المجلد الأول
مقدمة
...
مقدمة:
هذا كتاب في تاريخ العرب قبل الإسلام، وهو في الواقع كتاب جديد، يختلف عن كتابي السابق الذي ظهرت منه ثمانية أجزاء، يختلف عنه في إنشائه، وفي تبوبيه وترتيبه، وفي كثير من مادته أيضًا؛ فقد ضمّنته مادة جديدة، خلا منها الكتاب السابق، تهيأت لي من قراءاتي لكتابات جاهلية عُثر عليها بعد نشر ما نشرت منه، ومن صور كتابات أو ترجماتها أو نصوصها لم تكن قد نشرت من قبل، ومن مراجعاتي لموارد نادرة لم يسبق للحظ أن سعد بالظفر بها أو الوقوف عليها، ومن كتب ظهرت حديثًا بعد نشر هذه الأجزاء، فرأيت إضافتها كلها إلى معارفي السابقة التي جسّدتها في ذلك الكتاب.
وقد رأى أستاذي العالم الفاضل السيد محمد بهجت الأثري تسميته: "المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، لما فيه من تفصيل لم يرد في الكتاب السابق؛ فوجدت في اقتراحه رأيًا صائبًا ينطبق كل الانطباق على ما جاء فيه، فسميته بما سمّاه به، مُقَدِّمًا إليه شكري الجزيل على هذا التوجيه الجميل.
وكتاباي هذان، هما عمل فردٍ عليه جمع المادة بنفسه، والسهر في تحريرها وتحبيرها، وعليه الإنفاق من ماله الخاص على شراء موارد غير متيسّرة في بلاده، أو ليس في استطاعته مراجعتها بسبب القيود المفروضة على إعارة الكتب، أو لاعتبارات أخرى، ثم عليه البحث عن ناشر يوافق على نشر الكتاب، ثم عليه تصحيح المسودات بنفسه بعد نجاحه في الحصول على ناشر، إلى غير ذلك من أمور تسلبه راحته وتستبد به وتضنيه، ولولا الولع الذي يتحكم في المؤلفين في هذه البلاد، لما أقدم إنسان على تأليف كتاب.(1/5)
وإن عملًا يتم بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة، لا يمكن أن يرضي المؤلف أو يسعده؛ لأنه عمل يعتقد أنه مهما اتفق فيه من جهد وطاقة واجتهاد؛ فلن يكون على الشكل الذي يتوخّاه أو يريده، والصورة التي رسمها في فكره وتصوّرها له. ولولا طمع المؤلف في كرم القراء بتبرّعهم في تقويم عوجه وإصلاح أغلاطه وإرشاده إلى خير السبل المؤدية إلى التقويم والإصلاح، ولولا اعتقاده أن في التردد أو الإحجام سلبية لا تنفع، بل إن فيها ضررًا، وإن كتابًا يؤلَّف وينشر على ما يجمع من عيوب ونقائص خير من لا شيء. أقول: لولا هذه الاعتبارات لما تجرأت، فأخرجت كتابًا وعددتني مؤلفًا من المؤلفين.
وأنا إذ أقول هذا القول وأثبته، لا أريد أن أكون مرائيًا لابسًا ثوب التواضع لأتظاهر به على شاكلة كثير من المرائين. وإنما أقول ذلك حقًا وصدقًا؛ فأنا رجل أعتقد أن الإنسان مهما حاول أن يتعلم، فإنه يبقى إلى خاتمة حياته جاهلًا، كل ما يصل إليه من العلم هو نقطة من بحر لا ساحل له. ثم إني ما زلت أشعر أني طالب علم، كلما ظننت أني انتهيت من موضوع، وفرحت بانتهائي منه، أدرك بعد قليل أن هناك علمًا كثيرًا فاتني، وموارد جمّة لم أتمكن من الظفر بها، فأتذكر الحكمة القديمة "العجلة من الشيطان".
وقد رأيت في هذا الكتاب شأني في الكتاب السابق، ألّا أنصِّب نفسي حاكمًا تكون وظيفته إصدار أحاكم قاطعة، وإبداء آراء في حوادث تاريخية مضى زمن طويل عليها؛ بل أكتفي بوصف الحادث وتحليله كما يبدو لي. وقد لا تُعجب طريقتي هذه كثيرًا من القراء، وعذري أني لا أكتب لإرضاء الناس، ولا أدوّن لشراء العواطف؛ وإنما أكتب ما أعتقده وأراه بحسب علمي وتحقيقي، والرأي عندي أن التأريخ تحليل ووصف لما وقع ويقع، وعلى المؤرخ أن يجهد نفسه كل الإجهاد للإحاطة به، بالتفتيش عن كل ما ورد عنه، ومناقشة ذلك مناقشة تمحيص ونقد عميقين، ثم تدوين ما يتوصل إليه بجدّه واجتهاده تدوينًا صادقًا على نحو ما ظهر له وما شعر به، متجنبًا إبداء الأحكام والآراء الشخصية القاطعة على قدر الاستطاعة.
لقد قلت في مقدمة الجزء الأول من كتابي السابق: "والكتاب بحث، أردت جهد طاقتي أن يكون تفصيليًّا، وقد يعاب عليّ ذلك، وعذري في هذا(1/6)
التفصيل أنني أريد تمهيد الجادة لمن يأتي بعدي فيرغب في التأليف في هذا الموضوع، وأنني أكتب للمتتبِّعين والمتخصصين، ومن حق هؤلاء المطالبة بالمزيد. وقد فعلت في هذا الكتاب ما فعلته في الأجزاء الثمانية من الكتاب السابق من تقصّي كل ما يرد عن موضوع من الموضوعات في الكتابات وفي الموارد الأخرى، وتسجيله وتدوينه؛ ليقدم للقارئ أشمل بحث وأجمع مادة في موضوع يطلبه؛ لأن غايتي من هذا الكتاب أن يكون "موسوعة" في الجاهلية والجاهليين، لا أدعِ شيئًا عنها أو عنهم إلا ذكرته في محله؛ ليكون تحت متناول يد القارئ، فكتابي هذا وذاك هما للمتخصصين وللباحثين الذين يطمعون في الوقوف على حياة الجاهلية بصورة تفصيلية، ولم يكتبا للذين يريدون الإلمام بأشياء مجملة عن تلك الحياة.
والكتاب لذلك سيخرج في أجزاء، لا أستطيع تحديد عددها الآن ولكني أقول بكل تأكيد أنها ستزيد على العشرة، وأنها ستتناول كل نواحي الحياة عند الجاهليين: من سياسية، واجتماعية، ودينية، وعلمية، وأدبية، وفنية، وتشريعية.
لقد أشار عليّ بعض الأصدقاء أن أُدخل في العرب كل الساميّين، وأن أتحدث عنهم في كتابي هذا كما أتحدث عن العرب؛ لأن وطن الساميين الأول هو جزيرة العرب، ومنه هاجروا إلى الأماكن المعروفة التي استقروا فيها؛ فهم في ذلك مثل القبائل العربية التي تركت بلاد العرب، واستقرت في العراق وفي بادية الشام وبلاد الشام، لا يختلفون عنهم في شيء، ثم قالوا: فإذا كنت قد تحدثت عن تلك القبائل المهاجرة على أنها قبائل عربية، فلِمَ تسكت عن أولئك الساميين، ولم تجعلهم من العرب؟
وجوابي أن القبائل العربية المهاجرة هي قبائل معروفة الأصل وقد نصّت الكتابات والموارد الأخرى على عروبتها، ونسبت نفسها إلى جزيرة العرب، ولهجاتها لهجات عربية، لا ريب في ذلك ولا نزاع، وثقافتها عربية. أما الشعوب السامية؛ فليس بين العلماء -كما سنرى- اتفاق على وطنها الأول، وليس بينها شعب واحد نسب نفسه إلى العرب، وليس في الموارد التأريخية الواصلة إلينا مورد واحد يشير إلى أنها عربية؛ ولهجاتها وإن اشتركت كلها في أمور،(1/7)
فإنها تختلف أيضًا في أمور كثيرة، هي أكثر من مواطن الاشتراك والالتقاء، ففرق كبير إذن بين هذه الشعوب وبين القبائل العربية من حيث العروبة. ثم إن العروبة في نظري ليس بها حاجة إلى ضم هذه الشعوب إليها، لإثبات أنها ذات أصل تئول إليه؛ فقد أعطى الله تلك الشعوب تأريخًا ثم محاه عنهم، وأعطى العرب تأريخًا أينع في القديم واستمر حتى اليوم، ثم إن لهم من الحضارة الإسلامية ما يغنيهم عن التفتيش عن مجد غيرهم وعن تركاتهم، لإضافتها إليهم؛ فليس في العرب مركب نقص حتى نضيف إليهم من لم يثبُت أنهم منهم، لمجرد أنهم كانوا أصحاب حضارة وثقافة، وأن جماعة من العلماء ترى أنهم كانوا من جزيرة العرب، والرأي عندي أن العرب لو نبشوا تربة اليمن وبقيّة الترب لما احتاجوا إلى دعوة من يدعو إلى هذا الترقيع؛ فأنا من أجل هذا لا أستطيع أن أضم أحدًا من هؤلاء إلى الأسرة العربية بالمعنى الاصطلاحي المعروف المفهوم، من لفظة العرب عندنا؛ إلا إذا توافرت الأدلة، وثبت بالنص أنهم من العرب حقًا، وأنهم كانوا في جزيرة العرب حقًا.
نعم، لقد قلت إن مصطلح الشعوب العربية هو أصدق اصطلاح يمكن إطلاقه على تلك الشعوب، وإن الزمان قد حان لاستبدال مصطلح "عربي" و"عربية" بـ"سامي" و"سامية"، وقلت أشياء أخرى شرحتها في الجزء الثاني من الكتاب السابق في تعليل ترجيح هذه التسمية1. ولكن لم أقصد ولن أقصد أن تلك الشعوب هي قبائل عربية مثل الشعوب والقبائل العربية المعروفة. فالسامية وحدة ثقافية، اصطلح عليها اصطلاحًا، والعروبة وحدة ثقافية وجنسية وروابط دموية وتأريخية، وبين المفهومين فرق كبير.
إن مما يثير الأسف -والله- في النفوس أن نرى الغربيين يعنون بتأريخ الجاهلية ويجدّون في البحث عنه والكشف عن مخلفاته وتركاته في باطن الأرض، ونشره بلغاتهم، ولا نرى حكوماتنا العربية ولا سيما حكومات حزيرة العرب، إلا منصرفة عنه، لا تعنى بالآثار العناية اللازمة لها، ولا تسأل الخبراء رسميًا وباسمها البحث عن العاديات والتنقيب في الخرائب الجاهلية لاستخراج ما فيها من كنوز، وجمعها في دار للمحافظة عليها ولاطلاع الناس عليها. وقد يكون عذر هذه الحكومات
__________
1 "ص287"(1/8)
أن الناس هناك ينظرون إلى التماثيل نظرتهم إلى الأصنام والأوثان، وإلى استخراج الآثار والتنقيب عن العاديات نظرتهم إلى بعث الوثنية وإحياء معالم الشرك، وهي من أجل هذا تخشى الرأي العام، وإني على كل حال أرجو أن تزول هذه الأحوال في المستقبل القريب، وأن يدرك عرب الجزيرة أهمية الآثار في الكشف عن تأريخ هذه الأمة العربية القديمة.
كذلك أرجو أن تنتبه حكومات جزيرة العرب لأهمية موضوع التخصص بتأريخ العرب القديم، وأن تكلف شبانها دراسة علم الآثار ودراسة لهجات العرب قبل الإسلام والأقلام العربية الجاهلية، ليقوموا هم أنفسهم بالبحث والتنقيب في مواطن العاديات المنبثة في مواطن كثيرة من الجزيرة.
ورجاء آخر أتمنى على جامعة الدول العربية والدول العربية أن يحققوه، وهو إرسال بعثات من المتخصصين بالآثار وباللهجات والأقلام العربية القديمة إلى مواطن الآثار في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية والمواضع الأخرى من جزيرة العرب للتنقيب عن الآثار، والكشف عن تأريخ الجزيرة المطمور تحت الأتربة والرمال، ونشره نشرًا علميًا، بدلًا من أن يكون اعتمادنا في ذلك على الغربيين. أفلا يكون من العار علينا أن نكون عالة عليهم في كل أمر. حتى في الكشف عن تأريخنا القديم!
وأضيف إلى هذا الرجاء رجاء آخر هو أن تقوم أيضا بتدوين معجم في اللهجات العربية الجاهلية، تستخرجه من الكتابات التي عُثر عليها، وبتأليف كتب في نحوها وصرفها، وترجمة الكتب الأمهات التي وضعها المؤلفون الأجانب في تأريخ الجاهلية، ترجمة دقيقة تنأى عن المسخ الذي وقع في ترجمة بعض تلك المؤلفات فأشاع الغلط ونشر التخريف.
لقد راجعت بعض المستشرقين الباحثين في تأريخ العرب القديم، وسألت بعض من ساح في جزيرة العرب في هذه الأيام، وبعض الشركات العاملة فيها، في آخر ما توصلوا إليه من بحوث، وعثروا عليه من عاديات؛ فوجدت منهم كل معونة، وأرسلوا وما برحوا يرسلون أجوبتهم إليّ بكل ترحاب ولطف، وكتبت إلى بعض حكومات جزيرة العرب وإلى بعض المسئولين من أصحاب المكانة فيها والنفوذ مرارًا، وأسألها وأسألهم عن العاديات وعن الآثار التي عثر عليها(1/9)
حديثًًا في بلادهم؛ فلم أسمع من الاثنين جوابًا، وإني إذ أكتب هذه الملاحظة المرّة المؤسفة؛ إنما أرمي بها إلى التنبيه ولفت أنظار أولي الأمر أصحاب الحكم والسلطان؛ فمن واجب المسئول إجابة السائل، ولا سيما أن القضية قضية تخص البلاد المذكورة بالذات والعرب عمومًا، وقبيح أن ينبري الغريب، فيساعد طالب بحث عن تأريخ أمته وإخوته، ويستنكف المسئولون من أبناء هذه الأمة عن تنفيذ طلب لا يكلفهم شيئًا، وهو خطير يتعلق بتأريخ هذه الأمة قبل الإسلام وإذاعته أولًا، وهو واجب من واجباتهم التي نصبوا من أجلها ثانيًا.
لقد تمكن الباحثون في التأريخ الجاهلي، من سياح وعلماء، من الارتقاء بتأريخ الجاهلية بمئات من السنين قبل الميلاد، وذلك على وجه صحيح لا مجال للشك فيه، مع أن بحوثهم هذه لم تنزل سوى أمتار في باطن الآثار وفي أماكن محدودة معينة، وسوف يرتفع مدى هذه التأريخ إلى مئات أخرى، وربما يتجاوز الألفي سنة أو أكثر قبل الميلاد إذا أتيحت الفرص للعلماء في الحفر في مواضع الآثار حفرًا علميًا بالمعنى الحديث المفهوم من "الحفر". وأنا لا أستبعد بلوغ هذا التأريخ الجاهلي في يوم من الأيام التأريخ الذي وصل إليه العلماء في مصر وفي العراق، أو في أماكن أخرى عرفت بقدم تأريخها، بل لا أستبعد أيضًا أن يتقدم هذا التأريخ تأريخ بعض الأماكن المذكورة.
وبعد هذا، لا بد لي هنا من الاعتراف بفضل رجل، له على هذا الكتاب وعلى الكتاب الأول يد ومنّة، وله كذلك على مؤلفهما فضل سابق، يسبق زمن تأليف كتابيه بأمد طويل، هو فضل الإرشاد والتوجيه والتعليم. وأريد به الأستاذ العلامة الفاضل السيد محمد بهجت الأثري، العضو العامل في مجمع اللغة العربية بالقاهرة وعضو المجمع العلمي العربي بدمشق، وعضو المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة؛ فلقد كان لي ولأمثالي من الدارسين والباحثين -ولا يزال- مرشدًا وموجهًا ومشوقًا لدراسة التراث العربي والتراث الإسلامي والتأليف وفي ذلك، مذ كنت تلميذه في الإعدادية المركزية ببغداد أتلقى عنه في جملة من كانوا يتلقون عنه الأدب العربي؛ فكان يشوّقنا بأسلوبه الجذاب، وبتأثيره القوي المعروف، إلى التوسع في دراسة الأدب العربي وتأريخ الأمة العربية، وهو ما برح يحثّني على الإسراع في إتمام هذا الكتاب وإخراجه للناس، قارئًا مسوداته، ومبديًا آراءه، وإرشاداته وملاحظاته القيمة، التي أفادتني -والحق(1/10)
أقول- كثيرًا. وهما فضلان لن ينساهما تلميذ يقدّر الفضل لأستاذ كريم يفني نفسه في تربية الأجيال ونشر الأدب والعلم.
وبعد؛ فهذا الكتاب هو جمعي وترتيبي، فأنا المسئول عنه وحدي، وليس لأحد محاسبة غيري عليه، اجتهدت ألا أضمّنه إلا الحق والصواب من العلم على قدر طاقتي واجتهادي، فإن أكن قد وفقت فيما قصدت إليه وأردته؛ فذلك حسبي وكفى، لا أريد حمدًا ولا شكرًا؛ لأني قمت بواجب، وعملت عن شوق ورغبة وولع قديم بهذا الموضوع يرجع إلى أيام دارستي الأولى؛ فليس لي فضل ولا منّة، وإن كان فيه حسنًا فهو للعلماء الذين اعتمدت عليهم وأخذت منهم، وليس لي فيه غير الجمع والتأليف. وإن أخفقت فيه فذلك مبلغ علمي واجتهادي، أديته بعد تعب، لا أملك أكبر منه، وبغيتي حسن التوجيه والإرشاد وتقويم الأود، وتصحيح الأغلاط؛ فالنقد العلمي الحق إنشاء وبناء، والمدح والإطراء في نظري إبعاد لطالبي العلم من أمثالي عن العمل والتقدم، وسبب يؤدي إلى الخيلاء والضلال، وفوق كل ذي علم عليم.
جواد علي(1/11)
الفصل الأول: تحديد لفظة العرب
نطلق لفظة "العرب" اليوم على سكّان بلاد واسعة، يكتبون ويؤلفون وينشرون ويخاطبون بالإذاعة والتلفزيون" بلغة واحدة، نقول لها: لغة العرب أو لغة الضاد أو لغة القرآن الكريم. وإن تكلموا وتفاهموا وتعاملوا فيما بينهم وفي حياتهم اليومية أدّوا ذلك بلهجات محلية متباينة؛ ذلك لأن تلك اللهجات إذا أًرجعت رجعت إلى أصل واحد هو اللسان العربي المذكور، وإلى ألسنة قبائل عربية قديمة، وإلى ألفاظ أعجمية دخلت تلك اللهجات بعوامل عديدة لا يدخل البحث في بيان أسبابها في نطاق هذا البحث.
ونحن إذْ نطلق لفظة "عرب" و"العرب" على سكان البلاد العربية؛ فإنما نطلقها إطلاقًًا عامًا على البدو وعلى الحضر، لا نفرق بين طائفة من الطائفتين، ولا بين بلد وبلد. نطلقها بمعنى جنسية وقومية وعلم على رسٍّ له خصائص وسمات وعلامات وتفكير يربط الحاضرين بالماضين كما يربط الماضي بالحاضر.
واللفظة بهذا المعنى وبهذا الشكل، مصطلح يرجع إلى ما قبل الإسلام؛ ولكنه لا يرتقي تأريخيًّا إلى ما قبل الميلاد، بل لا يرتقي عن الإسلام إلى عهد جدّ بعيد؛ فأنت إذا رجعت إلى القرآن الكريم، وإلى حديث رسول الله، وجدت للفظة مدلولًا يختلف عن مدلولها في النصوص الجاهلية التي عُثر عليها حتى الآن أو في التوراة والإنجيل والتلمود وبقية كتب اليهود والنصارى وما بقي من مؤلفات(1/13)
يونانية ولاتينية تعود إلى ما قبل الإسلام. فهي في هذه أعراب أهل وبر، أي طائفة خاصة من العرب. أما في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي، وفي الشعر المعاصر للرسول؛ فإنها علم على الطائفتين واسم للسان الذي نزل به القرآن الكريم، لسان أهل الحضر ولسان أهل الوبر على حد سواء. {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} 2.
وإذا ما سألتني عن معنى لفظة "عرب" عند علماء العربية؛ فإني أقول لك: إن لعلماء العربية آراء في المعنى، تجدها مسطورة في كتب اللغة وفي المعجمات؛ ولكنها كلها من نوع البحوث المألوفة المبنية على أقوال وآراء لا تعتمد على نصوص جاهلية ولا على دراسات عميقة مقارنة، وُضعت على الحدس والتخمين، وبعد حيرة شديدة في إيجاد تعليل مقبول فقالوا ما قالوه مما هو مذكور في الموارد اللغوية المعروفة، وفي طليعتها المعجمات وكتب الأدب، وكل آرائهم تفسير اللفظة وفي محاولة إيجاد أصلها ومعانيها، هو إسلامي، دوّن في الإسلام.
وترى علماء العربية حَيَارى في تعيين أول من نطق بالعربية؛ فبينما يذهبون إلى أن "يعرب" كان أول من أعرب في لسانه وتكلم بهذا اللسان العربي، ثم يقولون: ولذلك عرف هذا اللسان باللسان العربي، وتراهم يجعلون العربية لسان أهل الجنة ولسان آدم، أي: أنهم يرجعون عهده إلى مبدأ الخليقة، وقد كانت الخليقة قبل خَلْق "يعرب" بالطبع بزمان طويل، ثم تراهم يقولون: أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه إسماعيلُ، أُلْهِم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهامًا، وكان أول من فُتِق لسانه بالعربية المبينة، وهو ابن أربع عشرة سنة3. وإسماعيل هو جدّ العرب المستعربة على حد قولهم.
والقائلون إن "يعرب" هو أول من أعرب في لسانه، وإنه أول من نطق
__________
1 سورة النحل. رقم 16 الآية 103.
2 سورة فصلت. رقم 41 الآية 44.
3 تاج العروس "2/ 352"، طبعة الكويت" "عرب"، اللسان "2/ 75" المزهر "1/ 30"، فما بعدها"، ابن خلدون "2/ 86".(1/14)
بالعربية، وإن العربية إنما سميت به؛ فأخذت من اسمه، إنما هم القحطانيون، وهم يأتون بمختلف الروايات والأقوال لإثبات أن القحطانيين هم أصل العرب، وأن لسانهم هو لسان العرب الأول، ومنهم تعلّم العدنانيون العربية، ويأتون بشاهد من شعر "حسان بن ثابت" على إثبات ذلك، يقولون: إنه قاله، وإن قوله هذا هو برهان على أن منشأ اللغة العربية هو من اليمن. يقولون إنه قال:
تعلمتم من منطق الشيخ يعرب ... أبينا؛ فصرتم معربين ذوي نفر
وكنتم قديمًا ما بكم غير عجمة ... كلام، وكنتم كالبهائم في القفر1
ولم يكن يخطر ببال هؤلاء أن سكان اليمن قبل الإسلام كانوا ينطقون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، وأن من سيأتي سيكتشف سرّ "المسنَد"، ويتمكن بذلك من قراءة نصوصه والتعرف على لغته، وأن عربيته هي عربية تختلف عن هذه العربية التي ندوّن بها، حتى ذهب الأمر بعلماء العربية في الإسلام بالطبع إلى إخراج الحميرية واللهجات العربية الجنوبية الأخرى من العربية، وقصر العربية على العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وعلى ما تفرع منها من لهجات كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد. وهو رأي يمثل رأي العدنانيين خصوم القحطانيين.
والقائلون إن يعرب هو جدّ العربية وموجدها، عاجزون عن التوفيق بين رأيهم هذا ورأيهم في أن العربية قديمة قدم العالم، وأنها لغة آدم في الجنة، ثم هم عاجزون أيضًا عن بيان كيف كان لسان أجداد "يعرب" وكيف اهتدى "يعرب" إلى استنباطه لهذه اللغة العربية، وكيف تمكن من إيجاده وحده لها من غير مؤازرة ولا معين؟ إلى غير ذلك من أسئلة لم يكن يفطن لها أهل الأخبار في ذلك الزمن، وللإخباريين بعد كلام في هذا الموضوع طويل، الأشهر منه القولان المذكوران ووفق البعض بينهما بأن قالوا: إن "يعرب" أول من نطق
__________
1 كتاب الإكليل: "1/ 116" تحقيق "محمد بن علي الأكوع الحوالي"، القاهرة سنة 1963 "مطبعة السنة المحمدية"، المكتبة اليمنية "2"، الأصمعي.(1/15)
بمنطق العربية، وإسماعيل هو أول من نطق بالعربية الخالصة الحجازية التي أنزل عليها القرآن1.
أما المستشرقون وعلماء التوراة المحدثون؛ فقد تتبعوا تأريخ الكلمة، وتتبعوا معناها في اللغات السامية، وبحثوا عنها في الكتابات الجاهلية وفي كتابات الآشوريين فيه لفظة "عرب" هو نصّ آشوري من أيام الملك "شلمنصر الثالث" "الثاني؟ " ملك آشور2. وقد تبين لهم أن لفظة "عرب" لم تكن تعني عند الآشوريين ما تعنيه عندنا من معنى، بل كانوا يقصدون بها بداوة وإمارة "مشيخة" كانت تحكم في البادية المتاخمة للحدود الآشورية، كان حكمها يتوسع ويتقلص في البادية تبعًا للظروف السياسية ولقوة شخصية الأمير، وكان يحكمها أمير يلقب نفسه بلقب "ملك" يقال له "جنديبو" أي "جندب" وكانت صلاته سئية بالآشوريين. ولما كانت الكتابة الآشورية لا تحرك المقاطع، صعُب على العلماء ضبط الكلمة؛ فاختلفوا في كيفية المنطق بها، فقرئت: "aribi" و "arubu" و "aribu" و "arub" و "arabi" و "urbi" و "arbi" إلى غير ذلك من قراءات3. والظاهر أن صيغة "urbi" كانت من الصيغ القليلة الاستعمال، ويغلب على الظن أنها استعملت في زمن متأخر4، وأنها كانت بمعنى "أعراب" على نحو ما يقصد من كلمي "عُربي" و"أعرابي" في لهجة أهل العراق لهذا العهد. وهي تقابل كلمة "عرب" التي هي من الكلمات المتأخرة كذلك على رأي بعض المستشرقين. وعلى كل حال فإن الآشوريين كانوا يقصدون بكلمة "عربي" على اختلاف أشكالها بداوة ومشيخة كانت تحكم في أيامهم البادية تمييزًا لها عن قبائل أخرى كانت مستقرة في تخوم البادية5".
__________
1 تاج العروس "2/ 352"، "طبعة الكويت".
2 Margoltouth, The Relations between Arabs and Israelites Prior to the rise of Islam, P. 3, The Jewish Encyclopedia, New York, 1902, P. 41, Reallexikon der
Aaayriologie, erster Band, Zwelte Lieferung-, S., 125, James A. Montgomery,
Arabia and the Bible, PP. 27.
3 Erich Ebling und Bruno Meissner, Reallexikon der Assyriologte, Erster Band,
Berlin and leipzig 1922, P. 125.
4 Ency, Bibli. Vol., I, P. 273, E. Schrader Keilinschriften und Geschichtforschung, t PP. 100, Fr.
Delityech,
wo lag das Paradise?, P. 295, 304, P, Caussin de Perceval, Hlstoire des Arabes I, P., 4ff.
5 ENCYCLOPEDIA BIBLICA, by cheyne, vol., I, p. 273.(1/16)
ووردت في الكتابات البابلية جملة "ماتواربي" "matu a-ra-bi"، "Matu arabaai"، ومعنى "ماتو" "متو" أرض، فيكون المعنى "أرض عربي"، أي "أرض العرب"، أو "بلاد العرب"، أو "العربية"، أو "بلاد الأعراب" بتعبير أصدق وأصح؛ إذ قصد بها البادية، وكانت تحفل بالأعراب1. وجاءت في كتابة "بهستون" بيستون"2 "behistun" لدار الكبير "داريوس"3 لفظة "أرباية" "عرباية"4 "arabaya"، وذلك في النص الفارسي المكتوب باللغة "الأخمينية"، ولفظة "arpaya"" "m ar payah" في النص المكتوب بلهجة أهل السوس "susian" "susiana" وهي اللهجة
__________
1 W. Muss Arnolt, j assyriach - english - Deutscbes handwort-erbuch, Berlin, 1903, s., 616, Winclder, A-O.P-, Band, 2, S., 465, Margoliouth, The relations between Arabs and Israelites prior to the rise of Islam, London, 1924, p., 3.
2 "بهستون" و"بسيستون". "بهستون" "بالفتح ثم الكسر": قرية بين همدان وحلوان، اسمها ساسباتان، بينها وبين همدان أربع مراحل، وبينها وبين قرميسين ثمانية فراسخ، وجبل بهستون، عالٍ مرتفع ممتنع، لا يُرتقى إلى ذروته، وطريق الحاج تحته سواء، ووجهه من أعلاه إلى أسفله أملس كأنه منحوت، ومقدار قامات كثيرة من الأرض قد نحت وجهه وملس، فزعم بعض الناس أن الأكاسرة أراد أن يتخذ حول هذا الجبل موضع سوق ليدل به على عزته وسلطانه، وعلى ظهر الجبل بقرب الطريق مكان يشبه الغار وفيه عين ماء جارية، وهناك صورة دابة كأحسن ما يكون من الصور، زعموا أنها صورة دابة كسرى المسماة شبديز، وعليها كسرى، وقد ذكرته مبسوطا في باب الشين"، البلدان "2/ 315"، "طبعة وستفلد" "1/ 769" "شيداز: بكسر أوله وسكون ثانيه ثم دال مهملة وآخره زاي. ويقال: شيديز بالياء المثناة من تحت ... منزل بين حلوان وقرميسين في لحف جبل بيستو، سمي باسم فرس كان لكسرى، وقد وصف ياقوت الحموي الموضع، وذكر آراء الناس فيه والقصص التي كانت تروى عن الصور، البلدان "5/ 228".
3 يعرف في الكتب العربية ب"دارا"، كتاب تأريخ سني ملوك الأرض والأنبياء ص" 20"، مروج الذهب "1/ 196، 245"، "دارا الكبير" "دارا الأكبر" تأريخ الطبري "1/ 687، 706، 719" طبعة أوروبة.
4 The Sculptures and inscription of Darius the great on the Rock of Behlstun in persia, London, 1907, p.,(1/17)
العيلامية لغة عيلام1.
ومراد البابليين أو الآشوريين أو الفرس من "العربية" أو "بلاد العرب". البادية التي في غرب نهر الفرات الممتدة إلى تخوم بلاد الشام.
وقد ذكرت "العربية" بعد آشور وبابل وقبل مصر في نصّ "دارا" المذكور2. فحمل ذلك بعض العلماء على إدخال طور سيناء في جملة هذه الأرضين3. وقد عاشت قبائل عربية عديدة في منطقة سيناء قبل الميلاد.
وبهذا المعنى أي معنى البداوة والأعرابية والجفاف والقفر، وردت اللفظة في العبرانية وفي لغات سامية أخرى، ويدل ذلك على أن لفظة "عرب" في تلك اللغات المتقاربة هو البداوة وحياة البادية، أي بمعنى "أعراب". وإذا راجعنا المواضع التي وردت فيها كلمة "عربي" و "عرب" في التوراة، تجدها بهذا المعنى تمامًا؛ ففي كل المواضع التي وردت فيها في سفر "أشعياء" "Isaiah" مثلًا نرى أنها استعملت بمعنى بداوة وأعرابية، كالذي جاء فيه: "ولا يخيم هناك أعرابي4". فقصد بلفظة "عرب" في هذه الآية الأخيرة البادية موطن العزلة والوحشة والخطر، ولم يقصد بها قومية وعلمية لمجلس معين بالمعنى المعروف المفهوم.
ولم يقصد بجملة "بلاد العرب" في الآية المذكورة والتي هي ترجمة "مسا
__________
1 "السوس بضم أوله وسكون ثانيه وسين مهملة أخرى. بلفظ السوس الذي يقع في الصواف: بلدة بخوزستان، فيها قبر دانيال عليه السلام. قال حمزة: السوس تعريب الشوش بنقط الشين، ومعناه الحسن والنزه والطيب ... قال ابن المقفع: أول سور وضع في الأرض بعد الطوفان سور السوس وتستر ولا يدري من بنى السوس وتستر والأبلة. وقال ابن الكلبي: السوس بن سام بن نوح"، البلدان "5/ 171 وما بعدها".
2 Sculp. P., 4, 95, 161.
3 Ency., Bibli., P., 273, Hastings, P. 46.' Encyclopaedia Biblica, by Cneyne, I, PP., 267, J. Hastings, A Dictionary of the Bible, I, P., 131, J. Hastings, A Dictionary of the Bible dealing with its Language Literature and Contents, p., 84.
4 الإصحاح الثالث عشر، آية 20 "ولا يضرب أعرابي فيها خباء"، الترجمة الكاثوليكية، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1960.
5 الإصحاح الحادي والعشرين، الأية 13،
J. Simons, The Georgraphical and Topographical Texts of the Old Testament, Leiden, 1959, P., 4.(1/18)
هـ- عراب" "MASSA HA-arab، المعنى المفهوم من "بلاد العرب" في الزمن الحاضر أو في صدر الإسلام؛ وإنما المراد بها البادية، التي بين بلاد الشام والعراق وهي موطن الأعراب1.
وبهذا المعنى أيضًا وردت في "أرميا"، ففي الآية "وكل ملوك العرب" الواردة في الإصحاح الخامس والعشرين2، تعني لفظة "العرب" الأعرابي"، أي "عرب البادية" والمراد من "وكل ملوك العرب" و "كل رؤساء العرب" و" مشايخهم"، رؤساء قبائل ومشايخ. لا ملوك مدن وحكومات. وأما الآية: "في الطرقات جلست لهم كأعرابي في البرية"3، فإنها واضحة، وهي من الآيات الواردة في "أرميا". والمراد بها أعرابي من البادية، لا حضري من أهل الحاضرة. فالمفهوم إذن من لفظة "عرب" في إصحاحات "أرميا" إنما هو البداوة والبادية والأعرابية ليس غير.
ومما يؤيد هذا الرأي ورود "ها عرابة ha 'arabah" في العبرانية، ويراد بها ما يقال له: "وادي العربة"، أي الوادي الممتد من البحر الميت أو من بحر الجليل إلى خليج العقبة4. وتعني لفظة "عرابة" في العبرانية الجفاف وحافة الصحراء وأرض محروفة، أي معاني ذات صلة بالبداوة والبادية، وقد أقامت في هذا الوادي قبائل بدوية شملتها لفظة "عرب". وفي تقارب لفظة "عرب" و "عرابة"، وتقارب معناها، دلالة على الأصل المشترك للفظتين. ويعدّ وادي "العربة" وكذلك "طور سيناء" في بلاد العرب. وقصد بـ "العربية" برية سورية في "رسالة القديس بوليس إلى أهل غلاطية"5.
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 88 فما بعدها".
A Religios Encylopaedla or Dictionary of Biblical, Historical Doctorinal, and Practical Theology, by,
Philip Schaff, 1894, Vol., I, P., 122.
2 الآية24 The Bible DicUonary, I, P., 98
3 الإصحاح الثالث، الآية الثانية.
4 Ency. Bibli., I, P., 271.
5 "مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان: أحدهما من الأَمَة، والآخر من الحرة؛ غير أن الذي من الأمة ولد بقوة الجسد، أما الذي من الحرة فبقوة الموعد، وذلك إنما هو رمز؛ لأن هاتين هما الوصيتان إحداهما من طور سيناء تلد للعبودية؛ فهي هاجر؛ فإن سيناء هو جبل في ديار العرب، ويناسب أورشليم الحالية؛ لأن هذه حاصلة في العبودية مع بنيها"، رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية"، الرسالة الرابعة، 22 فما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "2/ 89".(1/19)
وقد عرف علماء العربية هذه الصلة بين كلمة "عرب" و"عرابة" أو "عربة"؛ فقالوا: "إنهم سمّوا عربًا باسم بلدهم العربات، وقال إسحاق بن الفرج: عربة باحة العرب، وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام"1. وقالوا: "وأقامت قريش بعربة فتنخت بها، وانتشر سائر العرب في جزيرتها؛ فنسبوا كلهم إلى عربة؛ لأن أباهم إسماعيل، صلى الله عليه وسلم، نشأ وربّى أولاده فيها فكثروا. فلما لم تحتملهم البلاد، انتشروا، وأقامت قريش بها2، وقد هب بعضهم إلى أن عربة من تهامة3، وهذا لا ينفي على كل حال وجود الصلة بين الكلمتين.
ورواية هؤلاء العلماء، مأخوذة من التوراة، أخذوها من أهل الكتاب، ولا سيما من اليهود وذلك باتصال المسلمين بهم، واستفسارهم منهم عن أمور عديدة وردت في التوراة، ولا سيما في الأمور التي وردت مجملًا في القرآن الكريم والأمور التي تخص تأريخ العرب وصلاتهم بأهل الكتاب.
ويرى بعض علماء التوراة أن كلمة "عرب" إنما شاعت وانتشرت عند العبرانيين بعد ضعف "الإشماعيليين" "الإسماعيليين" وتدهورهم وتغلب الأعراب عليهم حتى صارت اللفظة مرادفة عندهم لكلمة "إشماعيليين". ثم تغلبت عليهم؛ فصارت تشملهم، مع أن "الإشماعيليين" كانوا أعرابًا كذلك، أي قبائل بدوية تتنقل من مكان إلى مكان، طلبًا للمرعى وللماء. وكانت تسكن أيضًا في المناطق التي سكنها الأعراب، أي أهل البادية. ويرى أولئك العلماء أن كلمة "عرب" لفظة متأخرة، اقتبسها العبرانيون من الآشوريين والبابليين، بدليل ورودها في النصوص الآشورية والبابلية، وهي نصوص يعود عهدها إلى ما قبل التوراة. ولشيوعها بعد لفظة "إشماعيليين"، ولأدائها المعنى ذاته المراد من اللفظة، ربط بينهما وبين لفظة "إشماعيليين"، ولأدائها المعنى ذاته المراد من اللفظة، ربط بينها وبين لفظة "إشماعيليين"، وصارت نسبًا، فصُير جد هؤلاء العرب "إشماعيل"، وعدوًّا من أبناء إسماعيل4.
__________
1 "اللسان "2/ 72"، القاموس المحيط "1/ 102".
2 اللسان "2/ 72"، تاج العروس "3/ 344"، "طبعة الكويت".
3 اللسان "2/ 76"، تاج العروس "3/ 344"، "الكويت".
4 راجع الألفاظ: "عرب" "ويشماعيل" في معجمات التوراة.(1/20)
هذا ما يخص التوراة، أما "التمود"؛ فقد قصدت بلفظة "عرب" و "عريم" "arbim" "عربئيم" "arbi'im" الأعراب كذلك، أي المعنى نفسه الذي ورد في الأسفار القديمة، وجعلت لفظة "عربي" مرادفة لكلمة "إسماعيل" في بعض المواضع1.
وقبل أن أنتقل من البحث في مدلول لفظه "عرب" عند العبرانيين إلى البحث في مدلولها عند اليونان، أود أن أشير إلى أن العبرانيين كانوا إذا تحدثوا عن أهل المدر، أي الحضر ذكروهم بأسمائهم. وفي سلاسل النسب الواردة في التوراة، أمثلة كثيرة لهذا النوع، سوف أتحدث عنها.
وأول من ذكر العرب من اليونان هو "أسكيلوس، أسخيلوس" "أشيلس" "أخيلوس" "Aeschylus"، "525- 456 قبل الميلاد" من أهل الأخبار منهم، ذكرهم في كلامه على جيش "أحشويرش" "xerxes"، وقال: إنه كان في جيشه ضابط عربي من الرؤساء مشهور2. ثم تلاه "هيرودوتس" شيخ المؤرخين "نحو 484- 425 قبل الميلاد،؛ فتحدث في مواضيع من تأريخه عن العرب حديثًا يظهر منه أنه كان على شيء من العلم بهم. وقد أطلق لفظة "arabae" على بلاد العرب، البادية وجزيرة العرب والأرضين الواقعة إلى الشرق من نهر النيل3؛ فأدخل "طور سيناء" وما بعدها إلى ضفاف النيل في بلاد العرب.
فلفظة "العربية" "arabae" عند اليونان والرومان، هي في معنى "بلاد العرب". وقد شملت جزيرة العرب وبادية الشام. وسكانها هم عرب على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم، على سبيل التغليب؛ لاعتقادهم أن البداوة كانت هي الغالبة على هذه الأرضين؛ فأطلقوها من ثم على الأرضين المذكورة.
وتدل المعلومات الواردة في كتب اليونان واللاتين المؤلفة بعد "هيرودوتس" على تحسن وتقدم في معارفهم عن بلاد العرب، وعلى أن حدودها قد توسعت في مداركهم فشملت البادية وجزيرة العرب وطور سيناء في أغلب الأحيان؛ فصارت لفظة "arabae" عندهم علمًا على الأرضين المأهولة بالعرب والتي تتغلب عليها
__________
1 موعيد قطان 124
2 Ency. Bibli., I, P., 273
3 Ency. Bibli., I, P., 271(1/21)
الطبيعة الصحراوية، وصارت كلمة "عربي" عندهم علمًا للشخص المقيم في تلك الأرضين، من بدو ومن حضر؛ إلا أن فكرتهم عن حضر بلاد العرب لم تكن ترتفع عن فكرتهم عن البدوي، بمعنى أنهم كانوا يتصوّرون أن العرب هم أعراب.
ووردت في جغرافية "سترابون" كلمة "أرمي" "erembi"، ومعناها اللغوي الدخول في الأرض أو السكنى في حفر الأرض وكهوفها، وقد أشار إلى غموض هذه الكلمة وما يقصد بها، أيقصد بها أهل "طرغلوديته" "troglodytea" أي "سكان الكهوف" أم العرب؟ ولكنه ذكر أن هناك من كان يريد بها العرب، وأنها كانت تعني هذا المعنى عند بعضهم في الأيام المتقدمة، ومن الجائز أن تكون تحريفًا لكلمة "arabi" فأصبحت بهذا الشكل1.
أما الإرميون؛ فلم يختلفوا عن الآشوريين والبابليين في مفهوم "بلاد العرب". أي ما يسمى بـ"بادية الشام" وبادية السماوة. وهي البادية الواسعة الممتدة من نهر الفرات إلى تخوم الشام. وقد أطلقوا على القسم الشرقي من هذه البادية، وهو القسم الخاضع لنفوذ الفرس، اسم "بيت عرباية" "beth' arb'aya" و "باعرباية" "ba'arabaya"، ومعناها "أرض العرب". وقد استعملت هذه التسمية في المؤلفات اليونانية المتأخرة2. وفي هذا الاستعمال أيضًا معنى الأعرابية والسكنى في البادية.
ووردت لفظة "عرب" في عدد من كتابات "الحضر". وردت مثلًا في النص الذي وسم ب"79" حيث جاء في السطرين التاسع والعاشر "وبجندا دعرب"، أي: "وبجنود العرب". وفي السطر الرابع عشر: "وبحطر وعرب"، أي "وبالحضر وبالعرب"3. ووردت في النص: "193": "ملكادي عرب"، أي "ملك العرب" وفي النص "194" وفي نصوص أخرى4. وقد وردت اللفظة في كل هذه النصوص بمعنى "أعراب"، ولم ترد علمًا على قوم وجنس، أي بالمعنى المفهوم من اللفظة في الوقت الحاضر5.
__________
1 Strabo, Vol., 3, P., 215.
2 Ency. Bibli., Vol., I, P., 273, Hastings, P., 46, Schroder, Keillnschr. und Gesch. S., 100, Delitzsch, Wo 2Jag das Parodies? S., 295.
وسيكون رمزه Delitmych
3 مجلة سومر، السنة 1961، Die Araber, IV, S., 243. ff
4 سومر، 1961،Die Araber, IV, S., 261 5 انجليزي
5 Die Araber, IV, S., 269.(1/22)
هذا، وليست لدينا كتابات جاهلية من النوع الذي يقول له المستشرقون "كتابات عربية شمالية"، فيها اسم "العرب"، غير نصّ واحد، هو النص الذي يعود إلى "امرئ القيس بن عمرو". وقد ورد فيه: "مر القيس بر عمرو، ملك العرب كله، ذو إسرالتج وملك الأسدين ونزروا وملوكهم وهرب مذحجو ... "1. ولورد لفظة "العرب" في هذا النص الذي يعود عهده إلى سنة "328م" شأن كبير؛ "غير أننا لا نستطيع أن نقول: إن لفظة "العرب" هنا، يراد بها العرب بدوًا وحضرًا، أي: يراد بها العلم على قومية، بل يظهر من النص بوضوح وجلاء أنه قصد "الأعراب"، أي القبائل التي كانت تقطن البادية في تلك الأيام.
أما النصوص العربية الجنوبية؛ فقد وردت فيها لفظة "أعرب" بمعنى "أعراب"، ولم يقصد بها قومية، أي علم لهذا الجنس المعروف، الذي يشمل كل سكان بلاد العرب من بدو ومن حضر، فورد: "وأعرب ملك حضرموت"، أي "وأعراب ملك حضرموت"2، وورد: "وأعرب ملك سبأ"، أي "وأعراب ملك سبأ"3. وكالذي ورد في نصّ "أبرهة"، نائب ملك الحبشة على اليمن4؛ ففي كل هذه المواضع ومواضع أخرى، وردت بمعنى أعراب"5.
أما أهل المدن والمتحضرون، فكانوا يعرفون بمدنهم أو بقبائلهم، وكانت مستقر في الغالب. ولهذا قيل "سبأ"و "هَمْدَان" و"حِمْيَر" وقبائل أخرى، بمعنى أنها قبائل مستقرة متحضرة، تمتاز عن القبائل المتنقلة المسماة "أعرب" في النصوص العربية الجنوبية؛ مما يدل على أن لفظة "عرب" و "العرب" لم
__________
1 Ephemeris, 2-34, nabia, p. 4, Plate, 2, dussaud, in rev Archeologique, II, "1902", 409, ff, Arabes en syrie avant l'islam, P. 34, montgoery, Arabia and the bible, p. 28.
وسيكون رمزه Montgomery.
2 لما كان المسند لا يعرف الحركات، صعب علينا قراءة الكلمات قراءة صحيحة فتجوز قراءة كلمة "أعرب" مثلًا: "أعرب" وتجوز قراءتها "أعراب".
3 نشر نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب وشرحها، بقلم الدكتور خليل يحيى نامي "ص92"، النقش 71 سطر 2، وسأشير إليه ب: نشر، "ص93 نصّ رقم 72، و73.
4 Glser, zwei inschriften uber den dammbruch bon maribg, s, 33, Ency, Bibli, I, p. 275, cis 541 Glasser, 618.
5 Glaser, zwei inschriften uber den dammbruch von marib, s. 33. Ency, Bibli I, p. 275, cis, 541 Glasser, 618.
Albert Jamme, Sabaean Inscriptions from Magram Biqis Baltimore, 1962, p. 445(1/23)
تكن تؤدي معنى الجنس والتقومية ذلك في الكتابات العربية الجنوبية المدونة والواصلة إلينا إلى قُبيل الإسلام بقليل "449م" "542م"1. والرأي عندي أن العرب الجنوبيين لم يفهموا هذا المعنى من اللفظة إلا بعد دخولهم في الإسلام، ووقوفهم على القرآن الكريم، وتكلمهم باللغة التي نزل بها، وذلك بفضل الإسلام بالطبع. وقد وردت لفظة "عرب" في النصوص علمًا لأشخاص2.
وقد عرف البدو، أي سكان البادية، بالأعراب في عربية القرآن الكريم. وقد ذكروا في مواضع من كتاب الله، وقد نعتوا فيه بنعوت سيئة3، تدل على أثر خلق البادية فيهم. وقد ذكر بعض العلماء أن الأعراب بادية العرب، وأنهم سكان البادية4.
والنص الوحيد الوحيد الذي وردت فيه لفظة "العرب" علمًا على العرب جميعًا من حضر وأعراب، ونعت فيه لسانهم باللسان العربي، هو القرآن الكريم. وقد ذهب "د. هـ. ملر" إلى أن القرآن الكريم هو الذي خصص الكلمة وجعلها علمًا لقومية تشمل كل العرب. وهو يشك في صحة ورود كلمة "عرب" علمًا لقومية في الشعر الجاهلي، كالذي ورد في شعر لامرئ القيس، وفي الأخبار المدونة في كتب الأدب على ألسنة بعض الجاهليين5. ورأي "ملر" هذا رأي ضعيف لا يستند إلى دليل؛ إذ كيف تعقل مخاطبة القرآن قومًا بهذا المعنى لو لم يكن لهم علم سابق به؟ وفي الآيات دلالة واضحة على أن القوم كان لهم إدراك لهذا المعنى قبل الإسلام، وأنهم كانوا ينعتون لسانهم باللسان العربي، وأنهم كانوا يقولون للألسنة الأخرى ألسنة أعجمية: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} 6. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا
__________
1 Margoliouth, the Relations, p. 2. Glaser, 554, 2. MVAG, VI, 7, CIH, 79. 9. CIH, 373, 397, 7. CIH IV, Pars Himyaritica, Nos, 79, 343, 397 Montgomery. P. 27.
2 نشر "ص89" نص69،
Ansaldi, cesare il yemen, nella storia e nella legenda,m roma 1933, Nr, 17 69, Ryckmans, in le museon, VoI, I, part, 3, "1937". Nr. 180.
3 التوبة، الآية 97، 101، الفتح، الآية 11، الحجرات، الآية 14.
4 بلوغ الأرب "1/ 13"، تاج العروس "3/ 333 فما بعدها".
5 D.H Muller, in Neue Frele Presse, "1894" 20th April, Ency. Bibli, I. P. 274.
6 سورة فصلت رقم 41، الآية 44.(1/24)
عَرَبِيّاً} 1. {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 2. {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 3؛ ففي هذه الآيات وآيات أخرى غيرها دلالة على أن الجاهلين كانوا يطلقون على لسانهم لسانًا عربيًا، وفي ذلك دليل على وجود الحس بالقومية قبيل الإسلام4.
ونحن لا نزال نميز الأعراب عن الحضر، ونعتدّهم طبقة خاصة تختلف عن الحضر، فنطلق عليهم لفظة: "عرب" في معنى بدو وأعراب، أي بالمعنى الأصلي القديم، ونرى أن عشيرة "الرولة" وعشائر أخرى تقسم سكان الجزيرة إلى قسمين: حضر و"عرب". وتقصد بالعرب أصحاب الخيام أي المتنقّلين، وتقسم العرب، أي البدو إلى "عرب القبيلة"، وهو "عرب الديرة"، وهم العرب المقيمون على حافات البوادي والأرياف، أي في معنى "عرب الضاحية" و "عرب الضواحي" في اصطلاح القدامى.
ثم تقسم الحضر وتسميهم أيضًا بـ"أهل الطين" إلى "قارين"، والواحد "قروني"، وهم المستقرون الذين لهم أماكن ثابتة ينزلونها أبدًا، وإلى "راعية" والمفرد راع، وهم أصحاب أغنام وشبه حضر، ويقال لهم" شوّاية" وو"شيّان" و "شاوية" و "رحم الديرة" بحسب لغات القبائل5.
وأشبه مصطلح من المصطلحات القديمة بمصطلح "شوّاية" و "شاوية"، هو "الأرحاء"، وهي القبائل التي لا تنتجع ولا تبرح مكانها؛ إلا أن ينتجع بعضها في البرحاء وعام الجدب6.
وخلاصة ما تقدم أن لفظة "ع ر ب"، "عرب" هي بمعنى التبدي والأعرابية في كل اللغات السامية، ولم تكن تفهم إلا بهذا المعنى في أقدم
__________
1 سورة الرعد رقم 13، الآية 37
2 سورة الأحقاف، رقم 46 الآية 12
3 النحل، السورة رقم 16، الآية 103
4 سورة يوسف الآية 2، سورة طه الآية 113، سورة الزمر الآية 28، سورة الشورى الآية 7، سورة الزخرف الآية 3.
5 B-R. 527 (Restricted) , Geographical Handbook Series for Official use only, Western Arabia and the Red Sea, June 1946, Naval Intelligence Division, PP., 398. "شاوية"
6 العقد الفريد" 3/ 335"(1/25)
النصوص التاريخية التي وصلت إلينا، وهي النصوص الآشورية، وقد عنت بها البدو عامة، مهما كان سيدهم أو رئيسهم. وبهذا المعنى استعملت عند غيرهم. ولما توسعت مدارك الأعاجم وزاد اتصالهم واحتكاكهم بالعرب وبجزيرة العرب، توسعوا في استعمال اللفظة؛ حتى صارت تشمل أكثر العرب على اعتبار أنهم أهل بادية وأن حياتهم حياة أعراب. ومن هنا غلبت عليهم وعلى بلادهم، فصارت علَمية عند أولئك الأعاجم على بلاد العرب وعلى سكانها، وأطلق لذلك كتبة اللاتين واليونان على بلاد العرب لفظة "arabae" "Arabia" أي "العربية" بمعنى بلاد العرب.
لقد أوقعنا هذا الاستعمال في جهل بأحوال كثير من الشعوب والقبائل، ذكرت بأسمائها دون أن يشار إلى جنسها. فحرنا في أمرها، ولم نتمكن من إدخالها في جملة العرب؛ لأن الموارد التي تملكها اليوم لم تنص على أصلها؛ فلم تكن من عادتها، ولم يكن في مصطلح ذلك اليوم كما قلت إطلاق لفظة "عرب" إلا على الأعراب عامة، وذلك عند جهل اسم القبيلة، وكانت تلك القبيلة بادية غير مستقرة، وقد رأينا أن العرب أنفسهم لم يكونوا يسمون أنفسهم قبل الميلاد، إلا بأسمائهم، ولولا وجودهم في جزيرة العرب ولولا عثورنا على كتابات أو موارد أشارت إليهم، لكان حالهم حال من ذكرنا، أي لما تمكّنّا من إدخالهم في العرب، ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئًا تجاه القبائل المذكورة، وليس لنا إلا الانتظار؛ فلعل الزمن يبعث نصًّا يكشف عن حقيقة بعض تلك القبائل.
هذا ويُلاجظ أن عددًا من القبائل العربية الضاربة في الشمال والساكنة في العراق وفي بلاد الشام، تأثرت بلغة بين إرم، فكتبت بها، كما فعل غيرهم من الناس الساكنين في هذه الأرضين، مع أنهم لم يكونوا من بني إرم. ولهذا حسبوا على بني إرم، مع أن أصلهم من جنس آخر. وفي ضمن هؤلاء قبائل عربية عديدة، ضاع أصلها؛ لأنها تثقفت بثقافة بني إرم، فظن لذلك أنها منهم.
الآن وقد انتهت من تحديد معنى "عرب" وتطورها إلى قبيل الإسلام، أرى لزامًا عليّ أن أتحدث عن ألفاظ أخرى استعملت بمعنى "عرب" في عهد من العهود، وعند بعض الشعوب؛ فقد استعمل اليونان كلمة "saraceni"(1/26)
و "saracenes"، واستعملها اللاتين على هذه الصورة "saracenus"، وذلك في معنى "العرب"1 وأطلقوها على قبائل عربية كانت تقيم في بادية الشأم2 وفي طور سيناء3، وفي الصحراء بأدوم4، وقد توسع مدلولها بعد الميلاد، ولا سيما في القرن الرابع والخامس والسادس؛ فأطلقت على العرب عامة، حتى إن كتبة الكنيسة ومؤرخي هذا العصر قلما استعملوا كلمة "عرب" في كتبهم، مستعيضين عنها بكلمة5 "saraceni"، وأقدم من ذكرها هو "ديوسقوريدسdioscurides of anazarbos" الذي عاش في القرن الأول للميلاد6، وشاع استعمالها في القرون الوسطى حيث أطلقها النصارى على جميع العرب، وأحيانًا على جميع المسلمين7. ونجد الناس يستعملونها في الإنكليزية في موضع "عرب" ومسلمين حتى اليوم.
وقد أطلق بعض المؤرخين من أمثال "يوسبيوس" "أويسبيوس" "eusebius" و"هيرونيموس""Hieronymus هذه اللفظة على "الإشماعيليين" الذين كانوا يعيشون في البراري في "قادش" في برية "فاران"، أو مدين حيث جيل "حوريب"8. وقد عرفت أيضًا ب"الهاجريين" "hagerene ثم دعيت بـ9saracenes.
لم يتحدث أحد من الكتبة اليونان والرومان والسريان عن أصل لفظة "saraceni" "sarakenoi". ولم يلتفت العلماء إلى البحث في أصل التسمية إلا بعد النهضة العلمية الأخيرة؛ ولذلك اختلفت آراؤهم في التعليل، فزعم بعضهم أنه مركب من "سارة" زوج إبراهيم، ولفظ آخر ربما هو "قين"،
__________
1 Forster, Vol., 2, P., 9, Webester's New International Dictionary of English
Language, Vol., 2, P., 2216, Ency. Brita., Vol., 19, P. 987
2 Ency. Brita., Vol., 19, P., 987
3 Forster, Band, 2, S., 9, Ptolemy, 5, 16, Ency. of Islam, Vol., 4. P. 155.
4 Forster, Vol., P. 20. i.
5 Ency. of Islam, Vol., 4, P., 156.
Ency وسيكون الرمز:
6 Ency., Vol., 4, P., 155, Bretzl, Botanische Forachungen des Alx Alexanderzuges,
S., 282.
7 Eney. Vol. 4 P., 155.
8 قاموس الكتاب المقدس "1/ 395.
9 Ency., Vol., 4, P., 156, Eusebius, (ed. Schoene) , II, 13, Chron. Pasch., 94. 18.(1/27)
فيكون المعنى "عبيد سارة"1، وقال آخرون: إنه مشتق من "سرق"، فيكون المراد من كلمة "saraceni" "سراكين" "السراقين" أو "السارقين" إشراة إلى غزوهم وكثرة سطوهم2. أو من "saraka بمعنى "sherk" أي "شرق"3، ويراد بذلك الأرض التي تقع إلى شرق النبط. وقال "ونكلر" إنه من لفظة "شرقوا"، وتعني "سكان الصحراء" أو "أولاد الصحراء". استنتج رأيه هذا من ورود اللفظة في نصّ من أيام "سرجون"4. ويرى آخرون أنه تصحيف "شرقيين"، أو "شارق"5 على نحو ما يفهم من كلمة "قدموني" "qadmoni" في التوراة6، بمعنى شرق، أو أبناء الشرق7 "bene kedem" "bene qedhem"، وكانت تطلق خاصة على القبائل التي رجع النسابون العبرانيون نسبها إلى "قطورة"8.
وقد مال إلى هذا الرأي الأخير أكثر من بحث في هذه التسمية من المستشرقين؛ فعندهم أن "سرسين" أو "سركين" أو "sarakenoi" من "شرق"، وإن "bene kedem و "qadmoni" العبرانيتين هما ترجمتان للفظة9 "saraceni". ولهذا يرجحون هذا الرأي ويأخذون به.
__________
1 الهلال السنة السادسة، الجزء "15 ديسمبر" 1897، ص296، المشرق: السنة السابعة، الجزء 7، ص340، حيث رأى "الأب انستاس ماري الكرملي" أن sarrasins" من "سرحة"، وهو مخلاف باليمن، وعلى هذا فهم "السرحيون". "وسمعتهم يقولون: سراكنوا، سراكنو، ومعناه المسلمون"، رحلة ابن بطوطة "2/ 441" "طبعة أوربة"، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تهذيب رحلة ابن بطوطة، بقلم أحمد العوامري بك ومحمد أحمد جاد المولى بك، "بولاق 1934"، "1/ 288"، "قل لهذا السركنو يعني المسلم" "ص293"، "وكانت الروم تسمي العرب سارقيوس، يعني ذوي سارة، بسبب هاجر أم إسماعيل"، ابن الأثير: الكامل "1/ 117".
2 الهلال: السنة 6: "ج8" "1897" ص296.
3 Musil, Arabia Deserta, p. 311, Stephen of Byzantium, Ethnica, p. 556, "meineke.
4 Ency. VoI, 4, p. 156, Winckler, Altorient. Forschungen, II, ser, I, 771.
5 الهلال: الجزء المذكور، ص 296، مجلة لغة العرب، الجزء 4 السنة 7 "1929، ص293، Ency. VOI, 4, p. 156
6 التكوين: الإصحاح الخامس عشر، الآية 19.
7 قاموس الكتاب المقدس "2/ 206". Hastings, p, 512,
8 التكوين 25، الآية 1- 6 Hastings, p. 512,
9 Musil, Deserta, P. 494(1/28)
والقاتلون إن "سارقين" من أصل لفظتين "سارة"، زوج إبراهيم، ومن "قين" بمعنى "عبد" وأن المعنى هو "عبيد سارة"، متأثرون برواية التوراة عن سارة وبالشروح الواردة عنها1، وليست لأصحاب هذا الرأي أية أدلة أخرى غير هذا التشابه اللفظي الذي نلاحظه بين "سرسين" وبين "سارقين"، وهو من قبيل المصادفة والتلاعب بالألفاظ ولا شك، وغير هذه القصة الواردة في التوراة: قصة "سارة" التي لا علاقة لها بالسرسين.
هذا وما زال أهل العراق يطلقون لفظة "شروك" و "شروكية" على جماعة من العرب هم من سكان "لواء العمارة" والأهوار في الغالب، وينظرون إليهم نظرة خاصة، ولا شك عندي أن لهذه التسمية علاقة بتلك التسمية القديمة.
ويستعمل أهل العراق في الوقت الحاضر لفظة أخرى، وهي "الشرجية"، أي "الشرقية"، ويقصدون بها جهة المشرق. وتقابل لفظة "بني قديم" في العبرانية، وهي من بقايا المصطلحات العراقية القديمة التي تعبر عن مصطلح "شركوني" و "بني قديم".
هذا وقد عرف العرب أن الروم يسمونهم "ساراقينوس"؛ فقد ذكر "المسعودي" أن الروم إلى هذا الوقت "أي إلى وقته" تسمي العرب "ساراقينوس". وذكر خبرًا طريفًا عن ملك الروم "نقفور" المعاصر ل"هارون الرشيد". فقد زعم أنه "أنكر على الروم تسميتهم العرب ساراقينوس. تفسير ذلك عبيد سارة، طعنًا منهم على هاجر وابنها إسماعيل، وأنها كانت أمةً لسارة، وقال: تسميتهم عبيد سارة، كذب2.
وقد كانت منازل "القدمونيين"، "هقدمني"، "هاقدموني" "kadmonites"، في المناطق الشرقية لفلسطين، أي في بادية الشام، ولما كان "قيدما" "kedemeh" هو أحد أبناء إسماعيل في اصطلاح "التوراة"، فيكون أبناء "قيدما" من العرب الإسماعيليين3. وقد ذكر في موضع من التوراة أنهم كانوا يقطنون المناطق الشرقية لفلسطين قرب "البحر الميت" المعروف في
__________
1 لغة العرب ج4، من السنة 7، ص 294.
2 التنبيه "ص143" "طبعة عبد الله إسماعيل الصاوي".
3 Hastings, P. 512, Hastngs, A Dictionary of the bible, I, p. 633.(1/29)
العبرانية ب"هايم هقدموني"، أي: "البحر القدموني" "البحر الشرقي"1.
وقد كان "القدمونيون" أي "بنو قديم" أعرابًا يقطنون في بادية الشام. وأشباه أعراب، أي رعاة وأشباه حضريين، واللفظة لا تعني قبيلة واحدة معينة، أي علمية، ولا تعني قبائل معينة؛ وإنما هي لفظة عامة أطلقت على الساكنين في الأماكن الشرقية بالنسبة إلى العبرانيين2.
ونجد في الكتب اليونانية لفظة لها علاقة بطائفة من العرب. هي "skenitae" "scenitae"، وقد أطلقت خاصة على أعراب بادية الشام. وقصد بها الأعراب سكان الخيام، أي "أهل الوبر" في اصطلاح العرب. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها من "الخيمة" التي هي منزل الأعرابي؛ لأن الخيمة هي "skene" "skynai" في اليونانية؛ فالمعنى إذن "سكان الخيام"3.
وقد ذكر "سترابون" أن ال "senitae" كانوا نازلين على حدود "سورية" الشرقية، كما ذكر أن منهم من كان ينزل شمال "العربية السعيدة" وهم سكان خيام4. وقد فرق "سترابون" بينهم وبين البدو تفريقًا ظاهرًا، وميزهم عن غيرهم من الأعراب بسكناهم في الخيام. وقال عنهم في موضع آخر: أنهم يمثلون بصورة عامة "بدو" العراق5. وأنهم يعتنون بتربية الإبل. وقد ذكرهم أيضا في أثناء كلامه على ساحل "maranitae" فقال: إنه مأهول بالفلاحين وبال "scenitae" وأراد بهم الأعراب الذين لا يسكنون إلا الخيام ويعيشون على تربية الإبل، وقد ذكر أنهم كانوا قبائل ومشيخات6.
وقد ذكرهم "بلينيوس" كذلك، فدعاهم ب7"scenitae". وقد كانوا يقيمون في البادية. وقد حاربهم "سبتيموس سفيروس"، وسأتحدث
__________
1 Hastings, A Dictionary, I, P., 8311, حزقيال، الإصحاح 44، الآية 18
2 X Simons, The Geographical and Topographical Texts of the Old Testament, P., 13
3 Webester's New International Dictionary of the Englisch Language, Vol, 2, P. 2233,
Strabo, XVI, 2: 2, Vol., I, P., 63, 196, 441, Vol., 2. P. 219. 252. Vol. 3. P. 160.
166, ,185, 190, 204, (Hamilton) .
4 Strabo, Vol., I, P., 196, 441.
5 Musll, Palmyrena, p., 209, Strabo, Vol., 3, P., 166, 190. 204.
6 راجع المواضع المشار إليها من جغرافية "سترابون"،
7 o., P., 254, A Qyclopaedia of Biblical Literature, by, John Kitto, I, P., 184(1/30)
عن ذلك فيما بعد، كما أشار غيره إليهم. والظاهر أن لفظة "nomas" "nomadas" التي تعني "البدو" لا تؤدي معنى "scenitae" أي سكان الخيام؛ إذ فرَّق الكتبة اليونان في مؤلفاتهم بين اللفظتين. وأغلب ظني أن المراد بسكان الخيام الأعراب المستقرون بعض الاستقرار، أي الذين عاشوا في مضارب عيشة شِبْه مستقرة، لهم خيامهم وإبلهم وحيواناتهم على مَقْربة من الريف والحضارة. أما الـ"نومادس" "nomades" "nomadas"؛ فقد كانوا قبائل رحلًا يعيشون في البوادي لا يستقرون في مكان واحد، متى وجدوا فرصة اغتنموها فأغاروا على من يجدونهم أمامهم، للعيش على ما يقع في أيديهم. ولذلك كانت ظروف ضعف الحكومات أم انشغالها بالحروب من أحسن الفرص المناسبة لهم. ومن هنا فرّق الكتبة اليونان وغيرهم بين الجماعتين1.
إننا لا نستطيع أن نحدد الزمان الذي ظهر فيه مصطلح "سكينيته" بين اليونان واللاتين. وقد يكون ترجمة للفظة أخذوها من الفرس أو الآشوريين أو غيرهم من الشعوب. ومصطلح "أهل الوبر" هو مصطلح يقابل جملة "سكان الخيام" في نظري. أما مصطلح "أهل بادية" أو "أعراب بادية" أو "سكان البوادي"؛ فإنه تعبير يقابل "nomadas" عند اليونان.
وعرف العرب عند الفرس وعند بني إرم بتسمية أخرى، هي: "tayayo" و"taiy". أما علماء عهد التلمود من العبرانيين، فأطلقوا عليهم لفظة "ط ي ي ع ا" "طيعا" و"طيايا" "طياية"2 وأصل الكلمتين واحد على ما يظهر، أخذ من لفظة "طيء" اسم القبيلة العربية الشهيرة على رأي أكثر العلماء3. وكان تنزل في البادية في الأرضين المتاخمة لحدود إمبراطورية الفرس، وكانت من أقوى القبائل العربية في تلك الأيام، ولهذا صار اسمها مرادفًًا للفظة "العرب" "عرب". وقد ذكر "برديصان" اسم "tayaye" "tayoye" مع4 "sarakoye"
__________
1 Der Araber, I, S., 178.
2 The Unl. Jew. Ency., Vol., 2, P., 43, Margoliouth, P., 57, Ency, Vol. 4. p. 598.
3 Ency., Vol., 4, P., 598, -
4 Ency., Vol., 4, P., 598, Cureton, SpicU. Syr., P., 16, Noldeke, in ZDMG. IXIX.
713, Margollouth, The Relations, P., 57, Kraus, in ZDMG, IXX, 321, foil.(1/31)
وقد شاعت هذه التسمية قرب الميلاد، وانتشرت في القرون الأولى للميلاد، كما يتبين ذلك من الموارد السريانية والموارد اليهودية1.
واستعملت النصوص "الفهلوية" "pahlawi" لفظة "تاجك" "tahdgik" "tachik" "tashik" في مقابل "عرب". كما استعملت الفارسية لفظة "تازي" بهذا المعنى أيضًا، واستعمل الأرمن كلمة "تجك" "tachik" في معنى عرب ومسلمين، واستعمل الصينيون لفظة "تشي" tashi" لهذه التسمية. وقد عُرف سكان آسية الوسطى الذين دخلوا في الإسلام بهذه التسمية، كما أطلق الأتراك على الإيرانيين لفظة "تجك" من تلك التسمية، حتى صارت لفظة "تجك" تعني "الإيراني" في لغة التركية2.
ويرى بعض العلماء أن "تاجك" و "تجك" , و "تازك"، هي من الأصل المتقدم. من أصل لفظة "طيء"3. ولكلمة "تازي" في الفارسية معنى "صحراوي"، من "تاز" "taz"، بمعنى الأرض المقفرة الخالية، ولذلك نسب بعض الباحثين كلمة "تازي" إلى هذا المعنى، فقالوا: إنها أطلقت على العرب لما اشتهر عنهم أنهم صحراويون4.
وقد زعم "حمزة الأصفهاني" أن الفرس أطلقوا على العرب لفظة "تاجيان"، نسبة إلى "تاج بن فروان بن سيامك بن مشى بن كيومرث"، وهو جد العرب5.
وبعض هذه التسميات المذكورة، لا يزال حيًا مستعملًا، ولكنه لم يبلغ مبلغ لفظة "عرب" و"العرب" في الشهرة والانتشار؛ فقد صارت لفظة "عرب"، علمًا على قومية وجنس معلوم، له موطن معلوم، وله لسان
__________
1 O'leary, Arabia, p. 18, J. Obermeyer, die Landschaft Babylonien, s. 233 f.
2 Ency. Vol. 4. p. 598.
3 Ency. Vol. 4. p. 598.
4 الرسالة: الجزء 654، السنة 1946، تعليق بقلم "ح. م. ع" من النجف على كلمة "تاجك"، وكنت قد كتبت فيها في مجلة الرسالة المصرية قبل هذا الجزء.
5 حمزة "24".(1/32)
خاص به يميزه عن سائر الألسنة، من بعد الميلاد حتى اليوم. وقد وسع الإسلام رقعة بلاد العرب، كما وسع مجال اللغة العربية، حتى صارت بفضله لغة عالمية خالدة ذات رسالة كبيرة. غمرت بفضل الإسلام بعض اللغات مثل الفارسية والتركية والأردية ولغات أخرى، فزودتها بمادة غزيرة من الألفاظ، دخلت فيها حتى صارت جزءًا من تلك اللغات، يظن الجاهل أنها منها لاستعماله لها، ولكنها في الواقع من أصل عربي.
وربّ سائل يقول: لقد كان للعرب قبل الإسلام لغات، مثل المعينية والسبئية والحميرية والصفوية والثمودية واللحيانية وأمثالها، اختلفت عن عربية القرآن الكريم اختلافًًا كبيرًا؛ حتى إن أحدنا إذا قرأ نصًّا مدوّنًا بلغة من تلك اللغات عجز عن فهمه، وظن إذا لم يكن له علم بلغات العرب الجاهليين أنه لغة من لغات البرابرة أو الأعاجم، فماذا سيكون موقفنا من أصحاب هذه اللغات، وهل نعدّهم عربًا؟
والجواب أن هؤلاء، وإن اختلفت لغتهم عن لغتنا وباينت ألسنتهم ألسنتنا؛ فإنهم عرب لحمًا ودمًا، ولدوا ونشأوا في بلاد العرب، لم يردّوا إليها من الخارج، ولم يكونوا طارئين عليها من أمة غريبة. فهم إذن عرب مثل غيرهم، وكل لغات العرب هي لغات عربية، وإن اختلفت وتباينت، وما اللغة التي نزل بها القرآن الكريم إلّا لغة واحدة من تلك اللغات، ميّزت من غيرها، واكتسبت شرف التقدم والتصدر بفضل الإسلام، وبفضل نزول الكتاب بها، فصارت "اللغة العربية الفصحى" ولغة العرب أجمعين.
وحكمنا هذا ينطبق على النبط أيضًا وعلى من كان على شاكلتهم، وإن عدهم علماء النسب والتاريخ واللغة والأخبار من غير العرب، وأبعدوهم عن العرب والعربية؛ فقد كان أولئك وهؤلاء عربًا أيضًا، مثل عرب اليمن المذكورين ومثل ثمود والصفويين واللحيانيين، لهم لهجاتهم الخاصة؛ وإن تأثروا بالإرمية وكتبوا بها، فقد تكلم اليهود بالإرمية ونسي كثير منهم العبرانية، ولكن نسيان أولئك اليهود العبرانية، لم يخرجهم مع ذلك عن العبرانيين.
وسترد في بحثنا عن تاريخ الجاهلية أسماء قبائل عربية كثيرة عديدة لا عهد للإسلاميين بها، ولا علم لهم عنها، ذُُكروا في التوراة وفي كتب اليهود الأخرى(1/33)
وفي الموارد اللاتينية، واليونانية والكتابات الجاهلية. وإذا جاز لأحد الشك في أصل بعض القبائل المذكورة في كتب اليهود أو في مؤلفات الكتبة "الكلاسيكيين" على اعتبار أنها أخطأت في إدخالها في جماعة العرب، فإن هذا الجواز يسقط حتما بالنسبة إلى القبائل المذكورة في الكتابات الجاهلية، وبالنسبة إلى القبائل التي دوّنت تلك الكتابات. فهي كتابات عربية، وإن اختلفت عن عربيتنا وباينت لغتها لغتنا؛ لأنها لهجة قوم عاشوا في بلاد العرب ونبتوا فيها، وقد كان لسانهم هذا اللسان العربي المكتوب.
فسبيلنا في هذا الكتاب إذن، هو البحث في كل العرب: العرب الذين تعارف العلماء الإسلاميون على اعتبارهم عربًا. فمنحوهم شهادة العروبة، بحسب طريقتهم في تقسيمهم إلى طبقات، وفي وضعهم في أشجار نسب ومخططات، والعرب المجهولين الذين لم يمنحوا هذه الشهادة بل حرموا منها، ونصّ على إخراجهم من العرب كالنبط على ما ذكرت، والعرب المجهولين كل الجهل الذين لم يكن للمسلمين علم ما بهم، ولم يكن لهم علم حتى بأسمائهم. سنتحدث عن هؤلاء جميعًا، على اعتبار أنهم عرب، جهلهم العرب، لأنهم بادوا قبل الإسلام، أو لأنهم عاشوا في بقاع معزولة نائية، فلم يصل خبرهم إلى الإسلاميين؛ فلما شرع المسلمون في التدوين، لم يعرفوا عنهم شيئًا، فأُهملوا، ونسوا مع كثير غيرهم من المنسيين.
سئل أحد علماء العربية عن لسان حمير، فقال: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"1؛ ولكن علماء العربية لم يتنصلوا من عروبة حمير، ولا من عروبة غيرهم ممن كان يتكلم بلسان آخر مخالف للساننا، بل عدّوهم من صميم العرب ومن لبّها، ونحن هنا لا نستطيع أن ننكر على الأقوام العربية المنسية عروبتها، لمجرد اختلاف لسانها عن لساننا، ووصول كتابات منها مكتوبة بلغة لا نفهمها، فلغتها هي لغة عربية، ما في ذلك شك ولا شبهة، وإن اختلفت عن لسان يعرب أو أي جدّ آخر يزعم أهل الأخبار أنه كان أول من أعرب في لسانه؛ فتكلم بهذه العربية التي أخذت تسميتها من
__________
1 الجمحي: طبقات الشعراء "ص4 وما بعدها".(1/34)
ذلك الإعراب.
وبعد أن عرفنا معنى لفظة العرب والألفاظ المرادفة لها، أقول إن بلاد العرب أو "العربية"، هي البوادي والفلوات التي أطلق الأشوريون ومن جاء بعدهم على أهلها لفظة "الأعراب"، وعلى باديتهم "arabeae" و "arabae" وما شاكل ذلك. وهي جزيرة العرب وامتدادها الذي يكون بادية الشام حتى نهايتها عند اقتراب الفرات من أرض بلاد الشام؛ فالفرات هو حدها الشرقي. أما حدها الغربي: فأرض الحضر في بلاد الشام. وتدخل في العربية بادية فلسطين و"طور سيناء" إلى شواطئ النيل. وقد أطلق بعض الكتاب اليونان على الأرضين الواقعة شرق ال "araxe"، أي الخابور اسم1 "Arabia"، كما أدخل "هيرودوتس" أرض طور سيناء إلى شواطئ نهر النيل في "العربية" "Arabia" أي بلاد العرب2.
أما الآن وقد عرفنا لفظة عرب، وكيف تحددت، وتطورت، أرى لزامًا علينا الدخول في صلب موضوعنا وهو تاريخ العرب، مبتدئين بمقدمة عن الجاهلية وعن الموارد التي استقينا منها أخبارها، ثم بمقدمات عن جزيرة العرب وعن طبيعتها وعن الساميين وعقليتهم وعن العقلية العربية، تليها بحوث في أنساب العرب، ثم ندخل بعد ذلك في التاريخ السياسي للعرب، ثم بقية أقسام تاريخ العرب من حضارة ومدنية ودينية واجتماعية ولغوية.
ولما كان الإسلام أعظم حادث نجم على الإطلاق في تاريخ العرب، أخرجهم من بلادهم إلى بلاد أخرى واسعة فسيحة، وميّزهم أمة تؤثر تأثيرًا خطيرًا في حياة الناس.. صار ظهوره نهاية لدور ومبدأ لتاريخ دور، ونهاية أيام عرفت ب"الجاهلية" وبداية عهد عرف ب"الإسلام" ما زال قائمًا مستمرًا، وسيستمر إلى ما شاء الله، به أُرخ تاريخ العرب، فما وقع قبل الإسلام، عرف بتاريخ العرب قبل الإسلام، وما وقع بعده قيل له: تاريخ العرب بعد الإسلام.
وسيكون بحثنا هنا، أعني في هذه الأجزاء المتتالية في القسم الأول من
__________
1 Xenophon, An. I, 5, I, Der Araber, In der Alten Weit, I, s. 165
2 Heredot, 2, 15, Der Araber, I, s. 166(1/35)
تاريخ العرب، وهو قسم تاريخ العرب قبل الإسلام، أما القسم الثاني، وهو تاريخ العرب في الإسلام، فستأتي أجزاؤه بالتتالي أيضًا بعد الانتهاء من هذا القسم.
وبعد هذه المقدمة؛ فلننظر صفحات هذا الفصل، ولننتقل إلى فصل جديد، هو الفصل الثاني من هذه الفصول، فصل: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي.(1/36)
الفصل الثاني: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي
مدخل
...
الفصل الثاني: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي
اعتاد الناس أن يسموا تأريخ العرب قبل الإسلام "التأريخ الجاهلي"، أو "تأريخ الجاهلية"، وأن يذهبوا إلى أن العرب كانت تغلب عليهم البداوة، وأنهم كانوا قد تخلفوا عمن حولهم في الحضارة؛ فعاش أكثرهم عيشة قبائل رحّل، في جهل وغفلة، لم تكن لهم صلات بالعالم الخارجي، ولم يكن للعالم الخارجي اتصال بهم أميّون عبدة أصنام، ليس لهم تاريخ حافل، لذلك عرفت تلك الحقبة التي سبقت الإسلام عندهم ب"الجاهلية".
و"الجاهلية" اصطلاح مستحدث، ظهر بظهور الإسلام، وقد أطلق على حال قبل الإسلام تمييزًا وتفريقًا لها عن الحالة التي صار عليها العرب بظهور الرسالة، على النحو الذي يحدث عندنا وعند غيرنا من الأمم من إطلاق تسميات جديدة للعهود القائمة، والكيانات الموجودة بعد ظهور أحداث تزلزلها وتتمكن منها، وذلك لتمييزها وتفريقها عن العهود التي قد تسميها أيضًا بتسميات جديدة1. وفي التسميات التي تطلق على العهود السابقة، ما يدل ضمنا على شيء من الازدراء والاستهجان للأوضاع السابقة في غالب الأحيان.
وقد سبق للنصارى أن أطلقوا على العصور التي سبقت المسيح والنصرانية
__________
1 "وفي كتاب لابن خالويه أن لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة"، المزهر "176"، بلوغ الأرب "1/ 15".(1/37)
"الجاهلية"، أي "أيام الجاهلية"، أو "زمان الجاهلية"، استهجانًا لأمر تلك الأيام، وازدراءً بجهل أصحابها لحالة الوثنية التي كانوا عليها، ولجاهلة الناس؛ إذ ذاك وارتكابهم الخطايا التي أبعدتهم، في نظر النصرانية، عن العلم، وعن ملكوت الله. "وقد أغضى الله عن أزمنة هذا الجهل فيبشر الآن جميع الناس في كل مكان إلى أن يتوبوا"1.
وقد وردت لفظة "الجاهلية"، في القرآن الكريم، وردت في السور المدنية"2. دون السور المكية؛ فدل ذلك على أن ظهورها كان بعد هجرة الرسول إلى المدينة، وأن إطلاقها بهذا المعنى كان بعد الهجرة، وأن المسلمين استعملوها منذ هذا العهد فما بعده.
وقد فهم جمهور من الناس أن الجاهلية من الجهل الذي هو ضد العلم أو عدم اتباع العلم، ومن الجهل بالقراءة والكتابة، ولهذا ترجمت اللفظة في الإنكليزية بـ "the time of tgnorance"، وفي الألمانية ب3"zeit der unwissenheit" وفهمها آخرون أنها من الجهل بالله وبرسوله وبشرائع الدين وباتباع الوثنية والتعبد لغير الله، وذهب آخرون إلى أنها من المفاخرة بالأنساب والتباهي بالأحساب والكبر والتجبر وغيرذلك من الخلال التي كانت من أبرز صفات الجاهليين4.
ويرى المستشرق "كولدتزهير" goldziher" أن المقصود الأول من الكلمة
__________
1 أعمال الرسل، الإصحاح السابع عشر، الآية 30.
2 آل عمران، الآية 154، المائدة، الآية 50، الأحزاب، الآية 23، الفتح، الآية 26.
3 Ency, vol. I, p. 999, zwemer, Arabia the Cradle of Islam, p. 158.
4 لسان العرب "13/ 137، أساس البلاغة "1/ 145، صحاح الجوهري"2/ 169"، القاموس المحيط "3/ 253"، "الطبعة الرابعة"، ذيل أقرب الموارب"ص147"، شرح المعلقات السبع للزوزني "176"، شرح ديوان عنترة بن شداد، "ص126"، الأغاني "21/ 207"، بلوغ الارب "1/ 16"، فجر الإسلام "1/ 87".
لامية العرب، للشنفرى، "ولا يزدهي الأجهال حلمي"، 53 فجر الإسلام ص 86، "الطبعة الثالثة"، الأساطير العربية قبل الإسلام ص3، "وهذا يؤيد قول المستشرق كولدزهير الذي أثبت أن الجهل ضد الحلم، لا ضد العلم".
Ency, vol. P. 999, muh. Stu. I,s, 219. f. Nicholson, A literary, 1941 P. 30(1/38)
"السفه" الذي هو الحلم، والأنفة والخفة والغضب وماإلى ذلك من معان، وهي أمور كانت جد واضحة في حياة الجاهليين، ويقابلها الإسلام، الذي هو مصطلح مستحدث أيضًا ظهر بظهور الإسلام، وعمادة الخضوع لله والانقياد له1 ونبذ التفاخر بالأحساب والأنساب والكبر وما إلى ذلك من صفات نهى عنها القرآن الكريم والحديث.
وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم في مواضع منه2، منها آية سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} 3، وآية سورة البقرة: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 4، وآية سورة الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 5، وآية هود: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 6. وفي كل هذه المواضع ما ينم على أخلاق الجاهلية. وقد ورد في الحديث: "إذا كان أحدكم صائمًا، فلا يرفث ولا يجهل" 7، وورد أيضًا: "إنك امرؤ فيك جاهلية" 8 وبهذا المعنى تقريبًا وردت الكلمة في قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق الجاهلينا9
أي: لا يسفه أحد علينا، فنسفه عليهم فوق سفههم، أي نجازيهم جزاء يربي عليه.
__________
1 فجر الإسلام "ص87،
Ency, vol. I, p. 999, ,uh. Stud. Bd. I, s. 244 f.
2 راجع فهارس القرآن الكريم
3 سورة الفرقان، اية 63، تفسير الطبري "19/ 21" "إنهم يمشون عليها بالحلم، لا يجهلون على من جهل عليهم"، بلوغ الأرب" 1/ 16".
4 سورة البقرة، آية 67.
5 سورة الأعراف 7 آية 198، تفسير الطبري "9/ 104"، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري، هامش تفسير الطبري" 9/ 105".
6 سورة هود11 آية 46.
7 بلوغ الأرب"1/ 16".
8 ذيل أقرب الموارد" 3/ 115"، فجر الإسلام "1/ 87"، بلوغ الأرب "1/ 16 فما بعدها".
9 بلوغ الأرب "1/ 16"، محيط المحيط ص309، أساس البلاغة "1/ 145، فجر الإسلام "1/ 87"، شرح المعلقات السبع للزوزني 151.(1/39)
واستعمال هذا اللفظ بهذا المعنى كثير1.
وجاء في سورة المائدة: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2 أي أحكام الملة الجاهلية وما كانوا عليه من الضلال والجور في الأحكام والتفريق بين الناس في المنزلة والمعاملة3.
وأطلقوا على "الجاهلية الجهلاء"، والجهلاء صفة للأولى يراد بها التوكيد، وتعني "الجاهلية القديمة"4. وكانوا إذا عابوا شيئًا واستبشعوه، قالوا: "كان ذلك في الجاهلية الجهلاء".5 و"الجاهلية الجهلاء" هي الوثنية التي حاربها الإسلام. وقد أنب القرآن المشركين على حميتهم الوثنية؛ فقال: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} 6.
والرأي عندي أن الجاهلية من السفه والحمق والأنفة والخفة والغضب وعدم الانقياد لحكم وشريعة وإرادة إلهية وما إلى ذلك من حالات انتقصها الإسلام؛ فهي في معنى "اذهب يا جاهل" نقولها في العراق لمن يتسفه ويتحمق وينطق بكلام لا يليق صدوره من رجل، فلا يبالي أدبًا ولا يراعي عرفًا، و "رجل جاهل" نطلقه على من لا يهتم بمجتمع ودين، ولا يتورع من النطق بأفحش الكلام. ولا يشترط بالطبع أن يكون ذلك الرجل جاهلًا أميا، أي ليس له علم، وليس بقارئ كاتب.
وقد اختلف المفسرون في المراد من الجاهلية الأولى في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} 7، فقيل: "الجاهلية الأولى التي
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 16".
2 سورة المائدة 5 آية 50 تفسير الخازن "1/ 516"، مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي، حاشية على الخازن "1/ 516".
3 محيط المحيط "309"، تفسير الخازن "1/ 516".
4 محيط المحيط 309، أساس البلاغة "1/ 145"، صحاح الجوهري "2/ 169"، أقرب الموارد ص "147" "وقالوا الجاهلية الجهلاء فبالغوا". لسان العرب "13/ 137" شمس العلوم، "ج 1 ي2، ص 368"
5 أقرب الموارد 147.
6 سورة الفتح 48 آية 26. عن الجاهلية والجهل وما ورد بهذا المعنى في القرآن الكريم، راجع تفصيل آيات القرآن الحكيم، تأليف جون لابوم، نقله إلى العربية محمد فؤاد عبد الباقي ص621.
7 سورة الأحزاب رقم 33، آية 33.(1/40)
ولد فيها إبراهيم، والجاهلية الأخرى التي ولد فيها محمد"1. وقيل "الجاهلية الأولى بين عيسى ومحمد"2، وقد أدى اختلافهم في مفهوم هذه الآية إلى تصور وجود جاهليتين جاهلية قديمة، وجاهلية أخرى هي التي كانت عند ولادة الرسول3.
واختلف العلماء في تحديد مبدأ الجاهلية، أو العصر الجاهلي؛ فذهب بعضهم إلى أن الجاهلية كانت فيما بين نوح وإدريس4. وذهب آخرون إلى أنها كانت بين آدم ونوح، أو أنها بين موسى وعيسى، أو الفترة التي كانت ما بين عيسى ومحمد5. وأما منتهاها، فظهور الرسول ونزول الوحي عند الأكثرين، أو فتح مكة عند جماعة6. وذهب ابن خالوية إلى أن هذه اللفظة أطلقت في الإسلام على الزمن الذي كان قبل البعثة7.
والذي يفهم خاصة من كتب الحديث أن أصحاب الرسول كانوا يعنون بـ "الجاهلية" الزمان الذي عاشوا فيه قبل الإسلام، وقبل نزول الوحي؛ فكانوا يسألون الرسول عن أحكامها، وعن موقفهم منها بعد إسلامهم، وعن العهود التي قطعوها على أنفسهم في ذلك العهد، وقد أقر الرسول بعضها، ونهى عن بعض آخر8، وذلك يدل على أن هذا المعنى كان قد تخصص منذ ذلك الحين،
__________
1 طبقات ابن سعد "8/ 143، 145".
2 بلوغ الأرب "1/ 17"، مفتاح كنوز السنة "تأليف فنستك" ص109.
3 "وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى، وقد أوقع لفظ الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام كما لا يخفى" بلوغ الأرب "1/ 18".
4 تأريخ الطبري "1/ 83"، الأساطير العربية قبل الإسلام ص2.
5 بلوغ الأرب "1/ 16 فما بعدها"، "والفترة ما بين كل نبيين. وفي الصحاح: ما بين كل رسولين من رسل الله عز وجل من الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة، وفي الحديث فترة ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام"، لسان العرب "13/ 137".
6 بلوغ الأرب "1/ 16 فما بعدها".
7 بلوغ الأرب "1/ 15"، المزهر 176 وفي "كتاب ليس" لابن خالويه: أن لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة".
8 صحيح مسلم "1/ 79"، صحيح البخاري ك 24 ب24، ك34 ب100، ك49 ب12، ك78 ب16، ك88 ب1، ك 33 ب5، 15، ك 64، ب54، "قال صلى الله عليه وسلم: أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، بلوغ الآرب "1/ 17"، مسند أحمد بن حنبل "2/ 11، 103، 187"، "3/ 425"، مفتاح كنوز السنة ص108.(1/41)
وأصبح للفظة "الجاهلية" مدلول خاص في عهد الرسول.
وأطلق بعض العلماء على الذين عاشوا بين الميلاد ورسالة الرسول "أهل الفترة" وهم في نظهر جماعة من أهل التوحيد ممن يقر بالبعث، ذكروا منهم: "حنظلة بن صفوان" نبي "أصحاب الرّس" وأصحاب الأخدود، وخالد بن سنان العبسي، و"وثاب السني" وأسعد أبا كرب الحميري، وقس بن ساعدة الإيادي وأمية بن أبي الصّلت، وورقة بن نوفل، وعداس مولى عتبة بن أبي ربيعة، وأبا قيس صربة بن أبي أنس من الأنصار، وأبا عامر الأوسي، وعبد الله بن جحش وآخرين1. فهم إذن طبقة خاصة من الجاهليين، ميزوا عن غيرهم بهذه السمة؛ لأنهم لم يكونوا على ملة أهل الجاهلية من عبادة الأصنام والأوثان.
فلفظة "الجاهلية" إذن نعت إسلامي من نوع النعوت التي تطلق في العهود السابقة على حركة ما أو انقلاب أطلقه المسلمون على ذلك العهد، كما نطلق اليوم نعوتًا وأسماء على العهود الماضية التي يثور الناس عليها، من مثل مصطلح "العهد المباد" الذي أطلق في العراق على العهد الملكي منذ ثورة 14 تموز 1958، ومثل المصطلحات الأخرى الشائعة في الأقطار العربية الأخرى، والتي اطلقت على العهود السابقة للثورات والانقلابات.
__________
1 مروج الذهب "1/ 38 فما بعدها".(1/42)
موارد التاريخ الجاهلي
مدخل
...
موارد التاريخ الجاهلي:
تاريخ الجاهلية هو أضعف قسم كتبه المؤرخون العرب في تاريخ العرب، يعوزه التحقيق والتدقيق والغربلة. وأكثر ما ذكروه على أنه تاريخ هذه الحقبة، هو أساطير وقصص شعبي، وأخبار أخذت عن أهل الكتاب ولا سيما اليهود، وأشياء وضعها الوضاعون في الإسلام، لمأرب اقتضتها العواطف والمؤثرات الخاصة.
وقد تداول العلماء وغير أصحاب العلم هذه الأخبار على أنها تاريخ الجاهلية حتى القرن التاسع عشر؛ فلما انتهت إلى المستشرقين، شكّوا في أكثرها فتناولوها بالنقد؛ استنادًا إلى طرق البحث الحديثة التي دخلت على العلوم النظرية، وتفتحت بذلك آفاق واسعة في عالم التاريخ الجاهلي لم تكن معروفة، ووضعوا الأسس للجادات التي ستوصل عشاق التاريخ إلى البحث في تاريخ جزيرة العرب.(1/42)
وكان أهم عمل رائع قام به المستشرقون هو البحث عن الكتابات العربية التي دوّنها العرب قبل الإسلام، وتعليم الناس قراءتها بعد أن جهلوها مدة تنيف على ألف عام، وقد فتحت هذه النصوص باب تاريخ الجاهلية، ومن هذا الباب يجب أن نصل إلى التاريخ الجاهلي الصحيح.
لقد كلف البحث عن هذه الكتابات العلماء والسياح، ثمنا غاليًا كلفهم حياتهم في بعض الأحيان، ولم يكن من السهل تجول هؤلاء الأوروبيين بأزياء مختلفة في أماكن تغلب عليها الطبيعة الصحراوية للحصول على معلومات عن الخرائب والعاديات والحصول على ما يمكن الحصول عليه من نقوش وكتابات.
والتاريخ الجاهلي مع ذلك في أول مرحلة من مراحله وفي الدرجات الأولى من سلم طويل متعب. ولا يُنتظر التقدم أكثر من ذلك؛ إلا إذا سهّل للعلماء التجوال في بلاد العرب، لدراستها من جميع الوجوه، وللبحث عن العاديات، ويسرت لهم سبل البحث، ووضعت أمامهم كل المساعدات الممكنة التي تأخذ بأيديهم إلى الكشف عن مواطن ذلك التاريخ والبحث عن مدافن كنوز الآثار تحت الأتربة واستخراجها وحلّ رموزها، لجعلها تنطق بأحوالها في تلك الأيام. وتلك مسئولية لن تُفهم إلّا إذا فهم العرب وعلى رأسهم الحاكمون منهم أن من واجبهم المحافظة على تأريخ العرب القديم بصيانة موطن الآثار ومنع الاعتداء عليها، بإنزال أشدّ العقوبات فيمن يحطم تمثالًا؛ لاعتقاده بإنه صنم، أو يهدم أثرًا للاستفادة من حجره، أو ما شابه ذلك من هدم وتخريب.
لم يطمئن المستشرقون إلى هذا المرويّ في الكتب العربية عن التاريخ الجاهلي ولم يكتفوا به، بل رجعوا إلى مصادر وموارد ساعدتهم في تدوين هذا الذي نعرفه عن تاريخ الجاهلية، وهو شيء قليل في الواقع؛ ولكنه مع ذلك خير من هذا القديم المتعارف وأقرب منه إلى التأريخ، وقد تجمعت مادته من هذه الموارد:
1 النقوش والكتابات.
2 التوراة والتلمود والكتب العبرانية الأخرى.
3 الكتب اليونانية واللاتينية والسريانية ونحوها.
4 المصادر العربية الإسلامية.(1/43)
1- النقوش والكتابات:
تعد النقوش والكتابات في طليعة المصادر التي تكوّن التاريخ الجاهلي، وهي وثائق ذات شأن؛ لأنها الشاهد الناطق الحي الوحيد الباقي من تلك الأيام، وأريد أن أقسمها إلى قسمين: نقوش وكتابات غير عربية تطرقت إلى ذكر العرب كبعض النصوص الأشورية أو البابلية، ونصوص وكتابات عربية كتبت بلهجات مختلفة، منها ما عثر عليها في العربية الجنوبية، ويدخل ضمنها تلك التي وجدت في مصر أو في بعض جزر اليونان أو في الحبشة، وهي من كتابات المعينيين والسبئيين، ومنها ما عثر عليها في مواضع أخرى من جزيرة العرب، مثل أعالي الحجاز وبلاد الشام والعربية السعودية والكويت ومواضع أخرى، وكل ما عثر أو سيعثر عليه من نصوص في جزيرة العرب مدونًا بلهجة من اللهجات التي تعارف علماء العرب أو المستشرقون على اعتدادها من لغات العرب.
وأغلب الكتابات الجاهلية التي عثر عليها هي، ويا للأسف، في أمور شخصية، ولذلك انحصرت فوائدها في نواحٍ معينة، في مثل الدراسات اللغوية، وأقلها النصوص التي تتعرض لحالة العرب الساسية، أو الأحوال الاجتماعية أو العلمية أو الدينية أو النواحي الثقافية والحضارية الأخرى، ولهذا بقيت معارفنا في هذه النواحي ضحلة غير عميقة. وكل أملنا هو في المستقبل؛ فلعله سيكون سخيًا كريمًا، فيمدنا بفيض من مدونات لها صلة وعلاقة بهذه الأبواب، وينقذنا بذلك من هذا الجهل الفاضح الذي نحن فيه، بتاريخ العرب قبل الإسلام.
بل حتى النصوص العربية الجنوبية التي عثر عليها حتى الآن هي في أمور شخصية في الغالب، من مثل إنشاء بيت، أو بناء معبد، أو بناء سور، أو شفاء من مرض، ولكنها أفادتنا، مع ذلك، فائدة كبيرة في تدوين تاريخ العرب الجنوبيين؛ فقد أمدتنا بأسماء عدد من الملوك، ولولاها لما عرفنا عنهم شيئًا. ونظرًا إلى ما نجده في بعض النصوص من إشارات إلى حروب1، ومن صلات بين ملوك الدول العربية الجنوبية، ونظرًا إلى كون بعض الكتابات أوامر ملكية وقوانين في تنظيم الضرائب وتعيين حقوق الغرباء وفي أمور عامة أخرى لها
__________
1 Roportoire D'Epigraphie Semitique, Nr. 2633, 2687, 3943(1/44)
علاقة بصلة الحكومات بشعوبها، ونظرًا إلى ما عرفناه من ميل إلى الحضارة والاستقرار والعمل والبناء، وفي حكوماتهم من تنظيم وتنسيق في الأعمال؛ فإننا نأمل الحصول في المستقبل على وثائق تعطينا مادة مهمة جديدة عن تأريخ العرب
كتابة عثر عليها في ظفار بعمان، ويعود عهدها إلى القرن الثاني بعد الميلاد من كتاب
"qataban and sheba" "ص304"
الجنوبيين وعن صلاتهم ببقية العرب أو بالعالم الخارجي؛ لأن جماعة تهتم هذا الاهتمام بالأمور المذكورة، لا يمكن أن تكون في غفلة عن أهمية تدوين التاريخ وتختلف الكتابات العربية الجنوبية طولًا وقصرًا تبعًا للمناسبات وطبيعة الموضوع،(1/45)
وتتشابه في المضمون وفي إنشائها في الغالب؛ لأنها كتبت في أغراض شخصية متماثلة. ومن النصوص الطويلة المهمة، نصّ رقمة العلماء رقم: "c.i.h. 1450"، وقد كتب لمناسبة الحرب التي نشبت بين قبائل حاشد وقبائل حمير في مدينة "ناعط"1، ونص رقمة "c.i.h 4334"، وقد أمر بتدوينه الملك "شعر أوتر بن علهان نهفان" "شعر أوتر بن علهن نهفن"، "80- 50 ق. م"2، ونص "أبرهة" نائب ملك الحبشة على اليمين "عزلي"، وهو يحوي كتابة مهمة تتألف من "136" سطرًا، يرتقي تاريخها إلى سنة 658 الحميرية أو 543م وقد كتب بحميرية رديئة ركيكة، ونص يرتقي تاريخه إلى سنة 554م.
أما الكتابات المكتوبة باللهجات التي يطلق عليها المستشرقون اللهجات العربية الشمالية؛ فقليلة. ويراد بهذه اللهجات القريبة من عربية القرآن الكريم، وأما الكتابات التي وجد أنها مكتوبة بالثمودية أو اللحيانية أو الصفوية؛ فإنها عديدة، وهي قصيرة، وفي أمور شخصية، وقد أفادتنا في استخراج أسماء بعض الأصنام وبعض المواضع وفي الحصول على أسماء بعض القبائل وأمثال ذلك.
__________
1 Margoliouth, Lectures on Arabic Historians, Calcutta, 1930, p. 29
وسأرز إليه بـ Lectures P. 30
2، "شعراوتي"، "شاعر أوتر" "شاعر أوتار". وقد ورد الاسم في كتاب "الإكليل" كتوبا كتابة صحيحة "شعرم أوتر" في طبعة نبيه فارس، واخطأ فيه أنستاس الكرملي فكتبه "سعوان أوثر"، كما ورد في إحدى المخطوطات التي اعتمد عليها، طبعة الكرملي 24.(1/46)
تاريخ الكتابات:
والكتابات المؤرخة قليلة. هذا أمر يؤسف عليه؛ إذ يكون المؤرخ في حيرة من أمره في ضبط الزمن الذي دوّن فيه النص، ولم نتمكن حتى الآن من الوقوف على تقويم ثابت كان يستعمله العرب قبل الإسلام، مدة طويلة في جزيرة العرب. والذي تبين لنا حتى الآن هو أنهم استعملوا جملة طرق في تأريخهم للحوادث، وتثبيت زمانها؛ فأرخوا بحكم الملوك، فكانوا يشيرون إلى الحادث بأنه حدث في أيام الملك فلان، أو في السنة كذا في حكم الملك فلان. وأرخوا كذلك بأيام الرؤساء وسادات القبائل وأرباب الأسر وهي طريقة عرفت عند المعينين والسبئيين والقتبانيين وعند غيرهم من مختلف أنحاء جزيرة العرب.(1/46)
والكتابات المؤرخة بهذه الطريقة، وإن كانت أحسن حالًا من الكتابات المهملة التي لم يؤرخها أصحابها بتاريخ؛ إلا أننا قلما نستفيد منها فائدة تذكر؛ إذ كيف يستطيع مؤرخ أن يعرف زمانها بالضبط، وهو لا يعرف شيئًا عن حياة الملك الذي أرخت به الكتابة أو حكمه، أو زمانه، أو زمان الرجال الذين أرخ بهم؟ لقد فات أصحاب هذه الكتابات أن شهرة الإنسان لا تدوم، وأن الملك فلانًا، أو رب الأسرة فلانًا، أو الزعيم فلانًا ربما لا يعرف بعد أجيال، وقد يصبح نسيًا منسيًا، لذلك لا يجدي التأريخ به شيئا، وذاكرة الإنسان لا تعي إلا الحوادث الجسام. لهذا السبب لم نستفيد من كثير من هذه الكتابات المؤرخة على وفق هذه الطريقة، وأملنا الوحيد هو أن يأتي يوم قد نستفيد فيه منها في تدوين التأريخ.
وترد التواريخ في الكتابات العربية الجنوبية، ولا سيما الكتابات القتبانية، على هذه الصورة: "ورخس ذو سحر خرف ... "1، أو "ورخس ذو تمنع خرف ... "2، أي: "وأرخ في شهر سحر من سنة....." و "أرخ في شهر تمنع من سنة ... ". ويلاحظ أن "ورخ" و "توريخ" مثل "أرخ" و "تاريخًا"، هما قريبتان من استعمال تميم؛ إذ هي تقول: "ورخت الكتاب توريخًا" أي "أرخت الكتاب تأريخًا"3. وأما حرف "السين" اللاحق بكلمة "ورخ"؛ فإنه أداة التنكير. ويلي التاريخ اسم الشهر، مثل شهر "ذو تمنع" و "ذو سحر" وغير ذلك. وقد تجمعت لدينا أسماء عدد من الشهور في اللهجات العربية الجنوبية المختلفة تحتاج إلى دارسة لمعرفة ترتبيها بالنسبة إلى الموسم والسنة. ثم تلي الشهور في العادة كلمة "خرف" أي "خريف"، وهي في العربية الجنوبية، السنة أو العام أو الحول. وعندئذ يذكر اسم الملك أو الرجل الذي أرخ به؛ فيقال: "خرف شهر يكل" أي سنة "شهريكول"، وهو ملك من ملوك قتبان. وهكذا بالنسبة إلى الملوك أو غيرهم.
نرى من ذلك أن التاريخ بأعوام الرجال كان يتضمن شهورًا؛ غير أننا لا
__________
1 N. Rhodokanakis, Katabanische texte zur Bodenwirtschaft, Bd. I, s. 123.
وسأرمز إليه بـ: KTB
2 Glaser 1395 – 1604, Se 84. Glaser 1412 – 1612, SE81, KTB, BD, 130
3 بلوغ الأرب 3/ 214.(1/47)
نستطيع أن نجزم بأن هذه الشهور كانت ثابتة لا تتغير بتغير الرجال، أو أنها كانت تتبدل بتبدل الرجال. والرأي الغالب هو أنها وضعت في وضع يلائم المواسم وأوقات الزراعة. ويظهر أنهم كانوا يستعلمون أحيانًا مع هذا التقويم تقويمًا آخر هو التقويم الحكومي، وكان يستند إلى السنين المالية، أي سني جمع الضرائب. وتختلف أسماء شهور هذا التقويم عن أسماء شهور التقاويم التي تؤرخ بالرجال1.
ويظهر أن العرب الجنوبيين كانوا يستعملون التقويم الشمسي في الزراعة، كما كانوا يستعملون التقويم القمري والتقويم النجمي أي التقويم الذي يقوم على رصد النجوم2.
وقد اتخذ الحميريون منذ سنة "115 ق. م" تقويمًا ثابتًا يؤرخون به، وهي السنة التي قامت فيها الدولة الحميرية -على رأي بعض العلماء- فأخذ الحميريون يؤرخون بهذا الحادث، واعتدوه مبدأ لتقويهم. وقد درسه المستشرقون؛ فوجدوه يقابل السنة المذكورة قبل الميلاد والكتابات المؤرخة بموجب هذه الطريقة لها فائدة كبيرة جدًا في تثبيت التاريخ.
وقد ذهب بعض الباحثين حديثًا إلى أن مبدأ تأريخ حمير يقابل السنة "109 ق. م" أي بعد ست سنوات تقريبًا من التقدير المذكور، وهو التقدير المتعارف عليه. والفرق بين التقديرية غير كبير3.
ومن النصوص المؤرخة، نصّ تأريخه سنة 385 من سني التقويم الحميري. وإذا ذهبنا مذهب الغالبية التي تجعل بداية هذا التقويم سنة "115 ق. م"، عرفنا أن تاريخ هذا النص هو سنة 27م تقريبًا، وصاحبه هو الملك "يسر يهنعم"
__________
1 KTB., I, S., 81. f.
2 N. Rhodokanakis, Studien zur Lexlkographie untl Grammatik des Altsudarabischen, 2 BD., BD., 2, S., 145.
LEXX وسأرمز إليه
Sab, Denkm, 21, Glaser, Zwei Inschriften, 47, note 7, ZDMG.', 46, Glaser Die Sternkunde der SiidarabUchen Qabylen, in SBWA, Winckler, AOP., 2, 35. ff.
3 للوقوف على مبدأ التقويم الحميري، راجع:
Glaser, Skizze, I, S. (3. ff., F. Hommel, GeschlcMe SiidarabienB, 1, 1937, S. 96. Ryckmans, Chronologie Sabeenne, C. Read. Ac. Inscr. et Belles. Lettres, 1943, P., 236 — 246, Le MusSon, 1964, 3 — 4, P., 407 — 427, 429. f(1/48)
"ياسر يهنعم" "ياسر ينعم" ملك سبأ وذو ريدان وابنه "شمر يهرعش"1، وللملك "ياسر يهنعم" نصّ آخر يعود تاريخه إلى سنة 374 من سني التقويم
كتابة قتبانية عثر عليها في تحنع وهي لرجل اسمه ثويب
من كتاب qataban صفحة "102"
الحميري، أي إلى سنة "295م"2. "ولشمر يهرعش"3 كتابة أمر بتدوينها سنة 396 للتقويم الحميري، أي سنة 281م4. وقد ورد
__________
1 نص رقم C.I.H. 46, Hartmann, Arabische Frage, S., 174,
Rhodokanakls, WZKM, XXXVH, S., 148, J.H. Mordtmann und EUgen
Mittwoch, Sabaische Inschriften, Hamburg, 1931, S-. I. ff.
وسأرمز إليه بـ:Sab. Inschr.
2 يعرف في الكتب العربية بـ "ياسر أنعم" "ياسر أنعم الحميري"، "ياسر ناشر النعم" "مالك ناشر النعم"، الإكليل"8/ 207 فما بعدها، "طبعة نبيه"، النيجان 170 فما بعدها، 119 فما بعدها، والطبري "1/ 683 فما بعدها، "1/ 566" "طبعة دار المعارف" "تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم".
3 ويعرف بـ "شمر يرعش" في الموارد العربية، الإكليل8 "208"، التيجان "ص222 فما بعدها، الإكليل"10/ 19، 33".
4 MMI50 – C.I.H. 448(1/49)
اسمه في نصوص أخرى، وقد لقّب نفسه بلقب "ملك سبأ وذو ريدان"، ولقّب نفسه في مكان آخر بلقب "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت"، مما يدل على أنه كان قد وسّع ملكه، وأخضع الأرضين المذكورة لحكمه1، وهي نصوص متأخرة بالنسبة إلى النصوص الأخرى.
ولما أراد الملك "شرحبيل يعفر بن أبي كرب أسعد" "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال والسواحل" بناء السدّ، أمر بنقش تاريخ البناء على جداره. وقد عثر عليه، وإذا به يقول: إن العمل كان في سنة 564 -565 الحميرية، وهذا يوافق عامي 449- 450 من الأعوام الميلادية2. وبعد ثماني سنوات من هذا التأريخ، أي في عام 457- 458 من التأريخ الميلادي "572- 573 حميري"، وضع عبد كلال نصًّا تاريخيًا يذكر فيه اسم "الرحمن"، ولهذين النَّصّين أهمية عظيمة جدًا من الناحية الدينية. يذكر النص الأول "إله السماوات والأرضين"، ويذكر الثاني "الرحمن". وتظهر من هذه الإشارة فكرة التوحيد على لسان ملوك اليمن وزعمائها3.
وقد عثر على نصَّين آخرين ورد فيهما اسم الملك، "شرحب آل يكف" و "شرحبيل يكيف". تأريخ أحدهما عام 582 الحميري "467م"، وتأريخ النص الثاني هو سنة 585 الحميرية، الموافقة لسنة 470م4.
ومن النصوص الآثارية المهمة، نصّ حصن غراب. وهذا النص أمر بكتابته "السميفع أشوى" "السميفع أشوع" وأولاده، تخليدًا لذكرى انتصار الأحباش على اليمانيين في عام 525م "سنة 640 الحميرية"5. ويليه النص الذي أمر أبرهة حاكم اليمن في عهد الأحباش بوضعه على جدران سدّ مأرب لما قام بترميم السدّ وإصلاحه في عام 657 الحميري، الموافق لعام 542م6.
وآخر ما نجده من نصوص مؤرخة، نصّ وضع في عام 669 لتقويم حمير "يوافق عام 554م"7. ولم يعثر المنقبون بعد هذا النص على نصّ آخر يحمل
__________
1 C.I.H. 628, C.I.H. 353, 407, 430, 431, 438
2 Sab. Inschr., S-, 2, CIH 540.
3 BOASOR, 83 (1941) , PP., 22, Sab. Inschr., S-, 2.
4 CIH 537, 644, Sab. Inachr., S., 2
5 b. Inschri., S-, 2
6 b. Inschr., S., 2, CIH 541, Margollouth, P., 32
7 sab. Inschr., S., 2, CIH 325(1/50)
تأريخًا. نعم، عثروا على نصوص كثيرة تشابه في مضمونها وعباراتها وألفاظها النصوص التي أقيمت في الفترة بين 439م وسنة 554م، وهذا يبعث على احتمال كون هذه النصوص مكررة، وأنها من هذا العهد الذي بحثنا عنه آنفًا1.
هذا، وإن مما يلاحظ على الكتابات العربية الجنوبية أن التي ترجع منها إلى العهود القديمة من تأريخ جنوب بلاد العرب قليلة. وكذلك الكتابات التي ترجع إلى العصور الحميرية المتأخرة، أي القريبة المتصلة بالإسلام؛ ولذلك أصبحت أكثر الكتابات التي عثر عليها حتى الآن من العهود الوسطى المحصورة بين أقدم عهد من عهود تأريخ اليمن وبين أقرب عهود اليمن إلى تأريخ الإسلام، وأكثرها خلو من التأريخ غير عدد منها يرد فيه أسماء ملوك وملكات أرخت بأياّمهم.
لكننا لا نستطيع تعيين تأريخ مضبوط لزمانهم؛ لعدم وجود سلسلة لمن حكم أرض اليمن، ولعدم وجود جداول بمدد حكمهم، ولفقدان الإشارة إلى من كان يعاصرهم من الملوك والأجانب.
وقد كان ما قدمناه يتعلق بالكتابات العربية الجنوبية المؤرخة. أما الكتابات العربية الشمالية المؤرخة، فهي معدودة، وهي لا تعطينا لهذا السبب فكرة علمية عن تأريخ الكتابات في الأقسام الشمالية والوسطى من بلاد العرب. وقد أرخ شاهد قبر "امرئ القيس" في يوم 7 بكسلول من سنة 223 "328م". وهذه السنة هي من سني تقويم بصرى bostra، وكان أهل الشام وحوران وما يليهما يؤرخون بهذا التقويم في ذلك العهد، ويبدأ بدخول بصرى في حوزة الروم سنة 105 م2.
وعثر على كتابة في خرائب "زيد" بين قنسرين ونهر الفرات جنوب شرقي حلب، كتبت بثلاث لغات: اليونانية والسريانية والعربية، يرجع تأريخها إلى سنة "823 للتقويم السلوقي"، الموافقة لسنة 512م. والمهم عندنا، هو النص العربي؛ ولا سيما قلمه العربي. أما من حيث مادته اللغوية، فإن أكثر ما ورد فيه أسماء الرجال الذين سعوا في بناء الكنسية التي وضعت فيها الكتابة3.
__________
1 Sab. Inschr., S-, 2, CIH 541, dH 45, KTB, S-, 140.
2 العرب قبل الإسلام 203، مجلة سومر، الجزء الأول، كانون الثاني، 1947 المجلد الثالث، ص131.
3 Dussaud, Les Arabes en Syrle, PP,, 34, Nabia, P., 4.
Grand., I, S., 156, Edward Sachau, Eine Dreiaprachige Inschrift aus Zebed, Monatsberlcht der Preuasiche Akademl der Wissenschaftcn, Berlin, 10 Febr., 1881, S., 169 — 190, zur TriUgiiis Zebedaea, in ZDMG., 36 (1882) S.. 345 — 352.(1/51)
وأرخت كتابة "حرّان" اليونانية بسنة أربع مائة وثلاث وستين من الأندقطية الأولى، وهي تقابل سنة 568م، والأندقطية، هي دائرة ثماني سنين عند الرومانيين، وكانت تستعمل في تصحيح تقويم السنة1. أما النص العربي، فقد أرخ "بسنة 463 بعد مفسد خيبر بعم "عام"2. ورأي الأستاذ "ليتمن" أن عبارة "بعد مفسد خيبر بعم" تشير إلى غزوة قام بها أحد أمراء غسان لخيبر3. وفي استعمال هذه الجملة التي لم ترد في النص اليوناني، دلالة على أن العرب الشماليين كانوا يستعملون التورايخ المحلية، كما كانوا يؤرخون بالحوادث الشهيرة التي تقع بينهم.
أما الكتابات الصفوية والثمودية واللحيانية، فإن من بينها كتابات مؤرخة؛ إلا أن توريخها لم يفدنا شيئًا أيضًا. فقد أرخت على هذا الشكل: "يوم نزل هذا المكان" أو "سنة جاء الروم". ومثل هذه الحوادث مبهمة، لا يمكن أن يستفاد منها في ضبط حادث ما.
هذا وقد أشار "المسعودي" إلى طرق للجاهليين في توريخ الحوادث، تتفق مع ما عثر عليه في الكتابات الجاهلية المؤرخة، فقال: "وكانت العرب قبل ظهور الإسلام تؤرخ بتواريخ كثيرة؛ فأما حمير وكهلان ابنا سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بأرض اليمن، فإنهم كانوا يؤرخون بملوكهم السالفة من التبابعة وغيرهم"4. ثم ذكر أنهم أرخوا أيضًا بما كان يقع لديهم من أحداث جسيمة في نظرهم، مثل "نار صوان"، وهي نار كانت تظهر ببعض الحرار من أقاصي بلاد اليمن، ومثل الحروب التي وقعت بين القبائل والأيام الشهيرة. وقد أورد جريدة بتواريخ القبائل إلى ظهور الإسلام5. وذكر "الطبري" أن العرب "لم يكونوا يؤرخون بشيء من قبل ذلك؛ غير أن قريشًا كانوا -فيما ذكر- يؤرخون قبل الإسلام بعام الفيل، وكان سائر العرب يؤرخون بأيامهم المذكورة كتأريخهم بيوم جبلة وبالكلاب الأول والكلاب الثاني"6.
__________
1 ولغنستون، تاريخ اللغات السامية ص192، وسأرمز إليه ب: السامية.
2 السامية 192، سومر، العدد المذكور ص132.
3 Rivista. Degli studi orientali, 1911, P. 195
4 التنبيه والإشراف "ص172" القاهرة 1938" "جار الصاوي"
5 التنبيه والإشراف "ص172 وما بعدها"
6 الطبري "1/ 193" "طبعة دار المعارف".(1/52)
وقد ذكر المسعودي أن قدوم أصحاب الفيل مكة، كان يوم أحد لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثمانية واثنين وثمانين سنة للإسكندر، وست عشرة سنة ومائتين من تاريخ العرب الذي أوله حجة العدد1 "حجة الغدر"2، ولسنة أربعين من ملك كسرى أنوشروان3. ولم يشر المسعودي إلى العرب الذين أرَّخوا بالتقويم المذكور؛ غير أننا نستطيع أن نقول إن "المسعودي" قصد بهم أهل مكة، لأن حملة "أبرهة" كانت قد وجهت إلى مدينتهم، وأن الحملة المذكورة كانت حادثًا تاريخيًّا بالنسبة إليهم، ولذلك أرَّخوا بوقت وقوعها.
ويرى كثير من المستشرقين والمشتغلين بالتقاويم وبتحويل السنين وبتثبيتها، وفقًا لها، أن عام الفيل يصادف سنة "570" أو "571" للميلاد، وبذلك يمكن اتخاذ هذا العام مبدئًا نؤرخ به على وجه التقريب الحوادث التي وقعت في مكة أو في بقية الحجاز والتي أرخت بالعام المذكور.
__________
1 "حجة العدد" مروج الذهب "1/ 282"، "حجة العدد"، مروج "2/ 170" "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد" ,سنة ثمان مائة واثنتين وثلاثين سنة للإسكندر، مروج "2/ 8" "تحقيق محمد محيي الدين"
2 "حجة الغدر"، البدء والتاريخ "4/ 131 وما بعدها"
3 مروج "2/ 170" "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد" "وسنة أربع وأربعين من ملك أنوشروان بن قباذ"، البدء والتاريخ "4/ 131".(1/53)
2- التوراة والتلمود والتفاسير والشروح العبرانية:
وقد جاء ذكر العرب في مواضع من أسفار التوراة تشرح علاقات العبرانيين بالعرب. والتوراة مجموعة أسفار كتبها جماعة من الأنبياء في أوقات مختلفة، كتبوا أكثرها في فلسطين. وأما ما تبقى منها، مثل حزقيال والمزامير؛ فقد كتب في وادي الفرات أيام السبي، وأقدم أسفار التوراة هو سفر "عاموس" "amos"، ويظن أنه كتب حوالي سنة 750 ق. م1.
__________
1 أحد الأنبياء، وكان راعيًا في "تقوع" "تقوعة" مدينة صغيرة جنوبي يهوذا على بعد نحو "12" ميلًا من جنوب القدس. عاش في أيام عزيا ملك يهوذا ويربعام ملك إسرائل نحو سنة 800 ق. م. وسفر عاموس هو الثلاثون من أسفار التوراة، قاموس الكتاب المقدس "ترجمة الدكتور جورج بوست" 2/ 59
Hastings, Dictionary of the Bible, P. 147.
وسأرمز إليه بـ: Hastings(1/53)
وأما آخر ما كتب منها، فهو سفر "دانيال" "Daniel" والإصحاحان الرابع والخامس من سفر "المزامير". وقد كتب هذه في القرن الثاني قبل المسيح1.
فما ذكر في التوراة عن العرب يرجع تاريخه إذن إلى ما بين سنة 750 والقرن الثاني قبل المسيح.
وقد وردت في التلمود "Talmud" إشارات إلى العرب كذلك. وهناك نوعان من التلمود الفلسطيني أو التلمود الأورشليمي "yeruschalmi" كما يسميه العبرانيون اختصارًا، والتلمود البابلي نسبة إلى "بابل" بالعراق، ويعرف عندهم باسم "بابلي" اختصارًا.
أما التلمود الفلسطيني؛ فقد وضع، كما يفهم من اسمه، في فلسطين. وقد تعاونت على تحبيره المدارس اليهودية "academies" في الكنائس "الكنيس". وقد كانت هذه مراكز الحركة العلمية عند اليهود في فلسطين، وأعظمها هو مركز "طبرية" "tiberias"، وفي هذا المحل وضع الحبر "رابي يوحان" "rabbi jochanan" التلمود الأورشليمي في أقدم صورة من صوره في أواسط القرن الثالث الميلادي وتلاه بعد ذلك الأحبار الذين جاءوا بعد "يوحنان" وهم الذين وضعوا شروحًا وتفاسير عدة تكون منها هذا التلمود الذي اتخذ هيأته النهائية في القرن الرابع الميلادي.
وأما التلمود البابلي؛ فقد بدأ بكتابته –على ما يظهر- الحبر "آشي" "rabbi ashi" المتوفى عام 430م، وأكمله الأحبار من بعده، واشتغلوا به
__________
1 "التلمود" "تعليم" Learning راجع عن التلمود المصادر الآتية:
Hastings, P., 890, Ency. Britani., Vol., 21, P. 769, J.Z.
Iauterbacli, Mishna and W. Bacher, Talmud, In Jew. ESncy., Funk, Entstehung-des Talmud, Leipzig, 1910, Rodkinson, History of the Talmud, New York, 1903, Strack, Einleitung in den Talmud, 1908.
ويتألف التلمود من "المشنة" mishnah، وهو الموضوع ومن "جمارة" "كماره gemara". وهو التفسير. فالمشنة "التكرار" عبارة عن مجموعة تقاليد أعطيت لموسى حين كان على الجبل ثم تداولها هارون وإليعازر ويشوع، وسلموها للأنبياء ثم انتقلت عن الأنبياء إلى أعضاء المجمع العظيم وخلفائهم حتى القرن الثاني بعد المسيح حينما جمعها الحاخام "يهوذا" وكتبها، ومن ثم صار يعد جامعًا للمشنة. و"الجمارة" "الكمارة" "التعليم"، وهو مجموعة المناظرات والتعليم والتفاسير التي جرت في المدارس العالية بعد انتهاء المشنة، قاموس الكتاب المقدس "1/ 290، pirqee aboth, 1,1,(1/54)
حتى اكتسب صيغته النهائية في أوائل القرن السادس للميلاد1. ولكل تلمود من التلمودين طابع خاص به، هو طابع البلد الذي وضع فيه؛ ولذلك يغلب على التلمود الفلسطيني طابع التمسك بالرواية والحديث. وأما التلمود البابلي، فيظهر عليه الطابع العراقي الحر وفيه عمق في التفكير، وتوسع في الأحكام والمحاكمات، وغني في المادة. وهذه الصفات غير موجودة في التلمود الفلسطيني2.
وبهذا يكمل التلمود أحكام التوراة، وتفيدنا إشارته من هذه الناحية في تدوين تأريخ العرب. أما الفترة بين الزمن الذي انتهى فيه من كتابة التوراة والزمن الذي بدأ فيه بكتابة التلمود؛ فيمكن أن يستعان في تدوين تاريخها بعض الاستعانة بالأخبار التي ذكرها بعض الكتاب، ومنهم المؤرخ اليهودي "يوسف فلافيوس" "جوسفوس فلافيوس "josephUs flavius" الذي عاش بين سنة 37 و 100 للمسيح تقريبًا. وله كتاب باللغة اليونانية في تأريخ عاديات اليهود "Joudaike archaioloigia"، تنتهي حوادثه بسنة 66 للميلاد، وكتاب آخر في تأريخ حروب اليهود3 "peri tou JOUDIAKOU POLEMOU" من استيلاء "أنطيوخس أفيفانوس" "Antiochus epiphanos" على القدس سنة 170 قبل الميلاد، إلى الاستيلاء عليها مرة ثانية في عهد "طيطس" "titus" سنة 70 بعد الميلاد، وكان شاهد عيان لهذه الحادثة. وقد نال تقدير "فسبازيان" "vespasIan" و"طيطس" وأنعم عليه بالتمتع بحقوق المواطن الروماني4.
وفي كتبه معلومات ثمينة عن العرب، وأخبار مفصلة عن العرب الأنباط، لا نجدها في كتاب ما آخر قديم. وكان الأنباط في أيامه يقطنون في منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات، فتتاخم بلاد الشام، ثم تنزل حتى تتصل بالبحر الأحمر5. وقد عاصرهم هذا المؤرخ؛ غير أنه لم يهتم بهم إلا من ناحية علاقة الأنباط بالعبرانين، ولم تكن بلاد العرب عنده إلا مملكة الأنباط6.
__________
1 Hastings, P., 891.
2 Hastings, P., 891.
3 Peri tou Joudalkon Polemou, De Bello Judiaco.
4 Harvey The Oxford Companion to Classical Literature, P., 228, Simon Dubnow,
Weltgeschichte des Judischen Volkes, BD., 2, s., 83. «-, BD. 3, s., 105, Ency.
Brita. Vol., 13, P., 153.
5 Josephus, AntiquiUes, BK., XTV, Ch., 14, I, The Jewish War, BK., I, ch. 1. 3.
6 Ch. 4. 2.(1/55)
هذا وإن للشروح والتفاسير المدونة على التوراة والتلمود قديما وحديثًا، وكذلك للمصطلحات العبرانية القديمة على اختلاف أصنافها أهمية كبيرة في تفهم تاريخ الجاهلية، وفي شرح المصطلحات الغامضة التي ترد في النصوص العربية التي تعود إلى ما قبل الإسلام؛ لأنها نفسها وبتسمياتها ترد عند العبرانيين في المعاني التي وضعها الجاهليون لها. وقد استفدت كثيرًا من الكتب المؤلفة عن التوراة مثل المعجمات في تفهم أحوال الجاهلية، وفي زيادة معارفي بها، ولهذا أرى أن من اللازم لمن يريد درس أحوال الجاهلية، التوغل في دارسة تلك الموارد وجميع أحوال العبرانيين قبل الإسلام.(1/56)
3- الكتب الكلاسيكية:
وأقصد بالكتب "الكلاسيكية" الكتب اليوانية واللاتينية المؤلفة قبل الإسلام ولهذه الكتب -على ما فيها من خطأ- أهمية كبيرة؛ لأنها وردت فيها أخبار تاريخية وجغرافية كبيرة الخطورة، ووردت فيها أسماء قبائل عربية كثيرة لولاها لم نعرف عنها شيئًا. وقد استقى مؤلفوها وأصحابها معارفهم من الرجال الذين اشتركوا في الحملات التي أرسلها اليونان أو الرومان إلى بلاد العرب، ومن السياح الذين اختلطوا بقبائل بلاد العرب أو أقاموا مدة بين ظهرانيهم، ولا سيما في بلاد الأنباط، ومن التجار وأصحاب السفن الذين كانوا يتوغلون في البحار وفي بلاد العرب للمتاجرة، وتعد الإسكندرية من أهم المراكز التي كانت تعنى عناية خاصة بجمع الأخبار عن بلاد العرب وعادات سكانها وما ينتج فيها لتقديمها إلى من يرغب فيها من تجار البحر المتوسط. وقد استقى كثير من الكتّاب "الكلاسيكيين" معارفهم عن بلاد العرب من هذه المصارد التجارية العالمية.
وتتحدث الكتب الكلاسيكية جازمةً عن وجود علاقات قديمة كانت بين سواحل بلاد العرب وبلاد اليونان والرومان، وتتجاوز بعض هذه الكتب هذه الحدود فتتحدث عن نظرية قديمة كانت شائعة بين اليونان، وهي وجود أصل دموي مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان. وتفصح هذه النظرية، على ما يبدو منها من سذاجة، على العلاقات العريقة في القِدَم التي كانت تربط سكان(1/56)
البحر المتوسط الشماليين بسكان الجزيرة العربية1.
ومن أقدم من ذكر العرب من اليونانيين "أخيلس" "aescylus" "525- 456 ق. م"، و "هيرودتس" "480- 425 ق. م" وقد زار مصر، وتتبع شئون الشرق وأخباره بالمشاهدة والسماع، ودوّن ما سمعه، ووصف ما شاهده في كتاب تاريخي. وهو أول أوروبي ألّف كتابًا بأسلوب منمق مبوب في التاريخ ووصل مؤلفه إلينا، وقد لقبه "شيشرون" "Cicero" الشهير بلقب "أيي التأريخ".
تناول "هيرودتس" تاريخ الصراع بين اليونان والفرس، وإن شئت فسمه "النزاع الأوروبي الآسيوي"؛ فألف عن تاريخه. والظاهر أنه لم يتمكن من إتمامه؛ ففيه فصول وضعت بعد وفاته. وهو أول كاتب يوناني اتخذ من الماضي موضوعًا للحاضر ومادة للمناقشة، بعد أن كان البحث في أخبار الأيام السالفة مقصورًا على ذكر الأساطير والقصص الشعبية والدينية. وهو مع حرصه على النقد والمحاكمة، لم يتمكن أن يكون بنجوة من الأفكار الساذجة التي كانت تغلب على ذلك العالم الابتدائي في ذلك العهد2؛ فحشر في كتابه قصصًا ساذجًا وحكايات لا يصدقها العقل، متأثرًا بعقلية زمانه في التصديق بأمثال هذه الأمور.
ومنهم "ثيوفراستوس" "Theophrastus"، "حوالي 371- 287 ق. م"، مؤلف كتاب "historia plantarum" وكتاب "de causis plantarum" وفي خلال حديثه عن النبات تطرّق إلى ذكر البقاع العربية التي كانت تنمو بها مختلف الأشجار، ولا سيما المناطق الجنوبية التي كانت تصدر التمر واللبان والبخور والأفاويه3. و "إيراتو ستينس" "eratosthenes" "276- 194 ق. م". وقد استفاد الكتّاب اليونانيون الذين جاءوا من بعده من كتاباته، ونجد في مواضع مختلفة من جغرافية "سترابون أقوالًا معزوّة إليه4".
__________
1 Agatharchides, De Rubro Mari, Opud Geograph, Vet Script mlnton, I, P., 59, ed,, Oxon, 1698, Ch. Forster, The Historical Geography of Arabia, in two Vol., Vol., I, PP., XXXVI,
Forster: وسأرمو إليه بـ:
Pliny, Nat. History, Vol., VI, P., 32, Vol., 2, PP., 718. ed. Paris! 1828. 8 Vol.
2 الإنكليزية،George Rawlinson اعتمدت على ترجمة
3 The History of Herodotus, Translated by George Rawlinson, In 2 Vol., London, 1920
4 Theopheophrastus, Historia Plantarum, Ed., Hort, 1916. H. Berger, Die Geogr. Fragtnente des Eratosthenes, 1880.(1/57)
ونضيف إلى من تقدموا "ديودورس الصقلي" diodorus siculus" "40ق. م". وقد ألف باللغة اليونانية تاريخًا عامًا سماه "المكتبة التأريخية" bibliotheke historike، تناول تاريخ العالم من عصر الأساطير حتى فتح "يوليوس قيصر" لإقليم "الغال". وهو في أربعين جزءًا، لم يبقَ منها سوى خمسة عشر جزءًا، تبحث في الحقبة المهمة التي تبتدئ بسنة 480 ق. م. وتنتهي بسنة 323 ق. م1. ويعوز هذا المؤرخ النقد؛ لأنه جمع في كتابه كل ما وجده في الكتب القديمة من أخبار ولم يمحصها، وقد امتلأ كتابه بالأساطير، والعالم مع ذلك مدين له إلى حد كبير بمعرفة أخبار الماضين؛ ولا سيما الأساطير الدينية القديمة.
ومن المؤلفين الكلاسيكيين، "سترابون" "سترابو" "straabon" "strabo" "64ق. م- 19 م" وهو رحالة كتب كتابًا مهما باللغة اليونانية في سبعة عشر جزءًا سماه "جغرافيا"2 "geographica". وقد وصف فيه الأحوال الجغرافية الطبيعية لمقاطعات الإمبراطورية الرومانية الرئيسية، وتاريخها، وحالات سكانها، وغريب عهاداتهم وعقائدهم. وللكتاب شأن كبير؛ إذا اشتمل على كثير من الأخبار التي لا تتيسر في كتاب آخر. وقد اعتمد فيه على ما ذكره الكتّاب السابقون.
وقد أفرد "سترابون" في جغرافيته فصلًا خاصًا من الكتاب السادس عشر ببلاد العرب، ذكر فيه مدائن العرب وقبائلهم في عهده، ووصف أحوالهم التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وحملة "أوليوس غالوس" "أوليوس كالوس" "aelius gallus" المعروفة لفتح بلاد العرب وما كان من إخفاقه. ولأخبار هذه الحملة التي دوّنها "سترابوان" في جغرافيته، أهيمة خاصة؛ إذ جاءت بمعلومات عن نواحي من تأريخ العرب نجهلها، وقد شارك هو نفسه في الحملة، وقد كان صديقًا لقائدها؛ فوصفه وصف شاهد عيان3. وقد استهل وصف
__________
1 Diodorus Siculus, Bibliotheca Historica, Vol., 1-3,
Edited by Friedrich Vogel, Vol., 4 and 5, Edited by C.T. Fischer, in Bibliotheca
Scriptorum Graeco rum et Romanum Teubneriana, Leipzig, 1888-1906.
2 Hamilton وقيل "66ق. م – 24م"، اعتمدت ترجمة:
The Geography of Strao, Translated by Hamilton, London, 1912, in 3 Vols., Strabo, Geographia, Edited by August Meineke, in 3 Vola. Leipzig, 1907-1913,
3 Strabo, BK, 16, Clia., I, ed. Hamiton, Vol., 3, PP., 170 209.(1/58)
الحملة بهذه العبارة: "لقد علمتنا الحملة التي قام بها الرومان على بلاد العرب بقيادة أوليوس غالوس في أيامنا هذه أشياء كثيرة عن تلك البلاد1.
وممن تحدث عن العرب "بلينيوس" "بليني الأقدم" "pliny the elder" "galus plinius secundus" المتوفى سنة 79م، ومن كتبه المهمة كتابه "التأريخ الطبيعي" "naturalis historia" في سبعة وثلاثين قسمًا، وقد نقل في كتابه عمن تقدمه، ولا سيما معلوماته عن بلاد العرب والشرق وجميع ما أمكنه جمعه؛ غير أنه أتى في أماكن متعددة من كتابه بأخبار لم يرد لها ذكر من كتب المؤرخين الآخرين2.
وهناك مؤلف يوناني مجهول، وضع كتابًا سماه "الطواف حول بحر الأريتريا"3 "The Periplus of the Erythraean Sea" "Periplus Maris Erythraei" أتمه في نهاية القرن الأول للمسيح في رأي بعض العلماء، أو بعد ذلك في حوالي النصف الأول من القرن الثالث للميلاد في رأي بعض آخر4. وقد وصف فيه تطوافه في البحر الأحمر وسواحل البلاد العربية الجنوبية. والظاهر أنه كان علامًا بأحوال الهند وشواطئ إفريقية الشرقية، ولعله كان تاجرًا من التجار الذين كانوا يطوفون في هذه الأنحاء للاتجار، ولم يعتنِ إلا بأحوال السواحل. أما الأقسام الداخلية من جزيرة العرب، فيظهر أنه لم يكن ملمًا بها إلمامًا كافيًا.
وقد ذهب "إلبرايت" إلى أن الكتاب المذكور قد ألف في حوالي السنة "80" بعد الميلاد5. وذهب آخرون إلى أن مؤلفه قد ألفه في حوالي السنة "225" أو "210" بعد الميلاد6.
__________
1 Strabo, Vol., 3, PP., 209, O'Leary, Arabia, P., 75 Strabo. BK. 16 Ch. 4. 22.
2 Pliny, Naturalis Hiatoria, edited by, C. Mayerhoff,
Teubner Series, 1882-1909, 2end Edition, 6 Vols., Leipzig, 1892-1909, D. Detlefson Die Geographischen Bucher (H.242 VI Schluss) , Der Naturalis Hiatoria des G. Plinius mit VoUstandigen Kritischen Appart., Edited by W. SiegUn, Vol., 9, Berlin, 1904.
3 The Periplus of the Erythraean Sea, Translated by W. H. Schof, New York, 1912.
4 Franz Altheim und 4 Ruth Stiehl, Die Araber in der Alten Welt, Berlin, 1964, Bd., I, 108.
5 BASOR., Num. 176, 1964, P., 51.
6 J. Pirenne, La Date du Periple de la Mer Erythree, Journal Asiatique, 1961, PP., 441., P. Altheim, Geschichte der Hunnen, V. Berlin, 1962, PP., II, Lo Museon, 1964, 3-4, P., 478.(1/59)
وهناك طائفة من الكتاب الذين تركوا لنا آثارًا وردت فيها إشارات إلى العرب والبلاد العربية، مثل "أبولودورس" "apollodorus" "المتوفى سنة 140 بعد المسيح". و "بطلميوس" "claudius ptolemaes" الذي عاش في الإسكندرية في القرن الثاني للمسيح. وهو صاحب مؤلفات في الرياضيات منها "كتاب المجسطي" المعروف في اللغة العربية. وله كتاب مهم في الجفرافية سمّاه "geographike hyphegesisi" ويعرف باسم "جغرافية بطلميوس"1. ولهذا الكتاب شهرة واسعة، وقد درَّس في أكثر من مدارس العالم إلى ما بعد انتهاء القرون الوسطى. جمع فيه بطلميوس ما عرفه العلماء اليونان وما سمعه هو بنفسه وما شاهده هو بعينه، وقسم الأقاليم بحسب درجات الطول والعرض. وقد تكلم في كتابه على مدن البلاد العربية وقبائلها وأحوالها، وزيّن الكتاب بالخارطات التي تصور وجهة نظر العلم إلى العالم في ذلك العهد2.
ويرى بعض الباحثين أن ما ذكره "بطلميوس" عن حضرموت يشير إلى أن المنبع الذي أخذ منه كان يعلم شيئًا عنها، وأنه كان قد أقام مدة في "شبوة" العاصمة. ويرون أن ذلك المنبع قد يكون تاجرًا روميًّا، أو أحد المبعوثين الرومان في تلك المدينة؛ لأن وصف "بطلميوس" للأودية، والأماكن الحضرمية يشير إلى وجود معرفة بالأماكن عند صاحبه. أما ما ذكره "بطلميوس" عن أرض "سبأ" والسبئيين؛ فإنه لا يدل، على حد قول المذكورين على علم بالأماكن، وإجادة لأسمائها، وأن الذي أخذ منه "بطلميوس" لم يكن قد شاهدها3.
ومن الذين أوردوا شيئًا عن أحوال بلاد العرب "أريان" "arrian" "flavius arrianus" "95- 175م"، وقد ألف كتبًا عديدة. منها
__________
1 Geographia, Edited by C.P. Nobbe, 3 Vols, Leipzig, 1843-1845, Vol., I, Part, I, Carolus Mullerus, Paris, 1884, Vol., I, P., 2, by C. Th. Fisher, Paris, 1901.
2 "قال المسعودي: وقد ذكر بطلميوس في الكتاب المعروف بجغرافيا صفة الأرض ومدنها وجبالها وما فيها من البحار والجزائر والأنهار والعيون، ووصف المدن المسكونة والمواضع العامرة، وأعددها أربعة آلاف وخمس مائة وثالثون مدينة في عصره وسماها مدينة مدينة في إقليم إقليم...."، مروج الذهب "1/ 73.
3 Le Museon, 1964, 3-4, P., 466.(1/60)
كتابه "anabasis Alexander the great" في خمسة عشر قسمًا، وصف في سبعة منها حملات الإسكندر الكبير، وفي الثمانية الأخرى وصف الهند وأحوال الهنود ورحلة القائد "nearchus" "نيرخس" "أميرال الإسكندر في الخليج العرابي1. ومنهم "هيروديان" "herodianus" "165- 250 ب. م"، وهو مؤرخ سرياني ألف في اليونانية كتابًا في تأريخ قياصرة الروم من وفاة القيصر "ماركوس أوربليوس" إلى سنة 238م2.
__________
1 Anabasis, Edited by, A.G. Ross, Leipzig-, 1907, C. Muller, Paris, 1846, Hlatoria fixdlca, Edited by Carl MuUer, In his Geographi Graeci Minoris, Vol., I, Paris, 1861, PP., 306-369.
2 Herodlanus, Ab Exceasu divi marcl Ubri Octo, Edited by L. Mendelssohn, Leipzig, 1883.(1/61)
الموارد النصرانية:
وللمواد النصرانية أهمية كييرة في تدوين تأريخ انتشار النصرانية في بلاد العرب وتاريخ القبائل العربية، وعلاقات العرب باليونان والفرس، وقد كُتب أغلبها باليونانية والسريانية. ولها في نظري قيمة تأريخية مهمة؛ لأنها عند عرضها للحوادث تربطها بتأريخ ثابت معين، مثل المجامع الكنيسية، أو تواريخ القديسين، والحروب وأوقاتها في الغالب مضبوطة مثبتة.
ومن أشهر هذه الموارد مؤلفات المؤرخ الشهير" أوبسبيوس" المعروف بـ"أوبسبيوس القيصري" "eusebius of caesarea" "263- 340م" "265- 340" وبـ"أبي التأريخ الكنائسي" father of ecclesiastical history" وبـ "هيرودتس النصاري"1. وكان على اتصال بكبار رجال الحكومة وبرؤساء الكنيسة؛ فاستطاع بذلك أن يقف على كثيرمن أسرار الدولة وأن يراجع المخطوطات والوثائق الثمينة التي كانت تحويها خزائن الحكومة وخزائن كتب الرؤساء والأغنياء.
وكان قد ألّف كتابًا في التاريخ باللغة اليوناينة، عرف بـ" the chronicon"، حوى بالإضافة إلى التاريخ العام تقاويم وجداول بالحوادث التي حدثت في أيامه.
__________
1 Wiliiam Smith, A Dictionary of the Bible, VoL, 3, P., 107.(1/61)
وقد أفاد هذا الكتاب فائدة كبيرة في معرفة تاريخ اليونان والرومان حتى سنة 325م، ولم يبقَ من أصله غير قطع صغيرة؛ غير أن له ترجمة باللاتينية عملها "جيروم" "Jerome" وأخرى باللغة الأرمنية، وقد سدّ "جوزيف سكالكر" "joseph scaliger" النقص الذي طرأ على النسخة الأصلية، باستفادته من هاتين الترجمتين1.
ولهذا الأسقف كتب مهمة أخرى، في مقدمتها كتاب "التاريخ الكنائسي" "ecclesiastical history" وهو في عشر كتب، يبدأ بأيام المسيح، وينتهي بوفاة الإمبراطور "licinius" سنة 324م. وقد استقى كتابه هذا من مصادر قديمة، وأورد فيه أمورًا انفرد بها2. ومن مؤلفاته: كتاب "شهداء فلسطين" "the martyrs of palastine" تحدث فيه عن تعذيبهم واستشهادهم في أيام "Diocletian" و "maximin" "303- 310م" وكتاب "سيرة قسطنطين" "the life of Constantine"، وكتاب في فلسفة اليونان وديانتهم3.
ومن مؤرخي الكنيسة: "athanasius" "حوالي 296- 371"و "gelastius" "حوالي 320- 394م" أسقف قيصرية، وله تتمة لتاريخ "eusebius". و"روفينوس تيرانيوس" "rufinus tyranius" المتوفى سنة 410م، وصاحب كتاب "historiae ecclesiaticae" وقد ضمّنه أقسامًا من تاريخ "أوبسبيوس" و "إيرينوس" "irenaeus" "444م"، وكان أسقفًا على "صور" "tyre"، وقد كتب مؤلفًا عن مجمع "أفسوس" للنظر في النزاع مع النساطرة، وكان يميل إليهم. والمؤرخ "سقراط" "socrates"، وهو من الفقهاء في الكنيسة، وقد اعتمد في تواريخه على من كتب قبله من المؤرخين، وقد وردت في ثناياها أخبار عن بلاد
__________
1 Eusebtus, Chronicorum, Edited by Alfred Schoene, in 2 Vols., Berlin, 1866-1875, Onomastikon der Biblischen Ortsnamen, by Erich Klostermann, Vol., n, Part, I, Eusebius, Vol., 3, Part, I, Leipzig, 1904
2 تاريخ الكنيسة، تأليف يوسابيوس القيصري، ترجمة القس مرقس داود، الناشر، دار الكرنك، القاهرة 1960.
3 Smith, A dictionary, Vol.,3, P., 40, 107(1/62)
العرب1. والمؤرخ "سوزومينوس" "sozomenus" "400- 443"، وله كتاب في التأريخ الكنائسي2. و "ثيودوريث" "theodoret" المتوفى حوالي سنة 457 للميلاد. و "زوسيموس" "zosimus"، وهو مؤرخ يوناني ألّف في تاريخ الإمبراطورية الرومانية -اليونانية؛ فأشار إلى العرب وعلاقاتهم بها. و "شمعون الأرشامسي" "simeon of beit arshamوهو صاحب "رسائل الشهداء الحميريين"4 التي تبحث في تعذيب ذي نواس للنصارى في نجران، وقد جمع أخبارهم "على ما يدعيه" من بلاط ملك الحيرة أيام أوفده إليه إمبراطور الروم في مهمة رسمية. و"بروكوبيوس" "procopius" من رجال القرن السادس للميلاد، وكان أمين سر القائد "بليزاريوس" "belisarius" أعظم قوّاد "يوسطنيانوس"5، وقد رافقه عدة سنين في بلاد فارس وشمال إفريقية وجزيرة صقلية. ومن مؤلفاته مؤلف في تأريخ زمانه؛ لا سيما حروب "يوسطنيانوس"، وكتاب "de bello persico" وقد وردت فيه أخبار ذات بال بالنسبة لبلاد العرب6.
ومن هؤلاء "زكريا" "zacharias"، المتوفى حوالي سنة 568م7. ويوحنا"
__________
1 Smith, A Dictionary, VoL, 3, P., 107. if., Socrates, Ecclesiastical History, Oxon., 1844.
2 Sozomenos, Ecclesiasticae Hlatria, in, J.P., Migne Patrologlae, 67, 1859, Smith,
A Dictionary, P., 107. ff
3 Zosimus, Historia Nova, Edited by L. Mendelssohn, Leipzig, 1887
4 Simeon of Bejt Arsham, (524) , Letter on the Himiarite Martyrs, by Ign
Guidi, entitled, La Lettra di Semeone Vescova di Beth Arsham (524) , Spora i Lincei atti, Anno, CCrxXVm, Storlche e Filologiche, Vol., 7, Rome. 1881, PP., 471-515.
5 "يوسطنيانس" حمزة الأصفهاني في كتابه تأريخ سني ملوك الأرض والأنبياء، "طبع مطبعة كاوياني ببرلين"، ص47" يوسطانيوس، مروج الذهب "1/ 277"، و"تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
6 J. Haury, Procopius De Bello Persico, in Bibliotheca Scriptorum Graecanim et iRjomanorum, Leipzig, 1905
7 Zacbarias, Historia Miscellanea, Edited by JJ.N. Land, Entitled Zacharia vE^ilscopi mitylenes Aliorumuae Scripta Historica Graece Plerumque deperdita, Constituting J.PJT. Land, Anecdata Syriaca, Vol., 3, Leiden, 1870. Zachariah of Mtiylene, The Syriac Chronicle, Translated by Hamilton and Brooks, London, 1893.
وربما توفي ما بين 536-553 للميلاد.(1/63)
ملالا" "john malalas" المتوفى سنة 578م1. و "ميننذر" "menandar" "protector" المتوفى حوالي سنة 582م2. و"يوحنا الأفسي" john of ephesus" وقد ولد في حوالي سنة 505م، وتوفي سنة 585م تقريبًا، وله مؤلفات عديدة منها كتابه: "التأريخ الكنائسي" "ecclesiastica historia"، وهو في ثلاثة أقسام يبتدئ بأيام "يوليوس قيصر" وينتهي بسنة 585م4. وكتاب "تأريخ القديسين الشرقيين"، وقد فرغ من تأليفه سنة 569م3. ومن هؤلاء "إسطيفان البيزنطي" "stephanus byzantinus" المتوفى سنة 600م5. و"إيواكريوس" "evagrius" المعروف بـ "scholasticus" أي "المدرسي" المتوفى سنة 600م. وهو صاحب كتاب "التأريخ الكنائسي" "historiae ecclesiasticae" في ستة أقسام. يبتدئ بذكر "المجمع الأفسوسي" المنعقد عام 431م وينتهي بسنة 593.وهو من الكتب المهمة؛ لأن مؤلفه لم يكتب عن هوى شأن أكثر مؤرخي الكنيسة. وقد استعان بالنصوص الأصلية وبالكتب المؤلفة سابقًا6.
ومن هؤلاء أيضًا "ثيوفليكت" "theophylactus simocatta" المتوفى سنة 640م7 و "ثيوفانس" "theophanes the confessor" المتوفى سنة 818م8. و"إيليا النصيبي"9 "dlijah "elis" of nisibis"، و"ميخائيل السوري"10
__________
1 Jofrn Malades, Chronographia, In J.P. Migne Patrologiae cursus Completus,
Series Graeca, Vol., 97, Paris, 1865, Cols., 65-716, Also, Dindorf, Bonn 1831
2 Menander Protector, (582) , De Legationibus, in JJ» . Migne, Patrologlae Cursua
Completus, Series Graeca, Vol., 113, Paris, 1864, Cola 791-928
3 John of Ephesus, Ecclesiastical History, Part, 3, Edited by William Cureton,
Oxford, 1853
4 Land, Anecdata Syriaca, 3 Vote., Leiden, 1862-1870, 1-288
5 Ethnica, by AwgTist Meineke, Ethnicormn Quae Superaunt, Vol. 1, Berlin, 1879.
6 Bvagrius Scholasticus, Historia Ecclesiasticae, Libri sex, in J.P. Migne,
Fetrologiae Graeca, Vol., 86, Part, 2, Paris, 1865, Cols, 2405-2906, Bury Byzant
Texts, London, 1898
7 Historiae, Edited by, C. De Boor, Leipzig-, 1887
8 Theophanes the Confessor, Chronograpfaia, in J. P. Migne, Patrologlae Cursus
Completus, Series Graea, Vol., 108, Paris, 1863, Cols, 1-1010, Also Edited by
C. De Boor, Leipzig, 1887
9 Elijah of Niaibis, Opus Cnronologicum, Edited and Translated by, P.W, Brooks, (Part) and J-P. Chabot, (Part 2) , in Corpus Scriptorum Cbristlanorum Orientalium, Ser., 3, Vol., 7 and 8, Paris, 19091911.
10 Michael the Syrian, Chronicle, by XB. Chabot, Chronique de Michel le Syrien, Patriarche Jacobite
D'Antioehe (1166-1199) , 4 Vols, Paris, 1899-1906(1/64)
وفي قائمة المخطوطات السريانية في المتحف البريطاني أسماء مخطوطات تاريخية ودينية أخرى ذات فائدة كبيرة في هذا الباب1. وفي مجموعة الكتابات اليونانية واللاتينية2 وفي المجموعات التي تبحث في أعمال القديسين وفي انتشار النصرانية، إشارات مهمة إلى بلاد العرب. وهناك كتاب نشره المستشرق "كارل مولر carl muller" لمؤلف مجهول اسمه "glaucus" يبحث في "آثار بلاد العرب"3.
وهناك طائفة من المؤرخين النصارى من روم وسريان عاشوا في أيام الدولة الأموية والدولة العباسية، ألفوا في التاريخ العام وفي تواريخ النصرانية إلى أيامهم، فتحدثوا لذلك عن العرب في الجاهلية وفي الإسلام. ومؤلفات هؤلاء مفيدة من ناحية ورود معارف فيها لا ترد في المؤلفات الإسلامية عن الجاهلية والإسلام، تفيد في سد الثغر في التاريخ الجاهلي وفي الوقوف على النصرانية بين العرب وعلى صلات الروم والفرس بالعرب.
وأكثر الموارد المذكورة هي، ويا للأسف، مخطوطة، مخطوطة، ليس من المتيسر الاستفادة منها، أو مطبوعة ولكنها نادة؛ لأنها طبعت منذ عشرات من السنين فصارت نسخها محدودة معدودة لا توجد إلا في عدد قليل من المكتبات. ثم إنها في اليونانية أو اللاتينية أو السريانية، أي في لغاتها الأصلية، ولهذا صعب على من لا يتقن هذه اللغات الاستفادة منها، ولهذه الأمور ولأمثالها، لم يستفد منها الراغبون في البحث في التاريخ الجاهلي حتى المستشرقون منهم استفادة واسعة، فحرمنا الوقوف علىأمور كثيرة من أخبار الجاهلية كان في الإمكان الوقوف عليها لو تيسرت لنا هذه الكنوز.
__________
1 Wrigrht, W., Catalogue of the Syriao Manuscripts in the British Museum, in 3 Vols, London, 1870-1872.
2 Corpus Inscriptlonum Lattnarum, Conailio et Auctoritate Acad&miae litterarum Regiae Porussicae, Berlin, 1862, (15 Vola) .
3 Glauciis, Archaelogla Arabics, by, Carl Muller, In Pragmenta Historicorum Graecorum, Vol., 4, Paris,(1/65)
الموارد العربية الإسلامية:
وأعني بها الموارد التي دوّنت في الإسلام وقد جمعت مادتها عن الجاهلية من(1/65)
الأفواه، خلا ما يتعلق منها بأخبار صلات الفرس بالعرب وبأخبار آل نصر وآل غسان وبأخبار اليمن المتأخرة، فقد أخذت من موارد مرتبة يظهر أنها كانت مكتوبة كما سأتحدث عن ذلك.
والموارد المذكورة كثيرة، منها مصنفات في التاريخ، ومنها مصنفات في الأدب بنوعيه. من نثر ونظم، ومنها كتب في البلدان والرحلات والجغرافيا وفي موضوعات أخرى عديدة، هي وإن كانت في أمور لا تعد من صميم التاريخ، إلا أنها مورد من الموارد التي يجب الاستعانة بها في تدوين تاريخ الجاهلية؛ لأنها تتضمن مادة غزيرة تتعلق بتاريخ الجاهلية القريبة من الإسلام والمتصلة به، لا نجد لها ذكرًا في كتب التاريخ؛ فلا بد لمؤرخ الجاهلية من الأخذ منها لإتمام التاريخ.
الحق أننا أردنا البحث عن مورد يصور لنا أحوال الحياة الجاهلية، ويتحدث لنا عن تفكير أهل الحجاز عند ظهور الإسلام، فلا بد لنا من الرجوع إلى القرآن الكريم ولا بد من تقديمه على سائر المراجع الإسلامية، وهو فوقها بالطبع. ولا أريد أن أدخله فيها؛ لأنه كتاب مقدس، لم ينزل كتابًا في التاريخ أو اللغة أو ما شاكل ذلك، ولكنه نزل كتابًا عربيًا، لغته هي اللغة العربية التي كان يتكلم بها أهل الحجاز، وقد خاطب قومًا نتحدث عنهم في هذا الكتاب؛ فوصف حالتهم وتفكيرهم وعقائدهم، ونصحهم وذكَّرهم بالأمم والشعوب العربية الخالية1، وطلب منهم ترك ما هم عليه، وتطرّق إلى ذكر تجاراتهم، وسياساتهم وغير ذلك. وقد مثّلهم أناس كانت لهم صلات بالعالم الخارجي، واطلاع على أحوال من كان حولهم. وفيه تفنيد لكثير من الآراء المغلوطة التي نجدها في المصادر العربية الإسلامية؛ فهو مرآة صافية للعصر الجاهلي، وهو كتاب صدق لا سبيل إلى الشك في صحة نصه.
وفي القرآن الكريم ذكر لبعض أصنام أهل الحجاز، وذكر لجدلهم مع الرسول
__________
1 سورة هود سورة 11 آية 95، سورة الحج، سورة 22 آية42، سورة الشعراء، سورة 26 آية 141، سورة الحاقة، سورة 69 آية 4، سورة ق، سورة 50 آية 14، سورة الدخان، سورة 44 آية 37، سورة الفيل، سورة 105، آية 1، سورة البروج، سورة 85 آية 4.(1/66)
في الإسلام وفي الحياة وفي المثل الجاهلية. وفيه تعرّض لنواحٍ من الحياة الاقتصادية والسياسية عندهم، وذكر تجارتهم مع العالم الخارجي، ووقوفهم على تيارات السياسة العالمية، وانقسام الدول إلى معسكرين، وفيه أمور أخرى تخص الجاهلية وردت فيه على قدر ما كان لها من علاقة بمعارضة قريش للقرآن والإسلام. وفي كل ما وردت فيه دليل على أن صورة الأخباريين التي رسموها للجاهلية، لم تكن صورة صحيحة متقنة، وأن ما زعموه من عزلة جزيرة العرب، وجهل العرب وهمجيتهم في الجاهلية الجهلاء، كان زعمًا لا يؤيده القرآن الكريم الذي خالف كثيرًا مما ذهبوا إليه.
والتفسير، مصدر آخر من المصادر المساعدة لمعرفة تأريخ العرب قبل الإسلام. وفي كتب التفسير ثروة تأريخية قيمة تفيد المؤرخ في تدوين هذا التأريخ، تشرح ما جاء مقتضبًا في كتاب الله، وتبسط ما كان عالقًا بأذهان الناس عن الأيام التي سبقت الإسلام، وتحكي ما سمعوه وما وعوه عن القبائل العربية البائدة التي ورد لها ذكر مقتضب في السور، وما ورد عندهم من أحكام وآراء ومعتقدات.
ولكن كتب التفاسير -ويا للأسف- غير مفهرسة ولا مطبوعة طبعًا حديثًا، وهي في أجزاء ضخمة عديدة في الغالب، ولهذا صعب على الباحثين الرجوع إليها لاستخراج ما يُحتاج إليه من مادة عن التأريخ الجاهلي، حتى إن المستشرقين المعروفين بصبرهم وبجلدهم وبعدم مبالاتهم بالتعب، لم يأخذوا من معينها إلا قليلًا، مع أن فيها مادة غنية عن نواحٍ كثيرة من أمور الجاهلية المتصلة بالإسلام.
وكتب الحديث وشروحها، هي أيضًا مورد غني من الموارد التي لا بد منها لتدوين أخبار الجاهلية المتصلة بالإسلام؛ إذ نجد فيها أمورًا تتحدث عن نواحٍ عديدة من أحوال الجاهلية لا نجدها في مورد آخر. فلا مندوحة من الرجوع إليها والأخذ منها في تدوين تأريخ الجاهلية، ولكن أكثر من بحث في التأريخ الجاهلي لم يغرف من هذا المنهل الغزير، بسبب عدم انتباههم لأهميته في تدوين تأريخ عرب الحجاز عند ظهور الإسلام؛ فعلينا نحن اليوم واجب الأخذ منه، لنزيد علمنا بتأريخ هذه الجاهلية المتصلة بالإسلام.
والشعر الجاهلي، مورد آخر من الموارد التي تساعدنا في الوقوف على تأريخ الجاهلية والاطلاع على أحوالها، وقديمًا قيل فيه إنه "ديوان العرب". "عن عكرمة. قال: ما سمعت ابن عبّاس فسّر آية من كتاب الله؛ عز وجلّ،(1/67)
إلّا نزع فيها بيتًا من الشعر، وكان يقول: إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله؛ فاطلبوه في الشعر؛ فإنه ديوان العرب، وبه حُفظت الأنساب، وعُرفت المآثر، ومنه تُعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله وغريب حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحديث صحابته والتابعين"1. "وعن ابن سيربن قال: قال عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"2. وقال الجمحيّ فيه، أي في الشعر الجاهلي: "وكان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون3".
وقد جُمع الشعر الجاهلي في الإسلام، جمعه رواة حاذقون، تخصصوا برواية شعر العرب. قال "محمد بن سلام الجمحي": "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، حمّاد الرواية، وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار"4. واشتهر بجمعه أيضًا "أبو عمرو بن العلاء" المتوفى سنة "154" للهجرة5، وخلف بن حيّان أبو محرز الأحمر6، وأبو عبيدة، والأصمعي، والمفضَّل بن محمد الضبي الكوفي7 صاحب المفضليات، وهي ثمان وعشرون قصيدة، قد تزيد وقد تنقص وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية8.
__________
1 المزهر "2/ 470"، "وأخرج أبو بكر الأنباري في "كتاب الوقف" من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب"، المزهر "2/ 302"، التبريزي، شرح الحماسة "1/ 3".
2 الجمحي: طبقات الشعراء "ص10" "طبعة لندن".
3 طبقات الشعراء "ص10".
4 طبقات الشعراء "ص14"، توفي حماد سنة 156 للهجرة، الفهرست "ص140".
5 البيان والتبيين "1/ 321"، المزهر "2/ 304"، الفهرس "ص48".
6 "وكان من أمرس الناس لبيت شعر، وكان شاعرًا يعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم.. وله من الكتب: كتاب العرب وما قيل فيها من الشعر"، الفهرست "ص80".
7 طبقات الشعراء "ص9"، الفهرست "ص108".
8 الفهرست "ص108".(1/68)
وأبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني المتوفى سنة 206 للهجرة1، قيل: إنه جمع أشعار العرب؛ فكانت نيفا وثمانين قبيلة2. وأبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، المتوفى سنة 231 للهجرة3، وأبو محمد جنّاد بن واصل الكوفي4، وخلّاد بن يزيد الباهلي5، وغيرهم ممن تفرغوا له، وصرفوا جلّ وقتهم في جمعه وحفظه وروايته.
"قال ابن عوف عن ابن سيرين. قال عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه؛ فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد، وغزوا فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يألوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، فألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم أكثره"6. وورد عن "أبي عمرو بن العلاء" أنه قال: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم علم وشعر كثير"7. ولا جدال بين العلماء حتى اليوم في موضوع ذهاب أكثر الشعر الجاهلي، وفي أن الباقي الذي وصل إلينا مدونًا في الكتب، هو قليل من كثير. وقد عللوا سبب اندثار أكثره وذهابه بسبب عدم تدوين الجاهليين له، واكتفائهم بروايته حفظًا، فضاع بتقادم الزمان، وبموت الرواة، وبانطماس أثره من الذاكرة، وبانشغال الناس بأمور أخرى عن روايته؛ ولا سيما رواية القديم منه الذي لم يعد يؤثر في العواطف تأثير الجديد منه الذي قيل قبيل الإسلام.
نعم جاء في الأخبار أنه "قد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار
__________
1 "وأخذ عند دواوين أشعار القبائل كلها"، "قيل مات في اليوم الذي مات فيه أبو العتاهية وإبراهيم الموصلي سنة ثلاث عشرة ومائتين"، الفهرست "ص107 وما بعدها".
2 الفهرست "ص107".
3 الفهرست "ص108 وما بعدها".
4 "كان من أعلم الناس بأشعار العرب وأيامها" الفهرست "ص141".
5 الفهرست "ص162".
6 طبقات الشعراء "ص10".
7 المصدر نفسه.(1/69)
الفحول وما مدح به هو وأهل بيته؛ فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه"1. وورد عن "حماد الرواية" أنه ذكر أن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطّنوح، وهي الكراريس؛ فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض. فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار2.
ووردت عنه أيضًا حكاية أهل مكة للمعلقات على الكعبة3. ووردت أخبار أخرى تدل على وجود تدوين للشعر عند الجاهليين؛ إلا أننا لا نجد حمادًا ولا غير حماد ينص على أنه نقل ما دوّنه من تلك الموارد المدونة أو من غيرها مما وجده مدوّنًا. وهذا ما حدا بالعلماء قديمًا وحديثًا إلى البحث في هذا الموضوع: موضوع الشعر الجاهلي من ناحية وجود تدوين له، أو عدم وجود تدوين له. وأثر ذلك على درجة ذلك الشعر من حيث الصحة والأصالة والصفاء والنقاء4.
وفي الشعر الجاهلي الواصل إلينا، شعر صحيح وشعر موضوع منحول حمل على الشعراء. وقد شخص أهل الفراسة بالشعر الصحيح منه ونصوا على أكثر الفاسد منه. ولم يقل أحد منهم أن الشعر الجاهلي موضوع كله فاسد لا أصل له. فدعوى مثل هذه، هي دعوى كبيرة لا يمكن أن يقولها أحد؛ إنما اختلفوا في درجة نسبة الصحيح إلى الفاسد، أو نسبة الفاسد إلى الصحيح.
"وكان ممن هجّن الشعر وأفسده وحمل كل غُثاء، محمد بن إسحاق مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف. وكان من علماء الناس بالسير فنقل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها، ويقول لا علم لي بالشعر إنما أوتي به فأحمله،
__________
1 طبقات الشعراء "ص10"، المزهر "2/ 474".
2 تاج العروس "2/ 70"، لسان العرب "2: 142" الخصائص لابن جني "1/ 392 وما بعدها".
3 المزهر "2/ 480"، ياقوت، إرشاد الأديب "4/ 140"
4 طه حسين، في الشعر الجاهلي، 1926، ثم في الأدب الجاهلي، مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب، وتحت راية القرآن، محمد الخضري: محاضرات في بيان الأخطاء العلمية التاريخية التي اشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي محمد الخضر حسين: نقض كتاب في الشعر الجاهلي، محمد أحمد الغمراوي. النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي، محمد فريد وجدي: نقد كتاب الشعر الجاهلي، محمد أحمد الغمراوي. النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي، محمد فريد وجدي: نقد كتاب الشعر الجاهلي، محمد لطفي جمعة: الشهاب الراصد.(1/70)
ولم يكن ذلك له عذرًا؛ فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قطّ، وأشعار النساء فضلًا عن أشعار الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود أفلا يرجع إلى نفسه: فيقول من حمل هذا الشعر، ومن أداه منذ ألوف من السنين، والله يقول: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} وقال في عاد: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} . 1
وآتهم "حمّاد الرواية" بالكذب وبوضع الشعر على ألسنة الشعراء، فقيل فيه:"وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار"2. وقال "أبو جعفر النحاس" المتوفى سنة 328 للهجرة في أمر "المعلقات": "إن حمّادًا هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة"3، واتهم غيره ممن ذكرت من جهابذة حفظة الشعر الجاهلي بالوضع كذلك. وقد نصوا في كثير من الأحايين على ما وضعوه، وحملوه على الجاهليين. وذكروا أسباب ذلك بتفصيل4، كالذي فعله مصطفى صادق الرافعي في "تأريخ آداب العرب"5.
وبعد هذه الكلمة القصيرة في الشعر الجاهلي – الذي سأتحدث عنه بإطناب في الجزء الخاص باللغة- أقول: إن إليه يعود فضل بقاء كثير من الأخبار المتعلقة بالجاهلية، فلولاه لم نعرف من أمرها شيئًا. ولست مبالغًا إذا قلت إن كثيرا من الأخبار قد ماتت لموت الشعر الذي قيل في مناسباتها، وإن أخبارًا خلقت خلقًا؛ لأن واضع الشعر أو راويه اضطر إلى ذكر المناسبة التي قيل فيها، فعمد إلى الخلق والوضع. وهو من ثم صار سببًا في تخليد الأخبار6، لسهولة حفظه، ولاضطرار راويه إلى قص المناسبة التي قيل فيها.
وما قلته في أهمية الشعر الجاهلي بالقياس إلى عمل مؤرخ الجاهلية، ينطبق
__________
1 طبقات الشعراء "ص4".
2 طبقات الشعراء "ص14".
3 المزهر "2/ 480".
4 طبقات الشعراء "ص15، 60، 61 وما بعدها، ومواضع عديدة أخرى"
5 راجع الصفحات 277 فما بعدها.
6 دائرة المعارف الإسلامية، مادة "تأريخ" "ص484"، الترجمة العربية،(1/71)
أيضًا على أهمية شعر الشعراء المخضرمين بالقياس إلى عمل هذا المؤرخ؛ فقد أسهم أكثر الشعراء المخضرمين في أحداث وقعت في الجاهلية، وكان منهم من جالس "آل نصر" و "آل غسان"، وبقية سادات العرب، فورد في شعرهم أخبارهم وأحوالهم وطباعهم وغير ذلك. كما نجد في شعرهم مادة عن الحياة العقلية والمادية في أيامهم. ثم إن حياتهم اتصلت بالإسلام؛ فلم يكن شعرهم وما قالوه ورووه بعيد عهد عن أهل الأخبار ورواة الشعر، وهو من ثم أقرب إلى المنطق والواقع من شعر الجاهليين لبعدهم عن الرواة بعض البعد.
ولم ينج هذا الشعر أيضًا من الوضع؛ فحمل على بعض الشعراء مثل "حسان ابن ثابت" بعض الشعر لأغراض، منها العصبية القبيلة، كما سأتحدث عن ذلك بعد. وفي الجملة إن المؤرخ الحاذق الناقد لن تفوته هذه الملاحظة حين رجوعه إلى هذا الشعر إلى ما ورد على ألسنة الشرّاح.
وتعرضت كتب السِيَر والمغازي لأخبار الجاهلية بقدر ما كان للجاهلية من صلة بتاريخ الرسول، كما تعرضت لها كتب الأدب وكتب الأنساب والمثالب والبيوتات ومجامع الأمثال والكتب التي ألّفت في أخبار المعمرين، وفي الأيام، وفي البلدان، وفي المعجمات والجغرافية والسياحات وغير ذلك، فورد في ثناياها أخبار قيّمة عن هذه الجاهلية المتصلة بالإسلام. وهي موارد عظيمة الأهمية لمؤرخ هذه الحقبة، كثيرة العدد، هيأها عدد كبير من العلماء لا يمكن استقصاؤهم في هذه المقدمة، ولا التحدث عن مؤلفاتهم، وهو حديث يحتاج إلى فصول.
على أنّا يجب أن نأخذ بعض هذه الموارد المذكورة بحذر جدّ شديد، ولا سيما كتب "الأخبار والمثالب والمناقب والمآثر والأنساب"، فإن مجال الوضع والصنعة بها واسع كبير، لما للعواطف القبيلية فيها من يد ودخل، وللحزبية والأغراض فيها من تأثير. وطالما نسمع أن فلانًا وضع كتابًا في مثالب القبيلة الفلانية أو في مدحها ترضية لرجال تلك القبيلة، أو لحصوله على مال منها. ومن هنا وجب الاحتراس كل الاحتراس من هذه الموارد، ووجوب نقد كل رواية فيها قبل الاعتماد عليها والأخذ بها كمورد صحيح دقيق.
وفي كتب الأدب ثروة تأريخية قيمة، مبثوثة في صفحاتها، لا نجد لها مثيلًا ولا مكانًا في كثير من الأحايين في كتب أهل التأريخ عن التأريخ الجاهلي، حتى إني لأستطيع أن أقول إن ما أورده رجال الأدب عنه هو أضعاف أضعاف ما(1/72)
رواه المؤرخون عن ذلك التأريخ، وأن ما جاءت به كتب الأدب عن ملوك الحيرة وعن الغساسنة، وعن ملوك كندة وعن أخبار القبائل العربية، هو أكثر بكثير مما جاءت به كتب التأريخ، بل هو أحسن منها عرضًا وصفاءً، وأكثر منها دقة. ويدل عرضه بأسلوبه الأدبي المعروف على أنه مستمد من موارد عريبة خالصة، وقد أخذ من أفواه شهود عيان، شهدوا ما تحدثوا عنه. وقد أفادنا كثيرًا في تدوين تأريخ الجاهلية الملاصقة للإسلام، ولشأنه هذا أودّ أن ألفت أنظار من يريد تدوين تأريخ هذه الحقبة إليه، وأن يرعاه بالرعاية والعناية وبالنقد، وسيحصل عندئذ على رأي لا يستطيع العثور عليه في كتب أهل التأريخ.
وقد صارت كتب المؤرخين المسلمين لذلك ضعيفة جدًّا في باب تأريخ العرب قبل الإسلام، ومادتها عن الجاهلية هزيلة جدّ قليلة بالقياس إلى ما نجده في كتب التفسير والحديث والفقه والأدب وشروح دواوين الشعراء الجاهليين والمخضرمين والموارد الأخرى. والغريب أن تلك الكتب اكتفت في الغالب بإيراد جريدة لأسماء ملوك الحيرة أو الغساسنة أو كندة أو حمير، مع ذكر بعض ما وقع لهم في بعض الأحيان، على حين نجد كتب الأدب تتبسط في الحديث عنهم، وتتحدث عن حوادث وأمور لا نجد لها ذكرًا في كتب المؤرخين؛ بل نجد فيها أسماء ملوك لم تعرفها كتب التأريخ، مما صيرها في نظري أكثر فائدة وأعظم نفعًا لتأريخ الجاهلية من كتب المؤرخين.(1/73)
المؤرخون المسلمون:
لا نتمكن من الاطمئنان إلى هذه الأخبار والروايات المدونة في الموارد الإسلامية عن الجاهلية؛ إلا إذا وقفنا بها إلى حدود القرن السادس للميلاد أو القرن الخامس على أكثر تقدير. أما ما روي على أنه فوق ذلك، فإننا لا نتمكن من الاطمئنان إليه؛ لأنه لم يرد به سند مدون، ولم يؤخذ من نصّ مكتوب، وإنما أخذ من أفواه الرجال، ولا يؤتمن على مثل هذا النوع من الرواية؛ لأننا حتى إذا سلمنا إن رواة تلك الأخبار كانوا منزهين عن الميول والعواطف، وأنهم كانوا صدوقين في كل ما رووا، وكانوا أصحاب ملكة حسنة ذات قدرة في النقد وفي(1/73)
التمييز بين الصحيح والفاسد؛ فإننا لا نتمكن من أن نسلم أن في استطاعة الذاكرة أن تحافظ على صفاء الرواية وأن تروي القصة وما فيها من كلام وحديث بالنص والحرف حقبة طويلة. لذا وجب علينا الحذر في الاعتماد على هذه الموارد وتمحيص هذا المدون الوارد، وإن تكاثر واشتهر وتواتر؛ فقد كان من عادة رواة الأخبار رواية الخبر الواحد دون الإشارة إلى منبعه، ويُتداول في الكتب، فيظهر وكأنه من النوع المتواتر في حين أنه من الأخبار الآحاد في الأصل.
