هذا ما وصل إليه علم الأخباريين عن العرب في الهلال الخصيب، وهو علم لا يستند بالطبع إلى نصوص عربية جاهلية، وإنما أخذ من روايات شفوية، وأخبار وردت على ألسنة الأخباريين ومن روايات أهل الكتاب.
ومن الخطأ بالطبع أن نتصور أن وجود العرب في بادية الشام وشاطئ الفرات وأطراف دمشق يرتقي إلى أيام الآشوريين أو قبل ذلك بقليل؛ فوجود العرب في هذه الأرضين هو أقدم من هذا العهد بكثير. وإذا كنا قد أشرنا إلى وجودهم في المواضع المذكورة في هذا العهد؛ فلأن الكتابات الآشورية هي أقدم كتابة وصلت إلينا ووردت فيها إشارة إلى العرب, وإلا فإن العرب هم في هذه الأرضين قبل هذا العهد بكثير. في عهد لا نستطيع بالطبع تعيين ابتدائه؛ لأن هذه الأرضين هي امتداد لأرض جزيرة العرب، والتنقل بينها وبين جزيرة العرب هو تنقل حر ليس له حاجز ولا حدود، فلا نستطيع إذن أن نقول: متى سكن العرب بادية الشام؟.
وقد لاقت القبائل العربية مقاومة شديدة وعنتًا شديدًا من الحكومات التي حكمت العراق والحكومات التي حكمت بلاد الشام، فقد وقفت تلك الحكومات منذ الدهر الأول لها بالمرصاد، وأبت أن تسمح لها بالتوغل في داخل أرضها التي تحكمها حكما فعليا؛ ذلك لأنها كانت تهاب الأعراب وتخشى من البداوة، إذ لم يكن من السهل على البدو تغيير سننهم واقتباس سنن الحضر، ثم إنهم كانوا يغيرون على الحضر وعلى الحدود لأخذ ما يجدونه أمامهم. وقد ترك غزو الأعراب للحدود أثرًا سيئًا راعبًا في نفوس الحكام جعلهم لا يتسامحون في دخول البدو إلى أرض الحضارة، ما دامت للحكام قوة، ولم يتساهلوا معهم إلا بالوصول إلى حدود الحضارة ومشارفها؛ وذلك لأنهم نصبوهم حرسا لهم، بمنع القادمين الجدد من البادية من الدنو من أرض الحضارة، ويدافع عن الحدود ساعة الخطر، ويهاجم مع القوات النظامية للحكومة الحاكمة أرض العدو في الحروب، وفي أيام السلم لإلقاء الرعب والفزع في نفس العدو وإكراهه على تنفيذ مطلب يراد منه.
وقد اضطرت الحكومات إلى دفع أكل وطعم وهبات وعطايا سخية لسادات القبائل الحُرَّاس في مقابل قيامهم بحراسة الحدود. إذ لم يكن في استطاعة تلك الحكومات القيام بها بنفسها, ولا سيما في تعقب الأعراب وملاحقتهم في البوادي وغزو أعراب العدو، فصارت لسادات القبائل جعالات سنوية وهدايا وألطاف(2/200)
وبعض امتيازات لاسترضائهم وإسكاتهم ما داموا أقوياء أعزاء، وجعلت معهم في بعض الأحيان حاميات من قوى تلك الحكومات عليها سياسيون وقادة لمراقبة أعمال سادات القبائل والحد من غلوائهم، ولمساعدتهم عند ظهور سيد آخر قوي منافس في الميدان يريد مهاجمة الحدود أو انتزاع الرئاسة من سيد القبيلة صاحب الامتيازات.
والحكومات هم عادة إلى جانب سادات القبائل ما دام السادات أقوياء أعزاء. فإذا بدا الوهن عليهم، وتبين أن الأمر قد أفلت من أيديهم، وأن ساداتٍ جددًا أصحاب كفاءات وقُدَر ورؤساء أقوى من رؤساء القبائل القديمة قد برزوا في الميدان، وقد أخذوا على أيدي السادات القدامى، وأن المصلحة تقتضي الآن التحول من القديم إلى الجديد؛ تحولت تلك الحكومات إلى السادات الجدد، واتفقت معهم على شروط مرضية، للقيام بأداء المصالح والواجبات المذكورة حتى يظهر منافس جديد، يتطاول على القديم فيأخذ مكانه. وهذا هو سر تعدد حكم سادات القبائل, وانتزاع قبيلة الحكم من قبيلة أخرى، وتغير حكم "آل فلان" و"آل فلان"، وحلول حكم قبلي محل حكم قبلي سابق.
وسادات القبائل هم على هذه السنة أيضًا، فكانوا إذا وجدوا ضعفًا في الحكومة المهيمنة على العراق أو على بلاد الشام وأدركوا أنها في وضع محرج، تقدموا إليها بمطالب جديدة وبشروط جديدة، تكون متناسبة مع حرج الموقف. فإذا لم تجب قام سيد القبيلة بتهديد مصالح الحكومة وبغزو أرضها أحيانا، وقد يفاوض العدو للاتفاق معه عليها، وقد يثور ويخرج عن طاعتها، ويظل هذا شأنه حتى تجاب مطالبه، أو يتفق معها على شروط يرضى عنها. وينطبق هذا الوضع على الأعراب الذين يجاورون الحضر، فعلى الحضر دفع جعالة إلى سيد الأعراب في مقابل حمايتهم لهم ومنع القبائل الأخرى المجاورة من الإغارة على أولئك الحضر, ويتقيد هؤلاء السادة بعهودهم مع الحضر ما دامت في مصالحهم. أما إذا رأوا أن الحضر في وضع حرج وأن الحكومة التي ترعاهم، أو حكومة المدينة ضعيفة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، فإن الأعراب يفرضون على الحضر مطالب جديدة، ويأخذون منهم امتيازات إضافية مثل حق الارتواء من الآبار ومن مجاري الماء، وحق رعي ماشيتهم في زرع الحضر، إلى غير ذلك من شروط يضطر الحضر إلى الموافقة عليها للمحافظة على حياتهم وأموالهم، وإلا تعرضوا للغزو ولكوارث أخرى قد تنزل بهم أضرارًا تزيد على ما يطلبه(2/201)
الأعراب منهم بكثير.
وللسيطرة على حركات الأعراب ولضبطهم، أقامت حكومات العراق وبلاد الشام لها "مسالح"، أي: مواضع حصينة تعسكر فيها قوات نظامية في البادية يترأسها ضباط، وضعت فيها كل ما يحتاج إليه من سلاح ومؤن وذخائر وقوات كافية للقيام بمثل هذه المهمات الخطيرة في البوادي. وقد حفرت لها آبارًا للارتواء منها، ونصب ضباط هذه الحصون أنفسهم حكامًا يتحكمون في البوادي التي يشرفون عليها؛ يفضون مشكلات القبائل، ويحافظون على الأمن، ويراقبون تحركات الأعراب وتنقلاتهم؛ ليكونوا على حذر منهم ومن غزواتهم المفاجئة للحدود, وقد بقيت هذه "المسالح" إلى أيام فتوح المسلمين للعراق ولبلاد الشام. وكان من واجبات هذه الحصون توزيع الأرزاق على الأعراب أيام الشدة والضيق، والتقرب إلى سادات القبائل، وعقد صداقات معهم؛ ليستفاد منهم في كبح جماح أتباعهم، ويحولوا دون تحرشهم بهم، ولئلا يقوموا بمهاجمة الحدود.
وكان أقصى مكان سمح للعرب بالوصول إليه هو الشاطئ الغربي لنهر الفرات، وحدود الحضارة لبلاد الشام وأعالي البادية، أي: قصر البادية الأعلى. أما ما وراء ذلك، فكان من الصعب على العرب الوصول إليه؛ لتشدد الحكومة في منعهم من الدنو منه، وتصلب الحضر تجاههم, ولم يدخله من العرب إلا أفراد أو جماعات تنكرت للبادية ولسننها، وكفرت بسنة الغزو، ورأت في الزراعة وفي احتراف الحرف شرفًا لا يقل عن شرف رعي الإبل والتنقل بها من مكان إلى مكان. أما الذين وقفوا عند هذه الحدود، وهم السواد الغالب، فقد بقوا على سنن البادية، مخلصين لها مؤمنين بحق الغزو والقوة، إلا من اشتم رائحة الحضارة وتنفس قليلا من ريح الحضارة، وجاور الفرات ومشارف الشام، حيث تلوح معالم الحضر، فقد طور نفسه بعض التطور، واستقر في الأرض بعض الشيء وصار وسطًا بين الحضارة والبداوة، لا هو حضري كل الحضرية، ولا هو أعرابي تام الأعرابية، وإنما وسط بين بين، ومنزلة بين المنزلتين.
ولم يكن من الممكن للأعرابي أن يدرك قيمة الزرع والغرس وحياة الاستقرار؛ لأن الماء وهو جوهر الزرع غير متوافر لديه، ولأن الأمن غير موجود عنده، فهو متى زرع واستقر وكون مجتمعا حضريا صغيرا، هاجمه من هم على شاكلته من أهل البادية وسلبوه كل ما لديه. ومجتمعه مجتمع صغير لا يستطيع الاعتماد(2/202)
على نفسه والركون إلى قوته في صد عادية الغزاة؛ لذلك حالت هذه الظروف دون السكنى والزرع والاستقرار, إلا في الأماكن التي وجدت فيها مياه، وتوافرت لديها القوة، كما لم يكن من السهل على سادات القبائل إكراه أتباعهم على الاستيطان والسكنى في بيوت من مدر؛ ذلك لأنهم هم أنفسهم أبناء بادية، وآراءهم آراء أعرابية ولا يفكر في هذه الشئون إلا من كان حضريًّا مستقرًا ومن ولد ونشأ وتثقف في أرض الحضارة, ثم إن تنفيذها يستدعي وجود مال وأمن وقوة رادعة تمنع الأعراب من إفساد ما يقوم به الحضري من عمل مجهد. ولم تكن هذه متوافرة عند سادات القبائل، ولم يكن في وسع سيد القبيلة الذي يجب أن يكون محترسا يقظا حتى لا يفاجئه منافس طامع من أهل البادية فيأخذ مكانه، أن يأمر قومه بالاستيطان، ووضعه على هذه الحالة من القلق وعدم الاستقرار؛ لذلك قضت طبيعة هذه البيئة على غالبية الأعراب التي جاءت إلى هذه الأماكن بأن تعيش عيشة أعرابية أو عيشة رعي، تعيش على ماشيتها بدلًا من الاستقرار استقرارًا دائمًا والاشتغال بالزراعة والاتجار بالزرع.
لقد كانت القبائل العربية قد توغلت في "طور سيناء" منذ القدم, ولا بد أن تكون هذه القبائل قد نزلت مصر أيضًا، فمن يصل إلى "طور سيناء" يكون قد طرق أبواب مصر. ذهبت تلك القبائل إلى مصر تحمل إليها ما عندها من سلع، وفي جملتها البخور والمر والحاصلات الأخرى التي عرف العرب بالاتجار بها، غير أننا لا نملك ويا للأسف نصوصًا تأريخية نستطيع أن نعتمد عليها في إثبات ذلك الاتصال. نعم، عُثِرَ على صور ومدونات مصرية للسلالات الملكية الأولى، تشير إلى البدو، والبدوي هو "عمو" في اللغة المصرية1, غير أننا لا نستطيع أن نؤكد أن أولئك البدو، هم أعراب من أعراب طور سيناء، أو من بدو مصر, أو من أعراب جزيرة العرب.
والذين يتحدثون اليوم عن صلات السلالات الملكية المصرية القديمة بالعرب وببلاد العرب، إنما يتحدثون عن حدس وتخمين، لا عن وثائق ونصوص أُشِيرَ فيها صراحة إلى العرب وإلى بلاد العرب، وإن كنا لا نشك كما قلنا بوجوب وجود صلات قديمة جدا ربطت بين مصر وبلاد العرب، لا سيما أن مصر متصلة
__________
1 breasted, ancient records of Egypt, vol. I, 450, 483, o'leary, Arabia, p. 28, naval, p. 214(2/203)
فعلًا بجزيرة العرب من ناحية البر عن طريق "طور سيناء"، ثم إنها على الساحل المقابل للجزيرة، فلا بد أن يكون هناك اتصال بري وبحري قديم بين العرب والمصريين. ولا يستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار قد تتحدث عن هذا الاتصال.
ويظهر من أقوال "هيرودوتس" و"بلينيوس" وغيرهما من "الكلاسيكيين"، أن الأقسام الشرقية من "مصر" ولا سيما المناطق المتصلة بـ"طور سيناء" كانت مأهولة بقبائل عربية, وقد ذكرت أسماء عدد منها في كتب هؤلاء1. ولم تستقر هذه القبائل في أيام هؤلاء "الكلاسيكيين"، بل سكنت قبلهم بأمد طويل كما يظهر ذلك من كتبهم. وقد أطلق "الكلاسيكيون" على البحر الأحمر اسم "الخليج العربي" "Arabici Sinus" "Sinus Arabicus"، وفي هذه التسمية معنى يشير إلى نفوذ العرب وهيمنتهم على هذا البحر2.
ومعارفنا بصلات العرب بالحكومات العراقية القديمة، مثل حكومة السومريين والأكديين "الأكديين"، لا تزيد على معارفنا المذكورة بصلات المصريين بالعرب، فهي حتى الآن قليلة ضئيلة، ولكن ضآلة ما لدينا من معلومات لا يمكن أن تكون سببًا في الحكم بعدم وجود صلات وثيقة بين سكان الخليج وسكان العراق ولا سيما القسم الجنوبي منه في أيام السومريين, بل وقبل أيامهم أيضًا، فالعراق هو امتداد طبيعي لتربة ساحل الخليج، وهو جزء طبيعي من جزيرة العرب. وهو من ثَمَّ لا يمكن أن يكون بمعزل عن أرض الساحل وعن بقية أرض جزيرة العرب.
وقد يكون لاسم أرض "دلمون"، وهي أرض السلامة والنظافة، والأرض التي لا تعرف الموت ولا الأمراض والأحزان، والتي لا ينعب فيها غراب، ولا ترفع الطيور أصواتها بعضها فوق بعض، والتي لا تفترس أسودها، ولا يأكل ذئب فيها حملًا، الجنة في الأسطورة السومرية، علاقة بـ"دلمون" التي هي جزيرة البحرين في لغة قدماء أهل العراق. وقد حول الخيال السومري، أو خيال من عاش قبلهم على تلك الأرض إلى أرض مسالمة مثالية لا قتال فيها ولا موت
__________
1 herodotus, vol. I, p. 118, 129, 190, pliny, natr. Hist. vol. ii. Bk. Vi, 165 p. 463ff.
2 forster, ii, 154(2/204)
ولا حزن، استمده من تلك الجزيرة المسالمة الواقعة في الخليج1.
ويحدثنا نص كُتب عن فتوحات "لوكال، زكه، سي" "Lugal – Zagge – Si" "2400-2371 ق. م."، وهو من رجال السلالة الثالثة من ملوك "الوركاء" "Uruk"، أن فتوحاته كانت قد امتدت من "البحر الأسفل" "الخليج العربي" إلى "البحر الأعلى" "Upper Sea"، أي: البحر المتوسط, ومعنى هذا: أن حكمه كان قد شمل الخليج العربي2.
وفي أخبار "سرجون" الأكدي، المعروف بـ"شروكين" "Sharru – Kin" "3371-2361 ق. م"، أي: العادل، أن فتوحاته بلغت "البحر الجنوبي" "البحر التحتاني" "البحر الأسفل"، أي الخليج العربي، وأنه استولى على مواضع منه3. و"سرجون" هو أقدم ملك أكدي، يقص علينا خبر وصول الأكديين إلى تلك الجهات.
ويلاحظ أن قدماء العراقيين كانوا يطلقون على البحر المتوسط "البحر الأعلى"، وعلى الخليج العربي "البحر الجنوبي" "4The Lower Sea. وذهب بعض العلماء إلى أن المراد من "البحر الأعلى" بحيرة "وان"5.
وقد أرسل الملك الأكدي "منشتوسو" "Manishtusu" "2306-2292 ق. م" حملة عسكرية بحرية، يظهر أنها ركبت السفن من الجزء الجنوبي الغربي من إيران من "شريكم" "Shirikum"، فعبرت الخليج "البحر الأسفل" إلى الساحل المقابل، أي: الساحل الشرقي لجزيرة العرب. ولما وصلت سفنه الساحل، تجمع ملوك "المدن"، وبلغ عددهم "32" ملكًا، وقرروا محاربة جنوده، غير أن جنوده انتصروا -كما يقول ملك أكد- على جنود ملوك المدن، واندحر أهل الساحل، واضطروا إلى الاستسلام والخضوع، وسلمت تلك المدن له, وبذلك فرض سلطان "أكد" عليها إلى موضع "مناجم الفضة". وقد استولى على الجبال جنوب "البحر الأسفل"، وأخذ ما وجد
__________
1 ancient iraq, P.94
2 ancient iraq, P. 122
3 acienr iraq, P. 129
4 W. F. Leemans, trade in the old babylonian period, P. 4, leiden, 1960
5 reallexikon der assyriologie, I, funfte liefrung, s. 374(2/205)
فيها من أحجار، فصنع منها تماثيل قدمها نذرًا للإله "إنليل" "1Enlil.
وأغلب الظن أن مراد الملك من الجبال أسفل "البحر الأسفل" هي أرض عمان، وهي أرض متصلة من البحر بالبحرين وبالعراق من البر والبحر، كما أن تحرك السفن من جنوب غربي إيران، أي: من الأرض العربية المسماة بـ"عربستان" في الزمن الحاضر إلى الساحل المقابل، أي: ساحل جزيرة العرب الشرقي، يحمل الذهن إلى أن الجبال التي ذكرها الملك هي جبال عمان، وإذا صح هذا الرأي يكون هذا الملك الأكدي قد وصل في فتوحاته إلى أرض عمان.
وجاء في كتابة مدونة على تمثال الملك "نرام سن" "نارام سن" "نارام سين"2 "2291-2255 ق. م"3 أنه أخضع موضع "مكان" "مجان" "مفان" "Magan"، وتغلب على ملكه "مانو" "مانيوم" "Manium" "مانودانو" "Mannu – Dannu"، وأسره4.
ويظهر أن أهل "مجان" "مكان", وهم قوم لم يشر إلى اسمهم "منشتوسو" والد "نارام سن" "Naram – Sin"، وهم أهل عمان في رأي أكثر العلماء -كما سأتحدث عن ذلك بعد قليل- كانوا قد ثاروا على العراقيين الأكديين الذين أخضعهم لحكمه والد "نارام سن"، وذلك في أيامه أو في أواخر أيام والده، فأرسل لذلك "نارام سن" حملة تأديبية قضت على ثورتهم وأعادتهم إلى حكم الأكاديين، وعاد بذلك ساحل الخليج العربي من عمان إلى أعلاه، فصار جزءًا من مملكة أكد.
وقد ورد اسم "مكان" "مجان" في نصوص سومرية وأكادية، نشر
__________
1 G.A. barton, the Royal inscriptions of sumer and akkad, new haven, 1924, P. ff. ancient iraq, P. 131
2 نحو "2300 ق. م" حتى "ص43" الترجمة العربية، و"2400 ق." في الطبعة الثالثة باللغة الإنجليزية "ص36"، "2730 ق. م" في:
Rostovtzelf, a history of the ancient world, vol. I, oxford 1930, P. 397, ancient iraq, P. 132
3 L. W. King, studies in eastern history, ii, "charonicles concerning early babylonian kings," vol. I, P. 8, 51, 52, vol. ii, P. 10, 38, 39
4 king, I, P. 51, the cambridge ancient history, vol. I, P. 415, cambirdge, 1923, bruno meissner, koenige babyloniens und assyriens, s. 31, king, vol. ii, P. 10, 38, 39.(2/206)
بعضها العلماء، منها نص للملك "شلجي" أو "دلجي" أو "ونجي" الملقب بـ" ملك سومر وأكاد" أفاد وجود صناعة بناء السفن في هذا المكان1. والواقع أن أهل الساحل الشرقي لجزيرة العرب عرفوا ببناء السفن منذ القديم، وقد ركبوا البحار وتاجروا، وتوسطوا في نقل التجارة من مختلف السواحل، ولا تزال صناعة بناء السفن الشراعية معروفة حتى اليوم مع قلة ربحها, وعدم تمكنها من منافسة البواخر، إلا أنها على كل حال مورد رزق لأصحابها لاقتناعهم بالقوت القليل.
ويدل عثور المنقبين على أختام ومواد أخرى من عمل الهند، في "أور" وفي "كيش" و"البحرين" ومواضع أخرى من الساحل العربي الشرقي, على أن الاتصال التجاري بالبحر كان معروفًا في الألف الثالثة قبل الميلاد، وأن حركة الاتصال هذه كانت مستمرة عامرة، وأن بعض مواضع الخليج مثل "البحرين" كانت من مراسي السفن الشهيرة في تلك الأيام، تقصدها السفن القادمة من العراق في طريقها إلى الهند، والسفن القادمة من الهند في طريقها إلى العراق2.
وقد دُعيت "مكان" "مجان" في نصوص أخرى "Matu – Ma – Gan – Na" أي: "أرض مجان"3. ويظهر أن الملك "مانيوم" "مانئوم" "مانوم" هو الملك "منودنو" "Mannu – Dannu" نفسه الذي ورد في نص آخر4. وقد كتبت على التمثال لفظة "بلو" "Belu" بمعنى "سيد"، أي سيد "مجان"، وهو "مانيوم", وقد جيء بحجر التمثال من "مجان". وتعني كلمة "دنو" "المقتدر"؛ ولذلك يرى بعض الباحثين أنها صفة ألحقت بالاسم، فهي لقبه، وليست جزءًا من الاسم5.
__________
1 S. H Langon, the cambirdge ancient history, vol. I, P. 415, f. thureau- dangin, die sumerischen und akkadischen koenigsinschriftten, bd. I, s. 66, 72, 76, 78, 104, 106, 134, 164, 166, H. R Hall, the ancient history of the near east london, 1947, P. 190, ancient iraq, P. 142
2 C. J. gadd, seals of aniecnt andian style found at Ur, pba, xviii, P. 191-210, sir m. wheeler, the
3 king, ii, P. 38, 39
4 king, I, P. 8, 51, 52, de morgan, délégation en pers, mémoires VI, P. 2 1905
5 King, I, P. 52, cambridge ancient history, I, P. 415(2/207)
وفي أنباء "جوديا" غوديا" "Godea"، وهو "باتيسي" مدينة "لكش"1، أنه جلب الحجر من "مجان"؛ وذلك لصنع التماثيل، كما جلب الخشب منه ومن "دلمون"2, وذكر مع موضع "مجان" اسم موضع آخر هو "ملوخا", وقد ذكر "جوديا" "غوديا" أنه جلب كميات كبيرة من "حجر أحمر" من "ملوخا"3. وقد أخذ العلماء في تقصِّي هذين المكانين اللذين أخذ منهما هذا الـ"باتيسي" أحجاره وأخشابه، وكذلك أسماء مواضع أخرى ذكرت مع المكانين4.
وقد بحث "ونكلر" عن موضع "مجان"، ويقع على رأيه في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب5, وقد نبه على اقتران اسم" ملوخا" باسم "مجان" في الغالب، ويرى أنهما اصطلاحان يقصد بهما في البابلية القديمة بلاد العرب، فيراد من "مجان" القسم الشرقي من الجزيرة من أرض "بابل" إلى الجنوب, وأما "ملوخا، فيراد بها القسم الشرقي من جزيرة العرب. ويرى أيضا أن ما وفع في جنوب المنطقتين عرف باسم "كوش" أي: الحبشة، وأن البابليين لم يكونوا يتصورون بلاد العرب شبه جزيرة تحيط بها البحار من الشرق والجنوب والغرب، بل تصوروها منطقة واسعة تمتد من الحبشة إلى الهند، وأن "كوش" تقابل مصر التي هي القسم الشمالي من جزيرة العرب. فما ذكر عن "كوش" ومصر في التوراة لا يقصد به الحبشة ومصر، بل يقصد به جزيرة العرب وشمالها. وقد جاء على ذلك بأمثلة من العهد العتيق، ذكر أن من الصعب أن يكون المراد بها مصر والحبشة.
وقد ألف "ونكلر" رسالة سماها "مصري وملوخا ومعين" بيّن فيها رأيه في أن "مصري" هي أرض عربية شمالية، وأن مصر المذكورة في التوراة
__________
1 "باتيسي" في السومرية في مقابل كلمة "إشاكو" "Ischakku", و"الكرب" أي: الحاكم الكاهن، الذي يجمع بين السلطتين الزمنية والدينية.
2 schrader, die keilschriften und das alte testament, s. 15. ff
وسيكون رمزه: KLT
3 ancient iraq, P. 141
4 "مجان وملوخا، جمعتا الخشب من جبالهما.... وجوديا جلب الخشب منهما إلى مدينة جرسو"، ancient iraq, P. 141
5 KLT, s. 15(2/208)
هي في بلاد العرب، لا في إفريقيا. وقد أثارت نظرية "ونكلر" هذه جدلًا بين العلماء وقُوبلت بنقد شديد؛ لأنها تعارض ظاهرة نصوص التوراة1.
وذهب آخرون إلى أن "مجان" هي في المنطقة المسماة "Gerrha" عند "الكلاسيكيين"، وهي الأحساء، وأما "ملوخا" فتمتد من المنطقة الواقعة إلى الجنوب من البحرين إلى عمان2. وقد اشتهرت "ملوخا" بوجود الذهب فيها3, ومنها حصل "جوديا" "Gudea" "غوديا" على الذهب4، كما اشتهرت بالخشب الثمين المسمى5 "Uschu". وأما "هومل"، فيرى أن "مجان" في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب، وأن "ملوخا" تقع في وسط جزيرة العرب، أو في القسم الشمالي الغربي منها.
وذهب "جيسمن" إلى احتمال وقوع "مجان" على مقربة من ساحل الخليج، في موضع في الرمال جنوب "يبرين"، فيه بئر جاهلية، قال: إن اسمها قريب من "مجان" "Magan"، ويعرف هذا المكان باسم "مجيمنة"6.
وقد عارض "فلبي" رأي "جيسمن" هذا؛ لأن الموضع المذكور يقع في منطقة صحراوية بعيدة عن ساحل البحر، ولا توجد فيه آثار عاديات تشعر أنه كان من المواضع الجاهلية العتيقة، ولا صخور من نوع "الديوريت" الذي صنع منه تمثال "نرام، سين"، ولا أي نوع آخر من الصخور، يبعث على الظن أنه المكان الذي نقلت منه الحجارة إلى العراق. وقد رأى "فلبي" أن موضع "مجن" الواقع على مقربة من الساحل عند مصب وادي "شهبة"، هو أقرب إلى "مجان" من الموضع الذي اختاره "جيسمن"؛ ولهذا ظن أنه هو المكان المقصود7.
ويرى "موسل" أن من الصعب جدًّا الاتفاق على تعيين موضعي "مجان"
__________
1 Huge winckler musri, meluhha, main, mitteilungen der vorderasiatischen gesellschaft, 1898, I, berlin, "hefte
2 o'qleary, P. 47
3 o'leary, P. 49
4 thureau-dangin, die sumerischen und akkadien koniginschriften, leipzig, 1907, s, 70
5 Fr. Hommel, grundriss, I, s. 13, arnorld t. wilson, the persian gulf, oxford, 1928, P. 28
6 philby, the empty quarter, P. 119. ff
7 major cheesman, in unknown arabia, P. 266(2/209)
و"ملوخا"؛ لأن مدلولي الاسمين قد تغيرا تغيرًا مرارًا. فالذي يفهم من نصوص الألف الثالثة قبل الميلاد، أنهما يقعان في جزيرة العرب على سواحل الخليج وعلى سواحل المحيط الهندي. فـ"مجان" في نص "نرام، سين" أرض تحدُّ إقليم "بابل"، أو هي لا تبعد عنه كثيرًا1. وهي كذلك في كتابة "جودية" "جوديا" "غوديا", وفي بعض النصوص التي عثر عليها في "أور" حيث أشير إلى طريق قوافل يوصل من "السوس "إلى "مجان"2. وهذا مما يبعث على الظن أن أرض "مجان" و"ملوخا" المذكورتين في نصوص الألف الثالثة قبل الميلاد تقع على الخليج، في الأرضين التي سكن فيها الـ"جرهائيون" "3Gerrhaens". وقد كان سكان هذه السواحل يتاجرون منذ القديم مع الهند وإيران والسواحل العربية الجنوبية، ومع إفريقيا أيضا. ويرى احتمال شمول اسم "ملوخا" منطقة واسعة تشمل ما يسمى "كوش" في التوراة، والسواحل العربية الجنوبية التي كانت تعرف بـ"كوش" كذلك4.
ويرى "موسل" أن مدلول "مجان" قد توسع في الألف الأول قبل الميلاد فشمل منطقة كبيرة شملت مصر أيضا، فعنى في النصوص الآشورية التي ترجع إلى الألف الأول قبل الميلاد بـ"مجان" طور سيناء والأقسام المتاخمة لها من مصر، وإلى هذا الرأي ذهب "مايسنر" كذلك5, أما "ملوخا"، فقد قصد بها الحبشة والسودان. وقد توسع مدلول "حويلة" المذكور في التوراة أيضا، فشمل المنطقة التي تقع غرب "بابل" إلى طور سيناء والسواحل الشرقية الواقعة على خليج العقبة؛ ولهذا ظن بعض العلماء أنها صارت تعني "ملوخا"6.
وقد ذهب "كيتاني" إلى أن "مجان" هي "مدين"؛ لأن أرض "مدين" كانت في حوالي خمسة آلاف سنة قبل الميلاد كثيفة الأشجار، وكانت تصدر الأخشاب التي تصلح لبناء السفن, ومن مدين أخد البابليون الذهب والنحاس
__________
1 Musil, negd, P. 306. ff. British Museum Tablet, 26, 472, K. 2130
2 Musil, Negd, P. 307
3 Musil, Negd, P. 307
4 Musil, Negd, P. 307
5 Konige, S. 31, Musil, Negd, P. 307
6 Musil, Negd, P. 307(2/210)
والأخشاب. أما "موسل"، فيعارض هذا الرأي، ويرى أن من الصعب تصور نقل الأكديين والسومريين والبابليين الأخشاب والصخور الثقيلة من مدين على ظهور الجمال إلى بلادهم مع اتساع الشقة وبعد الطريق، ويرى أن من الصعب تصور نقلها في البحر الأحمر فالبحر العربي فالخليج؛ فإن ذلك يستدعي زمنًا طويلًا ومتاعب كثيرة، ثم إن النصوص لم تشر إلى ذلك. فمن المعقول أن تكون "مجان" في العربية الشرقية على ساحل الخليج1.
ويرى "كلاسر" أن "Magon Kolpos" الذي ذكره "بطلميوس" لا يعني "خليج المجوس" "Magorum Sinus" حتمًا، إذ يجوز أن يكون المراد منه "مجان" "Magan"، أي موضع "مجان" الذي نتحدث عنه2. ويقع -في رأيه- على ساحل الخليج، وربما كان عند "القطن" "قطن", ويحتمل -في رأيه أيضا- أن يكون "Maka" المذكور في نص "دارا"3.
ويرى "أوليري" أن "مجان" هي "Gerrha"، وتمثلها الأحساء في الزمن الحاضر, أما "ملوخا" "Meluhha" فتقع -في رأيه- جنوب الأحساء، في عمان. وقد استدل على ذلك بنص دُوِّن في عهد "سرجون" "722-705 ق. م."، جاء فيه أن مملكته بلغت مسيرة 120 "بيرو" من سقي نهر الفرات إلى "ملوخا" على ساحل البحر4, وأن موضع "دلمون" "Dilmun" يقع على مسافة 30 "بيرو" من رأس الخليج؛ فيجب أن يكون موضع "ملوخا" إذًا بعد موضع "دلمون". ولما كان موضع "دلمون" هو "تيلوس" "Tylus" في رأي أكثر العلماء، أي: البحرين؛ فإذن تكون أرض "مجان" وأرض "ملوخا" في العرض، وفي المواضع المذكورة6. وذهب
__________
1 المصدر نفسه.
2 Glaser, Skizze, II, S. 223. F. Forster, I, P. 298, 306, II, 215
3 Skizze, II, S. 225
4 Schroder, Keilinschr. Verschiedenen Inhalts, Nol. 92, O'Leary P. 46
5 "بيرو", وفي القراءات القديمة "قصبو" "قصبة" "Kaspu" عوضًا عن "بيرو", وهي مقياس للمسيرات، سومر، الجزء الثاني "1949، من المجلد الخامس "ص134".
6 O'leary, P. 46. ff(2/211)
بعضٌ آخرون إلى احتمال أن يكون "مجان" "مكان" في العربية الشرقية في موضع عمان1.
وقد ذكر الملك "شروكين" "Sharrukin" ملك آشور أن في جملة الأرضين التي خضعت لحكمه أرض "تلمون" "Tilmun" و"مجانا" "مجان" "مجنا" "Maganna"، وتقع في البحر الجنوبي، ويريد به الخليج. ويشير الى أنه فتح هذه الأرضين بيده، وذلك قبل الميلاد بمئات السنين "1980-1948 ق. م."2. وقد رأى "ينسن" "P. Jensen" أن المراد بـ"تلمون" جزيرة "قشم"، على الرغم من ذهاب كُثُرِ الباحثين إلى أنها البحرين. وأما "مجان" فإنها في نظره أرض "عمان"3.
وجاء اسم "ملوخا" "ملوخه" "Melluhha" واسم "تلمون" "Tilmun" في جملة أسماء الأرضين التي كان يحكمها ملك آشور "توكولتي نينورتا" "Tukulti-Ninurta"، وقد نعت نفسه بـ"ملك كردونيش" "Karduniash" وملك سومر وأكاد، وملك سيبار "Sippar" وبابل، وملك تلمون وملوخا، وملك "البحار العالية" و" البحار التحتية"، وقصد بجملة "البحار العالية" "بحيرة وان" على ما يظهر، وتقع أعلى آشور، وبجملة "البحار التحتية" البحر الذي يقع أسفل مملكة آشور، أي: في جنوبها، ويظهر أنه أراد به الخيلج العربي. ومعنى ذلك أنه حكم منطقة واسعة امتدت رقعتها من "بحيرة وان" حتى الخليج، وفي ضمنها "البحرين" والسواحل الواقعة إلى غربها، وهي سواحل "ملوخا" "ملوحا"4.
__________
1 Leemans, P. 12
2 Reall. I, Dritte Lieferung, S. 237, 240
3 المصدر نفسه.
4 Reall, I, Funfte Lieferung, S. 374, Berlin, 1931(2/212)
دلمون:
ويجرنا الحديث عن "مجان" و"ملوخا" إلى الحديث عن موضع آخر ورد في النصوص "الأكدية" و"السومرية" و"الآشورية"، هو موضع(2/212)
"ني، تك" "Ni–Tuk" "Ni–Tuk–Ki" وهو "دلمون" "Dilmun" أو "تلمون" "1Tilmum". وقد اشتهر بتمره وخشبه ومعادنه مثل النحاس والبرونز، وكانت فيه مملكة يرأسها ملوك2. وقد رأينا أن "جوديا" "Gudea" كان قد أشار إليه وإلى موضع "مجان"، وقد ذكر أنه استورد الخشب منه، كما رأينا اسم هذا المكان في ضمن الأماكن المذكورة في نص "سرجون"، وقد ورد أيضا في نص للملك "آشور بانبال"3, وفي نص للملك "سنحاريب" "سنحريب"، وقد ذكر هذا الملك أنه بعد أن تمكن من "بابل" ودكَّها دكًّا، عزم على ضم "دلمون" إلى مملكته، فأرسل وفدًا إلى ملكها يخبره أمرًا من أمرين: إما الخضوع لـ"آشور" وإما الخراب والدمار؛ فوافق ملك الجزيرة على الاعتراف بسيادة "سنحاريب" عليه، وأرسل إليه بجزية ثمينة4. وكذلك كانت هذه الجزيرة في عداد الأرضين التي خضعت لـ"آشور بانبال"5.
ويظهر من النصوص أن "دلمون" كانت جزيرة تتمتع بقدسية خاصة، فكانت تعد من الأماكن المقدسة، وقد رُويت عنها أساطير دينية، وعبدت فيها آلهة تعبد لها أهل العراق، مما يدل على الاتصال الثقافي المتين الذي كان بين العراق والبحرين. ووجد اسم الإله "إنزاك" في كتابة عثر عليها في البحرين6، وتشير أسطورة "أنكي" وزوجه "ننخرساك" وملحمة "كلكمش" "جلجامش" "جلجمش"، وأسطورة "أرض الحياة"7 وغير ذلك من القصص الشعبي، إلى هذا الاتصال الطبيعي الذي كان بين جنوب العراق والعروض.
وذكر "هومل" أن من كبار آلهة "دلمون": "لخامو" "لخامون"، وهو إلهة أنثى8. وأشار أيضا إلى نص أرخ في السنة السابعة من سني "فيلبس"
__________
1 O'leary, P. 46
2 Burrows, Tilmun, Bagrain, Paradis, in Orientalia, Heft, 2, Scriptura Sacra et Monumenta orientis Antiqui, Roma, 1928, P. 5, 30
3 Luckenbill, Ancient Records of Assyria and Babylonia, II, 41, 76, 92, 185
4 LUckenbill, Ancient, II Sect. 438
5 مجلة سومر، الجزء الثاني من المجلد الخامس، 1949، "ص137".
6 Burrows, P. 30
7 S.N. Kramer, in BOASOOR, Num. 96, "1944", P. 18
8 Hommel, Grundriss, I S. 130(2/213)
"Philippus" "فيلفوس"1 وتقابل سنة "317 ق. م."، وهو نص "بابلي" ورد فيه اسم أرض دُعيت "برديسو" "Pardesu"، وتقابل هذه الكلمة كلمة "pildash"2 "Pardes" بالعبرانية3 و"فردوس" بالعربية، وتقع في
معبد من حضارة ديلمون "3000 ق. م"
من نشرة دائرة الإعلام: حكومة البحرين
القسم الشرقي من جزيرة العرب، بين "مجان" و"بيت نبسانو" "Bit Napsanu" التي هي جزيرة "دلمون"4. وقد حملت هذه التسمية بعض العلماء على التفكير في أن ما ورد عن "جنة عدن" في التوراة، إنما أريد به هذه المنطقة التي تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب وعلى سواحل الخليج5.
__________
1 "فيلفوس"، الطبري "1/ 694، 738"، "طبعة ليدن".
2 Hommel, Grundriss, I, S. 166
3 Enc. Bibli. P. 3569
4 Hommel, Grundriss, I, S. 250
5 لمعرفة النظريات التي ذكرها علماء التوراة عن "جنة عدن" يستحسن مراجعة:
Enc. Bibli. P. 3574(2/214)
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن أرض "دلمون" هي جزيرة البحرين، أو جزيرة البحرين والساحل المقابل لها؛ وذلك لأن المسافة التي ذكرت في نص "سرجون" تكاد تساوي بعد البحرين عن فم نهر الفرات، وهذا مما حملهم على القول: إن موضع "دلمون" هو جزيرة البحرين. ثم إن الصلات بين العراق والعروض كانت قوية، والأرض هي على امتداد واحد، فلا موانع ولا حواجز؛ ولهذا رجحوا كون "دلمون" هي البحرين1.
وعرفت "دلمون" أو البحرين في الكتب "الكلاسيكية" باسم "تيلوس" "Tylus"، ويرى بعض الباحثين أنه حرف عن "تلوون" "Tilwun"، وهو "Dilmun" في الأصل، وورد معه اسم "أرادوس" "2Aradus, وقد ذكر "بلينيوس" "Pliny" أن جزيرة "Tylos" "Tylus" معروفة باللؤلؤ، وبها مدينة عرفت بهذا الاسم كذلك. وعلى مقربة منها جزيرة صغيرة, وهي تقابل الساحل الذي يسكنه الـ"الجرهائيون" "Gerrhaens"، نسبة إلى مدينتهم "جرها" "3Gerrha". وينطبق وصف "بلينيوس" لجزيرة "Tylos" "Tylus" على جزيرة البحرين كل الانطباق.
وقد ورد في بعض نصوص "أور" "Ur" أنها صدرت الصوف في السفن إلى "تلمون" "4Tilmun"، كما أشير إلى قوافل كانت تذهب من "أور" إلى هذا الموضع، وقد عادت بأرباح كبيرة5. ويظهر من هذه النصوص ومن نصوص أخرى أن الإتجار بين "تلمون" و"أور" كان متصلًا مستمرًّا، وأن جماعة ممن تجار "أور" كانوا يرسلون قوافل من السفن "إلى "تلمون" للاتجار، تحمل إلى هذا الموضع ما بها حاجة إليه من حاصلات العراق ومن الأموال الواردة إلى العراق من الأسواق الخارجية مثل إيران وبلاد الشام وآسيا الصغرى وربما من اليونان وأسواق أوروبا, فتبيعها هناك، وربما يشتريها تجار "تلمون" أو غيرهم
__________
1 P.B. Cornwall, in BOASOOR, 1946, P. 3. ff. The Geographical Journal, CVII, NOB, I, and 2, Febr. 1946, 28-50, The National Geographical Magazine, April, 1948.
2 Enc. I, P. 584
3 Glaser, Skizze, II, S. 74
4 UET III, 1507, Leemans, P. 22
5 UBTV 526, UETV 678, Leemans, 25, 26, 27, 28, 29(2/215)
لتصديرها إلى أماكن أخرى بعيدة مثل الهند، أو إفريقيا، أو قلب جزيرة العرب. فإذا انتهى هؤلاء التجار من بيع تجارتهم، يعودون ببضائع من البحرين، هي في الغالب من تجارة الهند أو إفريقيا، في جملتها المعادن والأخشاب والعطور والأشياء النفيسة الأخرى التي كانت تباع بأثمان باهظة، فيربح هؤلاء التجار من هذه التجارة ربحًا كبيرًا.
وقد كان تجار "تلمون" يأتون بسفنهم إلى "أور" يحملون ما استوردوه من تجارات من الهند أو إفريقيا أو جزيرة العرب؛ لبيعه في أسواق "أور" ثم يعودون بسلع أسواق أور، من حاصل العراق وما جلب إلى أور من الخارج. وقد كان هؤلاء التجار يدفعون العشر، ضريبة عن هذا الإتجار1.
وقد عثر على نصوص تبين من دراستها أنها عقود واتفاقيات عقدت بين تجار للإتجار بين "أور" و"تلمون"، وبينها وثائق تتعلق بتجارة تجار قاموا بأنفسهم بالإتجار مع "تلمون". ويظهر من دراستها أن أولئك التجار كانوا يستوردون النحاس بمقياس واسع من "تلمون"؛ لأنه مطلوب في العراق؛ ولأن أسعاره هناك أرخص بكثير من سعره في أور، وكان في جملة السلع التي استوردوها من "تلمون" الفضة و"عين السمك"، أي: اللؤلؤ على ما يظن2.
ولا بد أن يكون هذا النحاس من جملة المواد المستوردة من مواضع أخرى إلى "تلمون", وقد تكون أرض عمان في جملة الأماكن التي أمدت هذا الموضع به. فقد عثر في عمان على آثار منجم عند مكان يسمى "جبل معدن" يقع على مسافة "75" ميلًا إلى الشمال الغربي من الجبل الأخضر3. فلعل هذا المنجم القديم كان مستغلًّا في تلك الأيام يستخرج النحاس منه.
ولقد عثر في البحرين على مقابر قديمة كثيرة كما ذكرت قبل, وقد وجد بعد فتحها أنها خططت على نمط واحد، وتتجه مداخلها نحو الغرب, وذلك مما يبعث على الظن أن لهذا الاتجاه علاقة بشعائر دينية عند القوم أصحاب المقابر. وقد وجدت فيها كما سبق أن قلت عظام بشرية، منها جمجمتان بشريتان،
__________
1 Leemans, P. 31
2 Leemans, P. 48, 50
3 Leemans, P. 122(2/216)
وعظام حيوانات يظهر أنها دفنت وهي حية مع أصحابها وفق العقائد الدينية التي كانوا يدينون بها, وعثر على مصوغات من الذهب وعلى خرز وأحجار زينة, غير أن هذه الأشياء لم تعطِ الباحثين حتى الآن فكرة يقينية عن تأريخها وعن أيام أصحابها. والرأي الشائع بين الذين عنوا بدراستها وفحصها أنها مقابر "فينيقية"؛ لأن البحرين كانت الموطن القديم للفينيقيين1، وإن لم يصدر حتى الآن رأي جازم في هذا الشأن.
وقد عثر كما ذكر "ولسن" "wilson" في مقبرة من هذه المقابر على حجر أسود مكتوب بكتابة تشابه الكتابات المسمارية2.
ويستشهد العلماء الذين يذهبون إلى أن تلك المقابر هي مقابر "فينيقية"، وأن سكان البحرين هم فينيقيون، بما ذكره "سترابون" من أن في جزيرتي "Tylus" "Tyrus" و"Aradus"، مقابر تشابه مقابر الفينيقيين، وأن سكان الجزيرة يرون أن أسماء جزائرهم ومدنهم هي أسماء فينيقية3.
وقد قامت بعثة آثارية دانماركية بالبحث عن الآثار في البحرين، وقد نبشت الأرض في ثلاثة مواضع لاستنطاقها والاستفسار منها عن ماضيها القديم. وقد تأكدت البعثة من أن الأماكن التي نقبت فيها تعود إلى مستوطنات العصر البرونزي, وكان في جملة ما عثرت عليه تمثالان صغران لثورين، وفخار، وأشياء أخرى.
وقد عثر المنقبون على آثار معابد في مواضع من جزر البحرين، تبين من فحصها أنها خربت مرارًا، وأن الأيدي لعبت بها، وقد انتزعت أحجارها للاستفادة منها في تحويلها إلى أبنية جديدة. وفي جملة ما عثر عليه في أنقاضها بعض التماثيل وبعض الأحجار المثقوبة، وكانت مذابح تذبح عليها القرابين، فتسيل دماؤها من هذه الثقوب إلى حفرة تتجمع فيها الدماء. وقد تبين أن هذه المعابد، هي من معابد العصر النحاسي والعصر البرونزي، وأن تأريخ بعضها يعود إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد4.
__________
1 Enc. Vol. I, P. 585,Cornwal, In Geogr. Journal., CVII, P. 36, 142, 1946, Wilson, The Pers. Gulf. P. 29, Bent, The Bahrain Islands, In Roy, Geogr. Soci. 12, London, 1890
2 Wilson, P. 31
3 Enc. I, P. 585, Wilson. P. 29, 30, Strabo, XVI, III, 3, 4, Stuhlmann Der Kampf S. 195
4 Belgrave, P. 53(2/217)
ويرى كثير من الباحثين في التأريخ القديم أن أصل الفينيقيين الساكنين في "فينيقية" بلبنان هو من هذه المنطقة، أي: من البحرين والساحل المقابل له. وقد ذكر "هيرودوتس" أن المشهور في أيامه أن أصلهم من البحر الأحمر1, ولكن العلماء يرون أنه قصد الخليج العربي "Sinus Persicus" لا البحر الأحمر.
سلالم تؤدي إلى معبد من معابد "باربار" في البحرين
من تصوير شركة نفط البحرين
ويذكرون أن الفينيقيين تركوا ديارهم هذه، وهاجروا منها سالكين الساحل، ثم وادي الفرات، ومن وادي الفرات يَمَّمُوا لبنان، حيث استقروا على الساحل في المنطقة التي عرفت باسمهم، أي "فينيقية" "2Phoenicia.
إننا لا نستطيع أن نتحدث الآن عن حكومة العروض أو حكومات العروض
__________
1 Herodotus, I, VII, 89, Hastings, P. 725
2 Hastings, P. 725(2/218)
في عصور ما قبل الميلاد؛ فما لدينا من أخبار هو نزر يسير. نعم، من الجائز أن يكون أهل هذا الساحل قد كونوا لهم حكومة واحدة، ومن الجائز أن يكونوا قد أقاموا حكومات عديدة؛ حكومات مدن، أو حكومات قبائل، على نحو ما نعرفه عن هذه المنطقة إلى عهد ليس ببعيد, وكما نرى في مشيخات وإمارات الخليج في هذا الزمان, ومن الجائز أن يكون أهل العراق قد أخضعوا ذلك الساحل وأقاموا حكومات فيه. ونحن لا نستطيع التحدث الآن عن "أرض البحر" "Mat–Tamtim"، هل كانت حكومة قوية عاشت في الألف الثالث قبل الميلاد، حكمت كل الساحل إلى أن غزتها حكومات من العراق أم كانت إمارة أو" مشيخة" في اصطلاح هذا اليوم؟ ولكن ما نراه من سرعة تغلب الأكاديين والسومريين والآشوريين على أهل الساحل، يشير إلى أنهم لم يكونوا أصحاب حكومة قوية, وأنهم إنما كانوا في أغلب الظن رجال بحر وتجارة، لهم حكومات صغيرة أي: إمارات و"مشيخات"، وهذا يفسر لنا سر استسلامها لحكومات العراق بسهولة ويسر وأدائها الجزية لها.
وهناك من يزعم أن "السومريين" إنما جاءوا إلى العراق من البحرين، جاءوا إليه في حوالي السنة "3100 ق. م". وقد عرفت البحرين باسم "دلمون" "تلمون" "Dilmun" في نصوص السومريين, وقد كانت البحرين محطة مهمة ينزل فيها الناس في هجراتهم نحو الشمال، كما كانت محطة للاتجار مع الهند والبلاد البحرية الأخرى1. والرأي الغالب اليوم بين علماء التأريخ القديم أن الكلدانيين الذين سكنوا الأقسام الجنوبية من العراق، إنما جاءوا إلى هذه الأرضين من العربية الشرقية من ساحل الخليج، وذلك في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد، ثم زحفوا نحو الشمال حتى وصلوا إلى بابل، وقد وجد بعض الباحثين كتابات كلدانية تشبه حروفها الحروف العربية الجنوبية القديمة، أي: حروف المسند، واستدلوا من ذلك على أن أولئك المهاجرين الذين ربما كان أصلهم من عمان هاجروا إلى ساحل الخليج، ثم انتقلوا منه إلى العراق، ونقلوا معهم خطها القديم، الذي تركوه بعد ذلك حينما استقروا في العراق؛ لتأثرهم بالمؤثرات الثقافية العراقية. والنماذج القديمة من كتاباتهم التي عثر عليها الباحثون،
__________
1 Grohmann, Arabien, S. 255(2/219)
وإن لم تتحدث عن أصل أصحابها، إلا أن خطها المذكور يشير إلى أنه من العربية الشرقية1.
وقد ذهب "سترابو" إلى أن "Gerrha" التي تقع عند "العقير" كانت في الأصل موضعًا للكلدانيين "Chaldaer"، وكانت ذات تجارة مع أهل بابل مزدهرة2.
على كلٍّ, فالذي يتبين لنا من الأخبار السومرية والأكدية والآشورية وغيرها أن أهل العربية الشرقية كانوا قد كونوا لهم حكومات مدن وذلك قبل الألف الثالثة قبل الميلاد، صرفت جل عنايتها نحو التجارة وركوب البحار للاتجار، والاستفادة من البحر لاستخراج ما فيه من سمك و"لؤلؤ"، واستغلال ما في أرضها من ماء للزراعة عليه. والطبيعة هي التي فرضت على أهل هذا الساحل هذا الشكل من الحكم؛ لأنها لم تمنحهم أمطارًا وافرة تمكنهم من استغلال أرضهم، ولم تعطهم أنهارًا كبيرة طويلة تساعد في نشوء العمران عليها وتكوين حكومات مطلقة، كما في العراق أو في وادي النيل؛ لذلك انحصرت السكنى في مواضع متناثرة من الساحل، فصعب على السكان تكوين حكومة مطلقة واحدة يكون الحكم فيها حكما مركزيا في أيدي الملوك, لتباعد المدن بعضها عن بعض؛ لذلك صار الحكم فيها حكم مدن, على المدينة "ملك" أو رئيس يدير شئون الجماعة، إلا أن هذا الوضع جعلهم عرضة للغزو, إذ طمعت فيهم الحكومات الكبيرة، كالذي رأيناه من غزو السومريين والأكديين لهم، وكالذي سنراه فيما بعد من غزو الآشوريين واليونانيين وغيرهم لهذه الأرضين.
لقد استورد السومريون والأكديون الذهب والحجارة الصالحة لصنع التماثيل، والأخشاب لبناء المعابد، والأشياء النفيسة الأخرى من "دلمون" ومن "ملوخا" ومن "مكان" "مجان"، وهي أماكن يرى كثير من العلماء أنها في العربية الشرقية، وقد تكون تلك المواد من الأموال المستوردة من الهند. على كل حال، فقد توسطت تلك الأماكن في استيرادها وإيصالها إلى العراق، بفضل مهارة سكانها في تسخير البحر وتيسيره، وقد ترك الفتح العراقي فيها أثرًا كبيرًا
__________
1 W. F. Albright, in BASOOR, Num. 128, 1952, P. 39, "the Chaldaean Inscriptions in Proto-Arabic Script"
2 Strabo, XVI, 7, 66, Grohmann, Arabien, S. 257(2/220)
يظهر في الآثار العراقية التي استخرجت من باطن الأرض, وفي فن العربية الشرقية المتأثر بالفن العراقي.
وقد أثر انتقال ثقل الحكم من "أور" ومن القسم الجنوبي من العراق إلى وسطه تأثيرًا كبيرًا في ثراء "أور" واقتصادها، فقد كان في هذه المدينة تجار كونوا لهم شركات بحرية لنقل التجارة بين هذه المدينة ومدن الخليج، وربما إلى
رأس ثور عثرت عليه البعثة الدانماركية
في "باربار" بالبحرين
مدن الهند أيضا, وقد أثر ذلك فيهم بصورة خاصة حين وضع "حمورابي" أنظمة تحدد الاتجار البحري في ذلك العهد1. وقد افتخر ملك "آشور"، الملك "تكولتي، ننورتا" "Tukulti–Ninurta" "1244-1208 ق. م." بأنه وسع حدود مملكته في الجنوب، بأن استولى على "سومر" و"أكد"، وثبت حدودها الجنوبية عند "البحر الأسفل حيث مشرق الشمس"2. ويعني بذلك الخليج، غير أنه لم يشر إلى الأرضين التي استولى عليها في هذا الخليج.
هذا كل ما نعرفه اليوم عن تأريخ العرب في العهود القديمة, وهو كما رأينا
__________
1 Ancient Iraq, P. 184, Leemans, The Old Babylonian Merchant, Leiden, 1950; P. 78-95, Foreign Trade in the Old Babylonian Period, Leiden, 1960, A. L. Oppenheim, JAOS, S. 74, 1954, P. IS, 17
2 Ancient Iraq, P. 217, D.D. Luckenblll, Ancient Records, I, P, 145(2/221)
نزر يسير، أخذ من بحوث أفراد ومن بحوث عرضية حُصِلَ عليها عند البحث عن البترول، وأملنا في زيادة علمنا بتلك العهود هو في قيام بعثات علمية بالبحث عن الآثار والعاديات لاستنطاقها عن أحوال تلك العهود. وليس أمامنا بعد هذه المقدمة إلا الدخول في العصور المعروفة التي وصل إلينا بعض أخبارها في الكتابات وفي الموارد الأخرى.
وقد كان لأعمال الحفر التي قامت بها بعثة "دانماركية" أرسلها متحف ما قبل التأريخ في "Aarhus" بالدانمارك, فضل كبير في الكشف عن صفحات مطوية من تأريخ سواحل الخليج. فقد تمكنت هذه البعثة من العثور على آثار من عهود ما قبل العصور التأريخية في البحرين وقطر و"أبي ظبي"، كما تعقبت آثار السكنى القديمة في البحرين وعمان وبقية الساحل، وعثرت على معابد قديمة مثل معبد "بربر" "باربار" في البحرين و"تل قلعة البحرين" في البحرين، وتوصلت بذلك إلى نتائج قيمة جدًّا رجعت بتأريخ هذه البلاد إلى عصور بعيدة جدًّا عن الميلاد، وكان من أعمالها الكشف عن آثار "فيلكا" في الكويت.
وقد تبين من دراسة البعثة الدانماركية لآثار معبد "بربر" "باربار" في البحرين أنه معبد عتيق, يرجع عهده إلى حوالي السنة "3000 ق. م." أو أقدم من ذلك1, وأنه كان معبدًا كبيرًا به "بئر" مقدسة يستقي منها المؤمنون للتبرك بمائها ولتطهير أجسامهم ولإجراء الشعائر الدينية. ويلاحظ أن الباحثين تمكنوا من العثور على آبار مقدسة في بيوت العبادة الكبرى عند الجاهليين، وهذا يدل على أن معابدهم الكبيرة كانت ذات آبار مقدسة يشربون منها للتبرك والشفاء ولتطهير أجسامهم، شأنهم في ذلك شأن أهل مكة و"زمزم".
لقد وجدت هذه البعثة تحت أنقاض "تل القلعة" في البحرين بقايا مدينة قديمة يمكن أن تعد من مدن الجزيرة الكبيرة أو عاصمتها، يرجع تأريخها إلى حوالي السنة "2500 ق. م.", وكانت مسورة بسور ارتفاعه "16" قدمًا عن سطح الأرض، بُنِيَ بالحجارة، وقد بنيت به قلعة لحمايته من هجوم الأعداء، وعثر على باب المدينة، وقد زينت ببناء مربع الشكل. ويقال: إن الملك "سرجون" الأكادي كان قد أمر بإحراقها سنة "2300 ق. م." حتى صارت ركامًا،
__________
1 Grohmann, Arabien, S., 266(2/222)
وبقيت على ذلك طوال أيام "الكاسيين" "الألف الثانية قبل الميلاد"، حتى أعيد بناؤها في القرن السابع قبل الميلاد، فازدهرت وتوافد عليها السكان، وأخذت تتاجر مع العراق. وكانت مزدهرة في أيام "الأخمينيين" و"السلجوقيين"، إلا أن النحس حل بها بعد سقوط الحكومة السلجوقية، ولازمها ولم يتركها حتى هجرها الناس1.
وفي جملة ما عثرت عليه تلك البعثة آثار مدينة يرجع عهدها إلى منتصف الألف الأولى قبل الميلاد، في مكان يعرف بـ"مرب" في القسم الغربي من "قطر"2.
__________
1 P.V. Glob, Kuml, 1957, 1958, 142, 144, T.G. Bibly, Kuml, 1957, 162. Glob, Kuml, 1959, 238
2 Grohmann, Arabien, S. 260(2/223)
الفصل الرابع عشر: العرب في الهلال والخصيب
مدخل
...
الفصل الرابع عشر: العرب في الهلال الخصيب
ليس من السهل علينا التعرض في الوقت الحاضر للصلات التي كانت بين العرب الشماليين وبين حكومات الهلال الخصيب في أقدم العهود التأريخية المعروفة التي وقفنا على بعض ملامحها ومعالمها من الآثار؛ فبينها وبيننا حجب كثيفة ثخينة لم تتمكن الأبصار من النفاذ منها لاستخراج ما وراءها من أخبار عن صلات العرب في تلك العهود بالهلال الخصيب.
ولعل خبر "نرام، سن" "نرام، سين" "Naram–Sin" الأكادي "2270-2223 ق. م." عن استيلائه على الأرضين المتصلة بأرض بابل, والتي كان سكانها من العرب "Aribu" "Arabu" هو أقدم خبر يصل إلينا في موضوع صلات العرب بالعراق1. وهو خبر ينبئك بأن عرب أيام "نرام، سن"، كانوا في تلك المنازل قبل أيامه بالطبع؛ وهي منازل كونوا فيها "مشيخات" و"إمارات" مثل إمارة "الحيرة" الشهيرة التي ظهرت بعد الميلاد.
ويحدثنا سفر "القضاة" بأن "المدينيين" والعمالقة وبني المشرق، كانوا ينتزعون ما بأيدي الإسرائيليين من غلة زراعة، وما عندهم من ماشية، ويغيرون
__________
1 Arabien, S. 21(2/224)
وأما "Muaba"، فيرى "موسل" أنها "مؤاب" المذكورة في التوراة1، وهي أرض المؤابيين، أبناء "مؤاب"2.
وأسماء الأشخاص الواردة في النصوص الآشورية هي أقدم أسماء نعرفها وردت في نصوص تأريخية عند العرب الشماليين، مثل "زبيبة" و"شمس" و"الباسق" الذي كتب "بسقانو" "Basqanu" في النص الآشوري، و"أيم" الذي هو "إيمو" في النصوص الآشورية، و"جندب" الذي صار "جنديبو" "Gindibu" في اللغة الآشورية "Kiau" "Kisu" "Ki–i–su" الذي يحتمل أنه "قيس"، و"Agbaru" "Akbaru" القريب من أكبر أو "أخبر" أو "أجبر"، "وخبيصو" "جيصو" "Habisu" "kha–bi–su" الذي يحتمل أنه "خبيص" أو "خابص" أو "حبيس" أو "حابس" أو "قبيصة" أو ما شابه ذلك من أسماء، و"نخرو" "نحرو" "Niharu" "Ni–kha–ru" الذي يحتمل أنه "نخر"، أو "ناخر" أو "نهار"، و"ليلى" "Laili" "Laiale"، الذي هو "ليلي" إلى آخر ذلك من أسماء.
وورد في جملة الأرضين التي استولى عليها "آشور بانبال" في بلاد العرب، اسم موضع دعي "إنزلكرمة" "Enzilkarme" "Al–en–zi–kar–me"، وهو كناية عن واحة، يرى "ديلج" "Delitzsch" أنها تقع جنوب حوران3.
وقد افتخر "آشور بانبال, الملك العظيم, الملك الحق الشرعي, ملك العالم, ملك آشور, ملك الجهات الأربع، ملك الملوك، الأمير الذي لا ينازعه منازع، الذي يحكم من البحر الأعلى إلى البحر الأسفل، والذي جعل كل الحكام الآخرين يخرون له سجدا ويقبلون أقدامه"4، بأنه ملك من البحر الأعلى حتى جزيرة "دلمون" من البحر الأسفل5. ومعنى هذا أن ملكه امتدَّ من أعالي العراق إلى البحرين6.
يظهر من النصوص الآشورية أن الآشوريين قاموا بعدد من الحملات يزيد,
__________
1 Deserta, P. 485
2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 385".
3 Delitzch, S. 300, Hommel, Geographie, S. 588, Reall, II, S. 404
4 راجع النص في: pritchard, P. 297
5 pritchard, P. 297
6 R. C. Thompson. In AAA, XX "1933", 71(2/225)
بل كان ذلك عامًّا حتى بين العرب أنفسهم؛ وقد أدى ذلك إلى جهلنا بهويات شعوب ذكرت في النصوص الآشورية وفي النصوص الأخرى وفي التوراة، دون أن يشار إلى جنسيتها، فلم نستطع أن نضيفها إلى العرب للسبب المذكور.
وكان ملك "دمشق" "بيرادري" "Bir–Idri" "Biridri"، المعروف باسم "بنهدد" "Benhaddad" في التوراة1، قد هاله توسع الآشوريين وتدخلهم في شئون الممالك الصغيرة والإمارات، ولا سيما بعد تدخلهم في شئون مملكة "حلب"، وخضوع هذه المملكة لهم بدفعها الجزية واعترافهم بسيادة آشور عليها. فعزم على الوقوف أمام الآشوريين، وذلك بتأليف حلف من الملوك السوريين وسادات القبائل العربية؛ لدرء هذا الخطر الداهم. وقد انضم إليه "آخاب" ملك إسرائيل، وأمراء الفينيقيين، فكان مجموع من استجاب لدعوته اثني عشر ملكًا من ملوك سورية، "وجنديبو" ملك "العرب"، وقد أمد الحلف بألف جمل وبمحاربين، وكل هؤلاء كانوا قد أصيبوا بضربات عنيفة من الآشوريين وتعلموا بتجاربهم معهم مبلغ قوتهم وغلظتهم على الشعوب التي غلبوها على أمرها، فأرادوا بهذا الحلف التخلص من شرهم والانتقام منهم والقضاء عليهم.
وعند مدينة "قرقر"، الواقعة شمال "حماة" وعلى مقربة منها، وقعت الواقعة، وتلاقى الجيشان: جيش "آشور" تسيّره نشوة النصر، وجيوش الإرميين والعرب والفينيقيين ومن انضم إليهم، تجمع بينهم رابطة الدفاع عن أنفسهم، وبغضهم الشديد للآشوريين. لقد تجمع ألوف من جنود الحلفاء في "قرقر" على رواية ملك آشور؛ لمقاومة الآشوريين وصدهم من التوسع نحو الجنوب، واشتركت في المعركة مئات من المركبات. أما النصر فكان حليف "شلمنصر"، انتصر عليهم بيسر وسهولة، وأوقع بهم خسائر كبيرة، وغنم منهم غنائم كثيرة، وتفرق الشمل، وهرب الجميع، وانحلَّ العقد، ورجع ملك آشور إلى بلده منتصرًا، مخلدًا انتصاره هذا في كتابة ليقف عليها الناس2.
__________
1راجع عن "بنهدد"، قاموس الكتاب المقدس، "1/ 250"، "بنهداد، أوبرهداد" "أداريدري، وهو الذي يسميه الكتاب المقدس بنهداد، باسم أبيه بنهداد الأول" أدي شير "ص69"، Meisner, Konige, S. 139, Hastings, P. 90, Enc. Bibli. P. 5
2 أدي شير "ص69 فما بعدها".(2/226)
وإليك بعضَ ما جاء في نص "شلمنصر" عن معركة "قرقر"؛ لتقف على ما قاله عنها: "قرقر: عاصمته الملكية، أنا أتلفتها، أنا دمرتها، أنا أحرقتها بالنار، 1200 عجلة، 1200 فارس، 20.000 جندي لهدد عازر صاحب إرم ... ألف جمل لجندب العربي ... هؤلاء الملوك الاثنا عشر الذين استقدمهم لمساعدته، برزوا إلى المعركة والقتال، تألبوا عليَّ ... "1.
ويلاحظ كثرة عدد العجلات المستخدمة في المعركة بالنسبة إلى تلك الأيام، وهذه الأرقام ليست بالطبع أرقامًا مضبوطة، فقد عودنا الملوك الأقدمون المبالغة في ذكر العدد، والتهويل في تدوين أخبار المعارك والحوادث؛ للتضخيم من شأنهم وللتعظيم، وتلك عادة قديمة نجدها عند غير الآشوريين أيضا2.
و"جنديبو" اسم من الأسماء العربية المعروفة هو "جندب", ويكون هذا الاسم أول اسم عربي يسجل في الكتابات الآشورية. ولم يشر "شلمنصر" إلى أرضه والمكان الذي كان يحكم فيه. غير أن القرائن تدل على أنها كانت في أطراف البادية، ويرى "موسل" أنها كانت تقع في مكان ما جنوب مملكة "دمشق"3, وأرى أنه كان ملكًا على غرار الملوك سادات القبائل مثل ملوك الحيرة والغساسنة، حكم على قبائل خضعت لحكمه وسلطانه، وكان يتناول الإتاوات من الحكومات الكبيرة مقابل حماية حدودها من الغارات والاشتراك معها في الحروب.
وقد أبلغنا "شلمنصر" الثالث "858-824 ق. م." أيضا، أنه زحف نحو الجنوب، نحو أرض "كلدو"، أي: أرض الكلدانيين، فاستولى عليها وتوغل بعد ذلك نحو الجنوب حتى بلغ "البحر المر" "البحر المالح" "Nar Marratu" أي الخليج العربي، فقهر كل السكان الذين وصلت جيوشه إليهم4. ويظهر أنه بلغ حدود الكويت فاتصل بذلك بجزيرة العرب وبقبائل عربية ساكنة في هذه الأرضين.
__________
1 Meisner, Koenige, S. 140, J.W. Weiss, Geschlchte d^a Orients, S. 597, Grohmann, S- 21, Luckenbill, I, 611, Meisner, Koenlge, S. 140
2 Meissner, Konige, S. 140
3 Muall, Deserta, P. 477
4 Ancient Iraq, P. 277, Luckenbill, I, 624(2/227)
وفي السنة الثالثة من حكم "تغلث فلاسر" "تغلاتبلاسر الثالث" "Tiglath Pileser"1 "745-727 ق. م." تقريبًا، دفعت ملكة عربية اسمها "زبيبي" الجزية إلى هذا الملك, وكانت تحكم "أريبي"، أي العرب. ولم يتحدث النص الذي سجل هذا الخبر عن مكان الأعراب أتباع "زبيبي".
معركة بين العرب والآشوريين
وقد ذهب "موسل" إلى أنه "أدومو" "Adumu"، أي "دومة" "دومة الجندل"، وذهب أيضا أن الملكة كانت كاهنة على قبيلة "قيدار" "2kedar. و"زبيبي" هو تحريف لاسم "زبيبة"، وهو من الأسماء العربية المعروفة.
ويحدثنا هذا الملك أيضا أنه في السنة التاسعة من ملكه، قهر ملكة عربية أخرى اسمها "سمسي" "Samsi" "شمسي" "Shamsi"، واضطرها إلى دفع الجزية له بعد أن تغلبت عليها جيوش آشور. ويدعي الملك أنها حنثت بيمينها
__________
1 "تغلث فلاسر"، و"ثغلث فلناسر" في الترجمات العربية للتوراة، أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الثامن والعشرون، الآية العشرون، الملوك الثاني، الإصحاح الخامس عشر، الآية 29، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الخامس، الآية 26؛ ولذلك اخترت هذه التسمية، قاموس الكتاب المقدس "1/ 288"، أدي شير "ص80"، وقد جعله "موسل" "ثغلث فلاسر الرابع"،
Musll, Hegaz, P. 287, Deserta, P. 477
وعرف بـ: "Rukulti – Apil – Esharra" في النصوص: Hastings, P. 934.
2 Rost, Keilschrifttexte, II, P 1. 16. "1893" Olmstead, Gistory of Assyria, P. 189, G. Rawlinson, The Five Great Monrchies, vol. II, P. 396(2/228)
وكفرت بالعهد الذي قطعته للإله العظيم "شماش" "Schamash" بألا تتعرض للآشوريين بسوء، وبأن تخلص لهم، فانتصر عليها، واستولى على مدينتين من مدنها، وتغلب على معسكرها، فلم يبقَ أمامها غير الخضوع والاستسلام وتأدية الجزية إبلًا: جمالًا ونوقًا1.
والظاهر أنها انضمت إلى ملك دمشق في معارضته للآشوريين، وتعرضت لقوافل آشور، فجهز الملك عليها حملة عسكرية تغلبت عليها. ولضمان تنفيذ مصالح الآشوريين، قرر الملك تعيين "قيبو" أي: مقيم أو مندوب ساميّ آشوري لدى بلاطها؛ لإرسال تقاريره إلى الحاكم الآشوري العام في سورية عن نيات الملكة واتجاهات الأعراب، وميول قبيلتها، ولتوجيه سياسة الملكة على النحو الذي تريده "آشور"2.
وقد ذكر النص الآشوري أن الملكة أصيبت بخسائر فادحة جدًّا، وهي ألف ومائة رجل، وثلاثون ألف جمل، وعشرون ألف من الماشية، وهي أرقام بُولغ فيها جدا، ولا شك3.
ويذكرنا اسم الملكة "شمسي" "سمسي" باسم عربي هو "شمس" أو "شمسة", و"شمسة" من الأسماء العربية القديمة التي ما تزال حية. وقد كان في المدينة امرأة نصرانية اسمها "شمسة"، أسلمت على يدي الحسن بن علي بن أبي طالب4, فحرف الآشوريون الاسم وفق نطقهم وكتبوه على هذا الشكل.
وقد صور على اللوح الذي ورد فيه خبر الانتصار المذكور، منظر فارسين آشوريين يحملان رمحين، يتعقبان أعرابيًّا راكبًا جملًا، وتحت أعقاب الفرسين وأمامهما جثث الأعراب الذين خروا صرعى على الأرض, وصور شعرهم طويلًا وقد قعد إلى الوراء، وأما اللحى فكثَّة، وأما أجسامهم فعارية إلا من مئزر شد بحزام. وقد حرص الفنان على تصويره الأعرابي الراكب قريبا جدا من الفارسين، مادًّا يده اليمنى إليهما متوسلا ومسترحما ومستسلما، وصورت الملكة
__________
1 أدي شير "ص85"،
Musll, Deserta, P. 477, Olmstead, History of Assyria, P. 199, J. B. Pritchard, Ancient Near Easterenn Texts, Princeton, 1950. P. 283
2 Musil, Deserta, P. 477
3 Meisner, Konige, S. 140
4 ابن سعد، الطبقات "5/ 284" "طبعة بيروت 1957".(2/229)
"سمس" "شمسي" "سمسي" حافية، ناشرة شعرها، تحمل جرة من الجرار الإحدى عشرة المقدسة، بعد أن أضناها الجوع والتعب في فرارها إلى "بازو"، وقد خارت قواها المعنوية1.
وورد في الكتابة الآشورية أن الملكة أرسلت وفدًا إلى ملك آشور لمصالحته واسترضائه، ضم عددًا من سادات قبيلتها وأتباعها، منهم "يربع" "يربأ" "Jarapa" وكان رئيس الوفد، و"خترنو" "حترنو" "Hataranu" و"جنبو" "Ganabu"، و"تمرنو" "2Tamranu. وهي أسماء عربية لا غبار عليها، كتبت بحسب النطق الآشوري؛ فـ"Jarapa" مثلا، يمكن أن يكون أصله "يرفع" أو "يربع" أو يربوع، و"Hataranu" جائز أنه "خاطر" أو "خطر"، و"Ganabu" جائز أنه جناب أو "جنب"، و"Tamranu" جائز أنه "تمر" أو "تمار" أو ما شابه ذلك. ولا أرى بنا حاجة إلى ذكر أمثلة عديدة وردت فيها أسماء من مثل "يربوع" و"جناب" و"جنب" وأمثال ذلك لدى الإسلاميين3.
وبعد أداء "شمس" الجزية إلى ملك آشور، دفعت عدة قبائل وشعوب عربية الجزية إليه. وقد جعل بعض الباحثين ذلك في حوالي سنة "738 ق. م"4, وجاء في الترجمة العربية لكتاب "حتي" أن ذلك كان في عام "728 ق. م"5. وإذا كان أداء العرب المذكورين الجزية في السنة التاسعة من حكمه، فيجب أن تكون السنة سنة "736 ق. م." تقريبًا؛ لأن حكم الملك كان في "745 ق. م"6. وقد ذكر الملك أنه تسلم الجزية ذهبًا وفضة وإبلًا وطيوبًا من "مساي" "مسأى" "Masa" و"تيما" و"سبأ" "سبا" و"خيابة" "خيابه" "Hajapa" "Hayapa" "Hajappa" و"بطنه" "Batana" "Badana"
__________
1 Olmstead, History of Assyria. P. 199
2 H. Winckler, Keilschrist. Bd. II, S. 62, AOF. BD. I, S. 465
3 الاشتقاق "3/ 235، 362".
4 Stuhlmann, Der Kampf, S. 10
5 حتي "ص45".
6 تولى الحكم في "13 أيار"، Hastings, P 934(2/230)
و"خطي" "Hatti"، "Hatte" و"إدبئيل" "1Ibida'il. وقد ورد أنها كانت تقطن في أرضين تقع في الغرب في أماكن بعيدة2, ويقصد أنها كانت غرب آشور، والغالب أنه كان يريد من قوله: في مواضع بعيدة، البادية حيث يصعب الوصول إليها.
ويرى بعض الباحثين أن "مسأى" "مسا" "Mas'a" هي قبيلة "مسا" "Massa" المذكورة في التوراة3, وهي قبيلة إسماعيلية كانت منازلها في شرق "مرآب"، أو في جنوب شرقيها4, ويظهر أنها لم تكن بعيدة جدا عن فلسطين5. ورأى "ذورمه" "Dhorme" أنها قبيلة من قبائل العربية الجنوبية6، وهو رأي بعيد الاحتمال7، فلا يعقل وصول نفوذ الآشوريين في ذلك ألزمن إلى تلك المواضع, ثم إن "مسا" وهو أحد أبناء "إسماعيل" كما ورد في التوراة 8, والقبائل الإسماعيلية لم تكن تسكن العربية الجنوبية، بل المواضع التي ذكرتها في أثناء حديثي عنهم. ثم إن أحد المقيمين الآشوريين كان قد كتب تقريرًا إلى ملكه، يذكر فيه أن "ملك قهرور" "مالك قهرو"، وهو ابن "عم يثع" "عم يطع" "عمي يطع" "Amme'uta'" من قبيلة "مسا"، غزا بعد خروج الملك وارتحاله عن قبيلة "نبأ أتى" "نبي أتي" "Nabi'ati" هذه القبيلة وذبح أفرادها، وسرقها وقد تمكن أحدهم من النجاة بنفسه، فبلغ الملك وأخبره بالحادث9. ويشير المقيم السياسي الآشوري في تقريره هذا إلى الحادث؛ ليكون ملكه على علم به. وقبيلة "نبي أتي" "نبأ أتى" "Nabi'ati" هي
__________
1 Musil Hegaz, P. 288, Rost, Keilschrifttexte, II, Taf. 23, S. 218-226, 240. Meissner, Koenige, S. 165, Pritchard, Ancient, Near East Texts, 1950, P. 283, 284.
وسيكون رمزه: Pritchard
2 Winckier, KLT. S. 58
3 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 14، أخبار الأيام الأول, الإصحاح الأول، الآية 30، قاموس الكتاب المقدس "2/ 342".
4 Musil Hegas. P 288. W. F. Albright, The Biblical Tribe of Massa, in Studi Orientallstick, Roma, 1956, 12
5 Hastings, P. 591, Enc. Bibli. P. 2972
6 Dhorme, Les Pays Bibliques, P. 196, 1910, Deserta, P. 478
7 Musil, Deserta, P. 478
8 التكوين، الإصحاح 25، الآية 14، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول, الآية 30
9 Rawlinson, Coneiform Inscriptions, "1861-1884" vol. 4, P. 1. 54. Note, I(2/231)
قبيلة "نبايوت" "Nabajot" "Nebaioth" المذكورة في التوراة1, وهي مثل "مسا" إحدى القبائل الإسماعيلية؛ ولهذا تكون منازل قبيلة "مسا" في الشمال أو في الشمال الغربي من منازل "نبايوت"2.
وأما "تيما" "Tema"، فإنها "تيماء" المذكورة في التوراة3، والمعروفة حتى في الإسلام. وتقع على الطريق التجاري الخطير الذي يربط العربية الجنوبية والحجاز والشام والعراق ومصر، ثم بموانئ البحر المتوسط، كما عرف التيمائيون باشتغالهم بالتجارة, فلعلهم دفعوا الجزية إلى آشور حفظًا لمصالحهم التجارية ولكي يسمح لهم الآشوريون بمرور تجارتهم في الطرق التي تخترق العراق وبلاد الشام وموانئ البحر المتوسط بعد أن أصبحت تحت سيطرتهم4.
وقد ذكرت "تيماء" مع "ددان" في مواضع من التوراة5, وذكرت مع "ددان" و"بوز" كذلك6. ومعنى هذا أن هذه المواضع كانت متقاربة لا يبعد بعضها عن بعض كثيرًا، وأشير إلى "قوافل تيماء" و"سيارة سبأ"7، ويدل ذلك على اتصال تجاري كان بين التيمائيين والسبئيين في ذلك العهد.
ويدل ورود اسم "سبأ" بعد "تيما" في نص "تغلث فلاسر"، على أن السبئيين المقصودين كانوا يعيشون على مقربة من التيمائيين ومن بقية من دفع الجزية للآشوريين. ويرى "موسل" أنهم كانوا يقيمون إذ ذاك في "ددان" "ديدان"، وأنهم من السبئيين الذين أخذوا مكان المعينيين، وكانت لهم قوافل تنقل التجارة على الطرق البرية, كما كانوا يقومون بتربية الإبل والماشية8.
وأما "خيابه" "Hajapa"، فإننا لا نعرف عنهم اليوم شيئًا غير الاسم. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنهم "عيفة" المذكورون في التوراة, ومن
__________
1 التكوين، الإصحاح 25، آية 13, Deserta, P. 478
2 Deserta, P. 478
3 التكوين، الإصحاح 25، الآية 15، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 30، قاموس الكتاب المقدس "1/ 296".
4 Musil, Hegaz, P. 288
5 أشعياء, الإصحاح 21، الآية 13 وما بعدها، إرميا, الإصحاح 25، الآية 23.
6 إرميا، الإصحاح 25، الآية 23.
7 أيوب، الإصحاح السادس، الآية 19.
8 Musil, Hegaz, P. 288. وسيكون رمزه: Hegaz(2/232)
هؤلاء "فرديش دلج"1 و"شرادر"2 و"موسل" وآخرون3. وهو على رواية نسابي العهد العتيق من نسل "مديان" "مدين"، ومن حَفَدة "إبراهيم" من زوجه "قطورة". ويفهم من "أشعياء" أنهم كانوا يتاجرون مع "شبا" مثل "مديان" يحملون الذهب واللبان4، ويظهر أنهم كانوا يقطنون منطقة "حسمي"5.
ومن الصعب تشخيص قبيلة "بطنه" "بطنا" "بدنه" "Batana" "Badana", ولم يرد في التوراة ما يقابل الاسم أو ما يقاربه. وقد قرأ "موسل" الاسم "بدنه" "Badana" وذهب إلى أنه اسم قبيلة "بدون" أو "مدون"، بإبدال "الباء" ميمًا، وهذا أمر مألوف. وتقع منازلها في "العلا"، أي في "ددان" "ديدان" القديمة, ويعتقد أفرادها أنهم من سلالة قديمة جدًّا، وليست لهم صلات قربى بالقبائل الأخرى, وتسكن بطون منهم عند "البتراء" "Petra" أي: الرقيم6.
وأشار "موسل" أيضًا إلى اسم موضع ذكر أنه ورد في كتاب "بلينيوس"، وهو "Badanatha", غير أنه لاحظ أن هذا الاسم مشكوك في صحة ضبطه، فإن بعضهم قد قرأه "7Baclanaza. فإذا كانت القراءة "Badanatha" صحيحة، فمن الممكن إذن أن يكون لهذا الاسم علاقة بـ"بدون"، أو "مدون" وبـ"بطنه" "Batana" الوارد في نص ملك آشور8. والموضع الذي ذكره "بلينيوس" قريب من "Domata"، أي: "دومة الجندل"،
__________
1 Fr. Delltzch, Wo Lag Das Paradles? Leipzig, 1881, S. 304
وسيكون رمزه Delitzch
2 KLT. S. 58
3 Hegaz, P. 289
4 "تغطيك كثرة الجمال، بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا, تحمل ذهبًا ولبانًا" أشعياء، الإصحاح الستون، الآية السادسة،
Hastings, P. 231, Ency. Bibll. P. 1300
5 Hegaz, P. 289
6 Rost, Die Keilchrifttexte Tiglatpilesers, III, Leipzig, 1892, S. 36. Hommel, Geographie, S. 297, 595, Reall, I, S. 431, Hegaz, P. 290
7 Pliny, Natu. Histo, Vi 157, vol, II< P. 457, "H. Rackham"
8 Skizze, II, S. 107, Hegaz, P. 290(2/233)
ومن "ثمود"، فهو في هذه المنطقة التي دفع أصحابها الجزية إلى الآشوريين.
وتقع ديار "خطي" "Hatti" على مقربة من "أدوم"، على رأي "موسل"1. وأما "كلاسر"، فيذهب إلى أنها كانت تسكن "الخط"، سيف البحرين، أي: على ساحل الخليج2, وهي منطقة قريبة من العراق، يرى أن من السهل الاستيلاء عليها. وقد ذكر "بلينيوس" موضعًا دعاه "خطيني" "Chateni" يقع على ساحل الخليج؛ ولهذا رجح "كلاسر" أن "Hatti" هم "خطيني" هؤلاء3, وقد ذكر "ياقوت الحموي" جبلًا بمكة دعاه "الخط"4.
أعرابية تتبعها إبلها, من الألواح المنحوتة التي عثر عليها في قصر "تغلث فلاسر" الثالث
وقد نقل اللوح إلى المتحف البريطاني, Helmuth Tb. Bossert, 1394
وقد يكون سكان المنطقة المجاورة له عرفوا باسم "الخطيون"، وقد مارسوا التجارة، وبعثوا كالقبائل الأخرى بتجاراتهم إلى اليمن وبلاد الشام والعراق؛ ولذا دفعوا الجزية إلى الآشوريين ليسمحوا لقوافلهم باجتياز الطرق البرية التي خضعت
__________
1 Hegaz, P. 290
2 البلدان "3/ 449"، المفضليات "245".
3 Skizze, II, S. 75, Forster, II, P. 216
4 البلدان "3/ 449".(2/234)
لسلطانهم وللاتجار في أسواق مملكة آشور.
ويظهر أن "إدبئيل" "إدبعيل" "Idiba'il" القبيلة المذكورة في نص "تغلث فلاسر"، هي قبيلة "أدبئيل" "Adabeel" في التوراة, وهي إحدى القبائل الإسماعيلية على حسب رواية نسابي العبرانيين1. وكانت منازلها في جنوب غربي البحر الميت على مقربة من غزة وإلى جنوب غربها عند حدود مصر، وفي طور سيناء2. وكان يسكن إلى الشرق منهم ومن قبيلة "خطي" وكذلك إلى الجنوب الشرقي وشرقي "بئر السبع" "Beersheba" "مبسام" "Mibsam" و"مشماع"، وهما ولدان من ولد "إسماعيل"3، ويمثلان قبيلتين من القبائل الإسماعيلية. ويظهر من "أخبار الأيام الأول" أن بني "مبسام" و"مشماع" كانوا من بني "شمعون"، وكانوا من بطون "الشمعونيين" القوية ولهم أرضون واسعة4. ويشير هذا إلى أن "المبساميين" و"المشماعيين" كانوا قد توسعوا وتصاهروا مع "الشمعونيين" واختلطوا بهم؛ فاختلط الأمر, وعد الذين تصاهروا مع الشمعونيين واختلطوا بهم منهم، مع أن أصلهم من الإسماعيليين، أي: من العرب الشماليين5.
وقد عين "تغلث فلاسر" في سنة "734 ق. م." عربيًّا "Arubu" اسمه "إدبئيل" "Idiba'il" في وظيفة "قيبو" "Kepu"، أي: والٍ على "مصري"؛ ليدير شئونها بالنيابة عنه، وجعل تحت تصرفه خمسة وعشرين موضعًا من "عسقلان"6. ويحتمل أن يكون هذا الرجل -على رأي "موسل"- شيخًا من قبيلة "إدبئيل"، كان مقيمًا مع قبيلته في "طور سيناء"، وكان له سلطان واسع بلغ حدود مدينة "غزة" 7. ولم يكن هذا الشيخ الذي اعتمد
__________
1 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 13، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 29.
2 Hastings, P. 12, Enc. Bibli. P. 65, Hegaz, P. 291. Deserta, P. 478
3 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 13 فما بعدها, أخبار الأيام الأول, الإصحاح الأول، الآية 29 فما بعدها, قاموس الكتاب المقدس "2/ 308، 344".
4 أخبار الأيام الأول، الإصحاح الرابع، الآية 25 فما بعدها.
5 Deserta P. 479
6 Reall. I, S. 125. Deserta, P. 478, Winckler, AOF. I, S. 25
7 Deserta, P. 478. Arabien, S. 21(2/235)
طليه ملك آشور فعينه واليًا عنه، إلا سيد قبيلة كلف حماية الحدود وحفظ مصالح الآشوريين بحفظ الأمن والسلامة ومنع الغزو والتحرش بالحدود. ولما كان من الصعب على الجيوش النظامية ولوج البوادي وتعقب أثر الأعراب، فكرت الحكومات القديمة والحكومات الحديثة في القرن العشرين في حماية مصالحها بدفع جعالات شهرية وسنوية وهدايا إلى سادات المشايخ، وتعيين بعضهم في مناصب كبيرة؛ ليتولوا حماية الحدود, وكبح جماح البدو ومنعهم من الغزو, والاستفادة منهم في إزعاج خصومهم بغزوهم ومحاربتهم أو محاربة القبائل المتحالفة معهم، كالذي فعله الفرس واليونان والرومان والدول المستعمرة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
ويظهر أن بلوغ جيوش "تغلا تبلاسر الثالث" غزة كان في حوالي السنة "738 ق. م". فسيطر الآشوريون بذلك على هذا الميناء المهم الذي كان نهاية طرق القوافل التجارية الآتية بصورة خاصة من الحجاز1، وهو ميناء كان مقصد تجار يثرب ومكة حتى عند ظهور الإسلام.
ويحدثنا "سرجون الثاني" "724-705ق. م"2 أنه في السنة السابعة من حكمه، سنة "715ق. م"3 أدَّب "تمودي" "Tamudi" و"أباديدي" "عباديدي" و"مرسماني" "Marsimani" و"خيابه" "Hajapa" وهزمهم، ونقل من وقع في يديه منهم إلى "السامرة" "4Samaria". ثم يذكر بعد هذا الخبر أنه تلقى الجزية من "سمسي" "Samsi" ملكة "أريبي" ومن "برعو" "pir'u" ملك "مصري" "Musuri" ومن "يتع أمر" "It'amra" السبئي5. وذكر أن الجزية كانت من الذهب وحاصلات الجبل والحجارة الكريمة والعاج وأنواع البذور والنبات والخيل والإبل6.
ويتبين من أسماء المواضع والقبائل التي ذكرها "سرجون"، أن تلك المعارك كانت قد وقعت في أرضين تقع في الشمال الغربي من جزيرة العرب، وفي المنطقة
__________
1 Arabien, S. 21
2 "شركينا الثاني"، أدي شير "ص88".
3 سنة "715 ق. م" بحسب رأي Reali. I, S. 125
4 Schrader, KLB. Bd. II, S. 42, Rawlinson, The Five great Monarchies, II, P. 415 Reall, I, S. 125
5 Reall. I, S. 125, Winckler, Sargon I, S. 20
6 Luckenblll, II, 17(2/236)
الواقعة فيما بين خليج العقبة و"تيماء" والبادية, ولا بد وأن تكون الجيوش الآشورية قد هاجمتها من الشمال أي: من فلسطين.
وقد ورد في بعض ترجمات نص "سرجون" أنه نقل الأعراب الذين ينزلون في مواضع نائية من البادية، ولم يعرفوا حاكمًا رسميًّا ولا موظفًا ولم يدفعوا جزية إلى أي ملك سابق، نقلهم إلى "السامرة" وأسكنهم فيها1. ويظهر أن هذه الجملة لا تخص الجملة السابقة التي ذكر فيها "ثمود" وبقية الأسماء، وليست معطوفة عليها؛ لأنه وصف هؤلاء الأعراب بأنهم سكان بوادٍ نائية، ولم يدفعوا الجزية لأحد من قبل، على حين يقيم المذكورون في أرض معروفة ولمنازلهم أسماء، وهي ليست من البوادي.
وورد في هذه الترجمات بعد جملة "ويثع أمر السبئي": "ومن هؤلاء الملوك ملوك على الساحل، ومنهم ملوك في البادية, تسلمت منهم جزية: تبرًا، وأحجارًا كريمة ... إلخ"2, مما يدل على أن أولئك الملوك كانوا يحكمون أرضين واسعة تمتد من البادية إلى البحر الأحمر.
ووردت في نص "سرجون" المشار إليه أسماء مواضع هي "Uaidaue" و"Bustis" و"Agazi" و"Ambanda" و"Dananu" ووردت معها جملة: "أريبي الساكنين في مشرق الشمس" "أريبي مطلع الشمس"؛ ولهذا ذهب بعض الباحثين إلى أن الأسماء المذكورة هي أسماء مواضع في أرض "أريبي"، أي البادية. وهو رأي يعارضه باحثون آخرون؛ لغموض العبارة، ولتعذر القول: إن أسماء هذه المواضع تعود إلى "أريبي الساكنين في مشرق الشمس"3.
أما "تمودي" "Tamudi" فإنهم "ثمود" الذين سبق أن تحدثت عنهم. وأما "أباديدي" "Ibadidi" فشعب لا نعرف من أمره شيئًا, وقد ذهب "موسل" إلى احتمال كونهم "أبيداع" "Abida" المذكورين في التوراة4,
__________
1 Pritchard, P. 286
2 Pritchard, P. 286
3 "أريبي شانبخ شمشي" "Aribi Sha Nipikh Schamschi"
Reall. I, S. 144, Delitzsch, S. 306, Winckler, Sargon I, S. XXVII, UAOG. 112 Rost, MVAG. 1897, 2, S. 84.
4 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 4، أخبار الأيام الأول, الإصحاح الأول، الآية 33، قاموس الكتاب المقدس "1/ 28"، Hastings, P. 3, Enc. Bibli. P. 14(2/237)
وهو فيها ابن "مديان"، أي "مدين". ويرى أن مساكنهم كانت في جنوبي شرقي "أيلة" "Elath" أي: العقبة، على الطريق التجارية المهمة التي تربط ديار الشام بالحجاز1.
ورأى "كلاسر" أن "الأباديدي" هم "Apataei" المذكورون في جغرافية "بطلميوس"2, وكانوا يقيمون في مكان يقال له: "وادي العبابيد" أو"العباديد" على مقربة من العقيق؛ أو أن فرعًا منهم كان يقيم في هذا المكان3. وذهب "فورستر" إلى أن شعب "APATAEI" هم شعب آخر، وأن الكلمة هي في الأصل "Nabataei"، وهو شعب كانوا يقيمون في موضع "نبت" على ساحل الحجاز4.
ولا نعرف من أمر "مرسماني" "Marsimani" شيئا يذكر، ولم يرد لهذه القبيلة اسم في التوراة. غير أن بعض الكتبة "الكلاسيكيين" ذكروا قبيلة عربية يظهر أنها كانت تقيم في جنوب شرقي "العقبة" سموها "Batmizomaneis" "Banizomaneis"، وقد كانت في جوار قبيلة "Thamudenoi" أي ثمود5, ويرى "موسل" احتمال كون هذه القبيلة هي "مرسماني"، تحرف اسمها في النص الآشوري أو حرفه الكتبة "الكلاسيكيون" حتى صار على نحو ما نرى6. وعلى كل حال فإن على لفظة "Marsimani" طابع العروبة، فلا يستبعد أن تكون من "مرسم"، أو أسماء أخرى عربية قريبة منها.
ويظهر أن كراهية الأعراب للآشوريين كانت شديدة جدًّا، لم تخفف من حدتها لا سياسة القوة والعنف ولا سياسة التودد واللين. لقد حملت هذه الكراهية القبائل على مد يد المساعدة إلى كل مبغض للآشوريين، أو متمرد عليهم، فقدمت المعونة إلى "مردخلبلدان" "مردخ بلذان" "مردخ بلادان"7
__________
1 Hegaz, P. 292
2 Skizze, II, S, 289
3 "العبابيد"، البلدان "6/ 104"، Skizze, II, S. 259
4 Forster, I, P. 233. FF
5 Diodorus, Bibliotheca, III, 43. F
6 Hegaz, P. 292
7 "مردخ بلادان"، "مردخ بلدان"، "مرود خلبلدان", أدي شير "ص97",
Reall. I, S. 125, Deserta, P. 480(2/238)
"Merodachbaladan" ملك بابل خصم وعدو "سنحاريب" "سنحريب" وأرسلت "ياتيعة" "يثعة" "يطيعة" "Ja'iti'e"، ملكة "أريبي" جيشًا لمساعدته ومناصرته في كفاحه هذا مع الآشوريين وضعته تحت قيادة أخيها "بسقانو" "بصقانو" "Basqanu"1، إلا أنه لم يتمكن من الوقوف أمام الآشوريين، فنزلت به خسارة فادحة، وأُسِرَ "بسقانو" وأُسِرَ معه معظم جيشه. وكانت هذه الهزيمة في موضع "كيش" "Kish", وقد كانت في حوالي سنة "703" أو "702" قبل الميلاد, على رأي بعض الباحثين2.
ويظهر أن لفظة "Iati'e" هي تحريف لاسم عربي من أسماء النساء لعله "بطيعة" أو ما يشابه ذلك, وقد كانت ملكة إذ ذاك، أي: إنها كانت مثل "زبيبة" و"شمس" المذكورتين. وأما اسم "بسقانو" "Basqanu" فالظاهر أنه "الباسق", فإنه قريب منه.
ويحدثنا "سرجون" في كتاباته عن أيامه وعن أعماله المجيدة, أن الملك "أبيري" "Uperi" ملك "دلمون" سمع بقدرة آشور وبعظمتها فأرسل هداياه إليه3. ومعنى هذا أن البحرين كانت إذ ذاك تحت حكم ملك اسمه "أبيري"، لعله "أبير"، وأن الصلات السياسية كانت وثيقة بين آشور والبحرين في ذلك العهد. وقد ذكر "سرجون" أن "أبيري" "ملك دلمون"، "كان يعيش كالسمكة في وسط بحر الشروق، البحر الذي تشرق عليه الشمس، وعلى مسافة ثلاثين ساعة مضاعفة، وكان قد سمع بجلال عظمتي فأرسل بالهدايا إليَّ"4.
وفي هذا الخبر إشارة واضحة إلى استقلال البحرين، أي جزيرة "دلمون" وخضوعها لحكم ملك لعله كان من أهلها. ولما كان القسم الجنوبي من العراق تحت حكم الآشوريين في هذا العهد, وللبحرين علاقات تجارية متينة مع هذا القسم؛ لذلك أرسل هدايا ثمينة إلى ملك آشور.
ويظهر من خبر آشوري يعود عهده إلى أيام الملك "سنحاريب" "سنحريب"،
__________
1 Reail., I, 3.. 125
2 Real!., I, 3., 125, British Museum Cylinder, 113, 203, Smith, First Campaign of Sennacherib, P., 62, (1921) , Deserta, P.. 480
3 Ancient Iraq, P., 261.
4 Belgrave, P. 87(2/239)
وهو ابن "سرجون"، أن ملك البحرين لما سمع بخبر اجتياز هذا الملك نهر الفرات ودخوله الخليج ووصوله أرض جزيرة "دلمون"، أسرع فاعترف بسيادة ملك آشور عليه. وكان هذا الملك قد دَكَّ أرض بابل في حوالي سنة "689 ق. م."، وسار منها متوجهًا نحو أرض الخليج. وفي هذا الخبر إشارة إلى أن علاقة الآشوريين بالبحرين كانت وثيقة في هذا العهد أيضا، وأن ملك البحرين كان يخشى ملك آشور؛ لذلك اعترف بسيادته الاسمية عليه1.
وأخبرنا "سنحاريب" "سنحريب" "705-681 ق. م." أنه تسلم هدايا من "كرب إيل" "كريبي، إيلو" "Karibi–ilu" ملك سبأ "Saba'i"، إذ بنى بيتًا أو معبدًا "بيت أكيتو" "Bit–Akitu"؛ للاحتفال فيه بعيد رأس السنة والأعياد الأخرى2. وكان من جملة هذه الهدايا أحجار كريمة وأنواع من أفخر الطيب ذي الرائحة الزكية الطيبة "Rikke Tabutu"3، وفضة وذهب وأحجار ثمينة أخرى4، وهي أمور اشتهرت بها العربية الجنوبية، كما عرفت بتصديرها هذه المواد إلى الخارج، وقد تحدثت عنها التوراة في مواضع من الأسفار5.
وقد ذهب "هومل" إلى أن "كربي، إيلو" هذا هو "كرب ال" "كرب إيل" أحد "مكربي" "مقربي" سبأ، أي: الكهان الحكام، ولم يكن ملكًا على عرش سبأ وإن دعاه "سنحاريب" ملكًا؛ ذلك لأن الآشوريين لم يعرفوا لقبه الرسمي، أو لأنهم لم يهتموا بذلك فجعلوه ملكًا. وهذه الهدايا لم تكن جزية فرضت عليه، بل كانت هدية من حاكم إلى حكام، وقد بعث بها إليه مع القوافل الذاهبة إلى الشام بطريق غزة، أو طريق مكة، فالبادية إلى العراق6. وعندي أن من الجائز أن يكون "كريبي، إيلو" هذا سيد قبيلة أو أميرًا من الأمراء الذين كانوا في العربية الشمالية، من المجاورين لتلك القبائل
__________
1 Belgrabe, P. 56, 87
2 Handbuch. I, S. 76
3 Reall. I, S. 76
4 "طبوتو"، "طيبوتو"، "طيب".
5 Handbuch, I, S. 76, O. Schroeder, Keilschrift Texte aus Assur. Hist. Inhalts, II, No. 122, Leipzig 1922
6 Handbuch. I, S. 76, 86(2/240)
التي تحدثت عنها وسبق لها أن قدمت هدايا لآشور، وكان من السبئيين النازحين إلى الشمال الذين حلوا محل المعينيين.
ولما قضى "سنحاريب" على مقاومة البابليين وعين عليهم ملكًا منهم، كان قد تربى في قصور الآشوريين فأخلص لهم، سار إلى بلاد الشام لإخضاع العمونيين والمؤابيين والأدوميين والعرب والعبرانيين, فقد كان هؤلاء قد انتهزوا فرصة قيام البابليين وقبائل إرم والعرب والعيلاميين على الآشوريين للتخلص منهم، فألفوا حلفًا بينهم في جنوب بلاد الشام، أي: في فلسطين والأردن، واتحدوا لمحاربة "سنحاريب". فلما وصل إلى ساحل البحر المتوسط، أخذ جيشه يستولي على المدن الفينيقية والفلسطينية، ويتقدم نحو الجنوب حتى بلغ "عسقلان" "Ashkelon". ولما وصل إلى موضع "التقه" "علتقه" "Eltekeh" "Altekeh"، اصطدم بالعرب وبالمصريين, غير أنه تغلب عليهم واستولى على "التقه" وعلى "تمنة" "تمنث" "ثمنة" "1Timnath" و"عقرون" "عاقر" "2Ekron.
وفي أنباء الانتصارات التي سجلها "سنحاريب" لنفسه أنه قام في حوالي سنة "689 ق. م." بحملة على الأعراب التابعين للملكة "تلخونو" "Telhunu" ملكة العرب "Arabi"، أي: أعراب البادية، وعلى الملك "خزا إيلي" "حزا إيلي" "Haza-ili"، ملك "قيدري" "Qidri"، أي: القيداريين، فسارت جيوشه في اتجاه "أدوماتو" "دومة" "Adummatu"، فتغلبت على العرب وعلى القيداريين3. ويقصد بـ"أدوماتو" "دومة الجندل"4, وقد كانت "أدوماتو" "Adummatu" من مواضع "أريبي" "عريبي" الحصينة5.
__________
1 يحتمل أنها "تبنة" في الزمن الحاضر، قاموس الكتاب المقدس "1/ 291".
2 "عقرون" من مدن الفلسطينيين الخمس، وتسمى الآن عاقر، على تل يبعد اثني عشر ميلًا عن يافا إلى الجنوب الشرقي، تنبأ "صفيا" بخرابها، إذ قال: "عقرون تُستأصَل"، صفيا 2، الآية 4، قاموس الكتاب المقدس "2/ 108 وما بعدها".
3 أدي شير "ص108 فما بعدها"، Hastings, P. 67, Reall. I, S. 125
Reall. I, S. 125, Ungnad, Borderasiatische Schriftdenkmaler I, No. 77. II, 22. FF. Olmstead, History of Assyria, P. 310.
4 Deserta, P. 480
5 Reall. I, I lieferung, S. 39(2/241)
وهي في موضع بعيد عن عواصم الدول الكبرى، إلا أنها لم تنجُ مع ذلك من غزوات تلك الدول, وقد ذكرها "بطلميوس" باسم "1Doumatha" "Adomatho.
وقد جاء في نص آشوري أن الملك "سنحريب" أرسل حملة إلى الخليج، فانتصرت وحققت رغباته، وقد فر ملك "أرض البحر" إلى أرض "عيلام". ويظهر أنه بنى أسطولًا قويًّا حمل جنوده إلى تلك الأنحاء، فلم يتمكن أهل الخليج من مقاومته واضطروا إلى الخضوع لآشور2.
ويظهر أن "سنحريب" كان قد تمكن فعلًا من إخضاع الأعراب له ومن السيطرة عليهم، ويرى بعض الباحثين في نعت "هيرودوتس" له بأنه "ملك العرب والآشوريين"3 تعبيرًا عن إخضاع "سنحريب" الأعراب لحكمه وإن كان ذلك قد وقع لأمد محدود4.
وفي نص دونه "أسرحدون" "680-669 ق. م." عن أعماله وعن أعمال والده, أن أباه "سنحاريب" أخضع "أدومو" "Adumu" "معقل أريبي"، واستولى على أصنامها، وحملها معه إلى عاصمته، وأسر ملكتها "Iskallatu" التي كانت كاهنة للإله "دلبات" "Dilbat"، وأسر الأميرة "تبؤة" "Tabua" كذلك. فهو يؤيد بذلك ما ذكره أبوه من انتصاراته على العرب5.
ولم يتحدث النص الآشوري عن الجهة التي هاجم منها "سنحاريب" "دومة الجندل" أي "Adummatu" "Adumu". ويرى "موسل" أنه هاجمها من إقليم "بابل"، ويرى أيضا أن سلطان الملكة "تلخونو" كان يشمل منطقة واسعة تمتد من "أدومو" إلى حدود بابل. وقد كان أعرابها يمتارون ويبتاعون الطحين والملابس والمواد الضرورية الأخرى من بابل، فيسلكون البادية، ومن هذه البادية وصلت أمداد الملكة وقواتها إلى بابل لمساعدتها في مقاومة
__________
1 Albright, Fn JRAS. 1925, P. 293, Hommel, Geographie, S. 581, f. 594
2 العرب والملاحة في المحيط الهندي، جورج فاضلو حوراني "ص38 وما بعدها".
3 Herodotus, II, 141
4 Grohmann, S. 22
5 Reall. I, s. 126, "Jal'u", "Jauta". Pritchard, P. 289, "91"(2/242)
آشور، فاشتركت مع البابليين في الحرب، على حين هاجم فريق آخر من أتباع الملكة المقاطعات الآشورية في بلاد الشام. فلما تغلب "سنحاريب" على بابل وانتصر عليها في سنة 689 ق. م، تفرغ لمحاربة الملكة والانتقام منها، فأمر قواته بالضغط على أتباع الملكة، وتعقبهم في البادية لحفظ الحدود. ثم حاصر "أدومو"، حتى تغلب عليها، وانتصر على هذا المعقل الذي التجأ إليه أتباع هذه الملكة وغيرهم للخلاص من الآشوريين1.
ويظهر من النصوص الآشورية أن خلافًا وقع بين الملكة "تلخونو" والملك "خزا إيلي"، قد تكون أسبابه الهزيمة التي حاقت بهما ومحاصرة "سنحاريب" لهما في "دومة الجندل". وقد كان "خزا إيلي" على ما يظهر هو الذي تولى قيادة الجيش، وتنظيم خطط الدفاع والهجوم. فسببت الهزائم التي حلت بهما غضب الملكة عليه وعلى سوء قيادته "فغضبت تلخونو على خزا إيلي ملك أريبي"2, ولعلهما اختلفا أيضا بسبب محاصرة "دومة الجندل" والدفاع عنها أو عدمه. ومهما يكن من شيء، فقد استسلمت الملكة "تلخونو" للآشوريين، وتغلبت جيوش "سنحاريب" على هذا المعقل، وأخذت الأصنام أسرى إلى "نينوى", كما أخذت الأميرة" تبؤة" "Tabua" أسيرة إلى عاصمة آشور؛ لتربى هناك تربية يرضى عنها الآشوريون، ولتهذب تهذيبًا سياسيًّا خاصًّا يؤهلها أن تكون ملكة على "أريبي".
أما "خزا إيلي" فقد تمكن من خرق حصار الآشوريين على "دومة الجندل" ومن الاعتصام مع أتباعه بالبادية، حيث لم يكن في قدرة "سنحاريب" مطاردتهم وإيقاع خسائر بهم، وبقي في هذه البادية طول حياة "سنحاريب". فلما توفي هذا الملك، وانتقل الملك إلى ابنه "أسرحدون"، وزالت أسباب الجفاء، قصد نينوى لمقابلة الملك الجديد، ومعه هدايا كثيرة، سُرَّ بها الملك واستقبله بلطف ورعاية، وسلمه الأصنام الأسيرة السيئة الحظ التي كان عليها أن تشارك أتباعها الحياة الأرضية المزعجة، وتمكنت كل من "عتر سماين" "عثتر السماء" و"دبلات" و"دايا" "ديه" "Daja" و"نوهيا" "نهيا" "نهى" "Nuhaia" و"إبيريلو" "Ebirillu" و"عثتر قرمية" "عثر قرمي"
__________
1 Deserta, P. 480
2 British Museum Tablets, K3087, K3405(2/243)
"Atar Kurumaia"، وهي الآلهة التي كتب عليها أن تسجن من استنشاق ريح الحرية ثانية، ومن استعادة مقامها بين عبادها، فوضعت في أماكنها، وسر أتباعها ولا شك بهذه العودة1.
وفي أثناء وجود تلك الأصنام في الأسر، أصيبت ببعض التلف، فمَنَّ "أسرحدون" عليها بالأمر بإصلاح ما أصابها وإعادتها إلى ما كانت عليه، ثم تلطف فأمر بإرجاعها إلى "خزا إيلي" "خزائيل"، بعد أن نقشت عليها كتابة تفيد تفوق إله آشور على تلك الأصنام، وبعد أن نقش عليها اسم الملك2.
وأراد "أسرحدون" تنصيب "تبؤة" "Tabua" التي تربت تربية آشورية، ملكة على "أريبي"؛ ليضمن بذلك فرض سلطان آشور على الأعراب. وهو حلم تحقق، ولكنه لم يدم طويلًا؛ لأن العداء بين الآشوريين والعرب كان عميقًا، لا يقضي عليه منح تاج، ونصب ملك أو ملكة3.
واعترف "أسرحدون" بـ"خزا إيلي" ملكًا على قبيلة "قيدار"، في مقابل إتاوة يدفعها، قدرها خمسة وستون جملًا4. فلما توفي "خزا إيلي" سنة "675 ق. م"5, اعترف "أسرحدون" بابنه "يايتع" "يايطع" "يطع" "يثع" "Uaite'" ملكًا مكان أبيه، على أن يدفع إتاوة سنوية كبيرة مقدارها ألف من "Minae" من الذهب، وألف حجر كريم, وخمسون جملًا، وطيب، أي أكثر مما كان يدفعه أبوه6, وقد رضي الابن بذلك على أمل أن ينعم عليه بتاج كيفما كانت الشروط. غير أن حسابه هذا لم يكن دقيقا، فقد ثار عليه شعبه الذي أبى أن يخضع لرجل فرض عليه فرضًا، وأبى قبوله ملكًا عليه. وقام -وعلى رأسه "الزعيم" "أوبو" "وهبو"- "وهب"، "أوب" "Uabo" "Uaboa" بثورة عامة للتخلص منه، ومن سلطان الآشوريين.
وأسرع الآشوريون فأرسلوا جيشًا لإخماد هذه الثورة، فأطفأها وأسر
__________
1 Pritchard. P. 291, D.J. Wixman, The Vassal-Treaties of Esarhaddon, London.1958. P. 4
2 Pritchard. P. 291
3 Pritchard, P. 291
4 Descrta, P. 482
5 Hastings. P. 832
6 Grohmann, S. 22(2/244)
"أوبو" "Uabo" وأخذ إلى "نينوى"، إلا أن الانتصار عليه لم يقضِ على مقاومة العرب للآشوريين وثورتهم عليهم، فقاد "يابتئ" "يثع" "Uaite'" الثورة هذه المرة، ورفع راية الحرب على الآشوريين، وغزا هو وأتباعه حدود الإمبراطورية الآشورية المحاذية للبادية، واضطر الآشوريون إلى تجهيز حملة جديدة انتصرت عليه، وهاجمت مضاربه، وقبضت على أصنامه، وأخذتها معها أسرى للمرة الثانية1. أما "يابتئ"، فقد فر "وحيدًا إلى أصقاع بعيدة" على ما جاء في النص2. والأصقاع البعيدة هي البادية، ولا شك، حيث يصعب على الآشوريين التوغل فيها للتوصل إليه؛ لذلك صارت مأوى لكل ثائر تحل به خسارة, فإذا نجا بنفسه، وتمكن من الفرار من ساحة الهزيمة إلى البادية، صار في حصن أمين، لا تمتد إليه الأيدي بسوء إلا إذا كان المهاجمون من أبناء جنسه الأعراب.
وقام "أسرحدون" بعد هذه الحملة بحملة أخرى على قبائل عربية تنزل أرض "بازو" "Bazu" و"خازو" "3Hazu". وقد ابتدأ بها في اليوم الثاني من شهر "تشرى" من السنة الخامسة من سني حكمه, وهي تقابل سنة "676 ق. م."4. وقد قتل فيها ثمانية ملوك, هم: "كيو" "5kiau قيسو "kisu" و"ki-i-su" ملك "خلديلي" "6Haldilli", و"أكبرو" "Agbaru" "AK-baru"، وهو ملك "ال بياتي" "البياتي" "إيل بياتي"7 "8Na-pi-a-te"، "Ilpiati"منسكو" "منساكو" "منسك" "Mansaku" "Ma-an-sa-ku"، ملك "مجل أني" "مجلاني"
__________
1 II, S., 217, 377, British Museum, A Guide to the Baby, and Assy. Antiquities,II, S., 217, 377, British Museum, A Guide to the Baby, and Assy. Antiquities, P. 227, Deserta, P. 482
2 Luckenbill, II, 916
3 Rawllnson, Cunei, Inscr., Col. 3, II, 25-52, III, PI., 15. 10 Col. 4 II 10-26
Schrader, Keil. Bibl. II, S. 131 Deserta, P. 482
4 Rawlinson, Cunei. Inscr, Col. 3, II, 25-52, III, Pl. 15, 16 col. 4 II 10-25, III, PI, 15, 16 col. 4 II 10-26
Schrader, Keil. Bibl. II, S. 131 Deserta, P. 482.
5 Reall. I, S. 440
6 "Dil-di-li", "Kud-di-li" Deserta, P. 488. Skizze, II, L. 265
7 Reall. I, S. 42. 440 Schrader, Keil. Bibli. II, S. 146
8 Skizze, II, S. 265, Deserta, P. 483
سومر: الجزء الثاني، 1949م، المجلد الخامس "ص140".(2/245)
"1Magal'ani" "Ma-gal-a-ni"، والملكة "يافأ" "إيفع" "يفع" "Iapa'" "Ja-pa'"، ملكة "دخراني" "دحراني" "دخر" "2Dihrani" "Didhrani" و"خيبصو" "خابصو" "جيبسو" "Habisu" "Kha-bi-su" ملك "قدايأ" "3Qadab"، و"نخارو" "نيخرو" "نحارو" "نحر" "Niharu" "Ni-kha-ru" ملك "جأباني" "جعباني" "جعفاني" "4Ga'pani"، والملكة "با إيلو" "بائلة" "Ba'ilu" "Ba-i-lu" ملكة "إخيلو" "5Ihilu"
آشوريون يحرقون خيمة أعراب نيام Helmuth Bossert, Altsyrien, 1397
و"خبن إمرو" "خبن عمرو" "حبن إمرو" "حبان إمرو" "Habanamru" "Kha-ba-zi-ru" ملك "بداء" "بدع"6 "Buda'", وأسر خلقًا من أتباعهم أخذهم إلى أرض آشور كما حمل آلهتهم معه. وتمكن أحد الملوك، وهو الملك "ليلى" "Laili" "ليلة" "Laiale" ملك "يادئ" "ياديا" "يدع" "Iadi" "Jadi'" من النجاة، غير أنه ذهب إلى نينوى بعدئذٍ، حيث طلب العفو والصفح عما بدر منه، فقبل "أسرحدون" منه ذلك، وتآخى معه،
__________
1 "Ma-gal-Za-nl", Sklzze, II, 3., 265, Reall., I, S., 440, Deserta, P. 483
2 "Di-tkh-ra-a-nI", "D1—-ikh—ra—ta—a—nl", Skizze, II, S., 266
"Ka-da-ba'-a", "Ka-ta-ba'- a", Skizze, II, S. 266
3 "Ga'-u-u-a-nl", Skizze, S. 266
4 "I-khl-lu", Reall. I, S. 392, Schrader, Keil. Bibll. II, S. 148, Skizze, II, S. 266
5 Reall. I, Sechste Lieferung, s. 440. II, S. 74, "Pu-ta'-a", "Bu-da-a", Asarh
6 Prism Br. Col. IV, L. 22, Schrader, Keil. Bibli. II, s. 148, Skizze, II, S. 266(2/246)
وأعاد إليه أصنامه، وعينه ملكًا على أرض "خازو" "وبازو" "بازي" على أن يدفع الجزية إليه1.
وقد ورد في التوراة اسم "بوز" و"حزو"2؛ أما "بوز" فهو ابن ناحور أخي إبراهيم، ويظن أن لاسمه صلة باسم أرض "بوز"3, وأما "حزو" فإنه أحد أولاد "ناحور"4. وقد ذكرت كلمة "بوز" بعد "تيماء" في سفر "إرميا"، حيث ورد: "وكل اللفيف وكل ملوك أرض عوص، وكل ملوك أرض فلسطين وأشقلون وغزة وعقرون وبقية أشدود، وأدوم ومؤاب وبني عمون، وكل ملوك صور، وكل ملوك صيدون، وكل ملوك الجزائر التي في عبر البحر، وددان وتيماء وبوز، وكل مقصوصي الشعر مستديرًا، وكل ملوك العرب وكل ملوك اللفيف الساكنين في البرية"5. فـ"بوز" في التوراة اسم موضع، واسم شعب، وقد ورد في التوراة اسم رجل من "بوز" سمي "اليهو" "Elihu" البوزي، وهو ابن "برخيئل"، وكان صديق "أيوب" وحكمًا في المحاورة التي جرت بين أيوب وأصحابه الثلاثة الذين أتوا ليعزوه في المصائب والبلايا التي نزلت به6. وأيوب كان من سكان أرض "عوص"7، وهو عربي على رأي عدد من علماء التوراة.
ولم يحدد موقع "بوز" في التوراة", ولكن ورود "بوز" بعد ددان وتيماء في الموضع الذي ذكرته من إرميا، وقبل جملة "وكل مقصوصي الشعر مستديرًا" يحملنا على التفكير في أن أرض "بوز" كانت في جوار تيماء، وليست بعيدة جدا عن "ددان" "ديدان"، وقريبة من الأعراب الذين كانوا يحلقون شعور رءوسهم إلا دائرة تبقى في أعلى الرأس، أي: غير بعيدة عن البادية وعن الأعراب
__________
1 أدي شير "ص118".
Rawlinson, The Five II, P. 470. ff. Reall. I, 6. te. Liegerung, "Basi" S. 440 Deserta, P. 483, Real. I, 3. Lieferung, S. 201
2 التكوين، الإصحاح الثاني والعشرون، الآية 21 وما بعدها.
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 255".
4 التكوين، الإصحاح الثاني والعشرون، الآية الثانية والعشرون، قاموس الكتاب المقدس "1/ 273".
5 إرميا، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 20 وما بعدها.
6 أيوب، الإصحاح الثاني والثلاثون، الآية 8، قاموس الكتاب المقدس "1/ 141".
7 قاموس الكتاب المقدس "1/ 188".(2/247)
الإسماعيليين. ولهذا ذهب "كلاسر" و"دلج" "F. Delitzsch" وغيرهما إلى أن بوز، هي "بازو" الواردة في نص "سنحاريب"، وتقع في العربية الشمالية1, ورأى "ذورمة" "Dhorme" أنها في منطقة تقع في جنوب شرقي الجوف2. وأما "موسل"، فيستند أيضا إلى الوصف الذي جاء في النص الآشوري عن "بازو" التي تقع في موضع قاصٍ، ويبدأ من السباخ وبادية مجدبة، "140 بيرو من الرمال"3، وليس فيها غير الشوك ونوع من حجر يعرف بـ"حجر فم الغزال"4، ثم سهل فيه الأفاعي والعقارب مثل "الزربابو" الجراد5, تليه "خازو"، وهي أرض جبلية اتساعها "20 بيرو" من حجر الـ"6Saggilmut. ويرى من هذا الوصف أن موضع "بازو" في غرب وفي جنوب "تدمر" وفي "وادي السرحان"، وأن الملوك الثمانية الذين قتلهم "أسرحدون" كانوا يقيمون في وادي السرحان عند الحدود الشرقية لحوران وفي "الرحبة" و"قطبة" إلى وادي "القطامي". ويرى أيضا أن "يدئ" "يادئ" "يدي"، وهو موضع الملك "ليلى"، هو "الجاف"، أو "الودي" وذلك بإبدال الحرف الأول من كلمة "يدي" بحرف الواو. وهو أمر يرى أنه كثير الحدوث، فمن المحتمل أن يكون موضع "الوادي" -على رأيه- هو "يدي" أو "يدئ" مقر الملك "ليلى" "7Laili.
فرأي "موسل" أن "بازو" تعني النصف الشمالي من "وادي السرحان", وأما الأرض الواقعة في شرق "السرحان" وفي شمال السرحان في المنطقة الجبلية، فإنها "خازو" "حازو"، وقد سلك الجيش الآشوري -كما يقول- الطريق التجارية
__________
1 Reall, I, 440, Enc. Bibli. P. 615, Delitzsch S. 307, Skizze, II, S. 265,
2 Deserta, P. 483
3 "كسبو" "قصبو" "Kasbu" عند "كلاسر" و"دلج" بدلًا من بيرو، و، قصبو، قصبة، و، بيرو، هما وحدة قياس الأبعاد والمسافات
Rawlinson, The five. II, P. 470, S. Smith, Babylonian Historical Texts, P. 18, Campbell Thompson, Assyrian Herbal, 102
4 "صبيتي"، Deserta, P. 484
5"زربابو"، "zirbabu" جراد، Skizze, II, S. 265. Reall. I, S. 440
6 Reall, I, S. 440 Deserta, P. 482. f. Skizze, II, S. 265, Delitzsch, S. 306
7 Deserta, P. 484(2/248)
المارة من الحافات الشرقية لحوران إلى دمشق1.
وقد صيرت أرض "بوز" و"بوزي" بـ"أرض أوسيتس" "Ausitis" في الترجمة السبعينية للتوراة "العهد العتيق"2؛ ولذلك رأى بعض العلماء أن المراد بها اسم "Aiseitai" "إيسايتاي" "إيسايته"، وهو اسم موضع ذكره الجغرافي "بطلميوس" في داخل بادية بلاد العرب3, ورأوا أن بوز هي هذا المكان4.
ورأى آخرون أن "بازو" هي نجد، وأن البادية التي تحدث عنها "أسرحدون" هي "النفود", وأما "خازو" فإنها الإحساء5. وذهب "رولنسن" إلى احتمال كون هذه المنطقة هي أرض مملكة الحيرة، وما يتصل بها إلى جبل شمر؛ لأن الوصف المذكور ينطبق -في رأيه- على هذا المكان6.
وذهب "كلاسر" في مكان آخر من بحوثه المستفيضة عن "بازو" و"خازو" إلى أن "خازو" هي "حزو", وإلى أن "بازو" و"حازو" في الأقسام الشرقية والجنوبية من "اليمامة" إلى أرض "مأكن" "Maken" إلى مرتفعات "رأس الخيمة"7. وأشار أيضًا إلى "حزوى"، وهي "السدوسية" لبني سعد في اليمامة، وقد ذكرها "الهمداني"8, ويرى أن اللفظة قريبة جدًّا من "حزو" التوراة ومن "خازو" النص الآشوري. وعلى هذا تكون أرض "خازو" في اليمامة، وهي أرض ذات آثار قديمة وعاديات وخرائب تقع بين وادي "ملهم" و"وادي حنيفة"9.
__________
1 Deserta, P. 484
2 -العهد القديم، العهد العتيق، الصورة القديمة، الترجمة السبعينية، هي الترجمة التي تمت في عهد الملك بطلميوس الثاني، 285-247 ق. م؛ وذلك ليتمكن يهود مصر، الذين كانوا قد نسوا العبرانية، وتكلموا باليونانية من الوقوف على التوراة وفهمها.
3 Ptolemy, Geography, B, 19, 2
4 Reall. I, 6te. Lieferung, S. 440
5 Reall. I, 440, Palgrave, Central Arabia, I, P. 96, "1866"
6 Rawlinson, The Five. II, P. 470
7 Skizze, II, S. 266
8 الصفة "ص162".
9 Skizze, II, S. 269(2/249)
ورأى بعض الباحثين المحدثين أن أرض "بازو" هي الساحل المقابل لجزر البحرين، أي: جزيرة "تلمون" كما كانت تعرف عند القدامى. وأما "خازو" أي "حازو" في قراءة، فهي "الأحساء"1, ونرى بين اللفظتين "حازو" و"أحساء" تقاربًا كبيرًا.
ولم يذكر "أسرحدون" كيف رجع إلى بلاده بعد حملته الطويلة هذه، ومن أي سبيل رجع إلى ملكه؟ غير أن بعض الباحثين يرون أنه سلك طريقًا غير الطريق الأول الذي سلكه في حملته على الشعوب والأرضين المذكورة. يرون أنه سلك طريقًا موازيًا لساحل الخليج، فاخترق أرض "بازو" و"خازو"، "حاسو", ثم سار شمالا إلى إقليم بابل. و"حاسو" عندهم هي الأحساء، وهي بين "نجد" والخليج، وكان "أسرحدون" قد سلك في حملته الأولى كما يروون طريقًا اخترق "نجدًا", فلما قرر العودة سلك الطريق الثاني2.
ويرى "موسل" أن اسم "دخراني" "Di-ih-ra-ani" هو "Dacharenoi" المذكور عند "إصطيفان البيزنطي" "3Stephen of Byzantium". أما "كلاسر" فيرى أن قبيلة "Dachareni"، التي ذكرها "بطلميوس" بعد اسم قبيلة "Malangite" هي القبيلة المذكورة في نص "أسرحدون"4, وأن قبيلة "Malangite" هي قبيلة "Ma-gal-a-ni" المذكورة في نص "أسرحدون", ورأى احتمال كون "Gauuani" هي "جوجان"5 و"Ikhilu" هي "أجلة" أو "أخلة"، وهما عند الخرج6.
ويرى "كلاسر" احتمال وجود علاقة بين "Bi-i-lu" وهو اسم الملكة, و"باهلة" وهو اسم القبيلة المعروفة التي تقع منازلها منذ القديم في هذه المنطقة. وعنده أن حملة "أسرحدون" قد كانت في اليمامة، حيث ينطبق وصف
__________
1 J. Simons, P. 15
2 Reall. I, te. Lieferung, S. 441
3 Deserta, P. 484, Stephen of Byzantium, Ethnica, "meineke" I, P. 223, Forster, II, P. 141, Skizze, II, S. 5
4 "Dacharaemoizae"
Forster, I, P. IXXIX, 138, II, 268, Skizze, II, S. 256
5 "جوجان"، صفة "ص 139، 141، 150".
6 "أجلة" صفة "ص139، 150، 155، 161". Skizze, II, S. 5(2/250)
هذه المنطقة على وصف الأماكن المذكورة في حملة "أسرحدون" أحسن انطباق1. وبعد وفاة "أسرحدون" رأى "يثع" "يطع" "يايطع" "Uaite'" أن من الأصلح مصالحة الآشوريين، فذهب إلى "آشور بانبال"، "آشور بنبال" وقابله وأرضاه، فأعاد إليه أصنامه، ومنها الصنم "عثتر السماء"، "أتر سمائين" "Atarsamain" "A-tar-sa-ma-a-a-in"، أي "عثتر السماوات"، وهو الإله "عثتر" إله السماء، الذي سأتحدث عنه عند كلامي على ديانة العرب قبل الإسلام، ورضي عنه وأعاده إلى منصبه2.
ويذكر "آشور بانبال" أن "Uaite'" حنث بيمينه، وخالف عهده وميثاقه معه، لما أعلن "شمش، شوم، أوكن" "Schamaschschumukin" شقيق آشور بانبال العصيان عليه وخاصمه، فانضم إليه، وأيده بمدد يساعده، جعله تحت قيادة "إب يثع" "أب يثع" "Abjate'" و"إيمو" ابني "تارى" "ثأر" "تور"، "Te'ri". وقام على رأس أتباعه بغزو الحدود الغربية لأرض بلاد الشام التي سبق أن استولى عليها الآشوريون، وأصبحت من المقاطعات الخاصة لهم، من "أدو" "Adom" في الجنوب إلى جنوب "حماة" في الشمال. غير أن السعد لم يحالف "Uaite'" في هذه المرة أيضا، فتصدت الجيوش الآشورية للمدد الذي أرسل لمساعدة "شمش، شوم، أوكن"، وشتَّتَتْ شمله قبل وصوله إلى "بابل". أما الذين تمكنوا من الهرب والوصول إلى "بابل"، فقد أُبيد أكثرهم كذلك. وقد اضطر "أب يتئ" "أب يتع" "Abjate" أن ينجو بنفسه بالهرب إلى البادية خشية أن يقع في الأسر، وذهب من ثم إلى "نينوى" حيث مثل أمام الملك طالبًا منه العفو والصفح، وقبل الملك عذره وصفح عنه، ثم أصدر أمره بتعيينه ملكا في مكان "Uaite'" الذي كان مشغولًا بغزو حدود الشام وفلسطين الشرقية المتاخمة للصحراء أي حدود أرض "أمورو" "Amurru" على رأي بعض العلماء 3, وذلك بعد
__________
1 Skizze, II, S. 269, 273
2 "أسور بانيبال" أدي شير، "ص132",
Real. I, S. 310, 312, Schrader, KAT. S. 434, Streck< Borderasiatische Bibliotheck, VII, S. 72, Deserta, P. 485
3 لمعرفة آراء علماء الآشوريات في أرض "أمورو" التي تعني أرض المغرب، أو الرياح الغربية، استحسن الرجوع إلى ما كتب عن هذا الموضوع في:
Real. I, S. 99. ff. Hastings, P. 27(2/251)
هزيمة "Uaite'" وتغلب الآشوريين عليه في حوالي سنة "648ق. م."1. وقد وافق "أب يتئ" "Abjate'" أن يدفع جزية إلى الآشوريين، تتألف من ذهب وأحجار كريمة وجمال وحمير2.
ولم يتمكن "Uaite'" من الثبات طويلًا والاستمرار على مهاجمة الآشوريين، إذ كلف الملك "آشور بانبال" حرس الحدود والقوات الآشورية التي كانت هناك مهاجمة أتباعه، ومعاقبة "Uaite'" الذي نسي الجميل، وخاس بعهده على حد قول "آشور بانبال"3. وبعد مصادمات ومعارك وقعت بالقرب من "أزريلو" "4Azarilu", و"خير أتكاسي" "khiratakasi" و"أدومة" "Udume" في ممر "يبردو" "Jabrudu", في "بيت أماني" "بيت عماني" "Bit Ammani" في منطقة "خوينه" "Khaurina" و"موابه" "Mu'aba" و"ساري" "Sa'ari" و"خرجه" "Kharge" و"صويبتي" "Subiti"، اضطر أتباع "أويتي" "Uaite'" إلى الرجوع إلى البادية للاحتماء بها, ويظهر أنهم أصيبوا في أثناء ذلك بخسائر فادحة. وقد أكره "أويتئ" بعد هذه الخسائر على الالتجاء إلى الملك "نتنو" "Natnu" ملك "نبيتي" "نبيطي" "Nabaitai" "Nabaiti" تاركًا زوجته بين أتباعه من قبيلة "قيدار"5 "Qidri" "kedar.
ولما هاجم "أمولاني" "عمولاطي" "أمولاطي" "Ammulati" ملك قبيلة "قيدار" "قيدري" أرض مملكة "مؤاب" "Moab" أصيبت جيوشه بخسارة كبيرة، وسقط أسيرًا, ومعه "أديا" "عادية" "عدية" "Adija" زوجة "Uaite'" ملك "أريبي" في أيدي الملك "Kamashkalta" "Kamaskhalta" ملك مؤاب "648 ق. م", فأرسلا أسيرين إلى نينوى
__________
1 Melasner, Konige, S. 246, Deserta, P. 486, RealL I, S. 9
2 Descrta, P, 486, Rawlinson, Cuneiform, 5, Part, I, Plate, 9, Col. 8 II 30. III, P 1. 34, Streck, Die Inschriften Assurpanipals, II, 8. 68, 134, 202
Reall. I, S. 126. 3
4 Reall. I, S. 325
5 Deserta, P. 485, Rawlinson, IV, Part. I, P 1. 9. Streck. II, S. 64, 132(2/252)
حيث سلما إلى "آشور بانبال"1. وكان "Ammulati" قد ساعد "شمش، شوم، أوكن" في ثورته على أخيه، وهاجم أرض المغرب "أمورو" "Ammurru"؛ لذلك سر "آشور بانبال" بهذا الانتصار الذي أحرزه "مؤاب". وقد رسم منظر غلب "آشور بانبال" وأسر "Ammulati" و"Adija" على جدار إحدى غرف قصر الملك "آشور بانبال"2.
لقد أثرت الانتصارات التي أحرزتها جيوش "آشور" في نفس "نتنو" "ناتنو" "Natnu" ملك "Nabaiti"؛ فأخذ يتقرب إلى "آشور بانبال"، ومن جملة ما فعله في التقرب إليه أنه أرسل "Uaite'" -الذي كان قد التجأ إليه- إلى نينوى حيث سلم إلى الملك الذي أمر بوضعه في قفص؛ ليعرض على الناس عند أحد أبواب المدينة3. وذكر "آشور بانبال" في كتابته أن منازل "Nabaiti" قبيلة "Natnu" بعيدة، ولم يسبق لها أن أرسلت رسلًا إلى بلاط أحد من أجداده وآبائه في نينوى من قبل، وأن هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها من هذه القبيلة رسول4.
وقد وصف "آشور بنبال" موقف الأعراب وصفًا مؤثرًا بهذه الكلمات: "اشتدت عليهم وطأة الجوع. ولكي يسدوا رمقهم، أكلوا لحوم صغارهم ... وقد سأل أهل العربية بعضهم بعضًا: ما بال بلاد العرب قد أحدق بها هذا الشر؟ فكان الجواب: تلك عاقبة من ينكث العهد، ويخرق المواثيق التي قطعناها لآشور"5.
وذكر "آشور بانبال" أنه عامل "Uaite'" على هذه الصورة، وذلك في عباراته التي أمر بتدوينها في النص: "حبسته في مربط الكلاب، وضعته مع بنات آوى والكلاب، وأقمته على حراسة الباب في نينوى"6.
__________
1 British Museum Tablet, K2802, Rawllnson, 3, PI., 34. Col. 8. II, 31-44, PI. 35. ff.Col. 5, II, 15-30, Reall. I, S. 36
2 Real. I, S. 36, 98, British Museum, A Guide to the Babylonian and Assyrian
Antiquities, London, 1922, P. 184, 44, K. 2802, + K3047, -f- 3049
3 ReaLl. I, S. 126
4 Deserta, P. 486. Ungnad. In Vorderasiatische Schrlftdcnkmaler, I, No. 83, Col. 3,II, 4-16
5 LuckenbUl, II, 888
6 Luckenbill, II, 819(2/253)
ووصف حملته على الأعراب ومطاردته لهم بهذه الكلمات: "في رمضاء البادية وقيظها، حيث لا ترى طيور السماء وحيث لا يرى حمار الوحش ولا الغزال"1؛ وذلك من شدة جدب البادية، وعدم احتمالها الأحياء.
لم تنفع الشدة التي استعملها الآشوريون في القضاء على مقاومة الأعراب شيئًا. فما كاد "آشور بانبال" يشغل نفسه بقتال ملك "عيلام" وحربه في عام "640-641 ق. م." حتى ثارت القبائل العربية على آشور بزعامة "أبيتأ" "أبي يثع" "Abijate'" بن "تاري" "Te'ri" الذي تحدثت عنه سابقًا، و"أويتئ" "Uaite'" الثاني، وهو ابن "بير دادا" "Bir Dadda", وأخذت تتحرش ثانية بحدود المقاطعات الآشورية المتصلة بالبادية. ولما أرسل الآشوريون جيوشًا قوية لصد هذه الهجمات، طلبت قبيلة "قيدري" "قيدار" مساعدة "نتنو" ملك "نبتي" "Nabaiti"؛ فلبى الطلب وتحالف معهم، وأخذوا يهاجمون الحدود ومعهم قبيلتا "يسمع" يسمأ" "Isamme'" و"عثتر سمين" "Atarsamain". غير أن الجيوش الآشورية تمكنت -مع ذلك كما تدعي كتاباتهم- من الانتصار على "قيدار" وعلى حلفائهم؛ فانتصرت على "Isamme'" وعلى "Atarsamain" و"Nabaiti" في موضع في البادية بين "ياركي" "يركي" "Jarki" "أرك" شرق تدمر2، و"أزلة"3 "Azalla"، وشتتت شملهم. ثم انتصرت في معركة أخرى على "Atarsamain" على "قيدار" وقعت عند "Qurasiti"، وغنمت فيها غنائم كبيرة من الحمير والجمال والأغنام، كما أسرت أصنام "Uaite'" وأمه وزوجته وعددًا كبيرًا من أتباعه4, وأخذوا إلى دمشق، وأسر "أبي يثأ" "Abjate'" وشقيقه "أيمو" "Aimnu" في المعركة التي وقعت عند "خوكريتا"5 "Khukkurina" "Khukruna".
__________
1 Luckenbill, II, 823
2 Meissner, Konige, S. 246, Streck, Bab. Vil, S. S. CCLXXXII, ff
3 وتقع في بادية "تدمر" بين "يركي" "Jarki" ودمشق، Reall. I, S. 325, Reall. I, Ite, Lieferung, S. 9
4 Deserta, P. 487
5 Deserta, P. 488, Reall. I, S. 126(2/254)
أما الملك "Uaite'"، فقد اعتصم مع عدد من أتباعه بالصحراء، غير أن الأمراض والأوبئة التي انتشرت بين أتباعه أكرهته على الذهاب إلى الآشوريين الذين نقلوه إلى نينوي، وعرضوه أمام الملك. وقد عُوقب عقًابا قاسيًا، وعُذِّب عذابًا شديدًا، ثم عفا عنه الملك بعد ذلك غير أنه لم يسمح له بالعودة إلى البادية، حيث أهله وأتباعه ومنازله، ولعله مات في نينوى1.
لقد وردت في أخبار حملات الآشوريين على العرب، أسماء مواضع منها ما يمكن التعرف عليه، ومنها ما ليس في الإمكان تشخيصه الآن، وقد تحدثت عن بعضها. ويرى بعض العلماء أن موضع "أزريلو" "Azarilu" المذكور في أخبار انتصارات "آشور بانبال" على العرب، هو موضع يقع في بادية الشام2. وأما لفظة "أدومة" "Udume" فيرى "موسل" أنها تعني "إدوم" "Edom" أرض "الأدوميين" من ذرية "عيسو بن إسحاق" على رواية التوراة, وهم شعب استوطن في الأصل جبل "سعير"3، ثم توسع فسكن في منطقة شملت كل تخوم كنعان الجنوبية من البحر الميت إلى الخليج الشرقي للبحر الأحمر، ومن ضمنها جبل "سعير"4. وقد كان الأدوميون من أعداء العبرانيين.
ولما زاحم النبط الأدوميين على أرضهم، زحفوا نحو الشمال فسكنوا في "اليهودية" "judah"، وتوسعوا حتى تجاوزوا شمال "حبرون"؛ ولذلك دعيت هذه المنطقة باسم "الأدومية"5 "Idumaea". وذكر المؤرخ اليهودي "يوسفوس" أن من أصنامهم صنمًا يدعى6 "Koze"، ويذكرنا اسم هذا الصنم باسم الصنم "قزاح"، وهو صنم كان يعبد على مقربة من مكة7.
__________
1 Deserta, P. 389, Rawlinson, The Five. II, P. 492
2 Reall. I, S. 325
3 التكوين، الإصحاح الثاني والثلاثون، الآية 3، القضاة، الإصحاح الخامس, الآية 4، قاموس الكتاب المقدس "1/ 53"، Hastings, P. 203
4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 53".
5 Hastings, P. 203
6 Josephus, Antiq. XV, 7, 9
7 Enc. Bibli. P. 1188(2/255)
عليهم. كانوا يأتون إليهم بخيامهم "كالجراد في الكثرة، وليس لهم ولجمالهم عدد" حتى ذل الإسرائيليون1. وأصل المدينيين من جزيرة العرب، استقروا بأرض "مدين" جاءوا إليها من الحجاز، وأخذوا يغزون العبرانيين، ومنها هذه الغزوات التي يرجع بعض الباحثين تأريخها إلى النصف الأول من القرن الحادي عشر قبل الميلاد2. أما العمالقة وبنو المشرق، فإنهم مثل المدينيين من قبائل العرب.
__________
1 القضاة، الإصحاح السادس، الآية 3 وما بعدها.
2 Arabien, S. 21(2/256)
العرب والآشوريون:
إن أول إشارة إلى العرب في الكتابات الآشورية، هي الإشارة التي وردت في كتابات الملك "شلمنصر الثالث" "شلمناصر" ملك آشور1. فقد كان هذا الملك أول من أشار إلى العرب في نص من النصوص التأريخية التي وصلت إلينا، إذ سجل نصرًا حربيًّا تم له في السنة السادسة من حكمه على حلف تألف ضده، عقده ملك "دمشق" وعدد من الملوك الإرميين الذين كانوا يحكمون المدن السورية وملك إسرائيل ورئيس قبيلة عربي اسمه "جندب", وقد كان هذا النصر في سنة "853" أو "854 ق. م"2. وقد قصد "شلمنصر" بلفظة "عرب "الأعراب، أي: البدو، كما شرحت ذلك في الفصل الأول. أما العرب الحضر, أهل المدر, أي: المستقرون، فقد كانوا يدعون كما ذكرت ذلك أيضا بأسماء الأماكن التي يقيمون فيها أو التسميات التي اشتهروا بها؛ ذلك لأن لفظة "العرب" لم تكن قد صارت علمًا على جنس، من بدو ومن حضر، بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا. ولم يكن هذا الاستعمال مقتصرًا على الآشوريين
__________
1 "شلمناسر" قاموس الكتاب المقدس "1/ 629"، بمعنى "شلمان ذو نعمة" سنة 12 و19 "ص65"، راجع عن مادة العرب في الموارد البابلية والآشورية أدي شير: تأريخ كلدو واثور "المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين" في بيروت, أطروحة T. Weiss Rosmarin المعنونة بـ
"Arabi und Arabien in den Babylonish-Assyrrischen Quellen" Wuerzburg, 1931, New york, 1932, Jsor, 16. 1932
2 D.D. Luckenbill, Ancient Records, Bol. II, 17, 118, vol. II, 17, 118, Vol, I, 661(2/256)
عددها على تسع للانتقام من الأعراب الذين كانوا قد تعودوا التحرش بهم، ومضايقتهم عند اجتياز البوادي، ومهاجمة قوافلهم وحدود إمبراطوريتهم، تحرضهم بابل في بعض الأحيان، أو حكومة مصر، أو يدفعهم إلى ذلك أملهم في الحصول على غنائم يتعيشون منها. وقد أزعجت هذه التحرشات الآشوريين كثيرًا وأغضبتهم، يتجلى غضبهم هذا فيما دونوه عنهم, وفي الصور التي رسموها للعرب في قصورهم، فصوروهم يقبلون أرجل ملوك "نينوى" ليرضوا عنهم، مقدمين إليهم الهدايا فيها الذهب والحجارة الكريمة وأنواع الطيب والكحل واللبان والجمال, وصوروا الآشوريين وهم يحرقون خيام الأعراب وهم نيام، وصوروا عساكرهم يقاتلون الأعراب ويطاردونهم وهم على ظهور خيولهم المطهمة, أما العرب، فإنهم على ظهور الجمال لا يستطيعون الإفلات من الآشوريين1. وترجع هذه الصور إلى أيام "آشور بانبال"، حيث عثر عليها في قصره بـ"نينوى".
وقد صور العرب ولهم لحى وقد تدلى شعر رءوسهم على أكتافهم ضفائر، وشد أحيانا بخيط, وأما الشوارب، فإنها محفوفة في الغالب. وقد صور العرب وهم يركبون الجمال عراةً في بعض الأحيان، أو تمنطقوا بمنطقة ثخينة, أو ائتزروا إزارًا يمتد من البطن إلى الركبتين2. ولا تصور هذه الصور كل الأعراب بالضرورة, بل هي تمثل أولئك الذين تحاربوا مع الآشوريين.
لقد أقام الآشوريون لهم مسالح في أقاصي الأماكن التي بلغ نفوذهم الحربي والسياسي إليها، كما أقاموا حصونًا في مفارق الطرق المؤدية إلى البادية؛ وذلك لحماية حدودهم من غزو أبناء البادية. كما وضعوا مراقبين آشوريين، أو مندوبين سياسيين في مواطن سكن سادات القبائل؛ وذلك لمراقبة حركات القبائل وإخبار حكوماتهم بنوايا وبأعمال ساداتها, وللتأثير على أولئك السادات لحملهم على تنفيذ ما يريده ملوك آشور, وهي خطة قلدها من جاء بعد الآشوريين من أجانب. ولم يكن الآشوريون هم أول من ابتدع هذه السياسة، فلا بد وأن يكون من سبقهم قد سار على هذا الدرب، ومهد أرضه للآشوريين ولمن جاء بعد الآشوريين من حكام.
__________
1 British Museum, Assyr. Sal. Nr. 85-87, Reall. I, 127, E. unger, Assyr. Und Babyl. Kunst, 1927, Abb. 77, Marucchi, Catal. Del Mus. Egiz. Batica. Nr. 24
2 Streck, VAB. VII, S. 217, Anm. II, 411, 772, Reall. I, S. 127(2/257)
الفصل الخامس عشر: صلة العرب بالكلدانيين والفرس
لا نعلم شيئًا كثيرًا عن صلات العرب بالكلدانيين، فلم تصل إلينا كتابات منهم تفصح عن علاقتهم بالعرب. غير أن سكوت هذه الكتابات وعدم وصولها إلينا، لا يمكن أن يكون سببًا يحملنا على التفكير في عدم قيام صلات بين العرب والكلدانيين؛ فقد رأينا فيما مضى أنهم ساعدوا أهل بابل في نزاعهم مع آشور، ثم إن العرب كانوا يجاورون البابليين منذ القديم، وهذه المجاورة القديمة في حد ذاتها واسطة طبيعية لتكوين الاتصال المباشر بين العرب والكلدانيين.
وقد تحدث الأخباريون عن غزو "بخت نصر" "بختنصر" "604-561 ق. م." للعرب في أيام "معد بن عدنان"، ووصوله إلى موضع "ذات عرق"، كما تحدثت عن ذلك في فصل "طبقات العرب"، وقد قلت: إن رواته أخذوا مادته من أهل الكتاب، وأضافوا إليه مادة جديدة أنتجها ابتداعهم له، فصار نسيجًا جديدًا هو المدون في الكتب1, وهو حديث لا قيمة تأريخية له؛ ولذلك لا يمكن الاطمئنان إليه والأخذ به. وقد قص علينا الأخباريون ألوانًا كثيرة من هذا القصص الذي بان لونه وعرف أصله في القرن العشرين.
وأنا لا أريد أن أستبعد احتمال قتال "بخت نصر" مع القبائل العربية، فذلك
__________
1 الطبري "1/ 291"، ابن الأثير، الكامل "1/ 117"، "نبوكذ ناصر"، "أدي شير" "ص140".(2/258)
ممكن جدا، ولا سيما أن بابل مجاورة للعرب، وأن توسع هذا الملك ودخوله فلسطين جعل البابليين يتصلون اتصالًا مباشرًا بالأعراب، فلا بد أن يكون "بخت نصر" قد احتك بالعرب واتصل بهم, وقد يكون حاربهم وأوقع خسائر بهم؛ لتحرشهم بجيوشه وبحدود إمبراطوريته التي شملت البادية الواسعة الفاصلة بين العراق وبلاد الشام1. ولكن الذي نتوقف عنده وننظر إليه بحذر، هو هذا الطابع المعروف عن الأخباريين، الذي يروون به كيفية غزو ذلك الملك لـ"معد بن عدنان".
وقد يكون "بخت نصر" قد بلغ موضع "ذات عرق" وقد يكون بلغ موضعًا آخر أبعد منه، إلا أن الذي أراه أن استيلاء البابليين على الأماكن التي احتلوها من جزيرة العرب إن وقع فعلًا، فإنه لم يدم طويلًا؛ فقد كانت فتوحات الفاتحين لجزيرة العرب كالسيول، تأتي جارفة عارمة، تكتسح كل شيء تجده أمامها، ثم لا تلبث أن تزول وتختفي آثارها بعد مدة قصيرة؛ لأسباب منها بُعد طرق المواصلات عن عواصم الغازين الفاتحين وعدم وجود مواد غذائية كافية في البلاد المفتوحة لإعاشة جيش كبير، ليستطيع ضبط القبائل والمحافظة على الأمن، ومهاجمة القبائل للقوافل التي ترد لتموين الحاميات وللحاميات نفسها، وعدم تمكن الفاتح من وضع جيش كبير جاهز في كل لحظة للقتال ليصد غارات القبائل التي تؤلف غالبية سكان جزيرة العرب في ذلك العهد. ثم إن القسم الأكبر من الذين قاتلوا وفتحوا, أناس مرتزقة سِيقوا إلى القتال سَوْقًا، خوفًا أو طمعًا، وقبائل اشترى الفاتحون ساداتها بإطماعهم في مغانم يجنونها أو لدوافع حقد قبليّ، ومن عادة سادات القبائل أنهم مع الفاتح ما دام قويا سخيا يبذل لهم بكل سخاء، فإذا ضعف أو أمسك أو دارت الدنيا عليه، كانوا هم أول من ينقلب عليه؛ ولذلك صارت أمثال هذه الفتوحات غارات انتقامية سريعة، لا يلجأ إليها إلا بعد تفكير وإعداد خطط ووجود ضرورات ملحة تستوجب إرسال مثل هذه الحملات.
ويرى بعض علماء التوراة والبابليات ما جاء في كتاب "دانيال" الذي كتب بعد أيام "بخت نصر" من نبوءة ومن رسالة أرسلها النبي إلى ذلك الملك، ومن
__________
1 D.J. Wiseman, Chronicle of Chaldaean Kings, PP. 32, 48, 70, Nebuchadrezzar's Campain in Arabia, 599 B. C(2/259)
فتوحات في بلاد العرب، هو من وضع كاتب تلك الرسالة، وضعه ليثبت نبوءته، وأن ذلك الكاتب أخذ فتوحات "نبونيد" فنسبها إلى "بخت نصر"1. أما أنا، فلا أريد أن أثبت فتوحات "بخت نصر" ولا أريد أن أنفيها في هذا العهد، فوصول "بخت نصر" إلى الحجاز أمر ممكن، وسوف نرى أن "نبونيد" قد وصل إلى مدينة "يثرب"، فليس بمستبعد وصول "بخت نصر" إلى الحجاز، بعد أن استولى جيشه على فلسطين، وصار في إمكانه الزحف نحو الجنوب، ولكن الذي أراه الآن هو التريث، فلعل الزمن يجود علينا بنصوص قد تتحدث عن حروب وفتوح أمر بها هذا الملك في بلاد العرب. وكتاب "دانيال"، وإن كُتب على شكل نبوءة، لا يستبعد أن يكون قد استمد خبر النبوءة من وثيقة أو خبر شائع، فصاغه في شكل نبوءة؛ ليثبت نبوءته لبني إسرائيل.
وقد أخبرتنا الكتابات البابلية أن "بختنصر" "Nebuchadrezzar" أرسل في شهر "كسلو" "Kislev" "Kislew" من السنة السادسة من ملكه المقابلة لسنة "599 ق. م." حملة على العرب الساكنين في البادية، نهبت أملاكهم وما عندهم من مواشٍ، وسرقت آلهتهم ثم عادت2. ولم يذكر النص البابلي اسم البادية التي هاجمها الجيش البابلي ولا اسم القبائل التي هاجمها، ولم يذكر أيضا اسم المواضع التي تحرك منها الجيش لمهاجمة العرب. ويرى الباحثون احتمال مهاجمة البابليين للعرب من "حماة" "Hamath" أو "ربلة" "Riblah"، أو "قادش" "Kadesh"، فتوغل جيش "بختنصر" في البادية، ثم عاد حاملًا معه ما ذكر في النص من أسلاب ومن مواشٍ وآلهة العرب أي: الأصنام.
وكانت غاية البابليين من أسر الأصنام وأخذها، هو إكراه القبائل على الاستسلام والخضوع لهم؛ لما للأغنام من أثر كبير في نفوسها، وقد رأينا أن ملوك الآشوريين مثل: "سرجون" و"سنحريب" و"أسرحدون" كانوا قد أسروا أصنام العرب وأخذوها معهم إلى آشور وكتبوا عليها شهادة الأسر والوقوع في أيدي الآشوريين؛ ليؤثروا بذلك نفسيًّا في نفوس أتباعها وعبَّادها
__________
1 S. Smith, Babylonian Historicl Texts, P. 35
2 Br. Mus. 21946, D.J. Wiseman, Chronicles of Chaldaean Kings, London, 1956, P. 31, 48, 71(2/260)
ويكرهوهم على الخضوع لهم وعلى مساومة الآشوريين لاستردادها في مقابل الاستسلام لهم وتأييد سياستهم وعدم التحرش بهم, ولم يذكر النص البابلي أسماء تلك الآلهة.
وكانت غاية "بختنصر" من إرسال حملته هذه على العرب، هو حماية حدود "حماة" وبقية مشارف فلسطين وبلاد الشام من الأعراب وإخضاعهم لحكمه، ثم تأديب بعض القبائل التي تحرشت به على ما يظهر حين دخوله بلاد الشام وفي جملة ذلك فلسطين. واستنادًا إلى ما جاء في "سفر إرميا" نستطيع أن نقول: إن "قيدار" كانوا على رأس القبائل العربية البارزة التي غزاها جيش "بختنصر" وكذلك "بنو المشرق" "أبناء المشرق" و"ممالك حاصور". ونظرًا لوجود تشابه كبير بين الرواية البابلية عن حملة "بختنصر" على العرب وبين ما جاء في "سفر إرميا"1، أرى أن مدون السفر قد أخذ خبره هذا الذي صيَّره نبوءة من موارد بابلية ثم كيَّفه على النحو المذكور.
ولدينا خبر رواه لنا "إكسينوفون" "Xenophon"، يفيد أن "بختنصر" لما حمل على مصر أخضع "ملك العربية". وقد قصد بذلك حملته على مصر سنة "567" قبل الميلاد2.
والخبر التأريخي الثاني الذي وصل إلينا عن صلات البابليين المتأخرين بالعرب، هو ما ورد عن الملك "نبونيد" "Nabonid" "Nabonidus" "555-538 ق. م." "556-539 ق. م." من اتخاذه "تيماء" مقرًّا له. ففي السنة الثالثة من حكمه جرد حملة على "أدومو" "Adumu" "Adummu" أي "دومة" "دومة الجندل"، وسار منها إلى "تيماء" سالكًا طريقًا لم تعرف في الزمن الغابر على رأس جيشه، جيش أرض "أكد" "أكاد". فلما وصل إليها، أعمل فيها السيف، وقتل أميرها وأهلها, والظاهر أن ذلك بسبب مقاومتهم له وعنادهم في الدفاع عن مدينتهم، ثم طاب له أن يستقر بها، فابتنى بها قصرًا ضخمًا له جعلوه كالقصر الذي في بابل، وحلت "تيماء" محل
__________
1 الإصحاح 49، الآية 27 وما بعدها.
2 enophon, Cyropaedeia, I, 5, 2, Naval, P. 216(2/261)
بابل، أي صارت عاصمة لملك البابليين1.
ويرى العلماء أن حملة "نبونيد" على "دومة الجندل" "أدومو" "Adummu" و"تيماء" "Tema" كانت في سنة "552 ق. م."2. وقد جاء إليهما سالكًا الطريق البرية المؤدية من بلاد الشام إلى شرقي الأردن، الطريق التي يسلكها حجاج بلاد الشام في الإسلام إلى مكة, وبعد أن قضى على حكام المدينتين استقر في "تيماء" ومعه حرسه البابليون. ويظهر من إشارته في نصه المدون عن أخبار فتوحاته أنه سلك في وصوله إلى "تيماء" سبيلًا لم يسلكها الأقدمون من قبل، ومن إشارته إلى قتله "ملك تيماء" وسكان المدينة أن المدينة في أيامه كانت مستقلة، يحكمها ملك من أهلها، وأن البابليين لم يكونوا قد حكموها قبله3.
وقد أقام "نبونيد" سنين في عاصمته الجديدة, أما ابنه "بلشاصر" "بلشصر" "بلشسر" "Belsharrusur" "Belsazar"، فكان بـ"بابل" مع الجنود البابليين. ويظهر أنه أقام بهذه المدينة حتى السنة الحادية عشرة من حكمه، وربما أقام بها أكثر من ذلك قليلًا، حتى اضطر إلى تركها والعودة إلى بابل, بظهور الفرس الذين هددوا البابليين، ووسعوا ملكهم، وصاروا على مقربة من بابل. فقد تغلب "كيرش" "كورش"4 "cyrus" على العربية وأدخلها في جملة أملاكه، وعين عليها مقيمًا سياسيًّا فارسيًّا "ستراب" "satrap"، ويظهر أن حملته هذه على العربية كانت حوالي سنة "540-539 ق. م."، وأن "نبونيد" كان قد ترك "تيماء" وجاء إلى بابل قبل تغلب "كيرش" على العربية5.
وقد يتساءل المرء عن الأسباب التي حملت "نبونيد" على ترك بابل والالتجاء هذه السنين إلى "تيماء": أهي شئون سياسية خطيرة حملته على السكنى في هذه
__________
1 Musil, Negd, P. 225 Meissner, Koenige, S. 208, Sidney Smith, Babylonian, P. 88, Dougherty, Nabonides, and Belshazzar, New Haben, 1929, PP, Reall. I, 5te, Lieferung, S. 383
2 S. Smith, P. 53
3 راجع السطر 24 من النص S. Smith, P. 88
4 "كيرش"، الطبري "2/ 5"، "1/ 653، 691، 781"، "طبعة ليدن"، "كورش" تأريخ مختصر الدول لابن العبري، "ص81" "بيروت 1890".
5 S. Smith, Baby. Hist, P. 82, 102, The Cambridge Ancient History. IV, P. 194(2/262)
المدينة البعيدة عن عاصمته القديمة، أم هي عوامل عسكرية, أو اقتصادية, أو بواعث شخصية لا تتعلق بهذه ولا بتلك؟ أما إجابات المؤرخين، فهي مختلفة ومتنوعة. منهم من رأى أن لتيماء أهمية كبيرة من الناحية الاقتصادية لوقوعها في ملتقى طرق تجارية عالمية بالنسبة إلى ذلك العهد، والاستيلاء عليها والبقاء فيها معناه كسب عظيم, وربح كبير بالنسبة إلى عالم السياسة في ذلك اليوم. ومنهم من رأى أن ذلك كان لأثر مزاج الملك وطبيعته ورغبته في التخلص من أمراض بابل؛ بسكناه في محل جاف مرتفع زهاء "3400" قدم عن سطح البحر.
وتيماء مركز مهم، ذكر كما رأينا في نصوص الآشوريين، وهو من الأماكن القديمة المذكورة في التوراة، وهو فيها كناية عن أحد أبناء إسماعيل، مما يدل على أنه كان من المواطن الإسماعيلية، ويقع على مسافة "200" ميل إلى الجنوب الشرقي من رأس خليج العقبة، وبمثل هذه المسافة إلى الشمال من المدينة، وعلى بعد "65" ميلًا من شمالي العلا. وبها عين غزيرة المياه، هي التي بعثت الحياة في هذا المكان, وتعد أشهر عين ماء في جزيرة العرب1، تستعمل للسقي، ولإرواء المزارع التي تنبت مختلف الفواكه والتمور والحبوب. وهواؤها صحي جيد، ولا تزال مأهولة، فهي في الزمن الحاضر كناية عن قرية يزيد عدد سكانها على الألفين، يسكنون في بيوت من طين وفي أكواخ2.
وعلى مقربة من "تيماء" خربة فيها أحجار ضخمة مربعة، وبقايا عمران قديم, يظن بعض العلماء أنها موضع معبد عتيق. ويرى بعض من زارها أنها كانت مدينة لا تقل ضخامةً عن "الحجر" وعن المدن الأخرى التي ترى آثارها في العربية النبطية حتى الآن. ولم تفحص هذه الخربة التي يسميها الناس "توما" "Tuma" فحصا علميا3. وقد يعثر فيها على كتابات آشورية وبابلية ويونانية وإرمية وعربية ترينا أثر الاتصال الثقافي الذي كان في هذه المواضع التي تعد ملتقى القوافل والتجار والثقافات.
__________
1 Hastings, P. 897, Doughty, Arabia Deserta, I, Chapt. 10, 19, Jaussen, and Sabignac, Archeologique en Arabie, II, Part, I, chapt, 4, Musil, Oriental Explorations, V, P. 224, Montgomery, P. 66
2 وهبة، جزيرة العرب "ص75 فما بعدها".
3 S. Smith, Baby. Hist. Text. P. 80(2/263)
وقد عثر في هذه الخربة على حجر مكتوب بلغة بني إرم، يرجع تأريخه إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ورد فيه أن أحد الكهان استورد صنمًا جديدًا إلى تيماء، وبنى له معبدًا، وعين له كهانًا توارثوا خدمة "صلم هجم", و"صلم" بمعنى صنم. وقد مثل صنم "هجم" في زي آشوري، وظهر في أسفل الرسم رسم الكاهن الذي شيد ذلك النصب, وقد نشرت ترجمة الكتابة الإرمية. ويرى "سدني سمث" أن تأريخها يرجع إلى أيام "نبونيد"، فلعله صنع في ذلك الزمن بتأثير البابليين1.
ولطول إقامة "نيونيد" في "تيماء" لا يستبعد أن يجيء يوم قد يعثر فيه على كتابات أو آثار أخرى ترجع إلى هذا الملك. فلا يعقل أن تذهب ذكريات أيامه كلها من هذه المدينة، وينطمس أثر قصره عنها، ذلك القصر الذي بالغ الملك في وصفه وأراد أن يجعله في مستوى قصور بابل. وقد يعثر فيها على مراسلاته مع مدينته بابل ومع الحكومات الأجنبية التي كانت في أيامه ومع الأعراب. وإذا حدث ذلك، فقد نجد شيئًا جديدًا لا نعرفه عن أيام تيماء في عهد نبونيد.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "تيماء" التي استقر بها "نبونيد" هي تيماء أخرى تقع في العروض على ساحل الخليج، وحجتهم في ذلك أن المسافة بين تيماء الحجاز وبابل كبيرة واسعة، تجعل من الصعب تصور إقامة "نبونيد" في هذا المكان. أما العروض فإنه على اتصال ببابل، ولا يفصل بينهما حاجز أو فاصل أو عائق؛ ولهذا ذهبوا إلى احتمال وقوع "تيماء" في العروض2، كما ذهب بعض آخر إلى احتمال كون "تيماء" "تيمان" المذكورة في التوراة3. وهي أرض "أبناء الشرق"4، وملتقى طرق القوافل القادمة من بلاد الشام ومصر والعراق والجنوب5, غير أن الباحثين في هذا اليوم متأكدون من أن "تيماء"
__________
1 Smith, Baby. Hist. Texts. P. 79, Corpus Insctiptionum Semitlcarum, Pars, Secouda, Plate, LX, Tome I, P. 107, Montgomery P. 67, Hogarth, Penetration of Arabia P. 280, Cooke, North Semitic Insrciptions, P. 195
2 Negd, P. 226
3 إرميا، الإصحاح التاسع والأربعون, الآية 7، عوبديا، الآية 9، وعاموس, الإصحاح الأول، الآية 2، حبقوق، الإصحاح الثالث، الآية 3.
4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 296 فما بعدها".
5 Negd, P. 225(2/264)
"نبونيد" هي "تيماء" الحجاز، في المملكة العربية السعودية.
فقد عثر في "حرَّان" على كتابة مهمة جدًّا في بحثنا هذا، دَوَّنها الملك "نبونيد"، عثر عليها في سنة "1956م"، وكانت مدفونة في خرائب جامع حران الكبير، وترجمت إلى الإنجليزية، وإذا بها تتحدث عن تأريخ أعمال ذلك الملك. ومما جاء فيها: أنه لما ترك "بابل" وجاء إلى "تيماء"، أخضع أهلها، ثم ذهب إلى "ددانو" "ديدان" و"بداكو" و"خبرا" و"إيديخو" حتى بلغ "أتريبو"1. ثم تحدث بعد ذلك عن عقده صلحًا مع "مصر" و"ميديا" "ما، دا، ا، ا" "مادا ا" "Ma-da-a-a" "Medes" ومع "العرب" "مات ا، را، بي، أو"2 "Mat A-ra-bi-u". وقد ختم العمود الذي جاء فيه هذا الخبر بأسطر تهشمت جمل منها؛ يفهم من مآلها أن العرب المذكورين أرسلوا إليه رسلا، عرضوا عليه عقد صلح معه، واستسلامهم له، فوافق على ذلك بعد أن كبَّدهم جيشه خسائر فادحة، وأسر منهم ونهب, ولم تذكر تلك الأسطر المواضع التي حارب فيها جيش "نبونيد" أولئك الأعراب3. وقد يفهم من هذه السطور الأخيرة أيضا أن بعض هؤلاء العرب هاجموا البابليين، ونهبوا المناطق الخاضعة لهم بالرغم من عقدهم الصلح معه، وموافقتهم على أن يسالموه، وهذا ما دعاه إلى إرسال حملات تأديبية عليهم، أنزلت بهم خسائر فادحة4.
ولم يكن نص "نبونيد" معروفًا بين العلماء يوم اختلفوا في تعيين موضع "تيماء", أما اليوم وقد نشر النص وترجم ترجمة دقيقة صحيحة، وعرفنا منه "فدك" و"خيبر" "ويثرب"، وهي مواضع معروفة مشهورة حتى اليوم وتذكر مع "خيبر"، فقد أجمع العلماء على أن "تيماء "نبونيد" هي "تيماء" الحجاز من دون أي شك، وأن موضع إقامة ملك بابل وقصره
__________
1 راجع السطرين 24، 25 من النص الموسوم:
Nabonidus H2, A and B, In Anatolian Studies, By C. J. add, The Harran Inscriptions of Nabonidus, VIII, 1958, PP. 35
2 السطر 42 وما بعده من النص المذكور.
3 راجع الأسطر من 43 حتى 48 من النص.
4 Anatolian Studies, VIII, 1958, P. 76, A. R. Burn, Persia and The Greeks, P. 38(2/265)
كان في هذا المكان من الحجاز.
ولما كان استيلاء "بنونيد" على "تيماء" في حدود سنة "551-552 ق. م." وجب أن يكون زحفه على الأماكن المذكورة بعد ذلك. والظاهر أن الذي حمله على التوغل في الجنوب, رغبته في السيطرة على أخطر طريق برية للتجارة، تربط بلاد الشام بالعربية الجنوبية، وهي طريق قديمة مسلوكة، تسلكها القوافل التجارية المحملة بأنفس التجارات المطلوبة في ذلك العهد، ثم السيطرة على البحر الأحمر, وذلك بالاستيلاء على الحجاز وعسير واليمن وربما على العربية الجنوبية كلها؛ ولو تم له ذلك، لكان ملكه قد بلغ المحيط الهندي. ومن يدري, فلعل اختياره "تيماء" مقرا له، وتجوله في الأرضين الواقعة بينها وبين "يثرب" كان لهذا السبب، أي: لتنفيذ تلك الفكرة الخطيرة، فكرة السيطرة على جزيرة العرب وبلوغ المياه الدافئة للوصول إلى إفريقية والهند والعربية الجنوبية, إلا أن فكرته هذه لم تتحقق كما يتبين من النص، فكان أقصى ما وصل إليه "يثرب"، ثم توقف عند ذلك المكان.
ويرى بعض الباحثين الذين درسوا كتابة "حران" هذه أن الصلح الذي أشار إليه الملك يجب أن يكون قد عقد في حوالي سنة "548 ق. م." في مدينة "تيماء" عاصمة الملك الجديدة، وأن الصلح الذي عقد مع الأعراب قد وقع في "تيماء" أيضا, وأن الهجمات التي هاجم بها بعض الأعراب البابليين وقعت إبان وجوده في هذه العاصمة وقبل رحيله عنها إلى "بابل"، ولكن من هم العرب الذين عقدوا الصلح مع "نبونيد"؟ ومن هم العرب الذين هاجموا جيشه والأرضون التي خضعت له؟ إن النص لم يشر إليهم، ولم يتحدث عنهم، وهم بالطبع قبائل عديدة, قد يكون منها قبائل سالمت البابليين وحالفتهم، ومنها قبائل عارضتهم وكرهتهم. ثم إن بين القبائل منافسةً وأحقادًا وحسدًا، فإذا حالفت قبائل حكومة ما، حسدتها القبائل المنافسة، فهاجمتها وهاجمت الحكومة التي عقدت معها الحلف؛ لإثبات نفسها، ولإظهار وجودها, ولأخذ الزعامة منها، وهذا داء القبائل منذ كان النظام القبلي.
والذي أراه أن الحجاز لم يكن آنذاك تحت حكومة واحدة يرأسها ملك واحد، وإنما كان على نحو ما كان عليه عند ظهور الإسلام، حكومات قرى ومدن وقبائل. ويؤيد ذلك ما جاء في النص البابلي عن "تيماء" أن "نبونيد"، "قتل(2/266)
بالسلاح ملك تيماء" "ملكو"1. ومعنى هذا أنها كانت في حكم حاكم يلقب نفسه بألقاب الملوك. ولا أستبعد أن يكون حال "ديدان" و"خيبر" و"فدك" و"يديع" و"يثرب" مثل حال هذه المدينة، أي: عليها حكام يلقبون أنفسهم بألقاب الملوك, ولا أستبعد أيضًا أن يكون حالها أو حال بعضها على نحو حال هذه المدن يوم ظهور الإسلام, أي: تحت حكم سادات المدينة والأشراف يشتركون معًا في الحكم, ويتشاورون فيما بينهم عندما يحدث حادث ما في مدينتهم أو قريتهم في أمور السلم, وفي أمور الحرب.
