. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَصْغِيرٌ عَلَى لَفْظِ التّكْبِيرِ، وَإِلّا فَمَا الْفَرْقُ؟ فَالْجَوَابُ أَنّهُ قَدْ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: الْجَمْعُ، فَإِنّك تَجْمَعُ مُبَيْطِرًا: مُبَاطِر بِحَذْفِ الْيَاءِ، وَإِذَا كَانَ مُصَغّرًا لَا يُجْمَعُ إلّا بِالْوَاوِ وَالنّونِ، فَتَقُولُ: مُبَيْطِرُونَ، وَذَلِك أَنّ التّصْغِيرَ لَا يُكْسَرُ؛ لِأَنّ تَكْسِيرَهُ يُؤَدّي إلَى حَذْفِ الْيَاءِ فِي الْخُمَاسِيّ؛ لِأَنّهَا زَائِدَةٌ كَالْأَلِفِ، فَيَذْهَبُ مَعْنَى التّصْغِيرِ «1» ، وَأَمّا الثّلَاثِيّ الْمُصَغّرُ فَيُؤَدّي تَكْسِيرَهُ إلَى تَحْرِيكِ يَاءِ التّصْغِيرِ أَوْ هَمْزِهَا، وَذَلِك أَنْ يُقَالَ فِي فُلَيْسٍ فَلَائِسُ، فَيَذْهَبُ أَيْضًا مَعْنَى التّصْغِيرِ لِتَصْغِيرِ لَفْظِ الْيَاءِ الّتِي هِيَ دَالّةٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ بَنَيْت اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ: بِيَأْسِ لَقُلْت فِيهِ مُبَيْئِسٌ، وَلَوْ سُهّلَتْ الْهَمْزَةُ حَرّكْت الْيَاءَ فَقُلْت فِيهِ: مُبَيّيسٌ، وَتَقُولُ فِي تَصْغِيرِهِ إذَا صَغّرْته: مُبَيّسٌ بِالْإِدْغَامِ، كَمَا تَقُولُ [فِي] أَبَوْس: أَبِيس، وَلَا تُنْقَلُ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إلَى الْيَاءِ إذَا سُهّلَتْ، كَمَا تَنْقُلُهَا فِي اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ بِيَأْسِ وَنَحْوِهِ، إذَا سهلت الهمزة، وهذه مسئلة مِنْ التّصْغِيرِ بَدِيعَةٌ يَقُومُ عَلَى تَصْحِيحِهَا الْبُرْهَانُ.
حَوْلَ النّهِيمِ وَهَكَذَا:
فَصْلٌ: وَفِي حَدِيثِ إسْلَامِ عُمَرَ: فَنَهَمَهُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-
__________
(1) نقل الصبان فى حاشيته على شرح الأشمونى هذه الفقرة عن السهيلى هكذا: «لو كسر حذفت ياؤه؛ لأنه خماسى ثالثه زائد فيزول علم التصغير، هذا وقد أنكر الأشمونى تصغير هذه الأسماء التى ذكرها السهيلى وفى شرح الشافية للرضى «جرت عادتهم ألا يجمعوا المصغر إلا جمع السلامة إما بالواو والنون أو بالألف والتاء، قيل: وذلك لمضارعة التصغير للجمع الأقصى بزيادة حرف لين ثالثة، ولا يجمع الجمع الأقصى إلا جمع السلامة كالصرادين والصواجبات» ص 281 ثم يقول: «وإذا صغرت مبيطرا ومسيطرا كان التصغير بلفظ المكبر، لأنك تحذف الياء كما تحذف النون فى منطلق، وتجىء بياء التصغير، فى مكانه، ولو صغرتهما تصغير الترخيم لقلت: بطير، وسطير» ص 283 ج 1(3/279)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَيْ: زَجَرَهُ، وَالنّهِيمُ: زَجْرُ الْأَسَدِ، وَالنّهَامِيّ: الْحَدّادُ وَالنّهَامُ: طَائِرٌ «1» ، وَفِيهِ قَوْلُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ قَالَ: هَكَذَا [خَلّوا] عَنْ الرّجُلِ «2» وَهِيَ كَلِمَةٌ مَعْنَاهَا: الْأَمْرُ بِالتّنَحّي، فَلَيْسَ يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا، كَمَا يَعْمَلُ إذَا قُلْت: اجْلِسْ هَكَذَا، أَيْ: عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدّ مِنْ عَامِلٍ فِيهَا إذَا جَعَلْتهَا لِلْأَمْرِ، لِأَنّهَا كَافُ التّشْبِيهِ دَخَلَتْ عَلَى ذَا، وَهَا: تَنْبِيهٌ، فَيُقَدّرُ الْعَامِلُ إذًا مُضْمَرًا، كَأَنّك قُلْت: ارْجِعُوا هَكَذَا، وَتَأَخّرُوا هَكَذَا، وَاسْتُغْنِيَ بِقَوْلِك: هَكَذَا عَنْ الْفِعْلِ، كَمَا اُسْتُغْنِيَ بِرُوَيْدًا عَنْ اُرْفُقْ.
جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ لِجَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيّ: إنّي قَدْ أَسْلَمْت، وَبَايَعْت مُحَمّدًا، فَصَرَخَ جَمِيلٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَلَا إنّ عُمَرَ قَدْ صَبَأَ. جَمِيلٌ هَذَا هُوَ الّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْقَلْبَيْنِ «3» ، وَفِيهِ نَزَلَتْ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ الْأَحْزَابُ. 40، وَفِيهِ قيل.
__________
(1) نهامى: بضم النون أو كسرها وكسر الميم وتشديد الياء: صاحب الدير والطريق السهل، وبفتح النون وكسرها حداد ونجار، وبفتحها وكسرها من غير ياء فى الاخر: حداد ونجار، ونهام بضم النون: طائر، بوم، راهب فى دير، نهام بفتح النون وتشديد الهاء: أسد.
(2) فى السيرة: هكذا خلوا عن الرجل وقد أضفتها عنها إلى الروض. ويجوز أن نجعل هكذا مع ما قبلها، فيكون الكلام: «يسلمون لكم صاحبكم هكذا» ثم يبدأ الكلام الاخر: خلوا عن الرجل.
(3) فى الاشتقاق لابن دريد أنه وهب بن عمير وكان من أحفظ الناس، وكانوا(3/280)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكيف ثوائى بالمدينة بعد ما ... قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ
وَهُوَ الْبَيْتُ الّذِي تَغَنّى بِهِ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي مَنْزِلِهِ، وَاسْتَأْذَنَ عُمَرَ فَسَمِعَهُ، وَهُوَ يَتَغَنّى، وَيُنْشِدُ بالركبانية، وَهُوَ غِنَاءٌ يُحْدَى بِهِ الرّكّابُ، فَلَمّا دَخَلَ عُمَرُ قَالَ لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ: إنّا إذَا خَلَوْنَا، قُلْنَا مَا يَقُولُ النّاسُ فِي بُيُوتِهِمْ، وَقَلَبَ الْمُبَرّدُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَجَعَلَ الْمُنْشِدُ عُمَرَ، وَالْمُسْتَأْذَنَ عَبْدَ الرّحْمَنِ، وَرَوَاهُ الزّبَيْرُ «1» كَمَا تَقَدّمَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَذَا الشّأْنِ.
__________
- يقولون له قلبان من حفظه، فأنزل الله عز وجل: (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جوفه) . أما جميل فقال عنه فى الاشتقاق: كان من أنم قريش لا يكتم شيئا، ص 130، وفى نسب قريش ورد كما قال السهيلى، وأنه قيل له ذو القلبين لعقله، وأنه شهد مع النبى حنينا، فقتل زهير بن الأغر الهذلى ص 395، ولا نسب بينه وبين جميل صاحب بثينة. وفى ابن كثير أنها نزلت فى رجل من قريش، يقال له: ذو القلبين، وأنه كان يزعم أن له قلبين كل منهما بعقل وافر. فأنزل الله هذه الاية ردا عليه. هكذا روى العوفى عن ابن عباس، وقاله مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة واختاره ابن جرير، بينما يروى أحمد فى مسنده بسنده، عن ابن أبى ظبيان أن أباه حدثه قال: قلت لابن عباس: أرأيت قول الله تعالى: (ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ما عنى بذلك؟ قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما يصلى فخطر خطرة، فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترون له قلبين. قلبا معكم، وقلبا معهم، فأنزلها الله، وهكذا رواه الترمذى، ثم قال: وهذا حديث حسن، وكذا رواه ابن جرير وابن أبى حاتم. وروى عبد الرازق بسنده عن الزهرى أنه بلغه أن ذلك كان فى زيد بن حارثة ضرب له مثل. يقول: ليس ابن رجل آخر ابنك، وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد ... أقول. وهذا أليق وأنسب، فسياق الكلام فى التبنى وزيد بن حارثة.
(1) الذى فى نسب قريش لمصعب الزبيرى أن عمر مر بابن عوف ورباح بن عمرو يغنيهم غناء الركبان: فقال عمر: ما هذا؟ فقال عبد الرحمن: لا بأس نلهو ونقصر السفر عنا، فقال لهم عمر رضى الله عنه: فعليكم إذا بشعر ضرار بن الخطاب ابن مرداس ص 448(3/281)
[خبر الصحيفة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ نَزَلُوا بَلَدًا أَصَابُوا بِهِ أَمْنًا وَقَرَارًا، وَأَنّ النّجَاشِيّ قَدْ مَنَعَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَنّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ، فَكَانَ هُوَ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، وَجَعَلَ الْإِسْلَامُ يَفْشُو فِي الْقَبَائِلِ، اجْتَمَعُوا وَائْتَمَرُوا أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابًا يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ، عَلَى أَنْ لَا يُنْكِحُوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا بيعوهم شَيْئًا، وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ، فَلَمّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ، ثُمّ تَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمّ عَلّقُوا الصّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ تَوْكِيدًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ كَاتِبُ الصّحِيفَةِ مَنْصُورَ بن عكرمة بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ- فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، فشلّ بعض أصابعه.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا فَعَلَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ انْحَازَتْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ إلَى أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَدَخَلُوا مَعَهُ فِي شِعْبِهِ وَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ الْعُزّى بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، إلى قريش، فظاهرهم.
[موقف أبى لهب مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: أَنّ أَبَا لَهَبٍ لَقِيَ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، حِين فَارَقَ قَوْمَهُ، وَظَاهَرَ عَلَيْهِمْ قُرَيْشًا، فَقَالَ: يَا بِنْتَ عُتْبَةَ؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/282)
هَلْ نَصَرْتِ اللّاتَ وَالْعُزّى، وَفَارَقْتِ مَنْ فَارَقَهُمَا وَظَاهَرَ عَلَيْهِمَا؟ قَالَتْ:
نَعَمْ، فَجَزَاك اللهُ خَيْرًا يَا أَبَا عُتْبَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدّثْت أَنّهُ كَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُ: يَعِدُنِي مُحَمّدٌ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا، يَزْعُمُ أَنّهَا كَائِنَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَمَاذَا وَضَعَ فِي يَدَيّ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمّ يَنْفُخُ فِي يَدَيْهِ وَيَقُولُ: تبّالكما، مَا أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا مِمّا يَقُولُ مُحَمّدٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ.
قال ابْنُ هِشَامٍ: تَبّتْ: خَسِرَتْ. وَالتّبَابُ: الْخُسْرَانُ. قَالَ حَبِيبُ بْنُ خُدْرَةَ الْخَارِجِيّ: أَحَدُ بَنِي هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ:
يَا طَيّبُ إنّا فِي مَعْشَرٍ ذَهَبَتْ ... مَسْعَاتُهُمْ فِي التّبَارِ وَالتّبَبِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
[شِعْرُ أَبِي طالب]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا اجْتَمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ قُرَيْشٌ، وَصَنَعُوا فِيهِ الّذِي صَنَعُوا، قَالَ أَبُو طَالِب:
أَلَا أَبْلِغَا عَنّي عَلَى ذَاتِ بَيْنِنَا ... لُؤَيّا وَخُصّا مِنْ لُؤَيّ بَنِي كَعْبِ
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنّا وَجَدْنَا مُحَمّدًا ... نَبِيّا كَمُوسَى خُطّ فِي أَوّلِ الْكُتُبِ
وَأَنّ عَلَيْهِ فِي الْعِبَادِ مَحَبّةً ... وَلَا خَيْرَ مِمّنْ خَصّهُ اللهُ بِالْحُبّ
وَأَنّ الّذِي أَلْصَقْتُمْ مِنْ كِتَابكُمْ ... لَكُمْ كَائِنٌ نَحْسًا كَرَاغِيَةِ السّقْبِ
أَفِيقُوا أَفِيقُوا، قَبْلَ أَنْ يُحْفَرَ الثّرَى ... وَيُصْبِحَ مَنْ لَمْ يَجْنِ ذَنْبًا كَذِي الذنب
ولا تتبعوا أمر الوشاة، وتقطعوا ... أو اصرنا بَعْدَ الْمَوَدّةِ وَالْقُرْبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/283)
وَتَسْتَجْلِبُوا حَرْبًا عَوَانًا، وَرُبّمَا ... أَمُرّ عَلَى مَنْ ذَاقَهُ جَلَبُ الْحَرْبِ
فَلَسْنَا- وَرَبّ الْبَيْتِ- نُسْلِمُ أَحْمَدًا ... لِعَزّاءِ مَنْ عَضّ الزّمَانُ وَلَا كَرْبِ
وَلَمّا تَبِنْ مِنّا، وَمِنْكُمْ سَوَالِفُ ... وَأَيْدٍ أُتِرّتْ بِالْقَسَاسِيّةِ الشّهْبِ
بِمُعْتَرَكٍ ضَيْقٍ تَرَى كَسْرَ الْقَنَا ... بِهِ وَالنّسُورَ الطّخْمَ، يَعْكُفْنَ كَالشّرْبِ
كَأَنّ مُجَالَ الْخَيْلِ فِي حَجَرَاتِهِ ... وَمَعْمَعَةَ الْأَبْطَالِ مَعْرَكَةُ الْحَرْبِ
أَلَيْسَ أَبُونَا هَاشِمٌ شَدّ أَزْرَهُ ... وَأَوْصَى بَنِيهِ بِالطّعَانِ وَبِالضّرْبِ
وَلَسْنَا نَمَلّ الْحَرْبَ، حَتّى تَمَلّنَا ... وَلَا نَشْتَكِي مَا قَدْ يَنُوبُ مِنْ النّكْبِ
وَلَكِنّنَا أَهْلُ الْحَفَائِظِ وَالنّهَى ... إذَا طَارَ أَرْوَاحُ الْكُمَاةِ مِنْ الرّعْبِ
فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتّى جَهَدُوا لَا يَصِلُ إلَيْهِمْ شَيْءٌ، إلّا سِرّا مُسْتَخْفِيًا بِهِ مَنْ أَرَادَ صلتهم من قريش.
[من جهالة أبى جهل]
وقد مكان أبو جهل بن هشام- فيما يذكرون- لقى حَكِيمِ بْنِ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ، مَعَهُ غُلَامٌ يَحْمِلُ قَمْحًا يُرِيدُ بِهِ عَمّتَهُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ، وَهِيَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَمَعَهُ فِي الشّعْبِ، فَتَعَلّقَ بِهِ، وَقَالَ:
أَتَذْهَبُ بِالطّعَامِ إلَى بَنِي هَاشِمٍ!؟ وَاَللهِ لَا تَبْرَحُ أَنْت وَطَعَامُك، حَتّى أفضحك بمكة. فجاءه أَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أسد [بن عبد العزى] ، فقال: مالك وَلَهُ؟ فَقَالَ: يَحْمِلُ الطّعَامَ إلَى بَنِي هَاشِمٍ، فقال أَبُو الْبَخْتَرِيّ: طَعَامٌ كَانَ لِعَمّتِهِ عِنْدَهُ بَعَثَتْ إلَيْهِ [فِيهِ] ، أَفَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا؟! خَلّ سَبِيلَ الرّجُلِ، فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ، حَتّى نَالَ أحدهما من صاحبه، فأخذ أَبُو الْبَخْتَرِيّ لَحْيَ بَعِيرٍ، فَضَرَبَهُ بِهِ فَشَجّهُ، ووطئه وطأ شَدِيدًا، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَرِيبٌ يَرَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/284)
ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ، فَيَشْمَتُوا بِهِمْ، وَرَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسِرّا وجهارا، مناديا بِأَمْرِ اللهِ لَا يَتّقِي فِيهِ أَحَدًا مِنْ النّاس.
[مَا لَقِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من قومه]
فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ مَنَعَهُ اللهُ مِنْهَا، وَقَامَ عَمّهُ وَقَوْمُهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ دُونَهُ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ مَا أَرَادُوا مِنْ الْبَطْشِ بِهِ، يَهْمِزُونَهُ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، وَيُخَاصِمُونَهُ، وَجَعَلَ القرآن ينزل فى قريش بأحدائهم، وَفِيمَنْ نُصِبَ لِعَدَاوَتِهِ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ سُمّيَ لنا.
[أبو لهب وامرأته]
وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فِي عَامّةِ مَنْ ذُكِرَ اللهُ مِنْ الْكُفّارِ، فَكَانَ مِمّنْ سُمّيَ لَنَا مِنْ قُرَيْشٍ مِمّنْ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: عَمّهُ أَبُو لَهَبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وامرأته أُمّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ، حَمّالَةَ الْحَطَبِ، وَإِنّمَا سَمّاهَا اللهُ تَعَالَى حَمّالَةَ الْحَطَبِ؛ لِأَنّهَا كَانَتْ- فِيمَا بَلَغَنِي- تَحْمِلُ الشّوْكَ، فَتَطْرَحَهُ عَلَى طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ يَمُرّ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ، سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» .
قال ابن هشام: الجيد: العتق. قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/285)
يَوْمَ تُبْدِي لَنَا قُتَيْلَة عَنْ جِيدِ أَسِيلٍ تُزَيّنُهُ الْأَطْوَاقُ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَجَمْعُهُ: أَجْيَادٌ. وَالْمَسَدّ: شَجَرٌ يُدَقّ كَمَا يُدَقّ الْكَتّانُ، فَتُفْتَلُ مِنْهُ حِبَالٌ. قَالَ النّابِغَةُ الذّبْيَانِيّ- واسمه: زياد بن عمرو ابن مُعَاوِيَةَ:
مَقْذُوفَةٍ بِدَخِيسِ النّحْضِ بَازِلُهَا ... لَهُ صَرِيفٌ صَرِيفَ الْقَعْوِ بِالْمَسَدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ له، وواحدته: مسدة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي: أَنّ أُمّ جميل: حمّالة الحطب، حين سمعت ما نَزَلَ فِيهَا، وَفِي زَوْجِهَا مِنْ الْقُرْآنِ، أَتَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَمّا وَقَفَتْ عَلَيْهِمَا أَخَذَ اللهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَرَى إلّا أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَيْنَ صَاحِبُك، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنّهُ يَهْجُونِي؟ وَاَللهِ لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْتُ بِهَذَا الْفِهْرِ فَاهُ، أَمَا وَاَللهِ إنّي لَشَاعِرَةٌ، ثُمّ قَالَتْ:
مُذَمّمًا عَصَيْنَا ... وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا
وَدِينَهُ قَلَيْنَا
ثُمّ انْصَرَفَتْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك؟ فَقَالَ:
مَا رَأَتْنِي، لَقَدْ أَخَذَ اللهُ بِبَصَرِهَا عَنّي.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهَا: «ودينه قلينا» عن غهر ابن إسحاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/286)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنّمَا تُسَمّي رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مُذَمّمًا، ثُمّ يَسُبّونَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول:
أَلَا تَعْجَبُونَ لِمَا يَصْرِفُ اللهُ عَنّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ، يَسُبّونَ وَيَهْجُونَ مذمّما، وأنا محمد!
[إيذاء أمية بن خلف للرسول صلّى الله عليه وسلم]
وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفِ بن وهب بن جذافة بْنِ جُمَحٍ، كَانَ إذَا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَزَهُ وَلَمَزَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ. وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ، نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْهُمَزَةُ: الّذِي يَشْتُمُ الرّجُلَ عَلَانِيَةً، وَيَكْسِرُ عَيْنَيْهِ عَلَيْهِ، وَيَغْمِزُ بِهِ، قال حسّان بن ثابت:
هَمَزْتُكَ فَاخْتَضَعْتُ لِذُلّ نَفْسٍ ... بِقَافِيَةٍ تَأَجّجُ كَالشّوَاظِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَجَمْعُهُ: هَمَزَاتٌ. وَاللّمَزَةُ: الّذِي يَعِيبُ النّاسَ سِرّا وَيُؤْذِيهِمْ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ:
فِي ظِلّ عَصْرِي بَاطِلِي وَلَمْزِي
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ، وَجَمْعُهُ: لمزات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/287)
[إيذاء العاص للرسول صلّى الله عليه وسلم]
قال ابن إسْحَاقَ: وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ، كَانَ خَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ، صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَيْنًا بِمَكّةَ يَعْمَلُ السّيُوفَ، وَكَانَ قَدْ بَاعَ مِنْ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ سُيُوفًا عَمِلَهَا لَهُ، حَتّى كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا خَبّابُ أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمّدٌ صَاحِبُكُمْ هَذَا الّذِي أَنْت عَلَى دِينِهِ أَنّ فِي الْجَنّةِ مَا ابْتَغَى أَهْلُهَا مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضّةٍ، أَوْ ثِيَابٍ، أَوْ خَدَمٍ؟! قَالَ خَبّابٌ: بَلَى. قَالَ:
فَأَنْظِرْنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَا خَبّابُ، حَتّى أَرْجِعَ إلَى تلك الدار، فأقضيك هنالك حقّك، فو الله لَا تَكُونُ أَنْت وَصَاحِبُك يَا خَبّابُ آثَرَ عِنْدَ اللهِ مِنّي، وَلَا أَعْظَمَ حَظّا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً «هى وما قبلها من سورة مريم 77- 80» .
[إيذاء أبى جهل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم]
وَلَقِيَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- فَقَالَ لَهُ: وَاَللهِ يَا مُحَمّدُ، لَتَتْرُكَنّ سَبّ آلِهَتِنَا، أَوْ لَنَسُبّنّ إلَهَك الّذِي تَعْبُدُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ الأنعام: 108، فذكر لي أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَفّ عَنْ سَبّ آلِهَتِهِمْ، وَجَعَلَ يدعوهم إلى الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/288)
[إيذاء النضر لرسول الله صلى الله عليه وسلم]
وَالنّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ، كَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَجْلِسًا، فَدَعَا فِيهِ إلَى الله تعالى، وتلا فيه القرآن، وحذّر قُرَيْشًا مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ، خَلَفَهُ فِي مجلسه إذا قام، فحدثهم عن رستم الشديد، وَعَنْ أسفنديار، وَمُلُوكِ فَارِسَ، ثُمّ يَقُولُ:
وَاَللهِ مَا مُحَمّدٌ بِأَحْسَنَ حَدِيثًا مِنّي، وَمَا حَدِيثُهُ إلّا أَسَاطِيرُ الْأَوّلِينَ، اكْتَتَبَهَا كَمَا اكْتَتَبْتهَا. فَأَنْزَلَ الله فِيهِ: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً الفرقان: 5، 6. وَنَزَلَ فِيهِ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. ونزل فيه: يْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ الجاثية: 7، 8.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَفّاكُ: الْكَذّابُ. وَفِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى: «أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ: وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ الصافات: 151، 152.
وقال رؤبة:
لامرىء أَفّكَ قَوْلًا إفْكًا وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمًا- فِيمَا بَلَغَنِي-
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/289)
مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، حَتّى جَلَسَ مَعَهُمْ فِي المجلس، وفى المجلس غير واحد من قُرَيْشٍ، فَتَكَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَعَرَضَ لَهُ النّضْر بْنُ الْحَارِثِ، فَكَلّمَهُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أفحمه، ثم تَلَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ، لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها، وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ، وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ الأنبياء 98- 100.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَصَبُ جَهَنّمَ: كُلّ مَا أُوقِدَتْ بِهِ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيّ وَاسْمُهُ: خُوَيْلِدِ بْنُ خَالِدٍ.
فَأَطْفِئْ، وَلَا تُوقِدْ، وَلَا تك مخصبا ... لنار العداة أن تطير شكانها
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَيُرْوَى: «وَلَا تَكُ مِحْضَأً» . قَالَ الشّاعِرُ:
حَضَأْتُ لَهُ نَارِي فَأَبْصَرَ ضَوْءَهَا ... وَمَا كَانَ لَوْلَا حَضْأَةِ النّارِ يهتدى
[ابن الزبعرى والأخنس وما قيل فيهما]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللهِ ابن الزّبَعْرَى السّهْمِيّ حَتّى جَلَسَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَعْرَى:
وَاَللهِ مَا قَامَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لَابْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ آنِفًا وَمَا قَعَدَ، وَقَدْ زَعَمَ مُحَمّدٌ أَنّا وَمَا نَعْبُدُ مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ حَصَبُ جَهَنّمَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزّبَعْرَى. أَمَا وَاَللهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/290)
لَوْ وَجَدْته لَخَصَمْته، فَسَلُوا مُحَمّدًا: أَكُلّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ فِي جَهَنّمَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ؟ فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَالْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا وَالنّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السّلَامُ، فَعَجِبَ الْوَلِيدُ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَعْرَى، وَرَأَوْا أَنّهُ قَدْ احْتَجّ وَخَاصَمَ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لرسول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الزّبَعْرَى فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كُلّ مَنْ أَحَبّ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، إنّهُمْ إنّمَا يَعْبُدُونَ الشّيَاطِينَ، وَمَنْ أَمَرَتْهُمْ بِعِبَادَتِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عليه فى ذلك:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ، لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها، وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ الأنبياء: 101، 102: أى عيسى بن مَرْيَمَ، وَعُزَيْرًا، وَمَنْ عُبِدُوا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ الّذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللهِ، فَاِتّخَذَهُمْ مَنْ يَعْبُدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الضّلَالَةِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ.
وَنَزَلَ فِيمَا يَذْكُرُونَ، أَنّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَأَنّهَا بَنَاتُ اللهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ، بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ الأنبياء: 26: 27.. إلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الأنبياء: 29.
ونزّل فيما ذكر من أمر عيسى بن مَرْيَمَ أَنّهُ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَعَجَبِ الْوَلِيدِ، وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ حُجّتِهِ وَخُصُومَتِهِ: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ الزخرف: 57. أَيْ: يَصُدّونَ عَنْ أَمْرِك بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/291)
ثم ذكر عيسى بن مَرْيَمَ فَقَالَ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ، وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ، وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ الأنبياء: 59: 61 أَيْ: مَا وَضَعْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ، فَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِ السّاعَةِ، يَقُولُ:
فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثّقَفِيّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْقَوْمِ، وَمِمّنْ يُسْتَمَعُ مِنْهُ، فَكَانَ يُصِيبُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرُدّ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: «وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ القلم: 10، 11 ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: زَنِيمٍ، وَلَمْ يَقُلْ: زَنِيمٍ لِعَيْبِ فِي نَسَبِهِ؛ لِأَنّ اللهَ لَا يَعِيبُ أحدا بنسب، ولكنه حقّق بذلك نعته ليعرف. والزنيم: العديد للقوم، وقد قال الخطيم التّمِيمِيّ فِي الْجَاهِلِيّةِ:
زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرّجَالُ زِيَادَةً ... كما زيد فى عرض الأديم الأكارع
[ما قيل فى الوليد بن المغيرة وأبى بن خلف وعقبة بن أبى معيط]
وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: أَيُنَزّلُ عَلَى مُحَمّدٍ، وَأُتْرَكُ وَأَنَا كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا، وَيُتْرَكُ أَبُو مَسْعُودٍ عَمْرُو بْنُ عُمَيْرٍ الثّقَفِيّ سَيّدُ ثَقِيفٍ، وَنَحْنُ عَظِيمَا الْقَرْيَتَيْنِ؟! فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ، فِيمَا بَلَغَنِي: وَقالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ الزخرف: 30 ... إلى قوله تعالى:
مِمَّا يَجْمَعُونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/292)
وَأُبَيّ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَا مُتَصَافِيَيْنِ، حَسّنَا مَا بَيْنَهُمَا. فَكَانَ عُقْبَةُ قَدْ جلس إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَمِعَ مِنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِك أُبَيّا، فَأَتَى عقبة، فقال: أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنّك جَالَسْت مُحَمّدًا، وَسَمِعْتَ مِنْهُ! ثم قال: وَجْهِي مِنْ وَجْهِك حَرَامٌ أَنْ أُكَلّمَك- وَاسْتَغْلَظَ مِنْ الْيَمِينِ- إنْ أَنْتَ جَلَسْتَ إلَيْهِ، أَوْ سَمِعْتَ مِنْهُ، أَوْ لَمْ تَأْتِهِ، فَتَتْفُلَ فِي وجهه. ففعل من ذَلِكَ عَدُوّ اللهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ لَعَنَهُ اللهُ.
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْإِنْسانِ خَذُولًا الفرقان: 27- 29.
وَمَشَى أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَظْمٍ بَالٍ قَدْ ارْفَتّ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، أَنْتَ تَزْعُمُ أَنّ يَبْعَثُ هَذَا بَعْدَ مَا أَرَمّ، ثُمّ فَتّهُ بيده، ثُمّ نَفَخَهُ فِي الرّيحِ نَحْوَ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: نَعَمْ، أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ، يَبْعَثُهُ اللهُ وَإِيّاكَ بَعْدَ مَا تَكُونَانِ هَكَذَا، ثُمّ يُدْخِلُك اللهُ النّارَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ، وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ يس 79، 80
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/293)
ما قيل فى حق الذين اعترضوا الرسول فى الطواف وَاعْتَرَضَ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ- فِيمَا بَلَغَنِي- الْأَسْوَدُ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ، وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ فِي قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، هَلُمّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدُ مَا نَعْبُدُ، فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمّا نعبد، كنّا قد أخذنا بحظّا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرًا مِمّا تَعْبُدُ، كُنْت قَدْ أَخَذْت بِحَظّك مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: قُلْ: يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ الكافرون. أَيْ: إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْبُدُونَ إلّا اللهَ، إلّا أَنْ أَعْبُدَ مَا تَعْبُدُونَ، فَلَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ مِنْكُمْ، لَكُمْ دِينُكُمْ جَمِيعًا، وَلِي دينى.
[ما قيل فى حق أبى جهل]
وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ- لَمّا ذَكَرَ اللهُ عَزّ وَجَلّ شَجَرَةَ الزّقّومِ تَخْوِيفًا بِهَا لَهُمْ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ تَدْرُونَ مَا شَجَرَةُ الزّقّومِ الّتِي يُخَوّفُكُمْ بِهَا مُحَمّدٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: عَجْوَةُ يَثْرِبَ بِالزّبْدِ، وَاَللهِ لَئِنْ استمكنّا منها لننزقمّها تَزَقّمًا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ الجاثية: 44- 46. أى: ليس كما يقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/294)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمُهْلُ: كُلّ شَيْءٍ أَذَبْته، مِنْ نُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذلك فيما أخبرنى أبو عبيدة.
وبلغنا عن الحسن بن أبى الحسن أَنّهُ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالِيًا لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ، وَأَنّهُ أَمَرَ يَوْمًا بِفِضّةٍ، فَأُذِيبَتْ، فَجُعِلَتْ تُلَوّنُ أَلْوَانًا، فَقَالَ: هَلْ بِالْبَابِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَأَدْخِلُوهُمْ، فَأُدْخِلُوا فَقَالَ: إنّ أدنى ما أنتم راؤن شَبَهًا بِالْمُهْلِ لَهَذَا، وَقَالَ الشّاعِرُ:
يَسْقِيهِ رَبّي حَمِيمَ الْمُهْلِ يَجْرَعُهُ ... يَشْوِي الْوُجُوهَ فَهُوَ فِي بطنه صهر
وقال عبد الله بن الزبير الأسدى:
فمن عاش منهم عاش عبدا وإن يمت ... ففى النار يسقى مهلها وصديدها
وهذا البيت فى قصيدة له.
ويقال: إن المهل: صديد الجسد.
بَلَغَنَا أَنّ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمّا حُضِرَ، أَمَرَ بِثَوْبَيْنِ لَبِيسَيْنِ يُغْسَلَانِ، فَيُكَفّنُ فِيهِمَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: قَدْ أَغْنَاك اللهُ يَا أَبَتِ عَنْهُمَا، فَاشْتَرِ كَفَنًا، فَقَالَ: إنّمَا هِيَ سَاعَةٌ حَتّى يَصِيرَ إلَى الْمُهْلِ. قَالَ الشّاعِرُ:
شَابَ بِالْمَاءِ مِنْهُ مُهْلًا كَرِيهًا ... ثم علّ المنون بَعْدَ النّهَالِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً الإسراء: 60
[قصة ابن أم مكتوم]
وَوَقَفَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُكَلّمُهُ، وَقَدْ طَمِعَ فِي إسْلَامِهِ، فَبَيْنَا هُوَ فِي ذَلِكَ، إذْ مَرّ به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/295)
ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَكَلّمَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ يَسْتَقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَشَقّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتّى أَضْجَرَهُ، وَذَلِكَ أَنّهُ شَغَلَهُ عَمّا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْوَلِيدِ، وَمَا طَمِعَ فِيهِ مِنْ إسْلَامِهِ، فَلَمّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ انْصَرَفَ عَنْهُ عَابِسًا، وَتَرَكَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ أَيْ: إنّمَا بَعَثْتُك بَشِيرًا وَنَذِيرًا، لَمْ أَخُصّ بِك أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ، فَلَا تَمْنَعُهُ مِمّنْ ابْتَغَاهُ، وَلَا تَتَصَدّيَنّ بِهِ لِمَنْ لَا يُرِيدُهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، وَاسْمُهُ: عَبْدُ الله، ويقال: عمرو.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَدِيثُ الصّحِيفَةِ الّتِي كَتَبَتْهَا قُرَيْشٌ ذَكَرَ فِيهِ قول أبى لهب ليديه: تبّالكما، لَا أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا مِمّا يَقُولُ مُحَمّدٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، هَذَا الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِذِكْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ يَدَيْهِ، حَيْثُ يَقُولُ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَأَمّا قوله: وتبّ، فتفسيره مَا جَاءَ فِي الصّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وسعيد ابن جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: لَمّا أَنَزَلَ اللهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ الشّعَرَاءُ: 214 خَرَجَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حتى أَتَى الصّفَا، فَصَعِدَ(3/296)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ، فَهَتَفَ: يَا صُبَاحَاه، فَلَمّا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدّقِيّ؟ قَالُوا: ما جرّ بنا عَلَيْك كَذِبًا قَالَ: فَإِنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبّا لَك أَلِهَذَا جَمَعْتنَا؟! فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «1» ، وقد تبّ. هَكَذَا قَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ، وَهِيَ- وَاَللهُ أَعْلَمُ- قِرَاءَةٌ مَأْخُوذَةٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، لِأَنّ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَلْفَاظًا كَثِيرَةً تُعِينُ عَلَى التفسير «2» قال مجاهد: لو كنت
__________
(1) رواه الشيخان والترمذى.
(2) يجب أن نؤمن بأن هذا المصحف الذى نحن معه نتدبره، فيه كل كلام الله الذى نزله على محمد صلّى الله عليه وسلم دون نقص أو زيادة. وما يروى من مثل هذا. فإما أن تكون رواية ساقطة، وإما أن يكون من كلام ابن مسعود تعليقا منه على بعض آيات الكتاب المبين. كيف نحكم أن مثل «وقد تب» كانت فى المصحف ثم رفعت منه؟ أو كيف نحكم أن آية كذا كانت فيه، ثم حذفت؟. وأين نحن بهذا من قول الله: (إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون) الحجر: 9 كيف نضرب المتواتر المحفوظ بحفظ الله بروايات ساقطة واهية مهما كان شأن رواتها، وشأن الكتب التى وردت فيها؟ وما الفرق بيننا وبين من يزعمون أن مصحفنا هذا ناقص مبتور حذف منه أبو بكر وعمر ما حذفا؟! اقذفوا بكل قول يزعم هذا فى جحيم. بعض ما قيل عن الصحيفة: قيل: إنها كانت فى هلال المحرم سنة سبع من النبوة، ورد هذا فى ابن سعد وابن عبد البر: وجزم به الحافظ فى الفتح، وقيل: سنة ثمان وكان اجتماعهم بخيف بنى كنانة وهو المحصب واختلف فى اسم كاتب الصحيفة. وفى رواية أنهم تواثقوا على هذا حتى يسلموا رسول الله «ص» للنقل، وكانت مدة الشعب سنتين كما ذكر ابن سعد أو ثلاثا كما ذكر موسى بن عقبة وفى نسب قريش ص 254 أن الذى كتب الصحيفة عامر الشاعر لا منصور ابنه.(3/297)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قرأت قراءة ابن مسعود قبل أن أسئل ابن عباس، ما احتجت أن أسئله عَنْ كَثِيرٍ مِمّا سَأَلْته، وَكَذَلِكَ زِيَادَةٌ قَدْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فُسّرَتْ أَنّهُ خَبَرٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى، وَأَنّ الْكَلَامَ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الدّعَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ التّوْبَةُ: 30، أَيْ: إنّهُمْ أَهْلٌ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ هَذَا، فَتَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ، لَيْسَ مِنْ بَابِ: قَاتَلَهُمْ اللهُ، وَلَكِنّهُ خَبَرٌ مَحْضٌ بِأَنّ قَدْ خَسِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَالْيَدَانِ: آلَةُ الْكَسْبِ، وَأَهْلُهُ وَمَالُهُ مِمّا كَسَبَ فَقَوْلُهُ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، تَفْسِيرُهُ: قَوْلُهُ: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ وَوَلَدُ الرّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، أَيْ: خَسِرَتْ يَدَاهُ هَذَا الّذِي كَسَبْت، وَقَوْلُهُ: وَتَبّ، تَفْسِيرُهُ.
سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ أَيْ: قَدْ خَسِرَ نَفْسَهُ بِدُخُولِهِ النّارَ، وَقَوْلُ أَبِي لَهَبٍ: تَبّا لَكُمَا، مَا أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا، يَعْنِي: يَدَيْهِ: سَبَبُ لِنُزُولِ تَبّتْ يَدَا كَمَا تَقَدّمَ.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: تَبّا لَك يَا مُحَمّدُ، سَبَبٌ لِنُزُولِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
وَتَبَّ «1» فَالْكَلِمَتَانِ فِي التّنْزِيلِ مَبْنِيّتَانِ عَلَى السّبَبَيْنِ، والايتان بعدهما تفسير للتببين. تَبَابِ يَدَيْهِ، وَتَبَابُهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ، وَالتّبَبُ على وزن التّلف
__________
(1) وحدث عن عبد الرحمن بن أبى الزناد عن أبيه قال. أخبر رجل يقال له: ربيعة بن عباد من بنى الديل، وكان جاهليا، فأسلم، قَالَ: رَأَيْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فى الجاهلية فى سوق ذى المجاز، وهو يَقُولُ: (يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا: لَا إلَهَ إلا الله تفلحوا) والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه. فقالوا: هذا عمه أبو لهب. تفرد به أحمد.(3/298)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِأَنّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَالتّبَابُ كَالْهَلَاكِ وَالْخَسَارِ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِيهِ:
تَبَبٌ وَتَبَابٌ.
مِنْ تَفْسِيرِ شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ:
فَصْلٌ: ذِكْرُ شِعْرِ أَبِي طَالِب:
أَلَا أَبْلِغَا عَنّي عَلَى ذَاتِ بَيْنِنَا
قَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ: ذَاتِ بَيْنَنَا، وَذَاتِ يَدِهِ، وَمَا كَانَ نَحْوُهُ: صِفَةٌ لِمَحْذُوفِ مُؤَنّثٌ، كَأَنّهُ يُرِيدُ الْحَالَ الّتِي هِيَ ذَاتُ بَيْنِهِمْ كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ:
وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ الْأَنْفَالُ: 1 فَكَذَلِكَ إذَا قُلْت: ذَاتِ يَدِهِ.
يُرِيدُ أَمْوَالَهُ، أَوْ مُكْتَسَبَاتِهِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ: «أَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ «1» » ، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت: لَقِيته ذَاتَ يَوْمٍ، أَيْ: لقاءة أو مرّة ذات يوم، فلما حُذِفَ الْمَوْصُوفُ، وَبَقِيَتْ الصّفّةُ صَارَتْ كَالْحَالِ لَا تَتَمَكّنُ، وَلَا تُرْفَعُ فِي بَابِ مَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ، كَمَا تُرْفَعُ الظّرُوفُ الْمُتَمَكّنَةُ، وَإِنّمَا هُوَ كَقَوْلِك: سَيْرٌ عَلَيْهِ شَدِيدًا وَطَوِيلًا، وَقَوْلُ الْخَثْعَمِيّ- وَاسْمُهُ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ [مَدَرك] : عَزَمْت عَلَى إقَامَةِ ذَاتَ صَبَاحٍ، لَيْسَ هُوَ عِنْدِي. مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ قَدْ جَعَلَهَا لُغَةً لِخَثْعَمٍ، وَلَكِنّهُ عَلَى مَعْنَى إقَامَةِ يَوْمٍ، وَكُلّ يَوْمٍ هُوَ ذُو صَبَاحٍ، كَمَا تَقُولُ: مَا كَلّمَنِي ذُو شَفَةٍ، أَيْ: مُتَكَلّمٌ، وَمَا مَرَرْت بِذِي نَفْسٍ، فَلَا يَكُونُ مِنْ
__________
(1) هو جزء من حديث رواه الشيخان: «خير نساء ركبن الإبل صالحو نساء قريش أحناه على ولد فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يده» .(3/299)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَابِ: ذَاتِ مَرّةً الّذِي لَا يَتَمَكّنُ فِي الْكَلَامِ، وَقَدْ وَجَدْت فِي حَدِيثِ قَيْلَةَ بِنْتِ محرمة، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ وَقَعَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: أَنّ أُخْتَهَا قَالَتْ لِبَعْلِهَا: إنّ أُخْتِي تُرِيدُ الْمَسِيرَ مَعَ زَوْجِهَا حُرَيْثِ بْنِ حَسّانَ ذَا صَبَاحٍ بَيْنَ سَمْعِ الْأَرْضِ وَبَصَرِهَا، فَهَذَا يَكُونُ مِنْ بَابِ: ذَاتِ مَرّةٍ، وَذَاتِ يَوْمٍ، غَيْرَ أَنّهُ وَرَدَ مُذَكّرًا؛ لِأَنّهُ تَشْتَغِلُ تَاءُ التّأْنِيثِ مَعَ الصّادِ، وَتَوَالِي الْحَرَكَاتِ، فَحَذَفُوهَا، فَقَالُوا:
لَقِيته ذَا صَبَاحٍ، وَهَذَا لَا يَتَمَكّنُ كَمَا لَا يَتَمَكّنُ: ذَاتُ يَوْمٍ وَذَاتُ حِينٍ، وَلَا يُضَافُ إلَيْهِ مَصْدَرٌ، وَلَا غَيْرُهُ. وَقَوْلُ الْخَثْعَمِيّ: عَزَمْت عَلَى إقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ قَدْ أَضَافَ إلَيْهِ، فَكَيْفَ يُضِيفُ إلَيْهِ، ثُمّ يَنْصِبُهُ، أَوْ كَيْفَ يُضَارِعُ الْحَالَ مَعَ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَيْهِ؟ فَكَذَلِكَ خَفْضُهُ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ نَظَائِرِهِ، إلّا أَنْ يَكُونَ سِيبَوَيْهِ سَمِعَ خَثْعَمَ يَقُولُونَ: سِرْت فِي ذَاتِ يَوْمٍ، أَوْ سِيَر عَلَيْهِ ذَاتُ يَوْمٍ بِرَفْعِ التّاءِ، فَحِينَئِذٍ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَقُولَ: لُغَةُ خَثْعَمَ، وَأَمّا الْبَيْتُ الّذِي تَقَدّمَ فَالشّاهِدُ لَهُ فِيهِ، وَمَا أَظُنّ خَثْعَمَ، وَلَا أَحَدًا مِنْ الْعَرَبِ يُجِيزُ التّمَكّنَ فِي نَحْوِ هَذَا، وَإِخْرَاجِهِ عَنْ النّصْبِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ.
لَا الّتِي لِلتّبْرِئَةِ:
فَصْلٌ: وَفِيهِ: وَلَا خَيْرَ مِمّنْ خَصّهُ اللهُ بِالْحُبّ.
وَهُوَ مُشْكِلٌ جِدّا لِأَنّ لَا فِي بَابِ التّبْرِئَةِ لَا تَنْصِبُ مِثْلَ هَذَا إلّا مُنَوّنًا تَقُولُ: لَا خَيْرًا مِنْ زَيْدٍ فِي الدّارِ، وَلَا شَرّا مِنْ فُلَانٍ، وَإِنّمَا تَنْصِبُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ إذَا كَانَ الِاسْمُ غَيْرَ مَوْصُولٍ بِمَا بَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يُوسُفُ: 92. لِأَنّ عَلَيْكُمْ لَيْسَ من صلة.(3/300)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التّثْرِيبِ، لِأَنّهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَأَشْبَهَ مَا يُقَالُ فِي بَيْتِ أَبِي طَالِبٍ أَنّ خَيْرًا مُخَفّفٌ، مِنْ خَيْرِ كَهَيْنِ وَمَيْت [مِنْ هَيّنٍ وَمَيّتٍ] وَفِي التّنْزِيلِ: خَيْراتٌ حِسانٌ الرّحْمَنُ: 70 هُوَ مخفف من خيّرات.
عود إلى سرح شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ:
وَقَوْلُهُ: مِمّنْ. مَنْ، مُتَعَلّقَةٌ بِمَحْذُوفِ، كَأَنّهُ قَالَ: لَا خَيْرَ أَخْيَرُ مِمّنْ خَصّهُ اللهُ، وَخَيْرٌ وَأَخْيَرُ: لَفْظَانِ مِنْ جَنْسٍ وَاحِدٍ، فَحَسُنَ الْحَذْفُ اسْتِثْقَالًا لِتَكْرَارِ اللّفْظِ، كَمَا حَسُنَ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ البقرة: 177. والْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ الْبَقَرَةُ: 197 لِمَا فِي تَكْرَارِ الْكَلِمَةِ مَرّتَيْنِ مِنْ الثّقَلِ عَلَى اللّسَانِ، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ يُونُسُ: 11 أَيْ: لَوْ عَجّلَهُ لَهُمْ إذَا اسْتَعْجَلُوا بِهِ اسْتِعْجَالًا مِثْلَ اسْتِعْجَالِهِمْ بِالْخَيْرِ، فَحَسُنَ هَذَا الْكَلَامُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ ثِقَلِ التّكْرَارِ، وَإِذَا حَذَفُوا حَرْفًا واحدا لهذه العلة كقولهم: بلّحرث «1» بنو فُلَانٍ، وَظَلِلْت وَأُحِشّتْ فَأَحْرَى أَنْ يَحْذِفُوا كَلِمَةَ مِنْ حُرُوفٍ، فَهَذَا أَصْلٌ مُطّرِدٌ، وَيَجُوزُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَذْفُ التّنْوِينِ مُرَاعَاةً لِأَصْلِ الْكَلِمَةِ؛ لِأَنّ خَيْرًا مِنْ زَيْدٍ إنّمَا مَعْنَاهُ:
أَخْيَرُ مِنْ زَيْدٍ، وَكَذَلِكَ: شَرّ مِنْ فُلَانٍ، إنّمَا أَصْلُهُ: أَشَرّ عَلَى وَزْنِ أفعل،
__________
(1) فى الأصل بياض بعد كلمة بلحرث، ولكن فى اللسان: «وقولهم: بلحرث لبنى الحرث بن كعب من شواذ الإدغام، لأن النون واللام قريبا المخرج، فلما لم يمكنهم الإدغام بسكون اللام حذفوا النون. كما قالوا: مست، وظلت «بفتح الميم والظاء وسكون السين واللام» كذلك يفعلون بكل قبيلة تظهر فيها لام المعرفة، مثل بلعنبر، وبلهجيم، فأما إذا لم تظهر اللام، فلا يكون ذلك» حادة حرث.(3/301)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَحُذِفَتْ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا، وَأَفْعَلُ لَا يَنْصَرِفُ، فَإِذَا انْحَذَفَتْ الْهَمْزَةُ انْصَرَفَ وَنُوّنَ، فَإِذَا تَوَهّمْتهَا غَيْرَ سَاقِطَةٍ الْتِفَاتًا إلَى أَصْلِ الْكَلِمَةِ، لَمْ يَبْعُدْ حَذْفُ التّنْوِينِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعَ مَا يُقَوّيهِ مِنْ ضَرُورَةِ الشّعْرِ.
وَقَوْلُهُ: بِالّقُسَاسِيّةِ الشّهُبِ، يَعْنِي: السّيُوفَ، نَسَبَهَا إلَى قُسَاس، وَهُوَ مَعْدِنٌ حَدِيدٌ لِبَنِي أَسَدٍ، وَقِيلَ اسْمٌ لِلْجَبَلِ الّذِي فِيهِ الْمَعْدِنُ: قَالَ الرّاجِزُ يَصِفُ فَأْسًا:
أَحْضِرْ مِنْ مَعْدِنِ ذِي قُسَاس ... كَأَنّهُ فِي الْحَيْدِ ذِي الْأَضْرَاسِ
يُرْمَى بِهِ فِي الْبَلَدِ الدّهَاسِ»
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْقُسَاسِيّة: لَا أَدْرِي إلَى أَيّ شَيْءٍ نُسِبَ، وَاَلّذِي ذَكَرْنَاهُ قَالَهُ الْمُبَرّدُ، وَقَوْلُهُ: ذِي قُسَاس كَمَا حَكَى، ذُو زَيْدٍ، أَيْ: صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ، وَفِي أَقْيَالِ حِمْيَرَ: ذُو كَلَاعٍ، وَذُو عَمْرٍو، أُضِيفَ الْمُسَمّى إلَى اسْمِهِ، كَمَا قَالُوا: زَيْدُ بَطّةَ، أَضَافُوهُ إلى لقبه «2»
__________
(1) فى معجم ابن فارس «قساس» بلد تنسب إليه السيوف القساسية» وفى المراصد: جبل لبنى نمير، وقيل لبنى أسد، وبالصاد جبل لهم أيضا فيه معدن حديد تنسب السيوف القساسية إليه، ويقال: إن قساس معدن الحديد بأرمينية» والدّهاس: المكان السهل.
(2) الأسماء المفردة تضاف إلى ألقابها، وحينئذ تكون الألقاب معارف، وتنعرف بها الأسماء، كما قيل: قيس قفة. وزيد بطة وسعيد كرز ويجوز بفتح تاء قفة وبطة وزاى كرز «مادة قطن فى اللسان، وانظر أيضا مادة بطط وكرز» وذو الكلاع الأكبر: يزيد بن النعمان. والأصغر: سميفع بن ناكور من نسل الأكبر.(3/302)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذُكِرَ فِيهِ النّسُورِ الطّخْمَة، قِيلَ: هِيَ السّودُ الرؤس، قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ، وَقَالَ أَيْضًا: الطّخْمَة سَوَادٌ فِي مُقَدّمِ الْأَنْفِ.
وَقَوْلُهُ: كَرَاغِيَةِ السّقْبِ يُرِيدُ وَلَد النّاقَةِ الّتِي عُقْرُهَا قُدَار «1» ، فَرَغَا وَلَدُهَا، فَصَاحَ بِرُغَائِهِ كُلّ شَيْءٍ لَهُ صَوْتٌ، فَهَلَكَتْ ثَمُودُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَضَرَبَتْ الْعَرَبُ ذَلِكَ مَثَلًا فِي كُلّ هَلَكَةٍ. كَمَا قَالَ عَلْقَمَةُ [بْنُ عَبْدَةَ] :
رَغَا فَوْقَهُمْ سَقْبُ السّمَاءِ فَدَاحِصٌ ... بِشِكّتِهِ لم يستلب وسليب
وقال آخر:
__________
(1) اسمه فى القاموس: قدار بن سالف، ويقال هو الذى عقر ناقة صالح، وهو أحيمر ثمود. وروى أحمد بسنده فى مسنده عن عبد الله بن زمعة قال: خَطَبَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ الناقة، وذكر الذى عقرها، فقال: إذ انبعث أشقاها» انبعث لها رجل عارم عزيز منيع فى رهطه مثل أبى زمعة» ورواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن جرير. وبشؤم قدار ضرب المثل يقول الشاعر:
وكان أضر فيهم من سهيل ... إذا وافى وأشأم من قدار
ويقال: قدار بن قديرة باسم أمه، انظر الأمثال للميدانى، مثل رقم 2021- وسمط اللالى ص 845، وفى معلقة زهير عن الحرب:
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد، ثم ترضع فتفطم
وأحمر عاد هو قدار. والسقب: ولد الناقة عامة، أو ساعة يولد، أو خاص بالذكر، وفى ابن هشام ورد نسب أبى البخترى: «ابن هشام بن الحارث بن أسد» فصوبته من نسب قريش «ابن هاشم بن الحارث بن أسد بن عبد العزى»(3/303)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَعَمْرِي لَقَدْ لَاقَتْ سُلَيْمٌ وَعَامِرٌ ... عَلَى جَانِبِ الثّرْثَارِ رَاغِيَةَ الْبِكْرِ «1»
ذِكْرُ أُمّ جَمِيلٍ وَالْمَسَدِ وَعَذَابِهَا:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أُمّ جَمِيلٍ بِنْتَ حَرْبٍ عَمّةَ مُعَاوِيَةَ، وَذَكَرَ أَنّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ الشّوْكَ، وَتَطْرَحُهُ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهَا:
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ قَالَ الْمُؤَلّفُ: فَلَمّا كَنّى عَنْ ذَلِكَ الشّوْكِ بِالْحَطَبِ، وَالْحَطَبُ لَا يَكُونُ إلّا فِي حَبْلٍ، مِنْ ثُمّ جَعَلَ الْحَبْلَ فِي عُنُقِهَا، لِيُقَابِلَ الْجَزَاءُ الْفِعْلَ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ مَسَدٍ، هُوَ مِنْ مَسَدْت الْحَبْلَ إذَا أَحَكَمْت فَتْلَهُ، إلّا أَنّهُ قَالَ:
مِنْ مَسَدٍ، وَلَمْ يَقُلْ: حَبْلُ مَسَدٍ وَلَا مَمْسُودٍ لِمَعْنَى لَطِيفٍ، ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ، قَالَ: الْمَسَدُ يُعَبّر بِهِ فِي الْعُرْفِ عَنْ حَبْلِ الدّلْوِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ يُصْنَعُ بِهَا فِي النّارِ مَا يُصْنَعُ بِالدّلْوِ، تُرْفَعُ بِالْمَسَدِ فِي عُنُقِهَا إلَى شَفِيرِ جَهَنّمَ، ثُمّ يُرْمَى بِهَا إلَى قَعْرِهَا هَكَذَا أَبَدًا، وَقَوْلُهُمْ: أَنّ الْمَسَدَ هُوَ حَبْلُ الدّلْوِ فِي الْعُرْفِ صَحِيحٌ فَإِنّا لَمْ نَجِدْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إلّا كَذَلِكَ، كَقَوْلِ [النّابِغَةِ] الذّبْيَانِي.
لَهُ صَرِيفٌ صريف القعو بالمسد «2»
__________
(1) الثرثار: هو فى برية نجد، واد عظيم بالجزيرة.
(2) البيت من شواهد سيبويه فى الكتاب. والشاهد فيه نصب «صريف» الأخرى على المصدر المشبه به، والعامل فيه فعل مضمر دل عليه قوله: «له صريف» ، فكأنه قال: بازلها يصرف صريفا مثل صريف القعو، ورفعه على البدل جائز. يوصف الناقة بالقوة والنشاط، فيقول: كأنما قذفت باللحم قذفا لتراكمه عليها. -(3/304)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ يَسْتَقِي عَلَى إبِلِهِ:
يَا مَسَدَ الْخُوصِ تَعَوّذْ مِنّي ... إنْ تَكُ لَدْنًا لَيّنًا فَإِنّي
مَا شِئْت مِنْ أَشْمَطَ مَقْسَئِنّ «1»
__________
- والنحض: اللحم، ودخيسه: ما تداخل منه وتراكب، والبازل: سن تخرج عند بزولها، وذلك العام التاسع من سنها، وعند ذلك تكمل قوتها. ويقال لها: بازل: والصريف: صوت أنيابها إذا حكت بعضها ببعض نشاطا أو إعباء، والقعو: ما تدور فيه البكرة إذا كان من خشب، وجمعها قعى، فإذا كان من حديد، فهو خطاف ص 178 ح 1 الكتاب لسيبويه وبيت علقمة ص 172 أمالى.
(1) أنشده اللسان فى مادتى مسد، وقسن. وفى الأصل الحوض، مكسين والتصويب من اللسان، ومعجم ابن فارس الذى أنشد الأخيرتين فى مادة قسن والمقسئن الصلب من الرجال. ويكون كبير السن، والأشمط من خالط سواد شعره بياض. وبعد هذه:
تقمص كفاه بحبل الشن ... مثل قماص الأحرد المستن
يقول: تعوذ منى، فإنى أستقى بك كثيرا، فتنقطع إن تك لدنا، أى: ناعما متثنيا، فإنى مقسئن وهو الكهل الشديد الذى لم تنقص السنون منه شيئا. ويروى: إن تك شبا، أى: شابا. وتقمص: ترتفع كفاه بالحبل إذا جذبه، والأحرد: البعير الذى يرفع يديه فى سيره، ثم يخبط بهما الأرض، والمستن الذى يمشى على وجهه، وأراد بالشن: الدلو ص 89 تهذيب إصلاح المنطق لأبى زكريا يحى بن على بن الخطاب التبريزى المتوفى سنة 562 هـ ط أولى وفى اللسان أيضا: المقسين: الشيخ القديم وكذلك البعير، فإذا اشتقوا منها فعلا على مثل افعال بتشديد اللام همزوا فقالوا: اقسأن. وقيل المقسئن الذى قد انتهى فى سنه، فليس به ضعف كبر. ولا قوة شباب وقيل: هو الذى فى آخر شبابه وأول كبره، واقسأن الشىء اشتد(3/305)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ آخَرُ:
يَا رَبّ عَبْسٍ لَا تُبَارِكْ فِي أَحَدْ ... فِي قَائِمٍ مِنْهُمْ، وَلَا فِيمَنْ قَعَدْ
غَيْرَ الْأُولَى شِدّوا بِأَطْرَافِ الْمَسَدْ
أَيْ: اسْتَقَوْا، وَقَالَ آخَرُ، وَهُوَ يَسْتَقِي:
وَمَسَدٍ أُمِرّ مِنْ أَيَانِقِ ... لَيْسَ بِأَنْيَابِ وَلَا حَقَائِقِ «1»
يُرِيدُ: جَمْعَ أَيْنُقٍ، وَأَيْنُقٌ: جَمْعُ نَاقَةٍ مَقْلُوبٌ، وَأَصْلُهُ: أَنْوُقٌ، فَقُلِبَ، وَأُبْدِلَتْ الْوَاوُ يَاءً؛ لِأَنّهَا قَدْ أُبْدِلَتْ يَاءً لِلْكِسْرَةِ، إذَا قَالُوا: نِيَاقٌ، وَقَلَبُوهُ فِرَارًا مِنْ اجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ لَوْ قَالُوا: أَنْوُقٌ عَلَى الْأَصْلِ، يُرِيدُ أَنّ الْمَسَدَ مِنْ جُلُودِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِي الْمَدِينَةِ: قَدْ حَرّمْتهَا إلّا لِعُصْفُورِ قَتَبٍ «2» ، أَوْ مَسَدٍ مَحَالَةُ، وَالْمَحَالَةُ: البكرة. وفى حديث آخر:
__________
(1) قبلهما.
إن سرك الإرواء غير سابق ... فاعمل بغرب مثل غرب طارق
أو «فاعجل» ويروى: غير سائق. وأمر: فتل. والرجز لعمارة ابن طارق- أو عمار، أو لعقبة الهجيمى، والأنياب: جمع ناب، وهى الناقة الهرمة، والحقائق جمع: حقة وهى التى دخلت فى السنة الرابعة، يريد: هو جلد ثنية أو رباعية، أو سديس أو بازل.
(2) القتب: جميع أداة السانية أو الساقية «القتب: بفتح القاف والتاء أو بكسر القاف وسكون التاء» والعصفور: الخشب الذى يشد به رؤس الأقتاب.(3/306)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنّهُ حَرّمَهَا بَرِيدًا فِي بَرِيدٍ إلّا الْمِنْجَدَةَ أَوْ مَسَدَ، وَالْمِنْجَدَةُ: عَصَا الرّاعِي.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ: كُلّ مَسَدٍ رِشَاءٌ، وَأَنْشَدَ:
وَبَكْرَةً وَمِحْوَرًا صَرّارَا ... وَمَسَدًا مِنْ أَبَقٍ مُغَارَا
وَالْأَبَقُ: الْقِنّبُ، وَالزّبْرُ: الْكَتّانُ، وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
أَنَزَعُهَا تَمَطّيًا وَمَثّا ... بِالْمَسَدِ الْمَثْلُوثِ أَوْ يَرْمِثَا
فَقَدْ بَانَ لَك بِهَذَا أَنّ الْمَسَدَ حَبْلُ الْبِئْرِ، وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَةِ جَهَنّمَ- أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا- أَنّهَا كَطَيّ الْبِئْرِ لَهَا قَرْنَانِ، وَالْقَرْنَانِ مِنْ الْبِئْرِ: كَالدّعَامَتَيْنِ لِلْبَكَرَةِ، فَقَدْ بَانَ لَك بِهَذَا كُلّهِ، مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التّفْسِيرِ مِنْ صِفَةِ عَذَابِهَا أَعَاذَنَا اللهُ مِنْ عَذَابِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، وَبِهَذَا تُنَاسِبُ الْكَلَامَ، وَكَثُرَتْ مَعَانِيهِ، وَتَنَزّهَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَشْوٌ أَوْ لَغْوٌ- تَعَالَى اللهُ مَنْزِلُهُ؛ فَإِنّهُ كِتَابٌ عَزِيزٌ.
وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ: إنّهَا السّلْسِلَةُ الّتِي ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا لَا يَنْفِي مَا تَقَدّمَ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَرْبِقَ «1» فِي تِلْكَ السّلْسِلَةِ أُمّ جَمِيلٍ وَغَيْرَهَا، فَقَدْ قَالَ أَبُو الدّرْدَاءِ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُمّ الدّرْدَاءِ إنّ لِلّهِ سِلْسِلَةٌ تَغْلِي بِهَا مَرَاجِلُ جَهَنّمَ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ النّارَ إلَى يَوْمِ القيامة، وقد نجاك الله مِنْ نِصْفِهَا بِالْإِيمَانِ بِاَللهِ، فَاجْتَهِدِي فِي النّجَاةِ من النصف الاخر بالحض على طعام المساكين، وكذلك قول مجاهد: إنها
__________
(1) يربقه: يجعل رأسه فى الربقة، وهى العروة فى حبل يشد به اليهم، وفى الأصل: يربق ولم أهتد إلى ضبط البيت السابق(3/307)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كانت تمشى بالنمائم لا ينفى حملها للشوك «1» ، وَهُوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ سَائِغٌ أَيْضًا، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْأَسْلَتِ لقريش حين اختلفوا:
وَنُبّئْتُكُمْ شَرْجَيْنِ «2» كُلّ قَبِيلَةٍ ... لَهَا زُمّلٌ مِنْ بَيْنِ مذك وحاطب
فالمذكى الذى يذكى؟؟؟ العداوة، والحاطب الذى ينم ويغرى كالمحتطب للنار، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَكَأَنّهُ مُنْتَزَعٌ مِنْهُ قَوْلُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ قَتّاتٌ «3» » وَالْقَتّاتُ هُوَ الّذِي يَجْمَعُ الْقَتّ، وَهُوَ مَا يُوقَدُ بِهِ النّارُ مِنْ حَشِيشٍ وَحَطَبٍ صِغَارٍ.
عَنْ الْجِيدِ وَالْعُنُقِ:
وَقَوْلُهُ: فِي جِيدِهَا، وَلَمْ يَقُلْ: فِي عُنُقِهَا، وَالْمَعْرُوفُ أَنْ يُذْكَرَ الْعُنُقَ إذَا ذُكِرَ الْغُلّ، أَوْ الصّفْعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا يس: 8 وَيُذْكَرُ الْجِيدُ إذَا ذُكِرَ الْحُلِيّ أَوْ الْحُسْنُ، فَإِنّمَا حَسُنَ هَهُنَا ذِكْرُ الْجِيدِ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ؛ لِأَنّهَا امْرَأَةٌ، وَالنّسَاءُ تُحَلّي أَجِيَادَهُنّ، وَأُمّ جَمِيلٍ لَا حُلِيّ لَهَا فِي الْآخِرَةِ إلّا الْحَبْلُ الْمَجْعُولُ فِي عُنُقِهَا، فَلَمّا أفيم لَهَا ذَلِكَ مَقَامَ الْحُلِيّ ذُكِرَ الْجِيدَ مَعَهُ، فَتَأَمّلْهُ؛ فَإِنّهُ مَعْنًى لَطِيفٌ، أَلَا تَرَى إلَى قول الأعشى:
يوم تبدي لنا قتيلة عن جيد
__________
(1) فى الأصل: الشرك
(2) الشرج: الضرب، يقال: هما شرج واحد أى: ضرب واحد
(3) رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى، والقتات هو النمام، وقيل هو الذى يتسمع على القوم، وهم لا يعلمون، ثم ينم.(3/308)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ عُنُقٍ، وقول الآخر:
وَأَحْسَنُ مِنْ عُقَدِ الْمَلِيحَةِ جِيدُهَا
وَلَمْ يقل: عنقها، ولو قاله لَكَانَ غَثّا مِنْ الْكَلَامِ، فَإِنّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُ الْجِيدِ حَيْثُ قُلْنَا، وَيَنْظُرُ إلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ آلُ عِمْرَانَ: 21 أَيْ لَا بُشْرَى لَهُمْ إلّا ذَلِكَ، وَقَوْلُ الشّاعِرِ [عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ] :
[وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْت لَهَا بِخَيْلِ] ... تَحِيّةُ بَيْنِهِمْ رب؟؟؟ وجيع
أي: لَا تَحِيّةَ لَهُمْ. كَذَلِكَ قَوْلُهُ: فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ، أَيْ: لَيْسَ ثُمّ جِيدٌ يُحَلّى، إنّمَا هُوَ حَبْلُ الْمَسَدِ، وَانْظُرْ كَيْفَ قَالَ: وَامْرَأَتُهُ، وَلَمْ يَقُلْ:
وَزَوْجُهُ؛ لِأَنّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلِأَنّ التّزْوِيجَ حِلْيَةٌ شَرْعِيّةٌ، وَهُوَ مِنْ أَمْرِ الدّينِ يجردها من هذه الصفة، كما جرد مسها امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ، فَلَمْ يَقُلْ:
زَوْجَ نُوحٍ، وَقَدْ قَالَ لِآدَمَ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْبَقَرَةُ: 35 وَقَالَ لِنَبِيّهِ عَلَيْهِ السّلَامُ: (قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) ، وَقَالَ: (وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ) ، إلّا أَنْ يَكُونَ مُسَاقَ الْكَلَامِ فِي ذِكْرِ الْوِلَادَةِ وَالْحَمْلِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ لَفْظُ الْمَرْأَةِ لَائِقًا بِذَلِكَ الْمَوْطِنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً مَرْيَمُ: 5، 8 فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ الذّارِيَاتُ: 29 لِأَنّ الصّفَةَ الّتِي هِيَ الْأُنُوثَةُ هِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْحَمْلِ وَالْوَضْعِ لَا من حيث كانت زَوْجًا.
غُلُوّ فِي الْوَصْفِ بِالْحُسْنِ فَصْلٌ: وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَى الْجِيدِ قَوْلَ الْأَعْشَى:
يَوْمَ تُبْدِي لَنَا قُتَيْلَة عَنْ ... جِيدِ أَسِيلٍ تَزْيِنُهُ الْأَطْوَاقُ
وَقَوْلُهُ: تَزْيِنُهُ أَيْ: تَزِيدُهُ حَسَنًا، وَهَذَا مِنْ الْقَصْدِ فِي الْكَلَامِ، وَقَدْ أَبَى(3/309)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُوَلّدُونَ إلّا الْغُلُوّ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنْ يَغْلِبُوهُ فَقَالَ فِي الْحَمَاسَةِ حُسَيْنُ بْنُ مُطَيْرٍ [الْأَسَدِيّ] :
مُبَلّلَةُ الْأَطْرَافِ زَانَتْ عُقُودُهَا ... بِأَحْسَنَ مِمّا زِينَتُهَا عُقُودُهَا
وَقَالَ خَالِدٌ الْقَسْرِيّ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ تَكُنْ الْخِلَافَةُ زِينَتُهُ، فَأَنْتَ زِينَتُهَا، وَمَنْ تَكُنْ شَرّفْته، فَأَنْتَ شَرّفْتهَا، وَأَنْتَ كَمَا قَالَ [مَالِكُ ابْنُ أَسَمَاءَ] :
وَتَزِيدِينَ أَطْيَبَ الطّيبِ طِيبًا ... إنّ تَمَسّيهِ، أَيْنَ مِثْلُك أَيْنَا
وإذا الدّرّزان حُسْنَ وُجُوهٍ ... كَانَ لِلدّرّ حَسَنُ وَجْهِك زَيْنَا!
فَقَالَ عُمَرُ: إنّ صَاحِبَكُمْ أَعْطَى مَقُولًا، وَلَمْ يُعْطِ مَعْقُولًا، قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَإِنّمَا لَمْ يَحْسُنْ هَذَا مِنْ خَالِدٍ لَمّا قَصَدَ بِهِ التّمَلّقَ، وَإِلّا فَقَدْ صَدَرَ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ الصّدّيقِ، فَحَسُنَ لِمَا عَضّدَهُ مِنْ التّحْقِيقِ وَالتّحَرّي لِلْحَقّ، وَالْبَعْدِ عَنْ الْمَلَقِ وَالْخِلَابَةِ، وَذَلِكَ حِينَ عَهِدَ إلَى عُمَرَ بِالْخِلَافَةِ، وَدَفَعَ إلَيْهِ عَهْدَهُ مَخْتُومًا، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَا فِيهِ، فَلَمّا عَرَفَ مَا فِيهِ رَجَعَ إلَيْهِ حَزِينًا كَهَيْئَةِ الثّكلى: يقول: حملتى عِبْئًا أَلّا أَضْطَلِعُ بِهِ، وَأَوْرَدْتنِي مَوْرِدًا لَا أَدْرِي: كَيْفَ الصّدْرُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ الصّدّيقُ: مَا آثَرْتُك بِهَا، وَلَكِنّي آثَرْتهَا بِك، وَمَا قَصَدْت مُسَاءَتَك، وَلَكِنْ رَجَوْت إدْخَالَ السّرُورِ عَلَى المؤمنين بك، ومن ههنا أَخَذَ الْحُطَيْئَة قَوْلُهُ:
مَا آثَرُوك بِهَا إذْ قَدّمُوك لَهَا ... لَكِنْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِهَا الْإِثْرُ «1»
__________
(1) أنشده اللسان وقال: وكأن الإثر: جمع الإثرة، وهى الأثرة. وفى الأغانى فى أخبار الحطيئة: أن الحطيئة أنشد هذه القصيدة التى منها هذا البيت حين شفع فيه عمرو بن العاص، فأخرجه عمر من محبسه ومنها:
ماذا تقول لأفراخ بذى مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر(3/310)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ سَبَكَ هَذَا الْمَعْنَى فِي النّسِيبِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبّاسٍ الرّومِيّ، فَقَالَ:
وَأَحْسَنُ مِنْ عقد المليحة جيدها ... وأحسن من سر بالها الْمُتَجَرّدُ
وَمِمّا هُوَ دُونَ الْغُلُوّ، وَفَوْقَ التّقْصِيرِ قَوْلُ الرّضِيّ:
حَلْيُهُ جِيدُهُ، لَا مَا يُقَلّدُهُ ... وَكُحْلُهُ مَا بِعَيْنَيْهِ مِنْ الْكُحْلِ
وَنَحْوٌ مِنْهُ مَا أَنْشَدَهُ الثّعَالِبِيّ:
وَمَا الْحَلْيُ إلّا حِيلَةٌ مِنْ نَقِيصَةٍ ... يُتَمّمُ مِنْ حُسْنٍ إذَا الْحُسْنُ قَصّرَا
فَأَمّا إذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفّرًا ... فَحَسْبُك لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُزَوّرَا
وَسَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمّدَ بْنَ الْعَرَبِيّ يَقُولُ: حَجّ أبو الفضل الجوهرى الزاهد ذت مَرّةٍ، فَلَمّا أَشْرَفَ عَلَى الْكَعْبَةِ، وَرَأَى مَا عَلَيْهَا مِنْ الدّيبَاجِ تَمَثّلَ، وَقَالَ:
مَا عَلّقَ الْحُلِيّ عَلَى صَدْرِهَا ... إلّا لِمَا يُخْشَى مِنْ الْعَيْنِ
تَقُولُ وَالدّرّ عَلَى نَحْرِهَا ... مَنْ عَلّقَ الشّيْن عَلَى الزّيْنِ
وَبَيْتُ الْأَعْشَى الْمُتَقَدّمُ بَعْدَهُ:
__________
- وقبل البيت الذى رواه السهيلى:
أنت الإمام الذى من بعد صاحبه ... ألقى إليك مقاليد النهى البقر؟؟؟
وروايته فى الأغانى: «كانت بك الإثر؟؟؟» وهى أشق؟؟؟. وللبيت رواية أخرى
مَا آثَرُوك بِهَا إذْ قَدّمُوك لَهَا ... لَكِنْ بها استاثروا إذ كانت الإبر(3/311)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَشَتِيتٍ كَالْأُقْحُوَانِ جَلّاهُ ... الطّلّ فِيهِ عُذُوبَةٌ وَاتّسَاقُ
وَأَثِيثٍ جَثْلِ النّبَاتِ تَرْوِي ... هـ لَعُوبٌ غَرِيرَةٌ مفتاق
حرّة طفلة الأنامل كالدّم ... ية لَا عَانِسٌ وَلَا مِهْزَاقُ
الْفِهْرُ:
وَذَكَرَ قَوْلَ أُمّ جَمِيلٍ لِأَبِي بَكْرٍ: لَوْ وَجَدْت صَاحِبَك لَشَدَخْت رَأْسَهُ بِهَذَا الْفِهْرِ. الْمَعْرُوفُ فِي الْفِهْرِ: التأنيث، وتصغيره فهيرة، ووقع ههنا مذكرا «1» .
__________
(1) فى المعجم الوسيط أنه يذكر ويؤنث، وهو- كما فى القاموس- الحجر قدر ما يدق به الجوز، أو ما يملأ الكف، ويرى الخشنى فى شرح السيرة أنه يذكر ويؤنث، واسم امرأة أبى لهب: أروى. ويقول المصعب فى نسب قريش أن أبا لهب كان يكنى بأسماء بنيه كلهم وهم عتبة ومعتب وعتيبة، وكنى بأبى لهب لإشراق وجهه، وكل أولاده من أم جميل التى يقول فيها الأحوص الشاعر الأنصارى:
كل الحبال حبال الناس من شعر ... وحبلها وسط أهل النار من مسد
وقال ابن كثير: «وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده: فلهذا تكون يوم القيامة عونا عليه فى عذابه فى نار جهنم» . وعن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والثورى والسدى- واختاره ابن جرير- أنها كانت تمشى بالتميمة، وقال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة. فقالت: لأنفقتها فى عداوة محمد- يعنى، فأعقبها الله منها حبلا فى جيدها من مسد النار، وقيل: إنها كانت عوراء وقد روى حديث مجيئها إلى رسول الله وأبى بكر وعدم رؤيتها للنبى «ص» البزار بسنده عن ابن عباس، وروى قريبا منه ابن أبى حاتم بسنده عن أسماء. وقد تحقق ما أخبر به الله. فلم يؤمن أبو لهب وامرأته. وأبيات شعرها: «مذمما الخ» مروة فى كتب أخرى مختلفة الترتيب عما هنا وأخرج ابن أبى حاتم عن عثمان وابن عمر قالا: ما زلنا نسمع أن ويل لكل همزة نزلت فى أبى بن خلف، وأخرج عن السدى أنها نزلت فى الأخنس بن شريق، وأخرج ابن جرير عن-(3/312)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَوْلَ قَوْلِهِمْ: مُذَمّمٌ وَحَدِيثُ خَبّابٍ:
وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَرَوْنَ إلَى مَا يَدْفَعُ اللهُ عَنّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ، يَشْتُمُونَ وَيَهْجُونَ مُذَمّمًا وَأَنَا مُحَمّدٌ؟!، وَأَدْخَلَ النّسَوِيّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الطّلَاقِ فِي بَابِ: «مَنْ طَلّقَ بِكَلَامِ لَا يُشْبِهُ الطّلَاقَ، فَإِنّهُ غَيْرُ لَازِمٍ» وَهُوَ فِقْهٌ حَسَنٌ لِقَوْلِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تَرَوْنَ إلَى مَا يَدْفَعُ اللهُ عَنّي، فَجَعَلَ أَذَاهُمْ مَصْرُوفًا عَنْهُ، لِمَا سَبّوا مُذَمّمًا، وَمُذَمّمًا لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا: كُلِي وَاشْرَبِي، وَأَرَادَ بِهِ الطّلَاقَ لَمْ يَلْزَمْهُ. وَكَانَ مَصْرُوفًا عَنْهُ؛ لِأَنّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَبّارَةً عَنْ الطّلَاقِ.
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ خَبّابٍ «1» مَعَ العاصى بْنِ وَائِلٍ، وَمَا أَنَزَلَ اللهُ فِيهِ مِنْ قوله: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقَدْ تَقَدّمَ الْكَلَامُ عَلَى: أَرَأَيْت، وَأَنّهُ لَا يجوز أن يليها الاستفهام، كما بلى: علمت ونحوها، وهى ههنا: عَامِلَةٌ فِي الّذِي كَفَرَ، وَقَدْ قَدّمْنَا مِنْ القول فيها ما يغنى عن إعادته ههنا، فَلْيُنْظَرْ فِي سُورَةِ: اقْرَأْ، وَحَدِيثِ نُزُولِهَا
سَدّ الذّرَائِعِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي جَهْلٍ لَتَكُفّنّ عَنْ سَبّ آلِهَتِنَا أَوْ لَنَسُبّنّ إلَهَك، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى «2» وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ
__________
- رجل من أهل الرقة أنها نزلت فى جميل بن عامر الجمحى، وقد روى ابن المنذر عن ابن إسحاق أنها فى حق أمية كما فى السيرة.
(1) حديث خباب أخرجه الشيخان والترمذى وأحمد.
(2) نسب إلى على بن أبى طالب أنه روى عن ابن عباس أن الذى اقترف-(3/313)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ «الْأَنْعَامُ: 108» الْآيَةَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيّة فِي إثْبَاتِ الذّرَائِعِ وَمُرَاعَاتِهَا فِي الْبُيُوعِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ أَنّ سَبّ آلِهَتِهِمْ كَانَ مِنْ الدّينِ، فَلَمّا كَانَ سَبَبًا إلَى سَبّهِمْ الْبَارِيَ- سُبْحَانَهُ- نَهَى عَنْ سَبّ آلِهَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ مَا يَخَافُ مِنْهُ الذّرِيعَةَ إلَى الرّبَا، يَنْبَغِي الزّجْرُ عَنْهُ، وَمِنْ الذّرَائِعِ مَا يَقْرُبُ مِنْ الْحَرَامِ، وَمِنْهَا مَا يَبْعُدُ فَتَقَعُ الرّخْصَةُ وَالتّشْدِيدُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ الشّافِعِيّ الذّرِيعَةَ إلَى الْحَرَامِ أَصْلًا، وَلَا كَرِهَ شَيْئًا مِنْ الْبُيُوعِ الّتِي تُتّقَى فِيهَا الذّرِيعَةُ إلَى الرّبَا، وَقَالَ: تُهْمَةُ الْمُسْلِمِ وَسُوءُ الظّنّ بِهِ حَرَامٌ، وَمِنْ حُجّتِهِمْ: قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ: إنّمَا الرّبَا عَلَى مَنْ قَصَدَ الرّبَا، وَقَوْلُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: «إنّمَا الْأَعْمَالُ بِالنّيّاتِ، وَإِنّمَا لِكُلّ امْرِئِ مَا نَوَى «1» » فِيهِ أَيْضًا مُتَعَلّقٌ لَهُمْ، وَقَالُوا: وَنَهْيُهُ تَعَالَى عَنْ سَبّ آلِهَتِهِمْ، لِئَلّا يُسَبّ اللهُ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ لِمُؤْمِنِ وَلَا تَضْيِيقَ عَلَيْهِ، وَكَمَا تُتّقَى الذّرِيعَةُ
__________
- هذا إنما هم جماعة من المشركين لا أبو جهل وحده. وذكر عبد الرازق أن المسلمين هم الذين كانوا يسبون أصنام الكفار. فيسب الكفار الله عدوا. والاية تفيد ذلك
(1) زعم البعض أن هذا الحديث متواتر. وهذا خطأ إذ لم يروه عن النبى «ص» إلا عمر. ولم يروه عن عمر إلا علقمة، ولم يروه عن علقمة إلا محمد ابن إبراهيم ولم يروه عنه الا يحيى بن سعيد الأنصارى، وعنه انتشر. فقيل رواه عنه أكثر من مائتى راو. وقيل: سبعمائة. من أعيانهم: مالك والثورى والأوزاعى والليث بن سعد وغيرهم. وقد روى هذا الحديث البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن ماجة وأحمد والدار قطنى وابن حبان والبيهقى، ولم يخرجه مالك فى الموطأ. ولكن ابن منده يزعم أن أكثر من صحابى رواه غير أنه اتفق على أنه لا يصح مسندا إلا من رواية عمر.(3/314)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلَى تَحْلِيلِ مَا حَرّمَ اللهُ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُتّقَى تَحْرِيمُ مَا أَحَلّ اللهُ، فَكِلَا الطّرَفَيْنِ ذَمِيمٌ، وَأَحَلّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا، وَالرّبَا مَعْلُومٌ، فَمَا لَيْسَ مِنْ الرّبَا فَهُوَ مِنْ الْبَيْعِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلطّائِفَتَيْنِ، وَالِاحْتِجَاجُ لِلْفَرِيقَيْنِ يَتّسِعُ مِجَالُهُ وَيَصُدّنَا عَنْ مَقْصُودِنَا من الكتاب «1» .
__________
(1) فصل الإمام ابن تيمية القول تفصيلا فى هذه المسألة فى كتابه القيم «إقامة الدليل على إبطال التحليل» المطبوع مع مجموعة فتاويه فقال: «إن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها، ونهى عنها. والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشىء، لكن صارت فى عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة؛ ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذى ظاهره أنه مباح، وهو وسيلة إلى فعل المحرم، أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا كإفضاء شرب الخمر إلى السكر، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه. أو كان الشىء نفسه فسادا كالقتل والظلم فهذا ليس من هذا الباب، فإنا نعلم أنما حرمت الأشياء لكونها فى نفسها فسادا بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه، أو لكونها مفضية إلى فساد بحيث تكون هى فى نفسها فيها منفعة، وهى مفضية إلى ضرر أكثر منه، فتحرم فان كان ذلك الفساد فعل محظور سميت: ذريعة، وإلا سميت سببا ومقتضيا، ونحو ذلك من الأسماء المشهورة. ثم هذه الذرائع إذا كانت تقضى إلى المحرم غالبا، فإنه يحرمها مطلقا، وكذلك إن كانت قد تفضى، وقد لا تفضى، لكن الطبع متقاض لإفضائها، وأما إن كانت إنما تفضى أحيانا، فان لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل، وإلا حرمها أيضا، ثم هذه الذرائع منها ما يفضى إلى المكروه بدون قصد فاعلها، ومنها ما تكون إباحتها مغضبة للتوسل بها الى المحارم، فهذا القسم الثانى يجامع الحيل بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة، وقد لا يقترن، كما أن-(3/315)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَرُسْتُم:
فَصْلٌ: حَدِيثُ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَقَالَ فِي نَسَبَهُ: كَلَدَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ النّسّابِ يَقُولُ: عَلْقَمَةُ بْنُ كَلَدَةَ «1» ، وَكَذَلِكَ أَلْفَيْته فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشيخ
__________
- الحيل قد تكون بالذرائع، وقد تكون بأسباب مباحة فى الأصل ليست ذرائع، فصارت الأقسام ثلاثة: الأول: ما هو ذريعة وهو مما يحتال به كالجمع بين البيع والسلف، وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة، وبأكثر أخرى. الثانى: ما هو ذريعة لا يحتال بها كسب الأوثان. فانه ذريعة إلى سب الله تعالى، وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى أن يسب والده، وإن كان هذان لا يقصدهما مؤمن. الثالث: ما يحال به من المباحات فى الأصل كبيع النصاب فى أثناء الحول فرارا من الزكاة، وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة. والغرض هنا أن الذرائع حرمها الشارع، وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم، فاذا قصد بالشىء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع. وللشريعة أسرار فى سد الفساد، وجسم مادة الشر لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس، وبما يخفى على الناس من خفى هداها الذى لا يزال يسرى فيها حتى يقودها إلى الهلكة. فمن تحذلق على الشارع، واعتقد فى بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا، وتلك العلة مقصودة. فاستباحه بهذا التأويل. فهو ظلوم لنفسه، جهول بأمر ربه، وهو إن نجا من الكفر، لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقيه فى الدين، وعدم بصيرة أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر، فنذكر منها ما حضر» ثم أتى الإمام بثلاثين شاهدا أو دليلا على هذا استغرقت ست صفحات. فانظرها فى كتابه ص 256 وما بعدها. ح 3 الفتاوى الكبرى لأبى العباس تقى الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرانى نشر دار الكتب الحديثة.
(1) ورد نسبه هكذا فى نسب قريش فى ص 255.(3/316)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبِي بَحْرٍ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، وَحَدِيثُ النّضْرِ: أنه تعلم أخبار رستم واسبندياذ، وَكَانَ يَقُولُ: اكْتَتَبْتهَا كَمَا اكْتَتَبَهَا مُحَمّدٌ، وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ: اكْتَتَبَهَا كَمَا اكْتَتَبَهَا مُحَمّدٌ، وَفِي الرواية الأخرى عن أبى الوليد: اكتتبها «1» كَمَا اكْتَتَبَهَا، وَرُسْتُم الشّيْد «2» بِالْفَارِسِيّةِ مَعْنَاهُ: ذُو الضّيَاءِ، وَالْيَاءُ فِي الشّيْد وَالْأَلِفُ سَوَاءٌ، وَمِنْهُ «أرفخشاذ» وَقَدْ تَقَدّمَ شَرْحُهُ، وَمِنْهُ «جَمّ شَاذّ» ، وَهُوَ مِنْ أَوّلِ مُلُوكِ «الْأَرْضِ، وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ الضّحّاكُ «بيوراسب» ، ثُمّ عَاشَ إلَى مُدّةِ «أفريذون وَأَبِيهِ جَمّ» ، وَبَيْنَ «أفريذون» وَبَيْنَ «جَمّ» تِسْعَة آبَاءٍ، وَقَالَ لَهُ حِينَ قَتَلَهُ: مَا قَتَلْتُك بِجَمّ، وَمَا أَنْتَ لَهُ بِكُفْءِ، وَلَكِنْ قَتَلْتُك بِثَوْرِ كَانَ فِي دَارِهِ، وَقَدْ تَقَدّمَ طرف من أخبار رستم واسبندياذ فِي الْجُزْءِ قَبْلَ هَذَا.
حَدِيثُ ابْنِ الزّبَعْرَى وعزيز:
وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ الزّبَعْرَى، وَقَوْلُهُ: إنّا نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَأَنّ النّصَارَى تَعْبُدُ الْمَسِيحَ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَمَا أَنَزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الْآيَةَ قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَلَوْ تَأَمّلَ ابْنُ الزّبَعْرَى وَغَيْرُهُ مِنْ كُفّارِ قُرَيْشٍ الْآيَةَ لَرَأَى اعْتِرَاضَهُ غير لازم من وجهين:
__________
(1) فى السيرة التى معى: رواية أبى الوليد.
(2) فى السيرة: الشديد. هذا ويذكر ابن جرير أن النبى «ص» قتل عقبة بن أبى معيط، وطعمة بن عدى والنضر بن الحارث يوم بدر صبرا، وأن المقداد هو الذى أسر النضر، فلما أمر الرسول بقتله، قال المقداد: يا رسول الله أسيرى، فقال رسول الله «ص» إنه كان يقول فى كتاب الله ما يقول. هذا والمحضا: ما تحرك به النار، واحتضأ النار: ألهبها وسعرها.(3/317)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا: أَنّهُ خِطَابٌ مُتَوَجّهٌ عَلَى الْخُصُوصِ لِقُرَيْشِ وَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، وَقَوْلُهُ إنّا نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ حَيْدَةً، وَإِنّمَا وَقَعَ الْكَلَامُ والمحاجة في اللات وَالْعُزّى وَهُبَلَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ.
وَالثّانِي: أَنّ لفظ التلاوة: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ وَلَمْ يَقُلْ: وَمَنْ تَعْبُدُونَ، فَكَيْفَ يَلْزَمُ اعْتِرَاضُهُ بِالْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ وَهُمْ يَعْقِلُونَ، وَالْأَصْنَامُ لَا تَعْقِلُ، وَمِنْ ثُمّ جَاءَتْ الْآيَةُ بِلَفْظِ: مَا الْوَاقِعَةِ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ، وَإِنّمَا تَقَعُ مَا عَلَى مَا يَعْقِلُ، وَتُعْلَمُ بِقَرِينَةِ مِنْ التّعْظِيمِ وَالْإِبْهَامِ، وَلَعَلّنَا نَشْرَحُهَا وَنُبَيّنُهَا فِيمَا بَعْدُ إنّ قُدّرَ لَنَا ذَلِكَ، وَسَبَبُ عِبَادَةِ النّصَارَى للمسيح معروف، وأما عبادة اليهود عزيزا، وَقَوْلُهُمْ فِيهِ: إنّهُ ابْنُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ، وَسَبَبُهُ فِيمَا ذَكَرَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْكَشّيّ، أَنّ التّوْرَاةَ لَمّا احْتَرَقَتْ أَيّامَ بُخْتَ نَصّرَ «1» ، وَذَهَبَ بِذَهَابِهَا دِينُ الْيَهُودِ، فَلَمّا ثَابَ إلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ وَجُدُوا لِفَقْدِهَا أَعْظَمَ الْكَرْبِ، فبينما عزيز يَبْكِي لِفَقْدِ التّوْرَاةِ، إذْ مَرّ بِامْرَأَةِ جَاثِمَةٍ عَلَى قَبْرٍ قَدْ نَشَرَتْ شَعْرَهَا، فَقَالَ لَهَا عُزَيْرٌ: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا إيلْيَا أُمّ الْقُرَى أَبْكِي عَلَى وَلَدِي، وَأَنْتَ تَبْكِي عَلَى كِتَابِك، وَقَالَتْ لَهُ: إذَا كَانَ غَدًا، فَأْتِ هَذَا الْمَكَانَ، فَلَمّا أَنْ جَاءَ مِنْ الْغَدِ لِلسّاعَةِ الّتِي وَعَدَتْهُ، إذَا هُوَ بِإِنْسَانِ خَارِجٍ من الأرض فى يده كهيئة
__________
(1) ضبط كتاب أدب الكاتب لابن قتيبة بخت نصر فتح الباء وضم التاء. والمعروف المشهور ما ضبطه به، يقول شهاب الدين أحمد الخفاجى فى شفاء الغليل عن بختنصر إنه بضم الباء، واسمه معرب مركب كحضر موت أو بعليك نص عليه سيبويه. وهو عند ابن السيد معرب بوخت بمعنى: ابن، ونصر: اسم صنم وجد عنده، وسمى به إذ لم يعرف له أب.(3/318)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقَارُورَةِ، فِيهَا نُورٌ، فَقَالَ لَهُ: افْتَحْ فَاك، فَأَلْقَاهَا فِي جَوْفِهِ، فَكَتَبَ عُزَيْرٌ التّوْرَاةَ- كَمَا أنزلها الله، ثم قدر على التوراة بعد ما كَانَتْ دُفِنَتْ أَنْ ظَهَرَتْ، فَعُرِضَتْ التّوْرَاةُ، وَمَا كَانَ عُزَيْرٌ كَتَبَ، فَوَجَدُوهُ سَوَاءَ، فَمِنْهَا قَالُوا: إنّهُ وَلَدُ اللهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ «1» .
حَصَبُ جَهَنّمَ:
وَقَوْلُهُ حَصَبُ جَهَنّمَ، هُوَ مِنْ بَابِ الْقَبْضِ وَالنّفْضِ «2» وَالْحَصْبُ بِسُكُونِ الصّادِ كَالْقَبْضِ وَالنّفْضِ، وَمِنْهُ الْحَاصِبُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً وَيُرْوَى: حَضَبُ جَهَنّمَ بِضَادِ مُعْجَمَةٍ فِي شَوَاذّ القراآت، وَهُوَ مِنْ حَضَبَتْ النّارُ «3» بِمَنْزِلَةِ حَضَأْتهَا، يُقَالُ: أرّثتها وأثقبتها وحششتها وأذكيتها وفسر ابن إسحق قَوْلَهُ: يَصُدّونِ، وَمَنْ قَرَأَ: يَصِدّونَ فَمَعْنَاهُ: يَعْجَبُونَ «4» .
__________
(1) لا شك فى أنها فرية يهودية. فعزرا الكاهن اليهودى الأكبر هو الذى عبث بالتوراة أيام الأسر، ودس فيها ما دس بعد أن أحرقت، وراح هو يمليها من حفظه وهواه. وذلك بشهادة كبار مؤرخى الغرب مثل «ول. ديورانت»
(2) يعنى أنه فعل «بفتح الفاء والعين» بمعنى مفعول، فالنفض بمعنى منفوض وحصب وقبض كذلك. يقول الأزهرى: «الحصب: الحطب الذى يلقى فى تنور أو فى وقرد. أما ما دام غير مستعمل للسجور، فلا يسمى حصبا»
(3) فى اللسان: الحضب: الحطب فى لغة اليمن، وقيل: هو كل ما ألقى فى النار من حطب وغيره، يهيجها به، وحضب النار يحضبها: رفعها. وقال الكسائى حضبت النار إذا خبت، فألقيت عليها الحطب، لتقد، والمحضب: المسعر، وهو عود تحرك به النار.
(4) قراءة المصحف بكسر الصاد أى يصيحون فرحا. وقرأ نافع وابن عامر والكسائى بضم الصاد وهو من الصدود أى عن الحق، وقيل: هما لغتان مثل يعكف ويعكف بكسر عين الفعل وضمها، وقد أخرج حديث ابن الزبعرى-(3/319)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَا نَزَلَ فِي الْأَخْنَسِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مَا أَنَزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ- وَاسْمُهُ: أُبَيّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ وَقَدْ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَدْ قِيلَ: فِي الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الزّهْرِيّ، وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُ زَنَمَتَانِ كَزَنَمَتَيْ الشّاةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْهُ «1» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنّهُ قال: الزنيم الذى زنمتان من الشر يُعْرَفُ بِهَا، كَمَا تُعْرَفُ الشّاةُ بِزَنَمَتِهَا، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَيْضًا مِثْلُ مَا قَالَ ابن إسحق أَنّ الزّنِيمَ الْمُلْصَقُ بِالْقَوْمِ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ، قَالَ ذلك بن الأزرق الحرورى «2» ، وقال: أما سمعت قول
__________
- ابن مردويه. وعند ابن أبى حاتم أنها نزلت لما قال المشركون: فالملائكة وعزيز وعيسى يعبدون، وروى الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس فى سبب نزول: «ولما ضرب ابن مريم مثلا» أنه قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير. وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى بن مريم: عليهما الصلاة والسلام. وما تقول فى محمد- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ. ألست تزعم أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا، فان كنت صادقا كان آلهتهم كما يقولون قال: فأنزل الله عز وجل: «ولما ضرب ابن مريم مثلا» ، الاية. ورواه ابن أبى حاتم مع اختلاف يسير.
(1) رواه البخارى فى باب التفسير: «له زنمة مثل الشاة» وأخرجه الحاكم بطريق أخرى نحوه
(2) نسبة إلى حروراء موضع على ميلين من الكوفة. وكان أول اجتماع الخوارج به، فنسبوا إليه، منهم: عمران بن حطان وخلق كثير. وهذا النسب شاذ فان الاسم الذى آخره همزة بعد ألف للتأنيث، تقلب الهمزة فيه واوا، وشذ عن القاعدة عدة أسماء منها: صنعانى وبهرانى وروحانى، وجلولى وحرورى نسبة إلى صنعاء، وبهراء قبيلة من قضاعة، وروحاء موضع قرب المدينة وجلولاء وحروراء وهما موضعان بالعراق، وسيأتى(3/320)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَسّانَ: زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرّجَالُ «1» الْبَيْتَ، وَقَدْ أَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ هَذَا الْبَيْتَ مُسْتَشْهِدًا بِهِ وَنَسَبَهُ لِلْخَطِيمِ التّمِيمِيّ، وَالْأَعْرَف أَنّهُ لِحَسّانَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ «2» ، وَأَمّا الْعُتُلّ فَهُوَ الْغَلِيظُ الْجَافِي مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ [إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ] الدّخَانُ: 47. وَقَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ: «أَنَا أُنَبّئُكُمْ بِأَهْلِ النّارِ:
كُلّ عُتُلّ جَوّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ جَمّاعٍ منّاع» «3» .
__________
(1) قال أبو عبيدة: الزنيم المعلق فى القوم ليس منهم، قال الشاعر: زنيم ليس يعرف من أبوه. وقال حسان: وأنت زنيم ليط فى آل هاشم. قال: ويقال للتيس: زنيم له زنمتان ص 538 ح 8 فتح البارى. ومعنى حديث البخارى أن الرجل كان مشهورا بالسوء كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين أخواتها. وبقية بيت حسان: «كما نيط خلف الراكب القدح الفرد» وبقية بيت: «زنيم ليس يعرف» يغى الأم ذو حسب لئيم.
(2) روى ابن أبى حاتم بسنده عن ابن عباس فى قوله زنيم: قال: الدعى الفاحش اللئيم، ثم قال ابن عباس: «زنيم تداعاه الرجال» البيت. ويقول ابن كثير قولا جامعا، «والأقوال فى هذا- أى فى معنى زنيم- كثيرة وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو المشهور بالشر الذى يعرف به من بين الناس، وغالبا يكون دعيا ولد زنا، فإنه فى الغالب يتسلط الشيطان عليه، ما لا يتسلط على غيره» والزنمة: شىء يكون للمعز فى آذانها كالقرط، وهى أيضا شىء يقطع من أذن العير ويترك معلقا.
(3) فى رواية أحمد عن وكيع: «ألا أنبئكم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر» وقال وكيع: «كل جواظ جعظرى مستكبر» أخرجاه فى الصحيحين وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث سفيان الثورى وشعبة، كلاهما عن سعيد ابن خالد به، ورواه أحمد بسند تفرد به عن عمرو بن العاص أن النبى «ص» قال عند ذكر أهل النار: «كل جعظرى جواظ مستكبر جماع مناع» ورواه بسند(3/321)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَهُمْ الّذِي أَنَزَلَ اللهُ فِيهِ: قُلْ: يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلَى آخِرِهَا فَقَالَ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أَيْ: فِي الْحَالِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ أَيْ: فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَذَلِكَ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَقُولُ لَهُمْ: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَهُمْ قَدْ قَالُوا: هَلُمّ فَلْنَعْبُدْ رَبّك، وَتَعْبُدُ رَبّنَا، كَيْفَ نَفَى عَنْهُمْ مَا أَرَادُوا وَعَزَمُوا عَلَيْهِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
__________
آخر عن عبد الرحمن بن غنم: أن الرسول «ص» قال عن العتل الزنيم: «الشديد الخلق المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس رحيب الجوف» . الجعظرى بفتح الجيم وسكون العين وفتح الظاء وكسر الراء وتشديد الياء: الفظ الغليظ والجواظ بفتح الجيم وتشديد الواو: الضخم المختال والكثير الكلام والجلبة فى الشر. ويقول ابن كثير عما ذكر من سبب نزول: «ويوم بعض الظالم على يديه» : «وسواء أكان سبب نزولها فى عقبة أو غيره فإنها عامة فى كل ظالم، فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم، ويعض على يديه» وهو قول جميل، وقيل: إن العظيمين فيما جاء فى السيرة من سبب نزول: «لَوْلَا نُزّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القريتين عظيم» إنهما الوليد بن المغيرة وكنانة بن عبد عمرو بن عمير الثقفى. وعن ابن عباس أنهم يعنون جبارا من جبابرة قريش. والقريتان هما: مكة والطائف. وجميل قول ابن كثير: «والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أى البلدتين كان» وجميل منه أيضا أن يقول عن سبب نزول: «وضرب لنا مثلا ونسى خلقه» «هى عامة فى كل من أنكر البعث واللام والألف فى الإنسان للجنس يعم كل منكر للبعث» فقد اختلف فى شأن سبب نزولها فابن أبى حاتم ينسب القصة إلى العاصى بن وائل، وذكر ابن جرير من بين ما ذكر أنه عبد الله ابن أبى، غير أن هذا منكر؛ لأن ابن أبى مدنى والاية مكية(3/322)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا: أَنّهُ عَلِمَ أَنّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ، فَأَخْبَرَ بِمَا عَلِمَ. الثّانِي: أَنّهُمْ لَوْ عَبَدُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي قَالُوهُ مَا كَانَتْ عِبَادَةً، وَلَا يُسَمّى عَابِدًا لِلّهِ مَنْ عَبَدَهُ سَنَةً، وَعَبَدَ غَيْرَهُ أُخْرَى، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ أَعْبُدُ، وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيّةِ: إنّ مَا تَقَعُ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ، فَكَيْفَ عَبّرَ بِهَا عَنْ الْبَارِي تَعَالَى؟
فَالْجَوَابُ: أَنّا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلُ أَنّ مَا قَدْ تَقَعُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ بِقَرِينَةِ، فَهَذَا أَوَانُ ذِكْرِهَا، وَتِلْكَ الْقَرِينَةُ: الْإِبْهَامُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي التّعْظِيمِ وَالتّفْخِيمِ، وَهِيَ فِي مَعْنَى الْإِبْهَامِ «1» لِأَنّ مَنْ جَلّتْ عَظَمَتُهُ، حَتّى خَرَجَتْ عَنْ الْحَصْرِ، وَعَجَزَتْ الْأَفْهَامُ عَنْ كُنْهُ ذَاتِهِ، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: هُوَ مَا هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: سُبْحَانَ مَا سَبّحَ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَمِنْهُ قوله: وَالسَّماءِ وَما بَناها «2» فَلَيْسَ كَوْنُهُ عَالِمًا مِمّا يُوجِبُ لَهُ مِنْ التّعْظِيمِ مَا يُوجِبُ لَهُ أَنّهُ بَنَى السّمَوَاتِ، ودحا الأرض، فكان المعنى: إنه
__________
(1) ما: اسم مبهم غاية الإبهام حتى إنها تقع على كل شىء، وتقع على ما ليس بشىء. فيجوز أن تقول: إن الله يعلم ما كان، وما لم يكن
(2) ويقول ابن القيم عن هذا: «لأن القسم تعظيم للمقسم به، واستحقاقه للتعظيم من حيث ما أظهر هذا الخلق العظيم الذى هو السماء. ومن حيث سواها وزينها بحكمته فاستحق التعظيم. وثبت قدرته، فلو قال: ومن بناها لم يكن فى اللفظ دليل على استحقاقه القسم من حيث اقتدر على بنائها، ولكان المعنى مقصورا على ذاته ونفسه، دون الإيماء إلى أفعاله الدالة على عظمته المبئة عن حكمته، المفصحة باستحقاقه للتعظيم من خليقته، وكذلك قولهم: سبحان ما يسبح الرعد بحمده، لأن الرعد صوت عظيم من جرم عظيم، والمسبح به لا محالة أعظم، فاستحقاقه للتسبيح من حيث يستحقه العظيمات من خلقه، لا من حيث كان يعلم، ولا تقل يعقل فى هذا الموضع» .(3/323)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَيْئًا بَنَاهَا لَعَظِيمٌ، أَوْ مَا أَعْظَمَهُ مِنْ شَيْءٍ! فَلَفْظُ مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُؤْذِنُ بِالتّعَجّبِ مِنْ عَظَمَتِهِ كَائِنًا مَا كَانَ هَذَا الْفَاعِلُ لِهَذَا، فَمَا أَعْظَمَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصّةِ آدَم: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «1» وَلَمْ يَقُلْ: لِمَنْ خَلَقْت، وَهُوَ يَعْقِلُ، لِأَنّ السّجُودَ لَمْ يَجِبْ لَهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَعْقِلُ، وَلَا مِنْ حَيْثُ كَانَ لَا يَعْقِلُ، وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ أُمِرُوا بِالسّجُودِ لَهُ، فَكَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ مَا أُمِرُوا بِهِ، فَمِنْ هَاهُنَا حَسُنَتْ مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لَا مِنْ جِهَةِ التّعْظِيمِ لَهُ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ مِنْ السّجُودِ لَهُ، فَكَائِنًا مَنْ كَانَ، وَأَمّا قوله تعالى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ فَوَاقِعَةٌ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنّهُمْ كَانُوا
__________
(1) ويقول ابن القيم عن استعمال ما فى الاية: «هذا كلام؟؟؟ فى معرض التوبيخ والتبكيت للعين على امتناعه عن السجود، ولم يستحق هذا التبكيت والتوبيخ حيث كان السجود لمن يعقل، ولكن للمعصية والتكبر على ما لم يخلقه؛ إذ لا ينبغى التكبر لمخلوق على مثله، إنما التكبر للخالق وحده، فكأنه يقول سبحانه: لم عصيتنى وتكبرت على ما لم تخلقه، وخلقته أنا. وشرفته، وأمرتك بالسجود له؟ فهذا موضع ما؛ لأن معناها أبلغ ولفظها أعم، وهو فى الحجة أوقع، وللعذر والشبهة أقطع، فلو قال: ما منعك أن تسجد لمن خلقت، لكان استفهاما مجردا من توبيخ وتبكيت، ولتوهم أنه وجب السجود لله من حيث كان يعقل ولعلة موجودة فى ذاته وعينه، وليس المراد كذلك، وإنما المراد توبيخه وتبكيته على ترك سجوده لما خلق الله وأمره بالسجود له؛ ولهذا عدل عن اسم آدم العلم مع كونه أخص، وأتى بالاسم الموصول الدال على جهة التشريف المقتضية لإسجاده له وهو كونه خلقه بيديه، وأنت لو وضعت مكان ما لفظة من لما رأيت هذا المعنى المذكور فى الصلة، وأن ما جىء بها وصلة إلى ذكر الصلة، فلا معنى إذن للتعيين بالذكر؛ إذ لو أريد التعيين لكان بالاسم العلم أولى وأخرى.(3/324)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَقَوْلُهُ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ اقْتَضَاهَا الْإِبْهَامُ، وَتَعْظِيمُ الْمَعْبُودِ مَعَ أَنّ الْحِسّ مِنْهُمْ مَانِعٌ لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا مَعْبُودَهُ كَائِنًا مَا كَانَ، فَحَسُنَتْ مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ، فَبِهَذِهِ الْقَرَائِنِ يَحْسُنُ وُقُوعُ مَا عَلَى أُولِي الْعِلْمِ «1» وَبَقِيَتْ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ يَتَعَيّنُ التّنْبِيهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ بِلَفْظِ الْمَاضِي، ثُمّ قَالَ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فِي الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا، إذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: مَا أَعْبُدُ، وَلَمْ يَقُلْ: مَا عَبَدْت، وَالنّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنّ مَا لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِبْهَامِ- وَإِنْ كَانَتْ خَبَرِيّةً- تعطى معنى الشرط، فكأنه
__________
(1) يعبر ابن القيم عن «ما» فى قوله: «لا أعبد ما تعبدون، ما على بابها، لأنها رافعة على معبوده «ص» على الإطلاق؛ لأن امتناعهم من عبادة الله ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا جاهلين به، فقوله: «ولا أنتم عابدون ما أعبد» أى: لا أنتم تعبدون معبودى، ومعبوده هو «ص» كان عارفا به دونهم، وهم جاهلون به ... وقال بعضهم: إن ما هنا مصدرية لا موصولة. أى: لا تعبدون عبادتى، ويلزم من تنزيههم «لعلها تبرئته بدليل ما سيأتى» عن عبادته. تنزيههم «لعلها كالسابقة» عن المعبود، لأن العبادة متعلقة به، وليس هذا بشىء؛ إذ المقصود براءته من معبوديهم وإعلامه أنهم بريئون من معبوده تعالى، فالمقصود: المعبود لا العبادة، ثم قال «وعندى وجه: وهو أن المقصود هنا ذكر المعبود الموصوف بكونه أهلا للعبادة مستحقا لها، فأتى بما الدالة على هذا المعنى، كأنه قيل: ولا أنتم عابدون معبودى الموصوف بأنه المعبود الحق، ولو أتى بلفظة من لكانت إنما تدل على الذات فقط، ويكون ذكر الصلة تعريفا، لا أنه هو جهة العبادة، ففرق بين أن يكون كونه تعالى أهلا لأن يعبد تعريف محض، أو وصف مقتض لعبادته.. وهذا معنى قول محققى النحاة أن ما تأتى لصفات من يعلم ص 133 ح 1 بدائع الفوائد لابن القيم وما بعدها. وقد ذكر وجوها أخرى عظيمة أيضا(3/325)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ: مَهْمَا عَبَدْتُمْ شَيْئًا، فَإِنّي لَا أَعْبُدُهُ، وَالشّرْطُ يُحَوّلُ الْمُسْتَقْبِلَ إلَى لَفْظِ الْمَاضِي، تَقُولُ: إذَا قَامَ زَيْدٌ غَدًا فَعَلْت كَذَا، وَإِنْ خَرَجَ زَيْدٌ غَدًا خَرَجْت، فَمَا: فِيهَا رَائِحَةُ الشّرْطِ مِنْ أَجْلِ إبْهَامِهَا؛ فَلِذَلِكَ جَاءَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَلَا يَدْخُلُ الشّرْطُ عَلَى فِعْلِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي أَوّلِ السّورَةِ: مَا تَعْبُدُونَ؛ لِأَنّهُ حَالٌ لِأَنّ رَائِحَةَ الشّرْطِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا مَعَ الْحَالِ، وَكَذَلِكَ رَائِحَةُ الشّرْطِ مَعْدُومَةٌ فِي قَوْلِهِ: عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ؛ لِأَنّهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَحَوّلَ عَنْ عِبَادَةِ رَبّهِ؛ لِأَنّهُ مَعْصُومٌ، فَلَمْ يَسْتَقِمْ تَقْدِيرُهُ بِمَهْمَا، كَمَا اسْتَقَامَ ذَلِكَ فِي حَقّهِمْ؛ لِأَنّهُمْ فِي قَبْضَةِ الشّيْطَانِ يَقُودُهُمْ بِأَهْوَائِهِمْ؛ فَجَائِزٌ أَنْ يَعْبُدُوا الْيَوْمَ شَيْئًا، وَيَعْبُدُوا غَدًا غَيْرَهُ، وَلَكِنْ مَهْمَا عَبَدُوا شَيْئًا، فَالرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا يَعْبُدُهُ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ:
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فِي الْحَالِ وَفِي الْمَآلِ، لِمَا عَلِمَ مِنْ عِصْمَةِ اللهِ لَهُ، وَلِمَا عَلِمَ اللهُ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ، فَلَا مَدْخَلَ لِمَعْنَى الشّرْطِ فِي حَقّهِ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ الشّرْطُ فِي الْكَلَامِ بَقِيَ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ عَلَى لَفْظِهِ، كَمَا تَرَاهُ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا اضْطَرَبُوا فِي إعْرَابِهَا وَتَقْدِيرُهَا لَمّا كَانَتْ مَنْ بِمَعْنَى الّذِي، وَجَاءَ بَكَانِ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَفَهِمَهَا الزّجّاجُ، فَأَشَارَ إلَى أَنّ مَنْ فِيهَا طَرَفٌ مِنْ مَعْنَى الشّرْطِ؛ وَلِذَلِكَ جَاءَتْ كَانَ بلفظ المعنى بَعْدَهُ، فَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ: مَنْ يَكُنْ صَبِيّا، فَكَيْفَ يُكَلّمُ؟! لَمّا أَشَارَتْ إلَى الصّبِيّ: أَنْ كَلّمُوهُ، وَلَوْ قَالُوا: كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ هُوَ فِي الْمَهْدِ الْآنَ لَكَانَ الْإِنْكَارُ وَالتّعَجّبُ مَخْصُوصًا بِهِ، فَلَمّا قَالُوا: كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كَانَ، صَارَ الْكَلَامُ أَبْلَغَ فِي الِاحْتِجَاجِ لِلْعُمُومِ الدّاخِلِ فِيهِ. إلَى هَذَا الْغَرَضِ أَشَارَ أَبُو إسْحَاقَ، وَهُوَ الّذِي أَرَادَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا لَفْظَهُ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْعِبَارَاتِ،(3/326)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنّمَا الْمَقْصُودُ تَصْحِيحُ الْمَعَانِي الْمُتَلَقّاةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْإِشَارَاتِ «1» .
الزّقّومُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي جَهْلٍ حِينَ ذَكَرَ شَجَرَةَ الزّقّومِ «2» يُقَالُ: إنّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَمْ تَكُنْ مِنْ لُغَةِ قُرَيْشٍ، وَأَنّ رَجُلًا أَخْبَرَهُ أَنّ أَهْلَ يَثْرِبَ: يَقُولُونَ تَزَقّمْتُ: إذَا أَكَلْت التّمْرَ بِالزّبْدِ، فَجَعَلَ بِجَهْلِهِ اسْمَ الزقوم من ذلك استهزاء، وقيل: إن لهذا الِاسْمَ أَصْلًا فِي لُغَةِ الْيَمَنِ، وَأَنّ الزّقّومَ عِنْدَهُمْ كُلّ مَا يُتَقَيّأُ مِنْهُ.
وَذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ: أَنّ شَجَرَةً بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهَا: الزّقّومُ، لَا وَرَقَ لَهَا وَفُرُوعُهَا أَشْبَهُ شىء برؤس الْحَيّاتِ، فَهِيَ كَرِيهَةُ الْمَنْظَرِ، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سلام
__________
(1) أخذ ابن القيم ما قاله السهيلى وفصله بأسلوب أوضح فى بدائع الفوائد. ثم قال: «ان قيل: وكيف يكون فيها الشرط، وقد عمل فيها الفعل، ولا جواب لها، وهى موصولة، فما أبعد الشرط منها، قلنا: لم نقل: إنها شرط نفسها، ولكن فيها رائحة منه، وطرف من معناه لوقوعها على غير معين. وإبهامها فى المعبودات وعمومها، وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط باديا على صفحاته، فإذا قلت لرجل ما تخالفه فى كل ما يفعل: أنا لا أفعل ما تفعل. ألست ترى معنى الشرط قائما فى كلامك وقصدك، وأن روح هذا الكلام: مهما فعلت من شىء فإنى لا أفعله» . ثم قال: «فإذا ثبت هذا فقد صحت الحكمة التى من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضى من قوله: ولا أنا عابد ما عبدتم، بخلاف قوله: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) لبعد ما فيها عن معنى الشرط تنبيها من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبود سواء. وأ ينتقل فى المعبودات تنقل الكافرين» ص 136 ج 1 بدائع الفوائد. وقد استوفى القول فى بدائع السورة العظيمة بأسلوب بديع رحمه الله
(2) يقول ابن كثير «لا شك فى دخوله- أى دخول أبى جهل- فى هذه الاية، ولكن ليست خاصة به»(3/327)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْمَاوَرْدِيّ أَنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ فِي الْبَابِ السّادِسِ مِنْ جَهَنّمَ أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا، وَأَنّ أَهْلَ النّارِ يَنْحَدِرُونَ إلَيْهَا. قَالَ ابْنُ سَلّامٍ: وَهِيَ تَحْيَا بِاللهَبِ كَمَا تَحْيَا شَجَرَةُ الدّنْيَا بِالْمَطَرِ.
وقوله: الملعونة فى القرآن، أَيْ: الْمَلْعُونُ آكُلّهَا «1» ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ وَصْفٌ لَهَا كَمَا يُقَالُ: يَوْمٌ مَلْعُونٌ أَيْ مَشْئُومٌ.
حَدِيثُ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ، وَذَكَرَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ، وَأُمّ مَكْتُومٍ: اسْمُهَا:
عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَنْكَثَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ «2» .
وَذَكَرَ الرّجُلَ الّذِي كَانَ شَغَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وأنه الوليد ابن الْمُغِيرَةِ، وَقَدْ قِيلَ: كَانَ أُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ، وفى حديث الموطأ: عظيم من
__________
(1) ذكر البخارى وأحمد أنها شجرة الزقوم، وقد زعم أعداء بنى أمية أن المقصود بالشجرة هم بنو أمية، وأتوا بحديث قال عنه ابن كثير: وهو غريب ضعيف. وقد ذكر عنها فى القرآن ما هو قرين اللعنة: «إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم. طلعها كأنه رموس الشياطين» الصافات 64، 65 (إِنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فى البطون كغلى الحميم) الدخان: 43- 46. حسبنا أنها وصفت بأنها ملعونة لنؤمن بأنها ملعونة، هى ومن ستكون هى طعامه.
(2) فى نسب قريش عن أم مكتوم «تزوجها قيس بن زائدة بن الأصم ابن هدم بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ حَجَرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرٍ بن لؤى فولدت له عمرا، وهو الأعمى الذى ذكر الله تبارك وتعالى، فقال: «عبس وتولى أن جاءه الأعمى» . وفى الإصابة وجهرة ابن حزم أنه كان ابن خال خديجة. انظر ص 343 نسب قريش. وفى الجمهرة فى نسب أمه: عنكثه بن عائذ بن مخزوم وفى النسب: «عنكثة بن عامر» انظر ص 162 جمهرة ابن حزم(3/328)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ «1» ، وَلَمْ يُسَمّهِ، وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى مِنْ الْفِقْهِ أَنْ لَا غِيبَةَ فِي ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بِمَا ظَهَرَ فِي خِلْقَتِهِ مِنْ عَمًى أَوْ عَرَجٍ، إلّا أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الِازْدِرَاءَ، فَيَلْحَقُ الْمَأْثَمُ بِهِ؛ لِأَنّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ الْبَقَرَةُ: 67. وَفِي ذِكْرِهِ إيّاهُ بِالْعَمَى مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْإِشَارَةِ اللّطِيفَةِ التّنْبِيهُ عَلَى مَوْضِعِ الْعَتَبِ؛ لِأَنّهُ قَالَ:
أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى فَذَكَرَ الْمَجِيءَ مَعَ الْعَمَى، وَذَلِكَ ينبىء عَنْ تَجَشّمِ كُلْفَةٍ وَمَنْ تَجَشّمَ الْقَصْدَ إلَيْك عَلَى ضَعْفِهِ، فَحَقّك الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، لَا الْإِعْرَاضُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعْتُوبًا عَلَى تَوَلّيهِ عَنْ الْأَعْمَى، فَغَيْرُهُ أَحَقّ بِالْعَتَبِ، مَعَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ آمَنَ بَعْدُ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى الْآيَةَ وَلَوْ كَانَ قَدْ صَحّ إيمَانُهُ، وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ يَعْرِضْ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَوْ أَعَرَضَ لَكَانَ الْعَتَبُ أَشَدّ، وَاَللهُ أَعْلَمُ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْبِرَ عَنْهُ، وَيُسَمّيهِ بِالِاسْمِ الْمُشْتَقّ مِنْ الْعَمَى، دُونَ الِاسْمِ الْمُشْتَقّ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، لَوْ كَانَ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ قَبْلَ ذَلِكَ وَاَللهُ أَعْلَمُ، وَإِنّمَا دَخَلَ فِيهِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ لِلنّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَدِنّنِي يَا مُحَمّدُ وَلَمْ يَقُلْ: اسْتَدِنّنِي «2» يَا رَسُولَ اللهِ، مَعَ أَنّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ يَدُلّ عَلَى أَنّ الْهَاءَ فِي لَعَلّهُ يَزّكّى عَائِدَةٌ عَلَى الْأَعْمَى، لَا عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنّهُ لَمْ يَتَقَدّمْ لَهُ ذَكَرَ بَعْدُ، وَلَعَلّ
__________
(1) وعند أبى يعلى أن الرجل هو أبى بن خلف، وعنده فى رواية أخرى هو وابن جرير: رجل من عظماء المشركين، وكذا رواه الترمذى ومالك، وذكر ابن جرير وابن أبى حاتم أنهم: عتبة بن ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب
(2) فى ابن جرير والترمذى ومالك: أرشدنى كما ذكر ابن كثير، ولم يذكر(3/329)
[العائدون من أرض الحبشة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، الّذِينَ خَرَجُوا إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، إسْلَامُ أَهْلِ مَكّةَ، فَأَقْبَلُوا لِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ مَكّةَ، بَلَغَهُمْ أَنّ مَا كَانُوا تَحَدّثُوا بِهِ مِنْ إسْلَامِ أَهْلِ مَكّةَ كَانَ بَاطِلًا، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِجِوَارٍ أَوْ مستخفيا
فَكَانَ مِمّنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مَكّةَ مِنْهُمْ، فَأَقَامَ بِهَا حَتّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَشَهِدَ مَعَهُ بدرا، وَمَنْ حُبِسَ عَنْهُ، حَتّى فَاتَهُ بَدْرٌ وَغَيْرُهُ، وَمَنْ مَاتَ بِمَكّةَ. مِنْهُمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ: عُثْمَانُ بن عَفّانَ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عبد شمس، مَعَهُ امْرَأَتُهُ: رُقَيّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بن ربيعة بن عبد شمس، امرأته سهلة بنت سهيل.
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ: عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رئاب.
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُتْبَةُ بن غزوان، حليف لهم، من قيس عيلان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تُعْطِي التّرَجّي وَالِانْتِظَارَ، وَلَوْ كَانَ إيمَانُهُ قَدْ تقدم قبل هذا لخرج عن حد الترحى والانتظار للتّزكّى، والله أعلم.
__________
- بعدها شيئا. وفى رواية لابن جرير وابن أبى حاتم، أن عبد الله جاء يستقرىء الرسول «ص» آية من القرآن، ويقول: رسول الله علمنى مما علمك الله. وقول السهيلى: أظهر، فالقرآن يفيد أنه جاء فى خشية يريد أن يزكى(3/330)
وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قصىّ: الزّبير بن العوّام بن خويلد ابن أَسَدٍ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وسويبط بن سعد بن حرملة.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيّ: طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ أَبِي كَبِيرِ بْنِ عَبْدٍ.
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ: عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بن عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، حَلِيفٌ لَهُمْ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، حليف لهم.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ: أَبُو سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ الله ابن عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ: أُمّ سَلَمَةَ بنت أبى أميّة بن المغيرة، وشمّاس ابن عثمان بن الشريد بن سويد بن هرمي بن عامر بن مخزوم. وسلمة ابن هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، حَبَسَهُ عَمّهُ بِمَكّةَ، فَلَمْ يَقْدَمْ إلّا بَعْدَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ، وَعَيّاشُ، ابن أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ هَاجَرَ مَعَهُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَحِقَ بَهْ أَخَوَاهُ لِأُمّهِ: أَبُو جَهْلِ ابن هِشَامٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، فَرَجَعَا بِهِ إلَى مَكّةَ، فَحَبَسَاهُ بِهَا حَتّى مَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ.
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ: عُمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، يُشَكّ فِيهِ، أَكَانَ خَرَجَ إلَى الْحَبَشَةِ أَمْ لَا؟ وَمُعَتّبُ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَامِرٍ مِنْ خُزَاعَةَ.
ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب: عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بن حذافة بن جمح، وابنه: السّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ، وَقُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعَبْدُ الله بن مظعون.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/331)
ومن بني سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ: خُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، حُبِسَ بِمَكّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلَى الْمَدِينَةِ، حَتّى قَدِمَ بعد بدر وأحد والخندق.
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ: عَامِرُ بْنُ ربيعة، حليف لهم، مَعَهُ امْرَأَتُهُ: لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ بْنِ حذافة بْنِ غَانِمٍ.
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ: عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى بْنِ أَبِي قَيْسٍ:
وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ حُبِسَ عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَاجَرَ إلَى المدينة، حتى كان يوم بدر، فَانْحَازَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا، وَأَبُو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى، معه امرأته: أم كلثوم بنت سهيل بن عَمْرٍو، وَالسّكْرَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، معه امرأته: سودة بنت زمعة بن قيس، مَاتَ بِمَكّةَ قَبْلَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللهِ- صَلّى الله عليه وسلم- إلى الْمَدِينَةِ، فَخَلَفَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى امْرَأَتِهِ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ:
وَمِنْ حلفائهم سعد بن خولة.
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ابن الْجَرّاحِ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدّادٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ؛ وَهُوَ سُهَيْلُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالٍ، وَعَمْرُو بن أبى سرح بن ربيعة ابن هلال «كنيته: أبو سعد كما فى الإصابة» .
فَجَمِيعُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مَكّةَ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/332)
رَجُلًا، فَكَانَ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ بِجِوَارٍ، فِيمَنْ سُمّيَ لَنَا: عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبٍ الْجُمَحِيّ، دَخَلَ بِجِوَارِ مِنْ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ابن هلال بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُومٍ، دَخَلَ بِجِوَارٍ مِنْ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَكَانَ خَالَهُ. وَأُمّ أَبِي سَلَمَةَ: برة بنت عبد المطّلب.
[قصة ابن مظعون مع الوليد]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَمّا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَإِنّ صَالِحَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرحمن ابن عَوْفٍ حَدّثَنِي عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْ عُثْمَانَ، قَالَ: لَمّا رَأَى عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مَا فِيهِ أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مِنْ الْبَلَاءِ، وَهُوَ يَغْدُو وَيَرُوحُ فِي أَمَانٍ مِنْ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: وَاَللهِ إنّ غُدُوّي وَرَوَاحِي آمِنًا بِجِوَارِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ- وَأَصْحَابِي، وَأَهْلُ دِينِي يَلْقَوْنَ مِنْ الْبَلَاءِ والأذى فى الله ما لا يصيا بنى- لَنَقْصٌ كَبِيرٌ فِي نَفْسِي، فَمَشَى إلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ لَهُ:
يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، وَفّتْ ذِمّتُك، قَدْ رَدَدْتُ إلَيْك جِوَارَك، فقال له: لم يا بن أَخِي؟ لَعَلّهُ آذَاكَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِي، قَالَ: لَا، وَلَكِنّي أَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِهِ؟ قَالَ: فَانْطَلِقْ إلَى الْمَسْجِدِ، فَارْدُدْ عَلَيّ جِوَارِي عَلَانِيَةً، كَمَا أَجَرْتُك عَلَانِيَةً. قَالَ: فَانْطَلَقَا فَخَرَجَا حَتّى أَتَيَا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ:
هَذَا عُثْمَانُ قَدْ جَاءَ يَرُدّ عَلَيّ جِوَارِي، قَالَ: صَدَقَ، قَدْ وَجَدْته وَفِيّا كَرِيمَ الْجِوَار، وَلَكِنّي قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِ اللهِ، فَقَدْ رَدَدْت عَلَيْهِ جِوَارَهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/333)
ثُمّ انْصَرَفَ عُثْمَانُ، وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ فِي مَجْلِسٍ من قريش يشدهم، فَجَلَسَ مَعَهُمْ عُثْمَانُ، فَقَالَ لَبِيدٍ:
أَلَا كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ باطل
قال عثمان: صدقت، قال:
وكلّ نعيم لا محالة زائل
قَالَ عُثْمَانُ: كَذَبْت، نَعِيمُ الْجَنّةِ لَا يَزُولُ. قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاَللهِ مَا كَانَ يُؤْذَى جَلِيسُكُمْ، فَمَتَى حَدَثَ هَذَا فِيكُمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: إنّ هَذَا سَفِيهٌ فِي سُفَهَاءَ مَعَهُ، قَدْ فَارَقُوا دِينَنَا، فَلَا تَجِدَنّ فِي نَفْسِك مِنْ قَوْلِهِ، فَرَدّ عَلَيْهِ عُثْمَانُ حَتّى شَرِيَ أَمْرُهُمَا، فَقَامَ إليه ذلك الرجل، فلطم عينه، فخضّرها، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَرِيبٌ يَرَى مَا بَلَغَ من عثمان، فقال:
أما والله يا بن أخى إن كانت عينك عما أصامها لَغَنِيّةٌ، لَقَدْ كُنْتَ فِي ذِمّةٍ مَنِيعَةٍ.
قَالَ: يَقُولُ عُثْمَانُ: بَلْ وَاَللهِ إنّ عَيْنِي الصّحِيحَةَ لَفَقِيرَةٌ إلَى مِثْلِ مَا أَصَابَ أُخْتَهَا فِي اللهِ، وَإِنّي لَفِي جِوَارِ مَنْ هُوَ أَعَزّ مِنْك وَأَقْدَرُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقَالَ له الوليد: هلمّ يا بن أَخِي، إنْ شِئْت فَعُدْ إلَى جِوَارِك، فَقَالَ: لا.
[أبو سلمة فى جوار أبى طالب]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَمّا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عبد الأسد، فحدثنى أبى إسحاق ابن يسارع سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنّهُ حَدّثَهُ: أَنّ أَبَا سَلَمَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/334)
لَمّا اسْتَجَارَ بِأَبِي طَالِبٍ، مَشَى إلَيْهِ رِجَالٌ من بنى مخزوم، فقالوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، لَقَدْ مَنَعْت مِنّا ابْنَ أَخِيك مُحَمّدًا، فَمَا لَكَ وَلِصَاحِبِنَا تَمْنَعُهُ مِنّا؟ قَالَ: إنّهُ اسْتَجَارَ بِي، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِي، وَإِنْ أَنَا لَمْ أَمْنَعْ ابْنَ أُخْتِي لَمْ أَمْنَعْ ابْنَ أَخِي، فَقَامَ أَبُو لَهَبٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاَللهِ لَقَدْ أَكْثَرْتُمْ عَلَى هذا الشيخ، ما تزالون تتوائبون عَلَيْهِ فِي جِوَارِهِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ، وَاَللهِ لَتَنْتَهُنّ عَنْهُ، أَوْ لَنَقُومَنّ مَعَهُ فِي كُلّ مَا قَامَ فِيهِ، حَتّى يَبْلُغَ مَا أَرَادَ. قَالَ: فَقَالُوا: بَلْ نَنْصَرِفُ عَمّا تَكْرَهُ يَا أَبَا عُتْبَةَ، وَكَانَ لَهُمْ وَلِيّا وَنَاصِرًا عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَبْقَوْا عَلَى ذَلِكَ، فَطَمِعَ فِيهِ أَبُو طَالِبٍ حَيْنَ سَمِعَهُ يَقُولُ مَا يَقُولُ، وَرَجَا أَنْ يَقُومَ مَعَهُ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ يُحَرّضُ أَبَا لَهَبٍ عَلَى نُصْرَتِهِ وَنُصْرَةِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَأَنّ امْرَأً أَبُو عُتَيْبَةَ عَمّهُ ... لَفِي رَوْضَةٍ مَا إنْ يُسَامُ الْمَظَالِمَا
أَقُولُ لَهُ- وَأَيْنَ منه نصيحتى ... أبا معتب تبّت سوادك قائما
فلا تقبلنّ الدهر ما عشت خطة ... تُسَبّ بِهَا، إمّا هَبَطْت الْمَوَاسِمَا
وَوَلّ سَبِيلَ الْعَجْزِ غَيْرَك مِنْهُمْ ... فَإِنّك لَمْ تُخْلَقْ عَلَى العجز لازما
وحارب، فإن الحرب نصف وما تَرَى ... أَخَا الْحَرْبِ يُعْطَى الْخَسْفَ حَتّى يُسَالَمَا
وَكَيْفَ وَلَمْ يَجْنُوا عَلَيْك عَظِيمَةً ... وَلَمْ يَخْذُلُوك غَانِمًا، أَوْ مُغَارِمَا
جَزَى اللهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... وَتَيْمًا وَمَخْزُومًا عُقُوقًا وَمَأْثَمَا
بِتَفْرِيقِهِمْ من بعدود وَأُلْفَةٍ ... جَمَاعَتَنَا، كَيْمَا يَنَالُوا الْمَحَارِمَا
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نُبْزَى مُحَمّدًا ... وَلَمّا تَرَوْا يَوْمًا لَدَى الشّعب قائما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/335)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: نُبْزَى: نُسْلَبُ. قَالَ ابْنُ هشام؛ وبقى منها بيت تركناه.
[أبو بكر يرد جوار ابن الدغنة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا حَدّثَنِي:
مُحَمّدُ بن مسلم الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَكّةُ، وَأَصَابَهُ فِيهَا الْأَذَى، وَرَأَى مِنْ تَظَاهُرِ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ مَا رَأَى، اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فى الهجرة، فأذن له، فحرج أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، حَتّى إذَا سَارَ مِنْ مَكّةَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، لَقِيَهُ ابْنُ الدّغُنّةِ، أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كنانة، وهو يومئذ سيد الْأَحَابِيشُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْأَحَابِيشُ: بَنُو الْحَارِثِ بن عبد مناة بن كنانة، والهون ابن خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَحَالَفُوا جَمِيعًا، فَسُمّوا الْأَحَابِيشَ لِلْحِلْفِ.
وَيُقَالُ: ابْنُ الدّغَيْنَةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حدثنى الزهرى، عن عروة، عن عائشة قَالَتْ: فَقَالَ ابْنُ الدّغُنّةِ: أَيْنَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي وَآذَوْنِي، وَضَيّقُوا عَلَيّ، قال: ولم؟ فو الله إنّك لَتَزِينُ الْعَشِيرَةَ، وَتُعِينُ عَلَى النّوَائِبِ، وَتَفْعَلُ المعروف وتكسب المعدوم، ارجع، وأنت فِي جِوَارِي، فَرَجَعَ مَعَهُ، حَتّى إذَا دَخَلَ مَكّةَ، قَامَ ابْنُ الدّغُنّةِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّي قَدْ أَجَرْت ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/336)
فَلَا يَعْرِضَنّ لَهُ أَحَدٌ إلّا بِخَيْرِ. قَالَتْ: فكفوا عنه.
قَالَتْ: وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ مَسْجِدٌ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ فِي بَنِي جُمَحٍ، فَكَانَ يُصَلّي فِيهِ، وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا، إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اسْتَبْكَى. قَالَتْ: فَيَقِفُ عَلَيْهِ الصّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَالنّسَاءُ، يَعْجَبُونَ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ هَيْئَتِهِ. قَالَتْ: فَمَشَى رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى ابْنِ الدّغُنّةِ، فَقَالُوا لَهُ: يا بن الدّغُنّةِ، إنّك لَمْ تُجِرْ هَذَا الرّجُلَ، لِيُؤْذِيَنَا! إنّهُ رَجُلٌ إذَا صَلّى، وَقَرَأَ مَا جَاءَ بَهْ مُحَمّدٌ يَرِقّ وَيَبْكِي، وَكَانَتْ لَهُ هَيْئَةٌ وَنَحْوٌ، فَنَحْنُ نَتَخَوّفُ عَلَى صِبْيَانِنَا وَنِسَائِنَا وَضَعَفَتِنَا أَنْ يَفْتِنَهُمْ، فَأْتِهِ فَمُرْهُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَلْيَصْنَعْ فِيهِ مَا شَاءَ: قَالَتْ: فَمَشَى ابْنُ الدّغُنّةِ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَكْر، إنى لم أجرك لتؤذى قومك، إنهم قد كرهوا مَكَانَك الّذِي أَنْتَ فِيهِ، وَتَأَذّوْا بِذَلِكَ مِنْك، فَادْخُلْ بَيْتَك، فَاصْنَعْ فِيهِ مَا أَحْبَبْتَ، قَالَ: أو أردّ عَلَيْك جِوَارَك وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ؟ قَالَ: فَارْدُدْ عَلَيّ جِوَارِي، قَالَ: قَدْ رَدَدْتُهُ عَلَيْك. قَالَتْ فَقَامَ ابْنُ الدّغُنّةِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ قَدْ رَدّ عَلَيّ جِوَارِي، فَشَأْنُكُمْ بِصَاحِبِكُمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ ابن مُحَمّدٍ قَالَ: لَقِيَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ عَامِدٌ إلَى الْكَعْبَةِ، فَحَثَا عَلَى رَأْسِهِ ترابا. قال: فمرّ بأبى بكر الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَوْ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ. قال:
فقال أبو بكر: أَلَا تَرَى إلَى مَا يَصْنَعُ هَذَا السّفِيهُ؟ قَالَ: أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِك. قَالَ: وَهُوَ يَقُولُ: أَيْ رَبّ، مَا أَحْلَمَك! أَيْ رَبّ، مَا أَحْلَمَك! أَيْ رَبّ، مَا أَحْلَمَك!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/337)
[حديث نقض الصحيفة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطّلِبِ فِي مَنْزِلِهِمْ الّذِي تَعَاقَدَتْ فِيهِ قُرَيْشٌ عَلَيْهِمْ فِي الصّحِيفَةِ الّتِي كَتَبُوهَا، ثُمّ إنّهُ قَامَ فِي نَقْضِ تِلْكَ الصّحِيفَةِ الّتِي تَكَاتَبَتْ فِيهَا قُرَيْشٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يُبْلَ فِيهَا أَحَدٌ أَحْسَنَ مِنْ بَلَاءِ هِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عامر بْنِ لُؤَيّ، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ ابْنَ أَخِي نضلة ابن هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ لِأُمّهِ، فَكَانَ هِشَامٌ لِبَنِي هَاشِمٍ وَاصَلًا، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قومه فَكَانَ- فِيمَا بَلَغَنِي- يَأْتِي بِالْبَعِيرِ، وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ فِي الشّعْبِ لَيْلًا، قَدْ أَوْقَرَهُ طَعَامًا، حَتّى إذَا أَقْبَلَ بِهِ فَمَ الشّعْبِ، خَلَعَ خِطَامَهُ مِنْ رَأْسِهِ، ثُمّ ضَرَبَ عَلَى جَنْبِهِ، فَيَدْخُلُ الشّعْبَ عَلَيْهِمْ، ثُمّ يَأْتِي بِهِ قَدْ أَوْقَرَهُ بَزّا، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّهُ مَشَى إلَى زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ- وَكَانَتْ أُمّهُ: عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ- فَقَالَ:
يَا زُهَيْرُ، أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ تَأْكُلَ الطّعَامَ، وَتَلْبَسَ الثّيَابَ، وَتَنْكِحَ النّسَاءَ، وَأَخْوَالُك حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، لَا يُبَاعُونَ، وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، وَلَا يَنْكِحُونَ، وَلَا يُنْكَحُ إلَيْهِمْ؟ أَمَا إنّي أَحْلِفُ بِاَللهِ أَنْ لَوْ كَانُوا أَخْوَالَ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هشام، ثم دعوته إلى مَا دَعَاك إلَيْهِ مِنْهُمْ، مَا أَجَابَك إلَيْهِ أَبَدًا، قَالَ: وَيْحَك يَا هِشَامُ! فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إنّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَاَللهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/338)
لَقُمْت فِي نَقْضِهَا حَتّى أَنْقُضَهَا، قَالَ: قَدْ وَجَدْت رَجُلًا قَالَ: فَمَنْ هُوَ؟ قَالَ:
أَنَا، قال له زهير: أبغنا رجلا ثالثا.
فذهب إلى المطعم بن عدىّ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُطْعِمُ أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ يَهْلِكَ بَطْنَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَنْتَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ، مُوَافِقٌ لِقُرَيْشِ فِيهِ! أَمَا وَاَللهِ لَئِنْ أَمْكَنْتُمُوهُمْ مِنْ هَذِهِ لَتَجِدُنّهُمْ إلَيْهَا مِنْكُمْ سِرَاعًا، قَالَ: وَيْحَك! فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إنّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، قَالَ: قَدْ وَجَدْت ثَانِيًا، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ:
أَنَا، قَالَ: أَبْغِنَا ثَالِثًا، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ، قَالَ: أَبْغِنَا رابعا.
فذهب إلى أبى البخترىّ بن هشام، فقال له نحوا ممّا قال لمطعم بن عدىّ، فَقَالَ: وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يُعِينُ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زُهَيْرُ ابن أَبِي أُمَيّةَ، وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ، وَأَنَا مَعَك، قال: أبغنا خامسا.
فَذَهَبَ إلَى زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ بن أسد، فكلّمه، وذكر لَهُ قَرَابَتَهُمْ وَحَقّهُمْ، فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الّذِي تَدْعُونِي إلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ؟
قال: نعم، ثم سمى له القوم.
فاتّعدوا خطم الججون لَيْلًا بِأَعْلَى مَكّةَ، فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَتَعَاقَدُوا عَلَى الْقِيَامِ فِي الصّحِيفَةِ، حَتّى يَنْقُضُوهَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فَأَكُونُ أَوّلَ مَنْ يَتَكَلّمُ. فَلَمّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى أَنْدِيَتِهِمْ، وَغَدَا زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ عَلَيْهِ حُلّةٌ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ، فَقَالَ: يا أهل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/339)
مَكّةَ، أَنَأْكُلُ الطّعَامَ، وَنَلْبَسُ الثّيَابَ، وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى لَا يُبَاعُ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، وَاَللهِ لَا أَقْعُدُ حَتّى تُشَقّ هَذِهِ الصّحِيفَةُ الْقَاطِعَةُ الظّالِمَةُ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ- وَكَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ: كَذَبْتَ وَاَللهِ لَا تُشَقّ، قَالَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ: أَنْتَ وَاَللهِ أَكْذَبُ، مَا رَضِينَا كِتَابَهَا حَيْثُ كُتِبَتْ، قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ: صَدَقَ زَمْعَةُ، لَا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا، وَلَا نقرّبه، قَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ: صَدَقْتُمَا، وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، نَبْرَأُ إلَى اللهِ مِنْهَا، وَمِمّا كُتِبَ فِيهَا، قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلِ، تُشُووِرَ فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا المكان، وَأَبُو طَالِبٍ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَامَ الْمُطْعِمُ إلَى الصّحِيفَةِ لِيَشُقّهَا، فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ أكلتها، إلّا:
«باسمك الّلهمّ» .
وَكَانَ كَاتِبَ الصّحِيفَةِ مَنْصُورُ بْنُ عِكْرِمَةَ. فَشُلّتْ يده فيما يزعمون.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى الله عليه وسلم- قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: يَا عَمّ، إنّ رَبّي اللهَ قَدْ سَلّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ، فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْمًا هُوَ لِلّهِ إلّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا، وَنَفَتْ مِنْهُ الظّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ وَالْبُهْتَانَ فَقَالَ:
أَرَبّك أَخْبَرَك بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فو الله مَا يَدْخُلُ عَلَيْك أَحَدٌ، ثُمّ خَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ ابْنَ أَخِي أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا، فَهَلُمّ صَحِيفَتُكُمْ، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ أَخِي، فَانْتَهُوا عَنْ قَطِيعَتِنَا، وَانْزِلُوا عَمّا فِيهَا، وَإِنْ يَكُنْ كَاذِبًا دَفَعْت إلَيْكُمْ ابْنَ أَخِي، فَقَالَ الْقَوْمُ: رَضِينَا، فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمّ نَظَرُوا، فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فزادهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/340)
ذَلِكَ شَرّا. فَعِنْدَ ذَلِك صَنَعَ الرّهْطُ مِنْ قريش فى نقض الصحيفة ما صنعوا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا مُزّقَتْ الصّحِيفَةُ وَبَطَلَ مَا فِيهَا. قَالَ أَبُو طَالِبٍ، فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ النّفَرِ الّذِينَ قَامُوا فِي نقضها يمدحهم:
ألا هل أتى بحريّنا صنع ربّنا ... عَلَى نَأْيِهِمْ وَاَللهُ بِالنّاسِ أَرْوَدُ
فَيُخْبِرَهُمْ أَنّ الصّحِيفَةَ مُزّقَتْ ... وَأَنْ كُلّ مَا لَمْ يَرْضَهُ اللهُ مُفْسَدُ
تُرَاوِحُهَا إفْكٌ، وَسِحْرٌ مُجَمّعٌ ... وَلَمْ يُلْفَ سِحْرٌ آخِرَ الدّهْرِ يَصْعَدُ
تَدَاعَى لَهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِقَرْقَرٍ ... فَطَائِرُهَا فِي رَأْسِهَا يَتَرَدّدُ
وَكَانَتْ كِفَاءً رَقْعَةٌ بِأَثِيمَةٍ ... لِيُقْطَعَ مِنْهَا ساعد ومقلّد
ويظعن أهل المكّتين، فهربوا ... فَرَائِصُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ الشّرّ تُرْعَدُ
وَيُتْرَكُ حَرّاثٌ يُقَلّبُ أَمْرَهُ ... أَيُتْهِمُ فِيهِمْ عِنْدَ ذَاكَ وَيُنْجِدُ
وَتَصْعَدُ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ كَتِيبَةٌ ... لَهَا حُدُجٌ سَهْمٌ وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ
فَمَنْ يَنْشَ مِنْ حُضّارِ مَكّةَ عِزّهُ ... فَعِزّتُنَا فِي بَطْنِ مَكّةَ أَتْلَدُ
نَشَأْنَا بِهَا، وَالنّاسُ فِيهَا قَلَائِلُ ... فَلَمْ نَنْفَكِكْ نَزْدَادُ خَيْرًا وَنَحْمَدُ
وَنُطْعِمُ حَتّى يَتْرُكَ النّاسُ فَضْلَهُمْ ... إذَا جُعِلَتْ أَيْدِي الْمُفِيضِينَ تُرْعَدُ
جَزَى اللهُ رَهْطًا بِالْحَجُونِ تَبَايَعُوا ... عَلَى مَلَأٍ يُهْدِي لِحَزْمٍ وَيُرْشِدُ
قُعُودًا لَدَى خَطْمِ الْحَجُونِ كَأَنّهُمْ ... مَقَاوِلَةٌ، بَلْ هُمْ أَعَزّ وَأَمْجَدُ
أَعَانَ عَلَيْهَا كُلّ صَقْرٍ كَأَنّهُ ... إذَا مَا مَشَى فِي رَفْرَفِ الدّرْعِ أَحْرَدُ
جَرِيّ عَلَى جُلّى الْخُطُوبِ، كَأَنّهُ ... شِهَابٌ بِكَفّيْ قَابِسٍ يَتَوَقّدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/341)
مِنْ الْأَكْرَمِينَ مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... إذَا سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ يَتَرَبّدُ
طَوِيلُ النّجَادِ خَارِجٌ نِصْفُ سَاقِهِ ... عَلَى وَجْهِهِ يُسْقَى الْغَمَامُ وَيُسْعِدُ
عَظِيمُ الرّمَادِ، سَيّدٌ وَابْنُ سَيّدٍ ... يَحُضّ عَلَى مقرى الضيوف، ويحشد
ويا بنى لِأَبْنَاءِ الْعَشِيرَةِ صَالِحًا ... إذَا نَحْنُ طُفْنَا فِي البلاد، ويمهد
ألطّ بِهَذَا الصّلْحِ كُلّ مُبَرّأٍ ... عَظِيمِ اللّوَاءِ أَمْرُهُ ثَمّ يُحْمَدُ
قَضَوْا مَا قَضَوْا فِي لَيْلِهِمْ، ثُمّ أَصْبَحُوا ... عَلَى مَهَلٍ، وَسَائِرُ النّاسِ رُقّدُ
هُمٌ رَجَعُوا سَهْلَ بْنَ بَيْضَاءَ رَاضِيًا ... وَسُرّ أَبُو بَكْرٍ بِهَا وَمُحَمّدُ
مَتَى شُرّكَ الْأَقْوَامُ فِي جُلّ أَمْرِنَا ... وَكُنّا قَدِيمًا قَبْلَهَا نُتَوَدّدُ
وَكُنّا قَدِيمًا لَا نُقِرّ ظُلَامَةً ... وَنُدْرِكُ مَا شئنا، ولا نتشدّد
فيا لقصىّ هَلْ لَكُمْ فِي نُفُوسِكُمْ ... وَهَلْ لَكُمْ فِيمَا يَجِيءُ بَهْ غَدُ
فَإِنّي وَإِيّاكُمْ كَمَا قَالَ قَائِلٌ ... لَدَيْك الْبَيَانُ لَوْ تَكَلّمَتْ أسود
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيّ حِينَ مَاتَ، وَيَذْكُرُ قِيَامَهُ فِي نَقْضِ الصّحِيفَةِ:
أَيَا عَيْنُ فَابْكِي سَيّدَ الْقَوْمِ وَاسْفَحِي ... بِدَمْعٍ، وَإِنْ أَنْزَفْتِهِ فَاسْكُبِي الدّمَا
وَبَكّي عَظِيمَ الْمَشْعَرَيْنِ كِلَيْهِمَا ... عَلَى النّاسِ مَعْرُوفًا لَهُ مَا تَكَلّمَا
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلِدُ الدّهْرَ وَاحِدًا ... مِنْ النّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا
أَجَرْتَ رَسُولَ اللهِ مِنْهُمْ، فَأَصْبَحُوا ... عَبِيدَك، مَا لَبّى مُهِلّ وَأَحْرَمَا
فَلَوْ سُئِلَتْ عَنْهُ مَعَدّ بِأَسْرِهَا ... وَقَحْطَانُ، أَوْ بَاقِي بَقِيّةِ جُرْهُمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/342)
لَقَالُوا: هُوَ الْمُوفِي بِخُفْرَةِ جَارِهِ ... وَذِمّتِهِ يَوْمًا إذَا مَا تَذَمّمَا
فَمَا تَطْلُعُ الشّمْسُ الْمُنِيرَةُ فَوْقَهُمْ ... عَلَى مِثْلِهِ فِيهِمْ أَعَزّ وَأَعْظَمَا
وَآبَى إذَا يَأْبَى وَأَلْيَنَ شِيمَةً ... وَأَنْوَمَ عَنْ جَارٍ إذا اللّيل أظلما
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ «كِلَيْهِمَا» عَنْ غَيْرِ ابن إسحاق.
قال ابن هشام: وأما قوله: «جرت رَسُولَ اللهِ مِنْهُمْ» ، فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمّا انْصَرَفَ عَنْ أَهْلِ الطّائِفِ، وَلَمْ يُجِيبُوهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ، مِنْ تَصْدِيقِهِ وَنُصْرَتِهِ، صَارَ إلَى حِرَاءٍ، ثُمّ بَعَثَ إلَى الْأَخْنَسِ بْن شَرِيقٍ، لِيُجِيرَهُ، فَقَالَ: أَنَا حَلِيفٌ، وَالْحَلِيفُ لَا يُجِيرُ، فَبَعَثَ إلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، فَقَالَ: إنّ بَنِي عَامِر لَا تُجِيرُ عَلَى بَنِي كَعْبٍ. فَبَعَثَ إلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ، فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ، ثُمّ تَسَلّحَ الْمُطْعِمُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَخَرَجُوا حَتّى أَتَوْا الْمَسْجِدَ، ثُمّ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ اُدْخُلْ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلّى عِنْدَهُ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ، فَذَلِكَ الذى يعنى حسان ابن ثابت.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا: يَمْدَحُ هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو لِقِيَامِهِ فِي الصحيفة:
هَلْ يُوَفّيَنّ بَنُو أُمَيّةَ ذِمّةً ... عَقْدًا كَمَا أَوْفَى جِوَارُ هِشَامِ
مِنْ مَعْشَرٍ لَا يَغْدِرُونَ بِجَارِهِمْ ... لِلْحَارِثِ بْنِ حُبَيّبِ بْنِ سُخَامِ
وَإِذَا بنو حسل أجاروا ذمّة ... أو فوا وأدّوا جارهم بسلام
وكان هشام أخا سخام: قال ابن هشام: ويقال: شحام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/343)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قِصّةُ الْغَرَانِيقِ وَإِسْلَامُ مَكّةَ:
وَذَكَرَ مَا بَلَغَ أَهْلَ الْحَبَشَةِ مِنْ إسْلَامِ أَهْلِ مَكّةَ، وَكَانَ بَاطِلًا، وَسَبَبُهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَرَأَ سُورَةَ النّجْمِ، فَأَلْقَى الشّيْطَانُ فِي أَمْنِيّتَهُ، أَيْ: فِي تِلَاوَتِهِ عند ذكر اللّات والعزى، وإنّهم لهم لغرانقة الْعُلَى، وَإِنّ شَفَاعَتَهُمْ لَتُرْتَجَى، فَطَارَ ذَلِكَ بِمَكّةَ، فَسُرّ الْمُشْرِكُونَ، وَقَالُوا: قَدْ ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرِ فَسَجَدَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي آخِرِهَا، وَسَجَدَ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ، ثُمّ أَنَزَلَ اللهُ تَعَالَى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ الاية، فمن ها هنا اتّصَلَ بِهِمْ فِي أَرْضِ الْحَبَشَةِ أَنّ قُرَيْشًا قَدْ أَسْلَمُوا، ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ، وَأَهْلُ الْأُصُولِ يَدْفَعُونَ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْحُجّةِ، وَمَنْ صَحّحَهُ قَالَ فِيهِ أَقْوَالًا، مِنْهَا: أَنّ الشّيْطَانَ قَالَ ذَلِكَ وَأَشَاعَهُ. وَالرّسُولُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- لَمْ يَنْطِقْ بِهِ، وَهَذَا جَيّدٌ لَوْلَا أَنّ فِي حَدِيثِهِمْ أَنّ جِبْرِيل قَالَ لِمُحَمّدِ:
مَا أَتَيْتُك بِهَذَا، وَمِنْهَا: أَنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَعَنَى بِهَا الْمَلَائِكَةَ: إنّ شَفَاعَتَهُمْ لَتُرْتَجَى «1» . وَمِنْهَا: أَنّ النّبِيّ- عَلَيْهِ السّلَامُ- قَالَهُ حَاكِيًا عَنْ الْكَفَرَةِ، وَأَنّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، فقالها متعجبا من كفرهم،
__________
(1) وهى أيضا كلمة لا يقولها خاتم النبيين وأعظم المؤمنين، فإن الشفاعة لا ترتجى إلا من الله سبحانه، فهو الذى له وحده الشفاعة: (قل: لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض) الزمر: 44 (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن) طه: 109. والسهيلى على إطالته وإطنابه فى مواضع تستحق الإيجاز لا أدرى كيف خطف القول هنا، وترك الفرية تحاول مخادعة القلوب فكأن المؤلف الكبير لم يرد لها أن تموت(3/344)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْحَدِيثُ عَلَى مَا خَيّلْت غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِصِحّتِهِ، والله أعلم «1» .
