الخليفة الراشد والمصلح الكبير
عمر بن عبد العزيز
ومعالم التجديد والإصلاح الراشدي
على منهاج النبوة
د. علي محمد محمد الصَّلاَّبيِّ(1/1)
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُون)) (آل عمران، الآية: 102).
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء، الآية: 1).
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) (الأحزاب، الآيتان: 70 ـ 71).
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى، أما بعد:
هذا الكتاب جزء من الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار يتحدث عن عهد الإصلاحي الكبير والمجدد الشهير عمر بن عبد العزيز، فتحدثت عن حياته وسيرته وطلبه للعلم وعن أهم أعماله في عهد الوليد وسليمان وعن خلافته وبيعته ومنهجه في إدارة الدولة، واهتمامه بالشورى والعدل وسياسته في رد المظالم وعزله لجميع الولاة الظالمين، ورفع المظالم عن الموالي وأهل الذمة وإقامة العدل لأهل سمرقند وعن الحريات في دولته، كالحرية الفكرية والعقدية والسياسية والشخصية، وحرية(1/3)
التجارة والكسب، وذكرت أهم صفاته، كشدة خوفه من الله تعالى، وزهده، وتواضعه وورعه، وحلمه وصفحه وعفوه، وصبره، وحزمه، وعدله وتضرعه ودعاؤه واستجابة الله له، وتحدثت عن معالم التجديد عند عمر بن عبد العزيز، كالشورى، والأمانة في الحكم وتوكيل الأمناء، وأحياؤه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومبدأ العدل، وعن شروط المجدد، كأن يكون معروفاً بصفاء العقيدة وسلامة المنهج وأن يكون عالماً مجتهداً، وأن يشمل تجديده ميدان الفكر والسلوك وأن يعم نفعه أهل زمانه، وتكلمت عن اهتمام عمر بن عبد العزيز بعقائد أهل السنة والجماعة، في توحيد الألوهية وفي باب أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وفي مفهوم الإيمان والإيمان باليوم الآخر والمعتقدات الغيبية، كعذاب القبر ونعيمه والمعاد، والميزان والحوض والصراط والجنة والنار ورؤية المؤمنين ربهم في الجنة والدعوة للاعتصام بالكتاب والسنة وسنة الخلفاء الراشدين، وموقفه من الصحابة والخلاف بينهم وموقفه من أهل البيت وتحدثت عن معاملته للخوارج والشيعة والقدرية وعن حياته الاجتماعية، واهتمامه بأولاده وأسرته ومنهجه في تربيته لأولاده كاختيار المعلم والمؤدب الصالح، وتحديد المنهج العلمي وتحديد طريقة التأديب والتعليم، وتحديد أوقات وأولويات التعليم، ومراعاة المؤثرات التعليمية وعن نتائج ذلك المنهج وتأثر ابنه عبد الملك به، وتكلمت عن حياته مع الناس، واهتمامه بإصلاح المجتمع، وتذكيره الناس بالآخرة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وإنكاره العصبية القبلية، وتقديره لأهل الفضل وقضاؤه ديون الغارمين، وفك أسرى المسلمين، وإغناؤه المحتاجين عن المسألة، ودفع المهور من بيت المال، وجهوده في التقريب بين طبقات المجتمع، ومعاملته للشعراء، واهتمامه الكبير بالعلماء، ومشاركتهم الفعّالة معه لإنجاح مشروعه الإصلاحي، فترقبوا منه وشدوا أزره للسير في منهجه التجديدي، وتعهدوه بالنصح والتذكير بالمسؤولية، واستعدادهم لتولي مختلف مناصب الدولة وأعمالها، وتحدثت عن المدارس العلمية في عهده وعهد الدولة الأموية، كمدرسة الشام والحجاز، والعراق ومصر ..
الخ، وعن منهج التابعين في تفسير القرآن الكريم، وجهودهم في خدمة السنة ودور عمر بن عبد العزيز في تدوينها، وأشرت إلى منهج التزكية والسلوك عند التابعين(1/4)
وأخذت مدرسة الحسن البصري مثالاً على ذلك فتحدثت عنها وعن تلاميذها كأيوب السختياني، ومالك بن دينار، ومحمد بن واسع، وبينت براءة الحسن البصري من الاعتزال وتحدثت عن علاقة الحسن البصري بعمر بن عبد العزيز ورسائله إليه، التي يبين فيها صفات الإمام العادل في نظره، وذكرت موقف عمر بن عبد العزيز وأسباب رفعه لحصار القسطنطينية واهتمامه بالدعوة الشاملة، ووضعه لقانون التفرغ للدعاة والعلماء وحضه على نشر العلم وتعليمه وتوجيه الأمة إلى أهميته، وإرسال العلماء الربانيين في شمال أفريقيا وغيرها لتعليم الناس وتربيتهم على الكتاب والسنة، وإرساله الرسائل الدعوية إلى الملوك بالهند وغيرها، وتشجيعه غير المسلمين على الدخول في الإسلام، وأفردت مبحثاً لإصلاحاته المالية وسياسته الحكيمة في ذلك وحرصه على ترسيخ قيم الحق والعدل ورفع الظلم، فبينت أهداف السياسة الاقتصادية عنده، من إعادة توزيع الدخل والثروة بشكل عادل وتحقيق التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي، وأشرت لتحقيق تلك الأهداف كتوفير المناخ المناسب للتنمية ورد الحقوق لأصحابها وفتح الحرية الاقتصادية بقيود، وإتباع سياسة زراعية جديدة تمنع بيع الأرض الخراجية، وتعتني بالمزارعين وتخفف الضرائب عنهم، وحث الناس على الإصلاح والإعمار وإحياء أرض الموات، وتوفير مشاريع البنية التحتية، وتحدثت عن سياسته في الإنفاق العام، كإنفاق عمر على الرعاية الإجتماعية وترشيد الإنفاق في مصالح الدولة، كقطع الامتيازات الخاصة بالخليفة وبأمراء الأمويين، وترشيد الإنفاق الإداري والحربي وتكلمت عن المؤسسة القضائية في عهده وبعض اجتهاداته الفقهية كرأيه في الهدية لولاة الأمر ونقض الأحكام إذا خالفت النصوص الشرعية وغير ذلك من الاجتهادات الفقهية والقضائية
وتحدثت عن سياسته الإدارية وأشهر ولاته وحرصه على انتقاء عماله من أهل الخير والصلاح، وإشرافه المباشر على إدارة شئون الدولة وعن قدراته في التخطيط والتنظيم وعن أسلوبه في الوقاية من الفساد الإداري، كالتوسعة على العمال في الأرزاق وحرصه على الوقاية من الكذب، والامتناع عن أخذ الهدايا والهبات والنهي عن الإسراف والتبذير، ومنع الولاة والعمال من ممارسة(1/5)
التجارة، وفتح قنوات الاتصال بين الوالي والرعية، ومحاسبته لولاة من قبله عن أموال بيت المال، وتطرقت إلى مفهوم المركزية واللامركزية في إدارة عمر بن عبد العزيز واهتمامه بمبدأ المرونة، وتوظيفه للوقت في خدمة الدولة والرعية، وممارسته لمبدأ تقسيم العمل في الإدارة وحرصت على بيان بواعث عمر بن عبد العزيز في إصلاحه وتجديداته، المالية والسياسية والإدارية، .. الخ وأشرت إلى حرصه على تنفيذ أحكام الشريعة على الدولة والأمة والمجتمعات والأفراد وأشرت إلى آثار التمسك بأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية وهدي الخلافة الراشدة على دولته، من التمكين والأمن والاستقرار، والنصر والفتح، والعز والشرف وبركة العيش ورغده وعشت مع الأيام الأخيرة من حياة هذا المصلح الكبير حتى وفاته.
إن ظهور عمر بن عبد العزيز في تلك المرحلة التاريخية الحرجة من تاريخ الأمة ومحاولته العظيمة للعودة بالحياة إلى تحكيم الشريعة وآفاق الخلافة الراشدة الملتزمة بمعطيات القرآن والسنة، ظاهرة فذة تحمل في دلالتها ليس على بطولة القائد فحسب، وإنما على قدرة الإسلام نفسه على العودة باستمرار لقيادة الحياة السياسية والتشريعية والحضارية في نهاية الأمر وصياغتها بما ينسجم ومبادئه الأساسية (1).
إن خلافة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخية على من لا يزال يردد الكلمات والأصوات القائلة: إن الدولة التي تقوم على الأحكام الإسلامية والشريعة عرضة للمشاكل والأزمات وعرضة للإنهيار في كل ساعة، وإنها ليست إلا حُلماً من الأحلام ولا يزال التاريخ يتحدى هؤلاء ويقول لهم: ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)) (البقرة، الآية: 111).
ولقد سار نور الدين زنكي المتوفى عام 568 على منهج عمر بن عبد العزيز وأخذه نموذجاً ومثالاً له في القدوة والتأسي، فآتت محاولته الإصلاحية ثمارها للأمة وساهمت في نهوضها وعودة الوعي لها وتغلبت على أعدائها الصليبيين وطهرت بيت المقدس على يدي تلميذه، القائد الأشم، البطل المغوار صلاح الدين الأيوبي، كثر الله من أمثاله في جيلنا.
_________
(1) في التأصل الإسلامي للتاريخ د. عماد الدين خليل صـ62.(1/6)
إن الإصلاح ـ كما يفهمه المسلمون الصادقون لا كما يروّج أعداء الإسلام ـ هو الغاية من إرسال الله تعالى الرسل إلى الناس قال شعيب عليه السلام لقومه الغارقين في الضلال والفساد في العقيدة والسلوك: ((قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)) (هود، الآية: 88).
وقد اضطلع بمهمة الإصلاح لشؤون البشر ـ بعد مصلح الإنسانية الأعظم محمد ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ وسار على منهاج النبوة خلفاؤه الراشدون، وعلماء الأمة الأبرار كعمر بن عبد العزيز، والأمة الآن في أشد الحاجة لمعرفة هدي المصلحين ابتداء من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد اصابها التخلف والتيه والتفرق والضعف والاستكانة،
إن فقه حركة التاريخ الإسلامي يرشدنا إلى أن عوامل النهوض وأسباب النصر كثيرة منها صفاء العقيدة، ووضح المنهج، وتحكيم شرع الله في الدولة، ووجود القيادة الربانية التي تنظر بنور الله وقدرتها في التعامل مع سنن الله في تربية الأمم وبناء الدول وسقوطها، ومعرفة علل المجتمعات وأطوار الأمم، وأسرار التاريخ، ومخططات الأعداء من الصليبيين واليهود والملاحدة والفرق الباطنية، والمبتدعة وإعطاء كل عامل حقه الطبيعي في التعامل معه، فقضايا فقه النهوض، والمشاريع النهضوية البعيدة المدى متداخلة متشابكة لا يستطيع استيعابها إلا من فهم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وارتبط بالفقه الراشدي المحفوظ عن سلفنا العظيم، فعلم معالمه وخصائصه وأسباب وجوده وعوامل زواله واستفاد من التاريخ الإسلامي وتجارب النهوض، فأيقن بأن هذه الأمة ما فقدت الصدارة قط وهي وفية لربها ونبيها صلى الله عليه وسلم وعلم بأن الهزائم العسكرية عرض يزول، أما الهزائم الثقافية فجرح مميت، والثقافة الصحيحة تبني الإنسان المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة، على قواعدها المتينة من كتاب الله وسنة رسوله، وهدى الخلفاء الراشدين، ومن سار على نهجهم، وعبقرية البناء الحضاري الصحيح هي التي أبقت صرح الإسلام إلى يومنا هذا بعد توفيق الله وحفظه.(1/7)
إن سيرة عمر بن عبد العزيز تمدنا بالمفهوم الصحيح لكلمة الإصلاح للمفهوم القرآني الأصيل الذي فهمه علماؤنا المصلحون فهماً صحيحاً وطبّقوه تطبيقاً، سليماً، لا المفهوم الغربي الحديث الذي تسرَّب إلى أذهان بعض المفكرين السياسيين المقلدين للغرب في حقّه وباطله حتى أصبح من المسلم به عند كثير من أبنائنا اليوم أن الثورة أعمّ وأشمل وأعمق من الإصلاح الذي يرادف في الغرب معنى التغيير الخفيف الذي يحدث بتدرج ومن دون عنف، بينما الثورة هي عندهم انقلاب جذري دون تدرّج، عنيف ومفاجيء، وما دروا أن الإصلاح بالمفهوم القرآني الصحيح له معنى أشمل وأعمّ وأكبر من الثورة، فهو دائماً نحو الأحسن والأكمل، بينما الثورة قد تكون من الصالح إلى الفاسد أصلاً، ويتم ذلك بتغيير سلطة بسلطة وحاكم بحاكم (1).
إن عمر بن عبد العزيز نموذج إصلاحي لمن يريد السير على منهاج النبوة وعهد الخلافة الراشدة، ولقد أخلص لله تعالى في مشروعه الإصلاحي فتولى الله توفيقه وأطلق ألسنة الناس بمدحه والثناء عليه، قال الشاعر أحمد رفيق المهدوي الليبي:
فإذا أحب الله باطن عبده
ظهرت عليه مواهب الفتاح
وإذا صفت لله نية مصلح
مال العباد عليه بالأرواح
وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، وأن يثيبني وأخواني الذين ساعدوا على نشره بمنه وكرمه وجوده ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه ((رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين)) (النمل، الآية: 19). قال تعالى: ((ما يفتح الله للناس من رحمة فلا
_________
(1) آثار الإمام محمد بشير الإبراهيمي (2/ 6).(1/8)
ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم)) (فاطر، الآية: 2). وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك أشد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربا العالمين
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه
علي محمد محمد الصًّلاَّبيِّ
الأخوة القرّاء الكرام، يسر المؤلف أن تصله ملاحظاتكم حول هذه الكتاب وغيره من كتبه من خلال دور النشر، ويطلب من إخوانه الدعاء في ظهر الغيب بالإخلاص والصواب ومواصلة المسيرة في خدمة تاريخ أمتنا
عنوان المؤلف
E_mail: abumohamed2@maktoob. com(1/9)
الفصل الأول
عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز:
المبحث الأول: من الميلاد إلى خلافته:
أولاً: اسمه ولقبه وكنيته وأسرته:
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، السيد أمير المؤمنين حقاً أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد أشج بني أمية (1)، كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين (2)، وكان حسن الأخلاق والخُلق، كامل العقل، حسن السمت، جيِّد السياسة حريصاً على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، طاهر الذكاء والفهم، أوّاها منيباً، قانتا لله حنيفاً، زاهداً مع الخلافة ناطقاً بالحق مع قلة المعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذين ملُّوهُ وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أُعطياتهم، وأخذه كثيراً مما في أيديهم، مما أخذوه بغير حقٍّ، فمازالوا به حتى سقوه السم فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُد عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين والعلماء العاملين (3)، وكان رحمه الله فصيحاً مُفوَّهاً (4).
1 ـ والده: هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكان من خيار أمراء بني أمية، شجاعاً كريماً بقي أمير لمصر أكثر من عشرين سنة، وكان من تمام ورعه وصلاحه أنه لما أراد الزواج قال لقيمه: اجمع لي أربعمائة ديناراً من طيب مالي، فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح (5)، فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي حفيده أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب وقيل اسمها
_________
(1) سير أعلام النبلاء (5/ 144).
(2) المصدر نفسه (5/ 114).
(3) المصدر نفسه (5/ 120).
(4) المصدر نفسه (5/ 136).
(5) الطبقات الكبرى (5/ 331)، الجوانب التربوية في حياة الخليفة عمر بن عبد العزيز، نيء عمر صـ11.(1/11)
ليلى (1)، كما أن زواجه من آل الخطاب ما كان ليتم لولا علمهم بحاله وحسن سيرته وخلقه، فقد كان حسن السيرة في شبابه، فضلاً عن التزامه وحرصه على تحصيل العلم واهتمامه بالحديث النبوي الشريف فقد جلس إلى أبي هريرة وغيره من الصحابة وسمع منهم، وقد واصل اهتمامه بالحديث بعد ولايته مصر، فطلب من كثير بن مرة في الشام أن يبعث إليه ما سمعه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من طريق أبي هريرة فإنه عنده (2)، وقد كان والد عمر بن عبد العزيز ذا نفس تواقة إلى معالي الأمور سواء قبل ولايته مصر أو بعدها فحين دخل مصر أيام شبابه تاقت نفسه إليها وتمنى ولايته فنالها (3)، ثم تاقت إلى الجود فصار أجود أمراء بني أمية وأسخاهم (4)، فكانت له ألف جفنة كل يوم تنصب حول داره وكانت له مائة جفنة يطاف بها على القبائل تحمل على العجل (5)، ومن جوده كان يقول: إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده فيده عندي أعظم من يدي عنده (6).
وقد أكثر المؤرخين من الثناء عليه لجوده وهذا الجود كان ممتزجاً باليقين بأن الله سبحانه وتعالى يخلف على من يرزقه فيقول: عجب لمؤمن يؤمن أن الله يرزقه ويخلف عليه كيف يحبس ماله عن عظيم أجر وحسن ثناء، وكان ذا خشية من الله، ونستقرأ هذه الخشية من قوله حين أدركه الموت: وددت أني لم أكن شيئاً مذكوراً، ولوددت أني أكون هذا الماء الجاري أو نبته بأرض الحجاز (7).
2 ـ أمه: أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووالدها، عاصم بن عمر بن الخطاب، الفقيه، الشريف أبو عمرو القرشي العدوي ولد في أيام النبوة وحدّث عن أبيه وأمه هي جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصاريّة، وكان طويلاً جسيماً وكان من نبلاء الرجال، ديِّنا، خيِّراً، صالحاً، وكان بليغاً، فصيحاً، شاعراً، وهو جد الخليفة عمر بن عبد العزيز لأُُمِّه، مات سنة سبعين، فرثاه ابن عمر أخوه
_________
(1) عبد العزيز بن مروان وسيرته وأثره في أحداث العصر الأموي صـ58.
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 47).
(3) الولاة وكتاب القضاة للكندي صـ54.
(4) معجز الإسلام، خالد محمد خالد صـ55.
(5) الخطط للمقريزي (1/ 21)، بدائع الزهور (1/ 28).
(6) عبد العزيز بن مروان صـ55.
(7) المصدر نفسه صـ56 نقلا عن البداية والنهاية.(1/12)
فليت المنايا كُنَّ خلَّفن عاصماً
فعشنا جميعاً أو ذهبنا بنا معاً (1)
وأما جدته لأمه فقد كان لها موقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعن عبد الله بن الزبير بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم قال: بينما أنا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يَعُسُّ (2)، بالمدينة إذ أعيا فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذ قيه بالماء فقالت لها: يا أمتاه أو ما علمت ما كان من أمير المؤمنين اليوم قال: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر منادياً، فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء، فقالت: لها يا بنتاه قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، وعمر يسمع كل ذلك، فقال: يا أسلم عَلِّم الباب وأعرف الموضع، ثم مضى في عسه، فلما أصبحا قال: يا أسلم أمض إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيِّم لا بعل لها وإذا تيك أمها وإذا ليس بها رجل، فأتيت عمر أخبرته، فدعا عمر ولده، فجمعهم، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه .. فقال عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني، فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم فولدت لعاصم بنتاًَ وولدت البنت عمر بن عبد العزيز (3)، ويذكر أن عمر بن الخطاب رأى ذات ليلة رؤيا، ويقول: ليت شعري من ذو الشين (4) من ولدي الذي يملؤها عدلاً، كما ملئت جوراً (5)، وكان عبد الله بن عمر يقول أن آل الخطاب يرون أن بلال بن عبد الله بوجهه شامة فحسبوه المبشر الموعود حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز (6).
3 ـ ولادته ومكانها: 61هـ، المدينة:
اختلف المؤرخون في سنة ولادته والراجح أنه ولد عام 61هـ وهو قول أكثر المؤرخين ولأنه يؤيد ما يذكر أنه توفي وعمره أربعون سنة حيث توفي عام 101هـ (7)، وتذكر بعض المصادر أنه ولد بمصر وهذا القول
_________
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 97).
(2) العُس: تقص الليل عن أهل الريبة، معجم مقاييس اللغة (4/ 42).
(3) سيرة عمر لابن الحكم صـ19 ـ 20، سيرة عمر لابن الجوزية صـ10.
(4) الشين: العلامة.
(5) سير أعلام النبلاء (5/ 122).
(6) المصدر نفسه (5/ 122).
(7) البداية والنهاية (12/ 676).(1/13)
ضعيف لأن أباه عبد العزيز بن مروان بن الحكم إنما تولى مصر سنة خمس وستين للهجرة، بعد استيلاء مروان بن الحكم عليها من يد عامل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فولّى عليها ابنه عبد العزيز ولم يعرف لعبد العزيز بن مروان إقامة بمصر قبل ذلك، وإنما كانت إقامته وبني مروان في المدينة (1)، وذكر الذهبي أنه ولد بالمدينة زمن يزيد (2).
4 ـ أشج بني أمية: كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يلقب بالأشج، وكان يقال له أشج بني مروان، وذلك أن عمر بن عبد العزيز عندما كان صغيراً دخل إلى اصطبل أبيه عندما كان والياً على مصر ليرى الخيل فضربه فرس في وجهه فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذاً لسعيد (3)، ولما رأى أخوه الأصبغ الأثر قال: الله أكبر! هذا أشج بني مروان الذي يملك، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن من ولدي رجلاً بوجهه أثر يملأ الأرض عدلاً (4). وكان الفاروق قد رأى رؤيا تشير إلى ذلك وقد تكررت هذه الرؤيا لغير الفاروق حتى أصبح الأمر مشهوراً عند الناس بدليل ما قاله أبوه عندما رأى الدم في وجهه وما قاله أخوه عندما رأى الشج في وجهه كلاهما تفاءل لعله أن يكون ذلك الأشج الذي يملأ الأرض عدلاً (5)
5 ـ إخوته: كان لعبد العزيز بن مروان والد عمر بن عبد العزيز عشرة من الولد وهم: عمر وأبو بكر ومحمد وعاصم وهؤلاء أمهم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وله من غيرها ستة وهم: الأصبغ وسهل وسهيل وأم الحكم وزبّان وأم البنين (6)، وعاصم هو من تكنى به والدته ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب فكنيتها أم عاصم (7).
6 ـ أولاده: كان لعمر بن عبد العزيز رحمه الله أربعة عشرة ذكراً منهم: عبد الملك وعبد العزيز وعبد الله وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وبكر والوليد وموسى
_________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 54).
(2) تذكرة الحفاظ (1/ 118 ـ 120).
(3) البداية والنهاية نقلاً عن فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 20).
(4) المعارف لابن قتيبة صـ362.
(5) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 20) د. محمد شقير.
(6) المعارف لابن قتيبة صـ362.
(7) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 22).(1/14)
وعاصم ويزيد وزبان وعبد الله (1) وبنات ثلاثة أمينة وأم عمار وأم عبد الله وقد اختلفت الروايات عن عدد أولاد وبنات عمر بن عبد العزيز فبعض الروايات تذكر أنهم أربعة عشر ذكراً كما ذكره ابن قتيبة وبعض الروايات تذكر أن عدد الذكور اثنا عشر وعدد الإناث ست كما ذكره ابن الجوزي (2) والمتفق عليه من الذكور اثنا عشر، وحينما توفي عمر بن عبد العزيز لم يترك لأولاده مالاً إلا الشيء اليسير أنه أصاب الذكر من أولاده من التركة تسعة عشر درهماً فقط، بينما أصاب الذكر من أولاد هشام بن عبد الملك ألف ألف (مليون) وما هي إلا سنوات قليلة حتى كان أحد أبناء عمر بن عبد العزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله في يوم واحد، وقد رأى بعض الناس رجلاً من أولاد هشام يتصدق عليه (3). فسبحان الله رب العالمين ..
7 ـ زوجاته: نشأ عمر بالمدينة وتخلق بأخلاق أهلها، وتأثر بعلمائها وأكب على أخذ العلم من شيوخها، وكان يقعد مع مشايخ قريش ويتجنب شبابهم، ومازال ذلك دأبه حتى اشتهر، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه، ابنته فاطمة بنت عبد الملك (4)، وهي امرأة صالحة تأثرت بعمر بن عبد العزيز وآثرت ما عند الله على متاع الدنيا وهي التي قال فيها الشاعر:
بنت الخليفة والخليفة جدها
أخت الخلائف والخليفة زوجها
ومعنى هذا البيت أنها بنت الخليفة عبد الملك بن مروان والخليفة جدها مروان بن الحكم، وأخت الخلائف فهي أخت الخلفاء الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك ويزيد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك، والخليفة زوجها فهو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، حتى قيل عنها: لا نعرف امرأة بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها (5). وقد ولدت لعمر بن عبد العزيز إسحاق ويعقوب وموسى، ومن
_________
(1) المصدر نفسه (1/ 23).
(2) سيرة عمرة بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ338، فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 24).
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ338.
(4) البداية والنهاية (12/ 680).
(5) المصدر نفسه (12/ 680).(1/15)
زوجاته لميس بنت علي بن الحارث وقد ولدت له عبد الله وبكر وأم عمار، ومن زوجاته أم عثمان بنت شعيب بن زيان، وقد ولدت له إبراهيم. وأما أولاده: عبد الملك والوليد وعاصم ويزيد وعبد الله وعبد العزيز وزيان وأمينة وأم عبد الله فأمهم: أم ولد (1).
8 ـ صفاته الخلقية: كان عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أسمر رقيق الوجه أحسنه، نحيف الجسم حسن اللحية، غائر العينين بجبهته أثر نفحة دابة وقد خطه الشيب (2)، وقيل في صفته: أنه كان رجلاً أبيض دقيق الوجه، جميلاً، نحيف، وقيل في صفته: أنه كان رجلاً أبيض دقيق الوجه، جميلاً، نحيف الجسم، حسن اللحية (3).