ولا أدري كيف يمكن الاطمئنان إلى نصّ قصة طويلة فيها كلام وحوار أو قصيدة طويلة زعم أن التبع فلانًا نظمها، في حين أننا نعلم أن الذاكرة لا يمكن أن تحفظ نصًّا بالحرف الواحد إذا لم يكن مدوّنًا مكتوبا، ولهذا جوّز أهل الحديث رواية حديث الرسول بالمعنى، إذا تعذرت روايته بالنص. ولا أعتقد أن عناية العرب المسلمين بحديث رسول الله كانت أقل من عنايتهم برواية ما جرى مثلًا بين النعمان بن المنذر وبين كسرى من كلام، أو من رواية ذلك الكلام المنمق، والحديث الطويل العذب، الذي جرى بين وفد النعمان الذي اختاره من خيرة ألسنة القبائل المعروفة بالكلام، وبين كسرى المذكور1.
ومن هذا القبيل نصوص المفاخرات والمنافرات، فإن مجال لعب العاطفة فيها واسع رحيب. وكذلك كل الأخبار والروايات النابعة عن الخصومات والمنافسات بين القبائل أو الأشخاص، فإن الوضع والافتعال فيها شائع كثير، ولا مجال للكلام عليه في هذا الموضع؛ لأنه يخرجنا من حدود التأريخ الجاهلي، إلى موضوع آخر، هو نقد الروايات والأخبار والرواة، وهو خارج عن هذا الموضوع.
لقد تحدث أهل الأخبار عن عاد وثمود وطسم وجديس وجُرْهُم وغيرهم من الأمم البائدة، وتكلموا على المباني "العادية" وعن جنّ سليمان وأسحلة سليمان، ورووا شعرًا ونثرًا نسبوه إلى الأمم المذكورة وإلى التبابعة، بل نسبوا شعرا إلى آدم، زعموا أنه قاله حين حزن على ولده وأسف على فقده، ونسبوا شعرًا إلى "إبليس"، قالوا إنه نظمه في الردّ على شعر "آدم" المذكور، وأنه أسمعه
__________
1 راجع النصوص في بلوغ الأرب "1/ 147 فما بعدها".(1/74)
"آدم" بصوته دون أن يراه1. ورووا أشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل.
ولكن هل يمكن الاطمئنان إلى قصص كهذا يرجع أهل الأخبار زمانه إلى مئات من السنين قبل الإسلام، وإلى أكثر من ذلك، ونحن نعلم، بتجاربنا معهم، أن ذاكرتهم اختلفت في أمور وقعت قبيل الإسلام، واضطربت في تذكر حوادث حدثت في السنين الأولى من الإسلام. كيف يمكننا الاطمئنان إلى ما ذكروه عن التبابعة وعن أناس زعموا أنهم عاشوا دهرًا طويلًا قبل الإسلام، ونحن نعلم من كتابات المسند ومن المؤلفات اليونانية والسريانية، أنهم لم يكونوا على ما ذكروه عنهم، وأنهم عاشوا في أيام لم تبعد بعدًا كبيرًا عن الإسلام، وأنهم كانوا يكتبون بالمسند وبلسان يختلف عن هذا اللسان الذي نزل به القرآن. ثم خذ ما ذكروه عن حملة "أبرهة" على مكة وعن أبرهة نفسه، وعن "أبي رغال"، وعن حادث نجران وذي نواس، وعن خراب سدّ مأرب، وعن أمثال ذلك من حوادث وأشخاص سيرد الكلام عليها في أجزاء هذا الكتاب، تجد أن ما ذكروه عنها وعنهم يتحدث بجلاء وبكل وضوح عن جهل بالواقع وعن عدم فهم لما وقع، وعن عدم إدارك للزمان والمكان، وعن عدم معرفة بالأشخاص. فرفعوا تواريخ بعض تلك الحوادث إلى مئات من السنين، وخلطوا في بعض منها، وفي كل ذلك دلالة على أن ما حفظته الذاكرة، لم يكن نقيًا خالصًا من الشوائب، وأن الذاكرة لا يمكن أن تحافظ على ما تحفظه أمدًا طويلًا وأن آفات النسيان وتلاعب الزمان بالحفظ لا بد أن يغيّر من طبائع المحفوظ.
والأخباريون إذا رووا ذلك ودوّنوه، لم يكونوا أول من وضع وصنع وافتعل وجاء بالقصص والأساطير على أنها باب من أبواب التأريخ؛ فقد فعل فعلهم اليونان والرومان والعبرانيون وسائر الشعوب الآخرى، يوم أرادوا تدوين تواريخ العصور التي سبقت عندهم عصور الكتابة والتدوين؛ إذ لم يجدوا أمامهم غير هذا النوع من الروايات الشفوية البدائية التي عبث بصفائها الزمان كلما طال أجلها إلى زمن التدوين، فدوّنوه ورووه، إلى أن وصل إلينا على النحو المكتوب.
وللسبب المذكور نرى في الأخبار الواردة عن ملوك الحيرة، أو عن صلات الفرس بالعرب أخبارًا قريبة إلى منطق التاريخ وإلى الواقع يمكن أن نأخذ بها وأن
__________
1 مروج الذهب "1/ 26 وما بعدها"، "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد".(1/75)
نستعين بها في تدوين تاريخ الحيرة وتاريخ الساسانيين مع العرب. ويعود سبب ذلك إلى رجوع الرواة إلى موارد مدونة، أو إلى شهود عيان أدركوا أنفسهم الحوادث، وكلها من الحوادث القريبة من الإسلام والتي وقع بعضها في أيام الرسول. أما حوادث آل نصر، أو أخبار الفرس مع العرب البعيدة؛ فلا نجد فيها هذا الصفاء والنقاء، بل نجد فيها قترة وغبرة، لنقلها بالسماع والمشافهة وتقادم العهد على السماع. وهكذا صار تاريخ الحيرة المروي في التواريخ غيومًا تتخلّلها فجوات متبعثرة تنبعث منها أشعة الشمس.
نعم جاء أن أهل الحيرة كانوا يعنون بتدوين أخبارهم وأنساب ملوكهم وأعمار من ملك منهم، وكانوا يضعون ذلك في بيع الحيرة1. وورد أن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطّنوح، وهي الكراريس، فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض؛ فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار2. وذكر ابن سلام الجُمَحِي أنه "كان عند النعمان بن المنذر ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته؛ فصار ذلك إلى بني مروان، أو ما صار منه"3.
ولكنني على الرغم من ورود هذ الأخبار لا أستطيع أن أقف منها الآن موقفًا إيجابيًّا؛ إذ لم أسمع أن أحدًا من رواة الشعر ذكر أنه رجع إلى تلك الطّنوج والدواوين فأخذ منهما، أو أن بني مروان عرضوها على أحد. ولو كانت تلك الدواوين موجودة، لم يسكت عنها رواة الشعر الجاهلي وطلابه الذين كانوا يبحثون عنه في كل مكان. ثم إن الأخباريين يذكرون أن "الوليد بن يزيد بن عبد الملك"، كان يرسل إلى "حمّاد" رسلًا ليأتوا إليه بما يريد الوقوف عليه من الشعر الجاهلي، وأنه "جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك وردّ الديوان إلى حمّاد وجناد"4، وأنه أحضر5 إلى الشام، واستنشده أشعار "بَلِيّ" وأشعارًا أخرى، ولو كان لدى "بني
__________
1 الطبري "2/ 37".
2 تاج العروس "2/ 70"، لسان العرب "3/ 142"، ابن جني، الخصائص "1/ 392 وما بعدها".
3 طبقات فحول الشعراء "ص10، المزهر "2/ 474".
4 الفهرست "ص140".
5 الأغاني "6/ 94".(1/76)
مروان" ديوان "النعمان بن المنذر" الذي جمع فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته، لما احتاج "الوليد" إلى أن يسأل حمادًا وجنادًا ليرسلا إليه ديوان العرب، وهو ديوان لا ندري اليوم من أمره شيئًا، ولم يذكر "ابن النديم" صاحب الخبر، ما علاقة الرجلين المذكورين بذلك الديوان. هل كانا اشتركا معًا في جمعه، أو أن كل واحد منهما قد جمع بنفسه الأشعار في ديوان؛ فأرسل الوليد إليهما يطلب منهما ما جمعاه، ليجمعه مع ما عنده في ديوان.
ثم إننا لم نسمع أحدًا يقول:"كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر ابن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم، لآل كسرى، وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها"1؛ غير الرواية "هشام بن محمد الكلبي". فَلِمَ وقف "ابن الكلبي" وحده على تلك الكنوز، ولم يلجأ غيره إلى بيع الحيرة، ليأخذ منها أخبار نصر؟ ألم يعلم بوجودها أحد غيره؟ ثم لِمَ اختلفت روايات "ابن الكلبي" وتناقضت في أمور من تأريخ الحيرة، ما كان من الواجب وقوع اختلاف فيها، ولِمَ لجأ أيضًا إلى رواية القصص والأساطير عن منشأ "الحيرة"، وعن "عمرو بن عدي"، وعن جذيمة، وعن "قصر الحورنق" وعن غير ذلك، ليقصها على أنها تأريخ آل نصر2. أيعد هذا دليلًا على أخذه من موارد قديمة مكتوبة مدوّنة؟ نعم، من الجائز أن يكون قد أخذ من صحف كانت قد دوّنت أسماء آل نصر المتأخرين، وبعض الأخبار المتعلقة بهم، أما نه أخذ أخبارهم كاملة مدونة من كتاب أو من كتب تأريخ بالمعنى المفهوم من الكتاب؛ فذلك ما أشك فيه، لأن الذي ينقل أخباره من كتاب في التأريخ لا يروي تاريخ تلك الأسرة وتاريخ عربها على الشكل الذي رواه.
قال "الطبري": "كان أمر آل نصر بن ربيعة ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمّالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق عند أهل الحيرة، متعالمًا، مثبتًا عندهم في كنائسهم وأسفارهم"3، وتدل هذه الملاحظة التي تؤيد رواية "ابن الكلبي" المتقدمة -ولعلّ "الطبري" أخذها من رواية لابن
__________
1 الطبري "1/ 628" "طبعة دار المعارف بمصر".
2 الطبري "1/ 609 وما بعدها" "طبعة دار المعارف بمصر".
3 الطبري "1/ 628" "طبعة دار المعارف بمصر".(1/77)
الكلبي، دون أن يشير إليه- على وجود أسفار في تواريخ أهل الحيرة؛ إلا أني أعود فأقول إن أكثر المروي عنهم، لا يدل على أنه منقول من موارد مدوّنة: لما فيه من اضطراب وتناقض، ولغلبة طابع الروايات الشفوية عليه. والأخبار الوحيدة التي يمكن أن تكون منقولة من موارد مدوّنة، هي الأخبار المتأخرة التي تعود إلى أواخر أيام الحيرة، الأيام المقاربة للإسلام إلى زمن فتح المسلمين لها. ثم إن لقربها من زمن التدوين علاقة بوضوح هذه الأخبار المتأخرة وبدرجة صفائها.
ولا تعني هذه الملاحظات أننا ننكر وجود مدوّنات عند أهل الحيرة في التاريخ أو في الشعر أو في أي موضوع آخر، ولا أعتقد أن في استطاعة أحد نكران وجود التأليف عندهم. فقد ورد في التواريخ الكنائسية أسماء رجال من أهل الحيرة ساهموا في المجالس الكنائسية التي انعقدت للنظر في أمور الكنيسة ومشكلاتها، ومنهم من برز وألّف في موضوعات دينية وتاريخية، كما ورد في أخبار أهل الأخبار أن أهل الحيرة كانوا يتداولون قصص رستم واسفنديار وملوك فارس، وأن "النضر بن الحارث" الذي كان يعارض الرسول، تعلّم منهم، وكان يحدّث أهل مكة بأخبارهم معارضًا رسول الله، ويقول: أينا أحسن حديثًا؟ أنا أم محمد1؟
ولا بد أن يكون معين القصص الذي تعلمه "النضر بن الحارث هو في هذا المعين المدون في كتب الفرس. وقد كانت للفرس كتب في سير ملوكهم وآدابهم ترجم بعضها في الإسلام، مثل كتاب "سير العجم"2، أو "كتاب خداي نامه"3، أو كتاب "سير الملوك" أو "سير ملوك العجم"، ترجمة "عبد الله بن المقفع"4 و "كتاب التاج"5 للمترجم نفسه، وكتب أخرى لم تترجم
__________
1 سيرة ابن هاشم "1/ 381" "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد".
2 ابن قتبية: عيون الأخبار "1/ 117".
3 الفهرست "ص172"، "خداي نامة، وهو الكتاب الذي لما نقل من الفارسية إلى العربية سمي كتاب تأريخ ملوك الفرس"، حمزة "ص15"، وهو في حكاية جمل ما في خداي نامة لم يحكها ابن المقفع ولا ابن الجهم، فجئت بها في آخر هذا الكتاب ... "، "كتاب خدينامه في السير"، حمزة "ص43".
4 عيون الأخبار "1/ 117".
5 عيون الأخبار "1/ 5"، "كتاب التاج في سيرة انوشروان"، الفهرست "ص 172".(1/78)
كانت شائعة عند الفرس معروفة، يحافظون عليها ويتداولونها، منها استمد المؤرخون العرب الإسلاميون أخبار الفرس ومن حكم منهم من ملوك1.
ولقد قال "كولد تزهير" و "بروكلمن" بوجود أثر فارسي في ظهور علم التأريخ عند المسلمين2. أما أثر الموارد الفارسية في مادية الفصول المدونة عن الفرس وعن ملوك الحيرة، فواضح ظاهر، ولا يمكن لأحد الشك فيه، وأما أثرها فيما عدا ذلك، ولا سيما في كيفية عرض التأريخ وفي أسلوب تدوينه وتبويبه؛ فدعوى أراها غير صحيحة؛ لأن طريقة الابتداء بالزمان ثم ابتداء الخلق وعدد أيام الخلق وخلق آدم ثم التحدث العام عن الأنبياء بحسب تسلسل رسالاتهم، وهي الطريقة التي سار عليها من دوّن في التأريخ العام للمسلمين مثلًا، كما فعل "الطبري" في تأريخه، طريقة لا يمكن أن تكون فارسية؛ لأن الفرس مجوس، والمجوس لا يعتقدون بهؤلاء الرسل والأنبياء. والصحيح أنها طريقة المؤرخين الذين جاءوا بعد الميلاد؛ فهم الذين روّجوا الأسلوب المذكور في تدوين التأريخ. ويمكن إدارك ذلك من المقابلة بين الأسلوبين: الأسلوب الإسلامي في تدوين التأريخ وفي كيفية تبويبه وتصنيفه وأسلوب الكتب التأريخية المدوّنة في اليونانية وفي السريانية إلى زمن تدوين التأريخ عند المسلمين.
والرأي عندي أن علمنا بأسلوب التأريخ عند الفرس: كيفية عرضه وطرقه وتبويبه علم نزر؛ لأن ما وصل إلينا من كتبهم معدود محدود، وما ورد فيه سير ملوكهم وأيامهم وما نجده مترجمًا ومنشورًا في المؤلفات العربية، هو من نوع القصص الذي يغلب عليه الطابع الأدبي، فيه أدب السلوك ومواعظ الحكم وأقوال في الحكمة، وحتى القسم المتصل منه بالتأريخ قد وضع بأسلوب عاطفي أدبي. ومن هنا ابتعد عن أسلوب المؤرخين اليونان واللاتين، وعن أسلوب المؤرخين الذين ظهروا بعد الميلاد. وقد يكون لاختلاف الذوق دخل في اختلاف الأسلوبين. ومهما يكن من أمر فأنا لا أريد أن أكون متسرعًا عجولًا في إصدار حكم على فن التأريخ عند الفرس، فأبغض الأشياء إليّ التسرُّع في إصدار الأحكام
__________
1 المسعودي: مروج "1/ 146"، "وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي، عن عمر كسرى في كتاب له في أخبار الفرس يصف فيه طبقات ملوكهم ممن سلف وخلف...."، المروج "1/ 199"، والتنبيه والإشراف "ص92".
2 الموسوعة الإسلامية، مادة: تأريخ.(1/79)
في التأريخ، ومن الحكمة وجوب التريث والانتظار؛ فلعل الأيام تتحفنا بتواريخ فارسية، ترينا أن للفرس رأيًا أصيلًا في التأريخ، وأن لهم طريقة المؤرخين في تدوين تأريخ العالم وتأريخ بلادهم وفي تدوين سير الملوك والأشخاص، وأنهم كانوا قد عينوا مراسلين يلازمون جيوشهم لتدوين أخبار الحروب، كما فعل الروم، ولكن بعقلية مستقلة لم تتأثر بطريقة اليونان واللاتين.
ويكاد يكون أكثر ما دوّن عن "الغساسنة" في المؤلفات العربية الإسلامية مأخوذًا من الروايات الواردة عن ملوك الحيرة وعرب الحيرة، أنداد الغساسنة، ولذلك لم تكن في جانبهم، وتكاد تلك الأخبار ترجع في الغالب إلى شخص واحد، تحصص بأخبار الحيرة وملوك الفرس، هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وهو الذي روى هذه الأخبار اعتمادًا على بحوثه الخاصة، وعلى البحوث والدارسات التي قام بها والده من قبله، ويجب أن نجعل لهذه الملاحظات الاعتبار الأول في تدوين تاريخ الغساسنة. وقد وردت أخبارهم في الطبري مع أخبار ملوك الحيرة والفرس لهذا السبب. وأما في سائر الأصول التاريخية الأخرى؛ فهي مقتضبة، وقد اكتفى بعض المؤرخين بإيراد جريدة بأسماء الملوك، وهو عمل ينبئك بقلة بضاعة القوم في تاريخ عرب الشام. وعلى كل حال؛ فإننا نجد في كتب الأدب وفي دوايين الشعر عونًا لنا في تدوين، تاريخ غسان، قد يسد بعض الفراغ في تاريخ هذه الإمارة، وإن كان ذلك كله لا يكفي، بل لا بد من الاستعانة بأصول أعجمية من يونانية وسريانية، ففيها مواد عن نواحٍ مجهولة من هذا التاريخ، كما أنها تصحح شيئًا؛ مما ورد في الموارد العربية من أغلاط1.
ولقد تأثرت روايات "ابن الكلبي" بطابع التعصب لأهل الحيرة على الغساسنة؛ لاعتماده على روايات أهل الحيرة وعلى أهل الكوفة في سرد تاريخ الغساسنة، وقد كان ملوك الحيرة أندادًا لملوك الغساسنة، ولهذا تتعارض رواياته وروايات من استقى من هذا المورد مع روايات علماء اللغة والأدب والشعر التي وردت استطردًا عن أهل الحيرة أو الغساسنة، وذلك في أثناء شرحهم لفظة أو بيت شعر أو قصيدة أو ديونًا أو حياة شاعر كانت له علاقة بالحيرة أو الغساسنة، أو عن
__________
1 أمراء غسان لنولدكه، ترجمة الدكتور قسطنطين زريق والدكتور بندلي جوزي، "بيروت سنة 1933" "ص1-2"(1/80)
قصة من القصص، وما شاكل ذلك. ومرجع أولئك الروايات العربية الخالصة، وقد استمدت من رجال كانوا شاهدي عيان، أو رووا ما سمعوه من أفواه الناس، ويمكن إدراك اتجاهها وميولها بوضوح، ولهذا تجب الموازنة بين الروايتين.
أما روايات أهل "يثرب" أي "المدينة"؛ فهي في مصلحة الغساسنة في الأكثر، وقد كانوا على اتصال دائم بهم، ولهم تجارات معهم، وكان شعراؤهم يفتخرون بانتسابهم هم وآل غسان إلى أصل واحد ودوحة واحدة هي الأزد. ولهذا يستحسن التفكير في هذا الأمر بالنسبة إلى روايات أهل المدينة، ولا سيما أخبار حسان بن ثابت الأنصاري عن آل غسان.
ومما يؤسف عليه أن المؤرخين المسلمين لم يغرفوا من المناهل اليونانية واللاتينية والسريانية لتدوين أخبارهم عن تأريخ العرب قبل الإسلام، لا قبل الميلاد ولا بعده، مع أنها أضبط وأدق من الأصول الفارسية، ومن الروايات التي تعتمد على المشافهة بالطبع وقد كان من عادة اليونان إلحاق عدد من المخبرين والمسجلين الرسميين بالحملات لتسجيل أخبارها، كما حوت الموارد السريانية بصورة خاصة والموارد اليونانية المؤلفة بعد الميلاد أمورًا كثيرة فيما يخص انتشار النصرانية بين العرب، وفيما يخص المجامع الكنائسية التي حضرها أساقفة من العرب، وكذلك الآراء والمذاهب النصرانية التي ظهرت بين نصارى العرب.
نعم لقد وقف المؤرخون على تواريخ عامة وخاصة مدونة بالرومية والسريانية كانت عند جماعة من المشتغلين بالتأريخ من أهل الكتاب. وقد فسّروها، أو فسّروا بعضها لهم، ولا سيما ما يتعلق منها بموضوعات لها صلة بالقرآن الكريم، مثل كيفية الخلق والزمان والمكان وقصص الرسل والأنبياء والملوك، نجد طابعها ومادتها وأسلوبها في هذا المدوّن عن قبل الإسلام، والذي صار مقدمة لتاريخ الإسلام، درج المشتغلون في التأريخ العام على وضعها قبل تاريخ الرسالة. وقد استفاد من بعضها بعض المؤرخين، مثل المسعودي1 وحمزة الأصفهاني وآخرين،
__________
1 مروج الذهب "1/ 187/ 302"، التنبيه "ص132"، "وهذه التواريخ أخذتها عن رجل رومي"، وقال وكيع: نقلت هذه التواريخ من كتاب ملك من ملوك الروم، تولى نقله إلى العربية بعض الترجمة"، حمزة: كتاب تأريخ سني ملوك الأرض والأنبياء "ص48، 52".(1/81)
في تدوين تاريخ ملوك الروم، وقد صارت طريقتهم، كما قلت سابقًا أنموذجًا للمؤرخين ساروا عليه في عرض التأريخ وفي تدوينه؛ غير أن هذا النقل لم يكن ويا للأسف قد تجاوز هذا الحد؛ فكان ضيق المجال محدود المساحة، وقد كان من الواجب عليهم الاستعانة بتلك الموارد في علاقات العرب بالروم وفي موضوع النصرانية في بلاد العرب على الأقل، وهي موارد فيها مادة مفيدة في هذا الباب.
وأودّ أن أشير إلى الخدمة التي أدّاها علماء الأخبار برجوعهم إلى الشّيب وإلى حفظة أخبار القبائل من مختلف القبائل لجمع أخبار القبائل وإيامها وحوادثها قبل الإسلام. وقد وضعت في ذلك جملة مؤلفات ضاع أكثرها ويا للأسف، ولم يبقَ منها إلا الاسم؛ ولكننا نجد مع ذلك مادة غنية واسعة منها في كتب الأدب، أستطيع أن أقول أنها أوسع وأنفع بكثير من هذه المواد المدونة المجموعة في كتب التأريخ. وهذا شيء غريب؛ إذ المأمول أن تكون كتب التأريخ أوسع مادة منها في هذا الباب، وأن تأخذ لب ما ورد فيها؛ مما يخص التأريخ لتضيفه إلى ما تجمع عندها من مادة. والظاهر أن المؤرخين، ولا سيما المتزمتين منهم المتقيدين بالتأريخ على أنه حوادث مضبوطة مقرونة بوقت وبمكان وبعيدة عن أسلوب الأيام والقصص، رأوا أن ذلك المروي عن أخبار القبائل والأنساب وحوادث الشعراء هو ذو طابع أدبي أو طابع خاص لا علاقة له بالحكومات والملوك؛ فلم يأخذوا به، وتركوه؛ لأنه خارج حدود موضوع التأريخ كما فهموه. وهو فهم خاطئ لمفهوم التأريخ ولمفهوم الموارد التي يجب أن يستعان بها لتدوينه. فأضاعوا بذلك مادة غزيرة لم يدركوا أهميتها وفائدتها إذ ذاك. وإهمالهم لتلك الموارد هو من جملة مواطن الضعف التي نجدها عند أولئك المؤرخين. أما نحن؛ فقد وجدنا فيه ثروة تزيد كثيرًا على الثروة الواردة في مؤلفات المؤرخين. وإهمال المؤرخين لتلك الموارد هو من أسباب الضعف التي نجدها في فهمهم للمنابع التي يجب أن يستعان بها في تدوين التأريخ.
وإذا كان القدامى قد أخطئوا في فهم معنى التأريخ، ووقعوا من ثم في خطأ بالنسبة إلى الموارد التي يجب أن يرجع إليها في تدوين تأريخ الجاهلية؛ فعلينا يقع في الزمن الحاضر وعلى القادمين من بعدنا بصورة خاصة واجب مراجعة الموارد الأخرى من كتب في التفسير وفي الحديث وفي الفقه وفي الأدب وغير ذلك، لاستخراج ما فيها من مادة عن الجاهلية، لأنها كما قلت أغزر مادة وأقرب إلى(1/82)
المنطق في بعض الأحيان في فهم الحوادث من كتب المؤرخين.
والغريب أن المستشرقين الذين عُرفوا بجدّهم وبحرصهم على الإحاطة بكل ما يرد عن حادث، أهملوا مع ذلك شأن الموارد المذكورة، ولم يأخذوا منها إلا في القليل. ولو راجعوها، لكان ما جاءوا به عن الجاهلية أضعاف أضعاف ما جاءوا ما به وكتبوه، ولكانت بحوثهم أدق وأعمق مما هي عليه الآن.
وفي طليعة مَنْ اشتغل برواية أخبار ما قبل الإسلام: عبيد بن شَرْيَة، ووهب ابن منبه، ومحمد بن السائب الكلبي، وابنه أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وآخرون. وبعض هؤلاء مثل عبيد بن شَرْيَة وكعب الأحبار ووهب ابن منبه، قصاص أساطير، ورواة خرافات، وسمر مستمد من أساطير يهود، وأولئك وأمثالهم هم منبع الإسرائيليات في الإسلام.
فأما عبيد بن شَرْيَة، فقد كان من أهل صنعاء "في رواية" أو من سكان الرقة "في رواية أخرى"1. وكان معروفًا عند الناس بالقصص والأخبار؛ فطلبه معاوية، فصار يحدثه بأخبار الماضين2، ومن الكتب المنسوبة إليه: كتاب الأمثال3، وكتاب الملوك وأخبار الماضين، وقد طبع في ذيل "كتاب التيجان في ملوك حمير" المطبوع بحيدرآباد دكن بالهند بعنوان "أخبار عبيد بن شَرْيَة الجُرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها"4، وقد وضع الكتاب على الطريقة
__________
1 الفهرست "ص138"، السجستاني: كتاب المعمرين "ص40"، ياقوت: إرشاد "5/ 10"و
Brockelmann, Bd., I, S., 64, Suppl., Bd., I, S., 100
Von Kremer Sudarabische Sage, 16-32, Muh. Stud., Bd., I, S., 183.
2 "فأمر به معاوية، فأنزله في قربة، وأخدمه، وأمر من يجري وظيفته، ووسع عليه، وألطفه فإذا كان في وقت السمر فهو سميره في خاصّته من أهل بيته. وكان يقص عليه ليله، ويُذهب عنه همومه، وأنساه كل سمير كان قبله، ولم يخطر على قبله شيء قط إلا وجد عنده شيئًا وفرحًا ومرحًا، فإذا كان يحدثه وقائع العرب وأشعارها وأخبارها أمر أهل ديوانه أن يوقعوه ويدونوه في الكتب ... "، أخبار عبيد بن شَرْيَة الجرهمي في أخبار اليمن وأشعار وأنسابها "ص312 فما بعدها".
3 "كتاب الأمثال نحو خمسين ورقة رأيته"، الفهرست "128"، إرشاد "12/ 190".
4 طبع سنة 1347هـ، ويرى المستشرق "كرنكو"، أن الجامع له ابن هشام، راجع ملحوظة 1 ص312.(1/83)
التي تروى بها الأسمار وأيام العرب، وفيه أشعار كثيرة وضعت على لسان عاد وثمود ولقمان وطَسْم وجَديس والتبابعة1، وفيه قصص إسرائيلي وشعبي يمثل في جملته السذاجة وضعف ملكة النقد، وبساطة القص والقصة، ومبلغ علم الناس في ذلك الوقت بأخبار الأوائل2.
وقد حصل "كتاب الملوك وأخبار الماضين" على شهرة بعيدة، وطُلب في كل مكان، وكثرت نسخه، ومع هذه الكثرة اختلفت نسخه، حتى صعب العثور على نسختين متشابهتين منه3. وقد نقل الهمداني "المتوفى سنة 334 للهجرة" بعض الأخبار المنسوبة إلى عبيد4. ولِمَا نقله، أهمية كبيرة في تثبيت مؤلفات عبيد؛ إذ يمكن مقابلته بما نشر، ومطابقته بما طبع، فيمكن عندئذ معرفة ما إذا كان هناك اتفاق أو اختلاف. ويمكن عندئذ تعيين هوية المطبوع.
والطابع الظاهر على أخبار عبيد، هو طابع السمر والقصص والأساطير المتأثرة بالإسرائيليات. وأما الشعر الكثير الذي روي على أنه من نظم التبابعة وغيرهم، وفيه قصائد طويلة؛ فلا ندري أَمِن نظمه أم من نظم أشخاص آخرين قالوها على لسان من زعموا أنهم نظموها، أو أنها أضيفت فيما بعد إلى الكتاب ونسبت روايتها إلى عبيد؟ وعلى كلٍّ فإنها تستحق توجيه عناية الباحثين إلى البحث عن زمن ظهورها وأثرها في عقلية أهل ذلك الزمن.
وأما "وهب بن منبه"؛ فقد كان من أهل "ذمار"، وكان قاصًّا أخباريًّا، من الأبناء، ويقال إنه كان من أصل يهودي، وإليه ترجع أكثر الإسرائيليات المنتشرة في المؤلفات العربية. وقد زعم أنه كان ينقل من التوراة ومن كتب بني إسرائيل، وأنه كان يقول: "قرأت من كتب الله تعالى اثنين وسبعين كتابًا"، وأنه كان يتقن اليونانية والسريانية والحميرية، ويحسن قراءة الكتابات القديمة الصعبة التي لا يقدر أحد على قراءتها5. قال المسعودي: "وجد في
__________
1 Mull. Stud., Bd., 2, S., 204.
دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربية "ص483".
3 مروج الذهب "2/ 153" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"
3 Muti. Stud., Bd., I, S., 182.f., Brockeimann, Bd., I, S., 64. Wustenfeld Geschichte. S., 5, Lidsbarski, De Propheticis qu. d. Legendis Arabicis, Leipzig, 1893, 1-2.
4 الإكليل"طبعة الكرملي"، "8/ 71، 184، 215، 232، 234، 240 ومواضع أخرى".
5 إرشاد الأريب "7/ 232".(1/84)
حائط المسجد1 لوح من حجارة، فيه كتابة باليونانية؛ فعرض على جماعة من أهل الكتاب فلم يقدروا على قراءته، فوجّه به إلى وهب بن منبه، فقال: هذا مكتوب في أيام سليمان بن داوود، عليهما السلام، فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. يا ابن آدم، لو عاينت ما بقي من يسير أجلك، لزهدت فيما بقي من طول أملك، وقصرت عن رغبتك وحيلك؛ وإنما تلقي قدمك ندمك إذا زلّت بك قدمك، وأسلمك أهلك، وانصرف عنك الحبيب، وودعك القريب، ثم صرت تُدعى فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا في عملك زائد؛ فاغتنم الحياة قبل الموت، والقوة قبل الفوت، وقبل أن يؤخذ منك بالكظم، ويحال بينك وبين العمل. وكتب في زمن سليمان بن داوود2".
وفي كتاب "التيجان في ملوك حمير" رواية ابن هشام نماذج لقراءته، وهي على هذا النسق الذي يدل على سخريته بعقول سامعيه إن كان ما نسب إليه حقًّا، وأنه قرأه عليهم صدقًًا، ومن يدري؟ فلعلّه كان لا يعرف حروف اليونانية، ولا يميّز بينها وبين الأبجديات الأخرى. ثم هل يعجز أهل دمشق عن قراءة نصّ يوناني أو سرياني أو عبراني وقد كان فيها في أيام وهب بن منبه علماء فطاحل حَذَقة بهذه اللغات هم نفر من أهل الكتاب؟
والذي يهمنا من أمر "وهب بن مبنه" أخباره عن الجاهلية. ولوهب أخبار عن اليمن والأقوام العربية البائدة، ونجد روايته عن نصارى نجران وتعذيب "ذي نواس" إياهم، وقصة الراهب "فيميون" مطابقة للروايات النصرانية ولما جاء في كتاب "شمعون الأرشامي" عن هذا الحادث3. والظاهر أنه كان قد أخذها من المؤلفات النصرانية أو من أشخاص كانوا قد سمعوا بما ورد عن حادث "نجران" من أخبار. وقد ذكر أن وهبًا كان يستعين بالكتب، وأن أخاه "همام بن منبه بن كامل بن شيخ اليماني" أبا عقبة الصنعاني الأبناوي، كان يشتري الكتب لأخيه4. ولعلّه استقى أخباره عن بعض الأمور المتعلقة
__________
1 يعني مسجد دمشق، وذلك في أيام الخليفة الوليد.
2 مروج الذهب "2/ 151 وما بعدها". "طبعة عبد الرحمن محمد".
3 راجع الطبري "2/ 103"، أيضًا ما كتبته فيه في الجزء الأول من مجلة المجمع العلمي العراقي في "موارد تأريخ الطبري" سنة 1950م.
4 تهذيب التهذيب "11/ 67"، ابن سعد "5/ 395".(1/85)
بالنصرانية مثل مولد وحياة المسيح من تلك الموارد، أو من اتصاله بالنصارى1. أما ما ذكره عن التبابعة والعرب البائدة، فإنه قصص. وأما علمه بأخبار العرب الآخرين؛ فيكاد يكون صفرًا، فلا نجد في رواياته شيئًا يعد تأريخًا لعرب الحيرة أو الغساسنة أو عرب نجد. فهو في هذا الباب مثل "عبيد بن شَرْيَة" من طبقة القصاص. لم يصل إلى مستوى أهل الأخبار، ولعله وجد نفسه ضعيفًا في التأريخ وفي أخبار العرب؛ فمال إلى شيء آخر لا يدانيه فيه أحد، وهو مرغوب فيه مطلوب، وهو القصص الإسرائيلي، وما يتعلق بأقوام ماضين، ذكروا في القرآن الكريم، وكانت بالمسلمين الأولين حاجة إلى من يتحدث لهم عن ذلك القصص وأولئك الأقوام.
ومن الكتب المنسوبة إلى وهب "كتاب الملوك المتوجه من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم"2، وقد تناول أخبار التبابعة. والظاهر أن "كتاب التيجان في ملوك حمير" الذي طبع في الهند3، رواية ابن هشام أبي محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري "المتوفى سنة 213 أو 218 هـ" قد استند إليه، بعد أن أضاف إليه أخبارًا أخذها من مؤلفات محمد بن السائب الكلبي4 وأبي مخنف لوط بن يحيى5 وزياد بن عبد الله بن الطفيل العامري أبي محمد الكوفي المعروف بالبكائي رواية ابن إسحاق6 وهو خليط من الإسرائيليات والقصص
__________
1 تفسير الطبري "3/ 147، 177"، "مولد المسيح وحياته"، "16/ 43" "الحمل"، المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن تأليف "كولدتزهير"، ترجمة علي حسن عبد القادر، ص88، تأريخ الطبري "1/ 102"، تفسير الطبري "16/ 43"، مجلة المجمع العلمي العراقي "1/ 190"، Ency. Vol. 4 P. 1084
2 إرشاد "7/ 232"، "كتاب الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وغير ذلك"، وعثر على مجموعة من أوراق مخطوطة في خزانة كتب "هايدلبرك" بألمانية، رأي "بيكر" أنها جزء من كتاب في المغازي، ينسب إلى وهب بن منبه،
C.H. Becker, Papyri Schott-Reinhardt, I. 8, Fuck, Muhammad idn Ishaq, s. 4 Ency. Vol. 4, P. 1084. f.
3 في حيدرآباد دكن سنة 1347هـ، وبذيله "كتاب أخبار عبيد بن شَرْيَة الجرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها"، وقد مر ذلك.
4 التيجان ص 132، 212، 213 ومواضع أخرى.
5 التيجان ص 125، 180 ومواضع أخرى.
6 التيجان ص66، 75، ومواضع أخرى. راجع عن البكائي: لسان الميزان "6/ 836"، سيرة ابن هشام "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد"، "1/ 16"، وكتاب الكنى والألقاب "2/ 82" لعباس بن محمد رضا القمي، طبع مطبعة العرفان بصيدا سنة 1358هـ.(1/86)
اليماني ومن مواد أخرى قد تكون من وضعه، أو من صنعة آخرين، صنعوها قبله، فأخذها من ألسنة الناس، مثل تلك القصائد والأشعار الكثيرة المنسوبة إلى التبابعة وغيرهم. وقد أورد في الكتاب أسماء أُخذت من التوراة ذكرها بنصها كما تلفظ بالعبرانية؛ مما يبعث على الظن أنها أخذت من مورد يهودي1. وأما سائر الأخبار الورادة في الكتاب، فالغالب عليها السذاجة؛ إذ لا نجد فيها عمقًا ولا مادة تأريخية غزيرة كالمادة التي نجدها في مؤلفات ابن الكلبي، وفي مؤلفات الهمداني الذي عاش بعده.
وأودّ أن ألفت أنظار العلماء إلى أهمية روايات "وهب بن منبه" وأخباره بالنسبة إلى من يريد الوقوف على الدراسات التوراتية والتلمودية في ذلك العهد؛ ففيها فقرات كثيرة زعم "وهب" أو آخرون قالوا ذلك على لسانه، أنها قراءات أي ترجمات أُخذت من التوراة ومن كتب الله الأخرى. وإذا ثبت بعد مقابلتها بنصوص التوراة والتلمود والمشنا وغيرها من كتب اليهود، أنها من تلك الكتب حقًا، وأنها ترجمان صحيحة، فنكون قد حصلنا بذلك على نماذج قديمة لمواضع من تلك الكتب قد تفيد في إرشادنا إلى ترجمات أقدم منها، كما تعيننا في الوقوف على النواحي الثقافية للعرب في ذلك العهد.
ولأبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 204 أو 206هـ، فضل كبير على دراسات تأريخ العرب قبل الإسلام؛ فأغلب معارفنا عن هذا العهد تعود إليه2. وقد سلك مسلكًا جعله في طليعة الباحثين في الدراسات الآثارية
__________
1 راجع ما كتبه "كرنكو" عن الكتابين: كتاب التيجان وكتاب أخبار عبيد، في مجلة: "the Islamic culture" المجلد الثاني بعنوان:"the two oldest books on Arabic folkiore"، دائرة المعارف الإسلامية الترجمة العربية ص484 مادة: "تأريخ".
2 والده أبو النضر محمد بن السائب بن بشر الكلبي المتوفى سنة 146هـ، من علماء الكوفة بالتفسير والأخبار والأنساب، الفهرست 139، الأغاني "9/ 16"، "11، 48" "18/ 161"، ابن سعد: الطبقات "6: 250، ابن خلكان: وفيات "3/ 134 وما بعدها"، إرشاد "7/ 250"، تذكرة الحفاظ: 1/ 313"، تأريخ بغداد "14/ 45" وما بعدها أنباري: نزهة الألباء في طبقات الأدباء "116"، تهذيب التهذيب "9/ 178"، كتاب الأصنام، تحقيق أحمد زكي باشا،
Ency., vol., 2,' P., 689, Muh. Stud., I, S., 186, Noldeke Gesch. d'er Araber'und Perser, S., XXVii, ZDMG., XUii, Brockelmann, Ed., I, S-, 211.(1/87)
عند المسلمين، برجوعه إلى الأصول، واعتماده على المراجع التأريخية، متبعًا سبيلًا تختلف عن سبيل أهل اللغة في البحث، وهو -بطريقته هذه- قريب من طريقة المؤرخين في تدوين التأريخ1.
ولكنه لم يخلّ مع ذلك من مواطن الضعف التي تكون عادة في الإخباريين، مثل سرعة التصديق، ورواية الخبر على علاته دون نقد أو تمحيص. وقد اتُّهم بالوضع والكذب2. ولذلك تجنب جماعة من العلماء الرواية عنه، وقالوا عن بعض أسانيده أنها سلسة الكذب3. وذهب "بروكلمن" إلى أن ما اتُّهم عليه ابن الكلبي لم يكن كله صحيحًا، وأن البحوث العلمية التي قام بها المستشرقون دلتهم على أن الحق كان في جانبه في كثير من المواضع التي اتُّهم عليها4.
وأنا لا أريد أن أبرِّئه من الوضع أو من تهمة أخذه كل ما يقال له، ولا سيما إذا كان القائل من أهل الكتاب، دون مناقشة ولا إبداء رأى؛ ففي المنسوب إليه شيء كثير من الإسرائيليات والقصص الممسوخ الذي يدل على جهل قائله أو استخفافه بعقل السامع وعلمه، مثل اختراع سلاسل من النسب زعم أنها واردة في التوراة، أو عند أهل النسب، مع أن الوضع فيها بيّن واضح، وهي غير واردة في التوراة ولا في التلمود. ولعل حرصه على الظهور بمظهر العالم المحيط بكل شيء من أخبار الماضين، هو الذي حمله على الوضع، وقد وضع غيره من أقرائه شعرًا ونثرًا، وصنع قصصًا؛ ليتفوق بذلك على أقرانه وخصومه وليظهر بمظهر العالم الذي لا يفوته شيء من العلم.
__________
1 Brockelmann, Bd., I, S., 138.
2 لسان الميزان "6/ 196 فما بعدها"، تذكرة الحفاظ "1/ 313"، الأغاني "9/ 19"، "وهذا الخبر مصنوع من مصنوعات ابن الكلبي، والتوليد فيه بين، وشعره شعر ركيك غث لا يشبه أشعار القوم؛ وإنما ذكرته لئلا يخلو الكتاب من شيء قد روي"، الأغاني "18/ 161".
3 مثل سنده عن أبي صالح عن ابن عباس، ووجد من دافع عنه، إرشاد "2/ 158".
4 Brockelmann, I, S., 139, Noldeke, Ubers. d. Tabari, XXVII,
Ency., 2, P., 689.(1/88)
وقد عالج بعض الباحثين زعم "ابن الكلبي" أنه كان يستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر ومبالغ أعمار من عمل منهم، وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة؛ فرأى أن كتابات أهل الحيرة كانت بالكتابة النبطية وبالأرقام النبطية، كما أثبت ذلك نصّ "النمار" أيضًا، وأن "ابن الكلبي" لم يكن يحسن قراءة النبطية ولم يفهمها، وعندما حاول قراءتها لم يتمكن من ذلك فوقع في أوهام، وجاء بأمثلة على ذلك تتعلق بما ذكره "ابن الكلبي" من مدد حكم أولئك الملوك؛ فوجد أنه لم يميّز مثلًا بين الرقم "20" والرقم "100" وذلك لتشابه شكل الرقم الأول مع شكل الرقم الثاني في النبطية، فقرأ العشرين مائة، فزاد سني حكم الملو. ومن هنا أخطأ في ضبط مدد حكم ملوك الحيرة، ولا سيما بالنسبة للقدامى منهم؛ لأن الكتابات النبطية المتقدمة لم تكن مثل الكتابات النبطية المتأخرة في قربها من الأبجدية العربية القديمة1.
هذا ولم يُبحث موضوع أخذ "ابن الكلبي" من بيع الحيرة حتى الآن بحثًا علميًا مركزًا. وهو موضوع أرى أنه جدير بالدراسة والعناية. وحري بأن يقارن ما ذكره "ابن الكلبي" بما جاء في الموارد النصرانية عن "آل نصر"، لنرى مقدار الصحة من الخطأ في فهم "ابن الكلبي" لتلك الموارد التي ذكر أنه قرأها وأنه استعان بها في جمع تأريخ عرب العراق قبل الإسلام.
ولم يبقَ من القائمة الطويلة التي ضمنها "ابن النديم" مؤلفات ابن الكلبي غير قليل2. وهي في المآثر والبيوتات والمنافرات والمئودات وأخبار الأوائل، وفيما قارب الإسلام من أمر الجاهلية، وفي أخبار الشعر وأيام العرب، والأخبار والأسماء والأنساب3.
وهناك بعض الشبه بين بحوث أبي عبيدة "المتوفى سنة عشر
__________
1 Di Araber, IV, S. 3. f.
2 الفهرست 140، إرشاد "7/ 251"،
Brockelmann, I, S. 138, Supp1. I, S. 211. f.
3 الفهرست 140، وفيات الأعيان "2/ 258"، "قال ياقوت في معجم البلدان 2: 158: لله درّه ما تنازع العلماء في شيء من أمور العرب، إلا وكان قوله أقوى حجة، وهو مع ذلك مظلوم وبالقوارض مكلوم"، تأريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان "3/ 31"، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار.(1/89)
ومائتين"1 الذي كان له علم بالجاهلية، ومصنفات وبحوث في القبائل والأنساب2، وبين ابن الكلبي في اتجاهه ومناحيه؛ ولكنه دونه في أخباره عن الجاهلية، ومؤلفاته في أمور الجاهلية لا تعد شيئًا بالنسبة إلى ما ينسب إلى ابن الكلبي من مؤلفات، كما أن أخباره ورواياته عنها قليلة بالنسبة إلى أخبار ابن الكلبي ورواياته.
وهناك عدد آخر من العلماء، كالأصمعي، و "الشرقي بن القطامي"3، وسائر من اشتغل بالأنساب واللغة والأدب، كان لهم فضل كبير في جمع أخبار الجاهلية المتصلة بالإسلام، وقد تولدت من شروحهم وأماليهم وكتبهم ثروة تاريخية قيمة لم ترد في كتب التاريخ؛ ولكن عرض أسمائهم هنا وذكر بحوثهم ومؤلفاتهم يضطرنا إلى كتابة فصول طويلة عن جهودهم وأتعابهم وعن ضعف رواياتهم أو قوتها، وذلك يخرجنا عن حدود كتابنا، ولهذا اكتفي هنا بما كتبت وذكرت، على أن أتعرض لآراء الباقين في المواضع التي ترد فيها، فأُشير إلى صاحبها وإلى روايته عن الحادث. ولكن لا بد لي من التحدث عن عالمين من علماء اليمن، ألّفا في تأريخ اليمن القديم، وجاءا بمعلومات ساعدتنا كثيرًا في توسيع معارفنا بالأماكن الأثرية هناك؛ إذ أشار إلى أسماء أبنية ومواضع، وشخصا أمكنه، ووصفا عاديات رأياها، فأفادنا بذلك فائدة كبير.
أما أحدهما، فهو الهمداني، أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يوسف المتوفى سنة 334هـ4. أو بعد ذلك كما ذهب إلى ذلك الحوالي5. وأما
__________
1 "وقيل إحدى عشرة، وقال أبو سعيد: سنة ثمان، وقيل سنة تسع."، "أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي"، "وقيل: كان شعوبيًا يطعن في الأنساب، الفهرست "ص79"، إرشاد "7/ 165".
2 Ency., Vol., I, S., 195, Flugel,
Die Grammatischen Schulen, S., 68, Brockelmann, 1, S., 103.
3 وقد اتهم بالوضع والتلفيق، الفهرست "ص132".
راجع عن الهمداني: تأريخ آداب اللغة العربية "2/ 204"، ابن القفطي: تأريخ الحكماء "أخبار الحكماء"، "طبعة lippert، 113، إرشاد "3/ 9"، السيوطي: بغية الوعاة "217"، مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق: الجزء الأول من المجلد الخامس والعشرين سنة 1950 ص62، مقالة للسيد حمد الجاسر بعنوان: "الجزء العاشر من الإكليل".
4 Brockelmann, I, S-, 229, Suppl., I, S., 409, Ency., 2 P., 246, Muller, Sudarab. Stud., 170.
واشتهر ب"ابن الحاثك" وب"ابن أبي الدمينة"، الإكليل"8/ 297" طبعة الكرملي.
5 محمد بن علي الأكوع الحوالي، محقق الجزء الأول من كتاب الإكليل للهمداني الإكليل"1/ 60".(1/90)
الآخر؛ فهو "نشوان بن سعيد الحميري"، المتوفى سنة 573هـ.
لقد بذل الهمداني مجهودًا يقدر في تأليف كتبه وفي اختيار موضوعاته، وسلك في بحوثه سبيلًا حسنًا بذهابه بنفسه إلى الأماكن الآثارية وبوصفه لها في كتبه؛ فأعطانا بذلك صورًا لكثير من العاديات التي ذهب أثرها واختفى رسمها، بل طمست حتى أسماء بعضها. وبمحاولته قراءة المسند وترجمته إلى عربيتنا، للوقوف على معناها ومضمونها، يكون قد استحق التقدير والثناء؛ لأن عمله هذا يدل على إدراكه لأهمية الكتابات في استنباط التوريخ. على أننا يجب أن نذكر أيضًا أن الهمداني لم يكن أول من عمد إلى هذه الطريقة، طريقة قراءة الكتابات لاستنباط التواريخ منها؛ فقد سبقه غيره في هذه القراءات، وكانوا مثله يبغون الوقوف على ما جاء فيها، ومعرفة تواريخها. وقد أشار "الهمداني" نفسه إليهم وذكرهم بأسمائهم، مثل "أحمد بن الأغر الشهابي من كندة" و "محمد ابن أحمد الأوساني" و "مسلمة بن يوسف بن مسلمة الحيواني" وغيرهم1.
فهم مثله يستحقون الثناء والتقدير أيضًا، وهم بطريقتهم هذه في جمع مادة التأريخ يكونون على شاكلة الآثاريين المحدثين في إدراك أهمية دراسات الآثار والكتابات بالنسبة إلى اكتشاف تواريخ العاديات، وهم بطريقتهم هذه يكونون قد فاقوا غيرهم من المؤرخين العرب في الأمكنة الأخرى بهذه الطريقة؛ فقلما نجد مؤرخين في الأماكن الأخرى، لجأوا إلى دراسة الآثار ودراسة الكتابات ووصف الأمكنة الآثارية لاستنباط التواريخ منها كما يفعل الآثاريون في الزمن الحاضر.
وقد أثنى الهمداني بصورة خاصة على أساتذ له أخذ منه، فوسمه بأنه "شيخ حمير، وناسبها، وعلامتها، وحامل سفرها، ووارث ما ادّخرته ملوك حمير خزائنها من مكنون علمها، وقارئ مساندها، والمحيط بلغاتها"2 وسمّها "أبا نصر محمد بن عبد الله اليهري". وقال: إنه كان مرجعه فيما كان يشكل عليه من أخبار أهل اليمن، والمنبع الذي غرف منه علمه بأحوال الماضين، إلى أن قال: "وكان بحاثة، قد لقي رجلًا وقرأ زبر حمير القديمة ومساندها الدهرية؛ فربما نقل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وكانت أسماء فيها ثقل، فخففتها العرب،
__________
1 الإكليل"10/ 15، 16، 19، 20، 111".
2 الإكليل"1/ 9".(1/91)
وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة؛ فإذا سمعوا منها الاسم الموفّر، خال الجاهل أنه غير ذلك الاسم، وهو هو. فمما أخذته عنه، ما أثبته هنا في كتابي هذا من أنساب بني الهميسع بن حمير وعدة الأذواء وبعض ما يتبع ذلك من أمثال حمير وحكمها، إلا ما أخذته عن رجال حمير وكهلان من سجل خولان القديم بصعدة، ومن علماء صنعاء وصعدة ونجران والجوف وخيوان وما أخبرني به الآباء والأسلاف"1.
ولملاحظة "الهَمْداني" على الأسماء اليمانية القديمة، وثقلها على ألسنة الناس في أيامه وقبل أيامه، شأن كبير؛ إذ ترينا أن لسان أهل اليمن كان قد تغير وتبدل، وأن ذلك التغير قد تناول حتى الأسماء، فصارت الأسماء القديمة ثقيلة على أسماعهم، غليظة الوقع عليهم، فخففوها أو بدّلوها، والواقع أننا نشعر من المساند المتأخرة التي وصلت إلينا وقد دُوّنت في عهود لا تبعد كثيرًا عن الإسلام، ومن الموارد الإسلامية أن الأسماء اليمانية المدوّنة في كتابات المسند التي يرجع عهدها إلى ما قبل الميلاد، هي أسماء أخذت تقل في كتابات المسند المدونة بعد الميلاد إلى قبيل الإسلام، وأن أسماء أخرى جديدة أخف على السمع حلت محل الأسماء المركبة القديمة. وفي هذا التطور دلالة على حدوث تغير في عقلية أهل اليمن بعد الميلاد، وعلى حصول تقارب بين لغتهم ولغة أهل الحجاز وبقية العرب الذين يسميهم المستشرقون "العرب الشماليين".
وقد حملني قول الهمداني أنه أخذ أخبار رجال حمير وكهلان من "سجل خولان القديم بصعدة"2، على مراجعة متن الجزء الأول من الإكليل للوقوف على الأماكن التي اعتمد فيها على هذا السجل، لأتمكن بها من تكوين رأي عنه، ومن الحصول على فكرة عما جاء فيه. وقد وجدته يقول في موضع منه: "وقرأت في السجل الأول: أولد قحطان بن هود أربعة وعشرين رجلًا، وهم: يعرب، والشلف الكبرى، ويشجب، وأزال وهو الذي بنى صنعاء، وبكلي الكبرى، بكسر الياء، وخولان: خولان رداع التي في القفاعة، والحارث وغوثا، والمرتاد، وجُرهما، وجديسا، والمتمنع، والملتمس، والمتغشمر، وعبادا، وذا هوزن، ويمنا، وبه سميت اليمن، والقطاميّ،
__________
1 الإكليل"1/ 13 فما بعدها".
2 المصدر نفسه.(1/92)
ونباته، وحضرموت، فدخلت فيها حضرموت الصغرى، وسماكًا، وظالمًا، وخيارًا، والمشفتر1". ووجدته يقول في موضع آخر: "وأصحاب السجل يقولون مثل قول بعض الناس فيما بين عدنان وإسماعيل"2، ووجدته يقول: "وفي سجل خولان وحمير بصعدة: أولد مهرة الآمري، والدين، ونادغم، وبيدع.."3 ويقول في "باب نسب خولان بن عمرو"، "فهذه الآن بطونها على ما روى رجال خولان وحمير بصعدة. وقد سكنت بها عشرين سنة، فأطللت على أخبار خولان وأنسابها، ورجالها كما أطللت على بطن راحتي، وقرأت بها سجل محمد ابن أبان الخنفري المتوارث من الجاهلية، فمن أخبارهم ما دخل في هذا الكتاب، ومنها ما دخل في كتاب الأيام"4. وقال في موضع: "وقال بعض وضعة السجل ونساب الهميسع"5. ويتبين من هذه الملاحظات أن السجل المشار إليه هو مجموعة أجزاء، وضعها جملة أشخاص، كل جزء سجل قائم بذاته في الأنساب، وهو متفاوت الأزمنة، ويشمل القبائل والناس. وقد جمعت جمعًا، على طريقة رواة النسب في رواية الأنساب. ولا أستبعد أن يكون السجل قد وضع في صدر الإسلام، حينما شرع في أيام "عمر" بتسجيل النسب في ديوان. فدونت عندئذ أنساب القبائل، ورجع في ذلك إلى ما كان متعارفًا عليه من النسب في الجاهلية الملاصقة للإسلام وفي صدر الإسلام، ثم أكمل على مرور الأيام، ولذلك تعددت الأيدي في كتابته، وصار على شكل فصول في أنساب القبائل، كل سجل في نسب قبيلة وما يتفرع منها. والطابع البارز عليه هو الطابع اليماني المحليّ المتأثر بالروايات التوراتية عن "اليقطانيين"، الذين صُيروا قحطانيين بتأثير روايات أهل اليمن من أهل الكتاب وعلى رأسهم كعب الأحبار ووهب بن منبه، وربما من أناس آخرين سبقوهم، ومن الروايات اليمانية المحلية التي تعارف عليها أهل اليمن في أنساب قبائلهم آنئذ. ولهذا نجد الطابع اليماني المحلي بارزًا في مؤلفات أهل اليمن التي نقل منها الهمداني وأمثاله، ولا نجدها على هذا النحو في مؤلفات
__________
1 الإكليل"1/ 131 وما بعدها"
2 الإكليل"1/ 136".
3 الإكليل"1/ 193.
4 الإكليل"1/ 199".
5 الإكليل"1/ 355"، "قال أهل السجل"، الإكليل"2/ 1، 16".(1/93)
النسّابين الشماليين الذين ينسبون أنفسهم إلى اليمن مثل "ابن الكلي" وأضرابه؛ لأنهم كانوا بعيدين عن اليمن؛ فعلمهم بالروايات اليمانية، ولا سيما رويات أهل حمير وصعدة وخولان وصنعاء وغيرهم من النسابين المحليين، لذلك، قليل.
وقد أورد الهمداني في الجزء الثاني من كتابه "الإكليل" جملة تدل على أن "السجل القديم" الذي يشير إليه في كتابه، كان سجل نسّابة عرف بـ "ابن أبان"؛ إذ يقول: "قال الهمداني: قال علماء الصعديين وأصحاب السجل القديم: سجل ابن أبان"1. ولعل "ابن أبان" كان قد وضعه وجمعه في أبواب، ثم جاء جمع من النسابين؛ فأضافوا عليه فصولًا جديدة في الأنساب، وعرف الكتاب كله وبجميع فصوله ب"السجل". وقد كان أصحاب السجل من أهل صعدة، لما ذكره الهمداني من قوله: "عن الصعديين من أصحاب السجل"2.
وكان "الهمداني"، قد نصّ في الجزء الأول من "الإكليل" على أن ذلك السجل، هو سجل "محمد بن أبان الخنفري"؛ وذلك في أثناء حديثه على بطون "صعدة"، إذ قال: "فهذه الآن بطونها على ما روى رجال خولان وحمير بصعدة. وقد سكنت بها عشرين سنة، فأطللت على أخبار خولان وأنسابها ورجالها، كما أطللت على بطن راحتي، وقرأت بها سجل محمد بن أبان الخنفري المتوارث من الجاهلية، فمن أخبارهم ما دخل في هذا الكتاب، ومنها ما دخل في كتاب الأيام"3. ويُفهم من هذا النص، أن السجل المذكور هو سجل "محمد بن أبان" وكان يحفظه، وقد ورثه من الجاهلية.
ويظهر من إشارات "الهمداني" إليه، أنه قصد بهذا السجل "السجل القديم"، وأما السجلات الأخرى؛ فقد كانت من وضع علماء آخرين من علماء النسب كانوا بمدينة صعدة، وقد جمعوا أنساب خولان وحمير وقبائل أخرى، وأضافوها على شكل مشجرات نسب إلى ذلك الديوان؛ فصار مجموعة سجلات. ولهذا كان ينبه "الهمداني" إلى الموارد التي كان يستقي منها من غير ذلك السجل، كالذي ذكره من "أنساب بني الهميسع بن حمير"، إذ قال: "إلا
__________
1 الإكليل "2/ 14".
2 الإكليل "2/ 16".
3 الإكليل "1/ 199"، "وفي سجل خولان وحمير بصعدة" "1/ 193".(1/94)
ما أخذته عن رجال حمير وكهلان من سجل خولان القديم بصعدة وعن علماء صنعاء وصعدة ونجران والجوف وخيوان وما أخبرني به الآباء والأسلاف"1.
وأما ما يذكره "الهمداني" من أن أصل السجل القديم وأساسه جاهلي؛ فأمر لا أريد أن أبتّ فيه الآن. لا أريد أن أنفيه، ولا أريد أن أُثبته أيضًا. بل أقف منه موقف المحايد الحذر، لأني لا أجد في المنقول منه في كتاب "الإكليل" ما يشير إلى جاهلية وأصل جاهلي، فالمشجرات المذكورة هي من هذا النوع المألوف الذي نراه في كتب الأنساب المؤلفة في الإسلام، وبعضه متأثر بروايات التوراة، ولهذا فأنا لا أستطيع أن أرجعه إلى ما قبل الإسلام، ولا أستطيع أن أتبحر فيه وفي أصله ما دمت لا أملك "السجل" نفسه، لا القديم منه ولا الجديد، أو نصوصًا طويلة أُخذت منه، حتى يسهل عليّ الحكم من قراءتي لما ورد ومن دراسته على أصل ذلك الكتاب وصحة نسبته إلى الجاهلية.
وأما "الخنفري"، صاحب السجل، فهو: "محمد بن أبان بن ميمون بن حريز الحنفري"2. ولد في ولاية معاوية بن أبي سفيان في سنة خمسين، وتُوفي في سنة خمس وتسعين ومائة، ودفن في رأس "حدبة صعدة"3. هذا ما رواه "الهمداني" عنه. وذكر "الهمداني" أنه عاش "125" سنة، ولو أخذنا بهذا الرقم الذي ذكره "الهمداني"، فيجب أن تكون سنة وفاته "175"، لا "195" للهجرة. ولذلك، فيجب أن يكون في تأريخ المولد أو الوفاة وربما في مدة عمر "الخنفري" خطأ. وإني أشك في طول ما ذكره عن عمره.
وكان لغير أهل صعدة كتب في الأنساب أيضًا، دوّنوا فيها أنسابهم، كما كان هناك نسابون حفظوا أنساب قبائلهم أشار "الهمداني" إليهم في مواضع من كتابه4. وهم من غير أصحاب السجل. وكان بعض منهم قد قابل بين ما دوّنه عن القبائل وبين ما دوّن في السجل عنها، كما كان أهل السجل يعرضون
__________
1 الإكليل "1/ 13 فما بعدها".
2 إكليل "1/ 199، 227"، الإكليل" 2/ 118.
3 الإكليل "2: 119".
4 الإكليل "2/ 102، 194"، "قال الهمداني: فخبرني محمد بن أحمد القهبي السمسار وكان خبيرًا بالخطيين"، الإكليل "2/ 65".(1/95)
ما دوّنوه عن القبائل على نسّابيها لبيان رأيهم فيها. قال الهمداني "بطون الصدف، عن الصعديين من أصحاب السجل، مقروء على بعض نسّابة الصدف"1.
ونجد في الجزء الثامن من الإكليل مواضع ذكر فيها الهمداني "أبا نصر" أيضًا. وقد راجعتها وراجعت الأماكن التي أشير فيها إليه في الجزء الأول؛ فتبيّن لي أن علم "أبي نصر" بتأريخ اليمن القديم هو على هذا الوجه: إحاطة بأنساب القبائل اليمانية على النحو الذي كان شائعًا ومتعارفًا في أيامه ومسجّلًا في سجلات الأنساب في تلك الأيام، ورواية للأساطير التي راجعت عن التبابعة، وأخذ من موارد توراتيه ظهرت في اليمن من وجود اليهود فيها قبل الإسلام.
أما علمه بالمساند ومدى وقوفه عليها؛ فأنا أعتقد أن علمه بها لا يختلف عن علم غيره من أهل اليمن: وقوف على الحروف، وتمكن من قراءة الكلمات، وإحاطة عامة بالمسند. أما فهم النصوص واستنباط معانيها بوجه صحيح دقيق؛ فأرى أنه لم يكن ذا قدرة في ذلك، وهو عندي في هذا الباب مثل غيره من قرّاء الخط الحميري. ودليلي على ذلك أن القراءات المنسوبة إليه هي قراءات لا يمكن أن تكون قراءات لنصوص جاهلية، وإن تضمنت بعض أسماء يمانية قديمة، لسبب بسيط، هو أن أساليبها ومعانيها ونسقها لا تتفق أبدًا مع الأساليب والمعاني المألوفة في الكتابات الجاهلية، فقراءات أبي نصر وأمثاله قراءات بعيدة جدًّا عن النصوص المعهودة، هي قراءات إسلامية فيها زهد وتصوف وتوحيد وحضٌ على الابتعاد عن الدنيا. أما نصوص المسند التي عثر عليها حتى الآن فإنها نصوص وثنية لا تعرف هذه المعاني، وأسلوبها في الكتابة لا يتفق مع ذلك الأسلوب. وهي في أمور أخرى شخصية أو حكومية لا صلة لها بمثل هذه الآراء والمعتقدات.
وقد أورد "الهمداني" نصًّا قال: إنه قراءة من قراءة "أبي نصر" فيه نسب "عابر"، هذا نصه: "قال أبو نصر: الناس يغلطون في عابر، وهو هود بن أيمن بن حلجم بن بضم بن عوضين بن شدّاد بن عاد بن عوص بن إرم بن عوص بن عابر بن شالخ. وذكر أنه وجد هذا النسب في بعض مساند
__________
1 الإكليل "2/ 16".(1/96)
حمير في صفاح الحجارة"1. وقارئ هذا النص الذي هو مزيج من رواية توراتية ومن إضافة غريبة، يخرج من قراءته برأي واحد هو أن "أبا نصر"، كان لا يتوقف عن نسبة أمور من عنده إلى المساند، فيحلمها ما لا يعقل أن تحمله أبدًا؛ فلو كان النص حميريًا صحيحًا مأخوذًا من التوراة، لكان النسب على نحو ما ورد في التوراة، ولو كان صاحبه وثنيًّا لا يدين بدين سماوي، فإنه لا يعقل أن يخلط فيه هذا الخلط.
ولكنني لا أريد هنا أن أكتفي بتقديم التقدير إلى الهمداني وإلى الباقين من علماء اليمن الذين سبقوه أو جاءوا من بعده والثناء على طريقتهم المذكورة، بل لا بد لي من التحدث عن درجة علم هؤلاء العلماء بالمسند، وبقراءة الكتابات وبعلمهم بمعانيها، أي علمهم بقواعد وأصول اللهجات التي كتبت بها مثل اللهجة المعينية أو السبئية أو القتبانية أو الحضرمية وغيرها من بقية اللهجات، وذلك ليكون كلامنا كلامًا علميًّا صادرًا عن درس ونقد وفهم بعلم أولئك العلماء بتأريخ اليمن القديم.
ولن يكون مثل هذا الحكم ممكنًا إلا بالرُّجوع إلى مؤلفات "الهمداني" وغيره من علماء اليمن لدراستها دراسة نقد عميقة. ومقابلة ما ورد فيها من قراءات للنصوص مع قراءات العلماء المحدثين المتخصصين بالعربيات الجنوبية لتلك النصوص إن كانت أصولها أو صورها موجودة محفوظة، وعنذئذ يمكن الحكم حكمًا علميًا سليمًا على مقدار علم أولئك العلماء بلغات اليمن القديمة وبتأريخها المندرس؛ ولكننا ويا للأسف لا نملك كل أجزاء كتاب "الإكليل" ولا كل مؤلفات الهمداني أو غيره من علماء اليمن؛ فالجزء التاسع من الإكليل مثلا وهو جزء خصص بأمثال حمير وبحكمها باللسان الحميري وبحروف المسند2، هو جزء ما زال مختفيًا؛ فلم نر وجهه، وهو كما يظهر من وصف محتوياته مهم بالنسبة إلينا، وقد يكون دليلًا ومرشدًا لنا في إصدار حكم على علم الهمداني بلغة حمير. ولكن ماذا نصنع
__________
1 الإكليل "1/ 93".
2 للوقوف على الأجزاء الأخرى من كتاب "الإكليل" تراجع مقدمة "نبيه فراس"
Brockelmann, vol. I, s. 229, Ency. Vol. 246
"قال الهمداني: أكثر ما وجد في المساند القبورية بكلام الحميرية، وأنا لما جعلنا الجزء السابع؟ مقصورًا على الكلام بالحميرية" الإكليل "8/ 143" "طبعة الكرملي" وقد أخطأ الكرملي في كلمة "السابع"، والواجب أن يكون الرقم: "التاسع".(1/97)
ونفعل، وقد حرمنا رؤية هذا الجزء، وليس في مقدورنا نشره وبعثه؛ فهل نسكت ونجلس انتظارًا للمستقبل، عسى أن يُبعث إلى عالم الوجود؟
هذا، وقد طُبع الجزء الثامن من الإكليل وكذلك الجزء العاشر منه، فاستفاد منهما المولعون بتأريخ اليمن القديم وبتأريخ بقية أجزاء العربية الجنوبية، وطُبع الجزء الأول من هذا الكتاب حديثًا برواية "محمد بن نشوان بن سعيد الحميري"، وقد ذكر أنه اختصر شيئًا في مواضع الاختلاف وفي النسب مما ليس له شأن في نظره دون أن يؤثر على الكتاب1.
وطُبع الجزء الثاني من الإكليل أيضًا، أخرجه ناشر الجزء الأول: "محمد ابن علي الأكوع الحوالي" من عهد غير بعيد2، وليس لنا الآن إلّا أن نرجو نشر الأجزاء الباقية من هذا الكتاب؛ ليكون في وسعنا الحكم على ما جاء فيه من أخبار عن أهل اليمن الجاهليين.
إن أقصى ما نستطيع في الزمن الحاضر فعله وعمله لتكوين رأي تقريبي تخميني من علم الهمداني وعلم بقية علماء اليمن بلهجات أهل اليمن القديمة وبتأريخهم القديم، هو أن نرجع إلى المتيسر المطبوع من مؤلفاتهم، لدراسته دراسة نقد علمية عميقة؛ لاستخراج هذا الرأي منها. وهو وإن كان أقل من الضائع بكثير؛ ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جُلّه، الموجود خير من المعدوم، وفي استطاعته تقديم هذا الرأي التخميني التقريبي. فلنبحث إذن في هذا المطبوع لنرى ما جاء فيه.
أما بخصوص الخط المسند، فقد ذكر "الهمداني" أن جماعة من العلماء في أيامه كانت تقرأ المسند؛ غير أن أولئك العلماء كانوا يختلفون فيما بينهم في القراءة، وكان سبب ذلك -على رأيه- اختلاف صور الحروف؛ "لأنه ربما كا للحرف أربع صور وخمس، ويكون للذي يقرأ لا يعرف إلا صورة واحدة"3. وقد عرف "الهمداني" أن كتّاب المسند كانوا يفصلون بين كل كلمة وكلمة في السطر بخط قائم، وذكر أنهم كانوا يقرءون كل سطر بخط. غير أنه لم يذكر عدد الحروف. وصرح أنهم "كانوا يطرحون الألف إذا كانت بوسط
__________
1 طبع في مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1963، ونشر برقم 2 من المكتبة اليمنية "15.
2 القاهرة، مطبعة السنة المحمدية، سنة 1966م.
3 الإكليل "8/ 122".(1/98)
الحرف، مثل ألف همدان وألف رئام، فيكتبون رئم وهمدن، ويثبتون ضمة آخر الحرف وواو "عليهمو"1. وهي ملاحظات تدل على إحاطة عامة بالمسند، سوى ما ذكره من أنه ربما كان للحرف أربع صور وخمس، ويظهر أنه وغيره قد توصلوا إلى هذا الرأي من اختلاف أيدي الكتّاب في رسم الحروف ونقرها على الحجر؛ كالذي يحدث عندنا من تباين الخطوط باختلاف خطوط كتبته، فأدى تباين الخط هذا إلى اختلافهم في القراءة، وإلى ذهابهم إلى هذا الرأي، أو أنهم اختلفوا فيها من جراء تشابه بعض الحروف مثل حرف الهاء والحاء؛ فإن هذين الحرفين متشابهان في الشكل، فكلاهما على هيئة كأس يرتكز على رجل، والفرق بينهما، هو في وجود خط عمودي في وسط الكأس هو امتداد لرجل الكأس، وذلك في حرف "الحاء"، أما الهاء، فلا يوجد فيه هذا الخط الذي يقسم باطن الكأس إلى نصفين. ويشبه حرف "الخاء" حرف "الهاء" في رسم رأس الكأس؛ ولكنه يختلف عنه في القاعدة؛ إذ ترتكز هذا الرأس على قاعدة ليست خطًّا مستقيمًا، بل على قاعدة تشبه كرسي الجلوس ذي الظهر. ومثل التشابه بين حرفي الصاد والسين، فكلاهما على هيئة كأس وضعت وضعًا مقلوبا؛ بحيث صارت القاعدة التي ترتكز الكأس عليها إلى أعلى. أما الرأس، وهو باطن الكأس؛ فقد وضع في اتجاه الأرض. ولكن قاعدة "الصاد" هي على هيئة رقم خمسة في عربيتنا، أي على هيئة دائرة أو كرة بينما قاعدة حرف السين هي خط مستقيم، أما باطن كأس حرف "الصاد"؛ ففيه خط يقسمه إلى قسمين وذلك في الغالب، وقد يهمل هذا الخط المقسم، أما حرف السين، فلا يوجد فيه هذا الخط2.
وجاء "نشوان بن سعيد الحميري" بملاحظات عن "المسند" هي الملاحظات
__________
1 الإكليل "8/ 122"، "طبعة نبية"، "8/ 141"، -طبعة الكرملي-، له ملاحظات أخرى في كيفية الكتابة بـ المسند، ذكرها في الجزء العاشر ص16، 17، "والمسند: خط حمير، مخالف لخطنا هذا، كانوا يكتبونه أيام مسكهم فيما بينهم، قال أبو حاتم: هو في أيديهم إلى اليوم باليمن، لسان العرب "4/ 206"، الفهرست ص8، الجزء الأول من مجلة المجمع العلمي العراقي في "جمهرة النسب"، ص345، سنة 1950.
2 للوقوف على أشكال حروف المسند، يستحسن مراجعة جدول الحروف الموضوع في هذا الجزء.(1/99)
التي أوردها "الهمداني" عنه؛ فقال: المسند: خط حمير، وهو موجود كثيرًا في الحجارة والقصور، وهذه صورته على حروف المعجم.. وله صور كثيرة؛ إلا أن هذه الصورة أصحها. وأعلم أنهم يفصلون بين كل كلمتين بصفر؛ لئلا يخلط الكلام. وصورة الصفر عندهم كصورة الألف في العربي1.. وما قلته عن تعدد صور الحرف قبل قليل، ينطبق على ملاحظة "نشوان" أيضًا. ويظهر أن قومًا من أهل اليمن بقوا أمدًا في الإسلام وهم يتوارثون هذا الخط ويكتبون به؛ فقد جاء في بعض الموارد: "والمسند خط حمير، مخالف لخطّنا هذا، كانوا يكتبونه أيام ملكهم فيما بينهم. قال أبو حاتم: هو في أيديهم إلى اليوم باليمن"2؛ إلا أنه لم يتمكن من الوقوف أمام الخط العربي الشمالي الذي دوّن به القرآن الكريم، فغلب على أمره، وتضاءل عدد الكتاب به حتى صار صفرًا.
ومما يؤسف عليه كثيرًا أننا لا نملك النسخ الأصلية التي كتبها أولئك العلماء بخط أيديهم حى نرى رسمهم لحروف المسند. فإن الصور المرسومة في المخطوطات الموجودة وفي النسخ المطبوعة، ليست من خط المؤلفين، بل من خط النساخ، فلا أستبعد وقوع المسخ في صور حروف المسند في أثناء النقل، ولا سيما إذا تعددت أيدي النساخ بنسخ أحدهم عن ناسخ آخر. وهكذا. فليس للنساخ علم بالمسند، ولذا لا أستبعد وقوعهم في الخطأ. ومن هنا فإن من غير الممكن إصدار رأي في مقدار إتقان الهمداني وبقية العلماء لرسم حروف الخط المسند.
وقد أشار "الدكتور كرنور" إلى هذه الحقيقة؛ إذ ذكر أن صور الحروف الحميرية في "الإكليل" تختلف باختلاف النسخ اختلافًا كبيرًا؛ فقد صوّر كل ناسخ تلك الحروف على رغبته وعلى قدرته على محاكاة النقوش، ومن هنا تباينت وتعددت؛ فأضاعت علينا الصور الأصلية التي رسمها الهمداني لتلك الحروف3.
أما رأينا في علم علماء اليمن بفهم المسند، فيمكن تكوينه بدراسة النصوص الواردة في مؤلفاتهم وبدراسة معرباتها ومقابلتها بالنصوص الأصلية المنقورة على الحجارة إن كانت تلك النصوص الأصلية لا تزال موجودة باقية، أو بمراجعة
__________
1 منتخبات "ص52".
2 لسان العرب "4/ 206".
3 الإكليل "8/ 328" "طبعة الكرملي".(1/100)
النصوص المدونة ومقابلتها بمعرباتها لنرى درجة قرب التعريب أو بعده من الأصل. وعندئذ نستطيع إبداء حكم على مقدار فهم القوم لكتابات المسند. أما في حالة اكتفاء المؤلف بإيراد التعريب فقط أي معنى النص لا متنه، فليس أمامنا من سبيل غير وجوب مراجعة المعربات ودراستها من جميع الوجوه؛ لنرى مقدار انطباق أساليبها على الأساليب المألوفة في كتابات المسند، وعندئذ نتمكن من تكوين رأي في هذا الذي ورد في المؤلفات على أنه ترجمات، ونتمكن بذلك من الحكم بمقدار قرب تلك الترجمات والقراءات من المسند أو بعدها منه.
وخلاصة ما توصلت إليه من دراستي الإجمالية للأجزاء المطبوعة من مؤلفات "الهمداني" أن الهمداني، وإن كان يحسن قراءة حروف المسند، ويعرف القواعد المتعلقة بالخط الحميري؛ إلا أنه لم يكن ملمًّا بألسنة المسند. ولم يتمكن من ترجمة النصوص التي نقلها ترجمة صحيحة، ولم يعرف على ما يتبين منها كذلك ما كان قد ورد فيها وما قصد منها، فجعل "تالبًا"، وهو اسم إله من آلهة اليمن المشهورة، ومعبود قبيلة "همدان" الرئيس، اسم رجل من رجال الأسرة المالكة لهمدان. وجعل "رياما"، وهو اسم مكان من الأمكنة المشهورة، وكان به معبد معروف للإله "تالب"، ابنًا من أبناء "نهافان"، ومن أبناء "تالب". ولم يبخل الهمداني عليه؛ فوهب له أمًّا قال لها: "ترعة بنت بازل بن شرحبيل بن سار بن أبي شرح يحضب بن الصوار"1.
وأورد "الهمداني" نصًّا ذكر أن "أحمد بن أبي الأغر الشهابي"، وحده بـ "ناعط"، فقرأه، فإذا هو: "علهان ونهفان ابنا بتع بن همدان، لهم الملك قديمًا كان"2. وقد عدّ "علهان نهفان" رجلين هما "علهان" و"نهفان"، مع أن "علهان نهفان"، هو رجل واحد، وهو ملك من ملوك سبأ وسيأتي ذكره. وقد كان والده "يريم أيمن بن أوسلت رفشان" من قبيلة "همدان". وكلمة "نهفان" لقب له. أما اسمه فهو "علهان". وكان له شقيق اسمه "برج يهركب"، كما ورد ذلك في كتابة عثر عليها في "ريام"3؛ فلم يكن
__________
1الإكليل "10/ 17، 18".
2 الإكليل "10/ 16".
3 المختصر في علم اللغة الجنوبية، تأليف "أغناطيوس غويدي" من نشريات الجامعة المصرية، القاهرة سنة 1930، ص21، راجع النص الموسوم ب: C.I.H. 315(1/101)
والده إذن رجلًا اسمه "بتع بن همدان" كما جاء في القراءة.
وأما "بتع"، فقبيلة من قبائل همدان، وأما جملة: "لهم الملك قديمًا كان"؛ فهي لا ريب من قول الشهابي، وليست بعبارة حميرية، وليس التعبير -وإن فرضنا أنها ترجمة للأصل- من التعابير المستعملة في الحميرية، التي ترد في الكتابات. ولما كنا لا نعرف المتن الأصلي للنص، يصعب علينا الحكم عليه أكان قريبًا من هذا المعنى أو كان شيئًا آخر، عرف منه الشهابي بضع كلمات ثم فسره بهذا التفسير.
ويظهر على كل حال أن قراء المسند "وقد قلت إنهم كانوا يحسنون في أيام الهمداني قراءة حروف المسند" لم يكونوا على اطلاع بقواعد الحميرية، ولا باللسان الحميري، أو الألسنة العربية الجنوبية الأخرى. خذ مثلًا على ذلك: "بن" وهي حرف جر عند العرب الجنوبيين، وتعني "من" و "عن" بلغتنا قد أوقعتهم هذه الكلمة في مشكلات خطيرة. فقد تصوّر القوم عند قراءتهم لها، أنها تعني أبدًا "ابنًا" على نحو ما يُفهم من هذه الكلمة في لغتنا. وفسروها بهذا التفسير. ففسروا "بن بتع" أو "بن همدان" وما شابه ذلك" ابن بتع" أو "ابن همدان"، والمقصورد من الجملتين هو "من بتع" و "من همدان"؛ وبذلك تغيّر المعنى تمامًا، ومن هنا وقع القوم -على ما أعتقد- في أغلاط حين حسبوا أسماء القبائل وأسماء الأماكن الورادة قبل "بن" وبعده، أسماء أشخاص وأعيان، وأدخلوها في مشجرات الأنساب. فاقتصار علمهم على الأبجدية وجهلهم باللغة، أوقعهم في مشكلات كثيرة، وسبب ظهور هذا الخلط1.
وجاء الهمداني بنصوص أُخر ذكر أنها كانت مكتوبة بالحميرية، مثل النص الذي زعم أن مسلمة بن يوسف بن مسلمة الخيواني قرأه على حجر في مسجد خيوان، وهذا نصه: "شرح ما، وأخوه ما، وبنوه ما، قيول شهران بنو هجر، هم معتة بدار القلعة"2. وأمثال ذلك من النصوص. ولا أعتقد أنك ستقول: إن هذا نصّ حميري، ولا يسع امرأً له إلمام بالحميرية أن يوافق على وجود مثل هذه العائلة عائلة ما، أو يسلم بأن هذه قراءة صحيحة لنص
__________
1 Ditlef Nielsen, Der Sabaische Gott Ilmukah, Leipzig, 2.
2 الإكليل "10/ 19".(1/102)
حميري؛ بل لا بد من وجود أخطاء في القراءة وفي التفسير. ولا أريد أن أتجاوز على رجل مشى إلى ربه، فلعلّه كان يحسن قراءة بعض الحروف والكلمات، ويتصور أنه أحسن قراءة النص كله وفهمه؛ فجاء بهذه العبارة. وعلى كلٍ، إن كل الذي جاء في النصوص التي وقفت عليها في كتب الهمداني لا يمكن أن يعطي غير هذا الانطباع، ولعلّنا سنغير رأينا في المستقبل إذا تهيأت لنا نصوص من شأنها أن تغيره.
ويأتي "الهمداني" أحيانًا بأبيات شعر زاعمًا أنها من المسند؛ ففي أثناء كلامه مثلًا على قصر "شحرار" قال: "وفي بعض مساند هذا البنيان بحرف المسند"
شحرار قصر العلا المنيف ... أسسه تبع ينوف
يسكنه القيل ذي معاهر ... تخر قدّامه الأُنوف"1
أما نحن، فلم نعثر حتى اليوم على أية كتابة بالمسند ورد فيها شعر، لا بيت واحد ولا أكثر من بيت. وأما متن البيتين المذكورين، فليس حميريًّا ولا سبئيًّا ولا معينيًّا وليس هو بأية لهجة يمانية أخرى قديمة؛ وإنما هو بعربيتنا هذه، أي بالعربية التي نزل بها القرآن الكريم، نظمه من نظمه من المحدثين بهذه اللغة البعيدة عن لغات أهل اليمن.
أما الباب الذي عقده في الجزء الثامن بعنوان: "باب القبوريات"، فقد استمد مادته من روايات وأخبار "هشام بن محمد السائب الكلبي"2، و "ابن لهيعة"3 و "موهبة بن الدعام" من همدان4 و "أبي نصر"5 و "وهب بن منبه"6 و "كعب الأحبار" و "عبد الله بن سلام"7. وقد
__________
1 الإكليل "8/ 66" "طبعة الكرملي".
2 الإكليل "8/ 144، 147، 154 فما بعدها، 177، 196 ومواضع أخرى" "طبع الكرملي".
3 الإكليل "8/ 145، 195".
4 الإكليل "8/ 146".
5 الإكليل "8/ 173".
6 الإكليل "8/ 180" "وقد ذكر القصة كاملة وهب بن منبه في تيجان الملوك"، الإكليل" 8/ 186".
7 الإكليل "8/ 309" "طبعة الكرملي".(1/103)
أورد فيه نصوصًا زعم أنها ترجمات لنصوص المسند، عثر عليها في القبور عند الأجداث. وأورد بعضها شعرًا، زعم أنه مما وجد في تلك القبور، كالذي ذكره عند حديثه عن قبر "مرشد بن شدّاد1، وعن قبرين جاهليين عُثر عليهما ب"الجند" وقد نصّ على أن الشعر المذكور كان مكتوبًا بالمسند وقد دوّنه2. وهو وكل الأشعار الأخرى ومنها المرائي منظوم بعربية القرآن، وأما النثر، فإنه بهذه العربية أيضًا، وهو في الزهد والموعظة والندم والحث على ترك الدنيا؛ فكأن أصحاب القبور، من الوعاظ المتصوفين الزهاد، ماتوا ليعظوا الأحياء من خلال القبور، ولم يكونوا من الجاهليين من عبدة الأصنام والأوثان.
وهو قسم بارد سخيف، يدل على ضعف أحلام رواته، وعلى ضعف ملكة النقد عند "الهمداني" وعلى نزوله إلى مستوى القصاص والسمّار والأخباريين الذين يروون الأخبار ويثبتونها وإن كانت مخالفة للعقل؛ إذ أنه لا يختلف عنهم هنا بأي شيء كان.
ومجمل رأيي في "الهمداني" أنه قد أفادنا ولا شك بوصفة للعاديات التي رآها بنصه على ذكر أسمائها، وأفادنا أيضًا في إيراده ألفاظًا يمانية كانت مستعملة في أيامه استعمال الجاهليين لها: وقد وردت في نصوص المسند، فترجمها علماء العربيات الجنوبية ترجمة غير صحيحة؛ فمن الممكن تصحيحها الآن على ضوء استعمالها في مؤلفات الهمداني وفي مؤلفات غيره من علماء اليمن. أما من حيث علمه بتأريخ اليمن القديم؛ فإنه وإن عرف بعض الأسماء إلّا أنه خلط فيها في الغالب، فجعل اسم الرجل الواحد اسمين، وصير الأماكن آباءً وأجدادًا، وجعل أسماء القبائل أسماء رجال، ثم هو لا يختلف عن غيره في جهله بتأريخ اليمن القديم؛ فملأ الفراغ بإيراده الأساطير والخرافات والمبالغات، وأما علمه بالمسند فقد ذكرت أنه ربما قرأ الكلمات، ولكنه لم يكن يفقه المعاني، ولم يكن ملمًّا بقواعد اللهجات اليمانية القديمة، وقد حاولت العثور على ترجمة واحدة تشير إلى أنها ترجمة صحيحة لنصٍّ من نصوص المسند؛ فلم أتمكن من ذلك ويا للأسف.
__________
1 الإكليل "8/ 175" "طبعة الكرملي".
2 الإكليل "8/ 178".(1/104)
وعلم "الهمداني" بجغرافية اليمن والعربية الجنوبية، يفوق كثيرًا علمه بتأريخ هذه الأرضين القديم؛ فقد خبّر أكثرها بنفسه وسافر فيها، فاكتسب علمه بالتجربة. أما علمه بجغرافية الأقسام الشمالية من جزيرة العرب، فإنه دوّن هذا العلم1.
وأفادت "القصيدة الحميرية"، لصاحبها "نشوان بن سعيد الحميري" فائدة لا بأس بها في تدوين تأريخ اليمن2. ولهذا المؤلف معجم سمّاه "شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم"3، ضمنه ألفاظًا خاصة بعرب الجنوب4. وينطبق ما قلته في الهمداني على نشوان أيضًا. فإذا قرأت كتبه، تشعر أنه لم يكن يفهم النصوص الحميرية ولا غيرها، وإن كان يحسن قراءة المسند. وما ذكره في كتابه "شمس العلوم" -وإن دل على حرص على جمع المعلومات، وعلى تتبع يحمد عليه للبحث عن تأريخ اليمن ولغاتها القديمة- يدل على أنه لم يكن يفهم نصوص المسند، وليس له علم بتأريخها وبتواريخ أصحابها، وأنه لا يمتاز بشيء عن الهمداني أو سائر علماء اليمن الذين كانوا يدعون العلم بأخبار الماضيين، وأكثر الذي ذكره في كتابه على أنه من اللهجات الحميرية والعربية الجنوبية هو من مفردات معجمات اللغة، ومن لهجات العربية الفصحى؛ خلا ذلك الذي كان يستعمله أهل اليمن، وهو قليل إذا قيس إلى سواه، وقد فسر معانيه على نحو ما كان يقصده الناس في أيامه. ومع هذا، فهذا النوع من الكلمات هو الذي نطمع فيه؛ لأنه من بقايا اللهجات البائدة، ويفيدنا فائدة عظيمة في فهم معاني النصوص وفي قراءتها وشرحها وتفسيرها، ولعلّه لم يكثر منها؛ لأنها كانت من كلام العوام فأشفق على نفسه من البحث في لغة العوام.
__________
1 Moritz, S., 20
2 تجد ترجمته في: إرشاد الأريب "7/ 206"، بغيه الوعاة "ص430"،
W. F. Prideuaux, The Lay of the Himyarites, Sehore, 1879,
Von Kremer, Die Himjarische Qaside, Leipzig, 1865
Brockelmann, I, S., 301, Suppl., I, 527, f., R, Basset,
La Qaaidah Himyarite De N.B.S., Alger, 1914
3 الإكليل"8/ ث وقيل: "شمس العلوم وشفاء كلام العرب من الكلوم" نشر منتخبات منه عظيم الدين أحمد في سلسلة تذكار "كب" ليدن، 1916، "ومنتخبات في أخبار اليمن من كتاب شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم"، وسأشير إليه بـ: منتخبات.
4 راجع منة مادة هجر منتخبات ص108.(1/105)
ولم يزد "نشوان" في شروحه لأسماء الأعيان والأجذام والقبائل والعمائر والأمكنة على ما أورده الهمداني أو سائر علماء التأريخ وأهل الأنساب، فعدّ أسماء القبائل مثل همدان، أسماء أشخاص لهم أنساب وأولاد وأقرباء، وأخطأ في الأغلاط نفسها التي وقع فيها الهمداني؛ فذكر جملًا مسجوعة على أنها من وصايا التبابعة، وعبارات متكلفة على أنها قراءات لنصوص حميرية مكتوبة بالمسند1.
ومحمد بن نشوان بن سعيد الحميري نفسه هو ممن اعتمد على علم الهمداني، كما نصّ على ذلك في فاتحة الجزء الأول من الإكليل. فهذا الجزء الذي طبع حديثًا هو برواية محمد بن نشوان، رواه لمن سأله أن يوضح شيئًا من أنساب حمير وأخبارها وما حفظ من سيرها وآثارها، فما كان منه إلا أن أخذ الإكليل فكتب له، لم يغير فيه سوى ما قاله: "غير أني اختصرت شيئًا ذكره في النسب، ليس هو من جملته بمحتسب. بل هو مما ذكره من الاختلاف في التأريخ ونحوه، من غير أن أنسب الكدر إلى صفوه"2. وفي مقدمته لهذا الجزء ثناء عاطر على الهمداني، وتقدير كبير لعلمه في أخبار اليمن.
هذا هو كل ما أريد أن أقوله هنا عن مصادر التأريخ الجاهلي، وهو قليل من كثير، ولكن التوسع في هذا الموضوع يخرجنا حتمًا عن حدود بحثنا المرسوم، ويخرجنا إلى التحدث في شيء آخر لا علاقة له بالجاهلية، وإنما يعود إلى البحث في التأريخ، وفي نقده ودروبه عند المؤرخين. على أني أراني قد توسعت مع ذلك في هذا الباب، وذلك للحاجة التي رأيتها في ضرورة توضيح بعض الأمور الخاصة بتلك الموارد.
__________
1 منتخبات ص 60، 75 ومواضع أخرى.
2 الإكليل "1/ 5".(1/106)
الفصل الثالث: إهمال التأريخ الجاهلي وإعادة تدوينه
مدخل
...
الفصل الثالث: إهمال التأريخ الجاهلي وإعادة تدوينه
من الأمور التي تثير الأسف، تهاون المؤرخين في تدوين التأريخ الجاهلي، ولا سيما القسم القديم منه، الذي يبعد عن الإسلام قرنًا فأكثر، فإن هذا القسم منه ضعيف هزيل، لا يصح أن نسميه تأريخًا، بعيد في طبعه وفي مادته عن طبع التواريخ ومادتها.
لقد وفق المؤرخون العرب في كتابة تأريخ الإسلام توفيقًا كبيرًا، من حيث العناية بجمع الروايات والأخبار واستقصائها، وفي رغبتهم في التمحيص. أما التأريخ الجاهلي، فلم يظهروا مقدرة في تدوينه، بل قصروا فيه تقصيرًا ظاهرًا. فاقتصر علمهم فيه على الأمور القريبة من الإسلام، على أنهم حتى في هذه الحقبة لم يجيدوا فيها إجادة كافية، ولم يُظهروا فيها براعة ومهارة، ولم يطرقوا كل الأبواب أو الموضوعات التي تخص الجاهلية. فتركوا لنا فجوات وثُغرًا لم نتمكن من سدّها وردمها حتى الآن ولا سيما في تأريخ جزيرة العرب؛ حيث نجد فراغًا واسعًا، وهو أمر يدعو إلى التساؤل عن الأسباب التي دعت إلى حدوثه: هل كان الإسلام قد تعمّد طمس أخبار الجاهلية؟ أو أن العرب عند ظهور الإسلام لم تكن لديهم كتب مدوّنة في تأريخهم ولا علم بأحوال أسلافهم، وكانت الأسباب قد تقطعت بينهم وبين من تقدمهم؛ فلم يكن لديهم ما يقولونه عن ماضيهم غير هذا الذي وعوه فتحدثوا به إلى الإسلاميين، فوجد سبيله إلى الكتب؟ أو أن العرب لم يكونوا يميلون إلى تدوين تواريخهم؛ فلم يكونوا مثل(1/107)
الروم أو الفرس يجمعون أخبارهم وأخبار من تقدم منهم وسلف؛ فلما كان الإسلام، وجاء زمن التدوين، لم يجد أهل الأخبار أمامهم شيئًا غير هذا الذي رووه وذكروه، وكان من بقايا ما ترسب في ذاكرة المعمرين من أخبار.
لقد عزا بعض الباحثين هذا التقصير إلى الإسلام، فزعم أن رغبة الإسلام كانت قد اتجهت إلى استئصال كل ما يمت إلى أيام الوثنية في الجزيرة العربية بصلة، مستدلًا بحديث: "الإسلام يهدم ما قبله"1؛ فدعا ذلك إلى تثبيط همم العلماء عن متابعة الدراسات المتصلة بالجاهلية، وإلى محو آثار كل شيء يتفرع عن النظام القديم، لم يميزوا بين ما يتعلق منه الوثنية والأنصاب والأصنام، وبين ما يتعلق بالحالة العامة كالثقافة والأدب والتأريخ، فعلوا ذلك كما فعل النصارى في أوروبة في أوائل القرن السادس للميلاد؛ فكان من نتائجه ذهاب أخبار الجاهلية، ونسيانها، وابتدأ التأريخ لدى المسلمين بعام الفيل2. ولهذا "كان المؤرخون أو الأخباريون، الذين يترتب عليهم تدوين أخبار الماضي وحفظ مفاخره، من الذين ينظر إليهم شزرًا في المجتمع الإسلامي، وخاصة في العهد الإسلامي الأول. أما مؤرخو العرب العظام، فلم ينبغوا إلا بعد تلك الفترة، وحتى هؤلاء فإنهم صرفوا عنايتهم إلى التأريخ الإسلامي، ولم يدققوا فيما يخص الجاهلية، وبالإضافة إلى ما سبق، أصبح لكلمة مؤرخ "أخباري" معنى سيِّئ بل أصبحت صفة تفيد نوعًا من الازدراء. وقد ألصقت هذه الصفة بابن الكلبي، كما ألصقت بكل عالم تجرأ على البحث في تأريخ العرب قبل عام الفيل؛ لكن لم يهاجم أحد من المؤرخين بعنف كما هوجم ابن الكلبي. والراجح أن السبب في ذلك هو انصرافه لدراسة الأشياء التي قرر الإسلام طمسها، أعني بذلك الديانات والطقوس الوثنية في بلاد العرب"3.
__________
1 مجلة الأبحاث "ص189"، السنة ال3، الجزء ال2، حزيران 1950، الإكليل: مقدمة نبيه أمين فارس ص "ب"، دراسات عن المؤرخين العرب، تعريب الدكتور حسين نصار، تأليف "مارغليوث" "ص53 وما بعدها".
2 مقدمة نبيه أمين فارس للجزء الثامن من الإكليل"ص ب"، قال: "وقد يكون للحديث المنسوب إلى النبي أثر في ذلك؛ فقد جاء في الحديث أن "الإسلام يهدم ما قبله"، ولا بد أن عنى النبي في قوله هذا الديانات الوثنية الشائعة في الجزيرة قبيل ظهوره من عبادة الأصنام والأنصاب وغيرها. أما اتباعه، قد فدفعتهم غيرتهم على تثبيت دعائم الدين الحنيف إلى عدم التمييز بين الغث والسمين، فكادوا يقضون على جميع معالم الثقافة والأدب ... إلخ".
3 الأبحاث، الجزء المذكور "ص189".(1/108)
ثم سبب آخر، هو أن الإسلام ثورة على مجتمع قائم ثابت، وعلى مثل تمسك بها أهل الجاهلية، وعلى قوم كانوا قد تسطلوا وتحكموا وتجبروا بحكم العرف والعادات، وككل ثورة تقع وكما يقع حتى الآن، وسم الإسلام الجاهلية، بكل منقصة ومثلبة، وحاول طمس كل أثر لها وكل ما كان فيها، حتى ظهرت تلك الأيام على الصورة التي انتهت إلينا عن "الجاهلية" وكأن الناس فيها جهلة لم يكن عندهم شيء من علم في هذه الحياة يومئذ، وكأن عهدهم في هذا العالم لم يبدأ إلا ببدء الإسلام.
وجاءوا بدليل آخر في إثبات أن الإسلام كان له دخل في طمس معالم تأريخ الجاهلية؛ إذ ذكروا أن الخليفة "عمر" سأل بعض الناس "أن يرووا بعض التجارب الجاهلية، أو ينشدوا بعض الأشعار الجاهلية؛ فكان جوابهم: لقد جب الله ذلك بالإسلام، فلِمَ الرجوع"1. فوجدوا في امتناعهم عن رواية الشعر الجاهلي أو أخبار الجاهلية، دلالة على كره الإسلام لرواية تأريخ الجاهلية وانتهاء ذلك إلى طمس معالم ذلك التأريخ.
أما حديث "الإسلام يهدم ما قبله"؛ فهو حديث لا علاقة له البتة بتأريخ الجاهلية ولا بهدم الجاهلية، وقد استل من حديث طويل ورد في صحيح مسلم في "باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج"، وبعد "باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية"، وقد ورد جوابًا عن أسئلة الصحابة عن أعمال منافية للإسلام ارتكبوها في الجاهلية، هل يغفرها الله لهم، أو تكتب عليهم سيئات يحاسبون عليها؟ فقالوا: "يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ "2. وقد ورد في صحيح مسلم بعد هذا الباب باب آخر بهذا المعنى، هو "باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده".
ولإعطاء رأي صحيح عن هذا الحديث، أنقل إلى القارئ نصه كما جاء في صحيح مسلم قال: "حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت يبكي طويلًا، وحول
__________
1 دراسات عن المؤرخين العرب "ص53". وقد اقتطعت نصّ هذا الدليل من الترجمة العربية لكتاب المستشرق "مرغليوث"، المسمّى: دراسات عن المؤرخين العرب، لعدم وجود النص الإنكليزي لدي، فأنا أرويه على مسئولية المعرب وإن كنت أرى أن في الترجمة وهما.
2 صحيح مسلم "1/ 77".(1/109)
وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشّرك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إني قد كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضًا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، مني، ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال لكنت من أهل النار؛ فلما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقلت: أبسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه. قال: فقبضت يدي، قال مالك يا عمرو؟ قال: قلت أردت أن أشترط. قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي. قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له. ولو مت على تلك الحال؛ لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري من حالي فيها، فإذا أنا متّ، فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني، فشنوا عليّ التراب شنًّا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي1.
وبعد فأيّة علاقة إذن بين هذا الحديث وبين الحث على تهديم الجاهلية وإهمال التأريخ الجاهلي يا ترى؟
وأما اتخاذهم نهي بعض الصحابة عن رواية الشعر الجاهلي أو أخبار الأيام دليلًا على كره الإسلام لإحياء ذكرى الجاهلية ومحاولته طمس معالمها وتأريخها، وحكمهم من ثم عليه بمساهمته في طمس تأريخ الجاهلية وإطفائه له؛ فإنه دليل بارد ليس في محله، فإن الذين نهوا عن رواية الشعرالجاهلي أو رواية الأيام، أو امتنعوا هم أنفسهم عن روايتهما، لم ينهوا ولم يمتنعوا عن روايتهما مطلقًا، أي عن رواية جميع أنواع الشعر الجاهلي أو أخبار كل الأيام التي وقعت في الجاهلية، بل نهوا أو امتنعوا عن رواية بعض أبواب الشعر، وبعض أخبار تلك الأيام، لما كان يحدثه هذا النوع من الشعر أو يوقعه هذا الباب من رواية
__________
1 صحيح مسلم "1/ 78".(1/110)
الأخبار من شرّ في النفوس ومن فتن قد تجدد تلك العصبيات الخبيثة التي حاربها الإسلام، لتمزيقها الشمل، وتفريقها الصفوف. "ومن ثم نهى الفاروق، رضي الله عنه، الناس بديأ أن ينشدوا شيئًا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش وقال: في ذلك شتم الحي بالميت، وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام، ومرّ عمر بحسان يومًا، وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله، فأخذ بأُذنه، وقال: أرغاء كرغاء البعير؟ فقال حسان: دعنا عنك يا عمر؛ فوالله لتعلم أني كنت أنشد في هذا المسجد مَنْ خير منك، فقال عمر: صدقت، وانطلق"1. ولم يأخذ عمر على حسّان رواية ذلك الشعر في مسجد رسول الله إلا لأنه كان من ذلك الشعر المثير للنفوس المهيج للعواطف، وإنشاده في نظره يعيد الناس إلى ما كانوا عليه من قتال قبل الإسلام. فللمصلحة العامة نهى بعض الصحابة عنه. ومع ذلك، تساهل عمر مع حسان، وتركه ينشد شعره، بعد أن حاجَّه حسان بما رأيت.
وهناك رواية أخرى تشرح لنا الأسباب التي حملت عمر على النهي عن رواية بعض الشعر الجاهلي، وهي أنه "قدم المدينة، في خلافة الفاروق، عبد الله بن الزبعرى وضرار بن الخطاب -وكانا شاعري قريش في الشرك- فنزلا على أبي أحمد بن جحش، وقالا له: نحبّ أن ترسل إلى حسان بن ثابت حتى يأتيك فتنشده وينشدنا مما قلنا له وقال لنا؛ فأرسل إليه، فجاءه. فقال له: يا أبا الوليد: هذان أخواك ابن الزبعرى وضرار قد جاءا أن يسمعاك وتسمعهما ما قالوا لك وقلت لهما. فقال ابن الزبعرى وضرار: نعم يا أبا الوليد، إن شعرك كان يحتمل في الإسلام ولا يحتمل شعرنا، وقد أحببنا أن نسمعك وتسمعنا. فقال حسان: أفتبدآن، أم أبدأ؟ قالا: نبدأ نحن، قال: ابتدئا. فأنشداه حتى فار فصار كالمرجل غضبًا، ثم استويا على راحلتيهما يريدان مكة، فخرج حسان حتى دخل على عمر، فقص عليه قصتهما وقصته. فقال له عمر: لن يذهبا عنك بشيء إن شاء الله، وأرسل من يردّهما، وقال له عمر: لو لم تدركهما إلا بمكة، فارددهما عليّ ... فلما كان بالروحاء، قال ضرار لصاحبه:
__________
1 شرح ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، لعبد الرحمن البرقوقي، القاهرة 1929 "ص. س. م"(1/111)
يا ابن الزبعرى، أنا أعرف عمر وذبّه عن الإسلام وأهله، وأعرف حسان وقلة صبره على ما فعلنا به، وكأني به قد جاء وشكا إليه ما فعلنا؛ فأرسل في آثارنا، وقال لرسوله: إن لم تلحقهما إلا بمكة، فارددهما عليّ.. فأربح بنا ترك العناء، وأقم بنا مكاننا، فإن كان الذي ظننت فالرجوع من الروحاء أسهل منه من أبعد منها. وإن أخطأ ظني؛ فذلك الذي نحب. فقال ابن الزبعري: نعم ما رأيت. فأقاما بالروحاء، فما كان إلا كمرّ الطائر حتى وافاهما رسول عمر، فردّهما إليه. فدعا لهما بحسان وعمر في جماعة من أصحاب رسول الله. فقال لحسان: أنشدهما مما قلت لهما فأنشدهما، حتى فرغ مما قال لهما، فوقف. فقال له عمر: أفرغت؟ قال: نعم. فقال له: أنشداك في الخلا، وأنشدتهما في الملأ.. وقال لهما عمر: إن شئتما فأقيما، وإن شئتما فانصرفا. وقال لمن حضره: إني كنت نهيتكم أن تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئا، دفاعًا للتضاغن عنكم وبث القبيح فيما بينكم؛ فأما إذ أبوا، فأكتبوه، واحتفظوا به. قال الراوي: فدونوا ذلك عندهم. قال: ولقد أدركته والله وإن الأنصار لتجدده عندها إذا خافت بلاده.."1.
بل كان الرسول كما رأينا في خبر "حسان"، وكما ذكر في أخبار أخرى يجلس وأصحابه يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أشياء من أمور الجاهلية، وهو يسمع ويساهم معهم في الحديث، وينشدهم شيئًا مما حفظه2. ولم ينهَ عن رواية شعرٍ ما إلا ما كان فيه فحش، أو إساءة أو إثارة فتنة. أما ما شابه ذلك، لما كان يحدثه ذلك الشعر من أثر سيِّئ في النفوس. لقد تمثل بشعر "أميّة بن أبي الصّلت" مع أنه كان من خصومه اللدّ"، وسمع الناس ينشدون شعره، ولم يكره منه إلا ما كان منه في تحريض قريش بعد وقعة "بدر" على المسلمين ورثائه من قتل منهم3.
وقد كان "أبو بكر"، وهو الخليفة الأول، من خفظة الشعر الجاهلي
__________
1 شرح ديوان حسان "ص. س. م".
2 ابن سعد، الطبقات "1/ 2 ص95 وما بعدها"، الأغاني "3/ 7، 117" "4/ 129"، "8/ 243" الأمالي "1/ 241"، المرزباني "203"، الفائق للزمخشري "3/ 52"، ابن سعد، "5/ 376".
3 الأغاني "4/ 122 ما بعدها"، الفائق "1/ 664".(1/112)
الرّاوين له، المتشهدين به1. وكان "عمر" من العالمين بذلك الشعر الحافظين له البصيرين به2. وكذلك كان شأن كثير من الصحابة. لم يذكر أحد أنهم تحرجوا من روايته وإنشاده، وأنهم تهيبوا منه؛ إلا ما ذكرته من إحجامهم عن رواية بعض منه، وهو قليل جدًّا، لأسباب ذكرتها، وقد رووه مع ذلك ودوّنوه.
لقد حرم الإسلام أشياء من الجاهلية وأقرّ أشياء أخرى نصّ عليها في الكتاب والسنة3، ولم يرد أنه حرم أقلام الجاهلية أو الشعر الجاهلي أو النثر الجاهلي أو أي أدب أو علم جاهلي، ولم يصل إلى علمنا أنه أمر بهدم المباني الجاهلية وطمس معالمها، حتى محجات الأصنام بقيت على حالها، خلا الأصنام والأوثان وما يتعلق بها من أمور مما كان من صميم الوثنية أو كانت له علاقة بإعادتها إلى الذهن مثل التصوير. ولم نسمع أنه أمر بإتلاف كتابات الجاهلية، أو أنه نهى عن قراءتها والاستفادة منها، أو أنه منع استعمال اللهجات الأخرى، التي كان يستعملها الجاهليون، أو أن علماء الإسلام منعوا رواية أخبار الجاهلية، بل الذي نسمعه ونراه أن "ابن عباس" كان يستشهد بالشعر الجاهلي في تفسير القرآن، وبقية الصحابة يروونه ويحفظونه، وأن خلفاء بني أمية كانوا يدفعون الهدايا والجوائز لمن يروي لهم الشعر الجاهلي، ونرى أنهم كانوا يقضون لياليهم برواية أخبار الجاهلية وحالتهم فيها، وما وقع لهم في تلك الأيام من نادر وطريف، وقد سجل ما بقي منه في الذهن في كتب الأخبار والأدب، يوم شرع الناس في التدوين.
وأما أنهم كانوا ينظرون إلى "الأخباري" نطرة سيئة، فيها شيء من ازدراء وعدم التقدير، فما كان ذلك لروايته أخبار الجاهلية واشتغاله بجمع تأريخها والتحدث عنها، وما كانوا يريدون بلفظة "أخباري" راوي أخبار الجاهلية وحدها في أي يوم من أيام التأريخ الإسلامي؛ وإنما كان ذلك لإغراب الأخباريين في رواية الأخبار ومبالغتهم فيها مبالغة تجافي العقل، وسردهم الإسرائيليات والنصرانيات والشعبيات وغير ذلك من القصص المدونة في الكتب، وكذب بعضهم كذبًا يخالف
__________
1 ابن سعد "6/ 57"، أبو بكر الصولي، أدب الكتاب "ص190".
2 الأغاني "8/ 199"، خزانة الأدب: للبغدادي "2/ 292"، العقد الفريد "6/ 93" وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 239 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 93".
3 المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي "1/ 393".(1/113)
أبسط قواعد المنطق، وما رُمي "ابن الكلبي" بالكذب أو نظر إليه نظرة ازدراء لكونه من رواة أخبار الجاهلية؛ بل وثق في هذه الناحية وأخذ عنه دون ردّ أو اعتراض، كما يتبين ذلك من اعتماد العلماء عليه في هذا الباب وإشارتهم إليه؛ وإنما ضعف في أمور أخرى هي أمور إسلامية لا علاقة لها بالجاهلية ولا صلة لها بها البتة، مدوّنة في كتب التفسير والحديث.
ولو كان الإسلام قد حثّ على طمس أخبار الجاهلية أو إطفاء ذكر الأصنام والأوثان، لما كان في وسع "ابن الكلبي" ولا غيره التحدث عنها والإشارة إليها، ولما أخذ العلماء عنه ورووا كتبه وتوارثوا كتاب "الأصنام"، بل القرآن نفسه حجّة في ردّ هذا الزعم؛ ففيه ذكر لرءوس أصنام العرب، وفيه مفصل حياة أهل الجاهلية ومثلهم ما كانوا يقومون به، ولو شرًّا وباطلًا، وروت كتب التفسير وكتب الحديث والسير والأخبار أوصاف بعض أصنام العرب وهيأتها وشكل محجاتها وأوقات الحج، كما ذكرت ما أقر الإسلام من أمور كانت قائمة في الجاهلية وما حرم منها، ولو كان الإسلام قد تعمد طمس الجاهلية والقضاء على معالمها؛ لتحرج القرآن وتحرج المسلمون من الإشارة إليها ومن إحياء أسمائها وبعثها في ذاكرة الناشئين في الإسلام.
وقد تحدث "ابن النديم" في كتابه "الفهرست"، في المقالة الثالثة التي خصصها "في أخبار الأخباريين والنسّابين وأصحاب الأحداث"، عن "ابن الكلبي" وعن أبيه، كما تحدث عن غيره من مشاهير العلماء من أمثال "عوانة ابن الحكم" و "ابن إسحاق" صاحب السيرة، و "أبي مخنف" و "الواقدي" و "الهيثم بن عدي" و "أبي البختري" و "المدائني" و "محمد بن حبيب" وغيرهم ممن ألف في أمور وقعت قبل الإسلام في أمور وأحداث إسلامية محضة، وقد ضعف بعضهم، مع أنهم لم يؤلفوا في أمور تخص الجاهلية ولا في أحداث وقعت قبل عام الفيل أو قبل الإسلام، وأطلقت عليهم لفظة "أخباري" أو "وكان أخباريًّا"؛ مع أنهم لم يكتبوا إلا في أخبار قريبة من الإسلام أو في أحداث إسلامية بحتة، فلفظة "أخباري" إذن لم تكن قد عُلمت بالشخص الذي تخصص برواية أخبار الجاهلية الواقعة قبل عام الفيل فقط، بل قصد بها هؤلاء وكل من اشتغل برواية الأخبار مهما كانت صفتها وعادتها وطبيعتها، روى تاريخ ما قبل الفيل أو ما بعد الفيل إلى الإسلام، أو أخبار الإسلام.(1/114)
والأخباري في عرف ذلك اليوم وقبل أن ينتشر التأليف وتتصنف المعارف، هو من يروي الأخبار، تمييزًا له عن الآخرين الذين اشتغلوا بالنسب؛ فعُرف أحدهم بـ "النسابة"، وقيل عن أحدهم "أحد النسابين" أو "وكان ناسبًا"1. أو بالتفسير أو برواية الشعر وما شاكل ذلك من معارف؛ فهو مؤرخ ذلك الزمن إذن، ولهذا نرى لفظة "أخبار" بمعنى تأريخ، ورد في "الفهرست" في أثناء الحديث عن عبيد بن شَرْيَة الجرهمي ومعاوية: فسأله "أي معاوية عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم"2، وورد عن "ابن دأب" وكان "عالمًا بأخبار العرب وأشعارها"3 وذكر عن "عوانة بن الحكم" أنه كان "راوية للأخبار عالمًا بالشعر والنسب"4. وورد عن "أبي اليقظان النسابة" أنه كان "عالمًا بالأخبار والأنساب والمآثر والمثالب"5. وورد مثل ذلك عن أشخاص آخرين هم في أوائل من اشتغل بالتأريخ عند المسلمين، يخرجنا ذكرهم هنا عن حدود هذا الموضوع6.
ويظهر من دراسة "الفهرست" لابن النديم والمؤلفات الأخرى أن العرب في صدر الإسلام لم يكونوا يطلقون لفظة "المؤرخ" على من يشتغل بالتأريخ؛ ذلك لأن التأريخ نفسه في ذلك العهد لم يكن قد تطور وبلغ الشكل الذي بلغه في أواخر أيام الأمويين وفي الدولة العباسية؛ بل كانوا يطلقون على المؤرخ "الأخباري" كما ذكرت، لاشتغاله بالأخبار كائنة ما كانت أخبار ما قبل الإسلام أو أخبار الإسلام، وكانوا يطلقون على الموضوع نفسه "الأخبار"؛ ولهذا نرى أن أكثرية المشتغلين بها، أطلقوا على كتبهم: "الأخبار المتقدمة" و"أخبار الماضين" و "أخبار النبي"و "أخبار العرب" و "كتّاب السير في الأخبار والأحداث" وأمثال ذلك، ولم يقولوا: "تأريخ المتقدمة" أو "تأريخ الماضين" أو "تأريخ العرب" أو "تأريخ الرسول"، ويستعملون لفظة "سيرة" و "السير" في سير الأشخاص، ولا سيما "سيرة الرسول". وأما لفظة "تأريخ"؛ فقد
__________
1 الفهرست "ص128".
2 الفهرست "ص138".
3 الفهرست "ص139".
4 الفهرست "ص140".
5 الفهرست "ص144".
6 يراجع الباب المسمى "المقالة الثالثة": في أخبار الأخباريين والنسّابين وأصحاب الأحداث.. من كتاب الفهرست، لابن النديم "ص137".(1/115)
استعملت في عنونة بعض الكتب المؤلفة في التأريخ؛ فقد كان ل "عوانة بن الحكم" المتوفى سنة "147هـ" كتاب اسمه "كتاب التأريخ" كما كان له كتاب اسمه "كتاب سيرة معاوية وبني أمية"1. وكان للهيثم بن عدي المتوفى سنة "207هـ" كتاب يدعى "كتاب تأريخ العجم وبني أمية" و "كتاب تأريخ الأشراف"، و "كتاب التأريخ على السنين"2، وكان للمدائني المتوفى سنة "225" للهجرة كتاب عنوانه: "تأريخ أعمار الخلفاء" وآخر اسمه "كتاب تأريخ الخلفاء" وثالث اسمه "أخبار الخلفاء الكبير"3، لا أستبعد أن يكون هو هذا الكتاب.
إلا أن هذا الإطلاق لم يكن واسعًا كثير الاستعمال، وفي استطاعتنا ذكر هذه الكتب وعدّها، وما دامت الحال على هذا المنوال؛ فليس من المعقول إطلاق لفظة "مؤرخ" و "المؤرخ" و "تأريخ" بصورة واسعة في هذا العهد، وفي جملة العهد الذي عاش فيه "ابن الكلبي"، ما دام العرف فيه إطلاق لفظة "أخبار" بمعنى "تأريخ"؛ وإنما طغت لفظة "تأريخ" و "مؤرخ" في الأيام التي تلت هذا العهد، ولا سيما أواخر القرن الثالث للهجرة فما بعده.
هذا من حيث استعمال لفظة "أخباري". وأما من حيث إهمال التأريخ الجاهلي وصلة الإسلام به؛ فقد ذكرت أنه لا علاقة للحديث المذكور بهدم الجاهلية أو بإهمال تأريخها؛ وإنما الإهمال هو إهمال قديم، يعود إلى زمان طويل قبل الإسلام، فعادة قلع المباني القديمة لاستخدام أنقاضها في مبانٍ جديدة، والاعتداء على الأطلال والآثار والقبور بحثا عن الذهب والأحجار الكريمة والأشياء النفيسة الأخرى، هي عادة قديمة جدًا، ربما رافقت الإنسان منذ يوم وجوده. وهي عادة لا تزال معروفة في كثير من بلدان الشرق الأوسط حتى اليوم، بالرغم من وجود قوانين تحرم هذا الاعتداء وتمنع هذا التطاول. وقد كان من نتائجها تلف كثير من الآثار، وذهاب معالمها، فصارت نسيًا منسيًّا. فتكبدت الآثار الجاهلية من أهل الجاهلية، أي في الأيام السابقة للإسلام مثل ما تكبدته وتتكبده الآثار الجاهلية والإسلامية معًا في أيام الإسلاميين حتى اليوم4.
__________
1 الفهرست "ص140".
2 الفهرست "ص151 وما بعدها".
3 الفهرست "ص155".
4 راجع عن فتح القبور الجاهلية للحصول على ما فيها من كنوز، الإكليل "8/ 143 فما بعدها".(1/116)
وأما موضوع إهمال الآثار وعدم توجيه عناية الحكومات نحوها؛ لرعايتها وللمحافظة عليها من التعرض للسقوط والتلف والأضرار ونحو ذلك؛ فإنه موضوع لم يدرك الناس أهميته إلّا أخيرًا، ولم تشعر الحكومات بأنه واجب مهم من واجباتها إلّا حديثًا، ولذلك لا نستطيع أن نوجّه اللّوم إلى القدامى لإهمالهم الآثار ولعدم اعتنائهم بالمحافظة عليها.
وكان من آثار هذا الجهل بأهمية الآثار أن أُزيلت معالم أبنية وقصور، وحطمت تماثيل وكتابات، لغرض استعمالها في البناء، وقد كان على مقربة من "سدوس"، أبنية قديمة يظن أنها من آثار حمير وأبنية التبابعة، وأن من جملتها شاخص كالمنارة، وعليها كتابات كثيرة منحوتة في الحجر ومنقوشة في جدرانها، فهدمها أهل سدوس؛ لاختلاف بعض السياح من الإفرنج إليها ملاحظة التدخل معهم1. ومثل ذلك حدث في اليمن وفي مواضع أخرى من أمكنة الآثار.
وقد هدمت قرى ومدن في الجاهلية وفي الإسلام من أجل استعمال أنقاضها في بناء أبنية جديدة. ذكر "الهمداني" حصن "ذي مرمر"، وهو من المواضع الجاهلية المهمة، وكذلك "شبام سخيم" "يسخم"، وبقيا معروفين زمنًا طويلًا بعده، ثم جاء أحد الأتراك واسمه "حسن باشا" فهدم حصن "ذي مرمر" لينشئ في أسفله مدينة جديدة، أخذ معظم مواد بنائها من "شبام سخيم"2.
وذكر أن حكومة اليمن قامت بعد سنة "1945م" ببناء ثكنة لجنودها في المنطقة الشرقية من اليمن في "مأرب" على نمط الثكنة التي بناها الأتراك في صنعاء، فهدموا أبنية جاهلية كانت لا تزال ظاهرة قائمة، واستعملوا الحجارة الضخمة التي كانت مترامية على سطح الأرض، وأزالوا بعض الجدر والأسوار وحيطان البيوت عند بناء تلك الثكنة، فطمسوا بذلك بعض معالم تأريخ اليمن القديم3، وأساءوا بجهلهم هذا إلى قيم الآثار إساءة لا تقدر في نظر عشاق التأريخ والباحثين في تأريخ العرب قبل الإسلام.
ويضاف إلى ما تقدم عامل آخر، هَدَمَ الآثار وقضى عليها بالجملة،
__________
1 الألوسي، تأريخ نجد، تحقيق الأستاذ محمد بهجت الأثري، المطبعة السلفية، القاهرة 1347 "ص28".
2 Beirtage, S. 18.
3 Beitrage, S. 28.(1/117)
وأعني به الحروب. وسوف نرى حروبًا متوالية اكتسحت جميع مناطق العربية الجنوبية، وأتت على مدنها؛ إذ استعمل القادة سياسة حرق المدن والمواقع والمزارع، وقتل السكان بالجملة فأدى ذلك إلى اندثار الآثار وتشريد الناس وهربهم إلى البوادي وتحول الأرضين الخصبة إلى أرضين جُرد، حتى ضاعت بذلك معالم الحضارة القديمة، فخسرنا من جرّاء ذلك علمًا كثيرًا، وا أسفاه.
وهناك تقصير آخر لا يمكن أن ينسب إلى الإسلاميين، بل يجب عزوه إلى الجاهليين فالظاهر من رجوع الصحابة إلى ذاكرتهم وإلى ذاكرة الشَّيَبة الذي أدركوا الجاهلية في تذكر أيامها وما كانوا عليه قبل الإسلام، ومن جلب "معاوية بن أبي سفيان" المولع بسماع الأخبار لـ "عبيد بن شَرْيَة" ليقص عليه "الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبليل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد"1، ومن رجوع أهل الأخبار إلى الأعراب لأخذ أخبار قبائلهم وأيامهم وأنسابهم وشعرهم وغير ذلك، أن غالبية أهل الجاهلية لم تكن لهم كتب مدونة في تأريخهم، ولم تكن عندهم عادة تدوين الحوادث وتسجيل ما يقع لهم في كتب وسجلات؛ بل كانوا يتذاكرون أيامهم وأحداثهم وما يقع لهم، ويحفظون المهم من أمورهم مثل الشعر حفظًا. ولما كانت الذاكرة محدودة الطاقة، لا تستطيع أن تحمل كل ما تحمل، ضاع الكثير من الأخبار، بتباعد الزمن، وبوفاة شهود الحوادث، ولم يبقَ بتوالي الأيام غير القليل منها. ومن هنا كان تعليل علماء العربية ضياع أكثر الشعر الجاهلي؛ فقالوا: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه؛ فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته؛ فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح واطمأن العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم كثير"2. وإذا كان هذا ما وقع للشعر مع مكانته عندهم وسهولة بقائه في الذاكرة بالقياس إلى النثر، وتعصب القبائل لشعر شعرائها؛ فهل في استطاعتنا استثناء الأخبار من هذا الذي يحدث للشعر؟
__________
1 الفهرست "ص138".
2 المزهر "2/ 474".(1/118)
بل ما لنا وللجاهلية، ولنراجع تأريخ الإسلام نفسه، خذ تأريخ آباء الرسول وطفولة الرسول إلى يوم مبعثه؛ بل حتى بعد مبعثه، ثم خذ سير الصحابة وما وقع في صدر الإسلام من أحداث، ترَى أن ما ورد من سيرة آباء الرسول وسيرة الرسول إلى الهجرة، مقتضبًا بعض الاقتضاب، وأن ما ذكر هو من الأمور التي تحفظها الذاكرة عادة، وما فيما عدا ذلك مما وقع للرسول؛ فغير موجود، وترى اقتضابًا مخلًا في سيرة الصحابة، واضطرابًا في تواريخ الحوادث، واختلافًا بين الصحابة في ذلك. أما سبب ذلك فهو عدم تعود الناس إذ ذاك تسجيل أخبار الحوادث وما يقع لهم، وعدم وجود مسجلين مع السريا والغزوات والفتوح يكون واجبهم تسجيل أخبارهم وتدوين وقائعها، حتى ما سجل من أمر ديوان الجند والأنساب وأمثال ذلك، لم يكن في نسخ عديدة؛ فضاع أكثره، ولم يصل إلى الأخباريين لذلك يوم شرعوا في التدوين. وإذا كان هذا حال أخبار الإسلام، وهي أمور على جانب خطير من الأهمية بالقياس إلى المسلمين، فهل يعقل بقاء أخبار الجاهلية كاملة إلى زمن شروع الناس في التدوين في الإسلام، وقد ضاعت قبل الإسلام بزمان؟
لقد قلت فيما سلف إن الهَمْداني وغيره ممن عنوا بأخبار اليمن، لم يعرفوا من تأريخ اليمن القديم إلّا القليل، ولم يعرفوا من أخبار دول اليمن القديمة شيئًا، ولم يحفظوا من أسماء ملوكها إلا بعض الأسماء، وقد حرف حتى هذا البعض، أما معارفهم من معبودات أهل اليمن القديمة، فصفر؛ فلسنا نجد في كتبهم إشارة ما إلى عبادة "عشتر" ولا إلى عبادة "أنبى" و "ذات صنتم" و "نكرح" و "سين" و "حوكم" "حكم" و "هوبس" ولا إلى بقية المعبودات. نعم، أشار "الهمداني" إلى اسم إله من آلهة "همدان" هوم "تالب"، وكانت محجته في "ريم" "ريام"، يقصدها الناس في ذلك الزمن للزيارة والتبرك؛ ولكنه لم يعرف أنه كان إلهًا، بل ظن أنه ملك من ملوك همدان، فدعاه باسم "تالب"، وزعم أنه ابن "شهوان"1. وجعل "المقه"، وهو إله سبأ العظيم، المقدم عندهم على جميع الأصنام، اسم بناء من أبنية جنّ سليمان. وقد بُني على ما
__________
1 الإكليل "10/ 17".(1/119)
زعمه بأمر سليمان1. وتحدث عن "رئام" فقال: "أما رئام، فإنه بيت كان متنسك، تنسك عنده ويحج إليه. وهو في رأس جبل أقوى من بلد همدان"، ونسبة إلى "رئام بن نهفان بن تبع بن زيد بن عمرو بن همدان"2. وقد ذكره "ابن إسحاق" و "ابن الكلبي" و "السهيلي" و "ياقوت الحموي" وغيرهم أيضًا3 وفي كل الذي ذكروه دلالة على أن ما رووه لم يكن عن مصدر مدوّن؛ وإنما هو رويّ عن أفواه الرجال. وأن تلك الأفواه قد نسيت كثيرًا من الأصل، فحاولت سدّ الثُغر بالقصص المذكور.
بل خذ ما ذكره رجال هم أقدم من "ابن الكلبي" ومن "الهمداني" في الزمان، وألصق منهما عهدًا بالجاهلية مثل "ابن عباس" و "عبيد بن شَرْيَة" وغيرهما، ترَى أن ما ذكراه عنها لا يدل على أنهما أخذا أخبارهما من مورد مكتوب ومن كتب كانت موجودة، ولا أعتقد أن "معاوية بن أبي سفيان"، وهو نفسه، من أدرك الجاهلية، كانت به حاجة إلى "عبيد" وأمثال "عبيد" من قوّال الأساطير، وإلى الاستماع إلى أخبارهم، لو كان عنده شيء مدوّن عن أمر الجاهلية، ثم إنه لو كانت عند "ابن عباس" و "عبيد" وطلاب الشعر الجاهلي والأخبار مدوّنات، لما لجأوا إلى الذاكرة وإلى الرواة والأعراب يلتمسون منهم الأخبار والأشعار وأمور القبائل!
إن جهل أهل الأخبار بأصنام أهل اليمن القديمة التي ترد أسماؤهم في كتابات المسند، وذكرهم أسماء أصنام جديدة زعموا أنها كانت معبودة عند أهل اليمن لم يرد لها ذكر في كتابات المسند، أشار "ابن الكلبي" وغيره إلى بعضها، وإشاراتهم إلى دخول اليهودية والنصرانية إلى اليمن، وإلى تهود "تبّع" وهو في "يثرب" في طريقه إلى اليمن، وأخذه حبرين من أحبار يهود معه، وأمره بتهديم معبد "رئام"، بناء على إشارة الحبرين4، ثم ظهو جمل وألفاظ في كتابات المسند تدل على التوحيد وعلى وقوع تغيّر وتطور في ديانات أهل اليمن، مثل عبادة "الرحمن" وعبادة "ذو سموي"، أي "ذو السماء" أو "صاحب
__________
1 Detlef Nielsen, Der Sab. Gott Ilmukad, S. 2, D.H. Mueller, Burgen und schloesser, Bd. 2 S. 972.
2 الإكليل "8/ 66"، "8/ 82"، "طبعة الكرملي".
3 الأصنام "12"، الإكليل"8/ 82 فما بعدها" "طبعة الكرملي".
4 الأصنام "12 فما بعدها"، البلدان "4/ 345".(1/120)
السماء"1: إن كل هذه الأمور وأمثالها، هي دلائل على حدوث تغير وتطور في عقليات أهل اليمن، أثرت في معتقداتهم فجعلتهم ينسون آلهتهم القديمة، بل يتنكرون لها، ويبتعدون بذلك عن ثقافتهم الوثنية القديمة، ومثل هذا التطور والتغير لا بد أن يؤدي طبعًا إلى نسيان الماضي وإلى الالتهاء عنه بالتطور الجديد، وقد وقع هذا قبل الإسلام بزمان.
كان لدخول اليهودية والنصرانية في اليمن وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب، دخلٌ من غير شك في إعراض القوم عن ديانتهم الوثنية وعن ثقافتهم وآدابهم. أما اليهود فقد سعوا بعد دخولهم في اليمن لتهويد ملوك اليمن وأقيالها ونشر اليهودية فيها للهيمنة على هذه الأرضين، وأخذوا ينشرون قواعد دينهم وأمور شريعتهم بينهم، ويذيعون قصص التوراة، وأعاجيب سليمان وجنّ سليمان، وتمكنوا من إقناع بعض حكّام اليمن بالتهود، على نحو ما سنراه فيما بعد.
ووجدت النصرانية سبيلها إلى اليمن كذلك من البحر والبر، وسعت كاليهودية لتثبيت أقدامها هناك وفي سائر أنحاء جزيرة العرب، ووجدت من سمع دعوتها هنا وهناك؛ فتنصرت قبائل وشايعتها بعض المقاطعات والمدن، وتعرضت الوثنية للنقد من رجال الديانتين، واقتبس من دخل في اليهودية الثقافة اليهودية، ومن دخل في النصرانية الثقافة النصرانية، وأعرض عن ثقافته القديمة، وفي جملتها الخط المسند، خط الوثنية والوثنيين، وصار عدد قرّائه يتضاءل بمرور الأيام. ومن يدري؟ فلعلّ رجال الدين الجدد، صاروا يعلّمون الناس الكتابة بقلمهم الذي كانوا يكتبون به، وهو قلم أسهل في الكتابة من المسند، وخاصة على الورق والجلود والقراطيس. وقد يكون هذا سببًا من جملة أسباب تضاؤل عدد الكتابات المدونة في المسند، في حقبة سأتحدث عنها فيما بعد.
وآية ذلك عثور المنقبين والسياح في مواضع من نجد وفي العروض، وهي مواضع بعيدة عن اليمن، على كتابات سبئية يعود تأريخ بعضها إلى ما قبل الميلاد وتأريخ بعضها إلى ما بعده2، ثم اختفاء آثار كتابات المسند من هذه
__________
راجع النصوص:
1 "Zur Geachichte des Judentums iin Jemen", in Alt-Orientalische Forschungtn, I, 336. "A Monotheistic Himjarite Inscription", by F.V. Winnet, Glasser 399, Whackier, Asrnare, I, Ryk 203, he Museon, LII, P., 51ff. BOASOB 83 (1941) , P., 22, CIH537, 538, 539, 543, 645, Res 4109, Bose 13, RES 4069, Stambul, 7608 Rea 3904
2 The Qariya Ruin Field, Geographical Journal, June, 19492 Sanger, The Arabian Peninsula, P., 139, Philby, Two notes from Central Arabia,(1/121)
المواضع في العهود المتأخرة من الجاهلية القريبة من الإسلام؛ مما يبعث على الظن أن أهل الجزيرة كانوا قد استبدلوا بذلك القلم قبيل الإسلام قلمًا جديدًا مشتقًا من الأقلام الإرمية الشمالية، وذلك بانتشاره بينهم على أيدي المبشرين وبالاتجار مع عرب العراق، ولا سيما سكان الحيرة والأنبار، وهو القلم الذي كان يكتب به أهل مكة وأهل يثرب عند ظهور الإسلام. وبذلك شارك هذا القلم الجديد في موت القلم المسند واختفائه من هذه المواضع، وبموته انقطعت صلات القوم بالثقافة العربية الجنوبية، ثقافة القلم المسند.
ولا أستبعد أن يكون من بين رجال الدين من الديانتين أناس كانوا على قدر العلم والفهم بأمور التوراة والإنجيل وبالقصص الإسرائيلي والنصراني وعلى شيء من الإلمام بالتأريخ؛ فقد كان من بينهم أناس هم من أصل رومي أو سرياني أو عبراني؛ فليس من المستبعد أن يكون لهم حظ من العلم بالأمور المذكورة أخذوه من كتبهم المكتوبة بلغاتهم ومن دراساتهم لأمور الدين. ومثل هؤلاء لا بد أن يستشهدوا في مواعظهم في "مدراثهم" أو "كنائسهم" في الأماكن التي نزلوا بها من جزيرة العرب، بشيء من قصص التوراة والكتب اليهودية والأناجيل، ودليل ذلك أن معظم القصص الواردة عن الرسل والأنبياء وعن انتشار اليهودية والنصرانية في جزيرة العرب، مصدره أناس من أهل الكتاب، هم من أهل يثرب، أي من يهود المدينة، ومن أهل اليمن، وهو قصص على دلالته على جهل فاضح بأمور اليهودية أو النصرانية، يدل عمومًا على أنه أخذ من أصل يرجع إلى أهل الكتاب، وقد غُطّي بقصص وأساطير ساذجة. وهو على بساطته وسذاجته يصلح إن صحت نسبته إلى من نسب إليهم، أن يكون موضوعًا لدراسة مهمة، هي دراسة مقدار علم يهود جزيرة العرب ونصاراها في الجاهلية بأمور دينهم ومقدار جهلهم بأحكام اليهودية أو النصرانية في تلك الأرضين.
ونحن لا نجد في بقية جزيرة العرب تدوينًا للتأريخ، لعدم وجود حكومات منظمة كبيرة فيها، ولسيادة النظام القبلي في أكثر أنحائها؛ وإنما نجد فيها رواة يروون أخبار قبيلتهم وأمورها وعلاقتها بالقبائل الأخرى، وحوادثها وأيامها، ورواة تخصّصوا برواية الأنساب، لما للنسب من أهمية في المجتمع القبلي، ونجد جماعات تحفظ الشعر وما شاكل ذلك من أمور تخص القبيلة والنظام القبلي، وكل ذلك رواية، أي مشافهة، لا كتابة. ومثل هذا النوع من التوريخ الشفوي(1/122)
معرض كما قلت سابقًا لآفات عديدة، أهمها تحكم العواطف القبلية على الرواة وتعرض الخبر للنسيان كلما تقدم العهد به في الذاكرة، وكلما ابتعد به الزمن؛ إذ تقل حماسة الناس له، ويضعف تأثيره في العواطف، وتفتر عندئذ همم الرواة عن حفظه وبذلك يتعرض للموت والاندثار، ومن هنا اندثرت وضاعت أخبار الجاهلية البعيدة عن الإسلام. أما الجاهلية القريبة من الإسلام؛ فقد بقي منها ما يشبه ذكريات الطفولة، خلا الأمور التي عاصرت ظهوره، فقد أدركها الصحابة؛ فكان في إمكانهم تذكرها وروايتها، وانتقلت منهم إلى من جاء بعدهم حتى وصلت إلى المدونين.
ما ذكرته هو أهم أسباب إهمال التأريخ الجاهلي، فجاء ذلك التأريخ لذلك ناقصًا فجًّا على نحو ما نقرؤه في المؤلفات العربية القديمة. أما تدوينه مجدّدًا، وإعادة كتابته وتنظيمه وتنسيقه وسدّ الفجوات الواسعة فيه؛ فقد تم على هذا النحو:(1/123)
تدوين التأريخ الجاهلي:
للمستشرقين مجهود يقدر في تدوين التأريخ الجاهلي وفي كتابته بأسلوب حديث، يعتمد على المقابلات والمطابقات ونقد الروايات والاستفادة من الموارد العربية والأعجمية. وقد أفادوا مما جاء عن العرب في التوراة وفي التلمود وفي الكتب اليهودية، كما أفادوا مما جاء عن جزيرة العرب وسكانها في الكتابات الأشورية والبابلية ومن الموارد "الكلاسيكية" والمؤلفات النصرانية سريانية ويونانية ولاتينية؛ فأضافوا كل ما تمكّنوا الحصول عليه في هذا الباب إلى ما ورد في الموارد الإسلامية عن الجاهليين، فصحّحوا وقوّموا، وسدّوا بهذه المواد بعض الثلم في التأريخ الجاهلي.
وعملهم في بعث الكتابات الجاهلية ونشرها، مشكور مقدر؛ فقد أعادوا إلى الخط الذي كتبت به الحياة، وجعلوه مقروءًا معروفًا، وترجموا كثيرًا من هذه النصوص إلى لغاتهم، وهي وثائق من الدرجة الأولى، وعملوا على نشر النصوص بالمسند وبالحروف اللاتينية أو العبرانية أو العربية في بعض الأحيان، وعلى استخلاص ما جاء فيها من أمور متنوعة عن التأريخ العربي قبل الإسلام.(1/123)
وقد أمكننا بفضل هذا المجهود المضني الحصول على أخبار دول وأقوام عربية لم يرد لها ذكر في الموارد الإسلامية؛ لأن أخبار تلك الدول وأولئك الأقوام كانت قد انقطعت وطمست قبل الإسلام؛ فلم تبلغ أهل الأخبار.
وقد ساعدهم في شرح الكتابات الجاهلية وتفسيرها علمهم بلغات عديدة، مثل اللغة العبرانية والسريانية والبابلية، فإن في هذه اللغات ألفاظًا ترد في تلك الكتابات بحكم تقاربها واشتراكها في هذه الثقافة المتقاربة التي نسميها "الرابطة السامية"، كما أن فيها أفكارًا وآراء ترد عند المتكلمين بهذه اللغات، ولهذا صار في الإمكان فهم ما ورد في الكتابات الجاهلية بالاستعانة بتلك الأفكار والآراء.
وقد كان للسياح الذين جابوا مواضع متعددة من جزيرة العرب، ولا سيما المنطقة الغربية والجنوبية منها، فضل كبير في بعث الحياة في الكتابات الجاهلية. فقد أخذ أولئك السياح بعض كتابات، كما أخذوا صور بعض آخر، ويفضل تعاونهم مع العلماء المبحرين باللغات الشرقية أمكن حلّ رموزها وبعث الحياة فيها بعد موت طويل.
وقد كان أسفار أولئك السياح مغامرات ومجازفات؛ إذ تعرضت حياة أكثرهم للخطر، بسبب عدم استقرار الأمن إذ ذاك، وبسبب سوء الأوضاع الصحية، ولعدم وجود أماكن مريحة تناسب حياتهم التي تعوّدوها؛ إلا أنهم لم يبالوا ذلك ولم يحفلوا به، وتحايلوا بمختلف الحيل للتغلب على تلك الصعوبات ولكسب ودّ رؤساء القبائل والحكّام لتسهيل مهمتهم. وقد قضى نفر منهم نحبه في أسفاره هذه. وقد كانت أكثر أسفار هؤلاء الروّاد أسفارا فردية قام بها أفراد من العلماء ومن الضباط والمغامرين. والأسفار الفردية، مهما كانت، لا تأتي بالنتائج التي تنجم عن دراسات البعثات المتخصصة بمختلف الشئون؛ لذلك نتطلع إلى اليوم الذي تتمكن فيه البعثات العلمية الكبيرة من اختراق آفاق بلاد العرب، وتقديم نتائج بحوثها إلى العلماء لتدوين تأريخ مرتب لجزيرة العرب قبل الإسلام، ولا سيما إلى البعثات العلمية العصرية التي تتألف من متخصصين من الناطقين بلغة هذه البلاد؛ لأن هؤلاء أقدر من غيرهم على فهم اللهجات القديمة ومحتوياتها وروح ذلك التأريخ.
ونستطيع أن نعدّ السائح الدانماركي"كارستن نيبور" carsten niebuhr الذي(1/124)
قام في سنة 1761 للميلاد برحلة إلى جزيرة العرب، أوّل رائد من روّاد الغرب ظهر في القرون الحديثة، وصف بلاد العرب، ولفت أنظار العلماء إلى المسند والرقم العربية1. وقد أثارت رحلته هذه همم العلماء والسياح؛ فرحل من بعده عدد منهم لا يتسع المقام لذكرهم جميعًا رحلات إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب عادت على التأريخ العربي بفوائد جزيلة.
فزار الدكتور "سيتزن" dr. seetzen جنوبي بلاد العرب، وتمكن من نقش صور نصوص عربية جنوبية أرسلها إلى أوروبة عام 1810م وهذه النصوص على قصرها وغلطها، أفادت في تدوين تأريخ العرب قبل الإسلام إفادة غير مباشرة؛ لأنها لفتت أنظار المستشرقين إليها وإلى دراسة التأريخ العربي القديم، حتى آل الأمر إلى حل رموز تلك الكتابة ومعرفة حروفها2.
وتمكن الرّحّالة السويسري "ليدويك بركهارد" johann Ludwig burckhard من القيام برحلة إلى الحجاز، فتزيا بزي مسلم اسمه "إبراهيم بن عبد الله" يريد الحج وزيارة مسجد الرسول وقبره. وقد صحب الحجاج في حجهم، ووصف موسم الحج وصفًا دقيقًا، وكتب عن مكة والمدينة كتابة علميّة. وقد زار آثار الأنباط وعاصمتهم "البتراء"3.
__________
1 Carsten Niebur, Reisebesehreibung nach Arabien und anderen umliegenden Laendern, Kopenhagen, 1772-1837, in 2 Bande.
وهناك طبعة فرنسية وترجمة إنكليزية،
Carsten Niebuhr, Description de L'Arabie, Copenhagen, 1773, Voyage en Arabie,
Amsterdam, 1774-80, R.H. Sanger, The Arabian Peninsula, Cornell University
Press, 1954, P., 241.
2 Pfannmueller, S-,' 85, Seetzen, Travels in Yemen, 1810, Hommel, Explorations in
Arabia, in Hilprecht, Explorations in Bible Land, P., 702, Seetzen, Fundgrubendes Orients, Vienna, 1811,
نشر مذكرات "Seetzen" التي أرسلها إلى أوروبة المستشرفون "Fleischer"
و"Kruse" و "Heinrich Mueller" في أربع مجلدات:
Reisen durch Syrien, Palaestina, Phoenizien, die Tranajordan-Lander, Arabia Petraea und Unter-Aegypten.
3 Johann Ludwig Burckhardt, Travels in Arabia, London, 1829, Deutsch, Weimar, 1830, Burckhardt, Travels in Syria and Holy Land, London, 1822, Notes on the Bedouins and Wahabys, 2Vola., London, 1830, in German, Weimar,1831,S. M. Zwemer, Arabia the Cradle of Islam, London, Explorations, P., 703(1/125)
وتمكن ضابط إنكليزي يُدعى james r. wellsted من زيارة الأنحاء الجنوبية من جزيرة العرب، ومن الظفر بصورة نصوص عربية قديمة قصيرة، ومن استنساخ كتابة حصن "غراب" التي يرجع تأريخها إلى سنة "640" من تأريخ أهل اليمن، وتوافق سنة 525 للميلاد. وبفضل هذا الضابط عرف المستشرقون هذا النص1.
وأضاف الرّحّالة "هوتن" t. g. hutton عددًا آخر من الكتابات الجاهلية سنة 1835 إلى ما كان قد عرف سابقًا. وجاء "كروتندن" cruthenden سنة 1838م بنقوش أخرى جديدة. وكذلك "الدكتور مكل" dr. mackell الذي عاد بخمسة نصوص سبئية؛ فتوسعت بذلك دوائر البحث قليلًا، وتمكن العلماء بفضل هذه النقوش من حلّ رموز المسند2.
وقد قام الصيدلي الفرنسي "توماس يوسف أرنو" "Thomas joseph arnaud" برحلة إلى اليمن، كانت موفقة جدًّا؛ إذ تمكن بفضل علمه بالعقاقير، من اكتساب صداقة المشايخ والزعماء. وبهذه الصداقة استطاع أن يتجول في بعض أنحاء اليمن ومدنها، ولم يكن ذلك أمرًا ميسورًا للغرباء، فزار الجوف ووقف على خرائب "مأرب"، ومكث في مدينة "صنعاء" أمدًا، وزار "صرواح" المدينة الأثرية القديمة، واستنسخ ستة وخمسين نصًّا كتابيًّا قديمًا3.
وكتب التوفيق لسائح أوروبي آخر، هو الضابط الإنكليزي "coghlan" فحصل في سنة 1860م على عشرين لوحًا برنزيًا سليما عثر عليها في أنقاض مدينة "عمران"4. وقد أرشدت هذه الألواح المعدنية المستشرقين إلى ناحية مهمة
__________
1 Otto Weber, Arabien vor dem Islam, S., 10, Wellsted, Travels In Arabia, London,
1838, in 2 Vols., Narrative of a Journey to the Ruins of Nakeb el Hajar, in
Journal Royal Geogr. Soc., VH, 20, in German, Halle, 1842, by Rodiger, Saenge,
The Arabian Peninsula, p., 221, 241
2 Cruttenden C. J. Journy, of an Excursion to San'a the Capital of Yemen,
Bombay, 1838, Journal of the Royal Geographical Society of London, Vot, III,
276-289, and in the Proceedings of the Bombay Geographical Society, 1838,
PP., 39-55
3 Otto Weber, S. (10. Pfanomiieller, S., 85, Hommel, Explorations, P., 704 Arnaud
Relation d'un Voyage a Mareb, in Journal Asiatique, 1845, 211, 309, 1874, 3.
4 "عمران"، الإكليل "8/ 13، 106، 110"(1/126)
من نواحي الفن العربي القديم1.
وتواصل العلماء، بعد جهود، إلى حلّ رموز هذه الكتابة العربية، فعرفوا منها -وكان أغلبها قصيرًا- إنها تبحث في موضوعات متشابهة، وإنها مؤلفة من حروف أطلقوا عليها اسم "الكتابة الحميرية" أو "الحروف الحميرية". وكان الرأي السائد بادئ بدء أنها كذلك، حتى تبيّن لهم أن هذه النصوص والنصوص التي جيئ بها أخيرًا لم تكن جميعها نصوصًا حميرية؛ بل كان بعضها من النصوص المعينية، وبعضها كتابات سبئية ترجع إلى عهد دولة سبأ، وبعضها بلهجات أخرى، تختلف عن الحميرية بعض الاختلاف. وهذه الكتابة، هي الكتابة المسماة بـ "خط المسند" وبـ "القلم المسند: وبـ "المسند" في الموارد العربية.
عالج بعض العلماء ممن أولعوا بدراسة النقوش، تلك النصوص، وأعملوا رأيهم فيها حتى تمكّن بعضهم من التوصل إلى حل رموز بعضها، مثل العالم "وليم كسنيوس" "wilhelm gisenuis" والعالم "رودكر" "e. rodiger" والعالم "هاينرش إيوالد" "heinrich ewald" والعالم "فريسنل" "f. fresnel" الذي نشر النصوص التي جاء بها، وعددها ستة وخمسون نصًّا بحروف عربية وحميرية، في الجريدة الآسيوية "journal asiatique" سنة 1845م إلا أن نشره لم يكن متقنًا إتقانًا تامًا. وجاء القسيس "أرنست أوسيندر" "ernest osiander"؛ فأتم ما كان قد بدئ به2. ولم يتمكن العلماء الذين عالجوا مشكلة الكتابة العربية الجنوبية من معرفة الحروف كلها؛ ولذلك لم يستطيعوا قراءة أكثر النصوص التي جئ بها إلى أوروبة وفهم معناها، كما أن النصوص المقروءة لم تكن مضبوطة ضبطًا تامًا؛ فاستطاع هذا العالم بجهوده العظيمة قراءة كل النصوص التي جاء بها السياح والعلماء، وتعيين أشكال الحروف، ووضع أسس متينة لدراسة عرفت بعد ذلك باسم "الدراسة العربية الجنوبية" وقد استعان العلماء على فهم هذه الكتابات بالدراسات اللغوية السّامية مثل العبرانية، وباللغة العربية التي نزل با القرآن الكريم، وباللهجات اليمانية، وبالمعلومات الجغرافية المدوّنة في الكتب
__________
1 Pfannmueller, S., 85, Weber, S.. 10.
2 Pfannmuller, S., 85, Fulgence Fresnel, in Journal Asiatique, 111, Series, V, 521, 1838. Lettrea Sur Hist, des Arabes Avant l'lslamisme, 1853, Fresnel, Recherches sur les Inscriptions Himyariques tie San'a, Kha'riba(1/127)
العربية، وبأسماء الملوك والأشخاص الذين وردت أسماؤهم في المؤلفات العربية1. وترسم المستشرق "ليفي" "m. a. levy" أثر "أوسيندر"، وتتبع أسلوبه في البحث، وحاول استخراج مادة تأريخية من هذه النصوص التي ترجمت وعرفت. وقد تمكن من نشر ما تركه "أسيندر" من نصوص عاجلته المنيّة قبل أن يوفق لإخراجها إلى الناس، فتمكّن "ليفي" من تنسيقها وتهذيبها، وطبعها وعرضها على العلماء2.
وفاق "يوسف هاليفي" "joseph halevy"، وهو يهودي فرنسي، كل من تقدمه بكثرة ما جاء به إلى أوروبة من نقوش، وبسعة علمه في تأريخ اليمن، وبدراسة الكتابات العربية الجنوبية. دخل هذا الفرنسي اليمن في هيئة يهودي متسوّل من أهل القدس؛ ليتجنب بذلك ما يتعرض له الغرباء وأهل البلاد المسلمون على السواء من أخطار رجال القبائل وقطّاع الطرق الذين لا يمسّون أهل الذمة بسوء.
وقد استطاع، بهذه الطريقة، التطواف في أرجاء اليمن، حتى بلغ أعاليها مثل "نجران"، وأعالي الجوف وهي المنطقة التي كان فيها "المعينيون". ووصل في تطوافه إلى حدود "مأرب" عاصمة سبأ وإلى "صرواح"، وهو بهذا أول أوروبي زار "نجران"3. ولمّا عاد إلى أوروبة، أحضر معه "686" نقشًا جمعها من مواضع مختلفة من اليمن.
وفي سنة 1872- 1874م نشر هذا العالم في الجريدة الآسيوية "journal asiatique" ما كتبه في وصف رحلته إلى بلاد اليمن، وقد ضمن كتاباته وصفًًا للأماكن التي حلّ بها والطرق التي اجتازها، وترجمة ل"686 نصًّا، وهي النصوص التي كان قد جاء بها أو استنسخها من أصولها، ونشر بحثًا علميًّا وانتقادًا قيِّمًا للأبحاث اللغوية والتراجم والنصوص التي سبق أن نشرها العلماء من قبله4.
__________
1 Pfannmueller, S., 85, Weber, S., 10.
2 Pfannmueller, S., 85.
3 Halevy, in, Bulletin, de la Societe" de
2G£ographie, 1873, et 1877, Rapport sur cne
Mission Arehfiologique dans le Yemen, in Journal Asiattque, Series O, VoL, XIX, Joseph Hal6vy, in Journal Asiatique, 1874, Pfannmueller, S., 86, Explorations, P., 709.
4 pfannmueller, S., 85(1/128)
وكان ممن ذهب إلى اليمن شاب نمساوي اسمه "سيكفريد لنكر" "siegfrid langer"، وقد استطاع تصوير بعض النقوش واستنساخ قسم من الكتابات في عام 1882م؛ غير أن القدر عاجله إذ قتل هناك، فَفَقَد البحث في تأريخ اليمن بوفاته عضوًا نشيطًا. غير أن نمساويًّا آخر عوّض عن خسارة ذلك الشاب، وهو العالم "إدورد كلاسر" "eduard glaser". وقد قام بأربع رحلات إلى اليمن، ورجع بعدد كبير من النصوص والنقوش وبمادة غزيرة من المعلومات1.
بدأ الرحلة الأولى "في أكتوبر من سنة 1882م"، وختمها في شهر آذار "مارس" من سنة 1884م، وكانت الحالة السياسية في ذلك الزمن مضطربة، والأوضاع غير مساعدة، والفوضى عامة في بلاد اليمن، ولم يكن للحكومة على القبائل من سلطان. ومع ذلك تمكّن من الحصول على "250" نقشًا رجع بها إلى أوروبة. أما الرحلة الثانية، فكانت في نيسان سنة 1885م ودامت حتى فبراير سنة 1886، وقد زار في أثنائها المناطق الجنوبية الشرقية والمنطقة الجنوبية الممتدة من جنوب "صنعاء" حتى" مدينة "عدن". وقد تمكن من جمع معلومات مهمة عن طبغرافية البلاد وأماكنها الأثرية، وعاد بنصوص معينة مهمة دخلت في ممتلكات المتحف البريطاني2.
وقام بالرحلة الثالثة في سنة 1887م، ومكث في اليمن إلى سنة 1888م، وكانت رحلته هذه موفَّقة جدًّا؛ إذ حصل على آثار ونقوش كتابية كانت على جانب عظيم من الأهمية، منها أربعمائة نصّ أخذها من مدينة "مأرب" عاصمة "سبأ"، ومن هذه النصوص نصّان عن تصدع سدّ مأرب يرجع عهدهما إلى زمن قريب من ميلاد الرسول، ونصوص أخرى من مدينة "صرواح" يرجع عهدها إلى العصر السبئي، وهي ذات أهمية كبيرة في تدوين تأريخ بلاد العرب الجنوبية3.
وكانت رحلته الرابعة، وهي الأخيرة، في سنة 1892م، وكانت موفقة
__________
1 O'leary, P., 221, Explorations, p., 722, PfannmueUer, P., 83, Weber S. 11
2 Weber, S., 11.
3 Explorations, P., 721, Mitheilungen der Vorder-Asiatischen Geaellschaft, Berlin, Beilage der Allgemeinen Zeitung, 1888, Nos 293, f., Eduard, Reise nach maarib.(1/129)
جدًّا كذلك. اتبع فيها أسلوبًا جديدًا في الحصول على صور النصوص؛ إذ استعان بالأعراب الذين فرقهم في مختلف الجهات التي لم يسبقه أحد من الأوروبيين إلى زيارتها، بعد أن علمهم مختلف الطرق في الحصول على تلك النصوص بطريق الورق الذي يتأثر بالضوء وبطريقة القوالب الجبسية وبطرق أخرى. وقد تمكن بهذا الأسلوب الجديد من الظفر بصوة مضبوطة بعض الضبط للكتابات القديمة التي لم يكن بوسعه الذهاب إلى أماكنها واستنساخها بنفسه، وبها أيضًا تمكن من تصحيح أغلاط الصور التي أخذها "هاليفي" عن النقوش الأصلية، ومن الحصول على زهاء مائة نصّ قتباني أخذها من منطقة خرائب "مأرب". وفي متحف "فينا" قسم من الأحجار المكتوبة التي كان هذا العالم قد جلبها معه في المرة الأخيرة إلى أوروبة1.
وقد زار المستشرق "جورج أغسطس والين george augustus wallin" سنة 1845م نجدًا ودوّن رحلته إليها2. وزار الحجاز المستشرق الهولندي الشهير "سنوك هرغونية snouk hurgtonje"؛ فكتب في أحوال مكة ووصف الحياة في الحجاز وموسم الحج. وكان قد ذهب إليه سنة 1885-1886م وهو من العلماء المدققين3.
وقد زار الحجاز "السير ريشارد برتن" "sir Richard burton" متنكّرًا بزيّ مسلم سمّى نفسه "عبد الله" زار الحرمين وكتب وصف رحلته هذه4.
وتوغلت "حنة بلنت" "anne blunt" سنة 1879م في شمال بلاد العرب حتى بلغت أرض نجد، وكانت مولعة بدراسة أحوال الخيول العربية5. واختراق الرّحّالة الإنكليزي "تشرالس دوتي" "charlis m. doughty" الصحاري العربية وشمال بلاد العرب، ووضع كتابًا مهمًّا وصف فيه أسفاره في بلاد العرب
__________
1 Weber, S., 12, Pfannmueller, S., 86,
2 Ency. Brita., Vol., 2, P., 171, Explorations, P., 705.,
3 Ency. Brita., 3 Vol., 2, P., 170, Mekka, den Haag, 1888, Explorations, P. 720.
4 Richard Burton, Personal Narrative of a PilgTimage to El-Medina and Meecah, London, 1857, in two Vols.
5 Anne Blunt, A Pilgrimage to Najd, 2 Vols, London, 1883, The Bedouins of the Euphrates, London,
1879.(1/130)
الصحراوية1. وقد اهتم خاصة بدراسة النواحي "الجيولوجية" والجغرافية للبلاد العربية، ودوّن ملاحظاته عن الظواهر الجوّية وتغيرات الجو ولم يغفل عن دراسة طبائع البدو وحياتهم الاجتماعية وطرق تفكيرهم وعقائدهم. وقد طبع كتابه، في سنة 1888، وترجم إلى بعض اللغات الأوروبية لأهميته2.
ويعد هذا الرّحّالة من المتعصبين على الإسلام، وقد يكون لهذا التعصب سبب؛ فقد لاقى من الأعراب وأهل المدن شيئًا كثيرًا أثّر في نفسه، فصار يتحامل على المسلمين ويقسو في حكمه على الرسول؛ إلا أنه لم يتمكن مع ذلك من الغضّ من قيمة المبادئ الأخلاقية التي يتحلى بها. ومما لاحظه على البدو، عدم اهتامهم بعبادتهم كالصلوات الخمس والصوم، كما لاحظ من جهة أخرى أن الخوف من وجود إله يكاد يكون أعمق أثرًا في نفوس هؤلاء من الحضر. ولاحظ أيضًا أن جذور الوثنية القديمة لا تزال راسخة حتى الآن في نفوس الأعراب وأكثر سكان القرى والمدن، وقد أظهر هذا الرّحّالة ميلًا عظيمًا لدراسة حياة البدو وطرق معيشتهم، وهو يتشوق إلى الصحراء ويحنّ إليها حنين البدو، ويتجلى ذلك العطف في رحلته التي تعد من روائع الأدب الإنكليزي3.
ورحل "ثيودور بنت" "Theodore bent" وزوجته إلى البحرين وجنوب الجزيرة العربية فزارا الأماكن الأثرية، وتحدثا عن بعض الخرائب الجاهلية والكتابات. وكانت زيارتهما للبحرين سنة 1889م. أما زيارتهما لمسقط وعمان وحضرموت، فكانت في هذه السنة ثم في سنين بعدها4.
وتزيّا الرّحّالة الألماني "هاينرش فون مالتزن" "heinrich von maltzen" بزيّ حاجّ مغربي، وكان قد زار المغرب وتعلّم لهجة سكانه، وذهب إلى الحجاز وتظاهر هناك بأنه منهم، وبعد عودته من الحج وضع رحلته5.
__________
1 Travels in Arabia Deserta, Cambridge, 1888, in 2 Vols
2 Charlis M. Doughty, Die Offenbarung Arabiens, Paul List Verlag, Leipzig, 1937. Passage from Arabia Deserta, Selected by, Edward Garnett, London, 1949, Pfannmueller, S., 54
4 Th. Bent and Mrs Bent, Southern Arabia Sudan and Socotra, London, 1900
5 von Maltzen, Meiue Wallfart nach Mekka, Leipzig, 1865, Bd., 1, 2," bearbeitet von P. Gansberg, Braunschweig, 1919, Reise in Aratrien, Braunschweig, 1873, Bd,, 1, 2, Arabica, Parts 4 und 5, Leiden, 1896-1898(1/131)
ومن الجوابين العلماء "يوليوس أويتنك Julius euting"، وقد اهتم خاصة بدراسة أحوال البدو، وكتب في الوهابيين والحركة الوهابية1.
ومنهم الرّحّالة الجيكوسلوفاكي الأصل "ألويس موسل" "alois musil"، زار "العربية الحجرية" وكتب عدة كتب في وصف شمال الحجاز وبادية الشام ومنطقة الفرات الأوسط وتدمر ونجد، ووضع في نهاية كل كتاب من كتبه فصولًا علمية قيّمة فيها تحقيق تأريخي جليل2. وثمة جوّابون آخرون لا بد من ذكرهم مثل "جوسن" "antonine jausen"3 و "برونوف" "r. e. brtunnow" و "تشارلس هوبر" "charles huber" و "وبرترام توماس" الشاب الإنكليزي المستشرق الذي استطاع في شباط سنة 1929م أن يخترق لأول مرة "الربع الخالي" فكشف بذلك بقعة من أكبر البقاع المجهولة في بلاد العرب6. ويضارعه في مخاطراته هذه "فلبي" الذي أسلم فأطلق على نفسه "الحاج عبد الله فلبي". وقد ألف هذا الإنكليزي المستعرب عدة كتب بالإنكليزية وصف فيها أسفاره في بلاد العرب، وقد تهيأ له من الفرص ما لم يتهيّأ لأوروبي آخر؛ إذ كان من الملازمين للملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود والمقربين إليه. وقد مكث الرّحّالة الألماني "راتجن" "c. rathjens" بضع سنين في اليمن وكتب عنها، وجلب معه عدة كتابات يمانية قديمة إلى ألمانيا وضعت في "متحف الشعوب" في مدينة "هامبرغ"7.
__________
1 Julius Euting, Tagbuch einer Relse in Inner-Arabien, Leiden, 1896-1914, Bd., I.
2 The Northern Hegas, New York, 1926, Arabia Deserta, New York, 1927, t Palmyrena, New York, 1928, Northern Negd, New York, 1928, The Middle Euphrates, New York, 1927, In the Arabian Desert, New York, 1930.
3 Antonine Jausen, Countems des Arabes au Pays de Moab, Paris, 1908, Pfannmueller, x 8., 29, Hittl, P. 7.
R.E. Bruennow und A.V. D omaszewski, Die Provincia Arabia, Strassburg, 1904-1909, 3 Baende.
4 Charles Huber, Voyage dans l'Arabie Centrale, Paris, 1885, Journal d'un Voyage t en Arabie, (1883-1884, Paris, 1891.
5 Arabia Felix, Across The Empty Quarter of Arabia, New York, 1932.
6 The Empty Quarter, 1988, The Background of Islam, 1947,
وكتب كتبا أخرى
7 C. Rathjens und H. von Wissmann, Suedarabien-Reise, 3 Bd., Hamburg, 1934, Rathjens und von Wissmann, "Sanaa, Eine Stuedarabische Stadtlandschaft" In, Zeitschrift der GeselLsch. f. Erdk. zu(1/132)
وقامت بعثة أمريكية عرفت بـ "المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان" "the American foundation for the study of man" برئاسة "وندل فيلبس" "wendell Phillips"، وضمت بعض العلماء الواقفين على تأريخ اليمن القديم مثل "إلبرايت" "dr. w. f. Albright" أستاذ الآثار في جامعة "جون هوبكنس" بالولايات المتحدة، وآخرين في مختلف الموضوعات؛ وذلك ما بين سنتي 1950-1952م بأعمال الحفر في منطقة "عدن" واليمن. وبالرغم من النهاية المحزنة التي انتهت أعمال البعثة إليها؛ فقد تمكنت من الحصول على نتائج حسنة جديدة لم تكن معروفة عن تأريخ مملكة قتبان وسبأ، وعادت ببعض الآثار1.
وكانت في جملة ما درسته هذه البعثة نظم الري في مملكة "قتبان". ودراسة موضع "هجر بن حميد"؛ حيث عثرت على فخار ومواد أخرى يعود عهدها، كما يرى خبراء البعثة إلى ألفي سنة. ودراسة أخرى لمدينة "تمنه" عاصمة "قتبان" ولمعبدها الشهير ولبقايا مقبرتها، وعثرت على كتابات جديدة، وقدّرت سقوط تلك العاصمة وخرابها بسنة "25" قبل الميلاد2.
وقامت هذه البعثة في سنة "1952" و "1953" للميلاد بأعمال الحفر في "ظفار" بعمان. ثم عادت فنقبت في هذه المنطقة في ابتداء سنة "1960"م؛ حيث كشفت عن بعض الخفايا من تأريخ هذه المنطقة التابعة لسلطنة عمان3.
وقامت في سنة "1962"م بعثة أمريكية من المستشرقين الأميركان، لا علاقة لها بالبعثة المتقدمة بزيارة مواضع من المملكة العربية السعودية؛ فزارت "سكاكة" "سككه" والجوف وتيماء ومدائن صالح والعلا وتبوك، وظفرت بنماذج من فخار قديم، ونقلت صورًا لكتابات ثمودية ونبطية، أهمها الكتابات التي وجدتها في قمة "جبل غنيم" الذي يقع على مسافة ثمانية أميال من جنوب "تيماء".
__________
1 وقد ترجم كتاب "وندل فليبس" ونشر بعنوان: "كنوز مدينة بلقيس" ترجمة "عمر الديراوي" سنة 1961، وفي كتاب، ويا للأسف أغلاط كثيرة في تدوين الإعلام، زيد بن علي عنان: تأريخ اليمن القديم "وقد أولاني ثقته -حفظه الله- حين أرسلني مشرفًا على أعمال الحفر بمأرب الذي قامت به البعثة الأميركية المشئومة برئاسة وندل فيليبس، ذلك اللص النصاب الذي جنى على دعائم محرم بلقيس.. إلخ"، المقدمة،
2 Saenger, the Arabian Peninsula, P. 241.
3 BASOR., Num. 159 "1960", PP., 14(1/133)
وهي، كما تقول البعثة، من أقدم الكتابات التي عثر عليها حتى الآن في العربية الشمالية. وكان "فلبي" قد استنسخها بيده، وتبيّن بعد مقارنة ما استنسخه فلبي بالصور "الفوتوغرافية" التي أخذتها البعثة أن في نقل "فلبي" أوهامًا عديدة. وفي جملة ما عثرت عليه البعثة صور نحتت على أحجار تمثل آلهة عربية قديمة1.
وهناك طائفة أخرى من المستشرقين خدمت التأريخ العربي قبل الإسلام خدمة جليلة مهمة، هي طائفة أساتذة الجامعات وأصحاب التتبع والبحوث، استفادت من بحوث السياح ومن الموارد المذكورة التي تحدثت عنها عن مصادر التأريخ الجاهلي، ثم غربلتها ونقدتها وألفت منها مادة جديدة لتأريخ الجاهلية. ومن هؤلاء المستشرق: "بركر" "berger" مؤلف كتاب "جزيرة العرب قبل محمد في الآثار"، (L'Arabie Avant Mahomet d'apres les Inscriptions) , Paris 1885. والمستشرق "كوسان دي برسفال" العلامة الفرنسي صاحب كتاب "تأريخ العربي قبل الإسلام"2 (Essai sur I'Histoire des Arabes Avant l'ISIamisme) وهو من الكتب المفيدة. وقد جاء صاحبه بنتائج مهمة وبآراء صائبة في بعض الموضوعات؛ غير أن الكتاب أصبح قديمًا، وفيه نواقص كثيرة، وهو لا يتفق اليوم مع أساليب البحث الحديثة. وقد اعتمد مؤلفه على المصادر العربية ولا سيما كتاب "الأغاني" وعلى مصادر أخرى كانت معروفة في ذلك الوقت؛ غير أنه لم يتمكن من الوصول إلى مصادر كثيرة أخرى مهمة؛ لأنها لم تكن في متناول يده في ذلك العهد.
وللمستشرق الإيطالي "كيتاني" "l. caetani" بحث جيّد في تأريخ العرب قبل الإسلام، جعله مقدمة لتأريخ الإسلام3. وهو على جهده في محاولة التعمق في فهم تأريخ الجاهلية والإسلام، لا يخلو من هفوات ومن تغلب العاطفة عليه، ولا سيما في القسم الخاص بتأريخ الإسلام.
وممن كتب في حياة العرب قبل الإسلام المستشرق "أوليري delacy o'leary"،
__________
1 BASOR., Num 168, 1962, P., 9.
2 Paris, 1847-1848, Reprinted, 1902, in 3 Vols.
3 Annali Deil'lslam, by Leone Caetani, Principe di Teano, Vol., I, Milano, 1905, Studi dl Storia Orientate, Milano, 1911.(1/134)
صاحب كتاب "البلاد العربية قبل محمد"1. وقد تحدث فيه عن صلات العرب بالمصريين فالأشوريين إلى زمن ظهور الإسلام، وهو لا يخلو أيضًا من هفوات. وقد صار قديمًا. والمستشرق "تشارلس فورستر" "charles forster"، وله كتاب مفيد "وإن أصبح قديمًا جدًّا" في تأريخ بلاد العرب القديمة وجغرافيتها ويستند في أكثر أبحاثه كأغلب معاصريه إلى نظريات التوراة2.
وقد كتب المستشرق الألماني "أوتو ويبر" "otto weber" رسالة صغيرة في حالة العرب قبل الإسلام3.
وقد كتب المستشرقون الذين عنوا بالسيرة النبوية وبالتأريخ الإسلامي عامة فصولًا تمهيدية في حالة العرب قبل الإسلام، تعرضوا فيها لمختلف النواحي التأريخية، وهي مفيدة للاطّلاع على أحوال الجاهلية.
وهناك من كتب في موضوع خاص من التأريخ الجاهلي كالمستشرق "رينه دوسو"؛ فقد وضع كتابًا في "العرب في الشام قبل الإسلام"4. والمستشرق الألماني "ثيودور نولدكه"، وله كتاب في "تأريخ الفرس والعرب في عهد الساسانيين"5، وكتاب آخر في "أمراء غسان"6.
وللمستشرق "روتشتاين" "Rothstein" كتاب "تأريخ أسرة اللخميين في الحميرة"7، وهو من الكتب المهمة التي جمعت شيئًا كثيرًا من أخبار هذه الأسرة. وقد استعان مؤلفه بالمصادر العربية والسريانية واليونانية، ولا يخلو على كل حال من الضعف في بعض مواضعه.
ويضاف إلى كل ذلك ما كتبه بعض المستشرقين في الحالة الدينية عند العرب قبل الإسلام، وأهمها كتاب "بركمن" "bergmann" في أديان العرب في الجاهلية8، والفصل الذي كتبه المستشرق "أرنست أسيندر" "Ernst osiander"
__________
1 O'Leary, Arabia, before Muhamraed, London, 1927.
1 Charles Forster, The Historical Geography of Arabia, London, MDCCCXLIV, 2 Vols.
3 Arabien vor dem Islam, 1904.
4 Les Arabes avant 1'Islam en Syrie.y
5 Geschichte der Perser und Araber zur Zeit der Sassaniden, 1879.
6 Die Ghassanidischen Fuersten aus dem Hause Gafna's, Berlin, 1887,
7 Die Dynastie der Lachmiden in al-Hira, Berlin, 1899.
8 De Religione Arabum anteislamica.(1/135)
في ديانة العرب قبل الإسلام، في مجلة الجمعية الآسيوية الألمانية1. وقد بحث هذا المستشرق في ديانة العرب قبل الإسلام بحثًا عميقًا، وهو أول مستشرق درس هذا الموضوع بعد "بوكوك" "pococke" الذي كان أقدم مَن درس الوثنية عند العرب دراسة تفصيلية مستقلة في كتاب المطبوع سنة 1649 للميلاد2. وقد تطرق "أسيندر" لعبادة النجوم عند العرب وعبادة الأصنام والأماكن المقدسة في جنوبي بلاد العرب وعبادة الأصنام في الحجاز ونجد، وتوصل إلى أن العرب عبدوا النجوم في بادئ الأمر، ثم تطورت الفكرة الدينية عندهم، وبالرغم من ذلك ظلّت عقدة عبادة النجوم راسخة في أدمغتهم.
وجاء المستشرق "لودولف كريل" "ludolf krehl"؛ فأحيا هذه الدراسة مرة ثانية بكتابه "بحث عن ديانة العرب قبل الإسلام"3، وطرق موضوعات لم يتمكن من سبقه من البحث فيها. وقد ذهب إلى أن العرب القدماء كانوا من الموحدين في الأصل؛ غير أنهم تركوا التوحيد بعدئذ، وعمدوا إلى عبادة النجوم والأصنام فالأحجار والأشجار، وبذلك انحطت الحالة الدينية عندهم، وفي القرن السادس تأثروا بالديانة اليهودية والنصرانية في الأماكن التي حدث فيها اتصال بهاتين الديانتين.
وأهم ما ألف في الوثنية عند العرب قبل الإسلام، كتاب المستشرق الألماني "ولهوزن" الذي سماه: "بقايا الوثنية العربية"4. وقد بحث في نواحٍ مختلفة من نواحي الحياة الدينية عند عرب الجاهلية وفي الأصنام؛ فجمع ما لم يتمكن من جمعه في هذا الباب أحد من المستشرقين قبله، واتبع أسلوب المقابلة والنقد في البحث.
هذا ولا بد من الإشارة إلى مجهود عدد من العلماء تخصصوا بالعربيات وعالجوا نواحي عديدة من دراسات الجاهلية، ومنهم "فرتز هومل" "fritz hommel" صاحب المؤلفات والبحوث الكثيرة، والدراسات القيّمة في تأريخ اليمن والعرب
__________
1 Sludien ber die vorislaraische Religion der Araber, in: Zeitachrift der Deutchen
Morgenlaendischen Gesellschaft, 7, 1853.
