3.
وكان سبب قتل أسعد أو سعد أخي عمرو بن هند أو ابنه مالك، أنه لما ترعرع مرت به ناقة كوماء سمينة، فرمى ضرعها، فشد عليه ربها سويد أحد بني عبد الله بن دارم فقتله، ثم هرب سويد فلحق بمكة، واستجار بأهلها. فبلغ الخبر عمرو بن هند، وكان زرارة بن عدس التميمي عنده، فاغتاظ زرارة من هذا العمل، إذ كان الملك قد وضع "سعدًا" "أسعد" في بيته، وانتهز زعماء طيء هذه الفرصة وحرضوا عمرو بن هند على مهاجمة بني دارم قتلته للأخذ بثأرهم منه4.
__________
1 الاقتضاب "ص 359". العمدة "2/ 216".
2 البرقوقي "ص 55"، العمدة، لابن رشيق "2/ 205"، الأمثال للميداني "1/ 95"، ابن الأثير "1/ 334"، "النقائض "652، 1081"، اللسان "10/ 42"، "حرق".
3 أيام العرب "105".
4 العمدة "2/ 205"، الأغاني "22/ 186"، "بيروت"، المسعودي، مروج "1/ 23"، اليعقوبي "1/ 171"، ابن خلدون "2/ 566"، خزانة الأدب "3/ 140"، نهاية الأرب للنويري "3/ 18"، البكري، معجم "1/ 207، النقائض "2/ 652 وما بعدها".(5/251)
وهناك رواية أخرى تنفي تحريق عمرو بن هند للمذكورين من بني دارم والرجل الآخر من البراجم، وترى أنهم قتلوا، قتلوا بأمر عمرو بن هند1.
وأوارة الموضع الذي أحرق فيه المذكورون من بني تميم، أو قتلوا فيه، هو اسم ماء أو جبل لبني تميم قيل أنه بناحية البحرين2.
وكان "عمرو بن ملقط الطائي"، هو الذي أصاب "بني تميم" مع "عمرو ابن هند" يوم أوارة، فسأله فيهم فأطلقهم له، وكان وفادًا إلى الملوك3.
والأعشى الشاعر ممن ذكر هذا اليوم في شعره. وعير الشاعر جرير الفرزدق بيوم أوارة4.
وتذكر بعض الروايات عن يوم "أوارة" أن "عمرو بن ملقط الطائي"، هو الذي حرض "عمرو بن هند" على غزو بني دارم، وأنه شاركه في غزوهم. وقد أشير إلى ذلك في شعر للطرماح الطائي يفاخر به الفرزدق، وهو شاعر من بني تميم5. وسبب ذلك أن طيئًا كانت تطلب عثرات زرارة وبني أبيه؛ لأنه كان قد حرض عمرو بن هند عليهم. فلما بلغهم ما صنعوا بأخي الملك، أنشأ "عمرو بن ملقط" شعرًا، بلغ عمرو بن هند، فتأثر به، وقرر السير على زرارة وقومه للانتقام منهم بقتلهم شقيقه6.
ويفهم من بعض الرواة أن "يوم الشقيقة" كان قد وقع في عهد عمرو بن هند، إذ تذكر أن قومًا من شيبان جاؤوا مع قيس بن معد يكرب ومعهم جمع عظيم من أهل اليمن، وقصدوا إبلًا لعمرو بن هند، فردتهم بنو يشكر، وقتلوا فيهم، ولم يوصل إلى الإبل7.
__________
1 البلدان "1/ 393"، العمدة "2/ 205". قال جرير:
أين الذين بسيف عمرو قتلوا ... أم أين أسعد فيكم المسترضع
2 البلدان "1/ 393".
3 ذيل الأمالي "24".
4 معجم ما استعجم "1/ 207" "طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة 1945م".
5
واسأل زرارة والمأمون ما فعلت ... قتلى أوارة من رعلان واللذد
ودارم قد قذفنا منهم مئة ... في جاحم النار إذ يلقون في الخدد
ديوان الطرماح "ص 145".
6 أيام العرب "103"
7 الأغاني "11/ 48" "دار الكتب المصرية".(5/252)
وقد رأى بعض أهل الأخبار، استنادًا إلى قصيدة للنابغة مطلعها:
أتاركة تدللها قطامِ ... وضنًّا بالتحية والكلام
أن الذي قام بالغزو المذكور فيها هو "عمرو بن هند". وأن غزوه بلغ حتى جبال حمى1. غير أن الأبيات تدل على أن صاحب تلك الغزوة كان قد دوخ العراق، وأنه حارب قبائله، ولهذا لا يعقل أن يكون صاحبها عمرو بن هند، بل لا بد أن يكون ملكًا من آل غسان غزا العراق وإلى هذا الرأي ذهب المستشرق "نولدكه"2.
وفي بعض الروايات أن عمرًا توسط بين بكر وتغلب ابني وائل فأصلح بينهما بعد حرب البسوس، وأخذ رهائن من كل حي من الحيين مئة غلام من أشرافهم، ليكف بعضهم عن بعض، فكانوا يصحبونه في السلم والحرب3.
ويرى فريق آخر من الأخباريين أن الذي توسط لعقد الصلح بين القبيلتين هو المنذر بن ماء السماء4.
وذكر أن أناسًا من تغلب جاؤوا إلى "بكر بن وائل" يستسقونهم فطردتهم بكر للحقد الذي كان بينهم، فرجعوا عطاشًا، فمات سبعون منهم، فاجتمع بنو تغلب واستعدوا لملاقاة بكر ومحاربتهم، ثم خاف عقلاء الطرفين من عودة الحرب إلى ما كانت عليه، فتداعوا إلى الصلح، فتحاكموا إلى الملك "عمرو بن هند"، فطلب منهم سبعين رجلًا من أشراف وائل ليجعلهم في وثاق عنده، فإن كان الحق لبني تغلب، دفعوا إليهم ليأخذوا ثأرهم،
وإن لم يكن رجعوا سبيلهم، فجاءت تغلب وعلى رأسها عمرو بن كلثوم، وحل الخصومة عمرو بن هند5.
وفي رواية يذكرها "ابن دريد": أن "بني الحارث بن مرة" قتلوا ابنًا
__________
1 شعراء النصرانية "ص 715".
2 الأغاني "19/ 127"، شعراء النصرانية "124".
3 الأغاني "11/ 42 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "ص 198 وما بعدها".
4 الأغاني "11/ 44 وما بعدها" "دار الكتب المصرية"، "9/ 172" "مطبعة التقدم".
5 جمهرة أشعار العرب "120"، شرح القصائد السبع للزوزني "146 وما بعدها".(5/253)
لعمرو بن هند، فرهن "سيار بن عمرو" قوسه بألف بعير، وضمنها لملك من ملوك اليمن، فعرف لذلك بـ "ذي القوس"1. أما "السكري"، فذكر أن سيارًا ذا القوس، كان قد رهن قوسه على ألف بعير في قتل الحارث بن ظالم، من النعمان الأكبر2.
ويفهم من الموارد الأعجمية أن عمرًا كان قد أغار على بلاد الشأم في سنة "563م"، وكان على عربها الحارث بن جبلة3. والظاهر أن الباعث على ذلك كان امتناع الروم عن دفع ما كانوا يدفعونه سابقًا لعرب الفرس مقابل إسكاتهم عن مهاجمة الحدود. فلما عقد الصلح بين الفرس والروم سنة "562م"، وهدأت الأحوال، لم يدفعوا لابن هند ما تعودوا دفعه لوالده، فأثر امتناعهم هذا في نفسه، وطلب من الفرس مساعدته في ذلك. فلما طالت الوساطة، ولم تأت بنتيجة، هاجم تلك المنطقة، ثم أعاد الغارة في سنة "566م" وسنة "567م" على التوالي. وقام بهاتين الغارتين أخوه قابوس بأمر أخيه.
ويعزو "مينندر" "Manander" أسباب الغارة الأخيرة إلى سوء الأدب الذي أبداه الروم تجاه رسول ملك الحيرة الذي ذهب إلى القيصر "يوسطينوس" "Justinus" لمفاوضته على دفع المال4. وكان الروم قد أرسلوا رسولين قبل ذلك إلى الفرس للبحث في هذا الموضوع، أحدهما اسمه بطرس، والآخر اسمه يوحنا، غير أنهما أنكرا للفرس حق ملك الحيرة في أخذ إتاوة سنوية من الروم. فلما عومل رسول ملك الحيرة معاملة غير لائقة قام قابوس شقيق عمرو بتلك الغارتين5.
وتذكر رواية من روايات أهل الأخبار أن "عمرو بن هند" جعل أخاه "قابوس بن المنذر" على البادية، ولم يعط أخاه "عمرو بن أمامة" شيئًا، وكان مغاضبًا له، فخرج "عمرو" إلى اليمن، فأطاعته مراد، وأقبل بها يقودها نحو العراق، ولكنها ثارت عليه، ثار عليه المكشوح وهو "هبيرة بن يغوث" فلما أحيط به ضاربهم بسيفه حتى قتل6.
__________
1 الاشتقاق "2/ 172".
2 المحبر "461".
3 Rothstein, S. 96, Theophanes,371 Noldeke, Sassa, 172, Ghassan, 20.
4 Rothstein, S. 96, Menander, By Dindorf Histo. Min, II, 45.
5 Brothstein, S. 96.
6 معجم الشعراء "ص 206".(5/254)
أما "أمامة" أم "عمرو بن أمامة"، فإنها "أمامة بنت سلمة بن الحارث الكندي" عم امرئ القيس1.
ويفهم من بعض الروايات أن عدي بن زيد العبادي كان من المقربين عند عمرو بن هند، وكان يصحبه مع من يصحبه من الرؤساء في الصيد2.
وانتهت حياة عمرو بن هند بالقتل، وهو مسئول عن قتل نفسه إن صحت القصة. وخلاصتها: أن الغرور أخذ مأخذه من صاحبنا عمرو، وأراد يومًا أن يظهر فخره أمام الناس، فقال لجلسائه: هل تعلمون أن أحدًا من العرب من أهل مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي؟ قالوا: ما نعرفه إلا أن يكون عمرو بن كلثوم التغلبي، فإن أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة وعمها كليب وائل أعز العرب وزوجها كلثوم وابنها عمرو، فسكت وأضمرها في نفسه، ثم بعث إلى عمرو بن كلثوم يستزيره، ويأمره أن تزور أمه ليلى أم نفسه هند. فقدم عمرو مع أمه، فأنزلهما منزلًا حسنًا، ثم أمر بالطعام فقدم للحاضرين. وكان عمرو قد قال لأمه: إذا فرغ الناس من الطعام ولم يبق إلا الطرف، فنحي خدمك عنك، فإذا دنا الطرف فاستخدمي ليلى ومريها فلتناولك الشيء بعد الشيء. ففعلت هند ما أمرها به ابنها. فصاحت ليلى عندئذ: وأذلاه يا آل تغلب! فسمعها ولدها عمرو بن كلثوم، فثار الدم في وجهه، والقوم يشربون، وثار إلى سيف بن هند وهو معلق في السرادق، فأخذه وضرب به رأس مضرط الحجارة، ونادى في التغلبيين فأخذوا ما تمكنوا من أخذه، وعادوا من حيث أتوا3. وهكذا جنى عمرو بن هند حصاد ما زرعه إن صحت الرواية. ويروي الرواة في تأييدها هذا المثل:
__________
1 معجم الشعراء "ص 206".
2 الأغاني "2/ 154".
3 ابن الأثير "1/ 126" الأغاني "9/ 175"، "11/ 53" "دار الكتب المصرية"، ابن خلدون، القسم الأول، المجلد الثاني "566"، "بيروت 1965م" المحبر "202"، الشعر والشعراء، لابن قتيبة "185"، الأمالي، للقالي "1/ 193".(5/255)
"أفتك من عمرو بن كلثوم". كما افتخر بها الشعراء التغلبيون1.
ويقال إنّ أخا عمرو بن كلثوم: "مرة بن كلثوم"، هو قاتل "المنذر ابن النعمان بن المنذر". وفي ذلك يقول الأخطل:
ابني كليب إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا
يعني بعميه عمرًا ومرة ابني كلثوم2.
وذكر الشاعر "أفنون" واسمه "صريم بن معشر"، وهو من بني تغلب "عمرو بن هند" في شعر رواه "ابن قتيبة" على هذا النحو:
لعمرك ما عمرو بن هند إذا دعا ... لتخدم أمي أمه بموفق3
وفي هذا البيت إشارة إلى مقتل "عمرو بن هند"، بسبب أم الملك. وقد وقع فيه تحريف ولا شك، صير الأم التي طلبت منها أم عمرو بن هند خدمتها، أم الشاعر المذكور، بينما هي "ليلى" أم الشاعر "عمرو بن كلثوم"، قاتل عمرو بن هند. كما يرويه علماء الشعر على لسان "أفنون" أيضًا، ولكن على هذا الشكل:
لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا ... لتخدم ليلى أمه بموفق4
"وعمرو بن كلثوم، هو القائل:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
__________
1 قانون أفنون التغلبي.
لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا ... لتخدم ليلى أمه بموفق
فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتا ... وأمسك من ندمانه بالمخنق
وجلله عمرو على الرأس ضربة ... بذي شطب صافي الحديدة رونق
ابن الأثير "/ 226"، الأغاني "9/ 183"، شعراء النصرانية "200".
وقال الأخطل مفتخرًا:
ابني كليب إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا
الأغاني "9/ 183"، ابن دريد. الاشتقاق "204"، خزانة الأدب "1/ 520"، حمزة "ص 72".
2 الشعر والشعراء "ص 119 وما بعدها".
3 الشعر والشعراء "119، 249".
4 الأغاني "9/ 183"، ابن الأثير "1/ 266".(5/256)
وكان قام بها خطيبًا فيما كان بينه وبين عمرو بن هند. وهي من جيد شعر العرب القديم وإحدى السبع، ولشغف تغلب بها وكثرة روايتهم لها، قال بعض الشعراء:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غير مسؤوم1
وإلى هند أم الملك ينسب دير هند الكبرى من أديرة الحيرة، وقد أرخ بناؤه في عهد خسرو أنو شروان وفي عهد الأسقف مار افرايم. وقد لقبت فيه بالملكة بنت الأملاك وأم الملك عمرو بن المنذر2. وإذا صحت قراءة الأخباريين هذه، كان بناء هذا الدير في أيام ابنها عمرو.
وكان الملك من نصيب قابوس بن المنذر بعد وفاة عمرو بن هند أخي "قابوس" وأمه هند. أما المسعودي فجعل أمه بنت الحارث من آل معاوية بن معد يكرب3. وقد ملك على رواية حمزة أربع سنين في زمان أنو شروان4. وذكر حمزة أن من الأخباريين من قال إنه لم يملك. "وإنما سموه ملكًا؛ لأن أباه وأخاه كانا ملكين"، وقد وصفه بالضعف وباللين، ولذلك قيل له "فتنة العرس" و"قينة العرس" في بعض الروايات. وقد قتله رجل من يشكر، وسلب ما كان عنده وعليه5.
وليس بصحيح ما زعمه حمزة نقلًا عن بعض الأخباريين من أن قابوسًا لم يكن ملكًا، وإنما قيل له ذلك؛ لأن أباه وأخاه كانا ملكين. فقد نعته "يوحنا الأفسوسي" "John Of Ephesus" في تأريخ الكنسي بـ "ملكًا" أي ملك، ويوحنا الأفسوسي من الرجال الذين عاشوا في القرن السادس للميلاد. وقد توفي سنة "585م" تقريبًا. ولم يكن لينعته بـ "ملكًا" لو لم يكن قابوس ملكًا على الحيرة حقًّا6.
__________
1 الشعر والشعراء "ص 120"، شرح التبريزي على المعلقات "238"، أمالي المرتضى "1/ 57، 105/ 201، 327، 559".
2 الحيرة "ص 47".
3 مروج "2/ 24". "دار الرجاء".
4 حمزة "73"، المحبر "359"، مفاتيح العلوم "ص 69".
5 حمزة "73"، وجعل المسعودي مدة حكمه ثلاث سنين، مروج "2/ 24"، ابن الأثير "1/ 200"، المعاني الكبير "2/ 118".
6 John Of Ephesus: Eccl Histo, 354, II, 3, Cureton Ed 6, Rothstein, S. 102.(5/257)
ويظهر أن الصورة التي رسمها الأخباريون لقابوس إنما حصلوا عليها من شعر الهجاء الذي قيل فيه، وأن ما أورده عنه من لين وضعف هو في حاجة إلى دليل، إذ يظهر من الموارد الأخرى مثل التواريخ السريانية أنه كان على العكس1. وقد يكون لتوليه الحكم، وهو رجل متقدم في السن، أصل في ذلك الهجاء. فالذي يظهر من أخباره أنه ولي الحكم وهو شيخ كبير. وأما اللقب الذي لقب به وهو قينة العرس، فقد انتزعه الأخباريون من شعر منسوب إلى طرفة هجا فيه عمرو بن هند وقابوسًا، وهو قوله:
يأت الذي لا تخاف سبته ... عمرو وقابوس قينتا عرس2
وقد ذكر المؤرخ "مارسليانوس" "Marsilianus" رجلاً سماه "Chabus"، ذكره مع المنذر الثالث في حوادث سنة "536م"3. ويرى "روتشتاين" أن المراد به رجل آخر غير قابوس. فلو كان هو المقصود به كان قابوس إذن شيخًا هرمًا حين انتقل الملك إليه، ولكنه لا ينفي مع ذلك عدم جوازه4 وقد أشرت إلى إرسال أخيه عمرو إليه في حملة انتقامية على عرب الشأم، وذلك في سنة "566" وسنة "567م".
ولما تولى قابوس الحكم، أغار على بلاد الشأم، وكان يحكم عرب الشأم المنذر بن الحارث بن جبلة إذ ذاك. وقد ذكر "ابن العبري" أن المنذر بن الحارث "منذر برحرت" كان نصرانيًّا وأن جنوده كانوا نصارى كذلك. ولم يشر إلى نصرانية قابوس. ويفهم من جملة ابن العبري "وقد أغار قابوس على العرب النصارى" ما يؤيد هذا الظن. وقد ظفر قابوس بغنائم عديدة أخذها وعاد بها غير أن المنذر جمع جيشه وسار يتعقبه. فلما التقى به، تغلب عليه، وأخذ منه أموالًا كثيرة وعددًا كبيرًا من الجمال. ولما أعاد قابوس الكرة، انهزم، فذهب إلى الفرس يلتمس منهم عونًا ومددًا5. ويظهر من رواية أخرى أن انتصار المنذر على قابوس كان في سنة "881" من التقويم السلوقي وهي توافق سنة "570" للميلاد6.
__________
1 Rothstein, S. 102, Caussin, Essai, II, 129.
2 اليعقوبي "1/ 172".
3 Noldeke: Sassa, 345, Rothstein, S. 102.
4 Rothstein, S. 102.
5 Bar Hebraeus, Vol, I, P. 79.
6 Land: Anecd. Syr, I, 13.(5/258)
ويظهر من رواية لـ "يوحنا الأفسوسي" "John Of Ephesus" أن الملك قابوسًا انتهز الفرصة عند وفاة الحارث بن جبلة، فباغت الغساسنة بهجوم مفاجئ في عقر دارهم، فأسرع عندئذ المنذر بن الحارث وجمع جمعه، وفاجأه بهجوم مقابل لم يتمكن قابوس من الثبات له، فانهزم هزيمة منكرة بحيث لم ينج من أصحابه إلى القليل، وقد فر هو ومن سار معه من الناجين في اتجاه نهر الفرات تاركًا عددًا من الأمراء اللخميين أسرى في أيدي المنذر. غير أن المنذر سار في أثرهم حتى كان على ثلاث مراحل من الحيرة1، ويرى نولدكه أن هذه المعركة هي معركة عين أباغ2
وبعد قليل من هذه الهزيمة جرب قابوس حظه مرة أخرى، غير أنه مني بخسارة جديدة، وكانت هذه الغارة حوالي سنة "570م"3.