ووضع سياسي على هذا النحو لا يمكن أن يقاوم جيشًا لجبًا قويًّا عارمًا كجيش بابل المدرب على القتال، والذي يعيش على الحروب؛ ولذلك انهار بسرعة وسلم أمره إلى البابليين. ومن هنا نشتم من نص "نبونيد" رائحة الاستخفاف بأسلحة "العرب"، أي: الأعراب سَكَنَة هذه المواضع، وبأسلحة تلك المدن التي استسلمت له. وكل ما فعله الأعراب أنهم تراجعوا إلى البوادي، وصاروا يشنون منها غارات على البابليين؛ ليأخذوا منهم ما يجدونه أمامهم، فإذا تعقبهم البابليون عادوا إلى معاقلهم وحصونهم: الصحراء.
وقد عثر على كتابة ثمودية وردت فيها جملة: "رمح ملك بابل"، وعلى كتابة ثمودية أخرى جاء فيها: "حرب دون" "حرب ديدان"2. وقد فسر العلماء الجملتين المذكورتين بأنهما إشارة إلى الحرب التي نشبت بين البابليين وأهل ديدان في أيام "نبونيد"، وأن أهل تلك المناطق صاروا يؤرخون بها لأهميتها عندهم كحادث تأريخي3. فالكتابتان إذًا تحددان وقت تلك الحرب، وتعينان مبدأ تقويم يؤرخ بموجبه عند أهل ثمود, غير أننا لم نتمكن من الوقوف على ذلك المبدأ من الكتابتين المذكورتين؛ لقصرهما ولعدم وجود مفتاح معهما يفتح لنا الباب لنصل منه إلى الموضع الذي حفظ فيه سر ذلك التأريخ.
أما موضع "Da-da-nu" "دادانو"، فإنه "ديدان"، وهو موضع معروف مشهور، ورد ذكره في "العهد القديم"، وفي عدد من الكتابات4,
__________
1 atolian Studies, Vol. VIII, 1958, P. 84
2 Van den Branden, Textes ThamoudSens de Philby, Vol. II, PP. 54
3 atolian Studies, 1958, VII, PP. 78
4 W. Caskel, Lihyan und Uhyanisch, 1954, W. F. Albright, Dedan, in GescMchte wnd Atles Testament, 1953, A. Van den Branden, La Chronologie de Dedan et de Lihyan In Blbliotheca Orientalis, XIV, 1957, 13(2/267)
وتحدثت عنه في مواضع من هذا الكتاب, فكان إذن في جملة الأرضين التي خضعت لحكم "نبونيد".
وأما "Pa-dak-ku" "بداكو"، فهو موضع "فدك"، ولم يكن مشهورًا في الأخبار القديمة، وإنما اشتهر في أيام الرسول، إلا أن عدم اشتهاره لا يمكن أن يكون دليلًا على عدم وجوده في أيام "نبونيد"1. وربما لا يستبعد أن يعثر في خرائبه على آثار من عهد "نبونيد" وقبل عهده؛ إذ كان معروفًا قبل أيامه، بدليل ذكره في جملة المواضع التي استولى عليها هذا الملك.
وأما "Hi-ib-ra-a" "خي، اب، را، ا" "خيبرا" فهو موضع "خيبر", وهو موضع معروف وقد كان من مواطن يهود في أيام النبي. وهو موضع "خيبر" الذي أرخ بحرب وقعت فيه في حوالي سنة "568م" "بعد مفسد خيبر بعام"2.
وموضع "Ia-di-hu-u" "Iadihu"، وهو موضع "يديع"، ويقع بين "فدك" و"خيبر"، وقد ذكره "ياقوت الحموي" والهمداني3.
وأما "Iatribu" "إيتريبو"، فهو موضع "يثرب" أي المدينة. وقد ذكر في جغرافية "بطلميوس"، فيكون نص "حران" إذًا أقدم نص ذكر اسم هذا المكان.
و"يثرب" إذن آخر موضع استولى عليه البابليون في الحجاز وألحقوه بمملكتهم مملكة بابل؛ لسكوت النص عن ذكر مواضع أخرى تقع في جنوبها, ولو كانوا قد تجاوزوها لذكروا اسم الأماكن التي استولوا عليها من دون شك.
وقد استطعنا بفضل هذا النص التأريخي الخطير من العثور على خبر "يثرب" في وثيقة تعود إلى ما قبل الميلاد بكثير، فعلمنا منه أنها كانت مدينة عامرة قديمة، وأنها كانت أقدم بكثير مما تصوره أهل الأخبار عن نشوئها، ثم استطعنا
__________
1 Anatolian Studies, 1958, P., 81
2 E. Combe, J. Savaget et G. Wiet, Repertoire Chronologique D'epigraphie Arabe, I, P. 3, No. 3
3 البلدان "4/ 1013"
Anatolian Studies, 1958, Vol., VHI, P. 83, F. Wuestenfeld, Das Gebiet von Medina, S. 161, Arablen, S. 22(2/268)
أن نفهم أن العراقيين كانوا قد استولوا على منطقة مهمة من الحجاز في ذلك العهد، وأن بعد المسافات بين الحجاز والعربية الجنوبية لم يحل بين الآشوريين والبابليين من التوغل مسافات شاسعة في جزيرة العرب من طرفيها ومن اجتياز نجد أيضا، كما رأينا من وصولهم إلى جنوب البحرين على الخليج, وإلى سبأ وإلى يثرب في هذا العهد.
وقد تنقل "نبونيد" مدة عشر سنوات في هذه المنطقة التي فتحها من الحجاز، في أرض يبلغ طولها حوالي "250" ميلًا من "تيماء" إلى "يثرب" وحوالي "100" ميلٍ عرضًا، يراجع أهلها وينزل بين قبائلها، ويختلط بها، ثم يعود إلى عاصمته تيماء، حيث يسير منها أمور الدولة. ويظهر أنه تطبع من خلال إقامته هذه المدة بين العرب ببعض طباعهم، واقتبس بعض مصطلحاتهم حيث وردت في النص1.
ويرى بعض من عالج هذا النص ودرسه أن الملك البابلي نقل معه خلقًا من العراق، وأسكنهم في هذه الأماكن الحجازية في المواضع المذكورة, وكان يأتي إليهم من تيماء؛ ليتفقد أحوالهم، وليرى بنفسه سبل الدفاع عنهم وحمايتهم من غارات الأعداء. ويرون أيضا أن في جملة ما جاء بهم إلى هذه الأماكن اليهود: يهود من بابل، ويهود من فلسطين، كما رأوا أن اليهود كانوا قد سكنوا هذه المواضع من قبل، وربما كان ذلك منذ جاء اليهود إلى فلسطين، فأقاموا بها إلى أيام النبي2.
ويظهر أن الملك "نبونيد" كان قد وضع خطة للهيمنة على الأرضين ولإلحاقها نهائيا ببابل، وذلك بإسكان أتباعه بها وإجبارهم على الإقامة فيها. وقد نفذ خطته هذه فعلًا، ووزع من كان قد جاء بهم معه على هذه المواضع, بأن انتزع الأملاك من أصحابها العرب وأعطاها للمستوطنين الجدد، وحماهم بجيش وضعه في كل مكان؛ لصد غارات الأعراب عليهم. ولتقوية معنوياتهم ولتثبيت قلوبهم في البقاء في هذه الأرضين الجديدة, صار يتفقد شئونهم بين الحين والحين ويزورهم, ولكن الخطة لم تنجح؛ لأن الظروف السياسية والعسكرية أكرهته
__________
1 Anatollan Studies, vol. VIII, 1958, P. 84
2 Anatolian Studies, 1958, vol. VIII, PP. 86, Le Museon, 1961, 1-2, P. 146(2/269)
على العودة إلى بابل، فمات مشروعه مع عودته، فلم تُلحَق تلك الأرضون ببابل، غير أن أكثر المستوطنين الجدد بقوا في هذه الأماكن، وفي جملتهم اليهود الذين ازداد عددهم بمرور الأيام وكونوا مستعمرات يهودية وصلت "يثرب" في الجنوب.
لقد ترك فتح "نبونيد" لهذه الأرضين من الحجاز وبقاء بعض من نقلهم إلى هذه المواضع فيها للاستيطان بها أثرًا كبيرًا من الناحية الثقافية والاقتصادية والحضارية، وهي نواحٍ لم تدرس حتى الآن، ولم يهتم بها أحد. ولكن وجود ألفاظ عراقية قديمة في لغة أهل "يثرب" والمناطق الأخرى التي تقع إلى الشمال منها، وخاصة في الزراعة، يدل دلالة واضحة على أثر العراق في أهل هذه المواضع، فقد يكون قسم منه من بقايا أثر أولئك العراقيين الذين نقلوا إلى هذه الأماكن، وقد يكون قسم منه من مؤثرات أخرى وقعت قبل هذا الحادث, قد يكون في أيام "بخت نصر" أو قبله، وقد يكون بعضه من مؤثرات حوادث وقعت بعد ذلك.
وفي نسخة "قمران" الحاوية لبعض الإصحاحات من العهد القديم، وقد عثر عليها في نفس الوقت الذي عثر فيه على نص "حران" -أخبار قد تساعدنا في توضيح أسباب سوق "نبونيد" لليهود وأخذهم معه، وإرسائهم بهذه الأرضين الجديدة من أعالي الحجاز، إرساءً أقرهم فيها وأبقاهم حتى جاء الإسلام فأبعدهم عن الحجاز1.
إننا لا نملك نصوصًا بابلية عن مدى بلوغ سلطان البابليين السياسي في جزيرة العرب وعن صلاتهم بالقبائل العربية؛ لذلك انحصر علمنا بعلاقة بابل بالعرب في الأمور التي ذكرتها. وقد عثر على نص في مدينة "عانة" يثبت وجود صلات تجارية بين بابل والبلاد العربية, كما يشير إلى أثر بابل في الحياة العربية2.
أما علاقات البابليين بأهل الخليج، فلا نعرف من أمرها شيئًا، فلم يرد في النصوص البابلية التي تتحدث عن هذه الحقبة شيءٌ ما عن الفتوحات البابلية في هذه الأرضين. وقد يعثر على شيء من الكتابات في المستقبل، تتحدث عن نوع
__________
1 Anatolian Studies, vol. VIII, 1958, P. 87
2 A. J. Jaussen-R. Sabignac, Mission, No 138, A. T. Olmstead History of the Persian Empire, P. 294(2/270)
الصلات التي كانت بين حكومة "بابل" وأهل الخليج في هذا العهد.
وكل ما نعرفه عن علاقة البابليين بالخليج، أن البابليين كانوا قد ضموا جزيرة "دلمون" أي: البحرين إلى أملاكهم، وعينوا عليها حاكمًا بابليًّا، وذلك بعد سنة "600 ق. م." بقليل1.
ومعارفنا بصلات العرب بالأخمينيين "Achaemenian" وبالبارثيين "الفرث" "Parthians" قليلة جدًّا. ويرى بعض المؤرخين أن العرب كانوا في أيام "الأخمينيين" قد تقدموا في زحفهم نحو الشمال، فدخلت قبائل منهم إلى العراق، ووسعت مساحة الأرضين التي كان العرب قد استوطنوها سابقًا، كما تقدموا في هذا العهد نحو الغرب، فتوسعوا في بلاد الشام وفي طور سيناء إلى شواطئ نهر النيل، حيث كانوا قد استوطنوها، وقد قاموا بخدمات كبيرة نحو ملوك الفرس في زحفهم على مصر2.
ولم يلاقِ العرب أية مقاومة كانت في أثناء حركاتهم وتنقلاتهم ودخولهم الأرضين التي كان الأخمينيون قد استولوا عليها، ولكن وجدوا أنفسهم في حرية تامة، لهم الحق في الذهاب إلى أي مكان شاءوا، وهذا مما مكنهم من الدخول إلى أرضين جديدة وإلى توسيع هجرتهم في الأرضين التي كان الأخمينيون قد بسطوا سلطانهم عليها3.
لقد ذكر "أكسنوفون" "Xenophon" العرب في جملة أتباع الملك "كيرش" "Cyrus" "Kyros" الثاني "557-529 ق. م." "559-529 ق. م."، وذكر أن هذا الملك عين واليًا عنه على "العربية" "Arabiai" "Arabioi" ويظهر من ورود لفظة "Arabiai" بعد "Kappadokia" أن المراد بها "الجزيرة", أي "Mesopotamia"، أو جزء منها. ويظهر من موضع آخر أن "العربية" هي المنطقة الواقعة في شرق "Araxes" أي: "الخابور"4.
وقد ورد في أخبار حملة "كيرش" على "بابل" أن جماعة من العرب
__________
1 Beigrave, P. 56
2 Die Araber, I, S. 164
3 Die Araber, I, S. 171
4 ZDMG. 94, NF. 19, "1940", 202. f. Die Araber, I, s. 165, Xenophon, Anab. I, 5.I(2/271)
كانت تحارب معه1, وكانت تلك الجماعة من الأعراب الراكبين للجمال, وذلك في سنة "539" قبل الميلاد2.
ويتبين من مراجعة الموارد اليونانية التي تعرضت لتأريخ وجغرافية العراق، أن اليونان أخذوا يطلقون لفظة "Arabioi" من هذا الوقت فما بعده بمعنى "العرب" و"عرب"، أي: علم لقوم وشعب على نحو ما كانوا يطلقون من أسماء على الشعوب الأخرى. وقد ذكروهم في جملة شعوب الجزيرة، أي "Mesopotamia". وقد أخذوا ذلك من "الأيونيين" "Ionien". وعلى هذا فسيكون مراد "أكسينوفون" وغيره من العربية الأرض التي غلب عليها العرب. ومعنى هذا توسع العرب في زحفهم وتقدمهم نحو الشمال وتغلبهم على أرضين جديدة كان سكانها من بني إرم وغيرهم، وتعرب كثير من بني إرم وتكوين طبقة عربية مستعربة3.
ولما قام "قمببز" الثاني "قمباسوس" "Cambyses" بغزو مصر سنة "525 ق. م." وطلب معونة العرب, أمدوه بالجمال وبالماء، وساعدوه مساعدة كبيرة لولاها لما تمكن من الوصول إلى مصر. ويزعم "هيرودوتس" أن "فانس" "Phanes"، الذي خان سيده فرعون مصر، فهرب منه وذهب خلسة إلى "قمبيز" وحثه على فتح مصر، أشار على الملك بأن يستعين بالعرب ليساعدوه في اجتياز الصحراء, وكان الملك يفكر في الصعوبات التي ستعترض جيوشه في قطع تلك الفيافي والقفار, ومن أهمها قلة الماء. فلما اقتنع الملك بصواب رأي "فانس" وصدقه، أرسل رسولًا إلى ملك العرب ليتفاوض معه في هذا الأمر، فوافق العرب على تقديم المساعدات فهيئوا قِرَبًا كثيرة ملئوها بالماء، وحملوها على ظهور جمالهم حيث قدموها إلى الفرس4.
ولم يشر "هيرودوتس" إلى اسم الملك العربي الذي وافق على تموين الجيش الفارسي بما يحتاج إليه في حملته على مصر بالماء، ولم يشر أيضا إلى الأرض التي
__________
1 Die Araber, I, S. 171, Xenophon, Cyrup. 7, 5, 14
2 Xenophon, Kyrupadie, Vii, 4, 16, 5, 13, Grohraann, Arabien S. 171
3 Die Araber, I, S. 165
4 G. Rawlinson, The History of Herodotus, I, P. 211, 213, The Cambridge Ancient History, IV, P. 20, Herodotus 3, 4, 7, Die Araber, I, S. 167(2/272)
كان يحكمها. وقد يكون هذا الملك أحد ملوك النبط الذين كانوا يحكمون في أعالي الحجاز وفي الأقسام الجنوبية من الأردن وطور سيناء، وقد يكون أحد كبار سادات القبائل العربية الكبيرة في طور سيناء، حيث كان له سلطان واسع كبير على الأعراب الساكنين في هذه الأرضين.
وأشار "هيرودوتس" في معرض كلامه على تزويد العرب قمبيز بالماء، إلى وجود نهر عظيم في بلاد العرب، دعاه: "كوريس" "قوريس" "Corys"، زعم أنه يصب في "البحر الأريتري" "البحر الأرتيري" "Erythraean Sea" أي البحر الأحمر، قائلًا: إن هناك من يزعم أن ملك العرب عمل أنبوبًا من جلود الثيران والحيوانات الأخرى لنقل المياه من النهر إلى صهاريج، أمر بحفرها وعملها في الصحراء لخزن الماء فيها، وإن هناك ثلاثة خطوط من هذه الأنابيب تنقل الماء إلى مسافة اثني عشر يومًا من النهر إلى موضع هذه الصهاريج1.
ولا يعقل أن يكون في بلاد العرب نهر على الوصف الذي ذكره "هيرودوتس" في ذلك العهد, كما أن الأنابيب المذكورة الممتدة إلى تلك المسافات المذكورة، هي من مخيلات القصاص الذين أخذ منهم ذلك المؤرخ خبره. والظاهر أن الذين حدثوه عن ذلك النهر، كانوا قد سمعوا أو شاهدوا السيول التي تصب في البحر الأحمر في مواسم الأمطار الشديدة، فتصوروها أنهارًا عظيمة تجري طول السنة. أما الصهاريج، فإنها معروفة في بلاد العرب، ولا سيما شمال العربية الغربية، تأتي إليها مياه الأمطار فتملؤها، وتغطي فتحاتها، فلا يعرف مواضعها إلا أصحابها، فإذا داهمهم عدو، سدُّوا منافذها، فلا يصل إلى مائها أحد. والظاهر أن الذين أمدوا الفرس بالماء كانوا يأخذونه من الصهاريج المنتشرة في مختلف الأماكن، ومن هنا ظهرت أسطورة نقل المياه إليها من ذلك النهر, في ثلاثة خطوط من الأنابيب المصنوعة من الجلود.
وذكر "هيرودوتس" في أثناء الكلام على "دارا" "داريوش" "داريوس"2 "Darius"، أن جميع سكان آسيا الذين أذلهم "كيرش" "كورش" ثم
__________
1 Herodotus, Bk. III, 9, vol. I, P. 213
2 فهرست تاريخ الطبري, عمل "دي غويه"، "ص175"، حمزة "ص20"، داريوس، ابن الطبري "ص83"، "داريوش"، الأخبار الطوال "ص31"، "طبعة فلاديمير جرجاس"، "ليدن 1888م".(2/273)
"قمبيز" بعده قد اعترفوا بسلطانه، إلا العرب؛ فهؤلاء لم يخضعوا كالرقيق ألبتة لسلطان الفرس، وإنما كانوا قد تحالفوا معهم، وأصبحوا حلفاء وأصدقاء لهم منذ مهدوا الطريق لقمبيز للوصول إلى مصر. ولو كانت علاقاتهم غير ودية معهم؛ لما تمكن الفرس من القيام بذلك الغزو. وأثنى هذا المؤرخ على إباء العرب، وعلى شهامتهم، وعلى محافظتهم على الوعد والعهود1.
وذكر "هيرودوتس" أن الأرضين بين "Phoenicia"، أي "فينيقية" ومدينة "Cadytis"، كانت تابعة للسريان الفلسطينيين "Palaestine Syrian", أما الأرضون بين مدينة "Cadytis" وموضع "Jenysus" "Ienysos"، فقد كانت تابعة للملوك العرب2، ويريد بهم عددًا من سادات القبائل ولا شك. ويرى "جيمس رنل" "James Rennell" أن مدينة "Cadytis" هي القدس3, ويرى آخرون أنها "غزة"4. وأما "Jenysus" فهي "خان يونس" في جنوب غربي "غزة" على رأي "جيمس رنل"5.
يتبين من قول "هيرودوتس" هذا أن العرب كانوا في أيام "قمبيز" أي: قبل الميلاد بعدة قرون، في هذه المنطقة من فلسطين, وأنهم كانوا قد انتشروا في "طور سيناء"، ونزلوا المناطق الشرقية من مصر حتى ضفة نهر النيل؛ ولهذا السبب أطلق عليها اسم "العربية" دلالةً على توغل العرب فيها6.
لقد كانت "غزة" مدينة عربية يحكمها ملوك عرب, وقد كانت في حكم ملك عربي في أيام "هيرودوتس"، وكانت كل الأرضين الواقعة بين "غزة "وبين "Rhinokolura" تحت حكم العرب أيضا وذلك منذ أيام الفلسطينيين7. وقد كان يحكم "غزة" في أيام "هيرود الكبير" ملك من أهل غزة8, وقد كانت "غزة" قبيل الإسلام وعند ظهوره فُرْضَة العرب، يقصدها أهل
__________
1 Herodotus, I, P. 254, 3, 5
2 Herodotus, I, P. 212, Bk. HI, IV
3 The Geographical System of Herodotus, London, 1800, P. 245, 683.
4 Herodotus, I, P. 212
5 Rennel, P. 259
6 Die Araber, I, S. 167
7 Grohmann, Arabien, S. 23
8 Flaviua Josephus, Antiquitates, XV, 7, 9(2/274)
العربية الغربية للبيع والشراء, ولا أستبعد أن تكون "غزة" فرضة عرب العربية الغربية في هذا الوقت أيضا. وقد كان تجار العربية الشرقية يقصدونها أيضا على الرغم من بعد المسافة واتساع الشقة، فقد كان أهل "الجرعاء" "جرها" "Gerrha" يقصدونها، حاملين معهم تجارة الهند وما وراء الهند، فتأخذهم إبلهم عن طريق الواحات والآبار إلى "دومة الجندل" ومنها إلى جنوب فلسطين فغزة, حيث يبيعون ما عندهم ويشترون ما يحتاجون إليه من حاصلات البحر المتوسط, ثم يعودون بأموالهم الجديدة إلى بلادهم لبيعها هناك، أو لشحنها إلى ما وراء الخليج من أرضين.
وفطن "دارا" لخطورة المشروع القديم، مشروع ربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر عن طريق نهر "النيل" فاحتفره1. وقد وضع أساس هذا المشروع "رامسيس الثاني"، غير أنه امتلأ بعد ذلك بالرمال مرارًا، فاحتفره من جاء من بعده من الملوك2. وذكر "هيرودوتس" أن الفرعون "نخو" "Necos" كان قد أرسل بعثة دخلت الخليج العربي، أي: البحر الأحمر في اصطلاح اليونان عن طريق القناة التي حفرت بين النيل وهذا البحر، وكانت هذه البعثة من الفينيقيين للبحث عن أعمدة "هرقل"3 "Hercules".
ويرى بعض الباحثين احتمال كون الملك الذي حكم "غزة" في هذا العهد, ملكًا من ملوك اللحيانيين4.
واهتم "دارا" بأمر التجارة البحرية، فأمر "Skylax" من اليونانيين بالذهاب إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي لكشف تلك المناطق وتكوين صلات تجارية معها، فوصل هذا المكتشف اليوناني -على رواية هيرودوتس- إلى الهند. وهو بذلك أول يوناني يبلغنا خبره حتى الآن، يدخل البحر الأحمر، ويطوف حول جزيرة العرب للوصول إلى الهند5. ويفتخر "دارا" في كتابته التي أشار فيها إلى مشروع القناة، بأنه استطاع أن يسير السفن عبرها من مصر إلى أرض فارس6, وقد كانت هذه الخطوة من أعظم الخطوات في تأريخ العالم، ولا شك.
__________
1 Herodotus, I, P. 302, Bk. IV, 39
2 Herodotus, I, P. 302, Note. I
3 Herodotus, I, P. 302
4 Arabien S. 23
5 Montgomery, Arabia, P. 69
6 Montg-omery, Arabia, P. 69, Breasted, History of Egypt, PP. 276, 534, R.W. Rogers, A History of Ancient Persia, PP. 119(2/275)
وقد أثرت تأثيرًا خطيرًا في التجارة العربية في البحار، إذ فتحت البحر الأحمر والبحر العربي والمحيط الهندي لمنافسين أقوياء، صار بإمكانهم شراء تجارة أفريقية والهند وسواحل جزيرة العرب بأسعار رخيصة؛ لبيعها في الأماكن التي تريدها والتي كانت تشتريها بأثمان عالية، وبذلك أخذت من التجار العرب جزءًا كبيرًا من أرباحهم، وألحقت بتجارتهم مع البحر المتوسط ضررًا لا يستهان به.
ولما تحدث "دارا" عن الأرضين التي خضعت لحكمه، أدخل "عرباية" "أرباية"1 "Arabaya" في جملة تلك البلاد, وقد دعاها بـ"ماتو أريبي" "Matu A-ra-bi" في النص البابلي2. ولم يقصد "دارا بـ"عرباية" كل البلاد العربية، أي جزيرة العرب وبادية الشام، وإنما أراد بها بادية الشام، كما تحدثت عن ذلك في شرح المراد من "ماتو أريبي" في الكتابات المسمارية. وقد كانت هذه البادية مثل جزيرة العرب موطنًا للأعراب منذ وجد العرب.
وقد ذكر "هيرودوتس" أن بلاد العرب كانت تقدم جزية سنوية من الطيب إلى "دارا"3، إلا أنه لم يحدد مكان البلاد العربية، ولم يشر إلى العرب الذين دفعوا هذه الجزية. ولما كانت هذه الجزية طيبًا، فإنها تحملنا على التفكير في أن العرب الذين دفعوها كانوا من رجال القوافل المتاجرة التي تأتي بتجارة العربية الجنوبية لبيعها في بلاد الشام ومصر، وكان الطيب والبخور من أهم المواد الرائجة في أسواق تلك البلاد. وهذه الجزية لم تكن بالمعنى السياسي المفهوم الذي يدل على خضوع العرب للفرس, وإنما كانت جعالة سنوية تدفع للسلطات الحاكمة على تلك الأسواق مقابل السماح لها بالاتجار، أو أن "هيرودوتس" عنى ببلاد العرب الأرضين التي كان يسكنها العرب ودخلت تحت حكم الفرس، وعنى بالعرب الذين دفعوها بعض القبائل العربية التي كانت تقيم في مصر أو طور سيناء
__________
1 The Sculpuures and Inscription of Darius the Great, London, 1907, Col. 1, 15, P. XIIII, 4
2 "ماتواربي" في النص البابلي،
Col. I, 5, Sculptures, P. XIVIII, The Babylonion Bersion, 5, 161
3 Inscripton of darius on the Rock at behiston, Translated, by Sir H. Rawlinson, London, 1873, P. III, Herodotus, 3, 91, 97(2/276)
أو بادية الشام.
ويلاحظ أن "هيرودوتس" كان قد ذكر، كما بينت قبل قليل، أن العرب لم يخضعوا للفرس في أيام كورش ولا في أيام قمبيز، وإنما كانوا حلفاء الفرس. فيظهر من كلام "هيرودوتس" الأخير أن العرب الذين خضعوا للفرس ولدارا، هم من أعراب بادية الشام، ومن كانت منازلهم وديارهم في فلسطين وفي طور سيناء1.
ويرى بعض المؤرخين أن "العربية" التي خضعت لحكم "دارا" لم تكن جزيرة العرب، وإنما منطقة الجزيرة الواقعة بين "بابل" وآشور2، مثل منطقة "سنجار" "Singara" و"الحضر"، وكان العرب قد توغلوا فيها3.
وقد ورد في خبر للمؤرخ "أكسينوفون" "Xenophon" وفي كتابة لـ" كيرش الثاني" "Kyros II" "Kyrush II"، ما يفيد أن العرب كانوا قد خضعوا لحكم الأخمينيين. فورد في كتابة "كيرش" مثلًا: "ملوك الأرضين الغربية الذين يقطنون في الخيام"، وذلك في جملة من اعتراف بسلطان الملك عليهم. غير أن هذه الإشارات لا تفيد أن العرب كانوا قد خضعوا لهم مدة طويلة، كما أنها لا تدل على خضوع حقيقي لهم، ولا سيما وقد ذكرنا أن "هيرودوتس" قد صرح أن العرب لم يخضعوا لحكم الفرس4.
وأشار "هيرودوتس" إلى وجود فرقة عسكرية من العرب في الجيوش الفارسية التي كانت بمصر، كان على رأسها قائد فارسي دعاه "أرسامس" "Arsames"، وقال: إنه أحد أولاد "دارا"5. ويظهر أن هؤلاء الجنود هم من عرب مصر، أي: من العرب القاطنين هناك، ولعلهم من سكان الأرضين المحصورة بين النيل والبحر الأحمر6. وقد كان العرب ينزلون هذه المنطقة والمنطقة شرقي النيل وجنوب البحر المتوسط والمتصلة بطور سيناء منذ القديم. فالعرب كانوا من قدماء سكان مصر، لا كما يتصور بعضهم من أنهم دخلوا مصر في
__________
1 Die Araber I, S. 167. ff
2 Mesopotamien, In: RE. 15, (1931) , 1131, F. H. Weiasbaeh, Die Keilschriften der Achaimeniden "1911", S. 82. f. R.G. Kent, Old Persian, "1953", 136
3 Die Araber, I, S. 165
4 Die Araber, I, S. 171
5 The Cambridge Ancient History, Vol. IV, P, 190
6 Herodotus, II, P. 148, Note. I(2/277)
الفتح، وأنهم لذلك غرباء لا صلة هناك بينهم وبين المصريين قبل الإسلام. والمعروف أن "الهكسوس" الذين حكموا مصر كانوا من العرب في رأي كثير من العلماء، بل في نظر قدماء المصريين، كما حكى ذلك الراهب المصري المؤرخ "مانيتو" "Manetho" في كتابه المؤلف باليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد1.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "هيرودوتس" قصد بـ"العرب" النبط2، غير أن بعضًا آخر يخالف هذا الرأي ويعترض عليه، فيرى أن النبط لم يظهروا ظهورًا بينًا إلا في أواخر أيام الأخمينيين، وكان ظهورهم في "بطرا" "Petra" وما حولها. أما مملكتهم فلم تقم إلا في القرن الثاني قبل الميلاد؛ ولهذا فإن العرب الذين قصدهم المؤرخ اليوناني هم عرب آخرون، وإن الأرض التي أرادها ذلك المؤرخ هي: طور سيناء حتى شواطئ نهر النيل3.
وظهر من الإشارات الواردة في التوراة، أن عرب الضواحي كانوا يقيمون في مستوطنات، عرفت بـ"حاصير" "حازير" "حاصور" "حصور" "Haser" في العبرانية, ومعناها: "محاط". وقد كانوا أشباه بدو في الواقع, أناخوا في هذه المواضع واستقروا بها وامتهنوا الرعي4.
وكان الجنود العرب يلبسون كما يقول "هيرودوتس" نوعًا من الثياب يسمى "زيرا" "Zeira"، وهي ثياب طويلة تشد عليها الحُزُم, ويحمل مرتدوها على أكتافهم اليمنى قِسِيًّا طوالًا. أما في حاله عدم استعمالها، فيعلقونها على طهورهم5. والظاهر أن هذه الكلمة هي تحريف "السِّيرا", و"السِّيرا": "ضرب من البرود، وقيل: ثوب مسير، فيه خطوط تعمل من القز كالسيور. وقيل: برود يخالطها حرير. وقيل: هي ثياب اليمن"6. ويلاحظ أن الثياب المخططة كانت ولا تزال شائعة بين شعوب الشرق الأدنى، فلا تستبعد أن تكون كلمة "Zeira" تصحيفًا أو تحريفًا للسيراء، وهي أقرب إليها من لفظة "إزار" أو مئزر على ما أرى.
__________
1 W. G. Waddell, Manetho, P. 85, "the loeb Classical Library", London, 1948
2 Olmstead, History of the Persian Empire, 1948, P. 88
3 Die Araber, I, 170, 284, 290
4 Die Araber, I, S. 170
5 Herodotus, II, P. 147
6 اللسان "6/ 57"، ديوان قيس بن الخطيم "ص6".(2/278)
وقد ألف الفرس -بالإضافة إلى الجنود العرب المشاة- كتائب عربية من الهجانة، تقاتل على الإبل، يلبسون ملابس المشاة، ويحملون أسلحتهم. يقول "هيرودوتس": إنهم كانوا يوضعون في مؤخرة الفرسان؛ تجنبًا لانزعاج الخيل إذا ما سارت مع الإبل1.
وقد استعملت دول أخرى كتائب عربية من الهجانة في جملة القوات المحاربة؛ للعمل في البوادي خاصة، حيث يصعب على المشاة والفرسان اجتيازها وتعقب الأعراب. ولا تزال كتائب الهجانة محافظة على حياتها بين القوات المحاربة، ولحماية الحدود الصحراوية حتى الآن.
وقد ألف العرب فرقة محاربة من الرماة بالسهام ومن المقاتلين، اشتركت في جيش "أحشويرش" "Xerxes" "485-465 ق. م."2.
وقد أدخل الملك "أحشويرش" "العربية" "Arabia" في جملة البلاد التي كانت قد خضعت لحكمه، وذلك في نص من أيامه عثر عليه. وقد ذكر "العربية" بعد موضع "Maka" وقبل موضع "Gandara"3.
__________
1 Herodotus, II, P. 152
2 Die Araber, I, S. 171
3 Pritchard, P. 316(2/279)
الفصل السادس عشر: العرب والعبرانيون
لم تذكر التوراة "العرب" في مواليد بني نوح: سام، وحام، ويافث1, ولكنها ذكرت أسماء قبائل لا شك في أصلها العربي، وفي سكناها في جزيرة العرب. وهذا يؤيد ما ذهبت إليه من أن كلمة "العرب" لم تكن تعني قومية خاصة، ولم تكن تؤدي معنى العلمية، وإنما ترادف "الأعراب" والبدو، أي: سكان البادية؛ ولهذا لم تذكر في جدول الأنساب، وذكرت في مواضع أخرى من التوراة، لها علاقة بالبادية والتبدي والأعرابية, وإلا لم تسكت عن ذكر العرب بين الشعوب المصنفة في الجدول المذكور، وقد كان العرب يجاورون العبرانيين وكانوا على اتصال بهم دائم، فكان ينبغي ذكرهم في ذلك الجدول، لو كانت هذه التسمية تعني العلمية في الأصل، وتعني جميع سكان جزيرة العرب من حضر وبدو. أما وهي لم تكن تعني إلا قسمًا من العرب، وهم الأعراب أي: حالة خاصة من الحالات الاجتماعية؛ فلذلك لم تذكر، ومن ذكر في الجدول كلهم حضر مقيمون يعرفون بأسمائهم، وهم معروفون، أو قبائل أعرابية عرف العبرانيون أسماءها فذكروها، فمن طبع العبرانيين إطلاق لفظة "العرب" على الأعراب الذين لا يعرفون أسماءهم وعلى البدو عامة دون تخصيص.
والبدو هم طبقة عاشت عيشة خاصة، ولم تكن قبيلة واحدة أو قبائل معينة
__________
1 التكوين: الإصحاح العاشر، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول.(2/280)
محدودة يمكن حصرها وإرجاعها إلى نسب واحد، على نحو ما نفهم من كنعانيين وفينيقيين، ثم إن الأعراب لم يكونوا ينتسبون إلى جد واحد ولا إلى أب معين؛ لذلك لم تدخلهم التوراة في عداد الشعوب.
وقد ذهبت جماعة من المستشرقين إلى أن العبرانيين هم قوم أصلهم من جزيرة العرب، هاجروا منها وارتحلوا عنها على طريقة الأعراب والقبائل المعروفة نحو الشمال, وجزيرة العرب لذلك هي الوطن الأم الذي ولد فيه العبرانيون. ودليلهم على ذلك هو الشبه الكبير بين حياة العبرانيين وحياة الأعراب، وأن ما ورد في التوراة وفي القصص الإسرائيلي عن حياة العبرانيين ينطبق على طريقة الحياة عند العرب أيضا، ثم إن أصول الديانة العبرانية القديمة وأسسها ترجع إلى أصول عربية قديمة. أضف إلى ذلك أن العرب والإسرائيليين ساميون، وجزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، فالعبرانيون على رأيهم هم من جزيرة العرب، وهم جماعة من العرب إذًا إن صحت هذه التسمية، بطرت على أمها وعاقتها وهربت منها إلى الشمال1.
وإذا جارينا التوراة في قولها بالأنساب، نرى أن العرب والعبرانيين هم على رأيها من أصل واحد، هو سام بن نوح، ونرى أيضا أنها تعترف ضمنًا بقدم "اليقطانيين"، أي "القحطانيين على الإسرائيليين. فاليقطانيون هم أبناء يقطان بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام2. وعلى ذلك فهم أقدم عهدًا من بني إسرائيل، وأعرق حضارة ومدنية منهم، ولا سيما إذا ما عرفنا أن كلمة "عبري" على رأي كثير من العلماء تعني التحول والتنقل، أي: البداوة3، أي: إنهم كانوا بدوا أعرابا يتنقلون في البادية قبل مجيئهم إلى فلسطين واستقرارهم بها وتحضرهم، على حين كان القحطانيون متحضرين مستقرين أصحاب مدن وحضارة. كذلك جعلت التوراة الفرع العربي الآخر الذي وضعته في قائمة أبناء "كورش" أقدم عهدًا من الإسرائيليين4.
__________
1 Montgomery, Arabia Nielaen, Hadbuch der Altarabischen Altertumskunde, I. S. 241.
وسيكون رمزه: Handbuch
2 التكوين, الإصحاح العاشر، الآية 20 وما بعدها.
3 إسرائيل ولفنسون، تأريخ اللغات السامية "ص77 فما بعدها".
4 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 6 وما بعدها.(2/281)
لقد كان العرب، بدوًا وحضرًا على اتصال بالعبرانيين، فأينما عاش العبرانيون عاشوا مع العرب. ولعل هذا الاتصال هو الذي حمل نسابيهم على عد العرب ذوي قربى لليهود، ومن ذوي رحمهم. وكان العرب حتى في أيام تكوين العبرانيين حكومة في فلسطين يؤثرون تأثيرًا خطيرًا في الوضع السياسي هناك, وقد كانوا يقطنون بكثرة في الأقسام الشرقية والجنوبية من فلسطين وفي طور سيناء وغزة1, بل وكانوا يقطنون في القدس كذلك.
ومن علماء التوراة من يرى أن "أيوب" صاحب السفر المسمى باسمه، أي "سفر أيوب" وهو من أسفار التوراة، هو رجل عربي، إذ كانت كل الدلائل الواردة في سفره تدل على أنه من العرب، فقد كان من أرض "عوص" "Uz". و"عوص" وإن اختلف العلماء في مكانها، فالراجح عندهم أنها في بلاد العرب في "نجد"، أو في بلاد الشام في "حوران"، أو في "اللجاة"، أو على حدود "إدوم" "Idumaea"، أو في العربية الغربية في شمال غربي "المدينة". ويرى بعضهم أنه كان يسكن في شرق فلسطين أو في جنوب شرقيها، أي في جزيرة العرب، أو في بادية الشام2.
وسبب هذا الخلاف، هو أن التوراة لم تحدد مكان أرض "عوص"، فبينما نرى أن سفر "أيوب" يتحدث عن هجوم "أهل سبأ" على ملك "أيوب" واستياق بقر كانت له تحرث الأرض وأُتُن ترعى3، مما يشعر أن أرض "أيوب" التي هي "عوص" كانت على مقربة من السبئيين. نرى هذا السفر يذكر بعد آية واحدة هجوم ثلاث فرق من الكلدانيين على إبل "أيوب"، مما يجعلنا نتصور أن أرض "عوص" كانت على مقربة من الكلدانيين، أي: في البادية القريبة من الفرات4. والرأي عندي أن "أيوب" كان رجلًا غنيًّا يملك إبلًا وبقرًا وأتنًا أملاكًا، وربما كان سيد قبيلة، وله رعاة يتنقلون بماشيته في بادية الشام ما بين العراق وفلسطين وأعالي الحجاز، فأغار "أهل سبأ" على بقر له كانت تحرث أرضه, وعلى أتن كانت ترعى في أرضه، وأخذوها من رعاته وحراسه.
__________
1 Enc. Bibi. I, P. 272. ff
2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 188"، "2/ 126". Hastings, P. 469, 956
3 أيوب، السفر الأول، الآية 14 فما بعدها.
4 أيوب، السفر الأول، الآية 17, Hastings, P. 469, 956(2/282)
وهؤلاء السبئيون هم من السبئيين النازحين إلى الشمال والساكنين في أعالي الحجاز وفي الأردن, فالغارة كانت في هذه المنطقة. أما غارة الكلدانيين فكانت في العراق على مقربة من أرض الكلدان؛ وذلك لأن رعاة إبله كانوا قد تنقلوا إلى هناك على عادة الأعراب حتى اليوم في التنقل بإبلهم من مكان إلى مكان طلبًا للماء والكلأ، فاستولى الكلدانيون عليها وأخذوها، ولا علاقة لهاتين الغارتين بموطن أيوب.
وقد ذكر في سفر "أيوب" أنه "كانت قِنْيَته سبعة آلاف من الغنم وثلاثة آلاف من الإبل وخمسمائة فدان بقر وخمسمائة أتان, وله عبيد كثيرون جدًّا. وكان ذلك الرجل أعظم أبناء المشرق جميعًا"1. وتدل هذه الأرقام والأوصاف المذكورة لثروته أنه كان من أعاظم الأغنياء في أيامه، وأنه كان من "أبناء الشرق"، هي ترجمة لجملة "بني قيديم" "Bene Kedem" العبرانية، وليس في التوراة تحديد لمكان "بني قيديم" "بني قديم"، ولا تعريف لهم، ولكن التسمية العبرانية هذه تشير إلى أن المراد منها من كان يقيم في شرق العبرانيين ولا سيما في البادية الواقعة شرق فلسطين2, فهم إذًا في نظر العبرانيين، الساكنون في شرقهم. ولما كان أيوب من "بني قيديم" ومن أرض "عوص"، فيجب أن تكون أرض "عوص" في البادية في شرق فلسطين، أي: في منازل "بني قديم" الممتدة إلى العراق3، وهي مواطن الأعراب. وقد عرف واشتهر بعض "بني قيديم" بالحكمة عند العبرانيين4.
ويستدل من يقول بعروبة "أيوب" بالأثر العربي البارز على "سفر أيوب". ومن قدماء من قال بوجود أثر للعروبة في سفره، العالم اليهودي "ابن عزرا" "ابن عزرة" "Ibn Ezra" "Ben ezra" من رجال القرن الثاني عشر. وقد تبعه في ذلك جماعة من الباحثين الذين وجدوا في الكلمات والتعابير والأسماء الواردة في ذلك السفر ما يشير إلى وجود أثر عربي عليه، حتى ذهب بعضهم إلى أن
__________
1 أيوب، السفر الأول، الإصحاح الأول، الآية 3.
2 Montgomery, P. 41, 46, 49, 71, 169
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 617 فما بعدها"،
4 Hastings, P. 200(2/283)
دار من دور صنعاء، ويرى عليها الأثر المعماري اليماني القديم(2/284)
ذلك السفر هو ترجمة لأصل عربي مفقود1.
وفي أثناء حديث التوراة عن أيام "داود" وملكه، أشارت إلى رجل كان من شجعانه وأبطاله الذين تباهى بهم وافتخر، دعته "أبيل"2 العربي "Abiel". وكان من أهل "بيت عرابة" "بيت عربة" "Beth-Arabah" في تيه "يهودا"3.
ويدل لقبه هذا والموضع المذكور أنه كان من العرب، وأشارت إلى رجل آخر، ذكرت أنه كان على جمال "داود"، دعته بـ"أوبيل الإسماعيلي"4 "Obil"، فهو من العرب الإسماعيليين. ولا يستبعد أن يكون هذا الرجل من وجوه الأعراب؛ ولذلك أوكل إليه أمر إبله، وهي حرفة من صميم عمل أبناء البادية.
وقد أشير في سفر "يوئيل" إلى السبئيين، فورد فيه: "هأنذا أنهضتهم من الموضع الذي بعتموهم إليه، وأرد عملكم على رءوسكم، وأبيع بنيكم وبناتكم بيد بني يهوذا ليبيعوهم للسبئيين لأمة بعيدة؛ لأن الرب قد تكلم"5. وقد ورد هذا التهديد؛ لأن الصوريين والصيدونيين وجميع دائرة فلسطين كانوا قد استولوا على فضة الهيكل في "أورشليم" وذهبه ونفائسه، وباعوا "بني يهوذا" و"بني أورشليم" لبني "ياوان"6 أي: اليونان7. فورد هذا التهديد على لسان "يهوه" إله إسرائيل متوعدًا أولئك الذين نهبوا الهيكل وأسروا "بني يهوذا" و"بني أورشليم"، أي سكان القدس، وباعوهم لليونان، بمصير سيئ، وبانتقام الرب منهم، وبقرب ورود يوم، يبيع فيه "أبناء يهوذا"، أي: العبرانيين أبناء المذكورين إلى السبئيين.
وتدل جملة "للسبئيين، لأمة بعيدة" على أن السبئيين المذكورين كانوا يسكنون في منازل بعيدة عن العبرانيين, ويظهر أنها قصدت السبئيين أهل اليمن، فهم بعيدون عن فلسطين. وكان تجار سبأ يأتون أسواق اليهود لشراء ما فيها من بضاعة بشرية لاستخدامهم في سبأ8.
__________
1 Montgomery P. 172, Foster, in Ameri. Journ. Of sem. Languages, October, 1932. PP. 31, Margoliouth, the relations, P. 30
2 أخبار الأيام الأول، الإصحاح 11، الآية 32.
3 Hastings, P. 3.
4 أخبار الأيام الأول، الإصحاح 27، الآية 30.
5 يوئيل، الإصحاح الثالث، الآية 7 فما بعدها.
6 يوئيل، الإصحاح الثالث، الآية 5 وما بعدها.
7 Margoliouth, the relations, P. 181
8 Hartmann, Arabische Frage, S. 421(2/285)
سوق الحطب بصنعاء, وترى بيوت السكن وقد حافظت على طراز البناء القديم(2/286)
وفي التوراة خبر زيارة ملكة "سبأ" لسليمان, وقصة هذه الزيارة, وأن دونت فيما بعد، كتبها كتبة التوراة بعد عدة قرون، إلا أنها تستند إلى قصص قديم كان متداولًا ولا شك بين العبرانيين، فدونه هؤلاء الكتاب.
وقد رأى بعض نَقَدَة التوراة أن هذه القصة قد كتبها أولئك الكتبة لإثبات عظمة سليمان، وسعة دولته، وشهرة حكمته، غير أن هذا لم يبت به حتى الآن. ورأى آخرون أن هذه الملكة لم تكن ملكة "سبأ" في اليمن؛ لعدم ورود أسماء ملكات في النصوص العربية الجنوبية، بل كانت ملكة تحكم في العربية الشمالية، تحكم جماعة من السبئيين الذين كانوا قد نزحوا إلى هذه المناطق منذ عهد بعيد، وكوَّنوا مستوطنات سبئية في الأردن وفي أعالي الحجاز1.
وتعلل التوراة سبب زيارة ملكة سبأ لسليمان بقولها: "وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان لمجد الرب، فأتت لتمتحنه بمسائل، فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدًّا, بجمال حاملة أطيابًا وذهبًا كثيرًا جدًّا وحجارة كريمة، وأتت إلى سليمان وكلمته بكل ما كان بقلبها"2. فلما سألته ورأت "البيت الذي بناه وطعام مائدته ومجلس عبيده وموقف خدامه وملابسهم وسقاءه ومحرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب, لم يبق فيها روح بعد، فقالت للملك: صحيحًا كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك, ولم أصدق الأخبار حتى جئت وأبصرت عيناي؟ "3. وأعطت "سليمان" "مائة وعشرين وزنة ذهب وأطيابا كثيرة جدا وحجارة كريمة لم يأت بعد مثل ذلك الطيب في الكثرة الذي أعطته ملكة سبأ للملك سليمان"4.
وجاء في سفر "الملوك الأول" حكاية عن الذهب الذي وصل إلى سليمان: "وكان وزن الذهب الذي أتى سليمان في سنة واحدة ستمائة وستًّا وستين وزنة ذهب، ما عدا الذي ورد من عند التجار وتجارة التجار وجميع ملوك العرب وولاة الأرض"5. ولا تعني جملة "وجميع ملوك العرب" و"كل ملكي
__________
1 Hastings, P. 843
2 الملوك الأول، الإصحاح العاشر، الآية 1 فما بعدها، وتقابل: سفر أخبار الأيام الثاني، الفصل التاسع، الآية 1 فما بعدها من الترجمة الكاثوليكية.
3 الملوك الأول، الإصحاح العاشر، الآية 4 فما بعدها.
4 الملوك الأول، الإصحاح العاشر، الآية 10.
5 الملوك الأول، الإصحاح العاشر، الآية 10، 14 فما بعدها، أخبار الأيام الثاني, الإصحاح التاسع، الآية 13 فما بعدها.(2/287)
ها عرب" في رأيي ونظري ملوك جزيرة العرب، كما يفهم ذلك من ظاهر النص, وإنما تعني رؤساء أعرابًا كانوا يقيمون على مقربة من فلسطين، وفي فلسطين نفسها، دفعوا إليه هدايا وضرائب؛ لأنهم كانوا يتاجرون مع العبرانيين، فقدموا إليه هدايا على قاعدة ذلك اليوم. وقد رأينا أن الآشوريين كتبوا مثل ذلك عن العرب وعن غيرهم في نصوصهم، إذ لا يعقل خضوع كل ملوك جزيرة العرب لسليمان, فلم يكن ملكه قد جاوز حدود العقبة كما نجد في التوراة، وقد ذكرنا أن لفظة "ها عرب"، أي "العرب" إنما كانت تعني الأعراب والبدو في العبرانية؛ ولذلك فجملة "وكل ملوك العرب" تعني "وكل رؤساء الأعراب"، وهم كثيرون. فقد كانوا قبائل وعشائر، ولكل قبيلة وعشيرة سيد ورئيس. وقد كان منهم عدد كبير في فلسطين وفي طور سيناء.
ووجه "سليمان" أنظاره نحو البحر؛ ليتجر مع البلاد الواقعة على البحار، وليستورد منها ما يحتاج العبرانيون إليه، فأنشأ أسطولا تجاريا في "عصيون جابر" "Ezion Geber" على خليج العقبة بجانب "أيلة" "أيلوت" "Eloth" "أيلات" "Elath"، من أرض "أدوم"1, وقد عرف خليج العقبة بـ"بحر سوف"، "يم، سوف" "Yam-Soph" في العبرانية. ولما كان العبرانيون لا يعرفون البحر، استعان سليمان بـ"حيرام" ملك "صور" في تسيير الأسطول وتدريب العبرانيين على ركوب البحر. فأمده بخبراء من صور، تولوا قيادة السفن، يخدمهم رجال سليمان, فمخروا البحر حتى وصلوا إلى "أوفير"، وأخذوا من هناك ذهبًا، زنته أربعمائة وعشرون وزنة، أتوا بها إلى سليمان2.
ويظن أن "عصيون كيبر" "عصيون جيبر" "عصيون جابر" "Ezion Geber" كانت عند "عين الغديان" في قعر وادي العربة، على رأي بعض الباحثين3، أو "تل الخليفة" على رأي بعض آخر4. وقد عرفت بـ"Berenice" فيما بعد5، وتقع إلى الغرب من العقبة. وقد قامت بعثة أمريكية بحفريات علمية
__________
1 الملوك الأول، الإصحاح التاسع، الآية 26.
2 الملوك الأول، الإصحاح التاسع، الآية 26 فما بعدها.
3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 106".
4 N. Glueck, in BOASOOR. Nos. 71, 72, October, and December, 1938, No 76, October, 1938, No. 80, Ocbober, 1940, J. Hornell, in Antiquity, vol XXXI, June 1947, PP. 66, W. F. Albright, the Archaeology of Palestine, 1963, P. 44, 127, 128.
5 Hastings, P. 253(2/288)
بين 1938 و1940 في هذا الموضع، وظفرت -فيما عثرت عليه من الآثار- بأدوات مصنوعة من النحاس ومن الحديد. والظاهر أن سكان هذا الموضع كانوا يحصلون على النحاس من مناجمه الغنية في "طور سيناء".
وفي جملة ما عثر عليه من آثار في "تل الخليفة" جرتان، عليهما كتابات بأحرف المسند، وقد قدر أن تأريخ صنعهما لا يقل عن القرن الثامن قبل الميلاد. وتدل أحرف المسند هذه على أن صانعيها كانوا يكتبون بهذا القلم، وقد رأى بعض الباحثين أنها من صنع أهل مدين, وإذا صح هذا الرأي فإنه يكون دليلًا على أن المدينيين كانوا يكتبون به. ويرى "ريكمنس" "G. Ryckmans" أن لهذه الكشوف صلة بالمعينيين الذين كانوا في العلا وتبوك1.
وترى طائفة من علماء التوراة أن "أوفير" التي اشتهرت بوفرة ذهبها، والتي أرسل "سليمان" إليها سفنًا مع سفن "حيرام" في طلب الذهب وخشب الصندل والحجارة الكريمة2، هي أرض في بلاد العرب. ونظرًا إلى ورود اسمها بين "شبا" و"حويلة" في الإصحاح العاشر من التكوين3، ذهب بعض العلماء إلى وقوعها في الأقسام الشرقية أو في الأقسام الجنوبية من جزيرة العرب4. ورأى "كلاسر" أنها المنطقة الواقعة على ساحل خليج عمان والخليج العربي5.
وذهب نفر آخر من علماء التوراة إلى وقوع "أوفير" في إفريقيا أو في الهند6, ولكن الرأي الغالب أنها في العربية على ما ذكرت؛ وذلك لما ورد في التوراة من أن "أوفير" ابن من أبناء "يقطان"، وقد ذكر بين "شبا"
__________
1 G. ryckmans, on Some Problems of south Arabian Epigraphy, in Bullehtin of the school of oriental and African Studies, University of London, London, 1952, Rep. Epig. 4918 bis, The Illustrated London News, vol. 195, No. 5233, 1939, P. 247, G. Ryckmans, Revue Biblique 1939, P. 247-249, N. Glueck, the Excabations of solomo's Seaport: Ezion-Geber, in Smithsonian Institution Annual Report for 1941, P. 479
2 الملوك الأول، الإصحاح التاسع، الآية 27 وما بعدها، الإصحاح العاشر، الآية 11، أخبار الأيام الثاني، الإصحاح التاسع, الآية 10
3 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 29
4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 178" N. Glueck, in B
Enc. Bibil. P. 3514, Simon Dubnow, Die Aiteste Geschicthe des Judischen
Volkes, Judischer Veriag, Berlin 1925, Bd. I, S. 123
5 Skizze, II, S. 353
6 Hastings, p. 669(2/289)
و"حويلة"، ونظرًا إلى أن مواطن اليقطانيين هي ما بين "ميشا وأنت آتٍ نحو سفار جبل المشرق"1. و"ميشا" وإن تباينت آراء العلماء في تعيين مكانه فمنهم من ذهب أنه "ميسيني" "ميسان" "Mesene" على رأس الخليج، "خليج البصرة"، أو "ماش" "ماشو" "Mashu" الأرض المذكورة في الكتابات الآشورية، والتي تعني بادية الشام, أو أنه موضع "موزح" أو "موسح" في نجد، أو اسم قبيلة من قبائل نجد2. إلا أنك ترى من كل آرائهم أنه اسم مكان في بلاد العرب، أو اسم قبيلة عربية، وأن "سفار" وهي الحد الآخر من حدود منازل اليقطانيين هي "ظفار" "Zefar"، عاصمة مملكة حضرموت القديمة على رأي علماء التوراة3. ولما كانت أسماء أبناء يقطان المذكورين، والذين قد تحققنا من هويتهم كناية عن أسماء مواضع في جزيرة العرب، وجب أن تكون "أوفير" في جزيرة العرب كذلك.
ومن الباحثين من يرى أن "أوفير" هي "عسير"، ورأى آخرون أنها أرض "مدين" وقد رجح أكثرهم كونها على سواحل جزيرة العرب الغربية أو الجنوبية؛ لأن الأماكن هي أقرب إلى الوصف الوارد في التوراة من الأماكن الأخرى4.
وقد ذكر الهمداني في "معادن اليمامة" موضعًا سماه "الحفير"، قال: "ومعدن الحفير بناحية عماية، وهو معدن ذهب غزير"5. وصلة وجود الذهب فيه بغزارة، تنطبق على هذا الموضع أحسن انطباق، إلا أن هذا الموضع بعيد عن البحر, ولكن من يدري؟ فلعل كتاب التوراة لم يكونوا يعرفون مكان "أوفير"، وإنما سمعوا بذهبه، الذي يتاجر به العرب الجنوبيون من الموانئ الساحلية، فأرسل سليمان سفنه إلى مواضع بيعه في سواحل جزيرة العرب لشرائه، ومن هنا ظن كتاب "العهد القديم" أن "أوفير" على ساحل البحر, و"الحفير"
__________
1 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 26 فما بعدها
2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 399" Hastings, p. 606
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 558" Hastings, P. 836
4 Sprenger, Die Alte Geography Arabiens, S. 53. ff. Moritz, Arabien, S. 7, Burton, The Gold Mines of Midian, Skizze II S. 347, Montgomery, Arabia, P. 38
5 صفة "ص 153، سطر 24"(2/290)
-كما ترى- اسم قريب جدًّا من "أوفير".
وقد ضرب المثل بكثرة تبر "أوفير"، وبحسن سبائك ذهبها، فورد في سفر "أيوب" على لسان "اليفاز التيماني" مخاطبًا "أيوب"، داعيًا إياه إلى توجيه وجهه لله: "فإنك إن تبت إلى القدير، يعاد عمرانك وتنفي الإثم عن أخبيتك، فتجعل التبر مكان التراب وسبائك أوفير مكان حصى الأودية"1.
وأنشأ سليمان خطًّا بحريًّا آخر ينتهي بأرض اشتهرت بالذهب كذلك، سميت في التوراة "ترشيش". وقد استعان سليمان بمدربين وملاحين من "صور"، أمده بهم "حيرام" ملك "صور". وكان الأسطول مختلطا إسرائيليا وحيراميا، يذهب مرة في كل ثلاث سنوات. وأما البضاعة التي يعود بها من "ترشيش" فهي ذهب وفضة وعاج وقردة وطواويس2. ولم يتفق العلماء حتى الآن على تعيين موضع "ترشيش"، فرأى بعضهم أنه مكان في إفريقيا، ورأى بعض آخر أنه في مكان ما من سواحل آسيا الجنوبية، ورأى آخرون أنه في إسبانيا3. وكانت سفن صور تتاجر مع ترشيش وتربح من هذه التجارة ربحًا فاحشًا، كما جاء ذلك في التوراة.
وعلى أثر وفاة "سليمان" في حوالي سنة "937 ق. م." انشطرت حكومته شطرين: إسرائيل "Israel" و"يهوذا" "Judah". وقد أثر هذا الانقسام على أعمال العبرانيين التجارية البحرية؛ لذلك لا نسمع لها ذكرًا في التوراة إلى أيام "يهوشافاط" "Jehoshaphat" ابن الملك "آسا" "Asa"، الذي حكم فيما بين "876" و"851" ق. م. تقريبًا4, فتحدثنا التوراة أنه اتفق مع "أخزبا" ملك "إسرائيل" على بناء أسطول جديد في "عصيون جابر" ليسير إلى "ترشيش"، غير أن مأربهما لم يتحقق؛ إذ تكسرت السفن ولم تستطع السير إلى "ترشيش"5. ويظهر أنه أراد إحياء فكرة "سليمان" القديمة في الاتصال بالبحر الأحمر والمحيط الهندي وبإفريقيا وبسواحل جزيرة العرب الجنوبية وبسواحل آسيا، إلا أنه لم ينجح6. والظاهر أن العبرانيين لم يكونوا قد أتقنوا
__________
1 أيوب، السفر الثاني والعشرون، الآية 23 فما بعدها.
2 الملوك الأول، الإصحاح العاشر، الآية 22 فما بعدها.
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 284 وما بعدها" Hastings, P. 895
4 Hastings, P. 400
5 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح العشرون، الآية 35 فما بعدها.
6 Dubnow, I, S. 165(2/291)
بناء السفن والسير بها في البحار، فأخفقوا، وأن نجاح "سليمان" في الوصول إلى "أوفير" و"ترشيش" مَردّه إلى خبرة ومهارة البحارة الصوريين الفينيقيين.
ويظهر من سفر "الملوك الأول" أن "يهوشافاط" قام بنفسه منفردًا ببناء السفن لإرسالها إلى "ترشيش"، غير أنها تكسرت في "عصيون جابر" فعرض "أخزبا بن آخاب" ملك إسرائيل عليه أن يبنيا أسطولًا مشتركًا، يشترك فيه ملاحون من إسرائيل وملاحون من يهوذا، إلا أنه رفض ذلك1. ولم نعد نسمع بمحاولات أخرى للعبرانيين ترمي إلى إعادة فكرة "سليمان" في بناء سفن بحرية للاتجار بها مع البلاد الواقعة على البحر بمسافات بعيدة عن إسرائيل.
نعم، لقد كون "المكابيون" أسطولًا تجاريًّا لهم جعلوا مقره في "يافا"2 "Jappa", ولكنهم لم يتمكنوا من بناء أسطول لهم يخترق مياه البحر الأحمر؛ ليزاحم العرب أو غيرهم فيه, فلم يكن الإسرائيليون من عشاق البحر على شاكلة الفينيقيين أو العرب الجنوبيين أو سكان العروض. ولولا المساعدة الثمينة التي قدمها ملك صور لسليمان، لما استطاع العبرانيون أن يصلوا إلى "ترشيش" أو "أوفير".
وقد انصرف "يهوشافاط" على ما يظهر إلى إقرار الأمن في حدود مملكته، وتحسين علاقاته مع "أخاب" ملك إسرائيل ومع جيران "يهوذا"، حتى تمكن من عقد محالفات معهم، أدت إلى الاستقرار والهدوء، فلم يحاربوا "يهوشافاط"3؛ وهذا مما حمل علماء يهود على التجول في مدن "يهوذا" لتعليم الناس أحكام دينهم. وحمل إليه "الفلسطينيون" هدايا وجِزًى دفعوها فضة، كما جاء في التوراة4، ودفع إليه "العرب" كما تقول التوراة أيضًا "7700" كبش و"7700" تيس5. ويظهر أن "العرب" المذكورين، هم من الأعراب النازلين في "يهوذا" ومن الأعراب الذين يفدون عليها للاتجار, وإلا
__________
1 الملوك الأول، الإصحاح الثاني والعشرون، الآية 38 فما بعدها.
Montgomery, Arabia, P. 179
2 Hastings, P. 849
3 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الثامن عشر، الآية الأولى فما بعدها.
4 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح السابع عشر، الآية 11.
5 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح السابع عشر، الآية 11.(2/292)
فلِمَ يدفع الأعراب الساكنون في خارج "يهوذا" جزى أو هدايا لملكها، وليس له سلطان عليهم؟ وقد ترجمت لفظة "عربايم" العبرانية بلفظة "عربان" في ترجمة "جمعية التوراة الأمريكية" للتوراة إلى العربية, أما "الترجمة الكاثوليكية" فقد ترجمتها بلفظة "العرب". أما المراد من النص العبراني، فهو "الأعراب"؛ لأن لفظة "عرب" لم تكن تعني يومئذ إلا هذا المعنى.
وتولى "يهورام" "Jehoram" "851-843 ق. م." الحكم على مملكة "يهوذا" بعد "يهوشافاط"1. وتذكر التوراة أنه قتل جميع إخوته وبعض رؤساء إسرائيل بالسيف2, وأنه أغضب إله "إسرائيل" بأفعاله المنكرة؛ لذلك "أهاج الرب على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب الكوشيين، فصعدوا إلى يهوذا وافتتحوها وسبوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك مع بنيه ونسائه أيضًا. ولم يبق له ابن إلا يهوحاز أصغر منه"3. وتذكر بعد ذلك أن الله ابتلاه بمرض في أمعائه وبأمراض رديئة "فذهب غير مأسوف عليه، ودفنوه في مدينة داود, ولكن ليس في قبور الملوك"4.
ويظهر أن هجوم العرب على "أورشليم" كان هجومًا شديدًا عنيفًا كاسحًا، بدليل ما جاء في الآية التي أشرت إليها في التوراة، وفي الآية الأولى من "الإصحاح التالي" للإصحاح المذكور: "وملك سكان أورشليم أخزبا ابنه الأصغر عوضًا عنه؛ لأن جميع الأولين قتلهم الغزاة الذين جاءوا مع العرب إلى المحلة"5. وفي هذا الهجوم الماحق دلالة على ضعف مملكة "يهوذا" وتضعضع الأمن فيها, وعلى التناحر الشديد الذي كان بين السكان حتى إننا لنجد الشعب فرقًا غير متفقة، وأكثرها تخاصم الحكام.
ويرى "مرغيلوث" "Margoliouth" أن المراد بالعرب الذين بجوار الكوشيين, العرب الجنوبيون، أي: سكان اليمن؛ وذلك لأنهم في جوار "الكوشيين" أي:
__________
1 "ملك 8 سنين من سنة 892-885 ق. م"، قاموس الكتاب المقدس "2/ 534". Hastings, P. 400
2 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 4 فما بعدها.
3 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 16 فما بعدها.
4 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 19 فما بعدها.
5 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الثاني والعشرون، الآية 1.(2/293)
الحاميين، السودان، وهم سكان إفريقيا، لا يفصلهم عنهم إلا مضيق "باب المندب". ويرى أيضا أن ذلك الهجوم كان بحرًا، مستدلًّا على رأيه هذا بأن العرب المذكورين سرعان ما تراجعوا إلى منازلهم بغنائمهم وبما حصلوا عليه من أموال، دون أن يكلفوا أنفسهم البقاء في "أورشليم" والاستيلاء على "يهوذا"، وبمساعدة الفلسطينيين للعرب في هجومهم على يهوذا، وقد كان الفلسطينيون يسكنون سواحل فلسطين1.
أما "موسل" فيرى أن "العرب الذين بجانب الكوشيين" هم العرب النازلون في الأقسام الغربية من "طور سيناء" وعلى حدود مصر، وفي الأقسام الجنوبية من "طور سيناء" وعلى مقربة من "أيلة". وقد كانت "طور سيناء" موطنا قديما للعرب، وقد أشير في الكتابات المسمارية إلى ملوك عرب حكموا هذه الأرضين2.
ويحدثنا الإصحاح السادس والعشرون من "أخبار الأيام الثاني" أن "عزيا" "Uzziah" ملك "يهوذا" "779-740 ق. م."3, كان مستقيمًا في أول أمره مطيعًا لأوامر الكهان؛ لذلك وفقه الله، فخرج وحارب الفلسطينيين وهدم سورجت وسور أشدود، وبنى مدنًا في أرض أشدود والفلسطينيين وساعده الله على الفلسطينيين وعلى العرب الساكنين في جوربعل والمعونيين4. ويفهم من هذه الآيات أن الفلسطينيين والعرب كانوا جبهة واحدة متحدة ضد مملكة "يهوذا", وقد كبدوها خسائر فادحة كما رأينا. فلما تولى هذا الملك، أراد رمي صفوف أهل مملكة "يهوذا" ووقاية مملكته، وقد نال تأييد شعبه له، فحارب الفلسطينيين وتغلب عليهم، وحارب العرب الساكنين في "جوربعل" والمعونيين، وهدم أسوار المدن التي عرفت بعدائها لـ"يهوذا"، وبنى مدنًا جديدة في "أشدود" وفي الأرضين الساحلية المعروفة بفلسطين.
__________
1 Margoliouth, The Relations, P. 52
2 Hegaz, P. 274
3 Hastings, P. 407, 957, Enc. Bibli. P. 5240, Hegaz, P. 244
ويدعى أيضا "عزريا" وهو ابن "أمصيا"، "808-756 ق. م.", "782-737 ق. م."، قاموس الكتاب المقدس "2/ 100".
4 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح السادس والعشرون، الآية 6 وما بعدها.(2/294)
ومدينة "جث" هي مدينة قديمة في تخوم "دان"، وبها وُلِدَ "جليات" "كلياث" "Goliath" جبار الفلسطينيين كما أنها إحدى مدنهم الخمس1. وكانت في أيام داود في يد الفلسطينيين، وكان عليها ملك اسمه "أخيش"2 "Achish"، ولم يعرف مكانها بالضبط. وأما "يبنة"، وتعرف أيضا بـ"يبنئيل"، فإنها من مدن الفلسطينيين كذلك, وهي "بينة" في الزمان الحاضر، وتقع على بعد "12" ميلًا جنوب "يافا" و"3" أميال شرقي البحر3، أو "يمنة" على مسافة "7" أميال جنوبي "طبرية"4.
ولم يتمكن علماء التوراة من تثبيت موضع "جوربعل", وتعني لفظة "جور" "مسكن"، فيكون تفسير "جوربعل" "مسكن بعل"5. ويظهر من ذكر الفلسطينيين والعرب الساكنين بهذا المكان والمعونيين بعضهم مع بعض أن أرضيهم كانت قريبة بعضها من بعض، وأنهم كانوا يدًا واحدة على "يهوذا". ويرى "موسل" أن الزاوية الشمالية الغربية من أرض "حسمى" هي "جوربعل", وتقع في رأيه على مقربة من جبل "إرم" الذي يعرف اليوم باسم "رم"، وهو "Aramaua" في "جغرافية بطلميوس"، ويكون حدًّا من الحدود الشمالية للحجاز6. وذهب بعض الباحثين إلى أن "جوربعل" تعني "صخرة بعل"، في بعض النصوص الإغريقية, ولهذا فسروها بـ"بطرا"؛ ولذلك قالوا: إن العرب المذكورين كانوا العرب الساكنين عند "بطرا"7 "patra".
وأما "المعونيون" فإن آراء علماء التوراة متباينة كذلك في تعيين هويتهم8, وقد ذهب بعضهم إلى أنهم جماعة من "المعينيين"، الذين كانوا قد استقروا
__________
1 يشوع: الإصحاح الحادي عشر، الآية 22، الإصحاح الثالث عشر، الآية 3، صموئيل الأول، الإصحاح السادس، الآية17، الإصحاح السابع عشر، الآية 4، قاموس الكتاب المقدس "1/ 314 وما بعدها".
2 صموئيل الأول، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 10 وما بعدها، الإصحاح السابع والعشرون، الآية 1 وما بعدها.
3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 494".
4 Enc. Bibli. P. 2303, Hastings, P. 419
5 قاموس الكتاب المقدس "1/ 344". Enc. Bibi. P. 1920, Hastings, P. 322
6 Hegaz, P. 274
7 Montgomery, Arabia, P. 30
8 قاموس الكتاب المقدس "2/ 362".(2/295)
في "ديدان"، وكونوا مملكة معينية شمالية1. وذهب بعض آخر إلى أنهم سكان "معين مصران"2.
وقد استعاد "عزيا" "أيلة" "إيلات" "Eloth" "Elath"، وبنى ميناءها، وتقع في أرض "آدوم"، وهي فرضتها الشهيرة، ويقع على مقربة منها ميناء "عصيون جابر" الذي تحدثت عنه, وقد بقيت في ملك "يهوذا" إلى أن استولى عليها ملك "أرام"3. وقد حاول "عزيا" ومن جاء بعده جعل "إيلات" "أيلة" ميناء "يهوذا" الجنوبي؛ وذلك للاستفادة منه في الاتجار مع إفريقيا والبلاد العربية وسواحل آسيا الجنوبية، تطبيقًا لخطة "سليمان", إلا أن هذا الأمر لم يتحقق؛ إذ لم تكن مملكة "يهوذا" قوية متمكنة في هذه المناطق الجنوبية, التي كانت هدفا للغارات والحروب.
ويظهر أن ميناء "عصيون جابر" كان قد خرب أو امتلأ بالرمال، فلم يصلح للاستعمال، فرأى "عزيا" استبدال ميناء "أيلة" به، وقد يكون ماء هذا الميناء أعمق وأصلح للملاحة وللمواصلات من ذلك الميناء؛ لذلك وقع اختيار ملك "يهوذا" عليه4.
وفي أخبار حملة "سنحاريب" التاسعة ما يفيد أن "حزقيا" ملك "يهوذا" استخدم الـ"الأريبي"، أي: الأعراب، فيمن استخدمهم للدفاع عن القدس "أورشليم"، حينما حاصرها ملك آشور5. ولم يكن هؤلاء العرب، إلا أعرابًا من سكان "يهوذا"، ومن سكان الأرضين الأخرى في فلسطين.
وعلى عاتق هؤلاء الأعراب وقعت مسئولية الدفاع عن القدس، حيث قاموا بدور كبير في الدفاع عنها وفي مقاومة الآشوريين6.
ولما سمح الفرس ليهود بابل الذين كانوا في الأسر بالعودة إلى بلادهم، توسل
__________
1 Margoliouth, P. 51
2 Winckler, AOF. 29, 337, Enc. Bibli. P. 3065
3 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح السادس والعشرون، الآية 2، الملوك الثاني، الإصحاح الرابع عشر، الآية 22.
قاموس الكتاب المقدس "1/ 184". Hastings, P. 211
4 Montgomery, Arabia, P. 179
5 Luckenbill, II, 240, Reall. I, S. 125
6 A.R. Burn, Persia and the Greeds, P. 21(2/296)
"نحميا" إلى "أرتحشتا" ملك الفرس، بالسماح له بالعودة إلى القدس، وكان "نحميا" نديمًا للملك، يسقيه الخمر ويؤانسه، فسمح له. ولما وصل إليها، وجد المدينة خربة، وقد تهدمت أسوارها واقتلعت أبوابها، فجمع سكانها وأمرهم بإعادة بناء الأسوار, وإصلاح الثغر والثلم التي فيها، وعمل أبواب جديدة، ولكنه لقي معارضة شديدة من "سنبلط الحوروني" و"طوبيا العبد العموني" و"جشم العربي"، إذ عارضوا في إعادة بناء الأسوار والأبواب, وهددوه بالزحف على المدينة. ونجد في "سفر نحميا" وصفًا لموقفهم من "نحميا"، فيه استهزاء وسخرية به وازدراء بأمر سكان "أورشليم" وبالسور الذي أخذ في بنائه، وبين المستهزئين أناس من العبرانيين: "ولما سمع سنبلط أننا آخذون في بناء السور، غضب واغتاظ كثيرًا، وهزأ باليهود، وتكلم أمام إخوته وجيش السامرة, وقال: ماذا يعمل اليهود الضعفاء؟ هل يتركونهم؟ هل يذبحون؟ هل يكملون في يوم؟ هل يحيون الحجارة من كوم التراب وهي محرقة؟ وكان طوبيا العموني بجانبه، فقال: إن ما يبنونه إذا صعد ثعلب, فإنه يهدم حجارة حائطهم"1. وقد تأثر "نحميا" من هذا الازدراء الشائن كثيرًا, فتراه يوجه وجهه لربه ويخاطبه قائلًا: "اسمع يا إلهنا؛ لأننا قد صرنا احتقارًا, ورد تعييرهم على رءوسهم, واجعلهم نهبًا في أرضي السبي"2.
وصمم "نحميا" كما يقول على الاستمرار في البناء حتى إكماله: "فلما سمع سنبلط وطوبيا والعرب والعمونيون والأشدوديون أن أسوار أورشليم قد رممت، والثغر ابتدأت تسد، غضبوا جدا، وتآمروا معًا أن يأتوا ويحاربوا أورشليم ويعملوا بها ضررًا"3. ولكنهم كما يفهم من "نحميا" لم ينفذوا تهديدهم بالهجوم على القدس، بل بقوا يتكلمون ويهددون، يرسلون الرسل إلى "نحميا" للاجتماع به، ويذكر "نحميا" أنهم لم يكونوا يريدون من هذا الاجتماع إلا الفتك به، فرفض؛ وعندئذٍ تراسل "سنبلط" و"طوبيا" مع أحد رؤساء "أورشليم" وهو "شمعيا بن دلايا"؛ ليدخل "نحميا" الهيكل، ثم يعلن للناس أنه دخل
__________
1 نحميا، الإصحاح الرابع، الآية 1 فما بعدها.
2 نحميا، الإصحاح الرابع، الآية 4.
3 نحميا، الإصحاح الرابع، الآية 7 فما بعدها.(2/297)
الهيكل خائفًا هاربًا، فتسقط منزلته من أعين الناس. وقد أحس "تحميا" بالمؤامرة، فرفض الدخول كما يقول1.
وكان "جشم" العربي من أشد المعارضين لبناء السور، ولتحصين القدس؛ وذلك لأنه كان يرى في هذا العمل إعادة لدولة "يهوذا" ولتنصيب "نحميا" ملكًا على "أورشليم". وقد صرح برأيه هذا إلى "نحميا" في رسالة وجهها إليه نقل "نحميا" منها هذه الكلمات: "وجشم يقول: إنك أنت واليهود تفكرون أن تتمردوا؛ لذلك أنت تبني السور لتكون لهم ملكًا بحسب هذه الأمور. وقد أقمت أيضا أنبياء لينادوا بك في أورشليم قائلين: في يهوذا ملك"2.
وما كان "جشم" ليعارض بناء أسوار القدس ووضع الأبواب لها، وإعادة حكومة "يهوذا" التي قضى عليها البابليون إلى الوجود, لو لم يكن صاحب سلطان وحكم في أرضين تجاور القدس؛ ولهذا رأى في إعادة الملكية إلى القدس عاصمة مملكة "يهوذا" المنقرضة, تهديدًا له ولمن تحالف معهم على مقاومة هذا المشروع3.
و"جشم" "Geschem" اسم من الأسماء العربية المعروفة, وفي القبائل العربية قبيلة يقال لها "جشم"، وهي من قبائل "بني سعد"، وهو أيضا "جشم" من أسماء الرجال4, ويرد بصورة: "جشمو" في الكتابات النبطية5, ولم يشر "نحميا" إلى موطنه ومكانه؛ ولذلك لا ندري أين كان. وقد ذهب بعض الباحثين في التوراة إلى أنه كان من أهل "السامرة" "Samaria"، وذهب بعض آخر إلى أنه كان من أهل المناطق الجنوبية من "يهوذا" وأنه كان رئيس قبيلة فيها6.
وذهب بعض الباحثين إلى أن "جشم بن شهرو" "جشم بن شهر"، هو "جشم" المذكور في التوراة, وهو أحد ملوك قبيلة "قيدار" "قدار" "قدور". وهو الذي عارض "نحميا" في سنة "444" قبل الميلاد في إعادة
__________
1 نحميا، الإصحاح السادس، الآية 2 فما بعدها.
2 نحميا، الإصحاح السادس، الآية 6 فما بعدها.
3 "جشم" Enc. Bibli. I, P. 273. ff. "Gushamu" "Geshem"
4 الاشتقاق "1/ 154"، "2/ 177، 203، 242".
5 Margoliouth, P. 48, Montgomery, Arabia, P. 29
6 Hastitns, P. 291, Enc Bibli. P. 1710, Hastings, A Dictionary of the Bible, I, P. 162.(2/298)
بناء سور "أورشليم". وقد كانت "قيدار" مملكة تسيطر على أرض تمتد من "دلتا" النيل إلى حدود مملكة "يهوذا" فجنوب "ديدان" بحوالي "21" كيلومترًا نحو الجنوب في الحجاز، أما في الغرب فتصل حدودها بالبادية1. فملك "قيدار" وهو "جشم بن شهر"، كان إذن هو المعارض لبناء السور، وفي معارضته هذه دلالة -ولا شك- على مقاومته لمحاولة إعادة دولة إسرائيل من بعد السبي.
ويظن أن الإناء الذي عثر عليه بمصر في موضع يقع على مسافة اثني عشر ميلًا إلى غرب الإسماعيلية، وقد دُوِّن عليه اسم شخص يدعى "قينو بن جشم ملك قيدار"، هو ابن "جشم" المعاصر "لنحميا". وعلى ذلك يكون أحد ملوك "قيدار"2.
وقد كانت "طور سيناء" منذ القديم أرضًا يسكنها العرب، حتى في أيام داود وسليمان. ونجد أن رسالة "القديس بولس" إلى أهل غلاطية تجعل جبل سيناء في ديار العرب، وتذكر أن "طور سيناء" موطن أبناء هاجر، أي: العرب3, كما نجد أن النقب ووادي عربة كانا من مواطن الأعراب4. وقد كان أعراب "جشم" وغيره ينتقلون وينزلون في هذه المواطن وعلى مقربة من القدس.
وفي هذا العهد وصل الاتجار بين فلسطين وبين العربية الجنوبية ذروته, فعثر على مواد كثيرة في مواضع متعددة من فلسطين استوردت من العربية الجنوبية. كما عثر في حضرموت على آثار تدل على أنها استوردت من فلسطين وبلاد الشام, وقد كانت حاصلات العربية الجنوبية هي من أهم السلع المطلوبة في فلسطين, ترسل إليها عن طريق البر على ظهور الجمال.
ومنذ عهد "نحميا" أي: أواسط القرن الخامس قبل الميلاد، أخذ العبرانيون
__________
1 Grohmann, Arabien, S. 23, F. V. Winnett, Notes on th Lihyanite and Thamudic Inscriptios, in Museon, 51, "1938" 307, 309, W.F Albright New Light on Early Recensions of the Hebrew Bible, In BASOR. Num. 140, 1955, 31, W. F. Albright, The Archaeology of Palestine, P. 145
2 William Culican, the Medes And Persians, London, 1965, P. 151
3 الإصحاح الرابع، الآية 24 فما بعدها.
4 W.F. Albright, the Archaeology. P. 145(2/299)
ينظرون نظرة عداء إلى العرب، ويعدونهم في الجماعات المعادية لهم1. وذلك مما يدل على اتخاذهم موقفًا موحدًا ضد العبرانيين وعلى توغلهم في فلسطين في المناطق التي حكمتها حكومتا "إسرائيل" و"يهوذا"؛ ولهذا اشتدت مقاومة العرب للعبرانيين واتحدوا مع الشعوب الأخرى في مقاومتهم، وفي منعهم من إعادة تكوين حكومة يهودية في هذه البلاد.
ولما تولى "يهوذا المكابي" مؤسس أسرة "المكَّّابيين" "Maccabees" "166-161 ق. م." الحكم، حارب أعداء العبرانيين2، وكان من بينهم "تيموتاس" "Timotheus" رئيس "العمونيين"3، الذي استأجر جيشًا من العرب ومن الغرباء ليحارب به "يهوذا"، غير أنه أُصيب كما يقول "سفر المكابيين" بخسائر في كل المعارك التي خاضها مع "يهوذا"، ولم يتمكن من الانتصار عليه4.
وقد تحدث سفر المكابيين الثاني عن "تيموتاس" هذا، فقال: "ثم ساروا "أي اليهود" من هناك تسع غلوات زاحفينَ على تيموتاس، فتصدى لهم قوم من العرب يبلغون خمسة آلاف، ومعهم خمسمائة فارس، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وكان الفوز لأصحاب يهوذا بنصرة الله، فانكسر عرب البادية، وسألوا يهوذا أن يعاقدهم على أن يؤدوا إليهم مواشي, ويمدوهم بمنافع أخرى"5. ولعل هؤلاء العرب، هم العرب المذكورون, الذين ذكر السفر الأول من المكابيين أن "تيموتاس" كان قد استأجرهم لمقاتلة اليهود. وقد كانوا من أعراب البادية, كما نرى ذلك في هذا النص.
وورد في "سفر المكابيين الأول" اسم سيد قبيلة عربية هو "زبديئيل" "زبدايل" "زبديل"، وكان يقطن في "ديار العرب"، كما جاء ذلك في السفر المذكور؛ ذكر السفر اسم هذا الرئيس وهو يتكلم على فرار "إسكندر بالس"
__________
1 Margoliouth, P. 48, Hastings, P. 406, Enc. Bibli. I, P. 273
2 Hastings, A Dictionary. I, P. 936
3 A Dictionary, I, P. 937
4 المكابيون الأول، الإصحاح الخامس، الآية 6 فما بعدها، 34 فما بعدها، المكابيون الثاني, الإصحاح الثامن، الآية 30, الإصحاح التاسع، الآية 3، الإصحاح العاشر، الآية 24 فما بعدها.
5 المكابيون الثاني عشر، الآية 10 فما بعدها.(2/300)
"Alexander Balas" إلى "ديار العرب"، وكان قد مُنِيَ بهزيمة أوقعه بها "بطلميوس" "بطلماوس" "Ptolemy"، عمه أي: والد زوجته, وكان قد تخاصم معه. فلما وصل "إسكندر بالس" إلى "ديار العرب"، قبض عليه "زبديئيل"، وقطع رأسه، وأرسله إلى "بطلماوس"1.
ولم يتحدث السفر المذكور عن منزل "زبديئيل"، ولم يحدد مكان "ديار العرب"، وعندي أن المراد بـ"ديار العرب" بادية الشام، والأرضون التي دعاها الأشوريون بـ"أريبي" "Aribi"، وهي موطن آمن لمن يصل إليه، إذ يصعب للجيوش النظامية أن تقاتل فيها. وقد كان "زبديئيل" من رؤساء البادية في هذا الزمن, وهو حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد2. وكان الحاكم على اليهود هو "يوناتان" من المكابيين.
ويذكر "سفر المكابيين" أيضا أن "تريفون" "Tryphon"، وهو أحد قواد "إسكندر بالس" ومن جماعته، ذهب إلى رجل عربي اسمه "إيملكوئيل"، وكان يربي "أنطيوخس بن الإسكندر"، فألح عليه أن يسلمه إليه ليملكه مكان أبيه، ومكث عنده أيامًا. وقد تمكن عربي مع حقد العبرانيين المتزايد على العرب من حكم اليهود ومن تأسيس أسرة حاكمة حكمتهم. ذلك الرجل هو "أنتيباتر" "Antipater" الأدومي، نسبةً إلى "أدوم" "Edom" "Idumea" "Idumaea"، وهم سكان جبل سعير، الذين دعاهم "أويسبيوس" "Eusebius" باسم "Gabelene" أو "Gabalene" أي: الجبليين3.
فقد تمكن هذا الرجل الذي لم يكن من أسرة ملكية ولا من أسرة معروفة بفضل شخصيته وبقوته من فرض نفسه حاكمًا على "أدوم" "Idumaea"، ثم تمكن من جعل نفسه حاكمًا "Procurator" على اليهودية "Iudaea" "Judaea"، وذلك في حوالي السنة "33" قبل الميلاد. وفي خبر أن "يوليوس قيصر" "Julius Caesar"، اعترف به "Procurator" على اليهودية في حوالي السنة "47" قبل الميلاد4.
__________
1 المكابيون الأول، الإصحاح الحادي عشر, الآية 15 وما بعدها.
2 Hastings, P. 20
3 Hastings, P. 345
4 Smfth, A Diotionary of the bibl, I, P. 790. F. Josephus, Anti. Xiv, 7, 3(2/301)
ولما وقعت الحرب بين "يوناتان" المكابي "161-143 ق. م." و"ديمترتوس الثاني"، ضرب "يوناتان" العرب المسمين بالزبديين "Zabadaeans" وأخذ منهم غنائم كثيرة1, حدث ذلك في سنة "144 ق. م.". ويرى بعض علماء التوراة أن هذه القبيلة العربية قبيلة "زبد" "زبيد" كانت تنزل في موضع في شمال غربي "دمشق"، ويرى بعض آخر احتمال أن ذلك المكان هو "الزبداني"، الذي يبعد عشرين ميلًا من الشأم على طريق دمشق بعلبك2. وأرى أن من المحتمل أن يكون هؤلاء "الزبديون" هم سكان "زبد"، وهو خرب في الزمن الحاضر، يقع بين قنسرين ونهر الفرات, وقد اشتهر عند المستشرقين بالكتابة التي عثر عليها في هذا الموضع، وقد كتبت باليونانية والسريانية والعربية، ويرجع تأريخها إلى سنة "511م". وقد أدخلهم "يوسفوس" في عداد النبط3.
و"أرتاس زعيم العرب" الذي طرد "ياسون" من بلاده, حينما التجأ إليه فارًّا من الملك "أنطيوخس"، هو "الحارث" أو "حارثة" وهو من ملوك النبط، ولا شك. وقد ذكر اسمه في سفر المكابيين الثاني4.
وفي أيام "سترابون" كان العرب في جملة سكان مدن فلسطين، مثل القدس و"يافا" و"الجليل"5. وذكر "سترابون" أن "الأدوميين" "Idumaens" كانوا يقطنون الأقسام الغربية من "اليهودية" "Iudaea"، وهم على حد قوله من "النبط". ولما كان "سترابون" قد نقل كلامه من موارد أخرى قديمة، فما ذكره يفيد أن العرب كانوا يقيمون في فلسطين قرونًا عديدة قبل الميلاد.
وقد ذكر العرب في جملة الشعوب الساكنة في "أورشليم" يوم مرور الخمسين يومًا على المسيح. ويظهر من أعمال الرسل أن أهل القدس كانوا خليطًا في تلك الأيام من معظم شعوب العالم المعروفة يومئذٍ6.
__________
1 سفر الكابيين الأول, الإصحاح الثاني عشر, الآية 31 فما بعدها.
2 Hastings, P. 982, Beeton, Dictionary of Religion Philosophy and law, P. 1809
3 Anti. XIII, 5, 10, Beeton, Dictionary, P. 1809
4 المكابيون الثاني، الإصحاح الخامس، الآية 5 فما بعدها. Dubnow, II, S. 48
5 قاموس الكتاب المقدس "1/ 331".
6 أعمال الرسل، الإصحاح الثاني، الآية 9 وما بعدها.(2/302)
وقد أطلق العبرانيون اسم "طيعة" و"طيابة" على العرب، محاكاةً لبني إرم, فتجد اللفظة في "التلمود" وفي كتابات العبرانيين المدونة في القرون الأولى للميلاد. وقد أخذ الاسم "طيعة" و"طيابة" من "طيء" اسم القبيلة المعروفة، على نحو ما ذكرت في الفصل الأول.
وقد ذكرت في "المدراش" قبيلة عربية عرفت بـ"سوجي"، لعله "سواجر"، أو ما شابه ذلك من أسماء1.
وفي التوراة مصطلحات يرى العلماء أنها كناية عن العرب؛ ففيها مصطلح "بني قديم" "Bene Kedem"، ومعناه "أبناء الشرق"، ويقصد به الساكنون شرق العبرانيين، أي: سكان بادية الشأم، وهو في معنى "شركوني" "شرقوني"، أي: الساكنين في المشرق. وهم كما نعلم قبائل عديدة من العرب سكنت هذه البادية قبل الميلاد بمدة لا يعلمها إلا الله, وقد يكون من بين هؤلاء أقوام من الآراميين2.
وقد وصفت التوراة بعض عادات العرب ورسومهم، كما تعرفت لتجارتهم. ولما كانت "فلسطين" امتدادًا طبيعيًّا لجزيرة العرب، وجزءًا منها، وكانت على طريق مصر وبلاد الشأم وعلى ساحل البحر المتوسط، صارت سوقًا مهمة للتجار العرب وللأعراب، يأتونها لبيع ما عندهم من سلع، وأهمها: أنواع الطيب والذهب والحجارة الكريمة والأغنام والأعتدة وحاصلات بلاد العرب الأخرى3، كما كانوا يشترون من أسواقها ما فيها مما يحتاجون إليه من حاصلات حوض البحر المتوسط وبلاد الشأم وفي جملة ذلك الرقيق.
وورد في "التلمود" اسم صنم عربي "نشرا"4، ويقصد به "نسر" ولا شك, وهو من أصنام العرب المعروفة. وقد ذكر "ابن الكلبي" أن حمير تعبدت لنسر5, كما أنه ذكر في "التلمود" أيضا "حج الأعراب"، وذكر أن مواسم حجهم كانت تتغير بتغير فصول السنة6. وقد تعرض للأحكام الشرعية
__________
1 إيخارباثي "3/ 7".
2 Hastings, P. 20. the Bible Dictionary, I, P. 177.
3 حزقيال، الإصحاح السابع والعشرون، الآية 21 وما بعدها.
4 عبودة زارة 11 ب.
5 الأصنام "ص11، 57".
6 عبودة زارة 11 ب.(2/303)
الخاصة بدخول البيوت، فذكر أنها لا تنطبق على خيام العرب؛ لأنها متنقلة، فلا تستقر في مكان واحد1, كما ذكر أن من عادة نساء العرب التحجب عند خروجهن إلى المحال العامة2, ولعله يقصد بذلك نساء المدن. وذكر أن من عادة الرجال وضع اللثام على وجوههم في أثناء السفر لوقايتهم من الرمال3، وأشار إلى أن للعرب مقدرة فائقة في معرفة مواضع المياه في الصحراء بمجرد شم الرمال4. وورد في "المشنة" "المشنا" أن أغلب طعام العرب من اللحوم5.
وقد ورد في "السنهدرين" أن أحد اليهود قصَّ على الحبر "حية" "R. Hiyya"، أنه رأى مسافرًا عربيًّا أخذ سيفًا بيده فقطع به جملًا قطعًا، ثم أخذ "جرسًا" فدق به، فنهض الجمل حالًا، وكأنه لم يقطع إربًا، فقال له الحبر: إن ما حدث هو نوع من الخداع6.
ونجد في "السنهدرين" كلاما لـ"ربه بن برحنه" "Rabbah B. Bar Hana" يروي فيه أنه كان مسافرا، وفي أثناء سفره التقى به عربي، فقال له: تعال معي وسأريك الموضع الذي انشقت به الأرض وابتلعت جماعة "القورحيين" "قورح" "Korah". فذهب معه إليه، ورأى به دخانا, ثم أخذ العربي قطعة من صوف وبَلَّها بالماء، ثم وضعها على رمح له، ثم أدخلها الموضع فاستشاطت بالنار. ثم قال للعربي: أصغِ إلى المكان، لعلك تسمع شيئًا فيه. فسمع أصواتا تقول: "موسى وتوراته على الحق، أما القورحيون فهم كذابون" ثم قال له: في كل ثلاثين يومًا يتحول هؤلاء في جهنم "Gehenna"، تحول اللحم في القدر، وهم يقولون: "موسى وتوراته على حق، أما هم، فهم كذابون"7.
ونجد قصة هذا الحبر في "باب بثرا" "Baba Bathra"، حيث يقول:
__________
1 هلوت 28: 10.
2 شبت 6: 6.
3 موعيد قطان 24، ومشنة كليم 29: 1.
4 بابا بترا 73 ب.
5 مناحوت 36 ب.
6 Sanhedrin, 67b, the Babylonian Talmud, Seder Nezikin, III, P. 460, Translated by, Rabbi I, Epstein.
7 Sanhedrin 110a, 110b, the Babylonian Talmud, Seder Nozikin, III, P. 757.
قاموس الكتاب المقدس "2/ 226" "قورح".(2/304)
لقد كنا في سفر في صحراء، فالتقى بنا تاجر عربي، وكان ممن يستطيع التنبؤ بمواضع المياه وبالأبعاد وبالطرق من شم التربة، فأردنا الاستفسار منه عن أقرب مكان إلينا فيه ماء. فقال لنا: أعطوني رملًا فأُعْطِيَ، فشمه ثم قال: أقرب مكان إليكم فيه ماء هو على بعد ثمانية فراسخ "Parasangs" ثم سرنا وأردنا الاستفسار ثانية منه، فقدمنا له رملًا، شمه ثم قال لنا: الماء على بعد ثلاثة فراسخ من هذا المكان. ثم حاول هذا الحبر اختباره لمعرفة مدى صدقه من كذبه، فأبدل الرمل، فلما قدم إليه رملا آخر؛ لم يستطع أن يقول شيئًا1.
ويقص علينا قصة أخرى يزعم أنها وقعت له مع هذا التاجر العربي، حيث يقول: إنه قال له: تعال معي أُرِك "أموات التيه"، أي: الإسرائيليين الذين ماتوا في التيه في طريقهم إلى أرض الميعاد. فذهب الحبر معه، ورأى الأموات وكأنهم في حالة فرح وسرور، وقد رقدوا على أظهرهم، ثم يقول: وقد رفع أحد هؤلاء الأموات ركبته، ومر التاجر العربي من تحت تلك الركبة، وقد كان حاملًا رمحه راكبًا بعيره، ومع ذلك فإن رمحه لم يمس رجل الميت. ثم يقول: وقد ذهبت إلى أحد الأموات الراقدين فقطعت جزءًا من ذيل ردائه الأزرق العميق، وعندما حاولت الرجوع، لم أتمكن من الحركة وبقيت ثابتًا في مكاني، فقال له العربي: إذا أخذت شيئًا من هؤلاء فأرجعه إلى محله، وإلا فإنك ستبقى ملتصقًا في مكانك؛ لأن من يتطاول على حرمة الراقدين فيأخذ شيئا منهم، يجمد في مكانه، ولا يستطيع التحرك. فذهبت وأرجعت القطعة وتمكنت عندئذٍ من السير2.
ثم يذكر أن هذا التاجر العربي أخذه إلى جبل الطور "جبل سيناء" "Mount of Sinai" فأراه إياه، ثم أخذه إلى الموضع الذي انشق بالقورحيين؛ جماعة "قورح"، فأراه شقين في الأرض، ووجد الدخان لا يزال يخرج منهما، ثم يذكر أنه أخذ قطعة الصوف وأدخلها هو بنفسه ثم أخرجها, وإذا بها وقد علقت بها النار، ثم يقص باقي القصة على نحو ما جاء في "السنهدرين"3.
ونجد في "مينحوت" "Menahoth" فتوى تتعلق في نجاسة أو طهارة قرب
__________
1 Baba Bathra, 73b, The Babylonian Talmud, Seder Nezikin, II Baba Bathra, P. 292.
2 Baba Bathra, 74, The Babylonian Talmud, Seder Nezikin, II, P. 292
3 Baba Bathra, 74a, Seder Nezikin, II, P. 293-294(2/305)
الماء. وقد ورد في هذه الفتوى، أن القرب التي تشد وتعقد بعقدة تكون طاهرة، إلا إذا عقدت بعقدة عربية؛ فإنها تكون نجسة ولا يحل الشرب منها1. ونجد هذا البحث مرة أخرى في مكان آخر من "المشنة" في كتاب الـ"قليم" "kelim"، أي: "كتاب الأواني والأوعية" من "كتاب الطهارة"، حيث عرضت آراء الأخبار في قرب الماء وفي كيفية عقد عقدتها لمدة طويلة أو لمدة قصيرة، ومن حيث شدة العقدة أو رخاوتها، وتأثير ذلك في طهارة الماء. فأشير إلى قرب ماء العرب وموقفهم من الشرب منها أو من الاستفادة من مائها, وهل يعد ماؤها طاهرًا أم نجسًا في الشريعة اليهودية؟ وقد جاءت آراء الأخبار متباينة في ذلك2. ويظهر أن اتصال العرب باليهود اتصالا وثيقا بالعراق، وسكن اليهود بين العرب في بلاد العرب، أثار أمام اليهود هذه المشكلة الفقهية، فهم مضطرون دائمًا إلى الاتصال بالعرب وإلى شرب الماء منهم، فظهرت من ثَمَّ عندهم هذه المشكلة، وكان على الأحبار بيان رأيهم في طهارة ماء القرب، وقرب العرب منها بوجه خاص؛ لما في ذلك من علاقة بقضية الطهارة والنجاسة ومكانتها في فقه يهود.
وفي موضع آخر من كتاب "الأواني والأوعية" "kelim"، بحث عن جواز أو عدم جواز ارتداء بعض الأردية وموقف الشريعة من أكسية الرأس وأغطية الوجه والجسم، فبحث في جملة ما بحث عنه، عن القناع الذي يصنعه العرب على أوجههم وعن تلثمهم به، فهل يجوز لليهودي شرعًا أن يفعل فعل العرب أم لا؟ 3.
وقد استثنت "المشنه" في كتاب "أو حولت" أي "الخيام"، عشرة مواضع من تطبيق أحكام الشرع عليها، بخصوص طهارتها أو نجاستها لكون ساكنيها من الوثنيين. وقد ذكرت مضارب خيام العرب على رأس هذه المواضع العشرة التي لا تخضع لحكم الشريعة في موضوع حكم طهارتها أو نجاستها؛ وذلك لأن مضارب البدو غير مستقرة، إذ إن الأعراب يتنقلون من مكان إلى آخر؛ لذلك لا يمكن تطبيق الأحكام الشرعية التي تطبق على العقار الدائم عليها في
__________
1 Menahoth, 37b, P. 231, Translated by Eli Cashdan
2 The Mishmahs, Kelim, P. 124
3 The Mishna Kelim? P. 138(2/306)
موضوع نجاسة الأثاث والأواني وكل شيء يكون تحت الخيمة التي يموت فيها إنسان؛ ولأن أصحابها غير يهود1.
وقد أشير في "مينحوت" "Menahoth" إلى موضوع تقديم طعام مطبوخ في موقد عربي، هل يقبل أو يرفض؟ فأشار بعض فقهاء الشريعة اليهودية إلى عدم جواز الأكل من ذلك الطبيخ2.
ونجد في "بابا بثرا" "Baba Bathra"، أن الحبر "ماير" "R. Meir" يستثني النبط والعرب والسلمونيين "Salmoeans" من الوعد الذي أعطاه الله لموسى حين أراه الأرض الموعودة3. ويظهر أن "السلمونيين" هم قبيلة من القبائل العربية الشمالية4, لعل لاسمهم علاقة بـ"سلمان".
وقد ورد ذكر العرب في كتاب الحيض "نده" "Niddah" من كتاب "الطهارة" في الفقه اليهودي, وذلك في موضوع العبدة وهل يجوز الاتصال بها، أم لا يجوز على اعتبار أنها خصصت لأداء أعمال لا للاتصال الجنسي؟ وقد أجاز الحبر "شيشت" "R. Shesheth" إيداع العبدة أي: المملوكة إلى العرب، على أن يقال لهم: احترسوا من الاتصال بالإسرائيليات5.
وفي التلمود والمشنه والكمارة مسائل فقهية أخرى عديدة يخرجنا ذكرها هنا من حدود هذا الموضوع, تتعلق بموضوع صلات العرب واليهود, في مثل موقف الشريعة اليهودية من ذبائح العرب، وهي التي يذبحها اليهود للعرب في مقابل إعطائهم اللحم ليقدم العرب دمها وشحمها للأصنام6.
وموقف الشريعة من المرأة التي يأسرها الأعراب ثم تعاد بعد ذلك إلى أهلها بعد فك أسرها، هل يجوز للحبر أو لغيره التزوج منها أم لا؟ أو موقف الشريعة من المملوكة اليهودية التي تكون في أيدي العرب، من حيث احتمال دخول العرب بها7, أو موقف الشريعة من الحبوب أو المواد الأخرى التي تقع بين روث
__________
1 The Mishnahs, Oholoth, P. 228
2 Menagoth, 63, Menahoth, P. 372
3 Baba Bathra, 56a
4 The Babylonian Talmud, Seder Nezlkin, P. 227
5 Niddah 47a The Babylonian Talmud, Seder Tohoroth, P. 328
6 The Babylonian Talmud, Seder Kodashim, II, Hullin, P. 214, Hullin, 39b
7 The Babyionian Talmud, Seder Nashim, II, P. 199, Kethuboth, 36b(2/307)
ماشية العرب1، أو دخول إبل العرب في "كثوبة" "Kethubah" يهودي2, أو موقف اليهودي من المرأة3, أو موضوع نظر اليهودي إلى عضو من جسم امرأة عربية، مثل صدرها حينما يمر في مكان ويراها وقد كشفت عن صدرها لترضع رضيعها4، أو موقف الشريعة اليهودية من المختتنين العرب5.
ونجد في باب "الشهادات" "الوثائق" "كظين" "خطين" "Gittin" قولًا لأحد الأحبار يقول: إن امرأة عربية جاءت إلى أحد اليهود تحمل كيسًا فيه تعاويذ لبيعها، فقال لها اليهودي: أعطيك تمرتين عن كل تعويذتين. فاغتاظت المرأة ورمت ما حملته في النهر، فندم اليهودي وقال: وددت لو لم أكن قد أعطيتها هذا العوض الرخيص6.
وقد نشأت هذه المعضلات الفقهية من اختلاط اليهود بالعرب في فلسطين وفي الأماكن التي هاجروا إليها من بلاد العرب من جراء ضغط الرومان عليهم، وعدم تمكنهم من ممارسة عبادتهم في البلاد الخاضعة للحكم الروماني بسهولة وبحرية تامة، فهاجر كثير منهم إلى أعالي الحجاز وإلى العراق حيث اختلطوا بالعرب وعاشوا بينهم في مثل "الأنبار" و"فومبديثة" و"زقونية" "زكونية" "zekonia"، وهو موضع على مقربة من "فومبديثة"7, وموضع "بمكسة"8 "Be-Mikse"، "نهردعة" "Nehardea" وسورا "Sura" وأماكن أخرى من العراق. وقد كان ليهود الفرات اتصال وثيق بالعرب وكانوا يعيشون معهم في كثير من الأماكن ويتاجرون معهم. وكون اليهود لهم "كالوتا" أي "جالية" عاشوا فيها متمتعين بشبه استقلال ذاتي، يدير رؤساؤهم "كالوتاتهم"، ويكونون هم الممثلين لأتباعهم أمام السلطات صاحبة النفوذ الفعلي، كما كانوا يعقدون أحلافا مع الأعراب على طريقة أهل المدن والحضر في عقد مواثيق مع سادات القبائل لمنع الأعراب من غزوهم ومن التحرش بأملاكهم وتجاراتهم.
__________
1 Kethuboth 66b, II, P. 405
2 Babylonian, Seder Naahim, II, P. 408
3 Babylonian, Seder Naahim, II, P. 452
4 Babylonian, Seder Nashlm, II, 472, Kethuboth 75a
5 Tebamoth 71a, Babylonian, I, P. 479
6 Gittin, 45b, Babylonian, Seder Naahim, IV, P. 200
7 J. Obermeyer, Die Landschaft Babylonian, S. 234, Hullln, 39b
8 Yebaraoth, 45a, babylonlan, Seedr Nashlm, I, P. 295f Obermeyer, S. 334(2/308)
وأود أن أشير هنا إلى أهمية "التلمود" و"المشنه" و"الكمارة" بالنسبة لتأريخ العراق، ففي أبوابها بحوث قيمة عن مدن العراق وجغرافية العراق في عهد تدوين هذه الكتب، وهي تمتد لمئات من السنين. ففي "القيدوشين" مثلًا، أسئلة وأجوبة عن "إقليم بابل" وعن "ميسان" "Mesene" وعن "ميديا"، وقد وردت فيها أسماء مدن وأنهار وقرى وغير ذلك مما يساعد كثيرًا في فهم جغرافية العراق في عهود ما قبل الميلاد وما بعده1.
وقد تساهل الفرس في الغالب مع اليهود، فمنحوهم استقلالًا ذاتيًّا واسعًا في إدارة شئون مستوطناتهم وفي ممارسة طقوسهم الدينية وفي الاتجار، حتى صارت كل مستوطنة تدير شئونها بنفسها وتختار حاكمها بنفسها، حتى إن بعضها وضعت على رأسها حاكما يهوديا لقبته بلقب "ملك"، أدار شئون الجالية طبقًا لأحكام يهود, وكان هؤلاء الحكام هم الصلة بين اليهود وبين الفرس. وقد صارت بعض هذه المستوطنات من أهم المراكز العلمية عند اليهود في العالم، ومن ضمن ذلك فلسطين. وفي هذه المواضع دون "التلمود البابلي"، دونه أحبارهم الذين استقروا في العراق, وهو يعد من أثمن التراث العبراني الذي ظهر عند اليهود. وقد تأثر بالروح العراقية حتى امتاز بها على التلمود الأورشليمي، أي: التلمود الذي كتب في فلسطين.
وقد لاقى اليهود مساعدة حسنة من العرب، وعُوملوا معاملة طيبة, ويظهر من مواضع في التلمود والمشنه، أن العبرانيين فروا إلى جزيرة العرب منذ أيام "بخت نصر"2, وقد تأثر اليهود النازحون إلى جزيرة العرب بعادات العرب ورسومهم. ويحدثنا "أبا أريخا" من الأحبار وكبار علماء التلمود في القرن الثالث الميلادي، أن اليهود كانوا يؤثرون حكم الإسماعيليين، ويقصد بهم العرب، على الرومان، ويؤثرون حكم الرومان على حكم المجوس3. ومع ذلك، فقد حدث خصام بين العرب واليهود، فنجد في "التلمود" مواضع يظهر فيها حقد اليهود على العرب وكراهيتهم لهم؛ كالذي يظهر من كلام "الحبر يشوعه بن ليفي"4 "يشوعه بر ليفي"، حين رأى أكوامًا من العنب مكدسة، فقال: "يا للبلاد,
__________
1 Keddushin 71b
2 The Universal Jawish Encyclopedia, I, P. 439
3 Shabth IIs
4 R. Joshua B. Levi(2/309)
يا للبلاد", لمن هذه، لأولئك العرب "الوثنيين"1 الذين ثاروا علينا لخطيئتنا2. وكالذي يظهر من كتاب "قدوشين" "kiddushin"، حيث ورد: "أُعطِيَ العالم عشر "قابات" من الوقاحة، خُصَّ العرب بتسع منها"3. وفي هذا الكلام دليل على تطاول العرب على اليهود في المواضع التي كانوا يعيشون بها معًا, وحقد اليهود عليهم من أجل ذلك.
ونجد في الأخبار السريانية والعبرانية أخبار غارات وغزوات قام بها عرب العراق على الجاليات اليهودية التي انتشرت من "بابل" وما جاورها, حتى جاوزت شمال "عانة" على نهر الفرات. وقد أزعجت هذه الغارات اليهود الذين حولوا هذه الأرضين إلى أرض سادتها وغلبتها حتى صيرتها على شاكلة "وادي القرى" عند ظهور الإسلام, فاضطروا إلى تحصين مستوطناتهم وأحاطتها بأسوار, وإلى تشكيل قوات تقوم بحمايتها ليل نهار حتى في أيام السبت والأعياد اليهودية، مع تحريم الشريعة اليهودية العمل يوم السبت, وأباح الأحبار لهذه القوات حمل السلاح في أيام السبت وفي أيام العطل حتى تكون على استعداد للدفاع عن تلك المستوطنات في أية لحظة يشن فيها الأعراب غاراتهم عليها، إذ يحتمل أنها تقوم بقتل اليهود4.
وقد تعرض الرعاة اليهود الذين كانوا يخرجون بماشيتهم من مستوطناتهم إلى البرية أو إلى ضواحي مستوطناتهم إلى غارات الأعراب عليهم، وسلبهم ماشيتهم5، كما تعرض اليهود إلى الأسر، فأُسر عدد منهم، نساءً ورجالًا, حتى سلبوا وأسروا بعض الأحبار؛ لذلك كانت الجاليات اليهودية تخشى من الأعراب كثيرًا6, وقد تعرضت مدينة "نهردعة" "Nehardea" إلى الغزو وذلك سنة "570" من التقويم السلوقي, الموافقة لسنة "259" للميلاد. فقد غزاها كما تقول الأخبار اليهودية سيد قبيلة عربية، اسمه "بابابر نصر" "بابا بن نصر" "papa Bar Nasr"، وألحق بها أضرارا فادحة، وخرب بعض أماكنها، وقد هرب منها بعض أحبارها إلى مستوطنات يهودية أخرى7. وقد ذهب المؤرخ اليهودي "كريتس" "Graetz"
__________
1 الوثنيون في طبعة "Bomb"
2 Kethuboth 112a, Babyloian, Seder Nashim, II, P, 225
3 ألقاب "Kab" وحدة من وحدات الوزن Kiddushin 49b
4 'Erubin 45a
5 Baba Bathra 36a
6 Koheleth 7, Cittin 23a
7 Obermeyer, S. 254. ff(2/310)
إلى أن هذا الأمير العربي المهاجم هو "أذينة" ملك تدمر وزوج الملكة الزباء1. غير أن اشتهار ملوك الحيرة عند العرب بـ"آل نصر" وقرب الحيرة من مدينة "نهردعة" واتصال عربها بالجاليات اليهودية يحملنا على التفكير في أن المهاجم هو أمير من أمراء "آل نصر", ملوك الحيرة، وهم حلفاء الفرس.
وورد في الأخبار أيضا أن مدينة "فومبديثة" "Pumbaditha" تعرضت للغزو أيضًا، وهي من أمهات مدن الجاليات اليهودية. هاجمها جيش جاءها من "عاقولاء" ويظهر أنه من قوات "آل نصر" ملوك الحيرة2.
وقد كانت مدينة "فومبديثة" محاطة بالأعراب؛ ولذلك كانوا يتعاملون معهم، ويأتون إليهم, ويذبحون عندهم. وقد جاء في الأخبار أن أحبارها قد أباحوا لأهلها التعامل مع الأعراب في أيام أعيادهم، أي أعياد الأعراب؛ وذلك لأن أعياد الأعراب لم تكن ثابتة، تحل في وقت معين وفي مواسم مثبتة, لذلك جوزوا لهم البيع فيها؛ لأن أحكام التلمود تمنع اليهود من التعامل مع الغرباء في أيام أعيادهم, إذا كانت تلك الأعياد أعيادًا دينية.
ولما كانت الشريعة اليهودية لا تعتبر العيد عيدًا مقدسًا دينيًّا إلا إذا كان يقع في أوقات ثابتة معينة لا تتغير ولا تتبدل في التقويم؛ لذلك أفتى الأحبار بعدم اعتبار أعياد الأعراب أعيادًا دينية، وأباحوا لأهل المدينة التعامل مع المعيِّدين في أيام أعيادهم.
وإلا فما كان يحل لهم بيع الأعراب شيئًا في أيام تعييدهم, وقد باعوا لهم خمرا وحبوبا. أما بالنسبة إلى أعياد الفرس والروم، فقد منع التلمود اليهود من التعامل مع الفرس أو الروم فيها؛ لأنها أعياد ثابتة وقد نص على مواعيدها، وأشير إليها في التلمود, لذلك طلب من اليهود الامتناع عن بيع الفرس والروم شيئًا في أعيادهم3.
ويذكر التلمود أن الأعراب "طيعة" "طيية" "طياية"، المجاورين لموضع "صقونية" "Sikunya" طلبوا من أهله وهم يهود, أن يذبحوا لهم ذبائح في مقابل إعطائهم لحومها وجلودها، أما دمها فيجمع ويعطى للأعراب, وذلك
__________
1 Gratz, Geschichte der Juden, IV, 295
2 Obermeyer, S. 223
3 Obermeyer, S. 234(2/311)
لتقديمه لأربابهم, وكانت عادتهم تلطيخ أصنامهم بدم القرابين1.
وقد عرف الأعراب بـ"طييعة" في التلمود, أما السريان والموارد اليهودية الأخرى المدونة بالسريانية، فقد أطلقوا وأطلقت على الأعراب لفظة "طيية" "طيايا"، وذلك بإسقاط حرف العين من الكلمة: "طييعة" والكلمتان من أصل واحد، هو "طيء" اسم القبيلة العربية المعروفة. وقد كانت في أيام تدوين التلمود من أقوى وأشهر القبائل العربية، حتى غلب اسمها سائر أسماء القبائل، فأطلق على كل عربي, كائنًا ما كان2.
وأطلقت لفظة "عرباية" في كتاب من كتب التلمود، على العرب المزارعين الذين استقروا على مقربة من "فومبديثة". وذكر التلمود أن أولئك العرب المزارعين كانوا قد انتزعوا مزارع اليهود بما فيها من أبنية وأملاك، وأقاموا بها؛ ولهذا السبب، فقد ذهب اليهود إلى حبرهم وقاضيهم "أبيه" "Abaya"، وطلبوا منه إعطاءهم وثائق تملك أخرى، حتى يكون في إمكانهم مراجعة السلطات لإثبات ملكيتهم لأملاكهم التي انتُزِعت بالقوة منهم3.
وقد نزح يهود من فلسطين إلى الحجاز، فسكنوا وادي القرى حتى نزلوا "يثرب"، وذهب قسم منهم إلى اليمن، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد.
__________
1 Obermeyer, S. 234
2 Obermeyer, S. 233. ff
3 Baba Bathra, 168b, Obermeyer, S. 235(2/312)
فهرس: الجزء الثاني
الفصل التاسع
العرب العاربة والعرب المستعربة 5
العرب المستعربة 26
عَك 41
أولاد معد 43
نزار 45
الفصل العاشر
أثر التوراة 61
الإسماعيليون 84
أبناء كوش 110
الهاجريون 112(2/313)
الفصل الحادي عشر
أنساب العرب 117
القحطانية والعدنانية في الإسلام 144
العرب العاربة والعرب المستعربة 158
الفصل الثاني عشر
طبقات القبائل 160
الأنساب 165
"الطوطميّة" دور الأمومة عند العرب 169
دور الأمومة 172
أصول التسميات 176
الفصل الثالث عشر
تاريخ الجزيرة القديم 180
دلمون 212(2/314)
العرب في الهلال الخصيب 224
العرب والآشوريون 225
الفصل الخامس عشر
صلة العرب بالكلدانيين والفرس 258
الفصل السادس عشر
العرب والعبرانيون 280
الفهرست 313(2/315)
المجلد الثالث
الفصل السابع عشر: العرب واليونان
...
الفصل السابع عشر: العرب واليونان
أقدم من سجل اسمه في اليونان في سجل العلاقات العربية اليونانية هو "الإسكندر الكبير" "356- 323ق. م"، فبعد أن سيطر هذا الرجل الجبار الغريب الأطوار الذي توفي شابًّا، على أرضين واسعة، وأسس امبراطورية شاسعة الأرجاء ذات منافذ على البحر الأحمر والخليج العربي، وبعد أن استولى على مصر والهلال الخصيب، فكر في السيطرة على جزيرة العرب، وفي جعلها جزءًا من امبراطوريته، ليتم له بذلك الوصول إلى سواحل المحيط الهندي، والسيطرة على تجارة إفريقيا وآسيا، وتحويل ذلك المحيط إلى بحر يوناني.
وقد شرح الكتاب "أريان" Flavius Arrianus المولود في سنة "95 ب. م" والمتوفى سنة "175 ب. م."1، والأسباب التي حملت الإسكندر على التفكير في الاستيلاء على جزيرة العرب وعلى بحارها، في الكتاب السابع من مؤلفه2 Anabasis Alexandri فذكر أن هناك من يزعم أن الإسكندر إنما جهز تلك الحملة البحرية؛ لأن معظم القبائل العربية لم ترسل إليه رسلًا, للترحيب به ولتكريمه، فغاظه ذلك. أما "أريان" فإنه يرى أن السبب الحقيقي الذي
__________
1 Harvey, The Oxford Companion to Classical Literature, P., 51
2 Arrien, History of Alexander and Indica, in 2 vol., Loeb Classical Library, 1946, Anabasis, Book, VII, 19, 5. XX, II. f.(3/5)
حمل الإسكندر على إرسال هذه الحملة، يكمن في رغبته في اكتساب أرضين جديدة1.
وأورد "أريان" في كتابه قصة أخرى، خلاصتها: أن العرب كانوا يتعبدون لإلهين هما: "أورانوس" uranus، و"ديونيسوس" Dionysus وجميع الكواكب وخاصة الشمس، فلما سمع الإسكندر بذلك، أراد أن يجعل نفسه الإله الثالث للعرب2، وذكر أيضًا أنه سمع ببخور بلاد العرب وطيبها، وحاصلاتها الثمينة، وبسعة سواحلها التي لا تقل مساحتها كثيرًا عن سواحل الهند، وبالجزر الكثيرة المحدقة بها، وبالمرافئ الكثيرة فيها التي يستطيع أسطوله أن يرسو فيها، وببناء مدن يمكن أن تكون من المدن الغنية، وسمع بأشياء أخرى، فهاجت فيه هذه الأخبار الشوق إلى الاستيلاء عليها، فسير إليها حملة بحرية للطواف بسواحلها، إلى ملتقاها بخليج العقبة3. وعندي أن التعليل الأخير هو التعليل المعقول الذي يستطيع أن يوضح لنا سر اهتمام "الإسكندر" بجزيرة العرب، وتفكيره في إرسال بعثات استكشافية للبحث عن أفضل السبل المؤدية إلى الاستيلاء عليها، ولم يكن "الإسكندر الأكبر" أول من فكر في ذلك، فقد سبقه إلى هذه الفكرة حكام كان منطقهم في الاستيلاء على بلاد العرب وعلى غير بلاد العرب من أرضين، هو سماعهم بغنى من يريدون الاستيلاء عليه، فهو إما أن يتصادق معهم، فيقدم ما عنده من ذهب وفضة وأحجار كريمة وأشياء ثمينة إليهم ويرضى بأن يكون تابعًا لهم، وإما أن يمتنع فيكون عدوًّا، ويتعرض للغزو وللسلب والنهب والقتل والإبادة. بهذا المنطق كتب ملوك آشور إلى ملك "دلمون" وغير دلمون، وبهذا المنطق كتب "أوغسطس قيصر" إلى ملوك اليمن فيما بعد.
أرسل الإسكندر بعثات استطلاعية تتسقط له المعلومات اللازمة لإرسال أسطول كبير يستولي على سواحل الجزيرة، يتجه من الخليج فيعقب سواحلها، ثم يدخل البحر الأحمر إلى خليج العقبة، حيث ينفذ أسطوله إلى سواحل مصر. وقد هيأ الأسطول، وجاء بأجزاء السفن وبالأخشاب اللازمة لبنائها من "فينيقية".
__________
1 Anabasis, Vil, 19, 6.
2 Anabasis, VII, XX, I, II.
3 Anabasis, VII, II. ff.(3/6)
Phoenicia "وقبرس" Cyprus، واتخذ "بابل" قاعدة للإشراف على تنفيذ هذه الخطة. وممن أرسلهم الإسكندر لاكتشاف الطريق، القائد البحري "أرشياس" "أرخياس" Archias، وقد كلف السير في اتجاه السواحل، فبلغ جزيرة سماها "أريان" "تيلوس" Tylus، وهي "البحرين"، ولم يتجاوزها والقائد "أندروستينيس". Androsthenes، وقد بلغ مكانًا قصيًّا لم يصل إليه القائد "أرشياس"، "وهيرون" Hieron، وقد وصل مكانًا بعيدًا لم يصل إليه القائدان المذكوران، وكان قد كلف أن يطوف حول جزيرة العرب حتى "هيروبوليس" Herooplis أي السويس، وقد عاد فأخبر الإسكندر بما حصل عليه من معلومات وبما يتطلبه المشروع من جهود1، ولم يذكر "أريان" المكان الذي بلغه "هيرون"، ويظن "أرنولد ولسن" A, wilson أنه لم يتجاوز موضع "ماكيته" Maketa وهو موضع "رأس الخيمة" أي "رأس مسندم" Ras Musandam كما يسميه الأوروبيون، وهو "مونس اسبو" Mons Asabo عند "بلينيوس"، أي "رءوس الجبال2".
ويصف "أريان" جزيرة "تيلوس" Tylus، بأنها جزيرة تبعد عن مصب نهر الفرات، بمسيرة سفينة تجري مع الريح يومًا وليلة، وهي جزيرة واسعة وعرة، لا يوجد بها شجر وافر، غير أنها خصبة ويكن غرسها بالأشجار المثمرة كما يمكن زرعها بنباتات أخرى، وذكر "أريان" أن مخبري "الإسكندر" كانوا قد أخبروه بوجود جزيرة أخرى غير بعيدة عن مصب نهر الفرات، إذ لا تبعد عنه أكثر من "120" "استاديونًا"، وهي صغيرة نوعًا ما، غير أنها ذات شجر من كل نوع وبها معبد للإله "أرطميس" Artimus= Artemis يعيش الناس حول معبده وتمرح الحيوانات وتسرح دون أن يمسها أحد بسوء؛ لأنها في حمى المعبد، فهي حرام على الناس وقد سمي هذه الجزيرة باسم "ايكاروس" Ikaros3، نسبة إلى جزيرة "ايكاروس" من جزر البحر الايجي4 Aegaein Sea، ويظهر أن الإسكندر عرف الصعاب التي ستواجهه في إقدامه على اقتحام الجزيرة
__________
1 Anabasis, VII, XX, 8.
2 The Persian Gulf, P., 40. 43.
3 The Persian Gulf, P., 40, 43, 3 Anabasis, VII, XX; 8; Die Araber; IV; S.; 6 (3. ff.
4 Die Araber, IV, S., 66. ff.(3/7)
من البر: من مقاومة القبائل، وصعوبة قطع الفيافي، وقلة المياه، فعزم على تحقيق المشروع من البحر، وكلف "هيرون" Hieron متابعة السواحل، ودراسة أحوال سكانها ومواضع المرافئ، وأماكن المياه والمنابت ومواضع الشجر فيها، وعادات العرب وأحوالهم، لتكون جيوشه على بينة من أمرها، إذا أقدم أسطوله على تحقيق هذا المشروع الخطير1.
وأعد "الإسكندر" كل ما يلزم إعداده، غير أن موته المفاجئ، وهو في مقتبل عمره، ثم تنازع قواده وانقسامهم، وما إلى ذلك من شئون، صرف قواده عن التفكير فيه، فأهمل ومات بموته مشروعه الخطير.
ويرى بعض الباحثين أن الإسكندر لم يكن يقصد فتح جزيرة العرب، ولكن كان يرغب في الاستيلاء على بعض الموانئ والمواضع المهمة على ساحل الجزيرة وبذلك يكون قد أدرك الغايات التي قصدها من هذا الفتح2.
ولما أراد الإسكندر احتلال "غزة" في طريقه إلى مصر، قاومت المدينة، ودافع عنها رجل سماه "أريان" "باتس"3 Betis = Baetis= BATIS مستعينًا بجيوش عربية قاومت مقاومة شديدة اضطرت الإسكندر إلى نصب آلات القتال، إلا أن العرب هاجموها لإحراقها، كما هاجموا المقدونيين الذين كانوا متحصنين في مراكز القيادة وراء تلك العدد4. وقد اضطر المقدونيون إلى مغادرة مواضعهم هذه اإلى أماكن جديدة، وكادوا ينهزمون هزيمة منكرة لو لم يأتهم الإسكندر بمساعدات قوية في الوقت المناسب، وقد أصيب بجراح5، وظلت تقاومه مدة خمسة شهور "332ق. م" ويذكر "هيرودوتس" أن المنقطة الواقعة من "غزة" إلى موضع jENYSUS، كانت مأهولة بالقبائل العربية المتصلة بطور سيناء منذ القديم. وقد حكمها ملك عربي لم يذكر اسمه6.
__________
1 Anabasis, VII, XX, 10.
2 Tarn, II, P, 394, U. WUcken, Die Le,tzen Flaene Alexanders des Grossen; Berlin, 1937, S., 195.
3 W. W. Tarn, Alexander the Great, Cambridge, 1948, Vol., 2, P.; 265; "Betis"; ss; Curtius Rufus, 4, 6, 7, 20,: 30, Die Araber; I; S.; 171.
4 Arrian, Vol., I, P. 217, II. 23, 4.
5 Arrian, I, P., 219.
6 Herodotus, I, P., 212.(3/8)
ويرى بعض الباحثين أن "باتيس" Batis هذا الذي وقف بوجه جيوش الإسكندر وقاومها هذه المقاومة العنيفة، في حوالي سنة "332ق. م."1 كان رجلًا عربيًّا اسمه "باطش"، أي الفاتك. ويستدلون على ذلك بورود اسم رجل في الكتابات النبطية، هو "بطشو"، أي "باطش"2. وقد حرف ذلك الاسم فصار3 Batis وهم يرون أن غالبية سكان "غزة" كانت من العرب منذ زمن طويل قبل الميلاد وأنها كانت نهاية طرق القوافل البرية التجارية التي كان يسلكها التجار العرب القادمون من اليمن والحجاز ومن مواضع أخرى، ولا يعقل لذلك أن يكون حاكمها إيرانيًّا، كما ذهب إلى ذلك بعض المؤرخين فرجحوا لذلك رأي من يقول: إن "الباطش" Batis، كان من العرب4.
لقد كانت "غزة" المركز الرئيسي للتجار العرب على البحر المتوسط، فإليه تنتهي التجارة العربية، ومنه يتسوق التجار العرب البضائع التي ترد إليه من موانئ هذا البحر. ولما فتحت المدينة أبوابها، لجيش الإسكندر بعد ذلك الحصار الشاق، وجد اليونان فيها مقادير كبيرة، من المر واللبان وحاصلات العربية الجنوبية، فاستولوا عليها، فخسر التجار العرب بذلك خسارة فادحة5.
ونجد في كتاب "تأريخ الإسكندر" لـ "كوينتس كورتيوس" Quintus Curtius، خبرًا يفيد أن "الإسكندر" أخذ من أرض العرب المنتجة للبخور كمية من البخور لإحراقها للآلهة تقربًا إليها، غير أننا لا نستطيع تصديق هذه الرواية؛ لأن جيوش الإسكندر لم تتمكن من دخول جزيرة العرب، ولم تصل إلى أرض البخور6. إلا أن يكون حكامها قد أرسلوا البخور المذكور هدية إليه، أو ضريبة من التجار العرب في مقابل السماح لهم ببيعه في الأسواق التي استولى عليها اليونان.
__________
1 H. Berve, Das Alexanderreich auf Prospographischer Grundlage, 2 , (1928) , a, 105, Die Araber, I, S., 34, 173.
2 Die Araber, I, S., 35.
3 Curtius Rufus, 4, 6, 7, Die Araber, I, S.; 35.
4 J. Cantineau, Le Nabateen, 2, (1932) , 70, R. Maecus, in: Josophos; Vol.; 6; 1937, P. 463 (Loeb) , Tran. Alexander. 2; P. 266; Die Araber; I; S. 172.
5 Diodorus, XVII, 48, 7, Strabo, XVI, 2; 30; Plutarch; Alexander; 25; 4; 26-27; Olmstead, History of the Persian Empire, P., 507, f-
6 Quintus Curtius, I, P., 7,(3/9)
وقد توسع مؤلف الكتاب المذكور في إطلاق لفظة العرب Arabum والعربية أي أرض العرب Arabia في أثناء حديثه عن العرب وعن أرضهم فأدخل في العرب جماعة ليسوا منهم مثل "بني إرم"، ولما تحدث عن فتح الإسكندر للبنان، ذكر أنه ذهب بعد ذلك إلى العربية، أي أرض العرب وعني بها البادية الواسعة التي تفصل بلاد الشام عن "ما بين النهرين"، وكل الأرضين على ضفة الفرات الغربية1.
هذا ولا أظن أن إنسانًا يقول: إن "الإسكندر" المذكور كان قد حصل على علمه بثراء العرب وبنفاسة ما يبيعونه في أسواق البحر المتوسط من تجارات عن طريق الوحي والإلهام، وبنباهة فكره، إن علمًا من هذا النوع لا يمكن أن يحصل عليه إنسان إلا من علم الماضين ومن علم السياح والتجار بصورة خاصة؛ لأنهم كانوا وما زالوا منذ خلق الإنسان يفتشون عن الأسواق وعن المنتجات ويتعارفون فيما بينهم على اختلاف ألوانهم وأديانهم للحصول على معارف تجارية تخولهم الحصول على ما يبتغون بأرخص الأسعار.
من هذه الموارد ولا شك حصل "الإسكندر" على عمله بأحوال الهند وبأحوال جزيرة العرب وبالأسواق التي كانوا يرتادونها، وعلمه هذا هو الذي حمله على أن يوجه حملته على بلاد العرب -على ما أرى- من البحر لا من البر؛ لأنه أدرك أن حملة بحرية تمكنه من السيطرة على مفاتيح الجزيرة وعلى النقط الحساسة فيها بسهولة ويسر وبدون تكاليف باهظة، وبذلك يقبض على خناقها ويقطع عنها إن تيسر له النجاح اتصالها بأسواق إفريقيا والهند وما وراء الهند، وهي الأسواق الرئيسية التي مونت العرب بالثراء وبذلك يقطع عنهم موارد الثراء، أما من البر فقد كان على علم أكيد من خلال تجارب الماضين ومن علمه وعلم قواد جيشه بصعوبة الاستيلاء عليها من البر ومن الاحتفاظ بها أمدًا طويلًا والمحافظة على طرق المواصلات الطويلة وإيصال المؤن إلى قواته، لذلك لم يفكر في الاستيلاء عليها من البر, ثم إن ثراء سكان الجزيرة المشهور لم يكن من ثراء حاصلاتها وإنتاجها وإنما كان من أسواق إفريقيا والهند في الغالب، ولهذا رجح خطة السيطرة على موانئ جزيرة العرب بوضع قوات بها على خطة السيطرة
__________
1 Quintus Curtlus I p 185.(3/10)
على الجزيرة من البر، وأغلب الجزيرة بحار من رمال. وبذلك وضع خطة سار عليها من جاء بعده من الغربيين حتى العصر الحديث باستثناء "أغسطس قيصر" الذي لاقت حملته البرية الفشل والهزيمة؛ لأنها بنيت على جهل فاضح بحال جزيرة العرب، وبحقيقة صعوبة السيطرة عليها من البر.
وقد ورد في بعض الموارد أن العرب قدموا الأسلحة والملابس إلى الجيش المقدوني1، وأن الإسكندر تمكن من قهر العرب2. كما ذكر أن عربيًّا انقض على الإسكندر وفي يده اليمنى سيف مسدد نحو رقبته، قاصدًا قتله في أثناء معركة حامية، غير أن الإسكندر تجنب الضربة بسرعة فائقة فنجا. وكان هذا العربي في جيش "دارا" "داريوس"3 Darius.
وذكر "كونيتوس كورتيوس"" أن "الإسكندر" بعد أن سار مع مجرى نهر Pallacopas وصل إلى مكان أعجبه، فأمر بإنشاء مدينة فيه، أسكنها العجزة والمسنين من رجاله، وذلك في أرض العرب4، وسوف يأتي الكلام على ذلك في أثناء الحديث عن "بلينيوس" وما عرفه من بلاد العرب.
وكان مما تحدث به المورخ المذكور عن حملة الإسكندر أن أحد قواده كان قد تنكر في زي الأعراب، وأخذ معه اثنين من العرب ليكونا دليلين في سيره، ووضعا زوجيهما وأطفالهما لدى الملك الإسكندر ليكونوا رهائن عنده، لئلا يصيب القائد أي سوء ومكروه. فلما وصل إلى الموضع الذي قصده، وأبلغ رسالة الملك من أرسله إليه عاد ومعه الأعرابيان، فأثابهما5.
ليست فتوحات الإسكندر التي قذفت بالإغريق والرومان إلى مساحات واسعة من آسيا، حدثًا سياسيًّا حسب، إنما هي فصل من فصول كتاب التاريخ البشري، نقرأ فيه أخبار التقاء العالمين الشرقي والغربي وجهًا لوجه على مساحات واسعة من وجه هذه المسكونة، ونزعة الغرب في السيطرة على الشرق وتأثر الحضارات والثقافات بعضها ببعض، وحصول علماء اليونان والرومان على معارف مباشرة عن
__________
1 Julius Valerius, II, 25, Arabien, S. 23.
2 LIvius, XLV, 9, Plinius, XII, 62, Arabien; S.; 23.
3 Quintus Curtius, It P., 219.
4 Quintus Curtiu?, II, P., 513.
5 Quintus Curtis, II, P. 137.(3/11)
أحوال أمم كانوا يسمعون أخبارها من أفواه التجار والسياح والملاحين فإذا وصلت إليهم كان عنصر الخيال فيها الذي يميل إلى التفخيم والتجسيم قد انتهى من عمله وأدى واجبه، فصححت فتوحات الإسكندر هذه للهلال الخصيب ولمصر، بعض تلك الأوهام، وجاءت بعلماء من اليونان إلى هذه البلاد، ولا سيما مصر فأفادوا واستفادوا، وصارت "الإسكندرية" بصورة خاصة، وبعض مدن بلاد الشأم ملتقى الثقافات، الثقافات الشرقية والثقافات الغربية، ومركز الاتصال العقلي بين الغرب والشرق وبقيت الإسكندرية محافظة على مكانتها هذه حتى ظهور الإسلام.
وقد حملت فتوحات الإسكندر والحروب، التي وقعت بين الروم والفرس إلى الشرق الأدنى، دمًا جديدًا هو دم الإغريق ومن دخل في خدمة الإسكندر واليونان والرومان من الجنود والمتطوعة والمرتزقة من سواحل البحر المتوسط الشمالية وما صاقبها من أصقاع أوروبية، لقد بنى الإسكندر الأكبر مدينة Charax على ملتقى نهر "كارون" بدجلة1. وأسكنها أتباعه وجنوده ومواطني المدينة الملكية. كما بنى مدنًا أخرى، وقد كان من المحبين المولعين ببناء المدن، وبنى خلفاؤه مدنًا جديدة في الشرق، وكذلك من أخذ تراثهم من اليونان والرومان2. وحمل الفرس عددًا من أسرى الروم، وأسكنوهم في ساحل الخليج وفي مواضع أخرى. وطبيعي أن تترك سكنى هؤلاء في الشرق أثرًا ثقافيًّا في الأماكن التي أقاموا فيها وفي نفوس من جاورهم أدرك قيمته المؤرخون المعاصرون.
والمؤرخ "بلينيوس"، وهو أول من أشار إلى مدينة Charax، هذه المدينة التي أنشأها الإسكندر. في جملة المدن التي أنشأها في الشرق، ويظن أنها "المحمرة"3 بنيت هذه المدينة -كما يقول: "بلينيوس"- في النهاية القصوى من الخليج العربي أي الخليج الذي يسمى اليوم باسم "خليج البصرة" أو "خليج فارس" كما يسميه "الكلاسيكيون" Sinus Persicus، عند خط ابتداء العربية السعيدة arapea eudaemon أي جزيرة العرب، ويقع نهر دجلة على يمينها. وقد دعيت "الإسكندرية" نسبة إلى الإسكندر. وقد خربت هذه المدينة مرارًا من فيضان الأنهر وإغراقها لها، ثم بناها "انطيوخس الرابع".
__________
1 Charax Spaslni.
2 Pliny, Book, VI, 138, Vol., II. P.; 443; "H. Rackham";
3 The Persian Gulf, P., 30, 49.(3/12)
Antiochus Epiphanes IV "ق. م 163 -175" ودعيت باسمه، ثم تخربت أيضًا، فرممها وأعاد بناءها الملك "سباسينس" Hyspaosines /Spasines ملك العرب المجاورين، وأنشأ لها سدًّا لحمايتها، وسماها، باسمه، وقصدها التجار اليونان والعرب1.
وقد ذكر أن والد الملك "سباسينس" Hispaosines /Spassiones كان ملكًا يحكم العرب المجاورين لهذه المدينة، وقد عرف بـ Sagdodonacus، وهو اسم لم يتفق الباحثون على أصله2. ولما وجد "سباسينس" أن الخراب قد حل بالمدينة المذكورة، بنى لها سدًّا، أنقذها من الغرق، وأعاد بناءها فعرفت باسمه.
ويظهر أن حكم هذا الملك كان في النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد. ويرى بعضهم أنه حكم بابل و"سلوقية" Seleukeia في حوالي سنة "ق. م 127"3، وأنه كان يحكم مقاطعة Charax في حوالي سنة "130 ق. م"4 أو "129"، وقد عثر على نقود ضربت باسمه5، ويظهر أن حكم هذه المملكة الصغيرة بقي إلى أيام الملك "أردشير" الساساني، حيث قضى عليها في حوالي سنة 224 أو 227م6.
وقد عرفت Charax بـ Charakene، وهي "ميسان7 "Mesene و CharaxK"، وهي "كرخا"، وعرفت أيضًا بـ "كرخ ميسان"8.
وقد تحدث "سترابون" بشيء من الإيجاز عن الساحل العربي المشرف على الخليج، مستمدًّا له من "إيراتوستينس" على الأكثر، إذا استند إلى وصفه وأخباره، وأما "ايراتوستينس"، فقد جمع مادته من أقوال رجال عرفوا الخليج وعركوه، وكانت لهم أيام فيه. منهم "نيرخس" Nearchus قائد الإسكندر
__________
1 Gulf, p., 49.
2 Die Araber, I, S., 279, 317.
3 Araber, I, S., 321, A.R. Bellinger, Hyspaosines of Charax, In Yale Class.Stud., 8, (1942) , 55.
4 Araber, I, S., 327.
5 Ency., ni, P., 146.
6 Noldecke, Gesch. der Araber und Perser, Leiden, 1879, S. 13.
7 Ency., Ill, P., 146.
8 Ency., ni, P., 146.(3/13)
الشهير وأمير أسطوله، و"أندروستينس" Androsthenes من أهل "ثاسوس" Thasos، كان في صحبة القائد "نيرخس" ثم كلف قيادة الأسطول الذي أمر بالسير بمحاذاة ساحل الجزيرة للكشف عنه، وللحصول على معارف جديدة عن بلاد العرب ومنهم "أرسطوبولس" Aristobulus وكان أيضًا من رجال البحر، و"أورثاغوراس" Orthagoras الذي كان من هذا الصنف كذلك1.
وأخذ "سترابون" من مورد آخر يرفع سنده إلى "نيرخس" إلا أن "سترابون" لم يذكر رجال السند، وإنما ذكر جملة "قال نيرخس"2.
فيجوز أن يكون هذا المورد من وضع القائد نفسه، أو من وضع مرافقيه، حكموا عنه، أو من وضع أناس جاءوا بعدهم، استندوا إلى روايات وأقوال مرجعها "نيرخس" أخذ منه "سترابون".
وقد اقتصر "سترابون" على ذكر "جرها" Gerrha و"تير" Tyre و "أرادوس" Aradus و "ماكه" Macae، وهي مواضع تقع على ساحل العروض، أي الساحل الشرقي لجزيرة العرب المطل على الخليج، ولم يذكر أماكن أخرى غيرها تقع في هذه المنطقة3. وفي ذلك دلالة على قلة علمه بأحوال ذلك الخليج.
أما "جرها"، فمدينة تقع، على حد قوله، على خليج عميق أسسها مهاجرون "كلدانيون" من أهل بابل4، في أرض سبخة، بنوا بيوتهم بحجارة من حجارة الملح، ترش جدرانها بالماء عند ارتفاع درجات الحرارة لمنع قشورها من السقوط. وتقع على مسافة "200" "اسطاديون" Stadia من البحر5، وهم يتاجرون بالطيب والمر والبخور، تحملها قوافلهم التي تسلك الطرق البرية، ويذكر "أرسطوبولوس" Aristobulus أنهم ينقلون تجارتهم بالبحر إلى بابل،
__________
1 Strabo, in, P., 186, Book, XVI, III; 3-6.
2 Strabo, III, P., 188, Book, XVI, 5; 7.
3 Strabo, III, P., 186.
4 "الكلدانيون"، المسعودي، التنبيه "ص 1، 2، 7، 31، 50، 56" ومواضع أخرى.
5 "أسطاديون"، stadion، استخدم علماء تقويم البلدان كلمة "أسطاديون" في مقابل: stadion و"الأسطاديون: مساحة أربعمائة ذراع". البلدان "1/ 18".(3/14)
ثم إلى مدينة Thapascus، ومنها يعاد نقلها بالطرق البرية إلى مختلف الأنحاء1 و "تباسكوس" Thapascus، هي: الدير، أو "الميادين" في رأي كثير من الباحثين2.
وقد أشار إلى "جرها" كتاب آخرون، عاشوا بعد "إيراتوستينس" صاحب خبر هذه المدينة المدون في جغرافية "سترابون" أشار إليها مثلًا "بوليبيوس" Polybius "204- 122 ق. م"3، و "أغاثرسيدس" المتوفى سنة "145" أو "120 ق. م"4 و "أرتميدورس" Artemidorus من أهل مدينة "أفسوس" Ephesus "حوالي 100 ق. م"5، و "بلينيوس".
وخلاصة ما أوردوه عنها أن المدينة كانت مركزًا من المراكز التجارية الخطيرة، وسوقًا من الأسواق المهمة في بلاد العرب، وملتقى طرق تلتقي في القوافل الواردة من العربية الجنوبية والواردة من الحجاز والشأم والعراق، كما أنها كانت سوقًا من أسواق التجارة البحرية تستقبل تجارة إفريقيا والهند والعربية الجنوبية، وتعيد تصديرها إلى مختلف الأسواق بطريق القوافل البرية حيث ترسل من طريق "حائل" - "تيماء" إلى موانئ البحر المتوسط ومصر، أو من الطريق البري إلى العراق، ومنه إلى الشأم6، وقد ترسل في السفن إلى "سلوقية" Seleucia، أو بابل فـ Thapascus ومنها بالبر إلى موانئ البحر المتوسط وما بي حاجة إلى أن أقول إنها كانت تستقبل تجارات البحر المتوسط والعراق والأسواق التي تعاملت معها، لتتوسط في إصدارها إلى العربية الجنوبية وإفريقيا والهند، وربما إلى ما وراء الهند من عالم ينتج ويستهلك فهي، سوق وساطة، والوسيط يصدر ويستورد وبعمله هذا يكتنز الثروة والمال.
وذكر القدماء أن الجرهائيين تاجروا مع حضرموت، فوصلت قوافلهم إليها في أربعين يومًا7. وكانت تعود وهي محملة بحاصلات العربية الجنوبية، وحاصلات
__________
1 Strabo, III, P. 186, Book, XVI, III; 3-4; Dillman; Haute Mesop.; 131.
2 Gulf, P., 30, Deserta, P., 515, Strabo; III; P.; 187.
3 Gulf, P., 46.
4 Sklzze, II, S., 10.
5 Gulf, P., 46.
6 Cornwall, Ancient Arabia, in Geographical Journal, CVII, 142, Febr., 1946; P., 30, Dussaud, La Penetration des Arabes en Byrle, 13, 25.
7 Gulf, P., 45, Strabo, III, P., 191; Book; XVI; IV; 4.(3/15)
إفريقيا المرسلة بواسطتها، وهي بضاعة نافقة ذات أثمان عالية في الأسواق التجارية لذلك العهد، وتاجروا مع النبط بإرسال قوافلهم التي قطعت الفيافي مارة بمواضع الماء والآبار إلى "دومة الجندل" Dumatha، ومنها إلى "بطرا" عاصمة النبط. والنبط هم مثل بقية العرب تجار ماهرون نشيطون. فإذا وصل تجار "جرها" إلى أرض النبط باعوا ما عندهم للنبط واشتروا منهم. ما يحتاجون إليه من حاصل بلاد الشأم والبحر المتوسط, أما التجار الذين يريدون أسواقًا أخرى، غير أسواق النبط، فكانوا يتجهون نحو الشمال، فيدخلون فلسطين قاصدين "غزة" أو يتجهون وجهة أخرى هي وجهة بصرى وبقية بلاد الشأم. وقد اكتسبت "جرها" شهرة بعيدة في عالم التجارة في ذلك الزمان، بسبب مركزها التجاري الممتاز، وذاع خبر ثراء أهلها وغناهم، حتى زعم أنهم كانوا يكنزون الذهب والفضة والأحجار الكريمة، وأنهم اتخذوا من الذهب آنية وكئوسًا وأثاثًا، وجعلوا سقوف بيوتهم وأبواب غرفهم به وبالأحجار النفيسة الغالية، وغير ذلك مما يسيل له لعاب الجائعين إلى المال1. وهذا الصيد البعيد، هو الذي أثار الطمع في نفس الملك "انطيوخس الثالث"2 Antiochus lll، فجلعه يقود أسطوله في عام "205 ق. م"، للاستيلاء على المدينة الغنية الكانزة للذهب والفضة واللؤلؤ وكل حجر كريم، وإذلال القبائل المجاورة لها، وإلحاقها بحكومته. فإما أن تذعن وتستسلم بغير قتال، وتقدم ما عندها هدية طيبة إليه، وإما القتل والنهب ودك المدينة دكًّا.
وتقول الرواية التي تتحدث عن طمع هذا الملك وجشعه للمال إن المدينة المسالمة التاجرة، أرسلت رسولًا إلى الملك يحمل رجاءها إليه ألا يحرمها نعمتين عظيمتين أنعمتهما الآلهة عليهم: نعمة السلام، ونعمة الحرية. وهما من أعظم نعم الآلهة على الإنسان، فرضي من حملته هذه بالرجوع بجزية كبيرة من فضة وأحجار كريمة، فأبحر إلى جزيرة "تيلوس" ومنها إلى "سلوقية" "205 - 204 ق. م"3.
وهكذا اشترت المدينة سلمها وحريتها من هذا الطامع بالمال، وصدق أهل المدينة إن كانت الرواية صادقة، فالسلم والحرية من أعظم نعم الله على الإنسان4.
__________
1 Polybios, II, 39, Il.f. ,
2 Gulf' P" 46" "انطيخس"، الطبري "1/ 790" "طبعة ليدن".
3 Gulf, P., 46, Polyblus," Book, 13, 9; Die Araber; II; S.; 74.
4 Polybios, 13, 9, 4-5.(3/16)
وفي رواية أن الملك المذكور لما عاد من حملته على الهند اتجه نحو الغرب، أي السواحل الشرقية لجزيرة العرب، ساحل العروض، فنزل في أرض دعتها "خطينة" Chattenia وهي أرض من "جرها"، وعندئذ أرسل الجرهائيون رسلًا إليه يفاوضونه على الصلح على نحو ما ذكرت، فوافق على أن يدفعوا إليه في كل سنة جزية من فضة ولبان وزيت مصنوع من البخور1.
ويظهر من هذه الرواية أن مجيء الملك إلى أرض الجرهائيين، كان من الهند، وكان قد رجع بعد أن قاد جيشه إليها، وأنه نزل في ساحل عرف باسم Chattenia وهو الخط.
يتبين من وصف "سترابون" للحجارة التي بنيت بها المدينة على زعمه ومن ادعاء "بلينيوس"، أن أبراج المدينة وسورها قد بنيت بقطع مربعة من صخور الملح2. يتبين من ذلك أنها بنيت في أرض سبخة، وأن هذا السبخ هو الذي أوحى إلى مخيلة "الكلاسيكيين" ابتداع قصة حجر الملح الذي بنيت به دور المدينة وسورها، وفي التأريخ قصص من هذا القبيل عن قصور ومدن شيدت بحجارة من معدن الملح.
يظن أن Gerra أو garraei أو Gerrei على حسب اختلاف القراءات، "وهو موضع ذكره "بطليموس" "هو هذه المدينة "جرها"3. وذكر "بلينيوس" أنها تقع على خليج يسمى باسمها4 Sinus Gerraicus ويبلغ محيطها خمسة أميال5 "خمسة آلاف خطوة"6، وعلى مسافة خمسين ميلًا من الساحل، "أي خمسين ألف خطوة"، وتقع منطقة تدعى "أتنه" Attene وفي مقابل مدينة "جرها" من جهة البحر وعلى مسافة خمسين ميلًا تقع جزيرة "تيلوس" Tylos المشهورة باللؤلؤ، والمدينة التي ذكرها "بلينيوس" هي المدينة التي قصدها "سترابون".
__________
1 Pliny, 6, 148, J. Pirenne, Le Royaume Sud-Arabe de Qataban et sa Datation,U961) , 169; Araber, I, S., III.
2 Pliny, II, 448.f.
3 Forster, II, P., 209, 217.
4 PUny, II, P., 449, Book, VI, 147.
5 بالأميال في الترجمة الإنكليزية لكتاب "بلينيوس"، راجع:
Pliny, II, P., 449, Book., VI, 147; Gulf; P.; 51.
6 sktzze, II, S., 74.6 بالخطوات في الترجمة الألمانية راجع(3/17)
وبعد، فـ"جرها" إذن، مدينة تقع في العربية الشرقية على ساحل الخليج على مسافة منه، أو عليه مباشرة. وقد رأى "شبرنكر" أنها "العقير"1، وتدعى "العجير" في لهجة الناس هناك2. ويرى هذا الرأي "فلبي"3 وطائفة من الباحثين, ومنهم من رأى أنها "القطيف"4، أو الخرائب المعروفة باسم "أبو زهمول" مع "العقير"، وتكون هذه الخرائب الطرف النائي من "جرها" الذي يكون الميناء، ودعاها بعضهم "الجرعاء"6. وظن آخرون أنها "سلوى" الواقعة على ساحل البحر7.
ومن رجح "الجرعاء" رأى أنها في لفظها قريبة جدًّا من "جرها" "جرهاء"، وموضعها قريب منها. ولسبب آخر، وهو ورود اسم Thaimon/ Thaemae مع Gerraei عند "بطلميوس" و Thaemae هو "تميم" في نظر الباحثين، وقد اقترن اسم "الجرعاء: بتميم. فقد ذكر "الهمداني" "الجرعاء"، فقال: "ثم ترجع إلى البحرين فالأحساء منازل ودور لبني تميم ثم لسعد من بني تميم، وكان سوقها على كثيب يسمى الجرعاء تتبايع عليه العرب"8، وقد كانت "جرها" سوقًا تتبايع فيه الناس. ويرى "كلاسر" أن Gerrha/ Gerra ليست "العقير" أو الجرعاء، وإنما هي موضع يقع في الطرف الجنوبي الغربي من خليج "القطن"9.
ويظهر أن "جرهاء" كانت قد بلغت أوجهًا في هذا العهد، وقد بقيت على ذلك مدة، غير أننا لا ندري إلى متى بقيت على هذه الحال, والظاهر أن مدنًا أخرى أخذت تنافسها، مثل مدينة Charax، فأثرت هذه المنافسة فيها وذلك بتحول الطرق البحرية عنها، وتحسن وضع صناعة السفن مما أدى إلى
__________
1 "العقير: تصغير العقر ... قرية على شاطئ البحر بحذاء هجر"، البلدان "6/ 198"
Sprenger, Geographie, S., 135.
2 Chessman, In Unknown Arabia, P. 23.
3 The Empty Quarter, P., 3, Araber, I, S., 112.
4 Forster, II, P., 216.
5 Cheesman, P., 28.
6 Skizze, II, S., 75.
7 Geographical Journal, CVII, 142, Febr., 1946, P., 32.
8 الصفة "ص173".
Gloser, Skiyyle, II, S., 76.
9 Gloser, Skiyyle, II, S., 76.(3/18)
تمكنها من قطع مسافات واسعة من غير حاجة إلى التوقف في موانئ كثيرة، فلم تعد تقف في موانئ الجرهائيين أو أن الجرهائيين لم يتمكنوا بذلك من مزاحمة السفن الأخرى فأخذ نجمها في الأفول بالتدريج، ولعل لتحول طرق القوافل البرية دخلًا في ذلك أيضًا. فقد كانت الطرق البرية تتحول دومًا. لعوامل سياسية واقتصادية وعسكرية، وبتحسن وسائل المواصلات، فيؤدي هذا التحول إلى اندثار مدن وظهور مدن، ولا نزال نرى أثر هذا التحول في حياة قرى جزيرة العرب.
وأما جزيرة TYRE / Tyrus، التي أشار "سترابو" إليها، فإنها جزيرة "تيلوس" Tylus / Tylos، التي ذكرها "بلينيوس"1. ويلاحظ وجود شبه بين "تيلوس" Tylus و"تلمون" أو "دلمون"1. الواردة في النصوص الآشورية، يحملنا على التفكير بوجود صلة بين الاسمين2. وقد أشرت إلى ذهاب الباحثين إلى أن "تيروس" Tyrus هي جزيرة من جزر البحرين. أما "كلاسر" فيرى أنها ليست من جزر البحرين، ولكنها جزيرة أخرى تدعى "دلمة" أو "بليجرد"، وقد رجح هذه الجزيرة على الأولى؛ لأن موقعها أقرب في نظره إلى المسافات التي أشار إليها "سترابون" من "دلمة"، ومن جزر البحرين، وقد ذهب "فورستر" إلى أن "تيروس" Tyrus، هي "أوال" وأما Aradus، فإنها "أرد" "أراد"، أي جزيرة "المحرق" من جزر البحرين، وقد تكون لتسمية "خليج عراد" بهذا الاسم علاقة بلفظة "أرد" "عرد" القديمة3.
ولم يعثر المنقبون حتي الآن على كتابات يونانية تشير إلى مدة حكم قواد الإسكندر للبحرين، ولكنهم عثروا على فخار يوناني يعود عهده إلى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، وعلى فخار محلي مصنوع في البحرين عليه أسماء يونانية، وفي ذلك دلالة على سكن اليونان في البحرين لأغراض سياسية، أو حربية أو تجارية. قد يكون ذلك منذ عهد الإسكندرفيما بعد إلى انتهاء ملك خلفائه "السلوقيين"،
__________
1 Pliny, II, P., 449.
2 Gulf, P., 5,26; 27; Ency., I, P., 584; P.B. Cornwall; on the Location of Dllmun;Boas, NO, 103; 1946.
3 Forster, II, P., 219, 221, Gulf, P.; 31.(3/19)
وقد يكون من عهد السلوقيين فما بعد حتى أيام "البارثيين" parthians، وأما موضع Macae المقابل لـ "هرموزي" "هرمز" Harmozi فيعرف أيضًا باسم1 Maketa/ Maceta، وهو مضيق Make لدى "بطلميوس"2، وهو "رأس الخيمة" الرأس البارز في مضيق "هرمز" Harmozi، وربما الرأس وكل شبه الجزيرة المتصل بها. ويعرف هذا الرأس عند الغربيين باسم "رأس مسندم" Ras Musandam، وهو موضع يظهر أنه أحد المواضع الواردة في كتابة "دارا" التي تشير إلى الأماكن التي كانت خاضعة لحكمه3. ونجد شبهًا في النطق بين Maka / Make / M acae و"مجان" "مكان" يحملنا على تصور أن الاسمين هما لشيء واحد، وأن الاختلاف الذي نجده بين التسميتين هو من التحريف الذي يقع في النقل من لغة إلى لغة أخرى وإذا صح هذا التصور كانت أرض "مكان" "مجان"، في هذه البقعة من جزيرة العرب.
لقد قام تجار الخليج بالتوسط في نقل البضائع من الهند وإفريقيا إلى العراق، يوصلونها إلى موانئ العراق أو إلى موانئ الخليج، ثم تنقل إما بالطرق المائية إلى إيران والعراق وإما بالطرق البرية، فقد تنقل التجارة إلى مدينة "كاركس" "خاراكس" Charax، وهي "المحمرة" في الزمان الحاضر، ثم توزع منها إلى مختلف الأنحاء، وإما إلى ميناء "أبولوكس" Apologus، ومنه بالنهر إلى الأمكنة المقصودة مثل "سلوقية" على دجلة مقابل "طيسفون"، أي "المدائن"، الموضع المعروف اليوم بـ "سلمان بك" وكانت عاصمة "السلوقيين" آنذاك، أو إلى مواضع على نهر الفرات، حيث تنقل منها برًّا إلى بلاد الشأم.
و"أبولوكس" Apologus هي "أوبولم" Ubulum في الكتابات الأكادية، وقد ورد في نص أيام الملك "تغلبت فلاسر" الثالث اسم قبيلة U-bu- lu كما ورد هذا الاسم على هذه الصورة: U-bu- lum في جملة أسماء القبائل التي انتصر عليها "سرجون الثاني" ويرى "كلاسر" صلة بين Apologus و"أبلة"،
__________
1 Stratoo, in, P., 186, Gulf, P., 40.
2 Skizze, n, S., 249.
3 Sldzze, II, S., 249.(3/20)
واسم هذه القبيلة التي تقع مواطنها على رأيه في جنوب العراق1.
وقد ذكر صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"2 أن مدينة "أبولوكس" هي في "بارئيا" أي في بلاد "الفرث"، وأنها تصدر اللؤلؤ والتمر الذهب ومواد أخرى إلى العربية السعيدة، وكانت تستورد بضاعة ثمينة منها كذلك، منها بضاعة من العربية الجنوبية ومنها بضاعة إفريقية الأصل، كما كانت تتجر مع الهند، فهي "ميناء البصرة" بالنسبة إلى العراق في هذا اليوم.
وفي الحرب الرابعة التي قام به "أنطيوخس الثالث" Antiochus lll" "219- 217 ق. م" اشترك في جيوشه زهاء "218" قبيلة عربية3. وفي الأردن هاجم العرب مدينة "ربة عمان" "فيلادلفيا"، ونهبوها4. وفي ابتداء سنة "217 ق. م" كان في جيش هذ الملك زهاء عشرة آلاف عربي بإمرة "زبديديلوس" "زابدايل" Zabdidelos، وهو اسم يظهر أن صاحبه كان عربيًّا، إذ هو "زابدايل" على ما يظهر، حرف فصار على هذا النحو، وقد اشترك العرب مع هذا الملك في حصاره لمدينة "غزة" كما اشتركوا معه في حربه الخامسة التي أججها في بلاد الشأم، حيث أشير إليهم أيضًا في معركة6 Magnesia.
وقد ذهب pirenne إلى أن الكتابة المعينية الي أمر بكتابتها كبير "مصران" "كبر مصرن" و "معين مصران" وسمها العلماء بـ Res 3022 وهي كتابة تشير إلى هذه الحروب التي نشبت بين "أنطيوخس الثالث" وخصومه البطالمة، وأدت إلى احتلال "غزة" سنة "217 ق. م" وترى من دراسة الكتابة المذكورة أنها تعود إلى ما بين سنة "22 ق. م" و "205 ق. م" وأن لفظة "مذي" التي تعني "الماذيين" "الميديين"، هي كناية عن السلوقيين الذين احتلوا بلاد "الميديين" وورثوا ملكهم منذ عهد الإسكندر7.
__________
1 Skizze, II, S., 188, Gulf, P., 53.
2 Periplus Marls Erythraei, The Periplus of the Erythrean Sea.
3 Polyb., 5,70, Araber, I, S.; 74, 289
4 Polyb., 5, 71.
5 Araber, I, S., 74.
6 Araber, I, S., 77, 171.
7 Pirrenne, Paleographie des Inscriptions Sud-Arabes, (1956) , 211, Araber, I,vs.74.(3/21)
وورد في الأخبار أن فرقة من العرب من ركبان الإبل، كانت في جيش "أنطيوخس" وذلك في حوالي السنة "190 ق. م"1. ويظهر أنها كانت تقوم بحماية حدود الدولة السلوقية وحفظها من غزو الأعراب لها، وبالحرب في الصحراء، ومساعدة الجيش السلوقي في البادية عند اضطراره إلى اجتيازها.
هذا ويلاحظ أن معظم القبائل كانت قد أيدت "أنطيوخس" ضد "بطليموس" والبطالمة الذين ورثوا القسم الغربي من تركة "الإسكندر"2. ولعل سبب ذلك هو أن ملك "أنطيوخس" لم يكن قد مس أرض العرب والأعراب، ولذلك لم يكن له إشراف مباشر عليهم يستوجب أثارتهم, أما البطالمة فقد كانوا يمتلكون أرضين، أصحابها عرب، وتعيش في أرضهم قبائل عربية، من قديم الزمان، ولذلك لم تستطع هضم "البطالمة" فأرادت التخلص منهم بالانضمام إلى منافسيهم وفي الجزء الشرقي من امبراطورية "الإسكندر".
ويحدثنا الكتاب "الكلاسيكيون" أن "بطلميوس ساطر"3 "322- 382 ق. م" أرسل جيشًا إلى "سلوقوس نيقاطور" "312- 280 ق. م" فخرج من مصر واجتاز "سيناء" إلى غزة، ومنها إلى "بطرا" فركب الجمال، وتمون بالماء، واجتاز البادية، فكان يقطعها بسرعة كبيرة ليلًا، لشدة الحرارة في النهار، إلى أن بلغ العراق4. أما البادية التي اجتازها هذا الجيش فهي بادية السماوة، وأما الطريق التي سلكها فهي الطريق المألوفة التي تسكلها القوافل، وهي من أهم الطرق الموصلة إلى العراق وأقصرها، وقد أرسل "سلوقس نيقاطور" Seleucus Nicator "ميكستينس" Magastenes إلى الهند5.
وكان "بطالمة" مصر أنشط من السلوقيين في مجال الاشتغال بالتجارة البحرية الجنوبية، والاستفادة من البحر، إذ وجهوا أنظارهم نحو البحار الجنوبية فأرسلوا بعثات استكشافية عدة لدراسة أحوال البحار والسواحل والشعوب، لتطبيق ما تتوصل إليه من معارف في مقاصدها العملية التي أرادت تنفيذها في تلك البحار, ولعل
__________
1 Livius, XXXVII, 40, 12, Grohmann.. Arabian, S.; 23.
2 Polybius, V, 71, Arabien, S., 23.
3 "بطليموس ساطر"، الطبري "1/ 703" "ليدن".
4 Hegaz, P., 216.
5 Montgomery P., 72.(3/22)
لوضع مصر الجغرافي الممتاز الذي يكون قنطرة بين البحرين وسوقًا تلتقي به التجارات الآتية من الشمال ومن الجنوب، من أوروبة وحوض البحر المتوسط ومن السودان والحبشة وبقية أنحاء إفريقيا، ثم من جزيرة العرب والهند دخلًا في هذه الاهمتام بالبحر الأحمر وبالمحيط الهندي الذي أظهرته حكومة البطالمة، فقد سبقهم إليه قدماء المصريين ثم الفرس ثم الإسكندر، فإهتمامهم هذا هو في الواقع استمرار لتنفيذ تلك المقاصد القديمة المذكورة.
وأمر "بطلميوس الثاني فيلادلفوس" "285- 246 ق. م" "284- 247 ق. م"، بإعادة حفر القناة القديمة بين النيل والبحر الأحمر "المشروع" الذي بدأ به المصريون لربط البحرين وبتوسيع التجارة مع سواحل إفريقيا وسواحل جزيرة العرب والهند، وبتكثير الأصناف التي كانت تستورد من المناطق الحارة، وبذلك اتخذت تجارة مصر والبلاد العربية، وإفريقيا شكلًا لم تعهده من قبل1.
وذكر "ديودورس" أن آخر محاولة جرت لوصل البحر الأحمر بالنيل كانت في أيام "بطلميوس الثاني فيلادلفوس" حيث عزم على شق قناة منه إلى خليج السويس عند مدينة "أرسينو" Arsino، وقد أطلق على القناة التي أمر بشقها اسم "قناة بطلميوس"2. وقد شقت في حوالي سنة "269ق. م" كما حصنت المدينة بسور حصين لحمايتها من الغارات، وقد قصد بذلك غارات الأعراب الذين كانوا في الأرضين منذ أمد طويل3. ولعل هذا الملك هو الذي أرسل "أرستون" "أرسطون" Ariston للكشف عن سواحل البحر الأحمر من السويس إلى المحيط الهندي4، ولعله أيضًا الملك الذي ساعد أهل "مليتيوس"، وهم يونان أسسوا مستعمرة Ampelone / Ampelonaea في مكان ما من الساحل العربي، للبحر الأحمر وأمدهم برعايته, وهي مستعمرة أشار إليها الكتبة "الكلاسيكيون" والظاهر أنها واحدة من مستعمرات متشابهة، أسسها الروم على سواحل البحر الأحمر، لحماية سفنهم وتجارهم وامدادها بما تحتاج إليه من معاونة ومساعدة ولشراء ما يرد إليهم من بر جزيرة العرب.
__________
1 O'Leary, P. 71. S.A. Huzayyin, Arabia and the Far East, P. 86.
2 Booth, P., 16.
3 Araber, I, S., 72.
4 Araber, I, S. 67, Tran, in: Journal of Egypt. Archeol., 15; (1929) ; 14.(3/23)
وقد عاد "أرسطون" من أسفاره البحرية، فقدم تقريرًا إلى ملكه ذكر فيه قوم "ثمود" في جملة من ذكرهم من الشعوب ولعله أول إغريقي ذكرهم.
وفي أيام "بطلميوس فيلادلفوس" كذلك، أسست موانئ جديدة على سواحل البحر الأحمر، لرسو السفن فيها، وللمحافظة على الطرق البحرية من لصوص البحر، بلغت مداها جزيرة "سقطرى"1 Dioscorida. حيث أنشئت فيها جملة مستعمرات يونانية, وقد بقي اليونانيون فيها عصورًا غير أن نزولهم فيها لا يدل على احتلالهم لها2، وفي أيام صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"3 كانت الجزيرة على حد قول المؤلف في حكم "اليعزوز" Eleazus ملك "سباتا" Sabbatha، أي "شبوة"، ويدل هذا على أنها كانت تابعة للعربية الجنوبية، ويظهر أن "بطلميوس فيلادلفوس" قصد أيضًا الالتفاف حول السواحل العربية وضرب الفرس وإلحاق الأذى بهم، بأسطول كونه لهذه الغاية4.
وقد كانت جزيرة "سقطرى" "سقطرة"5 ذات أهمية في ذلك العهد، وإن فقدت أهميتها في الزمن الحاضر فلا يعرفها ولا يذهب إليها اليوم إلا القليل؛ وذلك لأنها كانت تنتج حاصلات لها أهمية كبيرة في أسواق العالم إذ ذاك مثل البخور والصير والصمغ وغير ذلك، وهي سلع لها قيمة، تشبه قيمة البترول في القرن العشرين؛ ثم لأنها محطة مهمة لاستراحة رجال السفن ومفتاح يؤدي إلى مغالق المحيط الهندي من جميع النواحي، ولما كانت السفن في ذلك العهد صغيرة، تسيرها الرياح، وليس في مقدورها أن تحمل مقادير كبيرة من الماء العذب والأكل، كان لا بد لها من الوقوف في منازل عديدة، ومنها هذه الجزيرة، التي يعني اسمها "جزيرة السعادة"، إذ يذكر الباحثون، أن تسميتها جاءتها من السنسكريتية "دفيبا سوخترا" Dvipa SUKHATARA وهي تسمية إن صح أنها من هذا الأصل، فإنها تدل على صلة أهل الهند بها منذ عهد قديم6.
__________
1 Dloscordla, Dloscorides, Dioscurias, Dioscora, William Vincent, The Periplus of the Erythvean Sea. Part the Second, London, 1805, P., 307.
2 O'Leary, P. 72, Vincent, II, P. 309.
3 Periplus of the Erythream Sea.
4 Vincent, II, P. 309, O'Leary, P. 72.
Stuhlmann, Der Kampf, S., 10.