2 Specimen Historiae Arabum, Oxford, 1649.
3 Ueber die Religion der vorislamischen Araber, Leipzig, 1863-
4 Reste arabischen Heidentums, Berlin, 187., 2 Ausgabe 1929(1/136)
الجنوبيين، وفي ترجمة الكتابات المعينية والسبئية والحضرموتية والقتبانية والحميرية، وفي الدراسات اللغوية. وهو في مقدمة من وضع أسس الدراسات العربية الجنوبية ومهد الجادة لمن جاء بعده من المستشرقين. و"رودوكناكس"1 "mikolaus rhodokanakis"، وهو صاحب جملة مؤلفات في شرح وحلّ النصوص العربية الجنوبية، و"دتلف نيلسن" "detlief Nielsen" الدانماركي من الباحثين في الكتابات العربية الجنوبية وفي الحضارة العربية، والتأريخ العربي قبل الإسلام2.
كذلك خصص "موردتمن" "j. h. mordtmann" و "داؤو هاندش ميلر" "d.h. Mueller"، و "ميتوخ" "eugen mittwoch"، و "فون فزمن" "von wissmann"، و "بيستن" "c.f.l. beeston"، و "كونتي روسيني" "c.conti Rossini"، و "فنت" "f.v. winnett"، و "ركمنس" "c.ryckmanns"، و"كروهمن" "A. grohmann"، و "ملاكر" "k. mlaker"، و "أغناطيوس كويدي" و"هربرت كريمه" "herbert grimme" و "أنوليتمن" و "إلبرايت"، وغيرهم قسطًًا من بحوثهم في العربيات الجنوبية، فساعدوا بذلك على تقديم مادة غنية للمؤرخين والباحثين، وعلى تحسين معارفنا في اللهجات العربية وقواعدها وفي تأريخ الجاهلية3.
هذا، ولا بد لي أيضًا من الإشارة إلى جهود مستشرقين محدثين قصروا عملهم على البحوث العربية الجنوبية، وصرفوا وقتهم في دراستها، وألّفوا وكتبوا فيها، ونشروا بحوثهم في المجلات، ونشروا نشرًا جديدًا نصوصًا سبق أن نشرت، وبعثوا الحياة في نصوص لم تكن معروفة فعرفت. ومن هؤلاء: "فون وزمن" "h.von wissmann". و "ريكمنس" "j.ryckmans"، وهو صاحب
__________
1 Nikolaus Rhodokanakis: Katabanische Texte zur Bodenwirtschaft, 2 Hefte, Studien \ zur Lexikographie und Grammatik des Altsuedarabischen, Der Grundsatz der
Offentlichkeit in den Sudarabischen, Urkunden, 1914.
2 Handbuch der Altarabischen Altertumskunde, Bd, 1, Hamburg, 1927.
3 للاطلاع على المؤلفات التي تعرضت لأسفار السياح في جزيرة العرب، يستحسن الرجوع إلى الكتب التي ألفت في هذا الموضوع باللغات الأوروبية، ومنها:
Hilprecht: Explorations in Bible Land during' the 19th Century, Edinburgh, 1903, Ency. Brita.,' Vol., 2, P., 169. ff(1/137)
بحوث وتحقيقات في نشر الكتابات والتعليق عليها وعلى أيام الملوك. و "إلبريت" "w.f.albright" العالم الآثاري الأمريكي الذي ذكرته قبل قليل. و "الأب جامة" "a. jamme" الذي رافق البعثة الأمريكية لدراسة الإنسان، والخبير بقراءة النصوص وبعيين زمان كتابتها، وناشر جملة كتابات عثرت عليها البعثة المذكورة. و"مارية هوفنر" "m,hofner"و "بيرين" "j. pirenne" و "بيستن" "a. f. l. beeston" وغيرهم، ممن جاءوا ببحوث قيمة جديدة وما زالوا يبحثون في التأريخ الجاهلي1.
هذا، وسوف يكون لدراسة علماء الآثار للآثار التي عثر وسيعثر عليها من ناحية علم الآثار، وكذلك تطور الخطوط ومقارنة الكتابات بعضها ببعض لمعرفة زمانها وتحليل الآثار ودراستها بالمختبرات وبطرق "الفحص" الكاربوني" وبما شاكل ذلك من طرق تعد اليوم حديثة، شأن كبير في الكشف عن التأريخ الجاهلي، وتقريبه من الواقع، وتضييق شقق الخلاف التي نراها بين العلماء في عمر الدول وفي حكم الملوك وأمثال ذلك من أمور هي اليوم في موضع اهتمام الباحثين في تأريخ الجاهلية.
هذا وأودّ أن أشير هنا إلى أمر يتعلق بالكتابات الجاهلية، هو أن غالبية من عالجها وترجمها اعتمد في الغالب على العبرانية وعلى السريانية في الترجمة، ولهذا لم يوفّقوا في ترجمتهم توفيقًا كبيرًا، وأعتقد أن دراسة اللهجات العربية لقبائل اليمن وبقية العربية الجنوبية وجمع معاني مفرداتها، تفيد كثيرًا في تفسير كتابات المسند وشرحها مثلًا؛ لأن كثيرًا من هذه المفردات ما زال مستعملًا استعمال القدماء له؛ ولكن مثل هذه الدراسات لم تتم بشكل علمي منظم منسق حتى الآن ويا للأسف. ورجائي أن يأتي يوم يقوم فيه المتخصصون من العرب بدراسة تلك اللهجات وتثبيتها بصورة علمية ووضع معجمات بألفاظها، فإن في هذا العمل خدمة كبيرة للتراث العربي القديم.
وقد قام المستشرقون بنصيبهم في كتابة تأريخ الجاهلية، فهم يستحقون على عملهم هذا كل شكر وثناء، مهما وقع في دراستهم من قوة وضعف، وغرض ونيّة، فهم قد قاموا بعمل، وقد أفادونا في عملهم هذا ولو بعض الفائدة،
__________
1 E. Wright, The Bible and the Ancient Near East, Essays in Honor of William Foxwell Albright, New(1/138)
فعلينا ألّا ننكر فضل الناس، وإذا كان هناك شيء من خطأ أو نيّة سيئة؛ فعلينا يقع واجب تصحيحه وبيان مواطن سوء النيّة، فهم غرباء، ونحن حملة هذا التأريخ وأصحابه. وعلينا وحدنا يقع واجب تدوينه وانتزاعه من باطن الأرض، والبحث في كل زاوية ومكان لإيجاد مورد جديد نضيفه إلى الموارد الموجودة. وعلى الحكومات العربية واجب إتمام العمل، وتيسير الوسائل التي توصل الباحثين إلى الأماكن التي يقصدها العلماء وحمايتهم ورعايتهم، وواجب إعداد طائفة من المنقبين العرب للقيام بهذه المهمة والإنفاق عليهم بسخاء، وإنشاء متاحف تحفظ فيها العاديات، ومنع الناس من التجاوز والتطاول على الأماكن الآثارية، ومن أحق بالمحافظة على تراث البلاد من أبنائها؟.(1/139)
الفصل الرابع: جزيرة العرب
مدخل
...
الفصل الرابع: جزيرة العرب
ليس بين أشباه الجزر شبه جزيرة تنيف على شبه جزيرة العرب في المساحة؛ فهي أكبر شبه جزيرة في العالم. ويطلق العلماء العرب عليها تجوّزًا اسم "جزيرة العرب"1. تحيط بها المياه من أطرافها الثلاثة، ومع ذلك لم يستطع الجو البحري أن يخفف من حدة الحرارة فيها، ويتغلب على جفافها، والأبخرة المتصاعدة من البحر لا تتمكن أن تصل إلى أواسط بلاد العرب؛ لإنزال رحمتها عليها. فإن الرياح السمائهم، وهي ذات الحر الشديد النافذ في المسام، تتلقى الرطوبة التي تنبعث من البحار بوجه كالح عبوس، ومقاومة تسلبها قوتها، وتنتزع الرطوبة منها، وتمنعها في الغالب من الوصول إلى أواسط الجزيرة.
يحدّ جزيرة العرب من الشرق الخليج العربي المعروف عند اليونان باسم "الخليج الفارسي" "sinus persicus"، وما زال يعرف بهذه التسمية المأخوذة عن اليونانية في المؤلفات المعاصرة. أما قدماء أهل العراق؛ فقد عرف عندهم ب"البحر الجنوبي" و "البحر الأسفل" و "البحر التحتاني" "lower sea"2، وبـ "البحر الذي تشرق منه الشمس" و" بحر الشروق" "sea of the rising sun"
__________
1 الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص47، وسيكون رمزه: صفة، الألوسي: بلوغ الأرب "1/ 184 وما بعدها"، معجم البلدان "3/ 100" وسيكون رمزه بـ "البلدان"،
L.D. Stamp, Asia, an Economic and Regional Geography, P., 133. "البلدان"
2 Ancient Iraq, by Georges Roux, London 1964, P., 29(1/140)
وب "البحر المر" و "البحر المالح" و "نار مرتو" "nar marrtu" في الأشورية1. ويحدها من الجنوب المحيط الهندي، وقد أطلق بعض الكتبة اليونان واللاتين على القسم المتصل منه بسواحل جزيرة العرب الجنوبية والملاصق لسواحل إفريقية الشرقية المقابلة لهذه السواحل اسم "البحر الأريتري" "mare erythraeum". أما "بطلميوس" فقد أطلق على الماء المحصور بين عمان وحضرموت اسم "خليج سخاليته" "sinus sachalites"، وأطلق على القسم الغربي الباقي اسم "بحر ربرم"2 "mare rubrum" "rubri maris"أي البحر الأحمر. وقد قصد الإغريق واللاتين بـ "mare rubrum" في الغالب البحر الأحمر الحالي والبحر العربي والخليج العربي؛ بل حتى المحيط الهندي، فهم يتوسعون في هذا الإطلاق كثيرًا3.
أما حدّها الغربي، فهو البحر الأحمر كما يسمى في الخارطات الحديثة المعروف باسم "الخليج العربي" "sinus arabicus" في الخارطات اليونانية واللاتينية، وبـ "بحر القلزم" في الكتب العربية4. أما العبرانيون، فقد أطلقوا عليه "هـ - يام" "هايم" "أليم"، ومعناه اللغوي "البحر" من "يم" "يام" بمعنى "بحر" و "ها" أداة التعريف التي هي في مقام "ال" في العبرانية، وذلك بصورة عامة، و "يام سوف yam suph" بصورة خاصة، وبـ "سوف" و "سوفة" أحيانًا5. وقد فسّر "البيضاوي" لفظة "الميم"، الواردة في القرآن الكريم بهذا البحر، أي البحر الأحمر6. وقد أريد بـ "mare erythraeum" وبـ "mare rubrum" أيضاً7.
وشكل البحر الأحمر، شكل يلفت النظر، يظهر وكأنه خسط منظم ممتد من الشمال نحو الجنوب على هيئة ثعبان منتصب ذي قرنين. أما باقي جسمه؛ فإنه
__________
1 Ancient Iraq, P. 247.
2 راجع الخارطات اليونانية واللاتينية الموضوعة في هذا الباب.
3 Quintus Curtius, I, P. 75
4 راجع الخارطات اليونانية واللاتينية، بلوغ الأرب "1/ 184 فما بعدها".
5 "سوف" في اللغة العبرانية، بمعنى أعشاب ضارة، حشائش ودغل.
6 تفسير البيضاوي "7/ 132، 341"
Smith, A Dictionary of the Bidle Comprising Its Antiquities, Biography,
6 تفسير البيضاوي "7/ 132، 341".
7 Smith, vol. 1. P. 1009.(1/141)
البحر العربي. أما هذا الثعبان؛ فقد كان أرضًا في الأصل، خسفت على هذه الصورة في الزمن الثالث من الأزمنة الجيلوجية1، فابتعدت بذلك بلاد العرب عن إفريقية، إلا من ناحية الشمال، حتى لا تكون هناك قطيعة تامة، وارتفعت بذلك السواحل الغربية؛ نتيجة انخساف الأرض، فسالت إلى الأرض المنخسفة مياه البحر العربي، ولو تم الخسف، وامتدّ إلى "طور سيناء" فشطرها، لما كانت هناك حاجة إلى قيام الإنسان فيما بعد بإتمام العمل الذي لم تكمله الطبيعة، وهو إيصال البحر الأحمر إلى البحر الأبيض بقناة السويس.
وهناك من يرى أن البحر الأحمر كان بحيرة في الأصل، وكانت إفريقية والعربية الجنوبية قطعة واحدة عند جنوب هذه البحيرة، أي عند ما يسمى بـ "مضيق باب المندب" في الزمن الحاضر؛ ولكن خسفًا وقع، أدى إلى انفصال إفريقية عن العربية الجنوبية الغربية؛ فاتصل المحيط الهندي بالبحيرة، وتكوّن البحر الأحمر. وقد كان الناس قبل وقوع هذا الانفصال يتنقلون برًّا وكأن إفريقية وجزيرة العرب قطعة أرض واحدة، ومن هنا كانت الهجرات.
أما خليج العقبة؛ فقد عُرف بـ "خليج أيلة" وبـ "خليج الأيلانيين"، "sinus aelanites" "sinus aelaniticus" في الكتب الكلاسيكية، نسبة إلى مدينة "أيلة" المسماة "إيلات" "elath" و "أيلوت" eloth عند العبرانيين. وهي مدينة مهمة من مدن "أدوم" "الأدوميين"1. وأما "خليج السويس" فقد عرف بـ "sinus heroopolites" "sinus heroopoliticus" عند اليونان واللاتين2.
ويحصن مناطق واسعة من ساحل جزيرة العرب على البحر الأحمر صخور مرجانية تفتك بالسفن التي تتجاسر فتقترب منها، نبتت في تلك المواضع لتحمي الساحل من وصول الأجانب إليه. ولكنها أضرت سكانه من ناحية أخرى؛ إذ جعلت الملاحة صعبة في هذه الأماكن، فقللت بذلك الاستفادة من الاتجار بالبحر، وقللت أيضا من عدد الموانئ الصالحة لرسو السفن على هذا الساحل. وهناك جزر متفرقة تقابل الساحل، أكثرها مهجور، وبعضها قليل السكان، ومعظمهم خليط
__________
1 بروكلمن: تأريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة الدكتور نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي "طبعة دار العلم للملايين"، الجزء الأول "ص10".
2 Hastings, P. 211, Smith, vol. 1 1009(1/142)
من دم إفريقي أسود ومن عرب، عاشوا في الجاهلية وفي الإسلام على التعرض للسفن بالغزو وعلى الصيد.
ويرى بعض الباحثين أن البحر الأحمر لم يكن وحده نتيجة خسف أصاب بلاد العرب ففصلها عن إفريقية إلا من جهة "طور سيناء"؛ بل إن سواحل بلاد العرب الأخرى، أي السواحل الجنوبية والسواحل الشرقية، تعرضت هي أيضًا لهزّات عديدة، فخسفت في مواضع عديدة مثل "عدن"؛ حيث تكوّن خليج عدن، ومثل الخليج العربي، وكانت هذه الهزات والتصدعات استجابة لتصدع واهتزازات حدثت في الشمال على مقربة من حدود بلاد الشام؛ فامتدت إلى وادي الأردن والبحر الميت فوادي عربة إلى خليج العقبة. وهكذا تعرضت جزيرة العرب في عصور سحيقة في القدم قبل الميلاد لهزات وتحركات أرضية، حتى جعلتها على الشكل الذي نراه عليه الآن1.
وحدّها الشمالي خط وهمي يمتد في اصطلاح العلماء العرب من خليج العقبة حتى مصبّ شط العرب في الخليج العربي؛ فيكون النفود الشمالي من الحدود التي تفصل الهلال الخصيب عن جزيرة العرب. أما من الناحية "الجيلوجية"، فإن باطن الهلال وحدة لا يستطاع فصلها عن تربة الجزيرة، وجزء لا يختلف من حيث طبيعته الصحراوية وخواصه عن سائر أنحاء بلاد العرب. وأما من الناحية التأريخية، فإن هذا الخط الوهمي المتصور، هو وهم وخطأ، فقد سكن العرب في شمال هذا الخط قبل الميلاد بمئات السنين. سكنوا في العراق من ضفة نهر الفرات الغربية، وامتدوا في البادية حتى بلغوا أطراف الشام. وسكنوا في فلسطين وطور سيناء، حتى بلغوا ضفاف النيل الشرقية. وهي أرضون أدخلها الكتبة القدامى من يونان ولاتين وعبرانيين وسريان في جملة مساكن العرب ودعوها بـ "العربية" وبـ "بلاد العرب"؛ لأن أغلب سكانها كانوا من العرب2، حتى ذهب بعض علماء "التوراة"، إلى أن "بلاد العرب" في التوراة، هي مواطن "الإسماعيليين ishmaelite" و "القطوريين keturaean"، أي البوادي التي نزلت بها القبائل المنتسبة إلى "إسماعيل" و "قطورة". وهي
__________
1 B.R. 527 (Restricted) , Geographical Handbook, Series for Official use only, Western Arabia and the Red Sea, June 1946, Naval Intelligence Division, PP., 11
2 O'Leary, Arabia before Muhammad, P., 5.(1/143)
قبائل بدوية، كانت على اتصال بالعبرانيين، وهي بوادٍ تقع شمال جزيرة العرب وفي الأقسام الشمالية منها1.
أما "أريي"، أي "العربية" في النصوص الأشورية، و"ماتو أريي" "matu a-ra-bi"، أي "أرض العرب" و "بلاد العرب" في النصوص البابلية، و "أربايا" "arabaya" "arpaya" في النصوص الفارسية، "بيث عرباية" "beth' arabaya" في الإرمية؛ فإنها كلها تعني البادية الواسعة التي تفصل العراق عن بلاد الشام. أما حدودها الجنوبية، فلم تحددها النصوص المذكورة2. ولكننا نستطيع أن نقول أن امتدادها كان يتوقف على مبلغ علم تلك الشعوب بالعرب، وعلى المدى الذي وصل إليه تعاملهم في بلاد العرب.
فبلاد العرب أو "أرض العرب" "مت أربي" "mat arabi" "mat aribi" هي بادية الشأم أيضًا، وهي كل الأرضين التي تحدها جبال "الأمانوس" "amanus" في الشمال، أي الأرضين التي تقع في جنوبها وكل شبه جزيرة سيناء عند "بلينيوس"3 "plinius". فهن إذن أوسع جدًا مما تصوره علماء الجغرافيا المسلمون لجزيرة العرب.
وإذا نظرنا نظرة عامة إلى خارطة جزيرة العرب، تيسطر على السواحل الضيقة، وتكوّن سلاسل من المرتفعات متصلًا بعضها ببعض، تمتد من بلاد الشأم إلى اليمن، ويقال لهذه المرتفعات جبال "السّراة"4. وهي توازي ساحل البحر الأحمر، وتقترب منه في مواضع عديدة ويبلغ متوسط ارتفاعها زهاء خمسة آلاف قدم. أما أقصى ارتفاع لها، فيبلغ زهاء 12.326 قدمًا، وهو في اليمن5.
وأما الأرضون المحصورة بين هذه السلسة وساحل البحر؛ فإنها ضيقة، تسيطر عليها هذه المرتفعات، وتنحدر إليها انحدرًا شديدًا قصيرًا. وسواحلها
__________
1 Hastings, A Dictionary of the Bible, Vol., 1, P., 585.
2 Encyclopaedia Biblica, Vol., I, Col., 273.
3 Pliny, Nat. Hist, VI, 142. f., A. Grohmann, Arabien, S., 3.
4السراة: أعلى كل شيء، وهنالك مواضع عديدة يقال لها سراة مضافة إلى القبائل، تاج العروس "10/ 174"، البلدان "5/ 59".
5 C. Rathjens und H. von Wissman: Suedarabische Reise, Hamburg, 1934, Bd., Ill, S-, 2, Ency. Brit., Vol.,2,P., 169(1/144)
المهيمنة على البحر، صخرية في أغلب الأحيان، يصعب رسو السفن فيها1. وطالما تحطمت عليها السفن المنكوبة، فتكون طعامًا للبحر، وللأعراب الساكنين على السواحل؛ فيكون من ينجو بنفسه من أصحاب تلك السفن وما يتبقّى من حطامها ملكًا لأولئك الساكنين بحسب عرف أهل ذلك الزمان وعاداتهم.
أما الانحدار إلى البحر العربي والخليج العربي، فإنه يكون تدريجيًا وطويلًا ولذلك تكون الأقسام الغربية من جزيرة العرب أعلى من الأقسام الشرقية. وتتألف الأرضون الوسطى من هضبة تُدعى "نجدًا"، يبلغ متوسط ارتفاعها زهاء 2500 قدم. وتمتد في الأقسام الجنوبية من الجزيرة سلاسل من الجبال، يتفاوت ارتفاعها، تسيطر على المنخفضات الساحلية، وعلى ما يليها من أرضين من جهة البرّ، وتتصل هذه بسلسلة جبال اليمن، وتكثر فيها الأودية التي تفصل بين السلاسل، وتأخذ مختلف الاتجاهات من الشمال الشرقي أو من الشمال الغربي إلى سواحل البحر؛ حيث تمثل اتجاهات المياه والسيول2. ويكون أعلى ارتفاع لسلسلة الجبال الجنوبية في أقصى الجنوب الشرقي من الجزيرة، أي في عمان؛ حيث يبلغ ارتفاع الجبل الأخضر زهاء عشرة آلاف قدم3.
وتتكون أغلب الأرضين في جزيرة العرب من بوادٍ وسهول، تغلبت عليها الطبيعة الصحراوية؛ لكن قسمًا كبيرًا منها يمكن إصلاحه إذا ما تعهدته يد الإنسان، واستخدمت في إصلاحه الوسائل العلمية الحديثة. وأما الأرضون الصالحة للزراعة، فإنها تزرع فعلًا لوجود المياه فيها. أما الأرضون التي تعدّ اليوم من المجموعة الصحراوية، فهي:
__________
1 Hitti, P., 14.
2 Ency. Brit., Vol., 2, P., 169.
3 Ency. Brit., Vol., 2, P., 169, Hitti, P., 14.(1/145)
1- الحِرار، أو الأرضون البركانية:
وقد تكوّنت بفعل البراكين، ويشاهد منها نوعان: نوع يتألف من فجوات البراكينن نفسها، ونوع تكوّن من حممها "اللابة" lava التي كانت تقذفها، فتسيل إلى الأطراف ثم تبرد وتتفتت بفعل التقلبات الجوية، فتكون ركامًا من الحجارة البركانية يغطي الأرض بطبقات، قد تكون سميكة، وقد تكون رقيقة، تتبعثر فيظهر من خلال فجواتها وجه الأرض الأصلية.(1/145)
وفي مثل هذه الأرضين يصعب السير؛ لانتشار الحجارة ذات الرءوس الحادة فيها، وتقل الاستفادة منها، فتتحول شيئًا فشيئًا إلى مناطق صحراوية، والسائر اليوم في منطقة "اللجاة" في جنوب شرقي دمشق، يلاحظ الطريق الذي سلكته الحمم المقذوفة1.
وقد وصف العلماء العرب الحِرار، فقالوا2: الحَرَّة أرض ذات حجارة سُود نخرة، كأنها أحرقت بالنار، ويكون ما تحتها أرضًا غليظة، من قاع ليس بأسود، وإنما سوّدها كثرة حجارتها، وتدانيها. وتكون الحرة مستديرة، فإذا فيها شيء مستطيل ليس بواسع، فذلك الكراع، واللّابة واللوبة ما اشتد سواده وغلظ وانقاد على وجه الأرض3. فيظهر من هذا أن "الحرار" هي أفواه البراكين؛ ولذلك تكون مستديرة. وأما اللّابة أو اللوبة، فإنها المناطق التي غطتها حمم البراكين، وسالت فوقها، ثم جفت. وأما الكراع، فإنها أعناق الحرار4.
__________
1 Moritz, Arabien, Studien zur physikalischen und Historischen Geographie des Landes, Hannover, 1923, S, 12 l.
وسيكون رمزه: moritz
"اللجاة اسم للحرة السوداء التي بأرض صلخد من نواحي الشأم، فيها قرى ومزارع وعمارة واسعة"، والبلدان "7/ 323".
2 البلدان "3/ 356"، تاج العروس "3/ 135"، ويقال للحرة المنعزلة في الرمال "بسقه"، الطبري "3/ 221"، وللنهير الذي يسيل من الحرار "شرج" و "شراج"، وأحيانًا "سواقي"، البلاذري: الفتوح "12"، المراصد "2/ 175"، المفضليات "ص245، 415".
3 لسان العرب "2/ 242"، "لوآبة" "لابة ولوبة"، المفضليات "ص245، 415"، البلدان "3/ 357"، ويقال "حرة سوداء"، الطبري "2/ 959"، وجاء أيضًا "حرة رجلاء"، صفة ص205، وقد علل الهمداني ذلك بقوله "سميت الحرة الرجلاء لأنها ترجل سالكها، ولا يقدر فيها على الركوب"، صفة ص205، راجع كذلك معلقة الحارث، بيت 38، وجاء "حرة سوداء"، mortiz s, 11 وجاء كذلك"حامية"، والظاهر أنها من ألفاظ العوام.
وقد كتب العلماء في "الحرار"، كتبًا، مثل "كتاب الحرة" المنسوب إلى أبي عبد الله محمد الغلابي، "الفهرست ص108"، و"كتاب الحرات" لأبي عبيدة "الفهرست ص59"، "طبعة أوربة" "80" طبعة المطبعة الرحمانية، لسان العرب "2/ 242"، وورد أيضًا "لابة سوداء"، "لوابة" و"لوبة"، ابن سعد، الطبقات "1/ 2، 25"،
Mortz, S. 12, Anm. 1, Loth in ZDMG, 22, 365-382
4 لسان العرب "2/ 242"، "10/ 182"، القاموس "3/ 78".(1/146)
وتكثر الحرار في الأقسام الغربية من جزيرة العرب، وتمتد حتى تتصل بالحرار التي في بلاد الشام، في منطقة حوران، ولا سيما في الصفاة1، وتوجد في المناطق الوسطى، وفي المناطق الشرقية الجنوبية من نجد حيث تتجه نحو الشرق، وفي المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية؛ حيث تلاحظ الحجارة البركانية على مقربة من باب المندب وعند عدن2. وقد ذكر علماء العرب أسماء عدد منها3، كما أضاف إليها السياح أسماء عدد آخر عثروا عليها في مناطق نائية4.
وقد وردت في الشعر الجاهلي إشارات إليها. وكانت إحدى الحرار، وهي "حرة النار" في عهد الخليفة عمر لا تزال ثائرة تخرج النار منها5. وقد ذكر أن سحب الدخان كانت تخرج في عهد الخليفة عثمان من بعض الجبال القريبة من المدينة6. وهذا يدل على أن فعل البراكين في جزيرة العرب، لم يكن قد انقطع انقطاعًا تامًا، وأن باطن الأرض، كان ما زال قلقًا، لم يهدأ.
وكان آخر حدث بركاني في الحجاز في سنة 654 للهجرة "1256م"؛ إذ ثارت إحدى الحرّات في شرقي المدينة، واستمر هيجانها بضعة أسابيع، وقد وصل ما سال من حممها إلى مسافة بضعة كيلومترات فقط من المدينة التي كان نجاتها من الأعاجيب7. وكان أواخر القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر الميلاديين عهد زلازل وثوران براكين في مناطق آسية الغربية8. ومنذ القرن الثالث عشر الميلادي، لم يبقَ أثر لفعل البراكين في مختلف أنحاء بلاد العرب9.
وقد تركت الأصوات المزعجة، و "الصيحات" المرعبة، والنيران التي كانت ترى من مسافات بعيدة، وسحب الدخان التي كانت ترتفع من أجواف
__________
1 MoriU, S-, 12, Chr. Phllps Grant, The Syrian Desert, London, 1937, P., 122, Alioa \ MusU, In the Arabian Desert, New York, 1930, PP., 3, 21.
2 Ency. Brit., Vol., 2, P., 174
3 البلدان "2/ 259" "مطبعة السعادة 1906"، "حرة أشجع" الإصابة "1/ 467".
3 Doughty, Arabia Deserta, 2, 618. f.
5 البلدان "3/ 261"، mortiz, s, 13
6 الطبري "1/ 298" "الطبعة الأوروبية"،
7 Moritz, S., 13. v
8 Moritz, S., 14. s
9 Moritz, S., 19.(1/147)
الأرض، و "البريق" الذي كان يظهر من الحرار، مثل حرّة "القوس" التي قيل أنها كانت ترى كأنها حريق مشعل1، و "حرة لبن" التي كان يخرج منها ما يشبه البرق، ويسمع منها أصوات كأنها صياح2، هذه كلها تركت صورًا مرعبة في نفوس الجاهليين، تتجلى في القصص المروية عنها، وفي عقائدهم بتلك النيران.
ولعل قوة نيران "حرة ضَرْوان" وشدة قذفها للحمم وارتفاع لهيبها، هي التي دفعت أهل اليمن إلى التعبد لها والتحاكم إليها؛ فقد كانوا يذهبون إليها ليتحاكموا عندها فيما يحدث عندهم من خلاف، والرأي عندهم أن النار تخرج فتأكل الظالم وتنصف المظلوم. وقد كانت حرة نشطة عاشت أمدًا طويلًا كما يظهر من وصف "الهمداني" وغيرها لها، وصلت حممها إلى مسافات بعيدة عن الحرة3.
وقد تسببت أكثر هذه الحرار في هلاك كثير ممن كان يسكن في جوارها وفي هجرة الناس من الأرضين التي ظهرت بها، فتحولت إلى مناطق خاوية خالية. وقد وجد السياح أرضين شاسعة واسعة أصيبت بالحرار، وتأثرت بفعل "اللابة": التي سالت عليها. وللناس الحق كل الحق في إرجاع أسباب هلاك أصحابها إلى العذاب الذي نزل بهم بانفجار الأرض وبخروج النيران منها تلتهم الساكنين عندها. وقد جهلوا أن هذه النيران المتقدة الصاعدة والروائح الكريهة المنبعثة عنها، هي من فعل العوامل الأرضية الداخلية التي تعمل سرا في بطن الأرض.
وكثرة الحرار في جزيرة العرب، وانتشارها في مواضع متعددة منها؛ دليل على أن باطنها كان قد تعرض لامتحانات عسيرة قاسية، ولتقلبات كثيرة ولضغط شديد في المناطق الشمالية والغربية والجنوبية، وقد ظهر أثر ذلك الضغط في وجهها فبان اليوم وكأنه حب الجُدَرِيّ، ويتحدث عن ذلك المرض القديم.
__________
1 قال عرعرة النميري:
بحرة القوس وجنبي محفل ... بين ذراه كالحريق المشعل
البلدان "3/ 259".
2 "لبن"، بضم اللام وتسكين الباء الموحدة، قال الشاعر:
بحرة لبن يبرق جانباها ... ركود ما تهد من الصياح
البلدان "3/ 260".
3 الإكليل"1/ 33".(1/148)
وقد اشتهرت بعض مناطق الحرار بالخصب والنماء وبكثرة المياه فيها، ولا سيما حرار الحجاز التي استُغلت استغلالًا جيّدًا، ومنها "خيبر"، التي مُيّزت على سائر القرى، فقيل عنها إنها "خير قرى عربية"1؛ غير أن ظهور العيون فيها بكثرة، جعلها موطناً من مواطن الحمّى، اشتهر أمرها في الحجاز حتى قيل: "حمى خيبر"2. واستفاد الجاهليون من الحرار باستخراج الأحجار منها، كأحجار الرحى والمعادن، فكانت موطنًا من مواطن التعدين القديمة فيها3.
ويدرس علماء طبقات الأرض بعناية بلاغة توزيع الحرار في جزيرة العرب، وتقصي أنواع الحجارة التي يكثر وجودها مثل الحجارة الكلسية والغرانيتية والرملية وتوزّعها، والينابيع الحارة في الأحساء4، لما في هذه الدراسات من أهمية بالنسبة إلى اكتشاف الموارد الطبيعية، والثروات الكامنة في الأرض.
ويظن أن فعل البراكين كان له أثر خطير في العصور ال "أيوسينية" "eocene"؛ إذ ثارت براكين عديدة في جزيرة العرب وفي الحبشة وفي السواحل الإفريقية المقابلة لجزيرة العرب. وقد أثرت هذه البراكين بالطبع في شكل الأرضين التي ثارت فيها وفي شكل الأرضين القريبة منها، وقد ظهرت براكين فعّالة نشيطة في العصور "البليوسينية" "pliocene" أيضًا، أثرت كذلك في شكل سطح الأرض، بأن أحدثت فيها تضاريس، لا تزال آثارها تشاهد حتى الآن5.
وفي جزيرة العرب عيون وينابيع، تخرج منها مياه حارة؛ ففي عسير وفي الحجاز وفي اليمن وفي حضرموت وعمان والأحساء والهفوف وفي مواضع أخرى
__________
1 "خير قرى عربية خيبر"، ابن سعد، الطبقات "1/ 50" "قسم 2" zwemer, arabia, p, 23, mortiz, s, 12
2
كأن به -إذ جئته- خيبرة ... يعود عليه وردها وملالها
قلت لحمى خيبر: استعدي ... هاك عيالي فاجهدي وجدي
وباكري يصالب وورد ... أعانك الله على ذا الجند
البلدان "3/ 497"، الحماسة "طبعة فرايتاك" "ص64"، صفة 118، نقائض جرير 620.
3 مثل حرة سليم، وحرة الرفاع على ساحل البحر الأحمر شمالي غربي ينبع، البلدان "3/ 258"، "8/ 526"، تاج العروس "3/ 635"
4 ENcy. Brit. Vol. 2, P. 174.
5 Naval, PP., 19.(1/149)
غيرها، مواضع تخرج منها مياه حارة كبريتية في الأكثر، ويستشفي بمياهها الناس بالاستحمام. وانتشارها على هذه الصورة وبهذه الكثرة يلفت النظر، وهي من آثار التقلبات الجوفية التي حدثت في جزيرة العرب منذ القدم1.
__________
1 Naval, P. 21(1/150)
2- الدهناء:
وهي مساحات من الأرضين تعلوها رمال حمر في الغالب، تمتد من النفود في الشمال إلى حضرموت ومهرة في الجنوب، واليمن في الغرب، وعمان في الشرق1. وفيها سلاسل من التلال الرملية ذات ارتفاعات مختلفة، تنتقل في الغالب مع الرياح، وتغطي مساحات واسعة من الأرض2. ويمكن العثور على المياه في قيعانها إذا حفرت فيها الآبار3.
وقد أشير إلى الدهناء في بيت شعر للأعشى هذا نصه:
يمرون بالدهناء خفافًا عيابهم ... ويرجعن من دارين بُجر الحقائب4
وقد تصل الأمطار الموسمية إلى بعض أجزاء "الدهناء" فتنبت فيها الأعشاب؛ ولكن عمرها فيها قصير؛ إذ سرعان ما تجف وتموت. وقد هجر الناس السكنى في أكثر أقسام الدهناء، لجفاف أكثر أقسام هذه المنطقة الصحراوية الواسعة، وخلوها من الماء والمراعي، ولكثرة هبوب العواصف الرملية فيها، ولشدة حرارتها التي يصعب احتمالها في أثناء النهار، وأقاموا في الأمكنة المرتفعة منها، التي تتوافر فيها المياه، وتتساقط عليها الأمطار، فتنبت الأعشاب، وينتجعها الأعراب. أما الأقسام الجنوبية من الدهناء فيسميها الجغرافيون المحدثون
__________
1 "الدهناء" بفتح أوله وسكون ثانية ونون وألف تمد وتقصر، البلدان "4/ 115 وما بعدها".
2 Ency. Vol. 1, P. 893, Ency. Vrit. Vol. 2, p. 173 Hitti p. 15.
3 Handbook of Arabia, vol. 1, P. 11
4 الألوسي، تأريخ نجد، تحقيق الأستاذ محمد بهجت الأثري، المطبعة السلفية القاهرة 1347 "ص30".(1/150)
"الربع الخالي"1 "the empty quarter"، لخلوها من الناس، وكانت تعرف بـ "مفازة صيهد"2.
وقد تمكن السائح الإنكليزي "برترام توماس bertram thomas" من اجتيازها في "58" يومًا، وهو عمل مجهد شاق؛ فكان أول أوروبي جَرُؤ على اجتياز هذه الأرض3.
ويطلق على القسم الغربي من الدهناء اسم "الأحقاف" وهو منطقة واسعة من الرمال بها كثبان اقترن اسمها باسم "عاد". {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} 4.
وكشف "برترام توماس" في الربع الخالي بحيرة من المياه الملحة، وبقايا حيوانات مبعثرة، وتبين لدى العلماء أن هذه البحيرة كانت من متفرعات الخليج العربي، وأن من المحتمل أن هذه الأرضين التي تكثر فيها رواسب قيعان البحر، قد كانت في عهدها من المناطق البحرية التي تغمرها مياه المحيط، كما عثر فيه على آثار جاهلية لم يعرف من أمرها شيء حتى الآن5، يظهر أنها لأقوام كانت تستوطن هذه المناطق أيام كانت ذات مياه صالحة للإنبات والخصب. وما زالت حتى اليوم تعد أرضًا مجهولة، وإن تحسنت معارفنا عنها كثيرًا، بفضل بعض موظفي شركات البترول والباحثين عن المعادن في مختلف أنحاء الجزيرة. وستأتي الاكتشافات الجديدة لها بمعارف قيمة عن تأريخ العرب قبل الإسلام من غير شك.
وتكو "وبار" قسمًا من الدهناء، وكانت من الأرضين المشهورة بالخصب والنماء، وهي اليوم من المناطق الصحراوية، وبها آثار القرى القديمة التي كانت كثيرة قبل الإسلام. والظاهر أنها كانت مواطن الرباريين، وهم الذين دعاهم
__________
1Terra Incognita, Hitti, P., 15, Ency., Vol., 1, P., 895, Philby, The Empty
Quarter, London, 1933, Bertram Thomas, Arabia Fllix, P., XXiii, 180, Philby,
In the Geographical Journal, "The Empty Quarter", 81, "1933", 1-26.
2 Ency., Vol., 1, P., 370, Moritz, S., 15.،"صفة 214، البلدان "5/ 419"
3 Ency., Vol., 1, P., 183, Handbook of Arabia, Vol., 1, P., 11 Bertram Thomas Arabia Felix, Across the Empty Quarteer of Arabia, London, 1932, The Geographical Journal, Across the Empty Quarter, III, "1948", 1-21, Also "A Further Journey Across the Empty Quarter", CXIII, "1949", 12-45.
4 سورة الأحقاف، السورة 46 أية21
5 Arabia Felix, PP., 180, Ency. Brit., Vol., 2, P., 173.(1/151)
"بطلميوس" "jobaritai" الذين سأتحدث عنهم1. وفي الجهة الشمالية الشرقية من وبار، رمال "يبرين"، وكانت من المناطق المأهولة كذلك، ثم دخلها الخراب2.
__________
1 البلدان "8/ 392"،
Phiby, the Empty Quarter, PP. 157, Ency, vol. 1, p. 370 vol. 4, P. 1073.
2 البلدان "6/ 99"، صفة "ص 51، 84، 137، 149، 155، 165".
Ency., vol., 1, p, 370(1/152)
3- النفود:
أما النفود، وهو اسم لم يكن يعرفه العرب1؛ فهي صحراء واسعة ذات رمال بيض أو حمر تذروها الرياح فتكون كثبانًا مرتفعة، وسلاسل رملية متموجة، تبتدئ من واحة "تيماء"، وتمتد إلى مسافة 450 كيلومترًا تقريبًا نحو الشرق، ويبلغ امتدادها من الجوف إلى جبل شمر زهاء 250 كيلومترًا تقريبًا. وقد عرفت أيضًا بـ "الدهناء" وبـ "رملة عالج"، ثم تغلب عليها اسم "النفود" وصارت تعرف به2.
وتعد النفود من الأماكن المائلة أو المنحدرة، ويظهر من القباسات "وإن كانت قليلة جدًا"، إن المنطقة الشرقية من النفود أوطأ من مستوى المنطقة الغربية عند خط طول "27" درجة و "30" دقيقة، بما يزيد على 150 مترًا، أي أن هذه البادية مرتفعة في الغرب، آخذة في الانخفاض والميل في الشرق3.
وقد نتج عن هذا الميل والانحدار المتوالي أن الرمال التي كانت الرياح الشمالية أو الشمالية الغربية تحملها، تراكمت في المنخفض؛ فأصبحت الحدود الغربية والشرقية لهذه المنطقة مرتفعة بالنسبة إليها؛ بحيث صار "الحماد" يشرف عليها إشرافًا تامًا4.
ويغطي وجه "النفود"، كثبان من الرمال متموجة يبلغ ارتفاع بعضها
__________
1 فجر الإسلام "1/ 1".
2 "رمل عالج" باللام المكسورة والجيم، "رملة عالج"، البلدان "6/ 96"،
Moritz, S. 15, Handbook of Arabia, vol. P. 11.
3 Ency Brit, vol, 2, P. 173, Moritz, S. 15, Musil, in the Arabian Desert PP. 124.
4 Moritz, S.,15.(1/152)
زهاء "150" مترًا، ولذلك لا يعد سطح بادية النفود سطحًا مستويًا منبسطًا. وتأخذ هذه المرتفعات مختلف الأشكال، فتكون في أغلب الأحيان على شكل نعل الفرس، ويكون اتجاهها من الغرب نحو الشرق، وتكون أبعادها وأعماقها مختلفة، وتسمى "القعور". وقد تركت أثرًا عميقًا في مخيلة المسافرين ورجال القوافل1.
وبعد الأشتية الممطرة تتحول هذه المنطقة الرملية الموحشة إلى جنة حقيقية فتظهر الرمال وكأنها قد فرشت ببسط خضر، ويزينها الزهر والشقائق ومختلف الأعشاب الصحراوية، وينتجعها الأعراب للرعي. وقد تنمو فيها النباتات المرتفعة ذات السيقان القوية كبعض أنواع "الغَضَي"؛ فتكون أدغالًا يحتطب منها البدو، وقد يحرقونها لاستخراج الفحم منها2. وهذه الأعشاب والنباتات، لا تظهر إلا في المنطقة ذات الرمال الحمر "نفود سمرًا". أما النفود البيضاء المؤلفة من رمال نشأت من تفتت أحجار" الكوارتز" فإنها في أكثر الأماكن غير منبتة3.
ولكن هذه الجنة الأرضية جنة قصيرة العمر، لا يدوم عمرها إلا أسابيع قليلة، ثم يحلّ بها الجفاف، وتهب السمائم، فتقضي على كل ما نبت في هذه البادية، فتبدو كالحة عابسة مزعجة منفّرة، وكأن إنسانًا كنس وجهها كنسًا أزال عنه كل أثر لذلك الجمال. وتهب في شهر نيسان رياح حارة من الشرق والجنوب، ورياح في شهور الصيف تحرق البادية حرقًا، حتى تغدو وكأنها جحيم4.
وفي العربية ألفاظ عديدة لها صلة بالبوادي، كثرت وتعددت لاتصال حياة العرب بها، منها ما لها علاقة بشكل البادية وظاهر وجهها، ومنها ما لها علاقة بطبيعتها وبتركيبها، إلى غير ذلك من مصطلحات، نشأ بعضها من تعدد لهجات العرب ولغاتها؛ إذ تسمى قبيلة البادية باسم ربما لا تعرفه قبيلة أخرى، وهكذا تنوعت التسميات.
__________
1 Eufing, in "Zeitschr. der Ges. fue Erdkunde zu Berlin" No. 5, Tagebuch, 1, 144.
2 Moritz, S., 16.
3 Moritz, S., 16. f., A Blunt, Pilgrimage to Nejd, 2, 55.
4 Handbook of Arabia Vol., r, P., 12, Moritz, S., 17.(1/153)
خاصة، وصيرت معظم أهلها بدوًا بالرغم منهم، فأقول لك: إن الرأي المنتشر أن هذه الصحاري تكوّنت من تفتت الأحجار الرملية بتأثير الرياح والجفاف فيها1. ويؤيد وجود مثل هذه الأحجار في الشمال الغربي من بلاد العرب هذا الرأي كثيرًا، ويظهر أنه رأي علمي ينطبق على بعض الصحاري انطباقًا كبيرًا، غير أنه لا يحل مشكلة مصدر الرمل الأحمر المتكوّن من أحجار غير رملية الذي يغطي مساحات واسعة من صحراء النفود، بينما الرمل الناشيء من الأحجار الرملية لا يغطي إلّا مساحات ضيقة بالنسبة إلى المناطق الأخرى. وهذا يدل دلالة صريحة على أن رمال "النفود" لم تتكون من تفتت الأحجار الرملية حسب، بل من عوامل أخرى كالتقلبات الجوية وتأثيرها في قشرة الأرض2.
يكون ظاهر التربة الأجرد معرضًا لحرارة الشمس والتغيرات الجوية مباشرة؛ إذ لا أشجار تحميه، ولا أعشاب تحافظ على تماسك ذراته وحفظها من تلك التغيرات. فإذا انقطعت الأمطار، جفت التربة، فتفتتت تدريجيًّا، وتستطيع الرياح أن تعبث فيها بكل سهولة، وتتمكن الرياح التي سرعتها 18 كيلومتر في الساعة من إثارة الطبقات الرملية الخفيفة والأتربة الباقية المبعثرة على سطح الأرض.
وإذا هبت الرياح بسرعة 33 كيلومترًا في الساعة، امتلأ الجو بالغبار، فإذا ازدادت السرعة، استحالت إلى عواصف تؤثر تأثيرًا كبيرًا في سطح الأرض فتحمل ما عليه من أتربة، وتعرض الطبقات السفلى التي كانت تحت هذه الأتربة لفعل الجو المباشر؛ ليحدث لها ما حدث في الطبقة التي كانت فوقها، وهكذا تتحول هذه المناطق إلى صحاري، وتتكون الرمال حينئذ من التربة المتفتتة لا من تهشم الأحجار الرملية أو الكلسية وحدها3.
وتهب مثل هذه الرياح في الشمال الغربي من جزيرة العرب من نهاية شهر "آذار" مارس حتى نهاية شهر "أيار" مايس، وتهب في أغلب الأحيان هبوبًا فجائيًّا، وتستمر يومين أو ثلاثة أيام، وتنتهي في بعض الأحيان برعد
__________
1 Moritz, S. 17.
2 المصدر نفسه
3 Moritz, S., 17, Arabia Deserta, Vol., 2, P., 656.(1/154)
وبرق. وعند حدوث هذه الزوابع يغبر الأفق ويكفهر وجه السماء، ثم تهب بعد لحظات عواصف شديدة وأعاصير، تضفي على الجو لونًا قاتمًا، وأحيانًا مائلًا إلى الصفرة أو الحمرة بحسب لون الرمال التي تحملها الرياح، وتختفي الشمس، وتؤثر هذه "العجاجة" في النبات والأشجار تأثيرًا كبيرًا. وإذا استمرت مدة طويلة، سببت تلف قسم كبير من المزروعات في الأماكن المزروعة1.
وقد أشار الكتّاب اليونان والرومان إلى البادية كما عرفها العبرانيون. ولكلمة "حويلة havilah"، ومن معانيها الأرض الرملية2، أي تخم بني إسماعيل -وأولادهم وهم البدو- ولهذا المدلول علاقة كبيرة بمعنى صحراء3. وقد ذهب بعض علماء التوراة إلى أنها تعني النفود4.
وتفصل العراق عن بلاد الشام بادية واسعة، تُعرف بـ "بادية الشام" أو "البادية"، أو "خساف"، ويقال للقسم الجنوبي منها -وهو القسم الذي بين الكوفة والسماوة من جهة، وبينها وبين الشام من جهة أخرى- "بادية السماوة"5، ويسميها العامة "الحماد" أو "حماد"6.
__________
1 Moritz, S. 17.
Moritz. S. 17, Diodorus, 2, 54, Strabo. XVI, 3.
3 التكوين، الإصحاح الثاني، الآية 11، الإصحاح العاشر الآية 7، الإصحاح 25، الآية 18.
4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 398"،
Hastinga, P. 333, Ency. Bibl. P. 1974, Glaser, skizze, 2, S. 323 E. Meyer, Geshuchte des Alterthums, Bd., 1, S., 224 Delitzsch, Wo lag des Paradies?
5 البلدان "3/ 436"، "5/ 120".
6 Handbook of Arabia, 1, P. 12, Ency. Brit, vol 2, P. 173.
7 البلدان "4/ 14"، القاموس المحيط "2/ 21"، "كتاب الدارات" للاصمعي بعناية "أوغست هفنر"، في مجلة المشرق، السنة الأولى، الجزء الأول سنة 1898 ص 24 وما بعدها.(1/155)
مصدر الصحاري:
وإذا سألتني عن مصدر هذه الصحاري المزعجة التي وسمت جزيرة العرب بسمة(1/153)
الدارات:
وفي بلاد العرب "الدارات"، والدارة: كل جوبة بين جبال في حزن كان ذلك أو سهل أو رمل مستدير، في وسطه فجوة, وهي الدورة، وتجمع الدارة على دارات1. فهي أرض سهلة ليّنة بيض في أكثر الأحيان، وتنبت فيها
__________
1 البلدان "4/ 14"، القاموس المحيط "2/ 21"، "كتاب الدارات" للأصمعي بعناية "أوغست هفنر"، في مجلة المشرق، السنة الأولى، الجزء الأول سنة 1898 ص24 ما بعدها.(1/155)
الأعشاب والصليان والنباتات الصحراوية1، ويبلغ عددها زهاء عشر دارات ومائة2. ولبعض هذه الدارات شهرة؛ إذ وردت أسماؤهم في الشعر الجاهلي والإسلامي، مثل "دارة جلجل"، التي ورد ذكرها في شعر امرئ القيس الكندي3. و"دارة الآرام" وكانت مملوءة من شقائق النعمان، كما جاء ذلك في شعر برج بن خنزير المازني الذي كلفه الحجاج بن يوسف حرب الخوارج4.
__________
1 البلدان "4/ 14".
2 القاموس المحيط "2/ 21"، البلدان "4/ 14".
3 البلدان "4/ 16"، مجلة المشرق العدد المذكور ص 26.
4
فأبرق وأرعد لي إذا العيس خلفت ... بنا دارة أرام ذات الشقائق
البلدان "4/ 15" المشرق، العدد المذكور "ص26"(1/156)
الجبال:
تكون سلسلة جبال السَّرات العمود الفقري لجزيرة العرب، وتتصل فقراته بسلسلة جبال بلاد الشام المشرفة على البادية، المتحكمة فيها تحكم الجنود في القلاع. وبعض قمم هذه السلسلة مرتفعة، وقد تتساقط الثلوج عليها كجبل دباغ الذي يرتفع "2.200" متر عن سطح البحر1، وجبل وثر وجبل شيبان. وتنخفض هذه السلسلة عند دنوها من مكة، فتكون القمم في أوطأ ارتفاع، ثم تعود بعد ذلك إلى العلو حيث تصل إلى مستوى عالٍ في اليمن حيث تتساقط الثلوج على قمم بعض الجبال2.
وتمتد في محاذاة السواحل الجنوبية سلاسل جبلية تتفرع من جبال اليمن، ثم تتجه نحو الشرق إلى أرض عمان؛ حيث ترتفع قمم الجبل الأخضر ارتفاعًا يتراوح من تسعة آلاف قدم إلى عشرة آلاف قدم3. وتتخلل هذه السلاسل الجنوبية أودية تمثل اتجاه مسايل الأمطار إلى البحر.
وتفصل بين البحر والسلاسل الجبلية سهول ساحلية ضيقة في الغالب، ربما لا تتجاوز خمسة عشر ميلًا عن سواحل البحر الأحمر4. وتكون هذه السواحل
__________
1 Mortiz S, 5 f
2 الواسعي، تأريخ اليمن، ص80، حتى 21 "الترجمة العربية".
3 Ency. Brit, vol. 2, P. 169
4 Ency. Brit. Vol. 2, P. 169(1/156)
حارة رطبة في الغالب، يتضايق منها الإنسان، وتكون غير صحية في بعض الأماكن. ويطلق على بعض أقسام التهائم "الغو" و "السافلة"؛ لانخفاض بقاعها. وقد ذهب بعض العلماء إلى إطلاق تهامة على طول الأغوار الساحلية الممتدة من شبه جزيرة سيناء وبحرالقلزم إلى الجنوب1. وسأتحدث عنها فيما بعد.
وتكون هذه السلاسل مانعًا -للأبخرة المتصاعدة من البحر الأحمر والبحر العربي- من وقوع الأمطار في أواسط بلاد العرب وفيما وراء السفوح الشرقية للسّراة والسفوح الشمالية للسلاسل الجبلية الجنوبية، لذلك كثرت الأودية القصيرة التي تسيل فيها المياه في هذه المناطق، وزادت فيها إمكانيات الخصب والزراعة عن البقاع التي وراء السَّراة حتى الخليج.
وفي نجد، وهي هضبة يبلغ ارتفاعها زهاء 2500قدم، ومنطقة جبلية تتكون من "الغرانيت"، يقال لها جبل "شمر"، وهي من مواضع "طيء" التي اشتهر أمرها قبل الإسلام اشتهارًا كبيرًا، وقد عرفت قديمًا بجبلَيْ طيء.
وتتألف من سلسلتين، يقال لإحداهما أجأ، وللأخرى سلمى2. وهناك منابع عديدة للمياه في شعاب هذه السلسلة وفي السهل الكبير المنبسط بينهما. ويمكن الحصول على المياه فيها بوفرة تحت طبقات الرمال والصخور3. وأما جبل "طويق" فهو مرتفعات تقع في الوسط الشرقي من نجد وفي جنوب شرقي الرياض، وتتألف من الحجارة الرملية وتحيط بها الصخور والحجارة الكلسية، وتدل البحوث على أن من الصخور والموارد البركانية ما قذفته البراكين إلى هذه الجهات4.
__________
1 البلدان "2/ 426"،"6/ 311" صفة "ص54، 119 وما بعدها، بلوغ الأرب "1/ 188".
2 تاريخ نجد، للألوسي "ص21". Moritz, s, 6, handbook, vol., 1, p., 13
3 وهبة ص 63.
4 moritz, s, 6.(1/157)
الأنهار والأودية:
ليس في جزيرة العرب أنهار كبيرة بالمعنى المعروف من لفظة نهر مثل نهر دجلة أو الفرات أو النيل؛ بل فيها أنهار صغيرة أو جعافر. وهي لذلك تعد في جملة الأرضين التي تقل فيها الأنهار والبحيرات، وفي جملة البلاد التي يتغلب(1/157)
عليها الجفاف. ويقل فيها سقوط الأمطار، ولذلك أصبحت أكثر بقاعها صحراوية قليلة السكان؛ غير أنها كثيرة الأودية، تطغى عليها السيول عند سقوط الأمطار، فتصير وكأنها طاغية مزبدة. وهي في الغالب طويلة، تسير في اتجاه ميل الأرض. أما الأودية التي تصب في البحر الأحمر أو في البحر العربي، فإنها قصيرة بعض الشيء، وذات مجرى أعمق، وانحدار أشد، والمياه تسيل فيها بسرعة فتجرف ما يعترضها من عوائق، وتنحدر هذه السيول إلى البحر فتضيع فيه، ومن الممكن الاستفادة منها في الأغراض الزراعية والصناعية. وقد تكون السيول خطرًا يهدد القوافل والمدن والأملاك، ويأتي على الناس بأفدح الخسائر1.
وفي كتب المؤلفين الإسلاميين إشارات إلى سيول عارمة جارفة، أضرت بالمدن والقرى والمزارع وبالقوافل والناس؛ إذ كانت قوية مكنتها من جرف الأبنية والناس، ومن إغراقهم حتى ذكر أن خراب عاصمة اليمامة القديمة كان بفعل السيل، وأن كثيرًا من المزارع والأموال هلكت وتلفت بفعل لعب السيول بها لعبًا لم تتحمله؛ فهلكت من هذا المزاح الثقيل2.
وليس في استطاعة أحد التحدث عن ملاحة بالمعنى المفهوم من الملاحة في نهيرات حزيرة العرب، وذلك لأن هذه النهيرات إما قصيرة سريعة الجريان منحدرة انحدارًا شديدًا، وإما ضحلة تجف مياها في بعض المواسم فلا تصلح في كلتا الحالتين للملاحة. وهي أيضًا شحيحة بالثروة الحيوانية، وليس فيها إلا مقادير قليلة من الأسماك.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن كثيرًا من أودية جزيرة العرب كانت أنهارًا في يوم من الأيام. واستدلوا على ذلك بوجود ترسبات في هذه الأودية، هي من نوع الترسبات التي تكون في العادة في قيعان الأنهار، ومن عثور السياح على عاديات وآثار سكن على حافات الأودية. ومن نصّ بعض الكتبة "الكلاسيكيين" على وجود أنهار في جزيرة العرب؛ فقد ذكر "هيرودوتس" نهرًا سماه "كورس" زعم أنه نهر كبير عظيم، يصب في "البحر الأريتوي"، ويقصد به البحر الأحمر، وزعم أن العرب يذكرون أن ملكهم كان قد علم ثلاثة أنابيب صنعها
__________
1 فتوح البلدان للبلاذري، الفصل الذي عقده لأخبار السيول، الطبري والأزرقي في أخبار السيول.
2 NAVAL. PP,. 24.(1/158)
من جلود الثيران وغيرها من الحيوانات، امتدت من هذا النهر إلى البادية مسيرة اثني عشر يومًا، حملت الماء من النهر إلى مواضع منقورة، نقرت لخزن المياه الآتية من ذلك النهر فيها1.
وهناك موضع على مقربة من ساحل البحر الأحمر اسمه "قرح"2 على مسافة 43 كيلومترًا من "الحجر" في مكان يمر به خط الحديد الحجازي في منطقة صحراوية، وكان في الأزمنة السابقة من المحلات المزروعة، وبه بساتين عدة تعرف بـ "بساتين قرح"، وعلى مقربة منها "سقيا يزيد" أو "قصر عنتر" "إسطبل عنتر"، كما تعرف به في الزمن الحاضر على بعد 98 كيلومترًا من المدينة. وإلى شماله "وادي الحمض" الذي يرى بعض العلماء أنه المكان الذي أراده "هيرودوتس"3.
وذكر "بطلميوس" نهرًا عظيمًا سماه "لار" lar، زعم أنه ينبع من منطقة "نجران"، أي من الجانب الشرقي من السلسلة الجبلية، ثم يسير نحو الجهة الشمالية الشرقية مخترقًا بلاد العرب حيث يصب في الخليج العربي4. ولا يعرف من أمر هذا النهر شيء في الزمن الحاضر. ولعله كان واديًا من الأودية التي كانت تسيل فيها المياه في بعض المواسم، أو كان بقايا نهر، أثرت في مياهه عوامل الجفاف. ويرى "موريتس" أن هذا النهر الذي أشار إليه "بطلميوس"، هو وادي الدواسر، الذي يمس حافة الربع الخالي عند نقطة تبعد زهاء خمسين ميلًا من جنوب السليل، وتمده بعض الأودية المتجهة من سلاسل جبال اليمن بمياه السيول5، وتغيض مياهه في الرمال في مواضع عديدة، فتكون بعض الواحات التي يستقى منها، ويزرع عليها. ويلاحظ وجود مياه غزيرة في واديه، في مواضع لا تبعد كثيرًا عن القشرة. وهذا مما
__________
1 Herodotus, vol. 1, P. 214, Bertram Thomas, The Arabs, P. 350
2 البكري 787، المقدسي 83، 98، 112، "قرح" بالضم ثم السكون، البلدان "7/ 48" وكانت من أسواق العرب في الجاهلية، وزعم بعضهم أن بها كان هلاك عاد قوم هود، مما يدل على أنها من المواضع القديمة في بلاد العرب.
3 "إصطبل عنتر"، وهبه ص20، والظاهر أنها كانت تعرف بـ "سقيا"، وهي من المواضع الجاهلية القديمة، البلدان "5/ 94".
4 mortiz, s, 21.
5 وهبه 54، الألوسي، تأريخ نجد "ص29".(1/159)
يحمل على الاعتقاد بوجود مجاري أرضية تحت سطح الوادي، وأنه كان في يوم ما نهرًا من الأنهار؛ غير أننا لا نستطيع أن نتكهّن في أمر هذا الوادي أكان نهرًا جاريًا في زمن بطلميوس كما أشار إلى ذلك، أو كان واديًا رطب القيعان لم تكن عوامل الجفاف قد أثرت فيه أثرها في الزمن الحاضر. لذلك كانت تمكث فيه السيول والأمطار المتساقطة على السفوح الشرقية لجبال اليمن مدة أطول مما هي عليه الآن1. والرأي عندي أن هذه الأنهار وأمثالها التي يشير إليها المؤلفون اليونان والرومان، لم تكن في الواقع وبالنسبة إلى ذلك الزمن إلّا سيولًا عارمة جارفة سمعوا بأخبارها من تجارهم ومن بعض رجالهم الذين كُتب لهم الذهاب إلى بلاد العرب أو اتصلوا بالعرب، فظنوا أنها أنهار عظيمة على نحو ما ذكروه. فلا يعقل وجود الأنهار الكبيرة في ذلك الزمن؛ إذ كان الجفاف قد أثر تأثيره في إقليم جزيرة العرب قبل ذلك بأمد طويل، فلا مجال لبقاء أنهار على النحو الذي يذكره أولئك الكتّاب.
وينطبق هذا الاحتمال على الأودية الأخرى، وهي كما قلت كثيرة، ومنها وادي الرمة ووادي الحمض، ويعد هذان الواديان من الأودية الجافة، إلا في مواسم الأمطار الشديدة حيث تصب السيول فيهما، غير أن لها مجاري أرضية، تشير إلى تلك الحقيقة، ويمكن الحصول على المياه فيهما بحفر الآبار على أعماق ليست بعيدة عن السطح. وقد تظهر على سطح الأرض في بعض المحال، وربما كانا قبل آلاف السنين أنهارًا تجري فيها المياه، فتروي ما عليها من أرضين2.
يتكون "وادي الرمة" عند "حرة خيبر" أو "حرة فدك"3 من التقاء بضعة أودية ممتدة من الشمال على ارتفاع ستة آلاف قدم، ثم تتجه بعد ذلك نحو الشرق ثم تأخذ اتجاهًا جنوبيًّا شرقيًّا حيث تتصل بـ "الجرير" أو "الجريب" كما كان يعرف سابقًا4، وهو من أوسع فروع وادي الرمة. ويتجه هذا الوادي
__________
1Moritz. S. 21
2 Motitz, S. 21, Phllby, in the Geogr. Journ, cxiii, "1949" 86.
3 ويقال له "بطن الرمة" بضم الراء وتشديد الميم، وقد يقال بالتخفيف، البلدان "2/ 219"، "ومنها وادي القصيم، المسمى وادي الرمة" تأريخ نجد، للألوسي "ص29".
4 "الجريب" بالفتح ثم الكسر، البلدان "3/ 91"، mortiz, s, 23.(1/160)
نحو الشرق حيث يصل إلى "بريدة"، ثم ينعطف نحو الشمال الشرقي فالشرق إلى "القصيم" حيث يسمى بعد ذلك "الباطن" "البطن" ثم يتفرع إلى فرعين يخترقان منطقة صحراوية، ويسير أحدهما في "النفود" حيث يتصل بالدهناء إلى أن يبلغ موضعًا قرب البصرة1. ويبلغ طول هذا الوادي زهاء 950 كيلومترًا أو أكثر2.
وأما مبدأ وادي الحمض أو وادي إضم كما كان يسمى قديمًا، فمن جنوب حرّة خيبر، ثم يتجه نحو الجنوب الغربي إلى أن يصل إلى يثرب حيث تتصل به أودية فرعية أخرى، منها "وادي العقيق"، ويتصل به كذلك "وداي القرى"، ويستمد مياهه من السيول التي تنحدر إليه من الجبال من العيون التي عند خيبر حيث يصب في البحر الأحمر في جنوب قرية الوجه. وعند هذا المصب بقايا قرية يونانية قديمة، وبقايا معبد يعرف عند الأهلين "كصر كريم"3،
وهو من مخلفات المستعمرات اليونانية القديمة التي كان الملاحون والتجار اليونانيون قد أقاموها عند ساحل البحر الأحمر لحماية سفنهم من القرصان. وللاتجار مع الأعراب، ولتموين رجال القوافل البحرية بما يحتاجون إليه من ماء وزاد. ويعتقد "موريتس" أن هذا الموضع هو محل مدينة "لويكه كومة" "leuke kome" المشهورة التي وصل إليها "أوليوس كالوس" لما همَّ بفتح اليمن4، على حين يرى آخرون أن هذه المدينة هي في المحل المعروفة باسم "الحوراء". ويبلغ طول وادي الحمض زهاء 900 كيلومتر5.
__________
1 "البطن" "بطن الرمة"، البلدان "2/ 219"، صفة 144
2 وهبه ص2، "القصيم"، بالفتح ثم الكسر على "فعيل" قال الأصمعي: "وأسافل الرمة تنتهي إلى القصيم"، البلدان "7/ 116"، "بطن" الحماسة "فرايتاك" 608، صفة 144، الدينوري: الأخبار، 160، 258، ويرى "موريتس" احتمال كون نهر "بيشون pischon" الذي هو أحد أنهار الجنة الأربعة في التوراة هو وادي الرمة،
Mortiz, s, 23. handbook of arabia, vol, 1, p, 10
3 "أضم" بالكسر ثم الفتح وميم، قال ابن السكيت: أضم وأد يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر، البلدان "1/ 281"، وادي "الحمض"، البلدان "3/ 342".
4 mortiz, s, 24, pauly-wissowa, leuke koms.
5 "الحوراء" بالفتح والمد، كانت بها أثار خرائب قديمة حتى أيام ياقوت الحموي وكانت قد هجرت في أيامه، وكانت ميناء المصريين إلى المدينة، البلدان "3/ 359"
Mortiz, s, 21(1/161)
وهناك "وادي حنيفة"، وهو الأودية المهمة كذلك، يبتدئ من غرب "جبل طويق" ثم يتجه نحو الشرق نحو الخليج العربي. وهو مهم، ويمكن الحصول على المياه فيه بطريقة حفر الآبار؛ لأن الماء غير بعيد عن قاعه. وأما عند هُطول الأمطار، فإن المياه تجري إليه من السفوح فتسيل فيه1.
ولقلة المياه في بلاد العرب، انحصرت الزراعة فيها في الأماكن التي حبتها الطبيعة بمواسم تتساقط فيها الأمطار مثل العربية الجنوبية، وفي الأماكن التي ظهرت فيها عيون وينابيع، مثل وادي القرى في الحجاز، والأحساء على الخليج العربي. وفي الأودية والأماكان التي تكثر فيها المياه الجوفية؛ حيث استنبطت المياه منها بحفر الآبار. والزراعة في هذه الأماكن -باستثناء العربية الجنوبية- هي زراعة محدودة، حدودها ضيقة، وآفاقها غير بعيدة، وناتجها قليل لا يكفي لإعاشة كل السكان.
وقد لزمت سكان الأرضين التي تغيث السماء أرضهم، بإنزال الغيث عليها، الاستفادة من الأمطار المنهمرة، بحصرها وتوجيهها إلى مخازن تخزنها لوقت الحاجة، وذلك بإنشاء السدود وإقامة خزانات ذوات أبواب تفتح وتغلق لتوجيه المياه الوجهة التي يريدها الإنسان. وقد أقيمت هذه السدود في مواضع متناثرة من جزيرة العرب، خاصة في الأماكن التي يركبها المطر مثل العربية الجنوبية والعربية الغربية. وتشاهد اليوم آثار سدود جاهلية استعملها الجاهليون للاستفادة من مياه الأمطار.
ولما كانت الأمطار رحمة ونعمة كبرى، إذا انحبست نفقت إبل العرب ومواشيهم، صار انحباسها نقمة وهلاكًا، وعدّوا انحباسها عنهم غضبًا من الآلهة ينزل بهم، ولهذا كان الجاهليون يتضرعون على آلهتهم ويتقربون إليها، أن تنزل عليهم الغيث، ولهم في ذلك صلوات وأدعية للاستسقاء سيأتي الحديث عنها في باب الدين عند الجاهلين.
وعلى خلاف العيون الحارة التي هي من آثار التفاعلات البركانية والتفاعلات الباطنية الكيمياوية، فإن في بلاد العرب عيون وينابيع وواحات، صارت موطنًا للزراع والزرع. وبعض هذه العيون، تتدفق من الجبال والهضاب وبعد مجرى قصير تعود فندخل باطن الأرض كما هو الحال في أرض "مَدْيَن". وهنالك
__________
1 حافظ وهبه، جزيرة العرب "ص46". Handbook of arabia, vol, 1, p, 10(1/162)
عيون تتوقف حياتها على المطر. وقد استفاد الجاهليون من بعض العيون والينابيع فربطوها بكهاريز وبقنوات تجري فيها المياه تحت سطح الأرض إلى بيوتهم ومزارعهم دون أن تتعرض للتبخر الزائد؛ فتفقد كميات كبيرة من المياه تذهب هباء. وقد عثر على شبكات منها في عُمان وفي وادي فاطمة بالحجاز وفي اليمن1
__________
1 Naval, PP., 33.(1/163)
أقسام بلاد العرب
مدخل
...
أقسام بلاد العرب:
قسّم اليونان واللاتين جزيرة العرب إلى أقسام ثلاثة:
1- العربية السعيدة arabia felix.
2- العربية الصخرية، وترجمت بالعربية الحجرية كذلك "arabia petreae".
3- العربية الصحراوية arabia deserta".
وهو تقسيم يتفق مع الناحية السياسية التي كانت عليها البلاد العربية في القرن الأول للميلاد. فالقسم الأول مستقل، والقسم الثاني قريب من الرومان ثم أصبح تحت نفوذهم، وأما القسم الثالث فهو البادية إلى نهر الفرات1.
وقد أشير إلى العربية السعيدة والعربية الصحراوية في الموارد "الكلاسيكية" القديمة مثل جغفرافية "سترابون"2. ويرى بعض العلماء أن القسم الآخر وهو "العربية الصخرية" arabia petreae" هو من إضافة "بطلميوس" العالم الجغرافي الشهير، وقد قصد به برية شبه جزيرة سيناء وما يتصل بها من فلسطين إلى الأردن3. فهو في رأي هؤلاء أحدث عهدًا في التسمية من التسميتين الأخريين.
ولم يأخذ الجغرافيون العرب بالتقسيم "الكلاسيكي"، مع أنهم وقفوا على بعض مؤلفاتهم، كجغرافية بطلميوس4. إلا أن جزيرة العرب عندهم، هي "العربية السعيدة" في اصطلاح أكثر الكتبة اليونان واللاتين.
__________
1 Christina Phelps Grant, The Syrian Desert, London, 1937, P., 10, Ch. Porster, The Historical Geography of Arabia, in 2 Vols., Vol., 2 P., 109.
2 Strabo, vol., 3, P., 309.
3 William Smith, A Dictionary of the Bible, Vol., 1, P., 91.
4 Forster, 2, 109, Edward Gibbon, The Decline and fall of the Roman Empire, Vol., 5, P., 209, (Everyman.htm's Library ed. 1931) .(1/163)
العربية السعيدة: arabia felix
أما العربية السعيدة، ويقال لها "arabia beata" و "arabia eudaimon" في اليونانية؛ فهي أكبر الأقسام الثلاثة رقعة، وتشمل كل المناطق التي يقال لها جزيرة العرب في الكتب العربية كما يفهم من بعض المؤلفات، وليست لها حدود شمالية ثابته؛ لأنها كانت تتبدل وتتغير على حسب الأوضاع السياسية.
ولكن يمكن القول إنها تبدأ في رأي أكثر الكتّاب اليونان والرومان من مدينة "هيروبوليس" "heropolis" على مقربة من مدينة السويس الحالية، ثم تساير حدود العربية الحجرية الجنوبية، ثم تخترق الصحراء حتى تتصل بمناطق الأهوار "أهوار كلدبا" عند موضع "thapsacus". وقد أدخل بعض الكتاب هذه الأهوار في جملة العربية السعيدة، وجعلها بعضهم خارجة عنها بحيث يمر خط الحدود في جنوبها إلى أن تتصل بمصب شط العرب في الخليج1.
وعرفت البادية الواسعة التي هي جزء من النفود والتي تمر بها حدود العربية السعيدة الشمالية، باسم "eremos" عند اليونان، وهي امتداد لبادية الشام2.
__________
1 Ptolemy, VI, 7, 2, 27, Strabo, XVI, 4:2, Musil, Arabia Deserta P. 498 The Bible Dictionary, Vol., 1, P., 98, A. Grohmann, Arabian, S., 4.
2 Musil, Arabia Deserta, P., 499(1/164)
العربية الصحراوية:
ويقال لها في اليونانية1 "arabia eremos". أما حدودها؛ فلم يعينها الكتّاب اليونان واللاتين تعيينًا دقيقًا. ويفهم من مؤلفاتهم أنهم يقصدون بها البادية الواسعة الفاصلة بين العراق والشام، أي البادية المعروفة عندنا ب"بادية الشام". ويكون نهر الفرات الحدود الشرقية لها إلى ملتقى الحدود بالعربية السعيدة. وأما الحدود الشمالية، فغير ثابتة، بل كانت تتبدل بحسب الأوضاع السياسية. وأما الحدود الغربية، فكانت تتبدل وتتغير كذلك، ويمكن أن يقال بصورة عامة إن حدودها هي المناطق الصحراوية التي تصاقب الأرضين الزراعية لبلاد الشام. فما كان بعيدًا عن إمكانيات الرومان واليونان ومتناول جيوشهم، عد من العربية الصحراوية2.
__________
1 Musil, Deserta, P., 497, 511, Hitti, 44.
2 Forster Vol., 2, p., 110 ff.(1/164)
ويفهم من العربية الصحراوية أحيانًا "بادية السماوة"1، وقد يجعلون حدودها على مقربة من بحيرة النجف، أي في حدود الحيرة القديمة؛ حيث تبدأ "بطائح كلدية" التي كانت تشغل إذ ذاك مساحة واسعة من جنوب العراق. وعرفت عند بطلميوس باسم "amardocaea" وهي تمتد حتى تتصل ببطائح "maisanios kolpos" أو "خليج مسنيوس" "خيلج ميسان"، الذي يكون امتداد الخليج العربي "persikos kopos". وكل ما وقع جنوب ذلك الخط الوهمي، عدّ في العربية السعيدة2.
وقد فهم "ديودورس" من "العربية الصحراوية" المناطق الصحراوية التي تسكنها القبائل المتبدية، وتقع في شمالها وفي شمالها الشرقي في نظره أرض مملكة "تدمر". وأما حدّها الشمالي الغربي والغربي حتى ملتقاها بالعربية الحجرية، فتدخل في جملة بلاد الشام. وأما حدودها الشرقية، فتضرب في البادية إلى الفرات. فأراد بها البادية إذن. وقد جعل من سكانها الإرميين والنبط3.
وتقابل العربية الصحراوية، ما يقال له "أربي" عند الأشوريين، و "ماتو أربي" عند البابليين، و "أرباية" عند السريان والفرس.
كانت البادية، بادية الشام، أو "العربية الصحراوية"، مأهولة بالقبائل العربية، سكنتها قبل الميلاد بمئات السنين. وليست لدينا مع الأسف، نصوص كتابية قديمة أقدم من النصوص الأشورية التي كانت أول نصوص أشارت إلى العرب في هذه المنطقة، وذكرت أنه كانت لديهم حكومات يحكمها ملوك. وأقدم هذه النصوص هو النص الذي يعود تأريخه إلى سنة 854 ق. م4. وقد ورد فيه اسم العرب في جملة من كان يعارض السياسة الآشورية، ولما كان هذا النص يشير إلى وجود مشيخة أو مملكة عربية، يحكمها ملك فلا يعقل أن يكون العرب قد نزلوا في هذا العهد في هذه البادية، بل تشير كل الدلائل إلى أن وجودهم فيها كان قبل هذا العهد بأمد، وربما كان قبل الألف الثاني قبل الميلاد. وقد كانت هذه القبائل تهاجم أرض ما بين النهرين وبلاد الشام، وتكون مصدر
__________
1 Musil, Deserta, P., 235.
2 Musil, Deserta, P., 500, 503, Stephan of Byzantium, Ethnica, P., 237, (Ed. Melneke) .
3 Musil, Deserta, P., 499, Diodorus, Bibl. Hist., 11, 54.
4 DD Luckenbill, Ancient Records of Assyria and Bobyonia, Vol., 1, 611.(1/165)
رعب للحكومات المسيطرة على الهلال الخصيب، وكانت تنتقل في هذه البادية الواسعة، لا تعترف بفواصل ولا بحدود، فتقيم حيث الكلأ والماء والمحل الذي يلائم طبعها1.
أما الروايات العربية، وهي لا تستند إلى وثائق أو نصوص جاهلية، فقد رجحت وجود العرب في هذه الأرضين إلى ما بعد الميلاد في الغالب، ولم يتجاوز بعض من تجاوز الميلاد أيام "بخت نصر" وهو بالطبع حديث مغلوط فيه.
__________
1 forster, Vol., lf p., 347(1/166)
العربية الحجرية، العربية الصخرية:
وأما العربية الحجرية، فتشمل الأرضين التي كان يسكن فيها الأنباط، وخضعت لنفوذ الرومان والبيزنطيين. ويطلق ذلك الاسم، أي العربية الحجرية، على شبه جزيرة سيناء، وعلى المملكة النبطية، وعاصمتها "بطرا" "بترا" "البتراء"1. وكانت حدود هذه المنطقة تتوسع وتتقلص بحسب الظروف السياسية وبحسب مقدرة العرب؛ ففي عهد الحارث الرابع ملك الأنباط "من سنة 9 ق. م إلى سنة 40 ب. م" اتسعت حدودها حتى بلغت نهايتها الشمالية مدينة دمشق2. ولما ضعف أمر النبط، استولى الإمبراطور "تراجان" عام "106م" على هذه المقاطعة وضمها إلى المقاطعة التي كونها الرومان وأطلقوا عليها اسم "المقاطعة العربية" "provincia arabia". ويظهر من وصف "ديودورس" لهذه المنطقة أنها في شرق مصر وفي جنوب البحر الميت، وجنوبه الغربي وفي شمال العربية السعيدة وغربها3. وأن الأنباط يقيمون في الأرضين الجبلية وفي المرتفعات المتصلة بها التي في شرق البحر الميت، وفي شرق وادي العربة، وفي جنوب اليهودية حتى الخليج العربي، "خيلج العقبة"4. وأما الأقسام الباقية، فكانت تسكنها قبائل عربية قيل لها "سبئية"، وهي تسمية كانت تطلق عند الكتبة اليونان والرومان على أكثر القبائل المجهولة أسماؤها، التي تقطن وراء مناطق نفوذ الأنباط والرومان، ويعنون بذلك قبائل جنوبية في الغالب.
__________
1 R.E. Brunnow und A. v. Domszewski, Die Provincia Arabia, in 3 Bd.
2 Hitti, P., 44, 68.
3 Diodorus, 11, 48, Musil, Heg-az, P. 309.
4 Musil, Hegaz, P., 309, Desert, p., 499.(1/166)
التقسيم العربي
مدخل
...
التقسيم العربي:
ويؤسفنا أننا لا نستطيع أن نتحدث عن وجهة نظر أحد من الجاهليين في أقسام بلاد العرب، لعدم ورود شيء من ذلك في النصوص أو في الروايات التي يرويها عنهم أهل الأخبار، وكلهم مسلمون.
أما الإسلاميون، فقد اكتفوا بجزيرة العرب، فأخرجوا بذلك البادية الواسعة منها، وأخرجوا القسم الأكبر مما دعاه الكلاسيكيون بالعربية الحجرية منها كذلك. وجزيرة العرب وحدها، هي "العربية السعيدة" عند اليونان والرومان، وما يقال له أيضًا بـ "arabia proper" في الإنكليزية1.
وقد قسّموا جزيرة العرب إلى خمسة أقسام: الحجاز، وتهامة، واليمن، والعروض، ونجد2. ويُرجع الرواة أقدم روايتهم في هذا التقسيم إلى عبد الله بن عباس3.
أما الحجاز، فتمتد رقعته في رأي أكثر علماء الجغرافية المسلمين، من تخوم الشام عند العقبة إلى "الليث"4، وهو وادٍ بأسفل السراة يدفع في البحر، فتبدأ عندئذ أرض تهامة5. وقد عدّ قسم من العلماء "تبوك" وفلسطين من أرض الحجاز6. ويقال للقسم الشمالي من الحجاز أرض مدين وحسمى، نسبة إلى السلسلة الجبلية المسماة بهذا الاسم، التي تتجه من الشمال نحو الجنوب7، وتتخللها
__________
1 forster, vol, 2, pp, 112.
2 صفة "ص47 وما بعدها"، البلدان "3/ 218"، المفضليات ص416.
3 صفة ص46.
4 "الليث" بكسر اللام ثم الياء الساكنة والثاء المثلثة، البلدان "3/ 218"، "7/ 346"، "إذا خلفت عجلزًا صعدًا فقد انجدت، فلا تزال منجدًا حتى تنحدر من ثنايا ذات عرق؛ فإذا فعلت فقد اتهمت إلى البحر، وإذا عرضت لك الحرار وأنت منجد فتلك الحجاز"، "حد الحجاز الأول بطن نخلة وظهر حرة ليلى، والحد الثاني مما يلي الشأم شعب وبدا، والحد الثالث مما يلي تهامة بدر والسقيا ورهاط وعكاظ، والحد الرابع شابة وودان، ثم ينحدر إلى الحد الأول"، بلوغ الأرب "1/ 187 وما بعدها".
5 البلدان "3/ 218"
6 البلدان "3/ 218".
7 البلدان "7/ 417، ency, 1, 386, handbook of arabia, bol, 1, p, 96(1/167)
أودية محصورة بين التيه وأيلة من جهة، وأرض بني عذرة من ظهرة حرة نهيل من جهة أخرى1. وكانت تسكنها في الجاهلية قبائل جذام2. ويسكنها في الزمن الحاضر عرب الحويطات، ويعتقد المستشرقون أنهم من بقايا النبط3.
وأرض "حسمى"، أرض خصبة كثيرة المياه. وكانت من المناطق المعمورة، وبها آثار كثيرة ومن جبالها جبل يعرف بـ "إرم"4. ويرى بعض المستشرقين أن لهذا الجبل علاقة بموضوع "إرم" الوارد ذكره في القرآن الكريم وفي كتب قصص الأنبياء والتواريخ5. ويرى "موريتس" أنه موضع "aramaua" الذي ذكره "بطلميوس" على أنه أول موضع من مواضع العربية السعيدة، وأنه لا يبعد كثيرًا عن البحر6. ويقال له "رم" في الزمن الحاضر7.
وتتخلل الحجاز أودية عديدة، منها وادي إضم الذي ورد ذكره في أشعار الجاهلية وفي أخبار سرايا الرسول8. ووادي نخال، ويصب في الصفراء بين مكة والمدينة9. والصفراء واد من ناحية المدينة، كثير النخل والزرع، في طريق الحاج، سلكه الرسول غير مرة، وعليه قرية الصفراء، وماؤها عيون تجري إلى ينبع، وهي لجهينة والأنصار ولبني فهر ونهد ورضوى10. ووادي "بدا" قرب أيلة، يتصل بوادي القرى11. ووادي القرى وادٍ مهم يقع بين العلا والمدينة، ويمر به طريق القوافل القديم الذي كان شريانًا من شرايين الحركة
__________
1 البلدان "3/ 276"، لسان العرب"15/ 24".
2 Ency., Vol., I, P. 368, Doughty, Vol. 2, P. 624.
3 Ency., Vol., 2, P., 349.
4 البلدان "3/ 277"
Mr. Horsfield, in Revue Biblique, XLI, (1932) ,
PP., 581, XLII, (1933) , PP., 405, XT.tTT, (6934) ,
PP., 572, XLJV, (1935) PP., 45.
6 Ptolemy, VI, 7: 27, B. Moritz, in MFOB, III, P., 395, "Ausfluege in der Arabia Petraea".
7 Musil, Hegaz, P., 273.
8 البلدان "1/ 281"، صفة 171.
9 البلدان "8/ 272".
10 البلدان "8/ 272".
11 البلدان "5/ 367".(1/168)
التجارية في العالم القديم، ويقال له "وادي الديابان"1، ويصب فيه واديان هما: وادي جزل من الشمال، ووادي الحمض من الجنوب، ويلتقي به وادٍ آخر هو وادي التبج، أي وادي السلسلة2. وكان عامرًا جدًا، تكثر فيه المياه، وتشاهد فيه اليوم آثار المدن والقرى3. وقد عثر فيه على كتابات كثيرة لحيانية وسبئية ومعينية وغيرها، سأتحدث عنها.
ومن أهم مواضع وادي القرى "العلا"، وقد نزله الرسول في طريقه إلى تبوك4. ويقع في موضع "ديدان" "ددان" "ددن" القديم. وبه واحة ونهير صغير5. ومدين "قرح"، وكانت من أسواق العرب في الجاهلية، وقد زعم أنها القرية التي كان بها هلاك عاد6. وتبعد عن خرائب "ديدان" بمسافة ثلاثة كيلومترات، وقد سكنتها قبائل "بليّ" من القبائل العربية القديمة 7. وهي ملتقى طريق مصر القديم بطريقة الشام. ويرى "موسل" أنها هي "العلا"، دعيت بهذا الاسم فيما بعد8. ولما سأل "دوتي" الأعراب القاطنين في هذه الأماكن عن "قرح"، لم يعرفوا من أمرها شيئًا9.
ووجد "دوتي" في قرى وادي القرى وخرائبه عددًا كبيرًا من الحجارة المكتوبة بحرف المسند، وقد اتخذها السكان أحجارًا من أحجار البناء10. وعثر في "الخريبة" على كتابات بهذا القلم، وعلى آثار أبنية ومواطن حضارة وعلى ألواح من الحجر كان يستعملها الصيارفة لصف نقودهم عليها، أو لذبح القرابين11. كما شاهد موضعًا يقال له "إسطبل عنتر" على قمة جبل شاهق يرنو إلى الوادي ولعلّه معبد أحد الأصنام التي كانت تعبد هناك.
__________
1 البلدان "2/ 87"
2 Ency. Vol. 4, P. 1077. Doughty, Trabes in Arabia Deserta, London, 1936 vol. 1, P. 187.
4 "وكان بين سبأ والشأم قرى متصلة، فكانوا لا يحتاجون من وادي سبأ إلى الشأم إلى زاد"، لسان العرب "19/ 38",.
5 البلدان "6/ 207".
6 وهبه 20.
7 البلدان "7/ 49".
8 Musil, Hegaz, P. 295, Doughty, 1, P. 203.
9 Musil, P. 295.
10 Doughty, I, P. 87
11 Doughty, 1, p., 203 f.(1/169)
تهامة:
وتبدأ حدود تهامة، في رأي بعض الجغرافيين، من بحر القلزم1، فتكون المنطقة الساحلية الضيقة الموازية لامتداد البحر الأحمر2. ويقال لتهامة الواقعة في اليمن "تهامة اليمن"، ويختلف عرضها باختلاف قرب السلاسل الجبلية من البحر وبعدها عنه، وقد يبلغ عرضها خمسين ميلًا في بعض الأمكنة. وترتفع أرض تهامة الجنوبية الواقعة على البحر العربي ما اتجهت نحو الشرق، وتتكون فيها سلاسل من التلال المؤلفة من حجارة كلسية ترجع إلى العهود الجيولوجية الحديثة أو من حجارة بركانية3.
ولانخفاض أرض تهامة قيل لها "الغور" و "السافلة"4. وقد وردت لفظة تهامة على هذا الشكل "تهمت" "تهمتم" في النصوص العربية الجنوبية5.
ويظهر أن لهذه اللفظة علاقة بكلمة "tiamtu"، التي تعني البحر في البابلية. وبكلمة "تيهوم tehom" العبرانية6. وعندي أن هذه الكلمة ترجع إلى أصل سامي قديم، له علاقة بالمنخفضات الواقعة على البحر، والتي تكون لذلك شديدة الرطوبة والحرارة في الصيف7. ولهذا فإنها في العربية بلهجة القرآن الكريم وباللهجات الجنوبية السواحل المنخفضة الواقعة بين الجبال والبحر، وهي حارة وخمة شديدة الرطوبة كأنها من بقاع جهنم في الصيف.
__________
1 "القلزم" بالضم ثم السكون ثم زاي مضمومة وميم، البلدان "7/ 145".
2 راجع حدود تهامة في: البلدان "6/ 311"، صفة 54، 119، 121، بلوغ الأرب "1/ 88".
3 Ency. Vol. 4, P. 769.
4 البلدان "2/ 437"، "6/ 311".
5 Glaser 554, 618, Ency., Vol., 4, P., 764
6 Schrader, die Keilinschriften und das Alte Testament, neu bearbetet von zimmern und Winckler, Berlin, 1903, S. 492.
7 وسأشير إليه برمز: kat.(1/170)
اليمن:
حدّ اليمن في عرف بعض العلماء من وراء "تثليث" وما سامتها إلى صنعاء(1/170)
وما قاربها إلى حضرموت والشحر وعمان، إلى عدن أبين وما يلي ذلك من التهائم والنجود. وقيل: يفصل بين اليمن وباقي جزيرة العرب خط، يأخذ من حدود عمان ويبرين إلى ما بين اليمن واليمامة؛ فإلى حدود الهجرية وتثليث وكثبة وجرش ومنحدرًا في السّراة إلى شعف عنز وشعف الجبل أعلاه إلى تهامة إلى أم جحدم إلى البحر إلى جبل يقال له كرمل بالقرب من حمضة، وذلك حد ما بين كنانة واليمن من بطن تهامة1. أما النصوص العربية الجنوبية؛ فلم تثبت حدود اليمن. ولكن اليمن فيها وتسمى "يمنت" "يمنات"، منطقة صغيرة ذكرت في نصّ يعود عهده إلى أيام الملك "شمر يهرعش"، المعروف في الكتب الإسلامية بـ "شمر يرعش"2، بعد "حضرموت" في الترتيب. وعلى هذا الترتيب وردت أيضًا في نصّ "أبرهة" نائب النجاشي على اليمن. ويعود عهده إلى سنة 543م3.
وتخترف السراة اليمن من الشمال إلى الجنوب حتى البحر، وتتخللها الأودية التي تنساب فيها مياه الأمطار، وتمتد بين الهضاب والشعاب فلاة تتفرع من الدهناء من ناحية اليمامة والفلج يقال لها "الغائط"، وتظهر في أواساطها "الصيهد"، وتقع بين مأرب وحضرموت4.
وفي شمال منطقة عدن صحراء تتصل بالربع الخالي، تخترق الهضاب المهيمنة على عدن عدد من الأودية الجافة يظهر أنها كانت مسايل مياه، وأنها من بقايا
__________
1 KAT, S. 492, anm. 2, P. Jensen, Keilinschr. Bibl. VI, 1, S. 559 Ency. Vol. 4 P. 764
2 "قال الأصمعي: اليمن وما اشتمل عليه حدودها بين عمان إلى نجران، ثم يلتوي على بحر العرب إلى عدن إلى الشحر حتى يجتاز عمان، فينقطع من بينونة، وبينونة بين عمان والبحرين، فليست بينونة من اليمن ... "، البلدان "5/ 81، "8/ 522 ما بعدها"، صفة 120، 125، 175، 188، البكري: معجم ما استعجم "1/ 16"، ابن خرداذبه 135، 137، 189 بلوغ الأرب "1/ 202 وما بعدها"و ency., vol., 4, p.1155
3 الإكليل "8/ 108 وما بعدها"، التيجان ص 222 فما بعدها، أخبار عبيد ص428، تأريخ الطبري "1/ 547، 793 فما بعدها"، "الطبعة الأوروبية"
Glaser, zwei Inschrifen ueber den Dammbruch von Marib, in mitheil. Der Vorder Asiat. Ges. 1887.
4 صفة 84، البلدان "5/ 419".(1/171)
أنهار جفت، وتسيل في بعضها المياه عند سقوط الأمطار، ومنها "وادي تبن"1. وهو من بقايا نهر طويل2، له فروع عديدة، وتمر به الطريق الرئيسية المؤدية إلى اليمن3.
ويخترق حضرموت وادٍ، يوازي الساحل، يبلغ طوله بضع مئات من الأميال ويتألف سطحه من أرضين متموجة تتخللها أودية عميقة تكثر فيها المياه، في باطن الأرض، وبعض تلاله مخصبة3.
وفي حضرموت حجارة بركانية ومناطق واسعة، يظهر أنها كانت تحت تأثير البراكين. والظاهر أن دورها لم ينته إلا منذ عهد ليس ببعيد4. ويزرع الناس في هذه الأودية حيث يحفرون آبارًا في قيعانها فتظهر المياه على أبعاد متفاوتة، وهنالك نهر يقال له نهر حجر5.
ومن شرق سيحوت تبتدئ سواحل "مهرة"،وتعرف عند الجغرافيين باسم "الشحر". ومعنى كلمة "مهرة" في العربية الجنوبية القديمة "ساحل"6. ويطلق اليوم اسم "الشجر" على الميناء الغربي وحده. وفي "قارة"7 مدينة "ظفار" وهي غير ظفار اليمن8. وعند خليج ظفار كان موضع "syagro" المشهور عند اليونان والرومان9.
ويمتد إقليم ظفار من سيحوت إلى حدود عمان، وهو هضبة يبلغ ارتفاعها ثلاثة آلاف قدم، تهب عليها الموسمية، وفوق جبالها تنمو أشجار الكندر التي اشتهرت بها بلاد العرب قبل الإسلام. وتشقها طولًا وعرضًا أودية تكسوها
__________
1 hugh scott, in the high yemen, P. 25, F.
2 Handbook of Arabia, vol. 1, P. 179 f.
3 وادي عدم: الهلال، الجزء السادس عشر، السنة السادسة، نيسان 1898 ص603، adolf von wrede, S. 290, Ency. 1, P. 369.
Ency. 1, P. 369, Reise, S. 287. ff.
5 تأريخ حضرموت السياسي، تأليف صلاح البكري "1/ 3"، "القاهرة 1354، "نهر ميفع"، الهلال، العدد المذكور ص604، وقد تحدث صاحب المقال عن الآثار التي رآها في وادي عدم.
6 البكري "2/ 141 فما بعدها"، ency. 1, 369.
7 وتنمو في قارة نباتات الطيب والأفاوية، hugh scott, pp, 147.
8 Reise, S. 39.
9 Reise, S. 33, Forster, vol. 2, P. 161, 166, 224 234.(1/172)
الأعشاب وتتخللها الأشجار. وبها جبال "قرا"1، ومنحدراتها أرجوانية، وقد تفتتت الصخور الحمر فيها، فأكسبت الأودية والسهول الحمرة، وتوجد نهيرات وعيون، ويمكن الحصول على المياه بحفر الآبار. ولا زال السكان يحتفظون بعاداتهم القديمة الموروثة مما قبل الإسلام2
ويظهر أن هذه المنطقة كانت أماكن "القريين" من الشعوب العربية الجنوبية القديمة، وهناك قبيلة لا تزال حتى اليوم يقال لها "بنو قرا"3 لعل لها صلة بالقريين.
ويتكلم أهل "مهرة" بلهجة خاصة، يقال لها "المهرية" أو "الأمهرية"، وهي متأثرة بالجعزية4. كما يتكلم أهل قارة "قرا" بلهجة يقال لها "أحكيليلة"، ويظن أنها من اللهجات العربية القديمة.
وتتألف أرض عمان من أماكن جبلية، وهضاب متموجة، وسهول ساحلية وأكثر حجارتها كلسية وغرانيتية، وفيها أيضًا حجارة بركانية. والظاهر أنها كانت من مناطق البراكين5. وفي مناطق التلال وفي "جعلان" عيون ومجاري مياه معدنية أكثرها ذات درجات حرارة مرتفعة. وتوجد آبار في "الباطنة" وفي المناطق المجاورة للصحراء وفي الأقسام الشرقية من عمان6.
وتتخلل هضاب عمان وجبالها أودية معظمها جاف، وتكون طرق المواصلات بين الساحل والأرضين الباطنة، وجوّها حار استوائي، وتتجه الجبال من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، وأعلى قمة فيها هي قمة الجبل الأخضر، ويبلغ ارتفاعها تسعة آلاف قدم. والأرضون المحيطة بهذا الجبل خصبة، وقابلة للاستثمار7.
__________
1 Hugh Scott, P., 147.
2 اليافعي "2/ 201" فما بعدها.
3اليافعي "2/ 206" فما بعدها.
4 Reise, S., 33, Leo Hlrsch, Reisen In Sued-Arabien, Mahra Und Hadramut, Leiden, 1897, S., 19, 34, 51, 52, 53.
5 Handbook of Arabia, Vol., 1, P., 238, Ency. Brit., Vol., 16, P., 785.
6 Handbook, Vol., 1, P., 238, Leo Hirsch, S., 183.
7 S.H. Steinberg, The Statesman's Yearbook, London, 1948, P., 689.(1/173)
وفي عمان مدن قديمة، منها "صحار" و "نزوة"1 و "دبا" أو "دما"، وكانت من المدن المهمة في أيام الرسول، وهي عاصمة عمان الشمالية، كما كانت سوقًا من أسواق الجاهلية، وسكانها من الأزد. والعمانيون من الشعوب البحرية المحبة لركوب البحار، ولهم صلات ورابط بسواحل إفريقية والهند. ونجد بينهم عددًا كبيرًا من الزنوج والهنود والفرس والبلوج2.
__________
1 البلدان "4/ 30"، "5/ 339، 8/ 281".
2 Steinberg, P., 690, O.htm'shen, The Sand Kings of Oman, London, 1947.(1/174)
العروض:
وأما العروض، فيشمل اليمامة والبحرين وما والاها1. وأغلب الأرضين فيه صحاري وسهول ساحلية، ترتفع في الجهات الغربية عن ساحل البحر. ويمتد مرتفع الصمان الصخري موازيًا لساحل الخليج، متوسطًا بين الأحساء والدهناء. ومن أودية الأحساء، وادي فروق في الجنوب، وهو قسم من وادي المياه2.
ومن أقسام العروض، شبه جزيرة "قطر" التي تمتد من عمان إلى حدود الأحساء3. يشتغل سكانها بصيد الأسماك واستخراج اللؤلؤ، وقد عرفت بـ "cataraei" عند "بلينيوس"4. ومعظم أراضيها صحاري، وفيها واحات قليلة، ويزرع السكان في بعض الأماكن على مياه الآبار5. وقد عرفت قديمًا بأنواع من الثياب والمنسوجات القطرية، كانت تصدّر إلى الخارج، كما عرفت بتصدير النجائب والنعام6.
ويلي شبه جزيرة قطر، "الأحساء"، وكان يقال لهذه المنطقة قديمًا "هجر"
__________
1 البلدان "3/ 101"، "6/ 160".
2 وهبة 68، "الصمان"، بالفتح ثم التشديد وآخره نون، البلدان "5/ 383".
3 البلدان "7/ 123"، steinberg, p, 692..
4 Pliny, Natura. Hist., VI, 28, 147, Ency., Vol., 2, P., 817 Sprenger, Geogr. Arab. S., 116, Skizze, BD., 2, S., 75.
5 Ency., Vol., 2, P., 817, Pr. Stuhlmann, Der Kampf ura Arabien, S., 177, Palgrave, Travels in Arabia, London, 1865, Vol., 2, PP., 232.
6 البلدان "7/ 123".(1/174)
والبحرين1. والقسم الأكبر من الأحساء، سهل صحراوي، يرتفع في الجهة الغربية عن ساحل البحر، ويتخلله كثير من التلال، ويتجه بعضها باتجاه وادي المياه وجبل الطف2. والمنطقة الساحلية، سبخة في الغالب، وتكثر فيها الآبار التي لا تبعد مياهها كثيرًا عن سطح الأرض. وأغنى مناطق الأحساء، منطقة الأحساء والقطيف في الجنوب حيث تكثر المياه من آبار وعيون3.
وتظهر المياه الجوفية المنحدرة من الأمطار التي تتساقط بمقدار أربع عقد أو خمس عقد "أنج" في السنة على حافات جبل "طويق" في "الهفوف"، تظهر فيها على شكل عيون، تبلغ زهاء أربعين عينًا، جعلت المنطقة من أهم الواحات في المملكة العربية السعودية4. وبحذاء هجر في الجنوب الغربي من مدينة القطيف تقع "العقير"، وهي الآن ميناء صغير5. وعلى مقربة منها خرائب عادية، يعتقد العلماء أنها موضع "gerrhaei" المدينة التجارية العظيمة التي اشتهر أمرها، وبلغت شهرتها اليونان والرومان6. وكانت محطة من المحطات التجارية العالمية، وملتقى طرق القوافل التي كانت ترد من جنوب بلاد العرب قاصدة العراق. وقد أغرت الطامعين، فطمعوا في الاستيلاء عليها، وأوحت إلى الكتبة "الكلاسيكين" فكتبوا فيها قصصا من نسج الخيال، وتقع على خليج سماه "الكلاسيكيون" "SINUS GERRAICUS"، أي خليج جرهاء7.
وتقع القطيف على خليج يشمل جزيرة "تاروت" وتعد المدينة البحرية الرئيسية في الأحساء، يرتفع سطحها بضع أقدام عن سطح البحر، وتكثر بها مياه العيون8. وتشاهد عندها خرائب عادية، يستدل منها على أن هذه المدينة كانت
__________
1 وهبة 68. handbook, vol, 1, p, 298.
2 الطف، بالفتح والفاء مشددة، البلدان "6/ 51"، وهبة 68،
3 وهبة 68، Handbook, vol. P. 298
Sanger, the Arabian Peninsula, P. 58.
5 وهبة 72 فما بعدها، البلدان "6/ 198"، مروج الذهب "1/ 91"، Handbook, vol. 1, P. 308, Chesman, PP. 27,
وكانت هجر قصبة بلاد البحرين، البلدان "8/ 446".
6 الجرعاء، "Gerraei"
Forster, vol. P. 217, "Gerraei" Glaser, Skizze, Bd, 2, S. 75.
7 Strabo, vol. 3, P. 186. 187, forster, vol. 2 P. 217.
8 Forster, vol. I, P. 196, 197, 291 vol. 2, P. 220 cornwall in The national Geographical(1/175)
ذات تأريخ قديم، ربما يعود إلى آخر عهد من عهود العصر النحاسي.
وفي هذه المنطقة، يجب أن يكون موقع مدينة "بلبانا" "bilbana" "bileana" و "bilana"، إحدى مدن "الجرهائيين"1. ومواطن قبيلتي "gaulopes" و "chateni" على سواحل خليج سماه "بلينوس" "sinus gaulopes" أي "خليج كيبيوس". ويرى "شبرنكر" أنه "خليج القطيف"2. ويذكرنا اسم "chateni" "خطيني" باسم "الخط"، ويطلق في العربية على سيف البحرين كله3. وربما كان "كيبيوس"، الذي سُمّيَ الخليج به، هو تحريف "cateus" الذي يشير بكل وضوح إلى اسم "القطيف".
وأما جزيرة "تاروت" الصغيرة التي في هذا الخليج، فالظاهر أنها جزيرة "tahr" أو "taro" أو "ithar" في جغرافية "بطليموس"4، وفيها مدينة "دارين". ويظهر أنها أقيمت على أنقاض أبنية قديمة، ولعلها كانت معبدًا للإله "عشتروت". اشتهرت به، ثم حذف المقطع الأول من اسم الإله اختصارًا، وصارت تعرف بالمقطعين الأخيرين، وهما "تاروت".
والقسم الأكبر من أرض الكويت منبسط، وأكثر السواحل رملي، إلا بعض الهضاب أو التلال البارزة. وفي المحالّ التي تتيسر فيها المياه تتوافر الزراعة، وأكثر ما يزرع هناك النخيل. وليس في الكويت من الأنهار الجارية غير مجرى واحد أو نهر يقال له "المقطع"، يصب في البحر. ومشكلة ماء الشرب من أهم المشكلات في هذه الإمارة؛ لأن ماء أغلب الآبار مِلْح أجاج، ولذلك يضطر الأغنياء إلى جلب المياه من شط العرب5. ومن أشهر مدن الكويت مدينة "الكويت"، وهي العاصمة، وهي على ساحل الخليج، و "جهرة"، وهي في منطقة زراعية خصبة، ذات آبار على مَقْرُبة من خليج الكويت6. ويظن أن الخندق الذي أمر بحفره "سابور ذو الأكتاف"
__________
1 Forster, vol. 2, P. 216, Glaser, Skizze, 2, S. 74.
Enc. 2, P. 821.
2 البلدان "3/ 449"، المفضليات ص 245.
3 Forster, vol. 2, P. 216.
4 Forster, vol. 1, P. 298, 301, vol. 2, P. 216 217 220 Glasser Skizze 2 S. 76.
5 وهبة ص76، Handbook, vol 1, P. 285, Ency. 2, P. 1173.
6 "الجهرة"، وهبة 77، 79، 81، 83، ومواضع أخرى
Handbook, vol. 1, P. 296.(1/176)
ليحمي السواد من غزو الأعراب، كان ينتهي في البحر عند "خليج كاظمة" في شمال الإمارة1.
وأرض الكويت، مثل سائر أرض العروض، كانت موطن شعوب قديمة، فيظهر أن "Bukae" أو "abucaei" أو "abukae"، وعاصمتهم مدينة "coromanis"، هم أسلاف بني عبد القيس، وأن "coromanis"، المصدر اللغوي الذي اشتق منه "القرين"، الاسم القديم للكويت2.
ولعل "idicare" هي "قارة" من مواضع الكويت3، وأن "jucara" هي "الجهرة" من أخصب مناطق الكويت في الزمن الحاضر، وكانت من المواضع المأهولة قبل الإسلام4.
وقد عرف "ياقوت" البحرين بأنها الأرضون التي على ساحل بحر النهد بين البصرة وعمان، وذكر أن من الناس من يزعم أن البحرين قصبة هجر، وأن منهم من يرى العكس، أي أن هجرًا هي قصبة البحرين5.
أما "أبو الفداء" فذكر أن البحرين هي ناحية على "شط بحر فارس"، وهي ديار القرامطة ولها قرى كثيرة، وبلاد البحرين هي هجر. وذكر أيضًا أن من الناس من يرى أن هجرًا اسم يشتمل جميع البحرين كالشام والعراق، وليس له مدينة بعينها6. ويظهر من دراسة ما ذكره العلماء عن البحرين أن رأيهم في حدودها كان متباينًا، وأنهم لم يكونوا على اتفاق في تحديدها، فتارة يوسعونها، وتارة يقلصونها.
ومن مواضع البحرين "محلّم"، وبه نهر اشتهر بنخله، وإليه أشار "بشر بن أبي خازم الأسدي" بقوله:
كأن حد وجهم لمّا استقلوا ... نخيل "محلّم" فيها ينوع7
__________
1 ency, 2, p, 1173.
2 تاريخ الكويت، لعبد العزيز الرشيد "بغداد 1926"، "1/ 23"، forster, vol, 2, p, 213.
3 وهبة ص79، forster, vol, 2, p, 214
4 forster, vol, 2, p, 214
5 البلدان "1/ 346" "دار بيروت للطباعة والنشر 1955".
6 تقويم البلدان "ص99".
7 ديوان بشر "ص130".(1/177)
اليمامة:
وأما اليمامة، فكانت تعرف ب"جو" أيضًا1، وقد عدّها "ياقوت الحموي" من نجد2، وقاعدتها "حجر". وكانت عامرة ذات قرى ومدن عند ظهور الإسلام، منها "منفوحة"، وبها قبر كان ينسب إلى الشاعر "الأعشى"3. و"سدود" من المدن القديمة، وبها الآن آثار كثيرة، وقد عُثر فيها على تمثال يبلغ قطره ثلاث أقدام، وارتفاعه 22 قدمًا4. و"القرية"، وعلى مقربة منها بئر، قال الهمداني -وهو يتحدث عنها-: "فإن تيامنت شربت ماء عاديًا، يسمّى قرية، إلى جنبه آبار عادية وكنيسة منحوتة في الصخر، ثم ترد ثجر"5. والظاهر أن هذا الموضع كان من المواضع الكبيرة المعروفة. وذكر ياقوت وغيره أن اليمامة "كانت تسمى جوا والقرية"6. ولا يعقل تسمية اليمامة بالقرية لو لم يكن لهذا الموضع شهرة.
وقد نشر "فلبي" وبعض رجال شركة النفط العربية السعودية صورًا فوتوغرافية لكتابات ونقوش عثروا عليها في موضع يقال له "قرية الفأو" على الطريق الموصلة إلى نجران ويقع على مسافة سبعين كيلومترًا من جنوب ملتقى وادي الدواسر بجبل الطويق، وعلى مسافة "120" كيلومترًا من شرقي "نجران"7،
__________
1 صفة 161، البلدان "8/ 516"، "واليمامة القرية التي قصبتها حجر، كان اسمها فيما خلا جوا. وفي الصحاح كان اسمها الجو"، لسان العرب "15/ 135"
2 البلدان "8/ 516"
3 البلدان "8/ 182"، صفة 162.
4 وهبة ص51، راجع وصف "قلبي" لسدوس في كتابه arabia of the wahabis, p,, 77.
5 صفة ص152.
6 البلدان "8/ 516"، وقد نزل بنو سدوس بن شيبان بن ذهل؛ ولذلك قيل لها "قرية بني سدوس"، قال ياقوت: "قرية بني سدوس بن شيبان بن ذهل، وفيها منبر وقصر يقال إن سليمان بن داود عليه السلام بناه من حجر واحد من أوله إلى آخره، وهي أخصب قرى اليمامة، لها رمان موصوف، وربما قيل لها القرية، البلدان "5/ 46" "7/ 76".
7 The Geographical Journal, vol, CXII, June, 1949, PP. 86 Le Museon, LXII, "1949", 1-2, PP. 87.
راجع أيضًا ما كتبه "فلبي" في بعض مؤلفاته عن هذا الموضع.(1/178)
وعلى ثلاثين ميلًا من جنوب غربي "السليل" في وادي الدواسر1.
كما وجدوا آثار أبنية ضخمة، يظهر أنها بقايا قصور كبيرة، ووجدوا كهفًا منحوتًا في الصخرة مزدانًا بالكتابات والتصاوير واسعًا، يقول له الناس هناك "سردبًا" أو "سردابًا". وعند هذا الموضع عين ماء وآبار قديمة، وقد كتب اسم الصنم "ود" بحروف بارزة. وتدل كل الدلائل على أن الموضع الذي تتغلب عليه الطبيعة الصحراوية في الزمن الحاضر، كان مدينة ذات شأن2.
وقد أشار الألوسي في كتابه "تأريخ نجد" إلى سدوس وآثارها فقال: "وفي قربها أبنية قديمة يظن أنها من آثار حمير وأبنية التبابعة "نقل لي بعض الأصحاب الثقات من أهل نجد: أن من جملة هذه الأبنية شاخصًا كالمنارة، وعليها كتابات كثيرة منحوتة في الحجر ومنقوشة في جدرانها؛ فلما رأى أهل قرية سود اختلاف بعض السياحيين من الإفرنج إليها، هدمومها ملاحظة التدخل معهم"3. وفي هذا الوصف دلالة على أن الخرائب التي ذكرها "ياقوت الحموي" بقيت، وأن المنبر الذي أشار إليه، قد يكون هذا الشاخص الذي شبه بالمنارة والذي أزيل على نحو ما ذكره الأولسي.
والكتابات التي عُثر عليها في "قرية الفأو" ذات أهمية كبيرة، لأنها أول كتابة باللهجات العربية الجنوبية عثر عليها في هذه المواضع، وتعود إلى ما قبل
__________
1 كتاب من الدكتور "جورج مائيوس" تأريخه 30 أغسطس 1950م في تعيين وضع المكان. "قرية: موضع في جنوب نجد، في الطريق بينه وبين نجران، ويبعد عن نجران 343 كيلو مترًا وعن الأفلاج الواقعة في جنوب نجد "383" كيلومتر "الأفلاج تبعد عن الرياض 273 كيلو متر"، ويقع بينها وبين الأفلاج العقيق الموقع الذي ذكره الهمداني في صفة الجزيرة، وأشار إلى وجود جالية أجنبية فيه في العهد القديم تشتغل بالتعدين، وأشار إلى معبد منحوت في الصخر في تلك الجهة، وبلغني أن في الجبال القريبة من "قرية" هذه- كتابات ونقوشًا وصورًا كثيرة. وقد مر بها المستر فلبي، وتبعد عن العقيق 94 كيلو مترا في جنوبه. ويبعد العقيق عن الأفلاج 280 كيلو مترا تقريبا". كتاب من السيد حمد الجاسر تأريخه 13 نوفمبر 1950
"العقيق مدينة فيها مئتا يهودي، ونخل كثير، وسيوح وآبار"، صفة 152، البلدان "6/ 198"
2 ,The Geographical Journal, CXII, June, 1949, P. 90, Philby,
Sheba's Daughter's, P. 430
3 تأريخ نجد "ص28".(1/179)
الميلاد. وعُثر فيها على مقابر، وعلى أدوات وقطع فخارية ظهر من فحصها أنها تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد1. ويرى من فحص هذه الآثار أنها تعود إلى السبئيين. والظاهر أن هذا الموضع هو بقايا مدينة قديمة كانت تتحكم في الطريق التجارية التي تخترقها القوافل التي تقصد الخليج الفارسي والعراق من اليمن عن طريق نجران. وفي هذه المنطقة بصورة عامة بقايا مدن تخربت قبل الإسلام.
ورأى "برترام توماس" "bertram thomas" أن آبار "العويفرة" القريبة من القرية هي موضع "أوفير" "ophir" الوارد ذكره في التوراة والذي اشتهر بالذهب، والطواويس، وأن الاسم العربي القديم هو "عفر" "ofar"، وقد تحرف بالنقل إلى العبرانية واليونانية؛ فصار "ophir". وهذا الموضع قريب من مناجم الذهب2. وبالجملة إن هذه الأرضين ويبرين ووبار وغيرها، هي من المناطق التي تستحق الالتفات إليها وتجريد البعثات العلمية للتنقيب فيها ودراسة أحوالها والتطورات التي طرأت عليها.
ويظهر أن هنالك جملة عوامل أثرت في اليمامة وفي أواسط جزيرة العرب؛ فحولت أراضيها إلى مناطق صحراوية، على حين أننا نجد في الكتب أنها كانت غزيرة المياه، ذات عيون وآبار ومزارع ومراع.
ومن أودية اليمامة "العرض": "العارض" الذي يخترق اليمامة من أعلاها إلى أسفلها. ولما كان من الأودية الخصبة، كثرت فيها القرى والزروع3. وهو وادٍ طويل، لعله من بقايا مجرى ماء قديم، و "الفقي"، في طرف عارض اليمامة، تحيط به قرى عامرة، تُسمّى "الوشم"4. و"وادي حنيفة" و "عرض شمام"5. وفي اليمامة مرتفعات مثل "جبل شهوان"، تخرج منه عيون ومياه6، و "عارض اليمامة"، ويبلغ طوله مسيرة أيام، وتكون عند سفوحه الآبار7.
__________
1 The Geogr. Jour., Vol., CXJH, June, 1949, P., 92, Sanger, The Arabiaa Peninsula,
P., 139.
2 The Empty Quarter, P., 177, Bertram Thomas, Arabia Felix, P., 163.
3 البلدان "6/ 146 فما بعدها"، "8/ 128"، صفة 137، 140، 141، 147، 161، 162، ويقال له أحيانا عرض حجر.
4 "الوشم" بالفتح ثم السكون، البلدان "8/ 424"، صفة 163.
5 البلدان "6/ 147".
6 البلدان "7/ 386".
7 البلدان "6/ 389"، "عارض" "عارض اليمامة"، البلدان -6/ 93- "العارض"، وهبة 6، 45، 46، 48، 51 ومواضع أخرى، صفة ص163.(1/180)
وتعد "الأفلاج" من المناطق التي تكثر فيها المياه، وتصب فيها أودية العارض، وفيها السيوح الجارية والجداول التي تمدها العيون. وقد ذكر "الهمداني" من سيوحه "الرقادي" و "الأطلس" و "نهر محلّم". قال: ويقال إنه في أرض العرب بمنزلة نهر بلخ في أرض العجم1. وطبيعي أن يكثر فيها وجود الخرائب العادية التي تعود إلى ما قبل الإسلام. وقد وصف الهمداني بعض التحصينات القوية، فقال عنها: أنها من عاديات طسم وجديس، مثل" حصن مرغم" و "القصر العادي" بالأثل2. ويُرجع "فلبي" الخراب الذي حلّ باليمامة إلى العوامل الطبيعية، ومنها فيضان وادي حنيفة3.
__________
1 صفة ص160.
2 صفة ص160.
3 Ency. Vol. 4, P. 1155, Phllby, The Geart of Arabia, vol. 2. PP. 31.(1/181)
نجد:
نجد في الكتب العربية "اسم للأرض العريقة التي أعلاها تهامة واليمن، وأسفلها العراق والشام"1. وحدها ذات عرق من ناحية الحجاز، وما ارتفع عن بطن الرمة، فهو نجد إلى أطراف العراق وبادية السماوة2. وليس لنجد في هذه الكتب حدود واضحة دقيقة، وهي بصورة عامة الهضبة التي تكون قلب الجزيرة، وقد قيل لها في الإنكليزية:3 "the heart of arabia". وتتخلل الهضبة أودية وتلال ترتفع عن سطح هذه الهضبة بضع مئات من الأقدام، وتتألف حجارتها في الغالب من صخور كلسية ومن صخور رملية غرانيتية في بعض المواضع. وأعلى أراضيها هي أرَضو نجد الغربية المحاذية للحجاز، ثم تأخذ في الانحدار كلما اتجهت نحو الشرق حتى تتصل بالعروض.
وتتألف نجد من الوجهة الطبيعية من مناطق ثلاث:
__________
1البلدان "8/ 258 فما بعدها"، الألوسي: محمود شكري، تأريخ نجد "الطبعة الثانية"، القاهرة "1347هـ" "ص7 فما بعدها".
2 صفة ص48.
3 K.S. Twitchell, Sauudi Arabia, p., 6, STAMP,P., 137.(1/181)
1- منطقة وادي الرمة، وتتألف أرضوها من طبقات طباشيرية في الشمال وحجارة رملية في الجنوب، وتغطي وجه الأرض في بعض أقسامها طبقات مختلفة السمك من الرمال، وتتخلّلها أرَضون خصبة تتوافر فيها المياه على أعماق مختلفة؛ ولكنها ليست بعيدة في الجملة عن سطح الأرض، وتتسرب إليها المياه من المرتفعات التي تشرق عليها وخاصة من جبل شمر1، ومن الحرار الغربية التي تجود على الوادي بالمياه. ويختلف عرض وادي الرمة، فيبلغ زهاء ميلين في بعض المحلات، وقد يضيق فيبلغ عرضه زهاء "500" ياردة، وتصل مياه السيول إلى ارتفاع تسع أقدام في بعض الأوقات2.
2- المنطقة الوسطى، وهي هضبة تتألف من تربة طباشيرية، متموّجة، تتخلّلها أودية تتجه من الشمال إلى الجنوب. وبها "جبل طويق"، والأرض عنده مؤلفة من حجارة كلسية، وحجارة رملية، ويرتفع زها "600" قدم عن مستوى الهضبة. وتتفرع من جبل طويق عدة أودية تسيل فيها المياه في مواسم الأمطار، فتصل إلى الربع الخالي فتغور في رماله. ويمكن إصلاح قسم كبير من هذه المنطقة، ولا سيما الأقسام الواقعة عند حافات وادي حنيفة3.
3- المنطقة الجنوبية، وتتكون من المنحدرات الممتدة بالتدريج من جبل طويق ومرتفعات المنطقة الوسطى إلى الصحاري في اتجاه الجنوب. وفيها مناطق مُعْشِبَة ذات عيون وآبار، مثل "الحريق"و "الخرج". ويرى الخبراء أن مصدر مياه هذه المنطقة من جبل طويق ومن وادي حنيفة. ومن مناطقها المشهورة "الأفلاج" و"السليل" و "الدواسر"، وفي جنوب هذه المنطقة تقل المياه، وتظهر الرمال حيث تتصل عندئذ بالأحقاف.
ويقسم علماء العرب نجدًا إلى قسمين: نجد العالية، ونجد السافلة. أما العالية فما ولي الحجاز وتهامة4. وأما السافلة، فما ولي العراق. وكانت نجد حتى القرن السادس للميلاد ذات أشجار وغابات، ولا سيما في "الشربة" جنوب "وادي الرمة" وفي "وجرة"5.
__________
1 وهبة ص60.
2 Handbook,vol. 1. P. 349.
3 Ency, vol. 3, P. 894, Handbook, vol. 1, p. 349.
4 البلدان "8/ 401"، تأريخ نجد ص8.
5 Ency., VOL., 3,P., 895 philby, The Heart of Arabia, 1, P., 115.(1/182)
وفي جزيرة العرب وبادية الشام أرضون يمكن أن تكون موردًا عظيمًا للماشية بل وللحبوب أيضًا، لو مسّها وابل وهطلت عليها أمطار، وتوفرت فيها مياه؛ فإن أرضها الكلسية تساعد كثيرًا على تربية الماشية بجميع أنواعها. كما تساعد على الاستيطان فيها، ولهذا يتحوّل بعضها إلى جنان تَخْلُب الألباب وتسحر النفوس عند هبوط الأمطار عليها، فتجلب إليها الإنسان يسوق معه إبله لتشبع منها. ولكن هذه الجنان لا تعمر، ويا للأسف، طويلا، فيضطر أصحاب الإبل إلى الذهاب إلى أرضين أخرى، وإلى التنقّل من مكان إلى مكان، فصارت حياته حياة تنقّل وهي حياة الأعراب.
أما وقد انتهيت من الحديث إجملًا عن صفة جزيرة العرب وعن حدودها ورسومها العامة، فلا بد لي من الإشارة إلى جزيرة "سقطري" "سوقطره" من الجزر التي تقابل الساحل العربي الجنوبي، وهي جزيرة كانت تعادل وزنها ذهبًا يوم كان البخور والصبر يعادلان بالذهب1. أما اليوم فما زال سكانها يجمعون الصبر والبخور والندّ؛ ولكنهم لا يجدون لحاصلهم السوق القديمة لزوال دولة المعابد والملوك الآلهة، وحلول عهد الذرة والبترول. وسكانها منذ القديم، خليط من عرب وإفريقيين وهنود ويونان. يتكلمون بلغة خاصة هي من بقايا اختلاط اللغات في هذه الجزيرة، فيها اللهجات العربية الجنوبية القديمة والمصرية والإفريقية. وهم يعيشون في كهوف ومغاور في الغالب ينالون رزقهم من الطبيعة بغير جهد. وترى في الجزيرة آثار الماضي وقد اختلط بعضه ببعض، لتداخل الحكم في هذه الجزيرة الثمينة التي هي اليوم في قبضة الإنكليز.
والآن وقد وقفت على صفة جزيرة العرب، وعرفت على سبيل الإجمال معالم وجهها، وكيف تغلبت الصحراوية، وظهر الجفاف عليها، فإن في وسعك أن تكوّن رأيًا في سبب قلة نفوس جزيرة العرب في الماضي وفي الحاضر، وفي سبب عدم نشوء مجتمعات حضرية وحكومات مركزية كبيرة فيها، وفي سبب تفشي البداوة وغلبة الطبيعة الأعرابية على أهلها وبروز الروح الفردية عند أهلها، وتقاتل القبائل بعضها مع بعض. ونفرة أهلها من الزراعة والحرف واعتدادهم إياها من حرف الوضعاء والرقيق. إن بيئة تحكمت فيها الطبيعة على هذا النحو.
__________
1 جان جاك بيربي: جزيرة العرب "ص192 فما بعدها".(1/183)
لا يمكن أن يشاكل سكانها سكان المناطق الباردة ذات الأمطار الغزيرة والخضرة الطبيعية الدائمة، أو سكان الأرضين التي حباها الله الخصب والأنهار والماء الغزيرة. من هنا اختلفت حياة العرب عن حياة غيرهم من الشعوب.
وللسبب المتقدم، أي سبب تحكم الطبيعة في مصيرالإنسان، انحصرت الحضارة في جزيرة العرب في الأماكن الممطورة والأماكن التي خرجت فيها المياه الجوفية عيونًا وينابيع، أو قاربت المياه فيها سطح الأرض، فأمكن حفر الآبار فيها. في هذه المواضع نبعت الحضارة وأظهر العربي فيها أنه مثل غيره من البشر قادر على الإبداع حين تتهيأ له الأحوال المواتية، وتساعده الطبيعة، ومن هذه الأماكن نستقي علمنا في العادة عن الجاهليين.
وعلى الرغم من سعة مساحة جزيرة العرب واتساعها؛ فإنها لم تتسع لعدد كبير من السكان لأن معظم أرضها صحراوية، لا تجذب الناس إليها ولا تساعد على ازدياد عدد السكان فيها ازديادًا كبيرًا، غير أن ذلك لا يعني أنها لايمكن أن تتسع لعدد أكبر من سكانها الحاليين، أن طاقتها لا يمكنها أن تتحمل هذا العدد أو ضعفه، بل الواقع هو أن في استطاعة الجزيرة تحمل أضعاف أضعاف هذا العدد، لو تهيأت لها حكومات حديثة رشيدة، تأخذ بأساليب العلم الحديث في استنباط مواردها الطبيعية لمصلحة أهلها وفي تحسين الصحة العامة وإيجاد موارد رزق الناس، وضمان الأمن والسلامة لهم، وإسكان الأعراب، وعمل ما شاكل ذلك من أمور. فإن سكان الجزيرة سيزدادون حتمًا، ويبلون أضعاف أضعاف ما هم عليه اليوم.
ونجد بين سكان جزيرة العرب في الوقت الحاضر اختلافًا في الملامح الجسمية. فأهل أعالي نجد هم أقرب في الملامح إلى قبائل عرب الأردن وعرب بادية الشام، وأهل الحجاز والسواحل، يختلفون بصورة عامة عن أهل البواطن، أي باطن الجزيرة، في الملامح بسبب اختلاط أهل السواحل بسكان السواحل المقابلة لهم، وامتزاج دمائهم. وقد أجرى بعض الباحثين المحدثين فحوصًا علمية على السكان في مواضع متعددة من جزيرة العرب لمعرفة الملامح البارزة عليهم والأصول التي يرجعون إليها؛ فوجدوا أن هناك امتزاجًا واضحًا بين السكان يظهر بصورة خاصة في السواحل، وهو امتزاج يرجع بعضه إلى ما قبل الإسلام ويرجع بعض آخر إلى الزمن الحاضر1.
__________
1 Naval, p,, 365.(1/184)
ولم يكن لسان عرب الجاهلية لسانًا واحدًا؛ ولكن كان كما سنرى ألسنة ولهجات. وقد استطعنا بفضل الكتابات الجاهلية أن نقف على بعضها. أما في الزمن الحاضر، فإن لغة القرآن الكريم هي اللغة المتحكّمة الموحّدة للألسنة، وهي لغة العلم والأدب والحكومات، غير أن بعض القبائل لا تزال تحتفظ بلهجاتها القديمة، وكذلك بعض أهل القرى والأرياف البعيدة عن الحضارة، فإنها تتكلم بلهجات وألسنة متفرعة من اللهجات العربية الجاهلية، كما الحال في مواضع من اليمن وفي العربية الجنوبية. ونجد في العربية الجنوبية قبائل تتكلم لهجات غربية عن عربيتنا مثل اللغة المهرية واللغة الشحرية، واللهجات المسماة بألسنة "أهل الهدرة". وهي لهجات لها صلة باللغات العربية الجنوبية الجاهلية وباللغات الإفريقية1.
__________
1 Naval, pp,, 374.(1/185)
الفصل الخامس: طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها
مدخل
...
الفصل الخامس: طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها
لم تدرس طبيعة أرض جزيرة العرب دراسة علمية مستفيضة شاملة، بالرغم من قيام الشركات الأجنبية بالبحث، في أنحاء منها، عن طبيعة تربتها للتوصل بذلك إلى اكتشاف ما في باطنها من ثروات؛ فأرض جزيرة العرب، أرض واسعة، تغطي الرمال أكثر مساحتها، فليس من السهل البحث فيها بحثًا علميًا عميقًا عن تركيبها وعن تطورها في كل أنحائها، لهذا كان علمنا بهذه النواحي من البحث ضحلًا مختصرًا في الغالب.
يتألف ثلثا الأقسام الشرقية من أرض المملكة العربية السعودية، من طبقات رسوبية يقال لها في علم طبقات الأرض "sedimentry formation"، تكون نوعًا من الصخور يتأثر ببعض المؤثرات الأرضية، فتكون من أحسن الأماكن الملائمة للبترول والفحم. وتتألف هذه الطبقات الرسوبية في الدرجة الأولى من الحجارة الكلسية. وتتكون أرض منطقة آبار البترول عند "الظهران" والمناطق الأخرى التي أصابت شركة البترول العربية السعودية الأمريكية فيها البترول، من هذا النوع من الصخور1.
وتوجد آثار طبقات رسوبية في المناطق الغربية من جزيرة العرب المطلّة على
__________
1 Twitchell, Saudi Arabia, P., 8.(1/186)
البحر الأحمر عند جزر "فرسان"1 و "جيزان"2 و"صبيا"3 و "أملج"4 و"المويلح"5 الواقع على مقربة من رأس خليج العقبة، و "ضبا"6، وحجارة رملية في العلا في القسم الشمالي الغربي من الجزيرة بكميات واسعة، وحجارة بركانية ولا سيما في مناطق الحِرَار، وصخور تكونت بفعل الترسبات المتأثرة بالضغط والحرارة، وهي التي يقال لها: "metamorphic formation"، وتساعد على تكوين المعادن. وقد وجدت في هذه المنطقة7، خامات المعادن؛ ولكنها لم تستغل حتى الآن استغلالًا تجاريًا، كما أن هذه الخامات والأرضين لم تفحص فحصًا فنيًّا لمعرفة النسب المعدنية فيها.
وتوجد الصخور الرملية في عسير وفي وادي الدواسر، وتشاهد في منطقة هذا الوادي تلال تتجه من الشمال إلى الجنوب، تقع إلى جنوب "الخماسين" وعلى ارتفاع "2200" قدم، يظهر أنها تكوّنت من الصخور "الأيولينية" "aelian sandstone" ومن حجارة "الكوارتس" الضخمة، وقد حوت مقدارًا من "أكاسيد الحديد" أعطت هذه السلسلة لونًا أحمر غامقًا. ويتكون فتات هذه الحجارة على هيأة ألواح صلبة، وعند قطعها يلاحظ أنها تتكوّن من طبقات، ويمكن فصلها على أشكال ألواح، وقد تكوّنت على حافات هذه السلسلة وجوانبها أشكال طبيعية مدهشة أخاذة بتأثير فعل الرياح والرمال فيها.
وتتكون أرض "قرية" من صخور كلسية، وهناك آبار قديمة تبلغ أعماقها
__________
1 وهبة ص40، البلدان "6/ 359"، صفة 47، 52، 53، 74، 75، 98، twitchell, p,, 8, 63
2 "ميناء صغير على بعد مائتي ميل من جنوب الجنوب الشرقي للقنفذة، وهي واقعة أمام مجموعة جزائر فرسان، ويحيط بها من جهة الداخل جبل جيزان"، وهبة ص40.
3 البلدان "5/ 337"، صفة 54، 73. 12 "صبيا على بعد عشرين ميلًا في الداخل وهي إلى الجنوب الشرقي من جيزان، وكانت عاصمة الأدراسة"، وهبة 40.
4 "أملج: قرية بها نحو مائة منزل، بها قلعة صغيرة، وأمامها تقع جزيرة حسان التي من رملها يصنع الزجاج، بها مزارع ونخيل، ومنها تمتد طريق في الداخل إلى اصطبل عنتر، إحدى محطات سكة حديد الحجاز"، وهبة 15، 20.
5 قرية وقلعة على بعد 150 ميلًا إلى الجنوب من العقبة، وهبة 19.
6 إلى جنوب المويلح، المحل الرئيس لقبيلة الحويطات، اتخذها الأتراك مركز دفاع عن الشاطئ، وهبة ص19.
7 twitchell, p. s..(1/187)
تسعين قدمًا، حفرت في طبقات أرضية مؤلفة من حجارة الكلس، تتخللها طبقات من الحجارة الرملية غير أنها ليست ثخينة1. أما أرض "بئر حما" التي يبلغ ارتفاعها زهاء أربعة آلاف قدم فوق سطح البحر، وتقع على الحافات الغربية للربع الخالي؛ فإنها مؤلفة من الحجارة الرملية الأيولينية الحمراء، وعلى مسافة "35" ميلًا إلى الجنوب الغربي من "حما" موضع يقال له "بئر الحسينية" فيه بئر يبلغ عمقها "129" قدمًا، وقد حفرت في أرض فيها طبقات ثخينة من "الغرانيت".وتتألف أكثر الأرضين التي تمتد من هذا الموضع إلى نجران من حجارة "غرانيتية". وتظهر الحجارة الرملية في القسم الجنوبي والغربي من هذه المنطقة التي ترتفع زهاء "1500" قدم عن مستوى سطح الوادي الموصل إلى نجران، والذي يرتفع هو نفسه زهاء أربعة آلاف قدم عن سطح البحر. وتتألف مناطق واسعة من اليمن من حجارة رملية ومن الطبقات المترسبة2 "sediments".
قلت: إن هنالك مناطق في الحجاز مكونة من طبقات مترسبة تعد من أحسن الصخور والطبقات الأرضية، ملائمة للنفط والفحم، وإن هنالك مناطق فيها صخور بركانية ونارية، وقد تكوّنت أكثرها من تغييرات كبيرة وعمليات طويلة من ضغط هذه السلسلة الجبلية الطويلة التي تكون العمود الفقري لجزيرة العرب.
وترتفع زهاء "9000- 11000" قدم عن مستوى البحر في اليمن على ما تحتها من طبقات.
ونجد مناطق واسعة من "اللابات" مبعثرة على طول هذه السلسلة، منها ما هو حديث التكوين. ويشاهد في الزمن الحاضر لسان بارز من "اللابة" في شرقي "أبي عريش"3 يمتد حتى يتاخم حدود اليمن، كما نشاهد مناطق أخرى مؤلفة من هذه الحجارة في مواضع عديدة بين "شقيق"4 و "خور البرك"5 مثلا حيث تصل "اللابة" إلى البحر الأحمر فتدخل فيه. وكذلك في شمالي "شقيق" عند "جهمة" حيث توجد بقايا بركان يكوّن جزيرة في البحر مقابل هذا
__________
1 Twitchell, P. 9.
2 Twitchell, P. 9.
3 أبو عريش في تهامة على بعد سبعين ميلا شمالي اللحية، وهبة 40.
4 في تهامة، وهبة 38.
5 البرك، وهبة 38.(1/188)
الموضع1.
وعلى مسافة اثني عشر ميلا من مكة جبل، يقال له جبل النورة، حيث تحرق حجارة الكلس المكونة له، لاستخراج النورة واستعمالها في البناء2. وهذه الحجارة الكلسية هي من الطبقات المترسبة المتحولة. وهناك أماكن أخرى تكوّنت من هذه الحجارة، يشاهدها المارّ من جدّة إلى موضع "مهد الذهب"، الذي تستغل الآن مناجمه، لاستخراج الذهب، وتتكون تلال مهد الذهب من الحجارة المترسبة التي تعرضت لتغيرات طبيعية عديدة، عليها طبقات من حجراة "البازلت" "basalt". وفي حجارة المناجم خامات معادن متعددة، وفيها حجارة "الكوارتس"3 "quartz". وتوجد في منطقة الطائف صخور "الغرانيت"، وفي نهاية هذه السلسلة الجبلية الطويلة التي تنتهي في اليمن تشاهد "لابات" الحِرار4 وبقايا الحِرار التي كانت تزعج اليمانيين؛ إذ هي قد تقذفهم حممها في يوم من الأيام فتسومهم سوء العذاب.
وفي أرض اليمن عدد كبير من الحرار، ذكر السياح بعضها، مثل حرة "أرحب"، وتقع شمالي "صنعاء" ولها لابة استخرد منها الناس حجارة سودًا لبناء البيوت5. وعلى مقربة من "ذمار" تكون الأرض بركانية6. وتوجد الحرار في القسم الشمالي من "وادي أبرد"7، وفي الوادي بين "صرواح" و "مأرب"8. وقد حمل بعض المستشرقين وجود الحِرار في اليمن بهذه الكثرة وعلى مقربة من المدن القديمة، على تفسير هلاك بعض المدن كخراب "مأرب"9و "حقة"10 و "شبوة"11 بتأثير هياج البراكين.
__________
1 Twitchell, P., 10.
2 Twitchell, P., 10.
3 Twitchell, P., 10.
4 Twitchell, P., 10.
5 H. Scott, In the High Yemen, London, 1947, P., 8, 114. Scott, P., 113.
6 Scott, P. 113.
7 Philby, Sheba's Daughter's, P., 380.
8 المصدر نفسه ص392.
9 كذلك ص389.
10 Scott, P., 195.
11 Philby, in Geogr. Journal, 92, PP., 127, August, 1938, Sheba's, 103.(1/189)
كذلك توجد مناطق حرار في العربية الجنوبية، في عدن1 وحضرموت وعمان2 وفي الربع الخالي، وقد استعمل القدماء حجارة البراكين في البناء، ولا يزال الناس يستعملونها في البناء حتى اليوم، وقد وجد بين الحجارة المكتوبة عدد من صخور البراكين. وقد استغل الجاهليون بعض الحِرار لاستخراج الكبريت منها، وذكر "نيبور" أن أهل اليمن كانوا يستخرجون الكبريت من جبل يقع في شرقي ذمار، ويظهر أن هذا الجبل بركان قديم3.
وتتكون بعض هضاب اليمن من الصخور المتبلورة التي مرت في أدوار طويلة، ويرى العلماء أنها كانت في الأصل تحت سطح البحر، ثم ترسبت عليها طبقات ثخينة من المواد الرسوبية حتى تبلورت وتصخرت4. وقد استعلمها الجاهليون ولا تزال تستعمل في النوافذ، لتقوم مقام الزجاج. وهناك طبقة طباشيرية وطبقات من صخور رملية غذت المناطق المنخفضة، وهي تهائم اليمن، بالرمال. وكذلك المنطقة التي يقال لها الرمل5. وتتكون التربة في تهامة وفي سهل صنعاء من المواد الصلصالية التي تعود إلى الأرمنة "الجيولوجية"، المتأخرة، ومن المتكونات "الأيولينية" التي حصلت بتأثير فعل الرياح في الصخور الرملية6. ويكثر وجود الصخور المتبلورة في الحجاز وفي العربية الجنوبية كذلك7. وتوجد الصخور والطبقات الرسوبية في اليمن وفي حضرموت وعمان، وقد وجدت في هذه المناطق علائم وجود البترول.
والسواحل الشرقية لجزيرة العرب، أي السواحل الواقعة على الخليج، هي سهول، ولكنها سهول من الرمال في الغالب، ولهذا قلّت فيها الزراعة، إلا في المواضع التي تتوافر فيها المياه الجوفية، وتتفجر عيونًا، مثل الأحساء والقطيف.
وهناك سباخ ومستنقعات ناتجة من انخفاض الأرض، جوّها غير صحي، والبترول في القرن العشرين، هو الذي أغاث أهل هذه الأرض، وجلب لهم الثراء والمال
__________
1 Stamp, P., 140.
2 D.G. Hogarth, The Nearer East, P., 97. Scott, P., 114, 237, Niebuhr, Relsebeschreibung, S., 324.
3 Scott, PP. 6.
4 Scott, pp. 6.
5 Handbook, Vol., 1, PP., 145.
6 Scott, P., 8.
7 In Unknown Arabia, PP., 421, Stamp, P., 109.(1/190)
الوافر والسيارات الفارهة وآلات التبريد ووسائل الترف والرفاهية، وبعث فيها الحياة بعد أن كانت خامدة خاملة.
وقد كانت حال هذه السواحل قبل الإسلام أحسن بكثير من حالها في القرن التاسع عشر إلى يوم استنباط البترول في القرن العشرين، بدليل ما نقرؤه في الموارد التأريخية من أسماء مواضع كانت مأهولة، زالت واندثرت، وأسماء قبائل كانت تنزل بها، اضطرتها أحوال قاهرة متعددة متنوعة إلى هجرها، فقلَّ عدد سكانها بالتدريج.
وتعد البحرين من أكثف المناطق في جزيرة العرب. فإن نسبة عدد سكانها بالقياس إلى مساحة أرضها عالية نسبيًّا قبل الإسلام وفي الإسلام. وسبب ذلك هو توافر الماء فيها، واعتمادها على استخراج اللؤلؤ من البحر وعلى صيد السمك الذي يقدم للأهلين المادة الأولى للمعيشة. والماء فيها غير عميق عن سطح الأرض وقد كوّن عيونًا في بعض الأماكن ولهذه المميزات صارت موطنًا للحضر قبل الإسلام بزمن طويل.
وفي جزيرة العرب خامات معادن، ومن الممكن استغلال بعضها استغلالًا اقتصاديًّا، ومن هذه المعادن الذهب. وقد ذكر الجغرافيون العرب أسماء ومواضع عرفت بوجود خام الذهب بها، مثل موضع "بيشة" أو "بيش"، وقد كان الناس يجمعون التبر منه، ويستخلصون منه الذهب1. و "ضنكان"، وكان به معدن غزير من التبر2، والمنطقة التي بين القنفذة و "مرسي حلج"3.
ويظهر من المؤلفات اليونانية ومن الكتب العربية أن المنطقة التي بين القنفذة و"عتود"، كانت معروفة بوجود التبر فيها؛ فكان الناس يشتغلون هناك باستخلاص الذهب منه، ولهذا رأى "موريتس" أن هذه المنطقة هي منطقة "أوفير" "OPHIR" التي ورد ذكرها في التوراة على أنها كانت تصدر الذهب4. ويشاهد في وادي تثليث على مقربة من "حمضة" وعلى مسافة 183 ميلًا من
__________
1 البلدان "2/ 333 فما بعدها"، صفة "127، 257"، المسالك والممالك "188" فؤاد حمزة، في بلاد عسير "61 فما بعدها"، MORITZ, S,105.
2 صفة 120.
3 Moritz, S. 110, Glaser, Skizze, S. 29.
4 Hommel, Grundriss, Vol., 1, S., 13, Moritz S., 110.(1/192)
نجران آثار التبر، ويظهر أنه كان من المواضع التي استغلت قديمًا لاستخراج الذهب منها1. وقد اشتهرت ديار بني سليم بوجود المعادن فيها2، وفي جملتها معدن الذهب، ويستغل اليوم الموضع الذي يقال له "مهد الذهب"، ويقع إلى الشمال من المدينة باستخراج الذهب منه، وتقوم بذلك شركة تستعمل الوسائل الحديثة، تحرّت في مواضع عديدة من الحجاز الذهب والفضة ومعادن أخرى؛ فوجدت أماكن عديدة، استغلت قديمًا لاستخراج "التبر" منها، ولكنها تركتها لعدم تمكنها من الحصول على الذهب منها بصورة تجارية، تأتيها بأرباح حسنة، واكتفت بتوسيع عملها في "مهد الذهب"؛ لأنه من أغزر تلك الأماكن بخام الذهب، وظلت تنقب به إلى أن تركت العمل فيه، وحلت نفسها، وتركت كل شغل لها بالتعدين3.
وقد ذكر الكتبة اليونان أن الذهب يستخرج في مواضع من جزيرة العرب خالصًا نقيًّا، لا يعالج بالنار لاستخلاصه من الشوائب الغريبة ولا يصهر لتنقيته. قالوا ولهذا قيل له "إبيرون" "APYRON". وقد ذهب "شرنكر" إلى أن العبرانيين أخذوا لفظة "أوفير" من هذه الكلمة4.
وقد عثرت الشركة في أثناء بحثها عن الذهب في "مهد الذهب" على أدوات استعملها الأولون قبل الإسلام في استخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه، مثل رحى وأدوات تنظيف ومدقات ومصابيح، وشاهدت آثار القوم في حفر العروق التي تكوّن الذهب، وأمثال ذلك مما يدل على أن هذا المكان كان منجمًا للذهب قبل الإسلام بزمن طويل، ولعله من المناجم التي أرسلت الذهب إلى "سليمان"؛ فأضيف إلى كنوزه، على نحو ما هو مذكور في التوراة5.
__________
1 The middle East, "Royal Inst. Of Inter. Affairs" P. 91, "1950", Twitchell, P. 77.
2 صفة 113، 153، ومواضع أخرى
3 "شركة التعدين السعودية العربية"، ويشمل امتيازها كل أرض الحجاز، وتقوم بالبحث عن جمع المعادن، وقد بحثت في منطقة الطائف؛ غير أنها لم توسع أعمالها كثيرًا، تأسست سنة 1934م، ثم صفت أعمالها وتوقفت عن العمل،
"Saudi Arabian Mining Syndicate, Ltd", Twitchell, P. 146, 157, Sheba's, P. 15 The, Middle East, 1948, P. 248.
4 Montgomery, Arabia, P. 39.
5 Sanger, the Arabian Peninsula, P. 20, 23.(1/193)
ويظن بعض الباحثين أن منجم "مهد الذهب" هو المنجم الذي كان لبني سُليم؛ فعرف باسمهم وقيل له: "معدن بني سُليم"، وقد وهبه الرسول إلى بلال بن الحارث1.
وعرفت "أرض مدين" وما والاها من الأرضين في شمال "وادي الحمض" بوجود التبر فيها واستخراج الناس له هناك قبل الميلاد بمئات من السنين. وتوجد آثار المناجم التي كانت تستغل مبعثرة في مواضع عديدة حتى اليوم2.
وتوجد خامات معادن أخرى في الحجاز منها الكبريت والنحاس والقصدير والحديد3، وتستخرج الأملاح من الصخور الملحية التي في الحجاز وفي عسير عند جيزان، ويستخرج الأهلون منها مسحوقًا لاستعماله في عمل المفرقعات4 كما أن هنالك مثل هذه الصخور الملحية في السلف من اليمن. ويمكن الاستفادة من هذه الأملاح فائدة كبيرة من الوجهة الاقتصادية حيث تدخل في كثير من الصناعات.
وفي منطقة "رابغ" توجد رواسب "البارايت" "barite" وتدل البحوث الأولية على أنه من الممكن استخراج عشرة آلاف طن من "البارايت" في كل عام5. وتدل الدلائل على أن هنالك منجمًا قديمًا في منطقة "رابغ" كان يستغل لاستخراج "الكالينة" "galena"؛ غير أن النماذج التي فحصت فحصًا أوليًّا دلّت على أن هذه المادة قليلة فيها. ويظهر أن هناك كميات كبيرة من تراب الحديد في "العقيق" على مقربة من "مهد الذهب" كما شوهدت خامات المعادن في موضع "برم" جنوب الطائف6 وفي موضع "نفى"7، ولا يستبعد العثور على البترول في الحجاز في المواضع المتكونة من الطبقات المترسبة "sedimentary formations"، وتوجد في الحجاز الرمال التي تصلح لصنع الزجاج8.
وتستغل أرض الأحساء في استخراج "البترول"9،ويكثر وجود البترول في
__________
1 Naval, P., 517.
2 Richard Burton, The Arabian Peninsula, P., 17.
3 TwitcheU, P., 162.
4 Twitchell, P., 163. TwitcheU, P., 164.
5 Twitchell, P., 164
6 المصدر نفسه ص 164، "معدن البرم"، البلدان "8/ 94".
7 "نفي" البلدان 8/ 308"، twitchell, p,, 164.
8 وهبة 20.
9 The Middle East, (1950) , P., 90.(1/194)
العروض حيث حفرت الآبار في الكويت والبحرين، وتدل الدلائل على وجوده في قطر وعمان، كذلك دلّت التحريات على وجوده في حضرموت في منطقة "شبوة"1، وفي المناطق وراء شبوة إلى داخل جزيرة العرب؛ حيث يحتمل العثور على مناجم للذهب كذلك2. ويجري البحث عن البترول في محمية "عدن" وفي اليمن.
ودلت التقارير الأولية على وجود الفحم في حضرموت في منطقة "شبوة"، وتوجد الصخور الملحية مترسبة في بطن طبقات الأرض يقتطعها الأهلون، وتستغل في الأعمال التجارية، كذلك توجد هذه الصخور الملحية في اليمن، وقد تكونت بفعل العوامل "الجيولوجية" والضغط المتواصل، فتحجرت بمرور آلاف السنين عليها، وتكمن تحت سطح الأرض في بعض الأماكن حيث تحفر جوانب التلال للوصول إلى قلب مناجم الملح المتحجرة، وقد يفتت باستعمال المواد المتفجرة "الديناميت"3، وتستخرج صخوره من بعض المناجم صافية بيضاء كأنها البلور4. مثل المِلْح المستخرج من "جبل الملح" بمأرب، فإن ملحه كما يقال صافٍ كالبلور5. وتشتهر "السلف" بوجود مناجم ملح فيها، تقع على مسافة أربعين ميلًا إلى الشمال من الحديدة. وتوجد في جزيرة "قمران" المقابلة لهذا الموضع مناجم ملح، وكذلك في "اللحية"6.
وإلى وجود مثل هذه الصخور الملحية في كثير من أنحاء جزيرة العرب، يجب أن يعزى ظهور قصص بناء القصور من الملح المنتشرة في كتب التأريخ والأدب.
ولما كانت أرض اليمن وأكثر الأنحاء الأخرى من الجزيرة، لم تفحص حتى الآن فحصًا فنيًّا، ولم تطأها أقدام الخبراء، فمن الصعب التحدث عن مواطن المعادن فيها، وعن أنواع التربة، وأثرها في الحضارة الجاهلية.
وقد وجدت مصنوعات حديد في اليمن، عثر عليها في الخرائب والآثار
__________
1 sheba's, p,, 103.
2 المصدر نفسه ص 198.
3 كذلك ص 99، 114.
4 أيضًا، ص114، 127.
5 صفة ص 201.
6 scott, p,, 114, 237.(1/195)
والأماكن العادية، كما اشتهرت اليمن بسيوفها، في الجاهلية وفي الإسلام؛ غير أننا لا نعرف الآن المواطن التي كانت تستغل لاستخراج الحديد منها، وقد ذكر الرّحّالة "نيبور" أنه كان في "صعدة" منجم، يستخرج منه الحديد، وأن أماكن أخرى كانت تستغل لإنتاج هذه المادة1.
وذكر "الهَمْداني" من معادن اليمن الذهب والفضة، وقال: إنه كان يستخرج من "الرضواض" ولا نظير لفضته، والحديد، وكان يستخرج من "نقم" و "غمدان" و "فصوص البقران"، وتستخرج من جبل أنس. و "فصوص السعوانية" وتستخرج من "وادي سعوان" جنب صنعاء، وهو فص أسود فيه عرق أبيض ومعدنه بشهارة وعيشان من بلد حاشد إلى جنب هنوم وظليمة والجمش من شرف همدان، وحجر "العشاري"، وهو الحجر العشاري من عشار بالقرب من صنعاء، والبلور، والمسنى الذي تعمل منه أنصاب السكاكين والعقيق الأحمر، والعقيق الأصفر من الهان والجزع الموشى والمسير، والشزب تُعمل منه ألواح وصفائح وقوائم سيوف وأنصاب سكاكين ومداهن وقحفة وغير ذلك2. وعرفت اليمن بعقيقها الذي يقال له "عقيق يماني" و "حجر يماني" وهو "الجزع"3 "onyx".
وقد بقيت بعض المواضع المذكورة تستغل معادنها في الإسلام؛ إلّا أن تغيّر الوضع في جزيرة العرب في الإسلام وهجرة كثير من القبائل إلى البلاد المفتوحة، ووجود صناعات فيها ومعادن أثمانها أرخص من أثمان معادن الجزيرة، ثم تقدم العالم بعد ذلك وظهور الثورة الصناعية، كل هذا وأمثاله أثر في وضع التعدين وفي صناعة المعادن في جزيرة العرب، فدثرها، أو تركها مشلولة لا تعمل إلا في حدود مرسومة ضيقة وفي مجال محلي.
وليست دولة الحيوان في جزيرة العرب دولة ضخمة عظيمة، وكيف تكون ضخمة وأكثر أرض الجزيرة عدو للحيوان ولكل ذي روح؟ والجمل هو الحيوان الأليف الوحيد الذي استطاع بعناده وبصلابته على السير بجبروت وبتبختر فوق
__________
1 scott, p,, 114, 237.
2 صفة ص 202 فما بعدها.
3 scott, p, 237.(1/196)
رمال الصحاري، غير عابئ بالرياح العاتية التي تَذْرُو الرمال في الأعين، وتنقل أكوامًا منها معها، تكفي لدفن الجمل ومن عليه أو من معه ومع ذلك فإن هذا الحيوان الصبور العنيد. لم يتوفق أيضًا في تحطيم جبروت البوادي في كل مكان؛ فظلّ بعضها أرضًا حراما عليه وعلى السابلة، تحطم من يريد التجاوز عليها والاعتداء على استقلالها، بأن تميته عطشا، فتفتح ذرات رملها الناعم، وعندئذ تغوص قوائم الجمل فيها فيبقى في مكانه حتى ينفق.
والجمل، هو أيضًا من أقدم الحيوانات التي سمعنا بها عند العرب، وأعزّها وقد صوّر في النصوص الأشورية، عند ذكر معركة "قرقر" ومعارك أخرى، وقعت بين العرب والأشوريين. وطبيعي أن يقرن الجمل بالبادية، وأن يُجعل رمزًا لها، فليس لحيوان آخر القدرة على اجتياز البوادي واختراقها وتحمل مشقّاتها وعطشها مثل الجمل. ثم إنه مركب العرب، يحملهم، ويحمل تجارتهم وماءهم، وهو ممونهم بالوبر لصنع البيوت حتى قيل للأعراب "أهل الوبر" ومنه يصنعون أكسيه عديدة. ولبن الإبل، هو لبن أهل البادية، وإذا احتاجوا إلى لحم، ذبحوا الجمل، فأكلوه، وأفادوا من جلده.
والجمل ثروة، والثري العربي هو من يملك عددًا كبيرًا من الإبل، وتقدّر ثروته بقدر ما يملكه منها. وقد كان الجمل مقام "النقد"، أي مقام الدينار والدرهم في الغالب؛ فبعدد من الإبل يقدر مهر الفتاة، وبعدد من الإبل تُفَضُّ الديات والخصومات. وهكذا يتعامل به كما نتعامل اليوم بالنقود.
ويرى العلماء أن الإنسان ذلّل الجمل حتى صيّره أليفًا مطيعًا له في الألف الثانية قبل الميلاد1. وقد ذهب بعضهم إلى أن العربية الشرقية كانت الموطن الذي ذلّل فيه هذا الحيوان في الشرق الأدنى، استدلوا على ذلك بإطلاق العراقيين القدماء على الجمل اسم "حمار البحر"، وقالوا إن قصدهم من "البحر" الخليج، وأن لفظة "الجمل" "جملو" "كَمَلو" في الأكادية"؛ إنما وردت من بادية الشأم، ومعظم سكان البادية هم من العرب، وقد كانوا يستعملون الجمل استعمال الناس للسيارات ولوسائل الركوب في هذا الزمن. وقد استعملوه في الألف
__________
1 W. F. Albright, Prom the Stone Age to Christianity, Baltimore, 1946, PP., 107, \ 120, Reinhard Waltz, Zeitschrift der Deutschen Morgenlandischen Gesellschaft, 101, 1951, S., 29, ff., 1954, S., 47. ff., Discoveries, P. 35.(1/197)
الثانية قبل الميلاد، فدخوله من البوادي إلى العراق هو دليل على أن العرب كانوا قد استخدموه أولًا ومنهم انتقل إلى العراق والبلاد الأخرى1.
ويرى "إلبريت" أن البداوة الحقيقية على نحو ما نعرفها اليوم من السكنى في البوادي والتنقل فيها من مكان إلى مكان، لم تظهر في جزيرة العرب إلا في أواخر النصف الثاني من الألف الثانية قبل الميلاد، وذلك بتذليل الإنسان للجمل وبترويضه له لخدمة أغراضه، ففتح له بذلك أبواب البوادي، وتمكن من التوغّل فيها واجتيازها بفضل جمله خادمه المطيع. أما ما قبل الجمل؛ فقد كان العربي لا يستطيع اجتياز البوادي واختراقها لأن حماره الذي كان واسطة الركوب عنده، لا يتحمل ولوج البادية، ولا يستطيع أن يعيش فيها، وأن يصبر عن شرب الماء أو الأكل صبر الجمل؛ لذلك كان عرب الجزيرة في الألف الثانية، وقبل وقت تذليل الجمل رعاة في الغالب، وسائط ركوبهم الحمير، ولم يكونوا قد طرقوا البوادي أو توغّلوا فيها توغّل العرب أصحاب الوبر فيما بعد2.
فالجمل إذن هو الذي فتح لأهل جزيرة العرب آفاق البوادي، ووسع البداوة عندهم، حتى جعلها علمًا خاصًا يقابل عالم الحضارة في الجزيرة. وهو الذي صار أهم واسطة لنقل الأموال بالطرق البرية الطويلة التي تربط أجزاء الجزيرة بعضها ببعض، وتربط طرق الجزيرة مع الطرق الخارجية. وبفضل الجمل القادر على تحمل العطش والصبر على الجوع، وعلى تحمل الصعاب صار في إمكان العرب التنقل إلى مسافات بعيدة من الجزيرة وحمل أثقاله معه. فاستخدام العرب له هو في الواقع ثورة كبيرة في ذلك العهد بالنسبة على وسائط النقل والحمل وفي عالم التجارة والاقتصاد. ومن حق العربي إذا ما عبّر عن الغنى أن يعبر بكثرة ما عند الإنسان من إبل.
وقد عرف الجمل بوجود غريزة الانتقام فيه، وبعدم نسيانه أذى من يؤذيه؛ لذلك زعم أنه يبقى حاقدًا على المسيء إليه حتى ينتقم منه ولو بعد زمن طويل. ويظن أن لتفسير اشتقاق اسمه دخلًا في ظهور هذه الفكرة، فقد فسرت لفظة الجمل بأنها من فعل "كَمَلَ" "جَمَلَ" كامل" "جامل"، أي انتقم، مع أنها تعني "حَمَلَ" أيضًا. وقالوا إن معنى "الجمل" "المنتقم"،
__________
1 BASOR, uum. 160, 1960, P. 42
2 Recoveries, P. 87.(1/198)
وقالوا إنه سُمي بذلك لأنه حيوان منتقم، ومن ثم وصف "أرسطو" و "أريان"، الجمل بأنه حيوان لا ينسى الأذى، سريع الانتقام. وقد يكون لأقوالهما ولأقوال غيرهم في الجمل دخل في تكوّن هذه الفكرة عنه عند الناس حتى اليوم1.
الجمل المعروف في جزيرة العرب، هو الجمل ذو السنام الواحد. وهناك نوع من الجمال يقال للواحد منها "الهجين"، وهو الجمل المُضرب، ويكون أصغر حجمًا من الجمل العربي الأصيل؛ إلا أنه أسرع عدوًا منه2. وقد عدّ الجمل عند العبرانيين من موارد الثروة والغنى كذلك، ولذلك عُدّ "أيوب" من أغنياء زمانه لأنه كان يملك ألفي جمل، وعد "المديانيون" "أهل مدين" وهم من العرب، أغنياء، لأنهم كانوا يملكون عددًا كبيرًا من الجمال3.
وللجمل في العربية أسماء كثيرة. أما في العبرانية وفي اللغات السامية الأخرى، فلا نجد فيها مثل هذه الكثرة. ويقال للجمل "كمل" و "بكرة". ويراد بـ "كمل" الجمل. أما "بكرة" فالجمل الصغير. والجمل من أقدم الحيوانات المذكورة في التوراة، وذكر أنه كان لإبراهيم عدد كبير من الجمال4.
وبالرغم من اشتهار جزيرة العرب بجمال خيلها، وبتربيتها لأحسن الخيل، وبتصديرها لها. فإن الخيل في جزيرة العرب إنما هي من الحيوانات الهجينة الدخيلة الواردة عليها من الخارج، ولا ترتقي أيام وصولها إلى الجزيرة إلى ما قبل الميلاد بكثير. قيل إنها وردت إليها من العراق. ومن بلاد الشام، أو من مصر5، وإن وطنها الأصلي الأول هو منطقة "بحر قزوين". ولهذا لا نجد في الكتابات الأشورية، أو في "العهد القديم" أو في المؤلفات "الكلاسيكية"، إشارات إلى تربية الخيل في جزيرة العرب، أو استعمال العرب لها في حلهم وترحالهم وفي حروبهم.
وقد بقي العرب إلى ما بعد الميلاد، بل إلى ظهور الإسلام، لا يملكون عددًا كبيرًا من الخيل. وفي غزوات النبي ومعاركه مع المشركين، كان عدد الخيل التي اشتركت في المعارك محدودًا معدودًا، مع أنها كانت مهمة جدًّا وعدة
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 338".
2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 339".
3 القضاة، الإصحاح السابع، الآية 12.
4 Hastings, 1. p. 344.
5 Sanger, The Arabian Peninsula, P., 77.(1/199)
حاسمةً في إحراز النصر. وذلك بسبب قلتها إذ ذاك، وعدم تمكن كل الناس من اقتنائها؛ إلا من كان موسرًا منهم، أو في حال حسنة. فقد كانت تكاليف الخيل كثيرة لا يتحملها إلا ذَوُو الدخل الحسن، فالخيل في حاجة إلى عناية ورعاية، وطعامها للمحافظة على صحتها يكلف باهظًا. فلا بد من تقديم الحشائش والحبوب لها ثم إن مجال استعمالها في البادية محدود لأنها لا تستطيع تحمل جوع الصحراء وعطشها تحمل الجمل، كما أنها لا تستطيع السير في رمال البوادي المهلكة المتعبة مسافات بعيدة لهذا لم يقبل الأعرابي العادي على شرائها أو تربيتها في تلك الأيام، فصارت من نصيب أهل اليسر والحال الحسنة، يمتلكها ويعتني بها من يملك السيارات في هذه الأيام. كثرتها عند الرجل علامة على ثرائه ووجاهته بين الناس.
ونظرًا لسرعة الخيل وخفّتها في الكرّ والفرّ، صارت أهم سلاح لنجاح الغزو وإلحاق الأذى بالعدو، يغِير عليها المغير فيبَاغِت خصمه بهجوم سريع خاطف، فيربكه، ولهذا أخذت القبائل، ولا سيّما القبائل الساكنة في مضارب قريبة من الأرياف ومن الحضر، تشتري الخيل وتعتني بها للمحافظة على حياتها في الدفاع والهجوم. وعدّت القبائل القوية، هي التي تملك عددًا كبيرًا من الخيل، وصار للفارس مقام خطير في ذلك الزمن، لشجاعته وصبره في الدفاع عن مواطنيه؛ فهو بمثابة "الكومندو" في هذه الأيام1.
واستعملت الخيل للتسلية واللهو واللعب، فتسابق على ظهورها الفرسان في حلبات السباق، وتراهن الناس على السابق، ولعب الفرسان بعض الألعاب: ألعاب الفروسية وخرجوا على ظهورها للصيد، فالصياد الراكب، أقدر من الصياد الراجل على مطاردة الصيد.
وفي القرآن ذكر للخيل كمصدر من مصادر القوة، يرهب بها المسلمون أعداءهم ومصدر من مصادر الثروة، ومصدر من مصادر الزينة وبهجة الحياة الدنيا2. وفي الحديث ذكر لها كذلك وثناء عليها. وعُدّت الخيول من الحيوانات
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 155 وما بعدها".
2 آل عمران، الآية 14، الأنفال، الآية 60، النحل، الآية 8، الحشر، آية 6 الإسراء، آية 64.(1/200)
الشريفة الرفيعة في التوراة1، وصوّرت على شكل خيول من نار فيها، تهبط على أعداء الرب لتنزل بهم الهلاك والدمار2.
أما البغال، فإنها من الحيوانات المعروفة بتحملها للمشقّات، وقدرتها على السير في المناطق الوَعِرة، مثل الهضاب والأرضين المتموجة والجبال. وقد استعملت في الحمل وفي الركوب، وهي تؤدي خدمات في هذه المناطق يَعْسُر على الجمل القيام بها، وقد يعجز عنها. أما هي: فإن من الصعب عليها العمل في البوادي ذات الرمال، كما أنها لا تستطيع الصبر صبر الجمل على تحمل الجوع والعطش أيامًا متوالية عديدة؛ لذلك لم يقبل عليها أهل البادية، ولم يعتنوا بها.
وقد حرم قدماء العبرانيين على أنفسهم تربية البغال، وأول من أباح ذلك وجوز لهم استعمالها هو "داود"، ومنذ ذلك الحين، أقبلوا على تربيتها والاستفادة منها في أرض فلسطين3. ويظهر أن قدماء العبرانيين لم يكونوا يعرفون البغال، فلما وجدوها عند أمم وثنية غريبة عنهم، كرهوا استعملها فحرموها على أنفسهم، حتى انتبه "داود" لفائدتها ومنافعها، فاستعملها، ثم قلده في ذلك بقية العبرانيين بالتدريج.
ويظهر أن البغال لم تكن كثيرة الاستعمال في جزيرة العرب حتى ظهور الإسلام. فقد ورد في كتب السير أن "دلدلًا"، بغلة النبي، "أول بغلة رُئِيتْ في الإسلام أهداها له المقوقس، وأهدى معها حمارًا يقال له عُفير"4. وورد أيضًا: "أُهْدِيَ لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، بغلة شهباء فهي أول شهباء كانت في الإسلام"5.
وورد: "أهدى فروة بن عمرو إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، بغلة يقال لها فضة"6.
__________
1 أيوب، 39 آية 19 وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "2/ 155".
2 الملوك الثاني، الإصحاح الثاني، الآية 11، قاموس الكتاب المقدس "2/ 156".
3 اللاويون 19، 19، صموئيل، 13، 29، 18، 9، الملوك الأول، 321، 10، 25، 18، 5، hastings, p,, 637.
4 ابن سعد الطبقات "1/ 491" "طبعة دار صادر".
5 المصدر نفسه.
6 كذلك.(1/201)
وورد في القرآن الكريم: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً......} 1؛ مما يدل على أن من الناس من استعمل البغال للركوب وللزينة. وقد كان من الأشراف والوجهاء من يتخذ البغال للركوب في الطرق الوَعِرة. أما مَنْ هم دونهم في المنزلة، فكانوا يتخذون الحمير.
وقد ورد في شعر ل "بشر بن أبي خازم الأسدي" ما يفيد أن البغال كانت معروفة في بعض المواضع، وأن أبوالها كانت تترك وَقِيعًا أي أثرًا على الأرض2. والظاهر أنه قصد بعض الأرضين الوعرة التي كان من الصعب على غير البغال السير بها، وذلك مثل بلاد اليمن التي كانت تستعمل البغال للركوب ولرفع الأثقال.
والحمير هي أول واسطة للركوب وللحمل عند الحضر وأهمها، هي للحضري مثل الجمال للبدوي، وهي مركب مريح لا يسبب إزعاجًا، ولا سيّما إذا كان أتانًا؛ لأنها أهدأ وآمَنْ من العثار. هذا، إلى أنها صبور تتحمل المشقّات، ولعل صبرها وتحملها وسكوتها عند ضربها، قد حمل كل الناس على وسمها بالبلادة. فشُبِّه البليد بالحمار، فإذا أريد تعبير شخص بالبلادة وعدم الفهم قيل إنه "حمار". ليس ذلك عند العرب وحدهم، بل عند غيرهم من الشعوب القريبة منهم مثل العبرانيين، والبعيد عنهم. فشهرة الحمار بالبلادة شهرة عالمية3. ويقال للحمار "حامور" "hamor" في العبرانية. أما الأنثى. فإنها "أتون" "athon" أي "أتان" في العربية. وأما الحمار الصغير، وهو ما يقال له "الكر" أو "الجحش"؛ فإنه "عير" "ayir" في العبرانية4.
ويظهر من ملاحظات بعض الباحثين أن الحمار في جزيرة العرب هو أقدم عهدًا من الجمل ومن الخيل والبغل؛ إذ كان واسطة الركوب والنقل في أوائل الألْف الثانية قبل الميلاد. فلما حلّ الجمل محله خفف من واجباته وأعماله، وصار عند العرب في منزلة هي دون منزلة الجمل بكثير.
__________
1 النحل، الآية: 8.
2
وقد جاوزن من غمدان أرضا ... لأبوال البغال بها وقيع.
وفي بعض الكتب "عيدان" في مكان "غمدان" ديوان بشر "ص132".
3 Hastings, p. 59
4 Hastings, p., 59(1/202)
والبقر من الحيوانات القديمة في بلاد العرب، وهي من الحيوانات الملازمة لأهل الحضر في الغالب، ولا سيّما لأهل الريف، أما الأعراب فإن استفادتهم منها غير ممكنة وتكاليفها كثيرة بالنسبة إليهم، ثم إنها لا تستطيع تحمل طبيعة البادية، لذلك لم يقبلوا عليها، ولم يعتنوا بتربيتها، بل ربما نظروا إلى أصحابها نظرة ازْدِرَاء وعدم احترام. ويستفاد من ألبانها ومن لحومها وجلودها، كما يستفاد منها في حرث الأرض، وفي سحب الماء من الآبار، وفي جر العربات. وقد عُثر على ألواح مكتوبة بالمسند وعليها صور ثيران تقوم بحراثة التربة لتهيئتها للزرع.
والأغنام، هي المادة الرئيسية لتمويل الناس باللحوم والصوف. تربى في كل أنحاء جزيرة العرب، ويستفاد من ألبانها كذلك. أما "المعز" فيربى في المناطق المتموجة، أي ذات التلال، وفي الأرضين الجبلية بصورة خاصة. ويستفاد منها مادة للحوم وللحليب وللجلود، ويستعمل شعرها للخيام السود المصنوعة من شَعْرها في تلك الأزمنة1. ولكن هذه الأنواع من الماشية، لا تستطيع العيش في البادية؛ لذلك كانت من نصيب أهل المدن وحدهم. أما أهل الوبر الضاربون في البادية فإن ماشيتهم الوحيدة الإبل.
وعرفت جزيرة العرب الأسد، الذي قلّ وجوده فيها في الإسلام، ويظهر من كثرة أسمائه في اللغة ومن ورود اسمه في الشعر الجاهلي، أنه كان كثيرًا فيها، وقد اشتهرت أماكن خاصة منها بكثرة أُسُودها حتى قيل لها "مآسد" والواحدة "مأسدة". ومن هذه الأماكن "عثّر"، وإليها نسبت "أسود عثر"، و "عتود" وهي قرية نسبت إليها الأسود كذلك2. وقد عرف الأسد بشدة بطشه وبقوته وبسيادته على سائر مملكة الحيوان في القوة، ولهذا لقبوا الشجاع الذي لا يقهر أسدًا.
أما بقية الحيوانات المعروفة باسم الحيوانات الوحشية، أي التي لم تألف الإنسان، فمنها النمر3 والفهد والثعلب والذئب والقط الوحشي والضبع والبقر
__________
1 hastings, p,, 906.
2 المخصص "8/ 59 فما بعدها"، صفة "54"، moritz, s, 40,, f,, noldeke, in zdmg, 49, 713,f.
3 صفة "202".(1/203)
الوحشي1، أو الرئم والحمار الوحشي، وقد كان الجاهليون يصطادونه ويأكلونه عند الحاجة، حتى حرمه الإسلام، والنعامة2 والغزال والضَبّ، وله ذنب معقد، ويأكله الأعراب. والورل والوزغ، واليربوع، والقنفد. ولا تزال مواضع من اليمن والحجاز وحضرموت تحتضن قردة تتيه وحدها على الجبال والمرتفعات، فخورة بأنها من نسل تلك القرود التي عاشت قبل الإسلام بأمد طويل.
وعرف العقاب والبازي والنسر والصقر واليوم من بين الكواسر التي تنقض على الطيور الضعيفة والهوام فتعيش عليها، والغراب بأنواعه معروف في جزيرة العرب وله قصص في الأساطير العربية، ولهذا الطائر قصص في الآداب الأعجمية كذلك، لها علاقة كما هي عند العرب بالتفاؤل والتشاؤم بصورة خاصة وكان من الحيوانات التي تركت أثرًا في أساطير الشعوب القديمة وما برح الناس يتطيّرون من نعيبه.
والهدهد المذكور في القرآن الكريم، من الطيور الجميلة المحبوبة، وهناك أنواع عديدة من الحمام والعصافير والقطط والعنادل، وغيرها من الطيور الجميلة ولبعضها أصوات جميلة أخاذة ساحرة، كما أن لبعضها ألوانًا زاهية.
والجراد، وإن كان طعامًا شهيًّا لكثير من البدو، بلاء على أهل الحضر؛ يأكل زرعهم ويأتي على ما غرسوه فتحل بهم المجاعة، ويزيد في قساوة الطبيعة علىالإنسان. ولذلك عُدّ نقمة توجهها الآلهة على البشر، وتعبيرًا عن الغضب الإلهي على الخارجين على طاعة الآلهة، ولما كان يحدثه من أضرار بالزرع والأثمار والأشجار3.
والعقارب ذات أحجام وألوان، وهي تلدغ من تصيبه فتؤذيه وتؤلمه إيلامًا شديدًا، وهي مثال الحقد واللؤم عند العرب، فيضرب المثل بطبيعتها، على عكس الأفاعي والحيّات، مع أنها مؤذية كذلك، وقد تميت من تلدغه.
والسبب في ذلك أنها أكبر حجمًا من العقرب، وفي استطاعة الإنسان رؤيتها وتجنبها، ثم إنها لا تقدم على الإنسان ولا تلدغه إلا إذا شعرت أنها في وضع
__________
1 moritz, s. 42 Wellhausen, lleder der Hudhailiten, no. 175, 176.
2 Euting, 1. 230, moritz. S. 42.
3 الخروج، الإصحاح العاشر، الآية 4 وما بعدها، مزامير، المزمور 78، الآية 46، 105، الآية 34، قاموس الكتاب المقدس "1/ 322".(1/204)
حرج مخيف بالنسبة إليها. ولهذا ورد في الأمثال: "نحو العقرب لا تقرب، نحو الحية افرش ونم"، وزعم أن العقرب عمياء مع أنها ترى مثل سائر الحيوانات؛ ولكن صغر حجمها ولونها الذي يقرب من لون التراب، وكثرة وجودها في البيوت، هي عوامل تجعل الإنسان لا يميزها بسهولة، ولا يشعر بها إلا وقدمه عندها أو فوقها، فتلدغه عندئذ دفاعًا عن نفسها، كما يفعل أي حيوان آخر باستعمال ما عنده من وسائل الدفاع عن النفس.
وقد تركت الأفاعي والحيّات أثرًا كبيرًا في القصص العربي ولما كان بعضها كبير الحجم، ويقفز على من يهاجمه بسرعة خاطفة، أفزع الناس في البوادي والأودية، وترك في مخيلاتهم آثارا باقية لا تنسى. جعلهم يربطون بين الحيّات والأفاعي والعفاريت، وبين الجن "الجان"، بأن جعلت فصائل منها.
وتعيش في الرمال وفي الغابات وبين الصخور، فصائل من الحيّات مختلفة الأحجام، بعضها صغير، يقفز قفز بعض السمك فوق سطح البحر، أو الهوام وبعض الحشرات فوق سطح الأرض. فلا يشعر المارّ إلا وأمامه حية قافزة تفزعه وترعبه. وقد طار صيتها وانتشر خبرها خارج حدود جزيرة العرب؛ فوصفت بلاد العرب بكثرة الحيات الطائرة، حتى زعم أن لبعضها أجنحة، وأنها ذات ألوان متعددة، وكوّن وجودها قصصًا في مخيلة الأشوريين واليونان والرومان، نرى أثره فيما ذكره "هيرودتس" و "سترابو" عن تلك الحيات1.