وجرب قابوس حظه مرة أخرى منتهزًا فرصة القطيعة بين المنذر والقيصر "يسطينوس" "Justinus"، وهي قطيعة لا نعلم أسبابها على وجه التحقيق، وإنما يعزو ابن العبري سببها إلى مطالبة المنذر للقيصر بدفع مال إليه ليتمكن به إعداد جيش قوي منظم يستطيع الوقوف به أمام الفرس4. فأغار على حدود الروم وتوغل في الأرضين التابعة لهم حتى وصل أتباعه إلى منطقة "أنطاكية"5. وقد دامت تحرشات "عرب الفرس" بحدود الروم ثلاث سنين هي مدة القطيعة، حيث كان المنذر قد ذهب مع أتباعه إلى الصحراء فاحتمى فيها، ولم تنقطع هذه التحرشات إلا بعد مصالحة الروم له في الرصافة. حينئذ جمع المنذر أتباعه وفاجأ المناذرة بهجوم خاطف كابدت منه الحيرة الأمرين، وأطلق من كان في سجون الحيرة من أسرى الروم. وقد وقعت هذه المفاجأة حوالي سنة "578م". ويظن "روتشتاين" أنها وقعت بعد وفاة قابوس في عهد المنذر الرابع أخي "قابوس" وخليفته في الملك6.
وقد ذكر "البكري" بيتًا من الشعر لأبي دؤاد وردت فيه إشارة إلى غزوة
__________
1 John Of Ephesus, VI, 3, Rothstein, S. 103.
2 Rthstein, S. 103.
3 Rotstein, S. 103.
4 Bar Hebraeus, I, P. 79.
5 John Of Ephesus, P. 348, Rothstein, S. 104.
6 Rothstein, S. 104(5/259)
غزاها قابوس عرفت بـ "يوم قحاد". ويظهر أن خصوم قابوس أخذوا بثأرهم من هذا اليوم بغزوة قاموا بها على تنوخ1.
ويفاجئنا بعض الأخباريين بذكر رجل يقال له "فيشهرت" أو "السهرب" أو "السهراب"، قالوا أنه هو الذي تولى الملك بعد قابوس2. وقد جعل حمزة مدة حكمه سنة واحدة في أيام "كسرى أنو شروان"3. ولم يشر الأخباريون إلى الأسباب التي أدت إلى تعيين هذا الرجل الغريب ملكًا على الحيرة دون سائر آل لخم، ومنهم المنذر أخو عمرو بن هند وقابوس، فلعل اضطرابًا حدث في المملكة أو نزاعًا وقع بين أولاد قابوس أو بين آل لخم أدى إلى تدخل الفرس فقرروا تعيين رجل غريب عن أهل الحيرة لأمد حتى تزول أسباب الخلاف، فقرروا تعيين واحد منهم. فلما زالت تلك المواقع، عين المنذر ملكًا على الحيرة وبذلك عاد الملك إلى آل لخم.
ويلاحظ أن بعض الأخباريين لم يذكروا اسم فيشهرت أو السهراب، بل ذكروا أن الملك انتقل إلى المنذر بعد وفاة أخيه قابوس4. وذكر المسعودي في كتابه: مروج الذهب النعمان بن المنذر مباشرة بعد قابوس5.
وإذا صحت رواية حمزة من أن حكم المنذر كان ثمانية أشهر في عهد "كسرى أنو شروان" وثلاث سنين وأربعة أشهر في أيام "هرمز بن كسرى"، فيجب أن يكون حكمه قد امتد من سنة "579" حتى سنة "583" للميلاد6، تقريبًا؛ لأن نهاية حكم "أنو شروان" كانت في سنة "579" للميلاد على رأي المؤرخين، وحكم "هرمز" من سنة "579" حتى سنة "590" للميلاد7.
ويظهر من شعر منسوب إلى الشاعر "المرقش" أن "المنذر" كان ينقب عنه أي: يستقصي في طلبه، ولم يذكر سبب ذلك، ولعله كان قد هجاه، أو أن
__________
1 البكري. معجم "3/ 149" "طبعة السقا".
2 حمزة "ص 73", المحبر "ص359"، الطبري "2/ 213" "دار المعارف".
3 حمزة "ص 73", المحبر "ص359" "فيسهرب الفارسي"، مفاتيح العلوم "69".
4 اليعقوبي "1/ 172".
5 مروج "2/ 24".
6 حمزة "ص 73". المحبر "ص359"، "ثم ولى بعده المنذر أبو النعمان أربع سنين"، الطبري "2/ 213".
7 Ency., 4, 178.(5/260)
جماعة وشت به عنده، فصار يبحث عنه للإيقاع به. وقد طلب في شعره هذا من الملك المذكور أن يكف عن طلبه ويسكت عنه، وتمنى لو أنه في "الزج" وهو موضع، أو "بالشام ذات القرون". وذلك؛ لأن بلاد الشام بلاد كانت تحت حكم الروم، فليس للمنذر حكم عليها، فهو يكون بها في بلاد العدو بعيدًا عن المنذر. وذكر "ابن قتيبة" أن معنى "ذات القرون" الروم. وأراد قرون شعورهم1.
ويظهر من شعر لـ "سويد بن خذاق" أن "قابوس بن هند" وأخًا من إخوته لم يذكر الشاعر اسمه "غزوا قومه، وهم من عبد القيس، وانتصرا عليهم وأنزلا بهم خسارة فادحة، يوم العطيف: ففرقا القبائل، وكانت أحلافًا متحالفة، وشتتا الشمل، ودعا "الله" أن يجزيهما شر الجزاء بما فعلا، وأن يحبس لبن "لبون الملك"، فلا تدر عليه، جزاء وفاقًا لما قاما به نحو قومه2.
أما الذي خلفه على الحيرة، فهو النعمان بن المنذر المعروف بأبي قابوس. وقد كناه بعض الشعراء بـ "أبي قبيس"3. كما كناه بعضهم بـ "أبي منذر"4. ويذكر أهل الأخبار أن الناس كانوا إذا دخلوا على النعمان أو كلموه، قالوا له: "أبيت اللعن". وذكر المسعودي: أنه "هو الذي يقال له: أبيت اللعن"5.
أما أم النعمان، فهي "سلمى بنت وائل بن عطية بن كلب"، أو "سلمى بنت عطية"6. وقد نسبها بعض الأخباريين إلى سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ. وقالوا إنها من فدك، وزادوا في ذلك أنها كانت أمة للحارث بن حصن بن ضمضم ابن عدي بن جناب من كلب من دومة الجندل7. فهي بنت صائغ من فدك على رواية بعض، وأمة من دومة الجندل على رواية بعض آخر. وهي في كلتا الحالتين من طبقة وضيعة لا تليق بأسرة مالكة، ولعلها من أصل يهودي8، إذ
__________
1المعاني الكبير "2/ 797".
2 الشعر والشعراء "ص 229"، "ليدن".
3 في شعر النابغة 30، 7، 31، 1، علقمة 12. Rothstein, S. 107.
4 Rothstein, S. 107.
5 مروج "2/ 24" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
6 مروج "2/ 24"، الأغاني "11/ 13" "دار الكتب المصرية"، الأغاني "2/ 106"، "القاهرة 1928".
7 الطبري "2/ 147".
8 Rothstein, S. 108.(5/261)
كان أكثر أهل فدك من اليهود. وكانوا يحترفون الحرف ومنها الصياغة. وقد دعي النعمان بأمه، فقيل له ابن سلمى في شعر الهجاء، وقصدهم من ذلك إهانته.
وقد تولى النعمان الثالث، وهو النعمان الذي نتحدث عنه، الحكم في حوالي السنة "580" أو السنة "581" للميلاد، ودام حكمه حتى السنة "602م"1.
والظاهر من وصف الأخباريين له أنه كان دميم الخلقة، فقالوا، إنه كان أحمر، أبرش، قصيرًا2. وهذا مما قوى جانب خصومه في التهكم به، يضاف إلى ذلك أصل أمه، وقد أثر هذا النقص الذي لا يد له فيه، في نفسية النعمان، وفي سلوكه، ولا شك، فصيره سريع الغضب، أخاذًا بالوشايات، فوقع من أجل ذلك في مشكلات عديدة. وقد يكون تسرعه إلى تصديق ما قاله الواشون عن عدي بن زيد، وتأثره بأقوالهم من غير تحقيق ولا امتحان وقتله له، من جملة تلك العوامل التي أدت إلى هلاكه. وقد يكون اللقب الذي لقب به، وهو "الصعب"3، وصفًا لتلك السجايا التي اتصف بها الملك، والتي تعبر عن عقدة "مركب النقص" التي كانت ملازمة له.
وقد كان لقبح النعمان ودمامته ولأصل أمه دخل ولا شك في تكوين الخلق العصبي فيه، فصار يهيج ويتأثر به، ويأخذ بأقوال الوشاة من غير تمحيص ولا تروٍّ، فنقمت منه الناس، وهجاه بعض الشعراء. أما إخوته وكانت عدتهم اثني عشر رجلًا عدا النعمان، فقد اشتهروا بالجمال والهيبة والوسامة، ولذلك نعتوا بالأشاهب، فوصفهم الأعشى بقوله:
وبنو المنذر الأشاهب بالحـ ... ـيرة يمشون غدوة بالسيوف4
وقد أثرت شهرة أخوته بالأشاهب وبالوسامة في طبع النعمان المذكور، وزادت في عصبيته وفي حدة طبعه وفي تأثره بأقوال الناس.
ويظهر من وصف الشعراء وأهل الأخبار للنعمان أنه كان صاحب شراب، يحب
__________
1 Brockelmann; Die Araber, I, S. 10.
2 الطبري "2/ 147"، الكامل، لابن الأثير "1/ 285" "الطباعة المنيرية".
3 المعاني الكبير "2/ 878، 1028".
4 الطبري "2/ 194" "دار المعارف"، الكامل، لابن الأثير "1/ 285" "الطباعة المنيرية".(5/262)
الخمر ويجالس ندماءه ليشرب معهم، غير أن الخمر كانت تؤثر فيه وتستولي على عقله، فتدفعه إلى السكر والعربدة والتطاول على ندمائه، مما أزعج أصدقاءه وحولهم إلى خصوم وأعداء بسبب إهانات لحقت بهم منه في أثناء فقده وعيه وعدم تمكنه من حفظه اتزانه1.
وقد عبر الشاعر "لبيد بن ربيعة العامري" عن النعمان بـ "الصعب ذي القرنين" في شعره، مما يدل على أن لقب "الصعب" الذي لقبه به كان معروفًا شائعًا بين الناس2. وقد يكون معبرًا عن معنى آخر غير معنى الصعوبة في الملك، كأن يكون إطلاقهم له من قبيل إطلاقهم لفظة "تبع" على من ملك من حمير. وأما "ذو القرنين" فقد قيل: إن القرنين هم الضفيرتان، وأن القرن الضفيرة. وقد دعي بذلك؛ لأنه كان قد ربى ضفيرتين3.
وقد جاء في رواية أخرى أن "الصعب ذا القرنين" لم يكن النعمان المذكور كما ذهبت إليه الرواية المتقدمة، وإنما هو "المنذر بن ماء السماء، وأنه هو ذو القرنين"4.
ويظهر من بيت الشعر الذي نتحدث عنه وهو:
والصعب ذو القرنين أصبح ثاويًا ... بالحنو في جدث، أميم، مقيم
إن "الصعب ذا القرنين" كان قد ثوى في قبره، فهو يرثيه ويذكره. وذهب الشراح إلى أن "الحنو" اسم بلد، ومعنى هذا أن الملك الذي يشير إليه "لبيد" قد دفن في هذا الموضع، والذي نعرفه من بعض الروايات أن قبر "النعمان" كان بالحيرة، وأن ابنته هندًا قد دفنت إلى جانبه.
ومن الشعراء الذين نسب إليهم هجاء النعمان الشاعر عمرو بن كلثوم، وله فيه وفي أمه هجاء مر. وقد وصف خاله بأنه ينفخ الكير، ويصوغ القروط بيثرب أي أنه كان من صاغة تلك المدينة، وهو مما يؤيد روايات الأخباريين في أصل أمه5.
__________
1 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "ص 257".
2 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "تحقيق الدكتور إحسان عباس"، "ص 109".
3 المصدر المذكور.
4 شرح ديوان لبيد "ص 109".
5 الأغاني "11/ 58 وما بعدها".(5/263)
لم ينتقل الملك إلى النعمان بسهولة، فقد كان للمنذر جملة أولاد حين أتته المنية، عدتهم ثلاثة عشر ولدًا معظمهم طامع في الملك، والظاهر أن المنذر كان عارفًا بالخلاف الذي كان بين أولاده، فلم يشأ أن يزيده بتعيين أحد أبنائه. ولا ندري لم لم ينص على أكبرهم جريًا على السنة المتبعة في انتقال الملك. ولعله كان عارفًا بحراجة الموقف وضعف مركز ابنه الكبير، وعدم تمكنه من فرض نفسه عليهم إذا عينه ونصبه، لذلك وكل أمره كله إلى إياس بن قبيصة الطائي، فتولاه أشهرًا حتى انفرجت المشكلة على النحو التالي على حد رواية ابن الكلبي.
دعا كسرى بن هرمز عدي بن زيد العبادي، فقال له: من بقي من بني المنذر؟ وما هم؟ وهل فيهم خير؟ فقال عدي: بقيتهم في ولد هذا الميت، المنذر بن المنذر، وهم رجال. فبعث إليهم يمتحنهم. فلما وفدوا على كسرى، أنزلهم على عدي بن زيد. فاحتال عدي على هؤلاء الأخوة كما يقول الأخباريون وتظاهر أنه يفضلهم على ربيبه النعمان، وأوصاهم أن يجيبوا جوابًا معينًا حين يسألهم كسرى، وأمر النعمان أن يجيب جوابًا آخر يختلف عن جواب إخوته. وهو جواب يعتقد أن كسرى سيرضى عنه ويعينه. فلما أدخلوا على كسرى وأجابوا بجواب واحد هو الجواب الذي لقنهم إياه عدي، وهو: "إن سألكم الملك، أتكفونني العرب. فقالوا نكفيكهم إلا النعمان، وقال للنعمان: إن سألك الملك عن إخوتك فقل له: إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز"، رضي كسرى بجواب النعمان وسر به، فملكه وكساه، وألبسه تاجًا قيمته ستون ألف درهم فيه اللؤلؤ والذهب1. فانتصر بذلك النعمان على إخوته، وسر عدي بن زيد بتولي ربيبة الملك.
وفي خبر لأبي الفرج الأصبهاني أن عدي بن زيد أخذ النعمان إلى "جابر بن شمعون"، وهو من "بني الأوس بن قلام بن بطين بن جمهير بن لحيان من بني الحارث بن كعب"، وكان أسقفًا على الحيرة، فاقترضا منه مالًا لتدبير أمورهما به، وذكر أن جابرًا هو صاحب القصر الأبيض الذي بالحيرة2، وكان
__________
1 الطبري "2/ 147"، "2/ 195 وما بعدها" "دار المعارف"، الأغاني "2/ 106 وما بعدها" "دار الكتب المصرية".
2 الأغاني "2/ 115" "دار الكتب المصرية".(5/264)
ذا سلطان واسع في بني قومه، ولذلك فقد يكون لأخذ عدي للنعمان إليه للحصول على تأييده أثر في نجاحه في تولي العرش.
ويروي المفضل الضبي أن عدي بن زيد العبادي لما قدم على النعمان صادفه لا مال عنده ولا أثاث ولا ما يصلح لملك، وكان آدم إخوته منظرًا، وكلهم أكثر مالًا منه، فقال له عدي: كيف أصنع بك ولا مال عندك! فقال له النعمان: ما أعرف لك حيلة إلا ما تعرف أنت، فقال له: قم بنا نمضي إلى ابن قردس –رجل من أهل الحيرة من دينه- فأتياه ليقترضا منه مالًا، فأبى أن يقرضهما وقال: ما عندي شيء. فأتيا جابر بن شمعون، وهو الأسقف وهو أحد بني الأوس بن قلام بن بطين بن جمهر بن لحيان من بني الحارث بن كعب، فاستقرضا منه مالًا، فأنزلهما عنده ثلاثة أيام، يذبح لهم ويسقيهم الخمر. فلما كان في اليوم الرابع، قال لهما: ما تريدان؟ فقال له عدي: تقرضنا أربعين ألف درهم يستعين بها النعمان على أمره عند كسرى، فقال: لكما عندي ثمانون ألفًا، ثم أعطاهم إياها، فقال النعمان لجابر: لا جرم، لا جرى لي درهم إلا على يديك إن أنا ملكت1!.
ولكن انتصار النعمان أدى إلى هلاك عدي بن زيد على ما يقوله الأخباريون، فقد كان لعدي، كما لكل رجل كبير صار له نفوذ وجاه ومركز خطير، أعداء في مقدمتهم رجل اسمه كاسمه ودينه مثل دينه، هو "عدي بن أوس بن مرينا"، وبنو مرينا أسرة لها مكانتها وخطرها في الحيرة. وكان لهذا الرجل شأن يذكر في أيام المنذر، وكان يميل إلى الأسود بن المنذر؛ لأنه ربيب بني مرينا، فنصحه أن يتجنب الأخذ برأي عدي بن زيد؛ لأنه رجل لا ينصح، فلما أخفق الأسود في الامتحان، وعجز عن نيل التاج، صار يدبر المؤامرات لخصمه عدي، ويشي به إلى النعمان، ويغري آخرين بالتظاهر بأنهم من محبي عدي، ليثق النعمان بهم، فإذا أمن بهم، عادوا فوشوا بعدي عنده، ثم لم يكتف بذلك فوضع رسائل على لسان عدي إلى قهرمان لعدي فيه مكر ومؤامرة بالنعمان، ثم دس له حتى أخذ الكتاب، فجاء به إلى النعمان، فلما قرأه صدق بما جاء فيه، وغضب على عدي وقرر الانتقام منه2.
__________
1 الأغاني "2/ 115 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 147 وما بعدها"، اليعقوبي "1/ 173"، الأغاني "2/ 108 وما بعدها" "دار الكتب المصرية".(5/265)
جرت كل هذه المؤامرات على ما يقوله الأخباريون، وعدي عند كسرى يقوم بوظيفته لا يدري بها. فلما كتب النعمان إليه: "عزمت عليك إلا زرتني، فإني قد اشتقت إلى رؤيتك". صدق كلامه، واستأذن كسرى فأذن له. وسار إلى منيته وهو لا يدري ما يخبئه له القدر. فلما وصل إلى من كان مشتاقًا إلى رؤيته، ألقاه في سجن منفرد لا يدخل عليه فيه أحد، وهو لا يدري بم سجن. وفي السجن أخذ ينظم أشعارًا يتضرع فيها إلى النعمان أن يفك أسره، ويعظه فيها بالموت وبمن هلك قبله من الملوك الماضين، وكاد يطلقه لولا وشاية أعدائه به. فلما طال سجنه، كتب بشعر إلى أخيه "أبي" وهو مع كسرى يستجير به للتوسط لدى كسرى أن يكتب إلى النعمان يأمره بفك أسره. فلما كتب كسرى بذلك كتابًا أرسله مع شخص إلى النعمان، كتب خليفة النعمان عند كسرى إليه يبلغه بمجيء الرسول، وعرف أعداء عدي من "بني بقيلة" من غسان، فقالوا للنعمان: اقتله الساعة قبل وصول الرسول إليك، فإن لم تفعل فسيذهب إلى كسرى فلا يستبقي أحدًا لا أنت ولا غيرك. فبعث إليه النعمان أعداءه فغموه حتى مات في سجنه بالصنين. ولما وصل الرسول، رشي بهدايا كثيرة نفيسة، فعاد إلى كسرى يخبره أن عديًّا مات قبل وصوله بأيام1.