ثانياً: العوامل التي أثرت في تكوين شخصية عمر بن عبد العزيز:
1 ـ الواقع الأسري:
نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة، فلما شب وعقل وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: يا أمه أنا أحب أن أكون مثل خالي ـ يريد عبد الله بن عمر ـ فتؤفف به ثم تقول له: أغرب أنت تكون مثل خالك وتكرر عليه ذلك غير مرة. فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أمير عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها فقال لها: يا أبنة أخي هو زوجك فالحقي به، فلما أرادت الخروج قال لها: خلفي هذا الغلام عندنا ـ يريد عمر ـ فإنه أشبهكم بنا أهل البيت فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده فإذا هو لا يرى عمر، قال لها: وأين عمر؟ فأخبرته خبر عبد الله وما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم، فسرّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلماً (4)، وهكذا تربى عمر رحمه الله تعالى بين أخواله بالمدينة من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة (5).
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ314 ـ 315.
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 58).
(3) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/ 11) الآثار الواردة (1/ 58).
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ24 ـ 25.
(5) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 56).(1/16)
2 ـ إقباله المبكر على طلب العلم وحفظه القرآن الكريم:
فقد رزق منذ صغره حب الإقبال على طلب العلم وحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح زاخرة بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب (1)، وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ. وقد تأثر كثيراً بالقرآن الكريم في نظرته لله عز وجل والحياة والكون والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الموت وكان يبكي لذكر الموت بالرغم من حداثة سنه فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت. فبكت أمه حين بلغها ذلك (2)، وقد عاش طيلة حياته مع كتاب الله عز وجل متدبراً ومنفذاً لأوامره، ومن مواقفه مع القرآن الكريم:
أـ عن ابن أبي ذيب: قال: حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة، وقرأ عنده رجل: ((وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)) (الفرقان، الآية: 13). فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه، فقام من مجلسه فدخل بيته، وتفرق الناس (3). ومفهوم هذه الآية: إذا ألقي هؤلاء المكذبون بالساعة من النار مكاناً ضيقاً، قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ((دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)). والثبور في هذا الموضوع دعا هؤلاء القوم بالندم على انصرافهم عن طاعة الله في الدنيا والإيمان بما جاء به نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى استوجبوا العقوبة (4).
ب ـ وعن أبي مودود قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قرأ ذات يوم: ((وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا)) (يونس، الآية: 61). فبكى بكاءً شديداً حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة ـ زوجته ـ فجعلت تبكي لبكائه وبكى أهل الدار لبكائهم، فجاء عبد الملك، فدخل عليهم
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 679).
(2) البداية والنهاية (12/ 678).
(3) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا رقم 83.
(4) دموع القراء، محمد شومان صـ107 نقلاً عن تفسير ابن جرير.(1/17)
وهم على تلك الحال يبكون فقال: يا أبه، ما يبكيك؟ قال: خير يا بني، ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أن أهلك والله يا بني لقد خشيت أن أكون من أهل النار (1). ومعنى الآية: إن الله تعالى يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة وأنه لا يعزب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) (الأنعام، الآية 59).
فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات، وكذلك الدواب السارحة في قوله: ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)) (الأنعام، الآية 38)، وقال تعالى: ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)) (هو، الآية: 6)، وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة؟ كما قال تعالى: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)) (الشعراء، الآيات: 217، 219)، ولهذا قال تعالى: إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راءون سامعون (2)
ج ـ وعن عبد الأعلى بن أبي عبد الله العنزي قال: رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة ووراءه حبشي يمشي فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال: هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر، فخطب فقرأ: ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ))، فقال: وما شأن الشمس؟ ((وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ))، حتى انتهى إلى ((وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ)) (التكوير: الآيتان: 11، 12) فبكى وبكى أهل المسجد، وارتج المسجد بالبكاء حتى رأيت أن حيطان المسجد تبكي معه (3). وهذه السورة جاء فيها الأوصاف التي وصف بها يوم القيامة من الأوصاف التي تنزعج لها القلوب، وتشتد من أجلها الكروب، وترتعد الفرائص، وتعم المخاوف، وتحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم،
_________
(1) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا رقم 91.
(2) تفسير ابن كثير.
(3) دموع القراء صـ111، 112.(1/18)
وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم، ولهذا قال بعض السلف: من أراد أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليتدبر سورة ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)) (1). بل ثبت مرفوعاً من حديث أبن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)) ((إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)) ((إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)) (2).
س ـ وعن ميمون بن مهران قال: قرأ عمر بن عبد العزيز ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)) فبكى ثم قال: ((حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)) ما أرى المقابر إلا زيارة، ولابد لمن يزورها أن يرجع إلى جنة أو إلى النار (3)، هذه بعض المواقف التي تبين تأثير القرآن الكريم على شخصية عمر بن عبد العزيز.
3 ـ الواقع الاجتماعي: إن البيئة الاجتماعية المحيطة لها دور فعال ومهم في صناعة الرجال وبناء شخصيتهم، فعمر بن عبد العزيز عاش في زمن ساد فيه مجتمع التقوى والصلاح والإقبال على طلب العلم والعمل بالكتاب والسنة، فقد كان عدد من الصحابة لا زالوا بالمدينة، فقد حدث عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحاً شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمّ بأنس بن مالك، فقال: ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى (4)، فكان للإقامة بالمدينة آثار نفسية ومعان إيمانية، وتعلق روحي، وكان لذلك المجتمع قوة التأثير في صياغة شخصية عمر بن عبد العزيز العلمية والتربوية (5).
4 ـ تربيته على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها:
اختار عبد العزيز والد عمر صالح بن كيسان ليكون مربياً لعمر بن عبد العزيز، فتولى صالح تأديبه وكان يلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يوماً أن تأخر عمر بن عبد العزيز عن
_________
(1) تفسير السعدي 912.
(2) أخرجه الترمزي رقم 3333 والحاكم (2/ 515)، (4/ 576) وصححه ووافقه الذهبي والألباني في الصحيحة (3/ 70).
(3) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا رقم 425.
(4) سير أعلام النبلاء (5/ 114).
(5) الجوانب التربوية في حياة عمر بن عبد العزيز صـ23.(1/19)
الصلاة مع الجماعة فقال صالح بن كيسان ما يشغلك؟ قال: كانت مرجّلتي (1) تسكن شعري، فقال: بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حلق رأسه (2)، وحرص على التشبه بصلاة رسول الله أشد الحرص، فكان يتم الركوع والسجود ويخفِّف القيام، والقعود وفي رواية صحيحة: أنّه كان يسبح في الركوع والسجود عشراً عشراً (3)، ولمّا حج أبوه ومرّ بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال: ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام (4)، ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجله كثيراً ونهل من علمه وتأدب بأدبه وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبّر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة التردد إلى مجلسه فقال: لمجلس من الأعمى: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحب إليّ من ألف دينار (5)، وكان يقول في أيام خلافته لمعرفته بما عند شيخه من علم غزير، لو كان عبيد الله حياً ما صدرت إلا عن رأيه ولوددت أن لي بيوم واحد من عبيد الله كذا وكذا (6)، وكان عبيد الله مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة (7)، قال عنه الزهري: كان عبيد الله بن عبد الله بحراً من بحور العلم (8)، وكان يقرض الشعر، فقد كتب إلى عمر بن عبد العزيز هذه الأبيات:
بسم الذي أنزلت من عنده السور
والحمد لله أمّا بعد يا عمر
إن كنت تعلم ما تأتي وما تذر
فكن على حذر قد ينفع الحذر
واصبر على القدر المحتوم وأرض به
وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرئ عيش يُسرٌّ به
إلا سيتبع يوماً صفوه كدر (9)
وقد توفي هذا العالم سنة 98هـ، وقيل 99هـ (10).
_________
(1) مرجلتي: مسرحة شعري.
(2) البداية والنهاية (12/ 678).
(3) المصدر نفسه (12/ 682).
(4) المصدر نفسه (12/ 678).
(5) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ59، الطبقات (5/ 250) تهذيب التهذيب (7/ 22).
(6) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ59.
(7) سير أعلام النبلاء (4/ 475).
(8) المصدر نفسه (4/ 477).
(9) المصدر نفسه (4/ 477).
(10) المصدر نفسه (4/ 478، 479).(1/20)
ومن شيوخ عمر سعيد بن المسيب وقد تحدثت عن سيرته في عهد عبد الملك بن مروان وكان سعيد لا يأتي أحداً من الأمراء غير عمر (1)، ومن شيوخه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي قال فيه سعيد بن المسيب: كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به وكان سالم أشبه ولد عبد الله به (2)، وكان ابن عمر يحب ابنه سالم وكان يلام في ذلك فكان يقول:
يلومنني في سالم وألومهم
وجلدة بين العين والأنف سالم (3)
كانت أمه أم ولد وقال فيه ابن أبي الزناد: كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم الغُرُّ السادة علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله ففاقوا أهل المدينة علماً وتقىً وعبادة وورعاً، فرعب الناس حينئذ في السراري (4)، وقال عنه الإمام مالك: لم يكن أحد في زمان سالم أشبه بمن مضى من الصالحين، في الزهد والفضل والعيش منه، كان يلبس الثوب بدرهمين، ويشترى الشمال (5) ليحملها. قال: فقال سليمان بن عبد الملك لسالم ورآه حسن السّحنة. أي شيء تأكل؟ قال: الخبر والزَّيت، وإذا وجدت اللحم، أكلته. فقال له عمر: أو تشتهيه؟ قال: إذ لم أشتهه تركته حتى أشتهيه (6)، وذات يوم دخل سالم بن عبد الله على سليمان بن عبد الملك، وعلى سالم ثياب غليظة رثَّه، فلم يزل سليمان يرحب به، ويرفعه حتى أقعده معه على سريره، وعمر بن عبد العزيز في المجلس، فقال له رجل من أُخريات الناس: ما استطاع خالك أن يلبس ثياباً فاخرة أحسن من هذه، يدخل فيها على أمير المؤمنين؟ وعلى المتكلم ثياب سريَّة، لها قيمة، فقال له عمر: ما رأيت هذه الثياب التي على خالي وضعته في مكانك، ولا رأيت ثياباً هذه رفعتك إلى مكان خالي ذاك (7) وتربي وتعلم عمر بن عبد العزيز على يدي كثير من العلماء والفقهاء وقد بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز ثلاثة وثلاثين، وثمانية منهم من الصحابة وخمسة وعشرون من التابعين (8)، فقد نهل من علمهم وتأدب بأدبهم ولازم مجالسهم حتى
_________
(1) الجوانب التربوية في حياة الخليفة عمر صـ25.
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 459).
(3) المصدر نفسه (4/ 460).
(4) المصدر نفسه (4/ 460).
(5) سير أعلام النبلاء (4/ 460).
(6) المصدر نفسه (4/ 460).
(7) المصدر نفسه (4/ 461).
(8) مسند أمير المؤمنين عمر صـ33.(1/21)
ظهرت آثار هذه التربية المتينة في أخلاقه وتصرفاته (1)
فامتاز بصلابة الشخصية والجدية في معالجة الأمور والحزم وإمعان الفكر وإدامة النظر في القرآن، والإرادة القوية والترفع عن الهزل والمزاح (2)، هذه هي أهم العوامل التي أثرت في تكوين شخصيته ومن الدروس المستفاده هو أن العلماء الربانيين يقع على عاتقهم مسؤولية كبيرة وهي الاهتمام بأولاد الأمراء والحكام وأهل الجاه والمال ففي صلاحهم خير عظيم للأمة الإسلامية.
ثالثاً: مكانته العلمية: اتفقت كلمة المترجمين له على أنه من أئمة زمانه، فقد أطلق عليه كل من الإمامين: مالك وسفيان بن عيينة وصف إمام (3)، وقال فيه مجاهد: أتيناه نعلمه فما برحنا حتى تعلمَّنا منه (4)، وقال ميمون بن مهران: كان عمر بن عبد العزيز معلمَّ العلماء (5)، قال فيه الذهبي: كان إماماً فقيهاً مجتهداً، عارفاً بالسنن، كبير الشأن، حافظاً، قانتاً لله أوَّاهاً منيباً يعد في حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري وفي العلم مع الزهري (6)، وقد احتج الفقهاء والعلماء بقوله وفعله ومن ذلك رسالة الإمام الليث بن سعد إلى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما وهي رسالة قصيرة وفيها يحتج الليث ـ مراراً ـ بصحة قوله، بقول عمر بن عبد العزيز على مالك فيما ذهب إليه في بعض مسائله (7)، ويرد ذكر عمر بن عبد العزيز في كتب الفقه للمذاهب الأربعة المتبوعة على سبيل الاحتجاج بمذهبه، فاستدل الحنفية بصنيعه في كثير من المسائل وجعلوا له وصفاً يتميَّز به عن جدّه لأمه: عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال القرشي في الجواهر المضيئة: فائدة يقول: أصحابنا في كتبهم في مسائل الخلاف: وهو قول
_________
(1) الجوانب التربوية في حياة عمر بن عبد العزيز (1/ 67) ..
(2) عمر بن عبد العزيز للزحيلي صـ30.
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 67).
(4) تهذيب التهذيب (7/ 405) الآثار الواردة (1/ 67).
(5) تاريخ أبي زرعة صـ255، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 67).
(6) تذكرة الحفاظ صـ118 ـ 119.
(7) الآثار الواردة في عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 70).(1/22)
عمر الصغير. يريدون به عمر بن عبد العزيز الإمام الخليفة المشهور (1)، ويكثر الشافعية من ذكره في كتبهم ولذلك ترجم له الإمام النووي ترجمة حافلة في تهذيب الأسماء واللغات وقال في أولها: تكرر في المختصر والمهذب (2).
وأما المالكية فيكثرون من ذكره في كتبهم أكثر من غيرهم، ومالك إمام المذهب ذكر في ((الموطأ)) محتجاً بفتواه وقوله في مواضع عديدة في موطئه (3)، وأما الحنابلة فكذلك، يذكرونه كثير، وعمر هو الذي قال فيه الإمام أحمد: لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز وكفاه هذا (4)، وكفانا قول الإمام أحمد أيضاً: إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن من وراء ذلك خيراً إن شاء الله (5)، ومن أراد أن يتبحر في علم عمر بن عبد العزيز ويعرف مكانته العلمية، فليراجع الكتب الآتية: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة للأستاذ حياة محمد جبر والكتاب في مجلدين، وهي رسالة علمية وكذلك فقه عمر بن عبد العزيز للدكتور محمد سعد شقير في مجلدين وهي رسالة علمية نال بها المؤلف درجة الدكتوراه، وموسوعة فقه عمر بن عبد العزيز لمحمد رواس قلعجي وسوف نرى في بحثنا فقه عمر بن عبد العزيز بإذن الله تعالى في العقائد والعبادات والسياسة الشرعية، وإدارة الدولة، والنظم المالية والقضائية والدعوية وتقيده بالكتاب والسنة والخلفاء الراشدين في خطواته وسكناته.
رابعاً: عمر في عهد الوليد بن عبد الملك:
يعد عمر بن عبد العزيز من العلماء الذين تميزوا بقربهم من الخلفاء وكان لهم أثر كبير في نصحهم وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة ويحتل عمر بن عبد العزيز مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عبد الملك يجله ويعجب بنباهته أثناء شبابه مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه ويزوجه من ابنته، ولكن لم يكن
_________
(1) الجواهر المضيئة (4/ 552) الآثار الواردة (1/ 71).
(2) المختصر والمهذب من كتب الشافعية المشهورة.
(3) انظر: الموطأ الأرقام الآتية: 305، 592، 594، 614.
(4) البداية والنهاية نقلاً عن الآثار الواردة (1/ 72).
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ61.(1/23)
له مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه واشتغاله بطلب العلم في المدينة، ومع ذلك فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك كتاباً يذكره فيه بالمسئولية الملقاة على عاتقه وقد جاء فيها: أما بعد: فإنك راعٍ، وكل مسؤول عن رعيته حدثنا أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل راعٍ مسئول عن رعيته (1). ((اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)) (النساء، الآية: 87).
ويقال بأن عمر بن عبد العزيز ولاّه عمه عبد الملك خناصره لكي يتدرب على الأعمال القيادية في وقت مبكر (2)، وقد قيل: إن سليمان بن عبد الملك هو الذي ولاه على خناصره، وهناك من رجح القول وقد تأثر عمر بن عبد العزيز لموت عمه وحزن عليه حزناً عظيماً وقد خاطب عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك فقال له: يا مسلمة إني حضرت اباك لما دفن، فحملتني عيني عند قبره فرايته قد أفضى إلى أمر من أمر الله، راعني وهالني فعاهدت الله ألا أعمل بمثل عمله إن وليت وقد اجتهدت في ذلك (3).
1 ـ ولايته على المدينة:
في ربيع الأول من عام 87هـ ولاّه الخليفة الوليد بن عبد الملك إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ وبذلك صار والياً على الحجاز كلها: واشترط عمر لتوليه الإمارة ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يعمل في الناس بالحق والعدل ولا يظلم أحداً ولا يجور على أحد في أخذ ما على الناس من حقوق لبيت المال، ويترتب على ذلك أن يقل ما يرفع للخليفة من الأموال من المدينة. الشرط الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج.
_________
(1) أثر الحياة السياسية صـ159.
(2) الآثار الواردة في عمر بن عبد العزيز (1/ 93).
(3) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز بشير كمال عابدين صـ10.(1/24)
الشرط الثالث: أن يسمح له بالعطاء أن يخرجه للناس في المدينة فوافق الوليد على هذه الشروط، وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة وفرح الناس به فرحاً شديد (1).
2 ـ مجلس شورى عمر بن عبد العزيز: مجلس فقهاء المدينة العشرة:
كان من أبرز الأعمال التي قام بها عمر بن عبد العزيز تكوينه لمجلس الشورى بالمدينة، فعند ما جاء الناس للسلام على الأمير الجديد بالمدينة وصلى، دعا عشرة من فقهاء المدينة، وهم عروة ابن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة وخارجه بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرّج الله على من بلغه ذلك إلا أبلغني (2). لقد عرفت أن عمر بن الخطاب كان يجمع المجلس للأمر يطرأ، فيرى ضرورة الشورى فيه، أما عمر بن عبد العزيز، وهو سبط عمر بن الخطاب، فقد أحدث مجلساً، حدّد صلاحياته بأمرين:
أـ أنهم أصحاب الحق في تقرير الرأي، وأنه لا يقطع أمراً إلا برأيهم. وبذلك يكون الأمير قد تخلى عن اختصاصاته إلى هذا المجلس، الذي نسميه ((مجلس العشرة)).
ب ـ أنه جعلهم مفتشين على العمال، ورقباء على تصرفاتهم فإذا ما اتصل بعلمهم أو بعلم أحدهم أن عاملاً ارتكب ظلامة، فعليهم أن يبلغوه وإلا فقد استعدى الله على كاتم الحق. ونلاحظ كذلك على هذا التدبير قد تضمن أمرين:
_________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 63)، سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ41 ـ42.
(2) الطبقات (5/ 257) موسوعة فقه عمر، قلعجي صـ548.(1/25)
أحدهما: أن الأمير عمر بن عبد العزيز لم يخصص تعويضاً لمجلس العشرة لأنهم كانوا من أصحاب العطاء، وبما أنهم فقهاء، فماندبهم إليه داخل في صلب اختصاصهم.
الثاني: إن عمر افترض ـ غياب أحدهم عن الحضور لعذر من الأعذار ولهذا لم يشترط في تدبيره حضورهم كلهم، وإنما قال: ((أو برأي من حضر منكم)) (1)، إن هذا المجلس كان يستشار في جميع الأمور دون استثناء (2)، ونستنتج من هذه القصة أهمية العلماء الربانيين وعلو مكانتهم وأنه يجب على صاحب القرار أن يدنيهم ويقربهم منه ويشاورهم في أمور الرعية، كما أنه على العلماء أن يلتفوا حول الصالح من أصحاب القرار من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن للمصالح وتقليل ما يمكن من المفاسد، كما أن عمر بن عبد العزيز لم يختصر في شوراه على هؤلاء فحسب، بل كان يستشير غيرهم من علماء المدينة، كسعيد بن المسيِّب، والزهري، وغيرهم، وكان لا يقضي في قضاء حتى يسأل سعيد، وفي المدينة أظهر عمر عبد العزيز إجلاله للعلماء وإكباره لهم، وقد حدث أن أرسل رحمه الله تعالى رسولاً إلى سعيد بن المسيِّب يسأله عن مسألة، وكان سعيد لا يأتي أمير ولا خليفة فأخطأ الرسول فقال له: الأمير يدعوك، فأخذ سعيد نعليه وقام إليه في وقته، فلما رآه عمر قال له: عزمت عليك يا أبا محمد إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله ليدعوك، ولكنه أخطأ أنما أرسلناه ليسألك (3)، وفي إمارته على المدينة المنورة وسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من والوليد بن عبد الملك، حتى جعله مائتي ذراعاً في مائتي ذراع، زخرفه بأمر الوليد أيضاً، مع إنه رحمه الله تعالى كان يكره زخرفة المساجد (4)،
ويتضح من موقف عمر بن عبد العزيز هنا أنه قد يضطر الوالي للتجاوب مع قرارات ممن هو أعلى منه حتى وإن كان غير مقتنع بها إذا قدر أن المصلحة في ذلك أكبر من وجوه أخرى.
_________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 561، 562).
(2) نظام الحكم في الإسلام بين النظرية والتطبيق صـ391.
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز ومناقبه صـ23 لابن عبد الحكم.
(4) تفسير القرطبي (12/ 267) موسوعة فقه عمر بن عبد العزيز صـ20 ..(1/26)
وفي أمارته على المدينة في سنة 91هـ حج الخليفة الوليد بن عبد الملك فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليد بأم عينيه الإصلاحات العظيمة التي حققها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة (1).
3 ـ الحادث المؤسف في ولاية عمر:
قال العلماء في السير: كان خبيب بن عبد الله بن الزبير قد حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا بلغ بنو أبي العاص (2) ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً (3) وهو حديث ضعيف فبعث الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز ـ واليه على المدينة ـ يأمره بجلده مائة سوط وبحبسه فجلده عمر مائة سوط، وبرد له ماءً في جرّة ثم صبه عليه في غداة باردة فكزّ (4)، فمات فيها. وكان عمر قد أخرجه من السجن حين اشتد وجعه، وندم على ما صنع منه وحزن عمر على موت خبيب، فقد روى مصعب بن عبد الله عن مصعب بن عثمان أنهم نقلوا خبيباً إلى دار عمر بن مصعب بن الزبير ببقيع الزبير واجتمعوا عنده حتى مات، فبينما هم جلوس، إذ جاءهم الماجشون يستأذن عليهم وخبيب مسجى بثوبه. وكان الماجشون مع عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة. فقال عبد الله بن عروة: ائذنوا له. فلما دخل قال: كأن صاحبكم في مرية من موته اكشفوا له عنه، فكشفوا عنه، فلما رآه الماجشون انصرف. قال الماجشون: فانتهيت إلى دار مروان، فقرعت الباب ودخلت فوجدت عمر كالمرأة الماخض قائماً وقاعداً فقال لي: ما وراءك فقلت: مات الرجل. فسقط على الأرض فزعاً ثم رفع رأسه يسترجع فلم يزل يعرف فيه حتى مات. واستعفى من المدينة، وامتنع من الولاية. وكان كلما قيل له: إنك قد صنعت كذا فأبشر فيقول: كيف بخبيب (5)،
ولم يذكرها ويتصورها أمام عينه حتى مات (6)،
_________
(1) موسوعة فقه عمر بن عبد العزيز صـ20.
(2) أبي العاص: أي بنو العاص بني أمية الجد الثالث لكل من الوليد وعمر بن عبد العزيز.
(3) الحديث رواه البيهقي في دلائل النبوة (6/ 507)، عن أبي سعيد وأبي هريرة قال ابن كثير رحمه الله بعد ذكر طرق أخرى ورد بها هذا الحديث: وهذه الطرق كلها ضعيفة، أنظر البداية والنهاية نقلاً عن الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 98).
(4) كزّ الرجل: فهو مكزوز أصابه داء الكزاز، وهو يبس وانقباض من البرد.
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ43، 44 ..
(6) المصدر نفسه صـ42.(1/27)
ومن الأدلة على صلاح عمر بن عبد العزيز وقت ولايته على المدينة غير ما ذكر: ما رواه أبو عمر مولى أسماء بنت أبي بكر قال: فأتيته في مجلسه الذي يصلي فيه الفجر والمصحف في حجره، ودموعه تسيل على لحيته (1)، وحدّث ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: كان عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة إذا أراد أن يجود بالشيء قال: ابتغوا أهل بيت بهم حاجة (2).
4 ـ عظة مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز له:
حبس عمر رجلاً بالمدينة، وجاوز عمر في حبسه القدر الذي يستحقه فكلمه مزاحم في إطلاقه، فقال له عمر: ما أنا بمخرجه حتى أبلغ في الحيطة عليه بما هو أكثر مما مرّ، فقال: مزاحم: مغضباً. يا عمر بن عبد العزيز، إني أحذرك ليلة تمخض بالقيامة، وفي صبيحتها تقوم الساعة يا عمر: ولقد كدت أنسى أسمك مما اسمع: قال الأمير قال الأمير. قال الأمير، قال عمر: إن أول من أيقظني لهذا الشأن مزاحم، فوالله ما هو إلا أن قال ذلك، فكأنما كشف عن وجهي غطاء (3). وهذه القصة تبين لنا أهمية الصديق الصالح المخلص الذي يذكرك بالله حين الغفلة.
5 ـ بين عمر بن عبد العزيز والحجّاج في خلافة الوليد:
ذكر ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز قد استعفى من المدينة كما مرّ ذكره ولكن ذكر غيره أنه عزل عنها، ففي سنة 92هـ عقد الخليفة الوليد لواء الحج للحجاج بن يوسف الثقفي ليكون أميراً على الحج ولما علم عمر بن عبد العزيز بذلك، كتب رحمه الله تعالى إلى الخليفة يستعفيه أن يمرَّ عليه الحجاج بالمدينة المنورة، لأن عمر بن عبد العزيز كان يكره الحجّاج ولا يطيق أن يراه، لما هو عليه من الظلم، فامتثل الوليد لرغبة عمر، وكتب إلى الحجّاج: إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه، فلا عليك أن لا تمر بمن كرهك فتنحّ عن المدينة (4)، وقد كتب عمر بن عبد العزيز وهو والٍ على المدينة إلى الوليد بن
_________
(1) المصدر نفسه صـ42.
(2) المصدر نفسه صـ42، الآثار الواردة (1/ 66).