وقد فزع جيش "أسرحدون" في أثناء اختراقه البادية من كثرة الثعابين والحيات التي كانت تثور عليه وتقفز أمامهم كما يقول نص "أسرحدون".
وذكر أن من بينها ثعابين ذات رأسين، وأن من بينها ما له جناح فيطير. ولما مرّ الجيش بأرض "بوزو" "بازو" "bozu" "bazu"، وجد الأرض مغطاة بالثعابين والعقارب، وهي في كثرتها مثل الذباب والبعوض2. والظاهر أن البوادي كانت منازل طيبة للثعابين. وقد تذمر الإسرائيليون من "الثعابين الطائرة" وفزعوا منها عندما كانوا يقطعون البوادي والفيافي في طريقهم إلى
__________
1 Herodotus, IH, 107, 113, Strabo, XVI, 4, 19, 25.
2 Rogers, Cuneiform parallels to the Old Testament, P., 359, Luckenbill, II, 209, 229, Montgomery, Arabia and the Bible, PP. 8.(1/205)
فلسطين1. وقد أفزعت السياح المحدثين والمستشرقين، ومنهم "لورنس" الذي هاله ما رأى من كثرة الثعابين في الأماكن التي نزل بها وفي جملتها "وادي السرحان2".
والسمك هو من أهم مواد العيش لسكان سواحل الجزيرة، يعيشون عليه ويبيعونه لحمًا جافًّا ويصدرونه إلى الأماكن البعيدة ويحملون الطري منه إلى الأماكن التي لا تبعد كثيرًا عن الساحل. ويجفف ويدق ليكون طعامًا عند الحاجة إليه، كما يكون طعامًا لحيواناتهم كذلك. ولا يزال سكان السواحل يصيدون السمك بالطرق التي تعوّد أهل الجاهلية استعمالها في السمك. ويأتي سمك "السردين" أي السمك الصغير في مواسم الشتاء إلى السواحل بكثرة، فيصاد بسهولة وتغذى به الحيوانات. وطالما تنبعث الروائح الكريهة ويتراكم الذباب بدرجة منفرة من تكدس الأسماك المعرضة للشمس لتجفيفها، فتكون من شر الأماكن لمن لم يتعود دخولها.
ومن أنواع السمك الكبير الذي يوجد في البحر الأحمر وفي البحر العربي والخليج، نوع يقال له "القرش"، يحتاج صيده إلى مهارة وبراعة، ويحمل لبيع لحمه مقطعًا في الأسواق.
وقد اشتهر اليمن والطائف في الحجاز ومواضع أهل الحضر الأخرى بدباغة الجلود ومعالجتها لتحويلها إلى مادة نافعة لصنع الأحذية أو الدلاء أو القُرَب وما شابه ذلك. وقد تصدَّر الجلود مدبوغة أو غير مدبوغة، إلى العراق أو إلى بلاد الشام لبيعها هناك.
وليست لدينا في الزمن الحاضر دراسات علمية دقيقة عن أنواع الحيوانات التي عاشت في جزيرة العرب في العصور السحيقة لما قبل الإسلام. فما عثر عليه من بقايا عظام قديم، أو أصداف ومحار، هو قليل لا يكفي لإعطاء أحكام علمية عن حيوانات جزيرة العرب في العصور البرنزية والحديدية والحجرية، أو ما قبل هذه العصور التأريخية. فليس لنا إلا الانتظار، حتى تأتي الفرص الملائمة التي يقوم فيها العلماء المتخصصون بالتجوال في مختلف بحثًا عن آثار عظام
__________
1 العدد 21 الآية 24 ما بعدها، أشعياء، 30، الآية 6.
2 Colonel Lawrence, Revolt in the Desert, P., 93, G. Jacob, Studien in Arab. Dichtern, Heft, 1, S.f 93, Heft, 4, S., 10, Montgomery P. 9.(1/206)
وهياكل، تكشف القناع عن ذلك العالم الحي، الذي عاش في هذه البقاع قبل آلاف السنين.
وإذا كان الجمل، هو رمز جزيرة العرب، لالتصاقه بها؛ فإن النخيل هي رمز آخر لها، وكناية عن أهم حاصل ومنتوج زراعي تصدره تلك البلاد، ولهذا صارت رمزًا لها. وصار "التمر"، عند كثير من المسلمين من أهم ما يتناولونه في شهر رمضان للإفطار به؛ لأنه رمز الإسلام ورمز المدينة التي عاش وتوفي فيها الرسول.
وكما أفاد الجمل أهله الفوائد المذكورة المعلومة، من ناحية حمله ولحمه وجلده ووبره، كذلك أفادت النخلة سكان جزيرة العرب فوائد عديدة، حية وميتة، أفادتهم في تقديم ثمرة صارت إدامًا للعرب، وطبًّا يستطبُّون بها لمعالجة عدد من الأمراض. ومادة استخرجوا منا دبسًا وخمرًا وشرابًا، وأفادهم كل جزء من أجزائها، حتى أنهم لم يتركوا شيئًا من النخلة يذهب عبثًا. فهي إذن رمز الخير والبركة بكل جدارة وحق لأهل جزيرة العرب، لا يدانيها في ذلك أي نوع من أنواع النباتات النامية في هذه البلاد.
وكائن له هذه الفوائد والمنفعة، ينمو ويثمر بسهولة ويسر، لا بد أن يثمن ويقدر، ويميز على غيره. ولهذا صارت النخلة سيدة الشجر، لا عند العرب وحدهم بل عند قدماء الساميين أيضًا، وأحيطت عندهم بهالة من التقديس والتعظيم1. وزخرفت معابدهم بصورها واستعمل سعفها الأخضر في استقبال الأعياد والأبطال والملوك وكبار الضيوف؛ لأنه علامة على اليُمن والبركة والسعادة والفرح. ولا يزال السعف زينة تزين بها الشوارع في المناسبات العامة المهمة حتى اليوم. وقد عثر على صورها وصور سعفها على النقود القديمة وفي جملتها نقود العبرانيين الذين يحترمون النخلة احترامًا لا يقل عن احترام العرب لها، ولهذا ورد ذكرها في مواضع عديدة من التوراة والتلمود2.
والنخيل، هي مثل الجمال ثروة ورأس مال يَدِرّ على صاحبه ربحًا وافرًا. ومن كان له نخل وافر كان غنيًّا ثريًّا. وقد ربح يهود الحجاز أرباحًا طائلة من
__________
1 hastings, p, 675.
2 اللاويون، 23، 40، نحميا، 8، 15، المكابيون الأول، 13، 51، hastings, p,, 675.(1/207)
اشتغالهم بزراعة النخيل هناك؛ فالتمر هو مادة ضرورية للأعراب يعيش عليها ويأتدم بها، وإذ هو لم يكن يفْلَح ولا يزرع، كان يشتريه مقايضة في الغالب من تجار التمور، فيكسب أصحاب النخيل أرباحًا طائلة من بيعهم التمور. ولا يوجد مكان في جزيرة العرب فيه ماء، إلا والنخلة هي سيدة المزروعات فيه، بل تكاد تكون النبات المتفرد بالزرع في أكثر تلك الأمكنة. لا يزاحمها نبات آخر من النبات.
والنخلة هي من أقدم الأشجار التي احتضنها الساميون، ولعل الفوائد التي حصل الساميون عليها من هذه الشجرة، هي التي حملتهم على تقديسها وعدّها من الأشجار المقدسة، فنجد النخلة مقدسة عند قدماء الساميين وعدّوا ثمرها وهو التمر من الثمار المقدسة التي تنفع الناس1.
أما الكروم، فقد غرست في مناطق من الجزيرة اشتهرت، وعرفت بها مثل الطائف واليمن. وأما الأشجار المثمرة الأخرى مثل الرمان والتفاح والمشمش وأمثالها، فقد غرست في مناطق عرفت بالخصب، وبتوافر الماء فيها، ويميل أهلها إلى الزراعة والاستقرار، مثل مدينة "الطائف" مصيف أهل مكة منذ الجاهلية، واليمن. وقد ذكر أن الكروم دخلت إلى بعض المناطق حديثًا، فورد أنها دخلت إلى "مسقط" مثلًا في القرن السادس عشر للميلاد، على أيدي البرتغاليين2، ودخلت إلى الحجاز في القرن الرابع بعد الميلاد غريبة من بلاد الشام. ويرى بعض الباحثين أن النبط واليهود كانوا الوسطاء في نقل الأشجار المثمرة إلى الحجاز3.
أما أشجار ضخمة تمد الناس بالخشب على نحو ما نجده في الهند أو في إفريقية، فلجفاف الجزيرة لا نجد فيها مثل تلك الأشجار. لذلك استورد العرب خشب سفنهم ومعابدهم وبيوتهم من الخارج في الغالب، من إفريقية ومن الهند، خلا الأمكنة القريبة من الجبال والمرتفعات التي يصيبها المطر، وتصطدم بها الرطوبة، فقد نبتت فيها أشجار كونت غابات وأيكات، أفادت مَنْ في جوارها؛ إذ
__________
1 hastings, p,, 675
2 جان جاك بيربي، جزيرة العرب "205"، وفي هذه الترجمة العربية المطبوعة سنة 1960 ببيروت، أغلاط كثيرة في ضبط الأعلام.
3 حتى "22".(1/208)
أمدتهم بما احتاجوا إليه من خشب لاستعماله في مختلف الأغراض. وقد كانت منطقة "حسمى" وأعالي الحجاز ذات غابات، وقد تعبّد أهلها لإله اسمه "ذو غابة"، إله الغابات، كما كست الأحراج الطبيعية والغابات جبال اليمن وجبال حضرموت وعمان.
وما زال أهل العروض ولا سيما سكان الخط، يستوردون أخشاب سفنهم من الهند، لعدم وجود الخشب الصالح لبناء السفن عندهم أو في أماكن قريبة منهم. وهم في ذلك على سنة أجدادهم الذين عاشوا قبل الإسلام بل قبل الميلاد، يذهبون بسفنهم الشِّرَاعية إلى سواحل الهند وسيلان تحمل إليها التمور وحاصلات جزيرة العرب والعراق وتعود بهم محملة بحاصلات الهند ومنها الخشب الثمين للاستفادة منه في بناء السفن ولاستعماله في المعابد الضخمة المهمة وفي قصور الملوك.
والسدر من الأشجار المعروفة في جزيرة العرب، وترتفع شجرته أمتارًا عن سطح الأرض، وتكوّن ظلًّا يقي من يجلس تحته لهيب الشمس ووهجها المحرق. وتكون له ساق قوية متينة. وهو لا يحتاج إلى سقي دائم، لأن جذوره تمتد عميقة في باطن الأرض، فتمتص الرطوبة، ويعطي ثمرًا هو "النبق"، ويستعمل ورقه استعمال الصابون في تنظيف الجسم.
وأشجار مثل السّدر ذات ارتفاع وظلّ، وهي أشجار ذات نفع كبير لأهل البلاد التي تغلب عليها طبيعة الجفاف، لا يمكن أن يقدر أهميتها وفائدتها إلا من ركب الصحراء في يوم حار، ثم جاء فجأة فجلس تحت ظل شجرة تقيه وتقي حيوانه من لهب الشمس، سيرى نفسه في جنة وسط جهنم. فلا عجب إذا ما عبد بعض العرب وبعض الساميين مثل هذه الأشجار، وتقرّبوا إليها بالنذور والقرابين، وتوسّلوا إليها، أو عدّوها من الأشجار المباركة، من أشجار طوبى، الأشجار التي وُعِد بها المتقون في الجنة.
وقد عبد قدماء العبرانيين بعض الأشجار المثمرة، وعدّوها إلاهة أنثى، لا إلهًا ذكرًا، وذلك لخاصية الحمل التي فيها، وقد تصوّروا أن للقمر أثرًا في حمل الأشجار، أي في إعطاء الثمرة1.
__________
1 A Religious Encyclopaedia, or Dictionary of Biblical, Historical, Dactrinal, and Practical, Tneology, by Philip Schaff, Vol., 2, P., 916.(1/209)
وقد ذكرت أسماء بعض الفواكه والأثمار والأشجار في القرآن الكريم، ويدل ذلك على وجودها في الحجاز، واستعمال الناس لها، ووقوفهم عليها، مثل التين والزيتون والأعناب والطلح والسّدر الرومان وعلى وجودها وزرعها في الحجاز، قبل الإسلام بأمد. ولم يكن الحجاز مثل اليمن وحضرموت في كثرة الأشجار والفواكه، وذلك لجفافه بالقياس إلى جو العربية الجنوبية الذين ساعد على نموّ الأشجار.
والأَثْلِ والأراك والغَضَى الذي يستخرج منه الفحم، والمعروف بجمره، و "السنط"، والسمح، و "الصعتر"، وأمثالها، هي من الأشجار التي لا تزال تنمو وتعيش في مواضع متعددة من الجزيرة، وبعضها في الأقسام الغربية والجنوبية؛ حيث تنمو وتنبت على المرتفعات، يستخرج منها الناس وقودًا، أو ثمرًا بريًّا يأكلونه، وقد يستفيدون من ورقه فيجفِّفُونه ويسحقونه فيبيعونه.
وأما الحبوب والخضر والبقول، فتحتاج كلها إلى سقي، لهذا انحصرت زراعتها في الأماكن التي تتوافر فيها المياه أو تتساقط عليها الأمطار في المواسم المناسبة. لذلك نجدها في الحجاز وفي اليمن وفي العربية الجنوبية وفي مواضع المياه من نجد والعروض. والحبوب هي الحنطة والشعير والذرة والأرز، وسأتحدث عنها وعن بقيتها في باب الزراعة عند الجاهليين. وبعض الخضر، مستورد من الخارج، أُدخل من العراق أو من بلاد الشام أو من إفريقية والهند، فالبطيخ مثلا المعروف بـ "الخربز" عند أهل المدينة مستورد كما يدل عليه اسمه الفارسي من العراق: استورد قبل الإسلام بأمد. ويمكن الاستدلال من أسماء الأثمار والخضر، ومن دراسة توزيعها وأماكن وجودها، على الأماكن التي جاءت منها، فدخلت جزيرة العرب قبل الإسلام.
أما "البخور" واللبان -بترول العالم في ذلك الزمان- والصموغ والمرّ والمنتوجات الزراعية الأخرى التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، وكانت مصدر رخائها، ومصدر تنافس الدول الكبرى عليها في ذلك الزمان، فقد زالت أهميتها بالتدريج، وذهب أثر سحرها بتبدل الأيام. و "ظفار" والمناطق الأخرى، وإن كانت لا تزال ترى أشجار البخور تنبت على الفطرة حتى اليوم، قد زالت دولتها الآن فلا تأتي للسكان بالذهب والفضة؛ فقد تغير ذوق العالم، وتبدلت تجارته، وصار يفتش عن الذهب الأسود، منتوج الطبيعة في باطن الأرض.(1/210)
وفي هذه المواضع من العربية الجنوبية وفي الأودية وحافات الهضاب والجبال التي كانت تنبت بها تلك الموارد الثمينة، والتي لا تزال تنبت على الطبيعة، تشاهد كهوف ومغَاوِر غريبة وآبار وكتابات جاهلية بالمسند، وآثار مقابر تتحدث كلها عن قوم كانوا قد استوطنوا هذه الأماكن قبل الإسلام بزمان طويل1. أما الآن فهي خرائب، ترجو من الأحياء توجيه نظرهم إليها لإحيائها ولاستنطاق آثارها وكنوزها لتحدثهم عن ماضيها القديم.
وقد حبت الطبيعة اليمن بمزية جعلتها تحتضن كل النباتات المذكورة، وتنبت أكثرها أنواع المزروعات، وذلك بأنعامها عليها بجبال وبمرتفعات وبمنخفضات حارة رطبة، هيأت لها ثلاثة جواء، تنتج محصولات ثلاثة أنواع من المناخ: منتوج المناخ المرتفع البارد، ومنتوج المناطق المعتدلة، ومنتوج المناطق الحارة.
وقد عرف أهل اليمن الأذكياء كيف يستغلون تربتهم، فعلموا مدارج على سفوح جبالهم وعلى المرتفعات، أصلحوا تربتها، وذلك لحصر مياه المطر عند نزوله، ضمانًا لدخوله التربة وإروائها، وزرعوا تلك المدارج أو السلالم العريضة بمختلف المزروعات وذلك قبل الإسلام بأمد طويل، فأمنوا بذلك خيرًا وافرًا لهم، جعل اليمن من أسعد بلاد جزيرة العرب، فهي العربية السعيدة والعربية الخضراء بكل جدارة، وهي موطن الحضارة وأرقى مكان نعرفه في الجزيرة في أيام ما قبل الإسلام.
ومن النبات ما هو دخيل استورد من الخارج، من العراق أو من بلاد الشام، وقد احتفظ قسم منه باسمه الأعجمي القديم. ويظهر أن بعضه قد دخل بعد الميلاد. وقد يكون من المفيد دراسة نبات جزيرة العرب قبل الإسلام، لمعرفة الدخيل منه وكيفية وصوله إلى الجزيرة، كما يستحسن دراسة الكتابات الجاهلية لاستخراج ما ورد فيها من أسماء النبات.
وأما البوادي فإن ظروف الخصب والنماء فيها محدودة، تركزت في مواضع المياه وفي الأماكن الرطبة التي تكون المياه الجوفية فيها على حافة القشرة، وفي أعقاب الأمطار، حيث تخضر الأرض وتلبس حلة خضراء سندسية جميلة، لكن لبسها لا يدوم طويلًا، فسرعان ما تمزقها الرياح الجافة والأهوية الحارة، فتقضي
__________
1 Sanger, The Arabian Peninsula, p., 126.(1/211)
عليها وتظهر حقيقة ما تحتها من تربة جافة عبوس، لا مكان للنبات فيها ولا مجال لزرع فيها في مثل هذه الظروف.
والواحات ومواضع الآبار والمياه في البوادي، هي رحمة للإنسان حقًّا، ومنظر تقرّ به العين. فالواحة في البادية، لؤلؤة وكنز وجنة وسط جحيم، لا يدرك جمالها ولا يعرف قدرها إلا من اضطر ركوب البوادي وتعرض لرياح السموم ووهج الشمس وعواصف الرمال تستقبل الأوجه بذات الأرض الناعمة، تهاجم العيون والأنوف والأفواه، وتضطر حتى الجمل إلى البطء في سيره وإلى التوقف، ثم تأتي على ما لدى الإنسان من ماء حرص على حمل أكبر كمية يستطيع حملها للوصول إلى مكانه المقصود لضمان حياته في هذه البادية وحياة حيوانه الذي هو فيها جزء من حياته أيضًا. ولولا الآبار والواحات في هذه البوادي، لما كان من الممكن طرقها وسلوكها، وإلا كان الدمار والهلاك.
وفي هذه المواضع التي حبتها الطبيعة بـ "إكسير الحياة" يستعيد المسافر نشاطه ويتجدد أمله، ويسترد قواه، يعطيه ماؤها قوة تعيد إليه كبرياءه وعظمته وجبروته، ثم تنسيه كل ما تعرض له من مصاعب ومشقات، وما أبداه من عجز وضعف تجاه القوى الخفية القادرة المهيمنة على الصحراء. وعندئذ يتذكر حكمة: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 1. ويشعر ببحر الماء والخضراء، يسحر هذه الأشجار والشجيرات والأعشاب النامية في هذه التربة بفضل "إكسير الحياة". ومهما كان الإنسان في هذا المكان من السذاجة والبلادة والجهل، فلا بد أن يستولي عليه شعور من حيث لا يشعر بعظمة سحر هذا المكان.
أما الغرباء الذين يعجبون من تقاتل العرب فيما بينهم على موضع صغير فيه بئر أو بركة ماء أو عشب، فإنهم سيدركون سر هذا التقاتل في حياة أهل البادية لو كلفوا أنفسهم يومًا اجتياز تلك البوادي الواسعة العابسة. عندئذ فقط، يدركون أن ذلك القتال الذي وسم أهل البادية بسمة حب الغزو والغارات لم يكن سببه فردية وأنانية، وإنما غريزة إنسانية تنبت في كل إنسان متى عاش في هذه الظروف القاسية العابسة الفقيرة. إنها غريزة المحافظة على الحياة.
ولا غرابة بعدُ إذا ما تغنى العربي بمواضع المياه والبادية بعد نزول الغيث
__________
1 الأنبياء، الآية 30.(1/212)
عليها، وإذا ما أظهر الحنين إليها، وتوجع في شعره وفي غنائه على الليالي المقمرة يقضيها في باديته يناجي سماءه الصافية ونور قمره الساطع يغازله ويوحي إليه، ويرسل إليه النسمات العليلة، وإلى جانبه حبيبته. يذكر حسّه هذا في شعره وفي غنائه وفي موسيقاه، حتى ليبدو للغريب، وكأن ما يقوله العربي ويحسّ به نغمة واحد ساذجة مكررة تعاد تعاد من غير معنى ولا سبب. ولكن حسّه هذا حس الصحراء، وليس في الصحراء غير نغم واحد، تترنم به الطبيعة، فإما هدوء شامل، وإما نسمة واحدة عليلة مستمرة، وإما عواصف رملية، إذا هدأت عاد إلى الصحراء هدوءُها المعهود.
ومناخ جزيرة العرب -على العموم- حار شديد الحرارة، جاف، إلا على السواحل، ولا سيما في التهائم، فإن الرطوبة تكون عالية فيها، ولهذا يتضايق الناس من أثر الحر فيهم، مع أن الحرارة ذاتها فيها لا تكون عالية كثيرًا، وإنما مبعث هذا التضايق هو من الرطوبة المصحوبة بالحرارة، ولهذا صار بعض مواضع التهائم من شر الأمكنة على وجه هذه الأرض.
ولهذا الجو الرطب الحار أثر في حالة الناس، في صحتهم وفي نشاطهم. فانتشرت الأمراض في الأماكن التي تكثر فيها السباخ والمستنقعات، وفتكت بالناس، وتكدس فيها الذباب وتجمعت الحشرات لملاءمة مثل هذه الأجواء لمعيشة هذه المخلوقات.
ولهذا السبب المذكور، عاشت في هذه الأرضين ونمت النباتات التي تألف المناطق الحارّة الرطبة، والأعشاب التي تعيش على المستنقعات وفي الأرض الرطبة، من حشائش وقصب وأعشاب.
أما في الداخل، فإن الحرارة فيها تكون جافة، ولهذا فإنها لا تكون حديدة الطبع، على نحو حر السواحل. ويتلطف الجو في الليالي في النجاد، فيكون الليل رحمة للناس ينسيهم قسوة النهار وشدة حرارته، وفقر الحياة، لا سيما إذا كمل القمر، وصار قرصًا يسحر الناظرين. فإن سحره يكون عامًّا، يشمل الغني والفقير، ويبعث في النفوس الرقة والحنان، ويثير فيها عواطف الشجن المنبعثة من قسوة الحياة وشحّها وفقر الأرض، فتأخذ النفوس الرقيقة في مناجاته بقيثارة بسيطة ذات ثقوب، ينفخ فيها لتخرج منها أصواتًا تسمع القمر فعل سحره في نفس الإنسان المعذب في النهار المحروم من طيب الحياة التي ينعم بها(1/213)
أهل الأرضين الآخرون، أو بآلات بسيطة أخرى صنعوها بأيديهم لتعبر أناملهم وأوتار آلاتهم الساذجة عن إحساسهم الحزين، ثم لا يكتفي أصحاب هذه النفوس الرقيقة في الغالب بإرسال نغمات الحس العميقة من آلة، بل يقرنون تلك النغمات الحزينة بنغمات بشرية تنطق بما في قلب الإنسان من حس وألم دفين يوحيه إليه ألم الحرمان، ودغدغة النسيم العليل، وسحر القمر وتلألؤ مصابيح السماء. فتخرج نغمات شجية حزينة، تعاد وتكرر، لتسبح السماء على هذا الجمال الساحر، ولتفسر للسامع نوع الحياة في هذه البقاع التي وهبتها الطبيعة عاطفة عميقة، وسحرًا فاتنًا في الليل، وحرمتها خيرات الدنيا في أثناء النهار، ولتخبره بهذه النغمات المعادة أن الحياة هنا بسيطة لا تعقيد فيها ولا التواء وأنها معدودة محدودة، وعودة وتكرار.
وقد يعجب الغريب من تغزل العرب ب" ريح الصبا"، ومن مدحهم لها إلى حد بلغ الإفراط، فليس في أشعار العالم، ولا في نثرهم، شعر أو نثر فيه هذا القدر من التغزل بريح من الرياح. وقد لا يفهم الغريب أي تعليل يقدم إليه ولا يقبله، وخير جواب يقدم إليه هو حضوره بنفسه إلى جزيرة العرب للاستمتاع بلذة "الصبا" في ليلة مقمرة من ليالي الجزيرة، وسيعرف عندئذ سحر دلال "الصبا" وسحر تغزل العرب بها، على عكس "السموم"، التي تشوي الوجوه، وتعمي العيون، فتجعل الشعراء يلعنونها، والناس يتذاكرون ثقلها وشدتها عليهم وما ألحقته بهم من مهالك وأضرار.
والمطر هو غوث ورحمة لسكان جزيرة العرب، يبعث الحياة للأرض، فتنبت العشب والكلأ والكمأة والأزهار، ويحوّل وجهها العابس الكئيب إلى وجه مشرق ضحوك، فيفرح الناس وتفرح معهم ماشيتهم، ويخرج أهل الحضر إلى البادية للتمتع برؤية البساط الأخضر المطرز بالأزهار، وللاستمتاع بالمنظر الساحر الذي كسا الربيع به وجوه البوادي، ولصيد الغزلان والحيوانات الأخرى التي جاءت هي أيضًا من مآويها لتشارك الطبيعة في فرحتها، ولتشبع نفسها بعد جوع وعطش. وتفرج الإبل، ويَدِرّ لبنها، ويكثر نسلها، وتتضاعف بذلك ثروة أصحابها، ويسير الجمل متبخترا فخورًا بنفسه معتزًّا، بطرًا لا يَقْضَم منها إلا ما يعتقد أنه طعام لذيذ له، يَقْضَم من موضع ثم يتركه بطرًا إلى موضع آخر، وقد كان قبل ذلك من جوعه يأكل كل ما يقع بصره ويراه. أفليس من حقّ العرب(1/214)
إذن تسمّي المطر "غيثًا"؟ وأن تفزع وتتوجع من انحباسه، وأن تفزع إلى آلهتها تتوسل إليها لإرسال سحب المطر إليها، وتتقرب إليها بالدعاء وبصلوات "الاستسقاء"و "الاستمطار"، لترسل إليها غيثًا يغيثها ويفرج كربتها يدرأ عنها مصيبة تنزل بها إن انحبس المطر؟ لذلك كان انحباس "الغيث" عند العرب كارثة يتألم منها الناس، ويكابد من فداحتها الحيوان.
والجفاف هو الصفة الغالبة على جوّ جزيرة العرب؛ فالأمطار قليلة والرطوبة منخفضة في الداخل إلا التهائم والسواحل، فإنها ترتفع فيها كما ذكرنا. ولكنّ الطبيعة رأفت بحال بعض المناطق، فجعلت لها مواسم تنزل فيها الغيث، لإغاثة كل حي، وأهمها اليمن. أما عمان، فينزل فيها مقدار منه، ينفع الناس ويعينهم على تصريف أمورهم. وأما باقي الأقسام، فإن أكثرها حظوةً ونصيبًا من المطر، هي النفود الشمالي، وجبل شمر، فتنزل بها الأمطار في الشتاء، فتنبت أعشاب الربيع. وأما الصحاري الجنوبية فلا يصيبها من المطر إلا رذاذ، وقد تبخل الطبيعة عليها حتى بهذا الرّذاذ1.
وينهمر المطر أحيانًا من السماء وكأنه أفواه قرب قد تفتحت، فيكوّن سيولًا عارمة جارفة تكتسح كل ما تراه أمامها، وتسيل إلى الأودية فتحوّلها إلى أنهار سريعة الجريان. وقد لاقت "مكة" من السّيول مصاعب كثيرة، وكذلك المدينة والمواضع الأخرى2 وقد يهلك فيها خلق من الناس، وتسيل مياه السيول إلى مسافات حتى تصب في البحر، وقد تبتلعها الرمال فتغوص فيها وتجري في باطن الأرض مكوّنة مجاري جوفية، تقترب وتبتعد عن قشرة الأرض على حسب قربها أو بعدها منها، وعلى حسب قرارة المكان الذي تسيل عليه. وقد تبلغ البحر فتدفق عيونًا في قاعة، كالذي نشاهده في الخليج بين الساحل والبحرين.
وقد استفاد أهل اليمن بصورة خاصة وأهل حضرموت والحجاز من السّيول بأن بنوا سدودًا للسيطرة عليها، ولحبسها إلى حين الحاجة. وسدّ "مأرب" الشهير هو خير تلك السدود شهرةً وصيتًا، وقد غذى بإكسير الحياة مساحات واسعة من أرض سبأ. وقد وجد السياح آثار سدود قديمة في نواحي من الحجاز ونجد والعربية الجنوبية تعود إلى ما قبل الإسلام، بنيت في مواضع ممتازة تصلح
__________
1 حافظ وهبة: جزيرة العرب "6".
2 البلاذري، فتوح البلدان "53 فما بعدها"، الأزرقي، تأريخ مكة.(1/215)
جيّدًا لمنع مياه السّيول من الذهاب عبثًا، حتى إن المهندسين المحدثين رأَوْا إنشاء سدود جديدة في هذه الأَمْكنة للاستفادة من مياه السيول لإحياء أرضين موات في الزمان الحاضر، يمكن قلبها إلى مزارع وجنان خضر.
إن أرض اليمن التي صادقتها الطبيعة فأحسنت إليها ووهبتها هبات تحسدها المناطق الأخرى عليها، وهبتها أمطارًا موسميّة ووهبتها جوًّا حارًّا رطبًا في تهامة
منظر يمثل المدرجات المقامة على الجبال والتلال لزراعتها
من كتاب "Jemen, das Verbotene Land" لمؤلفه Guenther Pawelke (الصفحة 56)
اليمن وجوًّا معتدلا في المرتفعات، وجوًّا لطيفًا في الجبال، ووهبتها نباتات كثيرة تناسب تنوع هوائها وحيوانات عديدة كثيرة، ومعادن متنوعة، هي(1/216)
أرض ذات حظ كذلك بعدد سكانها؛ فإنها حتى اليوم من أكثف مناطق جزيرة العرب وأكثرها سكانًا. وسكانها ثروة مهمة ومصنع غذى بلاد العرب والبلاد الإسلامية بموجات من القبائل، نشرت الإسلام والثقافة العربية في البلاد المفتوحة، كما أنه موّن العراق وبلاد الشام في الجاهلية بقبائل، استوطنت هناك؛ فكوّنت حكومات مثل حكومة الحيرة وحكومة الغساسنة، ونسب المناذرة ونسبة الغساسنة يرجع إلى اليمن. ولا تزال اليمن تقذف بالألوف من أنبائها كل عام، تقذف بهم في شتى الأنحاء إلى سواحل إفريقية المقابلة، حتى بلغ بعضهم الولايات المتحدة وإنكلترة، فكوّنوا فيها جاليات يمانية. ويعيش اليوم زَهَاء مليون يماني خارج اليمن، هاجروا من بلادهم لظروف مختلفة لا مجال للبحث فيها في هذا المكان. وقد سبقهم أجدادهم قبل الإسلام، فطفروا حدود جزيرة العرب وذهبوا إلى مصر وإلى بعض جزر اليونان.
ويعَدّ سكان "الجبل الأخضر" سعداء حقًّا بالقياس إلى سكان جزيرة العرب الساكنين في العربية الشرقية أو في البوادي الواقعة في جنوب المملكة العربية السعودية، فإن الغيوم المثقلة بالأبخرة تصطدم بمرتفعات هذا الجبل فتضطر إلى تفريغ شحنتها عليه. ولهذا توافرت المياه فيها، فاستغلها السكان وزرعوا عليها. وصارت الأودية من مواطن الحضارة القديمة التي تعود إلى ما قبل الإسلام بزمان طويل، كما صارت سفوح الجبال والمرتفعات موارد رزق للزرّاع، يستهلكون من الحاصل ما يحتاجون إليه، ويصدرون الباقي لمن يحتاج إليه من أهل بقية جزيرة العرب. وما زال أهل البلاد يزرعون على سنة آبائهم وأجدادهم الأقدمين. وقد شاهد السياح آثار سدود في هذه المناطق شيّدها الأقدمون للتحكم في الأمطار التي تسقط بغزارة وتجري سيولًا.
وفي مثل هذه الأمكنة نجد كتابات دوّنها أصحابها شكرًا لآلهتهم على إنعامها عليهم بالغلّة الوافرة وبالحصاد الغزير، أو لإنعامها عليهم بأرض مخصبة ولمساعدتها إيّاهم على حفر بئر زودتهم بماء للسقي وللزرع، ووجود هذه الكتابات دليل ناطق على وجود الحضارة فيها في تلك الأيام.
أما مواطن الحضارة، فقد وزّعتها الطبيعة بيدها، وما برح هذا التوزيع معترفًا به. وزّعتها عليها توزيعها للنبات والمعادن والماء. ففي المحلات ذوات الحظ التي أحبها الماء، فظهر فيها واحاتٍ وعيونًا وأحساء أو رطوبات أو(1/217)
نهيراتٍ أو مطرًا موسميًا، ظهر الاستقرار، وتولّدت الحضارة على قدر إسعاف الماء ومقدار استعداده لوضع نفسه في خدمة الأهلين وفي خدمة حيواناتهم وزراعتهم لا فرق بين أن يكون الماء في باطن الجزيرة أو في الأودية أو في السواحل، ولو أن لموقعة دخلًا في ازدياد ثروة أصحابه وفي تمكينهم من الاتصال بالخارج، فتنفتح عندئذ لهم أبواب العالم، كأن يكون الموضع على طريق، أو على مفترق طُرُق، أو على ساحل أو مرفأ بحري، أو على مقربة من بلد متحضر مثل العراق أو بلاد الشام. أما إذا كان واحة منعزلة ومحلّا نائيًا، فإن الحضارة لا يمكن أن تظهر بالطبع فيه ظهورها في الأماكن المذكورة.
ومن هنا نرى الحضارة والاستقرار والميل إلى الاستقرار في بلاد اليمن وحضرموت أظهر وأبرز من أي مكان آخر، نرى فيها حكومات بالمعنى المفهوم من الحكومة قبل الميلاد بأمد طويل، ونرى فيها مُدنًا فيها عامرة مسوّرة لها حصون وقِلاع وتنظيمات وتشكيلات حكومية، ونرى فيها مؤسسات دينية ترعى المسائل الروحية والروابط التي تربط بين البشر وخالقهم، ونرى أنظمة وقوانين مكتوبة وسُدُودًا وأبنية عالية مرتفعة وفنًّا ما زالت جذوره ومظاهره خالدة باقية في دم الناس. ثم نرى مثل ذلك أو قريبًا منه في أعالي الحجاز وفي الأرضين الداخلة في هذا اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية. أما الواحات والعيون والآبار؛ فقد صارت مستوطنات لتمويل المستقر والقادم بالماء والتمر وبشيء من الحبوب والخضر، وإذا كانت على طريق صارت مأوى للقوافل، ولهذا لم يكن من الممكن قيام حكومات كبيرة بها، لعدم توفر الشروط اللازمة لإنشاء الحكومات الكبيرة بها، واضطرت إلى توثيق علاقاتها بأهل البادية، وإلى الارتباط بهم بروابط العهود والمواثيق ودفع الإتاوة لمنعهم من التعرض لهم بسوء.
فالحياة في جزيرة العرب، هي هبة الماء، ولهذا انحصرت في هذه الأماكن المذكورة، وصار فرضًا على رجال القوافل وأصحاب التجارات المرور بها، وهو أي الماء، الذي رسم لأصحاب الجمال خطوط سيرهم إلى المواضع التي يريدون السير إليها، وحدد لهم معالم الطرق. وأقام لهم أماكن الراحة، وما زال الأعراب والتّجّار يسلكون تلك الطرق، للوصول إلى الأماكن النَّائية بالوسائل القديمة التي استعملها سكان الجزيرة قبل الإسلام، وبالمركب القديم، بطوله وبعرضه وهو الجمل. ولكن وسائط النقل الحديثة التي نافسته وأحالته مكرهًا على التقاعد.(1/218)
واضطرته إلى الانسحاب من بعض الطرق، لا تزال تطارده وتنافسه في الطرق الأخرى، وعندئذ لا بد من حدوث مشكلات بالنسبة إلى تربية هذا الحيوان الصحراوي القديم الذي أخلص للبادية، وبقي على إخلاصه لها، ولكن الأمر ليس بيد البادية؛ وإنما هو بأيدي قاهر البوادي والأرضين والجواء، السيد الإنسان.
أما السواحل، فخلقت من سكانها رجال بحر، يحبّون ركوب البحر واستخراج ما فيه للتعيّش به ولبيعه وتصريفه في الأسواق، كما جعلتهم أصحاب ضيافة، يقدمون الماء وما عندهم من طعام إلى السفن القادمة إليهم، ويعرضون ما عندهم من سلع فائضة لبيعها لهم، ويشترون من أصحاب تلك السفن ما عندهم من بضاعة نافعة، فتحولت إلى أسواق للبيع والشراء، المتعاملون بها مزيج من القادمين إليها من أنحاء الجزيرة ومن الوافدين الأجانب القادمين إليها من الخارج، وقد اجتذبت هذه الأمكنة إليها الغرباء، فسكنوا بها، واختلطوا بسكانها، وتولّدت بها أجيال مختلطة ممتزجة الدماء، كلما كانت قريبة من ساحل مقابل، كان مظهر الاختلاط والامتزاج أظهر وأكثر، ولهذا احتضنت تهامة والسواحل العربية الجنوبية عددًا كبيرًا من الإفريقيين، هاجروا إليها من السواحل الإفريقية المقابلة واستقروا فيها بكثرة، واختلطوا بأصحاب البلاد الأصليين. أما سواحل عمان والخليج، فقد اجتذبت إليها الهنود والفرس، وقد عُثر في مواضع من سواحل عمان على بقايا عظام بشرية اتَّضَح أنها من بقايا الهنود "الدراوديين"، سكّان الهند القدماء. ولم ينسَ البحّارة وأصحاب السفن اليونان سواحل جزيرة العرب، فأقاموا مستعمرات يونانية في مواضع متعددة منها سيأتي الكلام عليها فيما بعد.
وقذفت الطبيعة بالأعراب في كل مكان من أمكنة الجزيرة، حتى زاد عددهم على الحضر، والصفة الغالبة عليهم، أنهم لا يرتبطون بالأرض ارتباط المُزَارع بأرضه، ولا يستقرون في مكان إلا إذا وجدوا فيه الكلأ والماء؛ فإذا جفّ الكلأ وقلّ الماء، ارتحلوا إلى مواضع جديدة. وهكذا حياتهم حياة تنقل وعدم استقرار، لا يحترفون الحرف على شاكلة أهل الحضر، ولذلك صارت حياتهم حياة قاسية، يتمثل مجتمعهم في القبيلة. فالقبيلة هي الحكومة والقومية في نظر البدوي.
وإن حياة على هذا الشكل والطراز، حياة لا تعرف الراحة والاستقرار، ولا تعترف إلا بمنطق القوة. حياة جلبت المشقة لأصحابها، والمشقة لمن يقيم على(1/219)
مَقْرَبة منهم من الحضر. فهم نزاع دائم فيما بينهم، ثم هم في نزاع مع الحضر، ولهذا كان خطر البداوة على العرب، يوازي خطر الغرباء البعداء عليهم، وصارت البداوة مشكلة عويصة لكل حكومة، ولا تزال مشكلة حتى اليوم، ولن تُحَلّ إلا بإقناع الأعراب بأن حياة الاستقرار خير لهم وأفضل من حياتهم التي يحبونها، وذلك بوسائل لا يدخل الكلام عليها في حيّز هذا الكتاب.(1/220)
الطرق البرية:
من نتائج غَلَبَة الطبيعة الصحراوية على أرض جزيرة العرب، أن انحصر امتداد شرايين المواصلات فيها في أماكن خططتها الطبيعة نفسها للإنسان، فجعلتها تسير بمحاذاة الأودية ومواضع المياه والآبار، وهي السبل الوحيدة التي يستطيع المسافر ورجال القوافل أن يستريحوا في مواضع منها ويحملون منها الماء. وتنتهي رءوس هذه الطرق بالعراق وببلاد الشام في الشمال وبالعربية الجنوبية وبموانئها في الجنوب، وهناك طرق أخرى امتدت من العربية الشرقية إلى العربية الغربية، ولها مراكز اتصال بالطرق الطولية الممتدة من الشمال إلى الجنوب في الغالب. وقد أقيمت في مواضع من هذه الطرق مواضع سكنى ذات مياه من عيون أو آبار، عاشت ونمت بفضل منة مائها عليها؛ فصارت منازل مريحة لرجال القوافل يحمدون آلهتهم عليها، ويحمد أصحاب ذلك الماء آلهتهم على منتها عليهم بإعطائهم ذلك الكنز العظيم الذي أعانهم على العيش وجلب لهم كرم التجار.
وفي العقد الحساسة من هذه الطرق نشأت المستوطنات، ومواطن السكنى القديمة انتشرت في أماكن متباعدة بعضها عن بعض في الغالب؛ فكان لهذا التوزيع أثر كبير في الحياة الاجتماعية والحياة السياسية والعسكرية، ولا شك. وما الطرق الحالية التي يسلكها الناس اليوم إلا بقية من بقايا تلك الطرق القديمة التي ربطت أجزاء الجزيرة بعضها ببعض، كما ربطت الجزيرة بالعالم الخارجي. ونجد في مخلفات تلك المستوطنات مواد مستوردة من مواضع بعيدة، هي دليل بالطبع على أن الإنسان كان يقطع الطرق قبل الميلاد بمئات من السنين ليتاجر ويبيع ويشتري دون أن يبالي المسافة وطول الشُّقَّة وصعوبة الحصول على وسائل النقل وما يتعرض له، وهو في طريقه إلى هدفه، من مخاطر وأهوال.(1/220)
وتُعَدّ "نجران" من أهم المواضع المهمة الحساسة في شبكة المواصلات البرية قبل الإسلام، ففيها تلتقي طرق المواصلات الممتدة في الجنوب، وفيها يتصل الطريق البري التجاري المهم الممتد إلى بلاد الشام، فيلتقي بطريق العربية الجنوبية ومنها يسير الطريق المارّ إلى "الدواسر" فالأفلاج فاليمامة أو ساحل الخليج ومنه إلى العراق.
ولم تموّن الطرق المارة بالعربية الشرقية أي "ساحل الخليج" العراق بتجارة جزيرة العرب وبالمواد المستوردة إليها من الهند، بل موّنتها بموجات من البشر منذ آلاف السنين قبل الميلاد. فقد كانت القبائل العربية النازحة من الجنوب لأسباب متعددة تحطّ على هذا الساحل، انتهازًا لفرصة ملائمة ترحل خلالها إلى العراق لتستقر فيه. وقد سلكت أكثر القبائل العربية التي استوطنت العراق هذا السبيل حينما هاجرت إليه قبل الميلاد وبعده أيضا.(1/221)
الفصل السادس: صلات العرب بالساميين
مدخل
...
الفصل السادس: صلات العرب بالساميين
لاحظ المعنيون بلغات "الشرق الأدنى" وجود أوجه شبه ظاهرة بين البابلية والكنعانية والعبرانية والفينيقية والأرمية والعربية واللهجات العربية الجنوبية والحبشية والنبطية وأمثالها؛ فهي تشترك أو تتقارب في أمور أصلية وأساسية من جوهر اللغة، وذلك في مثل جذور الأفعال، وأصول التصريف، تصريف الأفعال، وفي زمنيّ الفعل الرئيسيين، وهما: التام والناقص، أو الماضي والمستقبل، وفي أصول المفردات والضمائر والأسماء الدالة على القرابة الدموية والأعداد، وبعض أسماء أعضاء الجسم الرئيسيَّة1، وفي تغير الحركات في وسط الكلمات الذي يحدث تغيّرًا في المعنى، وفي التعابير التي تدل على منظمات الدولة والمجتمع والدين2، وفي أمور مشابهة أخرى، فقالوا بوجوب وجود وحدة مشتركة كانت تجمع شمل هذه الشعوب، وأطلقوا على ذلك الأصل، أو الوحدة "الرس السامي" أو "الجنس السامي"، أو "الأصل السامي"، أو "السامية،3 "semites" "semitic race" "semites" وعلى اللغات التي تكلمت وتتكلم بها هذه الشعوب
__________
1 Hastings, Encylopaedia of Religion and Ethics, Vol., H, PP, 378 (1934) , Zimmern, Vergleichende Grammatlk der Semltlschen Sprachen, Berlin 1898, P., 82.ff
2 Ency. Brlta., 20, PP., 315.
3 Leland. W. Parr,. An Introduction to the Anthropology of the Near East,X f Amesterdam, 1934, P., 43.(1/222)
"اللغات السامية"1، "semitic languages".
وقد أخذ من أطلق هذه التسمية، تسمية هذه من التوراة2. أخذها من اسم "سام بن نوح"، جدّ هذه الشعوب الأكبر، كما هو وارد فيها. وأول من أطلقها وأذاعها بين العلماء عَلَمًا على هذه الشعوب، عالم نمساوي اسمه "أوغست لودويك شلوتسر" august ludwing schloetzer أطلقها عام "1781م" فشاعت منذ ذلك الحين، وأصبحت عند العلماء والباحثين في موضوع لغات الشرق الأدنى عَلَمًا للمجموعة المذكورة من الشعوب3 وقد أخذ "آيشورن" "joh. Cotte. Eichhorn" هذه التسمية، وسعى لتعميمها بين العلماء علمًا على الشعوب المذكورة4.
وفي عام "1869م" قسم العلماء اللغات السامية إلى مجموعتين: المجموعة السامية الشمالية، والمجموعة السامية الجنوبية5 وتتألف المجموعة الشمالية من العبرانية والفينيقية والأرمية والآشورية والبابلية والكنعانية. وأما المجموعة الجنوبية، فتتألف من العربية بلهجات والحبشية. وعمّ استعمال هذا الاصطلاح بينهم وأصبح موضع "الساميات" من الدراسات الخاصة عند المستشرقين، تقوم على مقارنات وفحوص "أنتولوجية" و "بيولوجية" وفحوص علمية أخرى؛ فضلًا عن الدراسات التأريخية واللغوية والدينية6.
وهذه القرابة الواردة في التوراة، وذلك التقسيم المذكور فيها للبشر، لا يستندان إلى أسس علمية أو عنصرية صحيحة، بل بُنِيت تلك القرابة، ووضع ذلك التقسيم على اعتبارات سياسية وعاطفية وعلى الآراء التي كانت شائعة عند شعوب
__________
1 Hommel, Grundrlss, Bd., I, S., 17, Ency. Brita., Vol., 20, PP. 314. Eichhorns, Geschlchte der Neuern Sprachenkunde, I, abt., Gottingen, 1807.
2 التكوين، الإصحاح العاشر، الاية، 1، 21، قاموس الكتاب المقدس
3 Hommel, Grundrlss, I, S, 76, Ency. Brita., 20, PP., 314, The Universal Jewish Encyclopedia, Vol., 4, P., 473, Hastings, P., 845, S. Moscati, The Semites in ancient History, Cardiff, 1959.
4 Elshhom, Geshichte der Neueren Sprachenkunde, I abt., Gottingen, 1807, Sprachen, der Semiten in Westasien, S-, 403-672,
5 Hommel, Grundriss, 1, S., 76, Eichhorn, S., 405,
Eberhard Schrader, S., 76.
6 SJH. Hooke, The Origins of early Semitic ritual, London, 1938, Hommel,
Grundriss, I, PP., 84.(1/223)
العالم في ذلك الزمان عن النسب والأنساب وتوزع البشر1. فحشرت التوراة في السامية شعوبًا لا يمكن عدّها من الشعوب السامية، مثل "العيلاميين" "elam" و "اللوديين" "ludim" "lud"، وأقصت منها جماعة من الواجب عدّها من الساميين، مثل الفينيقيين" و "الكنعانيين"2.
ويرى "بروكلمن" أن العبرانيين كانوا قد تعمدوا إقصاء الكنعانيين من جدول أنساب سام، لأسباب سياسية ودينية، مع أنهم كانوا يعلمون حق العلم ما بينهم وبين الكنعانيين من صلات عنصرية ولغوية3.
وقد رَجَع الإصحاح العاشر من التكوين نسب الفينيقيين والسبئيين إلى حام، جد الكوشيين، ذوي البشرة السوداء، مع أنهم لم يكونوا من الحاميين، وقد يكون ذلك بسبب وجود جاليات فينيقية وسبئية في إفريقية، فعدّ كتبة التوراة هؤلاء من الحاميين4.
وقد عرف المسلمون اسم "سام بن نوح"، وقد كان لا بد لهم من البحث عن أولاد "نوح" لما لذلك من علاقة بما جاء عن "نوح" وعن الطوفان في القرآن الكريم. وقد روي أن رسول الله قال: "سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أو الحبش"5، وقد روى "الطبري" جملة أحاديث عنه في هذا المعنى. وقد لاحظت أنها كلها وردت من طريق "سعيد بن أبي عروبة" عن "قتادة" عن "الحسن" عن "سمرة بن جندب"، وهي في الواقع حديث واحد، ولايختلف إلا اختلافًا يسيرًا في ترتيب الأسماء أو في لفظ أو لفظين6.
ومن هنا يجب أن يدرس هذا الحديث وكل الأحاديث المنسوبة إلى الرسول في هذا الباب دراسة وَافِية، لنرى مدى صحة نسبتها إلى الرسول، كما يجب دراسة ما نسب إلى عبد الله بن عبّاس أو غيره في هذا الشأن، فإن مثل هذه الدراسات تحيطنا علمًا برأي المسلمين أيام الرسول وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى في نسبتهم إلى سام بن نوح7.
__________
1 George Aaron Barton, Semitic, and Hamitlc Origins, London, 1934, P., 1,
2 "التكوين، الإصحاح العاشر" الآية1، فما بعدها،
Hastings, P., 945, Ency. of Relig.and Ethic., Vol., H, PP., 37 378, Barton, P. I.
3 Brockelman, Sprachwissenschaft, S., 15.
4 Reynold, A. Nicholson A Literary History of the As*abs, P., XV.
5 "الطبري "1/ 209" "دار المعارف".
6 الطبري "1/ 209" "دار المعارف".
7 الإكليل"1/ 64".(1/224)
وقد قسم بعض علماء الساميّات المحدثين اللغات السامية إلى أربع مجموعات هي: المجموعة السامية الشرقية ومنها البابلية والآشورية، والمجموعة الشمالية ومنها الأمورية والأرمية، والمجموعة الغربية ومنها الكنعانية والعبرانية والموابية والفينيفية، والمجموعة الجنوبية ومنها المعينية والسبئية والأثيوبية والعربية والأمهرية1. ويلاحظ أن واضعي هذا التقسيم لم يراعوا في وضعه التطورات التأريخية التي مرت بها هذه اللغات بل وضعوا تقسيمهم هذا على أسس المواقع الجغرافية لتلك الشعوب.
والسامية بعد، ليست رسًا "race" بالمعنى المفهوم من الرس عند علماء الأحياء، أي جنس له خصائص جسميّة وملامح خاصة تميّزه عن الأجناس البشرية الأخرى. فبين الساميين تمايز وتباين في الملامح وفي العلامات الفارقة يجعل إطلاق "الرس" عليهم بالمعنى العملي الحديث المفهوم من "علم الأجناس"، أو الفروع العلمية الأخرى نوعا من الإسراف واللغو، كما أننا نرى تباينًا في داخل الشعب الواحد من هذه الشعوب السامية في الملامح والمظاهر الجسمية، وفي هذا التمايز والتباين دلالة على وجود اختلاط وامتزاج في الدماء، سأتحدث عنه في الفصل الخاص بالأنساب وبانقسام العرب إلى قحطانيين وعدنانيين.
ولقد وجد بعض علماء "الأنثروبولوجي" مثلًا أن بين اليهود تباينًا في الصفات وفي الخصائص التي وضعها هذا العلم للجنس، مع ما عرف عن اليهود من التقيد بالزواج وبالابتعاد عن الزّواج من غير اليهود2. وكذلك وجد العلماء الذين درسوا العرب دراسة "أنثروبولوجية" أن بين العرب تباينًا في الملامح الجسمية. وقد اتَّضح وجود هذا التباين عند الجاهليين أيضًا، كما دلت على ذلك الفحوص التي أجريت على بقايا العظام التي عُثر عليها في مقابر جاهلية3. كذلك وجد علماء "الأنثروبولوجي" من فحص العظام التي عُثِر عليها في الآثار الآشورية والبابلية أن أصحابها يختلفون أيضًا فيما بينهم في الملامح التي تعد أساسًا في تكوين جنس من الأجناس.
__________
1 Ency. Brita., 20, P., 316, Gesenius, Geschichte, der Hebraeischen Sprache und Schrlft, Graf Arthur, Gobineau, Die Ungleichheit der Menachenrassen, Berlin, S., 180, (German translation) ,
2 Euxton, The People of Asia, P., 96.ff
3 Buxton, P., 99. ff.(1/225)
ولهذا، فإني حين أتحدث عن السامية لا أتحدث عنها على أنها جنس، أي رس صاف بالمعنى "الأنثروبولوجي"، بل أتحدث عنها على أنها مجموعة ثقافية وعلى أنها مصطلح أطلقه العلماء على هذه المجموعة لتمييزها عن بقية الأجناس البشرية؛ فأنا أجاريهم لذلك في هذه التسمية، ليس غير.
إن بحوث العلماء في موضوع السلالات البشرية وفي الأجناس البشرية وفي توزع الشعوب وخصائص ومميزات الأجناس لا تزال بحوثًا قلقة غير مستقرة. ولهذا نجد نتائج بحوثهم في تعريف الجنس وفي صفات الأجناس وفي المسائل الأخرى المتعلقة بهذا الموضوع مختلفة، ولا سيما أن هنالك عدة أمور تؤثر في حياة الإنسان وفي خصائصه الروحية والجسمية. والنواحي اللغوية وبعض الخصائص الروحية الأخرى، وإن كانت مهمة وضرورية لدراسة الناحية العقلية للإنسان؛ إلا أنها ليس الأسس الوحيدة لتكوين رأي في الأجناس البشرية1.
فالسامية إذن، بهذا المعنى هي مجرد اصطلاح، قصد به التعبير عن هذه الروابط أو الظواهر التي نراها بين الشعوب المذكورة، أما البحث على أن الساميين جنس من الأجناس بالتعبير الذي يعنيه أهل العلوم من لفظة جنس، فإن ذلك في نظري موضوع لا يسع علماء الساميّات أو علماء التاريخ أن يبتّوا فيه ويصدروا حكمًا في شأنه، لأنه بحث يجب أن يستند إلى تجارب وبحوث مختبرية، وإلى دارسات للشعوب الباقية من السامية، بأن ندرس جماجم قدماء الساميين وعظامهم في جزيرة العرب وفي المواطن الأخرى التي انتشر فيها الساميون، وعند اكتمال مثل هذه الدراسات ووصولها إلى درجات كافية ناضجة يمكن العلماء حينئذ أن يتحدثوا عن السامية من حيث أنها جنس بالمعنى العلمي، أو جنس بالمعنى الاصطلاحي.
هذا وقد عني بعض الباحثين المحدثين بدراسة ما عثر عليه في بعض القبور العادية من عظام، لتعيين أوصافها وخصائصها والجنس الذي تعود إليه، كما قام بعضهم بدراسة أجسام الأحياء وإجراء فحوص عليها وتسجيل قياسات الرءوس
__________
1 Ralph LInton, The Study of Man, L. H. Dudley Buxton, The Peoples of Asia, London, 1925, Sonia Cole, Races of Man, British Museum, (Natural History) , London, 1965.(1/226)
وملامح الأجسام وما إلى ذلك مما يتعلق بموضوع "الأجناس البشرية"، وإذا ما استمر العلماء على هذه الدارسة وتوسعوا فيها، فسيكون لها شأن خطير في وضع نظريات علمية عن تأريخ أجناس الشرق الأدنى وفي جملتهم الساميين.
وممن بحث في "أنثروبولوجية" الشرق الأدنى "كبرس ariens kappers"، وقد وضع مؤلفًا قيّمًا في دراسة شعوب الشرق الأدنى1. و "الدكتور سلكمن"2 "dr. seligman"، و "شنكلن w. shanklin" الذي عني بدراسة "أنثروبولوجية" سكّان شرقي الأردن وتقسيماتهم وحالات أعصابهم3، و4 "a. mochi"، و "برترام توماس" الذي قام بدراسات علمية عديدة من هذه الناحية لنماذج من أفراد القبائل العربية الجنوبية5، والبعثة الأمريكية التي أرسلها متحف "فيلد:" بشيكاغو لدراسة "أنثروبولوجية" القبائل العراقية النازلة على مقربة من "كيش"، عدا دراسات أخرى عديدة قام بها علماء آخرون6.
وقد أجريت أكثر هذه البحوث في مناطق عرفت باتصالها منذ القديم بالعالم الخارجي، وفي أرضين استضافت الغرباء، فهي لذلك لا يمكن أن تعطينا فكرة علمية عن "أنثروبولوجية" داخل جزيرة العرب، فلا بد من القيام بدراسات دقيقة في قلب الجزيرة لتكوين رأي علمي عن عرب هذه الأماكن.
وقد لاحظ الفاحصون للعظام التي عُثِر عليها في الأقسام الجنوبية الشرقية من جزيرة العرب وجود تشابه كبير بين جماجم أهل عمان وجماجم سكان السواحل الهندية المقابلة لهذه البقاع، كما لاحظوا تشابهًا كبيرًا في الملامح الجسمية بين العرب الجنوبيين أهل عدن وبقية العربية الجنوبية الغربية وتهامة وسكان إفريقية الشرقية.
__________
1 C.U. Ariena Kappers, An Introduction to the Anthropology of the Near East in ancient and recent Times, Amesterdam, 1934, P., 73,
2 Dr. Seligman, The Physical Characters of the Arabs, in Journal of the Royal Anthrop. Inst, Vol., 47, 1917, P., 217, The Races of Africa, 1930.
3 W. Shanklln, The Anthropology of the Transjordan Arabs, Psychiatrische en Neurologische bladen, 1934, Anniversary Book for the central Institute of Brain reserch Amesterdam.
4 A. Mochl, Sulla Anthropologla Giuffrida Ruggeri, in Crani Egiziani antichi, ed., Arabo — Egiziani, Attt della Soc. Romana d'Anthrop., T., 15, 1915.
راجع الفصل الذي كتبه "Dr. wilton Marion Krogman" في كتاب"Arabia Felix" صفحة 301
6 Henry Field, The Anthropology of Iraq, Field Museum of Natural History, Chicago. 1940.(1/227)
وقد اتخذ القائلون إن أصل العرب الجنوبيين من إفريقية هذه التشابه حجة، تذرّعوا بها في إثبات نظرياتهم هذه1.
غير أن هذه الفحوص أشارت من جهة أخرى إلى حقيقة تخالف النظرية الإفريقية؛ إذ بيّنت أن أشكال جماجم العرب الجنوبيين ورءوسهم هي من النوع الذي يقال له"2 "brachycephaly". أما أشكال جماجم سكان إفريقية الشرقية ورءوسهم، فمن النوع الذي يعرف باسم "dolichocephaly" في الغالب3. وهذا التباين لا يشير إلى وحدة الأصل. وقد تبين من هذه الفحوص أن أشكال جماجم العرب الشماليين ورءوسهم، هي من نوع "dolichocephaly" كذلك، أي أنها نوع مشابه لأشكال جماجم الإفريقيين الشرقيين ورءوسهم4.
وقد حملت هذه النتائج بعض الباحثين على التفكير في أن العرب الجنوبيين كانوا في الأصل في المواطن التي تكثر فيها الرءوس المستديرة، وأن هذه المواطن هي من آسية الصغرى إلى الأفغان؛ فزعموا أنهم كانوا هناك ثم هاجروا منها إلى مواطنهم الجديدة في العربية الجنوبية5، كما زعموا أن سكان "عمان" قد تأثروا تأثرًا كبيرًا بالدماء "الدراوبدينية" "dravidian" الهندية، لهذا نجد أنهم يختلفون بعض الاختلاف عن بقية العرب الجنوبيين6.
وإذا قامت بعثات علمية بالبحوث "الأنثروبولوجية" في مواضع أخرى من جزيرة العرب ولا سيما في باطن الجزيرة، وإذا ما استمر العلماء والسياح في البحث عن العظام والأحداث، وفي دراستها دراسة مختبرية، واستمروا في إجراء فحوصهم على الأحياء، وقورنت نتائج فحوصها بنتائج فحوص العلماء في بقية أنحاء الشرق الأدنى، فإن البحث في الساميات وفي علاقات الشعوب القديمة بعضها ببعض، سيتقدم كثيرًا، وسيأتي ولا شك بنتائج علمية مقبولة في موضوع السامية والجنس السامي.
__________
1 Arabia Felix, P. 302.
2 اصطلاح يطلق في علم "النتروبولوجي" على الجماجم التي يبلغ عرضها حوالي "80%" أو أكثر من مقدار طول الجمجمة من الأمام إلى الخلف. ويقال لهذه الرءوس قصيرة. راجع: Enc. Britanica. Vol. 3, P. 1003, 18, P. 865.
3 ويعني أصحاب الرءوس الطويلة، وهي الجماجم التي تكون أبعادها من جانب إلى جانب تساوي "75%" أو أقل من طول المسافة بين جبهة الجمجمة والمؤخرة. راجع:
Enc. Britanica, Vol., 7, P., 506.
4 Seligman, The Races of Africa, 1930, Arabia Felix, P., 304, P., 308.
5 Arabia Felix, P., 304, 322.
6 Dr. Wilton Marion Krogman, in Arabia Felix, P.316.(1/228)
وطن الساميين:
وتساءل العلماء الباحثون في الأجناس البشرية: من أين جاء الساميون الأول، آباء الشعوب السامية؟ وأين كان موطنهم الأول وبيتهم القديم، الذي ضاق بهم في الدهر الأول، فغادروه إلى بيوت أخرى؟ أما أجوبتهم، فجاءت متباينة غير متفقة لعدم اهتدائهم حتى الآن إلى دليل مادي يشير إلى ذلك الوطن، أو يؤيد نظرية وجود مثل هذا الوطن، فقامت آراؤهم على نظريات وفرضيات، وبحوث لغوية وعلى آراء مستمدة من الروايات الواردة في التوراة عن أصل البشر، وعن أبناء نوح، والأماكن التي حلّ بها هؤلاء الأبناء وأحفادهم ثم أحفاد أحفادهم، وهكذا على نحو ما تصورته مخيلة العبرانيين. فرأى نفر منهم أن أرض بابل، كانت المهد الأول للساميين، ورأى آخرون أن جزيرة العرب هي المهد الأول لأبناء سام، وخصص فريق آخر موطنًا معينًا من جزيرة العرب، ليكون وطن سام وأبنائه الأُوَل، وذهب قسم إلى إفريقية فاختارها لتكون ذلك الوطن، لما لاحظه من وجود صلة بين اللغات السامية والحامية، ورأى قوم في أرض "الأموريين" الوطن الصالح لأن يكون أرض أبي الساميين، على حين ذهب قوم آخرون إلى تفضيل أرض "أرمينية" على تلك الأوطان المذكورة. وهكذا انقسموا وتشعّبوا في موضوع اختيار الوطن السامي، ولكل حجج وبراهين.
وحتى القائلون بنظرية من هذه النظريات وبرأي من هذه الآراء، هم قَلِقُون غير مستقرين في نظرياتهم هذه، فتراهم يُغَيّرون فيها ويبدلون. يفترضون وطنًا أصليًّا لجدّ الساميين، ثم يفترضون وطنًا ثانيًا يزعمون أن قدماء الساميين كانوا قد تحوّلوا من الوطن الأول إليه، فصار الموطن الأقدم لهم. فقد ذهب "فون كريمر" مثلًا، وهو عالم ألماني إلى أن إقليم "بابل" هو موطن الساميين الأُوَل، وذلك لوجود ألفاظ عديدة لمسمّيات زراعية وحيوية "حياتية" أخرى تشترك فيها أكثر اللغات السامية المعروفة، وهي مسميات لأمور هي من صميم(1/229)
حياة هذا الإقليم، إلا أنه عاد فذكر أنه وجد أن لفظة "الجمل" لهذا الحيوان المعروف هي لفظة واردة في جميع اللغات السامية وفي ورود هذه التسمية في جميع هذه اللغات دلالة على أنها من بقايا اللغة "السامية" الأولى. ولكن الجمل حيوان أصله وموطنه الأول الهضبة المركزية التي في آسيا على مَقْرَبة من نهر سيحون ونهر جيحون، ولما كان قد لازم الساميين من فجر تأريخيهم واقترن اسمه باسمهم، وجب أن يكون موطن الساميين الأقدم إذن هو تلك الهضبة، إلا أن أجداد الساميين غادروها في الدهر الأول، وارتحلوا عنها فانحازوا إلى الغرب مُجْتَازِين إيران والأرضين المأهولة بالشعوب "الهند أوروبية" حتى وصلوا إلى إقليم "بابل"، فنزلوا فيه، فصار هذا الإقليم الوطن الأقدم أو الأول للساميين.
وطريقة "فون كريمر" في هذه النظرية، دراسة أسماء النبات والحيوان في اللغات السامية وتصنيفها وتبويبها للتمكن بذلك من معرفة المسميات المشتركة والمسميات التي ترد بكثرة في أغلب تلك اللغات. والتوصّل بهذه الطريقة إلى الوقوف على أقدم الحيوان والنبات عند تلك الشعوب، فإذا اهتدينا إليها صار من السّهل على رأيه التوصل إلى معرفة الوطن الأصل الذي جمع في يومٍ ما شمل أجداد الساميين1.
أما "كويدي"، وهو من القائلين أيضا أن إقليم بابل هو الموطن الأول للساميين؛ فقد سار على نفس أسلوب "فون كريمر" نفسه وطريقته، ولكن بصورة مستقلة عنه. درس الكلمات المألوفة في جميع اللغات السامية عن العمران والحيوان والنبات ونواحي الحياة الأخرى، وقارن بينها وتتبّع أصولها ثم قال قوله المذكور، إلا أنه اختلف عن "فون كريمر" في الوطن الأول؛ حيث رأى أن مواطن الساميين الأُوَل كانت الأرضين في جنوب بحر قزوين وفي جنوب شرقيه إلا أنهم غادروها بعد ذلك وارتحلوا عنها إلى إقليم بابل2.
وأما "هومل"، وهو من العلماء الألمان الحاذقين في الدراسات اللغوية، فقد
__________
1 Von Kremer, Semitische Cultureu Entlehnungen aua Pflantzen-und Thierreiche, in das Ausland, Bd., IV, note, 1, und 2.
2 Guidi, Delia sede primitiva dei Popoli Semitici, Roma, 1879, Wright, Comparative Grammer of the Semitic Languages, P., 5 Barton, P., 3, Hommel, Grundriss, 1. S., 80, A. Grohmann, Kulturgeschichte, S., 14.(1/230)
ذهب أولًا إلى أن موطن الساميين هو شمال العراق، ثم عاد فقرر أن إقليم بابل هو الوطن الأصل، وذهب أيضا إلى أن قدماء المصريين هم فرع من فروع الشجرة التي أثمرت الثمرة السامية، وهم الذين نقلوا على رأيه الحضارة إلى مصر نقلوها من البابليين1.
وقد ناقش "نولدكه" آراء هؤلاء العلماء المذكورين القائمة على المقابلات والموازنات اللغوية، وعارضها معارضة شديدة، مبيِّنًا أن من الخطأ الاعتماد في وضع نظريات مهمة كهذه على مجرد دراسة كلمات وإجراء موازنات بين ألفاظ لم يثبت ثبوتًا قطعيًا أن جميع الساميين أخذوها من العراق، وأورد جملة أمثلة اختلف فيها الساميون، مع أنها أجدر المعاني بأن يكون لها لفظ مشترك في جميع اللغات السامية2.
ومن أوجه النقد التي وجهت إلى نظرية القائلين إن العراق، أو إقليم بابل منه بصورة خاصة، هو موطن الساميين، هو أن القول بذلك يستدعي تصوّر انتقال الساميين من أرض زراعية خِصْبَة ذات مياه إلى بوادٍ قفرة جردٍ، وإبدال حياة زراعية بحياة خشنة بدوية، ومثل هذا التصور يخالف المنطق والمعقول والنظم الاجتماعية.
وأما القائلون إن الموطن الأصلي لجميع الساميين هو جزيرة العرب، فكان من أولهم "شبرنكر". فقد رأى أن أواسط جزيرة العرب، ولا سيّما نجد، هو المكان الذي يجب أن يكون الوطن الأول للساميين، وذلك لأسباب وعوامل شرحها وذكرها. ومن هذا الوطن خرج الساميون في رأيه إلى الهلال الخصيب فطبعوه بالطَّابع السامي، ومن هذا الهلال انتشروا إلى أماكن أخرى3.
وقد أيَّدَ هذه النظرية جماعة من المستشرقين الباحثين في هذا الموضوع من
__________
1 Hommel, Die Namen der Saeugethiere bei den Suedsemitischen Volkem, Leipzig, 1879. S-, 406, Die Semitischen Voelker und Sprachen, 1881, Bd., I, S., 20, 63, Barton, P., 3 Hommel, Grundriss, I, S-, 10. f.
2 Noeldeke, Semitischen Sprachen, Leipzig, 1887, S., 3, 2ed., 1899, Enc. Brit., 9th. ed.. Article, Semitic Language.
3 A. Sprenger, Das Leben und die Lehre des Mohammad, Berlin, 1861, Bd., I, S., 241, Alte Geographie Arabiens, 1875, S., 293, Barton, P., 4.(1/231)
أمثال "سايس"1و "أبرهرد شرادر"3، و "دي كويه"3 و"هوبرت كرمه"4 و "كارل بروكلمن"5 و "كينغ"6و "جول ماير"7و "كوك"، وآخرين8.
وقد مال إلى تأييدها وترجيحها "دتف نلسن"، وهو من الباحثين في التأريخ العربي قبل الإسلام9. وكذلك "هوكو ونكلر". و "هومل" الذي يرى أن موطن جميع الساميين الغربيين هو جزيرة العرب10.
وقد ذهب نفر من القائلين بهذه النظرية إلى أن العروض ولا سيما البحرين والسواحل المقابلة لها، هي الوطن السامي القديم. ويستشهد هذا النفر على صحة نظريته ببعض الروايات والدراسات التي قام بها العلماء فكشفت عن هجرة بعض الأقوام كالفينيقيين وغيرهم من هذه الأماكن.
أما "فلبي"؛ فذهب في دراساته المسهبة لأحوال جزيرة العرب إلى أن الأقسام الجنوبية من جزيرة العرب هي الموطن الأصلي للساميين، وفي هذه الأرضين نبتت السامية، ومنها هاجرت بعد اضطرارها إلى ترك مواطنها القديمة لحلول الجفاف بها الذي ظهرت بَوَادره منذ عصر "البالثوليتيك" "palaeolithic" هاجرت في رأيه، في موجات متعاقبة سلكت الطرق البرية والبحرية حتى وصلت إلى المناطق التي استقر فيها. هاجر وقد حملت معها كل ما تملكه من أشياء ثمينة، حملت معها آلهتها، وأولها الإله "القمر"، وحملت معها ثقافتها وخطها
__________
1 Sayce, Assyrian Grammer, 1872, P., 13, Barton, P., 4.
2 Eberhard Schrader, in ZDMG., XXVn, (1873) , S., 397.ff "Die Abstammung
der Chaldaer und-die Ursitze der Semiten"
3 De Goeje, Het Vaterland der Semitische Volken, Barton, P., 5, Wright, Compara- tlve Grammer of the Semitic Languages, P> 8-
4 Hubert Grimme, Mohammed, Weltgeschichte in Karakterbildern, 1904, S., 6. f., Barton, P., 5.
5 Carl Brockelmann, Grundriss der Vergleichenden Grammatik der Semitischen Sprachen, Berlin, Berlin, 1908, 1, 2.
6 L.W, King, History of Sumer and Akkad, London, 1915, P., 119.
7 John L. Meyers, in Cambridge ancient History, Cambridge 1923, 1, 38, Barton, P. 6-v
8 S.A. Cook, in Cambridge ancient History, I, P., 192. f.
9 Ditef Nielsen, Handbuch der altarabischen Altertumskunde, I, Kopenhagen, Paris, Leipzig, 1927, 47, 55.
10 A. Grohmann. S., 14, Hommel, Ethnolgle und Geograghie des alten Orient, Muenchen, 1926, S., 10.(1/232)
الذي اشتقّت منه سائر الأقلام، ومنه القلم الفينيقي، وطبعت تلك الأرضين الواسعة التي حلت فيها بهذا الطابع السامي الذي ما زال باقيًا حتى اليوم. وقد أخذ "فلبي" رأيه هذا من دراسات العلماء لأحوال جزيرة العرب ومن الحوادث التأريخية التي تشير إلى هجرة القبائل من اليمن نحو الشمال1.
فاليمن في رأي "فلبي" وجماعة آخرين من المستشرقين، هي "مهد العرب" ومهد الساميين، منها انطلقت الموجات البشرية إلى سائر الأنحاء. وهي في نظر بعض المستشرقين أيضًا "مصنع العرب"، وذلك لأن بقعتها أمدّت الجزيرة بعدد كبير من القبائل، قبل الإسلام بأَمَدٍ طويل وفي الإسلام2. ومن اليمن كان "نمرود" وكذلك جميع الساميين3.
والذين يقولون إن نجدًا هي موطن الساميين الأُوَل، يفترضون أن موجات هجرة الساميين اتجهت نحو الشمال كما اتجهت نحو الجنوب والشرق والغرب4، فكأن نجدًا معين ماء يفيض فيسيل ماءُه إلى أطرافه.
غير أن هنالك جماعة من الباحثين ترى أن نجدًا لا يمكن أن تكون الموطن الأول للساميين، وذلك لأن شروط الحياة اللازمة لم تكن تتوفر بها، اللهم إلّا في المواضع التي توجد بها آبار أو واحات، وهي قليلة متناثرة، وذلك حتى في العصور "الباليوثية" "palaeolithic ages". أما المراعي التي كانت بها في تلك الأوقات فلم تكن دائمة الخضرة، بل كانت مع المواسم ولهذا فإن السكن فيها لا يمكن أن يكون سكنًا دائميًّا مستمرًا، ثم إن السكن في نجد يقتضي وجود الجمل فيها ولم يكن الجمل موجودًا عند الساميين في العهود القديمة بل كان الحمار هو واسطة الركوب والنقل عندهم. ولما كان الحمار لا يتحمل العيش في البوادي الواسعة الفسيحة؛ لذلك لم يتمكن الساميون إذا ذاك من التوغّل في
__________
1 Philby, The Background of Islam, Alexandria, 1949, P., 9, ff.
2 Montgomery, Arabia and the Bible, Philadelphia, 1934, P., 126, Background. P. 9.
3 Eberhard Schrader, Die Abstammung der Chaldaer und die Ursitze der Semiten, in ZDMG, S-, 14.
4 James Hastings, A Dictionary of the Bible dealing with its Language Literature and Contents including the Biblical Theology, Extra Volume, 1904, P., 74. f. W. WarreH, A Study of Races in ancient Near East, Cambridge, 1927, 7, 45, 94. B. Thomas, Anthropological observation in South Arabia, 93-94, A. Grohmann, Araien S., 14.(1/233)
الصحراء والسكن بعيدًا عن مواضع الماء، فانحصر سكنهم في أسياف البوادي أي في مناطق قريبة من الحضر، ولهذا السبب رفض العلماء رأي من يقول إن نجدًا هي الموطن الأول للساميين1.
ويمكن تلخيص الحجج والبيانات التي استند إليها هؤلاء العلماء لإثبات نظريتهم في الأمور الآتية:
1- لا يعقل أن ينتقل سكان الجبال والمزارعون من حياة الحضارة والاستقرار إلى البداوة، بل يحدث العكس. ولما كانت الشعوب السامية قد قضت في أطوارها الأولى حياة بدوية، فلا بد أن يكون وطنها الأول وطنًا صحراويًّا، وجزيرة العرب تصلح أن تكون ذلك الوطن أكثر من أي مكان آخر.
2- ثبت أن معظم المدن والقرى التي تكوّنت في العراق أو الشام إنما كوّنتا عناصر بدوية استقرار في مواضعها، واشتغلت بإصلاح أراضيها وعمرانها، واشتغلت بالتجارة، فنشأت من ذلك تلك المدن والقرى. ولما كانت أكثر هذه العناصر البدوية قد جاءت من جزيرة العرب، فتكون الجزيرة قياسا على ذلك الموطن الذي غذّى العراق وبادية الشام وبلاد الشام بالساميين، وأرسل عليها موجات متوالية منها.
3- هناك أدلة دينية ولغوية، وتأريخية وجغرافية، تشير بوضوح إلى أن جزيرة العرب هي مهد السامية ووطن الساميين2.
4- إننا نرى أن جزيرة العرب قد أمدّت العراق وبلاد الشام بالسكان، وأن القبائل الضاربة في الهلال الخصيب قد جاءت من جزيرة العرب، فليس بمستبعد إذن أن يكون الساميون قد هاجروا منها إلى الهلال الخصيب.
وقد عارض هذه النظرية طائفة من علماء الساميات، وحجتهم: أن كل ما قيل وذكر من حجج وبيّنات، لا يدل يقينا على أن جزيرة العرب كانت هي المهد الأصلي للأمم السامية، ونظرت إلى إفريقية على أنها المكان المناسب لأن يكون الوطن الأول للساميين. ومن هذه الطائفة من علماء الساميات "بلكريف"،
__________
1 Ancient Iraq. P. 125.
2 ومن القائلين إن جزيرة العرب هي مهد الساميين "روبرتسن سمثrobertson smith" الهلال، نيسان 1906، ج 7 سنة 14، ص 399،
Kinship and MARRIAGE IN EARLY Arabia, P., 178, Barton, P.,5.(1/234)
وقد يكوّن رأيه من وجود تشابه في الملامح، وفي الخصائص الجنسية، وصلات لغوية بين الأحباش والبربر والعرب دَفَعَتْه إلى القول بأن الوطن الأول للساميين هو إفريقيا1.
وذهب إلى هذا الرأي "جيرلند gerland"، مستندًا إلى الدراسات "الفيزيولوجية" مثل تكوين الجماجم، والبحوث اللغوية. وقد زعم أن شمال إفريقية هو الموطن الأصلي للساميين، وادَّعى أن الساميين والحاميين من سلالة واحدة ودوحة تفرعت منها جملة فروع، منها هذا الفرع السامي الذي اختار الشرق الأدنى موطنًا له2.
وهناك نفر من العلماء أيّدوا هذه النظرية ودافعوا عنها أو استحسنوها، مثل "برتن3 bertin" و "نولدكه"4 و "موريس جسترو"5 و "كين" و "ربلي" وغيرهم6. ولكنهم اختلفوا أيضًا في تعيين المكان الذي نبت فيه الساميون أول مرة في القارة الإفريقية، واختلفوا كذلك في الطريق الذي أوصل الساميين إلى جزيرة العرب7، فاختار "برنتن" brinton شمال غربي إفريقيا، ولا سيما منطقة جبال "الأطلس" فجعلها الموطن الأصلي للساميين8.
واختار نفر آخر إفريقية الشرقية موطنًا أول للساميين، للعلاقات "الأنثولوجية" الظاهرة التي تلاحظ على سكان هذه المنطقة والساميي9. وزعم أن الساميين سلكوا في عبورهم إلى آسية أحد طريقين: إما طريق سيناء حيث هبطوا في العربية
__________
1 Enc. Brit., 9Th. Ed., "Arabia", Barton, P., 6, Enc. of Relig. and Ethics, Vol., II, P., 380
2 Enc. of Relig. and Ethics, Vol., II, P., 380, Barton, P., 6, Iconographic Enc, Art., "Ethnography"
3 Bertin, Journal of the Anthropological Institute, XI, 431, (1882) , Barton, P., 6.
4 Noeldeke, Die Semit. Sprachen, S., 9, Ency. Brita., (1911) , "Semtic Languages",
Enc. of Relig. and Ethics, Vol., n, P., 380
5 Barton, P., 7, Brinton, The Cradle of the Semites, Philadelphia, 1890, Races and
Peoples, New York, 1890, P., 132
6 Barton, P., 7, A Sketch of Semitic Origin Social and Religious, Ch. I, New 1901
7 Barton, P., 6, C.U". Ariens Kapper and Leland W. Paar, An Introduction to the
Anthropology of the Near East, Amsterdam, 1934, P., 47
8 Barton, P., 7, Brinton, Cradle of the Semites, Philadelphia, 1890, Races and Peoples, New York, 1890, P., 132, Enc. of Relig. and Ethics, Vol., II, P., 380
9 حتى ص 10.(1/235)
الحجرية وأناخوا فيها مدة ثم انتشروا منها1، وإما طريق المندب حيث دخلوا العربية السعيدة من مواضع مختلفة من الحبشة ومن أرض "فنط2 punt". وهي الصومال الحديثة3. وقد أكسبتهم إقامتهم في بلاد العرب خصائص جديدة، ووسمتهم بسمات اقْتَضَتْهَا طبيعة الوطن الثاني، ولكنها لم تتمكن من القضاء على الخصائص الأولى التي تشير إلى الوطن الأول قضاءً تامًا، ولا على الصلة بين اللغات الحامية والسامية التي تشير إلى الأصل المشترك كذلك4.
وهذه النظرية، بالرغم من دفاع بعض كبار علماء اللغات والأجناس عنها لا تخلو من ضعف، ومن مواطن ضعفها أنها غَضّتْ الطرف عن الاعتبارات التأريخية، واستسلمت لدراسات لم تنضج بعد، فمن الممكن مثلا إرجاع ما لاحظه علماء اللغات السامية واللغة المصرية القديمة إلى عوامل الهجرات السامية من جزيرة العرب وعن طريق سيناء إلى إفريقيا، مثل هجرة "الهكسوس" وهم من أصل سامي جاءوا مصر من بلاد العرب. وقد ثبت أيضا من تحقيقات العلماء أن كثيرًا من الأسماء المصرية القديمة التي كانت تطلق على الأقسام الشرقية من الديار المصرية هي أسماء سامية. وإذا سوّغ علماء النظرية الإفريقيا لأنفسهم الاستدلال على إفريقيا الساميين من وجود القرابة اللغوية بين اللغة المصرية واللغات السامية مثلا، فإن من الممكن إرجاع هذه القرابة إلى أثر الهجرات السامية في اللغة المصرية
__________
1 Barton, P. 6, Jornal of the Anthrop. Inst, XI, 431.
2 يجب تعريب punt ب"فنط"، قياسا على طريقة تعريب الأسماء الأعجمية إلى العربية. وقد عربها بعضهم بـ "فوط: وتقابل كلمة "فوط" كلمة put أو phut الواردة في التوراة أنها مسكن ابن حام الثالث؛ غير أن علماء التوراة لم يتفقوا حتى الآن على موضع "فوط"، فذهب بعضهم إلى أنها في نواحي طرابلس الغرب "ليبيا"، ورأى آخرون إنها بين مصر و"كوش"، أي السودان أو الحبشة، وربما كانت نوبيا الجنوبية، وهناك آراء أخرى. فلا أرى من الصحيح تسمية punt" بفوط لمكان هذا الاختلاف، راجع عن "فوط"، أرميا، إصحاح 46، آية 6، وحزقيال، إصحاح 37، آية 10، 30، آية 5، و 38، آية 5، ناحوم، إصحاح 3 آية 9، قاموس الكتاب المقدس "2/ 18"، عربت في ترجمة "تأريخ العرب المطول" للدكتور حتى بـ "فوط" ص42
Hastings, P. 777, Enc. Bibl, P. 3984.
3 حتى "ص13"،
4 Barton, P.,8.(1/236)
وأما تقارب الحبشية من اللهجات العربية الجنوبية وكتابة الأحباش حتى اليوم بقلم شبيه بالمسند، فلا يكون دليلًا قاطعًا على هجرة الساميين من إفريقية عن طريق الحبشة إلى جزيرة العرب؛ إذ يجوز العكس، وقديمًا هاجر الساميون من العربية الجنوبية إلى الحبشة. والساميون هم الذين كوّنوا دولة "أكسوم" التي كانت تتكلم باللغة "الجعزية"، وهي لغة سامية، كما أن قلمها الذي يشبه قلم المسند هو وليد القلم العربي الجنوبي. وكتابات "يها" "يحا" المكتوبة بالمسند، في حد ذاتها دليل على أثر العرب الجنوبيين في الإفريقيين "الكوشيين"، وهذه الكتابات حديثة عهد بالنسبة إلى كتابات السبئيين1، كما يمكن اعتبار تشابه أسماء بعض الأماكن القديمة في الحبشة مع نظائر لها في اليمن ووجود معبد في الحبشة خُصّ بالإله "المقّة" إله سبأ العظيم2، وأمور أخرى دينية ولغوية وأثرية، واعتراف الأحباش بأنهم من نسل مكلة سبأ "بلقيس" "ماقدة"3، من "سليمان الحكيم"، وأن "حبشت" التي أخذ الأحباش منها اسمهم في اللغة العربية هي مقاطعة تقع في العربية الجنوبية في رأي أكثر العلماء4، وأن "الأجاعز" أصحاب اللغة الجعزية هم أقدم مَنْ هاجر من اليمن إلى الحبشة، ووجود صلات قديمة بين الساحلين الإفريقي والعربي، إذا نظرنا إلى كل هذه الأمور نظرة علمية دقيقة، نجد أنها تجعل أمام القائلين إن أصل الساميين من إفريقية صعوبات ليس من السهل التغلب عليه، ولا سيما إذا أضفنا إليها الأثر الذي تركته اليهودية والنصرانية في الأحباش وفي الشعوب الكوشية الأخرى، فقرب ثقافتها من الثقافة السامية وأثر في لغتها، وهو أثر يجب أن يقام له وزن عند بحث هذا الموضوع.
ثم إن كثيرًا من علماء "الأنثروبولوجي" يرون أن إفريقية تأثرت بالدماء الآسيوية. أما تأثيرها في دماء أهل الشرق الأدنى وفي دماء سكان جزيرة العرب،
__________
1 Mueller, Epigraphlsche Denkmaeler aua Abessinien, Glaser, Die Abessiner in
Arabien und Africa, Muenchen, 1895.
2 Ditlef Nielsen, Der Sabaische Gott Ilmukah, S., I, D. H. Mueller, Epigraphische
Denkmaeler, S., 57.
3 Ehc, Vol., I, P. 720, B. Littman, The Leg-end of Queen of Sheba in Tradition
of Axum, in Bibliotheea Abessinca.
4 Enc, Vol., I, P., 119, Conti Rossini, Note sugli Habshat, Roma, 1905.(1/237)
فقد كان قليلًا لقد دخلت إليها دماء شعوب الشرق الأدنى من البحر المتوسط ومن طور سيناء ومن مضيق باب المندب. ويظهر أثر هذا الاختلاط واضحًا في إفريقية الشرقية وإفريقية الشمالية، وما زال هذا التأثر واضحًا حتى اليوم1.
ولهذا فإن من الصّعب تصوّر هجرة الساميين من إفريقية إلى جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق على وَفْق نظرية هؤلاء العلماء.
ومن القائلين إن المهد الأصلي للساميين هو أرض إرمينية "جون بيترس"، وحجته في ذلك أن هذا المحل هو أنسب مكان يتفق مع رواية التوراة في الطوفان، وهو المحل الأصلي للأمم السامية والآرية2. ثم إن الأنف الحَثِيّ يشبه كل الشبه الأنف العبراني، وفي هذه التسمية دلالة على المكان، وقد نسي أن العرب وهم من الساميين لم يُرزقوا هذا الأنف3.
وقد ذهب "أنكناد" "ungnad" إلى أن أصل الساميين من أوروبة، وقد تركوها وهاجروا منها إلى آسية الصغرى، ثم هاجروا منها إلى أرض "أمورو" "amurru"، وذهب قسم منهم في الألف الرابعة قبل الميلاد إلى بابل وبقية أنحاء العراق4.
وذهب "كلي" إلى أن الوطن الأصلي للساميين هو أرض "أمورو" "amurru" "الأموريين" وتشمل هذه الأرض، في رأيه، بلاد الشام ومنطقة الفرات5. من هذه المنطقة هاجر الساميون، وهو قد توصل إلى نظريته هذه من الدراسات اللغوية6، ولكنها لا تستند في الواقع إلى أدلة قوية. والأموريون من الشعوب السامية القديمة التي سكنت في فلسطين والشام وإقليم بابل7.
__________
1 L. H. D. Buxton, The People of Asia, London, 1925, P., 34.
2 السامية ص4.
Journal of the American Oriental Society, XXXIX, 243, ff, Barton, P., 8.
3 Barton, P., 8.
4 A. Ungnad, Die Aeltesten Voelkerwanderungen Vorderasiens, Kulturfragen, I, (Breslau) , 1923, 5, A. Grohmann, Arabien, S., 14.
5 Barton, P., 8, A. T. Clay, Amurru, The Home of the Northern Semites, Fhila- delphia, 1909, The Empire of the Amorites, New Haven, 1919, Enc. of Rel. and Ethics, II, 380.
6 Barton, P., 9.
7 Hastings, P., 27, Enc Bibl., P., 146, Meissner, Aitar, Privatrecht, No. 42. Schrader, K. A. T., S., 178. ff.(1/238)
وذهب آخرون إلى أن الوطن الأول الأصل للساميين هو أرض "قفقاسية"؛ إذ كان البشر من ثلاثة أجناس أساسية، هي: الجنس القفقاسي "caucassides" والجنس المنغولي "mongoloids" "الآسيويين"، والجنس الزنجي negroids. وقد قصدوا بالجنس القفقاسي أصحاب البشرتين البيضاء والسمراء، أي الآربيين والساميين. فوطن هذين الجنسين الأول هو "قفقاسية" على هذا الرأى. منه انتقل الساميون إلى أوطانهم الجديدة، بهجرتهم إلى الجنوب واستقرارهم فيما يقال له "الهلال الخصيب"، ثم فيما وراءه إلى السواحل الجنوبية لجزيرة العرب، ومنه انتقل الآريون إلى الجنوب الشرقي لقفقاسية وإلى الغرب والشمال، أي إلى آسية وأوروبة ثم إلى أماكن أخرى فيما بعد1.
وهجرات على هذا النحو، لا بد أن تكون لها أسباب ومسبّبات؛ إذ لا يعقل ترك إنسان لوطنه من غير سبب. وقد بحث القائلون بهذا الرأي عن الأسباب التي أدت إلى وقوع تلك الهجرات، فوضعوا لهم جملة فرضيات.
ظهر الساميون على مسرح الوجود في الألف الثالثة قبل الميلاد، واستقروا في هذه الأرضين التي اصطبغت بالصبغة السامية، وهي الهلال الخصيب وشبه جزيرة سيناء وجزيرة العرب، حيث تعدّ اليوم المواطن الرئيسية للساميين2.
وقد توسط بعض الباحثين بين الآراء المتباينة، عن الوطن الأول للجنس السامي، فذهب إلى أن الهلال الخصيب وأطراف جزيرة العرب هي الموطن الأول للساميين والميدان الذي وجدوا فيه منذ أقدم أيامهم، وقد كان هذا الميدان موضع صراع بين البداوة والحضارة، فقد كان البدو يهاجمون الحضر سكان القرى والمدن، والبدو هم من الساميين، وكثير من الحضر كانوا من الساميين أيضًا، ومن هذا التنازع على الحياة تكوّن تاريخ الساميين في هذه المنطقة الواسعة من الهلال الخصيب التي تُحِدُّها من الشرق والشمال والغرب الجبال والتي تمتد فتشمل كل جزيرة العرب3.
__________
1 Sonia Cole, Races of man, British Museum {Natural History) . PP. 9.
2 Simon Dubnow, Weltgeschichte des Juedlschen Volkes, Bd., I, S., 3.
3 Ancient Iraq. PP., 125.(1/239)
الهجرات السامية:
تقول كل النظريات التي رأيناها عن أصل الوطن السامي، بهجرات الساميين من ذلك الوطن الأم إلى أوطان أخرى في أزمان مختلفة متباينة، وذلك لأسباب عديدة منها: ضيق أرض الوطن من تحمل عدد كبير من الناس، وتزاحم الناس على الرزق، مما دعاهم إلى التحاسد والتباغض والتفتيش عن وطن جديد، وظهور تغيّرات في طبيعة ذلك الإقليم، إلى عوامل أخرى.
وقد تصوّر القائلون أن جزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، بلاد العرب كخزَّان هائل يفيض في حِقَب متعاقبة، تبلغ الحُقبة منها زهاء ألف عام، بما يزيد على طاقته من البشر إلى الخارج، يقذف بهم موجات أطلقوا عليها "الموجات السامية"1.
وفي علّل القائلون بنظرية أن جزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، سبب هذه الهجرات بعدم استطاعة جزيرة العرب قبول عدد كبير من السكان يزيد على طاقتها، فلا يبقى أمامهم غير سلوك طريق الهجرات إلى الأماكن الخِصْبَة في الشمال. وقد كانت الطرق الساحلية من أهم المسالك التي أوصلت المهاجرين إلى أهدافهم.
وفي جملة أسباب ضيق جزيرة العرب عن استيعاب العدد الكبير من السكان تغيّر مستمر طرأ عليها، أدى إلى انحباس الأمطار عنها وشيوع الجفاف فيها مما أثّر على قشرتها وعلى أحيائها، فهلك من هلك وهاجر من هاجر من جزيرة العرب، وقد استمر هذا التغير آلافا من السنين حتى حوّل بلاد العرب أرضين غلبت عليها الطبيعة الصحراوية، وقلّت فيها الرطوبة، وغلب على أكثر بقاعها الجفاف2.
وقد رأى بعض العلماء أن جزيرة العرب كانت في عصر "البلايستوسين" "pleistocene" خصبة جدًّا كثيرة المياه، تتساقط عليها الأمطار بغزارة في جميع فصول السنة، وذات غابات كبيرة وأشجار ضخمة، كالأشجار التي نجدها في الزمان
__________
1 Montgomery, Arabia and the Bible, P., 21. حتى ص13
2 Montgomery, Arabia and the Bible, PP., 90, < The Problem of the Physical change in Arabia(1/240)
الحاضر في الهند وإفريقية، وأن جوّها كان خيرًا من جوّ أوروبة في العصور الجليدية التي كانت تغطي الثلوج معظم تلك القارة، ثم أخذ الجوّ يتغير في العالم، فذابت الثلوج بالتدريج، وتغير جوّ بلاد العرب بالطبع، حدث هذا التغير في عصر ال"نيوليتك neolithic" أو في عصر ال "كالكوليتك" "chalcolithic"، ولم يكن هذا التغير في مصلحة جزيرة العرب، لأنه صار يقلّل من الرطوبة ويزيد من الجفاف، ويحوّل رطوبة التربة إلى يبوسة فيُمِيت الزرع بالتدريج، ويهيج سطح القشرة فيحوّلها ورمالا وترابا ثم صحاري لا تصلح للإنبات ولا لحياة الأحياء1.
فاضطر سكان الجزيرة الذين كانوا من الصيادين إلى أن يكيفوا أنفسهم بحسب الوضع الجديد، فأخذ ناس منهم يهاجرون إلى مناطق أخرى ملائمة توائم حياتهم ومزاجهم، وأخذ ناس آخرون يعتمدون على الزرع وتدجين الحيوانات، وعلى الاكتفاء بصيد ما يرونه من حيوانات تحملت الجو الجديد متنقّلين من مكان إلى مكان حيث الكلأ والماء. وهكذا تعرض حياة الأجسام الحية من نبات وحيوان لتغيرات تدريجية مستمرة، فرضها عليها تغير الجو.
وقد أدى انحباس المطر وازدياد الجفاف ويبوسة الجو إلى انخفاض الرطوبة من سطح الأرض، وهبوط مستوى الماء بالتدريج عن قشرة الأرض، وظهور الأملاح في الآبار، وجفاف بعض الآبار، فأدى ذلك إلى ترك الناس هذه الأماكن، إذ صعب عليهم استغلالها بالزراعة، وإصلاحها بحفر آبار لا تساعد مياهها الملحة على نمو النبات، ومعيشة الحيوان. حدث ذلك حتى في العصور الإسلامية حيث نسمع شكاوى مريرة من هذه العوارض الطبيعية2.
__________
1 BOASOR, Suppl., No. 7-9, P, 41, "1950", Discoveries, P. 82, A. Grohmann., Arabien,
S. 5, B. Thomas, Anthropological Observations in South Arabia, Proceedings
of the Royal Anthropological Institute.
2 تجد أمثلة كثيرة وبحثا قيما في هذا الموضوع كتبه "موريتس B. Moritz"
في كتابه:
Arabien, Studien Zur PhysikaMschen und Historischen Geographie des Landes(1/241)
وقد تحدث "فلبي" عن هبوط مستوى مياه بعض الآبار التي زارها عام 1917م في الخرج1، كما تحدث غيره من السياح عن حوادث مشابهة حدثت في تهامة والحجاز وأماكن أخرى2.
ويعزو علماء طبقات الأرض انخفاض مستوى سطح الماء في جزيرة العرب إلى عوامل أخرى، إضافة إلى الجفاف مثل هبوط درجات الضغط على قشرة الأرض. وقد رأى الخبير الأمريكي "تويجل" "twitchell"، أن الماء قد انخفض زهاء سبع وعشرين قدمًا عن مستواه الذي كان عليه قبل ألفي عام3. ومن العلماء من يرى أن مستوى سطح الماء في البحر الأحمر وفي الخليج العربي قد انخفض كذلك، فذهب بعض علماء دراسة التوراة إلى أن مستوى سطح الماء في خليج السويس قد انخفض "25" قدمًا عما كان عليه في "أيام الخروج4- exodus". وذهبت جماعة منهم إلى أن هذا الهبوط لم يكن كبيرًا، وإنما بلغ زهاء ست أقدام أو أقل من ذلك في خلال ثلاثة آلاف سنة5. أما مستوى سطح الخليج العربي، فقد هبط على رأي بعضهم زهاء عشر أقدام أو خمس أقدام خلال ألفي عام، وإن ماء البحر قد تراجع في هذه المدة، ويستدلون على ذلك بوجود السباخ في الأحساء والقطيف، وهي، في رأيهم، من بقايا تأثر البحر في الأرض وربما ذهب إليه بعضهم من أن الربع الخالي، وقد عثر فيه على بقايا بحر واسع في السهل المنخفض الذي يقال له أبو بحر، كان متصلًا بالبحر العربي6. ومهما يكن من شيء، فإن هبوط مستوى سطح الماء مهما كان مقداره قد أثر في سطح الأرض.
وقد وجد السياح محارًا من النوع الذي يكون في المياه العذبة، وأدوات من الصوان ترجع إلى ما قبل التأريخ والعصور الحجرية، وبقايا عظام ترجع إلى هذه العصور في مناطق صحراوية، ويدل وجودها فيها على أنها كانت مأهولة، وأنها لم تهمل إلا لعوارض طبيعية قاهرة لم يكن من الممكن التغلب عليها، حولت
__________
1 Philby, The Heart of Arabia, P., 37, 38, BOASOR, SuppL, Nos, 7-9, P., 41.
راجع كتاب "موريتس" المذكورDiscoveries, P., 83.
3 Twltchell, Saudi Arabia, P., 44, 51.
4 BOASOR, Suppl., Stud., Nos, 7-9, P. 42.
5 المصدر نفسه
6 Philby, The Heart of Arabia, P., 31, Dougherty, The Sealand, P., 160.(1/242)
تلك المناطق الخصبة في ألوف من السنين على مناطق لا تتوفر فيها شروط الحياة، فهُجِرت1.
كما أننا نجد في الكتب العربية ذكر أشجار ضخمة كانت تنمو في مناطق لا تُنْبِت شيئًا ما في الزمان الحاضر، وذكر مناطق كان تحمي، يقال لها "الحمى" وقد جفّ معظمها، وعاد أرضين قفرة جرداء، فهلاك هذه النباتات وجفاف هذه الأرضين، لا يمكن أن يعزى إلى سوء الأوضاع السياسية وهجرة القبائل والمزارعين إلى أماكن أخرى لفساد الإدارة في الأماكن البعيدة حسب، بل لا بد أن يكون للطبيعة يد في هذا التحوّل ونصيب. إن هذا التغيّر الذي حدث في جوّ جزيرة العرب، فساعد على ازدياد الجفاف وانحباس الأمطار، قد أباد النباتات، وقاوم نموّ المزروعات، وعفى على الأشجار الضخمة التي كانت تعيش من امتصاص جذورها العميقة للرطوبة من أعماق الأرض، كما أثّر في حياة الحيوان كالأسد الذي قلّ وجوده، وقد كان كثير الوجود، ويدل على كثرة وجوده هذه الأسماء الكثيرة التي وضعت له وحفظت في كتب اللغة2. وحمار الوحش وقد كان من الحيوانات التي يخرج الناس لصيدها في الحجاز وفي نجد، والنعامة3. والرّئْم أو بقر الوحش، والفهد، والنَّسر4.
ومن العلماء الذين نسبوا هجرة السامين من جزيرة العرب إلى خارجها، إلى عامل الجفاف والتغيّر الذي وقع في جوّ جزيرة العرب، العالم الإيطالي "كيتاني" "l.caetani". لقد تصوّر "كيتاني" بلاد العرب في الدورة الجليدية جنة، بقيت محافظة على بهجتها ونضارتها مدة طويلة وكانت سببًا في رسم تلك الصورة البديعة في مَخِيلَة كتّاب التوراة عن "جنة عدن". وجنة عدن المذكورة في العهد القديم هي هذه الجنة التي كانت في نظر "كيتاني" في جزيرة العرب،
__________
1 المراجع نفسها، مجلة سومر 1949، المجلد الخامس، 2/ 127 فما بعدها.
2 المخصص "8/ 59 فما بعدها" وقد اشتهرت بعض الأماكن بأسودها، مثل "عثر" قال الهمداني: "وإلى حارة عثر تنسب الأسود التي يقال لها أسود عثر، وأسود عتود وهي قرية من بواديها وقد ذكرها ابن مقبل"
جلوسا بها الشم اللجان كأنهم
أسود بثرج أو أسود بعتودا
Moritz, S. 35. ff. 40, Noeldeke, In ZDMG, 49, 713. F.
3 Moritz, S. 42, Wellhausen, Lieder der Hudhailiten, No. 175 176, Euting. I, 230
4 صفة ص202.(1/243)
غير أن الطبيعة قست عليها، فأبدلتها صحاري ورمالًا، حتى اضطر أصحابها إلى الارتحال عنها إلى أماكن تتوافر فيها ضروريّات الحياة على الأقل فكانت الهجرات إلى العراق وبلاد الشام ومصر والمواطن السامية الأخرى. وكانت هذه الهجرات كما يقول قويّة وعنيفة بين سنة 2500 وسنة 1500 قبل الميلاد، فدخل الهكسوس أرض مصر، وهاجر العبرانيون إلى فلسطين، ثم ولي ذلك عدد من الهجرات1.
ويرى "كيتاني" أن هذا التغير الذي طرأ على جوّ جزيرة العرب؛ إنما ظهر قبل ميلاد المسيح بنحو عشرة آلاف سنة، غير أن أثره لم يبرز ولم يؤثر تأثيرا محسوسا ملموسا إلا قبل ميلاد المسيح بنحو خمسة آلاف سنة. وعندئذ صار سكّان بلاد العرب، وهم الساميون، ينزحون عنها أمواجًا، للبحث عن مواطن أخرى يتوفر فيها الخصب والخير، وحياة أفضل من هذه الحياة التي أخذت تضيق منذ هذا الزمن2.
وقد تصوّر "كيتاني" أودية جزيرة العرب، مثل وادي الحمض ووادي السرحان ووادي الرمة ووادي الدواسر، أنهارًا كانت ذات مياه غزيرة تنساب إليها من المرتفعات والجبال في الدهور الغابرة، أثّرت فيها التغيرات الطبيعية المذكورة، فقلّلت من مياهها حتى جفت، فصارت أودية، لا تجري فيها المياه إلا أحيانًا، إذ تسيل فيها السيول بعد هطول الأمطار3.
وقد ذهب إلى هذا الرأي المستشرق الألماني "فرتز هومل" أيضا، فرأى أن الأنهر المذكورة في التوراة على أنها أنهر جنة "عدن"، هي أنهر تقع في بلاد العرب، وأن الأنهر المشار إليها، هي وادي الدواسر، ووادي الرمة، ووادي السِّرحان، ووادي حَوْران4. وأما "كلاسر"، فذهب إلى أن نهري
__________
1 المقتطف، جزء يوليو 1944، ص123 فما بعدها، الجزء الثاني من المجلد الخامس بعد المائة، مجلة سومر، الجزء الثاني، المجلد الخامس 1949، ص123 فما بعدها.
Caetani, Studi della Historia Orientale, Vol., I, P., 64, 185, 186, 188, i92. 277. Musil, Negd, P., 311, 305, Caetani, Studi, Vol. 2, PP. 53, 65.
2 Montgomery, Arabia and the Bible, P., 95.
3 Caetani, Studi, Vol., I, P., 64, 80, 243, Vol. 2, PP. 53- 65. Musil. Negd. P., 305, Caetani, Annali DelTIalam, H, Part II, (1907) , 831. ff.
4 Montgomery, Arabia, PP., 9, F. Hommel, Opua Magnum Ethnologie und Geographie des Alten Orients, II.5.8. 547, 1926,(1/244)
"جيحون"و "فيشون"، وهما من أنهر "جنة عدن" الأربعة في رواية التوراة1، هما في جزيرة العرب2.
ويعتقد "كيتاني" أن الفيلة والحيوانات الضخمة التي يندر وجودها اليوم في بلاد العرب، كان موجودة فيها بكثرة، ولا سيما في أرض "مدين". وكان الصيّادون يخرجون لاصطيادها لأكل لحومها3. وقد جاء بأمثلة لتأييد رأيه من كتب "الكلاسيكيين"4.
وقد قسم "كيتاني" جزيرة العرب إلى قسمين: غربي وشرقي. أما القسم الغربي، فهو الذي على ساحل البحر الأحمر الشرقي، وفيه سلاسل جبلية ومرتفعات. وأما القسم الشرقي، فالأرضون التي تأخذ في الانحدار والميل. وهي عند السفوح الشرقية للجبال، وتمتد نحو الخليج. وقد كان سكان المناطق الغربية –في رأيه- في مستوى راقٍ من المدنية، وكان لهم سلطان كبير على المناطق الشرقية، وعلى سكانها الذين كان يغلب عليهم الفقر. وقد كان فعل الجفاف أشد وأسرع في الأرضين الشرقية منه في الأقسام الغربية، لذلك بدأت الهجرات من هذه المناطق قبل المناطق الغربية، وظهرت فيها البداوة بصورة أوضح من ظهورها في الأرضين التي على ساحل البحر الأحمر والمتصلة باليمن وبلاد الشام. ولما توسعت منطقة الجفاف وأخذت الرطوبة تقل في جو بلاد العرب الغربي، ظهرت أعراض الصحراوية في تلك الأرضين كذلك، واضطر السكان إلى الهجرة منها إلى مناطق أخرى5.
وقد لاقت نظرية "كيتاني" هذه رواجًا بين عدد كبير من المستشرقين، واعتدها "السير توماس أرنولد" من أهم النظريات التي اكتشفها المؤرخون الحديثون بالنسبة إلى التأريخ العربي6. غير أن المستشرق "الويس موسل"، يرى أنها لا تستند إلى أسس تأريخية، ولا إلى أدلة علمية، وأن القائلين بها قد بالغوا
__________
1 التكوين، الإصحاح الثاني، الآية 10 فما بعدها.
2 Glaaer, Sklzze, S., 314, Montgomery, P., 94.
3 Musil, Nega, P., 308.
4 Strabo, Geography, XVI, 4, 18, Periplus, PP., 177, (Mueller Ed.) , Diodorus. Bibliotheca Historica, Hi, 43. f.
5 Musil, Neg-d, P., 311, Caetani, Studi., P., 210.
6 Musil, Negd, P., 304, Arnold, The Caliphate, (1924) , PP. 23.(1/245)
فيها مبالغة كبيرة، ويرى أنه ما دامت البحوث "الجيولوجية" التي قام بها العلماء في مراحلها الأولى، وقد جرت في مناطق محدودة فلم تفخص أكثر مناطق جزيرة العرب فحصًا علميًّا فنيًا، حتى الآن، فلا يصح الاعتماد على فرضيات، تبنى عليها آراء ثابتة. ولهذا فهو يرى أن الأدلة "الجيولوجية" التي استشهد بها "كيتاني" ضعيفة وغير كافية، فهي لا تستحق مناقشة، واكتفى بمناقشة الأدلة التأريخية1.
يرجع "موسل" سبب الهجرات، وتحوّل الأرضين الخصبة صحاري، وإلى عاملين هما: ضعف الحكومات، وتحوّل الطرق التجارية2. فضعف الحكومات ينشأ عنه تزعم سادات القبائل والرؤساء، وانشقاقهم على الحكومات المركزية، ونشوب الفتن والاضطرابات واشتعال نيران الحروب، وانصراف الحكومة والشعب عن الأعمال العمرانية، وتلف المزارع والمدن، وتوقف الأعمال التجارية وحصول الكساد، وانتشار الأمراض والمجاعة، والهجرة إلى مواطن أخرى يأمن فيها الإنسان على نفسه وأهله وماله. فخراب سدّ "مأرب" مثلًا لا يعود إلى فعل الجفاف الذي أثّر على السدّ كما تصوّر ذلك "كيتاني"3، بل يعود إلى عامل آخر لا صلة له بالجفاف، هو ضعف الحكومة في اليمن، وتزعم "الأقيال" و "الأذواء" فيها، وتدخل الحكومات الأخرى في شئون العربية الجنوبية كالحبشة والفرس؛ مما أدى إلى اضطراب الأمن في اليمن، وظهور ثورات داخلية وحروب، كالذي يظهر من الكتابات التي تعود إلى النصف الثاني من القرن السادس للميلاد4، فألهى ذلك الحكومة عن القيام بإصلاح السد، فتصدعت جوانبه، فحدث الانفجار، فخسرت منطقة واسعة من أرض اليمن مورد عيشها الأول، وهو الماء، ويبست المزارع التي كانت ترتوي منه، واضطرت القبائل وأهل القرى والمدن الواقعة فيها إلى الهجرة إلى مواطن جديدة. وتصدّع السدّ بسبب ضغط الماء على جوانبه، هو في حد ذاته دليل على فساد نظرية الجفاف5.
__________
1 MusU Negd, P., 304.
2 MusU, Negd, PP., 317.
3 MusU, Negd, P., 309, Caetani, Studi., 267, 296.
4 Corpus Inscriptionum Semiticarum, (1911) , Part, 4, Vol., 2, Nos. 384, 540, 641.
5 Musil, Negd, P., 310, Corpus Inscript. Semit, NO. 540, II, 54-64.(1/246)
ويرى "موسل" أن التقدم الذي حدث في البلاد العربية بعد القرن التاسع عشر دليل آخر على فساد نظرية "كيتاني"، فقد ظهرت مدن حديثة، وعُمّرت قُرَى، وشُقَّت ترعٌ، وحُفِرَت آبار، وعاش الإنسان والحيوان والنبات في مناطق من العراق وسورية ولبنان وفلسطين والأردن كانت تعدّ من الأرضين الصحراوية1، فليس الجفاف هو المانع من عمارة هذه المناطق، والسبب في تكوّن هذه الصحاري، بل السبب شيء آخر، هو ضعف الحكومات وانصرافها عن العمارة وعن المحافظة على الثروة الطبيعية وضبط الأمن، ووقوفها موقف المُتفرّج تجاه قطع الناس للأشجار واستئصالها لاستخراج الفحم منها، أو لاستعمالها خشبها في أغراض أخرى، وقتال القبائل بعضها ببعض، هذا وإن من الممكن إعادة قسم من الأرضين الجرد إلى ما كانت عليه، إذا ما تهيأت لها حكومة قوية رشيدة تنصرف إلى حفر الآبار، وإقامة السدود، وغرس الجبال، وإنشاء الغابات، والاستفادة من مياه العيون2.
ويرى "موسل" أيضًا أن ما ذكره "كيتاني" عن الأنهار في جزيرة العرب مسألة لا يمكن البت فيه الآن لقلّة الدراسات العلمية3. كما أن ما ذكره عن انعدام أجناس من الحيوانات، ليس مردّه إلى الجفاف وعدم احتمال تلك الحيوانات الجوّ الجديد، فهلكت، أو هاجرت إلى مواطن جديدة، بل مَرَدُّه في نظره إلى اعتداء الإنسان عليها، وقتله إياها. ودليله على ذلك أن الحيوانات التي ورد ذكرها في كتب "الكلاسيكيين" لا تزال تعيش في المناطق التي عيّنها أولئك الكتّاب، ولكنها بقلّة. كذلك نجد الهمداني وغيره ينكر وجود الأسد وحيوانات أخرى في مواضع قلَّ فيها وجودها الآن، وهذا مما يشير إلى أن هذه الحيوانات لم تنقرض أو تقل بفعل تبدّل الجو، بل بفعل اعتداء البشر عليها، وأن اعتداء البشر على الحيوان شرٌّ من اعتداء الطبيعة عليه4.
ولا يوافق "موسل" على نظرية "كيتاني" في هجرة القبائل العربية من الجنوب إلى الشمال، أو من الشرق إلى الشمال. وقد رأى "كيتاني" كما سبق
__________
1 Musil, Negd, P., 310.
2 MuaU, Negd, P., 318.
3 Musil, Negd, P., 305, Caetani, Stud!., P., 60, 87.ff.
4 Musil, Negd, P., 309.(1/247)
أن ذكرنا تقسيم جزيرة العرب إلى قسمين: قسم غربي وهو الممتد من فلسطين إلى اليمن، وينتهي بالبحر العربي، وتكون حدوده الشرقية"السّراة" والغربية البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وقسم شرقي، وهو ما وقع شرقي "السّراة" إلى الخليج والبحر العربي1.
وقد ظهر الجفاف في رأي "كيتاني" في القسم الشرقي قبل الغربي، ولهذا صار سكانه يهاجرون منه بالتدريج إلى مواطن جديدة صالحة للاستيطان مثل العراق والشام، كما صار سببًا لظهور الصحاري الشاسعة في هذا القسم بصورة لا نعهدها في القسم الغربي2.
ويرى "موسل" أن هذا تقسيم لا يستند إلى أسس طبيعية وجغرافية، ولا إلى آراء "الكلاسيكيين"، أو علماء الجغرافية العرب، أو غيرهم، وأنه مجرد رأي لا يمكن أن يكون حجة لإثبات مثل هذا الرأي3.
ولموسل رأي في الهجرات، يرى أن ما قاله "كيتاني" وغيره عن الهجرات من جزيرة العرب، من اليمن أو من نجد إلى الشمال، قول لا يستند إلى دليل تأريخي قوي. فليست لدينا حتى الآن براهين كافية تثبت -على حد قول موسل- أن أصل "الهكسوس" أو "العبرانيين" مثلا من جزيرة العرب4. كما أن ما ادّعاه "كيتاني" عن استمرار الهجرات من الألف الثالث أو قيل ذلك قبل الميلاد إلى القرن السابع بعد الميلاد قول لا ينطبق مع المنطق. فَلِمَ ظلّت هذه الهجرات مستمرة إلى أن توقفت بعد القرن السابع للميلاد؟ أزادت الرطوبة وتحسن الجو؟ أم أن القبائل الكبيرة كانت قد تجزَّأت إلى قبائل صغيرة، وعشائر وأفخاذ، فأصبح في إمكانها العيش بعض الشيء في محالّ صغيرة، لا تحتاج إلى مراعي شاسعة، ولا إلى مياه غزيرة؟ فلم تدفعها الحاجة منذ هذا العهد إلى الهجرة في شكل موجات كبيرة. وهل كان الجفاف هو المانع من مهاجمة حدود الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية اللتين كانتا قد سدّتا أبواب جزيرة العرب على أهلها، فلم تسمحا للقبائل بتخطِّي هذه الحدود؟ ويرى أن
__________
1 Musil, Negd, P., 311.
2 caetani, P., 210, Musil, Negd, P., 311.
3 Musil, Negd, P., 311.
4 Musil, Negd, P., 311(1/248)
ما ادّعاه "كيتاني" من أن الجفاف والجوع حملَا قبائل اليمن على الهجرة إلى الهلال الخصيب؛ حيث نزلت في أرضين كانت خالية مهجورة على أطراف الفرات والشام، فألفت حكومتي "المناذرة" و "الغساسنة"، قول لا يؤيّده ما جاء في الكتب "الكلاسيكية" وفي المصادر "السريانية" من أن تلك الأرضين كانت عامرة، آهِلَة بالسكان، تمرّ بها الطرق التجارية العالمية. ويرى "موسل" أن الحكومتين "اللخمية" و "الغسانية" إنما ظهرتها بعد سقوط "تدمر" وقد أسس الدولتين "مشايح" من أهل الهلال الخصيب، ولم يكونوا مهاجرين وَرَدُوا من الجنوب، أو من العروض على نحو ما تَزَعّمه بعض الرويات1.
ويأخذ "موسل" على "كيتاني" تصديقه الرواية العربية عن هجرة القبائل ونظريتها في الأنساب، واعتدادها من جملة الأدلة التي تثبت نظرية الجفاف. ويرى أنها -مع التسليم بحصتها- تنطبق على الوضع الذي كان في القرن السابع للميلاد وفي الجاهلية القريبة من الإسلام، وأنها رواية تستند إلى خير مسوغ لا يصحّ إن يكون سندًا في إثبات الهجرات لما قبل الميلاد2.
ويمكن تفسير انتساب القبائل -على حد قول موسل- بصورة أخرى، هو أن العرب الجنوبيين كانوا قد هيمنوا في الجاهلية وقبل الإسلام بقرون على الطريق التجارية التي تصل الشام باليمن وعلى الطرق التجارية الأخرى، وكانت لهم حاميات فيها لحماية القوافل من غارات الأعراب، فلما ضعف أمر حكومات اليمن، استقلت هذه الحاميات، وكان كثيرًا من أفرادها قد تزاوجوا مع من كان يجاورهم من القبائل، واتّصلوا بهم. ولما كان لليمن مقام عظيم وشرفٌ بين القبائل، انتسب هؤلاء إلى اليمن، وصاروا يعدّون أنفسهم مهاجرين، يتصل نسبهم بنسب اليمن. ومن هنا نشأت، في رأي "موسل" أسطورة الأنساب! ثم جاء علماء الأنساب في "المدينة" و "الكوفة" فسجّلوها على أنها حقيقة واقعة، ومنهم انتقلت إلى كتب التأريخ، فتوسّعت وتضخمت في الإسلام3.
ويدّعي "موسل" أنه لو كانت هنالك هجرات حقًّا، لرأينا أثرها في لغة
__________
1 Musil, Negd, p. 312, Kuseir 'Amra, PP. 131.
2 Caetani, PP. 268, Musil, Negd, P. 311.
3 Musil, Negd. P., 312(1/249)
القبائل النازحة إلى الشمال وفي عقيدتها الدينية وفي ثقافتها وفي أساطيرها وفي قصصها الشعبي، ولوجدنا في أقل الأحوال إشارةً في الكتابات العربية الجنوبية التي تعود إلى ما قبل الإسلام. ولكننا لا نجد شيئًا من ذلك، وهذا ما يفنّد رأي القائلين بالهجرات، وبأن أصل كثير من القبائل التي كانت تقيم في شمال جزيرة العرب، ومن هؤلاء الغساسنة والمناذرة، هم من اليمن1.
ويعترض "موسل" أيضًا على دعوى "كيتاني"، وغيرها من المستشرقين؛ ممن زعموا أن الفتح الإسلامي هو آخر هجرة سامية قذفت بها جزيرة العرب إلى الخارج، وأنها كانت بسبب الجفاف والجوع، ويرى أن ما جاء في هذه الدعوى لا يتفق مع الحقيقة، وأن ما ذكره "كيتاني" عن عدد نفوس الحجاز مبالغ فيه، وأن الجيوش التي اشتركت في فتح العراق والشام وفلسطين لم تكن حجازية أو نجدية حسب، بل كانت فيها قبائل عراقية وشامية نصرانية، ساعدت أبناء جنسها العرب مع اختلافها مع المسلمين في الدين، وحاربت الروم والفرس، ولذلك فليست الفتوحات الإسلامية هجرة من جزيرة العرب إلى الخارج على نحو ما تصوّره "كيتاني" بدافع الفقر والجوع2.
والرأي عندي أن ما يسمّى بموضوع تغيّر الجوّ في جزيرة العرب وبالهجرات السامية والاستشهاد بآثار السكنى عند حافات الأودية وفي أماكن مهجورة نائية؛ لاتخاذ ذلك دليلًا على الوطن السامي وعلى هجرة الساميين، هو موضوع لم ينضج بعدُ، وهو لا يزال بعدُ يحتاج إلى دراسات علمية وإلى نتائج أبحاث علماء "الجيولوجيا" والعلوم الأخرى، ليقولوا كملتهم في هذا الموضوع. فعلى بحث هؤلاء يتوقّف الحكم في موضوع تطوّر الجوّ وتغيّر الإقليم. أما الحدس والتخمين، وأما الاعتماد على حوادث وعلى بحوث لغوية ومقابلات ومطابقات في أمور دينية وثقافية أخرى، فإنها لا تكفي في نظري للبتّ في قضايا يجب أن يكون فيها الحكم والكلمة للعلوم لا للحدس والتصور والتخمين. هذا هو رأيي الآن في هذا الموضوع، وفي كل الآراء الواردة عن مواطن الساميين.
فقد رأينا أن بعض تلك الآراء إنما قيلت لاعتقاد أصحابها بما ورد في التوراة،
__________
1 Musil, Negd, P. 313.
2 Musil, Negd, P., 313, Caetani, Studi., P., 307.(1/250)
فجاءت بكل ما عندها من حجج وأدلة لإثبات رأيها هذا، ورأينا أن في بعض الأدلة متناقضات واستشهادات ضعيفة، ورأينا أن الاستشهاد باشتراك اللغات في الألفاظ لا يمكن أن يكون دليلًا قاطعًا على الأصل المشترك، ثم إننا لا نملك سجلًّا تاريخيًّا للنَّبات والحيوان ولظهور الألفاظ حتى نستشهد به في إثبات نظرية من النظريات، وكل ما لدينا من هذا النوع إنما هو مجرد رأي وحدس، والرأي لا يكون رأيًا علميًّا إلى بحجة قاطعة وبدليل علميٍّ دامغ وبحوث مختبرية وآثار تثبت ذلك للعِيَان، فمن حقي إذن أن ألتزم التريّث والانتظار وأستعجل العلماء المتخصصين في دراسة طبقات الأرض، لنرى نتائج بحوثهم لنستنير بها في إعطاء أحكام في هذه الآراء.
أما بعض الأمثلة التي استُشهد بها لإثبات تغير جو جزيرة العرب، فهي أمثلة لا يمكن أن تكون دليلًا للتغيّر، وإنما ترجع إلى عوامل أخرى مثل تغير طريق القوافل، وتغير اتجاهات السفن البحرية، وإلى الفتن والحروب وغارات القبائل المتوالية التي هي من شر الأوبئة التي فتكت بالمجتمع العربي، فسبّبت هرب الحضر من أماكن إقامتهم إلا أماكن أخرى، لعدم وجود قوّات نظامية وحكومة ترد اعتداءات الأعراب عليهم، ثم الحروب الأهلية التي وقعت في اليمن بين الحبش وأهل اليمن وأمثال ذلك مما وقع بين الفرس والعرب. أما في الإسلام، فقد كان للفتوحات دخل كبير في هجرة القبائل لنشر الإسلام وللاستمتاع بخيرات بقاع جديدة في العراق وفي بلاد الشام وفي أمكنة أخرى لا يوجد لها مثيل في جزيرة العرب، فتخربت لذلك بعض القرى والسدود القديمة التي كانت في الإسلام، وهي اليوم خراب. أضف إلى ذلك الحروب والفتن التي وقعت في اليمن وفي باقي العربية الجنوبية والعروض في أيام الأمويين والعباسيين وفي الأيام التي تلتهم فنشرت في تلك الديار الخراب، ثم إهمال الأمويين ومن جاء بعدهم من خلفاء وملوك وحكّام شأن جزيرة العرب، لفقرها وعدم وجود موارد غنيّة فيها، وانتقال أصحابها أصحاب الجاه والنفوذ إلى البلاد الغنية، فلم يبقَ من يدافع عنها ويتحدث بلسانها باعتبارها مهد العرب الأول ومهد الإسلام، فتقوى الخراب بذلك على العمار، وأخذ يبتلع ما يجده أمامه من مستوطنات حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم.
والدليل على ذلك، ورود أسماء مواضع عديدة في اليمامة وفي الحجاز وفي(1/251)
نجد واليمن وفي كل أنحاء جزيرة العرب الأخرى في الموارد العربية الإسلامية، كانت مأهولة مزروعة في صدر الإسلام، خَرِبَت وهُجِرَت وصارت أثرًا، وقد ذهب عن أكثرها حتى الاسم. فلما كتب عنها الجغرافيون لم يجدوا من عمرانها شيئًا. بل نجد في كتب الجغرافيين أسماء مواضع نزلوا بها وأقاموا فيها، وكانت معمورة مسكونة. أما اليوم فلم يبقَ من أكثرها شيئًا، فهل نُرجع فعل هلاكها إلى الجفاف وتغير الجو وإلى اندثار الواحات والبحيرات والأنهار؟ إن الجغرافيين المذكورين لم يشيروا إلى وجود واحات وبحيرات وأنهار حتى نقول بفعل الجو فيها، بل هنالك عوامل أخرى عديدة اضطرت الناس إلى ترك مواطنهم تلك التي ذكرتها، وفي مقدمتها الفتن والغزو وتغير الطريق وعدم قيام حكومة قوية تحمي الأمن.
وأما موضوع الاستشهاد بالهجرات، فإنه موضوع غامض يحتاج إلى دراسة علمية عميقة، فالذين يرون أن جزيرة العرب كانت مهد الجنس السامي، وضعوا نظريتهم هذه قياسًا على روايات أهل الأخبار من أمر هجرة العرب إلى تلك الأرضين، ومن الفتح الإسلامي الذي جرف قبائل عدنانية وقحطانية فساقها إلى بلاد العراق وبلاد الشام وإلى ما وراء هذه الأرضين، ومن هجرة قبائل من جزيرة العرب إلى تلك البلاد حتى الزمن القريب، ومن أخبار عن هجرة الفينيقيين من البحرين إلى بلاد الشام. ولكننا نجد من ناحية أخرى أن التوراة تذكر أن الإسماعيليين هم سكان أرضين تقع في الأقسام الشمالية الغربية من جزيرة العرب وفي شرق فلسطين في البادية وفي طور سيناء، والأخباريون يذكرون أن العدنانيين هم من سلالة إسماعيل أي أنهم إسماعيليون، ويذكرون أنهم جاءوا من الشمال فسكنوا الحجاز، وأن جدّهم رفع قواعد البيت الحرام. ونرى أن اليهود زحفوا من فلسطين نحو الحجاز، وأن أقوامًا من سكان العراق زحفوا نحو الجنوب فسكنوها في العروض. وأن قبائل عراقية كالقبائل العبرانية هاجرت من العراق إلى بلاد الشام ثم إلى مصر ثم عادت إلى بلاد الشام، فمثل هذه الهجرات تلفت النظر وتجعل الباحث يبحث عن أمثلة أخرى من هذا القبيل، لعلّه يجد غيرها أيضا. وهي تجعله يشعر أن الهجرات لم تكن دائما في اتجاه واحد، بل كانت حركة دائمة تتجه مختلف الاتجاهات، لعوامل سياسية واقتصادية وحربية ساحتها من شمال بلدية الشام إلى سواحل البحر العربي في الجنوب، ومن سواحل البحر(1/252)
الأحمر إلى سواحل الخليج العربي، فهي ليست هجرات بالمعنى الذي نفهمه من الهجرات في لغة علماء الساميات، ذات أزمان معينة لها أمد محدود كألف عام أو أكثر من ذلك أو أقل، وبمقياس ضخم كبير، بل هي حركة دائمة لقبائل أو لجماعات تنتقل من مكان إلى مكان طلبا للمعاش أو لأحوال سياسية وحربية، فهي هجرة بهذا المعنى إذن ليس غير. فهذه الأرضون التي تشمل كل جزيرة العرب والعراق إلى حدود الجبال وكل البادية الواسعة حتى سواحل البحر الأبيض فطور سيناء إلى نهر النيل، هي مواطن الساميين، ومسارحهم التي كانوا وما زالوا يَدْرُجُون عليها. وقد درجت عليها أقوام أخرى أيضا ليست بأقوام سامية، قبل الميلاد وبعده، بل حتى في زمن الإسلام، ولكنها غلبت على أمرها، وصهرت في بوتقة الساميين، أمثال الفرس واليونان والرومان والصليبيين. فقد بقي من هؤلاء خلقٌ اندمجوا بهم وتخلقوا بأخلاقهم وتكلموا بألسنتهم بمرّ السنين، حتى صاروا مثلهم ومنهم، وبذلك امتزجت دماء الساميين بدماء غريبة عنهم. فدمهم من هنا ليس بدم صافٍ نقي، وليس في الأجناس البشرية جنس يستطيع أن يفخر فخرًا مطلقًا بكونه الجنس النقي الخالص الذي لم يختلط قط بأي دم غريب.
أضف إلى ما تقدم أن العلماء القائلين بتبدل الجو وبتغيّره، هم على خلاف بينهم في الأزمنة وفي الأسباب. فمنهم من بالغ، ومنهم من أفرط حتى قال إن الجو في جزيرة العرب كان يختلف في أيام اليونان والرومان عنه في الأيام الحديثة1. ومنهم من قال إن الجو لم يتبدّل تبدّلًا محسوسًا مؤثّرًا فيها منذ حوالي ألفي عام، ومنهم من عَزَا أسباب انخفاض مستوى الماء الأرضي في جزيرة العرب إلى عوامل ليست لها صلة بتبدل الجو، وعَزَا خراب القرى والمدن واندثار السّدود إلى عوامل أخرى لا علاقة لها بتبدل الجو2، ومع كل ذلك، فإن هذه الدراسات لم تنضج بعدُ، ودراسة أرض جزيرة العرب وجوّها لم تتم بصورة علمية مختبرية بعدُ، وأكثر ما ذكرته هو ملاحظات مؤرخين أو باحثين علميين، على نحو من الحدث والتخمين، ولا يمكن بناء نظريات معقولة مقبولة على مثل هذا الآراء.
__________
1 Discoveries, P. 82, E. Huntington, Palestine and its Transformation, Cambridge, 1911.
2 Discveries, P. 84.(1/253)
إن هذه الملاحظات تدفعني إلى التريّث في البتّ في وطن الجنس السامي، حتى تتهيّأ دراسات أخرى علمية دقيقة عنه، لأن الأخذ بالقياس، وبمجرد الملاحظات والمشاهدات، لا يمكن أن يكون دليلًا علميًا مقنعًا في تثبيت الوطن الأول الذي ظهر فيه هذا النسل الذي نسميه بالنسل السامي. وإن كنت أجد أن جزيرة العرب قد أمدّت الأقسام العليا منها، وهي بلاد العراق والبادية وبلاد الشام يفيض من الناس، بصورة دائمة مستمرة، وذلك لأسباب عديدة عسكرية واقتصادية، وأنها لم تأخذ من تلك الأرضين مثل هذا الفيض.
إن نظرية موطن الجنس السامي، هي في نظري جزء من مسألة كبرى معقدة، هي مسألة موطن الجنس البشري بكامله، هل هو موطن واحد في الأصل، أو جملة مواطن، وإذا كان ذلك الموطن موطنًا واحدًا، فأين كان؟ وكيف ظهرت هذه الأجناس البشرية بألونها المتعددة وبسِحَنها المختلفة؟ إن هذه بحوث، على البشرية أن تضني نفسها في البحث عنها! وكل بحوثنا الآن حدس وتخمين، حتى يترقّى العلم البشري إلى درجات فدرجات.(1/254)
اللغة السامية الأم:
تدفعنا هذه النظريات التي قالها العلماء عن السامية وعن القرابة اللغوية التي نراها في مجموعة اللغات السامية، وعن اشتراكها في كثير من أسس النحو والصرف، إلى التفكير في أن جميع هذه اللغات تفرّعت من لغة واحدة هي أم اللغات السامية، "URSEMITICSCH"، كما يعبر عنها بالألمانية. ويدفعنا ذلك إلى البحث عن أقدم النصوص المدونة في اللغات السامية، وعن الخصائص الأساسية المشتركة بين كل هذه اللغات، للوقوف على اللغة السامية الأولى التي انقرضت، وبقيت آثارها في هذه الجذور التي غذت اللغات السامية القديمة منها والحديثة بالخصائص السامية، وعن أقرب الفروع التي انفصلت من الأم.
لقد بحث المستشرقون في هذا الموضوع ولا يزالون يبحثون فيه؛ فمنهم من وجد أن العبرانية أقدم اللغات السامية، وأقربها عهدًا بالأم، ومنهم من رأى أن العربية على حداثة عهدها جديرة بالدراسة والعناية، لأنها تحمل جرثومة السامية، ومنهم من رأى القِدَم للآشورية أو البابلية، وهناك من رأى غير(1/254)
ذلك1. وبالجملة، لم يدّعِ أحد من العلماء أنه توصل إلى تشخيص لغة "سام"، وتمكن من معرفة اللغة التي تحدث بها مع أبيه "نوح" أو مع أبنائه الذين نسلوا هذه السلالات السامية.
وكان من جملة العوامل التي ألهبت نار الحماسة في نفوس علماء التوراة والساميات للبحث عن اللغة السامية الأولى أو أقرب لغة سامية إليها، القصص الوارد في التوراة عن سام وعن لغات البشر، وبابل ولغاتها والطوفان وما شاكل ذلك، ثم وجد المستشرقون المعاصرون أن البحث في هذا الموضوع ضربٌ من العبث، لأن هذه اللغات السامية الباقية حتى الآن هي محصول سلسلة من التطورات والتقلّبات لا تُحْصَى، مرّت بها حتى وصلت إلي مرحلتها الحاضرة، كما أنها حاصل لغات ولهجات منقرضة. واللغة السامية القديمة لم تكن إلا لغة محكية زالت من الوجود، دون أن تترك أثرًا. ومن الجائر أن يهتدي العلماء في المستقبل إلى لغات أخرى، كانت عقدًا بين اللغات السامية القديمة التي لا نعرف من أمرها شيئًا وبين اللغات السامية المعروفة. والأفضل أن ننصرف الآن إلى دراسة اللغات السامية والموازنة بينها؛ لنستخلص المشتركات والأصول. ومتى تتكون هذه الثروة اللغوية، يسهل البحث في اللغة السامية الأم، كما تستحسن الموازنة بين هذه اللغات واللغات التي ظهرت في القارة الإفريقية، مثل المصرية القديمة والبربرية والهررية وبقية اللهجات الحبشية، لتكوين فكرة علمية عن الصلات التي تربط بين الحاميين والساميين وكانت من جملة العوامل التي دفعت بعض العلماء إلى القول بأن أصل الجنسين واحد، كان يقيم في قارة إفريقية.
وبالجملة إن هناك جماعة من المستشرقين ترى أن اللغة العربية على حداثة عهدها بالنسبة إلى اللغات السامية الأخرى، هي أنسب اللغات السامية الباقية للدراسة وأكثرها ملاءمة للبحث، لأنها لغة لم تختلط كثيرا باللغات الأخرى، ولم تتصل باللغات الأعجمية قبل الإسلام، فبقيت في مواطنها المعزولة صافية، أو أصفى من غيرها في أقل الأحوال، ثم إنها حافظت على خواص السامية القديمة مثل المحافظة على الإعراب على حين فقدت هذه الخاصة المهمة أكثر تلك اللغات،
__________
1 Carl Brocklemann, Vergleichende Grammatik Der semitischen spachen Berlin, 1908 Zimmern, Vergleichende Grammatik der Semitischen sprachen, 1898.(1/255)
ولهذه الأسباب وغيرها رَأَوا أن دراستها تفيد كثيرًا في الوقوف على خصائص السامية القديمة ومزاياها1.
وقد شغل علماء العرب أنفسهم بموضوع اللغة السامية أو لغة سام بن نوح بتعبير أصحّ، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، ذهبوا إلى البحث في لغة آدام أبي البشر وفي لغة أهل الجنة. وقد سبق لليهود والنصارى أن بحثوا في هذا الموضوع أيضًا، في موضوع لغة آدام أي لغة البشر الأولى، التي تفرّعت منها كل لغات البشر حتى اليوم. وقد ذهب بعض علماء العربية إلى أن العربية هي اللسان الأول، هي لسان آدم؛ إلا أنها حُرّفت ومُسِخَت بتطاول الزمن عليها، فظهرت منها السريانية، ثم سائر اللغات. قالوا: "كان اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة عربيًّا، إلى أن بَعُد العهد وطال، فحُرِّف وصار سريانيًّا. وهو يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف"2. وقد أدركوا ما أدركه غيرهم من وجود قرابة وصلة بين العربية وبين السريانية، فقال المسعودي: "وإنما تختلف لغات هذه الشعوب "أي شعوب جزيرة العرب" من السريانيين اختلافًًا يسيرًا"3.
وقد أخذ علماء العربية نظريتهم هذه من أهل الكتاب. ولما كانت السريانية هي لغة الثقافة والمثقفين، ولغة يهود العراق وأكثر أهل الكتاب في جزيرة العرب في ذلك العهد؛ فلا يستغرب إذن قول من قال إن السريانية هي أصل اللغات وأنها لسان آدام ولسان سام بن نوح.
__________
1 Nicholson, A Literary History of th Arabs, P. XV.
2 المزهر "1/ 20"
3 التنبيه "ص68".(1/256)
العقلية السامية:
وتحدث المشتغلون بالتأريخ الثقافي و "علم الأجناس" عن عقلية خاصة بالشعوب السامية، دعوها "العقلية السامية"، كما تحدثوا عن عقلية "آرية" وعن عقليات أخرى، وحاولوا وضع حدود لأوصاف العقلية السامية، ورسم صورة خاصة بها تميّزها عن صور العقليات البشرية الأخرى.(1/256)
وقد شاعت هذه النظرية نظرية خصائص العقلية السامية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ووجدوا لها رواجًا كبيرًا، لظهور بعض الآراء والمذاهب التي مجّدت العقلية الأوروبية، وسبّحت بحمدها، وقالت بتفوق العقل الغربي الخلّاق المبدع على العقل الشرقي الساذج البسيط! ورمز العقل الشرقي هو العقل السامي، فهو لذلك عقل ساذج بسيط. ومن أشهر مروّجي هذه النظرية الفيلسوف الفرنسي "رينان" "ernest renan" "1823- 1892"، و "كراف كوبينو" "graf arthur gobineau" "1816- 1882م"، وهو من القائلين بتمايز العنصريات البشرية وبتفوق بعضها على بعض وبسيادة العقلية الآرية على سائر العقليات1، و "هوستن ستيورات شامبرلنhousten stewart chamberlain" "1855- 1927م" صاحب كتاب "أسس القرن التاسع عشر"2.
ومن هذه الموارد أَخَذت "النازية" نظريتها في تفوق العرق الآري على سائر أعراق البشر، وتفوق الجنس "الجرماني" خاصة من العراق الآري على سائر الأجناس والأعراق البشرية. ومن هنا وضع "هتلر" "قوانين نورنبرك" لحماية الدم الآري من الاختلاط بالدماء الأخرى، ولصيانته ولبقائه دمًا نقيًّا صافيًا. ولترسيخ هذه النظرية في نفوس الناس ولترويجها بين الألمان والأوروبيين، شجع البحث في موضوع "الأجناس البشرية"، وحشد عددًا كبيرًا من الأساتذة لإجراء بحوث ودراسات فيه، وأوحى إلى أساتذة التأريخ كتابة التأريخ بطريقة تظهر دائما أن الحضارة البشرية هي حاصل عمل الشعوب الآرية وحدها، وناتج من نتاجها، بتلك الشعوب بدأت وبها تستمر. وقرر أن ما يقال عن حضارات الشرق الأدنى القديمة هو لغو وهراء؛ ولهذا أوجب كتابة تأريخ هذه الشعوب على نحو جديد، وعلى أساس هذه الفلسفة.
وبحوث مثل هذه تقوم في ظروف كهذه أو في ظروف مشابهة لها، لا يمكن أن تكون إلا دراسات فجّة مغرضة، مبعثها عاطفة وقصد مبيت، لذلك لا يمكن الاطمئنان إليها ولا الاعتماد عليها. والبحث في خصائص جنس من
__________
1 Essai sur L'InGgaUt6 des Races Humaines.
2 Housten Stewart Chamberlain, Die Grundlagen dea neunzehnten Jahrhunderts, in2 Vols.(1/257)
الأجناس وفي مميزاته وسماته الظاهرة والباطنة، يقتضي تقصّي ملامح الجنس في الحاضر والماضي، وذلك بدراسة ملامح الباقين وبفحص أجسامهم وخصائصهم بطرق علمية حديثة، وبدراسة عظام الماضين وما تخلّف من أجسامهم في باطن الأرض بالأساليب العلمية الحديثة أيضًا، ليكون بحثنا شاملًا للماضي والحاضر، ومثل هذه البحوث لم تجرِ حتى الآن لا على العرب، ولا على غير العرب من هذه الشعوب التي نسميها "الشعوب السامية".
ثم إن البحوث العلمية على قلتها وضآلتها تدل على وجود فروق بارزة بين الساميين في الملامح الجسمية، في مثل شكل الجمجمة والأنف. ووجود مثل هذه الفروق، لا يمكن أن يكون علاقة على وجود "جنس" بالمعنى العلمي المفهوم من "الجنس" يضم شمل الساميين. وعلى وجود عقلية خاصة بالساميين ذات حدود ورسوم تختلف عن عقليات الأجناس البشرية الأخرى.
والصفة العامة التي يراها علماء الساميات في الساميين، أن الساميين يحبون الحركة والتنقل والهجرة من مكان إلى مكان على طريقة الأعراب، وأنهم ميّالون إلى الغزو والأخذ بالثأر، وعاطفيون تتحكم العواطف في حياتهم، ويغضبون لتافه الأمور ويرضون بسرعة، يحبون فيسرفون في حبّهم، ويظهرون الوَجْد فيه، ويبغضون فيبالغون في بغضهم حتى ليصلوا إلى حدّ القساوة والعنف لأسباب تافهة لا تستوجب كراهيةً ولا بغضًا، فرديون في طِبَاعهم، تتغلب عليهم الفردية، لذلك تراهم في الأصل قبائل، إذا اتحدت وكوّنت حكومة قوية كبيرة، لا تلبث أن تتعرض للانفصال والتفتت، الحياة عندهم على وتيرة واحد. موسيقاهم وشعورهم العام بما في ذلك الشعر والغناء وكل وسائل التعبير عنه، حزن ونغم معدود مكرر1. قضاؤهم قضاء قبلي، يقوم على القصاص بالمثل، على أساس السن بالسن والعين بالعين والقتل بالقتل، ونظام الحكم عندهم نظام، أُسُسُه الفكرة القبلية، وديانتهم متشابهة، تتجلى عندهم الغريزة الدينية واتّقاد المَخِيلَة وقوة الشعور الفردي والقسوة2. وتتغلب عليهم السطحية في التكفير، فلا يميلون إلى التعمق في درس الأشياء للوصل إلى كنهها وجوهرها، كما فعل اليونان.
__________
1 Hastings, Extra Volume, P., 85.
2 Hastings, A Dictionary of the Bible dealing with its Language Literature and Contents,' Including the Biblical Theology, Extra Volume, 1904, P., 90.(1/258)
وليست لهم قابلية في فهم الأمور المعقدة، ولهذا صارت أحكامهم عامة شاملة ساذجة لا تعقيد فيها، لأن تفكيرهم تفكير ساذج غير معقّد. وتفكيرهم هذا هو الذي جعلهم يبشرون بالتوحيد على حين كانت الأديان الآبة –على حد قولهم- أديانًا معقدة تعتقد بوجود أكثر من إله1!!
ويرى هؤلاء العلماء أن البدوي هو خير ممثل للعقلية السامية، فقد عاش الساميون بدوًا أمدًا طويلًا، ومرّوا في حياتهم بحياة البداوة ولهذا صارت عقليتهم عقلية بداوة، تجمع بينهم صفات مشتركة نتجت من اشتراكهم في تلك الحياة2.
وقد وضع المتعصبون للنظرية العنصرية كتبًا في موضوعات متعددة، تعالج الجسم والروح عند السامين والآريين، وعنوا عناية خاصة بدارسة الحياة الروحية ومظاهرها عند الجنسين، فبحثوا في الناحية القانونية والتشريعات المختلفة عند الساميين والآريين، وقارنوا بين التشريع عند الجماعتين3. كذلك عالجوا مختلف النواحي الأخرى من الحياة، حتى إن بعضهم ألف كتابًا في موضع حُرْمَة أكل لحم الخنزير عند الساميين. مع أنه من اللحوم الشهيّة عند الآريين، وعدّ ذلك من مميزات الجنس4.
وهناك جماعة من العلماء، رَدّت على هذه النظرية التي تحدد العقليات، وترسم لها حدودًا وتضع لا معالم، رأت أن ما يذهب إليه أصحابها من وجود عقليات صافية خالصة للأجناس البشرية المذكورة، يستوجب وجود أجناس بشرية صافية خالصة ذات دماء نقية، لم تمتزج بها دماء غريبة، ويقتضي ذلك افتراضنا اعتزال الأجناس بعضها عن بعض عزلة تامة، وهو افتراض محال، لأن البشرية لم تعرف العزلة منذ القِدم، ولم تَبْنِ حولها أسوارًا مرتفعة لتحول بينها وبين الاختلاط ببقية الأجناس، والشواهد التأريخية والبحوث العلمية المختبرية تشير إلى العكس، تشير إلى الاختلاط والامتزاج، كما ذكرنا آنفًا، فما يقال عن اختلاف العقليات، هو حديث أَوْحَته العواطف والنزوات. أما ما نشاهده من اختلاف في أساليب
__________
1 Ancient Iraq, by Georges Roux, London, 1964, P., 126, A. Guillaume, Prophecy and pivlnation among the Hebrews and other Semites, London, 1938.
2 Hastings, P., 85, ff. (Extra Volume) .
3 Gerd. Ruehle, Rasse und Sozialismua im Recht, Berlin, 1935.
4 R. Walter Darr6, Das Scliwein ala Kriterium fuer Nordische Voelker und Semlten, Muenchen, 1933.(1/259)
الفكر وفي فهم الأمور، فليس مرجعه ومردّه إلى الدم، بل إلى البيئات الطبيعية والاجتماعية والثقافية، فهي التي أثرت وكوّنت هذه الفروق. وعلى الباحث دراسة كل ما يؤثر على الإنسان من محيط ومن مؤثرات طبيعية مثل الضغوط الجوية والحرارة والبرودة والرطوبة، ومن تركيب الأجسام وأشكالها. وألوان الشعر والبشرة والعين وبنية الجسم بصورة عامة، ومن أنواع الأغذية التي يتناولها والمحيطات الثقافية التي يعيش فيها إلى غير ذلك من مؤثرات يدرسها علماء الأجناس اليوم، وذلك لإصدار أحكام معقولة عن أجناس البشر.(1/260)
الفصل السابع: طبيعة العقلية العربية
لكل أمة عقلية خاصة بها، تظهر في تعامل أفرادها بعضهم مع بعض وفي تعامل تلك الأمة مع الأمم الأخرى، كما أن لكل أمة نفسية تميزها عن نفسيات الأمم الأخرى، وشخصية تمثل تلك الأمة، وملامح تكون غالبة على أكثر أفرادها، تجعلها سمة لتلك الأمة تميزها عن سمات الأمم الأخرى1.
والعرب مثل غيرهم من الناس لهم ملامح امتازوا بها عن غيرهم، وعقلية خاصة بهم. ولهم شمائل عُرفوا واشتهروا بين أمم العالم، ونحن هنا نحاول التعرف على عقلية العربي وعلى ملامحه قبل الإسلام، أي قبل اندماجه واختلاطه اختلاطًا شديدًا بالأمم الأخرى، وهو ما وقع وحدث في الإسلام.
وقد بحث بعض العلماء والكتّاب المحدثين في العقلية العربية، فتكلموا عليها بصورة عامة، بدوية وحضرية، جاهلية وإسلامية. فجاء تعميمهم هذا مغلوطًا وجاءت أحكامهم في الغالب خاطئة. وقد كان عليهم التمييز بين العرب الجاهليين والعرب الإسلاميين، وبين الأعراب والعرب، والتفريق بين سكان البواطن أي بواطن البوادي وسكان الأرياف وسكان أسياف بلاد الحضارة. ثم كان عليهم البحث عن العوامل والأسباب التي جبلت العرب من النوعين: أهل الوبر وأهل الحضر، تلك الجبلة، من عوامل إقليمية وعوامل طبيعية أثرت فيهم، فطبعتهم بطابع خاص، ميّزهم عن غيرهم من الناس.
__________
1 فجر الإسلام، أحمد أمين 1928 "1/ 35"(1/261)
بل إن الحديث عن العقلية العربية، حديث قديم؛ ففي التوراة شيء عن صفاتهم وأوصافهم، كوّن من علاقات الإسرائيلين بهم، ومن تعاملهم واختلاطهم بالعرب النازلين في فلسطين وطور سيناء أو في البوادي المتصلة بفلسطين. ومن أوصافهم فيها: أنهم متنابذون يغزون بعضهم بعضًا، مقاتلون يقاتلون غيرهم كما يقاتلون بعضهم بعضًا "يده على الكل، ويد الكل عليه"1. يُغِيرُون على القوافل فيسلبونها ويأخذون أصحابها أسرى، يبيعونهم في أسواق النِّخاسَة، أو يسترقّونهم فيتخذونهم خدمًا ورقيقًا يقومون بما يُؤْمَرون به من أعمال، إلى غير ذلك من نعوت وصفات.
والعرب في التوراة، هم الأعراب، أي سكان البوادي، لذلك فإن النعوت الواردة فيها عنهم، هي نعوت لعرب البادية، أي للأعراب، ولم تكن صِلاتهم حسنة بالعبرانيين.
وفي كتب اليونان والرومان والأناجيل، نعوت أيضا نُعِت بها العرب وأوصاف وُصِفوا بها، ولكننا إذا درسنا وقرأنا المواضع التي وردت فيها، نرى أنها مثل التوراة، قصدت بها الأعراب، وقد كانوا يغيرون على حدود إمبراطوريتيّ الرومان واليونان، ويسلبون القوافل، ويأخذون الإتاوات من التجار والمسافرين وأصحاب القوافل للسماح لهم بالمرور.
وقد وصف "ديودورس الصقلي" العرب بأنهم يعشقون الحرية، فيلتحفون السماء. وقد اختاروا الإقامة في أرضين لا أنهار فيها ولا عيون ماء، فلا يستطيع العدو المغامر الذي يريد الإيقاع بهم أن يجد له فيها مأوى. إنهم لا يزرعون حبًّا، ولا يغرسون شجرًا، ولا يشربون خمرًا، ولا يبنون بيوتًا. ومن يخالف العرف يقتل. وهم يعتقدون بالإرادة الحرة، وبالحرية2. وهو يشارك في ذلك رأي "هيرودوتس" الذي أشاد بحب العرب للحرية، وحفاظهم عليها ومقاومتهم لأية قوة تحاول استرقاقهم واستذلالهم3؛ فالحرية عند العرب هي من أهم الصفات التي يتصف بها العرب في نظر الكَتَبَة اليونان واللاتين.
وفي كتب الأدب وصف مناظرة، قيل إنها وقعت بين "النعمان بن المنذر"
__________
1 التكوين، الإصحاح السادس عشر، الآية 12.
2 Diodorus, 19, 94, 95, Die Araber in der Alten Welt, I, s. 31.
3 Herodotus, vol, I, p. 254.(1/262)
ملك الحيرة وبين "كسرى" ملك الفرس في شأن العرب: صفاتهم وأخلاقهم وعقولهم، ثم وصف مناظرة أخرى جرت بين "كسرى" هذا وبين وفد أرسله "النعمان" لمناظرته ومحاجّته فيما جرى الحديث عليه سابقًا بين الملكين1. وفي هذه الكتب أيضا رأى "الشعوبيين" في العرب، وحججهم في تصغير شأن العرب وازدرائهم لهم، ورد الكتّاب عليهم2. وهي حجج لا تزال تقرن بالعرب في بعض الكتب.
ومجمل ما نسب إلى "كسرى" من مآخذ زُعم أنه أخذها على العرب، هو أنه نظر فوجد أن لكل أمة من الأمم ميزة وصفة؛ فوجد للروم حظا في اجتماع الألفة وعظم السلطان وكثرة المدائن ووثيق البنيان، وأن لهم دينًا يبين حلالهم وحرامهم ويرد سفيههم ويقيم جاهلهم، ورأى للهند، نحوًا من ذلك في حكمتها وطبّها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعاتها ودقيق حسابها وكثرة عددها. ووجد للصين كثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصناعة الحديد، وأن لها ملكًا يجمعها، وأن للترك والخزر، على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم. ولم يرَ للعرب دينًا ولا حزمًا ولا قوةً. همتهم ضعيفة بدليل سكنهم في بوادي قفراء، ورضائهم بالعيش البسيط، والقوت الشحيح، يقتلون أولادهم من الفاقة ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة. أفضل طعامهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها. "وإن قَرَى أحدهم ضيفًا عدّها مكرمة. وإن أطعم أكلة عدّها غنيمة تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم"3. ثم إنهم مع قلتهم وفاقتهم وبؤس حالهم، يفتخرون بأنفسهم، ويتطاولون على غيرهم وينزلون أنفسهم فوق مراتب الناس4. "حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين"، وأبوا الانقياد لرجل واحد منهم يسُوسُهم ويجمعهم.
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 147 ما بعدها".
2 البيان والتبيين "3/ 15 فما بعدها"، العقد الفريد "2/ 86"، فجر الإسلام "1/ 35" بلوغ الأرب "1/ 158 فما بعدها".
3 بلوغ الأرب "1/ 147" وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "1/ 148".(1/263)
إذا عاهدوا فغير وافين1. سلاحهم كلامهم، به يتفنَّنون، وبكلامهم يتلاعبون. ليس لهم ميل إلى صنعة أو علم ولا فن، لا صبر لهم، إذا حاربوا ووجدوا قوة أمامهم، حاولوا جهدهم التغلب عليها، أما إذا وجدوها قوة منظمة هربوا مشتتين متبعثرين شراذم، يخضعون لحكم الغريب ويهابونه ويأخذون برأية فيهم، ما دام قويًّا، ويقبلون بمن ينصبه عليهم، ولا يقبلون بحكم واحد منهم، إذا أراد أن يفرض سلطانه عليهم2.
وقد ذُكر أن أحد ملوك الهند كتب كتابًا إلى "عمر بن عبد العزيز"، جاء فيه "لم تزل الأمم كلها من الأعاجم في كلّ شق من الأرض لها ملوك تجمعها ومدائن تضمّها وأحكام تدين بها وفلسفة تنتجها وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات، مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة، ولعب الشطرنج وهي أشرف لعبة، ورمّانة القبّان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل، ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون والاصطرلاب الذي يعدل به النجوم ويدرك به الأبعاد ودوران الأفلاك وعلم الكسوف وغير ذلك من الآثار المتقنة، ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها، ويقمع ظلمها وينهي سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة ولا أثر في فلسفة إلا كان من الشعر. وقد شاركتها فيه العجم، وذلك أن للروم أشعارًا عجيبة قائمة الوزن والعروض فما الذي تفتخر به العرب على العجم فإنما هي كالذئاب العادية، والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضًا ويغير بعضها على بعض. فرجالها موثقون في حَلَق الأسر، ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل، فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي، وقد وطئن كما توطأ الطريق المهيع3". إلى آخر ذلك من كلام.
وقد تعرض "السيد محمود شكري الألوسي" في كتابه "بلوغ الأرب"، لهذا الموضوع، فجاء بما اقتبسته منه، ثم جاء برأي "ابن قتيبة" على الشعوبية، في كتابه: "كتاب تفضيل العرب"، ثم أنهاه ببيان رأيه في هذه الآراء وفي رد "ابن قتيبة" عليها4.
__________
1 بلوغ الأرب "1/ 156".
2 راجع أصل المناظرة وحجج الشعوبين في تفضيل الأعاجم على العرب، ورد العرب عليهم، بلوغ الأرب "1/ 147 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "1/ 165 وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "1/ 147 فما بعدها".(1/264)
ولابن خلدون رأي معروف في العرب، خلاصته "أن العربي متوحش نهّاب سلّاب إذا أخضع مملكة أسرع إليه الخراب، يصعب انقياده لرئيس، لا يجيد صناعة ولا يحسن علمًا ولا عنده استعداد للإجادة فيهما، سليم الطباع، مستعد للخير شجاع"1. وتجد آراءه هذه مدوّنة في مقدمته الشهيرة لكتابه العام في التأريخ.
وقد رمى بعض المستشرقين العرب بالمادية وبصفات أخرى، فقال "أوليري": "إن العربي الذي يعد مثلا أو نموذجًا ماديًا، ينظر إلى الأشياء نظرة مادية وضيعة، ولا يقوّمها إلا بحسب ما تنتج من نفع، يتملك الطمع مشاعره، وليس لديه مجال للخيال ولا للعواطف، لا يميل كثيرًا إلى دين، ولا يكترث بشيء إلا بقدر ما ينتجه من فائدة عملية، يملؤه الشعور بكرامته الشخصية حتى ليثور على كل شكل من أشكال السلطة، وحتى ليتوقع منه سيد قبيلته وقائده في الحروب الحسد والبغض والخيانة من أول يوم اختير للسيادة عليه ولو كان صديقا حميما له من قبل، من أحسن إليه كان موضع نقمته، لأن الإحسان يثير فيه شعورا بالخضوع وضعف المنزلة وأن عليه واجبًا لمن أحسن. يقول لامانس "إن العربي نموذج الديمقراطية"، ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها إلى حد بعيد، وإن ثورته على كل سلطة تحاول أن تحدد من حريته ولو كانت في مصلحته هي السر الذي يفسر لنا سلسلة الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تأريخ العرب، وجهل هذا السر هو الذي قاد الأوروبيين في أيامنا هذه إلى كثير من الأخطاء، وحملهم كثيرا من الضحايا كان يمكنهم الاستغناء عنها، وصعوبة قيادة العرب وعدم خضوعهم للسلطة هي التي تحول بينهم وبين سيرهم في سبيل الحضارة الغربية، ويبلغ حب العربي لحريته مبلغًا كبيرًا، حتى إذا حاولت أن تحدها أو تنقص من أطرافها هاج كأنه وحش في قفص، وثار ثورة جنونية لتحطيم أغلاله والعودة إلى حريته. ولكن العربي من ناحية أخرى مخلص، مطيع لتقاليد قبيلته، كريم يؤدي واجبات الضيافة والمحالفة في الحروب كما يؤدي واجبات الصداقة مخلصًا في أدائها بحسب ما رسمه العرف.. وعلى العموم، فالذي
__________
1 هذا تلخيص المرحوم أحمد أمين لرأي ابن خلدون، تجده في كتابه: فجر الإسلام "1/ 41".(1/265)
يظهر لي أن هذه الصفات والخصائص أقرب أن تعد صفات وخصائص لهذا الطور من النشوء الاجتماعي عامة من أن تعد صفات خاصة لشعب معين، حتى إذا قر العرب وعاشوا عيشة زراعية مثلا، تعدلت هذه العقلية"1. ويوافق المستشرق "براون أوليري" في رمي العرب بالمادية المفرطة2. ورماهم "أوليري" أيضًا بضعف الخيال وجمود العواطف3.
أما "دوزي" فقد رأى بين العرب اختلافًا في العقلية وفي النفسية، وأن القحطانيين يختلفون في النفسية عن نفسية العدنانيين4.
وقد تعرض "أحمد أمين" في الجزء الأول من "فجر الإسلام" للعقلية العربية، وأورد رأي الشعوبيين في العرب، ثم رأي "ابن خلدون" فيهم، وتكلم على وصف المستشرق "أوليري" لتلك العقلية، ثم ناقش تلك الآراء، وأبان رأيه فيها وذلك في الفصل الثالث من هذا الجزء، وتحدث في الفصل الرابع عن "الحياة العقلية للعرب في الجاهلية". وخصص الفصل الخامس بـ "مظاهر الحياة العقلية"، وتتجلى عنده في: اللغة والشعر والمثل والقصص.
أوجز "أحمد أمين" في بداية الفصل الثالث آراء المذكورين في العرب، وبعد أن انتهى من عرضها وتلخيصها ناقشها بقوله: "لسنا نعتقد تقديس العرب، ولا نعبأ بمثل هذا النوع من القول الذي يمجدهم ويصفهم بكل كمال، وينزههم عن كل نقص، لأن هذا النمط من القول ليس نمط البحث العلمي، إنما نعتقد أن العرب شعب ككل الشعوب، له ميزاته وفيه عيوبه، وهو خاضع لكل نقد علمي في عقليته ونفسيته وآدابه وتأريخه ككل أمة أخرى، فالقول الذي يمثله الرأي الخاص لا يستحق مناقشة ولا جدلًا، كذلك يخطّئ الشعوبية أصحاب القول الأول الذين كانوا يتطلبون من العرب فلسفة كفلسفة اليونان، وقانونًا كقانون الرومان، أو أن يمهروا في الصناعات كصناعة الديباج، أو في المخترعات كالاصطرلاب، فإنه إن كان يقارن هذه الأمم بالعرب في جاهليتها كانت مقارنة خطأ، لأن المقارنة إنما تصح بين أمم في طور واحد من الحضارة، لا بين أمة
__________
1 اقتباسًا من فجر الإسلام "1/ 39 فما بعدها".
2 فجر الإسلام "1/ 41".
3 فجر الإسلام "1/ 43".
4 Dozy, Gesch. d. Mauren in Spanien, Vol., I, S., 73. Muh. Stud., I, S. 89. Nallino. Raccolta, Vol., 3, P., 73.(1/266)
متبدّية وأخرى متحضرة، ومثل هذه المقارنة كمقارنة بين عقل في طفولته وعقل في كهولته، وكل أمة من هذه الأمم كالفرس والروم مرت بدور بداوة لم يكن لها فيه فلسفة ولا مخترعات. أما إن كان يقارن العرب بعد حضارتها، فقد كان لها قانون وكان لها علم وإن كان قليلًا.."1 ثم استمر يناقش تلك الآراء إلى أن قال: فلنقتصر الآن على وصف العربي الجاهلي2، فوصفه بهذا الوصف:
"العربي عصبي المزاج، سريع الغضب، يهيج للشيء التافه، ثم لا يقف في هياجه عند حد، وهو أشد هياجًا إذا جرحت كرامته، أو انتهكت حرمة قبيلته. وإذا اهتاج، أسرع إلى السف، واحتكم إليه، حتى أفنتهم الحروب، وحتى صارت الحرب نظامهم المألوف وحياتهم اليومية المعتادة.
"والمزاج العصبي يستتبع عادة ذكاء، وفي الحق أن العربي ذكي، يظهر ذكاؤه في لغته، فكثيرًا ما يعتمد على اللمحة الدالة والإشارة البعيدة، كما يظهر في حضور بديهته، فما هو إلا أن يُفجأ بالأمر فيفجؤك بحسن الجواب، ولكن ليس ذكاؤه من النوع الخالق المبتكر، فهو يقلب المعنى الواحد على أشكال متعددة، فيبهرك تفننه في القول أكثر مما يبهرك ابتكاره للمعنى، وإن شئت فقل إن لسانه أمهر من عقله.
"خياله محدود وغير متنوع، فقلما يرسم له خياله عيشة خيرًا من عيشته، وحياة خيرًا من حياته يسعى وراءها، لذلك لم يعرف "المثل الأعلى"، لأنه وليد الخيال، ولم يضع له في لغته لفظة واحدة دالة عليه، ولم يشرْ إليه فيما نعرف من قوله، وقلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يستقي منه معنى جديدًا، ولكنه في دائرته الضيقة استطاع أن يذهب كل مذهب.
"أما ناحيتهم الخلقية، فميل إلى حرية قلّ أن يحدّها حدّ، ولكن الذي فهموه من الحرية هي الحرية الشخصية لا الاجتماعية، فهم لا يدينون بالطاعة لرئيس ولا حاكم، تأريخهم في الجاهلية -حتى وفي الإسلام- سلسلة حروب داخلية، وعهد عمر بن الخطاب كان عصرهم الذهبي، لأنه شغلهم عن حروبهم الداخلية بحروب خارجية، ولأنه، رضي الله عنه، مُنح فهمًا عميقًا ممتازًا لنفسية العرب.
__________
1 فجر الإسلام "1/ 40 فما بعدها".
2 فجر الإسلام "1/ 34".(1/267)
"والعربي يحب المساواة، ولكنها مساواة في حدود القبيلة، وهو مع حبه للمساواة كبير الاعتداد بقبيلته ثم بجنسه، يشعر في أعماق نفسه بأنه من دم ممتاز، لم يؤمن بعظمة الفرس والروم مع ما له ولهم من جدب وخصب وفقر وغنى وبداوة وحضارة، حتى إذا فتح بلادهم نظر إليهم نظرة السيد إلى المسود"1.
ثم خلص إلى أن العرب في جاهليتهم كان أكثرهم بدوًا، وإن طور البداوة طور اجتماعي طبيعي تمر به الأمم في أثناء سيرها إلى الحضارة، وأن لهذا الطور مظاهر عقلية طبيعية، تتجلى في ضعف التعليل، وعنى بذلك عدم القدرة على فهم الارتباط بين العلة والمعلول والسبب والمسبب فهما تاما، "يمرض أحدهم ويألم من مرضه، فيصفون له علاجًا، فيفهم نوعًا من الارتباط بين الدواء والداء، ولكن لا يفهمه فهم العقل الدقيق الذي يتفلسف، يفهم أن عادة القبيلة أن تتناول هذا الدواء عند هذا الداء، وهذا كل شيء في نظره، لهذا لا يرى عقله بأسا من أن يعتقد أن دم الرئيس يشفي من الكَلَب، أو أن سبب المرض روح شرير حلّ فيه فيداويه بما يطرد هذه الأرواح، أو أنه إذا خيف على الرجل الجنون نجسوه بتعليق الأقذار وعظام الموتى إلى كثير من أمثال ذلك، ولا يستنكر شيئا من ذلك ما دامت القبيلة تفعله، لأن منشأ الاستنكار دقة النظر والقدرة على بحث المرض وأسبابه وعوارضه، وما يزيل هذه العوارض، وهذه درجة لا يصل إليها العقل في طوره الأول"2.
ثم أورد أمثلة للاستدلال بها على ضعف التعليل، مثل قولهم بخراب سدّ مأرب بسب جرذان حُمْر، ومثل قصة قتل النعمان لسِنمّار بسبب آجُرّة وضعها سِنِمار في أساس قصر الخورنق، لو زالت سقط القصر.
ثم تحدث عن مظهر آخر من مظاهر العقلية العربية، لاحظه بعض المستشرقين ووافقهم هو عليه، هو: أن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك. فالعربي لم ينظر إلى العالم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني، بل كان يطوف فيما حوله، فإذا رأى منظرًا خاصًا أعجبه تحرك له، وجاس صدره بالبيت أو الأبيات من الشعر أو الحكمة أو
__________
1 فجر الإسلام "1/ 44 فما بعدها.
2 فجر الإسلام "1/ 46".(1/268)
المثل. "فأما نظرة شاملة وتحليل دقيق لأسسه وعوارضه فذلك ما لا يتفق والعقل العربي. وفوق هذا هو إذا نظر إلى الشيء الواحد لا يستغرقه بفكره، بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه؛ فهو إذا وقف أمام شجرة، لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها، وإذا كان أمام بستان، لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة، يطير من زهرة إلى زهرة، فيرتشف من كل رشفة". إلى أن قال: "هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف ما ترى في أدب العرب -حتى في العصور الإسلامية- من نقص وما ترى فيه من جمال".
وقد خلص من بحثه، إلى أن هذا النوع من النظر الذي نجده عند العربي، هو طور طبيعي تمر به الأمم جميعًا في أثناء سيرها إلى الكمال، نشأ من البيئات الطبيعية والاجتماعية التي عاش فيها العرب، وهو ليس إلا وراثة لنتائج هذه البيئات، "ولو كانت هنالك أية أمة أخرى في مثل بيآتهم، لكان لها مثل عقليتهم، وأكبر دليل على ذلك ما يقرره الباحثون من الشبه القوي في الأخلاق والعقليات بين الأمم التي تعيش في بيئات متشابهة أو متقاربة، وإذ كان العرب سكان صحاري، كان لهم شبه كبير بسكان الصحاري في البقاع الأخرى من حيث العقل والخلق"1.
أما العوامل التي عملت في تكوين العقلية العربية وفي تكييفها بالشكل الذي ذكره، فهي عاملان قويان. هما: البيئة الطبيعية، وعنى بها ما يحيط بالشعب طبيعيًّا من جبال وأنهار وصحراء وغير ذلك، والبيئة الاجتماعية، وأراد بها ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك. وليس أحد العاملين وحده هو المؤثر في العقلية.
وحصر أحمد أمين مظاهر الحياة العقلية في الجاهلية في الأمور التالية: اللغة والشعر والأمثال والقصص. وتكلم على كل مظهر من هذه المظاهر وجاء بأمثلة استدل بها ما ذهب إليه.
والحدود التي وضعها أحمد أمين للعقلية العربية الجاهلية، هي حدود عامة،
__________
1 فجر الإسلام "46 وما بعدها".(1/269)
جعلها تنطبق على عقلية أهل الوبر وعقلية أهل المدر، لم يفرق فيها بين عقلية من عقلية الجماعتين. وقد كوّنها ورسمها من دراسات لما ورد في المؤلفات الإسلامية من أمور لها صلة بالحياة العقلية ومن مطالعاته لما أورده "أوليري" "وبراون" وأمثالهما عن العقلية العربية، ومن آرائه وملاحظاته لمشكلات العالم العربي ولوضع العرب في الزمن الحاضر. والحدود المذكورة هي صورة متقاربة مع الصورة التي يرسمها العلماء المشتغلون بالسامية عادة عن العقلية السامية، وهي مثلها أيضًا مستمدة من آراء وملاحظات وأوصاف عامة شاملة، ولم تستند إلى بحوث علمية ودراسات مختبرية، لذا فإنني لا أستطيع أن أقول أكثر مما قلته بالنسبة إلى تحديد العقلية السامية، من وجوب التريّث والاستمرار في البحث ومن ضرورة تجنب التعميم والاستعجال في إعطاء الأحكام.
وتقوم نظرية أحمد أمين في العقلية العربية على أساس أنها حاصل شيئين وخلاصة عامين، أثرا مجتمعيًا في العرب وكوّنا فيهما هذه العقلية التي حددها ورسم معالمها في النعوت المذكورة. والعاملان في رأيه هما: البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية. وعنى بالبيئة الطبيعية ما يحيط بالشعب طبيعيا من جبال وأنهار وصحراء ونحو ذلك، وبالبيئة الاجتماعية ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك، وهما معًا مجتمعين غير منفصلين، أثّرَا في تلك العقلية. ولهذا رفض أن تكون تلك العقلية حاصل البيئة الطبيعية وحدها، أو حاصل البيئة الاجتماعية وحدها. وخطأ من أنكر أثر البيئة الطبيعية في تكوين العقلية ومن هنا انتقد "هيكل" "HEGEL"، لأنه أنكر ما للبيئة الطبيعية من أثر في تكوين العقلي اليوناني، وحجة "هيكل" أنه لو كان للبيئة الطبيعية أثر في تكوين العقليات، لبان ذلك في عقلية الأتراك الذين احتلوا أرض اليونان وعاشوا في بلادهم، ولكنهم لم يكتسبوا مع ذلك عقلهم ولم تكن لهم قابلياتهم ولا ثقافتهم. وردُّ "أحمد أمين" عليه هو أن "ذلك يكون صحيحا لو كانت البيئة الطبيعية هي المؤثر الوحيد، إذن لكان مثل العقل اليوناني يوجد حيث يوجد إقليمه، وينعدم حيث ينعدم، أما والعقل اليوناني نتيجة عاملين، فوجود جزء العلة لا يستلزم وجود المعلول"1.
__________
1 فجر الإسلام "52 فما بعدها".(1/270)
وأثر البيئة الطبيعية في العرب، أنها جعلت بلادهم بقعة صحراوية تصهرها الشمس، ويقلّ فيها الماء، ويجفّ الهواء، وهي أمور لم تسمح للنبات أن يكثر، ولا للمزروعات أن تنمو، إلا كلأً مبعثرًا هنا وهناك، وأنواعًا من الأشجار والنبات مفرقة استطاعت أن تتحمل الصيف القائظ، والجوّ الجاف، فهزلت حيواناتهم، ونحلت أجسامهم، وهي كذلك أضعفت فيها حركة المرور، فلم يستطع السير فيها إلا الجمل، فصعب على المدنيات المجاورة من فرس وروم أن تستعمر الجزيرة، وتفيض عليها من ثقافتها، اللهم إلا ما تسرب منها في مجارٍ ضيقة معوجّة عن طرق مختلفة".
وأثر آخر كان لهذه البيئة الطبيعية في العرب، هو أنها أثرت في النفوس فجعلتها تشعر أنها وحدها تجاه طبيعة قاسية، تقابلها وجهًا لوجه، لا حول لها ولا قوة، لا مزروعات واسعة، ولا أشجار باسقة، تطلع الشمس فلا ظلّ، ويطلع القمر والنجوم فلا حائل، تبعث الشمس أشعتها المحرقة القاسية فتصيب أعماق نخاعه، ويسطع القمر فيرسل أشعته الفضية الوادعة فتبهر لبّه، وتتألق النجوم في السماء فتملك عليه نفسه، وتعصف الرياح العاتية فتدمر كل ما أتت عليه. أما هذه الطبيعة القوية، والطبيعة الجميلة، والطبيعة القاسية، تهرع النفوس الحساسة إلى رحمن رحيم، وإلى بارئ مصور وإلى حفيظ مغيث -إلى الله-. ولعلّ هذا هو السر في أن الديانات الثلاث التي يدين بها أكثر العالم، وهي اليهودية والنصرانية والإسلام نبعت من صحراء سيناء وفلسطين وصحراء العرب1.
والبيئة الطبيعية أيضا، هي التي أثرت -على رأيه- في طبع العربي، فجعلته كثيبًا صارمًا يغلب عليه الوجد، موسيقاه ذات نغمة واحدة متكررة عابسة حزينة، ولغته غنية بالألفاظ إذا كانت تلك الألفاظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية، وشعره ذو حدود معينة مرسومة، وقوانينه تقاليد القبيلة وعُرف الناس، وهي التي جعلته كريما على فقره، يبذل نفسه في سبيل الدفاع عن حمى قبيلته. كل هذه وأمثالها من صفات ذكرها وشرحها هي في رأيه من خلق هذه البيئة الطبيعية التي جعلت لجزيرة العرب وضعًا خاصًا ومن أهلها جماعة امتازت عن بقية الناس بالمميزات المذكورة.