وقد أحس عدي بن زيد كما يقول الأخباريون بامتعاض خصمه عدي بن أوس بن مرينا من الحيلة التي دبرها لنجاح النعمان وبمحاولته الغدر به، فأراد مصالحته واسترضاءه كما يقول الأخباريون فعمل له طعامًا دعا إليه من أحب عدي بن أوس بن مرينا حضوره، وحلف بعد انتهاء الطعام في البيعة أنه لن يحقد عليه، وأنه سيتناسى ما حدث، ورجا من خصمه أن يفعل مثله. فقام عدي بن أوس إلى البيعة، فحلف مثل يمينه أن لا يزال يهجوه أبدًا ويبغيه الغوائل ما بقي. وقد كان2. وهم يروون شيئًا من هذا التهاجي الذي وقع بين الخصمين.
ويذكر أهل الأخبار أن عدي بن مرينا صار يحرض الأسود ويحثه على الأخذ
__________
1 الطبري "2/ 152"، اليعقوبي "1/ 173"، مروج الذهب "2/ 25 وما بعدها" الأغاني "6/ 65" "دار الكتب المصرية"، الكامل لابن الأثير "1/ 286 وما بعدها" "الطباعة المنيرية"، المعاني الكبير "3/ 1261 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 147".(5/266)
بثأره من عدي بن زيد، فكان يقول له: "أما إذا لم تظفر، فلا تعجزن أن تطلق بثأرك من هذا المعدي الذي فعل بك ما فعل، فقد كانت أخبرك أن معدًّا لا ينام كيدها"1. وعدي من تميم، وتميم من معد.
وهناك روايات أخرى في أسباب غضب النعمان على عدي وحبسه له في الصنين لا تخرج في جملتها عن حدود هذه المنافسة التي دبرها عدي بن مرينا وخصوم عدي له، ولكنها تجمع كلها على قتل النعمان لعدي2.
وفي كتاب الأغاني رواية تذكر أن النعمان أرسل ذات يوم إلى عدي بن زيد أن يأتيه، فأبى أن يأتيه، ثم أعاد رسوله فأبى أن يأتيه، وقد كان النعمان شرب، وأمر به فسحب من منزله حتى انتهى به إليه، فحبسه في الصنين بظاهر الكوفة من منازل المنذر، وبه نهر ومزارع، وبقي هناك حتى لاقى حتفه3.
ويظهر من شعر ينسب إلى عدي، قاله لابنته يوم باتت عنده مع أمها في السجن، وهي جويرية صغيرة، إن النعمان كان قد أمر بوضع الغل في يديه4.
والقصة كما يرويها الأخباريون قصة طريفة تصلح أن تكون موضوعًا لشريط سينمائي اختلط فيها التأريخ بالخيال، والواقع بالإبداع. أما نحن فلا يهمنا من أمرها إلا النتيجة، وهي أن الفرس قبضوا على النعمان ملك الحيرة وسجنوه، وأن حادثًا وقع بعد ذلك كان وقعه عظيمًا في نفوس العرب، لا في العراق وحده، إنما دوى صداه إلى جميع جزيرة العرب كلها، هو حادث وقعة ذي قار، وهي من الوقائع الفاصلة في تأريخ الجزيرة كان لها أثر في فتح الإسلام للعراق.
وندم النعمان كما يقول الأخباريون على ما صنع، واجترأ أعداء عدي عليه، وهابهم هيبة شديدة. وبينما كان يومًا في صيده، إذ به يشاهد غلامًا ظريفًا ذكيًّا ففرح به فرحًا شديدًا. فلما عرف أنه زيد وأنه ابن من أبناء عدي، قربه وأعطاه وحباه، ثم أرسله إلى كسرى، وكتب معه كتاب توصية رقيقة يشير فيه إلى منزلة عدي منه وإلى خسارته بوفاته وإلى عظم المصيبة، ويوصي كسرى بالولد خيرًا. فلما وصل زيد إلى كسرى، جعله مكان أبيه وصرف عمه إلى عمل آخر،
__________
1 الأغاني "2/ 109" "دار الكتب المصرية".
2 شعراء النصرانية "ص 450".
3 الأغاني "2/ 115 وما بعدها".
4 مجالس العلماء "162 وما بعدها".(5/267)
فكان هو الذي يلي ما يكتب به إلى أرض العرب وخاصة الملك. ولما مضى وقت على زيد في هذه الوظيفة، وقع عند الملك بهذا الموقع مكانًا حسنًا، وتعالت منزلته عنده. ولما اطمأن إلى مركزه أخذ يدبر مكيدة الانتقام من النعمان قاتل أبيه حتى نجح في مسعاه، إذ قبض عليه كسرى فبعث به إلى سجن خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون فمات فيه. وفي رواية أنه مات بساباط1. وقد رجح الطبري رواية خانقين، وأنه مات بسحق الفيلة به. وفي رواية أخرى أنه سجن في القطقطانه في البر2. وهكذا نجد الرواة يذهبون جملة مذاهب في سجن النعمان.
والذين يروون أن حبس النعمان كان بساباط يستشهدون بشعر للأعشى جاء فيه:
فداك وما أنجى من الموت ربه
بساباط حتى مات وهو محرزق3
وقد ذكر المسعودي قصة حبس النعمان ووفاته فقال: "وأمر كسرى النعمان فجلس في مجلسه بساباط المدائن، ثم أمر به فرمي تحت أرجل الفيلة، وقال بعضهم: بل مات في محبسه بساباط"4، مما يدل على أنه وفاته كانت في المدائن.
وفي رواية سريانية أن كسرى بعد أن قبض على النعمان بن المنذر وأولاده سقاهم سمًّا فماتوا، وعصى عندئذ العرب الفرس وأخذوا يهاجمونهم. فأرسل كسرى قائدًا سمته الرواية بـ "بولر" تولى أمر الحيرة، ولكنه لم يتمكن من ضبط أمورها، لشدة أهلها، فانصرف عنها وترك أمرها لمرزبان اسمه "رزوبى
__________
1 البلدان "7/ 125"، ابن الأثير "1/ 173"، "وهو ساباط كسرى بالمدائن، اللسان "7/ 311"، "سبط".
2 البلدان "7/ 125"، الأغاني "2/ 28"، نوادر المخطوطات، المجموعة الثالثة "251".
3 الأغاني "6/ 65" "دار الكتب المصرية"، الكامل، لابن الأثير "1/ 185 وما بعدها"، مروج الذهب "2/ 100 وما بعدها"، "هو ساباط كسرى بالمدائن، وبالعجمية بلاس آباد، وبلاس اسم رجل، ومنه قول الأعشى:
فأصبح لم يمنعه كيد وحيلة ... بساباط حتى مات وهو محرزق
يذكر النعمان بن المنذر وكان "أبرويز حبسه بساباط ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة. وساباط: موضع، قال الأعشى:
هنالك ما أغنته عزة ملكه ... بساباط حتى مات وهو محرزق
اللسان "7/ 311"، "سبط".
4 مروج "2/ 26"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، "ثم النعمان بن المنذر، وهو الذي قتله أبرويز تحت أرجل الفيلة، وهو آخر ملوك لخم". مفاتيح العلوم "96".(5/268)
مرزوق"، أقام في برية الحيرة في حصن حفنة، وأخذ يقاتل منه الأعراب1.
وفي رواية لـ "حمزة الأصفهاني" أن كسرى لما سخط على النعمان بن المنذر واستدرجه إليه من وسط البادية، رمى به إلى أرجل الفيلة، واستباح أمواله وأهله وولده، وأمر أن يباعوا بأوكس الأثمان2.
وتذكر بعض الروايات سبب غضب "كسرى" على النعمان، أن "زيد" وهو ابن المقتول "عدي بن زيد" الذي نال مكانة عظيمة عند كسرى، أو عمه، كانا قد دبرا مكيدة للإيقاع بالنعمان. فلما طلب "ابرويز" النساء دخل عليه "زيد"، فكلمة فيما دخل فيه، ثم قال: إني رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وقد كنت بآل المنذر عالمًا، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. قال فتكتب فيهن. قال: أيها الملك، إن شر شيء في العرب وفي النعمان خاصة أنهم يتكرمون عن العجم، فأنا أكره أن يغيبهن، فابعثني وابعث معي رجلًا من العجم من حرسك يفقه العربية، حتى أبلغ ما تحبه. فبعث معه رجلاً جليدًا فخرج به زيد حتى بلغ "الحيرة". فلما دخل على الملك النعمان، قال: إنه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده، وأراد كرامتك بصهره، فبعث إليك. فشق عليه، فقال لزيد: أما في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟ فقال زيد للنعمان: إنما أراد كرامتك، ولو علم أن هذا يشق عليك، لم يكتب إليك به. وعادا. فلما دخلا على "كسرى"، وقصا عليه ما وقع وحدث، عرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع. وسكت "كسرى" على ذلك أشهرًا، ثم فعل ما فعل بالنعمان3. وانتقم "زيد" بهذه المكيدة من النعمان قاتل والده.
وقد أشير إلى مصرع النعمان في شعر عدد من الشعراء مثل سلامة بن جندل،
__________
1 Histoirenestorienne, Iime Partie, PP. 536, 546.
2 حمزة "ص42".
3 الطبري "2/ 201 وما بعدها"، نوادر المخطوطات، المجموعة الثالثة، رسالة أبي غرسيه "ص 250-251"، رسالة أبي يحيى بن مسعدة "ص277"، رسالة لأبي الطيب بن من القروي "319 وما بعدها".(5/269)
وقد ورد فيه ذكر القاء كسرى للنعمان تحت أرجل الفيلة1. ويتفق هذا الرأي مع رأي ابن الكلبي ويعارض رواية لحماد جاء فيها أنه مات بحبسه في ساباط2.
وذكر أن هانئ بن مسعود الشيباني كان في جملة من رثى النعمان في شعر. وقد نعته بـ "ذي التاج"، ويفهم من رثائه له أن موته كانت تحت أرجل الفيلة، حيث داست على رأسه. وورد في شعر شعراء آخرين أن "فيول الهند" تخبطته وداست عليه3.
وهناك قصيدة نسبها بعضهم إلى إلى زهير بن أبي سلمى، ونسبها آخرون إلى صرمة الأنصاري. ذكر فيها كيف ذهب النعمان –قبل ذهابه إلى كسرى- إلى من كان يحسن إليهم، ويغدق عليهم الألطاف، فلما غضب عليه كسرى لم يجره هؤلاء، ولم يساعدوه إلا ما كان من بني رواحة من عبس، فشكرهم النعمان وودعهم وأثنى عليهم، وقال لهم: لا طاقة لكم بجنود كسرى، فانصرفوا عنه4.
وساباط: هو على ما يذكره أهل الأخبار، موضع بالمدائن، به كان حبس النعمان على رواية من صرح بأنه كان محبسه لا موضعًا آخر، ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة. وذكر "ابن الكلبي" أنه إنما سمي بساباط نسبة إلى "سابابط بن باما" أخي النخير جان الذي لقي المسلمين في أهل المدائن5.
ويظهر من شعر "للأعشى" أن "كسرى" أمر بالنعمان فحبس بـ "ساباط" ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة فوطئته حتى مات. يقول الأعشى:
هو المدخل النعمان بيتًا سماؤه ... نحور الفيول بعد بيت مسردق6
وللبيد بن ربيعة العامري قصيدة نظمها في رثاء النعمان. من أبياتها:
له الملك في ضاحي معد وأسلمت ... إليه العباد كلها ما يحاول
__________
1 شعراء النصرانية "ص 491".
2 شعراء النصرانية "ص 464".
3 مروج الذهب "2/ 101".
4 شعراء النصرانية "ص 584"، الكامل، لابن الأثير "6/ 287" "الطباعة المنيرية"، مروج الذهب "2/ 101".
5 ديوان الأعشى، قصيدة 26، "ص128"، اللسان، "7/ 308" بيروت 1956م، البلدان "3/ 166"، دائرة المعارف الإسلامية، لمحمد فريد وجدي "7/ 24".
6 المعارف "ص 650".(5/270)
وضاحي معد، بمعنى ظاهر معد، لا في معد نفسها؛ لأن "رب معد" في أيامه هو "حذيفة بن بدر". أما النعمان فهو ملك على ما وراء ديار معد. والعباد هنا هي القبائل النصرانية المعروفة من أهل الحيرة1.
وقد ذكر الأخباريون أنه كان يتوقع أن يدبر له كسرى مكيدة، فقرر أن ينجو بنفسه قبل حلولها به، فلحق بجبلي طيء، وكان متزوجًا إليهم، فأراد النعمان أن يدخلوه الجبلين ويمنعوه، فأبوا عليه خوفًا من كسرى، فأقبل وليس أحد من العرب يقبله حتى نزل "ذو قار" في بني شيبان سرًّا، فلقي هانئ بن مسعود الشيباني، وكان سيدًا منيعًا، فأودعه أهله وماله وسلاحه، ثم توجه بعد ذلك إلى كسرى، حيث لقي مصرعه2.
أما زوجة النعمان هذه، فهي ابنة "سعد بن حارثة بن لأم الطائي"، وهو من أشراف طيء البرص، وكان "النعمان" قد جعل لبني لأم بن عمر ربع الطريق طعمة لهم، وذلك بسبب زواجه المذكور3.
وذكر أن أحد أولاد "النعمان بن المنذر" كان شاعرًا، وقد عرف بـ "المحرق" فلما سمع بقتل "كسرى" لأبيه، قال شعرًا يخاطبه فيه، منه قوله:
قولا لكسرى، والخطوب كثيرة ... إن الملوك بهرمز لم تحبر4
ويروى أن النابغة الذبياني لما سمع بمقتل النعمان، رثاه بأبيات. وهي إن صح أنها من شعر النابغة حقًّا، تدل على أن هذا الشاعر قد عاش أيضًا بعد مقتل النعمان5. وروي، أن "زهير بن أبي سلمى" رثى النعمان كذلك6.
ويروي أهل الأخبار شعرًا زعموا أن "عدي بن زيد" قاله لأهل بيت النعمان، هو:
__________
1 شرح ديوان لبيد "ص 257".
2 الكامل "1/ 173".
3 المحبر "ص 301"، الأغاني "حاتم الطائي".
4 المؤتلف "ص 185".
5 العقد الثمين، "ص 164". شعراء النصرانية "ص 820"، النابغة الذبياني، لعمر الدسوقي "ص 108".
6 الكامل، لابن الأثير "1/ 285 وما بعدها".(5/271)
فلا يمينًا بذات الودع لو حدثت ... فيكم، وقابل قبر الماجد الزارا
وقد علق "ابن قتيبة الدينوري" عليه بقوله: "ذات الودع. صنم كان بالحيرة، ويقال: بل هي الإبل التي تسير إلى مكة، يعلق عليها الودع، ويقال: إن مكة، يقال لها: ذات الودع. وواجه قبر النعمان الزار، وهي الأجمة، أي: دفن حذاءها1".
إذن لبؤتم بجمع لاكفاء له ... أوتاد ملك تليد، جده بارا
قال: "أي لو مات لغزتكم الجيوش، فأقررتم، أو رجعتم بجيش لا مثيل له، أوتادًا لملك قديم قد سقط جده، أي: صرتم كذلك. وهو منصوب على الحال، ولا يجوز أن يكون منصوبًا على النداء؛ لأنه لا يجوز أن يدعوهم بذلك والنعمان لم يمت"2.
وذكر أن ملك النعمان بلغ اثنتين وعشرين سنة. وعلى رأس ثلاث سنين وثمانية أشهر مضت من ملكه، كان الفجار الأكبر، فجار البراض، وهو لتمام عشرين سنة من مولد الرسول، ولثماني عشرة سنة وثمانية أشهر مضت من ملك النعمان بنيت الكعبة وذلك لإحدى عشرة سنة مضت من ملك أبرويز كسرى بن هرمز3.
ولا نعلم عن أعمال النعمان الحربية في بلاد الشأم شيئًا يذكر. وقد ذكر حمزة أنه غزا "قرقيسياء" "Circesium"، ولكنه لم يعين تأريخ وقوعها، ويقصد بذلك بالطبع غارة أغارها على أرض الروم4. ولم ينسب غيره من المؤرخين العرب أو السريان إليه حروبًا أخرى أجج نارها في بلاد الشأم.
__________
1 المعاني الكبير "2/ 838"، "والودع: وثن. وذات الودع: وثن أيضًا. وذات الودع: سفينة نوح، عليه السلام، كانت العرب تقسم بها فتقول: بذات الودع، قال عدي بن زيد العبادي:
كلا يمينا بذات الودع لو حدثت ... فيكم وقابل القبر الماجد الزارا
يريد سفينة نوح عليه السلام يحلف بها ويعني بالماجد النعمان بن المنذر، والزار أراد الزارة بالجزيرة، وكان النعمان مرض هناك، وقال أبو نصر: ذات الودع مكة؛ لأنها كان يعلق عليها في ستورها الودع، ويقال: أراد بذات الودع الأوثان". اللسان "8/ 387".
2 المعاني الكبير "2/ 838".
3 المحبر "360"، حمزة "74"، مروج الذهب "2/ 24".
4 حمزة "ص 73".(5/272)
وقد ورد في حديث الطبري عن قصة سجن النعمان لعدي ما يفيد أن النعمان خرج يريد البحرين، فأقبل رجل من غسان، فأصاب في الحيرة ما أحب وقد قيل: إن هذا الرجل هو "جفنة بن النعمان الجفني"1. ولعل هذه الغارة هي واحدة من جملة غارات قام بها الغساسنة على الحيرة. وفي شعر النابغة الذبياني إشارات إلى أمثال هذه الغارات2. ويفيد خبر رواه المؤرخ "ثيوفلكتس" "Theophylaktus" أن عرب الروم أغاروا على عرب الفرس حوالي سنة "600م"، أي في أثناء الصلح الذي عقد بين الروم والفرس3.
وقد ذكر "الطبري" أن هذه الغزوة كانت في أيام وجود عدي بن زيد في سجنه فلما سمع عدي بها قال:
سما صقر فأشعل جانبيها ... والهاك المروح والغريب4
وقد ورد اسم "السيلحون" في جملة المواضع التي كان يجيبها النعمان، وذلك في شعر لأعشى قيس5. ويقع السيلحون في البرية بين الكوفة والقادسية، كما ورد اسم هذا الموضع في شعر لهانئ بن مسعود الشيباني يرثي فيه النعمان ويذكر قتل كسرى إياه6. ويظهر أنه كان من جملة المسالح التي تحمي الحدود من البادية. والمسالح هي مواضع في الثغور يوضع فيها الجنود والمسلحون لحماية الحدود من الأعداء7.
ولم يكن النصر حليف النعمان في اليوم المعروف بيوم الطخفة "يوم طخفة"، وهو يوم نسبه بعض الأخباريين أيضًا إلى قابوس بن المنذر بن ماء السماء. كما نسبه
__________
1 الطبري "2/ 148".
2 ديوان النابغة "27، 35" "طبعة Rothstein. S. 112. Ahiwardt
3 Theophylaktus. VIII. I. Noldeke. Ghass. S. 39 Rothstein, S. 112.
4 الطبري "2/ 198" "دار المعارف".
5
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بأمته يعطي القطوط ويأفق
وتجبى إليه السيلحون ودونها ... صريفون في أنهارها والخورنق
شعراء النصرانية "ص 383"، البكري، معجم "3/ 772"، تاج العروس "9/ 231"، مراصد "2/ 767".
6 البلدان "5/ 196".