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز للجوزي صـ140.
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز ومناقبه، صـ24 لابن الحكم.(1/28)
عبد الملك يخبره عما وصل إليه حال العراق من الظلم والضيم والضيق بسبب ظلم الحجّاج وغشمه، مما جعل الحجّاج يحاول الانتقام من عمر لاسيما وقد أصبح الحجاز ملاذاً للفارين من عسف الحجاج وظلمه حيث كتب الحجّاج إلى الوليد: إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الثقاف قد جلوا عن العراق، ولجأوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن: فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حبان، وخالد بن عبد الله القسري، وعزل عمر عبد العزيز (1). وقد كان ميول الوليد لسياسة الحجّاج واضحاً وكان يظن بأنه سياسة الشدة والعسف هي السبيل الوحيد لتوطيد أركان الدولة، وهذا ما حال بينه وبين الأخذ بآراء عمر بن عبد العزيز ونصائحه، وقد أثبتت الأحداث فيما بعد أن ما كان يراه عمر أفضل مما كان يسير عليه الوليد، وذلك بعد تولي عمر الخلافة وتطبيقه لما كان يشير به (2).
6 ـ عودة عمر بن عبد العزيز إلى دمشق:
خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة المنورة وهو يبكي ومعه خادمه مزاحم، فالتفت إلى مزاحم وقال: يا مزاحم، نخشى أن نكون من نفت المدينة (3)، يشير بذلك إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا وإن المدينة كالكير يخرج الخبث، لا تقوم الساعة حتى تفني المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد (4). وقال مزاحم: ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة نظرت فإذا القمر في الدبران (5) ـ كأنه تشاءم من ذلك ـ فقال: فكرهت أن أقول ذلك له فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة! فنظر عمر فإذا هو بالدبران فقال: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران. يا مزاحم: إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر ولكن نخرج بالله الواحد القهار (6)، وسار عمر حتى وصل السويداء، وكان له فيها بيت ومزرعة، فنزل فيها فأقام مدة يرقب الأوضاع عن بعد، ثم رأى أن مصلحة المسلمين تقتضي
_________
(1) تاريخ الطبري (7/ 383).
(2) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ165.
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز ومناقبه صـ27 لابن الحكم.
(4) مسلم، ك الحج، باب: المدينة تنفي شرارها.
(5) الدبران: نجم بين الثريا والجوزاء ويقال له التابع والتويبع وهو من منازل القمر سمي دبراناً لأنه يدبر الثريا أي يتبعها.
(6) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ27.(1/29)
أن تكون إقامته في دمشق، بجوار الخليفة، لعله بذلك يستطيع أن يمنع ظلماً، أو يشارك في إحقاق حق، فانتقل إلى دمشق فأقام بها (1)،
ولم يكن عمر بن عبد العزيز على وفاق تام مع الخليفة الوليد بن عبد الملك، ولذلك فإن إقامته في دمشق بجوار الوليد لم تخل من مشاكل، فالوليد يعتمد في تثبيت حكمه على ولاة أقوياء قساة يهمهم إخضاع الناس بالقوة، وإن رافق ذلك كثير من الظلم، بينما يرى عمر إن إقامة العدل بين الناس كفيل باستقرار الملك وإئتمارهم بأمر السلطان، فكان رحمه الله يقول: الوليد بالشام والحجّاج بالعراق، ومحمد بن يوسف ـ أخ الحجّاج ـ في اليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك في مصر، .. امتلأت والله الأرض جوراً (2).
7 ـ نصح عمر للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل:
سلك عمر بن عبد العزيز بعض الطرق والوسائل لإصلاح هذا الوضع، فمن ذلك نصحه للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل، وقد نجح في بادي الأمر في استصدار قرار يمنع أي والٍ من القتل إلا بعد علم الخليفة وموافقته على ذلك، فيذكر ابن عبد الحكم أن عمر بن عبد العزيز دخل على الوليد بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين إن عندي نصيحة، فإذا خلا لك عقلك، واجتمع فهمك فسلني عنها، قال: ما يمنعك منها الآن؟ قال: أنت أعلم، إذا اجتمع لك ما أقول فإنك أحق أن تفهم فمكث أياماً ثم قال: يا غلام من بالباب؟ فقيل له ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز، فقال: أدخله، فدخل عليه فقال: نصيحتك يا أبا حفص فقال عمر: إنه ليس بعد الشرك إثم أعظم عند الله من الدم، وأن عمالك يقتلون، ويكتبون إن ذنب فلان المقتول كذا وكذا، وأنت المسئول عنه والمأخوذ به، فاكتب إليهم ألا يقتل أحد منهم أحداً حتى يكتب بذنبه ثم يشهد عليه، ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك. فقال: بارك الله فيك يا أبا حفص ومنع فقدك. عليَّ بكتاب، فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم فلم يحرج من ذلك إلا الحجّاج فإنه أمضه، وشق عليه وأقلقه. وظن أنه لم يكتب إلى أحد غيره، فبحث عن
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 683) ..
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ146، أثر العلماء في الحياة السياسية صـ162.(1/30)
ذلك، فقال: من أين ذهبنا؟ أو من أشار على أمير المؤمنين بهذا؟ فأخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي فعل ذلك فقال: هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره. ثم أن الحجّاج أرسل إلى إعرابي حروري ـ من الخوارج ـ جاف من بكر بن وائل، ثم قال له الحجّاج ما تقول في معاوية؟ فنال منه. قال: ما تقول في يزيد؟ فسبه. قال: فما تقول في عبد الملك؟ فظلمه. قال: فما تقول في الوليد؟ فقال: أجورهم حين ولاك وهو يعلم عداءك وظلمك. فسكت الحجّاج وافترصها منه (1)، ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه: أنا أحوط لديني، وأرعى لما استرعيتني واحفظ له من أن أقتل أحداً لم يستوجب ذلك، وقد بعثت إليك ببعض من كنت أقتل على هذا الرأي فشأنك وإياه.
فدخل الحروري على الوليد وعنده أشراف أهل الشام وعمر فيهم فقال له الوليد: ما تقول فيّ؟ قال ظالم جبار. قال: ما تقول في عبد الملك؟ قال: جبار عاتٍ. قال فما تقول في معاوية؟ قال: ظالم. قال الوليد لابن الريان أضرب عنقه فضرب عنقه، ثم قام فدخل منزله وخرج الناس من عنده فقال: يا غلام أردد عليّ عمر، فرده عليه فقال: يا أبا حفص ما تقول بهذا؟ أصبنا أم أخطأنا؟ فقال عمر: ما أصبت بقتله، ولغير ذلك كان أرشد وأصوب، كنت تسجنه حتى يراجع الله عز وجل أو تدركه منيته، فقال الوليد شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري أفتستحل ذلك؟ قال لعمري ما استحله، لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه، فقام الوليد مغضباً، فقال ابن الريان لعمر: يغفر الله لك يا أبا حفص، لقد راددت أمير المؤمنين حتى ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك (2)، وهكذا احتار الحجّاج على الوليد ليصرفه على الأخذ برأي عمر في الحد من سرف الحجّاج وأمثاله في القتل (3).
8 ـ رأي عمر بن عبد العزيز في التعامل مع الخوارج:
فبالإضافة إلى الموقف الذي مرّ ذكره آنفاً ـ في شأن الحروري الذي بعث به الحجّاج ـ وردت روايات توضح الموقف نفسه فعن ابن شهاب أن عمر بن عبد
_________
(1) افترصها: انتهزها.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ119 ـ 121 أثر العلماء في الحياة السياسية 164.
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ164.(1/31)
العزيز أخبره أن الوليد أرسل إليه بالظهيرة، فوجده قاطباً بين عينيه، قال: فجلست وليس عنده إلا ابن الريان، قائم بسيفه، فقال: ما تقول فيمن يسب الخلفاء؟ أترى أن يقتل؟ فسكت، فانتهرني، وقال: مالك؟ فسكت، فعاد لمثلها، فقلت: أقتل يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكنه سب الخلفاء قلت: فإني أرى أن ينكل فرفع رأسه إلى ابن الريان، فقال الوليد: إنه فيهم لتائه.
9 ـ نصحه الوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه:
ومن آخر مواقفه التي ذكرت لعمر بن عبد العزيز في عهد الوليد بن عبد الملك نصحه للوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه عبد العزيز من بعده، فوقف عمر من ذلك موقفاً حازماً حيث لم يستجب لأمر الوليد في ذلك وقال حين أراده على ذلك: يا أمير المؤمنين إنما بايعنا لكما في عقدة واحدة فكيف نخلعه ونتركك: فغضب الوليد على عمر، وحاول استخدام الشدة معه لعله يوافقه على ما أراد، فيذكر أنه أغلق عليه الدار وطين عليه الباب حتى تدخلت أم البنين أخته وزوجة الوليد ففتح عنه بعد ثلاث وقد ذبل ومالت عنقه (1).
خامساً: عمر في عهد سليمان بن عبد الملك:
في عهد سليمان تهيأت الفرص لعمر بن عبد العزيز بقدر كبير فظهرت آثاره في مختلف الجوانب، فبمجرد تولي سليمان الخلافة قرب عمر بن عبد العزيز وأفسح له المجال واسعاً حيث قال: يا أبا حفص إنا ولينا ما قد ترى، ولم يكن بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به (2) وجعله وزيراً ومستشاراً ملازماً له في إقامته أو سفره وكان سليمان يرى أنه محتاج له في صغيره وكبيره، فكان يقول: ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل فما أجد أحداً يفقه عني (3). وفي موضع آخر قال: يا أبا حفص ما اغتممت بأمر ولا أكربني أمر إلا خطرت فيه على بالي (4).
1 ـ أسباب تقريب سليمان لعمر:
والذي دفع سليمان إلى إفساح المجال أمام عمر بهذه الصورة يعود في نظري إلى عدة أسباب منها:
_________
(1) سير أعلام النبلاء (5/ 148، 149) أثر العلماء صـ167.
(2) المصدر نفسه نقلاً عن اثر العلماء صـ168.
(3) المعرفة والتاريخ للفسوي (1/ 598).
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ28 لابن عبد الحكم، اثر العلماء صـ168.(1/32)
أـ شخصية سليمان بن عبد الملك: حيث لم يكن مثل أخيه الوليد معجباً بنفسه معتداً برأيه وواقعاً تحت تأثير بعض ولاته، بل كان سليمان على العكس من ذلك غير معتد برأيه خالياً من التأثيرات الأخرى عليه.
ب ـ قناعة سليمان بما يتمتع به عمر من نظرات وآراء صائبة.
جـ ـ موقف عمر من محاولة الوليد لخلع سليمان مما جعل سليمان يشكر ذلك لعمر، وقد أشار لهذا الذهبي حيث قال بعد عرضه لموقف عمر: فلذلك شكر سليمان وعمر وأعطاه الخلافة بعده (1).
2 ـ تأثير عمر على سليمان في إصدار قرارات إصلاحية:
فقد كان لعمر أثر كبير على سليمان في إصدار عدد من القرارات النافعة ومن أهمها: عزل ولاة الحجّاج، وبعض الولاة الآخرين، كوالي مكة، خالد القسري ووالي المدينة عثمان بن حيان (2)، ومنها الأمر بإقامة الصلاة في وقتها، فأورد ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز: أن الوليد بن عبد الملك كان يؤخر الظهر والعصر، فلما ولي سليمان كتب إلى الناس ـ عن رأي عمر ـ أن الصلاة كانت قد أميتت فأحيوها (3) وهناك أمور أخرى أجملها الذهبي بقوله: مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها (4).
3 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في تحكيمه كتاب أبيه:
كلمّ عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك في ميراث بعض بنات عبد العزيز من بني عبد الملك، فقال له سليمان بن عبد الملك: إن عبد الملك كتب في ذلك كتاباً منعهن ذلك، فتركه يسيراً ثم راجعه فظن سليمان أنه اتهمه فيما ذكر من رأي عبد الملك في ذلك الأمر فقال سليمان لغلامه: ائتني بكتاب عبد الملك، فقال له عمر: أبا المصحف دعوتَ يا أمير المؤمنين؟ فقال أيوب بن سليمان: ليوشكن أحدكم أن يتكلم الكلام تضرب فيه عنقه، فقال له عمر: إذا أفضى الأمر إليك فالذي دخل على المسلمين أعظم مما تذكر، فزجر سليمان أيوب، فقال عمر: إن كان جهل فما حلمُنا عنه (5). فهذا موقف من مواقف الجرأة في قول الحق الذي يُحمد لعمر
_________
(1) سير أعلام النبلاء (5/ 149).
(2) أثر العلماء على الحياة السياسية صـ169.
(3) تاريخ دمشق نقلاً عن أثر العلماء على الحياة السياسية صـ170.
(4) سير أعلام النبلاء (5/ 125).
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ31.(1/33)
حيث اعتبر سليمان بن عبد الملك كتابة أبيه شرعاً لا يمكن تغييره فنبهه عمر إلى أن الكتاب الذي لا ينقض ولا يغيّر هو كتاب الله تعالى وحده، وهكذا يصل الطغيان بضحاياه إلى تعظيم شأن الآباء والأجداد الذين ورّثوا ذلك المجد الزائل لأبنائهم إلى الحد الذي يعتبرون فيه قضاءهم شرعاً نافذاً من غير نظر في موافقته لحكم الإسلام أو مخالفته، وموقف يذكر لسليمان حيث وبخّ ولده الذي هدد عمر أن قال كلمة الحق، وهذا يدل على ما يتصف به سليمان من سرعة الرجوع إلى الحق إذا تبين له (1).
4 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في الإنفاق:
قدم سليمان بن عبد الملك المدينة فأعطى بها مالاً عظيماً، فقال لعمر بن عبد العزيز: كيف رأيت ما فعلنا يا أبا حفص؟ قال: رأيتك زدت أهل الغنى غنى وتركت أهل الفقر بفقرهم (2). فهذا تقويم جيد من عمر بن عبد العزيز لعمل سليمان بن عبد الملك، فقد كان سليمان لجهله بدقائق أحكام الشريعة في مجال الإنفاق ـ يظن أنه بإنفاقه ذلك المال الكثير على الرعية قد عمل صالحاً، فأفاده عمر بن عبد العزيز بأنه قد أخطأ حينما صرف ذلك المال لغير مستحقيه وحرم منه أهله (3)، فقد بين عمر رحمه الله أهمية التفريق بين بذل الخير وصرفه لمستحقيه.
5 ـ حث عمر سليمان على رد المظالم:
خرج سليمان ومعه عمر إلى البوادي، فأصابه سحاب فيه برق وصواعق، ففزع منه سليمان ومن معه، فقال عمر: إنما هذا صوت نعمة فكيف لو سمعت صوت عذاب؟ فقال سليمان: خذ هذه المائة ألف درهم وتصدق بها، فقال عمر: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما هو؟ قال: قوم صحبوك في مظالم لم يصلوا إليك، فجلس سليمان فرد المظالم (4)، ويظهر عند عمر وضوح فقه ترتيب الأولويات فرد المظالم مقدم على بذل الصدقات.
6 ـ أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً: أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين، ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال
_________
(1) التاريخ الإسلامي (15/ 30، 31).
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكم صـ131.
(3) التاريخ الإسلامي (15/ 29).
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ33، أثر العلماء في الحياة السياسية صـ170.(1/34)
والأثقال والرجال، فقال سليمان ما تقول يا عمر في هذا؟ قال: أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسئول عن ذلك كله. فلما اقتربوا من المعسكر، إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها ونعب نعبة (1)، فقال له سليمان: ما تقول في هذا يا عمر؟ فقال: لا أدري. فقال: ما ظنك أنه يقول؟ قال: كأنه يقول: من أين جاءت؟ وأين يذهب بها؟ فقال له سليمان: ما أعجبك؟ فقال عمر: أعجب مني من عرف الله فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه (2).
7 ـ هم خصماؤك يوم القيامة: لما وقف سليمان وعمر بعرفة جعل سليمان يعجب من كثرة الناس، فقال له عمر: هؤلاء رعيّتُك اليوم،، وأنت مسئول عنهم غداً وفي رواية: وهم خصماؤك يوم القيامة فبكى سليمان وقال: بالله استعين (3).
8 ـ زيد بن الحسن بن علي مع سليمان:
كان زيد بن الحسن بن علي قد أجاب الوليد بن عبد الملك في مسألة خلع سليمان خوفاً من الوليد، وكتب بموافقته من المدينة إلى الوليد، فلما استخلف سليمان وجد الكتاب، فبعث إلى واليه على المدينة، أن يسأل زيداً عن أمر الكتاب، فإن هو اعترف به فليبعث بذلك إليه، وإن أنكر عليه اليمين أمام منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث باعترافه إلى سليمان كتب سليمان إلى والي المدينة أن يضربه مائة سوط ويمشيه حافياً .. فحبس عمر الرسول وقال: لا تخرج حتى أكلم أمير المؤمنين، فيما كتب في زيد بن حسن لعلي أطيب نفسه فيترك هذا الكتاب. فجلس الرسول فمرض سليمان، فقال للرسول لا تخرج فإن أمير المؤمنين مريض، فلما توفي سليمان وأفضى الأمر إلى عمر دعا بالكتاب ومزقه (4). وظل عمر بن عبد العزيز قريباً من سليمان طيلة مدة خلافته يحوطه بنصحه ويشاركه مسئولياته (5)، ويرى الدكتور يوسف العش أن سياسة عمر بن عبد العزيز ومنطلقاتها بدأت منذ بداية خلافة سليمان، نعم أن سليمان كان يشتط حيناً في سياسته، فيتخذ تدابير لعل عمر لا يقرها، لكن عمر بن عبد العزيز كان بالرغم من ذلك راجح القوة في خلافته وسياسة عمر لم تتغير، فهو في
_________
(1) نعب الغراب: صوت أو مد عنقه وحرك رأسه في صياحه.
(2) البداية والنهاية (12/ 685).
(3) المصدر نفسه (12/ 685).
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ104.
(5) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ173.(1/35)
دمشق مثله في المدينة، على أنه في دمشق يستطيع أن يفعل أكثر من المدينة، والأمر المهم عنده هو منع الجور (1)،
والظلم والعسف، ونلاحظ أن عمر بن عبد العزيز تعامل مع سنة التدرج وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في رد المظالم ومنعها وعندما وصل للخلافة إزداد في إحقاق العدل ومحاربة الظلم لأن الصلاحيات المتاحة كانت أكبر، فهو نصح عمه عبد الملك وذكره بالآخرة مع جبروته وظلمه، ولم يتقاعس في عهد ابن عمه الوليد، وتقدم خطوات ووفق حسب الإمكان في عهد سليمان وأتيحت له الفرصة في خلافته وبالتالي لا نقول أن ما حدث لعمر على مستواه الشخصي انقلاب وإنما الانقلاب في توظيف الدولة لخدمة الشريعة في كافة شؤون الحياة ولو كان على حساب العائلة الحاكمة، التي كانت لها مخصصاتها وصلاحياتها والتي اعتبرها عمر بن عبد العزيز حقوق للأمة يجب ردها إلى بيت المال أو إلى أصحابها الأصليين.
سادساً: خلافة عمر بن عبد العزيز:
ومن حسنات سليمان عبد الملك قبوله لي نصيحة الفقيه العالم رجاء بن حيوة الكندي الذي اقترح على سليمان في مرض موته أن يولي عمر بن عبد العزيز، وكانت وصية لم يكن للشيطان فيها نصيب (2)، قال ابن سيرين: يرحم الله سليمان افتتح خلافته بإحياء الصلاة، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز، وكانت سنة وفاته سنة 99هـ، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان منقوش في خاتمه: (أؤمن بالله مخلصاً) (3)، وتعددت الروايات في قصة استخلاف سليمان لعمر، وقد ذكرت بعضها في حديثي عن عهد سليمان، ومن الروايات أيضاً ما ذكره ابن سعد في طبقاته، عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثياباُ خضر من خز ونظر في المرآة فقال: أنا والله الملك الشاب فخرج إلى الصلاة يصلي بالناس الجمعة فلم يرجع حتى وعك، فلما ثقل كتب كتاب عهده إلى ابنه أيوب، وهو غلام لم يبلغ فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنه مما يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف
_________
(1) الدولة الأموية، يوسف العشي صـ254 ..
(2) عصر الدولتين الأموية والعباسية صـ37 للصَّلاَّبي.
(3) سير أعلام النبلاء (5/ 111، 112).(1/36)
الرجل الصالح، فقال سليمان: كتاب استخير الله فيه، وانظر، ولم أعزم عليه، فمكث يوماً أو يومين، ثم خرقه ثم دعاني، فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت هو غائب بقسطنطينية، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت. قال: يا رجاء فمن ترى؟ قال: فقلت: رأيك يا أمير المؤمنين وأنا أريد أن أنظر من يذكر. فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه والله فاضلاً خياراً مسلماً.
فقال: هو على ذلك والله لئن وليته، ولم أول أحداً من ولد عبد الملك لتكونن فتنة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده ـ ويزيد بن عبد الملك غائب على الموسم ـ قال: فيزيد بن عبد الملك أجعله بعده، فإن ذلك مما يسكنه ويرضون به، قلت: رأيك قال: فكتب بيده بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليته الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله، ولا تختلفوا، فيطمع فيكم. وختم الكتاب فأرسل إلى كعب بن حامد صاحب الشرطة أن مرّ أهل بيتي فليجتمعوا، فأرسل إليهم كعب، فجمعهم، ثم قال سليمان: لرجاء بعد اجتماعهم: أذهب بكتاب هذا إليهم، فاخبرهم، إنه كتابي ومرهم فليبايعوا من وليت. قال: ففعل رجاء، فلما قال لهم ذلك رجاء قالوا: سمعنا وأطعنا لمن فيه، وقالوا: ندخل فنسلم على أمير المؤمنين، قال نعم. فدخلوا فقال لهم سليمان: هذا الكتاب ـ وهو يشير لهم وهم ينظرون إليه في يد رجاء بن حيوة ـ هذا عهدي، فاسمعوا، وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب. قال فبايعوا رجلاً. قال: ثم خرج بالكتاب مختوماً في يد رجاء. قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: يا أبا المقدام، إن سليمان كانت لي به حرمة ومودة، وكان بي براً ملطفاً، فأنا أخشى أن يكون قد أسند إلي من هذا الأمر شيئاً، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي، ألا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر الساعة. فقال رجاء: لا والله حرفاً واحداً. قال: فذهب عمر غضبان. قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك، فقال: يا رجاء، إن لي بك حرمة ومودة قديمة وعندي شكر، فأعلمني أهذا الأمر إليّ؟ فإن كان إلي علمت، وإن كان إلى غيري تكلمت، فليس مثلي قصر به، ولا نحي عنه هذا الأمر، فأعلمني فلك الله لا أذكر اسمك أبداً.
قال رجاء: فأبيت وقلت لا والله لا أخبرك حرفاً واحداً مما أسر إلي.، فانصرف هشام .. ، وهو يضرب بإحدى يديه(1/37)
على الأخرى، وهو يقول: فإلى من إذا نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ فوالله إني لعين بني عبد الملك قال رجاء: ودخلت على سليمان بن عبد الملك، فإذا هو يموت. قال: فجعلت إذا أخذته سكرة من سكرات الموت، حرفته إلى القبلة، فجعل يقول وهو يفأق: لم يأت ذلك بعد يا رجاء. حتى فعلت ذلك مرتين. فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء، إن كنت تريد شيئاً أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال فحرفته، ومات، فلما أغمضته سجيته بقطيفة خضراء وأغلقت الباب، وأرسلت إلى زوجته تنظر إليه، كيف أصبح فقلت: نام وقد تغطى، فنظر الرسول إليه، مغطى بالقطيفة فرجع، فأخبرها، فقبلت ذلك وظنت أنه نائم. قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يريم حتى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحداً. قال: فخرجت، فأرسلت إلى كعب بن حامد العنسي، فجمع أهل بيت أمير المؤمنين، فاجتمعوا في مسجد دابق فقلت: بايعوا، قالوا: قد بايعنا مرة ونبايع أخرى! قلت: هذا أمير المؤمنين، بايعوا على ما أمر به، ومن سمى في هذا الكتاب المختوم، فبايعوا الثانية رجلاً رجلاً. قال رجاء: فلما بايعوا بعد موت سليمان، رأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت قوموا إلى صحابكم فقد مات. قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون وقرأت عليهم الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام: لا نبايعه أبداً. قال قلت: أضرب والله عنقك، قم فبايع. فقام يجر رجليه.
قال رجاء: وأخذت بضبعي عمر، فأجلسته على المنبر وهو يسترجع، لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطاه فلما انتهى هشام إلى عمر، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أي حين صار هذا الأمر إليك على ولد عبد الملك، قال فقال عمر: نعم، فإنا لله وأنا إليه راجعون، حين صار إلي ـ لكراهتي له (1). وقال أبو الحسن الندوي على موقف رجاء بن حيوة: وكان لرجاء مأثرة لا ينساها الإسلام، ولا أعرف رجلاً من ندماء الملوك ورجالهم انتفع بقربه ومنزلته عند الملوك مثل انتفاعه، وانتهز الفرصة مثل انتهازه وأسدى للإسلام خدمة مثله (2)، فرحم الله رجاء بن حيوة فقد رسم منهجاً لمن يجلس مع الملوك من العلماء كيف يعز الإسلام ويذكر الخلفاء بالله وينتهز الفرص المناسبة لخدمة دين الله.
_________
(1) تاريخ الطبري (7/ 445)، الطبقات (5/ 335 ـ 338).
(2) رجال الفكر والدعوة للندوي (1/ 40).(1/38)
1 ـ منهج عمر في إدارة الدولة من خلال خطبته الأولى:
صعد عمر المنبر وقال في أول لقاء مع الأمة بعد استخلافه: أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة. قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فوّل أمرنا باليمن والبركة وهنا شعر أنه لا مفر من تحمل مسؤولية الخلافة فأضاف قائلاً يحدد منهجه وطريقته في سياسة الأمة المسلمة (1): أما بعد فإنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن ما أحل الله حلال إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاض، ولكني منفذ، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله، ألا إني لست بخيركم، ولكني رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً. أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس، وإلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية ولا يعترض فيما لا يعنيه. أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا الآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر ديناه، وأصلحوا سرائركم، يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا من ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات ... وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم، ولا في كتابها وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقا. ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
وإن من حولكم من الأمصار والمدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا وليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوال (2)، ثم نزل.