__________
(1) روى الطبرى وابن أبى حاتم وابن المنذر والبزار وابن مردويه وغيرهم هذه الفرية التى نفثتها أحقاد الزنادقة فى صورة حديث منسوب إلى ابن عباس وسعيد ابن جبير، يقول إن رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- قرأ بمكة: والنجم، فلما بلغ: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا، فنزلت الاية. وذكر القاضى عياض ما يلى: ويروى: ترتضى، وفى رواية: إن شفاعتها لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلى. وفى أخرى: والغرانقة العلى تلك الشفاعة ترتجى، ووقع فى بعض الروايات أن الشيطان ألقاها على لسانه، وأن النبى «ص» كان تمنى أن لو نزل عليه شىء يقارب بينه وبين قومه، وفى رواية أخرى: ألا ينزل عليه شىء ينفرهم عنه، وذكر هذه القصة. وأن جبريل- عليه السلام- جاءه، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين قال له: ما جئتك بهاتين. فحزن لذلك النبى «ص» ، فأنزل الله تعالى تسلية له: «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى» . الاية. وقوله: (وإن كادوا ليفتنونك) وباطل القصة المفتراة أسود قاتم. ولكنى عنيت بنقل الرد عليها؛ لأن هذه الأسماء الاتية ذكرت مع هذه القصة، ولا شك فى أن كثيرا منهم لا يمكن أن نصدق أنه يرويها، أو يصدق بها مثل ابن عباس رضى الله عنه، وتدبر هذه الأسماء التى جعلتنى أعنى بدحض هذه الفرية الملعونة: «سعيد بن جبير، شعبة، أمية بن خالد الذى يقال عنه: إنه ثقة مشهور، وأبو بشر، ومحمد بن كعب القرظى ومحمد بن قيس وابن شهاب الزهرى، والسدى، وموسى ابن عقبة، وابن إسحاق وعكرمة وسليمان التميمى، والعوفى والبزار» من هؤلاء من له ذكر بايمان عظيم ومن له ذكر بما ينال شيئا من صدق إيمانه، وعفا الله عمن رواها دون تعقيب يهدمها من هؤلاء الذين نسبت إليهم رواية ما لهذه الأكذوبة، وإليك ما رد به القاضى عياض فى الشفاء على تلك الفرية النجسة: «هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند متصل سليم، وإنما أولع به وبمثله(3/345)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَسَمّى الّذِينَ قَدِمُوا مِنْهُمْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الخبر، وذكر فيهم طليبا، وقال
__________
- المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضى بكر بن العلاء المالكى حيث قال: لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده واختلاف كلماته، فقائل يقول: إنه فى الصلاة وآخر يقول: قالها فى نادى قومه حين نزلت عليه السورة، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبى «ص» لما عرضها على جبريل، قال: ما هكذا أقرأتك وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي- ص- قرأها، فلما بلغ النبى- ص- ذلك قال: والله ما هكذا نزلت- إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين، لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية والمرفوع فيها حديث شعبة عن أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: فيما أحسب أن النبى «ص» كان بمكة وذكر القصة. قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبى- ص- بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، فقد بين لك أبو بكر- رحمه الله- أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه- كما ذكرنا- الذى لا يوثق به ولا حقيقة معه، وأما حديث الكلبى فمما لا يجوز الرواية عنه، ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار، والذى منه فى الصحيح أن النبى «ص» قرأ: والنجم وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس» أقول: قوله الذى فى الصحيح يعنى ما روى فى البخارى ومسلم عن ابن مسعود، وليس فيه حديث الغرانيق، بل روى هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها حديث الغرانيق، وبعد أن فرغ القاضى عياض من،(3/346)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي نَسَبِهِ: ابْنُ أَبِي كَبِيرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيّ، وَزِيَادَةُ أَبِي كَبِيرٍ فِي هَذَا الموضع لا يوافق عليه
__________
- توهين الفرية من طريق النقل، مضى يكر عليها بالحجة العقلية الدامغة، فيقول: «أجمعت الأمة على عصمته- ص- ونزاهته عن مثل هذه النقيصة إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو أن يتسور عليه الشيطان، ويشبه عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبى- ص- أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل- عليه السلام- وذلك كله ممتنع فى حقه- صلّى الله عليه وسلم- أو يقول ذلك النبى- ص- من قبل نفسه عمدا، وذلك كفر، أو سهوا، وهو معصوم من هذا كله، وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته- ص- من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ولا سهوا، أو أن يشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقى الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله لا عمدا، ولا سهوا ما لم ينزل عليه، وقد قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) الحاقة: 44- 47 وقال تعالى: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا، إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) الإسراء: 75. ووجه ثان وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روى لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم. متخاذل التأليف والنظم. ولما كان النبى «ص» ولا من بحضرته من المسلمين. وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك. وهذا لا يخفى على أدنى متأمل. فكيف ممن رجح حلمه. واتسع فى باب التبيان. ومعرفة فصيح الكلام علمه» ثم أكد أن القصة لو حدثت لوجدت بها قريش على المسلمين الصولة. ولأقامت اليهود بها عليهم الحجة. لأنهم كانوا يتربصون بالنبى وبالمسلمين لأفل فتنة، ولكنا نجد هذه القصة مروية عن طريق ضعيفة. وأنه لم يرو عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة، ولا شك فى إدخال بعض شياطين الجن والإنس هذا الحديث على بعض مغفلى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المحدثين. ليلبس به على ضعفاء المسلمين ص 116 وما بعدها ح 2 الشفاء طبعة سنة 1290 هـ مطبعة خليل أفندى وتدبر مع هذا قول الله سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الحجر: 9 وقوله: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) المائدة: 67 فإن زاد أو نقص فما بلغ رسالته. إنما بلغ حقا ممتزجا بباطل. وتدبر قوله العظيم: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) النجم: 3: 4 وقوله سبحانه: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) الأعلى والفخر الرازى- على ما فيه- يقول: هذه القصة باطلة وموضوعة ولا يجوز القول بها. وقال البيهقى: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. والمراد بالغرانيق: الأصنام. وهى فى الأصل: الذكور من طير الماء. وقيل: الطويل العنق الأبيض، وقيل: هو الكركى واحدها: غرنوق بضم النون والغين، وبكسر الغين وإسكان الراء وفتح النون. وبضم الغين وفتح النون. وغرنيق بكسر الغين والنون، وغرناق بفتح الغين والراء والنون، وغرناق بكسر الغين وإسكان الراء. وغرانق: الشاب الأبيض الجميل، وجمعها: الغرانق والغرانيق. وقد شبهوا أصنامهم بالغرانيق وهى الطيور التى تعلو فى السماء وترتفع.. والعجب أن الحافظ بن حجر يحاول فى الفتح الدفاع عن قواعد المحدثين، ويغفل عن الطعنة الغادرة التى اقترفت ضد الرسالة والرسول. فيقول عن النقد العظيم الذى وجهه القاضى عياض لطرق الحديث «وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد. فان الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا. وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح. وهى مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمراسيل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر» ص 355 ج 8 لست أدرى أيمكن أن نجعل لقواعد بشرية متهافتة مكانة فوق الحق المبين من هدى الله؟ إننا هنا يجب أن نعتصم بقواعد الحق المبين، لا بقواعد المحدثين التى يؤدى الدفاع عنها هنا إلى النيل من قداسة القرآن وعصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا سيما إذا وجدنا أن التأويلات التافهة التى سنساند بها هذه(3/347)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَذَلِكَ وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ التّنْبِيهِ عَلَى هَذَا «1» وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ وَنَسَبَهُ كَمَا نسبه ابن إسحق بِزِيَادَةِ: أَبِي كَبِيرٍ، وَكَانَ بَدْرِيّا فِي إحْدَى الروايتين عن ابن إسحق، وَكَذَلِكَ قَالَ الْوَاقِدِيّ وَابْنُ عُقْبَةَ، وَمَاتَ بِأَجْنَادَيْنِ شَهِيدًا لَا عَقِبَ لَهُ.
تَأْوِيلُ: كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ لبيد:
__________
- القواعد تأويلات لا يشهد لها نقل، ولا يحترمها عقل، القضية المعروضة: أيسجد محمد لصنم، ويثنى على صنم، ويفترى على الله الكذب؟ أيخفى على محمد- وقد هداه القرآن- حقيقة الكفر وألفاظ الكفر ويعبث الشيطان به؟ كل مسلم يلعن من ينسب إلى الرسول هذا الفرية الخبيثة الجاحدة. وأقول هنا تعليقا على قوله سبحانه: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) إنها وردت فى سورة الحج عقب التذكير بالقوم الذين كذبوا رسلهم، وببعض مواقف المشركين منه صلى الله عليه وسلم، وإملاء الله للقرى وهى ظالمة، وكذلك التذكير بمصير الصالحين والمعاندين. إن ورودها كذلك يؤكد أن التمنى المقصود هو تمنيه صلى الله عليه وسلم إسلام قومه كما تمنى الرسل والنبيون قبله. وأن إلقاء الشيطان فى أمنية الرسول (ص) هو وسوسته التى يبثها فى نفوس أوليائه؛ ليحملهم على البقاء على الكفر، فلا تتحقق أمنية الرسول (ص) ، وأما نسخ الله لما يلقى الشيطان، فهو نصره لرسوله وتأييده له حتى يؤمن الكثير من قومه، كما فعل بيونس وغيره. والله أعلم.
(1) ورد نسبه فى نسب قريش دون ذكر أبى كبير ص 256 أما أبو كبير فهو منهب بن عبد بن قصى فى نسب قريش. شهد بدرا مع النبى «ص» وقتل يوم اليرموك شهيدا. ص 257.(3/349)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَلَا كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ
وَقِصّةُ ابْنِ مَظْعُونٍ إلَى آخِرِهَا، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَشْكُلُ غَيْرَ سُؤَالٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم: أصدق كَلِمَةٍ قَالَهَا الشّاعِرُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
أَلَا كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ «1»
فَصَدّقَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ- عَلَيْهِ السّلَامُ- يَقُولُ فِي مُنَاجَاتِهِ: «أَنْتَ الْحَقّ، وَقَوْلُك الْحَقّ، وَوَعْدُك الْحَقّ، وَالْجَنّةُ حَقّ، وَالنّارُ حَقّ، وَلِقَاؤُك حَقّ» «2» ، فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ:
أَلَا كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: مَا خَلَا اللهَ: مَا عَدَاهُ، وَعَدَا رَحْمَتِهِ الّتِي وَعَدَ بِهَا مَنْ رَحِمَهُ، وَالنّارُ وَمَا تَوَعّدَ بِهِ مَنْ عِقَابِهِ، وَمَا سِوَى هَذَا فَبَاطِلٌ أَيْ: مُضْمَحِلّ وَالْجَوَابُ الثّانِي: أَنّ الْجَنّةَ وَالنّارَ وَإِنْ كَانَتَا حَقّا، فَإِنّ الزّوَالَ عَلَيْهِمَا جَائِزٌ لِذَاتِهِمَا، وَإِنّمَا يَبْقَيَانِ بِإِبْقَاءِ اللهِ لَهُمَا، وَأَنّهُ يَخْلُقُ الدّوَامَ لأهلهما على
__________
(1) رواه الشيخان عن أبى هريرة. وفى رواية لمسلم: أصدق بيت. وفى رواية لأحمد والترمذى عن أبى هريرة: أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد، وهذه الرواية ترفع إشكال السهيلى، وقد عد البخارى وابن أبى خيثمة وغيرهما لبيدا، فى الصحابة. وقيل: عاش قرنا ونصفا أو أكثر، ومات فى خلافة عثمان. وهو القائل.
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس: كيف لبيد
(2) رواه البخارى(3/350)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الدّوَامَ وَالْبَقَاءَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الذّاتِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيّ، وَإِنّمَا الْحَقّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الزّوَالُ، وَهُوَ الْقَدِيمُ «1» الّذِي انْعِدَامُهُ مُحَالٌ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَنْتَ الْحَقّ بِالْأَلِفِ وَاللّامّ، أَيْ الْمُسْتَحِقّ لِهَذَا الِاسْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَوْلُك الْحَقّ؛ لِأَنّ قَوْلَهُ قَدِيمٌ، وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَيَبِيدُ، وَوَعْدُك الْحَقّ، كَذَلِكَ، لِأَنّ وَعْدَهُ كَلَامُهُ، هَذَا مُقْتَضَى الْأَلِفِ وَاللّامّ، ثُمّ قَالَ: وَالْجَنّةُ حَقّ، وَالنّارُ حَقّ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَلِقَاؤُك حَقّ كَذَلِكَ؛ لِأَنّ هَذِهِ أُمُورٌ مُحْدَثَاتٌ وَالْمُحْدَثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْبَقَاءُ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ، وَإِنّمَا عَلِمْنَا بَقَاءَهَا مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ الصّادِقِ الّذِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخُلْفُ، لَا مِنْ جِهَةِ اسْتِحَالَةِ الْبَقَاءِ عَلَيْهَا، كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَى الْقَدِيمِ- سُبْحَانَهُ- الّذِي هُوَ الْحَقّ، وَمَا خَلَاه بَاطِلٌ، فَإِمّا جَوْهَرٌ وَإِمّا عَرَضٌ، وَلَيْسَ فِي الْأَعْرَاضِ إلّا ما يجب له الفناء، ولا فى الجواهر إلّا مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ وَالْبُطُولُ، وَإِنْ بَقِيَ وَلَمْ يَبْطُلْ فَجَائِزٌ أَنْ يَبْطُلَ. وَأَمّا الحق- سبحانه-
__________
(1) لم يرد فى قرآن ولا سنة وصف الله بالقدم، وإنما ورد فى القرآن وصفه بأنه الأول. أما القدم فكانت صفة للضلال: (قالُوا: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) يوسف: 95 وللعرجون: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) يس: 39 والإفك: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، فَسَيَقُولُونَ: هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) الأحقاف: 11 والاباء الضالين السابقين: (قالَ: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) الشعراء: 76 ولا يجوز وصف الله بصفة هذا استعمالها وهذه مواردها فى القرآن الكريم، كما لا يجوز أن يسمى الله أو يوصف إلا بما سمى ووصف به نفسه، ولو وضعت صفة أنه «الأول» بدلا من قديم لاستراح الفكر البشرى من هذا الجدل المحموم الذى استمر حتى الان حول صفة القدم ومدلولها ونسبتها إلى الله والعالم. فلا ينكر حتى زنادقة الفلسفة وملحدو الإشراقية أنه سبحانه هو: الأول.(3/351)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلَيْسَ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، فَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ لَهُمَا، أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِمَا.
ذَكَرَ حَدِيثَ أبى بكر مع ابن الرغنة:
وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ لَقِيَ ابْنَ الدّغُنّةِ، وَاسْمُهُ: مَالِكٌ، وَهُوَ سَيّدُ الْأَحَابِيشِ، وَقَدْ سَمّاهُمْ ابْنُ إسْحَاقَ، وَهُمْ: بَنُو الْحَارِثِ وَبَنُو الْهُونِ مِنْ كِنَانَةَ، وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ تَحَبّشُوا، أَيْ: تَجَمّوْا، فَسُمّوا الْأَحَابِيشَ. قِيلَ:
إنّهُمْ تَحَالَفُوا عِنْدَ جُبَيْلٍ، يُقَالُ لَهُ حُبْشِيّ «1» ، فَاشْتُقّ لَهُمْ مِنْهُ هَذَا الِاسْمُ.
وَقَوْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ: إنّك لِتَكْسِبَ الْمَعْدُومَ «2» ، يُقَالُ: كَسَبْتِ الرّجُلَ مَالًا،
__________
(1) قال عنه ابن دريد فى الاشتقاق: جبل يقال له حبشى. ص 193.
(2) فى رواية للبخارى أنه قال له: «إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق» ونحن نلحظ أنه عين ما قالته أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها للنبى صلى الله عليه وسلم حين عاد إلى البيت ليلة الوحى والحديث فى البخارى بسنده عن عروة بن الزبير عن عائشة، وفيه أن أبا بكر خرج مهاجر إلى أرض الحبشة حتى بلغ برك- الكسر أشهر- الغماد، والدغنة بفتح الدال وكسر الغين وتخفيف النون، أو فتحها وفتح النون مع تشديدها، أو بضم الدال والغين وتشديد النون، وسمى بهذا لاسترخاء فى لسانه. أو لأن الدغنة أمه، أو أم أبيه، وقيل: دابته. وفى رواية البخارى: «وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية فى أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج» وفيه أيضا: «فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه فى داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ فى غير داره، ثم بدا لأبى بكر، فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلى فيه، ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم» . رواه البخارى فى باب الهجرة إلى المدينة مطولا. وفى مواضع أخرى مختصرا.(3/352)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَتَعُدّيهِ إلَى مَفْعُولَيْنِ، هَذَا قَوْلُ الْأَصْمَعِيّ، وَحَكَى غَيْرُهُ: أَكَسَبْته مَالًا، فَمَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، أَيْ: تكسب غَيْرَك مَا هُوَ مَعْدُومٌ عِنْدَهُ، وَالدّغُنّةُ: اسْمُ امْرَأَةٍ عُرِفَ بِهَا الرّجُلُ، وَالدّغْنُ: الْغَيْمُ يَبْقَى بَعْدَ الْمَطَرِ.
عَنْ الشّعْبِ وَنَقْضِ الصّحِيفَةِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ نَقْضَ الصّحِيفَةِ، وَقِيَامَ هِشَامٍ فِيهَا وَنَسَبَهُ، فقال: هشام ابن الْحَارِثِ، بْنُ حَبِيبٍ، وَفِي الْحَاشِيَةِ عَنْ أَبِي الوليد: إنما هو هشام بن عمرو ابن رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ «1» ، وَهَكَذَا وَقَعَ نَسَبُهُ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ، وَكَانَ أَبُوهُ عَمْرٌو أَخَا نَضْلَةَ بْنِ هَاشِمٍ لِأُمّهِ.
وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ يَأْتِي بِالْبَعِيرِ قَدْ أَوْقَرَهُ بَزّا بِالزّايِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي غَيْرِ نُسْخَةِ الشّيْخِ أَبِي بحر: برّا، وفى رواية يونس: بزّا أَوْ بُرّا عَلَى الشّكّ مِنْ الرّاوِي.
وَذَكَرَ أَنّ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ كَانَ كَاتِبَ الصّحِيفَةِ، فشلّت يده، وللنّسّاب
__________
(1) لعل المؤلف كانت بيده نسخة من السيرة غير التى معنا، فالتى معنا فيها: هاشم بن عمرو بن ربيعة، ونسبه مختلف عما فى كتاب نسب قريش، فهو فيه هكذا: «هِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بن حبيب بن جذيمة بن مالك اين حسل بن عامر بن لؤى، فهو فى النسب كما ترى من نسل جذيمة بن مالك، أما فى السيرة فهو من نسل نصر بن مالك شقيق جذيمة، وقد قال مصعب عن هاشم هذا: «وهو الذى قَامَ فِي نَقْضِ الصّحِيفَةِ الّتِي كَتَبَتْ قُرَيْشٌ على بنى هاشم فى نفر قاموا معه، منهم: مطعم بن عدى بن نوفل وزمعة بن الأسود بن المطلب، وأبو البخترى بن هشام بن الحارث فى رجال من قريش» ص 431، وانظر أيضا ص 412 عن سلالة عامر بن لؤى(3/353)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ قُرَيْشٍ فِي كَاتِبِ الصّحِيفَةِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أن كاتب الصحيفة هو: بغيض ابن عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عبد الدار، والقول الثانى: أنه منصور ابن عبد شرحبيل بن هاشم من بنى عبدا الدّارِ أَيْضًا، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الزّبَيْرُ فِي كَاتِبِ الصّحِيفَةِ غَيْرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَالزّبَيْرِيّون أَعْلَمُ بِأَنْسَابِ قَوْمِهِمْ «1» .
وَذَكَرَ مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الشّعْبِ مِنْ ضِيقِ الْحِصَارِ لَا يُبَايَعُونَ وَلَا يُنَاكَحُونَ، وَفِي الصّحِيحِ: أَنّهُمْ جَهِدُوا حَتّى كَانُوا يَأْكُلُونَ الْخَبَطَ وَوَرَقَ السّمَرِ، حَتّى إنّ أَحَدَهُمْ لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشّاةُ «2» ، وَكَانَ فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ. رُوِيَ أَنّهُ قَالَ: لَقَدْ جُعْت، حَتّى إنّي وَطِئْت ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى شَيْءٍ رَطْبٍ، فَوَضَعْته فِي فَمِي وَبَلَعْته، وَمَا أَدْرِي مَا هُوَ إلَى الْآنَ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ: أَنّ سَعْدًا قَالَ: خَرَجْت ذَاتَ لَيْلَةٍ لِأَبُولَ، فَسَمِعْت قَعْقَعَةً تَحْتَ الْبَوْلِ، فَإِذَا قِطْعَةٌ مِنْ جِلْدِ بَعِيرٍ يَابِسَةٍ، فَأَخَذْتهَا وَغَسَلْتهَا، ثُمّ أَحْرَقْتهَا ثُمّ رَضَضْتهَا، وَسَفِفْتهَا بِالْمَاءِ، فَقَوِيت بِهَا ثَلَاثًا، وَكَانُوا إذَا قَدِمَتْ الْعِيرُ مَكّةَ يَأْتِي أَحَدُهُمْ السّوقَ لِيَشْتَرِيَ شَيْئًا مِنْ الطّعَامِ لِعِيَالِهِ، فَيَقُومُ أَبُو لَهَبٍ عدوّ الله، فيقول:
__________
(1) ذكر هما المصعب الزبيرى ص 232 نسب قريش، وذكر أن كنية منصور هى: أبو الروم
(2) فى اللسان: «وأما الذى فى حديث سعد: إن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة. أراد: ان نجوهم- النجو: ما يخرج من البطن من غائط- كان يخرج بعرا ليبسه من أكلهم ورق السمر، وعدم الغذاء المألوف» مادة وضع.(3/354)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَا مَعْشَرَ التّجّارِ: غَالُوا عَلَى أَصْحَابِ مُحَمّدٍ، حَتّى لَا يُدْرِكُوا مَعَكُمْ شَيْئًا، فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لِي وَوَفَاءُ ذِمّتِي، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا خَسَارَ عَلَيْكُمْ، فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ فِي السّلْعَةِ، قِيمَتُهَا أَضْعَافًا حَتّى يَرْجِعَ إلَى أَطْفَالِهِ، وَهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجَوْعِ، وَلَيْسَ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ يُطْعِمُهُمْ بِهِ، وَيَغْدُو التّجّارُ عَلَى أَبِي لَهَبٍ، فَيُرْبِحُهُمْ فِيمَا اشْتَرَوْا مِنْ الطّعَامِ وَاللّبَاسِ، حَتّى جَهِدَ الْمُؤْمِنُونَ، وَمَنْ مَعَهُمْ جَوْعًا وَعُرْيًا، وَهَذِهِ إحْدَى الشّدَائِدِ الثّلَاثِ الّتِي دَلّ عَلَيْهَا تَأْوِيلُ الْغَطّات الثّلَاثِ الّتِي غَطّهُ جِبْرِيلُ حِينَ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ، وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَهُ فِي مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ تَأْوِيلٌ وَإِيمَاءٌ، وَقَدْ تَقَدّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا قَبْلُ، وَإِلَى آخِرِ حَدِيثِ الصّحِيفَةِ لَيْسَ فِيهَا مَا يَشْكُلُ «1»
__________
(1) كان ابتداء حصرهم فى المحرم سنة سبع من المبعث، فأقاموا سنتين أو ثلاثا كما روى ابن إسحاق، وجزم موسى بن عقبة بأنها كانت ثلاث سنين. وذكر الواقدى أن خروجهم من الشعب كان فى سنة عشر من المبعث، ومات أبو طالب بعد أن خرجوا بقليل. ويقول الحافظ فى فتح البارى: «ولما لم يثبت عند البخارى شىء من هذه القصة اكنفى بإيراد حديث أبى هريرة: نصه: «قال: قال رسول الله (ص) حين أراد حنينا: منزلنا غدا إن شاء الله بخيف بنى كنانة، حيث تقاسموا على الكفر» لأن فيه دلالة على أصل القصة، لأن الذى أورده أهل المغازى من ذلك كالشرح لقوله فى الحديث: على الكفر» ص 152 وما بعدها ج 7 فتح البارى. ويقول الحافظ فى نفس المكان أيضا عما أكلته الأرضة من الصحيفة: «أما ابن إسحاق وموسى بن عقبة وعروة فذكروا عكس ذلك أن الأرضة لم تدع اسما لله إلا أكلته، وبقى ما فيها من الظلم والقطيعة» قال البرهان ما حاصله: وهذا أثبت من الأول ص 290 ج 1 شرح المواهب اللدنية.(3/355)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شرح والية أَبِي طَالِبٍ:
وَقَوْلُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا «1» قَدْ أَتَى بَحْرِيّنَا، يَعْنِي الّذِينَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، نَسَبَهُمْ إلَى الْبَحْرِ لِرُكُوبِهِمْ إيّاهُ، وَهَكَذَا وَجْهُ النّسَبِ إلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ:
إذَا نَشَأَتْ بَحْرِيّةٌ، وَزَعَمَ ابْنُ سِيدَهْ فِي كِتَابِ الْمُحْكَمِ لَهُ أَنّ الْعَرَبَ تَنْسِبُ إلَى الْبَحْرِ: بَحْرَانِيّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَأَنّهُ مِنْ شَوَاذّ النّسَبِ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إلَى سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ، وَلَمْ يَقُلْهُ سِيبَوَيْهِ قَطّ، وَإِنّمَا قَالَ فِي شَوَاذّ النّسَب: تَقُولُ فِي بَهْرَاءَ: بَهْرَانِيّ، وَفِي صَنْعَاءَ: صَنْعَانِيّ، كَمَا تَقُولُ: بَحْرَانِيّ فِي النّسَبِ إلَى الْبَحْرَيْنِ الّتِي هِيَ مَدِينَةٌ، وَعَلَى هَذَا تَلَقّاهُ جَمِيعُ النّحَاةِ، وَتَأَوّلُوهُ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَإِنّمَا شُبّهَ عَلَى ابْنِ سِيدَهْ لِقَوْلِ الْخَلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَعْنِي مَسْأَلَةَ النّسَبِ إلَى الْبَحْرَيْنِ، كَأَنّهُمْ بَنَوْا الْبَحْرَ عَلَى بَحْرَانِ، وَإِنّمَا أَرَادَ لفظ البحرين «2» ألا تراه يقول
__________
(1) فى السيرة: ألا هل.
(2) قياسها: بحرينى. ولكنهم قالوا: بحرانى، فقياس المثنى المجعول نونه معتقب الإعراب أن يكون فى الأحوال بالألف، فإلزام البحرين الياء شاذ إذن وإذا جعل نون المثنى معتقب الإعراب لم يحذف فى النسب لا هو ولا الألف فقيل: بحرانى على أنه منسوب إلى البحران المجعول نونه معتقب الإعراب ص 82 ح 2 شرح الشافية، وللتوضيح أقول: من العلماء من يلزم المثنى إذا سمى به الألف والنون ويعربه إعراب ما لا ينصرف، ومنهم من يلزمه الألف والنون ويصرفه فتظهر علامات الإعراب على النون رفعا وجرا ونصبا، ولا تكون الألف علامة إعراب، ولهذا ينسب إلى المثنى حينئذ دون حذف شىء منه مثل بحرانى. وقياس صنعاء وبهراء فى النسب: بهراوى وصنعاوى مثل حمراوى، ولكنهم أبدلوا النون من الواو شذوذا للمناسبة التى بينهما. وقيل فى النون التى فى صنعانى إنها بدل من الهمزة فى صنعاء، أو بدل من الواو فى نسبها القياسى، وهو صنعاوى كأنهم قالوا: صنعاوى كصحراوى، ثم أبدلوا من الواو نونا، وهو المختار عند(3/356)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي كِتَابِ الْعَيْنِ: تَقُولُ بَحْرَانِيّ فِي النّسَبِ إلَى الْبَحْرَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ النّسَبَ إلَى الْبَحْرِ أَصْلًا لِلْعِلْمِ بِهِ، وَأَنّهُ عَلَى الْقِيَاسِ جَارٍ، وَفِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ عَنْ الْيَزِيدِيّ أَنّهُ قَالَ: إنّمَا «1» قَالُوا: بَحْرَانِيّ فِي النّسَبِ إلَى الْبَحْرَيْنِ، وَلَمْ يَقُولُوا: بَحْرِيّ لِيُفَرّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النّسَبِ إلى البحر، وما زال ابن سيدة بعثر فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ [عَثَرَاتٌ] يَدْمِي مِنْهَا الْأَظَلّ، وَيَدْحَضُ دَحَضَاتٍ تُخْرِجُهُ إلَى سَبِيلِ مَنْ ضَلّ «2» أَلَا تَرَاهُ قَالَ فِي هَذَا الْبَابِ: وَذَكَرَ بُحَيْرَةَ طَبَرِيّةَ، فَقَالَ: هِيَ مِنْ أَعْلَامِ خُرُوجِ الدّجّالِ، وَأَنّ مَاءَهَا يَيْبَسُ عِنْدَ خُرُوجِهِ، والحديث: إنما جاء فى «3» عين زُغَرٍ، وَإِنّمَا ذَكَرْت بُحَيْرَةَ طَبَرِيّةَ فِي حَدِيثِ يأجوج ومأجوج،
__________
- الزمخشرى، لأن النون من الفم، والهمزة من أقصى الحلق، فلا مناسبة بينهما، أما النون فتقارب الواو. وقد سبق ذكر شىء من هذا. هذا وقد ورد فى اللسان منسوبا إلى ابن سيدة: «والنسب إلى البحر: بحرانى على غير قياس. قال سيبويه قال الخليل: كأنهم بنوا الاسم على فعلان» ثم نقل ابن منظور بعد هذا عين ما ذكره السهيلى ردا على ابن سيدة، وقد نسبه إلى السهيلى. وفيه: «اشبته على ابن سيدة» بدلا من شبه. والزيدى بدلا من اليزيدى.
(1) فى الأصل: إذا، والتصويب من اللسان ص 233 الذى وردت فيه نفس هذه الفقرة.
(2) الأظل باطن الإصبع، ودحض كقطع: زلقت رجله.
(3) فى اللسان: غور. وفى معجم البكرى: عين زغر اختلف فيها، فقيل هى بالشام. قال الكلبى: زغر: امرأة نسبت إليها هذه العين. وفى حديث على أن عين زغر بالبصرة. وعين زغر هى التى سأل عنها الدجال فى حديث تميم الدارى. وقال ابن سهل الأحول: سميت بزغر بنت لوط. وفى المراصد: قرية بمشارف الشام فى طرف البحيرة المنتنة، وتسمى البحيرة بها، وهى قرب الكرك.(3/357)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَنّهُمْ يَشْرَبُونَ مَاءَهَا، وَقَالَ فِي الْجِمَارِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ: [إنّمَا] هِيَ الّتِي تُرْمَى بِعَرَفَةَ، وَهَذِهِ هَفْوَةٌ لَا تُقَالُ، وَعَثْرَةُ [لَا] لعالها «1» وَكَمْ لَهُ مِنْ هَذَا إذَا تَكَلّمَ فِي النّسَبِ وَغَيْرِهِ «2» ، وَمِنْ النّسَبِ إلَى الْبَحْرِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ حِينَ قَدِمَتْ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ: الْبَحْرِيّةُ الْحَبَشِيّةُ، فَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا هَلْ أَتَى بَحْرِيّنَا.
وَقَوْلُهُ: وَاَللهُ بِالنّاسِ أَرْوَدُ: أَيْ: أَرْفَقُ، وَمِنْهُ: رُوَيْدك، أَيْ: رِفْقًا جَاءَ بِلَفْظِ التّصْغِيرِ؛ لِأَنّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ تَقْلِيلًا أَيْ: اُرْفُقْ قَلِيلًا، وَلَيْسَ لَهُ مُكَبّرٌ مِنْ لَفْظِهِ؛ لِأَنّ الْمَصْدَرَ: إرْوَادًا، إلّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَصْغِيرِ التّرْخِيمِ، وَهُوَ أَنْ تُصَغّرَ الِاسْمُ الّذِي فِيهِ الزّوَائِدُ، فَتَحْذِفُهَا فِي التّصْغِيرِ، فَتَقُولُ فِي أَسْوَدَ: سُوَيْد، وَفِي مِثْلِ إرْوَادٍ: رُوَيْدٌ «3» .
وَقَوْلُهُ: مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِقَرْقَرِ: أَيْ: لَيْسَ بِذَلِيلِ، لِأَنّ الْقَرْقَرَ: الأرض
__________
(1) لعا: صوت معناه: الدعاء للعاثر بأن يرتفع من عثرته. يقال: لعا لفلان وفى الدعاء عليه بالتعس: يقولون: لا لعاله. والسياق يقتضى وجود كلمة: لا. وقد وضعتها لهذا، ومع ذلك فهى فى اللسان الذى نقل هذا النص كله عن السهيلى.
(2) إلى هنا انتهى ما نقله اللسان عن الروض، وقد نقل من أول: زعم ابن سيدة فى كتاب المحكم.
(3) تصغير الترخيم شاذ قليل، ويرى الفراء أن العلم وحده هو الذى يصغر تصغير الترخيم، لأن ما يبقى منه بعد الترخيم دليل على ما حذف لشهرة العلم، وأجازه البصريون فى غير العلم واستشهدوا بالمثل: عرف حميق جمله فصغر أحمق تصغير ترخيم.(3/358)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَوْطُوءَةُ الّتِي لَا تَمْنَعُ سَالِكَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدُ بِهِ: لَيْسَ بِذِي هَزْلٍ، لِأَنّ الْقَرْقَرَةَ: الضّحِكُ.
وَقَوْلُهُ: وَطَائِرُهَا فِي رَأْسِهَا يَتَرَدّدُ. أَيْ: حَظّهَا مِنْ الشّؤْمِ وَالشّرّ، وَفِي التّنْزِيلِ: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ الْإِسْرَاءُ: 13، وَقَوْلُهُ: لَهَا حُدُجٌ سَهْمٌ وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ، وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ مِمّا كَتَبَهُ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْكِنَانِيّ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ: لَعَلّهُ حُدُجٌ بِضَمّ الْحَاءِ وَالدّالِ جَمْعُ حِدْجٍ عَلَى مَا حَكَى الْفَارِسِيّ، وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَيْهِ عَنْ ثَعْلَبٍ:
قُمْنَا فَآنَسْنَا الْحُمُولَ وَالْحُدُجْ
وَنَظِيرُهُ: سِتْرُ وَسُتُرٌ، ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي مُحْكَمِهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى:
إنّ الّذِي يَقُومُ لَهَا مَقَامَ الْحُدُجِ سَهْمٌ وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ. إلَى هُنَا انْتَهَى مَا فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ. قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَفِي الْعَيْنِ: الْحَدَجُ: حَسَكُ الْقُطْبِ [مَا دَامَ رَطْبًا] فَيَكُونُ «1» الْحَدَجُ فِي الْبَيْتِ مُسْتَعَارًا مِنْ هَذَا، أَيْ: لَهَا حَسَكٌ، ثُمّ فَسّرَهُ فَقَالَ: سَهْمٌ وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ «2» ، هَكَذَا فِي الْأَصْلِ بِالرّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ
__________
(1) القطب: ضرب من النبات يذهب حبالا على الأرض طولا، وله زهرة صغراء، وشوكه إذا حصد ويبس يشق على الناس أن يطئوه، وفى الأصل: الحدج حسك العبط. والعبط: القطن، وهذا لا يتفق مع ما قبله من قوله: «الحدج حسك» وما أثبته من اللسان، وما بين القوسين زيادة من اللسان، وقول الفارسى عن ثعلب موجود فى اللسان؛ وقد فسرها أبو ذر الخشنى بما يأتى: «حدج كثرة، وأصل الحدج: صغار الحنظل والخشخاش، فشبه كثرتهم به.
(2) عند الخشنى: مرهد بفتح الميم: رمح لين، ومن رواه فرهد، فمعناه(3/359)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَقْلُوبًا مِنْ مَرْهَدٍ: مَفْعَل مِنْ رَهَدَ الثّوْبَ إذَا مَزّقَهُ، وَيَعْنِي بِهِ رُمْحًا أَوْ سَيْفًا، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْلُوبٍ، وَيَكُونُ مِنْ الرّهِيدِ، وَهُوَ النّاعِمُ أَيْ: يُنَعّمُ صَاحِبُهُ بِالظّفَرِ، أَوْ يُنَعّمُ هُوَ بِالرّيّ مِنْ الدّمِ، وَفِي بَعْضِ النّسَخِ:
مَزَهد بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالزّاي، فَإِنْ صَحّتْ الرّوَايَةُ بِهِ، فَمَعْنَاهُ: مَزَهد فِي الْحَيَاةِ، وَحِرْصٌ عَلَى الْمَمَاتِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِيهَا: إذَا جُعِلَتْ أَيْدِي الْمُفِيضِينَ تَرْعَدُ.
يَعْنِي: أَيْدِي الْمُفِيضِينَ بِالْقِدَاحِ فِي الْمَيْسَرِ، وَكَانَ لَا يُفِيضُ مَعَهُمْ فِي الْمَيْسَرِ إلّا سَخِيّ، وَيُسَمّونَ مَنْ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ: الْبَرَمُ. وَقَالَتْ امْرَأَةٌ لِبَعْلِهَا- وَكَانَ بَرَمًا بَخِيلًا، وَرَأَتْهُ يُقْرِنُ بَضْعَتَيْنِ فِي الْأَكْلِ: أَبَرَمًا قُرُونًا «1» وَيُسَمّونَهُ أَيْضًا: الْحَصُورَ:
يُرِيدُ أَبُو طَالِبٍ: إنّهُمْ يُطْعِمُونَ إذَا بَخِلَ النّاسُ. وَالْمَيْسَرُ: هِيَ الْجَزُورُ الّتِي تُقْسَمُ، يُقَالُ: يَسَرْت إذَا قَسَمْت، هَكَذَا فَسّرَهُ الْقُتَبِيّ وَأَنْشَدَ:
أَقُولُ لَهُمْ بِالشّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي ... أَلَمْ يَيْأَسُوا أَنّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ «2»
قَالَ: يَيْسِرُونَنِي أَيْ: يَقْتَسِمُونَ مَالِي، وَيُرْوَى: يأسروننى من الأسر
__________
- الرمح الذى إذا طعن به، وسع الخرق، ومن رواه مزهد، فهو ضعيف لا معنى له إلا أن يراد به الشدة على معنى الاشتقاق.
(1) فى اللسان: وفى المثل: أبر ما قرونا. أى: هو برم ويأكل مع ذلك تمرتين تمرتين
(2) البيت فى اللسان، وقد نسبه فى مادة يسر إلى سحيم بن وثيل اليربوعى. وفيه: ألم تعلموا بدلا من: ألم ييأسوا. كان وقع عليه سباء فضرب عليه بالسهام. وفى مادة زهدم يقول: قال ابن برى: زهدم: اسم لفرس لسحيم بن وثيل، وفيه يقول ابن جابر: أقول لهم بالشعب الخ. والزهدم: الصقر، وزهدم: اسم فرس، وفارس يقال له: فارس زهدم.(3/360)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ: رَفْرَفُ الدّرْعُ أَحْرَدُ. رَفْرَفُ الدّرْعِ: فُضُولُهَا، وَقِيلَ فِي مَعْنَى:
رَفْرَفٍ خُضْرٍ: فُضُولُ الْفُرُشِ وَالْبُسُطِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وَعَنْ عَلِيّ أَنّهَا:
الْمَرَافِقُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الرّفَارِفُ: رِيَاضُ الْجَنّةِ، وَالْأَحْرَدُ الّذِي فِي مَشْيِهِ تَثَاقُلٌ، وَهُوَ مِنْ الْحَرَدِ، وَهُوَ: عَيْبٌ فِي الرّجُلِ. وفيه: هم رجعوا سهل بن بَيْضَاءَ رَاضِيًا. سَهْلٌ هَذَا هُوَ: ابْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، يُعْرَفُ: بِابْنِ الْبَيْضَاءِ «1» ، وَهِيَ أُمّهُ، وَاسْمُهَا: دَعْدُ بِنْتُ جَحْدَمِ بْنِ أُمَيّةَ ابن ضَرِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ: سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ وَصَفْوَانُ بَنُو الْبَيْضَاءِ. وَقَوْله:
وَإِنّي وَإِيّاهُمْ كَمَا قَالَ قَائِلٌ ... لَدَيْك الْبَيَانُ لَوْ تَكَلّمَتْ أَسْوَدُ «2»
أَسْوَدُ: اسْمُ جَبَلٍ كَانَ قَدْ قُتِلَ فِيهِ قَتِيلٌ، فَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فنال أولياء المقتول هذه المقالة، فذهبت مثلا.
__________
(1) ورد نسب وهب فى نسب قريش هكذا: «وهب، بن ربيعة بن هلال ابن مالك بن ضبة بن الحارث» ص 446 ولم يذكر غير سهيل وصفوان ابن وهب بن ربيعة بن هلال، لكن فى جمهرة ابن حزم: «سهل بن وهب بن ربيعة بن عامر بن مالك بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ «ص 167 جمهرة ابن حزم، ولم يذكر سهيلا. والأم فى النسب هى: دعد بنت جحدم بن عمرو بن عائش، وفى جمهرة ابن حزم جاء بعد عائش: ابن المطرف بن حارث بن فهر.
(2) فى النسخة التى معنا: «فإنى وإياكم» وفى القاموس: أسود العين، وأسود النساء، وأسود العشاريات، وأسود الدم، وأسود الحمى: جبال، وفى الخشن أسود: اسم رجل، وأراد: يا أسود، وهو مثل يضرب للقادر على الشىء ولا يفعله ص 109.(3/361)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُ حَسّانَ فِي مُطْعِمٍ وَهِشَامِ بْنِ عَمْرٍو:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ حَسّانَ فِي مُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ، وَيَذْكُرُ جِوَارَهُ لِلنّبِيّ- عَلَيْهِ السّلَامُ- وَذَلِكَ حِينَ رَجَعَ مِنْ الطّائِفِ، وَقِيَامُهُ فِي أَمْرِ الصّحِيفَةِ:
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلِدُ الدّهْرَ وَاحِدًا ... مِنْ النّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمًا «1»
وَهَذَا عِنْدَ النّحْوِيّينَ مِنْ أَقْبَحِ الضّرُورَةِ، لِأَنّهُ قَدّمَ الْفَاعِلَ، وَهُوَ مُضَافٌ إلَى ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ، فَصَارَ فِي الضّرُورَةِ؛ مِثْلَ قَوْلِهِ:
جَزَى رَبّهُ عَنّي عدىّ بن حاتم «2»
__________
(1) استشهد به ابن عقيل فى شرح الألفية، وهو يشرح قول ابن مالك.
وشاع نحو خاف ربه عمر ... وشذ نحو زان نوره الشجر
أى: شاع تقديم المفعول المشتمل على ضمير يرجع إلى الفاعل المتأخر، وشذ عود الضمير من الفاعل المتقدم على المفعول المتأخر، وإنما شذ ذلك لأن فيه عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة؛ لأن الشجر مفعول به، وهو متأخر لفظا، والأصل فيه أن ينفصل عن الفعل، فهو متأخر رتبة. وقد أجاز هذا الأخفش وابن جنى وأبو عبد الله الطوال وابن مالك فى التسهيل، ونصر الجرجانى مذهب الأخفش، وفى بيتنا هذا أخر المفعول وهو مطعم عن الفاعل، وهو مجده مع أن الفاعل مضاف إلى ضمير يعود على المفعول. فيقتضى رجوع الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة. والبيت فى الاشتقاق: «فلو أن مجدا خلد الخ ص 88.
(2) البيت لأبى الأسود الدؤلى يهجو عدى بن حاتم الطائى، وبقيته: «جزاء الكلاب العاويات وقد فعل» . وقد نسبه ابن جنى إلى النابغة الذبيانى. والشاهد فيه تأخير المفعول وهو عدى، وقدم الفاعل وهو ربه مع اتصال الفاعل بضمير يعود على المفعول. انظر خزانة الأدب للبغدادى ح 1 ص 190 وما بعدها وشرح ابن عقيل للألفية ح 1 ص 420 بتحقيق الشيخ محيى الدين عبد الحميد.(3/362)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَيْرَ أَنّهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَشْبَهُ قَلِيلًا لِتَقَدّمِ ذِكْرِ مُطْعِمٍ، فَكَأَنّهُ قَالَ: أَبَقِيَ مَجْدُ هَذَا الْمَذْكُورِ الْمُتَقَدّمِ ذِكْرُهُ مُطْعِمًا. وَوَضَعَ الظّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، كَمَا لَوْ قُلْت:
إنّ زَيْدًا ضَرَبْت جَارِيَتَهُ زَيْدًا، أَيْ: ضَرَبْت جَارِيَتَهُ إيّاهُ، وَلَا بَأْسَ بِمِثْلِ هَذَا، وَلَا سِيّمَا إذَا قَصَدْت قَصْدَ التّعْظِيمِ وَتَفْخِيمَ ذِكْرِ الْمَمْدُوحِ، كَمَا قال الشاعر:
ومالى أَنْ أَكُونَ أَعِيبُ يَحْيَى ... وَيَحْيَى طَاهِرُ الْأَثْوَابِ بَرّ
وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عِنْدِي عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: وَبَكّي عَظِيمَ الْمَشْعَرَيْنِ، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مِنْ قَوْلِهِ: أَبْقَى مَجْدُهُ مَحْذُوفًا، فَكَأَنّهُ قَالَ: أَبْقَاهُ مَجْدُهُ أَبَدًا، وَالْمَفْعُولُ لَا قُبْحَ فِي حَذْفِهِ، إذَا دَلّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ كَمَا فِي هَذَا الْبَيْتِ.
وَذَكَرَ قَوْلَ حَسّانَ فِي هِشَامِ بْنِ عمرو، وقال فيه: للحارث بن حبيّب ابن سُخَامٍ، وَقَدْ تَقَدّمَ نَسَبُهُ، وَهُوَ حُبَيْبٌ بِالتّخْفِيفِ تَصْغِيرُ حِبّ، وَجَعَلَهُ حَسّانُ تَصْغِيرَ حَبِيبٍ، فَشَدّدَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الضّرُورَةِ؛ إذْ لَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ فِي فُلَيْسٍ: فُلَيّسٍ، وَلَا فِي كُلَيْبٍ: كُلَيّبٍ فِي شِعْرٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَكِنْ لَمّا كَانَ الْحِبّ وَالْحَبِيبُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ جَعَلَ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، وَهُوَ حَسَنٌ فِي الشّعْرِ، وَسَائِغٌ فِي الْكَلَامِ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو هَذَا أَسْلَمُ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا فِيمَا ذَكَرُوا.
وَقَوْلُهُ: ابْنُ سُخَامٍ، هُوَ: اسْمُ أُمّه، وَأَكْثَرُ أَهْلِ النّسَبِ يَقُولُونَ فِيهِ: شُحَام بِشِينِ مُعْجَمَةٍ، وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَنّ أَبَا عُبَيْدَةَ النّسّابَة وَعَوَانَةَ يَقُولُونَ فِيهِ: سُحَامٌ بِسِينِ وَحَاءٍ مُهْمَلَتَيْنِ، وَاَلّذِي فِي الْأَصْلِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ هِشَامٍ:(3/363)
[إسلام الطفيل بن عمرو الدوسى]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عَلَى مَا يَرَى مِنْ قَوْمِهِ، يَبْذُلُ لَهُمْ النّصِيحَةَ، وَيَدْعُوهُمْ إلَى النّجَاةِ مِمّا هُمْ فِيهِ. وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ، حِينَ مَنَعَهُ اللهُ مِنْهُمْ، يُحَذّرُونَهُ النّاسَ، وَمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَرَبِ.
وَكَانَ الطّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدّوْسِيّ يُحَدّثُ: أَنّهُ قَدِمَ مَكّةَ- وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَا- فَمَشَى إلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ- وَكَانَ الطّفَيْلُ رَجُلًا شَرِيفًا شَاعِرًا لَبِيبًا- فَقَالُوا لَهُ: يَا طُفَيْلُ، إنّك قَدِمْتَ بِلَادَنَا، وَهَذَا الرّجُلُ الّذِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَدْ أَعْضَلَ بِنَا، وَقَدْ فَرّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتّتْ أَمْرَنَا، وَإِنّمَا قَوْلُهُ كَالسّحْرِ يُفَرّقُ بَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَبَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَإِنّا نَخْشَى عَلَيْك وَعَلَى قَوْمِك مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا، فَلَا تُكَلّمَنّهُ وَلَا تسمعنّ منه شيئا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سُخَامٌ بِسِينِ مُهْمَلَةٍ، وَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ «1» وَلَفْظُ شخام مِنْ شَخِمَ الطّعَامُ، وَخَشَمَ إذَا تَغَيّرَتْ رَائِحَتُهُ، قاله أبو حنيفة.
__________
(1) فى نسب قريش ص 432 أن شحاما بالشين والحاء هو: جذيمة بن مالك ابن حسل، وأنه جد هِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بن حبيب بضم الحاء- ابن جذيمة ابن مالك بن حسل. وفيه أيضا أن حبيبا بن جذيمة يقال له: شحام، وأن أمه هى مارية بنت عبد معيص. وفى النسب بيت آخر غير ثلاثة الأبيات التى فى السيرة:
أخفى بنو خلف وأخنى قنفذ ... وأبو الربيع، وطار ثوب هشام
ونسب هشام فى الجمهرة كما هو فى النسب ص 160، وفى الإصابة: حنيف بدلا من حبيب. وأن هشاما أعطاه النبى (ص) دون المائة من غنائم حنين.(3/364)
قال: فو الله مَا زَالُوا بِي حَتّى أَجْمَعْتُ أَنْ لَا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا أُكَلّمَهُ، حَتّى حَشَوْتُ فِي أُذُنَيّ حِينَ غَدَوْتُ إلَى الْمَسْجِدِ كُرْسُفًا فَرَقًا مِنْ أَنْ يَبْلُغَنِي شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ. قَالَ: فَغَدَوْت إلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَائِمٌ يُصَلّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ. قَالَ: فَقُمْت مِنْهُ قَرِيبًا، فَأَبَى اللهُ إلّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ. قَالَ: فَسَمِعْتُ كَلَامًا حَسَنًا. قال: فقلت فى نفسى: واثكل أُمّي!! وَاَللهِ إنّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ مَا يَخْفَى عَلَيّ الْحَسَنُ مِنْ الْقَبِيحِ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرّجُلِ مَا يَقُولُ! فَإِنْ كَانَ الّذِي يَأْتِي بَهْ حَسَنًا قَبِلْتُهُ، وإن كان قبيحا تركته.
قَالَ: فَمَكَثْت حَتّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلَى بَيْتِهِ فَاتّبَعْتُهُ، حَتّى إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْت: يَا محمد، إنّ قومك قالوا لى كذا وكذا- للذى قالوا- فو الله مَا بَرِحُوا يُخَوّفُونَنِي أَمْرَك حَتّى سَدَدْت أُذُنَيّ بِكُرْسُفٍ لِئَلّا أَسْمَعَ قَوْلَك، ثُمّ أَبَى اللهُ إلّا أَنْ يُسْمِعَنِي قَوْلَك، فَسَمِعْتُهُ قَوْلًا حَسَنًا، فاعرض على مرك. قَالَ: فَعَرَضَ عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيّ الْقُرْآنَ، فَلَا وَاَللهِ مَا سَمِعْتُ قَوْلًا قَطّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَمْرًا أَعْدَلَ مِنْهُ، قَالَ: فَأَسْلَمْت، وَشَهِدْت شَهَادَةَ الْحَقّ، وَقُلْت:
يَا نَبِيّ اللهِ إنّي امْرُؤٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي، وَأَنَا رَاجِعٌ إلَيْهِمْ، وَدَاعِيهمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً تَكُونُ لِي عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوهُمْ إلَيْهِ فَقَالَ: اللهُمّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً.
قَالَ: فَخَرَجْت إلَى قَوْمِي، حَتّى إذَا كُنْت بِثَنِيّةٍ تُطْلِعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ وَقَعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/365)
نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيّ مِثْلُ الْمِصْبَاحِ، فَقُلْت: اللهُمّ فِي غَيْرِ وَجْهِي، إنّي أَخْشَى، أَنْ يَظُنّوا أنها مثلة وقعت فى وجهى لفراق دِينَهُمْ. قَالَ: فَتَحَوّلَ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي. قال: فجعل الحاضر يتراؤن ذَلِكَ النّورَ فِي سَوْطِي كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلّقِ، وَأَنَا أَهْبِطُ إلَيْهِمْ مِنْ الثّنِيّةِ، قَالَ: حَتّى جِئْتُهُمْ فأصبحت فيهم.
[إسلام والد الطفيل وزوجته]
قَالَ: فَلَمّا نَزَلْت أَتَانِي أَبِي، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، قَالَ: فَقُلْت: إلَيْك عَنّي يَا أَبَتِ، فَلَسْتُ مِنْك، وَلَسْتَ مِنّي، قَالَ: وَلِمَ يَا بُنَيّ؟ قَالَ: قُلْت: أَسْلَمْتُ، وَتَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَالَ: أَيْ بُنَيّ، فدينى دينك، قال:
فقلت: فاذهب، فاغتسل، وطهّر ثيابك، ثم تعال حتى أعلمك ما علّمت.
قَالَ: فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ، وَطَهّرَ ثِيَابَهُ. قَالَ: ثُمّ جَاءَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ.
قَالَ: ثُمّ أَتَتْنِي صَاحِبَتِي، فَقُلْت: إلَيْك عَنّي، فَلَسْتُ مِنْك وَلَسْت مِنّي، قَالَتْ: لِمَ؟ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، قَالَ: قُلْت: قَدْ فَرّقَ بَيْنِي وَبَيْنَك الْإِسْلَامُ، وتابعت دين محمد- صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: فَدِينِي دِينُك، قَالَ: قُلْت:
فَاذْهَبِي إلَى حِنَا ذِي الشّرَى- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: حمى ذى الشّرى- فتطهّرى منه.
ذُو الشّرَى صَنَمًا لِدَوْسٍ، وَكَانَ الْحِمَى حِمَى حموه له، بِهِ وَشَلٌ مِنْ مَاءٍ يَهْبِطُ مِنْ جَبَلٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/366)
قال: قالت: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، أَتَخْشَى عَلَى الصّبِيّةِ مِنْ ذِي الشّرَى شَيْئًا، قَالَ: قُلْت: لَا، أَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ، فَذَهَبَتْ فَاغْتَسَلَتْ، ثُمّ جَاءَتْ فَعَرَضْت عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَتْ.
ثُمّ دَعَوْت دَوْسًا إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَبْطَئُوا عَلَيّ، ثُمّ جِئْتُ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكّةَ، فَقُلْت لَهُ: يَا نَبِيّ اللهِ، إنّهُ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى دوس الزّنا، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اللهُمّ اهْدِ دَوْسًا، ارْجِعْ إلَى قَوْمِك فَادْعُهُمْ وَارْفُقْ بِهِمْ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، حَتّى هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَمَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ، ثم قدمت عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَنْ أَسْلَمَ مَعِي مِنْ قَوْمِي، وَرَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بِخَيْبَرِ، حَتّى نَزَلْتُ الْمَدِينَةَ بِسَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ، ثُمّ لَحِقْنَا بِرَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بِخَيْبَرِ، فَأَسْهَمَ لَنَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمّ لَمْ أَزَلْ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتّى إذَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ مَكّةَ، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْعَثْنِي إلَى ذِي الْكَفّيْنِ، صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ حَتّى أُحْرِقَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَخَرَجَ إلَيْهِ، فَجَعَلَ طُفَيْلٌ يُوقِدُ عَلَيْهِ النّارَ، وَيَقُول:
يا ذا الكفين لست من عبّادكا ... مِيلَادُنَا أَقْدَمُ مِنْ مِيلَادِكَا
إنّي حَشَوْتُ النّارَ فى فؤادكا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/367)
قَالَ: ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان، معه بالمدينة، حَتّى قَبَضَ اللهُ رَسُولَهُ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَلَمّا ارْتَدّتْ الْعَرَبُ، خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارَ مَعَهُمْ، حَتّى فَرَغُوا مِنْ طُلَيْحَةَ، وَمِنْ أَرْضِ نَجْدٍ كُلّهَا. ثُمّ سَارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْيَمَامَةِ- وَمَعَهُ ابْنُهُ عَمْرُو بْنُ الطّفَيْلِ- فَرَأَى رُؤْيَا وَهُوَ مُتَوَجّهٌ إلَى الْيَمَامَةِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إنّي قَدْ رَأَيْت رُؤْيَا، فَاعْبُرُوهَا لِي، رَأَيْتُ أَنّ رَأْسِي حُلِقَ، وَأَنّهُ خَرَجَ مِنْ فَمِي طَائِرٌ، وَأَنّهُ لَقِيَتْنِي امْرَأَةٌ، فَأَدْخَلَتْنِي فِي فرجها، وأرى ابنى يطلبنى طلبا حَثِيثًا، ثُمّ رَأَيْتُهُ حُبِسَ عَنّي، قَالُوا:
خَيْرًا. قَالَ: أَمّا أَنَا وَاَللهِ، فَقَدْ أَوّلْتُهَا، قَالُوا: مَاذَا؟ قَالَ: أَمّا حَلْقُ رَأْسِي فَوَضْعُهُ، وَأَمّا الطّائِرُ الّذِي خَرَجَ مِنْ فَمِي فَرُوحِي، وَأَمّا الْمَرْأَةُ الّتِي أَدَخَلَتْنِي فَرْجَهَا، فَالْأَرْضُ تُحْفَرُ لِي، فأغيّب فيها، أما طَلَبُ ابْنِي إيّايَ ثُمّ حَبْسُهُ عَنّي، فَإِنّي أُرَاهُ سَيَجْهَدُ أَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَنِي، فَقُتِلَ رَحِمَهُ اللهُ شَهِيدًا بِالْيَمَامَةِ، وَجُرِحَ ابْنُهُ جِرَاحَةً شَدِيدَةً، ثُمّ اسْتَبَلّ مِنْهَا، ثُمّ قُتِلَ عَامَ الْيَرْمُوكِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ شهيدا.
[من قصة أعشى بن قيس بن ثعلبة]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنِي خَلّادُ بْنُ قُرّةَ بْنِ خَالِدِ السّدُوسِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنّ أَعْشَى بنى قيس بن ثعلبة بن عكابة ابْنُ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وائل، [بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى ابن جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ] خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرِيدُ الْإِسْلَامَ فَقَالَ يَمْدَحُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/368)
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبتّ كمابات السّلِيمُ مُسَهّدَا
وَمَا ذَاكَ مِنْ عِشْقِ النّسَاءِ، وإنما ... تناسيت قبل اليوم خلّة مَهْدَدَا
وَلَكِنْ أَرَى الدّهْرَ الّذِي هُوَ خَائِنٌ ... إذَا أَصْلَحَتْ كَفّايَ عَادَ، فَأَفْسَدَا
كُهُولًا وَشُبّانًا فَقَدْتُ وَثَرْوَةً ... فَلِلّهِ هَذَا الدّهْرُ كَيْفَ تَرَدّدَا!!
وَمَا زِلْتُ أَبْغِي الْمَالَ مُذْ أَنَا يَافِعٌ ... وَلِيدًا وَكَهْلًا حِينَ شِبْت وَأَمْرَدَا
وَأَبْتَذِلُ الْعِيسَ المراقيل تعتلى ... مَسَافَةَ مَا بَيْنَ النّجَيْرِ فَصَرْخَدَا
أَلَا أَيّهَذَا السّائِلِي أَيْنَ يَمّمَتْ ... فَإِنّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا
فَإِنْ تَسْأَلِي عَنّي، فَيَا رُبّ سَائِلٍ ... حَفِيّ عَنْ الْأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا
أَجَدّتْ بِرِجْلَيْهَا النّجَاءَ، وَرَاجَعَتْ ... يَدَاهَا خِنَافًا لَيّنًا غير أحردا
وفيها- إذا ما هجّرت- عجر فيّة ... إذَا خِلْت حِرْبَاءَ الظّهِيرَةِ أَصْيَدَا
وَآلَيْت لَا آوِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ ... وَلَا مِنْ حَفًى حَتّى تُلَاقِي مُحَمّدَا
مَتَى مَا تُنَاخِي عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ ... تُرَاحِي، وَتَلْقَيْ مِنْ فَوَاضِلِهِ نَدَى
نَبِيّا يَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَذِكْرُهُ ... أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا
لَهُ صَدَقَاتٌ مَا تُغِبّ وَنَائِلٌ ... وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ غَدَا
أَجِدّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمّدٍ ... نَبِيّ الْإِلَهِ حَيْثُ أَوْصَى، وَأَشْهَدَا
إذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادِ مَنْ الْتَقَى ... وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... فَتُرْصِدَ لِلْأَمْرِ الّذِي كَانَ أَرْصَدَا
فَإِيّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لَا تَقْرَبَنّهَا ... وَلَا تَأْخُذَنْ سَهْمًا حَدِيدًا، لِتُفْصِدَا
وَذَا النّصَبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنّهُ ... وَلَا تَعْبُدْ الْأَوْثَانَ، وَاَللهَ فَاعْبُدَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/369)
وَلَا تَقْرَبَنّ حُرّةً كَانَ سِرّهَا ... عَلَيْكَ حَرَامًا فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبّدَا
وَذَا الرّحِمِ الْقُرْبَى فَلَا تَقْطَعَنّهُ ... لِعَاقِبَةِ وَلَا الْأَسِيرَ الْمُقَيّدَا
وَسَبّحْ عَلَى حِينِ الْعَشِيّاتِ وَالضّحَى ... وَلَا تَحْمَدْ الشّيْطَانَ وَاَللهَ فَاحْمَدَا
وَلَا تَسْخَرًا مِنْ بَائِسٍ ذِي ضَرَارَةٍ ... ولا تحسبنّ المال للمرء مخلدا
[مصير الأعشى]
فَلَمّا كَانَ بِمَكّةَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، اعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ جَاءَ يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؛ لِيُسْلِمَ، فَقَالَ لَهُ:
يَا أَبَا بَصِيرٍ، إنّهُ يُحَرّمُ الزّنَا، فَقَالَ الْأَعْشَى: والله إن ذلك لأمر مالى فِيهِ مِنْ أَرَبٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَصِيرٍ، فَإِنّهُ يُحَرّمُ الْخَمْرَ، فَقَالَ الْأَعْشَى: أَمّا هذه فو الله إنّ فِي النّفْسِ مِنْهَا لَعُلَالَاتٍ، وَلَكِنّي مُنْصَرِفٌ فَأَتَرَوّى مِنْهَا عَامِي هَذَا، ثُمّ آتِيهِ فَأُسْلِمُ. فَانْصَرَفَ فَمَاتَ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعُدْ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[ذلة أبى جهل]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ عَدُوّ اللهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ مَعَ عَدَاوَتِهِ لِرَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَبُغْضِهِ إيّاهُ، وَشِدّتِهِ عَلَيْهِ، يُذِلّهُ اللهُ لَهُ إذَا رَآهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/370)
[أبو جهل والإراشى]
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الثّقَفِيّ، وَكَانَ وَاعِيَةً، قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ إرَاشٍ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: إرَاشَةَ- بِإِبِلِ لَهُ مَكّةَ، فابتاعها منه أبو جهل، فَمَطَلَهُ بِأَثْمَانِهَا. فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ جَالِسٌ، فَقَالَ: يا معشر قريش، من رجل يؤدّ بنى عَلَى أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، فَإِنّي رَجُلٌ غَرِيبٌ، ابْنُ سَبِيلٍ، وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقّي؟: فَقَالَ لَهُ أَهْلُ ذَلِك الْمَجْلِسِ: أَتَرَى ذَلِك الرّجُلَ الْجَالِسَ- لِرَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم- وهم يهزؤن بِهِ؛ لِمَا يَعْلَمُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنْ الْعَدَاوَةِ- اذْهَبْ إلَيْهِ، فَإِنّهُ يُؤَدّيك عَلَيْهِ.
فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
يَا عَبْدَ اللهِ إنّ أَبَا الْحَكَمِ بْنَ هِشَامٍ قَدْ غلبنى على حقّ لى قبله، وأنا غَرِيبٌ ابْنُ سَبِيلٍ، وَقَدْ سَأَلْت هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَنْ رَجُلٍ يُؤَدّينِي عَلَيْهِ، يَأْخُذُ لِي حَقّي مِنْهُ، فَأَشَارُوا لِي إلَيْك، فَخُذْ لِي حَقّي مِنْهُ، يَرْحَمُك اللهُ، قَالَ: انْطَلِقْ إلَيْهِ، وَقَامَ مَعَهُ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَلَمّا رَأَوْهُ قَامَ مَعَهُ، قَالُوا لِرَجُلِ مِمّنْ مَعَهُمْ: اتْبَعْهُ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ.
قَالَ: وَخَرَجَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى جَاءَهُ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: مُحَمّدٌ، فَاخْرُجْ إلَيّ، فَخَرَجَ إلَيْهِ، وَمَا فِي وَجْهِهِ مِنْ رَائِحَةٍ، قَدْ اُنْتُقِعَ لَوْنُهُ، فَقَالَ: أَعْطِ هَذَا الرّجُلَ حَقّهُ، قَالَ: نَعَمْ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/371)
لَا تَبْرَحْ حَتّى أُعْطِيَهُ الّذِي لَهُ، قَالَ: فَدَخَلَ، فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقّهِ، فَدَفَعَهُ إلَيْهِ. قَالَ: ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَقَالَ لِلْإِرَاشِيّ:
الْحَقْ بِشَأْنِك، فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: جَزَاهُ اللهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَاَللهِ أَخَذَ لِي حَقّي.
قَالَ: وَجَاءَ الرّجُلُ الّذِي بَعَثُوا مَعَهُ، فَقَالُوا: وَيْحَك! مَاذَا رَأَيْت؟ قَالَ:
عَجَبًا مِنْ الْعَجَبِ، وَاَللهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَخَرَجَ إلَيْهِ وَمَا مَعَهُ رُوحُهُ، فَقَالَ لَهُ: أَعْطِ هَذَا حَقّهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، لَا تَبْرَحْ حَتّى أُخْرِجَ إلَيْهِ حَقّهُ فَدَخَلَ فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقّهِ، فَأَعْطَاهُ إيّاهُ. قَالَ: ثُمّ لَمْ يَلْبَثْ أَبُو جَهْلٍ أَنْ جَاءَ، فَقَالُوا لَهُ: وَيْلَك! مَا لَك؟ وَاَللهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَنَعْت قَطّ! قَالَ: وَيْحَكُمْ، وَاَللهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيّ بَابِي، وَسَمِعْت صَوْتَهُ، فَمُلِئَتْ رُعْبًا، ثُمّ خَرَجْتُ إلَيْهِ، وَإِنّ فَوْقَ رَأْسِهِ لَفَحْلًا مِنْ الْإِبِلِ، مَا رَأَيْت مِثْلَ هَامَتِهِ، وَلَا قَصَرَتِهِ، وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قط، والله لو أبيت لأكلنى.
[ركانة ومصارعته]
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار، قال: كان ركانة ابْنُ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بن عبد مناف أشدّ قريش، فحلا يَوْمًا بِرَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكّةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: يَا رُكَانَةُ، أَلَا تَتّقِي اللهَ، وَتَقْبَلُ مَا أَدْعُوك إلَيْهِ؟ قَالَ:
إنّي لَوْ أَعْلَمُ أَنّ الّذِي تَقُولُ حقّ لا تبعتك، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/372)
أَفَرَأَيْت إنْ صَرَعْتُك، أَتَعْلَمُ أَنّ مَا أَقُولُ حَقّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقُمْ حَتْي أُصَارِعَك. قَالَ: فَقَامَ إلَيْهِ رُكَانَةُ يُصَارِعُهُ، فَلَمّا بَطَشَ به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أَضْجَعَهُ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمّ قَالَ: عُدْ يَا مُحَمّدُ، فَعَادَ فَصَرَعَهُ، فَقَالَ يَا مُحَمّدُ: وَاَللهِ إنّ هَذَا لَلْعَجْبُ، أَتَصْرَعُنِي! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ إنْ شِئْت أَنْ أُرِيَكَهُ، إنْ اتّقَيْتَ اللهَ وَاتّبَعْت أَمْرِي، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: أَدْعُو لَك هَذِهِ الشّجَرَةَ الّتِي تَرَى فَتَأْتِينِي، قَالَ: اُدْعُهَا، فَدَعَاهَا، فَأَقْبَلَتْ حَتّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إلَى مَكَانِك. قَالَ: فَرَجَعَتْ إلَى مَكَانِهَا! قَالَ: فَذَهَبَ رُكَانَةُ إلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا بَنِي عبد مناف، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض، فو الله مَا رَأَيْت أَسْحَرَ مِنْهُ قَطّ، ثُمّ أَخْبَرَهُمْ بالذى رأى، والذى صنع.
[قدوم وفد النصارى من الحبشة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَهُوَ بِمَكّةَ- عِشْرُونَ رَجُلًا، أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ النّصَارَى، حِينَ بَلَغَهُمْ خَبَرُهُ مِنْ الْحَبَشَةِ، فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسُوا إلَيْهِ وَكَلّمُوهُ وَسَأَلُوهُ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَلَمّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَةِ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عَمّا أَرَادُوا، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلَى اللهِ- عَزّ وجلّ- وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/373)
لله، وآمنوا به وصدّقوه، وعرفوا منه ما كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ. فَلَمّا قَامُوا عَنْهُ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا لَهُمْ: خَيّبَكُمْ اللهُ مِنْ رَكْبٍ! بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ؛ لِتَأْتُوهُمْ بِخَبَرِ الرّجُلِ، فَلَمْ تَطْمَئِنّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ، حَتّى فَارَقْتُمْ دينكم، وصدّقتموه بمال، مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ، أَوْ كَمَا قَالُوا، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لَا نُجَاهِلُكُمْ، لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَلَكُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، لَمْ نَأْلُ أَنْفُسَنَا خَيْرًا.
وَيُقَالُ: إنّ النّفر من النّصارى من أهل بحران، فَاَللهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ.
فَيُقَالُ- وَاَللهُ أَعْلَمُ- فِيهِمْ نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ، الْآيَاتُ: «الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنّا بِهِ، إِنّهُ الْحَقّ مِنْ رَبّنَا، إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ» ... إلَى قَوْلِهِ: «لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، سَلَامٌ عليكم لا نبتغى الجاهلين» القصص:
52، 53، 55.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ سَأَلْت ابْنَ شِهَابٍ الزّهْرِيّ عَنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِيمَنْ أُنْزِلْنَ، فَقَالَ لى: ما سمع مِنْ عُلَمَائِنَا أَنّهُنّ أُنْزِلْنَ فِي النّجَاشِيّ وَأَصْحَابِهِ، وَالْآيَةُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ مِنْ قَوْلِهِ: «ذَلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَانًا، وَأَنّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ» ... إلى قوله: «فاكتبنا مع الشّاهدين» المائدة:
82، 83.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إذَا جَلَسَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/374)
فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسَ إلَيْهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ: خَبّابٌ، وَعَمّارٌ، وَأَبُو فَكِيهَةَ يَسَارٌ مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ مُحَرّثٍ، وَصُهَيْبٌ، وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، هَزِئَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: هَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ كَمَا تَرَوْنَ، أَهَؤُلَاءِ مَنّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بِالْهُدَى وَالْحَقّ! لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بَهْ مُحَمّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا هؤلاء إليه، وما خَصّهُمْ اللهُ بِهِ دُونَنَا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: «وَلَا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ، وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا: أَهَؤُلَاءِ مَنّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا، أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ. وَإِذَا جَاءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا، فَقُلْ:
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرّحْمَةَ أَنّهُ مَنْ عمل منكم سوآ بِجَهَالَةٍ، ثُمّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنّهُ غفور رحيم» الأنعام: 52- 54 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم- فِيمَا بَلَغَنِي- كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إلَى مَبْيَعَةِ غُلَامٍ نَصْرَانِيّ، يُقَالُ لَهُ: جَبْرٌ، عبد لبنى الحضرمىّ، فكانوا يقون: وَاَللهِ مَا يُعَلّمُ مُحَمّدًا كَثِيرًا مِمّا يَأْتِي بَهْ إلّا جَبْرٌ النّصْرَانِيّ، غُلَامُ بَنِي الْحَضْرَمِيّ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» النحل: 103.
قال ابن هشام: يلحدون إليه: يميلون، وَالْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ عَنْ الْحَقّ قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ العجّاج:
إذا تبع الضّحّاك كلّ ملحد ... [ونحن ضرّابون هام العنّد]
ابْنُ هِشَامٍ: يَعْنِي الضّحّاكَ الْخَارِجِيّ، وَهَذَا الْبَيْتُ فى أرجوزة له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/375)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حول حديث طفيل الروسي وَذِي الْكَفّيْنِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ طُفَيْلِ بْنِ عمرو الدّوسىّ، وهو طفيل بن عمرو ابن طَرِيفِ بْنِ الْعَاصِي بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ جَهْمِ بْنِ دَوْسٍ إلَى آخِرِهِ «1» وَلَيْسَ فِيهِ إشْكَالٌ إلّا قَوْلُهُ: حِنَا ذِي الشّرَى، وَقَدْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ حُمّى، وَهُوَ مَوْضِعُ حَمْوِهِ لِصَنَمِهِمْ ذِي الشّرَى، فَإِنْ صَحّتْ رِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ، فَالنّونُ قَدْ تُبَدّلُ مِنْ الْمِيمِ، كَمَا قَالُوا: حُلّانُ وَحُلّامُ لِلْجَدْيِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَنَوْت الْعُودَ، وَمِنْ مَحْنِيّةِ الْوَادِي، وَهُوَ مَا انْحَنَى مِنْهُ.
وَقَوْله: يَا ذَا الْكَفَيْنِ «2» لَسْت مِنْ عُبّادِكَا. أَرَادَ: الْكَفّيْنِ بِالتّشْدِيدِ، فَخَفّفَ لِلضّرُورَةِ، غَيْرَ أَنّ فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ أَنّ الصّنَمَ كَانَ يُسَمّى: ذَا الْكَفَيْنِ، وخفف
__________
(1) فى الإصابة: ابن فهم بدلا من: جهم. وله فيها نسب آخر هو: ابن عبد عمرو بن عبد الله بن مالك، بن عمرو بن فهم، لقبه: ذو النور، وحكى المرزبانى فى معجمه أنه الطفيل بن عمرو بن حممة ويقول ابن حجر فى الإصابة عن قصة الطفيل فى السيرة: «ذكرها ابن إسحاق فى سائر النسخ بلا إسناد، وأخرجه ابن سعد أيضا من وجه آخر وكذلك الأموى عن ابن الكلبى بإسناد آخر. هذا وقد ذكر ابن حبان أنه مات باليرموك، وقيل: بأجنادين كما ذكر موسى بن عقبة وأبو الأسود عن عروة.
(2) فى الأصنام لابن الكلبى ص 27 ط 1: «وكان لدوس ثم لبنى منهب ابن دوس صنم يقال له: ذو الكفين، فلما أسلموا بعث النبى «ص» الطفيل ابن عمر الدوسى فحرقه. وروى الرجز، وفى جمهرة ابن حزم: «كان لخزاعة ودوس، كره عمرو بن حممة الدوسى» ص 460، وفى المراصد: أن فاءه تخفف وتضعف. وقد ذكره القاموس فى مادة كف.(3/376)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَاءَ بِخَطّهِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُشَدّدَةً، فَدَلّ أَنّهُ عِنْدَهُ مُخَفّفٌ فِي غَيْرِ الشّعْرِ، فَإِنْ صَحّ هَذَا فَهُوَ مَحْذُوفُ اللّامِ، كَأَنّهُ تَثْنِيَةُ كفء، من كفأت الإناء، أو إذا كفء بِمَعْنَى كَفْءٍ؟! ثُمّ سُهّلَتْ الْهَمْزَةُ، وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْفَاءِ، كَمَا يُقَالُ: الْخَبْءُ وَالْخَبُ «1» ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَنّ أَهْلَ الْحَاضِرِ مِنْ دَوْسٍ كَانُوا يتراؤنه فِي الثّنِيّةِ، وَفِي سَوْطِهِ كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلّقِ «2» ، وَذَكَرَهُ الْمُبَرّدُ فَقَالَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ: جَعَلُوا يَنْظُرُونَ إلَى الْجَبَلِ، وَهُوَ يَهْتِفُ مِنْ شِدّةِ الضّيَاءِ وَالنّورِ، وَرَوَى، أَبُو الزّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمّا قَالَ طُفَيْلٌ لِلنّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- إن
__________
(1) يقول ابن الحاجب فى باب تخفيف الهمزة المتحركة الساكن ما قبلها: «والمتحركة إن كان قبلها ساكن، وهو واو أو ياء زائدتان لغير الإلحاق قلبت إليها، وأدغمت فيها كخطية، ومقروة، وأفيس ... وإن كان حرفا صحيحا أو معتلا غير ذلك نقلت حركتها إليه، وحذفت نحو: مسلة وخب وشى وسو» ص 32 ح 3 شرح الشافية، ويقول الرضى: اعلم أنه إذا وقف على المتحركة المتطرفة، فإما أن يوقف على مذهب أهل التحقيق، أو على مذهب أهل التخفيف، فالأول مضى حكمه مستوفى فى باب الوقف، وأما على مذهب أهل التخفيف فإنه تخفف الهمزة أولا؛ لأن حالة الوصل متقدمة على حالة الوقف، ونقل الهمزة حاصل حالة الوصل، فتخفف على ما هو حق التخفيف من النقل والحذف فى نحو الخبء والقلب والإدغام فى نحو: برئ ومقروء، فيبقى الخب بتحريك الباء كالدم، ثم يوقف عليه بالسكون المحض، والروم أو الإشمام أو التضعيف» ص 43 ح 3 شرح الشافية.
(2) هذا كلام رواه الطبرى وأبو الفرج الأصبهانى عن طريق ابن الكلبى، فتأمل الطريق. وحادث مثل هذا كان يدعو إلى أن تتواتر عن الناس أخباره، لا أن يروى هكذا كوسوسة الشيطان تحصره الملائكة.(3/377)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دَوْسًا غَلَبَ عَلَيْهَا الزّنَى وَالرّبَا، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهِمْ، قُلْنَا: هَلَكَتْ دَوْسٌ، حَتّى قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللهُمّ اهد دوسا «1» .
الأعشى وواليته وَحَمْزَةُ وَالشّرَفُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ حَدِيثَ الْأَعْشَى «2» وَقَصِيدَتَهُ إلَى آخِرِهَا، فَلَمّا كَانَ قَرِيبًا مِنْ مَكّةَ لَقِيَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: إلَى أَيْنَ يَا أَبَا بِصَيْرِ؟ الْحَدِيثَ، وَذَكَرَ تَحْرِيمَهُ الْخَمْرَ، وَتَحْرِيمَهُ الزّنَى، وَقَوْلُ الْأَعْشَى: أَمّا الْخَمْر فَفِي النّاسِ مِنْهَا عُلَالَاتٌ وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ هِشَامٍ: كَانَ الْقَائِلُ لِلْأَعْشَى هَذِهِ الْمَقَالَةُ أَبُو جهل. قالها فى دار عتبة ابن رَبِيعَةَ، وَكَانَ نَازِلًا عِنْدَهُ، قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ ابْنِ هِشَامٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، فَإِنّ النّاسَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الْخَمْرَ لَمْ يَنْزِلْ تَحْرِيمُهَا إلّا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ بَدْرٌ وَأُحُدٌ «3» ، وَحُرّمَتْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ من آخر ما نزل، وفى
__________
(1) رواه الشيخان
(2) كان أبوه قيس يدعى: قتيل الجوع؛ لأنه دخل غارا، فوقعت صخرة، فسدت الغار، فمات جوعا ص 83 سمط اللالى، وفى طبقات الشعراء لابن قتيبة أن رحلته كانت فى صلح الحديبية، وهذا يوافق ما ذهب إليه السهيلى، وما ذكر عن تحريم الخمر، وما ورد فى القصيدة ونسبه فى الأغانى: مَيْمُونُ بْنُ قَيْسِ بْنِ جَنْدَلِ بْنِ شَرَاحيل بن عوف، ابن سَعْدِ بْنِ ضُبَيْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الحصن الخ وما بين قوسين فى السيرة زدته عن الأغانى. كان الأعشى يلقب بصناجة العرب، لأنه- كما يقول صاحب الأغانى- كان يغنى فى شعره.
(3) تظاهرت عدة أحاديث تؤيد هذا الرأى، وفى البخارى بسنده عن جابر قال: «صبح أناس غداة أحد الخمر، فقتلوا من يومهم شهداء، وذلك قبل تحريمها»(3/378)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصّحِيحَيْنِ مِنْ ذَلِكَ قِصّةُ حَمْزَةَ حِينَ شَرِبَهَا، وَغَنّتْهُ الْقَيْنَتَانِ: أَلَا يَا حَمْزَ، لِلشّرُفِ «1» النّوَاءِ، فبقر خواصر الشارفين، واجتبّ أسنمتهما.
__________
(1) الحديث كما قال. وخلاصته أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان قد أعطى عليا شارفا- والشارف من الإبل الناقة التى قد أسنت- من غنائم بدر غير شارف آخر كان لعلى نصيبا من غنائم بدر، وذهب على لبعض شأنه، والشارفان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، فلما عاد على وجدهما، وقد قطعت أسنمتهما، وبقرت خواصرهما، وأخذ من أكبادهما، فبكى على، وعرف أن فاعل ذلك هو عمه حمزة الذى كان مع جماعة من الأنصار يشربون الخمر، فسكر، وغنته جاريتان شعرا- سيأتى بعد- فقام وفعل بالشارفين ما تقدم ذكره، فذهب على يشكو النبى «ص» فذهب النبى «ص» إلى البيت الذى فيه حمزة، وطفق يلومه، فراح يصعد النظر فى رسول الله «ص» عدة مرات، ثم قال حمزة: هل أنتم إلا عبيد لأبى، فعرف الرسول «ص» أنه قد ثمل- أى غشاه السكر- فنكص على عقبيه القهقرى، وقد غنت الجاريتان حمزة بما يأتى:
ألا يا حمز الشرف النواء ... وهن معقلات بالفناء
ضع السكين فى اللبات منها ... وضر جهن حمزة بالدماء
وعجل من أطايبها لشرب ... قديدا من طبيخ أو شواء
وقد أراد الذى أمر القينتين أن تغنيا هذا بعث همة حمزة- لما عرف من كرمه- لنحر الناقتين. والنواء بكسر النون جمع ناوية، وهى الناقة السمينة. والشرب بكسر الشين وسكون الراء جمع شارب، والفناء بكسر الفاء: جانب الدار التى كانوا فيها، وضرج: لطخ، القديد: الاحم المطبوخ. وفى معجم الشعراء للمرزبانى أن هذا الشعر لعبد الله بن السائب بن أبى السائب المخزومى، ولكنه غير أنصارى. والقهقرى: المشى إلى خلف، وهذه حكمة عظيمة من الرسول «ص» ، إذ خشى ازدياد عبث حمزة فى حال سكره، فينتقل من القول إلى الفعل. وعند ابن أبى شيبة أن الرسول «ص» أغرم حمزة ثمن الناقتين. وقد روى البخارى الحديث فى باب الخمس، وغنائم بدر(3/379)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ لِلنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: هَلْ أَنْتُمْ إلّا عَبِيدٌ لِآبَائِي، وَهُوَ ثَمِلٌ. الْحَدِيثُ بِطُولِهِ. فَإِنْ صَحّ خَبَرُ الْأَعْشَى، وَمَا ذُكِرَ لَهُ فِي الْخَمْرِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بِمَكّةَ، وَإِنّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَيَكُونُ الْقَائِلُ لَهُ: أَمَا عَلِمْت أَنّهُ يُحَرّمُ الْخَمْرَ، مِنْ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ مِنْ الْيَهُودِ، فَاَللهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْقَصِيدَةِ مَا يَدُلّ عَلَى هَذَا قَوْلِهِ: فَإِنّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ موعدا، وقد ألفيت القالى رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قال: لقى الأغشى عَامِرَ بْنَ الطّفَيْلِ فِي بِلَادِ قَيْسٍ، وَهُوَ مُقْبِلٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ لَهُ أَنّهُ يُحَرّمُ الْخَمْرَ، فَرَجَعَ، فَهَذَا أَوْلَى بِالصّوَابِ، وَقَوْلُ الْأَعْشَى: أَتَرَوّى مِنْهَا هَذَا الْعَامَ، ثُمّ أَعُودُ فَأَسْلَمَ لَا يُخْرِجُهُ عن الكفر بإجماع، قال الإسفراينى فِي عَقِيدَتِهِ: إذَا قَالَ الْمُؤْمِنُ سَأُكَفّرُ: غَدًا أَوْ بَعْدَ غَد، فَهُوَ كَافِرٌ لِحِينِهِ بِإِجْمَاعِ، وإذا قال الكافر: سأو من غَدًا، أَوْ بَعْدُ فَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ، لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الْكُفْرِ إلّا إيمَانَهُ إذَا آمَنَ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا وَاَللهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاك لَيْلَةَ أَرْمَدَا، لَمْ يَنْصِبْ لَيْلَةً عَلَى الظّرْفِ؛ لِأَنّ ذَلِكَ يُفْسِدُ مَعْنَى الْبَيْتِ، وَلَكِنْ أَرَادَ الْمَصْدَرَ فَحَذَفَهُ، وَالْمَعْنَى: اغتماض ليلة أرمد، فحذف المضاف إليه اللّيْلَةِ، وَأَقَامَهَا مَقَامَهُ، فَصَارَ إعْرَابُهَا كَإِعْرَابِهِ «1» ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْبَيْتُ: لَيْلُك بِالْكَافِ، وَمَعْنَاهُ: غَمْضُ أرمد، وقيل: بل أرمد على هذه
__________
(1) قال الفارسى: أراد: اغتماض ليلة أرمد، وليس بظرف، ونسب الاغتماض إلى الليل، كما قال عز وجل: «بل مكر الليل والنهار» ص 540 سمط اللالى للبكرى(3/380)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرّوَايَةِ مِنْ صِفّةِ اللّيْلِ، أَيْ حَالٌ مِنْهُ عَلَى الْمَجَازِ، كَمَا تَقُولُ: لَيْلُك سَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ: تناسيت قبل اليوم خلة مهددا. مهدد: فعلل مِنْ الْمَهْدِ، وَلَوْلَا قِيَامُ الدّلِيلِ عَلَى أَنّ الْمِيمَ أَصْلِيّةٌ لَحَكَمْنَا بِأَنّهُ مُفْعِلٍ؛ لِأَنّ الْكَلِمَةَ الرّبَاعِيّةَ إذَا كَانَ أَوّلُهَا مِيمًا أَوْ هَمْزَةً، فَحَمَلَهَا عَلَى الزّيَادَةِ، إلّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهَا أَصْلِيّةٌ، وَالدّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ ظُهُورُ التّضْعِيفِ فِي الدّالِ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ الْمِيمُ زَائِدَةً لَمَا ظَهَرَ التّضْعِيفُ، وَلَقُلْت فِيهِ: مَهَدّ كَمَا تَقُولُ: مَرَدّ وَمَكَرّ وَمَفَرّ فِي كُلّ مَا وَزْنُهُ مَفْعَل مِنْ الْمُضَاعَفِ، وَإِنّمَا الدّالُ فِي مُهَدّدٌ ضُوعِفَتْ لِيَلْحَقَ بِبِنَاءِ جَعْفَرٍ «1»
__________
(1) يقول أبو عثمان المازنى فى التصريف فى باب الإلحاق المطرد فى الأسماء والأفعال: «أما المطرد الذى لا ينكسر، فأن يكون موضع اللام من الثلاثة مكررا للالحاق مثل مهدد وقردد وعندد» ص 47 ويقول ابن جنى فى المنصف شرح التصريف: «اعلم أنك إذا استوفيت ثلاثة أحرف من الأصول ثم تكررت اللام قضيت بزيادتها، وذلك نحو قردد وجلبب فالدال والباء الأخيرتان زائدتان؛ لأنهما قد تكررتا، ولو كان موضع الدال الأخيرة حرف غير الدال لكانت الكلمة رباعية» ص 47 وفى ض 141 يقول أبو عثمان المازنى: «ومهدد الميم فيه أصل؛ لأنها لو كانت زائدة لكانت مهدا: «بفتح الميم والهاء وتضعيف الدال» لأن مفعلا: «بفتح الميم وسكون الفاء وفتح العين» من المضاعف يحئ مدغما نحو مرد ومسد» . ويشرح ابن جنى هذا بقوله: «فظهور الدالين يدل على أنه فعلل بمنزلة قردد فإن قال قائل فقد قالوا: محبب فبينوا وهو مفعل- فما تنكر أن يكون مهدد أيضا مفعلا من الهد؟ قيل محبب شاذ لا يقاس عليه، وقياسه محب كمرد ومسد ثم بين أن محبب علم، والأعلام تغير كثيرا عما عليه أكثر الأسماء، ولهذا جاز فى محبب إظهار التضعيف» ثم قال: فإن قال قائل فإن مهدد اسم علم، وهو اسم امرأة، لما تنكر أن يكون مهدد مثل محبب، إذ هو علم مثله؟ ثم أجاب هو عن-(3/381)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ: إذَا خِلْت حِرْبَاءُ الظّهِيرَةِ أَصْيَدَا. وَالْأَصْيَدُ: الْمَائِلُ الْعُنُقِ.
وَلَمّا كَانَتْ الْحِرْبَاءُ تَدُورُ بِوَجْهِهَا مَعَ الشّمْسِ كَيْفَمَا دَارَتْ، كَانَتْ فِي وَسَطِ السّمَاءِ فِي أَوّلِ الزّوَالِ، كَالْأَصِيدِ، وَذَلِكَ أَحَرّ مَا تَكُونُ الرّمْضَاءُ. يَصِفُ نَاقَتَهُ بِالنّشَاطِ، وَقُوّةِ المشى فى ذلك الوقت.
وقوله: خنافا إلينا. فِي الْعَيْن: خَنِفَتْ النّاقَةُ تَخْنِفُ بِيَدَيْهَا فِي السّيْرِ، إذَا مَالَتْ بِهِمَا نَشَاطًا، وَنَاقَةٌ خَنُوفٌ قَالَ الرّاجِزُ.
إنّ الشّوَاءَ وَالنّسِيلَ وَالرّغُفْ ... وَالْقَيْنَةَ الْحَسْنَاءَ، وَالْكَأْسَ الْأُنُفْ
لِلظّاعِنِينَ الخيل، والخيل خنف «1»
__________
- هذا بقوله: إن محبب مفعل من الحب، أما مهدد فليس فيها دليل يدل على أنها من الهد، دون المهد، فيقضى بأنه مفعل، انظر ص 41، 47، 141 من كتاب المنصف لابن جنى بشرحه التصريف للمازنى، انظر أيضا ص 58 ح 2 الخصائص وص 14، 57، 63، 64 من شرح شافية ابن الحاجب ج 1
(1) الرجز للقيط بن زرارة، وفى اللسان: النشيل، وقطف بدلا من النسيل وخنف، وللضاربين الهام بدلا من: الظاعنين الخيل. والشواء: لحم مشوى. والنشيل على رواية اللسان: ما طبخ من اللحم بغير توابل يخرج من المرق، وينشل. ويقال أيضا، نشل اللحم: أخذ بيده عضوا، فتناول ما عليه من اللحم بفية وهو النشيل، واللحم الذى يؤخذ قبل النضج، والقينة: الجارية المغنية، الكأس الأنف: هى التى لم يشرب بها قبل، والقطف: جمع قطوف، وهى التى تسئ السير(3/382)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْله: لَيّنًا غَيْرَ أَحْرَدَا «1» أَيْ: تَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَرَدٍ فِي يَدَيْهَا، أَيْ اعْوِجَاجٌ، وَالنّجَيْرُ وَصَرْخَدُ بَلَدَانِ، وَأَهْلُ النّجَيْرِ أَوّلُ مَنْ ارْتَدّ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ أَهْلِ دَبّا «2» وَكَانَ أَهْل دُبّا قَدْ حَاصَرَهُمْ حُذَيْفَةُ بْنُ أُسَيْدٍ، وَحَاصَرَ أَهْلَ النّجَيْرِ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ، حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ. وَأَمّا صَرْخَدُ فَبَلَدٌ طَيّبُ الْأَعْنَابِ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْخَمْرُ الصّرْخَدِيّةُ. وَفِي الْأَمَالِي:
وَلَذّ كَطَعْمِ الصّرخدى تركته
«3»
__________
(1) البيت فى اللسان فى مادة: خنف.
(2) بفتح الدال على وزن فعل مع القصر: سوق من أسواق العرب بعمان، ومدينة عظيمة مشهورة بعمان كانت قصبتها، وبضم مع تشديد الباء من نواحى البصرة فيها أنهار وقرى، والدبا بالتعريف: موضع بظهر الحيرة معروف، وفى هامش نسخة من معجم ما استعجم: «دبا: إحدى فرضتى العرب يجتمع فيها تجار أهل الهند والسند. والصين وأهل المشرق والمغرب»
(3) تمام البيت: «بأرض العدا من خشية الحدثان» وبعده:
ومبدلى الشحناء بينى وبينه ... دعوت وقد طال السرى، فدعانى
لذ: يعنى النوم، والصرخدى: العسل كذا قال أبو المياس، والعدا: الأعداء، الحدثان: ما يحدث من الأمور. وقال أبو بكر: اللذ: اللذيذ يعنى النوم والصرخدى: الخمر، وقوله: ومبدلى الشحناء، يعنى: كلبا وذلك أن الرجل إذا تحير فى الليل، فلم يدر أين البيوت نبح، فتسمعه الكلاب، فتنبح، فيقصد أصواتها. ص 210 ج 1 أمالى القالى ط 2 ولم ينسبهما إلى أحد. وهما فى حيوان الجاحظ ص 121 ح 1. تحت عنوان: وقال آخر يصف كلبا، والبيت الأول فى اللسان رواه فى مادة: لذ، وصرخد، وقال. قال ابن برى: البيت الراعى، وعجزه: دفعته. عشية خمس القوم والعين عاشقة، أراد أنه لما دخل ديار أعدائه لم ينم حذارا لهم. وبهذه الرواية الأخيرة رواه اللسان فى مادة صرخد(3/383)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ: وَآلَيْت لَا آوِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ، وَلَا مِنْ وَجَى «1» ، أَيْ: لَا أَرْقِ لَهَا، يُقَالُ: آوَيْت لِلضّعِيفِ إيّة وَمَأْوِيَة «2» إذَا رَقّتْ لَهُ كَبِدُك.
وَقَوْلُهُ: أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا، الْمَعْرُوفُ فِي اللّغَةِ: غَارَ وَأَنْجَدَ، وَقَدْ أَنْشَدُوا هَذَا الْبَيْتَ: لَعَمْرِي غَارَ فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا. وَالْغَوْرُ: مَا انْخَفَضَ مِنْ الْأَرْضِ، وَالنّجْدُ: مَا ارْتَفَعَ مِنْهَا، وَإِنّمَا تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِي الْغَوْرِ، وَلَمْ يَأْتِ عَلَى أَفْعَلَ إلّا قَلِيلًا، وَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَنْجَدَ، وَأَتْهَمَ؛ لِأَنّهُ مِنْ أُمّ الْغَوْرِ، فَقَدْ هَبَطَ وَنَزَلَ، فَصَارَ مِنْ بَابِ غَارَ الْمَاءُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَرَدْت: أَشْرَفَ عَلَى الْغَوْرِ، قُلْت: أَغَارَ، ولا يكون خارجا عن القياس «3»
__________
وقال: صرحد: موضع نسب إليه الشراب فى قول الراعى، ثم روى البيت بالرواية الأخيرة.
ولذ كطعم الصرخدى طرحته ... عشية خمس القوم والقوم عاشقة
وفى المراصد: صرخد: قلعة ملاصقة لبلد حوران حصينة وولاية واسعة حسنة، وينسب إلى صرخد الخمر الجيد. وقد وصفها أبو الفداء فى التقويم وصفا دقيقا، ومن قاله أن من شرقيها يسلك الإنسان طريقا إلى العراق يتطلب من السائر عشرة أيام ليصل إلى بغداد.
(1) فى الأغانى: فاليت لا ارثى» والأغانى حفى كما فى السيرة، وفى تجريد الأغانى: وجى كما فى الروض. وهناك فى الأغانى مغايرة أخرى هينة لما هنا.
(2) فى القاموس: أوى له كروى أوية، وإية ومأوية، ومأواة: رق.
(3) وفى الأغانى عن مصيره: «فبلغ خبره قريشا، فرصداه على طريقه، وقالوا: هذا صناجة العرب ما مدح أحدا قط إلا رفع من قدره، فلما ورد عليهم، قالوا له: أين أردت يا أبا بصير قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم، قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك وكلها بك رافق ولك موافق، قال: وما هن؟(3/384)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ غَدًا. مَعْنَاهُ عَلَى رَفْعِ الْعَطَاءِ وَنَصْبِ مَانِعٍ، أَيْ: لَيْسَ العطاء الذى يعطيه اليوم ما نعاله غَدًا مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ، فَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى الْمَمْدُوحِ، فَلَوْ كَانَتْ عَائِدَةً عَلَى الْعَطَاءِ لَقَالَ: وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ هُوَ، بِإِبْرَازِ الضّمِيرِ الْفَاعِلِ، لِأَنّ الصّفَةَ إذَا جَرَتْ عَلَى غَيْرِ مَنْ هِيَ لَهُ بَرَزَ الضّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ بِخِلَافِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ لِسِرّ بَيّنّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يَذْكُرْهُ النّاسُ، وَلَوْ نُصِبَ الْعَطَاءُ لَجَازَ عَلَى إضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ إظْهَارُهُ، لِأَنّهُ مِنْ بَابِ اشْتِغَالِ الْفِعْلِ عَنْ الْمَفْعُولِ بِضَمِيرِهِ، وَيَكُونُ اسْمُ لَيْسَ عَلَى هَذَا مُضْمَرًا فِيهَا عَائِدًا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
- فقال أبو سفيان بن حرب: الزنا، قال: لقد تركنى الزنا، وما تركته، ثم ماذا؟ قال: القمار، قال: لعلى إن لقيته أن أصيب منه عوضا عن القمار، ثم ماذا؟ قالوا: الربا. قال: ما دنت ولا أدنت، ثم ماذا؟ قالوا: الخمر، قال: أوه، أرجع إلى صبابة قد بقيت لى فى المهراس، فأشربها فقال له أبو سفيان: هل لك فى خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن، وهو الان فى هدنة، فتأخذ مائة من الإبل، وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وننظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وإن ظهر علينا أتيته» ورجع بعد أن أخذ مائة بعير. ورواية الأغانى تتفق وما قيل عن تحريم الخمر، وما روى فى بعض الأحاديث عن زمن تحريمها. وعن مصير الأعشى يقول الأغانى: فلما كان بقاع منفوخة رمى به بعيره فقتله» ورواية الأغانى قريبة جدا من رواية ابن قتيبة فى طبقات الشعراء غور كل شىء: قعره وعمقه وبعده، وقال الفراء: أغار بمعنى: غار. ويقول ابن منظور. وقد روى بيت أعشى مخروم النصف: غار لعمرى فى البلاد وأنجدا. وقال الجوهرى: غار يغور غورا، أى: أتى الغور، ولا يقال: أغار. وقال الأصمعى عن معنى أغار فى بيت الأعشى: أسرع، وأنجد: أى ارتفع، ولم يرد فى البيت: أتى الغور، ولا نجدا، قال: وليس عند الأصمعى فى إتيان الغور إلا غار. وانظر مادة غور، ففيها تفصيل أكثر.(3/385)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْله: فَانْكَحَنْ أَوْ تَأَبّدَا. يُرِيدُ: أَوْ تَرَهّبَ؛ لِأَنّ الرّاهِبَ أَبَدًا عَزَبٌ فَقِيلَ لَهُ: مُتَأَبّدًا اُشْتُقّ مِنْ لَفْظِ الْأَبَدِ.
وَقَوْلُهُ: فَاَللهَ فَاعْبُدَا، وَقَفَ عَلَى النّونِ الْخَفِيفَةِ بِالْأَلِفِ، وَكَذَلِكَ فَانْكَحَنْ أَوْ تَأَبّدَا، وَلِذَلِكَ كَتَبْت فِي الْخَطّ بِأَلْفِ، لِأَنّ الْوُقْفَ عَلَيْهَا بِالْأَلِفِ، وَقَدْ قِيلَ فِي مِثْلِ هَذَا: إنّهُ لَمْ يَرُدّ النّونَ الْخَفِيفَةَ، ونما خَاطَبَ الْوَاحِد بِخِطَابِ الِاثْنَيْنِ، وَزَعَمُوا أَنّهُ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:
فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفّانَ أَزْدَجِرُ ... وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنّعًا «1»
وَأَنْشَدُوا أَيْضًا فِي هَذَا الْمَعْنَى:
وَقُلْت لِصَاحِبِي: لَا تَحْبِسَانَا ... بِنَزْعِ أُصُولِهَا واجتثّ شيحا «2»
__________
(1) البيت لسويد بن كراع العكلى، وكان سويد قد هجا به عبد الله ابن دارم، فاستعدوا عليه سعيد بن عثمان، فأراد ضربه، فقال سويد قصيدة أولها:
تقول ابنة العوفى ليلى ألا ترى ... إلى ابن كراع لا يزال مفزعا
مخافة هذين الأميرين سهدت ... رقادى وغشتنى بياضا مفزعا
وهذا يدل على أنه خاطب اثنين لا واحدا. بدليل قوله أيضا.
فإن أنتما أحكمتمانى فازجرا ... أراهط تؤذينى من الناس رضعا
(2) فى رواية: واجدز أى: اجتز، والبيت من أبيات المضرس بن ربعى الفقعسى الأسدى، وهى:
وضيف جاءنا والليل داج ... وريح القر تحفز منه روحا
ونسبه الجوهرى ليزيد بن الطثرية نقلا عن الكسائى، ولكن ابن بروى فى أمالية على الصحاح يؤكد أنه لمضرس، وفى رواية: فقلت لصاحبى لا تحبسنى(3/386)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَا يُمْكِنُ إرَادَةُ النّونِ الْخَفِيفَةِ فِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، لِأَنّهَا لَا تَكُونُ أَلِفًا.
إلّا فِي الْوَقْفِ، وَهَذَا الْفِعْلُ قَدْ اتّصَلَ بِهِ الضّمِيرُ، فَلَا يَصِحّ اعْتِقَادُ الْوُقْفِ عَلَيْهِ دُونَ الضّمِيرِ، وَحُكِيَ أَنّ الْحَجّاجِ قَالَ: يَا حَرَسِي اضْرِبَا عُنُقَهُ، وَقَدْ يُمْكِنُ فِيهِ حَمْلُ الْوَصْلِ عَلَى الْوَقْفِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُ: اضْرِبْ أَنْتَ وَصَاحِبُك:
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ إنّ الْخِطَابَ لِمَالِكِ وَحْدَهُ حَمْلًا عَلَى هَذَا الْبَابِ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ تعالى: (سائِقٌ وَشَهِيدٌ) وَفِي الْقَصِيدَةِ زِيَادَةٌ لَمْ تَقَعْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ وَهِيَ قَوْلُهُ فِي وَصْفِ النّاقَةِ:
فَأَمّا إذَا مَا أَدْلَجَتْ، فَتَرَى لَهَا ... رَقِيبَيْنِ نَجْمًا لَا يَغِيبُ وَفَرْقَدَا
وَقَعَ هَذَا الْبَيْتُ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَيّنًا غَيْرَ أَحْرَدَا
وَقَوْلُهُ فِي صِفّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا. وَبَعْدَهُ:
بِهِ أَنْقَذَ اللهُ الْأَنَامَ مِنْ الْعَمَى ... وَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَرِيعُ إلَى هُدَى
حَدِيثُ الْإِرَاشِيّ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِرَاشِيّ الّذِي قَدِمَ مَكّةَ، وَاسْتَعْدَى عَلَى أَبِي جَهْلٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: هُوَ مِنْ إرَاشَ، وَهُوَ ابْنُ الْغَوْثِ أَوْ ابْنُ عمرو «1» ، ابن الْغَوْثِ بْنِ نَبْت بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَهُوَ وَالِدُ أَنْمَارٍ الّذِي وَلَدَ بَحِيلَةَ وَخَثْعَمَ. وَإِرَاشَةَ الّذِي ذَكَرَ ابن هشام: بطن من خثعم، وإراشة
__________
(1) فى جمهرة ابن حزم: إراش بن عمرو بن الغوث الخ(3/387)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَذْكُورَةٌ فِي الْعَمَالِيقِ فِي نَسَبِ فِرْعَوْنَ صَاحِبِ مِصْرَ، وَفِي بَلِيّ أَيْضًا بَنُو إرَاشَةَ «1» ، وَقَوْلُهُ: مِنْ [رَجُلٍ] يُؤَدّينِي عَلَى أَبِي الْحَكَمِ أَيْ: يعيننى على أخذ حقى منه، وَهُوَ مِنْ الْأَدَاةِ الّتِي تُوَصّلُ الْإِنْسَانَ إلَى مَا يُرِيدُ، كَأَدَاةِ الْحَرْبِ، وَأَدَاةِ الصّانِعِ، فَالْحَاكِمُ يُؤَدّي الْخَصْمَ، أَيْ يُوَصّلُهُ إلَى مَطْلَبِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إنّ الْهَمْزَةَ بَدَلٌ مِنْ عَيْنٍ، وَيُؤَدّي وَبَعْدِي بِمَعْنَى وَاحِدٍ، أَيْ: يُزِيلُ الْعُدْوَانَ، وَالْعَدَاءَ وَهُوَ: الظّلْمُ، كَمَا تَقُولُ: هُوَ يُشْكِيك أَيْ: يُزِيلُ شَكْوَاك، وَفِي حَدِيثِ خَبّابٍ: شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَرّ الرّمْضَاءِ، فَلَمْ يُشْكِنَا مَعْنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: لَمْ يَرْفَعْ شَكَوَانَا وَلَمْ يُزِلْهَا.
وَقَوْلُهُ: فَخَرَجَ إلَيْهِ، وَمَا فِي وَجْهِهِ رَائِحَةٌ، أَيْ: بَقِيّةُ رُوحٍ، فَكَانَ مَعْنَاهُ: رُوحٌ بَاقِيَةٌ، فَلِذَلِكَ جَاءَ بِهِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلِهِ، وَالدّلِيلُ عَلَى أَنّهُ أَرَادَ مَعْنَى الرّوحِ وَإِنْ جَاءَ بِهِ عَلَى بِنَاءِ فَاعِلَة قَوْلُ الْإِرَاشِيّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: خَرَجَ إلَيّ، وَمَا عِنْدَهُ رُوحُهُ.
مُصَارَعَةُ رُكَانَةَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ رُكَانَةَ وَمُصَارَعَتَهُ لِلنّبِيّ- صَلَّى الله عليه وسلم- «2»
__________
(1) وفى الاشتقاق: ومن بنى عنز إراشة.
(2) قصة المصارعة مشهورة لركانة لكن جاء من وجه آخر أنه يزيد ابن ركانة. وفى حديث المصارعة اضطراب. ولقد قال الترمذى عن حديث المصارعة الذى أخرجه هو وأبو داود من رواية أبى الحسن العسقلانى عن أبى جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه: غريب، وليس إسناده بقائم. وحديث الشجرة التى طلب الرسول «ص» مشهيا لا يسانده هدى القرآن.(3/388)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ تَقَدّمَ مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي الْأَشَدّيْنِ الْجُمَحِيّ، وَلَعَلّهُمَا أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا صَارَعَا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد تَقَدّمَ التّعْرِيفُ بِأَبِي الْأَشَدّيْنِ، وَبِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ؛ وَرُكَانَةُ هَذَا هُوَ: ابْنُ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، وَتُوُفّيَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ الّذِي طَلّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتّةَ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ نِيّتِهِ، فَقَالَ: إنّمَا أَرَدْت وَاحِدَةً، فَرَدّهَا عَلَيْهِ «1» ، وَمِنْ حَدِيثِهِ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنّهُ قَالَ: إنّ لِكُلّ
__________
(1) روى أبو داود فى سننه عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة ألبتة، فأخبر النبى «ص» بذلك، وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال النبى «ص» والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله «ص» فطلقها الثانية فى زمن عمر، والثالثة فى زمن عثمان» وفى جامع الترمذى عن عبد الله ابن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أنه طلق امرأته ألبتة، فأتى رسول الله «ص» فقال له: ما أردت؟ قال واحدة، قال: آلله، قال: آلله. قال: هو على ما أردت، قال الترمذى: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسألت محمدا- يعنى البخارى- عن هذا الحديث؟ فقال: فيه اضطراب. فتارة يقول: طلقها ثلاثا وتارة يقول: واحدة، وتارة يقول: ألبتة، وقال أحمد: وطرقه كلها ضعيفة. أقول: إن القرآن يفرض أن يكون الطلاق بشروطه المذكورة فى الكتاب، مرة بعد مرة حتى يبلغ ثلاثا، وبعدها لا تحل حتى تنكح زوجا آخر. ولا يصح إبقاع الطلاق مطلقا إلا بعد القيام بما فرض الله من وعظ وهجر فى المضاجع وضرب يقصد به التأديب، ثم تحكيم مؤمنين خبيرين بالحكومه، فإن لم يصل معها إلى غاية تقيم البيت على مودة ورحمة، وتمكنهما من إقامة حدود الله، تربص بها حتى تطهر مما يأتيها كل شهر، ثم بعد هذا يوقع الطلاق مرة واحدة قبل أن يمسها وكذلك فى المرة الثانية-(3/389)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ هَذَا الدّينِ الْحِيَاءُ «1» ، وَلِابْنِهِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ صُحْبَةٌ أَيْضًا، وَيُرْوَى عَنْ يزيد بْنِ رُكَانَةَ ابْنِهِ عَلِيّ، وَكَانَ عَلِيّ قَدْ أَعْطَى مِنْ الْأَيْدِ وَالْقُوّةِ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ، نَزَعَ فِي ذَلِكَ إلَى جَدّ رُكَانَةَ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ ذَكَرَهَا الْفَاكِهِيّ، مِنْهَا: خَبَرُهُ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ أَشَدّ الْعَرَبِ، فَصَارَعَهُ يَوْمًا، فَصَرَعَهُ عَلِيّ صَرْعَةً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، ثُمّ حَمَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى فَرَسٍ جَمُوحٍ لَا يَطْلِقُ، فَعَلِمَ عَلِيّ مَا يُرَادُ بِهِ، فَلَمّا جَمَحَ بِهِ الْفَرَسُ ضَمّ عَلَيْهِ فَخِذَيْهِ ضَمّةً نَفَقَ مِنْهَا الْفَرَسُ، وَذُكِرَ عَنْهُ أَيْضًا أَنّهُ تَأَبّطَ رِجْلَيْنِ أَيّدَيْنِ، ثُمّ جَرَى بِهِمَا، وَهُمَا تَحْتَ إبْطَيْهِ حَتّى صَاحَا: الْمَوْتَ الْمَوْتَ، فَأَطْلَقَهُمَا.
وَفْدُ نَصَارَى الْحَبَشَةِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قُدُومَ وَفْدِ النّصَارَى مِنْ الْحَبَشَةِ وَإِيمَانَهُمْ، وَمَا أَنَزَلَ اللهُ فِيهِمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ النّصَارَى، وَلَا سَمّاهُمْ هُوَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَإِنّمَا حَكَى قَوْلَهُمْ الّذِي قَالُوهُ حِينَ عَرَفُوا بِأَنْفُسِهِمْ، ثُمّ شَهِدَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَذَكَرَ أَنّهُ أَثَابَهُمْ الْجَنّةَ، وَإِذَا كَانُوا هكذا
__________
- ثم الأخيرة أمام عدلين فى كل مرة. ولنتدبر سورة الطلاق، وآيات الطلاق فى سورة البقرة نجد القرآن يهدينا إلى أن الله لم يشرع إيقاع الثلاث جملة واحدة ألبتة. وحسبنا قوله سبحانه: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فإن العرب فى لغتها لا تعقل وقوع المرتين إلا متعاقبتين، وثمت أدلة أخرى، وحسبنا ما ذكرناه.
(1) رواه ابن ماجة عن أنس وابن عباس كما ذكر السيوطى فى الجامع الصغير وقال عنه: ضعيف.(3/390)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلَيْسُوا بِنَصَارَى، هُمْ مِنْ أُمّةِ مُحَمّدٍ- عَلَيْهِ السّلَامُ- وَإِنّمَا عُرِفَ النّصَارَى بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنّ مَبْدَأَ دِينِهِمْ كَانَ مِنْ نَاصِرَةَ قَرْيَةٍ بِالشّامِ، فَاشْتُقّ اسْمُهُمْ مِنْهُمْ، كَمَا اُشْتُقّ اسْمُ الْيَهُودِ مِنْ يَهُودَ بْنِ يَعْقُوبَ، ثُمّ لَا يُقَالُ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ: يَهُودِيّ اسْمُ الْإِسْلَامِ أَوْلَى بِهِمْ جَمِيعًا مِنْ. ذَلِكَ النّسَبِ «1» .
عَنْ غُلَامِ الْمَبِيعَةِ وَصُهَيْبٍ وَأَبِي فُكَيْهَةَ:
فَصْلٌ: ذَكَرَ أَنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يجلس إلى مبيعة
__________
(1) هدى القرآن يؤكد أن كل رسول دعا إلى الإسلام، لأنه هو دين الله الذى به أرسلوا جميعا، ويقول الدكتور بوست فى قاموسه عن يهود: «أطلقت هذه الكلمة أولا على بنى يهوذا تمييزا لهم عن الأسباط العشرة الذين سموا: إسرائيل إلى أن تشتت الأسباط أولا، وأسر يهوذا ثانيا، فمن ثم دعى جميع نسل يعقوب يهودا، وفى أيام المسيح والرسل انقسم كل العالم إلى يهود وأمم» وقد روى البيهقى حديث هؤلاء فى دلائل النبوة وأعلام الرسالة. هذا وقد ذكر النسائى أن آيات سورة المائدة (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ) قد نزلت فى حق النجاشى، بينما يروى الطبرانى أنها فى حق كرابين أى: فلاحين، جاؤا مع جعفر بن أبى طالب ص 86 ج 2 تفسير ابن كثير. وهذا الاختلاف يحتم علينا ألا نعتمد كثيرا على ما روى من أسباب النزول. وذكر الإمام أحمد وابن جرير، وابن أبى حاتم فيما نزل فى حق المستضعفين أن الذى مر على الرسول. «ص» هو الأقرع ابن حابس التميمى وعيينة بن حصن، فطلبوا منه أن يبعد المستضعفين عنه، وأن يقعد معهم متى شاء حين يفرغون منه، فأجابهم إلى طلبهم، ولكن قال ابن كثير عنه: إنه حديث غريب، لأن الاية مكية. والأقرع وعيينة، أنما أسلما بعد الهجرة يزمن طويل، وروى الحاكم غير هذا.(3/391)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غُلَامِ «1» . الْمَبِيعَةِ: مَفْعَلَة مِثْلَ الْمَعِيشَةِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُلَة بِضَمّ الْعَيْنِ- وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ، وَأَمّا قَوْلُهُمْ: سِلْعَةٌ مَبِيعَةٌ فَمَفْعُولَةٌ، حُذِفَتْ الْوَاوُ مِنْهَا فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ حِينَ سَكّنُوا الْيَاءَ اسْتِثْقَالًا لِلضّمّةِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ إنّ الْيَاءَ بَدَلٌ مِنْ الْوَاوِ الزّائِدَةِ فى مبيوعة، ووزنها عنده: مفولة بِحَذْفِ الْعَيْنِ، وَلِلْكَلَامِ عَلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا.
وَذَكَرَ صُهَيْبًا وَأَبَا فُكَيْهَةَ، وَسَنَذْكُرُ اسْمَ أَبِي فُكَيْهَةَ، وَالتّعْرِيفُ بِهِ فِيمَا بَعْدُ لِأَنّهُ بَدْرِيّ، وَكَذَلِكَ صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ، وَنَقْتَصِرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى ذِكْرِ اسْمِهِ وَهُوَ: يسار مولى عبد الدار «2» .
__________
(1) هناك خلاف حول اسم هذا الغلام وحول الذين افتروا قالة السوء، فعن قتادة، أن اسمه يعيش، وعن ابن عباس أن اسمه بلعام، وكان المشركون يرون رسول الله حين يدخل عليه، ويخرج من عنده، فقالوا هذه الفرية، وقال الضحاك: هو سلمان الفارسى ولكن الاية مكية، وسلمان إنما أسلم بالمدينة، وروى عن عبد الله بن مسلم أنه كان له غلامان روميان بقرآن كتابا لهما بلسانهما، فكان النبى (ص) يمر بهما، فيسمع منهما، فقال المشركون ما قالوا. وروى الزهرى عن ابن المسيب أن الذى بهت الرسول «ص» بهذه القالة الكاذبة رجل كان يكتب الوحى للرسول «ص» ثم ارتد بعد ذلك. وهى أقوال يضرب بعضها بعضا. ولقد رد الله على الفربة ردا هو الحق الذى يزهق الباطل، فلنتدبره.
(2) قيل إنه: مولى صفوان بن أمية. ويقال إن أصله من الأزد، وقيل إن اسمه أفلح بن يسار، وإن كان ينسب إلى الأشعريين.(3/392)
[سبب نُزُولُ سُورَةِ الْكَوْثَر]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ- فِيمَا بَلَغَنِي- إذَا ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: دَعُوهُ، فَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ أَبْتَرُ، لَا عقب له، لو مات لا نقطع ذِكْرُهُ، وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ:
(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ مَا هُوَ خَيْرٌ لَك من الدنيا وما فيها. والكوثر:
العظيم.
[الكوثر فى الشعر]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ الْكِلَابِيّ:
وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بِيَوْمِهِ ... وَعِنْدَ الرّدَاعِ بَيْتُ آخِرَ كَوْثَرِ
يَقُولُ: عَظِيمٌ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَصَاحِبُ ملحوب: عوف ابن الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ، مَاتَ بِمَلْحُوبِ. وقوله: عند الرّدَاعِ بَيْتُ آخِرَ كَوْثَرِ: يَعْنِي شُرَيْحَ بْنَ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ، مَاتَ بِالرّدَاعِ.
وَكَوْثَرٌ: أَرَادَ الْكَثِيرَ، وَلَفْظُهُ مُشْتَقّ مِنْ لَفْظِ الْكَثِيرِ. قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ يَمْدَحُ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا بْنَ مَرْوَانَ طَيّبٌ ... وَكَانَ أَبُوك ابْنُ العقائل كوثر
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي عَائِذٍ الْهُذَلِيّ يَصِفُ حِمَارَ وَحْشٍ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/393)
يُحَامِي الْحَقِيقَ إذَا مَا احْتَدَمْنَ ... وحَمْحَمْنَ فِي كَوْثَرٍ كَالْجِلَالْ
يَعْنِي بِالْكَوْثَرِ: الْغُبَارَ الْكَثِيرَ، شَبّهَهُ لِكَثْرَتِهِ عَلَيْهِ بِالْجِلَالِ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ له.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرٍو- قال ابن هشام: هو جعفر ابن عمرو بن أميّة الضّمْرِيّ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ أَخِي محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْكَوْثَرُ الّذِي أَعْطَاك اللهُ؟ قَالَ: نَهْرٌ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إلَى أَيْلَةَ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ نُجُومِ السّمَاءِ، تَرِدُهُ طُيُورٌ لَهَا كَأَعْنَاقِ الْإِبِلِ. قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: إنها يا رسول الله لنا عمة، قَالَ: آكِلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ سَمِعْت فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَوْ غَيْرِهِ أَنّهُ قَالَ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَا يَظْمَأُ أَبَدًا» .
[نُزُولُ: (وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَدَعَا رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْمَهُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَكَلّمَهُمْ، فَأَبْلَغَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ زَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالنّضْرُ بن الحارث، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَأُبَيّ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ: لَوْ جُعِلَ مَعَك يَا مُحَمّدُ مَلَكٌ يُحَدّثُ عَنْك النّاسَ وَيُرَى مَعَك! فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: (وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) الأنعام: 8، 9.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/394)
[نزول: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلّى الله عليه وسلم- فيما بلغنى- بالوليد بن الْمُغِيرَةِ، وَأُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَبِأَبِي جَهْلِ بْنِ هشام، فغمزوه وهمزوه، واستهزؤا بِهِ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ: فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ:
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ، فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الأنبياء: 41.
[ذكر الإسراء والمعراج]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنَا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ: ثُمّ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مِنْ إيلِيَاء، وَقَدْ فَشَا الْإِسْلَامُ بِمَكّةَ فِي قُرَيْشٍ، وَفِي الْقَبَائِلِ كُلّهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: كَانَ مِنْ الْحَدِيثِ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ مَسْرَاهُ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، وَعَائِشَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ، وَابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأُمّ هَانِئِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، مَا اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، كُلّ يُحَدّثُ عَنْهُ بَعْضَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَكَانَ فِي مَسْرَاهُ، وَمَا ذُكِرَ عَنْهُ بَلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ، وَأَمْرٌ من أمر الله فِي قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/395)
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَثَبَاتٌ لِمَنْ آمَنَ وَصَدّقَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى يَقِينٍ، فأسرى به كَيْفَ شَاءَ، لِيُرِيَهُ مِنْ آيَاتِهِ مَا أَرَادَ، حَتّى عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ أَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، وَقُدْرَتِهِ الّتِي يَصْنَعُ بِهَا مَا يُرِيدُ.
[راوية ابن مسعود]
فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ- فِيمَا بَلَغَنِي- عَنْهُ- يَقُولُ:
أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْبُرَاقِ- وَهِيَ الدّابّةُ الّتِي كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ، تَضَعُ حَافِرَهَا فِي مُنْتَهَى طَرْفِهَا- فَحُمِلَ عَلَيْهَا، ثُمّ خَرَجَ بِهِ صَاحِبُهُ، يَرَى الْآيَاتِ فِيمَا بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتّى انْتَهَى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَجَدَ فِيهِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ جُمِعُوا لَهُ، فَصَلّى بِهِمْ. ثُمّ أُتِيَ بِثَلَاثَةِ آنِيَةٍ، إنَاءٌ فِيهِ لَبَنٌ، وَإِنَاءٌ فِيهِ خَمْرٌ، وَإِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ قَالَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ حِينَ عُرِضَتْ عَلَيّ: إنْ أَخَذَ الْمَاءَ، غَرِقَ وَغَرِقَتْ أُمّتُهُ، وَإِنْ أَخَذَ الْخَمْرَ غَوَى، وَغَوَتْ أُمّتُهُ، وَإِنْ أَخَذَ اللّبَنَ هُدِيَ، وَهُدِيَتْ أُمّتُهُ. قَالَ: فَأَخَذْت إنَاءَ اللّبَنِ، فَشَرِبْت مِنْهُ، فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ: هُدِيت وهديت أمتك يا محمد.
[حديث الحسن]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدّثْت عَنْ الْحَسَنِ أَنّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ، إذْ جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْت فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَعُدْت إلَى مَضْجَعِي، فَجَاءَنِي الثّانِيَةَ فَهَمَزَنِي بقدمه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/396)
فجلست فلم أر شيئا، فعدت إلى مضجعي، فَجَاءَنِي الثّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ، فَأَخَذَ بِعَضُدِي، فقمت معه فخرج إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا دَابّةٌ أَبْيَضُ، بَيْنَ الْبَغْلِ- وَالْحِمَارِ- فِي فَخِذَيْهِ جَنَاحَانِ يَحْفِزُ بِهِمَا رِجْلَيْهِ، يَضَعُ يَدَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَحَمَلَنِي عليه، ثم خرج معى لا يفوتى ولا أفوته.
[حديث قتادة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ، وَحُدّثْت عَنْ قَتَادَةَ أَنّهُ قَالَ: حُدّثْت أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ: لَمّا دَنَوْتُ مِنْهُ؛ لِأَرْكَبَهُ شَمَسَ، فَوَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى مَعْرَفَتِهِ، ثُمّ قَالَ: أَلَا تَسْتَحِي يَا بُرَاقُ مِمّا تَصْنَعُ، فو الله مَا رَكِبَك عَبْدٌ لِلّهِ قَبْلَ مُحَمّدٍ أَكْرَمُ على الله مِنْهُ. قَالَ: فَاسْتَحْيَا حَتّى ارْفَضّ عَرَقًا، ثُمّ قرّ حتى ركبته.
[من حديث الحسن]
قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ: فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَمَضَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ مَعَهُ، حَتّى انْتَهَى بِهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَجَدَ فِيهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمّهُمْ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَصَلّى بِهِمْ، ثُمّ أُتِيَ بِإِنَاءَيْنِ، فِي أَحَدِهِمَا: خَمْرٌ، وَفِي الْآخَرِ: لَبَنٌ. قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَاءَ اللّبَنِ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَتَرَكَ إنَاءَ الْخَمْرِ.
قَالَ: فَقَالَ: لَهُ جِبْرِيلُ: هُدِيت لِلْفِطْرَةِ، وَهُدِيَتْ أُمّتُك يَا مُحَمّدُ، وَحُرّمَتْ عَلَيْكُمْ الْخَمْرُ، ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلَى مَكّةَ، فَلَمّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/397)
أَصْبَحَ غَدَا عَلَى قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ. فَقَالَ أَكْثَرُ النّاسِ: هَذَا وَاَللهِ الْإِمْرُ الْبَيّنُ، وَاَللهِ إنّ الْعِيرَ لَتُطْرَدُ شَهْرًا مِنْ مَكّةَ إلَى الشّامِ مُدْبِرَةً، وَشَهْرًا مُقْبِلَةً، أَفَيَذْهَبُ ذَلِكَ مُحَمّدٌ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَرْجِعُ إلَى مَكّةَ! قَالَ: فَارْتَدّ كَثِيرٌ مِمّنْ كَانَ أَسْلَمَ، وَذَهَبَ النّاسُ إلى أبى بكر، فَقَالُوا لَهُ: هَلْ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ فِي صَاحِبِك، يَزْعُمُ أَنّهُ قَدْ جَاءَ هَذِهِ اللّيْلَةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَصَلّى فِيهِ، وَرَجَعَ إلَى مَكّةَ. قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: إنّكُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: بَلَى، هَا هُوَ ذَاكَ فِي الْمَسْجِدِ يُحَدّثُ بِهِ النّاسَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَللهِ لَئِنْ كَانَ قَالَهُ لَقَدْ صَدَقَ، فما يعجبكم من ذلك؟! فو الله إنه ليخبرنى أنّ الخبر ليأتيه مِنْ السّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَأُصَدّقُهُ، فَهَذَا أَبْعَدُ مِمّا تَعْجَبُونَ مِنْهُ، ثُمّ أَقْبَلَ حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يَا نَبِيّ اللهِ. أَحَدّثْتَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَنّك أتيت الْمَقْدِسِ هَذِهِ اللّيْلَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا نَبِيّ اللهِ، فَصِفْهُ لِي، فَإِنّي قَدْ جِئْته- قَالَ الْحَسَنُ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَرُفِعَ لِي حَتّى نَظَرْتُ إلَيْهِ- فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصِفُهُ لِأَبِي بَكْرٍ: وَيَقُول أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ، أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللهِ، كَلَمّا وَصَفَ لَهُ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ: صَدَقْتَ، أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ الله، حتى انْتَهَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي بَكْرٍ: وَأَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقُ، فَيَوْمَئِذٍ سَمّاهُ الصّدّيقَ.
قَالَ الْحَسَنُ: وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيمَنْ ارْتَدّ عَنْ إسْلَامِهِ لِذَلِكَ: (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» الإسراء: 60.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/398)
فَهَذَا حَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. وَمَا دَخَلَ فِيهِ من حديث قتادة.
[الإسراء رؤيا]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ: أَنّ عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَتْ تَقُولُ: مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَكِنْ الله أسرى بروحه.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ: أَنّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْرَى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: كانت رؤيا من الله تعالى صادقة.
فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا، لِقَوْلِ الْحَسَنِ: إنّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) الإسراء:
60. وَلِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَبَرِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ إذْ قَالَ لِابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) الصافات: 102. ثُمّ مَضَى عَلَى ذَلِكَ.
فَعَرَفْتُ أَنّ الْوَحْيَ مِنْ اللهِ يَأْتِي الْأَنْبِيَاءَ أَيْقَاظًا وَنِيَامًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- يَقُولُ: تَنَامُ عَيْنَايَ، وَقَلْبِي يَقْظَانُ. وَاَللهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ قَدْ جَاءَهُ، وَعَايَنَ فِيهِ مَا عَايَنَ، مِنْ أَمْرِ اللهِ، عَلَى أَيّ حَالَيْهِ كَانَ: نَائِمًا، أو يقظان، كلّ ذلك حقّ وصدق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/399)
[الصفات التى وصف بها النبى بعض الرسل]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَعَمَ الزّهْرِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَصَفَ لِأَصْحَابِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى حِينَ رَآهُمْ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ، فَقَالَ: أَمّا إبراهيم، فلم أَرَ رَجُلًا أَشَبَهَ بِصَاحِبِكُمْ، وَلَا صَاحِبُكُمْ أَشَبَهَ بِهِ مِنْهُ، وَأَمّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ طَوِيلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ أَقْنَى كَأَنّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَأَمّا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، فَرَجُلٌ أَحْمَرُ، بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطّوِيلِ، سَبْطُ الشّعَرِ، كَثِيرُ خِيلَانِ الْوَجْهِ، كَأَنّهُ خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، تَخَالُ رَأْسَهُ يَقْطُرُ مَاءً، وَلَيْسَ بِهِ مَاءٌ، أَشْبَهُ رِجَالِكُمْ بِهِ عروة بن مسعود الثقفى
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَكَانَتْ صِفَةُ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا- ذَكَرَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: كَانَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، إذَا نَعَتَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال-:
لَمْ يَكُنْ بِالطّوِيلِ الْمُمّغِطِ، وَلَا الْقَصِيرِ الْمُتَرَدّدِ. وَكَانَ رَبْعَةً مِنْ الْقَوْمِ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلَا السّبِطِ، كَانَ جَعْدًا رَجِلًا، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهّمِ وَلَا الْمُكَلْثَمِ وَكَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش الكتد، دقيق المسربة أجرد، شئن الكفّين والقدمين، إذا مثى تَقَلّعَ، كَأَنّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النّبُوّةِ، وَهُوَ صلى الله وَسَلّمَ خَاتَمُ النّبِيّينَ، أَجْوَدُ النّاسِ كَفّا، وَأَجْرَأُ النّاسِ صَدْرًا، وَأَصْدَقُ النّاسِ لَهْجَةً، وَأَوْفَى النّاسِ ذِمّةً، وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً، وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/400)
مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ أَحَبّهُ، يَقُولُ نَاعِتُهُ: لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مثله، صلى الله عليه وسلم
[حديث أم هانئ عن الإسراء]
قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ- فِيمَا بَلَغَنِي- عَنْ أُمّ هَانِئِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَاسْمُهَا: هِنْدٌ- فِي مَسْرَى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، أَنّهَا كَانَتْ تَقُولُ: مَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا وهو فى بيتى، نائم عِنْدِي تِلْكَ اللّيْلَةَ فِي بَيْتِي، فَصَلّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، ثُمّ نَامَ وَنِمْنَا، فَلَمّا كَانَ قُبَيْلَ الْفَجْرِ أَهَبّنَا رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَلَمّا صَلّى الصّبْحَ، وَصَلّيْنَا مَعَهُ، قَالَ: يَا أُمّ هَانِئٍ، لَقَدْ صَلّيْتُ مَعَكُمْ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ كَمَا رَأَيْتِ بِهَذَا الْوَادِي، ثُمّ جِئْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلّيْت فِيهِ، ثُمّ قَدْ صَلّيْت صَلَاةَ الْغَدَاةِ مَعَكُمْ الْآنَ كَمَا تَرَيْنَ، ثُمّ قال لِيَخْرُجَ، فَأَخَذْتُ بِطَرَفِ رِدَائِهِ، فَتَكَشّفَ عَنْ بَطْنِهِ كَأَنّهُ قُبْطِيّةٌ مَطْوِيّةٌ، فَقُلْت لَهُ: يَا نَبِيّ اللهِ، لَا تُحَدّثْ بِهَذَا النّاسَ، فَيُكَذّبُوك وَيُؤْذُوك، قَالَ: وَاَللهِ لأحدثنهموه. قَالَتْ: فَقُلْت لِجَارِيَةِ لِي حَبَشِيّةٍ: وَيْحَك اتْبَعِي رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حَتّى تَسْمَعِي مَا يَقُولُ لِلنّاسِ، وَمَا يَقُولُونَ لَهُ.
فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى النّاسِ أَخْبَرَهُمْ، فَعَجِبُوا وَقَالُوا:
مَا آيَةُ ذَلِكَ يَا مُحَمّدُ؟ فَإِنّا لَمْ نَسْمَعْ بِمِثْلِ هَذَا قَطّ، قَالَ: آيَةُ ذَلِكَ أَنّي مَرَرْت بِعِيرِ بَنِي فُلَانٍ بِوَادِي كَذَا وَكَذَا، فَأَنْفَرَهُمْ حِسّ الدّابّةِ، فَنَدّ لَهُمْ بَعِيرٌ، فَدَلَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنَا مُوَجّهٌ إلَى الشّامِ. ثُمّ أَقْبَلْتُ حَتّى إذَا كُنْتُ بِضَجَنَانَ مَرَرْتُ بِعِيرِ بَنِي فُلَانٍ، فَوَجَدْتُ الْقَوْمَ نِيَامًا، وَلَهُمْ إنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ قَدْ غَطّوْا عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/401)
بشىء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم الان تصوب مِنْ الْبَيْضَاءِ، ثَنِيّةِ التّنْعِيمِ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ، عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ، إحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ، وَالْأُخْرَى بَرْقَاءُ. قَالَتْ: فَابْتَدَرَ الْقَوْمُ الثّنِيّةَ، فَلَمْ يَلْقَهُمْ أَوّلُ مِنْ الْجَمَلِ كَمَا وَصَفَ لَهُمْ، وَسَأَلُوهُمْ عَنْ الْإِنَاءِ، فأخبروهم أنهم وضعوه مملوآ مَاءً ثُمّ غَطّوْهُ، وَأَنّهُمْ هَبّوا فَوَجَدُوهُ مُغَطّى كَمَا غَطّوْهُ، وَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ مَاءً. وَسَأَلُوا الْآخَرِينَ وَهُمْ بِمَكّةَ، فَقَالُوا: صَدَقَ وَاَللهِ، لَقَدْ أنفرنا فى الوادى الذى ذكره، وندّلنا بَعِيرٌ، فَسَمِعْنَا صَوْتَ رَجُلٍ يَدْعُونَا إلَيْهِ، حَتّى أخذناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأبتر والكوثر:
فصل: وذكر قول العاصى بْنِ وَائِلٍ: إنّ مُحَمّدًا أَبْتَرُ إذَا مَاتَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ قَوْلَهُ مِنْ سُورَةِ الْكَوْثَرِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسّرِينَ. وَقِيلَ: إنّ أَبَا جَهْلٍ هُوَ الذى قال ذلك. وقد قيل: كعب ابن الْأَشْرَفِ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ أَنْ تَكُونَ سُورَةُ الْكَوْثَرِ مَدَنِيّةً، وَقَدْ رَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْجُعْفِيّ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ، قَالَ: كَانَ الْقَاسِمُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ بَلَغَ أَنْ يَرْكَبَ الدّابّةَ، وَيَسِيرَ عَلَى النّجِيبَةِ، فَلَمّا قَبَضَهُ اللهُ، قَالَ الْعَاصِي: أَصْبَحَ مُحَمّدٌ أَبْتَرُ مِنْ ابْنِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» عوضا يَا مُحَمّدُ مِنْ مُصِيبَتِك بِالْقَاسِمِ: «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» وَلَمْ يَقُلْ: إنّ شَانِئَك أَبْتَرُ «1» يَتَضَمّنُ اخْتِصَاصَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ، لِأَنّ هُوَ فِي مِثْلِ هَذَا
__________
(1) فى الكلام نقص لعله: «فقوله: هو الأبتر» .(3/402)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَوْضِعِ تُعْطِي الِاخْتِصَاصَ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إنّ زَيْدًا فَاسِقٌ، فَلَا يَكُونُ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْوَصْفِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْت: إنّ زَيْدًا هُوَ الْفَاسِقُ، فَمَعْنَاهُ:
هُوَ الْفَاسِقُ الّذِي زَعَمَتْ «1» ، فَدَلّ عَلَى أَنّ بِالْحَضْرَةِ مَنْ يَزْعُمُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا قَالَ الْجُرْجَانِيّ وَغَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنّ هُوَ تُعْطِي الِاخْتِصَاصَ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) لَمّا كَانَ الْعِبَادُ «2» يُتَوَهّمُونَ أَنّ غَيْرَ اللهِ قَدْ يُغْنِي، قَالَ: هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى، أَيْ: لَا غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا» إذْ كَانُوا قَدْ يَتَوَهّمُونَ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ ما توهمه النّمْرُودُ حِينَ قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، أَيْ: أَنَا أَقْتُلُ مَنْ شِئْت، وَأَسْتَحْيِي مَنْ شِئْت، فَقَالَ عَزّ وَجَلّ: وَأَنّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا أَيْ: لَا غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) «3» أَيْ: هُوَ الرّبّ لَا غَيْرُهُ، إذْ كَانُوا قَدْ اتّخَذُوا أَرْبَابًا مِنْ دُونِهِ، مِنْهَا: الشّعْرَى، فَلَمّا قَالَ: وَإِنّهُ خَلَقَ الزّوْجَيْنِ، وَأَنّهُ أَهْلَكَ عَادًا اسْتَغْنَى الْكَلَامُ عَنْ هُوَ الّتِي تُعْطِي معنى الاختصاص، لأنه فصل لَمْ يَدَعْهُ أَحَدٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أَيْ: لَا أَنْتَ. وَالْأَبْتَرُ: الّذِي لَا عَقِبَ لَهُ يَتْبَعُهُ، فعدمه كالبتر الذى هو عدم
__________
(1) فى الأصل: التى.
(2) التعبير الدقيق: بعض العبيد.
(3) هذه الايات من سورة النجم وترتيبها: (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا. وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى، وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى. وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) النجم 44- 49. وأقنى: أعطى المال المتخذ قنية. والشعرى: كوكب خلف الجوزاء أشد ضياء من الغميصا وفى القاموس: الشعرى: العبور، والشعرى: الغميصاء أختا سهيل.(3/403)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذّنْبِ، فَإِذَا مَا قُلْت هَذَا، وَنَظَرْت إلَى الْعَاصِي، وَكَانَ ذَا وَلَدٍ وَعَقِبٍ، وَوَلَدُهُ عَمْرٌو وَهِشَامٌ ابْنَا الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ لَهُ الْبَتْرُ، وَانْقِطَاعُ الْوَلَدِ، وَهُوَ ذُو وَلَدٍ وَنَسْلٍ، وَنَفْيُهُ عَنْ نَبِيّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ» الْأَحْزَابُ الْآيَة: 40. فَالْجَوَابُ: أَنّ الْعَاصِيَ- وَإِنْ كَانَ ذَا وَلَدٍ- فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَلَيْسُوا بِأَتْبَاعِ لَهُ، لِأَنّ الْإِسْلَامَ قَدْ حَجَزَهُمْ عَنْهُ، فَلَا يَرِثُهُمْ وَلَا يَرِثُونَهُ، وَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمّدٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ، وَهُوَ أَبٌ لهم. كما قرأ: أبىّ ابن كَعْبٍ: «وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ، وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ «1» ، وَالنّبِيّ أَوْلَى بِهِمْ» كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ، فَهُمْ وَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعُ النّبِيّ فِي الدّنْيَا، وَأَتْبَاعُهُ فِي الْآخِرَةِ إلَى حَوْضِهِ، وَهَذَا مَعْنَى الْكَوْثَرِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الدّنْيَا لِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ فِيهَا، ليغذى
__________
(1) لا يتصور مسلم أن قوله: «وهو أب لهم» آية من القرآن، لأنها ليست فى المصحف. وما ليس فى المصحف فلا يعده مسلم قرآنا أبا كان راويه. والحديث الذى رواه البخارى حول الاية: ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به فى الدنيا والاخرة. اقرؤا إن شئتم: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأبما مؤمن ترك ما لا فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتنى، فأنا مولاه، ولم ترد تلك القراءة عن طريق صحيح، والعجيب أن تسند هذه القراءة إلى أبى بن كعب وابن عباس، وأنها تروى عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن!! تدبر هذه الأسماء المحشودة وراء «وهو أب لهم» والله يَقُولُ: (مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) ففى القراءة مخالفة صريحة للاية المحكمة، ثم هى توحى كغيرها من القراآت المفتراة بأن المصحف الذى بأيدينا ينقص بعض آيات أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم. ومحاولة التأويل، أو الدفاع عن هذه القراآت محاولة يكيد بها الشيطان، ويمكر ضد القرآن، ومساندة لرواة مجهولين دسوا، وكتب يحاول بعض الناس أن يرفعوها فوق القرآن.(3/404)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَرْوَاحَهُمْ بِمَا فِيهِ حَيَاتُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ، وَكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ فِي الْآخِرَةِ لِيَسْقِيَهُمْ مِنْ حَوْضِهِ مَا فِيهِ الْحَيَاةُ الْبَاقِيَةُ، وَعَدُوّ اللهِ الْعَاصِي عَلَى هَذَا هُوَ الْأَبْتَرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إذْ قَدْ انْقَطَعَ ذَنَبُهُ وَأَتْبَاعُهُ، وَصَارُوا تَبَعًا لِمُحَمّدِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِذَلِكَ قُوبِلَ تَعْيِيرُهُ لِلنّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْبَتْرِ بِمَا هُوَ ضِدّهُ مِنْ الْكَوْثَرِ؛ فَإِنّ الْكَثْرَةَ تُضَادّ مَعْنَى الْقِلّةِ، وَلَوْ قَالَ فِي جَوَابِ اللّعِينِ: إنّا أَعْطَيْنَاك الْحَوْضَ الّذِي مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَكُنْ رَدّا عَلَيْهِ، وَلَا مُشَاكِلًا لِجَوَابِهِ، وَلَكِنْ جَاءَ بِاسْمِ يَتَضَمّنُ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ؛ وَالْعَدَدَ الْجَمّ الْغَفِيرَ الْمُضَادّ لِمَعْنَى الْبَتْرِ، وَأَنّ ذَلِكَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِسَبَبِ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ الّذِي أَعْطَاهُ، فَلَا يَخْتَصّ لَفْظُ الْكَوْثَرِ بِالْحَوْضِ، بَلْ يَجْمَعُ هَذَا الْمَعْنَى كُلّهُ، وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النّجُومِ «1» ، وَيُقَال: هَذِهِ الصّفَةُ فِي الدّنْيَا: عُلَمَاءُ الْأُمّةِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَمِنْ بَعْدِهِمْ، فَقَدْ قَالَ: أَصْحَابِي كَالنّجُومِ «2» ، وَهُمْ يَرْوُونَ العلم عنه، ويؤدونه
__________
(1) فى حديث متفق عليه: «حوضى مسيرة شهر، وزواياه سواء، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء من يشرب منها فلا يظمأ أبدا» . كما وردت مسألة الكيزان هذه فى روايتين عند مسلم، إحداهما عن أبى هريرة، والأخرى عن أنس. ولكن لنذكر مع هذا حديثا آخر: «قال رسول الله «ص» : «إنى فرطكم على الحوض، من مر على شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن على أقوام أعرفهم، ويعرفوننى، ثم يحال بينى وبينهم، فأقول إنهم منى، فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدى» متفق عليه.
(2) فى حديث رواه رزين: «أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقد قال عنه المحدث الفاضل الشيخ محمد ناصر الألبانى: «حديث باطل، وإسناده واه جدا» . ص 219 ج 3 مشكاة المصابيح.(3/405)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى من بعدهم، كما تروى الْآنِيّةُ فِي الْحَوْضِ، وَتَسْقِي الْوَارِدَةُ عَلَيْهِ: تَقُولُ:
رَوَيْت الْمَاءَ، أَيْ: اسْتَقَيْته كَمَا تَقُولُ: رَوَيْت الْعِلْمَ، وَكِلَاهُمَا فِيهِ حَيَاةٌ، وَمِنْهُ قِيلَ لِمَنْ رَوَى عِلْمًا أَوْ شِعْرًا: رَاوِيَةً تَشْبِيهًا بِالْمَزَادَةِ أَوْ الدّابّةِ الّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا الْمَاءُ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ عَلّامَةٍ وَنَسّابَةٍ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ أَنّهَا تَنْزُو فِي أَكُفّ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي الْآنِيّةَ، وَحَصْبَاءُ الْحَوْضِ: اللّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتِ «1» ، وَيُقَابِلُهُمَا فِي الدّنْيَا الْحِكَمُ الْمَأْثُورَةُ عَنْهُ، أَلّا تَرَى أَنّ اللّؤْلُؤَ فِي عِلْمِ التّعْبِيرِ حِكَمٌ وَفَوَائِدُ عِلْمٍ، وَفِي صِفَةِ الْحَوْضِ لَهُ الْمِسْكُ، أَيْ: حَمْأَتُهُ «2» وَيُقَابِلُهُ فِي الدّنْيَا: طِيبُ الثّنَاءِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَأَتْبَاعِ النّبِيّ الْأَتْقِيَاءِ، كَمَا أَنّ الْمِسْكَ، فِي: عِلْمِ التّعْبِيرِ ثَنَاءٌ حَسَنٌ، وَعِلْمٌ التّعْبِيرِ مِنْ عِلْمِ النّبُوءَةِ مُقْتَبَسٌ. وَذَكَرَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ الطّيْرَ الّتِي تَرُدّهُ كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ «3» ، وَيُقَابِلُهُ مِنْ صِفَةِ الْعِلْمِ فِي الدّنْيَا وُرُودُ الطّالِبِينَ مِنْ كُلّ صُقْعٍ «4» وَقُطْرٍ عَلَى حَضْرَةِ الْعِلْمِ وَانْتِيَابِهِمْ إيّاهَا فِي زَمَنِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَعْدَهُ، فَتَأَمّلْ صِفَةَ الْكَوْثَرِ مَعْقُولَةٌ فِي الدّنْيَا، مَحْسُوسَةٌ فِي الْآخِرَةِ مدركة
__________
(1) فى حديث رواه النسائى: حصباؤه اللؤلؤ والياقوت
(2) كذا بالأصل، والحمأة: الطين الأسود، وفى حديث رواه البخارى عن الكوثر: «فإذا طينه مسك أذفر» . وفى حديث رواه أحمد: «فضربت بيدى فى ترابه، فإذا مسك أذفر» ، وفى حديث آخر: «وضرب بيده إلى أرضه، فأخرج من طينه المسك» .
(3) البخت: نوع من الإبل طويلة الأعناق، وقد ذكرت فى حديث رواه الترمذى، وصححه الحاكم، وفيه: أو أعناق الجزر، جمع جزور: البعير.
(4) ناحية.(3/406)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالْعِيَانِ- هُنَالِكَ يُبَيّنُ لَك إعْجَازَ التّنْزِيلِ وَمُطَابَقَةَ السّورَةِ- لِسَبَبِ- نُزُولِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ فُضَيْل: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أَيْ: تَوَاضَعْ لِمَنْ أَعْطَاك الْكَوْثَرَ بِالصّلَاةِ لَهُ، فَإِنّ الْكَثْرَةَ فِي الدّنْيَا تَقْتَضِي فِي أَكْثَرِ الْخَلْقِ الْكِبْرَ: وَتَحْدُو إلَى الْفَخْرِ والمحيرية، فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ طَأْطَأَ رَأْسَهُ عَام الْفَتْحِ حِينَ رَأَى كَثْرَةَ أَتْبَاعِهِ، وَهُوَ عَلَى الرّاحِلَةِ حَتّى أَلْصَقَ عُثْنُونَهُ «1» بِالرّحْلِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبّهِ، وَكَذَلِكَ أَمَرَهُ بِالنّحْرِ شُكْرًا لَهُ، وَرَفَعَ الْيَدَيْنِ إلَى النّحْرِ «2» فِي الصّلَاةِ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ الّتِي عِنْدَهَا يَنْحَرُ، وَإِلَيْهَا يَهْدِي مَعْنَاهُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ. النّحْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الصّلَاةِ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ إلَى النّحْرِ، كَمَا أَنّ الْقِبْلَةَ مَحْجُوجَةٌ مُصَلّى إلَيْهَا، فَكَذَلِكَ يَنْحَرُ عِنْدَهَا، وَيُشَارُ إلَى النّحْرِ عِنْدَ اسْتِقْبَالِهَا، وَإِلَى هَذَا الْتَفَتَ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ قَالَ: مَنْ صَلّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَقَدْ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: «قُلْ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ] الْأَنْعَامُ 162، 163 فَقَرَنَ بَيْنَ الصّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ، وَالنّسُكِ إلَيْهَا، كَمَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا حِينَ قَالَ: «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ» وَذَكَرَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ: كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَيْلَةَ «3» وَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَيْضًا فِي الصّحِيحِ «كما بين جرباء وأذرح «4» » وبينهما
__________
(1) العثنون: ما نبت على الذق وتحته سفلا.
(2) النحر: أعلى المصدر.
(3) من حديث رواه الطبرانى وابن حبان. وأيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلى الشام. وأيلة: موضع برضوى.
(4) جرباء- وفى الأصل: حرباء موضع من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشام. وهما واردتان فى حديث متفق عليه. وجرباء تقصر وتمد، والقصر أولى.(3/407)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ، وَفِي الصّحِيحِ أَيْضًا فِي صِفَتِهِ: كَمَا بَيْنَ عَدَنِ أَبْيَنَ إلَى عَمّانَ، وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ أَبْيَنَ، وَأَنّهُ ابْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ حِمْيَرَ، وَأَنّ عَدَنَ سُمّيَتْ بِرَجُلِ مِنْ حَمِيرَ عَدَنَ بِهَا، أَيْ: أَقَامَ، وَتَقَدّمَ أَيْضًا مَا قَالَهُ الطّبَرِيّ أَنّ عَدَنَ وَأَبْيَنَ هُمَا ابْنَا عَدْنَانَ أَخَوَا مَعَدّ، وَأَمّا عَمّانَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ، فَهِيَ بِالشّامِ قُرْبُ دِمَشْقَ، سُمّيَتْ بِعَمّانَ بْنِ لُوطِ بْنِ هَارَانَ، كَانَ سَكَنَهَا- فِيمَا ذَكَرُوا- وَأَمّا عُمَانُ بِضَمّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، فَهُوَ بِالْيَمَنِ سُمّيَتْ بِعُمَانَ بْنِ سِنَانٍ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ- فِيمَا ذَكَرُوا- وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إذْ لَا يُعْرَفُ فِي وَلَدِ إبْرَاهِيمَ لِصُلْبِهِ مِنْ اسْمِهِ سِنَانٍ. وَفِي صِفَةِ الْحَوْضِ أَيْضًا كَمَا بَيْنَ الْكُوفَةِ وَمَكّةَ، وَكَمَا بَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةِ، وَهَذِهِ كُلّهَا رِوَايَاتٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِي، وَإِنْ كَانَتْ الْمَسَافَاتُ بَعْضُهَا أَبْعَدُ مِنْ بَعْضٍ، فَكَذَلِكَ الْحَوْضُ أَيْضًا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَزَوَايَا وَأَرْكَانٌ، فَيَكُونُ اخْتِلَافُ هَذِهِ الْمَسَافَاتِ الّتِي فِي الْحَدِيث عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ جَعَلَنَا اللهُ مِنْ الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ، وَلَا أَظْمَأَ أَكْبَادَنَا فِي الْآخِرَةِ إلَيْهِ. وَمِمّا جَاءَ فِي مَعْنَى الْكَوْثَرِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ- قَالَتْ: الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنّةِ، لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ إلّا سَمِعَ خَرِيرَ ذَلِكَ النّهَرِ، وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فى السيرة من رواية يونس، وراوه الدّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ الشّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «إن اللهَ أَعْطَانِي نَهَرًا يُقَالُ لَهُ الْكَوْثَرُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنْ أُمّتِي أَنْ يَسْمَعَ خَرِيرَ ذَلِكَ الْكَوْثَرِ إلّا سَمِعَهُ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَدْخِلِي أُصْبُعَيْك فِي أُذُنَيْك وَشِدّي، فَاَلّذِي تَسْمَعِينَ فِيهِمَا مِنْ خَرِيرِ الكوثر «1» » وروى
__________
(1) حديث ابن أبى نجيح منقطع، وحديث الدار قطنى مرفوع.(3/408)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم- قَالَ لِعَلِيّ: «وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّك لَذَائِدٌ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَذُودُ عَنْهُ كُفّارَ الْأُمَمِ، كَمَا تُذَادُ الْإِبِلُ الضّالّةُ عَنْ الْمَاءِ بعصامن عَوْسَجٍ «1» » إلّا أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ حَرَامُ بْن عُثْمَانَ عَنْ ابْنَيْ جَابِرٍ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْهُ، فَقَالَ:
لَيْسَ بِثِقَةِ، وَأَغْلَظَ فِيهِ الشّافِعِيّ الْقَوْلَ، وَأَمّا قَوْلُهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ: وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي، فَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ، وَيُفَسّرُهُ عِنْدِي الْحَدِيثُ الْآخَرُ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «إنّي لَأَنْظُرُ إلَى حَوْضِي الْآنَ «2» مِنْ مَقَامِي هَذَا» فَتَأَمّلْهُ.
اسْتِشْهَادُ ابْنِ هِشَامٍ عَلَى مَعْنَى الْكَوْثَرِ:
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الِاسْتِشْهَادِ عَلَى مَعْنَى الْكَوْثَرِ قَوْلَ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ:
وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بِيَوْمِهِ ... وَعِنْدَ الرّدَاعِ بَيْتُ آخِرِ كَوْثَرِ
وَبِالْفَوْرَةِ الْحَرّابِ ذُو الْفَضْلِ عَامِرٌ ... فَنِعْمَ ضِيَاءُ الطّارِقِ الْمُتَنَوّر «3»
يَعْنِي عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ مُلَاعِبَ الْأَسِنَةِ، وَهُوَ عَمّ لَبِيدٍ، وَسَنَذْكُرُ: لِمَ سُمّيَ مُلَاعِبَ الْأَسِنَةِ إذَا جَاءَ ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وصاحب ملحوب: عوف
__________
(1) شجر من شجر الشوك له ثمر مدور، كأنه خرز العقيق «المعجم الوسيط»
(2) عجيب من السهيلى أن يعتد بمثل هذه الداهيات التى أنف أصحاب الصحيح من ذكرها!!
(3) بيت الكميت الذى فى السيرة فى الاشتقاق واللسان، وفيه: الخلائف مكان: العقائل.(3/409)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن الْأَحْوَصِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ. وَاَلّذِي عِنْدَ الرّدَاعِ: شُرَيْح بْنُ الْأَحْوَصِ فِي قَوْله، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ حِبّانُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَالِكِ بن جعفر بن كلاب.
والرّادع: مِنْ أَرْضِ الْيَمَامَةِ. وَمَلْحُوبٌ: مَفْعُولٌ مِنْ لَحَبْت الْعُودَ، إذَا قَشّرْته، فَكَأَنّ هَذَا الْمَوْضِعَ سُمّيَ مَلْحُوبًا، لِأَنّهُ لَا أَكَمٌ فِيهِ وَلَا شَجَرٌ.
ذَكَرَ حَدِيثَ الْمُسْتَهْزِئِينَ:
وَذَكَرَ حَدِيثَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا أَنَزَلَ اللهُ فِيهِمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» الاية الأنبياء: 41.
فقال فيها: استهزىء بِرُسُلِ ثُمّ قَالَ: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ، ولم يقل:
استهزؤا، ثُمّ قَالَ: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَلَمْ يقل: يسخرون. ولابدّ فِي حِكْمَةٍ فِي هَذَا مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَة وتنزيل الكلام منازله، فقوله: استهزىء بِرُسُلِ، أَيْ:
أُسْمِعُوا مِنْ الْكَلَامِ الّذِي يُسَمّى اسْتِهْزَاءً مَا سَاءَهُمْ تَأْنِيسًا لَهُ، لِيَتَأَسّى بِمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الرّسُلِ، وَإِنّمَا سُمّيَ اسْتِهْزَاءً إذَا كَانَ مَسْمُوعًا، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِينَ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: «أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» الْبَقَرَةُ: 67. وَأَمّا السّخْرُ وَالسّخْرَى، فَقَدْ يَكُونُ فِي النّفْسِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ، وَلِذَلِكَ تَقُولُ: سَخِرْت مِنْهُ، كَمَا تَقُولُ: عَجِبْت مِنْهُ إلّا أَنّ الْعُجْبَ لَا يَخْتَصّ بِالْمَعْنَى الْمَذْمُومِ، كَمَا يَخْتَصّ السّخْرُ، وَفِي التّنْزِيلِ خَبَرًا عَنْ نُوحٍ: «إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا، فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ، كَما تَسْخَرُونَ» هود: 28 ولم يقل: نستهزىء بِكَمْ كَمَا تَسْتَهْزِئُونَ؛ لِأَنّ الِاسْتِهْزَاءَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْأَنْبِيَاءِ، إنّمَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِينَ كَمَا قَدّمْنَا مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ، فَالنّبِيّ يَسْخَرُ: أَيْ، يَعْجَبُ مِنْ كُفْرِ مَنْ(3/410)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَسْخَرُ بِهِ، وَمَنْ سُخْرِ عُقُولِهِمْ. فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» ، قُلْنَا: الْعَرَبُ تُسَمّي الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ بِاسْمِ الفعل كما قال تعالى: (نسوا الله فنسنيهم) وَهُوَ مَجَازٌ حَسَنٌ «1» وَأَمّا الِاسْتِهْزَاءُ الّذِي كُنّا بِصَدَدِهِ، فَهُوَ الْمُسَمّى اسْتِهْزَاءُ حَقِيقَةٍ، وَلَا يَرْضَى بِهِ إلّا جَهُولٌ. ثُمّ قَالَ سُبْحَانَهُ: (فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أَيْ حَاقَ بِهِمْ مِنْ الْوَعِيدِ الْمُبَلّغِ لَهُمْ على ألسنة لرسل ما كانوا يستهزؤن بِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ كُلّ كَلِمَةٍ مَنْزِلَهَا، وَلَمْ يَحْسُنْ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ وَضْعُ وَاحِدَةٍ مَكَانَ الْأُخْرَى. وَذَكَرَ أَيْضًا قَوْله سُبْحَانَهُ: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا) أَيْ: لَوْ جَعَلْنَا الرّسُولَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَكُنْ إلّا عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ، وَلَدَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ اللّبْسِ فِيهِ مَا دَخَلَ فِي أَمْرِ مُحَمّدٍ وَقَوْلُهُ: لَبِسْنَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْأَمْرَ كُلّهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ يُعْمِي مَنْ شَاءَ عَنْ الْحَقّ، وَيَفْتَحُ بَصِيرَةَ مَنْ شَاءَ، وَقَوْلُهُ: مَا يَلْبَسُونَ، مَعْنَاهُ: يَلْبَسُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، لِأَنّ أَكْثَرَهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنّهُ الْحَقّ، وَلَكِنْ جَحَدُوا بِهَا، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ، فَجَعَلُوا، يَلْبَسُونَ أَيْ يَلْبَسُ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَلْبَسُونَ عَلَى أَهْلِيهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ، أَيْ: يَخْلِطُونَ عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: لبست عليهم
__________
(1) سبق التعليق على مثل هذا. والنسيان هنا حقيقة لا مجاز، لأن أصل النسيان- كما يقول ابن الأثير: الترك. ويقول ابن فارس فى معجمه عن أصل المادة إنها أصلان: أحدهما يدل على إغفال الشىء، والثانى: على ترك الشىء، فيكون المعنى: تركوا الله فتركهم، هذا لأن دعوى المجاز فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله دعوى تجمع بين الحماقة والجرأة والقول على الله بغير علم. ولا سيما وأنه لم يرد عن خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم شىء من هذا.(3/411)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَمْرَ أَلْبِسُهُ، أَيْ: سَتَرْته وَخَلَطْته، وَمِنْ لُبْسِ الثّيَابِ: لَبِسْت أَلْبَسُ، لِأَنّهُ فِي مَعْنَى كَسِيت، وفى مقابلة عربت، فَجَاءَ عَلَى وَزْنِهِ، وَالْآخَرُ فِي مَعْنَى: خَلَطْت أَوْ سَتَرْت، فَجَاءَ عَلَى وَزْنِهِ.