7 البلدان "5/ 198" وما بعدها.(5/273)
بعض آخر إلى المنذر بن ماء السماء. وخلاصة الحادث: إن حاجب بن زرارة الدارمي التميمي سأل النعمان أن يجعل الردافة للحارث بن بيبة بن قرط بن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي. وكانت لبني يربوع، يتوارثونها صغيرًا عن كبير، وكان الرديف يجلس عن يمين الملك. فلما سأل النعمان موافقتهم على نقل الردافة منهم، أبوا ذلك، لما لها من منزلة ومكانة، فبعث إليهم قابوسًا ابنه وحسان أخاه على رأس جيش كثيف فيهم الصنائع والوضائع وناس من تميم وغيرهم، فساروا حتى أتوا طخفة، فالتقوا هم ويربوع واقتتلوا، وصبرت يربوع وانهزمت جموع النعمان، وأخذ قابوس وحسان أسيرين. فلما بلغ خبر هذه الهزيمة سمع النعمان طلب من أحد بني يربوع –وهو شهاب بن قيس بن كياس اليربوعي- أن يذهب عاجلًا إلى بني يربوع ليفك أسر ابنه وأخيه مقابل إعادة الردافة إليهم وأداء دية الملوك وهي ألف بعير للرجل الواحد. وبذلك صالح مرغمًا "بني يربوع". وهذا اليوم من الأيام التي يفاخر بها أبناء يربوع. وقد ورد ذكره في شعر مالك بن نويرة1 والأحوص2 وجرير3.
ويذكر أهل الأخبار أن "النعمان بن المنذر" طلب "مالك بن نويرة"، وكان قد أراد استرضاءه، وهو من "بني يربوع"، فأبى، وهرب منه، وقال فيه شعرًا يهجوه، منه:
لن يذهب اللؤم تاج قد حييت به ... من الزبرجد والياقوت والذهب4
ويدل ذلك على أن "النعمان"، كان يتوج رأسه بتاج، فيه ذهب وأحجار كريمة.
وكان "مالك بن نويرة اليربوعي" من "بني تميم"؛ لأن "بني يربوع" منهم، وقد لقب بـ "الجفول". وهو شاعر شريف، وأحد فرسان بني يربوع ورجالهم المعدودين في الجاهلية، ومن أرداف الملوك، أي ملوك الحيرة. وقد أدرك الرسول، فأسلم، وعينه على صدقات قومه فلما بلغ وفاة الرسول، أمسك
__________
1 ابن الأثير، الكامل "2/ 272 وما بعدها"، العقد الفريد "3/ 102".
2 البلدان "3/ 518".
3 البكري "1/ 452".
4 الجواليقي "ص 356".(5/274)
الصدقة، وفرقها في قومه، وجفل إبل الصدقة، فسمي الجفول. قتله "ضرار بن الأسود الأسدي" بأمر خالد بن الوليد1.
وكان نصيب النعمان من يوم السلان كنصيبه من يوم الطخفة، وسبب وقوع هذا اليوم هو أن بني عامر بن صعصعة، وكانوا حمسًا لقاحًا متشددين في دينهم لا يدينون للملوك، تعرضوا للطيمة كان الملك النعمان بن المنذر يريد إرسالها إلى عكاظ لبيعها في السوق. وكان من عادته إرسال لطيمة إلى عكاظ كل عام لتباع هناك. فلما بلغ النعمان الخبر، غضب فبعث إلى أخيه لأمه، وهو "وبرة بن رومانس الكلبي"، وإلى صنائعه وهم من مكان يصطنعه من العرب ليغزو بهم، والوضائع وهم الذين كانوا شبه سادة القبائل، وأرسل إلى بني ضبة بن أد وغيرهم من الرباب وتميم فجمعهم، فأجابوه، وأتاه ضرار بن عمرو الضبي في تسعة من بنيه كلهم فوارس ومعه جبيش بن دلف، فاجتمعوا كلهم في جيش عظيم. وأرسل النعمان معهم تجارة، وأمرهم ألا يتحرشوا ببني عامر إلا بعد الانتهاء من عكاظ ومن الأشهر الحرم. فلما انتهوا من عكاظ، أحست قريش بنيات جماعة النعمان، فأخبروا بني عامر وحذروهم فاستعدوا للقتال. فلما وصل أصحاب النعمان إليهم، قاتلوهم عند موضع السلان، وهو موضع قريب من منازل بني عامر، وتغلبوا عليهم، وأسروا وبرة بن رومانس الكلبي وعددًا من رؤساء القوم، وانهزمت جماعة النعمان، ورضي عندئذ من حملته هذه بدفع دية أخيره وبرة ودية عدد من الرؤساء2.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن الذي أعلم "بني عامر" بعزم الملك النعمان على الانتقام منهم، هو وجيه مكة وثريها: عبد الله بن جدعان3.
__________
1 معجم الشعراء "ص 360".
2 صبح الأعشى "1/ 340"، جمهرة ابن حزم "1/ 381"، ابن خلدون "2/ 255"، القسم الأول، المجلد الثاني، الاشتقاق "237" "الطبعة الأولى بمصر"، ابن الأثير "1/ 268 وما بعدها"، البلدان "5/ 104"، سبائك الذهب، للسويدي "117"، المسعودي مروج "2/ 54"، الطبري "2/ 147"، اليعقوبي "1/ 143"، البكري، معجم "3/ 749"، "لجنة" المختصر، لأبي الفداء "1/ 102" "بيروت"، الروض الأنف، للسهيلي "1/ 133" "الجمالية" نهاية الأرب، للنويري "1/ 412"، ذيل الأمالي للقالي "3/ 147" مرصد "2/ 726"، العقد الفريد "3/ 364".
3 الكامل في التاريخ لابن الأثير "1/ 295".(5/275)
وكان الذي أسر وبرة "يزيد بن عمرو بن خويلد الصعق"، وقد أبقى "يريد" "وبرة" لديه حتى افتدى نفسه منه، أي من يزيد بن الصعق بألف بعير وفرس. فاستغنى يزيد. فلما أسر "وبرة"، ثبت جيشه "ضرار بن عمرو الضبي"، فقام بأمر الناس، ولكنه وقع في الأسر، ثم وقع رجل آخر من كبار الجيش في الأسر، وهو "حبيش بن دلف"، الذي افتدى نفسه بأربع مئة بعير، وهزم جيش النعمان1.
وقد تعرضت لطيمة النعمان مرة أخرى إلى النهب حينما وكل أمر حمايتها إلى رجل من هوازن، فتربص بها رجل خليع معروف اسمه "البراض بن قيس بن رافع" من بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فقتل حامي القافلة وساق الركاب2. وكان من عادة النعمان أن يشتري بثمن اللطيمة الأدم والحرير والوكاء والحذاء والبرود من العصب والوشى والمسير والعدني من سوق عكاظ3.
وذكرت إحدى الرويات أن الذي كان يجيز لطيمة النعمان له هو "سيد مضر"4 ولم تذكر اسم سيد مضر إذ ذاك.
وورد أن "البراض" وهو "رافع بن قيس" كان من فتاك الجاهلية المعروفين. وكان حالف بني سهم من قريش، فعدا على رجل من هذيل فقتله، فخلعه بنو سهم، ثم جاء إلى "حرب بن أمية" فحالفه، فعدا على رجل من خزاعة فقتله وهرب إلى اليمن، ثم جاء مكة بعد سنة، فإذا الهذليون والخزاعيون يطلبونه وقد خلع، فلحق بالحيرة، فوافق وفود العرب بالحيرة عنده. فأقام يطلب الإذن معهم، فلم يصل إليه حتى خرج النعمان فجلس للناس بالحيرة وكانت لطائمه التي توافي سوق الموسم إذا دخلت تهامة لم تهج، حتى قتل النعمان أخا بلعاء بن قيس الكناني، فجعل "بلعاء" يعترض لطائمه فينتهبها. فخاف النعمان على لطيمته، فقال يومئذ: من يجير هذه العير؟ فقال البراض: أنا أجيرها لك. فقال الرحال عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب: أنا أيها الملك أجيرها لك من الحيين كليهما، وسخر من الرحال وازدراه. فدفع النعمان اللطيمة إلى عروة
__________
1 أيام العرب "108".
2 شرح ديوان لبيد "ص 48".
3 الأغاني "19/ 75".
4 الأغاني "19/ 75".(5/276)
الرحال، فتعقبها البراض، حتى إذا انتهى عروة إلى أهله دوين الجريب بماء يقال له "أوارة"، أنزل اللطيمة وخل قبته فنام، ووثب عليه البراض فقتله، ثم أتى خيبر، فكان بسببه حروب الفجاء بين كنانة وقيس1.
وقد عرف بعض العلماء اللطيمة بأنها "سوق المسك" أو العير التي كانت تحمل المسك، ولكن اللطيمة قافلة كانت تحمل تجارة يرسلها ملوك الحيرة، ولا سيما النعمان بن المنذر إلى سوق عكاظ خاصة لبيعها هناك، وكانت تعود محملة بما تشتريه من تجارة اليمن والحجاز، وما يأتي به العرب وسائر التجار إلى السوق في أثناء الموسم. وهي تجارة ثمينة تعود على النعمان بأرباح طائلة وثروة كبيرة. ولوصولها سالمة إلى السوق ثم لعودتها سالمة من السوق إلى الحيرة، كان لا بد من حمايتها بوضعها في جوار سادات أقوياء شجعان يتعهدون بإمرارها بسلام في أرض قبائلهم ثم تسليمها إلى سادات الأرض التي تليهم، وهكذا إلى السوق أو العكس. وقد يقوم مجير اللطيمة نفسه بتولي اللطيمة في الذهاب والأوبة، لمقامه ولوجود عهود جوار بينه وبين سادات القبائل الأخرى، وإلا تعرضت اللطيمة للسلب والنهب. وإذا ما أغضب الملك خفراء اللطيمة، أو انتزاع الخفارة منهم فأعطاها لأناس آخرين، أو أزعج بعض سادات القبائل التي تمر القافلة في أرضهم، فلن ينفعه ملكه في حماية سلامة القافلة، فتنهب فلا يقبض منها شيئًا ما، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئًا؛ لأن سلطانه لا يصل إلى كل مكان2.
وفي أيام النعمان كان يوم شعب جبلة، وهو لعامر وعبس على ذبيان وتميم، وهو من أيام العرب المشهورة في نظر الأخباريين. وقد اشترك النعمان فيه بمساعدته لقيط بن الجون الكلبي ملك هجر، وإرساله أخاه لأمه حسان بن وبرة الكلبي لمعاونة لقيط، ويلاحظ أن الرواة قد لقبوا لقيطًا بلقب ملك، وأشاروا إلى اشتراك جملة ملوك في هذا اليوم3.
وكان حسان بن وبرة شقيق النعمان لأمه رئيسًا على ضبة. وقد أسره يزيد بن الصعق في الغارة التي قامت بها بنو عامر على تميم وضبة، وانهزمت فيها
__________
1 المحبر "ص 196".
2 الكامل في التاريخ "1/ 358".
3 العقد الفريد "6/ 10 وما بعدها" "طبعة العريان".(5/277)
تميم. وقد فادى حسان نفسه من يزيد بن الصعق بألف بعير هي فدية الملوك. كما سبق أن ذكرت. وأغار يزيد بعد ذلك على عصافير النعمان وهي إبل معروفة شهيرة كانت إذ ذاك بمكان يسمى ذا ليان1.
ويذكر أن "يوم العذيب" كان في عهد حكم "النعمان". وكان "النعمان" قد بعث إلى "الأصهب الجعفي" ينكر عليه بلوغ "سعد بن زيد مناة" و"عنزة" العذيب، فحشد "الأصهب" لهم ولقيهم، فقتلوه، قتله "الأحمر بن جندل"، وانهزمت اليمانية هزيمة شديدة، وأخذ منهم مال كثير وسبي2.
وروى أهل الأخبار أن "النعمان بن المنذر" لما توج واطمأن به سريره، دخل عليه الناس، وفيهم أعرابي، فأنشأ يقول:
إذا سست قومًا فاجعل الجود بينهم ... وبينك تأمن كل ما تتخوف
فإن كشفت عنك الملمات عورة ... كفاك لباس الجود ما يتكشف
فقال: مقبول منك نصحك، ممن أنت؟ قال: أنا رجل من جرم، فأمر له بمئة ناقة، وهي أول جائزة أجازها3.
ويقال إن "المنذر" أحد أبناء النعمان بن المنذر سقط قتيلًا على يد رجل من تغلب يدعى مرة بن كلثوم، وهو أخو عمرو بن كلثوم، ويقال إنه قتل أيضًا ابنًا آخر من أبناء النعمان4.
وكانت للنعمان كتائب يقاتل بها هي: الرهائن والصنائع والوضائع والأشاهب والدوسر. وقد اشتهرت هذه الكتيبة الأخيرة بالشدة وبقوة البطش، فقيل في أمثالهم "أبطش من دوسر"5.
أما الصنائع، فقد ورد في بعض الروايات أنهم جماعة كان يصطنعهم الملك من العرب ليحارب بهم، وكان يأخذهم من "بني ثعلبة" خاصة، يتخذهم كالحرس لا يبرحون بابه. وأما الرضائع، فألف رجل من الفرس، يخدمون الملك ليقاتل بهم، ويستبدلون بمثلهم كل سنة.
__________
1 العقد الفريد "6/ 41 وما بعدها".
2 العمدة "2/ 217".
3 الأمالي للقالي "1/ 329" "بيروت".
4 Rothstein, S. 112.
5 الميداني. مجمع الأمثال "781".(5/278)
ويذكر أهل الأخبار أنه كان للنعمان بن المنذر أخ من الرضاعة يقال له "سعد القرقرة" من أهل "هجر" كان من أضحك الناس وأبطلهم، وكان يضحك النعمان ويعجبه1. وذكر أن أناسًا من البطالين المضحكين كانوا يأتونه لإضحاكه ولنيل جوائزه. وذكروا منهم "العيار بن عبد الله الضبي" وكان بطالًا، يقول الشعر، ويضحك الملوك2.
وقد كان النعمان بن المنذر مثل عمرو بن هند محبًّا للشعر والشعراء، والخطب والخطباء، وقد جعله الأخباريون من خير خطباء زمانه، كالذي يظهر من كلامه مع كسرى، وقد ذكر أنه قال له في مجلس كان حافلًا بوفود الروم والهند والصين، اجتمعوا عند كسرى. كما نسب إليه وفد ضم أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميمي، والحارث بن عباد وقيس بن مسعود البكريين، وخالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين، وعمرو بن الشريد السلمي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي والحارث بن ظالم المري، وكانوا خيرة من عرف بالخطابة وحسن الكلام في تلك الأيام3.
وروى الأخباريون شعرًا من الشعر الذي قاله أصحابه في حضرة النعمان أو في مدحه وفي مدح آل لخم، كما رووا شعرًا في هجائه، ورووا بعض ما قيل في حضرته من حديث وبعض ما صادفه الشعراء حين كانوا يقصدونه لنيل ما يبتغون مثل حديث حسان بن ثابت الشاعر المخضرم المعروف4 فقد زاره ومدحه غير أن هواه كان إلى الغساسنة أكثر منه إلى آل لخم. فقد كان يفتخر بهم، ويسامي الناس بهم، وينال جوائزهم حتى وإن لم يكن عندهم. يرسلونها إليه إن لم يكن في استطاعته أن يشخص إليه5.
وقد جاء في شعر لـ "حسان بن ثابت" أنه زار "ابن سلمى"، أي
__________
1 الفاخر "ص56".
2 وفد على النعمان بن المنذر فقال له:
أبيت اللعن وأسعدك إلهك ... سلخ التيس وذبحه مستهجن
الفاخر "ص 56".
3 العقد الفريد "1/ 253 وما بعدها" "طبعة العريان"، بلوغ الأرب "3/ 147 وما بعدها".
4 العقد الفريد "1/ 267"، الأغاني "15/ 27" "دار الكتب المصرية"، العقد الفريد "2/ 22".
5 العقد الفريد "2/ 22".(5/279)
"النعمان بن المنذر"، وأنه أكرمه وقدره وحباه، وتكلم إليه في جماعة من قومه، كانوا في سجنه مقيدين مكبلين بالسلاسل حتى صفح عنهم، وأطلق لهم حريتهم، وهم أبي ونعمان وعمرو ووافد، وهم جماعة من أهل يثرب، كانوا قد حبسوا في سجن "النعمان". فأما "أبي"، فهو "أبي بن كعب بن قيس بن معاوية" من "بني النجار". وأما "نعمان"، فإنه نعمان بن مالك بن قوقل بن عوف بن عمرو"، وأما "وافد"، فإنه "وافد بن عمرو بن الإطنابة بن عامر" من الخزرج. ولم يذكر "حسان" سبب حبس "النعمان" لهم، ووضعهم في السجن مكبلين بالحديد، مقفولًا عليهم1.
وقد ذهب "نولدكه" إلى احتمال كون "ابن سلمى" أميرًا من أمراء الغساسنة، كما ذهب إلى أن "أبيًّا" الذي كان في جملة المحكومين هو "أبي بن ثابت" وهو شقيق حسان2.
ويظهر من كلام أهل الأخبار أن النابغة الذبياني كان من أكثر الشعراء صلة بالنعمان، وفي الشعر الذي يرويه الأخباريون عنه وينسبون قوله إليه، شيء كثير من المناسبات التي وقعت بين الملك وبين هذا الشاعر، وقد استاء خصوم النابغة من قربه من النعمان، ونيله جوائزه وألطافه، فسعوا به إليه حتى غضب عليه، وهم بقتله، ولم ينجه من القتل إلا هربه من آل جفنه ملوك عرب الشأم، فبقي في كنفهم مدة، ثم عاوده الحنين إلى صاحبه وحاميه القديم النعمان، فاعتذر إليه، وتنصل من التهم التي ألصقها خصومه به، وعاد يأخذ جوائزه ونعمه كما كان3.
وذكر أن النعمان بن المنذر كان يكرم "النابغة" ويحبوه دومًا، أمر له مرة بمائة ناقة بريشها من نوق عصافيرة، المعروفة بهجائن النعمان، وجام وآنية من فضة، وكانوا إذا حبا الملك بعضهم بنوق يغمزون في أسنمتها ريش النعام ليعلم أنها حباء الملك4. ذكر "حسان بن ثابت" أنه وفد على النعمان بن المنذر فمدحه
__________
1 البرقوقي "ص 114، 377"، ديوان حسان "P.17" "هرشفلد".
2 غسان "ص 47".
3 الأغاني "15/ 27 وما بعدها" "دار الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "641، 649 وما بعدها"، المعاني الكبير "2/ 1130"، أمالي المرتضى "1/ 264".
4 أمالي المرتضى "1/ 265 وما بعدها".(5/280)
وأجازه الملك على مدحه وأكرمه. وبينا هو جالس عنده ذات يوم، إذا بالنابغة يدخل قبة الملك، وكان يوم ترد فيه النعم السود، ولم يكن بأرض العرب بعير أسود إلى له، فأنشده كلمته التي يقول فيها:
كأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فدفع إليه مائة ناقة من الإبل السود، فيها رعاؤها، فما حسدت أحدًا حسدي النابغة، لما رأيت من جزيل عطيته وسمعت من فضل شعره1.
ويذكر المسعودي أن النابغة دخل على النعمان يومًا، وكان عنده نديمه خالد بن جعفر الكلابي، وكان ممن يعطف على النابغة، فمدح النعمان بشعر، "فتهلل وجه النعمان بالسرور، ثم أمر فحشي فوه جوهرًا، ثم قال: بمثل هذا فلتمدح الملوك"2.
وتذكر رواية أخرى أن النابغة لما سأل حاجب النعمان الاستئذان للدخول عليه، قال له الحاجب: الملك على شرابه. ولما سأله: من عنده؟ قال: خالد بن جعفر بن كلاب! فتوسل إليه بأن يبلغه تحية النابغة، وأن يسهل له الدخول على الملك، ففعل وأمر النعمان حاجبه بإدخاله عليه. فلما دخل، سلم عليه وحياه بتحية الملك، وجلس وهو يقول: "أيها الملك. أيفاخرك صاحب غسان؟ فوالله لقفاك أحسن من وجهه، ولشمالك أجود من يمينه، ولأمك خير من أبيه ولغدك أسعد من يومه. فضحك النعمان. ثم قال لخالد: من يلومني على حب النابغة؟ ألك حاجة؟ قال: نعم. فقضى حوائجه بأسرها، وأحسن جائزته، فانصرف داعيًا له"3.