_________
(1) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم، ماجدة فيصل صـ102.
(2) انظر: مع بعض الاختلاف الطبقات (5/ 340)، سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكم صـ35، 36، عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ104.(1/39)
وهكذا عقدت الخلافة لعمر بن عبد العزيز في ذلك اليوم، وهو يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين (1)، ويظهر لنا من هذه الخطبة السياسية التي قرر عمر بن عبد العزيز أتباعها في الحكم وهي:
أـ الترامه بالكتاب والسنة، وأنه غير مستعد للاستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع، والدين على أساس أنه حاكم منفذ وأن الشرع بين من حيث تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله ورفضه للبدعة والآراء المحدثة.
ب ـ حدد لمن يريد أن يتصل به ويعمل معه من رعيته أن يكون اتصاله معه لخمسة أسباب:
* ـ أن يرفع إليه حاجة من لا يستطيع أن يصل إلى الخليفة، أي أنه جعل المقربين منه همزة وصل بينه، وبين من لا يستطيعون الوصول إليه، فيعرف بذلك حوائج الناس، وينظر فيها.
* ـ أن يعينه على الخير ما استطاع، أي أن علاقة هؤلاء به تقوم على أساس نزعة الخير يعين الخليفة عليه، وبالتالي يحذره من أي شر.
* ـ فرض على من يقترب إليه فريضة أن يرشده، ويهديه إلى ما فيه خير الأمة، وخير الدين.
* ـ نهى من يريد أن يتقرب إليه، عن أن يغتاب إليه أحد.
* ـ أن لا يتدخل أي متقرب منه في شؤون الحكم، وفيما لا يعنيه عامة.
لقد كان يدرك مدى تأثير البطانة والمقربين من الحاكم على الحاكم وعلى الرعية، وعلى أسلوب الحكم، فآثر أن ينبه الناس حتى يتركوه يحكم بما ارتضى في نطاق شرع الله، دون أن يبعدهم نهائياً لأنه أجاز لهؤلاء المقربين أن يدلوه على الخير، ويعينوه عليه، وأن ينقلوا إليه حاجة المحتاج (2).
ج ـ كما أنه حذر الناس من عواقب الدنيا لو أساؤوا فيها، وطلب إليهم أن يصلحوا سرائرهم ويحذروا الموت، ويتعظوا به.
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 657).
(2) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ105. 2(1/40)
ح ـ قطع على نفسه عهداً بأن لا يعطي أحداً باطلاً، ولا يمنع أحداً حقاً، وأنه أعطاهم حقاً عليه، وهو أن يطيعوه ما أطاع الله، وأنه لا طاعة له عليهم إذا عصاه سبحانه وتعالى. هذه هي الخطوط العريضة لسياسة عمر، ذكرها في أول لقاء له مع الرعية وأهل الحل والعقد في المسجد، بعد بيعته فدولته قد حدّدها بالسير على كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد آثر أن لا يدع لأي عامل من عماله حجة عليه بعد ذلك ففصل ما أجمل في خطبته الأولى في كتب أرسلها إلى عماله وقد كانت هذه الكتب نوعين:
ـ كتب إلى العمال يبصرهم بما يجب عليهم أن يلتزموا به في مسلكهم الشخصي، والخاص، إزاء الرعية ـ وسوف نتحدث عن ذلك بإذن الله.
ـ وكتب إلى عماله التي حددت سياستهم، وطريقة تعاملهم مع أفراد الرعية من المسلمين، وغير المسلمين، ممن كانوا يسكنون دار الإسلام وعمر في هذه الكتب ـ كما سيظهر بإذن الله ـ تكلم عن موقفه كفقيه متبحر في أصول الدين (1)، وسيأتي الحديث عن منهجه من خلال أعماله.
2 ـ الحرص على العمل بالكتاب والسنة:
من أهم ما يميز منهج عمر في سياسته، حرصه على العمل بالكتاب والسنة ونشر العلم بين رعيته وتفقيههم في الدين وتعريفهم بالسنة، ومنطلق عمر في ذلك فهمه لمهمة الخلافة، فهي حفظ الدين وسياسة الدنيا به (2)، فهو يرى أن من أهم واجباته تعريف رعيته بمبادئ دينهم وحملهم على العمل بها، فورد عنه أنه قال: في إحدى خطبه: إن للإسلام حدوداً وشرائع وسنناً فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان، فلأن أعش أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص (3). وقال أيضاً: فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي وكل سنة يعيشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيراً. وفي موضع آخر قال: والله لولا أن أنعش
_________
(1) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ106.
(2) الأحكام السلطانية والوليات الدينية صـ5.
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ60 لابن عبد الحكم.(1/41)
سنة أو أسير بحق ما أحببت أن أعيش فواقاً (1)، لهذا بادر عمر في تنفيذ هذه المسئولية المهمة، فبعث العلماء في تعليم الناس وتفقيههم إلى مختلف أقاليم الدولة وفي حواضرها وبواديها، وأمر عماله على الأقاليم بحث العلماء على نشر العلم، فقد جاء في كتابه الذي بعث إلى عماله: ومر أهل العلم والفقه من جندك فلينشروا ما علمهم الله من ذلك، وليتحدثوا به في مجالسهم (2)، ومما كتب به إلى بعض عماله: أما بعد فأمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم فإن السنة كانت قد أميتت (3)، كما أمر عماله أن يجروا الرواتب على العلماء ليتفرغوا لنشر العلم (4)، وانتدب العديد من العلماء لتفقيه الناس في الدين، فبعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان الناس والبدو (5)، وذكر الذهبي أن عمر ندب يزيد بن أبي مالك ليفقه بني نمير ويقرئهم، وبعث نافع مولى ابن عمر إلى أهل مصر ليعلمهم السنن (6)، وكان قد بعث عشرة من الفقهاء إلى إفريقية يفقهون أهلها وسيأتي الحديث عنهم بإذن الله، ولم تنحصر مهمة هؤلاء العلماء في التعليم فحسب، بل منهم من أسند إليه بعض الولايات، ومنهم من تولي القضاء وأسهم أكثرهم بالإضافة إلى نشر العلم في مجال الدعوة والجهاد في سبيل الله، وهذا الاهتمام الذي تميز به منهج عمر لتعليم الناس وتفصيلهم لأمور دينهم له أبعاد سياسية وآثار أمنية، ذلك أن نشر الوعي الديني الصحيح والفقه فيه بين أفراد الرعية له أثر في حماية عقول أبناء الأمة من عبث الأفكار التي ينعكس خطرها على الاستقرار السياسي والأمني، كأفكار الخوارج (7) وغيرهم.
3 ـ الشورى في دولة عمر بن عبد العزيز: قال تعالى: ((وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)) (الشورى / الآية: 38). وقال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ
_________
(1) الفواق: ما بين الحلبتين من الوقت أو ما بين فتح اليد وقبضها على الضرع.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ73.
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ76.
(4) البداية والنهاية نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية صـ179 ..
(5) مختصر تاريخ دمشق (6/ 175) أثر العلماء صـ179.
(6) سير أعلام النبلاء (5/ 438).
(7) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ180.(1/42)
فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)) (آل عمران: الآية: 159). وقد اهتم عمر بن عبد العزيز بتفعيل مبدأ الشورى في خلافته، ومن أقواله في الشورى: إن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم (1)، وكان أول قرار اتخذه عمر بعدما ولي أمر المدينة للوليد بن عبد الملك، يتعلق بتطبيق مبدأ الشورى، وجعله أساساً في إمارته، حين دعا من فقهاء المدينة وكبار علمائها، وجعل منهم مجلساً استشارياً دائماً (2) ـ كما مر معنا ـ حري بمن جعل الشورى أحد مبادئ إمارته حين كانت مسئوليته جزئية أن يطبقه وقت المسئولية الكاملة، والمهمة العظمى، ألا وهي ولاية أمر المسلمين كافة وقد تبين مبدأ الشورى من أول يوم في خلافته، وقال للناس: أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر، من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، (فاختاروا لأنفسكم) فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك فول أمرنا باليمن والبركة (3)، وبذلك خرج عمر من مبدأ توريث الولاية الذي تبناه معظم خلفاء بني أمية إلى مبدأ الشورى والانتخاب، ولم يكتف عمر باختياره ومبايعة الحاضرين، بل يهمه رأي المسلمين في الأمصار الأخرى ومشورتهم، فقال في خطبته الأولى ـ عقب توليه الخلافة ـ: .. وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم.،
وإن هم أبوا فلست لكم بوال، ثم نزل (4). وقد كتب إلى الأمصار الإسلامية فبايعت كلها، وممن كتب لهم يزيد بن المهلب يطلب إليه البيعة بعد أن أوضح له أنه في الخلافة ليس براغب، فدعا يزيد الناس إلى البيعة فبايعوا (5). وبذلك يتضح أنه لم يكتف بمشورة من حوله بل امتد الأمر إلى جميع أمصار المسلمين ونستنتج من موقف عمر هذا ما يلي:
أـ أن عمر كشف النقاب عن عدم موافقة الأصول الشرعية في تولي معظم الخلفاء الأمويين.
ب ـ حرص عمر على تطبيق الشورى في أمر يخصه هو، ألا وهو توليه الخلافة.
_________
(1) أدب الدنيا والدين للماوردي صـ189.
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز صـ283.
(3) سيرة مناقب عمر بن عبد العزيز صـ65.
(4) البداية والنهاية (12/ 657).
(5) تاريخ الطبري، نقلاً عن النموذج الإداري المستخلص من عمر صـ285.(1/43)
جـ ـ أن من طبق مبدأ الشورى في أمر مثل تولي الخلافة حري بتطبيقه فيما سواه.
وكان عمر يستشير العلماء، ويطلب نصحهم في كثير من الأمور أمثال سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرطبي، ورجاء بن حيوة وغيرهم، فقال: إني قد ابتليت بهذا الأمر فأشيروا عليّ (1). كما كان يستشير ذوي العقول الراجحة من الرجال (2)، وقد حرص عمر على إصلاح بطانته لما تولى الخلافة، فقرب إلى مجلسه العلماء وأهل الصلاح، وأقصى عنه أهل المصالح الدنيوية والمنافع الخاصة ولم يكتف ـ رحمه الله ـ بانتقاء بطانته، بل كان زيادة على ذلك يوصيهم ويحثهم على تقويمه، فقال لعمر بن مهاجر: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني ثم قل يا عمر ما تصنع (3)؟، وقد كان لهذا المسلك أثر في تصحيح سياسته التجديدية ونجاحها، حيث كان لبطانته أثر في شد أزره، وسداد رأيه وصواب قراره (4)، فمن أسباب نجاح عمر بن عبد العزيز تقريبه لأهل العلم والصلاح وانشراح صدره لهم ومشاركتهم معه لتحمل المسئولية فنتج عن ذلك حصول الخير العميم للإسلام والمسلمين.
4 ـ العدل في دولة عمر بن عبد العزيز:
قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)) (النحل، الآية: 90) وأمر الله بفعل كما هو معلوم يقتضي وجوبه. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خبِيراً)) (النساء، الآية: 135) وللعدل صورتان: صورة سلبية بمنع الظلم وإزالته عن المظلوم، أي بمنع انتهاك حقوق الناس المتعلقة بأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وإزالة آثار التعدي الذي يقع عليهم وإعادة حقوقهم إليهم ومعاقبة المعتدي عليها فيما يستوجب
_________
(1) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز صـ16.
(2) النموذج الإداري المستخلص من عمر بن عبد العزيز صـ285.
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ175 إلى 177.
(4) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ178.(1/44)
العقوبة (1). وصورة إيجابية: وتتعلق أكثر ما تتعلق بالدولة، وقيامها بحق أفراد الشعب في كفالة حرياتهم وحياتهم المعاشية، حتى لا يكون فيهم عاجز متروك، ولا ضعيف مهمل، ولا فقير بائس، ولا خائف مهدد، وهذه الأمور كلها من واجبات الحاكم في الإسلام (2). وقد قام أمير المؤمنين عمر بهذا الركن العظيم والمبدأ الخطير على أتم وجه وكان يرى أن المسئولية والسلطة في نظر عمر هي القيام بحقوق الناس والخضوع لشروط بيعتهم، وتحقيق مصلحتهم المشروعة، فالخليفة أجير عند الأمة وعليه أن ينفذ مطالبها العادلة حسب شروط البيعة (3)،
وقد أحب الإستزاده من فهم صفات الإمام العادل وما يجب أن يقوم به ليتصف بهذه الخصلة الفريدة الحميدة فكتب إلى الحسن البصري يسأله في ذلك فأجابه الحسن: الإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً، يكتب لهم في حياته ويدخرهم بعد مماته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البّرة الرفيقة بولدها، حملته كرهاً، ووضعته كرهاً، وربته طفلاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتمّ بشكايته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصيّ اليتامى، وخازن المساكين يربي صغيرهم، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملَّكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدَّد، وشرَّد العيال، فأفقر أهله وفرَّق ماله (4).
أـ سياسته في رد المظالم:
ـ أمير المؤمنين يبدأ بنفسه: تنفيذاً لما أراده عمر من رد المظالم مهما كان صغيراً أو كبيراً بدأ بنفسه، روى ابن سعد: أنه لما رد عمر بن عبد العزيز المظالم قال: إنه لينبغي أن لا أبدأ بأول من نفسي (5). وهذا الفعل جعله قدوة للآخرين، فنظر إلى
_________
(1) عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين، عبد الستار الشيخ صـ222.
(2) المصدر نفسه صـ222، نظام الإسلام محمد المبارك صـ45 ـ 46.
(3) عمر بن عبد العزيز، خامس الخلفاء عبد الستار صـ223 ..
(4) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ224.
(5) الطبقات (5/ 341).(1/45)
ما في يديه من أرض، أو متاع، فخرج منه حتى نظر إلى فص خاتم. فقال: هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاءه من أرض المغرب فخرج منه (1). وكان ذلك لإصراره على قطع كل شك بيقين، وحتى يطمئن إلى أن ما في يده لا شبهة فيه لظلم أو مظلمة حتى ولو كان ورثه، خصوصاً وأن القصص والحكايات كانت كثيرة يتناقلها الناس عن مظالم ارتكبت على عهد خلفاء بني أمية، وعمالهم وقد بلغ به حرصه على التثبت أنه نزع حلي سيفه من الفضة، وحلاه بالحديد، قال عبد العزيز بن عمر: كان سيف أبي محلى بفضة فنزعها وحلاه حديداً (2)، وكان خروجه مما بيده من أرض أو متاع بعدة طرق كالبيع، ذلك أنه حين استخلف نظر إلى مكان له من عبد، وإلى لباسه وعطره وأشياء من الفضول، فباع كل ما كان به عنه غني، فبلغ ثلاثة وعشرين ألف دينار، فجعله في السبيل (3). أو عن طريق ردها إلى أصحابها الأصليين، وهذا ما فعله بالنسبة للقطائع التي أقطعه إياها قومه، يروي ابن الجوزي عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز حتى تفرق الناس ودخل إلى أهله للقائلة فإذا منادٍ ينادي: الصلاة جامعة. قال: ففزعنا فزعاً شديداً مخافة أن يكون قد جاء فتق من وجه من الوجوه أو حدث. قال جويرية: وإنما كان أنه دعا مزاحماً فقال يا مزاحم، إن هؤلاء القوم قد أعطونا عطايا والله ما كان لهم أن يعطوناها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إلي ليس علي فيه دون الله محاسب.
فقال له مزاحم: يا أمير المؤمنين، هل تدري كم ولدك؟ هم كذا وكذا، قال: فذرفت عيناه، فجعل يستدمع ويقول: أكِلهم إلى الله؟ قال: ثم انطلق مزاحم من وجهه ذلك حتى استأذن على عبد الملك، فأذن له ـ وقد اضطجع للقائه ـ فقال له عبد الملك: ما جاء بك يا مزاحم هذه الساعة؟ هل حدث حدث؟ قال: نعم أشد الحدث عليك وعلى بني أبيك. قال: وما ذاك؟ قال: دعاني أمير المؤمنين ـ فذكر له ما قاله عمر ـ فقال عبد الملك: فما قلت له؟ قال: قلت له يا أمير المؤمنين، تدري كم ولدك؟ هم كذا وكذا قال: فما قال لك؟ قال: جعل يستدمع ويقول أكِلهم إلى الله تعالى. قال عبد الملك بنس وزير الدين أنت يا مزاحم. ثم وثب فانطلق إلى باب أبيه عمر،
_________
(1) المصدر نفسه (5/ 341 ـ 342).
(2) المصدر نفسه (5/ 355) عمر وسياسته في رد المظالم صـ205.
(3) المصدر نفسه (5/ 345) عمر وسياسته في رد المظالم صـ205.(1/46)
فاستأذن عليه، فقال له الآذن: أما ترحمونه ليس له من الليل والنهار إلا هذه الوقعة؟ قال عبد الملك: استأذن لي، لا أم لك. فسمع عمر الكلام، فقال من هذا؟ قال: هذا عبد الملك. قال: ائذن له. فدخل عليه ـ وقد اضطجع عمر للقائلةـ فقال: ما حاجتك يا بني هذه الساعة؟ قال: حديث حدثنيه مزاحم. قال: فأين وقع رأيك من ذلك؟ قال: وقع رأيي على إنفاذه. قال: فرفع عمر يديه. ثم قال: الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني. نعم يا بني أصلي الظهر، ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رؤوس الناس. فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين، ومن لك إن بقيت إلى الظهر أن تسلم لك نيتك إلى الظهر. قال عمر: قد تفرق الناس ورجعوا للقائلة، فقال عبد الملك: تأمر مناديك ينادي: الصلاة جامعة، فيجتمع الناس. فنادى المنادي: الصلاة جامعة. قال: فخرجت فأتيت المسجد فجاء عمر فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن هؤلاء القوم قد كانوا أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطوناها وما كان لنا أن نقبلها.
وإن ذلك قد صار إلي ليس علي فيه دون الله محاسب، ألا وإني قد رددتها، وبدأت بنفسي وأهل بيتي: إقرأ يا مزاحم، قال ـ وقد جيء بسفط قبل ذلك، أو قال جرنة ـ فيها تلك الكتب. قال: فقرأ مزاحم كتاباً منها، فلما فرغ من قراءته ناوله عمر ـ وهو قاعد على المنبر وفي يده جلم ـ قال: فجعل يقصه بالجلم. واستأنف مزاحم كتاباً آخر فجعل يقرؤه، فلما فرغ منه دفعه إلى عمر فقصه ثم استأنف كتاباً آخر فما زال حتى نودي بصلاة الظهر (1) ومن بين مارده عمر مما كان في يده من القطائع جبل الورس باليمن وقطائع باليمامة (2)، إلى جانب فدك وخيبر (3)، والسويداء، فخرج منها جميعاً إلا السويداء، فقد قال عمر فيها: ما من شيء إلا وقد رددته في مال المسلمين إلا العين التي بالسويداء فإني عمدت إلى أرض براح ليس فيها لأحد من المسلمين ضربة سوط، فعملتها من صلب عطائي الذي يجمع لي مع جماعة المسلمين وقد جاءت غلتها مائتا دينار (4). وأما قرية فدك ـ التي تقع شمال المدينة ـ فقد كانت تغل في السنة عشرة
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ107 ـ 108.
(2) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ207.
(3) المصدر نفسه صـ207.
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ40.(1/47)
آلاف دينار تقريباً، فلما ولي عمر الخلافة سأل عنها وفحصها، فأخبر بما كان من أمرها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ... فكتب ـ بناء على ذلك ـ إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كتاباً قال فيه: أما بعد فإني نظرت في أمر فدك وفحصت عنه، فإذا هو لا يصلح لي، ورأيت أن أردها على ما كنت عليه في عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان، وأترك ما حدث بعدهم، فإذا جاءك كتابي هذا فاقبضها وولها رجلاً يقوم فيها بالحق والسلام (1).
وأما الكتيبة فهي حصن من حصون خيبر، وعندما تولى عمر بن عبد العزيز كتب على عامله على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يقول: إفحص لي عن الكتيبة، أكانت من خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خيبر أم كانت لرسول الله خاصة؟ قال أبو بكر: فسألت عمرة بنت عبد الرحمن فقالت: إن رسول الله لما صالح بني أبي الحقيق جزأ النطاة والشق خمسة أجزاء فكانت للكتيبة جزءاً منها، وأعادها عمر بن عبد العزيز إلى ما كانت إليه في عهد رسول الله (2)، كما أرجع عمر للرجل المصري الذي أرضه بحلوان بعد أن عرف أن والده عبد العزيز قد ظلم المصري فيها، وحتى الدار التي كان والده عبد العزيز بن مروان قد اشترها من الربيع بن خارجه الذي كان يتيماً في حجره، ردها عليه، لعلمه أنه لا يجوز إشتراء الولي ممن يلي أمره، ثم التفت إلى المال الذي كان يأتيه من جبل الورس باليمن، فرده إلى بيت مال المسلمين رغم شدة حاجة أهله إلى هذا المال، لكنه كان يؤثر الحياة الآخرة على الحياة الدنيا، كما أمر عمر بن عبد العزيز مولاه مزاحماً برد المال الذي كان يأتيه من البحرين كل عام إلى مال الله (3). وهكذا بدأ عمر بنفسه يضرب المثل ويكون الأسوة أمام رعيته حين رد من أملاكه كل ما شابته شائبة الظلم، أو الشك في خلاص حقه فيه، فرد كل ذلك إلى أصحابه، إنطلاقاً من تمسكه بالزهد، وإيمانه برد المظالم إلى أصحابها تقوى الله، ووضعاً للحق في نصابه، بعد أن انتهى من رد كل مال شك بأنه ليس له فيه حق اتجه إلى زوجته فاطمة بنت عبد الملك ـ وكان لها جوهر ـ فقال لها عمر: من أين صار هذا المال إليك؟ قالت: أعطانيه أمير المؤمنين، قال: إما أن ترديه إلى
_________
(1) الطبقات (5/ 389) عمر وسياسته في رد المظالم صـ208.
(2) عمر بن عبد العزيز سياسته في رد المظالم صـ209.
(3) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ212.(1/48)
بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت (1)،
وقد أوضح عمر لها سبب كرهه له بقوله: قد علمت حال هذا الجوهر وما صنع فيه أبوك، ومن أصابه، فهل لك أن أجعله في تابوت ثم أطبع عليه وأجلعه في أقصى بيت مال المسلمين وأنفق ما دونه، وإن خلصت إليه أنفقته، وإن مت قبل ذلك فلعمري ليردنه إليك. قالت له: أفعل ما شئت وفعل ذلك: فمات ـ رحمه الله ـ ولم يصل إليه، فرد ذلك عليها أخوها يزيد بن عبد الملك فامتنعت من أخذه، وقالت: ما كنت لأتركه ثم آخذه، وقسمه يزيد بين نسائه ونساء بنيه (2).
ـ رد مظالم بني أمية: وإذا كان عمر قد بدأ بنفسه في رد المظالم فقد ثنى في ذلك بأهل بيته وبني عمومته وبإخوته من أفراد البيت الأموي، وفور فراغه من دفن بن عمه سليمان بن عبد الملك، فقد رأى ما أذهله وهو أن أبناء عمه من الأمويين أدخلوا الكثير من مظاهر السلطان التي لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو خلفائه الراشدين، فأنفقوا الكثير من المال من أجل الظهور بمظاهر العظمة والأبهة أمام رعيتهم ومن تلك المظاهر المراكب الخلافية التي تتألف من براذين وخيول وبغال، ولكل دابة سائس، ومنها أيضاً تلك السرادقات والحجرات والفرش والوطاءات التي تعد من أجل الخليفة الجديد وفوجيء بتلك الثياب الجديدة وقارورات العطر والدهن التي أصبحت له بحجة أن الخليفة الراحل لم يصبها فهي من حقه بصفته الخليفة الجديد، وهذا كله إسراف وتبذير لا مبرر له يتحمله بيت مال المسلمين، وهو بأمس الحاجة لكل درهم فيه لينفق في وجهه الصحيح الذي بينه الله ورسوله، وهنا أمر مولاه مزاحماً فور تقديم هذه الزينة له ببيعها، وضم ثمنها إلى بيت مال المسلمين (3). ولقد كانت لعمر بن عبد العزيز سياسة محددة في رد المظالم من أفراد البيت الأموي تكون لديه خطوطها فور تسلمه زمام الخلافة، حين وفد عليه أفراد البيت الأموي عقب انصرافه من دفن سليمان يسألونه ما عودهم الخلفاء الأمويون من قبله، وحين أراد عبد الملك أن يرد أفراد البيت الأموي عن أبيه كشف له أبوه عن
_________
(1) المصدر نفسه صـ212، الطبقات (5/ 293) ..
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ52، 53.
(3) عمر بن العزيز وسياسته في رد المظالم صـ213.(1/49)
سياسته تلك حين قال له: وما تبلغهم؟ قال: أقول أبي يقرئكم السلام ويقول لكم: ((قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) (الزمر، الآية: 13).
ثم أوضحها له مرة أخرى حين جاءه يطالبه بالإسراع باستخلاص ما بأيدي الأمويين من مظالم، فقال: يا بني، إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريد مكايدتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يهراق في سببي محجمة من دم أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحي فيه سنة حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين (1)؟ ثم زاد في توضيح سياسته تلك حينما قال له ولده عبد الملك: ما يمنعك أن تمضي الذي تريد؟ فوالذي نفسي بيده ما أبالي لو غلت بك وبي القدور، قال وحق هذا منك، قال: نعم والله قال عمر: الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يعينني على أمر ديني إني لو باهت الناس بالذي تقول لم آمن أن ينكروها، فإذا أنكروها لم أجد بداً من السيف ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف، يا بني، إني أروض الناس رياضة الصعبة، فإن بطأ بي عمر أرجو أن ينفذ الله مشيئتي وأن تعدو منيتي فقد علم الله الذي أريده (2). وهكذا يتبع عمر أسلوب الحكمة والحسنى في تنفيذ سياسته وتطبيقاً لهذه السياسة فإنه قد مهد لهذه الخطوة الحاسمة، والخطيرة بخطوات تسبقها خروجه هو أولاً مما بيده من مظالم وردها إلى أصحابها، أو بيت المال، ثم إتجه إلى أبناء البيت الأموي فجمعهم وطلب إليهم أن يخرجوا مما بأيدهم من أموال وإقطاعات أخذوها بغير حق (3). وشهدت الأيام الأولى من خلافة عمر تجريداً واسع النطاق لكثير من أموال وأملاك بني أمية، ظلت تنمو في الماضي وتتضخم لكونهم العائلة الحاكمة ليس إلا ..