شَرْحُ مَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ الْمُشْكِلِ اتّفَقَتْ الرّوَاةُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ إسْرَاءً، وَلَمْ يُسَمّهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ: سُرًى، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ اللّغَةِ قَدْ قَالُوا: سَرَى وَأَسْرَى بِمَعْنَى وَاحِدٍ، فَدَلّ عَلَى أَنّ أَهْلَ اللّغَةِ لَمْ يُحَقّقُوا الْعَبّارَةَ، وَذَلِكَ أَنّ القرّاء لم يختلفوا فى العلاوة من قوله: (سبحان الذى أسرى بعبده) وَلَمْ يَقُلْ: سَرَى، وَقَالَ: وَاللّيْلِ إِذَا يَسْرِ، وَلَمْ يَقُلْ:
يَسْرِي، فَدَلّ عَلَى أَنّ السّرَى مِنْ سَرَيْت إذَا سِرْت لَيْلًا، وَهِيَ مُؤَنّثَةٌ «1» تَقُولُ: طَالَتْ سُرَاك اللّيْلَةَ، وَالْإِسْرَاءُ مُتَعَدّ فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ كَثِيرًا حَتّى ظَنّ أَهْلُ اللّغَةِ أَنّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، لَمّا رَأَوْهُمَا غَيْرَ مُتَعَدّيَيْنِ إلَى مَفْعُولٍ فِي اللّفْظِ، وَإِنّمَا أَسْرَى بِعَبْدِهِ، أَيْ: جَعَلَ الْبُرَاق يَسْرِي، كَمَا تَقُولُ: أَمَضَيْته، أَيْ: جَعَلْته يَمْضِي، لَكِنْ كَثُرَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ لَقُوّةِ الدّلَالَةِ عَلَيْهِ، أَوْ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِهِ، إذْ الْمَقْصُودُ بِالْخَبَرِ ذِكْرُ مُحَمّدٍ، لَا ذِكْرُ الدّابّةِ الّتِي سَارَتْ بِهِ، وَجَازَ فِي قِصّةِ لُوطٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. أَنْ يُقَالَ له: فأسر بأهلك: أَيْ فَاسْرِ بِهِمْ، وَأَنْ يَقْرَأَ فَأَسْرِ بِأَهْلِك بِالْقِطْعِ، أَيْ: فَأَسْرِ بِهِمْ مَا يَتَحَمّلُونَ عَلَيْهِ مِنْ دَابّةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَلَمْ يُتَصَوّرْ ذَلِكَ فِي السّرَى بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سَرَى بِعَبْدِهِ بوجه
__________
(1) فى اللسان أنها تذكر وتؤنث.(3/412)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ الْوُجُوهِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ تَأْتِ التّلَاوَةُ إلّا بِوَجْهِ وَاحِدٍ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ فَتَدَبّرْهُ.
وَكَذَلِكَ تَسَامَحَ النّحْوِيّونَ أَيْضًا فِي الْبَاءِ وَالْهَمْزَةِ، وَجَعَلُوهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي حُكْمِ التّعْدِيَةِ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوهُ أَصْلًا لَجَازَ فِي: أَمْرَضْته أَنْ تَقُولَ: مَرِضْت بِهِ، وَفِي أَسْقَمْته: أَنْ تَقُولَ: سَقِمْت بِهِ، وَفِي أَعْمَيْته أَنْ تَقُولَ: عَمِيت بِهِ قِيَاسًا عَلَيّ: أَذْهَبْته وَأَذْهَبْت بِهِ، وَيَأْبَى اللهُ ذَلِكَ وَالْعَالِمُونَ؛ فَإِنّمَا الْبَاءُ تُعْطِي مَعَ التّعْدِيَةِ طَرَفًا مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي الْفِعْلِ، وَلَا تُعْطِيهِ الْهَمْزَةَ، فَإِذَا قُلْت: أَقْعَدْته، فَمَعْنَاهُ:
جَعَلْته يَقْعُدُ، وَلَكِنّك شَارَكْته فِي الْقُعُودِ، فَجَذَبْته بِيَدِك إلَى الْأَرْضِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا بُدّ مِنْ طَرَفٍ مِنْ الْمُشَارَكَةِ إذَا قَعَدْت بِهِ، وَدَخَلْت بِهِ، وَذَهَبْت بِهِ بِخِلَافِ أَدْخَلْته وَأَذْهَبْته.
فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ ذَهَبَ الله بنورهم، وذهب بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ» وَيَتَعَالَى- سُبْحَانَهُ- عَنْ أَنْ يوصف بالذهاب، ويضاف إلَيْهِ طَرَفٌ مِنْهُ، وَإِنّمَا مَعْنَاهُ: أَذَهَبَ نُورَهُمْ وَسَمْعَهُمْ. قُلْنَا: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا: أَنّ النّورَ وَالسّمْعَ وَالْبَصَرَ كَانَ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ قَالَ: بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهَذَا: مِنْ الْخَيْرِ الّذِي بِيَدِهِ، وَإِذَا كَانَ بِيَدِهِ، فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ ذَهَبَ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَعَلَيْهِ يَنْبَنِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآخَرُ الّذِي فِي قَوْلِهِ: ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ مَجَازًا كَانَ أَوْ حَقِيقَةً، أَلَا تَرَى أَنّهُ لَمّا ذَكَرَ الرّجْسَ كَيْفَ قَالَ: «لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ» الْأَحْزَابُ: 33.
وَلَمْ يَقُلْ يُذْهِبُ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ: «وَيُذْهِبَ عنكم رجز الشّيطان» الأنفال: 11 تعليما لِعِبَادِهِ حُسْنَ الْأَدَبِ مَعَهُ، حَتّى لَا يُضَافُ إلَى الْقُدّوسِ سُبْحَانَهُ- لَفْظًا وَمَعْنًى شَيْءٌ مِنْ الْأَرْجَاسِ، وَإِنْ كَانَتْ خَلْقًا لَهُ وَمِلْكًا(3/413)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلَا يُقَالُ: هِيَ بِيَدِهِ عَلَى الْخُصُوصِ، تَحْسِينًا لِلْعِبَارَةِ وَتَنْزِيهًا لَهُ، وَفِي مِثْلِ النّورِ وَالسّمْعِ وَالْبَصَرِ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: هِيَ بِيَدِهِ، فَحَسُنَ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَال: ذَهَبَ بِهِ، وَأَمّا أَسْرَى بِعَبْدِهِ، فَإِنّ دُخُولَ الْبَاءِ فِيهِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنّهُ فِعْلٌ يَتَعَدّى إلَى مَفْعُولٍ، وَذَلِكَ الْمَفْعُولُ الْمُسَرّى هُوَ الّذِي سَرَى بالعبد فشاد كه بِالسّرَى، كَمَا قَدّمْنَا فِي قَعَدْت بِهِ أَنّهُ يُعْطَى الْمُشَارَكَةُ فِي الْفِعْلِ، أَوْ فِي طَرَفٍ منه، فتأمله «1» .
__________
(1) علق ابن القيم على قوله سبحانه: «أسرى بعبده» فقال: «فى قوله تعالى: (أسرى بعبده) دون بعث بعبده، وأرسل به ما يفيد مصاحبته له فى مسراه فإن الباء هنا للمصاحبة كهى فى قوله: هاجر بأهله، وسافر بغلامه، وليست للتعدية فإن أسرى بتعدى بنفسه، يقال: سرى به، وأسراه، وهذا لأن ذلك السرى كان أعظم أسفاره- صلى الله عليه وسلم- والسفر يعتمد الصاحب، ولهذا كان- صلى الله عليه وسلم- إذا سافر يقول: اهم؟؟؟ أنت الصاحب فى السفر. فإن قيل: فهذا المعنى يفهم من الفعل الثلاثى لو قيل: سرى بعبده، فما فائدة الجمع بين الهمزة والباء، ففيه أجوبة» ثم رفض ما أجاب به غيره ثم قال: «والجواب الصحيح أن الثلاثى المتعدى بالباء يفهم منه شيئان أحدهما: صدور الفعل من فاعله: الثانى: مصاحبته لما دخلت عليه الباء. فإذا قلت: سريت بزيد، وسافرت به كنت قد وجد منك السرى والسفر مصاحبا لزيد فيه. وأما المتعدى بالهمزة، فيقتضى إيقاع الفعل بالمفعول فقط، كقوله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم» . ونظائره فإذا قرن هذا المتعدى بالهمزة بالباء أفاد إيقاع الفعل على المفعول مع المصاحبة المفهومة من الباء، ولو أتى فيه بالثلاثى فهم منه معنى المشاركة فى مصدره، وهو ممتنع فتأمله» ص 203 ح 3 بدائع الفوائد.(3/414)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أكان الإسراء يقظة أم مناما:
فصل: ونقدم بَيْنَ يَدَيْ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ: هَلْ كَانَ الْإِسْرَاءُ فِي يَقَظَةٍ بِجَسَدِهِ، أَوْ كَانَ فِي نُوُمِهِ بِرُوحِهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» الزّمَرُ: 43 وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ أَنّهَا كَانَتْ رُؤْيَا حَقّ، وَأَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ تَفْقِدْ بَدَنَهُ، وَإِنّمَا عُرِجَ بِرُوحِهِ تِلْكَ اللّيْلَةَ، وَيَحْتَجّ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: «وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أربناك إِلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ» الْإِسْرَاءُ 60. وَلَمْ يَقُلْ: الرّؤْيَةَ، وَإِنّمَا يُسَمّى رُؤْيَا مَا كَانَ فِي النّوُمِ فِي عُرْفِ اللّغَةِ، وَيَحْتَجّونَ أَيْضًا بِحَدِيثِ الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أن يوحى إليه، وهو قائم فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ أَوّلُهُمْ: أَيّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ هَذَا، وَهُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ فَكَانَ تِلْكَ اللّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السّلَامُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ، وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلّمُوهُ، حَتّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَتَوَلّاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ. الْحَدِيثُ بِطُولِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَاسْتَيْقَظَ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهَذَا نَصّ لَا إشْكَالَ فِيهِ أَنّهَا كَانَتْ رُؤْيَا صَادِقَةً، وَقَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثّانِي: قَدْ تَكُونُ الرّؤْيَا بِمَعْنَى الرّؤْيَةِ فِي الْيَقَظَةِ، وَأَنْشَدُوا لِلرّاعِي يَصِفُ صَائِدًا:(3/415)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَبّرَ لِلرّؤْيَا، وَهَشّ فُؤَادُهُ ... وَبَشّرَ قَلْبًا كَانَ جَمّا بَلَابِلُهُ «1»
قَالُوا: وَفِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنّهَا كَانَتْ فِي الْيَقَظَةِ، لِأَنّهُ قَالَ: «وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلّا فِتْنَةً للناس» وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا نَوْمٍ مَا افْتَتَنَ بِهَا النّاسُ حَتّى ارْتَدّ كَثِيرٌ مِمّنْ أَسْلَمَ، وَقَالَ الْكُفّار: يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّهُ أَتَى بَيْت الْمَقْدِسِ، وَرَجَعَ إلَى مَكّةَ لَيْلَتَهُ، وَالْعِيرُ تَطْرُدُ إلَيْهَا شَهْرًا مُقْبِلَةً وَشَهْرًا مُدْبِرَةً، وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا نَوْمٍ، لَمْ يَسْتَبْعِدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذَا، فَمَعْلُومٌ أَنّ النّائِمَ قَدْ يَرَى نَفْسَهُ فِي السّمَاءِ، وَفِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَلَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ ذَلِكَ واحتج هؤلاء أيضا بشر به الْمَاءَ مِنْ الْإِنَاءِ الّذِي كَانَ مُغَطّى عِنْدَ الْقَوْمِ، وَوَجَدُوهُ حِينَ أَصْبَحَ لَا مَاء فِيهِ، وَبِإِرْشَادِهِ لِلّذِينَ نَدّ بَعِيرُهُمْ حِين أَنْفَرَهُمْ حِسّ الدّابّةِ، وَهُوَ الْبُرَاقُ حَتّى دَلّهُمْ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَ أهل مكة بأمارة ذلك، حتى ذكر الْغِرَارَتَيْنِ السّوْدَاء وَالْبَرْقَاءِ «2» كَمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ: أَنّهُ وَعَدَ قُرَيْشًا بِقُدُومِ الْعِيرِ الّتِي أَرْشَدَهُمْ إلَى الْبَعِيرِ، وَشَرِبَ إنَاءَهُمْ، وأنهم سيقدمون ويخبرون بذلك،
__________
(1) البلابل: شدة الهم والوسواس فى الصدر. والراعى هو: عبيد بن حصين ابن معاوية من بنى نمير، يكنى أبا جندل أو أبا نوح شاعر إسلامى، وهم أهل بيت وسؤدد. وسمى الراعى لقوله:
ضعيف العصا بادى العروق تخاله ... عليها إذا ما أمحل الناس إصبعا
حذا إبل إن تتبع الريح مرة ... يدعها ويخف الصوت حتى تربعا
لها أمرها حتى إذا ما تبوأت ... لأخفاقها مرعى تبوأ مضجعا
(2) اجتمع فيها سواد وبياض. وفى الرواية أنها بيضاء(3/416)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ مَتَى يَقْدُمُونَ؟ فَقَالَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، وَلَمْ يَقْدُمُوا، حَتّى كَرَبَتْ الشّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ، فَدَعَا اللهَ فَحَبَسَ الشّمْسَ حَتّى قَدِمُوا كَمَا وَصَفَ، قَالَ: وَلَمْ يَحْبِسْ الشّمْسَ إلّا لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلِيُوشَعَ بْنِ نُونٍ «1» وَهَذَا كُلّهُ لَا يَكُونُ إلّا يَقَظَةً، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ، مِنْهُمْ: شَيْخُنَا القاضى أبو بكر [ابن الْعَرَبِيّ] رَحِمَهُ اللهُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَقَالَتَيْنِ، وَتَصْحِيحِ الْحَدِيثَيْنِ، وَأَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَرّتَيْنِ، إحْدَاهُمَا: كَانَ فِي نُوُمِهِ وَتَوْطِئَةً لَهُ وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ بَدْءُ نُبُوّتِهِ الرّؤْيَا الصّادِقَةُ، لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ أَمْرُ النّبُوّةِ فَإِنّهُ عَظِيمٌ تَضْعُفُ عَنْهُ الْقُوَى الْبَشَرِيّةُ، وَكَذَلِكَ الْإِسْرَاءُ سَهّلَهُ عَلِيّه بِالرّؤْيَا؛ لِأَنّ هو له عَظِيمٌ، فَجَاءَهُ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى تَوْطِئَةٍ وَتَقْدِمَةٍ، رِفْقًا مِنْ اللهِ بِعَبْدِهِ وَتَسْهِيلًا عَلَيْهِ، وَرَأَيْت الْمُهَلّبَ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ قَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَأَنّهُمْ قَالُوا:
كَانَ الْإِسْرَاءُ مَرّتَيْنِ: مَرّةً فِي نُوُمِهِ، وَمَرّةً فِي يَقَظَتِهِ بِبَدَنِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) هو فتى موسى- كما يقال- ونبى بنى إسرائيل بعده، واسمه عند النكتابيين: يشوع، وسفره يقع بعد سفر التثنية من العهد القديم، وهم يروون أن يوشع حاصر أريحا، فلما غربت الشمس، أو كادت تغرب، ويدخل عليهم السبت الذى جعل عليهم، وشرع لهم قال لها: إنك مأمورة، وأنا مأمور اللهم احبسها على: فحبسها الله حتى تمكن من فتح البلد، وزادوا فقالوا: وأمر القمر، فوقف عن الطلوع. ثم يروى ابن كثير حديثا عن الإمام أحمد: «إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع ليالى سار إلى بيت المقدس» فكيف إذن حبست للنبى صلى الله عليه وسلم؟ وفى مسلم حديث يفيد أن الله حبس الشمس لنبى غزا. لكنه لم يصرح فيه باسم يوشع انظر ص 323 ج 1 البداية والنهاية لابن كثير ج 1 ص 1348.(3/417)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الّذِي يَصِحّ، وبه تتفق معانى الأخيار، أَلَا تَرَى أَنّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الّذِي قَدّمْنَا ذِكْرَهُ: أَتَاهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بَعْدَ النّبُوّةِ، وَحَيْنَ فُرِضَتْ الصّلَاةُ «1» كَمَا قَدّمْنَا فِي الْجُزْءِ قَبْلَ هَذَا، وَقِيلَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَارْتَدّ كَثِيرٌ مِمّنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ، وَرُوَاةُ الْحَدِيثَيْنِ حُفّاظٌ، فَلَا يَسْتَقِيمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرّوَايَتَيْنِ إلّا أَنْ يَكُونَ الْإِسْرَاءُ مَرّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنّهُ لَقِيَ إبْرَاهِيمَ فِي السّمَاءِ السادسة وموسى فى السابغة، وَفِي أَكْثَرِ الرّوَايَاتِ الصّحِيحَةِ أَنّهُ رَأَى إبْرَاهِيمَ عند البيت المعمور فى السماء السابغة، وَلَقِيَ مُوسَى فِي السّادِسَةِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ أُتِيَ بِثَلَاثَةِ آنِيّةٍ، أَحَدُهَا مَاءٌ فَقَالَ قَائِلٌ: إنْ أَخَذَ الْمَاءَ غَرِقَ، وَغَرِقَتْ أُمّتُهُ، وَفِي إحْدَى رِوَايَاتِ الْبُخَارِيّ فِي الْجَامِعِ الصّحِيحِ: أَنّهُ أُتِيَ بِإِنَاءِ فِيهِ عَسَلٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَاءَ وَالرّوَاةُ أَثَبَاتٌ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَكْذِيبِ بَعْضِهِمْ وَلَا تَوْهِينِهِمْ، فَدَلّ عَلَى صِحّةِ الْقَوْلِ بِأَنّهُ كَانَ مَرّتَيْنِ، وَعَادَ الِاخْتِلَافُ إلَى أَنّهُ كَانَ كُلّهُ حَقّا، وَلَكِنْ فِي حَالَتَيْنِ وَوَقْتَيْنِ مَعَ مَا يَشْهَدُ لَهُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَإِنّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى) ثُمّ قَالَ: (مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى) النّجْمُ: 8، 11 فَهَذَا نَحْوُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ قَوْلِهِ:
فِيمَا يَرَاهُ قَلْبُهُ، وَعَيْنُهُ نَائِمَةٌ «2» وَالْفُؤَادُ: هُوَ الْقَلْبُ، ثم قال: «أَفَتُمارُونَهُ عَلى
__________
(1) بل الثابت من آيات القرآن أن الصلاة كانت مفروضة قبل الإسراء.
(2) فى البخارى: باب: كان النبى «ص» تنام عينه، ولا ينام قلبه، رواه سعيد بن ميناه عن جابر عن النبى «ص» .(3/418)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما يَرى) وَلَمْ يَقُلْ: مَا قَدْ رَأَى، فَدَلّ عَلَى أَنّ ثَمّ رُؤْيَةٌ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ، ثُمّ قال:
(ولقد رآه نزلة أخرى) أَيْ: فِي نَزْلَةٍ نَزَلَهَا جِبْرِيلُ إلَيْهِ مَرّةً، فَرَآهُ فِي صُورَتِهِ الّتِي هُوَ عَلَيْهَا (عِنْدَ سدرة المنتهى، إذ يغشى السّدرة ما يغشى) قَالَ: يَغْشَاهَا فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَنْتَثِرُ مِنْهَا الْيَاقُوتُ، وَثَمَرُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ «1» ثم قال: (ما زاغَ الْبَصَرُ) وَلَمْ يَقُلْ: الْفُؤَادُ، كَمَا قَالَ فِي الّتِي قَبْلَ هَذِهِ، فَدَلّ عَلَى أَنّهَا رُؤْيَةُ عَيْنٍ وَبَصَرٍ فِي النّزْلَةِ الْأُخْرَى، ثُمّ قَالَ:
(لَقَدْ رأى من آيات ربّه الكبرى) «2» ، وَإِذَا كَانَتْ رُؤْيَةَ عَيْنٍ؛ فَهِيَ مِنْ الْآيَاتِ الْكُبْرَى، وَمِنْ أَعْظَمِ الْبَرَاهِينِ وَالْعِبَرِ، وَصَارَتْ الرّؤْيَا الْأُولَى بِالْإِضَافَةِ إلَى الْأُخْرَى لَيْسَتْ مِنْ الْكِبْرِ؛ لِأَنّ مَا يَرَاهُ الْعَبْدُ فِي مَنَامِهِ دُونَ مَا يَرَاهُ فِي يَقَظَتِهِ لَا مَحَالَةَ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ إنّهُ رَأَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى نَهَرَيْنِ ظَاهِرَيْنِ، وَنَهَرَيْنِ بَاطِنِينَ، وَأَخْبَرَهُ جِبْرِيل أَنّ الظّاهِرَيْنِ: النّيلُ وَالْفُرَاتُ، وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ أَنَس أَنّهُ رَأَى هَذَيْنِ النّهَرَيْنِ فِي السّمَاءِ الدّنْيَا، وَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: هُمَا النّيلُ وَالْفُرَاتُ، أَصُلْهُمَا وَعُنْصُرُهُمَا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى فِي حَالِ الْيَقَظَةِ مَنْبَعَهُمَا، وَرَأَى فِي الْمَرّةِ الْأُولَى النّهَرَيْنِ دُونَ أَنْ يَرَى أَصْلَهُمَا وَاَللهُ أَعْلَمُ. فَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ) الْمُؤْمِنُونَ: 18 أَنّهُمَا النّيلُ وَالْفُرَاتُ أُنْزِلَا مِنْ الجنة
__________
(1) قرية كانت من قرى المدينة، وليست هجر البحرين، وكانت تعمل بها القلال تأخذ الواحدة منها مزادة من الماء، سمّيت قلة لأنها ترفع وتحمل.
(2) الايات السابقة كلها من سورة النجم.(3/419)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْهَا عَلَى جُنَاح جِبْرِيل، فأودعهما بطون الجبال «1» ثم إن
__________
(1) مما أومن به أنه من الخير تخطئة حديث يرويه راو يخالف المحكم الصريح من كتاب الله، والواقع المحس بكل نوع من الإحساس، فهذا أفضل من أن نحتفى بشأن حديث ينتج عنه تكذيب القرآن، وتكذيب الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ورمى الإسلام بأنه عفن وخرافة، والإسلام هو الحق والنور والحياة، وأرجو أن يكون قولى واضحا: «الحديث الذى يخالف المحكم الصريح من القرآن، والواقع المشهود الملموس المحس» وقد أكد القرآن الإسراء، وآياته المحكمة تقطع به وحددت مكان الإسراء، ومن لمس جانب هذا الحق بأثارة من شك، فقد أثم إثما عظيما وباء بخسران مبين، وقارىء القرآن عن الإسراء لا يرتاب فى شىء، فإن هو عرج على بعض الأحاديث، وبعضها مخالف لبعض ربما أثارته نزعة من ريبة، لهذا يجب علينا أن نستمع إلى ما يصادق القرآن منها، ونضرب صفحا عن الأخرى، تدبر أمر النيل والفرات، وأين هما، ثم اقرأ ما ورد فى بعض الأحاديث عنهما نجد شيئا لا يمكن تصديقه إلا بضروب بعيدة من خرف التأويل، ألا يكفى أن نتدير قوله تعالى: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ، لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) كلام يملأ القلب والعقل والشعور نورا وهداية وبصرا وإيمانا وتسبيحا لله الذى فعل بعبده ذلك. هذا وقد عرض السهيلى أمورا منها: رأى القائلين بأن الإسراء كان مرتين مرة فى نومه، ومرة فى يقظته. وإليك عرض الإمام ابن القيم لهذا: «قال موسى ابن عقبة عن الزهرى: عرج بروح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس، وإلى السماء قبل خروجه إلى المدينة بسنة ... وكان الإسراء مرة واحدة، وقيل: مرتين، مرة يقظة، ومرة مناما، وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك، وقوله: ثم استيقظت، وبين سائر الروايات، ومنهم من قال: بل كان هذا مرتين، مرة قبل الوحى لقوله فى حديث شريك: وذلك قبل أن يوحى إليه، ومرة بعد-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- الوحى كما دلت عليه سائر الأحاديث. ومنهم من قال: بل ثلاث مرات، مرة قبل الوحى، ومرتين بعده، وكل هذا خبط، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا فى القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوها مرة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع. والصواب الذى عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة. ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه مرارا كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه فى كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى، حتى تصير خمسا، ثم يقول: أمضيت فريضتى، وخففت عن عبادى، ثم يعيدها فى المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها عشرا عشرا؟! وقد غلط الحفاظ شريكا فى ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال: فقدم وأخر، وزاد ونقص، ولم يسرد الحديث، وأجاد رحمه الله» ص 130 ح 2 زاد المعاد ط السنة المحمدية. وعن المعراج يقظة أو مناما يقول الإمام الجليل أيضا: «وقد نقل عن ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان الإسراء بروحه، ولم يفقد جسده. ونقل عن الحسن البصرى نحو ذلك، ولكن ينبغى أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناما، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، وعائشة ومعاوية لم يقولا: كان مناما، وإنما قالا: أسرى بروحه، ولم يفقد جسده. وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم فى الصور المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء، أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض، وروحه لم تصعد، ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال. والذين قالوا: عرج برسول الله- صلى الله عليه وسلم- طائفتان، طائفة قالت: عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت: عرج بروحه، ولم يفقد بدنه، وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناما، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسرى بها، وعرج بها حقيقة، وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة، وكان حالها فى ذلك كحالها بعد المفارقة فى صعودها إلى السماوات سماء سماء، حتى ينتهى بها-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- إلى السماء السابغة، فتقف بين يدى الله عز وجل، فيأمر فيها بما يشاء، ثم تنزل إلى الأرض. والذى كان لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة، ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم، لكن لما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى مقام خرق العوائد.. عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة، ومن سواه لا ينال بذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة» ص 128 المصدر السابق، وهو تأويل جيد للامام الجليل. ويقول الإمام الشوكانى: «وقد اختلف أهل العلم: هل كان الإسراء بجسده مع روحه، أو بروحه فقط؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأول، وذهب إلى الثانى طائفة من أهل العلم، منهم: عائشة ومعاوية والحسن وابن إسحاق، وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان، وذهبت طائفة إلى التفصيل، فقالوا: كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس» وإلى السماء بالروح، واستدلوا على هذا التفصيل بقوله: إلى المسجد الأقصى، فجعله غاية للاسراء بذاته، فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء وقع بذاته لذكره، والذى دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أن الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس، ثم إلى السماوات، ولا حاجة إلى التأويل، ص 199 ح 2 فتح القدير ط مصطفى البابى الحلبى. ولو أن الشوكانى قال: بعض الأحاديث الصحيحة، لكان أوفق لأن بعض الأحاديث الصحيحة أيضا تدل على أنه كان بروحه. تاريخ الإسراء: كما يتحدث الإمام الشوكانى عن تاريخ الإسراء بقوله: «وقد اختلف أيضا فى تاريخ الإسراء، فروى أن ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة، وروى أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام، ووجه ذلك أن خديجة صلت مع النبى صلى الله عليه وسلم، وقد ماتت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل بثلاث، وقيل بأربع، ولم تفرض الصلاة إلا ليلة الإسراء، وقد استدل بهذا ابن عبد البر على ذلك، وقد اختلفت الرواية عن الزهرى. وممن قال: بأن-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- الإسراء كان قبل الهجرة بسنة الزهرى فى رواية عنه، وكذلك الحربى، فإنه قال: أسرى بالنبى صلى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة. وقال ابن القاسم فى تاريخه: كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من أهل السير قال يمثل هذا. وروى عن الزهرى أنه أسرى به قبل مبعثه بسبعة أعوام، وروى عنه أنه قال: كان قبل مبعثه بخمس سنين، وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة» ص 200 المصدر السابق. وأقول: سبق أن بينت أن القرآن يؤكد أن الصلاة فرضت فى بداية مبعثه صلى الله عليه وسلم. وقد تحدث السهيلى عن قوله سبحانه (ثم دنا فتدلى) الخ وإليك رأى السلف فى هذا ينقله الإمام ابن القيم أيضا، وأنا أنقله عنه من المصدر السابق: «وأما قوله تعالى فى سورة النجم (ثم دنا فتدلى) فهو غير الدنو والتدلى فى قصة الإسراء، فإن الذى فى سورة النجم هو: دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود، والسياق يدل عليه، فإنه قال: (علمه شديد القوى) وهو جبريل: (ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى) فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وهو ذو المرة- أى القوة- وهو الذى استوى بالأفق الأعلى، وهو الذى دنا فتدلى، فكان محمد- صلى الله عليه وسلم- قدر قاب قوسين أو أدنى، فأما الدنو والتدلى الذى فى حديث الإسراء، فذلك صريح فى أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه، ولا تعرض فى سورة النجم لذلك، بل فيها أنه رآه نزلة آخرى عند سدرة المنتهى. وهذا هو جبريل رآه محمد- صلى الله عليه وسلم- على صورته مرتين مرة فى الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى» ص 127 المصدر السابق. وبهذا يسقط استدلال السهيلى بأن الإسراء كان مرتين. وعن مسألة رؤية النبى صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج يقول الإمام ابن القيم أيضا: «واختلف الصحابة: هل رأى ربه تلك اليلة أم لا؟ فصح-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصح عنه أنه قال: رآه بفؤاده، وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك، وقالا: إن قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) إنما هو جبريل، وصح عن أبى ذر أنه سأله: هل رأيت ربك، فقال: نور أنى أراه أى حال بينى وبين رؤيته النور، كما قال فى لفظ آخر: رأيت نورا، وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمى اتفاق الصحابة على أنه لم يره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: وليس قول ابن عباس إنه رآه مناقضا لهذا، ولا قوله: رآه بفؤاده، وقد صح عنه أنه قال: رأيت ربى تبارك وتعالى، ولكن لم يكن هذا فى الإسراء، ولكن كان فى المدينة لما احتبس فى صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة فى منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد، وقال: نعم رآه حقا، فإن رؤيا الأنبياء حق، ولا بد. ولكن لم يقل أحمد: إنه رآه بعينى رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك، فقد وهم عليه، ولكن قال مرة: رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، فحكيت عنه روايتان؛ وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعينى رأسه؟ وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك، وأما قول ابن عباس إنه رآه بفؤاده مرتين، فإن كان استناده إلى قوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى) ثم قال: (ولقد رآه نزلة أخرى) - والظاهر أنه مستنده- فقد صح عنه- صلى الله عليه وسلم- أن هذا المرئى جبريل، رآه مرتين فى صورته التى خلق عليها، وقول ابن عباس هذا هو مستند الإمام أحمد فى قوله: رآه بفؤاده، والله أعلم» ص 27 المصدر السابق. وقد يقال: رأى آخر هو أن الإسراء به صلى الله عليه وسلم كان بجسده وروحه، أما المعراج فكان بروحه كما شرح الإمام ابن القيم، بدليل ما ورد فى بعض الروايات. فرواية شريك لا يذكر فيها الإسراء مطلقا. وفى رواية عن أنس أيضا: «بينا أنا نائم إذ جاء جبريل عليه السلام، فوكز بين كتفى، فقمت إلى شجرة فيها كوكرى الطير، فقعد فى أحدهما، وقعدت فى الاخر، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين، وأنا أقلب طرفى، ولو شئت أن أمس السماء لمست، ... هذه أيضا لم يأت فيها ذكر للإسراء إلى المسجد الأقصى، ولا للبراق. وفى رواية-(3/420)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
- أنس عن مالك بن صعصعة يقول: «بينما أنا فى الحطيم- وربما قال قتادة فى الحجر مضطجعا- إذ أتانى آت، فجعل يقول لصاحبه: الأوسط بين الثلاثة، قال: فأتانى، فقد ما بين هذه إلى هذه أى من ثغرة نحره إلى مشعرته. أو من قصته إلى مشعرته، ولم يأت كذلك ذكر الإسراء، وفى رواية أخرى: فرج سقف بينى، وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدرى، ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا، فأفرغها فى صدرى ثم أطبقه، ثم أخذ بيدى فعرج بى إلى السماء ... لعل هذه الروايات تعين على إثبات هذا الرأى الأخير، وهو أن المعراج شىء، والإسراء شىء آخر، وأن أن المعراج كان بالروح، وهذه هى الرؤيا التى أراه الله، أما الإسراء، فكان بجسده وروحه. هذا وقد أجريت بعض مقارنات بين الروايات المختلفة عن بعض الأمور التى وردت فى قصة، وإليك بعضها: المكان الذى كان منه الإسراء: سنغفل التعبير بما يأتى: «ورد فى رواية» ، وورد فى رواية أخرى للاختصار، وإليك ما ورد عن مكان الإسراء: المسجد الحرام، فرج عن سقف بيته، وهو فى مكة. بيت أم هانىء. وقد جاءت هذه الرواية بصورة توكيد، وذلك إذ تقول أم هانىء «ما أسرى برسول الله «ص» إلا وهو فى بيتى نائم عندى» . وبعض الروايات أغفلت ذكر المكان. البراق أو ما حمل عليه: بعض الروايات أغفلت ذكره. دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل- أتى به مسرجا ملجما، فاستصعب، قهره جبريل، فارفض عرقه. حمل على البراق، فأوثق الدابة، أو قال: الفرس. شجرة فيها كوكرى الطير، فقعد فى أحدهما، وقعد جبريل فى الاخر، فسمت وارتفعت حتى سادت الخافقين. ينفى حذيفة بن اليمان أنه ربطه، وإنما سخره له الله. سمى فرسا، وراح يصفها النبى لأبى بكر، لأن أبا بكر كان قد رآها من قبل،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- شق الصدر: كان قبل الوحى، وقد جاءه ثلاثة نفر، وهو نائم فى المسجد الحرام، فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه، ولا ينام قلبه، فلم يكلموه، حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق ما بين نحره إلى لبته الخ. أتاه ثلاثة، فشق أحدهم من ثغرة نحره إلى مشعرته، أو من قصته إلى شعرته.. جاء جبريل ومكيال، فشق بطنه. فرج سقف بيته، وهو بمكة فنزل جبريل، ففرج صدره، ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا، فأفرغها فى صدره «ص» ثم أطبقه صلاته ليلة الإسراء: صلى ركعتين فى بيت المقدس. صلى بطيبة وبطور سيناء وبيت لحم، حيث ولد عيسى وصلى فى بيت المقدس، حيث جمع له الأنبياء عليهم السلام، فقدمه جبريل، حتى أمهم، يقسم حذيفة بن اليمان أنه ما صلى فى المسجد الأقصى، ولا دخله هو وجبريل، وأنهما ما زايلا البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء، صلى فى بيت المقدس حيث اجتمع ناس كثيرون، ثم أذن مؤذن، فأقيمت الصلاة، ويروى الحديث أن النبى «ص» قال: فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدى جبريل عليه السلام، فقدمنى فصليت بهم، فلما انصرفت، قال جبريل: يا محمد أتدرى من صلى خلفك؟ قال: قلت: لا، قال: صلى خلفك كل نبى، بعثه الله عز وجل. بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء، فأمهم تلك الليلة. صلى فى بيت المقدس، وصلى النبيون أجمعون معه. صلى فى بيت المقدس، كما صلى فى البيت المعمور. هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء، فصلى بهم. كانت صلاته بالأنبياء فى السماء، وكانت صلاته أول دخوله إلى بيت المقدس. الانية التى شرب منها: أتى بها بعد صلاته ركعتين فى بيت المقدس قبل العروج. وهما: خمر ولبن، وأسند إلى الرسول «ص» اختيار اللبن. عرض عليه خمر وماء ولبن عند بيت المقدس. عرضت عليه الانية فى السماء بعد أن رفع إلى البيت المعمور. وكانت آنيته آنية خمر ولبن وعسل. إناء من لبن وإناء عسل بين يدى-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- شيخ متكىء، وهو الذى قال لجبريل: اختار صاحبك الفطرة. بعد انصرافه من بيت المقدس أتى له بقدحين من لبن وعسل. جىء له بكأس من عسل ولبن، وهو فى المسجد. بعد خروجه من بيت المقدس جىء له بإناء فيه ماء، فشرب يسيرا، وبإناء فيه لبن فشرب حتى روى، وبإناء فيه خمر فلم يشرب. الأنبياء الذين لقيهم فى السموات: سأذكر ما ورد فى عدة روايات فى الرواية الأولى: فى السماء الأولى آدم وعنصرا النيل والفرات والكوثر، وفى الثانية إدريس ولم يذكر من فى الثالثة، وفى الرابعة: هارون، ومن فى الخامسة لم يحفظ الراوى اسمه، وفى السادسة: إبراهيم، وفى السابعة موسى. فى الرواية الثانية آدم فى السماء الأولى، وفى الثانية: يحيى وعيسى. وفى الثالثة: يوسف، وفى الرابعة إدريس، وفى الخامسة: هارون، وفى السادسة: موسى، وفى السابعة: إبراهيم وهو مستند إلى البيت المعمور. وفى الرواية الثالثة: فتح له باب من أبواب السماء، فرأى النور الأعظم، وإذا دون الحجاب: رفرف الدر والياقوت، وأوحى إلى الرسول «ص» ما شاء الله أن يوحى. ولم يذكر شيئا عن النبيين. وفى الرواية الرابعة: فى السماء الأولى: آدم فى الأولى، وفى الثانية: عيسى ويحيى وفى الثالثة يوسف، وفى الرابعة: هارون، وفى الخامسة إدريس، وفى السادسة: موسى، وفى السابعة إبراهيم. وفى الرواية الخامسة: آدم فى الأولى، فى الثانية عيسى وابن خالته يحيى، فى الثالثة: يوسف. فى السماء الرابعة: إدريس، فى الخامسة: هارون، فى السادسة: موسى، فى السابعة: إبراهيم. والكوثر فوق السابعة: وفى الرواية السادسة: فى الأولى: آدم، فى الثانية: عيسى ويحيى، فى الثالثة: يوسف. فى الرابعة: إدريس، فى الخامسة: هارون. فى السادسة: موسى، فى السابعة: إبراهيم. وعند سدرة المنتهى فوق ذلك وجد أربعة الأنهار منها: النيل والفرات، ثم رفع إلى البيت المعمور. -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- وفى الرواية السابعة: فى الأولى: آدم، ثم عرج إلى السماء الثانية، وذكر أنه وجد فى السماوات إدريس وموسى وعيسى، ولكن لم يثبت منازلهم، وذكر أنه وجد إبراهيم فى السادسة وفى الرواية الثامنة: كالرواية السابقة. وفى الرواية التاسعة: وجد ملكا يقال له: إسماعيل، وهو صاحب السماء الدنيا، ووجد فى السماء الأولى آدم وفى الثانية: يوسف، وفى الثالثة: يحيى وعيسى، وفى الرابعة: إدريس، وفى الخامسة: هارون، وفى السادسة: موسى، وفى السابعة: إبراهيم. وفى الرواية العاشرة: فى الأولى: آدم، وفى الثانية: عيسى ويحيى. فى الثالثة: يوسف، فى الرابعة: إدريس: فى الخامسة: هارون. فى السادسة: موسى يبكى. فى السابعة: إبراهيم. الأنهار: فى السماء الدنيا نهران، هما: عنصرا النيل والفرات، كما وجد الكوثر: فوق ظهر السماء السابعة عند سدرة المنتهى: أربعة أنهار، اثنان باطنان والاخران: النيل والفرات. الكوثر: ينشق من عين تخرج من سدرة المنتهى التى فوق السماء السابعة، وهناك أيضا نهر يسمى الرحمة اغتسل فيه النبى «ص» فغفر له كل ذنب، أنهار أولها: رحمة الله، والثانى: نعمة الله، والثالث: سقاهم ربهم شرابا طهورا. بهذا العرض يتجلى لنا وجود ما لا يمكن أن يوصف إلا بالتضاد أو التناقض، ولا يمكن أن يتصور مسلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأتى بمثل هذا التناقض، أو يحكم على الشىء بالنفى، وبالإثبات فى آن واحد. الإسراء حق، لأنه من إخبار القرآن، فلنحرص على عدم التوسع فى ذكر الروايات التى يناقض بعضها بعضا، أو يحكم عليه الواقع المشهود المحسوس بأنه وضع خيال. وليحذر المتهوكون الظن بأننا نضرب صفحا عن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما نضرب صفحا عن أحاديث الرواة الذين يخطئون ساهين، أو يتعمدون الخطأ ماكرين. ألا ترون إلى المفسر السلفى الجليل الإمام ابن كثير كيف يقول عن شريك بن عبد الله بن أبى نمر الذى أخرج له البخارى حديث-(3/425)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- اللهَ سُبْحَانَهُ سَيَرْفَعُهُمَا، وَيَذْهَبُ بِهِمَا عِنْدَ رَفْعِ الْقُرْآنِ وَذَهَابِ الْإِيمَانِ، فَلَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْض خَيْر، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) وَفِي حَدِيثٍ مُسْنَدٍ ذَكَرَهُ النّحَاسُ فِي الْمَعَانِي بأتم من هذا فاختصرته، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الْمُعَلّمِ لِلْمَازَرِيّ قَوْلٌ رَابِعٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ قَالَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ فِي الْيَقَظَةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَكَانَتْ رُؤْيَا عَيْنٍ، ثُمّ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ إلَى فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، وَلِذَلِكَ شَنّعَ الْكُفّارُ قَوْلَهُ: وَأَتَيْت بَيْتَ الْمَقْدِسِ فِي لَيْلَتِي هَذِهِ، وَلَمْ يُشَنّعُوا قوله فيما سوى ذلك «1» .
__________
- الإسراء فى كتاب التوحيد: «إن شريك. اضطرب فى هذا الحديث، وساء حفظه، ولم يضبطه» ويقول عن روايات حديث الإسراء: «وإن اختلفت عبارات الرواة فى أدائه، أو زاد بعضهم فيه، أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام، ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراآت متعددة، فقد أبعد، وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يتحصل على مطلب، وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه عليه السلام أسرى به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس، ومنه إلى السماء، وفرح بهذا المسلك، وأنه قد ظفر بشىء يخلص به من الإشكالات، وهذا بعيد جدا، انظر تفسير سورة الإسراء من تفسير ابن كثير، ولعلنا ندرك أنه ما دفع هؤلاء إلى هذا إلا التناقض البادى بين روايات حديث الإسراء، وإلا إيمانهم بأن كل هذه المتناقضات تنتسب حقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أنا فأومن أن الرسول لا يقول إلا حقا وصدقا، ولا يمكن أن يصيبه النسيان الماكر، وهو يقص علينا آية من آيات ربه الكبرى. وما عرضت نفسى لغضب الناس إلا اتقاء لغضب الله، فإن يك هذا الظن منى صوابا فمن الله، وإلا فمنى، والله الهادى إلى ما يحبه ويرضاه.
(1) هذا رأى سديد، وهو بعض ما ذهب إليه الإمام ابن القيم.(3/429)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شِمَاسُ الْبُرَاقِ:
فَصْلٌ: وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شِمَاسُ الْبُرَاقِ حِينَ رَكِبَهُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَمَا تَسْتَحْيِي يَا بُرَاقُ، فَمَا رَكِبَك عَبْدٌ الله قَبْلَ مُحَمّدٍ هُوَ أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَقَدْ قِيلَ: فِي نُفْرَتِهِ مَا قَالَهُ ابْنُ بَطّالٍ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصّحِيحِ، قَالَ: كَانَ ذَلِكَ لِبُعْدِ عَهْدِ الْبُرَاقِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَطُولِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمّدٍ عَلَيْهِمَا السّلَامُ، وَرَوَى غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَبَبًا آخَرَ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمّدِ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ شَمَسَ بِهِ الْبُرَاقُ: لَعَلّك يَا مُحَمّدُ مَسِسْت الصّفْرَاءَ الْيَوْمَ، فَأَخْبَرَهُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنّهُ مَا مَسّهَا إلّا أَنّهُ مَرّ بِهَا، فَقَالَ: تَبّا لِمَنْ يَعْبُدَك مِنْ دُونِ اللهِ، وَمَا مَسّهَا إلّا لِذَلِكَ، وَذَكَرَ هَذِهِ الرّوَايَةَ أَبُو سَعِيدٍ النّيْسَابُورِيّ فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى، فَاَللهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الصّفْرَاءِ فِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ، وَأَنّهَا كَانَتْ صَنَمًا بَعْضُهُ مِنْ ذَهَبٍ فَكَسُرّهَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْفَتْحِ، وَفِي الْحَدِيثِ الّذِي خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ «1» مِنْ طَرِيقِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيّ «2» أَنّهُ- عليه السلام- حين انتهى
__________
(1) يقول ابن الأثير فى اللباب إنها نسبة إلى مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذى يقال له جيحون، والناس مختلفون فى كيفية هذه النسبة، بعضهم يقول بفتح التاء وبعضهم بضمها، وبعضهم بكسرها. والمتداول على لسان أهل تلك المدينة: بفتح التاء وكسر الميم، والذى كنا نعرفه فيه قديما كسر التاء والميم جميعا، والذى يقوله المنفوقون، وأهل المعرفة بضم التاء والميم، وبعض هذا فى المراصد.
(2) قيل اسمه عامر: وبريدة لقب، وفى الصحيحين أنه غزا مع النبى «ص» ست عشرة غزوة(3/430)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ جِبْرِيلُ: بِإِصْبَعِهِ إلَى الصخرة، فحرقها فَشَدّ بِهَا الْبُرَاقَ «1» ، وَصَلّى، وَأَنّ حُذَيْفَةَ أَنْكَرَ هَذِهِ الرّوَايَةَ، وَقَالَ: لَمْ يَفِرّ مِنْهُ وَقَدْ سَخّرَهُ لَهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ «2» ، وَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْهِ عَلَى رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ: التّنْبِيه عَلَى الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ مَعَ صِحّة التّوَكّل، وَأَنّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ كَمَا- رُوِيَ عَنْ وَهْب بْن مُنَبّهٍ- لَا يَمْنَعُ الْحَازِمُ مِنْ تُوقِي الْمَهَالِك. قَالَ وَهْب: وَجَدَتْهُ فِي سَبْعِينَ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ
__________
(1) رواه أبو بكر البزار، وقال: لا نعلم رواه عن الزبير بن جنادة إلا أبو نميلة، ولا نعلم هذا الحديث إلا عن بريدة. وقد رواه الترمذى فى التفسير من جامعه عن يعقوب بن إبراهيم. وقال: غريب.
(2) فى الأصل: لم أيفر منه. وفى حديث حذيفة هذا تعبير محكم المعنى، فقد سمع زر بن حبيش- بحدث عن ليلة الإسراء، فقال له: ما اسمك يا أصلع؟! فأنا أعرف وجهك، ولا أدرى ما اسمك؟ قال زر: أنا زر ابن حبيش، فقال له حذيفة: فما علمك بِأَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلّى فيه ليلتئذ، أى: فى بيت المقدس؟ فقال زر: القرآن يخبرنى بذلك، فقال حذيفة كلمته الرائعة التى تشع بنور الحق العظيم: من تكلم بالقرآن أفلح، ثم طلب من زر أن يقرأ، فقرأ: سبحان الذى أسرى، فقال حذيفة: يا أصلع!! هل تجد صلى فيه؟ فقال زر: لا: فقال حذيفة: والله ما صلى فيه رسول الله «ص» ليلتئذ، ولو صلى فيه لكتبت عليكم صلاة فيه، كما كتب عليكم صلاة فى البيت العتيق. والله ما زايلا البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء، فرأيا الجنة والنار، ووعد الاخرة أجمع، ثم عادا عودهما على بدئهما، قال زر: ثم ضحك حتى رأيت نواجذه قال حذيفة: ويحدثون أنه ربطه لا يفر منه، وإنما سخره له عالم الغيب والشهادة. وقد روى حديث حذيفة هذا الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسى، والترمذى والنسائى، وقال الترمذى: حسن(3/431)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللهِ الْقَدِيمَةِ «1» ، وَهَذَا نَحْوٌ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَيّدْهَا وَتَوَكّلْ» «2» فَإِيمَانُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنّهُ قَدْ سُخّرَ لَهُ كَإِيمَانِهِ بِقَدَرِ اللهِ وَعِلْمِهِ بِأَنّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ مَا سَبَقَ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَتَزَوّدُ فِي أَسْفَارِهِ وَيَعُدّ السّلَاحَ فِي حُرُوبِهِ، حَتّى لَقَدْ ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَرَبْطُهُ لِلْبُرَاقِ فِي حَلْقَةِ الْبَابِ مِنْ هَذَا الْفَنّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ بُرَيْدَةَ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ، وَغَيْرِهِمَا أَعْنِي رَبْطَهُ لِلْبُرَاقِ فِي الْحَلْقَةِ الّتِي كَانَتْ تَرْبُطُهُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ، غَيْرَ أَنّ الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبّرِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
مَعْنَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: مَنْ مَعَك مَعْنَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: مَنْ مَعَك وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ فِي كُلّ سَمَاءٍ لِجِبْرِيلَ: مَنْ مَعَك، فَيَقُولُ: مُحَمّدٌ، فَيَقُولُونَ: أَوَقَدْ بُعِثَ إلَيْهِ فَيَقُولُ: نَعَمْ هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي الصّحَاحِ، وَمَعْنَى سُؤَالِهِمْ عَنْ الْبَعْثِ إلَيْهِ فِيمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَيْ: قَدْ بُعِثَ إلَيْهِ إلَى السّمَاءِ، كَمَا قَدْ وَجَدُوا فِي الْعِلْمِ أَنّهُ سَيُعْرَجُ بِهِ، وَلَوْ أَرَادُوا بَعْثَهُ إلَى الْخَلْقِ، لَقَالُوا: أَوَقَدْ بُعِثَ، وَلَمْ يَقُولُوا إلَيْهِ، مَعَ أَنّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَخْفَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ بَعْثُهُ إلَى الْخَلْقِ، فَلَا يَعْلَمُونَ بِهِ إلَى لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ الّذِي تَقَدّمَ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَيَانٌ أَيْضًا حِينَ ذَكَرَ تَسْبِيحَ مَلَائِكَةِ السّمَاءِ السّابِعَةِ، ثُمّ تَسْبِيحُ مَلَائِكَةِ كُلّ سَمَاءٍ، ثُمّ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: مِمّ سَبّحْتُمْ حَتّى يَنْتَهِي السّؤَالُ إلَى مَلَائِكَةِ السّمَاءِ السّابِعَةِ، فيقولون: قضى ربّنا فى خلفه
__________
(1) ياويل التفسير من مخترعات وهب
(2) فى الجامع الصغير للسيوطى: «اعقلها وتوكل» وراه الترمذى عن أنس وهو ضعيف(3/432)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَذَا، ثُمّ يَنْتَهِي الْخَبَرُ إلَى سَمَاءِ الدّنْيَا- الْحَدِيثُ بِطُولِهِ، وَفِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ عَلِمَتْ بِنُبُوّةِ مُحَمّدٍ- صَلَّى الله عليه وسلم- حين نبّىء، وَإِنّمَا قَالَتْ:
أَوَقَدْ بُعِثَ إلَيْهِ، أَيْ قَدْ بُعِثَ إلَيْهِ بِالْبُرَاقِ كَمَا تَقَدّمَ عَلَى أَنّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّ مَلَائِكَةَ سَمَاءِ الدّنْيَا قَالَتْ لِجِبْرِيلَ: أَوَقَدْ بُعِثَ، كَمَا وَقَعَ فِي السّيرَةِ وَلَيْسَ فِي أَوّلِ الْحَدِيثِ: إلَيْهِ، هَذَا إنّمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الرّؤْيَا الّتِي رَآهَا بِقَلْبِهِ، كَمَا قَدّمْنَا، وَأَنّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ، وَفِي هَذَا قُوّةٌ لِمَا تَقَدّمَ مِنْ أَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ رُؤْيَا، ثُمّ كَانَ رُؤْيَةً؛ وَلِذَلِكَ لَمْ نَجِدْ فِي رِوَايَةٍ مِنْ الرّوَايَاتِ أَنّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: أَوَقَدْ بُعِثَ إلَيْهِ إلّا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، فَاَللهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْحَفَظَةِ:
وَذَكَرَ بَابَ الْحَفَظَةِ، وَأَنّ عَلَيْهِ مَلَكًا يُقَالُ لَهُ: إسْمَاعِيلُ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ، وَفِيهِ أَنّ تَحْتَ يَدِهِ سَبْعُونَ أَلْفِ مَلَكٍ تَحْتَ يَدِ كُلّ مَلَكٍ سَبْعُونَ أَلْفِ «1» مَلَكٍ، هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ مَلَكٍ هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ، وَفِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ أَيْضًا.
__________
(1) أخرجه البيهقى فى كتاب دلائل النبوة وأوله يخالف الروايات الأخرى «فبينما أنا نائم عشاء فى المسجد الحرام، إذ أتانى آت، فأيقظنى، فاستيقظت، فلم أر شيئا، فإذا أنا بكهيئة خيال، فأتبعته بصرى؛ حتى خرجت من المسجد الحرام الخ.(3/433)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَقَالَ: لَوْ غُطّيَتْ بِوَرَقَةِ مِنْ وَرَقِهَا هَذِهِ الْأُمّةُ لَغَطّتْهُمْ، وَفِي صِفَتِهَا مِنْ رِوَايَةِ الْجَمِيعِ: فَإِذَا ثَمَرُهَا كَقِلَالِ هَجَرَ، وَفِي حَدِيثِ الْقِلّتَيْنِ مِنْ كِتَابِ الطّهَارَةِ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْج «1» : إذَا كَانَ الْمَاءُ قِلّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ «2» قَالُوا: وَالْقِلّتَانِ مِنْهَا تِسْعَانِ خَمْسمِائَةِ رِطْلٍ، قَالَ التّرْمِذِيّ: وَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِ قِرَبٍ، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلّامٍ قَالَ عَنْ بَعْضِ السّلَفِ: إنّهَا سُمّيَتْ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، لِأَنّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ يَنْتَهِي بِهِ إلَيْهَا، فَتُصَلّي عَلَيْهِ هُنَالِكَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرّبُونَ. قَالَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ عِلّيّينَ.
آدَم فِي سَمَاءِ الدّنْيَا وَالْأَسْوِدَةُ الّتِي رَآهَا:
فَصْلٌ: وَفِيهِ أَنّهُ رَأَى آدَم فِي سَمَاءِ الدّنْيَا، وَعَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ أَسْوِدَةٌ، وَأَنّ جِبْرِيلَ أَعْلَمَهُ أَنّ الْأَسْوِدَةَ الّتِي عَنْ يَمِينِهِ هُمْ: أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ: تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرّيّتِهِ، فَإِذَا نَظَرَ إلَى الّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا، فَقِيلَ: كَيْفَ رَأَى عَنْ يَمِينِهِ أَرْوَاحَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ إلّا نَفَرٌ قَلِيلٌ، وَلَعَلّهُ لَمْ يَكُنْ مات
__________
(1) هو عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ القرشى الأموى مولاهم المكى أبو الوليد، ويقال: أبو خالد، وهو من تابعى التابعين توفى سنة 150 وقيل غير ذلك.
(2) تكلمنا عنه من قبل، وأقول: ورد فى نيل الأوطار للامام الشوكانى: «وأما التقييد بقلال هجر، فلم يثبت مرفوعا إلا من رواية المغيرة بن صقلاب عند ابن عدى، وهو منكر الحديث. قال النفيل: لم يكن مؤتمنا على الحديث، وقال ابن عدى: لا يتابع على عامة حديثه» ص 31 ح 1 ط عثمان خليفة.(3/434)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تِلْكَ اللّيْلَةَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْضِي أَنّهُمْ كَانُوا جَمَاعَةً. فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ الْإِسْرَاءُ رُؤْيَا بِقَلْبِهِ، فَتَأْوِيلُهَا أَنّ ذَلِكَ سَيَكُونُ، وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا عَيْنٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ وَغَيْرُهُ بِمَعْنَاهُ: أَنّ ذَلِكَ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ رَآهَا هُنَالِكَ، لِأَنّ اللهَ تَعَالَى يَتَوَفّى الْخَلْقَ فِي مَنَامِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي التّنْزِيلِ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها الزّمَرُ 43 فَصَعِدَ بِالْأَرْوَاحِ إلَى هُنَالِكَ، فَرَآهَا ثُمّ أُعِيدَتْ إلَى أَجْسَادِهَا. وَجَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ الّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُدّثّرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ.
فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ 39: 40. قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُمْ الْأَطْفَالُ الّذِينَ مَاتُوا صِغَارًا، وَلِذَلِكَ سَأَلُوا المجرمين: (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) لِأَنّهُمْ مَاتُوا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ أَنّ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي كِفَالَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَأَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قال لِجِبْرِيلَ حِينَ رَآهُمْ فِي الرّوْضَةِ مَعَ إبْرَاهِيمَ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: أَوْلَادُ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَمُوتُونَ صِغَارًا، فَقَالَ لَهُ: وَأَوْلَادُ الْكَافِرِينَ، قَالَ: وَأَوْلَادُ الْكَافِرِين. خَرّجَهُ الْبُخَارِيّ فِي الْحَدِيثِ الطّوِيلِ مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَخَرّجَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَقَالَ فِيهِ: أَوْلَادُ النّاسِ، فَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوّلِ نَصّ، وَفِي الثّانِي عُمُومٌ، وَقَدْ رُوِيَ فِي أَطْفَالِ الْكَافِرِينَ أَنّهُمْ خَدَمٌ لِأَهْلِ الْجَنّةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الّذِي رَآهُ عَنْ يَمِينِ آدَم مِنْ نَسَمِ ذُرّيّتِهِ أَرْوَاحُ هَؤُلَاءِ، وَفِي هَذَا مَا يَدْفَعُ تَشْعِيبَ هَذَا السّؤَالِ وَالِاعْتِرَاضِ مِنْهُ.(3/435)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ حُكْمِ الْمَاءِ:
فَصْلٌ: وَفِيهِ شُرْبُهُ مِنْ إنَاءِ الْقَوْمِ، وَهُوَ مُغَطّى، وَالْمَاءُ وَإِنْ كَانَ لَا يُمْلَكُ وَالنّاسُ شُرَكَاءُ فِيهِ، وَفِي النّارِ وَالْكَلَأِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، لَكِنْ الْمُسْتَقَى إذَا أَحْرَزَهُ فِي وِعَائِهِ، فَقَدْ مَلَكَهُ، فَكَيْفَ اسْتَبَاحَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُرْبَهُ وَهُوَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ، وَأَمْلَاكُ الْكُفّارِ لَمْ تَكُنْ أُبِيحَتْ يَوْمئِذٍ، وَلَا دِمَاؤُهُمْ.
فَالْجَوَابُ أَنّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيّةِ كَانَ فِي عُرْفِ الْعَادَةِ عِنْدَهُمْ إبَاحَةُ الرّسُلِ لَابْنِ السّبِيلِ فَضْلًا عَنْ الْمَاءِ، وَكَانُوا يَعْهَدُونَ بِذَلِكَ إلَى رِعَائِهِمْ، وَيَشْتَرِطُونَهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ عَقْدِ إجَارَتِهِمْ: أَلّا يَمْنَعُوا الرّسُلَ، وَهُوَ اللّبَنُ مِنْ أَحَدٍ مَرّ بِهِمْ، وَلِلْحُكْمِ فِي الْعُرْفِ فِي الشّرِيعَةِ أُصُولٌ تَشْهَدُ لَهُ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَخَرّجَ حَدِيثَ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ، وَفِيهِ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوف.
عَنْ دُخُولِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ فِيهِ أَنّهُ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَوَجَدَ فِيهِ نَفَرًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَصَلّى بِهِمْ، وَفِي حَدِيثِ التّرْمِذِيّ الّذِي قَدّمْنَاهُ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ صَلّى بِهِمْ، وَقَالَ: مَا زَالَ مِنْ ظَهْرِ الْبُرَاقِ، حَتّى رَأَى الْجَنّةَ وَالنّارَ، وَمَا وَعَدَهُ اللهُ تَعَالَى، ثُمّ عَادَ إلَى الْأَرْضِ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وَرِوَايَةُ مَنْ أَثْبَتَ مُقَدّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ نَفَى، وَذَكَرَ فِيهِ صِفَةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ فِي عِيسَى:
كَأَنّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ مَاءً وَلَيْسَ بِهِ مَاءٌ، وَكَأَنّهُ خَرَجَ مِنْ دِيمَاس وَالدّيمَاسُ: الحمّام،(3/436)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَصْلُهُ: دِمَاسٌ وَيُجْمَعُ عَلَى دَمَامِيسَ، وَقَدْ قِيلَ فِي جَمْعِهِ: دَيَامِيسُ «1» ، وَمِثْلُهُ:
قِيرَاطٌ وَدِينَارٌ وَدِيبَاجٌ، الْأَصْلُ فِيهَا كُلّهَا: التّضْعِيفُ، ثُمّ قُلِبَ الْحَرْفُ الْمُدْغَمُ يَاءً، فَلَمّا جَمَعُوا وَصَغّرُوا، رَدّوهُ إلَى أَصْلِهِ، فَقَالُوا: قَرَارِيطُ وَدَنَانِيرُ: [وَقُرَيْرِيطٌ وَدُنَيْنِيرٌ] «2» ، غَيْرَ أَنّهُمْ لَمْ يَقُولُوا: دَنَانِيرُ وَلَا قَيَارِيط، كَمَا قالوا: دياميس، وقالوا: دبابيج وديابيج «3» ، وَأَصْلُ الدّمْسِ: التّغْطِيَةُ وَمِنْهُ لَيْلٌ دَامِسٌ، وَفِي هَذِهِ الصّفّةِ مِنْ صِفَاتِ عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ إشَارَةٌ إلَى الرّيّ وَالْخِصْبِ الّذِي يَكُونُ فِي أَيّامِهِ إذْ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ فِي صِفَةِ مُوسَى أَنّهُ آدَم طُوَالٌ، وَلِوَصْفِهِ إيّاهُ بِالْأَدْمَةِ أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، قَالَهُ الطّبَرِيّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ قَالَ:
فِي خُرُوجِ يَدِهِ بَيْضَاءَ آيَةٌ فِي أَنْ خَرَجَتْ بَيْضَاءَ مُخَالِفًا لَوْنُهَا لِسَائِرِ لَوْنِ جَسَدِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ بَيْنَ عَلَى الْأَدْمَةِ الّتِي هِيَ خِلَافُ الْبَيَاضِ «4» .
وَذَكَرَ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ: لَمْ أَرَ رَجُلًا أَشَبَهَ بِصَاحِبِكُمْ وَلَا صَاحِبُكُمْ أَشَبَهَ به منه،
__________
(1) فى اللسان «إن فتحت الدال جمع على دياميس مثل شيطان وشياطين، وإن كسرتها جمعت على دماميس»
(2) زيادة يقتضيها السباق.
(3) فى اللسان مادة دنر: «قال أبو منصور: دينار وقيراط وديباج أصلها أعجمية، غير أن العرب تكلمت بها قديما، فصارت عربية» .
(4) الذى فى الطبرى فى تفسير الاية: «ذكر أن موسى عليه السلام كان رجلا آدم، فأدخل يده فى جيبه، ثم أخرجها بيضاء من غير سوء من غير برص مثل الثلج، ثم ردها، فخرجت كما كانت على لونه» .(3/437)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَعْنِي: نَفْسَهُ، وَفِي آخِرِ هَذَا الْكَلَامِ إشْكَالٌ مِنْ أَجْلِ أَنْ أَشَبَهَ مَنْصُوبٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَكِنْ إذَا فَهِمْت مَعْنَاهُ، عَرَفْت إعْرَابَهُ، وَمَعْنَاهُ: لَمْ أَرَ رَجُلًا أَشَبَهَ بِصَاحِبِكُمْ وَلَا صَاحِبُكُمْ بِهِ مِنْهُ «1» ، ثُمّ كَرّرَ أَشَبَهَ تَوْكِيدًا فَصَارَتْ لَغْوًا كَالْمُقْحَمِ وَصَاحِبُكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى الضّمِيرِ الّذِي فِي أَشَبَهَ الْأَوّلِ الّذِي هُوَ نَعْتٌ لِرَجُلِ، وَحَسُنَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَكّدْ بِهُوَ، كَمَا حَسُنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا مِنْ أَجْلِ الْفَصْلِ بِلَا النّافِيَةِ، وَلَوْ أُسْقِطَ مِنْ الْكَلَامِ أَشَبَهَ الثّانِي، لَكَانَ حَسَنًا جِدّا، وَلَوْ أَخّرَ صَاحِبُكُمْ فَقَالَ: وَلَا أَشَبَهَ بِهِ صَاحِبُكُمْ مِنْهُ لَجَازَ، وَيَكُونُ فَاعِلًا بِأَشْبَهَ الثّانِيَةِ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: مَا رَأَيْت رَجُلًا أَحْسَنَ فِي عَيْنِهِ الْكُحْلُ مِنْ زَيْدٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَذْرَاءُ لَمْ تَفْتَرِعْهَا أَيْدِي النّحَاةِ «2» ، بَعْدُ وَلَمْ يَشْفِ مِنْهَا مُتَقَدّمٌ مِنْهُمْ، وَلَا مُتَأَخّرٌ ممّن رأينا كلامه فيها وقد أملينا هى غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ فِيهَا تَحْقِيقًا شَافِيًا.
صِفَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ في صفة- النبي- صلى الله عليه وسلم- مِمّا نَعَتَهُ بِهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ بالطويل الممغط بالغين المعجمة،
__________
(1) رواية مسلم «أشبه الناس به صاحبكم- يعنى نفسه» .
(2) هى مسألة مفصلة فى كتب النحو عن عمل أفعل التفضيل ورفعه للاسم الظاهر، فانظر لها مثلا ص 106 ح 2 من شرح التصريح على التوضيح، ص 46 ح 3 من حاشية الصبان على شرح الأشمونى ط 1305 هـ ص 252 ح 3 النحو الوافى للأستاذ عباس حسن.(3/438)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَذَكَرَ الْأَوْصَافَ إلَى آخِرِهَا وَقَدْ شَرَحَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، فَقَالَ عَنْ الْأَصْمَعِيّ، وَالْكِسَائِيّ وَأَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِ وَاحِدٍ: قَوْلُهُ: لَيْسَ بِالطّوِيلِ الْمُمّعِطِ أَيْ: لَيْسَ بِالْبَائِنِ الطّوِيلِ، وَلَا الْقَصِيرِ الْمُتَرَدّدِ «1» يَعْنِي: الّذِي تَرَدّدَ خَلْقُهُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ مُجْتَمَعٌ لَيْسَ بِسَبْطِ الْخَلْقِ يَقُولُ: فَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ رَبْعَةٌ بَيْنَ الرّجُلَيْنِ، وَهَكَذَا صِفَتُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: ضَرَبَ اللّحْمُ بَيْنَ الرّجُلَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: لَيْسَ بِالْمُطَهّمِ، قَالَ الْأَصْمَعِيّ: هُوَ التّامّ كُلّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ، فَهُوَ بَارِعُ الْجَمَالِ، وَقَالَ غَيْرُ الْأَصْمَعِيّ الْمُكَلْثَمُ الْمُدَوّرُ الْوَجْهُ، يَقُولُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنّهُ مَسْنُونٌ، وَقَوْله: مُشْرَبٌ يَعْنِي الّذِي أُشْرِبَ حُمْرَةً، وَالْأَدْعَجُ الْعَيْنُ: الشّدِيدُ سَوَادِ الْعَيْنِ قَالَ الْأَصْمَعِيّ: الدّعْجَةُ: هِيَ السّوَادُ، وَالْجَلِيلُ الْمُشَاشُ: الْعَظِيمُ الْعِظَامِ مِثْلَ الرّكْبَتَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ وَالْمَنْكِبَيْنِ، وَقَوْلُهُ: الْكَتَدُ هُوَ: الْكَاهِلُ، وَمَا يَلِيهِ مِنْ جَسَدِهِ، وَقَوْلُهُ شَثْنُ الْكَفّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ يَعْنِي: أَنّهُمَا إلَى الْغِلَظِ. وَقَوْلُهُ: لَيْسَ بِالسّبْطِ وَلَا الْجَعْدِ الْقَطَطِ، فَالْقَطَطُ: الشّدِيدُ الْجُعُودَةُ مِثْلُ شُعُورِ الْحَبَشَةِ، وَوَقَعَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِأَبِي عُبَيْدٍ التّامّ كُلّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ. يَقُول: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنّهُ بَارِعُ الْجَمَالِ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ، أَعْنِي: لَيْسَ كَذَلِكَ مُخِلّةً بِالشّرْحِ، وَقَدْ وَجَدْته فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ بِإِسْقَاطِ: يَقُولُ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَى نص ذكرناه آنفا
__________
(1) وردت هذه الأوصاف فى حديث رواه الترمذى وإسناده ضعيف.(3/439)
[قِصّةُ الْمِعْرَاجِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: لَمّا فَرَغْتُ مِمّا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ- وَلَمْ أَرَ شَيْئًا قَطّ أَحْسَنَ مِنْهُ- وَهُوَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنه عن الأصمعي، والذي في غريب الحديث من تلك الزيادة وهم وقع في الكتاب، والله أعلم.
وأما ما رواه الترمذي عن الأصمعى فى شرح المطهم قال: هو البادن: الكثير اللحم، ذكره عن أبى جعفر، عن الأصمعى، وذكر عنه في الممغط نحو ما قدمناه، قال: وسمعت أعرابيا يقول تمغط في نشابة أي: مدها، وفي كتاب العين: مغطت الشيء إذا مددته، وقال فى باب العين المهملة معطت «1» الشيء إذا مددته، كما قال في العين المعجمة، فعلى هذا يقال فيه ممغط وممغط، ووزنه منفعل، واندغمت النون في الميم، كما اندغمت في محوته فامحى لما أمن التباسه بالمضاعف، ولم يدغموا النون في الميم في شاه زنماء، ولا في غنم لئلا يلتبس بالمضاعف، لو قالوا: أزماء وغما، وقد ذكرنا قبل ما وهم فيه الترمذي من تفسير زر الحجلة حيث قال: يقال إنه بيض له، حيث تكلمنا على خاتم النبوة وصفته، واختلاف الرواية فيه والحمد لله.
__________
(1) كذلك يقول اللسان.(3/440)
الّذِي يَمُدّ إلَيْهِ مَيّتُكُمْ عَيْنَيْهِ إذَا حُضِرَ، فَأَصْعَدَنِي صَاحِبِي فِيهِ، حَتّى انْتَهَى بِي إلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السّمَاءِ، يُقَالُ لَهُ: بَابُ الْحَفَظَةِ، عَلَيْهِ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، يُقَالُ لَهُ: إسْمَاعِيلُ، تَحْتَ يَدَيْهِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ، تَحْتَ يَدَيْ كُلّ مَلَكٍ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ- قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ حَدّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّك إلّا هُوَ- فَلَمّا دُخِلَ بِي، قَالَ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قال: هذا محمد. قال: أو قد بُعِثَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
فَدَعَا لِي بِخَيْرِ: وقاله.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنّهُ قَالَ: تَلَقّتْنِي الْمَلَائِكَةُ حِينَ دَخَلْت السّمَاءَ الدّنْيَا، فَلَمْ يَلْقَنِي مَلَكٌ إلّا ضَاحِكًا مُسْتَبْشِرًا، يَقُولُ خَيْرًا وَيَدْعُو بِهِ، حَتّى لَقِيَنِي مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالُوا، وَدَعَا بِمِثْلِ مَا دَعَوْا بِهِ، إلّا أَنّهُ لَمْ يَضْحَكْ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ مِنْ الْبِشْرِ مِثْلَ مَا رَأَيْت مِنْ غَيْرِهِ، فَقُلْت لِجِبْرِيلَ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا الْمَلَكُ الّذِي قَالَ لِي كَمَا قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ وَلَمْ يَضْحَكْ إلَيّ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ مِنْ الْبِشْرِ مِثْلَ الّذِي رَأَيْتُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ: أَمَا إنّهُ لَوْ ضَحِكَ إلَى أَحَدٍ كَانَ قَبْلَك، أَوْ كَانَ ضَاحِكًا إلَى أَحَدٍ بَعْدَك، لَضَحِكَ إلَيْك، وَلَكِنّهُ لَا يَضْحَكُ، هَذَا مَالِكٌ خَازِنُ النّارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْت لِجِبْرِيلَ، وَهُوَ مِنْ اللهِ تَعَالَى بِالْمَكَانِ الّذِي وُصِفَ لَكُمْ (مُطَاعٍ ثَمّ أَمِينٍ) :
أَلَا تَأْمُرُهُ أَنْ يُرِيَنِي النّارَ؟ فَقَالَ: بَلَى، يَا مَالِكُ، أَرِ مُحَمّدًا النّارَ. قَالَ: فَكَشَفَ عَنْهَا غِطَاءَهَا، فَفَارَتْ، وَارْتَفَعَتْ، حَتّى ظَنَنْت: لَتَأْخُذَنّ مَا أَرَى. قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/441)
فَقُلْت لِجِبْرِيلَ: يَا جِبْرِيلُ، مُرْهُ، فَلْيَرُدّهَا إلَى مكانها. قال: فأمره، فقال لها:
اخسبى، فَرَجَعَتْ إلَى مَكَانِهَا الّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ. فَمَا شَبّهْتُ رُجُوعَهَا إلّا وُقُوعَ الظّلّ. حَتّى إذَا دَخَلَتْ مِنْ حَيْثُ خَرَجَتْ رَدّ عَلَيْهَا غِطَاءَهَا.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ فِي حَدِيثِهِ: أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- قال: لَمّا دَخَلْتُ السّمَاءَ الدّنْيَا، رَأَيْت بِهَا رَجُلًا جَالِسًا تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ، فَيَقُولُ لِبَعْضِهَا، إذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَيُسَرّ بِهِ، وَيَقُولُ: رُوحٌ طَيّبَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ طَيّبٍ، وَيَقُولُ لِبَعْضِهَا إذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ: أُفّ، وَيَعْبِسُ بِوَجْهِهِ وَيَقُولُ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ خَبِيثٍ. قَالَ: قُلْت:
مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا أَبُوك آدَمُ، تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرّيّتِهِ، فَإِذَا مَرّتْ بِهِ رُوحُ الْمُؤْمِنِ مِنْهُمْ سُرّ بِهَا: وَقَالَ رُوحٌ طَيّبَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ طَيّبٍ.
وَإِذَا مَرّتْ بَهْ رُوحُ الْكَافِرِ مِنْهُمْ أَفّفَ مِنْهَا، وَكَرِهَهَا، وَسَاءَ ذَلِكَ، وَقَالَ:
رُوحٌ خَبِيثَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ خَبِيثٍ.
قَالَ ثُمّ رَأَيْت رِجَالًا لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ، فِي أَيْدِيهمْ قِطَعٌ مِنْ نَارٍ كَالْأَفْهَارِ، يَقْذِفُونَهَا فِي أَفْوَاهِهِمْ، فَتَخْرُجُ مِنْ أَدْبَارِهِمْ. فَقُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ أَمْوَالِ اليتامى ظلما.
قَالَ: ثُمّ رَأَيْت رِجَالًا لَهُمْ بُطُونٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا قَطّ بِسَبِيلِ آلِ فِرْعَوْنَ، يَمُرّونَ عَلَيْهِمْ كَالْإِبِلِ الْمَهْيُومَةِ حِينَ يُعْرَضُونَ عَلَى النّارِ، يَطَئُونَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَتَحَوّلُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ذَلِكَ قَالَ قُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جبريل؟ قال هؤلاء أكلة الربا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/442)
قَالَ: ثُمّ رَأَيْت رِجَالًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لَحْمٌ ثَمِينٌ طَيّبٌ، إلَى جَنْبِهِ لَحْمٌ غَثّ مُنْتِنٌ، يَأْكُلُونَ مِنْ الْغَثّ الْمُنْتِنِ، وَيَتْرُكُونَ السّمِينَ الطّيّبَ. قَالَ: قُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الّذِينَ يَتْرُكُونَ مَا أَحَلّ اللهُ لَهُمْ مِنْ النّسَاءِ، وَيَذْهَبُونَ إلَى مَا حَرّمَ اللهُ عليهم منهنّ.
قَالَ: ثُمّ رَأَيْت نِسَاءً مُعَلّقَاتٍ بِثُدِيّهِنّ، فَقُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ:
هَؤُلَاءِ اللّاتِي أَدْخَلْنَ عَلَى الرّجَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَالَ: اشْتَدّ غَضَبُ اللهِ عَلَى امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَأَكَلَ حَرَائِبَهُمْ، وَاطّلَعَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ.
عود إلى حديث الخدرى: ثُمّ رَجَعَ إلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ:
ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ الثّانِيَةِ، فَإِذَا فِيهَا ابْنَا الْخَالَةِ: عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى، بْنُ زَكَرِيّا، قَالَ: ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ الثّالِثَةِ، فَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ صُورَتُهُ كَصُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، قَالَ: قُلْت: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا أَخُوك يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ. قَالَ: ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ الرّابِعَةِ، فَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ فَسَأَلْته: مَنْ هُوَ؟
قَالَ: هَذَا إدْرِيسُ- قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيّا- قَالَ: ثُمّ أصعدنى إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللّحية، عظيم العثلون، لم أر كهلا أَجْمَلَ مِنْهُ، قَالَ قُلْت: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟
قَالَ: هَذَا الْمُحَبّبُ فِي قَوْمِهِ هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ، قَالَ: ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ السّادِسَةِ، فَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ آدَمُ طَوِيلٌ أَقْنَى كَأَنّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ؛ فَقُلْت لَهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/443)
مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا أَخُوك مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ. ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ السّابِعَةِ، فَإِذَا فِيهَا كَهْلٌ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيّ إلَى بَابِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَرْجِعُونَ فِيهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لَمْ أَرَ رَجُلًا أَشَبَهَ بِصَاحِبِكُمْ، وَلَا صَاحِبُكُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنْهُ، قَالَ: قُلْت: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ:
هَذَا أَبُوك إبْرَاهِيمُ. قَالَ: ثُمّ دَخَلَ بِي الْجَنّةَ، فَرَأَيْتُ فِيهَا جَارِيَةً لَعْسَاءَ، فَسَأَلْتهَا: لِمَنْ أَنْتِ؟ وَقَدْ أَعْجَبَتْنِي حِينَ رَأَيْتُهَا، فَقَالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَبَشّرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ النّبِيّ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي: أَنّ جِبْرِيلَ لَمْ يَصْعَدْ بِهِ إلَى سَمَاءٍ مِنْ السّمَوَاتِ إلّا قَالُوا لَهُ حِينَ يَسْتَأْذِنُ فِي دُخُولِهَا: مَنْ هَذَا يا جبريل؟ فيقول:
محمد، فيقولون: أو قد بُعِثَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُونَ: حَيّاهُ اللهُ مِنْ أَخ وَصَاحِبٍ، حَتّى انْتَهَى بِهِ إلَى السّمَاءِ السّابِعَةِ، ثُمّ انْتَهَى بِهِ إلَى رَبّهِ، فَفَرَضَ عليه خمسين صلاة فى كلّ يوم.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: فَأَقْبَلْت رَاجِعًا، فَلَمّا مَرَرْت بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَنِعْمَ الصّاحِبُ كَانَ لَكُمْ، سَأَلَنِي كَمْ فُرِضَ عَلَيْك مِنْ الصّلَاةِ؟ فَقُلْت خَمْسِينَ صَلَاةً كُلّ يَوْمٍ؛ فَقَالَ: إنّ الصّلَاةَ ثَقِيلَةٌ، وَإِنّ أُمّتَك ضَعِيفَةٌ، فَارْجِعْ إلَى رَبّك، فَاسْأَلْهُ أَنْ يخفّف عنك وعن أمتك. فرجعت فسألت رَبّي أَنْ يُخَفّفَ عَنّي، وَعَنْ أُمّتِي، فَوَضَعَ عَنّي عَشْرًا. ثُمّ انْصَرَفْت فَمَرَرْت عَلَى مُوسَى فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، فَرَجَعْت فَسَأَلْت رَبّي، فَوَضَعَ عَنّي عَشْرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/444)
ثُمّ انْصَرَفْت، فَمَرَرْت عَلَى مُوسَى، فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، فَرَجَعْت فَسَأَلْته فَوَضَعَ عَنّي عَشْرًا، ثُمّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، كُلّمَا رَجَعْت إلَيْهِ، قَالَ: فَارْجِعْ فَاسْأَلْ، حَتّى انْتَهَيْتُ إلَى أَنْ وَضَعَ ذَلِكَ عَنّي، إلّا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. ثُمّ رَجَعْت إلَى مُوسَى، فَقَالَ لِي مِثْلَ، ذَلِكَ، فَقُلْت: قَدْ رَاجَعْتُ رَبّي وَسَأَلْته، حَتّى اسْتَحْيَيْتُ منه، فما أنا بفاعل رواه البيهقى فى كتاب دلائل النبوة وابن جرير وابن أبى حاتم.
فَمَنْ أَدّاهُنّ مِنْكُمْ إيمَانًا بِهِنّ، وَاحْتِسَابًا لَهُنّ، كان له أجر خمسين صلاة مكتوبة. رواه وفى الحديث غرابة ونكارة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رؤية النبي ربه:
فَصْلٌ: وَقَدْ تَكَلّمَ الْعُلَمَاءُ فِي رُؤْيَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبّهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ رَآهُ، وَقَالَتْ مَنْ زَعَمَ أَنّ مُحَمّدًا رَأَى رَبّهُ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، وَاحْتَجّتْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ الْأَنْعَامَ: 103 وَفِي مُصَنّفِ التّرْمِذِي عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنّهُ رَآهُ، قَالَ كَعْبٌ: إنّ اللهَ قَسّمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُوسَى وَمُحَمّدٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرّ قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ رَأَيْت رَبّك؟ قَالَ: رَأَيْت نُورًا، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ أَنّهُ قَالَ: نُورًا أَنّى أَرَاهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ شَافٍ أَنّهُ رَآهُ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيّ أَنّهُ قَالَ: رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وَفِي تَفْسِيرِ النّقّاشِ عَنْ ابْنِ حَنْبَلٍ أَنّهُ سُئِلَ: هَلْ رَأَى مُحَمّدٌ رَبّهُ، فَقَالَ: رَآهُ رَآهُ رَآهُ حَتّى انْقَطَعَ صَوْتُهُ، وَفِي تَفْسِيرِ(3/445)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ وَذَكَرَ إنكار عائشة أنه رآه، فقال لزهرى:
لَيْسَتْ عَائِشَةُ أَعْلَمَ عِنْدَنَا مِنْ ابْنِ عَبّاسٍ، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَامٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنّهُ كَانَ إذْ ذُكِرَ إنْكَارُ عَائِشَةَ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَبّهُ يَشْتَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ رَآهُ؟
رَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: سَأَلَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ:
هَلْ رَأَى مُحَمّدٌ رَبّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَنّ ابْنَ عُمَرَ أَرْسَلَ إلَى ابْنِ عَبّاسٍ يَسْأَلُهُ: هَلْ رَأَى مُحَمّدٌ رَبّهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ رَآهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَكَيْفَ رَآهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ كَلَامًا كَرِهْت أَنْ أُورِدَهُ بِلَفْظِهِ لِمَا يُوهِمُ مِنْ التّشْبِيهِ، وَلَوْ صَحّ لَكَانَ لَهُ تَأْوِيلٌ وَاَللهُ أَعْلَمُ، والمتحصل مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ- وَاَللهُ أَعْلَمُ- أَنّهُ رَآهُ لَا عَلَى أَكْمَلِ مَا تَكُونُ الرّؤْيَةُ عَلَى نَحْوِ مَا يَرَاهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ عِنْدَ الْكَرَامَةِ الْعُظْمَى وَالنّعِيمِ الْأَكْبَرِ، وَلَكِنْ دُونَ ذَلِكَ، وإلى هذا يومى قوله: رأيت نورا ونورا أَنّى أَرَاهُ فِي الرّؤْيَةِ الْأُخْرَى وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَأَمّا الدّنُوّ وَالتّدَلّي فَهُمَا خَبَرٌ عَنْ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ بَعْضِ الْمُفَسّرِينَ، وَقِيلَ إنّ الّذِي تَدَلّى هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ تَدَلّى إلَى مُحَمّدٍ حَتّى دَنَا مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ أَيْضًا، وَفِي الْجَامِعِ الصّحِيحِ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ مِنْهُ: فَتَدَلّى الْجَبّارُ، وَهَذَا مَعَ صِحّةِ نَقْلِهِ لَا يَكَادُ أَحَدٌ مِنْ المفسرين يذكره لا ستحالة ظَاهِرِهِ، أَوْ لِلْغَفْلَةِ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ إنْ كَانَ رُؤْيَا رَآهَا بِقَلْبِهِ وَعَيْنُهُ نَائِمَةٌ- كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فَلَا إشْكَالَ فِيمَا يَرَاهُ فِي نَوْمِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَدْ رَآهُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَوَضَعَ كَفّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، حَتّى وَجَدَ بَرْدَهَا بين ثدييه(3/446)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَوَاهُ التّرْمِذِيّ «1» مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ فِي حَدِيثٍ طويل، ولما كانت هذه رؤيا
__________
(1) الحديث كما رواه أحمد بسنده عن ابن عباس أن رسول الله «ص» قال: أتانى ربى الليلة فى أحسن صورة- أحسبه يعنى فى النوم- فقال: يا محمد أتدرى فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت لا، فوضع يده بين كتفى حتى وجدت بردها بين ثديى- أو قال نحرى فعلمت- فى السموات والأرض، ثم قال: يا محمد هل تدرى فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: نعم يختصمون فى الكفارات والدرجات. قال: وما الكفارات؟ قال: قلت المكث فى المساجد بعد الصلوات، والمشى على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء فى المكاره، من فعل ذلك عاش بخير. ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال: قل يا محمد إذا صليت. اللهم إنى أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضنى إليك غير مفتون. قال: والدرجات: بذل الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام، ورواه أحمد أيضا بسنده عن معاذ قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى قرن الشمس، فخرج- صلى الله عليه وسلم- سريعا فثوب بالصلاة، فصلى، وتجوز فى صلاته، فلما سلم، قال- صلى الله عليه وسلم- كما أنتم، ثم أقبل إلينا فقال: إنى قمت من الليل، فصليت ما قدر لى، فنعست فى صلاتى حتى استيقظت، فإذا أنا بربى عز وجل فى أحسن صورة» الخ ولكنه قال فى هذه الرواية: فتجلى لى كل شىء وعرفت، بدلا من: فعلمت ما فى السموات الأرض. وشتان ما هما فى الدلالة. وعن الدرجات قال فيها: لين الكلام بدلا من إفشاء السلام. أما الدعاء ففى رواية معاذ أن الله قال له: سل، قلت: اللهم إنى أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين وأن تغفر لى، وترحمنى، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفنى غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك وحب عمل يقربنى إلى حبك، أما فى رواية ابن عباس، فقد ورد أن الله هو الذى طلب منه أن يقول هذا، وعلمه إياه. هذا والحديث رواه الترمذى من حديث جهضم بن عبد الله
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اليمامى، وقال: حسن صحيح، وهو فى السنن من طرق. ويقول ابن كثير: وهو حديث المنام المشهور، ومن جعله يقظة، فقد غلط. وما أعظم فقه أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها فيما رواه أحمد بسنده عن عامر، قال: أتى مسروق عائشة، فقال: يا أم المؤمنين: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم- ربه عز وجل؟ قالت سبحان الله لقد قف شعرى لما قلت. أين أنت من ثلاث من حدثكهن، فقد كذب. من حدثك أن محمدا رأى ربه، فقد كذب، ثم قرأت: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ومن أخبرك أنه يعلم ما فى غد، فقد كذب. ثم قرأت: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) الاية. ومن أخبرك أن محمدا قد كتم، فقد كذب، ثم قرأت: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ولكنه رأى جبريل فى صورته مرتين» وتدبر ما رواه أحمد بسنده عن مسروق قال: «كنت عند عائشة، فقالت: أليس الله يقول: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ- وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) فقالت: أنا أول هذه الأمة، سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنها، فقال: إنما ذاك جبريل. لم يره فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين، رآه منهبطا من السماء إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض» وأخرجاه فى الصحيحين من حديث الشعبى به. ولمسلم فى الرؤية طريقان بلفظين عن أبى ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: نورانى أراه. والأخر: رأيت نورا. وقد حكى الخلال فى علله أن الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث، فقال: ما زلت منكرا له، وما أدرى ما وجهه.. ويقول الأئمة: إن عائشة سألت عن الرؤية بعد الإسراء، ولم يثبت لها النبى الرؤية، ومن قال: إنه خاطبها على قدر عقلها، أو حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه كابن خزيمة فى كتاب التوحيد، فإنه هو المخطىء. وقد ثبت فى صحيح مسلم عن أبى هريرة أنه قال فى قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) قال: رأى جبريل عليه السلام. وحسبنا هذا.(3/447)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا اسْتَبْشَعَهَا، وَقَدْ بَيّنّا آنِفًا أَنّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ كَانَ رُؤْيَا ثُمّ كَانَ يَقَظَةً فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ فَتَدَلّى الْجَبّارُ فِي الْمَرّةِ الّتِي كَانَ فِيهَا غَيْرَ نَائِمٍ، وَكَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ، فَيُقَالُ فِيهِ مِنْ التّأْوِيلِ مَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ: يَنْزِلُ رَبّنَا كُلّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدّنْيَا، فَلَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْهُ فِي بَابِ التّأْوِيلِ، فَلَا نَكَارَةَ فِيهِ كَانَ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى تَمَامِ هَذَا الْمَعْنَى فِي شَرْحِ مَا تَضَمّنَهُ لَفْظُ الْقَوْسَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: قَابَ قَوْسَيْنِ فِي جُزْءٍ أَمْلَيْنَاهُ فِي شَرْحِ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، تَضَمّنَ لَطَائِفَ مِنْ مَعْنَى التّقْدِيسِ وَالتّسْبِيحِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ وَأَمْلَيْنَا أَيْضًا فِي مَعْنَى رُؤْيَةِ الرّبّ سُبْحَانَهُ فِي الْمَنَامِ، وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ مَسْأَلَةً لِقِنَاعِ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ كَاشِفَةً فَمَنْ أَرَادَ فَهْمَ الرّؤْيَةِ وَالرّؤْيَا فَلْيَنْظُرْهَا هُنَالِكَ، وَيُقَوّي مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى إضَافَةِ التّدَلّي إلَى الرّبّ سُبْحَانَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ مَا رَوَاهُ ابْنُ سُنْجُرَ مُسْنَدًا إلَى شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: لَمّا صَعِدَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى السّمَاءِ، فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، فَلَمّا أَحَسّ جِبْرِيلُ بدنوّ الرّبّ خرّ ساجد، فَلَمْ يَزَلْ يُسَبّحُ سُبْحَانَ رَبّ الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ حَتّى قَضَى اللهُ إلَى عَبْدِهِ مَا قَضَى، قَالَ: ثُمّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَرَأَيْته فِي خَلْقِهِ الّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ مَنْظُومًا أَجْنِحَتُهُ بِالزّبَرْجَدِ وَاللّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ، فَخُيّلَ إلَيّ أَنّ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ قَدْ سَدّ الْأُفُقَيْنِ، وَكُنْت لَا أَرَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ إلّا عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكُنْت أَكْثَرَ مَا أَرَاهُ عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ، وَكَانَ أَحْيَانًا لَا يَرَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ إلّا كَمَا يَرَى الرّجُلُ صَاحِبَهُ من وراء الغربال «1» .
__________
(1) حديث متهافت. أما رؤيته صلى الله عليه وسلم لجبريل على صورة دحية، فقد ورد فى روايات صحيحة.(3/449)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِقَاؤُهُ لِلنّبِيّينَ:
فَصْلٌ: وَمِمّا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَتَكَلّمَ فِيهِ لِقَاؤُهُ لِآدَمَ فِي السّمَاءِ الدّنْيَا، وَلِإِبْرَاهِيمَ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الّذِينَ لَقِيَهُمْ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ السّمَاءَيْنِ، وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالسّمَاءِ الّتِي رَآهُ فِيهَا:
وَسُؤَالٌ آخَرُ فِي اخْتِصَاصِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ بِاللّقَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ رَأَى الْأَنْبِيَاءَ كُلّهُمْ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ بِالذّكْرِ؟ وَقَدْ تَكَلّمَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ عَلَى هَذَا السّؤَالِ، فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَمَغْزَى كَلَامِهِ الّذِي أَشَارَ إلَيْهِ أَنّ الْأَنْبِيَاءَ لَمّا عَلِمُوا بِقُدُومِهِ عَلَيْهِمْ ابْتَدَرُوا إلَى لِقَائِهِ ابْتِدَارَ أَهْلِ الْغَائِبِ لِلْغَائِبِ الْقَادِمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْرَعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَأَ. إلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وَاَلّذِي أَقُولُ فِي هَذَا: إنّ مَأْخَذَ فَهْمِهِ مِنْ عِلْمِ التّعْبِيرِ، فَإِنّهُ مِنْ عِلْمِ النّبُوءَةِ، وَأَهْلُ التّعْبِيرِ يَقُولُونَ: مَنْ رَأَى نَبِيّا بِعَيْنِهِ فِي الْمَنَامِ، فَإِنّ رُؤْيَاهُ تُؤْذِنُ بِمَا يُشْبِهُ حَالَ ذَلِكَ النّبِيّ مِنْ شِدّةٍ أَوْ رَخَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الّتِي أُخْبِرَ بِهَا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ كَانَ بِمَكّةَ وَهِيَ حَرَمُ اللهِ وَأَمْنُهُ وَقُطّانُهَا جِيرَانُ اللهِ، لِأَنّ فِيهَا بَيْتَهُ، فَأَوّلُ مَا رَأَى عَلَيْهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ آدَمُ الّذِي كَانَ فِي أَمْنِ اللهِ وَجِوَارِهِ، فَأَخْرَجَهُ عَدُوّهُ إبْلِيسُ مِنْهَا، وَهَذِهِ الْقِصّةُ تُشْبِهُهَا الْحَالَةُ الْأُولَى مِنْ أَحْوَالِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخْرَجَهُ أَعْدَاؤُهُ مِنْ حَرَمِ اللهِ وَجِوَارِ بَيْتِهِ، فَكَرَبَهُ ذَلِكَ وَغَمّهُ.
وَأَشْبَهَتْ قِصّتُهُ فِي هَذَا قِصّةَ آدَمَ، مَعَ أَنّ آدَمَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرّيّتِهِ الْبَرّ وَالْفَاجِرِ مِنْهُمْ، فَكَانَ فِي السّمَاءِ الدّنْيَا بِحَيْثُ يَرَى الْفَرِيقَيْنِ، لِأَنّ أَرْوَاحَ أَهْلِ الشّقَاءِ لَا تَلِجُ فِي السّمَاءِ، وَلَا تُفَتّحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى، ثُمّ رَأَى(3/450)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي الثّانِيَةِ عِيسَى وَيَحْيَى وَهُمَا الْمُمْتَحَنَانِ بِالْيَهُودِ، أَمَا عِيسَى فَكَذّبَتْهُ الْيَهُودُ وَآذَتْهُ، وَهَمّوا بِقَتْلِهِ فَرَفَعَهُ اللهُ، وَأَمّا يَحْيَى فَقَتَلُوهُ، وَرَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ انْتِقَالِهِ إلَى الْمَدِينَةِ صَارَ إلَى حَالَةٍ ثَانِيَةٍ مِنْ الِامْتِحَانِ، وَكَانَتْ مِحْنَتُهُ فِيهَا بِالْيَهُودِ، آذَوْهُ وَظَاهَرُوا عَلَيْهِ وَهَمّوا بِإِلْقَاءِ الصّخْرَةِ عَلَيْهِ، لِيَقْتُلُوهُ فَنَجّاهُ اللهُ تَعَالَى كَمَا نَجّى عِيسَى مِنْهُمْ، ثُمّ سَمّوهُ فِي الشّاةِ، فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ الْأَكْلَةُ تُعَاوِدُهُ، حَتّى قَطَعَتْ أَبْهَرَهُ «1» كَمَا قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَهَكَذَا فَعَلُوا بِابْنَيْ الْخَالَةِ:
عِيسَى وَيَحْيَى، لِأَنّ أُمّ يَحْيَى أَشْيَاعُ بِنْتُ عِمْرَانَ أُخْتُ مَرْيَمَ، أُمّهُمَا: حَنّةُ.
وَأَمّا لِقَاؤُهُ لِيُوسُفَ فِي السّمَاءِ الثّالِثَةِ، فَإِنّهُ يُؤْذِنُ بِحَالَةِ ثَالِثَةٍ تُشْبِهُ حَالَ يوسف، وذلك بأن يوسف ظفر بإخوته بعد ما أَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْهِمْ فَصَفَحَ عَنْهُمْ، وَقَالَ لا تثريب عليكم الْآيَةَ، وَكَذَلِك نَبِيّنَا- عَلَيْهِ السّلَامُ أَسَرَ يَوْمَ بَدْرٍ جُمْلَةً مِنْ أَقَارِبِهِ الّذِينَ أَخْرَجُوهُ فِيهِمْ عَمّهُ الْعَبّاسُ، وَابْنُ عَمّهِ عَقِيلٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ فِدَاءَهُ، ثُمّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْفَتْحِ فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ:
أَقُولُ مَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، ثُمّ لِقَاؤُهُ لِإِدْرِيسَ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الّذِي سَمّاهُ اللهُ مَكَانًا عَلِيّا، وَإِدْرِيسُ أَوّلُ مَنْ آتَاهُ اللهُ الْخَطّ بِالْقَلَمِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُؤْذِنًا بِحَالَةِ رَابِعَةٍ، وَهِيَ عُلُوّ شَأْنِهِ- عَلَيْهِ السّلَامُ- حَتّى أَخَافَ الْمُلُوكَ وَكَتَبَ إلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى طَاعَتِهِ، حَتّى قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَهُوَ عِنْدَ مَلِكِ الرّومِ، حِين جَاءَهُ كِتَابٌ لِلنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَرَأَى ما رأى من خوف هرقل:
__________
(1) الأبهر: الظهر وعرق فيه، ووريد العنق والأكحل. وقد ذكر قصة الشاة المسمومة البخارى وغيره.(3/451)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ «1» ، حَتّى أَصْبَحَ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَكُتِبَ عَنْهُ بِالْقَلَمِ إلَى جَمِيعِ مُلُوكِ الْأَرْضِ، فَمِنْهُمْ مَنْ اتّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ كَالنّجَاشِيّ، وَمَلِكِ عُمَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ هَادَنَهُ، وَأَهْدَى إلَيْهِ وَأَتْحَفَهُ كَهِرَقْلَ وَالْمُقَوْقَسِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَعَصّى عَلَيْهِ، فَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَهَذَا مَقَامٌ عَلِيّ، وَخَطّ بِالْقَلَمِ كَنَحْوِ مَا أُوتِيَ إدْرِيسُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- وَلِقَاؤُهُ فِي السّمَاءِ الْخَامِسَةِ لِهَارُونَ الْمُحَبّبِ فِي قَوْمِهِ يُؤْذِنُ بِحُبّ قُرَيْشٍ، وَجَمِيعِ الْعَرَبِ لَهُ بَعْدَ بُغْضِهِمْ فِيهِ، وَلِقَاؤُهُ فِي السّمَاءِ السّادِسَةِ لِمُوسَى يُؤْذِنُ بِحَالَةِ تُشْبِهُ حَالَةَ مُوسَى حِينَ أَمَرَ بِغَزْوِ الشّامِ فَظَهَرَ عَلَى الْجَبَابِرَةِ الّذِينَ كَانُوا فِيهَا، وَأَدْخَلَ بَنِي إسْرَائِيلَ الْبَلَدَ الّذِي خَرَجُوا مِنْهُ بَعْدَ إهْلَاكِ عَدُوّهِمْ، وَكَذَلِك غَزَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَبُوكَ مِنْ أَرْضِ الشّامِ، وَظَهَرَ عَلَى صَاحِبِ دَوْمَةَ حَتّى صَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ بَعْد أَنْ أُتِيَ بِهِ أَسِيرًا، وَافْتَتَحَ مَكّةَ، وَدَخَلَ أَصْحَابُهُ الْبَلَدَ الّذِي خَرَجُوا مِنْهُ، ثُمّ لِقَاؤُهُ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السّلَامُ- لِحِكْمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنّهُ رَآهُ عِنْدَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلَيْهِ وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورُ حِيَالَ مَكّةَ، وَإِلَيْهِ تَحُجّ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا أَنّ إبْرَاهِيمَ هُوَ الّذِي بَنَى الْكَعْبَةَ، وَأَذّنَ فِي النّاسِ بِالْحَجّ إلَيْهَا وَالْحِكْمَةُ الثّانِيَةُ أَنّ آخِرَ أَحْوَالِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجّهُ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَحَجّ مَعَهُ نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَرُؤْيَةُ إبْرَاهِيمَ عِنْدَ أَهْلِ التّأْوِيلِ تُؤْذِنُ بِالْحَجّ، لِأَنّهُ الدّاعِي إلَيْهِ وَالرّافِعُ لِقَوَاعِدِ الْكَعْبَةِ الْمَحْجُوبَةِ، فَقَدْ انْتَظَمَ فِي هَذَا الكلام الجواب عن
__________
(1) أى كثر وارتفع شأنه يعنى النبى صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكر أبى كبشة(3/452)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السّؤَالَيْنِ الْمُتَقَدّمَيْنِ، أَحَدُهُمَا: السّؤَالُ عَنْ تَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ بِالذّكْرِ، وَالْآخَرُ:
السّؤَالُ عَنْ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذِهِ الْأَمَاكِنِ مِنْ السّمَاءِ الدّنْيَا إلَى السّابِعَةِ، وَكَانَ الْحَزْمُ تَرْكَ التّكَلّفِ لِتَأْوِيلِ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصّ عَنْ السّلَفِ، وَلَكِنْ عَارَضَ هَذَا الْغَرَضُ مَا يَجِبُ مِنْ التّفْكِيرِ فِي حِكْمَةِ اللهِ، وَالتّدَبّرِ لِآيَاتِ اللهِ، وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَقَدْ رُوِيَ أَنّ تَفَكّرَ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَة «1» مَا لَمْ يَكُنْ النّظَرُ وَالتّفْكِيرُ مُجَرّدًا مِنْ مُلَاحَظَةِ الْكِتَابِ وَالسّنّةِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْعَرَبِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْقَوْلُ فِي الْكِتَابِ وَالسّنّةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ عَصَمَنَا اللهُ- تَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ «2» ، وَجَعَلَنَا مِنْ الْمُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ: فاعتبروا يا أولى الأبصار وليدّبروا آياته، وليتذكّر أولو الألباب، وَلَوْلَا إسْرَاعُ النّاسِ إلَى إنْكَارِ مَا جَهِلُوهُ، وَغِلَظُ الطّبَاعِ عَنْ فَهْمِ كَثِيرٍ مِنْ الْحِكْمَةِ لَأَبْدَيْنَا مِنْ سِرّ هَذَا السّؤَالِ، وَكَشَفْنَا عَنْ الْحِكْمَةِ فِي هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ أَكْثَرَ مِمّا كَشَفْنَا «3» .
الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَأَنّهُ يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ رَوَى ابْنُ سُنْجُرَ عَنْ عَلِيّ- رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ بَيْتٌ فى السماء السابعة
__________
(1) التفكير نفسه فى خلق السموات والأرض وغيرهما من أجل أنواع العبادة، فكيف نجعل التفكير شيئا والعبادة شيئا آخر؟ وهذا يدل على ضعف الحديث.
(2) هذه رائعة من السهيلى، فلنتدبرها باحتفال تستحقه
(3) والحق أنه لم يكشف، وإنما اعتسف.(3/453)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقال له: الضّراح، واسم السماء السابعة: عربيا «1» ، رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ إلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ لَهُ نُورٌ يملأ ما بين عربياء وَجَرِيبَاءَ وَجَرِيبَا، وَهِيَ الْأَرْضُ السّابِعَةُ»
، وَذَكَرَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ قَالَ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورِ يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ دحية عِنْدَ كُلّ دِحْيَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو التّيّاحِ [يَزِيدُ الضّبَعِيّ] قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قُلْت مَا الدّحْيَةُ؟ قَالَ: الرّئِيسُ. وَرَوَى ابْنُ سُنْجُرَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ: الْمَعْمُورُ بِحِيَالِ مَكّةَ، وَفِي السّمَاءِ السّابِعَةِ نَهَرٌ يُقَالُ لَهُ الْحَيَوَانُ «3» يَدْخُلُهُ جِبْرِيلُ كُلّ يَوْمٍ فَيَنْغَمِسُ فِيهِ انْغِمَاسَةً، ثُمّ يَخْرُجُ فَيَنْتَفِضُ انْتِفَاضَةً، يَخِرّ عَنْهُ سَبْعُونَ أَلْفَ قَطْرَةٍ، يَخْلُقُ اللهُ مِنْ كُلّ قَطْرَةٍ مَلَكًا وَيُؤْمَرُونَ أَنْ يَأْتُوا الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ وَيُصَلّوا فِيهِ فَيَفْعَلُونَ ثُمّ يَخْرُجُونَ فَلَا يَعُودُونَ إلَيْهِ أَبَدًا، [وَ] يُوَلّى عَلَيْهِمْ أَحَدُهُمْ يُؤْمَرُ أَنْ يَقِفَ بِهِمْ مِنْ السّمَاءِ موقفا يسبّحون الله [فيه]
__________
(1) فى القاموس واللسان والنهاية لابن الأثير أن اسم السماء السابعة: عروباء
(2) فى اللسان: الجرباء: السماء سميت بذلك لما فيها من الكواكب، وقيل: سميت بذلك لموضع المجرة كأنها جربت بالنجوم. وقيل: الجرباء من السماء: الناحية التى لا يدور فيها فلك الشمس والقمر.. والجرباء والملساء: السماء الدنيا.. وأرض جرباء ممحلة وقحوطة لا شىء فيها، وفى القاموس عن الجرباء أنها قرية بجنب أذرح، ثم قال: وغلط من قال: بينهما ثلاثة أيام، وإنما الوهم من رواة الحديث من إسقاط زيادة ذكرها الدار قطنى، وهى: ما بين ناحيتى حوض كما بين المدينة وجرباء وأذرح.
(3) فى ابن أبى حاتم: «وفى السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان.(3/454)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلَى أَنْ تَقُومَ السّاعَةُ» «1»
فَرْضُ الصّلَاةِ:
فَصْلٌ: وَأَمّا فَرْضُ الصّلَاةِ عَلَيْهِ هُنَالِكَ، فَفِيهِ التّنْبِيهُ عَلَى فَضْلِهَا، حَيْثُ لَمْ تُفْرَضْ إلّا فِي الْحَضْرَةِ «2» الْمُقَدّسَةِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ الطّهَارَةُ مِنْ شَأْنِهَا، وَمِنْ شَرَائِطِ أَدَائِهَا، وَالتّنْبِيهِ عَلَى أَنّهَا مُنَاجَاةُ الرّبّ، وَأَنّ الرّبّ تَعَالَى مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى الْمُصَلّي يُنَاجِيهِ يَقُولُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، أَثْنَى عَلَيّ عبدى «3» إلى آخر
__________
(1) الحديث أخرجه ابن أبى حاتم، وقد تكلم عنه ابن كثير، فقال: «هذا حديث غريب جدا تفرد به روح بن جناح، هذا وهو القرشى الأموى مولاهم أبو سعيد الدمشقى، وقد أنكر عليه هذا الحديث جماعة من الحفاظ، منهم: الجوزجانى والعقبلى والحاكم أبو عبد الله النيسابورى وغيرهم، وقال الحاكم: لا أصل له من حديث أبى هريرة، ولا سعيد، ولا الزهرى» تفسير سورة الطور.
(2) سبق بيان أن آيات القرآن تؤكد أن الصلاة كانت مفروضة قبل هذا، وإلا وجب القول بأن الإسراء كان فى عقب المبعث مباشرة. هذا، ولا يجوز أن نقول «الحضرة المقدسة» فإنه لا يعد تعبيرا إسلاميا، ولكنه تعبير صوفى قديم ولم يرد فى قرآن أو حديث، ولم يجر على لسان صحابى أو تابعى، ولا يجوز أن تنسب إلى الله سبحانه إلا ما نسب هو- جل شأنه- إلى نفسه.
(3) من حديث رواه مسلم والنسائى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهى خداج- ثلاثا- غير تمام فقيل لأبى هريرة: إنا نكون خلف الإمام، فقال اقرأ بها فى نفسك، فإنى سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الله- عز وجل- قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين. ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدنى عبدى، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله أثنى على عبدى، -(3/455)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السّورَةِ، وَهَذَا مُشَاكِلٌ لِفَرْضِهَا عَلَيْهِ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ حَيْثُ سَمِعَ كَلَامَ الرّبّ، وَنَاجَاهُ، وَلَمْ يُعْرَجْ بِهِ حَتّى طُهّرَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ كَمَا يَتَطَهّرُ الْمُصَلّي لِلصّلَاةِ، وَأُخْرِجَ عَنْ الدّنْيَا بِجِسْمِهِ، كَمَا يَخْرُجُ الْمُصَلّي عَنْ الدّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلّ شَيْءٍ إلّا مُنَاجَاةُ رَبّهِ وَتَوَجّهُهُ إلَى قِبْلَتِهِ فِي ذَلِكَ الْحِينِ، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَرُفِعَ إلَى السّمَاءِ كَمَا يَرْفَعُ الْمُصَلّي يَدَيْهِ إلَى جِهَةِ السّمَاءِ إشَارَةً إلَى الْقِبْلَةِ الْعُلْيَا فَهِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَإِلَى جِهَةِ عَرْشِ مَنْ يُنَاجِيهِ وَيُصَلّي لَهُ سُبْحَانَهُ.
فَرْضُ الصّلَوَاتِ خَمْسِينَ فَصْلٌ وَأَمّا فَرْضُ الصّلَوَاتِ خَمْسِينَ ثُمّ حَطّ مِنْهَا عَشْرًا بَعْدَ عَشْرٍ إلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنّهَا حُطّتْ خَمْسًا بَعْدَ خَمْسٍ، وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرّوَايَتَيْنِ لِدُخُولِ الْخَمْسِ فِي الْعَشْرِ، فَقَدْ تكلم فى هذا النقص من الفريضة:
__________
- فإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجدنى عبدى، وقال مرة: فوض إلى عبدى فإذا قال: إياك نعبد، وإياك نستعين قال: هذا بينى وبين عبدى، ولعبدى ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، قال الله: هذا لعبدى، ولعبدى ما سأل، وقال الترمذى: هذا حديث حسن. أقول: إن القرآن يفرض على كل مسلم إذا قرئ القرآن أن يستمع وينصت، وعلى هذا يجب على المأموم- خلافا لما فى الحديث- ألا يقرأ بالفاتحة فى نفسه، وهو يسمع القرآن من الإمام، لأن الله يقول: (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأعراف: 204. والقول بأن الأمر موجه إلى من يكونون فى غير الصلاة قول على الله بغير علم.(3/456)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَهُوَ نَسْخٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مِنْ بَابِ نَسْخِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا، وَأَنْكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ النّحّاسُ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا الْبِنَاءُ عَلَى أَصْلِهِ وَمَذْهَبِهِ فِي أَنّ الْعِبَادَةَ لَا يَجُوزُ نَسْخُهَا قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا، لِأَنّ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْ الْبَدَاءِ، وَالْبَدَاءُ مُحَالٌ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ. الثّانِي: أَنّ الْعِبَادَةَ إنْ جَازَ نَسْخُهَا قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، فَلَيْسَ يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ نَسْخُهَا قَبْلَ هُبُوطِهَا إلَى الْأَرْضِ وَوُصُولِهَا إلَى الْمُخَاطَبِينَ: قَالَ: وَإِنّمَا ادّعَى النّسْخَ فِي هَذِهِ الصّلَوَاتِ الْمَوْضُوعَةِ عَنْ مُحَمّدٍ وَأُمّتِهِ الْقَاشَانِيّ، لِيُصَحّحَ بِذَلِكَ مَذْهَبَهُ فِي أَنّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخّرُ، ثُمّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إنّمَا هِيَ شَفَاعَةٌ شَفَعَهَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأُمّتِهِ وَمُرَاجَعَةٌ رَاجَعَهَا رَبّهُ، لِيُخَفّفَ عَنْ أُمّتِهِ، وَلَا يُسَمّى مِثْلُ هَذَا نَسْخًا.
قَالَ الْمُؤَلّفُ: أَمّا مَذْهَبُهُ فِي أَنّ الْعِبَادَةَ لَا تُنْسَخُ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا، وَأَنّ ذَلِكَ بَدَاءٌ فَلَيْسَ بِصَحِيحِ، لِأَنّ حَقِيقَةَ الْبَدَاءِ أَنْ يَبْدُوَ لِلْآمِرِ رَأْيٌ يَتَبَيّنُ لَهُ الصّوَابُ فِيهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَبَيّنَهُ، وَهَذَا مُحَالٌ فِي حَقّ مَنْ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ بِعِلْمِ قَدِيمٍ «1» ، وَلَيْسَ النّسْخُ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ إنّمَا النسخ تبديل حكم بحكم، والكلّ
__________
(1) فى اللسان: «البداء: استصواب شىء علم بعد أن لم يعلم، وذلك على الله غير جائز» ويقول الشهرستانى فى الملل والنحل: «والبداء له معان: البداء فى العلم، وهو أن يظهر لة صواب على خلاف ما أراد وحكم، والبداء فى الأمر، وهو أن يأمر بشىء، ثم يأمر بعده بخلاف ذلك» قال هذا وهو يتحدث عن المختار بن عبيد الثقفى أحد زعماء فرق الشيعة الأوائل، ثم قال: «وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبداء، لأنه كان يدعى علم ما يحدث من الأحوال إما بوحى يوحى إليه، وإما برسالة من قبل الإمام، فكان إذا وجد أصحابه بكون شىء، وحدوث حادثة، فإن وافق كونه قوله جعله دليلا-(3/457)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي سَابِقِ عِلْمِهِ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، كَنَسْخِهِ الْمَرَضَ بِالصّحّةِ، وَالصّحّةِ بِالْمَرَضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَيْضًا بِأَنّ الْعَبْدَ الْمَأْمُورَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَوَجّهِ الْأَمْرِ إلَيْهِ ثَلَاثُ عِبَادَاتٍ:
الْفِعْلُ الّذِي أُمِرَ بِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى الِامْتِثَالِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَمْرِ، وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ إنْ كَانَ وَاجِبًا فَإِنْ نُسِخَ الْحُكْمُ قَبْلَ الْفِعْلِ، فَقَدْ حَصَلَتْ فَائِدَتَانِ: الْعَزْمُ وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ. وَعَلِمَ اللهُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَصَحّ امْتِحَانُهُ له واختياره إيّاهُ، وَأَوْقَعَ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمَ مِنْ نِيّتِهِ، وَإِنّمَا الّذِي لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ نُزُولِهِ، وَقَبْلَ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِهِ، وَاَلّذِي ذَكَرَ النّحّاسُ مِنْ نَسْخِ الْعِبَادَةِ بَعْدَ الْعَمَلِ بِهَا، فَلَيْسَ هُوَ حَقِيقَةَ النّسْخِ، لِأَنّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا قَدْ مَضَتْ، وَإِنّمَا جَاءَ الخطاب بالنهى عن مثلها لَا عَنْهَا، وَقَوْلُنَا فِي الْخَمْسِ وَالْأَرْبَعِينَ صَلَاةً الْمَوْضُوعَةِ عَنْ مُحَمّدٍ وَأُمّتِهِ أَحَدُ وَجْهَيْنِ، إمّا أَنْ يَكُونَ نُسِخَ مَا وَجَبَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَدَائِهَا وَرُفِعَ عَنْهُ اسْتِمْرَارُ الْعَزْمِ وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ، وَهَذَا قَدْ قَدّمْنَا أَنّهُ نَسْخٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَنُسِخَ عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ التّبْلِيغِ، فَقَدْ كَانَ فِي كُلّ مَرّةٍ عَازِمًا عَلَى تَبْلِيغِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ: إنّمَا كَانَ شَافِعًا وَمُرَاجِعًا يَنْفِي النّسْخَ فَإِنّ النّسْخَ قَدْ يَكُونُ عَنْ سَبَبٍ مَعْلُومٍ، فَشَفَاعَتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأُمّتِهِ كَانَتْ سَبَبًا لِلنّسْخِ لَا مُبْطِلَةً لِحَقِيقَتِهِ،
__________
- على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال: قد بدا لربكم، وكان لا يفرق بين النسخ والبداء» ص 237 ح 1 الملل والنحل للشهرستانى ط مكتبة الحسين التجارية فالبداء إذن أسطورة ملعونة، ومحال نسبتها إلى الله سبحانه ولا يجوز وصف علم الله بأنه قديم، كما لا يجوز وصف الله بهذه الصفة كما سبق بيانه. كما أنه لا يجوز أن يقال عن آية فى القرآن إنها منسوخة، فكل آية فى القرآن هى حق لا ريب فيه، وكل آية فيه يجب أن نؤمن بأنها غير منسوخة.(3/458)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَكِنّ الْمَنْسُوخَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ التّبْلِيغِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ قَبْلَ النّسْخِ وَحُكْمِ الصّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي خَاصّتِهِ، وَأَمّا أُمّتُهُ فَلَمْ يُنْسَخْ عَنْهُمْ حُكْمٌ إذْ لَا يُتَصَوّرُ نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ بُلُوغِهِ إلَى الْمَأْمُورِ، كَمَا قَدّمْنَا، وَهَذَا كُلّهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَدِيثِ.
وَالْوَجْهُ الثّانِي أَنْ يَكُونَ هَذَا خَبَرًا لَا تَعَبّدًا، وَإِذَا كَانَ خَبَرًا لَمْ يَدْخُلْهُ النّسْخُ، وَمَعْنَى الْخَبَرِ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَخْبَرَهُ رَبّهُ أَنّ عَلَى أُمّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً، وَمَعْنَاهُ: أَنّهَا خَمْسُونَ فِي اللّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَكَذَلِك قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَتَأَوّلَهُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أَنّهَا خَمْسُونَ بِالْفِعْلِ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُ رَبّهُ حَتّى بَيّنَ لَهُ أَنّهَا خَمْسُونَ فِي الثّوَابِ لا بالعمل. فإن قيل: فما معنى نقصها عَشْرًا بَعْدَ عَشْرٍ؟ قُلْنَا: لَيْسَ كُلّ الْخَلْقِ يَحْضُرُ قَلْبُهُ فِي الصّلَاةِ مِنْ أَوّلِهَا إلَى آخِرِهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنّهُ يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا مَا حَضَرَ قَلْبُهُ فِيهَا، وَأَنّ الْعَبْدَ يُصَلّي الصّلَاةَ، فَيُكْتَبُ لَهُ نِصْفُهَا رُبُعُهَا حَتّى انْتَهَى إلَى عُشْرِهَا، وَوَقَفَ، فَهِيَ خَمْسٌ فِي حَقّ مَنْ كُتِبَ لَهُ عُشْرُهَا، وَعَشْرٌ فِي حَقّ مَنْ كُتِبَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَخَمْسُونَ فِي حَقّ مَنْ كَمُلَتْ صَلَاتُهُ وَأَدّاهَا بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَمَامِ خُشُوعِهَا وَكَمَالِ سُجُودِهَا وَرُكُوعِهَا.
أَوْصَافٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَلْقَهُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إلّا ضَاحِكًا مُسْتَبْشِرًا إلّا مَالِكًا خَازِنَ جَهَنّمَ، وَذَلِكَ أَنّهُ لَمْ يَضْحَكْ لِأَحَدِ قَبْلَهُ، وَلَا هُوَ ضَاحِكٌ لِأَحَدِ، وَمِصْدَاقُ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ التّحْرِيمَ: 6 وَهُمْ مُوكَلُونَ بِغَضَبِ اللهِ تَعَالَى، فَالْغَضَبُ لَا يُزَايِلُهُمْ(3/459)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبَدًا، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعَارَضَةٌ لِلْحَدِيثِ الّذِي فِي صِفَةِ مِيكَائِيلَ أَنّهُ مَا ضَحِكَ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ جَهَنّمَ، وَكَذَلِكَ يُعَارِضُهُ مَا خَرّجَ الدّار قطنىّ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تَبَسّمَ فِي الصّلَاةِ، فَلَمّا انْصَرَفَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:
رَأَيْت مِيكَائِيلَ رَاجِعًا مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ، عَلَى جَنَاحَيْهِ الْغُبَارُ فَضَحِكَ إلَيّ، فَتَبَسّمْت إلَيْه، وَإِذَا صَحّ الْحَدِيثَانِ، فَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَمْ يَضْحَكْ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ النّارَ إلَى هَذِهِ الْمُدّةِ الّتِي ضَحِكَ فِيهَا لِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَكُونُ الْحَدِيثُ عَامّا يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، أَوْ يَكُونُ الْحَدِيثُ الْأَوّلُ حَدّثَ بِهِ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ ثُمّ حَدّثَ بَعْدُ بِمَا حَدّثَ بِهِ مِنْ ضَحِكِهِ إلَيْهِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ وَلَمْ يَرَ مَالِكًا عَلَى الصّورَةِ الّتِي يَرَاهُ عَلَيْهَا الْمُعَذّبُونَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَوْ رَآهُ عَلَى تِلْكَ الصّورَةِ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ.
أَكَلَةُ الرّبَا فِي رُؤْيَا الْمِعْرَاجِ:
وَذَكَرَ أَكَلَةَ الرّبَا وَأَنّهُمْ بِسَبِيلِ آلِ فِرْعَوْنَ يَمُرّونَ عَلَيْهِمْ كَالْإِبِلِ الْمَهْيُومَةِ، وَهِيَ الْعِطَاشُ، وَالْهُيَامُ: شِدّةُ الْعَطَشِ، وَكَانَ قِيَاسُ هَذَا الْوَصْفِ أَلّا يُقَالَ فِيهِ مَهْيُومَةٌ، كَمَا لَا يُقَالُ مَعْطُوشَةٌ، إنّمَا يُقَالُ هَائِمٌ وَهَيْمَانُ، وَقَدْ يُقَالُ: هَيُومٌ وَيُجْمَعُ عَلَى هِيمٍ، وَوَزْنُهُ فُعْلٌ بِالضّمّ لَكِنْ كُسِرَ مِنْ أَجْلِ الْيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ الْوَاقِعَةَ: 55 وَلَكِنْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَهْيُومَةٌ، كَأَنّهُ شَيْءٌ فُعِلَ بِهَا كَالْمَحْمُومَةِ وَالْمَجْنُونَةِ وَكَالْمَنْهُومِ، وَهُوَ الّذِي لَا يَشْبَعُ وَكَانَ قِيَاسُ الْيَاءِ أَنْ تَعْتَلّ، فَيُقَالَ: مَهِيمَةٌ، كَمَا يُقَالُ: مَبِيعَةٌ فِي مَعْنَى مَبْيُوعَةٍ،(3/460)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَكِنْ صَحّتْ الْيَاءُ، لِأَنّهَا فِي مَعْنَى الْهَيُومَةِ كَمَا صَحّتْ الْوَاوُ فِي عُورٍ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى أَعْوَرَ، كَمَا صَحّتْ فِي اجْتَوَرُوا لِأَنّهُ فِي مَعْنَى: تَجَاوَرُوا، وَإِنّمَا رَآهُمْ مُنْتَفِخَةً بُطُونُهُمْ؛ لِأَنّ الْعُقُوبَةَ مُشَاكِلَةٌ لِلذّنْبِ، فَآكِلُ الرّبَا يَرْبُو بَطْنُهُ، كَمَا أَرَادَ أَنْ يَرْبُوَ مَالُهُ بِأَكْلِ مَا حُرّمَ عَلَيْهِ، فَمُحِقَتْ الْبَرَكَةُ مِنْ مَالِهِ، وَجُعِلَتْ نَفْخًا فِي بَطْنِهِ، حَتّى يَقُومَ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنْ الْمَسّ، وَإِنّمَا جُعِلُوا بِطَرِيقِ آلِ فِرْعَوْنَ يَمُرّونَ عَلَيْهِمْ غُدُوّا وَعَشِيّا لِأَنّ آلَ فِرْعَوْنَ هُمْ أَشَدّ النّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ غَافِرَ: 46.
فَخُصّوا بِسَبِيلِهِمْ، لِيُعْلَمَ أَنّ الّذِينَ هُمْ أَشَدّ النّاسِ عَذَابًا يَطَئُونَهُمْ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفّارِ، وَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْقِيَامَ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ فِي طَرِيقِ جَهَنّمَ بِحَيْثُ يَمُرّ بِالْكُفّارِ عَلَيْهِمْ، أَنّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَوْقَفَ أَمْرَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَنْتَهُوا، فَيَكُونَ خَيْرًا لَهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَعُودُوا وَيُصِرّوا، فَيُدْخِلَهُمْ النّارَ، وَهَذِهِ صِفَةُ مَنْ هُوَ فِي طَرِيقِ النّارِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ الْبَقَرَةَ: 275. إلَى آخِرِ الْآيَةِ وَفِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ أَنّهُ رَأَى بُطُونَهُمْ كَالْبُيُوتِ، يَعْنِي: أَكَلَةَ الرّبَا، وَفِيهَا حَيّاتٌ تُرَى خَارِجَ الْبُطُونِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْأَحْوَالُ الّتِي وَصَفَهَا عَنْ أَكَلَةِ الرّبَا إنْ كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ حالهم فى الاخرة، فال فِرْعَوْنُ فِي الْآخِرَةِ قَدْ أُدْخِلُوا أَشَدّ الْعَذَابِ، وَإِنّمَا يُعْرَضُونَ عَلَى النّارِ غُدُوّا وَعَشِيّا فِي الْبَرْزَخِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَالُ الّتِي رَآهُمْ عَلَيْهَا فِي الْبَرْزَخِ، فَأَيّ بُطُونٍ لَهُمْ، وَقَدْ صَارُوا عِظَامًا وَرُفَاتًا، وَمُزّقُوا كُلّ مُمَزّقٍ فَالْجَوَابُ أَنّهُ إنّمَا رَآهُمْ فِي الْبَرْزَخِ، لِأَنّهُ حَدِيثٌ عَمّا رَأَى، وَهَذِهِ الْحَالُ هِيَ حَالُ(3/461)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَرْوَاحِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَفِيهَا تَصْحِيحٌ لِمَنْ قَالَ: الْأَرْوَاحُ أَجْسَادٌ لَطِيفَةٌ قَابِلَةٌ لِلنّعِيمِ وَالْعَذَابِ، فَيَخْلُقُ اللهُ فِي تِلْكَ الْأَرْوَاحِ مِنْ الْآلَامِ مَا يجده من انتفخ بطنه حتى وطىء بِالْأَقْدَامِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ مِنْ قِيَامٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُمْ أَشَدّ عَذَابًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَلَكِنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُمْ يَطَؤُهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكُفّارِ الّذِينَ لَمْ يَأْكُلُوا الرّبَا مَا دَامُوا فِي الْبَرْزَخِ إلَى أَنْ يَقُومُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنْ الْمَسّ، ثُمّ يُنَادِي مُنَادِي اللهِ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ غَافِرَ: 46 وَكَذَلِكَ مَا رَأَى مِنْ النّسَاءِ الْمُعَلّقَاتِ بِثُدِيّهِنّ «1» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأَى أَرْوَاحَهُنّ، وَقَدْ خُلِقَ فِيهَا مِنْ الْآلَامِ مَا يَجِدُهُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُثّلَتْ لَهُ حَالُهُنّ فِي الْآخِرَةِ، وَذَكَرَ الّذِينَ يَدْعُونَ مَا أَحَلّ اللهُ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَيَأْتُونَ مَا حُرّمَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا نَصّ عَلَى تَحْرِيمِ إتْيَانِ النّسَاءِ فِي أَعْجَازِهِنّ، وَقَدْ قَامَ الدّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسّنّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَوَاضِعَ الّتِي يَقُومُ مِنْهَا التّحْرِيمُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَمِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَكَرْنَا مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الْكُفْرُ، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: هى الّلوطيّة الصغرى، وأما الْإِجْمَاعُ، فَإِنّ الْمَرْأَةَ تُرَدّ بِدَاءِ الْفَرْجِ، وَلَوْ جَازَ وَطْؤُهَا فِي الْمَسْلَكِ الْآخَرِ مَا أَجْمَعُوا عَلَى رَدّهَا بِدَاءِ الْفَرْجِ، وَقَدْ مَهّدْنَا الْأَدِلّةَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُفْرَدَةً فِي غَيْرِ هَذَا الإملاء بما فيه شفاء والحمد لله
__________
(1) لم يخرجه أحد من أصحاب الصحيح، وفى بعض رواياته غرابة ونكارة.(3/462)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَلَدُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ:
وَقَوْلُهُ: فَأَكَلَ حَرَائِبَهُمْ: الْحَرِيبَةُ: الْمَالُ، وَهُوَ مِنْ الْحَرْبِ، وَهُوَ السّلَبُ، يُرِيدُ أَنّ الْوَلَدَ إذَا كَانَ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ نُسِبَ إلَى الّذِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَيَأْكُلُ مِنْ مَالِهِ صَغِيرًا، وَيَنْظُرُ إلَى بَنَاتِهِ مِنْ غَيْرِ أُمّهِ وَإِلَى أَخَوَاتِهِ، وَلَسْنَ بِعَمّاتِ لَهُ، وَإِلَى أُمّهِ وَلَيْسَتْ بِجَدّةِ لَهُ، وَهَذَا فَسَادٌ كَبِيرٌ، وَإِنّمَا قُدّمَ ذِكْرُ الْأَكْلِ مِنْ حَرِيبَتِهِ وَمَالِهِ قَبْلَ الِاطّلَاعِ عَلَى عَوْرَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ الِاطّلَاعُ عَلَى الْعَوْرَاتِ أَشْنَعَ، لِأَنّ نَفَقَتَهُ عَلَيْهِ أَوّلُ مِنْ حَالِ صِغَرِهِ، ثُمّ قَدْ يَبْلُغُ حَدّ الاطلاع على عوراته، أولا يَبْلُغُ، وَأَيْضًا فَإِنّ الْأُمّ أَرْضَعَتْهُ بِلِبَانِهَا، وَلَمْ تَدْفَعْهُ إلَى مُرْضِعَةٍ كَانَ الزّوْجُ أَبًا لَهُ مِنْ الرّضَاعَةِ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الِابْنِ مِنْ الرّضَاعَةِ، وَفِي ذَلِكَ نُقْصَانٌ مِنْ الشّنَاعَةِ، فَإِنْ بَلَغَ الصّبِيّ، وَتَابَتْ الْأُمّ، وَأَعْلَمَتْهُ أَنّهُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ لِيَسْتَعِفّ عَنْ مِيرَاثِهِمْ، وَيَكُفّ عَنْ الِاطّلَاعِ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، أَوْ عَلِمَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ حَالٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ شَرّ الثّلَاثَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي ابْنِ الزّنَا، وَقَدْ تُؤُوّلَ حَدِيثُ شَرّ الثّلَاثَةِ عَلَى وُجُوهٍ، هَذَا أَقْرَبُهَا إلَى الصّوَابِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَكَلَ حَرَائِبَهُمْ، وَاطّلَعَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، وَمَنْ فَعَلَ هَذَا عَنْ عَمْدٍ وَقَصْدٍ فَهُوَ شَرّ النّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَأَكْلُهُ وَاطّلَاعُهُ شَرّ عَمَلٍ، وَأَبَوَاهُ حِينَ زَنَيَا فَارَقَا ذَلِكَ الْعَمَلَ الْخَبِيثَ لِحِينِهِمَا وَالِابْنُ فِي عَمَلٍ خَبِيثٍ مِنْ مَنْشَئِهِ إلَى وَفَاتِهِ،، فَعَمَلُهُ شَرّ عَمَلٍ.
حُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُحِلّ الْحَرَامَ:
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ أَيْضًا أَنّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلّ حَرَامًا، وَذَلِكَ أَنّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ الشّرِيعَةِ لِلْفِرَاشِ إلّا أَنْ يُنْفَى بِاللّعَانِ، فَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِهَذَا، وَعَلِمَ(3/463)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَلَدُ عِنْدَ بُلُوغِهِ خِلَافَ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ لَمْ يَحِلّ لَهُ بِهَذَا الْحُكْمِ مَا حَرّمَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ أَكْلِ الْحَرَائِبِ وَالِاطّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ، وَفِي هَذَا رَدّ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ قَوْلِهِ: إنّ حُكْمَ الْحَاكِمِ قَدْ يُحِلّ مَا يَعْلَمُ أَنّهُ حَرَامٌ مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنّهُ طَلّقَ، وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنّهُ لَمْ يُطَلّقْ فَيَقْبَلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا فَيُطَلّقَ الْمَرْأَةَ عَلَى الرّجُلِ، فَإِذَا بَانَتْ مِنْهُ كَانَ لِأَحَدِ الشّاهِدَيْنِ أَنْ يَنْكِحَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنّهُ قَدْ شَهِدَ زُورًا، لَمْ يَقُلْ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْأَمْوَالِ لِقَوْلِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ «إنّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيّ، وَلَعَلّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءِ مِنْ حَقّ أَخِيهِ، فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النّارِ «1» » فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ الّذِي تَقَدّمَ رَدّ لِمَذْهَبِهِ، وَلَا حُجّةَ لَهُ فِي أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْأَمْوَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: أن أَنّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِهِ، وَقِيَاسُ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِدٌ، الثّانِي: أَنّهُ قَالَ مِنْ حَقّ أَخِيهِ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ مَالِ أَخِيهِ، وَهَذَا لَفْظٌ يَعُمّ الْحُقُوقَ كُلّهَا قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَعِنْدِي أَنّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ: إنّمَا بَنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَصْلِهِ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ، فَإِنّهُ
__________
(1) رواه الجماعة. ومعنى ألحن: أبلغ كما وقع فى الصحيحين أى: أحسن إيرادا للكلام، ولابد من تقدير محذوف لتصحيح معناه. وهو أى وهو كاذب، ويسمى هذا عند علماء الأصول: دلالة اقتضاء، لأن اللفظ الظاهر المذكور يقتضى هذا المحذوف، وقد يكون معناه: أعرف بالحجة، وأقطن لها من غيره ويقال: لحنت لفلان إذا قلت له قولا يفهمه، ويخفى على غيره لأنك تميله بالتورية عن الواضح المفهوم، فاللحن: الميل عن جهة الاستقامة، يقال: لحن فلان فى كلامه: إذا مال عن صحيح المنطق. وفى رواية «ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضى بنحو مما أسمع»(3/464)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عِنْدَهُ لَازِمٌ فَإِذَا أُكْرِهَ الرّجُلُ عَلَى الطّلَاقِ، وَقُلْنَا يَلْزَمُ الطّلَاقُ لَهُ، فَقَدْ حُرّمَتْ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ، وَإِذَا حُرّمَتْ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَنْكِحَهَا مَنْ شَاءَ فَالْإِثْمُ إنّمَا تَعَلّقَ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ بِالشّهَادَةِ دُونَ النّكَاحِ، وَقَدْ خَالَفَهُ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ، وَقَوْلُهُمْ يُعَضّدُهُ الْأَثَرُ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ يُعَضّدُهُ النّظَرُ، وَالْخَوْضُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَصُدّنَا عَمّا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ.
مَكَانُ إدْرِيسَ فَصْلٌ: وَذِكْرُهُ لِإِدْرِيسَ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) مَرْيَمَ، مَعَ أَنّهُ قَدْ رَأَى مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ فِي مَكَانٍ أَعْلَى مِنْ مَكَانِ إدْرِيسَ فَذَلِكَ وَاَللهُ أَعْلَمُ لِمَا ذُكِرَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنّ إدْرِيسَ خُصّ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ رُفِعَ قَبْلَ وَفَاتِهِ إلَى السّمَاءِ الرّابِعَةِ، وَرَفَعَهُ مَلَكٌ كَانَ صَدِيقًا لَهُ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكّلُ بِالشّمْسِ فِيمَا ذُكِرَ، وَكَانَ إدْرِيسُ سَأَلَهُ أَنْ يُرِيَهُ الْجَنّةَ، فَأَذِنَ لَهُ اللهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمّا كَانَ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ رَآهُ هُنَالِكَ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَعَجِبَ، وَقَالَ أُمِرْت أَنْ أَقْبِضَ رُوحَ أَدَرِيسَ السّاعَةَ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ، فَقَبَضَهُ هُنَالِكَ، فَرَفْعُهُ حَيّا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الْعَلِيّ خَاصّ له دون الأنبياء «1» .
__________
(1) يقول ابن كثير عن هذا: «وقد روى ابن جرير ههنا أثرا غريبا عجيبا» ثم ذكر الأثر بطوله، بخرقه المشئوم، وكذبه الملعون، ثم قال بعده: «هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات، وفى بعضه نكارة والله أعلم» تفسير الاية من سورة مريم. أما المكان العلى فقد ذكر الحسن وغيره أنه الجنة. ولنحذر من موبقات كعب(3/465)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُلّ سَمَاءٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مِنْ قَوْلِ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ فِي كُلّ سَمَاءٍ: مرحبا بالأخ الصالح، وقول آدم وابراهيم: بِالِابْنِ الصّالِحِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوّلِ هَذَا الْكِتَابِ حُجّةً لِمَنْ قَالَ: إنّ إدْرِيسَ لَيْسَ بِجَدّ لِنُوحِ، وَلَا هُوَ مِنْ آبَاءِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَنّهُ قَالَ مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ، وَلَمْ يَقُلْ: بِالِابْنِ الصّالِحِ
خَرَافَةُ طَلَبِ مُوسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أُمّةِ أَحْمَدَ:
وَأَمّا اعْتِنَاءُ مُوسَى- عَلَيْهِ السّلَامُ- بِهَذِهِ الْأُمّةِ وَإِلْحَاحُهُ عَلَى نَبِيّهَا أَنْ يَشْفَعَ لَهَا، وَيَسْأَلَ التّخْفِيفَ عَنْهَا، فَلِقَوْلِهِ- وَاَللهُ أَعْلَمُ- حِينَ قُضِيَ إلَيْهِ الْأَمْرُ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ، وَرَأَى صِفَاتِ أُمّةِ مُحَمّدٍ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي الْأَلْوَاحِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: إنّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمّةً صِفَتُهُمْ كَذَا، اللهُمّ اجْعَلْهُمْ أُمّتِي، فَيُقَالُ لَهُ: تِلْكَ أُمّةُ أَحْمَدَ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ «1» ، فَكَانَ إشْفَاقُهُ عَلَيْهِمْ وَاعْتِنَاؤُهُ بِأَمْرِهِمْ كَمَا يُعْتِنِي بِالْقَوْمِ مَنْ هو منهم، لقوله: اللهم اجعلنى منهم، والله أعلم.
__________
(1) هو مشهور، ولكن شهرة الباطل الماكر، والضلالة اللئيمة، وقد أخرجه أبو نعيم فى الدلائل، ولم يخرجه أحد من أصحاب الصحيح. وكيف يطلب موسى من الله أن تكون هذه الأمة التى ستأتى بعده بقرون أمة له؟ وكيف نصدق أو كيف يستقيم القول بأنه أعطى خصلتى الرسالة والتكليم بعد هذه المناقشة، على حين كان هو رسولا مكلما قبل أن تنزل الألواح عليه. فقد ورد فى ختام الحديث. أن موسى قال: «يا رب فاجعلنى من أمة أحمد، فأعطى عند ذلك خصلتين، فقال: (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي، فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) إنها خرافة ظاهرها ينزع إلى تمجيد النبي «ص» وباطنها- بهته بالكذب والخرف الأحمق»(3/466)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعْضُ مَا رَأَى:
وَمِمّا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِمّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي مسند الحارث ابن أَبِي أُسَامَةَ أَنّهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- نَادَاهُ مُنَادٍ، وَهُوَ عَلَى ظَهْرِ الْبُرَاقِ: يَا مُحَمّدُ، فَلَمْ يَعْرُجْ عَلَيْهِ، ثُمّ نَادَاهُ آخَرُ: يَا مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَعْرُجْ عَلَيْهِ، ثُمّ لقيته لمرأة عَلَيْهَا مِنْ كُلّ زِينَةٍ نَاشِرَةٌ يَدَيْهَا، تَقُولُ: يَا مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ، حَتّى تَغَشّتْهُ، فَلَمْ يَعْرُجْ عَلَيْهَا، ثُمّ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَمّا رَأَى، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَمَا الْمُنَادِي الْأَوّلُ، فَدَاعِي الْيَهُودِ لَوْ أَجَبْته لَتَهَوّدَتْ أُمّتُك، وَأَمّا الْآخَرُ فَدَاعِي النّصَارَى، وَلَوْ أَجَبْته لَتَنَصّرَتْ أُمّتُك، وَأَمّا الْمَرْأَةُ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ كُلّ زِينَةٍ، فَإِنّهَا الدّنْيَا لَوْ أَجَبْتهَا لَآثَرْت الدّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ «1» .
__________
(1) وردت فى حديث رواه البيهقى فى الدلائل بسنده إلى أبى سعيد الخدرى وابن جرير. ورواه ابن أبى حاتم بسياق طويل كما يقول ابن كثير- حسن أنيق أجود مما ساقه غيره على غرابته وما فيه من النكارة.(3/467)
تم بحمد الله الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع ان شاء الله وأوله: كفاية الله أمر المستهزئين(3/469)
فهرس الجزء الثالث من الروض الأنف
الرقم الموضوع
6 ابتداء فرض الصلاة «س»
7 أول من أسلم «س»
9 إسلام زيد بن حارثة «س»
10 إسلام أبى بكر
11 فرض الصلاة
12 لا نسخ فى القرآن «س»
13 الوضوء
14 جبريل يؤم الرسول «س»
15 أول من آمن
16 إسلام زيد
19 إسلام أبى بكر
22 من أسلموا على يد أبى بكر «س»
27 إسلام أبى عبيدة وسعيد بن زيد
29 إسلام سعد. وابن عوف
والنحام
31 ابن مسعود ومسعود القارى
33 تصحيح نسب أبى حذيفة
34 عميس
35 تصحيح فى نسب بنى عدى
37 إسلام عامر بن فهيرة
38 عامر بن الطفيل «ش»
الرقم الموضوع
39 تفسير ونحو: اصدع بما
تؤمر «ن، ل»
39 حول ما المصدرية والذى
ن، ل»
42 مبادأة رسول الله «ص» «س» 43 صلاة الرسول وصحبه فى
الشعاب «س»
43 عداوة الشرك للرسول «ص»
46 مناصرة أبى طالب للرسول «ص»
49 مباداة رسول الله
50 أبو البخترى
52 لو وضعوا الشمس فى يمينى
54 عرض قريش على أبى طالب
56 شرح شعر لأبى طالب
61 موقف الوليد بن المغيرة من
القرآن «س»
63 أبو طالب يفخر بأبن أخيه «س»
63 لامية أبى طالب «س»
69 شرح ابن هشام لبعض القصيدة «س»
70 ذكره صلى الله عليه وسلم بنتشر «س»
س- سيرة. ش- شرح. وما ليس أمامه شىء أو أمامه راء فهو من الروض و «ن ل» مسائل نحوية ولغة(3/471)
الرقم الموضوع
71 أبو قيس بن الأسلت ونسبه «س»
72 قصيدة ابن الأسلت «س»
74 داحس والغبراء «س»
76 حرب حاطب «س»
77 حكيم بن أمية ينهى عن عداوة الرسول «س»
77 موقف الوليد من القرآن «س»
80 ذرنى ومن خلقت وحيدا
82 شرح لامية أبى طالب
82 قلب الواو تاء «ن. ل»
84 وسوم الإبل
84 حول الصفة المشبهة «ن. ل»
87 حديث أم زرع «ش»
88 الودع والودع.
89 من شرح لامية أبى طالب
94 حسن ذا أدبا «ن. ل»
95 عود إلى شرح اللامية «ن. ل»
102 برىء وبراء وما يشبههما
103 الاستسقاء
107 ابن الأسلت وقصيدته
112 حرب داحس
116 حرب حاطب
116 مالقيه الرسول «س»
118 إسلام حمزة «س»
120 الرسول «ص» وعتبة «س»
122 بين النبى «ص» وبين قريش «س»
الرقم الموضوع
131 حول سورة الكهف «س»
143 أول من جهر بالقرآن «س»
144 ما لقى رسول الله «ص» «س»
145 المدثر والنذير والعريان
147 تقديم المفعول على الفعل
148 الرئى وعتبة بن ربيعة
150 إسلام حمزة
152 طلبهم الايات
154 عبد الله بن أبى أمية
154 هم أبى جهل بالقاء الحجر
156 أرأيت «ن. ل»
157 الأساطير وشىء عن الفرس
161 عن الكهف والفرقان
162 لم قدم الحمد على الكتاب؟
163 شرح شواهد شعرية
164 الرقيم وأهل الكهف
164 إعراب أحصى «ن. ل»
165 عن الكهف مرة أخرى
169 واو الثمانية «ن. ل»
171 آية الاستشقاء
172 ولبثوا فى كهفهم
174 السنة والعام «ن. ل»
177 ذو القرنين
181 حكم التسمى بأسماء النبيين
183 الروح والنفس
188 الروح سبب الحياة(3/472)
191 الإنسان روح وجسد
191 النفس
192 ابن هرمة
194 خزنة جهنم
195 بهته «ص» بأن بشرا يعلمه
196 المستمعون لتلاوة النبى «س»
199 العدوان على المستضعفين «س»
199 تعذيب بلال وعتقه «س»
200 من عتقاء أبى بكر «س»
201 بين أبى بكر وأبيه «س»
201 تعذيب عمار «س»
202 فتنة المعذبين «س»
202 رفض تسليم الوليد بن الوليد «س»
203 الهجرة الأولى إلى الحبشة «س»
205 المهاجرون إلى الحبشة «س»
213 من شعر الهجرة الحبشية «س»
215 حول آيات من القرآن «س»
218 حكم المكره على الكفر والمعصية
220 آل ياسر
221 زنيرة وغيرها
221 أم عميس
222 عن بلال
222 عن الهجرة إلى الحبشة
222 النجاشى وعثمان ورقية
225 رؤيا ورقية ولدى العاص
226 أمة بنت خالد وأبوها
الرقم الموضوع
227 عبد شمس
228 عمار لم يهاجر إلى الحبشة
229 حول بنى الحارث بن قيس
229 حول بنى زهرة وطليب بن عبيد
230 عن شعر الهجرة الحبشية ونحوياته
«ن. ل»
232 حول أن المصدرية «ن. ل»
237 حول لام التعجب
238 من معانى شعر ابن مظعون
239 أنساب
241 أم سلمة
243 قريش تطلب المهاجرين «س»
243 النور الذى كان على قبر النجاشى
«س»
246 حوار بين النجاشى وبين المهاجرين
«س»
248 المهاجرون وانتصار النجاشى «س»
249 تملك النجاشى على الحبشة «س»
252 قريش تطلب المهاجرين
253 عمارة بن الوليد بن المغيرة
255 حول حديث المهاجرين مع
النجاشى
257 إضافة العين إلى الله
258 معنى ان عيسى كلمة الله وروحه
258 من هدى السلف فى الصفات «ش»
259 كلمة «حضرة» ونسبتها إلى الله «ش»(3/473)
الرقم الموضوع
260 أصحمة النجاشى
261 من فقه حديث الهجرة الحبشية
261 الصلاة على النجاشى
262 حكم الصلاة على الغائب
264 إسلام عمر «س»
271 عن إسلام عمر وحديث خباب
«س»
282 خبر الصحيفة القرشية «س»
282 موقف أبى لهب «س»
283 بائية أبى طالب «س»
284 من جهالة أبى جهل «س»
285 مالقى رسول الله من قومه «س»
285 أبو لهب وامرأته «س»
287 أمية بن خلف «س»
288 العاص بن وائل «س»
288 أبو جهل «س»
289 النضر بن الحارث «س»
290 ابن الزهرى والأخنس «س»
292 ما نزل فى حق الوليد بن المغيرة
وأبى بن خلف وعقبة بن أبى
معيط «س»
294 ما نزل فى حق من اعترضوا
طواف الرسول «س»
294 ما قيل فى حق أبى جهل «س»
295 قصة ابن أم مكتوم «س»
296 حديث صحيفة قريش «س»
الرقم الموضوع
297 كمال المصحف وتمامه «ش»
298 بعض ما قيل عن الصحيفة «ش»
299 تفسير بائية أبى طالب
300 لا التى للنبرئة «ن. ل»
301 عود إلى شرح البائية
304 مسد أم جميل
308 عن الجيد والعنق «ن. ل»
309 غلو فى الوصف بالحسن
312 الفهر
313 حول خباب وقولهم مذمم
313 سد الذرائع
314 إنما الأعمال بالنيات «ش»
315 شرح ابن تيمية لسد
الذرائع «ش»
316 عن النضر ورستم
317 ابن الزبعرى وعزير «1»
319 حصب جهنم
320 عما نزل فى حق الأخنس
320 عن النسب على غير قياس «ش»
321 الزنيم «ر، ش»
322 تفسير سورة «الكافرون»
324 عن كلمة «ما» «ن. ل»
327 الزقوم
328 حديث ابن أم مكتوم
330 العائدون من الحبشة «س»
333 قصة ابن مظعون مع الوليد «س»
__________
(1) ذكرت خطأ فى العنوان (عزيز)(3/474)
الرقم الموضوع
334 أبو سلمة فى جوار أبى طالب «س»
336 أبو بكر يرد جوار ابن الدغنة «س»
338 نقض الصحيفة «س»
344 قصة الغرانيق «ش ر»
349 كل شىء ما خلا الله باطل
352 أبو بكر وابن الدغنة
353 عن الشعب ونقض الصحيفة
356 شرح دالية أبى طالب
356 النسب على غير قياس «ش»
357 عود إلى الدالية «ر»
362 شعر حسان فى مطعم وهشام
364 إسلام الطفيل «س»
368 قصة الأعشى
370 ذلة أبى جهل والإراشى «س»
372 ركانة ومصارعته «س»
373 قدوم وفد النصارى من الحبشة «س»
376 حول حديث الطفيل الدوسى «ر»
377 خبء وخب «ش»
378 دالية الأعشى وحمزة والشرف «ر»
380 عود إلى دالية الأعشى
384 أغار وأنجد «ن. ل»
386 حول الوقف على النون الخفيفة
«ن. ل»
388 مصارعة ركانة
390 وفد نصارى الحبشة
الرقم الموضوع
391 عن غلام المبيعة وصهيب وأبى فكيهة
393 سبب نزول الكوثر «س»
393 الكوثر فى الشعر «س»
394 وقالوا لولا نزل عليه ملك «س»
395 ولقد استهزىء برسل من قبلك «س»
395 الإسراء والمعراج «س»
401 حديث أم هانئ عن الإسراء «س»
402 الأبتر والكوثر «ر»
409 استشهاد ابن هشام على معنى
الكوثر «ر»
410 ذكر حديث المستهزئين «ر»
412 شَرْحُ مَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ
الْمُشْكِلِ «ر»
415 أكان الإسراء يقظة أم مناما «ر»
417 أكان الإسراء مرتين «ر»
420 حول الإسراء والمعراج «ش»
422 رأى الشوكانى «ش»
423 رأى ابن القيم «ش»
425 موازنات بين الروايات «ش»
430 شماس البراق «ر»
422 قول الملائكة: من معك؟
433 باب الحفظة «ر»
434 آدَم فِي سَمَاءِ الدّنْيَا وَالْأَسْوِدَةُ
الّتِي رَآهَا «ر»
436 من حكم الماء (ر)(3/475)
الرقم الموضوع
436 عن دخول بيت المقدس وصفة
الأنبياء «ر»
438 صفة النبى صلى الله عليه وسلم
440 قصة المعراج «س»
445 رؤية النبى ربه «ر»
450 لقاؤه للنبيين «ر»
453 البيت المعمور «ر»
454 فرض الصلاة «ر»
456 فرض الصلوات الخمس «ر»
الرقم الموضوع
459 أوصاف من الملائكة «ر»
460 أكلة الربا فى رؤيا المعراج «ر»
463 الولد لغير رشدة «ر»
463 حكم الحاكم لا يحل الحرام «ر»
465 مكان إدريس «ر»
466 قول الأنبياء فى كل سماء «ر»
466 خَرَافَةُ طَلَبِ مُوسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ
أُمّةِ أحمد «ر»
467 بعض ما رأى(3/476)
بعون الله وجميل توفيقه قد تم طبع الجزء الثالث من
كتاب الروض الأنف(3/477)
الجزء الرابع
مقدّمة
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأئمة المهتدين.
«وبعد» فهذا هو الجزء الرابع من السيرة وشرحها «الروض الأنف» للامام السهيلى والله وحده أسأل أن يعين على تمامه.
عبد الرحمن الوكيل(4/5)
[كِفَايَةُ اللهِ أَمْرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عَلَى أَمْرِ اللهِ تَعَالَى صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُؤَدّيًا إلَى قَوْمِهِ النّصِيحَةَ عَلَى مَا يَلْقَى مِنْهُمْ مِنْ التّكْذِيبِ وَالْأَذَى وَالِاسْتِهْزَاءِ. وَكَانَ عُظَمَاءُ الْمُسْتَهْزِئِينَ- كَمَا حَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ خَمْسَةَ نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَكَانُوا ذوى أسنان وشرف فى قومهم.
مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ: الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدِ أَبُو زَمَعَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- قَدْ دَعَا عَلَيْهِ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُ مِنْ أَذَاهُ وَاسْتِهْزَائِهِ بِهِ، فَقَالَ: اللهُمّ أَعْمِ بَصَرَهُ وَأَثْكِلْهُ وَلَدَهُ.
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ: الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ ابن زُهْرَةَ.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ: الْوَلِيدُ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ابن مخزوم.
ومن بني سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ: الْعَاصُ بْنُ وَائِلِ بْنِ هِشَامٍ.
قال ابن هشام: الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سُعَيْد بن سهم.
وَمِنْ بَنِي خُزَاعَةَ: الْحَارِثُ بْنُ الطّلَاطِلَةِ بْنِ عمرو بن الحارث بن عبد عمرو ابن لُؤَيّ بْنِ مَلَكَانَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/7)
فَلَمّا تَمَادَوْا فِي الشّرّ، وَأَكْثَرُوا بِرَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- الِاسْتِهْزَاءَ، أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ الحجر: 93- 95.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فحدَّثنى يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، فَقَامَ، وَقَامَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلَى جَنْبِهِ فَمَرّ بَهْ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ، فَرَمَى فِي وَجْهِهِ بِوَرَقَةِ خَضْرَاءَ، فَعَمِيَ، وَمَرّ بَهْ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، فَأَشَارَ إلَى بطنه، فاستسقى فَمَاتَ مِنْهُ حَبَنًا. وَمَرّ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَأَشَارَ إلَى أَثَرِ جُرْحٍ بِأَسْفَلِ كَعْبِ رِجْلِهِ، كَانَ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِك بِسِنِينَ، وَهُوَ يَجُرّ سَبَلَهُ، وَذَلِكَ أَنّهُ مَرّ بِرَجُلِ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُوَ يَرِيشُ نَبْلًا لَهُ، فَتَعَلّقَ سَهْمٌ مِنْ نَبْلِهِ بِإِزَارِهِ، فَخَدَشَ فِي رِجْلِهِ ذَلِك الْخَدْشَ، وَلَيْسَ بِشَيْءِ، فَانْتَقَضَ بِهِ، فَقَتَلَهُ. وَمَرّ بَهْ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، فَأَشَارَ إلَى أَخْمَصِ رِجْلِهِ، وَخَرَجَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ يُرِيدُ الطّائِفَ، فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شُبَارِقَةٍ، فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ رجله شوكة، فقتلته ومرّ به الحارث ابن الطّلَاطِلَةِ، فَأَشَارَ إلَى رَأْسِهِ، فَامْتَخَضَ قَيْحًا فَقَتَلَهُ.