__________
1 فجر الإسلام "54 فما بعدها".(1/271)
وقد استمر "أحمد أمين"، في شرح أثر البيئة الطبيعية في عقلية العرب وفي مظاهر تلك العقلية التي حصرها كما ذكرت في اللغة والشعر والأمثال والقصص، حتى انتهى من الفصول التي خصصها في تلك العقلية. أما أثر البيئة الاجتماعية التي هي في نظره شريكة للبيئة الطبيعة في عملها وفعلها في العقلية الجاهلية وفي كل عقلية من العقليات؛ فلم يتحدث عنه ولم يشرْ إلى فعله، ولم يتكلم على أنواع تلك البيئة ومقوماتها التي ذكرها في أثناء تعريفه لها، وهي: "ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك"، ثم خلص من بحثه عن العقلية العربية وعن مظاهرها وكأنه نسي ما نسبه إلى العامل الثاني من فعل؛ بل الذي رأيته وفهمته من خلال ما كتبه أنه أرجع ما يجب إرجاعه إلى عامل البيئة الاجتماعية -على حد قوله- إلى فعل عامل البيئة الطبيعية وأثرها في عقلية العرب الجاهليين. وهكذا صارت البيئة الطبيعية هي العامل الأول الفعّال في تكوين تلك العقلية، وحرمنا بذلك من الوقوف على أمثلته لتأثير عامل البيئة الاجتماعية في تكوين عقلية الجاهليين.
وأعتقد أن "أحمد أمين" لو كان قد وقف على ما كُتب في الألمانية أو الفرنسية أو الإنكليزية عن تأريخ اليمن القديم المستمد من المسند، ولو كان قد وقف على ترجمات كتابات المسند أو الكتابات الثمودية والصفوية واللحيانية؛ لما كان قد أهمل الإشارة إلى أصحاب تلك الكتابات، ولعدّل حتما في حدود تعريفه للعقلية العربية، ولأفرز صفحة أو أكثر إلى أثر طبيعة أرض اليمن وحضرموت في عقلية أهل اليمن وفي تكوين حضارتهم وثقافتهم، فإن فيما ذكره في فصوله عن العقلية العربية الجاهلية ما يجب رفعه وحذفه بالنسبة إلى أهل اليمن وأعالي الحجاز.
ونجد في كتاب "جزيرة العرب في القرن العشرين" لحافظ وهبة فصلا بعنوان "السكان"، وردت فيه ملاحظات كيّسة عن عقلية الحضر وعقلية البدو في المملكة العربية السعودية وفي بعض المناطق المجاورة لها في الزمان الحاضر. وهذه الملاحظات وإن كانت تتعلق بعرب هذا اليوم، إلا أنها مع ذلك ذات فائدة ومنفعة لفهم العقلية الجاهلية، فالزمان وإن تباعد بين عرب الجاهلية وعرب القرن العشرين؛ إلا أن الخصائص العقلية لأكثر أهل البادية المنعزلين عن عالمهم الخارجي لا تزال هي هي، لم تتغير في كثير من الأمور، بل خذ من نسميهم "الحضر"(1/272)
أو العرب المستقرين في جزيرة العرب، فإن البعيدين منهم عن الأماكن التي لها اتصال بالعالم الخارجي وبالأجانب لا يزالون يحتفظون بكثير من خصائص عقلية حضر اليمن أو الحجاز عند ظهور الإسلام. ومن هنا تفيدنا ملاحظات "حافظ وهبة" هذه وملاحظات غيره من أذكياء العرب والسياح والخبراء الأجانب، فائدة كبيرة في التعرف على أسس تفكير العرب قبل الإسلام.
وفي حديث "حافظ وهبة" عن طباع الحضر أشار إلى اختلاف طباعهم باختلاف أماكنهم، فقال: "والحضر تختلف طباعهم باختلاف المناطق التي يعيشون فيها، وظروف الحياة التي تحيط بهم فأهل حايل أقرب مظهرًا إلى البداوة. وأهل مكة والمدينة واليمن العالية أبعد مظهرًا عن البداوة من البلاد الأخرى العربية، وأهل القصيم ألين عريكة من أهل العارض، لأنهم كثيرو الاختلاط والتعامل مع البلاد الأخرى كالشام وفلسطين ومصر، ولذا فترى موظفي ديوان الملك المكلفين بالمقابلات والتشريفات من أهل القصيم أو حايل.
وأهل الرياض أرقى بكثير من أهل الدواسر الذين لم يفارقوا بلادهم، ولم يعرفوا شيئا عن أحوال العالم الخارجي1.
وأشار إلى تنافس الحضر وإلى تفاخرهم وتفضيل أنفسهم بعضهم على بعض في الشمائل والعادات وحتى في اللهجات.
ومن طبع الحضري، كما يقول "حافظ وهبة" "الخلق التجاري"، وهم يتباينون في ذلك أيضًا بتباين أماكنهم، "فأهل القصيم والزلفى وشقرا، أنشط من أهل نجد في التجارة. فقوافلهم تقصد سائر الجهات العربية، وتجّارهم كثيرًا ما يسافرون إلى الهند ومصر في سبل التجارة، والتجار النجديون المعروفون في الهند ومصر والعراق من أهل هذه البلاد". "أما أهل الكويت، فنشاطهم في التجارة البحرية.. ويغلب على حضر الجزيرة -وعلى الأخص أهل خليج فارس- التعاون التجاري سواء بين الأهالي بعضهم مع بعض أو بين الأمراء والأهالي"2.
أما طباع البداوة، وهي طباع تختلف عن طباع أهل المدن فقد وصفها بقوله:
__________
1 حافظ وهبة "ص7".
2 المصدر نفسه "ص8 فما بعدها".(1/273)
"أما البدو، فهم القبائل الرُّحّل المنتقلون من جهة إلى أخرى طلبًا للمرعى أو للماء، والطبيعة هي التي تجبر البدو على المحافظة على هذه الحياة، وحياة البدوي حياة شاقة مضنية، ولكنه وهو متمتع بأكبر قسط من الحرية يفضلها على أي حياة مدنية أخرى. هذه الحياة الخشنة هي التي جعلت القبائل يتقاتلون في سبيل المرعى والماء، وهي التي جعلت سوء الظن يغلب على طباعهم، فالبدوي ينظر إلى غيره نظرة العدو الذي يحاول أخذ ما بيده أو حرمانه من المرعى.
إن البدو في الصحراء لا يهمه إلى المطر والمرعى؛ فأزمته الحقيقية انحباس المطر وقلّة المرعى ولا يبالي بما يصيب العالم في الخارج ما دامت أرضه مخضرة، وبعيره سمينا وغنمه قد اكتنزت لحمًا وقد طبقت شحمًا.
أما إذا نما السكان وضاقت بهم الأرض أو لم تجد أراضيهم بالمرعى، فليس هناك سبيل إلا الزحف والقتال، أو الهجرة إن كان هناك سبيل إليها، وكذلك القبيلة التي غلبت على أمرها وحُرمت من مراعيها وأراضيها ليس أمامها سبيل آخر سوى الهجرة.
لقد كان البدو قبل ثلاثين سنة في غارات وحروب مستمرة، كل قبيلة تنتهز الفرص للإغارة على جارتها لنهب مالها، وتعدد الإمارات وتشاحن الأمراء وتخاصمهم مما يشجع البدوي.
ولهذا كان للقبيلة قيمتها في بلاد العرب، فالإنسان يقوى بأبنائه وأبناء عمومته الأقربين والأبعدين، وإذا كانت العصبية ضعيفة أمكن تقوية القبيلة بالتحالف مع سواها حتى يقوى الفريقان ويأمنا شر غيرهما من القبائل القوية.
وقد جرى العرف أن القبائل تعتبر الأرض التي اعتادت رعيها، والمياه التي اعتادت أن تردها ملكًا لها، لا تسمح لغيرها من القبائل الأخرى بالدنوّ منها إلا بإذنها ورضاها، وكثيرًا ما تأنس إحدى القبائل من نفسها القوة فتهجم بلا سابق إنذار على قبيلة أخرى، وتنتزع منها مراعيها ومياهها.
إن قبائل العرب ليسوا كلهم سواء في الشر والتعدي على السابلة والقوافل، فبعضها قد اشتهر أمره بالكرم والسماحة والترفع عن الدنايا، كما اشتهر بعضها بالتعدي وسفك الدماء بلا سبب سوى الطمع فيما في أيدي الناس.
ليس للبدوي قيمة حربية تذكر، ولذا كان اعتماد الأمراء على الحضر، فهم الذين يصمدون للقتال ويصبرون على بلائه وبلوائه. وكثيرًا ما كان للبدو(1/274)
شرًّا على الأمير المصاحبين له، فإن ذلك الأمير إذا ما بدت الهزيمة كانوا هم البادئين بالنهب والسلب ويحتجون بأنهم هم أولى من الأعداء المحاربين"1.
"والبدوي إذا لم يجد سلطة تَرْدَعُه أو تضرب على يده يرى من حقه نهب الغادي والرائح، فالحق عنده هو القوة يَخْضَع لها، ويُخْضِع غيره بها. على أن لهؤلاء قواعد للبادية معتبرة عندهم كقوانين يجب احترامها، فالقوافل التي تمرّ بأرض قبيلة وليس معها مَنْ يحميها من أفراد هذه القبيلة معرّضة للنهب، ولذا فقد اعتادت القوافل قديما أن يصحبها عدد غير قليل من القبائل التي ستمر بأرضها ويسمون هذا رفيقًا.
والبدوي يحتقر الحضري مهما أكرمه، كما أن الحضري يحقر البدوي، فإذا وصف البدوي الحضري، فإنه في الغالب يقول حُضيري تصغيرًا لشأنه.
ومن عادة البدوي الاستفهام عن كل شيء، وانتقاد ما يراه مخالفًًا لذوقه أو لعادته بكل صراحة، فإذا مررت بالبدوي في الصحراء استوقفك وسألك من أين أنت قادم؟ وعمن وراءك من المشايخ والحكام؟ وعن المياه التي مررت بها؟ وعن أخبار الأمطار والمراعي؟ وعن أسعار الأغذية والقهوة؟ وعمن في البلد من القبائل؟ وعن العلاقات السياسية بين الحكام بعضهم وبعض.
ومع أن البدو قد اعتادوا النهب والسلب، فإنهم كثيرًا ما يعفون عن أهل العلم خوفًا من غضب الله عليهم، وبعض البدو لا يحلف كاذبًا مهما كانت النتيجة. والبدوي ينكر إذا وجد مجالًا للإنكار، ويلفت بمهارة من الإجابة عما يسأل، ولكن إذا وجه له اليمين وكان لا مفر له اعترف بجرمه إذا كان مذنبًا، ولا يحلف كاذبًا".
"وليس أعدل من البدوي في تقسيم الغنيمة حتى قد يتلفون الشيء تحرّيًا للعدل، ويقسمون السجادة بينهم كما يقسمون القميص أو السروال، كل هذا إرضاءً لضمائرهم ودفعًا للظلم، إنهم يعرفون الخيام حق المعرفة لأنها بيوتهم التي يعيشون فيها، ومع ذلك فهم يقسمونها مراعاة للعدل، أما الإبل والغنم فإنهم يقسمونها إذا أمكن القسمة أو يقوّمونها بثمن إذا لم يكن هنالك سبيل للقسمة".
"والبدو لا يفهمون الحياة حق الفهم كما يفهمها الحضري، لا يفهمون
__________
1 وهبة "ص11 فما بعدها".(1/275)
البيوت وهندستها، ولا يفهمون فائدة الأبواب والنوافذ الخشبية، حتى إن البدو الذين كانوا في جيش الملك حسين في الثورة العربية كان عملهم بعد الاستيلاء على الطائف نزع خشب النوافذ والأبواب، لا لبيعها والانتفاع بثمنها، بل لاستعمالها وقودًا إما للقهوة أو الطبخ أو التدفئة، وبدو نجد قد فعلوا مثل ذلك تماما، فعندها أسكنت الحكومة بعض القبائل في ثكنة جَرْوَلْ، اكتشفت الحكومة أن النوافذ الخشبية والأبواب تنقص بالتدريج، وأنها استعملت للطبخ وتحضير القهوة، فأخرجهم جلالة الملك توًّا من الثكنة، وأسكن الحضر فيها، والحضر بطبيعتهم يفهمون ما لا يفهمه جهلة البدو عن النوافذ والأبواب.
"وللبدو مهارة فائقة في اقتفاء الأثر، وكثيرًا ما كانت هذه المعرفة سببًا في اكتشاف كثير من الجرائم ولا تكاد تخلو قبيلة من طائفة منهم.
"والقبائل العريقة المشهورة من حضر وبادية تحافظ على أنسابها تمام المحافظة وتحرص عليها كل الحرص، فلا تصاهر إلا من يساويها في النسب، والقبائل المشكوك في نسبها لا يصاهرها أحد من القبائل المعروفة.
"أما حكام العرب، فيترفعون عن سائر الناس حضرهم وبدوهم، لا يزوِّجون بناتهم إلا لقرباهم. أما هم فيتزوّجون من يشاءون، وطبقات الحكام يترفع بعضها على بعض: الأشراف يرون أنفسهم أرفع الخلق بنسبهم، وآل سعود يرون أنفسهم أرفع من الأشراف، وأرفع من سواهم من حكام العرب الآخرين"1.
"وهنا ترى الروح الصحيحة البدوية التي لا تملك شروى نقير ترفض الزواج من غني، لأنه ابن صانع، أو أنه من سلالة العبيد، أو لأن نسبه القبلي يحيط به شيء من الشك، فسلطان المال لا قيمة له عند العرب. ومع وجود هذه الروح الأرستقراطية التي تتجلى فقط في الزواج ورياسة القبيلة والحكم، فإنه لا يكاد يوجد فارق في طرق المعيشة الأخرى".
ومن عادة القسم الأكبر من سكان الجزيرة، ولا سيما البدو، مخاطبة رؤسائهم بأسمائهم أو بألقابهم، لأنهم لايعرفون الألقاب وألفاظ التعظيم والتفخيم، فيقولون يا فلان ويا أبا فلان ويا طويل العمر.
__________
1 وهبة "ص13 فما بعدها".(1/276)
ولا يزال العربي الصريح ينظر إلى الحِرَف والمِهَن نظرة ازدراء، وإلى المشتغل بها نظرة احتقار وعدم تقدير.
والبدوي، لا ينسى المعروف، ولكنه لا ينسى الإساءة كذلك، فإذا أُسيء إليه، ولم يتمكن من ردّ الإساءة في الحال، كظم حقده في نفسه، وتربّص بالمسيء حتى يجد فرصته فينتقم منه. فذاكرة البدوي ذاكرة قوية حافظة لا تنسى الأشياء.
فنرى من هذه الملاحظات أن كثيرًا من الطباع التي تطبّع بها عرب الجاهلية ما زالت باقية، وبينها طباع نهى عنها الإسلام وحرّمها، لأنها من خِلَال الجاهلية، ومع ذلك احتفظ بها البدوي وحافظ عليها حتى اليوم، وسبب ذلك أن من الصعب عليه نبذ ما كان عليه آباؤه وأجداده من عادات وتقاليد. فالتقاليد والعُرف وما تعارفت عليه القبيلة هي عنده قانون البداوة. وقانون البداوة دستور لا يمكن تخطيه ولا مخالفته، ومن هنا يخطئ من يظن أن البداوة حرية لا حدّ لها، وفوضى لا يَرْدَعُها رادع، وأن الأعراب فرديون لا يخضعون لنظام ولا لقانون على نحو ما يتراءى ذلك للحضري أو للغريب. إنهم في الواقع خاضعون لعرفهم القبلي خضوعًا صارمًا شديدًا، وكل من يخرج على ذلك العرف يطرد من أهله ويتبرأ قومُه منه، ويضطر أن يعيش "طريدًا" أو "صعلوكًا" مع بقية "صعاليك".
العرب والعربي رجل جاد صارم، لا يميل إلى هزل ولا دُعَابة، فليس من طبع الرجل أن يكون صاحب هزل ودُعَابة، لأنهما من مظاهر الخفة والحمق، ولا يليق بالرجل أن يكون خفيفا. ولهذا حذر في كلامه وتشدد في مجلسه، وقلّ في مجتمعه الإسفاف. وإذا كان مجلس عام، أو مجلس سيد قبيلة، رُوعِي فيه الاحتشام، والابتعاد عن قول السخف، والاستهزاء بالآخرين، وإلقاء النكات والمضحكات، حرمة لآداب المجالس ومكانة الرجال.
وإذا وجدوا في رجل دُعابة أو ميلًا إلى ضحك أو إضحاك، عابوا ذلك الرجل وانتقصوا من شأنه كائنا من كان، وعبارة مثل "لا عيب فيه غير أن فيه دعابة" أو "لا عيب فيه إلا أن فيه دعابة"، هي من العبارات التي تعبّر عن الانتقاص والهمز واللمز.
والبدوي محافظ متمسك بحياته وبما قُدّر له، معتزّ بما كُتب له وإن كانت(1/277)
حياته خشونة وصعوبة ومشقة. ومن هذه الروح المسيطرة عليه، بقي هو هو، لا يريد تجديدًا وتطويرًا، إلا إذا أُكره على التجديد والتغيير والتبديل، فهنا فقط يخضع لقانون "القوة"، وهو لا يسلم له إلا بعد مقاومة، وإلا بعد شعوره بضعفه وبعدم قابليته على المقاومة، فيتقبل الأمر الواقع مستسلمًا، ومع ذلك يبقى متعلقًا بما فيه، يحاول جهد إمكانه التمسك به، ولو بإلباسه ثوبًا جديدًا، وفي القرآن الكريم آيات بينات فيها تقريع وتعنيف للأعراب، ووصف لحياتهم النفسية، فيها أن الأعرابي محافظ لا يقبل تجديدًا، ولا يرضى بأي تغيير كان لا يتفق وسنّة الآباء والأجداد، ومنطقة في ذلك: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} 1، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 2.
ولهذا لا نجد البدو يؤمنون بسنة التقدم والنشوء والارتقاء. فالبدوي يعيش أبدا كما عاش آباؤه وأجداده، مساكنه بيوت الشعر، وهي لا تحميه ولا تقيه من أثر أشعة الشمس المحرقة ولا من العواصف والأمطار، ومع ذلك لا يستبدلها بيتًا آخر، ولا يفكر في تحسين وضعه وتغيير حاله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} . وليس من الممكن أن تقوم في هذه البادية ثقافة غير هذه الثقافة الصحراوية الساذجة، ما دام البدوي مستسلمًا مسلمًا نفسه للطبيعة ولحكم القدر، وهو استسلام اضطر إلى الخضوع له والإيمان بحكمه، بحكم عمل الطبيعة القاسية فيه منذ آلاف السنين.
وكيف يغيّر حاله، وليس في البادية ما يساعده على تغيير الحال، ليس فيها ماء كافٍ ولا شجر نامٍ ولا أمطار وخضرة، فهو يعيش على كرم الطبيعة ورحمتها. أما إذا تكاثر عدده، وزاد عدد خيام القبيلة، اضطرت إلى التنقّل إلى مكان آخر، أحسن وأنسب من المكان القديم. وهكذا صار دائمًا في تنقّل من مكان إلى مكان.
وتحمس الأعراب وأشباه الحضر في دفاعهم عن العُرف، ليس عن بلادة وغباء وشعور بضعف في الكفايات، كلا فللبدوي ذكاء وقّاد وفطنة وكفاية وموهبة، وهو إذ يقاوم التغير والتبدل والتجدد، لا يقاومه عن غباء وبلادة
__________
1 المائدة، الآية: 104.
2 الزخرف، الآية 23.(1/278)
وعن شعور بضعف تجاه تقبل الحياة الجديدة، وإنما يقاومه لأنه يشعر عن غريزة فيه أن حياته أفضل وأن البداوة حرية وانطلاق وعدم تقيد، وأن التطور إن لم يأتِ منه، فهو شرّ وبلاء، وأن كيانه مرتبط بتقاليد، وأن وجوده من وجود آبائه وأجداده، فهو إن انحرف عن عُرفه عرّض نفسه وأهله وقبيلته وكل وجود قومه للهلاك، فهو لذلك يرفض كل تجديد وتغير وإن بدا لنا أو له أنه لمصلحته، لغريزة طبيعية فيه وفي كل إنسان، هي غريزة المحافظة على البقاء، فخوفه من تعرض تقاليده وكيانه للخطر، هو الذي جعله محافظًا شديد التمسك بالعرف والعادة. أما إذا شعر هو أو أشعر من طريق غير مباشر بفائدة التطور والتغيير وبما سيأتيه من نفع وربح، ولا سيما إذا لم يكن في التغيير ما يعارض عرفه ولا يناقض تقاليده، فإنه يتقبله ويأخذه، ويظهر مقدرة ومهارة فيه، حتى في الأمور الفنية الحديثة الغريبة عنه. ويروي خبراء شركات البترول كثيرًا من القصص عن مقدار براعة البدو وحذقهم في إدارة الآلات والأعمال التي وُكّلت إليهم. وهناك شهادات أخرى مماثلة وردت من جهات فنية أخرى. ولو تهيأ لهؤلاء البدو مرشدون وخبراء عقلاء كيّسون لهم علم بنفسياتهم، ولو عرفت الحكومات العربية عقلياتهم ومشكلاتهم، لكان في الإمكان تحويلهم إلى ثروة نافعة لا تقدّر بثمن، ولتجنّبت بذلك المشكلات التي تواجهها منهم1.
حتى الطب، هو في البادية طب بدوي متوارث لا يتغير ولا يتبديل، يقوم على المداواة بتجارب "العارفة" في الطب. ولا يطمئن الأعرابي إلى طب أهل الحضر، مهما فتكت به الأمراض وأنزلت به من آلام، ذلك لأن طب أهل الحضر هو طب غريب عليه بعيد عنه؛ فهو لذلك لا يطمئن إليه. اللهم إلا إذا أقبل عليه رؤساؤه وساداته، أو أقنع بمنطقه وبطريقة إدراكه هو للأمور أن في الدواء الذي يداوي به شفاءً لمرضه، وعندئذ يقبل عليه ثم يزيد إقباله عليه، حتى يكون مألوفًا عنده، بل يقوم في مثل هذه الحالات باختزان ما يمكن اختزانه من الدواء للمستقبل من غير أن يفكر في كيفية خزنه، أو في المدة المقدرة لعمر ذلك الدواء، وتلفه بعد انقضائها.
ووُصف الأعراب في القرآن الكريم بالغلظة والجفاوة وبعدم الإدراك وبالنفاق
__________
1 جان جاك بيرلي: جزيرة العرب "102".(1/279)
وبالتظاهر في اللسان بما يخالف ما في الجنان: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} 2.
فالأعراب "البدوي" إنسان لا يُعتمد عليه، مسلم ومع ذلك يتربّص بالمسلمين الدوائر، فإذا خُذل المسلمون في معركة، أو شعر بضعف موقفهم خذلهم وانقلب عليهم، أو اشترط شروطًا ثقيلة عليهم؛ بحيث يجد فيها مخرجًا له ليخلص نفسه من الوضع الحرج الذي أصاب المسلمين. فلا يكلّف نفسه، ولا يخشى من مصير سيء ينتظره إن غلب المسلمون. {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 3، والأعرابي لم يُسْلِم في الغالب عن عقيدة وعن فهم، إنما أسلم لأن رئيسه قد أسلم فسيّد القبيلة إذا آمن وأسلم، أسلمت قبيلته معه. وقد دخلت قبائل برُمّتها في النصرانية لدخول سيّدها فيها. وقد وردت في سورة الحجرات هذه الآيات في وصف بعض الأعراب: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 4.
وقد استثنى القرآن الكريم بعض الأعراب مما وصمهم به من الكفر والنفاق والتربّص وانتهاز الفرص فنزل الوحي فيهم: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
__________
1 سورة الحجرات الآية: 14.
2 سورة التوبة، الآية 101.
3 سورة التوبة، الآية 97 وما بعدها.
4 سورة الحجرات الآية 14 وما بعدها.(1/280)
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
وقد وُصف الأعراب بالغلظة والخشونة، فقيل: أعرابي قُحّ، وأعرابي جِلْفٌ، وما شاكل ذلك. وفي الحديث "من بَدَا جَفَا"، أي من نزل البادية صار فيه جفاء الأعراب2.
وذكر أن الرسول وصفه "سراقة" وهو من أعراب "بني مدلج" بقوله: "وإن كان أعرابيًّا بوّالًا على عقبيه"3. وأنه نعت "عُيَيْنَة بن حصن" قائد "غطفان" يوم الأحزاب ب"الأحمق المطاع"4. "وكان دخل على النبي، صلى الله عليه وسلم، بغير إذن، فلما قال له أين الإذن؟ قال ما استأذنت على مضربي قبلك. وقال: ما هذه الحُمَيراء معك يا محمد؟ فقال: هي عائشة بنت أبي بكر. فقال: طلقها وأنزل لك عن أم البنين. في أمور كثيرة تذكر من جفائه. أسلم ثم ارتدّ وآمن بطليحة حين تنبأ وأخذ أسيرًا فأُتي به أبو بكر، رضي الله عنه، أسيرًا فمنّ عليه ولم يزل مظهرًا للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة أعرابيته حتى مات".
وذُكر أن "الأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك وهشّ، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غَضِب"5. وذلك لازدراء العرب الأعراب، ولارتفاعهم عنهم في العقل وفي الثقافة والمنزلة الاجتماعية.
وهذه الصفات التي لا تلائم الحضارة ولا توائم سنّ التقدم في هذه الحياة، هي التي حملت الإسلام على اعتبار "التبدّي" أي "التعرب" بعد الهجرة ردّة على بعض الأقوال وعلى النهي عن الرجوع إلى البادية والعيش بها عيشة أعرابية. فلما خرج "أبو ذر" إلى الربذة قال له عثمان بن عفان: "تعاهد المدينة حتى لا ترتد أعرابيًّا". فكان "يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابية"6. ولما وصل
__________
1 سورة التوبة الآية 99.
2 الفاخر "ص65"، بلوغ الأرب "3/ 425".
3 الروض الأنف "2/ 6".
4 الروض الأنف "2/ 188".
5 تاج العروس "3/ 334"، "الكويت".
6 الطبري "4/ 284".(1/281)
"عبد الله بن مسعود" الربذة، ورأى ابنة أبي ذر وهي حائرة وكان والدها قد فارق الحياة لتوّه، سألها: "ما دعاه إلى الإعراب"1. وفي الحديث: "ثلاث من الكبائر منها التعرب بعد الهجرة". وهو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا. وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدّونه كالمرتد2. وذلك بسبب جفاء الأعراب والجهالة، ومن هنا كرهت شهادة البدوي على الحضري فورد في الحديث "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية". لأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولما في البدوي من جفاء وجهالة بأحكام الشرع3.
وقد عُرِف العربي الحضري بـ "القراري"، أي الذي لا ينتجع ويكون من أهل الأمصار، وقيل إن كل صانع عند العرب قراري4. وهذه النظرة هي نظرة أهل البداوة بالنسبة لأهل الحاضر، فالصانع عندهم إنسان مزدري لاشتغاله بصنعة من هذه الصنائع التي يأنف منها العربي الحرّ.
والحق أن النعوت المذكورة لا تلازم جميع الأعراب ولا تنطبق عليهم كلهم. فهم يختلفون مثل أهل الحضر، باختلاف مواضعهم، من قرب عن حضارة ومن بعد عنها، ومن وجود ماء وخصب، أو جدب أو فقر، وما شاكل ذلك. كما أن بعض النعوت المذكورة تنطبق على بعض أهل المَدَر أيضا. ولهذا نجد القرآن الكريم يطلقها عليهم، ولكن لا على سبيل التعميم بل على سبيل التخصيص، فهي نتائج ظروف خاصة وأحوال معينة، لا بد وأن تؤثر في أصحابها فتكسبهم تلك الصفات والمؤثرات. كما أن العرب، أي الحضر، لم يكونوا كلهم في التحضير على درجة واحدة سواء، فبينهم اختلاف وتباين، وبهذا التباين تباينت خصائصهم النفسية بعضهم عن بعض.
والبدوي الذي تمكن "ابن مسعود" أو غيره من الحكام من ضبطه بعض الضبط ومن الحد من غاراته على الحضر أو على البدو الآخرين، هو البدوي نفسه الذي عاش قبل الميلاد وفي عهد إسماعيل، والذي قالت في حقه التوراة:
__________
1 الطبري "4/ 308".
2 تاج العروس "3/ 354"، "الكويت".
3 اللسان "14/ 67".
4 اللسان "5/ 90".(1/282)
"يده على الكل ويد الكل عليه"1. وهو سيبقى كذلك ما دام بدويًّا ترتبط حياته بالصحراء، ينتهز الفرص كلما وجد وَهَنًا في الحكومات وقوة في نفسه على أخذ ما يجده عند الآخرين. وهو إن هدأ وسكن، فلأنه يجد نفسه ضعيفًا تجاه سلطة الحكومة، ليس في استطاعته مقاومتها لضعف سلاحه، فإذا شعر بقوته لم يخشَ عندئذ أحدًا.
وقد تأصلت الفردية في أنفس الأعراب وفي أنفس أشباه الحضر وفي أكثر الحضر، حتى صارت أنانية مفرطة، عاقت المجتمع العربي في الجاهلية وفي الإسلام عن التقدم وعن التوثق والاتحاد. وفي الأدبين الجاهلي والإسلامي أمثلة عديدة سارت بين الناس تمثل هذه النظرية الضيقة إلى الحياة. ورد في الحديث عن أبي هريرة أنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى الصلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا"2. فقدّم نفسه على الرسول، مع أنه مسلم يحمله دينه وأدبه أدب الإسلام على تقديم الرسول عليه، ثم إنه لم يخصص أحدًا بالرحمة غير الرسول وغير نفسه مدفوعا بهذه الأنانية القبيحة. وكثيرًا ما تسمع الناس يتمثلون بقول أبي فراس: إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر".
يتمثل به الحضر تعبيرًا عن فلسفة ووجهة نظر قديمة إلى هذه الحياة، مبعثها الوضع السّيّئ العام القلق الذي عمَّ المجتمع ومازال يعمه، والذي جعل الفرد يشعر بعدم وجود مَنْ يحميه ويساعده، فتحول غضبه إلى عقيدة مؤذية مضرة ويا للأسف.
والبداوة عالم خاص قائم بذاته، تكوّنت طباعها وخصائصها من الظروف التي نشأت فيها، لها مقاييسها وموازينها الخاصة، وهي مقاييس وموازين تختلف عن مقايس الحضر وموازينهم، الحضر البعيدين عن البادية وعن أحوال البداوة ولذلك اختلفت أفهام الجماعتين وتباعدت عقلياتهما، ومن هنا يظهر خطأ مَنْ يحكم على البداوة بمقاييس أهل الحضارة ويفسر ما يقع من الأعراب تفسيره لما يقع من أهل المدر من أعمال، ومن هنا أيضا نجد أن البداوة لا تستطيع فهم منطق الحضر
__________
1 التكوين، الإصحاح 16، الآية 12.
2 سنن أبي داود "1/ 89".(1/283)
ولا تستسيغ أسلوب حياتهم، ولا تأمنهم، لأن عالمها يختلف عن عالم الحضر، ولأنها تجد من قيود الريف والمدن ما يصعب عليها تحمله، ولأنها ترى في الحضر جماعة حيل وشرّ ومكر فلا تأمنهم، ولا تستطيع أن تطمئن إليهم، مهما أظهر الحضر نحوها من عطف وإحسان. وقد كابدت البداوة كثيرًا كما كابدت الحضارة كثيرًا أيضًا من جراء سوء الفهم هذا الناجم من اختلاف العقليتين.
ويظهر البدوي في عين الحضري الحديث، وكأنه إنسان مزدوج الشخصية جامع للنقيضين، له وجهان. فهو محارب يحارب معك وفي صفوفك، أما إذا شعر أن الهزيمة ستحل بك، فإنه أول من ينقلب عليك، فيمعن عندئذ في سلبك ما معك ونهبه، لا فرق عنده أن يكون الذي يحارب معه وفي صفوفه عربيًّا أو أعجميًّا، شريفًا من أسرة عريقة أم قائدًا محترفًا. وهو كريم جوّاد يقدم لضيفه آخر شيء عنده ليأكله ويحبيه بكل وسائل الإكرام، ولكنه لا يمتنع من سلب غريب يجده في طريقه، ومن أخذ ما عنده. هو رجل متدين لا يحلف كاذبًا مهما رأى النتيجة، ولكن تديّنه تدين بدويّ سطحي إلى غير ذلك من متناقضات.
أما الأعرابي، فيسخر من اتهام الحضري له بهذه التهم، ويعجب من سذاجة منطقه وحكمه، فمنطقه في نظره منطق رجل ساذج مريض معلول، وحكمه حكم إنسان ضعيف ذليل. وإلا فكيف يسمح عقل إنسان سليم لإنسان مثلًا أن يترك أموال صاحبه أو أصحابه تقع في أيدي غيره أو أعدائه، يأخذونها لينعموا بها وليفتخروا بحصولهم عليها، ثم لا يمدّ هو يده إليها يأخذ منها ما يحتاج إليه ويريد؟ ألا يدل هذا العمل على السُّخْفِ والضعف وفساد الرأي؟ إن المحارب في نظر الأعرابي أولى من غِيرة بأموال زميله المحارب، وهو أحق بها من أي إنسان آخر للحصول عليها إن داهمه خطر، وشعر أن تلك الأموال ستقع في أيدي عدوّه، فهو زميله وصديقه، وهو فوق ذلك به حاجة إليها؛ فمن حقه الطبيعي إذن أن يأخذها ولو عَنْوَة ويولي بها ليحرم عدوّه الحصول عليها والحصول على أي مكسب كان من هذه الحرب. ثم إنه إن لم يباشر أخذ ما يجده أمامه في الوقت الملائم، فإن غيره سيأخذه حتمًا، وقد يكون غيره هو خصمه وعدوّه: ولما كانت النفس مقدمة على غيرها، كان من العقل والحكمة أن يأخذ حقه بنفسه، وإلا ضاع حقه عليه وأفلت منه. ومن هنا اختلف منطقه عن منطق الحضري وباين حكمه على الأمور حكم الحضري.(1/284)
وحكم الأعراب على الأمور، حكم صادر عن عقلية خاصة بهم، كونتها عندهم الأحوال التي يعيشون فيها والمحيط الذي يتحكم فيهم من جفاف وحرارة وضوء ساطع واختلاف في درجات الضغط الجويّ وانحباس الأمطار وفقر محالف لأغلب الأرضين ومن فقر وتقتير وبساطة في المأكل وأمثال ذلك من مؤثرات كوّنت عندهم عقلية خاصة وثقافة خاصة، فهمت الأمور بمنطقها لا بمنطق الآخرين.
ومن هنا اختلفت أيضا عقليات الأعراب وتباينت بعض التباين باختلاف الأحوال التي تحيط بالأمنكة التي ينزلون بها وبقرب تلك الأمكنة وبعدها من الحضر ومن الحضارة. وبمقدار تأثرها بالمؤثرات الخارجية وبالثقافات الواردة من الخارج، كالذي نلحظه من وجود شيء من التباين بين عقليات القبائل المتنصرة وأعمالها وعقليات القبائل الوثنية وأعمالها، بالرغم من أن نصراينة تلك القبائل لم تكن نصرانية عميقة صميمة، ولم تكن صافية خالصة، وذلك لأن هذه القبائل المتنصّرة على سطحية تنصّرها، كانت مواطنها ملاصقة للحضر وللحضارة وذات اتصال بالحضر وبالأعاجم وبالثقافات الأجنبية وبالبيئات الثقافية الغريبة، وعاش بينها رجال دين غرفوا من ثقافات غريبة وبشّروا بين العرب المنتصرة بآراء غريبة عنهم، كما تأثر رؤساء تلك القبائل بمؤثرات الحضر الذين احتكوا بهم وبرجال السياسة والدين الذين كانوا على اتصال بهم، وقد تزوّج بعضهم من نساء نصرانيات، أثرْنَ في بيئة ذلك الزوج.
وقد نص الأقدمون على اختلاف طباع القبائل، فعرف بعضها باللين والسهولة، وعرف بعضها بالشدة والخشونة والغلظة، وعرف آخرون بالشجاعة والصبر على المكاره والميل إلى الغزو والحروب، وعرف غيرهم بالميل إلى الاستقرار وبقابليتها على الاستيطان واستغلال الأرض والالتئام مع الجيران. ولوجود هذه الصفات في القبائل كان الحكام في الجاهلية وفي الإسلام إذا أرادوا أمرًا وكّلوه إلى القبيلة التي تتناسب صفتها التي اشتهرت بها مع العلم الذي يراد القيام به، وصار اعتماد الحكام على هذه الفراسة في الغالب. وما زال هذا التباين في كنايات القبائل معروفًا حتى اليوم؛ فقد اشتهرت قبائل نجد، بأمور لم تشتهر بها القبائل الأخرى، أو أنها فاقت بها سائر قبائل نجد، فاشتهرت بعضها بالقتال، واشتهرت بعضها بالصرامة والصبر، وما إلى ذلك، ويراعي حكام جزيرة العرب اليوم هذه الصفات في ضبط الأمور في حكوماتهم وفي حفظ التوازن في حكم البوادي(1/285)
والأعراب وفي السياسة العامة للحكومة. وفي تقارير السياسيين الوطنيين والأجانب وفي كتب السياح والبعثات الأجنبية على اختلاف أنواعها كلام على تباين طباع الأعراب في جزيرة العرب وطباع الحضر في هذا اليوم.
فنرى إذن أن للأعراب رأيًا في الحضر يشبه رأي الحضر فيهم، أي رأي فيه ازدراء وحطّ من شأن الحضر ومن مجتمعهم الذي يعيشون فيه، ومن قيمهم في هذه الحياة، وهو رأي تكوّن عندهم من بيئاتهم التي يعيشون فيها ومن ثقافتهم الخاصة بهم، التي تفسر الأمور بمقاييسها وأوزانها، وهي مقاييس وأوزان بعيدة عن مقاييس الحضر والحضارة. ولا أقصد بالحضر هنا حضر الأعاجم وحدهم، بل أُدخل فيهم حتى الحضر العرب، كالذي يتبين من استهجان الأعراب لشأن أهل المدر في كل مكان من أمكنة جزيرة العرب ومن ازدرائهم لأحلامهم ومثلهم في الحياة. فالبداوة ثقافة خاصة بهذا العالم، عالم البداوة، والحضارة ثقافة أخرى خاصة بالحضر، وبين الثقافتين بَوْن وخلاف.
وليست هذه الطباع وراثة تنتقل من الآباء إلى الأبناء أبدًا في الدم، فلا تتبدل ولا تتغير، بل هي حاصل أحوال وبيئة، إذا تغيرت الأحوال والبيئة وقع تغير يتوقف على مقدار فعل البيئة الجديدة في الإنسان وعلى الزمان الذي يقضيه فيه وعلى مقدار استعداد ذلك الإنسان لتقبل البيئة الجديدة والثقافة الجديدة التي دخل فيها، ولهذا يكون فعل التغير في الجيل القديم أقل من الجيل الجديد. وعلى ذلك يخطئ من يصف العرب بصفات يلصقها بهم يجعلها عامة فيهم أبدية. ودليلنا على ذلك أن من عاش من الأعاجم بين العرب وفي بيئة عربية، تطبع بطباع العرب وصار مثلهم، حتى إذا انقرض الجيل القديم ونبع الجيل الجديد تحوّل إلى جيل عربي في كل شيء، لا نستثني من ذلك حتى الانتساب إلى العرب إلى عدنان وقحطان وحتى التعصب والعصبيات. ولا الإسلام الذي صهر الأعاجم في بوتقته، وجعلهم جنودًا يحاربون في الصفوف الأمامية لنشره وإعلاء كلمته، لم يلبث أن أنساهم أصولهم ولغاتهم، فحوّلهم بذلك إلى عرب من حيث لم يشعر العرب ولا الأعاجم أنفسهم به.
والأعرابي واقعي، تتأثر أحكامه بالواقع الذي يراه، وبمقياس المادية التي تتمثل عنده، يؤمن بالروح، ولكنه يحوّلها إلى ما يشبه المادة الملموسة. يؤمن بإلَه أو بآلهة، كما كان في الجاهلية ولكنه حوّل تلك الآلهة إلى أوثان وأصنام،(1/286)
يلمسها ويحسّها بيديه، فيتقرب إليها ويتوسل بها، وخاف من الأوراح مثل الجن والأرواح الخبيثة التي صوّرها عقله، أكثر من خوفه من آلهته، فإن نزل مكانًا قفرًا، أو محلًا موحشًا، أو دخل مكانًا مظلمًا أو كهفًا، تعوذ من الأرواح، واحتال عليها بمختلف الحيل التي ابتكرها عقله، ليتغلب عليها وليتخلص منها. فهو يخافها أكثر من خوفه من الآلهة؛ لأنه جعلها تعيش معه في كل مكان، فهي تحيط به. أما الآلهة، فإنها بعيدة عنه، ثم إنها لا تؤذي، ومن طبع الإنسان التخوّف من المؤذين.
وهو لا يحفل بما بعد الموت، لأن هذا العالم الثاني عالم غير محسوس بالقياس إليه. ولهذا لم يتصوّره كتصور غيره من الأمم الأخرى، بل هو لم يُتعب نفسه بالتفكير فيه، ولهذا كانت مراسيم دفن الميت بسيطة جدًا، لا تَكلّف فيها ولا تعقيد، على نحو ما نجده عند الحضري أو العجم، متى دفن في قبره وهيل التراب عليه، انتهى كل شيء. ولهذا كان عجبهم شديدا إذ سمعوا بالبعث وبالقيامة والحشر والنشر. {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} 1.
وكان قائلهم يقول:
حياة، ثم موت، ثم نشر: ... حديثُ خُرافة، يا أمّ عمرو! 2
وقال شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك، يرثي قتلى قريش يوم بدر:
يحدثنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداءٍ وهامِ3
وقد ورد البيت المذكور في صورة أخرى في كتاب "الصبح المنير في شعر أبي بصير"، في باب شعر "أعشى نهشل"، ورد في هذا الشكل:
وكائن بالقليب قليب بدرٍ ... من الفتيان والعرب الكرام
أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياة أصداءٍ وهامِ؟
أيعجز أن يردّ الموت عني ... وينشرني إذا بليت عظامي
ألا من مبلغ الرحمن عني ... بأني تارك شهر الصيام
فقل لله يمنعني شرابي ... وقل لله يمنعني طعامي
__________
1 سورة الواقعة، الآية 47، {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [سورة قّ الآية:3] .
2 بلوغ الأرب "2/ 198".
3 الصبح المنير "ص308" "طبعة أوربة 1927".(1/287)
والحضر الذين نظروا إلى الأعراب، نظرة استصغار وازدراء، لما بينهم وبين الأعراب من تفاوت في الثقافة وفي العقلية، هم أنفسهم وفي والواقع أشباه حضر، وأخص من هؤلاء الحضر حضر الحجاز، فخصائص التعرب غالبة عليهم، غلبة تزيد على خصائص الحياة الحضرية. فقد قامت قراهم مثلًا وأعظمها مكة ويثرب على الفكرة الأعرابية القائمة على أساس النسب، فكلّ من مكة ويثرب شعاب، كل شعب لفخذ أو عائلة أو ما أشبه ذلك من أسماء تدخل في أسماء أجزاء القبيلة، تتعصب وتتحزّب وتتقاتل فيما بينها وتتحالف، كما يتقاتل أو يتحالف الأعراب. ثم إنهم كانوا يأنفون من الاشتغال بالحرف، تماما كما يفعل البدو، ويعافون الزراعة في الغالب، لا أستثني منها زراعة النخيل، لأن الزراعة في نظرهم من أعمال النبط والرقيق، والروح الفردية سائدة بينهم، موجودة عندهم، إلا في أوقات الشدة والضيق، والفردية الجامحة من طبائع البادية ومن خصائصها، إلى أمور أخرى عديدة تعدّ من صميم الحياة الأعرابية. وسبب ذلك أن هذه المستوطنات التي سموها قرى كانت وسطًا بين البداوة والحضارة، وكانت كالجزر الصغيرة وسط المحيطات الواسعة، محيطات من الأعراب، تستمد غذاءها الروحي والمادي من البداوة أكثر مما تستمده من الحضارة. أضف إلى ذلك عامل الطبيعة الذي يعلب دورًا خطيرا في تكوين المجتمعات وفي تكييفها بالشكل الملائم. ولذلك لم تتكوّن في يثرب أو في مكة أو في غيرها حياة مشابهة لحياة الحضر العجم في الأماكن الأخرى مثل مدن وقرى العراق وبلاد الشام ومصر، بل وحتى حضر مدن اليمن وهم من العرب بالطبع.
ومن هنا نجد حضر اليمن، بل وأعراب اليمن أيضا يختلفون عن حضر وأعراب الحجاز ونجد والعربية الشرقية، في كثير من الخصائص والصفات. مع أنهم كلهم عرب ومن أصل واحد. فحضر اليمن، حضر لا يأنفون من العمل ولا يستصغرون شأن الحرف. ولا يأنفون من الزراعة. بينهم الحائك والنساج والمشتغل بالأرض، والصانع والحداد والنجار وعامل البناء، وقالع الحجر ومربي الماعز والغنم والبقر، وزارع الخضر والبقول، ودابغ الجلود، مع أنها حرف يراها العربي في بقية مواضع جزيرة العرب من حرف العبيد والطبقات الدنيا من الناس.
وأعراب اليمن، الذين ميزهم حضر اليمن عن أنفسهم في الجاهلية بإطلاق(1/288)
لفظة "أعرب" عليهم؛ لأنهم لم يكونوا في مستواهم وفي درجتهم في الحضارة.
هم مع ذلك وبوجه عام أرقى مستوى وأكثر إدراكًا من أعراب الحجاز ونجد. لقد وطنوا أنفسهم في أطراف الحواضر وعند مواضع الماء والخصب، وزرعوا ورَعَوا ماشية وأنعامًا، واستقروا في بيوت من مدر أو حجارة. وهي حياة لا يألفها البدوي القح. ولا يراها من مقوّمات البداوة. ثم إنهم لم يكونوا رحلًا على شاكلة أعراب الحجاز أو نجد أو بادية الشام. وإذا كنا نرى بعض قبائل اليمن، وهي ترحل من مواضعها، فرحيلها هذا هو عن سبب قاهر، مثل حروب أو كوارث طبيعية تجعل من الصعب علها البقاء في منازلها؛ فلا يكون أمامها للمحافظة على حياتها غير الرحيل إلى مكان آخر. إنهم بالقياس إلى عرب الحجاز أو نجد رعاة أو شبه أعراب1.
ومرجع هذه الفروق هو في التباين في الطبيعة. فطبيعة أرض اليمن مثلا طبيعة لطيفة خفيفة، الحرارة فيها معتدلة بوجه عام، والفروق في درجات الحرارة بين الصيف والشتاء، أو بين الليل والنهار ليست كبيرة متناقضة متعاكسة. والضغوط الجوية فيها معتدلة غير قلقة متغيرة بكثرة في اليوم أو في الشهر أو في السنة، والأمطار متوفرة بوجه عام، تزور اليمن في مواسم معينة، وجبال اليمن العالية جبال تقف شامخة عنيدة وفي وضع مناسب أمام الأبخرة المتصاعدة من البحار، حتى تضطرها إلى الهبوط غيثًا على اليمن يغيث الناس. ثم إن اليمن هضاب وأودية وتهائم، ومسايل طبيعية تقود السيول إلى أحواض حفرتها الطبيعة، وعلّمت هذه الطبيعة الإنسان على رفع حافّاتها لتحبس الماء في الأحواض، وعلى عمل فتحات فيها لخروج الماء منها وقت الحاجة. وهي غنية بالمعادن وبالحجر الصالح للبناء وبالأشجار التي غرزتها الطبيعة بيدها، وأرض على هذا النحو وعلى هذه الشاكلة لا بد وأن تؤثر على أجسام وعلى عقول أصحابها، فجعلتهم من ثَمّ من أنشط شعوب جزيرة العرب في ميدان العمل والحيلة في كسب العيش وفي إقامة المجتمعات وإنشاء حضارة، وفوّقتهم بذلك بوجه عام على سائر عرب جزيرة العرب، وصيّرتهم قوما لا يرون الاشتغال بالحِرَف عيبًا، ولا امتهان المهن العملية نقصًا. ولو كانت أرضهم على شاكلة أرض الحجاز أو نجد، ولو
__________
1 Naval, p,, 402.(1/289)
كانت طبيعتها ذات طبيعة صحراوية قاسية، لما صار أهل اليمن بالشكل الذي ذكرته. ولهذا السبب، اختلفت طبائع من يسميهم أهل الأخبار بالقحطانيين الساكنين خارج اليمن في نجد أو في بادية الشام عن طبائع أهل اليمن، فصاروا أعرابًا أقحاحًا يأنفون من الاشتغال بالحرف، ولا يعيشون إلا على تربية الإبل، إلى غير ذلك من سمات وُسِم بها البدو مع أنهم يمانيون كما يذكر أهل الأخبار. ولو كانت طبيعة أرض البادية على نحو آخر، على نحو يؤمن العيش والراحة لمن يقيم بها، لما وجدنا ما وصفناه من أوصاف عند الأعراب، فإن الطبيعة تصقلهم إذ ذاك صقلًا آخر، قد تجعلهم مستقرين مقيمين على الأقل، ودليل ذلك اثر الأمطار والربيع فيهم، عندما تغيثهم السماء، سنين متوالية؛ إذ يبقون في أماكنهم، ويقيمون فيها، ولا يخطر ببالهم عندئذ خاطر الارتحال والتنقّل من هذه الأرض.
ولأثر الطبيعة المذكور في طباع الناس، اختلفت طبائع أهل "الطائف" عن طبائع أهل مكة مع أنها أقرب إلى مكة من اليمن، وسبب ذلك أن الطائف أرض مرتفعة ذا جو معتدل، بها مياه وفيرة، وبها أشجار وهبتها الطبيعة لأرضها منذ القدم، أرضها خصبة فرحة، لا تسودها كآبة البادية ولا يخيم عليها عبوس البيداء، فصارت أخلاق أهلها من ثم أقرب إلى أخلاق أهل اليمن، وصاروا أذكياء، عقولهم متفتحة نيرة، استغلوا أيديهم، فزاولوا الحرف مثل الدباغة، واستغلوا الأرض، إذ زرعوها حبًّا وأشجارًا مثمرة، وربّوا الماشية، وصارت مدينتهم حتى اليوم مصيف أهل مكة. مع أنهم عرب ما في أصلهم العربي أدنى شك، وهم وعرب مكة أو يثرب أو نجد من طينة واحدة، لا شك في ذلك ولا شبهة.
فللطبيعة إذن من حرّ وبرد ومن اختلاف في الضغوط الجوية ومن أشعة شمس محرقة منهكة ومن إشعاع أرضي ومن أمطار وأهوية ورياح ومن طبيعة أرض وموقع، ومن هبة الطبيعة إلى السكان من طعام غني أو فقير، من حبوب وأثمار وخضر وحيوان، أثر بالغ في تكوّن الطباع وفي خلق التمايز بين الأجناس البشرية، تضاف إلى ذلك الظروف الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تحيط بالناس ثم التكوّن الجسماني ومظهره. ومن هنا نجد العربي الأصيل الذي لا شك ولا شبهة في أصله العربي، إذا أقام وحده مدة في مجتمع غربي مثل إنجلترا(1/290)
أو إسكاندينافية أو أميركا الشمالية؛ حيث الطبيعة مختلفة عن طبيعة بلاده وحيث الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية متباينة عن الظروف المذكورة في بلاده، تغير وتبدل واضطر مختارًا أو كرهًا عن غريزة تطور كامنة فيه إلى التأقلم والانسجام مع القوم الذين صار يعيش بينهم. ويتوقف هذا التحوّل بالطبع على عمر الشخص وعلى قابلياته وعلى مدة إقامته في المكان. ولو أقام ذلك العربي طيلة حياته كلها في ذلك الوطن الجديد، وصار له نسل من زوجته العربية التي قدمت معه أيضًا، فإن النسل الجديد سيكتسب صفات الموطن الذي نشأ فيه، ويتخلق بأخلاقه، أما نسل نسله، فإنه سيتحول إلى شخص آخر غريب عن جده، غريب عنه حتى في لغته. ومن هنا نجد الجيل الثالث من أجيال المهاجرين العرب الذين هاجروا إلى أميركا، وتجنسوا بها، جيلا أميركيًّا في كل شيء، حتى في لغته وثقافته وشعوره وهواه، يشعر أن حنجرته لا تطاوعه على تعلم العربية وأن أوتارها لا تساعد على النطق بها. مع أنه من أصل عربي أبًا وأمًّا وقد برز من هذا الجيل الجديد اليوم قوم في ميادين العلم والتجارة والمال والصناعة والسياسة والعمل، ودخل نفر منهم مجلس النواب في واشنطن، وسيزيد هذا العدد ولا شك، لم يعقهم عن ذلك عائق الرسّ والعنصر والجنس وخصائص الدم ولو كان الدم عائقًا إلى الأبد، لما حدث في المذكورين ما نراه عمليًّا في هذا اليوم.
والعربي بعدُ، إن وصف في الجاهلية أم في الإسلام بالخمول والكسل، وبـ "الرومانطيقية"، أي بالخيال، وبعدم الصبر وبالأنانية والفردية وبما شاكل ذلك من صفات، فصفاته هذه ليست حاصل خصائص دم ونتيجة سمات عرق، وإنما هي ظروف وأحوال وأوضاع أجبرته على ذلك، ولو أطعم ذلك العربي طعامًا صحيًّا فيه المواد الغذائية الضرورية لنمو الجسم والعقل، ولو تغيّرت ظروفه، فهو كما ذكرت سيتغير حتمًا. وما كان الأوروبي ليتفوّق على الشرقي لو أن طبيعة إقليميه وأرضه كانت طبيعة جزيرة العرب، ولو سكن الألماني أو السويدي أو الإنكليزي بلاد العرب، وصار له نسل، فإن نسله لا ينشأ كما لو نشأ في وطن والده أو جدّه، لاختلاف الظروف والأجواء. وما كانت أوروبا خضراء هذه الخضرة ونشطة هذا النشاط بسبب دم أهلها وحده، بل لأن طبيعتها ساعدت الناس وعاونتهم، فأنبتت الرطوبة والأمطار الأشجار بنفسها وكوّنت لأهلها الغابات،(1/291)
ودفع البرد الناس على العمل دفعًا، ولهذا نجد الناس عندنا في الشتاء يندفعون إلى العمل اندفاعًا بعامل البرد الذي يدفع الجسم إلى الحركة.
أضفْ إلى كل ذلك عوامل أخرى تؤثر في جسم الإنسان وفي تصرفاته واتجاهاته من تركيب جسم ومن ملامح، مثل لون شعر وتركيبه ولون بشرة أو لون عين وشكل جمجمة وأمور أخرى يدرسها ويبحث فيها علماء الأجناس البشرية، تؤثر أيضًا في خصائص الإنسان وفي أجناسه وفصائله، مما لا مجال للبحث عنها في هذا المكان.
والبحث في موضوع نفسيات الشعوب وأصول تفكيرها وميزات عقلها، بحث يجب أن يستند إلى أسس علمية حديثة، وإلى تجارب دقيقة عامة، لذلك لا يمكن التعميم ما دمنا لا نملك بحوثًا ودراسات علمية منسقة، قام بها علماء متخصصون في البوادي وفي الحواضر وفي كل مكان من جزيرة العرب، رُوعِي عند إجرائها الظروف الطبيعية المؤثرة في ذلك المكان، والظروف الثقافية السائدة عليه، ودرجة تأثر ذلك المكان بالمؤثرات الخارجية، أي بمؤثرات المناطق المجاورة له. فبين أهل جزيرة العرب بَوْن كبير في العقليات، وبين أهل البوادي في الجاهلية وفي هذا اليوم فروق في النفسيات وفي التعامل، حتى وُسمت القبائل بسمات، فوُسمت "معد" مثلا بالحيلة والكيد والذكاء وبالغلظة والخشونة، ووسمت "ثقيف" بسمات، ووسمت "كندة" بسمات. وقد رأينا ما ذكره "حافظ وهبة" عن أهل نجد من حضر وبدو.
بل إننا نرى أن الأعاجم المتعرّبين أي الذين ينزلوا بين العرب وينسلون بينهم ويتخذون العربية لسانًا له، سرعان ما يتعرّبون كل التعرّب، ويتحوّل أبناؤهم إلى جيل عربي خالص، حتى ليصعب عليك التفريق بينهم وبين العرب في الرسوم والعادات والتفكير، وذلك بتأثير المحيط الذي حلّوا به، والظروف الطبيعية المؤثرة بالمكان. وقد تعرّب آراميون في العراق وفي بلاد الشام، وصاروا عربًا في كل شيء حتى في الصفات التي ذكرنها، وقد وجدت البعثة الأمريكية التي جاءت إلى العراق للبحث عن السلالات البشرية إن في دماء القبائل العربية التي ترى نفسها أنها قبائل عربية خالصة نسبًا مختلفة من الدماء الغريبة، وإذا أدركنا هذه الملاحظة وقيمة أمثال هذه الدراسات في موضوع تكوّن العقلية وفي حدودها ورسم معالمها، علمنا أنه ليس من السهل في الواقع البحث عن عقلية عربية خالصة(1/292)
تعبّر عن عقلية جميع العرب وفي كل مكان.
إن الذين بحثوا في العقلية العربية بصورة عامة، تصوّروا العرب وكأنهم جنس واحد انحدر من عرق واحد. وبهذا الاعتقاد وضعوا حدود تلك العقلية، أما إذا نظرنا إلى نتائج فحوص بعض علماء "الأنثروبولوجي" وعلماء الآثار وعلماء الحياة لبقايا الجماجم والعظام التي عثروا عليها من عهود ما قبل الإسلام، وإلى فحوصهم لملامح العرب الأحياء وأجسامهم، فإنهم على قلتها، تشير إلى وجود أعراق متعددة بين سكان جزيرة العرب، الأموات منهم والأحياء، الجاهليين والإسلاميين، وإلى وجود اختلاف في نفسياتهم وفي قابلياتهم العقلية، وقد تحدثتُ قبل قليل عن ملاحظات "حافظ وهبة" عن عقليات عرب المملكة العربية السعودية، وتحدثتُ عن رأي علماء الحياة والأجناس في تعدد الأعراق وتسرب دماء غريبة إلى جزيرة العرب يجعل من الصعب على الباحث الحذر أن يعتقد بإمكان وضع صورة دقيقة تمثل وجود عقلية واحدة لجميع أولئك الناس وفي كل العصور والعهود.(1/293)
الفصل الثامن: طبقات العرب
مدخل
...
الفصل الثامن: طبقات العرب
اتفق الرواة وأهل الأخبار، أو كادو يتفقون على تقسيم العرب من حيث القدم إلى طبقات: عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة. أو عرب عاربة، وعرب متعربة، وعرب مستعربة. أو عرب عاربة وعرباء وهم الخلص، والمتعربة. واتفقوا أو كادوا يتفقون على تقسيم العرب من حيث النسب إلى قسمين: قحطانية، منازلهم الأولى في اليمن. وعدنانية، منازلهم الأولى في الحجاز1.
واتفقوا، أو كادوا يتفقون على أن القحطانيين هم عرب منذ خلقهم الله، وعلى هذا النحو من العربية التي نفهمها ويفقهها من يسمع هذه الكلمة. فهم الأصل، والعدنانية الفرع، منهم أخذوا العربية، وبلسانهم تكلم أبناء إسماعيل بعد هجرتهم إلى الحجاز، شرح الله صدر جدهم إسماعيل، فتكلم بالعربية، بعد أن كان يتكلم بلغة أبيه التي كانت الإرمية، أو الكلدانية، أو العبرانية على بعض الأقوال2.
ونجد الأخباريين والمؤرخين يقسمون العرب أحيانًا إلى طبقتين: عرب عاربة، وعرب مستعربة. ويدخلون في العرب العاربة عادًا وعبيل ابني "عوص بن إرم"،
__________
1 ابن خلدون "2/ 16" "طبعة بولاق"، الهلال: الجزء العشرون، السنة الخامسة حزيران، 1897 "ص768 فما بعدها"، تاج العروس "3/ 333"، "الكويت"
2 مرج الذهب "1/ 262"، نهاية الأرب، للنوبري" 2/ 292".(1/294)
وثمود وجديس ابني "جاثر بن إرم"، وعمليق وطسم وأميم بني "لوذان بن إرم"، و "بني يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام"، وهم: جرهم، وحضرموت، والسلف، وجاسم بن عمان بن سبأ بن يقشان بن إبراهيم1. أما "الهمداني"، فقد عدّ كل القبائل التي أولها "جاسم" وآخرها "عَبس الأولى" من العرب العاربة2. والقبائل المذكورة هي "جاسم" الذين نزلوا بعمان والبحرين، وبنو هيف، وسعد، وهزان الأولى، وبنو مطر، وبنو الأزرق، وبنو بديل، وراجل، وغفار، وتيماء، وبنو أثابر، وبنو عبد ضخم3.
وظل الرواة يتوارثون هذا التقسيم كلما بحثوا في تأريخ العرب قبل الإسلام، وفي موضوع الأنساب. ولا حاجة بنا إلى أن نعود، فنقول: إن كل ما روي من هذا التقسيم وما رواه الرواة من أخبار تلك الطبقات، لم يردْ إلينا من النصوص الجاهلية، وإنما ورد إليها متوترًا من الكتب المدوّنة في الإسلام، لذلك لا نستطيع أن نجرؤ فنقول: إن هذا التقسيم وضعه الجاهليون، وتوارثوا كابرًا عن كابر، حتى وصل إلى صدر الإسلام، ثم منه إلينا.
وتقسيم العرب إلى طبقات -وذلك من ناحية القدم والتقدم في العربية- هو تقسيم لا نجد له ذكرًا لا في التوراة أو الموارد اليهودية الأخرى ولا في الموارد اليونانية أو اللاتينية، أو السريانية. ويظهر أنه تقسيم عربي خالص، نشأ من الجمع بين العرب الذين ذكر أنهم بادوا قبل الإسلام، فلم تبقَ منهم غير ذكريات، وبين العرب الباقين، وهم إما من عدنان، وإما من قحطان.
وجماع العرب البائدة في عرف أكثرها أهل الأخبار، هم: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وأميم، وجاسم، وعبيل، وعبد ضخم، وجرهم الأولى، والعمالقة، وحضورًا4. هؤلاء هم مادة العرب البائدة وخامها، وهم أقدم طبقات العرب على الإطلاق في نظر أهل الأخبار.
__________
1 المحبر "ص395".
2 الإكليل"1/ 75".
3 الإكليل"2/ 72 فما بعدها".
4 الطبري "1/ 103 فما بعدها"، "1/ 203 فما بعدها"، طبعة "دار المعارف"، وتجد اختلافا في الأنساب، التنبيه والإشراف "157"، "طبعة الصاوي، "العرب العاربة سبع قبائل" "وهم تسع قبائل" "وهم تسع قبائل" تاج العروس "3/ 333"، "الكويت"،(1/295)
أما عاد، فإنهم من نسل "عاد بن عوص بن إرم". وأما ثمود فمن نسل "ثمود بن غاثر بن إرم". وأما "طسم"، فمن نسل "طسم بن لاوذ". وأما "جديس"، فمن نسل "جديس بن غاثر بن إرم"، في رواية أو من نسل "جديس بن لاوذ بن سام" على رواية أخرى1. وأما "أميم"، فإنهم من نسل "أميم بن لاوذ بن سام"2. وأما "جاسم"، فمن نسل "جاسم"، وهو من العماليق أبناء "عمليق"، فهم إذن من نسل "لاوذ بن سام". وأما "عبيل"، فإنهم من نسل "عبيل بن عوص بن إرم"3. وأما "عبد ضخم"، فمن نسل "عبد ضخم" من نسل "لاوذ"، وقد جعلوا من صُلْب "أبناء إرم" في رواية أخرى. وأما "جرهم الأولى"، فمن نسل "عابر"، وهم غير جرهم الثانية، الذين هم من القحطانيين4. وأما العمالقة، فإنهم أبناء "عمليق بن لاوذ"، وأما "حضورا"، فإنهم كانوا بالرّسّ، وهلكوا.
نرى مما تقدم أن أهل الأخبار قد رجعوا نسب العرب البائدة إما إلى "إرم"، وإما إلى "لاوذ"، باستثناء "جرهم الأولى" الذين ألحق بعض النسابين نسبهم بـ "عابر". وهذه الأسماء هي أسماء توارتية، وردت في التوراة، وأخذها أهل الأخبار من منابع ترجع إلى أهل الكتاب، وربطوا بينها وبين القبائل المذكورة، وكوّنوا منها الطبقة الأولى من طبقات العرب.
و"إرم"، هو شقيق "لاوذ" في التوراة، وأبوهما هو "سام بن نوح"، وقد ترك "سام" هذا من الأولاد "أشور" asshur و "أرفكشاد" و "لود"و "إرم" و "عيلام". كما ورد في التوراة5. وقد أجرى أصحاب الأخبار بعض التحوير والتغيير في هذه الأسماء، بأن صيّروا "أشور" "أشوذ" و "انشور" و "أرفكشاد" "أرفخشذ"، و "لود" "لاوذ"، و "عيلام" "عويلم". أما "إرم"، فقد أبقوه ولم يغيّروا في شكله6.
__________
1 "وولد للاوذ بن سام: طسم وجديس"، الطبري "1/ 204، 206"، "دار المعارف".
2 الطبري: 1/ 203، "دار المعارف".
3 الطبري ":1/ 203 وما بعدها"، "عوض"، الكامل "1/ 31"، مروج "1/ 24".
4 ابن خلدون "2/ 7، 30"، صبح الأعشى "1/ 314".
5 "آشور" "أشور" asshur أرفكشاد، أرفخشن، arpachshad لود، lud لوديم، ludim إرم aram "عيلام"، elam
6 الطبري "203"، "دار المعارف".(1/296)
ولا نجد لـ "لود" أي "لاوذ" ولدًا في التوراة. فأولاده المذكورون هم هدية من أهل الأخبار قدمت إليه. أما "إرم"، وهو "آرام" في التوراة، فإن له من الأولاد "عوص" و "حول" و "ماش" و "كيثر"1. ولم تذكر التوراة ولدًا لهؤلاء الأبناء الأربعة، فالأولاد الذي ذكرهم أهل الأخبار، على أنهم ولد "عوص" و "كيثر" "غاثر" "كاثر"، هم هبة من الأخباريين قدموها إلى هذين الأخوين.
وأما "لود" الذي صار "لاوذ"، عند أهل الأخبار، فإن آراء الباحثين في التوراة مختلفة في المراد منه. وقد ظن بعضهم أنه جدّ "اللوديين"، وذكر هؤلاء "اللوديين" مع "كوش" و "فوط"، وبين "فارس" و "فوط".
وأما "لود" أبوهم، فإنه ابن "مصرايم" أي مصر2. ويحملنا هذا على التفكير في أنهم شعب من شعوب إفريقيا. ولكن هذا الرأي يخالف ما جاء عن "لود" من أنه ابن "سام"، وأنه شقيق لإخوته المذكورين الذين تقع أملاكهم في الهلال الخصيب، ومقياسًا على هذه المواضع يجب أن يكون ملكه في هذه الأرضين أيضا. ومهما يكن من شيء، فإن آراء العلماء متباينة في مواضع نسله، ولم ينوّه أحد منهم أنها في جزيرة العرب3.
وأما عوص، فإن آراء العلماء متباينة كذلك في المكان المنسوب إليه، فذهب بعضهم إلى أن أرض "عوص" يجب أن تكون على تخوم "أيدوم"4 أو تخوم العربية الشمالية، وذهب بعض آخر إلى أنها المناطق التي على نهر الفرات، وذهب بعضهم إلى أنها في منطقة "حوران" وذهب بعض آخر إلى أنها أرض "دمشق" و"اللجاة" "اللجاء"5، وذهب آخرون إلى أنها في الحجاز أو في نجد6. ورأى بعض أهل الأخبار أن منزل "عوص" هو "الأحقاف"7.
__________
1 "عوص" uz "حول" hul ماش mazh كيثر –كاثر- جاثر-غاثر- gether التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 23.
2 "مصرايم"، mizraim
3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 299"، hastings, p,, 557
4 "أيدوم"، "idumaea" "edom".
5 trachonitis.
6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 126"، hastings, p,, 956.
7 الطبري "1/ 206"، "دار المعارف.(1/297)
وأرض "عوص" هي موطن "أيوب" الشهير صاحب السفر المعروف باسمه، والذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وضُرب به المثل في الصبر.
وأكاثر "جاثر" "gether"، فلا يعلم من أمره شيء1، ويجب أن تكون مواطن "الكاثريين" في الهلال الخصيب، أو في بادية الشام، أو في التخوم الشمالية لجزيرة العرب، وذلك نظرًا لوروده مع "عوص" و "ماش".
وقد جعل أهل الأخبار "النبط" من نسل "نبيط بن ماش"، وجعلوا أهل الجزيرة والعال من ولد "ماش" كذلك2. أما النبط في التوراة، فإنهم "نبيوت"3 نسبة إلى الابن الأكبر لأبناء "إسماعيل" المسمى بـ "نابت" عند أهل الأخبار4 وليس ل "ماش" علاقة به وبالنبط. وأما "ماش"، فإنه كناية عن موضع سكنه جماعة عُرفوا بهذا الاسم، لعله "بادية ماش" "صحراء ماش" المذكورة في الكتابات الأشورية، وهي في البادية الكبيرة المسماة "بادية الشام"5.
__________
1 hastings, p,, 292.
2 الطبري "1/ 207".
3 "نبيوت"، nebaioth.
4 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرين، الآية 13، أخبار الأيام الأول، الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 29، hastings, P., 648
5 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 23، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 17، hastings, p,, 590.(1/298)
العرب البائدة:
ونحن جريًا مع عادة أهل الأخبار في تقسيم العرب إلى الطبقات الثلاث المذكورة، نبدأ بذكر الطبقة الأولى من طبقات العرب، وهي طبقة العرب البائدة.
وقد شك كثير من المستشرقين في حقيقة وجود أكثر الأقوام المؤلفة لهذه الطبقة، فعدّها بعضهم من الأقوام الخُرافية التي ابتدعتها مَخِيلةُ الرواة، وخاصة حين عجزوا عن العثور على أسماء مشابهة لها أو قريبة منها في اللغات القديمة أو في الكتب الكلاسيكية، وقد اتضح الآن أن في هذه الأحكام شيئا من التسرّع؛ إذ تمكن العلماء من العثور على أسماء بعض هذه الأقوام، ومن الحصول على بعض(1/298)
المعلومات عنها، ومن حلّ رموز بعض كتاباتهم مثل الكتابات الثمودية. وقد اتّضح أن بعض هذه الأقوام أو أكثرها قد عاشوا بعد المسح ولم يكونوا مُمْعِنِين في القدم على نحو ما تصوّر الرواة. ولعلّ هذا كان السبب في رسوخ أسمائهم في مَخِيلة الأخباريين.
وأبدأ الآن بالتحدث عن "عاد":
عاد: وإذا جارينا الأخباريين، وسرنا على طريقتهم في ترتيب الشعوب العربية، وجب علينا تقديم طسم وعمليق وأميم وأمثالهم على عاد وثمود، لأنهم من أبناء "لاوذ بن سام" شقيق "إرم"، وعاد وثمود من حَفَدة "إرم بن سام". ولكن الأخباريين يقدمون عادًا على غيرهم، ويبدءون بهم، وهم عندهم أقدم هذه الأقوام، ويضربون بهم المثل في القدم1. ومثلهم في ذلك مثل أخباريي العبرانيين الذين عدّوا العمالقة أول الشعوب2. ولعلّ هذه النظرية تكوّنت عند الجاهليين من قدم عاد، أو من ورود اسم عاد في القرآن الكريم في سورة الفجر3 ثم مجيء اسم "ثمود" بعد ذلك. ولهذا صاروا إذا ذكروا "عادا" ذكروا "ثمودا" بعدها في الترتيب. فلورودهما في القرآن الكريم قدما على بقية الأقوام.
وقد أورد "الطبري" ملاحظة مهمة عن قوم "عاد" وعن رأي أهل الكتاب فيهم؛ إذ قال: "فأما أهل التوراة، فإنهم يزعمون أن لا ذكر لعاد ولا ثمود ولا لهود وصالح في التوراة، وأمرهم عند العرب في الشهرة في الجاهلية، والإسلام كشهرة إبراهيم وقومه4". ويظهر من ذلك أن المسلمين حينما راجعوا اليهود يسألونهم علمهم عن عاد وأمثالهم، أخبروهم بعدم وجود ذكرهم في التوراة. والواقع أن التوراة لا علم لها فيهم. فأحاديث عاد وثمود وهود وصالح إنما هي أحاديث عربية، تحدث بها الجاهليون، وليس لها ذكر في كتب يهود، ولكن أهل الأخبار ربطوا مع ذلك بينها وبين التوراة، وأوجدوا لها صلةً ونسبًا
__________
1 ومنهم من رأى أنهم أبناء "إرم" اللسان "14/ 280".
2 التكوين، الإصحاح الرابع والعشرون، آية 20، قاموس الكتاب المقدس "2/ 113" hastings, p,,24.
3 سورة الفجر، رقم 89، الآية 6 فما بعدها.
4 الطبري "1/ 232".(1/299)
بأسماء أعيان وردت في التوراة. ولكن عملهم هذا لا يخفى بالطبع على مَن له وقوف على التوراة.
وأكثر هذه الأقوام أقوام متأخرة عاشت بعد الانتهاء من تدوين التوراة، عاشت بعد الميلاد في الغالب، ولعلّ منها مَن عاش إلى عهد غير بعيد عن الإسلام. ثم إن التوراة والكتب اليهودية الأخرى لم تهتم إلا بالشئون التي لها علاقة بالعبرانيين، وهي ليست كتبًا في التواريخ العامة للعالم حتى تكتب عنهم وعن أمثالهم من قبائل. أما بقاء أخبار قوم عاد ومَن كان على شاكلتهم من العرب البائدة في ذاكرة أهل الأخبار، فلأنهم عاشوا بعد الميلاد، وفي عهد غير بعيد عن الإسلام، ومع ذلك، فقد أخذتْ أخبارهم طباع القصص والأساطير.
وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى أن عادًا هي "هدورام" في التوراة1. ودليلهم على ذلك اقتران عاد بإرم في الكتب العربية، وبعض القراءات التي قرأت "بعاد إرم" في الآية: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} 2 على الإضافة، أو مفتوحتين، أو بسكون الراء على التخفيف، أو بإضافة إرم إلى ذات العماد. وبين "عاد إرم" و "هدورام" تشابه كبير في النطق3.
ولكن التوراة تشير إلى أن "هدورام" من نسل "يقطان"، أي قحطان في الكتب العربية، وهذا لا يستقيم مع الروايات. ويردّ "جرجى زيدان" على هذا الاعتراض بقوله، "ولعل كاتب سفر الخليقة رأى مقر تلك القبيلة في بلاد اليمن؛ فقال إنها من نسل قحطان، لأن مقام عاد في الأحقاف بين حضرموت واليمن، وكثيرًا ما التبس علماء التوراة في هدورام أو هادرام ومقر نسله، ولم يهتدوا إلى شيء عنه، مع أنهم اهتدوا إلى أماكن أكثر أبناء قحطان، وكلها بجوار الأحقاف، فعاد هي "هدروام" في التوراة. وإما أن يكون كاتب سفر الخليقة أراد بيان القبائل التي سكنت اليمن، وكلها ينسب إلى قحطان، فرأى عاد إرم في جملتها، فجعله من أولاد قحطان وبعبارة أخرى: من القبائل
__________
1 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 27، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 21 الإكليل"8/ 162".
2 سورة الفجر، الآية 6 فما بعدها.
3 الهلال: الجزء الثالث والعشرون، السنة السادسة، آب 189م "ص 890".(1/300)
المتفرعة عن قبيلة قحطان، وإما أن يكون بالحقيقة من نسل قحطان، وهم العرب في نسبته إلى آرام"1.
ورأى "فورستر" وجود صلة بين "عادة"، وهو اسم زوجة "لامك"، وبين "عاد"، وهي والدة "يابال" الذي كان أبًا لسكان الخيام ورعاة المواشي2، ونسلها من الأعراب. وقوم عاد من الأعراب كذلك. وذهب أيضا إلى أن هؤلاء هم oaditae وهو اسم "قوم ذكرهم "بطليموس"3" على أنهم كانوا يقيمون في الأرضين الشمالية الغربية من جزيرة العرب4، ولعلّهم كانوا يقيمون عند موضع "بئر إرم"، وهي من الآبار القديمة في منطقة "حسمى" على مقربة من جبل يعرف بهذا الاسم في ديلر جُذام بين أيلة وتيه بني إسرائيل5. ولا يبعد هذا الموضع عن أماكن ثمود الذين ارتبط اسمهم باسم عاد. وقد أيّد هذا الرأي "شبرنكر" وجماعة من المستشرقين، وهو أقرب الآراء إلى الصواب.
وذهب الأخباريون إلى وجود طبقتين لقوم عاد هما: عاد الأول، وعاد الثانية، وكانت عاد الأولى، في زعم أهل الأخبار، من أعظم الأمم بطشًا وقوة، وكانت مؤلفة من عدة بطون تزيد على الألف، منهم: رفد، ورمل، وصد، والعبود6. والظاهر أن فكرة وجود طبقتين لعاد قد نشأت عند الأخباريين من الآية: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} 7، فتصوّروا وجود عاد ثانية، قالوا إنها ظهرت بعد هلاك عاد الأولى8.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن "عادًا الأولى"، هو "عاد بن عاديا بن سام بن نوح"، الذين أهلكهم الله، وأوردوا في ذلك بيت شعر ينسب
__________
1 المصدر نفسه.
2 التكوين، الإصحاح الرابع، الآية 20.
3 Forster, vol. 2. P. 32 ff.
4 Forster, bol. 2. P. 32, Enc. Vol. I, P. 121, Sprenger Geogra. S. 207.
5 البلدان "1/ 196"، صفة "ص129".
Enc, vol. I, P. 121, Sprenger, S. 207, Wensink und J H Kramers, Handworterbuch des Islam, Leiden, 1941, S. 13.
وسأرمز إليه بـ: Wensink
6 الهلال: الجزء نفسه، "ص891".
7 سورة النجم، سورة رقم 53، الآية 50 فما بعدها.
8 ابن خلدون "2/ 20".(1/301)
إلى "زهير"1. وأما عاد الأخيرة، فهم "بنو تميم" وينزلون برمال عالج2. وذهب الطبري إلى أن عادًا الأولى، هم نسل بن عوص بن إرم بن سام بن نوح3، وأن عادًا الأخيرة هم رهط قيل بن عتر، ولقيم بن هزّال ابن هزيل بن عُتَيل بن صد بن عاد الأكبر، ومرشد بن سعد بن عفير، وعمرو بن لقيم بن هزّال، وعامر بن لقيم، وعمرو بن لقيم بن هزّال، وكانوا في أيام "بكر بن معاوية"4 صاحب "الجرادتين"، وهما قينتان له تغنّيان5. وقد هلكوا جميعا إلا "بني اللوذية"، وهم "بنو لقيم بن هزّال ابن هزيل بن هزيلة ابنة بكر"، وكانوا سكانًا بمكة مع أخوالهم "آل بكر بن معاوية"، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم فهم عاد الأخيرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد6.
وجعل بعض أهل الأخبار عدد قبائل عاد ثلاث عشرة قبيلة7، ذكروا منها: "رفد" و "زمل" و"صد" و "العبود"8.
وجعلها "الهمداني" أحد عشر قبيلة وهي: العبود، والخلود، وهم رهط هود النبيّ المرسل، وفيهم بيت عاج وشرفهم، وهم بنو خالد. وقيل: بنو مخلد، وبنو معبد، ورفد، وزمر وزمل، وضد وضمود9، وجاهد، ومناف، وسود، وهوجد10.
وقد ذهب العلماء مذاهب في تفسير المراد من "إرم ذات العماد" في الآية: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} 11 فذهب بعضهم إلى أن
__________
1 "وأهلك لقمان بن عاد وعاديا"، ابن خلدون "2/ 20"، اللسان "4/ 317".
2 اللسان "4/ 317".
3 الطبري "1/ 216" "طبعة دار المعارف".
4 الطبري "1/ 219" "دار المعارف"، وورد "معاوية بن بكر" في رواية أخرى.
5 الطبري "1/ 221 وما بعدها".
6 المصدر نفسه.
7 المعارف "14".
8 أتأمرنا لنترك أل رفد
وزمل وآل صد والعبود
الطبري "1/ 221" "دار المعارف".
9 "ضد" و "ضمود"، هكذا ضبط محقق الإكليل"1/ 87"، اللفظتين، وقد ضبطتا بحرف "الصاد" "صد" و "صمود"، أكثر المؤلفات الأخرى.
10 الإكليل"1/ 87".
11 سورة الفجر، سورة رقم 89، الآية 6 فما بعدها، اللسان "14/ 280".(1/302)
"إرم ذات العماد" مدينة في "تيه أبْيَنَ" بين عدن وحضرموت، وذهب آخرون إلى أنها دمش1 أو الإسكندرية2. والذي دعاهم إلى هذا الرأي -على ما أرى- هو كثرة وجود المباني ذوات العماد في هاتين المدينتين وما عرف عنهما من القدم، فوجد الأخباريون فيهما وصفًا ينطبق على وصف إرم ذات العماد3. وقد خلقت "باب جيرون" من أبواب دمشق قصة "جيرون بن سعد ابن عاد" الذي قالوا فيه إنه ملكًا من ملوكهم، وإنه الذي اختط مدينة دمشق، وجمع عُمُد الرخام والمرمر إليها، وسماها "إرم"4.
وهناك مناسبة أخرى جعلت بعض العلماء يذهبون إلى أن دمشق هي "إرم" أو "إرم ذات العماد"، فقد كانت دمشق -كما هو معروف- من أهم مراكز الإرميين "الآراميين"، وكانت عاصمة من عواصمهم. ولهذا السبب أيضا قال نفر من الباحثين إن "إرم" تعين "أرام"، وأن عادًا من "الآراميين"، وأن "عاد إرم" إنما تعني "عاد أرام"، فالتبس الأمر على المؤرخين وظنوا أن ذات العماد صفة، فزعموا أنها مدينة بناها عاد5. غير أنه قول لا يؤيده دليل يثبت أن "إرم" في هذا الموضع تعني "أرام"6. ومن الجائز أن تكون "إرم ذات العماد"، هي التي أوحت إلى النسّابين فكرة جعل "عاد" من نسل "عوص بن إرم"، لتشابه اسم "أرام" و "إرم" عند العرب التي هي "آرآم" فأصبحت عاد من الإرميين.
__________
1 الإكليل"8/ 33"، "طبعة نبيه"، صفة "80"، البكري "1/ 140" "طبعة السقا"، منتخبات "2" سبائك الذهب، للسويدي "15".
2 البلدان "1/ 197"، منتخبات "2"، مروج "2/ 420 فما بعدها"، "طبعة مينارد"،
Bosaor, Numger 73, February, 1939 P. 13, Koranic Iram, Legendary and Historical, by, Harold W. glidden.
3 "والعجم تذكر أن إرم ذات العماد بدمشق، وأن جيرون بن سعد بن عاد بني مدينتها، وسماها جيرون ذات العماد، لكبر أعمدة حجارتها"، الإكليل"8/ 33" "طبعة نبيه".
4 ابن خلدون "2/ 19"، المسعودي، مروج "2/ 420" الإكليل"33" "طبعة نبيه"
BOASOR, Numger 73, P. 13. 1939
5 "وكان يقال لعاد في دهرهم عاد إرم"، الطبقات "1/ 1 ص19"، البكري، معجم "1/ 48".
6 Enc., Vol. I, P., 121.(1/303)
ويرى بعض المستشرقين أن الذي حمل الأخباريين على القول إن "الإسكندرية" هي "ارم ذات العماد"، هو أثر قصص الإسكندر في الأساطير العربية الجنوبية ذلك الأثر الذي نجده في كتب القصاص اليمانيين، في مثل كتاب "التيجان" المنسوب إلى وهب بن منبه، وفي الرواية اليمانية. وقد حاول الإسكندر كما نعرف احتلال اليمن، فغدا "شداد بن عاد" بانيًا للإسكندرية، وأصبح "الإسكندر" مكتشفًا لها1.
وقد فسر العلماء لفظة "إرمي" الواردة في بيت الحارث بن حلزة اليشكري:
ارَميّ بمثله جالت الجن ... فآبت لخصمها الأجلاء
بأنها نسبة إلى "إرم عاد" في قدم ملكه، وقيل في حلمه2.
ونسب بعض أهل الأخبار ل "عاد" ولدًا، دعوه "شدادا" قالو: أنه كان قويًا جبارًا، سمع بوصف الجنة، فأراد بناء مدينة تفوقها حسنا وجمالا، فأرسل عمّاله، وهم: "غانم بن علوان"، و "الضحاك بن علوان"، و "الوليد بن الريان"، إلى الآفاق، ليجمعوا له جميع ما في أرضهم من ذهب وفضة ودرّ وياقوت، فابتنى بها مدينته، مدينة "إرم" باليمن، بين حضرموت وصنعاء، ولكنه لم ينعم بها إذ كفر بالله، ولم يصدق بنبوة "هود"، فهلك. وتولّى من بعده ابنه "شديد"3.
وزعم بعض النسّابين أن نسب "شداد" هو على هذه الصورة: "شداد ابن عمليق بن عويج بن عامر بن إرم"، فأبعدوه بذلك عن "عاد". وقيل في نسبه غير ذلك4.
ويفهم من القرآن الكريم أن مساكن "عاد" بالأحقاف، {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} 5. والأحقاف: الرمل بين اليمن وعُمان إلى
__________
1 BOASOR Number, 73, P. 13, 1939.
2 المعاني الكبير "2/ 826".
3 وقيل أخوه، البلدان "1/ 198"، "يقول اليمانية وأكثر العلماء في البلاد: إن إرم ذات العماد في تيه أبين، وهو غائط بين حضرموت وبين أبين"، الإكليل"8/ 33".
4 "عويج"، البلدان "1/ 199".
5 سورة الأحقاف، سورة رقم 46، الآية 21، اللسان "10/ 398".(1/304)
حضرموت والشحر1. وديارهم بالدوّ والدهناء وعالج ويبرين ووبار إلى عمان إلى حضرموت إلى اليمن. وقد اندفع أكثر الأخباريين يلتمسون مواضعهم في الصحاري؛ لأنها أنسب المواضع التي تلائم مفهوم الأحقاف، فوضعوا من أجل ذلك قصصًا كثيرًا في البحث عن مواطن عاد وقبور عاد، ورووا في ذلك كثيرًا من قصص المغامرات التي تشبه قصص مغامرات لصوص البحر2.
وفي بعض الأخبار: أن "عادا" لحقت بالشحر، فسكنت به، وعليه هلكوا بوادٍ يقال له "مغيث". فلحقتهم بعد "مهرة" بالشحر3. وقد سبق أن قلت: إن oaditae الذين ذكرهم "بطلميوس" هم قوم "عاد"، وإنهم كانوا يسكنون في الأرضين الشمالية الغربية من جزيرة العرب في منطقة "حسمي"، أي في أعالي الحجاز، وعلى مقربة من مناطق ثمود. وهو أقرب إلى الصواب، إذ اقترن ذكر عاد في القرآن بذكر {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} 4. "حسمى" أقرب إلى هذا الوصف من الرمال. ولم يعيّن القرآن موضع الأحقاف، وإنما عيّنه المفسرون، ولا يحتم تفسيرهم تخصيص الأحقاف بهذا المكان، حيث جعلوا رمال "وبار" في جملة المناطق التي كانت لعاد5.
وقد ذهب "موريتس" إلى أن موضع "aramaua" الذي ورد عند "بطلميوس"، وهو "إرم"، أو "إرم ذات العماد". ويقال له الآن "رم"6. وقد أيد "موسل" رأي "موريتس" غير أنه لم يذهب إلى ما ذهب إليه من أنه "إرم"7. وقد أظهرت الحفريات التي قام بها "المعهد الفرنسي" في القدس، صحة هذا الرأي؛ إذ ورد في الكتابات "النبطية" التي عثر عليها في خرائب معبد اكتشف في "رم" أن اسم الموضع هو "إرم"8. فيتضح من
__________
1 ابن خلدون "2/ 19"، "والحقف وجمعه أحقاف، وهي الرمال. وكانت الأحقاف رمالًا قبل عمان إلى حضرموت. قال: وكانت منازل عاد"، المفضليات "15" "والأحقاف: رمال بأعبانها في أسفل حضرموت"، منتخبات "2"
2 المعارف "14".
3 الطبري "1/ 208" "دار المعارف".
4 الفجر، سورة رقم 89، آية 9.
5 ديوان الطرماح، "طبعة كرنكو"، "148".
6 B. Moritz, AusfJuege in der Arabia Petraea, in MFOB, HI, S., 395.
6 Musil, The Northern Hegaz, P. 273, BOASOR, Number, 73, P. 15 (1939)
7 BOASOR, Number, 73, P. 15, (1939) .
8 BOASOR, Number 73, P. 15, (1939) .(1/305)
ذلك أن هذا الموضع حافظ على اسمه القديم، غير أنه صار يُعرف أخيرًا ب"رم" بدلا من "إرم".
وفي سنة 1932 قام "هورسفيلد" horsfield من دائرة الآثار في المملكة الأردنية الهاشمية بحفريات في موضع جبل "رم"، ويقع على مسافة "25" ميلا إلى الشرق من العقبة، ويقع المكان الذي بحث فيه عند وادٍ، وعلى مقربة منه "عين ماء"، ووجد في جانب الجبل آثارًا جاهلية قديمة1. وقد حملت اكتشافاته هذه واكتشافات "سافينياك" savignac واكتشافات "كليدن" h. w. glidden على القول: إن هذا المكان هو موضع "إرم" الوارد ذكره في القرآن، والذي كان قد حلّ به الخراب قبل الإسلام، فلم يبقَ منه عند ظهور الإسلام غير عين ماء كان ينزل عليها التجار وأصحاب القوافل الذين يمرون بطريق الشام -مصر- الحجاز2.
وذكر "ياقوت الحموي" اسم مكان سمّاه "جش إرم"، قال إنه اسم جبل عند "أجأ" أحد جَبَليْ طيء، أملس الأعلى، سهل ترعاه الإبل، وفي ذروته مساكن لعاد وإرم، فيه صور منحوتة من الصخر3. ففرّق "ياقوت" هنا بين عاد وإرم، وجعلها قومين: قوم عاد وقوم إرم، وقد تكوّن الواو بين الكلمتين زيادة من الناسخ، فيبطل حينئذ الاستدلال على تفريق ياقوت بينهما. وفي الكتب العربية أسماء محلات أخرى قديمة عثر فيها على نقوش وتماثيل، وُصفت أنها من مساكن قوم عاد.
وبالإضافة إلى المواضع التي أشير فيها إلى "عاد" في القرآن الكريم4، فقد أشير إليهم في الشعر الجاهلي كذلك في شعر طرفة5 وفي شعر النابغة6 وفي شعر
__________
1 BOASOR, Number 73, P 14, (1939) , Revue Biblique, XLJ, (1932) , PP. 581, XLII, (1933) , PP., 405, XT.TTT, (1934) , PP., 572, XLIV, (1935) , PP. 245
2 BOASOR, Number 73, P. 15, (1939)
3 بالفتح والضم ثم التشديد، النجفة وفيه ارتفاع، البلدان "3/ 107".
4 سورة الحج، رقم 22، آية 42، سورة الحاقة، 69، آية 4، 6، سورة الفرقان، 25، آية 38، سورة فصلت، 41، آية 13، سورة الأعراف، 7، آية 65، سورة هود، أية 50.
5 طرفة 1، 8، Enc,, vol,, I, p, 121
6
أحلام عاد وأجساد مطهرة ... من المعفة والآفات والإثم
ديوان النابغة مع شرحه للبطليوسي" 74"،
للبطليوس "74"، Enc,, vol,,I, p, 121(1/306)
زهير1 وفي شعر الهُذَليين2، وفي شعر طفيل بن عوف الغنوي3، وفي شعر "متمم بن نُوَيْرَة" شقيق "مالك بن نويرة"، وهو من الشعراء المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام4، وفي شعر "أمية بن أبي الصلت"، وهو ممن عاش في أيام الرسول كذلك5، وفي شعر غيرهم من الشعراء الجاهليين المخضرمين6.
وورد في شعر لزهير بن أبي سُلمي "أحمر عاد"7، وضرب المثل بشؤم أحمر عاد، فقيل: أشأم من أحمر عاد8. وجعل الشاعر "أبو خداش الهذلي" "كليب وائل" كأحمر عاد في الشؤم، وذلك بسبب الحرب التي هاجت بين
__________
1
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
معلقة زهير، البيت 32، enc,, i, p,, 121
2 ديوان الهذليين، ixxx, 6، 31، ديوان هذيل، 31، 5
3 شعر طفيل بن عوف الغنوي، رواية أبي حاتم السجستاني عن الأصمعي "طبعة لوزاك 1927"، سلسلة "كب" بعناية "ف. كرنكو"، "ص135، 148"، "لنا الجبلان من أرمان عاد".
4
أفنين عادًا ثم آل محرق ... فتركنهم بلدًا وما قد جمعوا
شرح المفضليات "ص78"، "2/ 24"، ملحوظة 40، المفضليات "ص14" "طبعة السندوبي".
5
فقال: ألا لا تجزعي وتكذبي ... ملائكة من رب عاد وجرهم
ديوان "أمية بن أبي الصلت"، "طبعة بشير يموت" "ص58"، بيروت 1938
Friedrich Schulthess, uman ibn Abi-salt, Leipzig, 1911, S. 48.
6 سويد بن أبي كاهل:
غلبت عادًا ومن بعدهم ... فأبت بعد فليست تتضع
المفضليات "404"، قول "صريم بن معشر بن ذهل" الملقب بأفنون من شعراء الجاهلية:
لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... ربيت فيهم ولقمان ومن جدن
المفضليات "ص525"، وقال الطرماح بن حكيم:
لنا الجبلان من أرمان ومن عاد ... ومجتمع إلا لاءة والغضاة
ديوان الطرماح "ص135"، "سلسلية كب"، لندن 1927، بعناية "كرنكو".
7
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
معلقة زهير، بيت 32.
8 الأمثال "ص11"، "طبعة حيدر أباد الدكن"، ابن قتيبة الدينوري، المعاني الكبير" 2/ 879، 1023".(1/307)
بكر وتغلب1. وقد نص "ابن قتيبة الدينوري" على أن المراد من "أحمر عاد" "أحمر ثمود" الذي عقر الناقة2.
ويدل ورود خبر "عاد" في القرآن الكريم وفي الشعر الجاهلي على أن القصة كانت شائعة بين عرب الجاهلية معروفة عندهم، وأنهم كانوا يتصوّرون أن قوم "عاد" كانوا من أقدم الأقوام، ولذلك ضُرب بقدمهم المثل حتى إنهم كانوا ينسبون الشيء الذي يريدون أن يبالغوا بقدمه، إلى عاد، فيقولون إنه "عادي".
وإذا رأوا أثرًا قديمًا أو أطلالًا قديمة عليها نقوش لا يعرفون صاحبها، قالوا إنها عاديّة، أي من أيام عاد3. وإذا رأوا بناءً قديما لا يعرفون صاحبه، قالوا إنه بناء عادي4. وقد تحدث "المسعودي" عن أشجار عادية، أي قديمة جدًا5. ولهذا السبب رأى "ولهوزن"6 أن كلمة "عاد" لم تكن اسم علم في الأصل، بل كان يراد بها القدم، وأن كلمة "عادي" تعني منذ عهد قديم جدًّا، وكذلك كلمة "من عاد" أو "من العاد"، أو من "عهد عاد". وأن المعنى هو الذي حمل الناس على وضع تلك الأساطير عن أيام "عاد"7.
وقد جعل بعض الشعراء أيام "عاد" من أوليات الزمان، التي جاءت بعد نوح"8 وجعل بعض آخر لفظة "إرمي"؛ بمعنى "عادي"، أي قديم
__________
1 المعاني الكبير "2/ 1023".
2 المعاني الكبير "2/ 879، 1023".
3
لعادية من السلاح استعرتها ... وكان بكم فقر إلى الغدر أو عدم
المفضليات "ص 613"، "والعادي الشيء القديم"، اللسان "4/ 317"، الحماسة "طبعة فرايتاغ" freytag "1/ 195، 341"،
Causin de Perceval, Essai, vol. I, P. 259, Biochet, Le culte D'Aphrodite.
4 Sprenger, Das Leben, Bd. I, S. 512.
5 المصدر نفسه.
6 قال أبو داود الإيادي:
ألا أبلغ خزاعة أهل مر ... وإخوتهم كنانة عن إياد
تركنا دارهم لما ثرونا ... وكنا أهلها من عهد عاد
التنبيه والإشراف "ص175"، "طبعة الصاوي".
7 7wensick, p,, 13
8 وقال بعض طيء:
وبالجبلين معقل ... صعدنا إليه بسمر الصعاد
ملكناه في أوليات الزمان ... من بعد نوح ومن قبل عاد
الإكليل"1/ 90".(1/308)
كأنه من عهد إرم وعاد، أو كأنه في الحكم من عاد1.
وقد ضرب المثل في القرآن الكريم بقدم "قوم نوح" وقوم "عاد وثمود" حتى إن أخبارهم خفيت عن الناس فلا يعلمها إلا الله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} ، وفي ذلك دلالة على أن الناس في أيام الرسول كانوا يرون أن الأقوام المذكورة هي من أقدم الأقوام، ولهذا ذُكّروا بهم للاتعاظ2.
وقد ورد ذكر عاد في الكتاب الذي وجهه "يزيد بن معاوية" إلى أهل المدينة يهددهم فيه بمصير يشبه مصير" عاد وثمود"؛ حيث ينزل بهم عقابًا شديدًا ويصيّرهم حديثًا للناس، "وأترككم أحاديث تنسخ بها أخباركم مع أخبار عاد وثمود"3. وقال: سبيع" لأهل اليمامة: "يا بني حنيفة بعدًا كما بعدت عاد ثمود"4.
وضُرب المثل برجل من "عاد" اسمه "ابن بيض"، زعموا أنه كان من عاد، وكان تاجرًا مكثرًا عقر ناقة له على ثنية، فسدّ بها الطريق على السابلة، فضُرب به المثل5.
وزعم أهل الأخبار أن رجلًا غنيًّا من بقية "عاد" اسمه "حمار" كان متمسكا بالتوحيد، فسافر بنوه، فأصابتهم صاعقة فأهلكتهم، فأشرك بالله وكفر بعد التوحيد، فأحرق الله أمواله وواديه الذي كان يسكن فيه فلم ينبت بعده شيء.
ويزعمون أن "امرأ القيس" الشاعر ذكر ذلك الوادي في شعر له6.
ويذكر أهل الأخبار أن المكان الذي كان فيه "حمار" المذكور هو "جوف"، وهو موضع في ديار عاد، وقد نسب إليه، فقيل "جوف حمار"، نسبة إلى
__________
1 الإكليل"1/ 89 وما بعدها".
2 التنبيه والإشراف "ص82".
3 عيون الأخبار، لابن قتيبة "1/ 202".
4 المصدر نفسه "1/ 233".
5 ورد في شعر بشامة بن عمرو:
كثوب ابن بيض وقاهم به ... فسد على السالكين السبيلا
المفضليات "ص16" "طبعة السندوبي".
6
ووداد كجوف العبر قفر قطعته ... به الذئب بعوي كالخليع المعيل
شرح المعلقات السبع، للزوزني، "ص28" "طبعة دار صادر".(1/309)
"حمار بن مويلع"، فلما أشرك بالله وكفر، أرسل الله نارًا عليه فأحرقته وأحرقت الجوف أيضًا، فصار ملعبًا للجنّ لا يستجرئ أحد أن يمرّ به، والعرب تضرب به المثل، فتقول: "أخلى من جوف حمار"1.
__________
1 البكري، معجم "1/ 405".(1/310)
هود:
ويرد مع قوم "عاد" ذكر نبي منهم، هو "هود"، وقد نعت في القرآن الكريم بـ "أخي عاد": {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} 1. كما نعت القرآن عادًا بقوم هود: {أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} 2. {قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} 3. وقد نسبه الناسبون إلى "الخلود بن معيد بن عاد"4، وإلى "عبد الله بن رباح ابن جاوب بن عاد بن عوص بن إرم"5، وإلى "عبد الله بن رباح بن الخلود ابن عاد بن عوص بن إرم"6، ومن أهل الأنساب من زعم أنه "عابر بن شالخ ابن أرفخشذ بن سام بن نوح"، إلى غير ذلك من روايات7.
وقد وردت قصته مع قومه ونهيه لهم عن عبادة الأصنام في القرآن الكريم8.
وقد ضُرب المثل بكفر رجل من عاد، اسمه "حمار"، فقيل: "أكفر من حمار"، قالوا: "هو رجل من عاد، مات له أولاد، فكفر كفرًا عظيمًا، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه، وإلا قتله"9. وذلك على نحو ما ذكرته عنه قبل قليل. وهي قصة واحدة، رويت بطرق متعددة،
__________
1 الأعراف 7، آية 65، سورة هود، 11، آية 50، الشعراء، 26، آية 124.
2 هود، 11، آية 65.
3 هود، 11، آية 89.
4 نهاية الأرب "13/ 52"، الإكليل"1/ 93".
5 المعارف "14".
6 الطبري "1/ 216" "دار المعارف".
7 الطبري "1/ 216"، ابن خلدون "2/ 20"، البداية والنهاية، لابن كثير "1/ 120"
8 سورة هود، 11 آية 65، 79، الشعراء، 26، آية 124، الأعراف 7، آية 65.
9 اللسان "5/ 295".(1/310)
تختلف في التفاصيل، لكنها متفقة من حيث الفكرة والجوهر، وعليها طابع قصص الوعّاظ وأهل الأخبار. وقد ذكر أصحاب الأخبار أن غالبية "عاد" كفرت بنبوة "هود"، ولم تؤمن به، لهذا أصابها العذاب والهلاك. ولم ينجَ منهم إلا من آمن بـ "هود" واتّبعه وسار معه حين ترك قومه: قوم عاد.
وقد نبّه المستشرقون إلى وجود شبه بين هود و "هود" الواردة في القرآن أيضًا بمعنى "يهود"1: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} 2. وأشاروا إلى أن "هودا" تعني التهوّد، أي الدخول في اليهودية، كما لاحظوا أن بعض النسّابين قالوا إن هودا هو "عابر بن شالح بن أرفكشاد" جدّ اليهود، فذهبوا إلى أن هودًا لم يكن اسم رجل، وإنما هو اسم جماعة من اليهود هاجرت إلى بلاد العرب، وأقامت في الأحقاف، وحاولت تهويد الوثنيين، وعُرفوا بيهوذا، ومنها جاءت كلمة "هود"3، وأنها استعملت من باب التجوّز عَلَمًا لشخص4.
وزعم الرواة أن هودا ارتحل هو ومن معه من المؤمنين بعد النكبة التي حلّت بقومه الكافرين من أرض عاد إلى الشحر. فلما مات دفن بأرض حضرموت5. ويدّعي الرواة أنه قبر في وادٍ يقال له "وادي برهوت" غير بعيد عن "بئر برهوت"التي تقع في الوادي الرئيسي للسبعة الأودية6. وهي من الآبار القديمة
__________
1 اللسان "4/ 451"، القاموس "1/ 349"،
Enc, vol 2, P. 327. f. Hirschfeld, Beitraege zu Erklaerung des Koran Leipzig, 1886, S. 17, Note, 4.
2 البقرة، 2، آية 111، 135، 140
3 الهلال، 23، سنة 6، جزء اب، 1898 "ص894".
4 "والهود: جمع هائد، وهو التائب، والهود،: اليهود، قال الله تعالى: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} . التهويد: المشي الرويد، وفي حديث عمران بن حصين: إذا متّ فخرجتم بي فأسْرِعوا المشي ولا تهوّدوا كما تهوّد اليهود والنصارى"، "وهوّد الإنسان ولده: أي جعله على دين اليهود"، منتخبات "ص111 ما بعدها"، enc,vol,,2, p,, 328.
5 "قال الواقدي: "ما يعلم موضع قبر نبي من الأنبياء، إلا ثلاثة: قبر إسماعيل فإنه تحت الميزاب بين الركن والبيت، وقبر هود، فإنه في حقف من الرمل تحت جبل من جبال اليمن عليه شجرة تندى وموضعه أشد الأرض حرا، وقبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن هذه قبورهم بحق"، الطبقات، القسم الأول من الجزء الأول" ص25"، "تحقيق سخو"، نهاية الأرب "13/ 60"، forster, vol,,2, pp,, 374.
6 البكري، تأريخ حضرموت السياسي "1/ 65 فما بعدها".(1/311)
التي اشتهرت في الجاهلية بكونها شر بئر في الأرض، ماؤها أسود منتن، تتصاعد من جوفها صيحات مزعجة، وتخرج منها روائح كريهة، ولذلك تصور الناس أنها موضع تتعذب أرواح الكفار فيه1.
ويذهب السياح الذين زاروا هذا المكان ودرسوه إلى أنه موضع بركان قديم، يظهر أنه انفجر، فأهلك من كان حوله. ويؤيده هذا الرأي ما ورد في الكتب العربية من أنه كان يسمع لهذا المكان أصوات كالرعد من مسافات، وأنه كان يقذف ألوانًا من الحمم يُسمع لها أزيز راعب2. ومن هنا نشأت قصة قبر هود، وعذاب عاد في هذا الموضع، على رأي المستشرق "فون كريمر"3.
ولا يزال هذا الموضع الذي يقال له "قبر هود"، يزار حتى الآن يقصده الناس من أماكن بعيدة في اليوم الحادي عشر من شعبان للزيارة، وربما كان من الأماكن التي كان يقدسها الجاهليون4.
وفي هذه المناطق آثار مدن بائدة، وقرى جاهلية، وتشاهد كهوف ومغاوِر على حافتي الوادي، وكتابات وصور منقوشة على الصخور تدل كلها على أنها كانت من المناطق المأهولة، وأنها تركت لسبب آفات وكوارث طبيعية نزلت بهذه الديار5.
ورأى نفر من المستشرقين أن هذا المكان الذي فيه قبر "هود" هو الموضع الذي سماه الكتّاب اليونان styx أو stygis، والذي زعم الرومان أن قبيلتين من قبائل جزيرة "اقريطش" "كريت" وهما قبيلة minos و "رودومانتس"
__________
1 البلدان "2/ 157"، "خير بئر في الأرض زمزم، وشر بئر في الأرض برهوت"، منتخبات "ص7"، "برهوت واد معروف قيل هو بحضرموت، وفي حديث علي عليه السلام: شر بئر في الأرض برهوت. هي بفتح الباء والراء، بئر عميقة بحضرموت لا يستطاع النزول إلى قعرها. ويقال: برهوت بضم الباء وسكون الراء"، اللسان "1/ 143"، "2/ 314".
2 تأريخ حضرموت السياسي "1/ 67".
3 "ويفيض وادي ثوبة إلى بلد مهرة، وحيث قبر هود النبي، صلى الله عليه، وقبره في الكثيب الأحمر، ثم منه في كهف مشرف في أسفل وادي الأحقاف، وهو واد يأخذ من بلد حضرموت إلى بلدة مهرة مسيرة أيام، وأهل حضرموت يزورونه هم وأهل مهرة في كل وقت"، صفة "ص7"،
von kremer, uber die suedarabische sage, s,, 21
4 تأريخ حضرموت السياسي "1/ 62"، enc,, vol,,i ,,p,, 634.
5 تأريخ حضرموت السياسي "1/ 62، الهلال: الجزء السادس عشر، السنة السادسة، نيسان 1898 "ص605".(1/312)
rhodomantys تركتا موطنهما الأصلي، وارتحلتا إلى هذا المكان الذي ضم مئات من القبائل العربية، فكانتا من أقواها. وقد سكنتا في رأيهم، على مقربة من موضع سماه "بلينيوس" stygis aguniae fossa1.
أما الأخباريون الذين زعموا أن "هودًا" اعتزل قومه بعد يأسه من قبول دعوته، وأنه ذهب مع من آمن به إلى مكة؛ فقد ذهبوا إلى أنه عاش فيها أمدًا، ثم مات هناك، فقبره بمكة مع قبور ثمانية وتسعين نبيًّا من الأنبياء2.
وذكر جماعة أنه بدمشق في المسجد الأموي3. ولعلّ القصص الوارد عن "دمشق"، وأنها "إرم ذات العماد" هو الذي أوحى إلى هؤلاء فكرة جعل قبر "هود" بدمشق. ومهما يكن من شيء فإن هناك جماعة من أهل الأخبار قبرت بعض الأنبياء في هذه المدينة، واختارت المسجد الأموي نفسه مقبرة لهم. ولعلّ ذلك بسبب أن هذا المسجد كان كنيسة معظّمة قديمة عند أهل دمشق قبل دخولهم في الإسلام، وكان قد قبر فيها جماعة من قديّسيهم ورجال دينهم؛ فلما تحوّلت الكنيسة إلى جامع تحوّلت قبور هؤلاء بعواطف الناس القديمة إلى قبور أنبياء. وقد ظهر مثل هذه الروايات التي تمجد الجامع الأموي في الوقت الذي تحصن فيه "ابن الزبير" بمكة، وتحزّب أهل الحجاز على الأمويين.
وقد اتخذ القحطانيون هودًا جدًّا من أجدادهم، وألحقوا نسبهم به، وتفاخروا به4. فعلوا ذلك بدافع العصبية والمفاخرة على العدنايين الذين كانوا يقولون إن فيهم الأنبياء، ولم يكن في قحطان نبيّ، فأوجد نسّابوهم نسبًا يوصلهم إلى الأنبياء، كما أوجدوا لهم نسبًا احتكر لهم العروبة، وجعلهم الأصل والعدنانيون من الطارئين عليهم، كما سيأتي الحديث عن ذلك.
__________
1 enc, vol, i, p, 654, wensinck, p, 175.
2 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 30 ما بعدها"، enc, vol 2, p, 327
3 رحلة ابن بطوطة "1/ 205"، "2/ 203" "طبعة باريس".
4 "هود النبي، عليه السلام، المرسل إلى عاد المذكور في القرآن، هو أبو قحطان قحطان بن هود. قال حسان:
أبونا نبي الله هود بن عابر
وهو هود بن عابر بن أرفخشذ بن سام بن نوح النبي"، ابن خلدون "2/ 20"، نهاية الأرب "13/ 51"، ديوان النابغة مع شرحه للبطليوسي "ص63 فما بعدها" التنبيه والإشراف ص71" "طبعة الصاوي".(1/313)
وإذا صحّ أن الشعر المنسوب إلى حسّان بن ثابت الذي افتخر فيه بانتسابه إلى "هود بن عابر"، وبأن قومه وهم من "قحطان" منهم، هو لهذا الشاعر حقا، يكون لدينا أول دليل يثبت أن هذا الانتساب كان معروفًا عند ظهور الإسلام1. وأن أهل "يثرب"، وهم من الأوس والخزرج، وهم من قحطان في عُرف النَّسّابين، كانوا قد انتسبوا إليه قبل الإسلام. أخذوا ذلك من اليهود النازلين بينهم، الذين كانوا يحاولون التقرب إلى أهل يثرب، للعيش معهم عيشة طيبة. فأشاعوا بين الناس أن "عابرا"، وهو جدّ العبرانيين، ووالد ولدين هما "فالغ" و"يقطان" كان جدّهم وجدّ أهل يثرب، لأن أصلهم من يقطان، وأن علاقتهم لذلك بهم هي علاقة أبناء عمّ بأبناء عمّ. ولما نزل الوحي بخبر "هود"، وتفاخر المكّيّون على أهل يثرب الإسلام، استعار أهل يثرب "هودا"، وصيّروه "قحطانًا"، أو ابنًا له، وانتسبوا إليه، ليظهروا بذلك أنهم كانوا أيضا من نسل نبي، وأن نبوءة قديمة كانت فيهم، وقد كان "حسان بن ثابت" من المتعصبين للأزد قوم أهل يثرب، والأزد من قحطان، وكان من المتباهين بيمن وقحطان.
__________
1 "أبونا نبي الله هود بن عامر"، وسأتكلم عن ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب وعندي أنه متحول، وأنه حمل عليه.(1/314)
لقمان:
ومن قبائل عاد قبيلة كان فيها "لقمان" الذي ورد ذكره في القرآن الكريم وفي الشعر الجاهلي وفي القصص1. وقد ضُرب به المثل بطول العمر، فعُدّ في طليعة المُعَمّّرين2، وعدّه "أبو حاتم السجستاني" ثاني المُعَمّّرين في العالم بعد
__________
1 سورة لقمان، تفسير الطبري "21/ 39" "القاهرة 1321هـ"، قال صريم بن معشر بن ذهل المعروف بت "أفنون":
لو أنني كنت مع عاد ومن أرم ... ربيت فيهم ولقمان ومن جدن
المفضليات "ص525"، ديوان النابغة مع شرحه للبطليوسي "ص75".
نمين فلا له في سوق رأس ... إلى لقمان في سوق مقام
البيان والتبيين "1/ 23".
2 Enc, Vol., 3, P. 35, Goldziher, Abhandlungen zur arabischen Philologle, S. 2, Leiden, 1899, Rene Basset, Loqman Paris, 1890, Wensinck, P. 365(1/314)
الخضر1. وقد كان عرب الجاهلية يعرفون قصص "لقمان"، وكانوا يصفونه بالحكمة. وقد وُصف في القرآن الكريم بهذه الصفة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} 2. ولهذا السبب عُرف بين الناس وفي الكتب بـ "لقمان الحكيم". وذُكر عنه أنه كان "حكيمًا عالمًا بعلم الأبدان والأزمان"3 وأنه طلب من الله أن يُعَمَّر طويلا فأعطاه طلبه: وعُمّر عمر سبعة أنسر، وذكر الأخباريون أن آخر نسر أدركه، وهلك بهلاكه اسمه "لبد". قالوا وإليه يشير "النابغة"
بقوله:
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد4
وقد أكثرت العرب في صفة طول عمر النسر، وضربت به الأمثال. وبلبد، وبصحة بدن الغراب. وذكروا في ذلك شعرًا، منه ما نسب إلى "الخارجي" في طول عمر "معاذ بن مسلم بن رجاء"، مولي القعقاع بن حكيم:
يا نسر لقمان، كم نعيش، كم ... تلبس ثوب الحياة يا لُبَدُ؟
قد أصبحت دار حمْيَر خربت ... وأنت فيها كأنك الوتد
تسأل غربانها إذا حَجَلت ... كيف يكون الصداع والرمد5؟
ويذكر أهل الأخبار أن "لقمان" قد عرف لذلك بـ "لقمان النسور"، لأنه عَمّر عمر سبعة نسور6. وذكر بعض أهل الأخبار أنه عَمّر مائة وخمسين سنة، وأنه لما مات قبر بحضرموت، أو بالحجر من مكة7. وهو عمر لا يتناسب مع ما يذكره أهل الأخبار من طوله، ومن أنه يعادل عمر سبعة نسور. أما
__________
1 أبو حاتم السجستاني: كتاب المعمرين "طبعة كولدتزيهر"، "ص2"،
Goldziher, Abhandlungen, 2, S. 2, Enc, vol. 3, P. 35
2 سورة لقمان 31، آية 12.
3 منتخبات "ص 95 فما بعدها".
4 الفاخر "ص68"، الطبري "1/ 223"، "دار المعارف"، عيون الأخبار "4/ 95"، نهاية الأرب "13/ 60 وما بعدها"، أبو الفداء، المختصر "1/ 21 وما بعدها"، "دار الكتب اللبنانية"، الكامل، لابن الأثير، "1/ 49 وما بعدها".
5 مروج الذهب "2/ 92 وما بعدها"، طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
6 نهاية الأرب "13/ 60 وما بعدها".
7 الكامل، لابن الأثير: 1/ 49 وما بعدها".(1/315)
"السجستاني"، فجعل عمره خمسمائة سنة وستين. وهو عدد أخذ من عمر النسور المذكورة؛ إذ عاش كل نسر ثمانين عامًا، والعدد المذكور هو مجموعة عمر تلك النسور السبعة. غير أن من الأخباريين من أعطاه عمرًا قدّره بثلاثة آلاف وخمسمائة سنة1. وهو عمر يؤهله ولا شك لأن يكون في عِدَاد المُعَمَّرين.
وقد ورد اسم لقمان على أنه اسم خمّار في شعر منسوب للنابغة حيث يقول:
كأن مشعشًعا من خمر بصرى ... نمته البخت مشدود الخيام
حملن قلاله من بين رأس ... إلى لقمان في سوق مقام2
وجعلوا للقمان نسبًا هو "لقمان بن عاد"3، وصيّروه "لقمان بن ناحور بن تارخ"، وهو "آزر" أبو "إبراهيم"4. وقال بعضهم: بل هو ابن أخت "أيوب"، أو ابن خالته، وجعله آخرون من حمير، فقالوا له: "لقمان الحميري"5، وصيّره آخرون قاضيًا من قضاة "بني إسرائيل"6. وقد اشتهر عند المسلمين بالقضاء، ويظهر أن هذا السبب هو الذي جعل الواقدي يقول: إنه كان قاضيا في بني إسرائيل. ولم يفطن الأخباريون إلى هذه الأخبار المتناقضة التي تخالف روياتهم في عاد، وأنها من أمم العرب البائدة، إلا إذا جعلناه من الطائرين على قوم عاد الداخلين فيهم، فهو غريب بين قوم عاد.
ويظهر من روايات أهل الأخبار، أن الأخباريين كانوا يرون وجود لقمان آخر، هو غير لقمان عاد. فقد زعموا أنه كان في عهد "داود" لقمان، عُرف بـ "لقمان الحكيم". وقد نسبه بعضهم على هذا النحو: "لقمان بن عنقاد"، وقد زعم "المسعودي"، أنه كان نوبيًّا، وأنه كان مولى للقين بن جسر، ولد على عشر سنين من ملك داود، وكان عبدًا صالحًا، منّ الله عليه بالحكمة، ولم يزل باقيًا في الأرض مظهرًا للحكمة في هذا العالم إلى
__________
1 المعمرون "ص4" طبعة عبد المنعم عامر"؟
2 البكري، معجم "3/ 1161".
3 منتخبات "ص95 فما بعدها"، نهاية الأرب "13/ 60"، البيان والتبيين "3/ 174".
4 قصص الأنبياء، للثعالبي، "ص205".
5 منتخبات "ص95 فما بعدها".
6 قصص الأنبياء "ص205".(1/316)
أيام يونس بن متّى حين أرسل إلى أرض نينوى في بلاد الموصل1.
وهنالك من فرَّق بين "لقمان بن عاد" وبين "لقمان" المذكور في القرآن، قال الجاحظ: "وكانت العرب تعظِّم شأن لقمان بن عاد الأكبر والأصغر، ولقيم بن لقمان في النباهة والقدر وفي العلم والحكم، في اللسان وفي الحلم، وهذان غير لقمان الحكيم المذكور في القرآن على ما يقوله المفسّرون"2. وقد أورد الجاحظ جملة أبيات للنمر بن تولب في لقمان ولقيم3.
وقد ذكر الجاحظ أنه كانت للقمان أخت محمقة؛ تلد أولادًا حمقى، فذهبت إلى زوجة لقمان، وطلبت منها أن تنام في فراشها حتى يتصل بها لقمان، فتلد منه ولدًا كيِّسًا على شاكلته، فوقع عليها فأحبلها ب"لقيم" الذي أشرت إليه؛ فهو ابن لقمان إذن من أخته. وقد أورد الجاحظ في ذلك شعرًا جاء به على لسان الشاعر المذكور، أي: "النمر بن تولب"، زعم أنه نظمه في هذه القصة4، وزعم الجاحظ أيضا أن لقمان قتل ابنته "صُحرا" أخت "لقيم"، وذلك أنه كان قد تزوّج عدة نساء كلّهن خنّه في أنفسهنّ، فلما قتل أخراهنّ ونزل من الجبل، كان أول من تلقاه "صُحرا" ابنته فوثب عليها فقتلها، وقال: "وأنت أيضا امرأة". وكان قد ابتلي بأخته على نحو ما ذكرت، فاستاء من النساء. وضربت العرب في ذلك المثل يقتل لقمان ابنته صُحرا، وقد أشير إلى ذلك في شعر لـ "خفاف بن ندبة"5.
وقد أشير إلى "حي لقمان" في شعر لأبي الطحان القيني6، كما أشير إليه
__________
1 أبو الفداء: المختصر "1/ 21 ما بعدها"، مروج الذهب "1/ 57 وما بعدها"، منتخبات "ص95 وما بعدها"، ابن كثير، البداية "2/ 26"، "مطبعة السعادة"، تفسير ابن كثير "3/ 443 وما بعدها"، تفسير البيضاوي "7/ 134 وما بعدها"، البلدان "3/ 609"، تفسير الفخر الرازي "7/ 71"، تفسير الطبري "21/ 67"، الحيوان، للجاحظ "1/ 21".
2 البيان والتبيين "1/ 136".
3 البيان والتبيين "1/ 136"، "1/ 161" "القاهرة 1934م"، نهاية الأرب "13/ 61".
4 البيان والتبيين "1/ 161"
5 الحيوان "1/ 21" طبعة الحلبي".
6
أمست بنو القين أفراقًا موزعة ... كأنهم من بقايا حي لقمان
البيان والتبيين "1/ 164".(1/317)
في شعر ينسب إلى "لبيد بن ربيعة الجعفري"1. وفي شعر للفرزدق2، وفي شعر لبنت وثيمة بن عثمان ترثي به أباها3.
وأضافوا إلى "لقمان" أمثالًا كثيرة نسبت إليه في الإسلام، ولم تكن معروفة في الجاهلية4. ونسب إليه بعض الأخباريين الميل إلى إنشاء المدن والبناء، وضربوا به أيضا المثل في كثرة الأكل، فقالوا: "آكل من لقمان"5.
وزعم "وهبة بن منبّه" أنه قرأ من حكمة "لقمان" نحوًا من عشرة آلاف باب6، وزعم الرواة أن عرب الجاهلية كانت عندهم "مجلة لقمان"، وفيها الحكمة والعلم والأمثلة7، وأن جماعة منهم كانوا قد قرءوها وامتلكوها، ذكروا من جملتهم "سُوَيْد بن الصامت". وقد رووا أنه كان يقرأها، وأنه أخبر الرسول بها لما قدم عليه8. وقد جمع الناس، فيما بعد، حكمته وأمثاله والقصص المروي عنه، ويشبه ما نسب إليه المنسوب إلى "أيسوب" aesop صاحب الأساطير والحِكَم والأمثال الموضعة على لسان الحيوانات عند اليونان9.
وبالغوا في حكمته وفي علمه حتى زعم أنه كان يدرك من الأشياء ما يعجز عن إدراكه الإنسان السويّ10. وضرب المثل في أيساره، وعظم أمره، حتى قيل "أيسار لقمان"، كالذي ورد في شعر "طرفة".
وورد في الأخبار: "إذا شرف الأيسار، وعظم أمرهم قيل: هم أيسار لقمان. يعنون لقمان بن عاد". واستشهدوا على ذلك ببيت طرفة:
وهم أيسارُ لقمانٍ، إذا ... أغلت الشتوةُ أبداء الجُزُر11
__________
1
وأخْلفَ قسّا ليتَنِي ولو أنَّنِي ... وأعْيَا على لُقمانَ حُكْم التدبُّرِ
البيان والتبيين "1/ 161".
2 البيان والتبيين "1/ 161".
3 البيان والتبيين "1/ 161".
4 اللسان "16/ 20 وما بعدها"، enc,, vol, 3,p,, 35.
5 مجمع الأمثال، للميداني "1/ 98".
6 المعارف "ص25".
7 Sprenger, Das Leben und die Lehre des mohammed, Bd, I, S. 93.
8 أمثال لقمان الحكيم، "طبعة ديرنبورغ"، لندن "1850".
9 Sprenger, Das Leben. I, S. 93.
10 المعاني الكبير "3/ 1193".
11 المعاني الكبير "3/ 1152".(1/318)
وقد زعم أن "زرقاء اليمامة"، التي اشتهرت بحدة بصرها وقوة رؤيتها حتى إنها كانت ترى من مسيرة ثلاثة أيام، كانت امرأة من بنات لقمان بن عاد، وكانت ملكة اليمامة واليمامة اسمها، فسميت الأرض باسمها. وقد زعم أن النابغة الذبياني أشار إليها في شعره1.
وقد ورد في بعض الأشعار "لقمان بن عاد". إذ جاء:
تراه يطوف الآفاق حرصًا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
وهناك أمثلة عديدة ينسبها الرواة إلى "إحدى حظيات لقمان"، ووردت على لسانها وعلى لسان لقمان وعلى لسان فتى اسمه عمرو2.
وقد زعم بعض أهل الأخبار أن لقمان بن عاد، هو الذي بنى سد مأرب، وأن مأرب اسم قبيلة من عاد وقد سمّي باسمها هذا الموضع3
لم يبقَ بعد هلاك عاد الأولى، على رأي أهل الأخبار إلا هود ونفر ممن آمن به والوفد الذي سار إلى مكة للاستقاء، وفيهم لقمان وكان من أكابر العاديين. فأنشأ هؤلاء عادا الثانية، وخالف لقمان "الخلجان" ملك عاد الأولى، الذي خالف هودًا، فهلك. وخاف العاديون انحباس المطر والجفاف، فارتحلوا إلى أرض سبأ، وبنى لقمان سدّ "العرم" قرب مأرب، وبقيت عاد الثانية قائمة، إلى أن تغلبت عليها قبائل قحطان، ثم انقرضت وبادت4.
ويذكر أهل الأخبار أن عادا لما رأوا انحباس المطر عنهم، أرسلوا وفدًا، بلغ سبعين رجلا في قول بعض الرواة، إلى مكة يستسقون، وكان أصحابها هم العمالقة يومئذ، ورئيسهم "معاوية بن بكر"، فأكرمهم وأضافهم، وأقاموا عنده شهرًا. يشربون الخمر وتغنيهم "الجرادتان" وهما قينتان لمعاوية بن بكر، وفي الوفد المذكور لقمان. ونسوا أنفسهم هناك، ولم يفطنوا لما جاءوا إليه،
__________
1
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثّمد
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفها فقد
شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك، "1/ 290" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، القاهرة 1962م.
2 الأمثال، للميداني "1/ 37"، القاهرة 1352هـ.
3 البكري، معجم "3/ 1171" "لجنة التأليف والترجمة والنشر".
4 الطبري "1/ 221 وما بعدها".(1/319)
إلا بعد أن ذكرتهم "الجرادتان" بما جاءوا به إليها، فاستسقوا، فأرسل الله عليهم ريحًا عاتية، أهلكت عادا في ديارها1، ودمرت كل شيء، فهلكت، ولم يبقَ من عاد إلا مَن كان خارج أرضهم بمكة، وهم من "آل لقيم بن هزّال بن هزيل بن هزيلة ابنة بكر"، فهم عاد الآخرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد2.
وقد ذكر المؤرخون وأصحاب الأخبار أن "عادا" تعبدوا لأصنام ثلاثة، يقال لأحدها: صداء، وللآخر صمود، وللثالث الهباء3. ولم نعثر على أسماء هذه الأصنام حتى الآن في الكتابات.
وكان هلاك "عاد" واندثارهم بسبب انحباس المطر عنهم سنين ثلاثا، أعقبه هبوب رياح عاتية شديدة استمرت {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} 4 فهلك الناس واقتلعتهم الرياح وصارت ترميهم من شدتها، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} 5 {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} 6 وخلت ديارهم منهم، وصارت أماكنهم أثرًا.
ويجمع أهل الأخبار على أن هلاك عاد، إنما كان بفعل عوارض طبيعية نزلت بهم فأهلكتهم، وهي على اختلاف رواياتهم في وصفها وفي شرحها، انحباس الأمطار عنهم، وهبوب رياح شديدة عاتية عليهم. وقد تحدث المفسرون عنها لورود ذكرها في القرآن الكريم7. وروي أن النبي أشار إلى أن هلالكهم وهلاك ثمود كان بالصواعق، والصواعق من العوارض الطبيعية بالطبع8.
ويرجع قسط من أخبار "عاد" إلى الجاهليين، فهو من القصص الشعبي القديم الموروث عنهم، ويعود قسط آخر منه إلى الإسلاميين، وهو القسط الذي
__________
1 سورة الأحقاف 24، آية 25.
2 الطبري "1/ 218 فما بعدها"، الفاخر"ص68".
3 الطبري "1/ 216" "دار المعارف"، قصص الأنبياء "ص 39"، نهاية الأرب "13/ 51"، الأصنام "110 وما بعدها، "تحقيق أحمد زكي باشا"، مروج الذهب "2/ 61" "طبعة دار الرجاء".
4 سورة الحاقة، آية 7، الطبرية" 1/ 225 فما بعدها".
5 سورة القمر، آية20.
6 الحاقة، آية 7.
7 ابن كثير، البداية "1/ 120 وما بعدها"، تفسير الرازي "39/ 43"، "القاهرة 1938م"، "8/ 9"، تأريخ ابن عساكر "1/ 14".
8 العقد الفريد "2/ 36".(1/320)
جاء شرحًا لما جاء موجزًا في القرآن الكريم، ويرجع بعضه إلى "الحارث بن حسان البكري" و "الحارث بن يزيد البكري"، وتزعم راوية وردت في تأريخ الطبري أنه قصّ على الرسول قصصًا عن أمر "عاد"1، ويرجع بعض آخر إلى "كعب الأحبار" وإلى "وهب بن منبّه"، وهما من مسلمة يهود2، وإلى "السّدّي"3، وإلى أشخاص آخرين تجد ذكرهم في سند الروايات المذكورة عند "محمد بن إسحاق" صاحب السيرة، وعند الطبري وعند آخرين من أهل الأخبار والتواريخ ممن ساروا على طريقة ذكر المسند مع الروايات.
ويظهر أن كثيرًا من أخبار "عاد" وضعت في أيام "معاوية" الذي كان له ولع خاص بأخبار الماضين، فجمع في قصره جماعة اشتهرت برواياتها هذا النوع من القصص، وفي مقدمة هؤلاء "عبيد بن شَرْيَة الجُرْهُمي" و "كعب الأحبار"4.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن رجلا قصّ في أيام معاوية، أن إبلًا له ظلت في تيه أيمن، وهو غائط بين حضرموت وأبين، فالتقطها من هناك، ووجد فيه موضع "إرم ذات العماد"، ووصف أبنيته العجيبة، وهذا الرجل هو في جملة من موّن العاشقين للأساطير بأخبار عاد. قد ذكر الطبري أن "وهب بن منبه" قص أنه سمع من رجل اسمه "عبد الله بن قلابة" أن إبلًا له كانت قد شردت، فأخذ يتعقبها؛ فبينما هو في صحاري "عدن"، وقف على موضع "إرم ذات العماد"، وقد وصف ذلك الموضع على النحو المألوف عن "وهب"، من إغراقه في الأساطير وفي القصص الخيالي البعيد عن العقل5.
__________
1 الطبري "1/ 217 فما بعدها"، شمس العلوم "ج1، القسم الأول، ص 262"
2 الطبري "1/ 226".
3 الطبري" 1/ 225".
4 نهاية الأرب "13/ 62 فما بعدها" راجع قصة "ابن بيض" مع لقمان، ويظهر أنها من قصص الجاهلية، المفضليات "ص91، ديوان المفضليات "ص91" "طبعة بيروت 1920م".
5 تفسير الطبرسي "9/ 486".(1/321)
ثمود:
ويرد اسم ثمود في الكتب العربية مقرونًا باسم "عاد"، وبعد هذا الاسم(1/321)
في الغالب، والروايات العربية الواردة عنهم لا تعرف من تأريخهم شيئًا، إنما روت عنهم قصصًا أوردتها لمناسبة ما ذكر عنهم في القرآن الكريم على سبيل العظة والاعتبار والتذكير، وقد وردت إشارات عنهم في الشعر الجاهلي1.
وجاء اسم "ثمود" في مواضع عديدة من القرآن الكريم، جاء منفردا، وجاء مقرونًا باسم شعوب أخرى مثل قوم "نوح" وقوم "عاد"، فبدأ بقوم نوح ثم عاد ثم ثمود2. وجاء مع ثمود في موضعين "أصحاب الرسّ"، جاءوا بعد "ثمود:"3. كما جاء اسمهم قبل "ثمود"4. ووردت أيضا ذكر قوم "لوط" و"أصحاب الأيكة"، وقد تقدم في هذا الموضع اسم "ثمود"، ودعت الآية أولئك: "الأحزاب"5، كما ورد ذكر "ثمود" مع "عاد"6. وقد تقدم اسم "عاد" على ثمود إلا في آية واحدة تقدم فيها اسم ثمود على اسم "عاد": {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} 7، وورد اسم "ثمود" في آيات
__________
1 ورد في الشعر المنسوب لأمية ابن أبي الصلت:
كثمود التي تفتكت الدين ... عتيا وأم سقب عقيرا
وذكر قصة الناقة، راجع ديوانه "ص44"، "طبعة فر. شلتيز" fr. schulthess" "لا يبزك 1911م".
وورد في شعر لسلمة بن الحرث، وهو من معاصري عمرو بن كثلوم:
حتى تزور السباع ملحمة ... كأنها من ثمود أو أرما
راجع المفضليات "ص428".
وورد اسم ثمود أيضا في شعر لجرير بن خرقاء العجلي:
ويوم الحنو قد علمت معد ... حصدناكم كما حصدت ثمود
المفضليات "ص 439"، وورد في شعر لبيد اسم إرم وعاد وثمود، ديوان لبيد، "ص25"، سبائك الذهب، للسويدي "ص15".
2 سورة التوبة 9، الآية 70، سورة إبراهيم 14، الآية 9، سورة الحج 22 الآية 42، سورة غافر، 40، الآية 31.
3 "وعادا وثمودا وأصحاب الرس"، سورة الفرقان 25، الآية 38.
4 سورة ق، 50، الآية 12.
5 سورة ص، 38، الآية 13.
6 سورة العنكبوت 29، الآية 38، سورة فصلت 41، الآية 13، سورة النجم 53، الآية 51.
7 سورة الحاقة، 69، الآية 4.(1/322)
أخرى من القرآن الكريم1.
وقد ذكر الطبري أن شعراء الجاهلية ذكرت في شعرها عادًا وثمود، وأن أمرهما كان معروفًا عند العرب في الشهرة قبل الإسلام، وأن من يظن أن الجاهليين لم يكونوا يعرفون عادًا أو ثمودًا فإنه على وهم وخطأ2.
ويظهر من ورود ذكر "ثمود" في مواضع متعددة من القرآن، لترهيب "الكفار" من العاقبة التي آلت إليها حالة "ثمود" بعد أن استحبّوا العمى على الهدى، واستمروا بطغواهم كما استمر طغيان "فرعون"3 وقوم "مدين"4 وغيرهم ممن ذكرناهم، أن الجاهليين كانوا يعلمون مصير ثمود ومصير عاد الذي كان من نوع مصير ثمود5، وأنهم كانوا يعرفون منازلهم كالذي يظهر بجلاء من الآية: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} 6 معرفة جيدة، ولم يعيّن القرآن الكريم موضع منازل "ثمود"، وإنما يظهر من آية: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} 7، أن مواضعهم كانت في مناطق جبلية، أو في هضبات ذات صخور. وقد ذكر المفسرون أن معنى "جابوا الصحر" قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا8، وأن "الواد" هو وادي القرى. فتكون مواضع ثمود في هذه الأماكن. وقد عين أكثر الرواة "الحجر" على أنه ديار ثمود، وهو قرية بوادي القرى. وقد زارها بعض الجغرافيين وعلماء البلدان
__________
1 سورة الأعراف 7، الآية 73، سورة هود11، الآية 61، 68، 95، سورة الإسراء، 17، الآية 59، سورة الشعراء، 26، الآية 141، سورة النمل، 27 الآية 45، سورة الذاريات 51، الآية 43، سورة القمر، 54، الآية 23، سورة البروج 85، الآية 18، سورة الفجر 89، الآية 9، سورة الشمس 91، الآية 11.
2 الطبري "1/ 232"، طبعة دار المعارف"، الكامل، لابن الأثير"1/ 50"، نهاية الأرب "2/ 292".
3 سورة البروج 85، الآية 18.
4 سورة هود11، الآية 95.
5 سورة فصلت 41، الآية 13.
6 سورة العنكبوت 29، الآية 38.
7 سورة الفجر 89، الآية 9.
8 الكشاف، للزمخشري "4/ 209"، تفسير الطبري "30/ 113"، روح المعاني، للألوسي "30/ 124".(1/323)
والسيّاح، وذكروا أن بها بئرا تسمى بئر "ثمود"1، وقد نزل بها الرسول مع أصحابه في غزوة "تبوك"2. وقد ذكر المسعودي أن منازلهم كانت بين الشام والحجاز إلى ساحل البحر الحبشي، وديارهم بفج الناقة، وأن بيوتهم منحوتة في الجبال، وأن رمميهم كانت في أيامه باقية، وآثارهم بادية، وذلك في طريق الحاج لمن ورد الشام بالقرب من وادي القرى3.
وينسب النسابون ثمود إلى "ثمو بن جاثر أو كاثر بن إرم سام بن نوح"4، ويكتفي بعضهم بإرجاع نسبهم إلى عاد، فيقولون عنهم إنهم من بقية عاد5. وينسبهم بعض آخر إلى "عابر بن إرم بن سام بن نوح"، وزعموا أن ثمود هو أخو جديس6.
وقد استطاع المستشرقون التعرف على الثموديين من الكتابات والمؤلفات "الكلاسيكية"، فوجدوا اسم ثمود في النصوص الأشورية: وجدوه في نص من نصوص "سرجون الثاني"، مع أسماء شعوب أخرى سوف أتحدث عنها. وقد دعوا بـ "tamudi" "thamudi"7، وذلك بمناسبة معركة جرت بين الآشوريين وبين هذه الشعوب، انتصر فيها الآشوريون، كما وجدوه في النصوص والكتابات الثمودية، وقد عُثر عليها في مواضع متعددة من جزيرة العرب، وفي النصوص "الكلاسيكية" حيث عرفوا باسم "thamudeni" thamudenoi" "thamydenoi" "thamyditai"8
__________
1 البلدان "3/ 221"، الطبري "1/ 118"، اللسان "5/ 242"، سبائك الذهب "ص15"، صبح الأعشى "1/ 313"، تقويم البلدان "89".
2 البكري، معجم "2/ 426" "طبعة السقا" الأغاني "6/ 28"، ابن كثير، البداية "1/ 131وما بعدها"
3 مروج الذهب "1/ 259"، "قال كعب: لما أهلك الله عز وجل عادا، جاءت ثمود وعمرت الأرض، وكانوا بضع عشر قبيلة ... وكانت منازلهم ما بين الحجاز إلى الشأم، وهي ديار الحجر من وادي القرى"، نهاية الأب "13/ 71".
4 صبح الأعشى "1/ 313".
5 "وثمود، كصبور بن عابر بن إرم بن سام. قبيلة من العرب الأول، ويقال إنهم من بقية عاد"، تاج العروس "2/ 312"، اللسان "3/ 105"، "صادر".
6 ابن كثير، البداية "1/ 130 وما بعدها".
7 Rawllnson, Cunal Form Inscriptions, Vol., I, PI., 36, Lyon, Sargon, P., 4, Musil, Deserta, P., 291.
8 Musil, Deserta, P., 291, Ptolemy, Geography, VI, 7 ; 4, VI, 7;21, Diodorus, Bibliotheca Historica, in, 44, Forster, Vol., I, P., 323, Vol., 2, P., 30, 117, 274, 284.(1/324)
ولقد وصف مؤلف كتاب: "الطواف حول البحر الأريتري" مواضع الثموديين "thamudeni" مستندًا إلى مورد آخر، أخذ منه، أقدم عهدًا منه فذكر أن "thamudeni"، كانوا يقيمون على ساحل صخري طويل، لا يصلح لسير السفن، وليست فيه خلجان تستطيع أن تأوي إليه القوارب فتحتمي بها من الرياح، ولا ميناء تتمكن من الرسو فيه، ولا موضع أو جزر عنده تقبل إليه القوارب الهاربة من الأخطار1. فيظهر من وصف هذا المؤلف أن مواطن ثمود كانت في الحجاز على ساحل البحر الأحمر.
وقد ذكر هذا الوصف، ولكن بشيء من التحوير" ديودورس"2. وأما "بلينيوس"، فذكر "tamudaei" بين "domata"و "haegra" ومدينة دعاها "badanatha" "baclanaza". وأما "بطلميوس"3، فقد جعل قوم ثمود "thamuditae" "thamudeni" بين ال "sarakenoi" وبين "apatae"4 ويظهر من كل ذلك أن ديارهم في شمال غربي "العربية السعيدة"5، أي في المواضع التي عينتها المصادر العربية.
يظهر من جغرافية "بطلميوس" إذن، أن ديار ثمود كانت غير بعيدة عن ديار"عاد"، ليس بينها وبين ديار عاد "oaditae" إلا ديار "سره كيني" "sarakeni" وكلها في أعالي الحجاز في هذه المنطقة الجبلية التي تخترقها الطرق التجارية التي توصل الشام ومصر بالحجاز واليمن. وفي هذا تأييد للروايات العربية القائلة إن ديار ثمود كانت على مقربة من ديار عاد. فإذا كانت "الحجر" وما والاها هم مواطن ثمود: وجب أن تكون ديار "عاد" على مقربة من هذه المواضع.
وأما تأريخ قوم "ثمود"، فيعود إلى ما قبل الميلاد بزمان. وقد ذكرت قبل قليل أنهم كانوا في جملة الشعوب التي حاربت الآشوريين في عهد "سرجون
__________
1 Musll, Deserta, p., 302, The Periples of the Erythrean Sea, by William Vincent, London, 1800, Part the Second, P., 262.
2 Diodorus, Bibliotheca Historlca, III, 44, Musil, Deserta, P., 291.
3 Pliny, Natur. History, (translated by H. Rackham) , Vol., 2, P., 456 457, VI, 32.
4 Glaser, Sklzze, 2, S., 108, Ptolemy, VI, 7:4 VI, 7:21, V, 19 7 Hastings. A Dictionary of the Bible, Vol., I, P., 630.
5 Musil, Hegaz, P., 291, Glaser, Skizze, 2, S., 108, 256.(1/325)
الثاني"، وقد ذُكر هذا الملك في النصوص التأريخية التي سجلها، أنه تغلب عليهم، وأنه أجلاهم من مواطنهم إلى "السامرة" "samaria"1. ولم يكن أولئك الثموديون الذين حاربوه من أبناء الساعة، بل لا بد أن يكون لهم أسلاف عاشوا قبلهم عدة قرون.
وقد عرفت المنطقة التي حارب بها قوم ثمود والشعوب الأخرى الأشوريين باسم "بري" "bari"، ويظهر أنها تعني لفظة "بر" , و"برية" العربية، أي "البادية" فحرفت إلى "بري" إلى وفق الآشوري2.
ويرى بعض الباحثين أن آخر ذكر ورد في الوثائق لقوم "ثمود" كان في القرن الخامس للميلاد، حيث ورد أن قوما منهم كانوا فرسانا في جيش الروم3.
وقد كان الثموديون يقطنون بعد الميلاد في مواطنهم المذكورة في أعالي الحجاز في "دومة الجندل" و "الحجر" وفي غرب "تيماء". وقد ذكر أنهم كانوا يمتلكون في منتصف القرن الثاني للميلاد حَرّتّيْ "العوارض" و "الأرحاء"4. ويرى "دوتي" أن "الحجر" التي سكن بها قوم ثمود، هي موضع "الخريبة" في الزمن الحاضر، لا "مدائن صالح" التي هي في نظره "حجر" النبط. وتقع "مدائن صالح"، وهي عاصمة النبط، على مسافة عشرة أميال من موضع "الخريبة"5.
ولم يرد في الموارد العربية الإسلامية، ما يفيد وجود قبائل ثمودية قبيل الإسلام، أو في الإسلام، غير ما ذكره بعضهم من نسب "ثقيف" الذي رجعوه إلى ثمود، ولكن ذلك لم يرضِ الثقفيين. فقد كان الحجاج بن يوسف يكذب ذلك6، والظاهر أن أعداء ثقيف ولا سيما معارضي الحجاج وضعوا ذلك على ثقيف بغضًا
__________
1 Lyon, Keilschrifttexte Sargons, S., 4, (1883) , Winckler, Keilschrifttexte
Sargons, (1889) , Bd., 2, PL., 2, No., I, Linie 20, Schrader, Keilinschriftliche Bibliothek, (1889-1900) , Bd., 2, S., 42, Musil, Deaerta, P., 479,
Musil, Hegaz, P., 289
2 Sprenger, Geography, S., 28
3 Doughty, Vol., I, P., 229, Sprenger, S., 28
4 Musil, Hegaz, P., 291
5 Doughty, Vol., I, P., 229
6 ابن خلدون "2/ 24"، الكامل "1/ 276".(1/326)
كتابات ثمودية من أعالى الحجاز من كتاب: "آنو ليتمن":
Zur Entzifferung: Taf.3.(1/327)
للحجاج، الذي كان قاسيًا عاتيًا شديدًا. وقد روى "دوتي" أن بدو نجد يذكرون أن قبيلة "بني هلال" هي من نسل عاد وثمود1.
ونجد في كتاب: "mission archeologique en arabie" لمؤلفيه "jaussen" و "savignac"، عددًا من الكتابات الثمودية، عثرَا عليها في "العلا" وفي مواضع أخرى من الأرضين التي هي اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية وفي أعالي الحجاز من المملكة العربية السعودية، كما عثر غيرهما قبلهما وبعدهما على عدد آخر، أغلبه من هذه الكتابات القصيرة، التي كتبت على مختلف الأحجار، بالمناسبات، مثل تذكّر شخص، أو تسجيل اسم لمناسبة وجود صاحبه في هذا المكان، كما يفعل كثير من الناس في أيامنا2.
وتمكن "لانكستر هاردنك" محافظ مديرية الآثار العتيقة في المملكة الأردنية الهاشمية من تصوير ما يزيد على خمسمائة كتابة ثمودية أرسلها إلى المستشرق "أنوليتمان"، يعود بعضها إلى ما قبل الميلاد، ويعود قسم منها إلى ما بعد الميلاد، ومن بينها نص أرخ بسنة "267" للميلاد، ونص آخر رسمت فيه دائرة في داخلها صورة تشبه الصليب، وكتابة قرأها المستشرق "أنوليتمان": "يشوعة" أو "ليشوعة"، أي "ليسوع"، وهو النص الذي رُقّم بـ "476". والظاهر أن صاحبه كتبه تيمنًا باسم المسيح، ولا يعرف تأريخه بالضبط. ويعتقد "ليتمان" أنه أقدم شاهد عرف حتى الآن عن انتشار النصرانية في شمال جزيرة العرب3. وقد قرأها المستشرق "فان دين برندن": "بوايوب" أي لأيوب"، أو "بأيوب"، أو "أيوب". وبالجملة فإن العلماء لم يتمكنوا من ترجمة تلك الكتابات ترجمة صحيحة حتى الآن4.
وفي المتاحف الأوروبية وفي مكتبات بعض الجامعات وفي أوراق المستشرقين مجموعة من النصوص الثمودية، جميعها في أمور شخصية وفي موضوعات دينية وأدعية لآلهة ثمود. وأما المناطق التي وجدت فيها هذه النصوص، أو أخذت
__________
1 Die Offenbarung Arablens, (Arabia Deserta) , Leipzig, 1937, S., 63.
2 Van den Branden, Les Inscriptions Thamoud^ennes, Louvain-Heverbe, 1950.
3 The Muslim World, Vol., XI, No., I, January, 1950, Jesus in Pre-islamic Arabic Inscription, by Enno Littmann,
4 A. Van den Branden, in Le Museon, LXIII, (1950) 1-2, P., 47-51, "Une Inscription Thamoudeenne".(1/328)
صورها، فهي مناطق "حائل" بنجد، وأرض "تبوك" وتيماء ومدائن صالح والسلاسل الجبلية الممتدة بين هذه المنطقة والحجاز، وعثر في الطائف على بعض النصوص الثمودية أيضا وفي السواحل الحجازية الشمالية للبحر الأحمر عند "الوجه" وفي "طور سيناء" وفي "الصفا" شرقي دمشق وفي مصر1. وفي "الحرة" و "الرحبة" وفي شمال غربي تدمر2.
وقد عثر على نقوش ثمودية في اليمن، ويدل وجود هذه الكتابات هنالك على وجود صلات بين اليمن وثمود، ولعلهم كانوا يقيمون في اليمن كذلك. وقد عثرت البعثة المصرية التي زارت اليمن على مخربشات ثمودية في "حجر المعقاب" عند جبل "حليل" على مسافة ليست بعيدة من "بيت حميد" بوادي شرع بالخارد3.
ويشك المستشرق "هوبرت كريمه" "hubert grimme" في صحة نسبة كثير من هذه النصوص إلى ثمود، ويرى أنها لأناس غيرهم؛ إذ لا دليل علميا هناك يثبت كون هذه النصوص تعود إلى هؤلاء.
وهناك عدد غير قليل من النصوص الثمودية يعود عهدها إلى العهد النبطي، ويشغل حيزًا من الزمن يقع بين حوالي مائتي سنة قبل المسيح وثلاثمائة سنة بعده، وتمتزج في مثل هذه النصوص الثمودية بالنبطية. وقد عثر على بعض نصوص نبطية في الحجاز ظن أنها نصوص ثمودية، مثل نص: hu. 418 = eu. 772، ونص آخر يعود إلى سنة 267 للميلاد4
إلا أن هناك نصوصًا ثمودية يظهر عليها أثر عبادة "صلم" "salm". وقد كانت "تمياء" من أهم الأماكن التي كانت تقدس هذا الإله سنة "600" ق. م، ويرمز أهل تيماء إلى "صلم" برأس ثور، وقد وجد هذا الرمز
__________
1 Ency., Vol., 4, P., 736, Musil, Negd, P., 104, 140, Huber in Journal D'un Voyage en Arabie, 1883-1884, Grimme, Entzifferung Thamudenischer Inachriften, 1904, Jausen-Savignac, Mission Arch6ologique en Arabie, 1-2 19911, 1914.
2 E. Littmann, Thamud und Safa, S., 6. f, 95. f, Die Araber in der Alten Welt, y I, S., 164.
3 نشر نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب وشرحهما، للدكتور خليل يحيى نامي، القاهرة 1943 "ص 109"، وقد عثر الرحالة "فلبي" على بعض الكتابات التي يظهر أنها ثمودية لحيانيه،
Philby, Sheba'st Daughters, P., 441.
4 Ch. Doughty, Documents Eplgraphiques Recueillis dans le Nord de L'arabie, 1884.(1/329)
على النقوش الثمودية، كما وجدت أسماء بعض الآلهة التي كان يتعبد لها أهل تيماء منقوشة في النصوص الثمودية، مما يدل على أن قوم ثمود كانوا يتعبدون لها كذلك، وأن هنالك صلات ثقافية ودينية بين تيماء وثمود.
ويرجع بعض الباحثين تأريخ عدد من الكتابات الثمودية إلى القرن السابع قبل الميلاد. وهناك كتابات يرون أنها أقدم عهدًا من القرن السابع. غير أن أكثر ما عثر عليه يعود تأريخه إلى ما بعد الميلاد. وهي بالجملة في أمور شخصية لا تفيد المؤرخ الذي يريد تدوين تأريخ ثمود: فائدة كبيرة. ولكنها نافعة على كل حال من نواحٍ أخرى، فهي تفيد اللغوي الذي يريد الوقوف على لغة الثموديين ومعرفة أسمائهم ولهجاتهم، وتفيد الباحثين في اللهجات العربية الجاهلية وفي الساميّات.
والكتابات الثمودية في نظر الباحثين نوعان: كتابات قديمة وقد دوّنت بالقلم الثمودي القديم، وكتابات حديثة وقد كتبت بقلم ثمودي متطور تختلف أشكال حروفه ورسومها بعض الاختلاف عن القلم القديم. وللقلم الثمودي صلة بقلم "طور سيناء"، كما أن له علاقة بالقلم المسند. وتفيد دارسته من هذه الناحية في الوقوف على تأريخ تطور الكتابة في جزيرة العرب قبل الميلاد، وفي تطور الأقلام بوجه عام1.
ويلاحظ وجود بعض الخواص في الكتابات الثمودية التي عثر عليها في الحجاز، لا نجدها، أو قلما نجدها في كتابات ثمودية أخرى، عثر عليها في نجد وفي اليمن. ويعود سبب ذلك إلى تأثير البيئات، ولا شك في هؤلاء الثموديين الذين تأثروا بلهجات جيرانهم وبثقافاتهم، فظهر ذلك الأثر في هذه الكتابات2.
ويظهر من الكتابات الثمودية أن قوم ثمود كانوا زُرّاعا وأصحاب ماشية، وأنهم كانوا أقرب إلى الحضر، منهم إلى أهل الوبر، فقد كانت لهم مستوطنات ثابتة استقروا فيها، وكانت لهم معابد ثابتة أيضًا، أي مبنية، وبينهم قوم اشتغلوا بالتجارة. ولعلّ الأيام ستجود علينا بكتابات ثمودية تتحدث عن أمور عامة، وعندئذ نستطيع أن نستنبط منها شيئًا عن أحوالهم من مختلف الوجوه.
__________
1 Hubert Grimme, Die Loesung des Sinaischriftproblems, Die Altthamudische schrlft, S., 24.
2 Grimme, Die Loesung, S., 25.(1/330)
ومن أصنام ثمود التي ورد ذكرها في كتاباتهم، الصنم "ود"، وهو من الآلهة القديمة عند العرب1. والصنم "جد- هد" أو "جد- هدد"، وله عندهم معابد وسدنة يخدمونه، ويعرف سادن الأصنام عندهم بـ "قسو" أي "قس". عرفنا أسماء بعضهم، ومنهم السادن "إيليا" "إيلية"2. ويظهر أنه كان من الآلهة العربية العتيقة؛ غير أن سعده أخذ في الأفول، فأخذت مكانه آلهة أخرى، ثم عفي أثره من الذاكرة، فلم يرد اسمه بين الأصنام التي كان يعبدها الجاهليون قبيل الإسلام. وقد بقيت مع ذلك أسماء مثل ""عبد جد" تشير إلى اسم الإله العربي القديم3.
و"شمس"و "مناف" و "مناة" و"كاهل" و "بعلة" "بعلت" و "بعل" و "يهو" و "رضو" أو "رضى"، هي أيضا من أصنام ثمود، سأتحدث عنها كلها في أثناء بحثي في الديانة العربية قبل الإسلام. ومن بقية آلهة ثمود "عثيرت" "عثيرة"، و "وتن" "وت"، و "يثع" "سمع" و "سميع" و "هبل" و "سحر"، و "سين" و "عم" و "قين" و "يغوث" و "إله" و "ألى" و "إلهي" و "الت" و "اللآت" و "حول" "حويل" و "ذو شري" و "سمين" و "هلال" و "صلم" و "نهى" و "عثتر سمين" و "كاهل" "كهل"، و "ملك" و "مالك"، و "هادي" "هدى"، و "بحل"، و "رتل"، و "هيّج"، و "شوع"، و "ستار"، و "طنفت"، و "سعى"، و "غم"، و "عس"، و "عسحرد"، و "عثير"، و "عطير"، و "تجر"، و "دبر"4.
وبعض هذه الأسماء ليست في الواقع أسماء آلهة، وإنما هي من قبيل ما يقال له "الأسماء الحسنى" عندنا أو صفات الله، فلفظة "سمع" مثلًا، وهي بمعنى "سميع" أو "السميع" في عربيتنا ليست اسم إله معين، إنما هي صفة للإلَه، بمعنى أن الإله هو سميع يسمع دعوات الداعين. ولذلك يخاطبه المؤمنون ويقولون له "سمع" "يا سميع"، ليسمع دعاءهم وليجيب طلباتهم، وهناك ألفاظ
__________
1 J. Wellhauaen, Reste, S., 14.
2 Grimme, S.f 39, Note 9.
3 Wellhausen, S., 146.
4 Van den Brandeen, Les Inscriptions, PP., 10.(1/331)
أخرى هي من هذا القبيل.
ووصلت إلينا أسماء ثمودية كثيرة، مثل: "أوس" و "سعد" و "عفير" و "وائل" و "بارح" و "كربال" "كرب إبل" و "عش" "عائش" و "مالك" "ملك" و "عذرال" "عذرايل"، و "عوذ"، و "أسعد"، و "عياش"، و "إياس"، و "قيس بن وائل" "قس بن وال" وغيرها؛ مما يخرجنا ذكرها عما نحن فيه. وهي أسماء لا يزال بعضها مستعملًا1.
ويلاحظ أن بعض هذه الأسماء مثل "كرب ال" و "عذرال"، وما شاكله، قل استعمالها عند العرب قبيل الإسلام، بينما كانت من الأسماء الشائعة في الجاهلية البعيدة عن الإسلام، ولا سيما بين الجاهليين في العربية الجنوبية، حيث ترد بكثرة في كتابات المسند.
ويرى "برو" brau أن ثمودا أُصيبوا بكارثة عظيمة، من ثوران براكين أو هزّات أرضية، بدليل ورود كلمة "رجفة"2 وكلمة "صيحة" في القرآن الكريم، وذلك محتمل جدًّا، لأن البقاع التي كانوا يقطنونها هي من مناطق الحِرَار3.
ويشبه مصير "عاد" و "ثمود" مصير "سدوم" "sodom" وعمورة "جمورة" "كمورة" "gomorrah" وبقية مدن الدائرة في عمق السديم4 التي تقع -على رأي كثير من علماء التوراة- في جنوب البحر الميت، فقد لاقت هذه المدن، وهي خمس على سهل "دائرة الأردن" المصير الذي لقيه قوم عاد وثمود، حيث أرسل الله عليهم عذابا "فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارًا من عند الرب من السماء، وقلب تلك المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض"5. وأصحاب هذه المدن هم: قوم "lot" "لوت".
__________
1 E. LIttmann, Thamud und Safa, (Abhand. f. d. Kunde d. Morgenlandes 25, I) , 1940, Die Araber in der Alten Welt, I, S., 163. ff., M. Hofner, Die Beduinen In L'Antica Societa Beduina (Studi Semitici) , 1959, 53. f.
2 Ency., Vol., 4, P., 736.
3 James A. Montgomery, Arabia and the Bible, P., 91, Hasting.?, P., 734.
4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 551"، "2/ 119، 300"، Hastings, P., 734, Ency. BibL, P., 3790.
5 التكوين، الإصحاح التاسع عشر، الآية 23 وما بعدها.(1/332)
و "لوت "هو "لوط" المذكور في القرآن الكريم. وقد رأيت أن القرآن الكريم قد أشار إلى مصير "قوم لوط"، وأطلق على ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة "الأحزاب". و {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} 1.
وقد تعرّض المفسرون لقوم "لوط" وما حلّ بهم من العذاب، وبحث عنهم أهل الأخبار والتأريخ، باعتبار أن أخبارهم هي صفحة من صفحات التأريخ القديم العام قبل الإسلام. وفي الرواية التي ذكرها "الطبري" في تأريخه عنهم، وسندها مرفوع إلى "محمد بن كعب القَرَظَمي" ذكر للقرى الخمس الواقعة حول "سهل دائرة الأردن"، وقد دعاها بـ "المؤتفكات" المأخوذة من القرآة الكريم من {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} 2، وهي: صبعة، وصعرة، وعمرة، ودوما، وسدوم، بحسب رواية الطبري هذه 3. وفي هذه الأسماء تحريف وتغيير في الترتيب الذي وردت به في التوراة، إذ هي فيها على هذا الشكل: سدوم "SODOM"" و "عمورة" "gomorrah"و "أدمة" "admah"" و "صبوبيم" "zeboim"و "بالع" "bela" وتُسمّى أيضًا بـ "صوغر" "zoar"4.
وقد نبّه القرآن قريشًا إلى مصير يشبه مصير "ثمود"، إذ كفروا بنبوة نبيهم "صالح"، وعقروا "الناقة" التي أرسلت لهم آية تحذرهم من عاقبة كفرهم ومن استمرارهم في تكذيبهم نبوة نبيهم. فلما استمروا في غيّهم وضلالهم، أرسل الله عليهم "الصيحة"، فأهلكتهم، ورجفت الأرض بهم، فلم يبقَ من كفّارهم على الأرض إلا رجل واحد، هو "أبو رغال" كان في حرم الله، فمنعه حرم الله من عذاب الله5.
ويذكر أهل الأخبار أن رسول الله لما غزا غزاة تبوك، نزل "الحجر"، ونهى الناس من دخول القرية، ومن شرب مائها، وأراهم مرتقى الفصيل.
__________
1 سورة ص رقم 38، الآية 13، وتجد قصة لوط وقومه مفصلة في تأريخ الطبري "1/ 150" وما بعدها، نهاية الأرب "13/ 123، 248".
2 سورة النجم، الآية 53.
3 الطبري "1/ 307".
4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 300"، HASTINGS, P, 734.
5 الطبري ":1/ 231 فما بعدها" "طبعة دار المعارف".(1/333)
والقرية المذكورة هي "الحجر"، وهي "قرية ثمود"1.
وقد ورد في شعر "حسّان بن ثابت": "أشقى ثمود"، وقد ذكر الشُّرّاح أنه "قدار بن سالف أحيمر ثمود"، وهي عاقر ناقة صالح2. وهكذا نجد لثمود "أحيمرًا" على نحو ما وجدنا عند عاد.
ويرجع سند روايات "الطبري" عن ثمود إلى "الحسن بن يحيى"، ويتصل سنده بـ "أبي الطفيل"، وإلى "القاسم"، وينهي سنده إلى "عمرو بن خارجة"، و"ابن جريج" عن جابر بن عبد الله و "إسماعيل بن المتوكل الأشجعي" وينتهي سنده ب"عبد الله بن عثمان بن خثتم" عن "أبي الطفيل"3.
وتفيدنا دراسة هذه الأسانيد وأمثالها فائدة كبيرة في الوصول إلى معرفة الموارد التي أمَدَّتْ الأخباريين بأمثال هذه الأخبار.
__________
1 الطبري "1/ 231 فما بعدها".
2
كأشقى ثمود، إذ تعاطي لحينه ... عضيلة أم السقب والسقب وارد
ديوان حسنان "ص120" "للبرقوقي".
3 الطبري "1/ 231".(1/334)
طسم وجديس:
وساق الأخباريون نسب "طَسْم" على هذه الصورة: "طسم بن لاوذ بن إرم" أو "طسم بن لاوذ بن سام"، أو "طسم بن كاثر"، أو ما شابه ذلك من نسب1. ونحن لا نعرف الآن من أمرهم غير ما ورد من القصص المدوّن في الكتب، ولم يردْ لهم ذكر في القرآن الكريم. وقد جعلهم بعض أهل الأخبار من أهل الزمان الأول، أو من عاد2.
وقد شكّ حتى الأخباريون في الأخبار المنسوبة إلى "طسم"، إذ اعتبروها أخبارًا موضوعة، فقال بعضهم: "وأحاديث طسم: يقال لما لا أصل له. تقول لمن يخبرك بما لا أصل له: أحاديث طسم وأحلامها، وطسم إحدى قبائل
__________
1 الطبري "1/ 771" "طبعة أوروبة"، ابن خلدون "2/ 24"، الأغاني "10/ 48"، ابن الأثير "1/ 139"، الطبري "1/ 203 وما بعدها" "دار المعارف"
2 اللسان "12/ 363".(1/334)
العرب البائدة"1.
أما مواطن طسم، فكانت اليمامة، وعند بعضهم الأحقاف والبحرين2. وقد زعم الأخباريون أن طسمًا وجديسًا سكنتا اليمامة معًا, وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها, ثم انتهى الملك إلى رجل ظالم غشوم من "طسم" يقال له "عمليق" أو "عملوق" استذلّ جديسًا, وأهانها, فثارت جديس وقتلت عمليقًا ومن كان معه من حاشيته، واستعانت طسم بـ "حسّان بن تبع" من تبابعة اليمن، فوقعت حرب أهلكت طسمًا وجديسًا, وبقيت اليمامة خالية، فحلّ بها "بنو حنيفة" الذين كانوا بها عند ظهور الإسلام3.
وذهب نفر من المستشرقين إلى أن طسمًا من الشعوب الخرافية التي ابتدعها الأخباريون، غير أنه لا يستبعد أن يأتي يوم قد يعثر فيه على أخبار هؤلاء القوم وعلى اسمهم في الكتابات. وقد وردت في نصّ يوناني عثر عليه في "صلخد"، ويعود تأريخه إلى سنة "322م" جملة "أنعم طسم"، فلا يستبعد أن يأتي اليوم الذي نقرأ فيه نصوصًا تعود إلى طسم4.
ويروي أهل الأخبار أن "الأسود بن رباح"، وهو قاتل عمليق، هرب بعد ذلك من اليمامة إلى جلبي طيء، فأقام بهما إلى أن جاءت طيء، وأمر سيدهم "سامة بن لؤي" ابنه الغوث أن يقتل الأسود، بعد أن رأوا ضخامة جسمه بالنسبة إلى أجسامهم، وخافوا منه، فجاء إليه الغوث، ثم أخذ يكلمه، ثم باغته بأن رماه بسهم قتله، واستقرت طيء بالجبلين5.
وذهب "جرجي زيدان" إلى أن "طسمًا" هي لطوشيم"6، وهي قبيلة من العرب ورد اسمها في التوراة على أنها من نسل "ددان بن يقشان" وورد
__________
1 الأغاني "11/ 103"، اللسان "15/ 256"، الأغاني "10/ 45"، الطبري "1/ 206"، دار المعارف.
2 ابن خلدون "2/ 24"، الطبري "1/ 206", المعارف لابن قتيبة "13" enc,,vol,I, p,, 992.
3 وعند الطبري أنه "تبان أسعد كرب ملكي كرب" ابن خلدون "2/ 25" المعارف "308"، الأمثال للميداني "1/ 192"، "2/ 690" الأغاني "10/ 45" "10/ 89" "بيروت"
D. H. Mueller, Suedarabische Studien, S. 67.
5 ابن خلدون "2/ 25"، الأغاني "10/ 47"، "10/ 92" "طبعة بيروت".
6 الهلال، الجزء العشرون، السنة الخامسة، حزيران "1897م"، "ص776"(1/335)
معها اسم قبيلة أخرى من قبائل "ددان" دعيت بـ "leummim" "لاميم"، يرى زيدان أنها "أميم"1.
ونسب الأخباريون إلى طسم صنمًا سموه "كثرى"؛ لعلّه الصنم "كثرى" الذي أدرك الإسلام، فحُطم مع الأصنام الأخرى التي أمر الرسول بتحطيمها تخلصًا من عبادة الأصنام، فحطمت أينما وجدت، وقد حطم الصنم "كثرى" "نهشل بن الربيس بن عرعرة"، ولحق بالنبي2.
وقد ضرب أهل الأخبار المثل بـ "كلب طسم". وذكروا قصته على هذا النحو: كان لرجل من طسم كلب، وكان يسقيه اللبن ويطعمه اللحم ويسمنه، يرجو أن يصيب به خيرًا ويحرسه، فجاع يومًا فهجم على صاحبه وأكله، فضُرب به المثل فقيل: سمّن كلبك يأكلك3.
وقد جاء ذكر طسم في شعرٍ للحارث بن حلّزة، هو:
أم علينا جرى إياد كما ... قيل لطسم أخوكم الأبّاء
وقد قال الأصمعي في شرحه: "كان طسم وجديس أخوين، فكسرت جديس على الملك خراجه، فأخذت طسم بذنب جديس"4. فضُرب لذلك بها المثل، لمن يؤخذ بجريرة غيره.
__________
1 التكوين، إصحاح 25، آية 23، قاموس الكتاب المقدس "2/ 293".
2 قال عمرو بن صخر بن أشنع:
حلفت بكثرى حلفة غير برة ... لتستلبني أثواب قيس بن عازب
الأصنام "ص110"، تاج العروس "2/ 125".
2 قال بعض الشعراء:
ككلب طسم وقد يربيه ... يعله بالحليب في الغلس
ظل عليه يومًا يفرفره ... أن لا يلغ في الدماء ينتهس
الفاخر "ص57".
4 المعاني الكبير، "2/ 1011"، "طعبة حيدرآباد دكن".(1/336)
جديس:
وقالوا عن "جديس" إنهم حي من عاد، وهم إخوة طسم، أو إنهم(1/336)
حيّ من العرب كانوا يناسبون عادًا الأولى1. وقالوا إنهم أبناء "جديس بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح"2، أو أبناء "جديس" شقيق "ثمود بن غاثر بن إرم بن سام بن نوح"، أو ما شابه ذلك من نسب3. وقد كانوا أتباعًا لطسم، ويسكنون معهم في اليمامة، ثاروا على "عمليق" "عملوق" ملك طسم، فكانت نهاية طسم كما كانت نهاية "جديس، ولذلك قيل "بوار طسم بيَدَيْ جديس"4.
ويذكر أهل الأخبار أن جديسًا لما قتلتْ "عملوقًا" ومن كان معه من قومه طسم، هرب رجل من طسم اسمه "رباح بن مُرّة"، حتى أتى "حسّان بن تُبَّع" فاستغاث به، فخرج "حسّان" في حِمْيَر، فأباد جديسًا, وخرب بلادهم، وهدم قصورهم وحصونهم5. يرى "كوسين دي برسفال" أن إغارة حمير المذكورة كانت حوالي سنة "250" بعد الميلاد6.
ويرتبط بخبر هذه الإبادة قصة امرأة زعم أنها كانت أقوى الناس بصرًا, ترى من مسافات بعيدة جدًّ, عرفت ب"زرقاء اليمامة". وقد ورد قصص عنها ذكره أهل الأخبار7.
وورد في بعض الأخبار أن "جذيمة الأبرش" كان قد حارب "طسمًا"
__________
1 اللسان "6/ 35".
2 الطبري "1/ 771" "طبعة أوروبة"، "1/ 629" "دار المعارف"، ابن خلدون "2/ 24"، الأغاني" 10/ 48"، المعارف "ص14"، "جديس بن عامر بن أزهر بن سام بن نوح، ابن الأثير الكامل "1/ 139"، شرح ديوان الحماسة للتبريزي "1/ 167"، "وجديس: حي من عاد، وهم إخوة طسم. وفي التهذيب جديس: حي من العرب، كانوا يناسبون عادا الأولى"، اللسان "7/ 333".
3 المصادر نفسها. Ency,, vol, I, p, 992.
4 اللسان "7/ 334"، الأمثال للميداني "1/ 192"، "2/ 690"، الأغاني "11/ 164"، "دار الكتب المصرية".
5 الطبري "1/ 629 فما بعدها"، "حسان بن أسعد تبع"، شمس العلوم "الجزء الأول، القسم الثاني" "ص307".
6 Caussin de Perceval, Essai, 2, P. 26, Ency. Vol. I, P. 992.
7 وهناك قصة عن زرقاء أخرى، كانت ترى من مسافة بعيدة ذكروها في تفرق ولد معد، الأغاني "11/ 36، 155"، "دار الكتب المصرية"، مجمع الأمثال للميداني "1/ 120"، الكامل، لابن الأثير "1/ 207"(1/337)
و "جديسًا"1.
ويذكر أهل الأخبار أن "حسّان بن تُبّع" الذي أوقع بجديس، هو "ذو معاهر"، وهو "تبع بن تبع تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن تبع بن أقرن"، وهو أبو "تبّع بن حسان"، الذي يزعم أهل اليمن أنه قدم مكة ويثرب، وأنه وجّه ابنه "حسان" إلى "السند" وابنه "شمرد الجناح" "سمر"، إلى آخر ذلك من قصص سأتحدث عنه في أثناء الكلام على مملكة "حمير وذي ريدان"2.
ويذكر أهل الأخبار أيضا أن التي أبصرت جند "حسان" اسمها "اليمامة"، وكانت أول من اكتحلت بالإثمد، ولهذا تكوّنت في عينيها عروق سود منه، كانت هي السبب في نشوء حدة البصر عندها, وأن "حسان" أمر ففقئت عيناها لإدراك سبب حدة بصرها, فاكتشف وجود الإثمد بهما, ويزعمون أنه أمر بإبدال اسم "جوّ" مساكن طسم وجديس إلى "اليمامة"، فعرفت بهذه التسمية مذ ذلك الحين3.
وإذا كان ما جاء في شعر الأعشى عن "اليمامة" وعن حسان صحيحاً, فإن ذلك يدل على أن القصة المذكورة كانت شائعة معروفة في أيامه بل وربما قبل أيامه، والظاهر أن أهل الأخبار قد أخذوا اسم اليمامة من اسم المكان، فصيّروه امرأة ذات بصر حديد. ونجد قصة "اليمامة" ومجيء التبع في شعر للنمر بن تولب العُكلي4. ونجد اتفاقًا بين القول المنسوب إلى اليمامة في سياق القصة وبين قولها في الشعر المنسوب إلى الأعشى وإلى النمر.
وقد ذكر "ابن دريد" أن "تبع" أرسل على مقدمته "عبد كلال بن مثوب بن ذي حرث بن الحارث بن مالك بن غيدان" إلى اليمامة، فقتل طسمًا وجديسًا. ولم يذكر اسم ذلك التبع5.
__________
1 enc,, vol, I, p,, 992.
2 "سُمّي ذا الجناح" في طبعة "دار المعارف"، "1/ 632"، "شمر" في الطبعات الأخرى، وفي الموارد الأخرى. وهو الصحيح.
3 الطبري "1/ 630" "دار المعارف".
4 ديوان الأعشى "72- 74"، الطبري "1/ 630 وما بعدها", الكامل لابن الأثير "1/ 451".
5 الاشتقاق "ص307 وما بعدها".(1/338)
ويعتقد بعض المستشرقين أن اسم "jolisitae" أو "jodisitae" الوارد في "جغرافيا بطلميوس" إنما يقصد به قوم "جديس"، وأنهم كانوا معروفين في حوالي سنة "120" بعد الميلاد1.
وقد نسب أهل الأخبار أماكن عديدة إلى طسم وجديس، وهي قرى ومدن ذكر أنها كانت عامرة آهلة بالسكان ذات مزارع، وقد بقي بعضها في الإسلام، ووصفه أهل الأخبار. وإذا صحّ أنها لطسم وجديس حقًّا, وأنها كانت من أعمالهم ونتاجهم، فإن ذلك يدل على أن القوم كانوا حضرًا وعلى مستوى من الرقي، ولم يكونوا بدوًا على شاكلة الأعراب. وربما يعثر على كتابات في هذه المواضع تكشف اللثام عن حقيقة أصحاب هذه المواضع وهُوية الأقوام التي عاشت فيها.
ومن الأماكن المذكورة "المشقر"، وهو حصن بين نجران والبحرين على تلٍ عالٍ، يقابله حصن سدوس، وهو من أمكنة "طسم". وقد نسب بعض الراوة بناءه -كعادتهم عند جهلهم أسماء الأماكن- إلى سليمان، وقد سكنته عبد القيس أهل البحرين2. و "معنق" من قصور اليمامة على أكمة مرتفعة3. و "الشموس" قيل: أنه من بناء "جديس"4.