5 مروج الذهب "1/ 335"
6 H. F. Tozer, A History of Ancient Geography, Camebridge, 1935, P. 138.(3/24)
وأهلها خليط من عرب وروم وإفريقيين وهنود، يتكلمون بلهجات متداخلة، وهذا الاختلاط نفسه أمارة على الأهمية التي كانت للجزيرة في ذلك الزمن، وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن أكثر أهلها نصارى عرب، وأن اليونانيين الذين فيها يحافظون على أنسابهم محافظة شديدة وقد وصلوا إليها في أيام الإسكندر، ويزعم بعض الأخباريين أن "كسرى" هو الذي نقل اليونانيين إليها، ثم نزل معهم جمع من "مهرة" فساكنوهم وتنصر معهم بعضهم1. وفي الروايات العربية عن الروم الذين بجزيرة "سقطرى" شيء من الصحة.
والذين يزورون هذه الجزيرة في هذه الأيام، يرون آثار ذلك الاختلاط وتشابك الشعوب والثقافات فما زالت الآثار النصرانية باقية فيها، تتحدث عن انتشار النصرانية فيها، وعن وجود جالية رومية، أنساها الزمن أصلها فدخلت في أهل "سقطرى"، وأخذت لسانًا جديدًا مزيجًا من ألسنة آرية وسامية وحامية، ولا يزال كثير من أهلها يسكنون الكهوف والمغاور ويعيشون عيشة بدائية، لانعزال الجزيرة عن بقية العالم.
لقد صرف البطالسة مجهودًا كبيرًا في سبيل السيطرة على البحر الأحمر، والتوسع في المحيط الهندي، وقد تابع البطالسة الذين خلفوا "بطلميوس الثاني فيلادلفوس" خطته في التوسع في السواحل الإفريقية وفي المحيط الهندي، وأخذوا يرسلون الرجال المغامرين إلى تلك الأماكن للكشف عنها بغية الوقوف على أحوالها والاستفادة مما يحصلون عليه في سياسة التوسع التجاري والسياسي، التي وضعوها للبلاد التي تقع في المناطق الحارة، وقد جمعت التقارير وكانت مهمة ولا شك، ووضعت في خزائن الإسكندرية، وقد وقف على بعضها الكتبة "الكلاسيكيون".
وقد أخرجت أيام البطالمة جماعة من المغامرين الإغريق جابوا البحر الأحمر وسواحله، ودخلوا بسفنهم المحيط الهندي حتى بلغوا الهند2. وغير أن تجارة الهند، والبحار، بقيت في الجملة في أيدي العرب، ولم يحاول البطالمة تغيير الوضع وتبديل الحال، وقد انحصرت كل محاولتهم في توجيه التجارة في الموانئ
__________
1 البلدان "5/ 93" ويذكر المسعودي أن "أرسطوطاليس" هو الذي كتب إلى الإسكندر حين سار إلى الشرق يوصيه بهذه الجزيرة، وكان يحكمها ملوك الهند، فنزل اليونانيون بها، وأقاموا بها، وتنصروا بعد ذلك، وذكر أن بوارج الهند، تأتي إليها في أيامه، مروج الذهب "1/ 335" وما بعدها".
2 Strabo 15 1 4 Oleary p 73.(3/25)
العربية إلى سواحل مصر. لقد كان بحارة العربية الجنوبية أصحاب كفاية ودراية، وما زالوا ملاحين أكفاء حتى الآن1. فلم يكن من السهل على البطالمة إخراجهم من البحر وإبعادهم عنه، ولقد حاول البرتغاليون من بعدهم بعدة قرون إقصاء العرب عن تجارة الهند وإفريقيا، ومنع سفنهم من الظهور في المحيط الهندي، فباءت محاولاتهم بالإخفاق، وبقوا في البحر بالرغم من أنف البرتغاليين.
وقد وجه "بطلميوس أورغاطس الثاني2" Prolemy Euergetes "146- 117 ق. م"، انتباهه نحو البحر الأحمر والمحيط الهندي والهند، فكون أسطولًا قويًّا من البحر الأحمر، قام برحلات منتظمة إلى قبلة أنظار التجار: الهند ويظهر من بعض الكتابات أنه خصص موظفين بإدارة أعمال السفن والسهر على سيرها وإدامتها وتنميتها أناط، بهم حماية السفن التجارية وحراستها حتى لا يتحرش بها لصوص البحار، الذين كانوا يهاجمون السفن المحطمة ويأخذون ما فيها ويتعرضون للسفن المحملة بالأثقال فيأخذون ما فيها وينقلونه إلى الساحل، وقد ألف لتحقيق هذه المهمة حرسًا بحريًّا أخذ دور شرطة بحرية، واجبها تقديم المساعدات لمن يطلبها وتعقب اللصوص3.
وقد برز اسم قائد محنك من أهل Cyzicus / Kyzikus استطاع أن يبلغ الهند وأن يتاجر معها، وأن ينشئ خطًّا ملاحيًّا منتظمًا بين مصر والهند، وقد استطاع هذا القائد المسمى بـ "يودوكسوس" Eudoxus أن يتعلم أشياء كثيرة من أسرار الملاحة البحرية وأخطارها ومجازفاتها ومن معارفها والأماكن التي يجب النزول بها، ولعل إدراك "هيبالس" "هيبالوس" Hippalus لأهمية الرياح الموسمية واستعماله لها، وهو ثمرة من ثمرات الرحلات التي قام بها "يودوكسوس" للهند، وإذا لم يكن "هيبالوس" من رجال ذلك القائد، فإنه لم يكن بعيد عهد عنه على كل حال4.
وكان الساحل الشمالي الغربي لجزيرة العرب، أي القسم الجنوبي من المملكة الأردنية الهاشمية في الزمان الحاضر وأعالي الحجاز للنبط، لهم حكومة تحكمهم،
__________
1 O'Leary, P. 73.
2 "بطليموس أورغاطس" الطبري " / 703" "ليدن".
3 Araber, 1, S., 69.
4 Araber, 1, S., 131.(3/26)
إلا أنها كانت تخضع لنفوذ البطالمة، وقد تأثرت مصالحهم كثيرًا، ولا شك بتدخل البطالمة في أمور البحر وبوضعهم اليونان في أماكن متعددة من الساحل لحماية سفنهم، ولاتجارهم مباشرة مع موانئ جزيرة العرب، حيث أثر ذلك على القوافل التجارية البرية التي كانت تحمل تجارات إفريقيا والهند، والعربية الجنوبية فتأتي بها على ظهور الجمال إلى بلاد الشأم مخترقة أرض النبط وبذلك تدفع لهم حق المرور.
ولم يتأثر النبط وحدهم بسيطرة البطالمة على البحر الأحمر، بل تأثر بهذه السيطرة عرب الحجاز والعربية الجنوبية كذلك، إذ أخذت سفن البطالمة تصل بنفسها وبحراسة السفن الحربية إلى الموانئ المشهورة، فتشتري ما تحتاج إليه وتبيع ما تحمله من سلع، وحرمت بذلك التجار العرب من موارد رزقهم التي كانوا يحصلون عليها من الاتجار بالبحر، وقد اضطر التجار العرب على ترك البحر للمنافسين الأقوياء وعلى الاقتصار على إرسال تجارتهم بطرق البر نحو بلاد الشأم.
ويظهر أن عرب البحر الأحمر، لم يكونوا يميلون إلى ركوب البحار وبناء السفن قبل أيام البطالمة وبعد، أيامهم كذلك، ولهذا فلم تكن لديهم سفن مهمة مذكورة في هذا البحر، ولم تكن لهم سيطرة عليه، بل يظهر أنهم كانوا يتخوفون من ركوب البحر، وفي المثل المنسوب إلى "أحيقار": "لا تر العربي البحر، ولا ساكن صيدا البادية"1، تعبير عن وجهة نظر عرب العربية الغربية وأعراب البادية بالنسبة إلى البحر، والتجارة البحرية.
وقد كان ميناء "أيلة" Ailana / Eloth في أيدي البطالمة في هذا العهد2.
وهو ميناء مهم ترسل منه تجارة فلسطين إلى موانئ البحر الأحمر وإفريقيا، كما كان يستقبل السفن القادمة من إفريقيا ومن المحيط الهندي، فهو إذن من الأسواق التجارية المعروفة في ذلك العهد.
لقد كان ميناء "لويكة كومة"3 Lueke Kome أي "المدينة البيضاء" من أهم الموانئ التجارية على سواحل الحجاز على عهد البطالسة، منه تتجه
__________
1 Araber, 1, 70.
2 Araber, 1, s. 69.
3 Leuce Kome, Forster, 1, P. 220.(3/27)
السفن إلى الساحل المصري لتفرغ شحنتها هناك، فتنقل إما بواسطة القوافل، وإما بالسفن من القناة المحفورة بين البحر الأحمر ونهر النيل لتتابع طريقها إلى موانئ البحر المتوسط1، وقد كان من موانئ النبط، ذكره "سترابون" في معرض كلامه على حملة "أوليوس غالوس" على جزيرة العرب، ففيه نزلت جيوش الرومان القادمة من مصر للاتصال بحلفائهم النبط2، ولا يعرف موضعه الآن معرفة تحقيق وإنما يرى بعضهم أنه "الحوراء"3. مرفأ سفن مصر إلى المدينة4. ويظهر أن "الحوراء" كان من المواضع الجاهلية القديمة وقد وجدت فيها آثار قصور.
ورأى "ونست" Vincent أن "لويكة كومة" هو "المويلح" في الزمان الحاضر5، وهي قرية بها بساتين ومزارع ونخيل، ومياهها من الآبار، لها طريق قوافل إلى المدينة وإلى تبوك 6. ورأى آخرون أنها "عينونة" أو "الحربية" وهي تابعة لإمارة "ضبا" على ساحل البحر الأحمر، وهي من إمارات الحجاز7.
ويظهر أن تجارة هذا الميناء كانت عامرة جدًّا، فكانت القوافل التي تنقل البضائع بين "بطرا" Petra وبين Leuce/ Kome /Leuke Kome ضخمة جدًّا حتى كأنها قطع كبيرة من الجيوش8. تقوم بنقل الأموال من الميناء إلى "بطرا" ومنها إلى الأسواق، أو بنقل التجارة الواصلة إلى "بطرا" من العراق أو الخليج أو اليمن، ومنها إلى ذلك الميناء لتصديره إلى مصر وحوض البحر المتوسط ويتبين من إهمال الكتب اليونانية أو اللاتينية ذكر هذا الميناء بعد الميلاد أن شأنه أخذ في الأفول منذ ذلك العهد، ولعل ذلك بسبب تحول خطوط سير السفن في البحر الأحمر بعد استيلاء الرومان على مصر، وإنشائهم أسطولًا تجاريًّا كبيرًا في
__________
1 Vincent, II, PP.,230.
2 Skizze, 11, S., 46.
3 Forster, 1, P.,220.
4 البلدان "3/ 359"
5 Forster, II, P.285.
6 حافظ وهبة، جزيرة العرب "ص19".
7 فؤاد حمزة، قلب جزيرة العرب "ص72"، Hegaz, PP.,125.
8 Huzayyin, P.,112, Strabo, 16, 4,33.(3/28)
هذا البحر قام بالاتجار مباشرة مع إفريقيا والهند ومصر، فلم تبق له حاجة إلى النزول في هذا الميناء.
وLeuce Kome / Leuke Kome اسم أعجمي بالطبع، ورد في الكتب "الكلاسيكية"، لا ندري أهو ترجمة لمسمى عربي، أم هو اسم حقيقي لذلك الميناء أطلقه عليه مؤسسوه في زمن البطالمة، أو قبل ذلك، وكانوا من اليونان، ولوجود خرائب عديدة على ساحل الحجاز "ترجع إلى ما قبل الإسلام، بها آثار يونانية ورومانية، لم تدرس دراسة علمية دقيقة، ولم تمسها أيدي المنقبين" لا يمكن القطع في موضع هذا الميناء وفي اسمه الحقيقي الذي كان يعرف به.
والميناء الآخر المهم الذي تاجر البطالمة معه، ونزل فيه رجالهم هو ميناء Muza / Mauza. وهو "مخا"، وهو ميناء قديم، وقد عثر على مقربة منه على كتابة وسمت بـ Ry 598 وقد قدر زمان كتابتها بحوالي سنة "300" أو "250 ق. م"1. وكان في أيام صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" تابعًا لملك سماه Charibael ملك Sabbhar و charibael هو "كرب إيل" وكان ملكًا على "سبأ" ويستنتج من الكتاب المذكور أن حكم هذ الملك كان قد امتد على أرض Azania وعلى أرضين أخرى مجاورة لها في إفريقيا2. أي أن تلك الأرضين كانت خاضعة لحكام اليمن في ذلك العهد.
وتعامل البطالمة مع ميناء آخر يقع على السواحل العربية، هو ميناء Arabeae Eubaemon، فكان تجارهم يأتون بسفنهم إليه، فيشترون من تجاره ما يحتاجون إليه، كما أنهم اتخذوه محطة للاستراحة وللتزود بالماء والزاد، وللقيام منه برحلات بعيدة إلى سواحل إفريقيا، أو الذهاب إلى الهند وهذا الميناء هو "عدن" الشهير، الذي لا يزل محافظًا على كيانه وعلى أهميته في العالم السياسي والحربي والاقتصادي، وذلك بفضل مكانه الحصين وإشرافه على المحيط في مكان مشرف على باب المندب مفتاح البحر الأحمر وعلى الساحل الإفريقي.
وقد كان هذا الميناء موجودًا ومعروفًا قبل البطالمة، بدليل اشتهاره عندهم
__________
1 Araber, I, s. 133, J. Pirrenne In: Le Museon, 73, "1960", 6.
2 Araber, I, s. 133.(3/29)
واتخاذه محطة لهم، ولكننا لا نعرف من تأريخه القديم شيئًا كثيرًا، وقد عثر فيه على كتابات بالمسند إلا أن العلماء لم يستطيعوا حتى الآن التحدث بشيء من التفصيل عن تأريخ عدن قبل هذا العهد1. وقد ازدادت عناية الغربيين به منذ حملة "أوليوس كالوس"، كما سأتحدث عنه فيما بعد.
ويرى بعض الباحثين أن ما ذكره بعض "الكلاسيكيين" من وجود مدن أو جاليات يونانية مثل Arethusa "أرتوسه" و "لاريسا" Larissa "وخلقس" Chalkis في بلاد العرب، وإنما يراد بها مواضع يونانية أقيمت في أيام "البطالمة" على الساحل الجنوبي لجزيرة العرب في مواضع لا تبعد كثيرًا عن "عدن" وقد بقيت حية عامرة إلى سقوط حكم "البطالمة" فضعف أمر تلك المستوطنات ولم يسعفها أحد من اليونان أو الرومان بالمساعدة فدمرت، دمرتها القبائل العربية الساكنة في جوارها2.
أما موضع "اتينه" Athene / Athenae attene الذي ذكره "بلينيوس" مع المواضع المذكورة فقد ذهب أكثر الباحثين إلى أنه "عدن" وهو موضع كان معروفًا، عند اليونان والرومان معرفة جيدة، وكانت سفن البطالمة تأتي إليه للاتجار.
وقد ذهب "تارن" W W Tarn إلى أن مستعمرة "أمبلونه" Ampelone وهي إحدى المستعمرات اليونانية التي أقيمت على ساحل البحر الأحمر، إنما هي مستعمرة أنشئت في أيام "بطلميوس الثاني"، وقد استوطنها قوم من أهل Miletos لغرض إبحار السفن منها إلى البحار الجنوبية واستقبال السفن القادمة منها3.
لقد أحدث دخول اليونان البحار الجنوبية من الخليج العربي، ومن البحر الأحمر احتكاكًا مباشرًا بين الثقافة اليونانية والثقافات الشرقية، وقد عثر على كتابات يونانية في مواضع متعددة من الخليج ومن السواحل الإفريقية تتحدث عن وجود اليونان في هذه الأماكن، فقد عثر على كتابات من أيام السلوقيين في جزيرة "فيلكا" وكتابات لـ"بطلميوس الثالث" "أورغاطس" Euergetes
__________
1 Stuhlmann s 121.
2 Araber l s 121.
3 Araber s 70.(3/30)
"247- 221 ق. م" في "أدولس" Adulis عند "مصوع"1، وعثر على نقود في مواضع متعددة من السواحل الجنوبية لجزيرة العرب والسواحل الإفريقية ومنذ هذا العهد دخلت المؤثرات الثقافية اليونانية إلى الحبشة وإلى مواضع أخرى من إفريقيا2.
وقد عثر في خرائب مدينة "تمنع" على كثير من الأشياء "الهيلينية" الأصل أو المتأثرة بالهيلينية: من تماثيل، وتحف فنية وفخار، وما شابه ذلك3. هي من نتائج التبادل التجاري، والاتصال الذي كان بين حوض البحر المتوسط والعربية الجنوبية, وقد ترينا الحفريات في المستقبل آثارًا أخرى تتحدث عن أثر الثقافة اليونانية في جزيرة العرب في نواح أخرى عديدة لم نتعرفها بعد.
وكان من نتائج دخول اليونان إلى الخليج العربي والبحر الأحمر، دخول النقود اليونانية إلى جزيرة العرب، وظهور دور ضرب السكة فيها. وقد عثر في مواضع من الجزيرة على نقود ضرب بعضها على طراز نقود "الإسكندر الأكبر" وضرب بعض آخر في أيام خلفائه، كما عثر على نقود محلية ضربت في العربية الجنوبية، وقد تبين من دراستها وفحصها أنها ضربت على الطريقة اليونانية، ويظهر الأثر اليوناني واضحًا فيها. وسأتحدث عن ذلك في الموضع الحاضر بالنقود.
هذا وقد كشفت جزيرة صغيرة من جزر الخليج العربي، هي جزيرة "فيلكا" من جزر الكويت عن بعض أسرارها التأريخية القديمة، فقدمت بعض الهدايا والعطايا لبعثة أثرية "دانماركية" نبشت الأرض في مواضع منها، وإذا بها تتحدث إليها بتحفظ وبحرص عن أيامها الأولى، في "العصور البرنزية" ثم في "العصور الحديدية: "ثم عن صلاتها بالعراق حيث نزل بها الأكاديون والآشوريون، وعن صلاتها بالجزر الأخرى مثل البحرين، وعن صلاتها بالفرس ثم باليونان في أيام "الإسكندر الكبير" وخلفائه، حيث نزل بها جنوده وقوم من أتباعه وأتباع من جاءوا بعده من حكام.
__________
1 Stuhlmann S., 10.
2 Stuhlmann S., 10.
3 Boasoor 119 "1950" p., 6.(3/31)
ويعود عهد النقود التي عثر عليها في هذه الجزيرة إلى هذا الزمن أيضًا فقد، وجد نقد ضرب في أيام "سلوقس الأول" باسم الإسكندر الأكبر حوالي "310- 300 ق. م" فهو لا يبعد كثيرًا عن أيام الإسكندر المتوفى سنة "323 ق. م" ووجد نقد ضرب في أيام "أنطيوخس الثالث" الذي حكم المملكة "السلوقية" ما بين "223" و "187 ق. م"1.
ولاكتشاف هذه النقود شأن تاريخي كبير؛ لأنها تشير إلى تدخل اليونان في أمور الخليج في هذا العهد، وحكمهم لسواحله العربية من "جرها" إلى جنوب العراق، كما أنها ستعين في التوصل إلى تثبيت تواريخ حكم السلوقيين لهذه المنطقة وسيكون لما سيكتشف من نقود في الكويت، أو في مواضع أخرى من الخليج، فائدة كبيرة في توسيع معارفنا بالسلطان الاقتصادي والسياسي للسلوقيين في هذه الجهات وفي تعيين صلاتهم بالشعوب العربية الساكنة على بقية ساحل الخليج وفي الأرضين البعيدة عن منطقة سلطان السلوقيين.
وبعد اكتشاف آثار الـ "اكروبولس" Akropolis وكذلك المعبد في جزيرة "فيلكا" التي هي جزيرة "ايكاروس" lkaros عند اليونان ذا أهمية كبيرة من ناحية دراسة الأثر الذي تركه اليونان في الخليج2.
أما في الساحل المقابل للجزيرة وفي الأماكن الأخرى من الخليج، فلم يعثر حتى الآن على مثل هذا المعبد اليوناني، أو البيوت اليونانية فيها، ولهذا لا نستطيع أن نتحدث عن أثر اليونان فيها، وقد يكون وجود المعبد والبيوت اليونانية في هذه الجزيرة بسبب إبقاء حامية الإسكندر فيها وسكناهم في الجزيرة وبقائهم بها بعد زوال حكم اليونان عن العراق، وقد اختار الإسكندر أو قواده هذه الجزيرة، لأهميتها من الوجهة العسكرية من حيث رسو سفن الجيش اليوناني بها وإمكان تأديب سكان السواحل منها وإخماد معارضتهم لليونان وتعقب "القراصنة" والهيمنة على مصب دجلة والفرات في الخليج والدفاع عن جنوب العراق. لم يتمكن السلوقيون من الهيمنة على الخليج والاتجار به؛ لأن حكومتهم في
__________
1 تقرير "ص 16، 17 "، نقود يونانية من جزيرة "فيلكا" مطبعة حكومة الكويت.
2 Kuml 1959 236 238 Grohmann Arabien S 259.(3/33)
العراق لم تكن حكومة قوية، ثم سرعان ما قضى عليها الفرس، فزال حكم اليونان عن العراق، أما في مصر، فقد قضى الرومان على حكم البطالمة، وانتزعوا الحكم منهم وورث الرومان اليونان في البحر الأحمر، وولوا أنظارهم نحو سواحله ونحو المحيط الهندي، على حين انتزع الخليج من الروم ومن الرومان، وصار بحرًا شرقيًّا، السلطان الأول فيه للعرب والفرس.
لقد كافح البطالمة أعمال اللصوصية "القرصنة" في البحر الأحمر، وأمنوا بذلك لسفنهم السير في هذا البحر، إلا أنهم لم يتمكنوا من السيطرة على العربية الغربية، ولم يتمكنوا من المساهمة مع العرب في الإتجار برًّا مع اليمن وبقية العربية الجنوبية، لقد كانت التجارة في أيدي العرب، وكان المهيمن على النهاية القصوى لهذه الطرق البرية "النبط" الذين تكتلوا في أعالي الحجاز، وكونوا لهم مملكة النبط، وأخذ نجمهم في الصعود منذ أيام "الإسكندر الأكبر" وقد ساعد في صعوده الحروب التي نشبت بين البطالمة والسلوقيين، فوجد النبط لهم فرصة مؤاتية فأخذوا يوسعون أرضهم، ويتقدمون نحو الشمال متوغلين حتى بلغوا أرضين تقع شمال "دمشق"1.
وأدت الحروب التي نشبت بين السلوقيين والبطالمة إلى تقدم القبائل العربية، وزحفها من الجنوب نحو الشمال، وزاد من توسعها تفتت مملكة السلوقيين وتقلص سلطانها، مما أفسح في المجال للقبائل بالنزوح بكل حرية إلى أرضين جديدة في العراق، وتكوين إمارات من قبائل متحالفة، كذلك أدى ضعف حكومة البطالمة إلى توسع القبائل العربية وتوغلها في طور سيناء وفي المناطق الشرقية من مصر الواقعة على الضفاف الشرقية لنهر النيل، مما حمل بعض الكتبة "الكلاسيكيين" على إطلاق لفظة "العربية" عليها دلالة على توغل القبائل العربية فيها بالطبع2.
وإلى عهد البطالمة ترجع الكتابات العربية المدونة بالمسند التي عثر عليها في الجزيرة بمصر. وقد كتبت في السنة الثانية والعشرين من حكم بطلميوس بن بطلميوس، ويصعب تعيين زمان هذه الكتابة وزمان بطلميوس بن بطلميوس
__________
1 Araber l S 5 F.
2 Araber l s 6 f.(3/34)
الذي في أيامه كتبت؛ لأن هنالك عددًا من البطالمة حكموا أكثر من اثنين وعشرين عامًا، فأيهم المقصود؟ ويرى "وينت" F V Winnet أنها لم تكتب على أي حال بعد سنة "261 ق. م"1، وعثر على كتابات أخرى في موضع "قصر البنات" على طريق "قنا" وفي منطقة "أدفو"2.
ووجود كتابات المسند في مصر يدل على الصلات الوثيقة التى كانت بين العربية ومصر.
وقد دون إحدى هذه الكتابات رجل اسمه "زد ال بن زد" "زيد ال بن زيد" "زيد ايل بن زيد" من "آل ظرن" "آل ظيران" "آل ظيرن" وقد كان كاهنًا في معبد مصري، وقد اعترف بوجود دين عليه وواجب هو تزويد "بيوت آلهة مصر" معابد آلهة مصر" ابيتت الالت مصر" بـ "المر والقليمة" "امرن وقلمتن"، ويقصد بـ"قلمتن" ما يقال له: Calamus في الإنكيلزية وKalmus في الألمانية، ويراد به ما يقال له قصب الذريرة أو قصب الطيب وقد عبر عن لفظة "ورد" واستورد بلفظة "ذ سعرب".
وذكر أن ذلك كان في عهد "بطلميوس بن بطلميوس"، "بيومهر ثلميث بن تلميث" أي "بيوم أو بأيام بطلميوس بن بطلميوس"، وقد عبرت عن لفظة "بطلميوس" بـ "تلميث".
وقد استحق عليه تسديد الدين، وصار نافذًا في شهر "حتحر" وعبر عن ذلك بهذه الجملة: "ويفقر زبدال بورخ حتحر" و"فقر" بمعنى أصبح مستحقًّا نافذًا، ومعنى الجملة: "واستحق تسديده على زيد ايل بشهر حتحر" وقد وفى بذلك دينه، لكل معابد آلهة مصر. وقدمت إليه في مقابل ذلك، وربما على سبيل المقايضة، أنسجة وأقمشة أو أكسية بز "كسوبوص"
__________
1 BOASOOR, Number, 73, 1939, P., 7.
2 BOASOOR, Number 7S, 1939, P. 7, Le MusSon, LVH; 1-2; (1949) ; P. 56; A. E. P. Welgall, Travels in the Upper Egyptian Deserts, London, 1909, P. 1 IV, Fig., 13; 14; H. Winkier, Rocfcdrawings of Southern - Upper Egypt, I, London, 1938, P. 1, 4, Rhodokanakls, in Zeitschrift fur Semitlstik, Bd. 11; 1924, S. 113, Schwartz, Die Inschriften des Wilstentempels von Redesiye, in: Jahrbuch fur Klasslsche Philologie, Bd., CLITT, 1896, S. 157.(3/35)
أخذها إلى سفينة تجارية، ربما كانت سفينته، وقد أخذ عليه عهد واعترف مقابل ذلك بالدين الذي عليه وبوجوب تسديده عند استحقاقه لمعبد الإله "أثر هب" "أثر هف" ويقصد بذلك الإله Osarapis، وذلك في شهر "كيحك" من السنة "خرف" الثانية والعشرين من حكم الملك "بطلميوس بن بطلميوس".
وقد ذهب "رودو كناكس" ناشر النص إلى احتمال كون "زيد ايل" كاهنًا في معابد مصر، ولو كان من أصل غير مصري، فقد كان المصريون تساهلوا في هذا العهد -كما يرى- فسمحوا للغرباء بالانخراط في سلك الكهان وخدمة المعابد، وتساهلوا مع "زيد ايل" هذا فأدخلوه في طبقة "أويب" Ueeb وانتخبوه كاهنًا، ليضمن لهم الحصول على المرور والقليمة بأسعار رخيصة، لاستيراده إياها باسمه ومن موطنه مباشرة من غير وساطة وسيط1.
وقد ذهب "رود كناكس" أيضًا، إلى أن "زيد ايل" كان يستورد المر والقليمة لا لحسابه الخاص ومن ماله، بل لحساب المعابد المصرية، ومن أموالها، فلم يكن هو إلا وسيطًا وشخصًا ثالثًا يتوسط بين البائع والمشتري، يشتري تلك المادة ويستوردها باسمه، ولكنه يستوردها للمعابد ولفائدتها، وهو لا يستبعد مع ذلك احتمال اشتغاله لنفسه وعلى حسابه في التجارة، يستوردها ويبيعها في الأسواق ويتصرف بالأرباح التي تدرها كما يريد، وهو لا يستبعد أيضًا احتمال مساعدة المعابد له بتجهيزه بالمال لتقوية رأس ماله، أو انتشاله من خسارة قد تصيبه.
وقد أصيب هذا التاجر، كما يظهر من هذا النص، بخسارة كبيرة في شهر "حتحر" ربما أتت على كل ما كان يملكه، فهبت المعابد المصرية لإنقاذه، وإعادة الثقة به، بإسناده بتقديم أكسية البز "بوص" إليه، وقد أخذها وصدرها في سفينته التي يستورد بها المر والقليمة إلى الأسواق، فربح منها، واستورد المر والقليمة وأعاد إلى المعابد ما أخذه منها من تلك السلعة، وأدى
__________
1 Zeitschrift fur Semitistik und verwandte Gebiete, Band, 2, 1924, s. 116(3/36)
ديونه في شهر "كيحك"، وقد أعادت إليه الثقة به، وأنقذ من تلك الضائقة المالية التي حلت به، بمدة قصيرة لا تتجاوز شهرًا كما يرى ذلك "رودو كناكس"1.
__________
1 N Rhodokanakis, "Dte Sarkophaginschrift von Glzeh", Zeischrltt tax Seml-tlstik, 11, (1923) , S. 113, Zeitschrift ftir Semltlstik und Verwandte Geblete, 11, 1924, S. 113, Tarn, In: Journal of Egypt. Archeol., 15, (1929) ; 20 Beeston; in: Journal Roy. Asiat. Soc, Gesch. der Hellenist. Welt, 1955, 1, 300, 3, 1172; Araber, 1, S., 70(3/37)
الفصل الثامن عشر: العرب والرومان
انتهز حكام "رومة" فرصة ضعف خلفاء الإسكندر، وانحلال المملكة العظيمة التى كونها ذلك الفاتح، فاستولوا على مقاطعة "مقدونية" Macedonia وعلى جزر اليونان وآسيا الصغرى وبلاد الشأم وإفريقيا وفي ضمنها مصر، فأصبحوا بذلك كما كان شأن البطالمة على اتصال بالعرب مباشر1. وبهذا الاتصال بدأت علاقات العرب بالرومان.
وقد كان العرب يقيمون في لبنان وفي سورية قبل الميلاد بزمن طويل، وقد اشتغل قسم منهم بالزراعة وتحولوا إلى مزارعين مستوطنين، وتولى قسم منهم حماية الطرق وحراسة القوافل ولا سيما القوافل التي تجتاز طريق الشأم -تدمر- العراق، وقد أشير إلى العرب "السكونيين" أي سكان الخيام Arabes Skynitai الذين كانوا ينزلون البوادي وهم من الأعراب الشماليين2.
استطاع "بومبيوس" Pompeius القائد والقيصر أن يضم بلاد الشأم إلى الأملاك التي استولت عليها رومة، ويجعلها مقاطعة من المقاطعات الرومانية، فكان من نتيجة ذلك اتصال الرومان بالعرب، وبالأعراب الذين كانوا قوة لا يستهان بها على أطراف الشأم، وقد وجد الرومانيون بعد استيلائهم على الشأم ما شجعهم
__________
1 The Historians History of The World, Vol., VI, London 1908, P., 3
2 pliny, Nat. His,, VI, 142, Straoo, XVI, 749, 755:Plutarchos: Lucullus; 21; Arabia ; S. 23(3/38)
على الزحف إلى فلسطين، انتهازًا لفرصة النزاع الداخلي الذي كان بين "هركانوس الثاني Hyrkanus ll وأخيه "أرسطو بولس الثاني" AristobulusII وكان "هيركانوس" قد ذهب إلى "الحارث" Aretas ملك العرب، أي النبط، فارًا من أخيه، ليحميه وليساعده مقابل تنازله عن بعض الأرضين وعن المدن الاثنتي عشرة التي كان "الإسكندر ينايس" Alexander Jennaeus "104- 78 ق. م" قد استولى عليها1 كما ذكرت من قبل، فرأى الرومان في هذه الفوضى فرصة مواتية للتوسع نحو الجنوب.
وقبل أن يجتاز "سكورس" Scaurus بجيوشه حدود أرض "يهوذا" وصلت إليه رسل "أرسطوبولس" Aristobulus تطلب منه مساعدة صاحبهم وتمكينه من أخيه، كما وصلت إليه رسل "هيركانوس" Hyrkanus لترجو منه معاونته لصاحبهم، ومساعدته على شقيقه فتعهد كل طرف من الطرفين بتقديم ما قدمه الآخر، ووافق "سكورس" على تأييد "أرسطوبولس" فكتب إلى "الحارث" ملك العرب، يخيره بين البقاء في القدس والدفاع عنها وعداوة الرومان وبين تركها وترك الدفاع عنها وصداقة القائد، فرأى "الحارث" Aretas الارتحال عنها، وفي أثناء ارتداده حصلت مناوشات بين أتباع الأخوين قرب الأردن، كان النجاح فيها حليف "أرسطوبولس"2.
وفي سنة "64 ق, م" شخص "بومبيوس" نفسه إلى سورية للإشراف على إخضاع جميع أجزائها، وقد طلب منه الأخوان أن يتدخل في حل هذا النزاع، وأن يكون حكمًا بينهما، وقدما له هدايا ثمينة حملته على التفكير في احتلال فلسطين وقد حضرا إلى مقره، وأظهرا له من الضعف والضعة ما دعاه إلى الإسراع في إرسال حملة إلى أرض Aretas ملك العرب، الذي قاوم مقاومة عنيفة، وبعد هذه الحملة احتل القدس وأرض يهوذا وسائر فلسطين، وأمر بإلحاقها بالمقاطعة الرومانية السورية، ونصب عليها "سكورس" حاكمًا، وانتزع من يهوذا مدنًا وقرى ألحقها بهذه المقاطعة، أما مملكة "يهوذا" الصغيرة، فقد أصبحت، من عملها هذا، في حماية الإمبراطورية الرومانية، وأخذ "أرسطوبولس"
__________
1 "103 - 76 ق. م" Dubnow 11 s 154
2 Bubnow ll S 176 F(3/39)
وأكثر جنوده أسرى، نقلوا إلى "رومة"، وسير بهم في موكب الأسرى الذين جيء بهم من الشرق، للاحتفال بالانتصار العظيم الذي انتصره "بومبيوس"، وذلك في عام "61 ق، م "1.
وعقد "سكورس" الحاكم الروماني اتفاقية مع "الحارث"، حسمًا للنزاع وحدًا لتحرشات العرب بحدود الإمبراطورية، وافق بموجبها "ملك العرب"، أي العرب النبط، على المحافظة على الأمن، وعلى التعاون مع الرومان في هذا الشأن، وقد عثر على نقد ضرب في أيامه، وجدت عليه صورة رمزية تشير إلى هذا الاتفاق2.
وقد ساعد العرب "كاسيوس" Cassius في حوالي السنة "53 ق. م" وساعدوا "كراسوس" Crassus، وذلك في حروبهما مع "الفرث" "البارثيين"3 Parther.
وقد عين "يوليوس قيصر" Julius Caesar في حوالي سنة "47 ق، م" "انتيباتر" Antipater بمنصب Procurator على اليهودية، وهو من أصل "أدومي"، والأدوميون عرب في رأي كثير من العلماء، وهو والد الملك "هيرود الكبير" Herod ملك اليهود، ومؤسس أسرة معروفة في تأريخ اليهود4، كما عين رجلًا اسمه Cypros وهو عربي من أسرة كبيرة5.
وقد استندت سياسة الرومان ثم سياسة الروم، من بعدهم إلى قاعدة الاستفادة من العرب في حماية المواضع التي يصعب على الرومان أو الروم حمايتها والدفاع عنها، وبذلك مثل تخوم الصحاري، وفي صد هجمات الأعراب المعادين أو الذين يدينون بالولاء للفرس، وفي مهاجمتهم أيضًا ومهاجمة حلفاء أولئك الأعراب المعادين لهم وهم الفرس.
وفي أيام "بومبيوس" "بومبي" كان أحد سادات القبائل العربية متحكمًا في البادية المتاخمة لبلاد الشأم، وقد ذكر "سترابون" أن اسمه هو Alchaidamos
__________
1 Dubnow, 11, S., 18
2 Murry, P., 101
3 Arabian, S., 23
4 Die Araber, 1, S. 301, W. Smith, A Dictionnary of The Bible., Vol. 1; 488; 791.
5 A Dictionnary, I, P. 791(3/40)
وجعله ملكًا على قبيلة دعاها باسم1 Rhanmbaei وقد كان حلفاء الرومان ثم انقض عليهم وعبر إلى العراق، وذلك لإهانة لحقته من الحاكم الروماني أو من القواد الرومان, ويظهر أنه اجتاز الفرات في سنة "46 ق. م" والتجأ إلى "البارثيين"، وقد ذكر بعض المؤرخين أنه كان في السنة "53" قبل الميلاد فيما بين النهرين، وأنه كان يقوم بغارات على حدود الشأم. ويظهر أنه ترك البارثيين بعد ذلك وعاد إلى خلفائه الرومان وقد نعته "ديوكاسيوس" Dio Cassius بالتذبذب وبالانتهازية، وقال عنه إنه كان يتنقل دائمًا إلى الجانب القوي2.
وكان "الخديموس" وقد استولى على مدينة "أريتوسه" Arethusa وهي مدينة "الرستن"، وجعلها مقرًّا لحكمه، وتقع على نهر "الميماس" وهو نهر "العاصي"، ويسمى بـ ORONTES عند الكتبة اليونان والرومان3. ولا ندري اليوم متى دخلت في حكمه، ويظهر أن حكمه دام طويلًا إذ كان لا يزال في الحكم في الفترة الواقعة فيما بين السنة "46" والسنة "43" قبل الميلاد4.
وذكر أنه كان لهذا الملك ولد اسمه "أيامبليخوس" lamblichos = Jamlichus وكان عاملًا على شعب Emesener وقصد "سترابو" بشعب "ايميسنر" الناس الساكنين في أطراف المدينة، أي أطراف مدينة Emesa: Emessa، وهي حمص5.
وقد ساعد "ايامبيليخوس" "المتوفى سنة 31 ق، م"، حكام "رومة" ضد "البارثيين" "البرث" "الفرث" Parther فقدم لهم مساعدات مهمة ولا سيما بالنسبة إلى "أوكتافيوس أغسطس"6 Octavianus Augustus.
وقد ساعد الملك "اكبروس" "أكبر" Acbarus الذي حكم "حمص" بعد
__________
1 Strabo, 16, 753, Die Araber, 1, S., 179
2 Dio Cassius, 40, 20, 1, f., Die Araber, 1, S.; 180
3 Ency., 11, P., 309
4 Die Araber, 1, S., 356
5 Die Araber, 1, S., 144
6 Arabian, S., 23(3/41)
هذا الملك بأمد، الرومان أيضًا في كفاحهم للبارثيين، وذلك سنة "49" بعد الميلاد1. ولم يكن لهؤلاء الملوك من خيار في سياستهم سوى الانحياز إلى الرومان؛ لأنهم كانوا أقوياء، وقد هيمنوا على بلاد الشأم.
ولا نعرف في الوقت الحاضر شيئًا عن الملك "الخديموس"، ولا عن قبيلته Rhambaei، أما عن اسم الملك فيظهر أنه محرف عن أصل عربي هو "الخدم" أو "جديمة" أو "خضم" أو "الخضم"2 وهي من الأسماء المعروفة التي ترد في كتب أهل الأخبار3. أو "الخطيم" وهو اسم معروف أيضًا، ورد في أسماء العرب4، أو اسمًا عربيًّا آخر ابتدأ بـ "ألـ" أداة التعريف.
وأما عن اسم Rhambaei، فيظهر أنه محرف عن تسمية عربية هي: "رحبة" أو "رحاب" أو ما شاكل ذلك5، وترد لفظة "رحبة" كثيرًا في العربية اسم موضع من المواضع، فلعل هذه القبيلة كانت تقيم في موضع اسمه "رحبة" فعرفت به.
ويظهر من هذا الخبر أن القبيلة المذكورة كانت في جملة القبائل العربية التي كانت قد زحفت قبل الميلاد إلى بلاد الشأم، واستوطنت في أطراف "حمص"، وتقدمت بعضها فنزلت في أماكن أبعد من هذا المكان إلى الشمال، حيث المراعي والكلأ والماء، وكانت كلما وجدت ضعفًا في الحكومات الحاكمة لبلاد الشأم، انتهزت فرصته فتقدمت إلى مواضع أخرى في الشمال، حيث يكون الخصب والماء.
وأنقذ العرب "يوليوس قيصر" Julius Caesar من المأزق الحرج الذي وقع فيه، وهو يهم بالقبض على ناصية الحال في الإسكندرية عام "47 ق، م" وإذ أرسل الملك "مالك" Malchu، وهو "مالك الأول بن عبادة"، نجدة مهمة، ساعدته على إنقاذه من الوضع الحرج الذي كان فيه6. كما أنجدوا
__________
1 Arabian, S., 23
2 Sarre und Herzfeld, Arch. Reise, 1, S. 119, 11, 105, Die Araber; 1; S. 150; M. Udzbarskl, Epyememris, 3, 164
3 الاشتقاق "227"
4 الاشتقاق "167"
5 Sarre und Herzfeld, Arch. Reise, 1, S. 119, 11, 105
6 Muryy, P., 102(3/42)
"هيركانوس" الذي فر من القدس إلى "بطرا" حينما ظهرت أمام العاصمة طلائع الفرثيين1.
ولما استولى "أغسطس" على مصر، وجعلها تابعة لحكم قياصرة "رومة"، أمر بإصلاح ما كان قد فسد بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية السيئة التي حدثت في أيام البطالسة، فأصلحت الطرق، وطهرت القناة وعني بالتجارة البحرية وبمياه البحر الأحمر التي غصت بلصوص البحر. وأوعز إلى حاكم مصر "أوليوس غالوس" Aelius Gallus بغزو جزيرة العرب، للاستيلاء عليها وعلى ثروتها العظيمة التي اشتهرت بها من الاتجار بالمر واللبان والبخور والأفاويه، وللقضاء أيضًا على لصوص البحر الذين كانوا يحتمون بسواحل الحجاز واليمن، وللهيمة على البحر. وقد أمر بوضع حراس على ظهر السفن التي تجتاز البحر الأحمر، لحمايتها، من أولئك اللصوص2.
لم تكن الأوضاع في القرن الأول حسنة في "مصر"، فقد كان حكم البطالمة حكمًا ضعيفًا هزيلًا، ألهاهم عن التجارة البحرية وعن الاهتمام بالبحار, فقل عدد السفن الذاهبة إلى المحيط الهندي، وتزايد عدد لصوص البحر، كما أن الصراع الذي كان في "رومة" على الحكم أثر في مستوى مشترياتها من مصر، وقد أثر ذلك بالطبع في الوضع الاقتصادي في مصر، وفي مستوى الأسعار ولا سيما في "الإسكندرية" "بورصة" العالم في ذلك العهد، لذلك أحدث فتح "يوليوس قيصر" لمصر تغييرًا في الأوضاع هناك نراه بارزًا في هذا "المشروع" الضخم الذي أراد "أوغسطس" "31 ق. م - 14 ب، م" القيام به، وهو الاستيلاء على جزيرة العرب وضمان مصالح "رومة" في ذلك الجزء من العالم، وجعل البحر الأحمر بحرًا رومانيًّا.
ولو تم ذلك "المشروع" على نحو ما حلم به "أغسطس" كان حكم "رومة" الفعلي قد بلغ العربية الجنوبية، وربما سواحل إفريقيا أيضًا إلا أن سوء تقدير الرومان له، واستهانتهم بطبيعة جزيرة العرب، وعدم إدخالهم في حسابهم قساوة الطبيعة هناك، وعدم تمكن الجيوش النظامية من المحاربة فيها وتحمل العطش والحرارة الشديدة، كل هذه الأمور أدت إلى خيبته منذ اللحظة
__________
1 Dubnow, 11, s. 250
2 O'Leary, P. 74, Pliny, 11, p. 415, 6, 101(3/43)
التي شرع فيها في تنفيذه، فكانت انتكاسة شديدة في هيبة "رومة" وفي مشاريعها التي رسمتها وأرادت تنفيذها في جزيرة العرب.
وقد وصل إلينا وصف تلك الحملة لكاتب جغرافي شهير أسهم فيها في رأي بعض الباحثين، فحصل على معارفه عن العرب وعن بلادهم من مشاهداته أيضًا فضلًا عن سمعه، وأعني به "سترابون" الذي قال في مطلع وصفه للحملة التي قام بها الرومان على بلاد العرب، بقيادة "أوليوس غالوس"، أشياء كثيرة عن خصائص تلك البلاد، لقد أرسله "أغسطس قيصر" للبحث عن الشعوب والأماكن التي فيها، وعن حدود بلاد الحبش، وأرض Troglodytes المقابلة لبلاد العرب، والأقسام المجاروة من الخليج العربي التي يفصلها عن العرب مضيق ضيق، لعقد معاهدات معها أو احتلالها، لقد سمع أنها غنية جدًّا؛ لأنها تقايض التوابل بالذهب والفضة والأحجار الكريمة؟ وأنها لا تحتاج إلى استيراد الأشياء من الخارج. فأراد إما أن يكون منهم أصدقاء أغنياء، وأما أن يحتل بلد أعداء أغنياء1. فهذه هي الأغراض التي توخاها قيصر "رومة" من توجيه حملته إلى جزيرة العرب في القرن الأول للميلاد، و"رومة" جائعة نهمة تريد المزيد من تجارة البحار الجنوبية بالمجان أو بأرخص الأسعار.
وقد وضع القيصر آماله في تحقيق هذا المشروع على النبط الذين كانت تربطهم بالرومان معاهدة تحالف منذ احتل الرومان بلاد الشأم، ومن جملتها فلسطين، فأصبحوا بذلك على اتصال بالنبط، وكان ملكهم إذ ذاك "عبادة الثاني ObadasII"
28- 9 ق. م" وقد وعد الرومانيين خيرًا، وعدهم بتقديم كل المساعدات لهم، وبإرسال المرشدين إليهم لإرشادهم إلى أهدافهم، وبتقديم الرجال لشد أزر الرومانيين، وبوضع وزيره المدعو Syllaeaus تحت تصرفهم ليكون لهم دليلًا ومستشارًا2.
وبعد إعداد الحملة وتهيئة السفن التي كان ينبغي أن تنقل رجالها وعدتهم عشرة آلاف جندي، جمعوا من مصر من المصريين والرومانيين ومن لفيف غيرهم، أركبوها من ميناء على الساحل المصري للبحر الأحمر، لتتجه بهم إلى ميناء "لويكة
__________
1 Strabo, XVI, 22, vol. III, P. 209, Pliny; 6; Dio Casslusi 53; 3-8; Die Araber; 11; S. 49
2 لعله تحريف "صالح".(3/44)
كومة" حيث ينضم إليهم نبط وغيرهم، ثم يتجهون برًّا إلى اليمن، إلا أن الحملة لم تكن منظمة منسقة مدروسة دراسة دقيقة إذ تحطم عدد كبير من سفنها في أثناء محاولة قطعها البحر من الجانب المصري إلى الساحل العربي المقابل له، لعدم ملاءمتها لمثل هذه المهمة التي أوكلت إليها، وبعد مشقات وأهوال وصلت السفن السالمة بعد خمسة عشر يومًا إلى "لويكة كرمة"، تحمل على ظهرها جنودًا منهوكين من قطع البحر على سفن لم تكن ملائمة لمثل هذا النقل، وقد عزا "سترابون" هذه الخسارة التي لحقت برجال الحملة إلى "صالح" Syllaeus الذي غش -على زعمه- القائد، فأعمله بتعذر الوصول من البر، لعدم وجود عدد كاف من الجمال، ولعدم وجود طرق برية صالحة لمرور هذا الجيش1.
والذي أراد بذلك إضعاف الرومان وإذلالهم، وإضعاف القبائل ليكون سيد الموقف فيدبر الأمور بنفسه، ويكون السيد المتصرف وحده في الأمور2.
ولما وصل "أوليوس غالوس" بجيشه إلى ميناء "لويكة كومة"، كان المرض قد فتك به، لأسباب عديدة منها فساد الماء والطعام، وسوء الغذاء فاضطر إلى قضاء الصيف والشتاء فيه، حتى استراح الجيش وتعافى من المرض الذي ابتلي به.
ويظهر أن الرومان كانوا قد هيمنوا على هذا الميناء أمدًا، أو احتلوه إذ ورد في الأخبار أنهم وضعوا فيه حامية رومانية Centurio، لحماية السفن من لصوص البحر. ولحماية الطرق البرية من قطاع الطرق واللصوص في البر. كما أنهم أنشئوا لهم فيه دائرة لجباية المكس من السفن والتجار، وقد تقاضوا ما مقداره "25%" من أثمان البضائع التي تدخل الميناء3.
وميناء "لويكة كومة"، ميناء النبط الأعظم، منه تنقل البضائع الواردة بطريق البحر إلى "بطرا" "بترا" PETRA ومنها إلى موضع "رينوكولورا" RHINOCOLURA في "فينيقية" على مقربة من مصر، ثم إلى الشعوب الأخرى.
__________
1 Strabo, XVI, IV, 23, J. Plrenne, Le Royaume, Sud-Arabe de Qataban et sa Datation, (1961) , 93-124
2 Strabo, XVI, IV, 24
3 Sprenger, Alte Georgr., S., 28(3/45)
ومنه أيضًا إلى سواحل مصر على البحر الأحمر حيث تنقلها القوافل إلى نهر النيل، ثم إلى الإسكندرية1. فهو ميناء مهم لتصدير التجارات، واستيرادها في أرض النبط.
وميناء Leulke Kome "لويكة كومة" هو "الحوراء" أو "ينبع" على ساحل الحجاز، وقد كان من الموانئ المهمة في تلك الأيام2. وسوف أتحدث عنه في موضع آخر من هذا الكتاب.
وقد ظن "أوليوس غالوس"، أنه سيلاقي من العرب مقاومة شديدة في البحر، لذلك قرر بناء أسطول قوي يتألف من ثمانين سفينة كبيرة محاربة ومن عدد من السفن الخفيفة، وشرع بإعداده في ميناء "قفط" "قفطس" بـ Kleopatris على قناة النيل القديمة، ولما تبين له من الاستخبارات، أن العرب لم يكونوا يملكون أسطولًا، وأنهم لا يستطيعون مقاومة الرومان، أسرع فنقل جيشه على ظهر "130" سفينة نقل إلى ميناء "لويكة كومة" وكان في هذا الجيش الذي بلغ عدده عشرة آلاف محارب، ألف من النبط و "500" من اليهود3.
وفي ميناء "لويكة كومة" تجمع جيش الحملة، ومنه تقدم "أوليوس غالوس" نحو اليمن، فدخل أولًا أرضًا لم يذكر "سترابون" اسمها، وإنما ذكر أنها كانت أرض ملك يدعى Aretas أي "الحارث" وكان من ذوي قرابة "عبادة" Obadas ملك النبط، وقد استقبل الرومان استقبالًا حسنًا، ورحب بهم، ومنها سار في أرض وعرة قليلة الزرع والأشجار مدة ثلاثين يومًا إلى أرض مأهولة بالأعراب تدعى "أرارين" "عرارين" Ararene، عليها ملك اسمه Sabos قطعها "غالوس" في خمسين يومًا حتى بلغ مدينة تدعى "نجراني" NEGRANI، ومنطقة خصبة مزروعة آمنة، هرب ملكها، وأخذ الرومان مدينته، وبعد مسيرة ستة أيام عنها بلغ نهرًا جرت عنده معركة خسر فيها المهاجرون عشرة آلاف رجل. أما الرومان فلم يخسروا غير رجلين، ومرد ذلك في زعم "سترابون" إلى تفوق الرومان في أساليب القتال وفي عدد الحرب التي لديهم،
__________
1 Strabo, XVI, 24
2 Arabien, S., 4, 29, 44
3 Araber, II, S, 49. F(3/46)
في حين تعوز أصحاب الأرض المالكين الخبرة في القتال، والتمرين في استعمال ما عندهم من أسلحة تتألف من السهام والرماح والسيوف وآلات القذف والفئوس ذوات الرأسين.
وأعقب هذه المعركة سقوط مدينة "أسقه" Asca، التي سلمها الملك، ومدينة "اترله" ATHRULA التي سلمت من غير مقاومة، فوضع فيها حامية، واشتغل بجمع الحبوب والثمر. ثم توجه إلى مدينة Marsybae= Marsiaba، مدينة الـ Rhammanitae الخاضعين للملك llassarus وقد حاصرها ستة أيام ثم دخلها، غير أنه تركها لقلة المياه فيها1. وعلم من الأسرى أنها تبعد مسيرة يومين فقط عن أرض التوابل، وكان هذا الموضع آخر ما بلغة الرومان في الجنوب2. وقد قطع الجيش الطريق بين "لويكة كومة" ومدينة Marsiaba في أشهر أما في عودته، فقد قطعها في مدة أقل من هذه المدة بكثير، فبلغ مدينة Negrana في تسعة أيام، وهناك نشبت معركة بين الرومان والعرب، وغادرها "أوليوس غالوس"، فبلغ بعد مسيرة أحد عشر يومًا موضعًا يعرف بـ"الآبار السبع" لوجود آبار فيه. ثم قطع بادية فوصل إلى موضع Chaalla وموضع آخر يدعى Malothas يقع على نهر، وقطع بادية أخرى، قليلة المياه وانتهى إلى قرية3 Egra من قرى أرض "عبادة" Obadas وتقع على ساحل البحر. وقد قطع هذه المسافة كلها في ستين يومًا، ومن مدينة Egra = negra عاد "أوليوس غالوس" برجاله إلى مصر، فبلغ "ميوس هورمس" Myus Hormus في أحد عشر يومًا، وسار بمن بقي من رجال هذه الحملة على قيد الحياة، من هذه المدينة على ساحل مصر الشرقي إلى مدينة "قفط" Captus = Koptus ومنها إلى الإسكندرية4.
نرى من خير "سترابون" عن حملة "أوليوس غالوس" أن أول موضع نزل فيه الجيش الروماني في بلاد العرب، وهو فرضة "لويكة كومة" ففي هذه
__________
1 Strabo, XVI, IV, 24, "Marsiaba", Sfclzze, n, S.; 48
2 Strabo, XVI, IV, 24
3 وقرأها بعضهم "نيرا" nera و Egra وغير ذلك لاختلاف النسخ. راجع:
وStrabo, vol, III, P. 212, "Bohn's classical Library", note "I, Glaser: Skizze: 11, S. 48, Pliny, VI, 159-162
4 Srtabo, XVI, IV, 24, Die Araber, 1, 97(3/47)
الفرضة أنزل الجيش، وفيها استراح، ومنها اتجه في سيره لتحقيق الغاية التي من أجلها جاء، وأما الميناء الذي أبحرت منه هذه الحملة المخفقة، فكان ميناء "أكرا" Egra أو "نيكرا" NEGRA "نيرا" Nera NERACOME NeGra KOME بحسب اختلاف القراءات. ويرى "فورستر أن Nera أو Negra هي "ينبع" الفرضة الشهيرة وفيها عيون عذاب غزيرة1، وهو الميناء الثاني في الحجاز في الزمن الحاضر، وميناء "المدينة"2، ويرى أن كلمة "نيرا" اليونانية تعني "ينبع" في العربية، ولذلك يعني Nera Kome في العربية "مدينة ينبع" وأن Nera Kome التي أبحر منها اليونان هي ينبع، لا مكان آخر في رأي هذا الباحث3، وأما "كلاسر" فلم يتأكد من موضع Egra، أما "شبرنكر" فيرى أنه "عويند" الواقع على خط عرض "27" درجة وخمس ثوان4، وأما "فلبي" فيرى احتمال كونه "مدائن صالح"5 وهو رأي يتعارض مع قول "سترابون" أن Egra هي في أرض "عبادة" وعلى ساحل البحر. ومنها أبحر رجال الحملة إلى مصر6.
ويذهب البعض أن قرية Egra هي "الحجر" وهي بعيدة بعض البعد عن ساحل البحر. ويرى أنها كانت متصلة بميناء عرف باسمها أيضًا، كما أن ميناء "مدين" عرف باسمها أيضًا، ويرى أنه "الوجه" في الوقت الحاضر7.
وبزعم "سترابون" أن الإصابات التي أصابت الرومانيين، إنما هي من الأمراض والأوبئة ومشقات الطرق، أما من المعارك فلم يتكبدوا فيها إلا سبع إصابات8. وفي زعم "سترابون" المذكور مبالغات ولا شك، إذ كيف يعقل عدم تكبد الرومان خسارة ما، مهما قيل في تنظيم الجيش وحسن تدريبه؟ وقد أشار في كلامه على إحدى المعارك، والتي هاجم فيها العرب والرومان، إلى
__________
1 البلدان "8/ 526"، فؤاد حمزه "ص 46، 72، 73، 95" ومواضع أخرى.
2 حافظ وهبة "ص 16 ومواضع أخرى".
3 Forster, II, P., 293
4 Glaser, Sklzze, II, B., 63
5 Philby, Backround, P., 101
6 Strabo, HI, P., 213
7 Die Araber, 1, 97, W. W. Tarn, in: Journal Egypt. Archeol. 15, 1929, 17
8 Strabo, XVI, IV, 24, Vol., m, P., 213(3/48)
أنهم تكبدوا عشرة آلاف قتيل على حين خسر الرومان قتيلين اثنين فقط1، وفي هذا القول وحده ما فيه من مبالغة ظاهرة.
لم يذكر "سترابون" -وهذا أمر يؤسف عليه جدًّا- من أسماء المواضع التي مر بها الرومان، أو من أسماء القبائل التي اتصلوا بها، أو اصطدموا بها، غير ما ذكرت، وهو شيء قليل جدًّا، لا يتناسب أبدًا مع أهمية تلك الحملة التي قضت أشهرًا في بلاد العرب، خاصة إذا ما تذكرنا أن الرجل كان سائحًا وكاتبًا وجغرافيًّا ومؤرخًا، وكان صديقًا لقائد الحملة، ومدافعًا عنه، وقد كان نفسه من المشاركين في الحملة، في رأي بعض الباحثين2. وما ذكره في الجملة عن بلاد العرب، ويدل على أن معارفه عن جزيرة العرب محدودة، وقد استقاها من كتب من تقدمه من المؤلفين أو من السياح والملاحين والتجار من غير تدقيق أو نقد، وأعتقد أن أقدامه لم تطأ أرضًا في جزيرة العرب، وليس هنالك من شاهد يثبت اشتراكه في هذه الحملة، ولست أعتقد أن لدى القائلين باشتراكه فيها دليلًا قويًّا يثبت ذلك الرأي. ولعله نقل ما قصه عن الحملة من تقرير قدمه إليه صديقه "أوليوس غالوس" أو أحد الذين اشتركوا فيها.
وترتب على قلة أسماء المواضع التي ذكرها "سترابون" في خبر هذه الحملة صعوبة إدراك الطرق التي سار عليها "أوليوس غالوس" إلى موضع وصوله Marsiaba، وهو آخر ما وصل إليه، ثم الطرق التي سلكها في رجوعه حتى موضع إبحاره إلى مصر، وأبرز اسم بين هذه الأسماء التي ذكرها "سترابون":
Negrani = Negrana أي "نجران" في رأي أكثر الباحثين3.
وبين "لويكة كومة" و "نجران" مواضع كثيرة، وأرضون واسعة، لم يذكرها "سترابون"، وكل ما ذكره هو أن الجيش دخل بعد تركه ميناء "لويكة كومة" أرض ملك يعرف بـ"الحارث" Aretas ثم أرضًا يقطنها الأعراب، وهي صحراوية في الأكثر، تعرف باسم "أراربن"4 Ararene،
__________
1 Strabo, XVI, IV, 24, Glaser, SMzze, 11, s.; 50
2 O'Leary, p. 75
3 Glaser, Skizze, n, 48, O'Leary, P. 78; Beltrage; a 31
4 Strabo, XVI, IV, 24, VOL., m, P., 212(3/49)
وقد ذهب "الحارث" إلى ربه، وذهب معه "سترابون" فأي أرض قصدها صاحب خبر هذه الحملة التي تعود إلى "الحارث"؟ وأي أرض هي Ararene؟ لقد ورد في الكتب الإسلامية اسم قبيلة تعرف بـ "بني الحارث بن كعب"، وذكرها الهمداني وذكر مواضعها1، وتقع شمال "نجران" إلى وادي تثليث، ويرى "كلاسر" أنها الأرض التي قصدها "سترابون" وإن "الحارث" Aretas هو "الحارث بن كعب"، وهو كناية عن جد هؤلاء الذين أصبحوا في الإسلام يسمون "بني الحارث بن كعب"2.
وأرى أن Aretas هو اسم ملك كان يحكم منطقة نزل فيها الرومان، وأنه رجل كان حقًّا من ذوي قرابة "عبادة" ملك النبط، وأن الرومان عرفوا اسمه ولم يعرفوا اسم أرضه الواسعة فنسبوها إليه، فقالوا: أرض Aretas كما يقول العوام في العراق عن نجد والمملكة السعودية، "أرض ابن مسعود" أو "قيعان ابن مسعود"3 أو كما يقولون حتى اليوم لأرض قبيلة من القبائل "أرض فلان" ويذكرون اسمه، لاشتهاره ولقوة شخصيته.
وقد ذهب "كسكل" إلى أن المراد بأرض Aretas "الحارث" مملكة لحيان، وقد كانت هذه المملكة لا تزال -على رأيه- قائمة في هذا العهد، فجاء إليها الرومان وذهبوا منها نحو الجنوب في اتجاه اليمن، غير أن بعض الباحثين يعارضون رأيه هذا؛ لأنهم يرون أن مملكة لحيان لم تكن قائمة موجودة في هذا الوقت، أي في حوالي السنة "25 ق. م"4.
ويرى "كلاسر" أن Ararene، هي "عراعران" "عراعرين"، وهو موضع ذكره "الهمداني" في كلامه على "سروم" من ديار جنب قبل "القرحاء"5 وأن Sabus هو تحريف "شعب" أي قبيلة، وإما النهر. الذي نشبت عنده معركة قتل فيها على زعم "سترابون" عشرة آلاف قتيل، فهو "غيل الخارد" في الجوف6. وعلى هذا يكون الروماني قد دخل الجوف وسار إلى مدن Nescus
__________
الصفة "ص 116".
2 Glaser, Skizze, II, S,, 52
3 ينطقون القاف، "كاف" أعجمية ك.
4 Die Araber, I, S. 96, Caskel, Liyan, S. II. f
5 الصفة "ص 115".
6 GLaser, skizze, II, II s, 55, 61(3/50)
Aska= Asca= Nesca، وهي "نشق" المعينية القديمة. و Atroula و1 Marsiaba Athrulla، والجوف هو موطن المعينيين فلما غلبهم السبئيون على أمرهم، أصبحت السيادة عليه لسبأ قبل مدة طويلة من وصول الرومان إليه، ويظهر أن السبئيين كانوا يتصورون أن الرومان يسلكون الطريق التي هي إلى الغرب. فلما سمعوا أنهم سلكوا طريقًا تقع إلى الشرق، أسرعوا إلى الجوف، لمنعهم من الزحف إلى العاصمة، ويرى "كلاسر" أن الرومان سلكوا في مسيرهم إلى اليمن طريقًا تقع على حافات "السراة" الشرقية، وذلك ليتجنبوا الاحتكاك بالقبائل الساكنة على الطريق التجارية التي تسلكها القوافل التجارية2. ويعارض رأي "شبرنكر" الذي يذهب إلى أنهم سلكوا طريق وادي إضم إلى المدينة "ومنها إلى نجد فالفلج" ومنه إلى نجران3، أما "فورستر"، فيرى أن الرومان بعد أن نزلوا "لويكة كومة"، وهي في نظره "الحوراء" سلكوا طريق "يثرب" ثم اتجهوا إلى "القصيم" حيث دخلوا قلب نجد، ثم عقبوا بعد ذلك الطريق المؤدية إلى اليمن، فساروا في اتجاه نجران، ومنها دخلوا اليمن، فاصطدموا باليمانيين على نحو ما قصه علينا "سترابون" و"بلينيوس"4. ولما عادوا سلكوا طريقًا أخرى أقصر. وفرت عليهم بعض الزمن، مروا بنجران، ومنها إلى "الآبار السبع" "العيون السبع" وهي "الحصبة"، وهو موضع يقع على مسافة "150" ميلًا إلى الغرب من نجران، ومنه إلى موضع Chaala، وهو "خولان" في بلد "خولان" ومنه إلى Malotha، وهو مدينة تقع على نهر وادي "ضنكان"5 ويرى أن Malotha هي "تبالة" ومن "تبالة" إلى "ينبع" حيث أبحر من بقي حيًّا من الرومان إلى مصر6.
وذكر "سترابون" أن موضع "الآبار السبع" إنما دعي بهذا الاسم لوجود
__________
1 Die Aratoer, II, S, 50
2 Glaser, SHzze, H, B., 62
3 Glaser, Skisae, H, S. 54
4 IbId,II, S, 50,Forster,n,P..303
5 وهو واد في أسافل السراة يصب في البحر. وهو من مخاليف اليمن، البلدان "5/ 442".
6 Forster. n, PP.. 328(3/51)
آبار فيه1. ومن الصعب جدًّا في الزمن الحاضر البت في موضع هذا المكان، أما "فلبي"، فيرى أنه أرض "خيبر" التي اشتهرت بكثرة مياهها، أو موضع "بيشة" وأما Makothas و Chaalla فيرى "فلبي" أنها موضعان غير معروفين، ويصعب تعيينهما في الزمن الحاضر2 وتفصل بين "الآبار السبع" و Chaala صحراء و Chaala قرية تليها قرية أخرى هي Malothas وتقع على نهر3.
ويرى "كلاسر" احتمال كون Chaalla، موضع "كهالة" أو موضع ما يدعى، بـ"حوالة" وهو -في نظره- موضع Achoali في تأريخ "بلينيوس"4 وأما Malothas، القرية التي تقع على نهر، فيرى أن من الصعب تعيين موضعها، ولكنها تقع على وادي "بيشة" على كل حال5. و"كهالة" موضع من المواضع المعروفة في اليمن، وبه مياه6 ولا يمكن أن يكون المكان الذي قصده "سترابون"؛ لأن ذلك المكان بعيد عن "الآبار السبع" وتقع "الآبار السبع" على مسيرة أحد عشر يومًا عن Negrana أي "نجران" فيقع مكان Chaalla إذن شمال "الآبار السبع" أي أبعد منه عن "نجران" فهو إذن من الأماكن التي يجب البحث عنها في الحجاز.
وسجل خير حملة "أوليوس غالوس" على اليمن باختصار رجل آخر مات بعد "سترابون" "المتوفى عام 24 ب. م" بمد قصيرة، وهو "بلينيوس" المتوفى سنة "79 ب. م"7، وقد أشار في مطلع حديثه عن الحملة إلى أن "أوليوس غالوس" كان الروماني الوحيد الذي أدخل محاربي "رومة" جزيرة العرب، وقد خرب مدنًا، ولم يرد ذكرها في كتب من تقدمه من المؤلفين
__________
1 Strabo, m, P., 212
2 PhUby, Backrouaa, P., 101
3 Strabo, HI, P., 212
4 Glaser, Sklzze, II, S., 63
5 Ibid,
6 الصفة "ص188، 201" البكري، معجم "482:، "طبعة وستنفلد".
7 H. Rackham, Pliny, Natural History, Vol.,I,P.,VII," " "Leob Classical Library"(3/52)
ولذلك ذكرها، وهي: Negrana و1NestusوNesca و2MAGUSUS و3Caminacus و4Labaetia و5Mariba التي يبلغ طول محيطها ستة، أميال و Caripta، وهي أبعد موضع بلغه "غالوس"6. أما "ديوكاسيوس" Dio Cassi، فيرى أن مدينة Adula هي آخر موضع بلغه الرومان7.
وNegrana، هي نجران كما ذكرت سابقًا، أما Asca و NESCA و Neska فمدينة "نشق" وتعرف اليوم بـ"البيضاء"8 وأما Magusum = Magusa فيرى "كلاسر" أنها قريبة من "مجزر"، وهو موضع يقع جنوب "البيضاء" أو "مجزع"، أو "مجزأة" 9، وأما "كروهمن" Grohmann فيرى أنها قرية "مجزرة" المعروفة حتى هذا اليوم، وهي في موضع ذي مياه، وقد كان مأهولًا وما زال. لذلك رأى أنه ذلك المكان الذي قصده "بلينيوس"10.
وأما Caminacum، فهو قريب من "كمنة" "كمنهو" الواردة في المسند، و"كمنا" في الزمن الحاضر11، ويقع شرق "البيضاء" وشمال شرقي "مجزر"12، وأما Caripeta فيرى "كلاسر" أن هذه التسمية قريبة من "خربة" العربية، وأن "بلينيوس" الذي أوردها إنما أراد إحدى المدن، التى كانت خربة في ذلك العهد13، ويذهب "فلبي" إلى الرأي أيضًا، ويرى
احتمال كون Caripeta موضع "خربة سعود" وذهب بعض آخر إلى
__________
1 "tAmnestrums", "sNestrum", "Nestum", Skizze, n, S., 56, 61; "Nestum"; Pliny; n, P., 458
2 "Masugum", Magusum", Glaser, Sklzze, II, S., 56, 61
3 Pliny, n., P., 458, "Caminacum", Glaser, Sklzze, II; B.; 56; 61. 4 "Labecias", "Labetia", "Labaetiam", Glaser, Sklzze, II, S., 56; 61; Pliny; II; t P.; 458
5 "Maribara", "Mariva", Skizze, S. 56, 61, Pliny, II; P. 458
6 Pliny, H, P., 458. f., Bk. VI, 160
7 Glaser, Skizze, n, 8., 56
8 Glaser, Skizze, II, S., 61, Beltrage, S., 31
9 Glaser, Skizze, II, 61, Beitrage S. 31
10 Beitrage, S., 15
11 الصفة "167"
12 Glaser, Skizze, II, 61, Beitrage, 8. 31
13 Glaser, Skizze, S., 58(3/53)
إنها موضع "حريب" ويسمى بـ"أساحل" في "رغوان"1.
ويرى "شبرنكر" أن Labetia أو Labecia إنما هي "لقبق". أما "كلاسر"، فيرى أنها "لوق"، وهو موضع خربة في "شحاط" عند جبل "قدم" على مسيرة ساعتين من شمال شرقي معين، أو قاع "لبة" غرب البيضاء2، وأن Nestum هي "نسم"3، أو "وادي وسط"، الواقع بين الحب والجوف، أو "وادي وسطر"4 أو "نشان" "نشن"، المدينة المعينية القديمة5، أن Marsiaba، أو Mariva، إنما هي Mariba لدى "سترابو" أي "مأرب" في رأي بعض الباحثين، أما "كلاسر" فيرى أن الرومان لم يتمكنوا من الوصول إلى مأرب، وأن MARSIABA, أو MARIVA أو MARIABA، لا يقصد بها مأرب عاصمة سبأ، وإنما هي موضع آخر في الجوف6، فلو كانت هي عاصمة سبأ، لما ذكر "سترابون" أنها عاصمة شعب يعرف باسم Rhamanitae كما يحكمه ملك، يسمى llasaros وفي ذلك دليل عى أنها مأرب أخرى، لا مأرب السبئيين7.
وllasaros من الأسماء العربية، ولا شك، وقد صحف على ما يظهر، فصار بهذا الشكل. والظاهر أنه "الشرح" "اليشرح" في الأصل, وقد رأينا أن عددًا من ملوك العرب، الجنوبيين عرفوا باسم "الشرح"، وقد يكون سيد قبيلة من القبائل الكبيرة، اسمها Rhamanitae على حد قول "سترابون".
ولسنا نعلم على وجه التحقيق من هم Rhamanitae الذين كان يحكمهم "الشرح" وقد رأى "فلبي" احتمال كونهم "ردمان" أو "ريمان"8.
وإذا أخذنا بهذا الرأي، وجب القول إن Marsiaba هي مدينة أخرى، لا "مأرب" عاصمة سبأ كما ذهب "فلبي" إلى ذلك و "ردمان" من الأسماء المشهورة
__________
1 Philby, Sheba's P. 10, BeltrSge, S.31
2 Glaser, Skizze, II, S. 61, Beltrfige, S.31
3 الصفة "167"
4 Glaser, Skizze, n, S., 62
5 Beltrfige, s. 31
6 Glaser, Skizze, s., 58
7 Glaser, Skizze, s., 62
8 Phily, Background, P,98(3/54)
المعروفة. وقد ورد في الحديث: "أملوك ردمان"، أي مقاولها1، وقد ورد اسم "ردمان" في مواضع عديدة في كتاب "صفة جزيرة العرب"2. كما أن "ريمان" من الأماكن الشهيرة كذلك وهو مخلاف باليمن وقصر3. وأما "كلاسر" فقد سبق أن ذكر جملة أسماء تحتمل في رأيه أن تكون لها علاقة باسم هذه القبيلة, وهو يرى أيضًا احتمال كون الاسم Rambanitae بدلًا من Rhamanitae، وأما الأسماء التي ذكرها، فهي: "رغوان"، و"رابن" "رأبان" "ربان" و "رحبة" "رحابة"، و"ريمان" و "غيمان" و"ردمان"4، أما "رابان" "ربان" و "ردمان"، في أسماء القبائل أيضًا، ويرى أن موضع "ردمان" هو إلى الجنوب من الأماكن التي بلغها الرومان، ولذلك استبعد اسم "ردمان" من هذه الأسماء، ثم استبعد كذلك "غيمان" و "ريمان"
و"رحبة" أيضًا"، فلم يبق لديه من هذه الأسماء إلا "رغوان" و "رابن" "رابان". أما موضع "رغوان" فيرى أن مكانه ملائم تمام الملاءمة، إلا أنه لم يثبت عنده أنه اسم قبيلة، فرجح اسم "رأبان" عليه، وهو اسم قبيلة ورد في نصوص المسند، ورد مثلًا في نص5: "Glaser 302" ويعود إلى أيام "ملوك سبأ" وكانوا من المعاصرين لمملكة "سمعي"، ويرى أن الرأبانيين كانوا قد حافظوا على استقلالهم، فكانت لهم مملكة في أيام "أوليوس غالوس" والظاهر، أنها حلت محل "سمعي" غير أن هذا لا يعني أنها كانت مملكة بالمعنى المفهوم، بل كانت مشيخة أو إمارة يتمتع ساداتها بلقب "ملك"، وكانت تابعة لمملكة "سبأ وذي ريدان"6.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن llasaros هو "الشرح يخضب" وكان إذ ذاك في نزاع وصراع مع "ذي ريدان" أي الحميريين الذين كانوا قد ظهروا للوجود، وأخذوا ينازعون الأسرة السبئية الحكم منذ حوالي سنة "100 ق. م" وذلك في عاصمتهم "ظفار"، ومن مقرهم في حصن "ريدان" فكان غزو
__________
1 منتجات "ص 76" البلدان "4/ 244".
2 الصفة "55، 80، 93، 94، 95، 102، 103، 107، 109، 135".
3 البلدان "4/ 351"، الصفة "71، 75، 100، 125، 224".
4 Glaser, Skizze, H, S., 59
5 Glaser, Skizze, II, S., 59
6 Glaser, Skizze, II, S., 60(3/55)
"أوليوس غالوس" لليمن في وقت ملائم جدًّا للرومان، ولكن ظروفًا أخرى عاكستهم فاضطرتهم إلى التراجع والعودة فتمكن بذلك "الشرح" من التغلب على خصومه1.
وقد ذهب "فون وزمن" إلى أن مدينة Marsaiba / Marsiaba هي "مأرب"، وقد حرفت وتحولت من Marsaiba، حتى صارت على الشكل المذكور، وقد ذكر "سترابون" أن "أوليوس غالوس" حاصرها مدة ستة أيام، ثم رفع الحصار عنها لقلة مياه الشرب، واضطر بذلك إلى التراجع2.
وأما شعب Rhamanitai / Ramanitai فإنه "ريمان" وريمان قبيلة عربية ورد اسمها في عدد من كتابات المسند، ويرى "فون وزمن" أن الرومان أخطئوا في اسم الشعب؛ وذلك لأن قيلًا من أقيال هذه القبيلة كان هو المدافع عن "مأرب" في ذلك الزمن وقد سمعوا باسمه، فظنوا أن ريمان اسم أهل مأرب، ولذلك جعلوا "مرسيابة" عاصمته وصيروا llassaros ملكًا من ملوكهم من جراء وقوعهم في هذا الوهم3.
وذهبت "بيرين" Pirenne إلى أن Marsiaba والصور الأخرى للكلمة، إنما حدث من تحريف وقع في اليونانية، وأن الأصل "مأرب سبأ"، فحرفها اليونان إلى Marsiabe وقد استدلت على صحة رأيها بما ورد في المؤلفات العربية "من مأرب سبأ"4.
وقد ذكر "بطلميوس" شعبًا سماه Rabanitai أو Arabanitai تمتد مواضعه إلى جبل Klimax أي الجبل المدرج، والظاهر أنه يقصد سلسلة "السراة" التي يعمل الناس فيها مدرجات لغرس الكروم، وغيرها، وذكر بعدهم شعبًا آخر هو Masnitai يرى "كلاسر" إنه"مأذن"، ويسكنون في أعالي "الحارد" أي في جوار "رأبان"، وهو يطابق قول "بطلميوس" وواقع الحال5.
__________
1 BeitrSge, S. 33
2 Beitrage, B., 32
3 Beltr&ge, S., 34
4 Die Araber, n, S., 50, Le Royaume Sud Arabe de Qataban et sa Datatlon, 1961, 112.
5 Glaser, Skizze, II, S., 60(3/56)
وقد وردت جملة كتابات ذكرت اسم "ريمان" منها كتابة من أيام "الشرح يحضب"، وقد تبين من تلك الكتابات أن "آل ريمان" كانوا من الأسر المعروفة في هذا العهد، ومنهم من تولى مناصب دينية وحكومية، ولذلك رأى بعض الباحثين أنهم هم Rhamanitae الذين ذكرهم "سترابون" ويرون أن سترابو إنما سمى مدينة Marsiaba أي "مأرب" بمدينة الـ Rhamanitae؛ لأن الذي حارب الرومان وقاتلهم ودافع عن المدينة قائد "ريماني"، أي من "ريمان" فظن "سترابو" أنها مدينة من مدنه فنسبها إليه1.
ومن طريق "صراوح" تراجع "أوليوس غالوس"، على طريق "أترلة" Athrulla إلى "نجران" سالكًا وادي مذاب، ثم "وادي دماج"2. أما "الآبار السبع" التي ذكرها "سترابون" فتقع، في رأي "كلاسر"، في "عسير" وأما موضع "Chaalla"، فهو "كهالة" أو "حوالة" ومنه إلى Malothas الواقع على نهر، لعله "وادي بيشة"، إلى موضع قفر، أوصلهم إلى تهامة عسير فالحجاز فمدينة Egra حيث أبحر منها إلى مصر3. وما ذكرته آنفًا عن تشخيص هذه المواضع التي ذكرها "سترابون" أو "بلينيوس" أو "ديو كاسيوس"، إنما هو مجرد آراء وحوس، لعدم وجود كتابات أو أدلة لدينا ترشدنا إلى تعيين تلك المسميات على وجه مقنع صحيح.
وقد ذهب "ديو كاسيوس" Dio Cassius إلى أن مدينة Athrula / Athulula / Athoula كانت آخر موضع بلغته جيوش "أوليوس غالوس" في العربية الجنوبية، وهو يخالف بذلك "بلينيوس" الذي ذكر أن مدينة CARIPETA/ هي آخر المواضع التي بلغها جيش الرومان، ومدينة ATHRULA/ ATHLOULA/ ATHLULA. هي مدينة "يثل" على رأي بعض الباحثين الذين يرون أن الروم حرفوا الاسم العربي حتى صيروه على الشكل المذكور ليستقيم لذلك مع لسانهم4.
ولم ترد في النصوص العربية الجنوبية إشارة ما إلى غزو قام به الروم أو غيرهم لبلاد العرب، وقد تساءل "كلاسر" عن سبب سكوت المساند وعدم إشارتها
__________
1 Philby, CH 322, 432, 512, Rep. Epig. 2742, 2743, Bettrage; S.; 34
2 الصفة "82، 83، 114"
3 Glaser, Skizze II, S., 63
4 Beitrage, S., 32, Die Araber, II, S., 50(3/57)
إلى حملة "أوليوس غالوس"، هذه الحملة المهمة التي لا بد أنها قد تركت أثرًا بعيدًا في نفوس السبئيين وغيرهم من القبائل الساكنة في اليمن والحجاز، ورأي احتمال كون المراد من حملة "ذشامت" "ذشمت" الواردة في النص Halevy 535 الرومان المسيطرين على الشأم، وجملة "ذيمنت" السبئيين1. وعلى ذلك يكون هذا النص كما يقول قد تعرض لخبر الحرب التي نشبت بين الرومان والسبئيين أما أنا فأستبعد جدًّا هذا الرأي، بل هذا الاحتمال وأري أن الجواب عن هذا السؤال هو أننا لم نعثر حتى الآن على جميع المساند، فنذهب إلى أمثال هذه الفرضيات، وما عثرنا عليه هو شيء يسير بالقياس إلى ما قد يعثر عليه في المستقبل، ولا سيما إذا ما علمنا أن هذه المساند إنما عثر عليها على ظاهر الأرض، وأن العلماء لم يقوموا بحفريات علمية في أعماق الأرض، ولنا وطيد الأمل بالعثور على كتابات كثيرة مطمورة تحت الأنقاض، قد تأتي لنا بوثائق خطيرة عن تأريخ العرب الجنوبيين، وقد تضع بين أيدينا أصول مكاتبات ومعاهدات ووثائق على جانب كبير من الأهمية، كما يحدث في سائر الحفريات والتنقيبات، وإذ لم يقم العلماء حتى الآن بحفريات علمية على نطاق واسع، فلا داعي إذن لإثارة سؤال في الزمن الحاضر كهذا السؤال.
لقد ظن "هاليفي" أن الحظ سيسعده في أثناء سفره إلى اليمن، فيظفره بآثار تشير إلى تلك الحملة الرومانية المخففة، غير أن الحظ لم يحالفه، ولم يكتب له التوفيق. كذلك لم يكن الحظ حليفًا لـ "فلبي" ولا لغيره من السائحين2.
فلم يستطع أحد منهم حتى الآن الاهتداء إلى كتابة عربية أو أعجمية أو أثر يشير إلى تلك الحملة المشئومة حملة الرومان، للاستيلاء على العربية السعيدة على أرض الطيب واللبان والمر والبخور.
وأشار "سترابون" إلى أن أرض الطيب والبخور، تتألف من أربعة أقسام، هي: Minaei أي معين، ومدينتهم الكبرى هي: Carna أو Carnan و Sabaea وهم سبأ وعاصمتهم هي: Mariaba و Chattabanae وهو "قتبان" وعاصمتهم Tamna وتقع بلادهم على ساحل البحر العربي،
__________
1 Glaser, Skizze, II, S. 65
2 Phillby, Background, P. 32(3/58)
و Chatramotita، وهم حضرموت وعاصمتهم Sabata، وهم أبعد هذه الشعوب إلى الشرق1. وقد نقل "سترابون" كلامه من "ايراتوستينس" الذي عاش قبله كما هو معلوم2, فهو يتحدث إذن عن الحكومات الكبرى التى حكمت العربية الجنوبية، وعن الشعوب التي وصل علمها إلى مسامع اليونان والرومان.
وتطرق "سترابون" بشيء من الإيجاز إلى الناحية الاجتماعية التي كانت عليها اليمن في ذلك العهد، فذكر أن الحياة كانت طبقات لكل طبقة واجب ووظيفة، وراثية تنتقل من الآباء إلى الأبناء. فهناك طبقة المحاربين ووظيفتهم الدفاع عن الطبقات الأخرى، وطبقة المزارعين وشغلهم تهيئة القوت والطعام لإعاشة سائر الشعب، وطبقة ثالثة وظيفتها التجارة، والتجارة لا تنتقل من أسرة إلى أخرى، وعلى كل فرد أن يمارس حرفة أبيه3. وذكر أشياء أخرى يظهر أن طبيعة أكثرها من نوع قصص التجار والسياح، لا يعتمد على التدقيق والتمحيص.
ويظهر أن تلك الانتكاسة لم تؤثر في خطة "أغسطس" في السيطرة على البحار، إذ نرى "سترابون" المعاصر لهذا القيصر، يشير إلى أن الرومان كانوا يرسلون سفنًا إلى الهند، لم يتعودا إرسال أمثال عددها فيما مضى، كما عثر على نقود رومانية في الهند، وأقيم في ساحل "مالابار" معبد كرس باسم ذلك القيصر، مما يدل على وجود جالية رومانية فيه4. ويظهر أن أسطول الرومان كان قويًّا وقد استعمل سفنًا كبيرة، وضع فيها محاربين من رماة السهام ومن المقاتلين المدربين، بذلك تمكن من الوصول إلى الهند ومن الرجوع منها بانتظام وبحرية.
لم تصل إلينا أخبار مفصلة عن مشروعات الرومان في جزيرة العرب بعد هذه الحملة، والظاهر أنهم غيروا خططهم السياسية، وكيفوها تكييفًا جديدًا، يوائم التطور الذي حدث في الموضع العالمي في القرن الأول للميلاد، ويناسب الدروس التي تعلموها من حملتهم المخفقة المذكورة. فلم يفكروا في فتح عسكري مباشر
__________
1 Strabo, III, P. 190, 213
2 Strabo, III, P. 189
3 Strabo, III, P. 213
4 العرب والملاحة "ص75".(3/59)
لجزيرة العرب يكون متجهًا من الشمال للجنوب، مخترقًا الطرق البرية، بل رأوا تقوية أسطولهم في البحر الأحمر، وتحسين علاقاتهم السياسية بالإمارات العربية وبسادات القبائل، للمحافظة على مصالحهم الاقتصادية، وتوجيه أنظارهم نحو ساحل إفريقيا وحكومة الحبشة، فعقدوا اتفاقيات صداقة ومودة مع حكام "أكسوم"، وكونوا حلفًا معهم، وبذلك أخذوا يضغطون منذ ذلك العهد على السبئيين.
ويحدثنا صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" أن الرومان عقدوا معاهدة تحالف مع ملك "ظفار"، وهو ملك1Homeritae، وتدل هذه الإشارة الغامضة على وجود صلات بين الرومان وبين رئيس حمير في هذا العهد. وفي هذا التحالف ما فيه من شرح للعلاقات السياسية الجديدة التي حدثت بين الرومان والعربية الجنوبية، ومن محاولات الرومان، ثم البيزنظيين من بعدهم، التدخل في شئون البلاد العربية الجنوبية بأسلوب جديد.
ولا ندري متى احتل ميناء "عدن" الذي يسمونه Eudamon = Emporion والذي دعاه "بلينيوس" Athene = Athenae= Athaene إذ يحدثنا مؤلف "كتاب الطواف حول البحر الأريتري" أن "القيصر" Kaisar استولى عليه في زمن غير بعيد عن زمانه ودمره، وقد تصور بعضهم أن ذلك وقع في أيام "كلوديوس" "41 - 54م" أو قبلها بقليل3. ولعل لمساعدات "الأكسوميين" لحكام "رومة" فضلًا في هذا الاحتلال4. ولا بد أن يكون هذا الاستيلاء قد حدث من البحر. إذ لا يعقل وقوعه من البر، فقد كان البر في أيدي السبئيين والقبائل العربية الأخرى. وقد رأينا قبل قليل إخفاق الرومان في الاستيلاء على اليمن، ورجوعهم عنها خائبين. ولأهمية "عدن" من جميع الوجوه نستطيع أن نتصور أنهم قد حصلوا على فوائد عظيمة من هذا الاحتلال الذي لا نعرف منتهاه وخاتمته، وكيف حدثت تلك النهاية.
ويرى بعض الباحثين أن استيلاء الرومان على "عدن" كان بعد حملة
__________
1 Houranl, P., 32
2 Stuhimann, a, 12, Parola del Passato, 9 (1954) , 401, Araber; I; S.; 43
3 Araber, I, S., 43
4 Stuhlmann, S., 12(3/60)
"أوليوس غالوس" على اليمن، وربما بعد الميلاد بقليل، وذلك بعد إخفاق تلك المحاولة الرامية إلى بلوغ المحيط الهندي من البر والاستيلاء على العربية الجنوبية، تعويضًا عن تلك الخطة الخائبة، فنجح الرومان في الاستيلاء على الميناء من البحر، وذلك في حوالي السنة "24" بعد الميلاد، وهو زمن غير بعيد عن حملة "أوليوس غالوس"1.
وقد ذهب "مومسن" Mommsen، إلى أن الاستيلاء على عدن كان قد وقع في أيام "كايوس قيصر" Caius Caesar، إذ ورد في الأخبار أن أسطوله في البحر الأحمر، كان قد استولى على جزء صغير من بلاد العرب، فيحتمل على رأي "مومسن" أن يكون المكان الذي استولى عليه هو عدن، ويحتمل على رأيه أيضًا أن يكون هذا الاحتلال قد وقع قليل من هذا الوقت. بينما ذهب آخرون إلى أنه وقع في أيام "كلوديوس" Claudius، أو "نيرون" "نيرو"2Nero.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن القيصر المقصود هو "كركلا" "كركلا" Caraculla؛ وذلك لأنه كان قد هاجم العرب الـ"سكينيته" Scenites في أثناء الحروب الثانية التي أعلنها القيصر "سبتيميوس سويروس" Septimius Severus على "البارثيين" Parthians، "197- 199م" وذهب بعض آخر إلى أن في خبر مؤلف كتاب: "الطواف حول البحر الأريتري" بعض الوهم في تثبيت لفظة "قيصر" Kaiser؛ وذلك لأن العادة لم تكن قد جرت في ذلك الوقت بتلقيب ملوك "رومة" بلقب "قيصر" لذلك رأى أن في الكلمة تحريفًا، وإنها قد تعني شيئًا آخر. وقد يكون تحريف Elisar أو liaisar أي "الأشعر"، وهم ELISAROI عند "بطلميوس"3. ويرى من يذهب إلى أن المراد بـ Kaiser "اليزر" Elisar أي "الأشعر" "اشعرن"، أن الاستيلاء على ميناء "عدن" وتخريبه كان بعد إخراج الحبشة عن العربية الجنوبية، وأن أرض "الأشعريين" غير بعيدة عن عدن، لذلك فلا تستبعد مهاجمتهم لعدن
__________
1 Sanger, The Arabian Peninsula, P., 170
2 J. Oliver, Thomson, History ol Ancient Geography, Cambridge, 1948, P., 296
3 F. Altbeim, Geschichte der Hunnen, V, 1962, 8. 13, Die Araber; S. 42; Le Mus6on; 1964; 3-4. 480(3/61)
في وقت غير بعيد عن أيام مؤلف الكتاب، وأن المؤلف ذكرهم، ولكن تحريفًا وقع في الاسم فحوله إلى1Kaiser.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن لفظة Kaiser هي كلمة llisaro أو llasar المذكورة في خبر "سترابون" عن حملة "أوليوس غالوس"، وقصد بها "الشرح يحضب" وهو يرى أن ميناء "عدن" قد خرب في أبان حروب "الشرح يحضب" مع قتبان وحضرموت، وأن مؤلف ذلك الكتاب أراد "الشرح" llasar ثم حرف النساخ اللفظة حتى صارت2Kaiser.
وقد صار في إمكان السفن الرومانية بعد الاستيلاء على عدن الاستراحة فيها والإقلاع منها إلى الهند وإلى السواحل الإفريقية والعودة إليها، وقد وضع الرومان فيها حامية رومانية لضمان سلامة الرومان في هذه المنطقة، كما وضعوا سفنًا تحمل رماة من الرومان لمقاومة لصوص البحر من التحرش بالسفن، وقد كان أولئك اللصوص يملئون البحار3.
وفي عدن عند الـCrater "الكريتر" صهريج كبير لخزن الماء، من عهد ما قبل الميلاد على رأي بعض الباحثين، يتسع لزهاء عشرين مليون "غالون" من الماء، تأتي إليه من الأمطار، يظهر أنه استعمل في ذلك العهد لتموين هذا الميناء المهم بماء الشرب، لعدم وجود موارد كافية من الماء، تسد حاجة أهله به4.
وقد حصل ميناء "عدن" على شهرة بعيدة منذ هذا الزمن، وظل محافظًا عليها وعلى أهميته حتى اليوم، ولا ندري متى اضطر الرومان إلى ترك هذا الميناء، على وجه صحيح مضبوط, ولكن الذي نعرفه أن الرومان، ثم الروم من بعدهم، بقوا يقيمون وزنًا له، ويهتمون بشأنه؛ لأنه كان أسهل طريق لهم توصلهم إلى سواحل إفريقيا والهند والعربية الجنوبية، ولذلك كانت فيه دائمًا جالية كبيرة من أصحاب السفن والتجار، ولعل هذا الاهتمام هو الذي حمل القيصر "قسطنطين
__________
1 Le Mus6on, 1964, 3-4, P., 481
2 Beltrage, S., 88
3 Sanger, P. 170
4 Banger, the Arabian Peninsula, P. 208(3/62)
الثاني" على إرسال بعثة نصرانية تبشيرية إلى عدن، بلغتها سنة 356 للميلاد1. ويفهم من كلام مؤلف "كتاب الطواف حول البحر الأريتري" أن ميناء عدن Eudaimon Arabia كان الموضع الذي تقصده السفن القادمة من مصر ومن الهند، ففيه تفرغ حمولات تلك السفن لتنقل منها إلى مصر أو إلى الهند2. فميناء عدن كان ذا شأن خطير في التجارة العالمية إذ ذاك، وكان الموضع الذي تتبادل فيه السفن الحمولات.
وعرف ميناء عدن بـ Arabia Emporion عند "بطلميوس"3. وكان "أورانيوس" Uranius أول من سماه بـ "ادنه" Adana أي "عدن" وذلك كما جاء في كتاب "اصطيفانوس البيزنطي" الذي عاش في القرن الثالث بعد الميلاد4. وذكر اسم Adane في أخبار تنصر الحميريين في أيام القيصر "قسطنطين الثاني" "337- 361م"5 وقد سمي ميناء عدن بـ Athana عند "بلينيوس"6 وبـ Adana، وعند "فيلوستورجيوس"7 Philostorgius وكان قد خرب وتعطل أيام حملة "أوليوس غالوس"، فحل ميناء Muza على البحر الأحمر محله، ولكنه مع ذلك لم يفقد منزلته، وعادت إليه مكانته بعد مدة قصيرة من هذه الكارثة8.
وقد ذكر "بليني" بعد اسم "عدن" Athana= Athenae اسم قبائل جعل أرضها على مقربة من "عدن" فذكر اسم Chorranitae = Caunaravi و 9Chani = Cesani وفي هذه الأرضين، وجدت كما يفهم من أخبار "بليني" وغيره، مدن يونانية، سكنها يونان، منها: Arethusa و Larisa و Chalcis وهي مدن خربتها ودمرتها الحروب10.
__________
1 Sanger, P. 203
2 Beltrage, B. 88
3 Beltrage, 8. 89
4 Beitr&ge, S. 89
5 Phllostorg., Hist. Eccles., m, 5, Beitrftge, S. 89
6 Pliny, 6, 28, 32
7 PhUosotorglus. H. EccL, 3, 4, CLearly, P. 108
8 O'Leary, P. 96
9 Pliny, 6, 28, 32
10 Araber, I, s. 120(3/63)
ويظن بعض الباحثين أن المدن اليونانية التي أشير إليها، والتي ذكر "بليني" أنها خربت ودمرت بالحروب، هي من المستوطنات التي أنشأها وأقامها "البطالمة" على السواحل العربية، لإيواء السفن اليونانية والتجار والجنود الذين زرعوا في هذه الأماكن لحماية تجارة البطالمة والسيطرة منها على السواحل العربية وعلى البحار1. فلما ضغف أمر البطالمة، هاجمت القبائل العربية هذه المواضع واستولت عليها، فخربت تلك المدن، أو غلب عليها العرب، وتبدلت أسماؤها إذ تحولت إلى أسماء عربية.
وميناء Qena "قنا" الذي يقع على المحيط الهندي، كان أيضًا من الموانئ المعروفة التي يقصدها التجار في هذا الزمن فتصل إليه السفن للامتياز وللخروج منه إلى الهند، وشهرته هذه قديمة، ويغلب على الظن أنه ميناء "كنة" الذي ذكر مع "عدن" في سفر "حزقيال"؛ لأن القرائن تدل على أنه هو المقصود من الآية في هذا السفر: "حران وكنة وعدن تجار شبا وآشور وكلمد تجارك"2.
وقد ذكره "بلينيوس" في جملة الموانئ المقصودة التي كانت السفن الرومانية تصل إليها وهي قادمة من ميناء Berenice بمصر. وهذه الموانئ هي: Muza أي "موزع" عند "مخا" و Ocelis عند باب المندب، و Cane "قنا" الميناء الذي نتكلم عنه3.
وذكر مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" هذا الميناء أيضًا، كما ذكر ميناء Mousa= Muza وعدن و Ocelis = Okylis وقد ذكر أن هذا الميناء الأخير كان قرية. أما ميناء "قنا" "كنا" "كانه" Kany = KANA "كان" فكان في أرض الملك Eleazoz أي "العزيلط" ملك حضرموت، وذكر أن في مقابل هذا الميناء جزيرتين تسمى إحداهما جزيرة الطيور Ogneun، وتسمى الأخرى جزيرة "القباب"، والجزيرة الأولى هي جزيرة "سيخا" في الزمن الحاضر، وأما الثانية فهي جزيرة "براقة"4، وذكر
__________
1 15, "1929", II Araber, I, S., 121, W.W. Tarn, Journ. Egypt. Arch
2 BeltrSge, S. 88
3 Beltrage, S. 89
4 Beitrfige, S. 90(3/64)
مؤلف الكتاب المذكور أن اللبان والمر وبقية الأفاويه تحمل من منابتها إلى ميناء Kany وقد تحمل على وسائل النقل المائية المصنوعة من قرب منفوخة بالهواء، مشدودة إلى جذوع أو أخشاب بحبال تربط بينها، لتوصل تلك المواد الثمينة إلى الميناء المذكور، ثم توزع من هذا الميناء على التجار أو ترسل في السفن إلى الأسواق العالمية، كما ذكر أن السفن تذهب من هذا الميناء إلى الهند وإلى الخليج وتذهب منه إلى موانئ الساحل الإفريقي كذلك1.
وبعد أن كون "تراجان" ما يسمى بـ "المقاطعة العربية" "الكورة العربية" Provencia Arabaea في سنة "105م" أو "106م" أحدث تغييرات مهمة في الإدارة وفي طرق المواصلات وأصول الجباية، فأنشأ طريقًا مهمة من "أيلة" على رأس خليج العقبة مارة بالبتراء فبصرى إلى "دمشق"، وصارت "بصرى" محطة مهمة جدًّا للقوافل القادمة من اليمن والحجاز، وأصلح القناة القديمة التي تصل النيل بالبحر الأحمر، وقوي الأسطول الروماني، وأمده بسفن أحدث وأقوى من السفن القديمة، وذلك لمقاومة لصوص البحر وللسير بحرية في البحر الأحمر، ولاحتكار التجارة البحرية التي هي مصدر كل غنى وثراء2.
ولا تزال آثار الطريق الرومانية باقية تشاهد حتى اليوم، تشهد بأهمية الطريق وبحسن هندستها بالنسبة إلى ذلك الزمن، وهي تمر بمدن وقرى عديدة وتربط بينها: منها "أم الجمال"، وهو موضع مهم كان ذا أهمية خاصة في العهد الروماني، وفي أيام النبط، حيث عثر فيه على كتابات نبطية عديدة، وموضع "خربة سمرا" وهو موضع اشتهر في العهد الروماني وفي العهد البيزنطي الذي تلاه، وقد عثر فيه على آثار رومانية وبيزنطية ونبطية، ويظهر من مخازن المياه ومن آثار الآبار التي عثر عليها في هذا الموضع أنه كان مركزًا من مراكز تجمع القوافل التجارية، وموضعًا من مواضع تربية الماشية3.
وقد اكتسحت فتوحات "تراجان" مناطق واسعة من الشرق الأدنى، ويقال إنه وصل إلى جنوب العراق، وإنه دخل مدينة "كاراكس" "كركس" Charax وإنه نظر سفينة قاصدة الهند، فتحسر وتنهد؛ لأنه بلغ من العمر
__________
1 Beltrflge, S. 90
2 Basoor, N'um, 85,1943, PP., 3, 6
3 Basoor, Num. 85,1942, PP., 6(3/65)
مبلغًا لا يسعفه على ركوب تلك السفينة واستنشاق هواء ذلك البحر، وقد غبط الإسكندر الذي سبقه إلى هذا المكان بمئات من السنين، وكان أصغر منه سنًّا، فبلغ مبلغًا لم يصل إليه ملك هذا الإمبراطور1.
وقد كان على مقربة من "الرها" Edessa سيد قبيلة عربية اسمه "معنو" Ma'nu أي "معن" وكان يحكم العرب المجاورين. ولما طلب القيصر "تراجان" حضوره إليه لمكالمته لم يلب طلبه بالرغم من علامات الود التي أظهرها له. ذلك؛ لأن القيصر كان يشك في نياته، فخاف أن يقبض عليه، وتراجع إلى مواضع بعيدة، فاستولى الرومان على "سنجار" Singara وكانت تابعة له. وقد نزل العرب فيها واختلطوا بسكانها الأصليين2.
لقد كان البخور رأس بضائع العالم الثمينة المطلوبة في ذلك العهد، كان سعره يساوي سعر الذهب والبترول في هذه الأيام. ولم يكن يشتريه لغلائه هذا إلا رجال الدين، لاستعماله في الشعائر الدينية التي تستنزف القسم الأكبر منه، والملوك والأثرياء، وذلك لحرقه في المناسبات الدينية وفي اجتماعاتهم. ونجد المؤرخ الكاتب "بلينيوس" يشتكي من تبذير "نيرون" عاهل "رومة" "54- 68م" من إسرافه في حرق البخور واللبان لإجراء شعائر جنازة زوجه المتوفاة، فقد كلف حرق تلك المادة الضرورية في مثل هذه المناسبات خزينة ثمنًا باهظًا لارتفاع أسعارها في ذلك الزمن3.
وآخر ما يقال عن تدخل الرومان في شئون جزيرة العرب، هو أن القيصر "سبتيموس سفيروس" Septimus Severus، أرسل حملة عسكرية في سنة "201م" توغلت في "العربية السعيدة"، غير أن معارفنا عنها قليلة، فلا نعلم إلى أين وصلت وكيف انتهت4. ولعلها كانت قد تقدمت من "المقاطعة العربية" وهي المقاطعة الجديدة التي أوجدها الإمبراطور "تراجان" على حطام مملكة النبط. وكان الذي قاد الحملة العسكرية على "العربية السعيدة" Eudaimon Arabia ابن القيصر "سبتيموس سفيروس"5، وقد اشتهر فيها،
__________
1 العرب والملاحة "ص49".
2 Die Araber, I, S. 313
3 العرب والملاحة "ص75"
4 Stuhlmann, S. 12
5 Die Araber I, S. 44(3/66)
غير أن معارفنا عنها لا تزال قليلة، وقد وردت أخبار هذه الحملة في موارد لم تشر إلى اسم القيصر الذي أمر بتجريد تلك الحملة على "العربية السعيدة"، إذ اكتفت بذكر لفظة "قيصر" ويظهر منها أن جيوش القيصر أنزلت خسائر فادحة أولًا بالعرب الساكنين في البادية وقد دعتهم تلك الموارد بـ Skenitae أي "سكان الخيام" ويراد بهم الأعراب، ثم سارت تلك الجيوش حتى بلغت "العربية السعيدة"، وذلك في السنة "196- 198ب. م"، ولا نعلم إلى أي مدى وصل إليه القيصر أو ابنه في هذه الغزوات1.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "كره كالا" Caracalla الذي خلف والده "سبتيميوس سفيروس" Septimus Severus في الحكم، هو الذي قاد الجيش الروماني الذي زحف على العرب الساكنين في أعالي "العربية السعيدة" Arabia Eudaimon كما يسميها "بطلميوس"، وأنه في ذلك العهد كانت حروب "سبتيميوس" مع "البارثين" Parthians "197- 199م"2 ويرون أن الرومان لم يتوغلوا بعيدًا في جزيرة العرب، وربما كان أقصى ما بلغوه ديار ثمود3.
وفي كتاب "بحث في القضاء والقدر" Dialog Uber das Atom وهو المسمى أيضًا بـ"كتاب قوانين البلاد" Buch der Gesetze der Lander لـ"برد يصان" Bardesanes الذي عاش فيما بين السنة 154 والسنة222 للميلاد إشارة إلي أن الروم لما استولوا على العربية Arabia من عهد غير بعيد عن أيامه، أبطلوا قوانين أهلها البرابرة4. ويقصد بالبرابرة الأعراب على ما يظهر. ويظهر أنه قصد بذلك الحملة الرومانية المذكورة5, وفي تأريخ الإمبراطورية الرومانية أسماء رجال يرى بعض المؤرخين أنهم كانوا من أصل عربي، من هؤلاء "يوليا دومنا" lulia Domina و"يوليا ميا" Julia Maesa و "ايلاكيل"
__________
1 Die Araber, I, S., 44, II, 8., 62, Miller, In Cambridge
Ancient History, 12, (1939) , 9, 16
2 F. Altheim, Geschlchte der Hunnen, V, 1962, 8., 13
Die Araber, I, &, 42
3 Le Museon, 1904, 3-4, PP. 480
4 W. Cureton, Splclleglum Syrlacum, 1956, 30
5 Die Araber, I, 43(3/67)
Elagabal "218- 222م"، و "يوليا مامية" Julia Mammaea و "سيفيروس الكسندر" Severus Alexander "222- 235م" وكانوا في رأيهم من أسرة دينية عربية. أما "فليب" Philippus "244- 249م" الذي تولى عرش "رومة"، فقد عرف بـ"فليب العربي" وقد برز نفر من أسرة "الزباء" ملكة تدمر، ونالوا مراكز ممتازة في الإمبراطورية الرومانية1.
وقد سعى القيصر "سفيروس الكسندر" "سويروس الكسندر" للوصول إلى الخليج، وذلك في حروبه مع الفرس سنة "232م" وقد تمكنت بعض قواته الزاحفة عن طريق نهر الفرات من بلوغ "البطائح"، ولكنها جوبهت بمقاومة عنيفة من الفرس، حتى اضطرت إلى العودة من حيث أتت، ولم تتمكن من تحقيق هدفها المنشود2.
وحاول "فيليب العربي philipus Arabus جاهدًا الوصول إلى الهند والسيطرة على الخليج، غير أن الحظ لم يكن في جانبه في حروبه مع الفرس، واضطر إلى ترك ذلك المشروع الخطير3.
وقد انتهز الأعراب فرصة الكارثة التي نزلت بالقيصر "فاليريان" Valerianus "253- 260م"، بتغلب الفرس عليه، فأخذوا يهاجمون الخطوط الرومانية الدفاعية، ويباغتون مدنها، بغزوهم لها، مما حمل من جاء بعده من حكام "رومة" على تقوية الحصون وإعادة ترميم استحكاماتها، ومن هذه مدينة Adraha، وهي "درعه" "درعا" "الدرعة". لتصمد أمام غارات الأعراب التي تكاثرت عليها4.
وقد كون الرومان كتائب من الجنود العرب ألفوها لحماية الطرق وللدفاع عن حدودهم الطويلة المتصلة بالبوادي، وهي حدود يصعب على الجيوش النظامية حمايتها، ولذلك عمدوا إلى تكوين هذه الكتائب. ونجد في الكتابات "الصفوية" كتابات دونها أصحابها يذكرون فيها فرحهم وحمدهم لآلهتهم؛ لأنها ساعدتهم في فرارهم من الخدمة في الجيش الروماني، ورجوعهم إلى أهلهم سالمين، بعد
__________
1 Die Araber, I, 8., 4
2 Die Araber, n, S., 63, Herodlan, 6, 5, 2; 9-10
3 "Philip" The Arabians Porphyr., V, Plot., 3: Die Araber, n, S., 83
4 Die Araber, n, 8., 251(3/68)
أن قتل غيرهم في أثناء فرارهم على أيدي من كان يتعقبهم من عساكر الروم أو البيزنطيين لإجبارهم على الرجوع إلى ثكناتهم، والظاهر أن كثيرًا من هؤلاء كانوا من الجنود المرتزقة أو المسخرة التي أكرهت على الخدمة في الجيش. فنجد في إحدى الكتابات أن رجلًا اسمه "حنين بن حنين بن أياس" اتخذ سنة فراره من "نمارة السلطان"، مبدأ أرخ به، دلالة على أهمية تلك المناسبة بالنسبة إلى حياته، وذكر أنه شاد قبرًا على مرقد أخته "وبنى هرجم" "وبنى الرجم"، والرجم القبر، والظاهر أن "السلطان"، أي "سلطان" الروم تعبير عن حكومة كانت قد أقامت مركزًا أو حامية أو معسكرًا "نمارة"، وكان حنين أحد من كان في ذلك المعسكر ففر منه، وفرح لنجاته بنفسه، وتعبير "السلطان" من التعابير العربية القديمة التي لا تزال حية حتى اليوم1.
ونجد رجلًا اسمه "مغير بن محلم"، يؤرخ بسنة هرب رجل اسمه "جر" "جور" من "قصر نقات" "قصر نفأت" والظاهر أن "قصر نقأت" كان ثكنة من ثكنات الروم، وقد حشد فيها جمع من العرب لأداء الخدمة العسكرية للسلطات الرومانية، ففر منها "جور". وفي هذه السنة جاء "مغير" إلى قبور جماعة ذكر أسماءهم قتلوا فوضع رجمًا أي حجارة فوق قبورهم تعبيرًا عن تكريمه لذكراهم. وقد وردت في النص جملة "طر هسموي"، أي "طير السماء". وقد ذهب "ليتمان" E. LITTMANN إلى احتمال كون "طير" اسم رجل، وهو "هسموي" بمعنى "السماوي"، أي أنه نسبة إلى بادية السماوة، أو اسم موضع "سمه" "سامه" يقع جنوب شرقي "بصرى"2.
ونجد شخصًا اسمه "تيم ايل" يذكر في كتابة له هذه الجملة "ونفر من رم"، أي "ونفر من الروم"، و"نفر" بمعنى "فر" في الصفوية3.
ولم يذكر "تيم ايل" سبب فراره من الروم ولعله، كان من الكتائب العربية، ففر منها طلبًا للحرية والراحة والمعيشة مع الأهل، أو أنه كان قد غزا حدود الروم، فقبض عليه وسجن ففر من سجنه، ونجد رجلًا آخر يذكر أنه "نفر
__________
1 Enno Litimann. Safitic Inscrtpttons, Leyden, 1943, P. 140
وسيكون رمزه: safitic
2 safitic, P. 167
راجع الجملة الأخيرة من النص "87" المنشور في كتاب p. 19 Safitlc(3/69)
من الروم" وذلك في سنة ثلاث، ويقصد بسنة ثلاث. مرور ثلاث سنوات على تأريخ احتلال الرومان لبلاده، وقد وقع ذلك في السنة "105" أو "106" للميلاد، أي في عهد تكوين المقاطعة العربية وسقوط "بصرى" في أيدي الرومان على نحو ما ذكرت. فتكون إذن سنة هربه مساوية لسنة "108" أو "109" بعد الميلاد1.
وقد عبر شخص آخر عن هربه من الروم ورجوعه إلى أهله ناجيًا سالمًا بعبارة "ونجى من رم"، أي "ونجا من الروم"2. فيظهر أنه كان أيضًا في أيدي الرومان لسبب نجهله فاهتبل الفرص، وهرب منهم، ونجا بنفسه، حيث وصل إلى منزل جده، وأقام عنده يرعى ماعزًا له3. وأما "سواد بن يسلم"، فقد كان يشعر أن الرومان كانوا يراقبونه ويتعقبون آثاره لسبب لم يذكره، وقد عبر عن ذلك بقوله "وخرص ال روم" أي "وخرَّص الروم" بمعنى أنه راوغهم وخلص منهم، ولم يذكر سبب مراقبة الرومان له فلعله كان قد أغار على أرض الروم، أي الأرضين المحتلة الخاضعة لهم ليغنم منها شيئًا فتعقبه حرسهم، ولكنه راوغهم "وخرص" منهم ونجا4.
وقد ازعجت القبائل الرومان بغارتها على الأرضين التي استولوا عليها وأخضعوها لحكمهم، فأوجد الرومان جيشًا مرتزقًا، من أهل البلاد التي تحكموا في أمرها، وضعوه تحت إمرة جماعة من الضباط الرومان، وجعلوا واجبه حماية الحدود والدفاع عنها، وأقاموا له ثكنات على طول تلك الحدود، ورد أسماء بعضها في الكتابات الصفوية وغيرها، ومع ذلك كانت القبائل تهتبل الفرص، فتهاجم الحدود وتتوغل في الأرضين الخاضعة للرومان لتستولي على ما تجده أمامها من مال وحيوان، ثم تعود مسرعة إلى مضاربها في البادية حيث يصعب على الرومان محاربتها هناك.
كانت الإسكندرية منذ تأسيسها إلى الفتح الإسلامي، المنبع الذي أمد رجال السياسة والحرب والعلم بما احتاجوا إليه من علم بلاد الشرق وإفريقيا. فيها تجمع التجار أصحاب المال يبحثون عن البضاعة وعن منشئها وأسعارها في المنشأ
__________
1 E.Lttmann. Safitlc p 21
2 النص رقم "128" من المرجع المذكور.
3 المصدر نفسه "ص 34".
4 راجع النص "709" من هذا المصدر.(3/70)
وفي كيفية الحصول عليها بأسهل السبل وبأرخص الأسعار، منهم من ذهب بنفسه إلى مواطن البضاعة وإلى الأسواق الرئيسية المجهزة، فتمون منها ما احتاج إليه، ومنهم من تسقط أخبارها من تجار الإسكندرية أو التجار الوطنيين الوافدين على الإسكندرية، أو من رجال السفن. وفي الإسكندرية كانت في الغالب نهاية مطاف ربابنة السفن الذين خبروا البحر وعركوه، ووقفوا على أحوال البلاد الغريبة العجيبة: علم إفريقيا وآسيا، ومن أفواههم تلقف التجار والعلماء أخبار البحار وما وراءها من أرضين، وفي مكتبتها ودوائرها الرسمية حفظت تقارير قادة الأساطيل والجواسيس الذين كانوا يتجسسون الأخبار عن أحوال حكومات وشعوب تلك البلاد، وهي تقارير لا بد أن تكون على غاية من الخطورة والأهمية عند خلفاء الإسكندر ثم الرومان فالبيزنطيين، ويحدثنا "أغاثر شيدس" "أغاثر خيدس" الذي عاش في الإسكندرية في حوالي "110 ق. م" أنه أخذ علمه بأحوال البحر الأحمر من أفواه أناس قاموا هم أنفسهم بأسفار إلى البحر الأحمر وإلى ما وراءه، كما أخذه من وثائق ملكية وسجلات كانت محفوطة، سمح له، بالوقوف عليها، وفي جملتها تقرير "أرسطون" "أرستون"، وهو أحد رجال البحر اللذين كلفهم "بطلميوس الثاني" أو "بطلميوس" آخر كشف البحر الأحمر، فلما أنجز عمله وخبر أمر الساحل العربي للبحر، قدم تقريره المذكور. فحفظ في جملة الوثائق الخطيرة المهمة في خزانة وثائق الإسكندرية ومن هذا المنبع أخذ بقية الكتاب، ومنهم من قام نفسه بركوب البحر وبأسفار في الشرق، ثم عاد إليها ليضع ما حصل عليه في كتاب.
والخلاصة أن هذه التطورات والأحداث السياسية والعسكرية التي وجهت أنظار الغرب منذ أيام "الإسكندر الأكبر" نحو الشرق، قد أدت إلى نزول اليونان والرومان بأنفسهم إلى البحار الدافئة لمنافسة العرب في تجارتهم، وفي بحارهم وفي البحار الأخرى، فبنوا سفنًا أقوى وأكبر وأوسع، وأخذوا يقومون أنفسهم بالتدريج ويحتلون الموانئ المهمة أو يقيمون لهم قواعد عسكرية على السواحل لحماية خطوط مواصلاتهم البحرية، وبذلك أصابوا التجارة العربية إصابة مباشرة وأنزلوا بها ضررًا بالغًا، إذ أخذو يشترون منتجات البلاد الحارة من مواضع انتاجها، وصاروا يزاحمون السفن العربية التي لم تتمكن من تطوير نفسها تطويرًا يناسب الزمن وروح العصر، فتغلبت سفن الروم والرومان عليها كما تغلب(3/71)
البرتغاليون فيما بعد ثم من جاء بعدهم من الغربيين على السفن العربية في عصور الاستكشاف، واضطر التجار العرب إلى اعتزال البحر والانسحاب منه تدريجيًّا والاكتفاء بشحن ما يحصلون عليه بطرق البر، إلى أسواق تفرض ضرائب مرتفعة على التجار والتجارات. وقد أدى هذ االتطور إلى أضعاف مركز العرب الجنوبيين أضعافًا كبيرًا، وإلى إلحاق الأذى بثرائهم، وصار الروم والرومان يتدخلون في شئون العربية الجنوبية تدخلًا مباشرًا أو غير مباشر بتحريض الجيش والقبائل العربية على حكومات العربية الجنوبية على نحو ما سنراه مفصلًا فيما بعد.(3/72)
الفصل التاسع عشر: الدولة المعينية
مدخل
...
الفصل التاسع عشر: الدولة المعينية
تعد الدولة المعينية من أقدم الدول العربية التي بلغنا خبرها، وقد عاشت وازدهرت بين "1300- 630ق. م" تقريبًا على رأي بعض العلماء. وقد بلغتنا أخبارها من الكتابات المدونة بالمسند والكتب الكلاسيكية1. أما المؤلفات العربية الإسلامية فلا علم لها بهذه الدولة. ولكنها عرفت اسم "معين" على أنه محفد من محافد اليمن وحصن ومدينة، وذكرت أنه هو و"براقش" من أبنية التبابعة2.
وأقدم من ذكر المعينيين من الكتاب "الكلاسيكيين" "ديودورس الصقلي"3 و"سترابون" "سترابو"، وقد سماهم Minae= Meinaioi وقال: إن مدينتهم العظمى هي Carna= Karna، وذكر نقلًا عن كاتب أقدم منه هو "إيراتوستينس" Eratosthenes، أن بلادهم شمال بلاد سبأ وشمال أرض "قتبان" وأما حضرموت، فتقع شرق بلاد معين4. أما "ثيوفراستوس" Theophrastos
__________
1 Phllby, The Background of Islam, Alexandria, 1947, P. 141
وسيكون رمزه: Background
2 الهمداني، صفة "167، 168، 203"، وسيكون رمزه: الصفة، اللسان "17/ 298"، البلدان "2/ 98 وما بعدها"، "8/ 102".
3 Diodorus Siculus, 3, 42
4 Strabo, XVI, 768 (16, 4, 2) , Glaser, Sklzze, 2, S., 14
O'Leary, P. 93, Sprenger, Alte Geogr. Arabian, S. 211(3/73)
فقد ذكر السبئيين والقتبانيين والحضارمة، وذكر أرضًا أخرى دعاها Mamali ويرى "أوليري" أنه قصد "معين" Menaioi= Minaea، وأن تحريفًا وقع في نسخ الكلمة، فصارت على الشكل المذكور، أي1 "Mamali". وقد ذكرهم "بلينيوس" Pliny أيضًا، فأشار إلى أن بلادهم تقع على حدود أرض "حضرموت" 2Atramitae. وآخر من ذكرهم الجغرافي الشهير "بطلميوس"3.
ولم يتحدث أحد من الغربيين بعد الجغرافي المذكور عن "معين"، حتى دخل السياح الأوروبيون بلاد العرب بعد نوم طويل، فبعث عندئذ اسم "معين"، وكان في مقدمة من نشر خبر هذا الشعب "يوسف هاليفي"4 Joseph Halevy. و "أدورد كلاسر" Eduard Glaser و "أويتنك" Euting5 و "جوسن" Jaussen و "ساوينه" Sasignac6، وغيرهم ممن سترد أسماؤهم، حصلوا على نقوش معينية نشرت ترجمات بعضها، ونشر بعض آخر بغير ترجمة، ولا يزال بعض آخر ينتظر النشر7.
وقد ظهرت هذه الدولة في الجوف، والجوف منطقة سهلة بين نجران وحضرموت، أرضها خصبة منبسطة، وقد زارها السائح "نيبور" Niebuhr ووصفها8. وذكر الهمداني جملة مواضع فيها، ولم يعرف شيئًا عن أصحابها.
__________
1 Theophrastus, Hist. Plant., 9, 4, O'Learly, P. 93
2 Pliny, Nat. Hist., 6, 28-32, 12, 30, 14, O'Learly
P., 93, Boasoor, Num. 73, February, 1939, P. 4
Ptolemy, Geography, VI, 7, 23, BOASOOR, Num. 73, "1939", P. 4
3 O'Leary, P. 94
4 Halevy, In: Journal Asiatlque, 1872, 129-266, 489-547, 1873. Tome, I,434-521, Tome, II, 305-365, 1874, 497-585, inscriptions Sabeennes
5 نشرت مجموعة، "Euting" في مؤلف "D.H. Muller".
المعنون: Epigraphische Denkmaler aus Arabien, 1889
وكذلك في بحث: "Mordtmann"! في
Beitrage zur Minaischen Epigraphik, 1897
6 Mission Archeologique en Arabie, 1917.
7 Corpus Inscriptionum Semiticarum, Tome, IV, Part, I, II, III, IV, and De L'epigraphie Semitique, Tome, V, and VI, BOASOOR, 73 1939, P. 5
8 Carsten Niebuhr, Reisebeschreibung Nach Arabien und Andren umliegenden landen, Kopenhagen, 1772-1837, II, Bande(3/74)
ومن هذه: معين، ونشق: وبراقش، وكمنا وغيرها1. وقد كانت عاصمة تلك الدولة "القرن" "قرن" "قرنو" وهي: "قرنة" "قرنا" Carna= Karna عند بعض الكتبة الكلاسيكيين.
وقد حصل "هاليفي" على عدد كبير من الكتابات المعينية اكتشفها في أثناء سياحته في الجوف، دعيت ورقمت باسمه، حصل على الكتابات المرقمة، برقم Halevy 187 حتى رقم Halevy 266 ومجموعها ثمانون كتابة من خرائب "معين" وحصل على الكتابات المرقمة من رقم "424" حتى رقم "578" من "يثل"، ويبلغ مجموعها "155" كتابة، كما حصل على صور عدد آخر من الكتابات من "كمنا" ومن "السوداء" ويبلغ مجموع الكتابات المعينية التي استنسخها زهاء "700" كتابة2، أغلبها قصيرة، وبعضها يتضمن بضع كلمات، ما خلا "50- 60" كتابة تتألف من بضعة أسطر3.
وزار الجوف بعد ذلك السيد محمد توفيق وقد ندبته "جامعة فؤاد الأول" الجامعة المصرية لدراسة هجرة الجراد الرحال والكشف عن مناطق تولده، ودخله مرتين، المرة الأولى سنة "1944م" والمرة الأخيرة سنة "1945م" وقد انتهز الفرصة فدرس سطح تلك المنطقة وخرائبها وآثارها، وأخذ صورًا "فوتوغرافية" لزخارف وكتابات، نشرها في البحث الذي نشره له "المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة" وذلك سنة "195م" بعنوان: "آثار معين في جوف اليمن"4.
ورحل "الدكتور أحمد فخري" الأمين بالمتحف المصري، إلى اليمن، وزار سبأ والجوف في مايس سنة "1947م"5.
وليس في كل بلاد العرب على حد قول "هاليفي"، مكان ينافس الجوف
__________
1 الصفة "ص 67 فيما بعدها".
2 "وجمع في رحلته هذه زهاء ست مائة نقش وخمسة وثمانين نقشًا من النقوش العربية الجنوبية" محمد توفيق: آثار معين في جوف اليمن من منشورات المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة 1951، ص 1.
3 Hommel' Grundriss Ed s 135
4 وسيكون رمزه: معين.
5 معين "ص 2".(3/75)
في كثرة ما فيه من آثار وخرائب عادية1. ولذلك، فإن الباحثين عن القديم يرون فيه أملًا عظيمًا وكنزًا ثمينًا، وقد يكشف لهم عن صفحات مطوية من تأريخ تلك البلاد وربما يكشف عن تأريخ بلاد أخرى كانت لها صلات وعلاقات باليمن. وفيه مدن مهمة، كان لها شأن وصيت في تأريخ العالم القديم، كالمدن التي مر ذكرها، وكمدينة "مأرب" عاصمة سبأ، التي بلغ صيتها اليونان والرومان.
والجوف أرض خصبة ذات مياه، تسقيه مياه "الحارد"، الذي يبلغ عرضه، مترين وعمقه، مترًا، كما تتساقط عليه الأمطار فتروي أرضه، وتكون سيولًا، تسيل في أوديته، ويبلغ ارتفاعه "1100" فوق سطح البحر، وتحيط به الجبال من ثلاث جهات2. ونظرًا لوجود مزايا كثيرة فيه تساعد على تكون الحضارة فيه، لذلك صار مخزنًا للحضارة القديمة في اليمن، وموقعًا يغري علماء الآثار يقصدونه للبحث في تربته عما كان فيها من أسرار وآثار. وسيكون من الأماكن المهمة في اليمن في الزراعة وفي التعدين بعد تطور اليمن، ودخول الأساليب العلمية الحديثة إلى تلك الأرجاء.
وقد أمدتنا الكتابات التي عثر عليها في الجوف وفي "ديدان"3، التي كانت مستوطنة معينية في طريق البلقاء من ناحية الحجاز، والكتابات المعينية التي عثر عليها في مصر في "الجيزة"4، والكتابات المعينية الأخرى التي عثر عليها في جزيرة "ديلوس" Delos من جزر اليونان، والتي يعود عهدها إلى القرن الثاني قبل الميلاد5، بأكثر معارفنا التي سنبسطها هنا، ومنها استخرجنا في الأغلب أسماء ملوك معين ولولاها لكانت معارفنا عن المعينيين قليلة جدًّا،
ويرى جماعة من العلماء أن "ماعون" "معون" Maon أو "معونم"
__________
1 O'Leary, P. 95
2 زيد بن علي عنان، تاريخ اليمن القديم "ص 95".
3 "الديدان": مدينة حسنة كانت في طريق البلقاء من ناحية الحجاز خربت، البلدان "4/ 119".
D.H. MUUer, Eplgraphische Denkmaler aus Arablen, 1889
4 BOASOOE, Num. 73, (1939) , P. 7
5 BOASOOE, Num. 73, (1938) , P. 7(3/76)
"معينيم" Me'inim = Me'unim الواردة في التوراة إنما يقصد بها "المعينيون"1، وهم سكان "النقب" إلى طور سيناء2، أو هم سكان "معان" الواقعة إلى الجنوب الشرقي من "البتراء"3 petra، أو هم أهل "العلا" "الديدان"4. وقد ذكروا في موضع من التوارة في جملة سكان "النقب" Negev وذكروا في موضع آخر مع قبائل من العرب5.
وليس بين الباحثين في تأريخ المعينيين اتفاق على تأريخ مبدأ هذه الدولة ولا منتهاه، فـ "كلاسر" مثلًا يرى أن الأبجدية التي استعملها المعينيون في كتاباتهم ترجع إلى الألف الثانية أو الألف الثالثة قبل الميلاد، وهذا يعني أن تأريخ هذا الشعب يرجع إلى ما قبل هذا العهد، فالمعينيون على هذا هم أقدم عهدًا من العبرانيين6. ويعارض هذا الرأي "هاليفي" "وميلر"7 D.H. MULLER و "موردتمن"8 Mordtmann و "ماير"9 E.Meyer. و "شبرنكر"10 Sprenger. و "ليدزباسكي"11 Lidzbarski. وغيرهم, ويرون أن نظرية "كلاسر" هذه مبالغة، وأن مبدأ هذه الدولة لا يتجاوز الألف الأولى قبل المسيح بكثير. ويرى "هومل" Hommel أن من الممكن أن يكون مبدأ تاريخ دولة "معين" ما بين "1500- 1200ق. م" ونهاية حكومتها في عام "700 ق. م"12، وجعل "فلبي" مبدأ حكم أول ملك من ملوكها في عام 1120ق. م وحكم آخر نعرفه من ملوكها في عام 630 ق. م13.
__________
1 Ency. Blbll., P. 3065, James Montgomery, Arabia and the Bible, P. 183
2 Hastings, P. 619
3 Montgomery, Arabia, P. 183
4 Ibid,
5 أخبار الأيام الأول، الإصحاح الرابع، الآية 41، أخبار الأيام الثاني، الإصحاح 26، الآية 7.Hastings, P. 619
6 Glaser, Sfclzze, 2, S., 110, 330
7 D. H. Muller, Beilage zur Manch. Allgem. Zeltung, 1890
NOY. 24, and 31, Ency., VoL, 4, P. 13
8 Nordotmann, In: ZDMG., XIVII, 400, Beltrftge, S. 105,115
9 E. Meyer, Gesch. d. Altertums, 2, 8., 382
10 Sprenger, Bemerkungen, S., 502, Ency., VoL, 4, P. 13
11 Ephemeris, 2, S., 101
12 Handbuch, I, S., 67. Ency., Vol., 4, P. 13. BOASOOB, Num. 73,1959, P. 5,
13 Background, P. 141(3/77)
ويعارض "ونت" Winnett رأى "كلاسر" و"نكلر" و "هومل" في تقدير مبدأ تأريخ دولة معين، ويرى أن في ذلك التاريخ مبالغة، وأن "شبا" أي "سبأ" وكذلك "ددان" "ديدان"، أقدم الدول العربية مستدلًّا على ذلك بما ورد في التوراة من قدم "شبا"، ويرى أن مبدأ دولة "معين" لا يمكن أن يتجاوز عام "500ق. م"، وإما نهايتها فقد كانت بين عام "24ق. م" وعام "50 ب. م"1.
ويرى معارضو نظرية "كلاسر" عن قدم الدولة المعينية أن هذه النظرية لا تستقيم مع ما هو معروف بين العلماء عن تأريخ ظهور "الألفباء" عند البشر، فإن إرجاع تأريخ معين إلى الألف الثانية أو الألف الثالثة قبل الميلاد معناه إرجاع "المسند" إلى أقدم من ذلك، وهذا يتعارض مع النظريات الشائعة عن قدم الخط عند البشر، فإن الخط "الفينيقي" لا يتجاوز عهده ألف سنة قبل الميلاد وليس "المسند" كما يظهر في أشكاله وصوره الهندسية أقدم عهدًا منه2. واستند "هوارت" إلى هذه الحجة أيضًا في معارضته رأي من يرجع تأريخ معين إلى سنة1500 قبل الميلاد3, ويرى "أوليري" هذا الرأي أيضًا، ويرى أيضًا أن كتابات المسند كافة معينية أو سبئية، لا تتجاوز البتة السنة 700 قبل الميلاد، وذلك؛ لأن هذا القلم قد أخذ من القلم "الفينيقي"، ولهذا لا يمكن أن يطاوله، وأن يرجع في تأريخه إلى أكثر من القرن الثامن قبل الميلاد4.
وقد ثبت "ملاكر" في كتابه في تأريخ التشريع، والتوريخ عند العرب الجنوبيين مبدأ قيام دولة "معين بسنة "725" قبل الميلاد، وسقوطها بالقرن الثالث قبل الميلاد5.
وتناول "البرايت" موضوع ترتيب حكام معين بالبحث، وذلك في النشرة
__________
1 BOASOOB, Num., 73, 1939, P. 8
2 Lldzbarskl, Ephemeris, II, S., 101, Ency., Vol., 4, p. 13
Hllprecht, Explorations In Bible kands, P. 731
3 Huart, Geschlchte der Araber, Bd., I, S., 45
4 O'Leary, P. 95
5 K Mlaker, Die Hierodulen-LIsten von Main nebst Untersuchungen zur Altstidarabischen Rechtgeschichte und Chronologle, Leipzig, Harrassowltz, 1943(3/78)
التي تصدرها المدارس الأمريكية للبحوث الشرقية، وهو يختلف أيضًا مع المتقدمين في موضوع تواريخ أولئك الحكام، ويحاول جهد الإمكان الاستفادة من الدراسات الآثارية للكتابات وللآثار التي يعثر عليها في تقدير حكم المكربين والملوك1. وقد ذهب في أحد أبحاثه عن "معين" إلى تقسيم ملوك دولة معين إلى ثلاث مجموعات جعل الملك "اليفع يثع" وهو ابن الملك "صدق ايل" ملك حضرموت على رأس هذه المجموعات، وجعل حكمه في حوالي السنة "400 ق. م" وجعل نهاية هذه الدولة فيما بين السنة "50" والسنة "25 ق. م"2.
وهو يرى أن التأريخ الذي وضعه لمبدأ قيام حكومة معين، ولنهايتها وسقوطها، هو تأريخ في رأيه مضبوط، ولا يتطرق إليه الشك، غير أنه يرى أن ما ذكره عن رجال المجموعات الثلاث تحتمل إعادة النظر فيه، ولا سيما المجموعة الأولى حيث يمكن إجراء بعض التغيير فيها3.
وذكر "البرايت" في موضع آخر أنه يرى أن قيام ممكلة معين كان قبل السنة "350 ق، م" وقد استمر حكمها إلى ما بعد السنة "50 ق. م"4. أو السنة "100 ق. م"5.
وذهب آخرون إلى أن نهاية مملكة معين كانت في حوالي السنة المئة بعد الميلاد6. وهكذا نجد الباحثين في العربيات الجنوبية مختلفين في بداية الدولة وفي نهايتها. ويلاحظ أن القدماء منهم كانوا يرفعون مبدأ الدولة ونهايتها عن الميلاد، أي يبعدون المبدأ والنهاية عنه، أما المتأخرون فهم على العكس، لا يذهبون مذهبهم، في البعد عن الميلاد، ويحاولون جهدهم جعل نهاية المملكة في حوالي الميلاد.
وما زال الجدل بين علماء العربيات الجنوبية في تقدير عمر الدولة المعينية مستمرًّا. فهناك صعوبات تعترض نظرية من يقول أن الدولة المعينية سقطت قبل
__________
1 W. F. Albright, The Chronology, In The BOASOOR, Num., 119, cThe Chronology of Mlnaean Kings of Arabia*, Num., 129, (1953) ,
PP. 20
2 BOASOOR, Num., 129, (1953) , PP. 22
3 BOASOOR, Num., 143, (1956) , P. 9
4 BOASOOR, Num., 176, 1964, P. 51
5 Le Mus6on, 1964, 3-4, P. 434
6 Le Museon, 1964, 3-4, PP. 434, J. Pirenne, Royaume de Qataban, P. 7(3/79)
الميلاد بمئات من السنين في أيدي حكام سبأ، والقائلون بها "كلاسر" وأتباعه. وقد رأى "كلاسر" أيضًا أن المعينيين قد تضاءل أمرهم وضعفوا كل الضعف وغلبت عليهم البداوة في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، على حين أن الموارد الكلاسيكية ومنها مؤلفات "سترابو" و "بلينيوس" و "ديودورس الصقلي" تعارض هذا الرأي بإشارتها إلى المعينيين وإلى تجارتهم، بل نجد أن "بطلميوس" الذي هو من رجال القرن الثاني للميلاد يقول فيهم "إنهم شعب عظيم"1 ثم إن الكتابات المعينية التي عثر عليها في الجيزة بمصر، تؤيد هذا الرأي أيضًا، إذ تشير إلى اشتغالهم في التجارة، تجارة استيراد البخور للمعابد المصرية، في القرن الثالث أو الثاني بعد الميلاد2. ومن هنا قال "أوليري" وغيره أن المعينيين بقوا نشطين عاملين إلى ما بعد الميلاد، وربما ذهاب حكمهم في أيام "البطالمة" أو في أيام الرومان، ومهما يكن من أمر فليس في الأماكن البت في تعيين ذلك العهد3.
والذين يقولون بتقدم دولة معين على سبأ، ويرون أن حكام "سبأ" من دور "المكربين"، أي دور الملوك الكهنة هم الذين قضوا على حكم دولة معين فانتزعوا الحكم من ملوك معين، وأخضعوا المعينيين إلى حكم سبأ. غير أننا لا نعرف كيف تم ذلك، ومن هو الملك المعيني الذي تغلب عليه السبئيون.
ولا يمكن تقريب وجهة الخلاف هذه إلا بالاستعانة بالحفريات العميقة المنظمة، وبما سيستخرج من جوف الأرض من آثار وكتابات، ودراستها دراسات علمية متنوعة، دراستها من ناحية تطور الخط Paleography وأسلوبه، ومقارنته بالخطوط الأخرى التي عثر عليها في جزيرة العرب وفي خارجها، لمعرفة عمرها، ودراستها من ناحية تحليلها تحليلًا مختبريًّا لمعرفة زمانها ووقت نشوئها حيث يمكن التوصل بهذا التحليل إلى نتائج يكون مجال الشك والجدل غير كبير Radiocarbon، ودراستها من ناحية علم الآثار، إلى غير ذلك من طرق توصل إلى نتائج إيجابية أو قربية من حدود الإيجاب.
__________
1 OLeay p 94
OLeay p 95 2
3 OLeay p 94(3/80)
ملوك معين:
وقد حصل قراء الكتابات المعينية على أسماء ملوك حكموا دولة معين، أحصوها وجمعوها، وحاولوا الاستفادة منها بتنسيقها وتبويبها لتكوين قائمة منظمة مرتبة بمن حكم عرش تلك الدولة حكمًا زمنيًّا متسلسلًا بقدر الإمكان، غير أنهم لقوا صعوبات كبيرة حالت بينهم وبين الاتفاق على وضع قائمة موحدة متفقة.
فذهبوا في ذلك جملة مذاهب، ووضعوا تواريخ متباينة مختلفة، وكيف يمكن الاتفاق وقد ذكرت أنهم مختلفون اختلافًا كبيرًا من حيث تعيين مبدأ ظهور تلك الدولة، وأنهم مختلفون أيضًا في تأريخ سقوطها وفي الدولة التي أسقطتها, يضاف إلى ذلك أن الكتابات المعينية عفا الله عنها، لم ترد مؤرخة على وفق تقويم من التقاويم، ولم تتحدث عن حكم أي ملك من أولئك الملوك ولم تذكر ترتيبهم في الحكم، وهي أكثرها في أمور شخصية لا علاقة لها بسياسة ولا بدولة وملوك، فليس من الممكن إذن اتفاق الباحثين على وضع قوائم صحيحة لملوك معين، ولا لمدد حكمهم ما دام الوضع على هذا الحال والمنوال، والرأي عندي هو أن ذلك لم يتم، ما لم تجر حفريات علمية عميقة في مواضع المعينيين في اليمن وخارج اليمن، تمكننا من الحصول على كتابات جديدة لها صلة بسياسة الحكومة وبأخبار الملوك وبعلاقاتهم مع الدول الأجنبية, فإذا تم ذلك أمكن وضع مثل هذه القوائم مستعينين بهذه الكتابات وبالكتابات الأجنبية التي قد تشير إلى ملوك معين، وبأمثال هذه الدراسات نطمئن إلى هذه القوائم، ونستطيع اعتبارها ذات قيمة في تثبيت الحوادث وتواريخ حكومة معين.
والملوك الذين وردت أسماؤهم في الكتابات المعينية، ليسوا هم كل ملوك معين، بل هم جمهرة منهم، ولا استبعد احتمال حصول المنقبين في المستقبل على عدد آخر من أسماء ملوك جدد لا نعرف من أمرهم اليوم شيئًا، قد يزيد عددهم على هذا العدد المعروف، وقد يبلغ أضعافه، فتصبح القوائم الموضوعة التي رتبها علماء اليوم غير ذات خطر بالنسبة للقوائم الجديدة، وسيتغير فيها كل شيء من أسماء ملوك، ومن أرقام مدد حكم وتواريخ.
ومع ذلك فأنا لا أريد أن أكون جدليًّا سوفسطائيًّا، سلبيًّا غير بناء، وسأجاري الحال فأعرض على القارئ نتائج جهود أولئلك العلماء في وضع قوائمهم بأسماء ملوك معين، فأقول: جعل "هومل" من أسماء ملوك معين التي عرفها ثلاث(3/81)
طبقات، كل طبقة تتألف من أربعة ملوك، وطبقة أخرى تتألف من ملكين1.
ورتب "كليمان هوار" هؤلاء الملوك سبع طبقات، الطبقة الأولى، تتألف من أربعة ملوك، والطبقة الثانية من خمسة، والطبقة الثالثة من أربعة، والرابعة من اثنين، والخامسة من ثلاثة، وأما الطبقتان السادسة والسابعة فتتألف كل واحدة منها من ملكين، ويبلغ مجموع ملوك هذه الطبقات السبع اثنين وعشرين ملكًا2. وينقص هذا العدد أربعة ملوك عن قائمة "مولر" الذي حقق هوية ستة وعشرين ملكًا, وقد رتب "أوتوويبر" و "موردتمن" أولئك الملوك في طبقات أيضًا3. أما "فلبي"، فقد ذكر اثنين وعشرين ملكًا، نظمهم خمس سلالات، وجعل على رأس السلالة الأولى "اليفع وقه", وفي آخر السلالة الخامسة الملك "تبع كرب" الذي حكم على رأيه من سنة 650 إلى سنة 630 ق. م4.
وعند "هومل" أن السلالة التي في أولها الملك "اليفع وقه"، هي أقدم أسر ملوك معين5. وأما "مورد تمن"، فيقدم الأسرة التي جعل على رأسها الملك "يثع ايل صديق"6. وقد فعل ذلك "كليمان هوار" أيضًا7. أما "ونست" فيرى أن الأسرة التي فيها "أب يدع يثع" هي أقدم عهدًا من الأسرتين8. والخلاصة أن هذه الأسر أو السلالات لا تعني أنها كل الأسر التي حكمت "معينًا" أو أن الأسرة الأولى منها هي أول أسرة حكمت ذلك الشعب فقد يكون هنالك عدد آخر من الأسر والملوك حكموا قبلها سنين كثيرة ربما بلغت قرونًا.
ويرى "البرايت" أن ملوك حضرموت كانوا هم الذين أسسوا مملكة معين، أسسوها في حوالي السنة "400ق. م" أو بعد ذلك بقليل. ويرى أن أول
__________
1 Hommel, Grundriss, I, S., 136, Chrest., S., 90
2 Cl. Huart, Geschichte der Araber, BcL, I, S., 56
3 Grundriss, I, S., 136, Mordtmann In ZDMG., 47, 1893
S., 397-417, Muller, Die Burgen, 2, 60
4 Background, P. 141
5 Handbuch, a, 67, 71, Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 234
BOASOOR, Num., 73, (1939) , P. 7
6 Mordtmann, In ZDMG., XLVII, 409, BOASOOR, Num., 73, P. 7, (1939)
7 Geschichte der Araber, I, S., 56
8 BOASOOR, Num., 73, (1939) , P. 7, Le Museon, T.Xn, 3-4, 1949(3/82)
ملك من ملوكها كان الملك "اليفع يثع"، وكان ابنًا للملك "صدق ايل" ملك حضرموت. ويرى من عدم وصول كتابات سبئية ما بين السنة "350" والسنة "100" قبل الميلاد، أي أن السبئيين كانوا في خلال هذه المدة أتباعًا لحكومة معين1.
فأول ملك من ملوك "معين" إذن على رأي "البرايت"، هو الملك "اليفع يثع". أما "هومل"، فجعل "اليفع وقه" أقدم ملك معيني وصل خبره إلينا، وقد جاراه في رأيه هذا "فلبي" وآخرون. وهناك كما قلت قبل قليل من قدم ملكًا آخر على هذين الملكين.
وقد ورد اسم الملك "اليفع وقه" في كتابة عثر عليها في موضع "السوداء"2، وهو مكان مدينة "نشن" "نشان" القديمة في الكتابات المعينية، ورد فيها: أن الملك "اليفع وقه" ملك معين، وشعب معين، قدما بأيديهم إلى معبد الإله "عم" بـ"راب" "رأب" من "ذي نيط" نذورًا وهدايا وقرابين، تقربًا إليه. وقد تسلم الـ "رشو" أي "كاهن" المعبد والقيم عليه تلك الهدايا، وتقبلها باسم المعبد3. ولم تذكر الداعية التي دعت الملك وشعبه إلى تقديم تلك النذور والقرابين إلى الإله "عم" رب "رأب"، ولعلها كانت مذكورة في المواضع التي أصيبت بتلف في الكتابة.
وورد اسم هذا الملك في كتابة أخرى عثر عليها في "براقش"، وهي مدينة "يثل" من مدن معين، دونت عند بناء بناية في عهده، فذكر هو وابنه "وقه آل صدق" "وقه ايل صديق" فيها، تيمنًا باسمها وتثبيتًا لتأريخ البناء4.
وعثر على اسم الملك "وقه آل صدق" "وقه ايل صديق" ابن الملك "اليفع وقه" في كتابة وجدت في "قرنو" "قرن" "القرن"5.
__________
1 BOASOOR, Num, 129, "153", P. 22, Note: 7
2 "الخربة السوداء" "خربة السوداء" "والخربة السوداء بالشاكرية، ثم معين وبراقش ثم كمنا وروثان لنشق" الصفة "ص 167" "السوداء" "مدينة السوداء" تأريخ اليمن القديم، لزيد علي عنان، "ص 97".
3 Rep. Eplg., 3307, Hommel, Chrest., S., 91, "257", Olaser, 284,
Background, P. 49
4 Background, P. 49, BOASOOR, Num., 73, "1939", P. 7
5 Background, P. 49, BOASOOR, Num., 73, 1939, P. 7(3/83)
أما الذي حكم بعد "وقه ايل صدقه" "وقه ايل صديق"، فهو ابنه الملك "اب كرب يشع" "أبكرب يشع" وهو في نظر "البرايت" مثل والده و"اليفع وقه" من رجال المجموعة الثانية من مجموعات ملوك معين. وقد حكم -على حسب رأيه- في حوالي السنة "150" قبل الميلاد1.
وجاء اسم الملك "ايكرب يثع" "اب كرب يثع" في كتابة عثر عليها في "العلا"، أي في "الديدان" وتعود لذلك إلى المعينيين الشماليين، وصاحبها رجل من "آل غريت" "غرية"، كتبها عند شرائه ملكًا من شخص اسمه "اوس بن حيو" "اوس بن حي". وتيمنًا بذلك قدم نذورًا إلى الإله "نكرح" وآلهة معين، وجعل الملك في رعايتها وحمايتها لتقيه أعين الحساد وكل من يحاول الاعتداء عليه, ودعا آلهة معين أن تنزل نقمتها على كل من يحاول رفع تلك الكتابة، أو يتلفها، أو يلحق بها أذى. وقد تيمن باسم تلك الآلهة، وذكر بهذه المناسبة، اسم الملك "ابكرب يثع"، وذكره بعده اسم "وقه آل صدق" "وقه ايل صديق"2. وقد وجد فراغ بين الاسمين بسبب تلف أصاب الكتابة رأى ناشر الكتابة أنه واو العطف، فصير الجملة على هذا النحو "ابكرب يثع ملك معن ووقه آل صدق"، و"أبكرب يثع ملك معين ووقه ايل صديق"، وعندي أن هذا الفراغ يمثل حرفين هما "بن"، أي "ابن" فتكون الجملة "ابكرب يثع معن بن وقه آل صدق"، "أبكرب يثع ملك معين ابن وقه ايل" وبذلك ينسجم المعنى، إذ إن "وقه آل صدق"، هو والد "أبكرب يثع" فإذا ذكر اسم الأب بعد لفظة "ابن"، انسجم المعنى، أما إذا وضعنا حرف، العطف، "الواو" بين الاسمين، نكون قد قدمنا اسم الابن على اسم الأب، وفي ذلك نوع من سوء الأدب، أو دلالة على أن الابن هو الملك الحقيقي، وأن والده لم يكن شيئًا، يومئذ أو كان ملكًا بالاسم فقط. على أنه حتى في هذه الأحوال والاحتمالات، لا يوضع اسم الأب بعد اسم الابن.
وقد أرخت الكتابة بأيام تولي "أوس" من "آل شعب" منصب "كبير" تلك المنطقة التي كان يقيم فيها صاحب تلك الكتابة3.
__________
1 ASOR, Num., 129, (1953) , P. 23
2 Rep. Epig., 3697, Jausen-Savignac, Mission, n, (732) , P. 261 292
3 راجع الفقرة "12" من النص.(3/84)
وعثر على كتابة في مدينة "يثل" "براقش"، وجاء فيها اسم ملك يدعى "عم يثع نبط" "عميثع نبط" "عمي يثع نبط". وهو ابن الملك "ابكرب يثع" المذكور1.
وقد ورد اسم الملك: "عم يثع نبط بن ابكرب" "عميثع نبط بن أبكرب" في كتابة دونت لمناسبة حبس أرض الآلهة معين، لتكون وقفًا على معبد الإلهه "عثر شرقن" أي "عثر الشارق" بمدينة "يثل"2.
أما "البرايت"، فقد وضع اسم "عم يثع نبط" في المجموعة الأولى من مجموعاته الثلاث التي كونها لملوك معين، وقد جعل حكمه في حوالي السنة "300 ق. م" وذكر أنه رجل اسمه "اب كرب" "أبكرب". وقد أشار إلى أن "اب كرب" هذا هو غير "اب كرب يثع" الذي هو ابن الملك "وقه ايل صدق"، الذي كان حكمه -على رأيه- في أواخر القرن الثاني لما قبل الميلاد3.
ويرى "فلبي" وجود فترة قدرها بنحو عشرين سنة, لا يدري من حكم فيها بعد "عم يثع نبط" وقد كانت في حوالي السنة "1040 ق. م"، وقد انتهت في حوالي السنة "1020 ق. م" بتولي الملك "صدق ايل" عرش معين. وهو ملك من ملوك حضرموت، فيكون بذلك قد جمع في شخصه بين عرش حضرموت وعرش معين، ثم انتقل العرش إلى "اليفع يثع" وهو ابنه، وقد حكم -على رأي "فلبي"- في حوالي السنة "1000 ق. م".
وكان له شقيق اسمه "شهر علن" "شهر علان" انفرد بحكم حضرموت، وبذلك انفصل عرش حضرموت عن عرش معين4.
وبين تقدير "فلبي" هذا لحكم "صدق ايل" ولحكم ابنه "اليفع يثع" وتقدير "البرايت" الذي جعل حكم "صدق ايل" في حوالي السنة "400 ق. م" فرق كبير. كذلك نجد بين ترتيب "فلبي" وترتيب "البرايت" للملوك فرقًا كبيرًا فـ "اليفع يثع" وهو ابن "صدق ايل" هو أول ملك ملك عرش
__________
1 Background, P. 51, BOASOOR, Num., 73, (1939) , P. 7
2 Fakhry, 17, Le Mus6on, 1-2, 1953, P. 113
3 BOASOOB, Num., 129, (1953) , P. 23
4 Background, P. 141(3/85)
معين على رأي "البرايت"، على حين أخره "فلبي" على نحو ما رأيت، إلا أنهما يتفقان في أن "صدق ايل" والد "اليفع يثع" كان ملكًا على حضرموت, ثم يعودان فيختلفان أيضًا، ذلك أن "فلبي" جعله ملكًا على حضرموت ومعين، أما "البرايت" فلم يدخل اسمه في قائمته لملوك حضرموت1.
وحكم بعد "اليفع يثع" ابنه "حفن ذرح" وكان حكمه في حوالي السنة "980ق. م" على تقدير "فلبي" وكان له شقيق اسمه "معد كرب" "معد يكرب" ولي عرش حضرموت2. ولم يذكر "البرايت" اسم هذا الملك في قائمته لملوك معين3.
وقد ذكر "فلبي" أنه كان لـ "حفن ذرح" شقيق، اسمه "معد كرب" "معد يكرب"، ولي عرش حضرموت.
أما الذي ولي عرش "معين" بعد "حفن ذرح"، فهو "اليفع ريم" "اليفع ريام". وقد حكم في حوالي السنة "965 ق. م" على تقدير "فيلبي" وهو ابن "اليفع يثع". وقد حكم حضرموت أيضًا؛ وذلك لأن ولد "معد يكرب" لم يحكموا عرش حضرموت4.
ثم انتقل حكم معين إلى "هوف عث" "هوفعثت" "هو عثت" من بعد "اليفع ريام"، وهو ابنه، وقد ولي الحكم سنة "950 ق. م" -على رأي "فيلبي"5- ودون ذلك بمئات من السنين على رأي "البرايث"6.
وانتقل العرش إلى "أب يدع يشع" "أبيدع يشع" بعد "عوف عثت" وقد كان حكمه في حوالي السنة "935" قبل الميلاد7. وأما "البرايت" فيرى أن زمان حكمه كان في حوالي السنة "343" قبل الميلاد8. وهو ابن "اليفع ريمام".
__________
1 Background, P. 141, Boasoor, Num., 139, (1953) , P. 22
2 Background, P. 141
3 BOASOOR, Num., 129, (1053) , P. 22. f
4 Background, P. 141
5 Background, P. 141
6 BOASOORJCum. 129, (1953) , P. 22
7 Background, P. 141
8 BOASOOR, Num. 129, (1953) , P. 22, Num. 119, (1950) , P. H
Discoveries, P. 295(3/86)
وجاء في الكتابة المرقمة برقم: Halevy 192 و1150Glaser وهي كتابة تتألف من جملة أسطر ومصدرها مدينة معين1. اسم الملك "اب يدع يثع"2 ورد لمناسبة قيام جماعة من أشرف مدينة "قرنو" "قرن" "القرن" بإصلاح خنادق هذه المدينة، وترميم أسوارها وإنشاء محلة جديدة فيها. وصاحب هذه الكتابة والآمر بتدوينها، هو "علمن بن عم كرب" من أسرة "ذي حذار" "ذي حذأر" أي "آل حذأر" ورئيس "كبأن" "جبأن" وصديق ومكتسب عطف ومودة "موددت" ملك معين "اب يدع يثع"، ووالد عدد من الأولاد ساعدوه في هذا العمل، هم "ياوس آل" "ياوس ايل" "يأوس ايل"، و "يذكر آل" "يذكر ايل"، و "سعد آل" "سعد ايل" و "هب آل"، "وهب ايل"، و"يسمع ايل" "يسمع آل" وقد قاموا بهذا العمل تقربًا إلى آلهة معين: "عثتر ذ قبضم" "عثتر ذو قبض"3. و "ود" و"نكرح" وإلى ملك معين. وقد جرى العمل في ربع "ربعن" المدينة4. المسمى "رمشو" "رمش"، وقد امتد إلى موضع "شلوت". وبعد الانتهاء من هذا العمل ذبحت القرابين على عادتهم للآلهة "عثتر" "رب" "قبض" "عثتر ذ قبضم" و "ود" وذكرت الكتابة تفاصيل الأعمال التي تمت ومواضعها ومقدارها وغير ذلك مما يذكر عادة في وثائق البناء.
وهناك كتابة أخرى عثر عليها في "قرنو"، وهي الكتابة التي أشير إليها بعلامة 193Halevy، ورد فيها اسم الملك "اب يدع يثع"، وهي من الكتابات المهمة التي تشير إلى الصلات السياسية التي كانت في هذا العهد بين ممكلة معين ومملكة حضرموت. وقد جاء فيها أن "معد يكرب" ملك حضرموت وقف حصن "خرف" للإله "عثتر ذ قبضم"، وقد بنى ذلك الحصن "شهر علن بن صدق آل" ملك "حضرموت" ونذره للإله "عثتر ذ قبضم" و"عثتر شرقن" و "ود" و "نكرح"، وقدمه إلى أبن أخيه "اب يدع يثع" ملك
__________
1 محمد توفيق، آثار معين في جوف اليمن، القاهرة "1951"، النقش1 "الواح 17- 19". Halevy, Mission, P. 32, 75, 77
2 Glaser, 1150, Halevy 192 + 199
3 N. Rhodokanakls, Studlenzur Lexikographle und Grammatlfe des Altsttdarablschen, Heft, 2, 8., 54.
4 "هكرن فرنو بقلح ربعن رمشو" Stud. Lexl., 2, 8., 55(3/87)
"معين"، وشعبه شعب معين1.
وورد اسم الملك "معد يكرب بن اليفع يثع" في الكتابة الموسومة بـ: Halevy 520، وهي من الكتابات التي عثر عليها في خرائب مدينة "يثل"، وتتحدث عن إنشاء بناء في مدينة "كل"، كما ورد اسم الملك "اب يدع يثع" واسم "معد يكرب بن اليفع" في كتابة أخرى عثر عليها في "يثل" أيضًا2.
وورد اسم "اب يدع يثع" في ثلاث كتابات أخرى. وورد في اثنين منها اسم ابنه "وقه آل ريم" "وقه ايل ريام" معه3.
وتشير هذه الكتابات إلى أن "معد يكرب بن اليفع يثع"، أي ابن أخي "أب يثع بن اليفع ريام" كان معاصرًا لـ "أب يدع" وأن الصلات بين ابني الشقيقين كانت وثيقة وحسنة، وهي كتابات تفيد المؤرخ بالطبع كثيرًا في محاولاته لوضع قائمة بأسماء ملوك حضرموت وملوك معين، إذ إنها جعلتنا نتفق في أن حكمي الملكين كانا في زمن واحد تقريبًا، ومكنتنا بذلك من تثبيت أسماء بقية أسرتيهما على هذا الأساس بحث لا يبقى هنا موضع للجدل في موضع ترتيب أسماء رجال هذه الأسرة الحاكمة في حضرموت وفي معين.
ومن الكتابات المعينية المهمة، كتابة رقمت برقم Glaser 1115= Halevy 535 Halevy 578، ترجع أيامها إلى أيام الملك "اب يدع يثع". وهي تتحدث عن حرب وقعت بين "ذيمنت" و "ذ شامت"4. أي بين الجنوب والشمال، ولا يعرف مقصود الكتابة من الجنوب ومن الشمال على وجه أكيد. وقد ذهب "ونكلر" إلى أن المراد بـ"الجنوب" حكومة معين، وأن المقصود من الشمال حكومة عربية. هي حكومة "أريبي" التي كان يمتد سلطانها على زعمه، إذ ذاك إلى أرض دمشق5. وقد دونت هذه الكتابة لمناسبة نجاة قافلة كبيرة ضخمة من غزو تعرضت له بين موضع "معن" أي "معين" على قراءة,
__________
1 Background, P. 51, Albright, in BOASSOR, 129, (1953) , P. 22
119, (1950) , P. EL
2 Halevy 535. T
3 Background, P. 51. T
4 "وبن ضركون بين ذيمنت وذسامت" أي "ومن الحرب التي وقعت بين سادة الجنوب وسادة الشمال".
5 Wlnckler, Musri, Melucha, Ma'in, S., 20, 22.(3/88)
أو موضع "ماون" "ماوان" على قراءة أخرى، وبين موضع "ركمت" "ركمات"1. وإذا صح أن الموضع الأول المذكور هنا هو "معن"، فيكون الهجوم على القافلة المذكورة قد وضع فيما بين "معين" العاصمة وموضع "ركمت". وإذا كان الموضع "مون" أو "ماوان"، يكون الهجوم قد وقع عليها في المنطقة التي بين "مون" "ماوان" و "وركمت".
ولا نعلم من أمر "مون" "ماوان" شيئًا على وجه التأكيد، وقد ذكر "ياقوت الحموي" اسم موضع دعاه "ماوان"، قال عنه: "واد فيه ماء بين النقرة والزبدة، فغلب عليه الماء، فسمي بذلك الماء ماوان2.
وقد أمر بتدوين هذه الكتابة "عم صدق" "عميصدق" "عم يصدق"، "عم صديق" ابن "حم عثت"، "ذو يفعن" و"سعد بن ولك3" "ذو ضفكن"4. وكانا "كبر" كبيرين على "مصر" وعلى "معن مصون" "معين مصران"5. وقد أمر بتدوينها، شكرًا لآلهة معين: "عثر ذو قبض" و "ود" و "نكرح"؛ لأنها نجت القافلة وأنقذتها من الوقوع في أيدي الغزاة، كما قاما بتزيين معبد "تنعم"، وذلك في عهد ملك "معين" "أب يدع يثع".
وقد ورد في الكتابة ذكر حرب وقعت بين "مذي" و "مصر" في وسط "مصر"6. وقد شكر الآلهة على أن سلمت أموال المعينيين في هذه المنطقة أيضًا، وحفظت أوراح رجال القافلة وشملتها برحمتها وحمايتها إلى أن أبلغتها حدود مدينتهم "قرنو"، شكرًا وتسبيحًا بحمد "عثتر شرقن" "عثتر الشارق" و "عثتر ذو قبض" و "ود" و "نكرح" و "عثتر ذي يهرق" "وذات نشق"7. وكل آلهة معين8. و "يثل"، وملك معين، "أب يدع يثع" وبايني
__________
1 "رجمت" "رجمات" Winckler s 20 Background p 53. MUSRL.
2 البلدان "7/ 370".
3 "ولك" "ولج" "ولي"، "علي" Background p 53 Winckler S 56
4 winckler, Musri, S. 20, Backgrond, P. 53
5 "دعم صدق بن جمعثت" ذيفعن وسعد بن.... ولج "ولك" "على" "ولي"......
ذضفكن كبرى مصرن ومعن مصرن.....مصر ورتكل.... مهسمن مصر وااشور".
6 "بن وسط مصق بمرد كون بين مذي ومصر"، والسطرين الخامس والسادس من النص".
7 "ذت نشقم" "ذات نشق".
8 "وبكل الالت معن ويثل" "وبكل آلهة معينة ويثل".(3/89)
"معد يكرب بن اليفع"، وشعبي معين ويثل1.
ولم يرد في الكتابة ذكر الجهة التي كانت تقصدها هذه القافلة، أكانت متجهة من معين نحو الشمال، أي من اليمن نحو بلاد الشأم، أم كان اتجاهها على العكس من "معين مصران" نحو الجنوب قاصدة اليمن، ولكن القرائن تدل أنها كانت راجعة عائدة أي متجهة نحو اليمن، نحو العاصمة "قرنو"، وقد تعرضت لأخطار كثيرة بسبب الحرب المذكورة وبسبب الغزو الذي تعرضت له، وهي في طريقها إلى وطنها.
وقد كانت مثل هذه القوافل هدفًا ممتازًا للقبائل والعشائر وقطاع الطرق، لما تحمله من أموال. وهي وان أمنت على نفسها باتفاقات تعقدها الحكومات ويعقدها أصحاب الأموال مع سادات القبائل الذين تمر الطرق من مناطق نفوذهم، إلا أن مثل هذه الاتفاقات لم تكن كافية لحماية الأموال المغرية التي تحملها الجمال من طمع الطامعين فيها، وقد يقع الاعتداء من قبائل أخرى معادية لسادات القبائل الذين يحمون تلك الطرق، ولهذا كانت أموال التجار معرضة دائمًا للأخطار، وعلى التجار أيضًا زيادة أسعار أموالهم، بسبب الضرائب المستمرة التي يدفعونها لسادات الطرق، وبسبب الزيادات التي يفرضونها في أتاواتهم هذه، وإلا تعرضت القوافل للسلب والنهب، ولهذا لا غرابة إن نذر التجار لآلهتهم وحمدوها وسبحوا بأسمائها عند عودتهم سالمين من تجارتهم، أو عادت قوافلهم سالمة، فيوم العودة هو في الواقع يوم فرح وعيد.
واختلف الباحثون في تعيين الحرب التي نشبت في وسط مصر بين "مذي" و "مصر" اختلفوا في تعيين زمن وقوعها كما اختلفوا في تثبيت هوية المتحاربين. فذهب بعضهم إلى أن المراد من "مذي" "الماذيين"، ويراد بهم "الماديون" "الميديون"، وهم طبقة من طبقات الإيرانيين، ورأوا أن المعينيين كانوا قد أطلقوا "مذي" عليهم محاكاة لبني إرم، وكانوا على اتصال وثيق بهم، ولهذا دعوا بـ"مذي" في هذه الكتابة. ومن بني إرم تعلم المسلمون نسبة "الماذيين"
__________
1 Glaser 1155. Haleyvy 535(3/90)
"الميذيين"، فقالوا إنهم من نسل "ماذي بن يافت بن نوح"1. وقد ذكر الطبري اسم "كيرش الماذوي"2. فـ "مذي" و"ما ذي" إذن بمعنى "مادي" و"ميديا" Media و "ماذي" هو "مادي" الابن الثالث ليافت في التوراة ومن نسله تسلسل الماديون3.
وذهب "فلبي" إلى أن "مذي" هم "المدينيون"، أهل مدين "المديانيين" الذين عرفوا بتحرشهم بالعبرانيين، وهنم سكان أرض "مديان" "مدين"، وهي أرض واسعة تمتد من خليج العقبة إلى موآب وطور سيناء. ويرى أن الحرب المذكورة قد وقعت بينهم وبين أهل "معن مصرن" أي "معين المصرية"4.
ورأى "هومل" أن "مذي" هم جماعة من بدو طور سيناء5.
ونجد "فلبي" نفسه، يخالف نفسه في مناسبات أخرى، فقد ذهب مرة إلى أن "مذي" هم جماعة عرفوا بـ "مذوي" Madhoy أو Maroe أو Maziou وبين هؤلاء وبين "مصر" وقعت تلك الحرب6.
واختلفوا في زمن وقوع تلك الحرب، فذهب "ونت" إلى أن الحرب المذكورة في هذا النص، حرب "مذي" و "مصر" هي الحرب التي وقعت بين "الميديين" والمصريين في سنة "343 ق. م"7. وقد استولى فيها
__________
1 "ماذي بن يافث، وهو الذي تنسب السيوف الماذية إليه"، الطبري "1/ 216، 650، 652" "طبعة ليدن" "1/ 205" "دار المعارف"، ولما عدد الطبري أسماء أبناء يافث بن نوح" لم يذكر اسم "ماذي" في جملتهم" "1/ 206" "دار المعارف".
2 الطبري "1/ 206" "دار المعارف".
3 التكوين، الإصحاح العاشر الآية2، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول الآية5، قاموس الكتاب المقدس "2/ 306".
4 "مدين" "مديان" "مديانيون"، قاموس الكتاب المقدس، "2/ 324" "مدين" في الكتب العربية. Background,54 P.
5 handbuch, I, S. 70, Hommel, Aufsatze, S. 231, Le Museon
LXII, 3-4, P. 239, "1949"
6 Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 238
7 BOASOOR, Num 73, 1939, P(3/91)
"أرتحشتا أوخوس" "أرطخشت أوخوس" OCHUS Artaxerxes على مصر1.
وإلى هذا الرأي ذهب "البرايت" Albright كذلك2. أما "ملاكر" K. Mlaker فيرى أن هذه الحرب، هي الحرب التي وقعت في حوالي سنة "525 ق. م" وأدت إلى فتح "قمبيز" "كمبيس" Cambyses لمصر3. ومن اختلافهم في تقدير زمن وقوع هذه الحرب، اختلفوا في زمن حكم "اب يدع يثع" ملك معين، وفي حكم سائر ملوك معين، من مبدأ أول ملك إلى حكم آخر ملك من ملوك هذه الدولة.
وقد ذهبت "بيرين" J. pirenne إلى أن الحرب المذكورة وقعت في الفترة الواقعة فيما بين "210" إلى "205. ق. م"، وأن المراد من "مذي" "السلوقيون" ومن "مصر" البطالمة، وأنها قد تشير إلى الاستيلاء على "غزة" في سنة "217ق. م" تقريبًا، وإلى المعركة التي تلتها ووقعت عند موضع4 Rapeia.
ويرى البعض أن لفظة "مذي" إنما كانت تعني الحكومة التي تحكم العراق، ولو لم تكن من "الماذويين" "الميديين"، وأن "مصر" تعني الحكومة التي تحكم مصر من غير تقيد بجنسية الحاكمين لها، ويستشهد على هذا بورود لفظة "مذي" "همذي" في نص "صفوي" من سنة "614" للميلاد، وقد قصد بهم "الفرس". ويرى أن إطلاق لفظة "همذي" أي "الميذيين" على الفرس لا يثير اعتراضًا كبيرًا مثل الاعتراض الذي يثار حول تفسير "مذي" بـ"سلوقيين"، إذ إن الساسانيين هم فرس، والماذيين فرس كذلك، وأن
__________
1 هكذا كان يكتب عند اليونان. أما الفرس، فكانوا ينطقون به على هذا الشكل: "أرتخشترا" Artakhshatra
وفي العبرانية "Artachschasta" ومعناه: ملك عظيم، قاموس الكتاب المقدس "1/ 59"، "ارطحششت الثالث المعروف بالأسود، واليونانيون يسمونه أوخوس، ملك سبعًا وعشرين سنة، واستعاد ملك مصر، وهزم نقطابيوس ملكها ... " تأريخ مختصر الدول، لابن العبري "ص 89"، بيروت "1890م".
2 BHASOOR, 119, "1950", cThe Chronology of Ancient South Arabia in The Light of the first Campaign of Excavation in Qataban, P. II
3 Le museon, LXII, 3-4, "1949", P. 231, K. Mlaker, Die Hierodulen - Listen von Ma'in nebst Untersuchungen zur Altsudarabischen Rechtsgeschichte und chronologle
4 P. pirenne, Paleographie des Inscriptions sud Arabes, I, "1958", 211(3/92)
كانوا من جيلين مختلفين. أما "السلوقيون"، فقد كانوا يونانًا، وليست لهم علاقة بالفرس، ثم من يدرينا أن أهل ذلك العهد من العرب كانوا يطلقون على كل من يحكم العراق "ميذيين" "ماذويين"، وفي جملتهم هؤلاء السلوقيون1.