[الوليد وأبو أزيهر]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا حَضَرَتْ الْوَلِيدَ الْوَفَاةُ دَعَا بَنِيهِ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً:
هِشَامَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَيْ بَنِيّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/8)
أُوصِيكُمْ بِثَلَاثِ، فَلَا تُضَيّعُوا فِيهِنّ: دَمِي فِي خُزَاعَةَ، فَلَا تَطُلّنّهُ، وَاَللهِ إنّي لَأَعْلَمُ أَنّهُمْ منه برآء، ولكنى أَخْشَى أَنْ تُسَبّوا بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَرِبَايَ فِي ثَقِيفٍ، فَلَا تَدَعُوهُ حَتّى تَأْخُذُوهُ، وَعُقْرِي عِنْدَ أَبِي أُزَيْهِرٍ، فَلَا يَفُوتَنّكُمْ بِهِ. وَكَانَ أَبُو أُزَيْهِرٍ قَدْ زَوّجَهُ بِنْتًا، ثُمّ أَمْسَكَهَا عنه فلم يدخلها عليه حتى مات.
فَلَمّا هَلَكَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَثَبَتْ بَنُو مَخْزُومٍ عَلَى خُزَاعَةَ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ عَقْلَ الْوَلِيدِ، وَقَالُوا: إنّمَا قَتَلَهُ سَهْمُ صَاحِبِكُمْ- وَكَانَ لِبَنِي كَعْبٍ حِلْفٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ- فَأَبَتْ عَلَيْهِمْ خُزَاعَةُ ذَلِكَ، حَتّى تَقَاوَلُوا أَشْعَارًا، وَغَلُظَ بَيْنَهُمْ الْأَمْرُ- وَكَانَ الّذِي أَصَابَ الْوَلِيدَ سَهْمُهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ خُزَاعَةَ- فَقَالَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بن عمر ابن مَخْزُومٍ:
إنّي زَعِيمٌ أَنْ تَسِيرُوا، فَتَهْرُبُوا ... وَأَنْ تَتْرُكُوا الظَّهران تَعْوِي ثَعَالِبُهُ
وَأَنْ تَتْرُكُوا مَاءً بِجِزْعَةِ أَطْرِقَا ... وَأَنْ تَسْأَلُوا: أَيّ الْأَرَاكِ أَطَايِبُهُ؟
فَإِنّا أَنَاسٌ لَا تُطَلّ دِمَاؤُنَا ... وَلَا يَتَعَالَى صَاعِدًا مَنْ نُحَارِبُهُ
وَكَانَتْ الظّهْرَانُ وَالْأَرَاكُ مَنَازِلَ بنى كعب، من خزاعة. فأجابه الجون ابن أَبِي الْجَوْنِ، أَخُو بَنِي كَعْبِ بْنِ عَمْرِو الخزاعىّ، فقال:
والله لا نؤتى الوليد ظلامة ... ولمّا قروا يَوْمًا تَزُولُ كَواكِبُهْ
وَيُصْرَعُ مِنْكُمْ مُسْمِنٌ بَعْدَ مُسْمِنٍ ... وَتُفْتَحُ بَعْدَ الْمَوْتِ قَسْرًا مَشَارِبُهْ
إذَا مَا أَكَلْتُمْ خُبْزَكُمْ وَخَزِيرَكُمْ ... فَكُلّكُمْ بَاكِي الْوَلِيدِ ونادبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/9)
ثُمّ إنّ النّاسَ تَرَادّوا وَعَرَفُوا أَنّمَا يَخْشَى الْقَوْمُ السّبّةَ، فَأَعْطَتْهُمْ خُزَاعَةُ بَعْضَ الْعَقْلِ، وَانْصَرَفُوا عَنْ بَعْضٍ. فَلَمّا اصْطَلَحَ الْقَوْمُ قَالَ الْجَوْنُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ:
وَقَائِلَةٍ لَمّا اصْطَلَحْنَا تَعَجّبًا ... لِمَا قَدْ حَمَلْنَا لِلْوَلِيدِ وَقَائِلِ
أَلَمْ تُقْسِمُوا تُؤْتُوا الْوَلِيدَ ظُلَامَةً ... وَلَمّا تَرَوْا يَوْمًا كَثِيرَ الْبَلَابِلِ
فَنَحْنُ خَلَطْنَا الْحَرْبَ بِالسّلْمِ فَاسْتَوَتْ ... فَأَمّ هَوَاهُ آمِنًا كُلّ رَاحِلِ
ثُمّ لَمْ يَنْتَهِ الْجَوْنُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ حَتّى افْتَخَرَ بِقَتْلِ الْوَلِيدِ، وَذَكَرَ أَنّهُمْ أَصَابُوهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا. فلحق بالوليد وبولده وَقَوْمِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا حَذّرَهُ، فَقَالَ الْجَوْنُ بن أبى الجون:
أَلَا زَعَمَ الْمُغِيرَةُ أَنّ كَعْبًا ... بِمَكّةَ مِنْهُمْ قَدْرٌ كَثِيرُ
فَلَا تَفْخَرْ مُغِيرَةُ أَنْ تَرَاهَا ... بِهَا يَمْشِي الْمُعَلْهَجُ وَالْمَهِيرُ
بِهَا آبَاؤُنَا، وَبِهَا وُلِدْنَا ... كَمَا أَرْسَى بِمَثْبَتِهِ ثَبِيرُ
وَمَا قَالَ المغيرة ذلك إلّا ... لِيَعْلَمَ شَأْنَنَا أَوْ يَسْتَثِيرُ
فَإِنّ دَمَ الْوَلِيدِ يُطَلّ إنّا ... نَطُلّ دِمَاءً أَنْتَ بِهَا خبير
كساه الفاتك المميمون سمهما ... زعافا وهو ممتلىء بَهِيرُ
فَخَرّ بِبَطْنِ مَكّةَ مُسْلَحِبّا ... كَأَنّهُ عِنْدَ وَجْبَتِهِ بَعِيرُ
سَيَكْفِينِي مِطَالَ أَبِي هِشَامٍ ... صِغَارٌ جَعْدَةُ الْأَوْبَارِ خُورُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا منها بيتا واحدا أقذع فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/10)
[ثورة لمقتل أبى أزيهر]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ عَدَا هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى أَبِي أُزَيْهِرٍ، وَهُوَ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ بنت أُزَيْهِرٍ، وَكَانَ أَبُو أُزَيْهِرٍ رَجُلًا شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ- فَقَتَلَهُ بِعُقْرِ الْوَلِيدِ الّذِي كَانَ عِنْدَهُ، لِوَصِيّةِ أَبِيهِ إيّاهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- إلى الْمَدِينَةِ وَمَضَى بَدْرٌ، وَأُصِيبَ بَهْ مَنْ أُصِيبَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ فَخَرَجَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَمَعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وأبو سفيان بذى المجاز، فقال الناس:
أخفر أَبُو سُفْيَانَ فِي صِهْرِهِ، فَهُوَ ثَائِرٌ بِهِ، فَلَمّا سَمِعَ أَبُو سُفْيَانَ بِاَلّذِي صَنَعَ ابْنُهُ يَزِيدُ- وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ رَجُلًا حَلِيمًا مُنْكَرًا، يُحِبّ قَوْمَهُ حُبّا شَدِيدًا- انْحَطّ سَرِيعًا إلَى مَكّةَ، وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ قُرَيْشٍ حَدَثٌ فِي أَبِي أُزَيْهِرٍ، فَأَتَى ابْنَهُ وَهُوَ فِي الْحَدِيدِ، فِي قَوْمِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَالْمُطَيّبِينَ، فَأَخَذَ الرّمْحَ مِنْ يَدِهِ، ثُمّ ضَرَبَ بِهِ عَلَى رَأْسِهِ ضَرْبَةً هَدّهُ مِنْهَا، ثُمّ قَالَ لَهُ؛ قَبّحَك اللهُ! أَتُرِيدُ أَنْ تَضْرِبَ قُرَيْشًا بَعْضَهُمْ بِبَعْضِ فِي رَجُلٍ مِنْ دَوْسٍ. سَنُؤْتِيهِمْ الْعَقْلَ إنْ قَبِلُوهُ، وَأَطْفَأَ ذَلِك الْأَمْرَ.
فَانْبَعَثَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُحَرّضُ فِي دَمِ أَبِي أُزَيْهِرٍ، وَيُعَيّرُ أَبَا سُفْيَانَ خُفْرَتَهُ وَيُجْبِنُهُ، فقال:
غَدَا أَهْلُ ضَوْجَيْ ذِي الْمَجَازِ كِلَيْهِمَا ... وَجَارَ ابن حرب بالغمّس مَا يَغْدُو
وَلَمْ يَمْنَعْ الْعَيْرُ الضّرُوطُ ذِمَارَهُ ... وَمَا مَنَعَتْ مَخْزَاةَ وَالِدِهَا هِنْدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/11)
كَسَاكَ هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ ثِيَابَهُ ... فَأَبْلِ وَأَخْلِفْ مِثْلَهَا جُدُدًا بَعْدُ
قَضَى وَطَرًا مِنْهُ فَأَصْبَحَ مَاجِدًا ... وَأَصْبَحْتَ رَخْوًا مَا تُخِبّ وَمَا تَعْدُو
فَلَوْ أَنّ أَشْيَاخًا بِبَدْرٍ تَشَاهَدُوا ... لَبَلّ نِعَالَ الْقَوْمِ مُعْتَبِطٌ وَرْدُ
فَلَمّا بَلَغَ أَبَا سُفْيَانَ قَوْلُ حَسّانَ قَالَ: يُرِيدُ حَسّانُ أَنْ يَضْرِبَ بَعْضَنَا بِبَعْضِ فِي رَجُلٍ مِنْ دَوْسٍ! بِئْسَ والله ما ظنّ!
[آية الربا من البقرة]
وَلَمّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطّائِفِ كَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بن الوليد فِي رِبَا الْوَلِيدِ، الّذِي كَانَ فِي ثَقِيفٍ، لِمَا كَانَ أَبُوهُ أَوْصَاهُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا بَقِيَ مِنْ الرّبَا بِأَيْدِي النّاسِ نَزَلْنَ فِي ذَلِكَ مِنْ طلب خالد الرّبا: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) البقرة: 278 إلى آخر القصة فيها.
[الهمّ بأخذ ثأر أبى أزيهر]
وَلَمْ يَكُنْ فِي أَبِي أُزَيْهِرٍ ثَأْرٌ نَعْلَمُهُ، حَتّى حَجَزَ الْإِسْلَامُ بَيْنَ النّاسِ، إلّا أَنّ ضِرَارَ بْنَ الْخَطّابِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْفِهْرِيّ خَرَجَ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى أَرْضِ دَوْسٍ، فَنَزَلُوا عَلَى امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمّ غَيْلَانَ، مَوْلَاةٌ لِدَوْسٍ، وَكَانَتْ تَمْشُطُ النّسَاءَ، وَتُجَهّزُ الْعَرَائِسَ، فَأَرَادَتْ دَوْسٌ قَتْلَهُمْ بِأَبِي أُزَيْهِرٍ، فَقَامَتْ دُونَهُمْ أُمّ غَيْلَانَ وَنِسْوَةٌ مَعَهَا، حَتّى مَنَعَتْهُمْ، فَقَالَ ضرار بن الخطاب فى ذلك:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/12)
جَزَى اللهُ عَنّا أُمّ غَيْلَانَ صَالِحًا ... وَنِسْوَتَهَا إذْ هُنّ شُعْثٌ عَوَاطِلُ
فَهُنّ دَفَعْنَ الْمَوْتَ بَعْدَ اقْتِرَابِهِ ... وَقَدْ بَرَزَتْ لِلثّائِرِينَ الْمَقَاتِلُ
دَعَتْ دَعْوَةً دَوْسًا فَسَالَتْ شِعَابُهَا ... بعزّ وأدّتها الشّرَاج الْقَوَابِل
وَعَمْرًا جًزًاهُ اللهُ خَيْرًا فَمَا وَنَى ... وَمَا بَردَتْ مِنْهُ لَدَيّ الْمَفَاصِل
فَجَرّدْتُ سَيْفِي ثُمّ قُمْتُ بِنَصْلِهِ ... وَعَنْ أَيّ نَفْس بَعْدَ نفسى أقاتل
[عمل أم غيلان]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنّ الّتِي قَامَتْ دُونَ ضِرَارٍ أُمّ جَمِيلٍ، وَيُقَال: أُمّ غَيْلَانَ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أُمّ غيلان قامت مع أمّ حميل فيمن قام دونه.
فَلَمّا قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ أَتَتْهُ أُمّ جَمِيلٍ، وَهِيَ تُرَى أَنّهُ أَخُوهُ: فَلَمّا انْتَسَبَتْ لَهُ عَرَفَ الْقِصّةَ، فَقَالَ: إنّي لَسْتُ بِأَخِيهِ إلّا فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ غَازٍ، وَقَدْ عَرَفْتُ مِنّتَك عَلَيْه، فَأَعْطَاهَا عَلَى أَنّهَا ابْنَةُ سَبِيلٍ.
قَالَ الرّاوِي: قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ ضِرَارٌ لَحِقَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ يضر به بعرض الرمح، ويقول: انج يابن الْخَطّابِ لَا أَقْتُلُك، فَكَانَ عُمَرُ يَعْرِفُهَا لَهُ بعد إسلامه.
[من المؤذين لرسول الله]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ النّفَرُ الّذِينَ يُؤْذُونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أَبَا لَهَبٍ، وَالْحَكَمَ بْنَ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ، وعقبة بن أبى معيط، وعدىّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/13)
ابن حَمْرَاءَ الثّقَفِيّ، وَابْنَ الْأَصْدَاءِ الْهُذَلِيّ، وَكَانُوا جِيرَانَهُ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- يَطْرَحُ عَلَيْهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَحِمَ الشّاةِ وَهُوَ يُصَلّي، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَطْرَحُهَا فِي بُرْمَتِهِ إذَا نُصِبَتْ لَهُ. حَتّى اتّخَذَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حِجْرًا يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْهُمْ إذَا صَلّى، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا طَرَحُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَذَى، كَمَا حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الله بن عروة ابن الزّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، يَخْرُجُ بِهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْعُودِ، فَيَقِفُ بِهِ عَلَى بَابِهِ، ثُمّ يَقُولُ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَيّ جِوَارٍ هَذَا! ثم يلقيه فى الطريق.
[ما عاناه الرسول صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ وَأَبَا طَالِبٍ هَلَكَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ، فَتَتَابَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَصَائِبُ بِهُلْكِ خَدِيجَةَ، وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ عَلَى الْإِسْلَامِ، يَشْكُو إلَيْهَا، وَبِهُلْكِ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ لَهُ عَضُدًا وَحِرْزًا فِي أَمْرِهِ، وَمَنَعَةً وَنَاصِرًا عَلَى قَوْمِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ مُهَاجَرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ. فَلَمّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ، نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَطْمَعُ بِهِ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ، حَتّى اعْتَرَضَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، فَنَثَرَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، قَالَ:
لَمّا نَثَرَ ذَلِك السّفِيهُ عَلَى رَأْسَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك التراب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/14)
دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ وَالتّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَامَتْ إلَيْهِ إحْدَى بَنَاتِهِ، فَجَعَلَتْ تَغْسِلُ عَنْهُ التّرَابَ وَهِيَ تَبْكِي، ورسول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَهَا: لَا تَبْكِي يَا بُنَيّةِ، فَإِنّ اللهَ مَانِعٌ أَبَاك. قَالَ: وَيَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ:
مَا نَالَتْ مِنّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أكرهه، حتى مات أبو طالب.
[ما حدث بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أبى طالب والمشركين]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا اشْتَكَى أَبُو طَالِبٍ، وَبَلَغَ قُرَيْشًا ثِقَلُهُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضِ: إنّ حَمْزَةَ وَعُمَرَ، قَدْ أَسْلَمَا وَقَدْ فَشَا أَمْرُ مُحَمّدٍ فِي قَبَائِلِ قُرَيْشٍ كُلّهَا، فَانْطَلِقُوا بِنَا إلَى أَبِي طَالِبٍ، فَلْيَأْخُذْ لَنَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، وَلْيُعْطِهِ مِنّا، وَاَللهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَبْتَزّونَا أَمْرَنَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ فَكَلّمُوهُ، وَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ: عتبة ابن رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فِي رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، وَقَدْ حَضَرَك مَا تَرَى، وَتَخَوّفْنَا عَلَيْك، وَقَدْ عَلِمْتَ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيك، فادعُه، فَخُذْ لَهُ مِنّا، وَخُذْ لَنَا مِنْهُ، لِيَكُفّ عَنّا، وَنَكُفّ عَنْهُ، وَلِيَدَعَنَا وَدِينَنَا، وَنَدَعَهُ وَدِينَهُ، فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال: يابن أَخِي: هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ قَوْمِك، قَدْ اجْتَمَعُوا لَك، ليعطوك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/15)
وَلِيَأْخُذُوا مِنْك. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُعْطُونِيهَا تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ، وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: نَعَمْ وَأَبِيك، وَعَشْرَ كَلِمَاتٍ، قَالَ: تَقُولُونَ: لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ. قَالَ: فَصَفّقُوا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمّ قَالُوا: أَتُرِيدُ يَا مُحَمّدُ أَنْ تَجْعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا، إنّ أَمْرَك لَعَجَبٌ: ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ:
إنّهُ وَاَللهِ مَا هَذَا الرّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئًا مِمّا تُرِيدُونَ فَانْطَلِقُوا، وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بينكم وبينه. قال: ثم تفرّقوا.
[الرسول يرجو أن يسلم أبو طالب]
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: وَاَللهِ يَا ابْنَ أَخِي، مَا رأيتك سألتهم شططا؛ فَلَمّا قَالَهَا أَبُو طَالِبٍ طَمِعَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِي إسْلَامِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ: أَيْ عَمّ، فَأَنْتَ فَقُلْهَا، أَسْتَحِلّ لَك بِهَا الشّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَلَمّا رَأَى حِرْصَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، قال:
يابن أَخِي، وَاَللهِ لَوْلَا مَخَافَةُ السّبّةِ عَلَيْك، وَعَلَى بَنِي أَبِيك مِنْ بَعْدِي، وَأَنْ تَظُنّ قُرَيْشٌ إنى قلتها جزعا من الموت لقتلها، لَا أَقُولُهَا إلّا لِأَسُرّك بِهَا. قَالَ:
فَلَمّا تَقَارَبَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ الْمَوْتُ، قَالَ: نَظَرَ الْعَبّاسُ إلَيْهِ يُحَرّكُ شَفَتَيْهِ، قَالَ:
فَأَصْغَى إلَيْهِ بأذنه، قال: فقال يابن أَخِي، وَاَللهِ لَقَدْ قَالَ أَخِي الْكَلِمَةَ الّتِي أَمَرْته أَنْ يَقُولَهَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ أَسْمَع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/16)
[مَا نَزَلَ فِيمَنْ طَلَبُوا الْعَهْدَ عَلَى الرّسُولِ عند أبى طالب]
قَالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الرّهْطِ الّذِينَ كَانُوا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ، وَقَالَ لهم ما قال، وردّوا عليه ما وردّوا: «ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ. إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ. مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) يَعْنُونَ النّصَارَى، لِقَوْلِهِمْ: (إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) - (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ) ثُمّ هَلَكَ أَبُو طالب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَمِلْكَانَ فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الّذِينَ أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الحجر: 95 وذكر فيهم الحارث بن الطّلاطلة «1» ، والطّلاطلة: أمّه، قاله أَبُو الْوَلِيدِ الْوَقَشِيّ، وَالطّلَاطِلَةُ فِي اللّغَةِ: الدّاهِيَةُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كُلّ دَاءٍ عُضَالٍ فَهُوَ: طُلَاطِلَةٌ، وَذُكِرَ فِي نَسَبِهِ عَبْدُ عَمْرٍو بْنُ مِلْكَانَ بِالضّبْطَيْنِ جَمِيعًا، وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ الْحَافِظِ أَبِي بَحْرٍ، قَالَ: قَدْ تَقَدّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ النّحْوِيّ أَنّ النّاسَ لَيْسَ فيهم ملكان بفتح الميم واللام إلّا مَلَكَانُ بْنُ جَرْمِ بْنِ زَبّانَ بْنِ حُلْوَانِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ، وَمَلَكَانُ بن عباد بن عياض ابن عُقْبَةَ بْنِ السّكُونِ بْنِ أَشْرَسَ، وَإِخْوَةُ عَدِيّ هم: تجيب عرفوا بأمهم
__________
(1) هو فى تفسير ابن كثير: ابن غيطلة، وغيطلة أمه(4/17)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تُجِيبَ بِنْتِ دُهْمِ بْنِ ثَوْبَانَ، وَهُمْ مِنْ كِنْدَةَ، وَكُلّ مَنْ فِي النّاسِ وَغَيْرِهِمَا مِلْكَانُ مَكْسُورُ الْمِيمِ سَاكِنُ اللّامِ، وَقَالَ مَشَايِخُ خُزَاعَةَ: فِي خُزَاعَةَ مَلَكَانُ «1» بِفَتْحِ الْمِيمِ، قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي ابْنَ حَبِيبٍ: مَلَكَانُ بْنُ أَفْصَى بْنِ حارثة بن ثعلبة ابن عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ حَبِيبٍ كَاَلّذِي يَخْرُجُ مِنْ عِبَارَتِهِ: أَنّ الّذِي فِي خُزَاعَةَ إنّمَا هُوَ مِلْكَانُ بْنُ أَفْصَى مِثْلُ مِلْكَانَ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ مِنْ الرّبَابِ الّذِينَ مِنْهُمْ ذُو الرّمّةِ الشّاعِرُ، وَمِثْلُ مِلْكَانَ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ مِنْ الرّبَابِ أَيْضًا رَهْطُ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّورى. وَذَكَرَ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ الزّهْرِيّ رَوَى أَنّهُ لَمّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَحَنَا ظَهْرَ الْأَسْوَدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَالِي خَالِي «2» ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: خَلّ عَنْك، ثم حناه حتى قتله، ذكره الدّارقطنى:
__________
(1) ضبط أبو على القالى نقلا عن ابن الأنبارى ملكان بن حزم بن زبان بفتح الميم وسكون اللام فى ص 190 ح 2 وفى ص 209 ح 3 قال: كل ما فى العرب: ملكان «بكسر الميم مع سكون اللام، إلا ملكان «بفتح الميم وسكون اللام» بن جرم بن ربان بالجيم والراء فى جرم وبالراء فى ربان. وقال البكرى فى التنبيه على أوهام القالى فى أماليه: «الذى فى جرم بن ربان هو: ملكان بفتح اللام والميم، وليس هو بإسكان اللام كما أورده، وكذلك ملكان بن عباد ابن عياض بن عقبة بن السكون، وهذا باب واسع، والذى ذكر منه أبو على برض «قليل» من عد، وغيض من فيض» ص 116 التنبيه ط 2
(2) هو ابن خال النبى صلى الله عليه وسلم لا خاله، وقد اضطربت الروايات فى مصيره، وحداهن ما ذكر ابن إسحاق فى السيرة، والثانية هذه التى نقلها السهيلى عن الدارقطنى، وهى عند ابن أبى حاتم والبلاذرى عن عكرمة، وأنه حنا ظهره حتى احقوقف صدره، أى انحنى، وأخرى أنه خرج من عند أهله حتى فأصابته-(4/18)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَدِيثُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ وَفَاةَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَوْلَهُ لِبَنِيهِ: وَعُقْرِى عِنْدَ أَبِي أُزَيْهِرٍ الدّوْسِيّ لَا تَدَعُوهُ «1» الْعُقْرُ: دِيَةُ الْفَرْجِ الْمَغْصُوبِ، وَأَصْلُهُ فِي الْبِكْرِ مِنْ أَجْلِ التّدْمِيَةِ، وَمِنْهُ عَقَرَ السّرْجُ الْفَرَسَ: إذَا أَدْمَاهُ، وَبَيْضَةُ الْعُقْرِ مِنْهُ؛ لِأَنّهُمْ كَانُوا يَقِيسُونَ الْبِكْرَ بِالْبَيْضَةِ «2» ، لِيَعْرِفُوا بُكُورَتَهَا، وَقِيلَ:
عُقْرٌ بِضَمّ الْعَيْنِ، لِأَنّهُ بِمَعْنَى بُضْعٍ.
عَنْ مَقْتَلِ أَبِي أُزَيْهِرٍ وَمَوْقِفِ دَوْسٍ:
وَذَكَرَ قَتْلَ هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ لِأَبِي أُزَيْهِرٍ وَخَبَرَ أُمّ غَيْلَانَ مَعَ ضِرَارٍ حِينَ أَجَارَتْهُ، وَمِنْ تَمَامِ الْخَبَرِ: أَنّ دَوْسًا لَمّا بَلَغَهَا مَقْتَلُ أَبِي أُزَيْهِرٍ الدّوْسِيّ، وَثَبَتْ عَلَى رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا عِنْدَهُمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ بُجَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ أَخَا الزّبَيْرِ، وَأَرَادُوا قَتْلَ ضِرَارِ بْنِ الْخَطّابِ، فَأَجَارَتْهُ أُمّ غَيْلَانَ وَابْنُهَا عَوْفٌ، قَالَ ضِرَارٌ:
لَقَدْ أَدْخَلَتْنِي بَيْنَ دِرْعِهَا وَبَدَنِهَا، حَتّى إنّي لَأَجِدُ تَسْبِيدَ رُكَبِهَا، وَالتّسْبِيدُ:
مَوْضِعُ الحلْق مِنْ الشّعْرِ، وَكَانَ الّذِي قَتَلَ بُجَيْرًا صَبِيحُ بْنُ سَعْدٍ أَوْ مَلِيحُ ابن سَعْدٍ جَدّ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأُمّهِ؛ لِأَنّ أُمّهُ أميمة بنت مليح أو صبيح.
__________
- السموم، حتى صار حبشيا، فلم يعرفه أهله، فصار يطوف بشعاب مكة، حتى مات عطشا، وأخرى أنه عطش، فشرب حتى انشق بطنه، وأخرى. وأخرى. فهل يسكن قلب إلى مثل هذه المضطربات؟
(1) الذى فى السيرة: فلا يفوتنكم.
(2) فى القاموس عن العقر أنه استبراء المرأة، لينظر أبكر هى أم غير بكر.(4/19)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن أطرقا ومن أحكامه أن:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ شِعْرَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَفِيهِ:
وَأَنْ تَتْرُكُوا مَاءً بِجِزْعَةِ أَطْرِقَا
وَالْجِزْعَةُ وَالْجَزْعُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَهُوَ مُعْظَمُ الْوَادِي، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ:
هُوَ مَا انْثَنَى؟؟؟ مِنْهُ، وَأَطْرِقَا اسْمُ عَلَمٍ لِمَوْضِعِ سُمّيَ بِفِعْلِ الْأَمْرِ لِلِاثْنَيْنِ، فَهُوَ مَحْكِيّ لَا يُعْرَبُ، وَقِيلَ: إنّ أَصْلَ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ أَنّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مَرّوا بِهَا خَائِفِينَ، فَسَمِعَ أَحَدُهُمْ صَوْتًا، فَقَالَ لِصَاحِبَيْهِ: أَطْرِقَا، أَيْ: أَنْصِتَا، حَتّى نَرَى مَا هَذَا الصّوْتُ، فَسُمّيَ الْمَكَانُ بِأَطْرِقَا «1» ، وَاَللهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ شِعْرَ الْجَوْنِ بْنِ أَبِي الْجَوْنِ، وَفِيهِ:
أَلَمْ تُقْسِمُوا تُؤْتُوا الْوَلِيدَ ظُلَامَةً
أَرَادَ: أن تؤتوا، ومعناه: أن لا توتوا كَمَا جَاءَ فِي التّنْزِيلِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) النّسَاءَ: 176 فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ، وَمَعْنَاهُ عِنْدِي: كَرِهَ لَكُمْ أَنْ تَضِلّوا «2» ، وَقَدْ قَدّمْنَا فى الجزء قبل هذا كلام على أن، ومقتضاها وشيئا من
__________
(1) هو كما ذكر فى مراصد الاطلاع، وفيه أن أطرقا موضع بنواحى مكة من منازل خزاعة وهذيل.
(2) يقول البيضاوى فى تفسير الآية: «أى يبين الله لكم ضلالكم الذى من شأنكم إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه، وتتحروا خلافه، أو يبين لكم الحق والصواب كراهة أن تضلوا، وقيل: لئلا تضلوا، فحذف لا، وهو قول الكوفيين»(4/20)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَسْرَارِهَا فِيهِ غُنْيَةٌ، وَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ مَحْمُولًا على معناها فَالنّصْبُ جَائِزٌ، وَالرّفْعُ جَائِزٌ أَيْضًا، كَمَا أَنْشَدُوا:
أَلَا أَيّهَذَا الزّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى «1»
بِنَصْبِ: أحضُرَ وَرَفْعِهِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوْيه:
وَنَهْنَهَتْ نَفْسِي بَعْدَمَا كِدْت أَفْعَلَهُ «2»
يُرِيدُ: أَنْ أفعلَه، وَإِذَا رَفَعْت فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يُذْهِبْ الرّفْعُ مَعْنَى أَنْ فقد
__________
(1) البيت من معلقة طرفة بن العبد البكرى، وبقيته:
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى
وبعده:
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتى ... فذرنى أبادرها بما ملكت يدى
والبيت من شواهد سيبويه فى الكتاب ص 452 ج 1، ويستدل به الكوفيون على أن أن الناصبة تعمل فى غير المواضع المعدودة، ودليلهم: أن الشاعر عطف عليه قوله: وأن أشهد. ومنع البصريون ذلك بأن عوامل الأفعال ضعيفة لا تعمل مع الحذف، وإذا حذفت ارتفع الفعل. وقالوا: إن رواية البيت عندهم إنما هى بالرفع. انظر ص 83 ج 1 خزانة الأدب ص 338 شرح شواهد ابن عقيل للشيخ عبد المنعم الجرجاوى ط 1914، ص 452 ج 1 الكتاب لسيبويه
(2) هو من شواهد سيبويه. وقد نسبه إلى عامر بن جوين الطائى، وأوله: فلم ار مثلها خباسة واحد وقد عقب عليه سيبويه بقوله: «حمله على أن؛ لأن الشعر قد يستعملون أن ههنا مضطرين كثيرا» ص 155 ج 1 الكتاب لسيبويه، وقال عنه اللسان: هو لعمرو بن جوين، أو امرىء القيس، وفيه: واجد بدلا من: واحد ونقل عن سيبويه ما قاله. والخباسة: المغنم.(4/21)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَكَى سِيبَوَيْهِ: مُرْهُ يَحْفِرُهَا «1» ، وَقَدّرَهُ تَقْدِيرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ الْحَالَ أَيْ:
مُرْهُ حَافِرًا لَهَا، وَالثّانِي: أَنْ يُرِيدَ: مُرْهُ أَنْ يَحْفِرَهَا، وَارْتَفَعَ الْفِعْلُ لَمّا ذَهَبَتْ أَنْ مِنْ اللّفْظِ، وَبَيّنَ اين جِنّيّ الْفَرْقَ بَيْنَ التّقْدِيرَيْنِ، وَقَالَ: إذَا نَوَيْت أَنْ فَالْفِعْلُ مُسْتَقْبَلٌ، وَإِذَا لَمْ تَنْوِهَا فَالْفِعْلُ حاضر، وههنا مَسْأَلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ ذَكَرَهَا الطّبَرِيّ، قَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ تَوَجّهَ فِي أَمْرٍ: تَصْنَعُ مَاذَا وَتَفْعَلُ؟ مَاذَا عَلَى تَقْدِيرِ: تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ مَاذَا، فَإِذَا قَالُوا: تُرِيدُ مَاذَا لَمْ يَكُنْ إلّا رَفْعًا، لِأَنّ الْمَعْنَى الّذِي يَجْلِبُ مَعْنَى أَنْ النّاصِبَةِ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: تُرِيدُ؛ إذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ تَقُولَ: تُرِيدُ أَنْ تُرِيدَ مَاذَا، يَعْنِي: أَنّ الْإِرَادَةَ لَا تُرَادُ.
شِعْرُ الْجَوْنِ:
وَذَكَرَ شِعْرَ الْجَوْنِ أَيْضًا، وَفِيهِ:
بِهَا يمشى المعلهج والمهير
المهير: ابن للهورة الْحُرّةِ وَالْمُعَلْهَجُ: الْمُتَرَدّدُ فِي الْإِمَاءِ «2» كَأَنّهُ مَنْحُوتٌ من
__________
(1) ورد قوله هذا فى ص 451 وما بعدها ج 1 الكتاب لسيبويه، وهو من شواهده المذكورة تحت باب: «هذا باب من الجزاء ينجزم فيه الفعل إذا كان جوابا لأمر أو نهى أو استفهام أو تمن أو عرض»
(2) فى شرح السيرة لأبى ذر الخشنى: «المهير: الصحيح النسب، يريد أن أمه حرة بمهر، والمعلهج: المطعون عليه فى فيه، وهو الأحمق أيضا، وفى اللسان: المعلهج أن يؤخذ الجلد فيقدم إلى النار حتى يلين، فيمضغ، ويبلع، وكان ذلك من مأكل القوم فى المجاعات.. والمعلهج: الذى ولدهن جنسين مختلفين، والذى ليس بخالص النسب.(4/22)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَصْلَيْنِ: مِنْ الْعِلْجِ لِأَنّ الْأَمَةَ: عِلْجَةٌ، وَمِنْ اللهج «1» ، كأن واطىء الْأَمَةِ قَدْ لَهِجَ بِهَا، فَنَحَتَ لَفْظَ الْمُعَلْهَجِ مِنْ هَذَيْنِ اللّفْظَيْنِ.
وَفِيهِ:
كَمَا أَرْسَى بِمَثْبَتِهِ ثَبِيرُ
كَذَا صَحّتْ الرّوَايَةُ فِي أَرْسَى بِالتّخْفِيفِ وَهُوَ زِحَافٌ دَاخِلٌ عَلَى زِحَافٍ؛ لِأَنّ تَسْكِينَ اللّامِ مِنْ مُفَاعَلَتَنْ فِي الْوَافِرِ زِحَافٌ، وَلَكِنّهُ حَسَنٌ كَثِيرٌ، فَلَمّا كَثُرَ شَبّهَهُ هَذَا الشّاعِرُ بِمَفَاعِيلَ؛ لِأَنّهُ عَلَى وَزْنِهِ، وَمَفَاعِيلُنْ يَحْسُنُ حَذْفُ الْيَاءِ مِنْهَا فِي الطّوِيلِ، فَيَصِيرُ فَعُولُنْ مَفَاعِلُنْ فَلِذَلِكَ أَدْخَلَ هَذَا الشّاعِرُ الزّحَافَ عَلَى مُفَاعَلْتُنْ لأنه بعد السكون فى وزن مفاعلين الّتِي تُحْذَفُ يَاؤُهَا حَذْفًا مُسْتَحْسَنًا، فَتَدَبّرْهُ، فَإِنّهُ مَلِيحٌ فِي عِلْمِ الْعَرُوضِ «2» .
مِنْ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ:
فصل: وأنشد لحسّان بن ثابت:
__________
(1) من معانى العلج: الرجل من كفار العجم. واللهج: الولوع بالشىء. ولهج به إذا أغرى به، فثابر عليه، ومن معانى القصيدة كما ذكر الخشنى. أرسى: استقر وثبت، والزعاف: الذى فيه السم، والبهير من البهر وهو انقطاع النفس، والمسلحب: الممد؟؟؟ وبالهاء المهملة ذكره صاحب كتاب العين لا غير. وعند وجبه: أى سقطته والخور: العزيزات اللبن
(2) سبق الكلام عن هذه المصطلحات.(4/23)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَدَا أَهْلُ ضَوْجَيْ ذِي الْمَجَازِ بِسُحْرَةِ «1»
ضَوْجُ الْوَادِي: جَانِبُهُ، وَذُو الْمَجَازِ: سُوقٌ عِنْدَ عَرَفَةَ كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا حَجّتْ أَقَامَتْ بِسُوقِ عُكَاظٍ شَهْرَ شَوّالٍ، ثُمّ تَنْتَقِلُ إلَى سُوقِ مِجَنّةَ «2» فَتُقِيمُ فِيهِ عِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمّ تَنْتَقِلُ إلَى سُوقِ ذِي الْمَجَازِ «3» فَتُقِيمُ فِيهِ إلَى أَيّامِ الْحَجّ، وَكَانُوا يَتَفَاخَرُونَ فِي سُوقِ عُكَاظٍ شَهْرَ شَوّالٍ إذَا اجْتَمَعُوا، وَيُقَالُ: عَكَظَ الرّجُلُ صَاحِبَهُ إذَا فَاخَرَهُ وَغَلَبَهُ بِالْمُفَاخَرَةِ، فسميت عكاظ لذلك «4» .
__________
(1) السحرة: السحر الأعلى. والبيت فى النسخ التى بين يدى، وفى شرح السيرة للخشنى: غدا أهل ضوجى ذى المجاز كليهما.
(2) فى المراصد عن مجنة: اسم سوق للعرب كانت فى الجاهلية، قيل: بمر الظهران. قرب جبل يقال له: الأصفر كانت به تقوم العشر الأواخر من ذى القعدة، وقبلها من أوله عكاظ، وقيل مجنة: بلد على أميال من مكة، وقيل: جبيل بجنب طفيل، وهو لبنى الديل. ويقول ياقوت فى معجمه: وإياه أراد بلال حين كان يتمثل:
ألا ليت شعرى هل أبين ليلة ... بواد، وَحَوْلِي إذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مجنة ... وهل يبدون لى شامة وطفيل
(3) ذو المجاز: موضع سوق بعرفه على ناحية كبكب عن يمين الإمام على فرسخ. كانت به تقوم فى الجاهلية ثمانية أيام، وقيل: هو ماء من أصل كبكب لهذيل خلف عرفة. وكبكب جبل خلف عرفات مشرف عليه، قيل هو الجبل الأحمر الذى يجعله الواقف بعرفة فى ظهره.
(4) فى القاموس. عكظه يعكظه: حبسه وعركه، وتهره ورد عليه فخره، وكغراب: سوق بصحراء بين نخلة والطائف، كانت تقوم هلال ذى القعدة، وتستمر عشرين يوما. وتجتمع قبائل العرب، فيتعاكظون، أى يتفاخرون ويتناشدون.(4/24)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ:
لَبَلّ نِعَالَ الْقَوْمِ مُعْتَبِطٌ وَرْدُ
يَعْنِي: الدّمَ الْعَبِيطَ «1» .
مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي الرّبَا فَصْلٌ: وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي الرّبَا الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ قَدّمْنَا فِي حَدِيثِ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَا تُنْفِقُوا فِيهَا رِبَا وَلَا مَهْرَ بَغِيّ، وَأَنّ فِي ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى قِدَمِ تَحْرِيمِهِ عَلَيْهِمْ فِي شرع إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ، أَوْ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ «2» وَذَلِكَ أَنّهُ مِنْ أَقْبَحِ الْأَعْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ هَدْمِ جَانِبِ الْمُرُوءَةِ، وَإِيثَارِ الْحِرْصِ مَعَ بُعْدِ الْأَمَلِ، وَنِسْيَانِ بَغْتَةِ الْأَجَلِ، وَتَرْكِ التّوْسِعَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَمَنْ تَأَمّلَ أَبْوَابَ الرّبَا لَاحَ لَهُ شَرّ التّحْرِيمِ مِنْ جِهَةِ الْجَشَعِ الْمَانِعِ مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَالذّرِيعَةِ إلَى تَرْكِ الْقَرْضِ، وَمَا فِيهِ، وَفِي التّوْسِعَةِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «3» الْبَقَرَةَ: 279. غَضَبًا مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ، ولهذه النّكتة
__________
(1) الخالص الطرى.
(2) ورد فى الإصحاح الثانى والعشرين من سفر الخروج أحد أسفار العهد القديم الذى بيد اليهود والمسيحيين: «إن أقرضت فضة لشعبى الفقير الذى عندك فلا تكون له كالمرابى لا تصنعوا عليه ربا» رقم 26.
(3) يقول الإمام ابن القيم حول هذه الآية: «لم يجىء هذا الوعيد فى كبيرة سوى الربا، وقطع الطريق، والسعى فى الأرض بالفساد، لأن كل واحد منهما مفسد فى الأرض، قاطع الطريق على الناس. هذا بقهره لهم؛ وتسلطه عليهم، -(4/25)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَتْ عَائِشَةُ لِأَمّ مَحَبّةَ مَوْلَاةِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: أَبْلِغِي زَيْدًا تَعْنِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنْ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ ذَكَرَتْ لَهَا عَنْهُ مَسْأَلَةً مِنْ الْبُيُوعِ تُشْبِهُ الرّبَا، فَقَالَتْ: أَبْطَلَ جِهَادَهُ، وَلَمْ تَقُلْ صَلَاتَهُ وَلَا صِيَامَهُ، لِأَنّ السّيّئَاتِ لَا تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ، وَلَكِنْ خَصّتْ الْجِهَادَ بِالْإِبْطَالِ، لِأَنّهُ حَرْبٌ لِأَعْدَاءِ اللهِ، وَآكِلُ الرّبَا قَدْ أُذِنَ بِحَرْبِ مِنْ اللهِ، فَهُوَ ضِدّهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ الضّدّانِ، وَهَذَا مَعْنَى ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ، وَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْمُدَوّنَةِ، لَكِنّ إسْنَادَهَا إلَى عَائِشَةَ ضَعِيفٌ.
وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ وَوَصِيّتُهُ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ، وَفِيهَا قَالَ الْعَبّاسُ:
وَاَللهِ لَقَدْ قَالَ أَخِي الْكَلِمَةَ الّتِي أَمَرْته بِهَا، فَقَالَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم: لم أسمع.
__________
- وهذا بامتناعه من تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها، فأخبر عن قطاع الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله، وآذن هؤلاء إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله» التفسير القيم لا بن القيم ص 172 ط السنة المحمدية 1368، 1949. وقد ورد حديث «لعن رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَكَلَ الربا، وموكله وشاهديه، وكاتبه الخ» وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجة. جنبنا الله لعنته. من معانى قصيدة ضرار بن الخطاب: الشعث: المتغيرات الشعور، العواطل: اللائى لا حلى لهن. الشعاب: جمع شعبة، وهو مسيل الماء فى الحرة، والقوابل: التى تقابل بعضها بعضا، الشراج: جمع شرج وهو مسيل الماء من الحرة إلى السهل. الونى: الضعف والفتور، ونصل السيف: حده. «عن شرح السيرة لأبى ذر والقاموس» .(4/26)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْمُؤَلّفُ: شَهَادَةُ الْعَبّاسِ لِأَبِي طَالِبٍ لَوْ أداها بعد ما أَسْلَمَ، لَكَانَتْ مَقْبُولَةً، وَلَمْ يُرَدّ بِقَوْلِهِ لَمْ أَسْمَعْ، لِأَنّ الشّاهِدَ الْعَدْلَ إذَا قَالَ: سَمِعْت، وَقَالَ مَنْ هُوَ أَعْدَلُ مِنْهُ: لَمْ أَسْمَعْ أُخِذَ بِقَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ السّمَاعَ، لِأَنّ عَدَمَ السّمَاعِ يَحْتَمِلُ أَسْبَابًا مَنَعَتْ الشّاهِدَ مِنْ السّمْعِ، وَلَكِنّ الْعَبّاسَ شَهِدَ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ مَعَ أَنّ الصّحِيحَ مِنْ الْأَثَرِ، قَدْ أَثْبَتَ لِأَبِي طَالِبٍ الْوَفَاةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالشّرْكِ «1» وَأَثْبَتَ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ التّوْبَةَ: 113 وَثَبَتَ فِي الصّحِيحِ أَيْضًا أَنّ الْعَبّاسَ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُك وَيَنْصُرُك، وَيَغْضَبُ لَك، فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَجَدْته فِي غَمَرَاتٍ مِنْ النّارِ، فَأَخْرَجْته إلَى ضَحْضَاحٍ» وَفِي الصّحِيحِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ، أَنّهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- قَالَ: لَعَلّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ بِالْقُمْقُمِ، وَهِيَ مُشْكِلَةٌ «2» ، وَقَالَ بَعْضُ أهل العلم:
__________
(1) أخرج الإمام أحمد بسنده عن ابن المسيب عن أبيه قال: «لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبى- ص- وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أمية. فقال: أى عَمّ، قُلْ: لَا إلَهَ إلّا اللهُ كَلِمَةً أحاج لك بها عند الله عز وجل. فقال أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ: يا أبا طالب أَتَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ؟ فَقَالَ: أَنَا على ملة عبد المطلب، فقال النبى- ص- لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) قال: ونزلت فيه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وقد أخرجه البخارى ومسلم.
(2) لأن المرجل: قدر من نحاس، والقمقم أيضا: ما يسخن فيه الماء من تحاس وغيره. ويكون ضيق الرأس، ويقول ابن الأثير فى النهاية تعليقا على هذه-(4/27)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقُمْقُمُ: هُوَ الْبُسْرُ الْأَخْضَرُ يُطْبَخُ فِي الْمِرْجَلِ اسْتِعْجَالًا لِنُضْجِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ أَهْلُ الْحَاجَةِ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ زِيَادَةٌ، وَهِيَ أَنّهُ قَالَ: يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ حَتّى يَسِيلَ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَمِنْ بَابِ النّظَرِ فِي حِكْمَةِ اللهِ، وَمُشَاكَلَةِ الْجَزَاءِ لِلْعَمَلِ أَنّ أَبَا طَالِبٍ كان مع رسول الله بجملته متحزّبا لَهُ، إلّا أَنّهُ مُثَبّتٌ لِقَدَمَيْهِ عَلَى مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، حَتّى قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ: أَنَا عَلَى مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَسُلّطَ الْعَذَابُ عَلَى قدميه خاصّة لتثبيته إياها عَلَى مِلّةِ آبَائِهِ، ثَبّتَنَا اللهُ عَلَى الصّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَذَكَرَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ التّوْبَةَ: 13 وَقَدْ اسْتَغْفَرَ عَلَيْهِ السّلَامُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: اللهُمّ اغْفِرْ لِقَوْمِي، فَإِنّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَذَلِكَ حِينَ جَرَحَ الْمُشْرِكُونَ وَجْهَهُ وَقَتَلُوا عَمّهُ. وَكَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا يَصِحّ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عَمّهِ نَاسِخَةً لِاسْتِغْفَارِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، لِأَنّ وَفَاةَ عَمّهِ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَكّةَ، وَلَا يَنْسَخُ الْمُتَقَدّمُ الْمُتَأَخّرَ، وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا السّؤَالِ بِأَجْوِبَةِ: أَنْ قِيلَ: اسْتِغْفَارُهُ لِقَوْمِهِ مَشْرُوطٌ بِتَوْبَتِهِمْ مِنْ الشّرْكِ، كَأَنّهُ أَرَادَ الدّعَاءَ لَهُمْ بِالتّوْبَةِ حَتّى يُغْفَرَ لَهُمْ وَيُقَوّي هَذَا الْقَوْلَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى: اللهُمّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَقَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ، رَوَاهَا عَنْهُ بَعْضُ رُوَاةِ الْكِتَابِ بِهَذَا اللّفْظِ، وقيل مغفرة تصرف عنهم عقوبة الدنيا من المسخ والخسف، ونحو ذلك، ووجه
__________
- الرواية: «هكذا روى، ورواه بعضهم: كما يغلى المرجل والقمقم وهو أبين إن ساعدته صحة الرواية» .(4/28)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَأَخّرَ نُزُولُهَا، فَنَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ نَاسِخَةً لِلِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ سَبَبُ نُزُولِهَا مُتَقَدّمًا، وَنُزُولُهَا مُتَأَخّرًا لَا سِيّمَا، وَهِيَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَبَرَاءَةُ، مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا نَاسِخَةً للاستغفارين جَمِيعًا، وَفِي الصّحِيحِ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ، فَقَالَ: يَا عَمّ قُلْ: لَا إلَهَ إلّا اللهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَك بِهَا عِنْدَ اللهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ وَابْنُ أَبِي أُمَيّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَقَالَ: أَنَا عَلَى مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ مَاتَ عَلَى الشّرْكِ، وَوَجَدْت فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَسْعُودِيّ اخْتِلَافًا فِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَأَنّهُ قَدْ قَالَ فِيهِ: مَاتَ مُسْلِمًا لِمَا رَأَى مِنْ الدّلَائِلِ عَلَى نُبُوّةِ مُحَمّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلِمَ أَنّهُ لَا يُبْعَثُ إلّا بِالتّوْحِيدِ «1» ، فَاَللهُ أَعْلَمُ، غَيْرَ أَنّ فِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ، وَفِي كِتَابِ النّسَوِيّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم- قَالَ لِفَاطِمَةَ، وَقَدْ عَزّتْ قَوْمًا مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْ مَيّتِهِمْ: لَعَلّك بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى، وَيُرْوَى الْكُرَى بِالرّاءِ، يَعْنِي:
الْقُبُورَ، فَقَالَتْ: لَا، فَقَالَ: لَوْ كُنْت مَعَهُمْ الْكُدَى «2» أَوْ كَمَا قَالَ، ما رأيت
__________
(1) النبى- صلى الله عليه وسلم- نفسه لم يكن يعلم شيئا عن نبوته قبل المبعث ندبر قول ربنا سبحانه: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) وقوله: (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) .
(2) الرواية لو بلغت معهم الكدى، أو: لو بلغتها معهم. وقد ورد تفسير الكدى بالقبور عن ربيعة بن سيف من تابعى أهل مصر، وفيه مقال لا يقدح فى حسن الإسناد، وفى الرواية أن الرسول «ص» حين سأل فاطمة عن ذلك أنها قالت له: معاذ الله، وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر. رواه أبو داود والنسائى(4/29)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْجَنّةَ، حَتّى يَرَاهَا جَدّ أَبِيك، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ حَتّى يَدْخُلَهَا جَدّ أَبِيك، وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: مَا دَخَلْت الْجَنّةَ، وَفِي قَوْلِهِ: جَدّ أَبِيك، وَلَمْ يَقُلْ: جَدّك يَعْنِي: أَبَاهُ تَوْطِئَةً لِلْحَدِيثِ الضّعِيفِ الّذِي قَدّمْنَا ذِكْرَهُ أَنّ اللهَ أَحْيَا أُمّهُ وَأَبَاهُ، وَآمَنَا بِهِ، فَاَللهُ أَعْلَمُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَخْوِيفَهَا بِقَوْلِهِ، حَتّى يَدْخُلَهَا جَدّ أَبِيك، فَتَتَوَهّمُ أَنّهُ الْجَدّ الْكَافِرُ، وَمِنْ جُدُودِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ:
إسْمَاعِيلُ وَإِبْرَاهِيمُ، لِأَنّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حَقّ، وَبُلُوغُهَا مَعَهُمْ الْكُدَى لَا يُوجِبُ خُلُودًا فِي النّارِ، فَهَذَا مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَةِ فافهمه، وحكى عن هشام ابن السّائِبِ أَوْ ابْنِهِ أَنّهُ قَالَ: لَمّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَمَعَ إلَيْهِ وُجُوهَ قُرَيْشٍ، فَأَوْصَاهُمْ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَنْتُمْ صَفْوَةُ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَقَلْبُ الْعَرَبِ، فِيكُمْ السّيّدُ الْمُطَاعُ، وَفِيكُمْ الْمُقَدّمُ الشّجَاعُ، وَالْوَاسِعُ الْبَاعِ، وَاعْلَمُوا أَنّكُمْ لَمْ تَتْرُكُوا لِلْعَرَبِ فِي الْمَآثِرِ نَصِيبًا إلّا أَحْرَزْتُمُوهُ، وَلَا شَرَفًا إلّا أَدْرَكْتُمُوهُ، فَلَكُمْ بِذَلِكُمْ عَلَى النّاسِ الْفَضِيلَةُ وَلَهُمْ بِهِ إلَيْكُمْ الْوَسِيلَةُ، وَالنّاسُ لَكُمْ حِزْبٌ، وَعَلَى حَرْبِكُمْ أَلْبٌ، وَإِنّي أُوصِيكُمْ بِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبَنِيّةِ «1» ، فَإِنّ فِيهَا مَرْضَاةً لِلرّبّ، وَقِوَامًا لِلْمَعَاشِ، وَثَبَاتًا لِلْوَطْأَةِ، صِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَلَا تَقْطَعُوهَا، فَإِنّ فِي صِلَةِ الرّحِمِ مَنْسَأَةً فِي الْأَجَلِ، وَسَعَةً فِي الْعَدَدِ، وَاتْرُكُوا الْبَغْيَ وَالْعُقُوقَ، فَفِيهِمَا هَلَكَةُ الْقُرُونِ قَبْلَكُمْ، أَجِيبُوا الدّاعِيَ، وَأَعْطُوا السّائِلَ، فَإِنّ فِيهِمَا شَرَفَ الْحَيَاةِ وللمات، عَلَيْكُمْ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فَإِنّ فِيهِمَا مَحَبّةً فِي الْخَاصّ، وَمَكْرُمَةً فِي الْعَامّ، وَإِنّي أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين
__________
(1) البنية: الكعبة.(4/30)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي قُرَيْشٍ، وَالصّدّيقُ فِي الْعَرَبِ، وَهُوَ الْجَامِعُ لِكُلّ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ، وَقَدْ جَاءَ بِأَمْرِ قَبِلَهُ الْجَنَانُ، وَأَنْكَرَهُ اللّسَانُ مَخَافَةَ الشّنَآنِ، وَأَيْمُ اللهِ كَأَنّي أَنْظُرُ إلَى صَعَالِيكِ «1» الْعَرَبِ، وَأَهْلِ الْبِرّ فِي الْأَطْرَافِ والمستضعفين مِنْ النّاسِ، قَدْ أَجَابُوا دَعْوَتَهُ، وَصَدّقُوا كَلِمَتَهُ وَعَظّمُوا أَمْرَهُ، فَخَاضَ بِهِمْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ، فَصَارَتْ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ وَصَنَادِيدُهَا أَذْنَابًا وَدُورُهَا خَرَابًا، وَضُعَفَاؤُهَا أَرْبَابًا، وَإِذَا أَعْظَمُهُمْ عَلَيْهِ، أَحْوَجُهُمْ إلَيْهِ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنْهُ، أَحْظَاهُمْ عِنْدَهُ، قَدْ مَحَضَتْهُ الْعَرَبُ وِدَادَهَا، وَأَصْفَتْ لَهُ فُؤَادَهَا، وَأَعْطَتْهُ قِيَادَهَا، دُونَكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ابْنَ أَبِيكُمْ، كُونُوا لَهُ وُلَاةً وَلِحِزْبِهِ حُمَاةً، وَاَللهِ لَا يَسْلُكُ أَحَدٌ مِنْكُمْ سَبِيلَهُ إلّا رَشَدَ، وَلَا يَأْخُذُ أَحَدٌ بِهَدْيِهِ إلّا سَعِدَ، وَلَوْ كَانَ لِنَفْسِي مُدّةٌ، وَلِأَجَلِي تَأْخِيرٌ، لَكَفَفْت عَنْهُ الهزاهز «2» ، ولدافعت غنه الدّوَاهِيَ، ثُمّ هَلَكَ:
تَفْسِيرُ الْمَشْيِ فِي سُورَةِ ص:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِمْ: أَنِ امْشُوا، وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ أَنّ قَوْلَهُمْ: امْشُوا مِنْ الْمَشَاءِ، لَا مِنْ الْمَشْيِ وَالْمَشَاءُ: نَمَاءُ الْمَالِ وَزِيَادَتُهُ، يُقَالُ مَشَى الرّجُلُ، وَأَمْشَى: إذَا نَمَا مَالُهُ قَالَ الشّاعِرُ:
وَكُلّ فَتَى وَإِنْ أمشى وأثرى ... ستخلجه عن الدّنيا منون «3»
__________
(1) جمع: صعلوك: الفقير.
(2) الهزاهز: الفتن يهتز فيها الناس. وفى الأصل: عند الهزاهز وهو خطأ
(3) البيت للنابغة الذبيانى، وبعده:
وكل فتى بما عملت يداه ... وما أجرت عوامله رهين(4/31)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ الرّاجِزُ:
وَالشّاةُ لَا تَمْشِي عَلَى الْهَمَلّعِ «1»
أَيْ: لَا تَكْثُرُ، وَالْهَمَلّعُ: الذّئْبُ، وَقَالَهُ الْخَطّابِيّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، كَأَنّهُمْ أَرَادُوا أَنّ الْمَشَاءَ وَالْبَرَكَةَ فِي صَبْرِهِمْ عَلَى آلِهَتِهِمْ، وَحَمْلِهَا عَلَى الْمَشْيِ أَظْهَرُ فِي اللّغَةِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ.
تَتَابُعُ المصائب بموت خديجة:
وَذَكَرَ تَتَابُعَ الْمَصَائِبِ عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَوْتِ خَدِيجَةَ ثُمّ بِمَوْتِ عَمّهِ، وَذَكَرَ الزّبَيْرُ فِي حَدِيثٍ أَسْنَدَهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، وَهِيَ فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ: تَكْرَهِينَ ما أرى منك يا خديجة،
__________
(1) الرجز غير منسوب فى اللسان إلى أحد فى مادتى هملع، ومادة مشى، وهو فى هذه هكذا:
مثلى لا تحسن قولا فعفعى ... العير لا يمشى مع الهملع
لا تأمرينى ببنات أسفع
يعنى الغنم، وأسفع: اسم كبش وفى مادة هملع:
لا تأمرينى ببنات أسفع ... فالشاة لا تمشى مع الهملع
والهملع والسملع: الذئب الخفيف، وقوله لا تمشى مع الهملع، أى: لا تكثر مع الذئب.(4/32)
[الرسول يسعى إلى الطائف]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُ مِنْهُ فِي حَيَاةِ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ، يَلْتَمِسُ النّصْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، وَالْمَنَعَةَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَرَجَاءَ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ اللهِ عَزّ وَجَلّ، فخرج إليهم وحده.
[موقف ثقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم]
قال ابن إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، قَالَ:
لَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ، عَمَدَ إلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، هُمْ يَوْمَئِذٍ سَادَةُ ثَقِيفٍ وَأَشْرَافُهُمْ، وَهُمْ إخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ: عَبْدُ يَالَيْل بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَحَبِيبُ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقد يجعل الله فى الكره خيرا أشعرت أَنّ اللهَ قَدْ أَعْلَمَنِي أَنّهُ سَيُزَوّجُنِي مَعَك فِي الْجَنّةِ مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ، وَكُلْثُومَ أُخْتَ مُوسَى، وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، فَقَالَتْ. اللهُ أَعْلَمَك بِهَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: بِالرّفَاءِ وَالْبَنِينَ، وَذُكِرَ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَطْعَمَ خديجة من عنب الجنة «1» ؟.
__________
(1) ليس لهذا سند صحيح(4/33)
عُقْدَةَ بْنِ غِيرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ، وَعِنْدَ أَحَدِهِمْ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ، فَجَلَسَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ، وَكَلّمَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ لَهُ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ؛ فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمْ:
هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَ اللهُ أَرْسَلَك؛ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَا وَجَدَ اللهُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرَك! وَقَالَ الثّالِثُ: وَاَللهِ لَا أُكَلّمُك أَبَدًا. لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنْ اللهِ كَمَا تَقُولُ، لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدّ عَلَيْك الْكَلَامَ، وَلَئِنْ كُنْت تَكْذِبُ عَلَى اللهِ، مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلّمَك. فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِمْ وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ- فِيمَا ذُكِرَ لِي-: إذَا فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنّي، وَكَرِهَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قَوْمَهُ عَنْهُ، فَيُذْئِرَهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ هشام: قال عبيد بن الأبرص:
وَلَقَدْ أَتَانِي عَنْ تَمِيمٍ أَنّهُمْ ... ذَئِرُوا لِقَتْلَى عامر وتعصّبوا
فلم يفعلوا، وأغروا به سفاءهم وَعَبِيدَهُمْ، يَسُبّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ، حَتّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النّاسُ، وَأَلْجَئُوهُ إلَى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُمَا فِيهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ مِنْ سُفَهَاءِ ثَقِيفٍ مَنْ كَانَ يَتْبَعُهُ، فَعَمَدَ إلَى ظِلّ حَبَلَةٍ مِنْ عِنَبٍ، فَجَلَسَ فِيهِ. وَابْنَا رَبِيعَةَ يَنْظُرَانِ إلَيْهِ، وَيَرَيَانِ مَا لَقِيَ مِنْ سُفَهَاءِ أَهْلِ الطّائِفِ، وَقَدْ لَقِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما ذكر لِي- الْمَرْأَةَ الّتِي مِنْ بَنِي جُمَحٍ، فَقَالَ لها: ماذا لقينا من أحمائك؟
فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ: فِيمَا ذُكِرَ لِي: اللهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/34)
أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟
أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ ولا قوّة إلا بك.
قَالَ: فَلَمّا رَآهُ ابْنَا رَبِيعَةَ، عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ، وَمَا لَقِيَ، تَحَرّكَتْ لَهُ رَحِمُهُمَا فَدَعَوْا غُلَامًا لَهُمَا نَصْرَانِيّا، يُقَالُ لَهُ عَدّاسٌ فَقَالَا لَهُ: خذ قطفا من الْعِنَبِ، فَضَعْهُ فِي هَذَا الطّبَقِ، ثُمّ اذْهَبْ بِهِ إلَى ذَلِكَ الرّجُلِ، فَقُلْ لَهُ يَأْكُلُ مِنْهُ. فَفَعَلَ عَدّاسٌ، ثُمّ أَقْبَلَ بِهِ حَتّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ قَالَ لَهُ: كُلْ، فَلَمّا وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِيهِ يَدَهُ، قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، ثُمّ أَكَلَ، فَنَظَرَ عَدّاسٌ فِي وَجْهِهِ، ثُمّ قَالَ: وَاَللهِ إنّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: وَمِنْ أَهْلِ أَيّ الْبِلَادِ أَنْتَ يَا عَدّاسُ، وَمَا دِينُك؟ قَالَ: نَصْرَانِيّ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ قَرْيَةِ الرّجُلِ الصّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتّى؟
فَقَالَ لَهُ عَدّاسٌ: وَمَا يُدْرِيك مَا يُونُسُ بْنُ مَتّى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيّا وَأَنَا نَبِيّ، فَأَكَبّ عَدّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ.
قَالَ: يَقُولُ ابْنَا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَمّا غُلَامُك فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْك.
فَلَمّا جَاءَهُمَا عَدّاسٌ، قَالَا لَهُ: وَيْلَك يا عدّاس! ما لك تُقَبّلُ رَأْسَ هَذَا الرّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ؟ قَالَ: يَا سَيّدِي مَا فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، لَقَدْ أَخْبَرَنِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/35)
بِأَمْرِ مَا يَعْلَمُهُ إلّا نَبِيّ، قَالَا لَهُ: وَيْحَك يَا عَدّاسُ، لَا يَصْرِفَنّك عَنْ دِينِك، فإنّ دينك خير من دينه.
[أمر جن نصيبين]
قَالَ: ثُمّ إنّ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- انْصَرَفَ مِنْ الطّائِفِ رَاجِعًا إلَى مكة، حين يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، حَتّى إذَا كَانَ بِنَخْلَةَ قَامَ مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ يُصَلّي، فَمَرّ بِهِ النّفَرُ مِنْ الْجِنّ الّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُمْ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ جِنّ أَهْلِ نَصِيبِينَ فَاسْتَمَعُوا لَهُ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَلّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَدْ آمَنُوا وَأَجَابُوا إلَى مَا سَمِعُوا. فَقَصّ اللهُ خَبَرَهُمْ عَلَيْهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، قَالَ اللهُ عَزّ وَجَلّ وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ مِنْ خَبَرِهِمْ فِي هَذِهِ السّورَةِ.
[عَرْضُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ، وَقَوْمُهُ أَشَدّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ وَفِرَاقِ دِينِهِ، إلا قليلا مستضعفين، ممن آمن به.
فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ، إذَا كَانَتْ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ(4/36)
عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنّهُ نَبِيّ مُرْسَلٌ، وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يُصَدّقُوهُ وَيَمْنَعُوهُ حتى يبين عن اللهُ مَا بَعَثَهُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي مِنْ أَصْحَابِنَا، مَنْ لَا أَتّهِمُ، عَنْ زيد بن أسلم عن رَبِيعَةَ بْنِ عَبّادٍ الدّيلِيّ أَوْ مَنْ حَدّثَهُ أَبُو الزّنَادِ عَنْهُ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: رَبِيعَةُ ابن عَبّادٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: سَمِعْت رَبِيعَةَ بْنَ عَبّادٍ، يُحَدّثُهُ أَبِي، قَالَ: إنّي لَغُلَامٌ شَابّ مَعَ أَبِي بِمِنًى، وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقِفُ عَلَى مَنَازِلِ الْقَبَائِلِ مِنْ الْعَرَبِ، فَيَقُولُ:
يَا بَنِي فُلَانٍ، إنّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ، يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَخْلَعُوا مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَنْدَادِ، وَأَنْ تُؤْمِنُوا بِي، وَتُصَدّقُوا بِي، وَتَمْنَعُونِي، حَتّى أُبَيّنَ عَنْ اللهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ. قَالَ: وَخَلْفَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ وَضِيءٌ، لَهُ غَدِيرَتَانِ عَلَيْهِ حُلّةٌ عَدَنِيّةٌ، فَإِذَا فَرَغَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم من قوله، وَمَا دَعَا إلَيْهِ، قَالَ ذَلِكَ الرّجُلُ: يَا بَنِي فُلَانٍ، إنّ هَذَا إنّمَا يَدْعُوكُمْ أَنْ تَسْلُخُوا اللّاتَ وَالْعُزّى مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، وَحَلْفَاءَكُمْ مِنْ الجنّ من بنى مالك ابن أُقَيْشٍ، إلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالضّلَالَةِ، فَلَا تُطِيعُوهُ، وَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ.
قَالَ: فَقُلْت لِأَبِي: يَا أَبَتِ، مَنْ هَذَا الّذِي يَتْبَعُهُ وَيَرُدّ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ؟ قَالَ:
هَذَا عَمّهُ عَبْدُ الْعُزّى بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، أَبُو لهب.
قال ابن هشام: قال النابغة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/37)
كَأَنّك مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ: أَنّهُ أَتَى كِنْدَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَفِيهِمْ سَيّدٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: مُلَيْحٌ، فَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فأبوا عليه.
[العرض على بنى كلب]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُصَيْنٍ:
أَنّهُ أَتَى كَلْبًا فِي مَنَازِلِهِمْ، إلَى بَطْنٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَبْدِ اللهِ، فَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، حَتّى إنّهُ لَيَقُولُ لَهُمْ: يَا بَنِي عَبْدِ اللهِ، إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ أَحْسَنَ اسْمَ أَبِيكُمْ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عليهم.
[العرض على بنى حنيفة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ:
أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَى بَنِي حَنِيفَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ، فَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ أَقْبَحَ عَلَيْهِ رَدّا منهم.
[العرض عَلَى بَنِي عَامِرٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ أَنّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ- يُقَالُ لَهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/38)
بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فِرَاسُ بن عبد الله بن سلمة بن قشير ابن كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ: وَاَللهِ، لَوْ أَنّي أَخَذْت هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، لَأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ، ثُمّ قَالَ: أَرَأَيْتَ إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أَظْهَرَك اللهُ عَلَى مَنْ خَالَفَك، أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِك؟ قَالَ: الْأَمْرُ إلَى اللهِ يضعه حيث يشاء، قال: فقال له: أفنهدف نَحُورُنَا لِلْعَرَبِ دُونَك، فَإِذَا أَظْهَرَك اللهُ كَانَ الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِك، فَأَبَوْا عَلَيْهِ.
فَلَمّا صَدَرَ النّاسُ رَجَعَتْ بَنُو عَامِرٍ إلَى شَيْخٍ لَهُمْ، قَدْ كَانَتْ أَدْرَكَتْهُ السّنّ، حَتّى لَا يَقْدِرَ أَنْ يُوَافِيَ مَعَهُمْ الْمَوَاسِمَ، فَكَانُوا إذَا رَجَعُوا إلَيْهِ حَدّثُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِك الْمَوْسِمِ، فَلَمّا قَدِمُوا عَلَيْهِ ذَلِك الْعَامَ سَأَلَهُمْ عَمّا كَانَ فِي مَوْسِمِهِمْ، فَقَالُوا: جَاءَنَا فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ، يَدْعُونَا إلَى أَنْ نَمْنَعَهُ وَنَقُومَ مَعَهُ، وَنَخْرُجَ بِهِ إلَى بِلَادِنَا. قَالَ: فَوَضَعَ الشّيْخُ يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ ثُمّ قَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ، هَلْ لَهَا مِنْ تَلَافٍ، هَلْ لِذُنَابَاهَا مِنْ مَطْلَبٍ، وَاَلّذِي نَفْسُ فُلَانٍ بِيَدِهِ، مَا تَقَوّلَهَا إسْمَاعِيلِيّ قَطّ، وَإِنّهَا لَحَقّ، فَأَيْنَ رَأْيُكُمْ كَانَ عَنْكُمْ.
[عرض عَلَى الْعَرَبِ فِي الْمَوَاسِمِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، كُلّمَا اجْتَمَعَ لَهُ النّاسُ بِالْمَوْسِمِ أَتَاهُمْ يَدْعُو الْقَبَائِلَ إلَى اللهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللهِ مِنْ الْهُدَى وَالرّحْمَةِ، وَهُوَ لا يسمع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/39)
يقادم يَقْدَمُ مَكّةَ مِنْ الْعَرَبِ، لَهُ اسْمٌ وَشَرَفٌ، إلّا تَصَدّى لَهُ، فَدَعَاهُ إلَى اللهِ، وَعَرَضَ عليه ما عنده.
[حديث سويد بن صامت]
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ، ثُمّ الظّفَرِيّ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا:
قَدِمَ سُوَيْدُ بْنُ صَامِتٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، مَكّةَ حَاجّا أو معتمرا، وَكَانَ سُوَيْدُ إنّمَا يُسَمّيهِ قَوْمُهُ فِيهِمْ: الْكَامِلَ، لِجَلَدِهِ وَشِعْرِهِ وَشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ:
أَلَا رُبّ مَنْ تَدْعُو صَدِيقًا وَلَوْ تَرَى ... مَقَالَتَهُ بِالْغَيْبِ سَاءَك مَا يَفْرِي
مَقَالَتُهُ كَالشّهْدِ مَا كَانَ شَاهِدًا ... وَبِالْغَيْبِ مَأْثُورٌ عَلَى ثُغْرَةِ النّحْر
يَسُرّك بَادِيهِ وَتَحْتَ أَدِيَمِهِ ... نَمِيمَةُ غِشّ تَبْتَرِي عَقَبَ الظّهْرِ
تُبِينُ لَك الْعَيْنَانِ مَا هُوَ كَاتِمٌ ... مِنْ الْغِلّ وَالْبَغْضَاءِ بِالنّظَرِ الشّزْرِ
فَرِشْنِي بخير طَالَمَا قَدْ بَرَيْتنِي ... وَخَيْرُ الْمَوَالِي مَنْ يَرِيشُ وَلَا يَبْرِي
وَهُوَ الّذِي يَقُولُ: وَنَافَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، ثُمّ أَحَدَ بَنِي زِعْبِ بْنِ مَالِكٍ مِئَةَ نَاقَةٍ، إلَى كَاهِنَةٍ مِنْ كُهّانِ الْعَرَبِ، فَقَضَتْ لَهُ. فانصرف عنها هو والسّلمىّ ليس معهما غيرهما، فَلَمّا فَرّقَتْ بَيْنَهُمَا الطّرِيقُ، قَالَ: مَالِي، يَا أَخَا بَنِي سُلَيْمٍ قَالَ: أَبْعَثُ إلَيْك بِهِ؛ قَالَ: فَمَنْ لِي بِذَلِكَ إذَا فُتّنِي بِهِ؟ قال: أنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/40)
قَالَ: كَلّا، وَاَلّذِي نَفْسُ سُوَيْدٍ بِيَدِهِ، لَا تفارقنّى حتى أوتى بمال، فَاِتّخَذَا فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمّ أَوْثَقَهُ رِبَاطًا ثُمّ انْطَلَقَ بِهِ إلَى دَارِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتّى بَعَثَتْ إلَيْهِ سُلَيْمٌ بِاَلّذِي لَهُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:
لَا تَحْسَبَنّي يَا بْنَ زِعْبِ بْنِ مَالِكٍ ... كَمَنْ كُنْتَ تُرْدِي بِالْغُيُوبِ وَتَخْتِلُ
تَحَوّلْت قِرْنًا إذْ صُرِعْتَ بِعِزّةٍ ... كَذَلِكَ إِنّ الْحَازِمَ الْمُتَحَوّلُ
ضَرَبْتُ بِهِ إِبْطَ الشّمَالِ فَلَمْ يَزَلْ ... عَلَى كُلّ حَال خَدّه هُوَ أَسْفَلُ
فِي أَشْعَارٍ كَثِيرَةٍ كَانَ يَقُولُهَا.
فَتَصَدّى لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ، فَدَعَاهُ إلَى اللهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ سُوَيْدٌ: فَلَعَلّ الّذِي مَعَك مِثْلُ الّذِي مَعِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: وَمَا الّذِي مَعَك؟ قَالَ مَجَلّةُ لُقْمَانَ- يَعْنِي حِكْمَةَ لُقْمَانَ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: اعْرِضْهَا عَلَيّ فَعَرَضَهَا عليه، فقال له:
إن هذا الكلام حَسَنٌ، وَاَلّذِي مَعِي أَفَضْلُ مِنْ هَذَا، قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيّ، هُوَ هُدًى وَنُورٌ. فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقُرْآنَ، وَدَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ، وَقَالَ: إنّ هَذَا لَقَوْلٌ حَسَنٌ. ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِ، فَلَمْ يلبث أن قتلته الخزرج، فإن كَانَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ لَيَقُولُونَ: إنّا لَنَرَاهُ قَدْ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ. وَكَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ يوم بعاث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/41)
[إسْلَامُ إيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ وَقِصّةُ أَبِي الْحَيْسَرِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرحمن بن عمرو بن سعد ابن مُعَاذٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ، أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ، مَكّةَ وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فِيهِمْ إيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، يَلْتَمِسُونَ الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنْ الْخَزْرَجِ، سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ فِي خَيْرٍ مِمّا جِئْتُمْ لَهُ؟ فَقَالُوا لَهُ: وَمَا ذَاكَ؟
قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِي إلَى الْعِبَادِ، أَدْعُوهُمْ إلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْزَلَ عَلَيّ الْكِتَابَ. قَالَ: ثُمّ ذَكَرَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ. قَالَ: فقال إياس ابن مُعَاذٍ، وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا: أَيْ قَوْمِ، هَذَا وَاَللهِ خَيْرٌ مِمّا جِئْتُمْ لَهُ. قَالَ: فَيَأْخُذُ أَبُو الْحَيْسَرِ، أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ، حَفْنَةً مِنْ تُرَابِ الْبَطْحَاءِ، فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَ إيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ، وَقَالَ: دَعْنَا مِنْك، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا. قَالَ: فَصَمَتَ إيَاسٌ، وَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْهُمْ، وَانْصَرَفُوا إلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ.
قَالَ: ثُمّ لَمْ يَلْبَثْ إيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ. قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: أَنّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَهُ يُهَلّلُ اللهَ تَعَالَى وَيُكَبّرُهُ وَيَحْمَدُهُ وَيُسَبّحُهُ حَتّى مَاتَ، فَمَا كَانُوا يَشُكّونَ أَنْ قَدْ مَاتَ مُسْلِمًا، لَقَدْ كَانَ اشتشعر الْإِسْلَامَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، حِينَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما سمع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/42)
[الرسول مع نفر مِنْ الْخَزْرَجِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا أَرَادَ اللهُ عَزّ وَجَلّ إظْهَارَ دِينِهِ، وَإِعْزَازَ نَبِيّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَوْسِمِ الّذِي لَقِيَهُ فِيهِ النّفَرُ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلّ مَوْسِمٍ. فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنْ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللهُ بِهِمْ خَيْرًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: لَمّا لَقِيَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا:
نَفَرٌ مِنْ الْخَزْرَجِ، قَالَ: أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَفَلَا تَجْلِسُونَ أُكَلّمُكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. فَجَلَسُوا مَعَهُ، فَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ الإسلام، وتلا عليهم القرآن. وكان مما صنع الله لهم به فِي الْإِسْلَامِ، أَنّ يَهُودَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانُوا هُمْ أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزّوهم بِبِلَادِهِمْ، فَكَانُوا إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ قَالُوا لهم:
إن نبيّا مبعوث الآن، قد أَظَلّ زَمَانُهُ، نَتّبِعُهُ فَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ.
فَلَمّا كَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُولَئِكَ النّفَرَ، وَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: يَا قَوْمِ، تَعْلَمُوا وَاَللهِ إنّهُ لَلنّبِيّ الّذِي تَوَعّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ، فَلَا تَسْبِقُنّكُمْ إلَيْهِ. فَأَجَابُوهُ فِيمَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ، بِأَنْ صَدّقُوهُ وَقَبِلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا: إنّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا، وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/43)
وَالشّرّ مَا بَيْنَهُمْ، فَعَسَى أَنْ يَجْمَعَهُمْ اللهُ بِك، فَسَنَقْدَمُ عَلَيْهِمْ، فَنَدْعُوهُمْ إلَى أَمْرِك، وَتَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الّذِي أَجَبْنَاك إلَيْهِ مِنْ هَذَا الدّينِ، فَإِنْ يَجْمَعْهُمْ اللهُ عَلَيْهِ فَلَا رَجُلَ أَعَزّ مِنْك.
ثُمّ انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعِينَ إلَى بِلَادِهِمْ، وَقَدْ آمنوا وصدّقوا.
[أسماء الْخَزْرَجِيّينَ الّذِينَ الْتَقَوْا بِالرّسُولِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَهُمْ- فِيمَا ذُكِرَ لِي: سِتّةُ نَفَرٍ مِنْ الْخَزْرَجِ، مِنْهُمْ مِنْ بَنِي النّجّارِ- وَهُوَ تَيْمُ اللهِ- ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ: أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد ابن ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، وهو أبو أمامة، وعوف بن الحارث ابن رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَعَفْرَاءُ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُبَيْد بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ ابن مَالِكِ بْنِ النّجّارِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي زُرَيْقِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جشم بن الخزرج: رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ عَامِرُ بْنُ الْأَزْرَقِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/44)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ ابن جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ: قطبة ابن عامر بن حديدة بن عمرو بن غنم بْنِ سَوَادِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَمْرُو بْنُ سَوَادٍ، وَلَيْسَ لِسَوَادٍ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ: غَنْمٌ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ كعب بن غنم بن كعب بن سلمة:
عُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ.
وَمِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ: جَابِرُ بن عبد الله ابن رِئَابِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ.
فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ إلَى قَوْمِهِمْ ذَكَرُوا لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ حَتّى فَشَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا وَفِيهَا ذِكْرٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطّائِفِ وَسَنَذْكُرُ السّبَبَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِالطّائِفِ، وَأَنّ الدّمّونَ!! رَجُلٌ مِنْ الصّدِفِ مِنْ حَضْرَمَوْتَ نَزَلَهَا، فَقَالَ لِأَهْلِهَا. أَلَا أَبْنِي لَكُمْ حَائِطًا يُطِيفُ بِبَلْدَتِكُمْ فَبَنَاهُ، فَسُمّيَتْ: الطّائِفَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمّا سَنَذْكُرُهُ.
وَقَوْلُهُ: فَيُذْئِرَهَا عَلَيْهِ، قَدْ فَسّرَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَأَنْشَدَ:
ذَئِرُوا لِقَتْلَى عَامِرٍ وَتَعَصّبُوا(4/45)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِي الْحَدِيثِ لَمّا نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضَرْبِ النّسَاءِ قَالَ:
ذئير النّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنّ، وَفَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِالنّشُوزِ عَلَى الْأَزْوَاجِ، وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ الّذِي أَنْشَدَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَمَعْنَى كَلَامِهِمَا وَاحِدٌ.
وَذَكَرَ مَا لَقِيَ مِنْ أَشْرَافِ ثَقِيفٍ، وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ زِيَادَةً فِي الْحَدِيثِ حِينَ أَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ، قَالَ: وَكَانَ يَمْشِي بَيْنَ سِمَاطَيْنِ مِنْهُمْ، فَكُلّمَا نَقَلُوا قَدَمًا، رَجَمُوا عَرَاقِيبَهُ بِالْحِجَارَةِ، حَتّى اخْتَضَبَ نَعْلَاهُ بِالدّمَاءِ، وَذَكَرَ التّيْمِيّ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عُقْبَةَ، وَزَادَ قَالَ: كَانَ إذَا أَذْلَقَتْهُ «1» الْحِجَارَةُ، قَعَدَ إلَى الْأَرْضِ، فَيَأْخُذُونَ بِعَضُدَيْهِ «2» ، فَيُقِيمُونَهُ فَإِذَا مَشَى رَجَمُوهُ، وَهُمْ يَضْحَكُونَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْمَوْضِعِ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ مِنْ حَائِطِ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَجَلَسَ إلَى ظِلّ حَبَلَةٍ، وَالْحَبَلَةُ الْكَرْمَةُ، اُشْتُقّ اسْمُهَا مِنْ الْحَبَلِ، لِأَنّهَا تَحْمِلُ بِالْعِنَبِ، وَلِذَلِكَ فُتِحَ حَمْلُ الشّجَرَةِ وَالنّخْلَةِ، فَقِيلَ:
حَمْلٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ تَشْبِيهًا بِحَمْلِ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ: حَمْلٌ بِالْكَسْرِ تَشْبِيهًا بِالْحَمْلِ الّذِي عَلَى الظّهْرِ «3» ، وَمَنْ قَالَ فِي الْكَرْمَةِ حَبْلَةً بِسُكُونِ الْبَاءِ، فَلَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ،
__________
(1) فى النهاية لابن الأثير: «فى حديث ما عز: فلما أذلقته الحجارة جمر وفر، أى بلغب منه منتهى الجهد حتى قلق» .
(2) فيها أربع لغات: كسر الضاد وضمها وسكونها مع فتح العين، وبضم العين مع سكون الضاد
(3) فى إصلاح المنطق لابن السكيت: الحمل- بفتح الحاء- ما كان فى بطن، أو على رأس شجرة، وجمعه أحمال، والحمل- بكسر الحاء- ما حمل على ظهر أو رأس(4/46)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَيْسَانَ فِي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ «1» ، إنّهُ بَيْعُ الْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يَطِيبَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ التّمْرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ فِي الْأَرَضِينَ الّتِي اُفْتُتِحَتْ فِي زَمَانِهِ- وَقَدْ قِيلَ لَهُ: قَسّمْهَا عَلَى الّذِينَ افْتَتَحُوهَا- فَقَالَ: وَاَللهِ لَأَدَعَنّهَا حَتّى يُجَاهِدَ بِهَا حَبَلُ الْحَبَلَةِ، يُرِيدُ: أَوْلَادَهَا فِي الْبُطُونِ. ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ، وَالْقَوْلُ الّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ فِي حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَقَعَ فِي كِتَابِ الْأَلْفَاظِ لِيَعْقُوبَ وَإِنّمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ دُخُولُ الْهَاءِ فِي الْحَبَلَةِ، حَتّى قَالُوا فِيهِ أَقْوَالًا كُلّهَا هَبَاءٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنّمَا قَالَ الْحَبَلَةَ لِأَنّهَا بَهِيمَةٌ أَوْ جَنِينَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
دَخَلَتْ لِلْجَمَاعَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لِلْمُبَالَغَةِ، وَهَذَا كُلّهُ يَنْعَكِسُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
حَبَلَ الْحَبَلَةِ، فَإِنّهُ لَمْ تَدْخُلْ التّاءُ إلّا فِي أَحَدِ اللّفْظَيْنِ دُونَ الثّانِي، وَتَبْطُلُ أَيْضًا عَلَى مَنْ قَالَ أَرَادَ: مَعْنَى الْبَهِيمَةِ بِحَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَقَدّمِ، وَإِنّمَا النّكْتَةُ فِي ذلك أن الحبل مادام حَبَلًا لَا يُدْرَى: أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى، لَمْ يُسَمّ حَبَلًا، فَإِذَا كَانَتْ أُنْثَى، وَبَلَغَتْ حَدّ الْحَمْلِ، فَحَبَلَتْ فَذَاكَ الْحَبَلُ هُوَ الّذِي نَهَى عَنْ بَيْعِهِ، وَالْأَوّلُ قَدْ عُلِمَتْ أُنُوثَتُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَعَبّرَ عَنْهُ بِالْحَبَلَةِ، وَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْجَنِينَةِ التى كانت حبلا لا يعرف ماهى، ثُمّ عُرِفَ بَعْدَ الْوَضْعِ، وَكَذَلِكَ فِي الْآدَمِيّينَ، فَإِذًا لَا يُقَالُ لَهَا: حَبَلَةٌ إلّا بَعْدَ المعرفة بأنها أنثى،
__________
(1) فى القاموس: الحبلة- بضم الحاء- الكرم أو أصل من أصوله، والحبل محركة: شجر العنب، وربما سكن(4/47)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَعِنْدَ ذِكْرِ الْحَبَلِ الثّانِي لِأَنّ هَذِهِ الْأُنْثَى قَبْلَ أَنْ تَحْبَلَ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ: رِخْلَى، وَتُسَمّى أَيْضًا حَائِلًا وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، وَقَدْ زَالَ عَنْهَا اسْمُ الْحَبَلِ فَإِذَا حَبَلَتْ، وَذَكّرَ حَبَلَهَا وَازْدَوَجَ ذَكّرَهُ مَعَ الْحَالَةِ الْأُولَى الّتِي كَانَتْ فِيهَا حَبَلًا فَرّقَ بَيْنَ اللّفْظَيْنِ بِتَاءِ التّأْنِيثِ، وَخُصّ اللّفْظُ الّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأُنْثَى بِالتّاءِ دُونَ اللّفْظ الّذِي لَا يُدْرَى مَا هُوَ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، وَقَدْ كَانَ الْمَعْنَى قَرِيبًا وَالْمَأْخَذُ سَهْلًا لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذِهِ الْإِطَالَةِ لَوْلَا مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ تَخْلِيطِهِمْ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْكَلَامِ الْفَصِيحِ الْبَلِيغِ الّذِي لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ فِي الْبَلَاغَةِ إلّا عَالِمٌ بِجَوْهَرِ الْكَلَامِ.
نُورُ اللهِ وَوَجْهُهُ فَصْلٌ: وَذَكَرَ دُعَاءَهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- عِنْدَ الشّدّةِ، وَقَوْلُهُ: اللهُمّ إنّي أَشْكُو إلَيْك ضَعْفَ قُوّتِي وَقِلّةَ حِيلَتِي إلَى آخِرِ الدّعَاءِ، وَفِيهِ: أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الْكَرِيمِ الّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيُسْأَلُ عَنْ النّورِ هُنَا، وَمَعْنَى الْوَجْهِ، وَإِشْرَاقِ الظّلُمَاتِ، أَمَا الْوَجْهُ إذَا جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسّنّةِ، فَهُوَ يَنْقَسِمُ فِي الذّكْرِ إلَى مَوْطِنَيْنِ: مَوْطِنِ تَقَرّبٍ وَاسْتِرْضَاءٍ بِعَمَلِ، كَقَوْلِهِ تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وكقوله: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى فَالْمَطْلُوبُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ: رِضَاهُ وَقَبُولُهُ لِلْعَمَلِ، وَإِقْبَالُهُ عَلَى الْعَبْدِ الْعَامِلِ، وَأَصْلُهُ أَنّ مَنْ رَضِيَ عَنْك، أَقْبَلَ عَلَيْك، وَمَنْ غَضِبَ عَلَيْك أَعْرَضَ عَنْك، وَلَمْ يُرِك وَجْهَهُ، فَأَفَادَ قَوْلُهُ: بِوَجْهِك هَاهُنَا مَعْنَى الرّضَى وَالْقَبُولِ، وَالْإِقْبَالِ، وَلَيْسَ بِصِلَةِ فِي الْكَلَامِ كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنّ قَوْلَهُ ذَلِكَ هُرَاءٌ مِنْ الْقَوْلِ، وَمَعْنَى الصّلَةِ عِنْدَهُ: أَنّهَا كَلِمَةٌ لَا تُفِيدُ إلّا تأكيدا للكلام،(4/48)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهَذَا قَوْلُ مَنْ غَلُظَ طَبْعُهُ وَبَعُدَ بِالْعُجْمَةِ عَنْ فَهْمِ الْبَلَاغَةِ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ قَالَ هُوَ وَمَنْ قَلّدَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ الرّحْمَنَ: 27 أَيْ يَبْقَى رَبّك، وَكُلّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلّا وَجْهَهُ، أَيْ: إلّا إيّاهُ، فَعَلَى هَذَا قَدْ خَلَا ذِكْرُ، الْوَجْهِ مِنْ حِكْمَةٍ، وَكَيْفَ تَخْلُو كَلِمَةٌ مِنْهُ مِنْ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ الكتاب الحكيم، ولكن هذا هو الموطن للثانى مِنْ مَوَاطِنِ ذِكْرِ الْوَجْهِ، وَالْمَعْنَى بِهِ مَا ظَهَرَ إلَى الْقُلُوبِ وَالْبَصَائِرِ مِنْ أَوْصَافِ جَلَالِهِ ومجده، والوجه لغة ما ظهر من الشىء مَعْقُولًا كَانَ أَوْ مَحْسُوسًا، تَقُولُ: هَذَا وَجْهُ الْمَسْأَلَةِ، وَوَجْهُ الْحَدِيثِ، أَيْ:
الظّاهِرُ إلَى رَأْيِك مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الثّوْبُ مَا ظَهَرَ إلَى بَصَرِك مِنْهُ، وَالْبَصَائِرُ لَا تُحِيطُ بِأَوْصَافِ جَلَالِهِ، وَمَا يَظْهَرُ لَهَا مِنْ ذَلِكَ أَقَلّ مِمّا يَغِيبُ عَنْهَا، وَهُوَ الظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ- تَعَالَى وَجَلّ- وَكَذَلِكَ فِي الْجَنّةِ نَظَرُ أَهْلِهَا إلَى وَجْهِهِ سُبْحَانَهُ إنّمَا هُوَ نَظَرٌ إلَى مَا يَرَوْنَ مِنْ ظَاهِرِ جَلَالِهِ إلَيْهِمْ عِنْدَ تَجَلّيهِ، وَرَفْعِ الْحِجَابِ دُونَهُمْ، وَمَا لَا يُدْرِكُونَ مِنْ ذَلِكَ الْجَلَالِ أَكْثَرُ مِمّا أَدْرَكُوا.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ الرّحْمَنَ: 26، 27 لَمّا كَانَتْ السّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، قَدْ أَظَهَرَتْ مِنْ قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، مَا أَظَهَرَتْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنّ فَنَاءَهَا لَا يُغَيّرُ مَا عُلِمَ مِنْ سُلْطَانِهِ وَظَهَرَ إلَى الْبَصَائِرِ مِنْ جَلَالِهِ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الْجَلَالُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهَا، وَهُوَ بَاقٍ بَعْدَ فَنَائِهَا كَمَا كَانَ فِي الْقِدَمِ، فَهُوَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ: تَجَلّلَ بِالْبَهَاءِ وَأَكْرَمَ مَنْ شَاءَ بِالنّظَرِ إلَى وَجْهِهِ أَمّا الْأَشْعَرِيّ فَذَهَبَ فِي مَعْنَى الْوَجْهِ إلَى مَا ذَهَبَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعَيْنِ وَالْيَدِ، وَأَنّهَا صِفَاتٌ لِلّهِ تَعَالَى لَمْ تُعْلَمْ مِنْ جِهَةِ(4/49)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعُقُولِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الشّرْعِ الْمَنْقُولِ، وَهَذِهِ عُجْمَةٌ أَيْضًا فَإِنّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ عَرَبِيّ مُبِينٍ، فَقَدْ فَهِمَتْهُ الْعَرَبُ لَمّا نَزَلَ بِلِسَانِهَا، وَلَيْسَ فِي لُغَتِهَا أَنّ الْوَجْهَ صِفَةٌ وَلَا إشْكَالَ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْهُمْ، وَلَا عَلَى الْكَافِرِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيِ الّتِي، اُحْتِيجَ آخِرَ الزّمَانِ إلى الكلام فيها مَعَ الْعُجْمَانِ، لِأَنّ الْمُؤْمِنَ لَمْ يَخْشَ عَلَى عَقِيدَتِهِ شَكّا وَلَا تَشْبِيهًا، فَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَسُولَ اللهِ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَلَا سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الّتِي هِيَ الْيَوْمَ مُشْكِلَةٌ عِنْدَ عَوَامّ النّاسِ «1» ، وَلَا الْكَافِرُ فِي ذَلِكَ
__________
(1) كلامه هنا جيد، ولقد سأل الصحابة عن المحيض، والأنفال واليتامى، والقتال فى الشهر الحرام، وعن الخمر والميسر، وعما ينفقون، وعن غير ذلك كما بين كتاب الله، والمتدبر لما أثبته القرآن من أسئلتهم لا يجد من بينها سؤالا عن عين الله أو وجهه أو يديه مما يؤكد أنهم آمنوا بأن لله سبحانه كل هذا الذى ذكر فى القرآن، وأنهم آمنوا بأن ما يضاف إلى الخلاق لا يمكن أن يكون مشبها لما يضاف إلى المخلوق، لأن الله يقول (ليس كمثله شىء) ولأن العقل الصحيح يحيل ذلك أما الأشعرى فهو على بن إسماعيل بن إسحاق وكنيته أبو الحسن ولد بالبصرة سنة 270 هـ. أو 260 هـ. وقد أقام على دين المعتزلة قرابة أربعين عاما، ثم غاب عن الناس مدة خمسة عشر يوما، ثم خرج إلى المسجد الجامع بالبصرة، فصعد على منبره ونادى بصوت جهورى: أنا فلان بن فلان، اشهدوا على أنى كنت على غير دين الإسلام، وأنى قد أسلمت الساعة. وأنى تائب مما كنت أقول بالاعتزال، ثم نول، ومضى يؤلف الكتب ضد المعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج، ولكن كان لا يزال يعانى مسا من الاعتزال بدا فى تأويله لبعض الصفات فكان مذهبه مزيجا من آراء المعتزلة وآراء المحدثين، ثم انتهى به الأمر إلى تأييد مذهب أهل السنة فى الصفات. وإليك ما انتهى إليه أمره فى أمر الصفات الإلهية: «إن كثيرا من الزائغين عن الحق من المعتزلة، وأهل القدر مالت بهم-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم، ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا من القرآن على آرائهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا، ولا أوضح به برهانا، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدمين، فخالفوا روايات الصحابة عليهم السلام عن نبى الله صلوات الله عليه وسلامه فى رؤية الله عز وجل بالأبصار، ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله عز وجل: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ وأنكروا أن يكون له يدان مع قوله: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وأنكروا أن يكون له عين مع قوله تَجْرِي بِأَعْيُنِنا، وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي وبعد أن أصدر حكمه على مؤولة الصفات ومعطلتها بالزيغ قال: «فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة. فعرفرنا قولكم الذى به تقولون وديانتكم التى بها تدينون، قيل له، قولنا الذى نقوله به، وديانتنا التى ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا «ص» ، وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، ثم فصل معتقده تفصيلا واضحا، ورد فى قوة على مؤولة الصفات، وإليك بعض ما قاله: «فمن سألنا، فقال: أتقولون: إن لله سبحانه وجها؟ قيل له نقول ذلك خلافا لما قاله المبتدعون. وقد دل على ذلك قول الله عز وجل: (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) وإن سئلنا: أتقولون إن لله يدين؟ قيل نقول ذلك، وقد دل عليه قوله عز وجل: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وقال عز وجل: (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) وقال عز وجل: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) الخ. وقد ذكر كل هذا فى كتابه الإبانة تحت هذا العنوان «باب الكلام فى الوجه والعينين والبصر واليدين» كما فصل معتقده فى كتابه (مقالات الإسلاميين، وقد ورد معتقده فى كتاب الإبانة من ص 7 إلى ص 41 وهو مطبوع سنة 1348. أما فى مقالات الإسلاميين فقد ورد فى ص 320 وما بعدها ح 1 من طبع النهضة. وانظر أيضا تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام أبى الحسن الأشعرى للامام ابن عساكر فقد فصل ما ذكره الأشعرى فى الإبانة، وانظر كتابى «الصفات الإلهية» فقد استقصيت فيه القول عن الصفات عن-(4/50)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الزّمَانِ لَمْ يَتَعَلّقْ بِهَا فِي مَعْرِضِ الْمُنَاقَضَةِ وَالْمُجَادَلَةِ، كَمَا فَعَلُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ
__________
- أكثر أئمة الأشاعرة كالباقلانى والجوينى وابن فورك والرازى والغزالى. هذا وقد فصل الإمام الجليل ابن القيم آراء المؤولة والمعطلة فى الصفات كتابه الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ط السلفية سنة 1348 وإليك بعض ما ذكره باختصار «وجه الرب جل جلاله حيث ورد فى الكتاب والسنة، فليس بمجاز بل على حقيقته، واختلف المعطلون فى جهة التجوز فى هذا فقالت طائفة: لفظ الوجه زائد، والتقدير: ويبقى ربك ... وقالت فرقة أخرى منهم الوجه بمعنى الذات، وهذا قول أولئك وإن اختلفوا فى التعبير عنه، وقالت فرقة: ثوابه، وجزاؤه، فجعله هؤلاء مخلوقا منفصلا، قالوا: لأن المراد هو الثواب، وهذه أقوال نعوذ بوجه الله العظيم من أن يجعلنا من أهلها» ثم ذكر الإمام ابن القيم مارد به عثمان بن سعيد الدارمى على بشر المريسى فقال: «لما فرغ المريسى من إنكار اليدين ونفيهما عن الله أقبل قبل وجه الله ذى الجلال والإكرام، لينفيه عنه، كما نفى عنه اليدين، فلم يدع غاية فى إنكار وجه الله ذى الجلال والإكرام والجحود به حتى ادعى أن وجه الله الذى وصفه بأنه ذو الجلال والإكرام مخلوق، لأنه ادعى أنه أعمال مخلوقه يتوجه بها إليه، وثواب وإنعام مخلوق يثيب به العامل، وزعم أنه قبلة الله، وقبلة الله لا شك مخلوقة» ثم ذكر بالتفصيل مارد به الدارمى على المريسى لإثبات أن لله وجها حقيقة لا مجازا بستة وعشرين وجها منها: أن الصحابة رضى الله عنهم والتابعين وجميع أهل السنة والحديث والأئمة الأربعة وأهل الاستقامة من أتباعهم متفقون على أن المؤمنين يرون وجه ربهم فى الجنة، وهى الزيادة التى فسر بها النبى «ص» والصحابة: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) فروى مسلم فى صحيحه بإسناده عن النبى «ص» فى قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال: النظر إلى وجه الله تعالى، فمن أنكر حقيقة الوجه، لم يكن للنظر عنده حقيقة ولا سيما إذا أنكر الوجه والعلو فيعود النظر عنده إلى خيال مجرد ص 174 وما بعدها ح 2 الصواعق المرسلة.(4/52)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الْأَنْبِيَاءَ: 98 وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ:
يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّ اللهَ مَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمّ يُثْبِتُ لَهُ وَجْهًا وَيَدَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَدَلّ عَلَى أَنّهُمْ لَمْ يَرَوْا فِي الْآيَةِ إشْكَالًا، وَتَلَقّوْا مَعَانِيَهَا عَلَى غَيْرِ التّشْبِيهِ، وَعَرَفُوا مِنْ سَمَانَةِ الْكَلَامِ، وَمَلَاحَةِ الِاسْتِعَارَةِ أَنّهُ مُعْجِزٌ، فَلَمْ يَتَعَاطَوْا لَهُ مُعَارَضَةً، وَلَا تَوَهّمُوا فِيهِ مُنَاقَضَةً، وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي مَعْنَى الْيَدَيْنِ وَالْعَيْنِ مَسْأَلَةً بَدِيعَةً جِدّا، فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ.
وَأَمّا النّورُ فَعِبَارَةٌ عَنْ الظّهُورِ وَانْكِشَافِ الْحَقَائِقِ الْإِلَهِيّةِ، وَبِهِ أَشْرَقَتْ الظّلُمَاتُ، أَيْ أَشْرَقَتْ مَحَالّهَا وَهِيَ الْقُلُوبُ الّتِي كَانَتْ فِيهَا ظُلُمَاتُ الْجَهَالَةِ وَالشّكُوكِ، فَاسْتَنَارَتْ الْقُلُوبُ بِنُورِ اللهِ، وَقَدْ قَالَ الْمُفَسّرُونَ فى قوله تعالى:
مَثَلُ نُورِهِ أَيْ: مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبٍ فِي الْمُؤْمِنِ كَمِشْكَاةِ، فَهُوَ إذًا نُورُ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ: الْمُجْلِي لِكُلّ ظُلْمَةٍ وَشَكّ، قَالَ كَعْبٌ: الْمِشْكَاةُ مَثَلٌ لِفَهْمِهِ، وَالْمِصْبَاحُ مَثَلٌ لِلِسَانِهِ، وَالزّجَاجَةُ: مَثَلٌ لِصَدْرِهِ، أَوْ لِقَلْبِهِ أَيْ:
قَلْبِ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك، وَلَوْ قَالَ: بِنُورِك لَحَسُنَ، وَلَكِنْ تَوَسّلَ إلَيْهِ بِمَا أَوْدَعَ قَلْبَهُ مِنْ نُورِهِ، فَتَوَسّلَ إلَى نِعْمَتِهِ بِنِعْمَتِهِ وَإِلَى فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَدْ تَكُونُ الظّلُمَاتُ هَاهُنَا أَيْضًا الظّلُمَاتِ الْمَحْسُوسَةَ وَإِشْرَاقُهَا جَلَالَتُهَا عَلَى خَالِقِهَا، وَكَذَلِكَ الْأَنْوَارُ الْمَحْسُوسَةُ، الْكُلّ دَالّ عَلَيْهِ فَهُوَ نُورُ النّورِ، أَيْ: مَظْهَرُهُ مُنَوّرُ الظّلُمَاتِ، أَيْ جَاعِلُهَا نُورًا فِي حُكْمِ الدلالة عليه سبحانه وتعالى «1» .
__________
(1) الله نور: رد الإمام ابن القيم على من زعم أن هذا الاسم مجاز فى كتابه-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- «الصواعق» ردا عظيما، وإليك بعض ما ذكره «إن النور جاء فى أسمائه تعالى، وهذا الاسم مما تلقته الأمة بالقبول، وأثبتوه فى أسمائه الحسنى ... ومحال أن يسمى نفسه نورا، وليس له نور ولا صفة النور ثابتة له، كما أن من المستحيل أن يكون عليما قديرا سميعا بصيرا، ولا علم له ولا قدرة بل صحة هذه الأسماء عليه مستلزمة لثبوت معانيها له، وانتفاء حقائقها عنه مستلزم لنفيها عنه، والثانى باطل قطعا فتعين الأول» ثم يقول: «إن النبى «ص» لما سأله أبو ذر هل رأيت ربك، قال: «نور أنى أراه» رواه مسلم فى صحيحه، وفى الحديث قولان: أحدهما: أن معناه: ثم نور، أى: فهناك نور منعنى رؤيته، ويدل على هذا المعنى شيئان أحدهما: قوله فى اللفظ الآخر فى الحديث. رأيت نورا، فهذا النور الذى رآه، هو الذى حال بينه وبين رؤية الذات. الثانى: قوله فى حديث أبى موسى: «إن الله لا ينام، ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط، ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه، لأحزقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» رواه مسلم فى صحيحه.. المعنى الثانى فى الحديث أنه سبحانه نور، فلا يمكننى رؤيته، لأن نوره الذى لو كشف الحجاب عنه لاحترقت السموات والأرض وما بينهما مانع من رؤيته، فان كان المراد هو المعنى الثانى، فظاهر، وإن كان الأول فلا ريب أنه إذا كان نور الحجاب مانعا من ذاته، فنور ذاته سبحانه أعظم من نور الحجاب، بل الحجاب إنما استنار بنوره، فإن نور السموات إذا كان من نور وجهه- كما قال عبد الله بن مسعود- فنور الحجاب الذى فوق السموات أولى أن يكون من نوره، وهل يعقل أن يكون النور حجاب من ليس له نور؟! هذا أبين المحال، وعلى هذا، فلا تناقض بين قوله: «ص» : رأيت نورا، وبين قوله: «نور أنى أراه» فإن المنفى مكافحة الرؤية للذات المقدسة، والمثبت: رؤية ما ظهر من نور الذات» ثم يقول: «ما ثبت فى الصحيحين عن ابن عباس أن النبى «ص» كان يقول إذا قام من الليل: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض» الحديث وهو يقتضى أن كونه-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- نور السموات والأرض مغاير لكونه رب السموات والأرض، ومعلوم أن إصلاحه السموات والأرض بالأنوار وهدايته لمن فيها هى ربوبيته، فدل على أن معنى كونه نور السموات والأرض أمر وراء ربوبيتهما» ثم ذكر ما نقله ابن فورك عن مذهب الأشعرى فى هذا، فقال: «إن المشهور من مذهبه- يعنى مذهب الأشعرى- بأن الله سبحانه نور لا كالأنوار حقيقة لا بمعنى أنه هاد، وعلى ذلك نص- أى الأشعرى- فى كتاب التوحيد فى باب مفرد لذلك تكلم فيه على المعتزلة، إذ تأولوا ذلك على معنى أنه هاد، فقال: إن سأل عن الله عز وجل أنور هو؟ قيل له: كلامك يحتمل وجهين إن كنت تريد أنه نور يتجزأ يجوز عليه الزيادة والنقصان، فلا وهذه صفة النور المخلوق، وإن كنت تريد معنى ما قاله الله سبحانه: (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فالله سبحانه نور السموات والأرض على ما قال، فإن قال: فما معنى قولك: نور؟ قيل له: قد أخبرناك ما معنى النور المخلوق، وما معنى النور الخالق، وهو سبحانه الذى ليس كمثله شىء، ومن تعدى أن يقول: الله نور، فقد تعدى إلى غير سبيل المؤمنين، لأن الله لم يكن يسمى نفسه لعباده بما ليس هو به، فإن قال لا أعرف النور إلا هذا النور المضىء المتجزىء، قيل له: فإن: كان لا يكون نور إلا كذلك، فكذلك لا يكون شيئا إلا وحكمه حكم ذلك الشىء، ثم قال ابن فورك: فإذا قال الله عز وجل: إنى نور، قلت: أنا هو نور على ما قال سبحانه وتعالى، وقلت أنت ليس هو نورا، فمن المثبت له على الحقيقة: أنا أو أنت؟ وكيف يتبين الحق فيه إلا من جهة ما أخبر الله سبحانه، والدافع لما قال الله كافر بالله» ثم ذكر ابن القيم ما يأتى: «وقال أبو بكر بن العربى: قد اختلف الناس بعد معرفتهم بالنور على ستة أقوال، الأول: معناه: هاد، قاله ابن عباس، والثانى معناه: منور، قاله ابن مسعود.:. والثالث، مزين، وهو يرجع إلى معنى منور قاله أبى بن كعب، الرابع: أنه ظاهر، الخامس: ذو النور. السادس: أنه نور لا كالأنوار، قاله أبو الحسن الأشعرى قال: وقالت المعتزلة: لا يقال له نور إلا بإضافة، قال: الصحيح عندنا أنه نور، لا كالأنوار، لأنه حقيقة، -(4/53)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خَبَرُ عَدّاسٍ فَصْلٌ: وَذَكَرَ خَبَرَ عَدّاسٍ غُلَامِ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ حِينَ جَاءَ بِالْقِطْفِ مِنْ عِنْدِهِمَا إلَى آخِرِ الْقِصّةِ، وَفِيهِ قَبُولُ هَدِيّةِ الْمُشْرِكِ، وَأَنْ لَا يَتَوَرّعَ عَنْ طَعَامِهِ، وَسَيَأْتِي اسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَزَادَ التّيْمِيّ فِيهَا أَنّ عَدّاسًا حِينَ سَمِعَهُ يَذْكُرُ يُونُسَ بْنَ مَتّى قَالَ: وَاَللهِ لَقَدْ خَرَجْت مِنْهَا يَعْنِي: نِينَوَى «1» ، وَمَا فِيهَا عَشَرَةٌ يَعْرِفُونَ: مَا مَتّى، فَمِنْ أَيْنَ عَرَفْت أَنْتَ مَتّى، وَأَنْتَ أُمّيّ، وَفِي أُمّةٍ أُمّيّةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم-: هو أَخِي، كَانَ نَبِيّا، وَأَنَا نَبِيّ، وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنّ عَدّاسًا لَمّا أَرَادَ سَيّدَاهُ الْخُرُوجَ إلَى بَدْرٍ أَمَرَاهُ بِالْخُرُوجِ مَعَهُمَا فَقَالَ لَهُمَا: أَقِتَالَ ذَلِكَ الرّجُلِ الّذِي رَأَيْته بِحَائِطِكُمَا تُرِيدَانِ، وَاَللهِ مَا تَقُومُ لَهُ الْجِبَالُ، فَقَالَا لَهُ: وَيْحَك يا عدّاس: قد سحرك بلسانه، وعند مَا لَقِيَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَهْلِ الطّائِفِ، مَا لَقِيَ، وَدَعَا بِالدّعَاءِ «2» الْمُتَقَدّمِ، نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ وَمَعَهُ مَلَكُ الْجِبَالِ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدّثَنِي عُرْوَةُ أَنّ عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدّثَتْهُ أَنّهَا قَالَتْ لِلنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: هَلْ أَتَى عَلَيْك يَوْمٌ كان أشدّ
__________
والعدول عن الحقيقة إلى أنه هاد ومنور، وما أشبه ذلك هو مجاز من غير دليل لا يصح» ثم ضعف ما نقل عن ابن عباس، لأنه منقطع- راجع الجزء الثانى من الصواعق المرسلة من ص 188 إلى ص 205.
(1) تروى بضم النون أيضا والفتح أشهر «الخشنى» .
(2) لم يخرج حديث هذا الدعاء سوى الطبرانى عن عبد الله بن جعفر.(4/56)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْك مِنْ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: لَقَدْ لَقِيت مِنْ قَوْمِك، وَكَانَ أَشَدّ مَا لَقِيت مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إذْ عَرَضْت نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلَى مَا أَرَدْت، فَانْطَلَقْت عَلَى وَجْهِي، وَأَنَا مَهْمُومٌ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثّعَالِبِ «1» ، فَرَفَعْت رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةِ قَدْ أَظَلّتْنِي، فَنَظَرْت فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إنّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك، وَمَا رَدّوا عَلَيْك، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْك مَلَكَ الْجِبَالِ، لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْت فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلّمَ عَلَيّ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ ذَلِكَ لَك، إنْ شِئْت أَطْبَقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. هَكَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: ابْنُ عَبْدِ كُلَالٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا نَسَبَهُ ابْنُ إسْحَاقَ.
جِنّ نَصِيبِينَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ وَفْدِ جِنّ نَصِيبِينَ، وَمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ، وَقَدْ أَمْلَيْنَا أَوّلَ الْمَبْعَثَيْنِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ طَرَفًا مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَبَيّنّا هُنَالِكَ أَسَمَاءَهُمْ، وَنَصِيبِينُ مَدِينَةٌ بِالشّامِ أَثْنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رُوِيَ أَنّهُ قَالَ: رُفِعَتْ إلَيّ نَصِيبِينُ حَتّى رَأَيْتهَا فَدَعَوْت اللهَ أَنْ يَعْذُبَ نَهْرُهَا، وَيَنْضُرَ شَجَرُهَا، وَيَطِيبَ ثَمَرُهَا أَوْ قَالَ: وَيَكْثُرَ ثَمَرُهَا، وَتَقَدّمَ فِي أَسْمَائِهِمْ مَا ذَكَرَهُ، ابْنُ دُرَيْدٍ. قَالَ: هُمْ: مُنَشّي وَمَاشِي وَشَاصِر وَمَاصِر وَالْأَحْقَب، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى
__________
(1) هى ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة.(4/57)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَسْمِيَةِ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَمَامَ أَسْمَائِهِمْ فِيمَا تَقَدّمَ، وَفِي الصّحِيحِ أَنّ الّذِي أَذِنَ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْجِنّ لَيْلَةَ الْجِنّ شَجَرَةٌ، وَأَنّهُمْ سَأَلُوهُ الزّادَ، فَقَالَ:
كُلّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي يَدِ أَحَدِهِمْ. أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلّ بَعْرٍ عَلَفٌ لِدَوَابّهِمْ. زَادَ ابْنُ سَلَامٍ فِي تَفْسِيرِهِ أَنّ الْبَعْرَ يَعُودُ خَضِرًا لِدَوَابّهِمْ، ثُمّ نَهَى رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ وَالرّوْثِ، وَقَالَ:
إنّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنّ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ كَمَا قَدّمْنَاهُ: «كُلّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ» ، وَلَفْظُهُ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ: «كُلّ عَظْمٍ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ» ، وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ تَدُلّ عَلَى مَعْنَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ فِي الْجِنّ الْمُؤْمِنِينَ، وَالرّوَايَةُ الْأُخْرَى فِي حَقّ الشّيَاطِينِ مِنْهُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ تُعَضّدُهُ الْأَحَادِيثُ إلّا أَنّا نَكْرَهُ الْإِطَالَةَ، وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنّ الْجِنّ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَتَأَوّلُوا قَوْلَهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ إنّ الشّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: صِنْفٌ عَلَى صُوَرِ الْحَيّاتِ، وَصِنْفٌ عَلَى صُوَرِ الْكِلَابِ سُودٌ وَصِنْفٌ رِيحٌ طَيّارَةٌ أَوْ قال: هفّافة ذووا أَجْنِحَةٍ، وَزَادَ بَعْضُ الرّوَاةِ فِي الْحَدِيثِ: وَصِنْفٌ يَخْلُونَ وَيَظْعَنُونَ، وَهُمْ السّعَالِي، وَلَعَلّ هَذَا الصّنْفَ الطّيّارَ هُوَ الّذِي لَا يَأْكُلُ، وَلَا يَشْرَبُ إنْ صَحّ الْقَوْلُ الْمُتَقَدّمُ وَاَللهُ أَعْلَمُ. وَرَوَيْنَا فِي حَدِيثٍ سَمِعْته يُقْرَأُ عَلَى الشّيْخِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيّ بِسَنَدِهِ إلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَمْشِي إذْ جَاءَتْ حَيّةٌ، فَقَامَتْ إلَى جَنْبِهِ، وَأَدْنَتْ فَاهَا مِنْ أُذُنِهِ، وَكَانَتْ تُنَاجِيهِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ فَانْصَرَفَتْ، قَالَ جَابِرٌ: فَسَأَلْته، فَأَخْبَرَنِي أَنّهُ(4/58)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ، وَأَنّهُ قَالَ لَهُ: مُرْ أُمّتَك لَا يَسْتَنْجُوا بِالرّوْثِ، وَلَا بِالرّمّةِ، فَإِنّ اللهَ جَعَلَ لَنَا فِي ذَلِكَ رِزْقًا.
ذِكْرُ عرضه نَفْسِهِ عَلَى الْقَبَائِلِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ عَرْضَهُ نَفْسَهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْقَبَائِلِ، لِيُؤْمِنُوا بِهِ، وَلِيَنْصُرُوهُ قَبِيلَةً قَبِيلَةً، فَذَكَرَ بَنِي حَنِيفَةَ، وَاسْمُ حَنِيفَةَ: أُثَالُ بْنُ لُجَيْمٍ، وَلُجَيْمٌ:
تَصْغِيرُ اللّجَمِ، وَهِيَ دُوَيْبّةٌ، قَالَ قُطْرُبٌ، وَأَنْشَدَ:
لَهَا ذنب مثل ذيل العرو ... س إلى سبة مِثْلُ جُحْرِ اللّجَمْ
ابْنُ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَسُمّيَ حَنِيفَةَ لِحَنَفِ كَانَ فِي رِجْلَيْهِ، وَقِيلَ: بَلْ حَنِيفَةُ أُمّهُمْ، وَهِيَ بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ أَسَدٍ عُرِفُوا بِهَا، وَهُمْ أَهْلُ الْيَمَامَةِ، وَأَصْحَابُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ، وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي أَوّلِ الْكِتَابِ سَبَبَ نُزُولِهِمْ الْيَمَامَةَ وَأَوّلَ مَنْ نَزَلَهَا مِنْهُمْ.
وَذَكَرَ بَيْحَرَةَ بْنَ فِرَاسٍ الْعَامِرِيّ، وَقَوْلَهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَفَنُهْدِفُ نُحُورَنَا، لِلْعَرَبِ دُونَك. نُهْدِفُ أَيْ: نَجْعَلُهَا هَدَفًا لِسِهَامِهِمْ، وَالْهَدَفُ: الْغَرَضُ.
وَذَكَرَ قَوْلَ الشّيْخِ: هَلْ لَهَا مِنْ تَلَافٍ، أَيْ: تدارك، وهو تفاعل من مِنْ: تَلَافَيْتُهُمْ، وَهَلْ لِذُنَابَاهَا مِنْ مُطّلَبٍ: مَثَلٌ ضرب لمسافاته مِنْهَا، وَأَصْلُهُ: مِنْ ذُنَابَيْ الطّائِرِ: إذَا أَفْلَتَ مِنْ الْحِبَالَةِ، فَطَلَبْت الْأَخْذَ بِذُنَابَاهُ، وَقَالَ: مَا تَقَوّلَهَا إسْمَاعِيلِيّ قَطّ أَيْ: مَا ادّعَى النّبُوّةَ كاذبا أحد من بنى إسماعيل(4/59)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عرضه نَفْسِهِ عَلَى كِنْدَةَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ عَرْضَهُ نَفْسَهُ على كندة، وهم بنور ثَوْرِ بْنِ مُرّةَ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ميسع بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كُهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ «1» عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ بَيْنَ النّسّابِينَ فِي كِنْدَةَ، وَسُمّيَ كِنْدَةَ لِأَنّهُ كَنَدَ أَبَاهُ، أَيْ عَقّهُ «2» ، وَسَمّى ابْنَهُ مُرْتِعًا لِأَنّهُ كَانَ يَجْعَلُ لِمَنْ أَتَاهُ مِنْ قومه مرتعا، فهم بنو مرتع ابن ثَوْرٍ، وَقَدْ قِيلَ إنّ ثَوْرًا هُوَ مُرْتِعٌ، وَكِنْدَةُ أَبُوهُ «3» .
فِي هَذَا الْكِتَابِ تَتِمّةٌ لِفَائِدَتِهِ فَصْلٌ: وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ مَا لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ مِمّا رَأَيْت إمْلَاءَ بَعْضِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ تَتِمّةً لِفَائِدَتِهِ. ذَكَرَ قَاسِمُ بن ثابت والخطابى عرضه
__________
(1) نسب ثور فى جمهرة ابن حزم هكذا: وهؤلاء بنو كندة، وهو ثور ابن عُفَيْر بْنِ عَدِيّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُرّةَ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ يشجب بن عريب ابن زيد بن كهلان بن سبأ ص 394، 399 وهو فى قلائد الجمان للقلقشندى أبى العباس أحمد بن على ص 71 كما فى الجمهرة.
(2) فى الاشتقاق لابن دريد: ومن قبائل زيد بن كهلان: كندة، وهو كندى، واسمه: ثور وكندة من قولهم: كند نعمة الله عز وجل، أى كفرها، ومن قول الله جل ثناؤه: إن الإنسان لربه لكنود ص 362 وقال صاحب حماة، وسمى كندة لأنه كند أباه أى كفر نعمته ص 71 قلائد الجمان.
(3) فى جمهرة ابن حزم «ولد كندة بن عفير: معاوية وأشرس» ثم يقول: من بطون كندة: معاوية ووهب وبدار والرائش بطون كبار، وهم بنو الحارث ابن معاوية بن ثور بن مرتع، وهو عمرو بن معاوية بن كندة» ص 399 وعلى هذا يكون مرتع هو ابن ابن كندة.(4/60)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَفْسَهُ عَلَى بَنِي ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، ثُمّ عَلَى بَنِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَذَكَرَ الْخَطّابِيّ وَقَاسِمٌ «1» جَمِيعًا مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ مَعَ دَغْفَلِ بْنِ حَنْظَلَةَ الذّهْلِيّ زَادَ قَاسِمٌ تَكْمِلَةَ الْحَدِيثِ فَرَأَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ زِيَادَةَ قَاسِمٍ، فَإِنّهَا مِمّا تَلِيقُ بِهَذَا الْكِتَابِ قَالَ: ثُمّ دَفَعْنَا إلَى مَجْلِسٍ آخَرَ عَلَيْهِمْ السّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، فَتَقَدّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَسَلّمَ قَالَ عَلِيّ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُقَدّمًا فِي كُلّ خَيْرٍ، فَقَالَ مِمّنْ الْقَوْمُ، فَقَالُوا: مِنْ شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، هَؤُلَاءِ غُرَرٌ فِي قَوْمِهِمْ، وَفِيهِمْ مَفْرُوقُ بن عمرو وهانىء بْنُ قَبِيصَةَ، وَمُثَنّى بْنُ حَارِثَةَ، وَالنّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ؛ وَكَانَ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ غَلَبَهُمْ جَمَالًا وَلِسَانًا «2» وَكَانَتْ لَهُ غَدِيرَتَانِ تَسْقُطَانِ عَلَى تَرِيبَتَيْهِ «3» ، وَكَانَ أَدْنَى الْقَوْمِ مَجْلِسًا مِنْ أَبِي بكر، فقال له أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ الْعَدَدُ فِيكُمْ؟ قَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ إنّا لَنَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ، وَلَنْ تُغْلَبَ أَلْفٌ مِنْ قِلّة فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ المنعة
__________
(1) ذكر الزرقانى فى شرحه على المواهب ص 309 ج 1 شرح المواهب أن هذا الحديث أخرجه الحاكم وأبو نعيم والبيهقى بإسناد حسن عن ابن عباس. واقرأ فى الأمالى صفحتى 284 ج 2، ص 25 ج 3 الأمالى ج 2 وفى حاشية الاشتقاق بقلم الأستاذ عبد السلام هارون: «بخط مغلطاى: دغفل هذا لقى النبى عليه السلام، وهو ابن ثلاث وستين سنة قاله البخارى. وقال: لا يعرف له إدراك النبى عليه السلام وتابعه على القول جماعة منهم: ابن حبان والزهرى وابن سعد وابن أبى حاتم، والعسكرى» ص 351 الاشتقاق.
(2) انظر الاشتقاق ص 358، وفيه عن هانىء: وكان شرفيا عظيم القدر. وكان نصرانيا، وأدرك الإسلام فلم يسلم، ومات بالكوفة.
(3) التريبة: واحدة الترائب، وهى عظام الصدر.(4/61)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِيكُمْ؟ فَقَالَ مَفْرُوقٌ: عَلَيْنَا الْجَهْدُ، وَلِكُلّ قَوْمٍ جد، فقال أبو بكر: كيف الحزب بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوّكُمْ؟ فَقَالَ مَفْرُوقٌ: إنّا لَأَشَدّ مَا نَكُون غَضَبًا لَحِينَ نَلْقَى، وَإِنّا لَأَشَدّ مَا نَكُونُ لِقَاءً حِينَ نَغْضَبُ، وَإِنّا لَنُؤْثِرُ الْجِيَادَ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَالسّلَاحَ عَلَى اللّقَاحِ «1» ، وَالنّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، يُدِيلُنَا مَرّةً وَيُدِيلُ عَلَيْنَا، لعلك أخو قريش؟
فقال أبكر أو قد بَلَغَكُمْ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ، فَهَا هُوَ ذَا، فَقَالَ مَفْرُوقٌ: قَدْ بَلَغَنَا أَنّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ، فَإِلَى مَ تَدْعُو إلَيْهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَتَقَدّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَدْعُو إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنّي رَسُولُ اللهِ، وَإِلَى أَنْ تُؤْوُونِي، وَتَنْصُرُونِي، فَإِنّ قُرَيْشًا قَدْ ظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللهِ، وَكَذّبَتْ رَسُولَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنْ الْحَقّ وَاَللهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ، فَقَالَ مَفْرُوقٌ: وَإِلَى مَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَتَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الْأَنْعَامَ: 151 فَقَالَ مفروق: وإلى مم تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فتلا رسول الله- صلى الله عليه سلم- (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ، وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النّحْلَ: 90 فَقَالَ مَفْرُوقٌ: دَعَوْت وَاَللهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ إلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَاَللهِ لَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ كَذّبُوك، وَظَاهَرُوا عليك، وكأنه أراد أن يشركه
__________
(1) اللقاح: الإبل.(4/62)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فى الكلام هانىء بن قبيصة، فقال: وهذا هانىء بن قبيصة شيخنا، وصاحب ديننا، فقال هانىء: قَدْ سَمِعْت مَقَالَتَك يَا أَخَا قُرَيْشٍ، وَإِنّي أَرَى أَنّ تَرْكَنَا دِينَنَا وَاتّبَاعَنَا إيّاكَ عَلَى دِينِك لِمَجْلِسِ جَلَسْته إلَيْنَا لَيْسَ لَهُ أَوّلٌ وَلَا آخِرُ زَلّةٌ فِي الرّأْيِ، وَقِلّةُ نَظَرٍ فِي الْعَاقِبَةِ، وَإِنّمَا تَكُونُ الزّلّةُ مَعَ الْعَجَلَةِ، وَمِنْ وَرَائِنَا قَوْمٌ نَكْرَهُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَيْهِمْ عَقْدًا، وَلَكِنْ تَرْجِعُ وَنَرْجِعُ وَتَنْظُرُ وَنَنْظُرُ، وَكَأَنّهُ أَحَبّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ الْمُثَنّى، فَقَالَ: وَهَذَا الْمُثَنّى بْنُ حَارِثَةَ شَيْخُنَا وَصَاحِبُ حَرْبِنَا، فَقَالَ الْمُثَنّى: قَدْ سَمِعْت مَقَالَتَك يَا أَخَا قريش، والجواب:
هو جواب هانىء بْنِ قَبِيصَةَ فِي تَرْكِنَا دِينَنَا، وَاتّبَاعِنَا إيّاكَ لِمَجْلِسِ جَلَسْته إلَيْنَا لَيْسَ لَهُ أَوّلٌ وَلَا آخِرُ، وَإِنّا إنّمَا نَزَلْنَا بَيْنَ صَرَيَانِ الْيَمَامَةِ وَالسّمَاوَةِ «1» ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هَذَانِ الصّرَيَانِ؟ فَقَالَ أَنْهَارُ كِسْرَى، وَمِيَاهُ الْعَرَبِ، فَأَمّا مَا كَانَ مِنْ أَنْهَارِ كِسْرَى، فَذَنْبُ صَاحِبَيْهِ غَيْرُ مَغْفُورٍ، وَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَأَمّا مَا كَانَ مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ، فَذَنْبُهُ مَغْفُورٌ وَعُذْرُهُ مَقْبُولٌ، وَإِنّمَا نَزَلْنَا عَلَى عَهْدٍ أَخَذَهُ عَلَيْنَا كِسْرَى أَنْ لَا نُحْدِثَ حَدَثًا وَلَا نُؤْوِيَ مُحْدِثًا، وَإِنّي أَرَى هَذَا
__________
(1) فى النهاية لابن الأثير «وإنما نزلنا الصريين» وهو الصواب، ثم قال اليمامة والسمامة» وقال عن المصرى: وهو الماء المجتمع، وذكرها مرة أخرى فى مادة صير «وفى حديث عرضه على القبائل: قال له المثنى بن حارثة: إنا نزلنا بين صيرين: اليمامة والسمامة. فقال رسول الله ص» : وما هذان الصيران؟ فقال: مياء العرب، وأنهار كسرى. الصير: الماء الذى يحضره الناس، وقد صار القوم يصيرون إذا حضروا الماء. ويروى: بين صيرتين وهى فعلة منه، ويروى بين صريين تثنية صرىء وقد تقدم النهاية مادة صرى وصير لابن الأثير. والصواب: السمادة، وهى بادية بين الكوفة والسماء. أدماءة لكلب.(4/63)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَمْرَ الّذِي تَدْعُونَا إلَيْهِ هُوَ مِمّا تَكْرَهُهُ الْمُلُوكُ، فَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ نُؤْوِيَك وَنَنْصُرَك مِمّا يَلِي مِيَاهَ الْعَرَبِ، فَعَلْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا أَسَأْتُمْ فِي الرّدّ، إذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصّدْقِ، وَإِنّ دِينَ اللهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إلّا مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ أَرَأَيْتُمْ إنْ لَمْ تَلْبَثُوا إلّا قَلِيلًا حَتّى يُورِثَكُمْ اللهُ أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَيُفْرِشَكُمْ نِسَاءَهُمْ، أَتُسَبّحُونَ اللهَ وَتُقَدّسُونَهُ، فَقَالَ النّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ: اللهُمّ لَك ذَا، فَتَلَا رسول الله- صَلَّى الله عليه وسلم: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ثُمّ نَهَضَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخَذَ بِيَدَيّ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ يَا أَبَا حُسْنٍ أَيّةُ أَخْلَاقٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ، مَا أَشْرَفَهَا بِهَا يَدْفَعُ اللهُ بَأْسَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَبِهَا يَتَحَاجَزُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ: ثُمّ دَفَعْنَا إلَى مَجْلِسِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَمَا نَهَضْنَا حَتّى بَايَعُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا صُدَقَاءَ صُبَرَاءَ، وَرَوَى فِي حَدِيثٍ مُسْنَدٍ إلَى طَارِقٍ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرّتَيْنِ: رَأَيْته بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ، يَقُولُ: يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا: لَا إلَهَ إلّا اللهُ تُفْلِحُوا، وَخَلْفَهُ رَجُلٌ لَهُ غَدِيرَتَانِ يَرْجُمُهُ بِالْحِجَارَةِ، حَتّى أَدْمَى كَعْبَيْهِ، يَقُولُ:
يَا أَيّهَا النّاسُ لَا تَسْمَعُوا مِنْهُ، فَإِنّهُ كَذّابٌ، فَسَأَلْت عَنْهُ، فَقِيلَ: هُوَ غُلَامُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، قُلْت وَمَنْ الرّجُلُ يَرْجُمُهُ؟ فَقِيلَ لِي: هُوَ عَمّهُ عَبْدُ الْعُزّى أَبُو لَهَبٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. خَرّجَهُ الدّارَقُطْنِيّ، وَوَقَعَ أَيْضًا فِي السّيرَةِ مِنْ رِوَايَةِ يونس.(4/64)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حديث سويد بن صامت:
فَصْلٌ: ذَكَرَ حَدِيثَ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ وَشِعْرَهُ، وَفِي الشّعْرِ:
وَبِالْغَيْبِ مَأْثُورٌ عَلَى ثُغْرَةِ النّحْر
يَعْنِي السّيْفَ، وَمَأْثُورٌ: مِنْ الْأَثْرِ وَهُوَ: فِرِنْدُ «1» السّيْفِ، وَيُقَالُ فِيهِ:
أَثر وإِثر. قَالَ الشّاعِرُ:
جَلَاهَا الصّيْعَلُونَ فَأَخْلَصُوهَا ... خِفَاقًا كُلّهَا يَتْقِي بِأَثْرِ «2»
أَرَادَ: يَتّقِي، وَسُوَيْدٌ: هُوَ: الْكَامِلُ، وَهُوَ ابْنُ الصّلت بن حوط
__________
(1) جوهر السيف ووشيه والسيف نفسه.
(2) البيت أنشده عيسى بن عمر لخفاف بن ندبة. وقبل البيت:
ولم أر قبلهم حيا لقاحا ... أقاموا بين قاصية وحجر
رماح مثقف حملت نصالا ... يلحن كأنهن نجوم بدر
انظر ص 125 ج 2 الأمالى للقالى ط 2، ص 752 سمط اللآلى للقالى والمعنى: إذا نظر الناظر إليها اتصل شعاعها بعينه، فلم يتمكن من النظر إليها فذلك اتقاؤها بأثرها والأصمعى لا يعرف فى الأثر إلا الفتح يقال: سيف مأثور أى فى متنه أثر، وقيل هو الذى يقال إنه يعمله الجن، وليس من الأثر الذى هو الفرند. قال ابن سيدة: وعندى أن المأثور مفعول لا فعل له كما ذهب إليه أبو على فى المفئود الذى هو الجبان(4/65)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن حَبِيبِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ «1» وَأُمّهُ لَيْلَى بِنْتُ عَمْرٍو النّجّارِيّةُ أُخْتُ سَلْمَى بِنْتِ عَمْرِو [بْنِ زَيْدِ بْنِ لَبِيَدِ بْنِ خِدَاشِ بْنِ عَامِرِ ابن غَنْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ النّجّارِ [تَيْمِ اللهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ] أُمّ عبد المطلب ابن هَاشِمٍ، فَسُوَيْدٌ هَذَا ابْنُ خَالَةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَبِنْتُ سُوَيْدٍ هِيَ أُمّ عَاتِكَةَ أُخْتُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ امْرَأَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، فَهُوَ جَدّهَا لِأُمّهَا وَاسْمُ أُمّهَا: زَيْنَبُ، وَقِيلَ: جَلِيسَةُ بِنْتُ سُوَيْدٍ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ «2» .
ذِكْرُ مَجَلّةِ لُقْمَانَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مَجَلّةَ لُقْمَانَ، وَهِيَ الصّحِيفَةُ، وَكَأَنّهَا مَفْعَلَةٌ مِنْ الْجَلَالِ وَالْجَلَالَةِ، أَمّا الْجَلَالَةُ فَمِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ، وَالْجَلَالُ مِنْ صِفَةِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُقَالَ فِي المخلوق جلال وجلالة وأنشد:
__________
(1) نسبه فى جمهرة ابن حزم هكذا: «سويد بن الصامت بن خالد بن عطية ابن خوط بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الأوسى، وقد تقدم نسبه فى السيرة كما ذكر ابن حزم، ولكن فيها حوط بالحاء المهملة، وفى الإصابة: سويد بن الصامت بن خالد بن عقبة الأوسى ذكره ابن شاهين وقال: شك فى إسلامه، وقال أبو عمر: أنا أشك فيه كما شك غيرى.. ويعلق ابن حجر على ما روى ابن إسحاق بقوله: فإن صح ما قالوا لم يعد فى الصحابة لأنه لم يلق النبى «ص» مؤمنا.
(2) يقول الخشنى فى شرح السيرة ص 117 عن بنى زعب إنها بفتح الزاى وضمها وكسرها والعين المهملة. وزغب بالزاء المكسورة والغين المعجمة قيده الدارقطنى، وذكر أن الطبرى حكاه كذلك(4/66)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فلاذا جَلَالٍ هِبْنَهُ لِجَلَالَة ... وَلَا ذَا ضَيَاعٍ هُنّ يَتْرُكْنَ لِلْفَقْرِ «1»
وَلُقْمَانُ كَانَ نُوبِيّا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ وَهُوَ لُقْمَانُ بْنُ عَنْقَاءَ بْنِ سُرُور «2» فِيمَا ذَكَرُوا وَابْنُهُ الّذِي ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ ثَأْرَانُ فِيمَا ذَكَرَ الزّجّاجُ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِلُقْمَانَ بْنِ عَادٍ الْحِمْيَرِيّ.
ذِكْرُ قُدُومِ أَبِي الْحَيْسَرِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قُدُومَ أَبِي الْحَيْسَرِ أَنَسِ بْنِ رافع بن يطلب الحلف، وذلك
__________
(1) البيت لهدبة بن خشرم بن كرز: بن حجر بن أبى حية الكاهن صاحب العزى وسادنها أحد بنى سعد هذيم من قضاعة. وهدبة: شاعر إسلامى يكنى أيا عمير: وقبل البيت:
رأيت أخا الدنيا، وإن كان خافضا ... أخاسفر يسرى به، وهو لا يدرى
وللأرض كم من صالح قد تكمأت ... عليه فوارته بكماعة القفر
ويروى البيت الأول هكذا:
ألا يالقوم للنوائب والدهر ... وللحر يأتى حتفه وهو لا يدرى
انظر ص 246 ح 1 الأمالى للقالى ط 2؛ ص 556، 639 سمط اللآلى للبكرى ومرجع السهيلى فى هذا هو الأمالى، ورأى الأصمعى أن الجلال لا يقال إلا فى الله عز وجل، وقال أبو حاتم وقد يقال: ويعقب البكرى فى السمط على رأى القالى فى كلمة مجلة بفتح الجيم: إنما هو مجلة- بكسر الجيم. قال أبو عبيدة: كل كتاب عند العرب مجلة بكسر الجيم، وقد روى غيره فيه الفتح
(2) فى تفسير ابن كثير: سدوس، وفيه يذكر أن الأكثرين من السلف على أن لقمان كان عبدا صالحا من غير نبوة. وفيه وفى غيره تفصيلات كثيرة عنه.(4/67)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسبب لحرب الّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَهِيَ حَرْبُ بُعَاثٍ الْمَذْكُورَةُ، وَلَهُمْ فِيهَا أَيّامٌ مَشْهُورَةٌ هَلَكَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ صَنَادِيدِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ، وَبُعَاثٌ اسْمُ أَرْضٍ بِهَا عُرِفَتْ «1» .
بَدْءُ إسْلَامِ الْأَنْصَارِ وَلَمْ يكن الأنصار اسما لهم فى الجاهلية، ختى سَمّاهُمْ اللهُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُمْ:
بَنُو الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَالْخَزْرَجُ: الرّيحُ الْبَارِدَةُ «2» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَهِيَ الْجَنُوبُ خَاصّةً، وَدُخُولُ الْأَلِفِ وَاللّامِ فِي الْأَوْسِ عَلَى حَدّ دُخُولِهَا فِي التّيْمِ جَمْعُ: تَيْمِيّ وَهُوَ مِنْ بَابِ: رُومِيّ وَرُومٍ، لِأَنّ الْأَوْسَ هِيَ الْعَطِيّةُ أَوْ الْعِوَضُ، وَمِثْلُ هَذَا إذَا كَانَ عَلَمًا لَا يَدْخُلُهُ الْأَلِفُ وَاللّامُ، أَلَا تَرَى أَنّ كُلّ أَوْسٍ فِي الْعَرَبِ غَيْرُ هَذَا، فَإِنّهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ كَأَوْسِ بن حارثة الطّائىّ وغيره
__________
(1) يقول الخشنى «ويروى هنا: بغاث بالغين المعجمة أيضا، ويصرف ولا يصرف، ويقول البكرى فى معجم ما استعجم «ذكر عن الخليل: بغاث ولم يسمع من غيره» هذا ويقال إن القبائل التى عرض نفسه عليها أيام المواسم هى بنو عامر وغسان وبنو فزارة، وبنو مرة وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة وقيس ابن الخطيم، وأبو الحيسر أنس بن أبى رافع «هكذا فى إمتاع الأسماع لتقى الدين أحمد بن على لمقريزى ح 1 ط 1941 ص 30، وفيه أنه بدأ بكندة، ثم أتى كلبا ثم بنى حنيفة، ثم بنى عامر.
(2) فى الاشتقاق لابن دريد: الخزرج: الريح العاصف ص 437.(4/68)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَذَلِكَ، أَوْسٌ «1» وَأُوَيْسٌ: الذّئْبُ قَالَ الرّاجِزُ:
يَا لَيْتَ شِعْرِي عَنْهُ وَالْأَمْرُ عَمَمْ ... مَا فَعَلَ الْيَوْمَ أَوَيْسٌ بِالْغَنَمْ «2»
وَأَبُوهُمْ «3» حَارِثَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ [بْنِ عَمْرِو مُزَيْقِيَاءَ بْنِ عَامِرٍ مَاءِ السّمَاءِ بن حارثة الغطريف بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَزْدِيّ] ، وَهُوَ أَيْضًا:
والدخزاعة عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَأُمّهُمْ «4» : قَيْلَةُ بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ عُذْرَةَ قُضَاعِيّةٌ وَيُقَالُ: هِيَ بِنْتُ جَفْنَةَ، واسمه غلبة؟؟؟ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، وَقِيلَ: بِنْتُ سَيْعِ «5» ابن الْهَوْنِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، قَالَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي كِتَابِ أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ.
وَالْأَنْصَارُ: جَمْعُ نَاصِرٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ فِي جمع فاعل «6» ، ولكن على
__________
(1) أوس بن حارثة بن لأم رأس طيىء، عاش- كما قيل- مائتى سنة، وهناك أوس بن حجر الشاعر الجاهلى، وأوس بن حذيفة من فرسان ثقيف الذى أدرك الإسلام وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم، وأوس بن المعلى، وأوس مغراء وأوس مناة الحنيك من خثعم، ولكن هناك الأوس من صعب بن همان.
(2) البيت للهذلى، وهو فى اللسان:
يا ليت شعرى عنك، والأمر أمم ... ما فعل اليوم أويس فى الغنم
(3) أى والد الأوس والخزرج.
(4) أى أم الأوس والخزرج، ونسبها فى جمهرة ابن حزم هكذا. «قيلة بنت الأرمم بن عمرو بن جفنة بن عمرو مزيقياء» ص 312 ط 1 والزيادة التى زدتها من الجمهرة.
(5) اسمه فى نسب قريش. ييثع.
(6) إذا كان فاعل وصفا دالا على غريزة وسجية أو أمر فطرى فإنه يجمع(4/69)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَقْدِيرِ حَذْفِ الْأَلِفِ مِنْ نَاصِرٍ، لِأَنّهَا زَائِدَةٌ، فَالِاسْمُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِهَا: ثُلَاثِيّ وَالثّلَاثِيّ يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ، وَقَدْ قَالُوا فِي نَحْوِهِ صَاحِبٌ وَأَصْحَابٌ وَشَاهِدٌ وَأَشْهَادٌ.
وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلنّفَرِ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ أَنْتُمْ أَيْ مِنْ حُلَفَائِهِمْ، وَالْمَوْلَى يَجْمَعُ: الْحَلِيفَ وَابْنَ الْعَمّ وَالْمُعْتَقَ وَالْمُعْتِقَ لِأَنّهُ مَفْعَلٌ مِنْ الْوِلَايَةِ، وَجَاءَ عَلَى وَزْنِ مَفْعَلٍ، لِأَنّهُ مَفْزَعٌ وَمَلْجَأٌ لِوَلِيّهِ فَجَاءَ عَلَى وَزْنِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ.
وَذَكَرَ النّفَرَ الْقَادِمِينَ فِي الْعَامِ الثّانِي الّذِينَ بَايَعُوهُ بَيْعَةَ النّسَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى بَيْعَةَ النّسَاءِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً الْمُمْتَحِنَةَ 431 الْآيَةَ، فَأَرَادَ بِبَيْعَةِ النّسَاءِ أَنّهُمْ لَمْ يُبَايِعُوهُ عَلَى الْقِتَالِ، وَكَانَتْ مُبَايَعَتُهُ لِلنّسَاءِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِنّ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، فَإِذَا أَقْرَرْنَ بِأَلْسِنَتِهِنّ قَالَ: قَدْ بَايَعْتُكُنّ، وَمَا مَسّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ فِي مُبَايَعَةٍ «1» كَذَلِكَ قَالَتْ
__________
على فعلاء مثل شاعر وشعراء، وعاقل وعقلاء، وكذلك إذا كان دالا على ما يشبه الغريزة والسجية فى طول بقائها مثل صالح وصلحاء، وإذا كان فاعل دالا على وصف يدل على آفة طارئة من ألم أو عيب، أو نقص، أو موت جمع على فعلى مثل هالك وهلكى.
(1) فى حديث رواه البخارى عن عائشة أنها قالت: «ولا والله ما مست يده يد امرأة فى المبايعة قط، ما يبايعهن إلا بقوله: قد بايعتكن على ذلك» وفى حديث آخر رواه أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجة من حديث سفيان ابن عيينة، والنسائى أيضا من حديث الثورى ومالك بن أنس كلهم عن محمد(4/70)
[بيعة العقبة الأولى]
حَتّى إذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ وَافَى الْمَوْسِمَ مِنْ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَلَقَوْهُ بِالْعَقَبَةِ؛ وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى، فَبَايَعُوا رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ، وَذَلِكَ قبل أن تفترض عليهم الحرب.
منهم من بنى النجّار، ثم بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بن عدس ابن عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ؛ وَعَوْفٌ، وَمُعَاذٌ، ابْنَا الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، وهما ابنا عفراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَائِشَةُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُنّ كُنّ يَأْخُذْنَ بِيَدِهِ فِي الْبَيْعَةِ مِنْ فَوْقِ ثَوْبٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَامِرٍ الشّعْبِيّ، ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ سَلَامٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالْأَوّلُ أَصَحّ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُقْرِي النّقّاشُ فِي صِفَةِ بَيْعَةِ النّسَاءِ وَجْهًا ثَالِثًا أَوْرَدَ فِيهِ آثَارًا، وَهُوَ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَغْمِسُ يَدَهُ فِي إنَاءٍ وَتَغْمِسُ الْمَرْأَةُ يَدَهَا فِيهِ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَقْدًا لِلْبَيْعَةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِالْمَشْهُورِ، وَلَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِالثّبْتِ، غَيْرَ أَنّ ابْنَ إسْحَاقَ أَيْضًا قَدْ ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ يونس عن أبان ابن أَبِي صَالِحٍ، وَذَكَرَ أَنْسَابَ الّذِينَ بَايَعُوهُ، وَسَنُعِيدُهُ فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ وَغَزَاةِ بَدْرٍ، وَهُنَاكَ يَقَعُ التّنْبِيهُ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِعَوْنِ اللهِ.
__________
ابن المنكدر، وقال الترمذى: حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث محمد ابن المنكدر. فى هذا الحديث ورد «قلنا يا رسول الله: ألا تصافحنا؟ قال إنى لا أصافح النساء، إنما قولى لامرأة واحدة قولى لمائة امرأة» .(4/71)
وَمِنْ بَنِي زُرَيْقِ بْنِ عَامِرٍ: رَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ ابن زُرَيْقٍ، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ خَلَدَةَ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ.
قَالَ ابن هشام: ذكوان، مهاجرىّ أنصارىّ.
وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَهُمْ الْقَوَاقِلُ: عُبَادَةُ بْنُ الصامت بن قيس بن أصرم ابن فِهْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمٍ؛ وَأَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ ابن أَصْرَمَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَمّارَةَ، مِنْ بَنِي غصينة، من بلىّ، حليف لهم.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَإِنّمَا قِيلَ لَهُمْ: الْقَوَاقِلُ، لِأَنّهُمْ كَانُوا إذَا اسْتَجَارَ بِهِمْ الرّجُلُ دَفَعُوا لَهُ سَهْمًا، وَقَالُوا لَهُ: قَوْقِلْ بِهِ بِيَثْرِبَ حَيْثُ شِئْت.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْقَوْقَلَةُ: ضَرْبٌ من المشى.
وقال ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي العجلان بن زيد بن غنم بن سالم: الْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضَلَةَ بْنِ مَالِكِ ابن العجلان.
ومن بني سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جشم ابن الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَلِمَةَ: عُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ ابن نَابِي بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ.
وَمِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ بْنِ عَمْرِو بن غنم بن سواد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/72)
[رِجَالُ الْعَقَبَةِ مِنْ الْأَوْسِ]
وَشَهِدَهَا مِنْ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ثُمّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عمرو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ:
أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيّهَانِ، وَاسْمُهُ مَالِكٌ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: التّيّهَانُ: يُخَفّفُ وَيُثَقّلُ، كَقَوْلِهِ مَيْتٌ وَمَيّتٌ.
[رِجَالُ الْعَقَبَةِ الْأُولَى مِنْ بَنِي عَمْرٍو]
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ: عويم بن ساعدة.
[بيعة الْعَقَبَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أبى حبيب، عن (أبى) مرثد ابن عَبْدِ اللهِ الْيَزَنِيّ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ الصّنَابِحِيّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ، قَالَ: كُنْت فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى، وَكُنّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ، عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانِ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ. فإن وفيتم فلكم الجنة. وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمر كم إلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ إنْ شَاءَ عَذّبَ وإن شاء غفر.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ، عَنْ عَائِذِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/73)
الْخَوْلَانِيّ أَبِي إدْرِيسَ أَنّ عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ حَدّثَهُ أَنّهُ قَالَ: بَايَعَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانِ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك فَأُخِذْتُمْ بِحَدّهِ فِي الدّنْيَا، فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ، وَإِنْ سُتِرْتُمْ عَلَيْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَمْرُكُمْ إلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ، إنْ شَاءَ عَذّبَ، وإن شاء غفر.
[مصعب بن عمير ووفد الْعَقَبَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا انْصَرَفَ عَنْهُ الْقَوْمُ، بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَهُمْ الْقُرْآنَ، وَيُعَلّمَهُمْ الْإِسْلَامَ، وَيُفَقّهَهُمْ فِي الدّينِ، فَكَانَ يُسَمّى الْمُقْرِئَ بِالْمَدِينَةِ: مُصْعَبٌ وَكَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ، أَبِي أُمَامَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أَنّهُ كان يصلى بهم، وذلك أن الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَؤُمّهُ بَعْضٌ.
أَوّلُ جُمُعَةٍ أَقِيمَتْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنْت قَائِدَ أَبِي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/74)
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، حِينَ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَكُنْتُ إذَا خَرَجْتُ بِهِ إلَى الْجُمُعَةِ، فَسَمِعَ الْأَذَانَ بِهَا صَلّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ، أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ. قَالَ: فَمَكَثَ حِينًا عَلَى ذَلِكَ: لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ إلّا صَلّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ. قَالَ: فَقُلْت فِي نَفْسِي: وَاَللهِ إنّ هذا بى لعجز، ألا أسأله ماله إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ؟ قَالَ: فَخَرَجْت بِهِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ كَمَا كُنْت أَخْرُجُ، فَلَمّا سَمِعَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ. قال: فقلت له: يا أبت، مالك إذَا سَمِعْتَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلّيْت عَلَى أَبِي أمامة؟ قال: أَيْ بُنَيّ، كَانَ أَوّلَ مَنْ جَمّعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ فِي هَزْمِ النّبِيتِ، مِنْ حَرّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ، قَالَ قُلْت: وكم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا.
[إسْلَامُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ بن معيقب، وعبد الله ابن أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ خَرَجَ بِمُصْعَبِ ابن عُمَيْرٍ يُرِيدُ بِهِ دَارَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَدَارَ بَنِي ظَفَرٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذِ ابن النّعْمَانِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عبد الأشهل ابن خَالَةِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِ بَنِي ظَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ ظَفَرٍ: كَعْبُ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مالك ابن الْأَوْسِ- قَالَا: عَلَى بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا: بِئْرُ مَرَقٍ، فَجَلَسَا فِي الْحَائِطِ، وَاجْتَمَعَ إلَيْهِمَا رِجَالٌ مِمّنْ أَسْلَمَ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حضير، يَوْمَئِذٍ سَيّدَا قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَكِلَاهُمَا مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَلَمّا سَمِعَا به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/75)
قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لِأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ: لا أبالك، انْطَلِقْ إلَى هَذَيْنِ الرّجُلَيْنِ اللّذَيْنِ قَدْ أَتَيَا دَارَيْنَا لِيُسَفّهَا ضُعَفَاءَنَا، فَازْجُرْهُمَا وَانْهَهُمَا عَنْ أَنْ يَأْتِيَا دَارَيْنَا، فَإِنّهُ لَوْلَا أَنّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ مِنّي حَيْثُ قَدْ عَلِمْت كَفَيْتُك ذَلِكَ، هُوَ ابْنُ خَالَتِي، وَلَا أَجِدُ عَلَيْهِ مُقَدّمًا، قَالَ: فَأَخَذَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ حَرْبَتَهُ ثُمّ أَقْبَلَ إلَيْهِمَا، فَلَمّا رَآهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ: هَذَا سَيّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَك، فَاصْدُقْ اللهَ فِيهِ، قَالَ مُصْعَبٌ: إنْ يَجْلِسْ أُكَلّمْهُ. قَالَ: فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتّمًا، فَقَالَ:
مَا جَاءَ بِكُمَا إلَيْنَا تُسَفّهَانِ ضُعَفَاءَنَا؟ اعْتَزِلَانَا إنْ كَانَتْ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ، فَقَالَ له مصعب: أو تجلس فَتَسْمَعَ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْته كُفّ عَنْك مَا تَكْرَهُ؟ قَالَ: أَنْصَفْتَ، ثُمّ رَكَزَ حَرْبَتَهُ وَجَلَسَ إلَيْهِمَا، فَكَلّمَهُ مُصْعَبٌ بِالْإِسْلَامِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ؛ فَقَالَا: فِيمَا يُذْكَرُ عَنْهُمَا: وَاَللهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلّمَ فِي إشْرَاقِهِ وَتَسَهّلِهِ، ثُمّ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدّينِ؟ قَالَا لَهُ: تَغْتَسِلُ فَتَطّهّرُ وَتُطَهّرُ ثَوْبَيْك، ثُمّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقّ، ثُمّ تُصَلّي. فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَطَهّرَ ثَوْبَيْهِ، وَتَشَهّدَ شَهَادَةَ الْحَقّ، ثُمّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ قَالَ لَهُمَا: إنّ وَرَائِي رَجُلًا إن انبعكما لَمْ يَتَخَلّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ؛ وَسَأُرْسِلُهُ إلَيْكُمَا الْآنَ، سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، ثُمّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ وَانْصَرَفَ إلَى سَعْدٍ وَقَوْمِهِ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ، فَلَمّا نَظَرَ إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُقْبِلًا، قَالَ: أَحْلِفُ بِاَللهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَلَمّا وَقَفَ عَلَى النّادِي قَالَ لَهُ سعد: ما فعلت؟ قال:
كلّمت الرجلين، فو الله مَا رَأَيْت بِهِمَا بَأْسًا، وَقَدْ نَهَيْتُهُمَا فَقَالَا: نَفْعَلُ مَا أَحْبَبْتَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/76)
وَقَدْ حُدّثْت أَنّ بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجُوا إلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ، وَذَلِكَ أَنّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنّهُ ابْنُ خَالَتِك، لِيُخْفِرُوكَ قَالَ: فَقَامَ سَعْدٌ مُغْضَبًا مُبَادِرًا، تَخَوّفًا لِلّذِي ذُكِرَ له من بنى حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثُمّ قَالَ: وَاَللهِ مَا أَرَاك أَغْنَيْت شَيْئًا، ثم خرج إليهما؛ فلما رآها سَعْدٌ مُطْمَئِنّيْنِ، عَرَفَ سَعْدٌ أَنّ أُسَيْدًا إنّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمَا، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتّمًا، ثُمّ قَالَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ: يَا أبا أمامة، لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَك مِنْ الْقَرَابَةِ مَا رُمْت هَذَا مِنّي، أَتَغْشَانَا فِي دَارَيْنَا بِمَا نَكْرَهُ- وَقَدْ قَالَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ: أَيْ مُصْعَبُ، جَاءَك وَاَللهِ سَيّدُ مَنْ وَرَاءَهُ مِنْ قَوْمِهِ، إنْ يَتّبِعْك لَا يَتَخَلّفُ عَنْك مِنْهُمْ اثْنَانِ- قَالَ: فَقَالَ لَهُ مصعب: أو تقعد فَتَسْمَعَ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا وَرَغِبْت فِيهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْته عَزَلْنَا عَنْك مَا تَكْرَهُ؟ قَالَ سَعْدٌ، أَنْصَفْت ثُمّ رَكَزَ الْحَرْبَةَ وَجَلَسَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، قَالَا: فَعَرَفْنَا وَاَللهِ فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْل أَنْ يَتَكَلّمَ، لِإِشْرَاقِهِ وَتَسَهّلِهِ؛ ثُمّ قَالَ لَهُمَا: كَيْفَ تَصْنَعُونَ إذَا أَنْتُمْ أَسْلَمْتُمْ وَدَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدّينِ؟ قَالَا: تَغْتَسِلُ فَتَطّهّرُ وَتُطَهّرُ ثَوْبَيْك، ثُمّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقّ، ثُمّ تُصَلّي رَكْعَتَيْنِ، قَالَ. فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَطَهّرَ ثَوْبَيْهِ، وَتَشَهّدَ شَهَادَةَ الْحَقّ، ثُمّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ، فَأَقْبَلَ عَامِدًا إلَى نَادِي قَوْمِهِ وَمَعَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ.
قَالَ: فَلَمّا رَآهُ قَوْمُهُ مُقْبِلًا، قَالُوا: نَحْلِفُ بِاَللهِ لَقَدْ رَجَعَ إلَيْكُمْ سَعْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَلَمّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، كَيْفَ تعلمون أمرى فيكم؟ قالوا: سيدنا وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا، وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً؛ قَالَ: فَإِنّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/77)
كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيّ حَرَامٌ حَتّى تُؤْمِنُوا بالله وبرسوله.