ومن قرى اليمامة الشهيرة "حجر"، وكانت لطسم وجديس، والظاهر أنها كانت عامرة ذات قصور عالية كثيرة، وأنها كانت محاطة بالمزارع، وأنها بقيت مدة طويلة مهملة في وسط الرمال التي تكوّنت في تلك البقاع المنبتة الخصبة التي تحوّلت إلى صحراء5. و "القرية" "قرية بني سَدُوس"، وكان بها قصر عظيم من الصخر، وقد زعموا أنه كان من حجر واحد بناه جنّ سليمان6. و "جعدة" وهي حصن، وبها قصر قديم "عادي" ينسبونه إلى طسم وجديس، ويظهر أنه ظلّ باقيًا إلى أيام "الهمداني"، بدليل وصفه له في كتابه "صفة
__________
1 Ptolemy, Geogr. I, 29, Libr. VIII, "Ed. Wilberg", Ency. Vol. I, P. 992.
2 البلدان "8/ 65"، اللسان "6/ 91".
3 البلدان "8/ 65".
4 البلدان "8/ 100".
5 البلدان "3/ 221".
6 البلدان "7/ 76 فما بعدها"، الهمداني، صفة "ص141".(1/339)
جزيرة العرب" والظاهر من وصفه أن الحصن كان عظيمًا, وأنه كان يحيط بالقرية، وأن أساسه من اللبِن وحوله منازل الحاشية للرئيس الذي يكون فيه، وكان فيه الأثل والنخيل، وحوله منازل الناس والسوق، ويحيط بالقرية خندق، وفي السوق آبار. قال الهمداني: إنها مائتان وستون بئرًا ماؤها عذب فرات1.
و"خضراء حجر"، وهي حضور "طسم" و "جديس"، وفيها آثارهم وحصونهم وبتلهم، الواحد بتيل، وهو مربع مثل الصومعة مستطيل في السماء من طين. وقد بولغ في وصف ارتفاع هذه "البتل" وطولها, حتى زعم أن ارتفاع ما تبقّى منها إلى أيام الهمداني كان قد بلغ مائتي ذراع في السماء2.
و"الخضرمة"، وكانت لجديس، وبها آثار قديمة كثيرة3، و "الهدار"4. و "ريمان"5.
__________
1 الهمداني: صفة "ص141".
2 صفة "141"
3 صفة "141"
4 صفة "141"
5 صفة "141"(1/340)
أميم:
وجعل الأخباريون "أميمًا" في طبقة طسم وجديس، وقالوا إنهم من نسل "لاوذ بن عمليق"1، أو "لوذ بن بن نوح"، أو ما شابه ذلك من شجرات نسب2. وكان من شعوبهم على زعم أهل الأخبار "وبار بن أميم"، نزلوا برمل "عالج" بين اليمامة والشحر، وانهارت عليهم الرمال فأهلكتهم3. ويزعم أهل الأخبار أن ديار "أميم" كانت بأرض فارس، ولذلك زعم بعض نسّابة الفرس أنهم من "أميم"، وأن "كيومرت" الذي ينسبون إليه هو ابن أميم بن لاوذ4.
__________
1 الطبري: "1/ 214، 215، 217، 219، 220"، "1/ 203 وما بعدها"، "دار المعارف".
2 طبقات ابن سعد "1/ 1 ص19".
3 الطبري: "1/ 203" "دار المعارف".
4 ابن خلدون "2/ 28".(1/340)
ولا نعرف من أمر أميم شيئا غير هذه النتف، ولم يذكر الأخباريون كيف عدّوهم من طبقة العرب الأولى إذا كانت ديارهم بأرض فارس، ولم يشرحوا لنا كذلك كيف وصلوا نسب "وبار" بأميم، وما العلاقة بينهما.
وقد ذكر الهمداني أن وبار هو شقيق "كيومرت" ويقال "جيومرت"، وقد أولدهما "أميم". وبوبار عرفت أرض "وبار"، وهي أرض أميم1.
وجاء في جغرفيا "بطلميوس" اسم شعب عربي دُعِي "lobaritai" "jobaritae" "jobabitae"، على أنه من شعوب العربية الجنوبية، ويسكن على مقربة من أرض قبيلة أخرى دعاها sachalitae، وتقطن عند خليج يدعى باسمها "sinus sachalits"2. وهذا الاسم قريب جدًّا من اسم "وبار"، لذلك ذهب المستشرقون إلى أن "jobaritae"، وهو شعب وبار3 أو "بنو وبار"4. غير أن هنالك عددًا من العلماء يرون أن الاسم الأصلي الذي ورد في جغرافيا بطلميوس هو "يوباب"، غير أن النساخ قد أخطئوا في النسخ فحرفوا حرف الباء "b"، الثاني في هذا الاسم وصيّروه راء "R"، فصار الاسم بعد هذا الحريف "jobabitae"5. فالشعب الذي قصده بطلميوس -على حد قول هؤلاء- هو "يوباب" أو يباب"، إلا أنه لا يوجد هنالك دليل قوي يثبت حدوث هذا التحريف6.
وفي موضع ليس ببعيد عن هذا المكان الذي ذكره بطلميوس تقع أرض وبار الشهيرة، وهي بين رمال يبرين واليمن "ما بين نجران وحضرموت وما بين مهرة والشحر"، أو ما بين الشحر إلى تخوم صنعاء، وقيل: "قرية وبار كانت لبني وبار، وبين رمال بني سعد وبين الشحر ومهرة"، والنسبة إليها
__________
1 الإكليل"1/ 77"، "ولحقت أميم بأرض أباد فهلكوا بها, وهي بين اليمامة والشحر، ولا يصل إليها اليوم أحد، غلبت عليها الجن. وإنما سميت أبار بأبار بن أميم"، الطبري "1/ 208" "دار المعارف".
2 Forster, vol, I, P. 173. f. vol. 2, P. 270. Ptolemy, VI 7, Glaser, Skizze, 2, S. 256.
3 Ritter, Erdkunde, Berlin, 1896, Bd. XIII, S. 315, Sprenger, Geographie, S. 296.
4 الطبري "1/ 750" "طبعة أوروبة".
5 Froster, vol. I, P. 177.
6 Forster, Vol., I, P., 173, Vol., 2, P., 270.(1/341)
"أباري"1. ونرى أن هذه النسبة قريبة من الاسم الذي ذكره بطلميوس.... ويدّعي "ياقوت الحموي" أنها مسماه بـ "وبار بن إرم بن سام بن نوح"2.
وقد روت الكتب العربية قصصًا كثيرة عن "وبار"، ومن جملة الأساطير التي تروى عنها أسطورة "النسناس". وتتلخص في أنهم "من ولد النسناس بن أميم بن عمليق بن يلمع بن لاوذ بن سام"، وأنهم كانوا في الأصل بشرًا, فجعلهم الله نسناسًا, للرجل منهم نصف رأس ونصف وجه وعين واحدة ويد واحدة ورِجْل واحدة، وأنهم صاروا يرعون كما تُرعى البهائم، وأنهم يقفزون قفزًا شديدًا ويعدون عدوًا منكرًا3. والظاهر أن لهذه القصص والأساطير أصولًا جاهلية، وقد وضع منها في الإسلام شيء كثير، ووضع معها شعر كثير على لسان ذلك "الإنسان الحيوان"، ولا يزال الناس يَرْوُونَها حتى الآن.
وقد أنكر بعض المستشرقين، وجود وبار، وزعموا أنهم من الشعوب التي ابتكر وجودها القصاص قائلين إن تلك الرمال الواسعة المخيفة هي التي أوحت إلى القصاص والأخباريين اختراع شعب "وبار" وقصص النسناس4. والذي أراه أن هذا لا يمنع من وجود شعب بهذا الاسم، وإن كنا لا نعرف من أمره شيئًا إلا هذه القصص والأساطير. وقديمًا أنكروا وجود عاد وثمود، ثم اتّضح بعد ذلك من الكتابات وجود عاد وثمود. وهكذا قد يعثر في المستقبل على كتابات وبارية لعلها تلقي ضوءًا على حالة ذلك الشعب.
ونجد في رواية أهل الأخبار عن عمار "وبار" وكثرة زروعها ومراعيها ومياهها في الجاهلية شيئًا من الأساس؛ فقد أيّد السياح ذلك، وأثبتوا وجود أثر من آثار عمران قديم5. وهو سند يتخذه القائلون بتطور جوّ بلاد العرب، وسطحها لإثبات رأيهم في هذا التغيير.
__________
1 البلدان "8/ 392 فما بعدها"، منتخبات "ص113"، "ولحقت أميم بأرض وبار فهلكوا بها, وهي بين اليمامة والشحر. ولا يصل اليوم إليها أحد، غلبت عليها الجنّ. وإنما سميت أبار بأبار بن أميم"، طبقات ابن سعد "ج1، قسم 1ص20.
2 البلدان "8/ 392".
3 البلدان "8/ 392 فما بعدها"، الفزويني، عجائب المخلوقات "2/ 41"، "طبعة وستنفلد"، المسعودي، التنبيه "ص184"، صفة "154، 223".
4 Sprenger Geogr. S. 296.
5 Enc. Vol. 4, P. 1077, Philby, The Heart of Arabia, vol. 2, P. 353.(1/342)
ولم يذهب اسم "وبار" من ذاكرة سكان العرب حتى هذا اليوم. فهم يَرَوْن أن في الربع الخالي موضعًا منكوبًا هو الآن خراب، هو مكان "وبار". وقد قاد بعض الأعراب "فلبي" إلى موضع في الربع الخالي، قال له عنه إنه مكان "وبار" المدينة التي غضب الله عليها, فأنزل بها العقاب، وصارت خرابًا. وقد تبين ل "فلبي" أن ذلك الوضع هو فوهة بركان، قذف حميمًا, فبانت الأرض المحيطة به وكأنها خرائب تولدت من حريق1. وتحدث أعراب آخرون للسائح "برترام توماس" عن مكان آخر يقع في جنوب شرقي هذا الموضع بمسافة "200" ميل، قالوا له إنه مكان "وبار" المدينة المفقودة المنكوبة كما عثر رجال شركة "أرامكو" على موضع في البادية وذلك في سنة 1944، زعم لهم الأعراب أنه مكان وبار مما يدل على أن الأعراب يطلقون اسم وبار على مواضع عديدة تقع في البوادي. والبوادي أنسب مكان يليق في نظرهم بأن يكون موطن وبار2.
__________
1 Philby, The Empty Quarter, P. 165, R. H. Sanger, The Arabian Peninsula, P. 126, 132.
2 Sanger, The Arabian Peninsula, P., 132.(1/343)
عبيل:
و"عبيل" مثل أميم لا نعرف من أمرهم غير نتف ذكرها الأخباريون الذين زعموا أنهم إخوان عاد بن عوص، أو إخوان عوص بن إرم، وأنهم لحقوا بموضع "يثرب" حيث اختطوا يثرب. وكان الذي اختطها منهم رجل يقال له "يثرب بن باثلة بن مهلهل بن عبيل"1. ثم إن قسمًا من العماليق انحدروا إلى يثرب، فأخرجوا منها عبيلًا, فنزلوا موضع "الجحفة"، فأقبل سيل فاجتحفهم فذهب بهم فسميت "الجحفة"2.
وقد ورد في التوراة اسم ولد من أولاد "يقطان"، هو "obal" "عوبال"
__________
1 ابن خلدون "2/ 21"، "وعاد وعبيل أبناء عوص بن إرم بن سام بن نوح"، طبقات ابن سعد "ج1، قسم1 ص19".
2 ابن سعد، طبقات "ج1 قسم1 ص20"، البلدان "3/ 62".(1/343)
أو "ebal"1. وهذا الاسم قريب من "عبيل"، لذلك رأى بعض علماء التوراة أن من الممكن أن يكون "عبيل" هو "عوبال"2. ونجد في جغرافيا بطلميوس اسم موضع يقال له avalitae على خليج يُدعى بهذا الاسم "avalites sinus" وعليه مدينة تسمى "avalites emporium"، وسكانها يُعرفون باسم "avalites". وقد ورد هذا الاسم عند "بلينيوس" على صورة "abalitae" و "abalites"، ويرى "فورستر" أن من المحتمل أن يكون هؤلاء هم "عوبال"3 وقد يكون أبناء عوبال هم عبيل.
وذكر أن في اليمن مكانًا يقال له عبيل4، وقرية تقع على طريق صنعاء تعرف بـ "عبال"5. وهذان الاسمان قريبان من سام عبيل. غير أني لا أريد أن أقول الآن شيئًا فيما يخص "عبيلا"، فلا يجوز الحكم في مثل هذه الأمور لمجرد تشابه الأسماء، وإنما ذكرت ذلك للمناسبة العارضة وللتنبيه.
وأما عبد ضخم، فكانت تسكن على قول الأخباريين الطائف، وهلكوا فيمن هلك من الشعوب البائدة، وكانوا أول من كتب بالخط العربي6. وذكر الطبري أنهم حيّ من عبس الأول7.
ويذكر أهل الأخبار أن "أمية بن أبي الصلت" ذكر "بني عبد ضخم" في شعره، إذ قال فيهم:
كما أُفنى بني عبد بن ضخم ... فما يذكو لصاليها شهاب
بني بيض ورهط بني معاذ ... وفيهم عزة وهم غلاب8
__________
1 أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، آية 22، التكوين، الإصحاح العاشر، آية 28.
2 Hastings, P., 201, Ency., Bibli., P., 3462, M. Gottfried Buchner's Biblische Real und Verbal Hand., S., 276
3 Forster, Vol., I, P., 148, 149.
4 Glaser, Sklzze, 2, S., 426.
5 Scott The High Yemen, P., 185.
6 ابن خلدون "2/ 21"، "عبد ضخم بن إرم".
7 "وكان ساكني الطائف بنو عبد ضخم، حي من عبس الأول"، الطبري "1/ 203 "دار المعارف".
8 الإكليل"1/ 75".(1/344)
وقد ذكر الهمداني أن "ابن الكلبي" يرى أن "عبد ضخم" و "بيض"، وهما حيّان، هما اللذان وضعا الكتاب العربي، وذكر الهمداني أن الشاعر "حاجز الأزدي" ضمن هذا الرأي بقوله:
عبد بن ضخم إذا نسبتهم ... وبيض أهل العلوّ في النسب
ابتدعوا منطقا لخطهم ... فبين الخط لهجة العرب1(1/345)
جرهم الأولى:
وجرهم هؤلاء، هم غير "جرهم" القحطانية على رأي النسّابين والأخباريين، ولذلك يقولون لجرهم هذه "جرهم الأولى"، ولجرهم القحطانية "جرهم الثانية"، ويقولون عن الأولى: إنهم من طبقة العرب البائدة، وإنهم كانوا على عهد عاد وثمود والعمالقة1. ويظهر من روايات الأخباريين أنهم كانوا يقيمون بمكة، ويرجعون أنسابهم إلى "عابر"، وأنهم أُبِيدوا: أبادهم القحطانيون2.
أما جرهم الثانية، أي جرهم القحطانيين فينسبهم بعض أهل الأخبار إلى "جرهم بن قحطان بن هود" وهم أصهار إسماعيل3.
وقد ورد اسم "جرهم" عند "إصطيفان البيزنطي" من الكتبة اليونان4.
__________
1 الإكليل"1/ 78".
2 enc,, vol, I, p,, 1066.
3 ابن خلدون "2/ 30"، صبح الأعشى"1/ 314"، enc,, vol,I ,p, 1066.
4 شمس العلوم"ج1، ق1، ص322".(1/345)
العمالقة:
وحشر الأخباريون العمالقة "العماليق" في هذه الطبقة أيضًا, فنسبوهم إلى "عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح"1, ولم تذكر التوراة أصلهم ونسبهم،
__________
1 enc,, vol, I, p, 1066.(1/345)
وهي لا تشير إلى أبناء "لود" أو "لاوذ" كما يقول له الأخباريون1.
و"عمليق" جدّ العمالقة، هو شقيق طسم. ويذكرون أنهم كانوا أُمَمًا كثيرة، تفرقت في البلاد، فكان منهم أهل عمان وأهل الحجاز وأهل الشام وأهل مصر. ويعرف أهل عمان والبحرين بـ "جاسم"، وجاسم هم من نسل عمليق على زعم أهل الأخبار. وكان من العمالقة أهل المدينة، ومنهم "بنو هف" و "سعد بن هزان" و "بنو مطر" و "بنو الأزرق". وكذلك سكان نجد، ومنهم بديل وراحل وغفار، وكذلك أهل تيماء2.
وكان ملكهم "الأرقم"، وهو من العمالقة3. وهو من معاصري "موسى" على رواية الهمداني. وقد أرسل "موسى" عليه جندًا لمقاتلته ففتك بأتباعه أهل تمياء وببقية عمالقة الحجاز4
ويذكر بعض أهل الأخبار أن "العماليق" لحقت بصنعاء قبل أن تُسمّى صنعاء، ثم انحدر بعضهم إلى يثرب، فأخرجوا منها "عبيلًا"، وسكنوا في ديارهم، وذهبت "عبيل" إلى موضع "الجُحْفَة"، فأقبل السيل فاجتحفهم، فذهب بهم، فسميت الجحفة5. وذكروا أن "موسى" أرسل جيشًا لحرب عماليق يثرب6، ولم نجد في التوراة ذكرًا لمثل هذا الجيش، أو الحرب.
والعمالقة الذين نتحدث عنهم، هم عرب صُرحاء، من أقدم العرب زمانًا, لسانهم اللسان المُضَري الذي هو لسان كل العرب البائدة على حدّ قول أهل الأخبار7. بل زعم بعضهم أن عمليقًا, وهو أبو العمالقة، أول من تكلم بالعربية حين ظعنوا من بابل، فكان يقال لهم ولجرهم "العرب العاربة"8.
ويظهر من فحص هذا المروي في كتب الأخباريين عن العمالقة ونقده أنه مأخوذ من منابع يهودية، فقد ذُكر العمالقة في التوراة، وقد كانوا أول شعب
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 112 فما بعدها"،
Hastings, P. 24, The Uni. Jew. Enc. Vol. I. p. 218.
2 الطبري "1/ 203" "دار المعارف".
3 الطبري "1/ 203".
4 الإكليل"1/ 74 وما بعدها".
5 الطبري "1/ 20".
6 Enc. Vol. I, P. 325.
7 الطبري "1/ 203 فما بعدها".
8 الطبري "1/ 207 فما بعدها".(1/346)
صدم العبرانيين حينما خرجوا من مصر متجهين إلى فلسطين1. وظلوا يحاربونهم، ويكبدونهم خسائر فادحة، وأوقعوا الرعب في نفوسهم، ولهذا ثار الحقد بينهم على العماليق. ويتجلّى هذا الحقد في الآيات التي قالها النبي "صموئيل" لشاءول "saul" أول ملك ظهر عند العبرانيين، قالها لهم باسم إسرائيل: "إياي أرسل الرب لمسحك ملكا على شعبه إسرائيل. والآن فاسمع صوت كلام الرب.
هكذا يقول رب الجنود. إني افتقدت ما عمل عمليق بإسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر. فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ماله، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا, بقرًا وغنمًا, جملًا وحمارًا"2. وهذا الحقد هو الذي جعلهم يخرجونهم من قائمة النسب التي تربطهم بالساميين.
وقد كانت منازل العمالقة من حدود مصر فطور سيناء إلى فلسطين. وعدم ذكر العبرانيين لهم في جملة قبائل العرب لا يدل على أنهم لم يكونوا عربًا, فقد ذكرت أن العبرانيين لم يطلقوا لفظة "عرب" إلا على الأعراب، أعراب البادية، ولا سيما بادية الشام3. ثم إن العمالقة من أقدم الشعوب التي اصطدم بها العبرانيون، وحملوا حقدًا عليها, وهم عندهم وفي نظرهم أقدم من القحطانيين والإسماعيليين.
__________
1 Musil, Hegaz. P. 460 The Uni. Jew. Enc, vol. I, P. 218.
2 صموئيل الأول، الإصحاح الخامس عشر، الآية 1 فما بعدها.
3 Hastings, A. Dictionary of The Bibl vol. I, P. 77.(1/347)
حضورا:
وأورد أهل الأخبار قصصًا عن "حضورا"، فذكروا أن "حضورا" كانوا يقيمون بالرسّ، وكانوا يعبدون الأوثان، وبعث إليهم منهم نبي منهم اسمه "شعيب بن ذي مهرع"، فكذبوه، وهلكوا1.
وهنالك عدة مواضع يقال لها "الرسّ" منها موضع باليمامة، وموضع كان فيه ديار نفر من ثمود2.
__________
1 ابن خلدون "2/ 20"، نهاية الأرب "13/ 86 فما بعدها"، "قال كعب: إن أصحاب الرس كانوا بحضرموت"، نهاية الأرب"13/ 88".
2 البلدان "4/ 250".(1/347)
وورد في القرآن الكريم "أصحاب الرس"1، مع عاد وثمود، وذهب المفسرون إلى أنهم كانوا جماعة "حنظلة"، وهو نبي، فكفروا به ورسّوه في البئر2، إلى غير ذلك من الأقوال.
ويظهر من القرآن الكريم أن "أصحاب الرس" كانوا مثل جماعة عاد وثمود في الطبقة، أي في زمانهم، وأنهم هلكوا أيضا. وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن نبي "أصحاب الرس" هو "خالد بن سنان"، وقد ذكروا أن الرسول ذكره، فقال فيه: "ذاك نبي ضيّعه قومه"3.
وذكر "الهمداني" أن "حنظلة بن صفوان" كان نبيًّا في اليمن، وقد أرسل إلى سبأ، وكان من "الأقيون"، وهم بطن دخل في "حمير"، وذكر أنه وُجِدت عند قبره هذه الكتابة: "أنا حنظلة بن صفوان. أنا رسول الله. بعثني الله إلى حمير وهمدان والعربي من أهل اليمن، فكذّبوني وقتلوني". وأنه أنذر قومه "سبأ" برسالته فكذبوه، فلما كذبوه، أرسل الله عليهم سيل العَرِم4.
وذكر "الهمداني" أيضا نقلًا عن "ابن هشام" أن "حنظلة بن صفوان ابن الأقيون"، هو، نبي الرسّ، والرسّ بناحية صيهد، وهي بلدة منحرفة ما بين بيحان ومأرب والجوف، فنجران فالعقيق فالدهناء، فراجعًا إلى حضرموت. وذكر أيضًا أن الرس، بمعنى البئر القليلة الماء، وأن أهل الرس قبائل من نسل أسلم ويامن أبو زرع ورعويل وقدمان، وهم من نسل قحطان. وقد كذبوا نبيهم "حنظلة" وقتلوه وطرحوه في بئر رسّ ماؤها5.
وروى أهل الأخبار أن "بختنصر" "نبوخد نصر" غزا أهل "حضور" "حضوراء" وأعمل فيهم السيف وأجلى خلقًا منهم إلى أماكن أخرى، لأنهم كفروا وجحدوا نبوة نبي منهم أرسله الله إليهم، وهو "شعيب بن مهدم بن ذي مهدم بن المقدم بن حضور"، ولم يصدِّقوه، وكانوا أصحاب بطش وشدة
__________
1 {وَعَادًا وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} ، [الفرقان، 25،آية 38] ، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ} [ق، 50، آية 12] .
2 البلدان "4/ 250"، قصص الأنبياء "141"، حياة الحيوان، للدميري، مادة عنقاء نهاية الأرب "13/ 8"، enc,, vol, I,,p,,479.
3 الإصابة "1/ 468".
4 الإكليل"1/ 120 وما بعدها".
5 الإكليل"1/ 121 وما بعدها".(1/348)
وغلظة. فلما قتلوه، أوحى الله إلى نبي في عصره هو "برخيا بن أخبيا بن رزنائيل بن شالتان"، وكان من سبط "يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل"، أن يأتي "بختنصر"، فيأمره بغزو "العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب"، ويطأ بلادهم بالجنود، فيقتل مقاتلهم، ويستبيح أموالهم. فأقبل "برخيا" من نجران، حتى قدم على "بختنصر"، وذلك في زمان "معد بن عدنان"، فوثب "بختنصر" على من كان في بلاده من العرب، وجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرًا على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه، ووكّل بهم حرسًا وحَفَظَة، ثم سار في بلاد العرب فالتقى بعدنان بذات عرق، فهزم، "بختنصر" عدنان, وسار إلى "حضور"، فانهزم الناس وفروا فرقتين: فرقة أخذت إلى "ريسوب" وعليهم "عك"، وفرقة قصدت وبار.
أما الذين بقوا في "حضور"، وحاربوا "بختنصر" فقد احتصدتهم السيوف.
ثم رجع ملك بابل بما جمع من السبايا، فألقاهم بالأنبار، وخالطهم بعد ذلك النبط، ومات عدنان. فلما مات "بختنصر"، خرج "معدّ بن عدنان" حتى أتى مكة، ثم ذهب إلى "ريسوب" فاستخرج أهلها, وسأل عمّن بقي من ولد "الحارث بن مضاض الجرهمي" وهو الذي قاتل دوس العتق، فأفنى أكثر جرهم على يديه، فقيل: بقي "جرشم بن جلهمة"، فتزوّج معد ابنته "معانة"، فولدت له "نزارًا"1,
وأهل حضور الذين قتلوا نبيهم، وقتلهم "بختنصر" هم شعب من أهل اليمن على رأي الأخباريين، كانوا يقيمون الحضور أو "حضوراء". وفي اليمن موضع يسمى "حضور"، ينسبه أصحاب الأخبار إلى: حضور بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير بن سبأ"2، وذكروا أنه المكان الذي قصده "بختنصر"، فقتل أهله3. وعلى هذا المكان مسجد يُزار حتى اليوم، يقال له مسجد شعيب نبي أصحاب الرسّ4. وهو جبل من جبال اليمن المقدسة،
__________
1 الطبري "1/ 291 وما بعدها"، "1/ 559" "دار المعارف".
2 "حضور بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة"، البكري، معجم "2/ 456" "طبعة السقا"، اللسان "5/ 278".
3 البلدان "3/ 296".
4 الإكليل"8/ 121" "طبعة نبيه"، enc,, vol, 2, p,, 210.(1/349)
قال الهمداني: "وأما الجبال المقدسة عند أهل اليمن، فجبل حضور وصنّين ورأس بيت فائش من رأس جبل تخلى ورأس هنوم ورأس تعكر ورأس صبر. وفي رءوس هذه الجبال مساجد مباركة مأثورة"1.
وأرى أن قداسة هذه الجبال وردت إليها من الأيام التي سبقت الإسلام، من أيام الوثنية، وأن المساجد التي أنشئت في رءوسها, إنما أنشئت فوق معابد قديمة، لعبادة الأصنام، وذلك كما حدث في أماكن أخرى من جزيرة العرب حيث اكتسبت بعض المعابد الوثنية القديمة قدسية خاصة. فلما جاء الإسلام، ألبست ثوبًا إسلاميًّا, فبقيت حية، وتحولت بمرور الزمن إلى مزارات ومساجد تقام فيها الصلوات.
وقد اعتمد رواة خبر غزو "بختنصر" لأهل "حضور" على ما جاء عن "ابن الكلبي" و "ابن إسحاق" ونفر آخر ممن عُرفوا بروايتهم هذا النوع من الروايات التي تُعرف من معين الإسرائيليات. وما بنا حاجة أبدًا إلى البحث في أسماء رواته لمعرفة صلته بالتوراة. فالمسألة جِدّ واضحة. خذ التوراة واقرأ ما جاء في أسفار "أرميا" ونبوءته، تجد القصة مكتوبة في السفر التاسع والأربعين: "عن قيدار وعن ممالك حاصور التي ضربها نبوخذ راصر2 ملك بابل. هكذا قال الرب: قوموا اصعدوا إلى قيدار، اخربوا بني المشرق. يأخذون خيامهم وغنمهم، ويأخذون لأنفسهم شققهم وكل آنيتهم وجمالهم، وينادون إليهم الخوف من كل جانب.
"اهربوا، انهزموا جدًا، تعمقوا في السكن يا سكان حاصور، يقول الرب، لأن نبوخذ راصر ملك بابل قد أشار عليكم مشورة، وفكر عليكم فكرًا. قوموا إلى أمة مطمئنة ساكنة آمنة. يقول الرب لا مصاريع ولا عوارض لها. تسكن وحدها وتكون جمالهم نهبًا، وكثرة ماشيتهم غنيمة، وأدرى لكل ريح مقصوص الشعر مستديرًا، وآني بهلاكهم من كل جهاته يقول الرب. وتكوّن حاصور مسكن بنات آوي، إلى الأبد، لا يسكن هناك إنسان، ولا يتغرب فيها ابن آدم3".
__________
1 الإكليل"8/ 121" "طبعة نبيه".
2 "نبوخذ راصر" "بختنصر" "نبوخذ نصر".
3 أرميا، إصحاح 49، آية 28 وما بعدها.(1/350)
أما النبي "برخيا" الذي زعم الأخباريون أنه هو الذي أشار على "بختنصر" بغزو "حضور"، فهو "باروخ بن نيريا "نريا" بن محسيا" شقيق "سرايا" "sEraiah"1. وقج كان كاتبًا، محبًّا مخلصًا للنبي "أرميا"2، وكان يكتب لأرميا، وهو الذي كلّفه النبي "أرميا" الذهاب إلى "بختنصر" حاملًا رسالة إلى الملك3. وهي الرسالة المدوّنة في أسفار "أرميا". وقد ذهب إلى بابل وقابل الملك، ثم عاد إلى القدس حيث هاجم "بختنصر" القدس واستولى عليها بتحريض من هذا النبي نبيّ العبرانيين!
ترى أن الأخباريين أخذوا قصة عزو "بختنصر" لحاصور، القصة الواردة في أسفار "أرميا"، وجعلوها غزوًا لشعب "حضور" في اليمن، وهو موضع بعيد لا يعقل وصول "بختنصر" إليه، وأضافوا إليه شيئًا من الزخارف التي وضعها "ابن الكلبي" أو غيره كإقحام اسم عدنا ومعدّ بن عدنان واسم نبي عربي جنوبي في القصة، ولم يكفهم ذلك، فجعلوا "برخيا" من أهل "نجران"، وجعلوه يقطع المسافة ما بين نجران وبابل، ليكلّف "بختنصر" غزو العرب. وصيّروا "حاصور" "حصور" الورادة في "أرميا" "حضور" و "حضوراء"، وجعلوه في اليمن، ولم ينسوا البحث عن سبب، فجعلوه اعتداء أهل "حضور" علي نبيهم.
أما "حاصور" التوراة، فإنها أرضون تقع في "العربية، كانت فيها ممالك صغيرة، أو مشيخات، كما يفهم ذلك من عبارة "أرميا" "وعن ممالك حاصور"4. وكانت تتاخم "قيدار" ولعلها كانت في البادية5. ويرى علماء التوراة أن سكانها كانوا من أهل المدر، ويقيمون في بيوت ثابتة، وقد أطلق كلمة "حاصور" "hazor" عليهم تمييزا لهم عن أهل الوبر، وكانت ديارهم في جنوب فلسطين أو شرقها6.
__________
1 أرميا، إصحاح 25، الآية 59.
2 أرميا، إصحاح 32، الآية 12، قاموس الكتاب المقدس "1/ 204"، وقد سجن مع أرميا في القدس وكانا يعراضان الملك "يهو ياقيم".
"604 ق. م"، Hastings, P. 85, Enc. Bibli. P. 491.
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 204".
4 أرميا، إصحاح 49، الآية 28.
5 Hastings, P. 334.
6 Enc., Bibli., P., 1978.(1/351)
وتعني كلمة "حاصور" "hazor" "hasor" وجمعها "hazerim" "haserim" ما تعنيه لفظة "حيرتا" "herta" في الإرمية و "الحيرة" في العربية، من معنى "محاط" أي "محصور" "محاصر"، بمعنى الحصن أو الأمكنة المحاطة المحصورة أو "المضرب" و "الحمى". وقد كان مشايخهم يقيمون في أسياف البادية في مخيمات ومضارب مع أتباعهم، فهي في معنى "حيرتا" عند بني إرم و "paremboles" عند اليونان1. وكانوا يرعون الماشية من ماعز وأغنام وجمال في مناطقهم التي اعتادوا الإقامة بها، ويظهر أنهم تعرضوا لجيوش "بختنصر"، أو أنهم لم يساعدوه في حملته على فلسطين، فاغتاظ منهم، وجرد عليهم حملة، وكان من عادتهم الالتجاء إلى الكهوف والمغاور حين مهاجمة عدو لهم، حيث يذهبون إلتي مناطق بعيدة يصعب على الجيوش مطاردتهم، فيتخذون منها مواطن آمنة ويعيشون فيها ما دام الخطر2.
ولم يكن للأخباريين علم دقيق بما يرد في التوراة من أمور، فلم يفطنوا أن من غير الممكن أن يكون أهل "حاصور" من أهل اليمن، لأن ذكر التوراة لهم مع "قيدار" يجعل مواضعهم في شمال جزيرة العرب، ثم إن اليمن بعيدة جدًّا عن "بختنصر"، ولا يعقل أن يكون في إمكان جيوشه الوصول بسهولة إلى هناك. ثم إن الكتب اليهودية تصوّر "حاصور" في مكان في العربية الشمالية في جوار أرض "قيدار"، ولم يكن لها علم واسع عن اليمن، كما أن "باروخ" من القدس ولم يكن من أهل نجران.
ويظهر أن حربًا قديمة ماحقة، أو كارثة طبيعية مثل زلزال أو هياج حرة، وقعت في "حضور" اليمن، سبب تلفها وإنزال خسائر كبيرة بها وبأهلها، فترك ذلك أثرًا عميقًا في ذاكرة الناس، رواه كابر عن كابر، فوجد الأخباريون الذين وقفوا على أخبار التوراة، أو كانوا يجالسون أهل الكتاب ويسائلونهم، شبهًا بين "حاصور" و "حضور"، وظنوا جهلًا بالطبع بما ورد في "أرميا" عن "حاصور"، أن "حاصور" التوراة "حضور" اليمن، ثم أضافوا إلى ذلك ما شاءوا على طريقتهم في أمثال هذه المناسبات.
__________
1 Musll, Deserta, P. 490.
2 Musil, Deserta, P., 490, Montgomerey, Arabia and the Bible, P., 64.(1/352)
هلاك العرب البائدة:
هذا ويلاحظ أن هلاك العرب البائدة كان بسبب كوارث طبيعية نزلت بهم مثل انحباس المطر جملة سنين مما يؤدي إلى هلاك الحيوان وجوع الإنسان، واضطراره إلى ترك المكان والارتحال عنه إلى موضع آخر، قد يجد فيه زرعًا وماءً وقومًا يسمحون له بالنزول معهم كرهًا لقوّته ولتغلبه عليهم، أو صلحًا بأن يسمح الأقدمون له بالنزول في جوارهم لاتساع الأرض وللفائدة المرجوة للطرفين. وقد يتفرق ويتشتت بين القبائل، فيندمج فيها بمرور الزمن ويلتحق بها في النسب والعصبية، فيكون نسبة النسب الجديد. وبذلك ينطمر ذكر القبيلة القديم والأصل الذي كان منه. وقد لا يبقى منه غير الذكريات، كالذي رأيناه من أمر القبائل البائدة.
وقد تكون الكارثة هيجان حرّات وهبوب عواصف رملية شديدة عاتية تستمر أيامًا واهتزازات أرضية في الأرضين غير المستقرة، مما يُلحق الأذى بالناس.
ومن هنا نجد ذكر هذه الكوارث في القرآن الكريم وفي الأخبار الواردة عن هلاك القبائل المذكورة فيه، أو التي لم ترد فيه، وإنما يذكر أسماءها أهل الأخبار.
هذا وقد ألف بعض أهل الأخبار كتبًا في بعض العرب البائدة ومن هؤلاء "عُبيدة بن شَرْيَة الجُرْهُميّ"، و "ابن الكلبي"، فقد ذكر أن لهذا مؤلفًا دعاه "كتاب عاد الأولى والآخرة" و "كتاب تفرق عاد"1، ومنهم "أبو البختري" و "وهب بن وهب بن كثير" فله "كتاب طسم وجديس"2 وغير ذلك. والغالب على هذه المؤلفات كما يظهر من الاقتباسات منها والمبثوثة في الكتب الباقية، أنها ذات طابع أسطوري.
__________
1 الفهرست "ص147".
2 الفهرست "ص152".(1/353)
فهرس
مقدمة 5
الفصل الأول
تحديد لفظة العرب 13
الفصل الثاني
الجاهليّة ومصادر التأريخ الجاهلي 37
موارد التأريخ الجاهلي 42
النقوش والكتابات 44
تاريخ الكتابات 46
التوراة والتلمود والتفاسير والشروح العبرانية 53
الكتب الكلاسيكية 56
الموارد النصرانيّة 61
الموارد العربية الإسلامية 65
المؤرّخون المسلون 73
الفصل الثالث
إهمال التأريخ الجاهلي وإعادة تدوينه 107
تدوين التأريخ الجاهلي 123(1/354)
الفصل الرابع
جزيرة العرب 140
الحرار، أو الأرضون البركانيّة 145
الدهناء 150
النفود 152
مصدر الصحاري 153
الدرات 155
الجبال 156
الأنهار والأودية 157
أقسام بلاد العرب 163
العربية السعيدة 164
العربية الصحراوية 164
العربيّة الحجريّة، العربيّة الصخريّة 166
التقسيم العربي 167
تهامة 170
اليمن 170
العروض 174
اليمامة 178
نجد 181(1/355)
الفصل الخامس
طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكّانها 186
الطرق البريّة 220
الفصل السادس
صلات العرب بالساميين 222
وطن الساميين 229
الهجرات السامية 240
اللغة السامية الأم 254
العقلية السامية 256
الفصل السابع
طبيعة العقليّة العربية 261
الفصل الثامن
طبقات العرب 294
العرب البائدة 298
هود 310
لقمان 314
ثمود 321
طسم وجديس 334(1/356)
جديس 336
أميم 340
عبيل 343
جرهم الأولى 345
العمالقة 345
حضورا 347
هلاك العرب البائدة 353
الفهرست 354(1/357)
المجلد الثاني
الفصل التاسع: العرب العاربة والعرب المستعربة
مدخل
...
الفصل التاسع: العرب العاربة والعرب المستعربة
تحدثت في الفصل السابق عن العرب البائدة، وهم العرب الذين هلكوا واندثروا قبل الإسلام، ولم يبقَ منهم غير آثار وذكريات. أما العرب العاربة والعرب المستعربة "المتعربة" أو العرب القحطانيون والعرب العدنانيون، فإنهم العرب الباقون الذين كانوا يؤلفون جمهرة العرب بعد هلاك الطبقة الأولى، فهم العرب الذين كُتِبَ لهم البقاء، وكان ينتمي إليهم كل العرب الصرحاء عند ظهور الإسلام1.
__________
1 الطبري "1/ 204" "دار المعارف".(2/5)
العرب العاربة:
أما الطبقة الثانية من طبقات العرب بعد البائدة، فهي "العرب العاربة" على أقوال النسابين، وهم من أبناء قحطان وأسلاف القحطانيين المنافسين للعرب العدنانيين، الذين هم العرب المستعربة في عرف النسابين.
وقحطان الذي يرد في الكتب العربية، هو "يقطان" الذي يرد اسمه في سفر التكوين، وهو "قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"(2/5)
في رأي أكثر النسابين1. وهو "يقطان بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام بن نوح" في التوراة2.
فترى من ذلك مطابقة تامة بين النسب الوارد في الكتب العربية والنسب الوارد في التوراة، مما يدل دلالة واضحة على أن الأخباريين أخذوا علمهم بنسبه من روايات أهل الكتاب، وهم يؤيدون ذلك ولا ينكرونه3.
وقد سرد بعض الأخباريين نسب قحطان في شكل آخر مثل: "قحطان بن هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"4, على أن هودًا هو عابر، أو "قحطان بن هود بن عبد الله بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح" أو "قحطان بن يمن بن قدار" أو "قحطان بن الهميسع بن تيمن بن نبت بن إسماعيل بن إبراهيم"5. فنرى من ذلك أن بعض شجرات النسب أدخلت أسماءً عربية بين الأسماء المأخوذة من التوراة.
وقد ألحَّ بعض نسابي اليمن على جعل "هود" عابرًا، وعلى جعله والد قحطان، وأصروا على ورود ذلك في الشعر، ولم يكن من العسير عليهم بالطبع إيجاد ذلك الشعر ووضعه، فكانوا إذا نُوقشوا في ذلك، احتجوا بقول الشاعر:
وأبو قحطان هو ذو الحقف6
واحتجوا بأمثال ذلك من كلام منظوم أو منثور, وجاءوا بأكثر من ذلك لإفحام الخصوم.
__________
1 مروج "1/ 276 فما بعدها"، ابن هشام "1/ 4" "طبعة وستنفلد"، "1/ 5"، "طبعة الإبياري وجماعته"، القاهرة "1936م"، نهاية الأرب "2/ 275"، الأخبار الطوال "ص9"، الاشتقاق "ص217"، الإكليل "1/ 87 فما بعدها" الطبري "1/ 205"، "دار المعارف" ابن خلدون "1/ 9".
2 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 25 فما بعدها.
3 "ويقطن، هو قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"، الطبقات: لابن سعد، الجزء الأول، القسم الأول، "ص18 فما بعدها"، ابن خلدون "1/ 9"، النويري، نهاية الأرب "2/ 289".
4 التنبيه "ص70".
Wuestenfeld, genealoglische tabellen der arabischen staemme und familien, gottingen, 1852-1853
5 التنبيه "ص71"، ابن خلدون "2/ 46".
6 التنبيه "ص71"، منتخبات "ص83"، أخبار عبيد "ص313".(2/6)
والقائلون: إن "قحطان" هو "قحطان بن الهميسع بن تيمن بن نبت بن إسماعيل" هم نَسَّابو ولد "نزار بن معدّ" أي: النزارية، الذين كانوا يقابلون "اليمانية" في صدر الإسلام وفي الدولة الأموية والعباسية، يؤيدهم في ذلك بعض اليمانية، مثل "هشام بن الكلبي"، و"الشرقي بن القطامي"، و"نصر بن زروع الكلبي" و"الهيثم بن عدي"1. ويظهر أن غايتهم من ذلك وصل نسب قحطان بشجرة نسب أولاد إسماعيل. أما سائر اليمانية، فتأبى ذلك، وتذهب إلى أنه "قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"2.
وتستهدف هذه الروايات غاية عاطفية بعيدة على ما يظهر، كانت ذات أهمية في نظر القحطانيين، هي وصل نسبهم بالأنبياء. فبعد أن ذكروا ما ذكروا من أخبار مُلْكهم ودولهم قبل الإسلام، وجدوا أن العدنانيين يفخرون عليهم مع ذلك بأن فيهم النبوة والأنبياء، منهم الرسول، وفيهم إسماعيل جدهم, فأرادوا أن يكون لهم أجداد أنبياء: أنبياء خلص قحطانيون، أو أن يكون لهم نسب يتصل بنسب إسماعيل على الأقل، أو أن يصل نسب إسماعيل بأسباب نسبهم، فقالوا: إنهم من نسل هود، وهود نبي من أنبياء الله، وقالوا: إن قحطان من نسل إسماعيل، وقالوا: إن هودًا هو عابر، وعابر من نسل الأنبياء، وقالوا أشياءَ أخرى من هذا القبيل ترمي إلى ترجيح كفتهم على كفة منافسيهم العدنانيين في الفخر بالأنساب على الأقل.
ولم يعجب اليمانية المعنى الوارد في التوراة للفظة "يقطان" "يقطن"، ولعلهم عرفوا معناها من أهل الكتاب، فعكسوا المعنى بأن صيروه على الضد تمامًا, جعلوه "الجبار"، وقالوا: "واسمه في التوراة الجبار"3، مؤكدين جازمين. أما في التوراة وعند أهل الكتاب وفي العبرانية، فهو العكس، فـ"يقطان" في التوراة لفظة تعني "صائر صغير"4، فهي في معنى: "صغير", وبين صغير وجبار فرق كبير, وهكذا صار الصغير جبارًا. وبهذا التفسير أعاد النسابون أو أحد المتحدثين إليهم من أهل الكتاب الهيبة والمكانة إلى "قحطان".
وشاء بعض أهل الأخبار أن يكون دقيقًا في حكمه، عارفًا بمدة حكم
__________
1 التنبيه "ص71"، الإكليل "1/ 103 وما بعدها".
2 التنبيه "ص71".
3 التنبيه "ص71".
4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 524".(2/7)
"قحطان"؛ لئلا يترك الناس في جهل من أمرها، فجعلها مائتي سنة، لم يزد عليها ولم ينقص منها. وكان صاحب هذا الخبر "هشام بن الكلبي" رأس الأخباريين في مثل هذه الأمور1.
وقد ورد في جغرافية "بطلميوس" اسم قريب من اسم "قحطان"، هو "كتنيتة" "كتانيتة" 2Katanitae, غير أن هذا لا يدل حتمًا على أن المراد منه "قحطان"؛ إذ يجوز أن يكون اسم موضع لا علاقة له بقحطان، أو اسم قبيلة من القبائل اسمها قريب منه. وقد ورد اسم قبيلة تدعى "قطن" أو "بنو قطن"، كما ورد اسم موضع عرف بـ"جوّ قطن"3، وذكر اسم مدينة بين "زبيد" و"صنعاء" يقال لها "قحطان"4. وأشار "المسعودي" إلى "جزائر قطن"5, لهذا أرى أن من الخير ألا يتخذ الآن أي موقف كان لا سلبًا ولا إيجابًا, قبل اكتمال العدة والظفر بمواد مساعدة تكفي لإصدار الأحكام.
وقد عثر على اسم قبيلة عربية عرفت بقبيلة "قحطن"، أي: قحطان، في نصوص المسند، لا أستبعد أن يكون لاسمها علاقة بقحطان الذي صيره أهل الأخبار جدًّا لكل العرب الجنوبيين. فقد ذكر بعد اسم "كدت" الذي هو كندة في النص:6 Jamme 635 وكان على قبيلة قحطان وعلى كندة ملك واحد اسمه "ربيعت" "ربيعة"، وهو من "ثورم" "ال ثورم" "الثورم" آي "آل ثور". وثور هو جد قبيلة كندة في عرف النسابين من أيام الملك "شعر أوتر"، وسأتحدث عنه وعن الملك فيما بعد.
ونحن لا نعرف من أمر "قحطان" شيئًا غير هذا النسب الذي يردده الأخباريون، وليس لدى العبرانيين من أمره غير ما ورد من أنه أحد أولاد
__________
1 المحبر "364".
2 ptolemy, geogr, VI, 9.20.23, glaser, skizze, Bd, 2. s. 283
knobel, Die voekerstafel der gensis, s, 185, forster, the histrical
geography, vol., I, 80, o'leary, p., 18.
3 glaser, skizze, s, 288, 422, enc., vol., 2, p., 629.
4 أحسن التقاسيم، "3/ 87، 94" "الطبعة الثانية".
5 مروج "1: 91" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
6 Jamme 635, mamb270, mahram, p., 13(2/8)
"عابر" وآخرهم، وأنه جد قبائل عديدة قديمة. وسكوت أهل الأخبار عنه واكتفاؤهم بسرد نسبه، دليل على أخذهم له من التوراة.
أما أولاده، فلم يبخل عليه أهل الأخبار بالأولاد، فوهب بعضهم له امرأة سموها "حنى بنت روق بن فزارة بن سعد بن سويد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح"1، ووهبوا له من الولد ما تراوح عدده من عشرة ذكور إلى واحد وثلاثين على حسب كرم الراوي أو بخله على قحطان، من بينهم: يعرب وحضرموت وعمان وجرهم2.
وقد ذكر "الهمداني" أولاد "قحطان" على هذا النحو: يعرب بن قحطان، ودعاه بـ" المزدغف"، ومعنى "المزدغف" المحتوي للأشياء، وجرهم بن قحطان، ولؤي، وخابر، والمتلمس، والعاض "العاصي" "القاضي"، وغاشم، والمعتصم، وغاصب، ومغرز، ومبتع، والقطامي، وظالم، و"الحارث" "الحرث"، ونباتة، وقاحط، وقحيط، ويعفر جد المعافر، والمود، والمودد، والسلف، والسالف، ويكلأ، وغوث، والمرتاد، وطسم، وجديس، وحضرموت، وسماك، وظالم، وخيار، والمتمنع، وذو هوزن، ويأمن، ويغوث، وهذرم. وقد أخد هذه الأسماء من روايات أشار إلى أسماء رواتها, وقد جمعتها؛ ليكون في إمكان القارئ الإحاطة بها3.
وذكر "الهمداني" في موضع آخر أنه قرأ "في السجل الأول: أولد قحطان بن هود أربعة وعشرين رجلًا، وهم: يعرب، والسلف الكبرى، ويشجب، وأزال وهو الذي بنى صنعاء، ويكلى الصغرى، وخولان -خولان رداع في الفقاعة- والحارث، وغوث، والمرتاد، وجرهم، وجديس، والمتمنع، والمتلمس، والمتغشمر، وعباد, وذو هوزن، ويمن وبه سميت اليمن، والقطامي، ونباتة، وحضرموت، وسماك، وظالم، وخيار، والمشفتر"4, وقصد بـ" السجل الأول" سجل خولان الذي تحدثت عنه آنفًا.
أما الذي تولى الملك بعد قحطان -على رأي الأخباريين- فكان يعرب،
__________
1 مروج "1/ 277".
2 مروج "1/ 277"، ابن خلدون "1/ 47"، الاشتقاق "ص217".
3 الإكليل "1/ 116 وما بعدها".
4 الإكليل "1/ 131 وما بعدها".(2/9)
وكان ملكه باليمن، وقد غلب بقايا عاد، ووزع إخوته في الأقطار، فأقر أخاه حضرموت على الأرضين التي عرفت باسمه فقيل لها حضرموت، وعين عمان على أرض عمان، وولى جرهمًا على الحجاز1.
ولا نعرف من أمر يعرب شيئًا غير ما ذكره بعض الأخباريين من أن أم يعرب هي من عاد أو من العماليق، ومن أن له إخوة من أمه، هم: جرهم والمعتمر والمتلمس وعاصم ومنيع والقطامي وعامي وحمير وغيرهم2.
وقد حكم "يعرب" على رأي بعض أهل الأخبار مدة تساوي المدة التي حكم فيها أبوه، أي: مائتي سنة3. وإذا كانت هذه المدة هي مدة حكمه، فلا بد أن تكون أيام حياته أطول من أيام حكمه. فعمره إذن عمر لا بد أن يحسده عليه كل أحياء هذا القرن ومن سيأتي بعدهم من الناس.
ولم ينسب أهل الأخبار والنسب إلى يعرب ولدًا كثيرًا, فقد نسب بعضهم إليه يشجب، قالوا: وبه كان يكنى، وشجبان، وبه سميت "شجبان" باليمن، وهي أعلى رَمْع4.
ويلاحظ أن بين "يشجب" و"شجبان" تقاربا كبيرا، ولعل أحد الاسمين خلق الاسم الثاني. وجعل بعضهم ليعرب من الولد: يشجب، وحيدان، وحيادة5، وجنادة، ووائلًا، وكعبًا6.
ولم يرد اسم "يعرب" في الشعر الجاهلي, وإنما ورد اسمه في شعر ينسب إلى "حسان بن ثابت"7، وفي شعر ينسب إلى "مضاض بن عمرو الجرهمي"، وهو من جرهم، وقيل: إنه قاله لما أخرجتهم الأزد من مكة8. والشعران من النوع المصنوع المحمول على حسان وعلى "مضاض" الذي لا أدري أكان يتكلم
__________
1 صبح الأعشى "5/ 19"، ابن خلدون "2/ 47"، القاموس "1/ 103".
2 الأخبار الطوال "ص11".
3 المحبر "ص365".
4 الإكليل "1/ 124".
5 الإكليل "1/ 125".
6 الإكليل "1/ 132".
7
تعلمتم من منطق الشيخ يعرب ... أبينا فصرتم معربين ذوي نفر
الإكليل "1/ 116".
8 الإكليل "1/ 117".(2/10)
بهذا اللسان العربي الذي نزل به القرآن، أم بلسان أهل اليمن الذي يختلف عن هذا اللسان.
ولا نعرف لـ"يعرب" اسمًا في التوراة، لا في أبناء يقطان ولا في غير أبنائه, إنما نعرف أن في التوراة اسم ملك سمته "يرب Jareb" يظن بعض علماء العهد القديم أنه اسم ملك عربي كان يحكم مقاطعة عربية، ومن الجائز في نظرهم أن يكون قد حكم "يثرب"، أو مكانًا آخر في جزيرة العرب1. ولا يستبعد أن يكون أهل الأخبار قد سمعوا باسمه من يهود "يثرب"، فصيروه "يعرب بن قحطان".
ويقصد الأخباريون بجرهم جرهم الثانية، التي جاءت بعد هلاك جرهم الأولى, وقد أقامت بمكة، وكان منها أرباب البيت2. ويظهر أن أهل الجاهلية كانوا يتصورون أن قبيلة جرهم كانت ترعى البيت الحرام3. وقد ذكر الأخباريون أن إسماعيل نشأ بينها وتزوج منها، وأن أباه إبراهيم بعد أن قام ببناء الكعبة ورفع قواعدها، ترك ابنه بينهم، فصارت له صلة بهم4. ثم تغلبت على جرهم خزاعة، فانتزعت منهم السدانة، واحتفظت بها إلى أن انتقلت إلى قريش.
وكان سبب تغلب خزاعة على جرهم وخروجها من مكة أن جرهم بغت على "قطوراء" وتنافست معها، وكان "قطوراء" أبناء عم لجرهم، وكانوا يقيمون أسفل مكة بأجياد، وجرهم في أعلاها بـ"قُعَيْقعان"، فاقتتلوا قتالًا شديدًا،
__________
1 hastings, p., 427, enc, biblica., p., 331, kat, 2, 414, 439, 3 ed. P. 150.
2 جرهم كقنفذ: حي من اليمن، وهو ابن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، نزلوا مكة، وتزوج فيهم إسماعيل -عليه السلام- وهم أصهاره, ثم ألحدوا وأبادهم الله تعالى ... "، تاج العروس "8/ 227"، "جرهم: حي من العرب من ولد جرهم بن قحطان بن هود" شمس العلوم "جـ1 ق2 ص322"، Enc., Vol., I, P., 1066.
3 في بيت ينسب لزهير بن أبي سلمى:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال, بنوه من قريش وجرهم
شرح ديوان زهير بن أبي سلمى: صنعة الإمام أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، مطبعة دار الكتب المصرية، 1944م "ص14".
4 ابن خلدون "2/ 39"، اللسان "14/ 394".(2/11)
وقتل "السميدع" صاحب "قطوراء"، وتصالح الطرفان، واستقر الأمر لجُرْهم. ثم إن جرهم بغت بمكة، وظلمت من دخلها من غير أهلها، وأكلت مال الكعبة الذي يهدى لها, فلما رأت "بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة" و"غبشان" من خزاعة ذلك، أجمعوا على حربها وإخراجها من مكة، فاقتتلوا، فغلبتهم "بنو بكر" و"غبشان" فنفوهم من مكة1.
وذكر النسابون أن "قطوراء" "قطورا" كانوا أبناء عم جرهم، وكانوا ظعنًا من اليمن، فأقبلوا سيارة، وعلى جرهم مُضاض بن عمرو، وعلى "قطوراء" السميدع، فاستقروا بمكة2, وعاشوا مع جرهم والعدنانيين أبناء إسماعيل بمكة بعد هجرتهم هذه من اليمن، ولم يتعمق النسابون في البحث عن أصل قبيلة "قطوراء".
وقد نص "الطبري" على أن اسم جرهم هو "هذرم"، ونص على أن والده هو "عابر بن سبأ بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"3, وهو نسب أخذ من التوراة إلا أن من أخذه ونقل الطبري روايته منه لم يروه صافيًا نقيًّا، بل غيَّر فيه وبدَّل، جهلًا أو لسبب آخر, فإن "هذرم" هو "هدورام" "Hadoram" في التوراة، وهو الابن الخامس من أبناء "يقطان" أي: قحطان4؛ وبذلك تكون "جرهم" من القبائل القحطانية بحسب رواية التوراة.
ولم يختفِ ذكر جرهم حتى في صدر الإسلام، فكان القاصُّ "عبيد بن شرية الجرهمي" ينسب إلى جرهم، ويظهر من شعر "حسان بن ثابت" أن
__________
1 ابن هشام "1/ 123 فما بعدها"، وجعل ابن إسحاق "قطوراء" أخًا لجرهم، تاج العروس "8/ 227".
2 ابن هشام "1/ 123"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، "قال ابن إسحاق: وكان أخوه قطوراء، أول من تكلم بالعربية عند تبلبل الألسنة" تاج العروس "8/ 227".
3 الطبري "1/ 207"، "دار المعارف".
4 التكوين: الإصحاح العاشر، الآية 27، وإخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 21، قاموس الكتاب المقدس، "2/ 450"، Hastings, P., 324.(2/12)
بقية منها بقيت باقية1، وظلت جماعة منها تعيش على ساحل البحر الأحمر المقابل لمكة إلى أواخر القرن الثاني للهجرة2, ومن بقايا جرهم "العبيديون" في اليمن، على زعم بعض الأخباريين3. هذا، وما ذكره "الطبري" من وجود عَلاقة بين "جرهم" و"لحيان" يستند إلى حقيقة4.
وقد ذكر "بلينيوس" اسم شعب دعاه: "Charmaei"، وذكره "أسطيفان البيزنطي" كذلك، ويرى "فروستر" أنه "جرهم"5. ويشك بعض الباحثين في صحة هذا الرأي؛ وذلك لأن الشعب المذكور كان يعيش على مقربة من المعينيين، أي: في أرض بعيدة عن مكة. ويدل ذكر "بلينيوس" و"أسطيفان البيزنطي" لهم، على أنهم كانوا من الشعوب العربية المعروفة في حوالي الميلاد وبعده، ولهذا ورد ذكره عند هذين الكاتبين6.
وقد ذكر "الهمداني" أن موضعًا كان بمكة يقال له: "دوحة الزيتون"، كان مقبرة من مقابر جرهم، وأن نفرًا دخلوا المقابر، فوجدوا أشياء ثمينة من مصوغات وكتابات7.
وإلى يعرب ينسب أهل الأخبار نشوء العربية, فيزعمون أنه كان أول من أعرب في لسانه، ولهذا قيل للسانه "العربية"8. وهذه رواية قحطانية تعارض الروايات العدنانية بالطبع، ويظهر من بعض روايات أهل الأخبار أن "يعرب" هو الذي جاء بولده إلى اليمن، فأسكنهم بها، إلا أنها لم تذكر الموطن الذي
__________
1
فلو سُئِلَتْ عنه معد بأسرها ... وقحطان أو باقي بقية جرهما
ديوان حسان بن ثابت، رواية أبي سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي "طبعة سلسلة جب"، بعناية "هرشفلد"، ليدن 1910م، "ص44".
Enc., Vol., I, P., 1066.
2 Enc., Vol., I, P., 1066.
3 الهمداني: صفة "ص188".
4 الطبري "1: 749" "طبعة أوربا"، Enc., Vol., I, P., 1066.
5 forster, Vol., I, P., 123.
6 Enc., Vol., I, 1066.
7 الإكليل "8/ 161 فما بعدها"، "طبعة نبيه"، "183 فما بعدها" "طبعة الكرملي".
8 مروج "1/ 277".(2/13)
جاء منه1. وتذكر هذه الروايات أن ولده كانوا أول من حيَّى بتحية الملك، فقالوا له: "أبيت اللعن" و"أنعم صباحًا"2, وهي تحايا ينسبها بقية الأخباريين إلى غيره من الملوك المتأخرين, وسأتحدث عنها فيما بعد.
وانتقل الملك -على رأي الأخباريين- من يعرب إلى ابنه يشجب، ويقال له: "يمن"، ومن ولده عبد شمس، ويقال له: عامر ويلقب بـ"سبأ" على زعم بعض الأخباريين, زعموا أنه هو الذي بنى قصر سبأ ومدينة "مأرب"، وأنه فتح مصر وبنى بها مدينة عين شمس، وأنه أول من سن السبي؛ ولذلك عرف بـ"سبأ"، وغير ذلك مما يقصه علينا أهل الأخبار3.
ويلاحظ أن النسابين قد بخلوا على "يشجب" كثيرًا, فلم يهبوا له أولادًا كثيرين، وكل ما أعطوه هو: "سبأ الأكبر"، واسمه كما رأينا "عبد شمس"، وأعطاه بعضهم بالإضافة إليه: "جرهم بن يشجب"، و"شجبان بن يشجب"، فأولد "شجبان" صيفيًّا، وأولد صيفي مالكًا، وأولد مالك الحارث، وقد ملك4.
ويذكر "الهمداني" نقلًا عن بعض الرواة أن لقب "سبأ" هو "الأعقف"، قال: "وكان أول من استعمل لتدمير الحكم في ملكه، وأول من نصَّب ولي العهد في حياته ... وأول من سبى السبي ممن ختر به وحاربه وناصبه" وروى في ذلك شعرًا نسبه إلى "علقمة بن ذي جَدن"5.
وذكر "حمزة الأصفاني" نقلًا عن "عيسى بن داب" أن ملك "عبد شمس"، أي "سبأ"، كان في زمن "كيقباد"، فسار "سبأ" في مدن اليمن ومخابئها، وكانت إذ ذاك في بقايا عاد، فلم يدع بأرض اليمن أحدًا منهم إلا سباه واستعبده فسمي "سبأ"، ووطد بذلك حكم القحطانيين في اليمن6.
__________
1 "صار يعرب بن قحطان إلى أرض اليمن في ولده فاستوطنها، وهو أول من نطق بالعربية"، حمزة "ص81".
2 حمزة "ص81"، الإكليل "1/ 116 وما بعدها".
3 ابن خلدون "2/ 47"، التيجان "ص49"، المحبر "ص364"، الاشتقاق "ص217"، حمزة "ص81"،
Enc., Vol., 4, P., 1160, Wuestenfeld, Register, S., 388.
4 الإكليل "1/ 125 وما بعدها".
5 الإكليل "1/ 125".
6 حمزة "ص82".(2/14)
وقد عثر العلماء على نص وسموه بـ"Rep. Epigr. 4304"، هذا نصه: "عبد شمس، سبأ بن يشجب، يعرب بن قحطان". وهو نص أشك في صحته، وأرى أنه وضع بعد الجاهلية بزمن قد يكون غير بعيد, صنعه بعض من تعلم حروف المسند، أو ممن يتقنون صناعة تزييف العاديات اليمانية؛ لأن أسلوب المسند معروف، ولا نجد في نصوصه نصًّا واحدًا دُوِّن على هذا النسق في تدوين النسب. ثم إن هذا النسب هو نسب متأخر وضع على أثر احتدام النزاع بين القحطانيين والعدنانيين في العصر الأموي كما سنرى فيما بعد. والظاهر أن ناقش النص، وهو من اليمن، أراد إثبات ورود هذا النسب عند السبئيين وإقناع الناس بأنه كان معروفًا فدونه، على كل حال إن في استطاعة الباحثين تقدير زمن تدوين هذا النص، ودراسة طبيعة اللوح الذي دون عليه بالطرق الفنية، وعندئذ يمكن إثبات صحة تلك الكتابة أو عدم صحتها بطريقة علمية لا تقبل جدلًا.
وجعل "المسعودي" لسبأ عشرة أولاد، تشاءم منهم أربعة، وتيامن منهم ستة؛ فالذين تشاءموا: لخم وجُذام وعاملة وغسان، والذين تيامنوا حمير والأزد ومذحج وكنانة والأشعريون وأنمار الذين هم بَجِيلة وخَثْعَم1, وذلك على رواية من جعل أنمارًا من سبأ، وجعلهم في كتابه "التنبيه والإشراف": حميرًا وكهلان وعمرًا والأشعر وأنمارًا وعاملة ومُرًّا2. وجاء في كتاب "شمس العلوم": "سئل النبي عن سبأ، فقال: رجل من العرب أولد عشرة, تيامن منهم ستة: حمير وهمدان وكندة ومذحج والأشاعر وأنمار، وتشاءم منهم أربعة: جذام ولخم وعاملة والأزد3".
وأما "الهمداني"، فأولد لسبأ العرنجج وهو حمير، وكهلان، وأضاف إليهما استنادًا إلى رواية "ابن الكلبي": نصرًا، وأفلح، وزيدان، وعبد الله، ونعمان، والمود، وهوذة أو أهود، ويشجب، ودرهمًا، وشداد، وربيعة4، وأضاف إلى هؤلاء استنادًا إلى رواية أخرى: أبا ملك عميكرب بن سبأ، وأهون
__________
1 مروج "1/ 278".
2 التنبيه "ص46"، الاشتقاق "ص217".
3 شمس العلوم "جـ1، ق2، ص312".
4 الإكليل "1/ 126 وما بعدها".(2/15)
ابن سبأ "الهون"، وجعلهم: حميرًا، وكهلان، وبشرًا، وريدان، وعبد الله، وأفلح، والنعمان، والمود، ويشجب، ودرهمًا، وشدادًا، وربيعة، في مكان آخر1.
ويذكر المسعودي أن حميرًا هو الذي تولى الملك بعد أبيه, وكان كما يقول أول من وضع على رأسه تاج الذهب من ملوك اليمن؛ ولذلك عرف بـ"المتوج" وحكم خمسين سنة2, وقد عرف حمير بـ"العرنج" "العرنجج". وذكر "ابن الكلبي" أنه كان يلبس حللًا حمرًا، وصرح بعض أهل الأخبار أنه كان هناك ثلاثة رجال عرفوا بـ"حمير" هم: الأكبر, والأصغر، والأدنى؛ فالأدنى هو حمير بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة، وهو حمير الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب بن سهل بن زيد بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حذار بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج، وهو حمير الأكبر بن سبأ الأكبر بن يشجب3.
وأولاد حمير هم: مالك، وعامر، وعمرو، وسعد، ووائلة في رواية, والهميسع بن حمير، ومالك بن حمير، ولهيعة بن حمير، ومُرة بن حمير على رواية "أبي نصر" في قول "الهمداني"، والهميسع، ومالك، وزيد، وعريب، ووائل، ومشروح "مسروح"، ومعديكرب، وأوس، ومرة على رواية أخرى، وجعلهم بعض الرواة أكثر من ذلك عددًا4. وقد ورد في الجزء الأول من الإكليل "عميكرب" في موضع "معديكرب" و"واسا" في موضع "أوس"5.
__________
1 الإكليل "1/ 133".
2 مروج "1/ 278"، وجعل بعض النسابين لحمير تسعة أولاد، هم: الهميسع، ومالك، وزيد، وعريب، ووائل، ومشروح "مسروح" ومعديكرب، وأوس، ومرة، وجعلهم بعض آخر أكثر عددًا، ابن حزم، جمهرة "ص406", ابن خلدون "2/ 242".
3 تاج العروس "3/ 158"، "وزرعة، هو حمير الأصغر"، الاشتقاق "ص217، 306"، اللسان "3/ 147"، وتاج العروس "2/ 73".
4 الإكليل "1/ 129"، مروج "1/ 278"، ابن حزم، جمهرة "ص406"، ابن خلدون "2/ 242".
5 الإكليل "133".(2/16)
وولد مالك بن حمير، قضاعة بن مالك بن حمير، جد قبائل قضاعة في زعم من يجعل قبائل قضاعة من اليمن. أما نسابو العدنانيين، فيدخلونها في عدنان، ولا يوافقون على إلحاق نسبها باليمن، ويرون أن ذلك وقع متأخرًا لدوافع سياسية وعصبية. وجعل "الهمداني" لقضاعة أولادًا هم: إلحاف، والحاذي، ووديعة، وعبادة1. أما صاحب "الاشتقاق"، فقد اكتفى بذكر ولدين هما: إلحاف والحاذي، ثم قال: ومنهما تفرعت قضاعة2.
وولد إلحاف بن قضاعة على رأي "الهمداني" هم: عمران بن إلحاف، وعمرو بن إلحاف، وأسلم بن إلحاف، وعُرَايد بن إلحاف، وزيد بن إلحاف، وعبيد بن إلحاف، وعشم بن إلحاف، وسقام بن إلحاف، وليلى بنت إلحاف، وسلمان بن إلحاف, على ما ورد في سجل خولان3.
فولد عمران بن إلحاف، حلوان بن عمران بن إلحاف، وتزيد بن عمران بن إلحاف, وسليح بن عمران بن إلحاف4, فولد حلوان بن عمران تغلب الغلباء، وربَّان وهو علاف5, وقد عدهم "ابن حبيب" من "قبائل الحُمْسى من العرب"6. وقد جعل بعض النسابين "سليحًا" ابنًا لعمرو بن إلحاف بن قضاعة7. وذكر بعضهم أن اسم سليح هو "عمرو", ونسبوا إلى حلوان أبناء آخرين، هم: مزاح، وعابد، وعائد، وتزيد, وقد دخل بعض هذه القبائل في قبائل أخرى، فدخلت "عابد" و"عائد" في غسان، ودخلت تزيد في تنوخ.
وولد تغلب وبرة، فولد وبرة كلبًا والنمر والأسد والذئب والثعلب والفهد والضبع والدب والسيد والسرحان والبرك وتغلبًا والخشند وعبسًا وضنة. فولد الأسد بن وبرة تيم الله فهمًا8 وقهمًا9 في همدان، وهو تنوخ، وقد دخل في
__________
1 الإكليل "1/ 166، 180".
2 الاشتقاق "ص133".
3 الإكليل "1/ 180 وما بعدها".
4 الإكليل "1/ 181 وما بعدها".
5 الإكليل "1/ 180".
6 المحبر "179".
7 المحبر "ص250".
8 بالفاء.
9 بالقاف.(2/17)
تنوخ المتتخين، وهم: جرم، ونهد، والأزد، وإياد، وشيع الله بن أسد. فأولد شيع الله جسرًا، فولد الجسر القين بن جسر, وولد تغلب بن وبرة عامرًا وهو طابخة، وولد النمر بن وبرة التيم وخشينًا وفتية بن النمر1.
وولد "ربان" جرمًا، وعوفًا، وأولد أسلم بن إلحاف سودًا وحوتكة, ابني أسلم, فولد سود ليثًا, فولد ليث زيدًا، فولد زيد نهدًا وسعدًا وجهينة. فولد سعد -ويعرف بسعد هذيم- عذرة والحارث وصعبًا ومعاوية ووائلًا, بطونًا كلها. وولد عمرو بن إلحاف2 بهراء وبليًّا وحيدان وخَوْلان ولوذة, وخولان تقول: لوذ, فأولد لوذ "هوذة", وولد حيدان بن عمرو، مهرة، ومجيدًا، وتزيد, الذين تنسب إليهم "الثياب التزيدية"3.
وأولد مهرة بن حيدان: إضطمرى بن مهرة، فولد إضطمرى ثلاثة نفر: الآمري، ويقال: آمري، ونادغم، والدين، فولد الآمري: القمر، والقرا, والمصلا، والمسكا. ومن قبائل القمر: بنو ريام -وبلدهم قرية يقال لها رضاع على ساحل بحر عُمان, ولهم جبل حصين بناحية عمان يمتنعون فيه يعرف بجبل بني ريام- وبنو خنزريت، وبنو تبرح. ومن قبائل الديل حسريت، فأولد حسريت: الشوجم، ويحنن، وأولد يحنن: كرشان، والثعين، فمن الثعين بنو تبلة بن شاسة4.
ويختلف ما في "سجل خولان وحمير بصعدة" عن نسب مهرة بعض الاختلاف في رواية "أبي راشد" المتقدمة التي ذكرها الهمداني؛ ففي السجل المذكور: أولد مهرة: الآمري، والدين، ونادغم, وبيدع بطنًا, فولد الآمري: إضطمرى ومهرى. فولد إضطمرى: القمر، ويبرح, فولد يبرح: القرا، وبني رئام, وولد مهرى: المذاذ, والمسكا، والمصلا, فولد المصلا المزافر, وولد الدين: الوجد، والغيث، فمن الغيث: بنو باغت، وبنو داهر, وولد نادغم: العيد
__________
1 الإكليل "1/ 182 وما بعدها".
2 في الإكليل "1/ 188"، "وولد عمر بن إلحاف بهرا"، والصحيح "عمرو", والخطأ هو خطأ مطبعي، أردت التنبيه عليه لإصلاحه.
3 الثياب التزيدية، هي التي بها خطوط حمر، الإكليل "1/ 189"، "التزيديات" "برود بني تزيد"، معاهد التنصيص "ص85، 257"، الإكليل "1/ 189 وما بعدها"، شمس العلوم "جـ1، ق1، ص196".
4 الإكليل "1/ 192 وما بعدها".(2/18)
وحسريتًا، والعقار, فولد حسريت الشوجم، ويحنن، فولد يحنن: الثعين، والثغراء، والكرشان. وقال بعض الحضارمة: من نادغم بنو حديد، وبنو بخ1.
وأولد مجيد بن عمرو بن حيدان بن عمرو يحنن، وحيًّا، وحبيبًا, وعندلًا, ووداعة، والأقارع2.
فأولد خولان بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة سبعة نفر: حيّ بن خولان وهو الأكبر من ولده، وسعد بن خولان وهو الذي ملك بصرواح، ورشوان بن خولان، وهانئ بن خولان، ورازح بن خولان، والأزمع بن خولان، وصُحار بن خولان3. ويضيف بعض النساب إليهم أولادًا آخرين، وجعلهم بعضهم ثلاثة عشر ابنًا4.
وأولد حي بن خولان: عدي بن حي، وزيد بن حي، وشعب بن حي، ومرثد بن حي، وغنم بن حي، والمقدام بن حي، ونوف بن حي5. وتجد بعض الاختلاف في هذه الأسماء، بحسب اختلاف روايات النسابين6.
ومن ولد حي بن خولان "جيهم"، وهو الذي قال فيه امرؤ القيس:
فمن يأمن الأيام من بعد جيهم ... فعلن به كما فعلن بحزفرا
وقد زعم أهل الأخبار أن "جيهمًا" المذكور كان ملكًا من ملوك حمير7.
وأولد سعد بن خولان: ربيعة بن سعد, وسعد بن سعد، وعمرو بن سعد8, فأولد ربيعة: حجر بن ربيعة، وسعد بن ربيعة، وكامل بن ربيعة، وفروذ بن ربيعة، ويغنم بن ربيعة، ورشوان الأصغر بن ربيعة، وداهكة بن ربيعة في بعض الروايات9.
__________
1 الإكليل "1/ 193 وما بعدها".
2 الإكليل "1/ 198".
3 الإكليل "1/ 201 وما بعدها، 348".
4 الإكليل "1/ 203".
5 الإكليل "1/ 205 وما بعدها".
6 الإكليل "1/ 348".
7 شمس العلوم "جـ1، ق2، ص368".
8 الإكليل "1/ 217، 348".
9 الإكليل "1/ 218".(2/19)
وأولد سعد بن سعد بن خولان: الحارث بن سعد، وحرب بن سعد، وغالب بن سعد، وسهمك بن سعد، وقثم بن سعد1, وأولد غالب بن سعد بن سعد بن خولان: يعلى بن غالب، فأولد يعلى بن غالب: جبرًا، ومعيشًا، وشبلًا، ثلاثة أبطن2.
وولد هانئ بن خولان: هلالًا، وعليًّا, فولد هلال شرحبيل وجابرًا، فولد شرحبيل هلالًا، فولد هلال شرحبيل الأصغر، وجابرًا. وأولد شرحبيل الأصغر "جماعة"، وهي قبيلة عزيزة, وهم أهل بوصان من أرض خولان. وجعل بعض النسابين ولد هانئ خمسة نفر: هلالًا، ويعلى، وعليًّا، وسعدًا، وجامعًا3.
وأولد رازح بن خولان مرثدًا، وعويضًا، ورائمًا، ويعلى، ويغنمَ، وبزيًّا، بطونًا كلها. وذكر بعضهم قائمة تختلف عن هذه في أسماء هؤلاء الأولاد4.
وأولد رشوان بن خولان: لاحقًا، ومخلفًا، وخليفة، وسعدًا، ومنبرًا، وحربًا، وخوليًّا. وهناك رواية أخرى تختلف عن هذه في ذكر الأسماء5.
وولد الأزمع بن خولان ثابتًا، والأجبول، وأخيل، ومخيلًا، والأسووق، والجعل، ومرَّان6. وجعل بعض الأخباريين عدة ولده عشرة، هم: مران، والكرب، والأسووق، وحفنى، وعبد الله، ويعلى، وثابت، وعمرو، وعمير، والناسك7.
وأولد صحار بن خولان ستة نفر: عامرًا، وبشرًا، وطارقًا، وعلقمة، وشبلًا، وحاذرًا، وكل هذه بطون كبار8.
هذا, وإننا لنجد اختلافًا بين النسابين في تثبيت هذه الأنساب، مما يدل على أن أهل النسب مع دعواهم بحفظ النسب ووجود مشجرات للأنساب عندهم،
__________
1الإكليل "1/ 298".
2 الإكليل "1/ 314".
3 الإكليل "1/ 321 وما بعدها، 348".
4 الإكليل "1/ 323 وما بعدها، 348".
5 الإكليل "1/ 324، 348".
6 الإكليل "1/ 325".
7 الإكليل "1/ 348".
8 الإكليل "1/ 326".(2/20)
كانوا يختلفون فيما بينهم في النسب، حتى إننا نستطيع أن نقول: إن سجل خولان وحمير الذي بصعدة، لم يكن يتفق مع الروايات الأخرى الواردة في النسب، ويتجلى ذلك في الروايات المتناقضة التي نراها في الإكليل وفي غيره من كتب الأنساب، ويظهر أن نسابي أهل اليمن كانوا يعتمدون على علمائهم في النسب، وعلى ما كان مدونًا عندهم منه؛ ولهذا تجدهم يختلفون في كثير من أنساب أهل اليمن عن النسابين الشماليين الساكنين في العراق أو في بلاد الشام.
وجعل "الهمداني" ولد "مالك بن حمير" على هذا النحو: "زيد بن مالك"، و"زهران بن مالك", وهم حي عظيم, ولهم كانت اليمامة، و"هوازن الأولى بن مالك" و"الغمور بن مالك"، و"الأخطور بن مالك"، وقيل: "هزان الأولى بن مالك". وقد ولد زيد بن مالك "مرة بن زيد"، فولد مرة بن زيد عمرو بن مُرَّة، فولد عمرو بن مرة مالك بن عمرو، فولد مالك بن عمرو قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير1.
وولد عامر بن حمير دهمان، وولد دهمان "يحصب" كلها، وولد سعد بن حمير السلف وأسلم، وولد عمرو بن حمير الحارث، وولد "الحارث" "آل ذي رعين"2.
ويذكر "ابن قتيبة" أن الذي حكم بعد "حمير" هو أخوه "كهلان"، وكان ملكه ثلاثمائة سنة، أي: إنه أضعاف أضعاف مدة حكم أخيه حمير, وإذا كانت هذه هي مدة حكمه، فلا بد أن يكون عمره يوم مات أكثر من ذلك بالطبع3. وقد ولد "كهلان" زيدًا، وولد "زيد" مالكًا، وأدَدًا، فولد أدد طيئًا وهو جلهمة، و"الأشعر" وهو "نبت"، و"مالكًا" وهو "مذحج"، و"مرة"4.
ومن طيء "بنو فطرة"، و"الغوث"، و"الحارث". ومن "فطرة": "سعد"، ومنهم: "الأسعد"، و"خارجة"، و"تيم الله". ومن
__________
1 الإكليل "1/ 136".
2 المعارف "ص47".
3 المعارف "ص47".
4 المبرد، نسب عدنان "ص18"، وفي المعارف: "طيء بن أدد ومالك بن زيد" "35"، وفي الاشتقاق: هما ابنا "زيد بن كهلان"، "228".(2/21)
"خارجة"، "جديلة"، ومن "جديلة": "بنو رومان"، ومنهم "ذهل"، و"ثعلبة" ومن "ذُهْل": ثعلبة، و"جدعاء"، ومن "جدعاء": ثعلبة، ومن ثعلبة: تيم1.
ومن الغوث بن طيء: عمرو، ومن عمرو: أشنع، وثعل، وبولان، وهنيء، ونبهان، وجرم2, ومن "ثعل": معاوية، وسلامان، وجرول, ومن معاوية: سنبس, ومن سلامان: بحتر، ومعن, ومن جرول: ربيعة، ولوذان, ومن ربيعة: أخزم3.
ومن ولد "مالك بن أدد" المعروف بمذحج: سعد العشيرة، وعنس، وجلد، ومراد، وهو يحابر4, ومن سعد العشيرة: جزء، وزيد الله، والحكم5، وأوس الله، وصعب، وجعفى, ومن جزء: الحمد والعدل, ومن الحكم: جشم، وسلهم, ومن صعب: زبيد، وأود, ومن جعفى: مران وحريم6.
ومن جلد: عُلّة, ومن علة: حرب، وعمرو, ومن حرب: يزيد بن حرب، ومنبه بن حرب. ومن منبه: رهاء، ومن يزيد المعروف بصداء: الحارث، والغلي، وسيحان، وشمران، وهفَّان، ومنبه، هؤلاء الستة يقال لهم: جَنْب7.
ومن "عمرو بن علة": عامر، وكعب، والنخع، وهو جسر8, ومن عامر: مُسلية, ومن كعب: الحارث, ومن الحارث: معقل، والحماس،
__________
1 نسب عدنان "ص19"، الاشتقاق "233"، الأغاني "16/ 93"، سبائك الذهب "56".
2 نسب عدنان "ص19".
3 نسب عدنان "19"، سبائك الذهب "56" الأغاني "16/ 93"، الاشتقاق "233"، شمس العلوم "جـ1، ق1، ص250".
4 نسب عدنان "ص19".
5 نسب عدنان "ص19".
6 وفيها يقول لبيد:
ولقد بلت يوم النخيل وقبله ... مران من أيامنا وحريم
نسب عدنان "ص19".
7 ويختلف النسابون في هذه الأنساب، نسب عدنان "ص20".
8 نسب عدنان "ص19"، "فمن بني علة: النخع، قبيلة، وأخوه جسر"، الاشتقاق "2/ 237".(2/22)
وعبد المدان, ومن النخع: عوف، ومالك1, ومن النخع: صلاءة, ورزام، ومنهم الحماس، والحارث، وكعب، وهو الأرتّ2.
ومن مراد وهو يحابر: زاهر، وناجية، ومن ناجية: غطيف، وقرن، وبنو ردمان, ومنهم من جعل قرنًا ابنًا لردمان, ومن زاهر: الربض، وبنو زوف، والصنابح3.
ومن الأشعر: الجماهر، والأتغم، والأدغم، والأرغم، وجدة، وعبد شمس، وعبد الثريا4.
ومن ولد "أدد": "مُرة", وولد "مرة": "الحارث", وولد "الحارث": "عديًّا"، و"مالكًا", وولد "عدي": "جذامًا"، واسمه عمرو، ومنهم بنو حرام، وبنو جشم5، و"لخمًا" وهو "لخم بن عدي"، ومنهم: "بنو جزيلة"، و"بنو نمارة"6، و"عفيرًا" ومنهم "ثور بن عفير بن عدي"، وهو "كندة", و"الحارث"، وهو "الحارث بن عدي", وهو "عاملة"7.
وقد هجا "الكميت" جذام؛ لأنها تحولت إلى اليمن، وهي معروفة بأنها من "بني أسد بن خزيمة"8. وهذا مما يدل على أن جذام كانت قد اختلط نسبها بسبب اختلاطها بالقبائل المتجمعة، وأن نسبها اختلط لذلك بالقحطانيين وبالعدنانيين.
ومن كندة: "بنو معاوية" و"أشرس", ومن "بني معاوية": "الحارث"9، ومنهم "الرائش"10, ومن "أشرس": "السكون"11،
__________
1 الاشتقاق "2/ 237".
2 الاشتقاق "2/ 237".
3 الاشتقاق "2/ 247 وما بعدها".
4 الاشتقاق "2/ 248".
5 الاشتقاق "2/ 225".
6 الاشتقاق "2/ 225 وما بعدها".
7 نسب عدنان "ص20".
8 المعاني الكبير "1/ 524 وما بعدها".
9 نسب عدنان "ص20"، نهاية الأرب "13/ 341"، وفيهم يقول الأعشى:
وإن معاوية الأكرمين ... حسان الوجوه طوال الأمم
نسب عدنان "ص21".
10 نسب عدنان "21"، المعارف "150"، الاشتقاق "218".
11 نسب عدنان "21"، الاشتقاق "221".(2/23)
و"السكاسك"، و"بنو حجر"1، و"بنو الجون"، و"بنو الحارث"، وأولاده، وقبائل أخرى2.
ومن "بني حرام": "غطفان"، و"أفصى", ومن "جزيلة": راشدة، وحدس، ومن نمارة: الدار، وبنو نصر.
أما "مالك بن الحارث بن مرة بن أدد" فولد: "عمرًا"، و"يعفر", ومن "عمرو" خولان وهو فكل3، ومن يعفر ولده: المعافر4.
وولد "خيار بن مالك" ربيعة، وولد "ربيعة" أوسلة، وهو: همدان5، وألهان, وولد همدان نوفًا وخيران، فمنهم بنو حاشد وبنو بكيل, منهم تفرقت همدان، وعريب6, ومن بطون همدان: السبيع، ووداعة7.
وأما "خارجة" فمنهم جديلة، وهي من طيء8, وأما عمرو بن سعد، فهو أبو خولان بن عمرو9, وولد "مراد بن مذجح": أنعم بن مراد، ويحابر، وكان لهم يغوث بجرش, وولد خالد بن مذجح: علة بن خالد, فولد علة عمرًا, فولد عمرو: جسرًا وكعبًا, ومن كعب "بنو النار"، و"بنو الحماص"، و"بنو قنان"10.
وأما "سيدعان"، فمنهم سلامان11, وأما "زهران"، فمنهم "دوس بن عدنان"، ومنهم جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس، وجهضم بن مالك رهط الجهاضم12, وسليمة بن مالك، وبنو هناءة، ومعن بن مالك.
__________
1 نسب عدنان "21".
2 نسب عدنان "21.
3 الاشتقاق "2/ 227".
4 الاشتقاق "2/ 227".
5 المعارف "48"، نسب عدنان "20"، "ولد مالك بن زيد بن كهلان: الخيار، فولد الخيار أوسلة، وهو همدان، وألهان"، الاشتقاق "2/ 250".
6 الاشتقاق "2/ 250".
7 الاشتقاق "2/ 253"، العقد الفريد "2/ 246"، نسب عدنان "21".
8 طيء بن أدد، واسمه جلهمة، الاشتقاق "2/ 227".
9 خولان واسمه: فكل بن عمرو ... ولد يعفر المعافر باليمن، تنسب إليهم الثياب المعافرية، الاشتقاق "2/ 227 وما بعدها".
10 المعارف "48".
11 المعارف "49"، الاشتقاق "287".
12 بنو جهضم بن جذيمة الأبرش بن مالك، الاشتقاق "2/ 292".(2/24)
ومنهم بطن يقال له يحمد، والفراهيد, ومن زهران بنو يشكر والجدرة1.
وأما نبت بن مالك بن زيد بن كهلان، فقد أولد "الغوث", ومن "الغوث" عمرو والأزد, ومن "عمرو": أراش، ومن أراش: أنمار، ومن أنمار: خثعم، وبجيلة، وعبقر2, ومن بجيلة: بنو قسر, ومن بطونهم: بنو نذير، وبنو أفرك، وعرينة3, ومن "خثعم": شهران ناهس، وشهران، ويقال لهما: بنو عفرس4.
وأما الأزد، فمن ولده: مازن، وعمرو، ودوس، ونصر، ومالك، وقدار، والهنو، وميدعان، وزهران، وعامر، وعبد الله، وغيرهم. وأما مازن فمنهم: ثعلبة، ومنهم عامر، وامرؤ القيس، وكُرز, ومن امرئ القيس: حارثة الغطريف, ومنهم عدي، وعامر ماء السماء، والتوءم، ومن عامر ماء السماء: ثعلبة العنقاء، ومالك، والحارث، وجفنة، وكعب، وهم غسان, نزلوا على ماء يسمى "غسان" فنسبوا إليه. ومن ثعلبة العنقاء حارثة، ومنهم الأوس والخزرج5.
وقد عرف "الأوس" و"الخزرج" بابني قَيْلة6، وذكر أنهم لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته؛ فغزاهم "تبع أبو كرب" فكانوا يقاتلونه نهارًا، ويخرجون إليه العشاء ليلًا، فلما طال مكوثه، ورأى كرمهم، رحل عنهم7.
ومن "نصر بن الأزد": "حمار بن نصر بن الأزد", قالوا: وكان له بنون فماتوا، فحلف: لأميتنَّ من أحيا من أهل الجوف، فقتل ثمود، فقيل: أخلى من جوف حمار8.
__________
1 المعارف "49".
2 الاشتقاق "2/ 302".
3 الاشتقاق "2/ 302".
4 الاشتقاق "2/ 304".
5 شمس العلوم "جـ1، ق2، ص342"، نسب عدنان "21"، الاشتقاق "258، 287"، المعارف "49".
6 العقد الفريد "1/ 192 وما بعدها".
7 العقد الفريد "1/ 192 وما بعدها".
8 شمس العلوم "جـ1، ق1، ص262 وما بعدها".(2/25)
العرب المستعربة:
والطبقة الثالثة من طبقات العرب -على رأي أهل الأخبار- هم "العرب المستعربة" "المتعربة"، ويقال لهم: العدنانيون أو النزاريون أو المعديون. وهم من صلب "إسماعيل بن إبراهيم" وامرأته "رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي"1. قيل لهم "العرب المستعربة"؛ لأنهم انضموا إلى العرب العاربة، وأخذوا العربية منهم, ومنهم تعلم "إسماعيل" الجد الأكبر للعرب المستعربة العربية، فصار نسلهم من ثَمَّ من العرب واندمجوا فيهم, وموطنهم الأول مكة على ما يستنبط من كلام الأخباريين، فيها تعلم "إسماعيل" العربية، وفيها ولد أولاده، فهي إذن المهد الأول للإسماعيليين2.
ويذكر أهل الأخبار أن "إسماعيل" ولد من زوجه "رعلة"، اثني عشر رجلًا هم: "نابت" وكان أكبرهم، و"قيذر" و"أذبل"، وميشا، ومسمعا، وماشى، ودما، وأذر، وطيما، ويطور، ونبش، وقيذما3. وأكثر هذه الأسماء ورودًا في الكتب العربية نابت وقيذر. وقد أخذ النسابون هذه الأسماء من التوراة، فقد جاء فيها: "هذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم على حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار، وأدبئيل، ومبسام، ومشماع، ودومة، ومسا، وحدار، وتيما، ويطور، ونافيش، وقدمة4".
ولم تذكر التوراة اسم المرأة التي تزوجها إسماعيل، فأولدها هؤلاء الأولاد الذين انتشروا، فسكنوا في منطقة تمتد من "حويلة" إلى "شور"5.
وعدنان في نظر العدنانيين هو جدهم الأعلى، كما أن قحطان هو الجد الأعلى للقحطانيين6. ولما كانت الطبقة الأولى من العرب قد بادت وذهبت، تكون
__________
1 ابن هشام "1/ 3"، السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، ابن خلدون "2/ 37"، الطبري "1/ 161"، ابن الأثير "1/ 49"، الطبقات "1، 1، ص25", تاج العروس "1/ 375"، ونابت بن إسماعيل -عليه السلام- ولي بعد أبيه، أمه السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، تاج العروس "1/ 590".
2 المصادر المذكورة، نهاية الأرب "2/ 392" طبقات، لابن سلام "ص4".
3 ابن هشام "1/ 3", ابن خلدون "2/ 39", الطبري "1/ 161", ابن الأثير, الكامل "1/ 49"، مع اختلاف في ضبط الأسماء.
4 التكوين، الإصحاح 25، الآية 12 فما بعدها.
5 التكوين، الإصحاح 25، الآية 18.
6 تاج العروس "9/ 275".(2/26)
العرب الباقية وكلها من ولد قحطان وعدنان، استوعبت شعوب العرب كلها.
وقد رأينا أن "قحطان" هو "يقطن" أو "يقطان" في التوراة, أما "عدنان"، فلا نجد له اسمًا فيها. وقد رأينا أن بين "يقطان" و"سام" ثلاثة آباء أو أربعة, أما بين عدنان وسام، فعدد كبير من الآباء.
وقد اختلف النسابون في عدد من كان بين إسماعيل وعدنان من الآباء، فرأى بعضهم أنهم أربعون، وروى غيرهم أنهم عشرون، وقال آخرون: إنهم خمسة عشر شخصًا1، وقالت جماعة: إن المدة طويلة بين عدنان وإسماعيل بحيث يستحيل في العادة أن يكون بينهما هذا العدد من الآباء2.
وقد اختلف الأخباريون وأصحاب الأنساب في نسب عدنان اختلافًا كبيرًا، واختلفوا بينهم حتى في كيفية النطق بتلك الأسماء، على حين أننا لا نرى اختلافا بينهم في نسب قحطان، ولا في كيفية النطق بتلك الأسماء3. وقد علل محمد بن سعد الواقدي ذلك بقوله: "وكان رجل من أهل تدمر يكنى أبا يعقوب من مسلمة بني إسرائيل قد قرأ من كتبهم، وعلم علمهم، فذكر أن بورخ بن ناريا كاتب إرميا, أثبت نسب معد بن عدنان عنده، ووضعه في كتبه، وأنه معروف عند أحبار أهل الكتاب وعلمائهم، مثبت في أسفارهم، وهو مقارب لهذه الأسماء. ولعل خلاف ما بينهم من قِبَل اللغة؛ لأن هذه الأسماء ترجمت من العبرانية"4.
ويقول الواقدي في موضع آخر: "وهذا الاختلاف في نسبته يدل على أنه
__________
1 النويري، نهاية "2/ 324"، ابن عبد البر، القصد "22".
2 الطبري "2/ 191"، ابن هشام "1/ 3 فما بعدها", مروج "1/ 394" طبقات ابن سعد "1، 1، ص28 فما بعدها", ابن خلدون "2/ 298" نسب عدنان "2"، صبح الأعشى "1/ 307", نسب قريش لأبي عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري "تحقيق ليفي بروفنسال"، "ص3 فما بعدها".
Enc., vol., p., 142, wuestenfeld, register, zu den general
Tablelln der arab. Stamme, s., 47, caussin de perceval, essal, I, 8, 175, j.d. bate, an examination of the cailms of ischmael, 1884, p., 109, sprenger, life of mohammad, 57, note 3, and 4, mills, history of mohammadanishm, 7, pocock, specimen, 40
3 نهاية الأرب "2/ 306".
4 الطبقات "جـ1، ق1، ص29".(2/27)
لم يحفظ، وإنما أخذ من أهل الكتاب، وترجموه لهم، فاختلفوا فيه, ولو صح ذلك؛ لكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلم الناس به. فالأمر عندنا على الانتهاء إلى معد بن عدنان، ثم الإمساك عما وراء ذلك إلى إسماعيل بن إبراهيم"1، وقال أيضًا: "ما وجدنا في علم عالم ولا شعر شاعر أحدًا يعرف ما وراء معد بن عدنان بثبت"2.
ونقل ابن خلدون رأي من تقدمه في هذا الاختلاف، فقال: "ونقل القرطبي عن هشام بن محمد فيما بين عدنان وقيدار نحوًا من أربعين أبًا، وقال: سمعت رجلًا من أهل تدمر من مسلمة يهود وممن قرأ كتبهم يذكر نسب معد بن عدنان إلى إسماعيل من كتاب إرمياء النبي -عليه السلام- وهو يقرب من هذا النسب في العدد والأسماء إلا قليلًا، ولعل الخلاف إنما جاء من قبل اللغة؛ لأن الأسماء ترجمت من العبرانية"3.
ويرجع بعض أهل الأخبار اختلاف الناس في عدد الآباء والأجداد فيما بين عدنان وإسماعيل إلى أيام النبي، فهم يذكرون أن الناس كانوا في خلاف فيما بينهم في عددهم، وأن الرسول لما رأى خلافهم هذا، نهاهم عن تجاوز نسب "معد بن عدنان"، وأمرهم بالتوقف عنده, وانتسب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عدنان، وقال: "كذب النسابون، فما بعد عدنان، فهي أسماء سريانية لا يوضحها الاشتقاق"4.
وقد جعل بعض الأخباريين اسم والد "عدنان" "أُدَدًا"، وساقوا نسبه على هذا الشكل: "عدنان بن أدد بن يرى بن أعراق الثرى"5، وساقه آخرون على هذا الوجه: "عدنان بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن عوص بن يوز بن قموال بن أبي بن العوام بن ناشد بن بلداس بن تدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحس بن ماخي بن عيقي بن عبيد بن الدعا ... " إلى آخر ذلك
__________
1 الطبقات "جـ1، ق1، ص29".
2 الطبقات "جـ1، ق1، ص30".
3 ابن خلدون "2/ 298"، ابن سلام، طبقات "11"، ابن حزم، جمهرة "6".
4 الاشتقاق "20"، ابن خلدون "1/ 3"، البلاذري، أنساب "1/ 12".
5 الطبقات "جـ1، ق1، ص28".(2/28)
من سلسلة مفتعلة ولا شك، رواها "ابن الكلبي"1. وقد سبق النسب على هذه الصورة أيضًا: "عدنان بن أدد بن الهميسع"2, وروي بصور أخرى في كتاب نسب قريش لـ"الزبيري"3.
ولم يذكر أهل الأخبار شيئًا عن "أد" أو "أدد"، ولا عن كيفية توصلهم إلى أحدهما أو كليهما. وقد زعم بعض علماء اللغة أن "أدّ" من "أَدَّ"، والكلمة فعل من المودة، "قلبت الواو ألفًا لانضمامها"4.
وذكر الأخباريون أن "وُدًّا"، وهو الصنم الشهير الذي تغلب على دومة الجندل وتعبدت له "كلب" و"قريش" وقبائل أخرى عديدة، كان يهمز أيضًا، فيقال "أُدّ"، وبه سمي "عبد وُدّ"، كما سمي "أد بن طابخة"، و"أدد جد معد بن عدنان"5.
ونجد بين آلهة الشعوب السامية اسم صنم يقال له: "أدد" "Adad" و"أدو" "Addu"6، أرى أن لاسم هذا الصنم علاقة باسم "أدد".
وقد ساق "محمد بن إسحاق" نسب عدنان على هذه الصورة أيضًا: "عدنان بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل"7، فجمع بين نسب "عدنان" ونسب "يعرب"، وأرجعهما كما ترى إلى "إسماعيل"، وساقه في مكان آخر بصورة أخرى.
والغريب أن الرواة الذين رووا هذه الأنساب وشجرات النسب التي يتصل سند روايتها بهم، كابن الكلبي ومحمد بن إسحاق وأمثالهما، هم أنفسهم يروون هذا النسب بأشكال مختلفة ومتضاربة؛ وطالما حرفوا الأسماء العبرانية، ورووها بصور متعددة، وقد يحشون بينها أسماء عربية. وقد روى رواياتهم هذه أناس متعددون، ولكنهم متفقون على أنهم سمعوها منهم، أو نقلوها من مؤلفاتهم،
__________
1 الموارد المتقدمة, وتاج العروس "9/ 275".
2 تاج العروس "9/ 275".
3 نسب قريش "ص3 فما بعدها".
4 اللسان "4/ 496".
5 اللسان "4/ 496".
6 Schrader, KAT, S., 443.FF
7 الطبقات "جـ1، ق1، ص28".(2/29)
كما يتبين ذلك من السند. ولما كان أكثر هذه الأسماء الواردة في عمود نسب "عدنان" محرفة، وكانت غير موجودة في التوراة، وإنما هي أسماء عبرانية ممسوخة أحيانًا؛ فإن هذا يدل على أن الرواة اليهود الذين كانوا يتحدثون بمثل هذه الأمور إلى ابن الكلبي ومحمد بن إسحاق وغيرهما ممن مال إلى الأخذ منهم، كانوا إما جهلة بما يتحدثون به، وإما كذابين أو ممن كانوا يحاولون التقرب إلى المسلمين بهذه التلفيقات لمآرب خاصة، أو ادعاءً للعلم, غير أننا لا نستطيع أن نبرئ هؤلاء الرواة أنفسهم من وصمة الجهل أو الكذب، ولا سيما أن الكلبي الذي تفرد برواية معظم هذه الأخبار. الجائز أنه كان يلجأ إلى أهل الكتاب ليأخذ منهم ما عندهم، ومن الجائز أنه كان يضيف إليها، أو يخترع من عنده؛ ليتحدث به إلى الناس, وإلا فإن من الصعب صدور هذا الخلط من رجل ثقة يعي ما يقول.
وقد استغل نفر من أهل الكتاب مثل اليهودي التدمري المذكور، الذي أسلم كما يقول الرواة، هذا الجشع الذي ظهر بين أهل الأخبار في البحث عن الأنساب القديمة، أنساب أجداد العرب القدامى، فصنعوا ما صنعوا من أسماء عليها مسحة توازنية، قدموها إليهم على أنها مذكورة في التوراة, وقد أخذها الرواة على عادتهم من غير بحث ولا مراجعة للتوراة, وما الذي يدفعهم إلى البحث والمرجعة، فإن كل ما يطمعون به ويريدونه هو الحصول على مادة يظهرون بها على أقرانهم من أهل الرواية والأخبار.
ولم يرد اسم "عدنان" في النصوص الجاهلية، ولا في المؤلفات "الكلاسيكية", أما في الشعر الجاهلي، فقد ورد في شعر ينسب إلى "لبيد"، وفي شعر آخر ينسب إلى "عباس بن مرداس". "ولم يجاوز أبناء نزار في أنسابها وأشعارها عدنان, اقتصروا على معد، ولم يذكر عدنان جاهلي قط غير لبيد ... وقد يروى لعباس بن مرداس بيت في عدنان"1. وهذا يدل على أن "عدنان" لم يكن
__________
1 ممن ذكر عدنان من شعراء الجاهلية، لبيد. قال:
فإن لم تجد من دون عدنان والدًا ... ودون معد, فلتزعك العواذل
وفي ديوان "لبيد"، تحقيق إحسان عباس الكويت 1962م، باقيا في موضع والدا "ص255".
وعباس بن مرداس، قال:
وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بمذحج حتى طردوا كل مطرد
وفي رواية "بغسان"، مكان "بمذحج"، ابن سلام، طبقات الشعراء "ص5".
ابن هشام "1/ 6".(2/30)
جدًّا كبيرًا في الجاهلية، كما صوره أهل الأخبار والأنساب، فلو كان جدا كبيرا، لوجب عقلًا تردد اسمه، وورود شيء عنه. والغريب أننا نجد اسم "معد" مذكورًا عند "بروكوبيوس" وفي القديم من الشعر الجاهلي، مع أنه ابن "عدنان".
وقد وردت في الكتابات النبطية والثمودية أسماء قريبة من اسم "عدنان"، مثل "عبد عدنون" و"عدنون"1. أما الكتابات الجاهلية التي عثر عليها في اليمن، فلم يرد فيها هذا الاسم، أو اسم آخر قريب منه.
لقد كان من السهل علينا الوقوف على المنبع الذي أمدَّ أهل الأخبار بأصل كلمة "قحطان". أما بالنسبة إلى "عدنان"، فإن من العسير علينا أن نتحدث عن المنبع الذي أمد أهل الأخبار باسمه. فليس في التوراة اسم يشابهه بين أسماء أبناء إسماعيل، أو غير أبناء إسماعيل، وليس فيها اسم ملك عربي أو سيد قبيلة عربية اسمه يشابه اسم "عدنان". ثم إننا لا ندري كيف عثر عليه أهل الأخبار, وكيف صيروه على الوزن الذي صِيغَ به اسم "قحطان"؟ , هل ابتدعوه ابتداعًا، أم أخذوه من أفواه أناس أدركوا الجاهلية وكانوا قد وقفوا على اسمه بين أهل مكة أو بين القبائل التي تنسب إلى إسماعيل؟ وهل كان اسم قبيلة أو اسم حلف من الأحلاف، ثم صير اسم رجل فيما بعد؟. هذه أسئلة يجب أن نعترف بأن من غير الممكن الإجابة عنها في الزمن الحاضر؛ لعدم وجود مادة لدينا تساعدنا في استنباط أجوبة منها، لذلك نترك أمرها إلى المستقبل، فلعل الأيام المقبلة تأتي بمادة جديدة، تزيح النقاب عن هذا الجهل المطبق باسم عدنان، وبفكرة عدنان.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن "تهامة" هي موطن العدنانيين، ومكة من تهامة, ولكن أحوالًا قاهرة أحاطت بالقبائل العدنانية فاضطرتها إلى التفرق والهجرة, وكانت "قضاعة" أول من تشتت وتفرق بسبب قتال وقع بينها وبين نزار2. ثم أعقب هجرة قضاعة هجرات أخرى من العدنانيين، فانتشروا في
__________
1 savignac, mission, nos, 38, 328, hardings, some thamudie inscriotion, leiden, 1952, g. strenzisk, die genealogle der nordaraber nach ibn al-kalbi, koln, 1953, enc, vol., I, p., 210
2 الأغاني "11/ 154 فما بعدها"، ابن خلدون "2/ 240".(2/31)
مناطق واسعة من جزيرة العرب حتى وصلوا إلى العراق والشام، واختلطوا بالقبائل الأخرى، وتفرقوا في كل مكان.
ويظهر من تلك الروايات أيضًا أن القبائل العدنانية، كانت قبائل متشاحنة يحارب بعضها بعضا، دفعها إلى تشاحنها هذا طبيعة البداوة وفقر البادية، والتقاتل على الكلأ والماء، حتى ضرب بها المثل في التفرق، والتشتت1.
ونجد اسم "نزار" على أنه اسم قبيلة, مذكورًا في نص "امرئ القيس" مع أنه ابن "معد"، أي: حفيد عدنان، ولا نجد اسم جده في هذا النص. وهذا مما قد يبعث الظن في نفوسنا أن فكرة "عدنان" لم تظهر إلا في الجاهلية القريبة من الإسلام وفي الإسلام.
وأولد الأخباريون عدنان عددًا من الأولاد، أشهرهم وأعرفهم في نظرهم: معد، وعد2. وقد زعم الأخباريون أن معدًّا عاش في أيام "بختنصر"، وأن معدا خلص إلى "حران" حينما هاجم ملك بابل أهل "حضورا" في اليمن. أما "عدنان" والده، فلقي "بختنصر" فيمن اجتمع إليه من "حضورا" وغيرهم في "ذات عرق"، فهزمهم "بختنصر", ومات "عدنان في أيامه. فلما هلك "بختنصر" خرج "معد" من "حران" إلى مكة، فوجد إخوته وعمومته قد لحقوا بطوائف اليمن, وتزوجوا فيهم, فرجع بهم إلى بلادهم3.
ورجع "الزبيدي" أيام "معد" إلى أيام "موسى" إذ قال: "وكان معد بن عدنان في زمن سيدنا موسى -عليه السلام- كما يعرفه من مارس علم التواريخ والأنساب".
وقد جعل بعض أهل الأخبار أم معد بنتًا من بنات يشجب، قالوا: إن اسمها "تيمة" وإنها "تيمة بنت يشجب بن يعرب بن قحطان"4. فربطوا بذلك
__________
1 قال البجلي في تفرق بجيلة:
لقد فرقتم في كل أوب ... كتفريق الإله بني معد
البكري، معجم "1/ 57".
2 ابن خلدون "2/ 299"، المعارف "ص29"، نسب قريش "ص5" ابن حزم، جمهرة "8"، نهاية الأرب "2/ 352"، الطبري "2/ 29".
3 ابن خلدون "2/ 299".
4 الاشتقاق "ص27".(2/32)
نسب معد بنسب قحطان من جهة الأم, بل ذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك بأن جعلوا أم "عدنان" بنتًا من بنات "يعرب"، وقد قالوا لها "بلهاء"1؛ فصار "يعرب بن قحطان" بهذا الزواج خالًا لعدنان ولذريته العدنانيين.
وجعلها بعض آخر من جديس أو من طسم، وقالوا: إن اسمها "مهدد بنت اللَّهم", ويقال "اللهم بن جلحب بن جديس"، وقيل ابن طسم، وقيل ابن الطوسم، ومن ولد يقشان بن إبراهيم2.
ومن بقية ولد عدنان على رأي أهل الأخبار: عدن بن عدنان، وزعم أنه صاحب عدن، وأبين بن عدنان، وهو صاحب "أبين" على بعض الآراء، وأد بن عدنان وقد درج، والضحاك، والعي، وأم جميعهم أم معد على بعض الروايات3.
ونجد لمعد ذكرًا في الشعر الجاهلي، فقد ورد في شعر "امرئ القيس"4، وفي شعر "النابغة الذبياني"5، وفي شعر "زهير بن أبي سلمى"6، وفي شعر "قيس بن الخطيم"7، وفي شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي"8,
__________
1 الاشتقاق "ص27".
2 الطبري "2/ 27" القاهرة 1939م، "2/ 270" "دار المعارف".
3 الطبري "2/ 270" "دار المعارف".
4
فأبلغ معدا والعباد وطيئًا ... وكندة: أني شاكر لبني ثعل
شرح ديوان امرئ القيس للسندوبي "ص160"، Enc., Vol 3, P. 58.
5
علوت معدا نائلا ونكاية ... فأنت لغيث الحمد أول رائد
ديوان النابغة، شرح البطليوسي "ص34، 78".
وإن الغدر قد علمت معد ... بناه في بني ذبيان باني
6
عظيمين في عليا معد هديتما ... ومن يستبح كنزًا من المجد يعظم
أبى الشهداء عندك من معد ... فليس لما تدب به خفاء
بلاد بها عزوا معدا وغيرها ... مشاربها عذب, وأعلامها ثمل
هم خير حي في معد علمتهم ... لهم نائل في قومهم وفعنائل
شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، للإمام أبي العباس ثعلب، طبع دار الكتب المصرية، سنة 1944م، "ص17، 81، 106، 109"، الزوزني، شرح "ص79"، "صادر".
7
ورثنا المجد قد علمت معد ... فلم نغلب ولم نسبق بوتر
شعر قيس "ص33".
8
هم فضلوا بخِلَّات كرامٍ ... معدا, حيثما حلوا وساروا
ديوان بشر بن أبي خازم الأسدي، تحقيق الدكتورة عزة حسن، دمشق 1960م "ص72".(2/33)
وفي شعر "عمرو بن كلثوم التغلبي"1، وفي شعر "عبد المسيح بن عمرو الغساني"2، وفي شعر "المثقب العبدي"3, وفي شعر "سلامة بن جندال السعدي"4، وفي شعر ينسب إلى "الحاجب بن زرارة"5, يقولون: إنه قاله يرد فيه على "الحارث"، وفي شعر ينسب إلى الشاعر "ابن دارة"، زعموا أنه قاله في مدح" حاتم الطائي"6، وفي شعر ينسب إلى "زهير بن جناب الكلبي"7، وغيرهم، كما ورد اسم معد في شعر المخضرمين8.
وقد استعملت كلمة "الحي المعدي" في شعر لـ"حاجب بن زرارة"9، كما ورد "حي في معد"10، مما ينبئ أن معدًّا كانت مؤلفة من أحياء، لا من حي واحد، وجاء في شعر عمرو بن كلثوم: "وقد علم القبائل من معد"11، ويدل ذلك على أن معدا كانت مؤلفة من قبائل، وأنها لم تكن قبيلة واحدة. ونلاحظ أن شعراء الجاهلية القدامى كانوا يستعملون: "قد
__________
1
ورثنا المجد قد علمت معد ... نطاعن دونه حتى يبينا
معلقة عمرو بن كلثوم، شرح المعلقات السبع, للزوزني "ص125"، "دار صادر".
2
تقسمنا القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور
الأغاني "11/ 58"، السجستاني، المعمرون "37".
3 المفضليات "293"، ديوان زهير "106".
4
همت معد بنا همًّا فنهنَهَهَا ... عنا طعان فضرب غير تعذيب
المفضليات "ص47"، "سندوبي".
5
وقد علم الحي المعدي أننا ... على ذاك كنا في الخطوب الأوائل
الأغاني "11/ 150".
6
تحن قلوصي في معد وإنما ... تلاقي الربيع في ديار بني ثعل
العقد الفريد "1/ 309".
7 البلاذري، أنساب "1/ 19".
8 قال أبو ذؤيب:
فإن تك أنثى في معد كريمة ... علينا فقد أُعطيت نافلةَ الفضلِ
ديوان الهذليين، "طبعة دار الكتب المصرية"، "1/ 37"، شرح أشعار الهذليين للسكري "1/ 88".
9
وقد علم الحي المعدي أننا ... على ذاك كنا في الخطوب الأوائل
الأغاني "11/ 100"، "دار الكتب المصرية".
10 قال زهير بن أبي سلمى:
هم خير حي في معد علمتهم ... لهم نائل في قومهم وفضائل
ديوان زهير بن أبي سلمى، لثعلب "ص106".
11 بيت 94 من معلقة عمرو بن كلثوم، Goldziher, Muh. Stud., I, S, 91.(2/34)
علمت معد"1. ويقول علماء اللغة: إن معدًّا "غلب عليه التذكير، وهو مما لا يقال فيه من بني فلان، وما كان على هذه الصورة، فالتذكير فيه أغلب, وقد يكون اسمًا للقبيلة"2. ويستنتج من هذا أن معدا لم تكن في الأصل اسم علم لرجل تنتمي إليه قبيلة معينة، وإنما كانت كلمة عامة تشمل قبائل تشترك في طراز الحياة وإن كانت تعتقد أنها ترتبط بعضها ببعض برباط النسب.
وقد استعمل حسان بن ثابت كلمة "معد" في مقابل "الأنصار"، وذكر أن الأنصار "لها في كل يوم من معد قتال أو سباب أو هجاء3"، وأن الأنصار نصروا رسول الله على رغم أنف معد4، وأورد اسم معد في أحد الأبيات مع قحطان5، كما قال عن "بني أسد": إنها "تذبذب في معد"6، فاستعمل كلمة معد في شعره للدلالة على خصوم الأنصار، كما استعملها في مقابل قبائل معينة, وخصوم الأنصار هم قريش والمهاجرون. ولما كان الشاعر يعد نفسه من اليمن، وأهل مدينته من أصل يماني، فإن من الجائز أن نقول: إنه عبر عن فكرة معد وقحطان في هذا الزمان, وعن رأي أهل مدينته خاصة في النسب عند ظهور الإسلام.
وبينما يصرف حسان بن ثابت كل فنه إلى هجاء خصوم الأنصار، أي: أهل مكة والدفاع عن أهل يثرب، والافتخار بقومه على قوم معد ونزار7، نرى أنه لا يسمي من يهجوهم عدنانيين، ولم يستعمل في شعره الواصل إلينا المطبوع اسم عدنان، فَلِمَ أغفل حسان اسم عدنان؟ أليس عدنان والد معد؟ ألم يكن
__________
1 Goldziher, Muh. Stud., I, S., 91.
2 تاج العروس "2/ 503"، اللسان "16/ 407"، "دار صادر".
3
وقال الله قد يسرت جندًا ... هُمُ الأنصار عُرضَتُها اللقاءُ
لنا في كل يوم من معدٍّ ... سباب أو قتال أو هجاءُ
شرح ديوان حسان، للبرقوقي "ص6"، ديوان حسان، "ص1", "طبعة هرشفلد".
4 ديوان حسان "ص5، 6، 25".
5
فلو سئلت عنه معد بأسرها ... وقحطان أو باقي بقية جرهما
ديوان حسان "ص44"، البرقوقي، شرح "ص398".
6 ديوان حسان "ص47".
7
وكل محارب وبني نزار ... تبين في مشافره الرضاع
ديوان حسان "ص36".(2/35)
من الأجدر به ذكر عدنان وتقديمه على معد؟ ألم يقسم علماء النسب العرب إلى أصلين: أصل قحطاني وأصل عدناني؟ ألسنا نجد في كتب الأنساب والتاريخ اسم عدنان مقدمًا على معد، وأن قبائل معد تعد نفسها عدنانية، كما أن قبائل قحطان تعد نفسها قحطانية؟ لا يعقل بالطبع أن يكون حسان قد ترك عدنان والعدنانية ولجأ إلى استعمال "معد" لو لم تكن لفظة "معد" أشهر وأعرف وأكثر استعمالًا في أيامه من عدنان. وهذا هو ما نلاحظه أيضًا في سائر الآثار التي تعود إلى الجاهلية وصدر الإسلام.
ويلاحظ أن حظ مصطلح "عدنان" و"عدنانية" و"قبائل عدنانية" قد برز في الإسلام بروزًا لا نلحظه في الجاهلية, بل حتى في الجاهلية الملاصقة للإسلام؛ ولهذا غلب على مصطلح "معد" و"معدية" و"قبائل معدية"، فصار "عدنان" في مقابل "قحطان" ومن هنا صار العرب قحطانيين أو عدنانيين؛ واختفت بالتدريج المصطلحات الانتسابية الأخرى التي شاعت في الجاهلية أو في صدر الإسلام.
ويستنتج من أقوال علماء اللغة أن لفظة "معد" تعني: الشظف في العيش، والغلظ في المعاش والتقشف1، وأنها تعني: حياة بدوية شاقة بعيدة عن كل وسائل الحضر وترف أهل المدر، وهذا بالنظر لأهل المدن وأهل المدر نوع من الخشونة لا يحمد الإنسان عليه, وقد وصفت ملابسهم بالخشونة كذلك فميزت عن غيرها, جاء: "عليكم باللبسة المعدية" أي: خشونة اللباس، وروي: "اخشوشنوا وتمعددوا"2, وبهذا المعنى ورد: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"3. فالظاهر أن كلمة معد كانت تعني ما تعنيه "أريبي" "عريبي" عند الآشوريين، أي: البدو والأعراب, غير أنها خصصت بعد ذلك بقبائل خاصة هي القبائل التي نسبت نفسها إلى عدنان وإسماعيل، وأكثرها من مكة وما حولها، ثم تغلبت عليها "العدنانية" في العصر الأموي فما بعده.
والمثل: "تسمع بالمُعَيْدِي خير من أن تراه"، من الأمثال المشهورة
__________
1 اللسان "4/ 414"، الاشتقاق "1/ 20"، تاج العروس "2/ 503".
2 اللسان "4/ 414 فما بعدها"، ديوان النابغة مع شرحه للبطليوسي، "ص10"، اللسان "16/ 407"، "دار صادر".
3 تاج العروس، "2/ 503"، الميداني، مجمع الأمثال "1/ 129"، المثل رقم 655.(2/36)
المعروفة حتى الآن, ويرتفع أهل الأخبار بزمنه إلى أيام الجاهلية، ويقولون: إن النعمان بن المنذر تمثل به يومًا1. ولفظة "معيدي" تصغير "معدي"، ويراد بها رجل من معد, وفي إطلاق هذا المثل بهذا المعنى دلالة على المعاني المتقدمة. وفي رواية: أن قائل هذا المثل هو "المنذر بن ماء السماء"2. وقد استخف النابغة الذبياني بمعد أيضا إذ قال:
ضلت حلومهم عنهم وغرَّهُمُ ... سن المعيدي في رعي وتغريب3
ولا أستبعد أن يكون بين لفظة "معيدي" و"مِعْدان" التي تطلق في العراق اليوم على الغِلاظ السود من بعض الأعراب، وبين "معد" صلة، فقد كانت مواطن "معد" في العراق أيضًا، والصفات المذكورة تنطبق على المعدان كذلك.
وقد اتهمت "معد" بالمكر والحيلة والكيد، فورد في الأخبار: "وإن هذه المعدية لا تخلو من مكر وحيلة" وورد: "كنت أخبرك أن معدا لا ينام كيدها ومكرها"، وورد: "إن عدي بن زيد فيه مكر وخديعة، والمعدي لا يصلح إلا هكذا"4 مما يدل على أن ملوك الحيرة كانوا لا يأمنون من القبائل المعدية ولا يعتمدون عليها؛ ولذلك كانوا يحذرونها.
كما اتهم ولد نزار بالحيل، قال "المسعودي": "ورأيت ببلاد مأرب من أرض اليمن أناسًا من عقيل محالفة لمذحج، لا فرق بينهم وبين أحلافهم؛ لاستقامة كلمتهم، فيهم حيل كثيرة ومنعة، وليس في اليمن كلها أحيل من نزار بن معد غير هذا الفخذ من عقيل، إلا ما ذكر من ولد أنمار بن نزار بن معد، ودخولهم في اليمن حسب ما ورد به الخبر"5.
وورد في كتاب "تأريخ الحروب" لـ"بروكوبيوس procopius" المتوفى
__________
1 فقال النعمان: تسمع بالمعيدي لا أن تراه، البيان "1/ 173، 237"؛ "لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، الميداني، مجمع الأمثال "1/ 228"، الاشتقاق "244".
2 تاج العروس "2/ 507"، مجمع الأمثال للميداني "113".
3 ديوان النابغة الذبياني "17".
4 الأغاني "2/ 22".
5 مروج "1/ 173"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".(2/37)
سنة "565م"، أي: في زمن لا يبعد كثيرًا عن ميلاد الرسول، ذكر قبيلة من قبائل "السركينوى" Sarakenoi سماها "Maddenoi" "Maddeni" وقال: إنها كانت خاضعة لحكم Homeritae، وأن "يوسطنيانوس" "جستنيانس" "527-565م"1 قيصر الروم، أرسل رسولًا إلى ملك الـ Homeritae لينضم إلى الروم ويوافق على تعيين شيخ اسمه "Caisus" "Kaisus" على Maddeni، وتأليف جيش مشترك من "هوميريته" و"مديني" "معديني" لمهاجمة الفرس وشن الغارات على حدودهم, وقد نصب ملكًا على "مديني" ورجع الرسول ليخبر القيصر، غير أن الملكيين لم يغزوا أرض الفرس2.
وقصد "بروكوبيوس" بـ"مديني" Maddeni "معدا" وبـ"هوميريته" Homeritae "حمير"، وعنى بذلك اليمن. وكانت معد خاضعة يومئذ لحمير، وكان هذا الزمن زمن استيلاء الحبشة على اليمن, وCaisus الذي نصب ملكًا على "معد" هو "قيس"، وكان صاحب كفاءات، شجاعًا محاربًا، وكان قد قتل أحد أقرباء ملك Homeritae، وكان هذا الملك هو Esimiphaeus، أي "السميذغ أشوع"، الذي نصبه النجاشي نائبًا عنه على اليمن، فتلقب بلقب "ملك", والظاهر أن وساطة القيصر لدى "السميذع" إنما كانت لإصلاح ذات البين، ولتسوية ذلك الحادث. وقد تم على ما يظهر ونجحت الوساطة، وتلقب "قيس" وهو رئيس "معد" بلقب ملك, ولا أستبعد أن يكون "قيس" هذا أحد رؤساء القيسيين.
وقد ذكر "بروكوبيوس" أن معدا هم جماعة من "السركينوى"، أي: جماعة من القبائل التي عرفت عند اليونان باسم "السرسين" أيضا، كما ذكرت ذلك في السابق. وهذا يعني أن معدا لم تكن في أيام ذلك المؤرخ الذي لم يبعد عهده عن الإسلام كثيرًا، على النحو الذي يصوره الأخباريون, وكل ما في الأمر أنها قبيلة أو مجموعة قبائل تسمى بـ"معد"، وأنها كلها أو قبيلة منها كانت خاضعة لحمير، أي للسلطة الحاكمة على اليمن يومئذ، وهي الحبشة، ثم استقلت عنها. أما بقية معد، فلم يتحدث المؤرخ عنهم؛ لذلك لا ندري
__________
1 "يوسطنيانوس"، الطبري "1/ 743"، "طبعة أوروبا"،
Procopius, history of the ears, p, 181, "H.B. Dewing"
2 procopius, history of the wars, p., 181(2/38)
أكان "معد" "بروكوبيوس" هم كل معد أم جماعة منها.
وإذا كان الشعر المنسوب إلى "ابن بقيلة" وهو من نقباء الحيرة وساداتها صحيحًا، تكون كلمة "معد" معروفة في ذلك العهد، على نحو يفهم منه أنها كانت تعني قبائل عديدة أعرابية تنضوي كلها تحت هذه التسمية. فقد جاء في شعره ألم وتوجع لما حل بأهل الحيرة بعد الفتح، فقد رأى "سوام" تروح بالخورنق والسدير بعدما كانا مكانين مختارين للمنذرين، وبعد فرسان النعمان، يرى الناس قلوصًا بين "مرة والحفير"، وصاروا بعد هلاك "أبي قبيس" كجُرب المعز في اليوم المطير، وقد تقاسمتهم القبائل من معد، علانية كأيسار الجزور، بعد أن كانوا أناسًا لا يرام لهم حريم، وصاروا كضرة الضرع الفخور، يؤدون الخراج بعد خراج كسرى، وخراج من قريظة والنضير، ثم خلص إلى نتيجة يخلص إليها من ييأس ويقنع، فقال:
كذاك الدهر دولتُه سجالٌ ... فيوم من مساءة أو سرور1
وقد ذكر "الطبري" أن خالدًا لما أمره "أبو بكر" بفتح العراق، وقصد الأُبلّة، حشر ثمانية آلاف من ربيعة ومضر إلى ألفين كانا معه2، وربما قصد "ابن بقيلة" من "معد" هذه القبائل التي انضافت إلى خالد, ولكن القبائل التي انضافت إلى خالد في العراق أو التي حاربته هي من مضر وربيعة في الغالب، وبين سكان الحيرة قوم يرجعون أنسابهم إلى تميم وإلى قبائل معدية، فكيف يتأفف "ابن بقيلة" من إدبار الدنيا ومن إعراضها عنه وعن أمثاله حتى صاروا في حكم "معد"، وقد اقتسمتهم قبائل معد؟ , فالظاهر أنه كان يتأفف؛ لأن الأمر أدبر منه ومن سادة أهل الحيرة والقرى، وهم حضر مستقرون، لهم نعيم وملك وقصور وبيوت وعيش رغيد, ولكن الدنيا أدبرت عنهم، وسلمت الأمر إلى قبائل من معد، وهم أعراب، وصار أمرهم إليهم، فتأفف من ذلك الزمان.
وقد عرف "حذيفة بن بدر" سيد غَطَفان بـ"رب معد"3، وكان من
__________
1 الطبري "3/ 362".
2 الطبري "3/ 347".
3 المعارف "ص38".(2/39)
أشرف بيوتات هذه القبيلة، التي كانت محالفة لـ"أسد", وقد عرفتا بـ"الحليفتين"1 مما يدل على أنهما كانتا متحالفتين. ويدل هذا النعت الذي نعت به "حذيفة" وهو "رب معد"، على أن معدا كانت قبائل، وكل منها تنتسب إليها، وأنها لم تكن قبيلة معينة، أي: إنها كانت قبائل ترى نفسها أنها من نسب واحد، وإن قبيلة واحدة منها إذا برزت وظهرت جاز لها أن تمثل قبائل معد، وأن ينعت رئيسها نفسه ببعض النعوت التي تدل على ترؤسه لها، ومنها "رب معد".
فيتبين من كل ما تقدم أن "معدا" كلمة أريد بها أعراب كانوا يتنقلون في البوادي، يهاجمون الحضر والأرياف بصورة خاصة؛ لأنها كانت أسهل صيد للأعراب بسبب بُعد أهلها عن سيطرة الحكومة المركزية، وعدم وجود قوات دفاعية رادعة لتدافع عنهم. وكانوا يباغتون الناس ويفاجئونهم، وكانت حياتهم حياة قاسية صعبة, ولم يكونوا قبيلة واحدة، ولكن قبائل عديدة، تتشابه في المعيشة، وتشترك في فقرها وفي تعيشها على الغزو والتنقل، وقد كانت تقيم في البوادي وعلى أطراف الحضارة، كانت مواطنها بادية الشام ونجد والحجاز والعربية الشرقية. ثم صارت اللفظة علمًا لرجل صير جدًّا للقبائل التي عاشت هذه المعيشة، وعرفت بهذه التسمية على الطريقة المعروفة عند العرب وعند غيرهم من الساميين من تحويل أسماء الأماكن أو الأصنام أو المحالفات إلى أسماء أجداد وآباء.
وقد كانت "تهامة" موطن أبناء معد على حسب رأي أهل الأخبار, سكنت قضاعة من ساحل البحر حيث أنشأت "جدة" فيما بعد إلى حيز الحرم، وسكن أبناء جنادة بن معد منطقة الغمر: غمر ذي كندة، وكانت كندة قد أقامت بها أيضا فعرفت بها, وسكن أبناء قنص بن معد وسنام بن معد وبقية ولد معد أرض مكة، حيث أقاموا مع بقايا جرهم. ظلوا على ذلك متساندين متآلفين تضمهم المجامع، وتجمعهم المواسم، حتى وقع الشر بينهم، فتفرقوا وتخاذلوا وقاتل بعضهم بعضًا، يقتل العزيز منهم الذليل2.
__________
1 وسمع عيينة النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: " غفار وأسلم ومزينة وجهينة خير من الحليفتين أسد وغطفان "، الاشتقاق "2/ 173".
2 قال مهلهل:
غنيت دارنا تهامة في الدهر ... وفهيا بنو معد حلولا
فتساقوا كأسًا أمرت عليهم ... بينهم يقتل العزيز الذليلا
البكري، معجم "1/ 18"، "طبعة السقا".(2/40)
عَكّ:
وقبائل عك، هي القسم الآخر الشهير من أقسام قبائل عدنان، وتقع أرضها في جنوب أرض معد، شقيق عك. وقد زعم أهل الأخبار أن "بختنصر" لما هاجم "حضورا" انطلق "عك" إلى أرض اليمن، فاستقر بها، فاختلط من ثَمَّ نسب عك باليمانيين1. وقد سكن العكيون تهامة اليمن إلى جُدَّة. ومن معاني لفظة "عك" في اللغة: الحر الشديد2.
وقد تصور جماعة من النسابين وجود صلة بين "عك" و"الأزد"3؛ والظاهر أن ذلك إنما وقع لهم من اختلاظ منازل القبيلتين. وزعم بعض الأخباريين أن نسب عك كان في اليمن في الأصل، ثم انتقل إلى معد، بعد قتال وقع بين عك وغسان في تهامة، تغلبت فيه غسان على عك، فأجلتها عن أوطانها، فمن ثم انتفت عك من اليمن، وانتسبت في معد4.
__________
1
تركنا ألايث إخوتنا وعكا ... إلى سمران فانعلقوا سراعا
وكانوا من بني عدنان حتى ... أضاعوا الأمر بينهم فضاعا
الطبري "2/ 191"، البكري: معجم، "1/ 53 فما بعدها"، البلاذري، أنساب "1/ 13".
2 يوم عكاك، أي شديد الحرارة، مجالس ثعلب "ص248"، اللسان "2/ 253"، تاج العروس "7/ 163".
3 ابن خلدون "2/ 299"، ابن حزم "309"، تاج العروس "7/ 163"، اللسان "12/ 357".
4 وهذه الرواية اليمانية تتمثل في شعر "نشوان بن سعيد الحميري" الذي قال:
ألم تَرَ عكا هامة الأزد أصبحت ... مذبذبة الأنساب بين القبائل
وعقت أباها الأزد واستبدلت به ... أبا لم يلدها في القرون الأوائل
منتخبات في أخبار اليمن من كتاب شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، لنشوان بن سعيد الحميري، ليدن 1916 "ص74" قارن ذلك برواية الطبري "2/ 191".(2/41)
وقد سيق نسب "عك" على هذه الصورة: "عك بن الديث بن عدنان" في بعض الروايات، وسيق على صور أخرى مثل: "عك بن عدنان بن عبد الله" من بطون الأزد1.
وهناك بيت شعر للشاعر "العباس بن مرداس" يتكثر بعك على اليمن، حيث يقول:
وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بغسان حتى طردوا كل مطرد2
ومضمون هذا البيت يخالف ما جاء في الرواية الأخرى التي تدعي تغلب غسان على عك.
وقد ذكر "ابن دريد" أن "عدنان" والد "عك" هو "عدنان بن عبد الله بن الأزد"، وأن من نسب "عكًّا" إلى الأزد، نسبه إلى هذه الصورة3 فجعل "عدنان" حفيدًا من حفدة الأزد.
وقد ورد في جغرافية "بطلميوس" اسم شعب من الشعوب العربية، دعي بـ Anchitae Achitae Akkitae Akkitai 4، مواطنه هي المواطن التي نسبها النسابون إلى "عك"؛ لهذا ذهب الباحثون المحدثون إلى أن هذا الشعب هو "عك"5. وعلى ذلك تكون إشارة "بطلميوس" إليهم أقدم إشارة إلى هذه القبيلة في التأريخ, وتكون "عك" بذلك من القبائل المعروفة قبل الإسلام بزمان. وهي لا بد أن تكون قد عرفت قبل "بطلميوس" وإلا لم يذكرها هذا الجغرافي في جغرافيته.
غير أن "بطلميوس" لم يشر إلى أصلها ونسبها، ولا إلى صلتها بغيرها من القبائل. وكل ما ذكره عنها أنها قبيلة من قبائل العرب، تسكن في المواضع التي عينها في كتابه المذكور.
__________
1 ابن خلدون "2/ 299"، ابن حزم "309"، تاج العروس "7/ 163"، اللسان "12/ 357".
2 نسب قريش "ص5".
3 اشتقاق "287".
4 glaser, skizze, 2, s., 256, forster, vol., I, P., 89
5 Enc., Vol., I, P., 241(2/42)
أولاد معد:
وولد معد بن عدنان عددًا من الأولاد، جعلهم بعض الأخباريين أربعة، هم: نزار بن معد، وقضاعة بن معد، وقنص بن معد، وإياد بن معد1. وجعلهم بعض آخر أكثر من ذلك، إذ أضافوا إلى المذكورين عبيد الرماح بن معد، وقد دخل أبناؤه في "بني مالك بن كنانة"، والضحاك بن معد، قالوا: أغار على بني إسرائيل2، وقناصة بن معد، وسنامًا، وحيدان، وحيدة، وحيادة، وجنيدًا، وجنادة، والقحم، والعرف، وعوفًا، وشكًّا، وأمثال ذلك3.
وزعموا أن الإمارة كانت لقنص بعد أبيه على العرب، وأراد إخراج أخيه نزار من الحرم، فأخرجه أهل مكة، وقدموا عليه نزارًا4.
ويُخرج بعض أهل الأخبار "قضاعة" من صُلب معد، فيضيفها إلى القحطانيين، على حين نرى فريقًا آخر من النسابين ومن ورائهم القضاعيون يعدون أنفسهم من أقدم أبناء معد, فيقولون: قضاعة بن معد، وبه كان يكنى معد5، أي: إنهم أقدم أبناء معد, ويروون في ذلك شعرا من أشعار قضاعة في الجاهلية وبعد الجاهلية6, وفي كل ذلك أثر التعصب القبلي الذي كان يتحكم في النفوس، ويظهر في النسب. ويذكر النسابون الذين يرجعون نسب قضاعة إلى حمير أنها من نسل قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ كما رأيت7.
ونرى "الكُميت" يعير قضاعة ويهجوها بانتمائها إلى اليمن, وادعائها أنها من "قضاعة بن مالك بن حمير"، وإنما هو "قضاعة بن معد بن عدنان"8.
__________
1 ابن هشام "1/ 7"، وأكثر النسابين على أن إيادًا من نسل نزار بن معد، التنبيه "ص29"، سبائك الذهب "ص20"، البلاذري، أنساب، "1/ 13".
2 ابن حزم، جمهرة "ص8"، اللسان "8/ 352"، ابن خلدون "2/ 300".
3 الطبري "1/ 671" "2/ 190"، "طبعة أوروبا" الطبقات "جـ1، ق1، ص30" "1/ 58" "طبعة بيروت"، ابن حزم, جمهرة "9" البلاذري، أنساب "1/ 13", ابن خلدون "2/ 300".
5 الطبقات "جـ1، ق1، ص30"، "1/ 58" "طبعة بيروت".
6 نسب قريش "ص5".
7 المعارف "ص29"، نسب قريش "ص5".
8
رأيتكم من مالك وادعائه ... كرائمة الأوتاد من عدم النسل
وحظك من قحطان إن كنت منهم ... ومن مالك حظ البغي من الحمل
المعاني الكبير "1/ 524".(2/43)
وقد شبهها بالرئال لمفارقتها نزارًا، وانتقالها إلى اليمن1.
ويشير اختلاف النسابين هذا في نسب قضاعة إلى اختلاط قبائل قضاعة بقبائل معد وبقبائل اليمن، فانتمى قسم منهم إلى معد، وقسم منهم إلى اليمن، ومن هنا وقع هذا الاختلاف. وأرى أن لاختلاط قبائل قضاعة في بلاد الشام وفي أماكن أخرى بقبائل ترجع نسبها إلى قحطان دخلًا في إدخال نسبها في اليمن. وقد يكون ذلك في العصر الأموي بصورة خاصة، حيث صار نزاع قيس وكلب، أي: نزاع عدنان واليمن نزاعا سياسيا عنيفا, قسم عرب بلاد الشام إلى جماعتين متباغضتين، تسعى كل جماعة لضم أكثر ما يمكن من القبائل إليها، ولا سيما القبائل القوية المهمة مثل قضاعة, فأدخلها اليمانيون لذلك فيهم وألحقوا نسبها باليمن. أما قضاعة الباقون الذين كانوا في أرضين أخرى، فلم يقع عليهم مثل هذا التأثير، وقد كانوا أكثر استقلالًا، وعلى اتصال متين بالعدنانيين؛ ولهذا أبوا إلحاق نسبهم بقحطان.
وإذا غربلنا أخبار الأيام وبعض الروايات التي يرويها أهل الأخبار، فإننا نتوصل منها إلى أن قضاعة كانت قد اشتركت مع ربيعة ومعدّ في محاربة "يمن"؛ فقد ذكر مثلًا: أن "عامر بن الظرب العدواني" قاد ربيعة ومضر وقضاعة كلها "يوم البيداء" لليمن, حين تمذحجت على بني معد2, وذكر أن "ربيعة بن الحارث بن زهير التغلبي" قاد مضر وربيعة وقضاعة يوم السلان إلى أهل اليمن، وأن ابنه "كليب بن ربيعة"، وهو "كليب وائل" قاد ربيعة ومضر وقضاعة يوم "خرازى" إلى اليمن3. ولعل في هذه الأمثلة وفي غيرها تأييدًا لرأي غالب قضاعة وبقية النسابين الذين يرجعون نسب قضاعة إلى بني معد، أي: إنها كانت في حلف مع ربيعة ومضر، وهما من بني معد. ولما كانت ربيعة ومضر في نزاع مع اليمن، كانت قضاعة معهما في هذا النزاع.
وتذكر "قضاعة" في الأخبار مع "مضر" و"ربيعة" و"اليمن"4, وهذا
__________
1
فلما استرألت حسبت سواء ... مفارقة الرعيل إلى الرعيل
المعاني الكبير "1/ 353".
2 المحبر "ص246".
3 المحبر "ص249".
4 المحبر "ص144".(2/44)
يدل على أنها كانت في منزلة المذكورين في الكثرة والمكانة, وقد عدت في قبائل "الحلة" من العرب ما خلا علافًا وجنابًا1. وأهميتها هذه وكثرة عددها، دفعت العدنانيين والقحطانيين إلى ضم نسب قضاعة إليهم؛ لما كان في هذا الضم من أثر كبير في تقوية مركز أحد الطرفين.
ويذكر "ابن سعد" أن ولد "معد" تفرقوا في غير بني معد سوى "نزار"2 وقد أدرك "ابن سعد" وأمثاله ذلك من اختلاطهم باليمانيين، الأمر الذي أدى إلى تداخل النسب، فصارت أنسابهم لذلك مترجحة بين قحطان وعدنان.
__________
1 المحبر "ص179".
2 الطبقات: "1/ 59".(2/45)
نزار:
وهو جد القبائل "النزارية" المنحدرة على رأي النسابين من نزار بن معد من زوجه "معانة بنت جوشم بن جلهمة"، أو "معانة بنت جهلة" من جرهم1. وهو على زعم الأخباريين والد أربعة أولاد، هم: ربيعة، ومضر، وأنمار, وإياد2, وهم أجداد قبائل كثيرة في الوقت نفسه. وقد انتشرت هذه القبائل في أواسط بلاد العرب وشماليها، وهناك أسطورة رواها المؤرخون والنسابون عن اختصاص كل ولد من أولاد نزار وعن المناطق التي نزلت بها قبائلهم واحتكامهم إلى "الأفعى الجرهمي3" أو "أفعى نجران4".
وقد زعم بعض أصحاب الأخبار أن أم ربيعة وأنمار: "حدالة" "جدالة" بنت وعلان بن جوشم بن جلهمة بن عمرو, من جرهم، وأن أم "مضر"
__________
1 تاج العروس "3/ 563"، السهيلي، روض الأنف "1/ 8"، الطبري "2/ 190", الطبقات "جـ1، ق1، ص30"، المحبر "ص132".
2 Enc, vol., p., 939, wuestenfeld, geneal. Tab., a. 3
3 الفاخر "ص155 فما بعدها"، حكم الأفعى، الطبري "1/ 1108", مروج "2/ 35"، طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد، لقد تأثر بهذه القصة الفيلسوف الفرنسي "فولتير" في Enc., Vol., 3, P., 940., "Zadig"
4 ابن خلدون "2/ 300"، البلاذري، أنساب "1/ 29".(2/45)
"سودة بنت عك"1، كما زعم بعض المورخين أن إيادًا وأنمارًا هما من أبناء معد. وأما نزار، فقد كان من عقبه البطنان: ربيعة، ومضر2.
وقد نعتت مضر بـ "الحمراء"، فقيل: "مضر الحمراء"3، ونعتت إياد بـ"الشمطاء"، و"البلقاء"، وقيل لربيعة "الفرس"، ولأنمار "الحمار"4.
ويقال للنزاريين: "نزارية" و"بنو نزار" و"أبناء نزار". أما التنزر، فالانتساب إلى نزار، ويقال: تنزر الرجل، إذا تشبه بالنزارية، أو أدخل نفسه فيهم5. واستعملت "النزارية" في مقابل "اليمانية" في أيام الأمويين6.
ويرى "ليفي ديلافيدا" أن "النزارية" فكرة سياسية نجمت في العصر الأموي، في وسط ذلك الصراع الحزبي المعروف، وعلى الأخص بعد معركة "مرج راهط"، وأنها لا تمثل حقيقة تأريخية، فهي لا تعني رابطة قبائل بالمعنى المفهوم. ومن رأيه أن هذا الموضوع لم يدرس دراسة كافية بعد، وأن المواد اللازمة لدراسته غير متوافرة7.
وقد ذهب أيضا إلى أن أقدم من ذكر اسم "نزار" من الشعراء الجاهليين هو "بشر بن أبي خازم"8، و"كعب بن زهير" من الشعراء المخضرمين9, ويرى أن "بني نزار" الواردة في شعر "حسان بن ثابت" لا تعني النزارية، أي: أبناء نزار بن معد بن عدنان على نحو ما يذهب إليه أهل الأنساب، بل
__________
1 الطبري "2/ 198"، خبية بنت عك بن عدنان، نسب قريش "ص6".
2 ابن خلدون "2/ 300".
3 قال بشر بن أبي خازم الأسدي:
دعوا منبت السيفين إنهما لنا ... إذا مضر الحمراء شبت حروبها
4 اللسان "7/ 59".
5 ديوان حسان "ص36"، الجمحي، طبقات الشعراء "ص5"، اللسان "7/ 59",
Enc., Vol., 3, P., 940.
6 التنبيه "ص70".
7 Enc., Vol., 3, P., 940.f.
8 المفضليات "ص667"، قال بشر بن أبي خازم:
مضى سلافنا حتى حللنا ... بأرض قد تحامتها نزار
ديوان بشر "ص67"، المفضليات "ص162"، "السندوبي"،
Enc., Vol., 3, P., 940.
9
صدموا عليًّا يوم بدر صدمة ... ذلت لوقعتها جميع نزار
الجمحي، طبقات "ص21"، الطبري "1/ 1106"، "طبعة أوروبا".(2/46)
جماعة أخرى هي من نسل "نزار بن معيص بن عامر بن لؤي" من قريش1.
ويرى "ليفي ديلافيدا" أيضا أن ما ورد في شعر "أمية بن أبي الصلت" من شعر، نسب فيه ثقيفًا إلى نزار2، وما ورد في قصة "الأقرع بن حابس التميمي" من ذكر "نزار"، لا يمكن أن يبعث الثقة إلى النفوس ولا الاطمئنان إلى القلوب، بل يظهر أن ما ورد إنما وضع لأغراض واضحة هي على زعمه إلحاق نسب ثقيف بنزار، وقد كان ذلك موضع جدل في ذلك العهد، وإثبات نسب "بجيلة" وهو نسب كان موضع جدل أيضا3.
أما أنا، فأرى أن "نزارًا" من القبائل التي كانت معروفة في القرن الرابع بعد الميلاد، بدليل ورود اسمها في النص المعروف بـ"نص النمارة" الذي وضع على قبر "امرئ القيس"، ويعود عهده إلى سنة "238" للميلاد. فقد ذكرت في جملة القبائل التي خضعت لحكمه, ولكن النص لم يتحدث عن نسب نزار ومواضعها في ذلك الزمن. وفي الجملة: إنها ذكرت مع قبيلة "أسد".
وتتألف القبائل النزارية من ربيعة ومضر وإياد وأنمار4، على رأي من جعل أنمارًا ابنًا من أبناء نزار. فأما إياد، فقبيلة كانت مواطنها تهامة إلى حدود نجران، ثم انتشرت بسبب حروب وقعت بينها وبين ربيعة ومضر، فارتحل قسم منها إلى العراق، وانضم قسم آخر إلى قضاعة وأقام بالبحرين، وسكن قسم منها في "وادي بيشة"، وهاجر آخرون إلى بلاد الشام5.
وقد كانت رئاسة مضر إلى ربيعة في أيام "كليب بن ربيعة"، المعروف أيضا بـ"كليب وائل"6. وقد كانت مضر وربيعة متجاورتين ومتحالفتين، ودليل ذلك اقتران اسم إحداهما بالأخرى، وجعل أهل الأنساب مضر شقيقًا لربيعة غير أن تحاسدًا شديدًا كان يقع بين سادات مضر وسادات ربيعة، وطالما كانت
__________
1
وكل محارب وبني نزار ... تبين في مشافره الرضاع
ديوان حسان "ص36"، البرقوقي، شرح ديوان حسان "ص266".
ENC., VOL., 3, P., 940, wuestenfeld, genea., s., 15
2 ديوان أمية "ص69"، وهو من الشعر المنسوب إليه، Enc., Vol., 3, P., 940
3 النقائض "طبعة بيفان"، "ص141 فما بعدها"، ابن هشام "1/ 50"، "طبعة وستنفلد" Enc., Vol., 3, P., 940
4 ابن خلدون "2/ 300"، ابن حزم، جمهرة "ص9".
5 Enc., Vol., 2, P., 565, Wuestenfeld, Register
6 الفاخر "ص75 وما بعدها".(2/47)
إحداهما تفتخر على الأخرى، وترى أنها أعز مكانةً ونفرًا من شقيقتها، كالذي يحدث بين القبائل.
ويظهر أن الأمر قد اختلط على بعض أهل النسب في قضية "إياد"، فجعلوا إيادًا ابنًا من أبناء معد، أي: شقيقًا لنزار، وجعلوه ابنا لنزار، فصيروه شقيقا لربيعة ومضر وأنمار. وقد ذكر المسعودي أن إيادا ينسبون إلى القبيل الأكبر، وليست لهم قبائل مشهورة. ويذكر قوم أن ثقيفا من إياد، ويرى فريق أنهم من قيس عيلان1.
وأما "قنص بن معد" فيزعم قوم أن "آل المنذر" ملوك الحيرة منهم2, ويظهر من عدم ذكر أسماء قبائل تنسب إلى قنص أن قنص لم تكن من القبائل الكبرى، وأنها دخلت في القبائل الأخرى قبل الإسلام، فنسيت, فلما دون أهل الأخبار الأنساب، لم يكن لها شأن يذكر عندئذ غير الاسم.
ويلاحظ أن النسابين الذين جعلوا "آل نصر" من "قنص بن معد"، أي من العدنانيين، يذكرون أنفسهم ويروون في كتبهم أن نسبهم هو من اليمن، وأنهم من أصل قحطاني.
ويذكر أهر الأخبار أن ربيعة ومضر حاربوا أبناء قنص بن معد وتغلبوا عليهم، حتى أخرجوهم من ديارهم فتفرقوا في البلاد، وذهب جمع منهم إلى سواد العراق، ولكنهم اصطدموا بالنبط الأرمانيين من ملوك النبط، فتراجعوا واستقر قسم منهم في الأنبار والحيرة3.
وأما "مضر بن إلياس" فولد "إلياس بن مضر"، وإلياس، وهو قيس عيلان. وعرف أبناء "إلياس" بـ"خندف" نسبة إلى أمهم "خندف"، وهم: مدركة, وطابخة، وقمعة4. وذكر المسعودي أن مضر ترجع إلى حيين،
__________
1 المعارف "ص29".
2 المعارف "ص29"، الطبري "1/ 611"، "دار المعارف"، ابن حزم، جمهرة "ص8"، البكري معجم "1/ 52" ابن هشام "1/ 5".
3 البكري معجم "1/ 52 وما بعدها" "طبعة السقا".
4 المعارف "ص30"، "وكانت أمهم ليلى بنت حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة وهي خندف، فغلب على من ذكرنا الألقاب، ونسب ولد إلياس إلى أمهم خندف"، مروج "1/ 396"، نسب عدنان "ص1"، ابن حزم، جمهرة "9" البلاذري، أنساب "1/ 31".(2/48)
هما: خندف، وقيس1.
ومن النسابين من يزعم أن "قمعة"، واسمه "عمير"، هو والد خزاعة، أما خزاعة، فتأبى ذلك، وترجع نسبها إلى غسان2.
وورد في شعر الشعراء المعاصرين لبني أمية: "ابنا نزار"، وقد قصدوا بذلك "ربيعة" و"مضر"3، كما ورد "بحرا نزار" في المعنى نفسه4. وجعل "ابن جني"، اللغة العربية التي نزل بها القرآن "لغة ابني نزار"5.
وقد سمى "الفرزدق" "قيس علان"، و"خندفًا" بـ"الحيين" المكونين لمعد6. وورد في شعر للعجاج "حيَّيْ مُضَر"7, وجاء في شعر لجرير:
إذا أخذت قيس عليك وخندف ... بأقطارها, لم تدر من حيث تسرح8
مما يدل على أن قيسًا وخندفًا، كانا من القبائل القوية في هذه الأيام.
ويظهر من تقسيم النسابين قبائل مضر إلى حيين: خندف وقيس عيلان، أن تلك القبائل كانت حلفًا في الأصل، ثم انفصمت عراه، أو أن خندف تحالفت مع قبائل قيس عيلان, وربطت نسبها بنسب مضر. وتتألف خندف من
__________
1 مروج "1/ 396".
2 نسب قريش "8".
3 قال جرير:
وابنا نزار أحلَّاني بمنزلة ... في رأس أرعن عادي القداميس
الجمحي، طبقات "ص89".
وقال الراعي:
تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسبًا ... وابنا نزار فأنتم بَيْضَةُ البلد
الجمحي، طبقات "ص118".
4 قال الكميت:
أضحت عداوتهم إياي إذ ركبوا ... بحري نزار بهم منفَشَّة القرب
المعاني الكبير "2/ 855"، "3/ 1134".
5 "وبعد فلسنا نشك في بعد لغة حمير ونحوها عن لغة ابني نزار"، الخصائص "1/ 392".
6
إذا اجتمع الحيان قيس وخندف ... فثم معد هامها وعديدها
ديوان الفرزدق "189".
7 نسب عدنان "ص2".
8 نسب عدنان "ص2".(2/49)
قبائل مهمة، منها: ضبة، وتميم، وخزيمة، وهذيل، وكنانة، وقريش، وأسد, وغيرها. وأما قيس عيلان، فمن قبائلها: فهم، وعدوان، وغطفان، وعبس، وذبيان, وسُليم، وهوازن، وباهلة، وغنى، وغيرها من قبائل سيأتي ذكرها بعد قليل.
وأما مدركة بن إلياس، فولد: خزيمة، وهذيلا، وأسدا، وكنانة. فأما هذيل، فأولد ثلاثة: سعدا، ولحيانا، وعميرا، والعدد في سعد بن هذيل: تميم, وحريث، ومنعة، وخزاعة، وجهامة، وغنم، وولد تميم: معاوية والحارث1.
وجعل "مصعب بن عبد الله بن مصعب الزبيري" أولاد مدركة ولدين، هما خزيمة وهذيل. أما أسد وكنانة، فهما عنده ولدان من أولاد خزيمة2.
وأما خزيمة، فله من الولد كنانة، وأسد، وأسدة، والهون3, وولد أسد دودان، وكاهلا، وعمرا وحملة. فهؤلاء "بنو أسد"، ومنهم تفرقت أسد كلها. ومن بطونهم المشهورة: "بنو فقعس"، وبنو الصيداء، وبنو نصر بن قعين، وبنو الزينة، وبنو غاضرة، وبنو نعامة. أما ولد الهون، فهم: القارة، ومن القارة: عضل، والديش، وهما قبيلا الهون, وقد اشتهرت القارة بالرماية4. وجعل "الزبيري" ولد الهون ثلاثة, هم: عضل، والديش، والقارة5.
ويذكر "الزبيري"، الذي أدخل أسدة في أولاد خزيمة، أن أسدة يزعمون أنه جذام، ولخم، وعاملة، وقد انتسبوا في اليمن، ويظهر أن قبائل "أسد بن خزيمة" ادعت، حين مجيء لخم وجذام مع خالد بن عبد الله القسري إلى العراق، أنها والقبائل القادمة من دم واحد، هو دم خزيمة بن مدركة، وأنها أرادت إلحاق نسبها بهذا النسب6.
__________
1 المعارف "ص30"، وقد جعل "ابن قتيبة" قريشًا ضمن أبناء مدركة، ونسي خزيمة.
2 نسب قريش "ص8".
3 المعارف "ص30"، ولم يذكر صاحب كتاب "المعارف" أسدة في أولاد خزيمة, والذي أدخلهم هو "الزبيري", نسب قريش "ص8".
4 المعارف "ص30".
5 نسب قريش "ص9".
6 نسب قريش "ص8 فما بعدها".(2/50)
وأما كنانة1، فولد النضر، ومالكا، وملكان، وعبد مناة، وهو علي، وربما قالوا مسعودًا2، وآخرين ذكرهم "الزبيري3. فأما بنو ملكان، فلهم بقية، وليس لهم شرف بارع، مما يدل على أنهم لم يكونوا كثيري العدد. وأما بنو مالك، فمن قبائلهم بنو فقيم وبنو فراس, ومن بني فقيم "القلامس" نَسَأة الشهور. وأما عبد مناة، فمنهم "بنو مُدلج" القافة، ومنهم بنو جذيمة، ومنهم بنو ليث، ومنهم الدئل، ومنهم بنو ضمرة, ومن بني ضمرة: غفار, ومنهم بنو عريج4.
وأما "النضر"، فولده مالك والصلت5. فأما "الصلت"، فصاروا في اليمن، ويقول قوم: إنه أبو خزاعة6, ورجعت قريش إلى مالك كلها، فهو أبوها كلها. وولد مالك بن النضر فهرًا والحارث7. فأما "الحرث" الحارث بن مالك، فهو من المطيبين، ويقال: إن الخلج منهم, ويقال: كانوا من عدوان، فألحقهم عمر بن الخطاب بالحارث، وسموا خلجًا؛ لأنهم اختلجوا من عدوان، وهم بالمدينة كثير8.
وأما فهر بن مالك، فمنهم تفرقت قبائل قريش، فقيل لهم "بنو فهر", وولده: غالب بن فهر، ومحارب بن فهر9. فأما "محارب"، فمنهم ضرار بن الخطاب شاعر قريش في الجاهلية. وأما غالب بن فهر، فولده لؤي وتيم، فأما تيم، فهم بنو الأدرم من أعراب قريش10.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن قريشًا كانوا متفرقين في "بني كنانة"، فجمع "قصي" إلى مكة "بني فهر بن مالك" فجذم قريش كلها "فهر بن مالك"
__________
1 ممن ذكر "كنانة" من الجاهليين "بشر بن أبي خازم الأسدي"، قال:
فَأَبلِغ إِن عَرَضتَ بِنا رَسولًا ... كِنانَةَ قَومَنا في حَيثُ صاروا
ديوان بشر "ص73".
2 المعارف "ص30 فما بعدها".
3 نسب قريش "ص10".
4 المعارف "ص30".
5 نسب قريش "ص11"، المعارف "ص31".
6 نسب قريش "ص11"، الإنباه "ص94".
7 المعارف "ص31"، نسب قريش "ص12".
8 المعارف "ص31".
9 وأضاف "الزبيري" إليهما "الحارث"، نسب قريش "ص12".
10 المعارف "ص31 فما بعدها".(2/51)
فما دونه "قريش" وما فوقه عرب، مثل كنانة وأسد وغيرهما من قبائل مضر، فإنما قريش إلى "فهر بن مالك" لا تجاوزه1. ثم يفسرون معنى "قريش" بالتقرش أي: التجمع، أو جمع المال والتجارة، أو غير ذلك مما سأتحدث عنه فيما بعد2. مما يدل على أن تلك التسمية لم تكن قديمة، وإنما هي لقب في الأصل أطلق على جماعة من بني فهر كانوا يسكنون مكة، فعرفوا به حتى غلب على اسمهم، وصار اللقب اسمًا، ومن هنا اشتهر بين النسابين أنه اسم إنسان وجدّ قبيلة.
وأما لؤي، فإليه ينتهي عدد قريش وشرفها, وولده: كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، وسامة بن لؤي، وسعد بن لؤي، وخزيمة بن لؤي، والحارث بن لؤي, وعوف بن لؤي3. فأما عامر، فولده: حسل ومعيص، ومن حسل سهل وسهيل والسكران بنو عمرو. وأما سامة، فوقع بعمان، وهلك بها فولده هناك. وأما سعد بن لؤي، فهو أبو ولد بنانة، وأما خزيمة بن لؤي، فمنهم عائذة، وهم في بني شيبان. وأما كعب بن لؤي، فولده: مرة، وهصيص، وعدي4. فأما هصيص، فمنهم بنو سهم، وبنو جمع. وأما عدي، فمنهم عمر بن الخطاب. وأما مرة، فمنهم تيم بن مرة رهط أبي بكر، وآل المكندر، ومنهم مخزوم بن يقظة بن مرة، ومنهم كلاب بن مرة وولد زهرة بن كلاب وقصي بن كلاب5.
وأما قصي بن كلاب، فإنه أول من جمع قبائل قريش، وأنزلها بمكة، وبنى دار الندوة، وأخذ مفتاح الكعبة من خزاعة. وكان له من الولد: عبد مناف، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبد6. فأما عبد، فبادوا. وأما عبد العزى، فمنهم خويلد بن أسد أبو خديجة. وأما عبد الدار، فمنهم آل أبي طلحة، ومنهم شيبة بن عثمان، وقد أعطاه النبي مفتاح الكعبة، وصار في
__________
1 العقد الفريد "3/ 313"، ابن حزم، جمهرة "11" الإنباه "66"، البلاذري, أنساب "1/ 39".
2 الميداني، مجمع الأمثال "2/ 72".
3 المعارف "ص32"، و"الحارث، وهم جشم وهم في همدان"، نسب قريش "ص13".
4 نسب قريش "ص13"، المعارف "ص32".
5 المعارف "ص32" نسب قريش "ص13".
6 نسب قريش "ص14"، المعارف "ص32 فما بعدها".(2/52)
ولده. وأما عبد مناف، فولده هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل وأبو عمرو1.
وأما طابخة بن إلياس، فولد أدًّا، وولد "أد" مرًّا وعبد مناة وضبة ومزينة وحميسًا والرباب. فأما عبد مناة، فمنهم تيم بن عبد مناة وبطونها، وعدي بن عبد مناة، وعُطْل بن عبد مناة، وهؤلاء الثلاثة من الرباب، وثور بن عبد مناة2. وجعل "الزبيري" ولد أد بن طابخة: مزينة، ومرا, وتميما3.
وأما ضبة بن أد، فولده سعد وسعيد وباسل. فأما باسل، فهو أبو الديلم، وقُتِل سعيد ولا عقب له، وضبة كلها ترجع إلى "سعد بن ضبة"، وهي جمرة من جمرات العرب، وهي من الرباب. وولد سعد الذين تنسب إليهم ضبة بكرًا، وثعلبة, وصريمًا. ومن بطونهم نصر، ومازن، والسيل، وذهل، وعائذة، وتيم اللات، وزبان، وعوف، وشيم. ومن ذهل بجالة، وتيم، وصبيح، وضبة، وكعب. ومن كعب ضرار بن عمرو، وهو بيت ضبة، وبنو صباح، وهم معروفون بالصيد، وشقرة, وهلال4.
وأما مزينة بن أد، فهم مزينة مضر، ومنهم الشاعر زهير. وأما حميس بن أد، فهم قليلون، يكونون في البصرة في بني عبد الله بن دارم وبالكوفة في بني مجاشع. وأما مر بن أد، فولده ثعلبة بن مر, وهم بنو ضاعنة، ونسبوا إلى أمهم, وبكر بن مر وهم الشعيراء, وأراشة بن مر ولحقوا باليمن، فصاروا في جذام، ويقال لهم جديس، والغوث بن مر وصاروا باليمن، ويقال لهم: بنو صوفة، وكانوا يفيضون بالناس قبل بني صفوان وتميم بن مر5.
وأما تميم بن مر، وقبره بـ"مران"، فولده زيد مناة، وعمرو، والحارث. فأما الحارث، فمنهم شقرة, وأما عمرو، فولده العنبر والهجيم وأسيد والقليب والحارث بن عمرو المعروف بـ"الحبط"، ويقال لولده "الحبطات"، ومالك بن عمرو. وأما زيد مناة، فولد سعدًا وفيهم العدد، وعامرًا، وانتسب ولده إلى عامر بن مجاشع والحارث، وهم قليل، وامرؤ القيس، منهم عدي
__________
1 نسب قريش "ص14"، المعارف "ص32 وما بعدها".
2 المعارف "ص34".
3 نسب قريش "ص8".
4 المعارف "ص34".
5 المعارف "ص34".(2/53)
ابن زيد الشاعر، وقبائلهم بنو عصية, ومالك بن زيد مناة ومنهم ربيعة الجوع، ومنهم البراجم، وهم عمرو وقيس وكلفة وظليم وغالب بنو حنظلة بن مالك, ومنهم بنو يربوع بن حنظلة، وهم بنو كليب بن يربوع، ورياح بن يربوع، وثعلبة بن يربوع، وعُدانة بن يربوع، وحزام بن يربوع1.
ومن تميم بن مر بنو دارم بن مالك بن حنظلة، ومجاشع بن دارم، ونهشل بن دارم، ومنهم بنو العدوية، نسبوا إلى أمهم، وهم: زيد بن مالك بن حنظلة، وصدي بن مالك بن حنظلة، ويربوع بن مالك بن حنظلة، وعوف بن مالك بن حنظلة, وجشش بن مالك بن حنظلة2.
وأما سعد بن زيد مناة بن تميم فهو الفزر, وولده كعب بن سعد، وعمرو بن سعد، والحارث بن سعد، وهم: عوافة، وعبشمي بن سعد، واسمه مقروع، وجشم بن سعد، ومالك بن سعد، وهبيرة بن سعد. فأما كعب بن سعد، ففيهم العدد؛ منهم مقاعس، ومنهم حمان، ومنهم بنو منقر، ومنهم بنو مرة، ومنهم ربيعة. ومن "عوف بن كعب" بهدلة رهط الزبرقان بن بدر، وقريع رهط بني أنف الناقة، ومنهم آل عطارد وآل صفوان بن شجنة الذين كانت فيهم الإفاضة بالناس من عرفة، ومن عطارد بنو عوف3.
وأما قيس بن عيلان، وهو قمعة بن إلياس بن مضر، فولد سعدًا، وعكرمة، وأعصر، وعمرًا، وخصفة. وبعض النساب يزعم أن عكرمة هو ابن حفصة، وأعصر هو ابن سعد4. وأما عمرو بن قيس، فولده فهم وعدوان. فمن فهم تأبط شرًّا, وأما عدوان، فمن بطونهم بنو خارجة وبنو وابش وبنو يشكر وبنو عوف والفرعا وبنو رهم وبنو رباح. ومن عدوان عامر بن الظرب حاكم العرب، وأبو سيارة الذي كان يفيض بالناس، وعدوان أنزلوا ثقيفًا بالطائف، وكانت كثيرة السادة، فتفرقوا يبغي بعضهم على بعض5.
__________
1 المعارف "ص35".
2 المعارف "ص35".
3 المعارف "ص36".
4 المعارف "ص36".
5 المعارف "ص36".(2/54)
وأما بنو سعد بن قيس عيلان، فهم غطفان1 وأعصر بن سعد. فولد أعصر غنيًّا ومَعْنًا وهو أبو باهلة، وباهلة امرأة من همدان نسب بنو معن إليها، ومنبه بن أعصر وهم الطفاوة. فأما غني، فمنهم بنو ضبينة وبنو بهثة وبنو عبيد, وهم حلفاء في بني كلاب. وأما الطفاوة، فمنهم بنو جسر وبنو سنان، وكانوا في بني شيبان حلفاء. ومن الطفاوة الحبال، وكانوا في الهجيم، وأما معن بن أعصر، فولده قتيبة ووائل، وأمهما من فزارة, وأود، وجاءت أمهما باهلة امرأة من همدان، وفراص, وأبو عليم2.
وأما قتيبة بن معن، فمن ولده غُنْم، وولد غنم سهم بن غنم، ومن بني قتيبة بنو صحب، وهم ينزلون اليمامة. ومنهم عمرو بن عبد واعبد وقعنب وسعد بن عبد وعامر بن عبد، ومن بني سعد بنو أصمع. وأما وائل بن معن، فمنهم بنو سلمة وبنو هلال بن عمرو وبنو زيد وبنو عامر بن عوف وبنو عصية3.
وأما غطفان بن سعد، فولده ريث وعبد الله، فولد ريث بغيضًا وأشجع، فولد بغيض ذبيان وعبسا وأنمارا. وأما عبد الله بن غطفان، فهم في بني عبس, وأما أشجع، فمنهم بنو دهمان. وأما أنمار بن بغيض، فهم قليل. وأما عبس بن بغيض، فولده قطيعة، وورقة، ومعتم، والشرف والعدد في قطيعة. وأما ورقة ومعتم ابنا عبس، فلا يعرف منهما أحد4.
وأما ذبيان بن بغيض، فولده فزارة، وسعد، وهاربة البقعاء، وقد بادت هاربة إلا بقية يسيرة في بني ثعلبة بن سعد. وأما فزارة بن ذبيان، فولده عدي، وظالم، ومازن، وشمخ. فأما ظالم، فقد بادوا إلا قليلًا، وأما شمخ بن فزارة، فولده لؤي وهلال, وأما مازن بن فزارة، فمنهم بنو العشراء، وأما عدي بن فزارة، فولده ثعلبة وسعد5.
وأما سعد بن ذبيان، فولده ثعلبة وعوف. فمن ثعلبة بنو جحاش، وبنو سبيع، وبنو حشور, وفي بني سبيع البيت والشرف. وولد عوف بن سعد
__________
1 التنبيه "ص209، وما بعدها، 216".
2 المعارف "ص36".
3 المعارف "ص37".
4 المعارف "ص37".
5 المعارف "ص37".(2/55)
مرة وعيدًا. فأما عيد، فقليل، وفي مرة بن عوف الشرف والسؤدد. فولد مرة بن عوف غيظًا، ومالكًا، وحرمة، وسهمًا، وبني صارد, وغيرهم. فولد غيظ نشبة ويربوعًا1.
وأما خصفة بن قيس عيلان، فولده عكرمة ومحارب, وبعضهم ذكر أن عكرمة هو ابن قيس. وأما محارب، فمنهم جسر والخضر, وبنو جسر حلفاء بني عامر بن صعصعة. وأما عكرمة، فولده عامر, ومنصور، وأبو مالك. فأما بنو أبي مالك، فهم في بني تيم الله, وأما عامر، فهم حشوة في بني سليم ولهم بقية بالبادية, وأما منصور بن عكرمة، فولده سليم، وسلامان، وهوازن، ومازن. وأما سليم فولده بهثة, وولد بهثة امرأ القيس وعوفًا. ومن قبائل سليم: بنو حرام, وبنو خفاف، وسماك، ورعل، وذكوان، ومطرود، وبهز، وقنفذ، ورفاعة، وعصبة، وظفر، وبجلة, وحبيب بن مالك، وبنو الشريد، وبنو قتيبة2.
وأما هوازن بن منصور، فولده بكر، وسبيع، وحرب، ومنبه، ولا عقب لسبيع وحرب. وأما منبه، فهو أبو ثقيف في قول بعض النسابين. وولد بكر بن هوازن سعدا ومعاوية وزيدا, ومن ولد معاوية بن بكر: جشم، ونصر، وصعصعة، والسباق، وجسر، وجحش، وجحاش، وعوف، ودحوة، ودحية. فأما دعوة، ودحية، وجحش، وجحاش، فلا عقب لهم, وأما عرف فيقال لهم: الوقعة3.
وأما صعصعة بن معاوية، فولده عامر ومرة وغاضرة ومازن ووائلة. فأما بنو مرة فيعرفون بـ"بني سلول". وأما عامر بن صعصعة، فولده هلال بن عامر، وسواءة بن عامر, ونمير بن عامر، وهي جمرة من جمرات العرب, وربيعة بن عامر، وولده بنو مجد وينسبون إلى أمهم, وهم عامر بن ربيعة، وكلاب بن ربيعة، وكعب بن ربيعة. فأما عامر بن ربيعة، فمن ولده عمرو بن عامر فارس الضحياء، وبنو البكا بن عامر. وأما كلاب بن ربيعة، فمن ولده جعفر، ومعاوية، وربيعة، وأبو بكر، وعمرو، والوحيد، ورواس،
__________
1 المعارف "ص38".
2 المعارف "ص38".
3 المعارف "ص39".(2/56)
والأضبط، وعبد الله. وأما معاوية بن كلاب، فمنهم الضباب، وهم حسل وحسيل وضب1.
وأما عمرو بن كلاب، فمنهم بنو دودان. وأما أبو بكر بن كلاب، فمن ولده القرطات: قرط وقريط ومقرط. وأما كعب بن ربيعة، فمن ولده عقيل وقشير والحريش وجعدة وعبد الله وحبيب. وأما عبد الله، فمن ولده بنو العجلان. وأما قشير بن كعب، فمنهم غطيف وغطفان، ومنهم مالك ذو الرقيبة، ومنهم بنو ضمرة. وأما عقيل بن كعب، فمنهم خفاجة، ومنهم الخلفاء، ومنهم الأخيل2.
وأما منبه بن هوازن بن منصور، فولده قسي، وهو ثقيف, فولد ثقيف جشم وعوفا والمسك، فتزوج قاسطٌ المسك، فولدت وائلًا أبا بكر بن وائل. وأما جشم، فولد حطيطا، فولد حطيط مالكا وغاضرة. وأما عوف، فهم الأحلاف؛ وذلك أنهم تحالفوا على بني مالك وصارت غاضرة مع الأحلاف، فثقيف فرقتان: بنو مالك والأحلاف3.
هذا وإننا لنجد بعض النسابين ينسبون ثقيفا إلى "ثمود"، فيقولون: إنهم من بقاياهم، وهو نسب لا يرضى عنه الثقفيون بالطبع، ويزعجهم أن يكونوا من قوم هلكوا بسبب غضب الله عليهم4. ومنهم من جعل نسبهم في إياد, ومنهم من جعل نسبهم من "أبي رغال" إلى غير ذلك من أقوال، يظهر أنها ظهرت في الإسلام كرهًا للحجاج ين يوسف، أحد بني ثقيف، المشهور بتعسفه وبظلمه. وقد قيل: إن قيسًا، وهو اسم "ثقيف" هو من القسوة، وكان غليظا قاسيا5, ولا أظن أن هذا التفسير هو مما يرضي الثقفيين.
وأما ربيعة بن نزار بن معد، فولد أسد بن ربيعة وضبيعة بن ربيعة وأكلب بن ربيعة. فأما أكلب بن ربيعة، فهم في خثعم, وهم بطون كثيرة تنسب إلى خثعم. وأما ضبيعة بن ربيعة، فولد أحمس، والحارث، والقلادة، وأما
__________
1 المعارف "ص39".
2 المعارف "ص40".
3 المعارف "ص41".
4 ابن خلدون "2/ 24".
5 الاشتقاق "2/ 183"، الأغاني "14/ 220"، المبرد، الكامل "1/ 276"، الإنباه "89"، البلاذري، أنساب "1/ 25".(2/57)
أسد بن ربيعة، فولد جديلة وعنزة وعميرة. فأما عميرة، فهم في عبد القيس, وأما عنزة، فاسمه عامر, وأما جديلة، فولد دعميًّا وولد دعمي أفصى، فولد أفصى هنبًا وعبد القيس, فولد عبد القيس اللبو وأفصى, وولد أفصى شنا ولكيزا. فمن شن الديل بن شن, وولده سعد وجذيمة وعامر وحبيب, ومنهم بنو بهثة بن جذيمة بن الديل بن شن. وأما لكيز، فولد نكرة وصباحًا ووديعة. فأما نكرة، فهم حلفاء جذيمة، ومنهم هنبة بن نكرة، وهم أهل البحرين1. وفيهم العدد والشرف، ومنهم المثقب العبدي الشاعر والممزق الشاعر والمفضل بن عامر الشاعر وصاحب القصيدة المنصفة. وبعمان قوم من نكرة، وباليمن قوم منهم.
وأما وديعة، فولده عمرو وغنم ودهن. فأما دهن، فهم وائلة، نسبوا إلى أمهم, وأما غنم، فولد عمرو بن غنم وعوف بن غنم. وأما عمرو بن وديعة فولده أنمار وعجل ومحارب والديل والعوق وامرؤ القيس. فمن ولد الديل أهل عمان, وأما العوق، فمنهم العوقة، وهم عمانيون قليل. وأما أنمار، فمنهم عصر، ومنهم ظفر، وأما محارب، فولد حطمة وظفرًا أبا محارب2.
وأما هنب بن أفصى، فولد قاسط بن هنب وعمرو بن هنب وخندف بن هنب. وأما عمرو فمنهم عتيب، وهم بنو شيبان. وأما قاسط، فولد عمرو بن قاسط والنمر بن قاسط ووائل بن قاسط. أمهم المسك بنت ثقيف.
وأما النمر بن قاسط، فولد تيم الله وأوس الله وعائد الله وأمهم هند بنت تيم بن مر وإخوتهم لأمهم بكر وتغلب، وأخوهم لأمهم أيضا اللبو بن عبد القيس. فأما تيم الله، فولد الخزرج والحريث, وولد الخزرج سعدًا. وأما وائل بن قاسط، فولد بكر بن وائل وتغلب بن وائل وعنز بن وائل, أمهم هند بنت تميم بن مر. فأما عنز بن وائل، فأولد أراشة ورفيدة, فمن أراشة أشجع وغضاضة3.
وأما تغلب بن وائل، فولد غنم بن تغلب والأوس بن تغلب وعمران بن تغلب. فأما غنم بن تغلب، فمنهم معاوية بن عمرو بن غنم, ومنهم الأراقم،
__________
1 المعارف "ص41 فما بعدها".