ويذكر الأخباريون أن آخر مرة اتصل بها النابغة بالنعمان كانت في أثناء مرض الملك النعمان. وكان النابغة هاربًا آنذاك على أثر الوشاية به. فلما سمع النابغة بمرضه آثر السفر إليه، والاعتذار منه. فلما وصل الحيرة، كان الملك لا زال مريضًا، شديد المرض. وقد حمل سريره على العادة المتبعة عند مرض الملوك مرضًا شديدًا،
__________
1 الشعر والشعراء "ص 71، 75"، "النابغة الذبياني".
2 مروج "2/ 25" طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
3 مجالس العلماء "259 وما بعدها" "عبد السلام محمد هارون"، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي.(5/281)
يشرف فيه على الموت. فاستأذن للنابغة في الدخول عليه وإنشاده ما نظمه في مدحه فسمح له بالدخول. وأنعم النعمان بالنعم عليه. وهناك روايات تذكر أنه عاد إليه قبل هذا الحادث، فقبل عذره وعفا عنه1.
وفي جملة من كان له شرف الاتصال بالنعمان، وبنيل هباته وجوازه من الشعراء: المنخل اليشكري، والمثقب العبدي، والأسود بن يعفر، وحاتم الطائي وأمثال هؤلاء.
وللأسود بن يعفر شعر معروف، ذكر فيه "آل محرق" و"الخورنق" و" السدير". وله أشعار أخرى ذكرها الرواة. وكان قد أقام مدة عند النعمان ينادمه ويؤاكله2.
ويذكر أن المنخل اليشكري كان ينادم النعمان وينشده القصائد، وكان النعمان يكرمه ويقربه إليه، غير أنه يؤثر شعر النابغة على شعره، وهذا مما غاظ المنخل وجعله يسعى للإيقاع به3. فأوغر صدر النعمان عليه، حتى هم بقتله، فهرب النابغة منه، وخلا المنخل بمجالسة النعمان، وأصبح من أقرب المقربين إليه. ولكن الدنيا كما يقول الناس لا تدوم، فما لبث مدة حتى انقلب الحظ على المنخل، فدفع به إلى "عكب" صاحب سجن النعمان، وهو من بني تغلب، فسجنه وعذبه ثم قتله. وقيل بل دفن حيًّا أو أغرق. ومهما يكن من شيء، فلم تكن خاتمة هذا الواشي خاتمة حسنة، وضرب بنهايته المثل كما ضرب بالقارظ العنزي وأشباهه ممن هلكوا ولم يعلم لهم خبر4.
ويروى أن "يزيد بن خذاق" الشاعر، وهو من "الهيصم"، كان قد هجا "النعمان بن المنذر"، فبعث النعمان كتيبته التي يقال لها "دوسر"، فاستباحت قومه5.
ويذكر أن "لبيد بن ربيعة" كان في وفد زار "النعمان بن المنذر"، فيه
__________
1 الأغاني "15/ 28 وما بعدها"، الشعر والشعراء "ص77".
2 الأغاني "11/ 128 وما بعدها" "مطبعة التقدم"، الشعر والشعراء "176"، المعارف "ص646 وما بعدها، ابن هشام، سيرة "1/ 91، الأمالي، للقالي "1/ 25، 71".
3 شعراء النصرانية "ص 641 وما بعدها".
4 شعراء النصرانية "ص 421 وما بعدها".
5 الاشتقاق "2/ 200".(5/282)
أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ملاعب الأسنة، وإخوته طفيل ومعاوية وعبيدة، لقضاء بعض حوائج لهم، فوجدوا عنده "الربيع بن زياد العبسي"، وكان يسمى الكامل، يأكل مع النعمان تمرًا مع زبد، وكان ينادمه ومعه رجل من أهل الشأم، يقال له "سرجون بن توفل" "نوفل"، وكان حريفًا للنعمان، من "الربيع" ومعهما "النطاسي" وهو طبيب كان له، ومن ندمائه، فنظم "لبيد" أبياتًا نابية منفرة في "الربيع بن زياد"، جعلت "النعمان" يعاف من مؤاكلته فتركه1. ولما كتب "الربيع بن زياد" إلى النعمان في ذلك، كتب النعمان إليه: "إنك لست قادرًا على رد ما تكلمت به الألسن، فالحق بأهلك"، ثم كتب إليه شعرًا، كان مما جاء فيه:
قد قيل ما قيل إن حقًّا وإن كذبا ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا2
ويقال إن "النعمان بن المنذر"، نظر إلى "شبق بن ضمرة"، المعروف بـ "ضمرة بن ضمرة"، وهو من رجال "بني تميم" في الجاهلية، وله لسان وبيان وكلام، فقال "تسمع بالمعيدي لا أن تراه" "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". فقال "ضمرة". "أبيت اللعن، إن الرجال لا تكال بالقفزان، ولا توزن بالميزان". واليمانية تجعل هذا للصقعب النهدي، سيد بني نهد، الذي أخذ مرباعهم دهرًا.
وإلى النعمان هذا نسب بعض الأخباريين قتل عبيد بن الأبرص، وذلك لظهروه في يوم بؤس النعمان3. وقد عد يوم عبيد من أيام الشؤم، وضرب به المثل فقيل "يوم عبيد". وإلى النعمان هذا نسب بعض الأخباريين قتل "عمرو بن مسعود" وخالد بن نضلة"، وقد استولوا عليه بشعر لبرة بن عمرو الأسدي4.
__________
1 الفاخر "ص141 وما بعدها"، الأغاني "16/ 22"، نزهة الجليس "2/ 507" وما بعدها".
2 نزهة الجليس "2/ 509 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 189 وما بعدها".
3 حمزة "ص73"، مجاني الأدب "3/ 309"، شعراء النصرانية "ص 600".
4 قال أبو تمام:
من بعد ما ظن الأعادي أنه ... سيكون لي يوم كيوم عبيد
شعراء النصرانية "602"، اللسان: "4/ 267"، "خ ي ر".(5/283)
وقد نسب حمزة إلى النعمان بناء الغريين وغريهما بدم من يقتله في يوم بؤسه1. وقد رأينا فيما سلف أن الأخباريين من نسب بناءهما وقصة يومي البؤس والنعيم إلى المنذر بن ماء السماء.
وذكر الأخباريون أنه كانت للنعمان عادات، منها أنه إذا غلب الرجل عنده وفلج على خصمه، زاده وسادة، وأمر فلقم عشر لقمات من طعامه قبل أن يأكل أحد2.
وللنعمان حاجب، اشتهر حتى خلد اسمه في الشعر وفي كتب الأدب، واسم هذا الحاجب "عصام"، وهو من رجال "جرم"، وفيه قيل: "نفس عصام سودت عصامًا"، وكان النعمان إذا أراد أن يبعث بألف فارس، بعث بعصام. ولخطر مركزه؛ ولأن في استطاعته إدخال من يريد الوصول إلى النعمان أو تأخيره أو منعه، كان الناس يتوددون إليه ليوصلهم إلى الملك، وقد أشار "النابغة"، إذ قال:
فإني لا ألومك في دخول ... ولكن ما وراءك يا عصام3
وكان النعمان في أول عهده عابد وثن، يتعبد للعزى، ويذبح الذبائح للأوثان، ثم رأى رأيًا فغير دينه، ودخل في النصرانية. ولبعض مؤرخي الكنيسة ولبعض الأخباريين قصص في كيفية اهتدائه إلى النصرانية، مرجعها قصص نصارى أهل الحيرة على ما يظهر. يحدثنا أصحاب تواريخ الكنيسة أن النعمان ولع به الشيطان وأصيب بلوثة ووسوسة، فحاول الشفاء منها بالتجائه إلى كهنة الأصنام. فلما عجزوا من شفائه، أشير عليه بالالتجاء إلى آباء الكنيسة، فلجأ إلى شمعون بن جابر أسقف الحيرة، وإلى "سبريشوع" أسقف "لاشوم"، و"ايشو عزخا" "ايشوع زخا" الراهب فانتفع بهم، فغير دينه، فتنصر واعتمد وحسن إيمانه، وطرد اليعاقبة من سائر أعماله وتقوت بذلك النسطورية. وكذلك تنصر ولده، ومنهم الحسن والمنذر. وكان الحسن أشد الجماعة تمسكًا بالنصرانية. وقد سبقته
__________
1 حمزة "ص72".
2 شرح ديوان لبيد "ص 404".
3 الاشتقاق "2/ 318".(5/284)
أختاه هند ومارية إلى الدخول في هذا الدين. وهذه رواية النساطرة في كيفية تنصر النعمان1.
أما الأخباريون فينسبون تنصره إلى تأثير عدي بن زيد عليه. وهم يروون أنه خرج ذات يوم راكبًا ومعه عدي بن زيد، فوقف بظهر الحيرة على مقابر مما يلي النهر، فقال له عدي بن زيد: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا! قال: إنها تقول:
أيها الركب المخبون ... على الأرض المجدون
مثل ما أنتم حيينا ... وكما نحن تكونون
ثم قال:
رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالاً بعد حال
فأثر هذا القول –على حد قول الأخباريين- في نفس النعمان، وارعوى، وتنصر2.
وقد كان تنصر "النعمان" في حوالي سنة "593م" تقريبًا، وصار يعد نفسه من حماة المذهب النسطوري الذي انتشر في العراق، كما صارت الحيرة من معاقل هذا المذهب أيضًا لدخول أناس من أصحاب الجاه والسلطان فيه. ومن الحيرة خرج "سرجيوس" "Sergios" في أواسط القرن السادس، فذهب إلى اليمن، إلى نجران، حيث قام بالتبشير هناك، مدة ثلاث سنوات حتى وافته منيته بعد ثلاث سنين3.
وينسب إلى النعمان أبو قابوس دير اللج، وقد دعي بـ "دير اللجة" في "تأريخ سعرت"، ونسبه إلى اللجة ابنة النعمان. وذكر أن في هذا الدير قبر
__________
1 Histoire Nestorienne, Seconde Partie, P. 468, 478, Evagrius, IV, 22, Pauly-Wissowa 33, 1936, 1254, Die Araber, I, S. 198.
2 حمزة "ص73 وما بعدها"، ذكر صاحب الأغاني هذه الأبيات مع شيء من الاختلاف، الأغاني "2/ 96" "دار الكتب"، معجم الشعراء "ص 249".
3 Die Araber, I, S. 198.(5/285)
"مار آبا الكبير" الجاثليق1.
وينسب أهل الأخبار "شقائق النعمان" إلى "النعمان بن المنذر" فيقولون: "وكان خرج إلى الظهر وقد اعتم نبته من بين أحمر وأخضر وأصفر، وإذا فيه من هذه الشقائق شيء كثير، فقال: ما أحسنها! احموها. فحموها فسميت: شقائق النعمان"2.
وذكر أن النعمان كان يعتني بتربية الخيل والإبل والماشية، فكان يشتري خير فصائلها ويحميها لنفسه، ولا يسمح لأحد بالحصول عليها أو تلقيح نعمهم أو خيولهم منها إلا بإذنه. وقد اشتهرت اليحموم والدفوف من جملة خيوله3.
وبينما نقرأ في شعر لمالك بن نويرة اليربوعي، أن تاج النعمان بن المنذر كان من ذهب وزبرجد وياقوت4، نرى "المعري" يشير إلى أنه كان خرزات، ولم يكن كتاج المنذر5. وخرزات الملك: جواهر تاجه6.
ونجد في كتب الأخبار والأدب، أن وفود العرب كانت تفد على "النعمان بن المنذر"، فيكرمها ويحبوها، ويقضي حوائجها. وكان يتخذ للوفود عند انصرافها مجلسًا يطعمون فيه معه ويشربون. وقد يتفاخر رؤساء الوفود بعضهم على بعض، فيحكمونه في أيهم أفضل. وقد تتحول تلك المفاخرات إلى مخاصمات ومهاترات بسبب ترجيح الملك رئيسًا على آخر7.
ونسب حمزة إلى النعمان أربع بنات هن: هند، وحرقة، وحريقة، وعنفقير8. وهند هي البنت الوحيدة التي نعرف عنها شيئًا من بنات النعمان، وقد
__________
1 الحيرة "203".
Histoire Nestorienne. Chronigue De Seert Second Partie I, P. 155.
2 المعارف "ص 264"، اللسان "10/ 181 وما بعدها"، الشعر والشعراء "ص 138"، "ليدن".
3 ذيل الأمالي والنوادر، للقالي "ص 185".
4 الجواليقي، المعرب "356".
5 رسالة الغفران "471"، "بنت الشاطئ".
6 اللسان "5/ 345".
7 العمدة "2/ 220 وما بعدها".
8 حمزة "74".(5/286)
ورد في بعض الروايات أنها لم تكن بنت النعمان، بل كانت أخته1. وذكر أيضًا أن والدها النعمان زوجها من عدي2. وقد عاشت حتى أدركت الإسلام، وكانت مترهبة، فلم تقبل الدخول فيه. ولما ماتت دفنت في ديرها إلى جانب قبر أبيها النعمان. وقد بقي الدير والقبران معروفين مدة طويلة في الإسلام.
ويذكر أن "الحرقة" "حرقة" رأت الدنيا كيف أدبرت عن أهلها، ونظرت في حالها بعد هلاك أبيها فقالت:
فبينا نسوس الناس، والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف
و"السوقة" هم العامة وسواد الناس.
وقد ذكر المسعودي هذه الأبيات، وقال إنها قالتها لـ "سعد بن أبي وقاص" يوم أتته في جماعة من قومها، وقد قال إنها كانت "إذا خرجت إلى بيعتها، يفرش لها طريقها بالحرير والديباج مغشى بالخرز والوشي، ثم تقبل في جواريها حتى تصل إلى بيعتها وترجع إلى منزلها. فلما هلك النعمان لفها الزمان فأنزلها من الرفعة إلى الذلة"3. وقد سماها "خرقاء بنت النعمان بن المنذر". ولعله قصد "حرقاء" أو "حرقة"، فحرف النساخ الكلمة وصيرها "خرقاء".
وكانت للنعمان جملة نساء، منهن: زينب بنت أوس بن حارثة، وفرعة بنت سعد بن حارثة بن لأم، وقد ولدت له ولدًا وبنتًا، وكانت عنده لما طلبه كسرى، وصار يتجول بين القبائل ليمنعوه4. ومارية الكندية، وهي أم هند التي تزوجها عدي بن زيد5.
ويذكر "ابن قتيبة" أنه كانت للنعمان دار في الحيرة عرفت بـ "الزوراء". وقد بقيت قائمة إلى أيام أبي جعفر المنصور، فأمر بهدمها، ولم يذكر السبب
__________
1 الأغاني "1/ 34".
2 Assemani, Bibl. Orient, III, 109, Rothstein, S. 125, Rothstein, S. 125.
3 مروج "2/ 27".
4 الأغاني "1/ 115"، "دار الكتب المصرية".
5 الأغاني "1/ 119".(5/287)
الذي حمله على ذلك. وقد ذكرها "النابغة" فقال:
بزوراء في أكنافها المسك كارع1
وذكر أن في جملة وزراء النعمان عمرو بن بقيلة والد عبد المسيح، وهو صاحب قصر بني بقيلة بالحيرة. وكان عبد المسيح في جملة من اشترك في المفاوضات مع خالد بن الوليد لعقد الصلح وتسليم الحيرة، وله دير بناه في ظاهر الحيرة في موضع يقال له الجرعة عرف بـ "دير الجرعة" وبـ "دير عبد المسيح"2.
وقد ورد ذكر زوجة من زوجات "النعمان بن المنذر" في كتب الأدب، هي "المتجردة"3. ويظهر أن "جلم بن عمرو"، كان قد تعرض لها، فبلغ أمره "النعمان" فحمله على أن يركب فرسه "اليحموم"، فأرداه4. وقد وصفها "النابغة" في "الدالية" المنسوبة إليه. وسمع "النعمان" بالقصيدة كما يذكر أهل الأخبار، بدس حساد النابغة القصيدة والأشعار الأخرى إلى النعمان، فانزعج منها. ولما بلغ "النابغة" الخبر، فر إلى الغساسنة لينجو بنفسه من عقابه وكان العمان متيمًا بـ "المتجردة" وللشعراء فيها قصائد مشهورات5.
ويذكر أهل الأخبار أن سيفًا من سيوف "النعمان بن المنذر" جيء به إلى الخليفة "عمر"، فأعطاه "جبير بن مطعم"6.
أما عدي بن زيد، فهو من العباديين، أي من نصارى الحيرة. وأما والده فهو زيد بن حماد "حماز" بن زيد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم، فهو تميمي الأصل7. وكان لزيد ثلاثة أولاد هم: عدي هذا الذي تحدثنا عنه، وعمار "حمار" "حماد" واسمه أبي
__________
1 المعاني الكبير "1/ 465"، اللسان "4/ 338"، "صادر"، "زور".
2 الأغاني "15/ 11"، السجستاني "38"، البلدان "1/ 651، 677"، شعراء النصرانية "15".
3 اللسان "3/ 116"، "صادر"، "جرد".
4 رسالة الغفران "196"، اللسان.
5 رسالة الغفران "196، 204، 207"، الأغاني "1/ 81"، الشعر والشعراء "76، 238".
6 اللسان "2/ 487".
7 الطبري "2/ 146"، الأغاني "2/ 97" "دار الكتب المصرية"، معجم الشعراء للمرزباني "249 وما بعدها"، شعراء النصرانية "1/ 439 وما بعدها".(5/288)
وكان مع كسرى وعمرو واسمه سمي، ولهم أخ من أمهم يدعى بن حنظلة، وهو من "طيء"1.
وكان أيوب جد عدي من أهل اليمامة على رواية الأخباريين، كان يقيم في بني امرئ القيس بن زيد مناة، ولكنه اضطر إلى ترك اليمامة والهجرة إلى الحيرة لإصابته دمًا، فخاف على نفسه من القتل، والتجأ إلى أوس بن قلام، وكان بينه وبين أوس نسب في النساء. فلما قدم أيوب الحيرة، نزل في دار أوس، وأقام عنده أمدًا. ثم أقام في دار أخرى بعد أن حباه أوس وأكرمه، وصار له شأن في البلد ومقام. فاتصل بالملوك وتقرب إليهم وغدا من علية القوم2.
وصار لزيد بن أيوب شأن يذكر في البدل، وتزوج امرأة من آل قلام ولدت له ولدًا دعاه حمادًا. وبينما كان زيد يتصيد في البادية، اصطاده رجل من بني امرئ القيس، فقتله بسهم أخذًا لثأر قومه من أبيه أيوب. وعلم حماد "حماز" الكتابة والقراءة، فكان أول من كتب من بني أيوب في رواية الأخباريين، وغدا من أكتب الناس في الحيرة، ولذلك اختير كاتبًا لملك الحيرة، واتصل بكبار الفرس ومنهم "فروخ ماهان" الذي تكفل زيد بن حماد بعد وفاته، ورباه مع أبنائه. ثم أوصله إلى كسرى أنو شروان فجعله على البريد، لما تبين له من ذكاء زيد وقدرته في العربية والفارسية وهي وظيفة لم تكن تعطى لغير أبناء الفرس3.
وتزوج زيد امرأة من طيء ولدت له عديًّا، وقد ربي هذا تربية طيبة، فأرسل إلى الكتاب، فلما حذق ومهر فنه بالعربية، أرسل إلى كتاب الفارسية. فتعلم مع أولاد المرازبة ومنهم شاهان مرد الفارسية حتى صار من الحاذقين بها العارفين بفنونها، ثم تعلم الرماية ولعب الصولجان، واتصل بكبار الفرس. وقد ساعده مركزه هذا على التقرب من آل لخم. وإلى "زيد بن حماد" أو كل
__________
1 الطبري "2/ 146"، الأغاني "2/ 105" "دار الكتب المصرية".