وها هي الآن ترد إلى بيت مال المسلمين لكي يأخذ العدل مجراه، وتعود أموال المسلمين إلى المسلمين، لا يستأثر بها أحد دون أحد، ولا حزب دون حزب .. أموال وأملاك من شتى الصنوف والأنواع، جمعت بمختلف الطرق وسائر
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ260 ـ 263.
(2) المصدر السابق صـ262 ـ 263.
(3) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ215.(1/50)
الأساليب جرد عمر بني أمية منها ومزق مستنداتها واحدة واحدة، وردها إلى مكانها الصحيح: مظالم وجوائز وهدايا ومخصصات استثنائية وضياع وقطاع، جمعت كلها على شكل ممتلكات ثابتة ونقود سائلة بلغت في تقدير عمر شطراً كبيراً من أموال الأمة جاوزت النصف (1)، ولا تمضي سوى أيام معدودات حتى يجد بنو أمية أنفسهم مجردين إلا من حقهم الطبيعي المشروع، فيضجون ضد سياسة عمر هذه ويعلنون معارضتهم الصارمة لها، فماذا يكون جواب عمر. أنظروا: والله لوددت أن ألا تبقى في الأرض مظلمة إلا ورددتها على شرط ألا أرد مظلمة إلا سقط لها عضو من أعضائي أجد ألمه ثم يعود كما كان حياً، فإذا لم يبق مظلمة إلا رددتها سألت نفسي عندها (2)،
ولكن بني أمية لم ييأسوا من هذا الحزم والعزم إزاء حقوق الأمة، وهم الذين ما خطر ببالهم يوماً أن يجردوا هذا التجريد فاجتمعوا وطلبوا من أحد أولاد الوليد وكان كبيرهم ونصيحهم، أن يكتب إلى عمر، فكتب إليه: أما بعد فإنك أنسيت ممن كان قبلك من الخلفاء وسرت بغير سيرتهم وسميتها المظالم نقصاً لهم لأعمالهم، وشاتماً لمن كان بعدهم من أولادهم ولم يكن ذلك لك، فقطعت ما أمر الله أن يوصل، وعملت بغير الحق في قرابتك وعمدت إلى أموال قريش ومواريثهم وحقوقهم فأدخلتهم بيت مالك ظلماً وجوراً وعدواناً فاتق الله يا ابن عبد العزيز وارجعه، فإنك قد أوشكت لم تطمئن على منبرك إن خصصت ذوي قربتك بالقطيعة والظلم، فوالله الذي خص محمد صلى اله عليه وسلم بما خصه من الكرامة لقد ازدادت من الله بعداً في ولايتك هذه التي تزعم أنها بلاء عليك، وهي كذلك، فاقتصد في بعض ميلك وتحاشيك (3)، ويظهر في هذا الكتاب مآخذ الأمويين على سياسة عمر وهي:
ـ ... خالف سيرة من قبله من الخلفاء وأزرى بهم وعاب أعمالهم.
ـ ... أساء إلى أولاد من قبله من الخلفاء.
ـ ... لم يكن عمله منسجماً مع الحق.
ـ ... إن قطيعة أهل بيته يهدد مكانه من الخلافة.
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ115.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ147 ـ 151 ..
(3) المصدر نفسه صـ126 ـ 127، عمر بن عبد العزيز صالح العلي صـ194.(1/51)
ولا ريب أن سياسة عمر بن عبد العزيز تهدد مكانة الأسرة الأموية وتضعف مراكز قوتها، وقد تؤدي إلى دفعها لإتخاذ مواقف مهددة للخليفة القائم، وفي هذا خطر كبير عليه وعلى الخلافة (1)، وكان رد عمر حمم من نار الحق تتفجر في كل كلمة فيها: .. ويلك وويل أبيك ما أكثر طلابكما وخصمائكما يوم القيامة ... رويدك فإنه لو طالت بي حياة ورد الله الحق إلى أهله، تفرغت لك ولأهل بيتك، فأقمت على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وراءكم (2) ..
ـ بنو أمية يلجأون إلى أسلوب الحوار الهادي:
وما أن يأس بنو أمية من صمود عمر إزاء معارضتهم الجماعية الشديدة هذه، لجأوا إلى أسلوب الحوار الهادي، علهم يصلون عن طريقه إلى ما يشتهون فيتكلمون معه يوماً مستشيرين فيه نزعة القربى وعاطفة الرحم، فيجيبهم: أن يتسع مالي لكم، وأما هذا المال ـ أي المال العام ـ فحقكم فيه كحق أي رجل من المسلمين. والله أني لا أرى أن الأمور لو استحالت حتى يصبح أهل الأرض يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله (3) ودخل عليه هشام بن عبد الملك يوماً فقال: يا أمير المؤمنين إني رسول قومك إليك، وإن في أنفسهم ما جئت لأعلمك به أنهم يقولون: إستأنف العمل برأيك فيما تحت يدك وخل بين من سبقك وبين ما ولوا بما عليهم ولهم، وببديهة يجيب عمر: أرأيت أن أتيت بسجلين أحدهما من معاوية والآخر من عبد الملك فبأي السجلين آخذ؟ قال هشام: بالأقدم. فأجب عمر: فإني وجدت كتاب الله الأقدم، فأنا حامل عليه من أتاني ممن تحت يدي وفيما سبقني (4).
ـ بنو أمية يرسلون عمة عمر بن عبد العزيز:
فعندما عجز الرجال من بني أمية عن جعل عمر يخاف أو يلين عن سياسته إزاءهم، لجأوا إلى عمته فاطمة بنت مروان، وكانت عمته هذه لا تحجب عن الخلفاء ولا يرد لها طلب أو حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك كان عمر يفعل معها قبل استخلافه، فلما دخلت
_________
(1) عمر بن عبد العزيز، صالح العلي صـ195.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ147 ـ 151.
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ114 ـ 115.
(4) المصدر نفسه صـ118 ـ 119، ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز د. عماد الدين خليل صـ117، 118.(1/52)
عليه عظمها وأكرمها كعادته وألقى لها وسادة لتجلس عليها. فقالت: إن قرابتك يشكونك ويذكرونك أنك أخذت منهم خير غيرك قال: ما منعتهم حقاً أو شيئاً كان لهم، ولا أخذت منهم حقاً أو شيئاً كان لهم فقالت: إني رأيتهم يتكلمون، وإني أخاف أن يهيجوا عليك يوماً عصيباً. فقال: كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره. قال: فدعا بدينار، وجنب، ومجمرة، فألقى ذلك الدينار بالنار، وجعل ينفح على الدينار إذا احمر تناوله بشيء، فألقاه على الجمر فنشى وقتر فقال: أي عمه أما ترثين لابن أخيك من هذا (1)؟ وتؤخذ العمة بهذا المشهد المؤثر، وتلتفت إلى عمر طالبة منه أن يستمر في الكلام واسمعوه يقول وكأنه يرسم لوحة فنية رائعة للعدالة الاجتماعية التي جاء بها الإسلام لكي يجعلها تفجر الخير والنعيم على الجميع قال: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة ولم يبعثه عذاباً إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده وترك للناس نهراً شربهم فيه سواء ثم ولي أبو بكر وترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل عملهما، ثم يزل النهر يستقي منه يزيد ومروان وعبد الملك وابنه الوليد وسليمان أبناء عبد الملك حتى أفضى الأمر إلي وقد يبس النهر الأعظم فلم يرو أصحابه حتى يعود إلى ما كان عليه فقالت: حسبك، قد أردت كلامك فأما إذا كانت مقالتك هذه فلا أذكر شيئاً أبداً. فرجعت إليهم فأخبرتهم كلامه (2) وجاء في رواية: إنها قالت لهم: .. أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب فجاء يشبه جده: فسكتوا (3)
ـ تلاشي المعارضة الجماعية لبني أمية:
وسرعان ما تلاشت السمة الجماعية لمعارضة بني أمية بعد ما رأوا من جد عمر إزاء أموال الأمة وقالوا: ليس بعد هذا شيء (4). ومن ثم أخذ كل منهم يسعى على إنفراد ليسترد ما يستطيع استرداده من الأموال، ولكن عمر الذي وقف تجاه رغباتهم مجتمعين، أحرى به الآن أن يتصدى لكل واحد منهم على انفراد ويعلمه أنّ حق الأمة لا يمكن أن يكون موضع مساومة في يوم من الأيام (5).
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ117.
(2) الكامل في التاريخ (3/ 270).
(3) المصدر نفسه (3/ 271).
(4) عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ58، 59، ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز صـ119.
(5) ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر صـ119.(1/53)
ب ـ رد الحقوق لأصحابها: لم يقف عمر عند حد استرداد الأموال من بني أمية وردها إلى بيت المال، بل يخطو خطوة أخرى ويعلن لأبناء الأمة الإسلامية أن كل من له حق على أمير أو جماعة من بني أمية أو لحقته منهم مظلمة، فليتقدم بالبينة لكي يرد عليه حقه .. وتقدم عدد من الناس بظلامتهم وبيّناتهم وراح عمر يردها واحدة بعد الأخرى: أراضٍ ومزارع وأموال وممتلكات (1)، ومرة بعث إليه واليه على البصرة برجل اغتصب أرضه فرد عمر هذه الأرض إليه ثم قال له: كم أنفقت في مجيئك إلي؟ قال: يا أمير المؤمنين تسألني عن نفقتي وأنت قد رددت علي أرضي وهي خير من مائة ألف؟ فأجابه عمر: إنما رددت عليك حقك، ثم ما لبث أن أمر له بستين درهماً كتعويض له عن نفقات سفره (2)، وقد قال ابن موسى: ما زال عمر بن عبد العزيز يردّ المظالم منذ يوم استخلف إلى يوم مات (3)، وذات يوم قدم عليه نفر من المسلمين وخاصموا روح بن الوليد بن عبد الملك في حوانيت (4)، قد قامت لهم البينة عليه، فأمر عمر روحاً برد الحوانيت إليهم، ولم يلتفت لسجل الوليد، فقام روح فتوعدهم، فردع رجل منهم وأخبر عمر بذلك، فأمر عمر صاحب حرسه أن يتبع روحاً فإن لم يرد الحوانيت إلى اصحابها فليضرب عنقه، فخاف روح على نفسه وردّ إليهم حوانيتهم (5)، وردّ عمر أرضاً كان قوم من الأعراب أحيوها، ثم انتزعها منهم الوليد بن عبد الملك فأعطاها بعض أهله، فقال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: .. من أحيا أرضاً ميتة فهي له (6)،
ولقد أحبّ آل البيت وأعاد إليهم حقوقهم وقال مرة لفاطمة بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: يا بنت علي والله ما على ظهر الأرض أهل بيت أحبّ إليَّ منكم ولأنتم أحب إليَّ من أهل بيتي (7)
ج ـ عزله جميع الولاة والحكام الظالمين:
لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة عمد إلى جميع الولاة والحكام المسؤولين الظالمين فعزلهم عن مناصبهم، ومنهم خالد بن الريان وصاحب حرس سليمان بن
_________
(1) المصدر نفسه صـ120.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ146، 147.
(3) الطبقات لابن سعد (5/ 341).
(4) الحوانيت: جمع حانوت وهو محل التجارة.
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ60.
(6) صحيح الجامع للألباني رقم 2766 ..
(7) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ131 السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز صـ45.(1/54)
عبد الملك الذي كان يضرب كل عنق أمره سليمان بضربها، وعين محله عمرو بن مهاجر الأنصاري فقال عمر بن عبد العزيز: يا خالد ضع هذا السيف عنك، اللهم، إني قد وضعت لك خالد بن الريان اللهم لا ترفعه أبداً، ثم قال لعمرو بن مهاجر: والله؟ إنك لتعلم يا عمرو، إنه ما بيني وبينك قرابة إلا قربة الإسلام ولكني سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظن ألا يراك أحد، فرأيتك حسن الصلاة خذ هذا السيف قد وليتك حرسي (1). وهكذا يعزل عمر الظالمين وهذا أسلوبه في اختيار الولاة والقضاة والكتاب وغيرهم، إنه يبحث عن أصلح الناس ديناً وأمانة، ولما انتقد أحد ولاته الذين اختارهم نكت بين عينيه بالخيزرانة في سجدته وقال: هذه غرتني منك. يريد سجدته أي أثر السجود في وجهه، فهذه علامة من علامات صلاح الرجل وهي دليل على كثرة السجود، ومن أجل ذلك اختاره عمر بن عبد العزيز، وعمر لا يكتفي بمظهر الرجل ولكنه يختبره أيضاً، قد رأى رجلاً كثير الصلاة، وأراد أن يمتحنه ليوليه، فأرسل إليه رجلاً من خاصته فقال: يا فلان إنك تعلم مقامي عند أمير المؤمنين فمالي لو جعلته يوليك على أحد البلدان؟ فقال الرجل: لك عطاء سنة، فرجع الرجل إلى عمر وأخبره بما كان من هذا الرجل، فتركه لأنه سقط في الاختبار (2) ن وكان من ضمن من عزلهم عمر بن عبد العزيز: أسامة بن زيد التنوخي وكان على خراج مصر، لأنه كان غاشماً ظلوماً يعتدي في العقوبات بغير ما أنزل الله عز وجل، يقطع الأيدي في خلاف ـ دون تحقق شروط القطع ـ فأمر به عمر بن عبد العزيز أن يحبس في كل جُنُد (3)
سنة ويقيد ويحل عنه القيد عند كل صلاة ثم يرد في القيد، فحبس بمصر سنة، ثم فلسطين سنة ثم مات عمر وولي يزيد بن عبد الملك الخلافة فردّ أسامة على مصر في عمله (4)، وكتب عمر بن عبد العزيز بعزل يزيد بن أبي مسلم عن إفريقية وكان عامل سوء يظهر التأله والنفاد لمل ما أمر به السلطان مما جل أو صغر من السيرة بالجور، والمخالفة للحق، وكان في هذا يكثر التسبيح والذكر ويأمر بالقوم فيكونون بين يديه يعذبون وهو يقول: سبحان الله والحمد لله شد يا غلام
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ50.
(2) فقه عمر بن عبد العزيز د. محمد شقير (1/ 91).
(3) الجند: المدينة وقيل مدن الشام ..
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ32.(1/55)
موضع كذا وكذا، لبعض مواضع العذاب وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، شد يا غلام شد موضع كذا وكذا، فكانت حالته تلك شر الحالات، فكتب عمر بعزله (1)، وهكذا استمر عمر في عزل الولاة الظلمة وتعيين الصالحين وسيأتي الحديث عن فقه عمر في تعامله مع الولاة في محله بإذن الله تعالى.
د ـ رفع المظالم عن الموالي:
تعرض الموالي قبل عمر بن عبد العزيز للمظالم فقد فرضت الجزية على من أسلم منهم، كما منعوا من الهجرة مثلما حدث للموالي في العراق ومصر وخراسان وفي عهد عبد الملك أوقع الحجّاج بالموالي ظلم عظيم، فقد عمل على إبقاء الجزية على من أسلم منهم، وحرمهم من الهجرة من قراهم وهذا ما دفعهم للاشتراك في ثورة ابن الأشعث ضد الحجّاج، كما وقع الظلم على الموالي في مصر وخراسان، فلما تولى عمر بن عبد العزيز أزال تلك المظالم التي لحقت بهؤلاء الموالي وكتب إلى عماله يقول" .. فمن أسلم من نصراني أو يهودي أو مجوسي من أهل الجزيرة اليوم فخالط المسلمين في دارهم، وفارق داره التي كان بها فإن له للمسلمين وعليه ما عليهم، وعليهم أن يخالطوه وأن يواسوه غير أرضه وداره إنما هي من فيء الله على المسلمين عامة، ولو كانوا أسلموا عليها قبل أن يفتح الله للسملمين كانت لهم، ولكنها فيء الله على المسلمين عامة (2)، وكتب إلى عامله على مصر حيان بن شريح ـ يقول: وأن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة فإن الله تبارك وتعالى قال: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (التوبة، الآية: 5) وقال: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة، الآية: 29). إلا إن هذا العامل أرسل إلى عمر يقول: أما بعد، فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن نابتة عشرون ألف دينار أتممتها عطاء أهل الديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل (3).
وجاء رد عمر: أما بعد، فقد بلغني كتابك وقد
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ32 ـ 33.
(2) المصدر نفسه صـ78 ـ 79.
(3) الخطط للمقريزي (1/ 78) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ233.(1/56)
وليتك جند مصر وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي يضربك على رأسك عشرين سوطاً، فضع الجزية عن من أسلم ـ قبح الله رأيك ـ فإن الله إنما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعثه جابياً، ولعمري ولعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على دينه (1). وفي رواية ابن سعد: أما بعد، فإن الله بعث محمداً داعياً ولم يبعثه جابياً، فإذا أتاك كتابي هذا فإن كان أهل الذمة أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية فاطو كتابك وأقبل (2). ولم يكن عامل عمر على مصر هو الوحيد الذي طلب من عمر السماح له في أخذ الجزية ممن أسلم، فها هو عامله على الكوفة ـ عبد الحميد بن عبد الرحمن ـ يسأله أخذ الجزية المتراكمة على اليهود والنصارى والمجوس الذين أسلموا، فجاءه رد عمر الواضح أيضاً يقول: كتبت إلي تسألني عن أناس من أهل الحيرة يسلمون من اليهود والنصارى والمجوس وعليهم جزية عظيمة، وتستأذنني في أخذ الجزية منهم، وإن الله جل ثناؤه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه جابياً، فمن أسلم من أهل تلك الملل فعليه في ماله الصدقة ولا جزية عليه، وميراثه ذوي رحمه إذا كان منهم يتوارثون أهل الإسلام، وإن لم يكن له وارث فميراثه في بيت مال المسلمين الذي يقسم بين المسلمين، وما أحدث من حدث ففي مال الله الذي يقسم بين المسلمين يعقل عنه منه والسلام (3). كما كتب إليه عامله على البصرة ـ عدي بن أرطأة ـ يقول: أما بعد، فإن الناس كثروا في الإسلام وخفت أن يقل الخراج. فكتب إليه عمر: فهمت كتابك، والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا (4).
هذا إلى جانب إبطاله لمظلمة المنع من الهجرة التي أوقعها الحجّاج بالموالي في العراق، وهكذا أبطل عمر تلك المظالم التي أصابت الموالي، فترتب على ذلك أن أعاد إليهم حقوقهم المسلوبة والهدوء والطمأنينة إلى نفوسهم، وباتوا ينعمون بالمساواة والعدل مع غيرهم من أبناء الأمة الإسلامية (5).
_________
(1) الخطط للمقريزي (1/ 78) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ233.
(2) الطبقات (5/ 384).
(3) الخراج لأبي يوسف صـ142 عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ234.
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ99 ـ 100 لابن الجوزي.
(5) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ234.(1/57)
هـ ـ رفع المظالم عن أهل الذمة:
زاد عبد الملك في عهده الجزية على أهل قبرص وكان معاوية بن أبي سفيان غزا قبرص بنفسه وصالحهم صلحاً دائماً على سبعة آلاف دينار وعلى النصيحة للمسلمين، وإنذارهم عدوهم من الروم ولم يزل أهل قبرص على صلح معاوية حتى ولي عبد الملك بن مروان، فزاد عليهم ألف دينار، فجرى ذلك إلى عهد عمر بن عبد العزيز فحطها عنهم (1)، كما أصابت الزيادة فيما يجبى من جزية أهل الذمة في العراق وقد وضعها عنهم عمر بن عبد العزيز كسياسة عامة التزم بها في أن يرفع المظالم عن أهل الذمة حتى يدعهم ينعمون بحياتهم في ظل الشرائع الإسلامية السمحة ويؤيد ذلك ما جاء في كتابه إلى عامله على البصرة ـ عدي بن أرطأة: أما بعد، فإن الله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام واختار الكفر عتيا (2)، وخسراناً مبيناً، فضع الجزية على من أطاق حملها، وخل بينهم وبين عمارة الأرض، فإن في ذلك صلاحاً لمعاش المسلمين، وقوة على عدوهم، وانظر من قبلك من أهل الذمة ممن قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه. فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه (3)،
كما بلغت سياسة عمر بن عبد العزيز في وضع المظالم عن الناس ومساعدتهم أيضاً حين كتب إلى عامله على الكوفة يقول: انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوي به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين (4)، وقد أمر عمر ولاته بالأخذ بالرحمة والرأفة بالناس، فقد منع تعذيب أهل البصرة وغيرهم لاستخراج الخراج منهم، وعندما أرسل إليه عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول: إن أناساً قبلنا لا يؤدون ما عليهم من الخراج
_________
(1) فتوح البلدان صـ159، عمر وسياسته في رد المظالم صـ240.
(2) عتيا: العاتي المجاوز للحد في الاستكبار.
(3) الأموال لأبي عبيد صـ57 ..
(4) المصدر نفسه صـ320 عمر وسياسته في رد المظالم صـ241.(1/58)
حتى يمسهم شيء من العذاب فكتب إليه عمر: أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر كأني جنة لك من عذاب الله، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله، وإذا أتاك كتابي هذا فمن أعطاك فاقبله عفواً وإلا فأحلفه، فوالله لأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إلى من أن ألقاه بعذابهم. والسلام (1). ومما أصاب أهل الذمة من المظالم قبل عهد عمر بن عبد العزيز سبى بنات ونساء من لواتة بشمال أفريقية ولكن عمر رد هذه المظلمة يذكر أبو عبيد: أن عمر بن عبد العزيز كتب في اللواتيات: من أرسل منهن شيئاً فليس من ثمنها شيء وهو ثمن مرجها الذي استحلها به ـ أو كلمة تشبه الثمن ـ قال: ومن كانت عنده امرأة منهن فليخطبها إلى أبيها، وإلا فليردها إلى أهلها قال أبو عبيد: قوله اللواتيات هن من لواتة: فرقة من البربر، يقال لهم لواتة أراه قد كان لهن عهد، وهم الذين كان ابن شهاب يحدث: أن عثمان أخذ الجزية من البربر، ثم أحدثوا بعد ذلك فسبوا. فكتب عمر بن عبد العزيز بما كتب به (2)، كما أرجع عمر بن عبد العزيز إلى أهل الذمة كل أرض أو كنيسة أو بيت اغتصب منهم (3)،
ومما رفعه عمر عن أهل الذمة من المظالم السخرة التي على أساس أنه يحل للمسلمين أن يسخروا أهل الذمة لمصالحهم الشخصية طالما أن هذا غير موجود في صلحهم (4). فكتب إلى عماله يقول: ... ونرى أن توضع السخر عن أهل الأرض، فإن غايتها أمر يدخل فيه الظلم (5)، وهكذا رد عمر بن عبد العزيز ما اصاب أهل الذمة من مظالم، فترتب على ذلك أن أعاد السكينة، والطمأنينة والهدوء إليهم، وأوضح لهم، إن بإمكانهم أن يعيشوا في ظل الإسلام آمنين مطمئنين تشملهم سماحة الدين ويظلهم عدله، وتستقيم أمورهم وشؤونهم في كنفه، لا يضارون ولا يستضعفون ولا يستعبدون لهم حقوقهم المعلومة وعليهم واجباتهم المحددة ضمنها لهم الشارع الحكيم، وما تأسس من أحكام كتاب الله وسنة رسوله الكريم (6).
_________
(1) الخراج لأبي يوسف صـ129.
(2) فتوح البلدان صـ226 ـ 227.
(3) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ245 ..
(4) المصدر نفسه صـ245.
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ83.
(6) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ248.(1/59)
و ـ إقامة العدل لأهل سمرقند:
لما وصل خبر تولية عمر بن عبد العزيز الخلافة إلى سكان ما وراء النهر، اجتمع أهل سمرقند وقالوا لسليمان بن أبي السرّي: إن قتيبة غدر بنا، وظلمنا وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والانصاف، فإذن لنا فليفذ منا وفد إلى أمير المؤمنين، يشكو ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة. فإذن لهم سليمان، فوجهوا منهم قوماً فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سليمان بن السري: إن أهل سمرقند، قد شكوا إليَّ ظلماً أصابهم،، وتحاملاً من قتيبة عليهم أخرجهم من أرضهم فإذا أتاك كتابي، فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم (1) إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة. فأجلس سليمان جُمَيْعَ بن حاضر القاضي فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء فيكون صلحاً جديداً أو ظفراً عنوة، فقال أهل الصُّغد (2): بل نرضى بما كان ولا نجدِّد حرباً، وتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم، وأمنونا وأمنّاهم، فإن حكم لنا عدْنا إلى الحرب ولا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا اجتلبنا عداوة في المنازعة، فتركوا الأمر على ما كان ورضوا ولم ينازعوا (3). أية دولة في القرن العشرين تحني رأسها هكذا للعدل كي يأخذ مجراه وللحق كي يعود إلى أصحابه؟ وأي حاكم في تاريخ الشعوب التي لم تعرف الله، استجاب، هكذا، لنداءات المظلومين الذين سلبت حقوقهم، كهذه الاستجابة السريعة الحاسمة من عمر بن عبد العزيز؟ ألا أنه المسؤول الذي نذر نفسه للدفاع عن قيم الحق والعدل في أقطار الأرض، فبدونهما تفقد شريعة الله مقوماتها وأهدافها العليا (4). فهذا مثل رفيع من عدل عمر وإننا لنلاحظ في هذا الخبر عدة أمور:
ـ ... أن الناس يقبلون على التظلم والشكوى والمطالبة بالحقوق حينما يكون الحكام عادلين، لأنهم يعلمون أن دعواهم ستؤخذ مأخذ الجد وسينظر فيها بعدل،
_________
(1) يعني المسلمين الغزاة.
(2) الصُّغد: قوم يسكنون بعض بلاد ما وراء النهر.
(3) تاريخ الطبري (7/ 472).
(4) ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز صـ68.(1/60)
فهؤلاء المتظلمون قد سكتوا على ما هم فيه من الشعور بالظلم طيلة ولاية الوليد وسليمان، فلما رأوا عدل عمر بن عبد العزيز رفعوا قضيتهم.