قالا: فو الله مَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إلّا مُسْلِمًا وَمُسْلِمَةً، وَرَجَعَ أَسْعَدُ وَمُصْعَبٌ إلَى مَنْزِلِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ يَدْعُو النّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ، حَتّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ، إلّا مَا كَانَ مِنْ دَارِ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَخَطْمَةَ وَوَائِلٍ وَوَاقِفٍ، وَتِلْكَ أَوْسُ اللهِ، وَهُمْ مِنْ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ؛ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ فِيهِمْ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ، وَهُوَ صَيْفِيّ، وَكَانَ شاعرا لهم قائدا يستمعون منه ويطيعون، فوقف بهم عن الإسلام، فلم يزل على ذلك حَتّى هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَمَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ، وَقَالَ فِيمَا رَأَى مِنْ الْإِسْلَامِ، وَمَا اخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ مِنْ أَمْرِهِ:
أَرَبّ النّاسِ أَشْيَاءُ أَلَمّتْ ... يُلَفّ الصّعْبُ مِنْهَا بِالذّلُولِ
أَرَبّ النّاسِ أَمّا إذْ ضَلِلْنَا ... فَيَسّرْنَا لِمَعْرُوفِ السّبِيلِ
فَلَوْلَا رَبّنَا كُنّا يَهُودًا ... وَمَا دِينُ الْيَهُودِ بِذِي شُكُولِ
وَلَوْلَا رَبّنَا كُنّا نَصَارَى ... مَعَ الرّهْبَانِ فِي جَبَلِ الْجَلِيلِ
وَلَكِنّا خُلِقْنَا إذْ خُلِقْنَا ... حَنِيفًا دِينُنَا عَنْ كُلّ جِيلِ
نَسُوقُ الْهَدْيَ تَرْسُفُ مُذْعِنَاتٍ ... مُكَشّفَةَ الْمَنَاكِبِ فِي الْجُلُولِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي قَوْلَهُ: فَلَوْلَا رَبّنَا، وَقَوْلَهُ: لَوْلَا رَبّنَا، وَقَوْلَهُ:
مُكَشّفَةَ الْمَنَاكِبِ فِي الْجُلُولِ، رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، أَوْ مِنْ خُزَاعَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/78)
[أَمْرُ الْعَقَبَةِ الثّانِيَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَجَعَ إلَى مَكّةَ، وخرج من خرج من الأنصار الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمَوْسِمِ مَعَ حَجّاجِ قَوْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ، حَتّى قَدِمُوا مَكّةَ، فَوَاعَدُوا رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَقَبَةَ، مِنْ أَوْسَطِ أَيّامِ التّشْرِيقِ، حِينَ أَرَادَ اللهُ بِهِمْ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَالنّصْرِ لِنَبِيّهِ، وَإِعْزَازِ الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.
[البراء بن معرور وصلاة الْكَعْبَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كعب بن مالك بن أبي كعب بن الْقَيْنِ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، أَنّ أَخَاهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْأَنْصَارِ، حَدّثَهُ أَنّ أَبَاهُ كَعْبًا حَدّثَهُ، وَكَانَ كَعْبٌ مِمّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَايَعَ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَا، قَالَ: خَرَجْنَا فِي حُجّاجِ قَوْمِنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَلّيْنَا وَفَقِهْنَا، وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، سَيّدُنَا وَكَبِيرُنَا، فَلَمّا وَجّهْنَا لِسَفَرِنَا، وَخَرَجْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ، قَالَ الْبَرَاءُ لَنَا: يَا هَؤُلَاءِ، إنّي قَدْ رَأَيْت رَأْيًا، فو الله مَا أَدْرِي، أَتُوَافِقُونَنِي عَلَيْهِ، أَمْ لَا؟ قَالَ: قلنا: وما ذاك؟ قَدْ رَأَيْت أَنْ لَا أَدَعَ هَذِهِ الْبَنِيّةَ مِنّي بِظَهْرٍ، يَعْنِي: الْكَعْبَةَ، وَأَنْ أُصَلّيَ إلَيْهَا. قَالَ: فَقُلْنَا، وَاَللهِ مَا بَلَغَنَا أَنّ نَبِيّنَا صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي إلّا إلَى الشّامِ، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَهُ.
قَالَ: فَقَالَ: إنّي لَمُصَلّ إلَيْهَا قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: لَكِنّا لَا نَفْعَلُ. قَالَ: فَكُنّا إذَا حَضَرَتْ الصّلَاةُ صَلّيْنَا إلَى الشّامِ، وَصَلّى إلَى الْكَعْبَةِ، حَتّى قَدِمْنَا مَكّةَ. قَالَ: وَقَدْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/79)
كُنّا عِبْنَا عَلَيْهِ مَا صَنَعَ، وَأَبَى إلّا الْإِقَامَةَ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمّا قَدِمْنَا مَكّةَ قَالَ لِي:
يَا ابْنَ أَخِي، انْطَلِقْ بِنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى نَسْأَلَهُ عَمّا صَنَعْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَإِنّهُ وَاَللهِ لَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ خِلَافِكُمْ إيّايَ فِيهِ. قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنّا لَا نَعْرِفُهُ، وَلَمْ نَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَقِينَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكّةَ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: هل تعرفانه؟ فقلتا: لَا؛ قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَمّهُ؟ قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ- قَالَ: وَقَدْ كُنّا نَعْرِفُ الْعَبّاسَ، كَانَ لَا يَزَالُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا تَاجِرًا- قَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَهُوَ الرّجُلُ الْجَالِسُ مَعَ الْعَبّاسِ. قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَإِذَا الْعَبّاسُ جَالِسٌ، وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم جالس معه، فسلّمنا ثم جلسنا إلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبّاسِ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟
قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، سَيّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ. قال:
فو الله مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم: الشاعر؟ قال: نعم. فقال الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: يَا نَبِيّ اللهِ، إنّي خَرَجْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، وَقَدْ هَدَانِي اللهُ لِلْإِسْلَامِ، فَرَأَيْت أَنْ لَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيّةَ مِنّي بِظَهْرٍ، فَصَلّيْت إلَيْهَا، وَقَدْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي فِي ذَلِكَ، حَتّى وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَمَاذَا تَرَى يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: قَدْ كُنْت عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْت عَلَيْهَا. قَالَ: فَرَجَعَ الْبَرَاءُ إلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَصَلّى مَعَنَا إلَى الشّامِ. قَالَ: وَأَهْلُهُ يَزْعُمُونَ أَنّهُ صَلّى إلَى الْكَعْبَةِ حَتّى مَاتَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا، نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/80)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ عَوْنُ بْنُ أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ:
وَمِنّا الْمُصَلّي أَوّلَ النّاسِ مُقْبِلًا ... عَلَى كَعْبَةِ الرّحْمَنِ بَيْنَ الْمَشَاعِرِ
يَعْنِي الْبَرَاءَ بْنَ مَعْرُورٍ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
[إسْلَامُ عبد الله بن عمرو بن حرام]
قال ابن إسحاق: حدثني معبد بن كعب، أَنّ أَخَاهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ حَدّثَهُ أن أباه كعب بن مالك حدثه، قَالَ كَعْبٌ: ثُمّ خَرَجْنَا إلَى الْحَجّ، وَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْعَقَبَةِ مِنْ أَوْسَطِ أَيّامِ التّشْرِيقِ. قَالَ فَلَمّا فَرَغْنَا مِنْ الْحَجّ، وَكَانَتْ اللّيْلَةُ الّتِي وَاعَدْنَا رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا، وَمَعَنَا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جَابِرٌ، سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، أَخَذْنَاهُ مَعَنَا، وَكُنّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا، فَكَلّمْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ، إنّك سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، وَإِنّا نَرْغَبُ بِك عَمّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنّارِ غَدًا، ثُمّ دَعَوْنَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إيّانَا الْعَقَبَةَ. قَالَ: فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبًا.
[أمرأتان فى البيعة]
قَالَ: فَنِمْنَا تَلِك اللّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا، حَتّى إذَا مَضَى ثُلُثُ اللّيْلِ خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمَعَادِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، نَتَسَلّلُ تَسَلّلَ الْقَطَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/81)
مُسْتَخْفِينَ، حَتّى اجْتَمَعْنَا فِي الشّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ، أُمّ عُمَارَةَ، إحْدَى نساء بنى مازن ابن النّجّارِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ بْنِ نَابِي، إحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلِمَةَ، وَهِيَ أُمّ منيع.
[العباس والأنصار]
قَالَ: فَاجْتَمَعْنَا فِي الشّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، حَتّى جَاءَنَا وَمَعَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إلّا أَنّهُ أَحَبّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ وَيَتَوَثّقَ لَهُ. فَلَمّا جَلَسَ كَانَ أَوّلَ مُتَكَلّمٍ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ- قَالَ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ إنّمَا يُسَمّونَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ، الْخَزْرَجَ، خَزْرَجَهَا وَأَوْسَهَا-: إنّ مُحَمّدًا مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا؛ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيهِ، فَهُوَ فِي عِزّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَإِنّهُ قَدْ أبى إلا الابحياز إلَيْكُمْ، وَاللّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إلَيْهِ، وَمَانِعُوهُ مِمّنْ خَالَفَهُ، فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه فى عزّ ومنعة من قومه وبلده. قَالَ، فَقُلْنَا لَهُ، قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْت، فَتَكَلّمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَخُذْ لِنَفْسِك وَلِرَبّك مَا أَحْبَبْت.
[عَهْدُ الرّسُولِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ على الأنصار]
قَالَ، فَتَكَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَتَلَا الْقُرْآنَ، وَدَعَا إلَى اللهِ وَرَغّبَ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمّ قَال، أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/82)
قَالَ، فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ، ثُمّ قال، نعم، والذى بعثك بالحقّ، لَنَمْنَعَنّك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا فَبَايِعْنَا يَا رسول الله، فنحن والله أهل الْحُرُوبِ، وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا [عَنْ كَابِرٍ] . قَالَ، فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ، وَالْبَرَاءُ يُكَلّمُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيّهَانِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرّجَالِ حِبَالًا، وَإِنّا قَاطِعُوهَا- يَعْنِي الْيَهُودَ- فَهَلْ عَسَيْتَ إنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمّ أَظْهَرَك اللهُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى قَوْمِك وَتَدَعَنَا؟ قَالَ: فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، ثُمّ قَالَ: بَلْ الدّمَ الدّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنّي، أُحَارِبُ مَنْ حاربتم، وأسالم من سالمتم..
قال ابن هشام. ويقال: الهدم الهدم: أَيْ ذِمّتِي ذِمّتُكُمْ وَحُرْمَتِي حُرْمَتُكُمْ.
قَالَ كَعْبُ: وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْرِجُوا إلَيّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، لِيَكُونُوا عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ. فَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، تِسْعَةً مِنْ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةً مِنْ الْأَوْسِ.
[أَسَمَاءُ النّقَبَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَتَمَامُ خبر العقبة]
[النقباء من الخزرج]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مِنْ الْخَزْرَجِ- فِيمَا حَدّثَنَا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ-: أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، وَهُوَ: تيم الله بن ثعلبة عمرو بن الخزرج [بن حارثة] ، وَسَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي زهير بن مالك بن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/83)
أمرئ القيس بن مالك بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الخزرج بن الحارث ابن الْخَزْرَجِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك [الأغر] بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث ابن الْخَزْرَجِ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج؛ وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ غنم بن كعب بن سلمة ابن سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَعَبْدُ الله ابن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة ابن سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَعُبَادَةُ ابن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عوف ابن عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ غَنْمُ بْنُ عَوْفٍ، أَخُو سَالِمِ بن عوف بن عمرو بن عوف ابن الْخَزْرَجِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي خُزَيْمَةَ ابن ثَعْلَبَةَ بْنِ طَرِيفِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بن كعب بن الخزرج، والمنذر ابن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبدودّ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ- قَالَ ابْنُ هشام: ويقال: ابن خنيش.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/84)
[النقباء من الأوس]
وَمِنْ الْأَوْسِ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ بْنِ سِمَاكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ رَافِعِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ [بْنَ جشم بن الحارث بن الخزرج ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بن كعب بن النحاط بن كعب بن حَارِثَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ السّلْمِ بْنِ امْرِئِ القيس [بن ثعلبة بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ] بْنِ مَالِكِ بْنِ الأوس [ابن حارثة] ورفاعة ابن عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زُبَيْرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عمرو ابن عوف بن مالك بن الأوس.
[شعر كعب بن مالك عن النقباء]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعُدّونَ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيّهَانِ، وَلَا يَعُدّونَ رِفَاعَةَ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُهُمْ، فِيمَا أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ:
أَبْلِغْ أُبَيّا أَنّهُ قال رَأْيُهُ ... وَحَانَ غَدَاةَ الشّعْبِ وَالْحَيْنُ وَاقِعُ
أَبَى اللهُ مَا مَنّتْك نَفْسُك إنّهُ ... بِمِرْصَادِ أَمْرِ النّاسِ رَاءٍ وَسَامِعُ
وَأَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ قَدْ بَدَا لَنَا ... بِأَحْمَدَ نُورٌ مِنْ هُدَى اللهِ سَاطِعُ
فَلَا تَرْغَبَنْ فِي حَشْدِ أَمْرٍ تُرِيدُهُ ... وَأَلّبْ وَجَمّعْ كُلّ مَا أَنْتَ جَامِعُ
وَدُونَك فَاعْلُمْ أَنّ نَقْضَ عُهُودِنَا ... أَبَاهُ عَلَيْك الرّهط حين تبايعوا
أَبَاهُ الْبَرَاءُ وَابْنُ عَمْرٍو كِلَاهُمَا ... وَأَسْعَدُ يَأْبَاهُ عليك ورافع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/85)
وَسَعْدٌ أَبَاهُ السّاعِدِيّ وَمُنْذِرٌ ... لِأَنْفِك إنْ حَاوَلْت ذَلِكَ جَادِعُ
وَمَا ابْنُ رَبِيعٍ إنْ تَنَاوَلْت عَهْدَهُ ... بِمُسْلِمِهِ لَا يَطْمَعَنْ ثَمّ طَامِعُ
وَأَيْضًا فَلَا يُعْطِيكَهُ ابْنُ رَوَاحَةَ ... وَإِخْفَارُهُ مِنْ دُونِهِ السّمّ نَاقِعُ
وَفَاءً بِهِ وَالْقَوْقَلِيّ بْنُ صَامِتٍ ... بِمَنْدُوحَةِ عَمّا تُحَاوِلُ يَافِعُ
أَبُو هَيْثَمٍ أَيْضًا وَفِيّ بِمِثْلِهَا ... وَفَاءً بِمَا أَعْطَى مِنْ الْعَهْدِ خَانِعُ
وَمَا ابْنُ حُضَيْرٍ إنْ أَرَدْت بِمَطْمَعِ ... فَهَلْ أَنْتَ عَنْ أُحْمُوقَةِ الْغَيّ نَازِعُ؟
وَسَعْدٌ أَخُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَإِنّهُ ... ضَرُوحٌ لِمَا حاولت م الأمر مَانِعُ
أُولَاكَ نُجُومٌ لَا يُغِبّكَ مِنْهُمْ ... عَلَيْك بِنَحْسٍ فِي دُجَى اللّيْلِ طَالِعُ
فَذَكَرَ كَعْبٌ فيهم أبا الهيثم بن التّيهّان، ولم بذكر رفاعة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِلنّقَبَاءِ: أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريّين لعيسى بن مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي- يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ- قالوا: نعم.
[ما قاله العباس بن عبادة للخزرج قَبْلَ الْمُبَايَعَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: أَنّ الْقَوْمَ لَمّا اجْتَمَعُوا لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَالَ الْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْأَنْصَارِيّ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرّجُلَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: إنّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ مِنْ النّاسِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنّكُمْ إذَا نُهِكَتْ أَمْوَالُكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/86)
مُصِيبَةً، وَأَشْرَافُكُمْ قَتْلًا أَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنْ الْآنَ، فَهُوَ وَاَللهِ- إنْ فَعَلْتُمْ خِزْيُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إلَيْهِ عَلَى نَهْكَةِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ، فَخُذُوهُ، فَهُوَ وَاَللهِ خَيْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالُوا: فَإِنّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ، فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ إنْ نَحْنُ وفّينا؟ قَالَ: الْجَنّةُ. قَالُوا: اُبْسُطْ يَدَك، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ.
وَأَمّا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ فَقَالَ: وَاَللهِ مَا قَالَ ذَلِك الْعَبّاسُ إلّا لِيَشُدّ الْعَقْدَ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَعْنَاقِهِمْ.
وَأَمّا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: مَا قَالَ ذَلِكَ الْعَبّاسُ إلّا لِيُؤَخّرَ الْقَوْمَ تَلِك اللّيْلَةَ، رَجَاءَ أَنْ يحضرها عبد الله بن أبىّ بن سَلُولَ، فَيَكُونَ أَقْوَى لِأَمْرِ الْقَوْمِ. فَاَللهُ أَعْلَمُ أىّ ذلك كان.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَلُولُ: امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ، وَهِيَ أُمّ أُبَيّ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ.
[أول صحابى ضَرَبَ عَلَى يَدِ الرّسُولِ فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الثّانِيَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَبَنُو النّجّارِ يَزْعُمُونَ أَنّ أَبَا أُمَامَةَ، أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ، كَانَ أَوّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِهِ، وَبَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَقُولُونَ: بَلْ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيّهَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/87)
قال ابن إسحاق: قال الزهرى: حدثنى مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَحَدّثَنِي فِي حَدِيثِهِ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَوّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، ثم بايع بعد القوم.
[الشيطان وبيعة العقبة]
فَلَمّا بَايَعَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَخَ الشّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطّ: يَا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ- وَالْجُبَاجِبُ: الْمَنَازِلُ- هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمّمٍ وَالصّبَاةُ مَعَهُ، قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا أَزَبّ العقبة، هذا ابن أزبب- قال: ابن هشام:
ويقال ابن أزيب استمع أَيْ عَدُوّ اللهِ، أَمَا وَاَللهِ لَأَفْرُغَنّ لَك.
[الرسول لا يستجيب لطلب الحرب من الأنصار]
قَالَ: ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارفضّوا إلى رحالكم. قال فَقَالَ لَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ: وَاَللهِ الّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ: إنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لم نُؤْمَرْ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ ارْجِعُوا إلَى رِحَالِكُمْ. قَالَ: فَرَجَعْنَا إلَى مَضَاجِعِنَا، فَنِمْنَا عَلَيْهَا حَتّى أَصْبَحْنَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/88)
[مجادلة جلة قريش للأنصار فى شأن البيعة]
فَلَمّا أَصْبَحْنَا غَدَتْ عَلَيْنَا جُلّةُ قُرَيْشٍ، حَتّى جاؤنا فِي مَنَازِلِنَا، فَقَالُوا:
يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إنّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إلَى صَاحِبِنَا هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَإِنّهُ وَاَللهِ مَا مِنْ حَيّ مِنْ الْعَرَبِ أَبْغَضُ إلَيْنَا، أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، مِنْكُمْ. قَالَ: فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِنَا يَحْلِفُونَ بِاَللهِ مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْنَاهُ. قَالَ:
وَقَدْ صَدَقُوا، لَمْ يَعْلَمُوهُ. قَالَ: وَبَعْضُنَا يَنْظُرُ إلَى بَعْضٍ. قَالَ: ثُمّ قَامَ الْقَوْمُ، وَفِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيّ، وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ لَهُ جَدِيدَانِ.
قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ كَلِمَةً- كَأَنّي أُرِيدُ أَنْ أَشْرَكَ الْقَوْمَ بِهَا فِيمَا قَالُوا-: يَا أَبَا جَابِرٍ، أَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتّخِذَ، وَأَنْت سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، مِثْلَ نَعْلَيْ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ؟ قَالَ: فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ، فَخَلَعَهُمَا مِنْ رِجْلَيْهِ ثُمّ رَمَى بِهِمَا إلَيّ، وَقَالَ:
وَاَللهِ لِتَنْتَعِلَنّهُمَا. قَالَ: يَقُولُ: أَبُو جَابِرٍ: مَهْ، أَحْفَظْتَ وَاَللهِ الْفَتَى، فَارْدُدْ إلَيْهِ نَعْلَيْهِ. قَالَ: قُلْت لا: وَاَللهِ لَا أَرُدّهُمَا، فَأْلٌ وَاَللهِ صَالِحٌ، لَئِنْ صدق الفأل لأسلبنّه.
قال ابن إسحاق: وحدثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: أَنّهُمْ أَتَوْا عبد الله بن أبىّ بن سَلُولَ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ كَعْبٌ من القول، فقال لهم: إنّ هَذَا الْأَمْرَ جَسِيمٌ، مَا كَانَ قَوْمِي لِيَتَفَوّتُوا عَلَيّ بِمِثْلِ هَذَا، وَمَا عَلِمْته كَانَ. قال:
فانصرفوا عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/89)
[قريش تطلب الأنصار وتأسر سعد بن عبادة]
قال: ونفر الناس من مِنًى، فَتَنَطّسَ الْقَوْمُ الْخَبَرَ، فَوَجَدُوهُ قَدْ كَانَ، وَخَرَجُوا فِي طَلَبِ الْقَوْمِ، فَأَدْرَكُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بِأَذَاخِرَ، وَالْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو، أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَكِلَاهُمَا كَانَ نَقِيبًا. فَأَمّا الْمُنْذِرُ فَأَعْجَزَ الْقَوْمَ، وَأَمّا سَعْدٌ فَأَخَذُوهُ، فَرَبَطُوا يَدَيْهِ إلَى عُنُقِهِ بِنِسْعِ رَحْلِهِ، ثُمّ أَقْبَلُوا بِهِ حَتّى أَدْخَلُوهُ مَكّةَ يَضْرِبُونَهُ، وَيَجْذِبُونَهُ، بِجُمّتِهِ، وَكَانَ ذَا شَعَرٍ كَثِيرٍ.
[خَلَاصُ سعد بن عبادة]
قال سعد: فو الله إنّي لَفِي أَيْدِيهمْ إذْ طَلَعَ عَلَيّ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ رَجُلٌ وَضِيءٌ أَبْيَضُ، شَعْشَاعٌ، حلو من الرجال قال ابن هشام: الطويل الحسن قال رؤبة: يمطوه من شعشاع غير مودن. يعنى عنق البعير غير قصير يقول مودن اليد أى: ناقص اليد يمطوه من السير شعشاع: حلو من الرجال.
قال: قلت فِي نَفْسِي: إنْ يَكُ عِنْدَ أَحَد مِنْ الْقَوْمِ خَيْرٌ، فَعِنْدَ هَذَا، قَالَ فَلَمّا دَنَا مِنّي رَفَعَ يَدَهُ فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً. قَالَ: قلت فى نفسى، لا والله ما عندهم بعد هذا من خير قال: فو الله إنّي لَفِي أَيْدِيهِمْ يَسْحَبُونَنِي إذْ أَوَى لِي رَجُلٌ مِمّنْ كَانَ مَعَهُمْ، فَقَالَ: وَيْحَك! أَمَا بَيْنَك وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ قُرَيْشٍ جِوَارٌ وَلَا عَهْدٌ؟ قَالَ: قُلْت: بَلَى، وَاَللهِ لَقَدْ كُنْت أجير لجبير بن مطعم ابن عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ تِجَارَةً، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/90)
وللحارث ابن حرب بن أميّة بن عبد شمش بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، قَالَ: وَيْحَك! فَاهْتِفْ بِاسْمِ الرّجُلَيْنِ، وَاذْكُرْ مَا بَيْنَك وَبَيْنَهُمَا. قَالَ. فَفَعَلْت، وَخَرَجَ ذَلِك الرّجُلُ إلَيْهِمَا، فَوَجَدَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُمَا: إنّ رَجُلًا مِنْ الخزرج الآن يضرب بالأبطح ليهتف بِكُمَا، وَيَذْكُرُ أَنّ بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمَا، جِوَارًا، قَالَا: من هُوَ؟ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَا: صَدَقَ وَاَللهِ، إنْ كَانَ لَيُجِيرُ لَنَا تِجَارَنَا، وَيَمْنَعُهُمْ أن يظلموا ببلده: قال: فجاآ فَخَلّصَا سَعْدًا مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَانْطَلَقَ. وَكَانَ الّذِي لكم سعدا، سهيل بْنُ عَمْرٍو، أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ الرّجُلُ الّذِي أَوَى إلَيْهِ، أَبَا الْبَخْتَرِيّ بْنَ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَوّلُ شِعْرٍ قِيلَ فِي الْهِجْرَةِ بيتين، قالهما ضرار ابن الْخَطّابِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَخُو بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فهر:
تَدَارَكْتَ سَعْدًا عَنْوَةً فَأَخَذْتَهُ ... وَكَانَ شِفَاءً لَوْ تَدَارَكْتَ مُنْذِرَا
وَلَوْ نِلْتُهُ طُلّتْ هُنَاكَ جِرَاحُهُ ... وَكَانَتْ حَرِيّا أَنْ يُهَانَ وَيُهْدَرَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى:
وَكَانَ حَقِيقًا أَنْ يُهَانَ وَيُهْدَرَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَجَابَهُ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فيهما فقال،
لَسْتَ إلَى سَعْدٍ وَلَا الْمَرْءِ مُنْذِرٍ ... إذَا مَا مَطَايَا الْقَوْمِ أَصْبَحْنَ ضُمّرا
فَلَوْلَا أَبُو وَهْبٍ لَمَرّتْ قَصَائِدٌ ... عَلَى شَرَفِ الْبَرْقَاءِ يَهْوِينَ حسّرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/91)
أَتَفْخُرُ بِالْكَتّانِ لَمّا لَبِسْتَهُ ... وَقَدْ تَلْبَسُ الْأَنْبَاطُ رَيْطًا مُقَصّرَا
فَلَا تَكُ كَالْوَسْنَانِ يَحْلُمُ أَنّهُ ... بقرية كسرى أو بقرية قيصر
وَلَا تَكُ كَالثّكْلَى وَكَانَتْ بِمَعْزِلٍ ... عَنْ الثّكْلِ لَوْ كَانَ الْفُؤَادُ تَفَكّرَا
وَلَا تَكُ كَالشّاةِ الّتِي كَانَ حَتْفُهَا ... بِحَفْرِ ذِرَاعَيْهَا فَلَمْ تَرْضَ مَحْفَرَا
وَلَا تَكُ كَالْعَاوِي فأقبل نخره ... وَلَمْ يَخْشَهُ سَهْمًا مِنْ النّبْلِ مُضْمَرَا
فَإِنّا وَمَنْ يُهْدِي الْقَصَائِدَ نَحْوَنَا ... كَمُسْتَبْضِعٍ تَمْرًا إلَى أهل خيبرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ فِي أَنْسَابِ الْمُبَايِعِينَ لَهُ فِي الْعَقَبَةِ الأولى فى بنى سلمة منهم: سادرة ابن تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ، وَتَزِيدُ بِتَاءِ مَنْقُوطَةٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقُ، وَلَا يُعْرَفُ فِي الْعَرَبِ تَزِيدُ إلّا هَذَا، وَتَزِيدُ بْنُ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ، وَهُمْ الّذِينَ تُنْسَبُ إلَيْهِمْ الثّيَابُ التّزِيدِيّةُ، وَأَمّا سَلِمَةُ بِكَسْرِ اللّامِ، فَهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ سُمّيَ بِالسّلِمَةِ وَاحِدَةِ السّلَامِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ، قَالَ الشّاعِرُ:
ذَاكَ خَلِيلِي وَذُو يُعَاتِبُنِي ... يَرْمِي وَرَائِي بِالسّهْمِ وَالسّلِمَةِ «1»
وَفِي جُعْفِيّ: سَلِمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ دُهْلِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ جُعْفِيّ وَفِي جُهَيْنَةَ سلمة
__________
(1) فى اللسان: أنشد أبو عبيد فى السلمة:
ذاك خليلى وزد يعاتبنى ... يرمى ورائى بامسهم وامسلمة
وأراد: والسلمة، وهى من لغات حمير قال ابن برى هو: البجير بن عفة الطائى، قال: وصوابه:
وإن مولاى ذد يعاتبنى ... لا احنة عنده، ولا جرمة
ينصرنى منك غير معتذر ... يرمى ورائى بامسهم وامسلمه(4/92)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن نَصْرِ بْنِ غَطَفَانَ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ النّسّابَةُ «1» وفى الصّحَابَةِ عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ أَبُو بُرَيْدَةَ الْجَرْمِيّ الّذِي أَمّ قَوْمَهُ، وَهُوَ ابْنُ سِتّ سِنِينَ أَوْ سَبْعٍ، وَفِي الرّوَاةِ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلِمَةَ وَيُنْسَبُ إلَى بَنِي سَلِمَةَ هَؤُلَاءِ سَلَمِيّ بِالْفَتْحِ، كَمَا يُنْسَبُ إلَى بَنِي سَلَمَةَ، وَهُمْ بَطْنَانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ يُقَالُ لَهُمْ: السّلَمَاتُ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ سَلَمَةُ الْخَيْرِ، وَلِلْآخَرِ سَلَمَةُ الشّرّ ابْنَا قَصِيرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَأَمّا بَنُو سَلِيمَةَ بِيَاءِ فَفِي دَوْسٍ، وَهُمْ بَنُو سَلِيمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ فَهْمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دَوْسٍ، وَسَلِيمَةُ هَذَا هُوَ أَخُو جَذِيمَةَ الْأَبْرَشِ، وَهُوَ الّذِي قَتَلَ أَخَاهُ مَالِكًا بِسَهْمِ «2» قَتْلَ خَطَأٍ، وَيُقَالُ فِي النّسَبِ إلَيْهِ: سَلَمِيّ أَيْضًا وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ قِيلَ: سُلَيْمِيّ كَمَا قِيلَ فِي عُمَيْرَةَ عُمَيْرِيّ.
وَذَكَرَ بَنِي جِدَارَةَ مِنْ بَنِي النّجّارِ، وَجِدَارَةُ وَخُدَارَةُ: أخوان، وغيره
__________
(1) فى القاموس: «وبنو سلمة بطن من الأنصار، وابن كهلاء فى بجيلة، وابن الحارث فى كندة، وابن عمرو بن ذهل وابن غطفان بن قيس، وعميرة بن خفاف بن سلمة، وعبد الله بن سلمة البدرى الأحدى، وعمرو بن سلمة الهمدانى، وعبد الله بن سلمة المرادى وأخطأ الجوهرى فى قوله: وليس سلمة فى العرب غير بطن الأنصار» وذكر أيضا فى الصحابة سلمة بن حنظلة السحيمى وابن قيس الجرمى.
(2) فى الاشتقاق: وسليمة الذى رمى أباه بسهم، فقتله وله يقول مالك.
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رمانى
ويروى: استد. وفى مادة سدد فى اللسان يذكر ابن برى أنه رآه فى شعر عقيل بن علفة يقول فى ابنه عملس حين رماه بسهم، ونسبه الجاحظ فى البيان والتبيين ص 231 ح 3 إلى معد بن أوس انظر ص 497، 543 الاشتقاق لابن دريد «ط» السنة المحمدية ص 268.(4/93)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَقُولُ فِي جِدَارَةَ: خُدَارَةَ بِالْخَاءِ الْمَضْمُومَةِ، وَهَكَذَا قَيّدَهُ أَبُو عَمْرٍو، كَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الِاشْتِقَاقِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصّوَابِ لِأَنّهُ أَخُو خُدْرَةَ «1» وَكَثِيرًا مَا يَجْعَلُونَ أَسْمَاءَ الْإِخْوَةِ مُشْتَقّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.
وَذَكَرَ الْقَوَاقِلَ وَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ، وَذَكَرَ تَسْمِيَتَهُمْ الْقَوَاقِلَ، وَأَنّ ذَلِكَ لِقَوْلِهِمْ إذَا أَجَارُوا أَحَدًا: قَوْقِلْ حَيْثُ شِئْت، وَفِي الْأَنْصَارِ:
الْقَوَاقِلُ وَالْجَعَادِرُ «2» وَهُمَا بَطْنَانِ مِنْ الْأَوْسِ، وَسَبَبُ تَسْمِيَتِهِمَا: وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، أَمّا الْجَعَادِرُ فَكَانُوا إذَا أَجَارُوا أحدا أعطوه سهما، وقالوا له: جعدربه حَيْثُ شِئْت، كَمَا كَانَتْ الْقَوَاقِلُ «3» تَفْعَلُ، وَهُمْ بَنُو زَيْدِ، بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ ضُبَيْعَةَ [بْنِ زَيْدٍ] يُقَالُ لَهُمْ كَسْرُ الذّهَبِ، وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ الْأَوْسِ.
قَالَ الشّاعِرُ:
فَإِنّ لَنَا بَيْن الْجَوَارِي وَلِيدَةً ... مُقَابَلَةً بَيْنَ الْجَعَادِرِ «4» وَالْكَسْرِ
مَتَى تَدْعُ فِي الزّيْدَيْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكٍ ... وَزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو تَأْتِهَا عِزّةُ الْخَفْرِ
وَذَكَرَ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيّهَانِ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ، وَلَا نَسَبَهُ فِي أَهْلِ الْعَقَبَةِ الثّانِيَةِ، وَلَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَهُوَ مَالِكُ بْنُ التّيهان، واسم التيهان أيضا مالك
__________
(1) انظر ص 455 الاشتقاق ط السنة المحمدية.
(2) فى الاشتقاق: «ومرة، وهم الجعادرة» ص 437 وقد جلعهم ابن دريد بطنا من الأوس وكذلك ابن حزم ص 325 أما القواقل، فهم من الخزرج.
(3) القوقلة عند ابن دريد: التغلغل فى الشىء والدخول فيه ص 456.
(4) الجعادرة هم بنو مرة بن مالك بن الأوس.(4/94)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بْنُ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زَعْوَنِ «1» ، بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ الْأَنْصَارِيّ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَانَ أَحَدَ النّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمّ شَهِدَ بَدْرًا، وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ وَفَاتِهِ، فَأَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ إنّهُ شَهِدَ مَعَ عَلِيّ صِفّينَ «2» ، وَقُتِلَ فِيهَا رَحِمَهُ اللهُ، وَأَحْسَبُ ابْنَ إسْحَاقَ وَابْنَ هِشَامٍ تَرَكَا نَسَبَهُ عَلَى جَلَالَتِهِ فِي الْأَنْصَارِ وَشُهُودِهِ هَذِهِ الْمَشَاهِدَ كُلّهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِاخْتِلَافِ فِيهِ، فَقَدْ وَجَدْت فِي شِعْرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ حِينَ أَضَافَ أَبُو الْهَيْثَمِ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَنْزِلِهِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَذَبَحَ لَهُمْ عَنَاقًا «3» وَأَتَاهُمْ بِقِنْوِ مِنْ رُطَبٍ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ فِي ذَلِكَ:
فَلَمْ أَرَ كَالْإِسْلَامِ عِزّا لأهله ... ولا مثل أضياف لأراشىّ معشرا
فجعله إرَشِيّا كَمَا تَرَى، وَالْإِرَاشِيّ مَنْسُوبٌ إلَى إرَاشَةَ فِي خُزَاعَةَ، أَوْ إلَى إرَاشِ بْنِ لِحْيَانَ بْنِ الْغَوْثِ فَاَللهُ أَعْلَمُ: أَهُوَ أَنْصَارِيّ بِالْحِلْفِ أَمْ بِالنّسَبِ الْمَذْكُورِ، قَبْلَ هَذَا، وَنَقَلْته مِنْ قَوْلِ أَبِي عُمَرَ فِي الِاسْتِيعَابِ، وَقَدْ قِيلَ: إنه
__________
(1) فى الاصل: زعون والتصويب من الإصابة ونسبه فيها كما فى الروض وفى الإصابة: والروايات عن أبى الهيثم كلها فيها نظر، وليست تأتى من وجه يثبت.
(2) وهذا ساقه أبو بشر الدولابى من طريق صالح بن الوجيه، وعبد الرحمن بن بديل وآخرون. وصفين أرض فوق بالس بمقدار نصف مرحلة، وهما غربى الفرات بها كانت الوقعة بين على ومعاوية رضى الله عنهما، وبالس هى أول مدن الشام من العراق وهى فرضة الفرات لأهل الشام.
(3) العناق: الأنثى من ولد المعز(4/95)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَلَوِيّ مِنْ بَنِي إرَاشَةَ بْنِ فَارَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ بَلِيّ، وَالْهَيْثَمُ فِي اللّغَةِ: فَرْخُ [النّسْرِ، أَوْ] الْعُقَابِ، وَالْهَيْثَمُ أَيْضًا ضَرْبٌ مِنْ الْعُشْبِ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبِهِ سُمّيَ الرّجُلُ هَيْثَمًا أَوْ بِالْمَعْنَى الْأَوّلِ وَأَنْشَدَ:
رَعَتْ بِقَرَانِ الْحَزْنِ رَوْضًا مُنَوّرًا ... عَمِيمًا مِنْ الظّلّاعِ وَالْهَيْثَمِ الْجَعْدِ
ذَكَرَ بَيْعَتَهُمْ لِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ أَلّا يَسْرِقُوا، وَلَا يَزْنُوا إلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ خَبَرًا عَنْ بَيْعَةِ النساء: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ أَنّهُ الْوَلَدُ تَنْسُبُهُ إلَى بَعْلِهَا، وَلَيْسَ مِنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمَرْأَةِ فِيمَا دُونَ الْوَطْءِ كَالْقُبْلَةِ وَالْجَسّةِ وَنَحْوِهَا، وَالْأَوّلُ يُشْبِهُ أَنْ يُبَايِعَ عَلَيْهِ الرّجَالُ، وَكَذَلِكَ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أنه النّوح، وهذا أيضا ليس مِنْ شَأْنِ الرّجَالِ، فَدَلّ عَلَى ضَعْفِ قَوْلِ مَنْ خَصّهُ بِالنّوْحِ، وَخَصّ الْبُهْتَانَ بِإِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالرّجُلِ، وَلَيْسَ مِنْهُ، وَقِيلَ: يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنّ يَعْنِي: الْكَذِبَ وَعَيْبَ النّاسِ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ، وَأَرْجُلِهِنّ يَعْنِي: الْمَشْيَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ، أَيْ: فِي خَيْرٍ تَأْمُرُهُنّ بِهِ، وَالْمَعْرُوفُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَا عُرِفَ حُسْنُهُ وَلَمْ تُنْكِرْهُ الْقُلُوبُ، وَهَذَا مَعْنَى يَعُمّ الرّجَالَ وَالنّسَاءَ، وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِيمَا أَخَذَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَيْهِنّ: أَنْ قَالَ: وَلَا تَغْشُشْنَ أَزْوَاجَكُنّ، قَالَتْ: إحْدَاهُنّ وَمَا غِشّ أَزْوَاجِنَا فَقَالَ: أَنْ تَأْخُذِي مِنْ مَالِهِ(4/96)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَتُحَابِي بِهِ غَيْرَهُ «1» .
هِجْرَةُ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ فَصْلٌ: وَذَكَرَ هِجْرَةَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَهُوَ الْمُقْرِئُ، وَهُوَ أَوّلُ مَنْ سُمّيَ بِهَذَا، أَعْنِي الْمُقْرِئَ يُكَنّى أَبَا عَبْدِ اللهِ، كَانَ قَبْلَ إسْلَامِهِ مِنْ أَنْعَمِ قُرَيْشٍ عَيْشًا وَأَعْطَرِهِمْ، وَكَانَتْ أُمّهُ شَدِيدَةَ الْكَلَفِ بِهِ، وَكَانَ يَبِيتُ وَقَعْبُ الْحَيْسِ «2» عِنْدَ رَأْسِهِ، يَسْتَيْقِظُ فَيَأْكُلُ، فَلَمّا أَسْلَمَ أَصَابَهُ مِنْ الشّدّةِ مَا غَيّرَ لَوْنَهُ وَأَذْهَبَ لَحْمَهُ، وَنَهَكَتْ جِسْمَهُ حَتّى كَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْظُرُ إلَيْهِ، وَعَلَيْهِ فَرْوَةٌ قَدْ رَفَعَهَا، فَيَبْكِي لِمَا كَانَ يَعْرِفُ مِنْ نِعْمَتِهِ، وَحَلَفَتْ أُمّهُ حِينَ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ أَلّا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ وَلَا تَسْتَظِلّ بِظِلّ حَتّى يَرْجِعَ إلَيْهَا، فَكَانَتْ تَقِفُ لِلشّمْسِ حَتّى تَسْقُطَ مَغْشِيّا عَلَيْهَا، وَكَانَ بَنُوهَا يَحْشُونَ فَاهَا بِشِجَارِ «3» ، وَهُوَ عُودٌ فَيَصُبّونَ فِيهِ الْحَسَاءَ لِئَلّا تَمُوتَ، وَسَنَذْكُرُ اسْمَهَا وَنَسَبَهَا عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي الْبَدْرِيّينَ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُهُ، فَيَقُولُ: مَا رَأَيْت بِمَكّةَ أَحْسَنَ لَمّةً، وَلَا أَرَقّ حُلّةً وَلَا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ. وَذَكَرَ أَيْضًا بِإِسْنَادِ لَهُ، قال: كان
__________
(1) فى حديث رواه أحمد بسنده عن سلمى بنت قيس إحدى خالات الرسول صلى الله عليه وسلم.
(2) القعب: القدح الضخم الجافى، والحيس: تمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديدا، ثم يندر منه نواه، وربما جعل فيه سويق.
(3) أصله: عود يجعل فى فم الجدى لئلا يرضع. وحديث بكاء الرسول «ص» حين كان يرى مصعبا رواه الترمذى بسند فيه ضعف.(4/97)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ فَتَى مَكّةَ شَبَابًا وَجَمَالًا وَسِنّا وَكَانَ أَبَوَاهُ يُحِبّانِهِ، وَكَانَتْ أُمّهُ تَكْسُوهُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ الثّيَابِ، وَكَانَ أَعْطَرَ أَهْلِ مَكّةَ يَلْبَسُ الْحَضْرَمِيّ مِنْ النّعَالِ «1»
وَذَكَرَ أَنّ مَنْزَلَهُ كَانَ على أسعدين زُرَارَةَ، مَنْزَلٌ بِفَتْحِ الزّايِ، وَكَذَلِكَ كُلّ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ مَنْزَلِ فُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ، فَهُوَ بِالْفَتْحِ، لِأَنّهُ أَرَادَ الْمَصْدَرَ، وَلَمْ يُرِدْ الْمَكَانَ، وَكَذَا قَيّدَهُ الشّيْخُ أَبُو بَحْرٍ بِفَتْحِ الزّايِ، وَأَمّا أُمّ قَيْسِ بِنْتُ مُحْصِنٍ الْمَذْكُورَةُ فِي هِجْرَةِ بَنِي أَسَدٍ، فَاسْمُهَا آمِنَةُ وَهِيَ أُخْتُ عُكّاشَةَ، وَهِيَ الّتِي ذُكِرَتْ فِي الْمُوَطّأِ وَأَنّهَا أَتَتْ بِابْنِ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلْ الطّعَامَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَوّلَ جُمُعَةٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَوّلَ مَنْ جَمّعَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ، وذكر غيره أن أَنّ أَوّلَ مَنْ جَمّعَ بِهِمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، لِأَنّهُ أَوّلُ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، ثُمّ قَدِمَ بَعْدَهُ ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوّلِ الْكِتَابِ مَنْ جَمّعَ فى الجاهلية بمكة فحطب وَذَكَرَ وَبَشّرَ بِمَبْعَثِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَضّ عَلَى اتّبَاعِهِ، وَهُوَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيّ «2» وَيُقَالُ: أَنّهُ أَوّلُ مَنْ سَمّى الْعَرُوبَةَ الْجُمُعَةَ، وَمَعْنَى الْعَرُوبَةِ الرّحْمَةُ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَجْتَمِعُ إلَيْهِ فيها فيما حكى الزبير ابن بَكّارٍ، فَيَخْطُبُهُمْ، فَيَقُولُ: أَمّا بَعْدُ فَاعْلَمُوا وَتَعَلّمُوا إنما الأرض لله مهاد،
__________
(1) نسبة إلى حضرموت، وهى نعال ملسنة.
(2) وسبق تعليقى على ذلك.(4/98)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والجبال أوتاد، والسماء بناء، والنجوم سملا «1» ، ثُمّ يَأْمُرُهُمْ بِصِلَةِ الرّحِمِ، وَيُبَشّرُهُمْ بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» ، وَيَقُولُ: حَرَمُكُمْ يَا قَوْمُ عَظّمُوهُ، فَسَيَكُونُ لَهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ نَبِيّ كَرِيمٌ، ثُمّ يَقُولُ فِي شِعْرٍ ذَكَرَهُ:
عَلَى غَفْلَةٍ يَأْتِي النّبِيّ مُحَمّدٌ ... فَيُخْبِرُ أَخْبَارًا صَدُوقٌ خَبِيرُهَا
صُرُوفٌ رَأَيْنَاهَا تُقَلّبُ أَهْلَهَا ... لَهَا عَقْدٌ مَا يَسْتَحِيلُ مَرِيرُهَا
ثُمّ يَقُولُ:
يَا ليتني شاهد فحواء دعوته ... إذا قريش تبغي الحقّ خذلانا «3»
وأما أَوّلُ مَنْ جَمّعَ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَنْ ذَكَرْنَا.
نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ:
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّهُ جَمّعَ بِهِمْ أَبُو أُمَامَةَ عِنْدَ هَزْمِ النّبِيتِ فِي بَقِيعٍ يُقَال لَهُ بَقِيعُ الْخَضِمَاتِ. بَقِيعٌ بِالْبَاءِ وَجَدْته فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ، وكذلك
__________
(1) هكذا بالأصل، ولم أهتد إلى صوابها.
(2) النبى نفسه لم يكن حتى ليلة المبعث يعرف شيئا عن نبوته. يجوز أن نفهم على فرض صحة النقل- أنه كان يبشرهم بمبعث نبى، ويقول عنه الجاحظ «ومن الخطباء القدماء: كعب بن لؤى، وكان يخطب على العرب عامة، ويحض كنانة على البر، فلما مات أكبروا موته، فلم تزل كنانة تؤرخ بموت كعب إلى عام الفيل» ص 35 ج 1 البيان والتبيين بتحقيق عبد السلام هارون.
(3) فى الأصل. فجواء، وهو خطأ. وللكلمة روايتان إحداهما: فحواء أى: معنى، ونجواه، والمد للضرورة وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أى دعوته السر. وقد سبق التعليق على البيت فى الجزء الأول.(4/99)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَجَدْته فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ، وَذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ مُعْجَمِ مَا اُسْتُعْجِمَ من أسماد الْبُقَعِ أَنّهُ نَقِيعٌ بِالنّونِ، ذَكَرَهُ فِي بَابِ النّونِ وَالْقَافِ «1» ، وَقَالَ: هَزْمُ النّبِيتِ: جَبَلٌ عَلَى يريد مِنْ الْمَدِينَةِ، وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ: أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حَمَى غَرَزَ النّقِيعِ قَالَ الْخَطّابِيّ: النّقِيعُ: الْقَاعُ، وَالْغَرَزُ شِبْهُ الثّمَامِ»
وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَمَعْنَى الْخَضِمَاتِ مِنْ الْخَضْمِ، وَهُوَ الْأَكْلُ بِالْفَمِ كُلّهِ، وَالْقَضْمُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، وَيُقَالُ: هُوَ أَكْلُ الْيَابِسِ، وَالْخَضْمُ:
أَكْلُ الرّطَبِ، فَكَأَنّهُ جَمْعُ خَضِمَةٍ، وَهِيَ الْمَاشِيَةُ الّتِي تَخْضَمُ، فَكَأَنّهُ سُمّيَ بِذَاكَ لِخَضْبِ كَانَ فِيهِ، وَأَمّا الْبَقِيعُ بِالْبَاءِ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْهُ بِكَثِيرِ، وَأَمّا بَقِيعُ الْخَبْجَبَةِ بِخَاءِ وَجِيمٍ وَبَاءَيْنِ، فَجَاءَ ذِكْرُهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ «3» : وَالْخَبْجَبَةُ:
شَجَرَةٌ عُرِفَ بِهَا.
الْجُمُعَةُ:
فَصْلٌ: وَتَجْمِيعُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْجُمُعَةَ وَتَسْمِيَتُهُمْ إيّاهَا بِهَذَا الِاسْمِ وَكَانَتْ تُسَمّى الْعَرُوبَةَ- كَانَ عَنْ هِدَايَةٍ مِنْ اللهِ تعالى لهم
__________
(1) يقول الخشنى فى شرح السيرة عن نقيع الخضمات: «وقع فى الرواية هنا بالباء والنون، والصواب بالنون، وهو موضع يستنقع فيه الماء، والنقيع: البئر» ص 118. وهو فى معجم ياقوت: نقيع. وكذلك صاحب المراصد.
(2) فى القاموس عن الغرز: ضرب من الثمام أو نباته كنبات الإذخر من شر المرعى.
(3) رواه فى باب الركاز بسنده عن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وخلاصته أن المقداد وجد ببقيع الخبجبة حجرا وجد به عدة دنانير، وأن النبى دعا له بالبركة فيها بعد أن علم أنه لم يهو إلى الحجر بيديه.(4/100)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِهَا، ثُمّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْجُمُعَةِ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقَرّ فَرْضُهَا وَاسْتَمَرّ حُكْمُهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ: أَضَلّتْهُ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى، وَهَدَاكُمْ اللهُ إلَيْهِ.
ذَكَرَ الْكَشّيّ، وَهُوَ عَبْدُ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَ: نا عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: جَمّعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْجُمُعَةُ، وَهُمْ الّذِينَ سَمّوْا الْجُمُعَةَ، قَالَ الْأَنْصَارُ:
لِلْيَهُودِ يَوْمَ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ كُلّ سَبْعَةِ أَيّامٍ، وَلِلنّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَهَلُمّ، فَلْنَجْعَلْ يَوْمًا نَجْتَمِعُ فِيهِ، وَنَذْكُرُ اللهَ، وَنُصَلّي وَنَشْكُرُ، أَوْ كَمَا قَالُوا، فَقَالُوا: يَوْمُ السّبْتِ لِلْيَهُودِ، وَيَوْمُ الْأَحَدِ لِلنّصَارَى، فَاجْعَلُوا يَوْمَ الْعَرُوبَةِ، كَانُوا يُسَمّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ، فَاجْتَمَعُوا إلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَصَلّى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ رَكْعَتَيْنِ، فَذَكّرَهُمْ، فَسَمّوْا الْجُمُعَةَ حِينَ اجْتَمَعُوا إلَيْهِ، فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً فَتَغَدّوْا وَتَعَشّوْا مِنْ شَاةٍ، وَذَلِكَ لِقِلّتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ- عَزّ وَجَلّ- فِي ذَلِكَ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ الْجُمُعَةَ: 9.
قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَمَعَ تَوْفِيقِ اللهِ لَهُمْ إلَيْهِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ إذْنٍ مِنْ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُمْ، فَقَدْ رَوَى الدّارَقُطْنِيّ عن عثمان ابن أَحْمَدَ بْنِ السّمّاكِ، قَالَ: نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ غَالِبِ الْبَاهِلِيّ، قَالَ: نا مُحَمّدُ ابن عَبْدِ اللهِ أَبُو زَيْدٍ الْمَدَنِيّ، قَالَ: نا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ: حَدّثَنِي مَالِكٌ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: أَذِنَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ: رَسُولُ- اللهِ صَلَّى اللَّهُ(4/101)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليه سلم- أَنْ يُجَمّعَ بِمَكّةَ، وَلَا يُبْدِيَ لَهُمْ، فَكَتَبَ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ:
أَمّا بَعْدُ: فَانْظُرْ الْيَوْمَ الّذِي تَجْهَرُ فِيهِ الْيَهُودُ بِالزّبُورِ لِسَبْتِهِمْ، فَاجْمَعُوا نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، فَإِذَا مَالَ النّهَارُ عَنْ شَطْرِهِ عِنْدَ الزّوَالِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَتَقَرّبُوا إلَى اللهِ بِرَكْعَتَيْنِ قَالَ: فَأَوّلُ مَنْ جَمّعَ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، فَجَمّعَ عِنْدَ الزّوَالِ مِنْ الظّهْرِ، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ، وَمَعْنَى قَوْلِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَضَلّتْهُ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى، وَهَدَاكُمْ اللهُ إلَيْهِ فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ العلم أن اليهود أمروا ليوم مِنْ الْأُسْبُوعِ، يُعَظّمُونَ اللهَ فِيهِ، وَيَتَفَرّغُونَ لِعِبَادَتِهِ، فَاخْتَارُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ السّبْتَ فَأُلْزِمُوهُ فِي شَرْعِهِمْ، كَذَلِكَ النّصَارَى أُمِرُوا عَلَى لِسَانِ عِيسَى ليوم مِنْ الْأُسْبُوعِ، فَاخْتَارُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ الْأَحَدَ، فَأُلْزِمُوهُ شَرْعًا لَهُمْ.
قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَكَانَ الْيَهُودُ إنّمَا اخْتَارُوا السّبْتَ، لِأَنّهُمْ اعْتَقَدُوهُ الْيَوْمَ السّابِعَ، ثم زادوا الكفرهم أَنّ اللهَ اسْتَرَاحَ فِيهِ، تَعَالَى اللهُ عَنْ قَوْلِهِمْ، لِأَنّ بَدْءَ الْخَلْقِ عِنْدَهُمْ الْأَحَدُ، وَآخِرَ الستة لأيام الّتِي خَلَقَ اللهُ فِيهَا الْخَلْقَ الْجُمُعَةُ، وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ النّصَارَى، فَاخْتَارُوا الْأَحَدَ، لِأَنّهُ أَوّلُ الْأَيّامِ فِي زَعْمِهِمْ، وَقَدْ شَهِدَ الرّسُولُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْفَرِيقَيْنِ بِإِضْلَالِ الْيَوْمِ، وَقَالَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ إنّ اللهَ خَلَقَ التّرْبَةَ يَوْمَ السّبْتِ، فَبَيّنَ أَنّ أَوّلَ الْأَيّامِ الّتِي خَلَقَ اللهُ فِيهَا الْخَلْقَ السّبْتَ، وَآخِرَ الْأَيّامِ السّتّةِ إذًا الْخَمِيسُ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِيمَا ذَكَرَ عَنْهُ الطّبَرِيّ، وَفِي الْأَثَرِ أَنّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سُمّيَ الْجُمُعَةَ، لِأَنّهُ جَمَعَ فِيهِ خَلْقَ آدَمَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَلْمَانَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَدّمْنَا فِي حَدِيثِ(4/102)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْكَشّيّ أَنّ الْأَنْصَارَ سَمّوْهُ جُمُعَةً لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ، فَهَدَاهُمْ اللهُ إلَى التّسْمِيَةِ، وَهَدَاهُمْ إلَى اخْتِيَارِ الْيَوْمِ، وَمُوَافَقَةُ الْحِكْمَةِ أَنّ اللهَ تَعَالَى لَمّا بَدَأَ فِيهِ خَلْقَ أَبِينَا آدَمَ، وَجَعَلَ فِيهِ بَدْءَ هَذَا الْجِنْسِ، وَهُوَ الْبَشَرُ، وَجَعَلَ فِيهِ أَيْضًا فَنَاءَهُمْ وَانْقِضَاءَهُمْ إذْ فِيهِ تَقُومُ السّاعَةُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ ذِكْرٍ وَعِبَادَةٍ، لِأَنّهُ تَذْكِرَةٌ بِالْمَبْدَأِ، وَتَذْكِرَةٌ بِالْمَعَادِ، وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ
الْجُمُعَةَ: 9 وَخَصّ الْبَيْعَ لِأَنّهُ يَوْمٌ يُذْكَرُ بِالْيَوْمِ الّذِي لَا بَيْعَ فِيهِ وَلَا خُلّةَ مَعَ أَنّهُ وِتْرٌ لِلْأَيّامِ الّتِي قَبْلَهُ فِي الْأَصَحّ مِنْ الْقَوْلِ، وَاَللهُ يُحِبّ الْوِتْرَ، لِأَنّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ فَكَانَ مِنْ هُدَى اللهِ لِهَذِهِ الْأُمّةِ أَنْ أُلْهِمُوا إلَيْهِ ثُمّ أُقِرّوا عَلَيْهِ لِمَا وَافَقُوا الْحِكْمَةَ فِيهِ، فَهُمْ الْآخِرُونَ السّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ، كَمَا أَنّ الْيَوْمَ الّذِي اخْتَارُوهُ سَابِقٌ لِمَا اخْتَارَتْهُ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى، وَمُتَقَدّمٌ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ السّجْدَةِ فِي صُبْحِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ الْبَطِينُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ كِلَاهُمَا عَنْ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَوَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا عُرْوَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ ذَكَرَهُ الْبَزّارُ، وَرَوَاهُ التّرْمِذِيّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ لَهُ عَنْ الْأَحْوَصِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيه من ذكر السنة الْأَيّامِ وَاتّبَاعِهَا بِذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ مِنْ طِينٍ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَنْبِيهًا مِنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَتَذْكِرَةً لِلْقُلُوبِ(4/103)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بهذه الموعظة «1» .
__________
(1) أخرج البخارى ومسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام ابن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم إن هذا يومهم الذى فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع. اليهود غدا، والنصارى بعد غد» لفظ البخارى، وفى لفظ لمسلم: أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة. نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضى بينهم قبل الخلائق» والمسلم لا يطمئن قلبه فيما يتعلق بالعبادة إلا لما نقل نقلا صحيحا يغمر القلب بالسكينة: والروح بالولاء له، ولن تطمئن نفس مسلم إلى أن الجمعة كانت صلاة ابتدعها الأنصار من عندهم. والقارئ المتدبر لآية الجمعة فى سورة الجمعة يؤمن أن صلاة الجمعة مفروضة من عند الله، لا من عند الأنصار، ولا من عند النبى «ص» فالنبى لا يفرض أمرا، وإنما الذى يفرض هو ربنا سبحانه وتعالى. اما زعم اليهود عن السبت، فقد ورد عندهم فى سفر التكوين ما يأتى: «فأكملت السموات والأرض، وكل جندها، وفرغ الله فى اليوم السابع من عمله الذى عمل، فاستراح فى اليوم السابع من جميع عمله الذى عمل، وبارك الله اليوم السابع، وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذى عمل الله خالقا» الإصحاح الثانى الفقرات: 1، 2، 3، والقرآن الكريم يدفع زورهم هذا بأنه بهتان أثيم. وتدبر قول الله سبحانه (ولقد خلقنا السماوات والأرض، وما بينهما فى ستة أيام، وما مسنا من لغوب) ق: 28 واللغوب: النعب والاعياء، هكذا اليهود لا يسكن حقدهم إلا أن يسبوا الله جل جلاله. ثم تدبر عن أيام الخلق هذه الآية البينة: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ(4/104)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمّا قِرَاءَتُهُ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ فِي الرّكْعَةِ الثّانِيَةِ، فَلِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ السّعْيِ وَشُكْرِ اللهِ لَهُمْ عَلَيْهِ يَقُولُ: وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً مَعَ مَا فِي أَوّلِهَا مِنْ ذِكْرِ بَدْءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَأَنّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلُ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَقَدْ قَالَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فَنَبّهَ بِقِرَاءَتِهِ إيّاهَا عَلَى التّأَهّبِ لِلسّعْيِ الْمَشْكُورِ عَلَيْهِ وَاَللهُ أَعْلَمُ، أَلَا تَرَى أَنّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الجمعة أيضا بهل أتاك حديث الغاشية، وذلك أن فيها: لِسَعْيِها راضِيَةٌ كَمَا فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ، فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فَاسْتَحَبّ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الثانية ما فيه
__________
لَهُ أَنْداداً، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها، وَبارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها: أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، سَواءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها، وَلِلْأَرْضِ: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فصلت: 9- 12 هذا هو الهدى الذى يتلألأ فيه الحق، يشرق منه نور الله. وأما حديث أبى هريرة «أخذ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بيدى، فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق فى آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» أما هذا فقد رواه مسلم والنسائى فى كتابيهما من حديث ابن جريج، وهو- كما قيل- من غرائب الصحيح، وقد علله البخارى فى التاريخ، فقال رواه بعضهم عن أبى هريرة رضى الله عنه عن كعب الأحبار!! وهنا تتجلى لنا حكمة الهداية الإلهية فى قوله سبحانه: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ، وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً الكهف: 51 فلا يجوز لمسلم أن يقول عن خلق السموات والأرض شيئا غير ما قال الله سبحانه.(4/105)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رِضَاهُمْ بِسَعْيِهِمْ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي السّورَةِ الْأُولَى.
لَفْظُ الْجُمُعَةِ:
وَلَفْظُ الْجُمُعَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاجْتِمَاعِ، كَمَا قَدّمْنَا وَكَانَ عَلَى وَزْنِ فُعْلَةٍ وَفُعُلَةٍ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى قُرْبَةٍ، وَقُرُبَةٍ وَالْعَرَبُ تَأْتِي بِلَفْظِ الْكَلِمَةِ عَلَى وَزْنِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا، وَقَالُوا: عُمْرَةٌ، فَاشْتَقّوا اسْمَهَا مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَبَنَوْهُ عَلَى فُعْلَةٍ لِأَنّهَا وُصْلَةٌ وَقُرْبَةٌ إلَى اللهِ، وَلِهَذَا الْأَصْلِ فُرُوعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَنَظَائِرُ لِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ يُفِيتُنَا تَتَبّعُهُ عَمّا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، وَفِيمَا قَدّمْنَاهُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ لَمْحَةٍ دَالّةٍ، وَقَالُوا فِي الْجُمُعَةِ جَمّعَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ كَمَا قَالُوا عَيّدَ إذَا شَهِدَ الْعِيدَ، وَعَرّفَ إذَا شَهِدَ عَرَفَةَ، وَلَا يُقَالُ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ إلّا جَمَعَ بِالتّخْفِيفِ، وَفِي الْبُخَارِيّ: أَوّلُ مَنْ عَرّفَ بِالْبَصْرَةِ: ابْنُ عَبّاسٍ، وَالتّعْرِيفُ إنّمَا هُوَ بِعَرَفَاتِ، فَكَيْفَ بِالْبَصْرَةِ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أَنّهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إذَا صَلّى الْعَصْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَخَذَ فِي الدّعَاءِ وَالذّكْرِ وَالضّرَاعَةِ إلَى اللهِ تَعَالَى إلَى غُرُوبِ الشّمْسِ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ عَرَفَةَ «1» .
أَيّامَ الْأُسْبُوعِ:
وَلَيْسَ فِي تَسْمِيَتِهِ هَذِهِ الْأَيّامَ وَالِاثْنَيْنِ إلَى الْخَمِيسِ مَا يَشُدّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنّ أَوّلَ الْأُسْبُوعِ: الْأَحَدُ وَسَابِعَهَا السّبْتُ، كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ لِأَنّهَا تَسْمِيَةٌ طَارِئَةٌ، وَإِنّمَا كَانَتْ أَسَمَاؤُهَا فِي اللّغَةِ الْقَدِيمَةِ شِيَارَ وَأَوّلَ وَأَهْوَنَ وَجُبَارَ وَدُبَارَ وَمُؤْنِسَ وَالْعَرُوبَةَ «2» ، وَأَسْمَاؤُهَا بالسريانية قَبْلَ هذا
__________
(1) وفيها أيضا جمعه إذ ذهبوا بها إلى صفة اليوم أنه يجمع الناس كما يقال رجل همزة لمزة ضحكة.
(2) سبق الكلام عنها: وقد جمعها الشاعر فى قوله:
أؤمل أن أعيش وأن يومى ... بأول، أو بأهون أو جبار
أو التالى: دبار، فإن أفته ... فؤنس أو عروبة أو شيار(4/106)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبُو جَادّ هَوّزَ حَطّي إلَى آخِرِهَا، وَلَوْ كَانَ اللهُ تَعَالَى ذَكَرَهَا فِي الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقّةِ مِنْ الْعَدَدِ، لَقُلْنَا: هِيَ تَسْمِيَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى الْمُسَمّى بِهَا، وَلَكِنّهُ لَمْ يُذْكَرْ مِنْهَا إلّا الْجُمُعَةُ وَالسّبْتُ «1» ، وَلَيْسَا مِنْ الْمُشْتَقّةِ مِنْ الْعَدَدِ، وَلَمْ يُسَمّهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ إلَى سَائِرِهَا إلّا حَاكِيًا لِلُغَةِ قَوْمِهِ لَا مُبْتَدِئًا لِتَسْمِيَتِهَا، وَلَعَلّ قَوْمَهُ أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ، فَأَلْقَوْا عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ اتّبَاعًا لَهُمْ، وَإِلّا فَقَدْ قَدّمْنَا مَا وَرَدَ فِي الصّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ: إنّ اللهَ خَلَقَ التّرْبَةَ يَوْمَ السّبْتِ وَالْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، الْحَدِيثَ، وَالْعَجَبُ مِنْ الطّبَرِيّ عَلَى تَبَحّرِهِ فِي الْعِلْمِ كَيْفَ خَالَفَ مقتضى
__________
أراد: فبمؤنس، وترك صرفه على اللغة القديمة، وإن شئت جعلته على لغة من رأى ترك صرف ما ينصرف ... قال أبو موسى الحامض: قلت لأبى العباس: هذا الشعر موضوع، قال: لم؟ قلت: لأن مؤنسا وجبارا ودبارا وشيارا تنصرف، وقد ترك صرفها، فقال: هذا جائز فى الكلام فكيف فى الشعر؟ .. وقال اللحانى: كان أبو زياد وأبو الجراح يقولان: مضت الجمعة بما فيها، فيوحدان ويؤنثان، وكانا يقولان: مضى السبت بما فيه فيوحدان ويذكران، وكذلك الأحد، ثم اختلفا فيما بعد، فكان أبو زياد يقول: مضى الاثنان بما فيه وكذلك يفعل فى الثلاثاء والأربعاء والخميس. أما أبو الجراح فكان يقول: مضى الاثنان بما فيهما، ومضى الثلاثاء بما فيهن، ومضى الأربعاء بما فيهن، ومضى الخميس بما فيهن، فيجمع ويؤنث يخرج ذلك مخرج العدد. اللسان مادة جمع وعرب.
(1) ورد ذكر الجمعة مرة واحدة فى القرآن فى سورة الجمعة الآية رقم 9، أما السبت فذكر ست مرات فى القرآن فى البقرة والنساء والأعراف والنحل، وجاء الفعل: يسبتون مرة واحدة فى الأعراف.(4/107)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث، وأعنق فِي الرّدّ عَلَى ابْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِ، وَمَالَ إلَى قَوْلِ الْيَهُودِ فِي أَنّ الْأَحَدَ هُوَ الْأَوّلُ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ سَادِسٌ لَا وِتْرٌ وَإِنّمَا الْوِتْرُ فِي قَوْلِهِمْ يَوْمُ السّبْتِ مَعَ مَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَضَلّتْهُ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى، وَهَدَاكُمْ اللهُ إلَيْهِ، وَمَا احْتَجّ بِهِ بالطبرى «1» مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ، فَلَيْسَ فِي الصّحّةِ كَاَلّذِي قَدّمْنَاهُ، وَقَدْ يُمْكِنُ فِيهِ التّأْوِيلُ أَيْضًا، فَقِفْ بِقَلْبِك عَلَى حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي تَعَبّدِ الْخَلْقِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ التّذْكِرَةِ بِإِنْشَاءِ هَذَا الْجِنْسِ وَمَبْدَئِهِ، كَمَا قَدّمْنَا، وَلِمَا فِيهِ أيضا من النذكرة بِأَحَدِيّةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَانْفِرَادِهِ قَبْلَ الْخَلْقِ بِنَفْسِهِ، فَإِنّك إذَا كُنْت فِي الْجُمُعَةِ، وَتَفَكّرْت فِي كل جمعة قبل حَتّى يَتَرَقّى وَهْمُك إلَى الْجُمُعَةِ الّتِي خُلِقَ فِيهَا أَبُوك آدَمُ ثُمّ فَكّرْت فِي الْأَيّامِ الستة التى قبل يوم الجمعة،
__________
(1) اختلاف لا طائل تحته. ولنتدبر معا ما ذكرت به من قبل من قول الله سبحانه (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) هذا وقد ورد فى سفر التكوين أول أسفار التوراة كما يقول النصارى واليهود، أن الله خلق الليل والنهار فى اليوم الأول، وخلق السماء فى اليوم الثانى، وخلق الأرض بنباتها وشجرها فى اليوم الثالث، وخلق أنوار السماء ونجومها فى اليوم الرابع، وخلق ما فى البحر من زحافات، وما فى الأرض من طير، وكل ذوات الأنفس الحية- ما عدا الإنسان- فى اليوم الخامس، ثم عمل وحوش الأرض وبهائمها ودباباتها، ثم قال «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التى تدب على الأرض، فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكر وأنثى خلقهم، كل هذا فى اليوم السادس، ثم يقول السفر «وفرغ الله فى اليوم السابع من عمله الذى عمل» فلنتدبر ما يروى لنا من غير القرآن، فقد يكون من هذه الأسفار ونحن لا ندرى.(4/108)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَجَدْت فِي كُلّ يَوْمٍ مِنْهَا جِنْسًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَوْجُودًا إلَى السّبْتِ، ثُمّ انْقَطَعَ وَهْمُك فَلَمْ تَجِدْ فِي الْجُمُعَةِ الّتِي تَلِي ذَلِكَ السّبْتَ وُجُودًا إلّا لِلْوَاحِدِ الصّمَدِ الْوِتْرِ، فَقَدْ ذَكّرَتْ الْجُمُعَةُ مَنْ تَفَكّرَ بِوَحْدَانِيّةِ اللهِ وَأَوّلِيّتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُؤَكّدَ فِي هَذَا الْيَوْمِ تَوْحِيدُ الْقَلْبِ لِلرّبّ بِالذّكْرِ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ الجمعة. وَأَنْ يَتَأَكّدَ ذَلِكَ الذّكْرُ بِالْعَمَلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مُشَاكِلًا لِمَعْنَى التّوْحِيدِ، فَيَكُونَ الِاجْتِمَاعُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ، وَإِلَى إمَامٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمّةِ، وَيَخْطُبُ ذَلِكَ الْإِمَامُ، فَيُذَكّرُ بِوَحْدَانِيّةِ اللهِ تَعَالَى وَبِلِقَائِهِ، فَيُشَاكِلُ الْفِعْلُ الْقَوْلَ، وَالْقَوْلُ الْمُعْتَقَدَ، فَتَأَمّلْ هَذِهِ الْأَغْرَاضَ بِقَلْبِك، فَإِنّهَا تَذْكِرَةٌ بِالْحَقّ، وَقَدْ زِدْنَا عَلَى مَا شَرَطْنَا فِي أَوّلِ الْكِتَابِ مَعَانِيَ لَمْ تَكُنْ هُنَالِكَ، وَعُدْنَا بِهَا، وَلَكِنّ الْكَلَامَ يَفْتَحُ بَعْضُهُ بَابَ بَعْضٍ، وَيَحْدُو الْمُتَكَلّمَ قَصْدَ الْبَيَانِ إلَى الْإِطَالَةِ، وَلَا بَأْسَ بِالزّيَادَةِ مِنْ الْخَيْرِ، وَاَللهُ الْمُسْتَعَانُ.
إسْلَامُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَسَمِعَ أَهْلُ مَكّةَ هَاتِفًا يَهْتِفُ، وَيَقُولُ قَبْلَ إسْلَامِ سَعْدٍ:
فَإِنْ يُسْلِمْ السّعْدَانِ يُصْبِحْ مُحَمّدٌ ... بِمَكّةَ لَا يَخْشَى خِلَافَ الْمُخَالِفِ
فَحَسِبُوا أَنّهُ يُرِيدُ بِالسّعْدَيْنِ: الْقَبِيلَتَيْنِ سَعْدَ هُذَيْمٍ مِنْ قُضَاعَةَ، وَسَعْدَ بْنَ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، حَتّى سمعوه يقول:(4/109)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَيَا سَعْدَ سَعْدَ الْأَوْسِ كُنْ أَنْتَ نَاصِرًا ... وَيَا سَعْدَ سَعْدَ الْخَزْرَجِينَ الْغَطَارِفِ
أَجِيبَا إلَى دَاعِي الْهُدَى، وَتَمَنّيَا ... عَلَى اللهِ فِي الْفِرْدَوْسِ مُنْيَةَ عَارِفِ «1»
فَعَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنّهُ يُرِيدُ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ.
هَلْ يَغْتَسِلُ الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ؟
وَذَكَرَ فِيهِ اغْتِسَالَهُمَا حِينَ أَسْلَمَا بِأَمْرِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لَهُمَا بِذَلِكَ، فَذَلِكَ السّنّةُ فِي كُلّ كَافِرٍ يُسْلِمُ، ثُمّ اُخْتُلِفَ فِي نِيّةِ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ بِاغْتِسَالِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَنْوِي بِهِ رَفْعَ الْجَنَابَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْوِي التّعَبّدَ، وَلَا حُكْمَ لِلْجَنَابَةِ فِي حَقّهِ، لِأَنّ مَعْنَى الْأَمْرِ بِهِ اسْتِبَاحَةُ الصّلَاةِ، وَالْكَافِرُ لَا يُصَلّي، وَإِنْ كَانَ مُخَاطَبًا فِي أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ، وَلَكِنّهُ أَمْرٌ مَشْرُوطٌ بِالْإِيمَانِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِيمَانُ- وَهُوَ الشّرْطُ الْأَوّلُ- فَأَجْدِرْ بِأَنْ يَكُونَ- الشّرْطُ الثّانِي- وَهُوَ الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ غَيْرَ مُقَيّدٍ بِشَيْءِ، فَإِذَا أَسْلَمَ هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إعَادَةُ صَلَاةٍ مَضَتْ، وَإِذَا سَقَطَتْ الصلوات سقطت عنه شُرُوطُهَا، وَاسْتَأْنَفَ الْأَحْكَامَ الشّرْعِيّةَ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الصّلَوَاتُ من حين يسلم بشروط
__________
(1) هذا الصائح أو الهاتف هو أحد الشعراء، ولهذا يقول ابن حجر فى فتح البارى عن السعدين «وإياهما أراد الشاعر بقوله» ثم روى البيت: فإن يسلم ص 97 فتح البارى ح 7 وبعد البيت الأخير:
فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات رفارف
وقد رواه البخارى فى التاريخ الأوسط ولكن لم يخرجه فى الصحيح(4/110)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَدَائِهَا مِنْ وُضُوءٍ وَغُسْلٍ مِنْ جَنَابَةٍ، إذَا أَجْنَبَ بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ صِحّةِ الصّلَاةِ، وَرَأَيْت لِبَعْضِ الْمُتَأَخّرِينَ أَنّ اغتساله سنّة لا فريضة وَلَيْسَ عِنْدِي بِالْبَيّنِ لِأَنّ اللهَ سبحانه يقول: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ التّوْبَةَ: 28 وَحُكْمُ النّجَاسَةِ إنّمَا يُرْفَعُ بِالطّهَارَةِ وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِمْ بِالتّنْجِيسِ لِمَوْضِعِ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنّهُ قَدْ عَلّقَ الْحُكْمَ بِصِفَةِ الشّرْكِ وَالْحُكْمُ الْمُعَلّلُ بِالصّفَةِ مُرْتَبِطٌ بِهَا فَإِذَا ارْتَفَعَ حُكْمُ الشّرْكِ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَبْقَ لِلْجَنَابَةِ حُكْمٌ كَمَا إذَا كَانَ الْمُسْلِمُ جُنُبًا، ثُمّ بَالَ فَالطّهُورُ مِنْ الْجَنَابَةِ، يَرْفَعُ عَنْهُ حُكْمَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَهُوَ حَدَثُ الْوُضُوءِ، لِأَنّ الطّهَارَةَ الصّغْرَى دَاخِلَةٌ فِي الْكُبْرَى، وَتَطَهّرُهُ مِنْ تَنْجِيسِ الشّرْكِ بِإِيمَانِهِ هُوَ أَيْضًا بِالْإِضَافَةِ إلَى الطّهْرِ مِنْ الْجَنَابَةِ، الطّهَارَةُ الْكُبْرَى، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُغْنِيَةً عَنْهَا، كَمَا كَانَتْ الطّهَارَةُ مِنْ الْجَنَابَةِ مُغْنِيَةً عَنْ الطّهَارَةِ مِنْ الْحَدَثِ، إذ لَيْسَتْ وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ الطّهَارَاتِ مُزِيلَةً لِعَيْنِ نَجَاسَةٍ فِيهَا، فَيَنْبَغِي بَعْدَ هَذَا أَنّ أَمْرَهُ بِالِاغْتِسَالِ تَعَبّدٌ، وَالْحُكْمُ بِأَنّهُ غَيْرُ فَرْضٍ تَحَكّمٌ وَاَللهُ أَعْلَمُ، غَيْرَ أَنّ التّرْمِذِيّ خَرّجَ حَدِيثَ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ حِينَ أَسْلَمَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ. قَالَ التّرْمِذِيّ: وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبّونَ لِلْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ أَنْ يَغْتَسِلَ، وَيَغْسِلَ ثِيَابَهُ، فَقَالَ: يَسْتَحِبّونَ، وَجَعَلَهَا مَسْأَلَةَ اسْتِحْبَابٍ.
مِنْ شَرْحِ شِعْرِ ابْنِ الْأَسْلَتِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ شِعْرَ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ، وَفِيهِ قَوْلُهُ:
وَلَوْلَا رَبّنَا كُنّا يَهُودًا ... وَمَا دِينُ الْيَهُودِ بِذِي شُكُول(4/111)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَرَادَ جَمْعَ: شَكْلٍ، وَشَكْلُ الشّيْءِ- بِالْفَتْحِ «1» - هُوَ مِثْلُهُ، وَالشّكْلُ بِالْكَسْرِ الدّلّ وَالْحُسْنُ، فَكَأَنّهُ أَرَادَ أَنّ دِينَ الْيَهُودِ بِدْعٌ، فَلَيْسَ لَهُ شُكُولُ أَيْ: لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْحَقَائِقِ، وَلَا مَثِيلَ يَعْضُدُهُ مِنْ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ الْمَقْبُولِ، وَقَدْ قَالَ الطّائِيّ:
وَقُلْت: أَخِي، قَالُوا: أَخٌ مِنْ قَرَابَةٍ ... فَقُلْت لَهُمْ: إنّ الشّكُولَ أَقَارِبُ
قَرِيبِي فِي رَأْيِي وَدِينِي وَمَذْهَبِي ... وَإِنْ بَاعَدَتْنَا فِي الْخُطُوبِ الْمَنَاسِبُ
وَقَالَ فِيهِ: مَعَ الرّهْبَانِ فِي جَبَلِ الْجَلِيلِ. الْجَلِيلُ بِالْجِيمِ الثّمَامُ، وَهَذَا الْجَبَلُ مِنْ جِبَالِ الشّامِ مَعْرُوفٌ بِهَذَا الِاسْمِ «2» .
ذِكْرُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَصَلَاتِهِ إلَى الْقِبْلَةِ ذَكَرَ حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ حَجّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مَعَ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، فَكَانُوا يُصَلّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ الْبَرَاءُ يصلى إلى الكعبة
__________
(1) فى القاموس أنه يكسر أيضا.
(2) فى المراصد: جبل الجليل: فى ساحل الشام ممتد إلى قرب مصر. قيل هو جبل يقبل من الحجاز، فما كان بفلسطين فهو جبل الحمل، وما كان بالأردن فهو جبل الجليل، وهو بدمشق: لبنان وبحمص: سنير. وفى قاموس الدكتور بوست: أن الجليل كانت القسم الشمالى لفلسطين، ويحدها من الشمال نهر القاسمية، ومن الشرق: الأردن وبحر الجليل، ومن الجنوب: السامرة، ومن الغرب فينيقية الممتدة من الكوامل إلى صور، وكانت الجليل قسمين العليا ويسكنها السوريون والفينيقيون، والعرب، والسفلى، فكانت بقرب بحر طبرية، وكان يسكنها أسباط بسا كروزبولون وغيرهم.(4/112)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَدِيثَ- إلَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدْ كُنْت عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صبرت لميها فِقْهُ قَوْلِهِ: لَوْ صَبَرْت عَلَيْهَا: أَنّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا قَدْ صَلّى؛ لِأَنّهُ كَانَ مُتَأَوّلًا.
قِبْلَةُ الرّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يُصَلّي بِمَكّةَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَا صَلّى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلّا مُذْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا أو ستة عشر شهرا «1» ، فعلى هذا
__________
(1) روى البخارى بسنده عن البراء رضى الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى إلى بيت المقدس سنة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمر على أهل المسجد، وهم راكعون، قال: أشهد بالله: لقد صليت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذى قد مات على القبلة، قبل أن تحول قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. أقول: لعل الراوى يريد أنه بهذا الجزء من الآية اطمأن كل امرئ مسلم إلى هذا المعنى، أو لعله أراد الآية كلها، إذ لا يعقل تأخر جزء من آية هذا شأنه وارتباطه الوثيق بما قبله عن جزئه الأول المتمم لمعناه!! وقد انفرد البخارى به من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر وورد فى البخارى أيضا «بينا الناس يصلون الصبح فى مسجد قباء إذ جاء جاء فقال: أنزل الله على النبى قرآنا أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة» وأخرجه مسلم أيضا. وإليك ما قاله ابن كثير فى تفسيره «وقد جاء فى هذا الباب أحاديث كثيرة، وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله- صلى الله(4/113)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَكُونُ فِي الْقِبْلَةِ نَسْخَانِ نَسْخُ سُنّةٍ بِسُنّةِ، وَنَسْخُ سُنّةٍ بِقُرْآنِ، وَقَدْ بَيّنَ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ مَنْشَأَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إذَا صَلّى بِمَكّةَ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمّا كَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ يَتَحَرّى الْقِبْلَتَيْنِ جَمِيعًا لَمْ يَبِنْ تَوَجّهُهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِلنّاسِ، حَتّى خَرَجَ مِنْ مَكّةَ وَاَللهُ أَعْلَمُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُ فِي الْآيَةِ النّاسِخَةِ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
__________
عليه وسلم- أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان يصلى بين الركنين، وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس؛ قاله ابن عباس والجمهور، ثم اختلف هؤلاء، هل كان الأمر به بالقرآن، أو بغيره؟ على قولين، وحكى القرطبى فى تفسيره.. أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه السلام، والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه- صلى الله عليه وسلم- المدينة، واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهرا، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة التى هى قبلة إبراهيم عليه السلام، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق، فخطب رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- النّاسَ، فأعلمهم بذلك، وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر، كما تقدم فى الصحيحين من رواية البراء، ووقع عند النسائى من رواية أبى سعيد بن المعلى أنها الظهر ... وذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن تحويل القبلة نزل على رسول الله، وقد صلى ركعتين من الظهر، وذلك فى مسجد بنى سلمة، فسمى مسجد القبلتين: وفى حديث نويلة بنت مسلم أنهم جاءهم الخبر بذلك، وهم فى صلاة الظهر، قال: فتحولت الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمرى، وأما أهل قباء، فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثانى كما جاء فى الصحيحين، وهى محاولة للجمع بين التى تروى أنها صلاة العصر، وبين التى تروى أنها صلاة الصبح..(4/114)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الْبَقَرَةَ: 150 أَيْ: مِنْ أَيّ جِهَةٍ جِئْت إلَى الصّلَاةِ، وَخَرَجْت إلَيْهَا فَاسْتَقْبِلْ الْكَعْبَةَ كُنْت مُسْتَدْبِرًا لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ لَمْ تَكُنْ، لِأَنّهُ كَانَ بِمَكّةَ يَتَحَرّى فِي اسْتِقْبَالِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَدَبّرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ وَقَالَ لِأُمّتِهِ:
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَلَمْ يَقُلْ: حَيْثُمَا خَرَجْتُمْ، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ يَخْرُجُ إلَيْهِمْ إلَى كُلّ صَلَاةٍ لِيُصَلّيَ بِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ إذْ كَانَ الْإِمَامُ الْمُقْتَدَى بِهِ فَأَفَادَ ذِكْرُ الْخُرُوجِ فِي خَاصّتِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُ غَيْرِهِ هَكَذَا، يَقْتَضِي الْخُرُوجَ، وَلَا سِيّمَا النّسَاءُ، وَمَنْ لَا جَمَاعَةَ عَلَيْهِ، وَكَرّرَ الْبَارِي تَعَالَى الْأَمْرَ بِالتّوَجّهِ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ، لِأَنّ الْمُنْكِرِينَ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، كَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنْ النّاسِ الْيَهُودُ، لِأَنّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالنّسْخِ فِي أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ، وَأَهْلُ الرّيْبِ وَالنّفَاقِ اشْتَدّ إنْكَارُهُمْ لَهُ أَنّهُ كَانَ أَوّلَ نَسْخٍ نَزَلَ، وَكُفّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا: نَدِمَ مُحَمّدٌ عَلَى فِرَاقِ دِينِنَا فَسَيَرْجِعُ إليه كما رجع إلى قِبْلَتَنَا، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَحْتَجّونَ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّهُ يَدْعُونَا إلَى مِلّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَقَدْ فَارَقَ قِبْلَةَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَآثَرَ عَلَيْهَا قِبْلَةَ الْيَهُودِ، فَقَالَ اللهُ لَهُ حِينَ أَمَرَهُ بِالصّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ الْبَقَرَةَ: 150 عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، أَيْ: لَكِنْ الّذِينَ ظَلَمُوا منهم لا يرجعون ولا يهتدون «1»
__________
(1) يرى بعض المفسرين أنه غير منقطع، لأن هذا لا يرد فى الكلام البليغ الفصيح. يقول البيضاوى عن الاستثناء هنا «إلا الذين ظلموا منهم استثناء من الناس، أى لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا للمعاندين منهم فإنهم يقولون(4/115)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الْبَقَرَةَ: 147 أَيْ:
مِنْ الّذِينَ شَكّوا وَامْتَرَوْا، وَمَعْنَى: الْحَقّ مِنْ رَبّك أَيْ الّذِي أَمَرْتُك بِهِ مِنْ التّوَجّهِ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، هُوَ الْحَقّ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَك فَلَا تَمْتَرِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ الْبَقَرَةَ: 144 وَقَالَ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْبَقَرَةَ: 146 أَيْ يَكْتُمُونَ مَا عَلِمُوا مِنْ أَنّ الْكَعْبَةَ هِيَ قِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ السّنْجَرِيّ فِي كِتَابِ النّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لَهُ وَهُوَ فِي رِوَايَتِنَا عَنْهُ بِسَنَدِ رَفِيعٍ حَدّثَنَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيّ قَالَ: أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَيّوبَ الْبَزّارُ، قَالَ: أَنَا أَبُو عَلِيّ بْنُ شَاذَانَ قَالَ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ النجّار أحمد بن
__________
ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه، وحبا لبلده، أو: بداله فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم، وسمى هذه حجة كقوله تعالى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ لأنهم يسوقون مساقها وقيل: الحجة بمعنى الاحتجاج، وقيل: الاستثناء للمبالغة فى نفى الحجة رأسا ... وقرئ (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) على أنه استئناف بحرف التنبيه» : وفى تفسير الجلالين: «إلا الذين ظلموا منهم بالعناد، فإنهم يقولون: ما تحول إليها إلا ميلا إلى دين آبائه، والاستثناء متصل، والمعنى: لا يكون لأحد عليكم كلام إلا كلام هؤلاء» ويقول ابن كثير «إلا الذين ظلموا منهم يعنى: مشركى قريش، ووجه بعضهم حجة الظلمة- وهى داحضة- أن قالوا: هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم، فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم، فلم رجع عنه؟ والجواب: أن الله تعالى اختار له التوجه إلى البيت المقدس أولا لما له تعالى فى ذلك من الحكمة، فأطاع ربه تعالى فى ذلك، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم، وهى الكعبة، فامتثل أمر الله فى ذلك أيضا»(4/116)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سُلَيْمَانَ عَنْهُ، قَالَ: نا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، قال: نا عنبسة عن يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا يُعَظّمُ إيلِيَاءَ كَمَا يُعَظّمُهَا أَهْلُ بَيْتِهِ، قَالَ: فَسِرْت مَعَهُ، وَهُوَ وَلِيّ عَهْدٍ، قَالَ: وَمَعَهُ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ سُلَيْمَانُ: وَهُوَ جَالِسٌ فِيهِ: وَاَللهِ إنّ فِي هَذِهِ الْقِبْلَةِ الّتِي صَلّى إلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَالنّصَارَى لَعَجَبًا، قَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ: أَمَا وَاَللهِ إنّي لَأَقْرَأُ الْكِتَابَ الّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى مُحَمّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَقْرَأُ التّوْرَاةَ، فَلَمْ يَجِدْهَا الْيَهُودُ فِي الْكِتَابِ الّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ تَابُوتُ السّكِينَةِ كَانَ عَلَى الصّخْرَةِ، فَلَمّا غَضِبَ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ رَفَعَهُ، فَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ إلَى الصّخْرَةِ عَنْ مُشَاوَرَةٍ مِنْهُمْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا أَنّ يَهُودِيّا خَاصَمَ أَبَا الْعَالِيَةِ فِي الْقِبْلَةِ، فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:
إنّ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ يُصَلّي عِنْدَ الصّخْرَةِ، وَيَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، فَكَانَتْ الْكَعْبَةُ قِبْلَةً، وَكَانَتْ الصّخْرَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ الْيَهُودِيّ: بَيْنِي وَبَيْنَك مَسْجِدُ صَالِحٍ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: فَإِنّي صَلّيْت فِي مَسْجِدِ صَالِحٍ وَقِبْلَتُهُ الْكَعْبَةُ، وَأَخْبَرَ أَبُو الْعَالِيَةِ أَنّهُ رَأَى مَسْجِدَ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَقِبْلَتُهُ الْكَعْبَةُ، وَرُوِيَ أَيْضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يَقُولُ لِجِبْرِيلَ:
وَدِدْت أَنّ اللهَ حَوّلَنِي عَنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ، فَيَقُولُ لَهُ جِبْرِيلُ: إنّمَا أَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وَرَوَى غَيْرُهُ أَنّهُ كَانَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ إذَا عَرَجَ إلَى السّمَاءِ حِرْصًا عَلَى أَنْ يَأْمُرَهُ بِالتّوَجّهِ إلَى الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ الآية: البقرة 144.(4/117)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أم عمارة وأم ضيع فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الْأُخْرَى:
وَذَكَرَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ، وَذَكَرَ عِدّةَ أَصْحَابِ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ، وَأَنّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، وَهُمَا: أُمّ عُمَارَةَ وَهِيَ نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ امْرَأَةُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ شَهِدَتْ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ وَبَيْعَةَ الرّضْوَانِ، وَشَهِدَتْ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَبَاشَرَتْ الْقِتَالَ بِنَفْسِهَا، وَشَارَكَتْ ابْنَهَا عَبْدَ اللهِ فِي قَتْلِ مُسَيْلِمَةَ، فَقُطِعَتْ يَدُهَا، وجرحت اثنا عَشَرَ جُرْحًا، ثُمّ عَاشَتْ بَعْدَ ذَلِكَ دَهْرًا، وَكَانَ النّاسُ يَأْتُونَهَا بِمَرْضَاهُمْ، لِتَسْتَشْفِي لَهُمْ، فَتَمْسَحُ بِيَدِهَا الشّلّاءِ عَلَى الْعَلِيلِ، وَتَدْعُو لَهُ، فَقَلّ ما مسحت بيدها ذا عاهة إلّا برىء «1» .
وَالْأُخْرَى: أَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرٍو أُمّ مَنِيعٍ، وَقَدْ رَفَعَ فِي نَسَبِهَا وَنَسَبِ الْأُخْرَى ابْنُ إسْحَاقَ، وَيُرْوَى أَنّ أُمّ عُمَارَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا أَرَى كُلّ شَيْءٍ إلّا لِلرّجَالِ، وَمَا أَرَى لِلنّسَاءِ شَيْئًا، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ «2» الآية.
__________
(1) المسلم يدين بأن الشفاء بيد الله وحده. ندبر ما قص الله عن إبراهيم من قوله: (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) وليس من أسباب الشفاء أن تمسح امرأة بيدها جسم إنسان، ولكن من أسبابه الدعاء، وما أحل الله من دواء يصفه الطبيب.
(2) المشهور- كما روى الإمام أحمد والنسائى وابن جرير- أن أم سلمة رضى الله عنها هى التى قالت للنبى «ص» : ما لنا لا نذكر فى القرآن، كما يذكر الرجال؟ فنزلت الآية.(4/118)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ:
وَذَكَرَ قَوْلَ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَهُوَ أَوّلُ مَنْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْبَيْعَةِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ قَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ، فَقَالَ: نُبَايِعُك عَلَى أَنْ نَمْنَعَك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، أَرَادَ: نِسَاءَنَا، وَالْعَرَبُ تُكَنّي عَنْ الْمَرْأَةِ بِالْإِزَارِ، وَتُكَنّي أَيْضًا بِالْإِزَارِ عَنْ النّفْسِ، وَتَجْعَلُ الثّوْبَ عِبَارَةً عَنْ لَابِسِهِ كَمَا قَالَ:
رَمَوْهَا بِأَثْوَابِ خِفَافٍ فَلَا تَرَى ... لَهَا شَبَهًا إلّا النّعَامَ الْمُنَفّرَا «1»
أَيْ: بِأَبْدَانِ خِفَافٍ، فَقَوْلُهُ مِمّا نَمْنَعُ أُزُرَنَا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ قَالَ الْفَارِسِيّ فِي قَوْلِ الرّجُلِ الّذِي كَتَبَ إلَى عُمَرَ مِنْ الْغَزْوِ يُذَكّرُهُ بِأَهْلِهِ:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا حَفْصٍ رَسُولًا ... فِدَى لَك مِنْ أَخِي ثِقَةٍ إزَارِي
قَالَ: الْإِزَارُ: كِنَايَةٌ عَنْ الْأَهْلِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْإِغْرَاءِ أَيْ:
احْفَظْ إزَارِي، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْإِزَارُ فِي هَذَا الْبَيْتِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَعْنَاهُ فِدَا لَك نَفْسِي، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَرْضِيّ فِي الْعَرَبِيّةِ، وَاَلّذِي قَالَهُ الْفَارِسِيّ بَعِيدٌ عَنْ الصّوَابِ، لِأَنّهُ أَضْمَرَ الْمُبْتَدَأَ، وَأَضْمَرَ الْفِعْلَ النّاصِبَ لِلْإِزَارِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لِبُعْدِهِ، عَنْهُ، وَبُعْدُ الْبَيْتِ مَا يَدُلّ عَلَى صِحّةِ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ وَهُوَ:
قَلَائِصَنَا هَدَاك اللهُ مَهْلًا ... شغلنا عنكم زمن الحصار «2»
__________
(1) البيت لليلى الأخيلية ص 922 سمط اللآلى.
(2) أصل القصة أن نفيلة الأكبر الأشجعى- وكنيته أبو المنهال- كتب إلى عمر أبياتا من الشعر يشير فيها إلى رجل كان واليا على مدينتهم يخرج الجوارى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى سلع عند خروج أزواجهن إلى الغزو، فيعقلهن، ويقول: لا يمشى فى العقال إلا الحصان، فربما وقعت، فتكشفت، وكان اسم هذا الرجل جعدة بن عبد الله السلمى، فقال ما ذكر السهيلى وبعدهما:
فما قلص وجدن معقلات ... قفا سلع بمختلف النجار
قلائص من بنى كعب بن عمرو ... وأسلم أو جهينة أو غفار
يعقلهن جعدة من سليم ... غوى يبتغى سقط العذارى
يعقلهن أبيض شيظمى ... وبئس معقل الذود الخيار
وفى وفاء الوفاء للسمهودى: «من بنى سعد بن بكر، أو أسلم» بدلا مما ذكر فى البيت الثالث: وكنى بالقلاص عن النساء، ونصبها على الإغراء، فلما وقف عمر- رضى الله عنه- على الأبيات عزله، وسأله عن ذلك الأمر، فاعترف، فجلده مائة معقولا، وأطرده إلى الشام، ثم سئل فيه، فأخرجه من الشام، ولم يأذن له فى دخول المدينة، ثم سئل فيه أن يدخل ليجمع، فكان إذا رآه عمر توعده، فقال:
أكل الدهر جعدة مستحق ... أبا حفص لشتم أو وعيد
فما أنا بالبرىء براه عذر ... ولا بالخالع الرسن الشرود
وقول جعدة: فدا لك الخ: أى أهلى ونفسى. وقال الجرمى: يريد بالإزار ههنا: المرأة. والقصة مشهورة، وقد رويت لغيره، ورواها الآمدى فقال عن جعدة: كان غزلا صاحب نساء يحدثهن ويضحكهن، ويمازحهن، فكن يجتمعن عنده، فيأخذ المرأة فيعقلها، ثم يأمرها أن تمشى فتتعثر، فتقع، فتنكشف، فيتاضحكن من ذلك إلخ وقد ذكر ابن حجر ترجمته فى الإصابة فى القسم الثالث فيمن أدرك الجاهلية والإسلام، ولم يرد أنه رأى النبى صلى الله عليه وآله وسلم. ونفيلة فى الإصابة: بقيلة الأكبر الأشجعى من بنى بكر ابن أشجع، وهو بقاف مصغر، ذكره الآمدى فى حرف الموحدة. وقال الزبير ابن بكار: سمت العتبى يصحفه، فيقول: نفيلة، وقد شهد نفيلة أو بقيلة القادسية مع عمر. أنظر اللسان مادة أزر، والإصابة ترجمة بقيلة، وجعدة ح 1(4/119)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَنَصَبَ قَلَائِصَنَا بِالْإِضْمَارِ الّذِي جَعَلَهُ الْفَارِسِيّ نَاصِبًا لِلْإِزَارِ.
تَرْجَمَةُ الْبَرَاءِ:
وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ يُكَنّى أبا بشر يابنه بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ، وَهُوَ الّذِي أَكَلَ مَعَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الشّاةِ الْمَسْمُومَةِ «1» ، فَمَاتَ وَمَعْرُورٌ اسْمُ أَبِيهِ، مَعْنَاهُ: مَقْصُودٌ يُقَالُ: عَرّهُ وَاعْتَرّهُ إذَا قَصَدَ «2» ، وَالْبَرَاءُ هَذَا مِمّنْ صَلّى رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قَبْرِهِ «3» بَعْدَ مَوْتِهِ وَكَبّرَ أَرْبَعًا، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ، وَقَدْ رُوِيَتْ مِنْ سِتّ طُرُقٍ عَنْ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَذَكَرَهَا كُلّهَا أَبُو عُمَرَ فِي التّمْهِيدِ، وَزَادَ ثَلَاثَ طُرُقٍ لَمْ يَذْكُرْهَا ابْنُ حَنْبَلٍ، فَهِيَ إذًا تُرْوَى مِنْ- تِسْعِ طُرُقٍ أَعْنِي أن- تسعة من الصحابة روؤا صَلَاتَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى الْقَبْرِ، فَمِنْهُمْ ابْنُ عباس، وأنس ابن مَالِكٍ وَبُرَيْدَةُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَأَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ، وَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ، وَأَصَحّهَا إسْنَادًا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْمُبَايِعِينَ لَهُ: بَلْ الدّمَ الدّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْهَدَمَ بِفَتْحِ الدال. قال ابن قتيبة: كانت
__________
(1) شهد بشر العقبة وبدرا وما بعدها، ومات بعد خيبر.
(2) فى اللسان: عره يعره عرا واعتره، واعتر به: إذا أتاه، فطلب معروفه.
(3) هذا لأنه مات- كما قيل- قبل قدوم النبى «ص» بشهر.(4/121)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعَرَبُ تَقُولُ عِنْدَ عَقْدِ الْحِلْفِ وَالْجِوَارِ: دَمِي دَمُك وَهَدْمِي هَدْمُك، أَيْ:
مَا هَدَمْت مِنْ الدّمَاءِ، هَدَمْته أَنَا، وَيُقَالُ أَيْضًا: بَلْ اللّدَمَ اللّدَمَ وَالْهَدَمَ الْهَدَمَ، وَأَنْشَد:
ثُمّ الْحَقِي. بِهَدَمِي وَلَدَمِي
فَاللّدَمُ: جَمْعُ لَادِمٍ، وَهُمْ أَهْلُهُ الّذِينَ يَلْتَدِمُونَ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ، وَهُوَ مِنْ لَدَمْت صَدْرَهُ: إذَا ضَرَبْته. وَالْهَدَمُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْحُرْمَةُ، وَإِنّمَا كَنّى عَنْ حُرْمَةِ الرّجُلِ وَأَهْلِهِ بِالْهَدَمِ، لِأَنّهُمْ كَانُوا أَهْلَ نُجْعَةٍ وَارْتِحَالٍ، وَلَهُمْ بُيُوتٌ يَسْتَخِفّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِهِمْ، فَكُلّمَا ظَعَنُوا هَدَمُوهَا، وَالْهَدَمُ بِمَعْنَى الْمَهْدُومِ كَالْقَبَضِ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ، ثُمّ جَعَلُوا الْهَدَمَ وَهُوَ الْبَيْتُ الْمَهْدُومُ عِبَارَةً عَمّا حَوَى، ثُمّ قَالَ: هَدَمِي هَدَمُك أَيْ: رِحْلَتِي مَعَ رِحْلَتِك أَيْ لَا أَظْعَنُ وَأَدَعُك وَأَنْشَدَ يَعْقُوبُ:
تَمْضِي إذَا زُجِرَتْ عَنْ سَوْأَةٍ قُدُمًا ... كأنها هدم فى الجفر منقاض «1»
__________
(1) إذا حركت دال الهدم، فهى القبر، فيكون المعنى: أقبر حيث تقبرون، وقيل: هو المنزل: أى منزلكم: منزلى، وبالفتح أيضا والسكون: إهدار دم القتيل، فيكون المعنى: إن طلب دمكم، فقد طلب دمى وإن أهدر دمكم، فقد أهدر دمى لاستحكام الألفة. وفسرها ابن الأعرابى عند التحريك بقوله: إن ظلمتم فقد ظلمت، فسر أبو عبيدة: اللدم اللدم والهدم الهدم بقوله: حرمتى مع حرمتكم، وبيتى مع بيتكم، وفسر الحقى بهدمى ولدمى بقوله: بأصلى وموضعى، وفسر أبو الهيثم: الدم الدم الخ بقوله إن قتلنى إنسان طلبت بدمى كما تطلب بدم وليك، ومن هدم لى عزا وشرفا فقد هدمه(4/122)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من ولى النقياء:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ الِاثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، وَشِعْرَ كَعْبٍ فِيهِمْ إلَى آخِرِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشْكِلُ، وَإِنّمَا جَعَلَهُمْ عَلَيْهِ السّلَامُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قَوْمِ مُوسَى وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَدْ سَمّيْنَا أُولَئِكَ النّقَبَاءَ بِأَسْمَائِهِمْ «1» فِي كِتَابِ التعريف والإعلام، فلينظر هنالك.
__________
منك، وكل من قتل ولي، فقد قتل وليك، ومن أراد هدمك، فقد قصدنى بذلك. وقال الأزهرى: ومن رواه الهدم الهدم والهذم بسكون الذال- فهو على قول الحليف: تطلب بدمى، وأنا أطلب بدمك، وما هدمت من الدماء هدمت أى: ما عفوت عنه، وأهدرته، فقد عفوت عنه، وتركته. وقال الفراء: عن دخول أل على الهدم والدم واللدم: «العرب تدخل الألف واللام اللتين للتعريف على الأسم، فتقومان مقام الإضافة كقول الله عز وجل: (فَأَمَّا مَنْ طَغى، وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) .. أى: الجحيم مأواه، أما الزجاج فقدرها بقوله فإن الجحيم هى المأوى له. وقال ابن الأثير فى رواية الدم الدم: هو أن يهدر دم القتيل المعنى: إن طلب دمكم، فقد طلب دمى. ويرى ابن الأعرابى فى اللدم أنها الحرم جمع لادم فالمعنى: حرمكم: حرمى. ويقول أبو عبيدة: اللدم: الحرم. جمع لادم سمى نساء الرجل وحرمه لدما لأنهن يلتدمن عليه إذا مات ... واللدم: ضرب المرأة صدرها وقيل: اللطم والضرب بشىء ثقيل انظر اللسان والنهاية لابن الأثير فى مادتى: لدم وهدم
(1) فى نسب عبد الله بن رواحة، زدت ثعلبة، والأغر من الجمهرة لأبن حزم ص 344 ط 1 ومن الإصابة: لقب امرؤ القيس بأنه الأغر وفى نسب سعد بن عبادة يقول الخشنى ص 119 ابن حزيمة بدلا من خزيمة وقال: بالحاء المهمله المفتوحة والزاء المكسورة هو الصواب كذا قيده الدارقطنى. وورد كذلك فى ص 269 من المجد لمحمد بن حبيب: وفى نسب رافع بن مالك(4/123)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَرُوِيَ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ: قَالَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حِين قَدِمَ عَلَيْهِمْ النّقَبَاءُ: لَا يَغْضَبَنّ أَحَدُكُمْ فَإِنّي أَفْعَلُ مَا أُومَر، وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَى جَنْبِهِ يُشِيرُ إلَيْهِمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَرُوِيَ فِي الْمُعَيْطِيّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنّهُ رَوَى حَدِيثَ النّقَبَاءِ عَنْ شَيْخٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ مَالِكٌ: وَكُنْت أَعْجَبُ كَيْفَ جَاءَ هَذَا رَجُلَانِ مِنْ قَبِيلَةٍ، وَرَجُلٌ مِنْ أُخْرَى حَتّى حُدّثْت بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنّ جِبْرِيلَ هُوَ الّذِي وَلّاهُمْ، وَأَشَارَ على النبى- صلى الله عليه وسلم- بهم.
__________
ابن العجلان زادت جمهرة ابن حزم بعد زريق: بن عامر بن زريق، وفى نسب رفاعة ابن زنير، وهى فى الإصابة والجمهرة: زر ص 314 وفى إمتاع الأسماع: زنبر وفى بعض نسخ السيرة: زبير، وقد اختلف فى اسمه فقيل، بشير وقيل مروان وقيل يشير، وكنيته: أبو لبابة وسقطت. مالك التى قبل: ابن الأوس من الإصابة، كما سقط من نسبه فى الجمهرة بن عمرو، عوف. ومازدته فى السيرة من الأنساب أخذته من كتاب المجد لابن حبيب ص 268 وما بعدها. وإليك ما شرح به الخشنى بعض كلمات قصيدة كعب بن مالك: فال رأيه: بطل. فلا ترعين أى لاتبعين، ألب: جمع. جادع: قاطع، إخفاره: نقض عهده، نافع: ثابت، بمندوحة: بمتسع، يافع: موضع مرتفع، ومن رواه: باقع فمعناه: بعيد وهو مأخوذ من بقع الأرض، وخانع: مقر متذلل. ضروح: مانع ودافع عن نفسه من قولهم: ضرحت الدابة برجلها إذا ضربتها. وهنالك بين القصيدة فى ابن هشام وبينها فى المجد بعض اختلافات يسيرة. ففى البيت الثالث: أضالنا أى أضاء لنا بدلا من: بدالنا. ولا ترعين بدلا من: لا ترغبن. ولا تطمعنك المطامع بدلا من: لا يطمعن ثم طامع. ومن ألحيه خانع بدلا من: العهد خانع. وم الأمر صانع بدلا من م الأمر مانع. وإن يغبك بدلا من: لا يغبك.(4/124)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير بعض ما وقع فى وَجَدْته وَذَكَرَ أَنّ الشّيْطَانَ صَرَخَ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ. قَالَ الشّيْخُ أَبُو بَحْرٍ: هَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُمّهَاتِ، وَأَصْلَحْنَاهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ: بِأَبْعَدِ، قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْإِصْلَاحِ، لِأَنّ وَصْفَ الصّوْتِ بِالنّفَاذِ صَحِيحٌ هُوَ أَفْصَحُ مِنْ وَصْفِهِ بِالْبُعْدِ، وَقَدْ مَضَى فِي حَدِيثِ عُمَرَ مَعَ الْكَاهِنِ، قَالَ: لَقَدْ سَمِعْت مِنْ صَوْتِ الْعِجْلِ صَوْتًا مَا سَمِعْت أَنْفَذَ مِنْهُ، وَفِي الصّحِيحِ: أَنّ اللهَ تَعَالَى يَحْشُرُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَرْدَحٍ «1» وَاحِدٍ، فَيَنْفُذُهُمْ الْبَصَرُ وَيُسْمِعُهُمْ الدّاعِي وَكَذَلِكَ وَجَدْته فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ: بِأَنْفَذِ صَوْتٍ كَمَا كَانَ فِي الْأَصْلِ.
وَقَوْلُهُ: يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ، يَعْنِي: مَنَازِلَ مِنَى، وَأَصْلُهُ: أَنّ الْأَوْعِيَةَ مِنْ الْأَدَمِ كَالزّبِيلِ وَنَحْوِهِ يُسَمّى: جَبْجَبَةً، فَجُعِلَ الْخِيَامُ وَالْمَنَازِلُ لِأَهْلِهَا كَالْأَوْعِيَةِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ صَرَخَ إبْلِيسُ: يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ، هَذَا أَزَبّ الْعَقَبَةِ، هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ. قَالَ ابن هشام: ويقال: ابن أزيب كَذَا تَقَيّدَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَزَبّ الْعَقَبَةِ وَقَالَ ابْنُ مَاكُولَا: أُمّ كُرْزِ بِنْتُ الْأَزَبّ بْنِ عَمْرِو بْنِ بَكِيلٍ مِنْ هَمْدَانَ جَدّةُ الْعَبّاسِ، أُمّ أُمّهِ: سِيلَة، وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ الْأَزَبّ فِي الْأَسْمَاءِ إلّا هَذَا، وَأَزَبّ الْعَقَبَةِ، وَهُوَ اسْمُ شَيْطَانٍ، وَوَقَعَ فِي هَذِهِ النّسْخَةِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ إزْبُ الْعَقَبَةِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الزّايِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الزّبَيْرِ مَا يشهد له
__________
(1) صردح وصرداح: المكان المستوى(4/125)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حِينَ رَأَى رَجُلًا طُولُهُ شِبْرَانِ عَلَى بَرْدَعَةِ رَحْلِهِ [فَأَخَذَ السّوْطَ فَأَتَاهُ] ، فَقَالَ:
مَا أَنْتَ؟ فَقَالَ أَزَبّ، قَالَ: وَمَا أَزَبّ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ؛ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِعُودِ السّوْطِ، حَتّى بَاصَ، أَيْ هَرَبَ، وَقَالَ يَعْقُوبُ فِي الْأَلْفَاظِ: الْأَزَبّ:
الْقَصِيرُ. وَحَدِيثُ ابْنِ الزّبَيْرِ ذَكَرَهُ الْعُتْبِيّ فِي الْغَرِيبِ، فَاَللهُ أَعْلَمُ أَيّ اللّفْظَيْنِ أَصَحّ؟ وَابْنُ أَزْيَبَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعْيَلًا مِنْ الْإِزْبِ «1» أَيْضًا، وَالْأَزْيَبُ: الْبَخِيلُ، وَأَزْيَبُ: اسْمُ رِيحٍ مِنْ الرّيَاحِ الْأَرْبَعِ «2» ، وَالْأَزْيَبُ الْفَزَعُ أَيْضًا «3» ، وَالْأَزْيَبُ: الرّجُلُ الْمُتَقَارِبُ الْمَشْيِ «4» ، وَهُوَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ أَزْيَبَ مِنْ هَذَا أَيْضًا، وَأَمّا الْبَخِيلُ فَأَزْيَبُ عَلَى وَزْنِ فَعْيَلٍ لِأَنّ يَعْقُوبَ حَكَى فِي الْأَلْفَاظِ: امْرَأَةٌ أزيبة «5»
__________
(1) الإزب فى اللسان فى مادة أزب فتكون على وزن فعل: ومعناها اللئيم والدقيق المفاصل الضاوى يكون ضئيلا. والإزب من الرجال: القصير الغليظ والقصير الذميم؟؟؟. وقد جعل اللسان أزب فى ماده أزب، وقال عن الإزب فى الحديث: هو الشيطان اسمه؛ أزب العقبة، وهو الحية أما عن الأزب فى مادة زبب، فهو الكثير الشعر
(2) جعلها القاموس واللسان وابن فارس فى معجمه فى مادة زيب فتكون على وزن أفعل، وقال عنها إنها الجنوب فى لغة هذيل: أو هى الريح النكباء التى تجرى بين الصبا والجنوب.
(3) فى مادة زيب فى القاموس واللسان فوزنها: أفعل.
(4) هى كالتى قبلها فى المادة والوزن.
(5) جعلها اللسان فى مادة زيب وهى إزيبة فتكون: إفعلة بكسر الهمزة وسكون الفاء وفتح العين وتضعيف اللام مع فتح، وهكذا ضبطها اللسان والقاموس، وفى معجم مقاييس اللغة لابن فارس: «وقال الخليل: الإزب: الدقيق المفاصل، ويقال هو البخيل» .(4/126)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَوْ كَانَ عَنْ وَزْنِ أَفْعَلَ فِي الْمُذَكّرِ لَقِيلَ فِي الْمُؤَنّثِ زَيْبَا إلّا أَنّ فَعْيَلًا فِي أَبْنِيَةِ الْأَسْمَاءِ عَزِيزٌ، وَقَدْ قَالُوا فِي ضَهْيَاءَ، وَهِيَ الّتِي لَا تَحِيضُ مِنْ النّسَاءِ، فَعْلَى جَعَلُوا الْهَمْزَةَ زَائِدَةً وَهِيَ عِنْدِي فَعْيَلٌ لِأَنّ الْهَمْزَةَ فِي قِرَاءَةِ عَاصِمٍ لَامُ الْفِعْلِ فى قوله تعالى يُضاهِؤُنَ وَالضّهْيَأُ مِنْ هَذَا لِأَنّهَا تُضَاهِي الرّجُلَ أَيْ: تُشْبِهُهُ وَيُقَالُ فِيهِ: ضَهْيَاءُ «1» بِالْمَدّ، فَلَا إشْكَالَ فِيهَا أَنّهَا لِلتّأْنِيثِ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ ضاهيت بالياء، وقد يجوز
__________
(1) فى اللسان «وضهيأ: فعلا الهمزة زائدة كما زيدت فى. شمأل، وغرقى البيض، قال: ولا تعلم الهمزة زيدت غير أول إلا فى هذه الأسماء، ويجوز أن تكون الضهيأ بوزن الضهيع. فعيلا، وإن كانت لا نظير لها فى الكلام، فقد قالوا: كنهيل- شجر عظام- ولا نظير له. قال ابن سيدة: الضهيا والضهياء على فعلاء ... وقال بعضهم الضهياء ممدود التى لا تحيض وهى حبلى. قال ابن جنى: امرأة ضهيأة وزنها: فعلأه لقولهم فى معناها: ضهياء.. وأجاز أبو إسحاق فى همزة: ضهيأة أن تكون أصلا، وتكون الياء هى الزائدة، فعلى هذا تكون الكلمة: فعيلة، وذهب فى ذلك مذهبا من الاشتقاق حسنا لولا شىء اعترضه، وذلك أنه قال: يقال: ضاهيت زيدا وضاهأت زيدا بالياء والهمزة، قال: والضهيأة هى التى لا تحيض، وقيل هى التى لا ثدى لها، قال فيكون ضهيأة: فعيلة من ضاهأت. وقال ابن جنى عن هذا إنه حسن إلا أنه ليس فى الكلام فعيل بفتح الفاء إنما فعيل بكسرها نحو حذيم، وطريم، وغرين «القاطع، والطريم العسل أو السحاب الكثيف، والغرين أو الغرين: الطين يحمله السيل، وغير ذلك، ولم يأت الفتح فى هذا الفن ثبتا، إنما حكاه قوم شاذا ... وحكى أبو عمرو: امرأة ضهيأة وضهيأه بالتاء والهاء التى لا تطمث ... وهذا يقتضى أن يكون الضهيا مقصورا. وقال غيره الظهواء من النساء التى لم تنهد.. والضهيا مقصور: الأرض التى لا تنبت «وحكى الجوهرى أن الضهياء ممدود شجر، واحدته: ضهيأه»(4/127)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنْ يَكُونَ أَزْيَبَ وَأَزْيَبَةُ مِثْلَ أَرْمَلَ وَأَرْمَلَةَ فَلَا يَكُونَ فَعْيَلًا. وَرَوَى أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ لَمّا بُويِعَ لِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِنَى صَرَخَ الشّيْطَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا أَبُو لُبَيْنَى «1» قَدْ أَنْذَرَ بِكُمْ، فَتَفَرّقُوا.
تَذْكِيرُ فَعِيلٍ وَتَأْنِيثُهَا:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ حِينَ رَمَى بِنَعْلَيْهِ إلَى جَابِرٍ: قَالَ: وَكَانَ عَلَيْهِ نَعْلَانِ جَدِيدَانِ، وَالنّعْلُ: مُؤَنّثَةٌ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ: جَدِيدَةٌ فِي الْفَصِيحِ مِنْ الْكَلَامِ، وَإِنّمَا يقال: ملحفة جديد لأنها فى معنى مجدودة أَيْ: مَقْطُوعَةٍ، فَهِيَ مِنْ بَابِ كَفّ خَضِيبٌ، وَامْرَأَةٌ قَتِيلٌ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَمَنْ قَالَ جَدِيدَةً، فَإِنّمَا أَرَادَ مَعْنَى حَدِيثَةٍ، أَرَادَ سِيبَوَيْهِ أَنّ حَدِيثَةً، بِمَعْنَى حَادِثَةٍ وَكُلّ فَعِيلٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ يدخله التاء فى المؤنث «2»
__________
(1) هى- كما فى القاموس اسم ابنة إبليس لعنه الله تعالى ... وأبو لبين: الذكر.
(2) فى إصلاح المنطق لأبى يوسف يعقوب بن السكيت ما يأتى: «تقول: هذه ملحفة جديد، وهذه ملحفة خلق؛ ولا تقل: جديدة، ولا خلقة، وإنما قيل جديد بغير هاء؛ لأنها فى تأويل مجدودة أى: مقطوعة حين قطعها الحائك ... وإذا كان فعيل نعتا لمؤنث، وهو فى تأويل مفعول، كان بغير هاء نحو: لحية دهين، لأنها فى تأويل مدهونة، وكف خضيب، لأنها فى تأويل مخضوبة، وملحفة غسيل وامراة لديغ، ودابة كسير، وركية دفين إذا اندفن بعضها، وركايا دفن، وتقول: هذا فرس جواد بهم، وهذه فرس جواد بهم، ... وعين كحيل، وناقة بقير إذا شق بطنها عن ولدها، وامرأة لعين وجريح وقتيل، فإذا(4/128)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ أَلْقَابِ الطّوِيلِ:
وَذَكَرَ قَوْلَ سَعْدٍ حِينَ أَسَرَتْهُ قُرَيْشٌ: فَأَتَانِي رَجُلٌ وَضِيءٌ شَعْشَاعٌ. وَالشّعْشَعُ وَالشّعْشَعَانِيّ وَالشّعْشَعَانُ»
: الطّوِيلُ مِنْ الرّجَالِ، وَكَذَلِكَ السّلْهَبُ والصّقعب
__________
لم تذكر المرأة قلت: هذه قتيلة بنى فلان، وكذلك: مررت بقتيلة، وقد تأتى فعيلة بالهاء، وهى فى تأويل مفعول بها تخرج مخرج الأسماء، ولا يذهب بها مذهب النعوت، نحو: النطحية والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع والجنيبة والعليقة، وهما البعير يوجهه الرجل مع القوم يمتارون، فيعطيهم دراهم، ليمتازوا له معهم عليه ... والسريبة من الغنم، والعليقه: الداهية والفريقة التمر والحلبة جميعا تجعل للنفساء» وذكر ابن السكيت غيرها كالنقيعة والنخيسة والقطيبة والتريكة والنجيرة والبسيسة والرجيعة ص 377 ط دار المعارف 1949 م وفى أدب الكاتب لابن قتيبة «وما كان على فعيل نعنا للمؤنث، وهو فى تأويل مفعول كان بغير هاء نحو: كف خضيب وملحفة غسيل، وربما جاء بالهاء يذهب بها مذهب النعوت نحو النطيحة والذبيحة والفريسة، وأكيلة السبع ... وتقول: هذه ذبيحتك، وذلك أنك لم ترد أن تخبر أنها قد ذبحت ألا ترى أنك تقول: هذا وهى حية، وإنما هى بمنزلة: ضحية، وكذلك شاة رمى، وتقول بئس الرمية الأرنب، إنما يريد: بئس الشىء مما يرمى الأرنب، فهذا بمنزلة الذبيحة فاذا لم يجز فيه مفعول، فهو بالهاء نحو: مريضة وكبيرة وصغيرة وطريقة، وجاءت أشياء شاذة قالوا: ناقة سديس وريح خريق، وكتيبة حصيف، وإن كان فعيل فى تأويل فاعل كان مؤنثه بالهاء نحو رحيمة وعليمة وكريمة» ص 289 ط أولى 1355 هـ
(1) الزيارة من القاموس. والرجز الذى وردت فيه كلمة «شعشاع» هو لرؤبة انظر ديوان رؤبة ص 162 طبع برلين، ص 120 شرح السيرة للخشنى. وقد شرحه بما يأتى: «يمطوه: يمده، يعنى: طول عنق البعير، وعير مودن أى قصير ويروى: غير ... وكذلك وقع فى رجز رؤبة، ووقع هنا بالعين مهملة» ص 120.(4/129)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالشّوْقَبُ وَ [الشّرْعَبُ] وَالشّرْجَبُ وَالْخِبَقّ وَالشّوْذَبُ الطّوِيلُ مَعَ رِقّةٍ فِي أَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ.
مَعَانِي الْكَلِمَاتِ:
وَقَوْلُهُ أَوَى إلَيْهِ رَجُلٌ أَيْ رَقّ لَهُ، يُقَالُ أَوَى إيّهْ [وَأَوْيَةً] مَأْوِيَةً.
وَقَوْلُهُ فَتَنَطّسَ الْقَوْمُ الْخَبَرَ أَيْ: أَكْثَرُوا الْبَحْثَ عَنْهُ، وَالتّنَطّسُ، تَدْقِيقُ النّظَرِ. قَالَ الرّاجِزُ: [رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ]
وَقَدْ أَكُونُ عِنْدَهَا نِقْرِيسًا ... طِبّا بِأَدْوَاءِ النّسَا نِطّيسًا «1»
وَذَكَرَ قَوْلَ ضِرَارِ بْنِ الْخَطّابِ:
وَكَانَ شفاء وتداركت مُنْذِرًا
وَضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ: وَضِرَارٌ كَانَ شَاعِرَ قُرَيْشٍ وَفَارِسَهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي قُرَيْشٍ أَشْعَرَ مِنْهُ، [عَبْدُ اللهِ] ثُمّ ابْنُ الزّبَعْرَى بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ، وَكَانَ جَدّهُ مِرْدَاسٌ رَئِيسَ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ يَسِيرُ فِيهِمْ بِالْمِرْبَاعِ، وَهُوَ رُبُعُ الْغَنِيمَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ أَيّامَ الْفُجّارِ رَئِيسَ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ أسلم ضرار عام الفتح.
__________
(1) الرجز لرؤبة بن العجاج يمدح به أبان بن الوليد البجلى. ورواية الديوان هكذا:
وقد أكون مرة نطيسا ... يخبء أدواء الصبا نقريسا
ص 70 الديوان طبع برلين. ورواه الخشنى فى شرح السيرة كما رواه السهيلى ولكنه ذكر الصبا بدلا من النسا(4/130)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَوْلَ قَصِيدَةِ حَسّانَ:
وَذَكَرَ قَوْلَ حَسّانَ يُجِيبُهُ:
لَسْت إلَى عَمْرٍو «1» وَلَا الْمَرْءِ مُنْذِرٍ ... إذَ مَا مَطَايَا الْقَوْمِ أَصْبَحْنَ ضُمّرَا
يَعْنِي بِعَمْرِو عَمْرَو بْنَ خُنَيْسٍ وَالِدَ الْمُنْذِرِ. يَقُولُ: لَسْت إلَيْهِ وَلَا إلَى ابْنِهِ الْمُنْذِرِ أَيْ: أَنْتَ أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو هَذَا يُقَالُ لَهُ: أَعْنَقَ لِيَمُوتَ «2» ، هُوَ أَحَدُ النّقَبَاءِ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ، وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فى المواخاة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- آخَى بَيْنَهُ، وَبَيْنَ أَبِي ذَرّ الْغِفَارِيّ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْوَاقِدِيّ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: إنّمَا آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ طُلَيْبِ بْنِ عَمْرٍو «3» .
قَالَ: وَكَيْفَ يُوَاخِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي ذَرّ، وَالْمُوَاخَاةُ كَانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ، وَأَبُو ذَرّ كَانَ إذْ ذَاكَ غَائِبًا عَنْ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَقْدَمْ إلّا بَعْدَ بَدْرٍ، وَقَدْ قَطَعَتْ بَدْرٌ الْمُوَاخَاةَ وَنَسَخَهَا قوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] الْأَنْفَالَ: 75 وَلِلْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو حَدِيثٌ وَاحِدٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، يَرْوِيهِ عَبْدُ الْمُهَيْمِنِ بْنُ عباس ابن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَنْ الْمُنْذِرِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ عَنْ السّهْوِ قَبْلَ التّسْلِيمِ، وعبد المهيمن ضعيف. وقول حسان:
__________
(1) الذى فى السيرة: لست إلى سعد.
(2) فى الإصابة «وكان يلقب بالمعنق ليموت، وقال موسى بن عقبة فى مغازيه «وهو الذى يقال له أعنق ليموت» .
(3) وقيل هو: ابن عمير، أمه: أروى بنت عبد المطلب.(4/131)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَا تَكُ كَالشّاةِ الّتِي كَانَ حَتْفُهَا ... بِحَفْرِ ذراعيها، فلم تَرْضَ مُحْفَرَا
تَقُولُهُ الْعَرَبُ فِي مَثَلٍ قَدِيمٍ فِيمَنْ أَثَارَ عَلَى نَفْسِهِ شَرّا كَالْبَاحِثِ عَنْ الْمُدْيَةِ «1» وَأَنْشَدَ أَبُو عُثْمَانَ [الْجَاحِظُ] عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ؟؟؟. [لِلْفَرَزْدَقِ] :
وَكَانَ يُجِيرُ النّاسَ مِنْ سَيْفِ مَالِكٍ ... فَأَصْبَحَ يَبْغِي نَفْسَهُ مَنْ يُجِيرُهَا
وَكَانَ كَعَنْزِ السّوءِ قَامَتْ بِظِلْفِهَا ... إلَى مُدْيَةٍ تَحْتَ التراب تثيرها
__________
(1) قال البحترى فى خماسته: «يروى عن بعض العرب أنه أصاب نعجة» . فأراد ذبحها، ولم يكن معه شىء يذبحها به، فبينا هو يفكر فى ذلك، وأى ذلك يصنع إذ حفرت النعجة بأظلافها الأرض، فأبرزت عن سكين كانت مندفنة فى التراب، فذبحها بها، وضرب العرب بها المثل والبيتان بعدهما:
ستعلم عبد القيس إن زال ملكها ... على أى حال يستمر مريرها
وهما فى البيان والتبيين ص 159 ج 3 للجاحظ بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون، وأنشدهما أيضا فى كتابه الحيوان، وهما أيضا فى ديوان الفرزدق ص 249. ومن معانى قصيدة حسان كما بين الخشنى: البرقاء: موضع. حسر: معيية. الربط: الملاحف البيض، واحدتها: ربطة. الأنباط: قوم من العجم. والوسنان النائم. كسرى: ملك الفرس، وقيصر: ملك الروم. الثكلى: المرأة الفاقدة؟؟؟ ولدها. والنحر: الصدر.(4/132)
[قصة صنم عمرو بن الجموح]
فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِهَا، وَفِي قَوْمِهِمْ بَقَايَا مِنْ شُيُوخٍ لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ مِنْ الشّرْكِ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ ابن كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَكَانَ ابْنُهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَبَايَعَ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَا، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ سَيّدًا مِنْ سَادَاتِ بَنِي سَلَمَةَ، وَشَرِيفًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَكَانَ قَدْ اتّخَذَ فِي دَارِهِ صَنَمًا مِنْ خَشَبٍ، يُقَالُ لَهُ: مَنَاةُ، كَمَا كَانَتْ الْأَشْرَافُ يَصْنَعُونَ، تَتّخِذُهُ إلَهًا تُعَظّمُهُ وَتُطَهّرُهُ، فَلَمّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلَمَةَ: مُعَاذُ بْنُ جبل، وابنه معاذ بن عمرو، فِي فِتْيَانٍ مِنْهُمْ مِمّنْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ، كَانُوا يُدْلِجُونَ بِاللّيْلِ عَلَى صَنَمِ عَمْرٍو ذَلِكَ، فَيَحْمِلُونَهُ فَيَطْرَحُونَهُ فِي بَعْضِ حُفَرِ بَنِي سَلَمَةَ، وَفِيهَا عِذَرُ النّاسِ، مُنَكّسًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا أَصْبَحَ عَمْرٌو، قَالَ: وَيْلَكُمْ! مَنْ عَدَا عَلَى آلِهَتِنَا هَذِهِ اللّيْلَةَ؟ قَالَ: ثُمّ يَغْدُو يَلْتَمِسُهُ، حَتّى إذَا وَجَدَهُ غَسَلَهُ وَطَهّرَهُ وَطَيّبَهُ، ثُمّ قَالَ: أَمَا وَاَللهِ لَوْ أَعْلَمُ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكَ لَأُخْزِيَنّهُ. فَإِذَا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو، عدووا عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَغْدُو فَيَجِدُهُ فِي مِثْلِ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْأَذَى، فيغسله ويطهّره ويطيّبه، ثم يغدون عَلَيْهِ إذَا أَمْسَى، فَيَفْعَلُونَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ. فلما أكثروا عليه، استخرجه من حيث ألقوه يوما، فغسله وطهّره وَطَيّبَهُ، ثُمّ جَاءَ بِسَيْفِهِ فَعَلّقَهُ عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: إنّي وَاَللهِ مَا أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِك مَا تَرَى، فَإِنْ كَانَ فِيك خَيْرٌ فَامْتَنِعْ، فَهَذَا السّيْفُ مَعَك. فَلَمّا أَمْسَى وَنَامَ عمرو، غدوا عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا السّيْفَ مِنْ عُنُقِهِ، ثُمّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيّتًا فَقَرَنُوهُ بِهِ بِحَبْلِ، ثُمّ أَلْقَوْهُ فى بئر من آبار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/133)
سَلَمَةَ، فِيهَا عِذَرٌ مِنْ عِذَرِ النّاسِ، ثُمّ غَدَا عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ فَلَمْ يَجِدْهُ فِي مكانه الذى كان به.
[إسلام عمرو بن الجموح]
فَخَرَجَ يَتْبَعُهُ حَتّى وَجَدَهُ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ مُنَكّسًا مَقْرُونًا بِكَلْبِ مَيّتٍ، فَلَمّا رَآهُ وَأَبْصَرَ شأنه، وكلّمه من أسلم من قَوْمِهِ، فَأَسْلَمَ بِرَحْمَةِ اللهِ، وَحَسُنَ إسْلَامُهُ. فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ، وَعَرَفَ مِنْ اللهِ مَا عَرَفَ، وَهُوَ يَذْكُرُ صَنَمَهُ ذَلِكَ وَمَا أَبْصَرَ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَشْكُرُ اللهَ تَعَالَى الّذِي أَنْقَذَهُ مِمّا كَانَ فِيهِ مِنْ الْعَمَى وَالضّلَالَةِ:
وَاَللهِ لَوْ كُنْتَ إلَهًا لَمْ تَكُنْ ... أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بئر فى قرن
أفّ لماقاك إلَهًا مُسْتَدَنْ ... الْآنَ فَتّشْنَاك عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ
الْحَمْدُ لِلّهِ الْعَلِيّ ذِي المِنَنْ ... الْوَاهِبِ الرّزّاقِ دَيّانِ الدّيَنْ
هُوَ الّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ قَبْلِ أَنْ ... أَكُونَ فِي ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ
بِأَحْمَدَ المهدى النبىّ المرتهن
[شُرُوطُ الْبَيْعَةِ فِي الْعَقَبَةِ الْأَخِيرَةِ]
قَالَ ابْنُ إسحاق: وكان فى بيعة الحرب، حين أذن الله لرسوله فِي الْقِتَالِ شُرُوطًا سِوَى شَرْطِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى، كَانَتْ الْأُولَى عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ، وَذَلِك أَنّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحَرْبِ، فَلَمّا أَذِنَ اللهُ لَهُ فِيهَا، وَبَايَعَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَقَبَةِ الأخيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/134)
عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، أَخَذَ لِنَفْسِهِ وَاشْتَرَطَ عَلَى الْقَوْمِ لِرَبّهِ، وَجَعَلَ لَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِذَلِك الْجَنّةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عُبَادَةُ بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أَبِيهِ الْوَلِيدِ، عَنْ جَدّهِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ، وَكَانَ أَحَدَ النّقَبَاءِ، قَالَ:
بَايَعَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الْحَرْبِ- وَكَانَ عُبَادَةُ مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ الّذِينَ بَايَعُوهُ فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ- عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ، فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ بِالْحَقّ أَيْنَمَا كُنّا، لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
[أَسَمَاءُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وهذه تَسْمِيَةُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَبَايَعَ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَا مِنْ الْأَوْسِ والخزرج، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين.
شهدها من الأوس ابن حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ابْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مالك بن الأوس أسيد ابن حُضَيْرِ بْنِ سِمَاكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ رَافِعِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، نَقِيبٌ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا. وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيّهَانِ، وَاسْمُهُ مَالِكٌ، شَهِدَ بَدْرًا. وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشِ بْنِ زِغْبَةَ بْن زَعُورَاءَ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، شَهِدَ بَدْرًا، ثَلَاثَةُ نَفَرٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ. وَيُقَالُ: ابْنُ زَعَوْرَاءَ بفتح العين.
قال ابن إسحاق: ومن بنى حارثة ابن الحارث بن الخزرج بن عمرو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/135)
ابن مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ: ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعِ بْنِ عَدِيّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُشَمَ بْنِ حَارِثَةَ.
وأبو بردة بن نيار، واسمه هانىء بن نيار بن عمرو بن عبيد بن كلاب بن دهمان ابن غَنَمِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ هُمَيْمِ بْنِ كَاهِلِ بن ذهل بن دهنى بن بلىّ بن عمرو بن الحاف ابن قضاعة، حليف لهم، شهد بدرا ونهير [أو بهير] بْنُ الْهَيْثَمِ، مِنْ بَنِي نَابِي بْنِ مَجْدَعَةَ بن حارثة ثلاثة نفر.
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَالِكِ بْنِ الأوس: سعد بن خيثمة بن الحارث ابن مالك بن كعب بن النحاط بن كعب بْنِ حَارِثَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ السّلْمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، نَقِيبٌ، شَهِدَ بَدْرًا، فَقُتِلَ بِهِ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَهِيدًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَنَسَبَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي بَنِي عَمْرِو بن عوف، وهو من بنى غنم ابن السّلْمِ، لِأَنّهُ رُبّمَا كَانَتْ دَعْوَةُ الرّجُلِ فِي الْقَوْمِ، وَيَكُونُ فِيهِمْ فَيُنْسَبُ إلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبَرَ بن زيد بن أميّة بن زيد ابن مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرٍو، نَقِيبٌ، شَهِدَ بَدْرًا. وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النّعْمَانِ بن أمية بن البرك- واسم البرك: امرؤ القيس بن ثعلبة بن عمرو شَهِدَ بَدْرًا، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا أَمِيرًا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرّمَاةِ؛ وَيُقَالُ: أُمَيّةُ بْنُ الْبَرْكِ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَعْنُ بْنُ عَدِيّ بْنِ الْجَدّ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ [حَارِثَةَ]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/136)
ابن ضبيعة [بن حرام] لَهُمْ مِنْ بَلِيّ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ، وَمَشَاهِدَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلّهَا، قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا فِي خِلَافَةِ أبى بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، شَهِدَ بدرا وأحدا والخندق خمسة نفر.
فجيع من شهد العبقة من الأوس أحد عشر رجلا.
وَشَهِدَهَا مِنْ الْخَزْرَجِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي النّجّارِ، وَهُوَ تَيْمُ اللهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ: أَبُو أَيّوبَ، وَهُوَ خَالِدُ بن زيد بن كليب بن ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا، مَاتَ بِأَرْضِ الرّومِ غَازِيًا فى زمن معاوية ابن أَبِي سُفْيَانَ. وَمُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مالك ابن النّجّارِ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا، وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ، وَأَخُوهُ: عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ، شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ بِهِ شَهِيدًا، وَهُوَ الّذِي قَتَلَ أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ لِعَفْرَاءَ- وَيُقَالُ: رِفَاعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ سَوَادٍ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- وَعُمَارَةُ بْنُ حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو ابن عَبْدِ عَوْفِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ. شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا، قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا فِي خِلَافَةِ أَبِي بكر الصدّيق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، نَقِيبٌ، مَاتَ قَبْلَ بَدْرٍ وَمَسْجِدُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم يا بنى، وهو أبو أمامة. ستة نفر.
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ- وَمَبْذُولٌ: عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ: سَهْلُ بْنُ عَتِيكِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/137)
ابن نُعْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرٍو، شهد بدرا. رجل.
ومن بنى عمرو ابن مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، وَهُمْ بَنُو حُدَيْلَةَ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
حُدَيْلَةُ: بِنْتُ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مالك بن غضب ابن جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ- أَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ المنذر بن حرام بن عمرو ابن زَيْدِ مَنَاةِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مالك، شَهِدَ بَدْرًا. وَأَبُو طَلْحَةَ، وَهُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَمْرِو ابن مالك، شهد بدرا. رجلان.
وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ: قَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَاسْمُ أَبِي صَعْصَعَةَ:
عَمْرُو بْنُ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ، شَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَعَلَهُ على الساقة يومئذ. وعمرو بن غزيّة ابن عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ. رَجُلَانِ.
فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مِنْ بَنِي النّجّارِ أحد عشر رجلا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَمْرُو بْنُ غُزَيّةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَنْسَاءَ، هَذَا الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ، إنّمَا هُوَ غُزَيّةُ بْنُ عَطِيّةَ بْنِ خَنْسَاءَ.
[مَنْ شَهِدَهَا مِنْ بَلْحارثِ بْنِ الْخَزْرَجِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَلْحارثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: سَعْدُ بن الربيع بن عمرو ابن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك [الأغر] بن ثعلبة بن كعب بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ، نَقِيبٌ، شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/138)
وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْنِ مالك بن امرئ القيس بن مالك [الأغر] ابن ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ، شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ [بْنِ ثَعْلَبَةَ] بْنِ امْرِئِ القيس بن عمرو بن امرئ القيس ابن مالك [الأغر] بن ثعلبة بن كعب بن الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ، نَقِيبٌ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَمَشَاهِدَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلّهَا، إلّا الْفَتْحَ وَمَا بَعْدَهُ، وَقُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ شَهِيدًا أَمِيرًا لِرَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَبَشِيرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ ثعلبة بن الجلاس بن زيد بن مالك [الأغر] بن ثعلبة ابن كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ، أَبُو النّعْمَانِ ابن بشير شهد بَدْرًا. وَعَبْدُ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ ربه بْنِ زَيْدِ [مَنَاةِ] بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ [بن حارثة] شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ الّذِي أُرِيَ النّدَاءَ لِلصّلَاةِ، فَجَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِ. وَخَلّادُ بْنُ سُوِيدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امرئ القيس بن مالك [الأغر] بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث [ابن الْخَزْرَجِ] شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَقُتِلَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ شَهِيدًا، طُرِحَتْ عَلَيْهِ رَحَى مِنْ أُطُمٍ مِنْ أُطَامِهَا فَشَدَخَتْهُ شَدْخًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما يَذْكُرُونَ- إنّ لَهُ لَأَجْرَ شَهِيدَيْنِ. وَعُقْبَةُ بْنُ عمرو ابن ثَعْلَبَةَ بْنِ أَسِيرَةَ بْنِ عُسَيْرة بْنِ جَدَارَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ [بْنِ الْخَزْرَجِ] وَهُوَ أَبُو مَسْعُودٍ وَكَانَ أَحْدَثَ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ سِنّا، مَاتَ فِي أَيّامِ مُعَاوِيَةَ، لَمْ يَشْهَدْ بدرا سبعة نَفَرٍ.
وَمِنْ بَنِي بَيَاضَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غضب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/139)
ابن جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ: زِيَادُ بْنُ لَبِيَدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَدِيّ ابن أُمَيّةَ بْنِ بَيَاضَةَ، شَهِدَ بَدْرًا. وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَذْفَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ، شَهِدَ بَدْرًا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ويقال ودفة.
قال ابن إسحاق: وخالد بن قيس بن مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ، شهد بدرا. ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.
وَمِنْ بَنِي زُرَيْقِ بْنِ عَامِر بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بن غضب ابن جشم بن الخزرج: رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق، نَقِيبٌ. وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قِيسِ بْنِ خَلَدَةَ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ [بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حارثة] ، وَكَانَ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَعَهُ بِمَكّةَ وَهَاجَرَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: مُهَاجِرِيّ أَنْصَارِيّ؛ شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا. وَعَبّادُ بْنُ قيس ابن عَامِرِ بْنِ خَلَدَةَ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ، شَهِدَ بَدْرًا. وَالْحَارِثُ بْنُ قِيسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُخَلّدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ، وَهُوَ أَبُو خَالِدٍ شَهِدَ بَدْرًا.
أَرْبَعَةُ نفر.
ومن بني سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ؛ ثُمّ مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ: الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بن غنم، نقيب، وهو الذى تزعم بَنُو سَلَمَةَ أَنّهُ كَانَ أَوّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/140)
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَشَرَطَ لَهُ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ، ثُمّ تُوُفّيَ قَبْلَ مَقْدِمِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ. وَابْنُهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَق، وَمَاتَ بِخَيْبَرٍ مِنْ أَكْلَةٍ أَكَلَهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ الشّاةِ الّتِي سُمّ فِيهَا- وَهُوَ الّذِي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، حَيْنَ سَأَلَ بنى سلمة: مَنْ سَيّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ؟ فَقَالُوا: الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ، عَلَى بُخْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَيّ دَاءٍ أَكْبَرُ مِنْ الْبُخْلِ! سَيّدُ بَنِي سَلَمَةَ الْأَبْيَضُ الْجَعْدُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ. وَسِنَانُ بْنُ صَيْفَى بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بن عبيد، شهد بدرا، والطّفيل بن النّعمان خنساء بن سنان ابن عُبَيْدٍ، شَهِدَ بَدْرًا، وَقُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ شَهِيدًا. ومعقل بن المنذر بن سرح ابن خُنَاسِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ، شَهِدَ بَدْرًا. ويزيد بن المنذر بن سرح ابن خُنَاسِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ شَهِدَ بَدْرًا. وَمَسْعُودُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سُبَيْع بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ. وَالضّحّاكُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، شَهِدَ بدرا، ويزيد بن خدام أو [بن حرام أو خدارة] بن سبيع بن خنساء ابن سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ. وَجُبَارُ بْنُ صَخْرِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانَ بْنِ عُبَيْدٍ [بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سلمة] ، شَهِدَ بَدْرًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: جَبّارُ بن صَخْرِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ خُنَاسٍ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالطّفَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سنان بن عبيد [وهو ابن عم الطّفيل بن النعمان بن خنساء بن سنان] ، شهد بدرا. أحد عشر رجلا.
وَمِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ، ثُمّ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ سواد:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/141)
كعب بن مالك بن أبي كعب بن القين بن كعب. رجل.
وَمِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ: سُلَيْمُ بْنُ عَمْرِو بن حديدة ابن عَمْرِو بْنِ غَنْمٍ، شَهِدَ بَدْرًا. وَقُطْبَةُ بْنُ عامر بن حديدة بن عمرو بن غنم، شهد بدرا. ويزيد بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غَنْمٍ، وَهُوَ أَبُو الْمُنْذِرِ، شَهِدَ بَدْرًا. وَأَبُو الْيَسَرِ، وَاسْمُهُ: كَعْبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبّادِ بن عمرو بن غَنْمِ [بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سلمة] ، شَهِدَ بَدْرًا. وَصَيْفِيّ بْنُ سَوَادِ بْنِ عَبّادِ بن عمرو بن غنم. خمسة نفر.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: صَيْفِيّ بْنُ أَسْوَدَ بْنِ عَبّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ سَوَادٍ، وَلَيْسَ لِسَوَادٍ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ: غَنْمٌ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي نَابِي بْنِ عَمْرِو بن سواد بن غنم بن كعب ابن سَلَمَةَ: ثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَة بْنِ عَدِيّ بْنِ نَابِي، شَهِدَ بَدْرًا، وَقُتِلَ بِالْخَنْدَقِ شَهِيدًا. وَعَمْرُو بْنُ غَنَمَة بْنِ عَدِيّ بْنِ نَابِي، وَعَبْسُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَابِي، شَهِدَ بَدْرًا. وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ قُضَاعَةَ. وَخَالِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ بن نابى. خَمْسَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي حرام بن كعب بن غنم بن كعب بْنِ سَلَمَةَ:
عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَرَامٍ، نَقِيبٌ، شَهِدَ بَدْرًا، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، وَابْنُهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ. وَمَعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الجموح بن زيد بْنِ حَرَامٍ، شَهِدَ بَدْرًا. وَثَابِتُ بْنُ الْجِذْعِ- والجذع: ثعلبة بن زيد بن الحارث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/142)
ابن حَرَامٍ- شَهِدَ بَدْرًا، وَقُتِلَ بِالطّائِفِ شَهِيدًا. وَعُمَيْرُ بن الحارث بن ثعلبة.
ابن زَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَرَامٍ، شَهِدَ بَدْرًا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنُ لَبْدَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَخَدِيجُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ أَوْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الفرافر [أو القراقر] حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَلِيّ وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلِ بن عمرو بن أوس بن عائذ ابن عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُدَيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدٍ، وَيُقَالُ:
أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، وكان فى بنى سلمة، شَهِدَ بَدْرًا، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا وَمَاتَ بِعِمْوَاسَ، عَامَ الطّاعُونِ بِالشّامِ، فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَإِنّمَا ادّعَتْهُ بَنُو سَلَمَةَ أَنّهُ كَانَ أَخَا سَهْلِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ الْجَدّ بْنِ قَيْسِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ لِأُمّهِ. سَبْعَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَوْسٌ: ابْنُ عَبّادِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أدىّ ابن سعد.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفِ ابن عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ: عُبَادَةُ بْنُ الصامت بن قيس بن أصرم ابن فِهْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، نَقِيبٌ، شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ غَنْمُ بْنُ عَوْفٍ، أَخُو سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/143)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعِجْلَانِ بْنِ زَيْدِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ مِمّنْ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكّةَ فَأَقَامَ مَعَهُ بِهَا فَكَانَ يُقَال لَهُ: مُهَاجِرِيّ أَنْصَارِيّ وَقُتِلَ يَوْمَ أحد شهيدا. وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم بن عمرو ابن عَمّارَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي غُصَيْنَةَ مِنْ بلىّ. وعمرو بن الحارث بن لبدة ابن عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ: أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، وَهُمْ الْقَوَاقِلُ.
وَمِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَوْفِ بن الخزرج، وهم بنو الحبلي- قال ابن هشام: الحبلي: سالم بن غنم بن عوف، وَإِنّمَا سُمّيَ: الْحُبُلِيّ- لِعِظَمِ بَطْنِهِ:
رِفَاعَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْمٍ، شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَبُو الْوَلِيدِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَال: رِفَاعَةُ: ابْنُ مَالِكٍ، وَمَالِكٌ: ابْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ جُشَمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَالِمٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ كِلْدَةَ بن الجعد بن هلال بن الحارث ابن عَمْرِو بْنِ عَدِيّ بْنِ جُشَمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ غَطَفان بن سعد ابن قِيسِ بْنِ عَيْلان، حَلِيفٌ لَهُمْ، شَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ مِمّنْ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرًا مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: مُهَاجِرِيّ أَنْصَارِيّ.
قَالَ ابن هشام: رجلان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/144)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كعب بن الخزرج: سعد بن عبادة ابن دُلَيْمِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي خُزَيْمَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ طَرِيفِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ، نَقِيبٌ؛ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خُنَيْس بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ زيد ابن ثَعْلَبَةَ بْنِ جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ، نَقِيبٌ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ أَمِيرًا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الّذِي كَانَ يُقَال لَهُ:
أَعْنَقَ ليموت. رجلان.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ مِنْهُمْ، يُزْعِمُونَ أَنّهُمَا قَدْ بَايَعَتَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُصَافِحُ النّسَاءَ، إنّمَا كَانَ يَأْخُذُ عَلَيْهِنّ، فَإِذَا أَقْرَرْنَ، قال: اذهبن فقد بايعتكن.
وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ: نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بن عمرو بن غنم بن مازن [بن النّجّار] ، وَهِيَ أُمّ عِمَارَةَ، كَانَتْ شَهِدَتْ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَهِدَتْ مَعَهَا أُخْتُهَا.
وَزَوْجُهَا زَيْدُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ كَعْبٍ. وَابْنَاهَا: حَبِيبُ بْنُ زَيْدِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُهَا حَبِيبٌ الّذِي أَخَذَهُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذّابُ الْحَنَفِيّ، صَاحِبُ الْيَمَامَةِ، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَفَتَشْهَدُ أَنّي رَسُولُ اللهِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَسْمَعُ، فَجَعَلَ يُقَطّعُهُ عُضْوًا عُضْوًا حَتّى مَاتَ فِي يَدِهِ، لَا يَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ، إذَا ذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم آمَنَ بِهِ وَصَلّى عَلَيْهِ، وَإِذَا ذُكِرَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ قَالَ لَا أَسْمَعُ- فَخَرَجَتْ إلَى الْيَمَامَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَاشَرَتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/145)
الْحَرْبَ بِنَفْسِهَا. حَتّى قَتَلَ اللهُ مُسَيْلِمَةَ، وَرَجَعَتْ وَبِهَا اثْنَا عَشَرَ جُرْحًا، مِنْ بَيْنِ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ عَنْهَا مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي صعصعة.
ومن بنى سلمة: أُمّ مَنِيعٍ؛ وَاسْمُهَا: أَسَمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عدىّ بن نابى ابن عَمْرِو بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ.
[نُزُولُ الْأَمْرِ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْقِتَالِ]
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ. قال: حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هِشَامٍ، قَالَ:
حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللهِ البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يوذن لَهُ فِي الْحَرْبِ وَلَمْ تُحَلّلْ لَهُ الدّمَاءُ، إنّمَا يُؤْمَرُ بِالدّعَاءِ إلَى اللهِ وَالصّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَالصّفْحِ عَنْ الْجَاهِلِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ اضْطَهَدَتْ مَنْ اتّبَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتّى فَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَنَفَوْهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَهُمْ مِنْ بَيْنِ مَفْتُونٍ فِي دِينِهِ، وَمِنْ بَيْنِ مُعَذّبٍ فِي أَيْدِيهِمْ، وَبَيْنِ هَارِبٍ فِي الْبِلَادِ فِرَارًا مِنْهُمْ، مِنْهُمْ مَنْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ بِالْمَدِينَةِ، وَفِي كُلّ وَجْهٌ؛ فَلَمّا عَتَتْ قُرَيْشٌ عَلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ، وَرَدّوا عَلَيْهِ مَا أَرَادَهُمْ بِهِ مِنْ الْكَرَامَةِ، وَكَذّبُوا نَبِيّهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَعَذّبُوا وَنَفَوْا مَنْ عَبَدَهُ وَوَحّدَهُ وَصَدّقَ نَبِيّهُ، وَاعْتَصَمَ بِدِينِهِ، أَذِنَ اللهُ عَزّ وَجَلّ لِرَسُولِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فى القتال والانتصار ممن ظلمهم وبنى عَلَيْهِمْ، فَكَانَتْ أَوّلُ آيَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/146)
أُنْزِلَتْ فِي إذْنِهِ لَهُ فِي الْحَرْبِ، وَإِحْلَالِهِ لَهُ الدّمَاءَ وَالْقِتَالَ، لِمَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ العلماء، قول الله تبارك وتعالى أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ، وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ: أَيْ أتى إنّمَا أَحْلَلْت لَهُمْ الْقِتَالَ لِأَنّهُمْ ظُلِمُوا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النّاسِ، إلّا أَنّ يَعْبُدُوا اللهَ، وَأَنّهُمْ إذَا ظَهَرُوا وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن الْمُنْكَرِ، يَعْنِي النّبِيّ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، ثُمّ أَنَزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ: أَيْ:
حَتّى لَا يُفْتَنَ مُؤْمِنٌ عَنْ دِينِهِ: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ: أَيْ حَتّى يعبد الله، لا بعبد معه غيره.
[الإذن لِمُسْلِمِي مَكّةَ بِالْهِجْرَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا أَذِنَ اللهُ تَعَالَى لَهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحَرْبِ، وَبَايَعَهُ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنّصْرَةِ لَهُ وَلِمَنْ اتّبَعَهُ، وَأَوَى إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنْ مَعَهُ بِمَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَدِينَةِ وَالْهِجْرَةِ إلَيْهَا، وَاللّحُوقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/147)
بِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ: إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا. فَخَرَجُوا أَرْسَالًا، وَأَقَامَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبّهُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكّةَ، وَالْهِجْرَةِ إلى المدينة.
[المهاجرون إلَى الْمَدِينَةِ]
[هِجْرَةُ أَبِي سَلَمَةَ وَزَوْجُهُ، وَحَدِيثُهَا عَمّا لَقِيَا]
فَكَانَ أَوّلُ مَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُو سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ الله بن عمر بن مخزوم، وَاسْمُهُ: عَبْدُ اللهِ، هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ بَيْعَةِ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ بِسَنَةٍ، وَكَانَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مكة مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَلَمّا آذَتْهُ قُرَيْشٌ وَبَلَغَهُ إسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْأَنْصَارِ، خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الله ابن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَدّتِهِ أُمّ سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: لَمّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ رَحَلَ لِي بَعِيرَهُ ثُمّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، ثُمّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ، فَلَمّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ قَامُوا إلَيْهِ، فَقَالُوا هَذِهِ نَفْسُك غَلَبْتنَا عَلَيْهَا، أَرَأَيْت صَاحِبَتَك هَذِهِ؟ عَلَامَ نَتْرُكُك تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلَادِ؟ قَالَتْ: فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذُونِي مِنْهُ. قَالَتْ: وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ، رَهْطُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالُوا: لَا والله، لا نترك ابننا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/148)
عندها إذا نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا. قَالَتْ: فَتَجَاذَبُوا بَنِي سَلَمَةَ بَيْنَهُمْ حَتّى خَلَعُوا يَدَهُ، وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ، وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إلَى الْمَدِينَةِ. قَالَتْ: فَفَرّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي. قَالَتْ:
فَكُنْت أَخْرُجُ كُلّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ بِالْأَبْطُحِ، فَمَا أَزَالُ أَبْكِي، حَتّى أَمْسَى سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا حَتّى مَرّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمّي، أَحَدُ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَرَأَى مَا بِي فَرَحِمَنِي فَقَالَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ: أَلَا تُخْرِجُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ، فَرّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا! قَالَتْ: فَقَالُوا لِي: الْحَقِي بِزَوْجِك إنْ شِئْت. قَالَتْ: وَرَدّ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ إلَيّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي. قَالَتْ: فَارْتَحَلْت بَعِيرِي ثُمّ أَخَذْت ابْنِي فوضعته فى حجرى، ثم خرجت أريد زوحى بِالْمَدِينَةِ. قَالَتْ: وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ. قَالَتْ: فَقُلْت: أَتَبَلّغُ بِمَنْ لَقِيتُ حَتّى أَقْدَمَ عَلَيّ زَوْجِي، حَتّى إذَا كُنْت بِالتّنْعِيمِ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ فَقَالَ لِي: إلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيّةَ؟ قَالَتْ: فَقُلْت: أريد زوجى بالمدينة. قال:
أو ما مَعَك أَحَدٌ؟ قَالَتْ: فَقُلْت: لَا وَاَللهِ، إلّا الله وبنىّ هذا. قال: والله مالك مِنْ مَتْرَكٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ، فَانْطَلَقَ مَعِي يهوى بى، فو الله مَا صَحِبْت رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ قَطّ، أَرَى أَنّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ، كَانَ إذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي، ثُمّ اسْتَأْخَرَ عَنّي، حَتّى إذَا نَزَلْت اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي، فَحَطّ عَنْهُ، ثُمّ قيّده فى الشجرة، ثم تنحّى إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فاذا دنا الرّواح، قام إلى بعيرى فقدّمه فرحله، ثم استأخر عنى، وَقَالَ: ارْكَبِي. فَإِذَا رَكِبْت وَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ، فَقَادَهُ، حَتّى يَنْزِلَ بِي. فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتّى أَقْدَمَنِي الْمَدِينَةَ، فَلَمّا نَظَرَ إلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بقُباءٍ، قَالَ: زَوْجُك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/149)
فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ- وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا- فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، ثُمّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى مَكّةَ.
قَالَ: فَكَانَتْ تَقُولُ وَاَللهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الْإِسْلَامِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَمَا رَأَيْت صَاحِبًا قَطّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَة.