هذا وقد ورد في النص اسم أرض دعيت "ااشور" "ااشر"، ووردت معها لفظة "مصر". وقد ذهب بعض الباحثين فيه إلى أن الكبيرين المذكورين كانا يمثلان ملك معين في "مصر"، أو في "صور" على بعض القراءات وعند ملك "ااشر" "ااشور" و "عبر نهران"2. وذهبوا إلى أن "ااشر" "ااشور" هي "آشور"، أو البادية. أما "هومل" و "كلاسر" فذهبا إلى أن المراد من "ااشور" أرض تقع على حدود مصر3. سكنها شعب دعي في التوراة بـ"اشوريم" Asshurim، وهم "ولطوشيم"4 Lutushim. و "لويميم" leummim قبائل عربية جعلتها التوراة من نسل "ددان" dedan "ديدان" من إبراهيم من زوجه "قطورة"5، وقد ورد في "التركوم" Targum أن معنى "اشوريم" سكان الخيام. وقد وردت اللفظة "ااشور" "اشور" Ashur في كتابتين معينيتين6.
وعلى رأي "هومل" و "كلاسر" يكون الكبيران المذكوران في الكتابة، وهما أصحابها، قد حكما ومثلا ملك معين في "معين المصرية" وفي أرض "ااشور" أي في منقطة تمتد من مصر إلى "بئر السبع" Beersheda "و"حبرون" Hebron. وهي طور سيناء عند "هومل"، والأرض الواقعة بين السويس إلى "غزة" وجنوب فلسطين عند "كلاسر"7.
وأما المغيرون على القافلة والذين أرادوا الاستيلاء عليها، فهم قوم من "سبأ"
__________
1 Die Arab er, I, S, 75.
2 Glaser. Skizze, 2, S, 452, Winckler, Musri, S. 20, Background, P. 53
3 Glaser, Skizze, 2, 452 Hommel, AHT, 239, Winckler,
AOF, S. 28, ZDMG, 527, "1895"
4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 293"، التكوين الإصحاح 25، الآية 3.
Hastings, P. 541
5 التكوين، الإصحاح 25، الآية 3.
Ency. Bibil. P. 346, Hastings. P. 59
6 Hastihgs. P. 59
Ency Bibil. P. 346, Glaser, Sktzze, 2. S. 452(3/93)
و"خولان" على رأي الباحثين. وقد ورد اسم الخولانيين في نصوص عربية جنوبية مما يدل على أنهم كانوا من القبائل المعاصرة للسبئيين1.
ويتبين من هذا النص أن حربين قد نشبتا قبل تدوينه، حرب نشبت بين "ذيمنت" و"ذشامت"، أي بين سادة الجنوب وسادة الشمال، وحرب أخرى هي الحرب التي نشبت بين "مذي" و"مصر". وقد أصاب المعينيين من هاتين الحربين خسائر كبيرة. أما متى نشبت الحربان وكم كانت المدة بينهما، وبين الهجوم على القافلة المعينية المذكورة، فليس من الممكن تقديم أجوبة عنها مقنعة ومقبولة، لقلة ما لدينا من كتابات ووثائق، وقد رأينا إختلاف أهل العلم في تقدير تأريخ هذا النص، بسبب أخذهم بالحدس والتخمين، لذلك أرى أن من الصواب ترك هذه الإجابة إلى المستقبل.
وقد رأينا أن هذا النص دون في أيام الملك "اب يدع يثع"، وقد أشير فيه إلى ابني "معد يكرب بن اليفع" الا أنه لم يذكر اسميهما ولا نعتيهما فجعلنا بذلك بجهل من أمرهما، ولهذا لم يتمكن الباحثون من وضعهما في قائمة ملوك حضرموت، إلا أن "فلبي" ذكر أنهما لم يتربعا على عرش تلك المملكة؛ لأنها ضمت إلى معين وبقيت مدة قدرها بحوالي ثلاثة قرون مندمجة فيها إلى حوالي السنة "650" قبل الميلاد حين انفصلت عن معين، وتولى الحكم عليها -على رأيه- الملك "السمع ذبيان بن ملككرب"2.
وذكر اسم الملك "ابيدع يثع"، اسم ابنه "وقه آل ريم" "وقه ايل ريام" في النص الذي وسم بـ Rep. Epig' 3535، وهو نص دونه "سعد ابن هوفعثت" من "آل ضفجن" "آل ضفجان" "آل ضفكان" عند بنائه "مذبا" "مذابًا"، وصاحب هذه الكتابة هو من العشرة التي ينتمي إليها صاحب الكتابة Glaser 1155 المذكورة، وقد كان "كبيرًا" كذلك، تولى إدارة مقاطعة "معن مصرن" "معين مصران"، أي "معين المصرية"، وقد دعيت بذلك؛ لأن سكانها من المعينيين الساكنين في الشمال في العلا وما جاورها على الحدود المتاخمة لشرق "مصر". وقد تيمن بهذه المناسبة على عادة العرب
__________
1 نشر نقوش، نقش رقم 9، سطر3، 1076Glaser Halevy585 Glaser 119
2 Baskground , p 114(3/94)
الجنوبيين بذكر آلهة معين ثم ملك معين وابنه، مما يدل على أن ابنه كان يشاركه يومئذ في تدبير الأمور، كما شكر "مجلس معين"، "مشود معن" "مزود معين"1.
وجاء بعد "اب يدع يثع" "أبيدع يثع" على عرش معين الملك "وقه آل ريم" "وقه ايل ريام" ابن الملك "أبيع يثع" "أب يدع يثع"2. وابن "هوف عث" "هو فعث" على رأي "فلبي"3. أما "البرايت"، فقد جعله في موضع4 ابن "هو فعث"، غير أنه عاد في مواضع أخرى5. فجعله ابنًا من أبناء "أب يدع يثع".
وانتقل الحكم إلى "حفن صدق" "حفن صديق" بعد "أب يدع يثع"، وهو ابن "هو فعث" على رأي "فلبي"6، وابن "وقه آل ريم" "وقه ايل ريام" على رأي "البرايت"7، وكان "البرايت" قد جعله في بحث آخر نشره من قبل شقيقًا لـ "وقه ايل ريام"، أي أنه جعله أحد أبناء "أب يدع يثع"8.
ثم صار الحكم إلى "اليفع يفش" بعد "حفن صدق"، وهو ابنه على رأي "فلبي"9. أما "البرايت" فقد ذكر في بحث من بحوثه أن ابنه، غير أنه وضع أمام قوله هذا علامة استفهام إشارة إلى أنه غير واثق برأيه كل الوثوق10، ووضع في بحث له آخر في ملوك المعينيين جملة اشترك مع "حفن صدق في الحكم"، من غير أن يشير إلى علاقته به11.
__________
1 Rep. Eplg., 3535, Weber, Stud., II, S. 34, Ltdzbarsfei, Eph. Semi, n, 3., 98, Hartmann, SOd-Arab-Frage, I, Conti Rossini, Chrest. Arab. Mrid., 1931.p. 80
2 Rep. Epigr., 3535
3 Background, P. 141
4 BOASOOR, Num., 119, (1950) , P. It
5 BOASOOR, Num., 129, (1953) , P. 22
6 Background; P. 141
7 BOASOOR, Num., 129, (1953) , P. 22
8 BOASOOR, Num., 119, (1950) , P. 11
9 Background, P. 141
10 BOASOOR, Num., 119, (1950) , P. 11
11 BOASOOR, Num., 129, (1953) , P. 22(3/95)
ووضع "فلبي" فراغًا بعد اسم "اليفع يفش"، لا يدري من حكم فيه، قدره على عادته بعشرين عامًا، ويقابل ذلك حوالي السنة "870 ق. م"، وجعل نهايته في سنة "850 ق. م"، ثم وضع بعده أسرة جديدة، زعم أنها حكمت معينًا على رأسها "يثع ايل صديق" "يثع آل صدق" ولا نعرف الآن من أمره شيئًا إلا ما ورد في كتابة من الكتابات من أنه بنى حصن "يشبم" "يشبوم"، وأنه والد "وقه آل يثع" "وقه ايل يثع" ملك معين1.
و"وقه آل يثع" هو والد "اليفع يشر" الذي ضعفت في أيامه حكومة معين كما يظهر ذلك في كتابة كتبها أهل "ذمرن" "ذمران" لمناسبة وقفهم وقفًا على معبد، إذ ورد "في أيام سيدهم، وقه آل يثع وابنه اليفع يشر، ملك معين، وباسم سيدة شهريكل يهركب ملك قتبان". ويظهر منها أنها كتبت في أيام "وقه آل يثع"، وكان ابنه "اليفع" يحمل لقب "ملك"، كذلك، وأن حكومة قتبان كانت أقوى من حكومة "معين"، ولهذا اعترف ملك معين بسيادة ملك قتبان عليه2.
وقد ورد اسم "اليفع يشر" في كتابات أخرى، منها الكتابة الموسومة Glaser 1144= Halevy 353، وقد دونت بأمر جماعة من أهل "نيط" لمناسبة قيامهم بترميمات وإصلاحات في الأبراج وحفر قنوات ومسايل للمياه تقربًا إلى آلهة معين3. ومنها كتابة دونت في "نشن" "نشان"، وكتابة دونت في "قرنو"، ويظهر من هذه الكتابة الأخيرة ما يؤيد رأي القائلين إن حكومة قتبان كانت أقوى من حكومة معين إذ ذاك، وإنها فرضت نفسها لذلك عليها4. إلا أن هذا لا يعني أنها فقدت استقلالها وصارت خاضعة لحكومة قتبان فإننا نرى أنها بقيت مدة طويلة بعد هذا العهد محافظة على كيانها، وعلى رأسها ملوك منهم الملك "حفن ريم" "حفن ريام" وهو ابن "اليفع يشر" وشقيقه "وقه آل نبط" و "كه ايل نبط"5.
__________
1 Background, P. 56, BOASOOR, Num., 73, (1939) . P. 7.
2 Background, P. 56.
3 Stud. Lexl., 2, S., 30-31, Mordtmann, MJn. Epigr., S., 68, 71, SB-, H, Eating,
5, JS., 13, Eutlng 22
4 Background, P. 56
5 Background, P. 141(3/96)
وورد اسم "اليفع بشر" في كتابتين عثر عليهما في "الديدان" "ددن" "ددان"1 "العلا"، أمر بتدوين إحداهما "وهب آل بن حيو ذعم رتنع"2 "عمي رتع"3 من أعيان المعينيين في الشمال ومن "الكبراء"، وأما الكتابة الآخرى فتعود لـ"يفعن" "يفعان" من رؤساء "ددان" كذلك. وقد كان هذان الرجلان من أسرتين كبيرتين عرفتا في أيام معين المتأخرة وفي عهد اللحيانيين، وورد اسم الأسرتين في عدد آخر من الكتابات4.
وورد في النص المرسوم بـ Rep. Epigr' 3707 اسم الملك "وقه آل نبط" وورد فيه اسم المدينة "قرنو" العاصمة, وهذا النص دون في أيام "هنا فامن" "هانئ فأمان" الذي كان كبيرًا على هذه المنطقة التي دون فيه النص. وهي منطقة "الخريبة" في أرض مدين أي في الأرضين التي سكنها المعينيون الشماليون5.
والملك المذكور هو ابن الملك "اليفع بشر" وشقيق الملك "حفن ريام"6. أما "البرايت"، فقد وضع هذه الأسرة التي يرأسها "يثع ايل صدق"، في نهاية الأسر الحاكمة لحكومة معين. وتتألف عنده من "يثع ايل صدق"، ومن "وقه ايل يثع" ابنه، ومن "اليفع بشر"، ومن "حفن ريام"، ومن "وقه ايل نبط"7. وقد كان حكم "وقه ايل صدق" -على رأيه- في حوالي السنة "150 ق. م"، وقد كان تابعًا للملك "شهر يجل يهرجب" "شهر يكل يهركب" ملك قتبان8.
وترك "فلبي" بعد اسم "حفن ريام" و"وقه ايل نبط" فراغًا لا يدري من حكم فيه، قدره بعشرين عامًا، ويبدأ -على رأيه- من سنة "770" وينتهي بسنة "750 ق. م"، ثم وضع بانتهائه ابتداء أسرة أخرى جديدة، جعلها الأسرة الرابعة من الأسر التي حكمت حكومة معين. وقد ابتدأها بـ "ابيدع
__________
1 Rep. Eplg., 3341, Rep. Eplg. 3355b, Le MusSon, LXIL 3-4, (1949) , P. 234, Eutlng 10, Jausen - Savignag, Mission, n, (732) , P. 256
Le Mus£on, T.XTT, 3-4, (1949) , P. 234. "عم رتع"، "عمر تع"
3 BOASOOR, Num., 73, (1939) , P. 6
4 JS 43, 245, 276, 281, 288, JS, 50, 196, 197, 216,
5 Rep. Eplg., 3707, Jaussen-Savignang, Mission, H, P. 301,
Handbuch, I, S., 72
6 Handbuch, I, 72, Albright, The Chronology, P. 12
7 BOASOOR, Num., 119, (1950) , P. 12
8 Ibid(3/97)
ريام"، ثم بابنه "خل كرب صدق" "خال كرب صديق". وقد ورد اسمه في كتابه وجدت في "قرنو" لمناسبة "تدشين" معبد "لعشتر ذ قبض" "عثتر ذو قبض"، وكان له ولدان، هما: "حفن يثع" و "أوس" وقد تولى "حفن يثع" عرش "معين" بعد وفاة أبيه، ومن الجائز -على رأي "فلبي"- أن يكون شقيقه "أوس" قد اشترك معه في الحكم1.
وورد عهد الملك "خلكرب صدق" "خالكرب صديق" "خالكرب صادق" في الكتابة المرقمة بـ Glaser 1153 =Halevy 243، وذلك لمناسبة تقديم جماعة ذكرت أسماؤهم في الكتابة نذرًا إلى الآلهة "عثتر ذ قبض" في معبده بـ "رصف" "رصاف" "رصفهم" لقبيلة "هورن" "هوران". فذكروا أن ذلك كان تيمنًا بآلهة "معين" و"يثل" في عهد هذا الملك. وأما الرجال الذين قدموا ذلك النذر، فهم: "مشك بن حوه" من "خد من" "خدمان" "آل خدمان" من قبيلة "زلتن" "زلتان"، و "أوس بن بسل" "باسل" من "آل وكيل" "ذو كل" و "متعن بن حمم" "متعان بن حمام" من "آل وكيل"، و"ذو كل" و "باسل بن لحيان"2. من "آل وكيل" و"ثني بن أبأنس"3. من قبيلة "معهرم" "معهر"4، و "مذكر بن عمانس" من "حرض"5 وآخران. وقد ذكر بعد اسم الملك اسم "الكبير". "كبر"6 الذي كان يحكمهم، وهو "مشك" من "آل خد من" "آل خدمان"7.
ويرى "فون وزمن" أن الملك "خل كرب صدق"، "خال كرب صديق"، هو الذي بنى معبد "رصف"، "رصفهم"، المعبد الشهير عند المعينيين. ويقع هذا المعبد خارج سور "قرنو" العاصمة، على مسافة
__________
1 Background. p. 57
2 "بسل بن لحين"، السطران السادس والسابع من النص.
3 "وثنى بن أبانس".
4 "ذ معهر".
5 "ذ حرض".
6 "كبر هسم"، السطر19.
7 "خليل يحيى نامي، نقوش خربة معين "مجموعة محمد توفيق"، من منشورات المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة, القاهرة 1952م "ص 20"، النقش رقم15.
8 Beltrage. S 73(3/98)
حوالي "750" مترًا من المدينة1. وقد عثر في أنقاضه على عدد من الكتابات.
وتيمن بذكر الملك "خالكرب صديق" ملك معين في نص آخر، دونه "مشك بن حوه" من "آل خدمان" من قبيلة "زلتان" أي الشخص الذي مر ذكره في الكتابة السابقة بالاشتراك مع أناس آخرين، هم: "حيوم بن هوف" و "وينان"2 و"مأوس" ابن عمه من "آل كزيان"3، "جزيان" و"هبان" "وهب"4 وأخوه "اكر"5 ابنا "صبح" من "آل جزيان"، و"أوسان"، وجماعة آخرون سقطت أسماؤهم من الكتابة. وقد ذكر بعد اسم الملك اسم "الكبير"6 الذي في عهده كتبت الكتابة وهو "مشك ذ خدمان" أي "مشك" من "آل خدمان" أو "كبير خدمان" "ذو خدمان" وهو الكبير المذكور في الكتابة السابقة7.
وقد ورد اسم هذا الملك في الكتابة الموسومة بـ 8Halevy 241+ 242. وقد أمر صاحبها بتدوينها لمناسبة تبحيره بئره المسماة "ثمر" "ثمار"9 على مقربة من معين وتوسيعها وطيها "أي بنائها"، وتسويره مزارعه وقد قوى وحصن البرج المشرف عليها. وتيمنًا بهذه المناسبة، ذكر اسم "عثتر ذ قبض" و"ود" و"نكرح" و "عثر ذ يهرق" آلهة معين، والملك "خالكرب صديق" وشعب معين10.
أما "البرايت"، فكان قد ذكر في نهاية بحث له نشره في سنة "1950م" عن ملوك معين أن هناك ما لا يقل عن خمسة ملوك نعرفهم أنهم من ملوك معين غير أننا لا نستطيع أن نعرف مواضعهم التي يجب أن يوضعوا فيها بين ملوك
__________
1 المصدر نفسه "ص 14".
2 "وينن".
3 "كزين" بحرف الجيم على حسب النطق المصري.
4 "وهبن".
5 "اكر" "اجر".
6 "كبر".
7 خربة معين، ص 26، النقش رقم 18، Glaser 1154
Halevy 195 PEP Eptgr 2777
Glaser 1161. REP Eptgr. 2817 2818
9 "ثمر".
10 خربة معين ص25، النقش رقم 17.(3/99)
معين. وهؤلاء الملوك هم: "أبيدع ريام"، ثم ابنه "خلكرب صدق" "خليكرب صديق" "خال كرب صديق"، ثم ابنه "حفنم يثع" "حفن يثع"، ثم "يثع ايل ريام" وابنه "تبع كرب"1.
ثم عاد "البرايت" فغير رأيه في بحث نشره في سنة 1953م في هذا الموضوع أيضًا: موضع ترتيب ملوك معين. فقد وضع اسم "يثع ايل ريام" بعد اسم "عم يثع نبط" وهو ابن "اب كرب" "أبكرب" وقد حكم -على رأيه- بعد "اليفع يفش" وذلك في حوالي السنة "300 ق. م"، ثم وضع بعده اسم "تبعكرب" تبع كرب"، وهو ابن "يثع ايل ريام" ثم ذكر اسم "خليكرب صدق" "خاليكرب صديق" "خال كرب صديق" من بعده، وهو ابن "أبيدع ريام"، وقد كان حكمه في حوالي السنة "250 ق. م."، ثم جعل اسم "حفن يثع" من بعده وهو ابنه2. وبذلك قدم هذه الأسماء في هذا البحث بأن جعلها في المجموعة الأولى من المجموعات الثلاث التي حكمت مملكة معين.
وقد خم "فلبي" قائمته لأسماء ملوك معين بأن وضع فراغًا مقداره عشرون عامًا، لا يدري من حكم فيه، أنهاه بسنة "670 ق. م."، ثم تحدث عن أسرة خامسة زعم أن أعضاءها هم: "يثع ايل ريام"، وقد حكم في حوالي السنة "670ق. م." ثم "تبع كرب" وهو ابنه وقد كان حكمه من سنة "650 ق. م." حتى سنة "630" ق. م." وكان له شقيق اسمه "حيو" "حي" ربما كان قد شاركه في الحكم3. وبذلك أنهى "فلبي" قائمته لملوك "معين".
وقد وضع "البرايت" قائمة رتب فيها ملوك معين، فجعل أولهم "اليفع يثع"، وقد حكم على رأيه حوالي سنة "400 ق. م."، وابن "صدق ايل" ملك حضرموت. وعندي أن البدء بهذا الملك على أنه أقدم ملوك معين، يدل على أن مملكة معين كانت في أقدم عهودها خاضعة لممكلة حضرموت، وهو يحتاج إلى دليل، ولم يرد في نص أن حكومة معين كانت خاضعة في بادئ
__________
1 BOASOOR, nUM, 119, "1950", p. 12
2 boasoor, nUM. 129, "1953", p. 23
3 Background, P. 141(3/100)
الأمر لحكومة حضرموت، ثم استقلت عنهما، بل يذهب أكثر علماء العربيات الجنوبية إلى تقدم معين على حضرموت في القدم، ويلاحظ أيضًا أنه جعل الملك "يدع ايل" على رأس قائمة ملوك حضرموت وقد كان هذا الملك على رأيه أيضًا معاصرًا للملك "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر"، وقد حكم على رأيه حوالي سنة "450 ق. م."1.
والواقع أننا لا نستطيع التحدث عن صلة "صدق ايل" ملك حضرموت بمعين بصورة جازمة، وإن كان الغالب على الظن أنه كان ملكًا على شعب معين وشعب حضرموت. ولكننا لا نستطيع أن نؤكد أنه كان حضرميًّا، كما أننا لا نستطيع أن نقول جازمين أنه من معين، وقد سبق أن تحدثت عنه، والظاهر أنه كان ملكًا أيضًا على معين، وقد سبقه بالطبع جملة ملوك حكموا دولة معين كانوا من المعينيين. أما ابنه "اليفع يثع"، الذي جعله "البرايت" أول ملوك معين، فقد ورث عرش معين من أبيه على نحو ما رأى "فلبي"، على حين ورث شقيقه "شهر علن" "شهر علان" عرش حضرموت، وهذا يدل على أن رابطة دموية كانت تربط بين حكام الشعبين، يؤيد ذلك أن "معد يكرب بن اليفع يثع" هو الذي تولى عرش حضرموت بعد "شهر علن" أي بعد وفاة "عمه"، وأبوه كما رأيت ملك معينًا.
وجعل "البرايت" "حفن ذرح" بعد "اليفع يثع"، وهو ابنه ولعله الابن الأكبر، وهو شقيق "معد يكرب" ملك حضرموت، أي أن ولدي "اليفع يثع" كانا قد اقتسما تاج معين وتاج حضرموت.
وتولى عرش معين بعد "حفن ذرح" "اليفع ريام"، وقد تولى أيضًا عرش حضرموت على رأي "البرايت"، ثم تولى بعده "هوف عث"، ثم "اب يدع"، وهو شقيقه وابن "اليفع ريام"، وإلى أيامه يعود النص المعروف بـ Halevy 535+ 578، 2 الذي يتحدث عن حرب نشبت بين "مدي" "ماذي" و"مصر". ويرى "البرايت" استنادًا إلى هذا النص أن حكمه
__________
1 BoAsoor Num 119 ,1950, P, 14- 15
2 GLASER 1155(3/101)
يجب أن يكون في حوالي عام "343 ق. م."1. أما "فلبي" فقد جعل حكمه في حوالي عام "935 ق. م."، وجعله العاشر بحسب تسلسل الملوك2.
وتتشابه قائمة "البرايت" وقائمة "فلبي" في تسلسل المجموعة التي تولت حكم معين هي والتي تبدأ بـ "اب يدع يثع" وتنتهي بـ "اليفع يفش"، ثم تختلف قائمته عن قائمة "فلبي"، إذ يذكر "فلبي" أسرة جديدة، يرى أنها حكمت بعد تلك الأسرة بمدة قدرها بزهاء عشرين عامًا، على عادته في تقدير متوسط مدة حكم كل ملك من الملوك وتبدأ على رأيه بـ "يثع ايل صديق" ثم بابنه "وقه ايل يثع" ثم بـ "اليفع يشر" ثم بـ "حفن ريام" ابن "اليفع يشر"، ثم "وكه ايل بنت" و"وجه ايل نبط". أما "البرايت" فيذكر، قبل هذه السلالة التي تبدأ بـ "اليفع وقه"، ثم بـ "وقه ايل صديق" ثم بـ "اب كرب يثع"، ثم تنتهي بـ "عم يثع ثبط" "نبط". وقد حكم "اليفع وقه" على رأي "البرايت" في حوالي سنة "250 ق. م"3، على حين قدم "فلبي" هذه السلالة وجعلها في رأس قائمة ملوك معين. وقد حكم "اليفع وقه" على رأيه حوالي سنة "1120 ق. م.".
وذكر "البرايت" بعد الأسرة المتقدمة أسرة أخرى جعل على رأسها "يثع آل صدق"، ثم "وقه آل يثع"، وهو ابن "يثع آل صديق"، وقد ذكر أنهما كانا تابعين للملك "شهر يجل يهرجب"، ملك قتبان الذي حكم على تقديره في حوالي سنة "150ق. م." وجعل بعد "وقه آل يثع" ابنه الملك "اليفع يشر" وقد ورد اسمه في كتابة عثر عليها في "ددان" "ديدان"، ثم جعل من بعده ابنه "حفن عم ريام"، ثم شقيقه "وقه آل نبط"، وقد ورد اسمه في كتابة "ديدان".
وذكر "البرايت" أنه لا يستطيع تعيين زمن حكم الملوك "اب يدع ريام" وابنه "خلكرب صدق"، وابنه "جفن عم يثع"، و"يثع آل ريام"،
__________
1 BOASOOR, N'um. 119, (1950) , P. 15, W.F. Albright, The Chronology of Ancient South Arabia m the Light of the First Campaign of Excavation
in Qataban, Baltimore, 1950, P. 11
2 Background, P. 141
3 BOASOOR, Num. 119, "1950", P. 15(3/102)
وابنه "تبع كرب"1.
ويرى "فون وزمن" احتمال كون "اليفع يشر الثاني" هو آخر ملك من ملوك معين، وقد لقب "البرايت" هذا الملك "بالثاني"، أيضًا ليميزه عن ملك آخر عرف بهذا الاسم وضعه في الجمهرة الثانية من الجمهرات الثلاث التي صنعها لملوك معين، لهذا دعاه بـ "الأول"2. وقد جاء في الكتابة الموسومة بـ REP. EPIg. 3021 اسمه واسم "شهل يجل يهرجب" ملك قتبان، كما سبق أن ذكرت، وهذا مما يدل على أنه كان معاصرًا لملك قتبان المذكور. وقد حكم فيما بين السنة "75 ق. م." والسنة "50 ق. م.". أما "فون وزمن"، فيرى أن حكمه كان في حوالي السنة "45 ق. م."3.
وقد عاد "البرايت" كما قلت سابقًا فأعاد النظر في قائمته المذكورة التي وضعها لملوك معين، فقدم وأخر ووضع تواريخ جديدة، أشرت إلى بعضها فيما سبق وسأنقل قائمته نقلًا كاملًا في نهاية هذا الفصل4.
وقد جعل "البرايت" زمان حكم المجموعة الأولى من حكام معين بين السنة "400 ق. م" والسنة "200 ق. م." أما زمان حكم المجموعة الثانية فقد جعله بين السنة "200 ق. م." والسنة "100 ق. م." إلى الـ "57 ق. م". وأما زمان حكم المجموعة الثالثة فمن أوائل القرن الأول قبل الميلاد إلى النصف الأخير منه، فيما بين السنة "50 ق. م." والسنة "25ق. م."5.
غير أنه بين أنه لا يريد أن يؤكد أن قائمته هذه قائمة ثابتة لا تقبل تعديلًا ولا إصلاحًا. فقد يجوز أن تعدل في المستقبل في ضوء الاكتشافات الجديدة، كما عدلت قائمته السابقة تعديلًا كبيرًا، وقد رتب قائمته الثانية في ضوء دراسة تطور الخط وشكل الكتابة عند العرب الجنوبيين بحسب العصور. ولكن هذا لا يكفي وحده بالطبع في إبداء أحكام قاطعة صحيحة بالنسبة إلى السنين.
أما قائمة "كليمان هوار"، فتتألف من سبع مجموعات، رجال المجموعة الأولى الملك "يثع ال صديق" والملوك "وقه ايل يثع" و "اليفع يشر"
__________
1 The Chronology., P. 12, BOASOOR, Num. 19, (1950) , P. 15
2 BOASOOR, Num. 129, (1953) , P. 24
3 Le Museon, 1964, 3-4, PP. 442
4 BOASOOR, Num. 129, (1953) , PP. 20
5 BOASOOR, Num. 129, O953) , P. 12(3/103)
و "حفن عم ريم" "حفن ريام"، ورجال المجموعة الثانية الملوك: "اليفع يثع" و"اب يدع يثع" و"وقه ايل ريام"، و"حفنم صديق" "حفن صديق" "حفن صدق"، و"اليفع يفش". ورجال الجمهرة الثالثة هم الملوك: "اليفع وقه" و "وقه ايل صديق" و"اب كرب يثع"، و"عم يدع نبط" "عمي يدعي نبط". ورجال الجمهرة الرابعة الملوك: "اليفع ريام" و"هوف عثت". وأما الجمهرة الخامسة، فتتألف من "أب يدع" ولم يذكر لقبه، ومن "خال كرب صديق" ومن "حفن يثع". وأما المجموعة السادسة، فتتكون من "يثع ايل ريام"، و"تبع كرب". وأما المجموعة السابعة، فعمادها "اب يدع"، ولم يذكر لقبه و"حفنم"1.
ويلاحظ أن ملوك معين، وكذلك ملوك سائر الحكومات العربية الجنوبية كانوا يحملون ألقابًا مثل "يثع" بمعنى المنقذ أو المخلص، و"صدق" "صدوق" أي "الصادق" و"العادل" و"الصدوق"، و"ريم" "ريام" بمعنى "العالي" و"نبط" بمعنى الآمر" و"يفش"، بمعنى" الفخور" و"المتكبر" أو "المتعالي"، و"يشر" بمعنى" المستقيم" و"ذرح"، بمعنى "الوضاح"، أو "المنير" أو "المشرق"، و"وتر"، بمعنى "المتعالي"، و"بين" بمعنى "الظاهر" والبين2. ‘إلى غير ذلك من ألقاب ترد في الكتابات المعينية والسبئية والقتبانية والحضرمية والكتابات الأخرى.
ومما يلاحظ أيضًا أن ملوك الروم والرومان والفرس، كانوا أيضًا يتلقبون بمثل هذه الألقاب. وقد تلقب الخلفاء والملوك بمثل هذه الألقاب في العصور العباسية، أما الخلفاء الراشدون والأمويون، فلم يميلوا إلى استعمالها، ولعل استعمال العباسيين لها كان تشبهًا بفعل الملوك المذكورين، وبتأثير الموالي الذين نقلوا إلى المسلمين كثيرًا من رسوم الملك عند الفرس واليونان.
وقد ورد في الكتابة الموسومة3 بـHalevy 208، وهي من "معين" اسم
__________
1 Geschlchte der Araber, I, 8., 56
2 Handbuch, I, 8., 68
3 Glaser 1089-1660, Rhodokanakis, Stud. Lexl., n, 8., 26(3/104)
ملك من ملوك معين، هو "اليفع يثع"، وذكر بعده اسم "ابيدع" "أبي دع"1.
ولم يلقب أي واحد منهما بلقب "ملك"، وإنما ذكرا بعد ذكر أسماء آلهة معين. وجاء بعد ذلك في جملة تالية "ملوك معين"2. ويظهر بوضوح من هذا النص أن "اليفع يثع" و"أبيدع" كانا ملكين من ملوك معين. وأن في عهدهما دونت هذه الكتابة، تيمنًا باسمهما، وتخليدًا لتأريخها. وقد لاحظت أن الباحثين في حكومة معين لم يشيروا إلى اسميهما في ضمن القوائم التي وضعوها لحكام تلك الحكومة.
__________
1 الفقرة الرابعة من النص.
2 الفقرة الخامسة من النص.(3/105)
حكومات عدن:
انقرضت حكومة "معين" وحلت محلها حكومة "سبأ" غير أن هذا لا يعني انقراض شعب معين بانقراض حكومته، وذهابه من عالم الوجود، إذ ورد اسم المعينيين في عدد من الكتابات المعينية التي يرجع عهدها إلى ما بعد سقوط حكومتهم، كما ورد اسمهم في المؤلفات الكلاسيكية التى تعود إلى القرن الأول للميلاد1. وقد سبق أن ذكرت رأي المتخصصين في العربيات الجنوبية في هذا الموضوع. أما متى خفي اسمهم من عالم الوجود خفاء تامًا، فذلك سؤال لا تمكن الإجابة عنه الآن، إذ يتطلب ذلك التأكد من أننا قد وقفنا على جميع الكتابات العربية الجنوبية والمؤلفات الكلاسيكية، ولا إخال أن في استطاعة أحد إثبات هذا الإدعاء.
أعود فأقول: تباينت آراء العلماء في تعيين الزمن الذي ظهرت فيه ممكلة "معين" إلى الوجود، كما تباينت في نهايتها كذلك ذهب "البرايت" إلى أن النهاية كانت في حوالي سنة "100 ق. م."2، ثم عدل عن ذلك فجعلها في النصف الأول من القرن الأخير قبل الميلاد، بين سنة "50" وسنة "25" قبل الميلاد4. وجعلت "بيرين" نهايتها في حوالي سنة "100 ب. م"5.
__________
1 Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 231, <South Arabian Chronology>. By Phllby.
2 The chronology, In BOASOOR, Num. 119, 1950, P. 5-15
3 BOASOOR, Num. 129, 1953, P. 24, Le Museon, 1964, 3-4, P. 434
4 J. Plrenne, Royaume, P. 7, Le Museon, 1964, P. 435(3/105)
والذي أرجحه أن نهايتها كانت بعد الميلاد، لورود اسمها مملكة إلى ما بعد الميلاد.
وقد جعل "البرايت" في أحد رأييه في سقوط حكومة معين سنة "115" قبل الميلاد، وهي مبدأ التقويم السبئي، هي سنة زوال حكم معين، فلأهمية هذه الحادثة اتخذت مبدأ لتقويم يؤرخ به. وذهب آخرون إلى أن نجم معين أخذ في الأفول ما بين سنة "125" وسنة "75 ق. م."1.
وفي خلال الفترة التي انصرمت بين أواخر أيام حكومة معين واندماجها نهائيًّا في ممكلة "سبأ"، وظهرت حكومات صغيرة يمكن أن نشبهها بحكومات المدن، انتهزت فرصة ضعف ملوك معين، فاستقلت في شؤونها، ثم اندمجت بعد ذلك في سبأ، ومن هذه الحكومات "هرم" "الهرم" و"نش" "نشان" و"كمنت" "كمنه" "كمنهو"2، "كمنا" وغيرها3. ويمكن اعتبار ممكلة "لحيان" التي كان مركزها في "الديدان" "ددن"، أي "العلا" من الحكومات التي استقلت في أيام ضعف المعينيين4, وقد كانت في الأصل جزءًا من أرضي هذه المملكة يحكمها كبير.
وقد عرفنا من الكتابة الموسومة بـ Halevy 154ملكًا من ملوك "هرم" سمي "يذمر ملك". وقد غزا مدينة "نشن" "نشان". ودمرها تنفيذًا لطلب الملك "كرب ايل وتر" ملك سبأ، الذي كان معاصرًا له، وقد وهب له "كرب ايل وتر" في مقابل هذه الخدمة جزءًا من أرض "نشن" عرف بخصبه وبوجود الماء فيه5. وقد ورد اسمه في عدد آخر من الكتابات6.
وكان له ولد اسمه "بعثتر" جلس على عرش "هرم"، وشقيق اسمه "وروال ذرحن" "وروايل ذرحان"7.
وقد ورد في النص الموسوم بـ Glaser 1058 اسم ملك آخر من ملوك "هرم"
__________
1 Beltrage, a, 33
2 Philby, in Le Mus6on, T.XTT, 3-4, 1949, P. 231
3 الصفة "ص167"
4 Le Mus6on, LXH, 1949, 3-4, P. 231
5 BeltrSge, S., 15.
6 Halevy 144, 145, 146, 148, 150, 151, 153, 154, 6 155, 156, 158, 159.
7 Halevy 160, Handbuch I, S., 82(3/106)
هو "معد كرب ريدن" "معد يكرب ريدان"، وأبوه هو "هوترعثت"1.
وقد تبين من فحص الكتابات المدونة في مملكة "هرم" أن لها خصائص صرفية ونحوية تستحق العناية والدرس، ويظهر أن هذه الخصائص إنما نشأت من موقع هذه المدينة ومركزها السياسي والأحداث السياسية التي طرأت عليها، ومن الاختلاط الذي كان بين سكانها، فأثر كل ذلك في لهجة السكان2. ويرى "هارتمن" أن لهجة كتابات "هرم" من اللهجات التي يمكن ضمها إلى الجمهرة التي تستعمل حرف "هـ" في المزيد مقابل حرف "س" في الجمهرة التي تستعمل هذا الحرف في الفعل المزيد3.
__________
1 Handbuch, I, S., 82, Rhodokanakis, KTB, n, S., 62, Hofmus.,
13, Glaser 1058, Halevy 398.
2 Rhodokanakis, KTB, II, S., 62, Hommel, Grundriss, 8., 686
3 Hartmann, Arab. Irage., S., 179(3/107)
مملكة كمنه:
ومن ملوك مملكة "كمنه" "كمنهو"، الملك "نبط علي"، وقد ورد اسمه في بعض الكتابات1. وورد في كتابة يظن أنها من كتابات "كمنهو" مكسورة سقطت منها كلمات في الأول وفي الآخر، جاء فيها: وبمساعدة عثتر حجر"هجر" و"نبط علي". المقصود بـ "عثتر حجر" "هجر" الإله عثتر سيد موضع يقال له "حجر" "هجر"، وربما كان في هذا المكان معبد لعبادة هذا الإله، وجاء قبل ذلك: "نبعل دللن" "نبعل الدلل"، وهذه الجملة ترد لأول مرة في الكتابات، ويظهر أن معناها "بعل الدلل" أو "الدليل"، ويظهر أن "الدلل" أو"الدليل" من الصفات التي أطلقها شعب "كمنه" "كمنهو" على عثتر2.
وكان لـ "نبط علي" ولد أصبح ملك "كمنه" "كمنهو" بعد والده، هو: "السمع نبط". وقد وصلت إلينا كتابة، جاء فيها: "السمع نبط بن نبط على ملك كمنهو وشعبهو كمنهو لا لمقه ومريبو ولسبا"3، أي "السمع
__________
1 Orlentlla, Vol., V, (1936) , P. 8, Halevy 269-278, 327, 389, Handbuch, I, S., 82
2 Orientlia, Vol., V, (1936) , P. 6
3 CIH, IV, n, I, P., 32-33, 377(3/107)
نبط بن نبط على ملك كمنه وشعبه شعب كمنه، لألمقه ومأرب ولسبأ"، وهذه العبارة تظهر بجلاء أن ممكلة "كمنو" "كمنهو" كانت مستقلة في هذا الزمن استقلالًا صوريًّا، وأنها كانت في الحقيقة تابعة لحكومة "سبأ" ولمأرب العاصمة يدل على ذلك تقربها إلى "المقه"، وهو إله السبئيين ولمأرب العاصمة، أي لملوكها ولشعب سبأ، وكان من عادة الشعوب القديمة أنها إذا ذكرت آلهة غيرها فمجدتها وتقربت إليها، عنت بذلك اعترافها بسيادة الشعب الذي يتعبد لتلك الآلهة عليها.(3/108)
حكومة معين:
حكومة معين حكومة ملكية يرأسها حاكم يلقب بلقب "ملك"، غير أن هذه الحكومة، وكذلك الحكومات الملكية الأخرى في العربية الجنوبية، جوزت أن يشترك شخص، أو شخصان أو ثلاثة مع الملك في حمل لقب"ملك"، إذا كان حامل ذلك اللقب من أقرباء الملك الأدنين، كأن يكون ابنه أو شقيقه، فقد وصلت إلينا جملة كتابات، لقب فيها أبناء الملك أو أشقاؤه بلقب ملك، وذكروا مع الملك في النصوص. ولكننا لم نعثر على كتابات لقب فيها أحد بهذا اللقب، وهو بعيد عن الملك، أي ليس من أقربائه المرتبطين به برابطة الدم. كما أننا لا نجد هذه المشاركة في اللقب في كل الكتابات، وهذا مما يحملنا على الظن بأن هذه المشاركة في اللقب، كانت في ظروف خاصة وفي حالات استثنائية، ولهذا خصصت بأبناء الملك أو بأشقائه، ولهذا أيضًا لم ترد في كل الكتابات، بل وردت في عدد منها هو قلة بالنسبة إلى ما لدينا الآن من نصوص.
ولم تبح لنا أية كتابة من الكتابات العربية الجنوبية بسر هذه المشاركة أكانت مجرد مجاملة وحمل لقب، أم كانت مشاركة حقيقية، أي أن الذين اشتركوا معه أيضًا في تولي أعمال الحكم كلية، أو بتولي عمل معين من الأعمال، بأن يوكل الملك من يخوله حمل اللقب القيام بوظيفة معينة؟ ولم تبح لنا تلك الكتابات بأسرار الدوافع التي حملت أولئك الملوك على السماح لأولئك الأشخاص بمشاركتهم في حمل اللقب، أكانت قهرية كأن يكون الملك ضعيفًا مغلوبًا على أمره، ولهذا يضطر مكرهًا إلى إشراك غيره معه من أقربائه الأدنين لإسناده ولتقوية مركزه، أم كانت(3/108)
برضى من الملك ورغبة منه، فلا إكراه في الموضوع ولا إجبار؟
ويظهر من الكتابات المعينية أيضًا أن الحكم في معين، لم يكن حكمًا ملكيًّا تعسفيًّا، السلطة الفعلية مركزة في أيدي الملوك، بل كان الحكم فيها معتدلًا استشاريًّا يستشير الملوك أقرباءهم ورجال الدين وسادات القبائل ورؤساء المدن، ثم يبرمون أمرهم، ويصدرون أحكامهم على شكل أوامر ومراسيم تفتتح بأسماء آلهة معين، ثم يذكر اسم الملك، وتعلن كتابة ليطلع عليها الناس.
وقد كانت المدن حكومات، لكل مدينة حكومتها الخاصة بها، ولهذا كان في استطاعتنا أن نقول إن حكومة معين هي حكومات مدن، كل مدينة فيها حكومة صغيرة لها آلهة خاصة تتسمى باسمها، وهيئات دينية، ومجتمع يقال له:
"عم"، بمعنى أمة وقوم وجماعة، ولكل مدينة مجلس استشاري يدير شئونها في السلم وفي الحرب، وهو الذي يفصل فيما يقع بين الناس من خصومات وينظر في شئون الجماعة "عم".
وكان رؤساء القبائل يبنون دورًا، يتخذونها مجالس، يجتمعون فيها لتمضية الوقت وللبت في الأمور وللفصل بين أتباعهم في خلافاتهم، ويسجلون أيام تأسيسها وبنائها، كما يسجلون الترميمات والتحسينات التي يدخلونها على البناية. وتعرف هذه الدور عندهم بلفظة "مزود"1. ولكل مدينة "مزود"، وقد يكون لها جملة "مزاود"، وذلك بأن يكون لشعابها وأقسامها مزاود خاصة بها، للنظر فيما يحدث في ذلك الشعب من خلاف، ويمكن تشبيه المزود بدار الندوة عند أهل مكة، وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تفضي أمرًا إلا فيها، يتشاورون فيها في أمور السلم والحرب2.
وتتألف مملكة معين من مقاطعات، على رأس كل مقاطعة ممثل عن الملك، يعرف عندهم بـ "كبر"، أي "الكبير". يظهر أنه كان لا يتدخل إلا في السياسة التي تخص المسائل العليا المتعلقة بحقوق الملك وبشعب معين، ويرد
__________
1 "مزود" بحرف الزاي، ولكنه ليس كحرف الزاي في عربيتنا، بل هو أقرب إلى السين، وقد كتب بعض الباحثين، "مشود" نشر نصوص" "ص 48"، نقش 28، سطر4.
Stud. Lexi., 2, S.r 55, Mordtmann und Eugen Mlttwoch, Sabalsche Inschriften, I, S., 22. t, MM. 4.
2 StudL Lead., n, S., 58(3/109)
اسم الكبير بعد اسم الملك في النصوص على عادة أهل معين، وغيرهم من ذكر آلهتهم أولًا ثم الملوك ثم الكبراء في كتاباتهم التي يدونونها ليطلع عليها الناس.
ودخل الحكومة من الضرائب ومن واردات الأرضين التي تستغلها أو تؤجرها للناس بِجُعْل يتفق عليه. أما الضرائب فتؤخذ من التجار والزراع وسائر طبقات الشعب الأخرى، يجمعها المشايخ، مشايخ القبائل والحكام والكبراء بوصفهم الهيئات الحكومية العليا، وبعد إخراج حصصهم يقدمون ما عليهم للملك، وأما الواردات من المصادر الأخرى، مثل تأجير أملاك الدولة، فتكون باتفاق خاص مع المستغل، وبعقد يتفق عليه.
ومن الضرائب التي وردت أسماؤها في الكتابات: كتابات العقود ووفاء الضرائب والديون، ضريبة دعيت، بـ "فرعم"، أي"فرع" وضريبة عرفت بـ "عشرم" أي "عشر"، وتؤخذ من عشر الحاصل، فهي"العشر" في الإسلام1.
وكان للمعابد جبايات خاصة بها، وأرضون واسعة تستغلها، كما كان لها موارد ضخمة من النذور التي تقدم إليها باسم آلهة معين، عند شفاء شخص من مرض ألم به، وعند رجوعه سالمًا من سفر، وعند عودته صحيحًا من غزو أو حرب، وعند حصول شخص على غلة وافرة من مزارعه أو مكسب كبير من تجاراته، وأمثال ذلك. ولهذا كانت للمعابد ثروات ضخمة وأملاك واسعة ومخازن كبيرة تخزن فيها أموالها، ويعبر عن النذور والهبات التي تقدم إلى المعابد بلفظتي "كبودت" و "اكرب"، "أقرب" أي ما يتقرب به إلى الآلهة.
وتدون عادة في كتابات تعلن للناس، يذكر فيها اسم المتبرع الواهب واسم الإله أو الآلهة التي نذر لها، واسم المعبد، كما تعلن المناسبة، وتستعمل بعض الجمل والعبارات الخاصة التي تتحدث عن تلك المناسبات مثل: "يوم وهب" و"بذماد بن يدهس"، أي "بذات يده" وأمثال ذلك من جمل ومصطلحات2. وقد وصلت إلينا نصوص كثيرة من نصوص النذور، وهي تفيدنا بالطبع كثيرًا في تكوين رأينا في النذور والمعابد واللغة التي تستعمل في مثل هذه المناسبات عند المعينيين وعند غيرهم من العرب الجنوبيين.
__________
1 Studi. Lexl, II, S. 58, Glaser 1083, 144, 1150, 1155
2 Studi. Lexi, II, S. 58(3/110)
ويقوم "الناذر" أو الشخص الذي استحق عليه الضرائب أو القبيلة بتقديم ما استحق عليه إلى المعبد، وكانت تعد "ديونًا" للآلهة على الأشخاص. فإذا نذر الشخص للآلهة بمناسبة مرض أو مطالبة بإحلال بركة في المزرعة أو في التجارة أو إنقاذ من حرب وصادف أن مرت الأمور على وفق رغبات أولئك الرجال، استحق النذر على الناذر، فردًا كان أو جماعة، ولذلك يعبر عنه بـ "دين"، فيقال "دين عثتر" أو"دين ... "1.
وقد يفوض الملك أوالمعبد إلى رئيس سيد قبيلة أو غني استغلال مقاطعة أو منجم أو أي مشروع آخر في مقابل شروط تدون في الكتابات، فتحدد الحدود، وتعين المعالم، وينشط المستغل للاستفادة منها وأداء ما اتفق عليه من أداء للجهة التي تعاقد معها، ويقوم بجباية حقوق الأرض أن كان قد أجرها لصغار المزارعين وبدفع أجور الأجراء وبتمشية الأعمال، ويكون هو وحده المسئول أمام الحكومة أو المعبد عن كل ما يتعلق بالعمل، وعليه وحده أن يحسب حساب خسائره وأرباحه.
ويتعهد الكبراء وسادات القبائل والحكام عادة بجمع الضرائب من أتباعهم ودفع حصة الحكومة، كما يتعهدون بإنشاء الأبنية كإنشاء المباني الحكومية وإحكام أسوار المدن وبناء الحصون والأبراج والمعابد وما شاكل ذلك، مقابل ما هو مفروض عليهم من ضرائب وواجبات أو تفويض التصرف في الأرضين العامة، فإذا تمت الموافقة، عقد عقد بين الطرفين، يذكر فيه أن آلهة معين قد رضيت عن ذلك الاتفاق، وأن المتعهد سيقوم بما اتفق عليه. وإذا تم العمل وقد يضيف إليه المتعهد من جيبه الخاص، ورضي عنه الملك الذي عهد إليه بالعمل أو الكهنة أرباب المعبد أو مجلس المدينة، كتب بذلك محضر، ثم يدون خبره على الحجر، ويوضع في موضع ظاهر ليراه الناس، يسجل فيه اسم الرجل الذي قام بالعمل، واسم الآلهة التي باسمها عقد العقد وتم، واسم الملك الذي تم في أيامه المشروع، واسم "الكبير" الحاكم أن كان العقد قد تم في حكمه وفي منطقة عمله.
وتعهد المعابد أيضًا للرؤساء والمشايخ القيام بالأعمال التي تريد القيام بها، مثل
__________
1 Glaser 1150.Halevy 353(3/111)
إنشاء المعابد وصيانتها وترميمها والعناية بأملاكها وباستغلالها بزرعها واستثمارها نيابة عنها، وقد كان على المعابد كما يظهر من الكتابات أداء بعض الخدمات العامة للشعب، مثل إنشاء مبان عامة أو تحصين المدن ومساعدة الحكومة في التخفيف عن كاهلها؛ لأنها كانت مثلها تجبي الضرائب، من الناس وتتلقى أموالًا طائلة من الشعب وتتاجر في الأسواق الداخلية والخارجية، فكانت تقوم بتلك الأعمال في مقابل إعفائها من الضرائب، وقد كانت وارداتها السنوية ضخمة قد تساوي واردات الحكومة.
وتخزن المعابد حصتها من البخور واللبان والمر والحاصلات الأخرى في خزائن المعبد، وتأخذ منها ما تحتاج إليه، مثل البخور للأعياد وللشعائر الدينية وتبيع الفائض، وقد ترسله مع القوافل لبيعه في البلاد الأخرى، وقد تعود قوافلها محملة ببضائع اشترتها بأثمان البضائع المبيعة، ولذلك كان أرباحها عظيمة، وكان أكثر الكهان من البيوتات الكبيرة ومن كبار الأغنياء.(3/112)
نقود معينية:
تعامل قدماء المعينيين مثل غيرهم من شعوب العالم بالمقايضة العينية، وبالمواد العينية دفعوا للحكومة وللمعابد ما عليهم من حقوق، وبها أيضًا دفعت أجور الموظفين والمستخدمين والعمال والزراع، وقد استمرت هذه العادة حتى في الأيام التي ظهرت فيها النقود، وأخذت الحكومات تضرب النقود، وذلك بسبب قلة المسكوكات، وعدم تمكن الحكومات من سك الكثير منها كما تفعل الحكومات في هذه الأيام.
وقد عرف المعينيون النقود، وضربوها في بلادهم، فقد عثر على قطعة نقد هي "دراخما" أي درهم، عليها صورة ملك جالس على عرشه، قد وضع رجليه على عتبة، وهو حليق الذقن متدل شعره ضفائر، وقد أمسك بيده اليمنى وردة أو طيرًا وأمسك بيده اليسرى عصا طويلة، وخلفه اسمه وقد طبع بحروف واضحة بارزة بالمسند، وهو "اب يثع" و"أمامه الحروف الأول من اسمه، وهو الحرف "أ" بحرف المسند، دلالة على أنه الآمر بضرب تلك القطعة، ولهذا القعطة من النقود أهمية كبيرة في تأريخ "النميّات" في بلاد(3/112)
العرب وفي دراسة الصلات التجارية بين جزيرة العرب والعالم الخارجي.
ويظهر من دراسة هذه القطعة ومن دراسة النقود المتشابهة التي عثر عليها في بلاد أخرى، أنها تقليد للنقود التي ضربها خلفاء الإسكندر الكبير، سوى شيء واحد، هو أن عملة "أب يثع" قد استبدلت فيها الكتابة اليونانية بكتابة اسم الملك "اب يثع" الذي في أيامه، ثم ضرب تلك القطعة بحروف المسند، أما بقية الملامح والوصف، فإنها لم تتغير ولم تتبدل، ولعلها قالب لذلك النقد، حفرت عليه الكتابة بالمسند بدلًا من اليونانية. ويعود تأريخ هذه القعطة إلى القرن الثالث أو القرن الثاني قبل الميلاد1.
وقد كانت نقود "الإسكندر الكبير" والنقود التي ضربها خلفاؤه من بعده مطلوبة مرغوبة في كل مكان، حتى في الأمكنة التي لم تكن خاضعة لهم، شأنها في ذلك اليوم شأن الجنيه أو الدولار في هذا اليوم، وتلك النقود لا بد أن تكون قد دخلت بلاد العرب مع التجار ورجال الحملة الذين أرسلهم لاحتلال بلاد العرب، فتلقفها التجار هناك وتعاملوا بها، وأقبلت عليها الحكومات، ثم أقدمت الحكومات على ضربها في بلادها بعد مدة من وصول النقود إليها، وأسست بذلك أولى دور ضرب النقود في بلاد العرب, ولا بد أن يكون نقد "اب يثع" قد سبق بنقد آخر. سبق هو أيضًا بالنقد اليوناني الذي وصل بلاد العرب؛ لأن درهم "اب يثع" مضروب ضربًا متقنًا، وحروفه واضحة جلية دقيقة دقة تبعث على الظن بوجود خبرة سابقة ودراية لعمال الضرب، وأدت بهم إلى إتقان ضرب أسماء الملوك على تلك النقود.
__________
1 George Fracnis Hill, Catalogue of the Greek coins of Arabia Mesopotamia, And persia, London, 1922 P. IXXXII(3/113)
الحياة الدينية:
كان في كل مدينة معبد، وأحيانًا عدة معابد خصصت بآلهة شعب معين، وقد يخصص معبد بعبادة إله واحد، يكرس المعبد له، ويسمى باسمه، وتنذر له النذور، ويشرف على إدارته قومة ورجال يقومون بالشعائر الدينية ويشرفون على إدارة أوقاف المعبد، ويعرف الكاهن والقيم على أمر الإله عندهم(3/113)
بـ "شوع"، وقد وردت اللفظة في جملة نصوص معينة1.
وقد تجمعت لدينا من قراءة الكتابات المعينية أسماء آلهة معين، وفي مقدمتها اسم"عثتر" "عثتار" ويرمز إلى "الزهرة"، ويقلب في الغالب بـ "ذ قبضم"، فيقال "عثتر ذ قبضم"، أي "عثتر القابض"، "عثتر ذو قبض"، كما ورد أيضًا "عثتر ذ يهرق" "عثتر ذو يهرق"2. ويهرق اسم مدينة من مدن معين، فيظهر أنه كان في هذه المدينة معبد كبير خصص بعبادة "عثتر".
ومن آلهة معين"ود" و"نكرح"، وترد أسماء هذه الآلهة الثلاثة في الكتابات المعينية على هذا الترتيب: "عثتر"، و"ود" و"نكرح" في الغالب، وترد بعدها في بعض الأحيان جملة: "الالت معن"، أي "آلهة معين"3. أما نكرح"، فيظهرأنه يرمز إلى الشمس، وهو يقابل "ذات حمم" "ذات حميم" في الكتابات السبئية4.
وقد ورد في عدة كتابات عثر عليها في "براقش" وفي "أبين" وفي "معين" وفي "شراع" في "أرحب" ذكر معبد كرس للإله "عثتر" دعي" بـ "يهر". كما ورد اسم حصن "يهر" وقد خصص لـ "عثتر وقبض"، وورد في كتابة أخرى اسم "يهر" على أنه بيت، وربما قصد به بيت عبادة، وورد في كتابة همدانية ذكر "يهر" أنه بيت الإله "تالب" "تألب" إله همدان، وورد اسم "يهر" على أنه اسم موضع واسم شعب.
وذكر "الهمداني" أن "يهر" هو حصن في "معين"5. ويتبين لي من اقتران "يهر" بـ "عثتر"، ومن تخصيص بيت للتعبد به سمي باسمه أن "يهر" جماعة كانت تتعبد لهذا الإله وتقدسه ولهذا دعي معبده باسمها، كما أنه اسم مدينة نسبت تلك الجماعة إليها.
__________
1 راجع النقش رقم 4، ص3، والنقش رقم 5، ص5، خربة معين.
2 Handbuch, I, S. 228, Hommel, Grundriss, I, S, 85
3 خربة معين ص21، 27، 29،
D. Nielsen, Der Sabaische Gott Ilmukah, S. 55 وسيكون رمزه: Ilmukah
4 Handbuch, I. S. 188, Ilmukah, S. 56
5 Beltrage, S. 270(3/114)
وأما "ود"، فقد ظلت عبادته معروفة في الجاهلية إلى وقت ظهور الإسلام، وقد ورد اسمه في القرآن الكريم1. وقد تحدث عنه ابن الكلبي في كتابه "الأصنام"2، وذكر أن قبيلة "كلب" كانت تتعبد له بدومة الجندل3. ووصفه فقال: "كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد ذبر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد بأخرى، على سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة فيها نبل.."4. وقد نعت "ود" في بعض الكتابات بنعوت، مثل: "الاهن" "الهن" أي "الإله"، و"كهلن" "كاهلن" "كهلان"، أي "القدير" "المقتدر"5. وكتب اسم "ود" بحرف بارزة على جدار في "القرية" "قرية الفأو"6، وذلك يدل على عبادته في هذه البقعة.
ويرمز "ود" إلى القمر، بدليل ورود جملة: "ودم شهرن"، "ودم شهران"، أي "ود الشهر" في بعض الكتابات. ومعنى كلمة "شهرم" "شهر" "الشهر"، القمر7. وتمثل هذه الآلهة المعينية ثالوثًا يرمز إلى الكواكب الثلاثة: الزهرة، والشمس، والقمر.
ويلاحظ أن الكتابات المعينية الشمالية، أي الكتابات المدونة بلهجة أهل معين التي عثر عليها في أعالي الحجاز، لا تتبع الترتيب الذي تتبعه الكتابات المعينية الجنوبية نفسه في إيراد أسماء الآلهة، كما يلاحظ أيضًا أن للمعينيين الشماليين آلهة محلية لا نجد لها ذكرًا عند المعينيين الجنوبيين، ولعل ذلك بتأثير الاختلاط بالشعوب الأخرى8.
__________
1 سورة نوح 17، الآية 23.
2 الأصنام ص 10، 55، 56.
3 الأصنام ص 5.
4 الأصنام ص 56. Wellhausen, Reste Arabische Heidentums, S., 14
5 Hommel, Grundriss, I, S., 136, Glaser 284, Halevy 237,
Chresto., S., 91, 97
6 Philby-Qariya 23c, Le Museon, LXII, "1949", 1-2, P. 97, and PI
7 lIlmukah, S.? 64, Nielsen , Aitarabische Mondreligion, S., 51
8 Ilmukah, S., 59(3/115)
مدن معين:
ومن أشهر مدن معين، مدينة "قرنو"، وهي العاصمة، وقد عرفت أيضًا بـ "م ع ن" "معن"، أي "معين"، وبـ karna وKarana وKarna عند بعض الكتبة "الكلاسيكيين"1. وتقع على مسافة سبعة كيلومترات ونصف كيلومتر من شرق قرية "الحزم"، مركز الحكومة الحالي في الجوف، وقد وصف خرائبها "محمد توفيق" في كتابه "آثار معين في جوف اليمن"، فقال: إنها تقع على أكمة من الطين منحدرة الجوانب، تعلو على سطح أرض الجوف بخمسة عشر مترًا، وهي مستطيلة الشكل، واستطالتها، من الغرب إلى الشرق وطولها400 متر، وعرضها250 مترًا، ولها بابان أو مدخلان، أو مدخل ومخرج، أحدهما في جانبها الغربي والآخر في الجهة المقابلة من الجانب الشرقي، وليس لها أبواب أخرى، وسورها الذي كان يحيط بها، وقد قدر ارتفاعه بخمسة عشر مترًا، وقد وجد في بعض أقسامه فتحات المزاغل التي استعملت للمراقبة ولرمي السهام، كما تعرض لبحث البناء والزخرفة في هذه المدينة، وقد حصل على تسع عشرة كتابة، نقل تسعًا منها بكتابة اليد، ونقل عشرًا منها الباقية بالتصوير الفوتوغرافي2.
ويقع معبد "رصفم" "رصف" "رصاف" الشهير، الذي طالما تقدم إليه المؤمنون بالهدايا والنذور إليه؛ لأن يمن عليهم بالعافية والبركة، خارج سور "قرنو". وتشاهد آثار سكن في مواضع متناثرة من المدينة، وقد كانت "قرنو" "القرن" مأهولة حتى القرن الثاني عشر ثم هجرت وتحولت إلى خراب3.
وقد أشار الأخباريون إلى معين، وروى بعض منهم أنها من أبنية التبابعة، وأنها حصن، بني بعد بناء "سلحين"، بني مع يراقش في وقت واحد4.
ومن مدن حكومة معين "يثل" وهي من المراكز الدينية، وعرفت
__________
1 O'Leary, P. 95, Richard H. Sanger, The Arabian Peninsula, P. 237< Halevy 192-199, 443, 541.
2 الصفحة3 فما بعدها من كتابة المذكور.
3 Beitrage S14
4 "سلحين" "سلحن". البلدان "1/ 364" البكري، معجم "1/ 237".(3/116)
بـ "براقش" فيما بعد، وكانت قائمة في أيام "الهمداني"، ووصف الهمداني الآثار والخرائب التي كانت بها. وقد ورد في إحدى الكتابات أن جماعة من كهنة "ود"، قاموا ببناء ثلاثين "أمه" أي ذراعًا من سور "يثل" من الأساس حتى القمة2، والظاهر أن هذا العمل قاموا به، هو الجزء الذي كان خصص بهم عمله على حين قام أناس آخرون، وفي ضمنهم مجلس يثل، ببقية السور.
وللأخباريين قصص عن "براقش". وقد زعم بعض منها أنها و "هيلان" مدينتان عاديتان، وكانتا للأمم الماضية. وزعم بعض آخر أنها من أبنية التبابعة3، فهي من الأبنية القديمة إذن في نظر الأخباريين. وقد كان يسكنها "بنو الأدبر بن بلحارث بن كعب" ومراد في الإسلام4.
ولهم عن سبب تسمية "براقش" ببراقش قصص، فزعم بعض منهم أنها إنما سميت بذلك نسبة إلى كلبة عرفت ببراقش. وزعم بعض آخر امرأة، وهي ابنة ملك قديم، ذهب والدها للغزو، وأودع مقاليد بلاده إليها، فبنت مدينة براقش ومعين، ليخلد اسمها، فلما عاد والدها غضب، وأمر بهدمها. وزعم فريق منهم، أنها باسم براقش امرأة لقمان بن عاد. ومصدر القصص مثل مشهور هو: "على أهلها تجني براقش"5. و "على أهلها براقش تجني"، وقد أشير في الشعر إليه6.
و"يثل"، وهي مدينة Athlula، Athrula المذكورة في أخبار حملة "أوليوس غالوس" على اليمن، والتي زعم أنها آخر موضع بلغه الرومان في حملتهم هذه. ويزعم القائلون من المستشرقين بهذا الرأي أن لفظة "يثل" لفظة
__________
1 الأكليل "8/ 124"، "طبعة الكرملي"، "8/ 38، 104، 105"، "طبعة نبيه".
2 نقوش خربة معين "ص5 فما بعدها"، النقش رقم5.
3 البكري، معجم "1/ 237" البلدان "1/ 364" الأغاني "5/ 27 وما بعدها" "6/ 287".
4 البكري، معجم "1/ 237".
5 "على أهلها جنت براقش"، مجمع الأمثال، للميداني "2/ 262".
6
بل جناها أخ علي كريم ... وعلى أهلها براقش تجني
مجموع الأمثال "2/ 14"، البيان والتبيين "1/ 222" اللسان "1/ 266".(3/117)
صعبة على لسان الرومان واليونان، ولذلك حرفت فصارت إلى الشكل المذكور1.
ومن بقية مدن معين: "نشق"2. و "رشن" "ريشان"3 و "هرم" "هريم"4 "خربة هرم"5، و"كمنه" "كمنهو" "خربة كمنه"6. "كمنا"، "نشن" "نشان" وهي "الخربة السوداء" "خربة السودا" في الوقت الحاضر7.
وقد ورد في بعض الكتابات أن "يدع آل بين" مكر سبأ، كان قد استولى على مدينة "نشق"، غير أننا لا نعرف اسم الملك المعيني الذي سقطت هذه المدينة في أيامه في أيدي السبئيين.
ويوجد موضع عادي خرب، يعرف بـ "كعاب اللوذ" وبـ "خربة نشان" "خربة نيشان"، يحتمل في رأي بعضهم أن يكون مكان "نشان" "نشن" ويعارض بعض الباحثين ذلك، ويرون أنه بعيد بعض البعد عن مكان "نشن" المعيني، ويذهبون إلى أن هذا المكان هو بقايا معبد أو قبور قديمة، وأنه يشير إلى وجود مسكن فيه قديم لا نعرف اسمه8.
وقد تبين للباحثين في موضع "الخربة السوداء" التي هي موضع "نشن" "نشان" أن تلك المدينة كانت مدينة صناعية، لعثورهم بين أنقاضها على خامات المعادن، وعلى أدوات تستعمل في التعدين وفي تحويل المعادن إلى أدوات للاستعمال9.
__________
1 Beitrage S ,32
2 الأكليل "8/ 12" "الكرملي" "8/ 109" "نبيه".
H.von Wissmann und M. Hofner, Beitrage zur Historischen Geographie des borilamischen Sudarabien, 1953, S, 14, 15
3 الأكليل "8/ 124، 128" "الكرملي" "8/ 109" "نبيه".
4 الأكليل "8/ 104"، "نبيه"، "هرم"، "8/ 124" "الكرملي".
5 آثار معين "محمد توفيق"، "ص 11×".
6 الأكليل "8/ 124" "الكرملي" "8/ 104" "نبيه" آثار معين "ص11×".
7 "والخربة السوداء بالشاكرية، ثم معين وبراقش ثم كمنا وروثان لنشق"، الصفة "ص 167"، آثار معين "ص11×".
8 Beitrage, S. 15
9 Beitrage, S. 16(3/118)
و "نشن" "نشان"، وهي "نستم" Nestum في كتاب "بلينيوس"1.
ويظن أن خرائب "مجزر"، هي من بقايا مدينة قديمة، لعلها المدينة التي سماها "بلينيوس" "مكوسم" Magusum، ويظهر من موقعها ومن بقايا آثارها أنها كانت ذات أهمية لعهدها ذاك، وأنها كانت عامرة بالناس لخصب أرضها ووفرة مياهها2.
وفي الجوف أماكن أخرى، مثل "بيحان" و"سراقة" و"ابنه": و"ابنه" و"مقعم" و"بكبك" و"لوق"، وهي خرائب كانت مواضع معمورة في أيام المعينيين ومن جاء بعدهم فأخذ مكانهم.
وقد ذهب "كلاسر" إلى أن موضع "لوق"، هو Labecia الذي ذكره "بلينيوس" في جملة الأماكن التي استولى عليها "أوليوس غالوس"، وذهب "فون وزمن" إلى أنه "لبة"3 Labbah.
ويرى علماء العربيات الجنوبية أن "نشق" هي Nescus، Nesca في كتب المؤلفين اليونان واللاتين القدماء. وهي Aska، Asca في "جغرافيا سترابون". وقد ذكرها "سترابون" في جملة المدن التي استولى عليها "أوليوس غالوس" إبان حملته على اليمن4.
المعينيون خارج أرض معين:
وعثر على كتابات معينية خارج اليمن، ولا سيما في موضع "العلا"، وبينهما عدد من كتابات "لحيانية" متأثرة باللهجة المعينية5. وقد وردت فيها أسماء معينية معروفة، شائعة بين المعينيين، مثل: "يهر" و"علهان"، و"ثوبت" و"يفعان"، كما وردت فيها أسماء آلهة معين، وذلك يدل على نزول المعينيين في هذا الموضع وفي الأرضين المجاورة أمدًا، وتركهم أثرًا
__________
1 Le Mus6on, 1954, 3-4, 435, Von Wissmann, Zur Geschichte, S., 140
2 Von Wissmann und M. Hofner, Beitrage zur Historischen G6ographie des
Vorislamischen Sudarabien, 8., 14, Le Mus^on, 1964, 3-4, P. 435
3 Beitrage, S., 15, Le Museon, 1964, 3-4, P. 435
4 Beitrage, S., 32
5 BOASOOR, Num. 73, (1939) , PP. 3(3/119)
ثقافيًّا فيمن اختلطوا بهم أو جاوروهم وفيمن خلفهم من خلق.
وقد جاء هؤلاء المعينيون من معين بالطبع، أي من اليمن، فنزلوا في هذه الأرضين التي تقع اليوم في أعالي الحجاز وفي المملكة الأردنية الهاشمية وفي جنوب فلسطين. ومنهم من تاجر مع بلاد الشأم والبحر المتوسط ومصر. بدليل عثور المنقبين على كتابات معينية في جزيرة "ديلوس" من جزر اليونان1، وفي مصر: في "الجيزة"2 وفي موضع "قصر البنات"3. وظهر من كتابة "الجيزة" المؤرخة بالسنة الثانية والعشرين من حكم "بطلميوس بن بطلميوس"، أن جالية معينية كانت في مصر في هذا الزمن، ولعلها من أيام حكم "بطلميوس الثاني"4. وكان المعينيون يتاجرون في القرن الثالث أو الثاني قبل الميلاد بتجهيز معابد مصر بالبخور5، ويرجع بعض الباحثين تأريخ هذه الكتابة، إلى السنة "264- 263 ق. م"6.
وموضع "العلا" المذكور، هو موضع "ديدان" "الديدان" "علت" Ulat في التوراة, وقد قصد به فيها شعب عربي من الشعوب العربية الشمالية، يرجع نسبه إلى "كوش" كما جاء في موضع من "التكوين"7. وإلى "يقشان" من إبراهيم من "قطورة" Keturah في موضع آخر منه8. وقد جعلت "الديدان" متاخمة لأرض أدوم Edom، وتقع في الجنوب الشرقي منها9. وذكر في التوراة أن الديدانيين كانوا من الشعوب التي ترسل حاصلاتاها إلى سوق "صور"10 Tyre.
__________
1 Background, P. 42, BOASOOR, Num. 73, "1939", P. 7, REP. EPIG. 3570
2 BOASOOR, Num. 73, "1939", P. 7, Hommel, in FSBA, XVI, "1894", 145-149, D. H. Muller, in Wiener Zeitschrift fur d. Kunde Des Morgelanders, 1894, I, REP. EPIG. 3427
3 Le Museon, LXII, "1949", 1-2, 56, A. E. P. Weigall, Travels in1 the Upper Deserts, 1909, Pla. IV, Le Museon, XLVIH, 1935, P. 228
4 BOASOOR, Num. 73, 1939, P. 7
5 REP. Epig. 3427, BOASOOR, Num. 73, 1939, P. 7, Conti Rossini, Chrest. Arab., 1931, PI. No 86
6 Arabien, S,, 26
7 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 7.
8 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 3.
9 حزقيال، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 13، ارميا الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 3، الإصحاح التاسعوالأربعون، الآية 8، Hastings, P. 184
10 حزقيال، الإصحاح السابع والعشرون، الآية 20، وتعرف "صور" بـ tsor في العبرانية، ومعناها صخرة.(3/120)
ويرى أكثر الباحثين في دولة معين أن هذه المنطقة منطقة "الديدان" وما صاقبها من أرض، كانت جزءًا من تلك الدولة وأرضًا خاضعة لها، وأن ملوك معين كانوا يعينون حكامًا عليها باسمهم، وأن درجتهم هي درجة "كبر" أي "كبير" على طريقتهم في تقسيم مملكتهم إلى "محافد" أي أقسام، يكون على كل محفد أي قسم من المملكة "كبير"، يتولى الحكم باسم الملك في المسائل العليا وفي جمع الضرائب التي يبعث لها إلى العاصمة وفي المحافظة على الأمن. وقد عثر على كتابات ذكرت فيها أسماء "كبراء" حكموا باسم ملوك معين1.
ومعنى هذا أن دولة معين، كانت تحكم من معين كل ما يقال له الحجاز في عرف هذا اليوم إلى فلسطين، وأن هذه الأرضين كانت خاضعة لها إذ ذاك، ولكننا لا نجد في النصوص الآشورية أو العبرانية مثل التوراة ولا في الكتب الكلاسيكية ما يشير إلى ذلك. ولكن القائلين بالرأي المذكور يرون أن حكم معين كان في أوائل عهد معين، أي قبل أكثر من ألف سنة قبل الميلاد فلما ضعف ملوكها تقلص سلطان المعينيين عن الحجاز وبقي نافذًا في المنطقة التي عرفت بـ "معن مصرن"، "معن مصران"، أي "معين المصرية"، ثم ضعف سلطان المعينيين الشماليين عن هذه الأرض أيضًا بتغلب السبئيين على معين، ثم بتغلب اللحيانيين في القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد، حيث استقلوا وكونوا "مملكة لحيان"2.
وقد أثارت "معن مصرن" "معين مصران"، جدلًا شديدًا بين العلماء، ولا سيما علماء التوراة، فذهب بعضهم إلى أن "مصر" "مصرايم" Mizraim الواردة في التوراة ليست مصر المعروفة التي يرونها نهر النيل، بل أريد بها "معين مصران"، وهو موضع تمثله "معان" في الأردن في الزمن الحاضر3.
وأن لفظة "برعو" pero التي ترد في التوراة أيضًا لقبًا لملوك مصر، والتي تقابلها لفظة "فرعون" في عربيتنا، لا يراد بها فراعنة مصر، بل حكام "معين مصران" وأن عبارة "هاكرهم مصريت" Hagar Ham- Misrith، بمعنى "هاجر المصرية"، لا يعني "هاجر" من مصر المعروفة، بل من مصر
__________
1 Musil. Hegaz. P. 295, D. H. Muller, Epigraphtsche Denkmaler, S., 1-96
2 Hegaz, P. 295
3 Hastings, P. 719, Winckler, KLT, S., 145(3/121)
العربية، أي من هذه المقاطعة التي نتحدث عنها "معن مصرن" وأن القصص الوارد في التوراة عن "مصر" وعن "فرعون، هو قصص يخص هذه المقاطعة العربية، وملكها العربي1.
وقالت هذه الجمهرة: إن ما ورد في النصوص الآشورية من ذكر لـ Musri لا يعني أيضًا مصر المعروفة، بل مصر العربية، وأن ما جاء في نص "تغلاتبلسر الثالث" الذي يعود عهده إلى حوالي سنة "734" قبل الميلاد، من أنه عين عربيًّا Arubu واسمه "ادبئيل" "ادب ال" "ادب ايل" "ldiba'il" حاكمًا على "مصري" "Musri" لا يعني أنه عينه حاكمًا على "مصر" الإفريقية المعروفة، بل على هذه المقاطعة العربية التي تقع شمال: "نخل مصري" أي "وادي مصري"2. ويرى "وينكر"، أن "سبعة" "Sib'e: الذي عينه "تغلاتبلسر" سنة "725 ق. م" على مصري، والذي عينه "سرجون" قائدًا على هذه المقاطعة، إنما عين على أرض "مصر" العربية ولم يعين على "مصر" الإفريقية.
وقد ورد في أخبار "سرجون" أن من جملة من دفع الجزية، إليه "برعو" Pir'u وقد نعت في نص "سرجون" بـ "برعو شاروت مصري"، أي "برعو ملك أرض مصري"3. وورد ذكر "برعو" هذا في ثورة "أسدود" التي قامت سنة "711 ق. م"4 وورد ذكر "مصري" في أخبار "سنحريب" ملك آشور، وكان ملك "مصري" وملك "ملوخة" قد قامة بمساعدة اليهود ضد "سنحريب"، وذلك في عام "700 ق. م"، وقد انتصر "سنحريب"5.
ويرى "ونكلر" أن كل ما ورد في النصوص الآشورية عن "مصري" مثل: "شراني مت مصري" "Sharrani Mat Musri"، أي "ملوك أرض مصر"
__________
1 Ency. Bibli., P. 3163, Winckler, Musri, Meluhha. Main, Schrader, KAT.,
S., 144
2 Winckler, Musri, S., 5, AOF., I. S., 465, Reallexikon. I, Zweite Lief erung,
S., 125
3 Rellexikon der Assyriologie, Erster Band, Zweite Lieferung, S., 125,
Ency. Bibll., P. 3163, Winckler, Sargon, I, S., 20
4 Reallexikon, I, 2, S., 125
5 Reallexikon, I, II, S., 125(3/122)
إنما قصد به هذه المقاطعة العربية1.
ويشير هذا الرأي مشكلات خطيرة لقائليه ولعلماء التوراة، فرأي "شرادر" و"ينكلر" وأضرابهما المذكور يتعارض صراحة مع الرأي الشائع عند اليهود وعند التوراة والتلمود والمنشا والكتب اليهودية الأخرى في هذا الموضوع، ويتعارض كذلك مع رأي أهل الأديان الأخرى في الموضع نفسه، ولم يلق هذا الرأي رواجًا بين الباحثين، وهم يرون أن وجود أرض عربية عند "معان" في الزمن الحاضر، تسمى "مصري" وهي تسمية "مصر" في اللغات السامية2، ووجود حاكم عليها اسمه "برعو"، و"برعو" لقب ملوك مصر"، ويقابل "فرعون" في لغتنا3، لا يحتم علينا التفكير في هذه الأرض العربية، ومن الجائز على رأيهم أن يكون الآشوريون قد استولوا على هذه المقاطعة وحكموها ونصبوا حكامًا عليها على حين كانت الحوادث الأخرى قد وقعت في مصر الإفريقية، وبناء على ذلك فليس هناك أي داع للإدعاء أن الإسرائيليين لم يكونوا في مصر، وأن فرعون لم يكن فرعون مصر، بل فرعون مصري، التي هي "معين المصرية"، وليستبعد أيضًا أن تكون تسمية "مصري" العربية قد أخذت من مصر، فقيل "معين مصرن" لقربها من مصر، ولتمييزها عن "معن" أي "معين" اليمن.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "معين مصران" "معين المصرية"، لم تكن جزءًا من حكومة معين، بل كانت مستوطنة مستقلة من مستوطنات المعينيين، وذلك منذ القرن الخامس حتى القرن الأول قبل الميلاد. وأن لقب "كبر" الوارد في نصوص هذه المستوطنة لا يعني أن حامله كان موظفًا في حكومة معين بل هو مجرد لقب حمله صاحب هذه المقاطعة باعتبار أنه كبير قومه وسيدهم والحاكم عليهم، وقد بقيت هذه المستوطنة مستقلة إلى القرن الأول قبل الميلاد، وحينئذ زال استقلالها بزوال حكومة المعينيين الجنوبيين4.
وتعد الكتابات المعنية التي عثر عليها في جزيرة "ديلوس" Delos =Delus
__________
1 Winckler, Musri, Meluffa, Main
2 Reallexikon, I, I, S., 45
3 Hastings, P- 719
4 Arabien, S. 27Y(3/123)
ذات أهمية كبيرة كذلك، في بحثنا هذا، فإنها ترينا وصول المعينيين الجزر اليونانية وإقامتهم فيها، واتجارهم مع اليونان. ومن جملة هذه النصوص، نص مكتوب بالمعينية وبالخط المسند وباليونانية وبالحروف اليونانية، ورد فيه: "هنا" أي "هانىء" و"زبد ايل من ذي خذب نصب مذبح ود وآلهة معين بدلث" أي: بـ"ديلوس". وورد في اليونانية: "يا ود إله معين يا ود"1. وفي هذا النص دلالة على وجود جالية معينية في هذه الجزيرة وسكناها فيها، وعلى تعلقها بدينها وبآلهتا وعدم تركها لها حتى في هذه الأرض البعيدة عن وطنها.
ومن يدري؟ فلعلها كانت تتصل ببلادها، وتتاجر وتتراسل معها، تصدر إليها حاصلات اليونان، وتستورد منها حاصلات اليمن والعربية الجنوبية وإفريقية والهند وتعمل مع اليونان شركةً أو تعاونًا في أسواق التجارة العالمية ذلك العهد.
__________
1 RET: EPIG 357 P 225 Conti Rossini, Chrest 1931 p 78(3/124)
قوائم بأسماء حكام معين:
قائمة "البرايت":
وقد رتب "ألبرايت" قائمة لملوك معين على النحو الآتي:
1- اليفع يثع، وهو ابن الملك "صدق ايل" ملك حضرموت. وقد حكم في حوالي السنة "400" قبل الميلاد.
2- حفن ذرح، وهو ابن اليفع يثع.
3- اليفع ريام، وهو ابن اليفع يثع. وقد كان أيضًا ملكًا على حضرموت.
4- هوف عثتر "هوفعث". "هوفعثتر"، وهو ابن اليفع ريام.
5 أب يدع يثع "أبيدع يثع"، وهو شقيق هوف عثتر. وقد كان يحكم في حوالي السنة343 قبل الميلاد.
6- وقه آل ريم "وقه ايل ريام"، وهو ابن هوفعثتر.
7- حفن صدق "حفن صديق"، وشقيق وقه إيل ريام.
8 اليفع يفش وهو ابن حفن صديق.(3/124)
1- اليفع وقه، وقد كان حكمه في حوالي السنة 250 قبل الميلاد.
2- وقه ايل صديق "وقه آل صدق"، وهو ابن اليفع وقه.
3- اب كرب يثع "أبكرب يثع" أبيكرب يثع"، وهو ابن "وقه آل صدق". وقد ورد اسمه في كتابات "ددان" "ديدان" وذلك في الأيام اللحيانية المتأخرة.
4- عم يثع نبط "عمي يثع نبط" عميثع نبط"، وهو ابن "ابكرب يثع" "أبيكرب يثع".
1- يثع ايل صدق "يثع آل صدق" "يثع ايل صديق".
2- وقه آل يثع "وقه ايل صديق". وكان تابعًا للملك "شهر يجل يهرجب" ملك قتبان.
3- اليفع يشر، وهو ابن "وقه ايل يثع".
4- حفن ريام "خفنم ريمم"، وهو ابن اليفع يشر.
5- وقه آل نبط "وقه ايل نبط".
وذكر "البرايت" أسماء ما لا يقل عن خمسة ملوك، قال إنه غير متأكد من زمان حكمهم ومن مكان ترتيبهم في هذه القائمة، وهم: أب يدع "ريام؟ " وابنه "خلكرب صدق" "خاليكرب صديق". وهو "حفنم يثع"، وهو ابن "خلكرب صدق" و"يثع ايل ريام" و"تبع كرب" "تبعكرب"، وهو ابنه1.
وقد أعاد "البرايت" النظر في قائمته السابقة. وأجرى عليها تعديلات على ضوء دراسة صور الكتابات وتغير أسلوبها بمرور العصور، ثم انتهى إلى وضع قائمة جديدة تتألف من ثلاث مجموعات هي:
المجموعة الأولى:
1- اليفع يثع، وهو ابن صدق ايل ملك حضرموت حوالي400 ق. م.
__________
1 BOASOOR. NUm119:1950: PP ll(3/125)
2- اليفع ريام.
3- حفن عثت، هو ابن اليفع ريام.
4- أبيدع يثع343 ق. م.
5- وقه آل ريام.
6- حفن صدق، وهو ابن وقه ايل ريام.
7- اليفع يفش.
8- عميثع نبط، "عم يثع نبط"، وهو ابن "ابكرب".
9- يثع ايل ريام.
10- تبع كرب "تبعكرب"، وهو ابن يثع ايل ريام.
11- خلكرب صدق، وهو ابن أب يدع "ريام؟ ".
12- حفن يثع250 ق، م.
المجموعة الثانية:
1- وقه ايل نبط200 ق. م.
2- اليفع صدق.
3- وقه ايل صدق150 ق. م.
4- أبيكرب يثع "أبكرب يثع".
5- اليفع يشر الأول100 ق. م.
6- حفن ريام.
المجموعة الثالثة:
1- يثع آل صدق "يثع ايل صديق".
2- وقه آل يثع "وقه ايل يثع" 75 ق. م.
3- اليفع يشر الثاني.
نهاية مملكة معين بين السنة50 والسنة 25 قبل الميلاد1.
__________
1 BOASOOR, NUM 129 "1953" PP 22(3/126)
قائمة "ريكمنس":
وقد دون "ريكمنس" "JRyckmans" أسماء ملوك معين على النحو الآتي:
أب يدع "ملك؟ = أب يدع ريام؟ ".
خلكرب صدق.
اليفع وقه.
وقه ايل صدق.
أب كرب يثع.
عم يثع نبط.
يثع ايل ريام.
تبع كرب.
يثع ايل ريام
تبع كرب.
اليفع ريام.
هوف عثت.
اليفع يثع= معد يكرب ملك حضرموت.
أب يدع يثع "343 قبل الميلاد= يثع ايل "بين؟ ".
وقه ايل ريام.
حفن صدق.(3/127)
اليفع يفش.
يثع ايل صدق.
وقه ايل يثع} شهريكل يهركب ملك قتبان
اليفع يشر:
حفن ريام.
وقه ايل نبط.
خلكرب.
حفن يثع.
يثع ايل
حيو1.
حفن ذرح.(3/128)
الفصل العشرون: مملكة حضر موت
مدخل
...
الفصل العشرون: مملكة حضرموت
وعاصرت مملكة "معين" مملكة أخرى من ممالك العربية الجنوبية، هي مملكة "حضرموت"، وقد ظهرت قبل الميلاد أيضًا، وما زال اسمها حيًّا يطلق على مساحة واسعة من الأرض، فلها أن تفخر بهذا على الحكومات العربية الأخرى التى عاشت قبل الميلاد، ثم ماتت أسماؤها، أو قل ذكرها قلة واضحة.
وقد قطع اسمها مئات من الأميال قبل الميلاد، فبلغ مسامع اليونان والرومان وسجله كتابهم في كتبهم لأول مرة في القارة الأوروبية، وكتب لذلك التسجيل الخلود حتى اليوم. ولكن سجلوه بشيء من التغيير والتحريف، اقتضته طبيعة اختلاف اللسان، أو سوء السماع، أو طول السفر، فرواه "ايراتوستينس"1Chatramotitae، ورواه "نبوفراستوس" 2Hadramyta وأما "بلينيوس" فقد روراه "Atramitae" و 3Chatramotitae. وقد ورد عند "بطلميوس" بشكل4Chathramitae = Adramitae.
__________
1 Strabo, 16, 4, 2, Vol. 3, P. 190, Hamilton
2 Theophrastus, Enquiry into Plants, Vol., 2, P. 235, Book, 9, 2
3 Ency., Vol., 2, P. 207, Forster, Vol., I, P. 113, CLeary, P. 99, Pliny, 6, 28, 32
4 "Adramitae", "Cathramonltae", "Chatraraotitae", Forster, Vol., I, P. 113, 194, Vol., 2, P. 270, Ptolemy, VI, 7, 10, Le Museon, 1964, 3-4,P. 441(3/129)
وقد تحدث مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" عن سواحل حضرموت الجنوبية، فذكر أن فيها مناطق موبوءة، يتجنبها الناس، ولا يدخلونها إلا لضرورة، ولذلك لا يجمع التوابل والأفاويه إلا خول ملك حضرموت وأولئك الذين يراد إنزال عقوبات صارمة عليهم1. وهذا يدل على أن الروم والرومان كانوا قد سمعوا من ملاحيهم ومن غيرهم من ركاب البحر أخبار السواحل، وهي أخبار مهمة بالطبع بالنسبة إلى أصحاب السفن في ذلك العهد.
وكلمة "هزرماوت" "حزرماوت" "Hazarmaveth" الواردة في التوراة على أنها الابن الثالث لأبناء "يقطان"، يعني "حضرموت" ومعناها اللغوي "دار الموت"2 ولعل لهذا المعنى علاقة بالأسطورة التي شاعت عند اليونان أيضًا عن "حضرموت"، وأنها "وادي الموت"، وعرفت في الموارد الإسلامية كذلك3. وقد وصلت في الإسلام من طريق أهل الكتاب، قال ابن الكلبي: "اسم حضرموت في التوراة حاضر ميت، وقيل: سميت بحضرموت بن يقطن بن عابر بن شالخ"4.
وقد ذهب أكثر من بحث في أسباب التسمية من العلماء العرب إلى أن حضرموت هو اسم "ابن يقطن" أو "قحطان" وأنه كان إنسانًا وبه سميت الأرض، وما بنا حاجة إلى أن نقول مرة أخرى أن هذه النظرية ليست عربية، وإنما تسربت إلى الأخباريين من التوراة، إذ جعلت حضرموت اسم رجل هو "ابن يقطان".
وقد ورد اسم "حضرموت" في الكتابات العربية الجنوبية، كما عثر على كتابات حضرمية ورد فيها أسماء عدد من ملوك حضرموت، وأسماء أسر حضرمية ومدن كانت عامرة زاهية في تلك الأيام5، وبفضل هذه الكتابات حصلنا على
__________
1 Periplus Maris Erythraei, 12, Beitrge, S, 87
2 التكوين: الإصحاح العاشر الآية26، أخبار الأيام الأول: الإصحاح الأول الآية20، قاموس الكتاب المقدس "1/ 378".
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 378".
Hastings, P. 333, Ency. Bibli, P. 1976, Montgomery, Arabia and The Bible, P. 39.
4 البلدان "3/ 292" Enct, vol, 2, P. 207
5 Halevy 193, Halevy 423, Mordtmann, Beitrage zur Min. Epigr, S, 16(3/130)
معلومات لا بأس بها عن مملكة حضرموت، وعن علاقاتها بالدول العربية الجنوبية الأخرى، ولما كانت أكثر هذه الكتابات قد عثر عليها على وجه الأرض، أو هي من نتائج حفريات لم تتعمق كثيرًا في باطن العاديات، فإننا نأمل أن يقوم المستقبل بإقناع المحبين للتأريخ العربي، بالقيام بحفريات علمية منتظمة وعميقة في مواطن الآثار، لاستنطاق ما فيها عن تأريخ العرب الجاهليين، وأنا على يقين من أن في باطن الأرض وبين الأتربة المتراكمة على هيأة أطلال وتلول أسرارًا كثيرة ستغير من هذا الذي نعرفه اليوم عن تأريخ حضرموت وعن تأريخ غيرها, من حكومات، وستزيد العلم به اتساعًا.
لقد قامت بعثة بريطانية صغيرة بأعمال الحفر في موضع يقال له "الحريضة"، فاكتشفت فيه آثار معبد الإله "سين"، وهو يرمز إلى القمر. وعثرت على عدد من الكتابات تبين أن بعضها سبئية، كما عثرت على قبور عثر فيها على عظام في حالة جيدة تمكن من دراستها، وعلى أواني ومواد من الفخار والخزف وخرز ومسابح يظن أنها من القرن السابع أو الخامس قبل الميلاد1. وعثر في خرائب "شبوة" وفي "عقلة" وفي مواضع أخرى على عدد من الكتابات الحضرمية، كما استنسخ نفر من السياح صور بعض الكتابات التي نقلها الناس من مواضع العاديات إلى المواضع الحديثة حيث استعملوا حجارتها في البناء.
وتشاهد في مباني "الحريضة" الحديثة، وهي لا تبعد كثيرًا عن الموضع القديم، أحجار مكتوبة أخذت من تلك الخرائب، شوهت بعضها أيدي البنائين وقضت على أكثرها معاولهم، ومحت آلاتهم كثيرًا من تلك الكتابات، ولا يستبعد وجود عدد آخر من الأحجار أوجهها المكتوبة في داخل البناء، فلا يمكن الوقوف عليها، أو أنها كسيت بطبقة من "الجبس" أو مادة أخرى تجعل الجدران صقيلة ملسًا.
ولم تتوصل جهود من بحث في الآثار التي استخرجت من معبد "سن" "سين" في الحريضة" إلى نتيجة قطعية لتأريخ هذا المعبد، ويظن أن المقابر التي عثر
__________
1 Reports of the research committee of the society of antiquaties of London, XIII, The Yombs and Moon Temple of Horeidha "Hadhramout", By G. Caton Thompson, Oxford University Press, 1944, P. 15
وسيكون رمزه: Caton(3/131)
عليها وبعض واجهات المعبد تعود إلى أواسط القرن الخامس فما بعد إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وأن قسمًا من بناء المعبد يعاصر العهد "السلوقي"1. ويعرف موضع الخريضة في الكتابات الحضرمية باسم "مذب" "مذبم" "مذاب"، وفي هذه المدينة الحضرمية القديمة، معبد خصص بعبادة "سين"، وعرف عندهم باسم معبد "سن ذ مذبم" "سين ذو مذاب"، وكان الناس ينذرون له النذور، ويتقربون إليه، ليمنحهم العمر الطويل والخير والبركة.
وليس علمنا بأحوال حكام "حضرموت" بأحسن من علمنا بأحوال حكام الحكومات العربية الجنوبية الأخرى، مثل معين أو قتبان أو سبأ، فلا نزال لا نعرف شيئًا يذكر عن حكامها الأول وعن عددهم وعن مدد حكمهم وعن أمور أخرى من هذا القبيل، ولا نزال نجد الباحثين في أحوالها غير متفقين لا على مبدأ قيام حكومة حضرموت ولا على منتهاها وسقوطها فريسة في أيدي السبئيين، ثم لا نزال نراهم يختلفون أيضًا في عدد الحكام وفي مدد حكمهم.
والحكام الذين يذكر العلماء أسماءهم ليسوا بالطبع هم جميع حكام حضرموت، بل هم جمهرة الحكام الذين وصلت أسماؤهم إلينا مدونة في الكتابات، ولذلك لا نستبعد أن تزيد أسماؤهم في المستقبل، زيادة قد تكون كبيرة، وهي ستتوقف بالطبع على مقدار ما يعثر عليه من كتابات.
لقد تبين من بعض الكتابات الحضرمية أن عددًا من المكربين حكموا شعب حضرموت، وذلك قبل أن يتحول هذا الشعب إلى مملكة. وقد ذكر "فلبي" بعضهم في آخر القائمة التي رتبها بحسب رأيه لحكام حضرموت2. ومن هؤلاء المكربين المكرب "يرعش بن أبيشع"، "يرعش بن أب يشع"، "يهرعش بن أب يشع" "يسكر ايل يهرعش بن اب يسع" "يشكر ايل يهرعش بن أبيع"3 الذي ورد اسمه في كتابة سجلها "شكمم سلحن بن رضون" "شكم سلحان بن رضوان"، والظاهر أنه كان من الموظفين أو الأعيان البارزين في حكومة
__________
1Caton, P. 153
2 Background, P. 144
3 "شكيم"، "يشكرال يهرعش بن ايزع" "يسكرايل يهرعش بن أبيع"
REP. EPIG, V, I, P. 39, No. 2687, Le Musen, 1964 3-4, P. 444, Beitrage, S. 95(3/132)
حضرموت. وقد كلفه المكرب بناء سور وباب وتحصينات لحصن "قلت" الذي يهيمن على واد تقطعه الطريق القادمة من مدينة "حجر" والمؤدية إلى ميناء "قانه" "كانه" "قنا"، كما كلف إنشاء جدر وحواجز في ممرات الوادي المهمة لحماية منطقة "حجر" والمناطق الأخرى، من المغيرين ومن كل عدو يريد غزو حضرموت، ولا سيما الحميريين الذين صاروا يهددون المملكة، ويتدخلون في شئونها. وقد وضع تحت تصرفه موظفين ومعماريين للإشراف على العمل، وعمالًا يتولون أعمال البناء الذي تم في خلال ثلاثة أشهر تقريبًا1، وكان ذلك في السنة الثانية من سني "يشرح آل" "يشرح ايل" من آل "عذذ" "ذ عذذم"، ولسنا نعرف اليوم هذا التقويم: "تقويم يشح آل" الذي أرخت به الكتابة.
وقد أنجز "شكم سلحان" "شكم سلحن" العمل الذي كلف إنجازه، فبنى الجدار والباب لحصن "قلت"، وبنى الحواجز والموانع الأخرى للمواضع الخطيرة الرئيسية الواقعة في ممرات الوادي ومعابره، لتصد الأعداء والغزاة عن عبوره، وأنشأ استحكامات ساحلية لحماية البر من الهجوم الذي قد يقوم به العدو من جهة
البحر. ويظهر أنه أقام حصونًا على لسانين كانا بارزين في البحر، فحمى بذلك الخليج الذي بينهما، كما حصن المنفذ المؤدي إلى وادي "أبنة" وإلى مدينة "ميفعة"، حيث بنى سورًا قويا لها، وبرجين هما برج "يذان "، وبرج "يذقان"، وباب "يكن" وأماكن حماية يلتجئ إليها الجنود إذا لزم الدفاع عن المدينة فضلًا عن بناء الموانع المذكورة وقد قام بهذا العمل الجنود بدليل ورود كلمة "أسدم" في النص، ومعناها الجنود2.
وتوجد اليوم في "وادي لبنة" "لبنا" بقايا جدار كان يسد هذا الوادي في أيام مكربي حضرموت. ويظهر أن بانيه هو "شكم سلحن" "شكيم
__________
1 "120" شخصًا في النص الذي دونه "رودو كناكس" و"210" في غيره:
Rhodokanakis, Stud. Lexi, 2. S. 48, REP. Epig, V, I, 39, 2687
السطر الخامس من النص، راجع:
von Maltzan, In A. bon Wrede. Reisein Hadhramount, S. 327, 362, Rhodokanakis. Stud. Lexi, 2, S. 48, REP. EPIG, V, I, P. 39, Hommel, chresto, S. 119. "257" Aufsa. und Abh, S, 166(3/133)
سلحان" المذكور، يبلغ ارتفاعها زهاء سبعة أمتار، وقد أقيم من أحجار مكعبة، قطعت من الصخر، ونحتت نحتًا جيدًا، ونضد بعضها فوق بعض ووضعت بين سوفها مادة من نوع السمنت، وفي وسط الجدار آثار باب عرضه خمسة أمتار لمرور الناس والقوافل منها، وقد بني هذا الجدار ليمنع المغيرين القادمين من الجنوب، من الاتجاه نحو حضرموت، وذلك في ضمن الخطة العسكرية التي رسمت يومئذ لتحصين المدن المهمة وإحاطتها بأسوار وجدر قوية في الممرات المهمة، والطرق المؤثرة من الوجهة الحربية لمنع الأعداء من الزحف على حضرموت، ويرى بعض الباحثين أن إنشاء هذا الجدار كان في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد1.
ويرى بعض الباحثين أن الكتابة التى دونها "شكم سلحن" "شكيم سلحان" ووضعت على جدار "لبنا" وعثر عليها في مكانها، هي أقدم كتابة حضرمية وصلت إلينا حتى الآن، وتليها في القدم الكتابة التي عثر عليها في "عقبة عقيبة" وتخص ممر "همريان"، وشرق "شبوة". ويرجع هؤلاء زمن كتابة الكتابة الأولى إلى القرن الخامس أو أوائل القرن الرابع قبل الميلاد2.
لقد كان الغاية من سد الأودية بإقامة جدر قوية حصينة بين طرفي الوادي بحيث تمنع الناس من المرور في الوادي إلا من باب يشرف منه الجنود عليها، هو حماية حضرموت من غزو حمير, وكانت مساكن قبائل حمير إذ ذاك تجاور حضرموت. ولهذا صار الحميريون خطرًا على حضرموت. ويفهم من إحدى الكتابات أن جدار "قلت" وحصنه إنما أقيما لصد غارات الحميريين وغزوهم المتوالي لأرض حضرموت. وقد جددت تلك الجدر والحصون ورممت مرارًا وقويت بالحجارة الصلدة التي قدت من الصخر، إذ لم تتمكن من الوقوف أمام سيل غزاة حمير، والظاهر أن غزوهم كان مستمرًّا في أيام المكرب المذكور، فاضطر إلى بناء تلك العقبات والحواجز لمنعهم من تهديد شعبه.
لقد كانت مواطن الحميريين في هذا العهد في الجنوب وفي الجنوب الشرقي من "لبنا" "لبنه" ومدينة "ميفعة". ولم ينتقل الحميريون نحو الغرب إلى
__________
1 Beitrage S 94
2 Beitrag S 109(3/134)
المواضع التي عرفت باسمهم إلا في القرن الثاني قبل الميلاد، أو قبل ذلك بقليل، أما دولة حمير في أرض يافع وفي رعين وفي المعافر، فقد قامت في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد، واستمرت هجرة حمير إليها إلى ما بعد الميلاد. وقد أطلق "الهمداني" على أرض "يافع" اسم "سرو حمير"1.
ويرى "فون وزمن" أن حمير كانت قد استولت على ميناء "قنا" "قانه" في أيام هذا المكرب. وهذا الميناء هو الميناء الوحيد لحضرموت الصالح للاتجار بحرًا مع الهند وإفريقيا، أخذته من حمير، وكانت تتحكم -على رأيه- بطول الساحل بين "عدن" و "قنا"، ولها أسطول من السفن للاتجار مع الساحل الإفريقي الذي ربما كان خاضعًا لها في ذلك الزمن2.
وورد في إحدى الكتابات التى عثر عليها "فلبى" اسم مكرب آخر من مكربي حضرموت يسمى "علهان بن يرعش" "علهن بن يرعش". ويظهر أن "يرعش" والد "علهان" هذا، هو "يرعش" المكرب المتقدم، وقد دون نص "philby 103" لمناسبة إنشاء طريق في ممر "همربان" "Hamraban" الذي يقع شرق "شبوة"3. وقد أنشئت هذه الطريق لتسهيل وصول القوافل إلى العاصمة ولأسباب عسكرية قد يكون منها تسهيل مسيرة الجيش إلى مقر الملك للدفاع عنه.
وقد زهد آخر "مكرب" من مكربي حضرموت في لقبه هذا، فتركه إلى لقب آخر يتسمى به، يدل على الحكم الدنيوي وحده وعلى السلطان والملك، وهو لقب "ملك" فتسمى به. وانتقلت حضرموت بذلك من طور إلى طور، وصار النظام فيها نظامًا ملكيًّا، وإذا سألتني عن اسم هذا المكرب الذي أبدل لقبه، فصار ملكًا، وصار بذلك آخر مكرب وأول ملك، وأول جامع للقبين في حكومة حضرموت، فإني أقول لك أن علمي به لا يزيد على علمك به، وإن العلماء الباحثين الذين آخذ علمي منهم، لايزالوان في ذلك على خلاف، بل إن علمهم به لا يزيد -ويا للأسف- على علمك وعلمي به.
__________
1 Beitriige, S., 97
2 Le Museon, 1964, 3-4 P. 444
3 Philby, Three New Inscriptions from Hadhramaut, in Jurna. Asiat
Soc, 1945, Beitrfige, S., 106(3/135)
لقد وضع "فلبي" الملك "صدق آل" "صدق ايل" "صديق ايل" طليعة ملوك مملكة حضرموت، وجعل زمان توليه العرش في حدود عام "1020 ق. م."1. أما "البرايت"، فوضع اسم الملك "يدع آل" "يدع ايل" في رأس القائمة التي رتبها لملوك حضرموت، وجعله معاصرًا لـ "كرب آل" "كرب ايل" أول ملوك مملكة سبأ، وقد حكم على رأيه في حوالي سنة "450 ق, م"، ثم ترك فراغًا بعد هذا الملك يشير إلى أنه لم يهتد إلى معرفة من حكم بعده، وذكر بعد هذا الفراغ اسم الملك "صدق آل" "صدق ايل" الذي كان ملكًا على حضرموت ومعين، وقد ذكر أنه حكم في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد2، والفرق كما ترى، كبير جدًّا بين تقدير "فلبي" وتقدير "البرايت".
وقد وضع "هومل" الملك "صدق آل" "صدق ايل" على رأس قائمة ملوك حضرموت، وعلى هديه سار "فلبي" في ترتيبة لملوك هذه المملكة، وكان على رأيه يعاصر الجماعة الثانية من جماعات ملوك معين3, وذكر بعده اسم ابنه "شهر علن" "شهر علان"، ثم "معد يكرب بن اليفع يثع" "معد كرب بن اليفع يثع" ملك "معين" وكان لـ "معد يكرب" ابنان هما: "هوف عثت" "هو فعثت"، و"أب يدع يثع" "أبيدع يثع"، لم يتوليا عرش حضرموت بعد أبيهما، والظاهر أن حضرموت اندمجت بعد وفاة "معد يكرب" في مملكة "معين" مدة لا نعرف مقدارها بالضبط4. ويرى "فلبي" أنها زهاء ثلاثة قرون إلى نحو سنة "650 ق. م"5.
ولدينا كتابة حضرمية من أيام "معد يكرب"، ورد فيها اسمه واسم "شهر علن بن صدق آل"، ملك حضرموت، واسم "أب يدع يثع" ملك معين. وقد تقرب فيها صاحبها إلى الإله "عثتر ذ قبضم" "عثتر ذي قبض" ببناء برج موضع "حرف"، وتيمن فيها أيضًا بذكر الآلهة: "عثتر شرقن"
__________
1 Beckground, P. 144
2 BOASOOR, Num. 119, PP. 5-15, "1950"
3 مجموعة "B" في كتاب: Handbuch, S. 68 ومجموعة "C" في كتاب Chresto.
4 Handbuch, S. 68, 102
5 Background, P. 144(3/136)
"عثتر الشارق" و"ود" و"نكرح"1، وتشير هذه الكتابة إلى الروابط المتينة التي كانت بين العرشين: عرش حضرموت وعرش معين. فقد كان "معد يكرب" ملكًا على حضرموت، على حين كان شقيقه ملكًا على معين.
ولا ندري إلى متى دام حكم هذه الأسرة التي جمعت بين عرشي المملكتين2.
وقد عثر على هذه الكتابة في "معين"3 وقد طمست منها كلمات واردة قبل اسم "أب يدع يثع"، ولم يبق منها غير " ... خي.... شو"4, فلم يعرف المقصود بهذين المقطعين الباقيين. أيقصد بهما ابن أخيه "أب يدع يثع"، أم يقصد بهما أخاه "أب يدع يثع"؟ أم مؤاخيه وحليفه "أب يدع يثع"؟ ويعود الضمير في هذه الجملة إلى "معد يكرب" صاحب هذه الكتابة. وقد ذهب "هومل" إلى أن المقصود بذلك "ابن أخيه"5. وعلى هذا يكون "أب يدع يثع" الوارد في هذا النص الملك "أب يدع يثع بن اليفع ريام" شقيق "معد يكرب" ملك معين، وهو ابن أخي "معد يكرب" ملك حضرموت.
ولورود جملة: "ملك معين" بعد اسم "أب يدع يثع"، وهي جملة ترد في النصوص بعد اسم كلم ملك للدلالة على أنه كان ملكًا -نستنتج أن "أب يدع يثع" كان ملكًا على معين زمن تدوين هذه الكتابة- نعني أنه كان هو ملكًا على معين في الزمن الذي كان فيه "معد يكرب" ملكًا على حضرموت، ولهذا يبدو غريبًا ما ذهب إليه "فلبي" من أن "أب يدع يثع" حكم في حدود سنة "935 ق. م."6 وأن "معد يكرب: حكم في حوالي "980 ق. م."7 وأن مملكة "حضرموت" لم يكن عليها ملك في حدود عام "935 ق. م" بل كانت تتبع مملكة معين، فإن هذا الرأي يخالف ما جاء في النص المذكور من تعاصر الملكين.
وقد ورد في كتابة معينية وسمت بـ8Halevy 520، اسم "معد يكرب
__________
1 REP. EPIG. 2775, Tome, V. 2, P. 129-130, Halevy, 193, Hommel, Chresto.,
S., 106, Hartmann, Arab. Frage, S., 171
2 جواد علي: تأريخ العرب قبل الإسلام "2/ 67 وما بعدها
3 REP. EPIC, V.'II, P. 129
4 Handbuch, I, S., 69
5 REP. EPIG.. V. II, P. 129, Handbuch, S-, 69
6 Background, P. 141
7 Background, P. 144
8 Halevy 520, REP. EPIG. 3012, Glaser 1159 + 1160(3/137)
ابن اليفع"، وذكرت بعده جملة: "ملك معين"، فذهب العلماء إلى أن "معد يكرب" هذا هو "معد يكرب" ملك حضرموت1 الذي نتحدث عنه، وجعلوه ملكًا على معين وعلى حضرموت. ولكن هذا الرأي يخالف ما ذهبوا إليه في ترتيبهم لأسماء ملوك معين، وقولهم إن ملك معين كان في هذا العهد الملك "أب يدع يثع"، وهو ابن الملك "اليفع ريام بن اليفع يثع". وأعود فأكرر ما قلته مرارًا من أن ترتيب الملوك يمثل آراء العلماء ويختلف باختلاف هذه الآراء. فلا مندوحة من الوقوف منها موقف المتفرج الباحث في هذا العهد.
وقد سجلت هذه الكتابة لمناسبة بناء برج "ذو ملح" في مدينة "قرنو" عاصمة مملكة معين، وبرج آخر في مدينة "يثل" المعينية. وقد ورد في النص اسما مدينتي "يفعن" "يفعان" و"هرن" "هران" من مدن المعينيين كذلك، كما ورد فيها اسم معبد الإله "عثتر ذو قبض"2.
ويظهر أن هذه الكتابة قد كتبت في زمن مقارب لزمن الكتابة المعينية المعروفة بـ 3Glaser 1155، التي تحدثت عن حرب نشبت بين "مذي" و"مصر"، فصاحبها "عم صدق بن حم عثت" "عمصديق بن حم عثت"4، من "ذ يفعن" "آل يفعان"، ورجل آخر اسمه "سعد بن ولج"5 من "ذ ضفجن" "آل ضفجان"6، وكانا "كبيرين" في حكومة معين، وقد ورد فيها اسم "اب يدع يثع" "أبيدع يثع" ملك "معين" و "ومعد يكرب بن اليفع"7.
وأصحاب كتابتنا المتقدمة المعروفة بـ Halevy 520" ثلاثة، هم: "عم صدق" و"عم يدع" و "عم كرب" أبناء "حم عثت" من "آل يفعان" "ذ يفعن". فأحدهم، وهو "عم صدق بن حم عثت" أسهم مع صاحبه "سعد بن ولج" في تدوين الكتابة الأولى وأسهم مع إخوته في تدوين هذه
__________
1 Handbuch, S., 69, Le Museon, LXII, 3-4, 1949, 235
2 REP. EPIC, V, II, P. 293, Halevy, Inscr. Sba., 91, No. 520
3 Halevy 535 + 578, Grohmann, Gotter., S., 52, Hartmann, Arab. Frage, S.,
130., REP. EPIG., V, II, P. 303, 3022
4 "عم صديق بن جمعثت".
5 "سعد بن ولك"، بحرف الجيم على النطق المصري.
6 "ضفكن" بحرف الجيم على النطق المصري.
7 Winckler, Mursi., S., 20(3/138)
الكتابة الثانية التى ورد فيها اسم "معد يكرب" ابن "اليفع" ملك معين، وقد كان معاصرًا كما رأيت للملك "أب يدع يثع" ملك معين، ويكون زمن حكم "معد يكرب" في هذا الزمن الذي وقعت فيه تلك الحرب أو قبل ذلك.
وقد ورد في أحد النصوص اسم "سعد" من "آل ضفجن"، ولم يذكر معه اسم أبيه، وكان "كبيرًا" على "معين مصران"1، وذلك في أيام الملك "أب يدع يثع"، و"وقه آل ريمم" "وقه ايل ريام" ملك معين، ويلاحظ أن هذا النص قدم اسم "أب يدع يثع" على اسم "وقه آل ريام"، مع أن المعروف أن "أب يدع يثع" هو ابن "وقه ايل ريام" شقيق "معد يكرب" فهل يدل على ذلك على أن "أب يدع يثع" كان شقيقًا للملك "معد يكرب"ولـ "وقه ايل ريام" كما ذهب إليه بعض الباحثين2. وقد ورد في النص اسم مدينة "قرنو" أي عاصمة معين، وقبيلة "ضفجن" ومزود معين"، وأن "سعدًا" أنشأ "مذاب"وعملها؟. وقد تيمن في النص بذكر أسماء آلهة معين. واسم "وهب آل بن رثدال" "وهب ايل بن رثد ايل" من "آل يفعان".
ويظهر من الأسماء الواردة في هذا النص، ومن مضمونه، ومن اسم ملك معين الوارد فيه، أن صاحب هذه الكتابة، "سعد" من "ضفجن" "ضفنكن" هو "سعد بن ولج" الذي اشترك مع "عم صدق بن حم عثت" وكان كبيرًا مثله في الكتابة التي مر الحديث عنها. وقد رأيت أن "عم صدق" كان من "يفعان"، وقد ورد اسم "يفعان" في هذا النص فهو لذلك من نصوص هذا العهد.
وأشار "هومل" إلى الملك "يدع أب غيلان" بعد إشارته إلى "يدع ايل بين" "يدع آل بين" و "السمع ذبيان" ملكي حضرموت، وذكر أن الحميريين كانوا هم أصحاب الحل والعقد في ذلك الزمان. وذكر أن الذي تولى بعده هو "العز يلط" "العذ يلط"3. ولكنه لم يجزم أنه كان ابن "يدع
__________
1 REP. EPIEG. 3535, VI, I, P. 193, Weber, Studi., II, s., I, Rossini, Chrest. Arab. Merid., P. 80
2 Philby, in Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 235
3 الحرف الأخير من "العز" "العذ" قد يقرأ زايا وقد يقرأ "ذلا"؛ وذلك لأن اللهجة الحضرمية لم تفرق بين الحرفين بل إن لهما نطقًا خاصًّا في هذه اللهجة ولذلك صعب التعبير عنه في كتابتنا فعبرت عنه بالحرفين.(3/139)
أب غيلان"1. فأما "فلبي"، فقد جعله ابنه، غير أنه لم يضعه في هذا المكان2.
وتطرق "هومل" إلى ذكر الملك "يدع آل" بعد الملك "معد يكرب" وقد جاء اسمه في النص الموسوم بـ Glaser 1000" الذي دون في مدينة "صرواح" وكان معاصرًا للمكرب "كرب ايل وتر" مكرب سبأ، ويحتمل في نظره أن يكون "يدع ايل" هذا هو الملك "يدع ايل بين" الذي ذكر اسمه في الكتابة الحضرمية المعروفة "SE 43". وهو ابن "سمه يفع"، وقد ذكر معه اسم الملك "السمع ذبين" "السمع ذبيان"، وهو ابن "ملك كرب" "ملكي كرب" "ملكيكرب"3.
و"غيلان" هو أول من تولى حكم حضرموت بعد هذه الفترة التي لم نعرف من حكم فيها بعد "معد يكرب" على رأي "البرايت". وقد حكم من بعده ابنه "يدع أب غيلان". وذكر "البرايت" أن اسم هذا الملك قد ذكر في كتابة عثر عليها في "وادي بيحان" وهو يرى أن المحتمل أن يكون هو "يدع أب غيلان" الذي كان حليفًا لـ "علهن نهفن" "علهان نهفان" ملك سبأ، وقد حكم على تقديره في حوالي سنة "50 ق. م."4.
وذهب "فون وزمن: إلى أن "يدع أب غيلان" المذكور كان معاصرًا لـ "علهان نهفان"، وأن والده هو الملك "يدع ايل بين" وقد حكم على رأيه في حوالي السنة "140 ب. م" وأما الملك "يدع أب غيلان" فقد حكم فيما بين السنة "160 ب. م" إلى "190 ب. م"5. وقد عقد صلحًا مع "علهان نهفان" الهمداني6.
أما "فلبي"، فقد رأى أن الذي حكم بعد هذه الفترة التي انتهت على حسب اجتهاده بحوالي سنة "650 ق. م." هو "السمع ذبيان بن ملك كرب"
__________
1 Handbuch, S., 102
2 Background, P. 144
3 Handbuch, S., 102
4 The Chronology. P. 10, BOASOOR, Num. 119, P. 14
5 he Museon, 1964, 3-4, P. 498
6 Le Museon. 1964, 3-4, P. 466, 468, 498(3/140)
و"يدع ايل بين بن سمه يفع"، واندمجت حضرموت بعده في مملكة سبأ أو قتبان، ثم أصبحت جزءًا من مملكة سبأ إلى حوالي سنة "180 ق. م." حيث عادت فاستقلت، فتولى الملك فيها الملك "يدع آل بين بن رب شمس"1 الذي كون أسرة ملكية جديدة اتخذت مدينة "شبوة" عاصمة لها2.
وقد ذكر "البرايت" أن الذي حكم بعد "يدع أب غيلان" وهو ابن الملك "غيلان"، وهو الملك "العذيلط" "العزيلط"، وقد نعته بـ "الأول" وجعله معاصرًا لـ "شعرم أوتر" "شعر أوتر" ملك سبأ. وقد كان حكمه على تقديره في حوالي سنة "25 ق. م."3.
وذهب "البرايت إلى احتمال كون "العزيلط" هذا هو الملك، "العزيلط بن عم ذخر" المذكور في كتابة عثر عليها في "وادي بيحان" في كتابات عثر عليها "فلبي" في "عقلة" بحضرموت4. غير أن "العزيلط بن عم ذخر" هم من المعاصرين للملك "شارن يعب يهنعم"، ولذلك لا يمكن أن يكون هو الملك "العزيلط" الذي لقبه "البرايت" بالأول، وجعله معاصرًا للملك "شعرم أوتر" "شعر أوتر".
وقد وجد اسم الملك "العز" في كتابة حفرت على صخرة عند قاعدة جبل "قرنيم" "قرن"5، كما عثر على اسمه في كتابات وجدت في "عقلة"، و"عقلة" موضع مهم عثر فيه على كتابات وردت فيها أسماء عدد من ملوك حضرموت، زاروا هذا المكان، وذكرت أسماؤهم فيه6. وقد جاء في إحدى هذه الكتابات أن الملك "العزيلط" زار هذا الموضع، ورافقه في زيارته عدد من الزعماء والرؤساء، منهم: "شهرم بن والم" "شهر بن وائل" و"قريت بن ذمرم" "قرية بن ذمر" و"ابفال بن القتم" "أبفأل بن القتم" و "وهب آل بن هكحد"7.
__________
1 "يدع ايل بين بن رب شمس" "يدع ال بين رب ربشمس".
2 Background, P. 144, Philby, 46, 401, (4872) , REP. EPIG., VII, III, P. 400,4841
3 Chronology, P. 10, Philby, Sheba's, P. 442
Background, P. 144
4 The Chronology, P. 10
5 BOASOOR, Num. 120, (1950) , P. 27
6 BOASOOR, Num. 119, (1950) , P. 14
7 Sheba's Daughters, P. 448, Philby 81, REP. EPIG, VII, III, P. 413, 4908(3/141)
وسجل هؤلاء الرجال ذكرى هذه الزيارة في هذا النص الذي وسم بـ "Philby 81". وقد ذكر فيه اسم والد "العذ" "العز"، وهو "عم ذخر" "عمذخر"، ولم يدون كاتبه حرف العطف "الواو" بين الأسماء.
ورفقة الملك هؤلاء الذين صحبوه في رحلته إلى حصن "أنود"، وإن كانوا لم يفصحوا عن مراكزهم ومنازلهم الاجتماعية نستطيع أن نجزم أنهم كانوا من الوجهاء والأعيان، فرفقة تصاحب الملك للاحتفال بزيارة كهذه الزيارة لا بد أن يكون لها شأن بين الناس.
وتعد الكتابة التي وسمت بـ "Philby82" من الكتابات المهمة، وقد دونها رجلان من أشراف "حمير يهن"، أي من حمير، رافقا الملك في سفرته إلى حصن "أنود"، لإعلان نفسه ملكًا على حضرموت ولمناسبة تلقبه بلقبه، وهي عادة كان يتبعها ملوك حضرموت عند توليهم الملك وتلقبهم بلقب جديد لم يكن يتلقبون به قبل انتقال العرش إليهم، ولسنا نعرف متى نشأ هذا التقليد عند ملوك حضرموت، ولا السبب الذي دفعهم إلى اختيار هذا المكان دون غيره، ولعله كان من الأماكن المقدسة القديمة عندهم، فكانوا يتبركون بتتويج أنفسهم فيه، أو أنه كان قلعة أو موضعًا قديمًا فجرت العادة أن يتوج الملوك فيه. وقد كان هذان الرجلان بعثهما "ثارين يعب يهنعم" ملك "سبأ وذي ريدان" لمرافقة ملك حضرموت في هذه المناسبة. والظاهر أن ملك سبأ إنما بعثها لتهنئة ملك حضرموت في هذه المناسبة. والظاهر أن ملك سبأ إنما بعثها لتهنئة ملك حضرموت ولتمثيله في هذا الاحتفال المهيب الذي يجري في "أنود"، فهما مبعوثان سياسيان من ملك إلى حليفه1. وقد سجل "العذيلط" "العزيلط" هذه المناسبة في كتابة قصيرة ورد فيها "العزيلط ملك حضرموت بن عم ذخر سيراد جندلن أنودم هسلقب"، أي "العزيلط ملك حضرموت ابن عم ذخر سار إلى حصن أنود ليتلقب بلقبه.."2 وقد كتبت هذه الكتابة في الزمن الذي دونت فيه الكتابتان الأخريان عن زيارة الملك لحصن "أنود" عند إعلان لقبه الجديد. وتوليه العرش رسميًّا، غير أننا لا نعرف -ويا للأسف- تأريخ هذه المناسبة.
وذكر اسم الملك "العزيلط بن عم ذخر" في كتابة دونها جماعة من الأعيان عند تتويجه وتوليه العرش وإعلان ذلك للناس في حصن "أنود" وأصحاب
__________
1 Sheba's Daughters. P. 449, Philby 82, REP. EPIC, VII, III, P. 414
2 Sheba's P. 450, Philby 83, REP. EPIG.. VII, III, P. 415, 4910(3/142)
هذه الكتابة هم: "نصرم بن نهد" "نصر بن نهد" و"رقشم بن أذمر" "رقاش بن أذمر"، "والم بن يعللد" "وائل بن يعللد"، و" والم بن بقلن" و"ابكرب ذو دم" "أبكرب ذو ود"1. وقد ورد أنهم ساعدوا الملك سيدهم "العزيلط بن عم ذخر" "العذيلط بن عم ذخر" حين ذهب إلى حصن "أنود" لإعلان نفسه ملكًا2. ويظهر من ذلك أنهم كانوا من جملة رجال الحاشية الملكية التي صحبت الملك إلى ذلك المكان، ووردت نصوص أخرى سجلها رجال الحاشية الملكية تخليدًا لاسمهم في هذه المناسبة3. وقد سجل كتابة من هذه الكتابات رجل اسمه "حصين بن ذا ييم مقتوي العزيلط ملك حضرموت"، "حصين بن ذ أييم مقتوي العزيلط ملك حضرموت"، ويظهر أن هذا الرجل كان من قواد جيش الملك وضباطه ولعله كان من مرافقيه4.
وقد منح بعض علماء العربيات الجنوبية هذا الملك، أي الملك "العز بن عم ذخر" "العذ" لقب "العز الثالث"، لذهابهم إلى وجود ملكين حكما قبله عرفا بهذا الاسم. ورأى "ركمنس" أن حكمه كان في حوالي السنة "200 ب. م."5.
وقد ورد في كتابة حضرمية اسم ملك دعي بـ "العذ" "العز" ابن "العزيلط" "العذيلط" ملك حضرموت، فيظهر من ذلك أن والد هذا الملك كان ملكًا كذلك، ولم يشر أحد من الباحثين مثل "فلبي" أو "البرايت" إليه. ولعله ابن للملك المتقدم، وصاحب هذه الكتابة رجل اسمه "هبسل قرشيم"6 وتذكرنا كلمة "قرشم" "قريشم"، أي "قريش" باسم قبيلة "قريش" صاحبة مكة.
ولم يتأكد "البرايت" من اسم الشخص الذي تولى العرش بعد "العزيلط" فترك فراغًا ذكر بعده ملكًا سماه "العزيلط" "العذيلط" ميزه عن الأول بإعطائه لقبًا، هو "الثاني". وقد رأى أنه كان معاصرًا للملك "ثأرن يعب يهنعم"
__________
1 "نصر بن نهد" "ورقاش بن أذمر" "وائل بن يعللد" "وائل بن باقل" "أيكرب ذوودة".
2 REP. EPIG., VII, III, P. 392, 4852, Philby 27+29
3 REP. EPIG., VII, III, P. 395, 4855, 396, 4857, Philby 30, 32, 34
4 REP. EPIG., VII, III, P. 398, 4861, Philby 36, P, 401, 4874, Philby 49
5 Beltrage, S., 114, 144
6 REP. EPIG., VII, III, P. 322, 4693, Le Museon, LXII1, 3-4' 1950, P. 261(3/143)
ملك سبأ. أما والد "العز الثاني" على رأيه فهو "علهان" أو "سلفان"1.
ويرى "فلبي" أن "علهان" أو "سلفان" هو ابن "العزيلط" الأول2.
وقد سبق أن ذكرت أن "ثأرن يعب يهنعم" كان حليفًا للملك "العزيلط بن عم ذخر"، وأنه أرسل وفدًا لتهنئته بتتويجه وإعلانه لقبه الجديد3. ولذلك يبدو غريبًا ما ذهب إليه "البرايت" من أن "العزيلط الثاني بن علهان" أو "سلفان" هو الملك المعاصر للملك "ثأرن يعب" السبئي.
ويحتمل على رأي "البرايت" أن يكون "العزيلط" "العذيلط" الذي ورد ذكره في النص "Glaser 1619 = 1430" الذي عثر عليه في "وادي بيحان" ويعود تأريخه إلى سنة "144" من التقويم السبئي التي تقابل سنة "29م" تقريبًا، هو "العزيلط الثاني". ويحتمل على رأيه أيضًا أن يكون هو الملك "Eleazos" الذي ذكر في كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"4. وكان هذا الملك معاصرًا لملك آخر سماه مؤلف هذا الكتاب "Charibael" = "Karibael وهو ملك الحميريين والسبئيين5، وقد أراد به الملك "كرب ايل وتر يهنعم" وهو "ملك سبأ وذي ريدان" المذكور في النص 6Glaser 483.
أما "فون وزمن"، فيرى أن كاتب النص قد أهمل الرقم ثلاث مائة فكتب مائة وأربعة وأربعين، على حين أن الصحيح هو "344" من التقويم الحميري، وإذن يكون زمان تدوين الكتابة هو "229" أو "235" بعد الميلاد وهو وقت حكم "العزيلط بن عم ذخر" على تقديره7.
وجاء اسم ملك يدعى "العزيلط" "العذيلط" في كتابة سجلها رجلان، يدعى أحدهما "عذ ذم بن أب أنس" عذ ذ بن أب أنس" ويدعى الآخر "رب آل بن عذم لت" "رب ايل بن عذم لات"، وهما من عشيرة "مريهن" "مريهان"، ذكر فيها أنهما قدما إلى معبد الإله "سن ذ علم"
__________
1 OOR, Num. 119, (1950) , P. 14
2 Background, P. 144
3 Sheba's, P. 449
4 يرى بعض العلماء أنه ألف بين 40-70 بعد الميلاد.
5 OASOOR, Num. 119 (1950) , P. 14
6 Beitrage, S., 114
7 Le Museon, 1964, 3-4, P. 482 4(3/144)
"سين ذي علم" في معبده "علم" المشيد في مدينة "شبوة"، سبعة تماثيل من الذهب "سبعة أصلم ذهبن"، كما أمرهما سيدهما الملك1. ويظهر أنهما كانا من حاشيته وأتباعه, وقد أهملت هذه الكتابة اسم والد هذا الملك، فلا نعرف أي ملك هو، أهو "العزيلط الأول"، أم "العزيلط الثاني"؟
وقد ورد في بعض الكتابات ما يفيد استقبال "العزيلط" لضيوف وفدوا عليه من مختلف الأماكن: من الهند "هند"، ومن "تدمر" "تذمر"، وضيوف آراميون جاءوا إليه من "كشد"2، بل ورد في الكتابة "Ja 919" مرافقة عشر نساء قرشيات له إلى حصن "أنود"3. وإذا كانت الكتابة قد قصدت من "قريش" قريش المعروفة صاحبة مكة، نكون قد وقفنا لأول مرة على اسمها في وثيقة مدونة.
ولإشارة النصين المذكورين إلى الهند وتدمر وإلى بني إرم وقريش، أهمية كبيرة ولا شك، إذ تدل على الاتصال الذي كان لمملكة حضرموت بالعالم الخارجي في ذلك الزمن، وعلى الروابط التجارية التي كانت تربط ذلك العالم بحضرموت. وقد كان اتصال حضرموت بالخارج عن طريق ميناء "قنا"، فقد كانت السفن تأتي إليه وتخرج منه لتذهب إلى إفريقيا والهند وعمان، وأرض فارس4.
وترك "البرايت" فراغًا بعد "العزيلط الثاني"، مغزاه أنه لا يدري من حكم بعد "العز" هذا، ثم ذكر بعده اسم "يدع أب غيلان بن أمينم" "يدع أب غيلان بن أمين"، ثم جعل اسم ابنه من بعده. وهو "يدع ايل بين"،أي أنه هو الذي تولى الحكم من بعده. وقد بين أنه غير متأكد من زمان حكمهما، إلا أن دراسة الكتابات التي ذكر فيها اسماهما تدل على أنها من
__________
1 لم يذكر في النص الذي نشره "بيستن" في مجلة: Le Museon اسم هذه العشيرة، راجع:
Le Mus6on, LXIII, 3-4, 1950, P. 262, 265, REP. EPIG., VII, IH, p. 320,
4691, Phllby 2, Ryckmans 1266
2 JA 931, Le Museon, 1964, 3-4, P. 484
3 JA 919, Le Museon, 1964, 3-4, P. 484
4 Le Museon, 1964, 3-4, 484(3/145)
نوع كتابات القرن الأول للميلاد، ولذلك وضع زمانهما في هذا العهد1.
ومن الكتابات التي ذكر فيها اسم "يدع ايل بين"، أي ولد "يدع أب غيلان بن أمينم" الكتابة التي وسمها العلماء بسمة "Glaser 1623"، وهي كتابة قصيرة تتألف من أربعة أسطر. ورد في جملة ما ورد فيها اسم الإله "سين ذو علم"، أي الإله "سين" رب معبد "علم", وكان معبد "علم" قد خصص بعبادة هذا الإله2.
وقد وصلت إلينا كتابة أخرى ورد فيها اسم "يدع ايل بين"، إلا أنها لم تذكر لقب والده، وهو "غيلان"، وإنما اكتفى فيها بتسجيل الاسم وحده وهو "يدع أب". وقد ذكر فيها أن هذا الملك بنى وحصن سور مدينة "شبوة" ابتغاء الإلهتين: "ذات حشولم" "ذت حشولم" "ذات حشول" و"ذت حمم" "ذات حميم"، وذكر فيها اسم "صدق ذخر" "كبر" "كبير" حضرموت3. ويظهر أن الغرض من ذكر اسم هذا الكبير "كبير" في النص، أن تؤرخ الكتابة به على نحو ما رأينا في الكتابات المعينية من التأريخ بأسماء الرجال4.
ولم يذكر "البرايت" من حكم بعد "يدع ايل بين"، فترك فجوة تدل على أنه لا يدري من حكم فيها، ثم ذكر بعدها ملكًا آخر، سماه "يدع ايل بين"، قال: إنه ابن "سمعه يفع"، ثم ذكر "السمع ذبيان بن ملكي كرب" "ملكيكرب" من بعده، وقال إنهما كانا متعاصرين5، وقد حكما حكمًا مزدوجًا، أي أن كل واحد منهما كان يحكم بلقب "ملك حضرموت".
وكان حكمهما في حوالي السنة"100" بعد الميلاد على بعض الآراء6.
ثم عاد "البرايت" فترك فراغًا بعد "السمع ذبيان"، دلالة على وجود فجوة في ترتيب أسماء ملوك حضرموت، لا يدري من حكم فيها، ثم ذكر
__________
1 The Chronology, P. IE
2 BOASOOR, Num. 119, (1950) , P. 14, Ryckmans, 169, REP. EPIG., 4698,
VII, m, P. 323, Philby 9, BE. 49
3 Le Museon, LX, 1-2, 1947, P. 53, Hamilton, 2, Plate, I
4 Le Museon, LX, 1-2, 1947, P. 55
5 BOASOOR, Num. 119, 1950, P. 14
6 Beitrage, S., 85(3/146)
بعدها الملوك: "رب شمس" "ربشمس" ثم "يدع ايل بين" ثم "الريم يدم" ثم "يدع أب غيلان"1.
وقد ذكرت اسم "رب شمس" قبل قليل، وقدمت زمانه بعض التقديم، وذلك حكاية عن رأي بعض العلماء وفي ضمنهم "فلبي" الذي جعل حكمه قي حوالي سنة "180 ق. م." ثم عدت لأذكره هنا مجاراة لرأي "البرايت" الذي وضعه في أواخر قائمته لملوك حضرموت. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن حكم هذا الملك كان بعد سنة "200 ب. م."2. وفرق كبير كما نرى بين التقديرين.
وقد جعل "فون وزمن" زمان "رب شمس" بين السنة "100" و"120 ب. م." وصيره من معاصري "اوسلت رفش" "أوسلة رفشان" ملك همدان ومن معاصري الفترة الواقعة بين حكم "ذمر على يهبر" و"ثأران يعب" الحميريين3. ثم البقية التى جاءت بعده، وتتألف من "يدع آل بين" "يدع ايل بين"، ثم "الريم يدم" "الريام يدم"، ثم "يدع اب غيلن" "يدع أب غيلان"، ثم "رب شمس" "ربشمس" وقد جعل نهاية حكمه سنة "180 ب. م"4.
وبعد النص الموسوم بـ Philby 84 من النصوص المهمة بالنسبة إلى تأريخ مدينة "شبوة"، وقد كتب في عهد "يدع ايل بين بن رب شمس"، وجاء فيه أن "يدع ايل بن رب شمس" من "أحرار يهبأر" "أحرار يهبار" "أحرار يهبر" عمر مدينة "شبوة" وأقام بها، وبنى المعبد بالحجارة، وذلك بعد الخراب الذي حل بها، وعمر ما تهدم وتساقط منها، وأنه احتفالًا بهذه المناسبة أمر بتقديم القرابين، فذبح "35" ثورًا، و"82" خروفًا ,"25" غزالًا و "8" فهود "أفهد"، وذلك في حصن "أنود"5.
__________
1 The chronology, P. II, Le Museon, 1964, 3-4, P. 468, Jamme, Sabaean Inscriptlns, P. 305, The Al-'uqlah Texts, Catholic Univ. of America Press, Washington, 1963, PP., 7.
2 Beitrfige, S., 105.
3 Le Museon, 1964, 3-4, 498.
4 Le Museon, 1964, P. 498.
5 Philby 84, Sheba's, P. 451, Le Museon, LXI, 3-4, 1948, P. 190, REP. EPIG. 4912, Vn, in, P. 416.(3/147)
وقد حدثنا هذا النص حديثًا صريحًا بأن أصل "يدع ايل بين" من أحرار "يهبأر" "أحرر يهبر" أي من صرحاء القبيلة، وحدثنا أيضًا بأنه بنى مدينة شبوة، وعمر معبدها وكسا جدره بطبقة من القار أو غيره لتكون ملسًا، من أساسها إلى شرفاتها، وذلك بعد الخراب الذي حل بشبوة، إلا أن الملك لم يتحدث عن سبب ذلك الخراب الذي أصاب المدينة ومعبدها معها، وهو خراب كبير على ما يظهر، فتركنا في حيرة من أمره، وتباينت آراء الباحثين فيه.
ويرى "البرايت" أن النص المذكور هو من نصوص القرن الثاني بعد الميلاد، أما "ركمنس" فيرى أنه من نصوص ما بعد السنة "200" بعد الميلاد، فهو إذن نص يكاد يجمع أكثر علماء العربيات الجنوبية على أنه من نصوص بعد الميلاد، وإذا صدق رأي هؤلاء، كان خراب شبوة إذن وإعادة تعميرها قد وقعا بعد الميلاد1.
وقد فسر بعض الباحثين خراب "شبوة" باستيلاء أحد ملوك "سبأ وذي ريدان" عليها، فلما نهض "يدع ايل بين"، لاستردادها من السبئيين، وقع قتال شديد فيها بينه وبينهم في المدينة نفسها، لم ينته إلا بعد خراب المدينة وتدمير معبدها معبد الإله "سين"، وعندئذ ارتحل عنها السبئيون، فاضطر "يدع ايل" الذي طردهم منها إلى إعادة بناء المدينة والمعبد، فلما تم له ذلك، احتفل بهذه المناسبة، أو بمناسبة تتويجه ملكًا على حضرموت في حصن "أنود" وقرب القرابين إلى إله حضرموت "سين" وإلى بقية الآلهة، شكرًا لها على ذلك، النصر، وعلى النعم التي أغدقتها عليه. هذا في رأي فريق من علماء العربيات الجنوبية2.
ورأى فريق آخر أن في خراب "شبوة" سببًا من سببين، فإما أن يكون "يدع ايل" وهو من أحرار قبيلة "يهبأر"، وقد أعلن الثورة على السبئيين الحميريين الذين كانوا قد استولوا على شبوة، وقاومهم مقاومة عنيفة أدت إلى إلحاق الأذى بالمدينة، فلما تركها السبئيون الحميريون كانت ركامًا، فأعلن "يدع ايل" نفسه ملكًا على حضرموت، بعد أن ظلت المملكة بدون ملك، وإما أن
__________
1 Beitrage, S, 115
2 Beitrage, S, 115(3/148)
يكون ذلك الخراب بسبب عصيان "يدع ايل" على الأسرة المالكة الشرعية ومقاومته لها، مما أدى إلى إنزال التلف في المدينة، فلما تغلب على الأسرة المالكة أعاد بناء المدينة وجددها وجدد معبدها على نحو ما جاء في النص1.
وليس في النص شيء ما عن الطريقة التي كسب بها تاج حضرموت، إلا أن إشارة وردت في كتابة تفيد أن بعض الأعراب ورجال القبائل كانوا قد تعاونوا معه وساعدوه، فقد عاونه رجل من قبيلة "يم" "يام"، ومائة من بني أسد، ومائتان من "كلب" أو "كليب"2، وعاونه ولا شك آخرون وبفضل هؤلاء وأمثالهم من رجال القبائل تغلب على من ثار عليهم، فانتزع التاج منهم، والإشارة المذكورة على أنها غامضة، كافية في إعطائنا فكرة عمن ساعد "يدع ايل" على الظفر بالعرش.
ويظهر من كل ما تقدم أن "يدع ايل بين"، وهو من أبناء العشائر، كان قد جمع حوله جماعة من القبائل، ساعدته في عصيانه وتمرده على السلطة الحاكمة في "شبوة" فاستولى على الملك وقد جاء بعده عدد من الملوك، إلا أن الأمر أفلت زمامه منهم، إذ نجد أن الملك "شمر يرعش" "شمر يهرعش" يضيف "حضرموت" إلى الأرضين الخاضعة لحكومته، حتى صار اسم حضرموت منذ ذلك الحين جزءًا من اللقب الذي يلقب به الملوك. ومعنى ذلك انقراض مملكة حضرموت ودخولها في حكومة "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" اللقب الرسمي الذي اختاره "شمر" المذكور نفسه.
ويرى "فون وزمن" أن الكتابة الموسومة بـ jamme 629، هي من الكتابات التي تعود إلى أيام هذا الملك وقد جاء فيها أن "مرثدم" "مرثد" و "ذرحن" "ذرحان"، وهو قائد من قواد جيش "سعد شمع أسرع" و"مرثدم يهحمد" من "آل جرت" "آل جرة"، قد حاربا الملك "يدع آل" "يدع ايل" ملك حضرموت والملك "نبطم" "نبط" ملك قتبان، وهو "وهب آل بن معهر" "وهب ايل بن معاهر" و"ذاخولن" "ذو خولان" "ذ خولن" و"ذ خصبح" "ذو خصبح" و"مفحيم" "مفحى" حارباهم في أرض "ردمان" قرب العاصمة "وعلن" "وعلان"3.
__________
1 Beitrage, S, 115
2 Beitrage, S, 115
3 Le Museon, 1964, 3-4, P. 463(3/149)
ويرى "فون وزمن" أن هذه الحرب قد وقعت في أواخر أيام حكم الملك "نبطم" نبط" ملك قتبان، المعروف بـ "نبطم يهنعم"، وقد لقب في هذه الكتابة بلقب: "ملك قتبان" إلا أنه كان في الواقع تابعًا لحكم ملك حضرموت، وقد كانت "تمنع" -كما يرى هو أيضًا- قد خربت قبل هذا العهد، وتحولت إلى قرية صغيرة. وقد التقت عساكر "سعد شمس" و"مرثد" بخصومها قرب هذا المكان. ولم تكن "أوسان" مملكة في هذا العهد، بل كانت قبيلة. وقد أذلت "شيعان" بعد هذه الحرب.
وأما "مرثد" "مرثدم" صاحب الكتابة، فهو من "ذ بن جرفم" "بني ذي جرفم" "بني ذي جرف"1 بـ "صنعو"، أي "صنعاء"، وقد عمل مع الملكين: "سعد شمس أسرع" و"مرثدم يهحمد"، وهما من ملوك مملكة "جرت" "جرة "، لتنظيم اجتماع لسادات القبائل في موضع "رحبت" "رحابة" الواقع شمال صنعاء، بأرض "سمعي". وقد حضر الاجتماع: "شرحثت"، وهو من سادات "بتع"2، و"الرم" "الرام" "الريام"، وهو من "بني سخيم"، و"يرم أيمن" الهمداني. ويظهر أن ملكي "جرة" كان قد استحوذا على مرتفعات سبأ في هذا الحين3.
وكان "وهب آل بن معهر" "وهب ايل بن معاهر" صاحب "ردمان" "ردمن" والأرضين المتاخمة لـ "خولان" في هذا الوقت. وقصد بـ "معهر" دار الحكم بمدينة "وعلن" "وعلان" من أرض "ردمان"4.
وأما "خصبح" فبطن من بطون قتبان.
وتولى الملك بعد "يدع ايل بين" ابنه "الريم يدم" "الريام يدم" ونحن لا نعرف من أمره شيئًا يذكر، إلا ما ورد في كتابة تذكر أنه ذهب إلى حصن "أنود"، واحتفل هناك بتوليه العرش، وإعلانه لقبه الذي اتخذه لنفسه5.
وإلا ما ورد في كتابة أخرى، دونها "رب شمس بن يدع ايل بين"، أي
__________
1 "حرف"، "كراف".
2 راجع النص: CIH222
3 Le Mus6on, 1964, 3-4, P. 465
4 Le MusSon, 1964, 3-4, P. 464
5 Sheba's, P. 452, Philby 85, REP. EPIG., VII, III, P. 418, 4913(3/150)
شقيق "الريم يدم"، تذكر أنه رافق شقيقه إلى حصن "أنود" عند المناسبة المتقدمة، فكان من جملة المشاهدين لحفلة التتويج1.
ولا نعرف من أمر "يدع أب غيلان" شقيق، "الريم يدم" شيئًا يذكر كذلك. وقد جعله "البرايت" خليفة شقيقه المذكور، وكل ما لدينا عنه، لا يتجاوز ما ذكرناه عن شقيقه. فقد جاء في كتابة أنه ذهب إلى حصن "أنود"، فاحتفل فيه بتتويجه وأعلن في الاحتفال اللقب الذي لقب نفسه به، وجاء في كتابة أخرى سجلها "رب شمس"، أي شقيقه، أنه ذهب مع أخيه "يدع أب" إلى حصن "أنود" لمشاهدة الاحتفال بتتويجه وبإعلانه اللقب2.
وقد ورد في أحد النصوص أن "يدع أب غيلن" "يدع أب غيلان"، سور مدينة "ذ غيلن". ويرى بعض الباحثين، أن هذا الملك كان قد بنى هذه المدينة في أرض قتبانية فتحت في أيام والده، في مكان يقع عند فم وادي "مبلقه" "مبلقت" المؤدي إلى وادي "بيحان"، ويشك بعض الباحثين في صحة قراءة اسم المدينة3.
وفي الكتابة المرقمة برقم philby 88 جملة هي: "رب شمس خير اسدن بن يدع آل بين"، ترجمها "بيستن" بـ "رب شمس أمير أسد بن يدع ايل بين" على أن "أسدًا" قبيلة، واستدل على ذلك بما جاء في إحدى الكتابات من أن الملك "ختن أسد"4، ومعنى ذلك أنه كان ختنًا لـ "بني أسد".
وأرى أن لفظة "اسدن" "أسد" هنا لا تعني قبيلة أسد وإنما تعني جنودًا أو جيشًا، وهي بهذا المعنى في العربيات الجنوبية، فإن لفظة "أسدم" تعني الجندي، وأن المراد من جملة "رب شمس خبر اسدن" "رب شمس أمير الجند" أو "الجيش"، أي أن لفظة "خير" بمعنى أمير أو قائد، وخير القوم سيدهم، فيكون بذلك قائدًا أو أميرًا لجيوش حضرموت.
__________
1 Philby 86, Sheba's, P. 452, REP. EPIG. 4914, VII, III, P, 418
2 Philby 88, Sheba's, P. 487, REP. EPIG. 4918, VII, III, P. 419
3 A. Jamme, A New Chronology of the Qatabanlan Kingdom, BOASOOR, Num. 120, 1950, 26, Sabaean Inscriptions, P. 297, Le Museon, 1964,3-4, P. 464
4 Philby 88. Sheba's P. 444, REP. EPIG. 4919, VII, III, P. 419(3/151)
وبناء على ما تقدم نكون قد عرفنا اسم ثلاثة أولاد من أبناء "يدع ايل بين" تولى الملك اثنان منهم على وجه أكيد، أما الثالث، وهو "رب شمس" فلم تصل إلينا كتابة تذكر ذهابه إلى حصن "أنود" للاحتفال بتتويجه وإعلان لقبه.
لذلك لا نستطيع أن نبت في موضوع توليه عرش حضرموت. ولم يذكر "البرايت" اسمه بين أسماء أبناء "يدع ايل بين". وقد استخرجته أنا من الكتابات التي ذكرتها، وهي الكتابات التي استنسخها "فلبي" من موضع "عقله".
وفي اللوح النحاس المحفوظ في المتحف البريطاني اسم ملك من ملوك حضرموت هو "صدق ذخر برن" "صدق ذخر بران"، ووالده "الشرح"، وقد ذكر فيه أن هذا الملك قدم نذورًا إلى الآلهة: "سين" و"علم" و"عثتر" لخيره ولخير "شبوة" ولخير أولاده وأفراد أسرته، وقد وردت فيه أسماء قبائل يظهر أنها كانت خاضعة في هذا الزمن لحكمه هي: "مرثد" و"أذهن" "أذهان"، و"ينعم"1. ولورود اسم "شبوة" في هذا النص، يجب أن يكون هذا الملك قد حكم بعد تأسيس هذه المدينة.
وذكر "هومل" أنه وجد محفورًا على الجبهة الثانية من اللوح النحاس "مونكراما" Monogramm طغراء تشير إلى اسم الملك الذي كان يحكم حضرموت في ذلك الزمن، وقد دعاه "هومل" "سعد شمسم" "سعد شمس"2.
وورد اسم ملك آخر من ملوك حضرموت، وهو: "حي آل" "حي ايل"، وقد ورد اسمه في نقد حضرمي3. وما نعرف من أموره في الزمن الحاضر شيئًا.
ولم يشر "البرايت" و"فلبي" و "هومل" وغيرهم إلى اسم ملك حضرمي ورد ذكره في النص المرقم برقم "948" المنشور في كتاب ClH4.
وهو نص متكسر في مواضع متعددة منه، أضاعت علينا المعنى، واسم هذا الملك "شرح آل" "شرح ايل" "شرحبيل".
وقد سقطت كلمات قبل هذا الاسم، لعلها تكملته. وقد وردت بعده جملة:
__________
1 Halevy, Etudes, P. 173, OS. 29
2 Hommel, Grundriss, I, S., 138
3 Handbuch, S., 96, Anm. 2, 103
4 CIH, IV, III, II, P. 275-276(3/152)
"ملك حضر.."، وسقطت الأحرف الباقية من كلمة حضرموت وكلمات أخرى.
وقد ورد في النص المذكور اسم "شمر يهرعش" ملك "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات"1. ويدل ورود اسم "شمر يهرعش" في هذا النص مع اسم "شرح ايل" على أن الملكين، كانا متعاصرين، ويدل هذا النص على أن مملكة حضرموت بقيت إلى ما بعد الميلاد، وحتى أيام "شمر يهرعش"، يحكمها حكام منهم، يحملون لقب "ملك".
وكان آخرهم هو "شرح ايل" هذا المدون اسمه في النص المذكور. ولكنه لم يكن مستقلًّا كل الاستقلال، بل كانت تحت حماية "شمر يهرعش" ووصايته. ودليلنا على ذلك ذكر "شمر" في النص مع "شرح ايل" وإدخال اسم "حضرموت" ضمن أسماء المواضع الخاضعة" لحكم "شمر"، أي في اللقب" الرسمي الذي اتخذه "شمر" لنفسه بعد استيلائه على حضرموت.
وعثر على نص وسم بـ jA656، جاء فيه اسمًا ملكين من ملوك حضرموت أحدهما "رب شمس"، والآخر "شرح ايل" "شرح آل"2. وليس في النص ما يكشف عن هوية الملكين، وأرى أن "رب شمس" هذ اهو "رب شمس" المتقدم عن شقيق الملكين، وابن "يدع ايل بين" وإذا صدق رأيي هذا، يكون قد تولى الملك لمدة قليلة، تولاه بعد وفاة شقيقه "يدع أب غيلان" ثم انتقل العرش إلى "شرح ايل"، وهو في نظري "شرح ايل" الذي اعترف بسيادة "شمر يهرعش" وسلطانه عليه كما تحدثت عنه.
وقد يكون أحد أبناء "رب شمس" وقد يكون حمل لقب "ملك حضرموت" مع "رب شمس" في آن واحد، وهذا النص هو بالطبع أقدم من النص المتقدم الذي ورد فيه اسم "شمر يهر عش".
لقد جعل بعض علماء العربيات الجنوبية سقوط مملكة "حضرموت" واندماجها نهائيًّا في مملكة "سبأ وذي ريدان" في أيام "شمر يهرعش"، وبعد السنة "300 ب. م"3. وأود أن أبين هنا أننا لما نظفر بكتابة عربية جنوبية،
__________
1 وهو "شمر يرعش" عند الإسلاميين.
2 Le Museon, 1946, 3-4, P. 453
3 Bitrage, S. 116(3/153)
فيها شيء عن كيفية سقوط مملكة حضرموت، وعن كيفية استيلاء "شمر يهرعش" أو غيره من الملوك عليها، فنحن لهذا في وضع لا يسمح لنا بوصف نهاية تلك المملكة وذكر الأحداث التي أدت إلى سقوطها واندماجها في ممكلة سبأ وذي ريدان.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن سقوط حضرموت كان في القرن الرابع بعد الميلاد، وقبل احتلال الجيش للعربية الجنوبية بقليل. وقد وقع هذا الاحتلال على رأيهم فيما بين السنة "335 ب. م" والسنة "370ب. م"1.
وقد أدت فتوحات "شمر يهرعش" لحضرموت، ولأرضين أخرى تعد من المناطق الخصبة الكثيفة بسكانها في جزيرة العرب، إلى هجرة الناس عنها إلى مناطق بعيدة نائية، وإلى نزول الخراب في كثير من القرى والمدن، إذ تهدمت بيوتها ومعابدها، وقتل كثير من أهلها، وأتت النار على بعضها حرقًا، فتحولت منازل الناس إلى خرائب، وجفت مزارعهم فآضت بوادي، فهجرها أهلوها ولم يعودوا إليها بعد هذا الخراب، فزادت مساحة الصحاري ولم تعمر منذ ذلك الحين. وقد زاد في نكبة العربية الجنوبية هذه أن حروب "شمر يهرعش" المذكورة استمرت زمنًا طويلًا، وشملت أكثر اليمن حتى بلغت البحر. مما أطمع الجيش في العربية الجنوبية، فزادت قواتها في الأرضين التي احتلتها، وتوغلت في مناطق واسعة، ولا سيما بعد موت "شمر يهرعش".
هذا وقد انتهت إلينا كتابات عدة تعرضت لأنباء الحروب التي نشبت بين حضرموت وسبأ، وبين حضرموت وحكومات أخرى، منها كتابات لم تذكر فيها أسماء الملوك الذين وقعت في أيامهم تلك الحروب، كالكتابة المرقومة بـ "4336" المنشورة في كتاب 2REP EPIG. وقد قدم صاحبها إلى إلهه الشكر والحمد، وتمثالين من الذهب إلى معبده في "نعلم"؛ لأنه نجى سيده "بشمم" "بشم" ومن عليه بالشفاء من الجرح الذي أصابه في المعركة التي نشبت في مدينة "ثبير" في أرض "يحر"، وهي معركة من معارك نشبت بين "شمر ذي ريدان" و "أب أنس" من قبيلة "معهرم" "معهر" "معاهر" وأمراء "خولان"
__________
1 Beitrage, S. 144
2 REP. EPIG, VII, II, P. 199(3/154)
وملك سبأ وملك حضرموت، ولما كانت هذه الكتابة لإعلان شكر صاحبها لإلهه وإعلانه بوفائه لنذره، وهي في موضوع شخصي، لم تكن متبسطة في أخبار تلك الحرب المزعجة، لذلك اكتفيت بذكرها إجمالًا دون تفصيل، أما نحن العطاش إلى معرفة خبر تلك الحرب، وما كان من أمرها، فقد خرجنا بعد قراءتنا لهذا النص ونحن آسفون على بخل صاحبها علينا وتغيره في تفصيل خبر هذا الحادث المهم، وشاكرون الله مع ذلك على سلامة رجل وقاه الله شر تلك الحرب.
هذا ما وصل إلى علمنا من أسماء ملوك حضرموت و"مكربيها" ولست أرى بأسًا في التنبيه مرة أخرى على أن هذه الأسماء لم ترتب إلى الآن ترتيبًا زمنيًّا مضبوطًا، وإنما رتبت على حسب اجتهاد الباحثين. ولذلك نجدهم، يختلفون في هذا الترتيب وغيره، في أسماء الملوك، وسبيلنا الآن أن نحاول جهد، الإمكان حصر هذه الأسماء حتى يأتي اليوم الذي نستطيع فيه الترتيب والتصنيف.
والظاهر أن حكم الحميريين لحضرموت، لم يتحقق بصورة فعلية، بل كان في أواخر أيامهم، ولا سيما في أواخر القرن الخامس وابتداء القرن السادس للميلاد، حكمًا شكليًّا؛ لأننا نجد أرض حضرموت وقد استقل فيها حكام المدن وسادات القبائل وأشراف الأودية، وقد لقب أكثرهم أنفسهم بلقب "ملك"، وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن بني "معد يكرب بن وليعة" وهم: مخوص، ومشرح، وجمد، وأبضعة، كانوا يسمون ملوكًا؛ لأنه كان لكل واحد واد يملكه1. والواقع أن كثيرًا من سادات القبائل قبل الميلاد وبعده، كانوا يلقبون أنفسهم بلقب ملك، ولكنهم لم يكونوا غير سادات قبائل وأصحاب أرض.
__________
1 البلدان "3/ 294"، الطبري "1/ 2004 وما بعدها" "طبعة ليدن".(3/155)
قبائل حضرمية:
وفي حضرموت كما في كل الأماكن الأخرى من جزيرة العرب قبائل وعشائر وأسر ذوات حكم وسلطان وجاه في مواطنها، وقد ورد أسماء عدد منها في الكتابات، ومن قبائل حضرموت وعشائرها وأسرها: "شكمم"، أي "شكم"(3/155)
"شكيم"، وعشيرة "يشبم" "يشبوم"1.
ويرجع نسب عشيرة "رشم" إلى قبيلة "مقنعم" "مقنع" أو "يقنعم" كما جاء في بعض الكتابات2، وهو اسم قبيلة لا نعرف من أمرها شيئًا في الزمن الحاضر، وكان يحكمها "أقيال" منهم: "هو فعثت" و "لحى عثت" وهما من موضع "عليم"، أي "علب"3. وقد جاء في نص أنهما قدما وثنًا "صلمن" إلى الآلهة "عثر" و"هبس" "هوبس" و"المقه" و"ذت حمم" "ذات حميم"4. وقد يفهم من ذلك أن هذه القبيلة كانت قبيلة سبئية، نزحت إلى حضرموت واستقرت فيها، أو أنها كانت من القبائل السبئية التي خضعت لحضرموت.
و"يهبأر" "يهبر" "يهبار" من القبائل المعروفة في العربية الجنوبية، ولا يستبعد أن تكون قبيلة lobaritai التي ذكر اسمها "بطلميوس"؟ وكانت منازلها على ما يظهر من جغرافيته على مقربة من الموضع الذي سماه Sachalitai أي "الساحل" أو "السواحل"5، فهي من القبائل العربية الجنوبية التي لا تبعد منازلها عن الساحل كثيرًا، وقد كان "يدع ايل بين بن رب شمس" من أبنائها الأحرار,
وقبيلة "أسد" من القبائل العربية الشمالية المعروفة بعد الميلاد. أما في نصوص المسند، فليست فيها معروفة، ويظهر أن قسمًا منها كان قد نزح من نجد إلى الجنوب حتى بلغ أرض حضرموت، فساعد "يدع ايل بين" ولعل نزوحها إلى الجنوب كان بسبب خلاف وقع بين عشائرها أو مع قبائل أخرى، فاضطر قسم منها إلى الهجرة إلى العربية الجنوبية6.
و"يام" من القبائل المعروفة حتى اليوم، وتسكن عشائر منها حول نجران7.
وأما "كلب" أو "كليب"، فإنها من القبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى عدنان، أي إلى العرب الشماليين.
__________
1 REP. EPIG., 3512, VI, I, P. 182
2 REP. EPIG., VI, II, P. 258
3 Orientalia, Vol., VI, 1937, P. 92, Museo Nazionali Romano, Ansaldi II Jemen nella Storia e nella Legenda, Abb, 91
4 REP. EPIG., VII, HI, P. 312, Hamburg 31, 300, 1625
5 Beitrage, S., 116
6 Bitrage, S., 115
7 Beitrage, S., 115(3/156)
مدن ومواقع حضرمية:
و"شبوة"، هي عاصمة حضرموت وهي Sabbatha = Sabotha= Sabota عند الكتبة الكلاسكيين1 وهي Sabtah المذكورة في التوراة في نظر بعض الباحثين2. وزعم "هوكارت" Hogarth أنها 3Sawa. وذكر "الهمداني" موضع "شبوة" في جملة ما ذكره من حصون "حضرموت" ومحافدها4.
وقد ظن "فون مالتزن" وآخرون غيره أنها مدينة "شبام"5. وزار "فلبي" "شبوة"، وعثر على آثار معابدها وقصورها القديمة، كما شاهد بقايا السدود التي كانت في وادي شبوة لحصر مياه الأمطار والاستفادة منها في إرواء تلك المناطق الواسعة الخصبة6.
وتشاهد في "وادي أنصاص" وفي خرائب "شبوة" بقايا سد وأقنية للاستفادة من المياه وخزنها عند الحاجة إليها7. وهناك سدود أخرى بنيت في مواضع متعددة من العربية الجنوبية للاستفادة من مياه الأمطار وللسيطرة على السيول، وتحويلها إلى مادة نافعة تخدم الإنسان.
وأما حصن "أنود" "أنودم"، الموضع الذي يحتفل فيه الملوك عند تتويجهم وإعلانهم اللقب الذي يتلقبون به بعد توليهم العرش، فإنه موضع "عقلة" في الزمن الحاضر. وهو خربة على شكل مربع. وقد زار هذا المكان جملة
__________
1 Pliny, 6, 28, 32, Ptolemy, 6, 7, 38, C. A. Nallino, Raccolta di Scltti editi e inedltl, Vol., in, P. 50
2 Montgomery, Arabia and the Bible, P. 42
3 D. G. Hogarth, The Penetratio of Arabia, P. 149, 151, 221
4 الصفة "87، 98"، الإكليل "8/ 90" "نبيه" البلدان "5/ 234".
5 Reise, S., 289, William Vincent, The Periplus of the Ery-
threan Sea, Part the Second, P. 301
6 Sheba's, P. 79
7 Beitrage, S., 108(3/157)
أشخاص من الغربيين ووصفوه، منهم "فلبي"، وقد وجد فيه خرائب عادية ووجد عددًا من الكتابات الحضرمية، هي الكتابات التي وسمت باسمه. ويشرف هذا الموضع على واد يمتد، فيتصل بتلال "شبوة"1. وقد كان حصنًا ومعسكرًا يقيم في الجيش، لحماية مزارع هذا الوادي، ولا بد أن يكون هنالك سبب جعل الملوك يختارون هذا المكان لإعلان اللقب الرسمي الذي يختاره الملوك لأنفسهم عند التتويج.
وقد تبين من بعض الكتابات المتعلقة بتنصيب ملوك حضرموت في هذا المكان أنهم كانوا يتقربون في يوم إعلان تتويجهم في حصن "أنود" بنحر الذبائح للآلهة. وقد تبين من بعضها أن في جملة تلك الذبائح التي قدمت إلى الآلهة حيوانات وحشية مثل الفهود. وقد استمرت هذه الاحتفالات قائمة إلى القرن الثاني بعد الميلاد على رأي "البرايت"، وإلى حوالي السنة "200" بعد الميلاد على رأي "ركمنس"2.
ومن مدن الحضرميين مدينة "ميفعت" "ميفعة"، وكانت على ما يظن عاصمتهم القديمة، وقد ورد في بعض الكتابات ما يفيد أن "يدع ايل بن سمه علي" رمم أسوار هذه المدينة3. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها Mapharitis التي أشار إليها مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"4، ولدينا نص حضرمي يفيد أن "هبسل بن شجب" بنى سور المدينة وأبوابها، واستعمل الحجارة والأخشاب، وأنشأ فيها بيوتاً ومعابد، وأتم عمله بعده ابنه "صدق يد" فأعلى سور المدينة وأحكمه5.
ولم تذكر الكتابة الجهة التي أنفقت على هذا العمل الذي يحتاج إلى نفقات عظيمة ولا شك، ولعل الدولة هي التي عهدت إليهما هذا العمل على أنهما مهندسان أو من المقاولين المتخصصين بأعمال البناء.
وكانت "ميفعة" من المدن المهمة، وقد ذكرت في عدد من الكتابات،
__________
1 راجع وصف الموضع في "ص 314 وما بعدها" من كتاب: Shaba's Daughters
2 Beitrage' s, 108
3 Background, p. 77
4 Background, p. 80
5 REP, EPIG, 2640, V. , P 14(3/158)
وهي Maipha Metopplis عند "بطلميوس"1، ويقع عند "حصن السلامة" موضع عادي خرب، يقال له "ريدة الرشيد"، ويظهر أنه كان محاطًا بسور حصين، كما يتبين ذلك من أحجاره الضخمة المبعثرة الباقية، وقد كان مدينة، يرى أنها Raida عند "بطلميوس" وقد وضعها في جنوب شرقي "MaiPha Metropolis أي ميفعة2.
وعثر على كتابات عديدة أخرى، تتحدث عن تحصين "ميفعت" "ميفعة" وعن تسوريها بالحجارة وبالصخرة المقدود وبالخشب، وعن الأبراج التي أقيمت فوق السور لصد المهاجمين عن الدنو إليه، وذكر اسمها في كتابة "لبنه" "لبنا" التي هي من أيام المكربين في حضرموت3.
ويظهر أن الخراب حل بـ "ميفعة" في القرن الرابع بعد الميلاد، وحل محلها موضع آخر عرف بـ Sessania Adrumetorum أي "عيزان" فـ "عيزان" أذن، هو الوليد الجديد الذي أخذ مكان "ميفعة" منذ هذا الزمن4.
ومن مدن حضرموت مدينة سماها بعض الكلاسيكيين Cane Emporium وذكر أنها ميناؤها5. وأما "أريانوس"، فقال إنها الميناء الرئيسي لملك أرض اللبان، وقد سماه Eleazus وقال إنه يحكم في عاصمته 6Sabatha.
وقد ذكر هذا الميناء "بلينيوس" كذلك، فقال: إن السفن التي تأتي من مصر في طريقها إلى الهند، أو السفن الآيبة من الهند إلى مصر، كانت ترسو إما في ميناء Cana = Qana وإما في ميناء Occelis على ساحل البحر عند المضيق، وذكره مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" كذلك فقال: Cana = Qana ميناء حضرموت، وله تجارة واسعة مع "عمان" Omana على الخليج، ومع سواحل الهند، ومع سواحل الصومال في إفريقيا7. وقال
__________
1 Beitrage, S. 86
2 Beitrage, S. 86
3 Beitrage, S. 86
4 Beitrage, S. 86
5 The Periplus of the Erythraean Sea, 27, 57, Part the Second, P. 301
6 Forster, Vol., 2, P. 165
7 The Periplus, 27, 57, Le Museon, 1961, 1-2, P. 192(3/159)
إن السواحل كانت مأهولة بالأعراب، وبقوم يسمون Ichthyophogi أي "أكلة السمك"1.
وفي ميناء Cana "قنا" يجمع اللبان والبخور وغير ذلك، ويصدر إلى الخارج، إما بحرًا حيث تنقلها وسائل النقل البحرية، وفي ضمنها بعض الوسائط التي تطفو على سطح البحر بالقرب المنفوخة بالهواء، وإما برًّا حيث تنقلها القوافل2. ويقع هذا الميناء إلى شرق "عدن" وعلى مسافة منه جزيرتان، جزيرة Orneon أو جزيرة الطيور. وجزيرة Trulla ويقع إلى الشرق من Cana ميناء آخر, يقال له 3Methath Villa. ويرى "فورستر" وأكثر الباحثين الآخرين إلى أن ميناء Cana هو المحل المعروف باسم "حصن غراب" في الزمن الحاضر4.
و"حصن غراب"، وقد بني على، مرتفع من صخر أسود على لابة بركان قديم، يشرف على المدخل الجنوبي الغربي لخليج أقيم عليه الميناء، فيحميه من لصوص البحر ومن الطامعين فيه. وقد زاره بضع السياح، مثل "ولستيد" فوصفه5. وزاره B. Doe سنة "1957" وتحدث عنه6.
وقد ورد اسم هذا الحصن في الكتابة الموسومة بـ CIH 728، وقد سمي فيها "عرمريت" "عرماوية". وهو الاسم القديم لهذا الحصن الذي يعرف اليوم بـ "حصن غراب" "حصن الغراب" وورد في الكتابة الطويلة المعروفة بـCIH 621 التي يعود تأريخها إلى سنة "531م" وتتحدث عن ترميم هذا الحصن وتجديد ما تهدم منه، وذلك بأمر "سميفع أشوع" "السميفع أشوع"7.
__________
1 The Periplus, rt, P. 300
2 The Periplus, n, P. 301
3 Forster, Vol.. n, P. 186
4 Porster, Vol., H, P. 186, Glaser, Skizze, 2, S., 175
5 Wellsted, Travels In Arabia, London, 1838
6 Le Museon, 1961, 1-2, P. 194
7 J. Ryckmans, La Persecution des Chretiens Hlmyarltes au Sixieme
siecle, Istanbul, 1956, A. P. L. Beeston, Problems of Sabaean Chrono
logy, BOASOOR, 16, 1954, Le Museon, 1961, 1-2, P. Le Museon, 68,1955, P. 2(3/160)
ورد ذكره في النص Ryckmans 538 الذي يتحدث عن الحروب التي خاضتها جيوش الملك "شعرم أوتر" "ملك سبأ وذي ريدان" في أرضين لقبائل قتبائية ورومانية وقبائل مضحيم "مضحى" وأوسان فبلغت "عرمويت" "عر ماوية" وموضع "جلع" في جملة ما بلغتها من أرضين. و"جلع" قرية على الساحل شمال غربي "بلحاف" في الزمن الحاضر1.
وقد وجد "ولستيد" Wellsted في "حصن غراب" الكتابة التي وسمت بـCIH 728 وقد جاء فيها أن "رصيد أبرد بن مشن" "مشان"، كان مسئولًا عن "بدش" "باداش"، وعن "قنا"، وقد كتب ذلك على "عر مويت" "عر ماوية"، أي حصن "ماوية"، "قنا" هو اسم الميناء الشهير، وأما الحصن الباقي أثره حتى اليوم، فيسمى "حصن ماوية" وأما "باداش"، فإنه ما زال معروفًا حتى اليوم، ولكن بشيء من التحريف. وفي هذا المكان يعيش قوم رعاة يعرفون بـ "مشايخ باداس" وقد جاء هذا الاسم من "باداش القديم"2. وهكذا حصلنا من النص المذكور على اسم ميناء حضرموت الذي كانت الموارد "الكلاسيكية" هي أول من وافتنا به.
فحصن غراب إذن هو "عرمويت" وهو حصن مدينة "قنا" لا المدينة نفسها، ولا تزال آثار مخازن مائه القديمة باقية، وهي صهاريج تملاء بالأمطار عند نزولها لتستعمل وقت انحباسها وقد أمكن التعرف على موضع البرج الذي يجلس فيه الحرس والمراقبون لمراقبة من يريد الوصول إلى المكان، ويرى بعض الباحثين أن موقع المدينة الأصلية كان في السهل الواقع عند قدم الحصن من الناحية الشمالية، حيث ترى فيه آثار أبنية ومواضع سكنى، أما ما يسمى بـ "بير علي" "بئر على" في هذا اليوم، فإنه مستوطنة حديثة بنيت بأنقاض تلك المدينة القديمة3.
ومن مدن حضرموت مدينة "مذب" "مذاب" وقد اشتهرت بمعبدها الذي خصص بعبادة الإله "سن" "سين"، وتقع بقاياه اليوم في الموضع
__________
1 المصدر نفسه.