2 المعارف "ص 42".
3 المعارف "ص42".(2/58)
وهم: جشم، ومالك، وعمرو، وثعلبة، والحث، ومعاوية بنو بكر بن حبيب بن عمرو. ومن بني تغلب عكب, ومنهم بنو عدي بن أسامة، ومنهم بنو كنانة يقال لهم: قريش تغلب, وهم بنو عكب, ومنهم جشم بن بكر، ومن بني جشم بنو الحارث بن زهير، رهط كليب بن ربيعة، ومن بني زهير بنو عتاب.
وولد بكر بن وائل علي بن بكر، ويشكر بن بكر، وبدن بن بكر، أمهم هند بنت تميم بن مر. ويقال لها أم القبائل. فأما يشكر، فولد كعبا وكنانة وحربا, وفي كعب العدد والشرف. فمن ولد كعب حبيب والعتيك، ومنهم بنو غنم بن حبيب وثعلبة وجشم وعدي بن جشم1.
وأما علي بن بكر، فولده صعب, وولد صعب لُجيمًا وعُكابة ومالكًا. فأما مالك، فمنهم بنو زمان وعددهم في بني حنيفة, وأما لجيم، فولد عجلا وحنيفة, فأما عجل، فولده ربيعة وضبيعة وسعد وكعب, فأما كعب وضبيعة فقليل.
وأما حنيفة بن لجيم، فولده: الدول وعدي وعامر وعبد مناة. فأما عبد مناة فهم قليل, وأما الدول فمنهم بنو هفان.
وولد عكابة بن صعب قيسًا وثعلبة. فأما قيس، فقليل، وعددهم في بني ذهل. وأما ثعلبة بن عكابة، فيقال له الحصن, وولد ثعلبة ذهلًا وشيبان وقيسًا وتيم الله وأتيدًا وضنة. فأما ضنة، فلحقت باليمن فصارت في بني عذرة, وأما أتيد، فهي في بني شيبان, وأما تيم الله بن ثعلبة، فهم اللهازم، وهم حلفاء بني عجل. فولد تيم الله مالكا والحارث وعامرا وهلالا وذهلا وزمانا وحاطمة، فهؤلاء يقال لهم الأحلاف، إلا الحارث وعامرًا ومالكًا، وسمي أولئك أحلافا لأنهم تحالفوا على هؤلاء2.
وأما قيس بن ثعلبة، فولد ضبيعة وتيمًا وسعدًا, وفي ضبيعة العدد. وأما تيم بن قيس وسعد بن قيس فهما الحرقتان. وأما ذهل بن ثعلبة بن عكابة، فولد شيبان وعامرًا. فأما عامر، فيقال لها الوخم. وأما شيبان، فولده سدوس وفيه العدد، وعمرو ومازن وعلباء وعامر وزيد مناة.
__________
1 المعارف "ص43".
2 المعارف "ص44".(2/59)
فأما علباء، فهم قليل, وأما شيبان بن ثعلبة بن عكابة، فولده: ذهل، وتيم، وثعلبة، وعوف. فأما عوف، فلا عقب له. وأما ذهل بن شيبان، فولد مرة بن ذهل، وربيعة، ومحلمًا، والحارث، وعبد غنم، وعوفا، وصبحا, وشيبان، وعمرو وأمه جذرة، وهم يدعون بني الجذرة، وهم قليل1.
والأنساب التي دونتها ورتبتها، لا تعني أنها أنساب كاملة، كل شجرة منها بأغصانها وأوراقها، لم أترك نسبًا، ولم أهمل اسمًا, بل هي خلاصة الأنساب، أخذتها كما رويت في كتاب "الإكليل" للهمداني وفي كتاب "المعارف" لابن قتيبة. وقد ترك ابن قتيبة أسماء قبائل وبطون وأفخاذ؛ لأنها لم تكن مثل المذكورين في الشهرة، وبين "ابن قتيبة" وغيره من النسابين اختلاف كبير في عرض الأنساب وترتيبها. ولما كان عملي هو وضع مخطط عام في النسب لا غير، فقد رأيت الاكتفاء بهذا الرسم الأولي، وترك التفصيلات ومواطن الخلاف إلى الراغبين في دراسة النسب المتعشقين له؛ ليراجعوا الكتب الخاصة بها. وغايتي من هذا المخطط، هو تقديم جريدة صغيرة إلى القارئ بأسماء قبائل عدنان وقحطان؛ ليقف عليها، فعلى هذه المعرفة يتوقف فهم كثير من الأحداث.
__________
1 المعارف "ص45".(2/60)
الفصل العاشر: أثر التوراة
مدخل
...
الفصل العاشر: أثر التوراة
لهذا المدون في التوراة عن الإسماعيليين والقحطانيين، وعن نوح وأولاده، وعن الأنساب الأخرى، أثر ظاهر على عمل أهل الأخبار والأنساب الذين اشتغلوا بموضوع النسب في الإسلام، بل يظهر أن أثره كان فعالًا ومؤثرًا حتى في الجاهليين؛ وذلك لاتصالهم واختلاطهم بأهل الكتاب.
وكان لِما جاء في القرآن الكريم مجملًا من أمر آدم ونوح والطوفان وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل وغيرهم، وما جاء فيه من أمر عاد وثمود وقوم صالح وأصحاب الأيكة وقوم تُبَّع، أثر كبير أيضا في أهل الأخبار والتفسير حملهم على البحث عنهم, والتفتيش عن أخبارهم من الأحياء المسنين الذين كانوا يقصون على جيلهم قصص الماضين وأخبار العرب المتقدمين، ومن أهل الكتاب الذين كان لهم إلمام بما جاء في التوراة من الرسل والأنبياء والأمم القديمة والأنساب.
ويمكن حصر الروايات الواردة في الأنساب، والمأخوذة من أهل الكتاب وإرجاعها إلى الطرق الأصلية التي وردت منها وإلى الأماكن التي ظهرت فيها، وسنجد بعد البحث أن أكثر رواة هذا النوع من الأخبار كانوا قد استقوا من معين واحد, هم مسلمة أهل الكتاب، مثل: كعب الأحبار, ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، ومحمد بن كعب القرظي، ورجل من أهل تدمر عرف(2/61)
بـ" أبي يعقوب" كان يهوديا فأسلم, وقد زود "ابن الكلبي" وغير ابن الكلبي بقسط من هذه الأسماء التي يستعملها النسابون في الأنساب. وكان "محمد بن إسحاق" صاحب السيرة يعتمد على أهل الكتاب، ويكثر الرواية عنهم ويسميهم أهل العلم الأول1.
وقد استغل نفر من أهل الكتاب حاجة المسلمين هذه إلى الوقوف على "البدء"2 أي: مبدأ الخلق والتكوين، وقصص الرسل والأنبياء، وكيفية توزع البشر، فأخذوا يفتعلون ويضعون ويصنعون على التوراة والكتب اليهودية المقدسة، يبيعونه لهم أو يتقربون به إليهم، ادعاءً للعلم والفهم. قال الطبري: "كان ناس من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم يبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله ليأخذوا به ثمنا قليلا"3.
أما ما ذكروه من أن "أبا يعقوب" التدمري وجد في كتاب "بورخ بن ناريا" "كاتب إرميا"، نسب "معد بن عدنان" فإنه كذب وتلفيق، فليس في كتاب "بورخ" شيء من هذا النسب. وكتابه من جملة أسفار "الأبوكريفا" في نظر "البروتستانت"4، وهو مترجم إلى العربية ومطبوع مع أسفار التوراة الأخرى، في الترجمة "الكاثوليكية"، وقد قرأناه فلم نجد فيه شيئا من هذا الذي يذكره اليهودي الذي دخل في الإسلام وليس لـ"بورخ" كتاب آخر فنقول:
__________
1 الفهرست "ص136"، "عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض أهل العلم من أهل الكتاب"، الإكليل "1/ 31".
2 "وفي كتاب البدء، ونقله ابن سعيد"، قيل للكتب التي تبحث في الخلق وبدء التكوين والأنبياء "كتب البدء"، قال المسعودي: "وما ذكره أهل التاريخ والمصنفون لكتب البدء، كوهب بن منبه وابن إسحاق وغيرهما ... " مروج "1/ 320" ابن خلدون "2/ 18، 34".
3 "وكان رجل من أهل تدمر يكنى أبا يعقوب من مسلمة بني إسرائيل, قد قرأ من كتبهم وعلم علمهم، فذكر أن بورخ بن ناديا كاتب إرميا أثبت نسب معد بن عدنان عنده ووضعه في كتبه، وأنه معروف عند أحبار أهل الكتاب وعلمائهم مثبت في أسفارهم، وهو مقارب لهذه الأسماء، ولعل خلاف ما بينهم من قبل اللغة؛ لأن هذه الأسماء ترجمت من العبرانية"، الطبقات "جـ1، ق1، ص29"، تفسير الطبري "1/ 300"، "3/ 231".
Nallino, raccolta, vol. 3, p. 120, sprenger, mohammad, vol. 3, p. cxxxiii, goldziher, muh. Stud. Bd. I, s. 178, muir, life of mihamet, cvii, bate, p. 117
4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 205".(2/62)
إنه وجده فيه، ولا يعقل أن يكون كتاب "بورخ" الذي قرأه نسخة خاصة لم توجد عند غيره من الناس، حتى نحسن الظن به. وكل ما نجده في سفر "بورخ" مما قد يكون له علاقة بالعرب هو هذه الكلمات: "لم يسمع به في كنعان ولا تروى في تيمان، وبنو هاجر أيضا المبتغون للتعقل على الأرض وتجار مران وتيمان وقائلو الأمثال ومبتغو التعقل، لم يعرفوا طريق الحكمة ولم يذكروا سبلها"1. وليس في هذه الكلمات -كما نرى- شيء ما له صلة بنسب "معد بن عدنان".
فكنعان كناية عن الكنعانيين، وليست لهم صلة بمعد أو بعدنان. وأما "تيمان" فكناية عن أرض كانت في الجنوب الشرقي من "أدوم"، وهي أرض "أبناء الشرق"، وقد نسبت التوراة التيمانيين إلى "اليفاز بن عيسو"2، ونسبت إليهم الحكمة3, وليست لهم علاقة أيضا بأبناء معد ولا بعدنان.
وأما "بنو هاجر" "الهاجريون" "Hagrites" فإنهم شعب سكن شرق أرض "جلعاد"، وقد اختلف علماء التوراة في أصله، فمنهم من عده قبيلة عربية، ومنهم من عده من الآراميين، ومنهم من رأى أنهم "الإسماعيليون". وقد ذكر الهاجريون مع أقوام من الآراميين في كتابة أخبار انتصارات "تغلا تبليسر الثالث" "Tiglath-Pileser III". وهكذا وجدنا أنفسنا عاجزين حتى في هذا الموضع من سفر "باروخ" من العثور عن أية صلة للكلمات المذكورة بنسب "معد بن عدنان".
ويروي رواة الشعر وأهل الأخبار شعرًا لعدي بن زيد العبادي ولأمية بن أبي الصلت ولنفر آخر من الشعراء في أحداث وأمور توراتية. وهذه الأشعار إن صح أنها لهم حقا، دلت على وقوف أولئك الشعراء على التوراة, أو على بعض أسفارها، أو على قصص منها. أما عدي بن زيد، فلا أستبعد وقوفه على التوراة، فقد كان نصرانيًّا قارئًا كاتبًا بالفارسية والعربية، وربما كان كاتبًا بلغة بني إرم كذلك، لغة المثقفين في العراق يومئذ. وقد كان هو نفسه من
__________
1 نبوءة باروك، الإصحاح الثالث، الآية 22 وما بعدها.
2 التكوين، الإصحاح 36، الآية 11، قاموس الكتاب المقدس "1/ 296 وما بعدها".
3 إرميا, الإصحاح 49، الآية 7 وما بعدها.(2/63)
المثقفين ثقافة عالية بالقياس إلى زمانه، وفي شعره زهد وتصوف وتدين وتأمل وتفكر، فلا يستبعد إذًا أخذه من التوراة ومن الأناجيل. وقد أورد "الهمداني" له أبياتًا في قصة آدم وحواء والجنة والحيّة1, وهي أبيات فيها ركة وضعف، ولكنها منتزعة من "سفر التكوين" من التوراة أخذت منه2. وهي إن كانت من شعره ومن نظمه حقا، كانت أقدم شعر يصل إلينا في نظم بعض قصص التوراة بلغة عربية.
وأما "أمية بن أبي الصلت" فقد كان واقفا على كتب اليهود والنصارى كما يذكر أهل الأخبار، قارئا لكتب الديانتين، مطلعا على العبرانية أو السريانية أو على اللغتين معًا، إن كان واقفا أي حائرا بين الديانتين، فلم يدخل في أمية ديانة منهما، وإنما كان من الأحناف على حد تعبير أهل الأخبار؛ لذلك لا يستبعد وقوفه على قصص توراتي وإنجيلي، وعلى الاستفادة منه في الشعر. ونجد في شعره ألفاظا غريبة، يذكر أهل الأخبار أنه أخدها من لغات أهل الكتاب، فوضعها في شعره، وشعره كما قلت في مواضع من هذا الكتاب يستحق من هذه الناحية الدرس والنقد، لنرى إلى أية درجة من الحق والصدق تصل دعاوى أهل الأخبار في شعر أمية، وفي نسبته إليه. وهو إن ثبت أنه له، كان أيضا دليلًا على وقوف المثقفين من الجاهليين على كتب أهل الكتاب، وشيوعه في الحجاز، وكان أيضا دليلا على نظم بعض الشعراء لحوادث التوراة والإنجيل في شعرهم في ذلك العهد.
ونجد في شعر "أمية بن أبي الصلت" وأمثاله من المتصلين بأهل الكتاب القارئين لكتبهم كما يذكر أهل الأخبار، فائدة كبيرة لنا في تكوين رأي عام عن وقوف العرب على الآراء التوراتية في الجاهلية، وفي جملة ذلك أنساب التوراة. وفي الشعر المنسوب إلى "أمية" آراء مستمدة من التوراة، مثل شعره في "نوح" وفي قصة "الطوفان" والغراب والحمامة وبقية حكاية الطوفان إلى زواله، فإنه إن صح دل على وقوف "أمية" على خبر قصة "الطوفان" الواردة في السفر السادس فما بعده من التكوين. فإن ما جاء في هذا الشعر هو اقتباس
__________
1 الإكليل "1/ 29 وما بعدها".
2 الإصحاح الثاني وما بعده.(2/64)
لما ورد في تلك الأسفار1. ونجد له أشعارًا أخرى إن صحت نسبتها إليه، دلت على أنه كان على اتصال بأهل الكتاب، وعلى أخذٍ منهم. ولعله كان يغرف من قصصهم الذي كان يشرح للناس ما جاء في التوراة، أو أنه كان يراجع ترجمات للتوراة كانت بعربية أهل الكتاب في ذلك العهد، أو يسمع منهم ترجمة التوراة سماعًا فوقف على بعض ما جاء فيها، وفي جملة ذلك هذا القصص، وربما الأنساب المتعلقة بالعرب كذلك.
وحكاية "أمية" عن الطوفان أقرب إلى التوراة من حكاية "الأعشى" أبي بصير ميمون بن قيس، عن الطوفان, وذلك إن صح أن ذلك الشعر من نظمه حقا؛ فإن العناصر التوراتية فيه ليست بارزة واضحة وضوحها في شعر أمية. ويظهر من بعض الجمل الواردة في شعر الأعشى عن الطوفان, مثل:
ونادى ابنه نوح وكان بمعزل ... ألا اركب معي واترك مصاحبة الكبر
فقال:
سآوي نحو أعيط مشرف ... بطول شنان السماء ذي مسلك وعر2
ومثل:
ونجا لنوح في السفينة أهله ... ملاحكة الألواح معطوفة الدسر
فلما استوت من أربعين تجرمت ... تناهت على الجودي أرست فما تجري3
ومن مضمون القصة نفسها، أن المنبع الذي استقى منه الشاعر "الطوفان" هو القرآن الكريم، ومن يراجع الآيات المنزلة عن "نوح" وعن الطوفان وعن ابنه، وكيف امتنع عن الركوب معه بالرغم من إلحاح نوح عليه، يجزم أن الشاعر المذكور قد أخذ الطوفان من القرآن الكريم ومن موارد إسلامية، واستعمل ألفاظا وتراكيب وردت في كتاب الله، ولم ترد في التوراة.
__________
1 راجع التكوين، الإصحاح السادس فما بعده، الإكليل "1/ 18 وما بعدها".
2 "الكبر" هكذا ضبطت في الإكليل "1/ 52"، وارى أن لفظة الكفر أنسب إلى المعنى من هذه اللفظة.
3 الإكليل "1/ 52".(2/65)
وإني أشك في كون هذا الشعر من شعر "الأعشى"؛ فالأعشى رجل لم يسلم وإن أدرك أيام الرسول، كان قد قصد الرسول، ونظم قصيدة في مدحه، ولكن قريشًا أثَّرت عليه، وحالت بينه وبين الوصول إلى الرسول، وعاد إلى "منفوحة" بلدته، فمات بها دون أن يسلم. والرأي عندي أن تلك الأبيات هي من صنع مسلم، وضعها على لسانه.
ولا يعني شكِّي في صحة نسبة هذه الأبيات إلى الأعشى، أن الأعشى كان بعيدًا عن آراء ومعتقدات أهل الكتاب، غير واقف على أخبارهم وعقائدهم, فقد كان الأعشى جوّالا جوّابا زار العراق وبلاد الشام، اتصل بقبائل نصرانية، وجالس اليهود والفرس والروم، ووردت في أشعاره ألفاظ من ألفاظ الحضارة الأعجمية، كما وردت فيها أفكار تدل على وقوف على آراء وأفكار دينية وخواطر فلسفية, فرجل مثل هذا لا يستبعد وقوفه على قصص يهودي ونصراني وعلى آراء دينية لأهل الكتاب. وللحكم على مقدار فهمه لها يمكن بالطبع دراسة ما ورد في الشعر على لسانه، ومطابقته بما نعرفه من آراء القوم؛ لنقف على درجة صلة ما جاء في شعر الأعشى من آراء ومعتقدات بآراء أهل الكتاب ومعتقداتهم.
أما الأماكن التي ظهرت فيها هذه الروايات الإسرائيلية، فهي: اليمن، والمدينة، والعراق, ومن العراق الكوفة بصورة خاصة. وقد كان في كل هذه المواضع رجال من أهل الكتاب موَّنوا أهل الأخبار بما كانوا يرغبون في معرفته، ولم يكن هؤلاء على قدر واحد في المعرفة والفهم، والظاهر أن منهم من لم يكن له إلمام بالتوراة ولا بالتلمود وغيرهما من الكتب، وإنما أخذ ذلك من أهل النظر منهم، أو كما وصل إليه من أهله وحاشيته؛ ولذلك اضطرب الأخباريون في بعض الأحيان في رواية خبر واحد، كما اختلفوا في ضبط الأسماء. وقد علل ابن خلدون اختلافهم في ضبط الأسماء بقوله: "واعلم أن الخلاف الذي في ضبط الأسماء إنما عرض في مخارج الحروف، فإن هذه الأسماء إنما أخذها العرب من أهل التوراة, ومخارج الحروف في لغتهم غير مخارجها في لغة العرب. فإذا وقع الحرف متوسطًا بين حرفين من لغة العرب، فترده العرب تارة إلى هذا وتارة إلى هذا, وكذلك إشباع الحركات قد تحذفه العرب إذا نقلت كلام العجم، فمن هاهنا اختلف الضبط في هذه الأسماء"1.
__________
1 ابن خلدون "2/ 5".(2/66)
والحق هو أن هذا الخطأ لم يقع في ضبط الأسماء فقط، بل وقع في أمور جوهرية أخرى ترينا جهل بعض الرواة بجدول الأنساب، وترينا الخلط أحيانا بين الروايات الإسرائيلية والروايات الإيرانية حتى تكوَّن من هذا المجموع المدون في الكتب الإسلامية عن الأنساب خليط من روايات إسرائيلية وروايات فارسية وقصص شعبي عربي، يجوز أن نضيف إليه عنصرًا آخر هو الوضع، فقد وضع الرواة شيئا من عندهم حين عجزوا عن الحصول عليه من الموارد الثلاثة المذكورة، وكان لا بد لهم من سد تلك الثُّغَر، فسدوها بما جادت به قرائحهم من شعر ونثر. ومن هذا القبيل، ما أدخلوه على التوراة أيضا من أنسابٍ زعموا أنها وردت في التوراة، وليس لها في الواقع وجود فيها.
خذ آدم، فقد صيره الأخباريون "كيومرث"1 وهو من الفرس، وخذ نوحًا تَرَ أنه صار "أفريدون" عند أهل الأخبار وهو من الفرس أيضا2، وجعلوا "لاوذ" ابنًا من أبناء إرم من سام أخي عوص وكاثر3، مع أنه "لود" في التوراة، وهو شقيق إرم بن سام ووالد عوص وجاثر4، وقالوا أشياء أخرى لا وجود لها في التوراة.
أما متى دخلت أنساب التوراة إلى العرب، ومتى ظهرت وشاعت بينهم، فنحن لا نستطيع أن نحدد ذلك على وجه مضبوط بالقياس إلى أيام الجاهلية. ولكننا نستطيع أن نقول: إنها كانت قد تسربت إلى الجاهليين من اليهود، وذلك بوجودهم في الجزيرة العربية واتصالهم بالعرب، وقد يكون من النصارى أيضا، وقد تفشت في أماكن من جزيرة العرب وبين بعض القبائل، وإن هؤلاء أي: أهل الكتاب, هم الذين أشاعوا بين الجاهليين هذه الأنساب. وقد تكون لليهود يد في إشاعة خبر رابطة النسب وأواصر القربى التي تربط بينهم وبين العرب؛ وذلك للتأثير عليهم وللتقرب منهم، وللسكن بينهم بهدوء وسلام.
ونستطيع أن نقول جازمين: إن هذا القصص الإسرائيلي، وهذه الأنساب التي يرويها أهل الأخبار، لم تكن كثيرة الشيوع بين الجاهليين، وإنما هي شاعت
__________
1 ابن خلدون "2/ 5".
2 ابن خلدون "2/ 6".
3 ابن خلدون "2/ 7".
4 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 22، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 17، Hastings, P. 557.(2/67)
وراجت في الإسلام؛ وذلك للأسباب المذكورة، ومروجوها وناشروها هم زمرة تحدثت عنهم في مواضع متعددة من هذا الكتاب.
ونحن لا يهمنا هنا من الأنساب الواردة في التوراة إلا الأنساب المتعلقة بالعرب وبالشعوب العربية، ومعنى هذه الأنساب الخاصة بذرية "سام" و"كوش", ويهمنا من ذرية "سام" ذرية "إرم" و"لود" و"أرفخشذ"، حيث ألحق النسابون بهؤلاء قبائل العرب. أما أشور و"عيلام"، وهما بقية أبناء "سام"، فليس لذريتهم علاقة بالعرب، فليس لنا كلام عنهم في هذا المكان.
وأولاد سام في التوراة، هم خمسة: "عيلام"، و"أشور"، و"أرفكشاد"، و"لود"، و"أرام"1. وقد ضبط الأخباريون الأسماء على هذه الصورة: "أشوذ"، و"أرفخشذ"، و"عليم" "عويلم" "عيلم"، و"لاوذ" و"إرم"2, وأضافوا إليهم "عابرًا"، فصيروه أخًا للمذكورين وابنًا من أبناء "سام". أما في التوراة فإن عابرًا هو حفيدُ حفيدِ "سام"، وليس بابن له، وقد سِيقَ نسبه فيها على هذه الصورة: "عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام", وكان إبراهيم هو السابع من أعقابه3.
ونجد الطبري يروي في مكان من تأريخه, أن أولاد سام هم: "أرفخشذ بن سام، وأشوذ بن سام، ولاوذ بن سام، وعويلم بن سام"4، فهم أربعة. وقال بعد اسم "عويلم بن سام" مباشرة: "وكان لسام إرم بن سام"5 مما يدل على أن المورد الذي نقل منه الطبري روايته لم يكن على علم تام بخبر أم "إرم"، ويؤيد هذا الاستنتاج قوله: "قال: ولا أدري إرم لأم أرفخشذ وإخوته أم لا؟ 6". وقد قال هذا المورد: إن أم أبناء سام المذكورين هي:
__________
1 التكوين: الإصحاح العاشر، الآية 22، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 17.
2 ويرد إرم في بعض الكتب: أرام وأرم، الطبري "1/ 103"، ابن خلدون "2/ 7"، الكامل، لابن الأثير "1/ 31"، التيجان "25".
3 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 21، 25، والإصحاح الحادي عشر، الآية 14 فما بعدها، وأخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول الآية 19.
4 الطبري "1/ 203" "دار المعارف".
5 المصدر نفسه.
6 كذلك.(2/68)
"صليب ابنة بتاويل بن محويل بن خنوخ بن قيس بن آدم1" فيكون عدد أولاد "سام" خمسة أيضا, وهو العدد المذكور في التوراة إلا أننا نرى تباينًا بين روايتي الطبري والتوراة في الترتيب وفي الضبط: ضبط الأسماء.
ونجد الطبري يروي في مكان آخر أن أولاد سام، هم: عابر، وعليم، وأشوذ، وأرفخشذ، ولاوذ، وإرم, وذكر أن من ولد "أرفخشذ" الأنبياء والرسل وخيار الناس والعرب كلها والفراعنة بمصر2. ويظهر من هذه الرواية أن ولد سام هم ستة، وقد نتج ذلك عن ضم "عابر" إلى ولد سام, وهو ضم مخالف لما جاء في التوراة. ولو رفعنا اسم "عابر" من الأسماء المذكورة، لصارت بقية الأسماء خمسة، وقد رتبت على وفق ما ورد في "سفر التكوين"؛ فـ"عليم" هو "عيلام"، و"أشوذ" هو "أشور"، و"أرفخشذ" هو "أرفكشاد"، و"لاوذ" هو "لود"، و"إرم" هو "أرام".
وليس في التوراة ذكر لأبناء "لود"، أي: "لاوذ" أهل الأخبار والأنساب, وكل ما فيها أن له نسلًا، وقد عرفوا بـ"اللوديين", وقد ذكروا مع "كوش" و"فوط" مما يبعث على الظن أنهم إفريقيون3. ولورود اسم جدهم "لود" مع "أشور" و"أرام" و"عيلام"، يرى علماء التوراة أن اللوديين الذين هم من نسل "لود بن سام" هم شعب من شعوب الشرق الأدنى, لا تبعد مواطنهم عن البابليين والآشوريين، وأنهم غير "اللوديين" الإفريقيين، اللوديين المنحدرين من صلب "مصرايم" أي: "مصر", المذكورين أيضا في التوراة4.
ولهذا فإن الأولاد الذين نسبهم أهل الأخبار إلى "لود"، "لاوذ"، وهم: طسم, وعمليق، وجرجان، وفارس على رواية، وجديس، وأميم، وعبد ضخم على رواية أخرى5، وأمثالهم ممن لم نذكر من الأولاد، هم هبة منحها
__________
1 الطبري "1/ 202 وما بعدها".
2 الطبري "1/ 205"، التيجان "25"، الكامل "1/ 31".
3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 299 فما بعدها"، إرميا، الإصحاح السادس والأربعون، الآية 9.
4 التكوين, الإصحاح العاشر، الآية 13، حزقيال، الإصحاح 27, الآية 10، الإصحاح 30، الآية 5، قاموس الكتاب المقدس، "2/ 299" Hasrtings, P. 557.
5 الطبري "1/ 103"، ابن خلدون "2/ 7".
Sprenger, in ZDMG., 17 "1863", S. 373.(2/69)
أهل الأخبار والأنساب لـ"لاوذ" لا نجد لها ذكرًا في التوراة.
إن "عمليقًا"، الذي هو جد العمالقة على رأي أهل الأخبار، وليس من نسل "لود" في التوراة، بل هو جد "أول الشعوب"1؛ لذلك يبدو تجاسر أهل الأخبار بمنح "لود" أولادًا عملًا غريبًا، والظاهر أن "ابن الكلبي" وإليه ترجع أكثر هذه الروايات، أو أحد من سألهم عنهم، اختاروا "لودًا" من بين أبناء "سام" فمنحوه أولئك الأولاد, وكان لا بد لهم من نسبتهم إلى أحد الأجداد المتقدمين القحطانيين؛ لأنهم أقدم منهم في نظرهم، فاختاروا لهم ذلك الأب.
أما "أرام"، وهو "إرم" عند أهل الأخبار، فقد أولد أولادًا على ما جاء في التوراة، وهم: "عوص" "UZ"، و"جاثر" "كاثر" "غاثر" "Gether"، و"حويل" "حول" "Hul"، و"ماش" 2Mash. وقد ذكروا في موضع من التوراة أنهم أبناء "سام"3؛ وذلك جريًا على طريقة العبرانيين في حذف اسم الأب أحيانا، وإلحاق الحفدة بالجد مباشرة4.
وقد عرف أهل الأخبار هذه الأسماء5, إلا أنهم قدموا وأخروا فيها كما حرفوا فيها بعض التحريف، وقد اختار أهل الأخبار "عوصًا"، فجعلوا له أولادًا هم: عاد، وعبيل6، وغاثر بن عوص، واختاروا "جاثرًا" فجعلوا له "ثمودًا"7 و"جديسًا"8. وقالوا عنهم: "وكانوا قومًا عربًا يتكلمون بهذا
__________
1 العدد، الإصحاح 24، الآية 20، قاموس الكتاب المقدس، "2/ 112".
2 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 23.
3 أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 17.
4 "ولا يستغرب ذلك؛ لأن من عوائد العبرانيين في جدول أنسابهم أنه كثيرًا ما ينزلون الحفدة وأولادهم منزلة الأولاد من الجيل الأول"، قاموس الكتاب المقدس "2/ 126".
5 سفر التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 23.
6 الطبري "1/ 204، 207"، الكامل "1/ 31"، مروج "1/ 24" "1/ 31" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
7 الطبري "1/ 103"، "1/ 207" "دار المعارف"، مروج "1/ 31" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
8 الطبري "1/ 204، 207" "دار المعارف".(2/70)
اللسان المضري"1, ولا نجد في التوراة ولا في اليهوديات ذكرًا لهؤلاء الأولاد الذين منحهم أهل الأخبار "عوصًا" أو "غاثرًا" "جاثرًا". إذن فالنسب المذكور هو من صنع الأخباريين.
و"أرام" هو جد "بني إرم" أي: "الآراميين", وهم قوم معروفون فلا حاجة إلى التحدث عنهم. وأما "عوص" فهو جد "العوصيين"، سكان أرض "عوص" موطن "أيوب" "Job"، إلا أن العلماء لم يتفقوا في تعيين مكانه2؛ فذهب بعضهم إلى أنه "دمشق" و"اللجاء" "اللجاة" مستندين في ذلك إلى رواية "يوسيفوس"، وذهب آخرون إلى أنه "أورفا" على الفرات3, ورأى بعض أنه في "نجد"4، وذهب بعض آخر إلى أنه "أدوم" أو العربية الشمالية5، ورأى "كلاسر" أنه في شمال غرب "المدينة"6، ورأى غيره أنه في مكان ما من جزيرة العرب أو من بادية الشام7.
وقد استدل بعض الباحثين من سفر "أيوب" ومما ورد عنه ومن اسمه, على أنه كان عربيًّا، عاش بين العبرانيين، أو أن بعضهم اختلط به، فدون أخباره وقصصه8. وقد أمدت كتب "الهكادة" "Haggadah" و"التلمود" و"المدارش" اليهود وأهل الأخبار بقصص عنه وعن أصدقائه الخلص الذين لازموه9.
نرى مما تقدم أن الأخباريين قد ربطوا نسب العرب البائدة أي: العرب الأولى بالإرميين "الآراميين" وباللوديين "اللاوذيين" وبالعوصيين وبالجاثريين "الغاثريين", ولا نجد في كتبهم الأسباب التي حملتهم على إرجاع أنساب هؤلاء العرب إلى هؤلاء الآباء. ويظهر أن فكرة وجود عرب أولى عاشت قبل القحطانيين والعدنانيين،
__________
1 الطبري "1/ 204".
2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 126".
Enc. Bibli. P. 5238, hastings, p. 956, musil, hegaz, p. 248.
3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 126" josephus, ant. I, VI, 4.
4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 126".
5 hastings, p. 956.
6 hastings, p. 956.
7 hastings, p. 956, enc. Bibli. P. 5238.
8margoliouth, the relations, p. 31. f.
9 "الطبعة الجديدة" Enc., I, P. 795.(2/71)
جعلت أهل الأخبار يبحثون عن آباء لهم، يكونون أقدم عهدًا من "قحطان" ومن "عدنان"، فنسبوا أولئك العرب إلى "لود" و"أرام" ابني سام، وإلى "عوص" و"جاثر" ابني "أرام"، وهم أقدم عهدًا من جدي القحطانيين والعدنانيين.
أما أثر التوراة على النسابين وأهل الأخبار بالنسبة إلى الطبقة الثانية من العرب، الطبقة التي دعاها العرب العاربة، والعرب القحطانيين، فقد ذكرت في الفصل الخاص بهؤلاء العرب أن "قحطان" جد القحطانيين، هو "يقطان" في التوراة, وقد نسبه أكثر أهل الأخبار إلى "عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"1. وصيره بعضهم ابنًا من أبناء سام. وقد ذكرت أن النسب الثاني نسب مغلوط، وأن نسبه المذكور في التوراة يجعله الابن الثاني الأصغر لـ"عابر". أما الولد البكر فهو "فالج"، فيكون العبرانيون واليقطانيون أبناء عم وفق هذا النسب.
وقد ذهب بعض الباحثين في التوراة إلى أن "يقطان" لا وجود له، وإنما ابتدع ابتداعًا لإيجاد صلة بين العرب والعبرانيين2.
وقد ذهب بعض الباحثين في التوراة إلى أن عابرًا جد قبيلة كبيرة, انقسمت على نفسها إلى قسمين: قسم بقي فيما بين النهرين، وهو القسم الذي عرف بذرية "فالج"، ومن هذه الذرية انحدر "العبرانيون"، وقسم ترك "ما بين النهرين" وارتحل إلى جزيرة العرب، وهو القسم الذي عرف بـ"يقطان"، ودليلهم على ذلك: أن معنى "فالج" هو "الانشقاق" و"الانقسام"، وأن في أيامه "قسمت الأرض" على رواية التوراة3, ومعنى ذلك انقسام ذرية "عابر"، وانشطارهم إلى شطرين.
وقد ذكر "الطبري" أن "بني يقطن" لحقت باليمن، فسُميت اليمن حيث تيامنوا4، ومصدر خبره هذا "ابن هشام"، وقد أخذ "ابن هشام" خبره هذا من أهل الكتاب ولا شك.
__________
1 "ويقطن: هو قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح" ابن سعد, الطبقات "جـ1، ق1، ص18 وما بعدها"، الطبري "1/ 207" دار المعارف
2 Hastings, P. 491.
3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 149"، التكوين، الإصحاح العاشر, الآية 25,
Hastings, P. 490, 697.
4 الطبري "1/ 209" "طبعة دار المعارف".(2/72)
ويشك بعض دراسي التوراة في كون "يقطان" المذكور هو "قحطان" الذي يذكره علماء الأنساب، ويرون أن نظرية من يجعل قحطان هو "يقطان"، نظرية لا تستند إلى أساس، وإنما وضعت على التشابه الموجود بين اللفظين، وهذا التشابه هو الذي دفع علماء الأنساب إلى اعتبار "قحطان" "يقطان"، فمن ثَمَّ صار "يقطان" جدًّا للعرب القحطانيين1. ولكنهم لا ينكرون مع ذلك أن "يقطان" التوراة، هو جد قبائل ذكرت التوراة أسماءها، وبعضها قبائل عربية معروفة، فلا يستبعد أن يكون "يقطان" على رأيهم كناية عن قبائل عربية لم يكن العبرانيون على علم بها تمام العلم2.
ولم ترد في القرآن الكريم لفظة "قحطان" أو "يقطان", ولم ترد كذلك في الكتابات الجاهلية, أما الشعر الجاهلي، فقد وردت فيه في مواضع الفخر والحماسة. وإذا وافقنا على أنها وردت في الجاهلية القريبة من الإسلام، فإن موافقتنا هذه لا تعني أن قدماء أهل الجاهلية البعيدين عن الإسلام كانوا على علم بـ"قحطان"، أو أن قومًا منهم كانوا ينتمون إليه وينتسبون بنسبه, فحكم مثل هذا لا بد أن يستند إلى كتابات وأدلة مقبولة؛ ولهذا رأى نفر من المستشرقين أن الأخباريين جاءوا بقحطانهم هذا من التوراة، من تأثرهم بأهل الكتاب، ومن مطالعتهم للتوراة، فحولوا النزاع الذي كان بين أهل اليمن وفيهم "سبأ"، والنزاع الذي كان بين أهل مكة وبين أهل مكة ويثرب التي ينتمي أهلها إلى اليمن, إلى نزاع بين جدين، وصار "قحطان" وليد "يقطان" "يقطن" جدًّا حقيقيًّا ليمن ولمن نسب نفسه إليهم من الأفراد والقبائل3.
وقد ورد في جغرافية "بطلميوس" اسم قريب من "قحطان" هو "كتنيتة" "كتانيتة" 4Katanitae، قد يكون دليلا على وجود أسماء عند الجاهليين قريبة من "قحطان". أما هذه التسمية، فإننا لا نستطيع أن نقول: إن لها علاقة بقحطان، فالتشابه في التسميات، لا يكون دليلا قاطعا على وحدة تلك
__________
1 Hastings, P. 491.
2 Hastings, P. 490.
3 Enc. Vol. 2, P., 629.
4 ptolemy, geogr, VI, 7, 20, glaser, skizze, bd., 2, s., 283, knobel die voelkerstafel der genesis, s. 185, the historical geography, vol. I, P. 80, o'leary, P. 18.(2/73)
التسميات. وقد ورد في الموارد العربية اسم قبيلة عرفت بـ"قطن" وبـ"بني قطن"، كما ورد اسم مكان عرف بـ"جوّ قطن"، واسم مدينة تدعى "قحطان"، تقع بين "زبيد" و"صنعاء"1. لهذا أرى أن من الخير لنا ألا نتخذ موقفا خاصا لا سلبا ولا إيجابا تجاه هذا الموضوع انتظارًا لاستكمال العدة, والحصول على مواد جديدة تكفي لإصدار حكم فيه.
أما بلاد "اليقطانيين"، على رأي التوراة، فتمتد من "ميشا" "Mesha" إلى "سفار" "2Sephar, ولم تذكر التوراة حدودًا جغرافية لها غير هذين الحدين. ولا يعرف العلماء عن موضع "ميشا" شيئًا, فذهبوا في تعيينه مذاهب؛ ذهب بعضهم إلى أنه "مسينة" أو "ميسان" "Mesene" على رأس الخليج العربي3، وذهب آخرون إلى أنه "موزح" أو "موسج" في نجد4، ورأى آخرون أنه "ماشو" "Meshu" أو "ماش" "Mash"، أي: بادية الشام في الكتابات الآشورية5.
وذهب "ديلمن" "Dillmann" إلى أن "ميشا"، تحريف "مسا" "Massa"، وهو اسم أحد أبناء إسماعيل، فتكون حدود "اليقطانيين" على رأيه بعد حدود أرض "مسا"، من قبائل الإسماعيليين مباشرة، غير أننا لا نستطيع مع ذلك من تعين الموضع6؛ لأننا لا نعلم أيضا أين كانت مواطن "مسا" من قبائل الإسماعيليين، فكيف نثبت هذه الحدود؟.
وأما الحد الآخر، وهو "سفار"، فهو الحد الجنوبي للبلاد "اليقطانيين"، وذلك بإجماع آراء علماء التوراة, ولكنهم يختلفون في تعيين الموضع فقط، فمنهم من رأى أنه "ظفار" عاصمة الحميريين، ومنهم من يرى أنه "ظفار" حضرموت التي اشتهرت شهرة واسعة في العالم القديم، وورد ذكرها في الكتب "الكلاسيكية"7,
__________
1 أحسن التقاسيم "3/ 83، 94"، "الطبعة الثانية".
Enc. Vol. 2, p. 629, glaser, skizze, 2. s. 288.
2 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 30.
3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 399"، Hastings, P. 606.
4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 399".
5 hastings, p., 607, delitzeh, wo lag?, s. 242.
6 التكوين، الإصحاح 25، الآية 14، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول, الآية 30,
Enc. Bibli, p. 3040.
7 Enc. Bibli. P. 4370, ritter, erdkunde, 14, 372, sprenger, alte geogr. S. 185, Skizze, 2, s. 437, hastings p. 836.(2/74)
ومن المرجح أن تكون هي الموضع المقصود؛ وذلك لشهرتها هذه ولقدمها.
وقد جعلت التوراة لـ"يقطان" أولادًا، عدتهم فيها ثلاثة عشر ولدًا، هم: الموداد، وشالف، وحضرموت، ورياح، وهدورام، وأوزال، ودقلة، وعوبال، وأبيمايل، وشبا، وأوفير، وحويلة، ويوباب1. وهذه الأسماء، هي أسماء قبائل وأمكنة، اعتدَّها كتبة التوراة على عادة ذلك العهد أسماء أعيان، وصيروها أسماء أولاد "يقطان".
ولا يعني هذا العدد، في نظري، أنه جميع القبائل العربية التي كانت تقيم في مواطن "اليقطانيين"، وإنما هو حاصل ما بلغ إليه علم كتبة تلك الأسفار في ذلك اليوم من أمر هذه القبائل، ولم تكن معارف أولئك الكتبة يومئذٍ أكثر من هذا الذي ذكروه ودونوه, على نحو ما وصل إلى علمهم ومسامعهم، فهو لهذا لا يمثل أيضا ترتيبا جغرافية للأماكن المذكورة ولا سردًا على نسق معين مضبوط2.
ونحن إذا أنعمنا النظر في هذه الأسماء نجد أنها قد كدست في منطقة ضيقة، هي اليمن وحضرموت, أما ما فوقها إلى "ميشا" نهاية الأرض اليقطانية في الشمال، فلم يذكر الكتبة من أسماء قبائلها شيئًا ما. وهو يدل على أنهم لم يكونوا يعرفون عن باطن جزيرة العرب شيئا، أو أن موضع "ميشا" في مكان آخر في غير هذا الموضع الذي تصوره علماء التوراة، كأن يكون في شمال اليمن مثلا، وبذلك يستقيم التحديد كل الاستقامة مع ما هو شائع معروف من أن أرض اليمن وبقية العربية الجنوبية, هي أصل موطن القحطانيين.
ويظهر أن كتبة النسب في التوراة لم يراعوا في عدهم أسماء أبناء يقطان الترتيب الجغرافي، أو قرب اليقطانيين وبعدهم عن العبرانيين, فهذا الترتيب، لا يشير -في الحقيقة- إلى أن الأسماء وضعت على أساس جغرافي. والظاهر أنها جمعت كما وصلت إلى مسامع العبرانيين من غير فحص أو تدقيق، كما أننا لا نستطيع أن نؤكد أنها وصلت صحيحة سالمة من غير تصحيف أو تحريف.
و"الموداد" "مودد" "المودد" "Al-Modad"، هو الابن البكر
__________
1 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 26 فما بعدها.
2 enc. Bibli. P. 2564, hasings, p., 490(2/75)
ليقطان على ما يفهم من التوراة, وهو رمز عن شعب من الشعوب اليقطانية، يرى نفر من علماء التوراة أن مواطنه في العربية الجنوبية, قد يكون في جنوب غربي جزيرة العرب1. وقد وردت في النصوص العربية الجنوبية وفي نصوص غير عربية كلمات قريبة من هذه الكلمة، مثل: "موددى" في البابلية، و"مودادو" "موددو" في البابلية أيضا وفي "الأمودية"2, ووردت لفظة "مودد" في كتابات "جبانية" "كبانية" "Gebanitae"، في نصوص تدل على تقرب ملوك "حبان" "جبن" "كبن" "جبان" من ملوك معين، وإلى سيادة "معين" على "الجبأنيين" في ذلك الحين, فورد "مودد ملك معين" بمعنى "المتودد لملك معين" و"المحب لملك معين". ويرى "كلاسر" أن هذه الجملة لا تعني "أحباء ملوك معين" وأصفياءهم، وإنما تحكي وظيفة لها علاقة بالإله "ود"، مثل كهانة الإله "ود" وسدانته, ومسكن هؤلاء "الجبأنيين" في الزاوية الجنوبية الغربية لجزيرة العرب3. كما ورد اسم "مودد" في الكتابات السبئية4، وفي كتاب الإكليل للهمداني. وقد ذكره قبل "السلف"، مما يدل على أنه اسم مكان مجاور للسلف5.
وأورد "بطلميوس" في الجغرافية اسم شعب عربي دعاه "Allumaeotae" يرى "فورستر" أنه شعب "الموداد" الذي نتحدث عنه. ويقع مكان هذا الشعب في جغرافية "بطلميوس" جنوب "الجرعاء" "Gerraea" "Vicus Jerachaeorum"، ويتصور أنه على ساحل الخليج العربي عند "قطن"6.
وأما "شالف" "Sheleph" الذي ورد في التوراة بعد "الموداد"، فلم يتمكن العلماء من تشخيصه أيضًا7. ويرى بعضهم أنه شعب "Salepeni" المذكور في جغرافية "بطلميوس"8, ويرى آخرون أنه "السلف"، وهم بطن من
__________
1 hastings, p. 22, dictionary of the bible, I, P., 50, by w. smith
2 enc. Bibli, p. 116, hommel, a. h. t., s, 113, early Babylonian personal names p. 30, Montgomery, Arabia and the bible, p. 40
3 glaser, skizze, 2. s. 425
4 ency, bibli. P. 116, zdmg. 37, 13, 18
5 الإكليل "1/ 116 وما بعدها".
6 forster, vol. I, p. 107, f
7 hastings, p., 845, enc, bibli. P. 4448, Montgomery, Arabia, p. 40
8 forster, vol. I, p. 109. f(2/76)
ذي الكلاع من حمير، وهو "السلف بن يقطن"1، أو "السلاف"، أو "بنو سلفان"2. و"السلف" أقرب هذه الأسماء إلى "شالف"، وخاصة إذا أخدنا بما قاله النسابون من انتساب هذه القبيلة إلى جد أعلى هو "السلف بن يقطن"، وذكر "نيبور" في رحلته اسم موضع في اليمن يقال له "سلفية"، قد تكون لاسمه علاقة بـ"شالف"3, وفي منطقة "يريم" ممر يقال له "نجد الأسلاف"4، وقد رأى "كلاسر" احتمال وجود صلة بينه وبين "شالف"5.
وأما "حزرماوث"، "Hazarmaveth"، فهو "حضرموت". ومعلوماتنا عن هذا الشعب حسنة بفضل الكتابات الجاهلية التي عثر عليها في العربية الجنوبية، والتي ترجم عددًا منها المستشرقون. وسأتحدث عنهم في الأجزاء الآتية من هذا الكتاب.
وأما "يارح" "Yerah"، فإن معناه "قمر" و"شهر"؛ ولهذا ذهب بعض الباحثين إلى أنه اسم قبيلة عربية, وبين العرب قبيلة تعرف بـ"بني هلال"، فلا يبعد أن يكون "يارح" اسم قبيلة6. وقد عثر في كتابات تدمر على اسم "يارح"، وقد ورد اسم علم7، كما أن اسم "شهر" من الأسماء المعروفة عند الجاهليين، وقد سُمِّي به عددٌ من الملوك الذين عاشوا قبل الميلاد وبعده.
ويرى "كلاسر" أن الشعب كان يقيم في "مهرة"، أو في جنوب عمان في موضع قد يكون المكان الذي سماه "بطلميوس" "8Jerakon kome.
و"يارح" هو "يرخ" و"ورخ" في اللهجات العربية الجنوبية، وتعني "شهرًا" "قمرًا", وهناك مواضع متعددة في العربية الجنوبية تسمى بأسماء قريبة من هذه الكلمة، مثل "وراخ" و"يراخ". وقد ذكر الهمداني
__________
1 تاج العروس "6/ 143"، "السلف"، البلدان "5/ 109"، نهاية الأرب "2/ 278"، القاموس "3/ 153", الإكليل "1/ 116".
2 الهلال، جـ13، سنة 10، نيسان، 1902م "ص401".
3 enc, bibli. P. 4448, niebihr, arabien, s. 247, osiander, in zdmg., II, 153. ff. glaser, skizze, s. 425
4 صفة "ص71، 101".
5 glaser, skizze, 2 s. 425
6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 487".
7 enc. Bibli. P. 2362, Montgomery, Arabia, p. 40
8 glaser, skizze, 2, s., 425(2/77)
اسم موضع دعاه "وراخ" في مخلاف "العود"1؛ لذلك رأى بعض العلماء وجود صلة بين هذه المواضع و"يارح". كما ورد في جغرافية "بطلميوس" اسم مكان دعاه "Insula Jerachaeorum"، وهو جزيرة تقع في البحر الأحمر جنوب جُدَّة, وورد اسم محل آخر سمي "Vicus Jerachaeorum"، ويقع في مقابل النهر الذي دعاه نهر "الآر" "Lar" الذي يصب على زعم "بطلميوس" في الخليج العربي "الخليج الفارسي" "2Sinus Persicus.
وأما "هدورام" "Hadoram"، فيرى "ملر" "Muller"، و"كلاسر" احتمال أنه "دورم"، وهو موضع على مقربة من "صنعاء". ويؤيدان رأيهما هذا بما ورد في المؤلفات العربية من أن اسم "صنعاء" القديم هو "أزال", و"أزال" هو شقيق "هدورام"، وقد ذكر بعده في ترتيب أسماء أولاد "يقطان"3.
وقد ذكرت الكتب العربية اسم موضعين يقال لهما "الهدار", قال الهمداني عن أحدهما: إنه "حصون ونخول وقصور عادية"4، وقال عن الثاني: إنه "هدار بني الحريض"، وذكر أن فيه "القطنية"5، وهذا الموضع الأخير قريب من "هدورام"، وللفظة "القطنية" أهمية كبيرة لقربها من لفظة "يقطان".
وقد ذكر "الطبري" في تأريخه أن جرهمًا "اسمه هذرم بن عابر بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"6. وهذا النسب الذي ذكره "الطبري" هو النسب الوارد في التوراة بزيادة "عابر" بين "هذرم" وهو "هدورام" وبين "يقطن", وهو خطأ يرد كثيرًا في الأنساب المنقولة من
__________
1 صفة "ص101"، "وراخ: ناحية باليمن" البلدان "8/ 411".
2 forster, vol. I, p. 116. ff
3 enc. Bibli. P. 1932, muller, burgen und schlosser, I, s. 360
4 صفة, glaser, skizze, 2, 426, hastings, p. 324, forster, 2, p. 137
5 صفة.
6 الطبري "1/ 207" "دار المعارف".(2/78)
التوراة إلى الكتب العربية. ومورد "الطبري" هو "ابن الكلبي"1، ومورد "ابن الكلبي" هو من أهل الكتاب، شأنه في ذلك شأن كل الأنساب حيث أخذها من أهل الكتاب.
أما "أزال"، فهو مثل سائر الأسماء المتقدمة، غير معروف, ولم يتفق علماء التوراة على تعيينه حتى الآن. وقد ذكر أهل الأخبار أن "صنعاء" عاصمة اليمن، كانت تعرف في الجاهلية بـ"أزال"2. وترجع هذه الرواية إلى "وهب بن منبه" الذي زعم "أنه وجد في الكتب القديمة المنزلة التي قرأها: أزال كل عليك، وأنا أتحنن عليك"3, وزعم أن "أزال" هي "صنعاء" ولم يرد في النصوص الجاهلية ما يفيد أن صنعاء كانت تعرف بـ"أزال"، بل لدينا نص من أيام الملك "يشرح يحضب" "ملك سبأ وذي ريدان" ويعود إلى نهاية القرن الثاني وبداية القرن الأول لما قبل الميلاد، أي: القرن المتصل بالقرن الأول للميلاد, ورد فيه "صنعو" وهو "صنعاء"4.
ويرى "كلاسر" أن اسم "أزال" إنما وضع لـ"صنعاء" بعد دخول اليهودية إلى اليمن وانتشارها هناك، وضعه اليهود5. وذكر "البكري" أن صنعاء كلمة حبشية، ومعناها: وثيق وحصين6.
وهناك مواضع أخرى عرفت بـ"أزال"، منها موضع يعرف بـ"يأزل"، عند جبل "حضور"، وموضع آخر في الحجاز، غير أن من غير الممكن في الزمان الحاضر البتّ في أي مكان من هذه الأمكنة, بأنه هو "أزال" التوراة7.
ولم يتمكن علماء التوراة من البت في موضع "دقلة" "Diklah" أيضًا. ويرى بعض المستشرقين أن هذا الاسم يشير إلى مكان يجب أن يكون كثير
__________
1 المصدر نفسه.
2 البلدان "1/ 214"، "5/ 387"، صفة "ص255".
Montgery, Arabia, p. 40, caussin de Perceval, histoire des arabes, vol. I, p. 40
3 تاج العروس "5/ 421".
4 enc. Bibli. P. 5239, hastings, p., 956, enc. Vol. 4, p. 143, glaser, skizze 2, s. 427 sprenger, gogr. S. 181, glaser, 424
5 glaser, skizze, 2, s. 427
6 تاج العروس "5/ 421".
7 glaser, skizze, 2, s., 427(2/79)
التمر1, وقد رأى "هومل" أنه موضع "حدّ دقل"2. وذكر "ياقوت الحموي" موضعًا في اليمامة سماه "دقلة"3، ولكن الباحثين في هذا الموضوع لم يقطعوا برأي فيه.
ورأى بعض الباحثين أن "عوبال" " Obal" "Ebal"، شعب "عبيل", ورأى آخرون أنهم "عيبال" في تهامة الحجاز، أو "عبال" أو "عبيل"، وهما موضعان في اليمن4.
ورأى "فورستر" احتمال وجود صلة بين "عوبال" و"Avalitae"، وهو اسم شعب عربي ذكره "بلينيوس"، أو "Abalitae"، وقد ذكره بعض الكتبة "الكلاسيكيين"5.
وذهب "كلاسر" إلى احتمال كون وادي "أتمة"، هو موضع شعب "أبيمائيل" "Abimael"، غير أن ذلك مجرد ظن، ليس غير6.
والولد العاشر من ولد "يقطان"، هو "شبا", وقد وردت بعض أخبار "شبا" في أسفار التوراة, وذكرت قصة "ملك شبا" وزيارتها لسليمان7, فسبأ هنا شعب من شعوب اليقطانيين. ولكننا نرى التوراة تجعل "شبا" في موضع آخر ابنًا لـ"يقشان"، و"يقشان" هو ابن "إبراهيم" من زوجته "قطورة" "Keterah"، وهو شقيق "إسماعيل" من أبيه8, فسبأ هنا من نسل شعب آخر يختلف عن "سبأ" اليقطانيين, ونراها تذكر "سبأ" بالسين المهملة في جملة أبناء "كوش"9. والمعروف أن المراد من "كوش" عند العبرانيين، الحاميون، أي الشعوب الإفريقية، فيكون "سبأ" هنا اسم شعب
__________
1 enc. Bibli. P. 1101. forster, i., p., 147, Montgomery, Arabia, p. 40
2 enc. Bibli, p. 1101
3 البلدان "4/ 65".
4 enc. Bibli. P. 1151, glaser, skizze, 2, s. 426, hastings, p. 201. 201, halevy, mélanges d'epigraphie et d'archéologie semitigues, 86
5 forster, I, 147. f
6 glaser, skizze, 2, s. 426, enc. Bibli. P. 17, hastings, p. 4
7 الملوك الأول، الإصحاح الأول، الآية 1 فما بعدها.
8 قاموس الكتاب المقدس "2/ 524"، التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 2، أخبار الأيام الأول, الإصحاح الأول، الآية 32 Hastings, P. 490
9 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 7.(2/80)
من الشعوب الإفريقية1.
ومعنى هذا التعدد في النسب انتشار السبئيين وسُكناهم في مواضع متعددة، وهذا ما حمل كتبة التوراة على إدخال نسب السبئيين الساكنين في إفريقيا في نسب "الكوشيين"، وإدخال السبئيين الساكنين عند "ددان" في نسل "رعمة".
ويرد اسم "أوفير" "Ophir" بين "شبا" و"حويلة"، وهو كناية عن أرض اشتهرت عند العبرانيين بكثرة ذهبها وبوجود الفضة وخشب الصندل وبعض الأحجار الكريمة فيها2. وقد اختلف في تعيين مكانها، فذهب كثير من علماء التوراة إلى أنها في جزيرة العرب، ولكنهم اختلفوا في تعيين المكان، فذهب بعضهم إلى أنها في اليمن، وذهب آخرون إلى أنها في عسير، وآخرون إلى أنها في اليمامة3 أو موضع "العويفرة" الذي لا يبعد كثيرًا عن حافات جبل طويق4، ومنهم من رأى أنه "مهد الذهب" في الحجاز، وهو موضع عرف باستخراج الذهب منه قبل الإسلام بزمن طويل، وقد نقبت فيه شركة تعدين حديثة، أغلقت أبوابها من عهد ليس ببعيد، كما ذكرت ذلك في كلامي على معادن جزيرة العرب.
غير أن هنالك جماعة من الباحثين في التوراة ترى أن الوصف الوارد في التوراة لأرض "أوفير" يجعلها أرضًا في الهند؛ وذلك لأن الحاصلات المذكورة فيها هي حاصلات هندية، ومن الصعب تصور وجودها في بلاد العرب في ذلك الزمان5. وذهب فريق آخر إلى أنها في إفريقيا6.
والابن الثاني عشر في أبناء "يقطان" هو "حويلة". وقد ذكرته التوراة في موضع آخر من جملة أبناء "كوش" مع "سبأ"، مما يدل على توطن قبيلة
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 278"، Hastings, P. 171
2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 179".
3 sprenger, geogr. S. 49. ff. glaser, skizze, 2, s. 357, hommel, aht. 236, Montgomery, Arabia, p. 38. ff
4 philby, sheba's daughters, p. 430
5 lassen, indiasche alterthumskunde, I, 538, soetbeer, das goldland ophir, 1880 a.k. keane. The gold of ophir, 1901, morits, arabien, s. 7, forster, vol. I p. 161, 2, p. 237
6 peters, das goldene ophir salamons, 1895, enc. Bibli. P. 3514, enc. Brite. Vol. 16, p. 807(2/81)
أخرى تسمى بهذا الاسم في "إفريقيا" لعلها فرع من فروع "حويلة" بلاد العرب1. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن "حويلة" بلاد العرب، هي في بادية الشام، أو على مقربة من خليج العقبة، وذهب آخرون إلى أنها في أواسط جزيرة العرب، أو في منطقة "جبل شمر"، ورأى كلاسر أنها في اليمامة3.
وقد ذكر "الهمداني" جماعة دعاهم "الحوليين"3، يظهر أنهم سكان موضع "حوالة", وهناك بطن من بطون اليمن يقال له: "بنو حوالة"، كما ورد في اسم "حويل"4.
وفي التوراة: "وكان نهر يخرج من عدن فيسقي الجنة، ومن ثم يتشعب فيصير أربع رءوس. اسم أحدها فيشون، وهو المحيط بجميع أرض حويلة حيث الذهب. وذهب تلك الأرض جيد. هنالك المقل وحجر الجزع"5. فيفهم منه أن نهر "فيشون" "Pishon" يحيط بأرض "حويلة" وهو من أنهر الجنة الأربعة. وأحد الأنهار الأربعة على رأي علماء التوراة هو نهر النيل، وأما الثاني فهو الفرات، وأما الثالث فهو نهر دجلة، وأما النهر الأخير الذي نتحدث عنه، فذهبوا إلى أنه نهر "كارون" أو شط العرب، أو أحد الأنهر الأخرى, فتكون أرض حويلة عندئذ في منطقة تقع على رأس الخليج6.
وآخر أبناء "يقطان" هو "يوباب" "Jobab"، ويرى "كلاسر" أنه اسم قبيلة "يهيبب"، الذي ورد في النصوص السبئية7. وذهب بعض آخر إلى أنه اسم شعب "وبار"، وأنه تصحيف لاسم "Jobarital" الوارد في جغرافية "بطلميوس"8.
__________
1 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 29، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول, الآية 19، 23، قاموس الكتاب المقدس "1/ 398".
2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 398".
Enc. Bilbi. P. 1974, musil, hegaz, p, p. 261, hastings, p. 333, glaser, 2 s. 302
3 الإكليل "8/ 85" "طبعة نبيه".
4 تاج العروس "7/ 297"، القاموس "3/ 364"، اللسان "13/ 207".
5 التكوين، الإصحاح الثاني، الآية 10 وما بعدها.
6 Hastings, P. 203
7 hastings, p., 472, glaser, skizze, 2, s. 303, enc. Bibli. P. 2491
8 الهلال: الجزء الثالث عشر من السنة العاشرة، نيسان 1902، ص304.(2/82)
وقد أضاف "ابن الكلبي" إلى سلسلة أبناء "يقطن" "يقطان" ولدًا آخر لم يرد له ذكر في التوراة، دعاه "توقيرًا"، زعم أنه والد الهند والسند1، فربط بذلك بين نسب "اليقطانيين" والهنود. ولا ندري: أعبر عن ذلك جهلا واعتباطا، أم كنى بذلك عن الروابط القديمة التي ربطت بين العربية الجنوبية والهند، حيث سكن عدد كبير من قدماء الهنود "الدراويديين" "Dravidians" في سواحل عمان وحضرموت؟ وقد عثرت البعثات العلمية التي نقبت في هذه الأماكن على بقايا هياكل عظمية ترجع إلى هؤلاء، كما يتحدث السياح والباحثون في أثر دماء الهند على سكان هذه المناطق.
ولم ينل هؤلاء الأولاد الثلاثة عشر عناية الإخباري "ابن الكلبي"، ولا عناية "محمد بن إسحاق"، أو غيرهما من أهل الأخبار المعروفين بأخذهم عن أهل الكتاب؛ إذ لم يشيروا إليهم في أثناء كلامهم على أولاد "يقطن" "يقطان"، ولم يتحدثوا عنهم, بل نسبوا إليه أولادًا آخرين تراوح عددهم من عشرة ذكور إلى واحد وثلاثين2، أسماؤهم أسماء عربية، لا وجود لها في التوراة، ما عدا اسمًا أو اسمينِ. وهذا الإهمال يثير في نفوسنا الدهشة والاستغراب: لِمَ أهمل -يا تُرَى- هؤلاء الأخباريون أبناء "قحطان" المذكورين في التوراة، مع أنهم أخذوا "يقطان" من التوراة، وجعلوا نسبه نسبًا لقحطان؟! ولِمَ تكرموا عليه فأعطوه عددا من الأولاد لم يأت لهم ذكر في التوراة؟! ولِمَ لَمْ يضم أهل الأخبار أولاد "يقطان" المذكورين إلى أولاد قحطان؟! ألا يدل ذلك على جهل أهل الأخبار بهم وعدم وقوفهم عليهم؟! إن كان جهلهم بهم هو السبب، فإن ذلك يدل على أن أهل الأخبار لم يكونوا يرجعون إلى التوراة رأسًا، يقرءون أسفارها ويأخذون منها, بل كانوا -وهذا هو ما أذهب إليه- يراجعون أهل الكتاب ويأخذون منهم ما يريدون؛ ولهذا لم يقفوا على أولاد "يقطان"؛ لأنهم لم يسألوا أهل الكتاب عنهم، أو لأن أهل الكتاب لم يتحدثوا إليهم عنهم. على أننا لا نستطيع أن نقبل هذا العذر؛ ذلك لأن أهل الأخبار كانوا قد ذكروا أسماء أبناء "إسماعيل"، نقلوها من التوراة وعلى حسب الترتيب الوارد في
__________
1 الطبري "1/ 207" Hastings, P. 472
2 مروج "1/ 77"، ابن خلدون "1/ 47".(2/83)
"التكوين", وهذا ما يجعلنا نتساءل: لِمَ ذكر أهل الأخبار أبناء "إسماعيل"، وأهملوا أبناء "يقطان"؟ هل هناك تعمد غرض؟ أن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة ليست سهلة في الواقع؛ لأن أهل الأخبار لم يكونوا يسيرون على قواعد ثابتة وأنظمة معينة في أخذ الأنساب، ولهذا نراهم يقعون في الغلط، وذلك يدل على أن علمهم بالأمور الواردة في التوراة لم يكن علمًا راسخًا، وأن علم محدثيهم من أهل الكتاب لم يكن راسخًا أيضًا ولم يكن مستمدًّا من التوراة رأسًا، بل من السماع والرواية في بعض الأحايين، وإلا لما وقعوا في أغلاط شنيعة، وما احتاجوا إلى الوضع والكذب، كالذي نراه من كعب الأخبار ووهب بن منبه وأمثالهما من مسلمة يهود.(2/84)
الإسماعيليون:
و"إسماعيل" هو الجد الأكبر للعرب المستعربة، أي: العرب العدنانيين, وهو "يشمئيل" "Ishmael" في التوراة, ومعنى الاسم "إلهي يسمع"، أو "يسمع إلهي", وهو ابن "إبراهيم" من زوجه "هاجر". وتقول التوراة: إنه "ختن" وهو في الثالثة عشرة من عمره، ورحل إلى بَرِّية "فاران" فتزوج فيها من امرأة مصرية، وعاش فيها راميًا بالسهام حيث اشتهر بالرماية. ولم تذكر التوراة بعد ذلك شيئا عنه, إلا ما ورد من أنه حضر دفن أبيه "إبراهيم"، وأنه عاش "137" سنة1.
هذا مجمل ما ورد في التوراة عنه, أما ما أورده أهل الأخبار عنه، فإنه يستند إلى هذا الوارد في التوراة عنه، إلا ما ذكروه عن امرأته، فقد جعلوها امرأة من "جرهم"، وما أوردوه عنه من أنه هاجر إلى مكة، وأنه عاش هناك، وتعلم العربية فيها، وقبر في "الحجر" عند قبر أمه "هاجر"2، وأمور أخرى صغيرة تختلف باختلاف الروايات.
__________
1 التكوين، الإصحاح السادس عشر، الآية 4 فما بعدها، الإصحاح السابع عشر، الآية 18 فما بعدها، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 7 فما بعدها.
Hastings, P. 392
2 الطبري "1/ 314 فما بعدها".(2/84)
وقد جعلت التوراة لـ"إسماعيل" ولدًا، عدتهم اثنا عشر ولدًا، هم: نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار، وأدبئيل، ومبسام، ومشماع، ودومة، ومسا، وحدار، وتيما، ويطور، ونافيش، وقدمة. ذكرتهم على حسب مواليدهم، كما نص على ذلك فيها1, وهو عدد يظهر أنه من وضع كتاب الأسفار وترتيبهم2. أمهم امرأة مصرية3، وهي كناية عن اتصال الإسماعيليين بالمصريين، وقد أخذ أهل الأخبار هذه الأسماء، وغيروا في نطقها بعض التغيير، فصيَّروها: نابت وقيذر، وأذبل، ومبشا، ومسمعا، وماشي، ودما، وأذر، وطيما، ويطور، ونبش، وقيذما، وما شاكل ذلك. وقد نص الطبري على اختلاف أهل الأخبار في ضبط هذه الأسماء4, ويعود هذا الاختلاف على ما يظهر إلى اختلاف المورد الذي أخذ منه أهل الأخبار.
وقد زعم أهل الأخبار أن إسماعيل تزوج من جرهم، وأن اسم زوجه "رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي"5، أو ما شاكل ذلك من أسماء، وأنها ولدت له اثني عشر رجلًا، هم: نابت وكان أكبرهم، وقيذر، وأذبل، ومبشا، ومسمعا، وماشي، ودما، وأذر، وطيما، ويطور، ونبش، وقيذما6، وأكثر هذه الأسماء ورودًا وتكرارًا في الكتب العربية، نابت وقيذر.
ونرى من عدد هؤلاء الأولاد ومن أسمائهم، أن رواتها أخذوا أولئك الأولاد من التوراة؛ أخذوا العدد وأخذوا الأسماء، ولكنهم حرفوا وصحفوا فيها، ولا ندري أكان هذا التحريف قد وقع من الأخباريين أنفسهم، أجروه تعمدًا ليسهل النطق بها في العربية، أم وقع من الرواة الإسرائيليين أو النصارى الذين
__________
1 التكوين، الإصحاح 25، الآية 12 فما بعدها.
2 زHastings, P. 392
3 التكوين، الإصحاح 21، الآية 21.
4 الطبري "1/ 314" "طبعة دار المعارف".
5 ابن هشام "1/ 3" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، "السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي"، ابن خلدون "2/ 37"، الطبري "1/ 16"، ابن الأثير، الكامل "1/ 49"، الطبقات "جـ1، ق1، ص25"، تاج العروس "1/ 375"، "1/ 590".
6 ابن هشام "1/ 3"، ابن خلدون "2/ 39"، مع اختلاف في ضبط الأسماء، الطبري "1/ 161"، ابن الأثير، الكامل "1/ 49".(2/85)
رجع أهل الأخبار إليهم، فأخذوا منهم تلك الأسماء، أم أنه مجرد تحريف وتصحيف، وقع من الجانبين، فظهر على هذا الشكل؟.
أما امرأة "إسماعيل" أم أولاده، فإنها ليست جرهمية عربية في التوراة، وإنما هي امرأة مصرية كما ذكرت, لم تذكر التوراة اسمها. ويذكر أهل الأخبار أن إسماعيل كان قد تزوج بامرأة أخرى من جرهم قبل "رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي"، أو "السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي"، كما تعرف في روايات أخرى، إلا أنه طلقها بأمر أبيه، لما جاء إلى مكة زائرًا، فلما جاء للمرة الثانية ورأى زوجته الثانية رضي عنها، وأمر ابنه إسماعيل بإبقائها، فبقيت، ومنها كان نسله المذكورون1.
وقد نص "الطبري" على أن العرب هم من نابت وقيدر2، ولم يذكر شيئا عن بقية الأولاد. والظاهر أن إهمالهم هذا الإهمال يعود إلى عدم وقوف الموارد التي أمدت الأخباريين على شيء عنها، وعدم تمكنهم من تعيينها وتثبيت مواضعها، فإن ذلك يحتاح إلى علم وإلى وقوف على ما جاء في كتب التفاسير والشروح والموارد اليهودية الأخرى عن هذه القبائل. والموارد المذكورة نفسها لا تعرف عن تلك القبائل وعن تلك البلاد شيئا كثيرا يزيد على ما جاء في التوراة؛ فإن كتبة الأسفار لم يهتموا إلا بما يتعلق بإسرائيل. أما ما وراء إسرائيل من شعوب وأرضين، ولا سيما الشعوب التي لا تتاخم الأرضين التي وجد فيها العبرانيون، فإنها لم تكن تُعنَى بها إلا بمقدار ما لها من صلة بإسرائيل.
وقد حددت التوراة المنازل التي أقام بها "الإسماعيليون"، فجعلتها من "حويلة" إلى "شور"3, فكل ما وقع بين المكانين، هو في أرض القبائل الإسماعيلية. وقد ذكرتُ قبل قليل أن آراء العلماء مختلفة في تعيين موقع أرض "حويلة"، وعندي أن هذا الموضع يجب ألا يكون بعيدا عن فلسطين؛ لأن "شاءول" ضرب العماليق من "حويلة" إلى شور4. ولا يعقل أن تكون هذه
__________
1 الطبري "1/ 256، 314".
2 الطبري "1/ 314".
3 التكوين، إصحاح 25، الآية 18.
4 صموئيل الأول، إصحاح 15، الآية 8.(2/86)
الأرضون بعيدة عن فلسطين؛ لأن "شاءول" لم يكن قويًّا ذا جيوش جرارة حتى تضرب العماليق في منطقة نائية، بعيدة عن فلسطين.
أما "شور"، فموضع يقع على الحدود الشمالية الشرقية لأرض مصر، في البَرِّية المسماة بـ"برية تيه بني إسرائيل" وبـ"برية إيتام"1. ويرى بعض علماء التوراة أن "الطور" الحالية هي أرض "شور"2.
ويلاحظ أن الأرض التي زعم أن "شاءول" قد ضرب بها العماليق، "وضرب شاءول عماليق من حويلة حتى مجيئك إلى شور التي مقابل مصر"3، هي الأرض ذاتها التي جعلتها التوراة أرضا لذرية "يشمعئيل" "إسماعيل", فيظهر من ذلك أن العماليق كانوا قد سكونها أيضا. ولما كان العمالقة قد سكنوا أرضًا، تقع بين كنعان ومصر في برية سيناء وتيه بني إسرائيل4، وجب أن تكون تلك الأرض هي موطن الإسماعيليين.
ويعترف العبرانيون بوجود صلات قربى لهم بالإسماعيليين. ويظهر أن القبائل الإسماعيلية عاشت زمنا طويلا في "طور سيناء" وفي جنوب فلسطين, عاشت عيشة أعرابية5؛ ولهذا كان الإسماعيليون أهل وبر بالقياس إلى اليقطانيين المستقرين. وقد نظر العبرانيون نظرة عداء إلى الإسماعيليين؛ لأنهم كانوا يتحرشون بهم ويغيرون عليهم ويتعرضون لتجاراتهم, وقد ذكروا في أيام "داوود"6. وقد ورد في التوراة أن الله أوحى إلى "هاجر" يبشرها بأن نسل ابنها سيكثر وينمو حتى يكون أمة عظيمة7، وهو كناية عن كثرة عدد أولئك الأعراب في أيام العبرانيين.
هذا, ونحن لا نعرف شيئًا يذكر عن "الإشماعيليين" "الإسماعيليين"، ولا
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 641". Musil, hegaz, p. 261, 265
2 hastings, p. 852, enc. Bibli. P. 4498
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 641"
Hastings, p. 8852, enc. Bibli. P. 4498, musil, hegaz, p. 261, 265. ff
4 صموئيل الأول، الإصحاح الخامس عشر، الآية 7، قاموس الكتاب المقدس "2/ 113".
5 التكوين، الإصحاح 21، الآية 13 وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "1/ 98".
6 enc. Bibli. P. 2211, hastings, p. 392
7 التكوين، الإصحاح 21، الآية 13 وما بعدها.(2/87)
عن لهجاتهم, ويرى بعض العلماء أن لهجاتهم يجب أن تكون من اللهجات العربية الشمالية المتأثرة بلغة بني إرم1. ولعدم وصول نص مدون بلهجة من لهجات هذه القبائل، لا نستطيع أن نبدي في الزمان الحاضر رأيًا علميًّا في شكل هذه اللهجات.
و"نبايوت" هو بكر إسماعيل وأهم القبائل الإسماعيلية في التوراة، وقد أعطاه هذه المنزلة أهل الأخبار أيضا لأخذهم منها. ونحن لا نعرف الأسباب التي جعلت التوراة تعده أحسن أولاد "إسماعيل" أراعت في ذلك بعد القبيلة، أم راعت قربها من العبرانيين، أم ضخامتها وكثرة عددها بالقياس إلى القبائل الإسماعيلية الأخرى، أم أمورًا أخرى جعلت العبرانيين ينظرون إليهم على أنهم أقدم تلك القبائل؟ فليس في التوراة قواعد ثابتة تمشي عليها كتبة العهد القديم في تدوين الأنساب.
ويعرف "نبايوت" بـ"نابت" و"نبت" عند الأخباريين, ومنه ومن قيدر، نشر الله العرب، على رأي أهل الأخبار2. وقد جعل بعض الأخباريين نابتًا والدًا لـ"يشجب"3، مع أن "يشجب" هو ابن "يعرب" عند الأكثرين.
وقد ورد اسم "نبايوت" مع اسم "قيدار" في النصوص الآشورية, ويظهر أنهم كانوا أقوياء كثيري العدد. ويدل ورود اسمهم مع "قيدار" في التوراة في النصوص الآشورية على أنهم كانوا متجاورين, ولم تعين التوراة مواضع سكناهم. ولكن ورود اسمهم في رأس قائمة الإسماعيليين واقترانه بالأدوميين عن طريق المصاهرة ووقوف العبرانيين على أخبارهم، يدل كله على أنهم كانوا يقيمون في المناطق الواقعة في جنوب شرقي فلسطين وفي الأقسام الجنوبية الشرقية من بادية الشام4.
وقد ذهب "كلاسر" إلى أن "نبايوت" "مشيخة" أو مملكة حكمت في "القصيم"، وقد كانت معاصرة لمملكة "عريبي"، وكانت لا تزال مستقلة في أيام الفرس5.
__________
1 enc. Brit. Vol. 12, p. 706
2 الطبري "1/ 314".
3 ابن هشام "1/ 5".
4 التكوين، الإصحاح 28، الآية 9.
5 glaser, skizze, 2, s. 266. ff. Schrader, kat, s. 151, hommel, aht, 275(2/88)
وقد ظن بعض العلماء أنهم "النبط"1، ذهبوا إلى ذلك من تشابه "نبايوت" "Nabaiot" ونبط "Nabat"، غير أن هذا رأي يعارضه كثير من علماء التوراة2.
وقد كان بين الأوس قوم يقال لهم "النبيت"، افتخر بهم الشاعر "قيس بن الخطيم" من شعراء الجاهلية -وقد قتل قبل الهجرة- ومدحهم، ووصفهم بالشدة والبأس3، كما كان في "إياد" قوم يقال لهم "النبيت"4.
وكان نبيت الأوس يتألفون من "ظفر" رهط الشاعر قيس بن الخطيم، ومن عبد الأشهل، وحارثة5. وقد وقعت بينها حروب ومعارك، فانضمت حارثة إلى الخزرج، وتحالفت معها، ودخلت فيها. وأما ظفر وبنو عبد الأشهل، فقد اضطروا أخيرًا إلى ترك ديارهم إلى مكة للتحالف معهم، أو مع اليمن، أو الغساسنة أو المناذرة؛ لمساعدتهم على الخزرج، ولاسترداد ملكهم6. والظاهر أنهم كانوا قديما من القبائل القوية، وكانت في الحرار الشرقية، ثم أفل نجمها، وتشتت شملها بسبب الحروب التي وقعت بين بطونها. ولعلها من القبائل التي كانت تقيم في الشمال، في العربية الحجرية أو العربية الصحراوية، ثم اضطرت إلى الهجرة إلى الجنوب والاستيطان في مناطق الحرار. والظاهر أنها كانت على اتصال باليهود، وقد تحالف معها يهود خيبر.
وقد ورد اسم "قيدار" في النصوص الآشورية، ورد على هذه الصورة: "قِدرو" "Kidru" و"قَدرو" "7Kadru، كما ورد في المؤلفات
__________
1 النبط، النبيط، الأنباط، نبطي، نبط, قال ابن عباس:
نحن معاشر قريش من النبط , تاج العروس "5/ 239".
2 enc. Bibli. P. 2213, hastings, p. 648. h.
3
ويثرب تعلم أن النبيتَ ... رأسُ بيثرب ميزانُها
وقد علموا أن ما فَلَّهم ... حديدُ النَّبيت وأعيانُها
فلا أعرفنكم بعد عِزٍّ وثروةٍ ... يقال: ألا تلك النبيتُ عساكرُ
شعر قيس "ص9، 10، 38".
4 شعر قيس "ص9"، "والنيبت أبو حي، وفي الصحاح: حي من اليمن".
اللسان "2/ 402"، تاج العروس "1/ 589".
5 شعر قيس "صXX"، القسم الألماني.
6 شعر قيس "صXX II"، القسم الألماني.
7 schrader, kgf. 101, kat. 147, delitzch, wo lag das paradies? S. 299(2/89)
"الكلاسيكية"، فقال لهم "بلينيوس" "Pliny" "قدراي" "Cedrei"، وذكر أنهم قبيلة عربية تقيم على مقربة من النبط1, وقد حاربهم "آشور بنبال"، وكان ملك "قيدار" في ذلك العهد، ملك عرف باسم "أو أيطع" "U Aite" بن "خزاعيل" "2Hazael، وقد ذكرهم "آشور بنبال" مع "عريبي" "أريبي"، كما ذكرهم "حزقيال" مع العرب "العرب وكل رؤساء قيدار"3، مما يدل على أن مواطن "قيدار" كانت تجاور العرب، ويراد بالعرب هنا: الأعراب, وهو ما يتفق مع ما جاء في نص "آشور بنبال" كل الاتفاق. وذكروا بعد "نبايوت" في التوراة، مما يدل على أنهم كانوا يقطنون في جوارهم، كما ذكروا مع "ممالك حاصور" التي ضربها "نبوخذ نصر" "بختنصر"4. وقد نكل "بختنصر" بالقيداريين كذلك، وخرب بلادهم وأخذ غنائم كثيرة منهم، واستولى على ما وقع في أيدي جيشه من أموالهم وخيامهم وغنمهم وجمالهم, وقد ورد وصف ذلك في سفر "إرمياء"5.
ويظهر من التوراة أن القيداريين كانوا أعرابًا يعيشون في الخيام عيشة أهل البداوة6، وقد وصفت خيامهم بأنها خيام سود "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان"7, والخيام السود هي بيوت أهل الوبر. وكانوا يعتنون بتربية المواشي، وقد اشتهروا بأن فيهم رعاة يملكون ماشية كثيرة8, إلا أن منهم من كان متحضرا سكن القرى والمدن9. ونجد "أشعياء" يتنبأ بإفناء "مجد قيدار, وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار"10, مما يدل على أن القيداريين كانوا قوة وعددًا ضخمًا، فيهم جماعة مهرت برمي السهام. ويتبين من "المزامير" أنهم غزاة، وحياتهم حياة غزو، لا يعرفون السلام
__________
1 pliny, 5, 21, 65, enc. Bibli. P. 2213, forster vol. I, 238 ff
2 musil deserta p. 485
3 حزقيال، إصحاح 27، الآية 21.
4 إرمياء، الإصحاح 49، الآية 28.
5 إرمياء، الإصحاح 49، الآية 28 وما بعدها.
6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 230".
7 نشيد الأناشيد، الإصحاح الأول، الآية 5.
8 قاموس الكتاب المقدس "2/ 230".
9 أشعياء, الإصحاح 42، الآية 11، قاموس الكتاب المقدس "2/ 230".
10 أشعياء، الإصحاح 21، الآية 16 وما بعدها، Hastings, P. 512(2/90)
ولا الاستقرار1.
وقد ذكروا مع العرب في جملة من تاجر مع العبرانيين, تاجروا معهم "بالخرفان والكباش والأعتدة2". وكانوا مثل قبائل العرب الأخرى على احتكاك بالعبرانيين، يتاجرون معهم تارة، ويخاصمونهم تارة أخرى، ويظهر أنهم كانوا على عداء شديد معهم، وخصومة منكرة في أيام "أشعياء" و"إرمياء"، كما يتبين ذلك من الهجوم العنيف الموجه إليهم في سفريهما ومن فرح العبرانيين من النكبات التي حلت بهم، ولا سيما انتقام "بختنصر" منهم. ويظهر أنه غزاهم؛ لأنهم كانوا يتحرشون بالبابليين أثناء مرورهم بالبادية إلى فلسطين، مما حمل "بختنصر" على الانتقام منهم ومن قبائل أخرى كانت ضاربة في البادية وفي الطرق المؤدية إلى بلاد الشام.
وقد ذكر أهل الأخبار اسم رجل دعوه "قدار بن سالف", زعموا أنه كان يدعى "أحيمر ثمود"3، وأنه هو الذي عقر الناقة، ناقة النبي صالح4، وذكروا أن "قيدار بن إسماعيل" هو أبو العرب، وزعم بعضهم أنه كان نبيا، وزعم أن له قبرًا ومشهدًا يزار قريبًا من السلطانية بالعجم، وأعقب من ولده "حمل بن قيذار"، وله ابن يقال له "سواري". وقد ذكر أهل الأخبار أن "كعب الأحبار" قال: "قال الله لرومية: إني أُقسم بعزتي لأهبن سبيك لبني قاذر، أي: بني إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- يريد العرب"5. وإذا صح أن هذا الكلام هو من كلام "كعب" حقًّا، فإنه يدل على تحريض "كعب" للمسلمين على اكتساح إمبراطورية الروم، وقد كان اليهود يكرهون الروم، لما أوقعوه بهم من ظلم، وأنه كان يعبر عن الحالة التي كانت بين الروم والعرب في ذلك الزمان. وليس الكلام المذكور، كلام الله في التوراة
__________
1 المزامير، المزمور 120، الآية 5 وما بعدها.
2 حزقيال، الإصحاح 27، الآية 21.
3 الطبري "1/ 314" "دار المعارف"، "قيذر" منتخبات "ص84" مروج "1/ 394", ابن خلدون "2/ 298"، تاج العروس "3/ 483 فما بعدها".
4 تاج العروس" 3/ 483".
5 تاج العروس "3/ 485"، عن "قيذار": الطبري "2/ 193"، "قيذر": منتخبات "ص 84"، مروج "1/ 394"، ابن خلدون "2/ 298".(2/91)
وإنما هو كلام "كعب". ولكعب أمور عديدة من هذا القبيل، إذ يضع كلامًا يزعم أنه من كلام الله المذكور في الكتب المنزلة.
وأما "أدبئيل" "Adbeel"، فكناية عن قبيلة عربية أخرى من القبائل الإسماعيلية، يرى بعض علماء التوراة أنها عاشت في جنوب غربي البحر الميت1. ويظن أنها قبيلة "إدب إيلة" "Idibaila" "Dibiila" "إدبئيلة" "إدبعيلة" "دبئيلة" و"بعيلة" المذكورة في كتابة من كتابات الملك "تغلا تبلسر الثالث"2. وقد ذكر هذا الملك أنه عين نائبا عنه، أو "مندوبا ساميا" "قيبو" "Kepu" على خمسة عشر موضعًا، وكان اسم هذا المندوب "أدب أل" "أدب أبل" "أدبئيل" "Idibiil"، وهو سيد قبيلة عرفت بهذا الاسم. والظاهر أنه فوض إليه أمر حماية الحدود والمحافظة عليها من الغزو, وتقع أرض هذه القبيلة على مقربة من الحدود المصرية وفي الجنوب من غزة3. وكانت هذه القبيلة لا تزال موجودة في أيام المؤرخ اليهودي "يوسف فلافيوس"4.
ويلي "أدبئيل" "أدب أل" "أدب أيل" في تسلسل أولاد إسماعيل، مبسام "Mibsam"، وقد سُمي في بعض الكتب العربية "ميشا"، ولا نعرف من أمر هذه القبيلة شيئًا5.
وأما "مشماع"، وقد سُمي "منسى" و"منشى" و"مسمع" و"مشماعة" في بعض الكتب العربية، فلا نعرف من أمره شيئًا. ويتصور بعض العلماء أن لهذا الاسم علاقة بقبيلة "بني مسماع" أو "جبل مسماع" "جبل مسمع" قرب تيماء6.
ورأى "فورستر" أن "مشماع" هي قبيلة "Masmaos" التي ذكرها "يوسفوس"، على أنها من القبائل العربية التي كانت تعيش في أيامه7. ويرى
__________
1 enc. Babli. P. 2213
2 "تفلاتبليزر الرابع" عند "ألويس موسل"،
Musll, hegaz, p. 291, deserta, p. 278. f. hasttings, p. 12, delitzch, paradies, s. 301, enc. Bibli. P. 65
3 schrader, kat. S. 58
4 forster, I, p., 266
5 forster, vol. I, p. 273, enc. Bibli. P. 3067, musil, deserta, p. 470
6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 344"، enc. Bibli. P. 3154
7 forster, vol. I, p. 274(2/92)
"فورستر" أيضا أن قبيلة "Masaemanes" التي ذكرها "بطلميوس" هي هذه القبيلة كذلك1. وهذا الاسم قريب من اسم "ماء السماء".
و"دومة" هو "دوما" في بعض الكتب العربية، وهو كناية عن موضع "دومة الجندل"2، وقد عرف بـ"دوماتا" "Domatha" عند "بلينيوس"3 وبـ"Doumaetha" "Dumaetha" عند "بطلميوس"4، وبـ"Adumu" "أدومو" في الكتابات الآشورية5، وهو كناية عن موضع وعن اسم قبيلة عربية؛ فقد ورد أن شعبًا اسمه "Dumathii" كان يقدم قربانًا "ولدًا" في كل سنة إلى آلهته، ويدفن ذلك القربان في معبد الإله, ويراد به شعب "دومة الجندل"6.
وقد ورد اسم "مسا" "Massa" في النصوص الآشورية مقرونًا بـ"تيما" "تيماء", ويرى بعض العلماء أنه كناية عن قبيلة كانت منازلها في الشرق والجنوب الشرقي من "موآب"7. ويرى بعض آخر أن مواطنها في الأرضين الجنوبية من وادي السرحان، وفي غرب منازل "عريبي" "أريبي"8.
وجاء في رسالة أرسلها أحد "المقيمين" الآشوريين إلى ملك آشوري لم يرد اسمه في الكتابة أن "ملك قمرو" "مالك قمرو"9 بن "عميطع" سيد قبيلة "مسئا" "Masa" غزا قبيلة "Nabaati"، وقتل عددًا من أتباعها10. والظاهر أن هذه القبيلة، هي القبيلة المذكورة في التوراة.
__________
1 forster, vol. I, p. 274
2 "ودما، وهو دوما، وبه سميت دومة الجندل"، ابن سعد، طبقات "جـ1 ق1، ص25".
3 pliny, 6, 28, &, 157, forster, vol., I, p. 281
4 forster, vol. I, p. 281
5 enc. Bibli. P. 1142, 2213, musil, deserta, p., 480
6 hastings, a dictionary of the bibli, vol. I, p. 630 burckhardt, travels in Syria, 662, ritter, erdkunde von arabien, ii, s. 360 ff
7 hastings, p. 591, enc. Bibli. P. 2213, 2972, musil, hegaz, p. 288
8 musil, deserta, p. 478
9 مالك قمر، ملك قمر، ملك القمر، مالك القمر، ملك أمره, وما شابه ذلك من أسماء.
10 musil, deserta, p. 478, delitzch, paradise, p., 302, rawlinson, cuneliform inscriptions, vol. 4 P. 1. 54,No.1(2/93)
وأما "حدد" أو "حدار"، كما دُوِّن في سفر التكوين1، فإنه "أدد" عند بعض أهل الأخبار2. وقد تكون لاسمه علاقة باسم الإله "حدد" أو "أدد" المعبود الشهير الذي تعبد له الآراميون وقبائل عربية كثيرة، وكذلك الآشوريون والبابليون3. ولا نعرف من أمر قبيلة "حدد" هذه شيئًا يذكر في الزمن الحاضر.
وأما "تيما"، فإنه "طما" في الكتب العربية، وهو كناية عن "تيماء"4، وسوف أتحدث عنها. وأما "يطور"، وهو "وطور" وما أشبه ذلك في الكتب العربية، فقبيلة عرفت بـ"Ituraea" في المؤلفات اليونانية واللاتينية5, وقد حاربت العبرانيين, وكانت تقيم شرقي نهر الأردن في أيام الملك "شاءول". ويظهر أنها هاجرت نحو الشمال، فسكنت في الأقسام الجنوبية من لبنان وفي الحافات الشرقية من جبال لبنان, وقد أجبر الملك اليهودي "أرسطوبولس الأول" "Aristobulus I" "107 قبل الميلاد" قسمًا من اليطوريين على التهود, وكان قد استولى على أرضهم, وكان لهم ملوك. وفي أيام ملكهم "سوهومس" "سوحومس" "سوخومس" "Sohumus" أدخلت أرضهم في مقاطعة "سورية" وذلك في سنة "50" ب. م. وقد كابدت دمشق مصائب شديدة من غزوات اليطوريين6.
وكانت مواطن اليطوريين فيما بين "اللجاة" "Trachonitis" و"الجليل"، وعرفت بـ"جدورا"، وبـ"إيطورية"7. وقد عرفوا بمهارتهم في الرماية, وقد ذكرهم "سترابو"8. والظاهر أن مواطنهم الأصلية كانت في البادية، ومنها جاءوا إلى "إيطورية" ثم ذهبوا إلى الأقسام الجنوبية من لبنان وإلى سهل البقاع. وقد ضيق عليهم الرومان في حوالي الميلاد وأجبروا بعضهم على الرجوع إلى البادية
__________
1 الإصحاح 25، الآية 15، قاموس الكتاب المقدس "1/ 360".
2 الطبري "1/ 314".
3 Hastings, P. 323
4 enc. Bibli. P. 2213, foster, vol. I, p. 310
5 enc. Bibli. 2213. josephus, anti. Xiii, ii, 3
6 Enc. Bibli, P. 2213
7 قاموس الكتاب المقدس "2/ 513".
8 strabo, xvl, ii, 10(2/94)
ويظهر أن سبب ذلك هو عدم خضوعهم للسلطات وغاراتهم على الحضر. وقد قتل "مارقوس أنطونيوس" "Marcus Antonius"، ملك اليطوريين في سنة "34" ق. م. وكان يدعى "ليسانياس" "1Lysanias، وتوفي "زنودوروس" "Zenodorus" الذي خلفه في سنة "20" ق. م، واستولى "هيرود الكبير" "Herodes the Great" على قسم من أرض اليطوريين. ولما قسمت مملكة "هيرود"، صارت هذه الأرضون من نصيب "فيليب"2.
وفي أيام "لوقا"، كانت "Ituraea" منطقة تقع على ما يظهر في شمال شرقي "بحر الجليل"3, ويخترق الطريق الروماني الذي عمله الرومان من "دمشق" إلى "طبرية" "طبريا"4 هذه المنطقة.
وقد كوَّن اليطوريون لهم إمارة أو مملكة في "البقاع"، كان حكامها رجال دين أي: كهانًا وملوكًا في آن واحد. وقد عرفنا منهم رجلًا اسمه "Mennaios" وهو اسم قريب من الأسماء العربية، فلعله "معن", أما ابنه فقد سمَّى نفسه باسم يوناني، هو "بطلميوس" "Ptolemaios". وكان لهذا الملك، أي "بطلميوس" ولدان، هما: "Lysanias"، وقد تولى الملك من بعد والده و"فيليب" "Philippion", وأما "زينودور" "Zenodor"، فقد خلف "Lysanias" وأما "Sohaimos" "Sohumus"، فإنه اسم قريب من "سحيم" ومن "سهيم" و"سخيم" و"سهم"، وأمثال ذلك، وهي أسماء عربية معروفة5.
ويظهر أن ارتحال "اليطوريين" من الأقسام الشرقية من الأردن نحو الشمال، نحو دمشق، ثم سهل البقاع حتى ساحل البحر الأبيض، كان قبل القرن الثاني قبل الميلاد. ولعلهم هم العرب الذين ذكر أن الإسكندر الكبير كان قد حاربهم بعد حصاره لمدينة "صور" "6Tyros.
__________
1 dio casius, xiix, 32, hastings, p. 418
2 hastings, p. 418, josephus, anti. Xv, x, 3
3 hastings, p. 418
4 the bible dictionary, I, p. 573
5 die araber in der alten welt, I, s. 279, 315, m. lidzbarski ephemeris, I, "1990-1902", 335.
6 die araber in der alten welt, I, s. 170, 179(2/95)
وقد كون الرومان فرقًا محاربة من "اليطوريين"، اشتركت معهم في الحروب, وقد امتازت بعض هذه الفرق في حذقها بالرمي. وكون "مارك أنتوني" "Marcus Antonius" حرسًا خاصًّا منهم، أشير إليهم في الموارد اليونانية واللاتينية1.
و"نافش" "Naphish" هو "نفيس" عند الأخباريين2, ويرى بعض علماء التوراة احتمال كون "بنو نفسيم" "Naphisim" المذكورون في سفر "عزرا" هم "نافش" هؤلاء3.
وأما "قدمة" فهو "قيدمان" و"قيذما" وما شاكل ذلك في المؤلفات العربية3، ولا نعرف من أمرهم شيئًا يذكر في الزمان الحاضر, ولعلهم "القدموينين" الذي أدخلت أرضهم في جملة "الأرض الموعودة" المذكورة في التوراة4, وكانت مواطنهم عند "البحر الميت". ومن العلماء من يظن أن لهم صلة بـ"بني قديم" "Bene Kedem"، أي: "أبناء الشرق"5. وذهب "فورستر" إلى احتمال كون "قدمة" موضع "رأس كاظمة" على الخليج6. ولما كانت "قدمة"7 من القبائل الإسماعيلية، وقد ذكرت مع القبائل الإسماعيلية في التوراة، ومواطنها كلها لا تبعد كثيرًا عن فلسطين، فإني أرى أن مواطن هذه القبيلة يجب أن تكون أيضًا في هذه المواضع، أي في مكان لا يبعد كثيرًا عن فلسطين.
والغالب على أبناء إسماعيل البداوة, أي: حياة التنقل والغزو والرماية؛ لذلك كانت ملاحظة التوراة عن إسماعيل من أنه سينشأ راميًا، ملاحظة حسنة تدل على تبصر بأمور "الإشماعيليين" الذين كانوا يقومون بالغزو ويرمون بالسهام.
أما المجموعة الثالثة من مجموعات أنساب العرب المذكورة في التوراة، فإنها مجموعة قبائل نسبت إلى "قطورة" زوج "إبراهيم". وقد ذكرت التوراة
__________
1 hastings, a dictionery, ii, p. 521
2 الطبري "1/ 314".
3 عزرا، الإصحاح الثاني، الآية 50، hastings, p. 645, enc. Bibli. P. 3331
4 الطبري، "1/ 161"، "1/ 314"، "دار المعارف" ابن سعد، الطبقات "جـ1، ق1، ص25".
5 التكوين، الإصحاح الخامس عشر، الآية 19.
6 hastings, p. 512, enc. Bibli. P. 3331
7 forster, vol. I, p. 313(2/96)
أنها ولدت له "زمران، ويقشان، ومدان، ومديان، ويشباق، وشوحًا"1, وولد يقشان: شبا، وددان, وكان بنو ددان: أشوريم، ولطوشيم، ولأميم, وبنو مديان: عيقة، وعفر، وحنوك، وأبيداع، والدعة2. ويبلغ عدد القبائل المنحدرة من "قطورة" ست عشرة قبيلةً3.
فـ "قطورة" إذًا هي مجموعة قبائل مثل الإسماعيليين واليقطانيين، وهي تتفق مع القبائل الإسماعيلية في أنها تنحدر من صلب إبراهيم، وهي من هذه الناحية أقدم عهدًا من القبائل الإسماعيلية؛ لأن والد هذه القبائل هو إبراهيم, أما والد القبائل الإسماعيلية، فهو إسماعيل وهو ابن إبراهيم.
والأسماء المذكورة كناية عن قبائل عربية ألّفت مجموعة خاصة، كان حلفًا على ما يظهر تألف من قبائل رجعت نسبها إلى أصل واحد هو "قطورة", انتشرت قبائله في الأرضين الواقعة بين القبائل العربية الإشماعيلية وبين القبائل اليقطانية. وتشير قصة زواج "إبراهيم" بقطورة إلى صلة القطوريين بالإشماعيليين، والإشماعيليون من صلب إسماعيل بن إبراهيم، ويؤخذ على أنه كناية عن اختلاط قبائل المجموعتين، أي: الحلفين بتعبير أصح. ووجود أسماء بعض قبائل يقطانية وبعض قبائل كوشية في قائمة أسماء أبناء قطورة، هو أيضا دليل على وجود صلات بين هذه الأحلاف الثلاثة, وعلى تداخل القبائل واختلاطها بعضها ببعض.
أما أولاد "قطورا" عند أهل الأخبار، فهم: يقسان، وزمران، ومديان، ويسبق، وسوح، وبسر على رواية4، ومدن ومدين ويقسان وزمران ويسبق وسوح على رواية أخرى5, ومدن ومدين ويقشان، وزمران, وأشبق، وشوخ6. وقد أخذت هذه الأسماء كما نرى من التوراة، إلا أن من أخذها حرَّف فيها بعض التحريف، وخالف الترتيب الموجود للأسماء في التوراة فقدم وأخر، وأضاف اسما جديدا هو "بسر" على الرواية الأولى، وضعه في مكان "مدان"،
__________
1 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية1، فما بعدها.
2 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية1، فما بعدها.
3 Hastings, P. 514
4 الطبري "1/ 159"، "1/ 309"، "دار المعارف".
5 الطبري "1/ 160".
6 ابن سعد، الطبقات "حـ 1، ق 1، ص22".(2/97)
إلا أن الطابع التوراتي ظل بارزًا واضحًا عليها. فلا حاجة بنا إلى إرجاع كل اسم منها إلى الاسم المقابل له في التوراة.
وزوَّج أهل الأخبار "يقشان" "يقسان"، من امرأة سموها "رعوة بنت زمر بن يقطن بن لوذان بن جرهم بن يقطن بن عابر"، وأولدوا لها ولدًا دعوه "البربر"، قالوا عنه: إنه جد "البربر"1. وهو زواج لا تعرف عنه التوراة شيئا، وأما الزوج "رعوة بنت زمر بن يقطن" فليس لها ذكر فيها أيضا، وأما نسبها، فهو نسب اخترعه من اخترعها، وليس له لذلك ذكر في التوراة. وأما "بربر" بن "رعوة" فهو من صنع صانع أخبار أمه, وليس له ذكرٌ ما في التوراة.
ولفظة "بربر" في الكتاب المقدس لفظة تعني "الغريب"، وهي من أصل يوناني، وقد أطلقها اليونان على الغرباء الناطقين بلغة أخرى غير اللغة اليونانية2. ولم تستعمل علما على جنس معين له جد وأب ونسل؛ ولذلك، فإن ربط نسب "البربر"، وهم سكان المناطق المعروفة من شمال إفريقيا, بـ"رعوة" وبقحطان، هو من صنع "أهل الأخبار"، وقد وقع في الإسلام بالطبع وبعد الفتح الإسلامي لتلك المناطق؛ لغايات سياسية، على نحو ما حدث من ربط نسب الفرس واليونان والأكراد بالعرب.
ولم يشر الأخباريون وأهل الأنساب إلى "القطوريين" كطبقة خاصة من العرب, وقد أشار بعضهم إلى قبيلة عربية عرفت بـ"قطورة"، ذكروا أنها عاشت مع "جرهم" بمكة3. ولعل لتشتت شمل القبائل القطورية ودخولها في القبائل الأخرى: قحطانية وعدنانية، وفي جهل أهل الكتاب في ذلك العهد، أي: أيام لجوء أهل الأخبار إليهم يسألونهم عن الأنساب، دخلًا في هذا الإهمال.
ويلاحظ أن بين أسماء قبائل "قطورة" أسماء وردت في جدول أنساب قبائل "يقطان"، وفي جدول أسماء أبناء "كوش". ويفسر بعض العلماء ذلك باتصال القبائل القطورية بالقبائل اليقطانية وبالقبائل الكوشية وباختلاطها بها وتلاحمها
__________
1 الطبري "1/ 309"، "دار المعارف".
2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 217". Hastings, P. 84
3 hastings, p. 514, enc. Bibli. P. 2660, ritter, erdkunde, 12, 19(2/98)
معها، ونزولها بينها، فعد كتبة "أسفار التكوين" ذلك نسبًا، فأدخلوا القسم الذي دخل في اليقطانيين من اليقطانيين، والقسم الذي نزل بين الكوشيين من الكوشيين؛ ومن ثم صار ذلك نسبا ورابطة دم1.
وزوج إبراهيم "قطورة" معروفة عند أهل الأخبار, وقد دعوها بـ"قطوراء" وبـ"قطورا" وبـ"قنطوراء"2, ومعنى اللفظة في اللغة العبرانية: "البخور", وقد تزوجها إبراهيم بعد وفاة "سارة"3. ولكنهم كعادتهم في معظم الأخبار التي أخذوها من أهل الكتاب، خلطوا في أخبارها وحرفوا فيها، فجعلوا لها نسبًا -ولم يرد له ذكر في التوراة- اختلفوا فيه أيضا، فصار "يقطن" والد "قطورة" في خبر4, وصار "يكفور" أو "مفطور" هو والدها في خبر آخر، وصار "إفراهم بن أرغو بن فالغ" هو والدها في خبر آخر أيضا5, وجُعلت عربية من العرب: تتكلم بهذا اللسان العربي المعروف. وقيل: إن اسمها "أنموتا" أو "أنمتلى"6، وصيرت "قطورا بنت يقطن"، ولكنهم أخرجوها أحيانا من العرب، وأضافوها إلى الكنعانيين7، كما جعلوها "قطورا بنت مقطور" من العرب العاربة8.
ولم يفطن أهل الأخبار إلى خلطهم في هذا النسب وإلى سكوت التوراة عن نسبها، ولا أدري من أين جاءوا بـ"يكفور"، أو "مفطور"؟! وكيف يجوز أن تكون "قطوراء" من نسل "إفراهم بن أرغو بن فالخ"؟! فـ"إفراهم" هو "إبراهيم"، وهو زوج "قطورة" لا والدها أو جدها أو جد جدها أو ما شاكل ذلك! ثم إن نسب "إبراهيم" على هذه الصورة هو نسب مغلوط يدل على جهل، فإنه "إبراهيم" وهو "إبرام" في التوراة، هو ابن "تارح"
__________
1 Musil, Hegaz, P. 287
2 القاموس "2/ 123"، اللسان "6/ 422".
3 التكوين، الإصحاح 25، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول, الآية 32.
4 الطبري "1/ 159"، الكامل "1/ 48".
5 الطبري "1/ 59"، الكامل "1/ 48"، ابن سعد، الطبقات "جـ1، ق1، ص22".
6 الطبري "1/ 159".
7 الطبري "1/ 309" "دار المعارف".
8 الطبري "1/ 311"، "دار المعارف".(2/99)
و"تارح" هو ابن "ناحور" و"ناحور" ابن "سروج" وهذا هو ابن "رعو" الذي صار "أرغو" عند الإسلاميين، و"رعو" هو ابن "فالج" الذي صير "فالغ" عند أهل الأخبار؛ فترى من ذلك كيف خلط أهل الأخبار، وكيف كان علمهم بالقصص المأخوذ من التوراة. وكل هذا الجهل ناشئ من اعتمادهم على الأخذ شفاهًا من أهل الكتاب، ومن عدم رجوعهم إلى نص التوراة1.
ويلاحظ أن أكثر الذين قالوا في "قطورة" "قطوراء" و"قطورا"، ذكروا أولادها على نحو ما ورد في التوراة. أما الذين قالوا "قنطوراء"، فقد نسب أكثرهم إليها الترك والصين، وأضاف بعضهم إليها السودان في بعض الأحيان2. وهو نسب تكرم به عليها أهل الأنساب والأخبار؛ فليس في التوراة ذكر لهؤلاء الأولاد النجباء, ولعل إلحاق هؤلاء بـ"قنطوراء" إنما كان لغرض سياسي، هو إدماج نسب الترك والصين بالعرب؛ ترضية لهم، كما فعلوا بالنسبة إلى شعوب أعجمية أخرى. ويرد اسم "بنو قنطوراء" في الملاحم والتنبؤات، فرووا أحاديث تدل على شعور الخلافة الإسلامية بالخطر القادم من الترك والصين، وبأن النسب لم ينفع شيئًا معهم، إذ ورد: "يوشك بنو قنطوراء أن يخرجوكم من أرض البصرة"، وورد: "إذا كان آخر الزمان جاء بنو قنطوراء"3.
وزعم أهل الأخبار أن إبراهيم تزوج من زوج أخرى كانت من العرب أيضًا، أسموها "حجور بنت أرهير"، ولدت له خمسة بنين: "كيسان، وشورخ، وأميم، ولوطان، ونافس4". وليس في التوراة ذكر لهذه الزوج العربية، فليس لها نسل فيها بالطبع, فالأولاد هم من نسل مخيلة أصحاب الأخبار، جمعوها من أسماء توراتية مرت وتمر علينا في مواضع من هذا الكتاب، وضبطوها بعدد؛ لتظهر بمظهر خبر صحيح مضبوط.
ومن الأخباريين من أحجم عن تعيين هوية زوج إبراهيم، فلم يذكروا شيئًا
__________
1 راجع نسب إبراهيم في التكوين، الإصحاح الحادي عشر، الآية 15 فما بعدها.
2 القاموس "2/ 123"، اللسان "6/ 422".
3 اللسان "6/ 422".
4 الطبري "1/ 160"، "1/ 311"، "طبعة دار المعارف"، الكامل لابن الأثير "1/ 48"، ابن سعد، الطبقات "جـ1، ق1، ص22".(2/100)
عن عروبتها أو عن أبيها وجدها، بل اكتفوا بذكر اسمها وحده، فدعوه "حجوني"، وقالوا: إنها ولدت له سبعة نفر هم: نافس، ومدين، وكيشان، وشروخ، وأميم، ولوط، ويقشان1.
ومعارفنا بالقبائل القطورية لا تختلف عن معارفنا بالقبائل الإسماعيلية واليقطانية من حيث الضآلة والضحالة. فهي قد لا تزيد في بعض الأحيان على الاسم؛ ذلك لأن التوراة لم تذكر شيئا عنها، ولأن المفسرين والأحبار الذين شرحوا التوراة، لم يذكروا شيئًا عن تلك القبائل، إما جهلًا بها، وإما لعدم وجود ميل بين العبرانيين إلى الوقوف على أحوال تلك القبائل التي ذكرت في التوراة لمناسبة من المناسبات؛ ولهذا ضحل علمنا بها أيضا. وليس أمامنا غير انتظار الحظ، فقد يكتشف العلماء موارد جديدة قد تساعدنا في الوقوف على أولئك الأقوام.
فزمران مثلًا، لا نعرف من أمره شيئًا يذكر, وقد ورد لدى "بلينيوس" اسم قبيلة عربية دعاها "Zamareni"، وهذا الاسم قريب من "زمران"؛ لهذا رأى بعض العلماء احتمال وجود صلة باسم هذه القبيلة القطورية2، كما ورد اسم موضع يقال له "زبرم" "Zabram" يقع غرب مكة، يرى بعض الباحثين احتمال وجود صلة له بتلك القبيلة3, غير أن من الصعب الحكم أن أحد هذين الموضعين هو "زمران"4.
وأولد أهل الأخبار لـ"زمران" ولدًا سموه: "المزامير"، وهو في نظرهم جد "المزامير الذين لا يعلمون"5, وليس في التوراة ولد لـ"زمران" اسمه "المزامير" صفتهم أنهم لا يعلمون, وليس للفظة أية صلة بـ"المزامير" التي هي أغانٍ أو موشحات ترتل على صوت المزمار لتمجيد الله, وتقسم إلى خمسة كتب، يختم كل منها بتسبيحة، وتكرر لفظة "آمين" مرتين، أضافها
__________
1 الطبري "1/ 160"، "1/ 311"، "دار المعارف"، الكامل لابن الأثير "1/ 48"، ابن سعد، الطبقات "جـ1، ق1، ص22".
2 enc. Bibli. P. 5419, pliny, 26, 32, "grotius"
3 enc. Bibli. P. 5419
4 glaser, skizze, 2, s. 451
5 الطبري "1/ 159"، "1/ 309"، "دار المعارف".(2/101)
جامعو المزامير لا مؤلفوها1. وهي من لفظة "مزمور" "Mizmor" في العبرانية و"Mazmor" في السريانية و"Mazmur" في الأثيوبية، وتقابل "الزبور" و"الزبر" في القرآن الكريم2.
وقد ذكر "ابن النديم" على لسان "أحمد بن عبد الله بن سلام" من مترجمي التوراة والإنجيل، أن المزامير هي "الزبور"، وهي خمسون ومائة مزمور3. وهو عدد صحيح مضبوط، يدل على علمه بعدد المزامير؛ لأن ما ذكره هو عددها الصحيح.
والعلماء مختلفون فيما بينهم في المعنى "الأثنولوجي" لكلمة "زمران", ويرى بعضهم أنها من "زمر" ومعناها "تيس جبلي"، ويقولون: إن بني "زمران" اتخذوا ذلك الحيوان "طوطمًا" لهم؛ ولذلك عرفوا به4.
أما "يقشان" فيرى "كلاسر" أنه موضع "وقشة"، وهو مكان من السراة في عسير5, ورأى "أوسيندر" أنه "يقش" في اليمن6. وذكر "الهمداني" اسم قبيلة سماها "بني وقشة" من قبائل "الجنب"7, وذهب فريق من العلماء إلى أن اللفظة هي تحريف للفظة "يقطان"8.
وقد ذكر أهل الأخبار أن "بني يقسان" أي: بني "يقشان" لحقوا بمكة فسكنوا بها9, ولكنهم لم يشيروا إلى بنية على نحو ما جاء في التوراة.
وأما "مديان" "مدان" "Midian" فإنه "مدين" في الموارد العربية,
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 513 وما بعدها"، Hastings, P. 769.
2 الإسراء، السورة رقم 17، الآية 55، آل عمران، 3، الآية 184، النحل، 16, الآية 44، الشعراء، 26، الآية 196، فاطر، 35، الآية 25، القمر، 54، الآية 43، 52.
3 الفهرست "ص34".
4 Hastings, P. 990
5 glaser, skizze, 2, s. 453
6 osiander, in zdmg. 10, 31 enc. Bibli. P. 2564
7 صفة "ص116".
8 enc. Bibli. P. 2564, hastings, p. 490, montgomery, arabia and the bible, p. 44
9 الطبري "1/ 311"، "دار المعارف".(2/102)
وقد ورد ذكر "مدين" و"أصحاب مدين" في مواضع من القرآن1, ورد على سبيل العظة والتذكير بمصير يشبه مصير "مدين"، وأشار إلى نبيهم "شعيب": {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} 2.
وورد اسمهم في سورة "التوبة" مع قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم3، وورد مثل ذلك في سورة "الحج"4. ومما جاء في القرآن على لسان شعيب، قوله يخاطب أهل مدين: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5. وورد في سورة هود ما يشير أيضا إلى أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، فاستحقوا العقاب والعذاب؛ وذلك لترهيب أهل مكة، وكانوا تجارًا، من نقص المكيال والميزان، لئلا يصيبهم ما أصاب قوم شعيب حيث أصابهم الهلاك.
ويظهر من ذكر "الرجفة" أن حدثًا أرضيًّا، هزة أو هياج حَرَّة، أصابهم، فأثر فيهم6. وهذا ممكن جدا؛ لأن أرض مدين من مناطق الزلازل والحرار.
ولورود اسم "مدين" وقصة "شعيب" في القرآن الكريم، عني المفسرون وأصحاب قصص الأنبياء بجمع ما ورد عن أهل مدين وأخيهم شعيب من أخبار، غير أنهم لم يجدوا في ذاكرة من تقدمهم شيئًا, فاستعانوا بما ورد عند يهود. وقد أضاف الأخباريون إلى ذلك شيئا من القصص الشعبي, وشيئا ابتكروه, فأصبح "شعيب" "شعيب بن نويت بن رعويل بن مر بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم"7. وقد ذكر الطبري وغيره من المفسرين والمؤرخين أن اسم "شعيب" "يثرون" "يثرو"8، وقد أخذوا ذلك من أهل
__________
1 الأعراف، 7، الآية، 85، التوبة 9، الآية 70، هود، 11، الآية 84، 95، طه، 20، الآية 40، الحج، 22، الآية 44، القصص، 28، الآية 22، 25، 45، العنكبوت، 29، الآية 36.
2 الأعراف 7، الآية 85.
3 التوبة 9، الآية 70.
4 الحج 22، الآية 44.
5 الأعراف 7، الآية 85.
6 العنكبوت 29, الآية 36.
7 مروج الذهب "1/ 28".
8 الطبري "1/ 167"، الكامل لابن الأثير "1/ 61".(2/103)
الكتاب ولا شك، ففي التوراة أن "موسى" نزل على أهل "مدين" بعد هربه من "فرعون"، وتزوج ابنة كاهن "مدين" "مديان" "يثرون"، واسمها "صفورة"، فولدت له ولدا دعاه "جرشوم" "كرشوم", فرأى المفسرون والأخباريون أن شعيبًا المذكور في القرآن الكريم, هو "يثرون" التوراة. ويرى "بول" "Buhl" أن ذلك لم يكن معروفًا في صدر الإسلام وإنما حدث هذا بعد هذا العهد1.
وقد وضع بعض أهل الأخبار نسبًا عجيبًا مضحكًا لـ"شعيب"، فجعلوه "يثرون بن ضيعون بن عنقا بن نابت بن إبراهيم"2. وتعقل آخرون فقالوا: إنه "شعيب بن ميكيل" من ولد مدين3, وقيل غير ذلك. وكل هذا من وضع أهل الأخبار، وأهل الكتاب الذين أمدوهم بمثل هذه الأنساب والقصص، ولم يتورعوا من ادعاء أنهم وجدوا ذلك في كتب الله.
وقد عرف "يثرو" "Jethro" "Jether" بـ"رعوئيل" "Reuel" أيضا في التوراة4, كما عرف بـ"حوباب بن رعوئيل" في موضع آخر5. ويظهر أن خطأً قد وقع في كتابة الاسم الثاني أو الأول؛ ولهذا صار "رعوئيل" في سفر الخروج و"حوباب بن رعوئيل" في سفر العدد. ونرى أن الاسم الذي ذكره "المسعودي" وغيره من أهل الأخبار لـ"شعيب" الذي هو "يثرو" يختلف مع اسمه المذكور في التوراة, ويرى بعض الباحثين أن كلمة "يثرو" ليست اسم علم له، وإنما هي كناية عن وظيفته وهي الكهانة، فقد كان كاهنًا في قومه، والكاهن هو "يثرو" في بعض اللغات العربية الجنوبية، وأما اسمه، فهو "رعوئيل" أو "حوباب بن رعوئيل"6.
وقد جعل الناس لشعيب قبرًا زعموا أنه على مقربة من "حطين" في موضع سماه "ياقوت" "خيارة"7. وقال له "بول Buhl" "خربة مدين"8.
__________
1 enc. Vol. 4, p. 389, j. horovitz, koranische untersuchungen, berlin, 1916. s. 119. ff
2 الطبري "1/ 167" الكامل، لابن الأثير "1/ 61".
3 الطبري "1/ 167" الكامل، لابن الأثير "1/ 61".
4 الخروج، الإصحاح الثاني، الآية 18.
5 العدد، الإصحاح العاشر، الآية 29.
6 Hastings, P. 465
7 البلدان "3/ 299".
8 Enc, Vol. 4, p. 389.(2/104)
وقد ورد خبر "مدين" في غزوة "زيد بن حارثة" لجذام في "حسمى"1, ويظهر من بعض الموارد الإسلامية أن "مدين" كانت في صدر الإسلام من أرض "جذام"، وأنها كانت إذ ذاك أكبر من "تبوك", وبها بئر زعم أنها البئر التي استقى منها موسى2.
ويظهر من شعر "كُثَير عزة" أنه كان في أيامه بمدين جماعة من الرهبان, يتعبدون، ويبكون من حذر العقاب3، وورد اسم بطن يقال له "بنو المدان"، كما ورد ذكر "مدان" في غزوة "زيد بن حارثة" بني جذام، ويقال له: "فيفاء مدان"4. و"المدان" اسم صنم أيضا، وبه عرف "بنو عبد المدان"5.
وفي التوراة أن "المديانيين" كانوا برفقة "الإشماعيليين" لما بِيع "يوسف"6, وأن موسى نزل عندهم وتزوج فيهم: أخذ ابنة "يثرون" كاهن "مديان" "مدين"7. وفي موضع آخر أن "يثرون" من "بني القيني" "8Kenite ويظن أن "بني القيني" هم فرع من فروع "مديان"9.
__________
1 ابن هشام "1/ 994" "طبعة وستنفلد".
2 صفة "129"، اللسان "17/ 289"، البلدان "8/ 418"، ابن خرداذبه، المسالك "ص129"، "طبعة دي غويه"، ابن رستة، الأعلاق "طبعة دي غويه" ص177"، أحسن التقاسيم، "ص155"، "طبعة دي غويه"، البلدان لليعقوبي "ص341"، "طبعة دي غويه"، البكري، معجم، "2/ 516 فما بعدها"، "طبعة وستنفلد".
3 البلدان "8/ 418".
4 اللسان "17/ 289".
5 "والمدان: صنم، وبنو المدان: بطن"، اللسان" 17/ 289"، Enc, bibli. p. 3002.
6 "فمر قوم مدينيون تجار، فجذبوا يوسف وأصعدوه من البئر وباعوه للإسماعيليين بعشرين من الفضة، فأتوا بيوسف إلى مصر" التكوين، الإصحاح السابع والثلاثون، الآية 28.
7 الخروج، الإصحاح الثالث، الآية 1 وما بعدها، "وكان موسى يرعى غنم يثرو حميه كاهن مدين، فساق الغنم إلى ما وراء البرية، حتى أفضى إلى جبل الله حوريب".
8 القضاة، الإصحاح الأول، الآية 16.
9 hastings, p. 616, enc. Bibli. P. 3080(2/105)
وقد اتحد "المديانيون" مع "مؤاب" ضد إسرائيل1, وفي أيام "جدعون" "Gideon" كان المديانيون قد ضايقوا العبرانيين مضايقة شديدة، وكانوا قد اتفقوا مع العمالقة و"بني المشرق"، فتمكن "جدعون" من إخراجهم. وقد ورد في سفر "القضاة" اسم أميرين من أمراء المديانيين، هما "غراب" "Oreb"، و"ذئب" 2Zeeb, وورد في الإصحاح الثامن من القضاة اسم ملكين أو "شيخين" من "مديان" "مدين" هما: "زبح" "Zebah" و"صلمناع" 3Zalmuna. والظاهر أنه لم يعد للمديانيين شأن منذ هذا العهد، فلم يرد عنهم شيء يذكر، ولعلهم ذابوا في القبائل العربية الأخرى4.
ويفهم مما جاء في "القضاة" أنهم كانوا فرعًا من "الإشماعيليين"5, والذي يفهم من مواضع متعددة من أسفار التوراة أن مواطن "المديانيين" كانت تقع شرق العبرانيين6. والظاهر أنهم توغلوا في المناطق الجنوبية لفلسطين، واتخذوا لهم هناك مواطن جديدة، عاشوا فيها أمدًا طويلًا بعد هذا التأريخ حيث يرد ذكرهم في الأخبار المتأخرة7. وقد ذكر "بطلميوس" موضعًا يقال له "مودينا" "Modiana" على ساحل البحر الأحمر، يرى العلماء أنه موضع "مدين"، وهو ينطبق على موضع أرض مدين المعروفة في الكتب العربية8.
وذكر "يوسفوس فلافيوس" المؤرخ اليهودي المعروف مدينة سماها "Madiana" وقال: إن موسى زارها9, وذكر "بطلميوس" مدينة أخرى سماها "Madiama"10. وقد أشار المؤرخ "أويسبيوس" "Eusebius" إلى مدينة دعاها "مديم" "Madiam"، قال: إنها سميت بهذا الاسم نسبةً إلى ولد من أولاد "قطورة" زوج إبراهيم، وهي تقع في بادية الـ"سَرسَين" "Saracens" إلى شرق
__________
1 القضاة، الإصحاح السادس، الآية 23.
2 القضاة، الإصحاح السابع، الآية 25، الإصحاح الثامن، الآية 3.
3 القضاة، الإصحاح الثامن، الآية 6 وما بعدها.
4 hastings, p. 616
5 القضاة، الإصحاح الثامن، الآية 24, enc. Bibli. P. 3081
6 enc. Bibli. P. 3081, hastings, p. 616
7 enc. Bibli. P. 3081
8 enc. Bibli. P. 3081, hastings, p. 616, ptolemy, vi, 7, 27, enc. Vol. 3, p. 104
9 josephus, archaeologia, ii, 257, "naber", musil, hegaz, p. 278
10 ptolemy, geography, vi, 7, 27, enc. Bibli. 3081(2/106)
البحر الأحمر, ويرى "موسل" أن "Madiama" أو "Madiam" هي "مدين"1.
ويظهر من التوراة أن "المدينيين" قد غيروا مواضعهم مرارًا، بدليل ما يرد فيها من اختلاطهم بـ"بني قديم" والعمالقة والكوشيين والإسماعيليين2. ويظهر أنهم استقروا بعد ضعفهم في المنطقة التي ذكر "يوسفوس" وجود مدينة "Madiana" فيها، أي: في القرون الأخيرة قبل الميلاد. ويرى "موسل" أنها تقع في جنوب "وادي العربة" وإلى جنوب وجنوب شرقي العقبة3.
ومن الصعب تعيين "بشاق"4, فقد رأى بعضهم أنه موضع "يسبق" وهو مكان في شمال سورية، ذكر في كتابات "شلمنصر" الثاني5. وقد ورد في خبر فتوحات "تغلا تبليزر" الأول اسم مكان يقال له "سوخ" "Sukh" أو "شوح" أو "شوخ" "Schukh"، ويقع شرق "حلب"، وهو لا يبعد كثيرًا عن أرض "يسبق" "Jasbuk". واسم "سوخ" قريب جدًّا من "شوح" الذي يلي اسم "يشباق" في التوراة؛ لذا رأى بعض العلماء أنه هو الموضع المقصود, وأن "يشباق" كناية عن هذا المكان، عن موضع "يسبق" الذي لا يبعد كثيرًا عن "شوح"6. ورأى بعض الباحثين أنه "الشبك"، وهو موضع يقع على طريق "السكة الرومانية" الموصلة إلى العقبة7.
وأما "شوحا"، فذهب بعض الباحثين إلى أنه موضع "سوخ" "سوخو" "Sukh" "Suchu" المذكور في نص "أشور بنبال" "860ق. م."8, ويقع على الجانب الأيمن من نهر الفرات9. وقد ذكرت أن نفرًا من الباحثين رأوا
__________
1 musil, hegaz, 279
2 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 6، الإصحاح السابع والثلاثون, الآية 52، 28 العدد، الإصحاح الثاني عشر، الآية 1، حبقوق، الإصحاح الثالث، الآية 7.
3 musil, hegaz, p. 287
4 hastings, p. 392
5 enc. Bibli. 2210, fr. Delitzch, in "zeitschrift fuer die keilschiftforschung und verwandte gebiete," 2, 91. f., 1885 w. smith, a dictionary of the bibli, comprising skizze, 2, s. 445. glaser, skizze, 2, s. 445. ff
6 glaser, skizze, 2, s. 445. ff
7 forster, I, p. 352. f
8 enc. Bibli. P. 4495
9 hastings, p. 852, enc. Bibli. P. 4495(2/107)
أنه مكان "سوخ" المذكور في نص "تغلا تبليزر" الأول, وقد نسب أحد أصحاب "أيوب" الثلاثة، وهو "بلدد" إلى "شوح" فعرف بـ"الشوحي"1. ويظن كثير من العلماء أنه من قبيلة أو من أرض عرفت بـ"شوح"، وأن هذه القبيلة أو الأرض هي "شوحا"2.
وقد نسبت التوراة ولدين إلى يقشان هما: "شبا"، و"ددان", ويجب أن تكون أرض "شبا" هنا في جوار أرض "ددان "؛ وذلك لورود "ددان" مباشرة بعد "شبا"، أي: على مقربة من موضع "ديدان" الذي هو "العلا" في الحجاز3. وأهل "شبا" المذكورون هنا، هم جالية سبئية من جاليات سبئية عديدة انتشرت بين اليمن وفلسطين، وفي السواحل الإفريقية المقابلة لليمن4, كما سأتحدث عن ذلك.
ولم تهب التوراة لشبا أولادًا، بل تركته عقيمًا, إنما وهبت شقيقه ددان عددًا من الأولاد ونسلًا، هم "أشوريم" و"لطوشيم" و"لأميم". أما "أشوريم "Ashurim" "Asshurim"، فإنهم قبيلة عربية من قبائل "قطورة" بإجماع علماء التوراة، ولا صلة لهم بـ"آشور"، أي: الآشوريين. وقد ورد في "التركوم" "Targum" أن "أشوريم" بمعنى سكان مستوطنة أو معسكر5. مما يدل على أن هؤلاء العرب كانوا مستقرين مقيمين في مستوطنات، ولم يكونوا أعرابًا.
وقد ورد اسم "آشور" في نصوص معينة مقرونا باسم موضع "عبر نهران"، وتقع هذه المنطقة من "طور سيناء" إلى "بئر السبع" "Beersheba" و"حبرون"6 وتحاذي "مصرى" في جزيرة العرب على رأي "ونكلر"7.
ولا نعرف شيئًا عن "لطوشيم" و"لاميم"، ويظن "كلاسر" أنهم من سكان "طور سيناء"8.
__________
1 أيوب، الإصحاح الثاني، الآية 11.
2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 245"، enc. Bibli. P. 4495 hastings, p. 852
3 glaser, skizze, 2, s. 454
4 hastings, 2, p. 842
5 hastings, 2, p. 59
6 dnc. Bibli. P. 346, glaser, 1155, winckler, aof, 28. f. zdmg. 1895, s. 527, winckler, musri, 2, s. 51. ff
7 winckler, musri, 2, 51
8 glaser, skizze, 2, s. 460, enc. Bibli. P. 2768, hastings, p. 541(2/108)
وأما "مديان" "مدين"، فكان له من الأولاد: عيفة، وعفر، وحنوك، وأبيداع، والدعة1. فهم إذن قبائل من صلب "مديان" أي: مدين.
أما "عيفة"، فقد ورد ذكره في التوراة على أنه اسم قبيلة كانت تحمل الذهب واللبان على الجمال من "شبا" وتبيع تجارتها في فلسطين.
ذكرت مع "مدين"2, ويظهر أن "بني عيفة" وأهل مدين كانوا وسطاء أو تجارًا يذهبون إلى "شبا"، فيحملون الذهب واللبان؛ لبيع هذه السلع الغالية النفيسة في فلسطين. ولا نعرف من أمر هذه القبيلة في الزمن الحاضر شيئًا يذكر3.
وأما "عفر"، فاسم قبيلة يظن بعض العلماء أنها "بنو غفار" من "كنانة"4، أو موضع "يعفر" على مقربة من "الحنكية" بين تهامة وأبان5. ورأى "كلاسر" أنه موضع "Apparu" الذي ورد في كتابة تعود إلى "آشور بنبال"6.
وهناك مواضع أخرى اسمها قريب من اسم "عفر"، فعلى مقربة من "مكة" موضع يعرف بـ"عفر" وبـ"عفار"، وفي نواحي "العقيق" مكان يسمى "عفاريات"7. وذكر "الهمداني" "عفارًا" و"الخنقة"، واسماهما قريبان من "عفر" و"حنوك"8, غير أن في أعالي الحجاز في منطقة "مدين" وفي الأردن مواضع تسمى بأسماء قريبة من "عفر".
وأما "حنوك"، فلا نعرف من أمره شيئًا يذكر., وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه "الحنكية"، وهو موضع في شمال المدينة9.
وأما "أبيداع" "Abida,"، فيرى "كلاسر" أنه موضع من هذه المواضع في الحجاز10, وقد ورد في النصوص السبئية اسم قريب من هذا الاسم11. ولا نعرف من أمر "الدعة" شيئًا حتى الآن12.
__________
1 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 4.
2 أشعياء، الإصحاح الـ60، الآية 6.
3 enc. Bibli. P. 1301, hastings, p. 231
4 enc. Bibli. P. 1301
5 enc. Bibli. P.1301
6 glaser, skizze, 2, s. 449
7 صفة "ص253".
8 البلدان "6/ 187 فما بعدها".
9 glaser, skizze, 2, s. 449, enc. Bibli. P. 1960
10 glaser, skizze, 2, s. 449
11 enc. Bibli. P. 1255
12 Enc. Bibli. P. 1255(2/109)
أبناء كوش:
ونجد في التوراة أن أبناء "كوش": "سبا، وحويلة، وسبتة، ورعمة، وسبتكا"، وأن "شبا وددان" هما ابنا "رعمة", و"كوش" هو ابن "حام"، والمراد بأبناء "كوش" الحبش وسكان "نوبيا" وهم سود1.
أما الأسماء المذكورة، فهي أسماء قبائل وأرضين عربية معروفة؛ لذلك حار علماء التوراة في تفسير الأسباب التي حملت كتبة التوراة على جعل تلك الأسماء أسماء أولاد لكوش؛ فرأى بعضهم أنها كناية عن قبائل عربية هاجرت من جزيرة العرب إلى السواحل الإفريقية المقابلة واستقرت في إفريقيا منذ أزمنة قديمة وكوَّنت لها مستوطنات وربما حكومات هناك, واندمج نسبها في أرض إفريقيا, فعُدَّت من شعوبها، فلما دون أهل الأنساب العبرانيون أنساب البشر في أيامهم عدوها من شعوب إفريقيا بحسب إقامتها، وأدخلوها في أبناء "كوش"، أي في أبناء تلك المنطقة التي أقاموا فيها. وذهب بعض آخر إلى أن "الكوشيين" المذكورين لم يكونوا من إفريقيا، بل من جزيرة العرب، ورأوا وجود "كوش" أخرى في جزيرة العرب أصحابها هم القبائل العربية المذكورة2. واستدلوا على ذلك بما جاء في "أخبار الأيام الثاني": "وأهاج الرب على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب "الكوشيين"3" حيث يفهم من هذه الآية أن العرب المذكورين الذين عادوا "يهورام" كانوا يجاورون "الكوشيين"، ويقتضي ذلك على زعمهم وجود "كوش" أخرى هي "كوش عربية"، , وإياها قصد "سفر التكوين" في هذا المكان4.
__________
1 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 7 وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "2/ 278".
2 hastings, p. 171
3 الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 16.
4 hastings, p. 171(2/110)
أما "سبأ"، وقد ذكر الاسم بالسين في هذا الموضع من التوراة، فإنه اسم شهير معروف، هو شعب سبأ. وتصور التوراة وجود "سبأ" في "كوش" يشير إلى انتشار السبئيين في إفريقيا، ووقوف العبرانيين على ذلك. وعندي أن ذكر السبئيين مرة بـ"شبا" أي: بالشين المعجمة, ومرة بالسين المهملة, إنما وقع من كتبة الأسفار, كتبوه بالشين على وفق النطق العبراني، وكتبوه بالسين على نحو ما ينطق به في العربية، فظهر الاسم وكأنه اسم شعبين متباينين، ولا سيما في الموضع المذكور، حيث ظهر اسم "سبا" بالسين، ابن من أبناء "كوش"، بينما ظهر بالشين أي: "شبا" ابن من أبناء رعمة وشقيق لـ"ددان" على حين ورد بالشين أيضا في أولاد يقطان. والظاهر أن المورد الذي استقى منه كتبة الأسفار هذه الأسماء سموها بالشين من إخوانهم العبرانيين الذين كانوا على اتصال بالسبئيين، وذلك على وفق نطقهم، وقد كان هؤلاء السبئيون من سكان اليمن وأعالي الحجاز، فأطلقها عليهم بحسب نطق العبرانيين بها، وسمع عن السبئيين الآخرين وهم من دعاهم بـ"الكوشيين" من العرب، فضبطها بالسين، وفرَّق بين الأنساب على طريقة العبرانيين من نسبة الأقوام إلى المواضع التي يقيم من ينسبونهم بها.
وأما "حويلة"، فقد تحدثت عنها في كلامي على أبناء "يقطان".
وأما "سبتة" "Sabta"، فقد رأى بعض العلماء أنها قبيلة من قبائل جزيرة العرب، يجب أن تكون مواطنها بين "سبأ" و"رعمة"، ورأى آخرون أنها على ساحل الخليج1، على حين رأى آخرون أنها "Sabota" أي "شبوة" عاصمة حضرموت، ورأى "كلاسر" أنها في اليمامة2.
وأما "رعمة" "Raamah"، فإنه والد "شبا" و"ددان" "ديدان"، ولكونه أحد أبناء "كوش" وجب البحث عن أرضه في إفريقيا، إلا أن العلماء لا يتفقون على ذلك، بل يذهب أكثرهم إلى أن "رعمة" كناية عن أرض هي في مكان ما من جزيرة العرب، في غرب الخليج العربي حيث موضع "Regma" الذي ذكره "بطلميوس"، أو في أرض
__________
1 hastings, p. 809, enc. Bibli. P. 4181
2 glaser, skizze, 2, s. 252, enc. Bibli. P. 4181(2/111)
"Rammanitae" الذي ذكره "سترابو"1، أو موضع "ركمت" "ركمات" "رجمت" "رجمات" المذكور في كتابات المسند. ويخيل إليَّ أنه كناية عن حلف ضم جماعة من السبئيين الشماليين والديدانيين ورعمة في تلك الأيام؛ ولذلك صير والدًا لشبا وددان، ثم انفصمت عراه، فذكرت "رعمة" مع "شبا" تتاجر مع "صور" "TYR" وذلك في سفر حزقيال2، أو أنه اسم أرض في شمال غربي العربية الغربية يجاور مواضع السبئيين الشماليين والديدانيين, أو في موضع ما من سواحل الخليج3.
وأما "سبتكا"، فلا نعرف من أمرها شيئا يذكر. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها تحريف لفظة "سبتة"4, ويرى "كلاسر" أنها في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب5.
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 485"، tings, p. 780, enc. Bibli. P. 3997, hommel, aht. S. 240, montgomery, arabia, p. 30, 39, 42, 58, glaser, skizze, 2, s. 352, forster I p. 59. ff
2 حزقيال، الإصحاح 27، الآية 22.
3 forster, I p. 59. ff, skizze, 2, s. 252
4 forster, I p. 59. ff. glaser, skizze, 2, s. 252, hastings, p. 80
5 glaser, skizze, 2, s. 252, forster, 2, p. 59(2/112)
الهاجريون:
وذكر في التوراة اسم شعب سكن في شرقي الأردن وفي شرقي أرض "جلعاد"، عرف باسم "الهاجريين". وهم من العرب أو من "بني إرم" في رأي بعض العلماء1, غير أن إطلاق هذه اللفظة على الإسماعيليين، يدل على أن المراد بهم العرب؛ لأن "الإسماعيليين" هم عرب، وأن "هاجر" كناية عن أم "إسماعيل" جد القبائل التي تحدثت عنها على رأي التوراة. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن مراد التوراة من "الهاجريين" الأعراب، أي: البدو وهم عرب أيضا2. وقد امتدت منازل الهاجريين من الفرات إلى "طور سيناء"، فهي منطقة
__________
1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 446 وما بعدها", أخبار الأيام الأول، الإصحاح الخامس، الآية 10، 19، 20، الإصحاح 27، الآية 31.
2 hastings, p. 325(2/112)
واسعة تشمل البادية: بادية الشام، وتضم عددًا كبيرًا من الأعراب. وهي منازل "الإسماعيليين" أيضا، وقد يكون هذا هو السبب في عدم تمييز التوراة أحيانا فيما بين الهاجريين والإسماعيليين1. وقد ذكروا مع "يطور" Jetur" و"Naphish"، وهما من الإسماعيليين. وأشير إلى رجل من الهاجريين عرف بـ"يازيز" "Jaziz"، ذكرت التوراة أنه كان يرعى بغنم داود2 في جملة أشخاص كان "داود" قد أودع إليهم أمر إدارة أمواله3.
وبعد، فهذا كلام موجز في أثر التوراة على روايات أهل الأنساب والأخبار في أنساب العرب. وقد رأيت أن مروجيه ومدخليه بين العرب هم أهل الكتاب، ومعظمهم من يهود أو من مسلمة يهود؛ لهذا ترى أسانيد أكثر هذه الروايات تنتهي بـ"كعب الأحبار" و"وهب بن منبه" وأضرابهما. وقد ينتهي السند بـ"ابن عباس", من طريق "ابن الكلبي" عن أبيه، عن أبي صالح4. وللعلماء كلام في هذا السند و "ابن الكلبي" مورد مشهور معروف في هذه الموضوعات، لا يقابله في ذلك إلا "ابن إسحاق" الذي غرف، كما ذكرت في أول هذا الفصل، من مناهل أهل الكتاب، وكان يسميهم أهل العلم الأول، فملأ كتابه لذلك بغث كثير؛ لاعتماده على هؤلاء وتوثيقه لهم، ولم يكن لأكثرهم كما يظهر من نقد ما نسب إليهم علم بما جاء في التوراة, وبكتب اليهود الأخرى.
وقد ظهر لي من دراساتي لهذا الموضوع وللقصص الإسرائيلي عامة أن كثيرًا من هذا الذي يرويه أهل الأخبار في النسب وفي القصص، بعيد عما يرد في التوراة، وقد اخترع اختراعًا وصنع بغباوة وبجهل، وحُشي بألفاظ عبرانية أو قريبة منها، بطريقة مضحكة أحيانا، تدل على خبث واضع الخبر أو جهله، وعلى سذاجة الناقل عنه وعلى عدم اهتمامه إلا بإظهار نفسه بمظهر الواقف على الأخبار؛ ولذلك كان لا يهمه إلا جمع الأخبار وقصها للناس، وقد يكون هو واضع تلك الأخبار وصانع ذلك القصص.
__________
1 the bible dictionry, vol. I, p. 499, 570
2 أخبار الأيام الأول، الإصحاح 27، الآية 31.
3 hastings, a dictionry, ii, p. 281
4 الطبري "1/ 203، 206، 208"، "دار المعارف".(2/113)
وقد ذكر "الطبري" في تأريخه حديثًا يرجع سنده إلى رسول الله، في أبناء نوح، زعم أن الرسول قال: "سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش" ذكره بصور مختلفة، فيها تقديم وتأخير، أو زيادة في بعض الألفاظ. ويتصل أسانيد هذا الحديث بمختلف صور رواياته إلى سند واحد، هو: "سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن الرسول"1.
وهناك أحاديث وردت في موضوع نسب عدنان، فيها نهي عن تجاوز ما وراء ذلك، وهي وأمثالها يجب أن تكون موضع دراسة مستقلة حقا؛ لنرى سلاسل سندها، ومقدار قربها أو بعدها من حديث الرسول. فعلى مثل هذه الدراسة نستطيع أن نبني أحكامًا في موضوع رأي النسابين في نسب العرب في أيام الرسول.
ولا بد لي هنا من التنبيه على أن "محمد بن إسحاق بن يسار" صاحب المغازي والسير، هو -كما قلت مرارا- من الآخذين عن أهل الكتاب، الراوين عنهم2, وكان يسميهم أهل العلم الأول. وهم بالطبع من هذه الناحية أعلم من غيرهم بأمور التوراة والإنجيل، بحكم كونهم يهودًا أو نصارى؛ ولهذا نجد المؤرخين والأخباريين يروون ما ورد من قصص توراتي ومن أنساب توراتية عن "ابن إسحاق"، فهو إذن أحد الناشرين للإسرائيليات بين المسلمين. والقصص الإسرائيلي الذي نشره، ليس في الواقع قصصا إسرائيليا صافيا خاليا من الكدرة، بل هو متفاوت في درجات النقاء والصفاء؛ فيه العكر، وفيه ما هو قريب مما جاء في التوراة، وفيه ما هو مطابق لما جاء في "العهد القديم"، فهو نقي صافٍ. ويعود سبب هذا الاختلاف إلى الموارد التي استقى منها "ابن إسحاق" علمه, ففيها منابع كانت ذات علم ووقوف على كتب أهل الكتاب، وفيها موارد مدعية أو ليس لها حظ من العلم، وإنما تحدثت إليه على نحو ما كان شائعا بين أهل الكتاب، وبينها موارد استباحت الكذب، ادعاء للعلم ولأسباب أخرى، ومن هنا اختلفت موارد "ابن إسحاق" في درجات النقاء والصفاء.
__________
1 الطبري "1/ 209"، "دار المعارف".
2 الإكليل "1/ 31".(2/114)
و"هشام بن محمد بن السائب الكلبي" هو من الآخذين عن أهل الكتاب كذلك، المدخلين للإسرائيليات ولأنساب التوراة إلى المسلمين. وهناك نفر آخرون أخذوا عن أهل الكتاب أيضا، يخرجنا ذكر أسمائهم هنا عن صلب الموضوع؛ ولهذا اكتفيت بذكر هذين الرجلين، لما لهما من أثر بارز فيمن جاء بعدهما في موضوع الإسرائيليات وأنساب التوراة.
وأما ما نسب إلى "ابن عباس" من أقوال لها صلة بالتوراة فيجب دراسته بحذر ونقده نقدا عميقا، ومطابقته بما ورد في تلك الأسفار وفي كتب اليهود الأخرى, ونقد سلسلة السند التي تروي تلك الأقوال وتنسبها إليه, ولم يقم حتى الآن باحث لفت نظره هذا الموضوع؛ لذلك أرجو أن ينتبه إليه العلماء ليبدوا رأيهم فيه، ورأيهم في الأقوال المماثلة المنسوبة إلى صحابيين آخرين وتابعين؛ ليكون حكمنا في مثل هذه الأمور حكمًا مستندًا إلى درس وعلم.
ومما نسب إلى "ابن عباس" شعر مشهور معروف اليوم بين الناس قالوا: إنه نسبه إلى آدم، وأنه قال: إن آدم نظمه بعد قتل ابنه، وهو شعر موضوع بالطبع، وضع على آدم، على لسان ابن عباس, فقد نسبه بعض العلماء إلى أناس آخرين1.
ولم يعرف عن "كعب الأحبار" أنه ألف أو دون شيئا، إنما عرف عنه أنه كان يجلس مجالسه في المسجد يتحدث إلى الناس ويستعين بالتوراة أحياتا يقرأ منها عليهم، ويفسرها لهم2. ولكن "الهمداني" يذكر أنه كان قد كتب كتبًا، وأن أهل "صعدة" كانوا قد توارثوا كتبه ورووا منها. قال: روى الصعديون مرفوعا إلى إبراهيم بن عبد الملك الخنفري، قال: قرأت كتب كعب الأحبار، وكان كعب رجلًا من حمير من ذي رعين، وكان قد قرأ التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وأوسع في العلم3. وقال أيضا: والوجه ما ذكرنا في أول السيرة من هذا الكتاب، ما رواه أهل صعدة عن كعب الأحبار في خلق آدم، ومن خلفه إلى نوح، وخبر الطوفان4. وقد
__________
1 الإكليل "1/ 36".
2 ابن سعد، الطبقات "7/ 79".
3 الإكليل "1/ 55".
4 الإكليل "1/ 55".(2/115)
نقل "الهمداني" نتفًا عن "الخلق" والأنبياء ونوح والطوفان في الجزء الأول من كتابه: الإكليل ذكر أنها لكعب الأحبار. والظاهر أنه أخذها من رواية أهل صعدة لكتب "إبراهيم بن عبد الملك الخنفري"، نقلًا من كتب كعب الأحبار1.
__________
1 الإكليل "1/ 55".(2/116)
الفصل الحادي عشر: أنساب العرب
مدخل
...
الفصل الحادي عشر: أنساب العرب
للنسب عند العرب شأن كبير، ولا يزال العربي يقيم له وزنًا، ولا سيما عربي البادية, فعلى نسب المرء في البادية تقوم حقوق الإنسان، بل حياته في الغالب. فنسب الإنسان، هو الذي يحميه، وهو الذي يحافظ على حقوقه ويردع الظالم عنه ويأخذ حق المظلوم منه.
وقد يبدو ذلك للمدني الأعجمي أمرًا غريبًا شاذًّا غير مألوف, ولكن هذا المدني نفسه يعمل بالنسب ويأخذ به، وإن كان في حدود ضيقة. فجنسيته هي نسبه، تحميه وتحفظ حقوقه, وليس نسب الأعرابي غير هذه الجنسية، يحتمي به؛ لأنه يصونه ويحفظ حقوقه ويدافع عنه. وهو مضطر إلى حفظه، وإلى عد آبائه وأجداده وذكر عشيرته وقبيلته؛ لأنه بذلك يسلم، ويحافظ على حياته، فإن أراد شخص الاعتداء عليه، عرف أن وراءه قومًا، يدافعون عنه ويأخذون بحقه من المعتدي عليه, وهو لذلك مضطر إلى حفظ نسبه والمحافظة عليه.
وأما كون الحضر أقل عناية بأنسابهم من أهل الوبر؛ فلأن الحاجة إلى النسب عندهم أقل من حاجة أهل الوبر إليها, فالأمن مستقر، ولدى الحضر في الغالب حكومات تأخذ بحق المعتدي عليهم من المعتدين. ثم إن مجال الاختلاط والامتزاج عندهم أكثر وأوسع من أهل البوادي وسكان الأرياف، وكلما كانت الحواضر قريبة من السواحل ومن بلاد الأعاجم، كان الاختلاط أوسع وأكثر، ولهذا(2/117)
ضعفت فيها وشائج الدم والنسب، وكثر فيها التزاوج والتصاهر بين العرب والعجم، فصعب على الناس فيها المحافظة على أنسابهم، وقلت الفائدة من النسب عندهم؛ ولهذا لم يعتنوا به عناية الأعراب بالأنساب.
فالانتماء إلى عشيرة أو قبيلة أو حلف، هو حماية للمرء، وجنسية في عرف هذا اليوم؛ ولهذا صار إخلاص الأعرابي لقبيلته أمرا لازما له محتما عليه، وعليه أن يدافع عن قبيلته دفاع الحضري عن وطنه. فالقبيلة هي قومية الأعرابي، وحياته منوطة بحياة تلك القبيلة؛ ولهذا كانت قومية أهل الوبر قومية ضيقة، لا تتعدى حدودها حدود القبيلة وحدود مصالحها وما يتفق أهل الحل والعقد فيها عليه. ومن هنا صارت القبائل كتلًا سياسية، كل كتلة وحدة مستقلة لا تربط بينها إلا روابط المصلحة والفائدة والقوة والضعف والنسب.
والعادة انتساب كل قبيلة إلى جد تنتمي إليه، وتدعي أنها من صلبه، وأن دماءه تجري في عروق القبيلة، وتتباهى به وتتفاخر، فهو بطلها ورمزها، وعلامتها الفارقة التي تميزها عن القبائل الأخرى. وليس ذلك بدعًا في العرب، بل إنا لنجد الأمم والشعوب الأخرى تنتمي إلى أجداد وآباء. فـ"هيلين" "Hellen" هو جد أهل "دورس" "Dorus"، ومنه أخذ "الهيليون" اسمهم هذا. وكان للرومان وللفرس وللهنود وللأوروبيين أجداد انتموا إليهم واحتموا بهم وتعصبوا لهم ونسبوا أنفسهم إليهم على نحو ما نجده عند العرب والإسرائيليين وبقية الساميين1.
وفي التوراة ولا سيما "أسفار التكوين" منه، أبرز أمثلة على النسب، نجد فيها أنساب الأنبياء والشعوب، وأنساب بني إسرائيل, يسبق النسب في العادة جملة: "وهذه مواليد" "وإله تولدت" ثم يرد بعدها النسب2, أي: أسماء من يراد ذكر نسبهم. قد يذكر نسب الأب والزوجة والولد، وقد لا تذكر الزوجة، بل يكتفى بالأب وبأولاده, وقد لا يذكر الولد. والذي يقرأ هذه الأسماء يقرؤها وكأنها أسماء أشخاص حقا, ولكننا إذا قرأناها قراءة نقد، نرى أن بعضها أسماء مواضع ومواقع، أو أسماء قبائل وعشائر, أو أسماء طواطم،
__________
1 Hastings, P. 285
2 راجع السفر العاشر من التكوين، الآية الأولى, Hastings, P. 285(2/118)
أي: أسماء حيوانات تسمت بها القبائل، مثل "ذئب" و"كلب" و"أسد" و"ضبة" وأمثال ذلك، وكلها كناية عن قبائل وشعوب عاشت قبل الشروع في تدوين هذه الأنساب أو في أيام التدوين.
ويظهر من كيفية عرض هذه الأنساب وجمعها وتبويبها أن في العبرانيين جماعة من النسابين اختصت بجمع الأنساب وحفظها، ومنهم من كان يعتني بجمع أنساب الغرباء عن بني إسرائيل، وربما كان كتبة الأسفار من هؤلاء. فلما شرع كتبة أسفار التكوين بقصة الخلق وبكيفية توزع شعوب العالم وظهور الإنسان على سطح الأرض، كان لا بد من ذكر الشعوب وأنسابها على أسلوب كتابة التأريخ في ذلك العهد، فاستعين بما تجمع عند نسابي العبرانيين من علم بالنسب، وأدرج في هذه الأسفار.
وقد وردت في التوراة في أسفار التكوين وفي "أخبار الأيام الأول" أسماء قبائل عربية رجعتها إلى مجموعات، مثل مجموعة "يقطن" "يقطان"، ومجموعة الإشماعيليين، أي: الإسماعيليين، نسل إسماعيل، غير أنها لم تشر كعادتها بالنسبة إلى كل أنساب البشر, إلى المورد الذي أخذت منه تلك الأنساب؛ لذلك لا ندري إذا كانت التوراة قد اقتبست ما ذكرته عن أنساب الأمم من الأمم التي تحدثت عن نسبها، بأن أوردت تلك الأنساب على نحو ما كان شائعًا متعارفًا عند الأمم المذكورة بالنسبة لنسبها، أو أنها روتها على حسب ما كان متعارفا عنه قدماء العبرانيين في أجداد البشر وفي أنسابهم، فدونتها على هذا النحو الشائع بين العبرانيين إذ ذاك.
أما النصوص الجاهلية، فإنها لم تتحدث ويا للأسف، عن مجموعات قبائل على النحو المتعارف عليه عند علماء النسب. ولكنها جاءت بأسماء قبائل عديدة كثيرة، لم يعرف من أمرها أهل الأخبار والنسب شيئًا. فنحن نقف على أسمائها لأول مرة، بفضل تلك الكتابات.
وقد أفادتنا الكتابات الجاهلية فائدة كبيرة من ناحية دراسة أسماء القبائل الواردة في كتب النسب والموارد الإسلامية الأخرى، إذ مكنتنا من الوقوف على الصلات بينها، وعلى معرفة ما سمي منها بالأب أو الابن أو الأم، كما عرفتنا على مواطن عديدة من مواطن الخطأ التي وقع فيها النسابون وأصحاب الأخبار، وعلى كثير من الوضع الذي وضع في النسب أو في القصص المروي عن القبائل جهلًا(2/119)
أو عمدًا أو ظهورًا بمظهر العلم والإحاطة بأنساب العرب وأخبارهم، الجاهليين منهم والإسلاميين.
ولم أجد في الشعر الجاهلي هذه القحطانية والعدنانية التي يراها أهل النسب والأخبار، وأقصى ما وجدته فيه قصيدة للأخنس بن شهاب بن شريق التغلبي حوت أسماء قبائل وأسماء مواطنها ومواضعها، هي: "معد" و"لكيز" و"بكر" و"تميم" و"كلب" و"غسان" و"بهراء" و"إياد" و"لخم"1. وهي قبائل بعضها عدنانية وبعضها قحطانية في اصطلاح أهل النسب، إلا أنني لم أجد فيها أسماء آباء هذه القبائل ولا أجدادها، ولم أستطع أن أفهم منها أن هذه القبيلة، هي قبيلة عدنانية، وأن تلك قبيلة قحطانية، فقد جاءت الأسماء متداخلة وكل ما وجدته فيها مما يخص النسب، هذا البيت:
فوارسها من تغلب ابنة وائل ... حماة كماة ليس فيها أشائب
ولم يرتفع الأخنس بنسب تغلب إلى ما وراء وائل من آباء وأجداد.
والحق: إن من يقرأ هذه القصيدة دون أن يقرأ اسم صاحبها، يرى أنها من قصائد الشعراء المتكلفين الذين ظهروا في أيام الدولة العباسية، ولن يخطر بباله أبدًا أنها من نظم شاعر جاهلي. وأنا أريد أن أتجاسر فأقول: إني أشك في صحة نظم ذلك الشاعر لهذه القصيدة، وأسلوب نظمها يأبى أن يرجعها إلى ذلك العهد.
وقد خصص "ابن النديم" في كتابه "الفهرست" فصلًا بـ"أخبار الأخباريين والنسابين وأصحاب الأحداث"، ذكر فيه أسماء بعض من عرف واشتهر بحفظه للأنساب، ولا سيما من ألف فيهم تأليفًا في النسب. وقد طبعت بعض مؤلفات المذكورين، وهي متداولة بين الناس. والذين ذكرهم "ابن النديم" هم من اشتهر وعرف وذاع خبره في العراق وفي البيئة التي اتصل بها "ابن النديم"، وهم من أهل الحواضر في الغالب، إلا أن بين أهل البوادي والأماكن القصية النائية المنعزلة جماعة كانت قد تخصصت بالنسب، انحصرت شهرتها في البيئة التي
__________
1 المفضليات "ص95 وما بعدها"، طبعة السندوبي، القاهرة 1926م.(2/120)
عاشت فيها. ولهذا لم يصل خبرهم إليه وإلينا، وكثير منهم لم يؤلف في النسب تأليفا، وإنما حفظه حفظًا، شأنهم في ذلك شأن النسابين الجاهليين، أو الذين أدركوا الإسلام.
ونجد في كتب الأدب والتواريخ قصصًا عن بعض النسابين في الجاهلية وفي الإسلام, يثير الدهشة من قدرة وشدة الحافظة عند أولئك النسابين في حفظ الأنساب, وقد عرف أحدهم بـ"النَّسَّابة"، فقيل: "فلان النسابة" أو "النسابة". وقد كان لهم شأن خطير بين قومهم؛ لأنهم المرجع في الأحساب والأنساب، وإليهم المفزع عند حصول اختلاف في الأمور المتعلقة بها. ويذكر أن الخليفة "عمر" أمر بتسجيل الأنساب وتبويبها وتثبيتها في ديوان، وذلك عند فرضه العطاء، "فبدأ بالترتيب في أصل النسب، ثم ما تفرع عنه، فالعرب: عدنان وقحطان, فقدم عدنان على قحطان؛ لأن النبوة فيهم وعدنان تجمع ربيعة ومضر، فقدم مضر على ربيعة لأن النبوة فيهم، ومضر تجمع قريشا وغير قريش، فقدم قريشا لأن النبوة فيها, وقريش تجمع بني هاشم وغيرهم، فقدم بني هاشم لأن النبوة فيهم، فيكون بنو هاشم قطب الترتيب، ثم بمن يليهم من أقرب الأنساب إليهم حتى استوعب قريشًا، ثم بمن يليهم في النسب حتى استوعب جميع عدنان1. وقد كان هذا التسجيل سنة خمس عشرة للهجرة في رواية، أو سنة عشرين في رواية أخرى2.
وذكر أن الخليفة قال: "أيما حي من العرب كانوا في حي من العرب أسلموا معهم فهم معهم، إلا أن يعترضوا، فعليهم البينة، كالذي فعله مع "بجيلة" رهط جرير بن عبد الله بن جابر، وكانوا قد تفرقوا، واغتربوا بسبب حروب وقعت بينهم والتحقوا بقبائل أخرى. وروي أن عوف بن لؤي بن غالب ألحق نسبه بـ"غَطَفان"، والتحق نسب بنيه "بني مُرَّة" بغطفان، ويقال: إن الخليفة قال: لو كنت مستلحقًا حيًّا من العرب، لاستلحقت بني مرة؛ لما كنا نعرف فيهم من الشرف البين، مع ما كنا نعرف من موقع عوف بن لؤي بتلك البلاد. ثم قال لبعض أشرافهم: إن شئتم أن ترجعوا لنسبكم من
__________
1 البلاذري، فتوح "3/ 549"، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "3/ 113"، بلوغ الأرب "3/ 190".
2 الكامل، لابن الأثير "2/ 212"، اليعقوبي "2/ 130"، الطبري "4/ 162".(2/121)
قريش، فافعلوا. ولكنهم كرهوا أن يتركوا نسبهم في قومهم، ولهم فيهم من الشرف والفضل ما ليس لغيرهم"1.
وقد ضاعت أصول الجرائد التي دونت عليها الأنساب في ذلك الديوان، ولم يبقَ منها شيء. ويظهر أن أهل الأخبار لم ينقلوا صورها، وإنما أخذوا الأسس التي قام عليها التسجيل على نحو ما ذكرت، وبالجملة: فإن في إشارتهم إلى تلك الأسس والقواعد التي سار عليها الخليفة في اتخاذ القربى بالرسول والوضع القائم للقبائل، فائدة كبيرة لدراسة أسس تثبيت الأنساب عند العرب في صدر الإسلام.
ويذكر أن الذي قام بوضع مخطط الأنساب وبتسجيل القبائل والعشائر وفق الخطة التي أشرت إليها، هو "عقيل بن أبي طالب"، وهو من الثقات في معرفة الأنساب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وأن الذي أشار عليه بتدوين النسب في الدواوين هو "الوليد بن هشام بن المغيرة" لما رآه من عمل الروم في تسجيل العطاء في بلاد الشام2.
ولم يقتصر التسجيل المذكور على تسجيل نسب القبائل وحدها، بل شمل ذلك نسب أهل القرى أيضًا، كنسب أهل مكة والمدينة والطائف وغيرها؛ وذلك لأن سكانها وإن كانوا من أصحاب المدر، وقد أقاموا واستقروا في بيوت ثابتة، إلا أنهم كانوا كالأعراب من حيث الانتساب إلى الآباء والأجداد. وقد رأينا أن عمر كان قد بدأ بقوم الرسول، وقومه حضر من أهل مكة، إلا أنهم كانوا لا يختلفون عن أهل الوبر في التعلق بالأنساب وفي حفظها؛ لأن حياتهم الاجتماعية وإن كانت في قرية، إلا أن غريزة المحافظة على النفس والدفاع عن الحقوق حملتهم مثل الأعراب على التمسك بالعصبية، بعصبية النسب؛ ليتمكنوا من المحافظة على الأمن والسلامة والمال، لعدم وجود حكومة قوية تقوم إذ ذاك بتأمين هذه الواجبات. ثم إن هذه الأماكن محاطة بالأعراب، وبين أهل مكة من كان شبه حضري، وبيئة مثل هذه لا بد لها من الاحتماء بعصبية النسب، وبالتزاوج مع الأعراب؛ لتكوين رابطة دموية، تؤدي إلى عصبية تضطر الطرفين إلى الدفاع عن مصالحهما المشتركة وتكوين كتلة واحدة تستجيب للنخوة ولنداء
__________
1 شرح المفضليات "ص101، 116".
2 البلاذري "3/ 549"، الطبري "3/ 200"، ابن أبي الحديد، شرح "3/ 113".(2/122)
الاستغاثة في ساعة الحاجة والضرورة؛ ولهذا كان للتزاوج عند العرب أهمية كبيرة في السياسة. ومن هنا نظر سادات القوم والملوك إلى التزوج من بنات سادات القبائل الكبيرة نظرة سياسية في الدرجة الأولى؛ وذلك لشد عضدهم ولتثبيت ملكهم ولضبط القبائل، وبضبطها يستتبُّ الأمن وينتصر على الأعداء. وقد كان لزواج معاوية في الإسلام من "كلب" أثر كبير في السياسة الأموية, وفي تثبيت ملكه وملك ابنه يزيد وملك مروان الذي انتصر بهم في معركة "مرج راهط" على القيسيين.
وعلى الرغم من التسجيل المذكور الذي كان للعطاء، أي: لأغراض حكومية رسمية، فإن أنساب القبائل لم تثبت ولم تستقرَّ إلا بعد ذلك بأمدٍ. وآية ذلك ما نجده من خروج قبائل في العصر الأموي من نسب قديم، ودخولها في نسب آخر جديد. وقد كان شروع النسابين في تسجيل علمهم وتدوينه، مما ساعد كثيرًا ولا شك في تثبيت هذه الأنساب وإقرارها، ولا سيما أنساب القبائل المشهورة المعروفة, وقد وصلت بعض كتب الأنساب، وطبع قسم منها.
وقد وضع بعض المؤلفين، مثل الواقدي أبي عبد الله محمد بن عمر المتوفى سنة "207هـ" مؤلفًا في "وضع عمر الدواوين, وتصنيف القبائل ومراتبها وأنسابها"1، إلا أنها ضاعت، فحرمنا الاستفادة منها، ولو بقيت مثل هذه المؤلفات إذن لكان لنا علم قيم, ورأي في كيفية تصنيف القبائل في تلك الأيام.
وقد كان بعض النسابين قد تخصص بنسب جماعة من العرب، جماعة قومه ومن يرتبط بهم في الغالب, مثل "الزبير بن بكَّار" صاحب كتاب "نسب قريش وأخبارها"2، ومثل "عقيل بن أبي طالب"، وكان قد تخصص بنسب قريش، ومثل "أبي الكناس الكندي"، وكان أعلم الناس بنسب كندة، ومثل "النجار بن أوس العَدْواني"، وكان من أحفظ الناس لنسب "معد بن عدنان"، ومثل "عدي بن رثاث الإيادي"، وكان عالما بإياد، ومثل "خراش بن إسماعيل العِجْلي"، وكان عالما بنسب ربيعة3. وعن هؤلاء وأمثالهم
__________
1 الفهرست "ص150".
2 الفهرست "ص166".
3 الفهرست "ص146".(2/123)
أخذ أهل الأنساب علمهم بالأنساب، ووضعوا كتبًا في نسب القبائل، أو في أنساب العرب، أو في أنساب جماعة منهم.
ولتسجيل "عمر" للأنساب شأن كبير بالنسبة إلى الباحثين في تطور النسب عند العرب؛ لأنه ثبت بذلك الأسس ووضع القواعد للنسابين في الإسلام وقلل من الاضطراب الذي كان يقع في النسب؛ بسبب الاختلاط، وعليه سار المسلمون في تقسيم العرب إلى أصلين. ولا بد أن يكون لهذا التقسيم أصل قديم, يرجع إلى ما قبل عمر, أقره الخليفة, وجعله أساسا له في التقسيم الذي بقي مرعيا متعارفا عليه بين النسابين إلى اليوم. ويمكن أن نقارن هذا العمل، أي تسجيل النسب وتثبيته في سجلات، بالعمل الذي قام به "عزرا" في تثبيت أنساب اليهود وتدوينها، وفي تدوين أنساب الغرباء، لتستقر بذلك الأنساب فسار من جاء بعده من النسابين في تعيين النسب على أساس ذلك التدوين1.
وفي القرآن الكريم آيات تشير إلى عناية القوم بأحسابهم وأنسابهم، ولكنه لم يتعرض لبيان وجهة نظرهم بالنسبة إليها، ولا يشعر في موضع ما منه بوجود تلك الفكرة التي ألح على وجودها أهل الأخبار، وهي انقسام العرب إلى ثلاث طبقات أو طبقتين، ووجود نسبين أو جملة أنساب للعرب، ولم يرد فيه اسم "عدنان" ولا "قحطان"، ولا أي من هذه الأشياء التي يتمسك بها أهل الرواية والأخبار، ويقصونها لنا على أنها من الحقائق الثابتة في أنساب العرب، وعلى أن العرب كانوا حقا من جدين هما: عدنان وقحطان.
بل كان ما ورد في القرآن يشعر أن العرب كانوا ينظرون إلى أنفسهم أنهم من جد أعلى واحد، هو: "إبراهيم", وأن "إبراهيم" أبو العرب: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ... } 2, فلم يفرق بين عرب قحطانيين وعرب عدنانيين. ورُوي: أن الرسول قال: "كل العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم -عليه السلام-"3.
__________
1 Hastings, P. 286
2 سورة الحج، رقم 22، الآية 78.
3 ابن سعد، الطبقات "جـ1، ق1، ص25".(2/124)
بل حتى الشعر الجاهلي، لا نجد فيه إشارة واحدة تفيد اعتقاد الجاهليين بوجود أصلين أو ثلاثة أصول أو أكثر لهم. وكل ما ورد فيه هو فخر بقحطان وفخر بعدنان أو معد أو غير ذلك من الأسماء التي تعد من أسماء الأجداد التي ينتهي إليها "الشعب" أو "الجذم". وأما التفصيلات الأخرى والأسماء الواردة في كتب النسب أو الأخبار والتواريخ، فهي من روايات الإسلاميين. ثم إن من الشعر الجاهلي ما لا يصح أن يكون جاهليًّا، ومنه ما قيل قبيل الإسلام، ولا يصح كل الشعر الجاهلي أن يكون شاهدًا على آراء أهل الجاهلية البعيدين عن الإسلام.
كذلك لا نجد في شعر الجاهلية سلسلة نسب قحطان أو عدنان, ولا نجد في الأخبار ما يفيد وقوف أهل الجاهلية عليها. وهي سلسلة أخذت أسماؤها من التوراة، وبعضها أسماء محرفة موضوعة على شاكلة الأسماء التوراتية. أما في الحديث النبوي، فقد ورد أن الرسول انتسب إلى "أدد"، وهو والد "عدنان"، ثم قال: "كذب النسابون"1. وفي كل ذلك دلالة على أن أسماء آباء قحطان وعدنان، إنما دونت وتثبتت في الإسلام. أما قبل الإسلام، فلعل بعضهم وفي أيام الرسول، كان قد تلقن من اليهود نسب قحطان، وأن بعض اليهود لقن العرب نسبًا لعدنان، فلما لاكت الألسنة تلك الأنساب، وسمعها الرسول قال: "كذب النسابون".
أما أسماء أبناء قحطان وعدنان فما دون ذلك، فإنها أسماء عربية في الغالب، وينقطع منها أثر التوراة وأثر الأسماء التوراتية، مما يدل على أن النسابين العرب كانوا على علم وبصيرة بتلك الأسماء، وأنها كانت معروفة عندهم. وهي أسماء لا ترد في التوراة ولا خير لها عند أهل الكتاب.
وقد ذهب "دوزي" إلى وجود فروق أساسية بين القحطانيين والعدنانيين، حتى ذهب إلى وجود اختلاف بين نفسية كل جماعة من الجماعتين2. وأنا لا أريد أن أنكر عليه وجود العداء الذي كان قد استحكم بين القبائل التي تنتسب إلى معد أو إلى قحطان، ولا أريد أن أنكر عليه تهجم شعراء اليمن على قبائل معد،
__________
1 نسب عدنان "ص1".
2 dozy, gesch. D. mauren in spanien, bd. I, s. 73, goldziher, muh. Stud
Bd. I, s. 89, nallino, reccolte, vol. 3, p. 73(2/125)
أو عدنان، ولا تهجم شعراء عدنان على قبائل اليمن المنتمية إلى قحطان، ولا أريد أن أنكر افتخار اليمانيين بانتسابهم إلى اليمن، ولا افتخار العدنانيين بانتسابهم إلى عدنان أو مضر أو معد أو غير ذلك من أسماء الشعوب والأجذام، لا أريد أن أنكر شعر "امرئ القيس" في افتخاره بنسبه في اليمن1، ولا أن أنكر شعر غيره من الشعراء اليمانيين أو الشعراء العدنانيين في الافتخار باليمن أو بمضر أو بمعد, ولكنني لا أريد أن أنكر في الوقت نفسه افتخار القبائل القحطانية بعضها على بعض، وافتخار القبائل العدنانية بعضها على بعض، وهجاء القبائل القحطانية بعضها لبعض، وهجاء القبائل العدنانية بعضها لبعضها هجاء لا يقل عن هجاء اليمن لمعد أو هجاء معد لليمن. فهل يصح أن يتخذ هذا الهجاء سببًا لوضع نظرية في اختلاف أجناس هذه القبائل؟ وهل يصح أن نجعل هذا الهجاء حجة على تباين أصل القحطانيين، وعلى تباين أصل العدنانيين؟ إن جاز ذلك، وجب علينا إذًا إعادة النظر في كل ما هو مكتوب عن أصول القبائل, وفي كل ما هو مدون في كتب النسب والأخبار.
هذا "سلامة بن جندل السعدي"، وهو من مضر، يحمل في شعره على معد، ويهجوها هجاءً مرًّا2، وهذا "قيس بن الخطيم" لسان الأوس يحمل على الخزرج، ويردد ذكريات الأيام التي كانت بين الأوس والخزرج بمثل الشدة التي تجدها في شعر الهجاء الذي قاله العدنانيون في القحطانيين، والقحطانيون في العدنانيين. إنه ذكر تلك الأيام لا لمجرد الفخر والتباهي، بل ليثير في نفوس الأوس الأحقاد القديمة، وليزيد في تلك النيران نيرانًا. لقد ذكرهم بـ"يوم الربيع"3، وذكرهم بـ "يوم السرارة"4، وذكرهم بـ "يوم مضرس
__________
1"إنا معشر يمن"، Muh. Stud. Bd. I, S. 89.2
همت معد بنا همًّا فنهنهها ... عنا طعان وضرب غير تذبيب
بالمشرفي ومصقول أسنتها ... صم العوامل صدقات الأنابيب
المفضليات "ص237".
وقال الجميع الأسدي:
سائل معدًّا من الفوارس لا ... أوفوا بجيرانهم ولا غنموا
المفضليات "ص45".
3 شعر قيس "ص7".
4 شعر قيس "ص20".(2/126)
ومعبس"1، وهو يوم دارت فيه الأيام دورتها على الأوس، فقُتل منهم عدد كبير، وانهزم أكثرهم إلى بيوتهم وآطابهم، حتى خرج الناس من طوائفهم إلى مكة يستعينون على الخزرج، وذكرهم بأيامهم الأخرى2. كل ذلك بلهجة عنيفة شديدة، ليس فيها لين ولا رفق, إنه ينظر إلى الخزرج نظرة عداء وحقد، نظرة تشعر منها أن الأوس جنس وأن الخزرج من جنس بعيد آخر. لقد ذكر قريشًا بخير، وذكر أنها ستحمل عنهم حرب الخزرج، وذكر أنهم لو التحقوا بأبرهة اليماني أو بنعمان أو عمرو3، لنالوا من هؤلاء كل تقدير، ولجعلوا لهم جاهًا أي جاه.
ذكر أبرهة حاكم اليمن، وذكر غسان ولخمًا، وذكر أهم من ذلك كله قريشًا على أنها ستحمل الحرب وستقابل الخزرج عما قريب. وقريش من عدنان، والأوس والخزرج من قحطان، ولم نجد في شعره ما يذكر برابطة النسب بين الخزرج والأوس, ولم يرد في شعره اسم قحطان أو عدنان. والقصيدة التي ذكر فيها هذا اليوم هي من أقدم قصائد هذا الشاعر الذي اضطرت قبيلته "الظفر"، ومعها "عبد الأشهل" إلى مغادرة يثرب والتفتيش عن حليف يساعدها في العودة إلى ديارها، فذكر قيس قريشًا، وكأنه يذكر قبيلة قريبة من قبيلته4، مع أنها من نسب آخر في رأي النسابين.
وفي كتب الأدب والدواوين شعر كثير ينسب إلى شعراء جاهليين وشعراء مخضرمين وشعراء إسلاميين، فيه هجاء عنيف من شاعر قحطاني لقبائل قحطانية، ومن شاعر عدناني لقبيلة عدنانية، وفيه مدح وفيه إغراق من شاعر قحطاني لقبائل عدنانية، وهجوم عنيف على القحطانيين، وهكذا. ولو أردنا شرح ذلك وسرد الأمثلة، لأخذ ذلك منا وقتا طويلا يخرجنا عن صلب الموضوع، وينقلنا على أمور أخرى لا صلة لها بهذا البحث.
ثم إن علينا أن نسحب حسابا لأمر هذا الشعر المروي في المدح والفخر وفي
__________
1 شعر قيس "ص32"، ديوان حسان بن ثابت "تحقيق هرشفلد" "ص83 فما بعدها".
2 شعر قيس "ص32".
3 شعر قيس "ص67" "القسم الألماني".