ـ ... أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لم يهمل قضيتهم وإنما أحالها إلى القضاء الشرعي، وهذا مثل من الخضوع للإسلام والتجرد من هوى النفس، وكان باستطاعته أن يعمل كما يعمل كثير من المسئولين، من إرسال خطابات الوعيد والتهديد والبحث عن رؤوس القوم وإجراء العقوبات المناسبة عليهم ولكنه قد نذر نفسه لرفع المظالم وإقرار العدالة، وذلك لا يكون إلا بحكم الشرع والتحاكم إليه.
ـ ... أن أولئك القوم قد أسقط في أيديهم لما اطلعوا على كتاب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ورأى أهل الرأي منهم أنهم خاسرون في كلا الحالين، سواء حكم لهم أو عليهم، وأن مصلحتهم في بقائهم على ما هم عليه، وبهذا زال تظلمهم وشعروا بعدالة الحكم الإسلامي (1).
زـ الاكتفاء باليسير من البينات في رد المظالم:
نظراً لمعرفة عمر بن عبد العزيز بغشم الولاة قبله وظلمهم للناس حتى أصبحت المظالم كأنها شيء مألوف، فإنه لم يكلف المظلوم بتحقيق البينة القاطعة على مظلمته، وإنما يكتفي باليسير من البينة، فإذا عرف وجه مظلمة الرجل ردها إليه دون أن يكلفه تحقيق البيئة، فقد روى ابن عبد الحكم وقال: قال أبو الزناد: كان عمر بن عبد العزيز يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة، وكان يكتفي باليسير، إذ عرف وجه مظلمة الرجل ردها عليه، ولم يكلفه تحقيق البينة، لما يعرف من غشم الولاة قبله على الناس، ولقد أنقذ بيت مال العراق في رد المظالم حتى حُمل إليه من الشام (2). فما أحسن ما فعله عمر بن عبد العزيز وما أحسن التيسير على الناس قدر المستطاع لأن فيه اختصار للوقت وتوفيراً للجهود (3)، كما أن هذا العمل نستنبط منه قاعدة هامة في التفريق بين أصول التحقيق في القضاء العادي وبين أصول التحقيق في القضاء الإداري، وضعها عمر بن عبد العزيز، فالبينة القاطعة قد تستحيل إقامتها، وجمع عناصرها، فإذا كان الظلم واضحاً، اكتفى قاضي المظالم بالبينة اليسيرة (4).
_________
(1) التاريخ الإسلامي (15، 16/ 62).
(2) سيرة عمرة بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ106 ـ 107.
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 558).
(4) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (2/ 565).(1/61)
ح ـ وضع المكس (1): لما كان المكس من الظلم والبخس، لأنه جباية أو ضريبة تؤخذ من الناس بغير وجه شرعي، ولما كانت الزكاة على المسلم والجزية والعشور والخراج على الذمي كافيه عما سواها، فقد نهى عمر عن المكس وشدد في ذلك ومنعه كما يأتي: عن محمد بن قيس قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز وضع المكس عن كل أرض ووضع الجزيه عن كل مسلم (2) وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أن ضع عن الناس ... والمكس ولعمري ما هو بالمكس ولكنه البخس الذي قال الله فيه: ((ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين)). فمن أدى زكاة ماله فاقبل منه ومن لم يأت فالله حسيبه (3)، وكتب إلى عامله عبد الله بن عوف على فلسطين: أن: أركب إلى البيت يقال له: المكس، فاهدمه ثم أحمله إلى البحر فأنسفه في اليم نسفاً (4). نعلم مما سبق أن المكس دراهم تؤخذ من بائع السلع في الأسواق وأن ذلك يصدق على الجمارك التي تؤخذ على السلع عند استيرادها في هذا الزمان، وأن عمر بن عبد العزيز يرى أن ذلك من الظلم فمنعه (5). والحجة فيما فعله عمر بن عبد العزيز قول الله تعالى: ((وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) (الشعراء، الآية: 183).
خ ـ رد المظالم وإخراج زكاتها:
قرر عمر بن عبد العزيز رد المظالم التي في بيوت المال، وأخذ زكاتها لسنة واحدة (6)، عن مالك بن أنس عن أيوب السختياني أن عمر بن عبد العزيز رد مظالم في بيوت الأموال فرد ما كان في بيت المال وأمر أن يزكي لما غاب عن أهله من السنين، ثم كتب بكتاب آخر: إني نظرت فإذا هو ضمار (7) لا يزكي إلا لسنة واحدة (8)، وعن عمرو بن ميمون قال: أخذ الوالي في زمن عبد الملك مال
_________
(1) المكس: دراهم كانت تؤخذ من بائع السلع في الأسواق في الجاهلية أو هي الجباية.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 345).
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 383).
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ113.
(5) فقه عمر بن عبد العزيز د. محمد شقير (2/ 561).
(6) المصدر نفسه (2/ 566).
(7) المال الضمار: أي الذي لا يرجى رجوعه.
(8) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 342).(1/62)
رجل من أهل الرقة يقال له أبو عائشة عشرين ألفاً فأدخلت في بيت المال، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أتاه ولده فرفعوا مظلمتهم إليه، فكتب إلي ميمون: أدفعوا إليهم أموالهم، وخذوا زكاة عامه هذا، فلولا أنه كان مالاً ضماراً أخذنا منه زكاة ما مضى (1).
هذا هو عمر بن عبد العزيز في دولته التي أقامها على العدل وكان رحمه الله يعلم ولاته أنه بالعدل تستقيم الحياة بكل شئونها فلما أرسل إليه بعض عماله يقول: أما بعد، فإن مدينتنا قد خربت، فإن يرى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نرمّها به فعل. فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد فهمت كتابك، وما ذكرت أن مدينتكم قد خربت، فإذا قرأت كتابي هذا فحصِّنها بالعدل، ونَقِّ طرقها من الظلم، فإنَّه مرمَّتها والسلام (2)، وكتب إلى بعض عماله: إن قدرت أن تكون في العدل والإحسان والإصلاح كقدر من كان قبلكم في الجور والعدوان والظلم، فافعل ولا حول ولا قوة إلا بالله (3)، وكتب إلى أبي بكر بن حزم: أن استبرئ الدواوين، فانظر إلى كل جور جاره من قبلي من حق مسلم أو معاهد فردَّه إليه، فإن كان أهل تلك المظلمة قد ماتوا فادفعه إلى ورثتهم (4). وكان رحمه الله يواجه في تنفيذ ما يريده من العدل مصاعب ومشقات ومقاومة، وعقبات، فكان ينفق بعض المال في سبيل تهدئة بعض النفوس، لإنفاذ الحق ونشر العدل، ورفع الظلم، دخل عليه ابنه عبد الملك ذات يوم، فقال: يا أبتِ ما يمنعك أن تمضي لما تريد من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك؟ قال: يا بني، إنما أروِّض الناس رياضة الصَّعْب، إني لأريد أن أحيي الأمور من العدل، فأوفِّر ذلك حتى أُخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فينفروا لهذا ويسكنوا لهذه (5)،
وقام برصد الجوائز لمن يدل لمن يدل على خير، أو ينبه على خطأ، أو يشير إلى وقوع مظلمة لم يستطع صاحبها إبلاغها فكتب كتاباً أمر أن يُقرأ على الحجيج في المواسم وفي كل المحافل والمجامع جاء فيه: أما بعد، فأيما
_________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (3/ 202).
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي صـ23، عمر بن عبد العزيز عبد الستار صـ226.
(3) الطبقات (5/ 383 ـ 384).
(4) المصدر نفسه (5/ 342 ـ 343).
(5) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ226 ..(1/63)
رجل قدم علينا في رد مظلمة، أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر الدين، فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار، بقدر ما يرى من الحسبة، وبعد الشقة. رحم الله أمراً لم يَتَكَاءده بعد سفر، لعل الله يحي به حقاً، أو يمت به باطلاً أو يفتح من ورائه خيراً (1). ولاستعذابه حلاوة العدل ورحمته وتنعم الناس بتفيّؤ ظِلاله كان يقول: والله لوددت لو عدلت يوماً واحداً وأن الله تعالى قبضني (2)، ومع أنه رأى ثمرات العدل التي قطف منها جميع الناس في خلافته إلا أن نفسه التوّاقة لكل شامخ ورفيع كانت تطمح للمزيد ولقد عبر عن ذلك بقوله: (لو أقمت فيكم خمسين عاماً ما استكملت العدل (3). وحتى الحيوانات نالهن عدله وانصافه ورفع الظلم عنه وإليك هذه المشاهد:
ـ النهي عن نخس الدابة بالحديدة وعن اللجم الثقال: فقد أكد عمر بن عبد العزيز على الرفق بالحيوان وعدم ظلمه أو تعذيبه قال أبو يوسف: حدثنا عبيد الله بن عمر: أن عمر بن عبد العزيز نهى أن يجعل البريد في طرف السوط حديدة ينخس بها الدابة، ونهى عن اللجم الثقال (4)، وقد أصدر أوامره بمنع استخدام اللجم الثقيلة مع الخيول والبغال، كما منع استخدام المناخس ذات الرؤوس الحديدة (5).
ـ في تحديد حمولة البعير بستمائة رطل:
وحين بلغه أن قوماً يحملون على الجمال ما لا تطيق وذلك في مصر كتب إلى واليها يحدد أقصى حمولة للبعير بستمائة رطل وطلب منه إبلاغ قراره هذا الناس وأمره بتنفيذه (6).
_________
(1) المصدر نفسه صـ227 تَكَاَءَدَهُ: شقَّ عليه وصعب.
(2) تهذيب الأسماء واللغات (2/ 23).
(3) تاريخ ابن عساكر نقلاً عن عمر بن عبد العزيز، لعبد الستار صـ227.
(4) مصنف ابن أبي شيبة (12/ 332) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 573).
(5) ملامح الانقلاب الإسلامي صـ71.
(6) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 575) محمد شقير.(1/64)
ـ ... هذه بعض الملامح السريعة على إقامة العدل في دولة عمر بن عبد العزيز، إن من أهداف التمكين إقامة المجتمع الذي تسود فيه قيم العدل ورفع الظلم، ومحاربته بكافة أشكاله وأنواعه وهذا ما قام به عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
5 ـ المساواة: قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) (الحجرات، الآية: 13). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى (1)،، وقد قام عمر بن عبد العزيز بتطبيق هذا المبدأ في دولته، وكان أول مؤشر على رغبته في تطبيق مبدأ المساواة، حين أقسم أنه يودُّ أن يساوي في المعيشة بين نفسه ولحمته التي هو منها وبين الناس (2)، فقال: أم والله لوددت أنه بُدئ بي، وبلحمتي، التي أنا منها، حتى يستوي عيشنا وعيشكم، أم والله، أم والله لو أردت غير هذا من الكلام، لكان اللسان به منبسطاً ولكنت بأسبابه عارفاً (3). وقال في خطبة له: .. وما منكم من أحد تبلغنا حاجته إلا أحببت أن أسد من حاجته، ما قدرت عليه (4). كما أن عمر اتخذ مبدأ المساواة بين الناس، في الحقوق والواجبات في كافة مجالات الحياة، فلم يميز بين الناس في حقهم في تولي الوظائف والولايات، ولم يعط أحداً كائناً من كان شيئاً ليس له فيه حق، فقد ساوى بين أمراء وأشراف بني أمية وبين الناس، فمنع عنهم العطايا والأرزاق الخاصة، وقال لهم حين كلموه في ذلك: لن يتسع مالي لكم، وأما هذا المال ـ يقصد المال الذي في بيت مال المسلمين ـ فإنما حقكم فيه كحق رجل، بأقصى برك الغماد (5)،
فكانت سياسته المالية تقوم على مبدأ المساواة، فبيت المال لجميع المسلمين ولكل واحد منهم حق أن يأخذ منه أسوة بغيره، فلا يكون حكراً على فئات معينة من الناس، ومن أعماله التي تدل على ترسيخه بمبدأ المساواة بين الناس ما أعلنه عندما رأى أمراء بني أمية قد استحوذوا على قطع واسعة من الأرض وجعلوها حمى، يحرم من الاستفادة
_________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز صـ297.
(2) المصدر نفسه.
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ112.
(4) تاريخ الطبري نقلاً عن النموذج الإداري من إدارة عمر صـ297.
(5) بلد باليمن وهو أقصى حجر باليمن، وقيل موضع بمكة ..(1/65)
منها عامة الناس، فقال: إن الحمى يباح للمسلين عامة .. وإنما الإمام فيها كرجل من المسلمين، إنما الغيث ينزله الله لعباده، فهم فيه سواء (1). كما ساوى بين من أسلم من أهل الأديان الأخرى من النصارى واليهود وبين المسلمين، وعمل على كسر حاجز التنافر بينهم، فقال: ... فمن أسلم من نصراني أو يهودي أو مجوسي، من أهل الجزية اليوم، فخالط عمّ المسلمين في دارهم وفارق داره التي كان بها، فإن له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وعليهم أن يخالطوه وأن يواسوه (2)، ويروي ابن سعد: أن عمر بن عبد العزيز جعل العرب والموالي في الرزق والكسوة والمعونة والعطاء سواء، غير أنه جعل فريضة المولى المعتق خمسة وعشرين ديناراً (3)، وفي مجال المساواة بين الناس أمام القضاء، وأحكام الإسلام، نكتفي بهذا الدليل الذي كان عمر فيه أحد أطراف النزاع أمام القاضي، وتفصيل ذلك أنه: أتى رجل من أهل مصر عمر بن عبد العزيز، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عبد العزيز ـ يقصد والد عمر ـ أخذ أرضي ظلماً، قال: وأين أرضك يا عبد الله؟ قال: حلوان، قال عمر: أعرفها ولي شركاء ـ أي شركاء في حلوان ـ وهذا الحاكم بيننا، فمشى عمر إلى الحاكم فقضى عليه، فقال عمر: قد أنفقنا عليها، قال القاضي: ذلك بما نلتم غلتها، فقد نلتم منها مثل نفقتكم، فقال عمر: لو حكمت بغير هذا ما وليت لي أمراً أبداً، وأمر بردها (4).
وكان عمر يقيم وزناً لمبدأ المساواة بين المسلمين، حتى في الأمور العامة، ومن ذلك أمره بأن لا يخص أناس بدعاء المسلمين والصلاة عليهم، فكتب إلى أمير الجزيرة يقول: .. وقد بلغني أن أناساً من القصاص قد أحدثوا صلاة على أمرائهم، عِدل ما يصول على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءك كتابي هذا، فمر القصاص، فليجعلوا صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وليكن دعاؤهم للمؤمنين والمسلمين عامة، وليدعو ما سوى ذلك (5)، ومن ذلك يتضح اهتمام عمر بالمساواة بين عامة الناس حتى في الدعاء لهم، ولا يختص أحد بدعاء، فالمسلمون عامة في حاجة دعوة الله عز وجل لهم والله سبحانه وتعالى جدير بالإجابة (6)، وقد طبق
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ81 لابن عبد الحكم.
(2) المصدر السابق صـ79.
(3) الطبقات (5/ 375).
(4) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ298.
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ273.
(6) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ299.(1/66)
مبدأ المساواة بينه وبين عامة الناس، فقد حصل أن شتمه رجل بالمدينة لسبب أو لآخر، فلم يكن ما أمر به سوى ما قد يأمر به كما لو كان المشتوم أحد أفراد الأمة، ذلك ما حدث حين حُكم رجل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بن محمد بن حزم والي عمر على المدينة في صلاته ـ فقطع عليهم الصلاة، وشهر السيف، فكتب أبو بكر إلى عمر، فأتي بكتاب عمر، فقرئ عليهم، فشتم عمر، والكتاب ومن جاء به، فهمَّ أبو بكر بضرب عنقه، ثم راجع عمر وأخبره أنه شتمه، وأنه همَّ بقتله: فكتب إليه عمر: لو قتلته لقتلك به، فإنه لا يقتل أحد، بشتم أحد ألا أن يُشتم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فإذا أتاك كتابي فاحبس على المسلمين شره، وادعه إلى التوبة في كل هلال، فإذا تاب فخلِّ سبيله (1)،ولم يكتف عمر بالأخذ بمبدأ المساواة بنفسه فحسب، بل كان يأمر عماله وولاته بذلك، فقد كتب إلى عامله على المدينة يقول له: أخرج للناس فآسي بينهم في المجلس والمنظر، ولا يكن أحد الناس آثر عندك من أحد، ولا تقولن هؤلاء من أهل بيت أمير المؤمنين، فإن أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي اليوم سواء، بل أنا أحرى أن أظن بأهل بيت أمير المؤمنين، فإن أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي اليوم سواء، بل أنا أحرى أن أظن بأهل بيت أمير المؤمنين أنهم يقهرون من نازعهم (2). كانت تلك بعض مواقف عمر، وإن كانت متفاوتة، إلا أن فيها دلالة واضحة على أخذ عمر بمبدأ المساواة في دولته (3).
6 ـ الحريات في دولة عمر بن عبد العزيز: إن مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية التي قام عليها الحكم في دولة عمر بن عبد العزيز، ويقضي هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحريات العامة للناس كافة ضمن حدود الشريعة الإسلامية وبما لا يتناقض معها، فقد اهتم عمر بكافة صور الحرية الإنسانية، فجاء مستعرضاً لأنواع وصور الحرية، فأقر ما كان فيها موافقاً، لتعاليم الإسلام، وأعاد ما لم يكن كذلك إلى دائرة التعاليم الإسلامية وإليك بعض التفاصيل عن الحريات في دولة عمر بن عبد العزيز.
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ142 ..
(2) الطبقات (5/ 343)، النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ301.
(3) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ301.(1/67)
أـ الحرية الفكرية والعقدية: حرص عمر بن عبد العزيز على تنفيذ قاعدة حرية الاعتقاد في المجتمع وكان سياسته حيال النصارى واليهود تلتزم بالوفاء بالعهود والمواثيق وإقامة العدل معهم ورفع الظلم وعدم التضييق عليهم في معتقدهم ودينهم انطلاقاً من قوله تعالى: ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) (البقرة، الآية: 256) وكان عمر ينهج أسلوب الدعوة مع ملوك الهند، والقبائل الخارجة عن الإسلام وسيأتي الحديث عن ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى، ولم يكره عمر أحداً من النصارى أو غيرهم على الدخول في الإسلام، وأما حرية الفكر من حيث الرأي والتعبير، فقد أخذت نطاقاً واسعاً في إدارة الدولة، وقيادته لعماله ورعيته، فقد أتاح لكل متظلم أن يشكو من ظلمه وأطلق للكلمة حريتها، وترك للناس حرية أن يقول كلُّ ما يريد وقد عبر عن هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق بقوله: اليوم ينطق كل من كان لا ينطق (1). إذا لم يخالف الشرع.
ب ـ الحرية السياسية: كما أعلن عمر استئناف الحرّية السياسية التي منحها الإسلام للمسلمين إذ لإطاعة لا مخلوق في معصية الخالق، حتى وإن كان حاكما أو والياً، فقد أعلن عمر في أول يوم من أيام حكمه الحرية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منكراً على الناس واقعهم المظلم، وأن الإسلام لا يرضى السكوت عن الظلم، فقد خطب الناس يوماً فقال: ... ألا لأسلامة لامريء في خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا وإنكم تسمون الهارب من ظلم إمامه: العاصي، إلا وإن إولاهما بالمعصية الإمام الظالم (2)، ومما يدل على إعطاء عمر للناس الحرية السياسية، أن أول إجراء اتخذه عقب إعلان العهد له بالخلافة تنازله في الخلافة وطلب من الناس أن يختاروا خليفة، فإذا كانت الحرية السياسية تتجلى في ممارستها في موضعين: أولهما المشاركة في اختيار الحاكم، عن طريق أهل الحل والعقد، وبيعة المسلمين ورضاهم، وثانيهما: إبداء الرأي والنصح للحكام، ونقد أعمالهم بمقاييس الإسلام (3)، فإن عمر قد مارس الحرية السياسية في هذين الموضعين فجعل لهم الخيار في توليه الخلافة قبل الوعظ والنصح (4) ,
_________
(1) الطبقات لابن سعد (5/ 344).
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ240 لابن الجوزي.
(3) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ312.
(4) المصدر نفسه صـ212.(1/68)
وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله.
ج ـ الحرية الشخصية: عمل عمر بن عبد العزيز على تحقيق وتدعيم الحرية الشخصية لأفراد الأمة الإسلامية، إذ بدا له بعض القيود على الهجرة أو ما يسمى بحرية التنقل، أو الغدو والرواح، فاتخذ إجراء فتح فيه باب الهجرة لمن يريد، إذ قال: .. وأما الهجرة فإنا نفتحها لمن هاجر من إعرابي فباع ماشيته، وانتقل من دار إعرابيته إلى دار الهجرة وإلى قتال عدونا، فمن فعل ذلك فله أسوة المهاجرين فيما أفاء الله عليهم (1)، كما قال في كتابه لعماله: .. وأن يفتح لأهل الإسلام باب الهجرة (2)، وإذا كان ذلك موقفه من حرية الناس في الهجرة والتنقل فقد تجلى حرصه على مبدأ حرية الإنسان في أمر قل من يراعيه، أو يهتم به، أمر يخص من هم في ملكه، ألا وهو تخييره لجواريه عقب تولي الخلافة بين العتق والإمساك على غير شيء، فقد علم أن لهنّ عليه حقوقاً لن يستطيع الإيفاء بها بعد توليه الخلافة، فترك لهنّ حرية الإقامة معه من غير شيء أو العتق، فتكون الواحدة منهنّ حرة حرية شخصية كاملة (3)، فقد روي ابن عبد الحكم (أن عمر خيّر جواريه، فقال: إنه قد نزل بي أمر شغلني عنكنّ فمن اختارت منكنّ العتق أعتقتها، ومن أمسكتها لم يكن لها مني شيء، فبكين بكاءً شديداً يأساً منه (4).
د ـ حرية التجارة والكسب: أما في حرية التجارة والكسب وابتغاء فضل الله في البر والبحر، كجزء من الحرية الاقتصادية، فقد أكد في كتاب له إلى عماله على ضرورة منح الناس حرية استثمار أموالهم، والاتجار بها في البر والبحر على حد سواء، فقد كتب إلى عماله: .. وإن من طاعة الله التي أنزل في كتابه أن يدعى الناس إلى الإسلام كافة، ... وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر، ولا يمنعون ولا يحبسون (5). وكتب أيضاً: .. وأما البحر، فإنا نرى سبيله سبيل البر، قال الله تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) (الجاثية، الآية: 12)، فإذن أن يتجر فيه من شاء، وأرى أن لا نحول بين أحد من الناس وبينه، فإن البر والبحر لله جميعاً سخرهما لعباده يبتغون فيهما
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ79.
(2) المصدر نفسه صـ78.
(3) النموذج الإداري المستخلص صـ310.
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ121.
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ94.(1/69)
من فضله، فكيف نحول بين عباد الله وبين معايشهم (1). ويقول عمر في موضع آخر: .. أطلق الجسور والمعابر للسابلة يسيرون عليها دون جعل (2)، لأن عمال السوء تعدوا غير ما أمروا به (3)، وأما عن الأسعار والتسعير زمن عمر، فقد قال أبي يوسف: حدثنا عبد الرحمن بن شوبان عن أبيه قال: قلت لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، ما بال الأسعار غالية في زمانك وكانت في زمان من قبلك رخيصة؟ قال: إن الذين كانوا قبلي كانوا يكلفون أهل الذمة فوق طاقتهم، ولم يكونوا يجدون بداً من أن يبيعوا ويكسروا ما في أيديهم، وأنا لا أكلف أحداً إلا طاقته، فباع الرجل كيف شاء، قال: فقلت: لو أنك سعَّرت، قال: ليس إلينا من ذلك شيء إنما السعر إلى الله (4).
وتشدد عمر في أمر السلع المحرمة، ومنع التعامل بها فالخمر من الخبائث التي لا يجوز التعامل فيها بين المسلمين، لحرمتها ولضررها حيث يؤدي شربها إلى استحلال الدم الحرام وأكل المال الحرام (5)، ويقول عمر: فإنا من نجده يشرب منه شيئاً بعد تقدمنا إليه فيه نوجعه عقوبة في ماله ونفسه ونجعله نكالاً لغيره (6). ولقد أثمرت سياسة عمر في رد الحقوق وإطلاق الحرية الاقتصادية المنضبطة، حيث وفرت للناس الحوافز للعمل والإنتاج، وأزالت العوائق التي تحول دون ذلك، وهذا أدى إلى نمو التجارة ونمو التجارة أدى إلي زيادة حصيلة الدخل الخاضع للزكاة، وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة الزكاة، مما يؤدي إلى رفع مستوى الطبقات الفقيرة، وارتفاع قوتها الشرائية والتي ستتوجه إلى الاستهلاك وبالتالي إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات وهذا كله يؤدي إلى انتعاش الاقتصاد، وارتفاع مستوى المعيشة وزيادة الرفاه (7). لقد كانت الحرية في دولة عمر بن عبد العزيز
_________
(1) المصدر نفسه صـ98.
(2) الجعل: من الجعالة وهو ما يجعل للشخص على عمله.
(3) الإدارة الإسلامية محمد كرد صـ105.
(4) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز صـ48.
(5) المصدر نفسه صـ48.
(6) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ103.