Beitrage, S., 91 2
3 Le Museon 1961 12, p. 191(3/161)
المعروف باسم "الحريضة"، وقد سبق أن قلت أن بعثة بريطانية نقبت هناك ووجدت آثار معبد ضخم هو معبد الإله "سين"، الإله الذي يرمز إلى القمر1.
وقد تبين للذين بحثوا في أنقاض معبد "مذب" "مذاب" أنه بني عدة مرات. ويظهر أنه تداعى، فجدد بناؤه مرارًا, وقد تبين من الكتابة الحلزونية التي عثر عليها في أنقاض هذا المعبد أنها من أيام "المكربين" وأنها ترجع بحسب رأي الخبراء الذين درسوها إلى حوالي السنة "400 ق. م." وأن تأريخ المدينة ومعبدها يرجع إلى الفترة الواقعة بين القرن السادس والقرن الخامس قبل الميلاد2.
وقد تبين من بعض الكتابات أن "كبير" "كبر" "مذب" كان من آل "رمي" "رامي"، وكان يقيم في الموضع المسمى بـ "جعدة" في الزمن الحاضر. وكان يملك جزءًا كبيرًا من "وادي عمد"، وله بئر في المدينة تتصل بصهريج مدرج يخرن فيه الماء، وتعرف بـ "شعبت" "شعبة" "شعبات"، ومن قبائل هذا الموضع: "عقنم" "عقن" "عقان"، و"كرب" "جرب"، و"يرن" "يارن"3.
وقد تبين من فحص مواضع من جدران معبد "سين" أن الحجارة التي استعملت في إقامته كانت قد قدت من الصخر، ونحتت لتنسجم بعضها مع بعض، وقد ربط بعضها إلى بعض حتى لا تنفصل بسهولة. وتبين أن قاعة المعبد كانت فيها أعمدة تحمل سقفها، وربما كانت قاعة كبيرة فسيحة تتسع لعدد كبير من المؤمنين المتقين الذين يؤمونها للتعبد والتقرب إلى الإله في معبده هذا.
وعثر في الأماكن التي حفرت على أدوات من الخزف، وعلى مباخر وقلائد ومسابح صنعت حباتها من الحجر والخرز، وعلى أختام خفيفة من النوع المعروف عند الفرس بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، ويرى بعض الباحثين أن
__________
1 G. Caton Thompson, The Tombs and Moon Temple of Hureidah, Reports of the Research Committee of the Socie. of Antiquities in London, Num. XIII, London, 1944, Le Museon, LX, 1-2, 1947, P. 71
2 Caton Thompson, P. 44, Beitrage, S. 128. Beitrage, S., 128,
3 Beitrage S., 128, Caton Thompson, P. 9, 10(3/162)
تأريخ "مذاب" ومعبدها يعود إلى الفترة الواقعة بين القرن الخامس والقرن الثالث قبل الميلاد1.
وقد ذهب بعض من درس معبد "مذاب" إلى أن حضارة حضرموت وحضارة بقية العربية الجنوبية القديمة كانت قد تأثرت بالمؤثرات الحضارية العراقية في بادئ الأمر، وذلك في أيام المكربين، ولكن تلك الحضارة كانت متماسكة وذات طابع خاص، وأخذ من ظروف العربية الجنوبية، غير أنها أخذت تبتعد من بعد عن المؤثرات الحضارية العراقية منذ القرن الأول قبل الميلاد فما بعده. وتتقرب من مؤثرات حوض البحر المتوسط والمؤثرات الإيرانية، وذلك نتيجة اتصال الروم والرومان والفرس بالعربية الجنوبية، فظهرت حضارة عربية جنوبية جميلة، وأبنية حديثة، إلا أنها لم تكن في متانة الحضارة العربية الجنوبية القديمة وقوتها، وليست لها تلك الشخصية التي أسبغها الفنان العربي القديم في القرون السابقة للميلاد على أبنيته، فذهبت بذلك العناصر العربية الجنوبية الأصلية، وتراجعت، وطغى عنصر التجديد أو التقليد البعيد على تلك الشخصية العربية القديمة في هذه البقاع2.
ومن مواضع حضرموت، موضع عرف في الكتابات باسم "مشور"، وقد اشتهر بمعبده المسمى "سن ذ مشور"، أي "سين رب مشور"، وفي مكانه في الزمن الحاضر خرائب عادية تعرف باسم "صونة" وبـ "حدبة الغصن".
وقد عثر فيه على كتابات ورد فيها اسم هذا المعبد، كما عثر فيه على حجارة مزخرفة نقشت عليها صور حيوانات نقشت بصورة تدل على فن وبراعة واتقان. ويرى بعض الباحثين أن هذه الزخارف تشبه الزخارف التي عثر عليها في معبد "حقه" "حقة"، ويقدر عمرها بحوالي القرن الثالث قبل الميلاد3.
وفي أرض حضرموت مواضع قديمة حضرمية وسبئية ينسبها الناس اليوم إلى "عاد" "وثمود". ففي ملتقى "وادي منوة" بوادي ثقبة صخور مهيمنة على الوادي، وقد نفرت لتكون ملاجئ ومواضع للسكنى وربما جعلت ملاجئ للجنود يختبئون فيها ليهاجموا منها الأعداء الذين يخترقون الوادي وليرموهم بالسهام
__________
1 ايفا هويك، سنوات في اليمن وحضرموت، تعريب خيري حماد، "بيروت 1962" "ص 270".
2 Beitage.S 128
3 Beitage.S 135(3/163)
والحجارة. وعلى المرتفعات بقايا بيوت ومساكن، يظهر أنها كانت قرى آهلة قبل الإسلام، وعلى واجهة الوادي الصخرية كتابات دونت بلون أحمر، ظهر للسياح الذين رأوها أنها كتابات سبئية وأنها أسماء أشخاص، لعلها أسماء الجنود أو المسافرين الذين اجتازوا هذا المضيق1.
وفي موضع "غيبون" على مقربة من "المشهد" خرائب يرى أهلها أنها من آثار "عاد". ويظن الآثاريون الذين رأوها أنها من بقايا مدينة "حميرية". وقد وجدوا فيها فخارًا وزجاجًا قديمًا وحجارة مكتوبة، وعلى مقربة منها موضع يقال له "مقابر الملوك"2.
ونظرا إلى أنها في موقع حضرمي يقع بين "القعيطي" و"الكثيري" "آل كثير" في الزمن الحاضر. فلا أستبعد أن يكون من القرى أو المدن الحضرمية.
وعلى مقربة من "تريم" خرائب جاهلية أيضًا، ينسبها الناس إلى عاد. وهي من آثار معبد، وطريق كان معبدًا يوصل إليه، وقد بني هذا المعبد عل قمة تل وعنده آثار بيت وأحجار متناثرة من الحجر. عليها مادة بناء توضع بين الأحجار لتشد بعضها إلى بعض3.
وعند موضع "سون" "سونة" "سونه" خرائب تسمى "حدبة الغصن" تشبه خرائب "غيبون"، هي عبارة عن بقايا أبنية لعلها كانت قرى أو مدنًا حجارتها متناثرة على سطح الأرض. ولا تزال بعض الأسس على وضعها، ترشد إلى معالمها, وقبل هذه الخرائب بقايا جدار كان متصلًا بجانبي واد، يظهر أنه من بقايا سد بني في هذا المكان لحبس السيول والأمطار، للاستفادة منها عند انحباس المطر4.
وفي حضرموت موضع آثاري، يسمى "حصن عر"، وهو بقية حصن جاهلي، لعله من حصون ملوك حضرموت، يظهر أنه أسس في هذا المكان لحماية المنطقة من الغزاة ولحفظ الأمن فيها. وقد كان الحصن عاليًا مرتفعًا فوق
__________
1 Van Der Muelen and Von Wissmann, Hadramaut, Some of its Mysteries Unveiled, Leiden, 1964, P. 57
2 Hadramaut, PP. 83, Beitrage, S. 130
3 Hadramaut, P. 139
4 Hadramaut, P. 145(3/164)
تل، ولا تزال بقايا بعض جدرانه وأواره ترتفع في الفضاء زهاء خمسين قدمًا.
وهناك بقايا أبنية ومعالم طريق ضيقة توصل إلى ذلك الحصن الذي لا نعرف اسمه القديم1.
وقد تمكن "فان دير مويلن" Van Der Meulen و "فون وزمن" H. Von Wissmann من زيارة مواضع أثرية أخرى في حضرموت، مثل "المكنون" El- Mekenum , و"ثربة" و "العر" وتقع آثار "مكنون" "المكنون" على مقربة من "السوم", وهناك أرض مكشوفة يزعم المجاورون لها أنها أرض "عاد"2.
أما "ثوبة" أو "حصن ثوبة"، فإنه بقايا أبنية على قمة تل، يظهر أنه كان في الأصل حصنًا لحماية المنطقة من الغزاة ولمنع الأعداء من الوصول إلى قرى مدن المنطقة ومدنها أو اجتياز الأودية للاتجاه نحو الجنوب. ولا تزال بقايا جدر الحصن مرتفعة عن سطح الأرض.
وأما "العر"، فهو موضع حصن قديم أيضًا بني لسكنى الجنود الذين يدافعون عن الأرضين التي بنيت فيها3.
يظهر من آثار الحصون والقلاع الباقية في حضرموت أن مملكة حضرموت أن مملكة حضرموت كانت قد حصنت حدودها، وحمتها بحاميات عسكرية أقامت على طول الحدود لحمايتها من الطامعين فيها ولحماية الأمن أيضًا. وقد أقيمت هذه الحصون في مواقع ذات أهمية من الوجهة العسكرية، على تلال وقمم جبال ومرتفعات تشرف على السهول ومضايق الأودية حيث يكون في متناول الجنود إصابة العدو وإنزال الخسائر به، وبهذه التحصينات دافعوا عن حدود بلادهم.
وبعد ميناء "سمهرم" المعروف بـ "خور روري"، وهو في "ظفار" عمان من الموانئ المعروفة التي كانت في القرن الأول للميلاد، ويرى بعض الباحثين أن مؤسسيه هم من الحضارمة، ولذلك كان من موانئ مملكة حضرموت، وقد عثرت البعثة الأمريكية لدراسة الإنسان4، على بقايا خزف، تبين لها من فحصه أنه مستورد من موانئ البحر المتوسط في القرن الأول للميلاد، ووجوده في هذا المكان يشير بالطبع إلى الاتصال التجاري الذي كان بين العربية الجنوبية وسكان البحر المتوسط في ذلك العهد5.
__________
1 Hadramaut, P. 153
2 Hadramaut, P. 173
3 Hadramaut, P. 174
4 The American Foundation foe the Study of Man
5 BoASOOR. Num "1960:" p 15BoASOOR. Num "1960:" p 15(3/165)
قوائم حكام حضرموت:
قائمة هومل:
- صدق آل "صدق ايل"، "صديق ايل"، وكان معاصرًا للملك "أب يدع يثع" "أبيدع يثع"، ملك معين.
شهرم علن "شهر علن"، "شهر علان"، وهو ابن "صدق آل". معد يكرب "معدي كرب".
- سمه يفع "سهو يفع" "سمهيفع"، ولا نعرف اسم والده.
يدع آل بين "يدع ايل بين"، وقد ورد اسمه مع اسم "السمع ذ بين بن ملك كرب "السمع ذبيان بن ملكيكرب" على أنهما ملكا حضرموت.
أمينم "أمينم"، "أمين".
يدع أب غيلن "يدع أب غيلان".
يدع آل بين "يدع ايل بين"، Glase 1623
- يدع أب غيلن "يدع أب غيلان". العز يلط.
- يدع أب غيلن "يدع أب غيلان".(3/166)
- سلفن "سلفان"، أو "علهان" "الهان".
العز يلط: حكم حوالي سنة "29" بعد الميلاد.
- رب شمس "ربشمس".
يدع آل بين.
- نهاية حكومة حضرموت، وقد كانت في حوالي سنة "300" بعد الميلاد. في أيام "شمر يهرعش".
المكربون:
أب يزع "أب يزع".
حي آل "حي ايل"، "حيو ايل".(3/167)
قائمة "فلبي":
1- صدق آل "صديق ايل"، ملك حضرموت ومعين، وقد حكم على تقديره في حوالي سنة "1020" قبل الميلاد.
2- شمر علن بن صدق آل "شهر علان بن صدق ايل"، وقد تولى الحكم في حوالي سنة "1000" قبل الميلاد.
3- معد يكرب بن اليفع يثع ملك معين، وقد تولى الحكم في حوالي سنة 980 قبل الميلاد.
ويرى "فلبى" أن "حضرموت" ألحقت بعد "معد يكرب" بمملكة معين، وقد ظلت تابعة لها إلى حوالي سنة "650" قبل الميلاد.
4- السمع ذ بين بن ملك كرب "السمع ذبيان بن ملكي كرب" "السمع ذبيان بن ملكيكرب".
5- يدع آل بين بن سمه يفع "يدع ايل بين سمهيفع"، وقد حكما من سنة "650" إلى سنة "590" قبل الميلاد.(3/167)
ومنذ سنة "590" قبل الميلاد، أصبحت حضرموت على رأي "فلبي" جزءًا من قتبان أو سبأ حتى سنة "180" قبل الميلاد.
6- يدع آل بين بن رب شمس "يدع ايل بين بن ربشمس". وهو مؤسس أسرة ملكية جديدة في العاصمة "شبوة". وقد حكم في حدود سنة "180" قبل الميلاد.
7- اليفع ريم بن يدع آل بين "اليفع ريام بن يدع ايل بين". وقد حكم في حوالي سنة "160" قبل الميلاد.
8- يدع أب غيلن بن يدع آل بين "يدع أب غيلان بن يدع ايل بين"، وقد حكم في حوالي سنة "140" قبل الميلاد.
9- العز بن يدع أب غيلن "العز بن يدع أب غيلان" وشقيق "أمينم" "أمين" وقد حكم في حوالي سنة "120" قبل الميلاد.
10- يدع أب غيلن بن أمينم "يدع أب غيلان بن أمين"، وقد حكم في حوالي سنة "100" قبل الميلاد.
11- يدع آل بين بن أب غيلن "يدع ايل بين بن يدع أب غيلان"، وحكم في حوالي سنة "80" قبل الميلاد، وترك "فلبي" فجوة لم يعرف من حكم فيها جعلها بين سنة "60" وسنة "35" قبل الميلاد.
12- عم ذخر "عمذخر" ولم يرد في الكتابات اسم أبيه. وقد حكم في حوالي سنة "35" قبل الميلاد. وربما لم يتول الحكم.
13- العز يلط بن عم ذخر. وقد حكم في قرابة سنة "150" قبل الميلاد.
14- الهان "علهان" أو "سلفان" بن العزيلط. وقد حكم في حدود سنة "5" قبل الميلاد.
15- العزيلط بن الهان "علهان" أو سلفان". وقد حكم من سنة "25" إلى سنة "65" بعد الميلاد, هو الملك Eleazos الذي ذكره مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري".
16- أب يزع "أبيزع" "أبيع" "أب يسع". وكان مكربًا. ومن المحتمل أنه حكم في حوالي سنة "65" بعد الميلاد.
17- يرعش بن أب يزع. ربما حكم في حوالي سنة "85" بعد الميلاد.(3/168)
18- علهان "الهان" "105- 125" بعد الميلاد؟.
ويرى "فلبي" أنه منذ سنة "125" حتى سنة "290" بعد الميلاد، كان الوضع غامضًا في حضرموت، فلا نعرف من حكم فيها، أكان يحكمها "مكربون" أم كانت تحت حكم مملكة "سبأ وذو ريدان". غير أنها خضعت نهائيًّا في سنة "290" بعد الميلاد لحكم ملوك "سبأ وذو ريدان" فصاروا يعرفون لذلك منذ هذا العهد بـ "ملوك سبأ وذو ريدان وحضرموت".(3/169)
قائمة "البرايت":
- يدع آل "يدع ايل"، وكان معاصرًا للملك "كرب آل وتر"، ملك سبأ وقد حكم على رأيه في حوالي سنة "450" قبل الميلاد.
- صدق آل "صديق ايل" ملك حضرموت ومعين, وقد حكم في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد.
شهر علن بن صدق آل.
معد يكرب بن اليفع يثع ملك معين.
- غيلن "غيلان".
يدع أب غيلن "يدع أب غيلان". ويحتمل على رأي "البرايت" أن يكون هو الذي حالف علهان نهفان ملك سبأ. وقد حكم في حوالي سنة "50" قبل الميلاد.
العزيلط الأول، وكان معاصرًا للملك "شعرم أوتر" ملك سبأ وذو ريدان، وقد حكم في حوالي سنة "25" قبل الميلاد، وربما كان هو "العز بن عم ذخر".
العزيلط الثاني، وكان معاصرًا للملك، "ثارن يعب يهنعم" ملك سبأ وذو ريدان. وكان والده "سلفن" "سلفان" أو "علهان"، ويجوز أن يكون هو الملك Eleazos الذي ذكره مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري".
- يدع أب غيلن بن أمينم "يدع أب غيلان بن أمينم".(3/169)
يدع آل بين بن يدع اب غيلن "يدع ايل بين بن يدع أب غيلان",
Glaser1623 و Ryckmans 169
- يدع آل بين بن سمه يفع.
السمع ذ بين بن ملك كرب "السمع ذبيان بن ملكي كرب".
- رب شمس.
يدع آل بين "يدع ايل بين".
الريم يدم "الريام يدم".
يدع أب غيلن "يدع أب غيلان".(3/170)
الفصل الحادي والعشرون: حكومة قتبان
مدخل
...
الفصل الحادي والعشرون: حكومة قتبان
وعاصرت مملكة معين مملكة عربية جنوبية أخرى، هي حكومة "قتبان" وقد وجد اسمها في كتابات عديدة قتبانية وغير قتبانية، وهي التي أمدتنا بأكثر علمنا بحكومة قتبان، كما أشار بعض الكتبة "الكلاسيكيين" مثل "ثيوفراستس" "Theophrastus" "حوالي 312 ق. م."1 و"سترابو"2 و "بلينيوس"3. وغيرهم إلى القتبانيين، فذكرهم "ثيوفراستس" بعد "سبأ" و"حضرموت" "Hadramyta"، وأطلق على أرضهم kattabaina"= kittibaina" kitibaina وذكر بعدهم أرضًا سماها "ممالي" 4Mamali وهو اسم لا نعرف من أمره شيئًا، إلا أن "كلاسر" يرى أنه "ممالي كومة" "Mamali kome" وهو موضع ورد في جغرافيا "بطلميوس"، ويقع في نطره على ساحل "تهامة"، وقد يكون عند موضع "مأملة" شمال وادي "تنداحة"5.
ويظهر من جغرافيا "سترابون" نقلًا عن رواية "ايراتوستينس" "194 ق. م"
__________
1 Theophrastus, Enquiry into Plants, Translated by A. F. Hort
(Loeb) Lebrary) , Vol., II, P. 235, (IX, VI, 2-4) .
2 Strabo, XVI, 768
3 Pliny, V, 65
4 Theophrastus, Vol., H, P. 235
5 Glaser, Sklzze, II, S., 3(3/171)
أن القتبانيين كانوا يقطنون في الأقسام الغربية من العربية الجنوبية، وفي جنوب السبئيين وفي جنوبهم الغربي، وقد امتدت منازلهم حتى بلغت "باب المندب"1.
وذكر "ياقوت الحموي" أن "قتبان" موضع في نواحي "عدن"2. وبعد
تمثال مصنوع من البرنز، عثر عليه على مقربة من "تمنع"
من كتاب Qataban and Sheba صفحة "181".
__________
Ency., vol., 2, p. 810 1
2 البلدان "7/ 33".(3/172)
"وادي بيحان" من صميم أرض قتبان، ويقع شمال الجهة الغربية من "عدن"1.
وكان يجاوز القتبانيين شعب آخر سماه "بلينيوس" "كبانيته" 2Gebanitae. وذكر أن الشعبين المذكورين هما من شعوب "لارنديني" "Larendani" وكانا يقطنان في مدن عديدة كبيرة3.
وقد أطلق "سترابو" اسم "Kastabaneis" على مملكة قتبان4. أما "بلينيوس"، فسماها 5Catabani = Catabanes.
ولا نجد في الكتب العربية شيئًا يستحق الذكر عن قتبان، والظاهر أن أخبارهم قد انقطعت قبل ظهور الإسلام بزمن، فلم نجد لهم من أجل هذا شيئًا من أخبار الجاهلية القريبة من الإسلام، وكل ما ورد عنهم أنهم من قبائل حمير، وأن هناك موضعًا في عدن يقال له: "قتبان"6. سمي بقتبان بطن من رعين من حمير، أو بقتبان بن ردمان بن وائل بن الغوث7، مع أنه لا صلة في النسب بين حمير وقتبان في النصوص القتبانية أو الحميرية. وعندي أن هذا النسب إنما وقع بسبب ضعف "قتبان" التي اندمجت بعد فقد استقلالها في حكومة سبأ "سبأ وذي ريدان" وهي الحكومة التي يطلق عليها المؤرخون اسم "حمير"، وبسبب كون "حمير" القبيلة الرئيسية في اليمن عند ظهور الإسلام، وكان لها حكومة قاومت الأحباش وتركت أثرًا في القصص العربي، وفي قصة الشهداء النصارى الذين سنتحدث عنهم، لذلك عدت معظم القبائل التي كانت خاضعة لها من حمير، ونسبت إليها، وفي جملتها قتبان.
وقد دون اسم "قتبان" في الترجمة العربية لكتاب: حتي "تأريخ العرب"
__________
1 BOASOOR, Num. 119, "1950", P. 7
2 Pliny, VI, 153
3 Pliny, 6, 32, "28", O'Leary, P. 108
4 O'leary, P. 96, Strabo, 16, 4, 2
5 O'leary, P. 96
6 "وقتبان بالكسر بعدن" القاموس "1/ 114" تاج العروس "1/ 431"،
"وفي المراصد أنه بعدن، تبعًا للبكري، ويقال إن الموضع سمي بقتبان".
7 "وقتبان بالكسر. بطن من رعين من حمير. كذا في كتب الأنساب، وهو قول الدارقطني، ويرده قول ابن الحباب، فإنه ذكر في قبائل حمير، قتبان بن ردمان بن وائل بن الغوث، إلا أن يكون في رعين قتبان آخر" تاج العروس "1/ 431".(3/173)
"History of the Arabs" على هذا الشكل: "قطبان"1، كما دون بهذه الصورة أيضًا في عدد من الترجمات لكتب غربية ظهرت حديثًا، وهو خطأ بالبداهة فإن النصوص العربية الجنوبية قد كتبت الاسم بالتاء "ق ت ب ن"، كما أن الكتب العربية قد ضبطت الاسم "قتبان" ويظهر أن مترجمي الكتاب والكتب الأخرى قد حسبوا أن هذا الاسم أعجمي، ولا سيما بعد تردده في الكتب "الكلاسيكية"، فحاولوا جعله عربيًّا، فصيروا "التاء" "طاء" فصارت "قتبان" الواردة في كتابات المسند وفي الكتب العربية "قطبان"، وهي هفوة لم أكن أرغب في الإشارة إليها في متن هذا الكتاب، لولا حرصي على صحة الأشياء لئلا يخطئ من لا علم له بهذه الأمور من القراء، أو الباحثين فيأخذها على الصورة التي دونت في هذه الترجمات.
والكتابات القتبانية تشارك الكتابات العربية الجنوبية الأخرى في أن غالبها قد كتب في أغراض شخصية، فهي لا تفيد المؤرخ في استخراج تأريخ منها، فهي في إصلاح أرض، أو شراء ملك، أو تعمير دار أو نذر، وما شابه، غير أننا نرى في الذي وصل إلينا منها أنه يمتاز عن غيره من الكتابات العربية الجنوبية بكثرة ما ورد فيه من نصوص رسمية تتعلق بالضرائب أو القوانين أو التجارة، بالقياس إلى ما ورد من مثله في الكتابات المعينية أو الحضرمية أو السبئية، وهي تشارك الكتابات الأخرى أيضًا في خلوها من صيغة المتكلم أو المخاطب واقتصارها على صيغة الغائب، وتشاركها أيضًا في خلوها من نصوص أدبية من شعر أو نثر، ومن نصوص دينية من أدعية وصلوات، وهو أمر يبدو غريبًا، ولكننا لا نستطيع أن نحكم حكمًا قطعيًّا في مثل هذا، فما وصل إلينا قليل، وما لم يصل إلينا كثير، والحكم بيد المستقبل,
ويعود الفضل إلى السياح، وعلى رأسهم "كلاسر" في حصول علماء العربيات الجنوبية على أخبارهم من مملكة قتبان، فقد كانت الكتابات التي حصل عليها في رحلته إلى اليمن في سفره الرابع "1892- 1894م" أول كتابات
__________
1 تأريخ العرب "المطول"، بقلم: الدكتور فيليب حتي والدكتور إدور جرجي والدكتور جبرائيل جبور، الجزء الأول 1949م، "ص "70، 71، 72، 73، ومواضع أخرى".(3/174)
قتبانية تصل إلى أوروبة1. وقد ذهب "هومل" في دراسته لها إلى أنها تعود إلى زهاء ألف سنة قبل الميلاد، القرن الثاني قبل الميلاد، وهو الزمن الذي انقرضت فيه مملكة قتبان على رأيه. وقد جمع منها اسم ثمانية عشر ملكًا.
تمثال من البرنز عثر عليه في معبد أوام مأرب.
من كتاب Qataban and sheba "الصفحة 276".
حكموا المملكة2. وأفادتنا دراسات "نيوكولاوس رودوكناكس"3Nikiolaus Rhdokanakis. و"دتلف نيلسن" "Ditlef Nielsen" للكتابات القتبانية فائدة كبيرة في كتابة تأريخ قتبان4.
وقد ذهبت بعثة أمريكية علمية في عام 1949- 1950 مؤلفة من طائفة
__________
1 Ency., Vol., 2, P. 813
2 Ency., Vol., 2, P. 813, Hommel, Grundrlss, I, S., 139
3 Katabanlsche Texte zur Bodenwlrtschaft, In Zwel Fefte, Wlen, 1922
4 Ditlef Niesen, In MVAG-, 1906, XI-IV, Neue Katabanlsche Inschrlften(3/175)
من المتخصصين إلى "وادي بيحان" للتنقيب عن الآثار هناك، فزارت "تمنع" المدينة القتبانية القديمة، وعاصمة المملكة وبعض المواضع القريبة منها1. وسوف يكون للنتائج التي تتوصل إليها بعد دراستها دراسة علمية كافية. أهمية كبيرة في توجيه تأريخ العرب قبل الإسلام2.
وقد تبين من دراسة الكتابات القتبانية أن لهجتها أقرب إلى اللهجة المعينية منها إلى اللهجة السبئية3. فهي تشترك مع المعينية مثلًا في إضافة السين إلى أول الفعل الأصلي بدلًا من الهاء الذي يلحق أول الفعل الأصلي في السبئية. ويقابل هذا في عربيتنا "أفعل" مثل "سحدث" في المعينية والقتبانية، و "هحدث" في السبئية4. وفي أمور أخرى ترد في نحو اللهجات العربية الجنوبية.
وقد حاول الباحثون في العربيات الجنوبية وضع تقويم لحكومة قتبان، غير أنهم لم يتفقوا حتى الآن في تعيين مبدأ أو نهاية لهذه المملكة، ولما كانت هذه الحكومة قد عاصرت –كما جاء في الكتابات المعينية والسبئية- حكومة معين وحكومة سبأ، فقد توقف تعيين تأريخ قتبان أيضًا على تثبيت تأريخ هاتين الحكومتين وعلى البحوث "الأركيولوجية" والكتابات، وقد رجع "هومل" تاريخها إلى ما قبل سنة "1000" قبل الميلاد، ووضع "البرايت" تأريخ "هوف عم يهنعم" وهو من قدماء "المكربين" في القرن السادس قبل
__________
1 وضع منهج هذه البعثة ونظمها "وندل فيلبس"، "Wlndell Philips"
رئيس المؤسسة الأمريكية للبحث عن الإنسان:
"American Foundation for the Study of Man"
راجع وصف الرحلة ورجالها في:
BOASOOR, Num. 119, (1950) , P. 5, Windell Philips, Qataban and Sheba, London, 1955
2 راجع بحث "البرايت" عن سني حكم ملوك قتبان ومعين وسبأ وحضرموت في:
W. F. Albright, The Chronology of Ancient South Arabian in the Light of the first Campain of Excavation in Qataban, Baltimore, 1950
3 O'leary, P. 96
4 غويدي، المختصر "ص7"
Maria Hofner, Altsudarabische Grammatik, S., 34(3/176)
الميلاد1. وهو يلي "سمه علي" في الترتيب. و"سمه علي" هو أقدم "مكرب" يصل خبره إلينا، وقد رجع "فلبي" أيامه إلى حوالي سنة 865 قبل الميلاد2.
وذهب "ملاكر" إلى أن ابتداء حكم "قتبان" كان في حوالي سنة "645 ق. م" وأن نهاية استقلالها كان في القرن الثالث قبل الميلاد3.
ومن علماء العربيات الجنوبية الذين عنوا بتبويب أسماء حكام "قتبان" وتصنيفها تصنيفًا زمنيًّا، "كروهمن"4. و"دتلف نلسن"5، و"ويبر"6، و"هارتمن"7 و "البرايت"8. و"فلبي"9، وغيرهم، ويختلف هؤلاء في كثير من الأمور: يختلفون في مبدأ قيام قتبان، وفي ترتيب الملوك وفي مدد حكمهم، كما يختلفون في نهاية هذه الحكومة، فبينما يرى "كلاسر" أن نهاية هذه الدولة كانت بين "200" و "24 ق. م." وربما كان قبل ذلك10. يرى غيره أن هذه النهاية كانت بعد الميلاد، وربما كان في حوالي سنة "200" بعد ميلاد المسيح11. ويرى "البرايت" أن نهايتها كانت على أثر خراب مدينة "تمنع" وإحراقها كما يتبين ذلك من طبقات الرماد الكثيفة التي عثر عليها في أنقاضها، وكان ذلك في حوالي سنة "50 ق. م."12. وقد ذهب "ريكمنس" أن نهاية مملكة "قتبان" كانت في حوالي سنة "210" أو "207" للميلاد.
__________
1 BOASOOR, Num. 119, (1950) , P. II
2 Background, P. 143
3 Mlaker, Die Hierodulenlisten von Main nebst untersuchengen zur altsudarabischen Bechtgeschiclite und Chronologie, Leipzig, 1943,
Albright, The Chronology, P. 3
4 Grohmann, Uber Katabanlsche Herrscherreihen, in: Anzeiger der Wiener Akad., X., 1916, S., 42
5 Ditlef Nielsen, Katabanische Texte, I, S., 26, H, S., 98, Handbuch, I, S., 98
6 Weber, Studlen, S., 9
7 M. Hartmann, Die Arabische Frage in Der Islamische Orient, Bd., H, S., 165, 601, Leipzig, 1909
8 BOASOOR, Nfcm. 119, (1950) , P. II, The Chronology,
9 Background, P. 143
10 Glaser, Die Abassinier in Arabien und AfrUca, S., 114
11 Ency., n, P. 809
12 BOASOOR, Num 119, "1950", p.5.(3/177)
أما "فون وزمن"، فذهب إلى أن نهايتها كانت في حوالي السنة "140" أو "146" بعد الميلاد1.
والرأي عندي أن الوقت لم يحن بعد للحكم بأن المكرب الفلاني أو الملك الفلاني قد حكم في سنة كذا أو قبل هذا أو ذاك؛ لأننا لا نزال نطمع في العثور على أخبار حكام لم تصل أسماؤهم إلينا، لعلها لا تزال في بطن الأرض، كما أن ما عثر عليه من كتابات لا يبعث أيضًا على الاطمئنان، فإنها لا تزال قليلة.
وقد وردت فيها بعض أسماء للحكام بدون نعوت، تهشمت نعوتها أو سقط قسم منها، ووردت في بعض الكتابات كاملة مع نعوتها، ووردت في بعض آخر مع نعوتها، غير أنها لم تذكر اللقب الذي كان يلقب به أبو الملك أو ابنه، فأحدث ذلك ارتباكًا عند الباحثين سبب زيادة في العدد أو نقصانًا، وأحدث خطأ في رد نسب بعضهم إلى بعض، لهذه الأسباب أرى التريث وعدم التسرع في إصدار مثل هذه الأحكام.
وأرى أن خير ما يستطاع عمله في الزمن الحاضر هو جمع كل ما يمكن جمعه من أسماء حكام قتبان على أساس الصلة والقرابة وذلك بأن يضم الأبناء والأخوة إلى الآباء، على هيأة جمهرات، ثم تدرس علاقة هذه الجمهرات بعضها ببعض، وترتب على أساس دراسات نماذج الخطوط التي وردت فيها أسماء الحكام، وطبيعة الأحجار التي حفرت الحروف عليها، والأمكنة التي وجدت فيها، أكانت من سطح الأرض أم بعيدة عنه، وأمثال ذلك لتكون أحكامنا منطقية علمية تستند إلى دليل. ولانتفاء ذلك، أصبحت القوائم التي وضعها علماء العربيات الجنوبية لحكام قتبان أو حضرموت أو معين، قوائم غير مستقرة في نظري، ومن أجل ذلك لا أميل إلى ترجيح بعضها على بعض ما دامت غير مبوبة على الأسس التي ذكرتها، ولا يمكن أن تبنى على هذه الأسس ما دامت البعثات العلمية غير متمكنة من القيام بحفريات علمية منظمة عميقة، تدرس طبقات التربة وما يعثر عليه، دراسات آثارية دقيقة من كل الوجوه.
وإني إذ أذكر حكام قتبان، لا أتبع في ذلك قائمة معينة؛ لأني لا أرى أنها قد رتبت ترتيبًا تأريخيًّا يطمئن إليه، ولا أستطيع أن أخطئ أحدًا في الأسلوب
__________
1 Le Museon1964 1.3 – 4, – p. 468(3/178)
الذي اتبعه في ترتيبه، وسبيلي أن أذكر المكربين ثم الملوك، وأن أشير بعد ذلك إلى الكتابات المدونة في أيامهم وما ورد فيها من أمور، فإذا قدمت أو أخرت فإنما أسير برأيي الخاص، لا أتبع رأي أحد من الباحثين الذين عنوا بترتيب أسماء حكام قتبان، وقد رجحت ذكر قوائمهم ليطلع عليها القراء، وليروا ما فيها من مطابقات ومفارقات.(3/179)
حكام قتبان:
وجد في دراسة الكتابات القتبانية أن حكام قتبان الأول كانوا يلقبون أنفسهم باللقب الذي تلقب به حكام "سبأ" الأول نفسه وهو لقب "مكرب" وتترجم هذه الكلمة بكلمة "مقرب" في لهجتنا وتعبر "كرب" "قرب" عن التقرب إلى الآلهة فالمكرب المقرب إلى الآلهة والشفيع إليها والواسطة، بينهما وبين الإنسان، وهو كناية عن الكاهن الحاكم الذي يحكم باسم الآلهة التي يتحدث باسمها وتقابل "باتيسي" Patesi" في الأكادية و "اشاكو" lschschakku" في الآشورية1.
وقد كان هؤلاء المكربون يحكمون في جماعتهم وطوائفهم حكمًا يشبه حكم "قضاة بني إسرائيل" فلما توسع سلطان "المكرب"، وتجاوز حدود المعبد، ولم يعد حكمًا دينيًّا فقط، بل انصرف الحكم إلى خارج المعبد، وصار حكمًا زمنيًّا، لقب نفسه بلقب "ملك"، ومن هنا صارت طبقة الملوك متأخرة بالنسبة إلى طبقة المكربين2. أي أن المكربين هم أقدم من الملوك.
ومن قدماء مكربي قتبان -على رأي أكثر علماء العربيات الجنوبية- المكرب "سمه علي وتر". وابنه "هوف عم يهنعم". وقد عثر على كتابات من أيام "سمه علي وتر" كتبت بشكل حلزوني يبدأ السطر منها من جهة اليمن إلى جهة اليسار ثم يبدأ السطر الثاني من جهة اليسار وينتهي في جهة اليمين، وهكذا فقارئ الكتابة يقرأ السطر الأول من اليمين على نحو ما نقرأ في العربية، غير أنه يقرأ
__________
1 Handbuch, I, S, 86, Montgomery, Arabia, P. 137, 143
2 Background, P. 60(3/179)
السطر الثاني من جهة اليسار متجهًا نحو اليمين، أي على طريقة الكتابة اللاتينية، ويقال لهذا النوع من الكتابات في الانكليزية 1Boustrophedonlnscriptins وتعد في نظر علماء الخط والآثار أقدم عهدًا من الكتابات الأخرى التي تسير على نسق واحد من اليمين إلى اليسار، أو من اليسار إلى اليمين، ويرى "ألبرايت" أن هذا المكرب قد حكم في القرن السادس قبل الميلاد2. وجعله "فلبي" في حوالي سنة "845 ق. م. "3.
ولم يذكر "فلبي" في قائمته التي صنعها ووضعها في ذيل كتابه "سناد الإسلام" اسم والد المكرب "سمه علي"، ولا كنيته4، ولم يذكر "ألبرايت" في القائمة التي ألفها لحكام "قتبان" اسم والده أيضًا5. غير أن هنالك نصًّا قتبانيًّا ورد فيه "هوف عم يهنعم بن سمه على وتر، مكرب قتبان، بن عم"6. و"سمه علي" في هذا النص، هو هذا المكرب الذي نتحدث عنه، ووالده إذن هو "عم" وقد سقط لقبه من النص بسبب كسر أو تلف حدث في الكتابة؛ لأن من عادة ملوك العرب الجنوبيين اتخاذ الألقاب.
وقد وصلت إلينا كتابات قتبانية، ورد فيها ذكر "هوف عم يهنعم" "هو فعم يهنعم"، منها الكتابات التي وسمت بـ "Glaser 1117. 1121. 1333. 1344. 1345”" والكتابات "Glaser 1339" و Glaser 1343" وهما من الكتابات المزبورة على الطريقة الحلزونية "Boustrphedon lnscription".
وجاء بعد "هوف عم يهنعم" في قائمة "فلبي" اسم، "شهر بجل يهرجب" "شهر يكل يهركب"7. وهو ابن "هوف عم يهنعم" وقد جعله ملكًا، حكم على رأيه في حوالي سنة "825 ق. م."، وذكر أنه فتح
__________
1 Ency. Brita., Vol., 3, P. 972
2 BOABOOR, NUM. 119, "1950", P. 11
3 Background, P. 143
4 Background, P. 143
5 BOASOOR, NUM. 119, "1950", P. H, The Chronology, P. 7
6 REP. EPIG., VI, n, P. 260
7 "يجل" "يهرجب" حرف "الجيم" في المسند هو "كيمل"، ويلفظ على الطريقة المصرية في الزمن الحاضر في النطق بحرف الجيم.(3/180)
معينًا1. وكان له من الأولاد "وروال غيلن يهنعم" "وروايل غيلان يهنعم"، وقد لقب بلقب "ملك"، و"فرع كرب يهوضع"، "يهودع"2. ثم ذكر "فلبي" اسم "شهر هلل" "شهر هلال" بعد "فرع كرب يهودع"، جاعلًا حكمه في حوالي سنة "770 ق. م."، وقد كان ملكًا على قتبان.
وهو ابن "ذرأ كرب". ثم نصب "يدع اب ذ بين يهرجب" "يدع أب ذبيان يهركب"، من بعده، وقد كان حكمه -على رأيه- في حوالي سنة "750 ق. م." وقد جعله مكربًا وملكًا، ثم ترك فراغًا بعده، مكتفيًا بالإشارة إلى أن الذي تولى بعده هو أحد أبنائه، ولم يشر إلى اسمه، وقد قدر أنه حكم من سنة "735 ق. م." حتى سنة "720 ق. م." ثم جعل من بعده ملكًا سماه "شهر هلل يهنعم" "شهر هلال يهنعم" وهو أحد أبناء "يدع اب ذبين يهرجب" "يدع أب ذبيان يهركب"، وقد حكم -على رأيه- حوالي سنة "720 ق. م." ثم خلفه "يدع أب ينف" أو "يجل يهنعم بن ذمر علي" وقد يكون -على حد قوله أيضًا- شقيقًا لـ "شهر هلال بن يدع أب ذبيان يهركب" وقد كان حكمه في حوالي سنة "680 ق. م."3.
وترك "فلبي" فراغًا بعد الملك المتقدم، كناية عن حكم ملك لم يصل اسمه إلينا، حكم في حوالي سنة "660 ق. م." حتى سنة "640 ق. م." حيث دون بعده اسم ملك سماه "سمه وتر" لم يذكر لقبه الثاني ولا اسم أبيه، ثم ذكر بعده اسم ملك آخر، سماه "وروال" "وروايل"، لم يذكر لقبه، يتصور أنه ابن "سمه وتر" وقد جعل حكمه في حوالي سنة "620 ق. م.".
ثم ترك "فلبي" فجوة قدرها بنحو من عشر سنين بين الملك المتقدم والملك الذي تلاه، ثم ذكر بعدها اسم ملك سماه "آب شبم" "أب شبم"، لم يعرف اسم أبيه، وقد حكم -على تقديره- في حوالي سنة "590 ق. م."، وذكر بعده اسم "اب عم" "أبعم" "أب عم"، وهو ابن "اب شبم"، وقد كان حكمه في حوالي سنة "570 ق. م." تلاه في الملك على -رأي "فلبي"- الملك "شهر غيلن" "شهر غيلان"، وهو ابن "أبشم"
__________
1 Background, P. 60, 143
2 Background, P. 60, 143
3 المصدر نفسه.(3/181)
"اب شبم"، وقد حكم من سنة "555 ق. م" إلى سنة "540 ق. م" وفي هذه السنة، أي سنة "540 ق. م" كانت نهاية مملكة قتبان، فاندمجت -على رأيه- في مملكة سبأ، وصارت جزءًا منها1.
هذه هي قائمة حكام قتبان، من مكربين، وملوك على وفق رأي "فلبي" ويلاحظ أنه وضع مددًا لحكم كل مكرب أو ملك تراوحت من خمس وعشرين سنة إلى عشر سنين، فامتد أجل هذه الحكومة بحسب قائمته من سنة "865" قبل الميلاد إلى سنة "540" قبل الميلاد، وتقديراته هذه هي شخصية، لا تستند إلى كتابات قتبانية ولا غير قتبانية، وإنما هي رأي شخصي واحد، ومن هنا اختلف في مذهبه هذا عن مذاهب الباحثين الآخرين في مدد حكم ملوك قتبان، وكلهم مثله يستندون في أحكامهم إلى آرائهم وتقديراتهم الشخصية، ولا يوجد بينهم من وجد نصًّا فيه تأريخ مرقوم ثابت لأحد من هؤلاء الحكام، يستند إليه في تثبيت حكم مكربي وملوك قتبان، ونرى مما تقدم أن "فلبي" جعل عدد من عرفهم من حكام قتبان سبعة عشر رجلًا2.
أما البرايت، فقد ترك فراغًا، ولم يحدد مدته بعد "هوف عم يهنعم"، ثم ذكر بعده اسم مكرب دعاه "شهر"، ولم يشر إلى لقبه ولا إلى اسم أبيه، وذكر بعده اسم "يدع أب ذبين يهنعم" "يدع أب ذبيان يهنعم"، قال إنه ابن "شهر"، وقد كان مكربًا، وذكر بعده اسم ابن له يقال له: "شهر هلل يهو ... "، "شهر هلال يهو.."، وقد صار مكربًا بعد وفاة أبيه "يدع اب ذبيان يهنعم"، وقد سقط حرفان أو ثلاثة أحرف من لقب "شهر هلال" الأخير فصار "يهو"، ولعله "يهودع" و "يهنعم" في الأصل.
وترك "ألبرايت" فراغًا بعد "شهر هلال يهو.."، ذكر بعده اسمه "سمه وتر"، قال: إن من المحتمل أن يكون هو المكرب الذي هزمه "يثع أمر وتر" مكرب "سبأ". ثم ترك فراغًا آخر ولم يحدد مدته، ثم ذكر أن من المحتمل أن يكون قد تولى الحكم بعد هذه الفترة مكرب آخر هو "وروايل" ولم يشر إلي لقبه، وقد كان تابعًا لـ "كرب ايل وتر" أول ملك من ملوك
__________
1 المصدر نفسه.
2 كذلك.(3/182)
سبأ، وقد حكم -على تقديره- حوالي سنة "450 ق. م."1.
وترك "ألبرايت" فراغًا بعد اسم "وروايل" يشير إلى وجود فجوة لم يعرف من حكم فيها، ثم ذكر مكربًا آخر سماه "شهر"، ولم يذكر لقبه، ثم ذكر اسم ابنه بعده وهو "يدع أب ذبيان"، قال إنه آخر مكرب وأول ملك في قتبان، وقد ترك عددًا من الكتابات، ومنها كتابة عثر عليها خارج الباب الجنوبي لمدينة "تمنع"، وقد حكم -على رأيه- في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، وتولى ابنه من بعده "شهر هلال" "شهر هلل" ثم "نبط عم" ابن "شهر هلال"2. ويحتمل أن يكون "يدع أب ذبيان" هذا -بحسب رأيه- هو باني ذلك الباب3.
نرى أن قائمة "ألبرايت" قد كتبت اسم "شهر" وابنه وحفيده مرتين، وأشار هو نفسه إلى أن من الممكن أن يكون ذلك من باب التكرار، غير أنه ذكر من جهة أخرى أنه ما دامت الأدلة التي تثبت هذا التكرار غير متوافرة، فإنه يسجل هذه الأسماء على هذا الموضع، فلعل أسماء هذه المجموعة المتشابهة هي لأشخاص آخرين، إلى أن يثبت بالدليل خلاف ذلك.
وترك "ألبرايت" فراغًا بعد "نبط عم" "نبطعم"، ذكر بعده "ذمر علي"، ثم ابنه "يدع أب يجل" "يدع أب يكل" ويرى "ألبرايت" أنه كان معاصرًا لثلاثة ملوك من ملوك سبأ، عاشوا في القرن الرابع قبل الميلاد، ولم يستبعد احتمال كونهم من رجال القرن الثالث قبل الميلاد. حينما كانت سبأ مجزأة منقسمة على أمرها4.
وقد كانت معظم أرض حمير خاضعة في هذا العهد للقتبانيين. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل الحميريين ينعتون أنفسهم بـ "ولد عم"؛ لأن "عما" هو إله القتبانيين، و"ولد عم" تعني "أولاد عم" و"شعب عم"5.
__________
1 BOASOOR, NUM. 119, C1950) , P. II
2 BOASOOR, NUM. 119, (1950) , P. II, The Chronology, P. 17
3 W. Phillips, Qataban and Sheba, P. 219
4 The Chronology, P. 8, BOASOOR, NUM. 119, (1950) , P. 12
5 Le Museon, 1964, 3-4, P. 429, 431(3/183)
وترك "ألبرايت" فراغًا بعد الملك "يدع أب يكل"، ذكر بعده ملكًا سماه "اب شبم"، "أبشبام" "أب شبام"، ولم يذكر اسم أبيه ولا نعوته، ثم ذكر بعده الملك "شهر غيلن" "شهر غيلان"، قال: إنه ابن "أبشبام"، وإن المنقبين قد عثروا على كتابات عديدة من أيامه، منها كتابة عثر عليها عند الباب الجنوبي لمدينة "تمنع"1. ثم ذكر بعده ملكًا آخر سماه "بعم" وهو ابن الملك السابق، أي "شهر غيلان"، ثم الملك "يدع أب يجل" "يدع أب يكل"، وهو شقيق "بعم"، ثم نصب "ألبرايت" بعده الملك "شهر يجل" "شهر يكل"، قال إنه ابن الملك "يدع أب"، وإنه صاحب جملة كتابات وفاتح معين في حوالي سنة "300 ق. م." ثم ذكر الملك "شهر هلل يهنعم" "شهر هلال يهنعم" من بعده، وهو شقيق "شهر يجل" "شهر يكل" وقد تركت أيامه جملة كتابات، منها كتابة عثر عليها عند باب مدينة "تمنع" الجنوبي.
وقد ذهب "ألبرايت" إلى أن حكم الأسرة أو المجموعة المتقدمة قد كان فيما بين "350" و"250 ق. م." وهو لا يدري من حكم بعد "شهر هلال" آخر ملوك هذه المجموعة2، ولذلك ترك فراغًا، انتقل بعده إلى مجموعة جديدة من الملوك، وضع على رأسها "يدع أب ذبين يهرجب" يدع أب ذبيان يهركب"، وقال: إنه لا يرى أن وضع هذا الملك في هذا المكان هو من قبيل التأكد، وإنما يرى أن ذلك شيء محتمل، ثم ترك فراغًا آخر بعد هذا الملك يشعر أنه لا يدري من حكم فيه، ثم ذكر بعد هذا الفراغ الملك "فرع كرب" ثم ابنه "يدع أب غيلن". "يدع أب غيلان" وقد ذكر أن في أيامه بني "بيت يفش" المذكور في كتابة قتبانية، وأن ذلك كان في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد3.
وترك "ألبرايت" فراغًا بعد "يدع أب غيلان"، ذكر بعده الملك "هوف عم يهنعم" "هو نعم يهنعم"، وقد جعل حكمه في حوالي سنة "150 ق. م." ثم ذكر ابنًا له حكم -على رأي "ألبرايت"- من بعده
__________
1 The Chronology, P. 8
2 W. Phillips, P. 220
3 W. Phillips, P. 220(3/184)
سماه "شهر يجل يهرجب" "شهر يكل يهركب"، وإلى أيامه تعود الأسود المصنوعة من البرنز التي عثر عليها في أنقاض "تمنع"، والكتابة المتعلقة ببناء حصن الباب الجنوبي للعاصمة، وكتابة بناء "بيت يفش"1، ثم ذكر "وروال غيلن يهنعم" "وروايل غيلان يهنعم" من بعده، وهو ابن "شهر يكل يهركب"، وقد عثر على قطعة نقد ضربت في مدينة "حريب"، تحمل اسم "وروايل غيلن"، يرى "البرايت" احتمال كونها تعود إليه. وذكر بعده الملك "فرع كرب يهودع" "يهوضع"، وهو ابن الملك "شهر يكل" وشقيق "وروايل غيلان".
وقد ترك "البرايت" بعد "فرع كرب يهودع" "يهوضع" فراغًا يشير إلى أنه لا يعرف من حكم بعد ذلك الملك، ثم ذكر بعد هذا الفراغ ملكًا آخر سماه "يدع اب ينف" "يدع اب ينوف". وقد عثر على نقود له ضربت من ذهب في "حريب"، ولا يعرف "ألبرايت" اسم من حكم بعده، لذلك ترك فراغًا، ذكر بعده ملكًا سماه "ذراكرب" "ذرأكرب"، ولم يذكر نعته ولا اسم أبيه، وقد جعل بعده ابنه "شهر هلل يهقبض" "شهر هلال يهقبض"، ويرى احتمال كونه "شهر هلل" "شهر هلال"، الذي أمر بضرب نقد من ذهب في "حريب"، وبه ختمت قائمة "ألبرايت" لحكام قتبان من مكربين وملوك إذ ذكر بعد اسمه خراب "تمنع" العاصمة ونهاية استقلال قتبان، وذلك في حوالي سنة "50" قبل الميلاد2.
ويرى "ألبرايت" أن "شهر هلال يهقبض" هذا هو الذي بنى البيت المسمى "بيت يفعم" "بيت يفع"، الذي عثر على أطلاله وأسسه عند باب المدينة الجنوبي3.
وتعد هذه الفترة القريبة من الميلاد من أهم المراحل الحاسمة في تأريخ قتبان، في رأي "ألبرايت"، إذ فيها كان سقوط الحكم الملكي، وزواله عنها، ودخولها في حكم مملكة "معين"، أو دخول قسم منها في حكم معين، وقسم آخر في
__________
1 W. Phillips, P. 100.
2 BOASOOR, 119, "1950", P. 12, The Chronology, P. 8. ff
3 W. Phillips, P. 220(3/185)
حكم مملكة السبئيين1.
ويرى "ألبرايت" أن عاصمة قتبان كانت قد تعرضت قبيل الميلاد لغزو أليم، وقد استدل عليه من وجود طبقة من الرماد تغطي أرض العاصمة، وقد فسر هذا بسقوط المدينة فريسة لنار أججها في المدينة ملك، لم نقف على اسمه حتى الآن، ولا على الأسباب التي حملته على إحراق المدينة أو إحراق أكثرها2.
ويرى "ألبرايت" أيضًا أن مملكة حضرموت كانت قد اغتصبت جزءًا من مملكة قتبان، وذلك بعد سقوط "تمنع" في القرن الأول للميلاد، وقد كانت مملكة حضرموت، ومعها مملكة سبأ، من أهم الممالك في العربية الجنوبية، في هذا العهد، ومنذ القرن الأول للميلاد فما بعده، فقد القتبانيون استقلالهم واندمجوا في حكومة "سبأ وذي ريدان" في النهاية3.
وقد عثر على كتابة في "وادي بيحان"، ورد فيها "يدع اب غيلان بن غيلان ملك حضرموت بنى مدينته مدينة: ذي غيلان"4. وذهب قراء هذه الكتابة إلى أن مدينة "ذي غيلان"، هي مدينة بناها هذا الملك في "وادي بيحان" على مسافة عشرة أميال من موضع "بيحان القصب" في الزمن الحاضر أي في أرض قتبانية، وذلك بعد سقوط مدينة "تمنع". وقد عثر على كتابتين حضرموتيتين أخريين في هذا الوادي، وردت فيها أسماء ملوك حضرميين5.
__________
1 W Phillips 221
2 المصدر نفسه.
3 المصدر نفسه.
4 كذلك.
5 كذلك.(3/186)
كتابات وحوادث قتبانية:
أحاول هنا تدوين الحوادث التي وقعت في قتبان في أيام المكربين وأيام الملوك مستخلصًا إياها من كتابات العهدين، فأبدأ بالبحث في الكتابات التي يرجع عهدها إلى المكربين، وفي جملة الكتابات أيام "المكربين" كتابة وسمها العلماء بـ"Glaser 1410 – 1681 "، وقد دونت عند قيام قبيلة "هورن" "هوران"(3/186)
ببناء بيت في أرضها للإله "عم ذو دونم"، بنته بالخشب وبالحجارة والرخام ومواد أخرى، تقربًا إلى ذلك الإله وإلى آلهة قتبان الأخرى: "عم" و"أنبي" و "ذات صنتم" و "ذات ظهران"، وقد وردت في النص أسماء مواضع هي: موضع "لتلك" الواقع في منطقة "ذبحتم" "ذبحة" و "دونم" "دون" و "أذ فرم" "أذفر". وقد سقط من السطر الأول اسم "المكرب" وبقي اسمه الثاني وهو "ذبين" "ذبيان"، ولقبه وهو "يهنعم"، واسم أبيه وهو "شهر". ويظهر من عبارة: "ذبين يهنعم بن شهر، مكرب قتبان وكل ولدعم واوسن وكحد ودهسم وتبنو بكر انبي وحوكم"، أي " ... ذبيان يهنعم بن شهر مكرب قتبان وكل ولدعم واوسان وكحد ودهس وتبنو بكر أنبي وحوكم"1 أن قتبان وكل المتعبدين للإله "عم" الذي يمثله مكرب قتبان نفسه والأوسانيون وكحد ودهس وتبني كانوا متحدين في ذلك العهد متحالفين، يحكمهم المكرب المذكور.
وقد رأينا أن "ألبرايت" جعل هذا المكرب في الجمهرة الثانية من جمهرة المكربين الذين حكموا قتبان، ولم يذكر شيئًا عن أبيه "شهر" لعدم ورود شيء عنه في الكتابات، أما اسم المكرب الأول الساقط من النص، فهو "يدع اب".
وفي أسماء المواضع المذكورة دلالة على أنها كانت خاضعة لحكم قتبان في أيام المكرب المذكور، وأن حدود قتبان كانت واسعة إذ ذاك أي في القرن السابع قبل الميلاد على رأي بعض الباحثين أو في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد على رأي بعض آخر2.
وقد عثر على اسم المكرب "شهر هلل بن يدع اب" "مكرب قتبان" في كتابتين، رقمتا برقم3 "RES 312" و "Res 312 + SE 60" وقد ورد فيها اسم "أنبي" و "حوكم" و "عم" من أسماء آلهة قتبان، وورد فيها أسماء
__________
1 RSP. EPIG. 3880, Tome, VI, P. 336, Hommel, Ethno., S,, 660
2 Beitrage, S., 71
3 Lidzbarski, Eph., II, S., 107, 455, Weber, Stud., Ill, r S., 39, Hartmann, Arab-, S., 165, ContI Rossini, Chrest, P. 87, Mordtmann-Mlttwoch, In Orientalia, I, (1932) , P. 27(3/187)
مواضع مثل: "لتك"، و "ذبحتم" و "اضفرم"، وقبيلة أو جماعة تعرف بـ "هورن" "هوران". وكان سبب تدوينها التوسل والتضرع إلى الإله "أنبي" ليمن على أصحاب الكتابتين فيبعث إليهم بالخير والبركة، ويقيهم شر المجاعة1. والظاهر أن قحطًا كان قد حدث في أيام هذا المكرب فتوسل أصحاب الكتابة إلى إلههم "أنبي" أن يمن عليهم بإنقاذهم منه.
ويلاحظ أن هذه الكتابة تحدثت عن موضع "لتك" في "ذبحة" التابعة لقبيلة "هورن" من قبائل قتبان، إلا أنها لم تذكر "قتبان وولد عم وأوسان وكحد ودهس" كما جاء في ذلك النص السابق. وقد سقط في هذه الكتابة "شهر هلل" "شهر هلال"، كما أنها لم تذكر لقب "يدع اب" مكرب قتبان وهو والد "شهر". ولا نستطيع بالطبع الادعاء بأنه كان أقدم من المكرب السابق أو أنه جاء من بعده في الحكم لعدم وجود دليل ملموس لدينا يثبت أحد الرأيين.
وقد عثر على عدد من الكتابات القتبانية، ورد فيها اسم المكرب: "يدع اب ذبين بن شهر" "يدع أب ذبيان بن شاهر" "شهر"2. منها الكتابة الموسمومة برقم: "."Glaser 1600 وقد جاء فيها: أن "يدع أب ذبين بن شهر مكرب قتبان، وكل أولاد عم وأوسان وكحد ودهس وتبني" فتحوا طريقًا، وأنشئوا "مبلقة" بين موضعي "برم" و "حرب" "حريب"، وجددوا "بيت ود" و "عثيرة"، وبنوا "مختن" في موضع "قلي".
ووردت في هذه الكتابة أسماء آلهة أخرى، هي عثتر، وعم، وأنبي، وحوكم، وذات صنتم، وسحرن، ورحبن3.
وقد وردت في الكتابة لفظة "منقلن"، ويراد بها الطريق في الجبل، وهي بهذا المعنى أيضًا في معجمات اللغة التي نزل بها القرآن الكريم. ووردت فيه لفظة "مبلقة"، ومعناها فتحة وثغرة، وهي بهذا المعنى في عربيتنا كذلك، يقال
__________
1 REP. EPIG, 3540
2 "يدع أب ذبيان بن شهر".
3 REP. EPIG., 3550, VI, I, P. 203, Nielsen, Neue Katab. Inschriften, S., 3, Stud., 127, Weber, Stud., Ill, S., 8, Conti Rossini, Chres., P. 86, BOASOOR. NUM. 120, P. 27, (1950) , Ryckmans 215, Baihan 48(3/188)
انبلق الباب إذا انفتح، وأبلق الباب: فتحه كله أو أغلقه بسرعة، ومعنى الكلمة في النص عمل ثغرة في الجبل ليمر منها الطريق المار في الجبل من مكان إلى مكان1. وفي هذا العمل المشترك الذي اشترك فيه هذا المكرب وشعب قتبان وقبائل أخرى غير قتبانية، هي أوسان وكحد ودهس وتبني، دلالة على وجود فن هندسي راق عند العرب الجنوبيين في هذا العهد الذي لا نعرف مقدار بعده عن الميلاد، ولكننا نجزم أنه كان قبل الميلاد.
ولدينا كتابة أخرى تشبه الكتابة المتقدمة، دونت في أيام هذا المكرب كذلك، ورد فيها بعد اسم المكرب جملة: "وكل ولد عم"، ثم أسماء من ساعد "ولد عم" في البناء، وهم "أوسان" و "كحد" ودهس" "وتبني" و "يرفأ"، ثم وليت هذه الأسماء جملة "ايمنن واشامن"، أي "الجنوبيون والشماليون"، وبعبارة أخرى "أهل الجنوب وأهل الشمال"، ويقصد بذلك على ما يظهر من سياق الكلام سكان المناطق الشمالية وسكان الجنوب، أما جملة "ولد عم" فإنها كناية عن أهل "قتبان" و "عم" هو إله "قتبان" الرئيس، ولذلك أطلق القتبانيون على أنفسهم "ولد عم"، ويفهم من ذكر أسماء القتبانيين وغيرهم في هذه الكتابة أن العمل المذكور في الكتابة كان ضخمًا واسعًا، لذلك اشترك في إتمامه وإنجازه أهل أوسان والقبائل الأخرى. ولم يتحدث النص عن كيفية اشتراك أوسان والقبائل الأخرى المذكورة في هذا العمل: أكان ذلك لأنها كانت خاضعة في وقت تدوين هذه الكتابة لحكم المكرب، "يدع أب" فاضطرت إلى الاشتراك فيه، أم هي قامت به بالاشتراك مع قتبان؛ لأنه في مصلحتها؛ لأنها ستستفيد منه كما يستفيد منه القتبانيون، فتعاونت مع قتبان في إنجازه واتمامه.
والكتابة وثيقة مهمة تتحدث عن عمل هندسي مهم خطير، هو فتح طريق جبلي في مناطق وعرة وفي أرضين جبلية، فاستوجب العمل تمهيد الأرض وتسويتها وإحداث ثغر في الصخور وفتح أنفاق ليمر بها الطريق، وقد كرس العمل باسم الآلهة "عم ذو شقرم" و "عم ذو ريمت" و "أنبي" و "حوكم" و"ذات صنتم" و "ذات ظهران" و "ذات رحبان"، وتقرب به إليها, وقام به.
__________
1 Rhodokanakis 1.StudI, ll, S., 98(3/189)
وأشرف عليه رجل اسمه "أوس عم بن يصرعم" "أوسعم بن يصرعم" "أوس بن يصرع"، أدار هذا الرجل العمل، ورسم الخطط وقام برصف الطريق وتبليطه ورصف ممر "ظرم" بصورة خاصة بمنطقة سميكة من الحجارة، وقد قام بكل ذلك بأمر سيده المكرب "يدع اب"1.
ونحن هنا أمام رجل كان له علم خاص بهندسة الطرق وله تجارب ودراية في إحداث الثغر في الصخور وإنشاء الممرات والمناقل للقوافل والمارة في المناطق الوعرة ولهذا كلفه حاكم قتبان القيام بذلك العمل، فأنجزه وأتمه عل النحو الموصوف.
وكان "اوس عم بن يصرعم" من قبيلة تسمى "مدهم"2.
وقام المهندس المعماري المذكور بأعمال هندسية أخرى لسيده المكرب، فقد جاء في نص آخر أنه شق طرقًا وثنايا في مواضع جبلية وعرة، وحفر أنفاقًا تمر السابلة منها، وبنى أيضًا "بيت ودم" أي معبد الإله "ود"، و"مختن ملكن بقلي"، أي "مختن الملك" بموضع "قلي"3. وقد سبق أن أشير إلى هذا "المختن" في النص "Glaser 1600" الذي تحدثت عنه قبل قليل، وهو من النصوص التي تعود إلى هذا المكرب نفسه، والتي تتحدث عن فتح طريق وبناء "بيت ود" و "مختن الملك بقلي"، إلا أنه لم يذكر اسم "المهندس" الذي أشرف على العمل في النص المرسوم بـ " Glaser 1600".
وليست لدينا معرفة تامة بمعنى "مختن"، الواردة في النصين المذكورين، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها من الألفاظ المستعملة في الشعائر الدينية، وأنها تؤدي معنى محرقة، أو الموضع الذي توضع عليه القرابين التي تقدم إلى الآلهة4 أو المذبح الذي تذبح عليه الضحايا، فهي بمعنى "يبحت" و "ومنطف" "منطفت" "منطفة". وذلك لورود هذه الألفاظ في كتابات تتعلق بالقرابين، كما سأتحدث عنها في فصل "الحياة الدينية عند الجاهليين".
__________
1 REP. EPIG. 3642, 4328, VII, II, P. 192, SE 90, Grohmann, Katabanische
Herrscherr, S., 43, Rhodokanakls, Altsab. Texte, I, 8., 44, Beitrage, S., 43
2 Beitrage, S., 46
3 Le Mus6on, LXH, 1-2, (1949) , P. 78
4 Le Mus6on, LXH, 3-4, (1949) , P. 277(3/190)
ويظهر أن لاسم قرية "شقير" و"حصن شقير" الموجودتين في اليمن في الوقت الحاضر، علاقة بمعبد "عم ذو شقرم" الذي تقرب صاحب النص المذكور إليه ببناء الطريق ورصفه، وقد كان "شقرم" موضع في ذلك الوقت أقيم به معبد خصص بعبادة الإله "عم"1. ولعل الطريق الذي شيده "يدع أب ذبيان" كان يمر به، وأنه أوصل إليه ليسهل على المؤمنين الوصول إليه, فكرس الطريق لذلك باسمه فذكر قبل بقية الآلهة، تعبيرًا عن هذا التخصيص.
ويرى بعض الباحثين أن ملك قتبان كان قد توسع في عهد "يدع أب ذبيان" هذا فصار يشمل كل "أوسان" وقتبان ومراد حتى بلغ حدود سبأ، ولحماية أرضه أقام حواجز وفتح طرقًا في الهضاب والجبال ليكون في إمكان جيشه اجتيازها بسهولة في تحركه لمقاتلة أعدائه، أقامها في شمال أرضه وفي جنوبها لمنع أعدائه من الزحف على مملكته، وتعبيرًا عن فتوحاته هذه في شمال وفي جنوب قتبان استعمل جملة "ايمنن واشامن" أي "الجنوبيون والشماليون"، وهو لقب يعبر عن هذا التوسع الذي تم على يديه2.
ويظهر أن الذي حمل "يدع ذبيان" على الأقدام على شق الطرق في المرتفعات وفي الجبال وعمل الأنفاق وتبليط الطرق بالأسفلت، هو عدم اطمئنانه من الطرق الممتدة في السهول، إذ كانت هدفًا سهلًا للأعداء. فإذا اجتازتها قواته هاجمهما الغزاة ويكون من الصعب عليها الدفاع حينئذ عن نفسها، أما الطرق التي أنشأها فإنها وإن كانت صعبة وفي السير بها مشقة إلا أنها آمنة؛ لأنها تمر في أرض خاضعة لحكمه وهي أقصر من الطرق المسلوكة في الأرض السهلة. ثم إن الدفاع عنها أسهل من الدفاع عن الطرق المفتوحة. فبهذا التفكير الحربي أقدم على فتح تلك الطرق3. وقد تبين من ورود لفظة "ملك" في بعض هذه الكتابات مع وجود لقب "مكرب" فيها، أن "يدع أب ذبيان" هذا كان كاهنًا في الأصل. أي حاكمًا يحكم بلقب "مكرب"، ثم تحلى بلقب "ملك" أيضًا، ولعله استعمل اللقبين معًا. ولهذا ذكرا معًا في الكتابات المشار إليها، إلا أن الكتابات المتأخرة
__________
1 Beltrage s. 43
2 Beltrage s. 44
3 Beltrage s. 45(3/191)
نعتته بلقب ملك فقط، وفي اكتفائها بذكر هذا اللقب وحده دلالة على أنه صرف النظر عن اللقب القديم، وجعل لقبه الرسمي هو اللقب "ملك" فقط1.
ومن الكتابات التي تعود إلى أوائل حكم "يدع أب ذبيان" أي أيام حكمه "مكربًا" الكتابات: Ryckmans 390 و REP. EPIG 3550 4328 أما الكتابة: REP. EPIG. 3878، فتعود إلى أيام تلقبه بلقب "ملك" وتتناول الكتابات الأولى موضوع فتح وتعبيد طريق "مبلقة"، وقد عثر عليها مدونة على الطريق وفي "شقرم" "شقر" التي تقع إلى الغرب منها2.
ومن كتابات أيام الملكية الكتابة المرسومة بـ Glaser 1581"، وقد دونت عند الانتهاء من بناء حصن "برم" "محفدن برم" تقربًا وتوددًا لآلهة قتبان. وكان العمل في أيام الملك "يدع أب ذبين بن شهر ملك قتبين" "يدع أب ذبيان بن شهر ملك قتبان"، وكان صاحب البناء الذي قام به "لحيعم بن ابانس" من "آل المم" و "عبد ايل بن هاني" ويظهر أنهما كانا من المقربين إلى الملك المذكور، وربما كانا من كبار الموظفين، أو من أصحاب الأرضين والأملاك أو من رؤساء العشائر3.
وللملك "يدع اب ذبيان بن شهر"، وثيقة على جانب كبير من الأهمية؛ لأنها قانون من القوانين الجزائية المستعملة في مملكة قتبان، بل في الواقع من الوثائق القانونية العالمية، ترينا أصول التشريع وكيفية إصدار القوانين عند العرب الجنوبيين قبل الميلاد، فيها روح التشريع الحديث وفلسفة التقنين، ترينا أن الملك وهو المرجع الأعلى للدولة هو وحده الذي يملك حق إصدار القوانين ونشرها والأمر بتنفيذها، وترينا أيضًا أن مجالس الشعب، وهي المجالس المسماة بـ "المزود" وتتكون من ممثلي المدن، ومن رؤساء القبائل والشعاب، هي التي تقترح القوانين وتضع مسودات اللوائح، فإذا وافقت المجالس عليها عرضتها على الملك لإمضائها ولنشرها بصورة إرادة أو أمر ملكي، ليطلع الناس على أحكام الأمر الملكي.
__________
1 Le Museon, 1984, 3-4 P.423.
2 Le Museon, 1964, 3-4, P. 432.
3 REP. EPIG. 3553, Nielsen, Stud., S. 168, Conti Rossini, Chrest., P. 87, Nielsen, Neue Kat., S., 35.(3/192)
ويعملوا به. وسأتحدث عن ذلك في فصل "التشريع الجاهلي" بكل تفصيل وتوضيح.
والوثيقة المذكورة هي قانون أصدره الملك في شهر "ذي مسلعت" "ذو مسلعة" من سنة "غوث آل" "غوث ايل"1 وقد شهد على صحتها للتعبير عن شرعيتها جماعة من الأعيان والرؤساء وهم من أعضاء "المزود" ومن أشراف المملكة ورؤساء القبائل، ذكرت أسماؤهم وأسماء الأسر والعشائر التي ينتمون إليها، وقد كانت العادة في قتبان أن يذكر عند إصدار القوانين والأوامر أسماء أعضاء المزود والرؤساء وكبار الموظفين كما تفعل الدول الحديثة في هذا اليوم من ذكر اسم رئيس الدولة الذي يصدر القانون بأمره وباسمه واسم رئيس الوزراء والوزراء أصحاب الاختصاص، وذلك لإظهار موافقة المذكورين على القوانين دلالة على اكتسابها الصفة القانونية بنشر أسمائهم مع اسم الملك.
وفي جملة القبائل التي ذكرت في هذه الكتابة "ردمن" "ردمان" و "الملك" "المالك" و "مضحيم" "مضحى"، و "يحر"، و "يكلم" "بكيل" و "ضرب"، و "ذو ذرآن"، "ذ درن"، و "شهران" و "هران"، "هرن"، و "غربم"، و "رشم"، و "زخران"، و "غربان"، و "جرعان"، و "نظران"، وقبائل أخرى، وقد ذكرت أسماء الرؤساء الذين أمضوا القانون وصدقوا صحته ودونت قبل أسمائهم هذه الجملة: "وتعلماي ايدن ... "، ومعناها: "علموا عليها بأيديهم"، وكتب قبل اسم الملك: "وتعلماي يد"، ومعناها: "وعلم عليها بيده ... "، ويعود الضمير إلى الملك2.
والوثيقة التي نتحدث عنها هي قانون في عقوبات القتل العمد أو القتل الخطأ غير المتعمد وفي العقوبات التي يجب أن يعاقب بها من يصيب إنسانًا بجرح أو جروح قد تحدث آفات وعطلًا في الشخص. وسأتحدث عن هذا القانون وعن المصطلحات الفقهية الواردة فيه في فصل "التشريع عند الجاهليين"، ويرى "فون وزمن" أن هذه الوثيقة المهمة هي من الأوامر التي أصدرها الملك في النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد3. ويتبين من الوثيقة المتقدمة أن القتبانيين
__________
1 REP. EPIG. 3878, VI, II, P. 330.
2 Glaser 1397, SE 80, Beitrage, S, 37
3 Beitrrage, S., 37(3/193)
كانوا يحكمون الرومانيين في هذا العهد، ومخلاف "ردمان" من مخاليف اليمن المهمة، فيه قبائل كبيرة، ولهذا فإن خضوعه لقتبان هو ذو أهمية كبيرة بالقياس إلى الحكومة.
وبعد موضع "جهر وعلان" حاضرة مخلاف "ردمان"، ومن أماكن "ردمان" "رداع" و "كدار"، وهو مكان قريب من "وعلان"، وقد ورد اسم "وعلان" في الكتابات إذ جاء: "وعلن ذردمن"، "وعلان ذو ردمان"1.
ويظن أن الملك "يدع أب ذبيان يهرجب بن شهر، ملك قتبان" الذي أمر بتدوين النص الذي وسم بـ "jamme 405 + 406 "، هو هذا الملك الذي نتحدث عنه، أي الملك المعروف في الكتابات باسم "يدع أب ذبيان بن شهر"، والفرق بين الاسمين هو في وجود اللقب "يهرجب" "يهركب" في النصين المذكورين وسقوطه من الكتابات الأخرى، ويستدل من قال بأن الاسمين هما لشخص واحد بورود أسماء قبائل في النصين وردت في كتابات دونت في عهد الملك المتقدم ثم؛ لأنهما استعملا مصطلحات ترد في كتابات تعود إلى هذا العهد، ثم؛ لأن أسلوب الكتابة، ونموذج كتابتها يدلان على أنها كتبت في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد. أو في القرن الرابع قبل الميلاد. وفي هذا الوقت كان حكم هذا الملك على رأي بعض الباحثين. لذلك رأوا أن الكتابتين قصدتا هذا الملك2.
وخلاصة ما جاء في النصين أن الملك "يدع أب ذبيان يهرجب بن شهر ملك قتبان" وكل أولاد عم وأوسان و "كحد" و "دهسم" "دهس" و "تبنو"، بنوا "يسرن" "يسران" والأقسام التابعة لها "ريمت" "ريمة" و "رحبت" "رحبة"، وذلك من الأساس إلى القمة، ولحماية ما أمر الملك ببنائه من كل أذى وسوء وقدموا ما قاموا به إلى الآلهة "عثتر" و "عم" و "ود".
أما القبائل المذكورة في هذين النصين، فقد تعرفنا عليها في الكتابات السابقة، ولدينا كتابة وسمها علماء العربيات الجنوبية بـ "REP EPIG 4094" دونها "زيدم بن آل وهب" "زيد بن ايل وهب"، و "أب عم بن شهرم"
__________
1 CIH 347, Beitage, S, 38
2 Discoveries, P. 143(3/194)
من "ذي طدام"، عند إتمامها بناء عدة بيوت أو معابد ذكرا أسماءها، وهي:
"يفش مبش"، و "اهلن"، و "شمس مبش" لملكي قتبان: "يدع أب ذبيان" وابنه "شهر"، وقد ورد فيها اسم الآلهة: عثتر، وعم، وانبي، وذات صنتم، وذات ظهرن "ذات ظهران". وهي الآلهة التي ترد أسماؤها عادة في معظم كتابات القتبانيين، وجاءت بعد أسماء الآلهة، هذه الجملة "وبمبش واهلن"1، ولا نعرف اليوم شيئًا عن "مبش" ولا عن "اهلن"، أم هما اسمان لإلهين من آلهة قتبان بدليل ورودهما بعد أسماء الآلهة التي ورد ذكرها تيمنًا في هذه الكتابة، أم هما اسمان لقبيلتين أو لمقاطعتين أو لمعبدين من المعابد المشهورة التي كانت في قتبان؟.
أما "طدام"، فهو اسم قبيلة أو أسرة قتبانية، وقد ورد في كتابات أخرى عديدة غير قتبانية2. وأما "أبعم" "أب عم" و "زيدم" "زيد" فمن الأسماء التي ترد في مختلف الكتابات، ولكن اسم "اب عم" "أبعم" هو من الأسماء المنتشرة بصورة خاصة في قتبان3.
وقد اختلف الباحثون في تعيين زمان حكمه، فذهب بعضهم إلى أنه كان في القرن الخامس قبل الميلاد، وذهب بعض آخر إلى أنه كان في القرن الرابع قبل الميلاد4. أو القرن الثاني قبل الميلاد5 أو في أوائل القرن الآخر قبل الميلاد6.
وقد ذكر اسم الملك "شهر هلل"7 وابنه "نبطعم"8 في كتابة دونها رجل اسمه "نبط عم بن يقه ملك" "نبطعم بن يقهملك"9 إذ حفر بئرًا في حصن له لإرواء أرضه وأملاكه، وجعلها في رعاية آلهة قتبان وحمايتها، لتبارك له
__________
1 REP. EPIG. 4094, VII, I, P. 80, Mordtmann und E. Mittwoch
AltsUdarabische Inschriften, in Orientla, I, 1932, P. 24
2 Jausen 90, 93, 173, 175, 176, 180
3 Orientala, Vol., I, "1932", P. 26
4 Le Mus6on, 1964, 3-4, P. 433
5 Le Museon, 1964, 3-4, P. 434
6 Le Museon, 1964, 3-4, P. 434, Pirenne, Paleographie des Inscriptions Sud-Arabes, I
7 "شهر هلال".
8 "نبط عم".
9 "نبط عم بن يقه ملك".(3/195)
ولذريته، وذكر أن حفر هذه البئر كان في أيام الملك المذكور وفي أيام ابنه1.
وقد ذهب "ألبرايت" إلى أن "شهر هلال" المذكور وهو والد "نبطعم" هو ابن "يدع أب ذبيان بن شهر". وقد جعله كما قلت قليل آخر المكربين وأول من تلقب بلقب "ملك" في قتبان.
وجاء اسم الملك "شهر هلل بن يدع اب"2، في قانون أصدره للقتبانيين المقيمين بمدينة "تمنع" أي العاصمة وللمقيمين في الخارج، وذلك لتنظيم التجارة ولتعيين حقوق الحكومة في ضرائب البيع والشراء، والأماكن التي يكون فيها الاتجار. وفي هذا القانون مصطلحات تجارية مهمة ترينا مبلغ تقدم القتبانيين في أصول التشريع التجاري بالقياس إلى تلك الأيام3.
ووصلت إلينا كتابة قتبانية وسمت بـ "REP. EPIG. 4325"، وهي قانون لتنظيم التجارة وفي كيفية دفع الضرائب. وقد صدر في أيام "شهر"، وقد سقط من النص لقب الملك واسم والده ولقبه، كما سقطت أسطر من القانون بسبب تلف أصاب الحجر المكتوب، فأضاع علينا فهم أكثر القانون4. ولوجود جملة ملوك حكموا قتبان باسم "شهر"، لا نستطيع تعيين هذا الملك، صاحب هذا القانون، وقد يكون "شهر هلال بن يدع اب"، أي الملك المتقدم.
وذكر اسم الملك "ذمر علي" واسم ابنه الملك "يدع ابن يجل" "يدع اب يكل"5 في النص القتباني المعروف بـ "Glaser 1693"، ولم يرد فيه اللقب الذي كان يلقب به6.
وقد ورد اسم ملك قتباني هو "يدع أب"، في عدد من الكتابات، دون أن يذكر لقبه أو اسم أبيه، وقد ذهب "فلبي"، إلى احتمال أنه "يدع اب بن ذمر علي" أي الملك المذكور في النص "Glaser 1693"
__________
1 REP. EPIG. 4330, VII, II, 194, SE 99, Glaser 1336, 1407
2 شهر هلال بن يدع أب".
3 REP. EPIG. 4337, Hbfner, Eine Sudarabische Handelsinschrlft, in Forschungen und Fortschritte, X, (1943) , 274, SE 87,Glaser, 1407, 1615.
4 REP. EPIG. 4325, VII, II, P. 190, SE 61
5 "يدع أب يجل".
6 BOASOOR, NUM. 119, (1950) , P. 12, KTB." II, S., 41
7 Le Museon, LXII, 3-4, (1949) , P. 241, CIH, 494, 496, Philby 17, 18, 19, REP. EPIG., VI, II, P. 321(3/196)
وفي أيام "يدع اب يجل" نشبت حرب بين "سبأ" و "قتبان"، ذكرت في النص الموسوم بـ "REP EPIG 3858" وهو نص سجله "ذمر ملك بن شهر" من "آل ذران" "آل ذرأن"، وكان واليًا ولاه الملك على قبيلة "ذبحن"1 النازلة في أرض "حمر"، بعد أن ثارت وتمردت على ملك قتبان، فتغلب عليها، وضرب عليها الجزية وأخذ غنائم منها ومن القبائل التي عضدتها، ويظهر أن هذه القبيلة انتهزت فرصة حرب نشبت بين "سبأ" و "قتبان"، فأعلنت عصيانها على ملوك قتبان وثارت ومعها قبائل أخرى انضمت إليها، ولكنها لم تنجح، ففرضت قتبان عليها جزية كبيرة وانتزعت منها بعض أملاكها، وقد أشار النص إلى: "حرب يدع آل بين وسمه على ينف ويثع أمر وتر ملوك سبأ، وسبأ وقبائلها وإلى ملوك رعنن وقبيلة رعنن"2. ويظهر من هذه الجملة أن الحرب كانت قد نشبت في أيام الملوك المذكورين، وهم ملوك سبأ، ومع "ملوك سبأ، وسبأ وأشعبها"، ويظهر أنه يقصد بجملة "ملوك سبأ" المذكورة بعد اسم "يثع امر وتر" مباشرة، ملوك سبأ آخرون، أو سادات قبائل، تلقبوا بلقب "ملك". وأما لفظة "أشعب"، فهي "الشعوب" في لهجتنا، وتعبر عن معنى القبائل، ويكون الملك "يدع اب يجل" من معاصري الملوك المذكورين إذن بحسب هذا النص3.
وقد أشير إلى "ذبحن ذحمرر" "ذبحان ذو حمرو" في الكتابة: REP EPIG 3550" وذكر فيها اسم "نعمن" "نعمان" و "صنع"4.
وقد ورد اسما هذا الملك في كتابات أخرى عثر عليها في مواضع من "وادي بيحان"5.
__________
1 "ذبحان".
2 Glaser 1963 REP EPIG 3858
3 KTB II S. 41
4 Le Museon, 1964.4 – 3 p 432
5 "بيحان واد مشهور، وقد ذكره "الهمداني" الإكليل "8/ 110" "طبعة الكرملي" وقد حرف في بعض الترجمات العربية لكتب غربية إلى "بيهان" في كل الكتاب، وذلك لتصورهم أن حرف الـ "h" في الانكليزية لكلمة: "Balhan هو "هاء" فصيروا الكلمة "بيهان" وهو واد معروف حتى اليوم ومذكور في كل الكتب المؤلفة عن العربية الجنوبية، راجع كتاب: كنوز مدينة بلقيس، بيروت "1961م" فإنه مسخ هذا الاسم كما مسخ أسماء كثيرة أخرى مع شهرتها في الكتب الحديثة، Le Museon Lxlv 1 – 2 1951 p 121(3/197)
وقد ورد اسم الملك "شهر غيلن بن ابشم"1، وكذلك اسم ابنه "بعم"، في نص قتبان وسم بـ "ERP. EPIG. 3552" وقد دون هذا النص عند قيام "شرح عث بن عبد يل بن تنزب"2، وهو معمار كلفه الملك المذكور إنشاء "محفد عريم"، أب برج في موضع يسمى "عرب" "عربم"، وقد قام بالعمل وأتمه، ووضعت لتخليده هذه الكتابة شاهدًا على إتمام البناء. وقد تضمنت شكرًا وحمدًا لآلهة قتبان، التي سهلت العمل، ومنت على القائمين به بإنجازه وإتمامه، تيمنًا باسمها على عادة العرب الجنوبيين، كلهم في ذكر أسماء الآلهة التي يتعبدون لها3.
وورد في كتابة أخرى اسم الملك "شهر غيلن بن أبشم"، أمر الملك نفسه بتدوينها، عند تجديده إحدى العمارات وإنشائه "صحفتن"، أي برجاء فخلد ذلك العمل بهذه الكتابة وشكر الآلهة "عم" و "انبي" و "عم ذيسرم"، لمنتها عليه وتسهيلها هذا العمل له4.
وتعد الكتابة المرقمة برقم: "Glaser 1601" من الكتابات المهمة المدونة في أيام هذا الملك؛ لأنها أمر ملكي في كيفية جباية الضرائب من قبيلة "كحد ذ دتنت" وقد عقدت بين ملك قتبان ورؤساء قبيلة "كحد" النازلة في "دتنت" "دتنه"، واشهدت آلهة قتبان عليها، وقد جاء هي هذا الأمر أن "كبر" أي "كبير" قبيلة "كحد" هو الذي سيتولى أمر هذه الجباية والإشراف على تنفيذ الأمر وتطبيق أحكامه على كل من يخصه ويشمله، وذلك من تأريخ تعيينه "كبيرًا" إلى يوم انتهاء وظيفته، على أن يقدم الوارد إلى الحكومة سنة فسنة، فإذا انتهت مدة تعيينه، تولى من يخلفه في هذا المنصب أمر الجباية، وقد جعل تأريخ تنفيذ هذا العقد من: "بن شهر ورخن ذ تمنع خرف موهبم ذ ذرحن اخرن لاخرن"5، ومعناها: "من هلال شهر ذو تمنع
__________
1 "شهر غيلان بن ابشم".
2 "شرحعث بن عبد ايل بن تنزب".
3 REP. EPIG., 3552, VI, I, P. 205, Weber, 'stud., in, S., 5, Nielsen, Stud., S., 160, Conti Rossini, Chrest., P. 87, Nielsen, Neue Katab., S., 28
4 EP. EPIG. 4162, VII, I, P. 114, BOASOOR, NUM. 119, (1950) , P. 12
5 راجع نهاية الفقرة "6" وأول الفقرة "7" من النص:
Glaser 1601, REP. EPIG. 3688, KTB., I, S., 7, Landberg, Arabica, V. 85(3/198)
سنة موهب ذو ذرحن" "ذرحان" آخرًا فآخرًا"، وتعني "اخرن لأخرن" والأشهر التي تليه إلى أمر آخر.
وأما الضرائب المفروضة، أي الجباية التي يجب أن تجبى من قبيلة "كحد"، فقد حددت بهذه العبارة: "عشر كل هنام وموبلم وتقنم وترثم وكل ثفطم بيثفط"1 أي "عشر كل ربح صاف، وكل ربح يأتي من التزام أو من بيع أو من إرث يورث"، فحصر هذا القانون ضريبة "العشر" في الأرباح المتأتية من هذه المكاسب2، وتجبى هذه الضرائب لخزانة الحكومة.
وقد ذكرت في هذه الوثيقة ضريبة أخرى, هي "عصم" "عصمم"، وهي ضريبة خاصة تجبى للمعابد، أي أنها تذهب إلى الكهان لينفقوا منها على إدارة المعبد، فهي ضريبة مقررة تجبى كما تجبى ضرائب الدولة، وهي مصطلح يطلق على كل أنواع الجبايات التي تسمى بأسماء الآلهة والمعابد3.
ويرى "رود كناكس" أن "العصم" لفظة تطلق على كل ما يسمى للآلهة أو المعابد من "زكاة" أو نذر أو صدقات تقدم في مختلف الأحوال، عند برء من سقم، أو عند حدوث زيادة في الغلات4. وقد وردت في النصوص مصطلحات مثل: "ودم" و "شفتم" و "بنتم" وأمثالها، وهي تعبر عن النذور والهبات التي يقدمها المؤمنون تقربًا وزلفى إلى آلهتهم، وهي غير محدودة ولا معينة ولا ثابتة، وإنما تقدم في المناسبات كما في أكثر الأديان5.
وجاءت في هذه الكتابة جملة "وسطر ذتن اسطون ببيت ورفو"، أي "وسطرن هذه الأسطر ببيت ورفو"، وتؤدي لفظة "بيت" في أمثال هذا السياق معنى "معبد"، كما نقول: "بيت الله"، وقد وقعها الملك في شهر "ذبرم" وأعلنها للناس وأوضح ذلك بهذه العبارة: "يد شهر ورخس ذبرم قد من خرف موهبم ذ ذرحن" أي "وقد وقع عليها شهر بيده في شهر ذي برم الأول من سنة موهب آل ذرحن"، وجعل شاهدًا على صحة الوثيقة رجلًا اسمه "نبط عم بن السمع" من "آل هيبر".
__________
1 الفقرة الخامسة من النص المذكور.
2 KTB., I, S., 12.
3 KTB., I, S., II.
4 KTB., I, S 25
5 راجع النصوص: Glsaser 1395, 1412, 1413, 1602.(3/199)
وحظي معبد "بيحان" بعناية الملك "شهر غيلان"، فقد أمر بترميم أقسامه القديمة وتجديدها وبناء أقسام جديدة فيه، وقد تيمن بهذا العمل بذكر الآلهة "عثتر نوفان"، أي "عثتر النائف"، وسجل هذا العمل في كتابة وسماها علماء العربيات الجنوبية بـ 1REP. EPIG 4932 وفد ذكر فيها أسماء آلهة أخرى تيمنًا بذكر أسمائها وتقربًا إليها.
وكان هذا المعبد قد خصص لعبادة "عم ذلبخ"، فهو إذن أحد المعابد التي سميت باسم الإله "عم"، وقد عرفت معابده بـ "عم ذلبخ"، ومعبد "بيحان" هو معبد من هذه المعابد التي حملت اسمه، وكانت لها جماعة تتعبد بها ولعلها مذهب أو طائفة خصصت نفسها بعبادة هذا الإله. وكانت هذه المعابد تجبي أموالًا من أتباعها لتقيم بها المعابد، وصرف الملوك عليها كذلك2.
وفي الكتابة الموسومة بـ "Ry ckmans 216" خبر نص أحرزه الملك "شهر غيلان" على حضرموت و "أمر" "آمر" "أأمر" وتخليدًا له أمر ببناء معبد "عثتر ذ بحن"، أي معبد الإله "عثتر" في موضع "ذبحن" "ذبحان"، ويرى "فون وزمن" أن موضع "ذبحان" الذي بنى فيه هذا المعبد، هو المكان المسمى "بيحان القصب" في الوقت الحاضر، ويقع عند قدم "جبل ريدان" وفي هذا المكان خرائب واسعة تدل على أنه كان مدينة أو قرية كبيرة، ويرجع "فون وزمن" زمان هذا الملك إلى أواخر القرن الرابع لما قبل الميلاد3.
ويتبين من النص المتقدم أن "قتبان" كانت في عهد هذا الملك قوية، فقد انتصرت كما رأينا على حضرموت و "امر"، وكانت تحكم "دتنت" "دتنه" و"كحد"، كما كانت تحكم أرضين أخرى غير قتبانية، ولولا القوة لانفصلت تلك الأرضين عنها4.
وقد عثر على عدد من الكتابات القتبانية ورد فيها اسم الملك "شهر بجل بن يدع أب". منها الكتابة التي وسمت بـ "Glaser 1602"، وهي أمر ملكي في كيفية جمع الجباية من "اربي عم ذلبخ"، أي من "طائفة معبد
__________
1 REP. EPIG., VII, P. 433, Freya Stark, in JRAS., 1939, P. 497.
2 KTB., S., 8, 47, Beitrage, S., 65.
3 Beitrage, S., 48, 65.
4 Beitrage, S., 65.(3/200)
الإله عم في أرض لبخ"، ويظهر من هذا المصطلح ومن مصطلحات مشابهة أخرى أن العرب الجنوبيين كانوا يؤلفون طوائف تنتمي إلى إله من الآلهة تتسمى به وتقيم حول معبده. ويعبر عن الطائفة بلفظة "اربي" وتقيم في الأرض تستغلها، وتسمي نفسها باسم الرب الذي تنتمي الطائفة إليه، ويجوز أنها كانت تتعاون فيما بينها في استغلال الأرض وفي تصريف الإنتاج لخير الطائفة بأسرها.
وتقدم الطائفة حقوق الحكومة إلى الجباة الذين يجبون تلك الحقوق، فيقدمونها إلى "الكبير"، أي نائب الملك المعين واليًا على المقاطعات ليقدمها إلى الملك.
وقد أصدر الملك "شهر يجل" أمره هذا، وأمر بتنفيذه، وذلك في معبد "عم ذلبخ" المشيد في موضع "بن غيلم" أي "في غيل"، وذلك في شهر "ذبشم" سنة "عم علي" كما يفهم من العبارة القتبانية: "ورخس ذبشم خرف عم علي"1.
وتتألف "الاربي"، أي طائفة "عم" إله معبد "ذلبخ" من أسر تجمع بينها صلة القربى، وكان لهم رؤساء يديرون شئون سماهم الملك، وهم: "معدي كرب" "معدي يكرب بن هيبر" و "دال" و "دايل بن رباح" "ربح" و "اخهيسمي" أي وأخوتهما2. وقد قصد الملك من ذكرهما في هذه الكتابة أنهما هما اللذان كانا يقومان بجمع الغلات ودفع ما على أتباعهما إلى خزانة الحكومة وإلى خزائن المعابد التي في أرض "لبخ" وفوض أمر استثمارها إلى هذه الطائفة.
وهناك كتابات أخرى تبحث في الموضوع نفسه، موضوع أرض "لبخ" وطائفة "عم" "اربي عم" القاطنة بها، وعباراتها هي عبارات النص المذكور إلا في أمور، إذ تختلف فيها، في مثل أسماء الأشخاص وتواريخ عقد تلك الاتفاقيات ومواضعه؛ لأنها عقدت في أوقات مختلفة مع أشخاص آخرين3.
__________
1 Giaser 1602, REP. EPIG. 3689, KTB., I, S., 57, Le Museon, LXIXI, 3-4, 1951, P. 268, Beltrage, S., 47.
2 الفقرة الثالثة من النص: Giaser 1602, REP. EPIG. 3689.
3 Giaser 1412, 1612, REP. EPIG. 3693, VI, II, P., 275, Giaser, 1395, 1604,
SE 81, 84, REP. EPIG. 3691, VI, II, P, 271, Conti Rossini, Chrest.,P. 89. KTB, I, S, 121.(3/201)
وتقدم النصوص المذكورة نماذج عن طرق كتابة العقود الرسمية بين الحكومة القتبانية والموظفين والجماعات في موضوع الالتزامات والعقود فلها أهمية خاصة لمن يريد دراسة أصول التشريع عند الجاهليين.
والعادة كتابة هذه الوثائق وإعلانها للناس بوضعها في محال بارزة، يتجمع عندها الملأ في العادة أو يمرون عليها، مثل المعابد أو أبواب المدن، فإنها من أكثر الأماكن التصاقًا بالأفراد والجماعات. وتؤرخ بالتواريخ المستعملة في أوقات عقد العهود، ليعمل بتلك الأوامر وفي الأوقات المثبتة في الكتابات.
ولدينا نص أمر ملكي أصدره الملك إلى القتبانيين أحرارهم وعبيدهم، رجالهم ونسائهم وإلى كل المولودين في مدينة "تمنع" في كيفية دفعهم "العصم" أي الضرائب. وقد صدر هذا الأمر وأعلن للناس في "ورخم ذبرم اخرن ذ ذران"، أي في "شهر برم الثاني من السنة الأولى من سني من آل ذرأن" وقد سقط من الكتابة اسم الرجل الذي أرخت الكتابة به1.
ويرى "البرايت" أن "شهر يجل"، هذا كان قد حكم في حوالي سنة "300 ق. م" وأنه تغلب على المعينيين فحكمهم2.
وعثر على أمر ملكي أصدره الملك "شهر هلل يهنعم بن يدع اب"3 في كيفية جباية "اربي عم لبخ"، وهو أمر يشبه الأمر الملكي الذي صدر من الملك "شهر يجل بن يدع اب" السابق، وقد ذكر الملك أنه أصدر أمره هذا تنفيذًا لمشيئة معبد "حطبم" "حطب" المخصص بعبادة "عم ذ دونم" "عم ذو دونم"، ومعبد "رصفم" "رصف" "رصاف" معبد الإله "انبي" ولوحي الآلهة "شمس" و "الهلال" "ربع شمس" وذكر أسماء وكلاء الطائفة وممثليها: طائفة "عم ذي لبخ" "اربي عم ذلبخ" في "ذي غيل".
وقد نشر الأمر وأعلن على باب "شدو" من أبواب مدينة "تمنع"، وذلك في شهر "ذي تمنع" وفي السنة الثانية من سني "شهر" من عشيرة "يجر"4.
__________
1 REP. EPIG. VI, P., 334, Glaser, 1393, 1609, SE 80 A.
2 The Chronology, P. 8, Beitrage, S., 47.
3 Glaser 1395, 1604, SE 84, REP. EPIG 3691, Ktb. I, S. 121, II, S. 103, Conti
Rossini, Chrest., P. 89.
4 الفقرة الثامنة من النص: Glaser 1395, 1604, SE 84, REP. EPIG. 3691(3/202)
ويرى ألبرايت أن هذا الملك كان شقيقًا للملك "شهر يجل"، وأنه كان تابعًا لحكومة معين1. وقد حمله على هذا الرأي اشتراك اسم الأب، وأنا مع عدم معارضتي لهذا الرأي لا أرى أن اشتراك اسم الأب يمكن أن يكون دليلًا على أن شخصين أو أكثر هم إخوة، فإن أسماء الملوك في العربية الجنوبية متشابهة وتتكرر، والذي يفرق بينها هو اللقب أو الألقاب، بل إننا حتى في هذه الحالة نجد الألقاب تتكرر أيضًا، وهي وإن بدت وكأنها اسم شخص واحد، إلا أنها في الحقيقة لجملة أشخاص، وقد عبر المحدثون عن ذلك بالترقيم، فقالوا فلان الأول، وفلان الثاني، وفلان الثالث، وهكذا، وذلك، كناية عن الاشتراك في الاسم وفي اسم الأب وفي الألقاب، ويقع ذلك عند أمم أخرى أيضًا: وقع ذلك في القديم، ووقع في الأيام الحديثة حتى اليوم، ونحن لجهلنا تواريخ ارتقاء الملوك العروش، ولعدم تيقننا من تقدم بعضهم على بعض، لا نستطيع لذلك ترقيم الملوك بحسب التقدم في الحكم بصورة يقينية فليس، لنا إذن إلا التربص للمستقبل فلعل الأيام تقدم إلينا مفاتيح نفتح بها الملفات في تواريخ العرب قبل الإسلام.
وعندنا وثيقة أخرى من الوثائق الخاصة بـ "اربي عم" في "لبخ"، من أيام الملك "شهر هلل" "شهر هلال". وهي أيضًا أمر ملكي أصدره الملك في كيفية جباية الضرائب من هذه المنطقة، وقد أمر بوضع هذا الأمر وتعليقه عند باب "ذي شدو" من أبواب مدينة "تمنع"، وذلك في شهر "ذو أبهى" في السنة الثانية من سني "عم شبم" من "آل يجر"2.
وقد مر ذكر "آل يجر" في نص سابق، حيث أرخ أيضًا برجل منها، مما يدل على أنها كانت من الأسر المعروفة المشهورة في قتبان.
والوثيقة كما نرى هي في الموضوع السابق نفسه، موضوع جباية الضرائب من طائفة "عم" النازلين بوادي "لبخ" ولذلك لا تختلف في أسلوبها وفي الألفاظ والمصطلحات القانونية الواردة فيها عن ألفاظ ومصطلحات الوثائق السابقة. ولكنها تختلف عنها في أنها لم تذكر اسم والد "شهر هلال" ولذلك تعذر
__________
1 The Chronology, P. 8
2 Glaser 1613, 1613 + 1418, SE 82, REP. EPIG. 3693, KTB.,I, S, 132, II, a, 103(3/203)
علينا تعيين هذا الملك وغدا صعبًا علينا تثبيت نسبه بالنسبة إلى الملوك المذكورين.
وقد ترك "ألبرايت" فراغًا بعد اسم "شهر هلال يهنعم" وضع بعده اسم "يدع اب ذبيان يهركب"، غير أنه بين أنه غير متأكد من أن موضعه في هذا المكان، وأنه وضعه علي سبيل الظن، وذلك اعتمادًا على خط الكتابة التي ورد فيها اسمه والتي يناسب أسلوبها أسلوب كتابات هذا الوقت1.
ثم عاد "ألبرايت" فترك فراغًا بعد هذا الاسم، لا يدري من حكم فيه، ثم ذكر بعده اسم "فرع كرب"، ولم يذكر أي لقب له، ثم ذكر من بعده اسم "يدع اب غيلان" وهو ابنه وفي عهده بني "بيت يفش" الشهير الذي ورد اسمه في عدد من الكتابات القتبانية، ويرى "ألبرايت" أن ذلك كان في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد2.
وقد حصلت "البعثة الأمريكية" التي نقبت في خرائب مدينة "تمنع"، على كتابة تتعلق ببيت "يفش"، وباسم الملك "يدع اب غيلان بن فرع كرب"3 وصاحب هذه الكتابة رجل اسمه "هوفعم بن ثونب"، ذكر فيها أنه اشترى وتملك ورمم البيت المسمى "يفش" وأجرى فيه تعميرات كثيرة وفي القسم الخاص منه باستقبال الضيوف "مزود هو"، أي المحل الذي يجلس فيه الزائرون، فهو نادي ذلك البيت4، وكذلك في القسم المسقوف منه، أي القسم الخاص بالمسكن إلى أعلى البناء. وبهذه المناسبة تيمن صاحب البيت بذكر أسماء آلهته: "ابني" و "التعلي" و"عم" و "عثتر" و "ذات صنتم" و "ذات ضهران"، ثم تيمن بذكر الملك الذي تم العمل في أيامه، وهو الملك "يدع اب غيلان بن فرع كرب" ملك قتبان.
وعثر على كتابة ورد فيها اسم "يدع أب غيلان" "يدع أب غيلن". عثر عليها عند الجدار الشمالي "لحصن الخضيري" الواقع على مسافة "كيلومتر" إلى الشرق من "جبل أوراد". وقد جاء فيها أن الملك أجرى ترميمات في
__________
1 The Chronology, P. 9
2 The Chronology, P. 9
3 "يدع اب غيلن بن فرع كرب" "يدع اب غيلان بن فر عكرب".
4 Jamme 118, Archaeological Discoveries in South Arabia, John Hopkins Press, Baltimore, 1958, P. 186(3/204)
مدينته "ذ غلين" "ذو غيلان"1.
وكانت مدينة "ذغيلم" "غيلن" "غيلان" من المدن التي أنشئت في عهد الملك "يدع اب غيلان" بناها على رأي بعض الباحثين في حوالي القرن الثاني قبل الميلاد وذلك عند معبد "عم ذي لبخ" الشهير الكائن في موضع "ذغيلم"، أو أنها كانت موجودة ولكنه جدد بناءها فعرفت بـ "ذغيلان"، ولذلك فإن اسمها في الكتابات هو "ذغيلم" و "ذ غيلن" و "ذغيلان"، وقد اشتهرت بمعبدها المذكور2.
وترك "ألبرايت" فراغًا بعد اسم "يدع غيلان"، يعنى أنه لا يدري من حكم في خلاله، ثم ذكر اسم "هوف عم يهنعم" "هو فعم يهنعم" بعده، وقد حكم -على تقديره- في حوالي السنة "150 ق. م." ثم ذكر من بعده اسم ابنه "شهر يجل يهركب"3.
ولدينا كتابة رقمت برقم "REP. EPIG 4335" وقد ذكر اسم "شهر يجل يهرجب بن هوفعم"4. وقد دونت هذه الكتابة عند اشتراك "شوشن" و "حمرم"، ابني "عم كرب"5 في بناء "محفد" لهما اسمه "غيلن"6 في أرضهم "طوب" "طوبم"، وتيمنًا وتبركًا بذلك ذكرا أسماء آلهة قتبان واسم الملك المذكور7.
وعثر على كتابة أخرى. فهم منها أنه في عهد الملك "شهر يجل يهرجب"، جدد بناء الباب الجنوبي لمدينة "تمنع"، وجدد بناء بيت "يفش" ويرجع "ألبرايت" أيام هذا الملك إلى ما بعد سنة "150 ق. م." بقليل. ويستند في تقديره هذا إلى تمثالي أسدين عثر عليهما في خرائب مدينة "تمنع"، وقد وجدت
__________
1 BOASOOR, mJM. 120, 1950, P. 27
2 Beitrage, S., 47, Le Museon, 1964, 3-4, P. 464, A. Jamme, A New Chronology of the Qatabanian ingdom, in BOASOOR, NUM. 120, 1950, P. 26, Sabaen Inscriptions, P. 297
3 The Chronology, P. 9
4 "شهر يكل يهركب بن هوفعم" يلفظ حرف "الجيم" بالكيمل على الطريقة المصريةِ.
5 "عمكرب".
6 "غيلان"، "غلين".
7 REP. EPIG 4335"(3/205)
عند قاعدتهما كتابات قتبانية، ورد فيها اسم المعمار "ثويم"1 "ثويب"، وقد سبق أن عثر على كتابة ورد فيها اسم هذا المعمار وقد كتبت في عهد الملك "شهر يجل يهرجب"، ومن اشتراك الاسمين استنتج "ألبرايت" أن التمثالين هما من عهد هذا الملك، ويرى "ألبرايت" أيضًا أن هذين التمثالين صنعا على نمط صناعة التماثيل عند اليونان، ولا يرتقي عهد صناعتهما إلى أكثر من القرن الثاني قبل الميلاد، لذلك لا يمكن في نظره أن يرتقي عهد هذا الملك إلى أكثر من "150" سنة قبل الميلاد2.
ويظهر من الكتابة "jamme 119" أن "ثويم بن يشرح عم"3 و"صبحم"4 و "هوفعم"، وهم من آل "مهصنعم"5 اشتروا ونقلوا اسم البيت باسمهم، أي سجلوه باسمهم، وسجلوا كل ما يتعلق به من أبنية ومسقفات في الطابق الأرضي وفي الأعلى وذلك وفقًا لشريعة الإله "انبي". وتيمنًا بهذه المناسبة سجلوا شكرهم للآلهة "عثتر" و "عم" و "انبي" و "ورفو ذلفن" و"ذات صنتم" و "ذات ضهران"، وكانت تلك المناسبة في أيام الملك
"شهر يجل يهرجب بن هوفعم يهنعم"، وفي عهد "فرع كرب" من أسرة "ذرحن" ونائب الملك "شهر"6.
وقد استنتج بعض الباحثين من هذا النص أن "هو فعم" والد "شهر يجل يهرجب" كان شقيقًا لـ"فرع كرب" الذي كان نائبًا عن الملك أو حاكمًا يوم دون هذا النص. وقد كان من أسرة أو قبيلة "ذرحان". وقد كان له ابن هو الملك: "يدع اب غيلان"7.
ويلاحظ أن هذه الأسماء تنطبق على الأكثر على مجموعة ملوك ذكرها "ألبرايت" في بحث له بعد اسم "شهر هلال يهنعم" وقبل "يدع أب ينف"8. وسيأتي
__________
1 "ثوبم" "ثوب" "ثوأب" "ثويبم"، "ثويب".
2 BOASOOR, NUM. 119, 1950, P. 9, The chronology, P. 9.
3 "ثوبيم بن يشرح عم" "ثويبم بن يشرحعم" "ثويب بن يشرحعم".
4 "صبح"، "صباح".
5 "مهصنع".
6 Jamme 119, Discoveries, P. 188
7 Discoveries, P. 188
8 The Chronology, P. 8(3/206)
الكلام عنها فيما بعد. غير أن الزمان الذي قدره لحكم هذه المجموعة متأخر عن الزمان المذكور.
وقد وردت في نص من النصوص المعينية عبارة مهمة جدًّا لها علاقة بقتبان، وبشخص ملكها "شهر يجل يهرجب"، وبالحالة السياسية التي كانت في حكومة معين. ورد فيها ما ترجمته: "في يوم سيده وقه آل يثع وابنه اليفع يشر ملك معين. وبسيده شهر يجل يهرجب ملك قتبان"1. وقد ذكر "هومل" أن كلمة "مراسم" في السطر الرابع من النص قد يمكن قراءتها "مرأس"، ولو قرئت على هذه الصورة لكانت تعني أن "شهر يجل يهرجب" كان رئيسًا على ملك "معين" وابنه، وهذا يعني أن حكومة معين كانت خاضعة لحكومة قتبان في هذا العهد2. ويرى "فلبي" أن ذلك كان حوالي سنة "820 ق. م." وأن حكم "شهر يجل يهرجب" كان على رأيه أيضًا من سنة "825- 800 ق. م." وفي هذا العهد لم تكن "سبأ" قد كونت حكومتها بعد، ومن المحتمل أن قبائلها كانت يومئذ كما يرى "فلبي" متحالفة مع قتبان3.
ويرى "رودوكناكس" أن نص "504 Halevy" يشير إلى أحد أمرين:
تحالف بين معين وقتبان كان في عهد الملك "شهر يجل يهرجب" أو أن حكومة معين كانت حقًّا خاضعة لسيادة قتبان4. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن حكم "شهر يجل يهرجب"5، كان في القرن الأول قبل الميلاد. وفي حوالي السنة "75 ق. م." وبناء على ذلك يكون خضوع معين المذكور في النص في هذا الزمن ويكون "اليفع يشر" الذي نعتوه بالثاني من هذا العهد أيضًا. ويرون أيضًا أن استيلاء "قتبان" على معين لم يدم طويلًا؛ لأن السبئيين سرعان ما
__________
1 Glaser 1087, Galeby 504
هذا النص هو من "براقش" وهناك بعض مواضع فيه لا تزال غامضة "ملكي معن" ملكي معين
Weber, Studien, I, S. 60. "بيومه مراسم ... وب مراس شهر يجل يهرجب، ملك قتبن" REP. EPIG. 2999
2 Hommel, Chrest. S. 95, Handbuch, I, S, 18, 71
3 Background, P. 56, REP. EPIG 2999, Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 233
4 KTB, I, S, 36, II, S, 7
5 شهر يكل يهركب" حرف "الجيم" عند أهل اليمن على نحو نطق المصريين في الزمن الحاضر بحرف الجيم". Le Museon, 1964, 3-4, P. 446(3/207)
أخذو زمام الأمور بأيديهم، فاستولوا على معين. ثم إن الحميريين استولوا على الأرضين الجنوبية لقتبان الممتدة إلى البحر فأضعفوا قتبان، حتى عجزت عن الهيمنة على المعينيين.
ولم يؤثر اعتراف "معين" بسيادة ملوك "قتبان" عليها في استقلالها الذاتي، إذ بقي ملوكها يحكمونها كما يظهر ذلك من الكتابة المذكورة: "Halevy 504 ومن كتابات أخرى. وقد جاء في كتابة "معينية" أمر بتدوينها الملك "اليفع يشر" ملك "معين" في عاصمته "قرنو"، ذكر كاهنين من "كهلان" "كهلن" من قتبان، حضرا حفلة تتويجه، وربما يستشف من ذكر هذين الكاهنين الإشارة إلى الروابط السياسية التي كانت بين معين وقتبان، وأن حكومة "قرنو" كانت خاضعة لسيادة "قتبان" دون أن يؤثر ذلك في استقلالها الذاتي الذي كانت تتمتع به1، أو أنها كانت قد تحالفت مع قتبان، أو كونت اتحادًا دون أن يؤثر ذلك في الملكية في معين أو قتبان.
ولدينا نص مهم طويل، هو قانون أصدره "شهر يجل يهرجب" باسمه وباسم شعب "قتبان"، لقبائل قتبان، في كيفية الاستفادة من الأرضين واستثمارها وقد صدر هذا القانون بعد موافقة الملك عليه في اليوم التاسع، وهو يوم ذو "اجيبو" "ذاجيبو" من شهر "ذي تمنع" من السنة الأولى من سني "عم علي" من "آل رشم" من عشيرة "قفعن"2. ويظهر أن رؤساء القبائل وأعيان المملكة قد عقدوا اجتماعات عديدة، وتداولوا الرأي في استثمار الأرض وقسمتها على القبائل والعشائر والفلاحين، وبعد أن اتفقوا على الأسس رفعوها إلى الملك فأصدره أمره بإقرارها، كما أقرها الكهان، وكانت لمعابدهم أوقاف جسيمة يستغلها الفلاحون، فلا بد أن يكون لهم رأي مهم من صدور أمثال هذه القوانين.
وذكرت في نهاية القانون طائفة من الأسماء كتبت بعد جملة "ايد هو" تعني أن هؤلاء الذين سترد أسماؤهم قد قرءوا القانون. وقد شهدوا على صحة
__________
1 Background, P. 56
2 REP. EPIG., VI, I, P. 218, Glaser 2566, Grundriss, S., 33
Glaser, Alt. Jam. Nachr., S., 162(3/208)
صدوره من الملك فوقعوا بأيديهم عليه. وأنهم موافقون على كل ما جاء فيه. وهم يمثلون بالطبع رؤساء القبائل وأعيان العاصمة والمملكة، وقد ذكرت مع أسمائهم أسماء الأسر والعشائر التي ينتمون إليها. فكانت لهذه الأسماء فائدة عظيمة في دراسة القبائل والأسر التي عاشت قبل الإسلام.
وقد وردت في النص كلمة "فقد" وكلمة "بتل"، ويظهر منه أن لهاتين الكلمتين دلالة على معنى مجالس استشارية، أو ما شابه ذلك، كانت تمثل رأي طبقات من الناس، مثل سادات القبائل أو أمثالهم من أصحاب الجاه والسلطان.
فقد وردتا في النص بمعنى تقديم رأي إلى الملك للموافقة عليه. وذلك في شهر "ذوبرم" وفي السنة الثانية من سني "اشبن" من عشيرة "حضرن" "حضران" من قبيلة شهر1.
وإلى عهد الملك "شهر يجل يهرجب" تعود الكتابة التي دونها "عقريم بن ثويبم" "عقرب ثويب" من "آل مهصنعم" من عشيرة "صويعم" وذلك لمناسبة بنائه محلًّا "خطبس"، وذلك بحق الإله "انبي" وقد تيمن بهذه المناسبة بذكر الآلهة "عثتر" و "عم" و "ورفو" و "ذات صنتم" و "ذات ضهران" وكان في عهد الملك المذكور2.
وإلى عهده أيضًا تعود الكتابة التي وسمت بـ "jamme874" وهي كتابة قصيرة ورد فيها أن "شهر يجل يهرجب ملك قتبان" وضع أو قدم3. ولم تذكر الكتابة شيئًا بعد ذلك.
وقد عثر على كتابة في "وسطى" ورد فيها اسم "شهل يجل يهرجب بن هوفعم يهنعم"، وقد لقب فيها "مكرب"، مع أنه من الملوك وقد لقب في جميع الكتابات بلقب "ملك". وقد حكم بعد "يدع اب ذبيان بن شهر" الذي ترك لقب "مكرب" واستعمل لقب "ملك" بزمن4. واستعمال كلمة
__________
1 REP. EPIG-, VI, I, P. 212, Glaser, Altj. Nach., S., 162
Conti Rossini, Chrest., P. 90
2 Discoveries, P. 191
3 BOASOOR, NUM. 138, (1955) , P. 46
4 A. F- L. Beeston, Epigraphlc and Archaeoligical Cleanings from South Arabia, Oriens Antlquus, I, 1962, P. 51, Le Museon, 1964, 3-4, P. 434(3/209)
"مكرب" في هذه الكتابة يلفت النظر، إذ كانت الكتابات قد تركتها منذ زمن "يدع اب" فهل نحن إذن أمام ملك آخر اسمه نفس اسم "شهر يكل" "شهر يجل" واسم والده كاسم والد هذا الملك. وقد كان مكربًا، فيجب علينا إدخاله إذن في جملة المكربين، ونقله من هذا الموضع؟ أو هل نحن أمام خطأ وقع فيه كاتب الكتابة، إذ استعجل فكتب كلمة "مكرب" موضع لفظة "ملك"؟ أو هل نحن أمام مصطلح فقط، يبين لنا أن الحكام وإن كانوا قد تركوا لقب "مكرب"، إلا أن الناس كانوا يطلقونها عليهم فيما بينهم على اعتبار أن لهم مقامًا دينيًّا عندهم، وأنها لا تنافي الملكية، تمامًا على نحو ما يفعل اليمانيون من إطلاقهم لفظة "إمام اليمن" و "ملك اليمن" على حكامهم وذلك لجمعهم بين الصفة الدينية والصفة الملكية في آن واحد؟.
لقد تمكنا بفضل الكتابات المتقدمة من الوقوف على أسماء مجموعة من الملوك تنتمي إلى عائلة واحدة أول ملك منها هو "هوفعم يهنعم" غير أننا لا نعرف حتى الآن اسم والده، وكان له شقيق اسمه "فرع كرب" "فرعكرب" نسب نفسه إلى "ذرحان" "ذرحن"، فنحن نستطيع أن نقول أن هذه العائلة كانت من "ذرحان"، وذلك في حالة ما إذا كان "هوفعم" و "فرعكرب" شقيقين تمامًا أي من أب واحد وأم واحدة، وكان لـ "هوفعم" ولد تولى الملك من بعد والده هو "شهر يجل يهرجب"، وقد أنجب "شهر يجل يهرجب" من الولد "وروايل غيلان"، وقد تولى الملك، و "فرع كرب يهوضع" وقد ولي الملك كذلك.
وأما "فرع كرب" شقيق "هوفعم يهنعم" فقد كان له من الولد "يدع اب غيلان"، رأى جامه "jamme": أنه "يدع اب غيلان" المذكور في نص "هوفعم بن ثويبم" jamme118 صاحب بيت "يفش"1. ولكننا لو أخذنا برأيه هذا لزم حينئذ وضع اسم "فرع كرب" بعد اسم ابن أخيه "شهر يجل يهرجب" ووضع اسم ابن "فرع كرب" بعده، بينما تدل الدلائل على أن حكم "فرع كرب" كان قبل "هوفعم يهنعم" وأن ابنه "يدع اب غيلان" كان من بعده، ومعنى هذا أنهما حكما قبل "شهر يجل يهرجب".
__________
1 Discoveries p 186 192(3/210)
وقد جعل نص "118 jamme "فرع كرب" وصيًّا على "شهر يجل" أو حاكمًا ولم يجعله ملكًا. ولذلك أرى أن في رأي "جامه" "jamme" تسرع يجعل من الصعب قبوله على هذا النحو.
وكان للملك "شهر يجل يهرجب" ولد تولى الملك من بعده، اسمه: "وروال غيلن يهنعم" "وروايل غيلان يهنعم"، ويرى "ألبرايت" "أن من المحتمل أن يكون هو "وروايل غيلن" "ورو ايل غيلان" الذي وجد اسمه منقوشًا على نقود ذهب عثر عليها مضروبة في مدينة "حريب"1.
وقد وصل إلينا نص يفيد أن الملك "وروال غيلن يهنعم"، أمر وساعد قبيلة "ذو هربت"2 الساكنة في مدينة "شوم" ببناء حصن "يخضر" "يخضور" الواقع أمام سور مدينة "هربت"، وكان قد تداعى فتساقط. وقد نفذت هذه القبيلة ما أمرت به في أيام هذا الملك، وجعلت العمل قربى إلى الآلهة "عم ذو ذ ريمتم" "عم ذو ريمة" و "ذت رحبن" "ذات رحبان" و "الهن بيتن روين" أي و "آلهة بيت روين"3.
وبين أيدي العلماء كتابة دونت في عهد الملك "وروايل غيلان يهنعم" "وروايل غيلان يهنعم" صاحبتها امرأة اسمها "برت" "برات" "برة" "برأت" من "بيت رثد ايل" "رثدال" من عشيرة "شحز"، وقد ذكرت فيها أنها قدمت إلى "ذات حميم عثتر يغل"، تقربة هي، تمثال من الذهب يمثل امرأة تقربًا إلى الآلهة، وذلك لحفظها ولحفظ أملاكها، ووفيًا لما في ذمتها تجاه الإله "عم ذربحو"، ويظهر أنها كانت كاهنة "رشوت" "رشوة" لمعبد الإله "عم" الكائن في "ريمت"، وكان ذلك في عهد الملك "وروايل غيلان يهنعم"4. فنحن في هذا النص أمام امرأة كاهنة مما يدل على أن النساء في العربية الجنوبية كن يصلن درجة "كاهنة" في ذلك العهد.
__________
1 BOASOOR, NUM. 119, 1950, P. 12, The Chronology, P. 9
2 REP. EPIG. 4329, VII, II, P. 194, VI, II, P. 259, Le Museon, 1-2, 1951, P. 113
3 REP. EPG. 4329, VII, II, P. 194, VI, II, P. 259, Le Museon, 1-2, 1951, P. 113, SE 96
4 Discoveries, P. 191(3/211)
وكان للملك "وروال غيلن يهنعم" شقيق اسمه "فرع كرب يهوضع" "فرع عكرب يهوضع"، لا نعرف من أمره شيئًا يستحق الذكر، وقد ورد اسمه في النص المعروف بـ "Glasser 1415" وهو نص سجله رجل عند بنائه بيتًا له، وجعله في حماية آلهة قتبان، وذكر لذلك اسم الملكين: "ورال غيلن يهنعم" واسم شقيقه "فرع كرب يهوضع"، "ابنا شهر"1 ولم يذكر في هذا النص لقب "شهر".
وورد اسم ملك آخر من ملوك قتبان في كتابة رقمت برقم ERP. EPIG 3926" وقد دونت هذه الكتابة عند بناء رجل من قتبان اسمه "برم"2 حصنًا له، وإصلاحه أٍرضين زراعية ذات أشجار كثيرة مثمرة فسجل على عادة أهل زمانه أسماء آلهته فيها تيمنًا بذكر اسمها وتقربًا إليها، لتغدق عليه الخير والبركة. كما ذكر اسم الملك الذي تم هذا العمل في أيامه، وهو الملك: "يدع أب ينف يهنعم" "يدع اب ينوف يهنعم"3.
ولا نعرف من أمر هذا الملك شيئًا يذكر، لعدم ورود اسمه في نصوص أخرى، وقد وجدت نقود من ذهب ضربت في "حريب" حملت اسم ملك قد ضربها سمي "يدع اب ينف" "يدع اب ينوف"4، فلعله هذه الملك المذكور في هذه الكتابة، ولا نعرف بالطبع وقت حكمه، ولا موضع مكانه بين ملوك قتبان.
وورد في كتابة قتبانية عثر عليها في "كحلان" اسم ملك سمي "شهر هلل ابن ذراكرب" "شهر هلال بن ذرأ كرب"، ولم يذكر فيها لقبه. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "شهرا" هذا، هو الملك السابق "شهر هلل يهقبض" "شهر هلال يهقبض"، وأن أباه هو "ذرأكرب" لذلك. وقد وضعه "ألبرايت" في خاتمة قائمته لملوك قتبان. وقد افتتحت الكتابة المذكورة بما يأتي: "قانون أصدره وأمر به شهر هلال بن ذرأ كرب ملك قتبان لشعب
__________
1 Glaser 1415, SE 95, REP. EPIG. 3965, VH, I, P. 20
2 "برم"، "بارم"، "بريم".
3 REP. EPIG. 3962, VH, I, P. 17, SE 93
4 BOASOOR, NUM 119, 1950, P. 9, The Chronology, P. 9(3/212)
قتبان وذي علشن ومعين وذي عثتم أصحاب أٍرض شدو"1. وقد نظم هذا القانون واجبات هذه الشعوب الأربعة في كيفية استغلال الأرض. وعين الأعمال المترتبة عليها، وأنذر المخالفين بفرض العقوبات عليهم. وأشار إلى الموظف الذي خول حق تنفيذ ما جاء فيه.
وقد أمر الملك بإعلان أمره ونشره على باب "شدو" "زدو" كما يظهر ذلك من هذه العبارة: "ول يفتح هج ذن ذمحرن بخو خلفن ذ شدو ورخس ذعم خرف اب علي بن شحز قد من"2. أي "وليفتح هذا الأمر، أي يعلن على طريق باب ذ شدو في شهر ذوعم من السنة الأولى من سني أب علي بن شحز أو من قبيلة شحز"، أو من آل شحز. وجاءت بعد هذه الفقرة جملة: "وتعلماي يد شهر" أي وقد علمته، أي وقعته يد شهر، بمعنى وقد وقعه شهر بنفسه، وقد خول الملك "كبر تمنع" أي "كبير مدينة تمنع" العاصمة بتنفيذ ما جاء في هذا الأمر الملكي3.
وقد حدد هذا الأمر الوقت الذي يجب فيه على المزارعين تنفيذ التزاماتهم فيه، فذكر أنه من أول شهر "ذو فرعم" "ذو فرع" إلى السادس من "ذي فقهو"، يحب دفع الضرائب يومًا فيومًا وشهرًا فشهرًا، ويرى "رودوكناكس" أن شهر "ذو فرعم" هو الشهر الأول من السنة عند زراع قتبان، وأن شهر "ذو فقهو" هو الشهر الأخير من السنة. وعلى هذا التقويم الذي يستند إلى الزراعة والبذر والحصاد كانت تدفع الضرائب4.
ويظهر من ذكر أسماء هذه الشعوب "اشعبن" الأربعة في هذا القانون، أنها كانت تحت حكم هذا الملك، وأن قسمًا من شعب معين بل ربما كل شعب معين كان يخضع له، ويرى "رودوكناكس" أن في هذه الكتابة دلالة على
__________
1 "حلكم سحر وحرج شهر هلل بن ذراكرب ملك قتبن شعب قتبن وذ علشن ومعنم وذ عثتم ابعل صروب عدو شدو...." وذلك في كتاب KTB , II S 5 و "هنكم سهر وهرن شهر هلل بن ذراكرب ملك قتبن شعبن قتبن وذ علشن ومعنم وذ عثتم ابعل ضروب عدو شدو" وذلك في كتاب:
Rep. EPIG., VI, II, P. 316 1854
2 الفقرة الأخيرة من النص
3 الفقرة السادسة من النص
4 KTB., I, S., 82, II, S., 19(3/213)
أن شعب معين كان تابعًا لحكومة قتبان في عهد هذا الملك، كما كان تابعًا لقتبان في أيام الملك "شهر يجل يهرجب"، ولكن ذلك لا يعنى في نظره أن شعب "معين" كان قد فقد استقلاله، ولم يكن عنده ملوك، وعنده أن هذا النص قد أقدم عهدًا من النص المرقم برقم504 Halevy، وهو النص الذي ورد فيه اسم "شهر يجل يهرجب" على أنه كان صاحب سلطان على حكومة معين.
فـ "شهر هلل بن ذرأ كرب" في نظر "رودوكناكس" أقدم عهدًا من "شهر يجل يهرجب"، وقد حكم إذن قبله1.
وعندي أن هذه الكتابة تدل على أن من المعقول وجوب تقديم هذا الملك ونقله من المكان الذي وضعه فيه "ألبرايت" إلى مكان آخر يقدمه في الزمان. فقد وضعه "ألبرايت" في آخر قائمة ملوك قتبان، وبه ختم حكومة قتبان وأشار إلى نزول الدمار بالعاصمة بعده وبسقوط حكومة قتبان وإن ملكًا يحكم قتبان ومعين أو قسمًا من معين كما يفترض بعض الباحثين، لا يمكن أن يكون آخر ملك لملوك قتبان للسبب المذكور، بل لا بد من تقديمه بعض الشيء، فإن سقوط المملكة دليل على ضعفها وانهيار بنيانها وليس في هذه الكتابة أثر ما يشير إلى هذا الضعف أو الانهيار.
وعثر على كتابة تحمل اسم ملك يسمى "شهر هلل يقبض" عثر عليها في بيت عرف بـ "يفعم"، يقع غرب الباب الجنوبي لمدينة "تمنع". ويرى "ألبرايت" أن خط هذه الكتابة خط متأخر كسائر الخطوط المكتوبة على الأبنية وأن المحتمل أن يكون هذا البيت قد بني قبل خراب "تمنع"، بنحو عشر سنين أو عشرين سنة، ولا يزيد عمر هذا البيت في رأيه على هذا الذي قدره بكثير2.
ويرى "ألبرايت" احتمال أن "شهر هلل" "شهر هلال" الذي وجد اسمه على سكة من ذهب ضربت في مدينة "حريب"، هو هذا الملك، أي "شهر هلل يهقبض" شهر هلال يهقبض"3. ويرى "فون وزمن" أن حكم الملك "شهر هلل يهقبض" "شهر هلال يهقبض" كان فيما بين السنة "90" والسنة
__________
1 KTB, I, S, 34, II, S, 7
2 BOASOOR, NUM. 119, 1950, P. 13
3 The Chronology, P. 9(3/214)
"100" بعد الميلاد1. وفي عهده أو فيما بين السنة "100" والسنة "106" وقع خراب "تمنع" عاصمة قتبان2.
وقد عثر على حجر مكتوب في موضع "هجر بن حميد"، جاء فيه اسم ملك يدعى "نبط بن شهر هلال"، ومعه اسم ابن له هو "مرثد"، وقد ذهب "ألبرايت" إلى أنه من الملوك الذين حكموا في "حريب" والأرضين المتصلة في المناطق الغربية من "قتبان"، وذلك بعد سقوط مدينة "تمنع" فيما بين سنة "25 ق. م." والسنة الأولى من الميلاد3، فهو على رأيه من الملوك المتأخرين الذين تعود أيام حكمهم إلى أواخر أيام هذه المملكة.
والملك المذكور هو "نبط عم يهنعم بن شهر هلل يهقبض"، فهو إذن ابن الملك "شهر هلال يهقبض" الذي يعد آخر الملوك المتأخرين. ويظهر أن: "نبط عم" وابنه "مرثدم" "مرثد" كانا في جملة الملوك الذين انتقلوا إلى "حرب" "حريب" بعد خراب "تمنع" فاتخذوها عاصمة لهم، فهي العاصمة الثانية لقتبان. وقد سكنوا في قصرهم بـ "حريب". ولعل هذا الاسم هو اسم القصر. أما اسم المدينة، فقد كان غير ذلك، تمامًا كما كان قصر ملوك سبأ الذي هو بمدينة "مأرب" يسمى "سلحين" وقصر ملوك حمير الذي هو بمدينة "ظفار" يسمى "ريدان"، ولعل هذا هو السبب الذي جعل ضاربو النقود القتبانية يذكرون أن موضع الضرب هو "حريب"4. غير أن هذا لا يمنع من أن يكون اسم "حريب" اسم للمدينة ولقصر الملوك في آن واحد.
ويرى "فون وزمن" أن الكتابة بـ "jamme 629" والتي تتحدث عن حرب اشتركت فيها جملة جهات، هي حرب وقعت في عهد هذا الملك:
"نبط عم"، وقد ورد فيها أن حربًا وقعت على مقربة من "وعلان"، وأن أصحاب الكتابة وهم: "مرثدم" "مرثد" و "ذرحان" من "بني ذو جرفم" بني "ذي كرفم" "كراف"، وكان أحدهم قائدًا في جيش "الملك سعد
__________
1 Le Mus6on, 1964, 3-4, P. 465
2 Le Museon, 1964, 3-4, P. 498
3 W. Phillips, P. 221, Le Museon, 1964, 3-4, P. 464, Beeston, Epigraphic, in Oriens Antiqus, I, 1962, P. 47, Albright, In Jour. Amerl. Soc, 73, 1953, 37
4 Le Museon, 1964, 3-4, P. 464(3/215)
شمس أسرع" و "مرثدم يهحمد" ملكا "جرات" "جرت" "جرأت" "كرأت" قد اشتركتا في هذه الحرب ضد الملك "يدع ايل" ملك حضرموت وجيش حضرموت، وضد الملك "نبطم" "ن ب ط م" ملك قتبان، وضد "وهب ايل بن معاهر" و "ذي خولان" و "ذي خصبح" وضد "مذحيم" "مذحي"، وقد كان النصر لهم، أي لأهل الكتابة1.
وقد استدل "فون وزمن" من عدم ورود كلمة: "هجرن" "هكرن"، التي تعني مدينة في العربيات الجنوبية قبل اسم "تمنع"، "عدي خلف تمنع" على أن "تمنع" لم تكن عاصمة في هذا الوقت، بل كانت موضعًا صغيرًا أو اسم أرض حسب2.
ولا يستبعد أن تكون هذه الحرب قد وقعت في أواخر أيام "نبط عم".
ويرى "فون وزمن" أن "نبط عم" وإن كان قد لقب في الكتابة بلقب "ملك" إلا أنه كان في الواقع خاضعًا لحكم حكومة حضرموت3. وقد جعل "فون وزمن" زمان حكمه في حوالي السنة "120 م" وجعل نهاية حكم ابنه في حوالي السنة "140" بعد الميلاد. ومعنى ذلك أن الحرب المذكورة قد وقعت في خلال هذه السنين4.
وبعد انتهاء هذه الحرب اجتمع صاحبا الكتابة وهما من "بني ذي كرفم" "بن ذ جرفم" وكانا يقيمان في "صنعو" أي صنعاء, وكذلك ملكا "جرات" "كرأت" و"سعد شمس" و "مرثدم" وجماعة من سادات القبائل في موضع "رحبت" "الرحابة"، شمال "صنعاء" في وسط أرض "سمعي"، وكان في جملة من حضر، سادة "ثلث سمعي" و "شرحثت" من قبيلة "بتع" و "الرم" "ايل رام" "الريام" "ريام" من "سخيمم" "سخيم" "ويرم" "يارم ايمن" من همدان. ويظهر من ذلك أن سادة "كرأت"، كانوا أصحاب نفوذ في تلك الأيام5.
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P. 463
2 Le Museon, 1.964, 3-4, P. 464
3 Le Mus&on, 1964, 3-4, P. 464
4 Le MusSon, 1964, 3-4, P. 498
5 Le MusSon, 1964, P. 465(3/216)
يتفق جميع الباحثين في دراسة تأريخ الحكومات العربية الجنوبية على أن السبئيين هم الذين قضوا على استقلال حكومة قتبان، ولا نجد أحدًا منهم يخالف هذا الرأي، ولكنهم يختلفون في تعيين الزمن وتثبيته. فبينما نرى "فلبي"، يجعل ذلك في حوالي سنة "540 ق. م."1 يرى "ألبرايت" يجعل سقوط مدينة "تمنع" في حوالي سنة "50 ق. م."2، بينما يرى غيره أن خراب "تمنع" كان فيما بين السنة "100" والسنة "106" بعد الميلاد3.
ولا يعني سقوط "تمنع" وخرابها وفقدان القتبانيين لاستقلالهم، أن الشعب القتباني قد زال من الوجود، وأن اسمه قد اندثر تمامًا واختفى، فإننا نرى أن الجغرافي الشهير "بطلميوس" يذكر اسمهم في جملة من ذكرهم من شعوب تقطن في جزيرة العرب. وقد سماهم "Kottabani" و 4Kattabanoi.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن خراب "تمنع" كان بعد السنة العاشرة للميلاد، وربما كان ذلك في أيام "جوليو- كلوديان" "julio- Caudian"، أو في أيام "فلافيان" 5Flavian.
وقد استدل "ألبرايت" من طبقة الرماد التخينة التي عثر عليها وهي تغطي أرض العاصمة "تمنع"، على أنها كانت قد أصيبت بحريق هائل ربما أتى على كل المدينة، وقد أتى هذا الحريق على استقلال المملكة6. ولا نعلم علمًا أكيدًا في الوقت الحاضر بالأسباب التي أدت إلى حدوث ذلك الحريق، ولكن لا أستبعد احتمال حرق السبئيين لها عند محاربتهم للقتبانيين، فقد كان من عادتهم ومن عادة غيرهم أيضًا حرق المدن والقرى إذا مانعت من التسليم وبقيت تقاوم المهاجمين.
وفي كتابات المسند أخبار كثيرة عن حرق مدن وقرى حرقًا كاملًا إلى حد الإفناء.
__________
1 Background, P., 144
2 The Chronology, P. 0
3 Le Museon, 1964, 3-4, P. 463
4 Paulys — Wlssowa, 20 ter Halbband, S,, 2359
5 BOASOOR, MJM. 160, (I960) , P. 15
6 BOASOOR, NUM. 119, (1950) , P. 9(3/217)
قبائل وأسر قتبانية:
وردت في ثنايا الكتابات القتبانية أسماء أسر وقبائل قتبانية عديدة، طمست أسماء أكثرها ولم يبق منها حيًّا إلى زمن ظهور الإسلام غير عدد قليل، هذه الأسماء تفيدنا ولا شك، في دراسة أسماء القبائل العربية فائدة كبيرة. والقبيلة هي "الشعب" في لهجة أهل قتبان، والجمع "اشعب" "أشعب"، أي قبائل. ومن هذه الأسماء "جدنم"، أي "جدن" "بنو جدن"1 و"جدن" من الأسماء المعروفة قبل الإسلام أيضًا. وهو اسم جد واسم موضع. فزعم أن "ذا جدن" الأكبر ملك من ملوك حمير، وهو أحد المثامنة من ولده ذو جدان الأصغر2. وقد يكون لما ذكره أهل الأخبار عن "ذي جدن" علاقة بـ "جدن" المذكورين في الكتابات القتبانية وفي الكتابات العربية الجنوبية الأخرى.
وكان موضع "حبب" "حباب" من أمكنة "جدنم" "جدن"، وقد ذكر في عدد من الكتابات. ويقال له اليوم "وادي حباب" وفيه مواطن عديدة، منها: "حزم الدماج" و "خربة المسادر" وقد ورد اسم "ذحب" "ذو حباب" في كتابة كتبت عند إنشاء سد لخزن المياه. ويقع "وادي حباب" في غرب "صرواح"3.
وفي جملة القبائل أو الأسر التي ورد اسمها في الكتابات القتبانية اسم "يهر" ويظهر أن "آل يهر" كانوا من أصحاب السلطان والصيت في ذلك العهد.
وقد ذكروا مع أسر أخرى، ووردت في الموارد الإسلامية إشارات إلى "ذي يهر" فذكر "الهمداني" أنه كان في محفد "بيت حنبص" آثار عظيمة من القصور، وكان قد بقي منها قصر عظيم كان أبو نصر وآباؤه يتوارثونه من زمان جدهم ذي يهر. وكان بنجارته وأبوابه من عهد ذي يهر. ولم يزل عامرًا حتى سنة خمس وتسعين ومائتين حيث أحرقه "براء بن الملاحق القرمطي"4. وذكر
__________
1 REP. EPIG 850 1.VI I P 224
2 منتجات "ص 18" الإكليل "8/ 76"، "نبيه" شعراء النصرانية "ص 217" تاج العروس" 9/160".
3 Beitrage S. 322.Glaser 928
4 الإكليل "8/ 51" فما بعدها "نبيه" "8/ 64" "الكرملي" "ونزله ابن أبي الملاحف القرمطي، قائد علي بن الفضل، وسلط عليه النار"، الإكليل "1/ 12".(3/218)
"نشوان بن سعيد الحميري" أن "ذا يهر" كان ملكًا من ملوك حمير، وأن "أسعد تبع" قال فيه شعرًا1، وغير ذلك مما يدل علي أن ذاكرة أهل الأخبار لم تكن تعي شيئًا من أمر تلك القبيلة التي تمتد تأريخها إلى ما قبل الميلاد. ويتبين من بعض الكتابات أن ناسًا من "يهر" كانوا أتباعًا لقبيلة همدان2. وأما "كحد" فهي من القبائل التي ورد اسمها مرارًا في الكتابات القتبانية، وقد نسبت إلى جملة أمكنة، مما يدل على أنها كانت تنزل في مواضع متعددة، فورد "كحد ذ دتنت"، أي "كحد" النازلة في أرض "ذي دتنت"، وورد "كحد ذ حضنم"، أي "كحد" صاحبة "حضنم" "حضن"، وورد "كحد ذ سوطم" أي "كحد" النازلة في موضع "ذي سوط"، وهكذا وفي انتشار هذه القبيلة في أرضين متعددة دلالة على أنها كانت من قبائل قتبان الكبيرة، وفي نص في النصين المعروفين بـ: "Glaser 1600" و "Glaser 1620" على أنها كانت "شعبن"، أي قبيلة.
ويظهر أنها كانت تتمتع بشبه استقلال. فقد ذكرت باسمها مع "أوسان" و "تبني" و "دهس" و"قتبان" في بعض النصوص، متعاونة مع "قتبان" في القيام ببعض الأعمال العامة ذات المنافع المشتركة, مما يدل على أنها هي والقبائل الأخرى المذكورة، كانت تعامل معاملة خاصة، وأنها كانت تتمتع بشيء من الاستقلال، وربما كانت مستقلة ولكنها كانت في حلف مع مملكة قتبان3.
وقد تحدثت عن كتابة رقمت برقم "Glaser 1601"، وقلت: إنها أمر أصدره الملك "شهر غيلن بن اب شبم" "شهر غيلان بن أبشبم"، في كيفية جباية الضرائب من "كحد" النازلة في أرض "دتنت"، وأن الملك المذكور كان قد وكل أمر جبايتها إلى "كبر" "كبير القبيلة"، ويظهر منها أن "كحدًا" هذه كانت تدفع الضرائب لقتبان، وكانت معترفة في هذ الوقت بسيادة ملك قتبان عليها.
__________
1 منتخبات "ص 118 فما بعدها"، "وذو يهر محركة وقد يسكن، واقتصر الصاغاني على التحريك ملك من ملوك حمير من الإذواء" تاج العروس "3/ 632" القاموس "3/ 164".
2 نشر "ص 70". Cih, IV, I, IV,P. 370
3 Glaser 1600, REP. EPIG, 4328(3/219)
ومن القبائل التي ورد اسمها في الكتابات القتبانية قبيلة "اهربن" وقد نعتت بـ "شعبن اهربن"، أي قبيلة "اهربن" "أهرب"، وكانت مواضعها في "ظفر"1. وقد ورد في إحدى الكتابات أنها جددت وأصلحت بناء "محندن حضرن"، أي "محفد حضر" مما يدل على أنه كان من المحافد التي تقع في منازل هذه القبيلة2.
و"ذران" "ذرأن" من القبائل التي ورد اسمها مرارًا في الكتابات القتبانية، وقد رأينا أن بعض الكتابات أرخت بتأريخ هذه القبيلة3.
وورد اسمها في كتابات عثر عليها بمدينة "تمنع" العاصمة4. ومن هذه القبيلة أسرة عرفت بـ "هران" "هرن" ذكرت مع أسر أخرى، كانت قد شهدت على صحة محضر قانون في تنظيم الضرائب وكيفية جبايتها، أصدره الملك "شهر يجل يهرجب"5.
وورد اسم قبيلة أو عشيرة "طدام" "طدأم" في جملة كتابات قتبانية، ويرى بعض الباحثين أن اسم هذه القبيلة هو من الأسماء الخاصة بقتبان6.
ومن بقية قبائل قتبان: قبيلة "هورن" "هوران"7، وقبيلة "قلب" "قليب" وقد ذكر "ابن دريد" في كتابه "الاشتقاق" قبيلة تدعى "بني القليب"8، ويذكرنا هذا الاسم باسم هذه القبيلة القديم9, و "ردمن" "ردمان" و"الملك" و"مذحيم" و"هيبر" 10 و"يجر" وهم أسرة أو قبيلة أرخت بعض الأوامر والقوانين بتأريخهم11. و"رشم" "آل رشم"
__________
1 ربما تنطق على هذا الشكل "ظفار" و "ظفر" هذه من مواطن هذه القبيلة، وليست مدينة "ظفار".
2 Le Mus6on, LXIV, 1-2, 1951, P. 126
3 SE 80 a
4 Le Musgon, 1-2, 1953, P. m, REP. EPIG. 2646, 3017 bis 2
5 REP. EPIG. VI, I, P. 218, Glaser 2566, Altj. Nachr., S., 162, Grundriss, S., 33
6 Orlentalia, Vol., I, 1932, P. 26, REP. EPIG., VII, I, P. 80
7 REP. EPIG. 3550, VI, I, P. 197. SE 90
8 الاشتقاق "ص126".
9 REP. EPIG., I, 5, P. 261
10 KTR, I, S. 8
11 Glaser 1413 = 1613, SE 82, REP. EPIG VI, H, P. 275(3/220)
"رشام"، وهم من "آل قفعن" "آل قفعان"، ومنهم "عم علي" الذي أرخت به بعض الكتابات، ومن "شحز" "سمكر".
ومن أسماء القبائل القتبانية الواردة في الكتابات: "دهسم" "دهس"1، و "يجر"، و"حضرم"، و"تبني"، و"ذرحن" "ذرحان" و"بوسن" "بوسان"، و"معدن" "معدان"، و"اجلن" "أكلن" "اجلان" "اكلان"، و "شبعن" "شبعان", و"فقدن" "فقدان" و "ذمرن" "ذمران"، و "اجرم" "أجرم"، و "ليسن" "ليسان"2، و"يسقه ملك" و "عرقن" "بنو عرقان" "بن عرقن" و"برصم" "بنو برصوم" "بنو برصم"3، و"قشم" "بن قشم" "بنو قشم"4 و "بينم" "بنو البين" و "يرفأ" "يرفا"، و"غريم" "غرب" "غارب"، وهم من نشئان"، و"محضرم" "محضر" و "عبم رشوان" "عبم رشون" و "مرجزم" و"خلبان" "خلبن" و"هران" من "ذرأن"، وقبائل عديدة أخرى.
ويرى بعض الباحثين أن "الملك" "المالك"، الذين كانوا في عهد الملك "يدع أب ذبيان" والذين ذكروا مع "ردمان" و "مذحي" "مذحيم" و "يحر"، هم قبيلة من القبائل الكبيرة التي كانت في قبتان في ذلك العهد، ويرون أن لهم صلة بـ "العماليق" المذكورين في التوراة. وقد كانوا يسكنون في "وسر"، وهي أرض "العوالق" العالية في هذا اليوم. ونظرًا إلى ما لكلمة "عوالق" و "المالك" من صلة، ذهبوا إلى أن العوالق هم "المالك" "الملك" المذكورون5.
ويرى "فون وزمن" احتمال أن "الملك" "المالك" من القبائل التي كانت تنزل فيما بين "ردمن" "ردمان" و"مفحيم "مفحي"، وقد عدل
__________
1 REP. EPIG. 2549, VI, I, P. 202
2 REP. EPIG. 3560, VI, I, P. 212
3 Le Museon, LXH, 1-2, 1949, P. 60, Ryckmans, 366
4 REP. EPIG. 3856, VI, II, P. 319
5 Beltrage, S., 59(3/221)
بذلك رأيه السابق الذي كان قد جعل منازل تلك القبيلة في أرض "أوسان"1.
كما ذهب إلى أن منازل "يحر" لم تكن في أرض "مراد"؛ لأن "مرادًا" هي "حرمتم". وذهب إلى أن "يحر" هذه، تختلف عن "يحر" القبيلة المذكورة في النص: "2ERP. EPIG. 4336".
وأما "شيار" "سيار"، الذين ذكروا في نص الملك "يدع اب ذبيان" بعد "وعلان" فإنهم "سيار" في الوقت الحاضر على بعض الآراء. وهم عشيرة صغيرة منعزلة تعيش في أرض "العوذلة" "العوذلي"، ويرى بعض الباحثين أن موضع "حصى"، هو مكان "شيار"3.
وفي "حصى"، خرائب وآثار. وقد ذكر "الهمداني" أنه كان لـ"شمر تاران" وفيه قبره، وذكر في كتابه "الإكليل"، أن في "حصى" قصر لـ"شمر تاران لهيعة" من "رعين" وفيه قبره4 وذكر من زار الموضع من السياح المستشرقين، أنه رأى هناك آثار خرائب واسعة ذات حجارة ضخمة وكتابات كثيرة وتماثيل بحجم الإنسان5. ولا يستبعد أن يكون هذا الموضع مدينة مهمة كبيرة من مدن تلك الأيام.
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P. 434
2 Le Museon, 1964, 3-4, P. 434
3 Beltrage, S., 60
4 Beltrage, S., 62
5 Beltrage, S., 62(3/222)
مدن قتبان:
أهم مدن قتبان، هي العاصمة "تمنع"1. وتعرف حديثًا بـ "كحلان" وبـ "هجر كحلان" في "وادي بيحان"2 في منقطة عرفت قديمًا بخصبها وبكثرة مياهها وبساتينها، ولا تزال آثار نظم الري القديمة تشاهد في هذه المنطقة
__________
1 "تمنع" وقد حرف بعض المترجمين للكتب الأعجمية اسم هذه المدينة المدون في المسند, وهو "تمنع" فصيره "تمنه" "تمنة".
2 حرف بعض المترجمين للكتب الغربية هذا الاسم فصيروه "وادي بيهان" وهو خطأ.(3/222)
الجاب الجنوبية لمدينة "تمنع" وقد كانت هذه الآثار. مطمورة تحت الرمال ويعود تأريخها إلى القرن السادس قبل الميلاد. من كتاب Qataban and Sheba الصفحة "118".
حتى اليوم1.
و"تمنع" هي "2Tamna" أو "3Thomna" و "Thumna" عند "الكلاسيكيين"4. وقد اختلف علماء العربيات الجنوبية المتقدمون في تعيين مكان هذه العاصمة التي بلغت شهرتها اليونان والرومان5، ثم تبين أخيرًا أنها الخرائب التي تسمى اليوم بـ "كحلان" وبـ "هجر كحلان"، وقد أثبتت هذا الرأي
__________
1 Background, P. 63, Ency., Vol., 2, P. 811, Rhodokanakis, Die Inschriften an der Mauer von Kohlan, Tlmm', in BAK, Wien, 1924, CC/n, 8
2 Ency., 2, P. 811, Glaser, Abess., S., 112
3 Pliny, 2, P. 453, (H. Rackham) , Loeb, Classical library,BIC, 6, 153-154
4 Ency., 2, P. 811, (Thomala) , Sprenger, Georg., S., 160, Ptolemy, VI, 7, 37.
5 Glaser, ZDMG, XHV, 184, Sklzze, 2, 18, Abessi., S., 112, 115, Hommel, Gxundriss., S., 137, Ency., 2, B 811(3/223)
وأيدته الحفريات التي قامت بها البعثة الأمريكية التي كونها "ويندل فيلبس"، إذ عثرت على كتابات عديدة وعلى آثار أثبتت أن "كحلان" اليوم، هي "تمنع" أمس، سوى أن "تمنع" اليوم هي خراب وأتربة تؤلف حجابًا كثيفًا يغطي الماضي الجميل البعيد، أما "تمنع" أمس، فكانت مدينة عامرة ذات ذهب وتراث ومعابد عديدة، ووجوه ضاحكة مستبشرة. هذا هو وجه "تمنع" في هذا اليوم ووجهها في الماضي وفرق كبير بين هذين الوجهين.
ويرى "أوليري" أن مدينة "ثومة" "Thouma" المذكورة في جغرافية "بطلميوس" هي مدينة "تمنع"1 وقد ذكر "بلينيوس" أن "Thomna" تبعد "4.436" ميلًا من "غزة"، وتقطع هذه المسافة بخمس وستين يومًا تقريبًا على الإبل، وأنها هي ومدينة "Nagia" هما من أكبر المدن في العربية الجنوبية، وبها خمسة وستون معبدًا2.
وقد اختارت البعثة الأمريكية البقعة الجنوبية من مدينة "تمنع" الكائنة على مقربة من بابها الجنوبي لتكون الموضع الذي تسرق منه أخبار الماضين، وتنبش فيه الأرض لتسألها عن أخبار الملوك ومن كان يسكن هذه المدينة من أناس.
وسبب اختيارها هذه البقعة وتفضيلها على غيرها من خربة هذه المدينة التي تقدر مساحتها بستين فدانًا، أنها تكشف عن نفسها بين الحين والحين بتقديم إشارات تظهرها من خلال الرمار المتراكمة عليها، لتنبئ أن في بطون تلال الرمال كنوزًا تبحث عن عشاق لتقدم نفسها إليهم، وعن هواة البحث عن الماضي لثبت لهم هوى أهل "قتبان"، وأخبار عاصمتهم الحبيبة ذات المعابد الجميلة العديدة التي ذهبت مع أهلها الذاهبين، كما اختارات بقعة أخرى لا تبعد عن ركام "تمنع" غير ميل ونصف ميل لتكون مكانًا آخر تحفر فيه لتستخرج منه حديثًا عن الماضي البعيد، وسبب اختيارها لهذا المكان أنه كان مقبرة أهل "تمنع" والمقابر من المحجات التي يركض خلفها المنقبون؛ لأنهم يجدون فيها أشياء
__________
1 O'leary, p. 97, Ptolemy 6. 7, 37
2.O'leary p. 97 2.pilny 6. 32(3/224)
كثيرة تتحدث عن أصحابها الثاوين فيها منذ مئات السنين1.
وكان موضع "هجر بن حميد"2، وهو على تسعة أميال، من جنوب آثار مدينة "تمنع"، مكانًا آخر من الأمكنة التي اختارتها البعثة للحفر فيها. وهو عبارة عن تل بيضوي الشكل يرتفع زهاء سبعين قدمًا، يظهر أنه كان قرية مهة في ذلك العهد، طمرها التراب فصارت هذا التل العابس الكثيب. وقد سبق أن عثر في هذا الموقع على آثار، منها لوح من البرنز صغير. عليه رسوم وكتابات، عثر عليه أحد الأعراب هناك، ولهذا تشجع رجال هذه البعثة الأمريكية على الحفر في هذا الموضع3.
وكان من نتائج أعمال الحفر عند الباب الجنوبي لمدينة "تمنع" أن عثر على آثار ذلك الباب الذي كان يدخل منه الناس إلى المدينة ويخرجون منه من هذه الجهة، كما عثر على أشياء ثمينة ذات قيمة في نظر علماء الآثار، إذ عثر على قدور كبيرة وعلى خرز وكتابات وأقراص صنعت من البرنز والحديد، وعثر على شيء أخر قد لا يلفت نظر أحد من الناس إليه، وقد يجلب السخرية على من يذكره ويتحدث عنه لتفاهته وحقارته في نظر من لا يهتم بالآثار وبالنبش في الخرائب، ذلك الشيء التافه الحقير هو طبقات من رماد وبقايا خشب محروق ومعادن منصهرة وقطع من حجارة منقوشة وغير منقوشة، وقد لبست ثوبًا من السخام كأنها لبسته حدادًا على تلك المدينة التي كانت جميلة فاتنة في يوم من الأيام. أما ذلك الرماد. فإنه صار في نظر رجال البعثة علامة على أن المدينة
__________
1 اعتمدت على النسخة المعربة لكتاب: "وندل فيلبس" المسماة "كنوز مدينة بلقيس: قصة اكتشاف مدينة سبأ الأثرية في اليمن" ترجمة عمر الديراوي، ونشر دار العلم للملايين بيروت 1961م، وهي نسخة قد حرفت فيها الأعلام العربية تحريفًا معيبًا مثل "تمنع" وبيحان وقتبان وشبوة وصبلقة ويفش وحريضة وحريب وغيرها فحرفت إلى تمنه وبيهان وقطبان وشابوا وما بلاقا ويافاش وحريدة وحارب وهكذا وقد كان في إمكان المترجم مراجعة الكتب العربية أو الأشخاص لضبطها، وما كنت لأشير إلى هذه الأغلاط، لولا خشيتي من وقوع من لا علم له بهذه الأمور فيها باعتماده على النقل.
2 "هجر"، ومعناها "مدينة": في اللهجات العربية الجنوبية وفي اللغة الأثيوبية وتلفظ "هكر" على الطريقة المصرية الآن في النطق بحرف الجيم، ولكن الشائع بين الناس "حجر بن حميد"، وهو خطأ شائع. The chronology, P. 5
Wendell Phillips, Qataban and Sheba, London, 1955, PP. 58, 64, 119, 166
3 كنوز مدينة بلقيس "ص57"، The Chronology, P. 5(3/225)
المذكورة المسكينة كانت قد تعرضت لحريق هائل أحرق المدينة وأتى عليها، ولعل ذلك كان بفعل عدو مغير أراد بها سوءًا، فقاومته وعضته ولكنه تمكن وتغلب عليها، فعاقبها بهذا العقاب الجائر المؤلم.
وفي جملة ما عثر عليه من كتابات، كتابة ورد فيها اسم الملك "شهر يجل يهرجب" "شهر يكل يهركب"1 وكتابات أخرى ورد فيها أسماء حكام آخرين2. كما عثر على عمودين كتب على كل واحد منهما كتابة تبلغ زهاء خمسة وعشرين سطرًا، وعلى كتابات على جدار بيت "يفش"3 وهو بيت معروف وقد حصل السياح على كتابات ورد فيها اسم هذا البيت، وعلى كتابة عثر عليها على بيت "ينعم"4. وقد ورد فيها اسم الملك "شهر هلل يهقبض" وهو من البيوت المعروفة في هذه العاصمة، ويرى أن عمره لا يتجاوز عشرين سنة عن خرابها5.
وقد ساعد عثور البعثة الأمريكية على غرف بيوت سليمة أو شبه سليمة رجال البعثة على تكوين رأي في البيوت القتبانية، فقد وجدت في البيت الذي سمي ببيت "يفش"، ثلاث غرف ممتدة على الجهة الشرقية للبيت، وقد وجدت في إحدى الغرف مرايا صنعت من البرنز وصناديق محفورة منقوشة للبيت، وقد وجدت في إحدى الغرف مرايا صنعت من البرنز وصناديق محفورة منقوشة وعليها صور ورسوم، لها قيمة تأريخية ثمينة
من ناحية دراسة الفن العربي القديم6، وسوف تقدم الحفريات في المستقبل صورًا واضحة ولا شك للبيوت العربية الجنوبية وتنظيم القرى والمدن فيها، وعندئذ يكون في استطاعتنا تكوين رأي واضح في الحضارة العربية في العربية الجنوبية قبل الإسلام.
وقد وجد أن الباب الجنوبي لمدينة "تمنع" كان ذا برجين كبيرين، بنيا
__________
1 يكتب بحرف الجيم ويلفظ على الطريقة المصرية في النطق بهذا الحرف، وقد صير "شاهر يا ثميل يوحرغب" و "شاهر يا فيل يوحار قيب" في كتاب: "كنوز مدينة بلقيس"، "ص 105، 113 وما بعدها".
The Chronology p. 9.
2 كنوز "ص 105 وما بعدها".
3 صير "يفش" "يافاش" في كنوز "ص 108 ومواضع أخرى".
4 صير "يا فعام" و "يا فعام" في كنوز "ص 108- 117".
5 The Chronology p. 9 Nota 23.
6 كنوز "ص 191".(3/226)
بحجارة غير مشذبة، حجم بعضها ثماني أقدام في قدمين، وقد كانا ملجأين للمحاربين، يلجئون إليهما والى الأبراج الأخرى للدفاع عن المدينة عند مهاجمة العدو. وقد وجدت نقوش كثيرة على الحجارة الكبيرة التي شيد منها البرجان، ويظهر أن زخارف من الخشب كانت تبرز فوق الباب لإعطائه جمالًا ورونقًا وبهاًء، كما يتبين ذلك من آثار الخشب التي ظهرت للعيان بعد رفع التراب والرمال عن الباب.
وقد تبين أن مدخل الباب الجنوبي يؤدي إلى ساحة واسعة مبلطة ببلاط ناعم وضعت على أطرافها مقاعد مبنية من الحجر، لجلوس الناس عليها، ومثل هذه الساحات هي محال تلاقي الناس ومواضع اجتماعهم وتعاملهم، كما هو الحال في أكثر مدن ذلك اليوم.
وفي جملة الأشياء الثمينة التي عثر عليها في "تمنع" تمثالًا أسدين صنعا من البرنز، أثرت فيهما طبيعة الأرض فحولت لونهما إلى لون أخضر داكن، وقد ركب أحدهما راكب يظهر وكأنه طفل سمين على هيأة "كيوبيد"1 ابن "فينوس" إله الحب، يحمل بإحدى يديه سهمًا وباليد الأخرى سلسلة قد انفصمت، تنتهي بطوق يطوق عنق الأسد، يشعر أنه كان متصلًا بالسلسلة التي قطعها الزمان باعتدائه عليها، وأما الأسد الآخر فقد فقد راكبه وبقي من غير فارس، إلا أن موضع ركوبه بقي على ما كان عليه ليقدم دليلًا على أن شخصًا كان فوق ذلك الأسد، وقد وجد أن التمثالين كانا على قاعدتين، مكتوبتين، ورد فيها اسم "ثوبم"، "ثوبيم"2 وقد ورد هذا الاسم نفسه في كتابة وجدت على جدار بيت "يفش" كتبت في أيام الملك "شهر يجل يهرجب" وقد استدل "ألبرايت" من طريقة صنع التمثالين ومن طرازهما أنهما تقليد ومحاكاة لتماثيل "هيلينية" ولا يمكن لذلك أن يرتقي تأريخ صنعهما إلى أكثر من "150" سنة قبل الميلاد، وذلك؛ لأن اليونان لم يكونوا قد صنعوا
__________
1 "كيوبيدو" "كيوبيد"، وهو ابن "فينوس" في الأساطير اليونانية الرومانية، ويرمز إلى الحب.
2 لقد صير المعمار "ثوبم" على هذه الصورة: "فاوايابام" في كنوز مدينة "بلقيس" "ص 117" فسبحان المغير.(3/227)
هذا النوع من التماثيل قبل هذا التأريخ1.
وقد أعلن "ثويبم بن يشرحعم" و "صبحم" و "هوفعم"، وكلهم من "آل مهصنعم"، أنهم ابتاعوا البيت المسمى بـ "بيت يفش" ورمموه وأصلحوه، وعمروا سقفه وممراته ومماشيه، بمشيئة "انبي" وباركوه بالآلهة "عثتر" "و "عم" و"انبي" و "ورفو ذلفان" "ورفو ذلفن" و"ذات صنتم" و"ذات ضهران"، وقد تم ذلك في عهد الملك "شهر يجل يهرجب" وقد دون "ثويبم" اسمه على قاعدة تمثال الأسد المصنوع من البرنز، وسجل معه اسم "عقربم" "عقرب"، ويظهر أنهما أمرا بصنع التمثالين، أو أنهما صنعاهما ليكونا زينتين في هذا البيت2.
ويرى الخبراء في موضع تطور الخط، والمتخصصين في دراسات المصنوعات المعدنية، أن هذين الثمثالين لا يمكن أن يكونا قد صنعا قبل الميلاد، وأن عهد صنعهما يجب أن يكون في القرن الأول للميلاد، في حوالي السنة "75" أو المائة بعد الميلاد، وذلك لعثور العلماء على عدد من التماثيل المشابهة، وهي من القرن الأول للميلاد. ويرون لذلك أن الملك "شهر يجل" الذي في أيامه صنع هذان التمثالان يجب أن يكون من رجال النصف الثاني من القرن الأول للميلاد3.
وقد توصل رجال البعثة الأمريكية إلى أن مدينة "تمنع" كانت قد جددت مرارًا، ذلك أنهم كانوا كلما تعمقوا في الحفر وجدوا طبقات تشير إلى قيام بيت على بيت آخر. وأن البيوت المبنية في الطبقات السفلى هي بيوت مبنية من "اللبن"، أي الطين المجفف بالشمس، وذلك يدل على أن الناس أقاموها بيوتًا ساذجة بسيطة، فلما تقدم الزمن ونزح الناس إليها، ازداد عمرانها، واتخذ من نزحوا إليها الحجر والصخور المقطوعة مادة للبناء، فظهرت البيوت العامرة, ظهرت فوق البيوت القديمة على عادة الناس في ذلك العهد في بناء البيوت الجديدة فوق البيوت القديمة وعلى أنقاضها، ومن هنا صار في إمكان عالم الآثار تقدير
__________
1 كنور "ص 113".
W. Phillips, Qataban and Sheba, P. 100, Bowen — Albright, Discoveries
in South Arabia, P. 155, B. Segall, 179, J. Terbach, 183, Die Araber, I, P. 27.
2 W. Phillips,'P. 99, 102
3 J. Pirenne, Le Royaume Sud — Arabe, PP. 45, 48, 198(3/228)
عمر الطبقات والاستدلال بواسطته على العهود التأريخية التي مرت على المدينة.
وقد تبين من فحص المقبرة: مقبرة أهل "تمنع" أن حرمتها كانت قد انتهكت في الماضي وفي الحاضر. وأن سراق القبور الطامعين في الذهب وفي الأحجار الكريمة وفي الكنوز كانوا قد نبشوا القبور وهتكوا أسرارها لاستخراج ما فيها، وقد تعرضت بذلك للتلف وتعرض ما فيها مما لم يؤخذ لعدم وجود فائدة مادية فيه بالقياس إليهم للكسر والتلف والأذى، كما تبين أن سراق القبور المعاصرين ما زالوا على سنة أسلافهم يراجعون هذه القبور وغيرها غير عابئين بحرمتها؛ لأنهم يطمعون في كنوز، سمعوا عنها أنها تغني، وأنها تجعل من المعدم ثريًّا، وقد زاد في جشعهم إقبال الغربيين على شراء ما يسرقونه، وإن كان حجرًا، بثمن مهما كان زهيدًا تافهًا في نظري ونظرك إلا أنه شيء كثير في نظر الأعراب الذين لا يملكون شيئًا، فالفلس على تفاهته ذو قيمة وأهيمة عند من لا يملكه.
وقبور هذه المقبرة مع تعرضها للنبش والاعتداء لا يزال كثير منها محتفظًا بكنوز ثمينة ذات أهمية كبيرة عند رجال الآثار وعشاق البحث، عن الماضي، ونتيجة لبحث فريق من البعثة الأمريكية في بعض القبور على التل وفي سفوحه وفي الأرض المحيطة به، وجدت أشياء ذات قيمة، وتمكنت من تكوين رأي عن هيئة القبور وهندستها عند القتبانيين، لقد تبين لهم أن قبورهم كانت مزخرفة متينة البناء، وأن المقبرة عندهم كناية عن دهليز طويل صفت على جانبيه القبور. والقبور عبارة عن غرفتين إلى أربع غرف لها أبواب تؤدي إلى الدهاليز1 أرى أنها بهذا الوصف قبور أسر، فمتى مات شخص من الأسرة فتح باب المقبرة وأدخل الميت إلى الدهليز الذي هو الممر، ليوضع في الغرفة التي تختار له ليثوي فيها.
وقد وجدت في غرف الأموات عظام بشرية مهشمة، ووجدت في الممرات جرار وخزف وأشياء أخرى، ولكنها وجدت مكسورة ومحطمة في الغالب، ولم يعثر على هيكل بشري واحد موضوع بصورة تشعر أن عظامه كانت كلها سليمة وهذا مما يجعل البعثة ترى أن للقتبانيين عادات دينية في دفن موتاهم،
__________
1 كنوز "ص 127 وما بعدها".(3/229)
من ذلك أنهم كانوا يكسرون ما يأتون به من أشياء يضعونها مع الميت، عند وضعها في القبر، وأنهم كانوا يضعون ما يرون ضرورة وضعه مع الميت في الممرات التي تقع على جانبها غرف الأموات. أما الغرف، فقد كانت مستودعات تحفظ فيها العظام، ولذلك تكدست تكدسًا. وهي عادة عرفت عند أمم أخرى في مختلف أنحاء العالم1.
وفي جملة ما عثر عليه من أشياء ذات قيمة كبيرة من الوجهة الفنية، رأس لفتاة منحوت من رخام أبيض معرق، وقد تدلى شعرها على شكل خصلات مجعدة على الطريقة المصرية وراء رأسها، وكانت أذناها مثقوبتين ليوضع حلق الزينة فيهما، ووجد أن جيدها محلى بعقد. وكانت عيناها من حجر اللازورد الأزرق على الطريقة المصرية، وقد نحت التمثال باتقان وبذوق يلدلان على مهارة وفن، كما عثر على بقايا ملابس وأخشاب متآكلة وعلى حلي بعضه من ذهب، ومن جملته عقد من ذهب، يتألف من هلال فتحته إلى الأعلى، أما حاشيته فإنها مخرمة، وقد زين الهلال باسم صاحبته2.
ومن مدن قتبان مدينة "شور" "شوم"، وقد كان أهلها من قبيلة "ذهربت" "ذو هربة" وقد ذكرت في نص سبق أن تحدثت عنه، وذلك لمناسبة بنائها حصنًا أمام سور المدينة، إذ كان الحصن القديم قد تهدم في عهد الملك "وروال غيلان يهنعم"3. وقد عرفت هذا الحصن بحصن "يخضر" "يخضور".
ومن مدن "قتبان"، مدينة "حرب"، وهي "حريب" وقد ذكرت في الكتابات، واشتهرت عند الباحثين بالنقود التي تحمل اسمها؛ لأنها فيها ضربت وقد أشار "الهمداني" إلى "حريب" وتقع كما يظهر من وصفه في أرض
__________
1 كنوز "ص 131 وما بعدها".
2 كنوز "ص 129 فما بعدها".
3 لاحظت أن الأستاذ "ركمنس" قد كتب اسم المدينة على هذا الشكل في الترجمة الفرنسية "شور" على حين كتبه في موضع آخر "شوم" وكذلك فعل في النص العبراني للكتابتين وربما كان مرد ذلك إلى اختلاف ناسخي النسختين في الاستنساخ، فحاول المحافظة على أشكال النسختين.
REP. EPIG. 4329 V II II. P. 193 Glaser 1392 REP EPIF\G 3507 VI I, P 177 SE. 96.(3/230)
قتبان1. وهناك موقع آخر يقع على خمسة وخمسين كيلومترًا إلى شرقي شمالي صنعاء على طريق مأرب، يسمى "حريب" وقد عثر على نقود ضربت في "حريب". منها نقد ضرب في عهد "يدع اب ينف" "يدع اب ينوف".