2 الأغاني "2/ 89" "دار الكتب"، شعراء النصرانية "ص439"، طبقات ابن سلام "31"، الشعر والشعراء "111"، رسالة الغفران "146، 147، 185، 186، 190، 197، 606".
3 الأغاني "2/ 96 وما بعدها" "دار الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "1/ 441".(5/289)
تدبير شؤون ملك الحيرة بعد سياحة النعمان على رواية بعض الأخباريين إلى أن انتقل الملك إلى المنذر بن ماء السماء 1.
وقرب عديًّا إلى كسرى أنو شروان المرزبان فروخ ماهان، فعهد إليه الكتابة بالعربية، فتولاها وصار له شأن يذكر عند الفرس، كما صار له مركز خطير في قصور آل لخم. ولما توفي كسرى أنو شروان، وملك هرمز ابنه، أرسل عديًّا إلى قيصر الروم "طيباريوس" "طبريوس" بمهمة سياسية، فأظهر لباقة وحنكة وحكمة، مما جعل القيصر يحترمه، فأكرمه، وحباه، وأراه أطراف مملكته، وذهب إلى دمشق، وأقام فيها أمدًا، وهو على صلات حسنة بالروم، وفي أثناء إقامته بالشأم، أراد أهل الحيرة قتل المنذر والخروج عليه، لظلمه وأخذه أموالهم بغير حق. فلما علم بذلك المنذر، طلب من زيد والد عدي أن يتولى هو الأمر، وفرح الناس على ما يذكره الرواة بهذا القرار، فجاؤوه يحيونه بتحية الملك، ولكنه أبى أن يسمى ملكًا، ورضي بالحكم بغير هذا الاسم، وسر المنذر بهذا الحل، ورضي به. وبقي في هذا المركز إلى أن هلك، وابنه بعيد عنه في دمشق.
فلما جاء عدي من الشأم، لم ينس المنذر فضل أبيه عليه، وإنقاذه الملك بهذا الحل، وسلمه ما كان قد تركه أبوه، واستقبله استقبالًا عظيمًا حينما قدم الحيرة قادمًا من المدائن بعد زيارته لكسرى لتقديم هدية القيصر إليه. وأقام في الحيرة سنين يتصيد ويلهو ويعلب، ويبدو في فصلي السنة، فيقيم في حفير، ويشتو بالحيرة، ويأتي المدائن في خلال ذلك فيخدم كسرى، وكان لا يؤثر على بلاد بني يربوع مبدى من مبادي العرب، ولا ينزل في حي من أحياء بني تميم غيرهم. وكان أخلاؤه من العرب كلهم بني جعفر. وكانت إليه في بلاد بني ضبة وبلاد بني سعد، ولم يزل على حاله تلك حتى تزوج هندًا بنت النعمان بن المنذر2.
__________
1 الأغاني "2/ 100" "دار الكتب المصرية" شعراء النصرانية "ص 443"، المرزباني "249 وما بعدها" الشعر والشعراء "ص113 وما بعدها" "عدي بن زيد العبادي".
2 الأغاني "2/ 102 وما بعدها" "دار الكتب المصرية"، المشرق، الجزء الأول، كانون الأول، 1944"، "ص46 وما بعدها"، شعراء النصرانية "1/ 439 وما بعدها"، المرزباني "249 وما بعدها".(5/290)
وأمها "مارية الكندية" فهي من كندة من جهة الأم. ثم أمره "النعمان" بالافتراق منها وتطليقها بعد ما غضب عليه وألقاه في السجن.
وروى الأخباريون لعدي شعرًا زعموا أنه قال أكثره في حبسه وفي معاتبته للنعمان وفي توسله إليه بأنه يطلقه من حبسه، وفيه مواعظ تذكر النعمان بأن الدنيا زائلة، وأنها دار فناء، وأن الملك لا يدوم، وأمثال ذلك. وهو شعر لم ينظر إليه علماء الشعر نظرتهم إلى شعر الشعراء الفحول، وذلك؛ لأنه كان قرويًّا، أي من أهل الحضر، ولذلك أيضًا لم يستشهد به علماء اللغة في ضبط قواعد اللغة1.
هذا ويذكر "ابن النديم" في كتابه "الفهرست" أن جملة مؤلفات "ابن الكلبي" الكثيرة مؤلفًا اسمه "كتاب عدي بن زيد العبادي"2، وهو كتاب لم يصل إلينا حتى الآن. ولعله كان في جملة الموارد الرئيسية التي اعتمد عليها المؤرخون وأهل الأدب والأخبار في تدوينهم أخبار ذلك الشاعر السياسي الأديب.
ونجد في "رسالة الغفران" شعرًا لعدي. وقد دعي بـ "السروي" في موضع منها، حين تحدث مؤلفها "المعري" عن المنادمة وعن باطية الخمر3. وكني بـ "أبي سوادة" في موضع آخر4.
وانتقل ملك الحيرة بعد مقتل النعمان إلى رجل غريب لم يكن من لخم، اسمه إياس بن قبيصة الطائي5، أو إياس بن قبيصة بن أبي عفراء، أو إياس بن قبيصة بن النعمان بن حية بن سعنة6. وله خال اسمه حنظلة بن أبي عفراء بن النعمان. ويقال إنه كان نصرانيًّا. وقد ذكر له أخ اسمه قيس بن قبيصة كان نازلًا بعين التمر7. وذكر أن والده كان من شعراء جرم، وجرم رهط من طيء8.
__________
1 الأغاني "2/ 109" "دار الكتب المصرية"، الشعر والشعراء "ص114"، "عدي بن زيد العبادي".
2 الفهرست "ص 147".
3 رسالة الغفران "ص 185".
4 رسالة الغفران "186، 190، 203".
5 حمزة "ص 74"، "إياس بن قبيضة بن أبي عفراء بن النعمان بن حية بن سعية بن الحارث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سفر بن هني بن عمرو بن غوث بن طيء"، شعراء النصرانية "ص135"، ديوان الأعشى "ص162". "طبعة الدكتور م. محمد حسين".
6 الاشتقاق "231".
7 Rothstein, S. 119.
8 شعراء النصرانية "ص93".(5/291)
وآل قبيصة من الأسر المعروفة في الحيرة، وقد سبق أن عهدت إلى إياس إدارة مهمات الحكومة بعد وفاة المنذر، فمكث أشهرًا ملكًا يدير أمور الملك إلى أن أعطي التاج للنعمان أبي قابوس. ويظهر من روايات الأخباريين أنه كان مقربًا من كسرى؛ لأنه ساعده حينما هرب من بهرام، وأهدى إليه فرسًا وجزورًا؛ ولأنه عاونه في نزاعه مع الروم1. فلما فر أبناء النعمان بعد مقتل والدهم، وتشتت شمل البيت المالك مدة، تذكر كسرى فضل هذا الرجل عليه فعينه ملكًا على الحيرة، وعين معه رجلًا فارسيًّا اختلفوا في اسمه، فقالوا: "الهمرجان" و" البحرجان" و"النخرجان" و"التخرجان"2. وهو اختلاف يسير، يعود سببه على ما يظهر إلى عدم تمكن النساخ أو الرواة من ضبط الكلمة. والظاهر أنها وظيفة ومركز، حسبها الرواية اسم علم، فأطلقوها على شخص3. وقد كان كسرى قد عينه مدة أشهر على الحيرة، وذلك قبل أن ينتقل الملك إلى النعمان4.
وذكر الأخباريون أن كسرى بن هرمز كان يتيمن بـ "إياس"، ويفزع إليه في حروبه ويعجبه، وأنه استنجد به في حربه مع قيصر، فتعقبه حتى أدركه في موضع "ساتيدما" فأثخن القتل في جنوده، ونجا قيصر في خواص من أصحابه بصعوبة. وأصيب إياس بمرض في هذه السفرة، أشار الأعشى في شعره إليه5. وللأعشى قصائد في مدح إياس، وكانت له صلة به، وقد أغدق عليه نعمه6.
وفي رواية ذكرها أبو الفرج الأصبهاني أن كسرى كان قد عين إياسًا على عين التمر وما والاها من الحيرة، وأطعمه ثلاثين قرية على شاطئ الفرات7. ويظهر من هذه الرواية ومن رواية وفاته في عين التمر ووجود أخيه فيها أن عين التمر كانت من مناطق نفوذ هذه الأسرة حتى في أيام ملك آل لخم.
وذكر "الدينوري" أن كسرى ولي أياس بن قبيصة الطائي ثمانية أشهر،
__________
1 الطبري "2/ 152".
2 حمزة "ص74". ابن الأثير "1/ 200" شعراء النصرانية "137".
3 Noldeke. Sassa. 152, Rthstein, S. 120.
4 شعراء النصرانية "135"، الطبري "2/ 194" "دار المعارف".
5 ديوان الأعشى "ص159" "طبعة كاير" البلدان "5/ 6" "مادة ساتيدما".
6 ديوان الأعشى، القصائد "21، 29، 36، 55، 79.
7 الأغاني "21/ 134".(5/292)
واضطرب أمر كسرى وجاء الإسلام ومات إياس بعين التمر، وفيه يقول زيد الخيل:
فإن يك رب العين خلى مكانه ... فكل نعيم لا محالة زائل
وذكر بعض أهل الأخبار أن حكم إياس دام تسع سنين1.
ولا نعرف شيئًا مهمًّا قام به إياس في أثناء توليه الملك، ويظهر أن حكمه لم يكن يتجاوز هذه المنطقة التي أشار إليها الأخباريون، ولم يشر الأخباريون إلى قيامه بغارات على عرب الشأم. أما الشيء المهم الذي وقع في أثناء توليه الحكم، فهو يوم ذي قار.
__________
1 المعارف "ص284"، المحبر "359 وما بعدها".(5/293)
ذو قار:
وذو قار ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها وبين واسط1. وبالقرب منه مواضع منها حنو ذي قار وقراقر وجبابات ذي العجرم وجذوان وبطحاء ذي قار2. ويقع حنو ذي قار على ليلة من ذي قار3.
يرجع الأخباريون سبب وقوع ذي قار إلى مطالبة "كسرى ابرويز" هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود أحد بني ربيعة بن ذهل بن شيبان بتسليم الودائع التي أودعها النعمان لديه إليه. فلما أبى هانئ تسليم ما اؤتمن عليه لغير أهله، غضب كسرى، فبعث إلى الهامرز التستري، وهو مرزبانه الكبير، وكان مسلحه في القطقطانه، وإلى جلابزين وكان مسحله في بارق، كما كتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين، وكان كسرى استعمله على سفوان بأن يرافقوا إياسًا فإذا اجتمعوا فإياس على الناس. وجاءت الفرس معها الجنود والفيلة عليها الأساورة. فالتحموا بأرض ذي قار، فلما كان اليوم الأول، استظهر الفرس على العرب، ثم جزعت الفرس في اليوم الثاني من العطش، فصارت إلى الجبابات، فتبعتهم بكر وباقي العربان، فعطش الأعاجم، ومالوا إلى بطحاء ذي قار وبها اشتدت الحرب، وانهزمت الفرس، وكسرت كسرة هائلة، وقتل
__________
1 البلدان "7/ 8".
2 Rothstein, S. 121.
3 البلدان "7/ 8".(5/293)
أكثرهم وفيهم الهامرز وجلابزين، وانتصر العرب على الفرس انتصارًا عظيمًا، وانتصفت فيه العرب من العجم1.
ويوم ذي قار لم يكن إذن يومًا واحدًا، أي معركة واحدة وقعت في ذي قار وانتهى أمرها بانتصار العرب على الفرس، بل هو جملة معارك وقعت قبلها ثم ختمت بـ "ذي قار"، حيث كانت المعركة الفاصلة فنسبت المعارك من ثم إلى هذا المكان. ومن هذه الأيام: يوم قراقر، ويوم الحنو. حنو ذي قار، ويوم حنو قراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذي العجرم، ويوم الغذوان، ويوم البطحاء: بطحاء ذي قار، وكلهن حول ذي قار2.
أما متى وقع يوم ذي قار، فالمؤرخون مختلفون في ذلك، منهم من جعله في يوم ولادة الرسول، ومنهم من جعله عند منصرف الرسول من وقعة بدر الكبرى3، ومنهم من جعله قبل الهجرة4. وقد ذهب "روتشتاين" إلى أنه كان حوالي سنة "604م"، وذهب نولدكه إلى أنه بين "604" و"610 م"5. وأكثر أهل الأخبار أنه وقع بعد المبعث ورووا في ذلك حديثًا قالوا إن الرسول لما بلغه من هزيمة ربيعة جيش كسرى، قال: "هذا أول يوم انتصف العرب من العجم، وبي نصروا"6.
والذي يستنتج من روايات أهل الأخبار عن معركة ذي قار أن "هانئ بن مسعود الشيباني"، لم يكن قائد بني شيبان ولا غيرها من العرب يوم ذي قار، بل تذهب بعض الروايات إلى أنه لم يدرك هذا اليوم؛ لأنه هلك قبله، وإنما هو:
__________
1 الطبري "2/ 152 وما بعدها" "المعارف" "ص603"، والبلدان "7/ 8 وما بعدها" شعراء النصرانية "ص137"، مجمع الأمثال "2/ 352"، العمدة، لابن رشيق "2/ 169"، حمزة "ص 91"، أبو الفداء، المختصر في أخبار البشر، "1/ 101"، "دار الكتاب اللبناني"، مروج الذهب "1/ 236"، "وكتب كسرى إلى قيس بن خالد، وكان عاملاً له على الطف"، العمدة "2/ 218" "وقتل الهامرز بن خلا بزر عامل كسرى"، العمدة "2/ 218".
2 الطبري "2/ 193" وما بعدها.
3 البلدان "7/ 9 وما بعدها"، التنبيه والإشراف "ص241". "بيروت 1965"، اليعقوبي "1/ 184 وما بعدها" "طبعة النجف".
4 المحبر "ص310"
5 Rothstein, S. 123.
6 الطبري "2/ 193" "دار المعارف"، التنبيه ص "241" "بيروت 1965م". الكامل "1/ 285 وما بعدها".(5/294)
"هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود"1. وترى روايات أخرى أن "هانئ بن مسعود"، كان يخشى عاقبة هذه الحرب وأنه لم يكن يريد مقابلة الفرس، وكل ما كان يريده هو الاحتفاظ برهينة النعمان. وأن الفرس عندما دنوا من العرب بمن معهم: "انسل قيس بن مسعود ليلًا فأتى هانئًا، فقال له: أعط قومك سلاح النعمان فيقووا، فإن هلكوا كان تبعًا لأنفسهم، وكنت قد أخذت بالحزم، وإن ظفروا ردوه عليك. ففعل. فقسم الدروع والسلاح في ذوي القوى والجلد من قومه. فلما دنا الجمع من بكر، قال لهم هانئ: "يا معشر بكر، إنه لا طاقة لكم بجنود كسرى ومن معهم من العرب، فاركبوا الفلاة". فتسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة بن سيار فقال له: إنما أردت نجاتنا، فلم تزد على أن ألقيتنا في الهلكة، فرد الناس وقطع وضن الهوادج، لئلا تستطيع بكر أن تسوق نساءهم إن هربوا –فسمي مقطع الوضن-، وهي حزم الرحال. ويقال: مقطع البطن، والبطن حزم الأقتاب، وضرب حنظلة على نفسه قبة ببطحاء ذي قار، وآلى ألا يفر حتى تفر القبة. فمضى من مضى من الناس، ورجع أكثرهم، واستقوا ماء لنصف شهر، فأتتهم العجم، فقاتلتهم بالحنو، فجزعت العجم من العطش، فهربت ولم تقم لمحاصرتهم، فهربت إلى الجبابات، فتبعتهم بكر وعجل"2، "فقاتلوهم بالجبابات يومًا. ثم عطش الأعاجم، فمالوا إلى بطحاء ذي قار، فأرسلت إياد إلى بكر سرًّا –وكانوا أعوانًا على بكر مع إياس بن قبيصة: أي الأمرين أعجب إليكم. أن نظير تحت ليلتنا فنذهب، أو نقيم ونفر حين تلاقون القوم؟ قالوا: بل تقيمون فإذا التقى القوم انهزمتم". فلما التقى القوم في مكان من ذي قار يسمى "الجب" اجتلدوا والتحموا، فانهزمت "إياد" كما وعدتهم، وانهزم الفرس3.
ويذكر "الطبري" في رواية من رواياته عن "ذي قار" أن الناس توامروا فسولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، وكانوا يتيمنون به، فقال
__________
1 الطبري "2/ 206"، معجم "3/ 1024"، الكامل "1/ 285 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 206"، معجم "3/ 1042"، الكامل "1/ 285 وما بعدها".
3 الطبري "2/ 208 وما بعدها"، العقد الفريد "3/ 383 وما بعدها"، "5/ 211"، الكامل، "1/ 285 وما بعدها" "الطباعة المنيرية"، نهاية الآرب "15/ 431 وما بعدها"، صبح الأعشى، "1/ 392" "دار الكتب".(5/295)
لهم: لا أرى إلا القتال، فتبعوا أمره، وهو الذي تولى إدارة القتال، فكان له شأن كبير فيه، وقد قاد قومه من "بني عجل" في ذلك القتال، فله النصيب الأكبر منه1. وقد احتل "حنظلة" مسيرة "هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود" رئيس بكر في القتال الذي جرى في ذي قار في موضع الجب2.
وكان "هانئ بن قبيصة" رئيس بكر يشغل القلب في أثناء الهجوم على الفرس يوم الجب في ذي قار، وكان على ميمنته "يزيد بن مسهر الشيباني"، و"حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي" على ميسرته يحميه من كل هجوم جانبي يقع عليه من الميسرة، كما ذكرت3.
وكان "يزيد بن حمار السكوني"، وهو حليف لبني شيبان، قد كمن مع قومه من بني شيبان في مكان من ذي قار هو الجب، فلما جاء إياس بن قبيصة مع الفرس إلى هذا المكان، خرج مع كمينه، فباغت إياسًا ومن معه، وولت إياد منهزمة، فساعد بذلك كثيرًا في هزيمة الفرس4.
فهؤلاء المذكورون إذن هم الذين قادوا نصر العرب على الفرس، وقد ذهب بعض الأخباريين إلى أن الحرب الرئيسية دارت على بني شيبان، ورئيس الحرب هو "هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود". أما "حنظلة" فكان صاحب الرأي5. ولكن الذي يظهر من دراسة مختلف الروايات أن شأن حنظلة في القتال كان أهم وأعظم من شأن هانئ فيه، حتى لقد ذكرت بعض الروايات أنه هو الذي ولي أمر القتال بعد هانئ، وأن القوم صيروا الأمر إليه بعد هانئ في معركة "جب ذي قار" وأنه هو الذي قتل "جلابزين"، وأن كتيبته "كتيبة عجل" قامت بأمر عظيم في هذه المعركة التي انتهت بهزيمة الفرس6.
وكان حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي من سادات قومه، وهو صاحب قبة،
__________
1 الطبري "2/ 207 وما بعدها".
2 الطبري "2/ 209".
3 الطبري "2/ 209" "دار المعارف" ابن خلدون "2/ 626" "دار الكتب اللبنانية".
4 الطبري "2/ 209" "دار المعارف".
5 الكامل، لابن الأثير "1/ 285 وما بعدها".