[هِجْرَةُ عَامِرٍ وَزَوْجُهُ وَهِجْرَةُ بَنِي جَحْشٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ كَانَ أَوّلَ مَنْ قَدِمَهَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ أَبِي سَلَمَةَ:
عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ، مَعَهُ امرأته ليلى بنت أبى حثمة ابن غَانِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ. ثُمّ عَبْدُ الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بْنِ صَبْرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خزيمة، حَلِيفُ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، احْتَمَلَ بأهله وبأخيه عبد ابن جَحْشٍ، وَهُوَ أَبُو أَحْمَدَ- وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ، وَكَانَ يَطُوفُ مَكّةَ، أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا، بِغَيْرِ قَائِدٍ، وَكَانَ شَاعِرًا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ الفرعة بنت أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَكَانَتْ أُمّهُ أُمَيْمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ- فَغُلّقَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ هِجْرَةً، فَمَرّ بِهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَالْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهِيَ دَارُ أَبَانَ بن عثمان الْيَوْمَ الّتِي بِالرّدْمِ، وَهُمْ مُصْعِدُونَ إلَى أَعَلَى مَكّةَ، فَنَظَرَ إلَيْهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا يَبَابًا لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ، فَلَمّا رَآهَا كَذَلِكَ تَنَفّسَ الصّعَدَاءَ، ثُمّ قَالَ:
وَكُلّ دَارٍ وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهَا ... يَوْمًا سَتُدْرِكُهَا النّكْبَاءُ وَالُحُوبُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/150)
قال ابن هشام: وهذا البيت لأبى دؤاد الإيادى فى قصيدة له. والحوب:
التوجع.
قال ابن إسحاق: ثم قال عتبة: أَصْبَحَتْ: دَارُ بَنِي جَحْشٍ خَلَاءً مِنْ أَهْلِهَا! فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَمَا تَبْكِي عَلَيْهِ مِنْ قُلّ بْنِ قُلّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ الْقُلّ: الْوَاحِدُ. قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ:
كُلّ بَنِي حرة مصيرهم ... قل وإن أكثرت من العدد
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ قَالَ: هَذَا عَمَلُ ابْنِ أَخِي هَذَا، فَرّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتّتْ أَمْرَنَا وَقَطَعَ بَيْنَنَا فَكَانَ مَنْزِلُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عبد الأسد، وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وَأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ، عَلَى مُبْشَرِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زُنْبُر بقُباءٍ، فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمّ قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ أرسالا، وكان بنو غنم بن دُودَانَ أَهْلَ إسْلَامٍ، قَدْ أَوْعَبُوا إلَى الْمَدِينَةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هجرة رجالهم ونسلؤهم: عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ، وَأَخُوهُ أَبُو أَحْمَدَ ابن جَحْشٍ، وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَشُجَاعٌ، وَعُقْبَةٌ، ابْنَا وهب وأربد ابن جميرة.
قال ابن هشام: ويقال ابن حميرة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمُنْقِذُ بْنُ نُبَاتَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، وَقَيْسُ بْنُ جَابِرٍ، وَعَمْرُو بْنُ مِحْصَنٍ، وَمَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، وَصَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَثَقْفُ بْنُ عَمْرٍو، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ، وَالزّبَيْرُ بْنُ عبيد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/151)
وَتَمّامُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَسَخْبَرَةُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَمُحَمّدُ بن عبد الله بن جحش.
وَمِنْ نِسَائِهِمْ: زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَأُمّ حَبِيبٍ بِنْتُ جَحْشٍ، وَجُذَامَةُ بِنْتُ جَنْدَلٍ، وَأُمّ قَيْسٍ بِنْتُ مُحْصَنٍ، وَأُمّ حَبِيبٍ بِنْتُ ثُمَامَةَ، وَآمِنَةُ [أو أميمة] بِنْتُ رُقَيْشٍ، وَسَخْبَرَةُ بِنْتُ تَمِيمٍ، وحَمْنةُ بِنْتُ جحش.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، وهو يذكر هجرة بنى أسد ابن خُزَيْمَة مِنْ قَوْمِهِ إلَى اللهِ تَعَالَى وَإِلَى رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَإِيعَابُهُمْ فِي ذَلِكَ حين دعوا إلى الهجرة:
وَلَوْ حَلَفَتْ بَيْنَ الصّفَا أُمّ أَحُمَد ... وَمَرْوَتِهَا بِاَللهِ بَرّتْ يَمِينُهَا
لَنَحْنُ الْأُلَى كُنّا بِهَا، ثُمّ لَمْ نَزَلْ ... بِمَكّةَ حَتّى عَادَ غَثّا سَمِينُهَا
بِهَا خَيّمَتْ غَنْمُ بْنُ دُودَانَ وَابْتَنَتْ ... وَمَا إنْ غَدَتْ غَنْمُ وَخَفّ قَطِينُهَا
إلَى اللهِ تَغْدُو بَيْنَ مَثْنَى وَوَاحِدٍ ... وَدِينُ رَسُولِ اللهِ بِالْحَقّ دِينُهَا
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ أَيْضًا:
لَمّا رَأَتْنِي أُمّ أَحْمَدَ غَادِيًا ... بِذِمّةِ مَنْ أَخْشَى بِغَيْبٍ وَأَرْهَبُ
تَقُولُ: فَإِمّا كُنْتَ لَا بُدّ فَاعِلًا ... فَيَمّمْ بِنَا الْبُلْدَانَ ولتَنْأَ يَثْرِبَ
فَقُلْت لَهَا: بَلْ يَثْرِبُ الْيَوْمَ وَجْهُنَا ... وَمَا يَشإِ الرّحْمَنُ فَالْعَبْدُ يَرْكَبُ
إلَى اللهِ وَجْهِي وَالرّسُولِ وَمَنْ يُقِمْ ... إلَى اللهِ يَوْمًا وَجْهَهُ لَا يُخَيّبُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/152)
فَكَمْ قَدْ تَرَكْنَا مِنْ حَمِيمٍ مُنَاصِحٍ ... وَنَاصِحَةٍ تَبْكِي بِدَمْعٍ وَتَنْدُبُ
تَرَى أَنّ وِتْرًا نَأْيُنَا عَنْ بِلَادِنَا ... وَنَحْنُ نَرَى أَنّ الرّغَائِبَ نَطْلُبُ
دَعَوْت بَنِي غَنْمٍ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ ... وَلِلْحَقّ لَمّا لَاحَ لِلنّاسِ مَلْحَبُ
أَجَابُوا بِحَمْدِ اللهِ لَمّا دَعَاهُمْ ... إلَى الْحَقّ دَاعٍ وَالنّجَاحُ فَأَوْعَبُوا
وَكُنّا وَأَصْحَابًا لَنَا فَارَقُوا الْهُدَى ... أَعَانُوا عَلَيْنَا بِالسّلَاحِ وأجْلَبوا
كَفَوْجَيْنِ: أَمّا مِنْهُمَا فَمُوَفّقٌ ... عَلَى الْحَقّ مَهْدِيّ، وَفَوْجٌ مُعَذّبُ
طَغَوْا وَتَمَنّوْا كِذْبَةً وَأَزَلّهُمْ ... عَنْ الْحَقّ إبْلِيسُ فَخَابُوا وَخُيّبُوا
وَرِعْنَا إلَى قَوْلِ النّبِيّ مُحَمّدٍ ... فَطَابَ وُلَاةُ الْحَقّ مِنّا وطُيّبوا
نَمُتّ بِأَرْحَامٍ إلَيْهِمْ قَرِيبَةٍ ... وَلَا قُرْبَ بِالْأَرْحَامِ إذْ لَا نُقَرّبُ
فَأَيّ ابْنِ أُخْتٍ بَعْدَنَا يَأْمَنَنّكُمْ ... وَأَيّةُ صِهْرٍ بَعْدَ صِهْرِي تُرْقَبُ
سَتَعْلَمُ يَوْمًا أَيّنَا إذْ تُزَايِلُوا ... وَزُيّلَ أَمْرُ النّاس للحقّ أصوب
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ «وَلْتَنْأَ يَثْرِبَ» ، وَقَوْلُهُ «إذْ لَا نَقْرَبُ» ، عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: «إذْ» إذَا، كَقَوْلِ اللهِ عَزّ وَجَلّ:
«إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ أَبُو النّجْمِ الْعِجْلِيّ:
ثُمّ جَزَاهُ اللهُ عَنّا إذْ جَزَى ... جَنّاتِ عَدْنٍ فى العلالىّ والعلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/153)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إسْلَامُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَصَنَمُهُ:
فَصْلٌ فِي إسْلَامِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَذَكَرَ صَنَمَهُ الّذِي كَانَ يَعْبُدُهُ، وَاسْمُهُ مَنَاةُ، وَزْنُهُ فَعْلَةٌ مِنْ مَنَيْت الدّمَ وَغَيْرَهُ: إذَا صَبَبْته، لِأَنّ الدّمَاءَ كَانَتْ تُمْنَى عِنْدَهُ تَقَرّبًا إلَيْهِ، وَمِنْهُ سُمّيَتْ الْأَصْنَامُ الدّمَى، وَفِي الْحَدِيثِ: لَا وَالدّمَى لَا أَرَى بِمَا تَقُولُ بَأْسًا، وَكَذَلِكَ مَنَاةُ الطّاغِيَةُ الّتِي كَانُوا يُهِلّونَ إلَيْهَا بِقُدَيْدٍ وَالْحَظّ مِنْ مِنْ هَذَا الْمَطْلَعِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى النجم، مِنْ الْفَائِدَةِ جَعَلَهَا ثَالِثَةً لِلّاتِ وَالْعُزّى، وَأُخْرَى بِالْإِضَافَةِ إلَى مَنَاةَ الّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا عَمْرُو ابن الْجَمُوحِ وَغَيْرُهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَهُمَا مَنَاتَانِ، وَإِحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى بِالْإِضَافَةِ إلَى صَاحِبَتِهَا.
وَقَوْلُهُ:
الْآنَ فَتّشْنَاك عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ
الْغَبَنُ فِي الرّأْيِ يُقَالُ غَبِنَ رَأْيَهُ كَمَا يُقَالُ سَفِهَ نَفْسَهُ، فنصبوا، لأن المعنى:
خسر نفسه، وأو بقها وَأَفْسَدَ رَأْيَهُ وَنَحْوُ هَذَا.
وَقَوْلُهُ إلَهًا مُسْتَدَنْ «1» مِنْ السّدَانَةِ، وَهِيَ خِدْمَةُ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمُهُ.
وَقَوْلُهُ دَيّانُ الدّيَنْ: الدّيَنُ جَمْعُ دِينَةٍ، وَهِيَ الْعَادَةُ، وَيُقَالُ لَهَا دِينٌ أَيْضًا، وَقَالَ ابْنُ الطّثَرِيّةِ، واسمه يزيد «2» :
__________
(1) ولهذا فسرها الخشنى بقوله: مستذل مستعبد.
(2) اختلف فى نسبه، فهو عند أبى عمرو والشيبانى: أبو المكشوح يزيد(4/154)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَرَى سَبْعَةً يَسْعَوْنَ لِلْوَصْلِ كُلّهُمْ ... لَهُ عِنْدَ لَيْلَى دِينَةٌ يَسْتَدِينُهَا
فَأَلْقَيْت سَهْمِي بَيْنَهُمْ حِينَ أَوْخَشُوا ... فَمَا صَارَ لِي فِي الْقَسْمِ إلّا ثمينها «1»
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالدّينِ: الْأَدْيَانَ أَيْ هُوَ دَيّانُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَلَكِنْ جَمَعَهَا عَلَى الدّيَنِ، لِأَنّهَا مِلَلٌ وَنِحَلٌ، كَمَا قَالُوا فِي جَمْعِ: الْحُرّةِ: حَرَائِرَ، لِأَنّهُنّ فِي مَعْنَى الْكَرَائِمِ وَالْعَقَائِلِ، وَكَذَلِكَ مَرَائِرُ الشّجَرِ، وَإِنْ كَانَتْ الْوَاحِدَةُ مُرّةً، وَلَكِنّهَا فِي مَعْنَى فَعِيلَةٍ، لِأَنّهَا عَسِيرَةٌ فِي الذّوْقِ، وَشَدِيدَةٌ عَلَى الْأَكْلِ، وَكَرِيهَةٌ إلَيْهِ.
تَفْسِيرُ بَعْضِ الْأَنْسَابِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ تَسْمِيَةَ مَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ، وَذَكَرَ أَنْسَابَهُمْ إلّا
__________
ابن سلمة بن سمرة بْنِ سَلَمَةَ الْخَيْرِ بْنِ قُشَيْرِ بْنِ كَعْبِ بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وقيل: إنه يزيد بن المنتشر بن سلمة، وذكر ابن الكلبى أنه يزيد بن الصمة أحد بنى سلمة الخير بن قشير، وذكر البصريون أنه من ولد الأعور بن قشير. يقول عنه أبو الحسن على بن عبد الله الطوسى: «كان ابن الطثرية شاعرا مطبوعا عاقلا فصيحا كامل الأدب وافر المروءة لا يعاب، ولا يطعن عليه» والطثرية أمه، وهى من بنى طثر بن عنز بن وائل. وقد ضبطها ابن خلكان بفتح الطاء وسكون الثاء، وضبط فى القاموس واللسان بفتح الثاء: وهو من شعراء الحماسة لأبى تمام والبيت الثانى فى اللسان فى مادة ثمن.
(1) أوخش القوم: ردوا والسهام فى الربابة مرة أخرى، والثمين: جزء من الثمانية، وفى اللسان: وسطهم بدلا من: بينهم لأن فعله غالبا يجمع على فعل، مثل غرفة وغرف ومدية ومدى، وأما فعائل فمقيس فى كل رباعى- اسم أوصفة- مؤنث لفظيا أو معنويا ثالثة مده سواء أكانت ألفا أم ياء أم واوا.(4/155)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيّهَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ، وَمَا قِيلَ فِي نَسَبِهِ فِي ذِكْرِ الْعَقَبَةِ الْأُولَى «1» .
وَذَكَرَ قُطْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، وَالْقُطْبَةُ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاحِدَةُ الْقُطَبِ، وَهِيَ شَوْكَةٌ «2» . مُدَحْرَجَةٌ فِيهَا ثَلَاثُ شُوَيْكَاتٍ، وَهِيَ تُشْبِهُ حَسَكَ السّعْدَانِ، وَقَدْ بَانَ بِنَعْتِ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُ أَنّهُ الّذِي نُسَمّيهِ بِبِلَادِنَا حِمّصَ الْأَمِيرِ. وَالْقُطْبَةُ:
طَرَفُ النّصْلِ.
وَذَكَرَ ذَكْوَانَ بْنَ عَبْدِ قَيْسٍ، وَنَسَبَهُ إلَى عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمَ، وَالْغَضْبُ فِي اللّغَةِ: الشّدِيدُ الْحُمْرَةِ «3» ، وَجُشَمُ مَعْدُولٌ عَنْ جَاشِمٍ، وَهُوَ مِنْ جَشِمْت الْأَمْرَ [تَكَلّفْته عَلَى مَشَقّةٍ] كَمَا عَدَلُوا عمر عن عامر «4» وقد أملينا جزآ فِي أَسْرَارِ مَا يَنْصَرِفُ، وَمَا لَا يَنْصَرِفُ
__________
(1) مازدته فى السيرة من نسب معن بن عدى وغيره من الإصابة.
(2) القطبة ضرب من النبات يذهب حبالا على الأرض طولا، وله زهرة صفراء، وشوكته إذا أحصد ويبس يشق على الناس أن يطئوها، مدحرجة كأنها حصاة. والحسك: نبات له ثمرة خشنة تتعلق بأصواف الغنم وأوبار الإبل، ومنه حسك السعدان، والسعدان: نبت من أفضل مراعى الإبل، ومنه: مرعى، ولا كالسعدان، وله شوك تشبه به حلمة الثدى. وهذا المثل يضرب للشىء بفضل على أقرانه
(3) فى الاشتقاق: الغضب: الأحمر الغليظ، والغضبة الصخرة الخشنة ص 461.
(4) فى الاشتقاق: ومن قولهم: جشمت إليك هذا الأمر، أى: تحملت ثقلة، وجشم البعير: صدره وكلكه» ص 252.(4/156)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَرَحْنَا فِيهِ فَائِدَةَ الْعَدْلِ عَنْ فَاعِلٍ إلَى فُعَلَ، وَمَا حَقِيقَةُ الْعَدْلِ وَالْمَقْصُودُ بِهِ، وَلِمَ لَمْ يُعْدَلْ عَنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَلِمَ لَمْ يَكُنْ إلّا فِي الصّفَاتِ وَلِمَ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصّفَاتِ إلّا فِي مِثْلِ عَامِرٍ وَزَافِرٍ وَقَاثِمٍ «1» ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِكٍ وَصَالِحٍ وَسَالِمٍ، وَلِمَ خُصّ فُعَلُ هَذَا الْبِنَاءُ بِالْعَدْلِ إلَيْهِ، وَهَلْ عُدِلَ إلَى بِنَاءٍ غَيْرِهِ، أَمْ لَا وَلَمْ مُنِعَ الْخَفْضُ وَالتّنْوِينُ إذَا كَانَ مَعْدُولًا إلَى هَذَا الْبِنَاءِ، فَمَنْ اشْتَاقَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَسْرَارِ فَلْيَنْظُرْهَا هُنَالِكَ، فَإِنّ ابْنَ جِنّيّ قَدْ حَامَ فِي كِتَابِ الْخَصَائِصِ عَلَى بَعْضِهَا، فَمَا وَرَدَ، وَصَأْصَأَ فَمَا فَقّحَ «2» .
وَذَكَرَ فِي بنى بياضة عمرو بن وذفة بذال معجمة، وقال ابن هشام:
ودفة بدال مهملة، وهو الأصح، والودفة: المرّوضة النّاعِمَةُ سُمّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنّهَا تَقْطُرُ مَاءً مِنْ نِعْمَتِهَا، وَالْأُدَافُ الذّكَرُ، وَأَصْلُهُ: وُدَافٌ، سُمّيَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَطْرُ الْمَاءِ وَالْمَنِيّ مِنْهُ «3» ، وَيُقَالُ لِلرّوْضَةِ النّاعمة: الدّقرى، وعمرو بن
__________
(1) قثم- فى القاموس- الكثير العطاء معدول عن قاثم، والجموع للخير والعيال، وزفر: الأسد والشجاع، والبحر والنهر الكثير الماء، الذى يحمل الأثقال، أى: القوى على حمل القرب، والجمل الضخم، والكتيبة إلخ.
(2) فقح الجرو، فتح عينيه أول ما يفتح، وهو صغير، وصأصأ الجرو: حاول النظر ولما تنفتح عيناه، ويقال: فقحنا، وصأصأتم: أبصرنا الحق، ولم تبصروه.
(3) العبارة مضطربة ولعلها: لقطر الماء ... الخ. وفى القاموس عن وداف: «وكغراب: الذكر لما يدف منه من المنى وغيره» وفى اللسان: «والأداف: الذكر القطراشه الهمزة فيه: بدل من الواو، وهو مما لزم فيه البدل، إذ لم تسمعهم قالوا: وداف. وفى الحديث: فى الأداف الدية يعنى الذكر، قال ابن الأثير:(4/157)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَدْفَةَ هَذَا هُوَ الْبَيَاضِيّ الّذِي رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فِي كِتَابِ الصّلَاةِ، وَلَمْ يُسَمّهِ، وَفِي الْأَنْصَارِ [مِنْ قَبَائِلِ الْخَزْرَجِ] بَنُو النّجّارِ، وَهُمْ تَيْمُ اللهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ، سُمّيَ النّجّارَ فِيمَا ذَكَرُوا لِأَنّهُ نَجَرَ وَجْهَ رَجُلٍ بِقَدُومِ وَقِيلَ: كَانَ نَجّارًا، وَثَعْلَبَةُ فِي الْعَرَبِ كَثِيرٌ فِي الرّجَالِ، وَقَلّ مَا يُسَمّونَ بِثَعْلَبِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسَ كَمَا يُسَمّونَ بِنَمِرِ وَسَبُعٍ وَذِئْبٍ «1» ، وَلَكِنْ الثّعْلَبُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ، إذْ يُقَالُ ثَعْلَبُ الرّمْحِ، وَثَعْلَبُ الْحَوْضِ «2» ، وَهُوَ مَخْرَجُ الْمَاءِ مِنْهُ، وَفِي الْحَدِيثِ حَتّى قَامَ أَبُو لُبَابَةَ يَسُدّ ثَعْلَبَ مِرْبَدِهِ بِرِدَائِهِ «3» ، فَكَأَنّهُمْ عَدَلُوا عَنْ النسمية
__________
سماه بما يقطر منيا مجازا» وفى اللسان عن الودفة: الودفة- بسكون الدال- الوديفة: الروضة الناضرة المتخيلة، وقال أبو حازم: الودفة بفتح الدال: الروضة الخضراء من نبت.
(1) يقول ابن دريد عن مذاهب العرب فى التسمية: «ومنها أن الرجل كان يخرج من منزله وامرأته تمحض، فيسمى ابنه بأول ما يلقاه من ذلك، نحو: ثعلب وثعلبة، وضب وضبة، وخزر وضبيعة، وكلب وكليب، وحمار وقرد وخنزير ... وكذلك أيضا تسمى بأول ما يسنح أو يبرح لها من الطير نحو: غراب وصرد وما أشبه ذلك» ص 6 الاشتقاق، ولم أجد فيه سوى بطن واحد من قبائل قضاعة سمى بثعلب بينما وجدت ثمانية عشر سموا بثعلبة وهناك اثنان وعشرون صحابيا كلهم تسمى باسم ثعلبة.
(2) ثعلب الرمح: طرفه الداخل فى جبة السنان
(3) فى النهاية لابن الأثير «فى حديث الاستسقاء: اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة يسد تعلب مريده بإزاره. المربد: موضع يجفف فيه التمر، وثعلبة ثقبه الذى يسيل منه ماء المطر» وفى مكان آخر يقول: يعنى موضع ثمره. أنظر مادتى ثعلب وربد فى النهاية. وفى الروض: يشد ثعلب وهو خطأ.(4/158)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِثَعْلَبِ لِهَذَا الِاشْتِرَاكِ، مَعَ أَنّ الثّعْلَبَةَ أَحْمَى لِأَدْرَاصِهَا «1» وَأَغْيَرُ عَلَى أَجْرَائِهَا مِنْ الثّعْلَبِ.
وَذَكَرَ قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لِبَنِي سَلِمَةَ مَنْ سَيّدُكُمْ؟
فَقَالُوا جَدّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ، فَقَالَ: وَأَيّ دَاءٍ أَكْبَرُ مِنْ الْبُخْلِ؟! بَلْ سَيّدُكُمْ الْأَبْيَضُ الْجَعْدُ: بِشْرُ بْنُ الْبَرَاء، وَرُوِيَ عَنْ الزّهْرِيّ وَعَامِرٍ الشّعْبِيّ أَنّهُمَا قَالَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: بَلْ سَيّدُكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوح، وَقَالَ شَاعِرُ الْأَنْصَارِ فِي ذَلِكَ:
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ، وَالْحَقّ قَوْلُهُ ... لِمَنْ قَالَ مِنّا مَنْ تَعُدّونَ سَيّدَا
فَقَالُوا لَهُ: جَدّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى الّتِي ... نُبَخّلُهُ فِيهَا، وَمَا كَانَ أَسْوَدَا
فَسَوّدَ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ لِجُودِهِ ... وَحُقّ لعمرو عندنا أَنْ يُسَوّدَا
ذَكَرَ خَدِيجَ بْنَ سَلَامَةَ الْبَلَوِيّ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ خَدِيجَ بْنَ سَلَامَةَ الْبَلَوِيّ، وَهُوَ: خَدِيجٌ بِخَاءِ مَنْقُوطَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَدَالٍ مَكْسُورَةٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الدّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَهُ الطّبَرِيّ، وَقَالَ: شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، وَقَالَ: يُكَنّى أَبَا رَشِيدٍ:
وَذَكَرَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَنَسَبَهُ إلَى أُدَيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ أَخِي سَلِمَةَ، وقد
__________
(1) أدراص جمع درص بفتح الدال وكسرها: ولد القنفذ والأرنب واليربوع والفأرة والهرة ونحوها، وبالكسر جنين الأتان. والجمع أيضا درصة ودرصان، ودروص وأدرص. والجرو مثلثة- أى بكسر الجيم وفتحها وضمها- صغير كل شىء حتى الحنظل والبطيخ ونحوه ج أجر وجراء وولد الكلب والأسد ج أجر وأجرية وأجراء وجراء.(4/159)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
انقرض عَقِبُ أُدَيّ، وَآخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَقَدْ يُقَالُ فِي أُدَيّ أَيْضًا: أُذُنٌ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ وَابْنِ هِشَامٍ.
وَذَكَرَ أَنّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسٍ، هَكَذَا تَقَيّدَ فِي النّسْخَةِ عَمْوَاسٌ بِسُكُونِ الْمِيمِ «1» ، وَقَالَ فِيهِ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ الْمُعْجَمِ مِنْ أَسْمَاءِ الْبُقَعِ:
عَمَوَاسٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْعَيْنِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالشّامِ عُرِفَ الطّاعُونُ بِهَا لِأَنّهُ مِنْهَا بَدَأَ وَقِيلَ: إنّمَا سُمّيَ: طَاعُونَ عَمْوَاسٍ لِأَنّهُ عَمّ وَآسَى أَيْ جَعَلَ بَعْضَ النّاسِ أُسْوَةَ بَعْضٍ.
وَذَكَرَ يَزِيدَ بْنَ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ بِسُكُونِ الزّايِ كَذَا قَالَ فِيهِ ابْنُ إسْحَاقَ وَابْنُ الْكَلْبِيّ، وَقَالَ الطّبَرِيّ فِيهِ خَزَمَةَ بِتَحْرِيكِ الزّايِ، وَهُوَ بَلَوِيّ مِنْ بَنِي عَمّارَةَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَلَا يُعْرَفُ عَمّارَةُ فِي الْعَرَبِ إلّا هَذَا، كَمَا لَا يُعْرَفُ عِمَارَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ إلّا أُبَيّ بْنُ عِمَارَةَ الّذِي يَرْوِي حَدِيثًا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفّيْنِ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ عُمَارَةُ بِضَمّ الْعَيْنِ، وَأَمّا سِوَى هَذَيْنِ فَعُمَارَةُ بِالضّمّ، غَيْرَ أَنّ الدّارَقُطْنِيّ ذَكَرَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ فِي نَسَبِ قُضَاعَةَ:
قَالَ مُدْرِكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْقَمْقَامُ بْنِ عِمَارَةَ بْنِ ذُوَيْدِ بْنِ مَالِكٍ. وفى النساء عمارة
__________
(1) فى المراصد: رواه الزمخشرى بكسر أوله وكسر ثانيه، وغيره بفتح أوله وثانيه: كورة من فلسطين قرب بيت المقدس وكانت عمواس قصبتها قديما، وهى ضيعة جليلة على ستة أميال من بيت المقدس، منها كان ابتداء الطاعون المنسوب إليها فى زمن عمر. قيل: مات فيه خمسة وعشرون ألفا» وفى ياقوت أن عمواس بكسر العين وسكون الميم.(4/160)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِنْتُ نَافِعٍ، وَهِيَ أُمّ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّزّاقِ، وَفِي الْأَنْصَارِ خَزَمَةُ سِوَى هَذَا الْمَذْكُورِ بِفَتْحِ الزّايِ كَثِيرٌ.
وَذَكَرَ بَنِي الْحُبْلَى وَالنّسَبُ إلَيْهِ حُبُلِيّ بِضَمّ الْحَاءِ وَالْبَاءِ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ، النّسَبِ، وَتَوَهّمَ بَعْضُ مَنْ أَلّفَ فِي الْعَرَبِيّةِ أَنّ سِيبَوَيْهِ قَالَ فِيهِ: حُبَلِيّ بِفَتْحِ الْبَاءِ لِمَا ذَكَرَهُ مَعَ جُذَمِيّ فِي النّسَبِ إلَى جَذِيمَةَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ سِيبَوَيْهِ مَعَهُ، لِأَنّهُ عَلَى وَزْنِهِ، وَلَكِنْ لِأَنّهُ شَاذّ مِثْلُهُ فِي الْقِيَاسِ الّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالضّمّ، ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ الْقَالِي فِي الْبَارِعِ، وَقَالَ هَكَذَا تَقَيّدَ فِي النّسَخِ الصّحِيحَةِ مِنْ سِيبَوَيْهِ، وَحَسْبُك مِنْ هَذَا أَنّ جَمِيعَ الْمُحَدّثِينَ يَقُولُونَ: أَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحُبُلِيّ بِضَمّتَيْنِ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، فَدَلّ هَذَا كُلّهُ عَلَى غَلَطِ مَنْ نَسَبَ إلَى سِيبَوَيْهِ أَنّهُ فَتَحَ الْبَاءَ «1» .
مَتَى أَسْلَمَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ هِجْرَةَ أُمّ سَلَمَةَ وَصُحْبَةَ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ لها، وهو يومئذ
__________
(1) فى القاموس: «الحبلى» بضم الحاء وسكون الباء وفتح اللام، لقب سالم بن غنم بن عوف لعظم بطنه من ولده: بنو الحبلى بطن من الأنصار، وهو حبلى بضم الحاء وسكون الباء- وبضمتين، وكجهنى» وفى اللباب لابن الأثير الحبلى بضم الحاء والباء ونقل عن السمعانى، وذكر سيبويه النحوى: الحبلى بفتح الباء وقال: هو منسوب إلى بنى الحبلى. وقال: الحبلى بضم الحاء وسكون الباء وإمالة اللام لقب سالم بن غنم بن عوف ابن الخزرج بن حارثة قال ابن الكلبى: إنما سمى الحبلى لعظم بطنه. وانظر ص 459 الاشتقاق.(4/161)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى كُفْرِهِ، وَإِنّمَا أَسْلَمَ عُثْمَانُ فِي هُدْنَةِ الحديبية «1» ، وهاجر قبل الفتح مع خالد ابن الْوَلِيدِ، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ إخْوَتُهُ مُسَافِعٌ، وَكِلَابٌ وَالْحَارِثُ، وَأَبُوهُمْ وَعَمّهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ قُتِلَ أَيْضًا يَوْمَ أُحُدٍ كَافِرًا وَبِيَدِهِ كَانَتْ مَفَاتِيحُ الْكَعْبَةِ وَدَفَعَهَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفَتْحِ إلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَإِلَى ابْنِ عَمّهِ شَيْبَةَ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَهُوَ جَدّ بَنِي شَيْبَةَ حَجَبَةِ الْكَعْبَةِ، وَاسْمُ أَبِي طَلْحَةَ جَدّهِمْ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَقُتِلَ عُثْمَانُ رَحِمَهُ اللهُ شَهِيدًا بِأَجْنَادِينَ فِي أَوّلِ خِلَافَةِ عُمَرَ.
هِجْرَةُ بَنِي جَحْشٍ:
وَذَكَرَ هِجْرَةَ بَنِي جَحْشٍ، وَهُمْ: عَبْدُ اللهِ وَأَبُو أَحْمَدَ وَاسْمُهُ: عَبْدٌ، وَقَدْ كَانَ أَخُوهُمْ عُبَيْدُ اللهِ أَسْلَمَ ثُمّ تَنَصّرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ الّتِي كَانَتْ عِنْدَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَنَزَلَتْ فِيهَا فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها الْأَحْزَابَ وَأُمّ حَبِيبِ بِنْتُ جَحْشٍ الّتِي كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، وَكَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ الّتِي كَانَتْ تَحْتَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَكَانَتْ تُسْتَحَاضُ أَيْضًا، وَقَدْ رُوِيَ أَنّ زَيْنَبَ اُسْتُحِيضَتْ أَيْضًا، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطّأِ أَنّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَتْ تُسْتَحَاضُ، وَلَمْ تَكُ قَطّ زَيْنَبُ عِنْدَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ وَالْغَلَطُ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ بَشَرٌ، وَإِنّمَا كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ أُخْتُهَا أُمّ حبيب،
__________
(1) بتخفيف الياء الثانية مع فتحها، وقيل: أهل المدينة يثقلونها، وأهل العراق يخففونها.(4/162)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَيُقَالُ فِيهَا أُمّ حَبِيبَةَ، غَيْرَ أَنّ شَيْخَنَا أَبَا عَبْدِ اللهِ مُحَمّدَ بْنَ نَجَاحٍ، أَخْبَرَنِي أَنّ أُمّ حَبِيبٍ كَانَ اسْمُهَا: زَيْنَبَ فَهُمَا زَيْنَبَانِ غَلَبَتْ عَلَى إحْدَاهُمَا الْكُنْيَةُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِي حَدِيثِ الْمُوَطّأِ وَهْمٌ وَلَا غَلَطٌ وَاَللهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ اسْمُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ:
بَرّةَ فَسَمّاهَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْنَبَ، وَكَذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمّ سلمة ربيبته عليه السلام، كان اسمها برة، فَسَمّاهَا زَيْنَبَ كَأَنّهُ كَرِهَ أَنْ تُزَكّيَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِهَذَا الِاسْمِ، وَكَانَ اسْمُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ: بُرّةَ بِضَمّ الْبَاءِ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ لِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ غَيّرْت اسْمَ أَبِي، فَإِنّ الْبُرّةَ صَغِيرَةٌ، فَقِيلَ: أن رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهَا:
لَوْ أَبُوك مُسْلِمًا لَسَمّيْته بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِنَا أَهْلِ الْبَيْتِ، وَلَكِنّي قَدْ سَمّيْته جَحْشًا وَالْجَحْشُ أَكْبَرُ مِنْ الْبُرّةِ. ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مُسْنَدًا فِي كِتَابِ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ أَبُو الْحَسَنِ الدّارَقُطْنِيّ.
الشّعْرُ الّذِي تَمَثّلَ بِهِ أَبُو سُفْيَانَ:
فَصْلٌ: ذَكَرَ الْبَيْتَ الّذِي تَمَثّلَ بِهِ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ مَرّ بِدَارِ بَنِي جَحْشٍ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَكُلّ بَيْتٍ وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ ... يَوْمًا سَتُدْرِكُهُ النّكْبَاءُ والحوب
كل امرىء بِلِقَاءِ الْمَوْتِ مُرْتَهَنٌ ... كَأَنّهُ غَرَضٌ لِلْمَوْتِ مَنْصُوبُ
وَالشّعْرُ لِأَبِي دُؤَادٍ الْإِيَادِيّ وَاسْمُهُ: حَنْظَلَةُ بْنُ شَرْقِيّ، وَقِيلَ جَارِيَةُ بْنُ الْحَجّاجِ ذَكَرَ دَارَ بنى جحش، وَأَنّهَا عِنْدَ دَارِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بِالرّدْمِ، والرّدم(4/163)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حفر ردم بِالْقَتْلَى فِي الْجَاهِلِيّةِ، فَسُمّيَ: الرّدْمَ، وَذَلِكَ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ بَنِي جُمَحَ، وَبَيْنَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، وَكَانَتْ الدّبَرَةُ فِيهَا عَلَى بنى الحارث، ولذلك قلّ عددهم، فهم أفل قُرَيْشٍ عَدَدًا.
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ شِعْرَ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جحش وفيه:
إلَى اللهِ وَجْهِي وَالرّسُولِ وَمَنْ يُقِمْ ... إلَى اللهِ يَوْمًا وَجْهَهُ لَا يُخَيّبْ
هَكَذَا يُرْوَى بِكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى الإفواء، وَلَوْ رُوِيَ بِالرّفْعِ لَجَازَ عَلَى الضّرُورَةِ وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: فَلَا يُخَيّبُ بِإِضْمَارِ الْفَاءِ فِي مَذْهَبِ أَبِي الْعَبّاسِ، وَفِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ: يَجُوزُ أَيْضًا لَا عَلَى إضْمَارِ الْفَاءِ، وَلَكِنْ عَلَى نِيّةِ التّقْدِيمِ لِلْفِعْلِ عَلَى الشّرْطِ كَمَا أَنْشَدُوا:
إنّك إنْ يُصْرَعْ أَخُوك تُصْرَعُ «1»
وَهُوَ مَعَ إنْ أَحْسَنُ، لِأَنّ التّقْدِيرَ إنّك تُصْرَعُ إنْ يُصْرَعْ أَخُوك، وَأَنْشَدُوا أَيْضًا:
مَنْ يَفْعَلْ الْحَسَنَاتِ اللهُ يشكره «2»
__________
(1) البيت لجرير بن عبد الله البجيلى، وقد سبق. وهو فى كتاب سيبويه ص 436 ح 1 ط أولى والشاهد- فيه كما يقول السيرافى- على مذهب سيبويه: تقديم تصرع فى النية، وتضمنه الجواب فى المعنى. والتقدير: إنك تصرع إن يصرع أخوك، وهذا من ضرورة الشعرا لأن حرف الشرط قد جزم الأول، فحكم أن يجزم الآخر وهو عند المبرد على حذف الفاء. والأقرع من بنى تميم.
(2) هو من شواهد سيبويه أيضا فى الكتاب ص 435 ح 1 ط 1(4/164)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى هَذَا التّقْدِيرِ، وَفِي الشّعْرِ أَيْضًا:
وَلَا قُرْبَ بِالْأَرْحَامِ إذْ لَا تُقَرّبُ
وَتَأَوّلَ ابْنُ هِشَامٍ إذْ هُنَا بِمَعْنَى: إذَا وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ لَا يَحْسُنُ بَعْدَ إذَا مَعَ حَرْفِ النّفْيِ، وَإِنّمَا يَحْسُنُ بَعْدَ إذْ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَلَوْ قُلْت: سَآتِيك إذَا تَقُولُ كَذَا، كَانَ قَبِيحًا إذَا أَخّرْتهَا، أَوْ قَدّمْت الْفِعْلَ لِمَا فِي إذَا مِنْ مَعْنَى الشّرْطِ، وَإِنّمَا يَحْسُنُ هَذَا فِي حُرُوفِ الشّرْطِ مَعَ لَفْظِ الْمَاضِي، تَقُولُ: سَآتِيك إنْ قَامَ زَيْدٌ وَإِذَا قَامَ زَيْدٌ، وَيَقْبُحُ: سَآتِيك إنْ يَقُمْ زَيْدٌ لِأَنّ حَرْفَ الشّرْطِ إذَا أُخّرَ أُلْغِيَ، وَإِذَا أُلْغِيَ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ الْمُعْرَبُ بَعْدَهُ، غَيْرَ أَنّهُ حَسُنَ فِي كَيْفَ نَحْوُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ، ويبسطه فى السماء كيف يشاء لِسِرّ بَدِيعٍ لَعَلّنَا نَذْكُرُهُ إنْ وَجَدْنَا لِشَفْرَتِنَا مَحَزّا، وَيَحْسُنُ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ مَعَ إذَا بَعْدَ القسم كقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الشّرْطِ فِيهِ، فَهَذَا وَجْهٌ، وَالْوَجْهُ الثّانِي: أَنّ إذْ بِمَعْنَى إذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الْكَلَامِ، وَلَا حَكَاهُ ثَبْتٌ، وَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ مِنْ قَوْلِ رُؤْبَةَ لَيْسَ عَلَى مَا ظَنّ إنّمَا مَعْنَاهُ: ثُمّ جَزَاهُ اللهُ رَبّي إن جزى، أى من أجل أن نفسى وَجَزَى عَنّي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ففاعل جَزَى: مُضْمَرٌ عَائِدٌ عَلَى الرّجُلِ الْمَمْدُوحِ، وَإِذْ بِمَعْنَى أَنْ الْمَفْتُوحَةِ كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ
__________
والشاهد فيه: حذف الفاء من الجواب ضرورة، والتقدير: فالله يشكره وفى الكتاب: يشكرها، وزعم الأصمعى أن النحويين غيروه، وأن الرواية: من يفعل الخير، فالرحمن يشكره.(4/165)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي سَوَادِ الْكِتَابِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ وَغَفَلَ النّسَوِيّ عَمّا فِي الْكِتَابِ مِنْ هَذَا، وَجَعَلَ الْفِعْلَ الْمُسْتَقْبَلَ الّذِي بَعْدَ لَنْ عَامِلًا فِي الظّرْفِ الْمَاضِي، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: سَآتِيك الْيَوْمَ أَمْسِ، وَهَذَا هُرَاءٌ مِنْ الْقَوْلِ، وَغَفْلَةٌ عَمّا فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، وَلَيْتَ شِعْرِي مَا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ فَإِنْ جَوّزَ وُقُوعَ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الظّرْفِ الْمَاضِي عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ، فَكَيْفَ يَعْمَلُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ فِيمَا قَبْلَهَا لَا سِيّمَا مَعَ السّينِ، وهو قبيح أن تقول: غدا سآتيك، فكيف إن قُلْت: غَدًا فَسَآتِيك، فَكَيْفَ إنْ زِدْت عَلَى هَذَا وَقُلْت: أَمْسِ فَسَآتِيك، وَإِذْ عَلَى أَصْلِهِ بِمَنْزِلَةِ أَمْسِ، فَهَذِهِ فَضَائِحُ لَا غِطَاءَ عَلَيْهَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ سبحانه وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا وكذلك: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ أَلَيْسَ هَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ بِمَعْنَى إذَا الّتِي تُعْطِي الِاسْتِقْبَالَ؟
قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَكُونُ بِمَعْنَى إذَا، وَإِذَا لَا يَقَعُ بَعْدَهَا الابتداء والخبر، وقد قال سبحانه: إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ وإنما التقدير: ولو ترى فدمهم وَحُزْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعْدَ وُقُوفِهِمْ عَلَى النّارِ، فَإِذْ ظَرْفٌ مَاضٍ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَكِنْ بِالْإِضَافَةِ إلَى حُزْنِهِمْ وَنَدَامَتِهِمْ، فَالْحُزْنُ وَالنّدَامَةُ وَاقِعَانِ بعد المعاينة والتوقيف، فقد صار وقف التّوْقِيفِ مَاضِيًا بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا بَعْدَهُ، وَاَلّذِي بَعْدَهُ هُوَ مَفْعُولُ تَرَى، وَهَذَا نَحْوٌ مِمّا يُتَوَهّمُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا(4/166)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها فَيُتَوَهّمُ أَنّ إذَا هَاهُنَا بِمَعْنَى إذْ، لِأَنّهُ حَدِيثٌ قَدْ مَضَى، وَلَيْسَ كَمَا يُتَوَهّمُ، بَلْ هِيَ عَلَى بَابِهَا، وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا مُسْتَقْبَلٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الِانْطِلَاقِ، لِأَنّهُ بَعْدَهُ، وَالِانْطِلَاقُ قَبْلَهُ، وَلَوْلَا حَتّى، مَا جَازَ أَنْ يُقَالَ إلّا انْطَلَقَا إذْ رَكِبَا، وَلَكِنّ مَعْنَى الْغَايَةِ فِي حَتّى دَلّ عَلَى أَنّ الرّكُوبَ كَانَ بَعْدَ الِانْطِلَاقِ وَإِذَا كَانَ بَعْدَهُ، فَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَتُنَا الْحُزْنُ، وَسُوءُ الْحَالِ الّذِي هُوَ مَفْعُولٌ لِتَرَى، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي اللفظ، فهو بعد وقت الوقوف، فوقت الْوُقُوفُ مَاضٍ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ بدمن حَذْفٍ، فَكَذَلِكَ نُقَدّرُ حَذْفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ونحوه لأنها وإن كانت بمعنى أن، فلابد لَهَا مِنْ تَعَلّقٍ، كَأَنّهُ قَالَ: جُزِيتُمْ بِهَذَا مِنْ أَجْلِ أَنْ ظَلَمْتُمْ، أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ضَلّوا.
وَذَكَرَ فِي نِسَاءِ بَنِي جَحْشٍ: جُذَامَةَ بِنْتَ جَنْدَلٍ، وَأَحْسَبُهُ أَرَادَ جُذَامَةَ بِنْتَ وَهْبِ بْنِ مِحْصَنٍ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ الرّضَاعِ فِي الْمُوَطّأِ، وَقَالَ فِيهَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزّارُ: جُذَامَةُ بِالذّالِ الْمَنْقُوطَةِ هَكَذَا ذَكَرَ عَنْهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجّاجِ، وَالْمَعْرُوفُ: جُدَامَةُ بِالدّالِ «1» ، وَقَدْ يُقَالُ فِيهَا جُدّامَةُ بالتشديد،
__________
(1) فى القاموس: «وجدامة كثمامة بنت وهب، وبنت جندل، وبنت الحارث صحا بيات وهى ما يستخرج من السنبل بالخشب. وفى الإصابة عن جدامة بنت جندل بعد أن ذكر ما قاله ابن إسحاق عنها: وذكر الطبرى فى الذيل أنها هى بنت وهب ... وقال ابن سعد: كانت تحت أنيس بن قتادة الأنصارى. كما جاء فى الإصابة عن جدامة بنت وهب الأسدية: ويقال بالخاء المعجمة روت عن النبى «ص» فى رضاع الحامل، روت عنها أم المؤمنين عائشة، أخرج حديثها فى الموطأ،(4/167)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْجُدَامَةُ قَصَبُ الزّرْعِ، وَأَمْلَى عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ، وَكَتَبْت عَنْهُ بِخَطّ يَدِي قَالَ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبّارِ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الْبَرْمَكِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ زَكَرِيّا بْنِ حِبَوَيْهِ عَنْ أَبِي عُمَرَ الزّاهِدِ الْمُطَرّزِ قَالَ: الْجُدّامَةُ: بِتَشْدِيدِ الدّالِ طَرَفُ السّعَفَةِ وَبِهِ سُمّيَتْ الْمَرْأَةُ، وَكَانَتْ جُدَامَةُ بِنْتُ وَهْبٍ تَحْتَ أُنَيْسِ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ وَأَمّا جُدَامَةُ بِنْتُ جَنْدَلٍ، فَلَا تُعْرَفُ فِي آلِ جَحْشٍ الْأَسَدِيّينَ، وَلَا فِي غَيْرِهِمْ، وَلَعَلّهُ وَهْمٌ وَقَعَ فِي الْكِتَابِ، وَأَنّهَا بِنْتُ وهب بن محصن بنت أخى عكّاشة ابن مِحْصَنٍ، كَمَا قَدّمْنَا وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ فِي بَنِي أَسَدٍ ثَقْفَ بْنَ عَمْرٍو، وَيُقَالُ فِيهِ: ثِقَافٌ شَهِدَ هُوَ وَأَخُوهُ مِدْلَاجٌ [أَوْ مُدْلِجٌ] بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ قَتَلَهُ أُسَيْرُ [بْنُ رِزَامٍ] الْيَهُودِيّ «1» .
وَذَكَرَ فِيهِمْ أُمّ حَبِيبِ بِنْتَ ثُمَامَةَ، وَهِيَ مِمّا أَغْفَلَهُ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِهِ، وَأَغْفَلَ أَيْضًا ذِكْرَ ثُمَامِ بْنِ عُبَيْدَةَ «2» ، وَهُوَ مِمّنْ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هذه الجملة المذكورين من بنى أسد.
__________
ولفظه: عن جدامة الأسدية أنها سمعت النبى «ص» يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة.. الحديث، وفى بعض طرقه عند مسلم: عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة بن وهب قالت: حضرت عند النبى «ص» فى أناس، وهو يقول: فذكر الحديث ... وأورده ابن مندة بلفظ الموطأ فى جدامة ابن جندل.
(1) ويقول الواقدى عن مدلاج إنه شهد المشاهد كلها، ومات سنة خمسين، وتبعه ابن عبد البر فى ذلك «الإصابة» أما ثقف، فكما قال.
(2) ترجم ابن حجر لأم حبيب فى سطرين فقط، ولم يترجم لثمام.(4/168)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَرْبَدَ بْنَ جُمَيْرَةَ الْأَسَدِيّ بِالْجِيمِ، وَقَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ: حُمَيْرَةُ بِالْحَاءِ، وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ الْبَكّائِيّ وَابْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ فِيهِ ابْنُ حُمَيّرٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، كَأَنّهُ تَصْغِيرُ حِمَارٍ.
وَذَكَرَ فِيهِمْ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَلَمْ يَرْفَعْ نَسَبَهُ، وَهُوَ ابْنُ نَضْلَةَ بن عبد الله ابن مُرّةَ بْنِ غَنْمِ «1» بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ [بْنِ خُزَيْمَةَ] قُتِلَ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ شَهِيدًا «2» ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ يُعْرَفُ بِالْأَخْرَمِ، وَيُلَقّبُ: فُهَيْرَةَ، وَقَالَ فِيهِ مُوسَى بْنُ عقبة مُحْرِزِ بْنِ وَهْبٍ، وَلَمْ يَقُلْ ابْنَ نَضْلَةَ.
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَيْضًا يَزِيدَ بْنَ رُقَيْشٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ: أَرْبَدُ وَلَا يَصِحّ، وَهُوَ ابْنُ رُقَيْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ كُبَيْرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ، وَذَكَرَ فِيهِمْ رَبِيعَةَ بْنَ أَكْثَمَ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ وَهُوَ ابْنُ أكثم بن سخبرة بن عمرو ابن نُفَيْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ يُكَنّى: أَبَا يَزِيدَ، وَكَانَ قَصِيرًا دَحْدَحًا قُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ بِالنّطَاةِ قَتَلَهُ الْحَارِثُ اليهودى «3» .
__________
(1) فى الإصابة بن مرة بن كثير بن غنم، وفى إمتاع الأسماع مرة بن كبير ابن غنم.
(2) ماء على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر. خرج إليه النبى «ص» فى طلب عيينة بن حصن قال حسان:
كَانُوا بِدَارٍ؟؟؟ نَاعِمِينَ فَبُدّلُوا ... أَيّامَ ذِي قَرَدٍ وجوه عباد
(3) نطاة: اسم لأرض خيبر، وقيل حصن بخيبر أو عين بها يسقى بعض تخيل قراها، وهى وبئة، وفى القاموس تطلق أيضا على حمى خيبر. وبالألف واللام: الشمروخ.(4/169)
[هِجْرَةُ عُمَرَ وَقِصّةُ عَيّاشٍ مَعَهُ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيّ حَتّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ. فَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عن عبد الله ابن عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، قَالَ: اتّعَدْتُ، لَمّا أَرَدْنَا الْهِجْرَةَ إلَى الْمَدِينَةِ، أَنَا وعيّاش بن أبى ربيعة [واسمه: عمرو ويلقب ذا الرمحين] ، وهشام ابن الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السّهْمِيّ التّناضِبَ مِنْ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، فَوْقَ سَرِفٍ، وَقُلْنَا:
أَيّنَا لَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهَا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ. قَالَ: فأصبحت أنا وعيّاش ابن أَبِي رَبِيعَةَ عِنْدَ التّنَاضُبِ، وَحُبِسَ عَنّا هِشَامٌ، وفتن فافتتن.
فَلَمّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ نَزَلْنَا فِي بَنِي عَمْرِو بن عوف بقباء، وخرج أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إلَى عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ ابْنَ عَمّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمّهِمَا، حَتّى قَدِمَا عَلَيْنَا الْمَدِينَةَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ، فَكَلّمَاهُ وَقَالَا: إنّ أُمّك قَدْ نَذَرَتْ أَنْ لَا يَمَسّ رَأْسَهَا مُشْطٌ حَتّى تَرَاك، وَلَا تَسْتَظِلّ مِنْ شَمْسٍ حَتّى تَرَاك، فَرَقّ لَهَا، فَقُلْت لَهُ: يَا عَيّاشُ، إنّهُ وَاَللهِ إنْ يُرِيدَك الْقَوْمُ إلّا لِيَفْتِنُوك عَنْ دِينِك فَاحْذَرْهُمْ، فوالله لو قد آذى أمّك القمل لا متشطت، وَلَوْ قَدْ اشْتَدّ عَلَيْهَا حَرّ مَكّةَ لَاسْتَظَلّتْ. قَالَ: فَقَالَ: أَبَرّ قَسَمَ أُمّي، وَلِي هُنَالِكَ مَالٌ فَآخُذُهُ. قَالَ: فَقُلْت: وَاَللهِ إنّك لَتَعْلَمُ أَنّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، فَلَك نِصْفُ مَالِي وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا. قَالَ: فَأَبَى عَلَيّ إلّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمَا؛ فَلَمّا أَبَى إلّا ذَلِكَ؛ قَالَ: قُلْت لَهُ: أَمّا إذْ قَدْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْت، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ، فَإِنّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولٌ فَالْزَمْ ظَهْرَهَا، فَإِنْ رَابَك مِنْ الْقَوْمِ رَيْبٌ، فَانْجُ عَلَيْهَا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/170)
فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا، حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطّرِيقِ، قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاَللهِ لَقَدْ اسْتَغْلَظْتُ بَعِيرِي هَذَا، أَفَلَا تُعْقِبَنِي عَلَى نَاقَتِك هَذِهِ؟ قَالَ:
بَلَى. قَالَ: فَأَنَاخَ، وَأَنَاخَا لِيَتَحَوّلَ عَلَيْهَا، فَلَمّا اسْتَوَوْا بِالْأَرْضِ عَدَوْا عَلَيْهِ، فَأَوْثَقَاهُ وَرَبَطَاهُ، ثُمّ دَخَلَا بِهِ مَكّةَ، وَفَتَنَاهُ فَافْتُتِنَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي بِهِ بَعْضُ آلِ عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَنّهُمَا حَيْنَ دَخَلَا بِهِ مَكّةَ دَخَلَا بِهِ نَهَارًا مُوثَقًا، ثُمّ قَالَا: يَا أَهْلَ مَكّةَ، هَكَذَا فَافْعَلُوا بِسُفَهَائِكُمْ، كَمَا فَعَلْنَا بِسَفِيهِنَا هَذَا.
[كِتَابُ عُمَرَ إلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ، قَالَ: فَكُنّا نَقُولُ: مَا اللهُ بِقَابِلٍ مِمّنْ اُفْتُتِنَ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَلَا تَوْبَةً، قَوْمٌ عَرَفُوا اللهَ، ثُمّ رَجَعُوا إلَى الْكُفْرِ لِبَلَاءٍ أَصَابَهُمْ! قَالَ: وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ. فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ، وَفِي قَوْلِنَا وَقَوْلِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ الزمر: 53.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: فَكَتَبْتهَا بِيَدِي فِي صحيفة، وبعثت بها إلى هشام ابن الْعَاصِي قَالَ: فَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِي: فَلَمّا أتتنى جعلت أقرؤها بذى طوى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/171)
صعّد بِهَا فِيهِ وَأُصَوّبُ وَلَا أَفْهَمُهَا، حَتّى قُلْت اللهُمّ فَهّمْنِيهَا. قَالَ: فَأَلْقَى اللهُ تَعَالَى فِي قَلْبِي أَنّهَا إنّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا، وَفِيمَا كُنّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا وَيُقَالُ فِينَا.
قَالَ: فَرَجَعْت إلَى بَعِيرِي، فَجَلَسْت عَلَيْهِ، فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- وهو بالمدينة.
[الوليد بن الوليد وعياش وَهِشَامٍ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ: أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ، وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ: مَنْ لِي بِعَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهِشَامِ بْنِ الْعَاصِي؟ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَا لَك يَا رَسُولَ اللهِ بِهِمَا، فَخَرَجَ إلَى مَكّةَ، فَقَدِمَهَا مُسْتَخْفِيًا، فَلَقِيَ امْرَأَةً تَحْمِلُ طَعَامًا، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ تُرِيدِينَ يَا أَمَةَ اللهِ؟ قَالَتْ:
أُرِيدُ هَذَيْنِ الْمَحْبُوسَيْنِ- تَعْنِيهِمَا- فَتَبِعَهَا حَتّى عَرَفَ مَوْضِعَهُمَا، وَكَانَا مَحْبُوسَيْنِ.
فِي بَيْتٍ لَا سَقْفَ لَهُ؛ فَلَمّا أَمْسَى تَسَوّرَ عَلَيْهِمَا، ثُمّ أَخَذَ مَرْوَةَ. فَوَضَعَهَا تَحْتَ قَيْدَيْهِمَا، ثُمّ ضَرَبَهُمَا بِسَيْفِهِ فَقَطَعَهُمَا فَكَانَ يُقَالُ لِسَيْفِهِ: «ذُو الْمَرْوَةِ» لِذَلِكَ، ثُمّ حَمَلَهُمَا عَلَى بَعِيرِهِ، وَسَاقَ بِهِمَا، فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ، فَقَالَ:
هَلْ أَنْتَ إلّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ ... وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقَيْتِ
ثُمّ قَدِمَ بِهِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة.
[منازل المهاجرين بالمدينة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَنَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ حَيْنَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ، وَأَخُوهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطّابِ، وَعَمْرٌو وعبد الله ابنا سراقة ابن المعتمر وخنيس بن حذافة السّهمىّ- وَكَانَ صِهْرَهُ عَلَى ابْنَتِهِ حَفْصَةَ بِنْتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/172)
عُمَر، فَخَلَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَهُ- وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عمرو ابن نُفَيْلٍ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التّمِيمِيّ، حَلِيفٌ لَهُمْ؛ وَخَوْلِيّ بْنُ أَبِي خَوْلِيّ، وَمَالِكُ بْنُ أَبِي خَوْلِيّ حَلِيفَانِ لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو خَوْلِيّ: مِنْ بَنِي عَجِلِ بْنِ لُجَيْمِ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ ابن بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبَنُو البكير أربعتهم: إياس بن البكير، وعاقل ابن الْبُكَيْرِ، وَعَامِرُ بْنُ الْبُكَيْرِ، وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ، وحلفاؤهم من بنى سعد ابن ليث، على رفاعة ابن عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبَرٍ، فِي بَنِي عَمْرِو بن عوف بقُباءٍ، وَقَدْ كَانَ مَنْزِلُ عَيّاشِ بْنِ أَبِي ربيعة معه عليه حين قدما المدينة.
ثُمّ تَتَابَعَ الْمُهَاجِرُونَ، فَنَزَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ أَخِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بالسّنح. قال ابن هشام:
ويقال: يساف فيما أخبرنى عنه ابن إسحاق. وَيُقَالُ: بَلْ نَزَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ على أسعد بن زرارة، أخي بني النجار.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذُكِرَ لِي عَنْ أَبِي عثمان النّهدىّ، أنه قال: بلغنى أن أَنّ صُهَيْبًا حَيْنَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ قَالَ لَهُ كُفّارُ قُرَيْشٍ: أَتَيْتنَا صُعْلُوكًا حَقِيرًا، فَكَثُرَ مَالُك عِنْدَنَا، وَبَلَغْت الّذِي بَلَغْت، ثُمّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِمَالِك وَنَفْسِك، وَاَللهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْبٌ: أَرَأَيْتُمْ إنْ جَعَلْت لَكُمْ مَالِي أَتُخْلُونَ سَبِيلِي؟
قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنّي جَعَلْت لَكُمْ مَالِي. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَبِحَ صهيب ربح صهيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/173)
[مَنْزِلُ حَمْزَةَ وَزَيْدٍ وَأَبِي مَرْثَدٍ وَابْنِهِ وَأَنَسَةَ وأبى كبشة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَنَزَلَ حَمْزَةُ بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو مَرْثَدٍ كَنّازُ بْنُ حِصْنٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ، ابْنُ حُصَيْنٍ- وَابْنُهُ مَرْثَدٌ الْغَنَوِيّانِ، حَلِيفَا حمزة ابن عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَأَنَسَةُ، وَأَبُو كَبْشَةَ، مَوْلِيّا رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ، أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بقُباءٍ: وَيُقَال: بَلْ نَزَلُوا عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثمةَ؛ وَيُقَالُ. بَلْ نَزَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَلَى أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ، أَخِي بَنِي النجّار. كلّ ذلك يقال:
وَنَزَلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطّلِب، وَأَخُوهُ الطّفيل بن الحارث، والحصين ابن الْحَارِثِ؛ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبّادِ بْنِ الْمُطّلِبِ، وَسُوَيْبِطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حُرَيْمِلَةَ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ، وَطُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيّ، وَخَبّابٌ مَوْلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَمَةَ، أخى بلعجلان بقباء وَنَزَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي رِجَالٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ أَخِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فِي دَارِ بَلْحَارِثِ بْنِ الخزرج.
وَنَزَلَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، عَلَى مُنْذِرِ بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة، دار بنى جحجبى.
وَنَزَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذِ ابن النّعْمَانِ، أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فِي دَارِ بنى عبد الأشهل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/174)
وَنَزَلَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سالم مولى أبى حذيفة سائبة، لثبيتة [أو نبيتة] بنت يعار بن زيد بن عبيد بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، سيبته فَانْقَطَعَ إلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَتَبَنّاهُ، فَقِيلَ:
سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَيُقَالُ: كَانَتْ ثُبَيْتَةُ بِنْتُ يَعَارَ تَحْتَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ فَأَعْتَقَتْ سَالِمًا سَائِبَةً. فَقِيلَ: سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَنَزَلَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرٍ عَلَى عبّاد بن بشرا بْنِ وَقْشٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فِي دار عبد الأشهل.
وَنَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ عَلَى أَوْسِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ، أَخِي حَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ فِي دَارِ بَنِي النّجّارِ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَسّانٌ يحبّ عثمان ويبكيه حين قتل.
وَكَانَ يُقَالُ: نَزَلَ الْأَعْزَابُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثمةَ، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ عَزَبًا، فالله أعلم أىّ ذلك كان.
[خبر الندوة وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم]
وَأَقَامَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ بَعْدَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَتَخَلّفْ مَعَهُ بِمَكّةَ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلّا مَنْ حُبِسَ أَوْ فُتِنَ، إلّا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ الصّدّيق رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ كَثِيرًا مَا يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهِجْرَةِ، فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: لَا تَعْجَلْ لَعَلّ اللهَ يَجْعَلُ لَك صَاحِبًا، فَيَطْمَعُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يكونه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/175)
[الملأ من قريش يتشاورن فِي أَمْرِ الرّسُولِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد صَارَتْ لَهُ شِيعَةٌ وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ، وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِمْ، عَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَنَعَةً، فَحَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ، وَعَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ أَجَمَعَ لِحَرْبِهِمْ.
فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ النّدْوَةِ- وَهِيَ دَارُ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ الّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَقْضِي أَمْرًا إلّا فِيهَا- يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، حَيْنَ خَافُوهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مجاهد بن جبر أَبِي الْحَجّاجِ، وَغَيْرِهِ مِمّنْ لَا أَتّهِمُ، عَنْ عبد الله ابن عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمّا أَجَمَعُوا لِذَلِكَ، وَاتّعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دَارِ النّدْوَةِ لِيَتَشَاوَرُوا فِيهَا فِي أَمْرِ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- غَدَوْا فِي الْيَوْمِ الّذِي اتّعَدُوا لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمّى يَوْمَ الرّحمة، فاعترضهم إبليس فى هيئة شيخ جليل، عليه بَتْلَةٌ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الدّارِ، فَلَمّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِهَا، قَالُوا: مَنْ الشّيْخُ؟ قَالَ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ سَمِعَ بِاَلّذِي اتّعَدْتُمْ لَهُ، فَحَضَرَ مَعَكُمْ لِيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ، وَعَسَى أَنْ لَا يُعْدِمَكُمْ مِنْهُ رَأْيًا وَنُصْحًا، قَالُوا:
أَجَلْ، فَادْخُلْ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ، وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ، مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بن حرب. ومن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/176)
بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف: طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعَمٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ: وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ: النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ.
وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى: أَبُو الْبَخْتَرِيّ بن هشام، وزمعة بن الأسود ابن الْمُطّلِبِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ. وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَام. وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: نُبَيْهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ: أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِمّنْ لَا يُعَدّ مِنْ قُرَيْشٍ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إنّ هَذَا الرّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، فَإِنّا وَاَللهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا فِيمَنْ قَدْ اتّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا.
قَالَ: فَتَشَاوَرُوا ثُمّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ، وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا، ثُمّ تَرَبّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنْ الشّعَرَاءِ الّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ، زُهَيْرًا وَالنّابِغَةَ، وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ، مِنْ هَذَا الْمَوْتِ، حَتّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ، فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ: لَا وَاَللهِ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ. وَاَللهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ كَمَا تَقُولُونَ لَيَخْرُجَنّ أَمْرُهُ من وراء الباب الذى أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يُكَاثِرُوكُمْ بِهِ، حَتّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، فَانْظُرُوا فِي غَيْرِهِ، فَتَشَاوَرُوا. ثُمّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، فَنَنْفِيهِ مِنْ بِلَادِنَا، فَإِذَا أُخْرِجَ عَنّا فو الله مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ، وَلَا حَيْثُ وَقَعَ، إذَا غَابَ عَنّا وَفَرَغْنَا مِنْهُ، فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأَلْفَتْنَا كَمَا كَانَتْ.
فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ: لَا وَاَللهِ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ، وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ، وَغَلَبَتِهِ عَلَى قُلُوبِ الرّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ، وَاَللهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ مَا أَمِنْتُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/177)
أَنْ يَحِلّ عَلَى حَيّ مِنْ الْعَرَبِ، فَيَغْلِبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ حَتّى يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ، ثُمّ يَسِيرُ بِهِمْ إلَيْكُمْ، حَتّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ فِي بِلَادِكُمْ، فَيَأْخُذَ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمّ يَفْعَلَ بِكَمْ مَا أَرَادَ، دَبّرُوا فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا. قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلِ ابن هِشَامٍ: وَاَللهِ إنّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ، قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينَا، ثُمّ نُعْطِي كُلّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمّ يَعْمِدُوا إلَيْهِ، فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَيَقْتُلُوهُ، فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ. فَإِنّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعًا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا، فَرَضُوا مِنّا بِالْعَقْلِ، فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ. قَالَ: فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ: الْقَوْلُ مَا قَالَ الرّجُلُ، هَذَا الرّأْيُ الّذِي لَا رَأْيَ غَيْرُهُ، فَتَفَرّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ له.
[مما يقال عن ليلة الهجرة]
فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَقَالَ: لَا تَبِتْ هَذِهِ اللّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِك الّذِي كُنْت تَبِيتُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَلَمّا كَانَتْ عَتَمَةٌ مِنْ اللّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ مَتَى يَنَامُ فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ، فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانَهُمْ، قَالَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: نم على فراشى وتسجّ ببردى هذا الحضرمىّ الْأَخْضَرِ، فَنَمْ فِيهِ، فَإِنّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إذَا نَامَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/178)
قَالَ: لَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ، وَفِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ وَهُمْ عَلَى بَابِهِ: إنّ مُحَمّدًا يَزْعُمُ أَنّكُمْ إنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ، كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، ثُمّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الْأُرْدُنّ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَهُ فِيكُمْ ذَبْحٌ، ثُمّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، ثُمّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحْرَقُونَ فِيهَا.
قَالَ: وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، ثُمّ قَالَ أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ، أَنْتَ أَحَدُهُمْ. وَأَخَذَ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ، فَجَعَلَ ينثر ذلك التراب على رؤسهم، وهو يتلو هؤلاء لآيات مِنْ يس: يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ.. إلَى قَوْلِهِ: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ حَتّى فَرَغَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مِنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ، فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ هَاهُنَا؟ قَالُوا:
مُحَمّدًا، قَالَ: خَيّبَكُمْ اللهُ! قَدْ وَاَللهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمّدٌ، ثُمّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إلّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ؟ قَالَ: فَوَضَعَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمّ جَعَلُوا يَتَطَلّعُونَ، فَيَرَوْنَ عَلِيّا عَلَى الْفِرَاشِ مُتَسَجّيًا بِبُرْدِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فيقولون:
وَاَللهِ إنّ هَذَا لَمُحَمّدٌ نَائِمًا، عَلَيْهِ بُرْدُهُ. فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتّى أَصْبَحُوا فَقَامَ عَلِيّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ الْفِرَاشِ فَقَالُوا: وَاَللهِ لقد كان صدقنا الذى حدثنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/179)
[الآيات التى نزلت فى تربص المشركين بالنبى]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ مِمّا أَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ، وَقَوْلِ اللهِ عَزّ وَجَلّ: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ.
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمَنُونُ: الْمَوْتُ. وَرَيْبُ الْمَنُونِ: مَا يريب ويعرض مِنْهَا.
قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الهُذَليّ:
أَمِنْ الْمَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجّعُ ... وَالدّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَذِنَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم عند ذلك فى الهجرة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَجُلًا ذَا مَالٍ، فَكَانَ حَيْنَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: لَا تَعْجَلْ، لَعَلّ اللهَ يَجِدُ لَك صَاحِبًا، قَدْ طَمِعَ بِأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما يَعْنِي نَفْسَهُ، حَيْنَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَابْتَاعَ رَاحِلَتَيْنِ، فَاحْتَبَسَهُمَا فِي دَارِهِ، يَعْلِفُهُمَا إعْدَادًا لِذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/180)
[الهجرة إلَى الْمَدِينَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَنّهَا قَالَتْ: كَانَ لَا يخطىء رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النّهَارِ، إمّا بُكْرَةً، وَإِمّا عَشِيّةً، حَتّى إذَا كَانَ الْيَوْمُ الّذِي أُذِنَ فِيهِ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهِجْرَةِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ مَكّةَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَيْ قَوْمِهِ، أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْهَاجِرَةِ، فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَأْتِي فِيهَا. قَالَتْ: فَلَمّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: مَا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذِهِ السّاعَةَ إلّا لِأَمْرٍ حَدَثَ. قَالَتْ: فَلَمّا دَخَلَ، تَأَخّرَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ رَسُولُ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ إلّا أَنَا وَأُخْتِي أَسَمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرِجْ عَنّي مَنْ عِنْدَك: فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، وَمَا ذَاكَ؟ فِدَاك أَبِي وَأُمّي! فَقَالَ: إنّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ. قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، الصّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ قَالَ:
الصحبة. قالت: فو الله مَا شَعُرْت قَطّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ، حَتّى رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي يَوْمئِذٍ، ثُمّ قَالَ: يَا نَبِيّ اللهِ، إنّ هَاتَيْنِ رَاحِلَتَانِ قَدْ كُنْت أَعْدَدْتهمَا لِهَذَا. فَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللهِ بْنَ أَرْقَطِ- رَجُلًا من بنى الدّيل بن بكر [وهو من بنى عبد بن عدى- هاديا خرّيتا- والخريت: الماهر بالهداية قد غمس حلفا فى آل العاصى بن وائل السّهمى- عن البخارى] ، وَكَانَتْ أُمّهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مُشْرِكًا- يَدُلّهُمَا عَلَى الطّرِيقِ، فَدَفَعَا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/181)
[الذين كانوا يعلمون بالهجرة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمْ يَعْلَمْ فِيمَا بَلَغَنِي، بِخُرُوجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُ، حَيْنَ خَرَجَ، إلّا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، وَآلُ أَبِي بَكْرٍ.
أَمَا عَلِيّ فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- أَخْبَرَهُ بِخُرُوجِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلّفَ بَعْدَهُ بِمَكّةَ، حَتّى يُؤَدّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَدَائِعَ، الّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنّاسِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ بِمَكّة أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْءٌ يُخْشَى عَلَيْهِ إلّا وَضَعَهُ عِنْدَهُ، لِمَا يُعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم.
[الرّسُولُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْغَارِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخُرُوجَ، أَتَى أَبَا بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ، ثم عمدا إلَى غَارٍ بِثَوْرٍ- جَبَلٍ بِأَسْفَلِ مَكّةَ- فَدَخَلَاهُ، وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ ابْنَهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَسَمّعَ لَهُمَا مَا يَقُولُ النّاسُ فِيهِمَا نَهَارَهُ، ثُمّ يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْخَبَرِ، وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نَهَارَهُ، ثُمّ يُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا، يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى فِي الْغَارِ. وَكَانَتْ أَسَمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ تَأْتِيهِمَا مِنْ الطّعَامِ إذَا أَمْسَتْ بِمَا يصلحهما.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/182)
الْبَصْرِيّ قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ إلَى الْغَارِ لَيْلًا، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَبْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتلمس الْغَارَ، لِيَنْظُرَ أَفِيهِ سَبُعٌ أَوْ حَيّةٌ، يَقِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ.
[الذين قاموا بشئون الرسول فى الغار]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْغَارِ ثَلَاثًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ حين فقدوه مائة نَاقَةٍ، لِمَنْ يَرُدّهُ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ نَهَارَهُ مَعَهُمْ، يَسْمَعُ مَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمّ يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى فيخبرهما الخير. وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رضى الله عنه، يرعى فى رعيان أَهْلِ مَكّةَ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي بَكْرٍ، فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا، فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ غَدَا مِنْ عِنْدِهِمَا إلَى مَكّةَ، اتّبَعَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ بِالْغَنَمِ حَتّى يُعَفّي عَلَيْهِ، حَتّى إذَا مَضَتْ الثّلَاثُ، وَسَكَنَ عَنْهُمَا النّاسُ أَتَاهُمَا صَاحِبُهُمَا الّذِي اسْتَأْجَرَاهُ بِبَعِيرَيْهِمَا وَبَعِيرٍ لَهُ، وَأَتَتْهُمَا أَسَمَاءُ بِنْتُ أَبِي بكر رضى الله عنهما بِسُفْرَتِهِمَا، وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا فَلَمّا ارْتَحَلَا ذَهَبَتْ لِتُعَلّقَ السّفْرَةَ، فَإِذَا لَيْسَ لَهَا عِصَامٌ، فَتَحِلّ نِطَاقَهَا فَتَجْعَلُهُ عِصَامًا، ثُمّ عَلّقَتْهَا به.
[لم سميت أسماء بذات النطاقين]
فَكَانَ يُقَالُ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: ذَاتُ النّطَاقِ، لِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَسَمِعْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: ذَاتُ النّطَاقَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/183)
وَتَفْسِيرُهُ: أَنّهَا لَمّا أَرَادَتْ أَنْ تُعَلّقَ السّفْرَةَ شقّت نطاقهما باثنين، فعلّقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر.
[راحلة النبى صلى الله عليه وسلم]
قال ابن إسْحَاقَ: فَلَمّا قَرّبَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الرّاحِلَتَيْنِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدّمَ لَهُ أَفَضْلَهُمَا، ثُمّ قَالَ: اركب، فداك أبى وأمى؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي، قَالَ:
فَهِيَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ مَا الثّمَنُ الّذِي ابْتَعْتهَا بِهِ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: قَدْ أَخَذْتهَا بِهِ، قَالَ: هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ. فَرَكِبَا وَانْطَلَقَا. وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ خلفه، ليخدمهما فى الطريق.
[أبو جهل يضرب أسماء بنت أبى بكر]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحُدّثْت عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنّهَا قَالَتْ: لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إلَيْهِمْ؛ فَقَالُوا:
أَيْنَ أَبُوك يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: قُلْت: لَا أَدْرِي وَاَللهِ أَيْنَ أَبِي. قَالَتْ:
فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ، وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا، فَلَطَمَ خدّى لطمة طرح منها قرطى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/184)
[خبر الجنى الذى تغنى بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم]
قَالَتْ: ثُمّ انْصَرَفُوا. فَمَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَمَا نَدْرِي أَيْنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، حَتّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ مِنْ أَسْفَلِ مَكّةَ، يَتَغَنّى بِأَبْيَاتٍ مِنْ شَعَرِ غِنَاءِ الْعَرَبِ، وَإِنّ النّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ، يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ، حَتّى خَرَجَ مِنْ أَعَلَى مَكّةَ وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى اللهُ رَبّ النّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلّا خَيْمَتَيْ أُمّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْبِرّ ثُمّ تَرَوّحَا ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
[نَسَبُ أُمّ مَعْبَدٍ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أُمّ مَعْبَدٍ بِنْتُ كَعْبٍ، امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ، من خزاعة.
وقوله «حَلّا خَيْمَتَيْ» و «هُمَا نَزَلَا بِالْبَرّ ثُمّ تَرَوّحَا» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: فَلَمّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَنّ وَجْهَهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانُوا أَرْبَعَةً: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَرْقَطَ دليلهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/185)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ أريقط.
[آل أبى بكر بعد هجرته]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ أَنّ أَبَاهُ عَبّادًا حَدّثَهُ عَنْ جَدّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلّهُ، وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتّةُ آلَافٍ، فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدّي أَبُو قُحَافَةَ، وقد ذهب بصره، فقال: والله إنى لأراه قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ. قَالَتْ:
قُلْت: كَلّا يَا أَبَتِ! إنّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَتْ: فَأَخَذْت أَحْجَارًا فَوَضَعْتهَا فِي كُوّةٍ فِي الْبَيْتِ الّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمّ وَضَعْت عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمّ أَخَذْت بِيَدِهِ، فَقُلْت: يَا أَبَتِ، ضَعْ يَدَك عَلَى هَذَا الْمَالِ. قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ. إذَا كَانَ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ لَكُمْ. وَلَا وَاَللهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا وَلَكِنّي أردت أن أسكن الشيخ بذلك.
[خبر سراقة بن مالك]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ أَنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حَدّثَهُ. عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمّهِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، قَالَ. لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكّةَ مُهَاجِرًا إلَى المدينة، جعلت قريش فيه مائة نَاقَةٍ لِمَنْ رَدّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي نَادِي قَوْمِي إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/186)
مِنّا، حَتّى وَقَفَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: وَاَللهِ لَقَدْ رَأَيْت رَكْبَهُ ثَلَاثَةً مَرّوا عَلَيّ آنِفًا، إنّي لَأَرَاهُمْ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ: فَأَوْمَأْت إلَيْهِ بِعَيْنِي: أن اسكت ثم قلت قليلا، إنّمَا هُمْ بَنُو فُلَانٍ، يَبْتَغُونَ ضَالّةً لَهُمْ، قَالَ: لَعَلّهُ: ثُمّ سَكَتَ. قَالَ ثُمّ مَكَثْت ثُمّ قُمْت فَدَخَلْت بَيْتِي، ثُمّ أَمَرْت بِفَرَسِي، فَقُيّدَ لِي إلَى بَطْنِ الْوَادِي، وَأَمَرْت بِسِلَاحِي، فَأُخْرِجَ لِي مِنْ دُبُرِ حُجْرَتِي، ثُمّ أَخَذْت قداحى التى أستقسم بها، ثم انقطلقت، فَلَبِسْت لَأْمَتِي ثُمّ أَخَرَجْت قِدَاحِي، فَاسْتَقْسَمْت بِهَا؛ فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي أَكْرَهُ «لَا يَضُرّهُ» قَالَ: وَكُنْت أَرْجُو أَنْ أَرُدّهُ عَلَى قُرَيْشٍ، فَآخُذَ المائة النّاقَةِ. قَالَ: فَرَكِبْت عَلَى أَثَرِهِ، فَبَيْنَمَا فَرَسِي يَشْتَدّ بِي عَثَرَ بِي، فَسَقَطْت عَنْهُ. قَالَ: فَقُلْت: مَا هَذَا؟ قَالَ ثُمّ أَخَرَجْت قِدَاحِي فَاسْتَقْسَمْت بِهَا فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي أَكْرَهُ «لَا يَضُرّهُ» . قَالَ: فَأَبَيْت إلّا أَنْ أَتّبِعَهُ. قَالَ: فَرَكِبْت فِي أَثَرِهِ، فَبَيْنَا فَرَسِي يَشْتَدّ بِي، عَثَرَ بِي، فَسَقَطْت عَنْهُ. قَالَ: فَقُلْت: مَا هَذَا؟، قَالَ: ثُمّ أَخَرَجْت قِدَاحِي فَاسْتَقْسَمْت بِهَا فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي أَكْرَهُ «لَا يَضُرّهُ» قَالَ: فَأَبَيْت إلّا أَنْ أَتّبِعَهُ، فَرَكِبْت فِي أَثَرِهِ.
فَلَمّا بَدَا لِي الْقَوْمُ وَرَأَيْتهمْ، عَثَرَ بِي فَرَسِي، فَذَهَبَتْ يَدَاهُ فِي الْأَرْضِ، وَسَقَطْت عَنْهُ، ثُمّ انْتَزَعَ يَدَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ، وَتَبِعَهُمَا دُخَانٌ كَالْإِعْصَارِ. قَالَ: فَعَرَفْت حَيْنَ رَأَيْت ذَلِكَ أَنّهُ قَدْ مُنِعَ مِنّي، وَأَنّهُ ظَاهِرٌ. قَالَ: فَنَادَيْت الْقَوْمَ: فَقُلْت: أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ: اُنْظُرُونِي أكلمكم، فو الله لا أريبكم، ولا يأتيكم منى شىء تكرهونه. قال: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: قُلْ لَهُ:
وَمَا تَبْتَغِي مِنّا؟ قَالَ فَقَالَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: قُلْت: تَكْتُبُ لِي كِتَابًا يَكُونُ آيَةً بَيْنِي وَبَيْنَك. قَالَ: اُكْتُبْ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/187)
فَكَتَبَ لِي كِتَابًا فِي عَظْمٍ، أَوْ فِي رُقْعَةٍ، أَوْ فِي خَزَفَةٍ، ثُمّ أَلْقَاهُ إلَيّ، فَأَخَذَتْهُ، فَجَعَلْته فِي كِنَانَتِي، ثُمّ رَجَعْت، فَسَكَتّ فَلَمْ أَذْكُرْ شَيْئًا مِمّا كَانَ حَتّى إذَا كَانَ فَتْحُ مَكّةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ وَالطّائِفِ، خَرَجْت وَمَعِي الْكِتَابَ لَأَلْقَاهُ، فَلَقِيته بِالْجِعْرَانَةِ. قَالَ: فدخلت فى كتيبة من مِنْ خَيْلِ الْأَنْصَارِ. قَالَ: فَجَعَلُوا يَقْرَعُونَنِي بِالرّمَاحِ وَيَقُولُونَ: إلَيْك إلَيْك، مَاذَا تُرِيدُ؟ قَالَ: فَدَنَوْت مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَاَللهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى سَاقِهِ فِي غَرْزِهِ كَأَنّهَا جُمّارَةٌ. قَالَ: فَرَفَعْت يَدِي بِالْكِتَابِ، ثُمّ قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا كِتَابُك لِي، أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ؛ قال: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرّ، ادْنُهْ. قَالَ:
فَدَنَوْت مِنْهُ، فَأَسْلَمْت. ثُمّ تَذَكّرْت شَيْئًا أَسْأَلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَمَا أَذْكُرُهُ، إلّا أَنّي قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، الضّالّةُ مِنْ الْإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضِي، وَقَدْ مَلَأْتهَا لِإِبِلِي، هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي أَنْ أَسْقِيَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فِي كُلّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرّى أَجْرٌ. قَالَ: ثُمّ رَجَعْت إلَى قَوْمِي، فَسُقْتُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدقتى. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بن مالك بن جعشم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هِجْرَةُ عُمَرَ وَعَيّاشٍ ذَكَرَ فِيهَا تَوَاعُدَهُمْ التّنَاضِبَ بِكَسْرِ الضّادِ، كَأَنّهُ جَمْعُ تَنْضُبٍ [وَاحِدَتُهُ تَنْضُبَةٌ] وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الشّجَرِ، تَأْلَفُهُ الْحِرْبَاءُ. قَالَ الشّاعِرُ:
إنّي أُتِيحَ لَهُ حِرْبَاءُ تَنْضُبَةٍ ... لَا يُرْسِلُ السّاقَ إلّا مُمْسِكًا سَاقَا(4/188)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَيُقَالُ لِثَمَرِهِ الْمُمَتّعُ وَهُوَ فُنَعْلِلٌ أُدْغِمَتْ النّونُ فِي الْمِيمِ وَظَاهِرُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ:
أَنّهُ فَعْلُلٌ وَأَنّهُ مِمّا لَحِقَتْهُ الزّيَادَةُ بِالتّضْعِيفِ، وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ يُقَوّيهِ أَنّ مِثْلَهُ الْهُنْدَلِعُ»
، وَهُوَ نَبْتٌ وَتُتّخَذُ مِنْ هَذَا الشّجَرِ الْقِسِيّ كَمَا تُتّخَذُ مِنْ النّبْعِ وَالشّوْطِ وَالشّرْيَانِ وَالسّرَاءِ وَالْأَشْكَلِ، وَدُخَانِ التّنْضُبِ، ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ.
وَقَالَ الْجَعْدِيّ:
كَأَنّ الْغُبَارَ الّذِي غَادَرَتْ ... ضُحَيّا دَوَاخِنُ مِنْ تَنْضُبِ
شَبّهَ الْغُبَارَ بِدُخَانِ التّنْضُبِ لِبَيَاضِهِ. وَقَالَ آخر [عقيل بن علقة المرّى] :
__________
(1) اسم بقلة، ويقول ابن جنى فى المنصف إن الأسماء الخماسية تجىء على أربعة أمثلة وخامس لم يذكره سيبويه «فعلل وفعلل وفعللل وفعلل ... والخامس الذى لم يذكره سيبويه فعللل، وهو هندلع، وقالوا: هو اسم بقلة، ومن ادعى ذلك احتاج أن يدل على أن النون من الأصل» ص 30 ح 1. وفى شرح الشافية عن أوزان الاسم الخماسى: «وزاد محمد بن السرى فى الخماسى خامسا، وهو الهندلع لبقلة، والحق: الحكم بزيادة النون لأنه إذا تردد الحرف بين الأصالة والزيادة والوزنان باعتبارهما نادران فالأولى: الحكم بالزيادة لكثرة ذى الزيادة كما يجىء، ولو جاز أن يكون هندلع فعلللا لجاز أن يكون كنهبل فعلا وذلك خرق لا يرقع فتكثر الأصول» ص 49 ح 1.. والكنهبل بفتح الباء وضمها: شجر عظام وهو من العضاه ويقول سيبويه إن النون فيه زائدة لأنه ليس فى الكلام على مثال سفرجل بضم الجيم. ويقول الخشنى: «التناضب بضم الضاد. يقال: هو اسم موضع، ومن رواه بالكسر، فهو جمع تنضب، وهو شجر واحدته: تنضبة، وقيده الوقشى؛ التناضب بكسر الضاد» .(4/189)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهَلْ أَشْهَدَنْ خَيْلًا كَأَنّ غُبَارَهَا ... بِأَسْفَلَ عَلْكَدّ دَوَاخِنُ تَنْضُبِ
وَأَضَاةُ بَنِي غِفَارٍ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكّةَ، وَالْأَضَاةُ الْغَدِيرُ، كَأَنّهَا مَقْلُوبٌ مِنْ وَضْأَةٍ عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْوَضَاءَةِ بِالْمَدّ وَهِيَ النّظَافَةُ، لِأَنّ الْمَاءَ يُنَظّفُ، وَجَمْعُ الْأَضَاةِ إضَاءٌ وَقَالَ النّابِغَةُ [فِي صِفَةِ الدّرُوعِ] :
عُلِينَ بِكَدْيَوْنٍ وَأُبْطِنّ كُرّةً ... وَهُنّ إضَاءٌ صَافِيَاتُ الْغَلَائِلِ
[وَأَضَيَاتٌ، وَأَضَوَاتٌ وَأَضًا وَإِضُونَ] . وَهَذَا الْجَمْعُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْلُوبٍ، فَتَكُونَ الْهَمْزَةُ بَدَلًا مِنْ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ فِي وِضَاءٍ، وَقِيَاسُ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ تَقْتَضِي الْهَمْزَ عَلَى أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ، وَيَكُونُ الْوَاحِدُ مَقْلُوبًا لِأَنّ الْوَاوَ الْمَفْتُوحَةَ لَا تُهْمَزُ، مَعَ أَنّ لَامَ الْفِعْلِ غَيْرُ هَمْزَةٍ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ مَحْمُولًا عَلَى الْوَاحِدِ فَيَكُونَ مَقْلُوبًا مِثْلَهُ «1» ، وَيُقَالُ أَضَاءَةٌ بِالْمَدّ، وَقَدْ يُجْمَعُ أَضَاةٌ عَلَى إضِينَ، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَنْشَدَ:
مَحَافِرُ كَأَسْرِيَةِ الْإِضِينَا
الْأَسْرِيَةُ: جَمْعُ سَرِيّ، وَهُوَ الْجَدْوَلُ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: السّعيد.
__________
(1) ومثلها: إساد فى: وساد وإشاح، فى وشاح. وإعاء فى وعاء. وفى اللسان: «قال أبو الحسن: هذا الذى حكيته من حمل أضاء على الواو بدليل: أضوات حكاية جميع أهل اللغة، وقد حمله سيبويه على الياء، قال: ولا وجه له عندى البتة لقولهم أضوات وعدم ما يستدل به على أنه من الياء. قال والذى أوجه كلامه عليه أن تكون أضاه قلعة من قولهم: آض يئيض على القلب، لأن بعض الغدير يرجع إلى بعض، ولا سيما إذا صفقته الريح.(4/190)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ نُزُولَ الْآيَةِ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الزّمَرَ 53 الآية فى المستضعفين بمكة، وقول هشام ابن الْعَاصِ: فَفَاجَأَتْنِي وَأَنَا بِذِي طُوَى. طُوَى «1» : مَقْصُورٌ مَوْضِعٌ بِأَسْفَلَ مَكّةَ، ذُكِرَ أَنّ آدَمَ لَمّا أُهْبِطَ إلَى الْهِنْدِ، وَمَشَى إلَى مَكّةَ، وَجَعَلَ الْمَلَائِكَةُ، تَنْتَظِرُهُ بِذِي طُوَى، وَأَنّهُمْ قَالُوا لَهُ: يا آدم مازلنا نَنْتَظِرُك هَاهُنَا مُنْذُ أَلْفَيْ سَنَةٍ «2» ، وَرُوِيَ أَنّ آدَمَ كَانَ إذَا أَتَى الْبَيْتَ خَلَعَ نَعْلَيْهِ بِذِي طُوَى، وَأَمّا ذُو طُوَاءٍ بِالْمَدّ، فَمَوْضِعٌ آخَرُ بَيْنَ مَكّةَ وَالطّائِفِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ، وَأَمّا طُوَى بِضَمّ الطّاءِ وَالْقَصْرِ الْمَذْكُورُ فِي التّنْزِيلِ، فَهُوَ بِالشّامِ اسْمٌ لِلْوَادِي الْمُقَدّسِ، وَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ بِاسْمِ لَهُ، وَإِنّمَا هُوَ مِنْ صِفَةِ التّقْدِيسِ، أَيْ: الْمُقَدّسِ مَرّتَيْنِ.
نُزُولُ طَلْحَةَ وَصُهَيْبٍ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إسَافٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ نزول طلحة وصهيب على خبيب بن إساف وَيُقَالُ فِيهِ يَسَافٌ بِيَاءِ مَفْتُوحَةٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْكِتَابِ، وَهُوَ إسَافُ بْنُ عِنَبَةَ، وَلَمْ يكن
__________
(1) مثلثلة الطاء وتنون ولا تنون. فمن نونه فهو اسم للوادى أو الجبل، وهو مذكر اسمى بمذكر على فعل كحطم وصرد ومن لم ينونه جعله معدولا عن طاو، أو باعتباره اسما للبقعة. وقرأ بن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب الحضرمى: طوى غير منون، وقرأها الكسائى وعاصم وحمزة وابن عامر: طوى منونا فى السورتين. ويقول ابن الأثير: وذو طوى: موضع عند باب مكة.
(2) كلامه لا مسند له.(4/191)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حِينَ نُزُولِ الْمُهَاجِرِينَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا فِي قَوْلُ الْوَاقِدِيّ بَلْ تَأَخّرَ إسْلَامُهُ، حَتّى خَرَجَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى بَدْرٍ، قَالَ خُبَيْبٌ: فَخَرَجْت مَعَهُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي، وَقُلْنَا لَهُ: نَكْرَهُ أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ، فَقَالَ:
أَسْلَمْتُمَا؟ فَقُلْنَا: لَا، فَقَالَ: ارْجِعَا، فَإِنّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكِ.
وَخُبَيْبٌ هُوَ الّذِي خُلّفَ عَلَى بِنْتِ خَارِجَةَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ، وَاسْمُهَا:
حَبِيبَةُ، وَهِيَ الّتِي يَقُولُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ: ذُو بَطْنٍ بِنْتُ خَارِجَةَ أَرَاهَا جَارِيَةً «1» ، وَهِيَ: بِنْتُ خَارِجَةَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ «2» ، وَالْجَارِيَةُ: أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، مَاتَ خُبَيْبٌ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَهُوَ جَدّ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، الّذِي يَرْوِي عَنْهُ مَالِكٌ فِي مُوَطّئِهِ.
أَبُو كَبْشَةَ وَذَكَرَ أَنَسَةَ وَأَبَا كَبْشَةَ فِي الّذِينَ نَزَلُوا عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ، فَأَمّا أَنَسَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ مِنْ مَوْلِدِي السّرَاةِ، وَيُكَنّى:
أَبَا مَسْرُوحٍ، وَقِيلَ: أَبَا مِشْرَحٍ شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كلّها مع رسول الله
__________
(1) فى الإصابة: ما أظنها إلا أنثى. غير أن إيمان أبى بكر، وتدبره العظيم للقرآن يمنعان من أن نظن بأبى بكر مثل هذا فالقرآن يقول عن الله سبحانه فى أمور الغيب التى يعلمها: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ.
(2) فى الإصابة: بنت خارجة بن زيد أو بنت زيد بن خارجة. وفى ترجمته هو ذكر: زيد بن خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْنِ مالك بن امرىء القيس ابن ثعلبة بن كعب بن الخزرج.(4/192)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو كَبْشَةَ اسْمُهُ: سُلَيْمٌ يُقَالُ إنّهُ مِنْ فَارِسَ، وَيُقَالُ: مِنْ مَوْلِدِي أَرْضِ دَوْسٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فِي الْيَوْمِ الّذِي وُلِدَ فِيهِ عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ، وَأَمّا الّذِي كَانَتْ كُفّارُ قُرَيْشٍ تَذْكُرُهُ وَتَنْسُبُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَيْهِ، وَتَقُولُ: قَالَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ وَفَعَلَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، فَقِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ: قِيلَ: إنّهَا كُنْيَةُ أَبِيهِ لِأُمّهِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وقيل: كنية أبيه من مِنْ الرّضَاعَةِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، وَقِيلَ: إنّ سَلْمَى أُخْتَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ كَانَ يُكَنّى أَبُوهَا أَبَا كَبْشَةَ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ لَبِيَدٍ، وَأَشْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلّهَا عِنْدَ النّاسِ أَنّهُمْ شَبّهُوهُ بِرَجُلِ كَانَ يَعْبُدُ الشّعْرَى وَحْدَهُ دُونَ الْعَرَبِ، فَنَسَبُوهُ إلَيْهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ دِينِ قَوْمِهِ «1» .
وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ اسْمَ أَبِي كَبْشَةَ هَذَا فى المؤتلف والمختلف، فقال: اسمه وجز ابن غَالِبٍ، وَهُوَ خُزَاعِيّ «2» ، وَهُوَ مِنْ بَنِي غُبْشَانَ «3» .
__________
(1) سبق هذا، وقد نقلته عن صاحب نسب قريش، وقد ذكر ابن حيب فى كتابه المحبر أن وهبا جد النبى «ص» لأمه كان يكنى أبا كبشة، وكذلك عمرو ابن زيد البخارى، وهو أبو سلمى أم عبد المطلب، وكذلك وجز بن غالب، وهو جد النبى «ص» من قبل أمه أم وهب بن عبد مناف، وكذلك غبشان بن عمرو ابن لؤى وهو الذى كان يعبد الشعرى، وكذلك حاضن الرسول «ص» الحارث ابن عبد العزى ص 129.
(2) يقول ابن دريد، فى الاشتقاق وهو يتحدث عن خزاعة «ومنهم: أبو قيلة، وهو وجز بن غالب، وفد إلى النبى صلى الله عليه وسلم» ص 480.
(3) فى الأصل: وغمشان، وهو خطأ. أبو غبشان: خزاعى كان يلى سدانة(4/193)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ نُزُولَهُمْ بِقُبَاءَ، وَهُوَ مَسْكَنُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُمَدّ وَيُقْصَرُ وَيُؤَنّثُ وَيُذَكّرُ، وَيُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ، وَأَنْشَدَ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَرْفِهِ:
وَلَأَبْغِيَنّكُمْ قُبًا [وَ] عَوَارِضًا ... وَلَأُقْبِلَنّ الْخَيْلَ لَابَةَ ضَرْغَدِ «1»
وَكَذَلِكَ أَنْشَدَهُ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ قُبًا بِضَمّ الْقَافِ و [فَتْحِ] الْبَاءِ وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيّةِ تَصْحِيفٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَإِنّمَا هُوَ كَمَا أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ: قُنًا وَعَوَارِضَا، لِأَنّ قُنًا جَبَلٌ عِنْدَ عَوَارِضَ يُقَالُ لَهُ، وَلِجَبَلِ آخر معه قنوان «2» ،
__________
الكعبة قبل قريش، فاجتمع مع قصى فى شرب بالطائف، فأسكره قصى ثم اشترى المفاتيح منه بزق خمر، وأشهد عليه، ودفعها لابنه عبد الدار وطير به إلى مكة، فأفاق أبو غبشان أندم من الكسعى، فضربت به الأمثال فى الحمق والندم، وخسارة الصفقة «القاموس» وقد سبق رأى ابن هشام فيه.
(1) أنشده سيبويه مرتين فى صفحتى 82، 109 من الجزء الأول من كتابه، ونسبه لعامر بن الطفيل ورواه مرة بالفاء ومرة بالواو فى لأبغينكم. وقد اشتشهد به على نصب قنا وعوارض مع إسقاط حرف الجر ضرورة لأنهما مكانان مختصان لا ينتصبان انتصاب الظرف، وهما بمنزلة ذهبت الشام فى الشذوذ والحذف. والشاعر يريد: بقنا وعوارض ولكنه شبهه بدخلت البيت، وقلب الظهر والبطن.
(2) فى المراصد عن عوارض: جبل ببلاد طىء وقيل: هو لبنى أسد، وقيل: قنا وعوارض جبلان لبنى فزارة وقيل: جبل أسود فى أعلى دار طىء وناحية دار فزارة. وقيل عن قنوين إنهما جبلان تلقاء الحاجر لبنى مرة. وقيل وهما عوارض وقنا، سميا قنوين كعادتهم فى تثنية الشىء ومقارنه كالعمرين والقمرين.(4/194)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ قُبَاءَ مَسَافَاتٌ وَبِلَادٌ، فَلَا يَصِحّ أَنْ يُقْرَنَ قُبَاءٌ الّذِي عِنْدَ الْمَدِينَةِ مَعَ عَوَارِضَ وَقِنْوَيْنِ، وَكَذَا قَالَ الْبَكْرِيّ فِي مُعْجَمِ مَا اُسْتُعْجِمَ وَأَنْشَدَ:
[لِمَعْقِلِ بْنِ ضِرَارِ بْنِ سِنَانٍ الْمُلَقّبِ بِالشّمّاخِ] .
كَأَنّهَا لَمّا بَدَا عُوَارِضُ ... وَاللّيْلُ بَيْنَ قَنَوَيْنِ رَابِضُ «1»
وَقُبَاءُ: مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَبْوِ، وَهُوَ الضّمّ وَالْجَمْعُ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ:
الْقَوَابِي: هُنّ اللّوَاتِي يَجْمَعْنَ الْعُصْفُرَ وَاحِدَتُهُنّ: قَابِيَةٌ. قَالَ: وَأَهْلُ الْعَرَبِيّةِ يُسَمّونَ الضّمّةَ مِنْ الْحَرَكَاتِ قَبْوًا «2» ، وَأَمّا قَوْلُهُمْ: لَا وَاَلّذِي أَخْرَجَ قوبا من مِنْ قَابِيَةٍ يَعْنُونَ: الْفَرْخَ مِنْ الْبَيْضَةِ «3» فَمَنْ قال فيه: قابية بتقديم الباء، فهو
__________
(1) ذكره اللسان فى مادة ربض، وفى مادة جله ونسبه فى هذه إلى الشماخ. ورواه فى جله هكذا:
كأنها وقد بدا عوارض ... بجلة الوادى قطا نواهض
ورواه فى ربض كما فى الروض وزاد ما وصفته بين قوسين والجلة: ما استقبلك من حروف الوادى.
(2) فى اللسان: «أهل المدينة يقولون للضمة: قبوة ... والقبوة: الضم، قال الخليل: نبرة مقبوة أى: مضمومة» .
(3) فى اللسان: «قاب الطائر بيضته، أى: فلقها، فانقابت البيضة وتقويت بمعنى، والقائبة والقابة: البيضة، والقوب بالضم الفرخ.. وسمى الفرخ: قوبا لانقياب البيضة عنه. ويقال قابة وقوب بمعنى: قائبة وقوب» قال: وفى حديث عمر: أنه نهى عن التمتع بالعمرة إلى الحج، وقال: إنكم إن اعتمرتم فى أشهر الحج رأيتموها مجزئة من حجكم، ففرغ حجكم، وكانت قائبة من قوب. ضرب هذا مثلا لجلاء مكة من المعتمرين سائر السنة، والمعنى: أن الفرخ إذا فارق بيضته لم يعد إليها، وكذا إذا اعتمروا فى أشهر الحج لم يعودوا إلى مكة.(4/195)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقَبْوُ الّذِي يُقَدّمُ، وَمَنْ قَالَ فِيهِ: قَابِيَةٌ، فَهُوَ مِنْ لَفْظِ الْقُوبِ لِأَنّهَا تَتَقَوّبُ عَنْهُ، أَيْ تَتَقَشّرُ قَالَ الْكُمَيْتُ يَصِفُ النّسَاءَ:
لَهُنّ وَلِلْمَشِيبِ وَمَنْ عَلَاهُ ... مِنْ الْأَمْثَالِ قَابِيَةٌ وُقُوبٌ «1»
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: فَكَانَتْ قَابِيَةَ قُوبٍ «2» عَامَهَا، يَعْنِي: الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ، وَقَدْ ذَكَرَ أَنّ قُبَاءَ اسْمُ بِئْرٍ عُرِفَتْ الْقَرْيَةُ بِهَا.
سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فَصْلٌ: وَذَكَرَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ الّذِي كَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ قَدْ تَبَنّاهُ كَمَا تَبَنّى رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْدًا، وَكَانَ سَائِبَةً أَيْ: لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِأَحَدِ، وَذَكَرَ الْمَرْأَةَ الّتِي أَعْتَقَتْهُ سَائِبَةً، وَهِيَ ثُبَيْتَةُ بِنْتُ يَعَارٍ، وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهَا بُثَيْنَةُ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ، وَذَكَرَ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ فِيهَا: بِنْتُ تَعَارٍ «3» ، وَقَالَ ابْنُ شَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ: اسْمُهَا سَلْمَى [وَقَالَ ابْنُ حِبّانَ: يُقَالُ لَهَا: لَيْلَمَةُ] وَيُقَالُ فِي اسْمِهَا أَيْضًا: عَمْرَةُ، وَقَدْ أبطل التّسييب فِي الْعِتْقِ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَجَعَلُوا الْوَلَاءَ لِكُلّ مَنْ أَعْتَقَ أَخْذًا بِحَدِيثِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَحَمْلًا لَهُ على العموم، ولما روى أيضا عن مَسْعُودٍ أَنّهُ قَالَ: لَا سَائِبَةَ فِي الْإِسْلَامِ،
__________
(1) رواه اللسان فى مادة قوب ولم يروه فى قبو. وفيه: قائبة وقوب» . مثل هرب النساء من الشيوخ بهرب القوب- وهو الفرخ- من القائبة، وهى البيضة، فقال: لا ترجع الحسناء إلى الشيخ كما لا يرجع الفرخ إلى البيضة»
(2) فى النهاية لابن الأثير: فكانت قائبة قوب عامها» ثم فسره بما نقله اللسان عنه.
(3) وقيل: فاطمة بنت يعار، وفى اسم سالم خلاف.(4/196)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَرَأَى مَالِكٌ مِيرَاثَ السّائِبَةِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَرَ وَلَاءَهُ لِمَنْ سَيّبَهُ، فَكَانَ لِلتّسْيِيبِ وَالْعِتْقِ عِنْدَهُ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَسَالِمٌ هَذَا هُوَ الّذِي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ أَنْ تُرْضِعَهُ لِيَحْرُمَ عَلَيْهَا، فأرضعته وهود ذُو لِحْيَةٍ «1» :
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ثَدْيِهَا، فَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَنّهَا حَلَبَتْ لَهُ فِي مِسْعَطٍ «2» وَشَرِبَ اللبن، ذكر ذلك محمد بن حبيب.
__________
(1) عند مسلم من طريق القاسم عن عائشة أن سالما كان مع أبى حذيفة، فأتت سهلة بنت سهيل بن عمرو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن سالما بلغ ما يبلغ الرجال، وأنه يدخل على، وأظن فى نفس أبى حذيفة من ذلك شيئا، فقال: أرضعيه تحرمى عليه، ورواه مالك فى الموطأ عن الزهرى عن عروة: وأخرجه البخارى من طريق الليث عن الزهرى موصولا. لكن أيصدق حكم الرضاعة على من هو فى مثل سنه، والقرآن يقول: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ويخبر أن حمل الطفل وفصاله ثلاثون شهرا؟ فهل يمكن أن يسمى رضيعا رجل فى مثل من أبى حذيفة وله لحية؟ هذا وقد روى البخارى ومسلم والنسائى والترمذى من طريق مسروق عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رفعه خذوا القرآن من أربعة من ابن مسعود وسالم مولى أبى حذيفة، وأبى بن كعب، ومعاذ بن جبل. وكان أبو حذيفة يرى أنه ابنه، فأنكحه ابنة أخته فاطمة بنت الوليد بن عتبة. فلما أنزل الله: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ رد كل أحد تبنى ابنا من أولئك إلى أبيه ومن لم يعرف أبوه رد إلى مواليه. أخرجه مالك فى الموطأ عن الزهرى عن عروة بهذا، وفيه قصة إرضاعه.
(2) ويحكى أيضا بضم الميم والعين وسكون السين وهو آنية السعوط تعليق على منازل المهاجرين: يقول الخشنى عن خباب مولى عتبة أى يروى(4/197)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اجْتِمَاعُ قُرَيْشٍ لِلتّشَاوُرِ فِي أَمْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فِيهِ تَمَثّلَ إبْلِيسَ- حِينَ أَتَاهُمْ- فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ وَانْتِسَابِهِ إلَى أَهْلِ نَجْدٍ.
قَوْلُهُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ يَقُولُ: جَلّ الرّجُلُ وَجَلّتْ الْمَرْأَةُ إذَا أَسَنّتْ، قَالَ الشّاعِرُ:
وَمَا حَظّهَا أَنْ قِيلَ عَزّتْ وَجَلّتْ
وَيُقَالُ مِنْهُ: جَلَلْت يَا رَجُلُ بِفَتْحِ اللّامِ، وَقِيَاسُهُ جَلَلْت لِأَنّ اسْمَ الْفَاعِلِ مِنْهُ:
جَلِيلٌ، وَلَكِنْ تَرَكُوا الضّمّ فِي الْمُضَاعَفِ كُلّهِ اسْتِثْقَالًا لَهُ مَعَ التّضْعِيفِ إلّا فِي لَبُبْت، فَأَنْت لَبِيبٌ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ بِالضّمّ عَلَى الأصل «1» .
__________
أيضا بحاء مهملة مضمومة وباء مخففة وقول ابن هشام: ونزل الأعزاب. صوابه: كما قال الوقشى: الأعراب، ص 125 شرح السيرة لأبى ذر الخشنى ولعلها: الأعزاب، لأن جمع عزب أعزاب «القاموس» .
(1) فى مسند قصة الهجرة ذكر مجاهد بن جبر فى خلاصة تذهيب الكمال للحافظ صفى الدين أحمد بن عبد الله الخزرجى الأنصارى ط أولى: مجاهد بن جبر بإسكان الموحدة. للخشنى وفى بعض نسخ السيرة: جبير، وخبير، ويقول الخشنى والصحيح: جبير ص 126. وفى اللسان عن لبب وقد لببت- بضم الباء الأولى- ألب- بفتح اللام- ولببت بكسر الباء الأولى تلب بفتح اللام. وفى التهذيب حكى: لببت بالضم، وهو نادر لا نظير له فى المضاعف الحديث أخرجه البخارى فى أبواب الاستسقاء. باب ما قيل فى الزلازل والآيات بسنده عن نافع عن ابن عمر قال: قال: اللهم بارك لنا فى شامنا وفى يمننا، قال: قالوا: وفى نجدنا، فقال: قال: اللهم بارك لنا فى شامنا وفى يمننا. قال: قالوا: وفى نجدنا. قال: قال: هنالك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان» . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال القابسى: سقط ذكر النبى «ص» من النسخ، ولا بد منه، لأن مثله لا يقال بالرأى: وأخرجه البخارى فى كتاب الفتن. وقد صرح فيه بذكر النبى «ص» وقوله: فأظنه قال فى الثالثة: هنالك الزلازل الخ وأخرجه الترمذى. وفى مجمع الزوائد. فقال رجل: وفى شرقنا يا رسول الله بدلا من: وفى نجدنا وأنه قال فى المرة الثانية: اللهم بارك لنا فى شامنا، وفى يمننا إن من هناك يطلع قرن الشيطان، وبه تسعة أعشار الكفر، وبه الداء العضال» رواه الطبرانى فى الأوسط واللفظ له: وأحمد ولفظه أن رسول الله «ص» قال اللهم بارك لنا فى شامنا ويمننا مرتين، فقال رجل وفى مشرقنا يا رسول الله، فقال رسول الله «ص» من هناك يطلع قرن الشيطان، وبه تسعة أعشار الشرك ... ويقول الخطابى فى بيان المراد من نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجد بادية العراق ونواحيها، وهى مشرق أهل المدينة، وأصل النجد: ما ارتفع من الأرض وهو خلاف الغور، فإنه ما انخفض منها وتهامة. كلها من الغور، ومكة من تهامة» أقول. ومثل هذه الأحاديث لا يجوز أخذها على إطلاقها بل لا يجوز مطلقا أن نستعملها استعمال أولئك الذين أوغروا فى الصدور الأحقاد، وأرثوا العصبية المقيتة الحمقاء بسببها. فسبوا كل نجد، وذموا كل عراقى. وما أجمل ما يقول العلامة الهندى الشيخ محمد بشير السهسوانى «ومن عاب الساكن بالسكنى والإقامة فى مثل تلك البلاد، فقد عاب جمهور الأمة وسبهم وآذاهم بغير ما اكتسبوا، وقد داول الله تعالى الأيام بين البقاع والبلاد كما داولها بين الناس والعباد.. قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وكم من بلد قد فتحت، وصارت من خير بلاد المسلمين بعد أن كانت فى أيدى الفراعنة والمشركين والفلاسفة والصابئين والكفرة من المجوس، وأهل الكتابين، بل الخربة التى كانت بها قبور المشركين صارت مسجدا هو أفضل مساجد المسلمين بعد المسجد الحرام ودفن بها أفضل المرسلين، وسادات المؤمنين» ص 544 ط صيانة الإنسان. ولو حملنا ما روى على هوى الحاملين للأحقاد لقلنا عن المدينة بحماقة العصبية إنها دار فتنة فقد ورد فى حديث متفق عليه: أنه «ص» أشرف على(4/198)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنّمَا قَالَ لَهُمْ: إنّي مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السّيرَةِ، لِأَنّهُمْ قَالُوا: لَا يَدْخُلَنّ مَعَكُمْ فِي الْمُشَاوَرَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ لِأَنّ هَوَاهُمْ مَعَ مُحَمّدٍ، فَلِذَلِكَ تَمَثّلَ لَهُمْ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي خَبَرِ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ أَنّهُ تَمَثّلَ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيّ أَيْضًا، حِينَ حَكّمُوا رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في أَمْرِ الرّكْنِ: مَنْ يَرْفَعُهُ، فَصَاحَ الشّيْخُ النّجْدِيّ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: أَقَدْ رَضِيتُمْ أَنْ يَلِيَهُ هَذَا الْغُلَامُ دُونَ أَشْرَافِكُمْ وَذَوِي أَسْنَانِكُمْ، فَإِنْ صَحّ هَذَا الْخَبَرُ فَلِمَعْنًى آخَرَ تَمَثّلَ نَجْدِيّا، وَذَلِكَ أَنّ نَجْدًا مِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قِيلَ لَهُ: وَفِي نَجْدِنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: هُنَالِكَ الزّلَازِلُ وَالْفِتَنُ، وَمِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَان، فَلَمْ يُبَارِكْ عَلَيْهَا، كَمَا بَارَكَ عَلَى الْيَمَنِ وَالشّامِ وَغَيْرِهَا، وَحَدِيثُهُ الْآخَرُ أَنّهُ نَظَرَ إلَى الْمَشْرِقِ، فَقَالَ: إنّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، أَنّهُ حِينَ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ، وَوَقَفَ عِنْدَ بَابِ عَائِشَةَ، وَنَظَرَ إلَى الْمَشْرِقِ فَقَالَهُ، وَفِي وُقُوفُهُ عِنْدَ بَابِ عَائِشَةَ نَاظِرًا إلَى الْمَشْرِقِ يُحَذّرُ مِنْ الْفِتَنِ، وَفَكّرَ فِي خُرُوجِهَا إلَى الْمَشْرِقِ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ تُفْهَمُ مِنْ الْإِشَارَةِ وَاضْمُمْ إلَى هَذَا قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ ذَكَرَ نُزُولَ الْفِتَنِ: أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ تَشَاوُرَهُمْ فِي أَمْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنّ بعضهم أشار بأن
__________
أطم «حصن عال أو بناء مرتفع» من آطام المدينة، فقال: هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا. قال فإنى لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع المطر. فلنحذر هوى الشيطان، وفتنة العصبية!!.(4/200)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُحْبَسَ فِي بَيْتٍ، وَبَعْضَهُمْ بِإِخْرَاجِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ من بين أظهرهم ونفيه، ولم يسمّ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: الّذِي أشار بحبسه هو أبو البخترىّ ابن هِشَامٍ، وَاَلّذِي أَشَارَ بِإِخْرَاجِهِ وَنَفْيِهِ هُوَ أَبُو الْأَسْوَدِ رَبِيعَةُ بْنُ عَمْرٍو، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، وَقَوْلُ أَبِي جَهْلٍ: نَسِيبًا وَسِيطًا، هُوَ مِنْ السّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ، وَقَدْ تَقَدّمَ فِي بَابِ تَزْوِيجِهِ خَدِيجَةَ مَعْنَى الْوَسِيطِ، وَأَيْنَ يَكُونُ مَدْحًا.
وَأَمّا قَوْلُهُ عَلَى بَابِهِ يَتَطَلّعُونَ، فَيَرَوْنَ عَلِيّا وَعَلَيْهِ بُرْدُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَظُنّونَهُ إيّاهُ، فَلَمْ يَزَالُوا قِيَامًا حَتّى أَصْبَحُوا، فَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ السّبَبَ الْمَانِعَ لَهُمْ مِنْ التّقَحّمِ عَلَيْهِ فِي الدار مع قصر الجدار، وأنهم إنما جاؤا لِقَتْلِهِ، فَذَكَرَ فِي الْخَبَرِ أَنّهُمْ هَمّوا بِالْوُلُوجِ عَلَيْهِ، فَصَاحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الدّارِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: وَاَللهِ إنّهَا لَلسّبّةُ فِي الْعَرَبِ أَنْ يُتَحَدّثَ عَنّا أَنّا تَسَوّرْنَا الْحِيطَانَ عَلَى بَنَاتِ الْعَمّ، وَهَتَكْنَا سِتْرَ حُرْمَتِنَا، فَهَذَا هُوَ الّذِي أَقَامَهُمْ بِالْبَابِ حَتّى أَصْبَحُوا يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ، ثُمّ طُمِسَتْ أَبْصَارُهُمْ عَنْهُ حِينَ خَرَجَ، وَفِي قِرَاءَةِ الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ سُورَةِ: يس «1» مِنْ الْفِقْهِ التّذْكِرَةُ بِقِرَاءَةِ الْخَائِفِينَ لَهَا اقْتِدَاءً بِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَقَدْ رَوَى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِكْرِ فَضْلِ يس أَنّهَا إنْ قَرَأَهَا خَائِفٌ أَمِنَ، أَوْ جَائِعٌ شَبِعَ أَوْ عَارٍ كُسِيَ، أَوْ عَاطِشٌ سُقِيَ حَتّى ذَكَرَ خلالا كثيرة «2» .
__________
(1) تقرأ هكذا: ياسين وهى مثل حم «حاميم» وطه «وطاها» ، فهى ليست اسما للنبى «ص» وإنما هى مثل غيرها مما ذكرت من أوائل السور.
(2) لم يرو هذا أحد من أصحاب الصحيح. ولو أن التلاوة لهذه السورة تعطى(4/201)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ، وَشَرَحَ ابْنُ هِشَامٍ رَيْبَ الْمَنُونِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
أَمِنْ الْمَنُونِ وَرَيْبِهِ تَتَفَجّعُ
وَالْمَنُونُ يُذَكّرُ وَيُؤَنّثُ، فَمَنْ جَعَلَهَا عِبَارَةً عَنْ الْمَنِيّةِ أَوْ حَوَادِثِ الدّهْرِ أَنّثَ، وَمَنْ جَعَلَهَا عِبَارَةً عَنْ الدّهْرِ ذَكّرَ، وَرَيْبُ الْمَنُونِ مَا يَرِيبُك مِنْ تَغَيّرِ الْأَحْوَالِ فِيهِ، سُمّيَتْ الْمَنُونَ لِنَزْعِهَا مِنَنَ الْأَشْيَاءِ أَيْ: قُوَاهَا، وَقِيلَ: بَلْ سُمّيَتْ مَنُونًا لِقَطْعِهَا دُونَ الْآمَالِ مِنْ قَوْلِهِمْ: حبل مُنَيْنٌ أَيْ: مَقْطُوعٌ، وَفِي التّنْزِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ.
إذْنُ اللهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيّهِ بِالْهِجْرَةِ ذَكَرَ فِيهِ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَى بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ فِي الظّهِيرَةِ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَفِي الْبَيْتِ أَنَا وَأُخْتِي أَسْمَاءُ فَقَالَ أَخْرِجْ مَنْ مَعَك، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنّمَا هُمَا بِنْتَايَ يَا رَسُولَ اللهِ.
وَقَالَ فِي جَامِعِ الْبُخَارِيّ: إنّمَا هُمْ أَهْلُك يَا رَسُولَ اللهِ، وَذَلِكَ أَنّ عَائِشَةَ قد كان أبوها أنكحها منه قَبْلِ «1» ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أُمّهَا أُمّ رومان
__________
كل هذا الذى ذكر لكان باعة القرآن على المقابر أولى الناس فى الدنيا والآخرة هناء ورخاء وعزة وكرامة. إن التلاوة بلا تدبر لا تغنى شيئا.
(1) أخرج البخارى بسنده عن هشام عن أبيه قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبى «ص» إلى المدينة بثلاث سنين فلبث سنتين، أو قريبا من ذلك،(4/202)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِنْتِ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرٍ، وَيُقَالُ فِي اسْمِ أَبِيهَا: رَوْمَانُ بِفَتْحِ الرّاءِ أَيْضًا، فَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ثَابِتٍ اخْتَصَرْته: إنّ أَبَا بَكْرٍ حِينَ هَاجَرَ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلّفَ بَنَاتِهِ بِمَكّةَ، فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ، وَأَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدَ الله بْنَ أُرَيْقِطٍ [الدّيلِيّ] «1» ، وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَوْا بِهَا ظَفَرًا بِقُدَيْدٍ، ثُمّ قَدِمُوا مَكّةَ فَخَرَجُوا بِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ، وَبِفَاطِمَةَ وَبِأُمّ كُلْثُومٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وخرجت أمى معهم ومع طلحة ابن عُبَيْدِ اللهِ مُصْطَحِبِينَ، فَلَمّا كُنّا بِقُدَيْدٍ نَفَرَ الْبَعِيرُ الّذِي كُنْت عَلَيْهِ أَنَا وَأُمّي:
أُمّ رُومَانَ فِي مِحَفّةٍ، فَجَعَلَتْ أُمّي تُنَادِي: وَابُنَيّتَاهُ واعروساه!! وفى رواية
__________
ونكح عائشة، وهى بنت ست سنين؛ ثم بنى بها وهى بنت تسع سنين» وفى الحديث إشكال. وقد ذكر الحافظ فى الفتح رفعا لهذا الإشكال إذ قال: إن مراده من قوله فى الحديث: فلبث سنتين أو قريبا من ذلك.. المراد أنه لم يدخل على أحد من النساء، ثم دخل على سودة قبل أن يهاجر، ثم بنى بعائشة بعد أن هاجر، فكأن ذكر سودة سقط على بعض رواته. ويقول الماوردى: الفقهاء يقولون: تزوج عائشة قبل سودة، والمحدثون يقولون: تزوج سودة قبل عائشة. وقد يجمع بينهما بأنه عقد على عائشة، ولم يدخل بها، ودخل بسودة ص 179 ح 7 فتح البارى.
(1) هكذا ضبطه الحافظ فى الفتح. وقال: وقيل بضم الدال وكسر ثانيه مهموز، وهو ابن الديل بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وقيل: من بنى عدى ابن عمرو بن خزاعة. وفى رواية الأموى عن ابن إسحاق: ابن أريقد، وعند موسى بن عقبة: أريقه لكن بالطاء وعند ابن سعد: أريقط وعن مالك اسمه: أرقيط. وفى شرح السيرة لأبى ذر أنه الليثى عبد الله بن أريقط(4/203)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ، وَفِيهِ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْت قَائِلًا يَقُولُ- وَلَا أَرَى أَحَدًا- أَلْقَى خِطَامَهُ، فَأَلْقَيْته مِنْ يَدِي، فَقَامَ الْبَعِيرُ يَسْتَدِيرُ بِهِ، كَأَنّ إنْسَانًا تَحْتَهُ يُمْسِكُهُ، حَتّى هَبَطَ الْبَعِيرُ مِنْ الثّنِيّةِ، فَسَلّمَ اللهُ، فَقَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم- وهو يا بنى الْمَسْجِدَ وَأَبْيَاتًا لَهُ، فَنَزَلْت مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَنَزَلَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ فِي بَيْتِهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَلَا تَبْنِي بِأَهْلِك يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: لَوْلَا الصّدَاقُ، قَالَتْ: فَدَفَعَ إلَيْهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً، وَنَشّا، وَالنّشّ:
عُشْرُونَ دِرْهَمًا وَذَكَرْت الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ.
لِمَ اشْتَرَيْت الرّاحِلَةَ:
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ أن أبا بكر كان قَدْ أَعَدّ رَاحِلَتَيْنِ، فَقَدّمَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً، وَهِيَ أَفَضْلُهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِالثّمَنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
بِالثّمَنِ يَا رَسُولَ اللهِ فَرَكِبَهَا، فَسُئِلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. لِمَ لَمْ يَقْبَلْهَا إلّا بِالثّمَنِ، وَقَدْ أَنْفَقَ أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا فَقَبِلَ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ:
لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ أَمَنّ عَلَيّ فِي أَهْلٍ وَمَالٍ مِنْ أَبِي بَكْرٍ «1» ، وَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ حِينَ بنى
__________
(1) فى رواية للبخارى: إن من أمن الناس على فى صحبته وماله أبا بكر وفى رواية أخرى إن أمن الناس على فى صحبته وماله أبو بكر. وقد قيل: إن الرفع خطأ لأنه اسم إن. وقيل: إن وجه الرفع بتقدير ضمير الشأن أى أنه الجار والمجرور بعده خبر مقدم، وأبو بكر مبتدأ مؤخر، أو على أن مجموع الكنية(4/204)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِعَائِشَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنَشّا، فَلَمْ يَأْبَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ الْمَسْئُولُ إنّمَا ذَلِكَ لِتَكُونَ هِجْرَتُهُ إلَى اللهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ رَغْبَةً مِنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي اسْتِكْمَالِ فَضْلِ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ عَلَى أَتَمّ أَحْوَالِهِمَا، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ حَدّثَنِي بِهَذَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ الْفَقِيهِ الزّاهِدِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ اللّوّانِ رَحِمَهُ اللهُ.
ذَكَرَ ابْنُ إسحاق في غير رواية ابن هشام وذكر ابن إسحاق في غير رواية ابن هشام: أَنّ النّاقَةَ الّتِي ابْتَاعَهَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ هِيَ: نَاقَتُهُ الّتِي تُسَمّى بِالْجَدْعَاءِ، وَهِيَ غَيْرُ الْعَضْبَاءِ الّتِي جَاءَ فِيهَا الْحَدِيثُ حِينَ ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَةَ صَالِحٍ، وَأَنّهَا تُحْشَرُ مَعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَأَنْتَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْعَضْبَاءِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: لَا. ابْنَتِي فَاطِمَةُ تُحْشَرُ عَلَى الْعَضْبَاءِ، وَأُحْشَرُ أَنَا عَلَى الْبُرَاقِ، وَيُحْشَرُ هذا على ناقة من نوق
__________
اسم فلا يعرب ما وقع فيها من الأداة أو إن بمعنى نعم، أو إن من زائدة على رأى الكسائى. وأمن أفعل تفضيل من المن بمعنى العطاء والبذل، بمعنى أن أبذل الناس لنفسه وماله. لا من المنة التى تفسد الصنيحة، ولكن يشرحه الداودى على أنه من المنة وتقديره لو كان يتجه لأحد الامتنان على نبى الله، لتوجه له. وفى رواية ابن عباس: ليس أحد من الناس آمن على فى نفسه وماله من أبى بكر. ووجود من باعتبارها غير زائده يفيد أن لغيره مشاركة ما فى الأفضلية، ولكنه المقدم. ويؤيد هذا ما وراه الترمذى: «ما لأحد عندنا يد إلا كافأناه عليها، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة» وهذا يدل على ثبوت منة للغير، إلا أن لأبى بكر رجحانا.(4/205)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْجَنّةِ وَأَشَارَ إلَى بِلَالٍ «1» .
وَذَكَرَ أَذَانَهُ فِي الْمَوْقِفِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَرْوِيهِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمْ.
وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعَضْبَاءِ، وَلَيْسَتْ بِالْجَدْعَاءِ، فَهَذَا مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ: إنّهَا غَيْرُ الْجَدْعَاءِ، وَهُوَ الصّحِيحُ، لِأَنّهَا غُنِمَتْ، وَأُخِذَ صَاحِبُهَا الْعَقِيلِيّ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: بِمَ أَخَذْتنِي يَا مُحَمّدُ، وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجّ، يَعْنِي: الْعَضْبَاءَ، فَقَالَ: أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك.
بكاء الفرح مِنْ أَبِي بَكْرٍ:
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَا كُنْت أَرَى أَحَدًا يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ حَتّى رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ. قَالَتْ ذَلِكَ لِصِغَرِ سِنّهَا، وَأَنّهَا لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ بِذَلِكَ قَبْلُ، وَقَدْ تَطَرّقَتْ الشّعَرَاءُ لِهَذَا الْمَعْنَى،
__________
(1) الروايات الصحيحة فى كتب السنة المعتبرة تخالف ما ذكر هنا عن هذا النوع من الحشر. هذا وقد ذكر الواقدى أن الناقة التى أخذها رسول الله «ص» هى القصواء، وأنها كانت من نعم بنى قشير. ويذكر ابن إسحاق أنها الجدعاء، وأنها من إبل بنى الحريش وكذلك روى ابن حبان من طريق هشام عن أبيه. هذا وما رواه ابن إسحاق عن الهجرة عمن لا يتهم عن عروة قد ورد فى البخارى ما هو قريب منه. ولم يرد فى البخارى وغيره قصة الندوة. ولا رمى التراب فى الوجوه. ورواية البخارى هنا هى الرواية التى تسكن إليها النفس، ولا يتوجه بها سؤال لماذا لم يقتحم الراغبون فى قتله عليه الباب؟، وليس فيها خرافة تشكل الشيطان بصورة شيخ نجدى.(4/206)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَأَخَذَتْهُ اسْتِحْسَانًا لَهُ، فَقَالَ الطّائِيّ يَصِفُ السّحَابَ:
دُهْمٌ إذَا وَكَفَتْ فِي رَوْضِهِ طَفِقَتْ ... عُيُونُ أَزْهَارِهَا تَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ
وَقَالَ أَبُو الطّيّبِ، وَزَادَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى:
فَلَا تُنْكِرْنَ لَهَا صَرْعَةً ... فَمِنْ فَرَحِ النّفْسِ مَا يَقْتُلُ
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَدّثِينَ:
وَرَدَ الْكِتَابُ مِنْ الْحَبِيبِ بِأَنّهُ ... سَيَزُورُنِي فَاسْتَعْبَرَتْ أَجْفَانِي
غَلَبَ السّرُورُ عَلَيّ حَتّى إنّهُ ... مِنْ فَرْطِ مَا قَدْ سَرّنِي أَبْكَانِي
يَا عَيْنُ صَارَ الدّمْعُ عِنْدَك عَادَةً ... تَبْكِينَ فِي فَرَحٍ وَفِي أَحْزَانِ
مَكّةُ وَالْمَدِينَةُ:
فَصْلٌ: وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ، وَوَقَفَ عَلَى الْحَزْوَرَةِ «1» ، وَنَظَرَ إلَى الْبَيْتِ، فَقَالَ: وَاَللهِ إنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللهِ إلَيّ، وَإِنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللهِ إلَى اللهِ، وَلَوْلَا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت «2» برويه الزّهرىّ عن أبى سلمة
__________
(1) الحزورة كانت سوق مكة، وأدخلت فى المسجد لما زيد، وباب الحزورة معروف من أبواب المسجد الحرام. وعن ابن الأثير فى النهاية أنها موضع بمكة عند باب الخياطين، وهو بوزن قسورة. وعن الشافى: الناس يشددون الحزورة، والحديبية، وهما مخففتان.
(2) أخرجه أحمد والنسائى والترمذى، وقال: حديث حسن صحيح وأخرجه أبو حاتم بن حبان فى التقاسيم والأنواع، وسعيد بن منصور فى سننه وذكره رزين عن الموطأ، ولكنه ليس فى موطأ يحى بن يحيى، وأخرجه أحمد فى المسند(4/207)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيّ بْنِ الْحَمْرَاءِ يَرْفَعُهُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ: عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ مِنْ أَصَحّ مَا يُحْتَجّ بِهِ فِي تَفْضِيلِ مَكّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ مَرْفُوعًا: إنّ صَلَاةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ «1» فَإِذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ تَبَعًا لِلصّلَاةِ، فَكُلّ حَسَنَةٍ تعمل فى الحرام، فَهِيَ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا مَنْصُوصًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عليه وسلم قال: من حَجّ مَاشِيًا كُتِبَ لَهُ بِكُلّ خُطْوَةٍ سَبْعُمِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ، قِيلَ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ:
الْحَسَنَةُ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ [قَالَ عَطَاءٌ: وَلَا أَحْسَبُ السّيّئَةَ إلّا مِثْلَهَا] أَسْنَدَهُ الْبَزّارُ «2» .
حَدِيثُ الْغَارِ وَهُوَ غَارٌ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، وَهُوَ الْجَبَلُ الّذِي ذَكَرَهُ فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، وَأَنّهَا حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى ثَوْرٍ، وَهُوَ وَهْمٌ فِي الْحَدِيثِ، لِأَنّ ثَوْرًا مِنْ جِبَالِ مَكّةَ، وَإِنّمَا لَفْظُ الْحَدِيثِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى كَذَا، كَانَ الْمُحَدّثُ قَدْ نَسِيَ اسْمَ الْمَكَانِ، فَكَنّى عنه بكذا «3» .
__________
(1) فى رواية لابن ماجة، والعدد مختلف فى روايات الحديث المختلفة.
(2) لا يتعلق ثواب الحج بمشى أو ركوب وإنما يتعلق بما وقر فى القلب المؤمن. وهو يأتى بأركانه، فكم من رجل حج ماشيا، ولم ينل غير مشقة مشيه، وكم من رجل حج راكبا له بكل نامة حسنة وحسنات.
(3) الحديث أخرجه الشيخان، وقد رواه مسلم بلفظ: المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، والبخارى بلفظ: المدينة حرم ما بين عاير إلى كذا. وأبو داود. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بلفظ: المدينة حرام ما بين عاير إلى ثور.. وعاير جبل كبير مشهور فى قبلة لمدينة بقرب ذى الحليفة ميقات المدينة وقيل غير ذلك. وأما ثور فليس المقصود به جبل ثور الذى هو من جبال مكة، وإنما هو جبل صغير خلف أحد وقد استشكل العلماء الحديث ظنا منهم أنه ليس بالمدينة ثور، ولهذا ذكر فى أكثر الروايات عند البخارى: من عاير إلى كذا، وفى بعضها: من عير إلى كذا، ولم يبين النهاية، فكأنه يرى أن ذكر ثور وهم، فأسقطه، وترك بعض الرواة موضع ثور بياضا، ليتبين الوهم، وضرب آخرون عليه، وقال المازرى نقل بعض أهل العلم: أن ذكر ثور هنا، وهم من الراوى، لأن ثورا بمكة، والصحيح: إلى أحد. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: إن الحديث أصله من عير إلى أحد. وقد روى الطبرانى الحديث: ما بين عير وأحد حرام حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وقال الحازمى: الرواية الصحيحة: ما بين عير إلى أحد. وقيل إلى ثور، وليس له معنى. وقال ابن قدامة: يحتمل أن المراد تحريم قدر ما بين ثور وعير اللذين بمكة.. وقد قال البيهقى: بلغنى عن أبى عبيد أنه قال فى كتاب الجبال: بلغنى أن بالمدينة جبلا يقال له: ثور. ونقل المجد فى ترجمة عير عن نصر أن ثورا جبل عند أحد. وقدرد الجمال المطرى فى تاريخه على من أنكر وجود ثور، وقال: إنه خلف أحد من شماليه صغير مدور. وقال الأقشهرى: وقد استقصينا من أهل المدينة خبر جبل يقال له: ثور عندهم. فوجدنا ذلك اسم جبل صغير خلف جبل أحد يعرفه القدماء دون المحدثين من أهل المدينة. وقال أبو العباس بن تيمية: ثور جبل فى ناحية أحد، وهو غير جبل ثور الذى بمكة. ويقول المحب الطبرى إن المحدث ابن مزروع البصرى أخبرء أن حذاء أحد عن يساره جبلا صغيرا يقال له ثور، وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه، لطوائف من العرب العارفين تلك المواضع ... وتواردت أخبارهم على تصديق بعضهم بعضا. أنظر ص 64 ح 1 وفاء الوفا للسمهودى ص 1326 وص 620 وما بعدها القرى للمحب الطبرى ص 1948.(4/208)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ فِيمَا شَرَحَ مِنْ الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمّا دَخَلَهُ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ أَنْبَتَ اللهُ عَلَى بَابِهِ الرّاءَةَ: قَالَ قَاسِمٌ: وَهِيَ شَجَرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، فَحَجَبَتْ عَنْ الْغَارِ أَعْيُنَ الْكُفّارِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الرّاءَةُ: مِنْ أَغْلَاثِ الشّجَرِ، وَتَكُونُ مِثْلَ قَامَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَهَا خِيطَانٌ، وَزَهْرٌ أَبْيَضُ تُحْشَى بِهِ الْمَخَادّ، فَيَكُونُ كَالرّيشِ لِخِفّتِهِ وَلِينِهِ، لِأَنّهُ كَالْقُطْنِ أَنْشَدَ:
تَرَى وَدَكَ الشّرِيفِ عَلَى لِحَاهُمْ ... كَمِثْلِ الرّاءِ لَبّدَهُ الصّقِيعُ
وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ: أَنّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ عَلَى وَجْهِ الْغَارِ، وأرسل حمامتين وحشيتين، فَوَقَعَتَا عَلَى وَجْهِ الْغَارِ، وَأَنّ ذَلِكَ مِمّا صَدّ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ، وَأَنّ حَمَامَ الْحَرَمِ مِنْ نَسْلِ تَيْنِك الْحَمَامَتَيْنِ، وَرُوِيَ أَنّ أَبَا بَكْرٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ دَخَلَهُ وَتَقَدّمَ إلَى دُخُولِهِ- قَبْلَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَقِيَهُ بِنَفْسِهِ، رَأَى فِيهِ جُحْرًا فَأَلْقَمَهُ عَقِبَهُ، لِئَلّا يَخْرُجَ مِنْهُ مَا يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الصّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ: قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُمَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلَى قَدَمِهِ لَرَآنَا، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا ظَنّك بِاثْنَيْنِ، اللهُ ثَالِثُهُما «1» ، وَرُوِيَ أَيْضًا أنهم لما عمى عليهم الأثر جاؤا بالقافة، فجعلوا
__________
(1) أخرجه البخارى فى صحيحه ومسلم والترمذى وأحمد. أورد هنا كلمة موجزة عن الهجرة: قال صلى الله عليه وسلم: «رأيت فى المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلى إلى أنها اليمامة، أو. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هجر، فإذا هى المدينة» رواه الشيخان ولكن ورد فى البيهقى أنها هجر أو يثرب، ولم يذكر اليمامة. كما أخرج الترمذى والحاكم أنه «ص» قال: إن الله أوحى إلى: أى هؤلاء الثلاثة نزلت هى دار هجرتك: المدينة. أو البحرين، أو قنسرين. وزاد الحاكم: فاختار المدينة. وصححه الحاكم، وأقره الذهبى فى التلخيص. أما فى الميزان، فورد أنه حديث منكر ما أقدم الترمذى على تحسينه، بل قال: غريب. متى خرج النبى من مكة: يحزم بعض الرواة ومنهم ابن إسحاق أنه خرج أول يوم من ربيع الأول وأنه قدم المدينة لاثنتى عشرة خلت من ربيع الأول. أى بعد بيعة العقبة بشهرين وبضعة عشر يوما، أما الحاكم فيذكر أن خروجه كان بعدها بثلاثة أشهر أو قريبا منها. كما يؤكد تواتر الأخبار أنه خرج يوم الإثنين وأن دخوله المدينة كان يوم الإثنين. وقيل إنه خرج فى صفر، وقدم المدينة فى ربيع. وقبل. كان خروجه من مكة يوم الخميس. وقول ابن إسحاق هو المشهور مدة مقامه بمكة: فى البخارى عن ابن عباس أنه مكث بها ثلاث عشرة سنة. وفى مسلم وعن ابن عباس أيضا خمس عشرة سنة، وابن حجر يصحح رواية البخارى. وعن عروة أنه مكث بمكة عشر سنين، ورواه أحمد عن ابن عباس والبخارى فى باب الوفاة عنه وعن عائشة أيضا. وقد ورد فى بعض نسخ مسلم بيت أبى قيس صرمة: ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجّةً يُذَكّرُ لو يلقى صديقا مواتيا وهذا يخالف ذاك. العنكبوت والحمامتان والشجرة: لم يرد لها ذكر فيما روى من حديث صحيح ولهذا لم ترد فى واحد من الكتب الستة وتدبر هذه الآية الكريمة إِلَّا تَنْصُرُوهُ، فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ، إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أهنا حمامة أو عنكبوت، أو شجرة، أم هنا سكينة وجنود لم يروا؟ الآية الكبرى هنا هى أن الله صرف قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، ... تدبرها جيدا(4/210)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يققون الْأَثَرَ، حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَابِ الْغَارِ، وَقَدْ أَنْبَتَ اللهُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ قبل هذا، فعند ما رَأَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْقَافَةَ اشتد حزنه
__________
القاصون الأثر أولو خبرة ودراية تامة بقص الأثر، ولقد أدت بهم الأدلة إلى المثول أمام باب الغار، ويشعر بهم النبى «ص» وأبو بكر. ويقول أبو بكر لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. وتدبر قوله تحت قدميه لنرى أنهم كانوا قيد خطوة أو نصفها من باب الغار.. ويقول الرسول «ص» مجيبا صاحبه مذكرا يحفظ الله سبحانه: ما ظنك يا أبا بكر باثنين، الله ثالثهما. كما روى البخارى- وتدبر مع الحديث قوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ. هذا هو القهر الأعظم الذى لا يغلبه قهر آخر، ولا تقف أمام سلطانه الأعظم قوى ولا قدر فلماذا تصرف القلب عن تدبر جلال الآية الكبرى هنا من صرف الله عنه قلوبهم وأعينهم وأسماعهم وإحساساتهم، إلى رواية واهية تصور حمامة وعنكبوتا. سل نفسك.. كيف لم يبصروه والواقع المحسوس الملموس المشهود يؤكد أنه هنا؟ لم لم ينظر أحدهم تحت قدميه، وكل شىء يؤكد أن المنشود العظيم فى الغار؟ والرغبة الملحة فى النفس تدفع الى استنباء الرمل والحصى والصخر والجبل عن منشودهم. والرمل والحصى وكل شىء تحت العين وصوبها يملأ حتى عقل الغبى؟؟؟ بفهم هذه الدلالة البينة الواضحة المستمدة من أدلة لا يمكن أن يصرف الإنسان عنها نزعة من شك. الدلالة التى تشبه فى وضوحها وضوح أن الواحد نصف الإثنين كانت الدلالة، وكانت الأدلة حينئذ لا نحتمل سوى شىء واحد هو أن محمدا «ص» فى الغار. فلم لم ينظروا؟ ليست الحمامتان ولا العنكبوت ... إنما هو هذا السلطان الأعظم الذى يصرف القلوب، ويصرف الأبصار والأسماع عما تريد وتحب وإن كان منها قيد شعرة. إنما هو القهر الإلهى الأكبر والجبروت الأسمى الذى لا يدع لأحد قدرة تقف لحظة أمامه، وهو جل شأنه يريد ذلك. ولو أن نصا ثابتا تحدث عن الحمامتين والعنكبوت ما انصرف عنه الفكر ولا القلم، فالله قادر سبحانه على أعظم وأعظم.(4/212)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: إنْ قُتِلْت فَإِنّمَا، أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُتِلْت أَنْت هَلَكَتْ الْأُمّةُ، فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم:
لَا تَحْزَنْ إنّ اللهَ مَعَنَا، أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ: لَا تَحْزَنْ، وَلَمْ يَقُلْ لَا تَخَفْ؟! لِأَنّ حُزْنَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَغَلَهُ عَنْ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِأَنّهُ أَيْضًا رَأَى مَا نَزَلَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النّصَبِ، وَكَوْنَهُ فِي ضِيقَةِ الْغَارِ مَعَ فُرْقَةِ الْأَهْلِ، وَوَحْشَةِ الْغُرْبَةِ، وَكَانَ أَرَقّ النّاسِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْفَقَهُمْ عَلَيْهِ، فَحَزِنَ لِذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ قَالَ: نَظَرْت إلَى قَدَمَيْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ، وَقَدْ تَفَطّرَتَا دَمًا، فَاسْتَبْكَيْت، وَعَلِمْت أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَكُنْ تَعَوّدَ الْحِفَاءَ وَالْجَفْوَةَ «1» ، وَأَمّا الْخَوْفُ فَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْيَقِينِ بِوَعْدِ اللهِ بِالنّصْرِ لِنَبِيّهِ. مَا يُسَكّنُ خَوْفَهُ، وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التّفْسِيرِ: يُرِيدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَأَمّا الرّسُولُ فَقَدْ كَانَتْ السّكِينَةُ عَلَيْهِ «2» ، وقوله: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها الْهَاءُ فِي أَيّدَهُ رَاجِعَةٌ عَلَى النّبِيّ، وَالْجُنُودُ: الملائكة أنزلهم عَلَيْهِ فِي الْغَارِ، فَبَشّرُوهُ بِالنّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِ، فَأَيّدَهُ ذَلِكَ، وَقَوّاهُ عَلَى الصّبْرِ [و] قِيلَ أيده
__________
(1) ليس لهذا من سند صحيح. وعند ابن حبان أنهما ركبا حتى أتيا الغار، فتواريا.
(2) يقول ابن كثير فى تفسير الآية: «أى تأييده ونصره عليه. أى على الرسول «ص» فى أشهر القولين. وقيل على أبى بكر، وروى عن ابن عباس وغيره، قالوا: لأن الرسول «ص» لم تزل معه سكينة، وهذا لا ينافى تجدد سكينة خاصة بتلك الحال، ولهذا قال: وأيده بجنود لم تروها» يقصد ابن كثير أن عود الضمير فى قوله «أيده» يؤكد عود الضمير على النبى «ص» فى قوله «عليه»(4/213)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِجُنُودِ لَمْ تَرَوْهَا، يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ وَحُنَيْنٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مَشَاهِدِهِ، وَقَدْ قِيلَ:
الْهَاءُ رَاجِعَةٌ عَلَى النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا وأبو بكر تبع له، فَدَخَلَ فِي حُكْمِ السّكِينَةِ بِالْمَعْنَى، وَكَانَ فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ «1» : فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ: إن حزن أبى بكر كان عند ما رأى بعض الكفار يبول عند الغار،
__________
(1) لا يصح أبدا إطلاق مثل هذه التعبيرات، فالقرآن الذى نزله الله على محمد «ص» هو هو الذى نتلوه الآن فى المصحف، وكل حديث يوحى بأن المصحف فيه نقص يجب رفضه، واعتباره فرية لعينة. والذين يؤمنون بأن فى المصحف نقصا كبيرا هم الرافضة، وقد حاجنى أحد قضاة الشيعة فى قطر عربى، فبهت أهل السنة بأن كتبهم هى التى تروى أن فى القرآن نقصا، وذكرنى ببعض ما جاء فى بعض الأحاديث!! وأهل السنة بالمعنى الخاص الذين يؤكدون بسلوكهم ومعتقدهم أنهم أهل السنة لا يمكن أن ينسبوا إلى المصحف هذا الزور، ولا أن بصموه بهذا البهتان. أما الرافضة، فإليك ما رووه فى كتابهم الكافى للكلينى- وهو يعادل البخارى عند غيرهم «عن جابر- أى الجعفى- قال: سمعت أبا جعفر يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه- كما أنزله الله- إلا على بن أبى طالب، والأئمة من بعده، وعن أبى بصير قال: دخلت على أبى عبد الله ... إلى أن قال له أبو عبد الله: وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام.. قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات. والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد» ص 54، 57 من كتاب الكافى للكلينى ط 1278. ولقد كان أحبار النصارى من الأسبانيين يحتجون على ابن حزم بدعوى الرافضة تحريف القرآن، فكان يقول: «إن الروافض ليسوا من المسلمين» ح 2 ص 78 الفصل «وانظر ص 8 من مقدمة محب الدين الخطيب للمنتقى للذهبى وهو مختصر منهاج السنة النبوية للامام ابن تيمية.(4/214)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَأَشْفَقَ أَنْ يَكُونُوا قَدْ رَأَوْهُمَا، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَحْزَنْ، فَإِنّهُمْ لَوْ رَأَوْنَا لَمْ يَسْتَقْبِلُونَا بِفُرُوجِهِمْ عِنْدَ الْبَوْلِ، وَلَا تَشَاغَلُوا بِشَيْءِ عَنْ أَخْذِنَا، وَاَللهُ أَعْلَمُ «1» .
الرّدّ عَلَى الرّافِضَةِ فِيمَا بَهَتُوا بِهِ أَبَا بَكْرٍ:
فَصْلٌ: وَزَعَمَتْ الرّافِضَةُ «2» أَنّ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأَبِي بَكْرٍ لَا تَحْزَنْ غَضّا مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَذَمّا لَهُ؛ فَإِنّ حُزْنَهُ ذَلِكَ: إنْ كَانَ طَاعَةً فَالرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا يَنْهَى عَنْ الطّاعَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أَنّهُ مَعْصِيَةٌ، فَيُقَالُ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ الْجَدَلِ:
قَدْ قَالَ اللهُ لِمُحَمّدِ عَلَيْهِ السّلَامُ: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يس: 76 وَقَالَ:
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ آلُ عِمْرَانَ: 176 وَقَالَ لِمُوسَى:
خُذْها وَلا تَخَفْ طَه: 21 وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ لِلُوطِ. لَا تَخَفْ، وَلَا تَحْزَنْ، فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنّ الْأَنْبِيَاءَ حِينَ قِيلَ لَهُمْ هَذَا كَانُوا فِي حَالِ مَعْصِيَةٍ، فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَنَقَضْتُمْ أَصْلَكُمْ فِي وُجُوبِ الْعِصْمَةِ لِلْإِمَامِ الْمَعْصُومِ فِي زَعْمِكُمْ، فَإِنّ الْأَنْبِيَاءَ هُمْ الْأَئِمّةُ الْمَعْصُومُونَ بِإِجْمَاعِ، وَإِنّمَا قَوْلُهُ: لَا تَحْزَنْ، وَقَوْلُ اللهِ لِمُحَمّدِ: لَا يحزنك،
__________
(1) هذا بعض ما يقال، والله أعلم بحقيقته، والمفروض تدبر ما ذكر فى القرآن عن النبى «ص» وعن صاحبه، وهما فى الغار وكيف أن الكفر الغليظ الكنود، وتحت إمرته المال والسلاح والسلطة والقدرة لم تستطع الوصول الى من فى الغار وهى تعربد كالأبالسة على بابه؟!
(2) هم الشيعة الدين رفضوا إمامة زيد بن يحيى.(4/215)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ لِأَنْبِيَائِهِ مِثْلَ هَذَا تَسْكِينٌ لِجَأْشِهِمْ «1» وَتَبْشِيرٌ لَهُمْ وَتَأْنِيسٌ عَلَى جِهَةِ النّهْيِ الّذِي زَعَمُوا، ولكن كما قال سبحانه: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا «2» فُصّلَتْ: 30 وَهَذَا الْقَوْلُ إنّمَا يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، وَلَيْسَ إذْ ذَاكَ أَمْرٌ بِطَاعَةِ وَلَا نَهْيٌ عَنْ مَعْصِيَةٍ.
وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ التّحْقِيقِ، وهو أن النهى عن الفعل لا يقضى كَوْنَ الْمَنْهِيّ فِيهِ، فَقَدْ نَهَى اللهُ نَبِيّهُ عَنْ أَشْيَاءَ، وَنَهَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ أَنّهُمْ كَانُوا فَاعِلِينَ لِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي حَالِ النّهْيِ، لِأَنّ فِعْلَ النّهْيِ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِأَبِي بَكْرٍ: لَا تَحْزَنْ، لَوْ كَانَ الْحُزْنُ كَمَا زَعَمُوا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَا ادّعَوْا مِنْ الْغَضّ، وَأَمّا مَا ذَكَرْنَاهُ نَحْنُ مِنْ حُزْنِهِ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ طَاعَةً، فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ الرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ إلّا رِفْقًا بِهِ وَتَبْشِيرًا له لا كراهية لعمله، وَإِذَا نَظَرْت الْمَعَانِيَ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ لَا بِعَيْنِ الشّهْوَةِ وَالتّعَصّبِ لِلْمَذَاهِبِ لَاحَتْ الْحَقَائِقُ، وَاتّضَحَتْ الطّرَائِقُ وَاَللهُ الْمُوَفّقُ لِلصّوَابِ.
مَعِيّةُ اللهِ مَعَ رَسُولِهِ وَصَاحِبِهِ:
وَانْتَبِهْ أَيّهَا الْعَبْدُ الْمَأْمُورُ بِتَدَبّرِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا التّوْبَةُ: 40 كَيْفَ كَانَ معهما بالمعنى، وباللفظ، أما المعنى
__________
(1) الجأش: رواع القلب اذا اضطرت عند الفزع، ونفس الإنسان جمعه، جشوش «القاموس» .
(2) والآية فى حق الذين قالوا ربنا الله، ثم استقاموا. فهى فى حق خير فئة مؤمنة.(4/216)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَكَانَ مَعَهُمَا بِالنّصْرِ وَالْإِرْفَادِ «1» وَالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ، وَأَمّا اللّفْظُ فَإِنّ اسْمَ اللهِ تَعَالَى كَانَ يُذْكَرُ إذَا ذُكِرَ رَسُولُهُ، وَإِذَا دُعِيَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْ فَعَلَ رَسُولُ اللهِ، ثُمّ كَانَ لِصَاحِبِهِ كَذَلِكَ يُقَالُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ، وَفَعَلَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ، فَكَانَ يَذْكُرُ مَعَهُمَا، بِالرّسَالَةِ وَبِالْخِلَافَةِ، ثُمّ ارْتَفَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَا يَكُونُ.
حَدِيثُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْكِنَانِي ثُمّ الْمُدْلِجِيّ أَحَدِ بَنِي مُدْلِجِ بْنِ مُرّةَ بْنِ نميم بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَهُ حِينَ بَذَلَتْ قُرَيْشٌ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رَدّ عَلَيْهِمْ مُحَمّدًا عَلَيْهِ السّلَامُ، وأن سرافة اسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ، فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي يَكْرَهُ، وَهُوَ الّذِي كَانَ فِيهِ مَكْتُوبًا لَا تَضُرّهُ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ، وَأَنّ قَوَائِمَ فَرَسِهِ حِينَ قَرُبَ مِنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاخَتْ فِي الْأَرْضِ، وَتَبِعَهَا عُثَانٌ، وَهُوَ: الدّخَانُ وَجَمْعُهُ: عَوَاثِنُ. وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ أَبَا جَهْلٍ لَامَهُ حِينَ رَجَعَ بِلَا شَيْءٍ، فَقَالَ وَكَانَ شَاعِرًا:
أَبَا حَكَمٍ وَاَللهِ لَوْ كُنْت شَاهِدًا ... لِأَمْرِ جَوَادِي إذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ
عَلِمْت وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنّ مُحَمّدًا ... رَسُولٌ بِبُرْهَانِ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ؟!
عَلَيْك بِكَفّ الْقَوْمِ عَنْهُ، فَإِنّنِي ... أَرَى أَمْرَهُ يَوْمًا سَتَبْدُو مَعَالِمُهْ
بِأَمْرِ يَوَدّ النّاسُ فِيهِ بِأَسْرِهِمْ ... بِأَنّ جَمِيعَ النّاسِ طرّا يسالمه
__________
(1) الإعانة والإعطاء.(4/217)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ قَدّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ كِسْرَى مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ حِينَ أُتِيَ بِتَاجِ كِسْرَى، وَسِوَارَيْهِ وَمِنْطَقَتِهِ، وَأَنّهُ دَعَا بِسُرَاقَةَ، وَكَانَ أَزَبّ الذّرَاعَيْنِ «1» ، فَحَلّاهُ حِلْيَةَ كِسْرَى، وَقَالَ لَهُ: ارْفَعْ يَدَيْك، وَقُلْ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي سَلَبَ هَذَا كِسْرَى الْمَلِكَ الّذِي كَانَ يَزْعُمُ أَنّهُ رَبّ النّاسِ وَكَسَاهَا أَعْرَابِيّا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ «2» . فَقَالَ ذَلِكَ سُرَاقَةُ، وَإِنّمَا فَعَلَهَا عُمَرُ لِأَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ قَدْ بَشّرَ بِهَا سُرَاقَةَ حِينَ أَسْلَمَ، وَأَخْبَرَهُ أَنّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بِلَادَ فَارِسٍ، وَيُغَنّمُهُ مُلْكَ كِسْرَى، فَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ سُرَاقَةُ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ:
أَكِسْرَى مَلِكُ الْمُلُوكِ؟! فَأَخْبَرَهُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنّ حِلْيَتَهُ سَتُجْعَلُ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ، وَإِنْ كَانَ أَعْرَابِيّا بَوّالًا عَلَى عَقِبَيْهِ، وَلَكِنّ اللهَ يُعِزّ بِالْإِسْلَامِ أَهْلَهُ، وَيُسْبِغُ عَلَى مُحَمّدٍ وَأُمّتِهِ نِعْمَتَهُ وَفَضْلَهُ.
وَفِي السّيَرِ مِنْ رِوَايَةُ يُونُسَ شِعْرٌ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قِصّةِ الْغَارِ:
قَالَ النّبِيّ وَلَمْ يَزَلْ يُوَقّرُنِي ... وَنَحْنُ فِي سدف من ظلمة الغار «3»
__________
(1) التزبب فى الإنسان: كثرة الشعر وطوله.
(2) فى رواية: كسرى بن هرمز. وقصة سراقة فى البخارى. ولكن ليس فى روايته مسألة السوارين، إنما فيها أنه قال بعد أن حدث لفرسه ما حدث والتقى برسول اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- «فَقُلْتُ لَهُ: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآنى، ولم يسألانى إلا أن قال: اخف عنا، فسألته أن يكتب لى كتاب أمن. فأمر عامر بن فهيرة، فكتب فى رقعة من أديم» .