وورد في الكتابات اسم مدينة تدعى "برم"، فورد في كتابة من أيام الملك "يدع اب ذبيان بن شهر" مكرب قتبان، كتبت عند تمهيده الطريق بين هذه المدينة ومدينة "حرب" "حريب" وإنشاء مبلقة أي شق طريق جبلي، ليساعد على الوصول بيسر وسهولة بين المكانين2، وورد في كتابة أخرى عند انتهاء الملك "يدع أب ذبيان" من بناء "برج برم"3. وهناك واد عرف بوادي
من تماثيل عثر عليها من مقبرة "تمنع"، ويعود عهدها إلى ما قبل الميلاد
من كتابQataban and Sheba الصفحة 125".
__________
1 الصفة "ص80، 95، 103، 134".
Hill, Catalogue of the Greek Coins of Arabia, Mesopotamia and Persia* P. IXXIV, 75, PL. XI, 20, D..H. Muller, und J. W; Kubistschek, Sudarabische
Altertumer, Wien, 1899, S. 73, 78
2 Glaser, 1600
3 Glaser, 1581(3/231)
"برم" في أرض "احرم" "أحرم"، وفي التقويم القتباني شهر من شهورهم عرف بـ "برم" وترد كلمة "برم" اسم علم لأشخاص.
ومن الأرضين والأماكن التى ورد اسمها في النصوص القتبانية والتي يفيد ذكرها هنا؛ لأنها ترشدنا إلى معرفة أسماء البقاع التي كانت خاضعة لحكم قتبان، أرض "لتلك" و "ذبحتم" "ذبحة"1 و"دتنت" "دتنة"، و "لبخ" و "دونم" و "ورفو" و "خضنم" و "يسرم" و "غيلم" "غيل".
و"عم"، هو إله شعب "قتبان" الرئيس، وبه تسمى ذلك الشعب، حيث كانوا يعبرون عن أنفسهم بـ "ولد عم" ويتقربون إليه بالنذور والذبائح وكانت له معابد في أرض قتبان أشهرها معبد: "عم ذلبخ" أي معبد "عم" في "لبخ" من "ذي غيل". ويرى بعض الباحثين أن هذا المعبد بني في موضع عرف بـ "ذي غيل"، ثم أنشأ "يدع أب غيلان" مدينة حول هذا المعبد عرفت باسمه، فدعيت بـ "ذي غيلان"، وهي موضع "هجر بن حميد" في الوقت الحاضر2.
__________
1 REP. EPIG. 3540, VI, I, I, P. 197, Weber, Studi, III, S. 39, Rhodokanakis,
Kohlan, S. 37
2 Beitrage, S. 47(3/232)
قوائم بأسماء حكام قتبان
مدخل
...
قوائم بأسماء حكام قتبان:
هذه قوائم بأسماء حكام "قتبان" كما وضعها الباحثون في العربيات الجنوبية. وأذكر أولًا القائمة التي وضعها "فريتس هومل"، وهي تتكون من جمهرات رتبت على النسب وصلة القربى، وقد استخرجها من الكتابات:
الجمهرة الأولى وتتكون من المكربين:
1- شهر.
2- يدع اب ذبين يهنعم. "يدع أب ذبيان يهنعم" Glaser 1410 = 1618.
الجمهرة الثانية:
3 – يدع اب "يدع اب".
4- شهر هلل يهرحب أو يهنعم، "شهر هلال يهركب أو يهنعم"،
Glaser 1404 = es 85(3/232)
الجمهرة الثالثة:
5- سمه علي وتر.
6- هوف عم يهنعم "هوفعم يهنعم" Glaser 1117. 1121 1333 1344 والكتابات الحلزونية:Glaser1339 1343 Glaser.
الجمهرة الرابعة:
7 – شهر.
8- يدع أب ذبين "يدع أب ذبيان".
وقد ذكر "هومل" أن من الممكن اختصار هذه الجمهرات، إذ من الجائز أن يكون من الأسماء المتشابهة المتكررة ما هو لإنسان واحد.
ورتب أسماء ملوك قتبان على النحو الآتي":
الجمهرة الأولى:
1- اب شبم "أبشبم".
2- شهر غيلن "شهر غيلان".
3- ب عم "بعم"؟ Gaser 119. Glaser 1348 1601 1115.
الجمهرة الثانية:
4- يدع اب "يدع أب".
5- شهر يجل "شهر يكل" Glaser 1602.
6- شهر هلل يهنعم "شهر هلال يهنعم" Glaser 1395. 1413.
الجمهرة الثالثة:
7- شهر.
8- يدع اب ذبين "يدع أب ذبيان".
9- شهر هلل "شهر هلال".
10- نبط عم "نبطعم".
وقد قال "هومل" إن من الجائز تقديم هذه الجمهرة على الجمهرة الأولى من جمهرات الملوك، إو إلحاقها بالجمهرة الأولى بحيث تكون على هذا النحو:
اب شبم "أب شبم" "أبشبم".
شهر غيلن "شهر غيلان".(3/233)
ب عم "بعم" "بيعم" "بي عم".
يدع اب ذبين "يدع أب ذبيان".
شهر يجل "شهر يكل".
شهر هلل يهنعم "شهر هلال يهنعم".
نبط عم "نبطعم".
الجمهرة الرابعة:
11- هوف عم يهنعم "هو فعم بهنعم".
12- شهر يجل يهرجب "شهر يكل يهرجب"، Glaser 1400. 1406 1606
13- وروال غيلن يهنعم "وروايل غيلان يهنعم"، Glaser 1392 1402
14- فرع كرب يهوضع "فرعكرب يهوضع"، Glaser 1415.
الجمهرة الخامسة:
15- سمه وتر.
16- وروال "وروايل".
الجمهرة السادسة:
17- ذمر علي.
18- يدع اب يجل "يدع أب يكول".
الجمهرة السابعة:
19- يدع اب ينف يهنعم "يدع اب ينوف يهنعم".
20- شهر هلل بن ذراكرب "شهر هلال بن ذرأكرب".
21- وروال غيلن "يهنعم" "وروايل غيلان "يهنعم"".(3/234)
قائمة "رودوكناكس":
وقد استفاد "هومل" في ترتيب قائمته المتقدمة بالقوائم التي وضعها "كروهمن" "1Grohmann" و "رودوكناكس"2 و "مارتن هارتمن" Martin Hartmann
__________
1 Adolf Grohmann, Uber Katabanische Gerrscherreihen, In Anzeiger der Wiener Akademi, Vom 29 Marz, 1916
2 KTB, I, S, 34, 98, II, S. 48(3/234)
وقد ذكر "كروهمن" تسعة مكربين، ولم يذكر بين الملوك "سمه وتر". أما قائمة الملوك التي صنعها "رودوكناكس"، فتتألف من جمهرات كذلك.
تبدأ الجمهرة الأولى بعد "يدع أب ذبين بن شهر" "يدع أب ذبيان بن شهر" آخر المكربين، وهو الذي لقب في عدد من الكتابات بلقب ملك، ولقب في عدد آخر بلقب "مكرب"، فهو مكرب وملك على قتبان، وتتألف قائمة "رودوكناكس" لملوك قتبان من الجمهرات التالية:
الجمهرة الأولى:
1- اب شبم "أب شبم". وترتيبه السابع في قائمة "كروهمن".
2- شهر غيلن "شهر غيلان" وترتيبه الثامن في قائمة "كروهمن".
3- بعم "ب عم"، "بي عم" أبي عم"، وترتيبه التاسع في قائمة "كروهمن" 1601 Glaser.
الجمهرة الثانية:
4- يدع اب "يدع أب" ورقمه الخامس في قائمة "كروهمن".
5- شهر يجل "يهنعم" "شهر يكل "يهنعم" "شهر يكول "يهنعم""، وهو السادس عند "كروهمن"، Glaser 1395. 1412 , 1602. 1612
6- شهر هلل يهنعم "شهر هلال يهنعم"، ويرى أنه "شهر هلل بن ذراكرب" "شهر هلال بن ذرأكرب"، الذي يرد اسمه في المجموعة الآتية:Glaser 1395. 1412. 1413. KTB i 43.11 S 48
الجمهرة الثالثة:
7- ذراكرب "ذرأكرب"، ورقمه الثاني عشر في القائمة "كروهمن".
8- شهر هلل "شهر هلال". وترتيبه الثالث عشر في قائمة "كروهمن".
Glaser 1396.
الجمهرة الرابعة:
9- هوف عم "هوفعم"، وهو الرابع عشر في قائمة "كروهمن".
10- شهر يجل يهرجب "شهر يكل يهركب" "شهر يكول يهركب" وهو الخامس عشر عند "كروهمن".
Glaser 1087 , Halevy 507 Glaser 1606(3/235)
11- وروال غيلن يهنعم "وروايل غيلان يهنعم" وترتيبه السادس في قائمة "كروهمن"،Glaser 1000 A.
الجمهرة الخامسة:
12- يدع أب يجل "يدع أب يكل" "يدع أب يكول".
وذكر "رودكناكس" اسم الملكين: "سمه وتر" و "روال" "وروايل" ورأى أن أمكنتهما بعد الجمهرة الرابعة، غير أنه لم يفرد لهما جمهرة خاصة.(3/236)
قائمة "كليمانت هوار":
ذكر "هوار" أسماء حكام قتبان دون أن يشير إلى وقت حكمهم أو صفة الحاكم من حيث كونه مكربًا أو ملكًا. وعدتهم كلهم عشرة، هم:
1- يدع أب ذبيان.
2- شهر يجول "شهر يكول".
3- هوف عم "هوفعم".
4- شهر يجول يهرجب "شهر يكول يهركب".
5- وروايل غيلان يهنعم.
6- أبشبم "أب شبم".
7- شهر غيلان.
8- بعم: "بي عم".
9- ذمر على "ذمر علا".
10- يدع اب يجول "يدع اب يكول"1.
__________
1 C1. Huart, Geschichte der Araber, I, Leipzig, 1914, S. 57(3/236)
قائمة "فلبي":
وقد نشرت في آخر كتاب "سناد الإسلام" Background of lslam".
وتتألف من:
1- سمه على. وهو مكرب، ولم يعرف اسم أبيه، وقد حكم على تقديره في حدود سنة "865 ق. م.".(3/236)
2- هوف عم يهنعم بن سمه علي "هوفعم يهنعم بن سمه علي" "سمهعلي"، وهو مكرب كذلك، حكم في حدود سنة "845 ق. م.".
3- شهر يجل يهرجب بن هوف عم "شهر يهركب بن هوفعم" وقد جعله ملكًا، حكم في حوالي سنة "825 ق. م.".
4- وروال غيلن يهنعم بن شهر يجل يهرجب "وروايل غيلان يهنعم بن شهر يكل يهركب"، وقد كان ملكًا، حكم في حوالي سنة "800 ق. م.".
5- فرع كرب يهوضع بن شهر يجل يهرجب "فر عكرب يهوضع بن شهر يكل يهركب"، وشقيق "وروايل" وقد كان ملكًا حكم في حوالي سنة "785 ق. م.".
6- شهر هلل بن ذراكرب بن شهر يجل يهرجب "شهر هلال بن ذرأكرب بن شهر يكل يهركب"، وقد كان ملكًا، حكم في حوالي سنة "770 ق. م.".
7- يدع اب ذبين يهرجب بن شهر هلل "يدع أب ذبيان يهرجب بن شهر هلال"، وقد كان على رأيه مكربًا وملكًا، حكم في حدود سنة "750 ق. م.".
8-؟ ؟ ؟ بن شهر هلل "شهر هلال" وقد كان حكمه حوالي سنة "735 ق. م.".
9- شهر هلل يهنعم بن يدع أب ذبين يهرجب "شهر هلال يهنعم بن يدع أب ذبيان يهركب". وقد كان ملكًا حكم حوالي سنة "720 ق. م.".
10- نبط عم بن شهر هلل "نبطعم بن شهر هلال"، حكم في حوالي سنة "700 ق. م.".
11- يدع اب ينف أو يجل؟ يهنعم بن ذمر علي، أو شقيق شهر هلل بن يدع اب ذبين يهرجب. وقد حكم حوالي سنة "680 ق. م.".
12-؟ ؟ ؟ وقد حكم في حوالي سنة "660 ق. م."
13- سمه وتر بين؟ ؟ ؟ وحكم حوالي سنة "640 ق. م"(3/237)
14- وروال؟ ؟ بن سمه وتر. وقد حكم في حدود سنة "620 ق. م."
وترك "فلبي" فجوة قدرها بنحو من عشر سنين بين الملك المتقدم والملك الذي تلاه، ثم ذكر:
15- اب شبم "أبشبم"، ولم يعرف اسم أبيه، وقد حكم على تقديره في حوالي سنة "590 ق. م.".
16- اب عم بن أب شبم "أب عم بن أب شبم" "أبعم بن أبشم"، وقد كان حكمه في سنة "570 ق. م.".
17- شهر غيلن بن أب شبم "شهر غيلان بن أبشبم" وقد كان حكمه من سنة "555 ق. م."، إلى سنة "540 ق. م." وسنة "540 ق. م" كانت على رأي "فلبي" نهاية مملكة "قتبان" فاندمجت في مملكة سبأ وأصبحت جزءًا منها.(3/238)
قائمة "ألبرايت":
- سمه على وتر "سمهعلي وتر" "مكرب".
هوف عم يهنعم بن سمه على وتر "هوفعم يهنعم بن سمهعلي وتر"، وكان مكربًا حكم في القرن السادس قبل الميلاد. وهو ابن المكرب الأول.
- شهر.
يدع اب ذبين يهنعم بن شهر "يدع أب ذيبان يهنعم بن شهر" مكرب.
شهر هلل يهنعم بن "يدع أب" مكرب.
سمه وتر، يحتمل أنه كان مكربًا، وهو الذي غلبه "يثع أمر وتر" مكرب سبأ.
وروال "وروايل" يحتمل أنه كان مكربًا، وكان تابعًا لـ "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر" أول ملك على سبأ، وقد كان حكمه في حدود سنة "450 ق. م.".(3/238)
- شهر مكرب.
يدع أب ذبين بن شهر "يدع أب ذبيان بن شهر" آخر مكربي قتبان، وأول ملوكها، وقد كان حكمه في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد.
شهر هلل بن يدع أب "شهر هلال بن يدع أب".
نبط عم "بن شهر هلل" "نبطعم بن شهر هلال".
- ذمر علي.
يدع أب يجل بن ذمر على "يدع أب يكل بن ذمر علي" وقد عاصر ثلاثة ملوك من ملوك سبأ الذين حكموا في القرن الرابع قبل الميلاد.
Glaser 1693.
- اب شبم "أب شبم" أبشبم".
شهر غيلن بن أب شبم "شهر غيلان بن أبشبم".
بعم بن شهر غيلن "بعم بن شهر غيلان" "بي عم" "أبي عم".
يدع اب "يجل؟ " بن شهر غيلن "أي شقيق "بعم" "يدع أب يكل؟ " بن شهر غيلان".
شهر يجل "بن يدع اب" "شهر يكل بن يدع أب"، حكم حوالي سنة "300 ق. م.".
شهر هلل يهنعم "شقيق شهر يجل" "شهر هلال يهنعم".
يدع اب ذبين يهرجب "يدع أب ذبيان يهركب" "غير متيقن بمكانه هنا". فرع كرب "فرعكرب".
يدع اب غيلين بن فرع كرب "يدع أب غيلان بن فرعكرب" في النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد.
هوف عم يهنعم "هوفعم يهنعم" حكم حوالي سنة "150" قبل الميلاد.
شهر يجل يهرجب بن هوف عم يهنعم "شهر يكل يهركب بن هوفعم يهنعم".
وروال غيلن يهنعم بن شهر بن شهر يجل "ورويل غيلان بن يهنعم بن شهر يكل".(3/239)
فرع كرب يهوضع بن شهر يجل وشقيق "وروال"، فرعكرب يهوضع بن شهر يكل".
يدع اب بنف "يدع أب ينوف".
ذراكرب "ذرأكرب".
شهر هلل يهقبض ذراكرب "شهر هلال يهقبض بن ذرأكرب".
خراب "تمنع" ونهاية استقلال مملكة قتبان في حوالي سنة خمسين قبل الميلاد، ودخول قتبان في حكم ملوك حضرموت1.
__________
1 BOASORR 119, 1950 P. II(3/240)
الفصل الثاني والعشرون: مملكتا ديدان ولحيان
قلت في نهاية كلامي على حكومة معين أن جالية من المعينيين كانت تقيم في "العلا" أي "ددن" "ديدان"، وأن "ديدان" كانت مستوطنة معينية في الأصل، وقد استقلت بشئونها بعد ضعف حكومة معين، إذ انقطعت صلتها بأمها في اليمن، وحكمها ملوك منهم نسميهم ملوكًا ديدانيين.
وأول من لفت الأنظار إلى "ديدان" هو السائح "جارلس مونتاكو دوتي"1 فقد رحل سنة 1876 إلى أرض مدين، ولم يبال في أثناء رحلته براحته ولا بما قد تتعرض له حياته من أخطار، ثم زار مواضع عديدة آثارية مثل "مدائن صالح" و "الحجر" و"العلا" وكتب رحلته هذه كتابة لا تزال تعد من خيرة ما كتب في هذا الموضوع في الأدب الإنكليزي، وبذلك لفت الأنظار إلى هذه البقعة الآثارية التي حكمتها مختلف الشعوب، وتكدست في أرضها آثارها متداخلة بعضها ببعض.
ثم جاء بعد "دوتي" رحالون آخرون، فزاروا هذه المواضع منهم: "يوليوس أويتنك"2 و "جارلس هوبر"3 و"جوسن"4. و "سافينة"5.
__________
1 charles Montague Doughty
2 julius Euting
3 charles huber
4 Patre jausen
5 Savignac(3/241)
و"فلبي"1، وغيرهم، وصوروا بعض الكتابات، وقرءوا ما استطاعوا قراءته من كتابات الأحجار ودونوه، أو أخذوا بعضه، وبذلك تجمعت للباحثين مادة، عن تأريخ "العلا"، والمواضع التي تقع في أعالي العربية الغربية، في المملكة الأردنية الهاشمية وفي المملكة العربية السعودية.
وتقع خرائب "ديدان" هذا اليوم في "وادي العلا"، وتوجد على حافتيه كتابات، كما توجد فيه وفي "وادي المعتدل" والأودية الأخرى آثار حضارات ماضية متعددة، كما توجد فيه وفي "وادي المعتدل" والأودية الأخرى آثار حضارات ماضية متعددة، مثل حضارة المعينيين واللحيانيين والديدانيين وغيرهم.
وتعد "الخريبة" مركز الديدانيين، وقد انتزع الأهلون أحجار الآثار، فاستعملوها في مبانيهم فقضوا على كثير من الكتابات، وتشاهد جدر بعض البيوت وقد بنيت الأحجار، وبعضها لا يزال مكتوبًا يحدث الإنسان باعتداء أهل المنطقة عليها وتطاولهم على التاريخ بعمد وبجهل.
وللكتابات التي عثر عليها في هذه الأرضين والتي سيعثر عليها شأن خاص عند من يريد دراسة تأريخ الخط وكيفية تطوره وظهوره، فإن هذه المنطقة هي عقدة من عقد المواصلات المهمة التي تربط جزيرة العرب ببلاد العراق وببلاد الشأم ومصر. وفيها التقت ثقافات وحضارات هذه الأماكن، ولهذا نجد
في كتاباتها مزايا الخط الشمالي والخط الجنوبي كما نجد للغتها مركزًا خاصًّا للهجات ولذلك كان لدراستها شأن خاص عند من يريد الوقوف على اللهجات العربية وكيفية تطورها إلى ظهور الإسلام.
أضف إلى ذلك أنها تقع على الطريق البرية المهمة الموازية للبحر الأحمر، حيث كان أهل العربية الجنوبية ينقلون تجارتهم وتجارة إفريقيا والهند وبقية آسية إلى بلاد الشأم، ثم إنها لا تبعد أكثر من مسيرة خمسة أيام عن البحر الأحمر، حيث كان التجار يذهبون إلى موانئه لبيع ما عندهم لتجار مصر.
لذلك كانت ديدان وبقية مدن هذه الأرضين ملتقى العرب: عرب الجنوب وعرب الشمال، وملتقى تجار أجانب. فلا عجب إذا ما رأينا هذا الاتصال يظهر في الكتابة وفي اللغة وفي الثقافة والحضارة والفزن.
ولا نعرف اليوم من أمر مملكة "ديدان" شيئًا يذكر. ويعود سب جهلنا
__________
1 Hst h Bphiiby(3/242)
بتأريخ هذه المملكة إلى قلة ما وصل إلينا من كتابات عنها، ولعل الزمان يكشف لنا عن كتابات ديدانية تجلي من عيوننا هذه الغشاوة التي حالت بيننا وبين وقوفنا على شيء من أمر ملوك ديدان.
وقد ذهب "كاسكل" إلى أن ظهور مملكة "ديدان" وابتداء حكمها كان في حوالي السنة "160" قبل الميلاد، غير أنه يرى أن هذه المملكة لم تتمكن من العيش طويلًا، إذ سرعان ما سقطت في أيدي اللحيانيين، وكان ذلك -على رأيه- في حوالي السنة "115 ق. م."1.
وقد وقفنا على اسم ملك من ملوك "ديدان" في الكتابة الموسومة بـ "jS 138"، وهي كتابة ابتدأت بجملة: "كهف كبرال بن متعال ملك دون"2. ومعناها "قبر كبرايل بن متع ايل ملك ديدان"، ويعبر عن القبر والمثوى بلفظة "كهف" في اللهجة الديدانية. فهذه الكتابة إذن، هي شاهد قبر ذلك الملك الذي لا نعرف من أمره شيئًا.
ولا يستبعد "كاسل" أن يكون "كبرايل"، أول ملك أسس مملكة "ديدان"، وآخر ملك حكمها أيضًا، أي أن سقوطها، على أيدي اللحيانيين كان في عهده، أو بعد وفاته، وبذلك انتهت على رأيه حياة تلك المملكة3.
وفي ذهب "ألبرايت" إلى أن الملك "كرب ايل بن متع ايل" الذي عثر على اسمه في كتابة "ديدانية"، كان قد حكم في حوالي السنة "500 ق. م."4.
وما زلنا في جهل تام لكيفية حصول الديدانيين على استقلالهم، وعلاقاتهم بالمعينيين الذين كانوا قبلهم في هذه الأرضين، ولا بد لنا من الانتظار طويلًا للظفر بمزيد من المعارف عن هذه الأمور، فلعل الزمان سيجود على الباحثين بكتابات يخرجها إليهم من باطن الأرض، يكون فيها شرح واف لما نسأل عنه الآن.
وأما "لحيان" فمعارفنا عنهم مع ضآلتها وقلتها خير من معارفنا عن ديدان.
__________
1 Lihyaisch S. 37
2 Lihyaisch S. 78
3 Lihyaisch S. 37
4 Lihyaisch S. 48(3/243)
ويعود الفضل في ذلك إلى ما ورد عنهم في مؤلفات بعض الكتبة اليونان واللاتين وإلى الكتابات اللحيانية التي عثر عليها الرحالون، فإنها أكثر عددًا من الكتابات الديدانية، وأكثر منها كلامًا، فإننا حين نجد الكتابات الديدانية قد لاذت بالصمت فلم تذكر من ملوكها إلا ملكًا واحدًا، نجد الكتابات اللحيانية قد نطقت باسم أكثر من ملك واحد. وإن لم تأت بشيء من هذه المادة كثير.
وقد وصلت إلينا أسماء حكموا ممكلة "لحيان"، وهي مملكة صغيرة تقع أرضها جنوب أرض حكومة النبط، ومن أشهر مدنها: "ددان"، وهي خرائب "العلا" "الخريبة" في الزمن الحاضر، و "الحجر"، وقد عرفت بـ"Hegra" وEgra" عند اليونان واللاتين، ومن الكتابات اللحيانية والآثار التي عثر عليها في مواطنهم، استطعنا استخراج معارفنا عن مملكة لحيان1.
وقد كان شعب لحيان من شعوب العربية الجنوبية في الأصل في رأي بعض الباحثين. وقد ذكرهم "بلينيوس" في جملة شعوب العربية الجنوبية، وسماهم Lexianes أو2Lechieni= Lacanitae وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الحميريين استولوا على مواطن اللحيانيين في حوالي سنة "115 ق. م."، فخضعوا بذلك لحكم الحميريين3.
ومما يؤيد وجهة نظر من يرى أن اللحيانيين هم من أصل عربي جنوبي، ورود اسم "لحيان" في نص عربي جنوبي قصير، هذا نصه: "أب يدع ذلحين" أي "أبيدع ذو لحيان"4. وفي هذا النص دلالة على أن اللحيانيين كانوا في العربية الجنوبية ويظهر أن "أبيدع" المذكور كان أحد أقيال "لحيان" في ذلك الزمن.
ويرى "كاسل" أن اللحيانيين كانوا يقيمون على الساحل على مقربة من "ددن" "الديدان"، وكانت لهم صلات وثيقة بمصر، وتأثروا بالثقافة اليونانية التي كانت شائعة في مصر إذ ذاك، حتى إنهم سموا ملوكهم بأسماء يونانية، مثل
__________
1 Die Araber, I, S., 94
2 Die Araber, I, S., 94, Pliny, 6, 155, Arabian, S., 23
3 W. Caskel, Das Altarabische Konigrelch Lihjan, "1951", S., 10, J. Ryckmans,
In BlbUotheca OrientaiisT 18, 10, "1961", 219, W. F. Albright,
Von Ugarit nach Qumran, "1961", S., 6.
4 REP. EPIG. 3902, 10, Die Araber, I, S., 93(3/244)
"تخمي" Tachmi و "بتحمي" Ptahmy و"تلمي" Tulmi وقد أخذت من "بطلميوس"1 Ptolemaios.
أما الكتابات الليحانية أو الكتابات الأخرى مثل النبطية أو الثمودية أو المعينية وغيرها، فإنها لم تتحدث بأي حديث عن أصل اللحيانيين.
ويعود الفضل في حصولنا على ما سندونه عن تأريخ لحيان إلى الكتابات اللحيانية وهي، وإن كانت قليلة وأكثرها في أمور شخصية، فقد أفادتنا فائدة قيمة في الكشف عن بعض تأريخ اللحيانيين وستزيد معارفنا بالطبع في المستقبل كلما ذاد عثور العلماء على كتابات لحيانية جديدة، ولا يستبعد أن يكون عدد منها لا يزال مطمورًا في بطن الأٍرض.
وقد عالج بعض المستشرقين موضوع "لحيان"، ومنهم "كاسكل" فكتب فيهم، كتابين باللغة الألمانية2. ذهب فيهما إلى أن اللحيانيين كانوا كأكثر الشعوب تجارًا، وكانت تجارتهم مع "مصر" بالدرجة الأولى. وقد انتزعوا الحكم من الجاليات المعينية التي كانت تقيم في هذه الأرضين التي كانت في الأصل جزءًا من ممكلة معين فلما ضعف أمر حكومة معين في اليمن ولم يبق في استطاعتها السيطرة على أملاكها البعيدة عنها، طمع الطامعون ومنهم اللحيانيون في المعينيين الشماليين الساكنين في هذه الأرضين، فانتزعوا الحكم منهم وسيطروا عليهم، واندمج المعينيون فيهم حتى صاروا جزءًا منهم، وكان ذلك -على رأيه- في القرن الثاني قبل الميلاد، وفي حوالي السنة "160" قبل الميلاد تقريبًا3.
ويرى "كاسكل" أن المعينيين كانوا قد بقوا يحكمون "ديدان" مكونين حكومة "مدينة" إلى حوالي السنة "150 ق. م."، وعندئذ أغار عليهم اللحيانيون وانتزعوا الحكم منهم، ويرى أن من المحتمل أن الملك الأول الذي حكم اللحانيين كان من أهل الشمال، وربما كان من النبط غير أن الذين جاءوا بعده كانوا من اللحيانيين4.
وقد كان المعينيون يسيطرون على أعالي الحجاز في القرن الخامس قبل الميلاد،
__________
1 Lihyanisch, S., 39, Die Araber, I, S., 102
2 Das Altarabische Konigreich Lihjan, 1951, Llhyan und Lihyanisch, 1954
3 Die Araber, I, a, 94
4 Das Altarabische Konigreich, S., 9(3/245)
مكونين مستوطنات معينية غايتها حماية الطرق التجارية التي تمر من بلاد الشأم إلى العربية الجنوبية. وقد عرفت تلك المستعمرة التي تحدثت عنها سالفًا باسم "معين مصران"، وعاصمتها مدينة "علت"، هي "العلا" في الزمن الحاضر، ومن مدنها الأخرى "ديدان"، و"الحجر" وغيرهما1.
وقد اختلف الباحثون فيمن سكن هذه الأرضين أولًا ومن حكم قبلًا:
الديدانيون، أم المعينيون أم اللحيانيون؟ فذهب بعضهم إلى أن اللحيانيين إنما جاءوا بعد المعينيين، وهم الذين قضوا عليهم وانتزعوا منهم الحكم وألفوا مملكة لحيانية، وذهب آخر إلى أن اللحيانيين كانوا قد سبقوا المعينيين في الحكم، وأن حكمهم هذا دام حتى جاء المعينيون فانتزعوه منهم في زمن اختلفوا في تعيينه، وذهب آخرون إلى تقديم الديدانيين على المعينيين واللحيانيين وقد اختلفوا كذلك في زمان نهاية حكم كل حكومة من هذه الحكومات2.
ويرى بعض الباحثين أن مملكة لحيان ظهرت في أيام "بطلميوس الثاني"، بتشجيع من البطالمة وبتأييدهم ليتمكنوا من الضغط على النبط حتى يكونوا طوع أيديهم. وقد جعل بعضهم ذلك الاستقلال فيما بين سنة "280 ق. م." وسنة "200 ق. م."3 ويرى غيرهم أن ذلك كان قبل هذا العهد.
وقد كان اللحيانيون يكرهون النبط؛ لأنهم كانوا يطمعون في بلادهم ويعرقلون تجارتهم التي كان لا بد لها من المرور بأرض النبط، ولهذا لجئوا إلى "البطالمة" يحتمون بهم، ويتوددون إليهم ليحموهم من تحكم النبط في شئونهم، بقوا على ذلك طول أيام "البطالمة" فلما حل الرومان محلهم، توددوا إليهم كذلك للسبب نفسه4.
ويرى بعض الباحثين أن النبط هم الذين قضوا على مملكة لحيان، باستيلائهم على "الحجر" سنة "65 ق. م" وعلى ديدان سنة "9 ق. م."، على
__________
1 Arabien, 8., 26
2 j. H. Mordtmann, BeitrSge zur Maintschen Epignaphik, Weimar, 1897, S., XI, BOASOOR, NTJM., 73, 1939, NUM., 129, 1953, P. 23, Le Musfeon, 51, (1938) , P. 307, Arabien, S., 46
3 Ency., Vol., Ill, P. 26, Die Araber, I, S-, 104
4 Die Araber, I, S., 104(3/246)
حين يرى آخرون أن نهايتها كانت في القرن الثاني بعد الميلاد1. وذهب "كاسكل" إلى أن النبط قضوا على مملكة "لحيان"، وذلك بعد السنة "24 ب. م."، إلا أن حكم النبط لم يدم طويلًا؛ لأن الرومان كانوا قد استولوا على مملكة النبط سنة "106 م"، وكونوا منها ومن أرضين عربية أخرى مجاورة اسم "المقاطعة العربية" "الكورة العربية" وبذلك انتهى حكم النبط على لحيان2.
ولا نعرف ماذا كان عليه موقف اللحيانيين من احتلال الرومان لأرض النبط ومن تكوين الرومان لما يسمى بـ "الكورة العربية"، التي جاورت أرض اللحيانيين، ويرى "كاسكل" أن موقف اللحيانيين من الرومان كان موقفًا وديًا؛ لأنهم أنقذوهم، من سيطرة النبط، عليهم، ويرى احتمال تكوين اتصال سياسي بينهم وبين الرومان3.
وقد استدل "كاسكل" من شاهد قبر يعود زمنه إلى حوالي السنة التاسعة قبل الميلاد. عثر عليه في "العلا" أرخ بحكم الملك "الحارث الرابع"4 Aretas.
على أن اللحيانيين كانوا يومئذ تحت حكم ملوك النبط، واستدل على رأيه هذا بعدم إشارة "سترابون" إلى مملكة لحيانية في أثناء حديثه عن حملة "أوليوس كالوس" "أوليوس غالوس" على اليمن التي وقعت في حوالي سنة "25 م" وكلامه على ملوك النبط، وكأن ملكهم قد شمل أرض لحيان، حتى بلغ مكانًا لا يبعد كثيرًا عن "المدينة" "يثرب" ورأى في ذلك علامة على أن ملوك النبط كانوا قد استذلوا اللحيانيين وقضوا على استقلالهم زمانًا لم يحدد بالضبط5.
ويظن أن النص اللحياني الموسوم بـjS 349 من نهاية القرن الثاني قبل الميلاد على رأي بعضهم، هو من أقدم النصوص اللحيانية، دونه رجل اسمه "نرن بن حضرو" "ناران بن حاضرو" "نوران بن حاضر"، وذلك بأيام "جشم بن شهر" و "عبد" الذي كان واليًا على "ددان" يومئذ6. وقد
__________
1 Lihyanisch, S., 35, Die Araber, I, S., 95, CIH, 2, I, 332
2 Arabien, S., 48, Lihyanisch, S., 42, Die Araber, I, &, 97
3 Lihyanlsch, S., 42
4 CIH, II, I, 332, Die Araber, I, S., 95
5 Die Araber, I, S., 95, Konigreich Lihjan, S., II
6 Lihyantsch, S., 39, 101(3/247)
ذكر في النص اسم الملك الذي كتب النص في عهده، إلا أن الزمان عبث به، إذ أصيب بكسر فسقط تمامًا الاسم منه.
وقد تجسست بعض النصوص اللحيانية على ملوك لحيان، فقدمت للباحثين بعض أسمائهم، وأعلمتنا بذلك أن اللحيانيين كانوا قد كونوا لهم مملكة حكمت أمدًا، ثم زالت من الوجود كما زال غيرها من ممالك، وإذ لم يقم العلماء في "العلا" وفي الأرضين اللحيانية الأخرى بحفريات منتظمة، فليس بمستبعد أن يعثر فيه يومًا ما على نصوص لحيانية أخرى تكشف النقاب عن أسماء عدد آخر من ملوك لحيان1.
ومن الملوك الذين عرفنا أسماءهم من النصوص المذكورة، ملك اسمه:
"هنوس بن شهر" "هانوس بن شهر" "هانواس بن شهر". وقد ذكر معه في النص اسم ملك آخر شاركه في الحكم، إلا أنه سقط منه بعبث حدث له، فأضاع علينا اسمه، وقد أصيب النص بتلف في مواضع منه، فأضاع علينا المعنى، والظاهر أنه دون لمناسبة إنشاء الملكين طريقًا يمر بجبل، فشقا الأرض، ورصفا وجهها وكسوها بمادة تملسها ليسهل السير عليها2.
وعرفنا من تلك النصوص ملكًا آخر عرف بـ "ذ اسفعن تخمي بن لذن" "ذو اسفعين تحمي بن لوذان" وقد قدر "كاسكل" زمان حكمه في النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد3. وإلى أيامه تعود الكتابة الموسومة بـ: jS 85 وقد دونت لمناسبة إنشاء "بيت" للإله "ذو غابت" ذو غابة" إله لحيان، وذلك في السنة الأولى من حكم هذا الملك4.
وورد اسم الملك "شمت جشم بن لذن" "شامت جشم بن لوذان" في الكتابة الموسومة بـ "Js 85" وقد دونت لمناسبة تقديم شخص نذرًا إلى الإله "ذو غابة"، وذلك في السنة التاسعة من حكم هذا الملك وقد قدر "كاسكل" زمان حكمه فيما بين السنة "9ق. م." والسنة "56 ق. م"5.
__________
1 Arabien, 1963, S. 76, Die Araber, I, S., 100, 103, Lihyanisch, S., 41, W. Tarn
in Journal of Egypt. Archeol., 15, (1929) , 19, Eney., in, P. 26.
2 Lihyanisch, S., 40, 41
3 Lihyanisch, S., 41, 88-89
4 Lihyanisch, S., 88-89
5 Lihyanisch, S.f 41, 90(3/248)
وذكر في الكتابة الموسومة بـjS 83 ملك يسمى "جلتقس" "جلت قوس" "ملتقس"، وقد أرخت بأيامه، إذ دونت في السنة التاسعة والعشرين من حكمه، ودونت لمناسبة تقديم شخص نذرًا "ذنذر" "نذر" إلى الإله "عجلبن" "عجل بون" "عجل بن"، وهو "صلم" "أي صنم، قدمه إلى معبد، ذلك الإله1.
وورد اسم الملك "معنى لذن بن هناس" "منعى لوذان بن هانؤاس" في الكتابة الموسومة بـ 82 jS وقد دونت في السنة الخامسة والثلاثين من حكم هذا الملك، لمناسبة تقديم نذر، هو "صلم"، أي "صنم" إلى الإله "عجلبن" صنعه "هصنع" رجل اسمه "سلمى"، وخط الكتابة "هسفر" كاتب اسمه "خرج"2. وقد كان حكمه -على حد قولي "كاسكل" –فيما بين السنة "35 ق. م." والسنة "30 ق. م."3.
وفي عهد هذا الملك أصيبت "ديدان" بهزة أتت على المعبد ومن كان فيه، إذ سقط سقفه على أعضاء مجلس المدينة "هجبل" "ها - جبل" فقتل أكثرهم، ثم أعيد بناؤه بين السنة "127 ب. م" و "134 ب. م."4.
ويظهر من بعض النصوص اللحيانية المتأخرة أن إعادة بناء المعبد قد استغرقت زمنًا طويلًا5، وهذا مما يدل على أن الحالة الاقتصادية لم تكن حسنة في ذلك العهد، وأن الأمور لم تكن جارية على وفق المرام، وأن الحكومة كانت ضعيفة فلم تتمكن من إعادة بنائه بالسرعة المطلوبة.
ويرى "كاسكل" أن النبط هيمنوا على اللحيانيين في القرن الأول قبل الميلاد. وأخذوا يضايقونهم، ثم حكموهم، وقد امتد حكمهم للحيانيين، إلى ما بعد الميلاد، فقبل سنة "65 ق. م." استولى النبط على "الحجر"، ثم ساروا منها إلى "تيماء" ثم قطعوا كل اتصال للحيان بالبحر، واستولوا على ميناء "لويكة كومة" وكان تابعًا للحيان، وتقدموا منه إلى مواضع أخرى، حتى
__________
1 Lihyanisch, S., 41, 91, Die Araber, I, S., 103, Arabien, S., 289
2 Lihyanisch, S., 41, 93
3 Llhyanisch, S., 41
4 Arablen, S., 66
5 Lihyanisch, S., 42(3/249)
أحاطوا بلحيان من جميع الجهات وحكموهم1.
ويظن "كاسكل" أن حكم النبط للحيان قد وقع بين السنة "25- 24 ق. م." والسنة "50 ق. م".
ويظن "كاسكل" أن حكم النبط للحيان دام منذ ذلك الزمن حتى حوالي السنة "80 ق. م." ففي هذا العهد كان حكم النبط نفسه يتدهور بتزايد سلطان الرومان في بلاد الشأم وبدخول حكومة "المكابيين" اليهودية في حماية الامبراطورية الرومانية، والنبط هم في جوار المكابيين في الجنوب، ولما قهر جيش "تراجان" النبط، وقضى على استقلالهم، تخلص اللحيانيون من حكم النبط وعادوا فاستقلوا في إدارة شئونهم فحكمتهم أسرة منهم، يظهر أنها من الأسرة الملكية القديمة التي كانت تحكمهم قبل استيلاء النبط عليهم2.
وكان جلاء حكم النبط عن لحيان في عهد الملك "رب آل" "رب ايل" آخر ملوك النبط الذي انتزع الرومان الأقسام الشمالية من مملكته في سنة 105 للميلاد، ثم أخذوا الأقسام الجنوبية من مملكته بعد سنة تقريبًا، أي سنة106 للميلاد، وبذلك زال حكم النبط عن اللحيانيين، فاستعادوا استقلالهم برئاسة الملك "هناس بن تلمي"3.
وقد عثر الباحثون على كتابتين، ورد في إحداهما: "مسعودو: ملك لحيان" وورد في الأخرى: "ملك لحيان" وقد سقط منها اسم الملك لتلف أصاب الكتابة، وقد ذهب "كاسكل" إلى أن الكتابتين من عهد استيلاء النبط على لحيان وذهب أيضًا أن الملك "مسعودو" أي "مسعود" لم يكن ملكًا بالمعنى الحقيقي، وإنما كان ملكًا اسمًا، وإن الملك الآخر الذي أزال العطب اسمه من الكتابة الثانية، هو الملك "مسعود" نفسه، ولم يذكر كيف جوز صاحب الكتابة لنفسه نعت مسعود، بنعت "ملك لحيان" على حين كانت مملكة لحيان تابعة لمملكة النبط4.
__________
1 Llhyanisch, S., 40, 42
2 Llhyanisch, 8., 42
3 Lihyanlsch, S., 42
4 Lihyanisch, S., 42, Die Araber, I, S., 100, Jausen — Savlgnac, 334, 335, 337(3/250)
ويرى "كاسكل" أن في جملة من حكم اللحيانيين في هذا العهد، عهد تدهور حكم النبط وزوال سلطانهم عن لحيان، ملكًا اسمه "هناس بن تلمي" "هانؤاس بن تلمي". وقد ورد اسمه في كتابة دونت في السنة الخامسة من حكمه، دونها "عقرب بن مر"، صانع تماثيل "هصنع" لمناسبة نحته طرفي صخرة قبره، وصيرهما يمثلان الإله "أبي ايلاف" "أبا لف"، وذلك في السنة المذكورة من حكم هذا الملك1.
وقد جعل "كاسكل" حكم الملك المتقدم "هناس بن تلمي" مبدأ لحكم أسرة جديدة، أو حكومة جديدة، تولت الحكم بعد زوال هيمنة النبط عن اللحيانيين، وكان الملك "لوذن بن هنواس" "لوذان بن هـ -نواس" آخر من حكم من الحكومة القديمة في لحيان، أي آخر من حكم قبل استيلاء النبط على لحيان كما يرى "كاسكل"2. وكان حكمه في حوالي السنة "30 ق. م. على تقدير "كروهمن"3.
وورد اسم الملك "تلمي بن هناس" "تلمي بن ها- نؤاس" في كتابة أرخت بالسنة الثانية من سني حكمه، لمناسبة شراء رجل اسمه "عبد خرج" أرضًا، بني عليها ضريحًا "هكفر" ليكون مقبرة "همثبرن" "ها- مثبرن" يدفن فيها هو وأهله4.
وأورد "كاسكل" اسم الملك "سموي بن تلمي بن هناس" بعد اسم الملك المتقدم5. وهو ملك ورد اسمه في كتابة سجلها "وهب لاه" "وهبله" "وهب الله" وكان قيمًا "قيمه" على "نعم" أنعام الإله "ذغبت" "ذو غابة" لمناسبة قيامه باتمام بناء معبد "ديدان" الذي كان الزلزال قد عبث به6.
وورد اسم ملك آخر من ملوك لحيان، في كتابة دونت في السنة الخامسة من سني حكمه7. دونها "أبو إيلاف بن حيو" وكان "كبير هشعت" "ها- شعت"
__________
1 Llhyanisch, S., 41, 110, JS 75, M. 25
2 Lihyanisch, S., 4
3 Arabien, S., 65, 289
4 Lihyanisch, &, 41, IIL JS 45, M 9
5 Lihyanisch, S., 41
6 Lihyanisch, S., 41, 42, 112, JS 54, M 4
7 Lihyanisch, S., 41(3/251)
أي كبير الجماعة، وهو نعت يدل على أنه كان وجيه القوم ووجههم، وقد أشار فيها إلى مجلس القوم "هيجل"، وكان ذلك في السنة الخامسة من سني حكم "رأي" "رأي" الملك "عبدن هناس" "عبدان بن ها- نؤاس"1.
ويرى "كاسكل" أن حكمه كان في حوالي السنة "110 ب. م."2.
ووضع "كاسكل" ملكًا اسمه "سلح" "سليح" "سالح" بعد اسم الملك "عبدان هانؤاس". وقد حكم –على رأيه- في حوالي السنة "125" بعد الميلاد3. وقد ورد اسمه في كتابة دونت قبل ثلاثة أيام "تلت ايم: قبل رأي سلح" من تولي "سليح" الحكم، وأرخ ذلك بسنة عشيربن من ظهور عتمة، أي حدوث ظلام "سنت عشرين عتم"4. والظاهر أن كسوفًا وقع فأظلمت الدنيا وعتمت، وذلك قبل عشرين سنة من تولي هذا الملك الحكم، فأرخ الناس عندئذ بحدوثها، وفي جملتهم صاحب هذه الكتابة5.
وحكم في حوالي السنة "127 ب. م." ملك اسمه "تلمي هناس" "تلمي ها- نؤاس" على رأي "كاسكل"6، وقد جاء اسمه في كتابة دونت لمناسبة دفع دية "وديو" عن قتيل قتل في السنة الثانية والعشرين من حكم هذا الملك7.
ووضع "كاسكل" الملك "فضج"، بعد الملك "تلمي بن هانؤاس" وجعل حكمه في حوالي السنة "134 ب. م."8 ويظهر من كتابة ورد فيها اسمه أنه حكم أكثر من تسع وعشرين سنة9.
ويرى "كاسكل" أن الملوك اللحيانيين المتأخرين لم يكونوا على شاكلة الملوك اللحيانيين الأول من حيث المكانة والشخصية، ويرى أن الحل والعقد صارا في يد "الجبل" "هجبل"، أي مجلس الشعب، أو مجلس الأمة بتعبير قريب
__________
1 Llhyanisch, S., 41
2 Lihyanisch, S., 113, JS, 72, M 23
3 Llhyanisch, S., 41
4 Lihyanlsch, S.f 41
5 Lihyanisch, S., 115, JS, 68, M 55
6 Lihyanlsch, S., 41
7 Lihyanisch, S., 116, JS, 77, M 27
8 Lihyanlsch, &, 41
9 JS 70, M 52, Lihyanlsch, 8., 119(3/252)
من تعبير هذا الزمان في الغالب، وأن الناس لم يعودوا يحفلون بكتابة لقب "ملك لحيان" بعد اسم الملك، وفي هذا الإهمال تعبير عن نظرة التساهل وعن عدم الاهتمام بأمر الملوك1.
ويتبين من النصوص اللحيانية المتأخرة أن هذا الدور الثاني، أي الدور المتأخر من حكم حكومة لحيان، لم يكن حكمًا مستقرًّا وطيد الأركان، لذلك تفشت السرقات، وكثرت حوادث القتل فيه، ويرى "كاسكل" من ورود أسماء في بعض هذه الكتابات اللحيانية المتأخرة يشعر منها أن أصحابها من إفريقيا ومن جنس حامي، احتمال مهاجمة الحبش لساحل البحر الأحمر الواقع فيما بين "لويكة كومة" وحدود مملكة سبأ ونزول الحبشة في هذه الأرضين2.
ويرى "كاسكل" أن الكتابات المشار إليها، هي من زمن يجب أن يكون محصورًا بين السنة "150" والسنة "300" بعد الميلاد، وفي هذه المدة يجب أن يكون وقوع غزو الحبش للسواحل العربية المذكورة3. ويرى باحثون آخرون أن ملك الحبشة الذي يمكن أن يكون قد غزا هذه السواحل، هو الملك Sembruthes وهو من ملوك "أكسوم" وقد عثر الباحثون على طائفة من الكتابات مدونة باليونانية تعود إلى أيامه، ويجب أن يكون غزوه لتلك السواحل قد وقع بين نهاية القرن الرابع للميلاد وبين النصف الأول من القرن الخامس للميلاد4.
ويرى "كاسكل" أن الرومان الذين استولوا على ممكلة النبط لم يبلغوا أرض لحيان، بل وقفوا عند حدود النبط، أو عند أرض تبعد مسافة عشرة كيلومترات عن "ديدان"، بدليل انقطاع الكتابات التي كان يكتبها الجنود الرومان ويتركونها في الأماكن التي ينزلون بها عند الحد المذكور، فلم يعثر السياح على كتابة يونانية بعد البعد المذكور5.
ويظهر من كتابة لحيانية وسمت بـM 28 أن رجلًا من لحيان كان قد زار
__________
1 Lihyanisch, S., 43
2 Llhyanlsch, 8., 43
3 Die Araber, I, S., 100
4 Die Araber, I, S., 100
5 Das Altarablsche, S.,18(3/253)
المواضع: "صار" "صوأر"، و"نشور"، و"ربغ" "رابغ"1.
والكتابة غامضة وزاد في غموضها وعسر فهمها سقوط كلمات منها، لذلك لا يدرى ما المراد من ذكر هذه المواضع. هل أريد به استيلاؤه عليها وضمها إلى النبط؟ أو أريد به توليه الجباية فيها؟ أو هو زارها وتاجر معها؟ وقد يستنتج منها أن هذه المواضع كانت من مدن اللحيانيين في ذلك العهد2.
و"صار" "صأور"، موضع على الطريق بين الحجر ويثرب، وهو الموضع الذي ذكر في جغرافية "بطلميوس" باسم3Assara = Asvara. وهو موضع لا يبعد كثيرًا عن "الحجر" ويقع عند موضع "البدائع" الذي يبعد زهاء واحد وعشرين كيلومترًا جنوبي شرقي "العلا. وأما "نشأر" "نشير" فهو موضع ذكره "ياقوت الحموي" في معجم البلدان. ولم يعين مكانه، وأما "رابغ"، فموضع لا نستطيع أن نؤكد أنه "رابغ" الحالية، وإن كانت التسمية واحدة4.
ولسنا نعلم بعد، كيف كانت نهاية حكومة لحيان، ومن قضى عليها، وإلى أين ذهب اللحيانيون بعد سقوط مملكتهم الذي كان بعد الميلاد كما رأينا.
ويظهر أن قومًا منهم هاجروا إلى الجنوب، وأن قومًا منهم هاجروا إلى العراق فاستقروا بالحيرة، إذ نزلوا في موضع عرف باسمهم, وقد كانوا يتاجرون معها في أيام استقلالهم، ويظن أن موضع "السلمان" المعروف في البادية منسوب إلى الإله "سلمان" إله لحيان ورب القوافل عندهم، وقد كان اللحيانيون ينزلون به في طريقهم إلى العراق5.
ولا يستبعد أن يكون القسم الأعظم منهم قد عاد إلى البادية، واندمج في القبائل، مفضلًا حياة البداوة على حياة العبودية والفوضى، فاندمج في القبائل
__________
1 Lthiyanlsch, S., 40, 94
2 Lthiyanlsch, S., 40, 94
3 Ptolemaus, V, BK., 7, &. 30
4 Uhyanisch, S., 40, 94
5 Lihyanlseh, S., 44, Das Altarablsche, S., 19, Rothstein, Lachmiden, S., 52, 64(3/254)
الأخرى على نحو ما حدث لغيرهم من الناس1.
وقد عثر على مزهرية في "تل أبو الصلابيخ" في جنوب العراق، وجدت عليها كلمة "براك آل" "برك ايل" "بارك ايل" مدونة بقلم ذهب بعض الباحثين إلى أنه قلم لحياني، وذهب بعض آخر إلى أنه من قلم "المسند"، وأن أصحابها من العرب الجنوبيين2.
وقد نسب أهل الأخبار "أوس بن قلام بن بطينا بن جميهر" إلى "لحيان" وهو من مشاهير أهل الحيرة، حكم الحيرة أمدًا3. وقد يكون للحيان الذين ينسب "أوس" إليهم علاقة باللحيانيين الذين أتحدث عنهم.
وقد يكون "بنو لحيان" الذين يذكرهم أهل الأخبار. من بقية ذلك الشعب الساكن في "الديدان" أما اللحيانيون، فهم من "بني لحيان بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر" فهم عدنانيون، وقد كانوا ينزلون في شمال شرقي مكة4. والظاهر أنهم لم يكونوا من القبائل القوية عند ظهور الإسلام، ولذلك لا نجد لهم ذكرًا في أخبار ظهور الإسلام وفي أيام صدر الإسلام5.
وكانت منازل "لحيان" عند ظهور الإسلام في أرض جبلية. وقد غزاهم الرسول بغزوة عرفت بـ "غزوة بني لحيان" فاعتصموا برءوس الجبال، وهجم الرسول على طائفة منهم على ماء لهم، يقال له الكدر، فهزموا وغنم المسلمون أموالهم6. وأرسل الرسول عليهم سرية بقيادة "مرثد بن كنان الغنوي" إلى "الرجيع"، فلقي بني لحيان، وقد قتل مرشد في المعركة، وذلك في السنة الرابعة من الهجرة7.
وقد هجاهم "حسان بن ثابت" فرماهم بالغدر، وذكر موضعهم وهو
__________
1 Lthyanish. s, 44
2 Arabien, S. 273
3 المحبر "ص 358"، Lihja. S. 44
4 ابن قتيبة، المعارف "ص 31" تاج العروس "10 / 324 "الاشتقاق "1/ 109".
5 Envy lll p 26
6 المحبر "114".
7 المحبر "118" Ency lll pp 26 27(3/255)
"الرجيع"، وذكر أنهم تواصوا بأكل الجار. فهم من أغدر الناس، و"دار لحيان" هي دار الغدر1.
ويذكر الأخباريون أن "تأبط شرًّا" أتي جبلًا في "بلاد بني لحيان" ليشتار منه عسلًا، ومعه جماعة، فخرج عليهم اللحيانيون، فهرب من كان مع "تأبط شرًّا"، فحاصره اللحيانيون، إلا أن "تأبط شرًّا" أزلق نفسه على جدران الجبل، فلم يلحقوا به، وهرب2.
وقد عثر السياح في حوالي سنة 300 بعد الميلاد فما بعدها على كتابات عبرانية ونبطية في وادي "ديدان" تدل على أن قومًا من يهود وقومًا من النبط أو من جماعة كانت تتكلم النبطية كانت قد استوطنت في هذه الأرضين3. وكان اليهود قد زحفوا إلى هذه الأرضين وأخذوا يستقرون فيها حتى وصلوا إلى يثرب، فلما ظهر الإسلام، كان معظم سكان وادي القرى إلى يثرب من اليهود.
وقد وجدت في الكتابات اللحيانية أسماء آلهة تعبدوا لها، في طليعتها الإله "ذو غابت" "ذو غابة". وقد عثر على أنقاض معبد له في وسط خرائب المدينة، ووجد فيه آثار حوض للماء، يظهر أن المؤمنين كانوا يتوضئون به أو يغسلون مواضع من أجسامهم للتطهر قبل أداء الشعائر الدينية، كما عثر على اسم إله آخر عرف عندهم بـ "سلمان"، ويظهر أنه كان يكنى "أبا إيلاف"، ويرى بعض الباحثين أنه إله القوافل، أي الإله الذي يحمل القوافل ويحرسها في ذهابها وإيابها، وذلك؛ لأن إيلاف القوافل كان من واجب الآلهة، كما يقول هؤلاء الباحثون، مستدلين على ذلك بوضع "قريش" قوافلهم في حماية الآلهة4. كما يفهم من آية: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} 5.
__________
1
إن سرك الغدر صرفًا لا خراج له ... فأت الرجيع، وسل عن دار لحيان
ديوان حسان بن ثابت "ص 37" "طبعة هرشفلد".
2 المحبر "197 وما بعدها".
3 Lihyanisch, S, 44
4 Das Altraabische, S, 13
5 السورة رقم "106".(3/256)
وعثر على اسم إله هو "هانئ كاتب" "هني كتب" ومعناه "عبد كاتب" واسم إله آخر هو "هـ- محر" "ها– محر" أي "المحر". وقد ذهب "كاسكل" إلى أن الإله "كاتب" هو في مقابل الإله "توت" THOT عند المصريين، إله الحكمة1.
__________
1 Aitarabisch S 13(3/257)
الفصل الثالث والعشرون: السبئيون
مدخل
...
الفصل الثالث والعشرون: السبئيون
لورود اسم سبأ في القرآن الكريم فضل ولا شك في جميع أهل الأخبار ما بقي في أذهان المسنين عن سبأ والسبئيين، فقد اضطر المفسرون إلى التقاط ما كان ورد عنهم من قصص وحكايات. وما كان القرآن ليشير إلى سبأ، لو لم تكن لهم قصة عند الجاهليين1.
وسبأ عند الأخباريين اسم جد، أولد أولادًا نسلوا، وكانت من ذرياتهم شعوب، ووالده هو "يشجب بن يعرب بن قحطان"، ومن أولاده قبائل كثيرة انتشرت في كل مكان من جزيرة العرب، قبل الإسلام وبعده، وإليه نسب نسله السبئيون، وقد زعموا أن اسمه الحقيقي هو "عبد شمس"، وأما سبأ فلقب لقب به؛ لأنه أول من سبأ، أي سن السبي، من ملوك العرب وأدخل اليمن السبايا، وذكر بعضهم أنه بنى مدينة "سبأ" وسد مأرب وغزا الأقطار وبنى مدينة "عين شمس" بإقليم مصر، وولى عليها ابنه "بابلون" "بابليون"، وقالوا أشياء أخرى من هذا القبيل2.
__________
1 سورة النمل: الرقم 27 الآية22 سورة سبأ، الرقم 34 الآية 15.
2 المحبر "ص 364" الطبري "1/ 225" ورووا شعرًا على لسان علقمة بن ذي جدن في هذا المعنى:
ومنها الذي لم يسب قبل سبائه ... سباء ومن دان الملوك مرارا
منتخبات "ص 47" تاج العروس "10 / 169"، ابن خلدون "2/47".(3/258)
وليس في النصوص العربية الجنوبية شيء عن نسب سبأ وعن هويته، وليس فيها شيء عن اسمه أو عن لقبه المزعوم، وكل ما ورد فيها أن سبأ اسم شعب، كون له مملكة، وترك عددًا كبيرًا من الكتابات، وكان يتعبد لآلهة خاصة به، وله حكام حاربوا غيرهم، إلى غير ذلك من أمور سوف يأتي الكلام عليها نعم، نشرت في كتاب "REP EPIG صورة كتابة، ذكر أنها حفرت على نحاس، وهي في مجموعة p LAMARA جاء فيها، "عبد شمس، سبأ بن يشجب، يعرب بن قحطان"1.
ولم تنشر الصورة "الفوتوغرافية" لأصل الكتابة وإنما نشرت كتابتها بالأحرف اللاتينية والعبرانية، ولم يبد المتخصصون رأيًا في هذا اللوح وفي نوع كتابته وزمان الكتابة، لذلك لا أستطيع أن أبدي رأيًا فيها، ما لم أقف على ذلك اللوح.
وأما حظ سبأ في الموارد التأريخية، فإنه لا بأس به بالقياس إلى حظ الشعوب العربية الجاهلية الأخرى, فقد ورد ذكر السبئيين في التوراة وفي الكتب اليونانية واللاتينية وفي الكتابات الآشورية، ويظن أن كلمة A – Ba A- A = S الواردة في نص سومري يعود إلى Aradnannar "باتيسي" "لجش" Lagash "تلو" معاصر آخر ملوك "أور"، أي من رجال النصف الثاني من الألف الثالثة قبل المسيح، تعني أرض سبأ2. ويرى "هومل" أن كلمة Sabum Sa- bu- um التي وردت عند ملوك "أور" في حوالي سنة "2500 ق. م." إنما تعني Seba الواردة في العهد العتيق3. وإذا صح أن Saba و Sabum سبأ والسبئيين، صارت هذه النصوص السومرية أقدم نصوص تأريخية تصل إلينا وفيها ذكر "سبأ"، ويكون السبئيون أول شعب عربي جنوبي يصل خبره إلينا، ونكون بذلك قد ارتقينا بسلالم تأريخها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد4.
وقد ذهب "مونتكومري" Montgomery إلى أن السبئيين المذكورين في
__________
1 REP, EPIG. 4304, VHI, IX, P. 184
2 Ency., Vol., 4. P. 3, O'Leary, P. 87, Rawllnson, Cuneif
Inscr. W - Asia., II, 53, 67, III, 10, No. 2, 38
3 Hommel, in: Hilprecht's Explorations in Bible Land, Philadelphia, 1903,
P. 739, Ency., 4, P. 3, Arabien, S., 24
4 Arablen, S., 24(3/259)
النصوص السومرية كانوا من سكان "العربية الصحراوية"، أي البادية، وهذه البادية هي مواطنهم الأصلية الأولى، ومنها ارتحلوا إلى اليمن، أما متى ارتحلوا عنها، فليس لدى هذا المستشرق علم بذلك، ويرى بعض الباحثين أن مجيء السبئيين إلى ديارهم التي عرفت باسمهم، إنما كان في ابتداء العصر الحديدي، أي في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وذلك بعد مئات من السنين، من هجرة المعينيين والقتبانيين إلى اليمن1.
ورأى بعض آخر احتمال هجرة السبئيين إلى اليمن في حوالي السنة "1200" قبل الميلاد، أما هجرة المعينيين، والقتبانيين وأهل حضرموت، فقد كانت في حوالي السنة "1500 ق. م.". وقد مارس السبئيون الزراعة والتجارة، فكانت قوافلهم التجارية تصل إلى بلاد الشأم، وذلك في حوالي السنة "922 ق. م." على ما يستنبط من التوراة2.
وذهب "هومل" إلى أن السبئيين هم من أهل العربية الشمالية في الأصل، غير أنهم تركوا مواطنهم هذه، وارتحلوا في القرن الثامن، قبل الميلاد إلى جنوب جزيرة العرب، حيث استقروا في منطقة "صرواح" و"مأرب" وفي الأماكن السبئية الأخرى، كانوا يقيمون على رأيه في المواضع التي عرفت بـ "أريبي" "عريبي" "أريبو" في الكتابات الآشورية وبـ "يارب"jareb = jarb في التوراة 3.
ومن "يرب" "يارب" على رأيه "جاء اسم "مأرب" عاصمة "سبأ"4. ويؤيد رأيه بما جاء في النص: Glaser 1155 الذي سبق أن تحدثت عنه من تعرض السبئيين لقافلة معينية في موضع يقع بين "معان" و "رجمت" الواقع على مقربة من "نجران"5، وعنده أن هذا النص يشير إلى أن السبئيين كانوا يقيمون في أيام ازدهار حكومة معين في أرضين شمالية بالنسبة إلى اليمن، ثم
__________
1 Arabien, S., 24, Burton, Royal Inscriptions of Sumer and Akkad, 1929, P. 115, Montgomery, P. 50, Otto Etsfeiat — Festschrift, Wiesbaden,
1959, S., 153
2 الملوك الأول، الإصحاح التاسع، الآية 11،Arabien, S., 24
3 Hommel. Geographle und Geschichte des Alten Orients, I,
S., 142, Aufsatz und Abhande, S., 230, 281, 302, 313
4 المصدر نفسه
5 Glaser 1155 = Halevy 535(3/260)
انتقلوا إلى اليمن. ويرى في اختلاف لهجتهم عن لهجة بقية شعوب العربية الجنوبية دليلًا، آخر على أن السبئيين كانوا في الأصل سكان المواطن الشمالية من جزيرة العرب، ثم هاجروا إلى الجنوب1.
وقد ذكر العهد العتيق "شبا" "سبا" تارة في الحاميين، وذكرهم تارة أخرى في الساميين، ففي الآية السابعة من الإصحاح العاشر من التكوين، وفي الآية التاسعة من الإصحاح الأول من أخبار الأيام الأول: أن "شبا" من "كوش بن حام" فهم من الكوشيين، أي من الحاميين، على حين أننا نرى في الآية الثامنة والعشرين من الإصحاح العاشر من التكوين أنهم من الساميين، وبين الحاميين والساميين، فرق كبير كما هو معلوم، ثم إننا نرى أن التوراة قد جعلت "شبا" من ولد "يقطان" في موضع2. وجعلته من ولد "يقشان" في موضع آخر3. ويقطان هو ولد من ولد "عابر" Eber أما "يقشان" فهو ولد من أولاد "إبراهيم" من زوجه "قطورة"4. وفرق بين الاثنين.
ويرى علماء التوراة أن ذكر "شبا" و "سبا" تارة في الكوشيين، أي الحاميين، وتارة أخرى في اليقطانيين، أو في "اليقشانيين"، هو تعبير وكناية عن انتشار السبئيين، ونزوح قسم منهم إلى السواحل الإفريقية المقابلة، حيث سكنوا فيها، وكونوا مستوطنات بها في "الأريتريا" وفي الحبشة وفي أماكن أخرى. ولهذا ميزتهم التوراة عن بقية السبئيين المقيمين في العربية الجنوبية بجعلهم من أبناء "كوش"، وميزت السبئيين المختلطين بقبائل "يقشان" برجع نسبهم إلى "يقشان"، وبذلك صار السبئيون ثلاث فرق بحسب رواية التوراة، لانتشارهم وإقامة جماعات منهم في مواضع غريبة عن مواضعهم، وذلك قبل الميلاد بالطبع بمئات من السنين5.
وقد وصفت أرض "شبا" في التوراة بأنها كانت تصدر "اللبان"6، وكانت
__________
1 Hommel Geogr I s 143
2 التكوين: الإصحاح العاشر الآية 28
3 التكوين: الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 3
4 التكوين: الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 2
5 Hastings p 490 862 Encyci Bncl P 2564
6 ارميا: الإصحاح السادس الآية 20.(3/261)
ذات تجارة، وأن تجارها كانوا يتاجرون مع العبرانيين: "تجار شبا ورعمة هم تجارك، بأفخر أنواع الطيب، وبكل حجر كريم والذهب أقاموا أسواقك، حران وكنة وعدن تجار شبا وأشور وكلمد تجارك"1. واشتهرت قوافلها التجارية التي كانت ترد محملة بالأشياء النفيسة2، وعرفت بثروتها وبوجود الذهب فيها3.
وقد قيل لذهبها "ذهب شبا"4. ويتبين من المواضع التي ورد فيها ذكر السبئيين في التوراة أن معارف العبرانيين عنهم قد حصلوا عليها من اتصالهم التجاري بهم، وهي محصورة في هذه الناحية فقط، فلا نجد في التوراة عن السبئيين غير هذه الأمور.
وقصة زيارة "ملكة سبأ" لسلمان، المدونة في التوراة، هي تعبير عن علم العبرانيين بالسبئيين، وعن الصلات التجارية التي كانت بينهم وبين شعب سبأ. ولم تذكر التوراة اسم هذه الملكة، ولا اسم العاصمة أو الأرض التي كانت تقيم بها5. وقد ذهب بعض نقدة التوراة إلى أن هذه القصة هي أسطورة دونها كتبة التوراة، الغرض منها بيان عظمة ثروة سليمان وحكمته وملكه6. ورأى آخرون أن هذه الملكة لم تكن ملكة على مملكة سبأ الشهيرة التي هي في اليمن، وإنما كانت ملكة على مملكة عربية صغيرة في أعالي جزيرة العرب، كان سكانها من السبئيين القاطنين في الشمال. ويستدلون على ذلك بعثور المنقبين على أسماء ملكات عربيات، وعلى اسم ملك عربي، هو "يثع أمر" السبئي في النصوص الآشورية، في حين أن العلماء لم يعثروا حتى الآن على اسم ملكة في الكتابات العربية الجنوبية، ثم صعوبة تصور زيادة ملكة عربية من الجنوب إلى سليمان وتعجبها من بلاطه وحاشيتة وعظمة ملكه، مع أن بلاط "أورشليم" يجب ألا يكون شيئًا بالقياس إلى بلاط ملوك سبأ، ولهذا لا يمكن أن تكون هذه المملكة في نظر هذه الجماعة
__________
1 حزقيال: الإصحاح السابع والعشرون، الآية 22 وما بعدها، الإصحاح الثامن والثلاثون الآية 13.
2 أيوب: الإصحاح السادس، الآية 19.
3 Hastings p 842
4 المزامير: المزمور الثاني والسبعون الآية "15".
5 "فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدًّا بجمال حاملة أطيابًا وذهبًا كثيرًا جدا وحجارة كريمة" الملوك الإصحاح العاشر، الآية 2.
6 Hastings p 843(3/262)
من علماء التوراة، إلا ملكة مملكة عربية صغيرة لم تكن بعيدة عن عاصمة ملك سليمان، قد تكون في جبل شمر أو في نجد أو في نجد أو الحجاز1.
وذهب بعض العلماء أيضًا إلى أن الغرض من هذه الزيارة لم يكن مجرد البحث عن الحكمة وامتحان سليمان، وإنما كان لسبب آخر على جانب كبير من الأهمية بالقياس إلى الطرفين، هو توثيق العلاقات التجارية وتسهيل التعامل التجاري بينهما2.
وقد ذهب المؤرخ اليهودي "يوسفوس" إلى أن هذه الملكة كانت ملكة "أثيوبية" الحبشة ومصر. زاعمًا أن Saba اسم عاصمة الأحباش3, وأن اسم هذه الملكة: 4Naukalis.
ونجد زعم "يوسفوس" هذا شائعًا فاشيًا بين أهل الحبشة، فهم يذهبون حتى اليوم إلى أن أسرتهم المالكة هي من سلالة سليمان وزوجه ملكة "شبا" ويدعونها "ماقدة" 5Makeba. ولا أظن أن "يوسفوس" قد اخترع نفسه تلك القصة، بل لا بد أن يكون قد أخذها من أفواه قومه العبرانيين.
وقد وصف هذا المؤرخ زيارتها لقصر سليمان في "أورشليم"، وذكر أنها عادت إلى مملكتها بعد أن استمعت إلى حكم هذا الملك النبي6. وهو يردد بذلك صدى ما جاء في التوراة من أن زيارة تلك الملكة إنما كانت لالتماس الحكمة منه.
ومهما قيل في أصل هذه القصة، وفي خبر المؤرخ "يوسفوس" عن الملكة، فإننا نستطيع أن نقول أنها ترجمة وتعبير عن الصلات التأريخية القديمة الاقتصادية والسياسية التي كانت بين سبأ والحبشة، وعن أثر السبئيين في الأحباش من جهة وبين هذا الفرق والعبرانيين من جهة أخرى، رمز إليها بهذه القصة التي قد تكون
__________
1 Montgomery, P. 181, Dhorme, Revue Biblique, P. 105, Glaser, Sktzze,
II, S., 387, Dussaud, Les Arabes en Syrie, P. 10, Hastings, P. 843
2 Hastings, P. 843. Kittel, Die Biicher der Kbnige, S., 89
3 Encycl., Vol., I, P. 720
4 Ency., Vol., I, P. 720
5 ويدعى الأحباش أن "منليك" وهو جد الأسرة المالكة، هو ابن سليمان من زوجه "ماقدة" ملكة "شبا"،
Encycl., Vol. I, P. 720, J. B. Coneibeaux, Histoire de L'Abyssinie,
I, P. 108
6 Josephus, Jewish Antiquities, Vol., V., P. 661(3/263)
زيارة فعلية حقًّا، أدهشت العبرانيين، أدهشتهم من ناحية ما شاهدوه من ثراء الملكة، وثروتها، حتى أدخلوها في التوراة للإشادة بعظمة سليمان وما بلغه من مكانة وثراء وسلطان.
لقد أدهشت هذه الملكة السبئية "سليمان" حين جاءت مع قافلة كبيرة من الجمال تحمل هدايا وألطافًا من أثمن المواد الثمينة بالقياس إلى ذلك العهد، وإذا كانت هذه الزيارة قد تمت من العربية الجنوبية حقًّا، فلا بد أنها تكون قد قطعت مسافة طويلة حتى بلغت مقر "سليمان" في حوالي السنة "950 ق. م."1.
وإذا أخذنا بحديث التوراة عن تجار "شبا" "سبأ" وعن قوافل السبئيين التي كانت تأتي بالذهب وباللبان وبأفخر أنواع الطيب إلى فلسطين، وذلك في أيام "سليمان" وقبل أيامه أيضًا، وجب رجع زمان هذه القوافل إذن إلى الألف الثانية قبل الميلاد، وذلك؛ لأن زيارة الملكة: ملكة سبأ لسليمان، كانت في حوالي السنة "950 ق. م." 2. ومعنى هذا أن السبئيين كانوا إذ ذاك من الشعوب العربية الجنوبية النشيطة في ذلك العهد، وقد كانوا أصحاب تجارة وقوافل وأموال لا يبالون ببعد الشقة وطول المسافة، فوصلوا بتجارتهم في ذلك الزمان إلى بلاد الشأم.
وقد قص القرآن الكريم قصة زيارة ملكة "سبأ" لسليمان دون أن يذكر اسم الملكة3. غير أن المفسرين والمؤرخين وأهل الأخبار ذكروا أنها "بلقيس" وأنها من بنات التبابعة4، وقد صيرها بعضهم "بلقيس بنت ايليشرح"5، أو "بلقمة ابنة اليشرح"، أو "بلقيس بنت ذي شرح بن ذي جدن بن ايلي شرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"6، وهي "بلقيس ابنة الهدهاد بن شرحبيل"7 إلى غير ذلك من أقوال 8 وأرى أن
__________
1 Discoveries, P. 35, Hastings, P. 868
2 Discoveries, P. 35
3 سورة النمل: رقم 27 الآية 21 وما بعدها.
4 Encycl., vol., ll, p. 720
5 الطبري: "1/ 576" وما بعدها، 638، 908".
6 الطبري "1/ 254" "طبعة المطبعة الحسينية".
7 اليعقوبي "1/ 158" "طبعة النجف".
8 كتاب النيجان "ص 151" ومروج الذهب "2/ 4".(3/264)
الذين جعلوا اسم والدها الهدهاد، إنما أخذوا ذلك من "الهدهد" الطير الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، والذي نقل نبأ ملكة سبأ إلى سليمان1. وقد كان الهدهاد على زعمهم في عداد ملوك اليمن، وجعلوا سليمان ملكًا على اليمن كذلك، جعلوا ملكه على اليمن ثلاثمائة وعشرين سنة، وجعلوا ملك "بلقيس" وحدها مائة وعشرين سنة2. إلى ذلك من أقوال.
وقد صير "ابن دريد" اسم بلقيس "يلقمه" وأوجد تعليلًا لهذه التسمية فقال: إنها من "اليلمق"، واليلمق القباء المحشو، ويقال إنه فارسي معرب3.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "بلقيس" لم تكن متزوجة حين قدمت على سليمان، فقال لها "سليمان": لا تصلح امرأة بلا زوج، فزوجها من "سدد بن زرعة"4. وهكذا صيروا أمر ملكة سبأ كله بيد سليمان، حتى أمر اختيار زوج لها.
ويرى بعض الباحثين أن ما جاء في التوراة عن السبئيين، لا يعتمد على موراد أصلية ومنابع موثوقة، بل أخذ من موارد ثانوية، ولهذا فإن في الذي جاء فيها عنهم يحملنا على اعتباره مادة كدرة، ليس فيها صفاء5.
وقد ذكر السبئيون في المؤلفات اليونانية واللاتينية، وأقدم من ذكرهم من اليونان "ثيوفراستس"6. والمعلومات التي أوردها وعن جزيرة العرب وإن كانت ساذجة ذات طابع خرافي في بعض الأحيان، إلا أن بعضًا منها صحيح، وقد أخذ من أقوال التجار، ولا سيما تجار الإسكندرية، الذين كانوا يستقبلون السلع من العربية الجنوبية وإفريقيا، ومن قصص النوتيين الذين كانوا يسلكون البحر الأحمر، ويصلون إلى العربية الجنوبية وسواحل إفريقيا والهند للاتجار، وهي قصص سطحية تميل إلى المبالغات، غير أن هذه المعلومات، على الرغم من هذة النقائص وأمثالها مما تتصف به، هي ذات فائدة كبيرة لمن يريد الوقوف على
__________
1 سورة النمل، رقم 27، الآية 20.
2 اليعقوبي "1/ 158".
3 الاشتقاق "2/ 311".
4 الاشتقاق "2/ 311".
5 The Bibie and Ancient Near East P.300
6 Encyl voi lv p 5(3/265)
حالة جزيرة العرب في ذلك العهد، وقد تحسنت الأخبار اليونانية واللاتينية منذ الميلاد فما بعد تحسنًا عظيمًا، ومرد ذلك إلى الاتصال المباشر الذي تم منذ ذلك العهد وما بعده بين اليونان واللاتين والعرب، وإلى الأطماع السياسية التي أظهروها تجاه جزيرة العرب، تلك الأطماع التي جعلتهم يسلكون مختلف الطرق للحصول على معلومات عن بلاد العرب، وحالة سكانها، ومواطن الضعف التي لديهم للولوج منها في بلادهم، ولتحقيق مطامع استعمارية رمت ابتلاع جزيرة العرب. ولذلك اعتبروا ما يحصلون عليه من أخبار عن هذه البلاد من أسرار الدولة التي لا يجوز إفشاؤها ولا عرضه للناس، وهي قد جمعت أضابير وخزنت في الإسكندرية لم يسمح إلا لبعض الخاصة من العلماء الثقات الاستفادة منها.
ويعود غالب علمنا بأحوال السبئيين إلى الكتابات السبئية التي عثر عليها في مواضع متعددة من العربية الجنوبية، ولا سيما في الجوف مقر السبئيين، وهي أكثر عددًا من الكتابات المعينية والقتبانية والحضرمية وغيرها، وهي تشاركها في قلة عدد المؤرخ منها. وقد أرخ قسم من النصوص المؤرخة بأيام حكم سبأ أو بأيام أصحاب الجاه والنفوذ ولذلك صعب على الباحثين تثبيت تواريخها حسب التقاويم الحالية المستعملة عندنا، لعدم علمهم بأيام حكمهم، وبشخصياتهم، وصار تقديرهم لها تقديرًا غير مؤكد ولا مضبوط، بتقويم حمير الذي يبدأ، عادة بحوالي السنة "115" قبل الميلاد، أو السنة "109" قبل الميلاد، على بعض الآراء، فإن من السهل علينا تثبيت زمنها بالنسبة لسني الميلاد، وذلك بطرح الرقم "115" أو "109" من التقويم الحميري، فيكون الناتج من السنين التأريخ حسب التقويم الميلادي بصورة تقريبية.
ومبدأ تقويم حمير هو السنة التي تلقب بها ملوك سبأ بلقب جديد، هو لقب "ملك سبأ وذو ريدان" وهو لقب يشير إلى حدوث تطور خطير، في حكم ملوك سبأ، إذ يعني أن ملوك سبأ أضافوا إلى ملك سبأ ملكًا جديدًا، هو أرض "ذو ريدان" أرض الريدانيين، وهو الحميريين، فتوسع بذلك ملكهم، وزاد عدد نفوسهم، فأرخوا بسنة التوسع هذه، واعتبروها مبدأ لتقويم، والعلماء الباحثون في تأريخ سبأ، هم الذين استنبطوا أن هذا المبدأ هو من حوالي السنة "115" أو "109" قبل الميلاد.
ويلاحظ أن السبئيين لم يهملوا بعد أخذهم بمبدأ التقويم الحميري التوريخ(3/266)
بالطريقة القديمة المألوفة وأعني بها التأريخ بالأشخاص وبالحوادث الجسام بالنسبة لأيامهم، حتى الملوك أرخوا بعض كتاباتهم على وفق هذه الطريقة، وأرخوا البعض الآخر وفقًا للتقويم الحميري الجديد. مما يدل على أنهم لم يتمكنوا من إهمال الطريقة القديمة لشيوعها بين الناس، ولدينا أسماء عدد من الأسر والأشخاص أرخت بهما الكتابات السبئية المؤرخة، مثل: "آل حزفر" "حزفرم" و"آل يهسحم" "يهسحم" و "سالم بن يهنعم" و"آل خليل" وغيرهم1.آوهي تواريخ محلية، لذلك تنوعت وتعددت, ويؤيد ذلك أنا نجد الملك يؤرخ بجملة أشخاص. ولما كان من الصعب الاستمرار بالتأريخ على وفق هذه الطريقة، إذ الحوادث الجديدة تطمس ذكر الحوادث القديمة، كانت التواريخ تتبدل بهذا التبدل، فينسى الناس القديم ويؤرخون بالجديد، وهكذا، وقد حرمنا هذا التغير الفائدة المرجوة من تأريخ الحوادث.
وقد تبين من الكتابات السبئية أن لقب حكام سبأ، لم يكن لقبًا ثابتًا مسقرًّا بل تبدل مرارًا، وأن كل تبدل هو لتبدل الحكم في سبأ ودخوله في عهد يختلف عنوانه عن العهد القديم، ولذلك صار الحكم أدوارًا، واضطر المؤرخون المحدثون إلى التأريخ بموجبها، فدور أول، وهو أقدم أدوار الحكم لقب حكامه فيه: "مكرب سبأ"، ثم دور تال له صار اللقب فيه: "ملك سبأ"، ثم دور آخر تغير فيه عنوان الملك فصار: "ملك سبأ وذو ريدان" وقد وقع في حوالي السنة "115" أو "109" قبل الميلاد. جاء بعده دور جديد صار اللقب الرسمي فيه على هذا النحو: "ملك سبأ وذو ريدان وحضوموت واليمن وأعرابها في المرتفعات وفي التهائم"، وهو آخر دور من أدوار الحكم في سبأ وخاتمة الأدوار.
وبفضل الكتابات السبئية حصلنا على شيء من العلم بأصول الحكم في سبأ وبما سأكتبه وبما كتبه غيري عنهم، وبفضل البقية الباقية من آثار خرائب مدنهم وقراهم ومستوطناتهم استطعنا تكوين إلمامة عن فنهم وعن العمران عنهم، وعن نظم الري والزراعة لديهم وغير ذلك مما سأتحدث عنه، ولولا تلك الكتابات ولولا هذه البقية من الآثار لما صار في إمكاننا الكلام عنهم إلا بإيجاز مخل وكلنا أمل
__________
1 Sab. Inschr., S., 3(3/267)
بالطبع في أن تتبدل الأيام، فتنعم العربية الجنوبية بالاستقرار، وبرجال ذوي عقول مستقلة نيرة، تفهم روح الوقت وتبدل الزمن فتأمر بنبش الأرض لاستنباط ما هو مدفون في باطنها من كنوز روحية ومادية، وعندئذ يستطيع من يأتي بعدنا أن ينال الحظ السعيد بالكتابة عن تلك البلاد كتابة تجعل كتابتنا الحالية شيئًا تافهًا قديمًا باليًا تجاه ما سيعثر عليه من جديد، وأني أرجو له منذ الآن الموافقة والنجاح؛ لأني وإن كنت قد دخلت إذ ذاك في باطن الأرض، فصرت ترابًا ضائعًا بين الأتربة، غير أن لي رجاء وأملًا لا ينقطعان ولا ينتهيان بموت، هو رجاء الكشف عن الماضي الميت وبعثه ونشره وحشره من جديد.
إننا لا زلنا مع ذلك في جهل بنواح عديدة من نواحي الحياة في الممالك العربية الجنوبية التي تكونت في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية. نواح تتعلق بالقوانين وبأصول التشريع، وبالحياة الاجتماعية، وبالحياة الدينية أو الفنية، بل وفي عدد من حكم تلك الممالك وفي ترتيبهم وأعمالهم وما قاموا به، وبصلات أولئك الحكام ببقية جزيرة العرب وبالعالم الخارجي. ودراسة العلماء عن تأريخ العرب الجنوبية الجاهلي وإن تقدمت في خلال السنين المتأخرة، ولكنها لا تزال مع ذلك في بدء مراحلها وهي تجري ببطء وتؤدة.
__________
1 Hastings, P, 504, Encycl, Bibl, P. 2632(3/268)
المكربون
مدخل
...
المكربون:
لقب أقدم حكام سبأ، بلقب "مكرب" في الكتابات السبئية، وفي هذا اللقب معنى "مقرب" في لهجتنا، وتدل اللفظة على التقريب، من الآلهة، فكان "المكرب" هو مقرب أو وسيط بين الآلهة والناس، أو واسطة بينها وبين الخلق.
وقد كان هؤلاء "المقربون" "المكربون" في الواقع كهانًا، مقامهم مقام "المزواد" عند المعينيين و "شوفيط" Shophet وجمعها "شوفيطيم" عند العبرانيين، أي "القضاة"1. وجاء في كتب اللغة: "كرب الأمر يكرب كروبًا: دنا، يقال: كربت حياة النار، أي قرب انطفاؤها، وكل شيء دنا، فقد كرب(3/268)
قال أبو عبيد: كرب، أي دنا من ذلك وقرب، وكل دان قريب، فهو كارب. وورد: الكروبيون سادة الملائكة، منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل هم المقربون، والملائكة الكروبيون أقرب الملائكة إلى العرش1. فللفظة معنى التقريب حتى في عربيتنا هذه: عربية القرآن الكريم.
وقد قدر "ملاكر" Mlaker حكم المكربين بحوالي قرنين ونصف قرن إذ افترض أن حكم المكرب الأول كان في حوالي السنة "800 ق. م."، وجعل نهاية حكم المكربين في حوالي السنة "650 ق. م." وفي حوالي هذا الزمن استبدل -على رأيه- بلقب مكرب لقب "ملك" وانتهى بهذا التغيير في اللقب دور المكربين2.
وقدر غيره حكم المكربين بزهاء ثلاثة قرون، فجعل مبدأ حكمهم في حوالي السنة "750 ق. م."، ونهاية حكمهم في حوالي السنة "450 ق. م."3، وجعل بعض آخر مبدأ حكم المكربين في القرن العاشر أو القرن التاسع قبل الميلاد4. وقد تمكن العلماء من جمع زهاء سبعة عشر مكربًا، وردت أسماؤهم في الكتابات العربية الجنوبية، وكانوا يقيمون في عاصمة سبأ القديمة الأولى مدينة "صرواح". وقد رتب أولئك العلماء أسماء المكربين في مجموعات، وضعوا لها تواريخ تقريبية، لعدم وجود تواريخ ثابتة تثبت حكم كل ملك بصورة قاطعة، ولذلك تباينت عندهم التواريخ وتضاربت، فقدم بعضهم تأريخ الأسرة الأولى، بأن وضع لحكمها تأريخًا يبعد عن الميلاد أكثر من غيره، وقصر آخرون في التأريخ وأخروا، وكل آرائهم في نظري فرضيات لا يمكن ترجيح بعضها على بعض في هذا اليوم، وقد يأتي يوم يكون في الإمكان فيه تثبيت تواريخهم بصورة قريبة من الواقع، استنادًا إلى الكتابات التي سيعثر عليها وعلى دراسة الخطوط وتقدير أعمار ما يعثر عليه وتحليل محتوياته بالأساليب الآثارية الحديثة التي تقدمت اليوم كثيرًا، وستتقدم أكثر من ذلك في المستقبل من غير شك.
__________
1 اللسان "2/ 206"، تاج العروس "1/ 453". Freytae, Lexicon, IV, P. 21
2 Mlaker, Die Hierodulenlisten von Ma'in nebst Untersuchungen zur altsudarabischen echtgeschichte und Chronologie, Samml.Orientalist. Arab., 15, BeitrSge, S., 7.
3 Discoveries, P. 73
4 BOASOOR, NUM., 137, (1955) , P. 38 Arablen, S., 122(3/269)
ويعد المكرب "سمه على" أقدم مكرب وصل إلينا اسمه. ولا نعرف اللقب الذي كان يلقب به، ومن عادة حكام العربية الجنوبية من مكربين وملوك اتخاذ ألقاب يعرفون بها، ومن هذه الألقاب نستطيع التفريق بينهم، ولا نعرف شيئًا كذلك من أمر والده، وقد جعل "فلبي" مبدأ حكمه بحدود عام "800" قبل الميلاد في كتابه "سناد الإسلام"1 وبحدود سنة "820" قبل الميلاد في المقال الذي نشره في مجلة "2Le Museon".
وتعد الكتابة الموسومة بـ Glaser 1147، من كتابات أيام هذا المكرب، وهي كتابة قصيرة مكتوبة على الطريقة الحلزونية Boustrophedon كأكثر كتابات أيام المكربين، ولقصرها ونقصها لم نستفد منها فائدة تذكر في الوقوف على شيء من حياة هذا المكرب3.
وقد عد "كلاسر" الكتابة الموسومة بـGlaser 926 من كتابات أيام هذا المكرب، وتابعه على ذلك "فلبي"4. وهي من الكتابات المدونة على الطريقة الحلزونية Boustrophedon وقد كتبت عند إنشاء بناء، وصاحبها "صبحم بن يثع كرب فقضن"5 وقد ورد فيها اسم "سبأ" و"مرب" أي مدينة "مأرب" و"فيش" "فيشان"، ووردت فيها لفظة "فراهو" أي "سيدة" قبل اسم "سمه علي" الذي كان يحكم شعب "سبأ" في ذلك العهد، ودونت في النص أسماء الآلهة: عثتر، و"المقه" و"ذت بعدن"6، على العادة المألوفة في التيمن بذكر أسماء الآلهة في الكتابات، ثم التيمن بذكر اسم الحاكم من مكرب، أو ملك يوم تدوين الكتابة.
والنص المذكور ناقص يكمله النص المرسوم بـCIH 955 على رأي بعض الباحثين7.
__________
1 Background, P. 141
2 Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 248
3 Glaser 1147, CIH 367, Vlndob 14, CIH, IV, II, P. 14, D.H. Miiller, Sudarabische Alterthiimer im Kunsthistorischen Hofmuseum, 1890, S., 34, Hommel, Aufsatze., S., 144
4 Le Museon, LXII, 3-4, (1949) , P. 248, CIH 418, IV, II, II, P. 99
5 "صبح بن يتعكرب فقضان".
6 "ذات حميم" "ذات بعدان" "ذات حمم" "ذات البعد".
7 Glaser 927, CIH, IV, III, II, P. 282(3/270)
وللمكرب المذكور ولد اسمه "يدع آل ذرح"1، حكم على رأي "فلبي".
تمثال من البرنز قدمه رجل اسمه "معد يكرب" إلى الإله "المقه". بعل أوام، ويعود عهده إلى القرن السادس قبل الميلاد.
من كتاب Qataban and Sheba "الصفحة 273".
حوالي سنة "800 ق. م."2. وقد عثر على عدد من الكتابات من أيامه،
__________
1 "يدع ايل ذرح" يدع ايل ذراح".
2 Museon, LXII, 3-4, "1949", P. 248(3/271)
منها الكتابة التي وجدت في "حرم بلقيس" "محرم بلقيس"، وميزت عن غيرها بعلامة:1Glaser 484 وقد ورد فيها أن هذا المكرب أقام جدار معبد "أوم" "أوام" المخصص بعبادة "المقه" "اوم بيت المقه" إله "سبأ"، "هوبس"2، وتشبه هذه الكتابة شبهًا كبيرًا كتابة أخرى وسمت بـ 3Glaser 901 لـ "يدع آل ذرح" أيضًا، وقد أخبر "يدع آل ذرح" فيها أنه سور "بيت المقه" وهو معبد الإله بمدينة "صرواح"، وأنه قرب ثلاثة لهذه المناسبة إلى الآلهة "حرمتم" "حرمة" "حرمت" "حريمت" ويرى "هومل" أن هذه الإهة هي زوج الإله "المقه" إله سبأ4.
والنصان: Glaser 1108 و Glaser 1109 يرجعان إلى المكرب "يدع آل ذرح" كذلك، وقد أخبر فيها أنه عني بتعمير معبد "المقه" وأضاف أجزاء جديدة إليه، وذكر في أحدهما الإلهان المقه وعثتر. وذكر في الآخر الآلهة: عثتر، والمقه، وذات حميم5.
وعثر على كتابة أخرى في موضع "المساجد"، بمأرب، تبين منها أن هذا المكرب تقرب إلى إله سبأ الإله "المقه" ببناء معبد له6.
وتعود الكتابات AF.17 و AF. 24 و AF. 23 و AF 38 إلى هذا المكرب كذلك، وهي من الكتابات التي عثر عليها أحمد فخري المصري الذي أمَّ اليمن عام "1917م"7. وتعود الكتابة CIH 633 إلى أيامه أيضًا8.
__________
1 Rhodokanakis, Studien zur Lexikographie, II, S., 7, CIH, IV, III, n, P. 284, 957, Glaser, Reise, S., 137, REP. EPIG., 3624, I, P. 245, Handbuch. I, S., 77
2 Glaser 484, 901, 1530, 1531, HalSvy 50, 54, 55-60, Arnau 901, CIH 366, IV, III, II, P. 284, IV, II, P. 10, Mackell 3, Presnel 4, 5, 6-10, Hartmann, Arabische Frage, S., 124
3 المصادر المذكورة.
4 Handbuch, S., 77
5 REP. EPIG. 3949, 3950, VII, I, P. 2, A. G. Loundine, Yada'U darih, fUs de Sumh'alay, Mukarrib de Saba, Moscou, 1960, P. 1
6 Beitrage, S-, 22, 28, 30, Loundine, P. 5
7 Le Museon, LXI, 3-4, (1948) , PP. 215, 228, LXII, 3-4, 1949, P. 248
8 CIH 633, H&16vy 61, REP. EPIG. 2729, V, II, P. 75(3/272)
وتدل هذه الكتابات على أن "المكرب" المذكور قد اهتم كثيرًا ببناء معبد "أوام" في مأرب، المعبد الذي يعرف بين أهل المنطقة باسم "محرم بلقيس" وبإضافة زيادات عليه، وبترميمه أيضًا، وأغلب الظن أنه لم يكن هو الباني له، وإنما كان موجودًا ومبينًا قبله، غير أن الباحثين لم يتمكنوا من العثور على اسم بانيه حتى الآن؛ لأن أعمال الحفر فيه لم تتم بصورة علمية واسعة فيه حتى الآن، والكتابة التي سجلها المكرب المذكور لم تشر إلى بناء المعبد كله، بل أشارت إلى أجزاء معينة منه وهي لا تزال تحمل اسمه1، وهناك كتابات أخرى تحمل اسم حكام سبأ من مكربين وملوك ووجهاء ممن أضافوا أبنيه جديدة إلى هذا المعبد، أو قاموا بإصلاح ما حدث فيه من خلل بمرور السنين2.
وقد ذهب "فلبي" إلى أن هذا المكرب كان قد حكم في حوالي سنة "800 ق. م."3 وذهب "فون وزمن"4 إلى أن حكمه كان في أواسط النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد، أو في أوائله5، وثبت آخرون حكمه بحوالي السنة "750 ق. م."6.
وكان لـ "يدع آل ذرح" ولد اسمه "سمه علي ينف"7، ورد اسمه في الكتابة 8CIH 636، وهي كتابة ناقصة سقط أكثر ما دون فيها، ولم يذكر "هومل" اسمه في القائمة التي صنعها لمكربي "سبأ"9 ولم يذكره "فلبي" كذلك في كتابه "سناد الإسلام"10 غير أنه ذكر اسمه في القائمة التي نشرها في مجلة Le Museon وجعله المكرب الثالث، أي أنه وضعه بعد "يدع
__________
1 BOASOOR, NUM. 137, 1955, P. 38
2 Arablen, S., 177
3 Le MusSon, T.XTT, 3-4, (1949) , P. 248
4 Bettrage, S- 22
5 Discoveries, P. 221, c A note on Early Sabaean Chronology, In BOASOOR, NUM. 143, 1956, P. 9
6 Arablen, S-, 177
7 "سمه على ينوف"، سمه على النائف"، سمهعلي ينوف".
8 Halfivy 338, Glaser 1468
9 Handbuch, I, S., 77
10 Background, P. 141(3/273)
آل ذرح" والده مباشرة، وجعله مكربًا1. ولم ترد في النص المذكور كلمة "مكرب" بعد اسم "سمه علي ينف"، وإنما ذكرت بعد اسم "يدع آل ذرح"2، وهذا يعني أن هذه الكلمة، وهي "مكرب" ليست لـ "سمه علي"، وإنما تخص الأقرب إليها، وهو "يدع آل ذرح".
وقد ورد اسم "سمه علي" بعد اسم "يدع آل" وقبل اسم "يثع أمر" في الكتابة المعروفة بـ 3Gleser 694 ولم ترد فيها نعوتهم، ولا كلمة "مكرب" التي هي الدلالة الرسمية المنبئة بتبوئهم الحكم.
وقد وضع "فلبي" الكتابتين المرقمتين CIH 368 و CIH 371 في جملة الكتابات من أيام المكرب "سمه علي ينف"4. أما الكتابة الأولى، فصاحبها "عم أمر بن أب أمر ذيبرن"، أي من عشيرة "يبرن" "يبران"، ولعله كان سيدًا من ساداتها. وكان من المقربين لـ "سمه علي" ولشقيقه "يثع أمر" ولعله كان من ندمائهما، بدليل ورود جملة "مودد سمه علي ويثع أمر" في النص، أي أنه كان من المتوددين إليها، وتعبر لفظة "مودد" عن منزلة رفيعة عند السبئيين تضاهي منزلة "نديم" عند العرب الشماليين.
وقد دون "عم أمر" تلك الكتابة عند بنائه بيته "مردعم" "مردع" في مدينة "منيتم" "منيت" "منية"5. وأما الكتابة الثانية فصاحبها "عم أمر بن أب أمر"، وهو من عشيرة أخرى اسمها "ذ لخدم"، "لخد" ويظهر أنه كان من أشرافها، فهو شخص آخر يختلف عن الشخص الأول، وإن اشتركا في الاسم ولم يرد في هذه الكتابة الثانية اسم أي مكرب من المكربين، لذلك لا أستطيع أن أضيف هذه الكتابة الثانية إلى أيام "سمه علي". والذي حمل "فلبي" على إضافتها إلى أيام هذا المكرب هو كون اسم صاحب الكتابتين واحدًا، فظن أنهما رجل واحد، وأن صاحب الكتابتين واحد أيضًا، ولورود اسم "سمه علي" و"يثع أمر" في النص الأول، أضاف النص الثاني إلى
__________
1 Le Museon, LXn, 3-4, (1949) , P. 448
2 CIH, IV, in, I, P. 71, REP. EPIG., V. II, PP. 191, 2857
3 REP. EPIG., 3623, VI, I, P. 245
4 Le Museon, LXH, 3-4, (1949) , P. 248
5 Le Museon, T.XTT, 3-4, (1949) , P. 248, CIH 368, Hal6vy, 596(3/274)
النصوص من أيام المكربين، ولو انتبه إلى أن كل واحد منهما هو من قبيلة تختلف عن القبيلة الأخرى، لما أضاف الكتابة الثانية إلى أيام المكربين المذكورين.
وأشار "فلبي" إلى اسم ولد من أولاد "سمه علي ينف" سماه "يدع آل وتر" ولم يشر إلى أنه كان مكربًا، وذكر أنه حصل على اسمه من النصوص 1AF 86, 91 92.
ونسب "فلبي" زمن تدوين النصوص: CIH 490 و CIH 492 و CIH 493 و CIH 495 إلى عهد "يثع أمر وتر"2. أما النص CIH 490 فقد وضع ناشره ومحققه لفظة "ملك" بعد اسم "يثع أمر"، وذلك بإكمال الحرفين الباقيين من الكلمة المطموس آخرها، الواردة بعد "وتر"، وهما "الميم" و"اللام". فإذا كانت القراءة صحيحة، انصرف الذهن عن "يثع أمر وتر" هذا إلى "يثع أمر" آخر يجب أن يكون ملكًا على سبأ، وإن كانت القراءة مغلوطة، كأن يكون أصلها المطموس لفظة "مكرب"، جاز حينئذ أن يكون "يثع أمر" هو "يثع أمر وتر" المذكور الذي قصده "فلبي"3، وتتضمن هذه الكتابة خبرًا يفيد أن "يثع أمر وتر بن يدع ايل ذرح" جدد بناء معبد الإله "هبس" "هوبس", وقد عثر عليها في الموضع المسمى بـ "الدبر" "دبر" في الزمن الحاضر4. ويرى "هومل" أن "دبر" "دابر"، هو اسم قبيلة، وقد بنت معبدًا سمي باسمها، وقد جدد بناءه هذا المكرب "يثع أمر وتر"5.
وقد ورد اسم "دبر" في كتابات أخرى، ولهذا ذهب "هومل" إلى أنه اسم المعبد المذكور: معبد الإله "هوبس"، وهذه الكتابة من القرن الثامن قبل الميلاد في رأي بعض الباحثين، ومعنى هذا أن حكم هذا المكرب السبئي "يثع أمر وتر" كان قد بلغ أرض معين في هذا العهد6.
وأما النص CIH 492 فهو نص قديم أيضًا، كتب على الطريقة الحلزونية
__________
1 Le Museon, LXH, 3-4, (1949) , P. 248
2 Le MusSon, LXH, 3-4, (1949) , P, 248
3 CIH, IV, n, P. 190, Halevy 626 + 627, Handbuch, I, S., 77, Beitrage, S., 23
4 Handbuch, I, S., 77, Beltrage> S., 23
5 Beltrage, S-, 23, Hommel, Ethnologie, S., 674
6 Halevy 511, + 627, BeltrSge, S., 23(3/275)
الشائعة بين السبئيين في أيام المكربين وصاحبه رجل اسمه "حيم بن بعثتر رحضن"1.
أي من "آل رحضان" "رحاض"، وقد قدم إلى الآلهة "ذات حميم" نذرًا لعافيته ولعافية بنته وأولاده2. ولكننا لا نجد فيه أي تصريح أو تلميح إلى اسم المكرب "يثع أمر وتر" أو إلى أبيه.
وأما النص "CIH 493، فصاحبه رجل اسمه "حميم بن عم يدع"3. من "آل قدران" "ذ قدرن"4 فهو امرؤ لا صلة له بصاحب النص المتقدم CIH492. وقد ورد في النص اسم "يدع ايل" و "يثع أمر"، ولم يذكر فيه نعت الرجلين، ومن الجائز أن يكون "يدع ايل" و "يثع أمر" المذكوران هما المكربان اللذان نبحث عنهما، أي المكرب الوالد وابنه، ومن الجائز أيضًا ألا يكونا هما، فهنالك فجوات لا نعرف عمقها في تأريخ سبأ، قد تكون فيها، خبايا من أسماء مكربين وملوك, وأعتقد أن اسم "حيم" هو الذي حمل "فلبي" على حشر النص السابق بين النصوص التي ظن أن لها علاقة بالمكرب "يثع أمر وتر"، على اعتبار أن الرجلين رجل واحد، ولكن الواقع أنهما شخصان مختلفان.
وأما النص CIH495 فصاحبه "حيم بن عم يدع" من "آل قدرن"، أي صاحب النص CIH 493 المذكور، ولذلك أضافه "فلبي" إلى النصوص التي لها صلة بالمكرب "يثع أمر وتر"، ولم يرد في هذا النص اسم هذا المكرب ولا اسم أبيه، ولعلهما سقطا في جملة ما سقط من أسطر وكلمات.
وقد وضع "هومل" اسم "يدع آل بين" "يدع ايل بين" بعد اسم "يثع أمر وتر" ليكون المكرب التالي له، وهو –على رأيه- ابنه وخليفته من بعده5. ومن أهم أعماله المذكورة في الكتابات، تحصينه وتقويته أبراج مدينة
__________
1 "حيوم بن بعثتر رحضان" "حي بن بعثتر رحضان".
2 CIH, IV, II P. 194, Massil, 12, REP. EPIG
3 "حيوم بن عم يدع" "حي بن عميدع".
4 CIH. 493, Muller, 4, Praet 8, British Museum 64 + 59
5 Backgrund, P. 37(3/276)
"نشق" من المعينيين1. ويدل ذلك على أن هذه المدينة كانت قد دخلت في ممتلكات السبئيين، في زمن لا نعرفه، قد يكون في أيام هذا المكرب وقد يكون قبل ذلك، وأن السبئيين كانوا يتبعون خطة التوسع بالتدرج حتى ابتلعوا مملكة "معين"2. وقد رأيت أنهم كانوا قد استولوا على قرية "دبر" "دابر"، وحصنوها، واتخذوها قاعدة حصينة للإغارة منها على الجوف وعلى المعينيين.
ويرى بعض الباحثين أن استيلاء المكرب المذكور، كان في أواسط القرن الثامن، قبل الميلاد، وقد أمر بإحاطة تلك المدينة بسور، وقد توسعت رقعتها، إلا أنها لم تلبث أن انفصلت من السبئيين، ثم عاد السبئيون فاستولوا عليها، في أيام المكرب والملك "كريب ايل وتر"3.
وحكم بعد "يدع ايل بين" المكرب "يثع أمر"، على رأي "هومل"، ولم يشر إلى نعته. ويرى "هومل" احتمال كونها ابنًا لـ "يدع ايل بين" أو شقيقًا له4.
أما "فلبي"، فيرى أن "يثع أمر" هو أحد أولاد "سمه علي ينف" "سمه علي ينوف"5. وهو شقيق "يدع ايل بين"، وقد ورد اسمه في النص 6CIH 563 فيكون بذلك –على رأيه- ابن شقيق "يدع ايل".
لا ابنه، وذكر "فلبي" أنه عرف بـ "يثع أمر وتر" وجعله معاصرًا للملك سرجون7.
والنص CIH 563 مكتوب على الطريقة "الحلزونية"، ويتألف من جملة أسطر، وقد ورد فيه نعت "يثع أمر"، وهو "وتر"8.
__________
1 REP. EPIG. 2850, V. II, P. 184, Handbuch, I, S., 77
CIH 634 IV, III, I, P. 70, IV, I III, P. 202, Glaser 117, CIH 138.
2 ,Background, P. 37, REP. EPIG. 2850, V. H, P. 184, Handbuch, I, S., 77, Beitrage, S., 15, CIH 634
3 Beltrage, S., 15
4 Handbuch, I, S., 77
5 Background, P. 141
6 Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 248
7 Background, p. 141
8 CIH 563, British Museum 66, Prldeaux 14a, B. C(3/277)
وقد ورد في كتابة من كتابات الملك "سرجون" الثاني "722- 705 ق. م." أنه تسلم هدايا من عدد من الملوك، من جملتهم "يثع أمر" ItfAmra Matsa – Ba’- ai lt –Amra السبئي، والملكة "شمس" ملكة "اربي" "عربي" وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "يثع أمر" المذكور في نص "سرجون" هو "مكرب" سبأ هذا الذي نتحدث عنه1. غير أن النص لم يحدد مكان حكم ذلك الملك السبئي، ولهذا ذهب بعض آخر إلى احتمال كونه أحد الملوك السبئيين الحاكمين في شمال جزيرة العرب على مقربة من البادية في أعالي الحجار أو نجد مثلًا، أو في الأرض الواقعة في المناطق الجنوبية من الأردن2.
وكان "هومل" ممن يرون أن "يثع أمر" المذكور في نص "سرجون" هو أحد الملوك السبئيين الحاكمين على قبيلة سبئية في شمال جزيرة العرب، غير أنه غير رأيه هذا، وجعل "يثع أمر" هو "يثع أمر" الذي نبحث فيه، أي مكرب سبأ، وذلك عندما عثرت بعثة ألمانية على كتابة للملك "سنحريب" "سنحاريب"، جاء فيها: أنه تناول هدية من ملك سبئي هو "كرب ايلو" "كرب ايل"، فتيقن عندئذ أن الرجلين المذكورين اللذين قدما الهدايا هما المكربان: "يثع أمر" و "كرب ايل"3.
ولا أجد في تلك الهدايا علامة على خضوع سبأ لحكم الآشوريين، إذ أستبعد بلوغ نفوذ الآشوريين في ذلك الزمن إلى أرض اليمن، ولو كان الآشوريون قد استذلوا السبئيين اليمانيين وحكموهم لذكروا اسمهم في جملة الأمم التي استبعدوها.
والرأي عندي أن تلك الهدايا هي مجرد تعبير عن الصداقة التي كانت تربط بين آشور وسبأ، خاصة وأن بين اليمن والعراق تجارة مستمرة قديمة ومواصلات
__________
1 Bota and Flandin, Monument, Vol., 4, PL. 145, I, 3, Winckler, Keilschrift Sargons, 1889, BD., PL. 2, No. I, Z., 20, Musil, Arabia Deserta, P. 479.
2 Handbuch, S., 76
3 بخصوص آراء الباحثين في "يثع أمر" راجع أيضا:
BOASOOR, Num. 137, 1955, PP., Archiv fur Orientforschung, 16, 1955, S. 232, Handbuch, I, S., 76, Beeston, "Problems of Sabaean Chronology,In BOASOOR, 1954, XVI/I, PP. 42(3/278)
متصلة، فلتوطيد الصداقة بين الحكومتين وتسهيل التبادل التجاري بين العراق واليمن أرسل حكام سبأ تلك الهدايا كما فعل أهل مكة وهم قوم تجار فيما بعد، فقد كانوا يتوددون للأكاسرة ولملوك الحيرة بإرسال الهدايا النفيسة لهم، لكسب ودهم من تسهيل أمور تجارتهم مع أسواق العراق.
وإذا أخذنا برأي من يقول: إن "يثع أمر" المذكور في نص "سرجون"، هو "يثع أمر" الذي نبحث فيه، يكون إرسال الهدايا والألطاف إلى "سرجون" في حوالي السنة "715 ق. م."1، وقد قدر "فلبي" حكمه بحوالي عشرين سنة، وجعله من حوالي سنة "720" حتى سنة "700 ق. م."2.
وتولى الحكم بعد "يثع أمر وتر" ابنه المكرب "كرب ايل بين"، وقد ذكر اسمه في الكتابة3CIH 627 وهي كتابة قصيرة ناقصة، ورد فيها اسم "كرب ايل بين" ومعه اسم والده "يثع أمر"، ولم يذكر فيها نعت "يثع أمر" وهو "وتر" وذكرت بعد اسم "يثع أمر" كلمة "مكرب سبأ"4 وورد اسمه واسم أبيه "يثع أمر" في كتابات أخرى، ذكرت في بعضها لفظة "وتر"، بعد "يثع أمر"5، وذكرت في بعض آخر كلمة "مكرب"، ولم تذكر في غيره.
وقد ورد في الكتابة CIH 634: أن "كرب ايل بين" وسع حدود مدينة "نشق" بمقدار ستين "شوحطًا"6، وحسن المدينة.
وورد في أخبار "سنحريب" أنه تسلم هدايا من "كرب ايلو" Ka- ri- bi- lu ملك سبأ، من جملتها أحجار كريمة وعطور، وقد ذهب الباحثون في هذا الموضوع إلى أن هذا السبئي، الذي قدم الهدايا إلى ملك آشور، هو "المكرب كرب آل بين" الذي نبحث عن سيرته. وإن كان النص الآشوري قد نعته بـ "ملك"؛ وذلك لأن الآشوريين لم يكونوا على علم بألقاب حكام سبأ،
__________
1 Beitrage, S., 7, BOASOOR, NUM. 143, (1956) , P. 10
2 Background, P. 141
3 Le Museon, LXII, 3-4, (1949) , P. 248
4 CIH 627, Fresnel 29, Glaser 541, CIH, III, I, P. 63
5 CIH 632, Hal6vy 52, 349, 672, Glaser 1529, CIH 610, Le Museon, 3-4, P. 248
6 CIH, IV, III, I, 72, Halevy, 352(3/279)
فلقبوه بلقب "ملك"1.
وقد جعل "هومل" اسم "كرب ايل بين" في آخر المجموعة الأولى من مجموعات مكربي سبأ. ووضع إلى جنبه اسم "سمه علي ينف"، وصارت مجموعته هذه بذلك على هذا النحو:
1- سمه علي "دون نعت".
2- يدع ايل ذرح.
3- يثع أمر وتر.
4- يدع ايل بين.
5- يثع أمر "لا يعرف نعته".
6- كرب ايل "بين" و "سمه علي ينف"، ولعله كان يشارك شقيقه "كرب ايل بين" في الحكم2.
وولي الحكم بعد "كرب ايل بين" ابنه المكرب "ذمر علي وتر"، وإليه تعود الكتابة الموسومة بـ "Halevy 349 وقد جاء فيها: أن هذا المكرب أمر يتوسع مدينة "نشقم"، أي "نشق"، وبإصلاح الأرضين المحيطة بها، وبتحسين نظم الري فيها، وذلك فيما وراء الحد الذي وضعه أبوه لهذه المدينة، وأنه قد جعل ذلك وقفًا على شعب سبأ3.
ويظهر من عناية المكربين بمدينة "نشق"، وهي مدينة معينية في الأصل أن السبئيين وجدوها أرضًا خصبة غنية ومهمة بالنسبة إليهم، وقد صارت خرابًا فقرروا إصلاح ما تخرب منها، واستصلاح أرضها لإسكان السبئيين فيها، ووسعوا في حدودها، وأصلحوا ما تداعى ووهن من نظم الري فيها، ووزعوا الأرضين الزراعية منها على أتباعهم السبئيين وحولوها، بذلك إلى مدينة سبئية4. وقد كانت الشعوب القديمة تتبع هذه السياسية، حيث كانت تستقطع الأرض من المدن التي
__________
1 Ency. Brita., Vol., 19, P. 785, Handbuch., I, S., 76, 85, Otto Schroder, Keilschrifttexte, II, Leipzig, 1922, 122
2 Handbuch, I, S., 77
3 Halevy 349, Rhodokanakis, Studi. LexL, 2, S., 126, CIH 623, IV, III, I, P. 38,REP. EPIG. 3388, 4401, CIH 610
4 Rhodokanakis, Studi. Lexi., II, S., 127, REP. EPIG. 3865, V,II,P. 200(3/280)
تفتحها، وتعطيها أفرادها، للسكن فيها ولإعمارها وللهيمنة على أهل المدينة الأصليين.
وقد جاء في إحدى الكتابات: أن هذا المكرب أمر بتجديد ما تلف وتداعى من معبد الإله "عثتر"، وإصلاحه، ولم يرد فيها ذكر اسم الموضوع الذي كان فيه ذلك المعبد1. كما جاء اسمه في كتابة أخرى دونها قيل "قول" كان يحكم قبيلة "يهزحم" و"يزحم"2.
وتولى بعد المكرب "ذمر علي" ابنه المكرب "سمه علي ينف" "سمه علي ينوف" الحكم، وقد ذكر اسمه في كتابات عدة من أهمها كتابة تشير إلى تعمير هذا المكرب سد "رحبم" "رحاب" للسيطرة على مياه الأمطار والاستفادة من السيول3. وهو جزء من المشروع المعروف بـ "سد مأرب" الذي نما على مرور الأيام، وتوسع حتى كمل في زمن "شهر يهرعش" في نهاية القرن الثالث للميلاد، فصارت تستفيد منه مساحة واسعة من الأرض4. وقد بقي قائمًا إلى قبيل الإسلام، وعد سقوطه نكبة كبيرة من النكبات التي أصابت العربية الجنوبية، حتى ضرب بسقوطه المثل، فقيل: "تفرقوا أيدي سبأ"؛ ذلك لأن سقوطه أدى إلى تفرق السبئيين، وإلى هجرتهم من بلادهم التي ولدوا فيها وإلى تفرقهم شذر مذر في البلاد.
وتخبر الكتابة الموسومة بـ Glaser 514 أن المكرب "سمه علي ينف" ثقب، حاجزًا من الحجر، وفتح ثغرة فيه لمرور المياه منها إلى سد "رحبم" "رحاب" لتسيل إلى منطقة "يسرن"5 "يسران"، وهي منطقة ورد اسمها في كتابات عديدة، وكانت تغذيها مسايل وقنوات عديدة تأتي بالماء من حوض هذا المسند6. وتبتلع ماءها من مسيل "ذنة" وهو من المسايل الكبيرة، فتغذي أرضًا خصبة
__________
1 Glaser 474, 1671, REP. EPIG. 4401
2 Orientalia, Vol., V, 1936, P. 5, E. Mittwoch und H. Schlobies, "Altsudarabische Inschriften im
Hamburgischen Museum fur Volkerkunde", Hamburg,NE. 31
3 CIH 623, IV, III, I, P. 60, Fresnel 14, Halevy 673 + 674, Glaser 513 + 514,
Arnau 14.
4 Handbuch, S., 79, Discoveries, P. 73
5 Rhodokanakis, Studi. Lexi., 2, S., 97, REP. EPIG. 2651, V, I, P. 23
6 Beitrage, S., 27(3/281)
لا تزال على خصبها، ومن الممكن الاستفادة منها فائدة كبيرة باستعمال الوسائل الحديثة في إيجاد المياه1.
وكتابة هذا المكرب، هي أقدم وثيقة وصلت إلينا عن سد "مأرب"، أنها شهادة مهمة تشير إلى مبدأ تأريخ هذا السد، ولكنني لا أستطيع أن أقول أن السد، كان من تفكير هذا المكرب وعمله، وأنه أول من شق أساسه ووضع بنيانة، فقد يكون السد من عمل أناس غيره حكموا قبله، وما المشروع الذي أقامه هذا المكرب إلا تتمة لذلك المشروع القديم.
إن هذه الكتابة هي وثيقة ترجع تأريخ السد إلى جملة مئات من السنين سبقت الميلاد. ترجعه إلى حوالي السنة "750 ق. م." على رأي بعض الباحثين2.
وقد ورد اسم هذا المكرب في عدد من الكتابات أكثرها متكسرة3.
وسار المكرب "يثع أمر بين" على سنة أبيه المكرب "سمه علي ينف" في العناية بأمور الري، فأدخل تحسينات كبيرة على سد مأرب، وأنشأ له فروعًا جديدة، ففتح ثغرة في منطقة صخرية لتسيل منها المياه إلى أرض "يسرن" "يسران"4. وزاد بعمله هذا في التحكم والسيطرة على مياه السيول، وفي تسخير الطبيعة لخدمة الإنسان، وعمل على تعلية سد "رحبم" "رحاب" القديم وتقويته، فوسع بذلك الأرضين الزراعية، وزاد في ثروة أهل "مأرب" الذين زاد عددهم، حتى تغلب على عدد سكان "صرواح" عاصمة المكربين، وتمكنت "مأرب" بذلك من منازعة هذه العاصمة، إلى أن تغلبت عليها، فصارت العاصمة للبسئيين ومقر حكام سبأ، وصاحبة معبد "المقه" إله سبأ الكبير5.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن المكرب "سمه علي ينف" والمكرب "يثع أمر بين "كانا المؤسسين الأصليين لسد مأرب، ويرجعون زمانهما إلى القرن السابع قبل الميلاد، فيكون إنشاء السد إذن في هذا الزمن على رأي هؤلاء الباحثين
__________
1 العظم نزيه مؤيد: رحلة: "2/ 88 وما بعدها".
2 Glaser 513 + 514, Discoveries ? P. 75
3 Le Museon, LXII, 3-4, (1949) , P. 249, CIH 622, 623, 629, 774, 875, Philby 77,REP. EPIG., 3650, 4177, 4370, AF. 62, IH
4 Rhodokanakis, Studi. Lexi., 2, S. 102, Glaser 523, 525, Discoveries, P. 75
5 Background, P. 39(3/282)
وقد استمر من جاء بعدهما في إصلاحه وفي إضافة زيادات إليه وفي توسيعه وترميمه، إذ أصيب مرارًا بتلف اضطر الحكومات إلى إصلاحه. وقد أشير في الكتابات إلى تهدم جزء منه في سنة "450 ب. م." وسنة "542 ب. م."1.
وقد كان آخر ترميم وإصلاح له في أيام "أبرهة"، والظاهر أن تلفًا أصابه بعد ذلك فيما بين السنة "542 ب. م." والسنة "570 ب. م."، فلم يصلح فترك الناس مزارعهم، واضطروا إلى الهجرة منها، وإلى ذلك وردت الإشارة في القرآن الكريم2.
وإلى هذا المكرب تعد الكتابة الموسومة بـ "Philby 77 وقد جاء فيها: أنه سور وحصن قلعة "حرب" "حريب"3، ويشير تحصين المدن وبناء القلاع والتوسع في الأرضين، التي تعود إلى شعوب أخرى مثل، قتبان ومعين، وإلى توسع السبئيين في عهد المكربين، وإلى اتخاذ هذه الحصون مواقع هجومية تشب منها جيوشهم على جيرانهم الذين أصاب حكوماتهم الضعف والهزال. وقد هاجم هذا المكرب القتبانيين كما يظهر من كتابة عثر عليها في مأرب، فقتل منهم زهاء أربعة آلاف جندي في عهد ملك قتبان الملك "سمه وتر"، ثم هاجم مملكة "معين"، ولا نعرف الخسائر التي لحقت بالمعينيين، للكسر الذي في الكتابة، غير أن الظاهر يدل على أنه انتصر عليهم، ثم عقب ذلك إخضاع القبائل والمدن التي لم تكن خاضعة لسبأ حتى أرض "نجران"، وقد أوقع بـ "مهأمرم" "مهامرم" و "أمرم" "امرم" خسائر كبيرة، فقتل منها في المعارك التي نشبت قرب "نجران" زهاء خمسة وأربعين ألف رجل، وأسر "63" ألف أسير وغنم واحدًا وثلاثين ألف ماشية، وأحرق ودمر عددًا من قراها ومدنها4.
وذكر صاحب الكتابة أن المدن التي أحرقت مدينة "رجمت" "رجمة" مدينة "لعذرايل" ملك "مهامر" "مهأمرم"5. والظاهر أن هذه المدينة
__________
1 Beitrage, S,. 26
2 السورة رقم 34.
3 Philby, Sheba's P. 445, Le Museon, LXII, 3-4 1949, p 249, Beitrage, S,. 24, 27, REP. EPIG. 1904
4 Background, P. 39, Handbuch, I, S. 81, Glaser 419 + 418, Beitrage, S,. 9
5 "لعذرال" "لعذرايل"، هكذا جاء في النص، وأظن أن الأصل هو "عذرال" "عذرايل" Handbuch, lS., 81(3/283)
كانت عاصمة الملك، وأحرقت أيضًا أكثر قرى هذه المملكة ومدنها وجميع المدن بين "رجمت" "رجمة" "رجمات" و"نجران"1.
وقد ذكر "الهمداني" موضعًا سماه "رجمه" في اليمن2. وهو اسم يذكرنا بمدينة "رجمت" "رجمة"، وقد يكون هو المكان المذكور.
وقد قام المكرب "يثع أمر بين" بأعمال عمرانية عديدة، منها بناؤه بابين لمدينة "مأرب"، وتحصينه للمدينة ببروج بناها من "البلق" نوع من الحجر. وقد بنى "مرشوم" ومعبد "نسور"، ومعبد "علم"، ومعبدًا في "ريدن" "ريدان"، ومعبدًا آخر لعبادة "ذات بعدن" "ذات بعدان" في "حنن" "حنان" وبنى "عدمن" "عدمان" وعدة أبنية بإزاء باب معبد "ذهبم" "ذهب"، وحفر مسيل "حببض" "حبابض"، ووسع مجرى "رحبم" "رحاب"، وعمقه حتى غذى مناطق واسعة جديدة من "يسرن" "يسران"، وبنى سد "مقرن" "مقران"، وأوصل مياه "مقران" إلى "أبين"، وكذلك سد "يثعن" "يثعان" حيث أوصل مياهها إلى "أبين"، وسد "منهيتم" "منهيت" و "كهلم" "كهل" الواقع مقابل "طرقل"3.
هذه الأعمال الهندسية التي قام بها هذا المكرب وأسلافه من قبله، للاستفادة من مياه الأمطار، هي من المشروعات الخطيرة التي ترينا تقدم أهل العربية الجنوبية في فن الري والاستفادة من الأمطار في تحويل الأرض اليابسة إلى جنان. ولسنا نجد في التأريخ القديم إلا ممالك قليلة فكرت في مثل هذه المشروعات وفي التحكم في الطبيعة للاستفادة منها في خدمة الإنسان4. لقد حول هذه السد أرض "أذنة" أو "ذنة" إلى جنان ترى آثارها حتى الآن، إنها مثل حي يرينا قدرة الإنسان على الإبداع متى شاء واستعمل عقله وسخر يده. وليست هذه القصص والحكايات التي رواها الأخباريون عن سد "مأرب" وعن جنان سبأ باطلًا، إنها صدى ذلك العمل العربي الكبير5.
__________
1 REP. EPIG. 394, Beltrage, S., 9
2 الصفحة "80، 104، 164".
3 REP. EPIG. 3943, VI, II, P. 394, Rhodokanakls, Altsab. Texte, I.S., 3, Glaser 418 + 419.
4 Background, P. 39
5 Handbuch, I, S., 80(3/284)
وقد ظل حكام سبأ الذين حكموا من بعدها يجرون إصلاحات، ويحدثون إضافات على سد مأرب، ويرممون ما يتصدع منه، كما يظهر ذلك من الكتابات، وقد تعرض مع ذلك للتصدع مرارًا، وكان آخر حدث مهم وقع له هو التصدع الذي حدث فيه سنة "542 ق. م." وذلك في أيام أبرهة.
ويظهر أن تصدعًا آخر وقع له بعد هذه السنة، فأتى عليه، واضطر من كان يزرع بمائه إلى ترك أرضهم، والهجرة منها إلى أٍرضين جديدة1.
ويظهر من كتابة ناقصة أن هذا المكرب أنشأ أبنية في مدينة "مأرب"، وقد أخذت عناية حكام سبأ بهذه المدينة تزداد، إلى أن صارت مقرهم الرسمي، وبذلك أخذ نجم "صرواح" في الأفول إلى أن زال وجودها.
وذكر اسم هذا المكرب في كتابة أخرى دونت عند تشييده "مذبحًا" عند باب "نومم" "نوم"، لاحتفاله بموسم الصيد المسمى باسم الإله "عثتر" "صيد عثتر"3. ولا نعرف اليوم شيئًا عن هذا الصيد الذي خصص باسم الإله "عثتر"؛ لأن الكتابة قصيرة وعباراتها غامضة، ولكن يظهر منها أن مكربي سبأ كانوا يحتفلون في مواسم معينة للصيد، وأنهم كانوا يجعلون صلة بينه وبين الآلهة، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك تسميًا بأسماء تلك الآلهة، لتبارك لهم فيه، ولتمنحهم صيدًا وفيرًا. وقد عثر على كتابات حضرمية وغيرها، لها صلة بالاحتفالات التي كانت تقام للصيد.
وذكر في كتابة قصيرة اسم "يثع أمر بن سمه علي" فلم تعطنا شيئًا جديدًا يفيد في استخراج مادة تأريخية منها4.
وقد وضع "فلبي" اسم "ذمر علي ينف" "ذمر علي ينوف" بعد اسم المكرب السابق في قائمته لأسماء المكربين التي نشرها في مجلة:Le Museon
__________
1 BeitrSge, S-, 26
2 Fresnel 46, 49, Glaser 696, CIH 629, IV, m, I, P. J. Mohl, Inscriptions donnges par M. Arnaud, In Journal Aslatique, 1945, n, P. 179, Halevy, Etudes Sabeenes, in Journal Asiatique, 1874, n, P. 566
3 REP. EPIG. 3625, Glaser 797, Le Museon, LXI, 3-4, 1948, P. 184, REP. EPIG.
4177
4 REP. EPIG. 2674, V, I, P- 32, 35, 36, Glaser 412, 413, 696, 2677, 2680, Hartmann, Arab. Frage, S., 133, REP. EPIG. 4431, VII, H, P. 228, Glaeer 557, CIH 864, REP. EPIG. 4432(3/285)
وأبوه، هو "يكرب ملك وتر"1. أما "هومل"، فوضع اسم "ذمر علي" بعد اسم "يثع أمر بين" وأشار إلى أنه غير متيقن من اسم أبيه، وذكر أن من المحتمل أن يكون أبوه المكرب "يثع أمر بين"2.
وقد ورد في النص: AF 70 اسم "يكرب ملك وتر"3. ولم يشر إلى أنه كان مكربًا، وقد دون "فلبي" أرقام عدة نصوص، لها –على رأيه- صلة بـ "ذمر علي" منها النص: CIH 491، وهو نص سقطت منه أسطر وكلمات، ووردت فيه أسماء الآلهة "هبس" "هوبس" و "المقه" و"عثتر" و "ذت حمم" "ذات حمم" وأسماء: "كرب آل" و"ذمر علي" و "الكرب" و"نشا كرب" "كبراقين" أي "كبير أقيان"4.
ويعد "كرب ايل وتر" خاتمة المكربين وفاتحة الملوك في سبأ، افتتح حكمه وهو "مكرب" على سبأ، ثم بدا له فغير رأيه في اللقب، فطرحه، ولقب نفسه "ملك سبأ" وسار من حكم بعده على سنته هذه، فلقب نفسه "ملك سبأ" إلى أن استبدل فيما بعد أيضًا به لقب "ملك سبأ وذي ريدان" كما سنرى فيما بعد.
أما إذا سألنا عن كيفية حصولنا على علمنا بأن "كرب ايل وتر" بدأ حكمه مكربًا ثم ختمه ملكًا، فجوابنا: أننا حصلنا عليه من الكتابات المدونة في أيامه، فقد وجدنا أن لقبه في الكتابات القديمة الأولى هو "مكرب"، فعلمنا أنه تولى الحكم مكربًا، ثم وجدنا له لقبًا آخر هو "ملك سبأ"، فعرفنا أنه لقب جديد حل محل اللقب القديم، ثم وجدنا من جاء بعده يحمل هذا اللقب الجديد، فصار "كرب ايل وتر" آخر مكرب وأول ملك في سبأ في آن واحد5.
ويرجع "فلبي" زمان حكم "كرب آل وتر" إلى حوالي السنة "620" حتى "600 ق. م."6. وقد زعم أنه حكم من "620" حتى سنة "610 ق. م."
__________
1 Le Mus6on, LXH, 3-4, 1949, P. 249
2 Handbuch, I, S.f 30, Anm. 80
3 Le Museon, LXI, 3-4, 1948, F. 230
4 Le Museon, LXH, 3-4, 1949, P. 249
5 REP. EPIG. 3948, VH, I, P. I, Glaser 1550
6 Background, P. 40(3/286)
مكربًا، ثم حكم السنين الباقية ملكًا1. ورأى بعض آخر أنه حكم في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد2. وذهب بعض آخر في التقدير مذهبًا يخالف هذين التقديرين.
وقد كان "كرب ايل وتر" كما يتبين من بعض الكتابات التي دونت في أيامه مثل الكتابة الموسومة بكتابة "صرواح"3 وكتابات أخرى سأشير إليها في أثناء البحث محاربًا سار على خطة المكرب "يثع أمر بين" في التوسع وفي القضاء على الحكومات العربية الجنوبية الأخرى، أو إخضاعها لحكمه ولحكم السبئيين، بل زاد عليه في توسيع تلك الحروب، وفي إضافة أرضين جديدة إلى سبأ، زادت في رقعتها وفي مساحة حكومة السبئيين، ولكنها أنزلت خسائر فادحة بالأرواح، وأهلكت الزرع والضرع والناس في العربية الجنوبية، وإن كان قد قام من ناحية أخرى بأعمال عمرانية وبإصلاح ما تهدم وخرب، فإن الحرب ضرر، ينزل بالخاسر وبالرابح على حد سواء، وما الربح في هذه الحروب إلا للملوك وللمقربين إليهم من أقرباء وصنائع.
وكتابة "صرواح" التى أشرت إليها، هي من أخطر الوثائق التأريخية القديمة التي تتعلق بأخبار سبأ وبأعمال هذا المكرب الملك، دون فيها "كرب ايل وتر" كل ما قام به من أعمال حربية وغير حربية، فهي إذن سجل سطرت فيه بإيجاز أعمال المكرب الملك وأفعاله، ولذلك فهي بحق من الوثائق المهمة الخطيرة القليلة التي وصلت إلينا في تأريخ الحكام الجاهليين افتتحها بجملة: "هذا ما أمر بتسطيره كرب ايل وتر بن ذمر علي مكرب سبأ عندما صار ملكًا، وذلك لإلهه المقه ولشعبه شعب سبأ"4. تعبيرًا عن شكره له ولبقية الآلهة على نعمها وآلائها وتوفيقها له بأن صيرته ملكًا، وأنعمت على شعبه بالمنن والبركات، بأن نحر ثلاث ذبائح إلى الإله "عثتر"، إظهارًا لشكره هذا وتقربًا إليه، وكسا صنمي الإلهين: "عثتر" و"هوبس" "هبس"، تقربًا إليهما وشكرًا لهما على نعمهما عليه، ثم انتقل إلى تمجيد آلهته التي وحدت صفوف شعبه بأن جعلت أتباعه
__________
1 Background, P. 141
2 Beltrage, S., 9, 22, 25, 142
3 Glaser 1000A + 1000B, 1155, REP. EPIO. 3945 + 3946, VI, U, P. 395, 405, Conti Rossini, Chrest. Arab. Merid., P. 55, NO. 49, Fresnel XI, 38, Beitrage,a, 9
4 الجمل الأولى من النص.(3/287)
كتلة واحدة متراصة كالبنيان المرصوص، أدى واجبه على أحسن وجه، وقام بما عليه خير قيام، لا فرق في ذلك بين كبير وصغير، وبين طبقة وطبقة، ثم انتقل بعد هذا الحمد والثناء إلى حمد آخر وثناء جديد سطره لآلهته إذ باركت في أرضه وأرض شعبه، ووهبت أرض سبأ مطرًا سال في الأودية، فأخذت الأرض زخرفها بالنبات، وإذ مكنته من إنشاء السدود، وحصر السيول حتى صار في الإمكان إسقاء الأرضين المرتفعة، وإحياء الأماكن التي حرمت الماء، كذلك إحياء أرضين واسعة بإنشاء سد لحصر مياه الأمطار يتصل بقناة "عهل" لسقي "ماودن" "مأدون" والأٍرضين الأخرى التي لم تكن المياه تصل إليها، فوصلت إليها بامتلاء حوض السد بالماء، حتى سقت "موترم" "موتر" التي جاءها الماء من "هودم" "هوديم" "هودي"، وبإنشائه مسايل أوصلت المياه إلى "ميدعم" "ميدع" و"وتر" و"وقه"، ونظم الري في "ريمن" "ريمان" حتى صارت المياه تسقي كل أرض1.
وانتقل "كرب ايل وتر"، بعد ما تقدم إلى التحدث عن حروبه وانتصاراته فأشار إلى أنه غلب "سادم" "سأد" و "نقبتم" "نقبت" "نقبة"، وأحرق جميع مدن "معفرن" "المعافر"، "وقهر "ضبر" "ضلم" "ضلم" و"أروى" وأحرق مدنهم، وأوقع فيهم فقتل ثلاثة آلاف، وأسر ثمانية آلاف، وضاعف الجزية التي كانوا يدفعونها سابقًا، وفي جملتها البقر والماعز3.
ثم انتقل إلى الكلام على بقية أعماله، فذكر أنه أغار على "ذبحن ذ قشرم" "ذبحان ذو قشر" وعلى "شركب" "شرجب"، وتغلب عليهما، فأحرق مدنهما، واستولى على جبل "عسمت" "عسمة" وعلى وادي "صير"، وجعلهما وقفًا لألمقه ولشعب سبأ، وهزم "أوسان" في معارك كلفتها ستة عشر ألف قتيل وأربعين ألف أسير. وانتهبت جميع "وسر" من "لجاتم" "لجأتم" حتى "حمن" "حمان"، وأحرقت جميع مدن "انفم" "أنف" و"حمن" "حمان" و"ذيب"، ونهبت "نسم"3.
ويرى بعض الباحثين أن "لجيت" "لجيأت" "لجيأة"، هو موضع
__________
1 راجع الفقرة الثانية من النص.
2 الفقرة الثالثة من النص.
3 الفقرة الرابعة من النص.(3/288)
"لجية" في الزمن الحاضر، وأن "حمن" هو موضع يقع على مدخل "وادي حمان"، أو الموضع المسمى بـ "هجر السادة".. وأما "وسر"، فإنها أرض "مرخة" أو جزء منها1.
وأصيبت الأرضون التي تسقى بالمطر وهي "رشأى" و "جردن"، بهزيمة منكرة، ونزل بأرض "دثينة" ما نزل بغيرها من هزائم منكرة، وأحرقت مدنها وهتكت مدينة "تفض" واستبيحت ثم دمرت وأحرقت، ونهبت قراها وبساتينها التي تقع في الأرضين الخصبة التي تسقى بماء المطر، وفعلت جيوشه هذا الفعل في الأرضين الأخرى إلى أن بلغت ساحل البحر فأحرقت أيضًا كل المدن الواقعة عليه2.
ويظهر من نص "كرب ايل" أن موقع مدينة "تفض"، يجب أن يكون بين أرض "دتنت" والبحر، ولما كانت "دهس" تتاخم ""عود" من جهة و "تفض" من جهة أخرى ذهب بعض الباحثين إلى أن أرض "دهس" هي أرض "يافع" في الزمن الحاضر. أما "تفض" فإنها الخرائب الواسعة المتصلة بمدينة "خنفر"3. وقد عرفت "يافع" بـ "سروحمير" في أيام "الهمداني"، ولا زال أهل يافع يرجعون نسبهم إلى حمير4.
وتكون الهضاب الواقعة وراء دلتا "أبين" أرض "يافع" في الوقت الحاضر.
وقد رأى "فون وزمن" أن "دهس" "دهسم" التي يرد اسمها في النص: REP. EPIG 3945 هي أرض "يافع"5.
وذكر "كرب ايل وتر" أنه ضرب "وسر" ضربة نكراء واستولى على كل مناطقها إلى أن بلغ أرض "أوسان" في أيام ملكها "مرتم" مرتوم" "مرتو"، "مرت"، "مرة" فأمر جنوده بأن يعملوا في شعبها أوسان السيف، واستذل رؤساءه وجعل رؤساء "المزود" "المسود" وهم رؤساء البلد، رقيقًا للآلهة "سمهت" وقرابين لها، وقرر أن يكون مصير ذلك الشعب
__________
1 Beitrage, S. 53
2 الفقرة الخامسة من النص.
3 Beitrage, S. 68
4 Le museon, 1964,, 3-4, P. 440
5 Le Museon, 1964, 3-4, P. 440(3/289)
الموت والأسر، وأمر بتحطيم قصر الملك "مرتوم" "مرتم" "مرة" المسمى "مسور" "مسر"، ومعالم ما فيه من كتابات أوسانية، وإزالة الكتابات الأوسانية التي كانت تزين جدران معابد أوسان، ولما تم له كل ما أراده ورغب فيه، أمر بعودة الجيش السبئي، من أحرار وعبيد، من أرض أوسان ومن المقاطعات التابعة لها، إلى أرض سبأ، فعاد إليها كما صدر الأمر1.
وتذكر الكتابة: أن الملك "كرب ايل" أمر عندئذ بضم "سرم" "سرو" "سروم" وتوابعها، وكذلك "حمدن" "حمدان" ولواحقها، إلى حكومة سبأ، وسلم إدارة "سرم" إلى السبئيين، وأحاط المدينة بسور، وأعاد الترع والقنوات ومسايل الماء إلى ما كانت عليه، وأما "دهسم" "دهس" و "تبنى" فقد حلت بسكانهما الهزيمة، وقتل منهم ألفا قتيل وأسر خمسة آلاف أسير، وأحرقت أكثر مدنها، وأدمجتا ومعهما مقاطعة "دثينة" دثنت"، في سبأ، أما مقاطعة "عودم" "عود"، فقد أبقيت لملك "دهسم" "دهس". وقد عد "العوديون" الذين انفصلوا عن أوسان حلفاء لسبأ، فأبقيت لهم أملاكهم والأرضون التي كانت لهم2.
وكانت "عود" من أرض "أوسان" في الأصل، ثم خضعت لـ "مذحي" "مذحيم" ويرى بعض الباحثين أنها "عوذلة" في الزمن الحاضر3.
وجاء في هذه الكتابة، وبعد الجملة المتقدمة، أن "انفم" "أنف" وكل مدنها وجميع ما يخصها من أرضين زراعية وما فيها من أودية ومراعي، وكذلك كل أرض "نسم" و "رشاي" "رشأي" وكل الأٍرضين من "جردن" "جردان" إلى "فخذ علو" "وعرمو"، وكذلك جميع المدن والنواحي التابعة لـ "كحد" وسيبن" "سيبان" والمدن "اتخ" "أتخ" "وميفع" و "رتحم" وجميع منطقة "عبدن" "عبدان" ومدنها وجنودها أحرارًا وعبيدًا، و"دثينة أخلفوا" و"ميسرم" "ميسر" و"دثينة تبرم" "دثينة تبر" "وحرتو" وكل المدن والأودية والمناطق والجبال والمراعي في منطقتي "دث" "داث" وكل أرض "تبرم" "تبرم" وما فيها من سكان
__________
1 الفقرة السادسة من النص.
2 الفقرتان السابعة والثامنة من النص.
3 Beitrage S, 64(3/290)
وأملاك وأموال حتى البحر، وكذلك كل المدن من "تفض" إلى اتجاه "دهس" والسواحل وكل بحار هذه الأرضين، ومناطق "يل أي" و"سلعن" "سلعان" و"عبرت" "عبرة" و"لبنت" "لبنة" ومدنها ومزارعها، وجميع ما يملكه "مرتوم" ملك أوسان وجنوده في "دهس" و "تبنى" و"يتحم" وكذلك "كحد حضنم" "كحد حضن" وجميع سكان هذه المناطق من أحرار ورقيق وأطفال وكبار، كل هذه من بشر وأملاك جعلها "كرب ايل وتر" ملكًا لسبأ ولآلهة سبأ.
ويظن أن موضع "ميسرم" "ميسر"، وهو من مواضع أرض "دثينة" هو أرض قبيلة "مياسر" في الزمن الحاضر، وقد ذكر بعض السياح أن في أرض "مياسر" سبع آبار ترتوي منها القبيلة المذكورة التي تقطن أرض "دثينة" القديمة1.
ولفظة "سيبن" "سيبان" الواردة في النص، هي اسم قبيلة، ورد ذكرها في نص متأخر جدًّا عن هذ النص، هو نص "حصن غراب" ومعنى ذلك أنها من القبائل التي ظلت محافظة على كيانها إلى ما بعد الميلاد، فقد أشير إلى "كبر" "كبراء" وإلى "أقيال" "سيبان" وورد "سيبن ذ نصف" أي "سيبان" أصحاب "نصف" "نصاف" ويرى بعض الباحثين أن موضع "نصاف" "نصف"، هو الموضع الذي يقال له "نصاب" في الزمن الحاضر2.
وأما "ميفع" "ميفعة" فتقع في الزمن الحاضر في غرب "وادي نصاب" وفي غرب وادي "خورة" وأما "رتح" "رتحم"، فهو اسم قبيلة واسم مدينة في أرض "سيبان"، وقد ذكر أيضًا في جملة القبائل التي وردت أسماؤها في نص "حصن غراب" وأما "عبدن" "عبدان"، فإنه اسم موضع يقع في جنوب "نصاب" في الزمن الحاضر. وقد قال فيه "كرب ايل" في نصه: "وكل أرض عبدان ومدنها وواديها وجبلها ومراعيها وجنود عبدان أحرارًا وعبيدًا"3.
__________
1 Beitrage, S. 65
2 Beitrage, S. 56, RY 63
3 Glaser 1000A(3/291)
معبرًا بذلك عن تغلبه على كل أهل هذه الأرض من مدنيين وعسكر، حضر وأهل بادية ومراعٍ1.
وقد صير "كرب ايل وتر" كل أرض "عبدن" "عبدان" أرضًا حكومية، وتقع في الزمن الحاضر في سلطنة "العوالق العليا"، ويلاحظ أن "وادي عبدان" ما زال حتى اليوم بقراه وبمياهه من أرض السلطان، أي أنه أرض حكومية تخص السلطنة2.
واستمر "كرب ايل وتر" مخبرًا في كتابته هذه: أنه سجل جميع "كحد" وكل سكانها من أحرار ورقيق بالغين وأطفالًا، وكل ما يملكونه، القادرين على حمل السلاح منهم، وجنود "يل أي "و "شيعن" وعبرت" "عبرة" وأطفالهم، غنيمة لسبأ، ثم ذكر أنه نظرًا إلى تحالف ملك حضرموت الملك "يدع ايل" وشعب حضرموت مع شعب سبأ في هذا العهد ومساعدتهم له، أمر بإعادة ما كان لهم من ملك في "أوسان" إليهم، وأمر بإعادة ما كان للقتبانيين ولملك قتبان من ملك في "أوسان" إليهم كذلك، للسبب نفسه3. فأعيدت تلك الأملاك إلى الحضارمة وإلى القتبانيين.
ثم عاد "كرب ايل" فتحدث عن عداء أهل "كحد سوطم" لسبأ وعن معارضتهم له، فقال: إنه أمر جيشه بالهجوم عليهم، فأنزل بهم هزيمة منكرة وخسائر جسيمة، فسقط منهم خمس مائة قتيل في معركة واحدة، وأخذ منهم ألف طفل أسير وألفي حائك ما عدا الغنائم العظيمة والأموال النفيسة الغالية وعددًا كبيرًا من الماشية وقع في أيدي السبئيين4.
وتحدث "كرب ايل" بعد ذلك عن "نشن" "نشان"، وقد عارضته كذلك وناصبته العداء فذكر أنها أصيبت بهزيمة منكرة، فاستولت جيوشه عليها، وأحرقت كل مدنها ونواحيها وتوابعها، ونهبت "عشر" و"بيحان" وكل ما يخصها من أملاك وأرضين، وذكر أن "نشان" "نيشان" عادت فرفعت راية العصيان للمرة الثانية، لذلك هاجمها السبئيون وحاصروها وحاصروا
__________
1 Beitrage S 65
2 Beitrage S 57
3 الفقرة 12.و 13 من النص.
4 الفقرة 13 من النص.(3/292)
مدينة "نشق" معها ثلاثة أعوام، كانت نتيجتها ضم "نشق" وتوابعها إلى دولة سبأ، وسقوط ألف قتيل من "نيشان" "نشان" "نشن" وهزيمة الملك "سمه يفع" هزيمة منكرة، وانتزاع كل ما كانت حكومة سبأ قد أجرته من أرضين لـ "نشن" وأعادتها ثانية إلى سبأ، وتمليك مملكة سبأ المدن: "قوم" و"جوعل"، و"دورم" و"فذم" و "أيكم" وكل ما كان لـ "سمه يفع" ولـ "نشن" من ملك في "يأكم" "ياكم"، وكذلك كل ما كان لمعبد الأصنام الواقع على الحدود من أملاك وأوقاف حتى "منتهيتم" فسجلها باسمه وباسم سبأ1.
وصادرت سبأ أرض "نشن" الزراعية وجميع السدود التي تنظم الري فيها، مثل "ضلم"، و"حرمت"، وماء "مذاب" الذي كان يمون "نشن" وأماكن أخرى بالماء، وسجلت ملكًا لسبأ، وخرب سور "نشن" ودمره حتى أساسه، أما ما تبقى من المدينة، فقد أبقاه، ومنع من حرقه، وهدم قصر الملك المسمى "عفرو" "عفر"، وكذلك مدينته "نشن"، وفرض كفارة على كهنة آلهة المدينة الذين كانوا ينطقون باسم الآلهة، ويتكهنون باسمها للناس، وحتم على حكومة "نشن" إسكان السبئيين في مدينتهم وبناء معبد لعبادة إله سبأ الإله "المقه" في وسط المدينة، وانتزع ماء "ذو قفعن" وأعطاه بالإجارة لـ "يذمر ملك" ملك "هرم" "هريم"، وانتزع منها كذلك السد المعروف بـ "ذات ملك وقه" وأجره لـ "نبط علي" ملك "كمنه" "كمنا"، ووسع حدود مدينة "كمنه" "كمنا" من موضع سد "ذات ملك وقه" إلى موضع الحدود حيث النصب الذي يشير إليه، وسور "كرب ايل" مدينة "نشق" وأعطاها سبأ لاستغلالها، وصادر "يدهن" و "جزيت" و "عريم"، وفرض عليها الجزية تدفعها لسبأ2.
وانتقل "كرب ايل" بعد هذا الكلام إلى الحديث عن أهل "سبل" و"هرم" "هربم" "و "فنن"، فذكر أن هذه المدن غاضبته وعارضته، فأرسل عليها، جيشًا هزمها، فسقط منها ثلاثة آلاف قتيل، وسقط ملوكها قتلى كذلك، وأسر منهم خمسة آلاف أسير. وغنم منهم خمسين ومائة ألف من الماشية، وفرض
__________
1 الفقرة 14 و 15 من النص.
2 الفقرة 16 و 17.(3/293)
الجزية عليهم عقوبة لهم، ووضعهم تحت حماية السبئيين1.
وكان آخر من تحدث عنهم "كرب ايل" في كتابته هذه أهل "مهامر" "مه أمر" "مهأ مرم" "مهأمر"، و "أمرم" "أمر"، فذكر أنه هزمهم وهزم كذلك كل قبائل "مه امرم" "مهأ مرم"، و"عوهبم" "عوهب" "العواهب"، حيث تكبدوا خمسة آلاف قتيل، وأسر منهم اثني عشر ألف طفل، وأخذ منهم عددًا كبيرًا من الجمال والبقر والحمير والغنم يقدر بنحو مائتي ألف رأس، وأحرقت كل مدن "مه أمرم" وسقطت "يفعت" "يفعة" فدمرت وصادر "كرب ايل" مياه "مه أمرم" في "نجران" وفرض على أهل "مه أمر" الجزية يدفعونها لسبأ2.
وقد قص "كرب ايل وتر" في كتابة "صرواح" المسماة بـGlaser 1000B أسماء المدن المسورة والمقاطعات المحصنة التي استولى عليها، وسجل بعضها باسمه وبعضًا آخر باسم حكومة سبأ وبآلهة سبأ، ومن هذه: "كتلم" و "يثل"، و "نب"، و"ردع"، "رداع"، و"قب"، و"اووم" "أوم" و"يعرت" "يعرتم"، و"حنذفم" "حنذفم" "حنذف"، و"نعوت ذت فددم" "نعوت ذات فدد"، و"حزرام" "حزرأم"، و "تمسم" "تمس"3، ووهي مواضع كانت مسورة محصنة بدليل ورود جملة: "وسور وحصن ... " بعدها مباشرة.
وأما المواضع التي أمر "كرب ايل وتر" بتسويرها وبتحصينها، فهي:
"تلنن" "تلنان" و"صنوت" و "صدم" "صدوم" و"ردع" "رداع" و"ميفع بخبام" "ميفع بخبأم"، و"محرثم" ومسيلا الماء المؤديان إلى "تمنع" وحصن وسور "وعلن" "وعلان" و"مثبتم" "موثبتم" و"كمدر" "كدار"، وذكر بعد ذلك أنه أمر بإعادة القتبانيين إلى هذه المدن؛ لأنهم كانوا قد تحالفوا مع "المقه" إله سبأ و "كرب ايل" ومع شعب سبأ، أي أنهم كانوا في جانبهم، فأعادهم إلى المواضع المذكورة مكافأة لهم على ذلك4.
__________
1 الفقرة: 18 من النص.
2 الفقرة: 19 من النص.
3 الفقرة الأولى من النص.
4 الفقرة الثانية من النص.(3/294)
ثم عاد "كرب ايل"، فذكر أسماء مواضع أخرى استولى عليها وأخذها باسمه، هي: مدينة "طيب" وقد أخذها من "عم وقه ذ امرم" "عموقه ذ أمرم"، وأخذ منه أيضًا أملاكه وأمواله في "مسقى نجي"، وفي "افقن" "افقان" وبـ "حرتن" "حرتان"، وجبله ومراعيه وأوديته الآتية من "مرس" وكل المراعي في هذا المكان، ثم ذكر أنه أخذ من "حضرموت همو ذ مفعلم" "حضر همو ذو مفعل"، وهو من الأمراء الإقطاعيين على ما يظهر، هذه المواضع: "شعبم" "شعب" والأودية والمراعي التابعة لـ"مشرر" إلى موضع "عتب"، ومن "أبيت" "أبيت" إلى "ورخن" و "دعف" وكل الأملاك في "بقتت" و "دنم" "دونم"، فأمر بتسجيلها كلها باسمه، وأمر كذلك بتسجيل "صيهو" باسمه، واشترى "حدنن" أتباع ورقيق "ادم" "حضر همو ذي مفعل" و "جبرم" "جبر" أتباع "يعتق ذ خولن" "يعتق ذو خولان" الذي بـ "يرت"1.
وذكر "كرب ايل وتر" بعد ذلك: أنه وسع أملاك قبيلته وأهله "فيشان" "فيشن" وإنه أخذ من "رابم" بن خل أمر ذ وقبم" "رأبم بن خل أمر ذو وقبم"، كل ما يملكه في "وقبم" من أملاك ومن أرضين ومن أودية ومسايل مياه وجبال ومراع، وسجل ذلك كله باسمه، كما أنه استولى على "يعرت" "يعرتم" وعلى جميع ما يتبعها من مسايل مياه وأودية ومراع وجبال وحصون، فسجله باسمه، واستولى أيضًا على أرض "اووم" "أوم" "أوام" وعلى مسايلها، وسجلها ملكًا له2.
ثم ذكر أنه صادر كل أموال "خلكرب ذ غرن" "خالكرب ذو غران" وأملاكه في "مضيقت" "مضيقة" وسجلها باسمه، كما سجل أرض "ثمدت" ومسايل مياهها وحصنها ومراعيها في جملة أملاكه ومقتنياته3.
ثم عاد في الفقرة الخامسة من النص، فذكر أنه أخذ كل ما كان يملكه "خل كرب د غرن" "خالكرب ذو غران" في أرض "مضيقة" "مضيقت"، وأخذ كذلك التلين الواقعين في "خندفم" "خندف" والأرضين الأخرى إلى
__________
1 الفقرة الثالثة من النص.
2 الفقرة الرابعة من النص.
3 الفقرة الرابعة من النص.(3/295)
مدينة "طيب", وسجل ذلك كله في جملة أملاكه، وأخذ كذلك كل ما كان يملكه "خالكرب" في "مسقى نجي"، كما أخذ موضع "زوت" وكل ما يتعلق به وما يخصه من مسايل مياه ومراع1.
ثم أخذ أرض "اكربي" "اكري" ومسايل مياهها، وسجلها باسمه، كما استولى على "نعوت" من حد "شدم" و"خبام" خبأم" "خب أم" إلى الأوثان المنصوبة على الحدود علامة لها2.
وقطع "كرب ايل وتر" الحديث عن الأملاك التي استولى عليها وسجلها باسمه، وانتقل فجاة إلى التحدث عن بعض ما قام به من أعمال عمرانية، فذكر أنه أتم بناء الطابق الأعلى من قصره "سلحن" "سلحين" ابتداء من الأعمدة والطابق الأسفل إلى أعلى القصر، وأنه أقامه في وادي "اذنة" "اذنت" خزان ماء "تفشن"، ومسايله التي توصل الماء إلى "يسرن" "يسران"، وأنه شيد وحصن وقوى جدار ماء "يلط" وما يتفرغ منه من مساق ومسايل تسوق الماء إلى "أبين"، ثم قال: أنه شيد وبنى وأقام "ظراب" و"ملكن" "ملكان" لوادي "يسرن" "يسران"، كما بنى أبنية أخرى في وسط "يسرن" و"أبين"، وغرس وعمر أرضين زراعية في أرض "يسرن"3.
ثم عاد فقطع الكلام على ما قام من أعمال عمرانية، وحوله إلى الكلام على أملاكه التي وسعها وزاد فيها، وهي: "ذ يقه ملك" "ذو يقه ملك"، و"أثابن" "أثأب" "أثأبن"، و"مذبن" "المذاب"، و"مفرشم" "مفرش"، "ذ انفن" "ذو انف" "ذو الأنف"، و"قطنتن" "القطنة" و"سفوتم" "سفوت" و"سلقن" "سلقان" و"ذ فدهم" "ذ وفدهم"، و"ذ اوثنم" "ذو أوثان"، و"دبسو" "دبس"، و"مفرشم" "مفرش"، و"ذ حببم" "ذو حباب" "ذو حبب"، و "شمرو" "شمر" و"مهجوم" "مهكوم" "مهجم"4.
ثم عاد "كرب ايل وتر" فتكلم عى الأملاك التي حصل عليها وامتلكها،
__________
1 الفقرة الخامسة من النص.
2 الفقرة السادسة من النص.
3 الفقرة الخامسة من النص.
4 الفقرة السادسة من النص.(3/296)
فذكر أنه تملك في "طرق" موضع "عن. أن" و"حضرو" و"ششعن" "ششون"1 وذكر أنه تملك موضع "فرعتم" فرعت" "فرعة" و"تيوسم" "تيوس" و"اتابن" "أثابن" "اث ب ن" في أرض "يسرن" وأنه تملك "محمين" "محميات" من حد "عقبن" "عقبان" حتى "ذي أنف"، وتملك ما يخص "حضر همو بن خل أمر" "حضر همو بن خال أمر" من أملاك، وتملك "مفعل" "مفعلم" وكل ما في أرض "ونب" وكل أرض "ونب" وكل أرض "فترم" و"قنت" وكل ما يخص "حضر همو بن خال أمر" من مدن، هي: "مفعلم" و "فترم"، و"قنت" و "جو" "كو" وكل ما فيها من حصون وقلاع وأودية ومراع، ثم ذكر أنه باع المدن والأرضين المذكورة، وهي مدن: "مفعلم"، و "فترم" و "قنت" و"جو" التي أخذها من "حضر همو بن خال كرب" وسجلها باسم قبيلته "فيشان"2.
وكان قد ذكر في آخر الفقرة السابعة من النص وقبل الفقرة الثامنة المتقدمة التي هي خاتمة النص، أنه خرج للصيد فصاد، وقدم ذلك في مذبح "لقظ" قربانًا للإله "عثتر ذي فصد"، كما قدم إليه تمثالًا من الذهب3.
وقد أدت حروب "كرب ايل" المذكورة إلى تهدم أسوار كثير من المدن التي هاجمها، فصارت بذلك مدنًا مكشوفةً، من السهل على الأعراب والغزاة مداهمتها ونهبها، ولهذا اضطر إلى إعادة تسويرها أو ترميم ما تهدم من أسوارها كما اضطر أيضًا إلى تسوير مدن لم تكن مسورة وتحصينها. وفي جملة المدن التي حصنها وسورها أو رم أسوارها، مدينة "وعلان" حاضرة "ردمان"، و "رداع" و "كدر" "كدار"، ومدن أخرى4.
هذا، وأود أن ألخص الخطط التي سار "كرب ايل" عليها والحروب التي قام بها في الأرضين التي ذكر أسماءها في نصه، على الوجه الآتي: كانت
__________
1في النص العبراني: "ششون"، وفي الترجمة الألمانية "ششعن"، راجع الفقرة السابعة من النص.
2 الفقرة الثامنة وهي الفقرة الأخيرة من النص.
3 الفقرة السابعة من النص.
4 Beitrage S 38 Glaser. 1000 B(3/297)
أرض "سأد" أول أرض شرع في مهاجمتها، ثم انتقل منها إلى أرض "نقبتم" "نقبت" "نقبة"، ثم "المعافر" ثم سار نحو "ذبحان القشر" "ذبحن قشرم"، و"شرجب" "شركاب" "شركب" ثم اتجه في حملته الثانية نحو "أوسان"، حيث أمر جنوده بنهب "وسر لجيأت" وبقية المواضع إلى "حمن" "حمان"، وبحرق كل مدن "آنف" في أرض "معن" حول "يشبم" "يشبوم" أو "الحاضنة" في الزمن الحاضر، ومدن "حبان" في وادي "حبان" و"ذياب" في أرض قبيلة "ذياب" شرق حمير في الزمن الحاضر1.
ثم أمر "كرب ايل" بنهب "نسم" "نسام" وأرض "رشأى"، ثم "جردن" "جردان".
وعند ذلك وجه "كرب ايل" جيشه نحو "دتنت"، حيث أصيب فيها ملك أوسان بضربة شديدة فأمر بإحراق كل مدن "دتنت" ومدينة "تفض" و "أبين"، حتى بلغ ساحل البحر، حيث أحرق ودمر المدن والقرى الواقعة عليه.
ثم عاد "كرب ايل" فضرب أرض "وسر" مرة أخرى، وأصاب قصر ملك أوسان في "مسور"، حيث هدمه، وأمر بانتزاع كل الكتابات الموجودة في معابد أوسان وتحطيمها. ثم سار بجيشه كله إلى أرض أوسان، وبعد أن قضى على كل مقاومة لهم عاد إلى بلاده.
ثم قام بغزو أرضين تقع شمال غربي سبأ، ثم وحد "سروم" وأرض "همدان" وحصن مدنهما، وأصلح وسائل الري فيها.
وحدثت بعد تلك الحروب حرب وقعت في الجنوب، في "دهس" وفي "تبنو"، حيث أحرق "كرب ايل" مدنها، ثم ألحقها كلها مع "دتنت" بسبأ وفصلت أرض "عود" من "أوسان" فضمت إلى "دهس".
وأصيب "كحد ذ سوط" بمعارك شديدة، ويظهر أنها ثارت على "كرب ايل" وأعلنت العصيان عليه، وقد ساعدها وشجعها "يذمر ملك" ملك "هرم" وبقية المدن المعينية المجاورة، مثل "نشن" "نشان"، فسار جيش "كرب ايل"
__________
1 Beitrage S, 76(3/298)
إليها، وأنزل بها خسائر فادحة، وأحرق أكثر مدنها، وحاصر "نشان" مدة ثلاث سنين، مما يدل على أنها كانت مدينة حصينة جدًّا، نحى ملكها عنها، ثم انصرف "كرب ايل" إلى إعادة تنظيم الأرضين التي استولى عليها، وإلى تعيين حكام جدد للمناطق التي استسلمت له، وإلى إصلاح أسوار المدن ووسائل الدفاع والري1.
وأما الحملة الأخيرة من حملاته الصغيرة، فكانت على "مهأمر" "ممه أمر" و"أمر" حيث بلغت أرض نجران2.
لقد أضرت حروب "كرب ايل وتر" المذكور ضررًا فادحًا بالعربية الجنوبية فقد أحرق أكثر الأماكن التي استولى عليها، وأمر بقتل من وقع في أيدي جيشه من المحاربين، ثم أمر بإعمال السيف في رقاب سكان المدن والقرى المستسلمة فأهلك خلقًا كثيرًا. ونجد سياسة القتل والإحراق هذه عند غير "كرب ايل" أيضًا، وهي سياسة أدت إلى تدهور الحال في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية، وإلى إندثار كثير من المواضع بسبب إحراقها وهلاك أصحابها.
وقد عثرت بعثة "وندل فيلبس" في اليمن على كتابة وسمتها البعثة بـjamme 819 جاء فيها: "وبكر آل وبسمه"3. أي "وبكرب ايل وسمه"، وحرف الواو هنا في واو القسم، والكتابة من بقايا كتابة أطول تهشمت فلم يبق منها غير الجملة المذكورة، وقد ذهب "جامه" Jamme ناشرها إلى أنها من عهد سابق لحكم المكربين، وقدر زمن كتابتها القرن الثامن أو السابع قبل الميلاد4.
كما عثرت تلك البعثة على كتابات أخرى وسمت بـ Jamme 550 وبـjamme 552 وبـjamme 555 وبـjamme 557 وردت فيها أسماء لم تذكر بعدها جملة "مكرب سبأ" على عادة الكتابات، غير أن ظاهرة النص، والألفاظ المستعملة فيه، مثل: "قين يدع ايل بين"، يدلان على أنها أسماء "مكربين" حكموا سبأ قبل عهد الملوك.
__________
1 Beitrage, S., 76
2 Beitrage, S., 77
3 Sabaen Inscriptions from Mahram Bllqis (Marib) , By A. Jamme, John
4 Hopkins Press, Baltimore, 1962, Mahram, P. 389(3/299)
فقد دون في النصف الأول من النص jamme 550 أسماء المكربين: "يدع آل بين" "يدع ايل بين" و"يكرب ملك وتر" "يكر بملك وتر"، و"يثع أمر بين"، ودون في النصف الثاني من أسماء "يدع آل بين"، "يدع ايل بين" و"يكرب ملك وتر" "يكرب بملك وتر"، و"يثع أمر بين"، و"كرب آل وتر" "كرب ايل وتر"، أي الأسماء المذكورة في النصف الأول نفسها، ما خلا اسم "كرب ايل وتر"، فنحن في هذا النص بنصفيه أمام أربعة مكربين، كانوا من "مذمرم" أي من بني "مذمر"1.
ومدون النص والآمر بكتابته شخص اسمه "تبع كرب" "تبعكرب"، وكان كاهنًا "رشو" للإلهة "ذت غضرن" "ذات غضران"، أي كناية عن الشمس، كما كان بدرجة "قين"، أي موظف كبير مسئول عن الأمور المالية للدولة أو للمعبد، كأن يتولى إدارة الأموال، وكان "قينًا" لمعبد "سحر"، أي المتولي لأموره المالية والمشرف على ما يصل إلى المعبد من حقوق ومعاملات وعقود من تأجير الحبوس الموقوفة عليه، كما كان قينًا للمكربين المذكورين.
وقد ذكر في نصه أنه أمر ببناء جزء من جدار معبد "المقه" من الحد الذي يحد أسفل الكتابة أي قاعدتها إلى أعلى المعبد، كما أمر ببناء كل الأبراج وما على السقف من أبنية ومتعلقاتها، وذلك عن أولاده وأطفاله وأمواله وعن كل ما يقتنيه "هقنيهو" وعن كل نخيله "انخلهو" بـ "اذنت" "ادنة" وبـ "كتم" وبـ"ورق" وبـ"ترد" وبـ"وغمم" "وغم" وبـ "عسمت" "عسمة" وبـ"برام" وبـ"سحم" وبـ"مطرن بيسرن"، أي بمنطقة "مطرن" التي في أرض "يسرن" "يسران"، وهي تسقى الماء بواسطة قناطر تعبر فوقها المياه، وبمنطقة "ردمن" "ردمان" من أرض "يسرن" "يسران"، التي تروى بمياه السدود، وبأرض "مخضن" الواقعة بـ"يهدل".
وقد قام بهذا العمل أيضًا؛ لأن المقه أوحى في قلبه أنه سيهبه غلامًا؛ ولأن "يكرب ملك وتر"، اختاره ليشرف على إدارة الأعمال المتعلقة بالحرب التي وقعت بين قتبان وسبأ وقبائلها، فقام بما عهد إليه، وذلك لمدة خمس سنين، وأدى ما كان عليه أن يؤديه على أحسن وجه؛ ولأن الإله "المقه" حرس
__________
1 الفقرة 12 و 13 من النص.jamme 550 Mahram pp 9(3/300)
ووقى كل السبئيين وكل القبائل الأخرى التي اشتركت معهم وكل المشاة "ارجل" الذين أرسلوا على مدينة "تهرجب"1؛ ولأن إلهه حفظه ومكنه من إدارة الأعمال التي عهد الملك إليه، فتولى أمر سبأ والقبائل التي كانت معها، ووجه الأمور أحسن وجه ضد الأعمال العدوانية التي قام بها أهل "تهرجب" وغيرهم ضد سبأ، في خلال سنتين كاملتين، حتى وفقه الإله لعقد سلام "سلم" بين سبأ وقتبان فأثابه "يثع أمر بين" على ما صنع2.
ويظهر من هذا النص أن "تبع كرب" "تبعكرب"، الكاهن "رشو" و"القين" كان من كبار الملاكين في سبأ في أيامه له أرضون وأملاك واسعة في أماكن متعددة من سبأ، وقد كانت تدر عليه أرباحًا كبيرة وغلة وافرة، يضاف إلى ذلك ما كان يأتيه من غلات المعبد الذي يديره والنذور التي تنذر للإله "سحر"، ثم الأرباح التي تأتيه من وظيفته في الدولة.
ويظهر أنه كتب نصه المذكور بعد اعتزاله الخدمة لتقدمه في السن، في أوائل أيام حكم "كرب ايل وتر" ولذلك تكون جميع الحوادث والأعمال التي أشار إليها قد وقعت في أيام حكم المذكورين إلى ابتداء حكم "كرب ايل وتر" التي ذكر من أجل ذلك في آخر أسماء هؤلاء الحكام وفي القسم الأخير من النص.
ويظهر من النص أيضًا أن الأعمال الحربية التي قام بها "تبعكرب"، كانت في أواخر أيام "يكرب ملك"، وامتدت إلى أوائل أيام حكم "يثع أمر بين" أرسله الأول إلى الحرب، ومنحه الثاني شهادة إتمام تلك الحرب وانتهائها، فهذا النص يبحث عن السنين الخمس التي شغلها "تبعكرب" بالأعمال الحربية3.
وأما صاحب النص: jamme 552 فهو "ابكرب" "أبكرب" "أبو كرب" وكان من كبار الموظفين من حملة درجة "كبر"، أي "كبير" إذ كان كبيرًا على "كمدم بن عم كرب" "كمدم بن عكمركب" وهم من "شوذم" "شوذ" وكان "قينًا"، أي موظفًا كبيرًا عند "يدع ايل بين" وعند "سمه علي ينف" "سمه علي ينوف". وقد سجل نصه هذا عند بنائه "خخنهن" و"مذقنتن" قربة إلى الإله "المقه" ليبارك في أولاده
__________
1 "وكل ارجل هورد عد هجرن تهرجب" القسم الثاني من النص.
2 القسم الثاني من النص.
3 Mahram p 261(3/301)
وأطفاله وبيته "بيت يهر"، وفي كل عبيده ومقتنياته، وذلك في أيام المكربين المذكورين1.
وأما النص: jamme 555 فصاحبه "ذمر كرب بن أبكرب" "ذمر كرب بن أبكرب"، وهو من "شوذ بم"، أي "بني شوذب"، وكان قينًا" لـ"يثع أمر" ولـ"يكرب ملك" ولـ"سمه علي" ولـ"يدع ايل" و"يكرب ملك"2. وقد دونه عند اتمامه بناء جدار معبد "المقه"، من حد الحافة الجنوبية لقاعدة حجر الكتابة إلى أعلى البناء، وذلك ليكون عمله قربة إلى الإله، ليبارك في أولاده وأسرته وذوي قرابته، وفي أملاكه وعبيده وقد ذكر أسماء الأرضين التي كان يزرعها ويستغلها، وليبارك في بيته: "بيت يهر" وفي بيته الآخر المسمى "بيت حرر" بمدينة "جهرن" "جهران" وفي أملاكه وبيوته الأخرى في أرض العشيرتين: "مهأنف" و"يبران" "يبرن" كما دونه تعبيرًا عن حمده وشكره له؛ لأنه من عليه فأعطاه كل ما أراد منه، ومن جملة ذلك تعيينه قينًا على "مأرب" واشتراكه مع "سمه علي ينف" "سمهعلي ينوف" في الحرب التي وقعت بينه وبين قتبان في أرض قتبان، فأعد لتلك الحرب العدد التي ينبغي لها3.