(7) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز صـ48، سياسة الإنفاق العام في الإسلام، عوف محمد الكفراوي صـ372.(1/70)
مصونة ومكفولة ولها حدودها وقيودها، ولذلك ازدهر المجتمع وتقدم في مدار الرقي، فالحرية حق أساسي للفرد والمجتمع، ليتمتع بها في تحقيق ذاته وإبراز قدراته وسلب الحرية من المجتمع سلب لأهم مقوماته فهو أشبه بالأموات، إن الحرية في الإسلام إشعاع داخلي ملأ جنبات النفس الإنسانية بارتباطها بالله، فارتفع الإنسان بهذا الارتباط إلى درجة السمو والرفعة، فأصبحت النفس تواقة لفعل الصالحات، والمسارعة في الخيرات ابتغاء رب الأرض والسماوات، فالحرية في المجتمع الإسلامي دعامة من دعائمه تحققت في دولة عمر بن عبد العزيز في أبهى صورة انعكست أنوارها على صفحات الزمن (1)
_________
(1) المجتمع الإسلامي، محمد أبو عجوة صـ245 مع التصرف.(1/71)
المبحث الثاني: أهم صفاته ومعالم تجديده:
أولا: أهم صفاته: إن شخصية عمر بن عبد العزيز تعتبر شخصية قيادية جذابة، وقد اتصف رضي الله عنه بصفات القائد الرباني، ومن أهم هذه الصفات: إيمانه الراسخ بالله وعظمته، وإيمانه بالمصير والمآل، وخوفه من الله تعالى والعلم الغزير، والثقة بالله، والقدوة، والصدق، والكفاءة والشجاعة والمروءة والزهد، وحب التضحية، والتواضع، وقبول النصيحة، والحلم والصبر، وعلو الهمة، والحزم، والإدارة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، وقدرته على التخطيط والتوجيه والتنظيم والمراقبة، وغير ذلك من الصفات، وبسبب ما أودع الله فيه من الصفات الربانية استطاع أن يقوم بمشروعه الإصلاحي ويجدد كثيراً من معالم الخلافة الراشدة التي اندثرت أمام زحف الملك العضوض، واستطاع أن يتغلب على العوائق في الطريق، وتوجت جهوده الفذة بنتائج كبيرة على مستوى الفرد والمجتمع والدولة وأصبح منهج عمر بن عبد العزيز الإصلاحي التجديدي مناراً للعاملين على مجد الإسلام وقد ترسم نور الدين زنكي خطوات عمر بن عبد العزيز في عهده، فحقق نجاحاً كبيراً للأمة في صراعها مع الصليبيين، وكان الفضل لله ثم الشيخ أبي حفص عمر محمد الخضر المتوفي عام 570هـ والذي كان أحد شيوخ نور الدين زنكي حيث كتب لنور الدين كتابه الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز لكي يسير عليها نور الدين زنكي في خطواته وجهاده، وإن من أهم الصفات التي تجسدت في شخصية عمر بن عبد العزيز هي:
1 ـ شدة خوفه من الله تعالى: كانت ميزته الكبرى والسمة التي اتسم بها ودافعه إلى كل ذلك هو إيمانه القوي بالآخرة وخشية الله والشوق إلى الجنة، وليس لغير هذا الإيمان القوي، الذي إمتاز به عمر بن عبد العزيز أن يحفظ إنساناً في مثل شباب عمر بن عبد العزيز، وقوته(1/73)
وحريته وسلطانه ـ من إغراءات مادية قاهرة ـ ومن تسويلات الشيطان، والنفس المغرية، وتفرض عليه المحاسبة الدقيقة للنفس، والاستقامة على طريق الحق (1)، فقد كان مشتاقاً إلى الجنة مؤثراً الآخرة على الدنيا، مؤمناً بقوله تعالى: ((يا قوم ـ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَار)) (غافر، الآية: 39) فأدرك عمر بفطرته السليمة وعقيدته الصحيحة، أن آخرة المسلم أولى باهتمامه من دنياه، يقول عمر في كتاب له إلى يزيد بن المهلب: .. لو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج، واعتقال أموال، كان في الذي أعطاني من ذلك، ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ بأحد من خلقه، ولكنِّي أخاف ـ فيما أبتليت به ـ حساباً شديداً، ومسألة عظيمة، إلا ما عافى الله ورحم (2)، كما كان عمر شديد الخوف من الله تعالى، تقول زوجته فاطمة بنت عبد الملك: والله ما كان بأكثر الناس صلاة، ولا أكثرهم صياماً، ولكن والله ما رأيت أحداً أخوف لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه، فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف حتى نقول: ليصبحَنَّ الناس ولا خليفة لهم (3)، وقال مكحول: لو حلفت لصدقت، ما رأيت أزهد ولا أخوف لله من عمر بن عبد العزيز (4)، ولشدة خوفه من الله، كان غزير الدمع وسريعه، فقد: دخل عليه رجل وبين يديه كانون فيه نار، فقل: عظني.
قال: يا أمير المؤمنين ما ينفعك من دخل الجنة، إذا دخلت أنت النار، وما يضرّك من دخل النار، إذا دخلت أنت الجنة، قال: فبكى عمر (5) حتى طفئ الكانون الذي بين يديه من دموعه، وقد كان جلّ خوفه ـ رحمه الله ـ من يوم القيامة، فيدعو الله، ويقول: اللهم إن كنت تعلم إني أخاف شيئاً دون القيامة، فلا تؤمن خوفي (6)، ذلك اليوم الذي أحدث تغيراً جذرياً في مجرى حياته ذلك اليوم الذي يقول عنه عمر: (( .. لقد عنيتم بأمر، لو عنيت به النجوم لانكدرت، ولو عنيت به الجبال لذابت، ولو عنيت به الأرض لتشققت، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة، وأنكم صائرون إلى
_________
(1) النموذج الإداري المستخلص صـ140 نقلاً عن رجال الفكر للندوي.
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن النموذج الإداري صـ140.
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ42.
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي صـ221.
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ90.
(6) تاريخ الخلفاء صـ224.(1/74)
أحداهما (1)، نعم إن الخوف من الله، والرؤية الواضحة للحياة، والفناء والخلود، والإحساس بيوم الحساب، والانفعال بمشاهد الجنة والنار، هي التي تضع المسؤولين، وتجعلهم يرتعدون خوفاً إن هم انحرفوا قيد شعرة عما يريد الله (2)، فالوعي والإحساس بيوم الحساب، وغيرها من الصفات الاعتقادية، تجعل القائد لا يخطو خطوة، ولا يقول قولاً، ولا يفعل فعلاً، إلا ربط ذلك بما يرضي الله عز وجل، وتلك الصفات والجوانب، لم تعط حقها من البحث والتحرى في الدراسات القيادية الحديثة وهي أساس النجاح في القيادة، وأهم الصفات القيادية التي ينبغي للقائد أن يتحلى بها، وإن من أهم صفات عمر بن عبد العزيز، الإيمان الراسخ بالله واليوم الآخر، وشدة خوفه من الله والوجل من يوم القيامة (3).
2 ـ زهده: فهم عمر بن عبد العزيز من خلال معايشته للقرآن الكريم ودراسته لهدي النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار ابتلاء واختبار، وإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرّر من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها وخضع وانقاد وأسلم لربه ظاهراً وباطناً، وكان وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق:
أـ اليقين التام بأننا: في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل (4).
ب ـ وأن هذه الدنيا: لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله ـ تبارك وتعالى ـ إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء (5).
ج ـ وأن عمرها قد قارب على الانتهاء: إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين بالسبابة والوسطى (6).
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ232.
(2) ملامح الانقلاب صـ45 عماد الدين خليل.
(3) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ142.
(4) الترمذي، ك الزهد رقم 2333 وهو حديث صحيح.
(5) الترمذي، ك الزهد رقم 2320.
(6) مسلم، ك الفتن وأشراط الساعة رقم 132 ـ135.(1/75)
د ـ وأن الآخرة هي الباقية وهي دار القرار، فلهذه الأمور وغيرها زهد عمر بن عبد العزيز في الدنيا وأول الزهد الزهد في الحرام، ثم الزهد في المباح، وأعلى مراتب الزهد أن تزهد في الفضول وكل مالك عنه غنى (1)، وكان زهد عمر بن عبد العزيز مبني على الكتاب والسنة ولذلك ترك كل أمر لا ينفعه في آخرته فلم يفرح بموجود وهي الخلافة، ولم يحزن على مفقود من أمور الدنيا، وقد ترك ما هو قادر على تحصيله من متاع الدنيا إنشغالاً بما هو خير في الآخرة ورغبة في ما عند الله عز وجل (2)، قال مالك بن دينار: الناس يقولون: مالك بن دينار زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها (3)، قال ابن عبد الحكم: ولما ولي عمر بن عبد العزيز زهد في الدنيا، ورفض ما كان فيه وترك ألوان الطعام، فكان إذا صنع له طعام هيىء على شيء وغطي، حتى إذا دخل اجتذبه فأكل (4)، فكان لا يهمه من الأكل إلا ما يسد جوعه ويقيم صلبه وكانت نفقته وعياله في اليوم كما في الأثر، فعن سالم بن زياد: كان عمر ينفق على أهله في غدائه وعشائه كل يوم درهمين (5)، وكان لا يلبس من الثياب إلا الخشن، وترك مظاهر البذخ والإسراف التي سادت قبله وأمر ببيعها وأدخل أثمانها في بيت مال المسلمين (6)، وهكذا فعل بالجواري والعبيد حيث رد الجواري إلى أصحابهن إن كن من اللاتي أخذن بغير حق ووزع العبيد على العميان وذوي العاهات وحارب كل مظاهر الترف والبذخ، والإسراف (7)،
وأما ما قيل عن زهده بالنسبة للنكاح، فقد روى ابن عبد الحكم فقال: وقالت فاطمة زوجته ما اغتسل من جنابة منذ ولي حتى لقي الله غير ثلاث مرات، ويقال: ما اغتسل من جنابة حتى مات (8)، فهذا ينافي ما اشتهر به عمر بن عبد العزيز من حبه الشديد لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فيستبعد منه رحمه الله أن يترك السنة، وأن يقع في ظلم زوجاته وحقوقهن، فإن ترك الزواج وتحريم ذلك لا علاقة له بالزهد الإسلامي الذي بينه رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو دخيل على المجتمع المسلم، وهو ما تفتخر به بعض
_________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ148.
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 146).
(3) حلية الأولياء (5/ 257).
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ43.
(5) المصدر نفسه صـ38.
(6) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 155).
(7) المصدر نفسه (1/ 155) ..
(8) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ50.(1/76)
الفرق المنحرفة عن الإسلام وتدعي أنه من الزهد الإسلامي، ولهم في ذلك حكايات لا يشك من تأملها أنها لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولهم في ذلك وصايا عجيبة وتوجيهات غريبة، فمن أقوالهم:
ـ من ترك النساء والطعام فلابد له من ظهور كرامة.
ـ من تزوج فقد أدخل الدنيا بيته، فاحذروا من التزويج.
ـ لا يبلغ الرجل إلى منازل الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة وأولاده كأنهم أيتام، ويأوي إلى منازل الكلام.
ـ من تعود أفخاذ النساء لا يفلح.
ـ ... من تزوج فقد ركن إلى الدنيا (1). إلى غير ذلك من العجائب والغرائب وهذا المفهوم يخالف الإسلام دين التوسط والاعتدال، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن رغب عن سنتي فليس مني (2). وجملة القول أن زهد عمر بن عبد العزيز كان مقيداً بالكتاب والسنة وأن كثيراً مما نسب إليه في هذا الباب لا يصح لمخالفته هدى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن زهد عمر بن عبد العزيز في جمع المال، فقد كان على النقيض ممن يلي منصباً في وقتنا الحاضر فقد كانت غلته حين استخلف أربعين ألف دينار، ثم أصبحت حين توفي أربعمائة دينار، ولو بقي لنقصت (3)، حيث لم يرتزق رحمه الله من بيت المسلمين شيئاً (4)، فقد كان رحمه الله من زهاد زمانه إن لم يك أزهدهم، فكان يقول: إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، تسر قليلاً وتحزن طويلاً (5). وأخباره في الزهد كثيرة ذكر منها الشيخ أبو حفص عمر بن محمد الخضر المعروف بالملاء حوالي ثمانية وعشرين أثراً (6)، لقد وصل عمر بن عبد العزيز إلى مرحلة متقدمة في الزهد والتحلي بصفات الزاهدين، وذلك ما لا يستطيع الوصول إليه أصحاب العيش في الظروف المادية في وقتنا الحاضر، الذي طغت فيه المادة على كل شيء
_________
(1) الطبقات للشعراني (1/ 34).
(2) فتح الباري على صحيح البخاري (9/ 104).
(3) حلية الأولياء (5/ 257).
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ186
(5) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ151.
(6) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/ 366إلى378).(1/77)
في الحياة، وأصبح الناس يقيسون بعضهم البعض بما يملك من الدنيا وحطامها، حسبنا من قادة وزعماء هذا العصر المادي إن لم يتصفوا بصفة الزهد، على أقل تقدير، أن يكفوا أنفسهم عن الطمع، والجشع، وأن يسعوا إلى الكسب الحلال وأن يعملوا على قهر رغباتهم الدنيوية، لينالوا ما تاقت إليه نفس عمر بن عبد العزيز إلى ما هو أسمى من الدنيا ..
إلى جنات النعيم (1)، ونختم حديثنا عن الزهد عند عمر بن عبد العزيز بهذا الأثر فقد قال لمولاه مزاحم: إني قد اشتهيت الحج، فهل عندك شيء؟ قال: بضعة عشر ديناراً. قال: وما تقع مني؟ ثم مكث قليلاً، ثم قال له: يا أمير المؤمنين تجهّز، فقد جاءنا مال سبعة عشر ألف ديناراً من بعض مال بني مروان، قال: اجعلها في بيت المال، فإن تكن حلالاً فقد أخذنا منها ما يكفينا، وإن تكن حراماً فكفانا ما أصابنا منها قال مزاحم: فلما رأى عمر ثقل ذلك علي قال: ويحك يا مزاحم لا يكثرن عليك شيء ضعته لله، فإن لي نفساً توّاقة لم تَتُق إلى منزلة، فنالتها إلا تاقت إلى ما هي أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة، وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة (2).
3 ـ تواضعه: قال تعالى: ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ... )) (الفرقان: آية: 63). قال ابن القيم: أي يمشون بسكينة ووقار متواضعين (3). وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله أوحى إليّ: أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد (4). وهذه الصفة الحميدة كانت إحدى الصفات الأساسية التي تميز بها عمر بن عبد العزيز، فقد أدى زهد عمر إلى تواضعه، لأن شرط الزهد الحقيقي هو التواضع لله (5)، وقد كان تواضع عمر في جميع أمور حياته ومعاملاته، فذلك ما يتطلبه الأمر من قائد خاف الله، ورجاء ما عنده، وأراد الطاعة والولاء من رعيته (6)، ومما يذكر من تواضع عمر جوابه لرجل ناداه: يا خليفة الله في الأرض، فقال له عمر: مه: إني لما ولدت أختار لي أهلي أسماً فسموني عمر، فلو ناديتني: يا عمر، أجبتك، فلما
_________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ151.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ62.
(3) مدارج السالكين (2/ 340).
(4) مسلم رقم 2865.
(5) عمر بن عبد العزيز للزحيلي صـ105.
(6) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ152.(1/78)
اخترت لنفسي الكُنى فكنيت بأبي حفص، فلو ناديتني يا أبا حفص أجبتك، فلما وليتموني أموركم سميتموني: أمير المؤمنين، فلو ناديتني يا أمير المؤمنين أجبتك، وأما خليفة الله في الأرض، فلست كذلك ولكن خلفاء الله في الأرض داوود والنبي صلى الله عليه وسلم وشبهه (1)، مشيراً على قوله تعالى: ((يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)) (ص: آية: 36). ومن تواضعه أن نهى الناس عن القيام له، فقال: يا معشر الناس: إن تقوموا نقم، وإن تقعدوا نقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين، وكان يقول للحرس: لا تبتدئوني بالسلام، إنما السلام علينا لكم (2)،
وكان متواضعاً حتى في إصلاح سراجه بنفسه، فقد: كان عنده قوم ذات ليلة في بعض ما يحتاج إليه، فغشى سراجه، فقام إليه فأصلحه فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا نكفيك؟ قال: وما ضرني؟ قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز (3)، ومن تواضعه أيضاً قال يوماً لجارية له: يا جارية روّحيني قال: فأخذت المروحة فأقبلت تروحه، فغلبتها عينها فنامت، فانتبه عمر، فإذا هو بالجارية قد أحمّر وجهها، وقد عرقت عرقاً شديداً ـ وهي نائمة ـ فأخذ المروحة واقبل يروحها، قال: فانتبهت، فوضعت يدها على رأسها فصاحت، فقال لها عمر: إنما أنت بشر مثلي أصابك من الحر ما أصابني، فأحببت أن أروحك مثل الذي روحتني (4)، وكان يمتنع عن كثرة الكلام ـ وهو العالم الفصيح المفوّه ـ خشية على نفسه من المباهاة بما عنده، أو يظن الناس به ذلك، فكان يقول: إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة (5)، ودخل عليه رجل فقال له: يا أمير المؤمنين، إن من كان قبلك كانت الخلافة لهم زيناً، وأنت زين الخلافة، وإنما مثلك كما قال الشاعر:
وإذا الدرّ زان حسن وجوه
كان للدرّ حسن وجهك زيناً
فأعرض عنه (6). وقال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيراً. فقال: لا بل جزى الله الإسلام عني خيراً (7)، ودخل عليه رجل، وهو في ملء من الناس فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال عُمّ سلامك (8)، وهكذا
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ46.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ34 ـ35 ..
(3) المصدر نفسه صـ39.
(4) أخبار أبي حفص للاجري صـ86.
(5) المصدر السابق صـ84.
(6) سير أعلام النبلاء (5/ 36) الحلية (5/ 329).
(7) سير أعلام النبلاء (5/ 147) الحلية (5/ 331).
(8) الطبقات (5/ 384).(1/79)
أمير المؤمنين عمر، يخفض الجناح للمؤمنين، ولا يتكبر على أحد من عباد الله، ولم تزده الخلافة إلا تواضعاً ورأفة ورحمة، ولم يحمله المنصب إلا على الإخبات والخضوع لسلطان الحق، يصلح سراجه بنفسه، ويجلس بين يدي الناس على الأرض، ويأبى أن يسير الحراس والشُّرط بين يديه، ويعنّف من يعظمه أو يخصه بسلام من بين الجالسين، ويتأبى أن يتميز على الناس بمركب، أو مأكل، أو ملبس، أو مشرب (1).
4 ـ ورعه: من صفات أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الورع، والورع هو الإمساك عما قد يضر، فتدخل المحرمات والشبهات لأنها قد تضر، فإنه من اتقى الشبهات إستبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه (2)، والورع في الأصل الكف عن المحارم والتحرج منها، ثم استعير للكف عن الحلال المباح (3). وللدلالة على ما كان يتصف به عمر من الورع، وتحري السلامة من الشبهات، فقد روي أنه كان: يعجبه أن يتأدم بالعسل، فطلب من أهله يوماً عسلاً فلم يكن عنده، فأتوه بعد ذلك بالعسل، فأكل منه، فأعجبه، فقال لأهله: من أين لكم هذا؟ قالت امرأته بعثت مولاي بدينارين على بغل البريد، فاشتراه لي، فقال: أقسمت عليك لما أتيتني به، فأتته بُعكَّة (4)، فيها عسل، فباعها بثمن يزيد على الدينارين، ورد عليها مالها وألقى بقيته في بيت مال المسلمين وقال: انصبت دواب المسلمين في شهوة عمر (5). ومن ورعه أنه: كان له غلام يأتيه بقمقم (6)، من ماء مسخن، يتوضأ منه، فقال للغلام يوماً: أتذهب بهذا القمقم إلى مطبخ المسلمين، فتجعله عنده، حتى يسخن، ثم تأتي به؟ قال: نعم أصلحك الله، قال: أفسدته علينا، قال: أفسدته علينا، قال: فأمر مزاحماً أن يغلي ذلك القمقم، ثم ينظر ما يدخل فيه من الحطب ثم يحسب تلك الأيام، التي كان يغليه فيها، فيجعله حطباً في المطبخ (7).
ومن أمثلة ورعه كان لا يقبل أي هدية من عماله أو
_________
(1) عمر بن عبد العزيز، لعبد الستار الشيخ صـ123.
(2) الفتاوى (10/ 615).
(3) لسان العرب (8/ 288).
(4) العكة: وعاء من جلد ما عز يدبغ ويخصص للسمن والعسل.
(5) أخبار أبي حفص للآجري صـ54.
(6) القمقم: هو ما يسخن فيه الماء من نحاس وغيره.
(7) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ40.(1/80)
من أهل الذمة خوفاً من أن يكون ذلك من باب الرشوة، فعن عمرو بن مهاجر قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحاً فقال: لو كانت لنا أو عندنا ـ شيء من التفاح، فإنه طيب الريح طيب الطعم فقام رجل من أهل بيته فأهدى إليه تفاحاً، فلما جاء به الرسول، قال عمر: ما أطيب ريحه وأحسنه، ارفعه يا غلام، فأقرئ فلاناً السلام وقل له: إن هديتك قد وقعت منا بموقع بحيث تحب، فقلت يا أمير المؤمنين ابن عمك ورجل من أهل بيتك وقد بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة قال: ويحك؟ إن الهدية كانت للنبي هدية وهي لنا اليوم رشوة (1)، ومن ورعه أنه كان لا يرى لنفسه أن تشم رائحة مسك أتته من أموال المسلمين، فعندما وضعت بين يديه مسكة عظيمة فأخذ بأنفه، فقيل يا أمير المؤمنين إنما هو ريح قال: وهل ينتفع منها إلا بريحها (2)، وكان يحترز من استعمال أموال المسلمين العامة، فكان يسرج السراج من بيت إذا كان في حاجة المسلمين، فإذا فرغ من حوائجهم أطفأها ثم أسرج عليه سراجه الخاص به من ماله الخاص (3)، وقد ذكر المؤرخون كثيراً من الأمثلة التي تدل على ورعه، فقد اعتبر أن البعد عن أموال السملين حتى في الأشياء اليسيرة القليلة هو من باب الابتعاد عن الشبهة، فكان بعيد عن الشبهات (4) احتياطاً لدينه، وذلك أن الأمور ثلاثة كما قال هو بنفسه:
1 ـ أمر استبان رشده فاتبعه. ... 2 ـ وأمر تبين خطؤه فاجتنبه.
3 ـ وأمر أشكل عليك فتوقف عنه (5).
وكان رحمه الله ورعاً حتى في الكلام فعندما قيل له: ما تقول في أهل صفين؟ قال: تلك دماء طهر الله يدي منها، فلا أحب أن أُخضب لساني بها (6)، وهكذا يتضح أن ورع عمر كان في شأنه كله، في مأكله وحاجته وشهوته، ومال المسلمين
_________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي صـ197.
(2) سيرة عمر لابن الجوزي صـ200، كتاب الورع لابن أبي الدنيا صـ74 وقال محقق الكتاب إسناد الأثر.
(3) الآثار الواردة في عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 164).
(4) المصدر نفسه (1/ 165).
(5) العقد الفريد (4/ 397) الآثار الواردة (1/ 165).
(6) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ195.(1/81)
وفي كافة أمور حياته، ذلك الورع النابع مع الإيمان القوي، والشعور بالمسئولية واستحضاره الآخرة، فقد كانت صفة الورع من صفاته الجلية، فقد بلغ به مبلغاً جعله يشتري مكان قبره الذي سيواري فيه، فلا يكون له من الدنيا شيء دون مقابل حتى موضع قبره (1).
5 ـ حلمه وصفحه وعفوه:
ومن الصفات التي تجسدت في شخصية عمر بن عبد العزيز الحلم والصفح والعفو، فعن شيخ من الخناصريين قال: كان لعمر بن عبد العزيز ابن له من فاطمة، فخرج يلعب مع الغلمان فشجه غلام فاحتملوا ابن عمر والذي شجه فأدخلوهما على فاطمة، فسمع عمر الجلبة وهو في بيت آخر فخرج، وجاءت امرأة فقالت: هذا ابني وهو يتم قال: أله عطاء؟ قالت: لا. قال: فاكتبوا في الذرية فقالت فاطمة: فعل الله به وصن إن لم يشجه مرة أخرى فقال عمر: إنكم أفزعتموه (2). وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال: غضب عمر بن عبد العزيز يوماً غضباً شديداً على رجل، فأمر به فأحضر وجرِّد وشُدَّ في الحبال وجيء بالسياط فقال: خلُّوا سبيله ثم قال: أما أني لولا أن أكون غضباناً لسُؤْتُك. وتلا: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) (آل عمران، الآية: 134)، وعن عبد الملك قال: قام عمر بن عبد العزيز إلى قائلته، وعرض له رجل بيده طومار (3)، فظن القوم أنه يريد أمير المؤمنين، فخاف أن يُحبس دونه فرماه بالطومار، فالتفت عمر فوقع في وجهه فشجه. قال: فنظرت إلى الدماء تسيل على وجهه وهو قائم في الشمس، فلم يبرح حتى قرأ الطومار وأمر له بحاجته وخلَّى سبيله (4) وروى أن رجلاً نال من عمر فلم يجبه. فقيل له: ما يمنعك منه؟ قال: التقيُّ مُلجم (5)، وعن حاتم بن قدامه أن رجلاً قام إلى عمر بن عبد العزيز وهو يخطب فقال له: أشهد ـ\أنك من الفاسقين. فقال له عمر: وما يدريك؟ وأنت شاهد زور فلا نجيز شهادتك (6)، وروي أن عمر بن عبد العزيز لما
_________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ156.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ207 الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (2/ 423).
(3) الطومار: صحيفة مطوية.
(4) حلية الأولياء (5/ 311).
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ208.
(6) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (2/ 424).(1/82)
ولي الخلافة خرج ليلة في السحر إلى المسجد ومعه حرسي فمرا برجل نائم على الطريق فعثر به عمر.
فقال له: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا فهمَّ الحرسي به. فقال له عمر: مه، فإنه سألني أمجنون أنت؟ فقلت: لا (1). وروي أن رجلاً قام إلى عمر بن عبد العزيز وهو على المنبر فنال منه وأغضبه، فقال له عمر يا هذا أردت أن يستفزني الشيطان مع عزة السلطان أن أفعل بك اليوم ما تفعل بي غداً مثله. اذهب غفر الله لي ولك (2). وقيل: أتى ولد لعمر بن عبد العزيز وهو يبكي، فقال له: ما شأنك؟ فقال: ضربني فلان العبد. فجيء به. فقال له: ضربته؟ قال: نعم. فقال له: اذهب فلو أني معاقب أحداً على الصدق لعاقبتك اذهب ولم يكلمه (3). والمواقف في حلمه وصفحه وعفوه كثيرة وهذا غيض من فيض.