(3) سدف بفتح السين: الظلمة والليل وسواده، وبضمها: جمع سدفة: الظلمة والقطعة من الليل.(4/218)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا تَخْشَ شَيْئًا؛ فَإِنّ اللهَ ثَالِثُنَا ... وَقَدْ تَوَكّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ
وَإِنّمَا كَيْدُ مَنْ تَخْشَى بَوَادِرَهُ ... كَيْدُ الشّيَاطِينَ كَادَتْهُ لِكُفّارِ
وَاَللهُ مُهْلِكُهُمْ طَرّا بِمَا كَسَبُوا ... وَجَاعِلُ الْمُنْتَهَى مِنْهُمْ إلَى النّارِ
وَأَنْتَ مُرْتَحِلٌ عَنْهُمْ وَتَارِكُهُمْ ... إمّا غدوّا وَإِمّا مُدْلِجٌ سَارِي
وَهَاجِرٌ أَرْضَهُمْ حَتّى يَكُونَ لَنَا ... قَوْمٌ عَلَيْهِمْ ذَوُو عِزّ وَأَنْصَارِ
حَتّى إذَا اللّيْلُ وَارَتْنَا جَوَانِبُهُ ... وَسَدّ مِنْ دُونِ مَنْ تَخْشَى بِأَسْتَارِ
سَارَ الْأُرَيْقِطُ يَهْدِينَا وَأَيْنُقُهُ ... يَنْعَبْنَ بِالْقَرْمِ نَعْبًا تَحْتَ أَكْوَارِ
يَعْسِفْنَ عَرْضَ الثّنايا بعد أطولها ... وكلّ سهب رقاق التّراب مَوّارِ
حَتّى إذَا قُلْت: قَدْ أَنْجَدْنَ عَارِضَهَا ... مِنْ مُدْلِجٍ فَارِسٍ فِي مَنْصِبٍ وَارِ
يُرْدِي بِهِ مُشْرِفَ الْأَقْطَارِ مُعْتَزَمٌ ... كَالسّيدِ ذِي اللّبْدَةِ الْمُسْتَأْسِدِ الضّارِي
فَقَالَ: كُرّوا فَقُلْت: إنّ كَرّتَنَا ... من دونهالك نَصْرُ الْخَالِقِ الْبَارِي
أَنْ يَخْسِفَ الْأَرْضَ بِالْأَحْوَى وَفَارِسِهِ ... فَانْظُرْ إلَى أَرْبُعٍ فِي الْأَرْضِ غُوّارِ
فَهِيلَ لَمّا رَأَى أَرْسَاغَ مَقْرَبِهِ ... قَدْ سُخْنَ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَحْفِرْ بِمِحْفَارِ
فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تُطْلِقُوا فَرَسِي ... وَتَأْخُذُوا مَوْثِقِي فِي نُصْحِ أَسْرَارِ
وَأَصْرِفُ الْحَيّ عَنْكُمْ إنْ لَقِيتُهُمْ ... وَأَنْ أُعَوّرَ مِنْهُمْ عَيْنَ عُوّارِ
فَادْعُوَا الّذِي هُوَ عَنْكُمْ كَفّ عَوْرَتَنَا ... يُطْلِقْ جَوَادِي وَأَنْتُمْ خير أبرار(4/219)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَالَ قَوْلًا رَسُولُ اللهِ مُبْتَهِلًا ... يَا رَبّ إنْ كَانَ مِنْهُ غَيْرُ إخْفَارِ
فَنَجّهِ سَالِمًا مِنْ شَرّ دَعْوَتِنَا ... وَمُهْرَهُ مُطْلَقًا مِنْ كَلْمِ آثَارِ
فَأَظْهَرَ اللهُ إذْ يَدْعُو حَوَافِرَهُ ... وَفَازَ فَارِسُهُ مِنْ هَوْلِ أَخْطَارِ «1»
حَدِيثُ أُمّ مَعْبَدٍ وَذَكَرَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ خَفِيَ عَلَيْهَا، وَعَلَى مَنْ مَعَهَا أَمْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَدْرُوا أين توجه، حتى أنى رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ، وَلَا يَرَوْنَهُ، فَمَرّ عَلَى مَكّةَ وَالنّاسُ يَتّبِعُونَهُ وَهُوَ يُنْشِدُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ:
جَزَى اللهُ رَبّ النّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلّا خَيْمَتَيْ أُمّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْبِرّ ثُمّ تَرَحّلَا «2» ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَقَامَ فَتَاتِهِمْ ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
فيالقصىّ مازوى اللهُ عَنْكُمْ ... بِهِ مِنْ فِعَالٍ لَا يُجَازِي وَسُوْدُدِ
سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا ... فَإِنّكُمْ إنْ تَسْأَلُوا الشّاةَ تَشْهَدْ
دَعَاهَا بِشَاةِ حَائِلٍ فَتَحَلّبَتْ ... لَهُ بِصَرِيحِ ضَرّةُ الشّاةِ مُزْبِدِ
فَغَادَرَهَا رَهْنًا لَدَيْهَا بِحَالِبِ ... يُرَدّدُهَا فِي مَصْدَرٍ ثُمّ مورد
__________
(1) فى القصيدة صنعة لا تدل على العصر المنسوبة اليه. وليس فيها روح ايمان أبى بكر. ولهذا لم ترو فى كتب السنة المعتبرة.
(2) فى السيرة: تروحا(4/220)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَيُرْوَى أَنّ حَسّانَ بْنَ ثَابِتٍ لَمّا بَلَغَهُ شِعْرُ الْجِنّيّ، وَمَا هَتَفَ بِهِ فِي مَكّةَ قال يجيبه:
لقد خاب قوم غاب عَنّهُمْ نَبِيّهُمْ ... وَقَدْ سُرّ مَنْ يَسْرِي إلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي
تَرَحّلَ عَنْ قَوْمٍ فَضَلّتْ عُقُولُهُمْ ... وَحَلّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورِ مُجَدّدِ
هَدَاهُمْ بِهِ بَعْدَ الضّلَالَةِ رَبّهُمْ ... وَأَرْشَدَهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الْحَقّ يَرْشُدْ
وهل يستوى ضلّال قوم تسفّهوا ... عما يتهم هاد بها كل مهتد «1»
__________
(1) قصة أم معبد ضعيفة السند، وقد أخرجها البغوى وابن شاهين وابن السكن وابن مندة والطبرانى والحاكم والبيهقى وأبو نعيم من طريق حزام بن هشام ابن حبيش بن خالد عن أبيه عن جده، وبعضها فى تاريخ الطبرى «أنظر ص 466 ح 1 الخصائص للسيوطى دار الكتب الحديثة وص 380 ح 2 الطبرى ط دار المعارف» . والقصيدة مروية بروايات مختلفة فمنها:
جزى الله خيرا والجزاء بكفه ... رفيقين قالا خيمتى أم معبد
هما رحلا بالحق وانتزلا به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فما حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَبَرّ وَأَوْفَى ذمة من محمد
وأكسى لبرد الحال قبل ابتذاله ... وأعطى لرأس السانح المتجدد
ولم يصرح فى رواية البغوى ومن ذكرتهم بعده بذكر الجنى وإنما قيل فى روايتهم «فأصبح صوت بمكة عاليا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه» ولكن غرام الرواة بالجن جعلهم يغرمون بذكرهم وراء كل شأن عجيب!! رواية البيت فى وفاء الوفا وفى الاكتفاء للكلاعى هكذا:
وهل يستوى ضلال قوم تسكعوا ... عمى وهداة يهتدون يمهتد
وفى شرح السيرة للخشنى:
وهل يستوى ضلال قوم تشفهوا ... وهاد به نال الهدى كل مهتدى
وفى المواهب: الشطرة الثانية هكذا: عمى وهداة يهتدون بمهتدى.(4/221)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَقَدْ نَزَلَتْ مِنْهُ إلَى أَهْلِ يَثْرِبِ ... رِكَابُ هُدًى حَلّتْ عَلَيْهِمْ بِأَسْعَدِ
نَبِيّ يَرَى مَا لَا يَرَى النّاسُ حَوْلَهُ ... وَيَتْلُو كِتَابَ اللهِ فى كل مشهد «1»
__________
(1) وفى رواية أخرى: مسجد. ولما فى حديث أم معبد من أسلوب أدبى ممتاز أحببت نقله وقد ذكر السهيلى باختصار «روى ابن حبيش بن خالد عن أبيه عن جده أن رسول الله «ص» حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر ومولى أبى بكر: عامر ابن فهيرة، ودليلهما الليثى: عبد الله بن الأريقط مروا على خيمتى أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة تحتبى بفناء القبة، ثم تسقى، وتطعم، فسألوها لحما وتمرا، ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئا وكان القوم مرملين مشتين- ويروى: مسنتين فنظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى شاة فى كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. فقال: هل بها من لبن؟ قالت هى أجهد من ذلك. قال أتأذنين لى أن أحلبها، قالت: بأبى أنت وأمى إن رأيت بها فاحلبها، فدعا بها رسول الله- ص- فمسح بيده ضرعها، وسمى الله ودعالها فى شاتها، فتفاجت عليه، ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرمط، فحلب فيه ثجا حتى علاه لبنها- وفى رواية: حتى علته الرغوة، أو حتى علاه البهاء- ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم- صلى الله عليه وسلم- ثم أراضوا، ثم حلب فيه ثانية بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها ثم بايعها- يعنى على الإسلام، ثم ارتحلوا عنها، فما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلى، لا نقى يهن، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا يا أم معبد، والشاة عازب حيال، ولا حلوب فى البيت؟، قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، وقال: صفيه لى يا أم معبد، قالت: رأيته رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه حسن الخلق، لم تعبد ثجلة- أو نحلة- ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره عطف أو غطف- والشك من أبى محمد بن مسلم- ويروى: وطف، وفى صورته صحل، وفى عنقه(4/222)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
سطع، وفى لحيته كثاثة أحور أكحل أزج أقرن شديد سواد الشعر، إن صمت، فعليه الوقار، وإن تكلم سما، وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فصل لا نزر، ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن- أو، ربعة خرزات نظم تحدرن لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصنا بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال: أنصتوا له، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا معتد. قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذى ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، نقلت الحديث من شرح السيرة لأبى ذر الخشنى ص 126 وما بعدها، مراجعا على ص 466 ح 1 الخصائص للسيوطى ط دار الكتب الحديثة وص 139 ح 2 زاد المعاد لأبن القيم إليك شرح أبى ذر لمفردات الحديث: برزة المرأة التى طعنت فى السن فهى تبرز للرجال، ولا تحتجب عنهم، جلدة: جزلة وصفها بالجزالة. مرملين: أرمل الرجل: إذا نفذ زاده فى سفر أو حضر. مشتين: أى داخلين فى زمن الشتاء، ومن رواه: مسنتين، فمعناه: دخلوا فى سنة الجدب والقحط. وكسر البيت جانبه، يقال بكسر الكاف وفتحها. والجهد: المشقة والضعف. تفاجت: أى فتحت رجليها للحلب. يربض الرهط: يبالغ فى ربهم ويثقلهم حتى يلصقهم بالأرض، يقال ربضت الدابة وغيرها، وأربضتها أى جعلنها تلصق بالأرض، والرهط: ما بين الثلاثة إلى العشرة. ثجا: أى سائلا، والماء الثجاج: السائل. علاه البهاء: بريق الرغوة ولمعانها أراضوا: كرروا الشرب حتى بالغوا فى الرى يقال: أراض الوادى: إذا كثر ماؤه، واستنقع. وكذلك الحوض، وفى بعض الروايات: ثم أراضوا عللا بعد نهل. ذكر ذلك ابن قتيبة، والنهل: الشرب الثانى. غادره: تركه، ومنه سمى الغدير، لأن السيل غادره، أى تركه. عجاف: ضعاف. تشاركن هزلا، أى تساوين فى الضعف و (يتساوكن هزلى) : يتمايلن من شدة ضعفهن. غارب: بعيد المرعى. حيال: جمع حائل، وهى التى لم تحمل، ولا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حلوب: يعنى: شاة تحلب، وقد تكون الحلوب واحدا، وقد يكون جمعا. ظاهر الوضاءة: الوضاءة: حسن الوجه. ونظافته، ومنه اشتقاق الوضوء. أبلج للوجه: مشرق الوجه، يقال تبلج الصبح إذا أشرق وأنار. لم يعبه نحله: يعنى: ضعفه وصغره، وهو من الجسم الناحل، وهو القليل اللحم. ولم يزر: لم يقصر، والصقل والصقلة: جلدة الخاصرة، تريد: أنه ناعم الجسم، ضاهر الخاصرة، وهو من الأوصاف الحسنة. وفى بعض روايات هذا الحديث: لم تعبه ثجلة. ولم يزر به صعلة، فالثجلة: عظم البطن، يقال: بطن أثجل إذا كان عظيما، والصعلة صغر الرأس، ومنه يقال للنعام: صعل. وسيم «الحسن والوضاءة الثابتة. وقسيم: كأن كل عضو من وجهه أخذ قسمة من الجمال» . الدعج: شدة سواد العين. «الأشفار: أهداب العين» فى أشفاره عطف أو غطف، ويروى: وطف الوطف: طول شعر أشفار العين، وقال صاحب كتاب العين: الغطف بالغين المعجمة مثل الوطف، وأما العطف بالعين المهملة، فلا معنى له هنا، وقد فسره بعضهم، فقال: هو أن تطول أشفار العين حتى تنعطف. صحل: الصحل: البحح، يريد: أنه ليس بحاد الصوت. فى عنقه سطع: أى: إشراف وطول، يقال: عنق سطعاء إذا أشرفت وطالت، فى لحيته كثاثة: الكثاثة: دقة نبات شعر اللحية مع استدارة فيها. أزج أقرن: الزجج: دقة شعر الحاجبين مع طولها، والقرن: أن يتصل ما بينهما بالشعر علاه البهاء: البهاء هنا: حسن الظاهر. فصل لا نزر ولا هذر: الفصل: الكلام البين، والنزر: الكلام القليل، والهذر: الكلام الكثير. وأرادت أن كلامه ليس بقليل، فينسب إلى العى، ولا بكثير فينسب إلى التزيد. لا بائن من طول: طوله ليس بمفرط لا تقتحمه عين: أى: لا تحتقره، يقال رأيت فلانا فاقتحمته عينى، أى: احتقرته أنضر الثلاثة: أى: أنعم الثلاثة من النضرة، وهو النعيم. محفود: مخدوم، والحفدة: الخدمة، ويقال: حفدت الرجل: إذا خدمته، محشود: محفوف به. قال ابن طريف: يقال: حشدت الرجل إذا أطفت به، واستشهد بلفظة محشود من هذا الحديث، ولا معتد: أى غير ظالم «أحورا أكحل: الحور بياض العين الواضح، والكحل: سواد أشفار(4/223)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ ... فَتَصْدِيقُهُ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ
لِيَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةَ جَدّهِ ... بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْعِدُ اللهَ يَسْعَدْ
وَزَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ أَنّ قُرَيْشًا لَمّا سَمِعَتْ الْهَاتِفَ مِنْ الْجِنّ أَرْسَلُوا إلَى أُمّ مَعْبَدٍ، وَهِيَ بِخَيْمَتِهَا، فَقَالُوا: هَلْ مَرّ بِك مُحَمّدٌ الّذِي مِنْ حِلْيَتِهِ كَذَا، فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولُونَ، وَإِنّمَا ضَافَنِي حَالِبُ الشّاةِ الْحَائِلِ، وَكَانُوا أَرْبَعَةً رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ تَقَدّمَ التّعْرِيفُ بِهِ وَطَرَفٌ مِنْ ذِكْرِ فَضَائِلِهِ فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، وَالرّابِعُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ اللّيْثِيّ وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ مُسْلِمًا، وَلَا وَجَدْنَا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ أَنّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنّهُمْ اسْتَأْجَرُوهُ، وَكَانَ هَادِيًا خِرّيتًا، وَالْخِرّيتُ:
الْمَاهِرُ بِالطّرِيقِ الّذِي يَهْتَدِي بِمِثْلِ خَرْتِ الْإِبْرَةِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْخَوْتَعُ أَيْضًا قَالَ الرّاجِزُ:
يَضِلّ فِيهَا الْخَوْتَعُ الْمُشَهّرُ
نَسَبُ أُمّ مَعْبَدٍ وَزَوْجِهَا:
وَأَمّا أُمّ مَعْبَدٍ الّتِي مَرّ بِخَيْمَتِهَا، فَاسْمُهَا: عَاتِكَةُ بِنْتُ خَالِدٍ إحْدَى بنى
__________
العين كأنها مكحلة. خرزات: حبات اللؤلؤ ونحوه. النظم: العقد المنظوم. يتحدرن: إذا انفرط العقد فى العنق، فأخذت الحبات تنزل واحدة بعد واحدة أربعة: وسط فى الطول. وقد وردت عدة أحاديث فى صفاته الجسمية متفق عليها بين البخارى ومسلم، فانظرها.(4/225)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَهِيَ أُخْتُ حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ، وَلَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَيُقَالُ لَهُ الْأَشْعَرُ، وَأَخُوهَا: حُبَيْشُ بْنُ خَالِدٍ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ وَالْخِلَافُ فِي اسْمِهِ وَخَالِدٌ الْأَشْعَرُ أَبُوهُمَا، هُوَ: ابْنُ خنيف بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَم بْنِ ضُبَيْسِ بْنِ حَرَامِ بْنِ حُبْشِيّةِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ أَبُو خُزَاعَةَ «1» .
وَزَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ يُقَالُ إنّ لَهُ رِوَايَةً أَيْضًا عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم- توفي فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» ، وَلَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَكَانَ مَنْزِلُ أُمّ مَعْبَدٍ بِقُدَيْدٍ، وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُهَا بِأَلْفَاظِ مُخْتَلِفَةٍ مُتَقَارِبَةِ الْمَعَانِي، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَتَقَصّى شَرْحَ أَلْفَاظِهِ، وَفِيهِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم قال لِأُمّ مَعْبَدٍ: وَكَانَ الْقَوْمُ مُرْمِلِينَ مُسْنِتِينَ، فَطَلَبُوا لَبَنًا أَوْ لَحْمًا يَشْتَرُونَهُ، فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهَا شَيْئًا، فَنَظَرَ إلَى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخَيْمَةِ خَلّفَهَا الْجَهْدُ عَنْ الْغَنَمِ، فَسَأَلَهَا: هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ؟ فَقَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا، فَقَالَتْ بِأَبِي أَنْت وَأُمّي، إنْ رَأَيْت بِهَا حَلْبًا فَاحْلِبْهَا، فَدَعَا بِالشّاةِ، فَاعْتَقَلَهَا، وَمَسَحَ ضَرْعَهَا، فَتَفَاجّتْ وَدَرّتْ وَاجْتَرّتْ، وَدَعَا بِإِنَاءِ يُرْبِضُ الرّهْطَ أَيْ: يُشْبِعُ الْجَمَاعَةَ حَتّى يُرْبَضُوا، فَحَلَبَ فِيهِ حَتّى مَلَأَهُ، وَسَقَى الْقَوْمَ حَتّى رُوُوا ثُمّ شَرِبَ آخِرُهُمْ، ثُمّ حَلَبَ فِيهِ مَرّةً أُخْرَى عَلَلًا بَعْدَ نَهْلٍ، ثُمّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا، وَذَهَبُوا، فَجَاءَ أَبُو معبد، وكان غائبا
__________
(1) نسب أبيهما فى الإصابة: خالد بن سعد بن منقذ بن ربيعة فانظرها بن أصرم بن خبيس بمعجمة ثم مثناة ثم موحدة ثم مهملة ابن حرام الخ.
(2) أنظر الإصابة ترجمة رقم 1050(4/226)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلَمّا رَأَى اللّبَنَ قَالَ: مَا هَذَا يَا أُمّ مَعْبَدٍ أَنّى لَك هَذَا وَالشّاءُ عَازِبٌ حِيَالٌ، وَلَا حَلُوبَةَ بِالْبَيْتِ، فَقَالَتْ: لَا وَاَللهِ، إلّا أَنّهُ مَرّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ، فَقَالَ:
صِفِيهِ يَا أُمّ مَعْبَدٍ، فَوَصَفَتْهُ بِمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِيثِ، وَمِمّا ذَكَرَهُ الْقُتَبِيّ:
فَشَرِبُوا حَتّى أَرَاضُوا جَعَلَهُ الْقُتَبِيّ مِنْ اسْتَرَاضَ الْوَادِي: إذَا اسْتَنْقَعَ وَمِنْ الرّوْضَةِ وَهِيَ بَقِيّةُ الماء فى الحوض وأنشد:
وروضة سقيت فيها نِضْوِي «1»
وَرَوَاهُ الْهَرَوِيّ حَتّى آرَضُوا عَلَى وَزْنِ آمَنُوا، أَيْ ضَرَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ إلَى الْأَرْضِ مِنْ الرّيّ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّ آلَ أَبِي مَعْبَدٍ كَانُوا يُؤَرّخُونَ بِذَلِكَ، الْيَوْمَ، وَيُسَمّونَهُ: يَوْمَ الرّجُلِ الْمُبَارَكِ، يَقُولُونَ فَعَلْنَا كَيْتُ وَكَيْتُ قَبْلَ أن يأتينا الرجل المبارك، أو بعد ما جَاءَ الرّجُلُ الْمُبَارَكُ، ثُمّ إنّهَا أَتَتْ الْمَدِينَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا شَاءَ اللهُ، وَمَعَهَا ابْنٌ صَغِيرٌ قَدْ بَلَغَ السّعْيَ فَمَرّ بِالْمَدِينَةِ عَلَى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُكَلّمُ النّاسَ. عَلَى الْمِنْبَرِ فَانْطَلَقَ إلَى أُمّهِ يَشْتَدّ، فَقَالَ لَهَا يَا أُمّتَاهُ إنّي رَأَيْت الْيَوْمَ الرّجُلَ الْمُبَارَكَ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا بُنَيّ وَيْحَك هُوَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
__________
(1) في اللسان: نضوتى وهى أنثى البعير المهزول. قال ابن برى: وأنشد أبو عمرو فى نوادره وذكر أنه لهمان السعدى:
وروضة فى الحوض قد سقيتها ... نضوى وأرض قد أبت طويتها
وأراض الحوض غطى أسفله الماء، استراض تبطح فيه الماء على وجهه، واستراض الوادى استنقع فيه الماء، قال: وكأن الروضة سميت روضة لاستراضة الماء فيها.(4/227)
[طريق الهجرة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَرْقَطَ، سَلَكَ بِهِمَا أَسْفَلَ مَكّةَ، ثُمّ مَضَى بِهِمَا عَلَى السّاحِلِ، حَتّى عَارَضَ الطّرِيقَ أَسْفَلَ مِنْ عُسْفَانَ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا عَلَى أَسْفَلِ أَمَجَ، ثُمّ اسْتَجَازَ بِهِمَا، حَتّى عَارَضَ بِهِمَا الطّرِيقَ، بَعْدَ أَنْ أَجَازَ قُدَيْدًا، ثُمّ أَجَازَ بِهِمَا مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ، فَسَلَكَ بِهِمَا الْخَرّارَ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا ثَنِيّةَ الْمَرّةِ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا لِقْفا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: لَفْتَا. قَالَ مَعْقِلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الهذلى:
نزيما محلبا من أهل لفت ... لخىّ بين أثلة والنّجام
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ. أَجَازَ بِهِمَا مَدْلَجَةَ لقف ثم استبطن بهما مدلجة مجاج- وَيُقَالُ: مِجَاجٍ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- ثُمّ سلك بهما مرجح مجاج،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يقال: هل استمرت تلك القبركة فِي شَاةِ أُمّ مَعْبَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَمْ عَادَتْ إلَى حَالِهَا؟ وَفِي الْخَبَرِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُبَيْشٍ الْكَعْبِيّ، قَالَ: أَنَا رَأَيْت تِلْكَ الشّاةَ وَإِنّهَا لَتَأْدِمُ أُمّ مَعْبَدٍ وَجَمِيعَ صِرْمِهَا، أَيْ:
أَهْلِ ذَلِكَ الْمَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مِنْ الْغَرِيبِ فِي وَصْفِ الشّاةِ: قَالَ مَا كَانَ فِيهَا بُصْرَةٌ وَهِيَ النّقَطُ مِنْ اللبن تبصر بالعين.(4/228)
ثُمّ تَبَطّنَ بِهِمَا مَرْجِحَ مِنْ ذِي الْغَضْوَيْنِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: الْعُضْوَيْنِ- ثُمّ بَطْنَ ذِي كَشْرٍ، ثُمّ أَخَذَ بِهِمَا عَلَى الْجَدَاجِدِ، ثم على الأجرد، ثم سلك بهماذا سَلَمٍ، مِنْ بَطْنِ أَعْدَاءِ مَدْلِجَة تِعْهِنِ، ثُمّ عَلَى الْعَبَابِيدِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
وَيُقَالُ: الْعَبَابِيبُ، وَيُقَالُ: الْعِثْيَانَةَ. يُرِيدُ: الْعَبَابِيبَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ أَجَازَ بِهِمَا الْفَاجّةَ، وَيُقَالُ: الْقَاحّةُ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثُمّ هَبَطَ بِهِمَا الْعَرْجَ، وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِمَا بَعْضُ ظَهْرِهِمْ، فَحَمَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهُ: أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ، عَلَى جَمَلٍ لَهُ- يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرّدّاءِ- إلَى الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ غُلَامًا له، يقال له: مسعود بن هنيدة، ثم خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا مِنْ الْعَرَجِ، فَسَلَكَ بِهِمَا ثَنِيّةَ الْعَائِرِ، عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةٍ- وَيُقَالُ: ثَنِيّةُ الْغَائِرِ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- حَتّى هَبَطَ بِهِمَا بَطْنَ رِئْمٍ، ثُمّ قَدِمَ بِهِمَا قُبَاءٍ، عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ يَوْمَ الاثنين، حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل.
[النزول بقباء]
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ سَاعِدَةَ، قَالَ: حَدّثَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، قَالُوا: لَمّا سَمِعْنَا بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/229)
وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ، وَتَوَكّفْنَا قُدُومَهُ، كُنّا نَخْرُجُ إذَا صَلّيْنَا الصّبْحَ، إلَى ظَاهِرِ حَرّتِنَا نَنْتَظِرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فو الله مَا نَبْرَحُ حَتّى تَغْلِبَنَا الشّمْسُ عَلَى الظّلَالِ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ ظِلّا دَخَلْنَا، وَذَلِكَ فِي أَيّامٍ حَارّةٍ. حَتّى إذَا كَانَ الْيَوْمُ الّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَلَسْنَا كَمَا كُنّا نَجْلِسُ، حَتّى إذَا لَمْ يَبْقَ ظِلّ دَخَلْنَا بُيُوتَنَا، وَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيْنَ دَخَلْنَا الْبُيُوتَ، فَكَانَ أَوّلُ مَنْ رَآهُ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، وَقَدْ رَأَى مَا كُنّا نَصْنَعُ، وَأَنّا نَنْتَظِرُ قُدُومَ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عَلَيْنَا، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا بَنِي قيبلة، هَذَا جَدّكُمْ قَدْ جَاءَ. قَالَ: فَخَرَجْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو فِي ظِلّ نَخْلَةٍ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي مِثْلِ سِنّهِ، وَأَكْثَرُنَا لَمْ يَكُنْ رَأَى رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَكِبَهُ النّاسُ وَمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، حَتّى زَالَ الظّلّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام أَبُو بَكْرٍ فَأَظَلّهُ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفْنَاهُ عِنْدَ ذَلِكَ.
[المنازل التى نزلت بقباء]
قال ابْنُ إسْحَاقَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ، أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمّ أَحَدِ بَنِي عُبَيْدٍ: وَيُقَالُ:
بَلْ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثمةَ. وَيَقُولُ مَنْ يَذْكُرُ أَنّهُ نَزَلَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ:
إنّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِ كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ جَلَسَ لِلنّاسِ فِي بَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثمةَ. وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ عَزَبًا لَا أَهْلَ لَهُ، وَكَانَ منزل العزّاب مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فَمِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/230)
هُنَالِكَ يُقَالُ: نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثمةَ، وَكَانَ يُقَالُ لِبَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثمةَ:
بَيْتُ العزّاب. فَاَللهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ، كُلّا قَدْ سمعنا.
وَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ، أَحَدِ بَنِي الْحَارِثِ بن الْخَزْرَجَ بِالسّنْحِ. وَيَقُولُ قَائِلٌ: كَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، أَخِي بنى الحارث بن الخزرج.
وَأَقَامَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ بِمَكّةَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيّامِهَا، حَتّى أَدّى عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَدَائِعَ الّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنّاسِ، حَتّى إذَا فَرَغَ مِنْهَا لَحِقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَنَزَلَ مَعَهُ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ.
[سهيل بن حنيف وامرأة مسلمة]
فَكَانَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَإِنّمَا كَانَتْ إقَامَتُهُ بقُباءٍ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ يَقُولُ:
كَانَتْ بقُباءٍ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا، مُسْلِمَةٌ. قَالَ: فَرَأَيْت إنْسَانًا يَأْتِيهَا مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ، فَيَضْرِبُ عَلَيْهَا بَابَهَا، فَتَخْرَجُ إلَيْهِ فَيُعْطِيَهَا شَيْئًا مَعَهُ فتأخذه. قال:
فاستربت بشأنه، فقلت لها: يا أمة الله، من هذا الرجل الذى يضرب عليك بابك كلّ ليلة، فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أَدْرِي مَا هُوَ، وَأَنْتِ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ لَا زَوْجَ لَك؟ قَالَتْ: هَذَا سَهْلُ بْنُ حُنَيْفِ بْنِ وَاهِبٍ، قد عَرَفَ أَنّي امْرَأَةٌ لَا أَحَدَ لِي، فَإِذَا أَمْسَى عَدَا عَلَى أَوْثَانِ قَوْمِهِ فَكَسّرَهَا، ثُمّ جَاءَنِي بِهَا، فَقَالَ: احْتَطِبِي بِهَذَا، فَكَانَ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَأْثُرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، حَتّى هَلَكَ عِنْدَهُ بِالْعِرَاقِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/231)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي هَذَا، مِنْ حَدِيثِ علىّ رضى الله عنه، هند ابن سَعْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، رَضِيَ اللهُ عنه.
[بِنَاءُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بقُباءٍ، فى بنى عمرو ابن عوف، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعام ويوم الخميس وأسّس مسجده.
ثُمّ أَخْرَجَهُ اللهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يُزْعِمُونَ أَنّهُ مَكَثَ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَاَللهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ. فَأَدْرَكَتْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَصَلّاهَا فِي الْمَسْجِدِ الّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي، وَادِي رَانُونَاءَ، فَكَانَتْ أَوّلَ جُمُعَةٍ صلاها بالمدينة.
[القبائل تعترضه لينزل عِنْدَهَا]
فَأَتَاهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سالم ابن عَوْفٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ. أَقِمْ عِنْدَنَا فِي الْعَدَدِ وَالْعِدّةِ وَالْمَنَعَةِ؛ قَالَ:
خَلّوا سَبِيلَهَا، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ، لِنَاقَتِهِ: فَخَلّوا سَبِيلهَا، فَانْطَلَقَتْ حَتّى إذَا وَازَنَتْ دَارَ بَنِي بَيّاضَةَ، تَلَقّاهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، فِي رِجَالٍ من بنى بياضة فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: هَلُمّ إلَيْنَا، إلَى الْعَدَدِ وَالْعِدّةِ وَالْمَنَعَةِ؛ قَالَ: خَلّوا سَبِيلَهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا. فَانْطَلَقَتْ، حَتّى إذَا مَرّتْ بِدَارِ بَنِي سَاعِدَةَ، اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي ساعدة، فقالوا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/232)
يَا رَسُولَ اللهِ، هَلُمّ إلَيْنَا إلَى الْعَدَدِ وَالْعِدّةِ وَالْمَنَعَةِ؛ قَالَ: خَلّوا سَبِيلَهَا، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ، فخلوا سبيلها، فانطلقت، حتى إذا وازنت دار بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رواحة، فى رجال من بنى الحارث ابن الْخَزْرَجِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلُمّ إلَيْنَا إلَى الْعَدَدِ وَالْعِدّةِ وَالْمَنَعَةِ، قَالَ: خَلّوا سَبِيلَهَا، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا. فَانْطَلَقَتْ، حَتّى إذَا مَرّتْ بِدَارِ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ، وَهُمْ أَخْوَالُهُ دِنْيَا- أُمّ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو، إحْدَى نِسَائِهِمْ- اعْتَرَضَهُ سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ، وأبو سليط أسيرة ابن أَبِي خَارِجَةَ، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلُمّ إلَى أَخْوَالِك، إلَى الْعَدَدِ وَالْعِدّةِ وَالْمَنَعَةِ؛ قَالَ: خَلّوا سَبِيلَهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ.
[مبرك الناقة بِدَارِ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ]
حَتّى إذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، بَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ مِرْبَدٌ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي النّجّارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، وَهُمَا فِي حِجْرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ، سَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو.
فَلَمّا بَرَكَتْ- وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْهَا- لَمْ يَنْزِلْ، وَثَبَتَ فَسَارَتْ غَيْرَ بِعِيدٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا لَا يَثْنِيهَا بِهِ، ثُمّ الْتَفَتَتْ إلَى خَلْفِهَا فَرَجَعَتْ إلَى مَبْرَكِهَا أَوّلَ مَرّةٍ، فَبَرَكَتْ فِيهِ، ثُمّ تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها، فَنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ رَحْلَهُ، فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/233)
عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَسَأَلَ عَنْ الْمِرْبَدِ لِمَنْ هُوَ؟ فَقَالَ لَهُ مَعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ: هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو، وَهُمَا يتيمان لى، وسأرضيهما منه، فاتخذه مسجدا.
[المسجد والمسكن]
قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم أن يا بنى مَسْجِدًا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَبِي أَيّوبَ حَتّى بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ، فَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرَغّبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَمَلِ فِيهِ، فَعَمِلَ فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَدَأَبُوا فِيهِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ:
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنّبِيّ يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنّا الْعَمَلُ الْمُضَلّلُ
وَارْتَجَزَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ يَبْنُونَهُ يَقُولُونَ:
لَا عَيْشَ إلّا عَيْشَ الْآخِرَهْ ... اللهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا كَلَامٌ وَلَيْسَ بِرَجَزٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عيش إلا عيش الآخره، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار.
[عمار والفئة الباغية]
قَالَ: فَدَخَلَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَقَدْ أَثْقَلُوهُ باللّبن، فقال: يا رسول الله، قتلونى، يحملون علىّ ما لا يحملون. قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليه وسلم:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/234)
فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ينفض وفرته بيده، كان رَجُلًا جَعْدًا، وَهُوَ يَقُولُ: وَيْحَ ابْنَ سُمَيّةَ، لَيْسُوا بِاَلّذِينَ يَقْتُلُونَك، إنّمَا تَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
[ارتجاز على]
وَارْتَجَزَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمئِذٍ:
لَا يَسْتَوِي مَنْ يَعْمُرُ الْمَسَاجِدَا ... يَدْأَبُ فِيهِ قَائِمًا وَقَاعِدًا
وَمَنْ يُرَى عَنْ الْغُبَارِ حَائِدًا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَأَلْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ، عَنْ هَذَا الرّجَزِ، فَقَالُوا: بَلَغَنَا أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ارْتَجَزَ بِهِ، فَلَا يُدْرَى: أَهُوَ قَائِلُهُ أم غيره.
[مشادة عمار]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَخَذَهَا عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَجَعَلَ يَرْتَجِزُ بِهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمّا أَكْثَرَ، ظَنّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ إنّمَا يُعَرّضُ بِهِ، فِيمَا حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَكّائِي، عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ، وَقَدْ سَمّى ابْنُ إسحاق الرجل.
[الرسول صلى الله عليه وسلم يوصى بِعَمّارٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ ما تقول منذ اليوم يابن سُمَيّةَ، وَاَللهِ إنّي لَأُرَانِي سَأَعْرِضُ هَذِهِ الْعَصَا لِأَنْفِك. قَالَ: وَفِي يَدِهِ عَصًا. قَالَ: فَغَضِبَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/235)
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ قَالَ: مَا لَهُمْ وَلِعَمّارٍ، يَدْعُوهُمْ إلَى الْجَنّةِ، وَيَدْعُونَهُ إلَى النّارِ، إنّ عَمّارًا جِلْدَةٌ مَا بَيْنَ عَيْنِيّ وَأَنْفِي، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ من الرجل فلم يستبق فاجتنبوه.
[إضافة بناء أول مسجد إلى عمار]
قال ابن هشام: وذكر سفيان بن عيينة عَنْ زَكَرِيّا، عَنْ الشّعْبِيّ، قَالَ:
إنّ أَوّلَ من بنى مسجدا عمّار بن ياسر.
[الرسول صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِ أَبِي أيوب]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِ أَبِي أَيّوبَ، حَتّى بُنِيَ لَهُ مَسْجِدُهُ وَمَسَاكِنُهُ، ثُمّ انْتَقَلَ إلَى مَسَاكِنِهِ مِنْ بَيْتِ أَبِي أَيّوبَ، رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ اليَزَنيّ، عَنْ أَبِي رُهْمٍ السّمَاعِيّ، قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو أَيّوبَ، قَالَ: لَمّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي، نَزَلَ فِي السّفْلِ، وَأَنَا وَأُمّ أَيّوبَ فِي الْعُلْوِ، فَقُلْت لَهُ: يَا نَبِيّ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، إنّي لَأَكْرَهُ وَأُعْظِمُ أَنْ أَكُونَ فَوْقَك، وَتَكُونَ تَحْتِي، فَاظْهَرْ أَنْتَ فَكُنْ فِي الْعُلْوِ، وَنَنْزِلَ نَحْنُ فَنَكُونَ فِي السّفْلِ، فَقَالَ: يَا أَبَا أَيّوبَ، إنّ أَرْفَقَ بِنَا وَبِمَنْ يَغْشَانَا، أَنْ نَكُونَ فِي سُفْلِ البيت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/236)
قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُفْلِهِ، وَكُنّا فَوْقَهُ فِي الْمَسْكَنِ، فلقد انكسر حبّ لنا فيه ماء فقمت أنا وأمّ أيوب بقطيفة لنا، مالنا لِحَافٌ غَيْرَهَا، نُنَشّفُ بِهَا الْمَاءَ، تَخَوّفًا أَنْ يَقْطُرَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُ شَيْءٌ فَيُؤْذِيَهُ.
قَالَ: وَكُنّا نَصْنَعُ لَهُ الْعَشَاءَ، ثُمّ نَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِ، فَإِذَا رَدّ عَلَيْنَا فَضْلَهُ تَيَمّمْت أَنَا وَأُمّ أَيّوبَ مَوْضِعَ يَدِهِ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ، حَتّى بَعَثْنَا إلَيْهِ لَيْلَةً بِعَشَائِهِ وَقَدْ جَعَلْنَا لَهُ بَصَلًا أَوْ ثُومًا، فَرَدّهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ أرليده فِيهِ أَثَرًا قَالَ: فَجِئْتُهُ فَزِعًا، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي رَدَدْتَ عَشَاءَك، وَلَمْ أَرَ فِيهِ مَوْضِعَ يَدِك، وَكُنْتَ إذَا رَدَدْته عَلَيْنَا، تَيَمّمْت أَنَا وَأُمّ أَيّوبَ مَوْضِعَ يَدِك، نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ؛ قَالَ: إنّي وَجَدْت فِيهِ رِيحَ هَذِهِ الشّجَرَةِ، وَأَنَا رَجُلٌ أُنَاجِي، فَأَمّا أَنْتُمْ فَكُلُوهُ. قَالَ: فَأَكَلْنَاهُ، وَلَمْ نَصْنَعْ له تلك الشجرة بعد.
[تلاحق المهاجرين]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَتَلَاحَقَ الْمُهَاجِرُونَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَبْقَ بِمَكّةَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، إلّا مَفْتُونٌ أَوْ مَحْبُوسٌ، وَلَمْ يُوعَبْ أَهْلُ هِجْرَةٍ مِنْ مَكّةَ بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَإِلَى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَهْلُ دور مسمّون: بنو مظعون من جُمَحٍ؛ وَبَنُو جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، حُلَفَاءُ بَنِي أُمَيّةَ؛ وَبَنُو الْبُكَيْرِ، مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ، حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنّ دُورَهُمْ غُلّقَتْ بِمَكّةَ هِجْرَةً، لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/237)
[قصة أبى سفيان مع بنى جحش]
وَلَمّا خَرَجَ بَنُو جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ مِنْ دَارِهِمْ، عَدَا عَلَيْهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَبَاعَهَا مِنْ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، أَخِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ؛ فَلَمّا بَلَغَ بَنِي جَحْشٍ.
مَا صَنَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِدَارِهِمْ، ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: أَلَا تَرْضَى يَا عَبْدَ اللهِ أَنْ يُعْطِيَك اللهُ بِهَا دَارًا خَيْرًا مِنْهَا فِي الْجَنّةِ؟ قَالَ: بَلَى؛ قَالَ: فذلك لك. فَلَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ كَلّمَهُ أَبُو أَحْمَدَ فِي دَارِهِمْ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؛ فَقَالَ النّاسُ لِأَبِي أَحْمَدَ: يَا أَبَا أَحْمَدَ، إنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَكْرَهُ أَنْ تَرْجِعُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِكُمْ أُصِيبَ مِنْكُمْ فِي اللهِ عَزّ وَجَلّ، فَأَمْسَكَ عَنْ كَلَامِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ:
أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ ... أَمْرٍ عَوَاقِبُهُ نَدَامَهْ
دَارُ ابْنِ عَمّك بِعْتهَا ... تَقْضِي بِهَا عَنْك الْغَرَامَهْ
وَحَلِيفُكُمْ بِاَللهِ رَبّ ... النّاسِ مُجْتَهَدُ الْقَسَامَهْ
اذْهَبْ بِهَا، اذهب بها ... طوّفتها طَوْقَ الْحَمَامَهْ
[انْتِشَار الْإِسْلَامَ وَمَنْ بَقِيَ عَلَى شِرْكِهِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ إذْ قَدِمَهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، إلَى صَفَرٍ مِنْ السّنَةِ الدّاخِلَةِ، حَتّى بُنِيَ لَهُ فِيهَا مَسْجِدُهُ وَمَسَاكِنُهُ وَاسْتَجْمَعَ لَهُ إسْلَامُ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/238)
الْأَنْصَارِ إلّا أَسْلَمَ أَهْلُهَا، إلّا مَا كَانَ مِنْ خَطْمَةَ، وَوَاقِفٍ، وَوَائِلٍ، وَأُمَيّةَ، وَتِلْكَ أَوْسُ اللهِ، وَهُمْ حَيّ مِنْ الْأَوْسِ، فَإِنّهُمْ أَقَامُوا على شركهم.
[الخطبة الأولى]
وَكَانَتْ أَوّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ- نَعُوذُ بِاَللهِ أَنْ نَقُولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْ- أَنّهُ قَامَ فِيهِمْ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ قَالَ: أَمّا بَعْدُ، أَيّهَا النّاسُ، فَقَدّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ تَعَلّمُنّ وَاَللهِ لَيُصْعَقَنّ أَحَدُكُمْ، ثُمّ لَيَدَعَنّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، ثُمّ لَيَقُولَنّ لَهُ رَبّهُ، وَلَيْسَ لَهُ تَرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ: أَلَمْ يَأْتِك رَسُولِي فَبَلّغَك، وَآتَيْتُك مَالًا وأفضلت عليك؟ فما قدّمت لنفسك؟ فلينظرنّ يمينالا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم فمن استطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشقّ من تمرة فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيّبَةٍ، فَإِنّ بها تجزى الحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[الخطبة الثانية]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ مَرّةً أُخْرَى، فَقَالَ: إنّ الْحَمْدَ لِلّهِ، أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، نَعُوذُ بِاَللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. إنّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَبَارَكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/239)
وَتَعَالَى، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَيّنَهُ اللهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ، وَاخْتَارَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ النّاسِ، إنّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَبْلَغُهُ، أَحِبّوا، مَا أَحَبّ اللهُ، أَحِبّوا اللهَ مِنْ كُلّ قُلُوبِكُمْ، وَلَا تَمَلّوا كَلَامَ اللهِ وَذِكْرَهُ، وَلَا تَقْسُ عَنْهُ قُلُوبُكُمْ فَإِنّهُ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللهُ يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي، قَدْ سَمّاهُ اللهُ خِيرَتَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ، ومصطفاه من العباد، الصالح الحديث، ومن كلّ ما أوتى الناس من الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، فَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتّقُوهُ حَقّ تُقَاتِهِ، وَاصْدُقُوا اللهَ صَالِحَ مَا تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ، وَتَحَابّوا بِرُوحِ اللهِ بَيْنَكُمْ، إنّ اللهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ، وَالسّلَامُ عليكم.
[كتاب الموادعة لليهود]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَادَعَ فِيهِ يَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ، وَأَقَرّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَشَرَطَ لَهُمْ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ:
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النّاسِ، الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ على ربعتهم يتعاقلون، بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين؛ وبنو عوف عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، كُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ المؤمنين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/240)
وَبَنُو الْحَارِثِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو جُشَمٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلِهِمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو النّجّارِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو النّبِيتِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمُفْرَحُ: الْمُثْقَلُ بِالدّيْنِ وَالْكَثِيرُ الْعِيَالِ. قَالَ الشّاعِرُ:
إذَا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدّي أَمَانَةً ... وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَفْرَحَتْك الْوَدَائِعُ
وَأَنْ لَا يُحَالِفَ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ؛ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ، أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ، أَوْ إثْمٍ، أَوْ عُدْوَانٍ، أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَإِنّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ؛ وَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ، وَلَا يَنْصُرُ كَافِرًا عَلَى مُؤْمِنٍ، وَإِنّ ذِمّةَ اللهِ وَاحِدَةٌ، يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالى بعض دُونَ النّاسِ، وَإِنّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنّ لَهُ النّصْرَ وَالْأُسْوَةَ، غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِمْ؛ وَإِنّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/241)
وَاحِدَةٌ، لَا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، إلّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ، وَإِنّ كُلّ غَازِيَةٍ غَزَتْ مَعَنَا يعقب بعضها بعضا، وإن المؤمنين يبىء بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى أَحْسَنِ هدى وأقومه؛ وإنه لا يجير مشرك ما لا لقريش، ولا نفسا، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ، وَإِنّهُ مَنْ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيّنَةٍ فَإِنّهُ قَوَدٌ بِهِ إلّا أَنْ يَرْضَى وَلِيّ الْمَقْتُولِ، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافّةٌ، وَلَا يَحِلّ لَهُمْ إلّا قِيَامٌ عَلَيْهِ، وَإِنّهُ لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنٍ أَقَرّ بِمَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ، وَآمَنَ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا، وَلَا يُؤْوِيهِ؛ وَأَنّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَإِنّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ، وَإِلَى مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا مُحَارَبِينَ، وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ، مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ، إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ، وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّار مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وإن ليهود بنى ساعدة مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بنى عوف، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِنّ جَفْنَةَ بَطْنٌ مِنْ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ؛ وَإِنّ لِبَنِي الشّطِيبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنّ البّرّدون الإثم، وإن موالى ثعلبة كأنفسهم؛ إن بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ؛ وَإِنّهُ لَا يَخْرَجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِإِذْنِ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَإِنّهُ لَا يُنْحَجَزُ عَلَى ثَأْرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/242)
جُرْحٌ، وَإِنّهُ مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ فَتَكَ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ، إلّا مِنْ ظَلَمَ، وَإِنّ اللهَ عَلَى أبرّ هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبرّدون الْإِثْمِ، وَإِنّهُ لَمْ يَأْثَمْ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَإِنّ النّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ماداموا مُحَارَبِينَ، وَإِنّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ، وَإِنّ الْجَارَ كَالنّفْسِ غَيْرَ مُضَارّ وَلَا آثِمٌ، وَإِنّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إلّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا، وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ، فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ، وَإِلَى محمد رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنّ اللهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ، وَإِنّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا، وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ، وَإِذَا دُعُوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ ويلبسونه، فانهم يصلحونه وَيَلْبَسُونَهُ، وَإِنّهُمْ إذَا دُعُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إلّا مَنْ حَارَبَ فِي الدّينِ، عَلَى كُلّ أُنَاسٍ حِصّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمْ الّذِي قِبَلَهُمْ، وَإِنّ يَهُودَ الْأَوْسِ، مَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ، عَلَى مِثْلِ مَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ، مَعَ الْبِرّ الْمَحْضِ، مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: مَعَ الْبِرّ الْمُحْسِنُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَإِنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ، لَا يَكْسِبُ كَاسِبٌ إلّا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنّ اللهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ، وَإِنّهُ لَا يَحُولُ هَذَا الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ وَآثِمٍ، وَإِنّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ، وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالْمَدِينَةِ، إلّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ، وَإِنّ اللهَ جَارٌ لِمَنْ بَرّ وَاتّقَى، وَمُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/243)
[الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَآخَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أصحابه من المهاجرين وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ- فِيمَا بَلَغَنَا، وَنَعُوذُ بِاَللهِ أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُقَلْ:
تَآخَوْا فِي اللهِ أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ، ثُمّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: هَذَا أَخِي فَكَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامَ الْمُتّقِينَ، وَرَسُولَ رَبّ الْعَالَمِينَ، الّذِي لَيْسَ لَهُ خَطِيرٌ وَلَا نَظِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَخَوَيْنِ، وَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَعَمّ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وزيد ابن حَارِثَةَ، مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخَوَيْنِ، وَإِلَيْهِ أَوْصَى حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ حَيْنَ حَضَرَهُ الْقِتَالُ إنْ حَدَثَ بِهِ حَادِثُ الْمَوْتِ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذُو الْجَنَاحَيْنِ، الطّيّارُ فِي الْجَنّةِ، وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، أَخَوَيْنِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمئِذٍ غَائِبًا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ زُهَيْرٍ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، أَخَوَيْنِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ أَخَوَيْنِ؛ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْجَرّاحِ، وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، أَخَوَيْنِ. وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، أَخَوَيْنِ. والزبير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/244)
ابن الْعَوّامِ، وَسَلَامَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، أَخَوَيْنِ.
وَيُقَالُ: بَلْ الزّبَيْرُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، حَلِيفُ، بَنِي زُهْرَةَ، أحوين، وعثمان ابن عَفّانَ، وَأَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ، أَخُو بَنِي النّجّارِ، أَخَوَيْنِ. وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وكعب بن مالك، أخو بنى سلمة، أحوين. وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأبىّ بن كعب، أَخُو بَنِي النّجّارِ: أَخَوَيْنِ؛ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ، وَأَبُو أَيّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، أَخُو بَنِي النّجّارِ: أَخَوَيْنِ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعَبّادُ بْنُ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ:
أَخَوَيْنِ. وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، أَخُو بَنِي عَبْدِ عَبْسٍ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: أَخَوَيْنِ وَيُقَالُ: ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، خَطِيبُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ: أَخَوَيْنِ. وَأَبُو ذَرّ، وَهُوَ بُرَيْرُ بن جنادة الغفارىّ والمنذر ابن عَمْرٍو، الْمُعْنِقُ لِيَمُوتَ، أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ: أَخَوَيْنِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَسَمِعْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: أَبُو ذرّ: جندب ابن جُنَادَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، حَلِيفُ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، أَخَوَيْنِ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيّ، وَأَبُو الدّرْدَاءِ، عُوَيْمِرُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، أَخَوَيْنِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عُوَيْمِرُ بْنُ عَامِرٍ، وَيُقَالُ: عُوَيْمِرُ بْنُ زَيْدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/245)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبِلَالٌ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، مُؤَذّنُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو رُوَيْحَةَ، عَبْدُ اللهِ بن عبد الرحمن الخثعمى، ثم أحد الفزع، أخوين. فهؤلاء من سُمّيَ لَنَا، مِمّنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ.
[بِلَالٌ يُوصِي بِدِيوَانِهِ لِأَبِي رُوَيْحَةَ]
فَلَمّا دَوّنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ الدّوَاوِينَ بِالشّامِ، وَكَانَ بِلَالٌ قَدْ خَرَجَ إلَى الشّامِ، فَأَقَامَ بِهَا مُجَاهِدًا، فَقَالَ عُمَرُ لِبِلَالٍ: إلَى مَنْ تَجْعَلُ دِيوَانَك يَا بِلَالُ؟
قَالَ: مَعَ أَبِي رُوَيْحَةَ، لَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا، لِلْأُخُوّةِ الّتِي كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَدَ بَيْنَهُ وَبَيْنِي، فَضَمّ إلَيْهِ، وَضُمّ دِيوَانُ الْحَبَشَةِ إلَى خَثْعَمَ، لِمَكَانِ بِلَالٍ مِنْهُمْ، فَهُوَ فِي خَثْعَمَ إلَى هذا اليوم بالشام.
[أبو أمامة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَهَلَكَ فِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ أبو أمامة، أسعد بن زرارة، والمسجد يا بنى، أخذته الذبحة أو الشهقة.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ: أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بئس الميت أبو أمامة، ليهود ومنافقوا الْعَرَبِ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيّا لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ، وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي وَلَا لِصَاحِبِي مِنْ الله شيئا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/246)
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ: أَنّهُ لَمّا مَاتَ أَبُو أُمَامَةَ، أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، اجْتَمَعَتْ بَنُو النّجّارِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو أُمَامَةَ نَقِيبَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ هَذَا قَدْ كَانَ مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، فَاجْعَلْ مِنّا رَجُلًا مَكَانَهُ يُقِيمُ مِنْ أَمْرِنَا مَا كَانَ يُقِيمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم: أَنْتُمْ أَخْوَالِي، وَأَنَا بِمَا فِيكُمْ، وَأَنَا نَقِيبُكُمْ، وَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَخُصّ بِهَا بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ. فَكَانَ مِنْ فَضْلِ بَنِي النّجّارِ الّذِي يَعُدّونَ عَلَى قَوْمِهِمْ، أَنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقيبهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِلَادٌ فِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ:
وَذَكَرَ أَنّ دَلِيلَهُمَا سَلَكَ بِهِمَا عُسْفَانَ. قَالَ الْمُؤَلّفُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ أَنّهُ قَالَ: سُمّيَ عُسْفَانَ لِتَعَسّفِ السّيُولِ فِيهِ، وَسُئِلَ عَنْ الْأَبْوَاءِ «1» الّذِي فِيهِ قَبْرُ آمِنَةَ أُمّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَ سُمّيَ الْأَبْوَاءَ؟ فقال:
لأن السيول تتبوّءه أَيْ: تَحِلّ بِهِ، وَبِعُسْفَانَ فِيمَا رُوِيَ كَانَ مَسْكَنُ الْجُذَمَاءِ، وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرّ بِعْسْفَانَ وَبِهِ الْجُذَمَاءُ فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ وَلَمْ يَنْظُرْ الْيَهَم، وَقَالَ: إنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْعِلَلِ يعدى
__________
(1) عسفان: قيل منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة، وقيل: عسفان بين المسجدين، وهى من مكة على مرحلتين، وقيل: هو قرية جامعة على ستة وثلاثين ميلا من مكة، وهى حد تهامة. والأبواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة بينها وبين الجحفة مما يلى المدينة ثلاثة وعشرون ميلا، وقيل: جبل عن يمين آوه ويمين المصعد إلى مكة من المدينة «المراصد» .(4/247)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَهُوَ هَذَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مِنْ رِوَايَتِي، لِأَنّهُ فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْن أَبِي أُسَامَةَ، وَقَدْ تَقَدّمَ اتّصَالُ سَنَدِي بِهِ، وَكُنْت رَأَيْته قَبْلُ فِي مُسْنَدِ وَكِيعِ بْنِ الْجَرّاحِ، وَلَيْسَ لى فِيهِ إسْنَادٌ.
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَنّ دَلِيلَهُمْ سَلَكَ بهم أمجا ثُمّ ثَنِيّةَ الْمُرّةِ، كَذَا وَجَدْته مُخَفّفَ الرّاءِ مُقَيّدًا، كَأَنّهُ مُسَهّلُ الْهَمْزَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ.
وَذَكَرَ لَقْفًا بِفَتْحِ اللّامِ مُقَيّدًا فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ:
لَفْتًا، وَاسْتَشْهَدَ ابن هشام يقول مَعْقِلِ [بْنِ خُوَيْلِدٍ] الْهُذَلِيّ:
نَزِيعًا مُحْلَبًا مِنْ أهل لفت ... لحىّ بين أثلة فالنّجام «1»
وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ: لِفْتٌ بِكَسْرِ اللّامِ أَلْفَيْته فِي شِعْرِ مَعْقِلٍ هَذَا فِي أَشْعَارِ هُذَيْلٍ فِي نُسْخَتِي، وَهِيَ نُسْخَةٌ صَحِيحَةٌ جِدّا، وَكَذَلِكَ أَلْفَاهُ مَنْ وَثِقْته وَكَلّفْته أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ لِي فِي شعر معقل هذا فى أشعار
__________
(1) النزيع: الغريب والبعيد أو من أمه سبية أو الشريف. والمحلب: المعين من غير قومك. وقد رواه اللسان فى مادة حلب: صريح محلب من أهل نجد ... إلخ. وفى المراصد عن لفت: قيده القاضى عياض على ثلاثة أوجه: بفتح اللام وسكون الفاء ولفت بالتحريك، وبكسر اللام وسكون الفاء وهى ثنية بين مكة والمدينة قيل: هى ثنية جبل قديد وستأتى والبيت والذى بعده فى معجم البكرى فى مادة لفت «صريخا محليا» وقد ضبطها بكسر اللام وفتحها فقط مع سكون الفاء.(4/248)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هُذَيْلٍ مَكْسُورُ اللّامِ فِي نُسْخَةِ أَبِي عَلِيّ الْقَالِيّ الْمَقْرُوءَةِ عَلَى الزّيَادِيّ، ثُمّ عَلَى الْأَحْوَلِ، ثُمّ قَرَأْتهَا عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ رَحِمَهُ اللهُ، وَفِيهَا صَرِيحًا مُحْلِبًا، وَكَذَلِكَ كَانَ الضّبْطُ فِي هذا الكتاب قديما، حتى ضبطته بِالْفَتْحِ عَنْ الْقَاضِي، وَعَلَى مَا وَقَعَ فِي غَيْرِهَا. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي بَحْرٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيّ: لَفْتًا، فَقَيّدَهُ بِكَسْرِ اللّامِ كما ذكر أبو بحر وأنشد قبله:
لغمرك مَا خَشِيت، وَقَدْ بَلَغْنَا ... جِبَالَ الْجَوْزِ مِنْ بَلَدٍ تَهَامِ
صَرِيحًا مُحْلِبًا الْبَيْتُ.
وَذَكَرَ الْمَوَاضِعَ التى سلك عليها، وذكر فيها مجاج بِكَسْرِ الْمِيمِ وَجِيمَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ فِيهَا: مَجَاجٌ بِالْفَتْحِ، وَقَدْ أَلْفَيْت شَاهِدًا لِرِوَايَةِ ابن إسحاق فى لقف، وفيه ذكر مجاح بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَ الْجِيمِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمّدِ ابن عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ:
لَعَنَ اللهُ بَطْنَ لقف مسيلا ... ومجاحا وَمَا أُحِبّ مَجَاحًا
لَقِيت نَاقَتِي بِهِ، وَبِلِقْفٍ ... بَلَدًا مُجْدِبًا وَأَرْضًا شَحَاحًا
هَكَذَا ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَلِقْفٌ آخَرُ غَيْرُ لَفْتٍ فِيمَا قَالَ الْبَكْرِيّ.
وَذَكَرَ مُرَجّحَ بتقديم الْجِيمِ عَلَى الْحَاءِ، وَذَكَرَ مُدْلِجَةَ تِعْهِنَ «1» بِكَسْرِ التاء
__________
(1) فى النهاية لابن الأثير: قال أبو عبيد: إنما هو الجد وهو البئر الجيدة المواضع من الكلأ.(4/249)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْهَاءِ، وَالتّاءُ فِيهِ أَصْلِيّةٌ عَلَى قِيَاسِ النّحْوِ فَوَزْنُهُ فِعْلِلٌ إلّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مِنْ اشْتِقَاقٍ عَلَى زِيَادَةِ التّاءِ، أَوْ تَصِحّ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ تُعْهِنُ بِضَمّ التّاءِ، فَإِنْ صَحّتْ فَالتّاءُ زَائِدَةٌ، كُسِرَتْ أَوْ ضُمّتْ «1» وَبِتِعْهِنَ صَخْرَةٌ، يُقَالُ لَهَا: أُمّ عِقْيٍ عُرِفَتْ بِامْرَأَةِ كَانَتْ تَسْكُنُ هُنَاكَ، فَمَرّ بِهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَسْقَاهَا فَلَمْ تَسْقِهِ، فَدَعَا عَلَيْهَا فَمُسِخَتْ صَخْرَةً، فَهِيَ تِلْكَ الصّخْرَةُ فِيمَا يَذْكُرُونَ.
وَذَكَرَ الْجَدَاجِدَ بِجِيمَيْنِ وَدَالَيْنِ كَأَنّهَا جَمْعُ جُدْجُدٍ، وَأَحْسَبُهَا آبَارًا فَفِي، الْحَدِيثِ: أَتَيْنَا عَلَى بِئْرِ جُدْجُدٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الصّوَابُ: بِئْرٌ جُدّ أَيْ قَدِيمَةٌ، وَقَالَ الْهَرَوِيّ عَنْ الْيَزِيدِيّ: وَقَدْ يُقَالُ: بِئْرٌ جُدْجُدٍ قَالَ: وَهُوَ كَمَا يُقَالُ فِي الْكُمّ كُمْكُمٌ وَفِي الرّفّ رَفْرَفٌ.
وَذَكَرَ الْعَبَابِيدَ كَأَنّهُ جَمْعُ عَبّادٍ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ الْعَبَابِيبُ، كَأَنّهَا جَمْعُ: عُبَابٍ مِنْ عَبَبْت الْمَاءَ عَبّا، فَكَأَنّهَا- وَاَللهُ أَعْلَمُ- مِيَاهٌ تُعَبّ عُبَابًا أَوْ تُعَبّ عَبّا.
وَذَكَرَ الْفَاجّةَ بِفَاءِ وَجِيمٍ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ: الْقَاحّةُ بِالْقَافِ والحاء «2» .
__________
(1) فى المراصد: ضبط تعهن: بكسر أوله وهائه وتسكين العين وآخره نون اسم عين ماء على ثلاثة أميال من السقيا بين مكة والمدينة. وفى معجم البلدان روى بفتح أوله كسر هائه وبضم أوله.
(2) هى- كما قال ابن هشام- فى المراصد، وأنها على ثلاث مراحل من المدينة قبل السقيا، وقيل: موضع بين الجحفة وقديد.(4/250)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قِصّةُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
وَذَكَرَ قُدُومَهُمْ عَلَى أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ، وَهُوَ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَجَرٍ الْأَسْلَمِيّ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ: ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الدّارَقُطْنِيّ، وَالْمَعْرُوفُ، ابْنُ حُجْرٍ بِضَمّ الْحَاءِ، وَقَدْ تَقَدّمَ فِي الْمَبْعَثِ ذِكْرُ مَنْ اسْمُهُ حُجْرٌ «1» فِي أَنْسَابِ قُرَيْشٍ، وَمَنْ يُسَمّى: حُجْرًا مِنْ غَيْرِهِمْ بِسُكُونِ الْجِيمِ، وَمَنْ يُسَمّى الْحِجْرَ بِكَسْرِ الْحَاءِ، فَانْظُرْهُ هُنَالِكَ عِنْدَ ذِكْرِ خَدِيجَةَ وَأُمّهَا، وَلَا يُخْتَلَفُ فِي أوس بن ابن حُجْرٍ أَنّهُ بِفَتْحَتَيْنِ.
وَذَكَرَ أَنّ أَوْسًا حَمَلَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على حمل لَهُ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرّدّاءِ، وَفِي رِوَايَةِ يونس بن بكير عن ابن إسحق يُقَالُ لَهُ:
الرّدّاحُ، وَفِي الْخَطّابِيّ أَنّهُ قَالَ لِغُلَامِهِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَسْعُودُ بْنُ هُنَيْدَةَ: اُسْلُكْ بِهِمْ الْمَخَارِقَ بِالْقَافِ، قَالَ: وَالصّحِيحُ الْمَخَارِمَ، يَعْنِي: مَخَارِمَ الطّرِيقِ، وَفِي النّسَوِيّ أَنّ مَسْعُودًا هَذَا قَالَ: فَكُنْت آخُذُ بِهِمْ أَخْفَاءَ الطّرِيقِ. وَفِقْهُ هَذَا أَنّهُمْ كَانُوا خَائِفِينَ، فَلِذَلِكَ كَانَ يَأْخُذُ بهم إخفاء الطريق ومخارقه، وذكر
__________
(1) فى الاشتقاق: أوس بن حجر بفتح الحاء والجيم، وفيه أيضا: «وقد سمت العرب حجرا وحجرا، وحجيرا» ص 207. وفى القاموس: «حجر بالضم وبضمتين: والد امرىء القيس وجده الأعلى وابن ربيعة، وابن عدى وابن النعمان وابن يزيد صحابيون، وابن العنبس: تابعى وبالتحريك والد أوس الصحابى، ووالد الجاهل الشاعر، ووالد أنس المحدث، أوهما بالفتح.(4/251)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النّسَوِيّ فِي حَدِيثِ مَسْعُودٍ هَذَا: أَنّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لَهُ: ائْتِ أَبَا تَمِيمٍ، فَقُلْ لَهُ:
يَحْمِلُنِي عَلَى بَعِيرٍ وَيَبْعَثُ إلَيْنَا بِزَادِ، وَدَلِيلٍ يَدُلّنَا، فَفِي هَذَا أَنّ أَوْسًا كَانَ يُكَنّى أَبَا تَمِيمٍ، وَأَنّ مَسْعُودًا هَذَا قَدْ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَفِظَ عَنْهُ حَدِيثًا فِي الْخَمْسِ وَحَدِيثًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ ذَكَرَهُ النّسَوِيّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، غَيْرَ أَنّهُ قَالَ فِي مَسْعُودٍ هَذَا: غُلَامُ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيّ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: قَدْ قِيلَ فِي أَوْسٍ هَذَا إنّ اسْمَهُ تَمِيمٌ، وَيُكَنّى أَبَا أَوْسٍ فَاَللهُ أَعْلَمُ «1» .
وَرُوِيَ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِمَسْعُودِ حِينَ انْصَرَفَ إلَى سَيّدِهِ مرسيدك أَنْ يَسِمَ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا قَيْدَ الْفَرَسِ «2» ، فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ سِمَتُهُمْ فِي إبِلِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ قَصِيدَةِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ أَسْمَاءَ السّمَاتِ كَالْعِرَاضِ وَالْخِبَاطِ وَالْهِلَالِ، وَذَكَرْنَا قَيْدَ الْفَرَسِ، وَأَنّهُ سِمَةٌ فِي أعناقها، وقول الراجز:
__________
(1) قصة أوس لم يروها أحد من أصحاب الكتب السنة، فالذين رووها هم البغوى وابن السكن وابن مندة أو الطبرانى. وقصة مسعود بن هنيدة عند الحاكم فى الأكليل. واسم أوس يتردد فى الإصابة تميم بن أوس بن حجر أنى أوس الأسلمى وبين أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَجَرٍ الْأَسْلَمِيّ ويكنى: أبا تميم وربما ينسب إلى جده فقيل: أوس بن حجر وفيه عمن روى عنهم أنه لقى النبى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وهما متوجهان إلى المدينة بقحد وات بين الجحفة وهرشى، وهما على جمل، فحملهما على فحل له من إبله. وأوس من أهل العرج. وقال ابن حبان والطبرانى: له صحبة، ولم يخرج حديثه.
(2) صورة هذه السمة: حلقتان بينهما مدة «مفردات ابن الأثير واللسان» وذكر الجوهرى أنها سمة تكون فى عنق البعير على صورة القيد.(4/252)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كُومٌ عَلَى أَعْنَاقِهَا قَيْدُ الْفَرَسْ ... تَنْجُو إذَا اللّيْلُ تَدَانَى وَالْتَبَسْ
مَتَى قَدِمَ الرّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ؟
كَانَ قُدُومُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، وَفِي شَهْرِ أَيْلُولَ مِنْ شُهُورِ الْعَجَمِ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ قَدِمَهَا لِثَمَانِ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيّ: خَرَجَ مِنْ الْغَارِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ أَوّلَ يَوْمٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، ودخل المدينة يوم الجمعة لثنتى عشرة منه، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ أَوْسَطَ أَيّامِ التّشْرِيقِ «1» .
كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ نُزُولَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ، وَكُلْثُومٌ هَذَا كُنْيَتُهُ أَبُو قيس، وهو كلثوم بن الهدم ابن امرىء الْقَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ «2» ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا مَاتَ بَعْدَ قُدُومِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ بِيَسِيرِ، هُوَ أَوّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْأَنْصَارِ بَعْدَ قُدُومِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ مَاتَ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بِأَيّامِ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، وَأَنّهُ كَانَ يُقَالُ لِبَيْتِهِ: بَيْتُ الْعُزّابِ هَكَذَا رُوِيَ، وَصَوَابُهُ: الأعزب؛ لأنه
__________
(1) فى الفتح: ليلة وحول تاريخ دخوله المدينة يدور خلاف شديد. انظر ص 350 وما بعدها ح 1 شرح المواهب للزرقانى.
(2) فى جمهرة ابن حزم يرد بعد الحارث بن زيد ما يأتى: بن عبيد بن زيد إلخ.(4/253)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جَمْعُ عَزَبٍ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَزَبٌ، وَامْرَأَةٌ عَزَبّ، وَقَدْ قِيلَ: امْرَأَةٌ عَزَبَةٌ بِالتّاءِ «1» .
تَأْسِيسُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ تَأْسِيسَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَأَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسّسَهُ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمّ انْتَقَلَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَسّسَهُ، كَانَ هُوَ أَوّلَ مَنْ وَضَعَ حَجَرًا فِي قِبْلَتِهِ، ثُمّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِحَجَرِ فَوَضَعَهُ، ثُمّ جَاءَ عُمَرُ بِحَجَرِ فَوَضَعَهُ إلَى حَجَرِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمّ أَخَذَ النّاسُ فِي الْبُنْيَانِ. فِي الْخَطّابِيّ عَنْ الشّمُوسِ بِنْتِ النّعْمَانِ [بْنِ عامر ابن مُجْمِعٍ الْأَنْصَارِيّةِ] قَالَتْ: كَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ يَأْتِي بِالْحَجَرِ قَدْ صَهَرَهُ إلَى بَطْنِهِ، فَيَضَعُهُ فَيَأْتِي الرّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُقِلّهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ حَتّى يَأْمُرَهُ أَنْ يَدَعَهُ وَيَأْخُذَ غَيْرَهُ. يُقَالُ: صَهَرَهُ وَأَصْهَرَهُ إذَا أَلْصَقَهُ بِالشّيْءِ، وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الصّهْرِ فِي الْقَرَابَةِ «2» ، وَهَذَا الْمَسْجِدُ أَوّلُ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ، وَفِي أَهْلِهِ نَزَلَتْ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا التّوْبَةُ: 108 فَهُوَ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الّذِي أُسّسَ عَلَى التّقْوَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْمَسْجِدِ الّذِي أُسّسَ عَلَى التّقْوَى، فَقَالَ: هُوَ
__________
(1) فى اللسان: رجل عزب ومعذابة لا أهل له، ونظيره: مطرابة. ومطواعة. وامرأة عزبة وعزب: لا زوج لها ... والجمع أعزاب والعزاب الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء.
(2) فى رواية أخرى: فبصره إلى بطنه: أى أضافه وأماله.(4/254)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَسْجِدِي هَذَا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: وَفِي الْآخَرِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ قَالَ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ حِينَ نَزَلَتْ: «لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقوى» مَا الطّهُورُ الّذِي أَثْنَى اللهُ بِهِ عَلَيْكُمْ؟ فَذَكَرُوا لَهُ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ بَعْدَ الِاسْتِجْمَارِ بِالْحَجَرِ، فقال: هوذا كم فَعَلَيْكُمُوهُ» «1» وَلَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ تَعَارُضٌ كِلَاهُمَا أُسّسَ عَلَى التّقْوَى، غَيْرَ أَنّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: مِنْ أول يوم يَقْتَضِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ لِأَنّ تَأْسِيسَهُ كَانَ فِي أَوّلِ يَوْمٍ مِنْ حُلُولِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَارُ مُعْجِزَتِهِ وَالْبَلَدُ الّذِي هُوَ مُهَاجَرُهُ.
التّارِيخُ الْعَرَبِيّ:
وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنّهُ لَيْسَ أَوّلَ الْأَيّامِ كُلّهَا، وَلَا أَضَافَهُ إلَى شَيْءٍ فِي اللّفْظِ الظّاهِرِ [فَتَعَيّنَ أَنّهُ أُضِيفَ إلَى شَيْءٍ مُضْمَرٍ] فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ صِحّةُ مَا اتّفَقَ عَلَيْهِ الصّحَابَةُ مَعَ عُمَرَ حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي التّارِيخِ، فَاتّفَقَ رَأْيُهُمْ أَنْ يَكُونَ التّارِيخُ مِنْ عَامِ الْهِجْرَةِ لِأَنّهُ الْوَقْتُ الّذِي عَزّ فِيهِ الْإِسْلَامُ، وَاَلّذِي أُمّرَ فِيهِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَسّسَ الْمَسَاجِدَ. وَعَبَدَ اللهَ آمِنًا كَمَا يُحِبّ «2» ، فَوَافَقَ رَأْيَهُمْ هَذَا ظَاهِرُ التّنْزِيلِ، وَفَهِمْنَا الْآنَ بفعلهم أن قوله
__________
(1) ورد هذا فى روايات بينها وبين بعضها خلاف فى الطبرانى وأحمد وابن خزيمة. وقد أخرج عبد الرزاق والبخارى عن عروة وابن عائذ عن ابن عباس: الذى بنى فيهم المسجد الذى أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف. ولكن ورد فى مسلم وأحمد والترمذى عن أبى سعيد الخدرى أنه مسجد المدينة، وبهذا جرم الإمام مالك.
(2) نقل الحافظ فى الفتح عبارة السهيلى، فقال: «وأفاد السهيلى أن الصحابة اخذوا التاريخ بالهجرة من قوله تعالى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ لأن من. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقا، فتبين أنه أضيف إلى شىء مضمر، وهو أول الزمن الذى عز فيه الإسلام، وعبد فيه النبى «ص» ربه آمنا، وابتدأ بناء المسجد، فوافق رأى الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى من أول يوم أنه أول أيام التاريخ الإسلامى. كذا قال- يعنى السهيلى» ويعقب الحافظ على هذا بقوله: «والمتبادر أن معنى قوله من أول يوم أى دخل فيه النبى «ص» وأصحابه المدينة، والله أعلم» . ويقول ابن المنير: «كلام السهيلى تكلف وتعسف وخروج عن تقدير الأقدمين، فإنهم قدروه: من تأسيس أول يوم فكأنه قيل: من أول يوم وقع فيه التأسيس وهذا تقدير تقتضيه العربية» ص 353 ج 1 المواهب. وعن أمر التاريخ روى الحاكم فى الإكليل عن الزهرى أن النبى «ص» هو الذى أمر بالتاريخ وهو بقباء. والحديث معضل والمشهور خلافه. وأخرج أبو نعيم الفضل بن دكين فى تاريخه ومن طريقه الحاكم من طريق الشعبى أن أبا موسى كتب إلى عمر إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم، أرخ بالمبعث، وبعضهم: بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها أو بالمحرم، لأنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه، وذلك سنة سبع عشرة، وقيل كما روى ابن خيثمة عن ابن سيرين سنة سبع عشرة. وقيل: ست عشرة فى ربيع الأول ... والذى يفهم من مجموع الآثار أن الذى أشار بالمحرم عمر وعثمان وعلى ... وقيل: إن أول من أرخ يعلى بن أمية حين كان باليمن حكاه مغلطاى، ورواه أحمد بإسناد صحيح عن يعلى لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلى. ويقول الزرقانى: «ولم يؤرخوا بالمولد ولا بالمبعث، لأن وقتهما لا يخلو من نزاع من حيث الاختلاف فيهما، ولا بالوفاة النبوية لما يقع فى تذكره من الأسف والتألم على فراقه ص 214 ح 7 فتح البارى وص 352 ح 1 شرح المواهب وأقول من يتدبر كلمة عمر رضى الله عنه فى وصف الهجرة يعرف لماذا اختاروا التاريخ بالهجرة دون غيره، وعن التاريخ العربى انظر كتاب المحبر لمحمد بن حيلب ص 5 ط الهند.(4/255)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سُبْحَانَهُ مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ أَنّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هو أول أيام التاريخ الذى يورّخ بِهِ الْآنَ، فَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذُوا هَذَا مِنْ الْآيَةِ، فَهُوَ الظّنّ بِأَفْهَامِهِمْ، فَهُمْ أَعْلَمُ النّاسِ بِكِتَابِ اللهِ وَتَأْوِيلِهِ، وَأَفْهَمُهُمْ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ إشَارَاتٍ وَإِفْصَاحٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ، فَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونُوا وَأَشَارَ إلَى صِحّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ، إذْ لَا يُعْقَلُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
فَعَلْته أَوّلَ يَوْمٍ إلّا بِإِضَافَةِ إلَى عَامٍ مَعْلُومٍ أَوْ شَهْرٍ مَعْلُومٍ، أَوْ تَارِيخٍ مَعْلُومٍ، وَلَيْسَ هَاهُنَا إضَافَةٌ فِي الْمَعْنَى إلّا إلَى هَذَا التّارِيخِ الْمَعْلُومِ لِعَدَمِ الْقَرَائِنِ الدّالّةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ قَرِينَةِ لَفْظٍ أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ فَتَدَبّرْهُ فَفِيهِ مُعْتَبَرٌ لِمَنْ اذّكّرَ وَعِلْمٌ لِمَنْ رَأَى بِعَيْنِ فُؤَادِهِ وَاسْتَبْصَرَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ.
مِنْ وَدُخُولُهَا عَلَى الزّمَانِ:
وَلَيْسَ يَحْتَاجُ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ إلَى إضْمَارٍ كَمَا قَرّرَهُ بَعْضُ النّحَاةِ: مِنْ تَأْسِيسِ أَوّلِ يَوْمٍ، فِرَارًا مِنْ دُخُولِ مِنْ عَلَى الزّمَانِ، وَلَوْ لَفَظَ بِالتّأْسِيسِ لَكَانَ مَعْنَاهُ مِنْ وَقْتِ تَأْسِيسِ أَوّلِ يَوْمٍ، فَإِضْمَارُهُ لِلتّأْسِيسِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَمِنْ تَدْخُلُ عَلَى الزّمَانِ، وَغَيْرِهِ، فَفِي التّنْزِيلِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَالْقَبْلُ وَالْبَعْدُ زَمَانٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَا مِنْ دَابّةٍ إلّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ «1» يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ الشّمْسُ إلَى أَنْ تَغْرُبَ، وَفِي شعر النابغة [فى وصف سيوف] :
__________
(1) يروى: مسيخة أى مصغية.(4/257)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تُوُرّثْنَ مِنْ أَزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمَةَ ... إلَى الْيَوْمِ قد جرّ بن كلّ التّجارب «1»
__________
(1) جاء فى مغنى اللبيب عن من ما يأتى تأتى على خمسة عشر وجها أحدها: ابتداء الغاية، وهو الغالب عليها حتى ادعى جماعة أن سائر معانيها راجعة إليه، وتقع لهذا المعنى فى غير الزمان نحو: من المسجد الحرام. إنه من سليمان قال الكوفيون والأخفش والمبرد وابن درستويه: وفى الزمان أيضا بدليل: من أول يوم، وفى الحديث: فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة. وقال النابغة:
تخيرن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب
وقيل: التقدير من مضى أزمان يوم حليمة، ومن تأسيس أول يوم، ورده السهيلى بأنه لو قيل هكذا لاحتيج إلى تقدير الزمان» وعلق الأمير فى حاشيته على هذا بقوله: «الظاهر أنه لا رد وأنه لا مانع من جعله نفس المضى» والتأسيس مبدأ كما تجعل الدار مبدأ للخروج، ولا حاجة لتقدير زمن، ثم معنى ابتداء الخروج مثلا من الدار أنه أول ما تحقق نشأ منها وكذا ابتداء العلم من زيد فى قولك أخذت العلم من زيد، وليس بلازم أن الخروج مثلا أمر ممتد له مبدأ لما أنه يقال: خرجت من الدار بمجرد مفارقته لها، وكذلك الابتداء فى إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة أى نداء ناشئا من يوم الجمعة، وأما من أول يوم، فالمراد بالتأسيس فيه: الوضع والبناء لا خصوص وضع الأساس الذى لا يمتد، وتوقف الرضى فى معنى الابتداء فى الآيتين، وقال: الظاهر أنها بمعنى فى، ونيابة حروف الجر بعضها عن بعض غير عزيزة، ثم قال: الظاهر مذهب الكوفيين، وأنها تأتى للابتداء فى الزمان إذ لا مانع من قولك صمت من أول الشهره إلى آخره. ونمت من أول الليل إلى آخره» وأقول إن من تفيد ابتداء الغاية المكانية باتفاق من البصريين والكوفيين، بدليل أن الغاية تنتهى بعدها. ويرى الكوفيون والأخفش والمبرد وابن درستويه وبعض البصريين أنها تفيد أيضا ابتداء الغاية الزمانية. والشاهد ما ذكر والحديث المروى فى البخارى: فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، وقول بعض العرب الذى رواه الأخفش فى المعانى: من الآن إلى الغد:(4/258)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تقد السّلوقىّ المضاعف نسجه ... ويوقدون بِالصّفّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ]
وَبَيْنَ مِنْ الدّاخِلَةِ عَلَى الزّمَانِ، وَبَيْنَ مُنْذُ فَرْقٌ بَدِيعٌ قَدْ بَيّنّاهُ فى شرح آية الوصية «1» .
__________
والبيت للنابغة الذبيانى كما قال من قصيدته التى مدح بها النعمان وأولها:
كلينى لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطىء الكواكب
والرواية المشهورة: تخيرن بدلا من تورثن. والشاهد فى البيت قوله: من أزمان حيث جاءت من هنا لابتداء الغاية أى المسافة فى الزمان، وقد أجاب البصريون القائلون بأنها لابتدء الغاية فى المكان فقط عن هذا بقولهم إن فى البيت حذف مضاف: أى من استقرار زمان يوم حليمة ورد عليهم بأن الأصل عدم الحذف. ويوم حليمة نسبة إلى حليمة بنت الحارث بن أبى شمر ملك غسان ولخم، وكان أبوها وجه جيشا إلى المنذر بن ماء السماء، فأخرجت لهم طيبا فطيبتهم، فقالوا ما يوم حليمة بسر. يضرب مثلا فى كل أمر متعالم مشهور. وقال المبرد: هو أشهر أيام العرب. وفى هذا اليوم قتل المنذر، وقيل قتل فى يوم عين أباغ وهو يوم وقعة بين غسان ولخم أيضا «أنظر مجمع الأمثال رقم 3814 ح 1 السنة المحمدية والتصريح على التوضيح لابن هشام والأزهرى ص 7 ح 2 ط مصطفى محمد، ص 205 شرح شواهد ابن عقيل للشيخ عبد المنعم الجرجاوى ص 1914 م ص 13 ح 2 من مغنى اللبيب لأبى محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن عبد الله بن هشام ط 1328 هـ» .
(1) أنظر معنى منذ ومذ فى مغنى اللبيب تحت المادة، وفى نوادر أبى زيد: «منذ ومذ لابتداء الغاية فى الزمان، ومن لابتداء الغاية فى سائر الأشياء والزمان وإن انفرد بمنذ ومذ، فالأصل فيه أن تدخل عليه من» ص 21»(4/259)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَحَلْحَلَ وَتَلَحْلَحَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ لِقَاءَ كُلّ قَبِيلَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَهُ يَقُولُونَ: هَلُمّ إلَيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ، فَيَقُولُ: خَلّوا سَبِيلَهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ حَتّى بَرَكَتْ بِمَوْضِعِ مَسْجِدِهِ، وَقَالَ تَحَلْحَلَتْ وَرَزَمَتْ وَأَلْقَتْ بِجِرَانِهَا أَيْ: بِعُنُقِهَا، وَفَسّرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَلَى تَلَحْلَحَ أَيْ: لَزِمَ مَكَانَهُ، وَلَمْ يَبْرَحْ، وَأَنْشَدَ:
أُنَاسٌ إذَا قِيلَ انْفِرُوا قَدْ أَتَيْتُمْ ... أَقَامُوا عَلَى أَثْقَالِهِمْ وَتَلَحْلَحُوا
قَالَ: وَأَمّا تَحَلْحَلَ بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عَلَى اللّامِ فَمَعْنَاهُ: زَالَ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَهَذَا الّذِي قَالَهُ قَوِيّ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ، فَإِنّ التّلَحْلُحَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ لَحِحَتْ عَيْنُهُ: إذَا الْتَصَقَتْ، وهو ابن عمّى لحّا «1» .
__________
(1) فى اللسان «لححت عينه تلحح لححا بإظهار التضعيف، وهو أحد الأحرف التى أخرجت على الأصل من هذا الضرب منبهة على أصلها ودليلا على أولية حالها، والإدغام لغة» وفى إصلاح المنطق لابن السكيت: «كل ما كان على فعلت ساكنة التاء من ذوات التضعيف، فهو مدغم نحو: صمت المرأة وأشباهه إلا أحرفا جاءت نوادر فى إظهار التضعيف، وهى: لححت عينه: إذا النصقت، ومنه قيل: هو ابن عمى لحا، وهو ابن عم لح ولح. وقد مششت الدابة وصككت، وقد ضبب البلد: إذا كثر ضبابه، وقد ألل السقاء: إذا تغيرت ريحه، وقد قطط شعره» ص 242 إصلاح المنطق لابن السكيت ط المعارف وفى اللسان: «وهو ابن عم لح فى النكرة بالكسرة لأنه نعت للعم، وابن عمى لحا فى المعرفة أى: لازق النسب من ذلك، ونصب لحا على الحال، لأن ما قبله معرفة، والواحد والاثنان والجميع والمؤنث فى هذا سواء بمنزلة الواحد. وقال اللحيانى: هما ابنا عم لح ولحا وهما ابنا خالة، ولا يقال: هما ابنا خال لحا، ولا ابنا عمة لحا لأنهما(4/260)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمّا التّحَلْحُلُ: فَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْحَلّ وَالِانْحِلَالِ بَيّنٌ، لِأَنّهُ انْفِكَاكُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنّ الرّوَايَةَ فِي سِيرَةِ ابْنِ إسْحَاقَ: تَحَلْحَلَتْ بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عَلَى اللّامِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْنَى إلّا أَنْ يَكُونَ مَقْلُوبًا مِنْ تَلَحْلَحَتْ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: لُصِقَتْ بِمَوْضِعِهَا، وَأَقَامَتْ عَلَى الْمَعْنَى الّذِي فَسّرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي تَلَحْلَحَتْ.
وَأَمّا قَوْلُهُ: وَرَزَمَتْ فَيُقَالُ: رَزَمَتْ النّاقَةُ رُزُومًا إذَا أَقَامَتْ مِنْ الْكَلَالِ وَنُوقٌ رَزْمَى، وَأَمّا أَرْزَمَتْ بِالْأَلِفِ، فَمَعْنَاهُ: رَغَتْ، وَرَجَعَتْ فِي رُغَائِهَا، وَيُقَالُ مِنْهُ: أَرْزَمَ الرّعْدُ، وَأَرْزَمْت الرّيحُ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ السّيرَةِ: أَنّهَا لَمّا أَلْقَتْ بِجِرَانِهَا فِي دَارِ بَنِي النّجّارِ جَعَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، وَهُوَ جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ يَنْخُسُهَا رَجَاءَ أَنْ تَقُومَ فَتَبْرُكَ فِي دَارِ بَنِي سَلِمَةَ، فَلَمْ تَفْعَلْ.
الْمِرْبَدُ وَصَاحِبَاهُ:
وَقَوْلُهُ كَانَ الْمَسْجِدُ مِرْبَدًا. الْمِرْبَدُ وَالْجَرِينُ [وَالْجُرْنُ وَالْمِجْرَنُ] وَالْمِسْطَحُ «1» وَهُوَ بِالْفَارِسِيّةِ: مِشْطَاحٌ وَالْجُوخَارُ وَالْبَيْدَرُ وَالْأَنْدَرُ لُغَاتٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِلْمَوْضِعِ الّذِي يُجْعَلُ فِيهِ الزّرْعُ وَالتّمْرُ لِلتّيْبِيسِ، وَأَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمِسْطَحِ [لِتَمِيمِ بن مقبل] :
__________
مفترقان، إذ هما رجل وامرأة، وإذا لم يكن ابن العم لحا، وكان رجلا من العشيرة قلت: هو ابن عم الكلالة، وابن عم كلالة، هذا والبيت الذى أنشده بن قتيبة هو لابن مقبل وروايته فى اللسان: بحى إذا قيل: اظعنوا ... إلخ.
(1) المسطح تكسر ميمه وتفتح.(4/261)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَرَى الْأَمْعَزَ الْمَحْزُوّ فِيهِ كَأَنّهُ ... مِنْ الْحَرّ فِي نَحْرِ الظّهِيرَةِ مِسْطَحُ «1»
قَالَ: وَالْمَحْزُوّ مِنْ: حزؤت الشّيْءَ: إذَا أَظْهَرْته. وَالْمِسْطَحُ هُوَ بِالْفَارِسِيّةِ: مِشْطَحٌ، وَأَمّا الْمِسْطَحُ الّذِي، هُوَ عُودُ الْخِبَاءِ فَعَرَبِيّةٌ.
وَذَكَرَ أَنّ ذَلِكَ الْمِرْبَدَ كَانَ لِسَهْلِ وَسُهَيْلٍ ابنى عمرو يتيمين فى حجر معاذ بن عَفْرَاءَ وَلَمْ يَعْرِفْهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: كَانَا يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ «2» وَهُمَا ابْنَا رَافِعِ بْنِ عمرو بن أبى عمرو بن عبيد ابن ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ شَهِدَ سُهَيْلٌ مِنْهُمَا بَدْرًا، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ يَشْهَدُ سَهْلٌ بَدْرًا، وَشَهِدَ غَيْرَهَا وَمَاتَ قَبْلَ أَخِيهِ سُهَيْلٍ.
حَوْلَ بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ بُنْيَانَ الْمَسْجِدِ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ، وَفِي الصّحِيحِ أَنّهُ قَالَ: يَا بَنِي النّجّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ «3» [هَذَا] حِينَ أَرَادَ أَنْ يتخذه مسجدا، [فقالوا: لا، والله
__________
(1) روايته فى اللسان:
إذا الأمعز المحزو آض كأنه ... من الحر فى حد الظهيرة مسطح
وقد ذكره اللسان لبيان أن المسطح معناه: حصير يسف من خوص الدوم لا أن المسطح هو البيدر. والأمعز: الأرض الحزنة الغليظة ذات الحجارة أو المكان الصلب الكثير الحصى وقد فسر الأصمعى المربد بقوله: كل شىء حبست فيه الإبل أو الغنم، وبه سمى مربد البصرة، لأنه كان موضع سوق الإبل.
(2) فى رواية أبى ذر وحده: سعد بن زرارة، وفى رواية الباقين: أسعد، وهو الوجه: لأن أخاه سعدا تأخر إسلامه. وحكى الزبير أنهما كانا فى حجر أبى أيوب.
(3) فى رواية للبخارى: ثامنونى حائطكم.(4/262)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إلّا إلَى اللهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصّحِيحِ أَيْضًا: «ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَك يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمّ بَنَاهُ مَسْجِدًا] ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِفِقْهِ، وَهُوَ أَنّ الْبَائِعَ أَوْلَى بِتَسْمِيَةِ الثّمَنِ الّذِي يَطْلُبُهُ، قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ نَخْلٌ وَخِرَبٌ وَمَقَابِرُ مُشْرِكِينَ، فَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ وَبِالْخِرَبِ «1» فَسُوّيَتْ، وَبِالنّخْلِ فَقُطِعَتْ.
وَيُرْوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَخْلٌ وَحَرْثٌ مَكَانَ قَوْلِهِ: وَخِرَبٌ، وَرُوِيَ عَنْ الشّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْأَنْصَارِيّةِ قَالَتْ: كَانَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ بَنَى الْمَسْجِدَ يَؤُمّهُ جِبْرِيلُ إلَى الْكَعْبَةِ وَيُقِيمُ له القبلة.
__________
(1) بكسر الخاء وفتح الراء، وقال الخطابى: أكثر الرواة بالفتح، ثم الكسر، وحدثناه الخيام بالكسر ثم الفتح، ثم حكى احتمالات منها: الخرب: بضم أوله وسكون ثانيه، وهى الخروق المستديرة فى الأرض، والجرف بكسر الجيم وفتح الراء: ما تجرفه السيول وتأكله من الأرض، والحدب: المرتفع من الأرض بفتح الحاء والدال. قال: وهذا لائق بقوله: فسويت لأنه إنما يسوى المكان المحدوب وكذا الذى جرفته السيول، وأما الخراب، فيا بنى ويعمر دون أن يصلح ويسوى ... ورد الحافظ فى الفتح عليه: وما المانع من تسوية الخراب بأن يزال ما بقى منه، ويسوى أرضه، ولا ينبغى الالتفات إلى هذه الاحتمالات مع توجيه الرواية الصحيحة. «ص 203 ح 7 فتح البارى ط 1348. وفى بعض الروايات عن معمر عن الزّهْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم أمر أبا بكر أن يعطيهما ثمنه وقال غير معمر: أعطاهما عشرة دنانير، وعند الزبير أن أبا أيوب أرضاهما عن ثمنه.(4/263)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ الرّجُلِ لِعَمّارِ: قَدْ سَمِعْت ما تقول يابن سُمَيّةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ سَمّى ابْنُ إسْحَاقَ الرّجُلَ، وَكَرِهَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّ يُسَمّيَهُ كَيْ لَا يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكْرُوهِ، فَلَا يَنْبَغِي إذًا الْبَحْثُ عَلَى اسْمِهِ.
سُمَيّةُ أُمّ عَمّارٍ:
وَسُمَيّةُ: أُمّ عَمّارٍ وَقَدْ تَقَدّمَ التّعْرِيفُ بِهَا فِي الْهِجْرَةِ الْأُولَى وَنَبّهْنَا عَلَى غَلَطِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِيهَا فَإِنّهُ جَعَلَهَا وَسُمَيّةَ أُمّ زِيَادٍ وَاحِدَةً وَسُمَيّةُ أُمّ زِيَادٍ كَانَتْ لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ الْمُتَطَبّبِ، وَالْأُولَى: مَوْلَاةٌ لِبَنِي مَخْزُومٍ وَهِيَ سُمَيّةُ بِنْتُ خِبَاط «1» ، كَمَا تَقَدّمَ، وَكَانَ أَهْدَى سُمَيّةَ إلَى الْحَرْثِ رَجُلٌ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ: يُقَالُ لَهُ أَبُو جَبْرٍ، وَذَلِكَ أَنّهُ عَالَجَهُ مِنْ دَاءٍ كَانَ بِهِ فَبَرِئَ، فَوَهَبَهَا لَهُ، وَكَانَتْ قَبْلَ أَبِي جَبْرٍ لِمَلِكِ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَفَدَ عَلَيْهِ أَبُو جَبْرٍ، فَأَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمَلِكُ ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ «2» ، وَفِي جَامِعِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ أَنّ عَمّارًا كَانَ يَنْقُلُ فى بنيان المسجد لبنتين، لبنة
__________
(1) فى الإصابة: سمية بنت خباط بمعجمة مضمومة، وموحدة ثقيلة، ويقال: بمثناة- أى ياء- تحتانية، وعند الفاكهى: سمية بنت خبط بفتح أوله بغير ألف كانت سابعة سبعة فى الإسلام. وما يذكره السهيلى ذكره أبو عمر. أما سمية أم زياد فذكرها ابن حجر فى القسم الثالث، او قال: ولم يرد ما يدل على أنها رأت النبى «ص» وأنها ولدت للحارث بن كلدة التى كان يطؤها بملك اليمين: نافعا ونفيعا. فانتفى منه لأنه رآه أسود، ثم وهبها لزوجته، فزوجتها عبدا روميا لها، فولدت له زيادا فأعتقته صفية زوجة الحارث.
(2) فى الإصابة أن الكوى اليشكرى سبى سمية من الروم، ثم وهبها للحارث ابن كلدة ووهم ابن قتيبة هذا هو فى كتابه المعارف ص 76 ط 1300 هـ.(4/264)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْهُ، وَلَبِنَةً عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالنّاسُ يَنْقُلُونَ لَبِنَةً وَاحِدَةً، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلنّاسِ أَجْرٌ وَلَك، أَجْرَانِ، وَآخِرُ زَادِك مِنْ الدّنْيَا شَرْبَةُ لَبَنٍ، وَتَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فَلَمّا قُتِلَ يَوْمَ صِفّينَ دَخَلَ عَمْرٌو عَلَى مُعَاوِيَةَ فَزِعًا، فَقَالَ: قُتِلَ عَمّارٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: فَمَاذَا؟ فَقَالَ عَمْرٌو:
سَمِعْت رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ دُحِضْت فِي بَوْلِك «1» ، أَنَحْنُ قَتَلْنَاهُ؟ إنّمَا قَتَلَهُ من أخرجه «2» ؟!
__________
(1) زلقت.
(2) وروى البيهقى فى الدلائل هذا الحديث عن عبد الرحمن السلمى أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول لأبيه عمرو: قد قتلنا هذا الرجل، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه ما قال، قال: أى رجل؟ قال: عمار بن ياسر، أما تذكر يوم بنى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَسْجِدَ فكنا نحمل لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين إلخ وهذا يقتضى أن هذا البناء كان فى الخامسة من الهجرة أو بعدها، لأن عمرا أسلم فى الخامسة!! ويقول الإمام ابن تيمية تعليقا على حديث: تقتلك الفئة الباغية «تكلم فيه بعضهم، وبعضا تأوله على أن الباغى: الطالب، وهذا لا شىء، وأما السلف كأبى حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم، فيقولون لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية، فإن الله لم يأمر بقتالها ابتداء، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما، ثم: إن بغت إحداهما قوتلت، ولهذا كان هذا القتال عند أحمد ومالك قتال فتنة؛ وأبو حنيفة يقول: لا يجوز قتال البغاة حتى يبدؤا بقتال الإمام، وهؤلاء لم يبدؤا» وفى مكان آخر يقول: «كان على ومعاوية رضى الله عنهما أطلب لكب الدماء من أكثر المقتتلين، لكن غلبا فيما وقع، والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء نارها، وكان فى العسكرين مثل الأشتر النخعى، وهاشم بن عتبة المرقال، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأبى الأعور السلمى، ونحوهم من المحرضين على القتال. قوم ينتصرون لعثمان غاية الانتصار، وقوم ينفرون عنه، وقوم ينتصرون لعلى، وقوم ينفرون عنه،(4/265)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إضَافَةُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ إلَى عَمّارٍ:
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي عَمّارٍ، وَهُوَ: أَوّلُ مَنْ بَنَى لِلّهِ مَسْجِدًا عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَيُقَالُ: كَيْفَ أَضَافَ إلَى عَمّارٍ بُنْيَانَ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ بَنَاهُ مَعَهُ النّاسُ؟ فَيَقُولُ إنّمَا عَنَى بِهَذَا الْحَدِيثِ مَسْجِدَ قُبَاءٍ، لِأَنّ عَمّارًا هُوَ الّذِي أَشَارَ عَلَى النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبُنْيَانِهِ، وَهُوَ جَمَعَ الْحِجَارَةَ لَهُ، فَلَمّا أَسّسَهُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَتَمّ بُنْيَانَهُ عَمّارٌ.
أَطْوَارُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ:
كَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ: وَبُنِيَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسُقِفَ بِالْجَرِيدِ وَجُعِلَتْ قِبْلَتُهُ مِنْ اللّبِنِ، وَيُقَالُ: بَلْ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْضُودَةٍ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَجُعِلَتْ عمده من جذوع
__________
وقتال الفتنة مثل قتال الجاهلية لا تنضبط مقاصد أهله واعتقاداتهم» ص 263 ولقد حاول ملك الروم استغلال معركة صفين، فحشد جيوشا كثيرة وحاول الاقتراب من الحدود الإسلامية، فكتب إليه معاوية رضى الله عنه: «والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك، لأصطلحن أنا وابن عمى عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت» فجبن ملك الروم ح 8 ص 189 البداية والنهاية لابن كثير. ويقول الأستاذ محب الخطيب: «وكان معاوية يعرف من نفسه أنه لم يكن منه البغى فى حرب صفين لأنه لم يردها، ولم يبتدئها، ولم يأت لها إلا بعد أن خرج على من الكوفة، وضرب معسكره فى النخيلة ليسير إلى الشام، ولذلك لما قتل عمار قال معاوية: إنما قتله من أخرجه» انظر ص 251. ص 263 من كتاب المنتقى للامام الذهبى الذى اختصر فيه كتاب منهاج السنة للامام ابن تيمية.(4/266)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النّخْلِ، فَنُخِرَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَجَرّدَهَا، فَلَمّا كَانَ عُثْمَانُ بَنَاهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ بِالْقَصّةِ وَسَقَفَهُ بِالسّاجِ «1» ، وَجَعَلَ قِبْلَتَهُ مِنْ الْحِجَارَةِ، فَلَمّا كَانَتْ أَيّامُ بَنِي الْعَبّاسِ بَنَاهُ مُحَمّدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمُتَسَمّي بِالْمَهْدِيّ، وَوَسّعَهُ وَزَادَ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتّينَ وَمِائَةٍ، ثُمّ زَادَ فِيهِ الْمَأْمُونُ بْنُ الرّشِيدِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، وأثقن بُنْيَانَهُ، وَنَقَشَ فِيهِ: هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ الْمَأْمُونُ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ كَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهِ، ثُمّ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنّ أَحَدًا غَيّرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا أَحْدَثَ فِيهِ عَمَلًا.
بُيُوتُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَأَمّا بُيُوتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَكَانَتْ تِسْعَةً، بَعْضُهَا مِنْ جَرِيدٍ مُطَيّنٍ «2» بِالطّينِ وَسَقْفُهَا جَرِيدٌ، وَبَعْضُهَا مِنْ حِجَارَةٍ مَرْضُومَةٍ، بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، مُسَقّفَةٌ بِالْجَرِيدِ أَيْضًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ «3» : كُنْت أدخل بيوت النبى
__________
(1) القصة: الجص لغة حجازية، وتقصيص الدار: تجصيصها والساج: ضرب من الشجر يعظم جدا، ويذهب طولا وعرضا، وله ورق كبير، يتغطى الرجل بورقة منه فيقيه المطر، واحدته: ساجة «المعجم الوسيط» ورواية الصحيحين عن القبلة: «فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة» وعضادتا الباب: خشبتان منصوبتان مثبتتان فى الحائط على جانبيه ويقال إن معنى صف للنخل قبلة له: جعلها سوارى فى جهة القبلة، ليسقف عليها، كما فى الصحيح من أن عمده كانت خشب النخل.
(2) ينكر بعضهم هذه اللغة، ويقول، طانه من باب باع، فهو مطين بفتح فكسر.
(3) ذكر فى إعلام الساجد لمحمد بن عبد الله الزركشى أنه: الحسن البصرى وذكر أنه نقله عن السهيلى. انظر ص 224.(4/267)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ السّلَامُ، وَأَنَا غُلَامٌ مُرَاهِقٌ، فَأَنَالُ السّقْفَ بِيَدِي، وَكَانَتْ حُجَرُهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- أَكْسِيَةٌ مِنْ شَعْرٍ مَرْبُوطَةٌ فِي خَشَبٍ عَرْعَرٍ «1» وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيّ أَنّ بَابَهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- كَانَ يُقْرَعُ بِالْأَظَافِرِ، أَيْ لَا حِلَقَ لَهُ، وَلَمّا تُوُفّيَ أَزْوَاجُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ خُلِطَتْ الْبُيُوتُ وَالْحُجَرُ بِالْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمّا وَرَدَ كِتَابُهُ بِذَلِكَ ضَجّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالْبُكَاءِ، كَيَوْمِ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَكَانَ سَرِيرُهُ خَشَبَاتٌ مَشْدُودَةٌ بِاللّيفِ، بِيعَتْ زَمَنَ بَنِي أُمَيّةَ، فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ بُيُوتَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ إذَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ، فَهِيَ إضَافَةُ مِلْكٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ وَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى أَزْوَاجِهِ كَقَوْلِهِ: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فَلَيْسَتْ بِإِضَافَةِ مِلْكٍ، وَذَلِكَ أَنّ مَا كَانَ مِلْكًا لَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَلَيْسَ بِمَوْرُوثِ عَنْهُ «2» .
__________
(1) جنس أشجار وجنبات من فصيلة الصنوبريات. فيه أنواع تصلح للأخراج وللنزبين أنواعه كثيرة «المعجم الوسيط» وفى القاموس أنه شجر السرو فارسية.
(2) وعن المسجد والبيوت روى عن النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت أنها رأت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم رسول الله «ص» يصلى بالناس الصلوات الخمس، ويجمع بهم فى مسجد بناه فى مربد سهل وسهيل ابنى رافع ابن أبى عمرو بن عايد بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النجار قالت: فأنظر إلى رسول الله «ص» لما قدم صلى بهم فى ذلك المسجد وبناه، فهو مسجده اليوم. ووقع فى رواية عطاف بن خالد عند ابن عايد أنه «ص» صلى فيه- وهو عريش- اثنى عشر يوما، ثم بناه، وسقفه وسيأتى ما يشهد له. وروى أحمد عن طلحة بن على قال: جئت إلى النبى «ص» وأصحابه يبنون. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المسجد، قال: فكأنه لم يعجبه عملهم، قال: فأخذت المسحات، فخلطت بها الطين، فكأنه أعجبه أخذى المسحاة وعملى، فقال: دعوا الحنفى والطين، فإنه من أصنعكم للطين. وفى كتاب رزين أن الصحابة لما كثروا قالوا: يا رسول الله لو زيد فيه، ففعل، فرفعوا أساسه قريبا من ثلاثة أذرع بالحجارة وجعلوا طوله مما يلى القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وكذا فى العرض. وكان مربعا. وفى حديث حصار عثمان يأتى قول عثمان: أنشدكم بالله الذى لا إله إلا هو. أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يبتاع مربد بنى فلان غفر الله له، فابتعته بعشرين ألفا، أو خمسة وعشرين ألفا، فأتيت النبى «ص» فقلت: قد ابتعته، فقال: جعله فى مسجدنا، وأجره لك؟ قالوا: اللهم نعم، هذا وقد ورد فى ذرع المسجد هذا عدة روايات: فهو سبعون ذراعا فى ستين أو يزيد «الذراع المقصود ذراع الآدمى» ، أو هو مائة ذراع فى مائة وأنه مربع، أو هو: أقل من مائة، وقيل إنه بناه أو لا أقل من مائة فى مائه ثم بناه وزاد عليه مثله فى الدور، وليس المراد هنا فى هذه الرواية مثله فى الأذرع لأنه كان حتى نهاية القرن التاسع الهجرى لا يبلغ مائة وخمسين ذراعا والرواية الأولى بالقبول أنه كان سبعين فى ستين. الصفة: هى- كما قال ابن حجر- مكان فى مؤخر المسجد مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له، ولا أهل، وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر. وعن ابن سعد أن أهل الصفة كانوا أناسا فقراء لا منازل لهم. فكانوا ينامون فى المسجد لا مأوى لهم غيره، وقريب من هذا فى البخارى. الزيادات فى المسجد: روى البخارى وأبو داود عن نافع أن عبد الله ابن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه فى عهد رسول الله «ص» باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج. زيادة عمر: فى الحديث السابق ورد أن عمر زاد فيه، وقد روى أحمد عن نافع أن عمر «رض» زاد فى المسجد من الأسطوانة إلى المقصورة، وقال عمر: لولا أنى سمعت رسول الله «ص» يقول: ينبغى أن نزيد فى المسجد ما زدت فى المسجد شيئا. وذكر ابن سعد أنه لما كثر المسلمون فى عهد عمر رضى الله عنه- وضاق بهم المسجد، اشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين. ولكن العباس تصدق بداره، فقبلها عمر، وأدخلها فى المسجد- وروى البيهقى نحوه فى كتاب الرجعة عن أبى هريرة. وحسبنا هذا زيادة عثمان: لما ولى عثمان كلمه الناس أن يزيد فى مسجدهم، وشكوا إليه صفة يوم الجمعة حتى إنهم ليصلون فى الرحاب. فشاور عثمان أهل الرأى، فأجمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه وفى البخارى ومسلم عن عبيد الله الخولانى أنه سمع عثمان عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول «ص» إنكم قد أكثر ثم، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بنى مسجد الله بنى الله له فى الجنة مثله، وفى مسلم أنه أراد بناء المسجد، فكره الناس ذلك، وأحبوا أن يدعه على هيئته. وقد روى أن عثمان بدأ بهذا فى شهر ربيع الأول من سنة تسع وعشرين وأنه فرع منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة ثلاثين، أو قبل أن يقتل بأربع سنين ويروى أن القصة «الجص» كانت تحمل إلى عثمان، وهو يا بنى مسجد رسول الله- ص- من بطن نخل، وأنه كان يقوم على رجليه، والعمال يعملون فيه، حتى تأتى الصلاة، فيصلى بهم، وربما نام ثم رجع، وربما نام فى المسجد. وعن خارجة بن زيد قال: هدم عثمان بن عفان المسجد، وزاد فى قبلته، ولم يزد فى شرقيه، وزاد فى غربيه قدر أسطوانه، وبناه بالحجارة المنقوشة والقصة وعسب النخل والجريد وبيضه بالقصة، وقدر زيد بن ثابت أساطينه، فجعلها على قدر(4/268)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
النخل، وجعل فيه طبقانا مما يلى المشرق والمغرب، وزاد فيه إلى الشام خمسين ذراعا.. وهناك عدة روايات أخرى بعضها يقارب هذه والآخر يباعدها زيادة الوليد بن عبد الملك: نقل رزين أن المسجد بعد أن زاد فيه عثمان «رضى الله عنه لم يزد فيه على ولا معاوية رضى الله عنهما، ولا يزيد ولا مروان ولا ابنه عبد الملك شيئا، حتى كان الوليد بن عبد الملك وكان عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة، ومكة، فبعث الوليد إلى عمر بن عبد العزيز بمال، وقال له: من باعك، فأعطه ثمنه، ومن أبى فاهدم عليه، وأعطه المال، فان أبى أن يأخذه فاصرفه إلى الفقراء. وقد روى أن عمر اشترى ما حول المسجد من المشرق والمغرب والشام، وأنه أراد ابتياع بيت حفصة رضى الله عنها، فأرسل إلى رجال من آل عمر، وانتهى الأمر إلى هدم البيت لإدخاله فى المسجد، وإلى إعطائهم طريقا إلى المسجد تنتهى إلى الأسطوانة، مع توسعتها. وكانت قبل ذلك ضيقة قدر ما يمر الرجل منحرفا. هذا وتجمع أخبار المؤرخين على أن حجر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم أدخلت فى المسجد بأمر الوليد، ويقول عطاء الخراسانى: حضرت كتاب الوليد يقرأ يأمر بإدخال حجر أزواج النبى «ص» فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من ذلك اليوم. قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيب يقول: والله لوددت أنهم تركوها على حالها. ويقول عبد الله بن زيد الهذلى أنه رأى بيوت أزواج النبى «ص» حين هدمها عمر كانت باللبن ولها حجر من جريد مطرود بالطين عددت تسعة أبيات بحجراتها. وكانت الحجرات شرقى المسجد وقبليه، خارجة من المسجد مديرة به إلا من الغرب، وهذا الرأى يخالف ما ذكر السهيلى من أنها أدخلت فى زمن عبد الملك. كما أدخل فيه عمر دور عبد الرحمن بن عوف الثلاث التى يقال لها: القرابين ويقال إن الوليد طلب من ملك الروم أن يعينه بعمال وفسيفساء، فبعث إليه بأحمال منها، وبعدد من العمال. قيل كانوا ثمانين: أربعين من الروم وأربعين من القبط.، كما قيل إنه بعث إليه بعدة ألوف من الذهب، وبأحمال من سلاسل القناديل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويقال إن عمر هدمه سنة إحدى وتسعين هـ وأن البناء كان بالحجارة المنقوشة، وقصة بطن نخل وعمله بالفسيفساء وهى ألوان من الخرز يركب فى حيطان الببوت والمرمر، وعمل سقفه بالساج، وماء الذهب، وجعل عمد المسجد من حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص، ويقال إن عمر لما صار إلى جدار القبلة دعا مشيخة من أهل المدينة من قريش والأنصار والعرب والموالى، فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع مكانه حجرا، فكانت زيادة الوليد من المشرق إلى المغرب ست أساطين، وزاد إلى الشام من الأسطوانة المربعة التى فى القبر أربع عشرة أسطوانة. ومكث فى بنائه ثلاث سنين. كما روى أن عمل القبط كان مقدم المسجد، وكانت الروم تعمل ما خرج من المسجد جوانبه ومؤخره، فقال سعيد بن المسيب عن القبط: عمل هؤلاء أحكم. ويروى أن عثمان مات وليس فى المسجد شرفات ولا محراب، وأن أول من أحدث المحراب والشرفات عمر بن عبد العزيز، وأنه هو الذى عمل الميازيب التى من الرصاص، ولكن روى من طريق آخر أن الذى عمل الشرفات هو عبد الواحد بن عبد الله وهو وال على المدينة سنة أربع ومائة. وعمر توفى سنة 101 ولما احترق المسجد جددت له شرفات سنة 767 فى أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد صاحب مصر. أما مناراته «مآذنه» فأحدثها عمر أيضا ويشهد لهذا ما رواه ابن إسحاق وأبو داود والبيهقى أن امرأة من بنى النجار قالت: كانت بيتى من أطول بيت حول المسجد وكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة، فيأتى بسحر، فيجلس على البيت، لينظر إلى الفجر، فإذا رأى تمطى، ثم قال: اللهم إنى أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن. القبر: حين رزىء المسلمون بموت النبى عليه الصلاة والسلام اختلفوا فى مكان دفنه، ثم روى لهم أنه يدفن حيث مات، فاهتدوا، وكان أبو عبيدة يضرح- والضرح هو الشق فى وسطه القبر- وأبو طلحة يلحد- واللحد: الشق يعمل فى جانب القبر، فيميل عن وسطه- فقال الصحابة: نستخير ربنا، ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق أبو طلحة، فلحدوا للنبى كما ورد فى مسند أحمد وسنن ابن ماجة وغيرهما.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فلما دفن فى حجرة السيدة عائشة حيث مات قالت ابنته فاطمة: أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله «ص» التراب، وسكت أنس عن جوابها رعاية لها، ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك إلا لأنا قهرنا على فعله امتثالا لأمره. وقد روى البخارى فى موضعين من الجنائز، وفى المغازى، ومسلم فى الصلاة أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه الذى لم يقم منه- أو توفى فيه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. لولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشى- أو خشى- أن يتخذ قبره مسجدا» ولم يجلس أحد على قبره صلى الله عليه وسلم ولم يصل إليه، ولا عليه، لأنه قال- كما روى مسلم: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها أو عليها، وروى مسلم أنه قال هذا فى مرضه الذى مات منه قبل موته بخمس وأنه قال: «فلا تتخذوا القبور مساجد، فانى أنهاكم عن ذلك» ولم يزره رجل ولا امرأة، ولم يعلق عليه قنديل ولا غيره، لأن الواقع كان يمنع الرجال من ذلك، أفكان يستطيع أحد أن يقتحم على عائشة بيتها؟ ثم إن ابن عباس روى لهم ما يأتى: «لعن رسول الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج «رواه الخمسة إلا بن ماجة، كما روى لهم أبو هريرة ما يأتى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر» ، ولم يجصص قبره عليه الصلاة والسلام، ولم يكتب عليه شىء، لأن جابرا روى لهم: «نهى النبى صلى الله عليه وسلم- أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يا بنى عليه، رواه أحمد ومسلم والنسائى وأبو داود والترمذى وصححه، ولفظه: «نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يا بنى عليها، وأن توطأ» وفى لفظ النسائى: «ونهى أن يا بنى على القبر، أو يزاد عليه، أو يجصص، أو يكتب عليه» . ولم يستطع أحد أن يقيم له ضريحا، أو يعلى من قبره، لأنهم كانوا يعلمون
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ما قاله على لأبى الهياج الأسدى «أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا تدع تمثالا إلا طمسته. ولا قبرا مشرفا إلا سويته» رواه الجماعة إلا البخارى وابن ماجة. وكان هديهم هذا، فقد روى مسلم أن فضالة بن عبيد أمر بقبر فسوى، ثم قال: سمعت رسول الله «ص» يأمر بتسويتها. ولقد روى ابن سعد فى طبقاته بسنده عن مالك بن أنس: قسم بيت عائشة بأثنين: «قسم كان فيه القبر، وقسم كان تكون فيه عائشة، وبينهما حائط فكانت عائشة ربما دخلت حيث القبر فضلا، فلما دفن عمر لم تدخله إلا وهى جامعة عليها ثيابها» كما روى أن عمر هو أول من بنى جدارا على بيت النبى «ص» . وورد أن هذا الجدار كان قصيرا ثم بناه عبد الله بن الزبير. وروى البخارى فى صحيحه من حديث هشام بن عروة عن أبيه: لما سقط عنهم الحائط- يعنى حائط حجرة النبى «ص» فى زمان الوليد بن عبد الملك بن مروان أخذوا فى بنائه فقيدت لهم قدم، ففزعوا، وظنوا أنها قدم النبى «ص» فما وجدوا أحدا يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: لا والله ما هى قدم النبى «ص» ما هى إلا قدم عمر ولما أدخل عمر بن عبد العزيز حجرات أزواج النبى «ص» فى المسجد نازله عروة منازلة شديدة كيلا يجعل قبر النبى «ص» فى المسجد، فأبى وقال: كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه، ولكنه جعل حجرة السيدة عائشة مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلى إلى جهة القبر الكريم مع استقبال القبلة.. ثم جدث ما جدث، واقترف الناس ما اقترفوا من عبادة للقبر. لهذا يجب العمل على إفراد القبر عن المسجد اهتداء بهدى الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم- فليس من تكريم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يعبد قبره من دون الله، أو أن يتمسح به، أو يستجار به، أو. أو ... مما يحاول اقترافه عبدة الشياطين. وما أجمل ما قاله الإمام الشوكانى وهو يشرح حديث النهى عن رفع القبور. «ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولا أوليا: القبب والمشاهد المعمورة على القبور. وأيضا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبى «ص» فاعل ذلك ... وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكى لها الإسلام. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك، قظنوا أنها قادرة على جلب النفع، ودفع الضر، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها، واستغاثوا، وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله، ويغار حمية للدين الحنيف لا عالما، ولا متعلما، ولا أميرا، ولا وزيرا ولا ملكا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرا، فاذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولى الفلانى تلعثم وتلكلأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثانى اثنين أو ثالث ثلاثة. فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين: أى رزء للاسلام أشد من الكفر؟! وأى بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟! وأى مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟ وأى منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا؟!
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادى
ولو نارا نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ فى رماد
أفيسمع المسلمون من رجل لا يستطيع أحد أن ينال من علمه وفقهه وإخلاصه؟؟ وإنه ليروى أن الوليد لما قدم حاجا جعل يطوف فى المسجد، وينظر إليه. ويصيح بعمر هاهنا، ومعه أبان بن عثمان: فلما استنفد الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان، وقال: أين بناؤنا من بنائكم؟ قال أبان: إنا بنيناه بنيان المساجد وبنيثموه بناء الكنائس ص 370 السمهودى ح 1 وصف المسجد فى القرن السادس: وقد ورد للمسجد وصف دقيق من كاتب مراكشى عاش فى القرن السادس الهجرى ننقله بنصه عن كتابه «الاستبصار. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فى عجائب الأمصار» : «ومسجد النبى «ص» مستطيل غير مربع يزيد طوله على عرضه مائة ذراع، وسماء المسجد منقوشة مدهونة محفورة مذهبة كلها على عتب منقوشة على أعمدة خرز أسود بعضه على بعض ملبسة بالجيار، وهو ليس على أقواس إلا ما كان إلى الصحن، فانه أقواس معقودة وجوهها منزولة بالفسيفساء على أعمدة من خرز ملبسة بالجيار والأعمدة التى إلى صحن المسجد هى أقصر من التى عليها سماء المسجد، وتلك الأقواس التى إلى صحن المسجد مغلقة بشرا جيب الساج، مقدم المسجد خمس بلاطات معترضة، ومؤخره مثل ذلك، ومجنبة المسجد الشرقية فيها ثلاث بلاطات معترضة، ومجنبته الغربية أربع بلاطات، ومن مقدم المسجد إلى الصحن أحد عشر قوسا، وكذلك من مجنبته الآخرى. وطول المسجد من ركن منار بلال- رضى الله عنه- وهو الذى بإزاء قبر النبى «ص» إلى ركن مؤخره، وعرضه من باب جبريل عليه السلام، وهو الذى بإزاء قبر النبى «ص» إلى باب الرحمة التى بجنب دار السيدة مائة وسبعون ذراعا» ص 37 ط 1958 نشر وتعليق الدكتور سعد زغلول عبد الحميد. حجرات أزواج النبى «ص» : يقول الذهبى فى بلبل الروض: لم يبلغنا أنه عليه السلام بنى له تسعة أبيات حين بنى المسجد، ولا أحسبه بعد ذلك. إنما كان يريد بيتا واحدا حينئذ لسودة أم المؤمنين، ثم لم يحتج إلى بيت آخر حتى بنى بعائشة فى شوال سنة اثنتين، وكأنه عليه السلام بناها فى أزمان مختلفة» ص 224 أعلام الساجد. وفى رواية أنه لما انصرف النبى «ص» من خيبر وزاد فى مسجده البنية الثانية ضرب الحجرات ما بين القبلة إلى الشام، ولم يضربها غربية، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من الغرب. وكانت لها أبواب فى المسجد. وسائر الروايات غير ما ذكر السهيلى تقرر أن أبواب بيوت زوجات النبى كانت مستورة بالمسوح، وقال ابن عطاء عن أبيه: وكانت بيوت أزواج النبى «ص» يقوم الرجل فيمس سقف البيت، والحجرات سقف عليها المسوح، وقد وصف عطاء الخراسانى حجرات أزواج النبى بأنها كانت من جريد على أبوابها المسوح. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
من شعر أسود. كما يروى أن أحدهم قال حين هدمت: ليتها تركت حتى يقصر الناس عن البناء، ويرى الناس ما رضى الله لنبيه، وخزائن الدنيا بيده. هذا ولفظ الحجرة فى هذه الآثار لا يراد به جملة البيت كما فى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ: بل يراد ما يتخذ حجرة للبيت عند بابه مثل الحريم للبيت، وكانت هذه من جريد النخل، بخلاف الحجر التى هى المساكن فانها كانت من اللبن، كما يروى أن بعضهن كانت له حجرة، وبعضهن لم يكن له حجرة، وكان بيت فاطمة مع على خلف حجرة عائشة لم يزل حتى أدخله الوليد فى المسجد، وكان بيت عائشة مما يلى الشام، وكان ذا مصراع واحد. ومما يوضح مسمى الحجرة التى قدام البيت ما فى سنن أبى داود وغيره عن ابن عمر: قال قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة المرأة فى بيتها أفضل من صلاتها فى حجرتها، وصلاتها فى مخدعها أفضل من صلاتها فى بيتها» فالمخدع أستر من البيت الذى يقعد فيه، والبيت أستر من الحجرة التى هى أقرب إلى الباب والطريق، وكانت حجر عائشة وسودة وحفصة- رضى الله عنهن- لاصقة بالمسجد لأنه بنى بهن قبل غيرهن، وآخر من تزوجها صفية لما فتح خيبر سنة تسع من الهجرة، وحينئذ اتخذ لها بيتا، وكان أبعد عن المسجد من غيره كما يستفاد من حديث ورد فى الصحيحين، وفيه أنه خرج مع صفية من المسجد ليوصلها إلى سكنها، ولو كان بيتها متصلا بالمسجد لم يفعل. وحين دخلت حجرة عائشة فى المسجد سد عمر بن عبد العزيز باب الحجرة، وبنى حائطا آخر عليها غير الحائط القديم. فالواجب- كما بينا من قبل- أن يعود كل شىء إلى مكانه، وأن يفصل بين القبر والمسجد، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، «انظر كتابى الرد على البكرى والرد على الإخنائى للامام ابن تيمية المطبوعين معا سنة 1346 هـ ولا سيما من ص 184 من كتاب الرد على الإخنائى، وانظر ص 292 وما بعدها ح 8 شرح المواهب اللدنية، وكتاب وفاء الوفاء ح 1 من ص 229 إلى 379 ط 1326 هـ ونيل الأوطار ح 4 ص 83 ط عثمان خليفة 1357 وكتاب الخصائص للسيوطى ص 396 ح 3 بتحقيق فضيلة الشيخ هراس.(4/271)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حُبّ حَبّابٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ أُمّ أَيّوبَ، وَقَوْلَهَا: انْكَسَرَ حُبّ لَنَا. الْحُبّ جَرّةٌ كَبِيرَةٌ، جَمْعُهُ [أُحْبٌ وَحِبَابٌ] حِبَبَةٌ مِثْلُ جُحْرٍ وَجِحَرَةٌ [وَأَجْحَارٌ وَجُحْرٌ] وَكَأَنّهُ أَخَذَ لَفْظَهُ مِنْ حِبَابِ الماأ أَوْ مِنْ حَبَبِهِ، وَحَبَابِهِ بِالْأَلِفِ:
تَرَافُعُهُ. قَالَ الشّاعِرُ:
كَأَنّ صَلَا جَهِيزَةَ حِينَ تَمْشِي ... حَبَابَ الماء يتّبع الحبابا «1»
__________
نشر دار الكتاب الحديثة، والنصوص التى نقلتها عن الحجرات نقل أكثرها الإمام ابن تيمية عن كتاب أخبار المدينة لأبى زيد عمر بن شبة النميرى، وانظر كتاب القرى للمحب الطبرى ص 629 ط الحلبى. وأما السرير الذى تحدث عنه السهيلى، فقد ورد فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها: إنما كان فراش رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي ينام عليه أدما- أى: جلدا- حشوه: ليف» وكذلك رواه الترمذى. وورد أنه نام على حصير أثر فى جنبه «أحمد وابن ماجة والترمذى، والحاكم» وروى ابن حبان أنه كان لرسول الله «ص» سرير مرمل- بضم الميم وفتح الراء وتشديد الميم المفتوحة- بالبردى، وعليه كساأ أسود محشو بالبردى والبردى نبات يعمل منه الحصر. والمعنى: أن قوائم السرير موصولة مغطاة بما نسج من نبات البردى. وفى حديث عمر أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا هو جالس على رمال سرير وفى روآية: على رمال حصير. والرمال: ما رمل أى نسج.
(1) البيت فى اللسان فى مادة حبب غير منسوب إلى أحد وفيه قامت بدلا من. تمشى، وفيه الحبب: حبب الماء وهو تكسره وهو الحباب ... وقبل حباب الماء موجه الذى يتبع بعضه بعضا ... وقال الأصمعى: حباب الماء الطرائق التى فى الماء كأنها الوشى» والصلا: العجيزة.(4/278)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْحَبَبُ بِغَيْرِ أَلِفٍ نُفّاخَاتٌ بِيضٌ صِغَارٌ تَكُونُ عَلَى وَجْهِ الشّرَابِ قَالَهُ ابْنُ ثَابِتٍ «1» .
الثّومُ:
وَذَكَرَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأُمّ أَيّوبَ- حِينَ رَدّ عَلَيْهَا الثّرِيدَ مِنْ أَجْلِ الثّومِ: أَنَا رجل أناحى، وَرَوَى غَيْرُهُ حَدِيثَ أُمّ أَيّوبَ، وَقَالَ فِيهِ: إن الملائكة تتأذى بما يتأذى به الإنس «2» . وَرُوِيَ أَنّ خُصَيْفَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ رَأَيْت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْمَنَامِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ: الْحَدِيثُ الّذِي تَرْوِيهِ عَنْك أُمّ أَيّوبَ أَنّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذّى بِمَا يَتَأَذّى بِهِ الْإِنْسُ أَصَحِيحٌ هُوَ؟
قَالَ: نَعَمْ.
مَصِيرُ مَنْزِلِ أَبِي أَيّوبَ وَمَنْزِلُ أَبِي أَيّوبَ الّذِي نَزَلَ فِيهِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَصِيرُ بَعْدَهُ إلَى أَفْلَحَ مَوْلَى أبى أيوب، فاشتراه منه بعد ما خرب، وتثلّمت حيطانه
__________
(1) فى اللسان عن الحباب- بالألف- أنها النفاخات والفقاقيع التى تطفو على وجه الماء كأنها القوارير. وحبب الأسنان: تنضدها.
(2) ورد حديث أبى أيوب فى مسلم وفيه أن أبا أيوب سأل رسول الله «ص» : أحرام هو؟ قال: لا، ولكن أكرهه من أجل ريحه. قال أبو أيوب: فانى أكره ما كرهت. وعن جابر أن النبى «ص» قال: من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو قال: فليعتزل مسجدنا، أو ليقعد فى بيته، وإن النبى «ص» أتى بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحا، فقال قربوها إلى بعض أصحابه وقال: كل فانى أناجى من لا تناجى» متفق عليه.(4/279)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ بَعْدَ حِيلَةٍ احْتَالَهَا عَلَيْهِ الْمُغِيرَةُ ذَكَرَهَا الزّبَيْرُ، ثُمّ أَصْلَحَ الْمُغِيرَةُ مَا وَهَى مِنْهُ، وَتَصَدّقَ بِهِ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ فُقَرَاءِ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُ أَفْلَحَ يَقُولُ لِلْمُغِيرَةِ: خَدَعْتنِي، فَيَقُولُ لَهُ الْمُغِيرَةُ: لَا أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ. هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ «1»
مِنْ قِصّةِ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ بَنِي جَحْشٍ وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ لِأَبِي سُفْيَانَ:
دَارُ ابْنِ عَمّك بِعْتهَا ... تَقْضِي بِهَا عَنْك الْغَرَامَهْ
اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا ... طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ
أَبُو أَحْمَدَ هَذَا اسْمُهُ عَبْدٌ، وَقِيلَ: ثُمَامَةُ، وَالْأَوّلُ أَصَحّ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْفَارِعَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَبِهَذَا السّبَبِ تَطَرّقَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى بَيْعِ دَارِ بَنِي جَحْشٍ إذْ كَانَتْ بِنْتُهُ فِيهِمْ. مَاتَ أَبُو أَحْمَدَ بَعْدَ أُخْتِهِ زَيْنَبَ أم المؤمنين فى خلافة عمر.
وَقَوْلُهُ لِأَبِي سُفْيَانَ طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ مُنْتَزَعٌ من قول النبى- صلى الله
__________
(1) ذكر ابن إسحاق أن بيت أبى أيوب بناه تبع الأول لما مر بالمدينة للنبى «ص» ينزله إذا قدم المدينة!! فتداول البيت الملاك إلى أن صار لأبى أيوب!! وهى ولا شك خرافة حين يقال إن تبعا بناها للنبى «ص» فما كان تبع إلها حتى يعرف الغيب، أو ما كان تبع يعرف ما لم يعرفه النبى نفسه حتى ليلة الوحى.. ويقال إن الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل سيف الدين بكر بن أيوب بن شادى اشترى عرصة دار أبى أيوب، وبناها مدرسة لتدريس المذاهب الأربعة.(4/280)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ «1» وَقَالَ طَوْقَ الْحَمَامَهْ، لِأَنّ طَوْقَهَا لَا يُفَارِقُهَا، وَلَا تُلْقِيهِ عَنْ نَفْسِهَا أَبَدًا، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ لَبِسَ طَوْقًا مِنْ الْآدَمِيّينَ، فَفِي هَذَا الْبَيْتِ مِنْ السّمَانَةِ وَحَلَاوَةِ الْإِشَارَةِ وَمَلَاحَةِ الِاسْتِعَارَةِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ: طَوْقَ الْحَمَامَةِ رَدّ عَلَى مَنْ تَأَوّلَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: طُوّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ أَنّهُ مِنْ الطّاقَةِ، لَا مِنْ الطّوْقِ فِي الْعُنُقِ، وَقَالَهُ الْخَطّابِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، مَعَ أَنّ الْبُخَارِيّ قَدْ رَوَاهُ، فَقَالَ فِي بَعْضِ رِوَايَتِهِ لَهُ: خُسِفَ بِهِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ «2» ، وَفِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ جَاءَ بِهِ إسْطَامًا فِي عُنُقِهِ، وَالْأَسْطَامُ كَالْحِلَقِ مِنْ الْحَدِيدِ، وَسِطَامُ السّيْفِ. حَدّهُ «3» .
الْخُطْبَةُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِيهَا يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ لِعَبْدِهِ: أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْك، فَمَاذَا قَدّمْت، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ زِيَادَةٌ، وَهِيَ: أَلَمْ أوتك مالا، وجعلتك ترباع وَتَدْسَعُ؟
وَفَسّرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ، فَقَالَ: هُوَ مَثَلٌ، وأصله: أن الرئيس من العرب كان
__________
(1) متفق عليه.
(2) فسرها ابن الأثير فى النهاية بما يأتى: أى يخسف الله به الأرض فتصير القطعة المغصوبة فى عنقه كالطوق، وقيل: هو أن يطوق حملها يوم القيامة، أى يكلف، فيكون من طوق التكليف لا من طوق التقليد.
(3) سطام أو إسطام: الحديدة التى تحرك بها النار وتسعر «النهاية لابن الأثير» .(4/281)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يرباع قَوْمَهُ أَيْ: يَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ إذَا غَزَا وَيَدْسَعُ: أى يعطى ويدافع مِنْ الْمَالِ لِمَنْ شَاءَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ ضَخْمُ الدّسِيعَةِ «1» .
الْحُبّ:
وَذَكَرَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الثّانِيَةَ، وَفِيهَا: أَحِبّوا اللهَ مِنْ كُلّ قُلُوبِكُمْ، يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْرِقَ حُبّ اللهِ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْقَلْبِ، فَيَكُونُ ذِكْرُهُ وَعَمَلُهُ خَارِجًا مِنْ قَلْبِهِ خَالِصًا لِلّهِ، وَإِضَافَةُ الْحُبّ إلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ مَجَازٌ حَسَنٌ لِأَنّ حَقِيقَةَ الْمَحَبّةِ: إرَادَةٌ يُقَارِنُهَا اسْتِدْعَاءٌ لِلْمَحْبُوبِ إمّا بِالطّبْعِ، وَإِمّا بِالشّرْعِ، وَقَدْ كَشَفْنَا مَعْنَاهَا بِغَايَةِ الْبَيَانِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ: إنّ اللهَ [تَعَالَى] جَمِيلٌ يُحِبّ الْجَمَالَ «2» ونبهنا هنا لك عَلَى تَقْصِيرِ أَبِي الْمَعَالِي رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ الْمَحَبّةِ فِي كِتَابِ الْإِرَادَةِ مِنْ كِتَابِ الشامل فلتنظر هنا لك «3» .
__________
(1) أصل الدسع: الدفع. وضخم الدسيعة: واسع العطية، ومعنى ألم أجعلك إلخ- كما فى النهاية لابن الأثير: ألم أجعلك رئيسا مطاعا، لأن الملك كان يأخذ الرباع من الغنيمة فى الجاهلية دون أصحابه.
(2) رواه مسلم والترمذى والطبرانى فى الكبير والحاكم فى مستدركه.
(3) أحسن من تكلم عن الحب هو الإمام ابن القيم فى كتابيه «روضة المحبين» وكتاب «مدارج السالكين» وفى هذا الأخير يقول الإمام الجليل إن الكلام عن الحب معلق بطرفين: «محبة العبد لربه، وطرف محبة الرب لعبده. والناس فى إثبات ذلك ونفيه أربعة أقسام: فأهل يحبهم الله ويحبونه على إثبات الطرفين، وأن محبة العبد لربه فوق كل محبة تقدر، ولا نسبة لسائر المحاب إليها، وهى حقيقة: لا إله إلا الله، وكذلك عندهم محبة الرب لأوليائه وأنبيائه ورسله صفة زائدة على رحمته وإحسانه، وعطائه، فإن ذلك أثر المحبة وموجبها،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإنه لما أحبهم كان نصيبهم من رحمته وإحسانه وبره أتم نصيب. والجهمية المعطلة عكس هؤلاء، فانه عندهم لا يحب ولا يحب، ولم يمكناهم تكذيب النصوص، فأولوا نصوص محبة العباد له على محبة طاعته وعبادته. والازدياد من الأعمال؛ لينالوا بها الثواب، وإن أطلقوا عليهم بها لفظ المحبة، فلما ينالون به من الثواب والأجر والثواب المنفصل عندهم: هو المحبوب لذاته، والرب تعالى محبوب لغيره حب الوسائل. وأولوا نصوص محبته لهم باحسانه إليهم، وإعطائهم الثواب، وربما أولوها بثنائه عليهم، ومدحه لهم، ونحو ذلك. وربما أولوها بارادته لذلك. فتارة يؤلونها بالمفعول المنفصل، وتارة يؤلونها بنفس الإرادة. ويقولون: الإرادة إن تعلقت بتخصيص العبد بالأحوال والمقامات العلية، سميت محبة، وإن تعلقت بالعقوبة والانتقام سميت غضبا. وإن تعلقت بعموم الإحسان والإنعام الخاص سميت برا، وإن تعلقت بايصاله فى خفاء من حيث لا يشعر أولا يحتسب سميت: لطفا، وهى واحدة، ولها أسماء وأحكام باعتبار متعلقاتها. ومن جعل محبته للعبد ثناءه عليه ومدحه له. ردها إلى صفة الكلام، فهى عنده من صفات الذات، لا من صفات الأفعال، والفعل عنده نفس المفعول، فلم يقم بذات الرب محبة لعبده ولا لأنبيائه، ورسله ألبتة. ومن ردها إلى صفة الإرادة جعلها من صفات الذات باعتبار أصل الإرادة، ومن صفات الأفعال باعتبار تعلقها. ولما رأى هؤلاأ أن المحبة إرادة، وأن الإرادة لا تتعلق إلا بالمحدث المقدور. والقديم ويستحيل أن يراد أنكروا محبة العباد، والملائكة والأنبياء والرسل له. وقالوا: لا معنى إلا إرادة التقرب إليه، والتعظيم له، وإرادة عبادته، فأنكروا خاصة الإلهية، وخاصة العبودية، واعتقدوا أن هذا من موجبات التوحيد والتنزيه، فعندهم لا يتم التوحيد والتنزيه، إلا بجحد حقيقة الإلهية، وجحد حقيقة العبودية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وجميع طرق الأدلة: عقلا، ونقلا، وفطرت وقياسا واعتبارا ... تدل على إثبات محبة العبد لربه، والرب لعبده.. ثم قال إن من أنكروا المحبة: «قد أنكروا خاصة الخلق والأمر، والغاية التى وجدوا لأجلها، فان الخلق والأمر والثواب والعقاب إنما نشأ عن المحبة، ولأجلها، وهى الحق الذى به خلقت السماوات والأرض، وهى الحق الذى تضمنه الأمر والنهى، وهى سر التأليه، وتوحيدها، هو: شهادة أن لا إله إلا الله ... والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه، من عباده المؤمنين. وذكر ما يحبه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم كقوله تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ آل عمران: 146 وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ آل عمران 134، 148. وكم فى السنة: أحب الأعمال إلى الله كذا كذا فلو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان، ولتعطلت منازل السير إلى الله، فانها روح مقام ومنزلة وعمل، والمحبة حقيقة العبودية ... فمنكر هذه المسألة ومعطلها من القلوب معطل لذلك كله، وحجابه أكشف الحجب، وقلبه أقسى القلوب، وأبعدها عن الله، وهو منكر لخلة إبراهيم عليه السلام، فان الخلة كمال المحبة» ص 18 إلى ص 27 باختصار ح 3 ط السنة المحمدية. وبالنصوص القرآنية يثبت لنا أن الحب ليس هو الإرادة، وإنما هو صفة أخرى. والذين ينكرون حب الله لعباده. وحب العباد لله. قوم عيونهم وأفكارهم مشدودة إلى صفات البشر بكل ما لهذه الصفات البشرية من خصائص، وظنوا- خاضعين فى هذا لأفكار غير عربية وغير إسلامية أنهم إن وصفوا الله بهذه الصفات التى بها وصف الله نفسه. أو أضافوا إليه من الأفعال والأسماء ما أضافه إلى نفسه.. ظنوا أنهم إن فعلوا ذلك أسندوا إلى الله ما يسندونه من لوازم هذه الصفات فى بشريتها إلى البشر، زعموا أن من لوازم الحب اللهف والقلق والخوف والشوق والفقر، والشعور بالنقص فنفوا عن الله صفة أنه يحب أو أنه استوى، أو ... لأن هذه الصفات تستلزم ما يستحيل إطلاقه على الله. وهذا الظن قصور وتقصير. وإفراط فى المادية، واستغراق فى الذهول عن الحقيقة، فان الصفة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تستمد قيمتها من موصوفها. بل إن الصفات تتغير وتتباين لوازمها تبعا لتباين الموصوفات فى الخلق أنفسهم، فغضبى ليس عين غضبك وحبى ليس عين حبك. وحبنا ليس حب الآخرين. فما بالنا بصفات الخالق؟؟ فكيف نسند إلى صفات الخلاق ما نسنده إلى صفات البشر من الوازم وخصائص؟ وكيف نظن أن حب الله مثل حب خلقه! حتى نحمل عليه ما نحمله عليهم؟ وكيف نجرؤ على أن نجرد صفات الله من معانيها، أو ننفيها عنه ونحن مستعبدون لظنون وأوهام ضرب الشيطان بها أفكار غيرنا وقلوبهم فأعماهم وأضلهم عن سواء السبيل؟ وكيف نسوى بين صفتين، لم يجعل الله إحداهما عين الأخرى، كيف نسوى بين الإرادة والمحبة، والله يقول: قُلْ: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً الأحزاب: 17 قُلْ: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا، أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً الفتح: 11 إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ الزمر: 38 وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً الإسراء: 16 وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ، فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً المائدة: 41 إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً يس: 23 أو يمكن أن نضع الحب مكان الإرادة فى هذه الآية؟ لقد تكرر إسناد الحب إلى الله فى القرآن إثباتا قرابة عشرين مرة، وفى كل مرة يتعلق الحب بصفة فى العيد تجعله من خير العباد الذين يستحقون هذه المحبة الإلهية، فهو جل شأنه يحب المحسنين، والتوابين والمتطهرين، والمتقين والصابرين، والمتوكلين، والمقسطين والمطهرين والذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، والأذلة على المؤمنين الأعزة على الكافرين، والذين يحبونه، ويتبعون نبيه، وهو لا يحب المعتدين، ولا يحب الفساد ولا المفسدين، ولا يحب الكفار الأثيم ولا يحب الظالمين، ولا يحب من كان مختالا فخورا ولا يحب المسرفين، ولا يحب الخائنين، ولا يحب المستكبرين، ولا يحب كل خوان فخور، ولا يحب الفرحين، ولا يحب الكافرين، هكذا يثبت الله حبه(4/282)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ شَرْحِ الْخُطْبَةِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَا تَمَلّوا كَلَامَ اللهِ وَذِكْرَهُ، فَإِنّهُ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللهُ يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي. الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً عَلَى كَلَامِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنّهَا ضَمِيرُ الْأَمْرِ وَالْحَدِيثِ، فَكَأَنّهُ قَالَ: إنّ الْحَدِيثَ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللهُ يَخْتَارُ، فَالْأَعْمَالُ إذًا كُلّهَا مِنْ خَلْقِ اللهِ قَدْ اخْتَارَ مِنْهَا مَا شَاءَ قَالَ سُبْحَانَهُ: [وَرَبُّكَ] يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ الْقَصَصُ: 68، وَقَوْلُهُ: قَدْ سَمّاهُ خِيرَتَهُ من الأعمال، يعنى: الذّكْرَ، وَتِلَاوَةَ الْقُرْآنِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَيَخْتَارُ، فَقَدْ اخْتَارَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ.
وَقَوْلُهُ: وَالْمُصْطَفَى مِنْ عِبَادِه، أَيْ: وَسُمّيَ الْمُصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ بِقَوْلِهِ:
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ الْحَجّ: 75 وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْمُصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ أَيْ: الْعَمَلُ الّذِي اصْطَفَاهُ مِنْهُمْ وَاخْتَارَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، فَلَا تَكُونُ مِنْ عَلَى هَذَا لِلتّبْعِيضِ، إنّمَا تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لِأَنّهُ عَمَلٌ اسْتَخْرَجَهُ مِنْهُمْ بِتَوْفِيقِهِ إيّاهُمْ. وَالتّأْوِيلُ الْأَوّلُ أَقْرَبُ مَأْخَذًا والله أعلم بما أراد رسوله.
__________
لقوم، وينفيه عن آخرين، وبهذا الإثبات والنفى، تأكد ثبوت هذه الصفة الإلهية له سبحانه. فلنؤمن بأن الله يحب، ولنقل إن الله يحب، ولنسعد بأن الله يحب، ولنشعر بروح وريحان حين نذكر ونقرأ ونقول: إن الله يحب، ولن تلمس خاطرة من فكرة مهما كان شأنها فى الصغر أو الكبر أن حب الله يشبه حب خلقه. إلا إذا كان ثمة إنسان يجعل الله بعض خلقه!! وجل جلال الله سبحانه أن نشبهه بشى، أو ننفى عنه ما أثبته لنفسه.(4/286)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ فِي أَوّلِ الْخُطْبَةِ «1» إنّ الْحَمْدَ لِلّهِ أَحْمَدُهُ هَكَذَا بِرَفْعِ الدّالِ مِنْ قَوْلِهِ:
الْحَمْدُ لِلّهِ وَجَدْته مُقَيّدًا مُصَحّحًا عَلَيْهِ، وَإِعْرَابُهُ لَيْسَ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَلَكِنْ عَلَى إضْمَارِ الْأَمْرِ كَأَنّهُ قَالَ: إنّ الْأَمْرَ الّذِي أَذْكُرُهُ، وَحَذَفَ الْهَاءَ الْعَائِدَةَ عَلَى الْأَمْرِ كَيْ لَا يُقَدّمَ شَيْئًا فِي اللّفْظِ مِنْ الْأَسْمَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلّهِ، وَلَيْسَ تَقْدِيمُ إنّ فِي اللّفْظِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْأَسْمَاءِ، لِأَنّهَا حَرْفٌ مُؤَكّدٌ لِمَا بَعْدَهُ مَعَ مَا فِي اللّفْظِ مِنْ التّحَرّي لِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَالتّيَمّنِ بِهِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ عَلَى جِذْعٍ، فَلَمّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ «2» ، وَصَنَعَهُ لَهُ عَبْدٌ لِامْرَأَةِ مِنْ الْأَنْصَارِ اسْمُهُ بَاقُومٌ «3» خار الجذع خوار
__________
(1) روى أبو داود عن الخطبة الثانية ما يأتى: عن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبى إذا تشهد قال: الحمد لله ... الحديث إلى قوله لا شريك له. وقد صحح النووى إسناد هذا الحديث فى شرحه لمسلم. هذا ويرى الحسن البصرى، وداود الظاهرى، والجوينى والشوكانى أن الخطبة مندوبة، وليست بواجبة.
(2) شجر، الواحدة: طرفة، وقال سيبويه: الطرفاء واحد وجمع. ويصفها المعجم الوسيط بقوله جنس جنبات وجنيبات للتزيين من الفصيلة الطرفاوية، ومنها: الأثل، وفى الصحيحين عن سهل بن سعد أنه صنع له من أثل الغابة، ويقول الزرقانى فى المواهب: وهو شجر كالطرفاء لا شوك له، وخشبه جيد، يعمل منه القصاع والأوانى، والغابة: موضع بالعوالى
(3) واختلف فى اسم صانعه، ففى الصحيح أنه ميمون مولى امرأة من الأنصار، وقيل: مولى سعد بن عبادة، فكأنه فى الأصل مولى امرأته، ونسب إلى سعد مجازا- وقد اختلف أيضا فى اسم امرأة سعد- وروى أبو نعيم أن صانعه باقوم الرومى مولى سعيد بن العاص، أو باقول، أو صباح، أو قبيصة، أو مينا، أو صالح أو كلاب، وكلاهما مولى العباس، أو إبراهيم، أو تميم الدارى(4/287)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النّاقَةِ الْخَلُوجِ، حَتّى نَزَلَ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَالْتَزَمَهُ، وَقَالَ: لَوْ لَمْ أَلْتَزِمْهُ مَا زَالَ يَخُورُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمّ دَفَنَهُ، وَإِنّمَا دَفَنَهُ، لِأَنّهُ قَدْ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُؤْمِنِ لَحُبّهِ وَحَنِينِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يُنْظَرُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ الْآيَةُ، وَإِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي النّخْلَةِ: مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُؤْمِنِ، وَحَدِيثُ خُوَارِ الْجِذْعِ وَحَنِينِهِ مَنْقُولٌ نَقْلَ التّوَاتُرِ لِكَثْرَةِ مَنْ شَاهَدَ خُوَارَهُ مِنْ الْخَلْقِ وَكُلّهُمْ نَقَلَ ذَلِكَ، أَوْ سَمِعَهُ من غيره فلم ينكره «1» .
__________
كما ورد فى أبى داود. ويقول الحافظ فى الفتح: وليس فى جميع الروايات التى سمى فيها النجار شىء قوى السند سوى الحديث الذى رواه أبو داود عن ابن عمر لكن لم يصرح فيه بأن صانعه تميم. وأشبه الأقوال بالصواب بأنه ميمون لكونه من طريق سهل بن سعد ... وكان المنبر ذا ثلاث درجات، وزاد فيه مروان ست درجات لما كثر الناس، ولما احترق المسجد سنة 654 جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرا، فأزيل منبر المظفر، ولم يزل منبر بيبرس إلى سنة 820، ثم أرسل المؤيد شيخ منبرا، فبقى سنة 867، فأرسل الظاهر خشقدم منبرا.
(1) يقول القاضى عياض فى الشفاء عن حديث حنين الجذع: حديث حنين الجذع مشهور منتشر، والخبر به متواتر، أخرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر، منهم أبى بن كعب وجابر وأنس وابن عمر وابن عباس وسهل بن سعد وأبو سعيد الخدرى وبريدة وأم سلمة والمطلب بن أبى وداعة» وقد أخرج البخارى الحديث فى علامات النبوة، والترمذى فى الصلاة عن عن نافع عن ابن عمر، ورواه أحمد من رواية أبى جناب وهو ضعيف عن أبيه أبى حية عن ابن عمر، ورواه ابن ماجة وأبو يعلى الموصلى وغيرهما من رواية حماد بن مسلمه عن ثابت عن أنس، ورواه الترمذى وصححه وأبو يعلى وابن خزيمة والطبرانى والحاكم وصححه، وقال على شرط مسلم يلزمه إخراجه من رواية(4/288)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كِتَابُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ شَرَطَ لَهُمْ فِيهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ، وَأَمّنَهُمْ فِيهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَكَانَتْ أَرْضُ يَثْرِبَ لَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْأَنْصَارِ بِهَا، فَلَمّا كَانَ سَيْلُ الْعَرِمِ، وَتَفَرّقَتْ سَبَأٌ نَزَلَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بِأَمْرِ طَرِيفَةَ الْكَاهِنَةِ، وأمر
__________
إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عن أنس، ورواه الطبرانى من رواية الحسن عن أنس، ورواه أحمد بن منيع والطبرانى وغيرهما من رواية حماد ابن سلمة عن عمار بن أبى عامر عن ابن عباس. ورواه أحمد والدارمى وأبو يعلى وابن ماجة وغيرهم من رواية الطفيل بن أبى بن كعب عن أبيه، ورواه الدارمى من رواية أبى حازم عن سهل بن سعد، ورواه أبو محمد الحسن بن على الجوهرى من رواية عبد العزيز بن رواد عن نافع عن تميم الدارى. وقال الحافظ فى الفتح: «حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كل منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة فى الله، والله أعلم» وقال البيهقى: «قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التى حملها الخلف ورووها عن السلف رواية الأخبار الخاصة كالتكليف» أقول: زالت آية الجذع، وبقيت آية الله الكبرى التى من بها على محمد صلى الله عليه وسلم، وهى القرآن، ومن يتدبر القرآن يجده هاديا إلى الأدلة التى بها تثبت نبوة عبده وخاتم أنبيائه، وذكر فيه من آياته الكبرى ما ذكر. والله يمن على عبده بما شاء. والناقة الخلوج: التى اختلج ولدها أى انتزع منها. وحديث النخلة فى الجامع الصغير: «مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها من شىء نفعك» وقال عنه رواه الطبرانى عن ابن عمر!!(4/289)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عِمْرَانَ بْنِ عَامِرٍ، فَإِنّهُ كَانَ كَاهِنًا أَيْضًا وَبِمَا سَجَعَتْ بِهِ لِكُلّ قَبِيلَةٍ مِنْ سَبَأٍ، فَسَجَعَتْ لِبَنِي حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ. وَهُمْ الْأَوْسُ والخزرج أن ينزلوا بثرب ذَاتَ النّخْلِ فَنَزَلُوهَا عَلَى يَهُودَ وَحَالَفُوهُمْ وَأَقَامُوا مَعَهُمْ، فَكَانَتْ الدّارُ وَاحِدَةً.
مَتَى دَخَلَ الْيَهُودُ يَثْرِبَ؟:
وَالسّبَبُ فِي كَوْنِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ وَسَطَ أَرْضِ الْعَرَبِ مَعَ أَنّ الْيَهُودَ أَصْلُهُمْ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ أَنّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ تُغِيرُ عَلَيْهِمْ الْعَمَالِيقُ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ يَثْرِبَ وَالْجُحْفَةَ إلَى مَكّةَ، فَشَكَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ذَلِكَ إلَى مُوسَى، فَوَجّهَ إلَيْهِمْ جَيْشًا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ، وَلَا يُبْقُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، فَفَعَلُوا وَتَرَكُوا مِنْهُمْ ابْنَ مَلِكٍ لَهُمْ كَانَ غُلَامًا حَسَنًا، فَرَقّوا لَهُ، وَيُقَالُ لِلْمَلِكِ: الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ فِيمَا ذَكَرَ الزّبَيْرُ ثُمّ رجعوا إلى الشام وموسى قدمات، فَقَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لَهُمْ: قَدْ عَصَيْتُمْ وَخَالَفْتُمْ، فلا نؤويكم، فَقَالُوا:
نَرْجِعُ إلَى الْبِلَادِ الّتِي غَلَبْنَا عَلَيْهَا فَنَكُونُ بِهَا، فَرَجَعُوا إلَى يَثْرِبَ، فَاسْتَوْطَنُوهَا وَتَنَاسَلُوا بِهَا إلَى أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ. هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ الْمَعْرُوفِ: بِكِتَابِ الْأَغَانِي، وَإِنْ كَانَ الزّبَيْرُ قَدْ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا صَحِيحًا لِبُعْدِ عُمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ، وَاَلّذِي قَالَ غَيْرُهُ إنّ طَائِفَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ لَحِقَتْ بِأَرْضِ الْحِجَازِ حِينَ دَوّخَ بُخْتُ نَصّرَ الْبَابِلِيّ فِي بِلَادهمْ، وَجَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ، فَحِينَئِذٍ لَحِقَ مَنْ لَحِقَ مِنْهُمْ بِالْحِجَازِ كَقُرَيْظَةَ وَالنّضِيرِ، وَسَكَنُوا خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةَ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ وَاَللهُ أَعْلَمُ.(4/290)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اسْمُ يَثْرِبَ وَأَمّا يَثْرِبُ فَاسْمُ رَجُلٍ نَزَلَ بِهَا أَوّلَ مِنْ الْعَمَالِيقِ فَعُرِفَتْ بِاسْمِهِ، وَهُوَ يَثْرِبُ بْنُ قاين بْن عِبِيلِ بْنِ مهلايل بْنِ عَوَصِ بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوَذِ بْنِ إرَمَ، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اخْتِلَافٌ وَبَنُو عِبِيلٍ هُمْ الّذِينَ سَكَنُوا الْجُحْفَةَ فَأَجْحَفَتْ بِهِمْ السّيُولُ وَبِذَلِكَ سُمّيَتْ الْجُحْفَةَ «1» ، فَلَمّا احْتَلّهَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَرِهَ لَهَا هَذَا الِاسْمَ أَعْنِي: يَثْرِبَ لِمَا فِيهِ مِنْ لَفْظِ التّثْرِيبِ، وَسَمّاهَا طِيبَةَ وَالْمَدِينَةَ.