وقد نعت "أبكرب بن نبطكرب" "ابكرب بن نبط كرب" وهو من "زلتن" "زلتان" نفسه بـ"عبد" "يدع ايل بين" و"سمه علي ينف"، و "يثع أمر وتر"، و"يكرب ملك ذرح" و"سمه علي ينف"، وذلك في النص: Jamme 557 وقد دونه عند قيامه ببعض أعمال الترميم والبناء في معبد "المقه"، تقربًا إلى رب المعبد "بعل أوام" الإله "المقه"، ولتكون شفيعة لديه، لكي يبارك فيه وفي ذريته وأملاكه، وقد اختتم النص بجملة ناقصة أصيب آخرها بتلف، ولم يبق منها إلا قوله: "وملك مأرب"4.
وللجملة الأخيرة من النص أهمية كبيرة؛ لأنها تتحدث عن ملك كان على مأرب في ذلك الزمن، سقطت حروف اسمه، ولم يبق منه غير الحرف الأول.
__________
1 Jamme 552, MAMB 6, Mahram, P. 16
2 Jamme 555, MAMB 10, Magram, PP. 18, 261
3 الفقرتان الثالثة والخامسة من النص. Jamme 557, MAMB 12, Magram, P. 22
4 راجع السطر الأخير من النص. Jamme 557, MAMB 12, Magram, P. 22(3/302)
ويتبين من النصوص الأربعة المذكورة أننا أمام عدد من حكام سبأ، لم تشر تلك النصوص إلى أزمنتهم ولا إلى صلاتهم بالحكام الآخرين، حتى نستطيع بذلك تعيين المواضع التي يجب أن يأخذوها في القوائم التي وضعها الباحثون لحكام سبأ.
وقد رأى "جامه" استنادًا إلى دراسته لهذه النصوص، وإلى معاينته لنوع الحجر ولأسلوب الكتابة، أن "يدع ايل بين" المذكور في النص: Jamme 552 هو أقدم من "يدع ايل بين" المذكور في النص Jamme 555، ولذلك دعاه بـ "الأول"، ودعا "يدع ايل بين" المذكور في النص Jamme 555 بـ "الثاني" و"يدع ايل بين" المذكور في النص jamme 550 بـ"يدع ايل" الثالث1.
ومنح "جامه" "سمه علي ينف" "سمعلي ينوف" المذكور في النص:
Jamme 552Lأمر لقب "الأول" ليميزه عن سميه المذكور في النص Jamme 555 وقد لقبه بـ"الثاني" كما منح "يثع أمر بين" المذكور في النص:
Jamme555 لقب الأول، ليميزه عن سميه المذكور في النص Jamme 550 والذي أعطاه لقب "الثاني" وأما "يثع أمر وتر" و"يكرب ملك ذرح"، المذكوران في النص: Jamme 552، فلم يمنحهما أي لقب كان لعدم وجود سمي لهما في النصوص الأخرى2.
وتفضل "جامه" على "يكرب ملك وتر"، المذكور في النص: Jamme 555 فمنحه لقب "الأول"، ليميزه عن سميه المذكور في النص: Jamme 550 الذي أعطاه لقب "الثاني"، وقد وسم "جامه" "يثع أمر بين" المذكور في النص: Jamme 555 بـ"الأول"، فميزه بذلك عن سميه المذكور في النص: Jamme 550 وأما "كرب ايل وتر" المذكور في آخر أسماء حكام النص: Jamme 550 فقد ظل بدون لقب، لعدم وجود سمي له.
__________
1 Mahram,P 264.
Mahram P 264 2.(3/303)
مدن سبأ:
كانت مدينة "صرواح"، هي عاصمة السبئيين في أيام المكربين ومقر المكرب وفيها باعتبارها العاصمة معبد "المقه" إله سبأ الخاص، أما "مأرب" فلم(3/303)
تكن عاصمة في هذا العهد، بل كانت مدينة من مدن السبئيين، و"صرواح" في هذا اليوم موضع خرب يعرف بـ "خربة" وبـ"صرواح الخريبة" على مسيرة يوم في الغرب من "مأرب"1. ويقع ما بين صنعاء ومأرب2. وقد ذكر "الهمداني" مدينة "صرواح" في مواضع عدة من كتابه "الإكليل"، وأشار إلى "ملوك صرواح ومأرب"3. وذكر شعرًا في "صرواح" للجاهليين ولجماعة من الإسلاميين، كما أشار إليها في كتابه "صفة جزيرة العرب"5.
وتحدث "نشوان بن سعيد الحميري" عنها، فقال: "صرواح موضع باليمن قريب من مأرب فيه بناء عجيب من مآثر حمير، بناه عمرو ذو صرواح الملك بن الحارث بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الأصغر، وهو أحد الملوك المثامنة"6.
وزعم أن "قس بن ساعدة الإيادي" ذكر "عمرو بن الحارث القيل ذو السبئية القديمة أيضًا، وفي إشارتهم إليها وتحدثهم عنها، دلالة على أهمية تلك المدينة القديمة، وعلى تأثيرها في نفوس الناس تأثيرًا لم يتمكن الزمان من محوه بالرغم من أفول نجمها قبل الإسلام بأمد.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "صرواح حصن باليمن أمر سليمان عليه السلام الجن فبنوه لبلقيس"8. وقولهم هذا هو بالطبع أسطورة من الأساطير المتأثرة بالإسرائيليات التي ترجع أصل أكثر المباني العادية في جزيرة العرب إلى سليمان وإلى جن سليمان.
وقد عثر في أنقاض هذه المدينة القديمة المهمة على كتابات سبئية بعضها من
__________
1 Handbuch l S10 Beitrage S22
2 زيد علي عنان، تأريخ اليمن القديم "ص 91".
3 الإكليل "8/ 45".
4 الإكليل "8/ 75 وما بعدها" "10/ 22، 24، 26، 39، 110".
5 الصفة "102، 110، 203".
6 منتخبات "ص 60".
7 منتخبات "ص 60".
8 اللسان "3/ 343"، الإكليل "8/ 24، 45، 46، 49، 75، 76، 77، 78، 79، وما بعدها 109" "طبعة نبيه" 10/ 22، 24، 26، 39، 110"، الصفة "102، 110، 203".(3/304)
عهد المكربين. ومن هذه النصوص، النص المهم الذي تحدثت عنه المعروف بكتابة "صرواح"، والموسوم عند العلماء بـGlaser 1000 A B وصاحبه الآمر بتدوينه هو المكرب الملك "كرب ايل وتر" وهو من أهم ما عثر عليه من نصوص هذا العهد. وقد دون فيه أخبار فتوحاته وانتصاراته وما قام به من أعمال، كما دونته قبل قليل، ولأسماء المواضع والقبائل فيه أهمية كبيرة للمؤرخ ولا شك، إذ تعينه على أن يتعرف مواضع عديدة ترد في نصوص أخرى، ولم نكن نعرف عنها شيئًا، كما أعانتنا في الرجوع بتأريخ بعض هذه الأسماء التي لا تزال معروفة إلى ما قبل الميلاد، إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وذلك إذا ذهبنا مذهب من يرجع عهد "كرب ايل وتر" إلى ذلك الزمن1.
وفي مقابل خربة معبد صرواح، خربة أخرى تقع على تل، هي بقايا برج المدينة الذي كان يدافع عنها، وهناك أطلال أخرى، يظهر أنها من بقايا معابد تلك المدينة وقصورها2.
وكان على المدينة "كبر" أي كبير، يدير شئونها، ويصرف أمورها وأمور الأرضين التابعة لها، وتحت يديه بالطبع موظفون يصرفون الأمور نيابة عنه، وهو المسئول أمام المكربين عن إدارة أمور المدينة وما يتبعها من قرى وأرضين وقبائل3.
وفي "صرواح" كان معبد "المقه" إله سبأ، ومن هذه المدينة انتشرت عبادته بانتشار السبئيين، ومن معابد هذا الإله التي بنيت في هذه المدينة معبد "يفعن" "يفعان" الذي حظي بعناية المكربين4.
وقد زارها "نزيه مؤيد العظم". وذكر أنها خربة في الوقت الحاضر، بنيت على أنقاضها قرية تتألف من عدد من البيوت، وتشاهد فيها بقايا القصور القديمة، والأعمدة الحجرية المنقوشة بالمسند، وأشار إلى أن القسم الأعظم من المباني القديمة، مدفون تحت الأنقاض خلا أربعة قصور أو خمسة لا تزال ظاهرة
__________
1 Beitrage, S-, 22
2 A. Fakhry, Les Antiquiiea du Yemen, Un Voyage & Sirwah, Marib et El-Gof, Le Museon, 61, 3-4, P. 215, Beitrage, S-, 22
3 Handbuch, I, S., 130
4 Handbuch, I, S., 78(3/305)
على وجه الأرض، منها قصر يزعم الأهلون أنه كان لبلقيس، وكان به عرشها ولذلك يعرف عندهم بقصر بلقيس1. كا زار خرائب "صرواح" أحمد فخري من المتحف المصري في القاهرة، وصور أنقاض معبد "المقه" وعددًا من الكتابات التي ترجم بعضها الأستاذ "ركمنس" 2M Ryckmans.
ولم تكن "مرب"، أي "مأرب" عاصمة سبأ في هذا الوقت، بل كانت مدينة من مدن سبأ الكبرى، ولعلها كانت العاصمة السياسية ومقر الطبقة المتنفذة في سبأ، أما "صرواح" فكانت العاصمة الروحية، فيها معبد الإله الأكبر، وبها مقر الحكام الكهنة "المكربون" وقد وجه "المكربون" عنايتهم كما رأينا نحو مأرب، فأقاموا بها معبد "المقه" الكبير والقصور الضخمة وسكنوا بها في فترات، وأقاموا عندها سد مأرب الشهير، فكأنهم كانوا على علم بأن عاصمة سبأ، ستكون مأرب، لا مدينتهم صرواح. وقد يكون لمكان مأرب دخل في هذا التوجه.
__________
1 رحلة في بلاد العربية السعيدة من مصر إلى صنعاء "2/ 34" فما بعدها.
2 Le Museon, LXI, 3-4, 1948, P. 215, A. Fakhry.An Archeological Journey to Yemen, I. Cairo, 1952, n, Cairo, 1952, The Publication of the Inscriptions, by G. Ryckmans, HI, Cairo, 1951(3/306)
قوائم بأسماء المكربين
مدخل
...
قوائم بأسماء المكربين:
اشتغل علماء العربية الجنوبية بترتيب حكام سبأ المكربين بحسب التسلسل التأريخي أو وضعهم في جمهرات على أساس القدم، مراعين في ذلك دراسة نماذج الخطوط والكتابات التي وردت فيها أسماء المكربين، وآراء علماء الآثار في تقدير عمر ما يعثر عليه مما يعود إلى أيام أولئك المكربين، ودراسة تقديراتهم لعمر الطبقات التي يعثر على تلك الآثار فيها، ومن أوائل من عني بهذا الموضوع من أولئك العلماء "كلاسر"، العالم الرحالة الشهير الذي كان له فضل نشر الدراسات العربية الجنوبية1 والعالم "فرتس هومل"2. و"رودوكناكس"3، و"فلبي"4، وغيرهم.
__________
1 راجع كتابه:Sfcizze der Geschichte und Geographie Arabien
2 Fritz Hommel, Ausatze und Abhandlungen arabistisch — semitologischen Inhalts., Miinchen, 1892 — 1901, S., 145, Grundriss der Geographie und
Geschlchte des Alten Orient, S., 671
3 Rhodokanakis, KTB., n, S., 49
4 Philby, Background, P. 141(3/306)
قائمة "هومل":
وقد رتب "هومل" "مكربي" سبأ على هذا النحو1:
1- سمه علي، ولم يقف على نعته في الكتابات، وإليه تعود الكتابات الموسومة بـGlaser 1147.
2- يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح" وإلى عهده تعود الكتابات: Arn. Glaser 901. 1147. 484 Halevy 50.
3- يثع أمر وتر "يثع أمر وتر" وإلى أيامه ترجع الكتابات: Halevy 626 627.
4- يدع آل بين "يدع ايل بين"، وإلى عهده يرجع النص: Halevy 280.
5- يثع أمر، ولم يذكر نعته، وقد ورد اسمه في النصوص الموسومة بـHalevy 352. 672. Arn 29.
6- كرب ايل بين "كرب آل بين".
7- سمه علي ينف "سمهعلي ينوف" "سمه علي ينوف".
ويكون هؤلاء على رأيه جمهرة مستقلة، وهي الجمهرة الأولى لمكربي سبأ وتتكون الجمهرة الثانية على رأيه من المكربين:
1- ذمر علي.
2- سمه علي ينف "سمه علي ينف"، و"سمهعلي ينوف"، وهو باني سد "رحب"، رحاب"، وإلى أيامه تعود الكتابات:
Glaser 413, 414, Halevy 673, Arn. 14
__________
1 Handbuch, I, S., 75.(3/307)
3- يثع أمر بين "يثع أمر بين"، وهو باني سد "حببض"، "الحبابض" وموسع سد "رحب" "رحاب"، والمنتصر على "معن" معين وإلى عهده تعود الكتابات: Glaser 523, 525, Halevy 678, Arn. 12, 13, Glaser 418, 419.
4- ذمر علي، لعله ابن يثع أمر بين.
5- كرب آل وتر "كرب ايل وتر" صاحب نص صرواح.
وقد عثر في بعض الكتابات على صورة النعامة محفورة مع كتابة ورد فيها اسم الإله "المقه"، كما عثر على كتابات ذكر فيها اسم هذا الإله وحفرت فيها صورة "نسر"، وقد ذهب بعض الباحثين إلى احتمال كون هذه الصور هي رمز إلى الإله المقه1.
__________
1 Mahram, P. 264, A. Grohmann, Gottersymbole und Symboltiere auf Sfldarablschen Denkmalern, Wlen, 1914, S-, 75(3/308)
قائمة "رودو كناكس":
ناقش "رودو كناكس" القوائم التي وضعها "كلاسر" و"هومل" و"هارتمن"1, وحاول وضع جمهرات جديدة مبنية على أساس الرابطة الدموية والتسلسل التأريخي، وما ورد في الكتابات من أسماء، فذكر في كتابه:
"نصوص قتبانية في غلات الأٍرض" Katabanische Textee Zur Bodenwirtschaft هذه الجمهرات2: جمهرة ذكرت أسماؤها في الكتابة: Glaer 1693 وتتألف من:
1- يدع آل بين "يدع ايل بين".
2- سمه علي ينف "سمه علي ينوف".
3- يثع مر وتر "يثع أمر وتر".
وجمهرة أخرى وردت أسماؤها في الكتابة Glaser 926 وتتكون من:
1- يثع أمر.
__________
1 Hartmann, Die Arabische Frage, S-, 603
2 KTB., H, S-, 49(3/308)
2- يدع آل "يدع ايل".
3- سمه علي.
وتكون مجموعة رمز إليها بـA.
وذكر مجموعة ثالثة تتألف من:
1- يدع آل "يدع ايل".
2- يثع أمر "يثع أمر".
3-يدع اب "يدع أب".
وجمهرة رابعة تتكون من:
1- كرب آل "كرب ايل".
2- يدع اب "يدع أب".
3- اخ كرب "أخ كرب".
وقارن بين "هومل" و "هارتمن" فذكر الجمهرتين.
1-يدع آل "يدع ايل". 1- يدع أب "يدع أب".
2- يثع أمر "يثع أمر". 2- اخ كرب "أخ كرب".
3- كرب آل "كرب ايل".
وجمهرة:
1- يدع آل "يدع ايل".
2- يثع أمر "يثع أمر".
3- كرب آل "كرب ايل".
وهي جمهرة B.
ولخص "رودوكناكس" هذه الجمهرات في جمهرات ثلاث هي: جمهرة A وجمهرة B وجمهرة C.
جمهرة "A" Glaser 926 وتتألف من:
1- يثع امر "يثع أمر".
2- يدع آل "يدع ايل".(3/309)
3- سمه علي.
جمهرة. "Glaser 1752. 1762. Halevy 626 "B، وتتكون من:
1- يدع آل "يدع ايل".
2- يثع أمر "يثع أمر".
3- كرب آل "كرب ايل".
4- سمه علي.
جمهرة "Glaser 1693 "C وقوامها:
1- يدع آل بين "يدع ايل بين".
2- سمه علي ينف "سمه علي ينوف".
3- يثع أمر وتر "يثع أمر وتر".
وفي مناقشته للمجموعات الثلاث المتقدمة عاد فذكر الجمهرات التالية:
جمهرة "1".
سمه علي.
يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح" CIH 366 FR 9. Halevy 50..
يثع أمر وتر "يثع أمر وتر". CIH 490 , Halevy 626.
يدع آل بين "يدع ايل بين"، Halevy 280.
جمهرة "2":
يثع أمر "يثع أمر" لم يرد نعته.
كرب آل بين "كرب ايل بين". Halevy 352, 672.
سمه علي ينف "سمه علي ينوف" Halevy 45.
وذكر الجمهرة التالية في آخر مناقشته لقوائم أسماء المكربين، وتتألف من: يثع أمر بين "يثع أمر بين" Glaser 926.
يدع آل بين "يدع ايل بين" فاتح مدينة "نشق" Halevy 630 Glaser 926 1752.(3/310)
يثع أمر "يثع أمر" Halevy 630 Glaer 1752
كرب آل "كرب ايل" Halevy 633 Glaser 1752 1762 سمه علي Glaser 926. 1762.
وليس في تعداد هذه الجمهرات هنا علاقة بعدد المكربين أو بتسلسلهم التأريخي وإنما هي جمهرات وأسماء متكررة، ذكرها "رودوكناكس" للمناقشة ليس غير، وقد أحببت تدوينها هنا ليطلع عليها من يريد التعمق في هذا الموضوع.(3/311)
قائمة "فلبي":
وقفت على قائمتين صنعهما "فلبي" لمكربي سبأ، نشر القائمة الأولى في كتابة: "سناد الإسلام"1 ونشر القائمة الثانية في مجلة 2Le Museom. وقد قدر "فلبي" تأريخًا لكل مكرب حكم فيه على رأيه شعب "سبأ" فقدر في قائمته التي نشرها في كتابه المذكور لكل ملك مدة عشرين سنة، وجعل مبدأ تأريخ حكم أول مكرب حوالي سنة "800" قبل الميلاد، وسار على هذا الأساس بإضافة مدة عشرين عامًا لكل ملك، فتألفت قائمته على هذا النحو:
1- سمه علي، أول المكربين، حكم حوالي سنة "800" قبل الميلاد.
2- يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح"، وهو ابن "سمهعلي"، حكم حوالي سنة "780" قبل الميلاد.
3- يثع أمر وتر بن يدع آل ذرح، حكم حوالي سنة "760" قبل الميلاد.
4- يدع آل بين بن يثع أمر وتر، حكم حوالي سنة "740" قبل الميلاد.
5- يدع أمر وتر بن سمه علي ينف، وهو معاصر الملك الآشوري سرجون، وقد حكم حوالي سنة "720" قبل الميلاد.
6- كرب آل بين بن يثع أمر، حكم حوالي سنة "700" قبل الميلاد.
7- ذمر علي وتر ولا يعرف اسم والده على وجه التأكيد، وربما كان والده "كرب آل وتر"، أو "سمه علي ينف" وربما كان شقيقًا لـ"كرب آل بين"، وقد حكم في حوالي سنة "680" قبل الميلاد.
__________
1 Background of lslam pp 141
2 Le Museon Lxll 3- 4 PP 248(3/311)
8- سمه علي ينف بن ذمر علي، وهو باني سد "رحب" "رحاب" وقد حكم في حوالي سنة "660" قبل الميلاد.
9- يثع أمر بين بن سمه علي ينف، وهو باني سد "حببضن" الحبابض، وقد حكم حوالي سنة "640" قبل الميلاد.
10- كرب آل وتر بن ذمر علي وتر، آخر المكربين وأول ملوك سبأ، وقد حكم على رأيه من سنة "620" حتى سنة "610" قبل الميلاد.
أما قائمته التي نشرها في مجلة Le Museon، فهي على النحو الآتي:
1- سمه علي، وهو أقدم مكرب عرفناه. بدأ حكمه حوالي سنة "820" قبل الميلاد. وقد وضع "فلبي" الكتابات: CIH 367 , 418. 488, 955 إلى جانب اسم هذا المكرب دلالة على أن اسمه ذكر فيها، غير أني لم أجد لهذا المكرب أية علاقة بالكتابات: CIH 418, 488, 955 فالكتابة CIH 418 أي Glaser 926، لا تعود إلى هذا المكرب، وإنما تعود إلى مكرب آخر زمانه متأخر عنه، وقد وجدت خطأ مشابهًا في مواضع أخرى من هذه المواضع التي أشار فيها إلى الكتابات التي تخص كل مكرب من المكربين.
2- يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح"، حكم حوالي سنة "800" قبل الميلاد. أما الكتابات التي ورد فيها اسمه، فهي:
CIH 366. 418, 488, 490 , 636, 906, 955, 957
REP. EPIG. 3386, 3623, 3949, 3950, AF 17. 23, 24, 38.
3- سمه علي ينف، وقد حكم حوالي سنة "780" قبل الميلاد. أما الكتابات التي تعود إلى أيامه فهي:
CIH 368, 371, 336, REP EPIG 3623, AF 68, 91, 92
4- يثع أمر وتر، لم يذكر المدة التي حكم فيها، وإنما جعل مدة حكمه مع مدة حكم سلفه ثلاثين عامًا، تنتهي بسنة "750" قبل الميلاد. أما الكتابات التي ورد اسمه فيها، فهي:
CIH 138, 368, 371, 418, 490, 492, 493, 495, 634, 955, MREP EPI 3623M, 4405(3/312)
وذكر "فلبي" بعد اسم "سمه علي ينف" اسم ابنه "يدع آل وتر"، ولكنه لم يشر إلى أنه كان مكربًا، وقد أشار إلى ورود اسمه في الكتابات: AF 86, 91, 92.
5- يدع آل بين، وهو ابن يثع أمر وتر، وقد حكم في حوالي سنة "750" قبل الميلاد. وورد اسمه في الكتابات:
CIH 138, 414, 492, 493, 495, 634 961, 967, 979, 3389, 4405, AF 43, 89, 3387REP, EPIG.
وذكر "فلبي" اسم "سمه علي ينف" مع اسم شقيقه "يدع آل بين"، ولم يكن هذا مكربًا، وقد ذكر في الكتاباتCIH 563, 631.
6- ذمر علي ذرح وهو ابن "يدع آل بين"، وقد حكم حوالي سنة "730" قبل الميلاد.
جاء اسمه في الكتابات:
CIH 633, 979, REP. EPIG 3387, 3389, AF 29.
وكان له ولد اسمه "يدع آل" "يدع ايل" لا نعرف نعته، ولم يكن مكربًا، وقد ورد اسمه في الكتابات:CIH 633, AF 29.
7- يثع أمر وتر. ووالده هو "سمه علي ينف" شقيق "يدع آل بين"، وقد ذكرت أنه لم يكن مكربًا. لم يذكر "فلبي" مدة حكمه، وإنما جعل مدة حكمه مع مدة حكمه مع مدة حكم سلفه "ذمر علي ذرح" ثلاثين عامًا، انتهت بحوالي سنة "700" قبل الميلاد.
8- كرب آل بين، وهو ابن يثع أمر وتر، حكم حوالي سنة "700" قبل الميلاد، وورد اسمه في الكتابات: CIH 610, 627, 637, 732, 691, REP. EPIG 3388 4125, 4401, AF 89..
9- ذمر على وتر بن كرب آل بين، حكم حوالي سنة "680" قبل الميلاد، وورد اسمه في الكتابات: CIH 610 623, REP EPIG 3388, 4401
10- سمه علي ينف، وهو ابن ذمر علي وتر حكم حوالي سنة "660" قبل الميلاد، وذكر اسمه في الكتابات:
CIH 622, 623, 629, 733 , 774, philby 77 REP EPIG 3650, 4177, 4370(3/313)
11- يثع أمر بين، وهو ابن سمه علي ينف، حكم حوالي سنة "640" قبل الميلاد، وذكر اسمه في الكتابات:
CIH, 662, 629, 732, 864, Philby 77,
AF 62, III, REP. EPPPPIG. 3650, 3653, 4177.
وذكر "فلبي" مع اسم "يثع أمر بين" اسم "يكرب ملك وتر".
وقد ورد اسمه في الكتابة: AF 70، ولم يكن مكربًا.
12- ذمر علي ينف، وقد حكم حوالي سنة "620" قبل الميلاد، وجاء اسمه في الكتابات:
AF 70, CIH 491, REP. EPIG. 3498, 3636, 3945, 3946
13- كرب آل وتر، وهو آخر المكربين، وقد حكم حوالي سنة "615" قبل الميلاد، وورد اسمه في الكتابات:
CIH 126, 363, 491, 562, 582,601, 881, 965, REP. RPIG. 3234,
34498, 3636, 3916, 3945, 3946, Philby 16, 24,25, 70? 101, 133?(3/314)
قائمة ريمكنس
...
قائمة "ريكمنس" j. Ryckmans:
وقد دون "ريكمنس" أسماء المكربين على هذا النحو:
1- سمه علي.
2- يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح" وهو ابن "سمه علي".
3- سمه علي ينف، وهو ابن "يدع ايل ذرح".
4- يثع أمر وتر، وهو ابن "يدع ايل ذرح" كذلك.
5- يدع آل بين "يدع ايل بين" وهو ابن "يثع أمر وتر".
6- ذمر علي ذرح، وهو ابن "يدع ايل بين".
7- يثع أمر وتر، وهو ابن "سمه علي ينف"، ابن "يثع أمر وتر" وهو شقيق "يدع ايل بين".
8- كرب ايل بين1.
__________
1 Jacques Ryckmans, L.htm'institution Monarchique en Arable Mertaionale avant L'Islam (I) Louvain, 1951, P. 95.(3/314)
الفصل الرابع والعشرون: ملوك سبأ
مدخل
...
الفصل الرابع والعشرون: ملوك سبأ
وبتلقب "كرب ايل وتر" بلقب ملك، وباستمرار ما جاء بعده من الحكام على التلقب به، ندخل في عهد جديد من الحكم في سبأ، سماه علماء العربيات الجنوبية عهد "ملوك سبأ"، تمييزًا له عن العقد السابق الذي هو في نظرهم العهد الأول من عهود الحكم في سبأ، وهو عهد المكربين، وتمييزًا له عن العهد التالي له الذي سمي عهد "ملوك سبأ وذي ريدان".
ويبدأ عهد "ملوك سبأ" بسنة "650 ق. م." على تقدير "هومل" ومن شايعه عليه من الباحثين في العربيات الجنوبية1. ويمتد إلى سنة "115ق. م." على رأي غالبية علماء العربيات الجنوبية2، أو سنة "109 ق. م." على رأي "ركمنس" الذي توصل إليه من عهد غير بعيد، وعندئذ يبدأ عهد جديد في تأريخ سبأ، هو عهد "ملوك سبأ وذي ريدان".
أما "ألبرايت"، فيرى أن حكم هذا المكرب الملك في حوالي السنة "450ق. م."، أي بعد قرنين من تقدير "هومل"3. وبناء على ذلك يكون عهد الملوك –على رأيه- قد بدأ منذ هذا العهد4.
__________
1 Handbucb, I, 8., 86
2 Handbuch, I, S-, 86
3 Discoveries, P. 222, BOASO0K, NUM. 137, 1955, P. 38, JAOS, 73, 1953, P. 40
4 W. F. Albright, in Journal of the American Oriental Society, 73, I, 1953, P.40(3/315)
وقد قدر بعض الباحثين زمان حكم المكرب والملك "كرب ايل وتر" في القرن الخامس قبل الميلاد1, وقد كان يعاصره في رأي "ألبرايت" "وروايل" ملك أو مكرب قتبان، الذي حكم بحسب رأيه أيضًا في حوالي سنة "450ق. م."، وكان خاضعًا لـ"كرب ايل وتر"2، و "يدع ايل" ملك حضرموت3.
ويمتاز هذا العهد عن العهد السابق له، وأعني به عهد حكومة المكربين، بانتقال الحكومة فيه من "صرواح" العاصمة الأولى القديمة، إلى "مأرب" العاصمة الجديدة، حيث استقر الملوك فيها متخذين القصر الشهير الذي صار رمز "سبأ"، وهو قصر "سلحن" "سلحين" مقامًا ومستقرًّا لهم، منه تصدر أوامرهم إلى أجزاء المملكة في إدارة الأمور.
و"كرب آل وتر" "كرب ايل وتر"، وهو أول ملك من ملوك سبأ افتتح هذا العهد، لقد تحدثت عنه في الفصل السابق، حديثًا أعتقد أنه واف، ولم يبق لدي شيء جديد أقوله عنه. وليس لي هنا أن أنتقل إلى الحديث عن الملك الثاني الذي حكم بعده، ثم عن بقية من جاء بعده من ملوك.
أما الملك الثاني الذي وضعه علماء العربيات على رأس قائمة "ملوك سبأ" بعد "كرب ايل وتر"، فهو الملك "سمه علي ذرح"4، وقد ذهب "فلبي" إلى احتمال أن يكون ابن الملك "كرب ايل وتر". وقد كان حكمه على حسب تقديره في حوالي السنة "600ق. م."5.
وقد وقفنا من النص الموسوم بـCIH 374 على اسمي ولدين من أولاد "سمه علي ذرح"، هما "الشرح" "اليشرح"، و"كرب ايل". وقد ورد فيه: أن "الشرح" أقام جدار معبد "المقه" من موضع الكتابة إلى أعلاها، ورمم أبراج هذا المعبد، وحفر الخنادق، ووفى بجميع نذره الذي نذره لإلهه "المقه" على الوفاء به أن أجاب دعاءه، وقد استجاب إلهه لسؤاله، فيسر أمره وأعطاه كل ما أراد، فشكرًا له على آلائه ونعمائه، وشكرًا لبقية آلهة سبأ،
__________
1 Beltrage, S., 9
2 The Chronology, P. 8
3 The Chronology, P. 10
4 Handbuch, I, S., 86, Le Mus6on, LXII, 3-4, 1949, P. 249
5 Background, P. 142(3/316)
وهي: "عثتر"، و"هبس" "هوبس" و"ذات حمم" "ذات حميم" و"ذت بعدن" "ذات بعدان"، وتمجيدًا لاسم والده "سمه علي ذرح" أن أمر بتدوين هذه الكتابة ليطلع عليها الناس1. وقد سجل فيها مع اسم شقيقه "كرب آل" "كرب ايل".
أما "كرب ال" "كرب ايل" أحد أولاد "سمه علي ذرح" فلا نعرف شيئًا من أمره، وقد صيره "هومل" خليفة والده، وجاراه "فلبي" في ذلك، وقدر زمان حكمه بحوالي السنة "580 ق. م."2.
ووضع "هومل" اسم "الشرح" "اليشرح"، وهو ولد من أولاد "سمه علي ذرح" بعد اسم شقيقه "كرب ايل وتر"3. وجاراه "فلبي" في هذا الترتيب4، ولا نعلم شيئًا عنه يستحق الذكر.
وانتقل عرش سبأ إلى ملك آخر، هو "يدع آل بين" "يدع ايل بين" وهو ابن "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر". وقد ورد اسمه في النص الموسوم بـ "Glaser 105" ودونه رجل اسمه "تيم". وقد حمد فيه الإله "المقه" بعل "أوم" "أوام"؛ لأنه ساعده وأجاب طلبه، وتيمن بهذه المناسبة بتدوين اسم الملك، كما ذكر فيه اسم "فيشن" أي "فيشان"، وهي الأسرة السبئية الحاكمة التي منها المكربون وهؤلاء الملوك، كما ذكر اسم "بكيل شبام"5.
وقد ورد في الكتابة المذكورة اسم حصن "الو"، وهو حصن ذكر في كتابات أخرى، ويرى بعض الباحثين أن هذه الكتابات هي من ابتداء القرن الرابع قبل الميلاد، أي أن حكم "يدع آل بين"، كان في هذا العهد6.
والنص Glaser 529 من النصوص التي تعود إلى أيام "يدع آل بين"
__________
1 Glaser 485, Fresnel 55, CIH 374, IV, II, I, P. 23, Discoveries, P. 222, Jamme 551
2 Background, P. 142
3 Handbuch, I, S-, 87
4 Background, P. 142
5 CIH 126, IV, I, m, P. 194
6 BeitrSge, 8., 19(3/317)
"يدع ايل بين" كذلك. وقد ورد فيه اسم عشيرته: "فيشن" "فيشان"1.
وانتقل عرش سبأ إلى "يكرب ملك وتر" من بعد "يدع آل بين" على رأي "هومل"، وهو ابنه. وقد ذكر اسمه في الكتابة الموسومة بـ2Halevy 51، وهي عبارة عن تأييد هذا الملك لقانون كان في صدر في أيام حكم أبيه لشعب سبأ ولقبيلة "يهبلح" في كيفية استغلال الأرض واستثمارها في مقابل ضرائب معينة تدفع إلى الدولة، وفي الواجبات المترتبة على سبأ وعلى "يهبلح" في موضوع الخدمات العسكرية، وتقديم الجنود لخدمة الدولة في السلم وفي الحرب، وقد وردت في هذا النص أسماء قبائل أخرى لها علاقة بالقانون، منها قبيلة "أربعن" "أربعان"، وكانت تتمتع باستقلالها، يحكمها رؤساء منها، يلقب الواحد منهم بلقب "ملك".
وقد شهد على صحة هذا القانون، وأيد صدق صدوره من الملك، ووافق عليه جماعة من الأشراف وسادات القبائل، قبائل سبأ وغيرها، ذكرت أسماؤهم في النص بعد جملة: "سمعم ذت علم"، أي "سمع هذا الأعلام" أي شهد على صحة هذا البيان، وأيده، ووافق على ما جاء فيه، وهم: "يكرب ملك"، و "عم أمر" ابنا "بهلم"، و"سمه كرب بن كريم" "سمه كرب بن كرب"، و "هلك أمر بن حزفرم"، و "عم أمر بن حزفرم"، و"أبكرب بن مقرم"، و"سمه أمر بن هلكم" و"معد كرب ذ خلفن" "معد كرب ذ خلفن"، و"سمه كرب ذ ثورنهن" و"نبط آل" ملك قبيلة "أربعين"3.
وقد أعلن هذا القانون وأثبت "مثبتم" في السنة الثامنة "ثمنيم" من سني "ذ نيلم" "ذي نيل" من سني تقويم "نشأ كرب بن كبر خلل"، وهو من
__________
1 CIH 562, IV, n, IV, P. 338, Lupar 4540, Hommel, Sud-Arabische Chresto-raathie, S., B., 52, O. Weber, Studen zur sudarablschen AltertumsKnnde, II, S., 18
2 Glaser 904, Halevy 51, 638, 650, CIH IV, III, I, P. 2, Halevy, Rapport, in JoJurnal Aslat., 1872, P. 137, Glaser, Altjemenizische Nachrichten, S., 71, 160, CIH 601, REP. EPIG. 2726, V, n, P. 68
3 CIH, IV, 1H, I, P. 12(3/318)
سادات قبيلة "خلل" أي "خليل"1. وذكر قبل هذا تأريخ آخر. هو "ذا بهي ذخرف بعثتر بن حذمت"2. أي "في شهر ذي أبهي من سنة عثتر بن حذمة" وقد صدر لقبائل سبأ، و "يهبلح" وكل ساكن في منطقة مدينة "صرواح" "وبكل بهجر صروح"3.
والكتابة المرقمة بـCIH 390 هي من أيام "يكرب ملك"، وقد دونها رجل اسمه "عددال؟ " "وددال"، وذلك عند تقديمه "قيفا" إلى الإله "بعل اوم" "بعل أوام" لسلامته ولخيره، ولم يلقب "يكرب ملك" فيها بلقب ملك4.
وولي حكم سبأ بعد "يكرب ملك وتر" ابنه الملك "يثع أمر بين"، وقد ورد اسمه في عدد من الكتابات: منها الكتابة المعروفة بـGlaser 5085، وهي ناقصة الآخر، جاء فيها: إن هذا الملك قدم نذرًا إلى الإله "عثتر" في معبده في "ذبيان" "ذبين"، ولسقوط كلمات من النص وتلفها لا ندري ما النذر الذي قدمه الملك إلى ذلك المعبد6.
وورد اسم الملك "يثع أمر بين" في نص قصير، وسم بـREP. EPIG 3919 وذكر معه اسم أبيه "يكرب ملك"7.
وورد اسمه في كتابة أخرى، سجلها رجل اسمه "تبع كرب" "تبعكرب" وكان كاهنًا "رشو" للإلهة "ذت غضرن" "ذات غضران"، كما كان يتولى وظيفة إدارية كبيرة هي درجة "قين"، وذلك في عهد الملك "يدع ايل بين"، وفي عهد الملكين: "يكرب ملك"، و"يثع أمر بين"، وقد سجل تلك الكتابة عد بنائه هو وأبناؤه وسائر أسرته جدار معبد "المقه"، وقيامه معهم
__________
1 السطر 18 وما بعده.
2 السطر العاشر وما بعده.
3 السطر الثالث عشر.
Rhodokanafcis, Der Grundsatz der OeffentUchkeit in den Sdarabischen Urfcunden, S., 16
4 CIH, IV, n, I, P. 47, Halevy 44t Glaser 900
5 CH 966, IV, III II, P. 292
6 Rliodofeanakis, Stud. Lexi, II, S., 17, Glaser, Sammlung, I, S., 50
7 REP. EPIG., VI, H, P. 385(3/319)
بحفر خنادق وإنشاء بروج تعبيرًا عن شكرهم لآلهة سبأ "المقه" و "عثتر" و "هوبس" و "ذات حميم"، و"ذات بعدان"، و"ذات غضران"؛ لأنها أنعمت عليه إذ كان قائدًا عسكريًّا بالتوفيق في عقد صلح بين حكومة سبأ وحكومة قتبان، وقد وضع شروطًا للصلح بين الطرفين على الملك "يثع أمر بين" في مدينة "مأرب"، فوافق عليها، وذلك بعد حرب ضارية استمرت خمس سنوات، كانت قتبان هي التي أشعلت نارها بهجومها، على أرض سبأ وتعرضها لمدن سبأ بالشر, وقد عهد إلى هذا الكاهن و "القين" والقائد أمر محاربة القتبانيين والدفاع عن المملكة، فاستطاع على ما يتبين من النص وقف هجوم القتبانيين وصده، وإجلاء القتبانيين عن الأرضين التي استولوا عليها إلى المدينة "تهرجب" "تهركب"1.
والكتابة المذكورة، هي من جملة الكتابات التي عثر عليها في معبد المقه المعروف عند السبئيين بـ"معبد أوام بيت المقه" في مدينة مأرب2. ويظهر من ذكرها أسماء الملوك الثلاثة أن "تبع كرب" "تبعكرب" الكاهن "رشو" والقائد، كان قد خدم هؤلاء الملوك، وكان من المقربين إليهم، وقد نجح في مهمته في عهد الملك "يثع أمر بين" في عقد الصلح بين سبأ وقتبان، وقدم شكره وحمده إلى الإله "المقه" إله سبأ الكبير، ببناء ذلك الجزء من جدار المعبد الذي نصبت الكتابة عليه، وقد ساعده في ذلك أهله وعشيرته، وذكر أسماء الملوك الثلاثة على الطريقة المتبعة في التيمن بذكر أسماء الآلهة وأسماء الحكام الذين في عهدهم تم العمل، وربما على سبيل توريخ الحادث أيضًا، ولما كان "تبعكرب" "تبع كرب" كاهنًا "رشو"، فلا أستبعد احتمال كونه كاهن معبد "أوام"؛ لأن كاهنًا عاديًا لا يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل، وأن يتولى قيادة الجيش وإجراء المفاوضات.
وفي هذا النص إشارة إلى حرب وقعت بين القتبانيين والسبئيين، ظلت مستمرة
__________
1 fresnel 56, Glaser 481, CIH 375, IV, n, I, P. 25, Halevy, in Journal Asiatique, 1874, n, P. 584.
2 Glaser 481, CIH 375, Jamme 550, CIH IV, n, I, P. 23, Discoveries, P. 222, Studi. Lexi., 2, S., 12, Halevy, in Etudes Sabeenes, Journal Asiatique, 1874, II, P. 581.(3/320)
خمس سنين، وهي حرب من جملة حروب نشبت قبل هذه الحرب، ونشبت بعدها بين السبئيين والقتبانيين. وقد انتهت هذه الحرب المتقدمة بتمكين السبئيين من استعادة ما خسروه وبطرد القتبانيين من الأرضين التي استولوا عليها، ونجد في النص الموسوم بـGlaser 1693 خبر حرب وقعت أيضًا بين قتبان وسبأ في أيام الملك "يدع أب يجل بن ذمر علي" ملك قتبان، وقد دون هذا النص "يذمر ملك" سيد قبيلة "ذرن" "ذران" "ذرأن"، وقد قص فيه أعماله وغزواته وحروبه، فذكر أنه تغلب على قبيلة "ذبحن" "ذبحان" صاحبة أرض "حمرر"1 وعلى قبائل وعشائر أخرى، منها: "ناس" "نأس"، و"ذودن" "ذودان" و"صبرم" "صبر" و"سلمن" "سلمان"، وعلى مدنها ومزارعها وأملاكها، وقد وهبها وحبسها على الإله "عم" إله قتبان الرئيس و"انبي"2.
وقد أشار "يذمر ملك" في نصه إلى حرب وقعت بين قتبان وسبأ، واستمرت في أيام "ملوك سبأ": "يدع ايل بين" و"سمه علي ينف" و"يثع أمر وتر"3 وحرب تجري في عهد ثلاثة ملوك لا بد أن تكون حربًا طويلة الأجل استمرت سنين، وكان فيها لصاحب النص شأن خطير فيها، فانتصر على قبائل سبئية عديدة، وانتزع منها أملاكها وسجلها باسم حكومة قتبان.
وحارب مع السبئيين "شعب رعنن" أي قبيلة "رعنن" "رعين"، وكان حكامها يلقبون أنفسهم في هذا العهد بلقب "ملك"، كما جاء في نص "يذمر ملك".
وحكم بعد "يثع أمر بين" ابنه "كرب ايل وتر" "كر آل وتر" وإليه تعود الكتابة الموسومة بـ Glaser 1571 وهي أمر ملكي أصدره هذا الملك إلى كبار الموظفين وسادات القبائل ومن كان قد خول حق جمع الضرائب، مثل رؤساء "نزحت" و "فيشان" و "أربعن" و"كبر" كبير "صرواح"
__________
1 "شعبن ذبحن ذخمرر".
2 KTB II S 41
3 "بضرم تنشا يدع ال بين وسمه علي ينف ويثع أمر وتر، واملك سبا واشعبهمو واملك رعنن ورعنن بعلو يدع اب وقتبين وولدعم"، الفقرتان الثالثة والرابعة من النص(3/321)
"يثع كرب بن ذرح علي" وأعيان صرواح، وقد صدر هذا الأمر الملكي في شهر "فرع ذنيلم" "فرع ذي نيل" من سنة "هلك أمر". وقد وقع عليه وشهد بصحته: "كرب ايل يهصدق" من قبيلة "ذي يفعان" و "أب أمر بن حزفرم" و "أب كرب" من قبيلة "نزحتن" و "عم يثع بن مونيان" و"لحي عث بن ملحان" من قبيلة "أربعنهان"، و "أسد ذخر بن قلزان" و "نشأكرب بن نزحتان"1.
وقد حكم الملك "سمه علي ينف" "سمه علي ينوف" بعد "كرب ايل وتر" على رأي "هومل" و"فلبي"، وقد جعل "فلبي" "كر ايل" أبًا له، غير أنه وضع أمام الاسم "كرب ايل" علامة استفهام دلالة على أنه غير متأكد من دعواه هذه كل التأكد2.
وقد ورد اسم "كرب ايل وتر" في الكتابة الموسومة بـ 3Berlin VA 5324 وصاحبها "بعثتر ذو وضأم"، وكان كبيرًا على كل قبيلة "أريم" "أريام"، وقد سجلها لقيامه بأعمال زراعية، وبأمور تتعلق بالتروية، مثل حفر أنهار وأغيلة "غيلان" "غيلن"، وبناء سدود لها بحجارة "البلق"، وقد ورد فيها أسماء الأماكن التي أجريت فيها هذه الأعمال، وهي: "أثبن" "أثأبن" "أثأبان" و"مطرن" "مطران"، و"مأتمم" و"ذفنوتم" "ذوفنوتم" و"سمطانهان"، وهي من مزارع الملك، وغوطة "ذو ضأم" في "سرر أمان"، وذكر آخر النص اسم "ذمر علي" وقد سقط لقبه فيه4.
وقد ورد اسم "كرب ايل" و"سمه علي" في النص المعروف بـ REP. EPIG 4226 وصاحبه رجل اسمه "عم أمر بن معد يكرب" وقد تيمن في نصه بذكر الآلهة: "المقه", "عثتر" و "ذات حميم"، و "ذات بعدان"، و "ود"، وذكر بعد أسماء هذه الآلهة: "كرب ايل" و"سمه علي"، و "عم ريام" "عم ريمم" و "يذرح ملك"5.
__________
1 REP. EPIG. VII, I, P- 3, NUM. 3951, Glaser, 1571
2 Background, P. 142
3 REP. EPIG., VII, I, P. 75
4 راجع النص:Berlin VA 5324
5 REP. EPIG. 4226, Marseille 5536, REP. EPIG., VIIJI, P. 151(3/322)
وكان "فلبي" وضع اسم "الشرح" "اليشرح" في كتابه "سناد الإسلام" بعد اسم أبيه "سمه علي ينف"، وذكر أنه أصبح ملكًا بعده، وذلك على تقديره حوالي سنة "460 ق. م."، ثم ذكر بعده اسم "ذمر علي بين" شقيق "الشرح" الذي حكم على رأي "فلبي" أيضًا حوالي سنة "445 ق. م." ووضع بعده "يدع ايل وتر"، وهو ابن "ذمر علي بين" وقد تولى العرش على تقديره أيضًا حوالي عام "430 ق. م." ثم وضع بعده "ذمر علي بين" وهو –على رأيه- ابن "يدع ايل وتر"، وجعل حكمه في سنة "410" قبل الميلاد، ووضع بعده "كرب ايل وتر"، وكان حكمه في سنة "390" قبل الميلاد1.
أما قائمته التي نشرها في مجلة: Le Museon، فقد وضع فيها بعد "سمه علي ينف" اسم "يدع ايل بين"، وجعله ابن "سمه علي"، وجعل حكمه حوالي عام "470 ق. م."، ثم وضع بعده اسم شقيقه "ذمر علي"، ولم يجعل "الشرح" ملكًا في هذه القائمة2.
وقد ورد في الكتابة الموسومة بـ REP. EPIG 4198 اسم الملك "ذمر علي" ملك سبأ "ابن يدع ايل وتر" واسم ابن له بعده، غير أنه أصابه تلف مما أثره، وقد ذكرت فيها أسماء آلهة سبأ، كما ذكر اسم الإله "ود ذو ميفعان" و"دم ذ ميفعن" وهو إله معيني، كما ورد اسم الإله "ود ذو ميفعان" و "دم ذ ميفعن"، وهو إله معيني كما ورد اسم إلهة معينية هي "هرن" "هران"3. وفي ذكر الآلهة السبئية والآلهة المعينية في هذه الكتابة، دلالة على اختلاط صاحبها بالمعينيين.
وصاحب الكتابة رجل من "ريمان"، وكان له بيت اسمه "نمرن" نمران و "ريمان" عشيرة من سبأ، ويظهر أن جماعة منها تزحت إلى أرض معين، فسكنت بالقرب من "نشق" في مدينة "نمران" التي تعرف اليوم بـ "بيت نمران"، ولذلك ذكر آلهة معين مع آلهة سبأ، لاختلاطه بالمعينيين، ويرى بعض الباحثين أن ملك سبأ كان قد أسكن هذه الجماعة من الريمانيين عند "نشق"
__________
1 Background, P. 142
2 Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 249
3 Le Museon, 1964, 3-4, P. 436(3/323)
لحماية معين وللدفاع عنها بعد أن خضعت لحكم السبئيين1.
ولا يستبعد "فون وزمن"، كون الابن الذي عفي أثر اسمه من الكتابة المرقمة بـREP EPIG 4198، هو "سمه علي ينف" "سمعهلي ينوف"، المقصود في الكتابة: REP EPIG 4085, وهي كتابة يرى "فون وزمن" أنها تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد. وإلى الأيام التي قام بها "أوليوس غالوس" بحملته على اليمن2.
ولدينا جمهرة أخرى من ملوك سبأ، تتألف من ملكين، هما:
"الكرب يهنعم"، و "كرب ايل وتر". وقد عدها "فلبي" السلالة الثالثة من سلالات الملوك3. أما "الكرب يهنعم" فقد ورد اسمه في الكتابة Glaser 291 وقد ذكر أنه كان ملكًا على سبأ، وأن اسم أبيه "هم تسع" وأما "كرب وتر"، فقد ورد اسمه في الكتابة المعروفة بـ Glaser 302 وهي من "حدقان" شمال "صنعاء"4، ويكون هذا الملك مع الملك "الكرب –على رأي "هومل"- جمهرة قائمة بذاتها من جمهرات الملوك5.
ووضع "فلبي" بعد "كرب ايل وتر" ملكًا اسمه "وهب ايل"، ولم يتأكد من اسم أبيه فوضعه بين قوسين، ووضع أمام اسم الأب علامة الاستفهام دلالة على عدم تأكده، ووضع بعد علامة الاستفهام "ابن سرو"، تعبيرًا عن عدم تأكده من صحة اسم هذا الأب، وجعل حكم هذا الملك في حوالي السنة "310 ق. م." ولم يعرف "فلبي" لقب "وهب ايل"6.
وتولى الحكم بعد "وهب ايل" ملك اسمه "انمر يهامن" "أنمار يهأمن" "انمر يهنعم" "أنمار يهنعم" أما أبوه، فهو "وهب آل" "وهب ايل" ولا نعرف لقبه الذي عرف به، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن أباه هو الملك المتقدم، ولذلك وضعوه بعده7. وقد اختلف الباحثون في كيفية كتابة لقب
__________
1 Le MusSon, 1964, 3-4, P. 436
2 Le Mus6on, 1964, 3-4, P. 436
3 Background, P. 142
4 Handbuch, I, S., 88
5 Handbuch, I, S., 88
6 Background, P. 142
7 Background, P. 142(3/324)
"أنمار"، فكتبه بعضهم "يهأمن" وكتبه بعض آخر "يهنعم"، ودونه بعض آخر على الشكل الأول في موضع، وعلى الشكل الثاني في موضع آخر1.
ولعدم وجود صور أصول الكتابات بـ "الفوتوغراف" في المطبوعات التي نشرت الكتابات التي تعود إلى أيامه؛ ولأنها أخذتها من استنساخ العلماء لها، أتوقف عن البت في تثبيت لقبه في هذا المكان حتى يتهيأ لي الظفر بصور "فوتوغرافية" لأصول تلك الكتابات، ولهذا السبب كتبت اللقب بالشكلين المذكورين.
وقد نبه مؤلفا كتاب "Sab lnschr" على ظفرهما بنعت والد "أنمار" من الكتابات: CIH I, و CIH 517 CIH 642 فجعلاه "يحز"2. وقد راجعت النص CIH I فلم أجد علاقة بين الملكين، فالملك في هذا النص هو الملك "كرب ايل وتر يهنعم" ملك سبأ، وأبوه هو "وهب ايل يحز".
وأما الملك الذي نتحدث عنه ونقصده هنا، فإنه "أنمار يهنعم" ووالده "وهب ايل" وراجعت النص CIH I 517 فوجدته كالنص السابق لا علاقة له بالملك "أنمار" ولا بأبيه، إذ كتب في زمان "كرب ايل وتر يهنعم بن وهب ايل يحز" أيضًا، ولا علاقة له مثل شقيقه بالملك "أنمار".
وقد ورد اسم الملك "أنمار يهأمن" "يهنعم" في الكتابة الموسومة بـ3CIH I244 وقد سقط منها اسم صاحبها الذي تضرع إلى الآلهة بأن تمن عليه بالصحة، وأن تبارك له في نفسه وفي أمواله، وأن ترفعه من منزلته ومقامه ومقام ملكه في أيام الملك أنمار يهأمن "يهنعم" ملك سبأ، وقد وردت في آخر النص الحروف "ب ت ب"، "، وأكملها ناشره بإضافة حرف "اللام" إلى الحروف المكسورة فصارت "ب ت ل ب"، أي "بتالب" ومعناها "بالإله تالب" أو "بحق الإله تالب"، ولم يرد في النص بعد اسم الأب نعته، ولم يذكره ناشر النص في كتاب: CIH4 أما "ميتوخ" و "مورد تمن" فقد كتباه وجعلاه "يحز"5.
__________
1 Handbuch, I, S., 90, Sab. Inschr., S., 141, Glaser, 223, CIH 244, RW 149, MM 120, Beitrage, S., 18
2 CIH I, Glaser 2, 3, 24, CIH, IV, I, I, P. 4, D. H. Muller, Sab. Inschr., ZDMG, XXXVEC 1883, S., 379
3 CIH 244, IV, I, III, P. 271, RW 149, Glaser 223, MM 120
4 CIH, IV, I, III, P. 271
5 Sab. Inschr., S., 141(3/325)
وأما الكتابة الموسومة بـ CIH I 642، فلم يرد فيها اسم الملك "أنمار"، ولا اسم "كرب ايل وتر يهنعم"، فلا أدري لم أشار إليها مؤلفا كتاب: Sab. Lnschr على أنها من النصوص التي ورد فيها نعت "وهب ايل"، وصاحب هذه الكتابة "مرثد آل بن فسول" "مرثد ايل بن فسول"، وكان "قول" أي قيلًا على عشيرة "سمعي"1.
ولدينا كتابة ناقصة، سقط من أولها اسم الآمر بتدوينها، خلاصتها أن صاحب هذه الكتابة قدم تمثالًا إلى الإله: "تالب ريم" "تالب ريام" "بعل شصرن"، "ش ص ر ن"، أي رب معبد الإله المذكور المقام في الموضع "شصرن"؛ لأنه من عليه فرده سالمًا من الحرب، وتيمن فيها أيضًا بذكر ملكه الملك "أنمار يهأمن" ملك سبأ، وقد سقطت كلمات من هذه الكتابة سببت تشويهها وغموضها، فلا ندري ما المقصود بهذه الحملة أو الحرب. أهي حملة قام بها الملك "أنمار يهأمن" أم حملة قام بها ملك آخر، وأعلنها على الملك "أنمار"؟ ويرى مؤلفا كتاب Sab, lnschr أن الذي قام بها رجل من "بتع" وقد أمده الملك بمساعدة عسكرية2.
وورد اسم الملك "أنمار يهأمن" واسم أبيه، في نص دونه أحد سادات "ذ مليحم" "ذي مليحم" "ذي مليح"، اسمه "وهب ذي سموي اليف" "وهب ذو سموي أليف"، تقربًا إلى الإله: "تألب ريام بعل كبد"؛ لأنه أجاب دعاءه، فحفظه وساعده، وساعد ابنه وأتباعه، وذلك في أيام الملك المذكو3.
وقد جعل "فلبي" حكم "أنمار يهأمن" من حدود سنة "290"، حتى سنة "270ق. م."4، أما "فون وزمن"، فقد جعل حكمه في القرن الأخير قبل الميلاد، فذكر أنه كان يحكم في حوالي السنة "60ق. م."5.
وتولى عرش سبأ بعد "أنمار يهأمن" ابنه "ذمر علي ذرح"، وقد وصلت
__________
1 CIH 642, IV, in, I, P- 76, Mordtmann, in ZDMG., XXXII, (1878) , S., 679
2 RW 129, Sab. Inschr., S., 116, (86) , CIH 195, IV, I, III, P. 242, Glaser 179
3 MM 26, 120, Sab. Inschr., S., 48, 141
4 Background, P. 88, 142
5 Beitrage, S., 18(3/326)
إلينا كتابة قصيرة أصيبت بكسور في مواضع منها، سقط منها اسم "أنمار"، وبقيت كلمة "يهأمن" وجاء بعدها اسم "ذمر علي ذرح" مسبوقًا بالواو حرف العطف، مما يدل على أنها كتبت في أيام أبيه "أنمار يهأمن"، وقد ورد فيها مضافًا إلى اسمي الملكين اسما "ودم" "ود" "وتزاد" "تزأد"1 وقد قرأ بعض الباحثين اللقب الباقي من اسم "أنمار" على هذه الصورة "يهنعم"2.
وقد ذكرت أن مرد هذا الاختلاف إلى اختلاف النساخ.
وانتقل العرش إلى الملك "نشأكرب يهأمن" بعد وفاة "ذمر علي ذرح" والده، وقد جعل "هومل" نعته "يهنعم"3. وقد وصلت إلينا كتابة منه دونها عند تجديده وإصلاحه أصنام "أصلم" معبد "عثتر ذ ذب" "عثتر ذي ذب"4.
ويظهر أن أصنام هذا المعبد أصيبت بتلف، فأمر الملك بتحديدها وإصلاح مواضع التلف منها تقربًا إلى الإله "عثتر" الذي خصص به هذا المعبد.
ووصلت إلينا كتابة أخرى من أيام هذا الملك، جاء فيها: أن "نشأكرب يهأمن" قدم إلى "تنف بعلت ذ غضون"، أي إلى "تنف بعلة ذي غضرن" "تنف ربة ذي غضران" أربعة وعشرين وثنًا، لسلامته ولسلامة بيته "سلحن" "سلحين"، ولعافيته وعافية أهله، ولتبعد عند الشر وكل ضر يريده به الشانئون، وذلك بحق "عثتر" و "المقه" وبحق "شمسهو تنف بعلت ذ غضرن"5 فيظهر من ذلك أن هذ المعبد الذي قدم الملك الأصنام إليه، كان قد خصص بالآلهة "الشمس النائفة" وكلمة "تنف" نعت لها، وموضعه في مكان "ذي غضران".
وقد جاء اسم الملك "نشأكرب يهأمن" في نص دونه "بنو جرت" "بنو كرت"، "أقول شعبن ذمري وشعبهمو سمهري"6 أي أقيال قبيلة
__________
1 REP. EPIC, VII, I, P. 92, VA 5343, Handbuch, I, P. 90, VA 649
2 REP. EPIG., VII, I, P. 92, VA 5343, Handbuch, I, 90, VA 649
3 Handbuch, I, S., 90
4 Sab. Inschr., S., 201, REP. EPIG., 644, II, I, P. 71, CIH, 433, Lupar A. O. 1535, CIH, IV, II, II, P. 123
5 CH 573, IV, II, IV, P. 365, OS 31,BR. MUS. 32,Osiander, in ZDMG., XIX, 1865, II, 261, Mahram P. 270
6 Mahram P. 28, Jamme 559, MaMb 221(3/327)
"ذمري" وقبيلتهم "سمهر"، دو نوه، تقربًا إلى الإله "المقه" "بعل اوم" أي: رب "أوام"، ووضعوه في معبده هذا، وهو "معبد أوام" حمدًا له وشكرًا له على نعمه وأفضاله؛ لأنه أي الإله "المقه" أسعد ومن بالشفاء ووفى لسيدهم "نشأكرب يهأمن ملك سبأ ابن ذمر علي ذرح". ووفقه وأنعم عليه بحاصل وافر وغلة جزيلة قدمت إلى قصره "سلحن" "سلحين"، في أيام الضر، أي الحرب وفي أيام السلم، وقدموا من أجل ذلك تمثالين من البرونز، وضعوهما في معبده، "معبد أوام"، ودعوا "المقه" أن يبارك لسيدهم دومًا، وأن يمنحه العافية والصحة والقوة، وأن يسعد قصره قصر "سلحين" وكل أتباع "أدم" الملك، و"بني جرف" وأقيالهم، وذلك بحق الآلهة: عثتر شرقن، وعثتر ذ ذبن، وهوبس والمقه وذات حميم وذات بعدان ويشمس ملك تنف، وبعثتر عزيز، وذات ظهرن ربًّا "عركنن" وقدمًا نذرهما إلى عثتر شرقن والمقه رب أوام1.
وقد ورد اسم هذا الملك في نص دونه "غوث" و"اسلم" وابنه "ابكرب" "أبو كرب" من "بين جميلن عرجن"، أي: "بني آل الجميل العرج"، وهم "كبراء" قبيلة "ميدعم" "ميدع"، وذلك حمدًا للإله و"المقه تهوان بعل أوام"، الذي أجاب نداءهم وأغاثهم ومن عليهم وعلى بيتهم "سلحين" "سلحن" في "جميلن" "الجميل"، وحماهم في الغارة التي أمر بها الملك "نشأكرب يهأمن" على "أرض عربن"، أي أرض الأعراب لإنقاذ أصدقائهم ومواطنيهم من أهل مأرب، وكذلك الجنود والحيوانات التي كانت معهم وأعادتهم إلى مأرب، وأعادوا في نهاية النص حمدهم الإله "المقه" وذلك بحق بقية الآلهة: عثتر، وهوبس، وذات حميم، وذات بعدان، و"بشمس ملكن تنف"2.
ويظهر من هذا النص أن أعرابًا كانوا قد أغاروا على جماعة من السبئيين، أو أنهم هاجموا أرض سبأ، فأرسل الملك "نشأكرب يهأمن" قوة من الجيش ومن الأهلين للإغارة عليهم في أرضهم: "أرض العرب" ولاسترجاع ما أخذوه من غنائم وأسلاب وأسرى. وكان في جملة من اشترك في هذه الغارة "أبو كرب
__________
1 Hahram, P. 28, 36
2 Mahram, P. 31, MaMb 222, Jamme 560, Le Mus6on, 1967, 1-2, P. 279, Pakhry 9, 28, Jamme 559, 560, 561, 883, Von issmann, Himyar, S., 455, 458, Zur Geschlchte, S., 324, 302(3/328)
بن أسلم" فلما عاد رجالها إلى مأرب سالمين، قدم "أبو كرب" وأبوه أسلم وشخص آخر اسمه "غوث" إلى الإله "المقه ثهوان" تمثالين وضعوهما في معبده معبد "أوام"، تخليدًا لهذا الحادث، وتعبيرًا عن شكرهم له.
وهذا النص من أقدم نصوص المسند التي تشير إلى الأعراب وإلى غاراتهم على السبئيين أو على قوافلهم، ومن أقدم النصوص التي ورد فيها اسم "عربن" أي "الأعراب" و "أرض عربن" أي أرض الأعراب، ولم يعين النص موضع "أرض العرب"، فلا ندري أكان قصد أرضًا معينة، أم أراد البادية والبوادي هي في كل مكان، والأعراب هم في كل مكان من جزيرة العرب، وفي جملتها اليمن بالطبع، وسنرى بعد وفي أثناء كلامنا على أيام "يرم أيمن" وأخيه "برج يهرجب"، أخبار غارات وحملات عسكرية أرسلها الملك على الأعراب الساكنين في محاذاة أرض قبيلة "حاشد" وعلى أعراب آخرين "وثبوا على ساداتهم وأمرائهم ملوك سبأ".
وقد وردت في هذا النص جملة "أرضت عربن"1 فيظهر من ذلك أن اللغة السبئية كانت تعد لفظة "أرض" اسمًا مذكرًا، وإذا أرادت تأنيثه، قالت: "أرضت"، على حين أن "الأرض" في عربيتنا اسم مؤنث فقط، وقد عثر علىنص آخر، أمر الملك "نشأكرب يهأمن" بتدوينه عند تقديمه ستة تماثيل إلى الإله "المقه"، لسلامته وسلامة قصره "سلحين، وسلامة أمواله وأملاكه، وليمن عليه بالسعادة2. وعثر على اسمه في نصوص أخرى، كلها في مضمون هذا النص، إذ تخبر عن تقديم هذا الملك تماثيل إلى معابد آلهته، حمدًا لها وشكرًا، إذ منت عليه، ولتديم أغداق نعمها وألطافها وبركتها عليه3.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الملك "نشأكرب يهأمن" هو من قبيلة "همدان"، ذلك؛ لأن اسمه من الأسماء الهمدانية المعروفة، وخالف غيرهم هذا الرأي، وقالوا إنه لم يكن من همدان، وإنما كان من "بني جرت"
__________
1 Mahram, P. 37. MamB 204
2 Magram, P. 269
3 Magram, P. 269-272(3/329)
من قبيلة "سمهر" "سمهرام". وهم يبعدونه بذلك عن "همدان" ويعارضون في كونه آخر ملك من ملوك الأسرة السبئية الحاكمة، بل يشكون في كون أبيه كان ملكًا فعليًّا على سبأ1.
ويظهر من النصوص المتقدمة أن "نشأكرب يهأمن" كان يقيم في قصر "سلحين" بمأرب، وهو مقر ملوك سبأ ومركز حكمهم، وقد كان حكمه فيما بين سنة "175" والسنة "160" قبل الميلاد على رأي "جامه"2.
ويلاحظ أن الملك كان يتقرب إلى "شمس تنف بعلت غضرن"، أي إلى الآلهة الشمس تنف ربة موضع "غضرن"، تقرب إليها حتى في أثناء إقامته في عاصمته "مأرب" وفي بيت حكمه قصر "سلحين" ويدل هذا على أن الملك لم ينس آلهة قبيلته وعلى رأسها الآلهة "الشمس"، فقدمها على بقية الآلهة وذكرها مع الإله "المقه" إله سبأ الخاص والآلهة "شمس تنف"، هي إلهة "بني جرت" من قبيلة "سمهرم" "سمهرام"3.
ولسنا على علم بمن حكم بعد "نشأكرب"، ولهذا ترك الباحثون بموضوع ترتيب ملوك سبأ فراغًا بعده، يشير إلى عدم معرفتهم باسم من حكم فيه، وقد تصور "فلبي" أنه دام ثلاثين عامًا، بدأ سنة "30" وانتهى في سنة "200" قبل الميلاد4. وقد وضع "هومل" اسم "نصرم يهأمن" على رأس جمهرة جديدة، رأى أنها حكمت "سبأ"، بعد هذه الفجوة التي لا نعلم من حكم فيها ولا مدتها، ووضع مقابله علامة استفهام للدلالة على أنه لا يقول ذلك على سبيل التأكيد، وإنما هو احتمال يراه ومجرد رأي هو نفسه غير واثق به5.
وقد وضع "فلبي" "نصرم يهنعم" "ناصر يهنعم" على رأس الجمهرة الجديدة التي حكمت سبأ في هذا العهد، وجعله رأسًا على الجمهرة الرابعة من جمهرات حكام السبئيين، وجعل حكمه في حوالي السنة "200 ق. م."، وجعل له شقيقًا هو "صدق يهب" وقد كتب "فلبي" النعت على هذه
__________
1 Mahram, PP. 272
2 Mahram, PP. 390
3 Mahram, P. 279
4 Background, P. 142
5 Bandbuch I, S., 90(3/330)
الصورة: "يهنعم"1. أما "هومل" وغيره، فقد كتبوه على هذه الصورة "يهأمن"2.
واستند "هومل" في وضعه "نصرم يهأمن" هذا الموضع إلى النص الموسوم بـGlaser 265، وقد ورد فيه عدد من الأسماء كانوا مقربين عند "ناصر يهأمن" منهم "أوسلة بن أعين" "أوسلت بن أعين" الذي هو في نظر بعض الباحثين "أوسلة رفشان" الهمداني، ولما كان "أوسلة" هذا يعاصر "وهب ايل يحز" وكان من جملة المقربين إلى "ناصر يهأمن"، رأى "هومل" أن مكان "ناصر يهأمن" يجب أن يكون إذن بعد الفجون المذكورة مباشرة وقبل اسم "وهب ايل يحز"، فوضعه في هذا المحل3.
والنص المذكور، مكتوب على صخرة ناتئة في وسط مرتفعات وعرة مسننة في "جبل ثنين"4 وذكر "خليل يحيى نامي" أنه رآه ونقشه في "هجر ثنين" وهي تبعد عن غربي "ناعط" زهاء ساعتين على البغال، وهي بين قبيلة "حاشد" و "أرحب"5. وقد كتب لمناسبة الانتهاء من إنشاء بناء، وقد تيمن فيه على العادة بذكر "ناصر يهأمن" وأخيه "صدق يهب"، وبذكر أسماء من ساعد في إتمام البناء، ومن قام بتسقيفه6، وهم من الأشراف وسادات القبائل، ويلاحظ أن النص قد أهمل لقب "ملك" الذي يكتب عادة بعد اسم كل ملك، فلم يذكر بعد اسم "ناصر يهأمن" ولا بعد اسم "صدق يهب".
وقد ورد اسم "ناصر يهأمن" في النص المنشور برقم "7" من كتاب: نشر نقوش سامية من جنوب بلاد العرب وشرحها7 وقد أخبر "ناصر يهأمن" فيه أنه قدم إلى حاميه "تالب ريم بعل حدثن": أي "تالب ريام" رب معبد "حدثان" صنمًا، ابتهاجًا بسلامته وعافيته، وفي النص المرقم برقم "21" المنشور في الكتاب نفسه8، وقد دونه جماعة من "همدان"،
__________
1 Background, P. 142
2 J. Ryckmans, L'Institution, P. 337
3 Handbuch, I, S. 88
4 CIH, IV, I, III, P. 295
5 نشر ص72
6 Glaser 265, CIH 287
7 نشر "ص 11- 12"
8 نشر "ص 33 وما بعدها" REP. EPIG, 4994, 4995, VII, P. 471, 473(3/331)
لمناسبة إنشائهم بيتًا اسمه "وترن" "وترن" "وتران"، وجعلوه في حماية حاميهم الإله "تألب ريام" وتيمنًا بهذه المناسبة دونوا اسم "ناصر يهأمن" و"صدق يهب"، وليزيد الإله "تالب ريام" من نفوذ قبيلة "همدان التي ينتسب إليها هؤلاء. ويلاحظ أن هذا النص وكذلك النص الآخر لم يذكر لقب "ملك" بعد اسم "ناصر يهأمن".
وأصحاب هذا النص، هم: "برج يحمد" "بارج يحمد"، وبنوه "يرم نمرن" "يريم نمران"، و"نشأكرب"، و"كربعثت" بنو "أنضر يهرجب" من "بني ددن" "بني دادان"، وقد ورد اسم هذه الجماعة، وهم من أسرة واحدة، في نص آخر، ويظهر منه أنهم كانوا يقيمون في موضع "اكنط" "أكنط"، المعروف في عهدنا باسم "كانط" وقد ذكر "الهمداني" بيتًا من بيوت "أكانط" سماه "زادان"، قد يكون اسم عشيرة هذه الأسرة المسماة "دادان"، حرف فصار "زادان"1.
ولم يلقب "ناصر يهأمن" ولا "صدق يهب" في نص آخر بلقب "ملك" وأصحاب هذا النص من "همدان" كذلك2. وقد دونوا فيه هذه الجملة: "وبمقم مرايهمو" قبل اسم "نصرم يهأمن"، أي "وبحق أميريهم"، أو "وبمقام أميريهم" أو "وبجلالة أو رئاسة أميريهم"3 ولم نجد في هذا النص أيضًا ما يشير إلى أنهما كانا ملكين، أو أن أحدهما كان ملكًا على سبأ أو همدان.
وأرى أن إهمال هذه النصوص للقب "ملك"، وفي عدم تدوينها له بعد اسم "نصر يهأمن" "ناصر يهأمن"، دلالة قوية على أن "ناصر يهأمن" لم يكن ملكًا، وإنما كان أميرًا، يؤيدها ويؤكدها استعمال النصوص قبل الاسم لفظة "امراهمو" "مرايهمو" التي تعني "أميريهم"4. ولو كان "ناصر" أو شقيقه "صدق يهب" ملكين لما نعتا في بعض هذه النصوص بـ "أميرين"، ولما أهملت النصوص لفظة "ملك" هذا الإهمال، ولا حجة لرأي من قال إنه
__________
1 نشر "ص 34 وما بعدها".
2 نشر "ص 52".
3 غويدي: المختصر "ص 33".
4 نشر "ص 34، 52".(3/332)
كان ملكًا؛ لأنه كان صاحب لقب، وهذا اللقب هو "يهأمن" وهو نعت خاص بالملوك1. ذلك؛ لأننا لا نملك دليلًا قاطعًا يثبت أن كل من كان ينعت نفسه بنعت كان ملكًا، وأن نوعًا خاصًّا من النعوت كان قد حرم على الناس؛ لأنه خصص بالملوك، وآية بطلان هذا الرأي أننا نجد كثيرًا من سادات القبائل وسائر الناس يحملون ألقابًا أيضًا من نوع ألقاب الملوك، فليس في الألقاب تخصيص وتنويع في نظري.
وبناء على ما تقدم، لا نستيطع إدخال "ناصر يهأمن" ولا أخيه "صدق يهب" في عداد ملوك سبأ، ونرى وجوب اعتدادهما سيدين كبيرين من سادات قبيلة "همدان"، كان لهما سلطان واسع على قبيلتهما وفي سبأ، ولذلك ذكر أشراف القبيلة اسميهما في كتاباتهم، ولقبوهم بلقب "أمرائهم" فالواحد منهم هو بمنزلة "أمير"، ومعنى ذلك أن "ناصر يهأمن" كان أميرًا على همدان، وكذلك كان أخوه2. والظاهر أن تقديم اسم "ناصر يهأمن" على اسم أخيه يشير إلى أن "ناصر يهأمن" كان أكبر سنًّا من شقيقه، لذلك كان هو المقدم عليه.
ويظهر من بعض النصوص التي ذكرت اسم "ناصر يهأمن" أنه كان قويًّا، وله قوة عسكرية ضاربة، وتحت إمرته عدد من القادة، بدليل ورود لفظة "مقتت"، جمع "مقتوي"، ومعناها "الضباط" و"القادة"، وقد اشتركت قواته في بعض المعارك، في عهد الملك "نشأكرب يهأمن"، وكان من المعاصرين له. والظاهر أنه بقي حيًّا إلي أيام "وهب ايل يحز" وبناء على هذا يكون قد عاش في حوالي السنة "175" والسنة "150" قبل الميلاد، وذلك على افتراض أن حكم "نشأكرب يهأمن" كان فيما بين السنة "175" والسنة "160" قبل الميلاد، وأن حكم "وهب ايل يحز" كان بين السنة "160" والسنة "145" قبل الميلاد، على حسب تقدير "جامه"3.
وليس في استطاعتنا تحديد العمل الذي قام به "صدق يهب" في همدان،
__________
1 Handbuch, I, S., 88
2 Mahram, P. 277, A. F. L. Beeston, Problems of Sabaean Chronology, in BOASOOR, 16, 1954, PP. 37-56
3 Maiiram, P. 277, 390(3/333)
فليس في النصوص التي بين أيدينا ما يكشف الستار عن ذلك، ولا نعرف كذلك زمان وفاة "صدق يهب"، والظاهر أن وفاته كانت في أيام "وهب ايل يحز" إذ انقطعت أخباره منذ ذلك الحين1.
وليس بين الباحثين في العربيات الجنوبية أي خلاف في أصل "ناصر يهأمن" وأخيه، فقد اتفقوا جميعًا على أنه من قبيلة "همدان"، ذلك؛ لأنهما نصا صراحة في أحد النصوص المدونة باسمهما على أنهما من همدان2. ويظهر من ذلك أن قبيلة همدان كانت قد أخذت تؤثر في هذه الأيام تأثيرًا كبيرًا، حتى لقب ساداتها أنفسهم بلقب "ملك"، متحدين بذلك سلطة ملوك سبأ الشرعيين.
ووضع "هومل" "وهب آل يحز" "وهب ايل يحز"، بعد "ناصر يهأمن"، وسار "فلبي" على خطاه، وقد كان زمان حكمه في حدود سنة "180ق. م." على تقدير "فلبي"3 وكان يعاصره "أوسلت رفش" "أوسلة رفشان"، أمير "همدان" وهو والد الأميرين "يرم أيمن" و "برج يهرحب" "بارج يهرجب"4.
ويظهر من النص: Glaser 1228 أن "وهب ايل يحز" تحارب هو و"الريدانيون" ورئيسهم إذ ذاك "ذمر علي"5. وقد ساعد "وهب ايل يحز" في هذه الحرب "هوف عم" "هوفعم", "مخطرن" "مخطران" وسخيم" و"ذو خولان" و"بنو بتع"، وانضم إلى جانب الريدانيين "سعد شمس" و"مرثد"6 وتشير هذه الكتابة وكتابات أخرى إلى مساع بذلها رؤساء "ريدان" في منافسة ملوك سبأ وانتزاع العرش منهم.
وقد ورد في النص المذكور: "سعد شمس ومرثدم" وقبيلته "ذو جرت" بمدينة "صنعو"، وهذه هي المرة الأولى التي يرد فيها اسم "صنعو" "صنعاء"، وقد ورد اسمها بعد ذلك بقليل في الكتابتين: jamme 629 و jamme 644 ويظهر من ذلك أن "صنعو" كانت في ضمن أرض قبيلة "جرت"، غير
__________
1 Mahram, P. 278
2 CIH 287, Mahram, 278
3 Background, P. 142
4 Glaser, Abessinier, S. 63
5 السطر الخامس عشر من النص:Glaser 1228
6 Glaser 1364, Abessinier, S. 67, Le Museon, 1967, 1-2, PP. 279(3/334)
أنها كانت قريبة جدًّا من حدود أرض قبيلة "بتع". وأما "شعوب" التي لا تبعد سوى كيلومتر واحد أو كيلومترين عن الجهة الشمالية الغربية من "صنعاء"، فقد كانت في أرض قبيلة "بتع"1.
وقد أشير إلى حرب "وهب ايل يحز" مع الريدانيين، في النصوص الموسوم بـ jamme 561 Bis، وهو نص دونه "يرم أيمن" "يريم أيمن"، وأخوه "برج يهرحب" وابنه "علهان" أبناء "أوسلت رفشان"، وهم من "همدان" أقيال "أقول" قبيلة "سمعي" ثلث "حاشد"، وذلك عند تقديمهم تمثالًا إلى الإله "المقه ثهون" بعل "أوام"؛ لأنه من عليهم وعلى عبيده "اد م هـ و" "ادمهو" أبناء همدان: وعلى قبيلتهم حاشد، وأغلق عليهم نعماءه وأعطاهم غنائم كثيرة في الحرب التي وقعت بين ملوك سبأ وبين "بني ذي ريدان" واشتركوا فيها، إذ ترأسوا بعض القوات، وكذلك في غاراتهم على أرض العرب المجاورين لقبيلة حاشد والنازلين على حدودها، أولئك العرب الذين أخطئوا خطأ تجاه أمرائهم وساداتهم ملوك سبأ "املك سبأ"، وتجاه بعض قبائل ملك سبأ؛ ولأن الإله "المقه"، أنعم عليهم بأن جعل الملك "وهب ايل يحز" "ملك سبأ" راضيًا عنهم، مقربًا لهم؛ ولأنه أعطاهم ذرية ذكورًا وحصادًا جيدًا، ولكي يديم نعمه عليهم ويبارك فيهم ويعطيهم الصحة والقوة وذلك بحق عثتر و"المقه" وبحق حاميهم "شيمهم" وشفيعهم "تالب ريام"2.
ويتبين من هذا النص أن "يرم أيمن" وشقيقه كانا تابعين لملك سبأ، وأنهما كانا مع "علهان بن برج" من الأقيال على عشيرة "سمعي" التي تكون ثلث مجموع قبيلة "همدان" في هذا العهد، وأنهم كانوا في خدمة ملك سبأ، ويظهر أنهم إنما أشاروا إلى مهاجمتهم لأرض العرب، والعرب المخالفين لأمر ملك سبأ؛ لأن هؤلاء العرب كانوا على حدود أرض قبيلة همدان، وقد تعرضت أرض هذه القبيلة وأرض قبائل أخرى لغارات هؤلاء الأعراب، الذين كانوا ينتهزون الفرص لغزو الحضر كما هو شأنهم في كل زمان ومكان، وقد نجحوا في تأديب هؤلاء الأعراب، كما نجحوا في الاشتراك مع بقية قوات "وهب ايل يحز" في
__________
1 Le Museon 1964, 3- 4 p 460
2 M ahram p 37 jamme Bis 561(3/335)
تكبيد "بني ذي ريدان" خسائر فادحة في الحرب التي نشبت بينهم وبين هذا الملك، وقد كان الريدانيون أسلاف الحميريين من سكان اليمن البارزين في هذا العهد.
وقد ميز أهل اليمن وبقية العربية الجنوبية أنفسهم عن أهل الوبر، أي القبائل المتنقلة التي تعيش في الخيام، بأن دعوا قبائلهم بأسمائها، وهي قبائل مستقرة تسكن قرى ومدنًا ومستوطنات ثابتة وسموا القبائل البدوية المتنقلة، ولا سيما القبائل الساكنة في شمال العربية الجنوبية "عربن" أي أعراب، وسموا أرضهم "أرض عربن"، و"ارضت عربن"، أي أرض العرب.
ويظهر من ورود جملة "أملك سبأ"، أي "ملوك سبأ" الواردة في هذا النص وفي نصوص أخرى، وجود ملوك عدة كانوا يحكمون سبأ في زمان تدوين هذه النصوص، ولكننا نرى أن هؤلاء الملوك لم يكونوا ملوكًا فعليين، حكموا سبأ بالاشتراك مع ملك سبأ الحاكم، وإنما كانوا رؤساء وسادة قبائل خاضعين لحكم الملك، وقد كانوا أصحاب امتيازات، يحكمون أرضهم حكمًا مباشرًا مع اعترافهم بحكم ملك سبأ عليهم، ويجوز أنهم كانوا يلقبون أنفسهم بلقب ملك، على سبيل التعظيم والتفخيم ليس غير، فهم ملوك مقاطعات وأرضين، لا ملوك حكومات كبيرة كحكومة سبأ1.
وقد ورد اسم "وهب ايل يحز" في الكتابة الموسومة بـ:CIH 360 وصاحبها "سعد تألب يهثب" من موضع "سقهن"2 "سقرن" "سقران"، ذكر فيها أنه قدم إلى الإله "تألب ريام" نذرًا: تمثالًا وضعه في معبد الإله في "رحين"3. في أيام سيده "مراسموا" الملك "وهب ايل ويحز"4. وقد ورد اسم صاحب هذه الكتابة في النص الموسوم بـ MM 33 +34، وقد دونه جماعة من "بني بتع" و "سخيم" و "ذي نعمان" تقربًا إلى الإله "عثتر شرقن"5؛ لأنه نجى "سعد تألب يهثب"، ومد في عمره في الحروب التي
__________
1 Mahram, p , 280
2 "سقهان". "2" "رحبان" "الرحاب"، Mahram, p, 280
3 CIH 360 IV. P, 445
4 Miles 6, Sab 4 lnschr S,5 Anm l
5 "عثتر شرقان"، "عثتر الشارق".(3/336)
أشعلها في "ردمان" وفي أماكن أخرى1، ولا يعقل بداهة قيام مدوني النص، وهم سادات القبائل، ببناء "نطعت"2، وذلك تقربًا إلى الإله "عثتر شرقن" إذ من على "سعد تألب يهثب" بالحياة والنجاة في الحروب التي خاضها، لو لم يكن لهذا الرجل علاقة بهذه العشائر ولو لم يكن من أهل الجاه والمكانة والسلطان، ويتبين من كتابات أخرى أنه كان محاربًا اشترك في حروب عدة، فلعله كان من كبار قواد الجيش في أيام "وهب ايل يحز"، وقاد جملة قبائل في القتال منها هذه التي دونت تلك الكتابة.
وذكر اسم الملك "وهب ايل يحز" في كتابة ناقصة قصيرة، أشير فيها إلى "كبر خلل"، أي "كبير" قبيلة أو موضع "خليل" وإلى اسم الملك "وهب ايل يحز" "ملك سبأ"، والظاهر أن صاحب تلك الكتابة أو أصحابها كانوا من أتباع "كبير خليل"3.
ولم نعثر حتى الآن على اسم والد "وهب ايل يحز"، ولم ترد في نصوص المسند إشارة ما إلى مكانته ومنزلته، لذلك رأى بعض الباحثين أن أباه هذا لم يكن من الملوك، بل ولا من الأقيال البارزين، وإلا أشير في النصوص إليه، إنما كان من سواد الناس، وأن ابنه "وهب ايل حز" هذا أخذ الحكم بالقوة، ثار على ملوك سبأ في زمن لا نعلمه، وانتزع الملك منهم، ولقب نفسه بلقب "ملك سبأ". أما ابنه الذي جاء من بعده، فقد لقب نفسه بلقب "ملك" كما لقب والده بلقب ملك، ولو كان والد "وهب ايل يحز" ملكًا، لذكر إذن في النصوص، ولأشير إلى لقبه4.
وقد جعل "جامه" "وهب ايل يحز" بين السنة "160" والسنة "145" قبل الميلاد5.
وانتقل الحكم بعد وفاة "وهب ايل يحز" إلى ابنه "انمرم يهأمن" "أنمار يهأمن"، على رأي "جامه" في حين أغفله أكثر من بحثوا في هذا الموضوع6.
__________
1 Sab. Inschr, S. 74
2 "نطعة".
3 REP. EPIG. 4130, Glaser 456, Va 5315
4 Mahram, P. 280
5 Mahram, P. 390
6 Mahram, P. 281, Le Museon, 1967, 12, P. 280(3/337)
وقرروا أن الحكم انتقل إلى "كرب ايل وتر يهنعم"، وهو ابن "وهل ايل" مباشرة بعد وفاة أبيه، ويرى "جامه" أن حكم "إنمار يهأمن" ابتدأ بسنة "145" قبل الميلاد، وهي سنة وفاة أبيه وانتهى بسنة "130" قبل الميلاد، حيث انتقل الحكم إلى شقيقه من بعده1.
وقد ورد اسم هذا الملك في النص الموسوم بـjamme 562 وقد دونه "سخمان يهصبح" من "بني بتع"، وكان "ابعل بيتن وكلم أقول شعبن سمعي"، أي "سيد بيت وكل"، وقيل عشيرته "سمعي" التي تكون ثلث قبيلة "حملان"، عند تقديمه "صلمن" تمثالًا إلى الإله "المقه رب أوام"، وضعه في معبده "معبد أوام"، لوفائه لكل ما طلبه منه، ولاستجابته لدعائه؛ ولأنه وفقه ووفق أهله وعشيرته في مرافقة الملك "أنمار يهأمن ملك سبأ" ابن "وهب ايل يحز ملك سبأ" في عودته من "بيت بني ذي غيمان" إلى قصره "سلحين" مقر ملكه بمدينة مأرب، ووفق مرافقيه وأقياله وجيشه في عودته هذه؛ ولأنه من على صاحب النص بأن منحه أثمارًا كثيرة وغلة وافرة وحصادًا جيدًا وليديم نعمه عليه، وذلك بحق الآلهة: عثتر، وهوبس، والمقه، وذات حميم، وذات بعدان، و "شمس ملكن تنف"، وبحاميه، وشفيعه تالب ريام بعل شصر. وقد وضع التمثال والكتابة المدونة تحت حماية "المقه" في معبده "أوام" ليحميها من كل من يحاول تغيير موضعهما أو أخذهما2.
وقد كان "سخمان يهصبح" من الأقيال الكبار في هذا العهد، كان قيلًا على "سمعي" كما كان سيدًا من سادات "بيت وكل". أي من أصحاب الرأي المطاعين في عشيرة "سمعي". والظاهر أنه كان في موضع "وكل" ناد، أي دار للرأي والاستشارة، يحضره كبار العشيرة ويتشاورون فيما يحدث من حادث لهذه العشيرة، فهو بمنزلة "دار الندوة" عند قريش.
ويظن أن الملك "أنمار" المذكور في النص:REP. EPIG 3992 والذي لم يذكر نعته، هو هذا الملك، وقد دون هذا النص رجل اسمه "وهب ذي سمي اكيف ذو مليح" "م ل ي ح": وذلك عند تقربة إلى الإله "تالب
__________
Mahram p. 390 1
2 Maham p. 39 2 MaMb 279(3/338)
ريام بعل كبدم"، بتقديمه تمثالًا إليه، تعبيرًا عن شكره وحمده له؛ لأنه من عليه وساعده وأجاب كل ما طلبه منه، ومكنه من خصم له خاصمه في عهد الملك "أنمار"1.
وانتقل الحكم بعد وفاة "أنمار يهأمن" إلى شقيقه "كرب ايل وتر يهنعم"، وقد ذكر اسمه في كتابات عديدة لا علاقة لها به، وإنما دونته فيها تيمنًا باسمه وتخليدًا لتأريخ الكتابة ليقف على زمانها الناس2. وأهم ما في هذه الكتابات من جديد، ورود اسم إله فيها لم يكن معروفًا قبل هذا العهد ولا مذكورًا بين الناس، هو الإله "ذ سموي"، أي "صاحب السماء" "صاحب السماوات" أو "رب السماء". وسأتحدث عنه وعن هذا التطور الجديد الذي حدث في ديانة العرب الجنوبيين فيما بعد.
وقد ذكر اسم الملك "كرب ايل وتر يهنعم" في النص الموسوم بـ jamme 563 وقد دونه أناس من "بني عثكلن" "عثكلان"، حمدًا وشكرًا للإله "المقه ثهوان" الذي أنعم عليهم وحباهم بنعمه، وأعطاهم حصادًا جيدًا وغلة وافرة، وليزيد في توفيقه لهم ونعمه عليهم، وليبعد عنهم أذى الحساد وشر الشانئين، وقد كتب في عهد الملك "كرب ايل وتر يهنعم بن وهب ايل يحز" ليبارك الإله "المقه" فيه3.
كما جاء اسم هذا الملك في نص آخر دونه قيل من أقيال "غيمان" وسم jamme 564، دونه عند تقديمه "صلهن" تمثالًا إلى الإله "المقه" حمدًا به وشكرًا على إنعامه عليه وعلى جيش وأقيال الملك "كرب ايل وتر يهنعم"؛ ولأنه من عليه وأعطاه حاصلًا طيبًا وغلة وافرة، وأثمارًا كثيرة، وليمن عليه وعلى قومه في المستقبل أيضًا، وذلك بحق المقه وبحق الآلهة عثتر ذي ذبن، وبحر حطبم، وهوبس، وثور بعلم، وبالمقه بمسكت، ويثو برآن، وذات حميم، وذات بعدان، وبحاميهم وشفيعهم حجرم قمحمم بعل حصني "تنع"،
__________
1 REP. EPIG. 3992, Mabram, P. 281
2 OS 32, BR. Mus. 30, CIH 517, IV, H, HI, P. 229, E. Osiander, Zur Hlmjarlschen Alterthuskunde, In ZDMG.f XIX, 1865, P. 269, Halevy, Etades Sab6en-nes, In Journal Asiatlque, 1874, n, P. 500, Glaser, 456, VA 5315, REP. EPIG., 4130, VII, I, P. 91
3 Jamme 563, MAMB 269, Mahram, 42(3/339)
ولمس بعل بيت نهد، وعثتر الشارق، والمقه بعل أوام1.
ويظهر من هذا النص أن صاحبه كان يتولى وظيفة مهمة من "مأرب"، وأنه كان مقدمًا في بيت الحكم قصر "سلحين"، وكان يساويه في هذه المنزلة رجل اسمه "رثدم" "رثد" من "مأذن"، إذ كان يحكم مأربًا أيضًا، ويتمتع بمنزلة كبيرة في دار الحكم "قصر سلحين" وقد حكما مأربًا معًا بتفويض من الملك وبأمر منه، حكما من القصر نفسه، إذ كانت دائرة عملهما فيه، ويظهر منه أيضًا أن اضطرابًا وقع في مأرب في زمان حكمهما، دام خمسة أشهر كاملة أثر تأثيرًا كبيرًا في العاصمة، وقد سأل الحاكمان الملك أن يخولهما حق التدبير للقضاء على الفتنة، فأصدر الملك أمرًا أجابهما فيه إلى ما سألاه الحاكمين، غير أن نار الفتنة لم تخمد بل بقيت مشتعلة خمسة أشهر كاملة، كان الملك في خلالها يلح على الحاكمين بوجوب قمع الفتنة وإعادة الأمن، واستطاعا ذلك بعد مرور الأشهر المذكورة باشتراك الجيش في القضاء عليها2.
ولم يذكر النص الأسباب التي دعت أهل مأرب إلى العصيان، ولكن يظهر أن من جملة عواملها تعيين صاحب النص، واسمه "أنمار" وهو من "غيمان" حاكمًا على مأرب، وكان أهل العاصمة يكرهون أهل غيمان، وكانوا قد حاربوهم في عهد الملك "أنمار يهأمن" شقيق "كرب ايل وتر يهنعم"، فساءهم هذا التعيين ولم يرضوا به. ولما أبى الملك عزله، ثاروا وهاجوا مدة خمسة أشهر حتى تمكن الجيش من إخماد ثورتهم3.
وقد ذكر "كرب ايل وتر" في النص: jamme 565 بعد اسم "يرم أيمن"، وفيه نعته، وهو "يهنعم"، وعبر عنهما بلفظة "ملكي سبأ"، أي "ملكا سبأ"، واستعمل لفظة "واخيهو"، أي "وأخيه"، وقد ترجمها "جامه" بمعنى "حليفه"، فالتآخي في نظره بمعنى التحالف والحلف، وإذا أخذنا بهذا المعنى، فسنستنتج من ذلك أن العلاقات بين الملكين لم تكن سيئة، يوم كتب هذا النص وأن ادعى كل منهما أنه ملك سبأ، وإنما يظهر أنهما كانا يحكمان متعاونين، بدليل ما ورد في النص من أن "املك سبأ"
__________
1 Jamme 564, MaMb 314, Magram, P. 44, CIGH 326, Le Museon, 1967, 1-2, P. 280.
2 Mahram, P. 282
3 Mahram, P. 282(3/340)
أي ملوك سبأ كلفوا صاحبي النص أن يخوضا معارك أمروهما بخوضها، فخاضاها، ورجعا منها بحمد الإله "المقه" سالمين1.
ويرى "جامه" أن حكم الملك "كرب ايل وتر يهنعم" امتد من سنة "130" حتى السنة "115" قبل الميلاد، أو من سنة "115" حتى السنة "100" قبل الميلاد، وبذلك يكون حكم "وهب ايل يحز" وحكم ابنيه "أنمار يهأمن" و "كرب ايل وتر يهنعم" قد امتدا من سنة "160" حتى السنة "115" أو "100" قبل الميلاد2.
وليس لنا علم عن ذرية الملك "كرب ايل وتر يهنعم"، فليس في أيدينا نص ما يتحدث عن ذلك. وكل ما نعرفه أن الحكم انتقل بعد أسرة "وهب ايل يحز" إلى ملك آخر هو الملك "يرم أيمن"، وهو من "همدان"، وهمدان كما قلت فيما سلف من القبائل التي اكتسبت قوة وسلطانًا في هذا العهد، وقد سبق أن تحدثت عن "ناصر يهأمن" وعن شقيقه "صدق يهب" وقلت إنهما من همدان، وقد حان الوقت للكلام على هذه القبيلة التي ما تزال من قبائل اليمن المعروفة، ولها شأن خطير في المقدرات السياسية حتى الآن.
الآن وقد انتهيت من الكلام على آخر ملك من ملوك "سبأ" وختمت به عهدًا من عهود الحكم في سبأ، أرى لزامًا على أن أشير إلى ملك قرأت اسمه في نص قصير، نشر في كتاب CIH وكتاب REP EPIG يتألف من سطر واحد، هو: "وهب شمسم بن هلك أمر ملك سبأ"، ولم أجد اسمه فيما بين يدي من قوائم علماء العربيات الجنوبية لملوك "سبأ"، ولم أعثر على نصوص أخرى من عهده فتعسر علي تعيين مكانه بين الملوك3. وقد يعثر على نصوص جديدة تكشف عن شخصيته وهويته ومحله بين الملوك.
وأورد أيضًا أن أشير إلى ورود اسم ملك ذكر في النص: jamme 551 واسمه "الشرح بن سمه علي ذرح" "الشرح بن سمهعلي ذرح"، وقد نعت
__________
1 jamme 565, MaMb 266, Maliram, P. 47, Le Mus6on, 1967, 1-2, P. 280, REP.EPIG. 4190
2 Mahram, P. 390
3 CIH 833, IV, III, I, P. 199, Bardey 9, Luper 4104, REP. EPIG. 459,1, VI, P. 349, Lidzbarski, Ephemeris, 1908, II, R, 387(3/341)
فيه بـ"ملك سبأ" وهو صاحب هذا النص والآمر بتدوينه، ذكر فيه أنه شيد ما تبقى من جدار المعبد من الحافة السفلى للكتابة المبنية في الجدار حتى أعلى المعبد، تنفيذًا لإرادة المقه التي ألقاها في قلبه، فحققها على وفق مشيئة ذلك الإله وإرادته، ليمنحه "المقه" ما أراد وطلب، وذلك بحق الآلهة: "عثتر" و"هوبس" و"المقه" وبحق "ذات حميم" و"ذات بعدان"، وبحق أبيه "سمه علي ذرح" "ملك سبأ"، وبحق شقيقه "كرب ايل"1.
وورد اسم الملك "يدع ايل بن كرب ايل بين" "ملك سبأ" في النص: jamme 558، الذي دونه قوم من عشيرة "عبلم" "عبل" "عبال" عند تقديمهم ثمانية "أمثلن" "أمثلن"، أي تماثيل إلى معبد الإله "المقه" "بعل" أوام ليحفظهم ويحفظ أولادهم وأطفالهم ويعطيهم ذرية، وليبارك في أموالهم، وليبعد عنهم كل بأس وسوء ونكاية، وحسد حاسد وأذى عدو.
وقد ذكر في النص بعد اسم الملك "كرب ايل بين" اسم "الشرح بن سمه علي ذرح"2.
هذا ولا بد لنا -وقد انتهينا من ذكر اسم آخر ملك من ملوك سبأ- من إبداء بعض الملاحظات على هذا العهد. ففيما كان الناس في عهد المكربين وفي عهد الملوك الأول إلى عهد "كرب ايل وتر بن يثع أمر بين" المعروف بـ"الثاني" في قائمة "هومل" لملوك سبأ3، وقد صرفوا تمجيدهم إلى إله سبأ، الخاص وهو "المقه" تليه بقية الآلهة، وجدنا الكتابات التي تلت هذا العهد، تمجيد معه أربابًا آخرين لم يكن لهم شأن في العهدين المذكورين، مثل الإله "تألب ريام"، وهو إله "همدان" خاصة، ومثل الإله "ذ سموي" "ذو سماوي"، أي الإله "رب السماء" "رب السماوات"4. وفي تمجيد بعض الناس لآلهة جديدة، دلالة صريحة على حدوث تطورات سياسية وفكرية في هذا العهد.
وتفسير ذلك أن بروز اسم إله جديد، معناه وجود عابدين له، متعلقين
__________
1 Jamme 551, Magram, P. 15
2 Jamme 558, MaMb 201, Magram, PP. 24
3 Handbuch, I, s. 87
4 Handbcuh, I, S. 88(3/342)
به، هو عندهم حاميهم والمدافع عنهم، ففي تدوين اسم "تالب ريام" بعد "المقه" أو قبله في الكتابات، دلالة على علو شأن عابديه، وهم "همدان"، ومنافستهم للسبئيين، وسنرى فيما بعد أنهم نافسوا السبئيين حقًّا على الملك، وانتزعوه حينًا منهم، وطبيعي إذن أن يقدم الهمدانيون إلى إلههم "تألب ريام" الحمد والثناء؛ لأنه هو إلههم الذي يحميهم ويقيهم من الأعداء، ويبارك فيهم في أموالهم، وكلما ازداد سلطان همدان، ازداد ذكره، وتعدد تدوين اسمه في الكتابات.
أما الناحية الفكرية، فإن في ظهور اسم الإله "ذ سموي"، دلالة على حدوث تطور في وجهة نظر بعض الناس بالنسبة إلى الألوهية وتقربهم من التوحيد وعلى ابتعاد عن فكرة الألوهية القديمة التي كانت عند آبائهم وأجدادهم وعن "المقه" إله شعب سبأ الخاص.
ويلاحظ أيضًا ظهور لقب "يهأمن" و "يهنعم" منذ هذا الزمن فما بعده عند ملوك سبأ. وقد رأينا أن ألقاب مكربي سبأ وملوك الصدر الأول من سبأ لم تكن على هذا الوزن": وزن "يهفعل"، وهو وزن عرفناه في ألقاب مكربي وملوك قتبان فقط، إذ رأينا الألقاب: "يهنعم" و"يهرجب" و"يهوضع" تقترن بأسماء الحكام. وفي تلقب ملوك سبأ دلالة على حدوث تطور في ذوق الملوك بالنسبة إلى التحلي بالألقاب.
ويتبين من دراسة الأوضاع في مملكة سبأ أن أسرًا أو قبائل كانت صاحبة سلطان، وكانت تتنافس فيما بينهما، وتتزاحم بعضها بعضًا، منها الأسرة القديمة الحاكمة في مأرب، ثم الأسرة الحاكمة في حمير، ثم "سمعي"، وهي قبيلة كبيرة صاحبة سلطان وقد كونت ممكلة مستقلة، منها "بنو بتع" وفي أرضهم وهي في الثلث الغربي من "سمعي" تقع أرض "حملان" وعاصمتها "حاز" و "مأذن". ثم الهمدانيون، ومركزهم في "ناعط"، ثم "مرثدم" "مرثد" وهم من "بكلم" "بكيل"، ومواطنهم في "شبام أقيان". ثم "كرت" "جرت" "جرة" ومنها "ذمر علي ذرح".
مأرب:
وإذا كانت صرواح عاصمة المكربين ومدينة سبأ الأولى، فإن "مرب" "م رب"(3/343)
"مريب"، أي مأرب هي عاصمة سبأ الأولى في أيام الملوك، ورمز الحكم في سبأ في هذا العهد، وهي وإن خربت وطمرت في الأتربة إلا أن اسمها لا يزال حيًّا معروفًا، ولا يزال موضعها مذكورًا، ويسكن الناس في "مأرب" و"مأرب" الحاضرة، هي غير مأرب القديمة، فقد أنشئت الحاضرة حديثًا على أنقاض المدينة الأولى، على مرتفع تحته جزء من أنقاض المدينة القديمة، وتقع في القسم الشرقي من مدينة "مأرب" الأولى.
وقد كانت مأرب كأكثر المدن اليمانية الكبيرة مسورة بسور قوي حصين له أبراج، يتحصن به المدافعون إذا هاجم المدينة مهاجم، وقد بنى السور بحجر "البلق" كما نص عليه في الكتابات1. وهو حجر صلد قد من الصخر أقيم على أساس قوي من الحجر ومن مادة جيرية تشد أزره، وفوقه صخور من الغرانيت2. ويحيط السور بالمدينة، بحيث لا يدخل أحد إليها إلا من بابين، فقد كانت مأرب مثل "صرواح" ذات بابين فقط في الأصل3.
وأعظم أبنية مأرب وأشهرها، قصر ملوكها ومعبدها، أما قصر ملوكها فهو القصر المعروف بقصر "سلحن" "سلحين" "سلحم" وقد ورد ذكره في الكتابات، وعمر ورمم مرارًا. وقد ورد في لقب النجاشي "ايزانا" Ezana ملك "أكسوم"، وذلك في حوالي السنة "350 م" ليدل بذلك على امتلاكه لأرض سبأ واليمن4. وقد عرف في الإسلام، وذكره "الهمداني" في جملة القصور الشهيرة الكبيرة في اليمن5.
ويقع مكانه في الخرائب الواسعة الواقعة غرب المدينة، وإلى الجنوب من خرائبه خرائب أخرى على شكل دائره، تحيط بها أعمدة، ويظهر أنها لم تكن مبنية في الأصل. وتشاهد أعمدة وأتربة متراكمة هي بقايا معبد "المقه" إله سبأ، المعروف بـ "المقه بعل برآن" "المقه بعل بران" أي معبد "المقه" "رب يرأن". وفي الناحية الشمالية والغربية من المدينة وفي خارج سورها،
__________
1 Glaser 418, 419
2 Beitrage, S. 27
3 Beitrage, S. 27
4 Beitrage, S. 27
5 Beitrage, S. 27(3/344)
تشاهد بقايا مقبرة جاهلية، يظهر أنها مقبرة مأرب قبل الإسلام. وتشاهد آثار قبورها، وقد تبين منها أن بعض الموتى وضعوا في قبرهم وضعًا، وبعضهم دفنوا وقوفًا، وقد حصل "كلاسر" وغيره من السياح والباحثين على أحجار مكتوبة، هي شواهد قبور1.
أعمدة من بقايا معبد "المقه" بمدينة مأرب. ويبلغ طول العمود الواحد حوالي ثلاثين قدمًا، من كتاب "Qataban and Sheba" الصفحة "225".
__________
Beitage S, 28 1(3/345)
وعلى مسافة خمسة كيلومترات تقريبًا من مأرب، تقع خرائب معبد شهير، كانت له شهرة كبيرة عند السبئيين، يعرف اليوم بـ "حرم بلقيس" وبـ "محرم بلقيس"، وهو معبد "المقه بعل أوم"، أي معبد الإله "المقه" رب "أوام"، ويرى بعض الباحثين أن هذا المعبد هو مثل معبد "المقه" في "صرواح" والمعبد المسمى اليوم بـ"المساجد" من المعابد التي بنيت في القرن الثامن قبل الميلاد. وقد بناها المكرب "يدع ايل ذرح". وقد يكون المعبد الخرب في "روديسيا" والمعبد الآخر في "اوكاندا" "أوغاندا"، من المعابد المتأثرة
تمثال من البرنز عثر عليه في معبد أوام بمأرب.
من كتاب:Qataban and Sheba "الصفحة 276".
بطراز بناء معبد "حرم بلقيس"، فإن بينهما وبين هذا المعبد شبهًا كبيرًا في طراز البناء وفي المساحة والأبعاد1.
وعلى مسافة غير بعيدة من "حرم بلقيس"، خرائب تسمى "عمائد".
__________
1 Beilraga, S, 28(3/346)
"عمايد" في الزمن الحاضر، منها أعمدة مرتفعة بارزة عن التربة، ويظهر أنها بقايا معبد "برأن" "برن" "بران" خصص بعبادة الإله "المقه" الذي ذكر في الكتابات الموسومة بـ Glaser 479، وفي الجهة الغربية من هذا المعبد، تشاهد أربعة أعمدة أخرى هي من بقايا معبد آخر1.
__________
Beilrage, S, 28 1(3/347)
قوائم بأسماء ملوك سبأ:
قائمة "هومل":
أول ملك وآخر مكرب هو "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر" الذي جمع بين اللقبين: لقب "مكرب" المقدس ولقب "ملك" الدنيوي. وقد تلاه عدد من الملوك وأبناء الملوك هم:
سمه علي ذرح.
الشرح بن سمه علي ذرح.
كرب آل وتر بن سمه علي ذرح.
يدع آل بين بن كرب آل وتر.
يكرب ملك وتر.
يثع أمر بين.
كرب آل وتر.
ويرى هومل أن أسرة جديدة تربعت عرش "سبأ" بعد هذه الأسرة المتقدمة، خلفته إما رأسًا وإما بعد فترة لا نعرف مقدارها بالضبط، قدرها بنحو خمسين سنة امتدت من سنة "450" حتى سنة "400" قبل الميلاد وتتألف هذه الأسرة من:
سمه علي ينف.(3/347)
الشرح.
ذمر علي بين.
وهناك أسرة أخرى حكمت "سبأ" تنتمي إلى عشيرة "مرثد" من "بكيل" تتألف من:
وهب آل "وهب ايل" راجع النصين: Glaser 179" "Glasrr 223" وهما من "حاز" انمرم يهنعم "أنمار يهنعم"، وهو ابن "وهب آل".
ذمر علي ذرح.
نشاكرب يهنعم "نشأكرب يهنعم".
نصرم يهنعم؟ "ناصر يهنعم".
وهب آل يحز "وهب ايل يحز".
كرب آل وتر يهنعم.
فرعم يهنب "فارع ينهب".
ويرى "هومل" أن الملك، "المكرب يهنعم بن حم عثت" "الكرب يهنعم بن حمعثت" و "كرب آل وتر" هما من جمهرة جديدة من جمهرات ملوك سبأ1.
__________
1 Handbuch l, S, 88, 89, 90(3/348)
قائمة "كليمان هوار":
وتتألف هذه القائمة، وهي قديمة، من الجمهرات الآتية:
الجمهرة الأولى وقوامها:
سمه علي ذرح.
الشرح.
كرب آل.
الجمهرة الثانية ورجالها:
يثع أمر.(3/348)
كرب آل وتر.
يدع آل بين.
الجمهرة الثالثة وتتكون من:
وهب آل يحز.
كرب آل وتر يهنعم.
الجمهرة الرابعة ورجالها:
وهب آل.
أنمار يهنعم.
الجمهرة الخامسة وأصحابها:
ذمر علي ذرح.
نشاكرب يهنعم.
ولم يشر إلى مكان الملكين: "يكرب ملك وتر" و "يرم ايمن" بين هذه الجمهرات، وإن كان أشار إلى "يرم ايمن" في قائمة الملوك الهمدانيين1.
__________
Cl. Huart, Ceschiche der Araber, BD l, S 56 1(3/349)
قائمة "فلبي":
1- كرب آل وتر. حكم على تقديره حوالي سنة "620" قبل الميلاد.
2- سمه علي ذرح لم يتأكد من اسم والده، ويرى أن من المحتمل أن يكون كرب آل وتر. حكم حوالي سنة "600" قبل الميلاد.
3- كرب آل وتر بن سمه علي ذرح. حكم حوالي سنة "580" قبل الميلاد.
4- الشرح بن سمه علي ذرح، تولى الحكم حوالي سنة "570" قبل الميلاد.
5- يدع آل بين بن كرب آل وتر. صار ملكًا حوالي سنة "560" قبل الميلاد.
6- يكرب ملك وتر بن يدع آل بين. تولى الحكم سنة "540" قبل الميلاد.
7- يثع أمر بين بن يكرب ملك وتر، حكم حوالي سنة "520" قبل الميلاد.
8- كرب آل وتر بن يثع أمر بين. تولى الحكم في حدود سنة "500" قبل الميلاد.(3/349)
9- سمه علي ينف. لم يتأكد "فلبي" من اسم أبيه، وحكم على رأيه حوالي سنة "480" قبل الميلاد.
10- الشرح بن سمه علي ينف. حكم حوالي سنة "460" قبل الميلاد.
11- ذمر علي بين بن سمه علي ينف، تولى الحكم من حدود سنة "445" قبل الميلاد.
12- يدع آل وتر بن علي بين. تولى حوالي سنة "430" قبل الميلاد.
13- ذمر علي بين بن يدع آل وتر. تولى الحكم في حدود سنة "410" قبل الميلاد.
14- كرب آل وتر بن ذمر علي بين. حكم حوالي سنة "390" قبل الميلاد.
15- وترك "فلبي" فجوة بعد اسم هذا الملك قدرها بنحو عشرين عامًا، ثم ذكر اسم الكرب يهنعم. وهو على رأي "فلبي" من الأسرة الملكية، الثالثة التي حكمت مملكة سبأ وقد حكم في حوالي سنة "350 ق. م.".
16- كرب آل وتر. حكم في حدود سنة "330 ق. م.".
17- وهب آل ولم يتأكد من اسم أبيه، ويرى أن من المحتمل أن يكون اسمه "سرو". حكم في حدود سنة "310 ق. م.".
18- أنمار يهنعم بن وهب آل يحز. حكم في حدود سنة "290 ق. م.".
19- ذمر علي ذرح بن أنمار يهنعم. حكم في حدود سنة "270 ق. م.".
20- نشاكرب يهنعم بن ذمر علي ذرح. حكم حوالي سنة "250 ق. م.". وترك "فلبي" فجوة أخرى بعد اسم هذا الملك قدرها بنحو ثلاثين عامًا، أي من حوالي سنة "230" إلى سنة "200" قبل الميلاد, ذكر بعدها اسم:
21- نصرم يهنعم "ناصر يهنعم"، وهو من أسرة ملكية رابعة، وكان له شقيق اسمه "صدق يهبب"، حكم في حدود سنة "200" قبل الميلاد.
22- وهب آل يحز. حكم في حوالي سنة "180" قبل الميلاد.
23- كرب آل وتر يهنعم بن وهب آل يحز. حكم في حوالي سنة "160" قبل الميلاد.
وقد اغتصب العرش "يرم ايمن" وابنه "علهن نهفن" "علهان نهفان" في حدود سنة "145" إلى سنة "115" قبل الميلاد، وهما مكونا الأسرة الهمدانية المالكة، وقد استعاد العرش الملك:(3/350)
24- فرعم ينهب في حدود سنة "130" قبل الميلاد.
25- الشرح يحضب بن فرعم ينهب، حكم حوالي سنة "125" قبل الميلاد، وهو من ملوك "سبأ وذو ريدان".(3/351)
قائمة "ريكمنس":
وقد رتب "ريكمنس" أسماء ملوك سبأ على النحو الآتي:
كرب وتر "كرب ايل وتر".
يدع آل بين "يدع ايل بين".
يكرب ملك وتر.
يثع أمر بين.
5، 6– سمه علي ذرح وكرب ايل وتر "الشرح".
7- سمه علي ينوف "سمه علي ينف".
8- يدع آل وتر "يدع ايل وتر".
9- ذمر علي بين.
10- يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح".
11- يثع أمر وتر.
12- سمه علي ينف "سمه علي ينوف".
13- ذمر علي بين "الشرح".
14- يدع آل "يدع ايل".
15- ذمر علي ذرح.
16- نشأ كرب يهأمن، وهو على رأيه آخر الملوك من الأسرة الشرعية الحاكمة، وقد انتقلت سبأ بعده من حكم الملوك السبئيين إلى حكم أسرة جديدة يرجع نسبها إلى قبيلة "همدان" وذلك سنة "115" قبل الميلاد1 وكان أول من تولى الحكم منها الملك "نصرم يهأمن" "ناصر يهأمن".
__________
1 J. Ryckmans, L'instiution , p. 336(3/351)
وترك "ريكمنس" فراغًا بعد "نصرم يهأمن"، وذكر بعده اسم "وهب آل يحز" "وهب ايل يحز"، وكان منافسه "أوسلت رفشان"، ثم ذكر بعد "وهب آل يحز" اسم أنمار يهنعم، وكرب ايل وتر يهنعم، نمم يرم أيمن. ثم اسم "فرعم ينهب"، وهو من "بكيل"، وكان معاصرًا لـ "علهان نهفان" وابنه "شعرم أوتر"، وهما من "حاشد".(3/352)
فهرس: الجزء الثالث:
الفصل السابع عشر.
العرب واليونان 5
الفصل الثامن عشر.
العرب والرومان 38
الفصل التاسع عشر.
الدولة المعينية 73
ملوك معين 81
حكومات عدن 105
مملكة كمنة 107
حكومة معين 108
نقود معينية 112(3/353)
الحياة الدينية 113
مدن معين 116
المعينيون خارج أرض معين 119
قوائم بأسماء حكام معين 124
الفصل العشرون.
ممكلة حضرموت 129
قبائل حضرمية 155
مدن ومواقع حضرمية 157
قوائم حكام حضرموت 166
الفصل الحادي والعشرون.
حكومة قتبان 171
حكام قتبان 179
كتابات وحوادث قتبانية 186
قبائل وأسس قتبانية 208
مدن قتبان 222(3/354)
قوائم بأسماء حكام قتبان 232
الفصل الثاني والعشرون.
ممكلتا ديدان ولحيان 241
الفصل الثالث والعشرون.
السبئيون 258
المكربون 268
قوائم بأسماء المكربين 306
الفصل الرابع والعشرون.
ملوك سبأ 315
قوائم بأسماء ملوك سبأ 247
الفهرست 353(3/355)
المجلد الرابع
الفصل الخامس والعشرون: همدان
...
الفصل الخامس والعشرون: همدان
ومن القبائل الكبيرة التي كان لها شأن يذكر في عهد "ملوك سبأ"، قبيلة "همدان", والنسابون بعضهم يرجع نسبها إلى: "أوسلة بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة الخيار بن زيد بن كهلان"، وبعض آخر يرجعونه إلى "همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان"، إلى غير ذلك من ترتيب أسماء تجدها مسطورة في كتب الأنساب والأخبار1.
ويرجع أهل الأنساب بطون همدان، وهي كثيرة، إلى "حاشد" و"بكيل"؛ أما "حاشد"، فتقع مواطنها في الأرضين الغربية من "بلد همدان"، وأما "بكيل"، فقد سكنت الأرضين الشرقية منه2, وهما في عرفهم شقيقان من نسل "جشم بن خيران بن نوف بن همدان"3. وقد تفرع من الأصل بطون
__________
1 منتخبات "ص110"، الاشتقاق "2/ 250"، ابن خلدون "2/ 252"، ابن حزم، جمهرة أنساب العرب "369"، المبرد، نسب عدنان وقحطان، "ص21"، تاج العروس "2/ 547"، Ency., II, P. 246
2 Handbuch, I, S., 113, ENCY., II, P. 246
3 تاج العروس "2/ 232، 336"، "حاشد بن جشم بن حبران بن نوف بن همدان"، منتخبات "ص27، 53"، "ولد همدان نوفًا وخيران، فمنهم بنو حاشد وبنو بكيل، منهم تفرقت همدان"، الاشتقاق "2/ 250" "طبعة وستنفلد" "حاشد بن جشم بن خيوان بن نوفل بن همدان"، ابن حزم، جمهرة "ص372" "تحقيق ليفي بروفنسال"، "وأولد نوف بن همدان حبران، فأولد حبران جشم، فأولد جشم حاشدا الكبرى وبكيلا"، الإكليل "10/ 28".(4/5)
عديدة، ذكر أسماءها وأنسابها "الهمداني" في الجزء العاشر من "الإكليل"، وهو الجزء الذي خصصه بحاشد وبكيل1.
وقد ورد في الكتابات العربية الجنوبية أسماء عدد من المدن والمواضع الهمدانية ورد عدد منها في "صفة جزيرة العرب" و"الإكليل" وفي كتب أخرى، ولا يزال عدد غير قليل من أسماء تلك المواضع أو القبائل والبطون التي ورد ذكرها في الكتابات باقيًا حتى الآن. وتقع هذه المواضع في المناطق التي ذكرت في تلك الكتابات، وهي تفيدنا من هذه الناحية في تعيين مواقع الأمكنة التي وردت أسماؤها في النصوص، ولكننا لا نعرف الآن من أمرها شيئًا.
وكان للهمدانيين مثل القبائل الأخرى إلهٌ خاص بهم، اسمه "تالب" "تألب" اتخذوا لعبادته بيوتًا في أماكن عدة من "بلد همدان", وقد عرف أيضا في المسند بـ"تالب ريمم" "تألب ريمم"، أي: "تألب ريام"2. وقد انتشرت عبادته بين همدان، وخاصة بعد ارتفاع نجمهم واغتصابهم عرش سبأ من السبئيين، فصار إله همدان، بتعبد له الناس تعبدهم لإله سبأ الخاص "المقه"، فتقربت إليه القبائل الأخرى، ونذرت له النذور. ونجد في الكتابات أسماء معابد عديدة شيدت في مواضع متعددة لعبادة هذا الإله، وسميت باسمه.
وقد تنكر الهمدانيون فيما بعد لإلههم هذا، حتى هجروه. ولما جاء الإسلام كانوا بتعبدون -كما يقول ابن الكلبي- لصنم هو "يعوق"، وكان له بيت بـ"خيوان"3, وقد نسوا كل شيء عن الإله "تألب ريام"، نسوا أنه كان إلهًا لهم، وأنه كان معبودهم الخاص، إلا أنهم لم ينسوا اسمه، إذ حولوه إلى إنسان، زعموا أنه جد "همدان" وأنه هو الذي نسل الهمدانيين، فهم كلهم من نسل "تألب ريام".
ولم يكتفِ الهمدانيون بتحويل إلههم إلى إنسان، حتى جعلوا له أبًا سموه "شهران الملك"، ثم زوَّجوه من "ترعة بنت يازل بن شرحبيل بن سار
__________
1 نشر بتحقيق محب الدين الخطيب، القاهرة، المطبعة السلفية "1368هـ".
2 CIH, IV, I, IV, P. 529
3 الأصنام "ص57"، "ومن بطون همدان أيضًا, بطن يقال لهم: بنو قابض بن يزيد بن مالك بن جشم بن حاشد بن جشم، وكان عمرو بن لحي دفع إلى قابض المذكور صنمًا اسمه يعوق، فجعله في قرية باليمن يقال لها: خيوان، فكان يعبد من دون الله ... "، ابن حزم، جمهرة "ص371".(4/6)
ابن أبي شرح يحضب بن الصوار"1، وجعلوا له ولدًا منهم "يطاع"، و"يارم".
وأما أبوه "شهران" -على حد قول أهل الأخبار- فهو ابن "ريام بن نهفان"، صاحب محفد "ريام". وأما "نهفان" والد "ريام"، فهو ابن "بتع" الملك، وشقيق "علهان بن بتع"، وكان ملكًا كذلك, وأمهما "جميلة بنت الصوَّار بن عبد شمس"2. وأما "بتع"، فهو ابن "زيد بن عمرو بن همدان"3، وكان قريبا لـ"شرح يحضب بن الصوار بن عبد شمس"، وإليه ينسب سد "بتع".
وإذا دققنا النظر في هذه الأسماء، أسماء الآباء والأجداد والأبناء والبنات والحَفَدة والأمهات، نجد فيها أسماء وردت حقًّا في الكتابات، إلا أن ورودها فيها ليس على الصورة التي رسمها لها أهل الأخبار. فـ"ترعة" مثلا، وهو اسم زوجة "تألب ريام" المزعومة، لم يكن امرأة في الكتابات، وإنما كان اسم موضع شهير ورد اسمه في الكتابات الهمدانية، عرف واشتهر بمعبده الشهير المخصص لعبادة الإله "تألب ريام"؛ معبد "تألب ريام بعل ترعت"4. والظاهر أن الأخباريين -وقد ذكرت أن منهم من كان يستطيع قراءة المساند لكن لم يكونوا يفهمون معاني هذه المساند كل الفهم- لما قرءوا الجملة المذكورة ظنوا أن كلمة "بعل" تعني الزواج كما في لغتنا، فصار النص بحسب تفسيرهم "تألب زوج ترعت". وهكذا صيَّروا "ترعت" "ترعة" زوجة لـ"تألب ريام"، وصيروا "تألب ريام" رجلًا زوجًا؛ لأنهم لم يعرفوا من أمره شيئًا.
و"أوسلة" الذي جعلوا اسما لـ"همدان" والد القبيلة، هو في الواقع "أوسلت رفش" في كتابات المسند5, وهو والد "يرم أيمن" "يريم أيمن" "ملك سبأ". وقد عرف "الهمداني" اسم "أوسلت رفشن" "أوسلة رفشان"، فذكر في كتابه "الإكليل" أن اسمه كان مكتوبًا بالمسند على حجر بمدينة "ناعط"،
__________
1 الإكليل "10/ 17 وما بعدها".
2 الإكليل "10/ 13 وما بعدها".
3 الإكليل "10/ 11 وما بعدها".
4 CIH 337, 338, IV, I, IV, p.388, 390, 391
5 Glaser, abessi, S, 63, Glaser 1320, 1359, 1360(4/7)
ودوّن صورة النص كما ذكر معناه1. ويظهر من عبارة النص ومن تفسيره أن "الهمداني" لم يكن يحسن قراءة النصوص ولا فهمها، وإن كان يحسن قراءة الحروف وكتابتها. ولم يتحدث "الهمداني" بشيء مهم عن "أوسلة رفشان" في الجزأين المطبوعين من "الإكليل"، وقد ذكره في الجزء الثامن في معرض كلامه على حروف المسند، فأورده مثلًا على كيفية كتابة الأسطر والكلمات2. وذكره في الجزء العاشر في "نسب همدان"، في حديثه عن "يطاع" و"يارم" ابني "تألب ريام بن شهران" على حد قول الرواة، ولم يذكر شيئًا يفيد أنه كان على علم به3.
وأرى أن أهل الأنساب أخذوا نسبهم الذي وضعوه لـ"أوسلة" ولغيره من أنساب قبائل اليمن القديمة من قراءتهم للمساند. وقد كان بعضهم -كما قلت- يحسن قراءة الحروف، إلا أنه لم يفهم المعنى كل الفهم، فلما قرءوا في النصوص "أوسلت رفشن بن همدان"4، أي: "أوسلة رفشان من قبيلة همدان"، أو "أوسلة رفشان الهمداني" بتعبير أصح، ظنوا أن لفظة "بن" تعني "ابن"؛ ففسروا الجملة على هذا النحو: "أوسلة رفشان بن همدان" وصيروا "أوسلة" ابنًا لهمدان، مع أن "بن" في النص هي حرف جر بمعنى "من"، وليست لها صلة بـ"ابن".
و"أوسلت" "أوسلة" مركبة من كلمتين في الأصل، هما: "أوس": بمعنى "عطية" أو "هبة"، و"لت" "لات"، وهو اسم الصنم "اللات"، فيكون المعنى "عطية اللات"، أو "هبة اللات". ومن هذا القبيل "أوسل آل"،
__________
1 الإكليل "10/ 18"، كتب أنستاس ماري الكرملي الاسم على هذا الشكل: "أوسلة رلشان"، "8/ 142"، أما "نبيه أمين فارس" فقد كتبه "أوسلة رلشن"، وأعتقد أن هذا الخطأ في النقل إنما أحدثه النساخ، وأن "الهمداني" كان يعرف الاسم معرفة صحيحة، بدلالة كتابته كتابة صحيحة في الجزء العاشر, الذي نشر بتحقيق محب الدين الخطيب. وقد نقضت الكلمة الأولى من الاسم المدون نقشًا قريبًا جدًّا من الصحة في طبعتي الكرملي ونبيه. أما الكلمة الثانية من الاسم وباقي النص، فقد حرفها النساخ على ما يظهر تحريفًا قبيحًا أبعدها عن الصواب.
2 الإكليل "8/ 123".
3 الإكليل "10/ 18".
4 Glaserabessi., S. 63, Glaser 1320, 1359, 1360(4/8)
أي: "أوس إيل"، ومعناها "وهب إيل" و"عطية إيل"، و"سعدلت" أي: "سعد لات" و"عبد لات" و"زيد لات"، وما شاكل ذلك من أسماء1.
وقد أغفلت النصوص التي ذكرت اسم "أوسلت رفشان" اسم أبيه. غير أن هناك كتابات أخرى ذكرت من سمته "أوسلت بن أعين"، "أوسلة بن أعين"، فذهب علماء العربيات الجنوبية إلى أن هذا الرجل الثاني هو "أوسلة رفشان" نفسه، وعلى ذلك يكون اسم أبيه "أعين"، وهو من همدان2. وقد عاش في حوالي السنة "125ق. م." على تقدير "ألبرايت"3.
وقد جعل "فون وزمن" "أعين" من معاصري "ياسر يهصدق" الحميري و"ذمر على ذرح" ملك السبئيين، و"نشأكرب يهأمن" من أسرة "جرت" "كرت" "كرأت" "جرأت", وجعل زمانهم في حوالي السنة "80" بعد الميلاد4. وهو تقدير يخالف رأي "فلبي" و"ألبرايت" وغيرهما ممن وضعوا أزمنة لحكم الملوك.
وقد ذكر اسم "أوسلت رفشان" في نص وسمه العلماء بـCIH 647، وهو نص قصير مثلوم في مواضع منه، يفهم منه أنه بنى بيتًا، ولم يرد في النص أين بني ذلك البيت، ولا نوع ذلك البيت: أكان يت سُكنى أم بيت عبادة؟ 5.
وقد عاش "أوسلت رفشن" "أوسلة رفشان" في حوالي السنة "110م" على رأي "فون وزمن"6. وكان من المعاصرين للملك "رب شمس" "ربشمس" من ملوك حضرموت، وللملك "وهب آل يحز" "وهب إيل يحز"، وهو من ملوك "بني بتع" من "سمعي"7. أما "فلبي"، فيرفع أيام هؤلاء المذكورين إلى ما قبل الميلاد، أي: إلى العهود التي سبقت تأليف حكومة "سبأ وذي ريدان"8.
__________
1 Glaser, Abessi., S. 63
2 Glaser 1228, 1320, Abessi., S. 63, Handbuch, I, S. 90, Le Museon, 1964, 3-4, P.498, P. Mahram, P.284, Le Museon, 1967, 1-2, p.281.
3 BOASOOR, NUM. 119, 1950, p.9
4 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
5 CIH 647, Langer 17, Brit. Mus. 67.
6 Le Museon, 1964, 3-4, P.498
7 Le Museon, 1964, 3-4, P.498.
8 Background, P.88, 91.(4/9)
وأما "ألبرايت"، فجعل أيامه في حوالي السنة "100ق. م."1.
وجعل "فون وزمن" "سعد شمس أسرع"، الذي هو من "مرثد" من فرع "بكيل" من المعاصرين لـ"أوسلت رفشن" "أوسلت فشان". وتقع أرض "مرثد" في "شبام أقيان"2.
ويظهر من النص الموسوم بـCIH 287 أن "أوسلت" كان "مقتوى"، أي: قائدًا كبيرًا من قواد الجيش عند "ناصر يهأمن"، ثم صار قيلًا "قول" على عشيرة "سمعي" في أيام "وهب إيل يحز"3, فبرز اسمه واسم أولاده وصار لهم سلطان في عهد هذا الملك4. والظاهر أنه كان كبير السن في هذا العهد، وأن وفاته كانت في أيام "وهب إيل".
وقد عرفنا من الكتابات اسم ولدين من ولد "أوسلت رفشان" أحدهما "يرم أيمن"، والآخر "برج يهرجب"، "برج يهرحب"5. وقد ورد اسماهما في عدد من الكتابات، منها الكتابة الموسومة بـJamme 561 Bis التي تحدثت عنها في أثناء كلامي على "وهب إيل يحز". وقد وجدنا فيها أن الشقيقين وكذلك "علهان نهفان" وهو ابن "برم أيمن"، كانوا أقيالًا إذ ذاك على عشيرة "سمعي"، التي تكوّن ثلث عشائر قبيلة "حاشد"، وأنهم كانوا قد أسهموا في الغارة التي شنها الملك "وهب إيل يحز" على الأعراب.
وقد ورد اسماهما في الكتابة الموسومة6 بـGlaser 1359, 1360، وقد تبين منها أنهما كانا قيليْنِ "قول" على قبيلة "سمعي" ثلث "حاشد"، وأنهما قدما إلى حاميهما الإله "تالب ريمم" "تألب ريام"، بعل "ترعت"، أي: رب معبده المقام في "ترعت" "ترعت"، ستة تماثيل "ستتن أصلمن"؛ لأنه مَنَّ على "يرم أيمن" بالتوفيق والسداد في مهمته، فعقد الصلح بين ملوك
__________
1 BOASOOR, NUM 119, 1950, P.9
2 Le Museon, 1964, , 3-4, p.498
3 Abessi., S. 63
4 Mahram, p.285
5 في بعض الكتابات "يهرجب" وفي بعض آخر "يهرحب", ومرد هذا التباين إلى قراءة تلك الكتابات، واختلافهم في نسخ الحروف.
6 CIH 315, IV, I, IV,P.346, Halevy Revue Semitique, IV, 1897, p.76, Winckler, Die Sab. Inschr. Der Zeit Alhan Nahfan's, S.9(4/10)
سبأ وذي ريدان وحضرموت وقتبان، وذلك بعد الحرب التي وقعت بينهم فانتشرت في كل البلاد والأرضين، بين هؤلاء الملوك المذكورين وشعوبهم وأتباعهم. وقد كان من منن الإله "تألب ريام" على "برم أيمن" أن رفع مكانته في عين ملك سبأ، فاتخذه وسيطًا في عقد صلح بينه وبين سائر الملوك، فنجح في مهمته هذه وعقد الصلح, وذلك في سنة "ثوبن بن سعدم بن يهسم"1.
وقد اختتم النص بدعاء الإله "تألب ريام" أن يوفق "يرم أيمن" ويديم له سعادته، ويرفع منزلته ومكانته دائمًا في عين سيده "إمراهمو ملك سبا" ملك سبأ، ويبارك له، ويزيد في تقدمه، وينزل غضبه وثبوره "ثبر" وضرره وتشتيته على أعداء "برم أيمن" وحساده, وكل من يتربص الدوائر بـ"تألب ريام"2.
ويتبين من هذا النص الموجز -الذي كتب لإظهار شكر "يرم أيمن" لإلهه "تألب ريام" على توفيقه له، وعلى ما مَنَّ عليه به من الإيحاء إلى ملك سبأ بأن يختاره وسيطًا- أن حربًا كاسحة شاملة كانت قد نشبت في العربية الجنوبية في أيام الملك "كرب إيل وتر يهنعم"، وأن الملك كلفه أن يتوسط بين المتنازعين، وهم حكومات سبأ وذي ريدان وحضرموت وقتبان، ويعقد صلحًا بينهم، وأنه قد أفلح في وساطته، وسُرَّ كثيرًا بنجاحه هذا وباختياره لهذا المركز الخطير، الذي أكسبه منزلة كبيرة، وهيبة عند الحكومات، فشكر إلهه الذي وفقه لذلك، وقد كان يومئذٍ قَيْلًا من الأقيال. وقد ساعدته هذه الوساطة كثيرًا، ولا شك، فمهدت له السبيل لأن ينازع "ملك سبأ" التاج.
وقد اتخذ "كلاسر" من سكوت النص عن ذكر اسم "معين" دليلًا على انقراض "مملكة معين"، وفقدان شعب معين استقلاله، وهو رأي عارضه بعض الباحثين3.
وقد وصل إلينا نص قصير لقب فيه "يرم أيمن" بلقب "ملك سبأ"، وقد سجله ابناه، ولقب ابناه بهذا اللقب كذلك. وهو نص ناقص أعرب فيه
__________
1 الفقرة الخامسة عشرة من النص، غويدي: المختصر "ص21 وما بعدها".
2 بتألب "يمم"، الفقرتان "22" و"23" من النص.
3 Abessi., S. 72, KTB., II, S. 68, Hartmann, Arab. Frage., S. 142, 144(4/11)
ابنا "يرم أيمن" عن شكرهما للإله "تألب ريام"؛ لأنه مَنَّ وبارك عليهما1؛ فهذا النص إذن من النصوص المتأخرة بالنسبة إلى أيام "يرم أيمن".
وانتهى إلينا نص مهم، هو النص المعروف بـWien 669، وقد دونه أحد أقيال "أقول" قبيلة "سمعي"، وقد سقط اسمه من الكتابات وبقي اسم ابنه، وهو "رفش" "رفشان" من آل "سخيم".
أما قبيلة "سمعي" المذكورة في هذا النص، فهي "سمعي" ثلث "ذ حجرم" "ذي حجر". وقد قدم هذا القيل مع ابنه "رفشان" إلى الإله "تألب ريام" "بعل رحبان" "بعل رحبن" نذرًا؛ وذلك لعافيتهما ولسلامة حصنهما، حصن "ريمن" "ريمان"، ولخير وعافية قيلهما وقبيلته "يرسم" التي تكون ثلث "ذي حجر"، وليبارك في مزروعاتهما وفي غلات أرضهما، ولينزل بركته ورحمته على "يرم أيمن" و"كرب إيل وتر" ملكي سبأ. وقد ختم النص بتضرع "تالب ريام" أن يهلك أعداءهما وحسادهما وجميع الشانئين لهما ومن يريد بهما سوءًا2.
وقد جعل "فون وزمن", "يرم أيمن" معاصرًا لـ"أنمار يهأمن" الذي ذكره بعد "وهب إيل يحز"، ثم لـ"كرب إيل يهنعم"، وهما في رأيه من المعاصرين لـ"شمر يهرعش الأول" من ملوك "حمير" أصحاب "ظفار". وجعل "كرب إيل وتر يهنعم" معاصرًا للملك "كرب إيل بين" ملك سبأ الشرعي من الأسرة الحاكمة في "مأرب". وجعل "يرم أيمن" من المعصرين لـ"مرثد يهقبض"، وهو من "جرت" "كرت" "كرأت" ولـ"مرثدم" "مرثد" الذي ذكر بعد "نبط يهنعم" آخر ملوك قتبان، كما جعله من المعاصرين للملك "يدع إيل بين" من ملوك حضرموت. وجعل حكم "يرم أيمن" فيما بين السنة "130" والسنة "140" بعد الميلاد3.
وقد نشر "جامه" نصًّا وسمه بـJamme 565, جاء فيه: أن جماعة من "بني جدنم" "جدن" قدموا إلى الإله "المقه بعل أوَّام" نذرًا تمثالًا "صلمن"
__________
1 Abessi., S. 70, ZDMG.,XXXIII, 485
2 Wien 669,REP. EPIG., 4190, VII,I, P.131, SE 8, Le Museon, 1967, 1-2, P.282
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.498(4/12)
لأنه منّ عليهم بالعافية ووفقهم في الغارة التي أسهموا فيها بأمر سيديهما ملكي سبأ: يرم أيمن, وأخيه كرب إيل وتر؛ ولأنه بارك لهما ومنحهما السعادة بإرضاء مليكهما1, وقصد بلفظة "واخيهو" حليفه؛ لأنهما متآخيان بتحالفهما. ويلاحظ أن هذا النص قد قدم اسم "يرم أيمن" على اسم الملك "كرب إيل وتر" مع أن هذا هو ملك سبأ الأصيل، ولقب "يرم أيمن" بلقب ملك، أي: إنه أشركه مع الملك "كرب إيل" في الحكم، وفي هذا دلالة على أن "يرم أيمن" كان قد أعلن نفسه ملكًا على سبأ ولقب نفسه بألقاب الملوك, وأن الملك الأصلي اعترف به, طوعًا واختيارًا أو كرهًا واضطرارًا، فصرنا نجد اسمي ملكين يحملان هذا اللقب: لقب "ملك سبأ" في وقت واحد.
وقد ورد اسم "يرم أيمن" في النص الموسوم بـCIH 328, وقد لقب فيه بلقب "ملك سبأ"؛ إلا أن النص لم يذكر اسم ملك سبأ الأصيل الذي كان يحكم إذ ذاك2, وقد ذكر في هذا النص اسم الإله "تألب ريام"، وهو إله همدان، ولم يذكر معه اسم أي إله آخر. ولما كان صاحب النص همدانيًّا، وقد كان "يرم أيمن" ملك همدان وسيدها، لم يذكر اسم ملك سبأ ولم يشر إليه، واكتفى بذكر ملكه فقط.
هذا, وليس في استطاعتنا تثبيت الزمن الذي لقب فيه "يرم أيمن" نفسه بلقب "ملك سبأ", فقد رأينا قيلًا في أيام الملك "وهب إيل يحز" ورأينا صلاته به لم تكن على ما يرام في بادئ الأمر، وأنه كان يتمنى لو أن الإله "المقه" أسعده بالتوفيق بين ملكه وبينه، ثم لا ندري ما الذي حدث بينهما بعد ذلك. ولكن الظاهر أن طموح "يرم أيمن" دفعه إلى العمل في توسيع رقعة سلطانه وفي تقوية مركزه، حتى نجح في مسعاه، ولا سيما في عهد "كرب إيل وتر يهنعم"، فلقب نفسه بلقب "ملك"، وأخذ ينقش لقبه هذا في الكتابات، وصار يحمل اللقب الرسمي الذي يحمله ملوك سبأ الشرعيون حتى وفاته.
وقد عرفنا من الكتابات اسمي ابنين من أبناء الملك "يرم أيمن"، هما:
__________
1 Jamme 565, Mamb 266, Mahram P.47
2 Mahram, P.288(4/13)
"علهان نهفان"، و"برج يهرجب" "برج يهرحب" "بارج يهرحب"1, "برج يهأمن"2. أما "علهان نفهان" فهو الذي تولى الملك بعد أبيه, وقد لقب بـ"ملك سبأ"، وعاصر "كرب إيل وتر يهنعم" وابنه "فرعم ينهب".
وقد ذكر "نشوان بن سعيد الحميري" أن "علهان اسم ملك من ملوك حمير، وهو علهان بن ذي بتع بن يحضب بن الصوار، وهو الكاتب هو وأخوه نهفان لأهل اليمن إلى يوسف بن يعقوب -عليهما السلام- بمصر في الميرة, لما انقطع الطعام عن أهل اليمن"3, ففرق "نشوان" بين "علهان" و"نهفان"، وظن أنهما اسمان لشقيقين. وقد دون "الهمداني" صور نصوص ذكر أنه نقلها من المسند، وفرق فيها أيضا بين "علهان" و"نهفان"، فذكر مثلًا أنه وجد "في مسند بصنعاء على حجارة نقلت من قصور حمير وهمدان: علهان ونهفان، ابنا بتع بن همدان"4، و"علهن ونهفن ابنا بتع بن همدان صحح حصن وقصر حدقان.."5. فعد "علهان" اسمًا، و"نهفان" اسم شقيقه. وقد ذكر الاسم صحيحًا في موضع، ولكنه عاد فعلق عليه بقوله: "وإنما قالوا علهان نهفان، فجعلوه اسمًا واحدًا؛ لما سمعوه فيهما من قول تبع بن أسعد:
وشمر يرعش خير الملوك ... وعلهان نهفان قد أذكر
وإنما أراد أن يعرف واحدًا بالثاني، فلما لم يمكنه أن يقول: العلهانان, قال: علهان نهفان"6.
ويلاحظ أن قراءة "الهمداني" للسند الأول، هي قراءة قُرِئت وفق عربيتنا، فجعل "علهن" "علهان" و"نهفن" "نهفان" و"همدن" "همدان"، أما قراءته للمسند الثاني، فهي على نحو ما دوّن في المسند، وذلك بالنسبة إلى
__________
1 "علهن نهفن" في الكتابات.
2 Le Museon, 1967, 1-2, P.281.
3 منتخبات "ص75".
4 الإكليل "10/ 15".
5 الإكليل "10/ 16".
6 الإكليل "10/ 33"، "حب الملوك" "2/ 389".(4/14)
الأعلام، فإن المسند لا يكتب "علهان" بل يكتبه "علهن"، وهكذا بقية الأسماء.
ونسب "نشوان بن سعيد الحميري" هذا البيت إلى "أسعد تبع"، وعلق على اسم "علهان نهفان" بقوله: "أراد علهان ونهفان فحذف الوأو "1. فـ"علهان نهفان" إذن اسما رجلين على رأي هذين العالمين، وعلى رأي عدد آخر من العلماء مثل "محمد بن أحمد الأوساني" أحد من أخذ "الهمداني" علمه منهم, وهو في الواقع اسم واحد لرجل واحد. ولا أدري كيف أضاف "الهمداني" و"الأوساني" وغيرهما ممن كان يذكر أنه كان يقرأ في المسند حرف "الوأو" بين "علهان نهفان"، فصيروه "علهان" و"نهفان"، وجعلوهما اسمين لشقيقين2.
وقد أدى سوء فهم أهل الأخبار لقراءاتهم للمساند إلى اختراع والد للأخوين "علهان" و"نهفان"، أو لـ"علهان نهفان" بتعبير أصح، فصيروه "بتع بن زيد بن عمرو بن همدان"3، أو "ذا بتع بن يحضب بن الصوَّار"4. وعرف "نشوان" "ذا بتع" بأنه "ذو بتع الأكبر"، وهو ملك من ملوك حمير، واسمه نوف بن يحضب بن الصوار، من ولده ذو بتع الأصغر زوج بلقيس بنة الهدهاد ملكة سبأ5 وصيروه "تبعًا"، فقالوا: "علهان نهفان ابنا تبع بن همدان"6. ويظهر أن النساخ قد وقعوا في حيرة في كيفية كتابة اسم والد "علهان"، فكتبوه "بتعًا"، وكتبوه "تبعًا", وكلا الاسمين معروف شهير، فوقعوا من ثم في الوهم.
وأما اسم الوالد الشرعي الصحيح فهو "يرم أيمن"، كما ذكرت، وأما الاسم المخترع، فقد جاءوا به من عندهم بسبب عدم فهمهم لقراءة نصوص المسند. فقد وردت في النصوص جملة "علهن نهفن بن بتع وهمدان"7،
__________
1 منتخبات "ص75".
2 الإكليل "8/ 83".
3 الإكليل "10/ 11، 13".
4 منتخبات "ص75، 105".
5 منتخبات "ص5".
6 الإكليل "8/ 42، 83" "طبعة نبيه"، "8/ 51، 103" "الكرملي".
7 المختصر "ص26"، Glaser 16, Louvre 10, CIH, IV, I, I, P. 8.(4/15)
فظن قراء المساند من أشياخ "الهمداني" وأمثالهم "ممن كانوا يحسنون قراءة الحروف والكلمات، إلا أنهم لم يكونوا يفهمون معاني الألفاظ والجمل في الغالب" أن لفظة "بن" تعني هنا "ابن"، فقالوا: إن اسم والد "علهان نهفان" أو "علهان" و"نهفان" على زعمهم إذن هو "بتع". على حين أن الصحيح، أن "بن" هي حرف جر يقابل "من" في عربيتنا، ويكون تفسير النص: "علهان نهفان من بتع وهمدان" و"بتع" اسم قبيلة من القبائل المعروفة المشهورة.
وأما "بتع" فقد ذكرت أن النساخ هم الذين أخطئوا في تدوين الاسم، وأن "الهمداني" وغيره كانوا قد كتبوه "بتعًا"، لا "تبعًا". ولكن النساخ أخطئوا في الكتابة، فكتبوا اسم "بتع" "تبعًا" على نحو ما شرحت.
وورد في النص الموسوم بـGlaser 865 اسم "علهان نهفان", وقد رأيت نقله هنا؛ لأن في ذلك فائدة في شرح اسم أبيه1. فقد ورد فيه: "علهن نهفن بن همدن بن يرم أيمن ملك سبأ"، أي: "علهان نهفان من همدان ابن يرم أيمن ملك سبأ". فأنت ترى أن لفظة "بن" المكتوبة قبل "همدن"، أي "همدان" هي حرف جر, أما "بن" الثانية المذكوة قبل "يرم أيمن" فإنها بمعنى "ابن"، فصارت الأولى تعني أن "علهان نهفان" هو من قبيلة همدان، وأما أبوه، فهو "يرم أيمن ملك سبأ"، ولعدم وقوف أولئك العلماء على قواعد العربيات الجنوبية، لم يفهموا النص على حقيقته.
وقد ورد اسم "علهان نهفان" في كتابة وسمها العلماء بـGlaser 16، وصاحبها رجل من "يدم" "آل يدوم" اسمه "هعَّان أشوع"، ذكر أنه قدم هو وأبناؤه إلى الإله "تألب ريمم بعل ترعت" تمثالًا؛ وذلك لخيره ولعافيته ولعافية أولاده، ولأنه أعطاهم كل أمانيهم وطلباتهم، ولأنه خلصهم ونجاهم في كل غزوة غزوها لمساعدة "مراهمو علهن نهفن بن بتع وهمدان"، أي لمساعدة سيدهم وأميرهم: علهان نهفان من "بتع" من قبيلة همدان، وليمنحهم غلة وافرة وأثمارًا كثيرة، وليمنحهم أيضًا رضا أربابهم آل همدان وشعبهم حاشد "حشدم"، وليهلك وليكسر وليصرع كل عدو لهم وشانئ
__________
1 Glaser 865, Berlin 2679, CIH 312, IV, I, IV, P.337(4/16)
ومؤذٍ1. ولم يلقب صاحب هذا النص "علهان" بلقب "ملك"، وإنما استعمل لفظة "مراهمو" "مرأهمو"، أي: أميرهم أو سيدهم، ويظهر لي في هذا الاستعمال أن هذا النص قد كتب قبل انتقال العرش إلى "علهان" من أبيه؛ ولهذا أغفل اللقب.
ووجد اسم "علهان نهفان" واسم ابنه "شعرم أوتر" في كتابة دوَّنها "حيوم يشعر" "حيو يشعر"، وأخوه "كعدان"؛ وذلك لمناسبة بنائهم أسوار بيتهم: "وترن" "وتران"، ولم يشر النص إلى هوية هذا البيت، أهو بيت للسكنى، أم بيت للعبادة اسمه "بيت وترن"، أي: معبد وترن، خصصوه بعبادة الإله "عثتر" الذي ذكر اسمه في آخر النص2.
وتعد النصوص الموسومة بـ CIH2 وCIH 296 وCIH 305 وCIH 312 من النصوص المدونة في أيام "علهان" حين كان قيلًا؛ ولذلك ورد فيها اسمه دون أن تلحق به جملة "ملك سبأ". أما النصوص الأخرى، فقد كتبت في الأيام التي نصب فيها نفسه ملكًا على سبأ, ولقب نفسه باللقب المذكور منافسًا ملك سبأ الحاكم في مأرب في حكمه، مدعيًا على الأقل أنه ملك مثله.
وليس في استطاعتنا التحدث عن الزمن الذي تلقب فيه "علهان نهفان" بلقب "ملك"؛ فلا ندري أكان قد لقب نفسه به حين وفاة والده مباشرة، أم بعد ذلك؟ فإذا كان الظن الأول, تكون الكتابات المذكورة قد دونت في أيام أبيه، وإذا كان الثاني تكون هذه الكتابات قد دونت في عهد لم يكن "علهان" تمكن فيه من حمل هذا اللقب لسبب لا نعرفه، قد يكون تخاصم الأسرة على الإرث، وقد يكون ضعف "علهان" في ذلك الوقت، وخوفه من ملك سبأ الذي كان أقوى منه.
ولا ندري كذلك متى أشرك "علهان" ابنه "شعرم أوتر" "شعر أوتر" معه في الحكم، إذ حصل المنقبون والسياح على كتابات سبئية لقب فيها "علهان" وابنه "شعرم أوتر" بلقب "ملك سبأ" و"ملكي سبا"3.
__________
1 المختصر "ص26 وما بعدها".
Glaser, 16, Louvre 10, CIH 2, IV, I, I, P.7.
2 نشر "ص43 وما بعدها".
3 CIH 155, CIH 289, 308, 308 BIS, 401, 693, REP. EPIG., 4216, MAHRAM, P.290.(4/17)
وفي هذه الجمل دلالة على أن "شعر أوتر" كان يشارك أباه في لقبه في أيامه، وأنه أسهم معه في إدارة الملك. وأغلب الظن أنه أشركه معه في الحكم لحاجته إليه في تثبيت ملكه في وضع سياسي قلق، إذ كانت الثورات والحروب منتشرة، وكان حكام سبأ وحضرموت وحمير والحبش يخاصم بعضهم بعضًا، فرأى "علهان" إشراك ابنه معه في الحكم وتدريبه على الإدارة, وبقي على ذلك حتى وفاة "علهان" وعندئذٍ صار الملك له وحده، فلقب نفسه بلقب "ملك سبأ".
لقد كان لا بد لـ"علهان نهفان" من السعي في عقد معاهدات ومحالفات مع الحكومات والقبائل؛ لتثبيت الملك الذي ورثه من أبيه، ولا سيما مع الحكومات المناوئة والمنافسة لحكومة "مأرب". ونجد في كتابة همدانية تضرعًا إلى الإله "تألب ريام" ليوفق "علهان نهفان" في مسعاه بالاتفاق مع ملك حضرموت لعقد معاهدة إخاء ومودة، حتى "يتآخيا تآخيًا تامًّا"، وذلك في المفاوضات التي كانت تجري بينهما في موضع "ذت غيل" "ذات غيل"1.
وقد نجحت مفاوضات "علهان" مع ملك حضرموت "يدع أب غيلان" في التآخي معه، وفي عقد معاهدة صداقة بينهما، وأفاد من ذلك فائدة كبيرة، إذ أصبحت هذه المملكة التي تقع في جنوب سبأ وفي جنوب الريدانيين والمتصلة اتصالًا مباشرًا بالحميريين في جانبه، فإذا لم تقم حضرموت بأي عمل حربي ضد أعداء علهان، فإن مجرد وقوفها إلى جانبه يفيده فائدة كبيرة، إذ يفزع ذلك أعداءه، ويضطرهم إلى تخصيص جزء من قواتهم العسكرية للمحافظة على حدودهم مع حضرموت؛ خوفًا من هجومها عليهم عند سنوح الفرص2.
وكان فرح "علهان" بنجاح مفاوضاته مع ملك حضرموت، واتفاقه معه كبيرًا، وقد نجح فعلًا في عقد ذلك الحلف، فنراه يحارب الحميريين ويهاجمهم، يؤيده في ذلك ملك حضرموت "يدع أب غيلان"؛ لقد هاجمهم من الشمال،
__________
1 اسم الملك "يدع ال" "يدع إيل" في النص الذي نشره يحيى نامي في كتابه: نشر "ص30"، أما في النصوص الأخرى، فكان اسم ملك حضرموت المتحالف مع "علهان" "يدع أب غيلان"، "بذت غليم"، "بذ غليم" "بذت غيل" "بذغيل", Le Museon, 1964, 3-4, P.466
2 CIH 155, 308, Nami 71-73, Beitrage, S. 113, Le Museon, 1964, 3-4, P.468(4/18)
وهاجمهم الحضارمة من الشرق، فانتصر على الحميريين في "ذت عرمن" "ذات عرمن" "ذات العرم"، وهو موضع يظهر أنه قريب من "ذات العرم"، وربما كان هو نفسه1؛ وهكذا حصل "علهان" على ثمرة شهية من هذا الحلف. وقد كان الحميريون من المقاتلين المعروفين ومن المغيرين على غيرهم، فانتصار "علهان" عليهم هو ذو مغزى عظيم.
ويظهر أن "يدع أب غيلان" ملك حضرموت لم يُعمَّر طويلًا؛ لأننا نقرأ في أحد النصوص أن أحد الهمدانيين كان يتوسل إلى الإله "تألب ريام" أن يمن عليه بعقد حلف بين "علهان" ملك سبأ و"يدع إيل" ملك حضرموت. ويظن أن الملك "يدع إيل" هذا، هو الملك "يدع إيل بين"، وهو ابن "يدع أب غيلان"، الذي هو ابن "أمينم" "أمين" كما جاء ذلك في النص الموسوم2 بـREP. EPIG. 4698. وإذا أخذنا بما جاء في النص المنشور في كتاب "نشر نقوش سامية قديمة"، وهو النص المرقم بـ"19"، فإننا نستنتج منه أن الملك "يدع أب غيلان"، كان قد توفي في أيام "علهان نهفان", وأن الملك "علهان نهفان" صار يرجو عقد حلف مع ابنه "يدع إيل" الذي ولي في أواخر أيام حكم "علهان" على ما يظهر؛ ولذلك توسل صاحب النص أو أصحابه إلى الإله "تألب ريام" رب همدان, أن يساعده على عقد ذلك الحلف.
وحوَّل "علهان نهفان" أنظاره نحو الحبشة أيضًا لعقد معاهدة معها، وقد أشار إلى هذا في كتابة ملكية سجلها هو وابناه "شعرم أوتر" و"يرم أيمن" ونعت كل واحد منهما في هذه الكتابة بـ"ملك سبأ".
وقد جاء في مقدمتها أنه هو وابنيه قدموا إلى "تألب ريام بعل ترعت" ثلاثين تمثالًا من الذهب، وفضةً لإصلاح حرم الإله في معبده "يهجل"، وأصلحوا إصلاحات كثيرة في فنائه وفي أملاكه؛ لأنه أجاب طلباتهم ومنَّ عليهم، ولأنه وفقه في عقد تحالف مع "جدرت" "جدروت" ملك "نجاشي"
__________
1 Abessi., S. 103, 105, CIH 155, IV, I, III, P.216, Mordtmann, Himjarsche Ins- chriften, S. 18, Winckler, Die Sabi Insche. Der Zeit Alhan's, S. II
2 نشر، النص رقم 19، SE 49, Mahram, p. 305(4/19)
الحبشة، ولأنه وفق الوفد الذي قام بالمفاوضات، فتمكن من تنظيم اتفاقية بين الطرفين حتمت عليهما التعاون في أيام السلم والحرب؛ لرد كل اعتداء يقع على الطرفين، ومحاربة كل عدو يريد سوءًا بأحدهما.
وأشير أيضا إلى اسمي "سلحين" و"زررن" "زراران" "زريران"، وقد كانا متحالفين مع "جدرت"، فشملهما بذلك هذا الحلف1.
وقد ورد اسم "علهان نهفان" في كتابات أخرى، ناقصة ويا للأسف، وقد سقطت منها كلمات في مواضع متعددة فأضاعت علينا المعنى. وقد أشير فيها إلى جيوش "علهان" وأعرابها، كما أشير إلى "ردمان" و"مذحيم" و"قتبان" وإلى أقيال وسادات قبائل ملك الحبشة2، وإلى "ذي ريدان"، وإلى أعراب ملك حضرموت3. ويرى "فون وزمن" أن في ذكر أقيال وسادات قبائل ملك "حبشت" الحبشة في هذه الكتابات دلالة على أن الحبش لم يكونوا يمتلكون أرض Kinaidokolttitai، أي: ساحل الحجاز من ينبع ثم ساحل عسير فقط، بل كانوا يمتلكون أيضا الساحل المسيطر على مضيق باب المندب، وقد كان ملكهم إذا ذاك هو الملك "جدرت" "جدرة" المذكور4.
ويرى "فون وزمن" أن الحلف الذي عقد بين "علهان" وملك الحبشة، عقد بعد الحرب التي شنها "علهان" ومن ساعده فيها، وهم ملك حضرموت وملك الحبشة ضد "حمير". وقد كان ابنه "شعرم أوتر" "شعر أوتر" يشارك أباه في الحكم إذ ذاك؛ ولهذا ذكر في الكتابة5. وقد فرض "شعر أوتر" سلطانه على حمير وأخضعها لها، وذلك في أوائل أيام حكمه. أما الحبش، فكانوا يمتلكون الأرضين التي ذكرتها وأرض قبيلة "أشعرن" أي: "الأشعر"6.
__________
1 المختصر "ص25"،
CIH 308, 308 BIS, MULLER, EPIGRAPHISCHE DENKMALER AUS ABESSINIEN, S. 73, D. H. MULLER, SUDARABISC ALTERTHUMER IM KUNSTHISTORISCHEN HOFMUSEUM, S. 4, 1899
2 نشر "ص92 وما بعدها".
3 نشر "ص92 وما بعدها"، Le Museon, 1964, 3-4, Pp.470
4 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.471
5 CIH 308, A
6 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.471(4/20)
وقد حمد "علهان نهفان" وابناه الإله "تألب ريام" أيضًا؛ لأنه نصرهم وساعدهم في الحرب التي وقعت بينهم وبين "عم أنس بن سنحن" "عمى أنس بن سنحان"، وبينهم وبين قبيلة "خولان". وقد توسط أمير اسمه "شابت بن عليان" "شبت بن علين"، أو من "آل عليان" بين "عمى أنس" و"خولان" والريدانيين لتكوين جبهة واحدة قوية في محاربة "علهان" وقد انضمت إليها قبائل معادية للهمدانيين، واشتبكوا مع جيش "علهان" غير أن الإله "تألب ربام" -كما يقول "علهان"- نصره على أعدائه، فانهزموا وهزم الذين من "حقلان" "الحقل"، ويظهر أنهم كانوا قد حاربوا "علهان" أيضا، وخربت حقولهم، وعندئذٍ جاءوا إلى "علهان" طائعين، وندموا على ما فعلوا، ووضعوا رهائن عنده، هم: "أشمس بن ريام", أو من "ريام" "آل ريام" و"حارث بن يدم" "حرث بن يدم1".
لقد كان حكم "علهان نهفان" في حدود سنة "135ق. م." على تقدير "فلبي"2، أو في النصف الأول من القرن الأخير قبل الميلاد على رأي آخرين3, وفي حوالي السنة "60ق. م" على رأي "ألبرايت"4، وفي حوالي السنة "160" بعد الميلاد على رأي "فون وزمن"5, وفي حوالي السنة "85" قبل الميلاد على تقدير "جامه"، أما نهاية حكمه فكانت في حوالي السنة "65" على تقديره أيضًا6.
وقد جعل "كروهمن" حكم "شعر أوتر" في حوالي السنة "50" أو "60" بعد الميلاد7. ومعنى هذا أن حكم أبيه "علهان" يجب أن يكون بعد الميلاد؛ ليتناسب مع الحكم الذي وضعه "كروهمن" لابنه.
وقد عثر علماء العربيات الجنوبية على عدد من الكتابات ورد فيها اسم "شعرم أوتر"، لُقِّب في بعضها بـ"ملك سبأ"، ولقب في بعض آخر بـ"ملك
__________
1 المختصر "ص25"، Abessl, S. 46.
2 BACKGROUND, P.142.
3 BEITRAGE, S. 113.
4 BOASOOR, NUM. 119, 1950, P.9.
5 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498.
6 MAHRAM, PP.390.
7 ARABIEN, S. 28.(4/21)
سبأ وذي ريدان"، ومعنى هذا أنها أحدث عهدًا من الكتابات الأولى، وأن "شعر أوتر" كان قد بدأ عهد حكمه حاملًا لقب "ملك سبأ"، وهو اللقب الذي تلقب به منذ أيام أبيه، ثم غيَّره بعد ذلك بأن أضاف إليه جملة هي: "وذي ريدان"، فصار لقبه في الدور الثاني من حكمه: "ملك سبأ وذي ريدان"1.
غير أن لدى الباحثين في العربيات الجنوبية نصًّا وسموه بـGlaser 1371 لقب فيه كل من "علهان نهفان" و"شعر أوتر" ابنه بلقب "ملك سبأ وذي ريدان". ومعنى هذا أن لقب "ملك سبأ وذي ريدان" نفسه كان قد ظهر في أيام "علهان" لا في أيام ابنه، وأن "علهان" نفسه كان قد تلقب به مع ابنه في أواخر أيام حكمه. وهناك من الباحثين من يشك في صحة النص، ويرى أن كاتب النص كان هو الذي وضع هذا اللقب، سهوًا أو تعمدًا، وأن "علهان" لم يحمل هذا اللقب, وأن ابنه هو الذي حمله. ومهما يكن من شيء, فإن النص المذكور هو النص الوحيد الذي نملكه، لقب فيه "علهان" على هذا النحو2.
ومن الكتابات التي يجب أن نضيفها إلى أوائل أيام "شعرم أوتر" "شاعر أوتر" كتابة عثرت عليها بعثة "وندل فيلبس"، وقد نشرها "الدكتور خليل يحيى نامي" في "مجلة كلية الآداب" بجامعة القاهرة3. وقد بدأت بجملة: "شعرم أوتر ملك سبا بن علهن نهفن ملك سبا"، أي "شعر أوتر ملك سبأ ابن علهان نهفان ملك سبأ"4. ولتلقيب "شعر أوتر" فيها بـ"ملك سبأ" فقط دون ذكر "ذي ريدان" يجب إرجاعها إلى الأيام الأولى من حكمه. وقد ذكر "شعر أوتر" فيها أنه قدم إلى الإله "المقه بعل أوام" صنمًا "صلم" تقربًا إليه، وتحدث عن حرب وقعت في موضع يسمى "تعمتن" وعن رجل اسمه "سعد تألب" وعن رجل آخر اسمه "حيوم بن غثريان" "حيم بن غثر بن"، وذكر أن الحرب كانت قد وقعت في شهر "ذالت الت ذخرف
__________
1 Abessi., S. 83, Sab. Inschr., S. 279, Mahram, P.295.
2 Mahram, P.295, M. Hofner, Die Sammlung, Eduard Glaser, Wien, 1944, S. 50, Le Museon, 1-2, 1967, Pp.271.
3 مجلة كلية الآداب، المجلد الثاني والعشرون، العدد الثاني سنة 1960، مطبعة جامعة القاهرة سنة 1965 "ص53".
4 راجع النقش رقم 12.(4/22)
وددال بن حيوم بن كبر خلل خمسن"1، أي: في شهر "ذي إلالات من السنة الخامسة من حكم وددايل بن حيوم بن كبير خليل"، ثم ذكر بعض الشهور التي وقع فيها القتال. والظاهر أنها قد كانت قد انتهت في مصلحته، وأن القائد الذي أمره بمحاربة عدوه كان قد انتصر عليه؛ لذلك تقدم إلى الإله "المقه بعل أوام" بنذره، وهو الصنم المذكور. وقد لقب "شعرم أوتر" نفسه في موضع من النص بـ"شعرم أوتر ملك سبا وبيتن سلحن وغمدن وأدمهوسبا وفيشن"2، أي: شعر أوتر ملك سبأ وبيت سلحين وغمدان, وعبيده "سبأ وفيشان". وذكر البيتين أي: القصرين "سلحين" و"غمدان"، هو كناية عن الملك, و"سلحين" هو قصر الملوك ومستقرهم في مأرب، و"غمدان" هو قصرهم ومقرهم في صنعاء. وقد أخذت صنعاء تنافس مأرب منذ هذا الزمن حتى حلت محلها في الأخير.
وقد جاءت في النص جملة: "كما أمر المقه أن يحارب حيوم حتى حريب"3. و"حريب" هي مدينة مشهورة ووادٍ بين بيحان ومأرب4, وهي من مواضع حمير, فالحرب يجب أن تكون قد تناولت أرض حمير. وقد كان الحميريون في هذا الزمن يحاربون السبئيين.
ولدينا نص وسمه العلماء4 بـCIH 33، وهو نص مهم من الوجهة التأريخية يتحدث عن حرب أعلنها "شعرم أوتر ملك سبأ وذي ريدان" "شعر أوتر ملك سبأ وذي ريدان" على "العز يلط" ملك حضرموت, ولم يذكر لقب "العز" فيه. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه "العز يلط" "العذ يلط" ابن الملك "عمذخر" "عم ذخر"5. وقد انضم إلى الحضارمة عدد من القبائل والجنود المرتزقة، ويذكر النص أن الهمدانيين أتباع "شعرم أوتر" تغلبوا على جيوش حضرموت، فانتصرت عليها في موضع "ذت غيلم" "ذات غيل" "ذت غربم" "ذات غراب"، "ذت غ. رم"6. وبعد هذا النصر عيّن
__________
1 السطران السادس والسابع من النص.
2 السطران: 21 و22 من النص.
3 المصدر المذكور "ص57"، والسطر "25" من النص.
4 المصدر المذكور "ص60".
5 Beitrage, S. 113
6 Glaser 825, Berlin 2672, Cih, 334, Iv, I, Iv, P.377, Mahram, P.300.(4/23)
"شعرم أوتر" أحد رجاله، ويدعى "سعدم أحرس بن غضبم" "سعد أحرس بن غضب" قائدًا حارسًا للحدود. وقد أغار "سعد" هذا بقوة مؤلفة من مائتي محارب من قبيلة "حملان" من المخلصين للملك على أرض "ردمان" فأنزلت بها أضرارًا فادحة، ووقعت معارك دموية هلك فيها خلق من الردمانيين. ووصل "شعرم أوتر" نفسه بجيوشه إلى موضع سقطت حروفه الأولى من اسمه وبقي حرفان منه، وهما " ... وت"؛ لذلك يرى "كلاسر" أنهما بقية اسم عاصمة حضرموت مدينة "شبوت" "شبوة"1، أو "موت" على رأي غيره2، ووصل "شعرم" إلى موضع آخر اسمه "صوارن" "صواران" "صوأرن" "صوارن"3. وقد عاد "سعد أحرس" بغنائم كثيرة من حروبه هذه وغزواته، شاكرًا الإله "تألب ريام بعل ترعت"، أن نصره وعافاه وشفاه من جروحه في غزوته المذكورة4.
ويظهر أن "صوأرن" هي "صوران" التي ذكرها "الهمداني"، وتعرف اليوم بـ"العادية" وهي في حضرموت في "وادي الكسر"5. ويظهر من ذلك أن جيش "شعرم أوتر" قد وصل إلى قلب حضرموت.
ويرى "كلاسر" أن "شعرم أوتر" كان قد استطاع أن ينتصر على بعض قبائل حمير فانضمت إليه، على حين كانت القبائل الحميرية الأخرى منحازة إلى خصمه "الشرح يحضب"، وأن هذا النزاع الذي أدى إلى نشوب الحرب بينه وبين ملك حضرموت كان بسبب تنافسهما في اقتسام تركة "قتبان". وقد تحارب "شعرم" عند "يريم"، حيث كان خصمه "الشرح يحضب" أو الحضرميون قد هاجموا هذه الجبهة، على حين قام قائده "سعد" بالهجوم على ردمان الذين أرادوا اكتساب الفرص بالمباغتة للحصول على غنائم، فهاجمهم "سعد" وكبدهم خسائر فادحة6.
__________
1 Abessi., S. 109, Glaser 424
2 CIH, IV, I, IV, P.377
3 CIH IV, I, Iv, P.377
4 Mordtmann, Himjarische, S. I, M. Hartmann, In Zeitschrift Fur Assyriologle, X, 1895, S. 152, Winckler, Die Sab. Inschr. Der Zelt Alhan Nahfan's, S. 17
5 Beitrage, S. 124
6 Abessin., S. 110, Beitrage, S. 113(4/24)
ويظهر من دراسة النص المتقدم أن الملك "شعر أوتر" كان قد وجه جيشًا مؤلفًا من سبئيين ومن حميريين ومن قبائل أخرى إلى أرض حضرموت للقضاء على جيشها والاستيلاء عليها ولا سيما القسم الشرقي, إقليم "ظفار". واستطاع جيشه أن ينزل خسائر كبيرة بقوات "العز" المرتزقة وبجيشه النظامي الذي كان يحارب خارج حضرموت؛ بدليل ورود اسم موضع "ذت غيلم" في النص. وموضع "ذت غيلم"، أي "ذات غيل" الذي نشبت فيه معركة بين الجيشين، هو مكان في أرض قتبان، وفي "وادي بيحان". ثم عاد فأنزل بجيش حضرموت خسارة أخرى، وذلك حين أراد جيش "العز" مباغتة جيش "شعر أوتر" وهو في معسكره، ولكن يقظة صاحب النص الذي كان يحرس الملك وجيشه وهو على رأس قوة مؤلفة من مائتي محارب من حملان، أفسدت خطة الهجوم، واضطر جيش "العز" إلى التراجع، فتعقبه صاحب النص ومحاربوه، ولكنه فُوجئ بهجوم "الردمانيين" محاولين مباغتة الجيش من المؤخرة، فاشتبك معهم فأصيب بجرح في أثناء القتال، ولكنه تمكن مع ذلك من صد المهاجمين, ومن الرجوع سالمًا إلى منزله معافًى؛ ولذلك قدم إلى إلهه الحمد والشكر؛ لأنه عافاه ونجاه ونصره1.