4 شعر قيس "ص67" "القسم الألماني".(2/127)
الذم والهجاء، وهو عندي أوسع باب من أبواب الشعر يحتمل النقد، وإثارة الشكوك حوله. وقد خبرنا من الكتب أن القبائل كانت تستأجر الشعراء لقول المدح أو الذم، وأنها كانت تعد الشاعر منحة من منح الله على القبيلة؛ لأنه لسانها الناطق والذائد عنها بشعره، يدافع عن قبيلته، ويهاجم أعداءها، ويتهمهم بكل ما يصل إليه فنه من الهجاء ورمي التهم، كائنين ما كانوا قحطانيين أو عدنانيين. وقد اقتضت طبيعة الخصومة التي زادت حدتها في الإسلام بين يمن ومضر وضع شيء كثير من هذا الشعر, شعر المنافرة والمفاخرة بين عدنان وقحطان، وهذا أمر وقع، مفروغ منه، لا شك في صحته وثبوته، اقتضته ظروف السياسة، فيجب الانتباه له حين التحدث عن نزاع قحطان وعدنان1.
وترينا الأخبار أن ما نسميه بنزاع قحطاني وعدناني لم يكن شديدًا في الجاهلية بين القبائل التي كانت تقيم في الأنحاء الشمالية من جزيرة العرب، أي: بين تلك القبائل التي أرجع النسابون نسبها بحق أو بغير حق إلى عدنان أو قحطان، بمثل تلك الشدة التي تظهر في النزاع الذي تحدثوا عنه بين القبائل التي كانت تعيش في اليمن أو في الحجاز. وهذا أمر ذو بال، يجب أن يحسب له كل حساب عند الحديث عن نزاع عدنان وقحطان2.
وترينا الأخبار كذلك أن الخصومات التي وقعت بين القبائل العدنانية نفسها، أو بين القبائل القحطانية نفسها، لم تكن أقل عنفًا وضراوةً من ذلك النزاع الذي وقع بين من نسميهم بالقحطانيين ومن نسميهم بالعدنانيين. لقد اتخذ شكلا عنيفا، شكلا يجعلك تشعر أن تلك القبائل كانت تشعر أنها قبائل متباعدة لا يجمعها شمل، ولا يربط بينها نسب، ولا تجمعها جامعة دماء على النحو الذي يرويه ويذكره أهل الأنساب والأخبار.
والغريب أنك في كل ذلك النزاع المر العنيف، لا تسمع فيه انتساب كل العرب إلى عدنان أو قحطان، وإنما تسمع فيه فخرًا بأسماء القبائل أو بأسماء الأحلاف الداخلة في عدنان أو في قحطان، تسمع فيه اسم "معد" أو اسم "يمن" أو "نزار" أو "مضر" أو غير ذلك، ولا تسمع فيه اسم الجدين
__________
1 muh. Stud. I, s. 91
2 muh. Stud. I, s. 91(2/128)
الأكبرين المذكورين, فماذا يعني هذا؟ وعلام يدل؟.
ويمن عند أهل الأنساب والأخبار وفي العرف، كناية عن "قحطان"، و"قحطان" عندهم أيضا وفي العرف كناية عن "يمن" وعن الشعوب التي يرجع نسبها إلى "يمن". أما "معد" و"مضر" و"نزار"، فكناية عن "عدنان" أو عن أحلاف من أحلاف عدنان.
وأنت إذا ما أردت أن ترسم حدودًا فاصلة بين "قحطان" و"عدنان"، أي بين "يمن" و"معد"، فإنك تستطيع أن ترسمها بسهولة إذا ما اعتبرت "قحطان" كناية عن اليمن، وأن "عدنان" كناية عن "قريش" والقبائل التي ترجع نسبها إلى نسب قريش, وحدود أرض قريش وحدود أرض اليمن معروفة واضحة. أما إذا أردت أن ترسم حدودا فاصلة، وأن تضع معالمَ واضحة بينة بين القبائل القحطانية والقبائل العدنانية، استنادًا إلى روايات أهل الأنساب والأخبار وإلى الشجرات التي رسموها لأنساب العرب طرًّا، فإنك ستخفق حتمًا، وسيخيب عملك من غير شك؛ ذلك لأن أهل الأنساب لم يسيروا في تقسيمهم العرب على وفق قواعد ثابتة وأسس واضحة مرسومة، مثل اختلاف في ملامح جسمانية، أو تمايز في أمور عقلية أو نفسية أو لغوية، أو اختلاف في مواقع جغرافية، بل ساروا وفقًا للعرف والشائع، فسجلوا الأنساب على وفق الشائع بين الناس عن النسب في ذلك العهد.
وأنت إذا أردت تطبيق ما عندك من علم في "الأثنولوجيا" وفي "الأنتروبولوجي" وفي العلوم المشابهة الأخرى، على التقسيم الثنائي للعرب، فتستجد نفسك حائرًا تائهًا لا مجال لقواعد علمك في هذا المكان. فبين القبائل التي تنتمي إلى "قحطان" مثلًا تباين كبير في الملامح وفي العقلية وفي اللغة، ويجعل من غير الممكن تصور وجود وحدة دموية تجمع شمل هذه القبائل، وجدّ واحد انحدر من صلبه هؤلاء، وبين القبائل العدنانية اختلاف كذلك في الملامح وفي اللغة، يضطرك إلى القول بفساد نظرية النسابين في أصل هذه القبائل؛ ولا بد عندئذٍ من اعتبار هذا النسب رمزًا أخذ من صراع قديم، أو من أحلاف قديمة، فصير جدين لجماعتين.
وكيف تتمكن من إقناع الباحث الحديث في العلوم المذكورة بوجود وحدة في الملامح الجسمية وفي الصفات العقلية، ووحدة في اللسان بين القبائل القحطانية الجنوبية الضاربة في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية, وبين القبائل القحطانية(2/129)
الشمالية، مثل غسان ولخم وكلب وكندة وغيرها, على حين يرى بين الجماعتين فروقًا واضحة بينة في كل شيء, حتى إنه يستطيع أن يشير إلى القحطاني الجنوبي حالًا عند رؤيته له، على حين لا يستطيع أن يميز القحطاني الشمالي من العدناني، ولا أن يعرفه إلا بالاستفسار منه؟. الصحيح أننا إذا أخذنا بالملامح وبالأمور الأخرى المذكورة، خلصنا إلى نتيجة تقول لنا: إن الفروق بين القحطانيين والعدنانيين هي أقل جدًّا من الفروق التي نراها بين القحطانيين الشماليين والقحطانيين الجنوبيين. وهي نتيجة ليست في مصلحة أهل الأنساب بالطبع، تبين لنا أن قضية قحطان وعدنان قضية اعتبارية لا غير.
بل خذ القحطانيين الجنوبيين، وهم لبُّ القحطانية ومادُّتها، تَرَ أن القحطاني الساكن على السواحل الجنوبية يختلف في سحنته عن القحطاني الساكن في المرتفعات والهضاب والجبال, وأن الساكن على السواحل المقابلة للسواحل الإفريقية يختلف في ملامحه الجسمية عن الساكن على السواحل المقابلة للهند، وأن ساكن حضرموت أو عمان أو مسقط يختلفون في الملامح والسحن عن إخوانهم القحطانيين الساكنين في اليمن وفي نجران وفي الأقسام الجنوبية من المملكة العربية السعودية. فهل يكون هذا الاختلاف دليلًا على قحطانية بالمعنى الذي يزعمه أهل الأنساب؟.
ولقد ذهب بعض الباحثين في علم الأجناس البشرية "الأنتروبولوجي" "AnThropology" إلى أن العرب الجنوبيين هم من أصل حامي، وأن وطنهم الأصلي هو إفريقيا1. وقد ذهب بعض آخر إلى وجود شبه كبير في الملامح وفي الخصائص البشرية بين العرب الجنوبيين والقبائل الإفريقية الساكنة على الساحل الإفريقي من البحر الأحمر والصومال، إلا أنه نسب ذلك إلى أن تلك القبائل كانت عربية في الأصل، هاجرت من جزيرة العرب عن طريق باب المندب إلى إفريقيا، فسكنت هناك؛ ومن ثم وقع هذا التشابه بين تلك القبائل والعرب الجنوبيين2.
__________
1 r. poech, berichte des forschungsinstitutes fuer osten und orient, ii, wien, 1918, 19, ff. v. gluffrida-ruggerl, affinita antropologiche fra etloplcl e arabl meridionali, annuarlo del r. instituto orlentale di napoil, 1919-20, a. grohmann, arabien, s.9
2 les antiquités du yamen, muséon, 61, 1948, 225. ff(2/130)
ورأى آخرون أن العربية الجنوبية هي مزيج من الأجناس البشرية واضح المعالم، وذلك منذ أقدم أيامها. فنرى فيها قبائل تشبه جماعة "الفيديد" "Weddid" الهندية، وهي من السلالات الهندية القديمة، يسكن بعضها في أرض "سيبان" و"معارة" من حضرموت، ونرى فيها عناصر مما يطلق عليها اسم "الجنس الشرقي" "Orientalide Rasse"، وهو الجنس الذي يكثر وجوده بين العرب الشماليين، وعناصر أخرى تمثل إنسان حوض البحر المتوسط "Mediterranen Rasse" أو الأجناس الأوروبية، حيث وجد بعض السياح بين بعض قبائل اليمن جماعة من الناس لها عيون زُرْق وشعر أشقر وبشرة بيضاء أو تميل إلى البياض وملامح أوروبية بينة، وتتراوح نسبة هؤلاء بين 8 إلى 12 بالمائة1.
ووجد الباحثون بين قبائل العربية الجنوبية، جماعات لها ملامح آشورية وجماعات ذات ملامح تشبه ملامح سكان آسية الصغرى، وجماعات ذات ملامح إفريقية. وقد وجد الدكتور "سليمان أحمد حزين" أن بين أهل شمال اليمن وبين أهل جنوب اليمن إلى المحيط اختلافات بارزة في الملامح وفي المظاهر الجسمية يخرجنا البحث عنها هنا من حدود التأريخ العام2, ووجد غيره مثل ذلك, كما وجد هذا الاختلاط بارزًا في بقايا الهياكل البشرية القديمة التي عثر عليها في العاديات.
وما هذه المظاهر والملامح التي رأيناها من الجماجم وبقية الهياكل البشرية ومن أشكال التماثيل والصور، ومن دراسات الباحثين "الأنتروبولوجيين" للقبائل الحاضرة، إلا حكاية واضحة صريحة عن عملية امتزاج أجناس بشرية متعددة في العربية الجنوبية، بسبب الهجرات والحروب والاتصال البحري والتجارة وعوامل أخرى، ونجد مثل ذلك بالطبع بين من نسميهم بالعرب الشماليين. وسوف نرى أن الدول القديمة كانت تنقل البشر نقلًا من مناطق إلى مناطق فتزرعم فيها، وأن أكثر أفراد الجيوش التي كانت ترسل لمحاربة القبائل أو للتوسع في الجزيرة كانت تبقى وتستقر في المواضع التي ترسل إليها، فتتطبع بطباع من نزلت بينهم، وتكون في النهاية منهم، أضف إلى ذلك الرقيق.
__________
1 A. Grohmann, arabien, s. II
2 بعثة جامعة فؤاد الأول سنة "1936م".(2/131)
وقد ذكر أن جماعة من "بني الحارث بن كعب" وفدت على الرسول، فنظر إليهم، فقال: "من هؤلاء الذين كأنهم من الهند؟ ", وقد كان "قيس بن عمرو" الشاعر المعروف بـ"النجاشي" من هؤلاء1. وسواء أكان ما نسب إلى الرسول من قوله المذكور صحيحا أم موضوعًا، فإن الأخبار تذكر أن بشرة "بني الحارث بن كعب" كانت تميل إلى السمرة الشديدة، بل إلى السواد الذي يشبه سواد بشرة الإفريقيين، أفلا يجوز أن يكون أصلهم من إفريقيا, وقد عرفت جماعة كبيرة من أهل مكة بالأحابيش؛ لأن أصلهم من رقيق الحبشة والسواحل الإفريقية المقابلة لجزيرة العرب؟.
فدعوى وجود جنس "أنتروبولوجي" واحد أو جنسين منفصلين، لكل منهما خصائص جسمية وملامح "فسيولوجية" معينة للعرب، وبالمعنى العلمي المفهوم اليوم عند علماء الأجناس، هي دعوى غير مقبولة؛ لأن البحوث العلمية والمختبرية لا تؤيدها ولا تثبتها، ولأن البحوث التأريخية الحديثة تعارضها أيضا، وكل ما نقوله هو أن ما نسميه اليوم بالجنس هو جنسية ثقافية فكرية، لا جنسية دموية تقوم على وحدة الملامح والمظهر والدم.
فما يذكره أهل الأنساب عن النسبين، وما يتصوره بعض الناس من صفاء الجنس العربي صفاء تاما ونقائه من كل دم غريب، دعوى لا يمكن الاطمئنان إليها في هذا اليوم. لن يضير العرب قول مثل هذا، فصفاء الأجناس البشرية صفاء تاما، من القضايا التي عجز حتى القائلون بنظرية العنصريات مثل النازيين عن إثباتها في هذا اليوم, وسيظهر ضعفها في المستقبل ظهورًا أوضح مما هو عليه الآن.
لقد كان "نولدكه" أول من شك في المستشرقين في هذا النسب العام الذي وضعه أصحاب الأنساب للعرب، وكان أول من نبه على أثر اليمانيين في وضعه وفي محاولتهم إرجاعه إلى عهود قديمة قبل الإسلام2. وذهب "هاليفي" إلى أبعد من ذلك، فرأى أن كل ما قيل في هجرة القبائل اليمانية إلى الشمال هو أسطورة،
__________
1 البيان "1/ 239"، الإصابة "858"، الخزانة "1/ 113".
2 muh. Stud. Bd. I, s. 92, noeldeke, in zdmg. Xl(2/132)
وأن ما يزعم من انتساب تلك القبائل إلى اليمن هو حديث خرافة لا يركن إليه1.
ونحا مستشرقون آخرون هذا المنحى، فرأوا أن للنسابين يدًا في ترتيب هذه الشجرة العظيمة للأنساب، أو الشجرتين, بتعبير أصح: شجرة نسب أبناء قحطان، وشجرة نسب أبناء عدنان؛ ولذلك فهم لا يطمئنون إليها، ولا يصدقون بكثير من هذه الأنساب المروية وبالأخبار والروايات الواردة في هجرة القبائل القحطانية نحو الشمال2.
إذن، فقحطان ليس بجد لكل القبائل القحطانية المعروفة، وعدنان لم يكن جدًّا لجميع القبائل العدنانية، وإنما هما كنايتان عن مجموعة قبائل، تدعى عند العرب بـ"الحلف"، وقد أخذ أهل النسب قحطانهم من التوراة، وهو هناك كناية عن مجموعة قبائل مواطنها في العربية الجنوبية. أما "عدنان" فلم يرد اسمه في التوراة، ولا نعرف من أمره شيئًا في الزمن الحاضر، والظاهر أنه كناية عن حلف، ويظهر أنه ظهر للوجود قبيل للإسلام. وعدم وقوفنا على أخباره، لا يسوِّغ لنا نكران وجوده، فلعل الأيام تكشف لنا عن كتابات نرى فيها اسمه، كما حدث بالنسبة إلى أسماء أخرى شك في أصلها بعض المستشرقين، ثم تبين أنها كانت معروفة، بدليل ورودها في بعض كتابات الجاهليين.
ولا أعتقد أن التوراة ابتدعت فكرة "يقطان" ونسل يقطان؛ إذ لا يعقل تصور ذلك, والذي أراه أنها حكت نسبًا كان يجمع شمل القبائل العربية المذكورة عند العرب، وصل خبره إلى العبرانيين فسجله كتبة التوراة في الأسفار، مع أنساب الشعوب. كما أنها أخذت من العرب أيضا نسب "الإشماعيليين" على نحو ما كان معروفًا يومئذ، وكذلك نسب أبناء "قطورة". فتكون التوراة قد ذكرت أنساب ثلاث مجموعات أو أحلاف عربية كبيرة، كانت قائمة في ذلك الزمن.
وقد يكون من الخير الإتيان بأمثلة من أيام الإسلام, تساعدنا في شرح موضوع النسب عند الجاهليين وتفسيره. فإن الزمن وإن تغير وتبدل في الإسلام
__________
1 muh. Stud. Bd. I, s. 92, halévy, in journal asiatique, 1882, ii, 490, and compte rendu de vi, international orlentalisten congress, leiden, 1884, p. 102
2 nicholson, a literary history of the arabs p. xx, l. della vida, pre-islamic arabia, in arab heritage, 50, robertson smith, kinschip, p. 6(2/133)
وتباعد عن الجاهلية، إلا أن الأفكار القبلية بقيت هي هي عند تلك القبائل بالنسبة إلى النسب وتكوين الأحلاف. فقبيل ظهور الإسلام كان بين "يثرب" و"مكة" نزاع شديد, ولما هاجر الرسول إلى "يثرب" عرف أتباعه الذين تبعوه بالمهاجرين, وقد دامت الهجرة إلى عام الفتح: "فتح مكة"1. وأما أهل المدينة الذين آووا الرسول ونصروه، فقد عرفوا بالأنصار لانتصارهم للرسول ولتقديم مساعداتهم له وللمسلمين. وللقضاء على الخصومة، آخى الرسول بين الأنصار والمهاجرين, غير أن العداء عاد فتجدد بين الأنصار والمهاجرين بعد وفاة الرسول، ويظهر أثره في شعر حسان بن ثابت والنعمان بن بشير2 والطرماح بن حكيم، وهم شعراء يثرب وألسنتها، وفي الأشعار الأخرى التي جمعت في دواوين الأنصار3.
وقد صير النزاع المذكور لفظة "الأنصار" علما خاصا على أهل المدينة، حتى كادت تكون نسبًا، واصطبغت الدعوة بصبغة يمانية؛ فنجد في شعر الأنصار فخرا باليمن، واعتزازا بأصلهم اليماني، ومجاهرة بأنهم يمانيون صرحاء وبأنهم من أقرباء الغساسنة ومن ذوي رحمهم. كما أنهم استعملوا لفظة الأنصار مقابل قريش4 ومعد5 ومضر6 ونزار7، وأطلقوا على لسانهم حسان بن ثابت شاعر الأنصار، وشاعر اليمن، وشاعر أهل القرى8.
__________
1 "فلما فتحت مكة، صارت دار سلام كالمدينة، وانقطعت الهجرة. وفي الحديث: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" "، اللسان "7/ 111"، المؤتلف "ص126".
2 الأغاني "13/ 142"، "14/ 114 فما بعدها".
3 "كاد نهيك بن إساف يهاجي أبا الخضراء الأشهلي في الجاهلية، وأشعارهم موجودة في أشعار الأنصار"، الأغاني "20/ 117".
4
ذهبت قريش بالمكارم والعلا ... واللؤم تحت عمائم الأنصار
الأغاني "13/ 142".
5
وقال الله قد يسرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد ... قتال أو سباب أو هجاء
فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء
ديوان حسان "ص1" "تحقيق هرشفلد"، شرح ديوان حسان، للبرقوقي "ص6", "سباب أو قتال".
6
ونحن جندك يوم النعف من أحد ... إذ حزبت بطرًا أشياعها مضر
ديوان حسان "ص57"، شرح ديوان حسان "ص200" "للبرقوقي".
7 muh. Stud. Bd. I, s. 94, zdmg. Xviii, s. 239
8 مجالس ثعلب، القسم الثاني، تحقيق عبد السلام محمد هارون، سنة 1949 "ص429".(2/134)
ونجد في أيام معاوية وفي أيام ابنه يزيد قصصًا عن هذا النزاع اليثربي المكي، النزاع الذي سمي بنزاع الأنصار مع المهاجرين، أو نزاع الأنصار مع قريش، ويلاحظ أن هذا القصص لم يستعمل لفظة "مهاجرين" في مقابل "الأنصار" إلا نادرًا، إنما استعمل الألفاظ المذكورة. وقد عرفت وفودهم فيه بـ"وفود الأنصار" أو "الأنصار"1, فصارت تلك اللفظة وكأنها نسب أو علم من أعلام القبائل، حتى تضايق من ذلك رجال قريش. قيل: بينما كان "عمرو بن العاص" عند "معاوية" يومًا، إذ دخل عليه حاجبه يقول: "الأنصار بالباب"، فتضايق من ذلك عمرو، وقال: "ما هذا اللقب الذي قد جعلوه نسبًا؟ ارددهم إلى نسبهم". فقال له معاوية: إن علينا في ذلك شناعة. قال: وما في ذلك؟ إنما هي كلمة مكان كلمة، ولا مرد لها. فقال معاوية لحاجبه: اخرج، فنادِ: مَنْ كان بالباب من ولد عمرو بن عامر، فليدخل. فخرج، فنادى بذلك، فدخل من كان هناك منهم سوى الأنصار، فقال له: اخرج، فنادِ: من هنا من الأوس والخزرج، فليدخل. فخرج فنادى ذلك، فوثب النعمان بن بشير، فأنشأ يقول:
يا سعد, لا تعد الدعاء, فما لنا ... نسب نجيب به سوى الأنصار
نسب تخيره الإله لقومنا ... أثقل به نسبًا إلى الكفار
إن الذين ثووا ببدر منكم ... يوم القَلِيب هُمُ وقود النار
وقام مغضبًا. فبعث معاوية، فرده، وترضاه وقضى حوائجه وحوائج من كان معه من الأنصار2. وكان النعمان بن بشير حامل لواء الأنصار قد غضب في مجلس من مجالسه مع معاوية، ولاحظ معاوية عليه الغضب فضاحكه طويلًا، ثم قال له: "إن قومًا أولهم غسان، وآخرهم الأنصار، لكرام"3. وكان أهل يثرب يلحقون نسبهم بنسب غسان، ويرجعون نسبهم ونسب غسان إلى الأزد, ونسب الأزد إلى اليمن.
__________
1 "وفد الأنصار" الأغاني "13/ 142".
2 الأغاني "14/ 120، 122".
3 الأغاني "14/ 119".(2/135)
لقد كان من المعقول استعمال لفظة "المهاجرين" في مقابل "الأنصار"، إلا أن الجانبين لم يستعملاهما إلا قليلًا، وإنما استعملا لفظتي قريش ومعد، كما استعملا "قريشًا" في مقابل "يمن". وقد افتخرت قريش بمعد وبالنبوة؛ فأجابهم الأنصار بأن أم الرسول من بني النجار أخوال النبي، وهم من المدينة، وبأنهم كانوا أول من آمن به ونصره، وبأن المتنبيين كانوا من قبائل معد1.
ولو كتب لمصطلح "الأنصار" بالبقاء، ولو كان عهد التدوين بعيدًا عنه، لصار ولا شك نسبًا من الأنساب، ولصارت اللفظة اسم أب لقبيلة، كما صارت الألفاظ المذكورة التي خلدت لأنها الألفاظ الجاهلية، فلما صار التدوين كان الناس يتداولونها على أنها أنساب وأسماء.
واستعملت لفظة "اليمانية" في مقابل "النزارية" في العصر الأموي، ويظهر أنها تغلبت على لفظة "الأنصار" وقضت عليها, وهي تعني: القبائل التي ترجع أنسابها إلى اليمن. أما "النزارية" فقد عنت كل القبائل العدنانية2.
وقد كان بين الحزبين نزاع شديد, ولكل شيعة نسابون ومدافعون ومهاجمون. وقد أثر هذا النزاع تأثيرًا خطيرًا في وضع الأنساب3.
ويرجع بعض الباحثين انقسام العرب إلى قحطانيين وعدنانيين إلى هذا النزاع: نزاع "يثرب" ومكة قبل الإسلام، ويرجعه آخرون إلى التنازع الطبيعي الذي هو بين البداوة والحضار. فقد كان أهل يثرب أي: اليمن -كما يقولون- أصحاب حضارة وملك, أما أهل مكة ومن والاهم، فقد كانوا أعرابا أو شبه أعراب؛ ومن هنا اختلفت طبيعة أهل يثرب عن طبيعة أهل مكة، ووقع النزاع والتنافس بين الجماعتين، وتحول إلى نسبين. وزعموا أن هذا النزاع هو نزاع الحضارة مع البداوة، نزاع أهل المدر مع أهل الوبر، نزاع "بني مدراء"4، أو "أهل القارية" كما يقال لهم أيضا؛ لأنهم "قارون" أي سكان القرية والقرى مع أهل البادية أي: البادون نَزَلة البادية. قالوا: ومن هنا قيل: الحضر خلاف
__________
1 Muh. Stud. Bd. I, S. 96
2 التنبيه "ص69".
3 التنبيه "ص72".
4 اللسان "7/ 133"، الأغاني "12/ 145".(2/136)
البدو، والحاضر خلاف البادي، و"أهل الحاضرة" و"أهل البادية" و"الحاضرة"، خلاف البادية وهي المدن والقرى والريف1، وهو تقسيم يرونه, قديمًا، يرجع إلى الجاهلية. روي أن الرسول قال، حين وفد عليه قيس بن عاصم: "هذا سيد أهل الوبر" 2. ونجد مثل ذلك في النصوص اليمانية الجاهلية، إذ أشارت إلى الأعراب كطبقة خاصة قائمة بنفسها، تمتاز عن الحضر المستقرين.
ومن ثَمَّ كانت غالبية القبائل العدنانية التي يذكر أهل الأخبار أسماءها قبائل أعرابية، أي: قبائل بدوية, أو قبائل غلبت البداوة عليها، وغالبية القحطانية قبائل مستقرة أو قبائل شبه حاضرة تنخت في أماكن ثابتة ومالت إلى حياة الحضارة. ولما كان الحضر أرقى فكريًّا من أهل الوبر، صارت إليهم السيادة في الغالب، فتحكموا في القبائل العدنانية، وملكوا القبائل المعدية. فحكم المناذرة والغساسنة وآل كندة وغيرهم ممن يرجع نسبه النسابون إلى قحطان قبائل عدنانية، ولم يحكم العدنانيون القحطانيين قبل الإسلام.
هذا هو رأي من يرى أن القحطانية والعدنانية كناية عن الحضارة والبداوة، وتعبير عن أهل المدر وأهل الحضر. يستدلون على رأيهم هذا بما قلته من غلبة الحياة الحضرية والاستقرار على القبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى قحطان، وغلبة البداوة أو شبه البداوة على القبائل العدنانية.
وللحكم على هذه النظرية، يجب تكوين جدول بأسماء القبائل الجاهلية العدنانية منها والقحطانية، ودراسة أحوالها الاجتماعية والمواضع التي عاشت فيها في مختلف الأزمنة، وعند ذلك نستطيع الحكم على ما فيها من قوة أو ضعف، فإن في القحطانيين قبائل متبدية، وفي العدنانيين قبائل مستوطنة وأصحاب قرى؛ ولهذا لن تصدق تلك النظرية إلا بمثل هذه الدراسة.
ولفهم النزاع القحطاني العدناني، أو نزاع يثرب ومكة، لا بد من البحث عن موارد جاهلية وإسلامية نستعين بها على فهم طبيعة هذه النزاع. أما الموارد
__________
1 اللسان "20/ 38"، فجر الإسلام "1/ 7".
Sprenger, das laben, bd., 3, s. cxxviii
2 معجم الشعراء "ص324".(2/137)
الجاهلية، أي: الكتابات، فليس فيها حتى الساعة شيء ما يحدثنا عن هذا النزاع، وأما الموارد الإسلامية، فإن شعر حسان بن ثابت، أو الشعر المنسوب إلى هذا الشاعر بتعبير أصدق وأصح، هو المرجع الأول الذي يحدثنا عن طبيعة هذا النزاع أو التحاسد الذي كان بين مكة ويثرب قبل ظهور الإسلام وعند ظهوره، إذ كان حسان نفسه من المناضلين فيه الحاملين للواء يثرب في نزاعها مع مكة. ونرى القحطانيين يروون شعره ويذكرونه في افتخارهم على العدنانيين, وقد حمل شعره جل مواضع فخر قحطان على عدنان، ومفاخر أهل يثرب على أهل مكة، حتى لنستطيع أن نقول: إنه أحد بناة النزاع القحطاني العدناني، باعتبار أنه أقدم مشارك فيه يصل خبره إلينا، وأن أكثر ما تذكره القحطانية من دعاوى مركزة في شعر هذا الشاعر مذكورة فيه.
وقد وصل جل شعر حسان إلينا، وطبع في ديوان. راجعناه وراجعنا ما يحمل من شعر، فلم نجد فيه ذكرًا لعدنان، وإنما نجد فيه اسمي "قحطان" و"معد"1. ولم يرد فيه اسم الأول إلا مرة واحدة في قوله:
فلو سُئِلَتْ عنه معد بأسرها ... وقحطان أو باقي بقية جرهما2
وأما اسم الثاني، أي "معد"، فقد ورد في مواضع بلغت سبعة في الديوان3.
غير أننا نرى في الجزء الأول من "الإكليل" أبيات شعر نسبها "الهمداني" لحسان، ورد فيها ذكر لقحطان، وفخر به، وانتسب إليه:
لقد كان قحطان العلا القرم جدنا ... له منصب في يافع الملك يشهر
ينال نجوم السعد إن مَدَّ كفه ... تُفَلُّ أكف عند ذاك وتَقصر
ورثنا سناء منه برزًا ومحتدًا ... مُنيف الذرا فخر الأرومة يذكر4
__________
1 طبعة "هرشفلد" سنة 1910 بمدينة "لايدن"، رواية السيرافي، شرح ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، للبرقوقي، القاهرة, 1929.
2 ديوان حسان "ص44"، البرقوقي "ص398".
3 ديوان حسان "ص1، 5، 6، 25، 44، 47، 89".
4 الإكليل "1/ 118".(2/138)
ونرى أبياتًا أخرى من هذا النوع من الفخر، في مكان آخر من هذا الكتاب، نسبها أيضًا لهذا الشاعر، هي هذه:
فنحن بنو قحطان والملك والعلا ... ومِنَّا نبي الله هود الأخاير
وإدريس ما إن كان في الناس مثله ... ولا مثل ذي القرنين أبناء عابر
وصالح والمرحوم يونس بعد ما ... ألات به حوت بأخلب زاخر
شعيب وإلياس وذو الكفل كلهم ... يمانون قد فازوا بطِيب السَّرائر1
ونرى أبياتًا أخرى نسبها "الهمداني" إلى "حسان" أيضًا، فيها فخر بقحطان وبقوم الشاعر، رواها على هذا النحو:
فمن يَكُ عنا معشر الأزد سائلًا ... فإنا بنو الغوث بن نبت بن مالك
ابن زيد2 بن كهلان نما سبأ له ... إلى يشجب فوق النجوم الشوابك
ويعرب ينميه لقحطان ينتمي ... لهود نبي الله فوق الحبائك
يمانون عاديون لم يلتبس بنا ... مناسب شابت من أُلَى وأولئك3
والأبيات المذكورة لا يمكن أن تكون من نظم حسان، فأسلوبها غير أسلوبه في شعره، وفي بعضها ركة وضعف، ولفظة "المرحوم" من الاصطلاحات الحادثة المتأخرة4، كما أن التفاخر بالأنبياء المذكورين لم يكن معروفًا على عهده.
وأما الشعر المبتدئ بهذا البيت:
فمن يك عنا معشر الأزد سائلًا ... فإنا بنو الغوث بن نبت بن مالك
ففيه إضافات لا نجدها في الديوان.
وفي المضاف إليه تباين ظاهر مع أسلوب حسان في شعره، وركة بينة، وطابع الصنعة ظاهر عليه. وقد ورد في ديوانه على هذا النحو:
__________
1 الإكليل "1/ 96".
2 الإكليل "1/ 106" هكذا: "ابن زيد".
3 الإكليل "1/ 106".
4 الفضل لأستاذي الأثري في تنبيهي إلى هذه الملاحظة.(2/139)
فإن تك1 عنا معشر الأسد2 سائلًا ... فنحن بنو الغوث بن زيد بن مالك
لزيد بن كهلان الذي نال عزُّه ... قديمًا ذراريَّ النجوم الشَّوابك
إذا القوم عدُّوا مجدهم وفعالهم ... وأيامهم عند التقاء المناسك
وجدت لنا فضلًا يقر لنا به ... إذا ما فخرنا كل باقٍ وهالك3
فأنت ترى أن الأبيات في الديوان خالية من نسب "سبأ" و"يشجب" و"يعرب" و"قحطان" و"هود" وغير ذلك، وأن أسلوب صياغة هذا النظم لا يمكن أن يكون من أسلوب شاعر جاهلي أو شاعر مخضرم، بل لا بد أن يكون من نظم المتأخرين، أضافه بعض المتعصبين لليمن إلى شعر حسان، ونظمه على وزن البيت الأول وطريقته؛ ليكون أوقع في النفس، ودليلًا على قدم ذلك النزاع.
ولا أعتقد أن هنالك حاجة تدعوني إلى إلفات نظر القارئ إلى أن الأبيات المتقدمة الواردة في ديوانه، هي الأبيات المتقدمة عليها نفسها، أي: الأبيات التي أخذتها من كتاب الإكليل للهمداني رُويت بشكل آخر، بشكل يرينا أن الرواة مهما حاولوا إظهار أنهم على حرص تام في المحافظة على أصالة الشعر والمحافظة على الأصل، فإنه لا يتمكنون من ذلك.
ونسب بعض الرواة إليه هذه الأبيات:
تعلمتم من منظق الشيخ يعرب ... أبينا, فصرتم معربين ذَوِي نفر
وكنتم قديمًا ما بكم غير عجمة ... كلام, وكنتم كالبهائم في القفر4
وهي أبيات لم ترد في ديوانه، تشعر أن "يعرب"، وهو جد القحطانيين، هو أول من أعرب في لسانه، وأول من نطق بالعربية، فهو أول متكلم بها، وأول من أوجدها وكوَّنها، وأن العدنانيين تعلموها من أبنائه بعد أن كان لسانهم لسانا أعجميا. وأما من ناحية صحة نسبتها إلى شاعر الإسلام وشاعر
__________
1 وفي الديوان: "من تك"، "ص40"، البرقوقي "ص295".
2 "الأسد"، الأصح في نظري: "الأزد", كما في الأبيات المتقدمة.
3 ديوان حسان "ص40"، البرقوقي "ص295".
4 الإكليل "1/ 116".(2/140)
الأنصار، فإن في أسلوب نظمها وفي صياغة البيت الأول وجملة "منطق الشيخ يعرب"، ما فيه الكفاية لإظهار أنها مصنوعة، حُملت عليه حملًا، ولا يمكن أن يكون هذا النظم من نظم أول الإسلام، حتى وإن كان من شاعر من شعراء أهل المدر في ذلك العهد.
وزعم أن حسان ذكر القيل "ذا ثات"، وهو من أقيال حمير, فقال هذا البيت:
وفي هكر قد كان عز ومنعة ... وذو ثات قَيْلٌ ما يكلم قائله1
ولم يرد هذا البيت في ديوانه. أما أسلوب نظمه، فينبئك أن قائله يجب أن يكون شخصًا آخر من المتأخرين عن حسان، ممن كانوا يضعون الشعر على ألسنة غيرهم على نحو ما وضعوا على ألسنة التبابعة وآدم والجن.
هذا ولحسان شعر لم يرد في ديوانه، بل ورد في موارد أخرى, منه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود؛ لأنه منحول وقد حُمِل على حسان وأُلْصِق به، ولم يغفل العلماء عنه، بل أشاروا إليه ونبهوا أن بعض الناس قد تعمدوا وضعه وحمله عليه لمآرب. قال الأصمعي في ذلك: "تنسب إليه أشياء لا تصح عنه. وهذا فيما يظهر صحيح، وكثيرًا ما رأيت في سيرة ابن هشام أبياتًا لحسان من هذا القبيل يعقبها صاحب السيرة بقوله: وأهل العلم ينفيها عن حسان"3, وقد نسب الجمحي الوضع على حسان إلى بعض قريش للغض منه، فقال: "وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد. لما تعاضهت قريش، واستبَّت، وضعوا عليه أشعارًا كثيرة، لا تليق به". وقد كان ذلك لتعرضه بهم، ولتعصبه المفرط ليثرب، وافتخاره بهم على قريش4.
هذا ومع إفراط "حسان" في التعصب ليثرب، لا نراه يذكر قحطان إلا
__________
1 شمس العلوم "جـ1, ق1, ص271".
2 ديوان حسان: المقدمة الإنجليزية "ص2 وما بعدها"، "وقد قال الأصمعي في ذلك: تنسب إليه أشياء لا تصح عنه. وهذا فيما يظهر صحيح، وكثيرًا ما رأيت في سيرة ابن هشام أبياتًا لحسان من هذا القبيل, يعقبها صاحب السيرة بقوله: وأهل العلم ينفيها عن حسان...."، البرقوقي "ص غ".
3 المصدر المتقدم.
4 طبقات الشعراء "ص52".(2/141)
مرة واحدة، أما عدنان فلم يذكره في شعره قط. ولهذه الملاحظة أهمية كبيرة لتكوين رأي في فكرة "قحطان" وعدنان في ذلك العهد؛ إذ إنها تدل على أن القحطانية والعدنانية لم تكن عنده على النحو الذي صارت عليه فيما بعد، بعد اشتداد النزاع بين الأنصار وأهل مكة ومن حولها في خلافة بني أمية خصوصًا، وهم عصب العدنانيين، وأنه في كل فخره بالنسب لم يتجاوز الأزد، أبناء "الغوث بن زيد بن مالك بن زيد بن كهلان"1، وغسان, وآل نصر.
وأما بعد إسلامه، فقد حول فخره وتباهيه إلى فخر بالأنصار على قريش ومضر ومعد، أي: أهل مكة، بنصرة قومه للإسلام، وبنصر النبي حين خذلوه وقاوموه, فكانوا ملوك الناس قبل محمد، فلما أتى الإسلام، كان لهم النصر في نصرته2. ونجد هذا الفخر واضحًا قويًّا في شعره، فهو فخر أهل يثرب على أهل مكة, فخر الأنصار على مضر ومعد وقريش، فلم يصل الفخر بقومه عنده إذًا إلى حد الفخر بقحطان، أو باليمن كلها على عدنان. وأما ما ورد منه أكثر من ذلك، كما نرى في الأبيات المنسوبة إليه في الجزء الأول من الإكليل، فإنه عندي من ذلك النوع المنحول الذي أُضيف إليه؛ فالتكلف ظاهر عليه، والأسلوب مختلف عن أسلوبه، وهو من النظم المتأخر عن أيام حسان، من نظم وضَّاح يتكلف قول الشعر ولا يحسن صناعته.
خذ قصيدته التي تمثل منتهى فخره بقومه، نَرَهُ يقول:
ألم تَرَنَا أولاد عمرو بن عامر ... لنا شرف يعلو على كل مرتقي؟!
رسا في قرار الأرض, ثم سَمَتْ له ... فروعٌ تُسَامي كل نجم مُحلَّق
ملوك وأبناء الملوك، كأننا ... سواري نجومٍ طالعات بمشرق
إلى أن يقول:
كجفنة والقمقام عمرو بن عامر ... وأولاد ماء المزن وابني مُحَرّق
__________
1
من تك عنا معشر الأزد سائلًا ... فنحن بنو الغوث بن زيد بن مالك
لزيد بن كهلان الذي نال عزه ... قديمًا ذراري النجوم الشوابك
ديوان حسان "ص40".
2
وكنا ملوك الناس قبل محمد ... فلما أتى الإسلام كان لنا الفضل
ديوان حسان "ص70، 73".(2/142)
وحارثة الغطريف أو كابن منذر ... ومثل أبي قابوس ربّ الخورنق1
فلا تجد فخره بها يتعدى حدود الفخر بالأزد والغساسنة وآل نصر، أي: ملوك الحيرة, وهو ما وجدناه في أشعاره الأخرى. وقد عاب في هذه القصيدة "قيسًا" و"خندفًا" لأنهما قاومتا الرسول وآذتاه، مما يدل على أن هذين الاسمين كانا معروفين قبل الإسلام.
هذا، وقد أضاف أهل الأخبار إلى قصيدة حسان التي مدح فيها الملك "جبلة بن الأيهم"، ومطلعها:
لمن الدار أقفرت بمغان ... بين أعلى اليرموك والصمان2
هذا البيت:
أشهرنها فإن ملكك بالشا ... م إلى الروم فخر كل يماني3
ولم يرد ذكر هذا البيت في الديوان. وهو بيت يتحدث كما ترى عن فخر باليمن: أصل الغساسنة، وأهل يثرب، وكل قحطان. وأغلب ظني أنه من الأبيات المدسوسة، وضعه أحد المعتصبين لليمن ودسَّه في القصيدة.
هذا وقد نسب إلى النعمان بن بشير الأنصاري شعر قيل: إنه قاله في هذا الباب, ونسب إلى الطرماح بن حكيم مثل ذلك، وهو أيضا شاعر من شعراء الأنصار4. وعلينا أن ندرس شعرهما، وشعر أمثالهما، وشعر شعراء قريش أيضًا دراسة نقد وتمحيص نميز بها بين صحيحه وفاسده؛ لنتمكن بذلك من تكوين رأي علمي صحيح في القحطانية والعدنانية وتأريخ ظهورهما. ولو تيسر لنا ديوان الأنصار أو دواوين الأنصار لزادت معارفنا، ولا شك، في هذا الباب وتمكنا من تكوين رأي في تلك العصبية القبلية بصورة أصح وأدق, ولا شك.
__________
1 البرقوقي "ص288".
2 مروج الذهب "2/ 31" "تحقيق محمد محيي الدين". ونجد هنا اختلافًا في الألفاظ وفي بعض الجمل عن نص القصيدة الوارد في الديوان، راجع "ص55" من الطبعة الأوروبية، و"ص414" من "شرح ديوان حسان بن ثابت" لعبد الرحمن البرقوقي, وقد أخذت مطلع القصيدة من رواية المسعودي.
3 مروج الذهب "2/ 31".
4
فمنا سراة الناس هود وصالح ... وذو الكفل منا والملوك الأعاظم
الإكليل "1/ 94".(2/143)
لقد حارب الإسلام العصبية الجاهلية، وآخى الرسول بين المهاجرين والأنصار، وحالف بين قريش وأهل يثرب، ونهى عن أحلاف الجاهلية، ورُوِيَ عنه أنه قال: "لا حلف في الإسلام" 1؛ لما ينتج عنه من فتن ومن قتال بين القبائل وغارات؛ ولأن الإسلام قد عوَّض عن الحلف وزاده شدة بنزوله9, "وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة"2, وعدَّ "التعرب" بعد الهجرة، أي أن يعود المرء إلى البادية ويقيم مع الأعراب, كبيرة من الكبائر, حتى عد من يعود إلى موضعه من البادية بعد الهجرة كالمرتد3. ومع ذلك، لم يكن من الممكن تناسي العصبيات، وغسل آثار الجاهلية، وطمس معالمها تمامًا، فتحزبت القبائل وتكتلت، وكانت تحارب على أنها همدان4، أو ربيعة5، أو طيئ6، أو مضر7، أو قريش8، أو قيس9، أو الأزد، أو ربيعة10، أو تميم11، أو غير ذلك من أسماء قبائل.
__________
1 تفسير الطبري "5/ 36".
2 تفسير الطبري "5/ 36".
3 "وفي الحديث: ثلاث من الكبائر، منها التعرب بعد الهجرة، هو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرًا. وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر، يعدونه كالمرتد"، لسان العرب "2/ 76".
4 مروج "2/ 22".
5 مروج "2/ 22".
6 مروج "2/ 22".
7 اليعقوبي "2/ 165"، الكامل "4/ 85".
8 اليعقوبي "3/ 3"، الكامل "4/ 61".
9 الكامل "4/ 14، 63".
10 الكامل "4/ 58".
11 الكامل "4/ 58".(2/144)
القحطانية والعدنانية في الإسلام:
الحق: إن ما نسميه قحطانية أو عدنانية إنما هو صفحة من صفحات النزاع الحزبي عند العرب في الإسلام، شاء أصحابه ومثيروه إرجاعه إلى الماضي البعيد، ووضع تأريخ قديم له، فجعلوا له أصولًا زعموا أنها ترجع إلى ما قبل الإسلام(2/144)
بكثير، وروَوْا في ذلك شعرًا لا يخرج في نظرنا عن هذا الشعر الذي يحفظه الرواة على لسان آدم وهابيل وقابيل والجن.
وفي هذا الصراع القحطاني العدناني العنيف شرع في تدوين الأنساب وتثبيتها في القراطيس والكتب. فكان لهذا الصراع ولوضع القبائل وتكتلاتها في هذا الوقت أثر خطير في تثبيت أنساب القبائل وتسجيلها، ليس في هذا العهد فقط، بل في تثبيت أنساب قبائل الجاهلية وتسجيلها أيضًا. إذ سجلت هذه الأنساب: جاهلية وإسلامية على الرأي السائد في النسب يوم شرع في التسجيل والتدوين، أي: في أَوْجِ هذه العصبية العنيفة التي عمت الناس في صدر الإسلام. ومن هنا كان لا بد لفهم الفكرة القحطانية العدنانية من الإلمام بنزاع قحطان وعدنان في الإسلام.
والذين قاموا بتسجيل الأنساب وتدوينها وتثبيتها في الكتب، كانوا هم أنفسهم من أصحاب العصبية لنزار أو لليمن ومن المتأثرين بالأحوال السياسية لذلك العهد؛ ولهذا نجد في أقوال بعضهم تحزبًا وتطرفًا وميلًا إلى تأييد فريق على فريق. ومن هنا كان لا بد لنا من التنبه لهذه العصبية، واتخاذ الحيطة والحذر عند دراسة هذا النزاع القحطاني العدناني.
وقد استعملت في هذا العهد "مضر" في مقابل "الأزد"1، كما استعملت الأزد في مقابل تميم، وورد "أهل اليمن" أو اليمانية2. ولكننا قلما نسمع في نداء القبائل وأخبار هذه الفتن أو الحروب التي وقعت في هذا العهد استعمال كلمة "عدنان" في مقابل "قحطان"، ويقال مثل ذلك في الأشعار أيضًا، في مثل شعر "الفرزدق" الذي استعمل كلمة "قحطان" في مقابل كلمة "نزار" وكلمة "يمن" في مقابل "نزار" أو "الأزد" في مقابل "نزار"3. كما استعمل الحكم بن عبدل "قحطان" في مقابل "معد"4. وقد ذكر الأعشى
__________
1 الكامل "4/ 58".
2 الكامل "4/ 61".
3 ديوان الفرزدق "طبعة بوشيه"Boucher "ص8، 59، 68، 86".
Muh. Stud. Bd. I, S. 98
4
فما صادفت في قحطان مثلي ... كما صادفت مثلك في معد
الأغاني "2/ 148".(2/145)
في شعر له: "ومن معدّ قد أتى ابن عدنان"، وذلك في مقابل "قحطان"1.
وفي أيام معاوية وابنه "يزيد" و"مروان بن الحكم"، نالت "كلب" مركزًا ساميًا؛ لتزوج معاوية امرأةً من كلب هي "ميسون بنت بحدَل"، فأصبحت هي والقبائل التي تؤيدها مقربة عند الخلفاء، مع أن الخلفاء من قريش، وقريش من قيس؛ وهذا مما أغضب قيسًا المعروفة بعدائها لكلب. وقد كانت لفظة "قيس" في هذا العهد ترادف كلمة "معد" و"مضر" و"نزار"2, وأما "كلب" فترادفه اليمن. وقد عرفت المعركة التي وقعت في "مرج راهط" بين مروان وابن الزبير بأنها معركة "قيس" و"كلب"؛ لأن قيسا حاربت فيها عن "ابن الزبير", أما كلب فقاتلت عن مروان، وقد أوجد هذا الانتصار حقدا كبيرا بين "قيس" وحلفائها من القبائل، وبين كلب وأنصارها من القبائل التي ادعت أنها من اليمن؛ فوقعت حروب بين قيس وكلب هلك فيها خلق كثير من الفريقين3, ولعب دورا مهما في تكتل القبائل وفي تجمع القحطانيين والعدنانيين.
وقد أسهم الخلفاء الذين جاءوا بعد "عبد الملك"، ويا للأسف، في هذا النزاع، متأثرين بعاطفتهم وبدمهم من الأمهات، فكان بعضهم يؤيد القيسيين إذا كانت أمهم من قيس، وكان آخرون يؤيدون "كلبًا" إذا كانت أمهم من اليمن. وسار على هذه السياسة الولاة والعمال، فكانت النتيجة تكتل القبائل وانقسامها إلى معسكرين "قيس" و"يمن"، وتزعمت "أزد عمان" في البصرة وخراسان حزب "يمن" في مقابل "قيس" و"تميم"4.
ووقعت وقائع دموية بين يمن وقيس، أنهكت العرب جميعًا، وصارت من جملة العوامل التي عجلت بسقوط الأمويين.
وحمل الشعراء مشاعل هذا النزاع، وأمدوا ناره بوقود غزير؛ نظموا القصائد في مدح قيس ومدح يمن, وفي ذم يمن وذم قيس بحسب قبيلة الشاعر ونسبه, أسهم فيه
__________
1
سار بجمع كالقطا من قحطان ... ومن معد قد أتى ابن عدنان
الأغاني "5/ 151".
2 enc. Vol. 2, p. 655
3 enc. Vol. 2, p. 655, Werner caskel, die bedeutung der beduinen in der geschichite der araber, s. 13
4 wellhausen, das arabische reich und sein stuetz, s. 40, enc. Vol. 2, p. 655(2/146)
الأخطل والكُميت ودِعْبِل الخزاعي وجرير بن عطية بن الخَطَفَى التميمي وإسحاق بن سويد العَدَوي وغيرهم، فكان مدح وكان ذم، وكان تباهٍ وافتخار، وكان قذع وهجاء. وبدلًا من أن يتدخل الحكام ومسيرو الأمة في إخماد نار هذه الفتنة وإسكات الشعراء جمعًا للصف، أسهموا هم أنفسهم كما قلت في هذه المعركة وشجعوا المحاربين فيها؛ ففرقوا بين العرب بسياستهم هذه وأطمعوا الأعاجم فيهم، وجعلوا العرب يقاتل بعضهم بعضًا، وبذلك توقفت الفتوحات العربية الإسلامية؛ نتيجةً لهذه السياسة المفرقة الخرقاء.
ولم يقف هذا النزع على التباهي بقحطان وعدنان وبالأيام وبالشجعان، بل تجاوز ذلك إلى التباهي بارتباط كل فريق بجماعة من الأعاجم بروابط الدم والنسب والثقافة، فافتخرت النزارية بالفرس على اليمانية، وعدوهم من ولد "إسحاق بن إبراهيم" وافتخروا بإبراهيم جد العرب والفرس. ونظم "جرير بن عطية بن الخطفى التميمي" في ذلك شعرًا، جاء فيه":
أبونا خليل الله لا تنكرونه ... فأكرم بإبراهيم جدًّا ومفخرا
وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا ... حمائل موت لابسينَ السّنَّورا
إذا افتخروا عدوا الصبهبذ منهم ... وكسرى وعدوا الهرمزان وقيصرا
أبونا أبو إسحاق يجمع بيننا ... أب لا نبالي بعده من تأخرا
أبونا خليل الله, والله ربنا ... رضينا بما أعطى الإله وقدرا1
ومن هذا القبيل، قول إسحاق بن سويد العدوي:
إذا افتخرت قحطان يومًا بسؤدد ... أتى فخرنا أعلى عليها وأسودا
ملكناهم بدءًا بإسحاق عمنا ... وكانوا لنا عونًا على الدهر أعبدا
ويجمعنا والغر أبناء فارس ... أب لا نبالي بعده من تفردا2
وقول بعض النزارية:
وإسحاق وإسماعيل مدَّا ... معالي الفخر والحسب اللبابا
فوارس فارس وبنو نزار ... كلا الفرعين قد كبرا وطابا3
__________
1 التنبيه "ص95".
2 التنبيه "ص95".
3 التنبيه "ص95".(2/147)
ولم يقف النزاريون عند هذا الحد، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن هذا النسب قديم، وأن قرابة الفرس بالعدنانيين قديمة، وأن الفرس كانت في سالف الدهر تقصد إلى البيت الحرام بالنذور العظام تعظيمًا لإبراهيم الخليل بانيه، وأنه عندهم أجل الهياكل السبعة العظيمة والبيوت المشرفة في العالم, وأن رجلا تولاه وأعطاه العدة والبقاء، واستشهدوا على صحة دعواهم بشعر زعموا أن قائله هو أحد شعراء الجاهلية:
زمزمت الفرس على زمزم ... وذاك في سالفها الأقدم1
وترتب على هذا وضع نسب للفرس يتصل بنسب العرب العدنانيين، فزعموا أن "منوشهر" الذي ينتسب إليه الفرس هو "منشخر بن منشخرباغ", وهو "يعيش بن ويزك"، و"ويزك" هو إسحاق بن إبراهيم الخليل، واستشهدوا على زعمهم هذا بشعر، قالوا: إن بعض شعراء الفرس في الإسلام قاله مفتخرًا:
أبونا ويزك وبه أسامي ... إذا افتخر المفاخر بالولاده
أبونا ويزك عبد رسول ... له شرف الرسالة والزهادة2
أما "يعيش بن ويزك" جد الفرس الجديد، فهو "عيسو" "Esau"، وفي العبرانية "Usu"، ومعناها "مشعر" أو "خشن"، وهو شقيق يعقوب وجد الأدوميين في التوراة وابن إسحاق3. وأما "ويزك" فهو "يزك" أو "إيزك" "Isaac" "Icaak" وهو "إسحاق"، وهو في العبرانية "يصحق" "يصحك" "يصحاك" "Yishak" أي: "الضحاك". ويرى علماء التوراة أن الأصل اسم قبيلة كان يقال لها "يصحقيل" "يصحق ال" "يضحك ال" "Yishhakel" "Yishakil"، وهو والد "عيسو" و"يعقوب"4.
وقد أسهم بعض الفرس أنفسهم في إذاعة هذا النسب ونشره، وقد استشهد على صحة دعواه بالأشعار المذكورة التي تفتخر بالفرس على اليمانية، وأنهم من
__________
1 التنبيه "ص95".
2 التنبيه "ص96".
3 Enc. Bibli. P. 1333, budde, urgeschi. S. 217, hastings, p. 235
4 Enc. Bibli. P. 2175, hastings, p. 386(2/148)
ولد أبيهم إبراهيم1. ولعلهم قالوا ذلك تقربًا إلى الحكومة، وهي عدنانية، ولعوامل سياسية أخرى، منها تقريب الفرس من العرب، وضمان تعاونهم مع الخلافة في وجه النعرات القومية التي ظهرت في إيران.
ولم يكتف العدنانيون بقرابتهم للفرس وللإسرائيليين، بل زعموا أن الأكراد من أقربائهم كذلك، وأنهم من نسل ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل، أو أنهم من نسل ربيعة بن نزار بن معد، أو أنهم من نسل مضر بن نزار، أو من ولد كرد بن مرد بن صعصعة بن هوازن، وأنهم انفردوا في قديم الزمان لوقائع ودماء كانت بينهم وبين غسان، وأنهم اعتصموا بالجبال فحادوا عن اللغة العربية لما جاورهم من الأمم، وصارت لغتهم أعجمية, فذلك على رأي أهل الأخبار بدء نسب الأكراد2.
وقد لقي هذا النسب الجديد للأكراد تشجيعًا من بعض الأكراد في أيام العباسيين، وربما في أيام أواخر الدولة الأموية كذلك، فأيدوه وانقسموا أيضا فرقًا في شجرات النسب، فمنهم من أخذ بشجرة كرد بن مرد، ومنهم من أخذ بانتسابهم إلى سبيع بن هوازن، ومنهم من انتسب إلى ربيعة ثم إلى بكر بن وائل3.
وكان من الطبيعي أن يجعل القحطانيون أعداء الفرس من ذوي أرحامهم، وهم اليونان, فقالوا: إن يونان أخ لقحطان، وإنه من ولد عابر بن شالخ، وإنه خرج من أرض اليمن في جماعة من ولده وأهله ومن انضاف إلى جملته حتى وافى أقاصي بلاد المغرب فأقام هناك، وأنسل في تلك الديار، واستعجم لسانه ووازى من كان هناك في اللغة الأعجمية من الإفرنجة، فزالت نسبته، وانقطع نسبه وصار منسيا في ديار اليمن, وقالوا أيضا: إن الإسكندر من تبع4. وكان من الطبيعي انزعاج العدنانيين من ربط نسب قحطان بيونان، فانبروا للرد عليه، وكيف يرضون أن يكون للقحطانيين أبناء عم على شاكلة اليونانيين، وقد
__________
1 التنبيه "ص94".
2 مروج الذهب "1/ 307 فما بعدها" التنبيه "ص78".
3 التنبيه والإشراف "ص78".
4 مروج الذهب "1/ 178" "وقد ذكر أن يونان أخو قحطان ... وقد كان يعقوب بن إسحاق الكندي يذهب في نسب يونان إلى ما ذكرنا".(2/149)
كانوا أمهر من الفرس، ولهم دولة كبرى. فقال أحدهم، وهو أبو العباس الناشئ:
وتخلط يونانًا بقحطان ضلَّةً ... لَعَمْرِي لقد باعدت بينهما جِدَّا1
وأضاف القحطانيون الأتراك إليهم أيضا، فزعموا أن معظم أجناس الترك وهم "التبت" من حمير، وأن التبع "شمر يرعش" أو تبعًا آخر رتبهم هناك، وأن "شمر يرعش" هو الذي أمر ببناء "سمرقند"، إلى غير ذلك من أقوال لا ترضي العدنانيين بالطبع، وفي ذلك يقول "دعبل بن علي الخزاعي" في قصيدته التي يرد بها على "الكميت"، وفخر فيها بمن سلف من ملوكهم وسير في الأرض، وأن لهم من الفضل ما ليس لمعد بن عدنان، فقال في شعره:
همو كتبوا الكتاب بباب مَرْوٍ ... وباب الصين كانوا الكاتبينا
وهم جمعوا الجموع بسمرقند ... وهم غرسوا هناك التبتينا2
وأضافوا "الضحاك" إليهم، وصيروه من "الأزد"، والأزد من اليمن، فهو يماني إذن أصيل3. و"الضحاك" هو "بيوراسب" عند أهل الأخبار, وقد ملكوه ألف سنة, وهو بطل أسطوري عند الفرس4. وقد أخذ أهل الأخبار "ضحاكهم" هذا من "إسحاق"، كما أخذ العدنانيون "ويزكهم" من "إسحاق" فصيروه "منشخر" على نحو ما ذكرت, وقد قلت: إن معنى "إسحاق" في العبرانية الضحاك. فالقحطانيون فعلوا هذا فعل العدنانيين، لجئوا إلى إسحاق فصيروه "الضحاك"، وبدلا من أن يقولوا: إنه "ويزك" من اسم "إسحاق" في العبرانية أخذوا معنى الاسم فصيروه اسما عربيا هو الضحاك, وجعلوه قحطانيا من الأزد.
وكان كل فريق يرد على مزاعم الفريق الآخر، حين يضيف إليه أمة من الأمم. فلما ادعى العدنانيون أنهم هم والإسرائيليين والأعاجم من نسب واحد،
__________
1 مروج الذهب "1/ 178"، ابن خلدون "2/ 184".
2 مروج الذهب "1/ 300".
3 مروج الذهب "ص76".
4 التنبيه "ص75".(2/150)
انبرى "دعبل الخزاعي" يرد عليهم في قصيدة ساخرة يقول فيها:
فإن يك آل إسرائيل منكم ... وكنتم بالأعاجم فاخرينا
فلا تنسَ الخنازير اللواتي ... مُسِخْنَ مع القرود الخاسئينا
بأيلة والخليج لهم رسوم ... وآثار قدمن وما محينا
لقد علمت نزار أن قومي ... إلى نصر النبوة فاخرينا
قال هذه القصيدة في الرد على "الكميت"، وهو لسان من ألسنة النزارية، وقد تعرض فيها باليمانية وتهكم عليهم1.
حتى الموالي، وهم كما نعلم من أصل غير عربي، أسهموا في هذه المعركة، وحاربوا في الصفوف الأولى منها، تعصب كل منهم للجانب الذي دخل في ولائه. هذا "أبو نواس"، وهو مولى "بني حكم بن سعد العشيرة"، يتعصب للقحطانية ويدافع بكل قواه عنها؛ لأن "بني الحكم" من اليمن. وقد حمله تعصبه لهم على نظم قصيدة هجا فيها قبائل نزار بأسرها وافتخر بقحطان وقبائلها، وقد أوجعت النزاريين وآلمتهم، فشكوه إلى الخليفة الرشيد وهو منهم، فأمر بحبسه بسببها، وقيل: إنه حده لأجلها، وأولها:
لست لدار عفت وغيَّرها ... ضربان من قطرها وحاصبها
ثم قال مفتخرًا باليمن وذاكرًا للضحاك:
فنحن أرباب ناعظ ولنا ... صنعاء والمسك في محاربها
وكان منا الضحاك يعبده الـ ... ـخابل والطير في مساربها
ثم يستمر فيقول في هجاء نزار:
واهجُ نزارًا وافرِ جلدتها ... وكشِّفِ السترَ عن مثالبها2
وأثارت هذه القصيدة جماعة من النزارية، فردت عليه. وكان منهم رجل
__________
1 مروج "1/ 300".
2 التنبيه "ص76 فما بعدها".(2/151)
من "بني ربيعة بن نزار"، فقال يذكر نزارًا ومناقبها، واليمن ومثالبها في قصيدة أولها:
دع مدح دار خبا وانتهى ... عهد معدّ بزعم عاتبها
ثم استمر، فقال:
فامدح معدًّا وافخر بمنصبها الـ ... ـعالي على الناس في مناصبها
وهتك الستر عن ذوي يمن ... أولاد قحطان غير هائبها1
وقد أنتج هذا النزاع القحطاني العدناني قصصًا وحكايات وشعرًا دُوِّن في الكتب، وأُنتج "حديثا" زعمٌ أن قائله هو الرسول، قاله في مدح قحطان أو في مدح عدنان، وأحيانا في مدح القبائل، مثل: حمير ومذحج وهمدان وغسان، وقبائل أخرى أو في مدح بيوتات معينة من مثل هذه القبائل.
لقد تلون هذا النزاع بلون أدبي زاهٍ لا يخلو من طرافة وإن كان قد أساء من الناحية السياسية إلى هذه الأمة أيما إساءة. فقد لون اليمانيون تأريخهم القديم بألوان زاهية جميلة من القصص والحكايات والأخبار، فهم الذين زعموا أن قحطان هو ابن هود النبي، فأوصلوا نسبهم بالأنبياء، وهم الذين أوصلوا نسب قحطان إلى إسماعيل، فنفوا بذلك أي فضل كان للعدنانيين على القحطانيين في الآباء والأجداد، وهم المسئولون عن هذا التقسيم المشهور المعروف للعرب وجعل القحطانيين في الطبقة الأولى من العربية بالنسبة إلى العدنانيين، وهم الذين نظموا في الإسلام تلك الأشعار والقصائد التي ذكرها الرواة على أنها من نظم التبابعة وملوك القحطانيين، وهم الذين ساقوا تلك الحكايات عن الفتوحات العظيمة لملوك اليمن وعن حكم القحطانيين للعدنانيين واستذلالهم إياهم.
وقد استغل العدنانيون ظهور الرسول بينهم، فاتخذوا من هذا الشرف ذريعة للتفاخر والتباهي على القحطانيين. وقد أجابهم اليمانيون على ذلك بأنهم هم الذين كان لهم شرف نصرة الرسول وإعلاء كلمة الله، وهم الذين كونوا مادة الجيش الإسلامي، وهم الذين آووا الرسول وفتحوا مكة. وتمسك العدنانيون بأذيال
__________
1 التنبيه "ص77".(2/152)
إبراهيم وعدوه جدهم الخاص بهم، مع أنه جد العرب عامة كما في القرآن الكريم، ونفوا كل مشاركة للقحطانيين في هذا النسب الشريف. وقد كان لهم ما يساعدهم في تقوية حجتهم، فقد كان الرسول من صلب إسماعيل والرسول منهم، فإبراهيم هو أبو المختص بهم. ولرد دعوى الإسماعيليين هذه من اختصاص إسماعيل وإبراهيم بهم, وصل بعض رواتهم نسب قحطان بإسماعيل وإبراهيم، ولم يكتفوا بذلك فلا بد لهم من شرف زائد، ورجحان على العدنانيين الذين لم يبدأ ملكهم إلا في الإسلام، فاختصوا هودًا بهم، وجعلوه نبيا يمانيا. ثم لم يقبلوا بنبي واحد زيادة على الأنبياء الذين اختص بهم العدنانيون, فأضافوا إليهم صالحًا النبي وقالوا: إنه من صميم حمير وإنه صالح بن الهميع بن ذي ماذن نبي حمير من آل ذي رعين، وزعموا أن ثقيفا كان غلاما له1، وحصلوا بذلك على نبي وطعنوا في ثقيف، وهم من العدنانيين في الوقت نفسه، وأضافوا إليهم نبيا آخر من صميم حمير سموه أسعد تبع الكامل بن ملكي كرب بن تبع الأكبر بن تبع الأقرن، وقالوا: إنه ذو القرنين الذي قال الله تعالى فيه: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} 2. وذكروا أنه كان من أعظم التبابعة وأفصح شعراء العرب؛ ولذلك قال بعض العلماء فيه: ذهب ملك تبع بشعره، ولولا ذلك لما قدم عليه شاعر من العرب وقالوا: نهى النبي عن سبه؛ لأنه آمن به قبل ظهوره بسبعمائة عام، وليس ذلك إلا بوحي من الله عز وجل, وهو أول من كسا البيت، وجعل له مفتاحا من ذهب. وأوردوا له أشعارا لإثبات إيمانه بالرسول تمنى فيها لو أدرك أيامه إذًا لآمن به، ولكان له وزيرا وابن عم، ولألزم طاعته كل من على الأرض من عرب وعجم، ورووا له أبياتا في البيت الحرام، وكيف كان يقصده فيمكث فيه تسعة أشهر، وكيف كان ينحر في العام سبعين ألفًا من البدن3.
وزعموا فوق هذا كله أنه تنبأ بعودة ملك حمير حيث يظهر المهدي منهم، وهو رجل حميري سبئي الأبوين، يعيد الملك إلى حمير بالعدل، في هذه الأبيات التي رواها عُبيد بن شَرْيَةَ الجُرهمي:
__________
1 منتخبات "ص62".
2 منتخبات "ص13".
3 منتخبات "ص13".(2/153)
ومن العجائب أن حمـ ... ـير سوف تعلى بالقهور
ويسودها أهل الموا ... شي من نضير أو نضير
يعني النضر بن كنانة، وهو قريش.
ويثيرها المنصور من ... جنبي أزال كالصقور
وهو الإمام المرتجى المـ ... ـذكور من قدم الدهور
وأنه قال:
بمنصور حمير المرتجى ... يعود من الملك ما قد ذهب
ويرجع بالعدل سلطانها ... على الناس في عجمها والعرب
وقالوا: إن المنصور هو لقب القائم المنتظر الذي سيظهر ليعيد ملك حمير المسلوب1.
وذكروا أنه كان في جملة ما قاله من شعر قوله:
واعلم بنيَّ بأن كل قبيلة ... ستذل إن نهضت لها قحطان2
إلى غير ذلك من أشعار نسبت إليه وإلى غيره من التبابعة تتحدث عن حقد القحطانيين على العدنانيين، وعن ألمهم الشديد لفراق ملكهم وانتقال الحكم منهم إلى المكيين، وقد كانوا من أتباعهم بالأمس. فعللوا أنفسهم بالتحدث عن الماضي، ثم صبروا أنفسهم بالحديث عن ملك سيعود، وعن دولة ستأتي، وعن مهدي يأخذ بالثأر، كالذي يفعله المغلوبون, وجعلوا ذا القرنين الذي ورد اسمه في سورة الكهف منهم3، فقالوا: هو الهميسع بن عمرو بن زيد بن كهلان، أو الصعب بن عبد الله بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الأصغر، أو تبع الأكبر بن تبع الأقرن، أو تبع الأقرن، وكان مؤمنا عالما عادلا، ملك جميع الأرض وطافها، ومات في شمال بلاد الروم حيث يكون النهار ليلا إذا انتهت الشمس إلى برج الجدي. وقد كان يقول الشعر، وهو الذي بشر
__________
1 منتخبات "ص103".
2 منتخبات "ص83".
3 سورة الكهف: 18، الآية 83، 86، 94.(2/154)
بالنبي في شعره، وطبيعي أن يكون واضعو هذه الأشعار أناسًا من الأنصار ومن بقية فروع قحطان1.
وتعلق متعصبو اليمانية بالأبنية الفخمة وبالمدن الكبرى، فجعلوها من أبنية ملوكهم أو من أبنية أسلافهم العرب العاربة. وقد ذكر المسعودي أن من اليمانية من يرى أن الهرمين اللذين في الجانب الغربي من فُسطاط مصر، هما قبرا "شداد بن عاد وغيره من ملوكهم السالفة الذين غلبوا على بلاد مصر في قديم الدهر، وهم العرب العاربة من العماليق وغيرهم"2. ونسبوا لملوكهم الفتوحات الفخمة في الشرق والغرب.
وأضافوا إليهم لقمان الحكيم، زعموا أنه لقمان الحميري، وقالوا: إنه كان حكيمًا عالمًا بعلم الأبدان والأزمان، وهو الذي وَقَّت المواقيت، وسمى الشهور بأسماء مواقيتها. وزعموا أن ياسر ينعم ملك بعد سليمان بن داود، وسمي ينعم؛ لأنه رد الملك إلى حمير بعد ذهابه، وأن الضحاك ملك من الأزد كان في وقت إبراهيم فنصره, وبذلك كانت للقحطانيين منة قديمة على إبراهيم وعلى العدنانيين بصورة خاصة. وقالوا أشياء أخرى كثيرة، قد يخرجنا ذكرها من صلب هذا الموضوع, من أعمال وفتوحات لشمر يرعش وغيره من التبابعة3.
وقد لوَّن العدنانيون تأريخهم، واستعانوا بالشعر، فوضعوا منه ما شاءوا في الرد على القحطانيين. قال ابن سلام: "نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام"4، وعقبوا على الروايات القحطانية، فلما ادعى اليمانيون مثلا أن تبعهم "أبا كرب" فتح العراق والشام والحجاز، وأنه امتلك البيت الحرام، ونكل بالعدنانيين شر تنكيل، وأنه قال شعرا، منه:
__________
1 قال النعمان بن بشير:
فمن ذا يفاخرنا من الناس معشر ... كرام, فذو القرنين منا وحاتم
ونحن بنينا سد يأجوج فاستوى ... بأيماننا, هل يهدم السد هادم؟
وقال لبيد:
والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا ... بالحنو في جدث هناك مقيم
منتخبات "ص61، 84 فما بعدها".
2 التنبيه "ص18".
3 منتخبات "ص56، 65".
4 في الأدب الجاهلي "ص123".(2/155)
لست بالتبع اليماني إن لم ... تركض الخيل في سواد العراق
أو تؤدي ربيعة الخرج قسرًا ... أو تعقني عوائق العواق
قال العدنانيون: نعم، وقد كانت بين تبع هذا وقبائل نزار بن معد وقائع وحروب، واجتمعت عليه معد من ربيعة ومضر وإياد وأنمار، فانتصرت عليه، وأخذت الثأر منه، وفي ذلك قال أبو دُوَاد الإيادي:
ضربنا على تبع حربه ... حبال البرود وخرج الذهب
وولى أبو كرب هاربًا ... وكان جبانًا كثير الرهب
وأتبعته فهوى للجبين ... وكان العزيز بها من غلب1
إلى غير ذلك من القصص والحكايات التي وضعها الرواة في صدر الإسلام حين احتدم الخلاف بين الأنصار وقريش, سجلت في الكتب، ورُويت للناس، وانتشرت بينهم على أنها أمور واقعية، وأن العرب كانوا من أصلين: قحطان وعدنان.
وقد كان لكل فريق رواة وأهل أخبار يقصون على الناس قصصًا وأخبارًا في أخبار النزاع القحطاني العدناني. فوضع "عبيد بن شرية الجرهمي" كثيرًا من القصص والأشعار عن العرب الأولى وعن القحطانيين، وضع ذلك لمعاوية بن أبي سفيان، وكان معاوية مغرمًا بسماع أساطير الأولين وأخبار الماضين، كما سبق أن أشرت إلى ذلك.
ووضع "يزيد بن ربيعة بن مفرغ" المتوفى سنة "69" للهجرة، وهو شاعر متعصب لليمن، قصص "تبع"2. جاء في كتاب الأغاني: "سُئِل الأصمعي عن شعر تبع وقصته ومن وضعهما، فقال: ابن مفرغ. وذلك أن يزيد بن معاوية لما سيره إلى الشام وتخلصه من عبيد الله بن زياد، أنزله الجزيرة وكان مقيمًا برأس عين، وزعم أنه من حمير، ووضع سيرة تبع وأشعاره, وكان النمر بن قاسط يدعى أنه منهم"3.
__________
1 مروج الذهب "1/ 300".
2 Muh. Stud. Bd. I,S. 97
3 الأغاني "17/ 52".(2/156)
وظهرت كتب ضمت أخبار التبابعة وقصصهم، أشار إليها المسعودي، دعاها بـ"كتب التبابعة"1. وقد وقف عليها ونقل منها، وهي كما يظهر من نقله ومن نقل غيره منها من هذه الأساطير المنسوبة إلى عبيد ووهب ويزيد بن المفرغ وأمثالهم من أصحاب القصص والأساطير.
وكان بين العدنانيين والقحطانيين جدل وكلام في لغة "إسماعيل"، فاليمانيون ومنهم "الهيثم بن عدي الطائي" كانوا يرون أن لسان "إسماعيل" الأول هو اللسان السرياني، ولم يكن يعرف العربية. فلما جاء إلى مكة وتصاهر مع جرهم، أخذ لسانهم وتكلم به، فصار عربيًّا. أما النزارية، فكانت تنفي ذلك نفيا قاطعا، وترده ردا شديدا، وتقول: لو كان الحال كما تزعمون "لوجب أن تكون لغته موافقة للغة جرهم أو لغيرها ممن نزل مكة, وقد وجدنا قحطان سرياني اللسان، وولده يعرب بخلاف لسانه. وليست منزلة يعرب عند الله أعلى من منزلة إسماعيل، ولا منزلة قحطان أعلى من منزلة إبراهيم، فأعطاه فضيلة اللسان العربي التي أعطيها يعرب بن قحطان"2. فنفى النزارية العربية عن قحطان أيضا وصيروه كإسماعيل سرياني اللسان.
وقد عقب "المسعودي" على هذا النزاع النزاري القحطاني بقوله: "ولولد نزار وولد قحطان خطب طويل ومناظرات كثيرة لا يأتي عليها كتابنا هذا في التنازع والتفاخر بالأنبياء والملوك وغير ذلك مما قد أتينا على ذكر جمل من حجاجهم وما أدلى به كل فريق منهم ممن سلف وخلف"3. ونجد جملًا كثيرة من هذا النوع مبثوثة في كتابيه: مروج الذهب، والتنبيه والإشراف، تتحدث عن ذلك النزاع المرّ المؤسف الذي وقع بين العرب في تلك الأيام.
ولعل هذه العصبية الجاهلية، هي التي حملت جماعة من المتكلمين منهم "ضرار بن عمرو بن ثمامة بن الأشرس" و"عمرو بن بحر الجاحظ" على الرغم, أن "النبط" خير من العرب؛ لأن الرسول منهم، ففضلوهم بذلك على العدنانيين والقحطانيين, وهو قول رد العدنانيون والقحطانيون عليه4. قال به المتكلمون متأثرين بآراء أهل الكتاب في أنساب أبناء إسماعيل وبآرائهم الاعتزالية التي تكره التعصب في مثل هذه الأمور. وقد ذكر "المسعودي" شيئًا من الرد الذي وضعه القحطانيون والعدنانيون ضد هؤلاء.
__________
1 مروج الذهب "279".
2 مروج الذهب "1/ 277".
3 مروج الذهب "1/ 277".
4 مروج الذهب "1/ 266 فما بعدها".(2/157)
العرب العاربة والعرب المستعربة:
أما مصطلح "العرب العاربة" و"العرب المستعربة"، فهما على ما يتبين من روايات علماء اللغة والأخبار من المصطلحات القديمة التي تعود إلى الجاهلية، ولكننا لو درسنا تلك الروايات خرجنا منها، ونحن على يقين بأن الجاهليين لم يطلقوهما بالمعنى الذي ذهب إليه الإسلاميون، بل قصدوا بهما القبائل البعيدة عن أرض الحضارة، والقبائل القريبة منها، فقد عرفت القبائل النازلة ببلاد الشام والساكنة في أطراف الإمبراطورية البيزنطية بـ"المستعربة". "والمستعربة" مصطلح أطلق على هذه القبائل وعلى القبائل النازلة في سيف العراق من حدود نهر الفرات إلى بادية الشام، فهو يشمل إذًا القبائل النازلة على طرفي الهلال الخصيب وفي طرفي القوس الذي يحيط بحدود الإمبراطوريتين, ومن المستعربة غسان وإياد وتنوخ1. وقد فضلت غالبية هذه المستعربة السكنى في أطراف المدن في مواضع قريبة من البوادي والصحاري، عرفت عندهم بـ"الحاضر"، فكان في أكثر مدن بلاد الشام حاضر يقيم به العرب من تنوخ ومن غير تنوخ2.
وقد وجدت في تأريخ الطبري خبرًا زعم أنه جرى بين "خالد بن الوليد"، وبين "عدي بن عدي بن زيد العبادي"، يفهم منه أن العرب: عرب عاربة وأخرى متعربة. وقد جرى بينهما على هذا النحو: "قال خالد: ويحكم, ما أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أم عجم، فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة. فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية"3. فيفهم من هذا الحديث أن العرب: عرب عاربة وعرب متعربة, وهم أناس تعربوا فصاروا عربًا. وهو كلام معقول
__________
1 البلاذري "171".
2 البلاذري "180"، و"الحاضر: الحي العظيم أو القوم ... حاضر طيء"، تاج العروس "3/ 148".
3 الطبري "3/ 361".(2/158)
مقبول، ولا سيما بالنسبة إلى الحيرة والعراق وبلاد الشام، حيث تعرب فيها كثير ممن لم يكن عربيًّا في الأصل فصاروا عربًا، لسانهم لسان العرب، ولا يفهم من هذا الكلام بالطبع تقسيم العرب بالمعنى المفهوم عند أهل الأخبار والتأريخ، أي: عرب قحطانيون وعرب عدنانيون, وكل ما قصد به إن صح أن هذا الكلام هو كلام "خالد" وكلام "عدي" حقًّا, تعنيف وتأنيب لعدي بن عدي بن زيد على وقوفه هو وقومه وأهل الحيرة موقفا معاديا للمسلمين، وتأييدهم للفرس ولدفاعهم عنهم، مع أنهم عجم بعيدون عنهم, فكأنه قال لهم: لو كنتم عربًا فكيف تؤيدون عجمًا علينا ونحن عرب؟ و"عدي" من العرب، وأبوه من تميم كما يقول النسابون. فهو ليس من العرب الأخرى المتعربة، ولكن من العرب العاربة، أي: عرب بالأصالة، كما أن خالدا نفسه من العرب العاربة؛ لأنه عربي أصلا وإن كان عدنانيًّا, فلم يقصد بالعرب العاربة هنا العرب القحطانيين، ولا بالعرب المتعربة العرب العدنانيين. فالعرب المتعربة إذن هم المتعربون من أهل الحيرة وغيرهم، ممن كانوا من النبط وبني إرم أو غيرهم ثم دخلوا بين العرب ولحقوا بهم، فصار لسانهم لسانا عربيا مثل العرب الآخرين وتعربوا بذلك.
ويلاحظ أن "غسان" قد أدخلت في "المستعربة" مع أنها من العرب العاربة، أي: من العرب القحطانيين في عرف النسابين. وفي ذلك دلالة على أن مدلول العرب العاربة والعرب المستعربة لم يكن في الجاهلية وفي صدر الإسلام بالمعنى الذي صار عليه عند علماء النسب وأهل الأخبار، وأن تخصيص العرب العاربة بالقبائل التي ترجع نفسها إلى اليمن، والعرب المستعربة بالقبائل التي يرجعون نسبها إلى عدنان، قد وقع من النسابين في أيام الأمويين فما بعد.(2/159)
الفصل الثاني عشر: طبقات القبائل
مدخل
...
الفصل الثاني عشر: طبقات القبائل
ورتب علماء الأنساب قبائل العرب على مراتب، هي: شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة. فالشعب: النسب الأبعد مثل عدنان وقحطان، والقبيلة مثل ربيعة ومضر، والعمارة مثل قريش وكنانة، والبطن مثل بني عبد مناف وبني مخزوم، ومثل بني هاشم وبني أمية، والفصيلة مثل بني أبي طالب وبني العباس1, وجعل "ابن الكلبي" مرتبة بين الفخذ والفصيلة, هي مرتبة العشيرة، وهي رهط الرجل2. وبنى "النويري" طبقات القبائل على عشر طبقات, هي: الجِذْم، والجماهير، والشعوب، والقبائل، والعمائر، والبطون، والأفخاذ، والعشائر، والفصائل, والأرهاط3, ورتب "نشوان بن سعيد الحميري" القبائل على هذا النحو: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الجيل، ثم الفصيلة, وجعل مضر مثال الشعب، وكنانة مثال القبيلة، وقريشًا مثال العمارة، وفهرًا مثال البطن، وقُصَيًّا مثال الفخذ، وهاشمًا للجيل، وآل العباس للفصيلة4.
__________
1 بلوغ الأرب "3/ 187 فما بعدها"، اللسان "14/ 57"، "البطن: دون القبيلة، وقيل: هو دون الفخذ وفوق العمارة"، اللسان "16/ 199"، الإكليل "1/ 22".
2 العقد الفريد "3/ 283 فما بعدها".
3 نهاية الأرب "2/ 262 فما بعدها".
4 منتخبات "ص55".(2/160)
وأكثر علماء النسب يقدمون الشعب على القبيلة، والظاهر أن هذه الفكرة كانت قد اختمرت في رءوس الجاهليين الذين عاشوا في الجاهلية القريبة من الإسلام, حيث ظهرت عندهم الفكرة القومية بمعنًى واسع، وحيث نجد عندهم ظهور الكلمات التي تشير إلى هذا المعنى، مثل إطلاقهم العرب على العرب جميعًا اصطلاحًا، وحيث أخذ الحس القومي يظهر بين القبائل بوجوب التكتل لمكافحة الغرباء، كالذي حدث في معارك اليمن مع الحبش، وفي معارك عرب العراق مع الفرس. وقد قدم القرآن الكريم الشعوب على القبائل {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} 1. فالشعوب هنا فوق القبائل, وتعبر عن هذا المعنى الواسع الذي أتحدث عنه.
وزاد بعض العلماء الجذم، بأن وضعوها قبل الشعب، ووضعوا الفصيلة بعد العشيرة، ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة، ثم العترة. ورتبها آخرون على هذه الصورة: الجذم، ثم الجمهور، ثم الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم العشيرة، ثم الفصيلة، ثم الرهط، ثم الأسرة، ثم العترة، ثم الذرية. وزاد غيرهم في أثنائها ثلاثة، هي: البيت، والحي، والجماع.
والاختلاف الذي نراه من علماء النسب هو في الترتيب، أي: من حيث التقديم والتأخير، وفي إضافة بعض المصطلحات أو في نقصها. أما من حيث العموم، فإننا نجدهم يتفقون في الغالب ولا يختلفون أبدًا, في أن القبائل والأنساب كانت على منازل ودرجات, ولا بد أن تكون أكثر هذه المصطلحات مصطلحات أهل الجاهلية القريبين من الإسلام. أما بالنسبة إلى الجاهليين البعيدين عنه، فلن يكون حكمنا عليهم علميا إلا إذا أخذنا مصطلحاتهم من كتاباتهم. ولم نتمكن, ويا للأسف, من الحصول على مادة منها تفيدنا في هذا الباب, فليس لنا إلا الصبر والانتظار.
والقبيلة: الجماعة تنتمي إلى نسب واحد2، ويرجع ذلك النسب إلى جد أعلى، أو إلى جدة وهو في الأقل. ولا تزال اللفظة حية مستعملة يستعملها
__________
1 الحجرات، الرقم 49، الآية 13.
2 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص400".(2/161)
العرب في كل مكان بالمعنى الاصطلاحي المستعمل عند النسابين1.
والقبيلة هي المجتمع الأكبر بالنسبة إلى أهل البادية، فليس فوقها مجتمع عندهم, وهي في معنى "شعب" عندنا وفي مصطلحنا الحديث. وتتفرع من القبيلة فروع وأغصان، هي دون القبيلة؛ لأنها في منزلة الفروع من الشجرة. ثم اختلفوا في عدد الفروع المتفرعة من القبيلة، فجعل بعضهم بعد القبيلة العِمارة ثم البطن، ثم الفخذ ثم الفصيلة2، وجعل بعض آخر ما دون القبيلة: العمارة, ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، وزاد بعض آخر قبل الشعب الجذم، وبعد الفصيلة العشيرة, ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة، ثم العترة. ورتب بعض النسابين طبقات النسب على هذا النحو: جذم، ثم جمهور، ثم شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم عشيرة، ثم فصيلة، ثم رهط، ثم أسرة، ثم عترة، ثم ذرية. وزاد بعضهم في أثنائها ثلاثة، وهي: البيت والحي، والجماع3.
ويدل اختلاف النسابين في ضبط أسماء ما فوق القبيلة أو ما تحتها، واضطرابهم في الترتيب على أن هذا الترتيب لم يكن ترتيبًا جاهليًّا أجمع الجاهليون عليه، وإلا لما تباينوا هذا التباين فيه، ولما اختلفوا هذا الاختلاف في سرده، إنما هو ترتيب اجتهادي أخذه العلماء من أفواه الرواة ومن الأوضاع القبلية التي كانت سائدة في أيامهم ومن اجتهادهم أنفسهم، فرتبوها على وفق ذلك الاجتهاد.
وأكثر هذه المصطلحات لم ترد لا في الكتابات الجاهلية ولا في الشعر المنسوب إلى الجاهليين؛ لذلك يصعب على الإنسان أن يبدي رأيا علميا مقبولا فيها، وأعتقد أن خير ما يمكن فعله في هذا الباب هو استنطاق الكتابات الجاهلية وتفليتها وتفلية الشعر الجاهلي للبحث عما فيه من مصطلحات تتعلق بالنظم القبلية، وعندئذٍ نتمكن من تكوين رأي قريب من الصواب والصحة في هذا الموضوع.
ومن أجل ذلك قال "روبرتسن سمث": إن البطن والحي هما أساس أقدم أشكال المجتمعات السياسية عند الساميين.
__________
1 Naval, P. 403.
2 بلوغ الأرب "3/ 188".
3 بلوغ الأرب "3/ 188".(2/162)
كما استدل من أسماء بعض القبائل التي تحمل أسماء بعض الحيوانات، مثل: بني أسد، وبني كلب، وبني بدن، وبني ثعلب، وبني ثور، وبني بكر، وبني ضب، وبني غراب، وبني فهد، وما شاكل ذلك من أسماء جماعة من القبائل، وبعضها عمائر، وبعضها بطون أو فصائل على وجود "الطوطمية" عند العرب، وعلى أن هذه الأسماء هي من ذكريات "الطوطمية" القديمة.
وقد تأثر بنظريته هذه جماعة من العلماء, وعد بعض العلماء نظرية "الطوطمية" مفتاحًا يوصل إلى حل كثير من المسائل الغامضة من تأريخ البشرية القديم.
هذا وقد أرجع "ابن حزم" جميع قبائل العرب إلى أب واحد، سوى ثلاث قبائل هي: تنوخ، والعتق، وغسان، فإن كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون. وقد نص غيره من أهل النسب على أن تنوخًا اسم لعشر قبائل، اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسموا تنوخًا, وذكر بعض آخر أن غسان عدة بطون من الأزد، نزلت على ماء يسمى غسان، فسميت به. فترى من هنا أن تنوخًا والأزد حلف في الأصل، وقد صار مع ذلك نسبا عند كثير من أهل الأخبار في الدفاع عنه. ولما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادة القبائل، أصبحت من أهم العوائق في تكوين الحكومات المدنية الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية قبل الإسلام.
وينطبق ما قلته عن تنظيم القبيلة وبناء الأنساب عليه على أهل الحضر أيضًا؛ فالحضر، ولا سيما حضر الحجاز، وإن استقروا وأقاموا غير أنهم لم يتمكنوا من ترك النظم البدوية الاجتماعية القائمة على مراعاة قواعد النسب وفقًا للتقسيمات المذكورة. وهي تقسيمات أوجدتها طبيعة الحياة في البادية، تلك الحياة الشحيحة التي لا تتحمل طاقاتها تقديم ما يحتاج إليه مجتمع كبير مستقر من مأكل وماء؛ ولذلك اضطرت المجتمعات الكبرى وهي القبائل، على التشتت والانقسام والانتشار كتلًا تختلف درجات حجمها حسب طبيعة الأرض التي نزلت بها، من حيث الكرم والبخل. ولما استقر بعض هؤلاء البدو وتحضروا في أماكن ثابتة مثل مكة ويثرب والطائف، حافظوا على نظمهم الاجتماعية المذكورة الموروثة من حياة البادية، وعاشوا في مدرهم أحياءً وشعابًا عيشة قائمة على أساس الروابط الدموية والنسب، كما سأتحدث عن ذلك في الحياة الاجتماعية.
والنسب عند العرب، هو نسب يقوم إذن على الطبقات المذكورة، كما أن(2/163)
الطبقات المذكورة قائمة على دعوى النسب، فبين النسب وبناء المجتمع صلة وارتباط، ولا يمكن فك أحدهما عن الآخر؛ ولهذا نجد شجرات الأنساب تتفرع وتورق وتزهر على هذا الأساس.
وأنا لا أستثني المجتمع العربي في الجنوب، الذي تغلب عليه حياة الاستقرار والسكن والاستيطان من هذا التنظيم. فنحن وإن لم نتمكن حتى الآن من الحصول على كتابات كافية تقدم لنا صورة واضحة عن الأنساب وعن تنظيمات المجتمع عند المعينيين والسبئيين وغيرهم من العرب الجنوبيين، غير أن في بعض الكتابات التي وصلت إلينا إشارات تفيد وجود هذا التنظيم عند العرب الجنوبيين.
والعرب الجنوبيون وإن غلبت عليهم حياة السكن والاستقرار، غير أن زمانهم لم يتمكن من تحرير نفسه من قيود الحياة القبلية، ولم يكن من الممكن بالنسبة لهم الابتعاد عن الاحتماء بالعصبية القبلية وبعرف القبيلة، فالطبيعة إذ ذاك طبيعة حتمت على الناس التمسك بتلك النظم لحماية أنفسهم وللدفاع عن أموالهم, حيث لا حق يحمي المرء غير حق العصبية القائم على أساس النسب والدم.
ويعبر عن القبيلة بلفظة "شعبم" و"شعبن" في العربيات الجنوبية, أي: "قبيلة" و"القبيلة"1. أما لفظة "القبيلة" فلم أعثر على وجود لها في كتابات المسند, فلعلها من الألفاظ الخاصة بأهل الحجاز ونجد. وأما ما دون "الشعب" أي القبيلة في اصطلاحنا، فلم أقف على مسمياتها بالنحو الذي يذكره أهل الأنساب, وإنما نجد العرب الجنوبيين يقسمون القبيلة إلى أقسام، مثل "ربعن" أي: "ربع" و"ثلثن" أي: ثلث, ويريدون بذلك ربع قبيلة وثلث قبيلة. وربما كانوا يقسمونها إلى أقسام أخرى، لم تصل أسماؤها إلينا، ولعل الأيام ستزودنا بما كان العرب الجنوبيون يستعملونه من مصطلحات في النسب عندهم، وذلك قبل الإسلام بزمان طويل، وبالمصطلحات التي كانوا يطلقونها على فروع القبيلة في تلك الأوقات.
وبينما نجد أهل الأنساب ينسبون أهل الوبر وأهل المدر إلى أجداد، عاشوا
__________
1 راجع النصوص: 35، 69، 70، 75 من كتاب "نشر نقوش سامية قديمة" لخليل يحيى تامي.(2/164)
وماتوا، نجد المعينيين مثلا يستعملون جملة: "أولدهو ود"1، أي "أولاد ود"، و"ود" هو إله شعب معين الأكبر، كما نجد السبئيين يطلقون على أنفسهم "ولد المقه"2، أي أولاد الإله "المقه", والمقه كما سنرى فيما بعد، هو إله سبأ الأول. ونجد القتبانيين يدعون أنفسهم "ولد عم" أي: أولاد عم3. ومعنى هذا، أن كل قبيلة من القبائل المذكورة، نسبت نفسها إلى إلهها الخاص بها واحتمت به، تمامًا كما فعل العبرانيون وغيرهم، إذ نسبوا أنفسهم إلى إله قومي اعتبروه إلههم الخاص بهم، المدافع عنهم، والذي يرزقهم وينفعهم, وقد يعد هذا نسبًا. أما نسب على النحو الذي يقصده ويريده أهل الأخبار، أي: جد عاش ومات وله أولاد وحفدة، فهذا لم يصل خبره إلينا في كتابات المسند، بل في كل ما وصل إلينا من كتابات جاهلية حتى الآن.
__________
1 euting 57, jaussen et savignac
2 mission, I, p. 255, die altarabische kultur, I, s. 217. glaser 1000 a
3 glaser 1600, die altarabische kultur, I, s. 217(2/165)
الأنساب:
وأقرب تفسير إلى أنساب العرب في نظري هو أن النسب، ليس بالشكل المفهوم المعروف من الكلمة، وإنما هو كناية عن "حلف" يجمع قبائل توحدت مصالحها، واشتركت منافعها، فاتفقت على عقد حلف فيما بينها، فانضم بعضها إلى بعض، واحتمى الضعيف منها بالقوي، وتولدت من المجموع قوة ووحدة، وبذلك حافظت تلك القبائل المتحالفة على مصالحها وحقوقها. قال البكري: "فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة، وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضًا على البلاد والمعاش، واستضاف القوي الضعيف، انضم الذليل منهم إلى العزيز، وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالهم، وانتشر كل قوم فيما يليهم".
لقد حملت الضرورات قبائل جزيرة العرب على تكوين الأحلاف؛ للمحافظة على الأمن وللدفاع عن مصالحها المشتركة كما تفعل الدول. وإذا دام الحلف(2/165)
أمدًا، وبقيت هذه الرابطة التي جمعت شمل تلك القبائل متينة، فإن هذه الرابطة تنتهي إلى نسب، حيث يشعر أفراد الحلف أنهم من أسرة واحدة تسلسلت من جد واحد، وقد يحدث ما يفسد هذه الرابطة، أو ما يدعو إلى انفصال بعض قبائل الحلف، فتنضم القبائل المنفصلة إلى أحلاف أخرى، وهكذا نجد في جزيرة العرب أحلافًا تتكون، وأحلافًا قديمة تنحل أو تضعف.
لم يكن في مقدور العشائر أو القبائل الصغيرة المحافظة على نفسها من غير حليف قوي، يشد أزرها إذا هاجمتها قبيلة أخرى، أو أردات الأخذ بالثأر منها. لقد كانت معظم القبائل داخلة في هذه الأحلاف، إلا عددا قليلا من القبائل القوية الكثيرة العدد، يذكر أهل الأخبار أنها كانت تتفاخر لذلك بأنفسها؛ لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها، بل كانت تأخذ بثأرها وتنال حقها بالسيف. ويشترك المتحالفون في الغالب في الموطن، وقد تنزل القبائل على حلفائها، وتكون الهيمنة بالطبع في هذه للقبائل الكبيرة.
وقد عرفت مثل هذه الأحلاف عند سائر الشعوب السامية كالعبرانيين مثلا، وطالما انتهت كما انتهت عند العرب إلى نسب، حيث يشعر المتحالفون أنهم من أسرة واحدة يجمع بينهم نسب واحد. ويقال للحلف أيضا "تحالف"، وعند اليمانين "تكلع".
ويرى "جولدتزيهر" أنه لفهم الأنساب عند العرب، لا بد من معرفة الأحلاف والتحالف؛ فإنها أساس تكون أنساب القبائل، فإن هذه الأحلاف التي تجمع شمل عدد من البطون والعشائر والقبائل هي التي تكوَّن القبائل والأنساب، كما أن تفكك الأحلاف وانحلالها يسبب تفكك الأنساب وتكوين أنساب جديدة, ويرى أيضا أن الدوافع التي تكون هذه الأحلاف لم تكن ناشئة عن حس داخلي بوجود قرابة وصلة رحم بين المتحالفين وشعور بوعي قومي، بل كانت ناشئة عن المصالح الخاصة التي تهم العشيرة كالحماية والأخذ بالثأر وتأمين المعيشة؛ ولذا نجد الضعيف منها يفتش عن حليف قوي، فانضمت "كعب" مثلًا إلى "بني مازن" وهم أقوى من "كعب"، وانضمت "خزاعة" إلى "بني مدلج"، كما تحالفت "بنو عامر" مع "إياد" وأمثلة أخرى عديدة. ولما كانت المصالح الخاصة هي العامل الفعال في تأليف الأحلاف، كان أمد الحلف يتوقف في الغالب على دوام تلك المصالح. وقد تعقد الأحلاف لتنفيذ شروط اتفق عليها، فمتى نفذت(2/166)
أو تلكأ أحد الطرفين في التنفيذ انحل الحلف. وتعد هذه الناحية من النواحي الضعيفة في التأريخ العربي، فإن تفكير القبائل لم يكن يتجاوز عند عقدهم هذه الأحلاف مصالح العشائر أو القبائل الخاصة؛ لذلك نجدها تتألف للمسائل المحلية التي تخص القبائل، ولم تكن موجهة للدفاع عن جزيرة العرب ولمقاومة أعداء العرب. ولا يمكن أن نطلب من نظام يقوم على العصبية القبلية أن يفعل غير ذلك, فإن وطن القبيلة ضيق بضيق الأرض التي تنزل فيها، فإذا ارتحلت عنها ونزلت في أرض جديدة، كانت الأرض الجديدة الموطن الجديد الذي تبالغ القبيلة في الدفاع عنه. ولما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادة القبائل، أصبحت من أهم العوائق في تكوين الحكومات المدنية الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية قبل الإسلام.
خذ اختلاف النسابين في نسب بعض القبائل وتشككهم فيه، فإنه في الواقع دليل قوي يؤيد هذا الرأي، فقد اختلف في نسب "أنمار" مثلا؛ فمنهم من عدها من ولد "نزار"، ومنهم من أضافها إلى اليمن, والذين يضيفونها إلى "نزار" يقولون: إن أنمارًا من نزار، وأنمار هو شقيق ربيعة ومضر وإياد، فهو أحد أبناء نزار, دخل نسله في اليمن، فأضيفوا إليه، ومن هنا حدث هذا الاختلاف. أما اليمانية، فإنهم يرون أن أنمارًا هو منهم، وقد كان أحد ولد "سبأ" العشرة. فهو عندهم شقيق لخم وجذام وعاملة وغسان وحمير والأزد ومذحج وكنانة والأشعرين, ويرون أن بجيلة وخثعمًا من أنمار, ويستدلون على ذلك بحديث ينسبونه إلى الرسول.
وأما الذين يرجعون نسبه إلى "نزار" فيستدلون على نسبه هذا بحديث ينسبونه إلى الرسول أيضا. وفي الجملة لا يهمنا هنا موضوع نسب "أنمار" أكان في اليمن أم كان في نزار، وإنما الذي يهمنا أن الأحلاف تؤثر تأثيرًا كبيرًا في نشوء النسب، فلولا دخول أنمار في اليمن ونزولها بين قبائل يمانية، لما دخل نسبها في اليمن. ولولا دخول أنمار في قبائل عدنانية وتحالفها معها لما عدها النسابون من نزار، ولما عدوا أنمارًا ابنًا من أبناء نزار الأربعة. فاختلاط "أنمار" في اليمن وفي نزار وترددها بين الجماعتين هو الذي أوقع النسابين في مشكلة نسبها.
وطالما دفعت الحروب القبائل المغلوبة على الخضوع لسيادة القبائل الغالبة وقد تتحالف معها وتدخل في جورها، وإذا دام ذلك طويلًا، فقد يتحول الحلف والجوار إلى(2/167)
نسب. ثم إن تقاتل القبائل بعضها مع بعض يؤدي أحيانًا إلى ارتحال بعض هذه القبائل المتقاتلة إلى مواطن جديدة فتنزل بين قبائل أخرى، وتعقد معها حلفًا وتجاورها ومتى طال ذلك صار نسبًا، كالذي ذكره أهل الأنساب من نزوح قبائل عدنانية إلى اليمن بسبب تقاتلها بعضها مع بعض، مما أدى إلى دخول نسبها في اليمن، وكالذي ذكروه أيضا من نزوح قبائل يمانية نحو الشمال واختلاطها بقبائل عدنانية مما أدى إلى دخول نسبها في نسب تلك القبائل.
وتجد في كتب الأنساب والأخبار أمثلة كثيرة على اختلاط أنساب قبائل معروفة في عدنان وفي قحطان، كما رأيت فعل السياسة في تكييف النسب في صدر الإسلام وفي عهد الدولة الأموية وتنظيمه، كما رأيت كيف أن بعض النسابين ينسبون قبيلة إلى أب قحطاني على حين ينسبها بعض آخر إلى أب عدناني، وكيف أن نسابي القبيلة كانوا يرون رأيا آخر. وقد رأيت كيف أن بعضهم أرجع نسب ثقيف إلى "ثمود" بغضًا للحجاج الذي كان من ثقيف، ورأيت أيضا اختلاف النسابين فيما بينهم في رسم شجرات الأنساب.
لقد وقع هذا الاختلاف لعوامل عديدة: سياسية وجغرافية وعاطفية، لا يدخل البحث فيها في هذا المكان.
هذا وقد أرجع "ابن حزم" جميع قبائل العرب إلى أب واحد، سوى ثلاث قبائل، هي: تنوخ، والعتق، وغسان، فإن كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون. وقد نص غيره من أهل النسب على أن تنوخًا اسم لعشر قبائل، اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسموا تنوخًا. وذكر بعض آخر أن غسان عدة بطون من الأزد، نزلت على ماء يسمى غسان، فسميت به. فترى من هنا أن تنوخًا والأزد حلف في الأصل، وقد صار مع ذلك نسبًا عند كثير من أهل الأخبار.
وبين أجداد القبائل والأسر الذين يذكرهم أهل الأنساب، أجداد كانوا أجدادًا حقًّا، عاشوا وماتوا., وقد برزوا بغزواتهم وبقوة شخصياتهم، وكونوا لقبائلهم وللقبائل المتحالفة معها أو التابعة لها مكانة بارزة، جعلتها تفتخر بانتسابها إليهم، حتى خلد ذلك الفخر على هيئة نسب, ونجد في كتب الأنساب أمثلة عديدة لهؤلاء.(2/168)
"الطوطمية" ودور الأمومة عند العرب:
وقد لاحظ العلماء المحدثون أن بين أسماء القبائل، أسماء هي أسماء حيوان أو نبات أو جماد أو أجرام فلكية, كما لاحظوا أن بين المصطلحات الواردة في النسب مصطلحات لها علاقة بالجسم وبالدم. وقد وجدوا أن بين هذه التسميات والمصطلحات وبين البحوث التي قاموا بها في موصوع دراسة المجتمعات البدائية صلة وعلاقة, وأن للتسميات المذكورة صلة وثيقة بـ"الطوطمية"، كما أن للمصطلحات صلة بما يسمى بـ"دور الأمومة" أو "زواج الأمومة" عند علماء الاجتماع.
والطوطمية: نظرية وضعها "ماك لينان" "مكلينان" المتوفى سنة 1881م, خلاصتها:
1- أن الطوطمية دور مَرَّ على القبائل البدائية، وهي لا تزال بين أكثر الشعوب إغراقًا في البدائية والعزلة.
2- أن قوامها اتخاذ القبيلة حيوانا أو نباتا، كوكبا أو نجما أو شيئا آخر من الكائنات المحسوسة أبًا لها, تعتقد أنها متسلسلة منه وتسمى باسمه.
3- تعتقد تلك القبائل أن طوطمها يحميها ويدافع عنها، أو هو على الأقل لا يؤذيها وإن كان الأذى طبعه.
4- لذلك تقدس القبيلة طوطمها وتتقرب إليه وقد تتعبد له.
5- الزواج ممنوع بين أهل الطوطم الواحد، ويذهبون إلى الزواج من قبائل غريبة عن قبيلة الطوطم المذكور, وهو ما يعبر عنه بـ"Exogamy" في اللغة الإنجليزية. إذ يعتقدون أن التزاوج من بين أفراد القبيلة الواحدة ذو ضرر بالغ، ومهلك للقبيلة؛ لذلك يتزوج رجال القبيلة نساءً من قبيلة أخرى غريبة، لا ترتبط بطوطم هذه القبيلة، والمخالف لهذه القاعدة، أي الذي يتزوج امرأة من قبيلته, يعرض نفسه للعقوبات قد تصل إلى الحكم عليه بالموت.
6- الأبوة غير معروفة عند أهل الطوطم، ومرجع النسب عندهم إلى الأم.
7- لا عبرة عندهم إلى العائلة، والقرابة هي قرابة الطوطم, فأهل الطوطم الواحد إخوة وأخوات يجمعهم دم واحد1.
__________
1 من كتاب جورجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي "3/ 244 وما بعدها".(2/169)
والطوطمية "Totemism" لفظة أخذت من كلمة "Ototemom" وهي من كلمات قبيلة "Ojidwa" من قبائل هنود أمريكا1, اشتق منها "لانك" "J. Lang" كلمة "توتم" "Totem"، ومنها أخذ اصطلاح "طوطمية" "توتميسم" 2Totemism الذي يعني اعتقاد جماعة بوجود صلة لهم بحيوان أو حيوانات تكون في نظرها مقدسة؛ ولذلك لا يجوز صيدها أو ذبحها أو قتلها أو أكلها أو إلحاق أذًى بها3. وتشمل الطوطمية النباتات كذلك، فلا يجوز لأفراد الجماعة التي تقدسها قطعها أو إلحاق الأذى بها. وقد يتوسع بها فتشمل بعض مظاهر الطبيعة مثل: المطر والنجوم والكواكب4.
وهم يؤمنون بأن "الطوطم" لا يؤذي أتباعه, فلا يخافون منه، حتى وإن كان من الحيوانات المؤذية التي تلحق الأذى بالإنسان، كالحية أو العقرب أو الذئب. وهم يعتقدون أيضا أنه يدفع عنهم، وأنه ينذر أتباعه إن أحس بقرب وقوع خطر على أتباعه، وذلك بعلامات وإشارات على نحو ما يقال له الزجر والطيرة والفأل.
وهم يتقربون إلى طوطمهم؛ محاولة منهم في كسب رضاه، فيقلدونه في شكله ومظهره، وقد يلبسون جلده أو جزءًا من جلده، أو يعلقون جزءًا منه في أعناقهم أو أذرعهم على نحو من التعاويذ؛ لأنه يحميهم بذلك ويمنع عنهم كل سوء. كما يحتفلون به وبالمناسبات مثل مناسبات الولادة أو الزواج أو الوفاة بنقش رمز الطوطم على ظهر المولود، أو دهن الجسم بدهن مقدس من دهان ذلك الطوطم, إلى آخر ما هنالك من أعراف وتقاليد5.
ويؤلف المعتقدون بالطوطم جماعة تشعر بوجود روابط دموية بين أفرادها، أي: بوجود صلة رحم بينها. والرابط بينها هو ذلك الطوطم الذي تنتمي الجماعة إليه وتلتف حوله؛ ليكون حاميها والمدافع عنها في الملمات. ومن أصحاب هذا المذهب من لا يذكر اسم الطوطم، بل يُكني عنه, ويحوز أن يكون ذلك خوفًا
__________
1 enc. Reli. Vol. 9, p. 454, peter jones, history of the Ojibwa Indians, London, 1961, enc. Rel
i. Vol. 12, p. 393
2 voyages and travels of an Indian interrepreter and trader, London, 1791
3 lang voyages, p. 87, wesleyen, journals of two expeditions of discovery in n.w and w. Australia. London, 1841, 11, 225, f. 391
4 enc. Reli. Vol. 12, p. 394
5 التمدن الإسلامي "3/ 242 وما بعدها".(2/170)
منه، أو احترامًا له. وقد يرسم له شعار تحمله الجماعة وأفرادها, ولها قوانين وآراء في موضوع الزواج الذي تترتب عليه قضية القرابة وصلات الرحم1.
وللعلماء نظريات وآراء في الطوطمية. وهي منصبة على دراسة الناحية الاجتماعية منها، من حيث كون "الطوطمية" نظاما اجتماعيا يقوم على أساس مجتمع صغير مبني على العشيرة أو القبيلة. أما الدراسات الدينية للطوطمية، فهي بعد هذه الدراسة من حيث التوسع والتبسط في الموضوع. وأكثر هذه الدراسات أيضا عن قبائل هنود أمريكا الشمالية وعن قبائل أستراليا ثم إفريقيا. أما أثر الطوطمية عند الشعوب القديمة مثل اليونان والشعوب السامية فإن بحوث العلماء في المراحل الأولى من البحوث، وهي مستمدة بالطبع من الإشارات الواردة في الكتابات أو المؤلفات أو من دراسات الأسماء.
ومن أشهر أصحاب النظريات في موضوع الطوطمية "تيلر" 2Sir E. B. Tylor و"سير جيمس فريزر" "Sir J. G. Frazer"، وهذا الأخير يرفض نظرية الذاهبين إلى أن الطوطمية في شكلها الأول هي ديانة؛ لأن الطوطم لا يعبد كما يقول على صورة صنم3.
ومن أسماء الحيوانات التي تسمت بها البطون والعشائر: كلب، وذئب، ودب، وسلحفاة، ونسر، وثعلب، وهر، وبطة، وثور، وغير ذلك من أسماء حيوانات تختلف بحسب اختلاف المحيط الذي تكون فيه عبدة الطوطم, يضاف إلى ذلك أسماء أشجار ونباتات أخرى وطائفة من أسماء الأسماك. وقد ذكر "بيتر جونس" "Peter Jones" أربعين بطنًا من بطون قبيلة الـ"Ajibwa" لها أسماء حيوانات4.
وقد لاحظ "روبرتسن سمث" "Robertson Smith" أن في أسماء القبائل عند العرب أسماء كثيرة هي أسماء حيوان أو نبات أو جماد, فاتخذ من هذه الأسماء دليلًا على وجود "الطوطمية" عند العرب، وعلى أثرها في الجاهليين.
__________
1 enc. Reli. Vol. 12, p. 394, j. lubbach, origin of civilization, 1905, a. lang, the secret of the tate. 1905, frazer, totemlsm and exogamy, 4. vols. 1910, frend, tatem and tabu, 5. ed. 1934
2 taylor, primitive culture, vol. I, p. 402
3 bowman, p. 98. f
4 enc. Religl. Vol. 12, p. 394(2/171)
فأسماء مثل: بني كلب، وبني كليب، والنمر، والذئب، والفهد، والضبع, والدب، والوبرة، والسيد، والسرحان، وبكر، وبني بدن، وبني أسد، وبني يهثة، وبني ثور، وبني جحش، وبني ضبة، وبني جعل، وبني جعدة، وبني الأرقم، وبني دُئل، وبني يربوع، وقريش، وعنزة، وبني حنش، وبني غراب، وبني فهد، وبني عقاب، وبني أوس، وبني حنظلة، وبني عقرب، وبني غنم، وبني عفرس، وبني كوكب، وبني قنفذ، وبني الثعلب، وبني قنفذ، وبني عجل، وبني أنعاقة، وبني هوزن، وبني ضب، وبني قراد، وبني جراد1، وما شاكل ذلك من أسماء، لا يمكن في نظره إلا أن تكون أثرًا من آثار الطوطمية، ودليلًا ثابتًا واضحًا على وجودها عندهم في القديم2.
وقد لاقى تطبيق "روبرتسن سمث" نظرية "الطوطمية" على العرب الجاهليين، ترحيبًا عند بعض المستشرقين، كما لاقى معارضة من بعضهم. وقد رد عليه "جورجي زيدان" في كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي"، وبين أسباب اعتراضه على ذلك التطبيق3.
__________
1 الإكليل "1/ 182 وما بعدها"، الاشتقاق "90/ 187"، التمدن الإسلامي "3/ 262". Kinship, p. 188
2 robertson smith. Kinahip and marrisage in early Arabia. Rellgion of the semites, 2nd. Ed. London, 1894, p. 35
3 "جـ3/ 340 وما بعدها".(2/172)
نَجَل مولودها، ولا يعرف المولود والده نُسب إلى أمه وعرف بها. وبهذا التفسير، فسر "روبرتسن سمث" ومن ذهب مذهبه من علماء علم الاجتماع، وجود الأسماء المؤنثة عند العرب وعند العبرانيين وعند بقية الساميين1.
واتخذ "روبرتسن سمث" من وجود بعض الكلمات في تسلسل أنساب القبائل مثل: البطن والفخذ والصلب والظهر والدم و"رحم" دليلًا آخر على وجود "دور الأمومة" عند العرب؛ لأن لهذه الألفاظ صلة بالجسم، ولهذا كان لإطلاقها عند قدماء العرب -على حد قوله- علاقة بجسم الأم, ولا سيما أنهم استعملوا لفظة "الحي" كذلك, ولهذه اللفظة علاقة بالحياة وبالدم. وإطلاق الألفاظ في نظره ورأيه على معانٍ اجتماعية، دليل على الصلة التي كانت للأم في المجتمع لذلك العهد2.
وقد بحث "روبرتسن سمث" بحثًا مفصلًا في الحي، إذ هو في نظره وحدة سياسية واجتماعية قائمة بذاتها3, ويطلق على "الحي" لفظة "قوم" و"أهل", وينظر أبناء الحي الواحد بعضهم إلى بعض نظرة قرابة, فكأنه من من نسل واحد يربط بينهم دم واحد. وقد استدل "روبرتسن سمث" من معنى "الحي" على وجود معنى الحياة في الكلمة في الأصل، كما هو الحال في اللغات السامية، ورأى لذلك أنها تمثل رابطة قرابة وصلة رحم عند سائر العرب السامية. ويكون أعضاء الحي الأحرار "صرحاء"، وفي العبرانية "أزراح". أما الذين ينتمون إليه بالولاء، فهم "الموالي" يستجيرون به أو بالقبائل أو الأفراد، فيلقون حماية من يستجيرون بهم، ويكون "الجار" في رعاية مجيره.
و"البطن" في نظر "روبرتسن سمث" هو أقدم أوضاع المجتمع السامي القديم، ويقوم على أساس الاعتقاد بوجود القرابة والروابط الدموية. ويرى أن مفهومه عند قدماء الساميين كان يختلف اختلافا بينا عنه عند العرب المتأخرين،
__________
1 smith, kinship and marriage in early Arabia, Cambridge, 1885
2 kinship p. 37. ff. smith, religion of the semites, London, 1894, p. 35
3 "الحي: الواحد من أحياء العرب، والحي: البطن من بطون العرب, ويقع على بني أب كثروا أو قلوا"، اللسان "18/ 235"، و"العمارة: الحي العظيم يقوم بنفسه"، المفضليات "ص414"، بلوغ الأرب "3/ 189", "الحي" ديوان الطرماح "95، 114".(2/173)
أو عند العبرانيين، أو غيرهم. وقد فهم من اللفظة معنى المجموع الأكبر عند العرب، أي: معنى "شعب" أو "جذم" أو قبيلة، ورأى أن هذا المعنى هو المعنى القديم للكلمة عند العرب1. أما المعاني التي يذكرها علماء اللغة والأدب والأخبار، فهي في نظره معانٍ متأخرة وضعت في الجاهلية القريبة من الإسلام، ومن جملة هذه المعاني اختصاصها بالأماكن التي تقيم فيها القبيلة أو العشيرة، وتتألف من جملة عدد من الدور.
وقد استدل "روبرتسن سمث" من لفظة "البطن" و"الفخذ" وأمثالهما على مرور العرب في دور الأمومة، وعلى أن القبائل كانت قد أخذت أنسابها القديمة وأسماءها من الأمومة ومن "الطوطمية". ورأى أن كلمة "البطن" في الأصل كانت تعني معنًى آخر غير الذي يذهب إليه علماء الأنساب، ودليله على ذلك استعمال "رحم".
ولـ"روبرتسن سمث" بحوث في طرق الزواج عند قدماء العرب، سأتحدث عنها في موضوع الزواج والطلاق عند الجاهليين, في القسم الخاص بالحياة الاجتماعية عند العرب وبالتشريع.
وقد أشار "نولدكه" Noeldeke إلى أهمية تأنيث أسماء القبائل2، فاتخذ القائلون بنظرية "الأمومة" من هذه الأسماء دليلًا على أهمية هذا العهد في التأريخ الجاهلي القديم.
وقد وافق "ويلكن" G.A. Wilken على بعض آراء "روبرتسن سمث"، وخالفه في بعض الآراء3.
ومن واضعي نظرية الأمومة العالم الألماني السويسري "باخ أوفن" "Johann Jakob Bachofen" "1815-1887م"، وهو من علماء القانون ومن مؤسسي "علم القانون المقارن"، وكان معروفًا بأبحاثه عن الأشياء الخفية
__________
1 الهلال: الجزء الثامن من السنة الرابعة عشرة، أيار 1906، "ص 478".
2 naeldeke, in zdmg. Bg. Xvii, s. 707
3 راجع كتاب: "الأمومة عند العرب"، تأليف "ويلكن"، تعريب بندلي صليبا الجوزي، قازان 1902م,
g.a wilken, het matriarchaatli I de ande arabieren, oestr
Monatschrife fur d. orient, 1889(2/174)
التي تؤثر في حياة الإنسان. وقد ذهب إلى أن تأريخ العالم صراع بين الروح والمادة، بين الذكر والأنثى، وأن الحياة الأرضية مزيج من هذين الكفاحين.
وقد لفت نظره إلى الزواج باعتبار أنه ناحية من النواحي القانونية، وتعرض لمباحث الزواج عند الإنسان القديم ولفوضوية الزواج، حيث كان الرجل يتناول المرأة بغير عقد كما تفعل الحيوانات، ولاشتراك عدد من الرجال في امرأة واحدة، "Hetarische Gynaikokratie"، فلا يعرف فيه النسل من أي أب هو؛ ولهذا بقي في رعاية أمه، فنسب إليها، وهو زواج مر على جميع الشعوب. كما بحث عن الأديان البدائية وعلاقتها بأمثال هذا الزواج1.
ويجب أن نضيف إلى تلك الفوضوية فوضوية أخرى، هي فوضوية الغزو وتقاتل الإنسان مع الإنسان وإباحة المدن والقرى للجيوش الغازية المنتصرة، يعيثون فيها وفي أهلها فسادًا، يؤدي إلى انتهاك الحرمات واستباحة الأعراض وتوالد أطفال ليس في مقدور أمهاتهم معرفة آبائهم، فلا يبقى لهم من مجال إلا الانتساب إلى الأمهات.
ودور الأمومة عند أصحاب هذه النظرية، هو أقدم أنواع الزواج. وأما "الأبوة" أي: دور الزواج الذي عرف النسل فيه آباءهم فهو عندهم أحدث عهدًا من الأمومة، وقد زعموا أن هذين الدورين مَرَّا على البشرية جمعاء، وفيهم العرب. وفي دور الأمومة تكون القرابة فيه لصلة الرحم، أي: إلى الأم، فهو الرباط المقدس المتين الذي يربط بين الأفراد ويجمع شملهم، وهو نسبهم الذي إليه ينتمون. ففي هذا الدور لا يمكن أن يعرف فيه الانتساب إلى الأب، لسبب عادي هو عدم إمكان معرفة الأب فيه؛ ولهذا كان نسب النسل فيه حتمًا للأم, وكان نسب الجماعات فيه أيضا للأم, ومن هذه الجماعات القبائل. وهم يرون أن تسمي القبائل بأسماء رجال، بأن تجعلهم أجدادًا وآباءً، هي تسميات محدثة ظهرت بعد ظهور دور الأبوة، وتطور الزواج من زواج الفوضى أو زواج تعدد الرجال إلى زواج حدد فيه على المرأة التزوج برجل واحد ليس غير، يكون فيه بعلها الذي تختص به؛ ومن هنا اندثرت الأسماء القديمة، أي: أسماء الإناث في الغالب، وحلت محلها أسماء الذكور. وسيأتي الكلام على موضوع
__________
1 mutterrecht und urreligion, von r. mark, in kta. Bd. 52, der mythus von orient und okzident, m. schroeter, 1926, h. Schmidt, philosophisches woerterbuch, s. 61(2/175)
أشكال الزواج عند العرب في موضعه من هذا الكتاب.
هذا، وقد بحث "جورجي زيدان" في نظرية "الأمومة" عند العرب ورَدَّ عليها بتفصيل1.
__________
1 تاريخ التمدن الإسلامي "3/ 240 وما بعدها".(2/176)
أصول التسميات:
وقد ألف "ابن دريد الأزدي" كتابًا في اشتقاق الأسماء عند العرب، سماه "كتاب الاشتقاق"، تحدث فيه عن أصول الأسماء واشتقاقها؛ وذلك ردًّا على من زعم أن العرب تسمي بما لا أصل له في لغتهم، فذكر اشتقاق تلك الأسماء1. وقد قال في مقدمته له: "كان الأميون من العرب ... لهم مذاهب في أسماء أبنائهم وعبيدهم وأتلادهم؛ فاستشنع قوم إما جهلا وإما تجاهلا تسميتهم كلبًا، وكليبًا، وأكلب، وخنزيرًا، وقردًا، وما أشبه ذلك مما لم يستقصَ ذكره. فطعنوا من حيث لا يجب الطعن، وعابوا من حيث لا يستنبط عيب ... وكان الذي حدانا على إنشاء هذا الكتاب، أن قومًا ممن يطعن على اللسان العربي وينسب أهله إلى التسمية بما لا أصل له في لغتهم، وإلى ادعاء ما لم يقع عليه اصطلاح من أوليتهم وعدوا أسماء جهلوا اشتقاقها، ولم ينفذ علمهم في الفحص عنها"2..إلى أن قال: "واعلم أن للعرب مذاهب في تسمية أبنائها؛ فمنها ما سموه تفاؤلًا على أعدائهم نحو: غالب، وغلاب، وظالم، وعارم، ومنازل, ومقاتل، ومعارك، وثابت, ونحو ذلك. وسموا في مثل هذا الباب مسهرًا، ومؤرقًا، ومصبحًا، ومنبهًا، وطارقًا. ومنها ما تفاءلوا به للأبناء نحو: نايل، ووائل، وناجي، ومدرك، ودراك، وسالم، وسليم، مالك، وعامر، وسعد، وسعيد، ومسعدة، وأسعد، وما أشبه ذلك. ومنها ما سمي بالسباع ترهيبًا لأعدائهم نحو: أسد، وليث، وفراس، وذئب، وسيد، وعملس، وضرغام، وما أشبه ذلك. ومنها ما سمي بما غلظ وخشن من الشجر تفاؤلًا أيضا، نحو: طلحة، وسمرة، وسلمة، وقتادة، وهراسة، كل
__________
1طبعة "وستنفلد" في "كوتنكن" "غوتنكن" سنة 1854م.
2 الاشتقاق "ص3 وما بعدها".(2/176)
ذلك شجر له شوك وعضاة. ومنها ما سمي بما غلظ من الأرض وخشن لمسه وموطئه، مثل: حجر، وحجير، وصخر، وفهر، وجندل، وجرول، وحزن، وحزم. ومنها أن الرجل كان يخرج من منزله وامرأته تمخض فيسمي ابنه بأول ما يلقاه من ذلك، نحو: ثعلب، وثعلبة، وضب، وضبة، وخزز، وضبيعة، وكلب، وكليب، وحمار، وقرد، وخنزير، وجحش، وكذلك أيضا يسمي بأول ما يسنح أو يبرح له من الطير، نحو: غراب، وصرد، وما أشبه ذلك ... خرج وائل بن قاسط وامرأته تمخض، وهو يريد أن يرى شيئًا يسمي به، فإذا هو ببكر قد عرض له، فرجع وقد ولدت له غلامًا، فسماه بكرًا، ثم خرج خرجة أخرى وهي تمخض، فرأى عنزًا من الظباء، فرجع وقد ولدت غلامًا فسماه عنزًا.. ثم خرج خرجة أخرى، فإذا هو بشخيص قد ارتفع له ولم يتبينه نظرًا، فسماه الشخيص.. ثم خرج خرجة أخرى وهي تمخض، فغلبه أن يرى شيئا، فسماه تغلب ... خرج تميم بن مر وامرأته سلمى بنت كعب تمخض، فإذا هو بوادٍ قد انبثق عليه لم يشعر به، فقال: الليل والسيل، فرجع وقد ولدت غلاما، فقال: لأجعلنه لإلهي، فسماه زيد مناة، ثم خرج خرجة أخرى وهي تمخض، فإذا هو بمكاء يغرد على عوسجة قد يبس نصفها وبقي نصفها، فقال: لئن كنت قد أثريتِ وأسريتِ لقد أجحدت وأكديت، فولدت غلاما فسماه الحارث ... "1.
قيل لأبي الدقيش الأعرابي: "لِمَ تسمون أبناءكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب، وعبيدكم بأحسنها نحو مرزوق ورباح؟ " فقال: "إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا, وعبيدنا لأنفسنا"2. وتعرض الجاحظ لهذا الموضوع أيضا، فقال: "والعرب إنما كانت تسمي بكلب وحمار وحجر وجعل وحنظلة وقرد على التفاؤل بذلك. وكان الرجل إذا ولد له ذكر، خرج يتعرض لزجر الطير والفأل، فإن سمع إنسانًا يقول: حجر أو رأى حجرًا، سمى ابنه به وتفاءل فيه الشدة والصلابة والبقاء والصبر وأنه يحطم ما لقي، وكذلك إذا سمع إنسانًا يقول: ذئب أو رأى ذئبًا تأول فيه الفطنة والمكر والكسب، وإن كان حمارا تأول فيه طول العمر والوقاحة والقوة والجلد، وإن كان كلبا تأول فيه الحراسة واليقظة وبعد
__________
1 الاشتقاق "ص3 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 193 وما بعدها".
2 الديري "2/ 242".(2/177)
الصوت والكسب"1. ويظهر مما تقدم أن موضوع التسميات عند العرب كان من الموضوعات التي لفتت إليها الأنظار؛ لما في كثير منها من غرابة وخروج على المألوف، فانبرى بعض العلماء في شرح الأسباب التي أدت بالعرب إلى اتخاذ تلك التسميات، وإلى ذكر العلل التي دفعتهم إليها كالذي نراه في بحث "ابن دريد" في كتابه "الاشتقاق"، حيث ذكر في مقدمته كل الأسباب التي رآها وتوصل إليها في بحثه عن هذا الموضوع، الذي أثار جانبًا منه "روبرتسن سمث" وغيره من المستشرقين.
كما سموا بعبد العزى وعبد ود وعبد مناة وعبد اللات وعبد قسي ونحو ذلك، مما فيه إضافة العبودية لأحد الأصنام.
والمتعارف عليه في الإسلام، هو إرجاع النسب إلى الأب, أما الانتساب إلى الأم، فإنه قليل الوقوع؛ ولهذا يعد الرجل عربيًّا إذا كان والده عربيًّا، لا يؤثر فيه نسب أمه إن كانت أعجمية. أما قبل الإسلام، فإن النسب وإن كان تابعًا لنسب الأب، إلا أنه قد يلحق الولد بالأم, وبالرغم من هذا العرف، فإن العرب في الماضي وفي الحاضر يقيمون وزنا كبيرا لدم الأمهات، بل قد تزيد أهميته عندهم على أهمية دم الأب. والمثل العراقي العامي: "ثلثين الولد على الخال"2 خير تعبير عن وجهة نظرهم تلك، فإنه يمثل نزعة عرق الخال3, وهي من النزعات التي أقام لها الجاهليون وزنًا كبيرًا عندهم.
أما وجهة نظر العلم الحديث، فإن لدم الأبوين أثرًا متساويًا في المولود؛ ولهذا فإن موضوع النسب إلى الأب أو الأم، موضوع لا يعالج عنده بالعرف والعادة، بل يعالج وفق قواعد العلم المقررة لديه. وبناء على ذلك يجب أن نقيم وزنًا لموضوع التزاوج المختلط بين العرب والغرباء، وقد كان معروفا وشائعا في الجاهلية أيضا، إذ تزوجوا من الرقيق، ولا سيما الرقيق الأبيض ونسلوا منه، كما سكن في جزيرة العرب آلاف من الغرباء قبل الإسلام واندمجوا في أهلها, وتركوا أثرا في دماء أهلها، يختلف باختلاف مقدار الاختلاط. ويتبين ذلك بوضوح في سحن سكان السواحل؛ لأنهم أكثر عرضةً للاختلاط من أبناء البواطن والنجاد.
__________
1 التمدن الإسلامي "3/ 269".
2 أي: ثلثا الولد.
3 ابن سعد، الطبقات "جـ3، ق1، ص335".(2/178)
ولا تختلف أسماء القبائل العربية في طبيعتها عن طبيعة أسماء القبائل عند الشعوب الأخرى، ولا سيما قبائل الشعوب المسماة: الشعوب السامية, فهي أسماء آباء وأجداد ترد غالبًا في شكل أسماء ذكور، وترد في الأقل في صورة أسماء نساء، وتعد عندئذ أسماء أمهات، أي: أمهات قبائل. وهي -كما قلت قبل قليل- ليست أسماء أعيان بالضرورة؛ فبينها أسماء مواضع نسب سكانها إليها، فصارت بمرور الزمن جدا، أو أبا، أو أما, وبينها أسماء آلهة وأصنام، تعلق المؤمنون بها حتى نسبوا إليها، وبينها أسماء طواطم. ونجد بين أسماء القبائل العربية أسماء ترد عند العبرانيين وعند غيرهم من الشعوب السامية أعلامًا لقبائل كذلك، وقد يكون من المفيد جدا دراسة هذه الأسماء ومقابلتها بعضها ببعض، ودراسة أسماء القبائل العربية دراسة مستفيضة لمعرفة أصولها وتطورها, ومراجعة الموارد الأعجمية والكتابات الجاهلية للعثور على تلك الأسماء فيها وتعيين زمن ظهور الاسم فيها لأول مرة.(2/179)
الفصل الثالث عشر: تأريخ الجزيرة القديم
مدخل
...
الفصل الثالث عشر: تأريخ الجزيرة القديم
ليس من السهل بقاء العاديات، التي تتألف من مواد منزلية وأدوات ضرورية لحياة الإنسان، مدة طويلة في أرضين مكشوفة سهلية، وفي مناطق صحراوية لا حماية فيها لتلك الأشياء. وليس من السهل أيضًا احتفاظ مثل هذه التربة بجدث الإنسان وبعظام الحيوان أمدًا طويلًا, وهي معرضة لحرارة شديدة قاسية ولرياح عاصفة قاسية؛ ولهذا لا يطمع الباحثون في الحصول على كنوز غنية من المناطق السهلة المكشوفة التي تغلب عليها الطبيعة الصحراوية والتي تؤلف أكبر قسم من جزيرة العرب.
ومن هنا سيتَّجه أمل الباحثين عن الآثار إلى الأودية التي تتوافر فيها الوسائل الكفيلة بنشوء المجتمعات على اختلاف أشكالها، وإلى السهول التي تبعث النهيرات والينابيع والآبار الحياة فيها، وإلى الهضاب والجبال حيث توجد المياه وتتساقط الأمطار وتتوافر الكهوف والصخور، وهي من العوامل المساعدة على نشوء الحضارة وحفظ الآثار؛ للاستفادة منها في الحصول على آثار تحدثنا عن تأريخ جزيرة العرب في آلاف السنين الماضية قبل الميلاد.
وليس في استطاعتنا في الزمن الحاضر التحدث عن جزيرة العرب في العصور الجليدية؛ لعدم وجود بحوث علمية عن هذه العصور في هذه البلاد. كذلك لا نستطيع أن نتحدث عن بلاد العرب في العهود الحجرية؛ لعدم وجود موارد(2/180)
كافية تساعدنا في الكشف عنها كشفًا علميًّا. نعم، عثر على أدوات حجرية في موضع يقال له "الدوادمي" "Dawadmi" وهو يبعد "375" ميلًا عن الخليج، عثر عليها مدفونة في الأرض، وكان بينها فأس طولها سبع عقد ونصف عقدة، ولها لون يميل إلى الخضرة1، وعثر على أدوات حجرية أخرى في أنحاء من جزيرة العرب، وفي جملتها الأحساء وحضرموت، ولكن ما عثر عليه ما زال قليلًا، لا يمكن أن يعطينا رأيا واضحا علميا في تلك العهود في هذه البلاد.
وقد تبين من فحص الأدوات الحجرية التي عثر عليها في الأحساء, أنها تتكون من أحجار لا توجد في العروض، وبينها أحجار بركانية, أو من حجارة "الكوارتز" ومن أنواع أخرى من الصخور؛ لهذا رأى فاحصوها أنها أدوات استوردت من العربية الغربية. كما تبين من فحص الأدوات الحجرية التي عثر عليها في اليمن وفي حضرموت, أنها من النوع المستورد من فلسطين أو من بلاد الشام؛ لأنها تشبه الأدوات الحجرية التي عثر عليها هناك2.
أما الأدوات الحجرية التي عثر عليها في مواضع من حضرموت، فليست محكمة دقيقة الصنعة، بالقياس إلى ما عثر عليه في فلسطين أو في بلاد الشام أو في إفريقيا، وقد عزا بعضهم ذلك إلى طبيعة أحجار هذه المنطقة، وعزاه آخرون إلى تأخر حضارة أهل حضرموت في ذلك العهد بالقياس إلى الحضارات الأخرى3. ورأى بعض الباحثين أن أرض حضرموت كانت في عزلة عن البلاد المتقدمة في الشمال، وأن صلاتها بإفريقيا كانت أقوى من صلاتها بشمال جزيرة العرب وبالهلال الخصيب وبحضارة البحر المتوسط؛ ولذلك صارت الأدوات التي عثر عليها بدائية بعض الشيء بالقياس إلى ما عثر عليه في أعالي جزيرة العرب، حيث كان الاتصال وثيقًا بالحضارات المتقدمة.
ومن الأدلة التي تثبت أن اتصال حضرموت بالسواحل الإفريقية المقابلة كان
__________
1 p. b. cornwall, ancient Arabia, exp;orations in hasa, 1940-1941, p. 39, in geogra. Journ. Cvii, febr. 1946
2 georg, journal. Vol. xciii, no, I, January, 1939, pp. 30
3 georg. Journal. Vol. xciii, no. I, January. 1939m "an exploration in the hadhramaut and journey to the coast" by, freya strk(2/181)
قويًّا ووثيقًا في العصور الـ"الباليوليثية", هو عثور المنقبين على فئوس يدوية في حضرموت تعد من صميم الصناعات التي ظهرت في تلك الأنحاء من إفريقيا. ووجودها في حضرموت وعثور المنقبين على أدوات أخرى هي من صناعات إفريقيا، دليل على شدة العلاقات ومبلغ توثقها بين إفريقيا والسواحل العربية الجنوبية1.
ويظن أن الزجاج البركاني المتكون من فعل البراكين "Obsidian" المتخذ أشكالًا هندسية؛ مثلثًا أو هلالًا أو مربعًا، الذي يعود إلى الدور المعروف عند علماء الآثار بدور صناعات النصل "Blade Industries"، والذي عثر على نماذج منه في حضرموت، هو من المستوردات التي يرجع أصلها إلى سواحل إفريقيا الشرقية. وقد كانت هذه الصناعة مزدهرة في حوض البحر المتوسط وفي أوروبا قبل الألف الثالثة قبل الميلاد, أما في العربية الجنوبية، فيعود عهدها إلى الألف قبل الميلاد2.
واكتشفت أدوات من العصور الحجرية في "الحملة" ورأس "عوينات علي" "عوينت علي" وجنوب "دخان" من "قطر"، منها فئوس ومقاشر ونبال وكميات من حجر الصوان. وهذه الصخور هي من العصور "الباليوليثية" و"النيوليثية"3.
وعثر في مواضع متفرقة أخرى من جزيرة العرب على أدوات من عهود مختلفة قبل التأريخ، عثر على أكثرها في مواضع شتى تقع عند الأودية والطرق والمواضع التي تتوافر فيها وسائل الحياة. وسيكون لبحث من يأتي بعدي فيقوم بوضع خارطة أو مخطط للمواضع التي عثر فيها على آلات وأدوات مما قبل التاريخ شأن كبير, ولا شك في الكشف عن مواضع السكنى والحضارة في بلاد العرب قبل التأريخ، وفي الكشف عن نظرية تغير الجو في جزيرة العرب ونظرية الهجرات وارتحال السكان من مكان إلى مكان.
__________
1 b.r. 527, "restricted", geogeaphical handbook series for official use only, western Arabia and the red sea, june, 1946, naval intelligence division
وسيكون رمزه: Naval
2 Naval
3 تقرير شامل عن الحفريات الأثرية في جزيرة "فيلكا"، 1958-1963م, الكويت "ص24".(2/182)
وعثر على آثار متنوعة من العصور الـ"الباليوليثية" "Palaolithikum" "Palaeolithic" والـ"النيوليثية" "Neolithikum" "Neolithic" في الكويت والبحرين وحضرموت ومواضع أخرى من العربية الجنوبية واليمن. وقد ذهب "فيلد" "H. Field" إلى أن اليمن وعدن كانتا مأهولتين بالسكان في العصور "النيوليثية"، ثم هاجر قسم من الناس إلى عمان والخليج، وهاجر قسم آخر بطريق باب المندب إلى الصومال، و"كينيا" "Kenya" و"تنجانيقا"، وهاجر فريق آخر بطريق مأرب ونجران إلى شبه جزيرة سيناء وفلسطين والأردن1.
وعُثِرَ على آثار من العصور المذكورة في مواضع من المملكة العربية السعودية تمتد من الأحساء "الهفوف" إلى الحجاز، ومن مدائن صالح إلى نجران, وقد عثر على أدوات حجرية في "تل الهبر". وقد كان الصيادون في عصور ما قبل التأريخ يتنقلون باتجاه الأودية من مكان إلى مكان حيث كانت الأحوال فيها خير مما عليه الآن, وقد ترك هؤلاء الصيادون ثم الرعاة بعض الآثار في الأمكنة التي حلوا بها ما برح السياح وخبراء شركة "أرمكو" وغيرهم يعثرون على قسم منها بين الحين والحين2.
ووجدت في "كلوة" "Kelwa" التي تقع على سفح "جبل الطبيق" آثار من العهود "الباليوثيكية" القديمة: "Chelleen" والـ"Acheuleen" والـ"Levalloisien", وقد قدر بعض الباحثين تأريخ السكنى في هذا الموضع إلى الألف الثامنة قبل الميلاد. وقد اكتشف هذا الموضع "هورسفيلد" "G. Horsfield" و"كلويك" "N. Glueck"، فوجدا آثارًا وصورًا على الصخور، قدر أنها ترجع إلى آلاف من السنين قبل الميلاد من مختلف العصور3.
وعُثِرَ على كهوف وقد صورت على جدرانها صور حيوانات, وصور الشمس
__________
1 a. grohmann, s. 15, h. fleld, papers of the Peabody museum, 48/2 "1956" pp. 117.
2 h. fileld, papers, 48/2 "1956", 63, a. grohmann, arabien, s. 15
3 n. glueck, the other side of the Jordan, new haven, con. 1940, pp. 43, h. rothert, transjordabien, vorgeschichtliche forschungen, Stuttgart, 1938, s. 161, a. grohmann, arabien, s. 16(2/183)
والهلال، وذلك على طريق التجارة القديمة في العربية الجنوبية، بين وادي يبعث ووادي عرمة. وهي تشبه في أهميتها من دراسة الناحية الأثرية، الصور المتقدمة التي عثر عليها في "كلوة" في الأردن1.
فأس من الحجر تعود إلى عصر الـ"Palaeolithic" المتأخر، عثر عليها في "دوادمي".
صنعت هذه الصورة عن صورة نشرت في مجلة: "The Geographical journal" جزء شباط سنة 1946, أرسلها لي صديقي الدكتور جورج ماثيوس من الظهران.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن جزيرة البحرين كانت مأهولة بالناس أيام العصور الجليدية المتأخرة في أوروبا، أي: قبل خمسين ألف سنة، وأن ساحل الخليج، ولا سيما المنطقة الواقعة بين "الدوادمي" وشمال القطيف، كان مزدحمًا
__________
1 Naval, p. 214(2/184)
بالسكان في العصور البرونزية، أي حوالي "3000-2500 ق. م"، كما عثر على أدوات من العصور "الباليوثيكية" في موضع "رأس عوينت علي" "عوينات علي" في شبه جزيرة "قطر"1.
وقد ذهبوا أيضا إلى أن جو البحرين آنذاك -أي أيام العصور الجليدية- كان يشبه جو بلاد اليونان في الوقت الحاضر, وأن أرض البحرين كانت مخصبة خضراء، مغطاة بكساء من الغابات؛ ولعلها كانت متصلة إذ ذاك بالأرض الأم -أرض جزيرة العرب-. أما سكانها فقوم من الصيادين, عاشوا على ما يقتنصونه من حيوانات، وفي مقدمتها الأسماك. وقد عثر على أدوات من حجر الصوان، استخدمها أولئك الصيادون في صيدهم وفي تقطيع لحوم الفرائس التي يوقعها سوء حظها في أيديهم, عثر عليها في مواضع متعددة من البحرين، وبعدد كبير أحيانا، مما يدل على أن تلك الأماكن كانت مستوطنة آهلة بالناس.
وليس في هذه الأدوات الصوانية ما يشير إلى أصل أصحابها، أو إلى أسمائهم وأسماء المواضع التي كانوا فيها. وكل ما يستفاد منها أنها من أواسط العصور "الباليوثيكية" "Paleothitic"، وذلك بدليل مشابهتها لأدوات من الصوان ترجع إلى هذا العهد, عثر عليها في شمال العراق وفي فلسطين وفي شمال غربي الهند2.
وقد عثر في البحرين أيضا على عدد من رءوس حراب وسكاكين صُنعت من الصخور الصوانية, قدر بعض الباحثين عمرها يتراوح بين عشرة آلاف واثني عشر ألف سنة, وهي ترجع إلى أواخر أيام الرعي وابتداء عهد الاستيطان والاستقرار والاشتغال بالزراعة. وبين ما عثر عليه من هذه الأدوات، أحجار سنّت وشذبت لكي تكون بمثابة آلات لحصد المزروعات ولقطع الحشائش واجتثاثها من الأرض3.
وفي العربية الغربية والعربية الجنوبية جبال ترصعها كهوف، اتخذها الإنسان
__________
1 p.b cornwall, ancient Arabia: explorations in hasa, 1940-1941, a. grohmann, Arabian, s. 255.
وسيكون رمزه: Arabien.
2 james h.d. belegrave, welcome to Bahrain, London, 1965, pp. 50.
3 المصدر نفسه، "ص51".(2/185)
مساكن له، فأقام فيها قبل الميلاد بأمد طويل, لا نستطيع تقدير زمانه، واتخذ بعضها معابد ومواضع مقدسة وأماكن للخلوة والتأمل الروحي والعبادة، وبعضها مقابر يودع فيها أجداث آبائه وأجداده وأهله، ولكن أكثر هذه الكهوف قد عبث بها الزمن وعبثت بها أيدي الإنسان, أكثر من عبث الطبيعة بها؛ فانتزعت منها ما نبحث الآن عنه من بقايا عظام, وتركات سكنى، وآثار فن، فحرمنا بذلك الوقوف على حياة الإنسان في جزيرة العرب في تلك الأيام.
وقد أشار الكتبة "الكلاسيكيون" إلى سكان الكهوف في بلاد العرب, وعثر السياح على بقايا تلك الكهوف التي كانت منازل ومساكن آهلة بالناس. ولا يزال الناس يسكنون الكهوف في حضرموت وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب1, وقد يكون من بينها كهوف كانت منازل الأجداد النازلين اليوم بها منذ آلاف من السنين.
ولما كانت زيارات السياح لهذه الكهوف زيارات سريعة خاطفة، لم يتعمق السائحون فيها في داخل الكهف، ولم تتناول ما على جدر الكهوف من رسول أو زخارف، وقد يأتي يوم يعثر فيه الباحثون على كنوز من فن سكان الكهوف، ومن مخلفات لهم وعظام تكدست تحت أطباق الثرى، نستخرج منها وصفًا لحياة الإنسان في تلك المناطق من جزيرة العرب، وقد تفيدنا في دراسة الصلات والعلاقات التي كانت بين أهل الجزيرة وبين بقية أنحاء العالم في تلك العهود السحيقة.
فيتبين من هذه الآثار القليلة أن بلاد العرب كانت مأهولة بالناس منذ العصور "الباليوثية" "Palaeolithic"، أي العهود الحجرية المتقدمة، وأن من أقدم الآثار التي عثر عليها آثارًا من أيام العصور المعروفة بـ"Chellian" بين علماء الآثار، أي: الأدوار الأولى من أدوار حضارة العصر الحجري، وأنه قد عثر على أدوات من الصوان في الربع الخالي وفي حضرموت من عهد الـ"Neolithic" والعصور "البرونزية", وعثر على أدوات من الصوان من عصور الـ"Chalcolithic" هي من النوع الذي عثر عليه في جنوب فلسطين2.
__________
1 van der meulen, aden to the hadhramaut, p. 120, 200, 208
2 naval. P. 213(2/186)
ولم يوفق الباحثون للعثور على هياكل كاملة لإنسان ما قبل التاريخ، لا في جزيرة العرب ولا في "سيناء"1. وللعثور عليها أهمية كبيرة بالنسبة إلى البحث في تأريخ ظهور الإنسان وتطوره؛ للوقوف على الزمن الذي عاش فيه في بلاد العرب.
والجماجم والعظام مادة مفيدة جدًّا في دراسة التأريخ، ولكن الباحثين لمَّا يتمكنوا من الحصول على مقدار كافٍ منها يكوِّن عندهم فكرة علمية عن العصور التي ترجع إليها وعن أشكال أصحابها. وقد عثر رجال شركة "أرمكو" للبحث عن البترول في العربية السعودية على بقايا عظام وأسنان لبعض الحيوانات "الحلمية" "Mastodon" وعلى قسم من جمجمة حيوان قديم في موضع يبعد تسعين ميلًا إلى الغرب من "الدمام" ووجد مثل هذه البقايا الحيوانية في أنحاء أخرى من جزيرة العرب، ولكن ما عثر عليه لا يزال قليلًا, لا يكفي لإعطاء آراء علمية عن الحياة في جزيرة العرب في التأريخ القديم2.
وقد تعرضت تلك المقابر لعبث الطبيعة ولعبث الطامعين بما فيها من أشياء ثمينة؛ لذلك أصاب أجسام الموتى التلف، ولم يبقَ منها غير بقايا من جسم، إلا ما كان من مقابر البحرين، فقد أعطت الباحثين هيكلين كاملين لم يصبهما أي سوء أو تلف. فقد تبين من فحصهما أن أهل الميت وضعوا جسمي الميتين على الجانب الأيمن ووجهوا الوجهين نحو المشرق، وأمدوا رجلي الميتين. ويبعث وضع الميتين على هذه الصورة الاحتمال بأن أهل البحرين كانوا يتبعون هذه العادة في دفن موتاهم، وهي عادة كانت عند أهل العراق أيضا, في الألف الثالثة قبل الميلاد3.
وقد عثر في مواضع من جزيرة العرب على مقابر, تبين أنها من نوع المقابر التي يقال لها "تمولي" "Tumuli" التي عثر عليها في البحرين, في نهاية القرن التاسع عشر. أما مقابر البحرين، فهي تلال تكونت من قطع من الصخور، وضع بعضها فوق بعض، لتكون غرقة أو غرفتين، تكون إحداهما فوق الأخرى في الغالب؛ لتتخذ قبرًا يوضع فيه الموتى، وتكون سقوف الغرف من ألواح
__________
1 naval. P. 213
2 cornwall, ancient. P. 39
3 james h.d belgrave, p. 52(2/187)
الصخور. وبعد إغلاق باب القبر يهال التراب على الصخور، حتى تتخذ شكل تلال. وقد عثر على بقايا خشب فيها، مما يدل على استعمال الخشب في بناء هذه القبور, التي يصل قاعدة بعضها إلى حوالي خمسين ياردة في العرض وحوالي ثمانين قدمًا في الارتفاع. ويقدر الباحثون الذين بحثوا عن هذه المقابر عددها بزهاء خمسين ألف تل، وبزهاء "100" ألف تل في تقدير بعض آخر، أي: خمسين ألف قبر أو "100" ألف قبر1, قبر فيها الإنسان والحيوان جنبًا إلى جنب، كما يتبين ذلك من بقايا العظام التي عثر عليها فيها. والغالب أنهم دفنوا الحيوان مع الإنسان؛ ليستفيد منه الميت في العالم الثاني في عقيدة أهلها يومئذٍ، وكما نجد ذلك في اعتقاد المصريين واعتقاد غيرهم من الشعوب؛ ولهذا دفنوا مع الموتى أواني وأدوات بيتية وحليًّا وجواهرَ وفخارًا وغير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان2.
وقد عثر في هذه المقابر على عدد من الجِرَار، تشبه الجِرَار المستعملة في الوقت الحاضر، مما يدل على أن الناس في الوقت الحاضر لا يزالون يسيرون على سيرة أجدادهم الذين عاشوا قبل الميلاد في عمل الجرار وسائر الخزف. وقد صنعت تلك الجرار من الطين، وضعه الخزاف على قرص دولاب يديره برجليه, واستعمل يديه في إكساب الطين شكل الجرة التي يريدها, ويميل لون هذه الجرار إلى الحمرة. كما عثر على قشور بيض النعام، وقد قطعت بصورة تجعلها كأسًا يشرب بها, وعثر على أدوات أخرى, وكل ما عثر عليه غير مكتوب ولا مؤرخ؛ لذلك لا نعرف من أمره اليوم ولا من أمر أصحابه شيئًا3.
وعثر رجال شركة "أرمكو" على عدد كبير من هذه المقابر على حافات جبل "المذرى" الشمالي، قدرها "كورنول" بالألوف، وعثروا كذلك على عدد آخر من هذه المقابر في جبل "المذرى" الجنوبي4. وقد حافظت بعض
__________
1 j.h.d belgrave, welcome to Bahrain, p. 51
2 bent, the Bahrain islands, proc. Roy. Gerogr. Soc. 12, London, 1890, jouanin, a, "les tumuli des bahrain", memoirs de la delegation in perse, t., viii, 1905, survey of India, annual rep. 1908-1909, Calcutta, sanger, the Arabian peninsula, p. 141
3 belgrave, p. 52
4 cornwall. P. 36(2/188)
حجر يظهر أنه من الأحجار التي توضع شاهدًا على القبور يمثل صورة امرأة يقال لها:
"غللت بنت مفدت" ويقال للبنت في العربية الجنوبية "بت" أيضا, وقد توسلت إلى
الإله "عشتر" بإنزال الويل والثبور على من يتجاسر فيغير هذا الحجر عن موضعه.(2/189)
هذه القبور على أشكالها محافظة جيدة، ويشبه بعضها القبور التي عثر عليها "فلبي" في الأقسام الجنوبية الغربية من جزيرة العرب1. ووجد "كورنول" مقابر أخرى في موضع "الرديف" الواقع على بعد "110" أميال من شمال غربي "الدمام"، وفي موضع يقع شمال "عين السبح"، بمسافة أربعة أميال، حيث بلغ قطر إحدى تلك المقابر "33" ياردة وارتفاعها "13" قدمًا. وقد تمكن من الحصول على هيكل عظمي وعلى فخار وقطع من العاج وقشور بيض للنعام وأسلحة مصنوعة من البرونز2.
وعثر على مقابر في موضع "المويه" الواقع على "143" ميلًا من شمال شرقي مكة3. وقد وصف "فلبي" المقابر التي عثر عليها في "الرويق" وفي مرتفعات "العلم الأبيض" و"العلم الأسود"، فقال: إن أكثرها قد عبث به العابثون، فأخذوا ما كان داخل الغرف التي كان يوضع فيها الموتى من ذخائر ومواد، وهي مختلفة الأحجام والارتفاع. ويظهر من وجود هذه المقابر في محال صحراوية بعيدة عن موضع العمران وفي أماكن لا يقيم فيها الناس، أن هذه المناطق كانت مأهولة قبل الإسلام, وأنها كانت ذات تأريخ قديم جدًّا، ربما يرجع في رأي "فلبي" إلى أيام قدماء "الفينيقيين" وربما كان "الفينيقيون" في رأي "فلبي" أيضا من الأفلاج والخرج، حيث هاجروا بعدئذٍ إلى البحرين4.
وقد سمع "فلبي" بوجود مقابر أخرى من هذا النوع، تعرف بين الناس باسم "الخشبة", وسمع "Thesiger" بمقابر أخرى في موضع "رهلة جهمين"5. وعثرت شركة "أرمكو" على مقابر عادية كثيرة العدد في "وادي الفاو" و"القرية"، لم تحدد هوية أصحابها حتى الآن, وقد زارها "فلبي" ووصفها، وتبين له أن الموضع وهو "القرية" كان محاطًا بسور، وجد في داخله آثار بيوت ومقابر، وبين أنقاض المقابر أحجار مكتوبة تدل على أنها كانت شواهد قبور. وعلى مسافة من "القرية" كتابات وصور حيوانات مثل النعامة والأيل, وصور أناس نقشت على الصخر6.
__________
1 Cornwall, P. 36, Phllby Sheba s, P. 373.
2 Cornwall, P. 37.
3 Phllby, Sheba s, P. 373.
4 Phllby Sheba s, P. 373.
5 Beitrage, S. 16.
6 Beitragae, S. 12.(2/190)
ويظهر من وصف "جيرالد دي كوري" "Gerald de Gaury" و"فلبي" لمقابر الخرج أنها كثيرة العدد، وأنها في مواضع متعددة من هذه الإيالة عند "فرزان" و"السلمية" و"الدلم"، وهي متفاوتة الأحجام والارتفاع1.
ولم يتمكن "دي كوري" من تعيين تأريخها، ولا يمكن التثبت من ذلك بالطبع إلا بعد القيام بحفريات دقيقة وفحوص للعظام ولمحتويات القبور لمعرفة مكانها في التأريخ.
وقد وجد أن أبواب مقابر البحرين قد وضعت في الجهة الغربية، مما يبعث على الظن على أن لهذا الوضع صلة بدين القوم الذين تعود إليهم تلك المقابر. وقد وجد أن المواد والأدوات التي عثر عليها في هذه المقابر تشبه المواد والأدوات التي عثر عليها في المقابر الأخرى التي عثر عليها في المواضع المذكورة من جزيرة العرب. ويظن بعض الباحثين أن أصحاب هذه المقابر كانوا يقيمون في الجهة المقابلة لجزيرة البحرين من الجزيرة، أي: على ساحل الخليج، وكانوا قد اتخذوا الجزيرة مقبرة لهم، فينقلون إليها موتاهم لدفنهم هناك. ومنهم من يرى أن تلك المقابر هي مقابر رؤساء الفينيقيين وأشرافهم الذين كانوا يقطنون البحرين، وأن عهد تلك المقابر يرجع إلى ما بين 3000-1500 سنة قبل الميلاد2.
وقد عثرت البعثة الدانماركية في سنة "1959م" في البحرين جنوب طريق "البديع" على أربع مقابر, تبين من فحصها أنها ترجع إلى العصور الحجرية3. وعثر السياح على تلال في مواضع متعددة من عمان وقطر، تبين أنها مقابر لعهود سبقت الميلاد.
وليست لدينا الآن دراسة علمية شاملة عن هذه المقابر: مقابر البحرين، ومقابر المواضع المذكورة من جزيرة العرب، إلا أن آراء من زاروها ورأوها تكاد تتفق في القول بوجود ترابط في الزمن فيما بينها، ويرجعون أيامها إلى عصر الـ"Chalcolithic" أو إلى العصر البرونزي. ومنهم من يرى أنها من العصر البرونزي المتأخر4، ويرى أن المقابر المقامة على المرتفعات هي مقابر جماعة
__________
1 geogr. Journal. Vol, cvi, numb. S, 4, sept-octo. 1945 p. 152, philby, heart of Arabia, vol. 2, p. 26.
2 sanger the Arabian peninsula, p. 141, enc. Vol. I, p. 585.
3 p.v glob, archaeological intestlgations in four arab states, kuml, 1959, p. 238.
4 sanger, p. 141.(2/191)
من الصيادين أو الرعاة. أما المقابر المقامة على السهول المنبسطة فيرون أنها مقابر قوم مزارعين مستقرين1.
تابوت من الفخار على شكل حوض وأدواته ترجع إلى عام 600 قبل الميلاد
من نشرة دائرة الإعلام: حكومة البحرين
ويظن أن المقابر التي عثر عليها في جزيرة "أم النار" في "أبي ظبي" هي مقابر أقوام عاشوا في الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد عثر فيها على هياكل عظمية وعلى خرز وفخار عليه رسوم. وقد كُسيت هذه المقابر وغُطيت بحجارة منحوتة, حفرت عليها صور ثيران وجمال وأفاعٍ وحيوانات أخرى, وقد نحتت
__________
1 Cornwall, P. 37.(2/192)
واجهة الحجر المحيطة بالصور لتظهر الصور بارزة عالية1. ويظهر من دراستها أنها من عمل أيدٍ أتقنت مهنتها، وأجادت في فنها بالقياس إلى تلك الأزمنة. وهي تحتاج إلى دراسة لمعرفة مدى تأثرها بفنون الشعب الأخرى التي كان لها اتصال بهذه البلاد.
إن هذه المقابر تستحق الدراسة حقًّا؛ لأنها تتحدث عن وجود روابط فكرية مشتركة بين أصحابها، وعن احتمال ارتباطهم بعقيدة دينية واحدة. ولا يستبعد أن تكشف بعض القبور السالمة التي لم تعبث بها أيدي البشر العاتية، عن كتابات مطمورة في غرفها، أو عن صور ونقوش ورموز تتحدث إلينا عن هوية أصحابها وعن مكانتهم في التأريخ وفي الحضارة البشرية بالنسبة إلى الأيام التي عاشوا ليها. وعندئذ نكون قد انتقلنا إلى مرحلة جديدة من مراحل تأريخ العرب القديم، لا نعرف اليوم من أمرها إلا هذا النزر اليسير الذي نتحدث عنه.
ولست أستبعد أيضًا احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار أصحاب هذه المقابر في مواضع لا يمكن أن تكون بعيدة عنها، إذ لا يعقل أن يكون ذوو أرحام الموتى قد سكنوا في مواضع قصية نائية عنها. وإن قومًا لهم هذه المهمة في عمل هذه القبور، لا بد أن يكونوا على درجة من الحضارة, والمخلفات التي عثر عليها في بعض هذه القبور هي خير شاهد على ذلك؛ فقد عثر فيها على حلي وعلى أوانٍ من الفخار وعلى آثار أخرى مصنوعة تظهر براعة في الصنعة والإتقان, ولا يستبعد العثور على أمثالها في مستوطناتهم متى عثر عليها.
هذا، وقد عثر بعض السياح على قبور جاهلية في حضرموت وفي اليمن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب، إلا أن هذه المقابر هي أحدث عهدًا من تلك، ثم إنها قبور نحتت في الصخور نحتًا، ولم تعمل على هيئة تلال على النحو الذي وصفناه. ولـ"كارل راتجن" "Carl Rathjens" وصف مفصل لمقابر منحوتة زارها, تقع على مقربة من مدينة "كوكبان" في اليمن, وهي كثيرة منحوتة في جانب الجبل؛ منها المنفردة المنعزلة ومنها ما نحتت بعضها فوق بعض, وقد وجد أن أكثرها قد لعبت بها الأيدي، فأخذت ما كان فيها، فخلت من كل شيء. وقد عثر على كتابة سبئية عند أحد أبواب هذه المقابر، مما يدل على
__________
1 تقرير شامل عن الحفريات الأثرية في جزيرة "فيلكا"، 1958-1963م، الكويت "ص24".(2/193)
أنها كانت لقوم من سبأ1. ولا يستبعد بالطبع أن يكون أولئك الناس قد توارثوا هذا النوع من القبور من أسلاف لهم كانوا قد نحتوها.
وعلمنا بأحوال جزيرة العرب في العصور "البرونزية"، لا يزيد على علمنا بالعصور الحجرية فيها, فهي ضحلة يسيرة؛ لأن ما عثر عليه من مخلفات تلك العصور ليس بشيء يذكر ولا يكفي لاستنباط آراء منه. ولا يستبعد بالطبع احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار قد ترجع إلى هذه العصور ستهتك الحجب التي تحول الآن بيننا وبين التعرف على تلك الحقب القديمة من تأريخ الجزيرة. وقد وجدت "البعثة الدانماركية" التي نقبت في جزيرة "فليكا" من جزر الكويت على آثار من هذه العصور2، إلا أن ما عثر عليه لا يكفي لإعطاء رأي علمي كافٍ عن العصور البرونزية في هذه الأرضين.
وقد عثر في جزيرة "فيلكا" على آثار سكنى وبقايا أبنية وهياكل يرجع عهدها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد تبين أن هذه الجزيرة والجزر الأخرى الواقعة في الخليج كانت ملاجئ يلجأ إليها أصحاب السفن والتجار في تلك الأزمنة للاستراحة, ولشراء ما يجدونه عند أهل السواحل المقابلة، وللتمون بما يحتاجون إليه من ماء وزاد. ولأهميتها هذه اهتمت بها وبالسواحل المقابلة لها حكومات العراق، فاستولى عليها الأكاديون والآشوريون واليونان.
وقد عثر على مواد مصنوعة من حديد من العصر الحديدي، غير أنها قليلة لا يمكن أن تكون لنا رأيا واضحا عن العصور الحديدية في جزيرة العرب.
وعثر على بقايا جماجم بشرية في "الظهران" تبين من دراستها وفحصها على أنها من العصور "البرونزية"3.
وتدل الأدوات المكتشفة -على قلتها- على أن شعوب جزيرة العرب حتى في الأزمان البعيدة عن الميلاد كانت على اتصال بالعالم الخارجي ولا سيما العراق وبلاد الشام وحوض البحر المتوسط والقارة الإفريقية، وأنها كانت تستورد منها ما تحتاج
__________
1 carl rathjens, sabaeica, I, s. 105
2 تقرير شامل عن الحفريات الأثرية في جزيرة فيلكا، 1958-1963م, الكويت, مطبعة الحكومة، من منشورات وزارة التربية والتعليم، "ص9".
3 h. field, papers of the Peabody museum, 48/2 "1956". 58, A. grohmann, arabien, s. 15(2/194)
إليه من مواد وتبيع لها ما عندها من سلع خام أو من سلع تستوردها من السواحل الإفريقية أو الهند، وأنها لم تكن في يوم من الأيام بمعزل عن بقية العالم.
والعراق وبلاد الشام، أي: الأرضون التي يقال لها "الهلال الخصيب" في الزمان الحاضر، هي من الناحية الطبيعية وحدة لا يُستطاع فصلها عن جزيرة العرب، وامتداد طبيعي لها1. وليست البادية الواسعة التي تملأ باطن الهلال إلا جزءًا من جزيرة العرب، وامتدادًا لها، لا يفصلها عنها فاصل، ولا يحد بينها حد، وإذا ما تنقلت من بادية الشام إلى بوادي المملكة العربية السعودية، فلا تجد أمامك شيئًا يشعرك بوجود فروق بين طبيعة هذه الأرضين الواسعة، أو وجود حواجز تمنع سكانها من الهجرة نحو الشمال أو إلى الجنوب2؛ ولهذا كان من الطبيعي تنقل الناس في هذين الأرضين منذ وجدوا فيها وظهروا عليها بكل حرية، وبحسب الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية.
وتأريخ ظهور العرب في بادية الشام وفي أطراف الهلال الخصيب تأريخ قديم جدًّا، ولكننا لا نستطيع تحديد مبدئه، ولا تثبيته؛ لأننا لا نملك أدلة علمية تعينه وتحدده. ثم إن كلمة "العرب" لم تكن تعني عند الشعوب التي عاشت قبل الميلاد غير معنى "أعراب"، وكانت إذا ما ذكرت لفظة "عرب" تقصد البدو على نحو ما ذكرت في الفصل الأول في تحديد معنى هذه اللفظة. أما العرب المستقرون، أو شبه الحضر، فقد عرفوا عندهم بأسمائهم؛ ولهذا اشتبه أمرهم علينا، وعسر على العلماء تعيين هوياتهم؛ لعدم نص الكتابات أو الكتب القديمة على أنهم عرب بمعنى جنس للسبب المذكور, فصرنا في حيرة من أمرهم، وفي التوراة أسماء قبائل كثيرة، نسبت إلى آباء وأجداد، يجب أن تعد من العرب، ولكن التوراة لم تطلق عليها لفظة "عرب"؛ لأنها لم تكن قبائل بدوية وليست اللفظة فيها إلا بهذا المعنى، فحار العلماء في تعيين أصل كثير منها، وما زالت حيرتهم هذه حتى اليوم. وليس من المستبعد أن يكون بين الشعوب القديمة شعوب عربية، إلا أنها لم تعد من العرب؛ لأن اللفظة لم تكن علمًا على جنس قبل الميلاد.
__________
1 الهلال الخصيب "Fertie Crescent" اصطلاح أطلقه "برستيد" "H.Brested" لأول مرة بهذا المعنى، على القوس المتكون من العراق وبلاد الشام.
2 franz stuhlmann. Der kampf um arabien, s. i(2/195)
وإذا ما أخذنا بنظرية القائلين: إن جزيرة العرب هي مهد الساميين، جاز لنا أن نقول عندئذ: إن معظم أهل الخصيب والبادية هم من معمل تفريخ الجنس السامي الكائن في تلك الجزيرة، وإن ذلك المعمل هو الذي أمد هذه الأرضين الممتدة من إيران إلى البحر المتوسط بسلالات الساميين. فصلة جزيرة العرب بالهلال الخصيب صلة قديمة ترجع إلى الأيام الأولى من أيام الساميين، على هذه النظرية، وربما ترجع إلى أقدم من تلك الأيام.
وسنرى فيما بعد أن حكام العراق كانوا قد استولوا على العروض في الألف الثالثة أو قبلها قبل الميلاد، وأنهم نزلوا في البحرين وفي جزر أخرى من جزر الخليج، وأن أصل الفينيقيين هو من البحرين في رأي كثير من العلماء، منها هاجروا إلى أرض "فينيقية" وسواحلها، وما كان ذلك ليتم لو كانت جزيرة العرب بمعزل عن الهلال الخصيب أو عن بادية الشام, أو أن الهلال والبادية كانا بمعزل عن جزيرة العرب.
وقد ذكر أن جماعة من تجار "أور" كانوا يتاجرون في حوالي السنة 2000ق. م مع البحرين, وكانوا قد أنشئو أسطولا لنقل التجارة1. ويقال: إن "سرجون" الأكادي استولى في حوالي السنة "2300 ق. م." على البحرين وقطر، وإن البحرين كانت في حوالي السنة "1750 ق. م." في يد قبيلة اسمها "أكاروم" "أجارم" "Agarum"، وهو اسم قريب من "أجرم"، وإنها كانت تدفع الجزية إلى الملك "أسرحدون"2. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "Agarum" هم أهل مدينة "هجر" التي هي الأحساء3.
وقد كانت العلاقات التجارية مستمرة دومًا بين البحرين وبين العراق, إذ كانت "دلمون" محطة مهمة جدا للتجارة بين الهند وإفريقيا وسواحل الخليج والعراق, تستورد الأخشاب من الهند ومن إفريقيا كما تستورد الحاصلات الأخرى وتنقل النحاس من عمان، فتبيع ذلك إلى جنوب العراق، وربما حملت تلك التجارات بسفن يملكها أهل "أور" أو غيرهم خلال نهر الفرات، لنقلها من
__________
1 p.v. golb, Bahrain, kuml, 1954, 103, bahrains oldtidshovedstad, kuml, 1954, 169.
2 arabien, s. 257, h. field, ancient and modern man in southwestern asia, 108, archive fuer orientforschung. 16, "1952-1953", 6-9
3 arabien, s. 257(2/196)
هناك إلى بلاد الشام ومنها إلى البحر المتوسط لبيعها إلى أهل اليونان وبقية أرجاء "أوروبا". وقد تبين من الأخبار التي تعود إلى أيام الأسرة الثانية من أسر "أور" أن سفن ذلك الوقت "2200-2100 ق. م" كانت تقوم برحلات منتظمة فيما بين البحرين و"أور"؛ وذلك لنقل ما يرد إلى هذه الجزيرة من نحاس ومن أحجار ثمينة من عمان، ومن ذهب وأخشاب وأفاويه ومواد أخرى ثمينة من الهند1.
وقد نزلت جاليات عراقية في البحرين، كما هاجرت جاليات من البحرين إلى العراق فسكنت به. وما الإله "إنزاك" "Inzak" الذي عُبِدَ في جنوب العراق وشُيدت المعابد باسمه، إلا علامة على هجرة أهل البحرين إلى العراق، وتأثر أهل العراق به؛ فهذا الإله هو إله أصله من آلهة أهل البحرين. وانتقال عبادته إلى العراق دليل على تأثر العراقيين بثقافة أهل البحرين، ونقل أهل البحرين له معهم إلى وطنهم الجديد.
وقد كانت البحرين ترتاح كثيرًا عند انشغال أهل العراق بالتحارب فيما بينهم، أو بانشغال الحكومات المهيمنة عليه بمحاربة جيران العراق من الدول القوية الكبيرة، إذ تلهيهم تلك الحروب عن التفكير في السيطرة على البحرين وابتزاز الأموال من أهل الجزيرة، وتكون مثل هذه الظروف فرصة ثمينة للدلمونيين؛ إذ يجدون أسواقًا رائجة تشتري منهم ما يأتون به إلى جنوب العراق، كما يجدون الحكومات مشغولة في معالجة مشكلاتها, فلا تشتطّ كثيرًا في أخذ الضرائب من أولئك التجار.
والكتابات الآشورية هي أقدم سجل، لا شك في ذلك، يشير إلى وجود "العرب" في الأرضين الواسعة الممتدة من الفرات إلى مشارف بلاد الشام، ولكن العرب فيه هم أعراب لا أقل من ذلك ولا أكثر: أعراب متنقلون في الغالب، هائمون في البادية حيث الماء والكلأ والارتزاق من الغارات على الآشوريين وعلى غيرهم. وإلى هذه الغارات يعود، ولا شك، فضل اضطرار الآشوريين إلى الإشارة إليهم في تلك الكتابات، ولولاها لما ذكروا فيها ولا أشير إليهم. وقد وجد هؤلاء الأعراب قبل زمان هذا التسجيل بأمد طويل من دون ريب، ومن يدري؟ فقد يعثر على كتابات جديدة من زمن سحيق، يسبق زمن الكتابات
__________
1 Belgrave, P. 55.(2/197)
الآشورية، يرد فيها شيء من الأعراب؛ فترتفع بذلك معارفنا عنهم إلى زمن أبعد من هذا الزمن المنصوص عليه في كتابات الآشوريين.
أما الموارد الإسلامية، فقد اضطربت في تعيين الزمن الذي ظهر فيه العرب في بادية الشام ومشارقها وفي العراق، ولكنها كلها لا تعرف تأريخًا يسبق التاريخ المذكور في النصوص الآشورية, وما ذكروه عن ظهور العرب في هذه البلاد، فهو مأخوذ من قصص إسرائيلي. ويظهر من رواية لـ"هشام بن محمد الكلبي" أن العرب كانوا في أرض العراق في أيام "بختنصر"، وأنهم كانوا تجارًا يقدمون العراق للتجارات، وذلك في أيام "معد بن عدنان"، وأن "بختنصر" جمع من كان في بلاده من العرب حين هَمَّ بغزو العرب في جزيرتهم، إذ نزل وحي من الله على "برخيا"، فبنى لهم "حيرًا" على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه، ووكل بهم حرسا وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو. وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فأنزلهم "بختنصر" السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا عسكرهم بعد، فسموه "الأنبار", وخلَّى عن أهل الحيرة، فاتخذوها لهم منزلًا, فهذا كان مبدأ نزول العرب في العراق1.
ويظهر من رواية أخرى لـ"ابن الكلبي" كذلك أن الذي أنزل العرب في العراق هو "تبع"، فالعرب الذين نزلوا الحيرة والأنبار هم قوم يمانيون. و"تبع" هذا حكم -على زعمه- بعد "ياسر أنعم" الذي حكم بعد بلقيس، وهو "تبان أسعد", وهو" أبو كرب بن ملكي كرب بن تبع بن زيد بن عمرو بن تبع"، وهو "ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ"، وكان يقال له: "الرائد". وقد خرج من اليمن حتى نزل على جبلي "طيء", "جبل شمر"، ثم سار يريد "الأنبار". فلما انتهى إلى "الحيرة" ليلًا، تحير فأقام مكانه، فسمي ذلك الموضع "الحيرة". ثم سار، وخلف به قوما من "الأزد" و"لخم" و"جذام" و"عاملة" و"قضاعة"، فبنوا وأقاموا به، ثم انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيء وكلب والسكون و"بلحارث بن كعب" و"إياد"، ثم توجه
__________
1 الطبري "1/ 291" "المطبعة الحسينية".(2/198)
إلى "الأنبار" ثم إلى "الموصل"، ثم إلى "أذربيجان" فلقي الترك, ثم انكفأ راجعًا إلى اليمن, وأقام العرب في العراق, "ففيهم من قبائل العرب كلها من بني لحيان وهذيل وتميم وجُعْفى وطيء وكلب"1. فهذا كان مبدأ نزول العرب السواد من أرض العراق.
وحكى "الطبري" رواية أخرى عن "ابن الكلبي" متممة للرواية الأولى عن نزول العرب أرض العراق، خلاصتها: أن العرب الذين أسكنهم "بختنصر" الحيرة، انضموا بعد وفاة هذا الملك إلى أهل "الأنبار"، وبقيت الحيرة خرابًا. فلما كثر أولاد "معد بن عدنان" ومن كان معهم من قبائل العرب، وملئوا بلادهم من تهامة وما يليهم، فرقتهم حروب وقعت بينهم، وأحداث حدثت فيهم، فخرجوا يطلبون المتسع والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف الشام، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين، وبها جماعة من "الأزد" كانوا نزلوها في دهر "عمران بن عمرو" من بقايا "بني عامر"، فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على "التنوخ"، وهو المقام، وتعاقدوا على التآزر والتناصر، فصاروا يدًا على الناس، وضمهم اسم "تنوخ". وتطلعت أنفس من كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق، وطمعوا في غلبة الأعاجم على ما يلي بلاد العرب منه، أو مشاركتهم فيه، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم على مسير إلى العراق ووطن جماعة ممن كان معهم على ذلك، فكان أول من طلع منهم "الحيقار بن الحيق" في جماعة قومه وأخلاط من الناس ثم أعقبتهم موجات أخرى استقرت في الحيرة والأنبار وغيرهما من الأماكن بعد أن تغلبوا على "الأرمانيين"2.
ورُوي عن "ابن الكلبي" أن "أردشير" لما استولى على الملك بالعراق، كره كثير من "تنوخ" أن يقيموا في مملكته وأن يدينوا له؛ فخرج من كان منهم من قبائل "قضاعة" الذين كانوا أقبلوا مع "مالك وعمرو ابني فهم" و"مالك بن زهير" وغيرهم، فلحقوا بالشام إلى هناك من قضاعة. ثم وصلت إليهم جموع أخرى من قبائل العرب، فكونوا ممالك وإمارات، سوف أتحدث عنها3.
__________
1 الطبري "2/ 3" "المطبعة الحسينية".
2 الطبري "2/ 59" "المطبعة الحسينية".
3 ابن خلدون" 2/ 278".(2/199)