فَإِنْ قُلْت: وَكَيْفَ كَرِهَ اسْمًا ذَكَرَهَا اللهُ فِي الْقُرْآنِ بِهِ، وَهُوَ الْمُقْتَدِي بِكِتَابِ اللهِ، وَأَهْلٌ أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ تَسْمِيَةِ اللهِ؟ قُلْنَا إنّ اللهَ- سُبْحَانَهُ- إنّمَا ذَكَرَهَا بِهَذَا الِاسْمِ حَاكِيًا عَنْ الْمُنَافِقِينَ؛ إذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ؟ فَنَبّهَهُ بِمَا حَكَى عَنْهُمْ أَنّهُمْ قَدْ رَغِبُوا عَنْ اسْمٍ سَمّاهَا اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَبَوْا إلّا مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي جَاهِلِيّتِهِمْ، وَاَللهُ سُبْحَانَهُ قَدْ سَمّاهَا:
الْمَدِينَةَ، فَقَالَ غَيْرَ حَاكٍ عَنْ أَحَدٍ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ [يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ] التوبة 120، وفى الخبر عن كعب الأخبار قَالَ: إنّا نَجِدُ فِي التّوْرَاةِ يَقُولُ اللهُ لِلْمَدِينَةِ يَا طَابَةُ يَا طَيْبَةُ يَا مِسْكِينَةُ لَا تَقْبَلِي الْكُنُوزَ أَرْفَعْ أَجَاجِيرَكِ عَلَى أَجَاجِيرِ «2» القرى، وقد روى هذا الحديث عن
__________
(1) أجحف به: ذهب به، وكان اسم الجحفة: مهيعة «معجم البكرى، المراصد، القاموس»
(2) أجاجير: جمع إجار، وهو السطح الذى ليس حواليه ما يرد الساقط عنه، والأناجير جمع أيضا(4/291)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَرْفَعُهُ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنّ لَهَا فِي التّوْرَاةِ أَحَدَ عَشَرَ اسْمًا:
الْمَدِينَةُ وَطَابَةُ وَطِيبَةُ وَالْمِسْكِينَةُ وَالْجَابِرَةُ وَالْمُحِبّةُ وَالْمَحْبُوبَةُ وَالْقَاصِمَةُ وَالْمَجْبُورَةُ وَالْعَذْرَاءُ وَالْمَرْحُومَةُ «1» ، وَرُوِيَ فِي مَعْنَى قوله: وَقُلْ رَبِ
__________
(1) فى تسميتها روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: كان الناس يقولون: يثرب والمدينة، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن الله عز وجل سماها: طابة. وعن زيد بن ثابت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: إنها طيبة، وإنها تنفى الخبت، كما تنفى النار خبث الفضة «مسلم أيضا» وعن أحمد: من سمى المدينة، فليستغفر الله عز وجل، هى طابة، هى طابة وقال الأزهرى: كره ذكر الثرب، لأنه فساد فى لسان العرب ويرى ابن فارس وقطرب أن المدينة من دان إذا أطاع، فتكون الميم زائدة، وقيل من مدن بالمكان إذا أقام به، فتكون الميم أصلية وجمعها مدن بضم الدال وإسكانها ومدائن وترك الهمزة أفصح، والنسب إلى المدينة مدنى، وإلى مدينة المنصور مدينى، وإلى مدائن كسرى: مدائنى وقيل: مدنى إذا نسبت الرجل والثوب. أما الطير فمدينى. والطاب والطيب لغتان بمعنى. وحديث كعب رواه ابن زبالة وما أضعفه. وقد ذكرت لها أسماء أخرى منهما: طيبة بتشديد الياء، والمطيبة بتشديد الياء مع فتحها، والدار والهذراء- لشدة حرارتها-، والحبيية، ومدخل صدق، ودار السنة، ودار الهجرة، والبلاط، والإيمان، ويندر، ويندد والبحرة والبحيرة. وقد غالى السمهودى فذكر لها أكثر من تسعين اسما «راجع ص 232 إعلام الساجد ص 7 وفاء الوفا للسمهودى، ص 620 القرى للمحب الطبرى. وقد اختلف فى يثرب- كما قال ابن دقيق العيد فى شرح الإمام-: هل هو اسم يرادف المدينة، أو هو اسم لقطر محدود، والمدينة فى ناحية منه؟ وعن(4/292)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ] الْإِسْرَاءُ: 80 أنها المدينة، وأن مُخْرَجَ صِدْقٍ مكّة وسُلْطاناً نَصِيراً الْأَنْصَارُ.
تَفْسِيرُ عَلَى رِبْعَاتِهِمْ:
وَفِي الْكِتَابِ: بَنُو فُلَانٍ عَلَى رِبْعَاتِهِمْ. هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خالد [بن عُقَيْلٍ الْأَبْلِيّ] عَنْ الزّهْرِيّ وَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الله ابن صَالِحٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فَقَالَ: رِبَاعَتِهِمْ. الْأَلِفُ بَعْدَ الْبَاءِ، ثُمّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
يُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى رِبَاعِهِ قَوْمُهُ إذَا كَانَ نَقِيبَهُمْ وَوَافِدَهُمْ.
قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَكَسْرُ الرّاءِ فِيهِ الْقِيَاسُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنّهَا وِلَايَةٌ، وَإِنْ جَعَلَ الرّبَاعَةَ مَصْدَرًا فَالْقِيَاسُ فَتْحُ الرّاءِ، أَيْ عَلَى شَأْنِهِمْ وَعَادَتِهِمْ مِنْ أَحْكَامِ الدّيَاتِ وَالدّمَاءِ «1» يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الأولى: جمع: معقلة ومعقلة من العقل
__________
أبى عبيد: يثرب اسم أرض، ومدينة الرسول فى ناحية منها،. وقيل: أرض وقعت المدينة فى ناحية منها أو أن يثرب اسم للمدينة، هكذا ورد فى الكشاف. وقال ابن عطية: يثرب قطر محدود، والمدينة فى طرف منه، وقد غالى السمهودى، فجمع لها أكثر من تسعين اسما. وانظر ص 109 وما بعدها ح 1 وفاء الوفاء فى سكناها وما ذكر فى سبب نزول اليهود بها وبيان منازلهم.
(1) فى النهاية لابن الأثير: يقال القوم على رباعتهم، ورباعهم أى: على استقامتهم، يريد: أنهم على أمرهم الذى كانوا عليه، ورباعة الرجل: شأنه وحاله التى هو رابع عليها، أى: ثابت مقيم. وعند الخشنى: الربعة والرباعه الحال التى جاء الإسلام، وهم عليها، ويقال: فلان يقوم برباعة أهله، إذا كان يقوم بأمرهم وشأنهم ص 125(4/293)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهُوَ الدّيَةُ «1» .
مِنْ كَلِمَاتِ الْكِتَابِ:
وَقَالَ فِي الْكِتَابِ: وَأَلّا يُتْرَكَ مُفْرَحٌ، وَفَسّرَهُ ابْنُ هِشَامٍ كَمَا فَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَنّهُ الّذِي أَثْقَلَهُ الدّيْنُ، وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ الّذِي أَنْشَدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ «2» .
إذَا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدّي أَمَانَةً ... وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَفْرَحَتْك الْوَدَائِعُ
أَيْ: أَثْقَلَتْك يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَفْعَالِ السّلْبِ، أَيْ سَلَبَتْك الْفَرَحَ، كَمَا قِيلَ: أَقْسَطَ الرّجُلُ إذَا عَدَلَ، أَيْ: أَزَالَ الْقِسْطَ، وَهُوَ الِاعْوِجَاجُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ مُبْدَلَةً مِنْ بَاءٍ، فَيَكُونُ مِنْ الْبَرْحِ وَهُوَ الشّدّةُ، تَقُولُ: لَقِيت مِنْ فُلَانٍ بَرْحًا أَيْ: شِدّةً، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ رِوَايَةً أُخْرَى مُفْرَجٌ بِالْجِيمِ، وَذَكَرَ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالًا، مِنْهَا أَنّهُ الّذِي لَا دِيوَانَ لَهُ، وَمِنْهَا: أَنّهُ الْقَتِيلُ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَهُ، وَمِنْهَا أَنّهُ فِي مَعْنَى الْمُقْرَحِ بِالْحَاءِ أَيْ:
__________
(1) يقال: بنو فلان على معاقلهم التى كانوا عليها، أى: مراتبهم وحالاتهم، وسميت دية القتيل: عقلا، لإن القاتل كان إذا قتل قتيلا جمع الدية من الإبل، فعقلها بفناء أولياء المقتول، أى شدها فى عقلها، ليسلمها إليهم، ويقبضوها منه، فسميت الدية: عقلا بالمصدر، يقال. عقل البعير يعقله عقلا، وجمعها عقول، والعاقلة: هى العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يعطون دية قتيل الخطأ. وهى صفة جماعة عاقلة، وأصلها اسم فاعلة من العقل، وهى من الصفات الغالبة انظر مادة عقل فى النهاية لابن الأثير.
(2) فى اللسان أبو عبيدة، ونسبه لبيهسى العذرى، وقبله:
إذا أنت أكثرت الأخلاء صادفت ... بهم حاجة بعض الذى أنت مانع(4/294)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَقَدْ أَثْقَلَهُ الدّيْنُ، أَوْ نَحْوَ «1» هَذَا فَيُقْضَى عَنْهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَفِيهِ: وَلَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ، أَيْ: لَا يُوبِقُ، وَيُهْلِكُ إلّا نَفْسَهُ، يُقَالُ وَتِغَ الرّجُلُ، وَأَوْتَغَهُ غَيْرُهُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ يُبِيءُ هُوَ مِنْ الْبَوَاءِ، أَيْ: الْمُسَاوَاةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهَلٍ حِينَ قَتَلَ ابْنًا لِلْحَارِثِ بن عباد: بؤ بشسع نعل كليب «2» .
وقوله: إن البرّدون الْإِثْمِ، أَيْ: إنّ الْبِرّ وَالْوَفَاءَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَاجِزًا عَنْ الْإِثْمِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنّ اللهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ، أَيْ: إنّ اللهَ وَحِزْبَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الرّضَى بِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: إنّمَا كَتَبَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الْكِتَابَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الْجِزْيَةُ،
__________
(1) وفى اللسان عن أبى عبيد: أن المفرج هو الذى يسلم، ولا يوالى أحدا فاذا جنى جناية، كانت جنايته على بيت المال، لأنه لا عاقلة له.
(2) حين نشب الشر استعرت الحرب بين بكر وتغلب أربعين سنة، وكان الحارث ابن عباد البكرى قد اعتزل القوم، فلما استحر القتل فى بكر، اجتمعوا إليه وقالوا: قد فنى قومك فأرسل الحارث إلى مهلهل أخى كليب بجيرا ابنه يناشده السلام، فقد أدرك وتره من بكر، فلما عرف المهلهل أن بجيرا هو ابن الحارث ابن عباد قتله قائلا: بؤ بشسع نعل كليب، فلما علم أبوه الحارث بهذا خرج يقاتل المهلهل وبنى تغلب ثائرا ببجير ابنه، وأنشأ يقول:
قربا مربط النعامة منى ... إن بيع الكريم بالشسع غالى
قربا مربط النعامة منى ... لقحت حرب وائل عن حيال
لم أكن من جناتها. علم الله ... وإنى بشرها اليوم صالى
ويروى: بحرها. والنعامة: فرس الحارث، وكانت هزيمة تغلب على يد الحارث.(4/295)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ ضَعِيفًا. قَالَ: وَكَانَ لِلْيَهُودِ إذْ ذَاكَ نَصِيبٌ فِي الْمَغْنَمِ إذَا قَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ النّفَقَةَ مَعَهُمْ فِي الْحُرُوبِ.
الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الصّحَابَةِ فَصْلٌ الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الصّحَابَةِ: آخَى رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَصْحَابِهِ حِينَ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ، لِيُذْهِبَ عَنْهُمْ وَحْشَةَ الْغُرْبَةِ وَيُؤْنِسَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ، وَيَشُدّ أَزْرَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ، فَلَمّا عَزّ الْإِسْلَامُ وَاجْتَمَعَ الشّمْلُ، وذهبت الوحشة أنزل الله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ الْأَنْفَالُ 75 أَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ «1» ، ثُمّ جعل المؤمنين كلهم إخوة
__________
(1) من أين جاء بهذا، وليس فى آيات الميراث شىء من هذا؟، هذا وقد أنكر الإمام ابن تيمية رضى الله عنه فى منهاج السنة النبوية المؤاخاة بين المهاجرين والمهاجرين. وأقول: إنه ينكر هذه المؤاخاة بمعناها الخاص المعروف، وإلا فالمسلم من أول يوم هو أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه. ولنتدبر ما ذكر الله فى أول سورة الحشر عما فعل الأنصار باخوتهم المهاجرين، ففى هدى الله هداية الحق والنور المبين لا فى كلام السهيلى أو غيره ويقول الإمام ابن القيم: «وقد قيل: إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها عليا أخا لنفسه. والثابت الأول. يعنى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار- والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام، وأخوة الدار، وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار، ولو آخى بين المهاجرين، كان أحق الناس بأخوته أحب الخلق إليه، ورفيقه فى الهجرة، وأنيسه فى الغار، وأفضل الصحابة، وأكرمهم عليه: أبو بكر الصديق، وقد قال: لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا، لا تخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل، «الصحيحان(4/296)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ يعنى فى التّوادّ وشمول الدعوة.
وذكر مؤاخاة بَيْنَ أَبِي ذَرّ وَالسّنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَدْ ذَكَرْنَا إنْكَارَ الْوَاقِدِيّ لِذَلِكَ فِي آخِرِ حَدِيثِ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ.
نَسَبَ أَبِي الدّرْدَاءِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مُؤَاخَاةَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدّرْدَاءِ، وَأَبُو الدّرْدَاءِ اسْمُهُ عويمر ابن عَامِرٍ، وَقِيلَ عُوَيْمِرُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَقِيلَ: عُوَيْمِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ أُمَيّةَ مِنْ بَلْحَارِثِ «1» بن الخزرج، أمه: تحبّة بنت واقد بْنِ عَمْرِو بْنِ الْإِطَنَابَةِ، وَامْرَأَتُهُ: أُمّ الدّرْدَاءِ، اسْمُهَا: خَيْرَةُ بِنْتُ أَبِي حَدْرَدٍ، وَأُمّ الدّرْدَاءِ الصّغْرَى، اسْمُهَا: جُمَانَةُ، مَاتَ أَبُو الدّرْدَاءِ بِدِمَشْقَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ «2» .
__________
من حديث أنس» وفى لفظ «ولكن أخى وصاحبى» وهذه الأخوة فى الإسلام وإن كانت عامة كما قال: وددت أن قد رأينا إخواننا؟ قالوا: ألسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابى، وإخوانى: قوم يأتون من بعدى يؤمنون بى، ولم يرونى رواه مسلم. فللصديق من هذه الأخوة أعلى مراتبها، كما له من الصحبة أعلى مراتبها، فالصحابة لهم الأخوة ومزية الصحبة ولأتباعهم الأخوة والصحبة. ص 176 ح 2 زاد المعاد ط السنة المحمدية.
(1) «اختلف فى اسم أبيه، فقيل: عامر أو مالك أو ثعلبة أو عبد الله أو زيد، وأبوه: ابن قيس بن أمية بن عامر بن عدى بن كعب بن الخزرج الأنصارى الخزرجى» الإصابة
(2) قيل مات لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وقال ابن عبد البر إنه مات بعد صفين، والأصح عند أصحاب الحديث أنه مات فى خلافة عثمان.(4/297)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَسَبُ الْفَزَعِ فَصْلٌ وَذَكَرَ مُؤَاخَاةَ أَبِي رُوَيْحَةَ وَبِلَالٍ، وَسَمّاهُ: عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَقَالَ: هُوَ أَحَدُ الْفَزَعِ «1» ، لَمْ يُبَيّنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَالْفَزَعُ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ، هُوَ ابْنُ شَهْرَانَ بْنِ عِفْرِسِ بْنِ حُلْفِ بْنِ أَفْتَلَ، وَأَفْتَلُ هُوَ خَثْعَمٌ. وَقَدْ تَقَدّمَ فِي أول الكتاب: لم سمى خثعم وَهُوَ ابْنُ أَنْمَارٍ، وَقَدْ تَقَدّمَ خِلَافُ النّسّابِينَ فِيمَا بَعْدَ أَنْمَارٍ.
وَالْفَزَعُ هَذَا بِفَتْحِ الزّايِ، وَأَمّا الْفَزْعُ بِسُكُونِهَا، فَهُوَ الْفَزْعُ بْنُ عَبْدِ الله ابن رَبِيعَةَ [بْنِ جَنْدَلٍ] ، وَكَذَلِكَ الْفَزْعُ فِي خُزَاعَةَ، وَفِي كَلْبٍ هُمَا سَاكِنَانِ أَيْضًا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ: الْفَزَعُ بِفَتْحِ الزّايِ: رَجُلٌ يَرْوِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَذُكِرَ آخَرُ فِي الرّوَاةِ أَيْضًا بِفَتْحِ الزّايِ يَرْوِي حَدِيثًا فِي الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرْوِي أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَدَ لِأَبِي رُوَيْحَةَ الْخَثْعَمِيّ لِوَاءً عَامَ الْفَتْحِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ: مَنْ دَخَلَ تَحْتَ لِوَاءِ أَبِي رُوَيْحَةَ، فَهُوَ آمِنٌ.
مُؤَاخَاةُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بُلْتُعَةَ فَصْلٌ: وَذَكَرَ مُؤَاخَاةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بُلْتُعَةَ «2» وَعُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ،
__________
(1) ويروى بالقاف كما ذكر الخشنى.
(2) نسب حاطب فى الإصابة: حاطب بن أبى بلتعة بن عمر بن عمير بن سلمة ابن صعب بن سهل اللخمى.(4/298)
[خبر الأذان]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ إخْوَانُهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، وَاجْتَمَعَ أَمْرُ الْأَنْصَارِ، اسْتَحْكَمَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ، فَقَامَتْ الصّلَاةُ، وَفُرِضَتْ الزّكَاةُ وَالصّيَامُ، وَقَامَتْ الْحُدُودُ، وَفُرِضَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَتَبَوّأَ الْإِسْلَامُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَكَانَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ هم الذين تبوّؤا الدّارَ وَالْإِيمَانَ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيْنَ قَدِمَهَا إنّمَا يَجْتَمِعُ النّاسُ إلَيْهِ لِلصّلَاةِ لِحِينِ مَوَاقِيتِهَا، بِغَيْرِ دَعْوَةٍ فَهَمّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْنَ قَدِمَهَا أَنْ يَجْعَلَ بُوقًا كَبُوقِ يَهُودَ الّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ لِصَلَاتِهِمْ، ثُمّ كَرِهَهُ، ثُمّ أَمَرَ بِالنّاقُوسِ، فَنُحِتَ لِيُضْرَبَ بِهِ لِلْمُسْلِمَيْنِ لِلصّلَاةِ.
[رؤيا عبد الله بن زيد]
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إذْ رَأَى عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عبد رَبّهِ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، النّدَاءَ، فَأَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لَهُ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّهُ طَافَ بِي هذه الليلة طائف: مرّبى رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ، يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ، فَقُلْت لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ، أَتَبِيعُ هذا النّاقوس؟ قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ فِي حَاطِبٍ: حَلِيفُ بَنِي أَسَدٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ عَبْدًا لِعُبَيْدِ اللهِ بْنِ حُمَيْدِ ابن زُهَيْرِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، وَقِيلَ: كَانَ مِنْ مَذْحِجَ، وَالْأَشْهَرُ: أَنّهُ مِنْ لَخْمِ بْنِ عَدِيّ، وَاسْمُ أَبِي بُلْتُعَةَ عَمْرُو بْنُ أَشَدّ بْنِ مُعَاذٍ. وَالْبُلْتُعَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ تَبَلْتَعَ الرّجُلُ إذَا تَظَرّفَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الغريب المصنف.(4/299)
وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعوا بِهِ إلَى الصّلَاةِ، قَالَ: أَفَلَا أَدُلّك عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: قُلْت: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنّ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنّ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، حَيّ عَلَى الصّلَاةِ، حَيّ عَلَى الصّلَاةِ، حَيّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لَا إله إلا الله.
فَلَمّا أَخْبَرَ بِهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، قَالَ: إنّهَا لَرُؤْيَا حَقّ، إنْ شَاءَ اللهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِهَا عَلَيْهِ، فَلْيُؤَذّنْ بِهَا، فَإِنّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْك.
فَلَمّا أَذّنَ بِهَا بِلَالٌ سَمِعَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَجُرّ رِدَاءَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا نَبِيّ اللهِ، وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، لَقَدْ رَأَيْت مِثْلَ الّذِي رَأَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِلّهِ الْحَمْدُ على ذلك.
[رؤيا عمر فى الأذان]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبّهِ، عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: سَمِعْت عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ اللّيْثِيّ يَقُولُ: ائْتَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ بِالنّاقُوسِ لِلِاجْتِمَاعِ لِلصّلَاةِ، فَبَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ خَشَبَتَيْنِ لِلنّاقُوسِ، إذْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ فِي الْمَنَامِ: لَا تَجْعَلُوا النّاقُوسَ، بَلْ أَذّنُوا لِلصّلَاةِ، فَذَهَبَ عُمَرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/300)
إلَى النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُخْبِرَهُ بِاَلّذِي رَأَى، وَقَدْ جَاءَ النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْوَحْيُ بِذَلِكَ، فَمَا رَاعَ عُمَرُ إلّا بِلَالٌ يُؤَذّنُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْنَ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ: قَدْ سَبَقَك بِذَلِكَ الْوَحْيُ.
[مَا كَانَ يَقُولُهُ بِلَالٌ فى الفجر]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النّجّارِ، قَالَتْ: كَانَ بَيْتِي مِنْ أَطْوَلِ بَيْتٍ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ بِلَالٌ يُؤَذّنُ عَلَيْهِ لِلْفَجْرِ كُلّ غَدَاةٍ، فَيَأْتِي بِسَحَرٍ، فَيَجْلِسُ عَلَى الْبَيْتِ يَنْتَظِرُ الْفَجْرَ، فَإِذَا رَآهُ تَمَطّى، ثُمّ قَالَ: اللهُمّ إنّي أَحَمْدُك وَأَسْتَعِينُك عَلَى قُرَيْشٍ أَنْ يُقِيمُوا عَلَى دِينِك. قَالَتْ: وَاَللهِ مَا عَلِمْته كَانَ يَتْرُكُهَا لَيْلَةً وَاحِدَةً
[أبو قيس بن أبى أنس]
قال ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا اطْمَأَنّتْ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَارُهُ، وَأَظْهَرَ اللهُ بِهَا دِينَهُ، وَسَرّهُ بِمَا جَمَعَ إلَيْهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ، قَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ، أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو قَيْسٍ، صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسِ بْنُ صِرْمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ النّجّارِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَجُلًا قَدْ تَرَهّبَ فِي الْجَاهِلِيّةِ، وَلَبِسَ الْمُسُوحَ، وَفَارَقَ الْأَوْثَانَ، وَاغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَتَطَهّرَ مِنْ الْحَائِضِ مِنْ النّسَاءِ، وَهَمّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/301)
بِالنّصْرَانِيّةِ، ثُمّ أَمْسَكَ عَنْهَا، وَدَخَلَ بَيْتًا لَهُ، فَاِتّخَذَهُ مَسْجِدًا لَا تَدْخُلُهُ عَلَيْهِ فِيهِ طَامِثٌ وَلَا جُنُبٌ، وَقَالَ: أَعْبُدُ رَبّ إبْرَاهِيمَ، حَيْنَ فَارَقَ الْأَوْثَانَ وَكَرِهَهَا، حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَكَانَ قَوّالًا بِالْحَقّ مُعَظّمًا لِلّهِ عَزّ وَجَلّ فِي جَاهِلِيّتِهِ، يَقُولُ أَشْعَارًا فِي ذَلِكَ حِسَانًا- وَهُوَ الّذِي يَقُولُ:
يَقُولُ أَبُو قَيْسٍ وَأَصْبَحَ غَادِيًا: ... أَلَا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ وَصَاتَى فَافْعَلُوا
فَأُوصِيكُمْ بِاَللهِ وَالْبِرّ وَالتّقَى ... وَأَعْرَاضِكُمْ وَالْبِرّ بِاَللهِ أَوّلُ
وَإِنْ قَوْمُكُمْ سَادُوا فَلَا تَحْسُدُنّهُمْ ... وَإِنْ كُنْتُمْ أَهْلَ الرّيَاسَةِ فَاعْدِلُوا
وَإِنْ نَزَلَتْ إحْدَى الدّوَاهِي بِقَوْمِكُمْ ... فَأَنْفُسَكُمْ دُونَ الْعَشِيرَةِ فَاجْعَلُوا
وَإِنْ نَابَ غُرْمٌ فَادِحٌ فَارْفُقُوهُمْ ... وَمَا حَمّلُوكُمْ فِي الْمُلِمّاتِ فَاحْمِلُوا
وَإِنْ أَنْتُمْ أَمْعَرْتُمْ فَتَعَفّفُوا ... وَإِنْ كَانَ فَضْلُ الْخَيْرِ فِيكُمْ فَأَفْضِلُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى:
وَإِنْ ناب أمر فادح فارفدوهم
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَة أَيْضًا:
سَبّحُوا اللهَ شَرْقَ كُلّ صَبَاحٍ ... طَلَعَتْ شَمْسُهُ وَكُلّ هِلَالِ
عَالِمَ السّرّ وَالْبَيَانِ لَدَيْنَا ... لَيْسَ مَا قَالَ رَبّنَا بِضَلَالِ
وَلَهُ الطّيْرُ تَسْتَرِيدُ وَتَأْوِي ... فِي وُكُورٍ مِنْ آمِنَاتِ الْجِبَالِ
وَلَهُ الْوَحْشُ بِالْفَلَاةِ تَرَاهَا ... فِي حِقَافٍ وَفِي ظلال الرّمال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/302)
وَلَهُ هَوّدَتْ يَهُودُ وَدَانَتْ ... كُلّ دِينٍ إذَا ذَكَرْتَ عُضَالِ
وَلَهُ شَمّسَ النّصَارَى وَقَامُوا ... كُلّ عِيدٍ لِرَبّهِمْ وَاحْتِفَالِ
وَلَهُ الرّاهِبُ الْحَبِيسُ تَرَاهُ ... رَهْنَ بُوْسٍ وَكَانَ نَاعِمَ بَالِ
يَا بَنِيّ الْأَرْحَامَ لَا تَقْطَعُوهَا ... وَصِلُوهَا قَصِيرَةً مِنْ طِوَالِ
وَاتّقُوا اللهَ فِي ضِعَافِ الْيَتَامَى ... رُبّمَا يُسْتَحَلّ غَيْرُ الْحَلَالِ
وَاعْلَمُوا أَنّ لِلْيَتِيمِ وَلِيّا ... عَالِمًا يَهْتَدِي بِغَيْرِ السّؤَالِ
ثُمّ مَالَ الْيَتِيمِ لَا تَأْكُلُوهُ ... إنّ مَالَ الْيَتِيمِ يَرْعَاهُ وَالِي
يَا بَنِيّ، التّخُومَ لَا تَخْزِلُوهَا ... إنّ خَزْلَ التّخُومِ ذُو عُقّالِ
يَا بَنِيّ الْأَيّامَ لَا تَأْمَنُوهَا ... وَاحْذَرُوا مَكْرَهَا وَمَرّ اللّيَالِي
وَاعْلَمُوا أَنّ مَرّهَا لنفاد الخلق ... مَا كَانَ مِنْ جَدِيدٍ وَبَالِي
وَاجْمَعُوا أَمْرَكُمْ على البرّ والتّقوى ... وترك الخنا وأخذ الحلال
وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ أَيْضًا، يَذْكُرُ مَا أَكْرَمَهُمْ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَمَا خَصّهُمْ اللهُ بِهِ مِنْ نُزُولِ رَسُولِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْهِمْ:
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجّةً ... يُذَكّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا
وَيَعْرِضُ فِي أَهْلِ الْمَوَاسِمِ نَفْسَهُ ... فلم ير من يؤوى وَلَمْ يَرَ دَاعِيَا
فَلَمّا أَتَانَا أَظْهَرَ اللهُ دِينَهُ ... فَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بطِيبةَ رَاضِيَا
وَأَلْفَى صِدّيقًا وَاطْمَأَنّتْ بِهِ النّوَى ... وَكَانَ لَهُ عَوْنًا مِنْ اللهِ بَادِيَا
يَقُصّ لَنَا مَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ ... وَمَا قَالَ مُوسَى إذْ أَجَابَ الْمُنَادِيَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/303)
فَأَصْبَحَ لَا يَخْشَى مِنْ النّاسِ وَاحِدًا ... قَرِيبًا وَلَا يَخْشَى مِنْ النّاسِ نَائِيَا
بَذَلْنَا لَهُ الْأَمْوَالَ مِنْ حِلّ مَالِنَا ... وَأَنْفُسَنَا عِنْدَ الْوَغَى والتّآسِيا
وَنَعْلَمُ أَنّ اللهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... وَنَعْلَمُ أَنّ اللهَ أَفْضَلُ هَادِيَا
نُعَادِي الّذِي عَادَى مِنْ النّاسِ كلّهُم ... جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا
أَقُولُ إذَا أَدْعُوك فِي كُلّ بيعة: ... تباركت قدأ كثرت لِاسْمِك دَاعِيَا
أَقُولُ إذَا جَاوَزْتُ أَرْضًا مَخُوفَةً ... حَنانَيْكَ لَا تُظْهِرْ عَلَيّ الْأَعَادِيَا
فَطَأْ مُعْرِضًا إنّ الْحُتُوفَ كَثِيرَةٌ ... وَإِنّك لَا تُبْقِي لِنَفْسِك باقيا
فو الله مَا يَدْرِي الْفَتَى كَيْفَ يَتّقِي ... إذَا هُوَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ اللهُ وَاقِيَا
وَلَا تَحْفِلُ النّخْلُ الْمُعِيمَةُ رَبّهَا ... إذَا أَصْبَحَتْ رِيّا وَأَصْبَحَ ثاويا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْبَيْتُ الّذِي أَوّلُهُ:
فَطَأْ مُعْرِضًا إنّ الْحُتُوفَ كَثِيرَةٌ
وَالْبَيْتُ الّذِي يَلِيهِ:
فو الله مَا يَدْرِي الْفَتَى كَيْفَ يَتّقِي
لِأَفْنُونَ التّغْلِبِيّ، وَهُوَ صُرَيْمُ بْنُ مَعْشَرٍ، فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/304)
[الْأَعْدَاءُ مِنْ يَهُودَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَنَصَبَتْ عِنْدَ ذَلِكَ أَحْبَارُ يَهُودَ- لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- الْعَدَاوَةَ، بَغْيًا وَحَسَدًا وَضِغْنًا، لِمَا خَصّ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْعَرَبَ مِنْ أَخْذِهِ رَسُولَهُ مِنْهُمْ، وَانْضَافَ إلَيْهِمْ رِجَالٌ مِنْ الأوس والخزرج، ممن كان على عَلَى جَاهِلِيّتِهِ فَكَانُوا أَهْلَ نِفَاقٍ عَلَى دِينِ آبَائِهِمْ مِنْ الشّرْكِ وَالتّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ، إلّا أَنّ الْإِسْلَامَ قَهَرَهُمْ بِظُهُورِهِ وَاجْتِمَاعِ قَوْمِهِمْ عَلَيْهِ، فَظَهَرُوا بِالْإِسْلَامِ، وَاِتّخَذُوهُ جُنّةً مِنْ الْقَتْلِ وَنَافَقُوا فِي السّرّ، وَكَانَ هَوَاهُمْ مَعَ يَهُودَ، لِتَكْذِيبِهِمْ النّبِيّ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَجُحُودِهِمْ الْإِسْلَامَ. وَكَانَتْ أحبار يهودهم الّذِينَ يَسْأَلُونَ- رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَيَتَعَنّتُونَهُ، وَيَأْتُونَهُ بِاللّبْسِ، لِيَلْبِسُوا الْحَقّ بِالْبَاطِلِ، فَكَانَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ فِيهِمْ فِيمَا يَسْأَلُونَ عَنْهُ، إلّا قَلِيلًا مِنْ الْمَسَائِلِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كان المسلمون يسألون عنها.
[من يهود بنى النضير]
منهم: حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ، وَأَخَوَاهُ أَبُو يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ، وَجُدَيّ بْنُ أَخْطَبَ، وَسَلّامُ بْنُ مُشْكِمٍ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَسَلّامُ بن أبى الحقيق، أَبُو رَافِعٍ الْأَعْوَرُ، وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر- وَالرّبِيعُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَعَمْرُو بن جحّاش، وكعب ابن الأشرف، وهو من طيىء، ثُمّ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ، وَأُمّهُ مِنْ بَنِي النّضِيرِ، وَالْحَجّاجُ بْنُ عَمْرٍو، حَلِيفُ كَعْبِ بْنِ الأشرف، وَكَرْدَمُ بْنُ قَيْسٍ، حَلِيفُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/305)
كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي النّضِيرِ.
[من يهود بنى ثعلبة]
وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ ابْنُ الفِطْيَوْن: عَبْدُ اللهِ بْنُ صُورِيّا الْأَعْوَرُ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْحِجَازِ فِي زَمَانِهِ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِالتّوْرَاةِ مِنْهُ؛ وَابْنُ صَلُوبا، ومخيريق، وكان حبرهم، أسلم.
[من يهود بنى قينقاع]
وَمِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ: زَيْدُ بْنُ اللّصِيت- وَيُقَالُ: ابْنُ اللّصَيت- فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- وَسَعْدُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَمَحْمُودُ بْنُ سَيْحَانَ، وَعُزَيْزُ بْنُ أبى عزيز، وعبد الله ابن صَيْفٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: ابْنُ ضَيْفٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَسُوَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَرِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَفِنْحَاصُ، وَأَشْيَعُ، وَنُعْمَانُ بْنُ أضَا، وَبَحْرِيّ بْنُ عَمْرٍو، وَشَأْسُ بْنُ عَدِيّ، وَشَأْسُ ابن قَيْسٍ، وَزَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَنُعْمَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَسُكَيْنُ بْنُ أَبِي سُكَيْنٍ، وَعَدِيّ بْنُ زَيْدٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَبِي أَوْفَى، أَبُو أَنَسٍ، وَمَحْمُودُ بن دحية، ومالك ابن صَيْفٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: ابْنُ ضَيْفٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَعْبُ بْنُ رَاشِدٍ، وَعَازِرٌ، وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَخَالِدٌ وَأَزَارُ بْنُ أَبِي أَزَارٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: آزِرُ بْنُ آزِرُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَرَافِعُ بْنُ حَارِثَةَ، وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، وَرَافِعُ بْنُ خَارِجَةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/306)
وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامِ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ حَبْرَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ، وَكَانَ اسْمُهُ الْحُصَيْنُ، فَلَمّا أَسْلَمَ سَمّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدَ اللهِ. فَهَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ.
[من يهود بنى قريظة]
وَمِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ: الزّبَيْرُ بْنُ بَاطَا بْنُ وَهْبٍ، وَعَزّالُ بْنُ شَمْوِيلٍ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَهُوَ صَاحِبُ عَقْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ الّذِي نُقِضَ عَامَ الْأَحْزَابِ، وَشَمْويِلُ بْنُ زَيْدٍ، وَجَبَلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُكَيْنَةَ، وَالنّحّامُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَرْدَمُ ابن كَعْبٍ، وَوَهْبُ بْنُ زَيْدٍ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نافع، وأبو نافع، وعدىّ ابن زَيْدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، وَكَرْدَمُ بْنُ زَيْدٍ، وأسامة بن حبيب، ورافع ابن رُمَيْلَةَ، وَجَبَلُ بْنُ أَبِي قُشَيْرٍ، وَوَهْبُ بْنُ يهوذا، فهؤلاء من بنى قريظة.
[من يهود بنى زريق]
وَمِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ، وَهُوَ الّذِي أَخَذَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن نسائه.
[من يهود بنى حارثة]
ومن يهود بنى حارثة: كنانة بن صوريا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/307)
[من يهود بنى عمرو]
وَمِنْ يَهُودِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: قَرْدَمُ بن عمرو.
[من يهود بنى النجار]
وَمِنْ يَهُودِ بَنِي النّجّارِ: سِلْسِلَةُ بْنُ بَرْهَامَ.
فَهَؤُلَاءِ أَحْبَارُ الْيَهُودِ، أَهْلُ الشّرُورِ وَالْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَأَصْحَابِهِ، وَأَصْحَابُ الْمَسْأَلَةِ، وَالنّصْبُ لِأَمْرِ الْإِسْلَامِ الشّرُورَ لِيُطْفِئُوهُ، إلّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ ومخيريق.
[إسْلَامُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، كَمَا حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِهِ عَنْهُ، وَعَنْ إسْلَامِهِ حَيْنَ أَسْلَمَ، وَكَانَ حَبْرًا عَالِمًا، قَالَ: لَمّا سَمِعْتُ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَرَفْتُ صِفَتَهُ وَاسْمَهُ وَزَمَانَهُ الّذِي كُنّا نَتَوَكّفُ لَهُ، فَكُنْت مُسِرّا لِذَلِكَ، صَامِتًا عَلَيْهِ، حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمّا نَزَلَ بقُباءٍ، فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ حَتّى أَخْبَرَ بِقُدُومِهِ، وَأَنَا فِي رَأْسِ نَخْلَةٍ لِي أَعَمَلُ فِيهَا، وَعَمّتِي خَالِدَةُ ابْنَةُ الْحَارِثِ تَحْتِي جَالِسَةٌ، فَلَمّا سَمِعْتُ الْخَبَرَ بِقُدُومِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَبّرْتُ، فَقَالَتْ لِي عَمّتِي، حَيْنَ سَمِعَتْ تَكْبِيرِي: خَيّبَك اللهُ، وَاَللهِ لَوْ كنت سمعت بموسى ابن عمران قادما مازدت، قَالَ: فَقُلْت لَهَا: أَيْ عَمّةُ، هُوَ وَاَللهِ أخو موسى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/308)
ابن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به. قَالَ: فَقَالَتْ: أَيْ ابْنَ أَخِي، أَهُوَ النّبِيّ الّذِي كُنّا نُخْبَرُ أَنّهُ يُبْعَثُ مَعَ نَفْسِ السّاعَةِ؟ قَالَ: فَقُلْت لَهَا: نَعَمْ.
قَالَ: فَقَالَتْ: فَذَاكَ إذًا. قَالَ: ثُمّ خَرَجْتُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمْتُ، ثُمّ رَجَعْتُ إلَى أَهْلِ بَيْتِي، فَأَمَرْتُهُمْ فَأَسْلَمُوا.
قَالَ: وَكَتَمْتُ إسْلَامِي مِنْ يَهُودَ، ثُمّ جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ يَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ وَإِنّي أُحِبّ أَنْ تُدْخِلَنِي فِي بَعْضِ بُيُوتِك، وَتُغَيّبَنِي عَنْهُمْ، ثُمّ تَسْأَلُهُمْ عَنّي، حَتّى يُخْبِرُوك كَيْفَ أَنَا فِيهِمْ، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَإِنّهُمْ إنْ عَلِمُوا بِهِ بَهَتُونِي وَعَابُونِي. قَالَ: فَأَدْخَلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَعْضِ بُيُوتِهِ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَكَلّمُوهُ وَسَاءَلُوهُ، ثُمّ قَالَ لَهُمْ: أَيّ رَجُلٍ الْحُصَيْنُ بْنُ سَلَامٍ فِيكُمْ؟ قَالُوا: سَيّدُنَا وَابْنُ سَيّدِنَا، وَحَبْرُنَا وَعَالِمُنَا. قَالَ: فَلَمّا فَرَغُوا مِنْ قَوْلِهِمْ، خَرَجْتُ عَلَيْهِمْ، فَقُلْت لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتّقُوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فو الله إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ إنّهُ لَرَسُولُ اللهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التّوْرَاةِ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ، فَإِنّي أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَأُومِنُ بِهِ وَأُصَدّقُهُ وَأَعْرِفُهُ، فَقَالُوا:
كَذَبْت ثُمّ وَقَعُوا بِي، قَالَ: فَقُلْت لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَمْ أُخْبِرْك يَا رَسُولَ اللهِ أَنّهُمْ قَوْمٌ بُهْتٌ، أَهْلُ غَدْرٍ وَكَذِبٍ وَفُجُورٍ! قَالَ: فَأَظْهَرْت إسْلَامِي وَإِسْلَامُ أَهْلِ بَيْتِي، وأسلمت علىَّ خَالِدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، فَحَسُنَ إسْلَامُهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/309)
[حديث مخيريق]
قال ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ مُخَيْرِيقٍ، وَكَانَ حَبْرًا عَالِمًا، وَكَانَ رَجُلًا غَنِيّا كَثِيرَ الْأَمْوَالِ مِنْ النّخْلِ، وَكَانَ يَعْرِفُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصِفَتِهِ، وَمَا يَجِدُ فِي عِلْمِهِ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ إلْفُ دِينِهِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ، حَتّى إذَا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَكَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ السّبْتِ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَاَللهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّ نَصْرَ مُحَمّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقّ. قَالُوا: إنّ الْيَوْمَ يَوْمُ السّبْتِ؛ قَالَ: لَا سَبْتَ لَكُمْ. ثُمّ أَخَذَ سِلَاحَهُ، فَخَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأُحُدٍ، وَعَهِدَ إلَى مَنْ وَرَاءَهُ مِنْ قَوْمِهِ: إنْ قُتِلْتُ هَذَا الْيَوْمَ، فَأَمْوَالِي لِمُحَمّدٍ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يَصْنَعُ فِيهَا مَا أَرَاهُ اللهُ. فَلَمّا اقْتَتَلَ النّاسُ قَاتَلَ حَتّى قُتِلَ. فَكَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- يَقُولُ:
مُخَيْرِيقُ خير يهود. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمْوَالَهُ، فَعَامّةُ صَدَقَاتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا.
[شَهَادَةٌ عَنْ صَفِيّةَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: حُدّثْت عَنْ صَفِيّةَ بِنْتِ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ أَنّهَا قَالَتْ: كنت أحبّ ولد أَبِي إلَيْهِ، وَإِلَى عَمّي أَبِي يَاسِرٍ، لَمْ أَلْقَهُمَا قَطّ مَعَ وَلَدٍ لَهُمَا إلّا أَخَذَانِي دُونَهُ.
قَالَتْ: فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَنَزَلَ قُبَاءَ، فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، غَدَا عَلَيْهِ أَبِي، حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ، وَعَمّي: أَبُو يَاسِرِ بْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/310)
أَخْطَبَ، مُغَلّسَيْنِ. قَالَتْ: فَلَمْ يَرْجِعَا حَتّى كَانَا مَعَ غُرُوبِ الشّمْسِ. قَالَتْ:
فَأَتَيَا كَالّيْنِ كَسْلَانَيْنِ سَاقِطَيْنِ يَمْشِيَانِ الْهُوَيْنَى. قَالَتْ: فَهَشِشْتُ إلَيْهِمَا كَمَا كنت أصنع، فو الله مَا الْتَفَتَ إلَيّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، مَعَ مَا بِهِمَا مِنْ الْغَمّ.
قَالَتْ: وَسَمِعْت عَمّي أَبَا يَاسِرٍ، وَهُوَ يَقُولُ لِأَبِي: حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ: أَهُوَ هُوَ؟
قَالَ: نَعَمْ وَاَللهِ؛ قَالَ: أَتَعْرِفُهُ: وَتُثْبِتُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا فِي نَفْسِك مِنْهُ؟
قَالَ: عَدَاوَتُهُ وَاَللهِ مَا بَقِيتُ.
[مِنْ اجْتَمَعَ إلَى يَهُودَ مِنْ مُنَافِقِي الْأَنْصَارِ]
[منافقو بنى عمرو]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ مِمّنْ انْضَافَ إلَى يَهُودَ، مِمّنْ سُمّيَ لَنَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ. مِنْ الْأَوْسِ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ؛ ثُمّ مِنْ بَنِي لَوْذَانِ بْنِ عمرو بن عوف: زوىّ بن الحارث.
[منافقو حبيب]
ومن بنى حبيب بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: جُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بن الصامت، وأخوه الحارث بن سويد.
[من نفاق جُلَاسَ]
وَجُلَاسُ الّذِي قَالَ- وَكَانَ مِمّنْ تَخَلّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ- لَئِنْ كَانَ هَذَا الرّجُلُ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرّ مِنْ الْحُمُرِ. فَرَفَعَ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/311)
مِنْ قَوْلِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ، أَحَدُهُمْ، وَكَانَ فِي حِجْرِ جُلَاسَ، خَلَفَ جُلَاسَ عَلَى أُمّهِ بَعْدَ أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ:
وَاَللهِ يَا جُلَاسُ، إنّك لَأَحَبّ النّاسِ إلَيّ، وَأَحْسَنُهُمْ عِنْدِي يَدًا، وَأَعَزّهُمْ عَلَيّ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَلَقَدْ قُلْتَ مَقَالَةً لَئِنْ رَفَعْتُهَا عليك لأفضحنّك، ولئن صمتّ عليها ليهلكنّ دِينِي، وَلَإِحْدَاهُمَا أَيْسَرُ عَلَيّ مِنْ الْأُخْرَى. ثُمّ مَشَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر له ما قال جلاس، فخلف جُلَاسُ بِاَللهِ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ كَذَبَ عَلَيّ عُمَيْرٌ، وَمَا قُلْتُ ما قال عمير ابن سَعْدٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ، وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا، وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ، وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ التوبة: 74.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَلِيمُ: الْمُوجِعُ. قَالَ ذُو الرّمّةِ يَصِفُ إبِلًا:
وَتَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلَاتٍ ... يَصُكّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَزَعَمُوا أَنّهُ تَابَ فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ، حَتّى عُرِفَ مِنْهُ الْخَيْرُ والإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/312)
[ارتداد الحارث بن سويد وغدره]
وَأَخُوهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ، الّذِي قَتَلَ الْمُجَذّرَ بن ذياد البلوىّ، وقيس ابن زَيْدٍ، أَحَدَ بَنِي ضُبَيْعَةَ، يَوْمَ أُحُدٍ. خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مُنَافِقًا، فَلَمّا الْتَقَى النّاسُ عَدَا عَلَيْهِمَا، فَقَتَلَهُمَا ثُمّ لَحِقَ بِقُرَيْشٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ قَتَلَ سُوَيْدَ بْنَ صَامِتٍ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أحد طلب الحارث ابن سُوَيْدٍ غُرّةَ الْمُجَذّرِ بْنِ ذِيَادٍ، لِيَقْتُلهُ بِأَبِيهِ، فَقَتَلَهُ وَحْدَهُ، وَسَمِعْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: وَالدّلِيلُ عَلَى أَنّهُ لَمْ يَقْتُلْ قَيْسَ بْنَ زَيْدٍ، أَنّ ابْنَ إسْحَاقَ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي قَتْلَى أُحُدٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَتَلَ سُوَيْدَ بْنَ صَامِتٍ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ غِيلَةً، فِي غَيْرِ حَرْبٍ، رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ قبل يوم بعاث.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- قَدْ أَمَرَ عمر بن الخطاب بقتله إن هو ظفر بِهِ، فَفَاتَهُ، فَكَانَ بِمَكّةَ، ثُمّ بَعَثَ إلَى أَخِيهِ جُلَاسَ يَطْلُبُ التّوْبَةَ، لِيَرْجِعَ إلَى قَوْمِهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ- فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ-: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ، وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ آل عمران: 86 إلى آخر القصة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/313)
[منافقو بنى ضبيعة]
وَمِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: بِجَادُ ابن عثمان بن عامر.
[منافقو بنى لوذان]
وَمِنْ بَنِي لَوْذَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ الّذِي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- فيما بَلَغَنِي: مَنْ أَحَبّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الشّيْطَانِ، فَلْيَنْظُرْ إلَى نَبْتَلَ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ رَجُلًا جسيما أدلم، ثَائِرَ شَعْرِ الرّأْسِ أَحْمَرَ الْعَيْنَيْنِ، أَسْفَعَ الْخَدّيْنِ، وَكَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَحَدّثُ إلَيْهِ فَيَسْمَعُ مِنْهُ، ثُمّ يَنْقُلُ حَدِيثَهُ إلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ الّذِي قَالَ:
إنّمَا مُحَمّدٌ أُذُنٌ، مَنْ حَدّثَهُ شَيْئًا صَدّقَهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ: هُوَ أُذُنٌ، قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ، يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ رِجَالِ بَلْعِجْلَانَ أَنّهُ حُدّثَ: أَنّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ إنّهُ يَجْلِسُ إلَيْك رَجُلٌ أدلم، ثَائِرُ شَعْرِ الرّأْسِ، أَسْفَعُ الْخَدّيْنِ أَحْمَرُ الْعَيْنَيْنِ، كأنهما قدران من صفر، كبده أغلظ من كبد الحمار، ينقل حديثك إلى المنافقين، فاحذره. وَكَانَتْ تِلْكَ صِفّةُ نَبْتَلِ بْنِ الْحَارِثِ، فِيمَا يذكرون.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/314)
[منافقو بنى ضبيعة]
وَمِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ: أَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ، وَكَانَ مِمّنْ بَنَى مَسْجِدَ الضّرَارِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَهُمَا اللّذَانِ عَاهَدَا اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنْ الصّالِحِينَ، إلَخْ الْقِصّةِ. وَمُعَتّبٌ الّذِي قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ، يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا إلَى آخِرِ الْقِصّةِ. وَهُوَ الّذِي قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: كَانَ مُحَمّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ.
[مُعَتّبٌ وَابْنَا حَاطِبٍ بَدْرِيّونَ وَلَيْسُوا مُنَافِقِينَ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَثَعْلَبَةُ وَالْحَارِثُ ابْنَا حَاطِبٍ، وَهُمْ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَلَيْسُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِيمَا ذَكَرَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ نَسَبَ ابْنُ إسْحَاقَ ثَعْلَبَةَ وَالْحَارِثَ فِي بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ فِي أَسْمَاءِ أَهْلِ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَبّادُ بْنُ حُنَيْفٍ، أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ؛ وَبَحْزَجُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/315)
وَهُمْ مِمّنْ كَانَ بَنَى مَسْجِدَ الضّرَارِ، وَعَمْرُو بن خذام، وعبد الله بن نبتل.
[من بنى ثعلبة]
وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: جَارِيَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ الْعَطّافِ، وَابْنَاهُ: زَيْدٌ وَمُجَمّعٌ، ابْنَا جَارِيَةَ، وَهُمْ مِمّنْ اتّخَذَ مَسْجِدَ الضّرَارِ. وَكَانَ مُجَمّعٌ غُلَامًا حَدَثًا قَدْ جَمَعَ مِنْ الْقُرْآنِ أَكْثَرَهُ، وَكَانَ يُصَلّي بِهِمْ فِيهِ، ثم إنه لما أخرب المسجد، وذهب رجال من بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَانُوا يُصَلّونَ بِبَنِي عمرو ابن عَوْفٍ فِي مَسْجِدِهِمْ، وَكَانَ زَمَانُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، كُلّمَ فِي مُجَمّعٍ لِيُصَلّيَ بِهِمْ؛ فَقَالَ: لا، أو ليس بِإِمَامِ الْمُنَافِقِينَ فِي مَسْجِدِ الضّرَارِ؟ فَقَالَ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاَللهِ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ، مَا عَلِمْت بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَلَكِنّي كُنْت غُلَامًا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ، وَكَانُوا لَا قُرْآنَ مَعَهُمْ، فَقَدّمُونِي أُصَلّي بِهِمْ، وَمَا أَرَى أَمْرَهُمْ، إلّا عَلَى أَحْسَنِ مَا ذَكَرُوا. فَزَعَمُوا أن عمر تركه فصلى بقومه.
[مِنْ بَنِي أُمَيّةَ]
وَمِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكٍ: وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهُوَ مِمّنْ بَنَى مَسْجِدَ الضّرَارِ، وَهُوَ الّذِي قَالَ: إنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ... إلى آخر القصة.
[من بنى عبيد]
وَمِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكٍ: خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ الّذِي أُخْرِجَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/316)
مَسْجِدُ الضّرَارِ مِنْ دَارِهِ؛ وَبِشْرٌ وَرَافِعٌ، ابْنَا زيد.
[من بنى النبيت]
وَمِنْ بَنِي النّبِيتِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: النّبِيتُ: عمرو بن مالك بن الأوس- قال ابن إسْحَاقَ: ثُمّ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مالك ابن الْأَوْسِ: مِرْبَعُ بْنُ قَيْظِيّ، وَهُوَ الّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم حين أَجَازَ فِي حَائِطِهِ وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامِدٌ إلَى أُحُد: لَا أُحِلّ لَك يَا مُحَمّدُ، إنْ كُنْتَ نَبِيّا، أَنْ تَمُرّ فِي حَائِطِي، وَأَخَذَ فِي يَدِهِ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمّ قَالَ: وَاَللهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنّي لَا أُصِيبُ بِهَذَا التّرَابِ غَيْرَك لَرَمَيْتُك بِهِ، فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ، فَهَذَا الْأَعْمَى، أَعْمَى الْقَلْبِ، أَعْمَى الْبَصِيرَةِ، فَضَرَبَهُ سَعْدُ بْنُ زيد، أخو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ بِالْقَوْسِ فَشَجّهُ؛ وَأَخُوهُ أَوْسُ عن قَيْظِيّ، وَهُوَ الّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ، فَأْذَنْ لَنَا فَلْنَرْجِعْ إلَيْهَا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَوْرَةٌ، أَيْ مُعْوَرَةٌ لِلْعَدُوّ وَضَائِعَةٌ؛ وَجَمْعُهَا: عَوْرَاتٌ قَالَ النّابِغَةُ الذّبْيَانِيّ:
مَتَى تَلْقَهُمْ لَا تَلْقَ لِلْبَيْتِ عَوْرَةً ... ولا الجار مخروما وَلَا الْأَمْرَ ضَائِعًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/317)
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَالْعَوْرَةُ (أَيْضًا) : عورة الرجل، وهى حرمته.
والعورة (أيضا) السّوءة.
[من بنى ظفر]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي ظَفَرٍ، وَاسْمُ ظَفَرٍ: كَعْبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ حَاطِبُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ رَافِعٍ، وَكَانَ شَيْخًا جَسِيمًا قَدْ عَسَا فِي جَاهِلِيّتِهِ وَكَانَ لَهُ ابْنٌ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ حَاطِبٍ أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ حَتّى أَثَبَتَتْهُ الْجِرَاحَاتُ، فَحُمِلَ إلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنّهُ اجْتَمَعَ إلَيْهِ مَنْ بِهَا مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ وَنِسَائِهِمْ وَهُوَ بِالْمَوْتِ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ أَبْشِرْ يابن حَاطِبٍ بِالْجَنّةِ. قَالَ فَنَجَمَ نِفَاقُهُ حِينَئِذٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ أَبُوهُ أَجَلْ جَنّةٌ وَاَللهِ مِنْ حَرْمَلٍ، غَرَرْتُمْ وَاَللهِ هَذَا الْمِسْكِينُ مِنْ نَفْسِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبُشَيْرُ بْنُ أُبَيْرِقٍ، وَهُوَ أَبُو طُعْمَةَ، سَارِقُ الدّرْعَيْنِ، الّذِي أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً وقزمان: حليف لهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بْنِ قَتَادَةَ: أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقُولُ: إنّهُ لَمِنْ أَهْلِ النّار. فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا حَتّى قَتَلَ بِضْعَةَ نَفَرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَاتُ، فَحُمِلَ إلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ، فَقَالَ لَهُ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: أَبْشِرْ يَا قُزْمَانُ، فَقَدْ أَبْلَيْتَ الْيَوْمَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/318)
وَقَدْ أَصَابَك مَا تَرَى فِي اللهِ: قَالَ: بماذا أبشر، فو الله مَا قَاتَلْت إلّا حَمِيّةً عَنْ قَوْمِي؛ فَلَمّا اشْتَدّتْ بِهِ جِرَاحَاتُهُ وَآذَتْهُ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَقَطَعَ بِهِ رَوَاهِشَ يَدِهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ.
[من بنى عبد الأشهل]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ يَعْلَمُ، إلّا أَنّ الضّحّاكَ بْنَ ثَابِتٍ، أَحَدِ بَنِي كَعْبٍ، رَهْطِ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ، قَدْ كَانَ يُتّهَمُ بِالنّفَاقِ وَحُبّ يَهُودَ.
قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
من ملبغ الضّحّاكَ أَنّ عُرُوقَهُ ... أَعْيَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنْ تَتَمَجّدَا
أَتُحِبّ يُهْدَانَ الْحِجَازِ وَدِينَهُمْ ... كِبْدَ الْحِمَارِ، وَلَا تُحِبّ مُحَمّدًا
دِينًا لَعَمْرِي لَا يُوَافِقُ دِينَنَا ... مَا اسْتَنّ آلٌ فِي الْفَضَاءِ وَخَوّدَا
وَكَانَ جُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ قَبْلَ توبته- فيما بلغنى- ومعتّب ابن قُشَيْرٍ، وَرَافِعُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِشْرٌ، وَكَانُوا يُدْعَوْنَ بِالْإِسْلَامِ، فَدَعَاهُمْ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي خُصُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَوْهُمْ إلَى الْكُهّانِ، حُكّامُ أَهْلِ الْجَاهِلِيّةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِمْ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً» .. إلى آخر القصة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/319)
[من الخزرج]
وَمِنْ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي النّجّارِ: رَافِعُ بْنُ وَدِيعَةَ، وَزَيْدُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو بْنُ قيس، وقيس بن عمرو بن سهل.
[من بنى جشم]
وَمِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ: يَا مُحَمّدُ، ائْذَنْ لِي، وَلَا تَفْتِنّي. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي، وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ... إلَى آخِرِ القصة.
[مِنْ بَنِي عَوْفٍ]
وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ: عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ بْنِ سَلُول، وَكَانَ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ وَإِلَيْهِ يَجْتَمِعُونَ، وَهُوَ الّذِي قَالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. وَفِي قَوْلِهِ ذَلِكَ، نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ بِأَسْرِهَا. وَفِيهِ وَفِي وَدِيعَةَ- رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَوْفٍ- وَمَالِكِ بن أبى قوفل، وَسُوَيْدٍ، وَدَاعِسٌ، وَهُمْ مِنْ رَهْطِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ بْنِ سَلُولٍ؛ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ بْنِ سَلُولٍ. فَهَؤُلَاءِ النّفَرُ مِنْ قَوْمِهِ الّذِينَ كَانُوا يَدُسّونَ إلَى بَنِي النّضِيرِ حَيْنَ حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: إن اثبتوا، فو الله لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أحدا أَبَدًا، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنّكُمْ.
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/320)
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، ثُمّ الْقِصّةُ مِنْ السّورَةِ حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ.
[مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ نِفَاقًا]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ مِمّنْ تَعَوّذَ بِالْإِسْلَامِ، وَدَخَلَ فِيهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَظْهَرَهُ وَهُوَ مُنَافِقٌ، مِنْ أحبار يهود:
[من بنى قينقاع]
مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ: سَعْدُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَزَيْدُ بن اللّصيت، ونعمان بن أوفى ابن عَمْرٍو، وَعُثْمَانُ بْنُ أَوْفَى. وَزَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ، الّذِي قَاتَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَهُوَ الّذِي قَالَ، حَيْنَ ضَلّتْ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّهُ يَأْتِيهِ خَبَرُ السّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَهُ الْخَبَرُ بِمَا قَالَ عَدُوّ اللهِ فِي رَحْلِهِ، وَدَلّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَسُولَهُ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى نَاقَتِهِ «إنّ قَائِلًا قَالَ:
يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّهُ يَأْتِيهِ خَبَرُ السّمَاءِ، وَلَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ؟ وَإِنّي وَاَللهِ مَا أَعْلَمُ إلّا مَا عَلّمَنِي اللهُ، وَقَدْ دَلّنِي اللهُ عَلَيْهَا، فَهِيَ فِي هَذَا الشّعْبِ، قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا، فَذَهَبَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَدُوهَا حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/321)
عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَكَمَا وَصَفَ» وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، وَهُوَ الّذِي قَالَ لَهُ الرّسُولُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا بَلَغَنَا- حَيْنَ مَاتَ: قَدْ مَاتَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ؛ وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ، وَهُوَ الّذِي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حين هَبّتْ عَلَيْهِ الرّيحُ، وَهُوَ قَافِلٌ مِنْ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَاشْتَدّتْ عَلَيْهِ حَتّى أَشْفَقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا؛ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَخَافُوا، فَإِنّمَا هَبّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفّارِ. فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ مَاتَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الّذِي هَبّتْ فِيهِ الرّيحُ وَسِلْسِلَةَ بْنَ بِرْهامٍ. وَكِنَانَةَ بْنَ صُورِيّا.
[طَرْدُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ مَسْجِدِ الرّسُولِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ]
وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ يَحْضُرُونَ الْمَسْجِدَ فَيَسْتَمِعُونَ أَحَادِيثَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْخَرُونَ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِدِينِهِمْ، فَاجْتَمَعَ يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ مِنْهُمْ نَاسٌ فَرَآهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَحَدّثُونَ بَيْنَهُمْ، خَافِضِي أَصْوَاتَهُمْ، قَدْ لَصِقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَأَمَرَ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأُخْرِجُوا مِنْ الْمَسْجِدِ إخْرَاجًا عَنِيفًا، فَقَامَ أَبُو أَيّوبَ، خَالِدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ، إلَى عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، أَحَدِ بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ- كَانَ صَاحِبَ آلِهَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَأَخَذَ بِرِجْلِهِ فَسَحَبَهُ، حَتّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَتُخْرِجُنِي يَا أَبَا أَيّوبَ مِنْ مِرْبَدِ بَنِي ثَعْلَبَة، ثُمّ أَقْبَلَ أَبُو أَيّوبَ أَيْضًا إلَى رَافِعِ بْنِ وَدِيعَةَ، أَحَدِ بَنِي النّجّارِ فَلَبّبَهُ بِرِدَائِهِ ثمَ نَتَرَهُ نَتْرًا شَدِيدًا، وَلَطَمَ وَجْهَهُ، ثُمّ أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/322)
وَأَبُو أَيّوبَ يَقُولُ لَهُ: أُفّ لَك مُنَافِقًا خَبِيثًا: أَدْرَاجَك يَا مُنَافِقُ مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هِشَامٍ: أَيْ ارْجِعْ مِنْ الطّرِيقِ الّتِي جِئْت مِنْهَا. قَالَ الشّاعِرُ:
فَوَلّى وَأَدْبَرَ أَدْرَاجَهُ ... وَقَدْ بَاءَ بِالظّلْمِ مَنْ كَانَ ثَمّ
وَقَامَ عِمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إلَى زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ رَجُلًا طَوِيلَ اللّحْيَةِ، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَقَادَهُ بِهَا قَوْدًا عَنِيفًا حَتّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ، ثُمّ جَمَعَ عِمَارَةُ يَدَيْهِ فَلَدَمَهُ بِهِمَا فِي صَدْرِهِ لَدْمَةً خَرّ مِنْهَا. قَالَ: يَقُولُ: خَدَشْتَنِي يَا عمارة؛ قال:
أَبْعَدَك اللهُ يَا مُنَافِقُ، فَمَا أَعَدّ اللهُ لَك مِنْ الْعَذَابِ أَشَدّ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا تَقْرَبَنّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: اللّدْمُ: الضّرْبُ بِبَطْنِ الْكَفّ. قَالَ تَمِيمُ بْنُ أُبَيّ بْنِ مُقْبِلٍ:
وَلِلْفُؤَادِ وَجِيبٌ تَحْتَ أَبْهَرِهِ ... لَدْمَ الْوَلِيدِ وَرَاءَ الْغَيْبِ بِالْحَجَرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْغَيْبُ: مَا انْخَفَضَ مِنْ الْأَرْضِ. وَالْأَبْهَرُ: عِرْقُ الْقَلْبِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَامَ أَبُو مُحَمّدٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي النّجّارِ، كَانَ بَدْرِيّا، وَأَبُو مُحَمّدٍ مَسْعُودُ بْنُ أَوْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ ابن مَالِكِ بْنِ النّجّارِ إلَى قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ، وَكَانَ قَيْسٌ غُلَامًا شَابّا، وَكَانَ لَا يُعْلَمُ فِي الْمُنَافِقِينَ شَابّ غَيْرُهُ، فَجَعَلَ يَدْفَعُ فِي قَفَاهُ حَتّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/323)
وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَلْخُدْرَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ، رَهْطِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، يُقَالُ لَهُ:
عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ، حَيْنَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِخْرَاجِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ ذَا جُمّةٍ، فَأَخَذَ بِجُمّتِهِ فَسَحَبَهُ بِهَا سَحْبًا عَنِيفًا، عَلَى مَا مَرّ بِهِ مِنْ الْأَرْضِ، حَتّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ. قَالَ: يَقُولُ المنافق: لقد أغلظت يابن الْحَارِثِ؛ فَقَالَ لَهُ؛ إنّك أَهْلٌ لِذَلِكَ، أَيْ عَدُوّ اللهِ لَمّا أَنْزَلَ اللهُ فِيك، فَلَا تَقْرَبَنّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَإِنّك نَجِسٌ.
وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إلَى أَخِيهِ زُوَيّ بْنِ الْحَارِثِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إخْرَاجًا عَنِيفًا، وَأَفّفَ مِنْهُ، وَقَالَ: غَلَبَ عَلَيْك الشّيْطَانُ وَأَمْرُهُ.
فَهَؤُلَاءِ مَنْ حَضَرَ الْمَسْجِدَ يَوْمئِذٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَأَمّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِهِمْ.
[مَا نَزَلَ مِنْ الْبَقَرَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ وَيَهُودَ]
[ما نزل فى الأحبار]
ففى هؤلاء من أحبار يهود، والمنافقين من الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، نَزَلَ صَدْرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إلَى المائة مِنْهَا- فِيمَا بَلَغَنِي- وَاَللهُ أَعْلَمُ.
يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ: الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَيْ لَا شَكّ فِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/324)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ سَاعِدَةُ بْنُ جُؤَيَةَ الْهُذَلِيّ:
فَقَالُوا عَهِدْنَا الْقَوْمَ قَدْ حَصَرُوا بِهِ ... فَلَا رَيْبَ أَنْ قَدْ كَانَ ثَمّ لَحِيمُ
وهذا البيت فى قصيدة له، وارّيب (أَيْضًا) : الرّيبَةُ. قَالَ خَالِدُ بْنُ زُهَيْرٍ الْهُذَلِيّ:
كأننى أريبه بِرَيْبٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيهِ:
كَأَنّنِي أَرَبْته بِرَيْبٍ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَهُوَ ابْنُ أَخِي أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيّ.
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، أَيْ الّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنْ اللهِ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ الْهُدَى، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بِالتّصْدِيقِ بِمَا جَاءَهُمْ مِنْهُ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أَيْ يُقِيمُونَ الصّلَاةَ بِفَرْضِهَا، وَيُؤْتَوْنَ الزّكَاةَ احْتِسَابًا لَهَا: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، أَيْ يُصَدّقُونَك بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ اللهِ عَزّ وَجَلّ، وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلُك مِنْ الْمُرْسَلِينَ، لَا يُفَرّقُونَ بينهم، ولا يجحدون ما جاؤهم بِهِ مِنْ رَبّهِمْ. وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أَيْ بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، أى هؤلاء الذين بزعمون أنهم آمنوا بما كَانَ مِنْ قَبْلِك، وَبِمَا جَاءَك مِنْ رَبّك أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، أَيْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِمْ وَاسْتِقَامَةٍ عَلَى مَا جَاءَهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ الّذِينَ أَدْرَكُوا مَا طلبوا ونجوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/325)
مِنْ شَرّ مَا مِنْهُ هَرَبُوا. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك، وَإِنْ قَالُوا إنّا قَدْ آمَنّا بِمَا جَاءَنَا قَبْلَك سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ أَنّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الْمِيثَاقُ لَك، فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَك وَبِمَا عِنْدَهُمْ، مِمّا جَاءَهُمْ بِهِ غَيْرُك، فَكَيْفَ يَسْتَمِعُونَ مِنْك إنْذَارًا أَوْ تَحْذِيرًا، وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِك.
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ أَيْ عَنْ الْهُدَى أَنْ يُصِيبُوهُ أَبَدًا، يَعْنِي بِمَا كَذّبُوك بِهِ مِنْ الْحَقّ الّذِي جَاءَك مِنْ رَبّك حَتّى يُؤْمِنُوا بِهِ، وَإِنْ آمَنُوا بِكُلّ مَا كَانَ قَبْلَك، وَلَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِك عَذَابٌ عَظِيمٌ.
فَهَذَا فِي الْأَحْبَارِ مِنْ يَهُودَ، فِيمَا كَذّبُوا بِهِ مِنْ الْحَقّ بَعْدَ مُعْرِفَتِهِ.
[مَا نَزَلَ فِي مُنَافِقِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى أَمْرِهِمْ. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، أَيْ شَكّ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً، أَيْ شَكّا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَيْ إنّمَا نُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ، قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، أَلا إِنَّهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/326)
هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ مِنْ يَهُودَ، الّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالتّكْذِيبِ بِالْحَقّ، وَخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرّسُولُ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ، أَيْ إنّا عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عليه.
إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ: أى إنما نستهزىء بالقوم، ونلعب بهم. يقول الله عَزّ وَجَلّ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
[تفسير بن هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ يَعْمَهُونَ: يَحَارُونَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: رَجُلٌ عَمِهٌ وَعَامِهٌ:
أَيْ حَيَرَانُ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ يَصِفُ بَلَدًا:
أَعْمَى الْهُدَى بِالْجَاهِلِينَ الْعُمّهِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ. فَالْعُمّهُ: جَمْعُ عَامِهٍ؛ وَأَمّا عَمِهٌ، فَجَمْعُهُ:
عَمِهُونَ. وَالْمَرْأَةُ: عَمِهَةٌ وَعَمْهَاءُ.
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى: أَيْ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا، فَقَالَ تَعَالَى كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ أَيْ لَا يُبْصِرُونَ الْحَقّ وَيَقُولُونَ بِهِ حَتّى إذَا خَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ أَطْفَئُوهُ بِكُفْرِهِمْ بِهِ وَنِفَاقِهِمْ فِيهِ، فَتَرَكَهُمْ اللهُ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى، وَلَا يَسْتَقِيمُونَ عَلَى حَقّ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/327)
لَا يَرْجِعُونَ: أَيْ لَا يَرْجِعُونَ إلَى الْهُدَى، صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ عَنْ الْخَيْرِ، لَا يَرْجِعُونَ إلَى خَيْرٍ وَلَا يُصِيبُونَ نَجَاةً مَا كَانُوا على ماهم عَلَيْهِ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الصّيّبُ: الْمَطَرُ، وَهُوَ مِنْ صَابَ يَصُوبُ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ:
السّيّدُ، مَنْ سَادَ يَسُودُ، وَالْمَيّتُ: مَنْ مَاتَ يَمُوتُ؛ وَجَمْعُهُ: صَيَائِبُ. قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبَدَةَ، أَحَدُ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ:
كَأَنّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ ... صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنّ دَبِيبُ
وَفِيهَا:
فَلَا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمّرٍ ... سَقَتْكَ رَوَايَا المزن حيث تصوب
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَيْ هُمْ مِنْ ظُلْمَةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْحَذَرِ مِنْ الْقَتْلِ، مِنْ الّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالتّخَوّفِ لَكُمْ، عَلَى مِثْلِ مَا وُصِفَ، مِنْ الّذِي هُوَ (فِي) ظُلْمَةِ الصّيّبِ، يَجْعَلُ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنِيهِ مِنْ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ. يَقُولُ:
وَاَللهُ مُنْزِلُ ذَلِكَ بِهِمْ مِنْ النّقْمَةِ، أَيْ هُوَ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ: أَيْ لِشِدّةِ ضَوْءِ الْحَقّ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا، أَيْ يَعْرِفُونَ الْحَقّ وَيَتَكَلّمُونَ بِهِ، فَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ بِهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، فَإِذَا ارْتَكَسُوا مِنْهُ فِي الْكُفْرِ قَامُوا مُتَحَيّرِينَ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/328)
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ أَيْ لِمَا تَرَكُوا مِنْ الْحَقّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثُمّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، مِنْ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ وَحّدُوا رَبّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً، وَالسَّماءَ بِناءً، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
[تَفْسِيرُ ابْنِ هشام لبعض الغريب]
قال ابن هشام: الأمثال، واحدهم ندّ. قال لعبيد بْنُ رَبِيعَةَ:
أَحْمَدُ اللهَ فَلَا نِدّ لَهُ ... بيديه الخير ماشاء فعل
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَيْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللهِ غَيْرَهُ مِنْ الْأَنْدَادِ الّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرّ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنّهُ لَا رَبّ لَكُمْ يَرْزُقكُمْ غَيْرُهُ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنّ الّذِي يَدْعُوكُمْ إلَيْهِ الرّسُولُ مِنْ تَوْحِيدِهِ هُوَ الْحَقّ لَا شَكّ فِيهِ. وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا أَيْ فِي شَكّ مِمّا جَاءَكُمْ بِهِ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أى من استطعتم من أعوانكم على ما أنتم عليه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَقَدْ تَبَيّنَ لَكُمْ الْحَقّ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/329)
أَيْ لِمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ.
ثُمّ رَغّبَهُمْ وَحَذّرَهُمْ نُقْضَ الْمِيثَاقِ الّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمْ لِنَبِيّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا جَاءَهُمْ، وَذَكَرَ لَهُمْ بَدْءَ خَلْقِهِمْ حَيْنَ خَلَقَهُمْ، وَشَأْنَ أَبِيهِمْ آدَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَأَمْرَهُ، وَكَيْفَ صَنَعَ بِهِ حَيْنَ خَالَفَ عَنْ طَاعَتِهِ، ثُمّ قَالَ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ لِلْأَحْبَارِ مِنْ يَهُودَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أَيْ بَلَائِي عِنْدَكُمْ وَعِنْدَ آبَائِكُمْ، لَمّا كان نجاها بِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي الّذِي أَخَذْت فِي أَعْنَاقِكُمْ لِنَبِيّي أَحْمَدَ إذَا جَاءَكُمْ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أُنْجِزْ لَكُمْ مَا وَعَدْتُكُمْ عَلَى تَصْدِيقِهِ وَاتّبَاعِهِ بِوَضْعِ مَا كَانَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الّتِي كَانَتْ فِي أَعْنَاقِكُمْ بِذُنُوبِكُمْ الّتِي كَانَتْ مِنْ أَحْدَاثِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أَيْ أَنْ أُنْزِلَ بِكُمْ مَا أَنَزَلْت بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ مِنْ النّقْمَاتِ الّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ، مِنْ الْمَسْخِ وَغَيْرِهِ وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَعِنْدَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ فِيهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِكُمْ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ لَا تَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ الْمُعْرِفَةِ بِرَسُولِي وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ فِيمَا تَعْلَمُونَ مِنْ الْكُتُبِ الّتِي بِأَيْدِيكُمْ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَيْ أَتَنْهَوْنَ النّاسَ عَنْ الْكُفْرِ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنْ النّبُوّةِ وَالْعَهْدِ مِنْ التّوْرَاةِ وَتَتْرُكُونَ أَنَفْسَكُمْ، أَيْ وَأَنْتُمْ تَكْفُرُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ عَهْدِي إلَيْكُمْ فِي تَصْدِيقِ رَسُولِي وَتَنْقُضُونَ مِيثَاقِي، وَتَجْحَدُونَ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ كِتَابِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/330)
ثُمّ عَدّدَ عَلَيْهِمْ أَحْدَاثَهُمْ، فَذَكَرَ لَهُمْ الْعِجْلَ وَمَا صَنَعُوا فِيهِ، وَتَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِقَالَتَهُ إيّاهُمْ، ثُمّ قَوْلَهُمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً.
[تَفْسِيرُ ابْنِ هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: جَهْرَةً، أَيْ ظَاهِرًا لَنَا لَا شَيْءَ يَسْتُرهُ عَنّا. قَالَ أَبُو الْأَخْزَرِ الْحَمَانِيّ، وَاسْمُهُ قتيبة:
يَجْهَرُ أَجْوَافَ الْمِيَاهِ السّدُم
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ.
يَجْهَرُ: يَقُولُ: يُظْهِرُ الْمَاءَ وَيَكْشِفُ عَنْهُ مَا يَسْتُرُهُ مِنْ الرّمْلِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَخْذَ الصّاعِقَةِ إيّاهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ لِغِرّتِهِمْ، ثُمّ إحْيَاءَهُ إيّاهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَتَظْلِيلَهُ عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ، وَإِنْزَالَهُ عَلَيْهِمْ الْمَنّ وَالسّلْوَى، وَقَوْلُهُ لهم: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ، أَيْ قُولُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ أَحُطّ بِهِ ذُنُوبَكُمْ عَنْكُمْ؛ وَتَبْدِيلَهُمْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ اسْتِهْزَاءً بِأَمْرِهِ، وَإِقَالَتَهُ إيّاهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ هُزْئِهِمْ.
[تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الغريب]
تفسير ابن هشام لبعض الغريب قال ابن هِشَامٍ: الْمَنّ: شَيْءٌ كَانَ يَسْقُطُ فِي السّحَرِ على شجرهم، فيجتنبونه حُلْوًا مِثْلَ الْعَسَلِ، فَيَشْرَبُونَهُ وَيَأْكُلُونَهُ. قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
لَوْ أُطْعِمُوا الْمَنّ وَالسّلْوَى مَكَانَهُمْ ... مَا أَبْصَرَ النّاسُ طُعْمًا فِيهُمُ نجعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/331)
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالسّلْوَى: طَيْرٌ؛ وَاحِدَتُهَا: سَلْوَاةٌ؛ وَيُقَالُ:
إنّهَا السّمَانِيّ، وَيُقَالُ لِلْعَسَلِ (أَيْضًا) : السّلْوَى. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ زُهَيْرٍ الْهُذَلِيّ:
وَقَاسَمَهَا بِاَللهِ حَقّا لَأَنْتُمْ ... أَلَذّ مِنْ السّلْوَى إذَا مَا نَشُورُهَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَحِطّةٌ: أَيْ حُطّ عَنّا ذُنُوبَنَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ مِنْ تَبْدِيلِهِمْ ذَلِكَ، كَمَا حَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التّوْءَمَةِ بِنْتِ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، عَنْ أَبِي هريرة ومن لا أنّهم، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، قَالَ: دَخَلُوا الْبَابَ الّذِي أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا مِنْهُ سُجّدًا يَزْحَفُونَ، وَهُمْ يَقُولُونَ حِنْطٌ فِي شَعِيرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى: حِنْطَةٌ فِي شَعِيرَةٍ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَاسْتِسْقَاءَ مُوسَى لِقَوْمِهِ، وَأَمْرَهُ (إيّاهُ) أَنْ يَضْرِبَ بعصاه الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ لَهُمْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشَرَةَ عَيْنًا، لِكُلّ سِبْطٍ عَيْنٌ يَشْرَبُونَ مِنْهَا، قَدْ عَلِمَ كُلّ سِبْطٍ عَيْنَهُ الّتِي مِنْهَا يَشْرَبُ؛ وَقَوْلَهُمْ لِمُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ:
لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ، فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْفُوَمُ: الْحِنْطَةُ. قَالَ أُمَيّةُ بْنُ الصّلْتِ الثّقَفِيّ:
فَوْقَ شِيزَى مِثْلِ الْجَوَابِي عَلَيْهَا ... قطع كالوذبل فِي نِقْيِ فُومِ
[تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: الْوَذِيلُ: قِطَعُ الْفِضّةِ وَالْفُوَمُ: الْقَمْحُ؛ وَاحِدَتُهُ: فُومَةٌ.
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/332)
وَعَدَسِها وَبَصَلِها، قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمْ يَفْعَلُوا. وَرَفْعَهُ الطّورَ فَوْقَهُمْ لِيَأْخُذُوا مَا أُوتُوا؛ وَالْمَسْخَ الّذِي كَانَ فِيهِمْ، إذْ جَعَلَهُمْ قِرَدَةً بِأَحْدَاثِهِمْ، وَالْبَقَرَةَ الّتِي أَرَاهُمْ اللهُ عَزّ وَجَلّ بِهَا الْعِبْرَةَ فِي الْقَتِيلِ الّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، حَتّى بَيّنَ اللهُ لَهُمْ أَمْرَهُ، بَعْدَ التّرَدّدِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ فِي صِفّةِ الْبَقَرَةِ؛ وَقَسْوَةَ قُلُوبِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتّى كَانَتْ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدّ قَسْوَةً. ثُمّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَيْ وَإِنّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَأَلْيَنُ مِنْ قُلُوبِكُمْ عَمّا تَدْعُونَ إلَيْهِ مِنْ الْحَقّ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
ثم قال لمحمد عليه الصلاة والسلام وَلِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يُؤَيّسُهُمْ مِنْهُمْ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَلَيْسَ قَوْلُهُ يَسْمَعُونَ التّوْرَاةَ، أَنّ كُلّهُمْ قَدْ سَمِعَهَا، وَلَكِنّهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، أَيْ خَاصّةٌ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ، فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَالُوا لِمُوسَى: يَا مُوسَى، قَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رُؤْيَةِ اللهِ، فَأَسْمِعْنَا كَلَامَهُ حَيْنَ يُكَلّمُك، فَطَلَبَ ذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ مِنْ رَبّهِ، فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ، مُرْهُمْ فَلْيَطّهّرُوا، أَوْ لِيُطَهّرُوا ثِيَابَهُمْ، وَلْيَصُومُوا، فَفَعَلُوا. ثُمّ خَرَجَ بِهِمْ حَتّى أَتَى بِهِمْ الطّورَ؛ فَلَمّا غَشِيَهُمْ الْغَمَامُ أَمَرَهُمْ مُوسَى فَوَقَعُوا سُجّدًا، وَكَلّمَهُ رَبّهُ، فَسَمِعُوا كَلَامَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يأمرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/333)
وَيَنْهَاهُمْ، حَتّى عَقَلُوا عَنْهُ مَا سَمِعُوا، ثُمّ انْصَرَفَ بِهِمْ إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ، فَلَمّا جَاءَهُمْ حَرّفَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَقَالُوا، حَيْنَ قَالَ مُوسَى لِبَنِي إسْرَائِيلَ:
إنّ اللهَ قَدْ أَمَرَكُمْ بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ ذَلِكَ الْفَرِيقُ الّذِي ذَكَرَ اللهُ عَزّ وَجَلّ:
إنّمَا قَالَ كَذَا وَكَذَا، خِلَافًا لِمَا قَالَ اللهُ لَهُمْ، فَهُمْ الّذِينَ عَنَى اللهُ عَزّ وَجَلّ لِرَسُولِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، أَيْ بِصَاحِبِكُمْ رَسُولِ اللهِ، وَلَكِنّهُ إلَيْكُمْ خَاصّةً. وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا:
لَا تُحَدّثُوا الْعَرَبَ بِهَذَا، فَإِنّكُمْ قَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ فِيهِمْ.
فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِمْ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ، أَيْ تُقِرّونَ بِأَنّهُ نَبِيّ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنّهُ قَدْ أُخِذَ لَهُ الْمِيثَاقُ عَلَيْكُمْ بِاتّبَاعِهِ، وَهُوَ يُخْبِرُكُمْ أَنّهُ النّبِيّ الّذِي كُنّا نَنْتَظِرُ وَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا؛ اجْحَدُوهُ وَلَا تُقِرّوا لَهُمْ بِهِ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ.
[تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ]
الغريب قال ابن هِشَامٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: إلّا أَمَانِيّ: إلّا قراءة، لأن الأمىّ: الذى يقرأ ولا يكتب. يقول: لا يعلمون الكتاب إلا (أنهم) يقرؤنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/334)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَيُونُسَ أَنّهُمَا تَأَوّلَا ذَلِكَ عَنْ الْعَرَبِ فِي قَوْلِ اللهِ عَزّ وَجَلّ، حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ النّحْوِيّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: أَنّ الْعَرَبَ تَقُولُ: تَمَنّى، فِي مَعْنَى قَرَأَ. وَفِي كِتَابِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ. قَالَ: وَأَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ:
تَمَنّى كِتَابَ اللهِ أَوّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهُ وَافَى حِمَامُ الْمَقَادِرِ
وَأَنْشَدَنِي أَيْضًا:
تَمَنّى كِتَابَ اللهِ فِي اللّيْلِ خَالِيًا ... تَمَنّيَ دَاوُدَ الزّبُورَ عَلَى رِسْلِ
وَوَاحِدَةُ الْأَمَانِيّ: أُمْنِيّةٌ. وَالْأَمَانِيّ (أَيْضًا) : أَنْ يَتَمَنّى الرّجُلُ الْمَالَ أَوْ غَيْرَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ: أَيْ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ، وَهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوّتَك بِالظّنّ. وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
[دَعْوَى الْيَهُودَ قِلّةَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَرَدّ اللهِ عَلَيْهِمْ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مَوْلًى لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: فدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/335)
الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَقُولُ: إنّمَا مُدّةُ الدّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنّمَا يُعَذّبُ اللهُ النّاسَ فِي النّارِ بِكُلّ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيّامِ الدّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا فِي النّارِ مِنْ أَيّامِ الْآخِرَةِ، وَإِنّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيّامٍ ثُمّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ. فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ:
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً. قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أى من عمل بمثل أعمالكم، وَكَفَرَ بِمِثْلِ مَا كَفَرْتُمْ بِهِ، يُحِيطُ كُفْرُهُ بِمَا لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ حَسَنَةٍ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أَيْ خُلْدٌ أَبَدًا. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: أَيْ مَنْ آمَنَ بِمَا كَفَرْتُمْ بِهِ، وَعَمِلَ بِمَا تَرَكْتُمْ مِنْ دِينِهِ، فَلَهُمْ الْجَنّةُ خَالِدِينَ فِيهَا، يُخْبِرُهُمْ أَنّ الثّوَابَ بِالْخَيْرِ وَالشّرّ مُقِيمٌ عَلَى أَهْلِهِ أَبَدًا، لَا انْقِطَاعَ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ قَالَ اللهُ عَزّ وَجَلّ يُؤَنّبُهُمْ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ مِيثَاقَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ أَيْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ كُلّهُ لَيْسَ بِالتّنَقّصِ. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/336)
[تفسير ابن هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: تَسْفِكُونَ: تَصُبّونَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: سَفَكَ دَمَهُ، أَيْ صَبّهُ، وَسَفَكَ الزّقّ، أَيْ هَرَاقَهُ. قَالَ الشّاعِرُ:
وَكُنّا إذَا مَا الضّيْفُ حَلّ بِأَرْضِنَا ... سَفَكْنَا دِمَاءَ الْبُدْنِ فِي تُرْبَةِ الْحَالِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَعْنِي «بِالْحَالِ» : الطّينِ الّذِي يُخَالِطُهُ الرّمْلُ، وَهُوَ الّذِي تَقُولُ لَهُ الْعَرَبُ: السّهْلَةُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَنّ جِبْرِيلَ لَمّا قَالَ فِرْعَوْنُ:
آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ أَخَذَ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ وَحَمَأَتِهِ فَضَرَبَ بِهِ وَجْهَ فِرْعَوْنَ. (وَالْحَالُ: مِثْلُ الْحَمْأَةِ) .
قَالَ ابن إسحاق: وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنّ هَذَا حَقّ مِنْ مِيثَاقِي عَلَيْكُمْ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ، تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ أَيْ أَهْلَ الشّرْكِ، حَتّى يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ مَعَهُمْ، وَيُخْرِجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ مَعَهُمْ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنّ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ فِي دِينِكُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ: فِي كِتَابِكُمْ إِخْراجُهُمْ، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، (أَيْ) أَتُفَادُونَهُمْ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وَتُخْرِجُونَهُمْ كُفّارًا بِذَلِكَ. فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/337)
بِالْآخِرَةِ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فَأَنّبَهُمْ اللهُ عَزّ وَجَلّ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلهمْ، وَقَدْ حَرّمَ عَلَيْهِمْ فِي التّوْرَاةِ سَفْكَ دِمَائِهِمْ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِيهَا فِدَاءَ أَسْرَاهُمْ.
فَكَانُوا فَرِيقَيْنِ، مِنْهُمْ بَنُو قَيْنُقَاعَ وَلَفّهُمْ، حُلَفَاءُ الْخَزْرَجِ، والنّضير وقريظة وَلَفّهُمْ، حُلَفَاءُ الْأَوْسِ. فَكَانُوا إذَا كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حَرْبٌ خَرَجَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ مَعَ الْخَزْرَجِ وَخَرَجَتْ النّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ يُظَاهِرُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ حُلَفَاءَهُ عَلَى إخْوَانِهِ، حَتّى يَتَسَافَكُوا دِمَاءَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبِأَيْدِيهِمْ التّوْرَاةُ يَعْرِفُونَ فيها ما عليهم ومالهم، وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَهْلُ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ. لَا يَعْرِفُونَ جَنّةً وَلَا نَارًا، وَلَا بَعْثًا وَلَا قِيَامَةً، وَلَا كِتَابًا، وَلَا حَلَالًا وَلَا حَرَامًا، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا افْتَدَوْا أُسَارَاهُمْ تَصْدِيقًا لِمَا فِي التّوْرَاةِ، وَأَخَذَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، يَفْتَدِي بَنُو قَيْنُقَاعَ مَنْ كَانَ مِنْ أسراهم فى أيدى الأوس وتفتدى النّضير وفريظة مَا فِي أَيَدِي الْخَزْرَجِ مِنْهُمْ وَيُطِلّونَ مَا أصابوا من الدماء، وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مُظَاهَرَةً لِأَهْلِ الشّرْكِ عَلَيْهِمْ. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ حَيْنَ أَنّبَهُمْ بِذَلِكَ:
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، أَيْ تُفَادِيهِ بِحُكْمِ التّوْرَاةِ وَتَقْتُلُهُ، وَفِي حُكْمِ التّوْرَاةِ أَنْ لَا تَفْعَلَ، تَقْتُلُهُ وَتُخْرِجُهُ مِنْ دَارِهِ وَتُظَاهِرُ عَلَيْهِ مَنْ يُشْرِكُ بِاَللهِ، وَيَعْبُدُ الْأَوْثَانَ مِنْ دُونِهِ، ابْتِغَاءَ عَرَضِ الدّنْيَا. فَفِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ- فِيمَا بَلَغَنِي- نَزَلَتْ هَذِهِ الْقِصّةُ.
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/338)
بِالرُّسُلِ، وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ، أَيْ الْآيَاتُ الّتِي وُضِعَتْ عَلَى يَدَيْهِ، مِنْ إحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَخَلْقِهِ مِنْ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ، ثُمّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ، وَالْخَبَرِ بِكَثِيرٍ مِنْ الْغُيُوبِ مِمّا يَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَمَا رَدّ عَلَيْهِمْ مِنْ التّوْرَاةِ مَعَ الْإِنْجِيلِ، الّذِي أَحْدَثَ اللهُ إلَيْهِ. ثُمّ ذَكَرَ كُفْرَهُمْ بِذَلِكَ كُلّهِ، فَقَالَ: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ، فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ، ثُمّ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ: فِي أَكِنّةٍ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ:
بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالَ: قَالُوا: فِينَا وَاَللهِ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْقِصّةُ، كُنّا قَدْ عَلَوْنَاهُمْ ظَهْرًا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَكَانُوا يَقُولُونَ لَنَا: إنّ نَبِيّا يُبْعَثُ الْآنَ نَتّبِعُهُ قَدْ أَظَلّ زَمَانَهُ، نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ. فَلَمّا بَعَثَ اللهُ رَسُولَهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قُرَيْشٍ فَاتّبَعْنَاهُ كَفَرُوا بِهِ. يَقُولُ اللهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، أَيْ أَنْ جَعَلَهُ فِي غَيْرِهِمْ: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/339)
[تفسير ابن هشام لبعض الغريب]
قال ابن هشام: فباؤا بِغَضَبٍ: أَيْ اعْتَرَفُوا بِهِ وَاحْتَمَلُوهُ. قَالَ أَعْشَى بنى قيس بن ثعلبة:
أصالحكم حتى تبوؤا بِمِثْلِهَا ... كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسّرَتْهَا قَبِيلُهَا
(قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَسّرَتْهَا: أَجَلَسَتْهَا لِلْوِلَادَةِ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَالْغَضَبُ عَلَى الْغَضَبِ لِغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانُوا ضَيّعُوا مِنْ التّوْرَاةِ، وَهِيَ مَعَهُمْ، وَغَضَبٌ بِكُفْرِهِمْ بِهَذَا النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي أَحْدَثَ اللهُ إلَيْهِمْ.
ثُمّ أَنّبَهُمْ بِرَفْعِ الطّورِ عَلَيْهِمْ، وَاِتّخَاذِهِمْ الْعِجْلَ إلَهًا دُونَ رَبّهِمْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِمُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ اُدْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَيّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْذَبُ عِنْدَ اللهِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَقُولُ اللهُ جلّ ثناؤه لنبيّه عليه الصلاة والسلام: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، أَيْ بِعِلْمِهِمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِك، وَالْكُفْرِ بِذَلِكَ، فَيُقَالُ: لَوْ تَمَنّوْهُ يَوْمَ قَالَ ذَلِكَ لَهُمْ مَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَهُودِيّ إلّا مَاتَ. ثُمّ ذَكَرَ رَغْبَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَطُولَ الْعُمْرِ، فَقَالَ تَعَالَى:
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ الْيَهُودَ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/340)
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ، أى ما هو بِمُنْجِيهِ مِنْ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ أَنّ الْمُشْرِكَ لَا يَرْجُو بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُوَ يُحِبّ طُولَ الحياة، وأن اليهودىّ قد عرف ماله فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخِزْيِ بِمَا ضَيّعَ مِمّا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ. ثُمّ قَالَ اللهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ.
[سُؤَالُ الْيَهُودِ الرّسُولَ، وإجابته لهم عليه الصلاة والسلام]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَبْدِ اللهِ بْنِ (عَبْدِ) الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكّيّ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيّ: أَنّ نَفَرًا مِنْ أحبار يهود جاؤا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعٍ نَسْأَلُك عَنْهُنّ، فَإِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ اتّبَعْنَاك وَصَدّقْنَاك وَآمَنّا بِك. قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أَنَا أَخْبَرْتُكُمْ بِذَلِكَ لَتُصَدّقُنّنِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَاسْأَلُوا عَمّا بَدَا لَكُمْ، قَالُوا فَأَخْبِرْنَا كَيْفَ يُشْبِهُ الْوَلَدُ أُمّهُ، وَإِنّمَا النّطْفَةُ مِنْ الرّجُلِ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُنْشِدُكُمْ بِاَللهِ وَبِأَيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنّ نُطْفَةَ الرّجُلِ بَيْضَاءُ غَلِيظَةٌ، وَنُطْفَةَ الْمَرْأَةِ صَفْرَاءُ رَقِيقَةٌ، فَأَيّتُهُمَا عَلَتْ صَاحِبَتَهَا كَانَ لَهَا الشّبَهُ؟ قَالُوا: اللهُمّ نَعَمْ. قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا كَيْفَ نَوْمُك؟ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاَللهِ وَبِأَيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنّ نَوْمَ الّذِي تَزْعُمُونَ أَنّي لَسْتُ بِهِ تَنَامُ عَيْنُهُ وَقَلْبُهُ يَقْظَانُ؟ فَقَالُوا: اللهُمّ نَعَمْ، قَالَ: فَكَذَلِك نَوْمِي، تَنَامُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/341)
عَيْنِيّ وَقَلْبِي يَقْظَانُ. قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا عَمّا حَرّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ:
أَنْشُدُكُمْ بِاَللهِ وَبِأَيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنّهُ كَانَ أَحَبّ الطّعَامِ وَالشّرَابِ إلَيْهِ أَلْبَانَ الْإِبِلِ وَلُحُومَهَا، وَأَنّهُ اشْتَكَى شَكْوَى، فَعَافَاهُ اللهُ مِنْهَا، فَحَرّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَحَبّ الطّعَامِ وَالشّرَابِ إلَيْهِ شُكْرًا لِلّهِ، فَحَرّمَ عَلَى نَفْسِهِ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا؟ قَالُوا: اللهُمّ نَعَمْ. قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا عَنْ الرّوحِ؟ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاَللهِ وَبِأَيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ، هَلْ تَعْلَمُونَهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ الّذِي يَأْتِينِي؟ قَالُوا:
اللهُمّ نَعَمْ، وَلَكِنّهُ يَا مُحَمّدُ لَنَا عَدُوّ، وَهُوَ مَلَكٌ، إنّمَا يَأْتِي بِالشّدّةِ وَبِسَفْكِ الدّمَاءِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاتّبَعْنَاك، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِمْ: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، أَيْ السّحْرُ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
[إنْكَارُ الْيَهُودِ نُبُوّةَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَرَدّ اللهِ عَلَيْهِمْ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- فيما بلغنى-
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/342)
لَمّا ذَكَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ فِي الْمُرْسَلِينَ، قَالَ بَعْضُ أَحْبَارِهِمْ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمّدٍ، يَزْعُمُ أَنّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيّا، وَاَللهِ مَا كَانَ إلّا سَاحِرًا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا، أَيْ بِاتّبَاعِهِمْ السّحْرَ وَعَمَلِهِمْ بِهِ. وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّهُ كَانَ يَقُولُ: الّذِي حَرّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ زَائِدَتَا الْكَبِدِ وَالْكُلْيَتَانِ وَالشّحْمَ، إلّا مَا كَانَ عَلَى الظّهْرِ، فَإِنّ ذَلِكَ كَانَ يُقَرّبُ لِلْقُرْبَانِ، فَتَأْكُلَهُ النّارُ.
[كِتَابُهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ، فِيمَا حَدّثَنِي مَوْلًى لِآلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ:
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، صَاحِبِ مُوسَى وَأَخِيهِ، وَالْمُصَدّقُ لِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى: أَلَا إنّ اللهَ قَدْ قَالَ لَكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ التّوْرَاةِ، وَإِنّكُمْ لَتَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/343)
السُّجُودِ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ، وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
وَإِنّي أَنْشُدُكُمْ بِاَللهِ، وَأَنْشُدُكُمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ، وَأَنْشُدُكُمْ بِاَلّذِي أَطْعَمَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَسْبَاطِكُمْ الْمَنّ وَالسّلْوَى، وَأَنْشُدُكُمْ بِاَلّذِي أَيْبَسَ الْبَحْرَ لِآبَائِكُمْ حَتّى أَنَجَاهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ، إلّا أَخْبَرْتُمُونِي: هَلْ تَجِدُونَ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِمُحَمّدٍ؟ فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ فَلَا كُرْهَ عَلَيْكُمْ. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ- فَأَدْعُوكُمْ إلَى اللهِ وَإِلَى نَبِيّهِ.
[تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ]
قال ابن هِشَامٍ: شَطْؤُهُ: فِرَاخُهُ، وَوَاحِدَتُهُ: شِطْأَةٌ. تَقُولُ الْعَرَبُ:
قَدْ أَشْطَأَ الزّرْعُ إذَا أَخْرَجَ فِرَاخَهُ. وَآزَرَهُ: عَاوَنَهُ، فَصَارَ الّذِي قَبْلَهُ مِثْلَ الْأُمّهَاتِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ الْكِنْدِيّ:
بمَحْنِيَةٍ قَدْ آزَرَ الضّالّ نَبْتُهَا ... مَجَرّ جُيُوشٍ غَانِمِينَ وَخُيّبِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ حُمَيْدُ بن مالك الأرقط، أحد بنى ربيعة ابن مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ:
زَرْعًا وَقَضْبًا مُؤْزَرَ النّبات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/344)
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ. وَسُوقُهُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ جَمْعُ سَاقٍ، لِسَاقِ الشّجَرَةِ.
[مَا نَزَلَ فِي أَبِي يَاسِرٍ وَأَخِيهِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ مِمّنْ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، بِخَاصّةٍ مِنْ الْأَحْبَارِ وَكُفّارِ يَهُودَ، الّذِي كَانُوا يسئلونه وَيَتَعَنّتُونَهُ لِيَلْبِسُوا الْحَقّ بِالْبَاطِلِ- فِيمَا ذُكِرَ لِي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رِئَابٍ- أَنّ أَبَا يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ مَرّ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم، وهو يتلوا فَاتِحَةَ الْبَقَرَةِ: الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ، فأتى أَخَاهُ حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ فِي رِجَالٍ مِنْ يَهُودَ، فَقَالَ: تَعْلَمُوا وَاَللهِ، لَقَدْ سَمِعْت مُحَمّدًا يَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ: الم ذلِكَ الْكِتابُ، فَقَالُوا: أَنْتَ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَمَشَى حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ فِي أُولَئِكَ النّفَرِ مِنْ يَهُودَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمّدُ، أَلَمْ يُذْكَرْ لَنَا أَنّك تَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ إلَيْك: الم ذلِكَ الْكِتابُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ سلم: بَلَى، قَالُوا: أَجَاءَك بِهَا جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: لَقَدْ بَعَثَ اللهُ قَبْلَك أَنْبِيَاءَ، مَا نَعْلَمُهُ بَيّنَ لِنَبِيّ مِنْهُمْ مَا مُدّةُ مُلْكِهِ، وَمَا أَكْلُ أُمّتِهِ غَيْرَك، فَقَالَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ، وَاللّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ، فَهَذِهِ إحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً، أَفَتَدْخُلُونَ فِي دِينٍ إنّمَا مُدّةُ مُلْكِهِ وَأَكْلُ أُمّتِهِ إحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً؟ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا مُحَمّدُ، هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ مَاذَا؟ قَالَ:
المص. قَالَ: هَذِهِ وَاَللهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ، وَاللّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/345)
أربعون، والصاد تسعون، فهذه إحدى وستّون ومائة سَنَةٍ، هَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمّدُ غَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ الر قَالَ: هَذِهِ وَاَللهِ أَثْقَلُ وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتان، هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ يَا مُحَمّدُ؟ قَالَ: نَعَمْ المر. قَالَ: هَذِهِ وَاَللهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ، وَاللّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ، وَالرّاءُ مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سَنَةٍ، ثُمّ قَالَ: لَقَدْ لُبّسَ عَلَيْنَا أَمْرُك يَا مُحَمّدُ، حَتّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلًا أُعْطِيت أَمْ كَثِيرًا؟ ثُمّ قَامُوا عَنْهُ، فَقَالَ أَبُو يَاسِرٍ لِأَخِيهِ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْأَحْبَارِ: مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا كُلّهُ لِمُحَمّدٍ، إحْدَى وَسَبْعُونَ، وَإِحْدَى وَسِتّونَ ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبع مائة وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، فَقَالُوا: لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أمره. فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ سَمِعْت مَنْ لَا أَتّهِمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُ: أَنّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ إنّمَا أُنْزِلْنَ فِي أَهْلِ نَجْرَانَ، حَيْنَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يسألونه عن عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنّهُ قَدْ سَمِعَ: أَنّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ إنّمَا أُنْزِلْنَ فِي نَفَرٍ مِنْ يَهُودَ، وَلَمْ يُفَسّرْ ذَلِكَ لِي. فَاَللهُ أَعْلَمُ أَيّ ذلك كان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/346)
[كُفْرُ الْيَهُودِ بِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ اسْتِفْتَاحِهِمْ بِهِ وَمَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: أَنّ يَهُودَ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، فَلَمّا بَعَثَهُ اللهُ مِنْ الْعَرَبِ كَفَرُوا بِهِ، وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ. فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بن جبل، وبشر ابن الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتّقُوا اللهَ وَأَسْلِمُوا، فَقَدْ كُنْتُمْ تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، ونخبروننا أَنّهُ مَبْعُوثٌ، وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفّتِهِ، فَقَالَ سَلَامُ بْنُ مِشْكَمٍ، أَحَدُ بَنِي النّضِيرِ: مَا جَاءَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا هُوَ بِاَلّذِي كُنّا نَذْكُرُهُ لَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ.
عَلَى الْكافِرِينَ.
[مَا نَزَلَ فى نكر ان مالك بْنِ الصّيْفِ الْعَهْدَ إلَيْهِمْ بِالنّبِيّ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الصّيْفِ، حَيْنَ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ لَهُمْ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ لَهُ مِنْ الْمِيثَاقِ، وَمَا عَهِدَ اللهُ إلَيْهِمْ فِيهِ:
وَاَللهِ مَا عُهِدَ إلَيْنَا فِي مُحَمّدٍ عَهْدٌ، وَمَا أُخِذَ لَهُ عَلَيْنَا مِنْ مِيثَاقٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ فيه:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/347)
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
[مَا نَزَلَ فِي قَوْلِ أَبِي صَلُوبا «مَا جِئْتنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ» ]
وَقَالَ أَبُو صَلُوبا الْفَطْيُونِيّ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمّدُ، مَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْك مِنْ آيَةٍ فَنَتّبِعَك لَهَا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ.
[مَا نَزَلَ فِي قَوْلِ ابْنِ حُرَيْمِلَةَ وَوَهْبٍ]
وَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، وَوَهْبُ بْنُ زَيْدٌ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمّدُ، ائْتِنَا بِكِتَابٍ تُنَزّلُهُ عَلَيْنَا مِنْ السّمَاءِ نَقْرَؤُهُ، وَفَجّرْ لَنَا أَنَهَارًا نَتّبِعْك وَنُصَدّقْك.
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ، وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
[تفسير ابن هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: سَوَاءُ السّبِيلِ: وَسَطُ السّبِيلِ. قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النّبِيّ وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/348)
[مَا نَزَلَ فِي صَدّ حُيَيّ وَأَخِيهِ النّاسَ عَنْ الْإِسْلَامِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَخُوهُ أَبُو يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ، مِنْ أَشَدّ يَهُودَ لِلْعَرَبِ حَسَدًا، إذْ خَصّهُمْ اللهُ تَعَالَى بِرَسُولِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَكَانَا جَاهِدَيْنِ فِي رَدّ النّاسِ عَنْ الْإِسْلَامِ بِمَا اسْتَطَاعَا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا:
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
[تَنَازُعُ الْيَهُودِ وَالنّصَارَى عند الرسول صلى الله عليه وسلم]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا قَدِمَ أَهْلُ نَجْرَانَ مِنْ النّصَارَى عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْهُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ، فَتَنَازَعُوا عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَكَفَرَ بِعِيسَى وَبِالْإِنْجِيلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ النّصَارَى لِلْيَهُودِ: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَجَحَدَ نُبُوّةَ مُوسَى وَكَفَرَ بِالتّوْرَاةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ، وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ، كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، أَيْ كُلّ يَتْلُو فِي كِتَابِهِ تَصْدِيقَ مَا كَفَرَ بِهِ، أَيْ يَكْفُرُ الْيَهُودُ بِعِيسَى، وَعِنْدَهُمْ التّوْرَاةُ فِيهَا مَا أَخَذَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/349)
اللهُ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ بِالتّصْدِيقِ بِعِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ، وَفِي الْإِنْجِيلِ مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ، مِنْ تَصْدِيقِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ التّوْرَاةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَكُلّ يَكْفُرُ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ.
[مَا نَزَلَ فِي طَلَبِ ابْنِ حُرَيْمِلَةَ أَنْ يُكَلّمَهُ اللهُ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا مُحَمّدُ، إنْ كُنْت رَسُولًا مِنْ اللهِ كَمَا تَقُولُ، فَقُلْ لِلّهِ فَلْيُكَلّمْنَا حَتّى نَسْمَعَ كَلَامَهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ، أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
[مَا نَزَلَ فِي سُؤَالِ ابْنِ صُورِيّا لِلنّبِيّ عليه الصلا والسلام بِأَنْ يَتَهَوّدَ]
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ صُورِيّا الْأَعْوَرُ الْفَطْيُونِيّ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَا الْهُدَى إلّا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فاتبعنا يا محمد تهد، وَقَالَتْ النّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ.
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْن صُورِيّا وَمَا قَالَتْ النّصَارَى:
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا، قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. ثُمّ الْقِصّةَ إلَى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/350)
[مَقَالَةُ الْيَهُودِ عِنْدَ صَرْفِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا صُرِفَتْ الْقِبْلَةُ عَنْ الشّامِ إلَى الْكَعْبَةِ، وَصُرِفَتْ فِي رَجَبٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ، أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَرْدَمُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَالْحَجّاجُ بْنُ عَمْرٍو، حَلِيفُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَالرّبِيعُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرّبِيعِ ابن أَبِي الْحُقَيْقِ، فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، مَا وَلّاك عَنْ قِبْلَتِك الّتِي كُنْت عَلَيْهَا، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنّك عَلَى مِلّةِ إبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ؟ ارْجِعْ إلَى قِبْلَتِك الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا نَتّبِعْك وَنُصَدّقْك، وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِتْنَتَهُ عَنْ دِينِهِ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ:
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أَيْ ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أَيْ مِنْ الْفِتَنِ: أَيْ الّذِينَ ثَبّتَ اللهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أَيْ إيمَانَكُمْ بِالْقِبْلَةِ الْأُولَى، وَتَصْدِيقَكُمْ نَبِيّكُمْ، وَاتّبَاعَكُمْ إيّاهُ إلَى الْقِبْلَةِ الْآخِرَةِ، وَطَاعَتَكُمْ نَبِيّكُمْ فِيهَا:
أَيْ لَيُعْطِيَنّكُمْ أَجْرَهُمَا جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/351)
تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
[تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لبعض العريب]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: شَطْرَهُ: نَحْوَهُ وَقَصْدَهُ. قَالَ عمرو بن أحمر الباهلى- وباهلة ابن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان- يصف ناقة له.
تَعْدُو بِنَا شَطْرَ جَمْعٍ وَهِيَ عَاقِدَةٌ ... قَدْ كارَبَ الْعَقْدُ مِنْ إيفَادِهَا الْحَقَبَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَقَالَ قَيْسُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْهُذَلِيّ يَصِفُ نَاقَتَهُ:
إنّ النّعُوسَ بِهَا دَاءٌ مُخَامِرُهَا ... فَشَطْرَهَا نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ مَحْسُورُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالنّعُوسُ: نَاقَتُهُ، وَكَانَ بِهَا دَاءٌ فَنَظَرَ إلَيْهَا نَظَرَ حَسِيرٍ، مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ حَسِيرٌ.
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ، وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ، وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/352)
قال ابن إسحاق: إلى قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
[كِتْمَانُهُمْ ما فى التوراة من الحق]
وَسَأَلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، نَفَرًا مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ عَنْ بَعْضِ مَا فِي التّوْرَاةِ، فَكَتَمُوهُمْ إيّاهُ، وَأَبَوْا أَنْ يُخْبِرُوهُمْ عَنْهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ.
[جوابهم للنبى عليه الصلاة والسلام حين دعاهم إلى الإسلام]
قَالَ: وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْيَهُودَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَى الْإِسْلَامِ وَرَغّبَهُمْ فِيهِ، وَحَذّرَهُمْ عَذَابَ اللهِ وَنِقْمَتَهُ؛ فَقَالَ لَهُ رَافِعُ بْنُ خَارِجَةَ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ: بَلْ نَتْبَعُ يَا مُحَمّدُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، فَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ وَخَيْرًا مِنّا. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/353)
[جمعهم فى سوق بنى قينقاع]
وَلَمّا أَصَابَ اللهُ عَزّ وَجَلّ قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، حَيْنَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللهُ بِمِثْلِ مَا أَصَابَ بِهِ قُرَيْشًا، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمّدُ، لَا يَغِرّنّك مِنْ نَفْسِك أَنّك قَتَلْت نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ، كَانُوا أَغْمَارًا لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إنّك وَاَللهِ لَوْ قَاتَلْتنَا لَعَرَفْت أَنّا نَحْنُ النّاسُ، وَأَنّك لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخْرى كافِرَةٌ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ آل عمران: 12، 13.
[دخوله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس]
قَالَ: وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم بيت المدارس عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ يَهُودَ، فَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ، فَقَالَ لَهُ النّعْمَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمّدُ؟ قَالَ: عَلَى مِلّةِ إبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ، قَالَا: فَإِنّ إبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيّا؛ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: فَهَلُمّ إلَى التّوْرَاةِ، فهى بيننا وبينكم، فأبيا عليه. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/354)
إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ.
[اخْتِلَافُ الْيَهُودِ وَالنّصَارَى فِي إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ]
وَقَالَ أَحْبَارُ يَهُودَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ، حَيْنَ اجْتَمَعُوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتَنَازَعُوا، فَقَالَتْ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ إلّا يَهُودِيّا، وَقَالَتْ النّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ: مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ إلّا نَصْرَانِيّا. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِمْ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا، وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ.
[مَا نَزَلَ فِيمَا هَمّ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ غَدْوَةً وَالْكُفْرِ عَشِيّةً]
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ صَيْفٍ، وَعَدِيّ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا نُؤْمِنْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ غُدْوَةً، وَنَكْفُرْ بِهِ عَشِيّةً، حَتّى نَلْبِسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ لَعَلّهُمْ يَصْنَعُونَ كَمَا نَصْنَعُ، وَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ، وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/355)
أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
[مَا نَزَلَ فِي قَوْلِ أَبِي رَافِعٍ وَالنّجْرَانِيّ «أَتُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَك كَمَا تَعْبُدُ النّصَارَى عِيسَى» ]
وقال أبو رافع القرظىّ، حين اجتمعت الأحبار من يهود، وَالنّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ:
أَتُرِيدُ مِنّا يَا مُحَمّدُ أَنْ نَعْبُدَك كَمَا تعبد النصارى عيسى بن مَرْيَمَ؟ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ نَصْرَانِيّ، يقال له: الرّبّيس، (ويروى: الريس، والرئيس) :
أو ذاك تُرِيدُ مِنّا يَا مُحَمّدُ وَإِلَيْهِ تَدْعُونَا؟ أَوْ كَمَا قَالَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَعَاذَ اللهِ أَنْ أَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ أَوْ آمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، فَمَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي اللهُ، وَلَا أَمَرَنِي؛ أَوْ كَمَا قَالَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ، وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الرّبّانِيّونَ: الْعُلَمَاءُ الْفُقَهَاءُ السّادَةُ، واحدهم: ربانىّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/356)
قَالَ الشّاعِرُ:
لَوْ كُنْت مُرْتَهَنًا فِي الْقَوْسِ أَفْتَنَنِي ... مِنْهَا الْكَلَامُ وَرَبّانِيّ أَحْبَارِ
[تَفْسِيرُ ابْنِ هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: الْقَوْسُ: صَوْمَعَةُ الرّاهِبِ. وَأَفْتَنَنِي، لُغَةُ تَمِيمٍ. وفتننى، لغة قيس.
قال جرير:
لَا وَصْلَ إذْ صَرَمَتْ هِنْدٌ وَلَوْ وَقَفَتْ ... لَاسْتَنْزَلَتْنِي وَذَا الْمِسْحَيْنِ فِي الْقَوْسِ
أَيْ صَوْمَعَةَ الرّاهِبِ. وَالرّبّانِيّ: مُشْتَقّ مِنْ الرّبّ، وَهُوَ السّيّدُ. وَفِي كِتَابِ اللهِ: فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً، أَيْ سَيّدَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
[مَا نَزَلَ فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ ذَكَرَ مَا أَخَذَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ الْمِيثَاقِ بِتَصْدِيقِهِ إذْ هُوَ جَاءَهُمْ، وَإِقْرَارَهُمْ، فَقَالَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا، قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ إلى آخر القصة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/357)
[سعيهم فى الوقيعة بين الأنصار]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَرّ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَسَا، عَظِيمَ الْكُفْرِ شَدِيدَ الضّغَنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ، عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. فِي مَجْلِسٍ قَدْ جَمَعَهُمْ، يَتَحَدّثُونَ فِيهِ، فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ أُلْفَتِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، بَعْدَ الّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، لَا وَاَللهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ.
فَأَمَرَ فَتًى شَابّا مِنْ يَهُودَ كَانَ مَعَهُمْ، فَقَالَ: اعْمِدْ إلَيْهِمْ، فَاجْلِسْ مَعَهُمْ، ثُمّ اُذْكُرْ يَوْمَ بُعَاثَ وَمَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا تَقَاوَلُوا فِيهِ مِنْ الْأَشْعَارِ.
[شَيْءٌ عَنْ يَوْمِ بُعَاثَ]
وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثَ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ الظّفْرُ فيه يومئذ للأوس على الْخَزْرَجِ، وَكَانَ عَلَى الْأَوْسِ يَوْمئِذٍ حُضَيْرُ بْنُ سِمَاكٍ الْأَشْهَلِيّ، أَبُو أُسَيْدِ بْنُ حُضَيْرٍ؛ وَعَلَى الخزرج عمرو بن النّعمان البياضىّ، فقاتلا جَمِيعًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ:
عَلَى أَنْ قَدْ فُجِعْتُ بِذِي خفاظ ... فَعَاوَدَنِي لَهُ حُزْنٌ رَصِينُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/358)
فَإِمّا تَقْتُلُوهُ فَإِنّ عَمْرًا ... أَعَضّ بِرَأْسِهِ عَضْبٌ سَنِينُ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَحَدِيثُ يَوْمِ بُعَاثَ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْتُ، وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْت مِنْ الْقَطْعِ.
[تَفْسِيرُ ابن هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: سَنِينُ: مَسْنُونٌ، مِنْ سَنّهُ، إذَا شَحَذَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَفَعَلَ. فَتَكَلّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى توائب رَجُلَانِ مِنْ الْحَيّيْنِ عَلَى الرّكْبِ، أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ، مِنْ الْأَوْسِ، وَجَبّارُ بْنُ صَخْرٍ، أَحَدُ بَنِي سَلَمَةَ مِنْ الْخَزْرَجِ، فَتَقَاوَلَا ثُمّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إنْ شِئْتُمْ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً، فَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا، وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، مَوْعِدُكُمْ الظّاهِرَةُ- وَالظّاهِرَةُ: الْحرّةُ- السّلَاحَ السّلَاحَ. فَخَرَجُوا إلَيْهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرج إلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ حَتّى جَاءَهُمْ، فَقَالَ:
يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللهَ اللهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ أَنْ هَدَاكُمْ اللهُ لِلْإِسْلَامِ، وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ، وَأَلّفَ بِهِ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنّهَا نَزْغَةٌ مِنْ الشّيْطَانِ، وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوّهِمْ، فَبَكَوْا وَعَانَقَ الرّجَالُ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، قَدْ أَطْفَأَ اللهُ عَنْهُمْ كَيْدَ عَدُوّ اللهِ شَأْسِ بْنِ قَيّسْ. فأنزل الله تعالى فى شأس ابن قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/359)
وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً، وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَوْسِ بْنِ قَيْظِيّ وَجَبّارِ بْنِ صَخْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا الّذِينَ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا عَمّا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ شَأْسٌ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ...
إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
[مَا نَزَلَ فِي قولهم: «مَا آمَنَ إلّا شِرَارُنَا» ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ، وَأُسَيْدُ ابن سَعْيَةَ، وَأَسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودَ مَعَهُمْ، فَآمَنُوا وَصَدّقُوا وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَرَسَخُوا فِيهِ، قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ، أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ:
مَا آمَنَ بِمُحَمّدٍ وَلَا اتّبَعَهُ إلّا شِرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَخْيَارِنَا مَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ وَذَهَبُوا إلَى غَيْرِهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَيْسُوا سَواءً، مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/360)
[تفسير ابن هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: آنَاءَ اللّيْلِ: سَاعَاتِ اللّيْلِ، وَوَاحِدُهَا: إنْيٌ. قَالَ الْمُتَنَخّلُ الْهُذَلِيّ، وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ عُوَيْمِرٍ، يَرْثِي أُثَيْلَةَ ابْنَهُ:
حُلْوٌ وَمُرّ كَعَطْفِ الْقِدْحِ شِيمَتُهُ ... فِي كُلّ إنْيٍ قَضَاهُ اللّيْلُ يَنْتَعِلُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ لَبِيدُ بن ربيعة يصف حمار وحش:
يُطَرّبُ آنَاءَ النّهَارِ كَأَنّهُ ... غَوِيّ سَقَاهُ فِي التّجَارِ نَدِيمُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، وَيُقَالُ: إنًى مَقْصُورٌ فِيمَا أَخْبَرَنِي يُونُسُ.
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ.
[مَا نَزَلَ فِي نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُبَاطَنَةِ اليهود]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنْ الْيَهُودِ، لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْجِوَارِ وَالْحِلْفِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ، لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ، وَلا يُحِبُّونَكُمْ، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ، أَيْ تُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ، وَبِمَا مَضَى مِنْ الْكُتُبِ قَبْلَ ذَلِكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكِتَابِكُمْ، فَأَنْتُمْ كُنْتُمْ أَحَقّ بِالْبَغْضَاءِ لَهُمْ مِنْهُمْ لَكُمْ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/361)
عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ.
[مَا كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَفِنْحَاصٍ]
وَدَخَلَ أبو بكر الصدّيق بيت المدارس عَلَى يَهُودَ، فَوَجَدَ مِنْهُمْ نَاسًا كَثِيرًا قَدْ اجْتَمَعُوا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ فِنْحَاصُ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ، وَمَعَهُ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِهِمْ، يُقَالُ لَهُ: أَشْيَعُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِفِنْحَاصٍ:
وَيْحَك يَا فَنُحَاصُ! اتّقِ اللهَ وَأَسْلِمْ، فو الله إنّك لَتَعْلَمُ أَنّ مُحَمّدًا لَرَسُولُ اللهِ، قَدْ جَاءَكُمْ بِالْحَقّ مِنْ عِنْدِهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فى التوراة والإنجيل، فقال فنحاص لِأَبِي بَكْرٍ: وَاَللهِ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا بِنَا إلَى اللهِ مِنْ فَقْرٍ، وَإِنّهُ إلَيْنَا لَفَقِيرٌ، وَمَا نَتَضَرّعُ إلَيْهِ كَمَا يَتَضَرّعُ إلَيْنَا، وَإِنّا عَنْهُ لَأَغْنِيَاءُ، وَمَا هُوَ عَنّا بِغَنِيّ، وَلَوْ كَانَ عَنّا غَنِيّا مَا اسْتَقْرَضَنَا أَمْوَالَنَا، كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، يَنْهَاكُمْ عَنْ الرّبَا وَيُعْطِينَاهُ، وَلَوْ كَانَ عَنّا غَنِيّا مَا أَعْطَانَا الرّبَا. قَالَ فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصَ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا الْعَهْدُ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، لَضَرَبْتُ رَأْسَك، أَيْ عَدُوّ اللهِ. قَالَ: فَذَهَبَ فِنْحَاصُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا مُحَمّدُ اُنْظُرْ مَا صَنَعَ بِي صَاحِبُك، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بَكْرٍ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ عَدُوّ اللهِ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا، إنّهُ زَعَمَ أَنّ اللهَ فَقِيرٌ وَأَنّهُمْ أَغْنِيَاءُ، فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ غَضِبْتُ لِلّهِ مِمّا قَالَ، وَضَرَبْتُ وَجْهَهُ. فَجَحَدَ ذَلِكَ فِنْحَاصُ، وَقَالَ: مَا قُلْتُ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ رَدّا عَلَيْهِ، وَتَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/362)
وَنَحْنُ أَغْنِياءُ، سَنَكْتُبُ مَا قالُوا، وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ.
وَنَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَمَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَضَبِ:
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
ثُمّ قَالَ فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ وَالْأَحْبَارُ مَعَهُ مِنْ يَهُودَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ، فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ. لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يَعْنِي فِنْحَاصَ، وَأَشْيَعَ وَأَشْبَاهَهُمَا مِنْ الْأَحْبَارِ، الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا يُصِيبُونَ مِنْ الدّنْيَا عَلَى مَا زَيّنُوا لِلنّاسِ مِنْ الضّلَالَةِ، وَيُحِبّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، أَنْ يَقُولَ النّاسُ:
عُلَمَاءُ، وَلَيْسُوا بِأَهْلِ عِلْمٍ، لَمْ يَحْمِلُوهُمْ عَلَى هُدًى وَلَا حَقّ، وَيُحِبّونَ أَنْ يَقُولَ النّاسُ قَدْ فَعَلُوا.
[أمرهم المؤمنين بالبخل]
قال ابن إسحاق: وَكَانَ كَرْدَمُ بْنُ قَيْسٍ، حَلِيفُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَأُسَامَةُ بْنُ حَبِيبٍ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ، وَبَحْرِيّ بْنُ عَمْرٍو، وَحُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ، وَرِفَاعَةُ بْن زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ، يَأْتُونَ رِجَالًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانُوا يُخَالِطُونَهُمْ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/363)
يَنْتَصِحُونَ لَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم، فَيَقُولُونَ لَهُمْ:
لَا تُنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ فَإِنّا نَخْشَى عَلَيْكُمْ الْفَقْرَ فِي ذَهَابِهَا، وَلَا تُسَارِعُوا فِي النّفَقَةِ فَإِنّكُمْ لَا تَدْرُونَ عَلَامَ يَكُونُ. فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ مِنْ التّوْرَاةِ، الّتِي فِيهَا تَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ، وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... إلَى قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً.
[جحدهم الحق]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ مِنْ عُظَمَاءِ يَهُودَ، إذَا كَلّمَ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوَى لِسَانَهُ، وَقَالَ: أَرْعِنَا سَمْعَك يَا مُحَمّدُ، حَتّى نُفْهِمَك، ثُمّ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ وَعَابَهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا، وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً* مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا، (أَيْ رَاعِنَا سَمْعَك) لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَطَعْناً فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا.
وَكَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُؤَسَاءَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ، منهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/364)
عبد الله بن صوريا الأعور، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يهود، اتقوا الله وأسلموا، فو الله إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّ الّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ لَحَقّ، قَالُوا: مَا نَعْرِفُ ذَلِكَ يَا مُحَمّدُ: فَجَحَدُوا مَا عَرَفُوا، وَأَصَرّوا عَلَى الْكُفْرِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها، أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.
[تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: نَطْمِسَ: نَمْسَحَهَا فَنُسَوّيهَا، فَلَا يُرَى فِيهَا عَيْنٌ وَلَا أَنْفٌ وَلَا فَمٌ، وَلَا شَيْءٌ مِمّا يُرَى فِي الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ. الْمَطْمُوسُ الْعَيْنُ: الّذِي لَيْسَ بَيْنَ جَفْنَيْهِ شِقّ. وَيُقَالُ طَمَسْت الْكِتَابَ وَالْأَثَرَ، فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ. قَالَ الْأَخْطَلُ، وَاسْمُهُ الْغَوْثُ بْنُ هُبَيْرَةَ بْنِ الصّلْتِ التّغْلِبِيّ، يَصِفُ إبِلًا كَلّفَهَا مَا ذَكَرَ:
وتَكْلِيفُناها كُلّ طَامِسَةٍ الصّوَى ... شَطُونٍ تَرَى حِرْبَاءَهَا يَتَمَلْمَلُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاحِدَةُ الصّوَى: صُوّةٌ. وَالصّوَى: الْأَعْلَامُ الّتِي يُسْتَدَلّ بِهَا عَلَى الطّرُقِ وَالْمِيَاهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَقُولُ: مُسِحَتْ فَاسْتَوَتْ بِالْأَرْضِ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ نَاتِئٌ..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/365)
[النّفَرُ الّذِينَ حَزّبُوا الْأَحْزَابَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ الّذِينَ حَزّبُوا الْأَحْزَابَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَبَنْي قُرَيْظَةَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ، وَسِلَامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، أَبُو رَافِعٍ، وَالرّبِيعُ بْنُ الرّبِيعِ ابن أَبِي الْحُقَيْقِ، وَأَبُو عَمّارٍ، وَوَحْوَحُ بْنُ عَامِرٍ، وهوذة بن قيس. فأما وحوح، وأبو عمّار، وهوذة، فمن بَنِي وَائِلٍ، وَكَانَ سَائِرُهُمْ مِنْ بَنِي النّضِيرِ. فلما قدمو عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: هَؤُلَاءِ أَحْبَارُ يَهُودَ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ الْأَوّلِ، فَسَلُوهُمْ:
دِينُكُمْ خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمّدٍ؟ فَسَأَلُوهُمْ، فَقَالُوا: بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتباعه. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ.
[تفسير ابن هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: الْجِبْتُ (عِنْدَ الْعَرَبِ) : مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَالطّاغُوتُ: كُلّ مَا أضلّ عن الحقّ. وَجَمْعُ الطّاغُوتِ: طَوَاغِيتُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنَا عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ أَنّهُ قَالَ: الْجِبْتُ: السّحَرُ؛ وَالطّاغُوتُ: الشّيْطَانُ:
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/366)
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً.
[إنكارهم التنزيل]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ سُكَيْنٌ وَعَدِيّ بْنُ زَيْدٍ: يَا مُحَمّدُ، مَا نَعْلَمُ أَنّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ مُوسَى. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا:
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ، وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً.
وَدَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ:
أَمَا وَاَللهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّي رَسُولٌ مِنْ اللهِ إلَيْكُمْ؛ قَالُوا: مَا نعلمه، وما نشهد عليه. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/367)
[اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى طَرْحِ الصّخْرَةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَنِي النّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيّيْنِ اللّذَيْنِ قَتَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ. فَلَمّا خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ قَالُوا:
لَنْ تَجِدُوا مُحَمّدًا أَقْرَبَ مِنْهُ الْآنَ، فَمَنْ رَجُلٌ يَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، فَيَطْرَحَ عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيُرِيحَنَا مِنْهُ؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ جَحّاشِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَا، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخَبَرُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ، وَفِيمَا أَرَادَ هُوَ وقومه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
[ادّعَاؤُهُمْ أَنّهُمْ أَحِبّاءُ الله]
وَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نُعْمَانُ بْنُ أَضَاءَ، وَبَحْرِيّ بْنُ عَمْرٍو، وَشَأْسُ بْنُ عَدِيّ، فَكَلّمُوهُ وَكَلّمَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ، وَحَذّرَهُمْ نِقْمَتَهُ؛ فَقَالُوا: مَا تُخَوّفُنَا يَا مُحَمّدُ، نَحْنُ وَاَللهِ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ، كَقَوْلِ النّصَارَى. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/368)
[إنْكَارُهُمْ نُزُولَ كِتَابٍ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَهُودَ إلَى الْإِسْلَامِ وَرَغّبَهُمْ فِيهِ، وَحَذّرَهُمْ غَيْرَ اللهِ وَعُقُوبَتَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، وَكَفَرُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ وهب: يا معشر يهود، اتّقوا الله، فو الله إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ، وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُ لَنَا قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، وَوَهْبُ بْنُ يَهُوذَا: مَا قُلْنَا لَكُمْ هَذَا قَطّ، وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ بَعْدَ مُوسَى، وَلَا أَرْسَلَ بَشِيرًا وَلَا نَذِيرًا بَعْدَهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثُمّ قَصّ عَلَيْهِمْ خَبَرَ مُوسَى وَمَا لَقِيَ مِنْهُمْ، وَانْتِقَاضَهُمْ عَلَيْهِ، وَمَا رَدّوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ اللهِ حَتّى تَاهُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً عُقُوبَةً.
[رُجُوعُهُمْ إلَى النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حُكْمِ الرّجْمِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ أَنّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، يُحَدّثُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ، أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدّثَهُمْ: أَنّ أَحْبَارَ يهود اجتمعوا فى بيت المدارس حَيْنَ قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَقَدْ زَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بَعْدَ إحْصَانِهِ بِامْرَأَةٍ مِنْ يَهُودَ قَدْ أَحْصَنَتْ، فَقَالُوا:
ابْعَثُوا بِهَذَا الرّجُلِ وَهَذِهِ الْمَرْأَةِ إلَى مُحَمّدٍ، فَسَلُوهُ كَيْفَ الْحُكْمُ فِيهِمَا، وَوَلّوهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/369)
الْحُكْمَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ عَمِلَ فِيهِمَا بِعَمَلِكُمْ مِنْ التّجْبِيَةِ- وَالتّجْبِيَةُ: الْجَلْدُ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ مَطْلِيّ بِقَارٍ، ثُمّ تُسَوّدُ وُجُوهُهُمَا، ثُمّ يُحْمَلَانِ عَلَى حِمَارَيْنِ، وَتُجْعَلُ وُجُوهُهُمَا مِنْ قِبَلِ أَدْبَارِ الْحِمَارَيْنِ- فَاتّبِعُوهُ، فَإِنّمَا هُوَ مَلَكٌ، وَصَدّقُوهُ، وَإِنْ هُوَ حَكَمَ فِيهِمَا بِالرّجْمِ فَإِنّهُ نَبِيّ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى مَا فِي أَيْدِيكُمْ أَنْ يَسْلُبَكُمُوهُ.
فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، هَذَا رَجُلٌ قَدْ زَنَى بَعْدَ إحْصَانِهِ بِامْرَأَةٍ قَدْ أَحْصَنَتْ، فَاحْكُمْ فِيهِمَا، فَقَدْ وَلّيْنَاك الْحُكْمَ فِيهِمَا. فَمَشَى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَتَى أَحْبَارَهُمْ فِي بيت المدارس فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَخْرِجُوا إلَيّ عُلَمَاءَكُمْ، فَأُخْرِجَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ صُورِيّا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدّثَنِي بَعْضُ بَنِي قُرَيْظَةَ: أَنّهُمْ قَدْ أَخَرَجُوا إلَيْهِ يَوْمئِذٍ مَعَ ابْنِ صُورِيّا، أَبَا يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ، وَوَهْبَ بْنَ يهوذا، فقالوا هؤلاء علماؤنا. فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حَصّلَ أَمْرَهُمْ، إلَى أَنْ قَالُوا لِعَبْدِ اللهِ بن صوريا: هذا من أَعْلَمُ مَنْ بَقِيَ بِالتّوْرَاةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مِنْ قَوْلِهِ: «وَحَدّثَنِي بَعْضُ بَنِي قُرَيْظَةَ- إلَى أَعْلَمُ مَنْ بَقِيَ بِالتّوْرَاةِ» مِنْ قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْحَدِيثِ الّذِي قَبْلَهُ.
فَخَلَا بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَكَانَ غُلَامًا شَابّا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنّا فَأَلَظّ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم المسألة، يقول له: يابن صُورِيّا، أَنْشُدُك اللهَ وَأُذَكّرُك بِأَيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ، هَلْ تَعْلَمُ أَنّ اللهَ حَكَمَ فِيمَنْ زَنَى بَعْدَ إحْصَانِهِ بِالرّجْمِ فِي التّوْرَاةِ؟ قَالَ اللهُمّ نَعَمْ، أَمَا وَاَللهِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إنّهُمْ لَيَعْرِفُونَ أَنّك لَنَبِيّ مُرْسَلٌ وَلَكِنّهُمْ يَحْسُدُونَك. قَالَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/370)
عَلَيْهِ وَسَلّمَ. فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ فِي بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ.
ثُمّ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُ صُورِيّا، وَجَحَدَ نُبُوّةَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا: آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أَيْ: الّذِينَ بَعَثُوا مِنْهُمْ مَنْ بَعَثُوا وَتَخَلّفُوا، وَأَمَرُوهُمْ بِمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ مِنْ تَحْرِيفِ الْحُكْمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. ثُمّ قَالَ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ، يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ، أَيْ الرّجْمَ فَاحْذَرُوا إلَى آخِرِ الْقِصّةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ طلحة بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرَجْمِهِمَا، فَرُجِمَا بِبَابِ مَسْجِدِهِ، فَلَمّا وَجَدَ الْيَهُودِيّ مَسّ الْحِجَارَةِ قَامَ إلَى صَاحِبَتِهِ، فَجَنَأَ عَلَيْهَا، يَقِيهَا مسّ الحجارة، حتى قتلا جميعا.
قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ مِمّا صَنَعَ اللهُ لِرَسُولِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَحْقِيقِ الزّنَا مِنْهُمَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كيسان، عن نافع مولى عبد الله ابن عمر عن عبد الله بن عمر، لَمّا حَكّمُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمَا، دَعَاهُمْ بِالتّوْرَاةِ، وَجَلَسَ حَبْرٌ مِنْهُمْ يَتْلُوهَا، وَقَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرّجْمِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/371)
قَالَ: فَضَرَبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ يَدَ الْحَبْرِ، ثُمّ قَالَ: هَذِهِ يَا نَبِيّ اللهِ آيَةُ الرّجْمِ، يَأْبَى أَنْ يَتْلُوَهَا عَلَيْك، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْحَكُمْ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ! مَا دَعَاكُمْ إلَى تَرْكِ حُكْمِ اللهِ وَهُوَ بِأَيْدِيكُمْ؟ قَالَ: فَقَالُوا:
أَمَا وَاَللهِ إنّهُ قَدْ كَانَ فِينَا يُعْمَلُ بِهِ، حَتّى زَنَى رَجُلٌ مِنّا بَعْدَ إحْصَانِهِ، مِنْ بُيُوتِ الْمُلُوكِ وَأَهْلِ الشّرَفِ، فَمَنَعَهُ الْمُلْكُ مِنْ الرّجْمِ، ثُمّ زَنَى رَجُلٌ بَعْدَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهُ، فَقَالُوا: لَا وَاَللهِ، حَتّى تَرْجُمَ فُلَانًا، فَلَمّا قَالُوا لَهُ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا فَأَصْلَحُوا أَمْرَهُمْ عَلَى التّجْبِيَةِ، وَأَمَاتُوا ذِكْرَ الرّجْمِ وَالْعَمَلَ بِهِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأنا أوّل من أحيى أَمْرَ اللهِ وَكِتَابَهُ وَعَمِلَ بِهِ، ثُمّ أَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ. قَالَ عَبْدُ الله بن عمر: فكنت فيمن رجمهما.
[ظلمهم فى الدية]
قال ابن إسحاق: وحدثني دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: أَنّ الْآيَاتِ مِنْ الْمَائِدَةِ الّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً* وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إنّمَا أُنْزِلَتْ فِي الدّيَةِ بَيْن بَنِي النّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَذَلِكَ أَنّ قَتْلَى بَنِي النّضِيرِ، وَكَانَ لَهُمْ شَرَفٌ، يُؤَدّونَ الدّيَةَ كَامِلَةً، وَأَنّ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا يُؤَدّونَ نِصْفَ الدّيَةِ، فَتَحَاكَمُوا فِي ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللهُ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَحَمَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْحَقّ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ الدّيَةَ سَوَاءً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/372)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَاَللهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كان.
[قصدهم الفتنة بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ]
قَالَ ابن إسحاق: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَابْنُ صَلُوبَا، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ صُورِيّا، وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إلَى مُحَمّدٍ، لَعَلّنَا نَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ، فَإِنّمَا هُوَ بَشَرٌ، فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمّدُ، إنّك قَدْ عَرَفْت أَنّا أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَشْرَافُهُمْ وَسَادَتُهُمْ، وَأَنّا إنْ اتّبَعْنَاك اتّبَعَتْك يَهُودُ، وَلَمْ يُخَالِفُونَا، وَأَنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَعْضِ قَوْمِنَا خُصُومَةٌ، أَفَنُحَاكِمُهُمْ إلَيْك فَتَقْضِيَ لَنَا عَلَيْهِمْ، وَنُؤْمِنُ بِك وَنُصَدّقُك، فَأَبَى ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ:
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
[جحودهم نبوة عيسى عليه السلام]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْهُمْ: أَبُو يَاسِرِ ابن أَخْطَبَ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ، وَعَازِرُ بْنُ أبى عازر، وخالد، وزيد، وإزار ابن أبى إزار، وأشبع، فَسَأَلُوهُ عَمّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنْ الرّسُلِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا، وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/373)
وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَلَمّا ذكر عيسى بن مَرْيَمَ جَحَدُوا نُبُوّتَهُ، وَقَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِعِيسَى بن مَرْيَمَ وَلَا بِمَنْ آمَنَ بِهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ؛ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ.
[ادعاؤهم أنهم على الحق]
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة، وسلّام بن مشكم، ومالك بن الصّيف، وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنّك عَلَى مِلّةِ إبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ، وَتُؤْمِنُ بِمَا عِنْدَنَا مِنْ التّوْرَاةِ، وَتَشْهَدُ أَنّهَا مِنْ اللهِ حَقّ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنّكُمْ أَحْدَثْتُمْ وَجَحَدْتُمْ مَا فِيهَا مِمّا أَخَذَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ الْمِيثَاقِ فِيهَا، وَكَتَمْتُمْ مِنْهَا مَا أُمِرْتُمْ أَنْ تُبَيّنُوهُ لِلنّاسِ، فَبَرِئْتُ مِنْ إحْدَاثِكُمْ؛ قَالُوا فَإِنّا نَأْخُذُ بِمَا فِي أَيْدِينَا، فَإِنّا عَلَى الْهُدَى وَالْحَقّ، وَلَا نُؤْمِنُ بِك، وَلَا نَتّبِعُك، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
[إشراكهم بالله]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّحّامُ بْنُ زَيْدٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/374)
وَقَرْدَمُ بْنُ كَعْبٍ، وَبَحْرِيّ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمّدُ، أَمَا تَعْلَمُ مَعَ اللهِ إلَهًا غَيْرَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُ لَا إلَهَ إلّا هُوَ، بِذَلِكَ بُعِثْت، وَإِلَى ذَلِكَ أَدْعُو. فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ وَفِي قَوْلِهِمْ: قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً، قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ، أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى، قُلْ لَا أَشْهَدُ، قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
[نهيه تعالى للمؤمنين عن موادتهم]
وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ، وَسُوَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ قَدْ أَظْهَرَا الْإِسْلَامَ وَنَافَقَا فَكَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُوَادّونَهُمَا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ... إلَى قَوْلِهِ: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا، وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ.
[سُؤَالُهُمْ عَنْ قِيَامِ السّاعَةِ]
وَقَالَ جَبَلُ بْنُ أَبِي قُشَيْرٍ، وَشَمْويِلُ بْنُ زَيْدٌ، لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مُحَمّدُ، أَخْبِرْنَا، مَتَى تَقُومُ السّاعَةُ إنْ كُنْتَ نَبِيّا كَمَا تقول؟ فأنزل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/375)
الله تعالى فيهما يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
[تفسير بن هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَيّانَ مُرْسَاهَا: مَتَى مُرْسَاهَا. قَالَ قَيْسُ بْنُ الْحُدَادِيّةِ الْخُزَاعِيّ:
فَجِئْتُ وَمُخْفَى السّرّ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... لِأَسْأَلَهَا أَيّانَ مَنْ سَارَ رَاجِعُ؟
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَمُرْسَاهَا: مُنْتَهَاهَا، وَجَمْعُهُ: مَرَاسٍ. قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ الْأَسْدِيّ:
وَالْمُصِيبِينَ بَابَ مَا أَخْطَأَ النّا ... سُ وَمُرْسَى قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ
وَهَذَا البيت فى قصيدة له ومرسى السفينة: حتى تَنْتَهِي. وَحَفِيّ عَنْهَا- عَلَى التّقْدِيمِ وَالتّأْخِيرِ- يَقُولُ: يَسْأَلُونَك عَنْهَا كَأَنّك حَفِيّ بِهِمْ، فَتُخْبِرَهُمْ بِمَا لَا تُخْبِرُ بِهِ غَيْرَهُمْ. وَالْحَفِيّ: الْبَرّ الْمُتَعَهّدُ. وَفِي كِتَابِ اللهِ: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا. وَجَمْعُهُ: أَحْفِيَاءُ. وَقَالَ أُعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثعلبة:
فإن تسألى عنى فياربّ سَائِلٍ ... حَفِيّ عَنْ الْأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْحَفِيّ أَيْضًا: الْمُسْتَحْفِي عَنْ عِلْمِ الشّيْءِ، الْمُبَالِغِ فِي طَلَبِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/376)
[ادعاؤهم أن عزيرا ابن الله]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَلَامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى أَبُو أَنَسٍ، وَمَحْمُودُ بْنُ دِحْيَةَ، وشأس بن قيس، ومالك، ابن الصّيْفِ، فَقَالُوا لَهُ: كَيْفَ نَتّبِعُك وَقَدْ تَرَكْت قِبْلَتَنَا، وَأَنْتَ لَا تَزْعُمُ أَنّ عُزَيْرًا ابْنُ اللهِ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.
إلَى آخِرِ الْقِصّةِ.
[تَفْسِيرُ ابْنِ هشام لبعض الغريب]
قال ابن هشام: يضاهون: أَيْ يُشَاكِلُ قَوْلُهُمْ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا، نَحْوَ أَنْ تُحَدّثَ بِحَدِيثٍ، فَيُحَدّثَ آخَرُ بِمِثْلِهِ، فَهُوَ يضاهيك.
[طلبهم كتابا من السماء]
قال ابن إسحاق: وأنى رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَحْمُودُ بْنُ سَيْحَانَ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَضَاءَ، وَبَحْرِيّ بْنُ عَمْرٍو، وَعُزَيْرُ بْنُ أَبِي عُزَيْرٍ، وَسَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، فَقَالُوا: أَحَقّ يَا مُحَمّدُ أَنّ هَذَا الّذِي جِئْتَ بِهِ لَحَقّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَإِنّا لَا نَرَاهُ مُتّسِقًا كَمَا تَتّسِقُ التّوْرَاةُ؟ فقال: لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَمَا وَاَللهِ إنّكُمْ لَتَعْرِفُونَ أَنّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ. تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التّوْرَاةِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/377)
وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بمثله ما جاؤا به؛ فقالوا عند ذلك، وهم جميع: فنحاص، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ صُورِيّا، وَابْنُ صَلُوبَا، وَكِنَانَةُ بن الربيع ابن أَبِي الْحُقَيْقِ، وَأَشْيَعُ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَشَمْويِلُ بن زيد، وجبل بن عمرو ابن سُكَيْنَةَ: يَا مُحَمّدُ، أَمَا يُعَلّمُك هَذَا إنْسٌ وَلَا جِنّ؟ قَالَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَاَللهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإِنّي لَرَسُولُ اللهِ، تَجِدُونَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التّوْرَاةِ؛ فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، فَإِنّ اللهَ يَصْنَعُ لِرَسُولِهِ إذا بعثه ما يشاء ويقدر منه على ما أَرَادَ، فَأَنْزِلْ عَلَيْنَا كِتَابًا مِنْ السّمَاءِ نَقْرَؤُهُ وَنَعْرِفُهُ، وَإِلّا جِئْنَاك بِمِثْلِ مَا تَأْتِي بِهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِيمَا قَالُوا:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.
[تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: الظّهِيرُ: الْعَوْنُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: تَظَاهَرُوا عَلَيْهِ، أَيْ تَعَاوَنُوا عَلَيْهِ. قَالَ الشّاعِرُ:
يَا سمىّ النبىّ أصبحت للدّي ... ن قَوّامًا وَلِلْإِمَامِ ظَهِيرَا
أَيْ عَوْنًا؛ وَجَمْعُهُ: ظُهَرَاءُ.
[سُؤَالُهُمْ لَهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَأَبُو رَافِعٍ وَأَشْيَعُ، وَشَمْويِلُ بْنُ زَيْدٍ، لِعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ حَيْن أَسْلَمَ: مَا تَكُونُ النّبُوّةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/378)
فى العرب ولكنّ صاحبك ملك. ثم جاؤا رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَقَصّ عَلَيْهِمْ مَا جَاءَهُ مِنْ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، مِمّا كَانَ قَصّ عَلَى قُرَيْشٍ، وَهُمْ كَانُوا مِمّنْ أَمَرَ قُرَيْشًا أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، حَيْنَ بَعَثُوا إلَيْهِمْ النّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ.
[تهجمهم على ذات الله وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدّثْت عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنّهُ قَالَ: أَتَى رَهْطٌ مِنْ يَهُودَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، هَذَا اللهُ خَلَقَ، الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى اُنْتُقِعَ لَوْنُهُ، ثُمّ سَاوَرَهُمْ غَضَبًا لِرَبّهِ. قَالَ: فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَسَكّنَهُ، فَقَالَ: خَفّضْ عَلَيْك يَا مُحَمّدُ، وَجَاءَهُ مِنْ اللهِ بِجَوَابِ مَا سَأَلُوهُ عنه:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
قَالَ: فَلَمّا تَلَاهَا عَلَيْهِمْ، قَالُوا: فَصِفْ لَنَا يَا مُحَمّدُ كَيْفَ خَلْقُهُ؟ كَيْفَ ذِرَاعُهُ؟ كَيْفَ عَضُدُهُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَشَدّ مِنْ غَضَبِهِ الْأَوّلِ، وَسَاوَرَهُمْ. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ أَوّلَ مَرّةٍ، وَجَاءَهُ مِنْ اللهِ تَعَالَى بِجَوَابِ مَا سَأَلُوهُ. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(4/379)
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، مَوْلَى بنى تيم، عن أبى سلمة ابن عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول «يُوشِكُ النّاسُ أَنْ يَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ حَتّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ: هَذَا اللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقُولُوا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ثُمّ لِيَتْفُلْ الرّجُلُ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلِيَسْتَعِذْ بِاَللهِ مِنْ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ» .
[تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: الصّمَدُ: الّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ، وَيُفْزَعُ إلَيْهِ، قَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ مَعْبَدِ بْنِ نَضْلَةَ تَبْكِي عَمْرَو بْنَ مَسْعُودٍ، وَخَالِدَ بْنَ نَضْلَةَ، عَمّيْهَا الْأَسَدِيّيْنِ، وَهُمَا اللّذَانِ قَتَلَ النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ اللّخْمِيّ، وَبَنَى الْغَرِيّيْنِ اللّذَيْنِ بِالْكُوفَةِ عَلَيْهِمَا:
أَلَا بَكَرَ النّاعِي بِخَيْرَيْ بَنِي أَسَدْ ... بِعَمْرِو بْنِ مسعود وبالسيّد الصّمد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَدْءُ الْأَذَانِ ذِكْرُ حَدِيثِ «1» عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبّهِ، هَكَذَا ذكره،
__________
(1) قال الترمذى: لا نعرف له عن النبى- ص- شيئا يصح إلا هذا الحديث، وكذا قال ابن عدى، وخطأ الحافظ فى الإصابة من قال ذلك وذكر أنه جمع له ستة أو سبعة أحاديث فى جزء مفرد.(4/380)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَكْثَرُ النّسّابِ يَقُولُونَ: زَيْدُ بْنُ عَبْدِ رَبّهِ، وَثَعْلَبَةُ أَخُو زَيْدٍ ذَكَرَ حَدِيثَهُ عِنْدَمَا شَاوَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي الْأَذَانِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
نَاقُوسٌ كَنَاقُوسِ النّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بُوقٌ كَبُوقِ الْيَهُودِ، وَفِي غَيْرِ السّيرَةِ أَنّهُمْ ذَكَرُوا الشّبّورَ، وَهُوَ الْبُوقُ. قَالَ الْأَصْمَعِيّ لِلْمُفَضّلِ، وَقَدْ نَازَعَهُ فِي مَعْنَى بَيْتٍ مِنْ الشّعْرِ، فَرَفَعَ الْمُفَضّلُ صَوْتَهُ، فَقَالَ الْأَصْمَعِيّ لَوْ نَفَخْت فِي الشّبّورِ مَا نَفَعَك، تَكَلّمْ كَلَامَ النّمْلِ وَأَصِبْ!!.
وَذَكَرُوا أَيْضًا الْقُنْعَ وَهُوَ الْقَرْنُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ تَصْحِيفٌ إنّمَا هُوَ الْقُبْعُ وَالْقُنْعُ أَوْلَى بِالصّوَابِ «1» ، لِأَنّهُ مِنْ أَقْنَعَ صَوْتَهُ إذَا رَفَعَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُوقِدُ نَارًا، وَنَرْفَعُهَا، فَإِذَا رَآهَا النّاسُ أَقْبَلُوا إلَى الصّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَبْعَثُ رَجُلًا يُنَادِي بالصلاة، فبينماهم فِي ذَلِكَ أُرِيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ
__________
(1) يذكر ابن الأثير أنها رويت بالباء والتاء والثاء والنون، وأشهرها وأكثرها: النون. قال الخطابى: سألت عنه غير واحد من أهل اللغة، فلم يثبتوا لى على شىء واحد- ثم ذكر مثل ما قاله السهيلى فى اشتقاقه- ويقول الزمخشرى: أو لأن أطرافه أقنعت إلى داخله، أى عطفت، وقال الخطابى عن القبع إنه سمى بهذا لأنه يقبع فم صاحبه، أى يستره، أو من قبعت الجوالق والجراب إذا ثنيت أطرافه إلى داخل. وقيل: القشع من قثع فى الأرض: إذا ذهب، وقيل: القثع، وهو دود يكون فى الخشب. قال الخطابى: ومدار هذا الحرف على هشيم، وكان كثير اللحن والتحريف على جلالة محله فى الحديث هذا ويقول الدكتور بوست عن البوق عند اليهود «آلة موسيقية على هيئة القرن كانوا يصوتون بها فى الأعياد، وعند إعطاء علامة الحرب، وما أشبه، وكانت أبواق الكهنة من الفضة» .(4/381)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرّؤيا الّتِي ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ، فَلَمّا أَخْبَرَ بِهَا رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَرَهُ أَنْ يُلْقِيَهَا عَلَى بِلَالٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا رَأَيْتهَا، وَأَنَا كُنْت أُحِبّهَا لِنَفْسِي، فَقَالَ: لِيُؤَذّن بِلَالٌ، وَلِتُقِمْ أَنْتَ، فَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ أَنْ يُؤَذّنَ الرّجُلُ، وَيُقِيمَ غَيْرُهُ وَهُوَ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الصّدَئِيّ حِينَ قَالَ لَهُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَذّنَ فَهُوَ أَحَقّ أَنْ يُقِيمَ «1» ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ إلّا أَنّهُ يَدُورُ عَلَى عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ الْأَفْرِيقِيّ وَهُوَ ضَعِيفٌ «2» ، وَالْأَوّلُ أَصَحّ مِنْهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَتَزْعُمُ الْأَنْصَارُ أَنّ عَبْدَ اللهِ بْنَ زَيْدٍ حِينَ رَأَى النّدَاءَ كَانَ مَرِيضًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى الله عليه وسلم-
__________
(1) عن زياد بن الحارث الصدائى قال قال رسول الله «ص» يا أخا صداء أذن، قال: فأذنت، وذلك حين أضاء الفجر، قال: فلما توضأ رسول الله «ص» قام إلى الصلاة، فأراد بلال أن يقيم، فقال رسول الله «ص» يقيم أخو صداء فإن من أذن فهو يقيم. رواه الخمسة إلا النسائى واللفظ لأحمد.
(2) وثقه يحيى بن سعيد القطان، قال أحمد: حديثه منكر. قال يعقوب ابن شيبة: رجل صالح من الآمرين بالمعروف، وقال ابن عدى: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، قال البخارى: هو مقارب الحديث مات سنة 156 هـ خلاصة تذهيب الكمال. وقال الترمذى عن هذا الحديث: إنما نعرفه من حديث الإفريقى، وهو ضعيف عند أهل الحديث ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره. وقال أحمد: لا أكتب حديث الإفريقى. قال: ورأيت محمد بن إسماعيل يقوى أمره، ويقول: هو مقارب الحديث، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم وكان سفيان الثورى يعظمه نيل الأوطار ح 2 ص 56 ط عثمان خليفة. وهناك تناقض بين نقل الخزرجى فى التذهيب، وبين ما فى نيل الأوطار فى حكم يحيى بن سعيد. وحديث «فأقام هو، وأذن بلال» فى إسناده محمد ابن عمر الرافعى، وهو ضعيف ضعفه القطان وابن نمير ويحيى بن معين.(4/382)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالْأَذَانِ، وَقَدْ تَكَلّمَتْ الْعُلَمَاءُ فِي الْحِكْمَةِ الّتِي خَصّتْ الْأَذَانَ بِأَنْ رَآهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي نَوْمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَنْ وَحْيٍ مِنْ اللهِ لِنَبِيّهِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ الشّرْعِيّةِ، وَفِي قول النبي- صلى الله عليه وسلم- له: إنّهَا لَرُؤْيَا حَقّ، ثُمّ بَنَى حُكْمَ الْأَذَانِ عَلَيْهَا، وَهَلْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ وَحْيٍ مِنْ اللهِ لَهُ، أَمْ لَا؟
وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ قَوْلَهُ ذَلِكَ كَانَ عَنْ وَحْيٍ، وَتَكَلّمُوا: لِمَ لَمْ يُؤَذّنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَهَلْ أَذّنَ قَطّ مَرّةً مِنْ عُمْرِهِ دَهْرَهُ أَمْ لَا؟.
فَأَمّا الحكمة فى تخصيص الأذان برؤيا رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ عَنْ وَحْيٍ فَلِأَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُرِيَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَأُسْمِعَهُ مُشَاهَدَةً فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ «1» ، وَهَذَا أَقْوَى مِنْ الْوَحْيِ، فَلَمّا تَأَخّرَ فَرْضُ الْأَذَانِ إلَى الْمَدِينَةِ، وَأَرَادُوا إعْلَامَ النّاسِ بِوَقْتِ الصّلَاةِ تَلَبّثَ الْوَحْيُ حَتّى رَأَى عَبْدُ اللهِ الرّؤْيَا، فَوَافَقَتْ مَا رَأَى رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ: إنّهَا لَرُؤْيَا حَقّ إنْ شَاءَ اللهُ، وَعَلِمَ حِينَئِذٍ أَنّ مُرَادَ الْحَقّ بِمَا رَآهُ فِي السّمَاءِ، أَنْ يَكُونَ سُنّةً فِي الْأَرْضِ «2» ، وَقَوّى ذلك عنده موافقة رؤيا عمر للأنصارى
__________
(1) رواه البزار فى مسنده، وفى إسناده: زياد بن المنذر الهمدانى أو النهدى أبو الجارود الأعمى الكوفى رأس الجارودية مبتدع ضال. كذبه ابن معين. وقال عنه كذاب عدو الله واتهمه ابن حبان بالوضع. وقال الذهبى وابن كثير: هذا الحديث من وضعه، فكيف يستند السهيلى إلى حديث مثل هذا؟ وفى هذا الحديث يزعم أن النبى صعد إلى ما فوق السماء بالبراق.
(2) كل هذا يبنيه على بيت عنكبوت. يتمثل فى صورة حديث لعن الله مفتريه.(4/383)