وقبل عودة صاحب النص إلى وطنه سالمًا، كان قد رافق ملكه في حملته على بقية الأرضين التابعة لحكم الملك "العز"، فذكر أنه رافقه في حملته على مدينتي " ... وت" و"صوارن"، وقد تمكن جيش الملك "شعر أوتر" من الانتصار على الحضارمة في هذين المكانين. وقد قرأ بعض الباحثين اسم المدينة الأولى "شبوت"، وقرأها بعض آخر "رسوت"، وزعموا أنها "ريسوت"، وهي مدينة معروفة في الجنوب الشرقي من حضرموت. وأما "صوأرن" "صواران" فهي على مسافة "115" كيلومترًا إلى الشرق من شبوة2.
وقد تمكن جيش الملك "شعر أوتر" من الانتصار على جيش "العز" ومن الاستيلاء على العاصمة "شبوت" "شبوة". ونجد خبر هذا النصر في النصين الموسومين بـJamme 636 وJamme 637، وفي نصوص أخرى3. والنص
__________
1 Mahram, P.300.
2 Mahram, P.301.
3 A. Fakhry 75, 102.(4/25)
الأول يحدثنا بأن صاحبه, وقد سقط اسمه منه بسبب تلف أصاب مقدمته، قد حمد ربه "المقه" وشكره؛ إذ مَنَّ عليه وأغدق نعمه عليه وهو في حضرموت مع جيش سيده وملكه "شعر أوتر" "ملك سبأ وذي ريدان"، الذي حارب حضرموت واستولى على "شبوة" التي لم تمتثل أوامر الملك وقاومته، ولأنه أي: ربه "المقه" نصر ملكه ووفقه في هذه الحرب فعاد سالمًا ظافرًا إلى المدينة "مأرب" بالأسلاب والغنائم من ماشية وأموال وأسرى، مما سرَّ الملك ورعيته، ولأنه من عليه فرزقه أولادًا ذكورًا1.
وأما النص الثاني، وهو النص Jamme 637، فقد حمد صاحبه ربه "المقه" إذ وفقه ومن عليه فحصل على غنائم من مدينة "شبوة" التي قاومت الملك "شعر أوتر" فاكتسحها، فقدم لمعبده: "معبد أوَّام" تمثالًا تعبيرًا عن شكره له واعترافًا بمننه عليه2. فيظهر منه أن هذا الرجل، واسمه "ظبنم أثقف بن حلحلم"، كان نفسه في جملة من دخل مدينة شبوة من جيش "شعر أوتر"، فحصل على أسلاب وغنائم جعلته يحمد إلهه عليها ويشكره, ويقدم إليه ذلك التمثال تعبيرًا عن تقربه إليه.
وعثر المنقبون على نص مهم آخر رقم بـJamme 632، يفيد أن جيش "شعر أوتر" استولى على "شبوة" وعلى مدينة "قنا" ميناء حضرموت الرئيسي في ذلك العهد، وأن صاحبي النص "حمعثت أرسف بن رابم" و"مهقبم بن وزعان"، وهما بدرجة "مقتوى"، أي: درجة قادة الجيش الكبار، في جيش "أسدم أسعد"3، الذي هو من بني "سأرن" "سأران" و"محيلم", كانا قد تقربا إلى الإله "المقه ثهوان" بأربعة تماثيل وثور، وضعوها في معبده المخصص لعبادته المسمى "معبد أوام"؛ تعبيرًا عن حمدهما وشكرهما له، إذ من عليهما وأسبغ عليهما نعمه، وأفاض عليهما الغنائم والأموال وأعاد سيدهما ورئيسهما "أسد أسعد" من بني "سأران" سالما غانما من كل المعارك التي خاضها في سبيل سيده الملك "شعر أوتر" "ملك سبأ وذي ريدان" يصحب
__________
1 Jamme 636, Mamb 245, Mahram P.139.
2 Jamme 637, Mamb 60, Mahram P.139.
3 "أسد أسعد".(4/26)
الغنائم والأموال والماشية، ولأنه أغدق عليهما أيضًا الغنائم الوافرة التي سرت خاطرهما, وقد حصلا عليها في جملة ما حصلوا عليه من "شبوة" ومن مدينة "قنا"، وقد سألا الإله "المقه" أن يديم بركته عليهما وعلى سيدهما "أسد أسعد"، وأن يبعد عنهم شر الأعداء1.
وفي النص الموسوم بـJamme 741 وبـJamme 756، أن شخصًا اسمه "هيثع بن كلب ذكرم" السبئي، وهو من عبيد "آل نعم برل" و"آل حبت" "آل حبة"، كان قد نذر نذرًا للإله "المقه ثهوان"، بأن يقدم له تمثالين بعضهما في معبده "أوام"، إذا مَنَّ عليه ووفقه وأعاده سالمًا من "شبوة" ومن البحر. فلما أجاب دعاءه فأعاده سالمًا معافًى، قدم النذر ووضعه في ذلك المعبد، وقد سأل ربه أن يديم نعمه عليه ويبارك فيه ويسعده2. ويظهر أن لهذا النص علاقة بالنصوص المتقدمة التي تتحدث عن غزو جيش "شعر أوتر" لحضرموت، وأن صاحبه كان في جملة من أسهموا فيها.
ويظهر من جملة: "بن شبوت وبن بحرن"3، ومعناها "من شبوة ومن البحر", أن جيش الملك "شعر أوتر" كان قد هاجم الحضارمة من البر ومن البحر، وأن الذين استولوا على مدينة "قنا" كانوا قد هاجموها من البحر. ولم يذكر النص المكان الذي أبحر منه جيش "شعر أوتر" للاستيلاء على السواحل الجنوبية من حضرموت، ولا بد من أن يكون ذلك المكان من الأمكنة التابعة لحكم الملك "شعر أوتر" أو لحكام كانوا محالفين له وعلى صلات حسنة به.
وللنص الموسوم بـGeukens I صلة بهذه الحرب وبانتقام جيش "شعر أوتر" من "بني ردمان" الذين أرادوا مباغتة جيشه من المؤخرة وتدميره. ويظهر منه أن القائد "أسدم أسعد" "أسد أسعد"، الذي كان معسكرًا مع الجيش في مدينة "القاع" ومعه قائد آخر هو "ربيبم أخطر" "ربيب أخطر"، خرجا من هذه المدينة مع جيش الملك "شعر أوتر" لمحاربة "قتبان" و"ردمان" و"مضحيم" و"أوسان"، وانضمت إليهما قوة من "بني بكيل"، قبيلة
__________
1 Jamme 632, Mamb 301, Mahram, P.134.
2 Jamme 741, Mamb 251, Mahram, P.216, Jamme 756, Mamb 297, Mahram, P.226.
3 راجع السطر السابع والثامن من النص, Jamme 741.(4/27)
القائدين وبقيا مع الملك يحاربون معه حتى بلغ مدينة "قنا". ولما رجعا إلى وطنهما، رجعا بغنائم كثيرة وبأموال طائلة حتى وصلا إلى مدينة "حرمتم" "حرمت" "حرمة". ولما وصل "أسد أسعد" إلى موطنه، وجد أن الأحباش كانوا اغتنموا فرصة انشغال جيش "شعر أوتر" بمحاربة "العز" فأغاروا عليه وأصابوه بأضرار كبيرة. ويظهر أنهم أغاروا عليه وعلى أرضين أخرى كانت تابعة للملك "شعر أوتر"، في أثناء هجوم الردمانيين على مؤخرة جيش "شعر", ولعل ذلك كان باتفاق قد تم بينهم وبين بني ردمان. ومهما كان الأمر فإن تحرش الأحباش هذا بـ"شعر أوتر" دفعه إلى الانتقام منهم ومحاربتهم1.
ونجد نبأ هذه الحروب في النص الموسوم بـJamme 631؛ إذ يخبرنا القائد "قطبان أوكان" "قطبن أوكن"، وهو من "بني جرت" أقيال عشيرة "سمهرم يهولد"، بأنه قدم إلى الإله "المقه ثهوان" تمثالين, وضعهما في معبده "معبد أوام"، حمدًا له وشكرًا؛ لأنه من عليه بنعمته، فمكنه من التنكيل بمن تجاسر وتطاول فأعلن الحرب على "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان، ولأنه أعانه فقتل من أعداء الملك عددًا كبيرًا، ولأنه أنعم عليه بأن أعانه في رد عادية المعتدين الذين أعلنوا حربا على الملك من البحر ومن الأرض "بن ذبحرم ويبسم"2، ومكنه من تكبيدهم خسائر كبيرة ومن أسر عدد كبير منهم ومن الاستيلاء على غنائم كبيرة منهم، ولأنه ساعده وأيده في مهمته التي كلفه سيده "شعر أوتر" إياها، وهي مهاجمة أرض الحبشة "أرض حبشت"3، و"جدرت" ملك "حبشت"، أي ملك الحبشة وأكسوم4، ولأنه أعاده سالما مع كل من اشترك معه في المعارك أو قام بالواجبات العسكرية التي عهد إليه أن يقوم بها ضد النجاشي "نجشين"5، ولأنه ساعده وأعانه "هعن" في كل المعارك التي وقعت بين مدينة "نعض" ومدينة "ظفار"، التي تقدم نحوها "بيجت" "ب ي ج ت" ولد النجاشي "نيجش" ومن كان معه
__________
1 Geukens I, G. Ryckmans. Inscriptions Sud-Arabes, In Le Museon, Xii, 1942 P.297-308, Mahram, P.301.
2 السطر السابع من النص.
3 السطران 12، 13 من النص.
4 السطر 13 من النص.
5 السطر 15 من النص.(4/28)
من قوات جيشه، فنزل بها وتمكن منها، وعندئذ أعانه "المقه" ربه على الحبش بأن أوحى إليه بأن يباغتهم ليلًا، فباغتهم وانتزع "قتروعد" منهم، وهو جزء من مدينة "ظفار"، فذعر الحبش والتجئوا إلى حصن في وسط "ظفار" فتحصنوا فيه وأخذوا يقاومون منه. غير أنهم لم يتمكنوا من الاحتماء به طويلًا في مقاومة قوات سبأ؛ لأن الإله "المقه" عزز جيش "قطبان أوكان" بقوات "لعززم يهنف يهصدق" "ملك سبأ وذي ريدان" التي كانت قد وصلت إلى هذه الجبهة واتصلت بقواته. وعندئذ حاصرت الأحباش وقتلت منهم ونهكتهم، ثم اتفق القوم في اليوم الثالث من الحصار على أن يباغتوا الحبش ليلًا، فيهاجمهم قوم من ذمار وجماعة من الفرسان وعشائر من "بني ذي ريدان"، ويأخذوهم على غرة، وقد نجحت هذه الخطة وبُوغِتَ الحبش وقتل منهم أربعمائة جندي، قطعت رءوسهم، وفي اليوم الثالث أيضا ترك "قطبان أوكان" جبهة "ظفار" وتوجه ليعقب فلول الحبش إلى أرض المعارف "معفرم". فلما أدركهم قتل قومًا منهم واتصل بهم، فاتجه الباقون هاربين إلى معسكراتهم، وفي اليوم الثاني من هذا الالتحام تداعى الأحباش فتركوا منطقة ظفار، وذهبوا إلى المعاهر "معهرتن".
وقد أنهى "قطبان أوكان" صاحب النص نصه بالتوسل إلى الإله "المقه ثهوان" أن يمد عمر سيده "لحيعثت يرخم" "ملك سبأ وذي ريدان" ويمنحه الصحة والقوة والمعرفة، وأن يقهر أعداءه وخصومه، وأن يبارك له ولأهله، ويمنحه ثمارًا وافرة وغلة كثيرة في موسمي الصيف والخريف, ويبارك في زرع أرضه وأرض عشيرته في الصيف وفي الشتاء1.
ويتبين من هذا النص أنه ما كاد جيش "شعر أوتر" ينتصر على حضرموت وعلى الردمانيين حتى فُوجِئَ بالحبش يشنون حربا عليه ويتصدون له. فكلف الملك القائد "قطبان أوكان" أن يسير إلى من عصى وتمرد وخالف أوامر الحكومة للقضاء عليه، ثم يسير على رأس قوة إلى أرض الحبشة: يحارب بها "جدرت" ملك الأحباش والأكسوميين "عدى أرض حبشت بـ عبر جدرت ملك حبشت وأكسمن" فنفذ القائد أمره وأتم الخطط العسكرية التي وضعت له، ثم عاد مع
__________
1 Jamme 631, Mamb 213, Mahram, P.132, Le Museon, 1964, 3-4, P.475. Le Museon, 1964, 3-4, P.475(4/29)
جنده سالمًا، ولم يشرح النص كيف بلغ القائد أرض الحبشة, وهل قصد بأرض الحبشةِ الحبشةَ المعروفة والسواحل الإفريقية المقابلة لبلاد العرب، أم قصد موضعًا آخر في العربية الجنوبية؟ ولكن الذي يقرأ النص ويدقق في جمله ويوفق بين معانيها، يخرج بنتيجة تجعله يرى أن المراد من جملة "على أرض الحبشة إلى جدرت ملك الحبش والأكسوميين"، أرض الحبش في إفريقيا؛ لأن الملك "جدرت" ملك الحبشة وأكسوم لم يكن يقيم في بلاد العرب، ولكن في إفريقيا، فأمر "شعر أوتر" قائده بالسير إلى أرض الحبشة إلى "جدرت"، معناه التوجه إلى إفريقيا لمحاربة النجاشي "جدرت", أما "الحبش" الذين كانوا في بلاد العرب، فقد كانوا تحت حكم "بيجت ولد النجاشي"، فلا يمكن أن تكون الأرض المحتلة هي المقصودة. والظاهر أن القائد المذكور ركب البحر مع جنوده من "الحديدة"، وتوجه منها إلى السواحل الإفريقية فنزل بها، وباغت أهلها بغزو من وجده أمامه، ثم جمع كل ما ظفر به من أموال ومن أناس أسرهم وعاد بهم وبالأموال مسرعًا إلى بلاده، فاشترك في بقية المعارك التي ذكرها في نصه، وفي جملتها محاربة الحبش الذين تحت إمرة "بيجت".
و"معاهر" على ما يظهر حصن "وعلان" في "ردمان", وقد استدل "فون وزمن" من عدم تدوين اسم الملك "شعر أوتر" في نهاية النص ومن ذكر اسم الملك "لحى عثت يرخم" "ملك سبأ وذي ريدان" فيه؛ تقربًا إليه وتيمنًا به, على وفاة "شعر أوتر"، وتحكم الملك "لحيعثت" عند تدوين هذه الكتابة1.
وقد انتهت المعارك التي جرت مع الحبش النازلين في السواحل الجنوبية من جزيرة العرب بطردهم عن "ظفار" المدينة التي احتلوها، وصاروا يهاجمون منها جيش "شعر أوتر"، وطردوا من كل أرض "معافر"، ولكنهم ذهبوا إلى "معاهر" "معهرتن" حيث بقوا هناك.
ويظهر أن الأحباش ومن انضم إليهم من قبائل باغتوا حكومة "شعر أوتر" بالهجوم عليها من البحر والبر "بن ذبحرم ويبسم", وامتدت رقعة الهجوم من مدينة "نعض" إلى مدينة "ظفار". ويظهر أن "بيجت ولد النجاشي" كان
__________
1 Le Museon, 1964, 3-4, P.475(4/30)
قد تلقى أمدادًا من إفريقيا، فصار يهاجم بها السواحل، ويعبئ بها سفنه لمهاجمة الأماكن البعيدة عن منطقة احتلاله. ولم يتحدث النص عن مصيره بعد هزيمة جيشه من ظفار ومن أرض "معافر". والظاهر أنه بقي في أرض "المعاهر" "معهرت" "معهرة"، وأن السبئيين لم يزيحوا الحبش عنها، فبقوا معسكرين ومتحصنين في هذه الأرض وفي الحصن.
ولدينا نص وُسِمَ بـJamme 633 يفيد أن صاحبه واسمه "أبكرب أحرس" "أبو كرب أحرس"، وهو من بني "عبلم" و"يحمذيل" "يحمد آل" "يحمد إيل" كان قد تولى أمر الحميريين المستقرين الذين صاروا بين جيشين وأنه قام بواجبه، غير أنه أصيب بمرض صار يعادوه، وأنه لما عاد من "لحج" قدم تمثالًا إلى الإله "المقه ثهوان" وضعه في معبده: "معبد أوام"؛ وذلك ليحفظه من كل سوء، لأنه ساعده على تحمل مرضه، وأعاده إلى دياره من "لحج"، وقد قدم نذره هذا في شهر "دنم" من سنة "أبكرب بن معد كرب" "أبي كرب بن معد يكرب بن فضحسم"1. وليس في هذا النص شيء عن هوية الجيشين، ويرى بعض الباحثين أن المراد بذلك أن الحميريين المذكورين كانوا في ذلك العهد قد صاروا بين فرقتين من فرق الجيش، جيش "شهر أوتر": فرقة مؤلفة من محاربين سبئيين، وفرقة مؤلفة من محاربين حميريين، وأن الحكومة عينت صاحب النص على الأهلين الحميريين الذين صاروا بين الجيشين، ليضمن تعاونهم وتآزرهم مع الجيشين، وييسر لهم الطعام والماء2. ولم يشر النص إلى قتال أو حرب يومئذ، ولكن يظهر أن وجود الفرقتين هناك كان بسبب وجود حالة غير طبيعية، ولعلها حالة الحرب التي أتحدث عنها.
ويحدثنا القائد المتقدم، أي "أبكرب أحرس", في نص آخر له يتألف من "46" سطرًا، وسمه الباحثون بـJamme 635 وهو من النصوص التي دونها وسجلها "جامه" Jamme أحد أعضاء البعثة الأمريكية لدراسة الإنسان3، بأنباء معارك واضطرابات وانتفاضات قام بها القبائل ضد سيدها الملك "شعر أوتر" في الجنوب وفي الشمال، في البحر وفي البر "يبسم"، اشترك فيها هذا القائد،
__________
1 Jamme 633, Mamb 271, Mahram, P.135, Le Museon, 1967, 1-2, P.282
2 Mahram, P.303
3 The American Foundation For The Study Of Man(4/31)
وقد حمد الإله "المقه" بعد عودته منها كلها سالمًا معافًى؛ لأنه هو الذي حرسه وحماه وحفظه, واعترافًا بنعمه هذه عليه، قدم إليه تمثالًا وضعه في معبده المخصص بعبادته المسمى "معبد أوَّام". وقد توسل إلى إلهه "المقه" بأن يديم نعمه عليه وعلى ملكه "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان، وأن يبعد عنه كل أذًى وشر، وأن يهلك أعداءه وحساده1.
وذكر القائد بعد هذه المقدمة أن في جملة الحروب والمعارك التي خاضها في سبيل سيده الملك، حروبًا خاضها مع "أشعرن" "أشعران" و"بحرم" ومن انضم إليهما من ناس، وحروبًا خاضها في منطقة خلف مدينة "نجران" "نجرن"؛ لمحاربة مقاتلي الحبش "حبشن" ومن كان يؤازرهم ويساعدهم2. ويظهر من هذا النص أن نجران كانت في أيدي الحبش في هذا الزمن.
وكانت منازل "الأشاعرة" "الأشاعر" "الأشعر" "الأشعريون" في القديم منتشرة على الساحل الغربي من "جيزان" إلى "باب المندب"3. أما في أيام "الهمداني"؛ فقد كانت في أرض "معافر" المعافريين4.
وأما "بحرم" "بحر"، فقد كانت عشيرة من عشائر "ربيعة" "ربيعت" "ربعت"5.
ويظهر من دراسة هذا النص أن الملك "شعر أوتر" كان قد هاجم أولًا أرض "أشعرن" "أشعران"، ثم هاجم "بحرم"، وكان القائد صاحب النص يحارب معه. وبعد أن انتهى من قتالهما انتقل بجيشه للقتال في منطقة "نجران" حيث كان الحبش قد تجمعوا فيها، فقاتلهم وقاتل من كان معهم. ثم نقل القتال إلى الغرب إلى "قريتم" "قرية" وهي "لبني كاهل" "كهل"، "قريتم ذت كهلم". فتحارب جيش "شعر أوتر" مع سيد المدينة "بعل هجرن"، أي: مع صاحب مدينة "قرية"، وتغلب عليه، وحصل على غنائم
__________
1 Jamme 635, Mamb 270, Mahram, Pp.136
2 السطران: "23" و"24" من النص.
3 Sprenger, Die Alte Geographie Arabiens, S. 63
4 D. H. Muller, Al-Hamdani's Geographie Der Arabischen
5 Halbinsel, I, S. 53, Mahram, P.303(4/32)
كثيرة منها. ثم حارب "ربيعة" ثور ملك "كدت" "كدة" كندة وقحطان "بعلى ربعت ذ الثورم ملك كدت وقحطن"1.
ويظهر من هذا النص أن "ربيعة" "ربعت" كانت من القبائل المعروفة يومئذ، وكانت تابعة لحكم "ثور"، "ملك كندة وقحطان". وقد انتصر على جميع من حاربهم من أهل "قربتم" ومن أتباع الملك "ربيعة" ملك كندة وقحطان، واستولى على غنائم كثيرة، في جملتها خيول وأموال طائلة، كما أخذ عددًا من الأسرى.
وقد كلف الملك "شعر أوتر"، صاحب النص بعد المعارك المذكورة أن يتولى قيادة بعض "خولان حضلم" "خولان حضل"، وبعض أهل نجران وبعض الأعراب؛ لحرب المنشقين من بني "يونم" "يوان" ومن أهل "قريتم" وقد حاربهم "أبكرب أحرس" "أبو كرب أحرس" عند حدود "بكنف أرض الأسد مجزت مونهن ذ ثمل" أرض "الأسد مجزت مونهان" الذي هو صاحب "ثمل" "ثمال"2. ثم عاد مع جيشه كله سالمًا غير مصابين بأذًى.
ويظن أن المراد من "بني يونم"، "بني يوان" الياوانيون، أي: من "يونم" "يوان" وهم قوم من اليونان، استوطنوا في جزيرة العرب, وقد ورد اسمهم في النص3: Glaser 967. ويظهر أنهم كانوا يحالفون "قريتم" في هذا العهد وقد جاءوهم ليساعدوهم على الملك "شعر أوتر".
وأما "الأسد مجزت مونهن"، فاسم علم على شخص، يظهر أنه كان يحكم أرض "ثمل" "ثمال". ويظهر أنه لم يكن يلقب نفسه بـ"ملك"، بدليل عدم ورود هذا اللقب بعد اسمه في النص. وقد كان كذلك من المخالفين لـ"شعر أوتر" ومن المعارضين له4.
ويظهر من تكليف الملك قائده أبا كرب أحرس "أبكرب أحرس" أن
__________
1 السطران: "26" و"27" من النص، Le Museon, 1964, 3-4, P.473
2 السطر 36 فما بعده من النص، Mahram, P.137, 304
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.473, Mahram, P.138, K. Mlaker, Die Hierodulen-Listen, S. 35, Jamme, South-Arabian Inscriptions, Princeton, 1955, P.508
4 Mahram, P.137(4/33)
يتولى بنفسه قيادة هذه القوى، أن الملك قد وجد فيه حنكة عسكرية وجدارة جعلته يثق به؛ فكافأه بتسليمه قيادتها إليه1.
ويظهر أن غنائم السبئيين من "قريتم" "قرية"، كانت كثيرة جدًّا، إذ نجد إشارة في نصين آخرين. ففي أحدهما شكر وحمد لـ"المقه"؛ لأنه من على عبده "شحرم" "شحر" من "بني حذوت" "حذوة" و"رجلم" "رجل"، وأعطاه غنائم كثيرة من غنائم تلك المدينة، جعلته سعيدًا2, وفي النص الثاني شكر لهذا الإله كذلك، دونه "قشن أشوع" وابنه "أبكرب" "أبو كرب" وهما من "صعقن" "صعقان"؛ لأنه من عليهما فأغناهما بما غنموا من "قريتم" قرية، إذ كانا يساعدان سيدهما "شعر أوتر"؛ ولذلك قدما إليه نذرًا: تمثالًا؛ تعبيرًا عن حمدهما له، وليمن عليهما وعلى سيديهما: "شعر أوتر" وأخيه "حيو عثتر يضع" "ملكي سبأ وذي ريدان"3.
ولدينا نص وسم بـJamme 640 يتحدث عن مساعدة "شعر أوتر" "العزَّ" ملك حضرموت في القضاء على تمرد قبائل حضرموت وثورتهم عليه, ولم يذكر النص أسباب ذلك التمرد. والظاهر أنها تمردت على ملكها، لأنه تعاون مع "شعر أوتر" الذي فتح حضرموت وأخذ جيشه منها غنائم كثيرة، وأنزل بالحضارمة خسائر فادحة؛ فغضبوا عليه لتعاونه مع ملك سبأ4.
وقد جاء في هذا النص اسم مدينة دُعِيَتْ "هجرن أسورن"، أي مدينة أسورن "أسوران"، ويظن أنها مدينة "أوسرة" Ausra، التي ذكرها بعض الكتبة اليونان، وهي موضع "غيظت" "غيظة" التي تقع على مسافة "220" كيلومترًا جنوب غربي "ريسوت"5.
وقد ورد اسم "حيو عثتر يضع" في هذا النص، وهو شقيق الملك "شعر أوتر"، غير أنه لم يضع بعده لقب "ملك سبأ وذي ريدان"6.
__________
1 Mahram, P.304
2 Jamme 634, Mamb 273, Mahram, P.136
3 Jamme 631, Mamb 49, 205, Mahram, P.140, 141, Le Museon, 1967, 1-2, P.283
4 Jamme 640, Mamb 250, Mahram, P.140, 304
5 Mahram, P.304
6 Mahram, P.140, 304(4/34)
ولدينا نص آخر دونه رجل اسمه "ربيعت" "ربيعة"، ذكر فيه أنه قدم تمثالًا إلى الإله "المقه"؛ لأنه أعاده سالمًا معافًى من كل المعارك التي اشترك فيها والحرب التي شنها، وقد سأل إلهه أن يحفظه وأن يمنَّ عليه وعلى سيديه "شعر أوتر" و"حيو عثتر يضع"1. ولم يذكر النص شيئًا عن تلك المعارك وعن المواضع التي دارت فيها رحاها.
ويعد النص: CIH 398 من النصوص المهمة التي تتحدث عن تأريخ سبأ، إذ تحدث عن "شعر أوتر"، على أنه "ملك سبأ وذي ريدان"، ثم تحدث في الوقت نفسه عن "الشرح يحضب" وعن أخيه "يأزل بين"، وقد لقبهما بـ"ملكي سبأ وذي ريدان". ومعنى هذا أن حكم سبأ وذي ريدان كان لـ"شعر أوتر" وللأخوين: "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل بين"، وهما من أسرة همدانية أخرى سأتحدث عنها في موضع آخر, وقد توسل صاحب النص إلى آلهته بأن تمن عليهما بالصحة والعافية والنصر2.
وقد أثار هذا النص جدلًا بين علماء العربيات الجنوبية في معاصرة "علهان نهفان" لـ"فرعم ينهب"، وفي حكم "شعر أوتر" و"الشرح يحضب" وشقيقه، وتلقب كل واحد منهم بلقب "ملك سبأ وذي ريدان" فذهبوا في ذلك مذاهب؛ إذ ليس من المعقول أن يكون مقر حكم "شعر أوتر" و"الشرح يحضب" وأخيه في "مأرب"، ويكون حكمهم حكمًا مشتركًا. فبين أسرة "شعر أوتر" وأسرة "الشرح" تنافس قديم، لا يمكن أن يسمح بحكم هؤلاء الثلاثة من مدينة مأرب، وبحملهم لقبًا واحدًا عن رضًا واتفاق.
وذهب بعضهم إلى أن هذا النص لا يشير إلى حكم الأخوين، في أيام حكم "شعر أوتر"، وإنما يشير إلى أنهما حكما بعده، وإذن فلا غرابة في القضية؛ إذ لم يكن الحكم مشتركًا وفي زمن واحد. وذهب بعض آخر إلى أن حكم "الشرح" وشقيقه كان مستقلًّا عن حكم "شعر أوتر"، وأن الأخوين لم يكونا مرتبطين بـ"شعر أوتر" بأي رباط، وإنما كانا يعدان أنفسهما الملكين الشرعيين،
__________
1 Rep. Epig. 4842, Le Museon, Li, 1938, P.133, 135, Mahram, P.304, Le Museon, 1967, 1-2, P.283
2 Glaser 891, Abessi., S. 83, Cih 398, Iv, Ii, I, P.58, Die Arabische Frage, S. 148, Background, P.95(4/35)
وأن الحكم إنما انتقل إليهما من أبيهما "فرعم ينهب". وذهب آخرون إلى أن "فرعم ينهب" كان قد وضع أساس الحكم والملك في منطقة تقع غرب "مأرب", وأن "الشرح يحضب" و"يأزل بين" خلفاه على ملكه، واهتبلا الفرص للاستيلاء على عرش سبأ، حتى إذا سنحت لهما، لقبا أنفسهما بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، وذلك بعد اختفاء ذكر "شعر أوتر" وأخيه "حيو عثتر يضع"، وصارا بذلك ملكي سبأ وذي ريدان، وإنما كان حكمهما على جزء من تلك المملكة1.
وقد جاء اسم "شعر أوتر" مع لقبه "ملك سبأ وذي ريدان" في النص الموسوم بـJamme 638، وقد سقطت الأسطر الأولى منه فلم يعرف مدونه وصاحبه. وقد ذكر فيه اسم والد الملك، وهو "علهان"، وقد لقب فيه بلقب "ملك سبأ" فقط2.
وقد ثبت الآن من نصوص عثر عليها من عهد غير بعيد أن "حيو عثتر يضع" كان شقيقًا لـ"شعر أوتر"، وأنه كان قد شارك شقيقه في التلقب بـ"ملك سبأ وذي ريدان"3. ويظهر أن ذلك كان بعد مدة حكم فيها "شعر أوتر" حكمًا منفردًا، أي من غير مشاركة أخيه له في اللقب، بدليل ورود اسمه في النص Jamme 640 بعد اسم أخيه، ولكن من غير تدوين أي لقب له.
وذكر في هذا النص اسم "عبد عثتر بن موقس"، وهو من سادات "خولان"، وقد هاجمته جيوش "شعرم أوتر" وهزمته، وكبدته خسائر، وكان قد هدم وخرب معبدًا لعبادة "المقه" في موضع "أوعلن" "أوعلان" "محرم بعل أوعلن"، فعد صاحب النص هذه الهزيمة عقابًا وجزاءً من الإله "المقه" أنزله عليه لفعلته هذه بمعبده. فيظهر من هذا النص أن "شعرم أوتر" كان قد أغار على الخولانيين أو على القسم الذي يترأسه "عبد عثتر" منهم، وأصابهم بضرر فادح، ففرح بذلك صاحب النص؛ لتطاول "عبد عثتر" على
__________
1 Abessi, S. 83, Rhodokanakis, Altsudarabische Inschr. S. 468, J. Ryckmans, L'institution Monarchique, P.297, Mahram, Pp.305, A. F. L. Beeston, Problems Of Sabaean Chronology, P.53
2 Jamme 638, Mamb 128, Mahram, P.139
3 Cih 408, Jamme 641, Rep. Epig. 4842, Le Museon, 1967, 1-2, P.283(4/36)
معبد "المقه" إله السبئيين واستخفافه به. ولم يذكر صاحب النص السبب الذي حمل "شعرم أوتر" على مهاجمة سيد خولان، إذ عزاه إلى انتقام الإله "المقه" منه، فكأن هذا الإله هو الذي سلط "شعرم أوتر" عليه؛ لينتقم منه جزاء فعلته المنكرة بمعبده، ولعل "عبد عثتر" كان قد تجاسر على "شعرم أوتر" فهاجم أرضه، أو أنه خاصمه وعارضه أو عصى أمرًا له، فهاجمه "شعرم أوتر" وانتقم منه.
واختتم صاحب النص المذكور نصه بتقديم حمده وشكره لإلهه، إذ مَنَّ عليه فمكنه من الدفاع عن تربة بلاده، وأغدق عليه نعماءه فمنحه غلة وافرة وثمارًا كثيرة. وذلك في أيام سيديه الملكين، وفي عهد "القول" القيل "رثد أوم بزد بن حبب"1، وفي أيام "بني عنن" "بني عنان" وشع "صرواح"، ثم ذكر أسماء الآلهة2.
ويظهر من النص أن صاحبه كان ممن اشتركوا في الحروب، ولعله كان من قادة الجيش فيها، أو من سادات القبائل الذين أسهموا مع قبيلتهم فيها. وكان في جانب "الشرح"، وأخيه "يأزل" وقد يكون ذكر "شعر أوتر" وذكر لقبه معه على سبيل الحكاية، لا الاعتراف بكونه ملكًا على سبأ وذي ريدان.
وسجل رجل من أتباع الملك "شعرم أوتر" أنه قدم إلى الإله "عزى" حصانًا وصورة من الذهب؛ لأنه أنقذ حياته، ونجاه في الحروب التي خاضها فيها مع سيده الملك، ولكي يمن الإله عليه، ويبارك فيه وفي سيده الملك3. ويتبين من ذلك أن صاحب هذا النص كان من المحاربين الذين قاتلوا في صفوف "شعرم أوتر".
وذُكِرَ "شعرم أوتر" في كتابة دونها قوم من "بني تزأد"، وقد حمدوا فيها الإله "المقه ثهون بعل رثون"4 ومجدوه، وقدموا نذرًا إليه. ثم ذكروا
__________
1 قد يقرأ الاسم على هذه الصورة: "رثد أوم يزيد بن حبيب"، "رثد أوام يزد بن حباب"، وما شاكل ذلك من قراءات.
2 Cih 398, Iv, Ii, I, P.58, Halevy. Revue Semitique, Iv, 1896, P.79, Winckler, Die Sab. Inschri., Der Zelt Alhan Nahfan's S. 347
3 Rep. Epig. 4194, Vii, I, P.105, Va 5313
4 "المقه ثهوان إله رثون" "المقه ثهوان إله رثوان".(4/37)
"شعرم أوتر, وحيو عثتر يطع "يضع" ملكي سبأ وذي ريدان"1، وهي جملة يفهم منها أن "حيو عثتر يطع" "حيو عثتر يضع" "حيو عثتر يثع"2 كان ملكًا أيضًا، وكان يلقب أيضا بـ"ملك سبأ وذي ريدان". ويرى "هومل" أن "حيو عثتر" هذا كان أحد أولاد "يرم أيمن بن علهان نهفان"، فهو ابن أخي "شعرم أوتر" وكان له شقيق سقط الشق الأول من اسمه، وبقي الشق الثاني منه، وهو "أوتر". ويرى أن من المحتمل أن يكون الاسم الكامل "شعرم أوتر"، أي مثل اسم عمه3.
وجعل "موردتمن" و"ميتوخ"، "حيو عثتر"، ابنًا من أبناء "شعرم أوتر"، فوضعاه بعده في الحكم4. وقد شارك أباه الحكم في حياته، فلقب على العادة الجارية بـ"ملك سبأ وذي ريدان". وأما اسم "شعرم أوتر"، الذي سقط القسم الأول منه، وهو "شعرم" من الكتابة، فإنه اسم الأب لا الشخص الذي ذهب "هومل" إليه5.
وورد اسم "شعرم أوتر" وبعده اسم "حيو عثتر يضع" في كتابة أخرى6 يدعى صاحبها "ربيعت" "ربيعة"، وقد قدم إلى الإله "المقه" تمثالًا من الذهب؛ لأنه أعاده سالمًا من غزوة غزاها، ومن حرب حضرها في سبيل "شعرم أوتر"، وتضرع إلى "المقه" أن يديم نعمه عليه، ويمد في عمره، ويبارك فيه وفي سيديه "شعر أوتر, وحيو عثتر يضع"7.
ولما كان صاحب هذه الكتابة من السبئيين، وكنا قد وجدنا كتابات أخرى حمدت وذكرت "شعرم أوتر" بخير، وكان أصحابها من السبئيين كذلك8،
__________
1 Burchardt 6, Cih 408, Iv, Ii, I, P.82, Hartmann, In Orletallstische Litteratur Zeltung, X, 1909, C. 605-607
2 Sab. Inschr., S. 218. Le Museon, Lxiv, 1-2, 1951, P.134
3 Handbuch, I, S. 90
4 Sab. Inschr., S. 218. Le Museon, Lxiv, 1-2, 1951, P.134
5 المصدر نفسه.
6 Rep. Epig. 4842, Vii, Iii, P.387, Le Museon Li, 1938, P.133, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.70, 80
7 السطران العاشر والحادي عشر من النص.
8 Rep. Epig. 4125, 4155, Vii, I, P.108, 109(4/38)
فإننا نستنتج من ذلك كله أن قسمًا من السبئيين كانوا منحازين إلى هذا الملك، وأنهم كانوا يعترفون به ملكًا على سبأ وذي ريدان, وأن "الشرح يحضب" لم يكن يحكم كل سبأ والقبائل التابعة للسبئيين.
وذكر اسم "شعرم أوتر" في نصين آخرين قصيرين، هما بقايا نصين. ورد في أحدهما اسم "ظفار"1، وقد أهمل فيه لقبه, أما النص الثاني فقد دون عند بناء بيت، وقد لقب فيه بـ"ملك سبأ وذي ريدان"2.
ويظهر أن "شعر أوتر" قد تمكن من بسط سلطانه على أكثر حكومات العربية الجنوبية وعلى قبائلها، ما خلا المناطق التي كانت في أيدي الحبش، وهي الأرضون الغربية من اليمن والواقعة على ساحل البحر الأحمر3.
لقد جعل "جامه" حكم "شعر أوتر" فيما بين السنة "65" والسنة "55" قبل الميلاد، وجعل نهاية حكم شقيقه "حيو عثتر يضع" في السنة "50" قبل الميلاد، وهي سنة انتقال الملك من أسرة "يرم أيمن" إلى أسرة "فرعم ينهب" التي بدأت حكمها في أرض تقع حوالي "صنعاء", ثم وسعت حكمها حتى شمل مملكة سبأ وذي ريدان كلها4.
هذا، وأود أن أشير هنا إلى أن النص: Jamme 631 المكتوب في أيام الملك "شعر أوتر" والذي تحدثت قبل قليل عنه، قد ورد فيه اسم ملك هو "لعززم يهنف يهصدق"، وملك آخر اسمه "لحيعثت يرخم", وقد لقب كل واحد منهما بـ"ملك سبأ وذي ريدان". ومعنى هذا وجود ملكين آخرين كانا يحكمان في أيام "شعر أوتر", كل منهما يلقب بلقب "ملك سبأ وذي ريدان". وإذا أضفنا إليهما وإلى الملك "شعر أوتر" الشقيقين "الشرح يحضب" و"يأزل بين"، وقد كانا يلقبان بهذا اللقب أيضًا، نجد أمامنا خمسة ملوك يلقبون بلقب واحد. ويرى بعض الباحثين أن الملك "لعززم يهصدق" كان ملك أرض "ظفار" وما جاورها، وهو الذي هاجمه الحبش وانتصروا عليه,
__________
1 نشر "ص61، 62، 63".
2 نشر "ص64 وما بعدها".
3 Le Museon, 1964, 3-4, P.475
4 MAHRAM, PP.390(4/39)
وكان يحكم هذه الأرضين حكمًا مستقلًّا, فلما هاجمه الحبش أسرع الملك "شعر أوتر" لنجدته على نحو ما ورد في النص1.
وأما الملك "لحيعثت يرخم"، فقد ورد اسمه في نص وسمه العلماء بـREP. EPIG. 2633، ولسنا نعرف من أمره اليوم شيئًا يذكر2. ويظن أنه من ملوك المقاطعات، أي: الملوك الصغار المحليين، وقد كان حكمه يتناول الأرضين الواقعة شمال أرض ظفار3.
يتبين لنا مما تقدم أن ملوك سبأ لم يكونوا ينفردون وحدهم بالحكم دائمًا، وإنما يظهر بين الحين والحين ملوك ينازعونهم الملك واللقب، يبقون أمدًا مستقلين, وقد يتغلبون على الملوك الشرعيين الأصليين ويسلبونهم الملك، كالذي فعله "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل بين"، إذ كانا ملكين يحكمان أرض "صرواح" ثم بسطا سلطانهما على أرضين أخرى ثم انتزعا العرش نهائيا، وصارا الملكين على مملكة "سبأ وذي ريدان"4.
لقد انتهيت من الكلام على أسرة "أوسلة رفشان"، وهي من عشيرة "بتع" من قبيلة "حاشد" أحد فرعي "هَمْدان"، وقد وجب الكلام الآن على أسرة همدانية أخرى ظهرت في هذا الزمن أو قبل ذلك بقليل، وانتزعت الملك من السبئيين وأخذته لها، وهذه الأسرة هي أسرة "نصرم يهأمن" التي سبق أن تحدثت عنها في أثناء كلامي على "ملوك سبأ". فقد كان "نصرم يهأمن" من قبيلة همدان أيضا، فنحن إذن في عصر سبئي، إلا أن الحكم فيه لم يكن في أيدي ملوك سبئيين، ولكن كان في أيدي ملوك من همدان.
أسرة "يرم أيمن":
1- أوسلت رفشان "أوسلت رفشن".
__________
1 Mahram, P.306
2 Mahram, P.134
3 Mahram, P.306
4 Cih 398, Mahram, P.306(4/40)
2- يريم أيمن "يرم أيمن".
3- علهان نهفان "علهن نهفن".
4- شعر أوتر "شعرم أوتر".
5- حيو عثتر يضع.(4/41)
الفصل السادس والعشرون: أسر وقبائل
مدخل
...
الفصل السادس والعشرون: أسر وقبائل
تحدثت عن ملوك سبأ، وعليَّ الآن أن أتحدث عن الأسر وعن القبائل التي كانت لها أعمال بارزة ملحوظة في هذا العهد؛ إذ كانت من القوى الموجهة، ولتوجيهها أثر مهم في سياسة زمانها.
وأول من يجب أن أبدأ بهم، "فيشن" "فيشان"؛ فمنهم كان مكربو سبأ، ومنهم كان الملوك. ولا بد أن يكون الفيشانيون من القبائل القوية الكثيرة العدد، وإلا لم تخضع لها القبائل الأخرى ولم تسلم لها بالقيادة والسيادة.
وكانت "صرواح" عاصمة المكربين، من أهم مواطن الفيشانيين. وقد ورد في الكتابة الموسومة بـGlaser 926 أنهم كانوا أصحاب "عهرو"1، أي: نادٍ يشبه "المزود"، أو "دار ندوة" قريش2، يجتمع فيه ساداتهم للتشاور في الأمور، وللتحدث عما يحدث لهم.
وقد أضاف المكرب والملك "كرب إيل وتر" إلى أسرته وإلى قبيلته "فيشن" "فيشان" أملاكًا واسعة كما ذكر ذلك هو نفسه في كتابته: "كتابة صرواح". وقد أخذ تلك الأملاك من القبائل التي عارضته وحاربته، فتوسعت رقعة منازلها بفضل هذه الأملاك.
__________
1 Ktb., II, S. 49.
2 المصدر نفسه "ص50".(4/42)
وجاءت في بعض النصوص، جملة هي: "سبأ وفيشان"1، فعطفت "فيشان" على سبأ، مما يدل على أن "فيشان" لم تكن في عداد سبأ في نظر القوم إذ ذاك.
وقد جاء في النص: Jamme 558 أن: "يدع إيل" وهو ابن "كرب إيل بين" "ملك سبأ" وكذلك "الشرح", وهو ابن "سمه على ذرح"، كانا من عشيرة "شعبهمو" "شعب" "فيشن"، أي: "فيشان"2. ففيشان إذن من الأسر القديمة المعروفة في اليمن، ومنها كان أقدم حكام سبأ3.
وقد ولدت قبيلة أخرى عددًا من الملوك، جلسوا على عرش سبأ وحكموا السبئيين وغيره, وهذه القبيلة هي قبيلة "مرثد" وهي من "بكل" "بكيل". وكانت تتعبد للإله "المقه" إله السبئيين الأول, وقد أقامت له معابد عديدة, منها معبده المسمى بـ"المقه ذهرن"، أي: معبد "المقه" في "ذي هرن" "ذي هران"4, و"هران" من المواضع التي ذكرها "الهمداني"5.
ومن ملوك سبأ الذين تبوءوا العرش، وهم من "مرثد", الملك "أنمار يهأمن بن وهب إيل" الذي سبق أن تحدثت عنه، وأكثر الكتابات التي ترجع إلى عهده، عثر عليها في مدينة "حاز" في جنوب "عمران"6.
ومن ملوك سبأ الذين أصلهم إلى "مرثد"، الملك "الشرح يحضب" وأبناؤه, وقد دون اسم "الشرح" في جملة كتابات عثر عليها في "شبام سخيم".
وكانت لمرثد أرضون غنية واسعة في الجزء الغربي من "بلد همدان"، وهي جزء من أرض "بكل" "بَكِيل"7، تستغلها قبائل "بكيل" وبطونها لقاء جُعْل تدفعه لسادات القبائل والملوك، يتفق على مقداره، ويقال لعقد هذه الاتفاقيات: "وتف" "وتفن". وتشرف معابد "المقه" على أوقاف واسعة
__________
1 Handbuch., I, S. 129
2 الفقرة السابعة من النص: Jamme 558, Mamb 201, Mahram, PP.24
3 A. F. L. Beeston, Sculptures And Inscription From Shabwa, In Jras, 1954, Pp.52, Mahram, P.27, Smith, In Vetus Testamentum, Ii, 1952, P.287
4 Cih Iv, I, Ii, P.Iii, Handbuch, L, S. 88
5 الصفة "2/ 117"، الإكليل "8/ 117" "طبعة نبيه".
6 حاز، الإكليل "2/ 385، 456"، Handbuch, I, S. 886
7 KTB., II, S. 71(4/43)
لها، تؤجرها أحيانا لسادات القبائل بمبالغ يتفق عليها الطرفان.
وقد وصلت إلينا جملة عقود "وتف" عقدت بين كُهَّان معابد "المقه" وسادات "مرثد"، منها الاتفاقية المعروفة1 بـGlaser 131. وقد تعهدت "مرثد" فيها لمعبد "المقه بعل أوم" بالوفاء له بما اتفق عليه، تدفعه له في وقته في كل سنة، كما تعاقدت عليه في الشروط المدونة في "الوتف"، على أن يهبها الإله "المقه" غلة وافرة ومحصولًا جيدًا. ويظهر أنها لم تفِ للمعبد بما اتفق عليه، ولم تسلم له حصته كما ينبغي، وصادف جدب أنزل أضرارًا بمرثد، ففسر الكهان ذلك بغضب إلهي أرسله "المقه" على "مرثد" لعدم وفائهم بالعهد، فارتأى سادتهم أن يكفروا عما بدر منهم، والوفاء في الموسم المقبل، فجددوا العهد، وكتبوه مجددًا تأكيدًا على أنفسهم أمام الإله "المقه" الذي وافق على ذلك ورضي به2. ويعني ذلك بالطبع رضاء الكهان وموافقتهم على تجديد العقد.
وتحكمت "مرثد"، بما لها من سلطان واتساع أرضين، في عشائر أخرى دانت لها بحق "الجوار"، وعدت سادة "مرثد" سادتها كذلك. وقد اختارت كل عشيرة منها من شاءت من سادة مرثد، فكان ممن ساد منهم عشيرة "عرن" "عران" سيد من "مرثد" اسمه "ريبم" أي "ريب". وقد ورد اسمه في نص كتبه في سنة "خرف" "خريف" "عم كرب بن سمه كرب بن حزفرم" وذلك حمدًا وثناء على الإله "المقه" رب معبد "ذ هرن" "ذي هران"3؛ لمننه ونعمائه، وتعبيرًا عن حمده وشكره، قدم له نذرًا أهداه إلى ذلك المعبد4.
وكان "بنو أرفط" "بن أرفط" من القبائل التي دانت بسيادة "بني مرثد" عليهم، كما يتبين من كتاباتهم. فقد عبروا عنهم بـ"أمرائهم بني مرثد"5، وعبروا عن سيادة "بني مرثد" عليهم بجملة "آدم بن مرثدم"، أي: "خول
__________
1 Glaser 131, Cih 99, Studi. Lexi., Ii, S. 157
2 Bodenwirtschaft, S. 23
3 "المقه ذهرن" المقه ذو هران".
4 Cih 73, Iv, I, Ii, P.108, E. Osiander, Zur Himjarischen Alterthumskunde, In Zdmg., Xix, S. 161, Bm 4, Osi
5 Cih 75, Br. Mus. 7, Os 9, Cih, Iv, I, Ii, P.114(4/44)
بني مرثد"1، وفي هذا التعبير دلالة واضحة على أنهم كانوا أتباعًا لبني مرثد، خاضعين لهم؛ فإن لفظة "أدم" لا تقال إلا تعبيرًا عن التبعية والخضوع.
وعرفنا من الكتابات اسم قبيلة أخرى كانت تعد نفسها في جوار "بني مرثد" وولائهم, وهي قبيلة "نبشم" "نبش" "نابش"، وقد قدم أحد أبنائها نذرًا إلى "المقه ذي هران"، وذكر أن ذلك كان في أيام سيده وأميره "يثعم" أي: "يثع" من مرثد2.
ويعد "بن أخرف" "بنو أخرف"، وهم على ما يظن "بنو الخارف" من أتباع "مرثد" أيضًا. وقد ورد في النص: CIH 79 اسم أحد رؤسائهم من "مرثد"، وهو "يفرعم" "يفرع". وقد ذكر "نشوان بن سعيد الحميري" أن "الخارف بطن من همدان من حاشد"، وذكر نسبهم وبطونهم في الجزء العاشر من "الإكليل"3.
وكان "بنو وهرن" "بنو وهران"، من أتباع "مرثد" كذلك، وقد صرح بذلك أحدهم في كتابة قدمها إلى "المقه ذي هران"4.
ومن القبائل التي اعترفت بسيادة "مرثد" عليها، "بنو كنبم" "بنو كنب"5, و"بنو عبدم ذي روثن" أي: "بنو عبد" أصحاب "روثان"6، و"بنو أرفث"7, و"بنو ضنبم"8، أي: "بنو ضب", و"بنو أسدم"، أي: "بنو أسد" الذين تعبدوا لألمقه بمعبده في موضع "صوفن" "صوفان"9، و"بنو يهفرع"10, و"بنو أشيب"11، و"بنو قرين" "قورين"12، و"بنو حيثم"
__________
1 Cih 77, Br. Mus. 9, Osiander, In Zdmg., Xix, S. 199
2 Cih 76, Br. Mus. 8, Os 12, Cih, Iv, I, Ii, P.116
3 Cih 79, Br. Mus. Ii, Os 8, Cih, Vi, I, Ii, P.121
4 Cih 87, Iv, I, Ii, P.140, Br. Mus. 19, Os. 18
5 CIH 88, IV, I, II, P.143, BR. MUS. 20, OS 16, OSIANDER IN ZDMG., XIX, S. 210.
6 HALEVY 6, ETUDES, P.114, OS 22
7 OS 9, HALEVY, ETUDES, P.117
8 HALEVY 16, ETUDES, P.131, OS 23
9 OS 27, HALEVY 17, ETUDES, P.132, CIH 84, IV, I, II, P.135
10 HALEVY 25, ETUDES, 145, CIH 72, IV, I, II, P.106, OS 5, BR. MUS. 3.
11 OS 18, HALEVY 27, ETUDES, P.148
12 HALEVY 18, ETUDES P.136, OS 13, D. NIELSEN, DER SAB. GOTT ILMUKAH, S. 49, PRATORIUS, BEITR., S. 141(4/45)
"بنو حيث"1، و"بنو ذنحن" "بنو ذنحان"2، وغيرها.
و"روثان" من الأسماء المعروفة في اليمن، وقد كان محفدًا من المحافد، وقد ذكره "الهمداني" في "الإكليل"3.
وقد ورد في النص4 CIH 102، اسم جماعة تدعى "بني مضن"، "بني مضان" وهم من "أبكلن" "أبكل" من سكان مدينة "عمران"، وقد ورد اسم هذه المدينة في نصوص أخرى، يظهر منها أن أصحابها كانوا من "بني أبكلن" "أبكل"5.
ولعلَّ لما ذكره "الهمداني" من وجود قبائل تنتسب إلى "الأسد بن عمران"6 علاقة بـ"بني أسدم" "أسد" الذي ذكرتهم قبل قليل، كانوا نزولًا في "عمران" فنسبوا إليها.
__________
1 HALEVY, ETUDES, P.138
2 OS 6, HALEVY 20, ETUDES, P.140
3 الإكليل "8/ 90، 91" "طبعة نبيه"، "10/ 122، 123، 124".
4 CIH 102, IV, I, II, P.164
5 CIH 95, BR. MUS. 27, OS 20, CIH, IV, I, II, P.155, OSIANDER, ZUR HIMJARISCHEN, IN ZDMG., XIX, S. 220
6 الإكليل "8/ 70" "طبعة نبيه".(4/46)
سخيم:
ومن القبائل في هذا العهد قبيلة "سخيم"، التي ورد اسمها في مواضع من هذا الكتاب. وكانت تتمتع بمنزلة محترمة ومكانة مرموقة، ولها أرضون تؤجرها لمن دونها من القبائل بجعالة سنوية وخدمات تؤديها لسادات هذه القبيلة, وتعد منطقة "شبام سخيم" الموطن الرئيسي لـ"بني سخيم". وقد تحدث "الهمداني" عن "شبام سخيم"، فقال: "ومن قصور اليمن شبام سخيم، وكان فيها السخيميون من سخيم بن يداع بن ذي خولان ... وبها مآثر وقصور عظيمة. ومن شبام هذه تحمل الفضة إلى صنعاء، وبينهما أقل من نصف نهار"1. فجعل
__________
1 الإكليل "8/ 83 وما بعدها" "طبعة نبيه"، الإكليل "2/ 283 وما بعدها"، "خولان".(4/46)
"الهمداني" "السخيميين" من "ذي خولان", وقد أخذ هذا النسب من موقع أرض "سخيم" التي تقع في أرض "خولان"، فصار هذا نسبًا للسخيميين على مرور الأيام1.
وكان لـ"بني سخيم" سلطان واسع في "شبام سخيم"، ولهم في هذا الموضع "مزود" يجتمعون فيه، ويتداولون في تصريف أمورهم في السلم والحرب, وكان منهم "أقول" "أقيال" حكموا قبائل أخرى. وقد قام رجالهم بأعمال عمرانية مثل: فتح طرق، وحفر قنوات ومسايل للمياه، يساعدهم عليها أتباعهم من "بني سخيم"، ومن القبائل الأخرى التي كانت نزولًا عليهم. ولتغلب "سخيم" على موضع "شبام"، عرف باسمهم تمييزًا له عن مواضع أخرى عرفت أيضًا باسم "شبام"2.
وقد وصلت إلينا أسماء طائفة من سادات "سخيم"، قاموا بأعمال عمرانية دونوها في كتاباتهم، أو ساعدوا أتباعهم على القيام ببعض الأعمال العمرانية، فذكروا أسماءهم لذلك اعترافًا بفضلهم عليهم. ومن هؤلاء شيخ اسمه "يشرح آل أسرع" "يشرع إيل أسرع" وكان رئيسًا على سخيم. وعثر على اسمه في عدد من الكتابات وجدت في "الغراز"3، وجد في إحداها أنه ساعد قبيلة سقط اسمها من النص "وكانت تابعة لبني سخيم" على بناء "مزود" لها4، فذكر اسمه لذلك في الكتابة اعترافًا بفضله على أصحاب النص.
ومن سادات ورؤساء "سخيم" "الرم يجعر" "الريام يجعر" "الريم يجعر"، وكان "قولًا" قيلًا على "سمعي"، التي تكون ثلث "حجرم" في أيام الملك "وتر يهامن" "وتر يهأمن"، وهو ابن الملك "الشرح يحضب" ملك سبأ وذي ريدان. وقد أرسله الملك لمحاربة "خولان جددن"، أي خولان النازلة بـ"جددن" "جددان"، فانتصر عليها وعلى من انضم إليها، كما يدعي النص الذي سجله هذا القيل5.
__________
1 HANDBUCH, I, S. 132, BEITRAGE, S. 19. FF
2 SAB. INSCHRI., S. 15
3 SAB. INSCHRI., S. 18, MM I, RW 59, MM 4, 5.
4 SAB. INSCHRI., S. 24, MM 4
5 JAMME 601, MAHRAM, P.102, MAMB 205(4/47)
وكان لـ"سخيم" سلطان على فرع من قبيلة "سمعي"، هو الفرع الذي استقر في "حجر"، وقد اختار له "أقوالا" أقيالًا من "بني سخيم"، ولعل هذا الفرع ترك موطنه الأصلي لخصام وقع له مع بقية فروع "سمعي"، فهاجر إلى هذا الموضع، ونزل في جوار "سخيم"، وعد منهم، وحكمه لذلك أقيال من سخيم. ويجوز أن يكون هؤلاء السمعيون هم سكان هذه المنطقة في الأصل، إلا أن "سخيمًا" تغلبوا عليهم، وصارت لهم الإمارة في "شبام"، فصار "سمعي حجر" أتباعا لهم. والظاهر أن "حجر" كانت تعد ملك "سخيم" أو تابعة لسلطانهم السياسي؛ ولذلك كان أقيال "اليرسميين" من "بني سخيم" كذلك.
وقد كانت "سخيم" من القبائل المهمة في أيام "الشرح يحضب" "اليشرح يحضب". وقد ورد في كتابة عثر عليها في "شبام سخيم"، كتبها جماعة من "سمعي" التابعين لسخيم، حمد للآلهة وثناء عليها، إذ منت على أصحابها بالمنن والنعماء، ورجاء منها بأن تمن عليهم بالخير والبركة وعلى ملكهم "الشرح يحضب" "اليشرح يحضب" وأولاده وعلى "أقولهم" أقيالهم السخميين، أي من "بني سخيم"1. ويظهر أن رؤساءها اكتسبوا قبل تولي "الشرح" العرش قوة وسلطانًا جعلا قبيلتهم ذات مكانة حين صار العرش إليه.
وكما كان لملوك معين ومأرب وحمير وغيرهم قصورهم وحصونهم التي صارت رمزًا لهم ولشعوبهم، كذلك كان لملوك "سمعي" وسخيم قصرهم الذي عرف بهم، وهو "حصن ذي مرمر"، وقد بُني على مرتفع من الأرض يبلغ ارتفاعه زهاء "210" أمتار عن السهل الذي يقع فيه، فيشرف على مدينة "شبام سخيم" القديمة2, وهو حصن قوي، حُصِّن بسور متين ليمنع المهاجمين من الوصول إليه. وقد ذكر اسمه في عدد من الكتابات، وبقي هذا الحصن قائمًا إلى حوالي السنة "1583م", فهدمه والي اليمن العثماني ليبني بحجارته مدينة جديدة3.
وكان لسادات سخيم قصر يسمى "بيتن ريمن"، أي: "بيت ريمان"،
__________
1 SAB. INSCHR., S. 38, MM 24, BEITRAGE, S. 19.
2 BEITRAGE, S. 17, 18
3 BEITRAGE, S. 18, GLASER 1209(4/48)
وقد نعت أصحابه أنفسهم بـ"أبعل بيتن رمن"، أي: سادات وأرباب بيت ريمان1, وقد ورد اسمه في عدد من النصوص2. ويلاحظ أن أصحاب "بيت ريمان" كانوا أقيالًا على "يرسم".
ومن سادات وأرباب وأصحاب "أبعل" "بيت ريمان"، القيل "شر حعث أشوع" وابنه "مرثدم"، وهما من "سخيم". وكانا قيلين على بطن "يرسم" من بطون "سمعي" في أيام الملكين: "ثأران يهنعم" و"ملككرب يهأمن" "ملكي سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"3.
وكان "وهب أوم ياذف" "وهب أوَّام يأذف" وشقيقه "يدم يدرم" من أصحاب "بيت ريمان"، ومن أقيال "يرسم" التي هي من "سمعي" المكونة لثلث "حجرم"4.
ومن بطون "سمعي" التي تكون ثلث "حجرم", بطن "يرسم", وكان يحكمه في أيام "نشأكرب يأمن" وهو ابن "الشرح يحضب"، جماعة من "سخيم", وقد كلفوا محاربة "خولن جددن"، أي "خولان جددان". وكانت قد ثارت على "سبأ وذي ريدان"، فانتصروا عليها وأخذوا غنائم وأسرى منها، كما تعهد رؤساؤها بإطاعة أوامر الملوك5.
ومن أتباع "سخيم" عشيرة عرفت بـ"ذ مليحم" "ذي مليح"، وكانت تقيم في "الغراز"6. ويظهر أنها كانت في الأصل من المعينيين، ثم هاجرت إلى "شبام"، فنزلت على "بني سخيم"7, وقد هاجر غيرهم من المعينيين إلى أرض السبئيين، مثل "سريعم" أي: "بني سريع"، وهاجر غيرهم إلى أماكن أخرى. والظاهر أن هجرتهم هذه حدثت بعد ضعف معين8.
__________
1 راجع السطر الثالث من النص: Jamme 616, Mamb 199, Mahram, P 114
2 REP. EPIG. 4919, CIH 537, REP. EPIG. 4979
3 JAMME 670, MAMB 292, MAHRAM, PP.175
4 JAMME 718, 788, MAMB 56, 62, MAHRAM, P.202 234.
5 JAMME 616, MAMB 199, MAHRAM, PP.113
6 SAB. INSCHR., S. 204
7 SAB. INSCHR., S. 48, CIH 29, IV, I, I, P.46, GLASER, 281
8 SAB. INSCHR., S. 49(4/49)
وقد بلغنا نص دونه زعيم من زعماء "ذي مليحم" "ذي مليح" اسمه "وهب ذو سموى أكيف", تقربًا إلى الإله "تالب ريمم بعل كبدم" "تألب ريام بعل كبد"؛ لأنه أجاب دعاءه، فحفظه وساعده، وساعد ابنه وأتباعه، وذلك في أيام الملك "أنمار يهأمن" ملك سبأ ابن "وهب إيل يحز"1.
__________
1 MM 26, 120, SAB. INSCHR., S. 48, 141(4/50)
خسأ:
وخسأ من القبائل التي ذكرت في عدد من الكتابات، وكانوا نزولًا على "بني سخيم"، الذين كانوا يعدونهم سادة عليهم؛ لأنهم أصحاب الأرض1.
ويظهر أن جماعة من "خسأ" كانت قد نزلت أرض "الهان"؛ إذ ورد في نصٍّ: "خسا ذ الهن"، "خسأ ذو الهان". وتعني هذه الجملة أن "خسأ" كانوا يقيمون في موضع "ذي الهان"، أو "خسأ" أصحاب "الهان". وقد كان هؤلاء الخسئيون يجاورون قبيلة "عقريم" أي "عقرب"، "العقارب"2.
وعرف من الكتابات أن "خسأ" كانت تتعبد لإله خاص بها، هو الإله "قينن"، أي "قينان". ومن جملة المعابد التي خصصت به، معبد أُقيم له في "أوتن" "أوتان"، وقد تعبدت له أيضا بعض القبائل التي كانت متحالفة مع "خسأ"3. وقد ذكر "الهمداني" موضعًا سماه "قينان"4، قد يكون له صلة باسم ذلك الإله, ولم يبلغني أن المؤلفات العربية أشارت إلى هذا الإله.
وقد ورد اسم "الهان" علمًا في أرض في عدد من الكتابات5، كما ورد
__________
1 SAB. INSCHR., S. 195, "155", RW 2, CIH 8, IV, I, I, P.19, HALEVY 4, GLASER 9, ORIENTALLA, VOL., V, 1936, P.34
2 المصادر المذكورة.
3 CIH 8, 26, 560, HALEVY 4, GLASER 9, 26, PRAETORIUS, 9, PRIDEAUX 6, BR. MUS. 60, CIH, IV, I, I, P.19, 39, IV, II, IV, P.333
4 الإكليل "79"، الصفة "69، 100".
5 CIH 350, IV I, IV, P.420, WINCKLER, DIE SAB. INSCH. DER ZELT ALHAN NAHFAN, S. 29(4/50)
اسم علم لقبيلة. وربما كانت أرض "الهان" هي "مخلاف الهان" المذكور في المؤلفات الإسلامية1.
وقد ذكر "الهمداني" مخلاف "الهان"، فقال: إنه مخلاف واسع غربي حقل جهران، وإن "الهان" بلد مجمعها "الجنب" "جنب الهان"، ويسكنها "الهان بن مالك أخو همدان, وبطون من حمير"2، وذكره في مواضع من "الإكليل"3.
وورد في الكتابة الموسومة بـCIH 40 اسما قبيلتين مع اسم "الهان" هما: "مها نفم" "مهأنف"، و"بكيلم" أي: "بكيل".
وقد ذكر في إحدى الكتابات رجل يسمى "تهوان"، وكان من "ذي الهان"، تعاون واشترك مع "عقرب" "عقارب" في بناء محفد "صدقن" "صدقان"، وهو محرم الإله "قينان"، كما تعاون معهم في بناء بيت "يجر"4.
__________
1 SAB. INSCHR., S. 27, DENKMALER, S. 38, MLAKER, IN WZKM, XXIV, S. 71
2 الصفة "68، 71، 72، 79، 104، 105".
3 الإكليل "8/ 30، 58" "طبعة بنيه".
4 ORIENTALLA, VOL., V, "1936", P.22, 286(4/51)
عقرب:
وعرف من الكتابات اسم عشيرة أخرى هي "عقربم"، أي: "عقرب" أو "عقارب"، ولا يزال هذا الاسم معروفًا في العربية الجنوبية حتى الآن1. وقد ورد "العقارب" اسمًا لقبيلة زُعم أنها من نسل "ربيعة بن سعد بن خولان بن إلحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير"2، كما ورد اسمًا لجبل يعرف بـ"جبل العقارب"3, وقد عرف "العقارب" باسم "عقربي"4. وذكر "ابن مجاور" قبيلة "عقارب" في جملة القبائل الساكنة في منطقة "عدن"5، فلعل لهذه الأسماء
__________
1 SAB. INSCHR., S. 27, ORIENTALLA, VOL., V, 1936, P.28
2 نشر "ص13"، لب اللباب في علم الأنساب "38"
3 SAB. INSCHR., S. 28
4 SAB. INSCHR. S. 28, RITTER, ARABIEN, I, S. 675, VON MALTZEN, REISEN, S. 314, SAB. INSCHR., S. 28
5 SAB. INSCHR., S. 28(4/51)
صلة بقبيلة "عقرب" "عقارب" المذكورة.
وقد كانت "عقرب" تابعة لـ"بني سخيم" وحليفة لهم، ونازلة في جوارهم. يفهم ذلك من الجمل والتعبيرات في كتاباتهم الدالة على خضوعهم لـ"بني سخيم" مثل "آدم بن سخيم"، أي: "خول وخدم بني سخيم"1، فهو تعبير يدل على العبودية والخضوع.
__________
1 ORIENTALLA, VOL., V, "1936", P.22, 286, MM 7, RW 53, SAN.htm'A 1909, JEMEN, II, 337, SAB. INSCHR., S. 26(4/52)
خولان وردمان:
وخولان من القبائل الكبيرة القوية التي ذُكرت في عدد كبير من الكتابات العربية الجنوبية, وقد رأينا اسمهم لامعًا في أيام المعينيين. وقد ذكرت أنهم هاجموا مع السبئيين قافلة معينية كان يقودها "كبيران"، وحمد المعينيون آلهتهم وشكروها على نجاة هذه القافلة، وهي من القبائل العربية الحية السعيدة الحظ؛ لأنها ما تزال معروفة، ولها مع ذلك تأريخ قديم قد نصعد به إلى الألف الأول قبل الميلاد1.
ويرجع النسابون نسب "خولان" إلى "خولان بن عرو بن إلحاف بن قضاعة"2 أو إلى "خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن كهلان بن سبأ"3. ويميزون بين "خولان قضاعة" وهم إخوة "بَليّ" و"حيدان"، وبين "خولان أدد"4، وقد يذكرون "خولان" أخرى في "مذحج"5.
وقد صير اسم "خولان" بمرور الزمان، اسم رجل نسل ذرية تكاثرت وتوالدت، فكانت منها هذه القبيلة العظيمة، وقد جعل له النسابون أبًا وجدًّا
__________
1 ENCY., VOL., II, P.933
2 منتخبات "35"، "خولان بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ" البلدان "3/ 491"، "وخولان: قبيلة باليمن, وهو خولان ابن عمرو بن إلحافي بن قضاعة"، تاج العروس "7/ 312".
3 Ency., Vol., II, P.933
4 الإكليل "10/ 3".
5 الإكليل "10/ 3"، صبح الأعشى "1/ 326".(4/52)
وأجدادًا بعد هذا الجد، كما جعلوا له ولدًا ذكروا أسماءهم. ويمثل هذا النسب الاختلاط الذي كان بين الخولانيين وغيرهم من القبائل بمرور الزمان حتى أيام النسابين، فدون على نحو ما وصل إلى عملهم من أفواه الرواة.
ومواطن الخولانيين قديمًا أرضون متصلة بأرض السبئيين، فكانوا يسكنون في جوار "مأرب" و"صرواح"، وهي لب أرض سبأ، ثم هاجرت جماعات منهم فسكنت الأرضين العالية من شرق "صنعاء"، وقد قبل للخولانيين الذين سكنوا هذه المنطقة "خولان العالية"؛ تمييزًا لهم عن "خولان قضاعة"1, وهذا التمييز لا يستند إلى حقيقة، يمكن رَجْعُها إلى اختلاف النسب2. وإنما نشأ من اختلاف طبيعة المكان، ومن الأحوال السياسية والاقتصادية التي فرقت بين الخولانيين، وباعدت بين فروعهم، فظن أنهم من نسبين مختلفين.
وقد كان الخولانيون يتعبدون عند ظهور الإسلام لصنم لهم اسمه "عم أنس"3 "عميأنس". وقد ذكر "ياقوت الحموي" أنه "في خولان كانت النار التي تعبدها اليمن"4، ذكر ذلك في أثناء حديثه عن "مخلاف خولان" المنسوب إلى "خولان قضاعة". وقد تكون هذه العبادة -إن صح قول ياقوت- قد اقتُبِسَتْ من الفرس عَبَدَةِ النيران.
وقد ذهب "الويس شبرنكر" و"نيبور" إلى أن قبيلة "خولان" هي "حويلة" المذكورة في التوراة5، ولكن هناك صعوبات كثيرة تحول دون قبول هذا الرأي.
وقد اقترن اسم "خولان" باسم "ردمان" في كثير من النصوص, ويدل هذا بالطبع على وجود روابط وثيقة بين الجماعتين. وقد حكم الخولانيين والردمانيين أقيالٌ من "ذي معاهر"، فكان القيل سيدًا على القبيلتين في آن واحد في غالب الأحايين، وفي ذلك دلالة بالطبع على الصلات والروابط السياسية التي ربطت بين خولان وردمان وذي معاهر "ذ معهر".
__________
1 الإكليل "10/ 3".
2 Ency., II, P.933
3 الأصنام "ص43"، Ency., II, P.933
4 البلدان "3/ 491".
5 Ency., II, P.933(4/53)
وقد عرف الإسلاميون "أقيال ذي معاهر"، فذكرهم الهمداني في مواضع من كتابه "الإكليل"، ذكر مثلًا أن "شحرار قصر بقصوى مشيد ببلاط أحمر للقيل ذي معاهر"1، وذكر أيضًا "قصر وعلان بردمان، وهو عجيب، وهو قصر ذي معاهر، ومن حوله أموال عظيمة"2. ويشير قول الهمداني الأخير إلى الصلات التي تربط هؤلاء الأقيال بردمان، وإلى أن أولئك الأقيال كانوا يقيمون بأرض ردمان.
ويرى "كلاسر" أن قصر "وعلان" الذي هو في "ذي ردمان"، كان مقر أقيال "ذي معهر"، أي: أقيال ردمان3. فوعلان إذن هو قصرهم، وهو مثل القصور الأخرى التي كانت للملوك والأقيال, وهي قصور وحصون يُحتمَى بها إذا شُعِرَ بالخطر؛ ولذلك عُدَّت رمزًا للدولة وللحكم.
وترد لفظة "ذ معهر" علمًا في الكتابات على "ردمان" و"خولان"4. وقد ذكر أيضا في نص "أبرهة" الذي دونه سنة "543م" لمناسبة إصلاح سد مأرب وترميمه, إذ جاء فيه: "ذ معهر بن ملكن"5. وقد ذهب "كلاسر" إلى أن المراد من "ذي معهر" في هذا المكان, ابن "أبرهة"، وكان قد تلقب -على رأيه- بهذا اللقب، الذي يشير إلى قصر "ذي معهر" بردمان6.
ومن أقيال "ذي معاهر" الذين حكموا الخولانيين والردمانيين، القيل "قول" "كرب إسرع" "كرب أسرع"، وكان من أسرة غنية لها أرضون زراعية خصبة تُسقَى بمياه الآبار في وادي "ضفخ" "ضفخم"، ووادي "أخر" وفي أرض "ذات حراض" "ذات حرض", ووادي "مذيق"، وأماكن أخرى. وقد عُنيت أسرته بإصلاحها، وبإروائها من آبار حفرتها في هذه الأماكن، وكتبت ذلك على الحجارة7, تسجيلًا لعملها هذا؛ ليكون وثيقة شرعية بامتلاكها لهذه المواضع.
__________
1 الإكليل "8/ 53".
2 الإكليل "8/ 89"، "وذو معاهر -بالضم-: قيل من أقيال حمير, قاله ابن دريد. قلت: هو تبع حسان بن أسعد بن صيفي بن زرعة"، تاج العروس "3/ 432"، ابن دريد، الاشتقاق "312" Von Kremer, Sudarablsche, Sage, S. 90, 126
3 Beitrage, S. 39
4 Beitrage, S. 39
5 السطران: 82 و38 من نص أبرهة.
6 Beitrage, S. 39
7 Orientalia, Vol., I, "1932", P.32(4/54)
وورد اسم قيل آخر من أقيال "ذي معاهر" الذين حكموا القبيلتين المذكورتين هو القيل "كرب أسأر"، كانت له أملاك في أرض "ذات حرض" "ذات حراض" بوادي "مضيق"1.
وورد اسم قيل آخر حكم القبيلتين معًا، هو القيل "نصرم يهحمد" "نصر يهحمد" "ناصر يهحمد"2، وهو من "ذ معهر" "ذي معاهر". وقد دون هذه الكتابة لمناسبة قيامه بإصلاح أرض "وادي ملتنتم" "وادي ملتنت" حيث حفر آبارًا، وأنشأ سدودًا، زرع أشجارًا أثمرت، وبذر حبوبًا. وقد سجل ذلك ملكا خاصا بـ"آل معاهر" وباسمه, وأعلنه للناس في شهر "صيد" من سنة مائة وأربع وأربعين من التقويم السبئي، وتقابل سنة تسع وعشرين بعد الميلاد3.
ويعد هذا النص من النصوص المهمة، ولعله أقدم نص مؤرخ وفق تقويم ثابت معروف وصل إلينا4.
ويظهر من ذكر اسم الملك "العز يلط" وهو ملك حضرموت في هذا النص، ومن تعبير "القيل" صاحب النص عن الملك بلفظة "سيده"، أي سيد "نصر يهحمد": أنه كان تابعًا له، وفي أرض كانت إذ ذاك، أي: في النصف الأول من القرن الأول للميلاد، تحت حكم حكومة حضرموت. وقد دون هذا القيل أسماء الآلهة: "عثتر"، و"سين ذو علم"، و"عم ذو دونم"، و"وعلان"، و"عم ذو مبرم" إله "سليم"، و"عثتر ذو صنعتم"، و"ودّ إله منو ... "، و"ذات بعدان"، و"ذات ظهران"، و"عليت" إلهة "حررم" "حرر"، و"شمس" إلهة "وبنن" و"علفقن"5. ذكر كل هذه الآلهة، ولم يذكر إله سبأ الرئيس وهو "المقه"، وفي إغفاله اسم "المقه" دلالة على أنه لم يكن على صلة حسنة بالسبئيين، وأنه لم يكن يعترف بسيادتهم عليه؛ ذلك لأنه كان تحت حكم ملك حضرموت.
__________
1 LAPAR 4541, CIH 658, IV, III, I, P.92
2 GLASER 1430, 1619
3 REP. EPIG 3958, VII, I, P.12., STUDI. LEXI., III, S. 2
4 BACKGROUND, P.103
5 الفقرة الخامسة من النص إلى منتهى الفقرة الحادية عشرة.(4/55)
وقد ورد اسم "خولان" في نص مهم جدًّا تعرض لخبر حرب نشبت في أيام ملوك "سبأ"، سقط منه اسم الملك، وسقطت منه كلمات عدة وأسطر أضاعت المعنى.
وقد شارك أصحاب هذه الكتابة في هذه الحرب، وعادوا منها موفورين سالمين, ولذلك سجلوا شكرهم للإله "المقه" رب مدينة "حرونم" "حرون" "حروان"1؛ لأنه نجاهم، ومن عليهم بنعمة السلامة. ويفهم من الكلمات الباقية في النص أن قبيلة "خولان" كانت قد ثارت على سبأ، فجهز السبئيون حملة عسكرية عليهم، دحرت خولان، وتغلبت عليها، وحصل السبئيون على غنائم كثيرة. وكان يحكم "خولان" قيل لم يرد في النص اسمه، ولعله سقط من الكتابة، وقد أشير إليه بـ"ذي خولان"2.
وورد في نص "معيني" ما يفيد اعتراض جماعة غازين من الخولانيين لقافلة معينية كانت تسلك طريق "معان" التجاري، وقد أفلتت من أيدي الغزاة ونجت، ولذلك شكرت الآلهة؛ لأنها ساعدتها في محنتها، وحمتها، ونجَّتها من التَّهْلُكة، وعبرت عن شكرها هذا بتدوين النص المذكور. وقد وقفت على معبد "ودّ كسم" إله معين, وقفًا في أرض "أيم"3، كما سبق أن تحدثت عن تعرض الخولانيين والسبئيين لقافلة تجارية معينية في الطريق بين "ماون" "ماوان" و"رجمت" "رجمة". وفي هذين الخبرين دلالة على نشاط الخولانيين في مناطق تقع شمال اليمن قبل الميلاد بزمان، وعلى أنهم كانوا من الذين يتحرشون بالطرق التجارية ويعترضون سبل المارة، كما يفعل الأعراب. ولعل هؤلاء الخولانيين كانوا من الأعراب المتنقلين.
وقد حكم الردمانيين أقيال منهم أيضًا؛ فقد ورد في أحد النصوص: "قول ومحرج شعبن ردمن ذ سلفن"، أي: "قيل ومحرج قبيلة ردمان صاحبة سلفان"، ويقصد بـ"سلفان" "السلف" "السلاف"، فردمان هؤلاء أصحاب الكتابة هم "ردمان السلف" "السلاف"4. ولم يكن هذا القيل من "ذي معاهر".
__________
1 REP. EPIG 4137, VII, I, P.95, VA 3844
2 الفقرات: 9 و10 و11 و12 و13 من النص.
3 REP. EPIG 3695, VI, II, P.278, JAUSSEN – SAVIGNAE, MISSION, I, P.242, 732.
4 GLASER 275, 276, CIH 648, IV, III, I, P.82, OM 51, MORDTMANN, MUSE IMPERIAL OTTOMAN, "1895", PP.36(4/56)
والردمانيون هم من الشعوب العربية القديمة أيضًا، وقد ساعدوا القتبانيين مرارًا، وحالفوا شعبًا آخر هو شعب "مضحيم" "مضحي"، وتعاون الشعبان في مساعدة "قتبان" ضد سبأ1. وقد لعبوا دورًا مهمًّا في أيام عدد من ملوك سبأ، وقد كانوا من المناهضين لحكم "شعر أوتر"، ولما أرسل جيشًا عليهم لإنزال ضربة بهم قاوموه وأنزلوا خسائر كبيرة به2.
ويظهر أن أرض ردمان دخلت -بعد أن فقدت استقلالها- في جملة الأرضين التي خضعت لحكم قتبان، ثم استولت عليها بعد ذلك دولة حضرموت, ثم دخلت بعد ذلك في جملة أملاك دولة "سبأ وذي ريدان"3.
وقد ذهب "كلاسر" إلى أن شعب Rhadmael المذكور في بعض الموارد الكلاسيكية هو "ردمان"، ويؤيد قوله بما ذكره "بلينيوس" من أن الشعب المذكور ينتسب إلى جد اسمه Rhadmanthus، واسم هذا الجد قريب جدًّا من اسم "ردمان"4.
ويظهر من عدد من الكتابات المدونة في أيام "الشرح يحضب" أن أرض "ردمان" وقسمًا من أرض "خولان" كانت تابعة لملك حضرموت في ذلك الزمان، وأن قسمًا من خولان كان خاضعا لـ"أقيال جدن" "جدنم" أهل "حبب" "حباب" عند "صرواح". ومعنى هذا أن القسم الشرقي من أرض خولان الواقع شرق وادي "ذنه" عند أسفل أرض "مراد" كان هو القسم التابع لحضرموت في هذا الزمن. وأما القسم الأكبر، وهو القسم الشمالي الغربي من أرض خولان، فقد كان تابعًا في هذا الزمن لملك "سبأ وذي ريدان"5.
__________
1 MAHRAM, P.292, GEUKENS, 6, JAMME, ON A DRASTIC CUUENT REDUCTION OF SOUTH ARABIAN CHRONOLOGY, IN BOASOOR, NUM 145, 1957, P.29
2 MAHRAM, P.300
3 GLASER, SKIZZE, II, S. 35
4 GLASER, SKIZE, II, S. 137, PLINY, II, P.457, BOOK, VI, 158-159
5 BEITRAGE, S. 39(4/57)
جدن:
وورد اسم "جدن" في كتابات عهد "ملوك سبأ"، وهو اسم موضع(4/57)
واسم قبيلة. ويظهر منها أنهم كانوا أصحاب حكم وسلطان، بدليل ورود جملة هي: "أدم جدنم" أي "خول جدن" في كتابات دونها أناس كانوا في خدمتهم وولائهم1. ويذكرنا اسم "ذي جدن" المذكور في الكتب الإسلامية، وموضع "جدن" بهذا الاسم القديم2.
وورد اسم قبيلة أو أسرة عرفت بـ"ددن"، أي: "دادان" "ددان"، وقد ذكروا في جملة نصوص. فورد في أحدها أنهم تقدموا بوثن "صلمن" إلى معبد الإله "تألب ريام" المسمى بمعبد "خضعتن" "خضعة"، وهو في مدينة "أكانط"3, وتقع مدينة "أكنط" في بلد "همدان"4. وقد ذكرها "الهمداني" مرارًا في كتبه، وذكر أن فيها قصر "سنحار"5. وكان يسكن بها جماعة يعرفون بـ"زادان"، ينسبون إلى "مرثد بن جشم بن حاشد" على حد قول أصحاب الأنساب6.
وقبيلة "يهبلبح" من القبائل التي عاشت في عهد "ملوك سبأ" وقد ذكرت, في أمر أصدره الملك "يدع إيل بن يكرب ملك وتر"، في أمر تنظيم الجباية التي تؤخذ من هذه القبيلة ومن "سبأ" في مقابل استغلال الأرضين الخاضعة للدولة واستثمارها7.
__________
1 REP. EPIG. 852, 4069, 4668, II, III, P.224, VII, I, P.66, 306
2 منتخبات "ص18"، الإكليل "8/ 76" "طبعة بنيه".
3 CH 348, OM 6, CIH, IV, I, IV, P.415
4 الإكليل "8/ 92" "طبعة بنيه"، "10/ 40، 120"، الصفة "82، 110، 112".
5 الإكليل "8/ 92" "طبعة بنيه"، "10/ 120".
6 الإكليل "10/ 40".
7 HALEVY 51 + 638 + 650, GLASER 904, CIH 601, IV, III, I, P.2 REP. EPIG., V. II, P.68(4/58)
أربعن:
وجاء ذكر قبيلة اسمها في الكتابات "إربعن"، "أربعن" أو "أربعان" "أربعين"، كان يحكمها سادات، وقد لقبوا بلقب ملك، وقد عرفنا منهم "نبط آل" "نبط إيل"1، وقد ذكر في نص Halevy 51 الذي سجله الملك
__________
1 السطران 24 و25 من النص.(4/58)
"يكرب ملك يدع إيل بين"، الصادر في كيفية جمع الضرائب من القبائل. وعرفنا اسم ملك آخر، هو: "لحى عث بن سلحان"1 "لحيعث بن سلحن" وملك ثالث يدعى "عم أمن بن نبط إيل"، وكان من معاصري الملك "يثع أمر بين" ملك سبأ2.
ولم يكن ملوك "أربعن" ملوكًا كبارًا بالمعنى المفهوم من لفظة "ملك"، ولم تكن مملكة "أربعن" بالمعنى المفهوم من لفظة "مملكة"؛ وإنما كانوا أمراء قبيلة وسادات قبائل، تمتعوا بشيء من الاستقلال في حدود أرض قبيلتهم، وقد أعجبتهم لفظة "ملك" فحملوها. وقد كانوا في الواقع دون ملوك سبأ أو معين أو حضرموت أو قتبان بكثير، وكانت مملكة "أربعن" إمارة أو "مشيخة" كما نفهم من هذه اللفظة في المصطلح الحديث.
__________
1 KTB., I, S. 74, GLASER 1571
2 CIH 487, IV, II, II, P.188, FR 32, 39, LE MUSEON, LXII, 3-4, 1949, P.249, AيF 69.(4/59)
بتع:
رأينا أن سلالة من "بتع" حكمت "سبأ وذو ريدان". وقرأنا في الكتابات ولا سيما كتابات "حاز" وكتابات مواضع أخرى تقع في صميم "بلد همدان" أسماء رجال هم من "بني بتع"، فمن هم "بنو بتع"؟
والجواب: إن "بتع" قبيلة من قبائل "حاشد" و"حاشد" من همدان. فـ"بنو بتع" إذن هم من "همدان"؛ ولذلك نجد أن معظم الكتابات التي تعود إلى "بني بتع" عُثِرَ عليها في أرضين هي من مواطن همدان، مثل "حاز" و"بيت غفر" و"حجة"1 "حجت"، ومواضع أخرى هي من صميم أرض بتع2.
ويرد اسم "حاز" في مواضع من "صفة جزيرة العرب" و"الإكليل"،
__________
1 SAB. NSCHR., S. 63 RHODOKANAKIS UND VON WISSMAN, VORISLAMISCHE ALTERTUMER, S. 13
2 SAB. INSCHR., S. 63(4/59)
وقد قال عنها الهمداني: "وحاز: قرية عظيمة, وبها آثار جاهلية"1. وذكر أن سد "بتع" "الخشب" مما يصالي "حاز" ينسب إلى "بتع بن زيد بن همدان"2. وقد صيَّر "الهمداني" وغيره "بتعًا" اسم رجل، جعلوه جد "بني بتع"، وجعلوا له والدًا أسموه: "زيد بن همدان"، بينما هو اسم قبيلة في ذلك الوقت.
وكانت "بتع" على ما يتبين من النصوص، تتمتع بنفوذ واسع ومكانة ظاهرة، ولها أرضون واسعة تؤجرها للأفخاذ والبطون من "بتع" ومن غير "بتع"، تأتي إلى أقيالها بأرباح طائلة. وكان رؤساء البطون والأفخاذ الذين يؤجرون الأرضين من "بتع" يعدون أنفسهم بحكم إقامتهم في كنف أقيال "بتع" وفي جوارهم أتباعًا لهم، ولهم حق السيادة عليهم. ويعبرون عن ذلك في كتاباتهم بجملة: "إدم بتع" "أدم بتع"، أي: خول أو خدم بتع، ويقصدون بها أنهم كانوا أتباعًا لهم3. ويذكرون أسماء الأقيال في كتاباتهم، ويشيدون بفضلهم ومساعداتهم، ويدعون لهم فيها بطول العمر والخير والبركة، ويرجون من آلهتهم أن تزيد في سعادتهم ومكانتهم وأرباحهم.
وقد جمع "هارتمن" أسماء الأقيال البتعيين الذين وردت أسماؤهم في الكتابات، وهم: "برقم" "بارقم" "بارق", و"ذرح آل يحضل" "ذرح إيل يحضل"4, و"هوف عثت" "هوفعثت"5, و"لحى عثت أوكن" "لحيعثت أوكن"6, و"مرثد علن أسعد" "مرثد عيلان أسعد"7, و"نشاكرب أوتر" "نشأكرب أوتر"8، و "نشاكرب يزان" "نشأكرب يزأن"9, و"نشأكرب
__________
1 الصفحة "82، 107، 111، 117"، الإكليل "10/ 12، 117".
2 "يصالي يجاور لغة يمنية لا توجد في المعاجم صرف المؤلف منها بعض الصيغ في كتابة جزيرة العرب" الاكليل "10/ 12".
3 SAB. INSCHR., S. 63, CIH, 211, IV, I, III, P.252, GLASER 195
4 MM 46, 89
5 MM 953
6 CIH 130, IV, I, III, P.196
7 SAB. INSCHR., S. 63
8 CIH 342
9 CIH 154, 187, MM 105, 836, 1253(4/60)
نهفن يجعر"1، و"رب شمس نمرن" "رب شمس نمران" "ربشمس نمران"2, و"ردمم يرحب" "ردم يرحب"3، و"عريب بن يمجد"4، و"سعد أوم نمرن" "سعد أوام نمران"5, و"سخمن يهصبح" "سخمان يهصبح"6, و"شرحم يهحمد"7, و "شرحم غيلن" "شرح غيلان"8، و"شرحم" "شرح" "شارح"9، و"شرح ال" "شرح إيل"10، و"شرح عثت" "شرحعثت"11, و"شرحب ال" "شرحب إيل" "شرحبيل"12، و"كرب ... "13، و"يهمن" "يهامن" "يهأمن"14 وآخرون. ومن هؤلاء من ساد على "سمعي"، ومنهم من ساد على قبائل أخرى.
__________
1 CIH, IV, I, III, P.220, CIH 158, MM 34
2 CIH 164, IV, I, III, P.222, MM 826
3 SAB. INSCHR., S. 64, CIH 242, IV, I, III, P.270
4 "عريب ألن يمجد" "ألن"، "علن"، CIH 130, IV, I, III, P.196
5 CIH 226, SAB. INSCHR., S. 64
6 MM 31, 32, SAB. INSCHR., S. 64
7 CIH 172, 241, SAB. INSCH., S. 64, GLASER 156, CIH, IV, I, III, P.229
8 MM 117
9 CIH 158, IV, I, III, P.220, GLASER 141, SAB. INSCHR. S. 64
10 CIH 571, SAB. INSCHR., S. 64
11 CIH 222, IV, I, III, P.257, SAB. INSCHR., S. 64
12 CIH 130, IV, I, III, P.196, SAB. INSCHR. S. 64
13 GLASER 109
14 CIH 187, IV, I, III, 238, GLASER 171, SAB. INSCHR., S. 64(4/61)
سمعي:
ومن أتباع "بتع" عشيرة "سمعي"، ويظن بعض الباحثين أنها كانت في الأصل فرقة تجمع أفرادها عبادة الإله "تألب"، ثم أصبحت عشيرة من العشائر القاطنة في أرض همدان، توسعت وانتشرت وسكنت بين "حاشد" و"حملان" وفي "حجر"1. وكانت تستغل الأرضين التي يمتلكها الأقيال البتعيون، فكانوا يعدون أصحاب تلك الأرض أقيالًا عليهم، ونسبوا إلى الأرض التي أقاموا فيها أو العشائر التي نزلوا بينها، فورد "سمعي حملان" و"سمعي
__________
1 HANDBUCH, I, S. 132, GLASER 1210(4/61)
حشدم" أي: "سمعي حاشد"، و"سمعي حجرم" أي: "سمعي حجر".
و"سمعي حملان" هم السمعيون الذين استوطنوا أرض حملان، واختلطوا بالحملانيين؛ لذلك نسبوا إلى "حملان"، فقيل: "سمعي حملان". وأما "سمعي حشدم"؛ فهم السمعيون الذين سكنوا أرض حاشد، واختلطوا بقبيلة "حاشد" وقد كانوا يقطنون أرض "ريام". وأما "سمعي حجرم" أي: "سمعي حجر"، فهم سكان "حجر" على مقربة من "شبام"، وهم يكوِّنون جزءًا من "سمعي"، وقد ورد في الكتابات: "سمعي ثلث ذي حجرم"1.
وظهر من عدد من الكتابات أن عشيرة "سمعي"، قد كانت مملكة يحكمها ملوك، ولم تكن هذه المملكة بالطبع سوى "مشيخة" صغيرة بالقياس إلى مملكة سبأ، كما ورد اسم هذه العشيرة منفردًا، أي: إنه لم يقرن بحملان أو حاشد أو حجر أو غير ذلك من الأسماء. وفي ذلك دلالة على أنها قد كانت وحدة واحدة كسائر العشائر والقبائل، أو أن قسمًا من "سمعي" كان مستقلًّا منفردًا بشئونه لا يخضع لحكم قبيلة أخرى عليه، أو أن "سمعي" كانت في وقت تدوين تلك الكتابات قبيلة قوية، يحكمها ساداتها الذين لقبوا أنفسهم بألقاب الملوك، ثم أصابها ما يصيب غيرها من القبائل من تفكك وتجزؤ وتشتت، فتجزأت وطمع فيها الطامعون، فخضعت عشائر منها لحكم قبائل أخرى مثل: "حاشد" و"حملان" و"حجر".
ويصعب علينا بيان المدة التي تمتعت فيها هذه القبيلة بالاستقلال، وهو استقلال لم يكن بالبداهة مطلقًا، بل كان استقلالًا من نوع استقلال "المشايخ" والرؤساء: استقلالًا في التصرف في شئون القبيلة والمنطقة التي تتصرف فيها.
أما في العلاقات الخارجية، فيظهر أنها كانت مقيدة بسياسة الحكومات الكبيرة التي كانت لها السلطة والقوة مثل مملكة سبأ وذي ريدان.
ومن الملوك السمعيين الذين وصلت أسماؤهم إلينا، الملك "يهعن ذبين بن يسمع ال بن سمه كرب"، أي: "يهعان ذبيان بن يسمع إيل بن سمه كرب" "يهعان ذبيان بن إسماعيل بن سمه كرب"، والملك "سمه أفق بن سمه يفع"
__________
1 Sab. Nschr., S. 13(4/62)
"سمه أفق بن سمهيفع"1؛ جاء اسمهما في النص المعروف2 بـGlaser 302. وقد افتتحه الملك "يهعان" بالدعاء إلى الإله "تالب" "تألب" في معبده في "صبين" "صبيان" بأن ينعم عليه ويبارك له ولأولاده: "زيدم" "زيد" و"يزد ال" "يزيد إيل"، وأولادهما, وأملاكهم جميعًا وبيتهم المسمى بيت "يعد" "يعود" وأرضهم: أرض "تالقم" "تألق"، وفي الأملاك التي وُرِثَتْ عن الملك "سمعي أفق بن سمه يفع" ملك سمعي من أرض زراعية وقرى ومدن, وأرض "نعمن" "نعمان" وغيرها. وجاء في النص ذكر "بنو رأبان" "رابن" حلفاء "سمعي" و"عم شفق"، وهو "قول" قيل "يرسم"، و"أقولن" أقيال "يهيبب" و"أملك مريب"، أي "ملوك مأرب"، و"شعبن سمع"، أي قبيلة "سمع" "سميع"، و"كرب ال وتر" "كرب إيل وتر" ملك سبأ.
__________
1 CIH 37, CIH, IV, I, I, 55, GLASER 302, D. MULLER, SABAISCHE ALTERTHUMERS, XXXIX, "1886", S. 839
2 SAB. INSCHR., S. 65, ARABISCHE FRAGE, S. 389(4/63)
حملان:
وقد ورد اسم "حملان" في عدد من الكتابات, منها الكتابة الموسومة بـGlaser 179 التي دونت في أيام الملك "أنمار يهنعم بن وهب إيل يحز" ملك سبأ، دونها جماعة من "بتع"، وهي ناقصة؛ سقطت منها أسطر وكلمات1. وقد قدموا إلى الإله "تألب ريام" تمثالًا؛ لأنهم رجعوا سالمينَ من الحرب معافَيْنَ. ويظهر أن أصحاب هذه الكتابة قاموا مع الملك بغزو في أرض "حملان"، فلما رجعوا سالمين قدموا هذا النذر إلى الإله "تألب ريام"2.
وكان "بنو حملان" أتباعًا لـ"بتع", وقد ذكروا ذلك في كتاباتهم حيث دونوا جملة "أدم بتع"، كالذي ورد في الكتابة: CIH 224. وقد دونها رجال من "ذي حملان" "أدم بتع" لمناسبة بنائهم بيتهم و"مذقنة تريش"
__________
1 CIH 195, GLASER 179, MM 86
2 CIH, IV, I, III, P.243, SAB. INSCHR., S. 116, RW 120(4/63)
وذلك بتوفيق من الإله "تألب ريام بعل شعرم" وبمساعدة رؤسائهم وسادتهم ورئيسهم صاحب أرضهم "سخمان يهصبح" من "بتع"، وبمساعدة قبيلتهم الساكنة بمدينة "حاز"1.
__________
1 GLASER 208, RW 133, CIH IV, I, III, P.258, SAB. INSGHR., S. 70(4/64)
يهيبب:
وكان أقيال "سمعي" أقيالًا على عشيرة "يهيبب" "ي هـ ي ب ب" وهي عشيرة لا نعرف اليوم عنها شيئًا يذكر. ويرى "كلاسر" أن أرض "يهيبب" تقع على مقربة من مكة أو في جنوبها، ويرى احتمال وجود موضعين يقال لهما "يهيبب"؛ موضع قرب مكة أو في جنوبها، وموضع آخر على ساحل الخليج الذي سماه "بطلميوس" Sinus Sachalites, في الأرض التي اشتهرت عند "الكلاسيكيين" بالبخور واللبان، ولعله المكان الذي دعاه "بطلميوس" 1Jobaritae. ويرى أن الأول هو "يوباب" في التوراة2.
__________
1 GLASER, SKIZZE, II, S. 306
2 التكوين: الإصحاح العاشر، الآية 29، وأخبار الأيام الأول, الإصحاح الأول، الآية 21.(4/64)
يرسم:
وأما "يرسم" فقبيلة كانت تقيم في هذه المواضع من أرض همدان. وقد ورد في إحدى الكتابات اسم "قول" قيل يدعى "عم شفق بن سروم" "عمشفيق بن سروم" "عم شفيق بن سروم"، وكان من أقرباء ملك "سمعي"، وكانت أرضه عند "حدقان"1، وقد أشار "الهمداني" إلى "قصر حدقان"2, وكان هذا القيل من "سروم"3.
وكان أقيال "يرسم" من "بني سخيم"، وقد أشار "اليرسميون" إلى
__________
1 HANDBUCH, S. 132, ARABISCHE FRAGE, S. 378
2 الإكليل "8/ 83" "طبعة بنيه"، "10/ 16"، الصفة "81، 82، 109".
3 CIH, IV, I, I, P.55, GLASER 302(4/64)
ذلك في الكتابات، ومنها الكتابة الموسومة بـSE 8, وقد ذكرت فيها جملة: "يرسم ثلث ذ حجرم"، أي: "يرسم ثلث ذي حجر". ويفهم من هذه الجملة أن عشيرة "يرسم" كانت تستغل جزءًا من أرض حجر1. وورد في كتابات أخرى أن قيلًا من أقيالها كان من "سروم"2.
وقد ورد في كتابة أن جماعة من "بني الهان" و"عقرب" بَنَوْا محفدًا لهم، هو "محفد صدقن" "محفد صدقان" ليكون "محرمًا" للإله "قينان" أي: حرمًا لهذا الإله، في معبد "يجر"، وذلك بعون الإله "تألب ريام" "رب كبدم" "كبد" وقينان, وبمساعدة أصحاب أرضهم "بني سخيم" وقبيلة "يرسم"3. ومعنى هذا أن هذه القبائل كانت متجاورة متعاونة، وقد كانت تتعاون فيما بينها عند القيام بالأعمال الكبيرة التي تحتاج إلى مال ورجال, مثل هذا المعبد الذي خصص بعبادة الإله "قينان"، والذي بناه جماعة من "الهان" و"عقرب" بمساعدة وعون "بني سخيم" و"يرسم".
__________
1 ORIENTALLA, VOL., V, 1936, P.25, CIH 24, IV, I, I, P.36, GLASER 25, KTB., II, S. 69
2 CIH, IV, I, I, P.55, GLASER 302
3 ORIENTALLA, VOL., V, 1936, P.22, 286(4/65)
بنو سمع:
أما "بنو سمع" "بنو سميع"؛ فقد كانوا أتباعًا لـ"بني بتع" "أدم بن بتع" "أدم بني بتع"، كما يفهم من الكتابة CIH 343. وقد ورد فيها اسم الإله "تألب ريمم بعل قدمن ذ دمهن"، أي الإله "تألب ريام ربّ قدمان في ذي دمهان"1, وجاء اسم الإله "تألب ريمم بعل قدمن" في كتابة أخرى، أصحابها من "بن سمع" "بني سميع" كذلك. وقد ذكروا أنهم نذروا للإله صنمًا؛ ليقيهم ويقي أملاكهم ومقتنياتهم وما يملكونه بمدينة "مريب" أي: "مأرب"2.
__________
1 CIH 343, IV, I, IV, P.405
2 CIH 19, IV, I, I, P.29, GLASER 19, METHEILUNGEN, S. 68(4/65)
فمدينة "قدمن" "قدمان" إذن مدينة من مدن "السميعيين"، وبها معبد الإله "تألب" المعروف بـ"تألب ريام بعل قدمان", وتقع في أرض "دمهان". ويجوز أن يكون "قدمان" اسم موضع صغير في "دمهان"، أو اسم المعبد, وقد ورد في كتابات أخرى1.
__________
1 CIH 341, IV, I, IV, P.405(4/66)
رمس:
وجاء اسم عشيرة "رمس" في الكتابة MM 137، وهي كتابة مدونة على أطراف إناء ثمين جدًّا, قدم نذرًا إلى الإلهة "ذات بعدان" أي الشمس1. والظاهر أن عشيرة "رمس" كانت تجاور عشيرة "سميع"، وأنها كانت تملك أرضين تجاور الأرض التي نزلت بها "سميع"، وتؤجرها لغيرها كما يتبين ذلك من استعمال جملة "أدم رمسم" أي: "خول رمس"، وكلمة "أمراهمو" التي تعني "أمراؤهم" في بعض الكتابات. حيث يفهم من أمثال هذه التعابير أن الرمسيين كانوا يحكمون عشائر أخرى كانت نازلة في أرضهم وتعيش في كنفهم وجوارهم. وقد ورد اسم "الرمسيين" في كتاب "صفة جزيرة العرب"، فلعل لهم علاقة وصلة بهؤلاء الرمسيين2.
وأما عشيرة "رابن" "رأبان" التي ورد ذكرها في النص Glaser 302 أي3: نص الملك "يهعن" "يهعان" ملك "سمعي", فهم عشيرة قديمة كانت في أيام المكربين وفي أيام ملوك سبأ, وكانت مواطنها أرض "نهم" وأعالي "الخارد", ولكنهم تنقلوا إلى مناطق أخرى بعد ذلك. والظاهر أنهم Rabanitae أو Raabeni الذين كان يحكمهم ملك يعرف بـIlasaros على ما ورد في الكتب "الكلاسيكية"4. وإذا صح أنهم هم "رأبان" دل ذلك على أن "الرأبانيين" قد تمكنوا من الاستقلال ومن تكوين مملكة أو "مشيخة" تلقب رؤساؤها بألقاب الملوك.
__________
1 SAB. INSCHR., S. 144, RW 102, CIH 341, IV, I, IV, P.402. MORDTMANN UND MULLER, SAB. DENKMALER, S. 42
2 الصفة "ص94 سطر 23".
3 GLASER, MITTHEILUNGEN, S. I
4 GLASER, SKIZZE, II, S. 59, FORSTER, II, P.238(4/66)
سقران:
ومن أتباع "بتع" عشيرة معروفة تقع منازلها في منطقة "حاز" عُثر على عدد من الكتابات تعود إليها في "حاز" و"بيت غفر" و"حجة"، وهذه العشيرة هي "سقرن" أو "سقران"1.
ويظهر من جملة: "أدم بن بتع" "أدم بني بتع" التي وردت في كتاباتهم أنهم كانوا أتباعًا لبتع ولسادات "بتع" الذين كانوا "أقولًا"، أي: "أقيالًا" على السقرانيين. والظاهر أنهم كانوا يعيشون في كنف "البتعيين" وفي أرضهم يستأجرونها منهم ويستغلونها مقابل إتاوة يدفعونها لبتع، وهم يؤجرونها لمن دونهم من العشائر والأفراد؛ لورود عدد من الكتابات دوَّنها أناس اعترفوا بسيادة "سقران" عليهم وبأنهم "إدم" "أدم" أي: أتباع لهم2.
__________
1 CIH 156, 221, 239, SAB. INSCHR., S. 87
2 MM 126, 127, CIH 156, SAB. INSCHR., S. 86(4/67)
قرعمتن:
وورد في الكتابات اسم عشيرة عرفت بـ"قرعمتن" "قرعمتان"، ويظهر أنها كانت في جوار "بتع" و"سقرن" "سقران", وقد عرفت الأرض التي نزلت بها بهذا الاسم كذلك1.
__________
1 CIH 342, OM IIA, B, RW 82, SAB. INSCHR., S. 148, 149, MORDTMANN, SAB. DENKMALER, S. 43(4/67)
الفصل السابع والعشرون: ملوك سبأ وذو ريدان
نحن الآن في عهد جديد من عهود تأريخ مملكة "سبأ"، هو عهد ملوك "سبأ وذو ريدان". لقد كان حكام "سبأ" يتلقبون كما رأينا بلقب "ملوك سبأ"، أما لقبهم في هذا العهد فهو "ملوك سبأ وذو ريدان".
ففي حوالي السنة "115ق. م" أو في حوالي السنة "118ق. م."، أو بعد ذلك بتسع سنين، أي: في حوالي السنة "109"1، خلع "ملوك سبأ" لقبهم القديم واستبدلوا به لقبًا آخر حبيبًا جديدًا، هو لقب "ملك سبأ وذي ريدان"؛ إشارة إلى ضم "ريدان" إلى تاج سبأ. وبقي هذا اللقب مستعملًا حتى أيام الملك "شهر يهرعش" "ملك سبأ وذي ريدان", ثم بدا له رأي دفعه لتغييره، فاتخذ بدله لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" دلالةً على توسع رقعة سبأ مرة أخرى، فدخلت بذلك حكومة سبأ في عهد ملكي جديد.
هذا ما كان عليه رأي أكثر الباحثين في تأريخ سبأ, في زمن نشوء لقب "ملك سبأ وذي ريدان" وفي سبب ظهوره عند السبئيين. وقد اتجه رأي الباحثين المتأخرين إلى أن ظهور هذا اللقب إنما كان قد وقع بعد ذلك، وأن "الشرح يحضب" الذي هو أول من حمل ذلك اللقب لم يحكم في هذا الزمن، وإنما
__________
1 Background, P.97(4/68)
حكم بعد ذلك في أواخر القرن الأول قبل الميلاد إبان حملة "أوليوس غالوس" على العربية الجنوبية في حوالي السنة "24ق. م."، وعلى ذلك يكون اللقب المذكور قد ظهر في أواخر القرن الأول قبل الميلاد، لا في سنة "115" أو "109" قبل الميلاد1.
وبناء على هذا الرأي الحديث المتأخر، لا تكون لسنة "115ق. م" أية علاقة بهذا اللقب الجديد، بل لا بد أن تكون لها صلة بحادث مهم آخر كان له وَقْعٌ في تأريخ العربية الجنوبية؛ ولهذا جعل مبدأ لتقويم يُؤَرَّخ به. وقد زعم بعض الباحثين أن ذلك الحادث هو سقوط مملكة معين في أيدي السبئيين وزوال حكم الملوك عنها، وخضوع المعينيين لحكم "ملوك سبأ". ولما كان ذلك من الأمور المهمة في سياسة الحكم في العربية الجنوبية، جُعِلَ مبدأً لتقويم يؤرخ به.
ورأى بعض آخر أن السنة المذكورة، هي سنة انتصار سبأ على "قتبان"، واستيلائها عليها وضمها إلى حكومة سبأ. و"ريدان" قصر ملوك سبأ، ومقر سكنهم وحكمهم. ونظرًا لأهمية هذه السنة اتخذت مبدأ لتأريخ، وبداية لتقويم.
وإذا أخذنا بهذا التفسير المتأخر، وجب علينا إذن ترك هذا الزمان واتخاذ زمان آخر لظهور لقب "ملك سبأ وذي ريدان"، وهو زمان يجب ألا يبعد كثيرًا عن السنة "30ق. م.". ففي هذا الزمن كان حكم "الشرح يحضب" و"شعرم أوتر" على رأي القائلين بهذا الرأي من علماء العربيات الجنوبية.
ويعد تأريخ "سبأ وذو ريدان" من أصعب عهود تأريخ "سبأ" كتابةً، على كثرة ما عثر عليه من كتابات طويلة أو قصيرة تعود إلى هذا العهد2. ولا نزال في توقع كتابات أخرى نأمل أن تسد من الثغرات والفجوات التي لم تتمكن الكتابات التي وصلت إلينا من سدها، ولا أن تزيل الغموض الذي يحيط بهذا التأريخ.
لقد عثر -كما قلت- على كتابات عديدة دونت في هذا العهد، ومنها ما عثر عليه حديثًا, ولكنها لم تخفف من عنائنا مما نلاقيه من مشكلات عن تأريخ
__________
1 مثل "ملاكر" "Mlaker" و"ريكمنس" وآخرين، Beitrage, S. 142
2 Handbuch, I, S. 89(4/69)
هذه الحقبة، بل زادت أحيانًا من مشكلاتنا هذه؛ فقد جاءت بأسماء متشابهة وبأخبار اضطرت الباحثين إلى تغيير وجهات نظرهم في كثير مما كتبوه تغييرًا مستمرًّا, وإلى إعادة النظر في القوائم التي وضعوها لحكام هذا العهد، كما باعدت بين وجهات نظر بعضهم عن بعض؛ فصارت لدينا جملة آراء تمثل وجهات نظر متباينة.
وتأريخ هذا العهد هو تأريخ مضطرب قلق، نرى "الشرح يحضب" يلقب نفسه فيه بـ"ملك سبأ وذي ريدان"، ثم نرى خصمًا له يلقب نفسه باللقب نفسه، مما يدل على وجود خصومة ونزاع واختلاف على العرش، لا اتفاق وائتلاف. ثم نجد كتابات أخرى تدين بالولاء لـ"الشرح يحضب" ولخصمه معًا, وفي وقت واحد، وفي كتابة واحدة، وهو مما يشير ويدل على وجود اتفاق وائتلاف. وهذه الكتابات تزيد من متاعب المؤرخ وتجعل من الصعب عليه التوصل إلى نتائج تأريخية مرضية مقنعة.
وترينا كتابات هذا العهد أن الوضع كان قلقًا مضطربًا, وأن حروبًا متوالية كانت تقع في تلك الأيام، لا تنتهي حرب إلا وتليها حرب أخرى, وأن المنتصر في الحرب كان كالخاسر, فهو ينتصر في حرب ثم يخسر في حرب أخرى؛ وذلك لأن كفاءات مؤججي تلك الحروب كانت في مستوى واحد. ولهذا كان الخاسر فيها لا يلبث أن يعود بسرعة فيقف على رجليه, يحمل سيفه ليحارب من جديد, حتى كادت الحروب تصير هواية، أو لعبة مألوفة، أما الخاسر الوحيد فهو: الشعب, أي: الناس المساكين التابعون لحكامهم، الذين يكونون السواد، لكنه سواد لا رأي له في حكم ما ولا كلمة, يساق من حرب إلى حرب، فيسمع ويطيع؛ لعدم وجود قوة له تمكنه من الامتناع.
والمتشاجرون البارزون في تلك المعارك والحروب، هم سادات "همدان"، وسادات حمير، أصحاب "ريدان"، وسادات حضرموت وقتبان، وأقيال وأذواء وأصحاب أطماع وطموح، أرادوا اقتناص الفرص لتوسيع نفوذهم، واصطياد الحكم وانتزاعه من الجالسين على عرشه. ووضعٌ مثل هذا، أضعف العربية الجنوبية بالطبع، وأطمع الحبش فيها، حتى صيرهم طرفًا آخر في النزاع، وفريقًا عركًا قويًّا من فرق اللعب بالسيوف في ميدان العربية الجنوبية،(4/70)
يلعب مع هذا الفريق ثم يلعب مع فريق آخر، ضد الفرق الأخرى, وغايته من لعبه التغلب على كل الفرق وتصفيتها؛ ليلعب وحده في ميادين تلك البلاد. لذلك نجد أخبار تدخل الحبشة في شئون هذا العهد وفي العهد الذي جاء بعده، بارزة واضحة مكتوبة في كتابات أهل العربية الجنوبية, ومكتوبة في بعض كتابات الحبش.
وقد رأينا في الفصل السابق كيف تخاصم بيتان من بيوت همدان هما بيتا: "علهان نهفان" و"فرعم ينهب" بعضهما مع بعض على الاستئثار بالحكم، والسيادة على مملكة سبأ, وكيف أن كل بيت من البيتين كان يدعي أن له الحكم والملك، وأنه ملك سبأ، أو "ملك سبأ وذو ريدان"، وأنه هو الملك الحق.
ثم رأينا أن "شعر أوتر" "شعرم أوتر"، صار يلقب نفسه بلقب "ملك سبأ وذو ريدان"، وأن خصمه "الشرح يحضب" لقب نفسه بهذا اللقب أيضا، ومعنى ذلك حكم سبأ لأرض "ريدان" وهي أرض حمير على أغلب الآراء. وقد رأينا أن تلك الخصومة، لم تبقَ مجرد خصومة ونزاع وادعاء على ملك، بل كانت خصومة عنيفة اقترنت بمعارك وحروب.
وليس في الكتابات التي بين أيدينا حتى الآن أي خبر يشرح لنا كيف انضمت حمير إلى سبأ، أو كيف لقب "الشرح يحضب" أو معاصره "شعر أوتر" أنفسهما بلقب "ملك سبأ وذي ريدان" وماذا كان موقف ملوك حمير من هذا الاندماج. ولما كان كلا الرجلين "الشرح يحضب" و"شعر أوتر" من همدان، فهل يعني هذا أن الهمدانيين كانوا قد تمكنوا من حمير وغلبوا ملوك حمير على أمرهم، واضطروهم إلى الخضوع لحكمهم، فاعترفوا بسيادتهم عليهم، وتعبيرًا عن ذلك الاعتراف وضعوا: "ذا ريدان" بعد اللقب الملكي القديم؟ إن الإجابة عن هذا السؤال, لا يمكن أن تكون إجابة مقبولة إلا بعد أمد، فلعل الأيام تجود على الباحثين بكتابات حميرية تشرح موقف حمير الرسمي من هذا اللقب، كأن تعطيهم اللقب الذي كان يلقب الحميريون به ملوكهم، أو تشرح علاقة أولئك الملوك بـ"ملوك سبأ وذي ريدان"، وماذا كان موقف ملوك "ريدان" من ملوك "سلحن" "سلحين" حصن "مأرب" ومقر الملوك.
ولكننا سنجد فيما بعد أن الحميريين لم يكفوا عن قتال "الشرح يحضب"،(4/71)
ولا عن قتال "شعرم أوتر" "شعر أوتر" حتى بعد تلقبهما بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، كما سنرى أن قسمًا من قبائل حمير كان في جانب "شعر أوتر" وأن قسمًا آخر كان في جانب "الشرح يحضب" وأن قسمًا ثالثًا كان خصمًا عنيدًا للجانبين، وكان في جانب خصوم ملوك "سبأ وذي ريدان". ومعنى هذا أن اللقب الجديد, لم يغنِ أصحابه من قتال حمير, وأن الحميريين ظلوا يقاومون العهد الجديد غير مبالين بدعاوى ملوك همدان، وقد دام القتال كما سنرى عهدًا طويلًا أضر بالجانبين من غير شك.
وقد أصاب هذا النزاع العربية الجنوبية بأسوأ النتائج، فهدمت مدن، وخربت قرى، وتحولت مزارع كانت خضراء يانعة إلى صحارى مجدبة عبوسة.
وتأثر اقتصاد البلاد باستمرار الحروب، وبهروب الناس من مواطنهم ومن مراكز عملهم إلى مواطن بعيدة؛ فتوقفت الأعمال، وسادت الفتن والفوضى. وقد كان المأمول تحسن الأوضاع بعد توسع ملك مملكة سبأ واندماج الإمارات وحكومات المدن فيها وانتقال السلطة إلى ملك واحد ذي ملك واسع، إلا أن هذا التنافس الشديد الذي أثاره المتنافسون على عرش المملكة، أفسد كل فائدة كانت ترجى من هذا التطور السياسي الخطير الذي طرأ على نظام الحكم في العربية السعيدة.
وقد برهنت حملة الرومان على العربية السعيدة وقد وقعت في هذا العهد، وكذلك حملات الحبش وقد وقعت في هذا العهد أيضا، على أن حكومة "سبأ وذو ريدان" لم تكن حكومة قوية متماسكة، ولم تكن لديها قوات حربية قوية ولا جيوش منظمة مدربة، حتى لقد زعم من أرخ تلك الحملة من الكَتَبَة اليونان، أن الرومان لم يقاتلوا العرب، ولم يصطدموا بقواتهم اصطدامًا فعليًّا على نحو اصطدام الجيوش، وأن المحاربين العرب لم يكونوا يملكون أسلحة حربية من الأسلحة المعروفة التي تستعملها الجيوش، وأن كل ما كان عندهم هو الفئوس والحجارة والعصي والسيوف؛ ولذلك لم يتجاسروا على الالتحام بالرومان, وقد لاقى الرومان من الحر والعطش والجوع ما جعلهم يقررون التراجع والعودة إلى بلادهم؛ فهلك أكثرهم من العوامل المذكورة. ويؤيد هذا الرأي أيضا توغل الحبش في العربية الجنوبية وتدخلهم في أمورها الداخلية، مع أنها دون الرومان في القوة وفي التنظيم الحربي بكثير. وتوغلهم هذا يدل على أن العربية الجنوبية(4/72)
لم تكن تملك إذ ذاك قوة بحرية قوية, بحيث تقف أمام الحبش وتمنعهم من الوصول إلى السواحل العربية, مع أن الحبش أنفسهم لم يكونوا يملكون قوة بحرية يعتد بها. ولعل الرومان ساعدوهم في نزولهم في البلاد العربية؛ لأنهم كانوا تحت تأثيرهم, كما صاروا تحت تأثير الروم، أي: البيزنطيين من بعدهم، ولا سيما بعد دخولهم في النصرانية.
ويبدأ عهد "ملوك سبأ وذو ريدان" بالنزاع الذي كان بين "الشرح يحضب" وأخيه "يزل بين" "يأزل بين" ابني "فرعم ينهب" من جهة، وبين "شعرم أوتر" و"يرم أيمن"، وهما ابنا "علهان نهفان" "علهن نهفن" من جهة أخرى. وهو في أصله نزاع قديم له تأريخ سابق ومقدمات ترجع إلى أيام أجداد الطرفين، فالنزاع الذي فتح به عهد "سبأ وذو ريدان"، هو فصل أول من جزء من كتاب هو جزء متمم لكتاب سابق. ولا نريد هنا أن نعيد الحديث عن تلك الخصومة التي شغلت الأجيال الأخيرة من مملكة سبأ.
وحظ "الشرح يحضب" لا بأس به, بالقياس إلى من تقدمه من المكربين أو الملوك، فقد بقي حيًّا في الإسلام، وخلد في كتب الإسلاميين، فذكره "الهمداني" في كتابه "الإكليل"، وسماه "ألى شرح يحضب"، ونسب إليه قصر "غمدان"، وروى له شعرًا زعم أنه قاله، وذكر أن "بلقيس" هي ابنته1. وحكى "ياقوت الحموي" قصة في جملة القصص التي رواها الأخباريون عن بناء قصر "غمدان"، نسبها إلى "ابن الكلبي"، زعم فيها أن باني هذا القصر هو "ليشرح بن يحصب"2. و"ليشرح بن يحصب" هو "الشرح يحضب", وقد ذكر في صور أخرى، مثل "أبي شرح" و"يحضب شرح"، وهي -ولا شك- من تحريفات النساخ.
ونسب "الطبري" بلقيس إلى "إيليشرح"، فجعلها ابنته3. أما "حمزة الأصبهاني"، فقد جعلها "بلقيس بنت هداد بن شراحيل"4, وقد قصد بـ"شراحيل" "الشرح يحضب"، ولا شك، فصيرها حفيدة له.
__________
1 الإكليل "8/ 19 وما بعدها" "8/ 24".
2 البلدان "6/ 301".
3 الطبري "1/ 566" "طبعة دار المعارف".
4 حمزة "ص83".(4/73)
وهكذا رفع أهل الأخبار أيام "الشرح يحضب"، فصيَّروها في عهد "سليمان" مع وجود فرق كبير جدًّا بين زماني الرجلين.
وقد نص في الكتابات على أصل "فرعم ينهب"، فذكر أنه من "بكيل"1, وذكر أنه من "مرثد"، و"مرثد" عشيرة من عشائر "بكيل"2. فهو إذن من قبيلة "همدان"، من غير شك، إلا أننا لا نعرف عنه ولا عن والده شيئًا يذكر, فلا ندري أكان والده من البارزين المعروفين في أيامه أم لا. ونستطيع أن نقول بكل تأكيد: إنه لم يكن ملكًا، وإلا ذكر اسمه وأشير إليه وإلى لقبه في النصوص التي ورد فيها اسم ابنه "شعرم أوتر" "شعر أوتر". ومعنى ذلك أن ابنه "شعر أوتر" لم يكن من الأسر المالكة الحاكمة، بل انتزع الملك بنفسه, وكون نفسه بنفسه، ومهد الحكم بذلك لولديه: "الشرح يحضب" و"يأزل بين".
وقد ورد اسم "فرعم ينهب" "فرع ينهب" "فارع ينهب" في النصوص: Jamme 566 وCIH 299 و"نشر: رقم 59". وأشير في النص Jamme 566 إلى "الشرح يحضب" و"يأزل بين" ابني "فرع ينهب"، ولكنه لم يذكر بعد الاسمين واسم الوالد جملة: "أملك سبا"، أي: "ملوك سبأ"، بل ذكر "ملك سبأ"، أي: إن هذا اللقب يعود إلى "فرع ينهب"، كما أنه ذكرت في السطرين الأول والثاني جملة: "رَجُلَيْ ملكن"، أي "رجلي الملك"، مما يدل على أنه قصد ملكًا واحدًا، هو "فرع ينهب". وأما لفظة "رجلي"، فتعني: "ربشمس أضاد" "ربشمس أضأد", و"سعد شمسم" "سعد شمس" شقيقه، وقد كانا مقربيْنِ عند الملك يقضيانِ أموره، فهما الرجلان المختاران عنده، وموضع سره3.
وقد لقب "فرع ينهب" في النص: "نشر 59" بـ"ملك سبأ", وقد ذكر فيه أسماء إلهين، هما: "بعل أوَّام"، أي المقه، و"سمع" "سميع" وهو "بعل حرمتن"، اسم مكان فيه معبده4.
__________
1 A. F. L. BEESTON, PROBLEMS OF SABAEAN CHRONOLOGY, P.53, MAHRAM, P.308
2 MAHRAM, P.308
3 JAMME 566, MA PI 2, MAHRAM, P.48, LE MUSEON, 1967, 1-2, P.285
4 نشر: الرقم 259، ص76 وما بعدها.(4/74)
ويرى "فون وزمن" أن الملك "فرعم ينهب" "فرع ينهب" "فارع ينهب" "الفارع ينهب"، هو الملك الوحيد الذي نعرفه في هذا العهد. ويرى أن سبب عدم تحرش حمير به، هو بسبب كونه ملكًا لقبائل سبئية محتمية بأرضين مرتفعة محصنة. ويرى أن عهد مشاركة ابنيه معه في الحكم، كان في أيام وجود "ياسر يهنعم الأول" وابنه "شمر يهرعش الثاني" في "ظفار" و"مأرب", ويرى أيضا أن "فرع ينهب" وابنيه كانوا ثلاثتهم تابعين لسلطان ملوك حمير: "ملوك سبأ وذو ريدان"1.
كان "الشرح يحضب" مقاتلًا محاربًا، ذكر أنه قاتل في أيام أبيه "فرعم ينهب" حمير وحضرموت؛ لتحرشهم بسبأ وغزوهم لها2. وقد سجل خبر حربه هذه معهم في كتابة وصلت إلينا، سقط منها اسم صاحبها، يفهم منها أن صاحبها قدم إلى معبد "المقه" المقام في "ذ هرن" "ذي هران" وثنًا مصنوعًا من الذهب، حمدًا له وشكرًا؛ لأنه مكَّن سيده "الشرح يحضب بن فرعم ينهب" من أعدائه، ومَنَّ عليه بالنصر وأوقع بعدوه هزيمة منكرة وخسائر جسيمة، ولأنه نصر سيديه "الشرح" وشقيقه "يأزل بين" في غزوهما حمير وحضرموت، ولأنه مكنهما وهما على رأس جيوش "سبأ" و"بحض" "باحض" من الانتصار على قوات "إظلم بن زبنر" "أظلم بن زبنر"3.
ولم ترد في هذا النص إشارة إلى موقف الهمدانيين من حضرموت وحمير في حربهما هذه مع سبأ، فلم يرد فيه أنهم ساعدوهم أو اشتركوا معهم. أما "أظلم بن زبفر"، فالظاهر أنه هو الذي كان يقود القوات المشتركة التي حاربت السبئيين، قوات حمير وحضرموت.
وفي النص Glaser 119 خبر غزو "الشرح يحضب" أرض حمير وحضرموت ولم يكن "الشرح" يومئذٍ ملكًا، ولكنه كان في درجة "كبر" أي "كبير" على "أقين" "أقيان" "كبر أقين" "كبير أقيان", وهي الدرجة التي كان عليها حتى صار ملكًا. وقد عاد "الشرح" بغنائم كثيرة، وبعدد كبير من الأسرى, ووصل لهيب هذه الحرب إلى أرض "خولان". وقد قدم
__________
1 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.476
2 HANDBUCH., I, S. 92
3 MARGOLIOUTH, TWO SOUTH ARABIAN INSCRIPTINS, P.I(4/75)
صاحب هذه الكتابة إلى حاميه وإلهه "ومن بعل علمن" "رمان بعل علمان"، الحمد والشكر على هذا التوفيق الذي وفقه لـ"الشرح"، وقدم إلى معبده نذرًا هو وثن "صلمن" تعبيرًا عن هذا الشكر1.
والكتابات التي نُعِتَ "الشرح يحضب" فيها بـ"كبر أقين" "كبير أقيان" إذن هي من الكتابات القديمة من أيامه يوم كان في درجة "كبر" "كبير"، أي: في منصب عالٍ رفيع من مناصب الدولة. فقد عثر على كتابات في "شبام أقيان" وفي "شبام سخيم"، ظهر منها أنها من هذا العهد.
ومنطقة "أقيان" التي كان "الشرح يحضب" "كبيرًا" عليها، هي "شبام أقيان", وتقع عند سفح "جبل كوكبان"2.
أصبح للحميريين في هذا الوقت شأن يذكر؛ أصبحوا قوة فعالة في السياسة العربية الجنوبية، وزَجُّوا أنفسهم في هذا النزاع الداخلي في حكومة سبأ دون أن يقيدوا أنفسهم بجبهة معينة, كانت سياستهم هي مصلحتهم. وأما حضرموت فقد كانت تفتش عن حليف لها لتحافظ على حياتها وكيانها؛ كانت قد تحالفت مع "علهان" على حكومة مرثد، وحافظت على عهدها هذا، فأيدت جانب "شعرم أوتر" في نزاعه مع الشرح يحضب.
غير أن مملكة حضرموت لم تبقَ مدة طويلة إلى جانب "شعر أوتر"؛ إذ نراها -كما يظهر من النص Glaser 825- في حرب معه أيام تلقبه بلقب "ملك سبأ وذو ريدان". وربما كان اختلافهما على أسلاب "قتبان" هو سبب افتراق حضرموت عن همدان, فقد تمكن "شعر أوتر" من الاستيلاء على جزء من أرض حمير ومن استمالة قسم من حمير إليه، بينما مال قسم آخر إلى "الشرح يحضب". وأرادت حضرموت ضم أرض "ردمان" إليها، وأرض ردمان من الأرضين التي كانت تابعة لمملكة قتبان، وهنا وقع الاختلاف؛ فقد كان "شعر أوتر" يريدها لنفسه، فحارب من أجلها في المعركة التي وقعت عند
__________
1 GLASER 119, ABESSIN., S. 105, CIH 140, CIH, IV, I, III, P.203, WINCKLER, DIE SAB. INSCHR. DER ZELT ALHAN NAHFAN'S S. 24, SAB. INSCHR., S. 15, LE MUSEON, 1964, 3-4, P.459, MAHRAM, P.310
2 BEITRAGE, S. 18(4/76)
"ديرم" "ديريم" "دير"1.
ويظهر من الكتابة المذكورة أن الردمانيين انتهزوا فرصة الحرب التي نشبت بين "شعر أوتر" و"العز" ملك حضرموت، فأغاروا على أرض سبأ، وقصدوا سد مأرب ليلحقوا به أضرارًا، غير أن قبيلة "حملان" التي كانت تحرس السد قابلتها وأرجعتها إلى حيث أتت, وبذلك أخفق غزو ردمان ولم ينل السد أي سوء كان2. وقد يكون هذا الهجوم بأمر من ملك حضرموت، كانت الغاية منه إنزال ضربة قاصمة بالسبئيين؛ بتخريب سدهم الذي هو عرق الحياة بالقياس إليهم وإلى مأرب العاصمة، فترتاح بذلك حضرموت. وقد كان هذا الغزو في أيام "الشرح".
وأغلب الظن أن وقوع هذا الغزو كان أثناء الحرب التي نشبت بين "شعر أوتر" وملك حضرموت.
وقد كان "الشرح يحضب" يومئذٍ ضد حضرموت, وقد ورد اسمه في النص المذكور إلا أن لم يشر إلى موقفه منها، ولكن ذكر على العادة اسمه ولقبه ثم ذكر اسم "شعر أوتر" بعده، فلا ندري أكان قد أسهم هو أيضا في هذه الحرب مع "شعر أوتر"، أم وقف موقف المتفرج ينتظر النتيجة ليعين موقفه من بعد. مهما يكن من شيء فقد أحس ملك حضرموت بموقف "الشرح"، وعرف أنه يريد أن يتربص به، فأوعز إلى الردمانيين بغزو أرض مأرب وبتهديم السد على نحو ما ذكرت.
وقد حارب الردمانيون الحضارمة كذلك، وكانوا في هذا الزمن حلفاء لحمير. ويرى بعض الباحثين أن حمير كانت إلى جانب "الشرح يحضب"، وقد ساعدته في قتاله الحضارمة3. وفي النص المذكور مواضع غامضة ونواقص تحتاج إلى دراسة جديدة وإعادة نظر في صحة نقل الكتابة عن الأصل.
ولم تنقطع حروب "الشرح يحضب" مع حمير وحضرموت بعد توليه العرش، فإنا لنجد في نص أن "الشرح"، وكان يومئذٍ ملكًا على "سبأ وذي ريدان"
__________
1 GLASER 825, CIH 334, BERLIN 2672, GLASER, ABESSI., S. 109, WINCKLER, DIE SAB. INSCHRI. DER ZEIT ALHAN NAHFAN'S, S. 17, HANDBUCH, I, S. 93
2 BEITRAGE, S. 38
3 MAHRAM, P.311(4/77)
قد حارب الحميريين والحضرميين، وكان أخوه إذ ذاك يشاركه في لقبه هذا1. وقد انتصر فيها على أعدائه، غير أن مثل هذه الانتصارات وفي مثل تلك الأيام وفي أرض وعرة متموجة قبلية، لا يمكن أن تكون انتصارات حاسمة تأتي بنتائج إيجابية لمدة طويلة؛ ذلك لأن المغلوبين سرعان ما يجمعون شملهم أو يتحالفون مع قبائل أخرى، فيعلنون حربًا أخرى، والحروب كما نعلم جزء من حياة القبائل.
وقد ورد اسم "الشرح يحضب" وأخيه "يأزل بين" في النص الموسوم2 بـGlaser 220، وهو نص دونه جماعة من "بني بتع"، و"بنو بتع" هم من "همدان". دونوه عند إتمامهم بناء "معبد" و"مزود"؛ تيمنًا به وتخليدًا له، وليقف الناس على زمن البناء ذكروا اسمي الملكين.
ولم يرد فيه اسم "شعرم أوتر" أو غيره من نسله مع أنهم من "بتع"، و"شعرم أوتر" من "بني بتع". وقد يكون من تعليل ذلك أن هؤلاء البتعيين كانوا من أتباع "الشرح يحضب"، وأن قسمًا من "بتع" كانوا مع "الشرح"، فلم يشيروا إلى اسم "شعرم أوتر"، وقد يكون تعليله أن "شعرم أوتر" كان قد توفي قبل "الشرح"، أو أن "الشرح" كان قد تغلب عليه، أو على من ولي الأمر بعده، ولم يعد أمامه أحدٌ ينافسه من البتعيين.
وفي الكتابات التي وسمت بـJamme 574 وJamme 575 وJamme 590 / 5، وهي كتابات عثر عليها منذ عهد غير بعيد، أخبارٌ عن معارك وحروب وقعت بين الملك "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل بين" من جهة، وبين الأحباش ومن كان إلى جانبهم من قبائل من جهة أخرى. يحدثنا الملكان في النص: Jamme 574 أنهما انتقما "نقمن" من الحبش ومن حلفائهم قبائل "سهرتن" "سهرة"، وذلك في معارك وقعت في مقراتهم "بمقرهمو"، أي: منازلهم وديارهم الثابتة في وادي سهام، فأنزلا بهم خسائر فادحة، ثم توجه الملك "الشرح يحضب" ومعه بعض جيشه وبعض أقياله لمحاربة "أحزب حبشت" أي: أحزاب الحبشة، ويريد بهم فلول الحبش وجيوشهم، التقى بها في وادي
__________
1 Handbuch, I, S. 92, Background, P.94
2 Glaser 220, Cih 241, Iv, I, Iii, P.269(4/78)
سردد، واشتبك بالحبش وبقبائل سهرة في موضعين, حيث جرت معارك معهم في موضع "ودفتن" "ودفتان" وموضع "وديفان" "ودفن"، ثم في "لقح". ثم اشتبك بعد هذه المعارك بخمس وعشرين جماعة من جماعات "أكسمن" و"جمدن" "جمدان" و"عكم" عك، وبجماعات من سهرة, وقد أنزل بكل هذه الجماعات خسائر فادحة، وغنم منها غنائم كبيرة، وأخذ منها أسرى وماشية كثيرة، ثم عاد إلى مدينة "هجرن صنعو" صنعاء. وحين وصل إليها جاءه رسل "تنبلتم" "جمدن" "جمدان" ومعهم أطفالهم يريدون أن يضعوهم ودائع عنده، تعبيرًا عن طاعتهم له، وإقرارًا بخضوعهم لحكمه. فحفظهم رهائن عنده, وقد أقسموا, وأقسم قوم من أهل "لقح" يمين الإخلاص والطاعة، وحمد "الشرح يحضب" مع شقيقه "المقه ثهوان" على هذا التوفيق1.
ويظهر من هذا النص أن الأحباش، ومعهم أهل "سهرة" الذين كانوا قد استقروا واستوطنوا "وادي سهام"، كانوا قد تحرشوا بالسبئيين، وقاتلوا جيوش "الشرح يحضب", أي: جيوش مملكة "سبأ وذي ريدان", فقرر الملك الانتقام منهم والأخذ بثأره، فاتجه نحو الشمال حيث تقابل مع الحبش في "وادي سردد"، على مسافة "40" كيلومترًا شمال مدينة "الحديدة". فوقعت معارك بينه وبينهم في سهل "ودفين" "ودفتان" و"دفن" "ووفان"، وفي أرض "لقح" "لقاح". وقد تقابل السبئيون بعد "لقاح" بجماعات عددها خمس وعشرون جماعة من "أكسوم" و"جمدن" "جمدان"، وعك، وسهرة, غلبها جيش "الشرح" وشتت شملها. ثم عاد الملك بعد ذلك إلى "صنعاء"، حيث استقبل رسل "جمدن"، على نحو ما ذكرت.
ويحدثنا النص Jamme 575 عن معارك وقعت أيضا بين "الشرح يحضب" وأخيه "يأزل بين" من جهة، وبين الأحباش وحلفائهم عشائر "سهرة" وعشائر أخرى من جهة ثانية، ويذكر أن الملك "الشرح يحضب" وضع خطة محاربة الأحباش وحلفائهم وهو في "صنعاء". وبعد أن أتم كل شيء، أرسل مقدمة من الأدلاء "بقد ميهمو دلولم"؛ لتتعرف على مواضع العصابات المنشقة,
__________
1 Jamme 574, Mamb 153, Mahram, P.60(4/79)
ثم سار الجيش إلى أرض عشائر "سهرة" حيث أبلغ بوجود عصابات فيها، كانت منتشرة في كل مكان ابتداءً من موضع حصن "وحدة" "وحدت" "عرن وحدت". فلما رأت العصابات ذلك الجيش، ظعنت "ظعنو" إلى البحر "لبحرن"، فتعقب آثارها حتى أدركها فحاربها. ثم التف حول الحبش وحلفائهم من "عك" و"سهرة" الذين كانوا قد عسكروا بعيدًا عن مواضع أطفالهم وأموالهم، فأعمل الجيش فيهم السيف، فقتل منهم عددًا كبيرًا وذبح الحبش، حتى صاروا بين قتيل أو أسير، وحصل جيش "الشرح" على غنائم كثيرة من هؤلاء.
ثم اتجه جيش "الشرح يحضب" بعد هذه المعارك نحو الشرق؛ لمنازلة فلول الأحباش وبقيتهم, وكذلك عك وبقية حلفائهم، فبلغ موضع "عينم" "عين" و"هعان" "هعن"، واصطدم بهم، فأعمل فيهم السيف حتى تغلب عليهم وأخذ منهم عددًا كبيرًا من الأسرى واستولى على غنائم كبيرة، عاد بها حيث وضعت أمام شقيق "الشرح يحضب"، أي: "يأزل بين" في "صنعاء" وفي قصر "سلحن" سلحين، أي: قصر الملك في مأرب1.
ولا نعلم شيئًا أكيدًا عن موضع حصن "وحدت" "وحدة"، ويظن بعض الباحثين أنه لا يبعد كثيرًا عن وادي "صور"، وهو أقرب إلى البحر منه إلى الهضاب؛ ذلك لأن العصابات كانت قد هرعت منه إلى البحر، لتنجو بنفسها من تعقب جيش "الشرح" لها. وهناك وادٍ يسمى "وادي وحدة"، وهو في أرض حمير، غرب "قعطبة" التي تقع على مسافة "125" كيلومترًا شمال غرب "عدن" وحوالي "170" كيلومترًا شمال شرقي "مخا"2.
ولا نعلم شيئا أكيدا عن موضع "عينم" "عين" "العين"، وإذا ذهبنا إلى أنه موضع "العين" الذي يقع على مسافة أربعين كيلومترًا من شمال شرق صنعاء وزهاء عشرة كيلومترات من جنوب غربي عمران، وإذا فرضنا أن "هعن" وهو الموضع الثاني الذي جرى فيه القتال هو موضع "هواع" الذي يقع على مسافة "35" كيلومترًا من شمال غرب عمران، فإن ذلك يقربنا من
__________
1 Jamme 575, Mamb 224, Mahram P.64
2 Mahram, P.316(4/80)
منازل قبائل "بكيل" المذكورة في السطر الثالث من النص، حيث كانت قد اشتركت مع الحبش في قتال جيش "الشرح يحضب" كما يفهم منه. وهذا مما يحملنا على الذهاب إلى أن "عينم" هي "العين"، وأن "هعن" هي "هواع"1.
وقد أشير في نص وسم بـJamme 590 إلى معارك وحروب وقعت مع عشائر "سهرة"، إذ يحدثنا في هذا النص "وهب أوم" و"سعد أوم"، وهما من بني "كربم" "كرب" و"معدنم" "معدن"، بأنهما قدما إلى الإله "المقه" "بعل أوام" تمثالًا؛ لأنه مَنَّ عليهما فأعادهما سالميْنِ من "سهرة"، حيث قاتلا هناك مع سيدهما "الشرح يحضب"، ولأنه أعادهما سالمين من المعارك التي جرت فيها، وكانا في جيش هذا الملك، حيث هوجمت قطعات "مصر" جيش ذي ريدان في حقل "ريمتم" "ريمت" "ريمة"، ولأنه أنعم عليهما بغنائم كثيرة وبأسرى، ولكي يديم نعمه عليهما وعلى سيديهما الملكين2.
وتنبئنا النصوص: Jamme 578 وJamme 580 وJamme 581 وJamme 586 وJamme 589 بأن الملكين الأخوين حاربا "كرب إيل ذي ريدان" وكل من كان معه من كتائب محاربة "كل مصر" وقبائل "أشعب" ومن محاربي حمير الذين حاربوا إلى جانبه وحالفوه وكذلك "ولدعم"، أي القتبانيين. وقد اجتمعت كل هذه القوى تحت إمرة "كرب إيل" وتقدمت نحو "حقل حرمتم" "حرمة"، ففاجأتها قوات الملكين عند "أساي" "أسأى" و"قرنهن" "قرننهن" حتى "عروشتن" و"ظلمن" "ضلمان" و"هكربم" "هكرب"، فأذاقتها الموت، ومع ذلك بقيت تلك القوات منشقة خارجة على طاعة الملكين، تباغت قواتهما بين الحين والحين، تغدر وتخون، لا تراعي ذمة ولا تخشى عقابًا، على الرغم من الخسائر التي حلت بها؛ فقرر الملكان عندئذ محاربتها، وسارت قواتهما إلى "كرب إيل ذي ريدان" وإلى حلفائه الذين انضموا إليه وساعدوه: من حمير ومن قتبان، ومن أقيال وجيوش وفرسان،
__________
1 Mahram, P.316
2 Jamme 590, Mamb 181, Mahram, P.96(4/81)
وكانوا قد تجمعوا في وادي "إظور" "أظور"، ولما وصلت قوات الملكين، اشتبكت بهم عند مدينتي "يكلا" "يكلأ" و"إبون" "أبون"، فتغلبت عليهم قوات الملكين، واضطرت بعض كتائب "كرب إيل" إلى التقهقر إلى مواطنها، وغادر "كرب إيل" المكان تاركًا فيه من تبقى من جيشه ولم يرسل رسلًا عنه، وسرعان ما أعلنوا انصياعهم لأوامر الملكين وخضوعهم لها، وحلفوا على الطاعة. أما "كرب إيل ذي ريدان" فقد لجأ إلى مدينة "هكرم" "هكر" فتحصن بها، وأغلق أبوابها، فاضطر الملكان إلى قصد أرض حمير، ومحاصرة المدينة التي اقتحمت ونهبت1.
يظهر مما تقدم أن قوات "الشرح يحضب" هاجمت قوات "كرب إيل ذي ريدان" في أرض "حرمتم" "حرمة" في بادئ الأمر، وتقع على مقربة من جبل "أتوت"، جنوب شرقي "ريدة". وقد ألحقت قوات "الشرح" بقوات "كرب إيل" خسائر متعددة، وهزمتها في جملة معارك وقعت فيما بين "أساي" "أسأى" و"قرننهن" "قرننهان"، وامتدت حتى "عرشتن" و"ظلمن" "ظلمان" و"هكربم" "هكر", وهي مواضع لا نعرف من أمرها شيئا يذكر. ويظن أن موضع "عروشتن" هو "العروش" في أرض "رداع". وهناك مواضع أخرى يقال لها "عروش"، منها موضع ذكره "كلاسر" وسماه "بلاد العروش"، ويقع على مسافة "95" كيلومترًا جنوبي غربي مأرب، وزهاء "70" كيلومترًا جنوبي شرقي صنعاء، وموضع آخر يسمى بهذا الاسم يقع في منتصف طريق صرواح وذمار2.
وهناك موضع يقال له: "ظلمة" "ظلمه"، يقع على مسيرة ثلاث ساعات من غرب "سحول" السحول, و"سحول" في أرض حمير. ويقع وادي سحول في شمال "إب"، فلعل له علاقة بموضوع "ظلمان"3.
ويظهر من النص Jamme 578 أن "كرب إيل" بعد أن أصيب بهزائم في أرض "حرمة" في المعارك التي أشرت إليها، نبذته قبائل حمير، فاضطر إلى أن يتراجع إلى أماكن أخرى؛ ليجمع فلوله ويضم إليه من بقي مواليًا له،
__________
1 Jamme 578, Mamb 263, Jamme 589, Mamb 179, Mahram, Pp.83, 96
2 Mahram, P.317
3 Mahram, P.317(4/82)
فاستطاع أن يجمع أعوانه وأنصاره ومن كان يميل إليه ويؤيده، جمعهم في وادي "أظور"، غير أن قوات الملكين هاجمته فأصابته بهزيمة اضطُرَّ على أثرها إلى الالتجاء إلى مدينتي "يكلا" "يكلأ" و"إبون" "أبون" "أبوان"، وأجبر على أن يعطي عهدًا بالولاء للملكين، وعلى الاعتراف بسيادتهما عليه, إلا أنه تحصن بمدينة "هكرم" "هكر"، وامتنع بها وأغلق عليه الأبواب عندما جاءته قوات الملكين تطلب منه الاستسلام. وهاجمت قوات الملكين المدينة، واستباحتها؛ فاضطر "كرب إيل" إلى الاستسلام وإعلان طاعته وخضوعه للملكين1.
ويحدثنا النص: Jamme 586 بأن الملكين تمكنا من سحق عصيان حمير ومن إنزال خسائر فادحة بمحاربيهم ومن تأديب عشائرها، ثم أنزلا خسائر فادحة بقوات "كرب إيل" وبكتائب حمير المحاربة التي كانت معه، وغنما من هذه المعارك غنائم كثيرة. وقد قام صاحب النص بغارة مع أربعين جنديًّا على منطقة "سرعن" "سرعان"، فوجدوا هناك مائة جندي من جنود حمير فباغتوهم، وقتلوا منهم سبعة وعشرين نفرًا، ثم تقدم صاحب النص على رأس قوة مكوَّنة من خمسين جنديًّا من "سرعان"، فهاجم قبيلة "قشمم" "قشم"، وتمكن رجاله من قتل "الزاد" الزأد" من عشيرة "ربحم" "ربح" "رباح"، ومن قتل واحد وخمسين محاربًا من رجاله. ثم عاد مع رجاله بغنائم كثيرة وبعدد من الأسرى2.
ويظهر أن القتيل "الزاد" "الزأد" كان رئيسًا من رؤساء العشائر، ومن مثيري الاضطرابات والفتن، ومن العصاة على حكم سبأ وذي ريدان. وأما "قشم" فقبيلة أو عشيرة، كانت منازلها جنوب "ردمان" وغرب "مضحيم" "مضحي"3.
وقد سجل الملكان أخبار انتصارات لهما في نص موسوم بـJamme 576, وقد افتتح نصهما بمقدمة تخبر أن الملكين انتصرا بفضل توفيق الإله "المقه ثهون" "المقه ثهوان" ومساعدته لهما على جميع أعدائهما من المحاربين والقبائل ومن ثار عليهما، ابتداءً من القبائل النازلة في الشمال وفي الجنوب إلى المحاربين الذين
__________
1 Mahram Pp.317-318
2 Jamme 586, Mamb 262, Mahram, P.93
3 Jamme, P.318(4/83)
حاربوا على اليابسة وفي البحر1، وأنهما لذلك شكرا إلههما بأن قدما إليه تماثيل تعبيرًا عن حمدهما له ولمننه الطائلة عليهما، ولأنه وفقهما أيضا في أسر "ملكم" مالك، ملك "كدت" "كدة" "كندة"، وأسر جماعة من سادات قبيلة "كدت" "كدة" "كندة"؛ لأن "مالكًا" كان قد ساعد أعداء "المقه" وأعداء الملكين: "مراقيس بن عوفم" "مراقيس" امرأ القيس بن عوف، ملك "خصصتن" "خصصتان". وقد وضعوا في مدينة "مرب"، وبقوا فيها إلى أن سلم لهما الشاب "مراقيس" "مرأقيس"، وكذلك ابن الملك "مالك" وأبناء سادات كندة؛ ليكونوا رهائن عندهما، فلا يحنثوا بيمين الطاعة للملكين, وقد سلموا للملكين أفراسًا وحيوانات ركوب وجمالًا2.
ويظهر من الفقرة المتقدمة من النص أن "مالكًا" كان من "كندة" "كدة" وكان ملكا عليهما أيام حكم "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل بين", وقد ساعد "مراقيس" "مرأقيس" "امرأ القيس" ملك مملكة صغيرة اسمها "خصصتن" "خصصان"، الذي كان ضد سبأ، فأثارت هذه المساعدة غضب الملكين، فساقا جيوشهما على كندة وعلى "خصصتن". وقد انتصرا عليهما، فأسر ملك كندة، وأسر معه عدد من سادات كندة، فأخذوا إلى مدينة تسمى "مرب"، يظن الباحثون أنها ليست "مأرب"، بل مدينة أخرى من مدن شعب "مرب"، Marabites الذي يسكن أرض عدن، ووضعوا رهائن فيها، إلى أن جيء بـ"مراقيس" "مرأقيس"، وهو ملك شاب، وبابن ملك كندة وبأولاد سادات كندة حيث وضعوا رهائن عند الملكين؛ ليضمنا بذلك بقاء كندة ومملكة "خصصتن" على الطاعة والإخلاص لهما3.
ويظن أن أرض مملكة "كدت" "كدة" "كندة" كانت في جنوب "قشم", وأما أرض "خصصتن" فتقع في أرض "عدن"4.
__________
1 الفقرة الأولى من النص: Jamme 567, Mamb 212, Geuken 3, Mahram, P.67
2 الفقرة الثانية من النص،
Ryckmans 535, Von Wissmann, Zur Geschichte, S. 404, Die Araber, Ii, S. 322
3 D. H. Muller, Al-Hamdani, 53, 124, W. Caskel, Entdeckungen In Arabien, Koln, 1954, S. 9. Mahram, P.318
4 Mahram, P.318(4/84)
وقد تحدث الملكان بعد انتهاء كلامهما على كندة وعلى"خصصتن" عن حملات تأديبية انتقامية أرسلاها على أحزاب "أحزب" حبشية محاربة، أي: عصابات منهم كانت تعيث فسادًا فتغير وتغزو، وعلى عشائر "سهرة"، وعلى "شمر ذي ريدان"، وعشائر حمير؛ وذلك لأن كل من ذكروا حنثوا بيمينهم وخاسوا بوعدهم الذي قطعوه على أنفسهم، فثاروا على ملكي "سبأ وذي ريدان", فخرج الملكان من "مأرب" إلى "صنعاء"؛ لمحاربة "شمر ذي ريدان" وعشائر حمير و"ردمان" و"مضحيم" "مضحي". وقاد الملك "الشرح يحضب" بعض أقياله وجيشه وفرسانه ودخل أرض حمير، حيث حطم مقاومة حمير وقمع ثورتها، واقتحم "بيت ذ شمتن" "بيت شمتان" ومدينة "دلل" دلال و"بيت يهر" ومدينة "أظور" على حدود أرض "قشم"، وأباح تلك المدن وحصل منها على غنائم طائلة وأسر كثيرين1، ثم عاد إلى معسكره بين مأرب وصنعاء2.
ويظهر من هذا الخبر أن "شمر ذي ريدان" ومن كان معه من عشائر حمير ومن الحبش وعشائر "سهرة"، خاصم ملكي سبأ، فجرد الملك "الشرح يحضب" حملة عسكرية عليه وعلى حلفائه قادها بنفسه، فتمكن كما يذكر في نصه من الانتصار عليها ومن التغلب على المتحالفين ومن فتح المدن المذكورة. غير أن هذا النصر لم يحقق له إسكات "شمر ذي ريدان" وإخماد حركته وحركات من كان معه، إذ سرعان ما عاد "شمر" إلى العصيان وإلى الثورة على ملكي سبأ، وإلى تجدد القتال بينه وبينهما، وسرعان ما عاد مع حلفائه الحبش يقارعون جيش "سبأ وذي ريدان" بالسيوف في معارك عديدة ذكرت في النص: Jamme 576, وفي نصوص أخرى.
فبينما كان الملك "الشرح يحضب" مع جنوده في معسكراته بين مأرب وصنعاء، أرسل "شمر ذي ريدان" كتائب "مصر" من حمير إلى الأرض المحيطة بمدينة "باسن" "بأسان" وإلى المدينة نفسها، التي هي "بوسان"؛ لتقوية استحكاماته هناك، وللاستعداد لمقاومة "سبأ وذي ريدان"، فأسرع
__________
1 الفقرة الرابعة من النص.
2 Mahram, P.319.(4/85)
"الشرح يحضب" وتقدم على رأس أقياله وقواده وجيوشه نحو المدينة المذكورة، ففتحها واستباحها، وحصل جنوده على أسرى وغنائم، ثم اتجه الملك "الشرح يحضب" منها نحو سهل "درجعن" "درجعان"، فلم يجد أحدًا يحاربه؛ لأن قوات "شمر" كانت قد انسحبت منه، فاتجه منه إلى أرض "مهانفم" مهأنف، وأرسل قوات خاطفة سريعة غزت سكانها، وتمكنت منهم وحصلت على غنائم كثيرة وعلى أسرى، ثم اجتازت قوات الملك حمر "مقلن" "يلرن" يلران، قاصدة مدينة "تعرمن" "تعرمان"، فافتتحتها وأسرت أهلها, ثم عادت بأسراها وبغنائمها إلى معسكراتها بمدينة "نعض" "ناعض" فرحةً مسرورة1.
وقبيلة "مهانف" "مهأنف" من القبائل المعروفة، التي ورد اسمها في عدد من الكتابات. وقد اقترن اسمها باسم قبيلة "بكيل" في النص: CIH 140، وذكرت مع قبيلة أخرى تسمى "ظهر" ظهار2.
وعاد "الشرح يحضب" فقاد جيشه لغزو القسم الشرقي من أرض "قشمم" "قشم"، فتمكن منه، وافتتح مدينة "أيضمم" "أيضم" وكل الأماكن الواقعة في هذه المنطقة من "قشم"، ثم عاد الجيش إلى معسكراته في مدينة "نعض"3.
وتحرك الملك "الشرح يحضب" مرة أخرى، فخرج من مدينة "نعض" على رأس قواته إلى أرض قبيلة "مهانفم" "مهأنف"، وكانت قواته تتألف من مشاة وفرسان، وفتح مدينتي "عثي" و"عثر"، وأخذ منهما غنائم كثيرة، وحصل على أسرى، ثم تركهما واتجه نحو مدينة "مذرحم" "مذرح" وهي مدينة عشيرة "مذرحم" "مذرح" "مذراح"، فحاربها وحارب عشيرة "مهأنف" التي فرت إلى مدينة "ضفو" "ضاف"، ففتحها وأخذ غنائم منها، ثم غادرها إلى مدينة "يكلا" "يكلأ" "يكلئ" حيث وجد بعض رؤساء ريدان وبعض كتائب حمير، فالتحم بهم وهزمهم من موضع
__________
1 الفقرة السادسة والسابعة من النص.
2 Jamme 651, Mahram, P.319
3 الفقرة السابعة من النص.(4/86)
"مرحضن" "مرحضان"، وتعقب فلولهم حتى بلغ "يكلا" "يكلأ"، وعندئذ عادت قوات "الشرح يحضب" إلى مدينة "نعض"، حيث معسكرها الدائم1.
وقد انتهز الحميريون فرصة انسحاب قوات "الشرح يحضب" إلى "نعض" ففاوضوا رؤساء "يكلا" "يكلأ" على الاتفاق معهم للانتقام من السبئيين ولمهاجمة وادي "سر نجررم" "وادي نجرر" فأسرع الملك "الشرح" نحو "يكلا"، فبلغه أن رؤساءها لم يكونوا على وفاق مع حمير، وأنهم دفعوهم عنهم، فعاد الملك إلى قواعد جيشه في مدينة "نعض"، ثم غادرها إلى "صنعاء"2.
وعلم الملك "الشرح يحضب"، وهو في "صنعاء" بأن "شمر ذي ريدان" قد أرسل رسلًا إلى "عذبة" "عذبت" عذبة ملك "أكسوم" ليدعوه إلى شد أزر "شمر" ومساعدته على "الشرح يحضب"؛ فقرر الملك الإسراع لمباغتة "شمر" ومن كان يؤيده، وترك "صنعاء" في الحال؛ لمباغتة عشائر حمير و"ردمان" و"مضحيم" "مضحي"، وأرسل في الوقت نفسه رسلا إلى الحبشة "حبشت"3. وقد هاجمت قواته سهل "حرور" و"أرصم" "أرص" و"درجعن"، فتغلبت على سكان هذه المواضع، وأخذت منهم أسرى وغنائم. وقد سار جيش الملك حتى بلغ موضعي "قريب" و"قرس" "قريس"، فردم آبارهما، واستولى على مدينة "قريس"، واتجه "الشرح يحضب" من هذه المدينة نحو أرض "يهبشر" و"مقرام" "مقرأم" و"شددم" "شدادهم" "شدد" "شداد", وأخذ غنائم وأسرى من أهل هذه الأرضين. وعندئذ وجد نفسه نحو "بيت راس" "بيت رأس"، فاستولى عليه وعلى كل حصونه وأبراجه، وعلى مدينة "راسو" "رأسو"، ثم توجه نحو "بيت سنفرم" "بيت سنفر" حيث أخذ كل العصاة الذين كانوا قد اختلفوا فيه, ثم قصد مدينة "ظلم"، فوجه إليها قوات كبيرة من المشاة بقيادة ضباطه الكبار، فاستولت عليها، ودحرت خيرة قوات "شمر ذي ريدان" التي وضعها فيها،
__________
1 الفقرة التاسعة من النص.
2 الفقرة العاشرة من النص.
3 السطر السادس من النص. Jamme 577(4/87)
فجمع "شمر" قواته وكل من ساعده من حمير وردمان ومضحي؛ ليصد جيش "الشرح يحضب" وعسكر بها بين مدينتي "هرن" "هران" و"ذمر" "ذمار"1، وأقام هناك استعدادًا لجولة جديدة.
ورأى "الشرح يحضب" وجوب مباغتة هذه القوة المتجمعة، قبل أن يشتد ساعدها وتصبح قوة محاربة قوية، فسار على رأس ألف وخمسمائة جندي وأربعين فارسًا، ومعه عدد من الأقيال، حتى التقى بجمع "شمر ذي ريدان" ومعه عشائر من حمير وردمان ومضحي، وزهاء ستة عشر ألف بعير، فباغت "الشرح يحضب" جمع شمر، وهرب بعض الريدانيين وبعض عشائر حمير إلى مدينة "ذمار"، وذهب بعض الفرسان ومعهم قوات أخرى إلى معسكراتهم في "أنحرم" "أنحر" و"طريدم" "طريد", وأخذ قسم من القوات يطارد "شمر ذي ريدان"2. ولم يتحدث النص عما وقع بعد ذلك؛ إذ أصاب آخر الكتابة تلف، أو لأن بقيتها كتبت على حجر آخر لمَّا يُعثَرْ عليه، فأضاع خبر بقية الحملة.
ولكن النصوص: Jamme 577 وJamme 585 وCIH 314 + 954 تفيدنا في الوقوف على أنباء معارك وقعت بين "شمر ذي ريدان" وحلفائه, وبين "الشرح يحضب" بعد المعارك المتقدمة. وقد أصاب النص Jamme 577 تلف أضاع فهم مقدمته، فاقتحم بجملة: وقتل فرسه، ثم اتجهوا نحو مدينة "زخنم" "زخان"، وأصابوا غنائم من كتائب حمير وردمان ومضحي أرضتهم، ثم غادرهم الملك "الشرح يحضب" وذهبوا إلى "ترزنن" "ترزنان"3.
فيظهر من هذه الفقرة أن الملك "الشرح يحضب" اكتفى بعد انتصاره على خصومه في معركة مدينة "زخان"، فعاد إلى قاعدته، وذهب قسم من جيشه إلى مدينة "ترزنن"؛ ليستجم من القتال.
ثم يذكر النص أن "شمر ذي ريدان" ومن انضم إليه من حمير ومن "ولد عم" أي: القتبانيين، صدوا عن الحق, وعصوا، وتجمعوا للزحف ثم
__________
1 الفقرة 14 من النص.
2 الفقرة 16 من النص.
3 الفقرة الأولى من النص.
JAMME 577, MAMB 219, MAHRAM, P.76, LE MUSEON, 1967, 1-2, P.286(4/88)
ذهبوا إلى "ذمار" فتحصنوا فيها، ثم اتجهوا نحو مدينة "نعض"، ثم رجعوا وعسكروا بين المدينتين، فواجهتهم قوات "الشرح يحضب" وتعقبتهم في المواضع المذكورة، وأنزلت بهم خسائر كبيرة، ثم رجعت بغنائمها إلى مدينة "صنعاء", ومعها ماشية كثيرة وأسرى وغنائم وأموال طائلة1.
ويظهر أن "شمر ذي ريدان" قد تمكن خلال هذه المدة من إقناع الحبش بالانضمام إليه ومساعدته في حروبه مع خصمه "الشرح يحضب"، فأمده "جرمت ولد نجشين"، "جرمة ولد النجاشي" "جرمة بن النجاشي" بكتائب حبشية محاربة قَوَّتْ مركزه كثيرًا، ترأسها هو بنفسه وجاءته أمداد من "سهرة"، فأخذ يتحرش بالسبئيين، مما حمل الملك "الشرح يحضب" على السير إليه لمقابلته مترئسًا قوة, قوامها ألف محارب وستة وعشرون فارسًا، فاصطدم ببعض قوات "شمر" وتغلب عليها وأخذ منها أسرى وغنائم، ثم حدث أن وصلت أمدادٌ من الحبش لمساعدة تلك الكتائب المندحرة في موضع "أحدقم" "أحدق"، فقابلها مشاة "رجلم" "رجاله" من جيش الملك "الشرح يحضب" أنزلوا بها خسائر وشتتوا شملها، وعاد الملك "الشرح يحضب" مع أقياله ورجاله إلى صنعاء، ومعه أسرى وغنائم وأموال طائلة2.
وقد انتصر "الشرح يحضب" على الحبش كذلك، وعاد "جرمة" إلى قواعده مغلوبًا على أمره، جزاء نكثه العهد وازدرائه بمهمة الرسل الذين أرسلهم "الشرح يحضب" إليه؛ لإقناعه بعدم مساعدة "شمر ذي ريدان" ومن انضم إليه، وذلك كما يذكر النص3.
وتطرق النص بعد ما تقدم إلى الحديث عن دحر ثائر آخر كان قد أعلن الثورة على الملكين، اسمه: "صحبم بن جيشم" أي: "صحب بن جيش"، "صحاب بن جياش". ويظهر أن ثورته لم تكن على درجة كبيرة من الخطورة؛ لذلك لم يرأس "الشرح يحضب" نفسه الحملة التي أرسلت للقضاء عليه، بل رأسها قائد من قواده اسمه "نوفم" "نوف"، وهو من "همدان" و"غيمان".
وقد تألفت الحملة من محاربين من "حاشد" ومن "غيمن" "غيمان",
__________
1 الفقرة الثانية من النص.
2 الفقرة الرابعة والخامسة من النص.
3 الفقرة السادسة منه.(4/89)
فانتصر "نوف" على خصمه انتصارًا كبيرًا، وكان في جملة ما جاء به من تلك الحملة رأس صحب ويداه1.
وتقع مدينة "غيمان" على مسافة اثني عشر كيلومترًا من جنوب شرقي مدينة صنعاء2.
وانتقل الحديث من مقتل "صحب بن جيش" إلى الكلام على ثورة قبيلة "نجرن" "نجران" على الملكين. وكانت هذه القبيلة قد أُكرهت من قبل على الخضوع والاستسلام لحكم "سبأ ذي ريدان"، ولكنها عادت فأعلنت عصيانها على الملكين، بتحريض من الحبش، فسار الملك "الشرح يحضب" بنفسه على رأس قوة من أقياله وفرسانه إليها، فحاصر مدينة "ظربن" "ظربان" مدة شهرين، فصبرت وقاومت ولم تسلم؛ لأنها كانت تؤمل أن تصل إليها أمداد ومساعدات وقوات من ملك حضرموت الذي وعدها بذلك ومن قبيلة نجران، فقوى ذلك الأمل عنادها، وشد من عزيمتها على الدفاع عن نفسها، ولطول مدة الحصار الذي دام شهرين، قرر الملك العودة إلى صنعاء3.
وقد ترك الملك "الشرح يحضب" قسمًا من جيشه لمراقبة الأوضاع، وضعه تحت قيادة قائدين من قواده الكبار، أحدهما: "نوفم" "نوف" الذي قتل الثائر "صحب بن جيش". ووصلت في خلال هذه المدة أمداد إلى ممثل النجاشي "سبقلم" "سبقل"، الذي يمثله في مدينة "نجران" ولدا قبيلة نجران، فهاجم القائدان بقواتهما وبمساعدة رجال محاربين من حاشد وغيمان وبأربعة عشر فارسًا، واديي نجران، فانتصرا وحصلا على غنائم عادا بها سالمين إلى "صنعاء"4.
ويظهر أن رجوع "الشرح يحضب" إلى "صنعاء" كان من أجل إعادة تنظيم صفوف جيشه, ولوضع خطة محكمة لملاقاة أعدائه حتى إذا تم له ذلك ووضع الخطط اللازمة لمهاجمة أعدائه، غادر صنعاء متوجهًا إلى وادي "ركبتن" "ركبتان"، وقد التقى فيه بأعدائه فأنزل بهم خسائر كبيرة، فقتل عددًا كبيرًا
__________
1 الفقرة السابعة من النص.
2 Mahram, P.322
3 الفقرة الثامنة والتاسعة من النص.
4 الفقرتان العاشرة والحادية عشرة من النص.(4/90)
منهم، وأسر عددًا من سادات "مراس" وأحرار "أحرر" نجران، فسِيقوا إلى "مسلمن" "مسلمان". ولم يستطع خليفة "عقبهو" النجاشي أن يساعد المنكسرين.
وقد أعلن المنهزمون خضوعهم لحكم الملكين، ولكي يحافظوا على وعدهم هذا ويعبروا عن طاعتهم هذه, وضعوا أبناءهم وبناتهم رهائن في مدينة "صربن" "صربان" وفي وادي نجران, ولوجود بعض التلف في نهاية الفقرة الرابعة عشرة، لا نعلم ماذا حدث من تفاصيل في حصار نجران. غير أن النص يعود فيذكر أن "924" قتلهم الأعداء في المعركة وأن "562" أسيرًا وقعوا في أيدي قوات "الشرح يحضب"، وأن "68" مدينة فُتحت ونُهبت وأُبيحت، وأن ستين ألف حقل من الحقول التي يرويها الماء دمرت، وأن سبعًا وتسعين بئرًا دفنت ودمرت، وغنم المحاربون غنائم كثيرة رجعوا بها شاكرين إله سبأ, على ما أشار النص إلى مقري حكم الملكين: "قصر سلحن" "قصر سلحان" في مأرب, وقصر "غندن" "غندان" الذي هو قصر غمدان عند أهل الأخبار1.
ويعد النص الموسوم بـCIH 314 من النصوص المهمة المتعلقة بالحروب المذكورة, فهو يتحدث عن أمور خطيرة وقعت في تلك الأيام. وقد جاء في هذا النص: أن "رب شمس"، قيل "قول" عشيرة "بكلم"، أي "كيل" التي تكوِّن ربع "ذريدت" "ذي ريدة"، و"وهب أوم" من "جدنم" "جدن" و"خذوت" "خذوة"، وكانا "مقتويي" "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل"، نذرا للإله "المقه بعل مسكت ويث" و"برأن"، تمثالين من الذهب؛ لأنه من على سيديهما الملكين، وحفظهما، وكان ذلك في شهر "ذي نيل" من السنة السادسة من سني "تبع كرب بن ودال" "تبعكرب بن ود إيل"، ولأنه ساعدهما ونصرهما وأَذَلَّ أعداءهما، وأكره "شمر ذي ريدان" على إرسال رسول عنه يطلب الصلح منهما، وأجبر الريدانيين وأحزابهم وحلفاءهم الحبشة من مدينتي "زوم" و"سهرة" على الطاعة والخضوع2، وعلى طلب عقد الصلح، على حين كان "شمر ذو ريدان وحمير"، يطلب النجدة من
__________
1 الفقرة 12 فما بعدها إلى نهاية النص.
2 "أحزب حبشت هجرن زوم وسهرتن"،
CIH 314, GLASER 424, LOUVRE 4088, CIH, IV I, IV, P.340
GLASER, ABESSI., S. 117, LE MUSEON, 3-4, 1948, P.232(4/91)