6 الطبري "2/ 210" "دار المعارف".(5/296)
طربت له يوم ذي قار ويوم فلج1، ولا تضرب قبة إلا لملك أو سيد. وكانت له بنت يقال لها "مارية"، كانت معه في هذه المعركة، وهي أم عشرة نفر أحدهم جابر بن أبجر. وأورد الطبري شعرًا في يوم ذي قار نسبه إلى "يزيد بن المكسر بن حنظلة بن ثعلبة بن سيار"، وإذا كان يزيد هذا هو حفيد حنظلة كما يظهر من سياق النسب، يكون حنظلة إذ ذاك كبيرًا في السن. وقد نسب الطبري إلى حنظلة شعرًا ذكر أنه قاله في يوم ذي قار2.
وذكر أن "النعمان بن زرعة التغلبي" هو الذي أشار على كسرى بمهاجمة "هانئ بن مسعود الشيباني" في ذي قار، وكان يحب هلاك بكر بن وائل، وأن إيادًا وهي في الحرب اتفقت سرًّا مع بكر على الهرب، فهربت حين كان إياس بن قبيصة والفرس يقاتلون بكرًا، فاضطرب صف العجم، وولوا الأدبار، فقتل منهم من قتل، وأسر عدد كبير. وأسر "النعمان بن زرعة التغلبي"3.
والروايات عن معركة ذي قار، هي على شاكلة الروايات عن أيام العرب وعن حروب القبائل وغزو بعضها بعضًا، من حيث تأثرها بالعواطف القبلية وأخذها بالتحيز والتحزب. فنرى فيها تحيزًا لبني شيبان يظهر في شعر "الأعشى" لهم، إذ يمدحهم خاصة، مما أدى إلى غضب غيرهم مثل "اللهازم"4، ونرى فيها إعطاء فخر لفلان وحبسه عن فلان. ولذلك يجب على الباحث عن أيام العرب وعن حروب القبائل وغزواتها أن يفطن لذلك.
وشعر الأعشى، أعشى بكر، في ذي قار، ومدحه قومه "بني بكر"، شعر مهم للوقوف على حوادث تلك المعركة وكيف جرت5. ولبكير: أصم بني الحارث، شعر أيضًا يمدح فيه بني شيبان ويمجد عملهم وفعلهم في هذا اليوم6.
وقد هجا "أعشى بكر" في قصيدة له عن يوم ذي قار وعن مقام عشيرته
__________
1 الاشتقاق "ص208".
2 الطبري "2/ 209 وما بعدها".
3 ابن الأثير "1/ 173 وما بعدها"، الطبري "1/ 612"، الأغاني "2/ 127، ابن خلدون، القسم الأول، المجلد الثاني "ص556"، "منشورات دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر" بيروت 1956م. العمدة 2/ 218".
4 الطبري "2/ 211".
5 الكامل "1/ 285 وما بعدها".
6 الطبري "2/ 211" "دار المعارف" الكامل، لابن الأثير "1/ 285 وما بعدها".(5/297)
ومكانته فيه تميمًا وقيس عيلان، ثم تعرض لقبائل معد، فقال:
لو أن كل معد كان شاركنا ... في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف1
ونجد شعرًا للعديل بن الفرخ العجلي، يفتخر فيه بقومه ويتباهى بانتصارهم على الفرس في هذا اليوم، فيقول:
ما أوقد الناس من نار لمكرمة ... إلا اصطلينا وكنا موقدي النار
وما يعدون من يوم سمعت به ... للناس أفضل من يوم بذي قار
جئنا بأسلابهم والخيل عابسة ... يوم استبلنا لكسرى كل أسوار2
وكان هانئ بن قبيصة، من أشراف قومه، وكان نصرانيًّا، وأدرك الإسلام فلم يسلم، ومات بالكوفة3. أما "قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين"، فكان سيد قومه في أيامه، وذلك قبل الإسلام. وكان كسرى استعمله على "طف سفوان"4.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن هناك يومًا آخر، عرف بيوم "ذي قار"، وقد وقع أيضًا بين العرب والفرس، فانتصر فيه العرب أيضًا، وقد وقع قبل اليوم المذكور، فعرف لذلك بيوم ذي قار الأول، وبيوم صيد، وبيوم القبة. وكان سببه أن بكر بن وائل أصيبت بسنة "أي قحط" فخرجت حتى نزلت بذي قار، وأقبل حنظلة بن سيار العجلي، حتى ضرب قبته بين ذي قار وعين صيد، وكان يقال له "حنظلة القباب"، وكانت له قبة حمراء، إذا رفعها انضم إليه قومه، فأتاهم عامل كسرى على السواد ليخرجهم منه، فأبوا، فقاتلهم فهزموه وانتصروا عليه5.
وقد نسب إلى "زيد الخير" شعر، زعم أنه قاله يذكر إياس بن قبيصة الطائي هو:
__________
1 الكامل "1/ 285 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 431 وما بعدها".
2 الشعر والشعراء "1/ 375".
3 الاشتقاق "ص216".
4 الطبري "2/ 207" "دار المعارف".
5 البكري "3/ 1042".(5/298)
أفي كل عام سيد يفقدونه ... تحكك من وجد عليه الكلاكل
ثم يكون العقل منكم صحيفة ... كما علقت على السليم الجلاجل
وقد قال "ابن قتيبة الدينوري" في تفسيره: "كان كسرى أرسل إلى مال إياس ليأخذه فنفرت عن ذلك طيء، وقد أراد أن يبطش بأناس منهم. فلما رأى ذلك كسرى، كتب لهم كتابًا في أمان، فقال زيد شعرًا، هذان البيتان فيه، يحض قومه، وينهاهم أن يقبلوا كتابه، أو يطمئنوا إلى قوله"1. وليس في هذا الشرح كما نرى تفسيرًا للسبب الذي دفع كسرى إلى المطالبة بمال إياس. هل كان ذلك بسبب اختلافه معه، أو بسبب آخر، ولا يعقل أن تكون هذه المطالبة في حالة صلح وعلاقات طيبة بين الجهتين، بل لا بد أن تكون عن ظروف سيئة لم يتطرق لها "ابن قتيبة".
وعندي أن هذه الحادثة إن صحت روايتها، وجب أن تكون قد وقعت بعد موت "إياس"، وتركه ثروة وأملاكًا طائلة، فأراد الفرس الاستحواذ عليها، وأخذ ما جمعه من مال، فحدث ما حدث.
وذكر الأخباريون بعد "إياس" رجلًا فارسيًّا قالوا أنه هو الذي حكم "الحيرة" وملكها في زمن "أبرويز"، وفي زمن شيرويه بن أبرويز، وفي زمن أردشير ابن شيرويه، وفي زمن بوران بنت أبرويز، وذكروا أن مدة حكمه سبع عشرة سنة أو أقل من ذلك. وسموا هذا الرجل "أزادبه بن ماهيبيان بن مهرا بنداد"2. أو "أزاذبه بن يابيان بن مهر بنداذ الهمذاني"3، أو "آزادبه بن ماهان بن مهر بنداد الهمذاني" أو "زادويه الفارسي". حكم سبع عشرة سنة، من ذلك في زمن كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن شيرويه بن كسرى ثمانية أشهر، وفي زمن أردشير بن شيرويه سنة وسبعة أشهر، وفي زمن بوران دخت بنت كسرى شهرًا4. ولكنهم لم يذكروا من أمره شيئًا، فلا نعرف من أعماله أي شيء مع طول مدة حكمه إن صحت رواية الأخباريين.
__________
1 المعاني الكبير "2/ 1008".
2 "زاديه بن ماهيبان بن مهرا بنداد الهمذاني"، حمزة "ص74"، المحبر "360".
3 الطبري "2/ 156".
4 الطبري "2/ 213"، مفاتيح العلوم "69".(5/299)
وأرى أن "دادويه الفارسي" الذي ذكر "حمزة الأصفهاني" أنه كان قد ملك الحيرة، هو "زادويه" المذكور، وأن النساخ قد أخطأوا في كتابة الاسم فصيروه على هذه الصورة، أو أن "حمزة" نفسه قد أخطأ في التسمية، أو هو نقلها من كتابين مختلفين أو من مصدر واحد كتبهما بصورتين، فشايعه حمزة ولم ينتبه إلى أنه صير الاسم الواحد اسمين.
وذكر بعض أهل الأخبار أن الذي حكم بعد "آزاذبه" هو "المنذر بن النعمان بن المنذر" المعروف بـ "الغرور" أو "المغرور"، وهو المقتول بالبحرين يوم جواثا"1، "فكان ملكه وملك غيره إلى أن قدم خالد بن الوليد الحيرة ثمانية أشهر"2. وهو كلام مشكوك فيه ففي الأخبار أن المنذر لم يحكم الحيرة، وإنما حكم البحرين في أثناء الردة، وذلك بأن ربيعة حينما ارتدت عن الإسلام قالت: نرد الملك في المنذر بن النعمان بن المنذر. فلما حارب المسلمون المرتدين، منوا بهزيمة منكرة، وسقط المنذر أسيرًا في أيدي المسلمين، ويقال إنه أسلم على أثر ذلك، وسمى نفسه "المغرور" بدلًا من "الغرور". وهو اللقب الذي كان يعرف به قبل إسلامه3.
ويظهر أن النصرانية كانت هي المتفشية في البحرين وفي بني عبد القيس، وقد كان المنذر الغرور مع المرتدين، الذين تركوا الإسلام وعادوا إلى النصرانية بعد دخولهم في الإسلام4.
وقد ذكر "الطبري" في حديثه عن يوم المقر وفم فرات بادقلي: أن الذي كان يلي أمر الحيرة هو "الآزاذبه"، وقال فيه: "كان مرزبان الحيرة أزمان كسرى إلى ذلك اليوم"5. وقد كان من أشراف الفرس وسادتهم، وذكر أيضًا: أن قيمة قلنسوته خمسون ألفًا، وقيمة القلنسوة عند الفرس تدل على مكانة صاحبها وشأنه عند الساسانيين. وأنه لما سمع بدنو "خالد بن الوليد" من الحيرة تهيأ لحربه، وقدم ابنه، ثم خرج في أثره حتى عسكر خارجًا من الحيرة، وأمر ابنه بسد الفرات، ولكن خالدًا فاجأه وأصاب جيشه فلما بلغ أباه خبر ما حل
__________
1 المحبر "360"، حمزة "75"، مفاتيح العلوم"69".
2 الأغاني "14/ 48"، ابن الأثير، الكامل "2/ 154".
3 الطبري "3/ 136 وما بعدها" "دار المعارف بمصر".
4 الطبري "3/ 359".
5 الطبري "3/ 359".(5/300)
به، هرب من غير قتال، وكان عسكره بين الغريين والقصر الأبيض، وتمكن بذلك خالد بن الوليد من فتح الحيرة1.
فيفهم من حديث الطبري عن فتح الحيرة أن المنذر بن النعمان لم يكن قد ولي حكمها، وأن ما ذكره من تولية الحكم ثمانية أشهر، يناقض ما ذكره هو فيما بعد عن فتح الحيرة وبقية أرض العراق ويخالف كذلك ما ورد في بقية كتب أهل الأخبار عن فتوح العراق.
وكان ملوك الحيرة مثل غيرهم من الملوك، كالغساسنة والساسانيين والروم، يتراسلون مع القبائل وعمالهم بالبريد. وكانت برد ملوك العرب في الجاهلية الخيل2. تنطلق في مراحل، فإذا بلغ البريد المرحلة المعينة استراح، وتولى البريد الثاني نقل الرسائل إلى المكان المقصود ... وبذلك تتم المراسلات.
ومن الأسر المعروفة في الحيرة، العدسيون، وهم من "كليب"، وقد نسبوا إلى أمهم على ما يذكره أهل الأخبار.
ومن سادات الحيرة وأشرافها "بنو الأوس بن قلام بن بطين بن جمهير "جمهر" بن لحيان"، وكان منهم "جابر بن شمعون" الأسقف من أساقفة الحيرة المعروفين، وهو صاحب القصر الأبيض بالحيرة3.
وقد اشتهرت الحيرة بسوقها، إذ كان الأعراب وتجار جزيرة العرب يقصدون السوق لبيع تجارتهم وشراء ما فيها من سلع نفيسة مطلوبة في بلاد العرب. وقد اشتهرت بنوع خاص من السيوف، قيل لها "السيوف الحاربة"، كما عرفت بصناعة الأنماط4.
واشتهرت الحيرة بقصرها المعروف بـ "الخورنق". وهو قصر يقع على ثلاثة أميال منها، ويقال إنه بني على نهر: بناه للنعمان المعروف بالأعور بناء رومي اسمه "سنمار" في عشرين سنة. وقد لقي البناء مصرعه بسبب هذا القصر، في
__________
1 الطبري "3/ 359 وما بعدها".
2 قال امرؤ القيس الكندي:
على كل مقصوص الذنابي معاود ... بريد السرى بالليل من خيل بريرا
الكامل "للمبرد "1/ 286".
3 الأغاني "2/ 115".
4 مروج الذهب "2/ 90 وما بعدها"، البلدان "2/ 328"، فتوح البلدان "245".(5/301)
قصص يرويه عنه أهل الأخبار، ويضربون به المثل في المكافأة على الفعل الحسن بالقبيح1.
ولأهل الأخبار آراء في التسمية: منهم من يقول إنها عربية ومن أصل عربي ومنهم من يقول إنها فارسية، وأن اللفظة معربة.
وارتبط باسم "الخورنق" اسم قصر آخر هو "السدير". وقد بني في البرية، فهو أبعد من الخورنق عن الحيرة2. ولأهل الأخبار كعادتهم في تعليل الأسماء العادية مذاهب في التسمية. ويرجح المستشرقون أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية3. وقد كان ذا قباب ثلاث، ويتألف من إيوان ينتهي إلى غرفة، وعلى جانبيه غرفتنا، ويظهر من روايات أهل الأخبار أنه كان أقدم عهدًا من الخورنق، وأن ملوك آل لخم كانوا يقيمون فيه في قديم الزمان4.
وذكر أن "السدير" نهر بالحيرة، قال عدي:
سره حاله وكثرة ما يمـ ... ـلك والبحر معرضًا، والسدير5
وفي شعر ينسب إلى الأسود بن يعفر، ذكر للقصرين المذكورين، رثى الشاعر فيه حال "آل محرق"، وتألم وتوجع لما نزل وحل بهم، كما توجع لإياد، إذ قال:
ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد؟
أرض الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد6
__________
1 القاموس "3/ 22" تاج اللغة وصحاح العربية، للجوهري، "1/ 79"، مراصد الاطلاع "1/ 498"، اللسان "1/ 78"، اليعقوبي "1/ 170"، أمثال العرب، للمفضل الضبي "ص69".
2 الجوهري، تاج اللغة "1/ 330"، البكري، معجم "1/ 729"، ابن سيدة، المخصص "5/ 126"، الديارات، للشابشتي "152"، مراصد الاطلاع "1/ 699".
3 "والسدير: بناء، وهو بالفارسية سهد لي، أي ثلاث شعب، أو ثلاث مداخلت. وقال الأصمعي: السدير فارسية"، اللسان "4/ 355".
4 الديارات "152".
5 اللسان "4/ 355"، "صادر"، "سدر".
6 اللسان "11/ 18 وما بعدها"، "صادر"، ابن سلام، طبقات فحول الشعراء "116 وما بعدها".(5/302)
ويجب أن يكون هذا الشعر قد نظم بعد نكبات حلت بـ "آل محرق"، حملتهم على ترك ديارهم وعلى زوال سلطانهم عنها، أي بعد النكبة التي حلت بالنعمان بن المنذر بعد زوال دولة المناذرة.
وبارق: اسم موضع على مقربة من الكوفة، وموضع آخر في السواد على مبعدة من الكوفة1. أما "سنداد" فمن مواضع إياد.
ومن الأماكن التي تنسب إلى ملوك الحيرة موضع يعرف باسم "الدوسر". قيل إنه من أبنية أحد أمراء الحيرة. وقد ملكه "جعبر بن مالك"، وهو من "بني قشير"، فنسب إليه، وعرف بـ "قلعة جعبر". ويظن أنه موضع "Dausara" الذي ذكره "اسطيفان البيزنطي". ويقع على الشاطئ الأيسر لنهر الفرات. ومن أسمائها عند اليونان "Dauses" و"دونه" "Daune"، و"Dabanae"2.
ومن المواضع القريبة من الحيرة موضع يعرف بـ "الخصوص"، تنسب إليه "الدنان"، ذكر في "صادية" "عدي بن زيد العبادي"3. وموضع "عمير اللصوص" وهو قرية من قرى الحيرة. ودير قرة، وهو بإزاء "دير الجماجم" منسوب إلى "قرة"، وهو رجل من لخم بناه على طرف البر أيام النعمان4.
وقد تأثر فن بناء القصور في الحيرة وما والاها من قصور "آل لخم" بالفن الساساني فصار في القصر رواق في الوسط هو مجلس الملك، وهو الصدر، وجناحان هما كمان يكونان طرفي الرواق، ميمنة وميسرة. وقد صار هذا الطراز من البناء سمة من سمات بناء قصور الحيرة، وكذلك تأثر تزويق جدران بيوت الحيرة ونقشها بطريقة الفن الساساني في تزيين جدران القصور والبيوت ونقشها. وقد أثرت طريقة أهل الحيرة هذه في فن البناء في مدينة "سامراء"5.
وفي كتاب "مروج الذهب" إشارة إلى قصر المتوكل المعروف بـ "الحيري".
__________
1 اللسان "11/ 18 وما بعدها"، "صادر"، البكري، معجم "1/ 221"، تاج العروس "6/ 285"، مراصد الاطلاع "1/ 151"، المعارف "647"، "ثروت عكاشة"، العقد الفريد "3/ 384"، مقاييس اللغة "1/ 227".
2 رحلة بنيامين، "ص 123".
3
أبلغ خليلي عبد هند فلا ... زلت قريبًا من سواد الخصوص
رسالة الغفران "186".
4 رسالة الغفران "187".
5 Die Araber, I, S. 607, Franz Altheim Und Futh Stiehl, Asain Und Rom, Tubingen, 1952, S. 49.(5/303)
والكمين، قال فيه: "وأحدث المتوكل في أيامه بناءً لم يكن الناس يعرفونه، وهو المعروف بالحيري والكمين والأروقة، وذلك أن بعض سمّاره حدثه في بعض الليالي: أن بعض ملوك الحيرة من النعمانية من بني نصر، أحدث بنيانًا في دار قراره، وهي الحيرة على صورة الحرب وهيأتها للهجته بها وميله نحوها لئلا يغيب عنه ذكرها في سائر أحواله، فكان الرواق مجلس الملك، وهو الصدر، والكمان ميمنة وميسرة، ويكون في البيتين اللذين هما الكمان من يقرب منه من خواصه وفي اليمين منهما خزانة الكسوة وفي الشمال ما احتيج إليه من الشراب، والرواق قد عم فضاؤه الصدر، والكمين والأبواب الثلاثة على الرواق، فسمي هذا البنيان إلى هذا الوقت بالحيري والكمين إضافة إلى الحيرة. واتبع الناس المتوكل في ذلك ائتمامًا بفعله، واشتهر إلى هذه الغاية"1. وفي هذا الوصف وصفه لذلك القصر الذي بناه أحد النعامنة. ولكن أي نعمان هو؟ هل هو النعمان صاحب الخورنق أو هو نعمان آخر بنى قصرًا آخر في عاصمته الحيرة.
وقد وجد بعض المؤرخين في هذا الوصف دلالة على احتمال كون القصر المعروف بـ "قصر المشتى"، هو من بناء أحد ملوك الحيرة، إذ وجد في خطة بنائه، وفي هذا الوصف شبهًا حمله على القول باحتمال كونه من أبنيتهم2.
__________
1 مروج "2/ 369". "القاهرة 1346هـ" "طبعة عبد الرحمن محمد"، "4/ 4 وما بعدها"، "دار الأندلس".
2 Die Araber, I, S, 595.(5/304)
قوائم ملوك الحيرة:
يصعب تصور حدوث خلاف بين الأخباريين في أسماء ملوك الحيرة وعددهم ومددهم، لدعواهم أنهم أخذوا علمهم بهم من كتب كانت مدونة محفوظة في الحيرة ومن موارد أخرى هي كتب الفرس، وقد ذكر بعضهم ملاحظات من مثل قوله: "ذكر هشام عن أبيه أنه لم يجد الحادث فيمن أحصاه كتاب أهل الحيرة من ملوك العرب، قال: وظني أنهم إنما تركوه؛ لأنه توثب على الملك بغير إذن ملوك الفرس؛ ولأنه كان بمعزل عن الحيرة التي كانت دار المملكة، ولم يعرف له مستقر، وإنما كان سيارة في أرض العرب"3. ومثل ملاحظة أخرى
__________
1 حمزة "ص71 وما بعدها".(5/304)
لابن الكلبي أشرت إليها سابقًا، هي دعواه أنه كان يستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة ومبالغ أعامر من عمل منهم لآل كسرى وتأريخ سنيهم ممن بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها1. فدعاوى مثل هذه لا تصور لنا وقوع اختلاف كبير بين الأخباريين في أسماء ملوك الحيرة: ومبالغ أعمارهم وتأريخ سنيهم وأمثال ذلك، مع إننا نجد بين الأخباريين اختلافًا غير يسير في أسماء الملوك وفي ترتيب توليهم الحكم ومقدار سنيهم وأمثال ذلك. والعجب أنهم يعتمدون على مورد أو موارد مشتركة قد يشيرون إليها، ثم إذا بهم يختلفون في أمور ما كان ينبغي وقوع اختلاف ما فيها لأخذها من مورد مشترك أو موارد مشتركة.
وعدة ملوك الحيرة قد يزيد على العشرين ملكًا بقليل عند بعض الأخباريين، وقد ينقص عن هذا العدد عند بعض آخر. وقد ذهب المسعودي إلى أن عدة ملوكهم ثلاثة وعشرون ملكًا من بني نصر وغيرهم من العرب والفرس، وأن مدة ملكهم ستمائة سنة واثنتان وعشرون سنة وثمانية أشهر2، وذهب حمزة إلى أن مدة ما حكمه ملوك الحيرة منذ عهد عمرو بن عدي الذي اتخذها منزلًا إلى أن وضعت الكوفة واتخذت منزلًا في الإسلام هي خمسمائة وبضع وثلاثون سنة3.
ونحن إذا فحصنا القوائم التي سجلها الأخباريون لملوك الحيرة، وفحصنا ما ذكروه من مدة حكم كل ملك إجمالًا، ثم قابلناه بما ذكروه بالنسبة إلى حكم ذلك مجزءًا على مدد حكمه بالقياس إلى من حكم في زمانه من ملوك الفرس، نجد اختلافًا بين ما ذكروه إجمالًا ثم ما ذكروه تفصيلًا، كذلك نجد مثل هذا الاختلاف بين المدة الإجمالية التي ذكروها لعمر مملكة الحيرة وبين المدد التي ذكروها لحكم كل ملك أيضًا على وجه الإجمال، مما يدل على أنهم لم ينتبهو إلى ملاحظة أمثال هذه الأمور الضرورية للمؤرخين.
ونجد قائمة "ابن الكلبي" لأسماء ملوك الحيرة ومدد حكمهم ومقدار حكم كل ملك بالنسبة إلى من عاصره من ملوك الفرس مدونة في تأريخ الطبري وفي تأريخ حمزة وفي تواريخ أخرى. ولاقتصار ابن الكلبي على ذكر مدد حكم ملوك
__________
1 الطبري "2/ 37".
2 مروج "2/ 28".
3 حمزة "ص66".(5/305)
الحيرة إجمالًا، ثم ذكرها تفصيلًا بما يقابل ذلك من سني حكم الأكاسرة دون الإشارة أبدًا إلى ما يقابل ذلك أيضًا بالقياس إلى القياصرة، نستطيع أن نقول إن ابن الكلبي لم يغرف من موارد تأريخية استندت إلى تواريخ الروم أو السريان، وإنما غرف من مناهل تأريخية فارسية أو معتمدة على الموارد الفارسية، ومن موارد أهل الحيرة وهي موارد يظهر أنها لم تكن تعتمد على أصول قديمة مدونة لتواريخ الحيرة؛ لأن أكثر ما رووه لا يختلف في طبيعته في الغالب عن النوع الذي ألفناه من أخبار الأخباريين.
وقد جزأ الطبري قائمة ابن الكلبي لملوك الحيرة، فوضعها قطعًا قطعًا في ثنايا حديثه عن ملوك الفرس وفي المناسبات، ولم يذكرها جملة واحدة في مكان واحد، أو في فصل مستقل خاص كما فعل غيره من المؤرخين، وتبلغ جملة ملوك الحيرة عشرين ملكًا، وقد ذكر مع كل ملك مقدار ما حكمه من سنين وأسماء من عاصرهم ذلك الملك من الأكاسرة.
أما هؤلاء الملوك فهم:
1- عمرو بن عدي، وقد عاش مئة وعشرين سنة وحكم على حد قول ابن الكلبي مئة سنة وثماني عشرة سنة من ذلك في زمن "أردوان" و"ملوك الطوائف" خمس وتسعون سنة وفي زمن ملوك فارس أي الساسانيين ثلاثًا وعشرين سنة. من ذلك في زمن أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وفي زمن سابور بن أردشير ثماني سنين وشهران.
2- امرؤ القيس البدء. وقد عاش مملكًا في عمله مئة سنة وأربع عشرة سنة من ذلك في زمن سابور بن أردشير ثلاثًا وعشرين سنة وشهرًا، وفي زمن هرمز بن سابور سنة وعشرة أيام، وفي زمن بهرام بن هرمز بن سابور ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وفي زمن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير ثماني عشرة سنة، ولكنك إذا جمعت هذه المدد وقابلت حاصل الجمع، وجدت فرقًا كبيرًا بين ما زعمه ابن الكلبي من أنه حكم 114 سنة، ثم ما زعمه هو نفسه من حكم هذا الملك مجزءًا بالنسبة إلى ملوك الفرس.
3- عمرو بن امرؤ القيس، وقد حكم على رواية ابن الكلبي أيضًا ثلاثين سنة. وعاصر من الملوك سابور وأردشير بن هرمز بن نرسي وبعض أيام سابور بن سابور.(5/306)
4- أوس بن قلام، وقد حكم خمس سنين في أيام سابور بن سابور وبعض أيام بهرام بن سابور ذي الأكتاف.
5- امرؤ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس، وقد حكم خمسًا وعشرين سنة. حكم في أيام بهرام بن سابور ذي الأكتاف، وهلك في عهد يزدجرد الأثيم.
6- النعمان بن امرئ القيس، وقد ملك تسعًا وعشرين سنة وأربعة أشهر، من ذلك في زمن يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام بن يزدجرد أربع عشرة سنة. وينقص ذلك أربعة أشهر عن العدد الإجمالي الذي ذكره ابن الكلبي.
7- المنذر بن النعمان، وقد ملك أربعًا وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور بن يزدجرد ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشرة سنة، وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة.
8- الأسود بن المنذر، وقد حكم عشرين سنة، من ذلك في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن يزدجرد أربع سنين، وفي زمن قباذ بن فيروز ست سنين.
9- المنذر بن المنذر بن النعمان وقد ملك سبع سنين.
10- النعمان بن الأسود بن المنذر، وكان ملكه سبع سنين.
11- أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي بن الذميل، وكان ملكة ثلاثة سنين.
12- المنذر بن امرئ القيس البدء، وكان ملكه تسعًا وأربعين سنة.
13- عمرو بن المنذر، وكان جميع ملكه ست عشرة سنة.
14- قابوس بن المنذر، وقد ملك أربع سنين: ثمانية أشهر منها في زمن أنو شروان، وثلاث سنين، وأربعة أشهر في زمن هرمز بن أنو شروان.
15- السهرب.
16- المنذر بن المنذر أبو النعمان، وقد ملك أربع سنين.
17- النعمان بن المنذر أبو قابوس، وقد ملك اثنتين وعشرين سنة، من ذلك في زمن هرمز بن أبو شروان سبع سنين وثمانية أشهر، وفي زمن كسري أبرويز بن هرمز أربع عشرة سنة وأربعة أشهر.(5/307)
18- إياس بن قبيصة الطائي ومعه النخير جان، وقد ملك تسع سنين في زمن كسرى بن هرمز.
19- آزاذبه بن بابيان بن مهر بنداذ الهمداني، وقد حكم سبع عشرة سنة: في زمن كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن شيرويه بن كسرى ثمانية أشهر، وفي زمن أردشير بن شيرويه سنة وسبعة أشهر وفي زمن بوران دخت بنت كسرى شهرًا.
20- المنذر بن النعمان بن المنذر، وقد ملك ثمانية أشهر.
هذه هي قائمة أسماء ملوك الحيرة كما رواه الطبري عن ابن الكلبي1.
__________
1 الطبري "2/ 213 وما بعدها"، "ذكر من كان على ثغر العرب من قبل ملوك الفرس بالحيرة بعد عمرو بن هند"، "دار المعارف".(5/308)
ملوك الحيرة بحسب رواية "ابن قتيبة":
1- ملك بن فهم.
2- جذيمة الأبرش.
3- عمرو بن عدي.
4- امرؤ القيس، ويقال: بل ملك الحارث بن عمرو بن عدي.
5- النعمان بن امرئ القيس.
6- المنذر بن امرئ القيس.
7- المنذر بن المنذر بن امرئ القيس.
8- عمرو بن هند.
9- النعمان بن المنذر.
10- إياس بن قبيصة1.
أما "محمد بن حبيب"، فقد رتب أسماء ملوك الحيرة على هذا الشكل: "عمرو بن عدي بن نصر", "امرؤ القيس البدء" وهو الأول، فابنه "عمرو" فـ "أوس بن قلام بن بطينا بن حمير بن لحيان"، و"امرؤ القيس" البدء،
__________
1 المعارف "ص645 وما بعدها".(5/308)
وهو "محرق الأول"، فـ "النعمان بن امرئ القيس البدء"، فابنه "المنذر"، فابنه "الأسود"، فأخوه "المنذر"، فابن أخيه "النعمان بن الأسود"، فـ "أبو يعفر بن علقمة بن مالك"، فـ "المنذر بن امرئ القيس"، فـ "عمرو بن المنذر بن امرئ القيس"، فـ "قابوس بن المنذر"، فـ "السهرب" الفارسي، فـ "المنذر بن المنذر"، فـ "أبو قابوس النعمان بن المنذر"، فـ "إياس بن قبيصة الطائي"، فـ "آزاذبه"، فـ "الغرور المنذر بن النعمان بن المنذر"، وهو المقتول بالبحرين يوم "جواتا"1.
__________
1 المحبر "ص357 وما بعدها".(5/309)
ملوك الحيرة بحسب رواية اليعقوبي:
1- عمرو بن عدي، وقد ملك خمسًا وخمسين سنة.
2- امرؤ القيس بن عمرو، وقد ملك خمسًا وثلاثين سنة.
3- الحارث بن عمرو، وقد ملك سبعًا وثمانين سنة.
4- عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي، وقد ملك أربعين سنة.
5- المنذر بن امرئ القيس.
6- النعمان.
7- المنذر بن النعمان، وقد ملك ثلاثين سنة.
8- عمرو بن المنذر.
9- عمرو بن المنذر الثاني.
10- قابوس بن المنذر.
11- المنذر بن المنذر، وقد ملك أربع سنين.
12- النعمان بن المنذر1.
__________
1 اليعقوبي "1/ 169 وما بعدها". "طبعة النجف".(5/309)
ملوك الحيرة بحسب رواية المسعودي:
1- عمرو بن عدي، وكان ملكه مئة سنة.(5/309)
2- امرؤ القيس بن عمرو بن عدي، وقد ملك ستين سنة.
3- عمرو بن امرئ القيس، وقد ملك خمسًا وعشرين سنة.
4- النعمان بن امرئ القيس، وقد حكم خمسًا وستين سنة.
5- المنذر بن النعمان، وكان حكمه خمسًا وثلاثين سنة.
6- المنذر بن الأسود بن النعمان بن المنذر. وقد ملك أربعًا وثلاثين سنة.
7- عمرو بن المنذر، وكان ملكه أربعًا وعشرين سنة.
8- قابوس بن المنذر، وقد ملك ثلاثين سنة.
9- النعمان بن المنذر، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة.
10- إياس بن قبيصة الطائي، وكان ملكه تسع سنين.
هذه هي أسماء ملوك الحيرة الذين ذكرهم المسعودي، وقد نص هو على أن عدة ملوك الحيرة ثلاث وعشرون ملكًا من بني نصير وغيرهم من العرب والفرس، ومدة ملكهم ستمائة سنة واثنتان وعشرون سنة وثمانية أشهر1. ونص في كتابه "التنبيه"، على أن "عدة من ملك الحيرة من بني نصر والعباد وغسان وتميم وكندة والفرس وغيرهم نيفًا وعشرين ملكًا، ملكوا خمس مئة سنة واثنتين وعشرين سنة وشهورًا"2.
__________
1 مروج "2/ 16 وما بعدها".
2 التنبيه "ص 158".(5/310)
قائمة حمزة لملوك الحيرة:
1- عمرو بن عدي، وكان جميع ما ملكه مئة وثماني عشرة سنة. ذلك في زمن ملوك الطوائف خمسة وتسعون سنة، وفي زمن ملوك فارس ثلاث وعشرون سنة، منها في أيام أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وفي أيام شابور بن أردشير ثماني سنين وشهران.
2- امرؤ القيس بن عمرو بن عدي، وقد ملك مئة وأربع عشرة سنة، منها في زمن شابور بن أردشير ثلاث وعشرين سنة، وفي زمن هرمز بن شابور سنة وعشرة أشهر، وفي زمن بهرام بن هرمز تسع سنين وثلاثة أشهر، وفي زمن(5/310)
بهرام بن بهرام ثلاثًا وعشرين سنة، وفي زمن بهرام بن بهرام بن بهرام ثلاث عشرة سنة وستة أشهر، وفي زمن نرسي بن بهرام بن بهرام تسع سنين، وفي زمن هرمز بن نرسي ثلاث عشرة سنة، وفي زمن شابور ذي الأكتاف عشرين سنة وخمسة أشهر.
3- عمرو بن امرئ القيس، وقد ملك ستين سنة، من ذلك في زمان شابور ذي الأكتاف إحدى وخمسين سنة وسبعة أشهر، وفي زمن أردشير أخي شابور خمس سنين، وفي زمن شابور بن شابور أربع سنين وخمسة أشهر.
4- أوس بن قلام، وقد ملك خمس سنين في زمن أردشير أخي شابور.
5- امرؤ القيس، وقد حكم إحدى وعشرين سنة وثلاثة أشهر، من ذلك في زمن شابور بن شابور خمس سنين، وفي زمن بهرام بن شابور إحدى عشرة سنة. وفي زمن يزدجرد بن شابور خمس سنين وثلاثة أشهر.
6- النعمان بن امرئ القيس، وكانت مدة ملكه ثلاثين سنة، من ذلك في زمن يزدجرد بن بهرام بن شابور خمس عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة وأربعة أشهر.
7- المنذر بن النعمان، وقد ملك أربعًا وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور بن يزدجرد ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشرة سنة وثلاثة أشهر، وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة.
8- الأسود بن المنذر، وقد ملك عشرين سنة، من ذلك في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن فيروز أربع سنين، وفي زمن قباد بن فيروز ست سنين.
9- المنذر بن المنذر، وقد ملك سبع سنين في زمن قباد بن فيروز.
10- النعمان بن الأسود، وكان ملكه أربع سنين في زمن قباد.
11- أبو يعفر بن علقمة الذميلي: وكانت مدة حكمه ثلاث سنين في زمن قباد بن فيروز.
12- امرؤ القيس بن النعمان، وكان ملكه سبع سنين في زمن قباد بن فيروز.
13- المنذر بن امرئ القيس، وقد ملك اثنتين وثلاثين سنة، من ذلك في زمن قباد بن فيروز ست سنين، وفي زمن كسرى أنو شروان بن قباد ستًّا وعشرين سنة.(5/311)
14- الحارث بن عمرو بن حجر الكندي.
15- عمرو بن المنذر، وكان ملكه ست عشرة سنة.
16- قابوس بن المنذر، وكان حكمه مدة أربع سنين في زمن أنو شروان.
17- فشهرت، وقد حكم سنة في زمن أنو شروان.
18- المنذر بن المنذر، وقد ملك أربع سنين، منها ثمانية أشهر في زمن أنو شروان، وثلاث سنين وأربعة أشهر في زمن هرمز بن كسرى أنو شروان.
19- النعمان بن المنذر، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة، من ذلك سبع سنين وثمانية أشهر في زمن هرمز بن أنو شروان، وأربع عشرة سنة وأربعة أشهر في زمن كسرى بن هرمز.
20- إياس بن قبيصة ومعه "البحرجان" "النخر جان"، وكان ملكه مدة سبع سنين في زمن أبرويز.
21- زاديه بن ماهبيان بن مهرا بنداد الهمداني، وقد ملك سبع عشرة سنة، من ذلك أربع عشرة سنة وثمانية أشهر في زمن أبرويز، وثمانية أشهر في زمن شيرويه بن أبرويز، وسنة وسبعة أشهر في زمن أردشير بن شيرويه، وشهرًا واحدًا في زمن بوارن بنت أبرويز.
22- المنذر بن النعمان بن المنذر، وكان ملكه وملك غيره إلى أن ورد خالد بن الوليد الحيرة ثمانية أشهر1.
وقد ذكر حمزة أن جميع ملوك آل نصر ومن استخلف من العباد والفرس بالحيرة خمسة وعشرون ملكًا حكموا في مدة ستمائة وثلاث وعشرين سنة وأحد عشر شهرًا. لكنه ذكر في مكان آخر أن الحيرة عمرت "خمسمائة وبضعًا وثلاثين سنة إلى أن وضعت الكوفة ونزلها عرب الإسلام2".
وقد استند حمزة في تأليف قائمته هذه على رواية ابن الكلبي في تأريخ الطبري، وعلى رواية محمد بن حبيب وعلى ابن قتيبة، ولذلك خالفت قائمته هذه بعض المخالفة قائمة الطبري في الأسماء وفي السنين.
__________
1 حمزة "ص65 وما بعدها"، "75".
2 حمزة "ص65".(5/312)
ملوك الحيرة بحسب رواية الخوارزمي:
وأما "الخوارزمي"، فقد رتب أسماء ملوك الحيرة على هذا الشكل:
1- مالك بن فهم.
2- ثم ابنه جذيمة الأبرش.
3- ثم عمرو بن عدي.
4- ثم امرؤ القيس البدء.
5- ثم ابنه عمرو، وهو ابن هند.
6- ثم أوس بن قلام.
7- ثم امرؤ القيس البدن، وهو محرق الأول.
8- ثم ابنه النعمان الذي بنى الخورنق والسدير. وفارس حليمة، وهو السائح والأعور.
9- ثم ابنه المنذر.
10- ثم ابنه الأسود.
11- ثم المنذر بن المنذر.
12- ثم النعمان بن المنذر.
13- ثم النعمان بن الأسود.
14- ثم أبو يعفر بن علقمة.
15- ثم امرؤ القيس بن النعمان. وهو صاحب سنمار.
16- ثم ابنه المنذر. وهو ابن ماء السماء.
17- ثم الحارث بن حجر الكندي، آكل المرار.
18- ثم المنذر بن ماء السماء.
19- ثم ابنه عمرو بن هند، وهو مضرط الحجارة ومحرق الثاني.
20- ثم ابنه قابوس بن المنذر.
21- ثم فيسهرب الفارسي في زمن أنو شروان.
22- ثم المنذر بن المنذر، وأخوه عمرو بن هند.(5/313)