6 ـ صبره: ومن صفاته رحمه الله الصبر والشكر، روى أنه لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز حضر عند قبره فقال: لا تعمقه فإن ما علا من الأرض أفضل مما سفل منها (4)، وروي أن حين مات عبد الملك ولده، وسهل بن عبد العزيز أخوه ومزاحم مولاه، قال رجل من أهل الشام: والله لقد ابتلى أمير المؤمنين ببلاء عظيم: مات ولده عبد الملك لا والله إن رأيت ولداً كان أنفع لوالده منه، ثم أصيب أمير المؤمنين بأخ لا والله ما رأيت أخاً أنفع لأخ منه. قال: وسكت عن مزاحم. فقال عمر بن عبد العزيز: لم سكت عن مزاحم، فوالله ما هو أدنى الثلاثة عندي، رحمك الله يا مزاحم مرتين أو ثلاثاً والله لقد كنت كفيت كثير الدنيا، ونعم الوزير كنت في أمر الآخرة (5)، وعن حفص بن عمر قال: لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز جعل أبوه يثني عليه عند قبره فقال مسلمة: أرأيت لو بقي أكنت تولِّيه؟ قال: لا. قال: فأنت تثني عليه بهذا الثناء قال: إني أخاف أن يكون زيِّن لي من المحبة له ما يزين في عين الوالد من حبِّ ولده (6). وخطب عمر في خطبته فقال: ما من أحد يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. إلا كان الذي أعطاه الله من الأجر فيها أفضل مما أخذ منه، وقال: الرضى قليل والصبر معتمد المؤمن. وقال: من عمل على غير علم كان ما يفسد
_________
(1) المصدر نفسه 2/ 425).
(2) المصدر نفسه 2/ 425).
(3) المصدر نفسه 2/ 425).
(4) المصدر نفسه 2/ 427).
(5) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (2/ 427).
(6) المصدر نفسه 2/ 428).(1/83)
أكثر مما يصلح، ومن لم يَعدَّ كلامه من عمله كثرت خطاياه، والرضا قليل ومعول المؤمن على الصبر (1). وكان من أجل ما صبر عليه عمر في حياته: أمر الخلافة، فقد قال: والله ما قعدت مقعدي هذا إلا خوفاً أن يثبت عليه من ليس بأهل، ولو أني أطاع فيما أعمل لسلمتها إلى مستحقيها ـ يعني الخلافة ـ ولكنني أصبر حتى يأتي الله بأمر من عنده، أو يأتي بالفتح (2).
7 ـ الحزم: لقد اتسم عمر بن عبد العزيز بهذه الصفة، في وقت أكثر ما يكون فيه أمر الأمة والخلافة في حاجة إلى الحزم، وبخاصة فيما يتعلق بالولاة والأمراء والعمال وللدلالة على تحلّي عمر بصفة الحزم وضبط الأمور، وعدم التهاون فيما يراه ضرورياً لخدمة الصالح العام، وما يصلح به أمر المسلمين، ولقد أخذ حزم عمر صوراً مختلفة ومجالات عدة، كحزمه مع أمراء وأشراف بني أمية ومع الذين يريدون شق عصا المسلمين والخروج على جادتهم وإثارة الفتن وسفك الدماء وغير ذلك من الأمور، فقد كان أول مؤشر على حزمه موقفه من بني مروان، إذ قال لهم: أدوا ما في أيديكم ولا تُلجئوني إلى ما أكره، فأحملكم على ما تكرهون، فلم يجبه أحد منهم. فقال: أجيبوني فقال رجل منهم: والله لا نخرج عن أموالنا التي صارت إلينا من آبائنا، فنُفقِّر أبناءنا ونكفر آباءنا، حتى تتزايل رؤوسنا فقال عمر: أما والله لولا أن تستعينوا عليَّ بمن أطلب هذا الحق له، لأضرعت خدودكم عاجلاً، وكني أخاف الفتنة، ولئن أبقاني الله لأُردَّنَّ إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله (3)، وكان إذا وقع في أمر مضى فيه، وجاءه يوماً كتاب من بعض بني مروان فأغضبه فاشتاط (4) ثم قال: إن لله من بني مروان يوماً ـ وقيل ـ وذبحاً ـ وأيم الله، لئن كان ذلك الذبح على يدي، فلما بلغهم ذلك، كفوا وكانوا يعلمون صرامته، وأنه إذا وقع في أمر مضي فيه (5)،
وأما فيما يتعلق بمن يريد شق عصا المسلمين والخروج عليهم، فقد اتبعه معهم أسلوب الحوار والمناظرة ـ وهم الخوارج الذين ثاروا ضد بني أمية بقيادة شوذب الخارجي 100هـ ليقف على ما دفعهم إلى ذلك ويرى
_________
(1) المصدر نفسه 2/ 428).
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ144.
(3) العقد الفريد (5/ 173).
(4) استشاط ارجل: أي إحندَّ واحتدم كأنه التهب في غضبه.
(5) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ158 ..(1/84)
إن كان الحق معهم نظر في أمره، وإلا فليدخلوا فيما دخل فيه الناس، إلا أنه في الوقت نفسه قرن إجراءاته تلك بشيء من الحزم والصلابة، عندما يصل الأمر إلى مرحلة سفك دماء المسلمين أو الإفساد، إذ كتب إلى عامله على العراق يقول: ألا تحركهم إلا أن يسفكوا دماً، أو يفسدوا في الأرض، فإن فعلوا فخل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلاً طيباً حازماً فوجهه إليهم، ووجه معه جنداً، وأوصه بما أمرتك به (1)، وهكذا كان عمر في حزمه، فقد أخذ الإجراءات والمواقف الحازمة والتي كانت على درجة كبيرة من الأهمية والحساسية وكان لذلك الحزم مردوداً إيجابياً كبيراً على سير الأمور وتنفيذ ما كان يسعى لتحقيقه من العدل والطمأنينة ومعالم الخلافة الراشدة (2).
8 ـ العدل: إن صفة العدل من أبرز صفات عمر بن عبد العزيز القيادية على الإطلاق ـ وقد تحدث عن العدل في دولته وسياسته في رد المظالم فيما مضى، ولقد أجمع العلماء قاطبة على أنه ـ أي عمر بن عبد العزيز ـ من أئمة العدل، وأحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين (3)، ولعل عدل عمر من أهم أسبابه يرجع إلى إيمانه بأن العدل أحد نواميس الله في كونه ويقينه التام بأن العدل ثمرة من ثمرات الإيمان، وأنه من صفات المؤمنين المحبين لقواعد الحق وإلى إحساس عمر بوطأة الظلم للناس في خلافة من سبقه من الخلفاء والأمراء الأمويين بالإضافة إلى السبب الأهم وهو: ما أمر الله به من العدل والإحسان، وأنهما الأسس العامة لأحكام الشرائع السماوية، وما نماه الإسلام في نفس عمر، من حب للعدل وإحياء لقيمه (4)، وإليك هذه الصور من عدله والتي لم أذكرها فيما مضى، فتورد ما رواه الآجري من أن رجلاً ذمّياً من أهل حمص قدم على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين: أسألك كتاب الله عز وجل، قال: وما ذاك، قال العباس بن الوليد بن عبد الملك: اغتصبني أرضي ـ والعباس جالس ـ فقال له: يا عباس ما تقول؟ قال: أقطعنيها يا
_________
(1) تاريخ الطبري (7/ 459).
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ163.
(3) البداية والنهاية نقلاً عن النموذج الإداري صـ163.
(4) النموذج الإداري صـ163، 164.(1/85)
أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله عز وجل. فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد الملك، فأردد عليه يا عباس ضيعته فردّها عليه (1). ومن مواقفه العادلة ما حدّث به الحكم بن عمر الرعيني، قال: شهدت مسلمة بن عبد الملك يخاصم أهل دير إسحاق عند عمر بن عبد العزيز بالناعورة (2)،
فقال عمر لمسلمة: لا تجلس على الوسائد، وخصماؤك بين يدي، ولكن وكّل بخصومتك من شئت، وإلا فجاثي القوم بين يدي، فوكل مولى له بخصومته ـ يعني مسلمة ـ فقضى عليه بالناعورة (3)، وهذا قليل من كثير، مما أوردته كتب السير عن عدل عمر.
9 ـ تضرعه ودعاؤه واستجابة الله لدعائه:
كان عمر بن عبد العزيز كثير التضرع والدعاء، فقد كان يقول: يا رب خلقتني ونهيتني ووعدتني بثواب ما أمرتني، ورهبتني عقاب ما نهيتني عنه وسلطت علي عدواً أسكنته صدري وأجريته مجرى دمي، إن أهمّ بفاحشة شجعني وإن أهم بصالحة ثبطني، لا يغفل إن غفلت، ولا ينسى إن نسيت، ينصب لي في الشهوات، ويتعرض لي في الشبهات، وإلا تصرف عني كيده يستذلني، اللهم فأقهر سلطانه علي بسلطانك عليه حتى أحبسه بكثرة ذكري لك فأكون مع المعصومين بك، ولا حول ولا قوة إلا بالله (4)، وكان يقول: اللهم أصلح صلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أهلك من كان في هلاكه صلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم (5)، وكان يدعو بهذا: اللهم ألبسني العافية حتى تهنّيني المعيشة، واختم لي بالمغفرة حتى لا تضرني الذنوب، واكفني كل هول دون الجنة حتى تبلغنيها برحمتك يا أرحم الراحمين (6)، وكان يقول: اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، ولم أعصك بأبغض الأشياء إليك وهو الشرك، فأغفر لي ما بينهما (7). وكان يقول:
_________
(1) أخبار أبي حفص صـ58.
(2) الناعورة: موضع بين حلب وبالس يبعد عن حلب ثمانية أميال ..
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ91 لابن الجوزي.
(4) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/ 341).
(5) المصدر نفسه (1/ 342).
(6) المصدر نفسه (1/ 343).
(7) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ230.(1/86)
اللهم أني أعوذ بك أن أُبدّل نعمتك كفراً، أو أن أكفرها بعد موتها، أو أن أنساها فلا أثني بها (1). وكان كثيراً ما يدعو بها: اللهم رضني بقضاك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته، ولا تأخير شيء عجلته (2). وكان رحمه الله مستجاب الدعوة، فروى ابن الحكم أن ابن الريان كان سيافاً للوليد بن عبد الملك، فلما ولي عمر الخلافة قال: إني أذكر ابأوه وتيهه، ثم قال: اللهم إني قد وضعته لك فلا ترفعه، فما رئي شريف قد خمد ذكره مثله حتى لا يذكر (3)،
وقد دعا عمر رحمه الله حين حج وأخبر قبل دخوله إلى مكة بقلة الماء فيها، فدعا عند ذلك، فأجاب الله دعاءه، فسقوا وهذا حين كان أمير على المدينة (4)، كما دعا على غيلان القدري حين ناظره فقال: اللهم إن كان عبدك غيلان صادقاً وإلا فأصلبه، فصلب بعد في خلافة هشام بن عبد الملك (5).
ثانياً: معالم التجديد عند عمر بن عبد العزيز:
يرى المتتبع لأقوال العلماء والمؤرخين والمهتمين بدراسة الحركة التجديدية، إجماعاً تاماً على عدّ الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز المجدد الأول في الإسلام (6)، وكان أول من أطلق عليه ذلك الإمام محمد بن شهاب الزهري، ثم تبعه على ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: يروى في الحديث إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يصحح لهذه الأمة أمر دينها، فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز (7)، وتتابع العلماء على عدّه أول المجددين وذكر بعض أهل العلم هو من المقصودين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها (8). ولا شك أن عمر بن عبد العزيز خليق بأن يكون ممن يحمل عليه هذا الحديث، فقد كان عالماً عاملاً، همه كله، وعزمه، وهمته، آناء الليل والنهار إحياء السنن وإماتة البدع ومحدثات الأمور
_________
(1) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/ 343).
(2) المصدر نفسه (1/ 344).
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ30 ..
(4) البداية والنهاية نقلاً عن الآثار الواردة (1/ 183).
(5) الشريعة للآجري (1/ 438).
(6) عون المعبود (11/ 393) العظيم آبادي، جامع الأصول (11/ 322).
(7) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ74.
(8) المجددون في الإسلام صـ57 للصعيدي صـ57، موجز تاريخ للمودودي صـ63.(1/87)
ومحوها، وكسر أهلها باللسان، والسنن (1)، يقول ابن حجر العسقلاني: إن إجمّاع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على راس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي، وإن كان متصفاً بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل (2).
ومع أن بعض العلماء رأى أن مقام المجدد الكامل لا يستحقه إلا مهدي آخر الزمان، وأنه لم يولد في الأمة المسلمة مجدد كامل حتى الآن، وإن كان عمر بن عبد العزيز أوشك أن يبلغ مرتبة المجددية الكاملة لو أنه استطاع إلغاء طريقة الحكم الوراثية، وإعادة انتخاب الخليفة عن طريق الشورى (3). وسواء استحق عمر بن عبد العزيز لقب المجدد الكامل أم لا، فإن الأعمال التجديدية التي قام بها، والجهود الكبيرة التي بذلها لاستئناف الحياة الإسلامية، وإعادتها إلى نقائها وصفائها زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تجعله على رأس المجددين الذين جاد بهم الزمان حتى يومنا هذا، وقد ساعده على ذلك موقعه الذي تبوأه على راس خلافة قوية، منيعة الجانب، مترامية الأطراف، ولكي ندرك حجم الأعمال التجديدية التي إضطلع بها هذا الخليفة، وقدر الإصلاح الذي أحدثه، ينبغي أن نقف على حجم الانحرافات التي طرأت على الحياة الإسلامية والتغيّر والانقلاب الذي حدث للخلافة الإسلامية، ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا حصرنا الانحراف في ذلك الوقت بنظام الحكم، وما نتج عن ذلك مظالم وفساد وأما الحياة العامة فكانت أنوار النبوة لازالت ذات أثر بالغ فيها وكان الدين صاحب السلطان الأول في قلوب الناس (4).
1 ـ من إصلاحات عمر وأعماله التجديدية:
أـ الشورى: قد مرّ معنا أن عمر بن عبد العزيز في أول لقاء له مع الناس حمد الله وأثني عليه وقال: يا أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان
_________
(1) الآثار الواردة عن عمر في العقيدة (1/ 177).
(2) فتح الباري (13/ 295).
(3) موجز تاريخ تجديد الدين للمودودي صـ69.
(4) عمر بن عبد العزيز للندوي صـ10.(1/88)
مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لآنفسكم فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك: فَلِ أمرنا باليُمن والبركة (1). وبهذا يكون عمر قد قام بأول عمل تجديدي، حيث أعفى الناس من الملك العضوض، ولم يجبرهم على القبول بمن لم يختاروه، بل رد الأمر إليهم وجعله شورى بينهم (2).
ب ـ الأمانة في الحكم وتوكيل الأمناء:
فقد تواترت النقول المفيدة أنه بلغ من حرصه على ذلك أقصى المراتب فقد استشعر عظم المسؤولية وضخامة الحمل منذ اللحظة الأولى لاستلامه الخلافة، فقال لمن سأله: مالي أراك مغتماً؟ قال: لمثل ما أنا فيه فليُغتم، ليس أحد من الأمة إلا وأنا أريد أن أوصل إليه حقه غير كاتب إليّ فيه، ولا طالبه مني (3). وقال: لست بخير من أحد منكم، ولكن أثقلكم حملاً (4). وكان يطالب عمّاله باختيار أصحاب الكفاءة والدين فيمن يولونه شأنا من شؤون المسلمين، فقد كتب إلى أحد عمّاله: لا تولين شيئاً من أمر المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم، والتوفير عليهم، وأداء الأمانة فيها استرعى (5)، ولم تكن سياسته في التورع عن أموال المسلمين سياسة طبقها على خاصة نفسه فقط بل أزم بها عمّاله وولاته، فقد كتب إلى عامله أبي بكر بن حزم: أن أدق قلمك، وقارب بين أسطرك، فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين مالاً ينتفعون به (6)، وقد ساس رعيته سياسة رحيمة، وأمَّن لهم عيشاً رغيداً وكفاهم مذلة السؤال، فقسم فضول العطاء في أهل الحاجات (7)، وقسم في فقراء أهل البصرة ثلاثة دراهم لكل إنسان، وأعطى الزمنى خمسين خمسين (8)، وطلب من عماله أن يجهزوا من أراد أداء فريضة الحج (9)، وكتب إلى عماله: أن
_________
(1) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ65.
(2) التجديد في الفكر الإسلامي د. عدنان محمد صـ79.
(3) سير أعلام النبلاء (5/ 586).
(4) المصدر نفسه (5/ 586).
(5) تاريخ الطبري، نقلاً عن التجديد في الفكر الإسلامي صـ81.
(6) سير أعلام النبلاء (5/ 595).
(7) تاريخ الطبري، نقلاً عن التجديد في الفكر الإسلامي صـ81.
(8) تاريخ الطبري (7/ 474).
(9) تاريخ الطبري (7/ 474).(1/89)
اعملوا خانات في بلادكم فمن مر بكم من المسلمين، فاقروهم يوماً وليلة وتعهدوا دوابهم فمن كانت به علّة فاقروهم يومين وليلتين، فإن كان منقطعاً به فقوّوه بما يصل به إلى بلده (1)، وقد عزّ في زمن عمر وجود من يقبل الزكاة يقول عمر بن أسيد: والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون، فما يبرح يرجع بماله كله قد أغنى عمر الناس (2)، وكانت حرمة المسلمين فوق كل الأموال فقد كتب إلى عماله: أن فادوا بأسارى المسلمين، وإن أحاط ذلك بجميع مالهم (3)، ولاتزال خلافة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخية، على كل أولئك الذين يشككون في إمكانية إقامة نظام اقتصادي إسلامي وبرهاناً ساطعاً على أن الاحتكام للشريعة الربانية هو وحده الذي يكفل للناس السعادة في الدنيا والآخرة (4).
ج ـ مبدأ العدل:
فقد كان فيه لعمر القدح المعلاّة، وكان بحق وارثاً فيه لجدّه لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد ضرب فيه على النقود عبارة: أمر الله بالوفاء والعدل (5)، وطلب أن لا يقام على أحد حد إلا بعد علمه (6)، وكتب لعامله الجراح بن عبد الله الحكمي أمير خراسان: يا ابن أم جراح: لا تضربن مؤمناً ولا معاهداً سوطا إلا في حق، واحذر القصاص، فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقرأ كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا إحصاها (7). وأنصف أهل الذمة وأمر أن لا يعتدي عليهم أو على معابدهم وكتب إلى عماله: لا تهدموا كنيسة ولا بيعة، ولا بيت نار صولحتم عليه (8)، وقد رفع المكس وحطّ العشور والضرائب التي فرضتها الحكومات السابقة، وأطلق للناس حرية التجارة في البر والبحر، وقد تبرأ من المظالم التي كان يرتكبها بنو أمية وتبرأ من الحجّاج وأفعاله وأنكر على عمّاله الاستنان بسنته (9).
_________
(1) المصدر نفسه (7/ 472) ..
(2) سير أعلام النبلاء (5/ 588).
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ120.
(4) خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز صـ41 ـ 42.
(5) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ98.
(6) تاريخ الطبري (7/ 474).
(7) تاريخ الطبري (7/ 464).
(8) المصدر نفسه (7/ 477).
(9) سيرة ومناقب عمر صـ107ـ108.(1/90)
د ـ أحياؤه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أخذت الخلافة تتراجع عن الغاية التي قامت من أجلها وهي حراسة الدين، فنهض عمر بهذا المبدأ ورفع لواءه وأعلى شأنه وجعله المهيمن والمقدّم على ما سواه وما حقق عمر ما حققه من أعمال وإنجازات إلا انطلاقاً من خوفه الشديد من الله، وطلبه فيما فعله مرضاته، وقد ساعده على ذلك أنه كان من أجلة العلماء التابعين وأئمة الاجتهاد (1) حتى قال عنه عمر بن ميمون: كان العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة (2) وقد كان لسلامة دينه وصدق عقيدته الأثر البالغ في تجديده وإصلاحاته، فقد حارب الأهواء والبدع، وشدد النكير على أهلها (3) ـ وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى. وقد نقل عنه الإمام الأوزاعي قوله: إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة (4). وكان يرى أنه لا قيمة لحياته لولا سنة يحيها، أو بدعة يميتها (5)، وقد أهتم اهتماماً شديداً بديانة الناس وأخلاقهم، فكتب إلى عمّاله: اجتنبوا الأشغال عند حضور الصلوات فمن أضاعها فهو لما سواها من شرائع الإسلام أشدّ تضييعاً (6). والناظر في رسائل عمر وخطبه وموعظة وهي أكثر من أن تحص يرى إيماناً قوياً، ومراقبة جلية وخوفاً من يوم يقف فيه الناس بين يدي رب العالمين، وقد أثرت شخصية عمر وسياسته العادلة تأثيراً بالغاً في حياة العامة وميولهم وأذواقهم ورغباتهم (7)
يدل على ذلك ما ذكره الطبري في تاريخه مقارناً عهد عمر بعهود من سبقه من الحكام السابقين: كان الوليد صاحب بناء واتخذ المصانع والضياع وكان الناس يلتقون في زمانه، فكان يسأل بعضهم بعضاً عن البناء والمصانع، فولي سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم عن التزويج والجواري، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وراءك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم، ومتى ختمت. وما تصوم من الشهر (8)؟ ولم يكتف
_________
(1) التجديد في الفكر الإسلامي صـ85.
(2) سير أعلام النبلاء (5/ 518).
(3) التجديد في الفكر الإسلامي 86.
(4) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز صـ83 لابن الجوزي.
(5) التجديد في الفكر الإسلامي 86.
(6) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز صـ221 لابن الجوزي.
(7) التجديد في الفكر الإسلامي 86 ..
(8) تاريخ الطبري نقلا عن التجديد في الفكر الإسلامي 87.(1/91)
عمر بإقامة الدين داخل دولته، بل وجّه عنايته إلى غير المسلمين، ودعاهم إلى الدخول في الإسلام، وراسل ملوك الهند وملوك ما وراء النهر، ووعدهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فأسلم الكثير منهم وتسموا باسماء (1) العرب، ولعل من أجّل الأعمال التي خدم بها هذا الدين أمره بتدوين العلوم الإسلامية وخاصة علم الحديث، وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى، كل هذه الأعمال العظيمة والإصلاحات الجليلة حققها عمر في مدة خلافته الوجيزة، فغدا درة للأمة، ومنارة يستهدي بنورها الملتسمون دروب التجديد والإصلاح (2).
2 ـ من شروط المجدد وصفاته:
نستطيع أن نحدد أهم شروط المجدد والصفات التي ينبغي أن تتوافر فيه حتى يعد من المجددين من خلال سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
أـ أن يكون المجدد معروفاً بصفاء العقيدة وسلامة المنهج:
وذلك لأن من أخص مهمات التجديد إعادة الإسلام صافياً نقياً من كل العناصر الدخيلة، وهذا لا يحصل إلا إذا كان المجدد من السائرين على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، ومن الطائفة الناجية المنصورة التي جاء وصفها بأنها فرقة من ثلاث وسبعين فرقة وأنها تلزم ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عقيدته، ومنهجه وتصوراته (3) وهذا الشرط قد توفر في عمر بن عبد العزيز، وسوف نوضحها في آثاره العقدية عند دراستها بإذن الله تعالى.
ب ـ أن يكون عالماً مجتهداً:
وهذا الشرط تحقق في عمر بن عبد العزيز فقد واجه المشكلات التي تولدت في عصره واجتهد في وضع الحلول الشرعية لها، وفي الحقيقة أن رتبة الاجتهاد ليست عسيرة إلى الحد الذي تصوره بعض كتب أصول الفقه وممن ذهب إلى وضع شروطاً يكاد يكون من المحال الإحاطة بها، حيث أوجبوا أن يحيط المجتهد بعلوم الآلة كلها من نحو ولغة وبلاغة وبعلوم الشريعة من تفسير وحديث وأصول فقه وعلوم قرآن ومصطلح حديث وسيرة، وبعلمي المنطق وعلم الكلام، وغير ذلك مما يصعب الإحاطة به (4)، والصواب أن
_________
(1) خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز للندوي صـ30.
(2) التجديد في الفكر الإسلامي 87.
(3) التجديد في الفكر الإسلامي صـ46.
(4) كون المعبود (11/ 392).(1/92)
الاجتهاد سهل ميسور، لمن كانت عنده أهلية النظر، والمهم أن نعلم أن المجدد يشترط فيه أن يكون محيطا بمدارك الشرع، قادراً على الفهم والاستنباط مطَّلعاً على أحوال عصره، فقيها بواقعة (1)، يقول المناوي: إن على المجدد أن يكون: قائماً بالحجة، ناصراً للسنة، له ملكة رد المتشبهات إلى المحكمات، وقوة استنباط الحقائق والنظريات، من نصوص الفرقان وإرشاداته ودلالاته واقتضاءاته من قلب حاضر وفؤاد يقظان (2) ويقول العظيم آبادي: إن المجدد للدين لابد أن يكون عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة (3)، ويقول المودودي: من الخصائص التي لابد أن يتصف بها المجدد هي: الذهن الصافي، والبصر النفاذ، والفكر المستقيم بلا عوج والقدرة النادرة على تبيين سبيل القصد بين الإفراط والتفريط، ومراعاة الاعتدال بينهما، والقوة على التفكير المجرد عن تأثير الأوضاع الراهنة، والعصبيات الراسخة على طول القرون، والشجاعة والجرأة على مزاحمة سير الزمان المنحرف (4)،
ويقول في تعداده لعمل المجدد: الاجتهاد في الدين، والمراد به أن يفهم المجدد كليات الدين، ويتبين اتجاه الأوضاع المدنية والرقي العمراني في عصره ويرسم طريقاً لإدخال التعبير والتعديل على صورة التمدن القديمة المتوارثة، يضمن للشريعة سلامة روحها وتحقيق مقاصدها، ويمكّن الإسلام من الإمامة العالمية في رقي المدينة الصحيح.
ج ـ أن يشمل تجديده ميداني الفكر والسلوك في المجتمع: وذلك لأن تصحيح الانحراف من أخص المهمات التي ينبغي أن يقوم بها المجدد، ومعلوم أن الانحراف يطرأ على السلوك كما يطرأ على الفكر، بل إن غالب الانحرافات السلوكية منشؤها الخرافات فكرية، فيقوم المجدد بتصويب الأفهام والأفكار، وتخليصها مما داخلها من شكوك وشبهات، ويحيى العلم النافع، والفهم الصحيح للإسلام، ويبثه بين الناس، وينشره بالتدريس، وتأليف الكتب، وغير ذلك من الوسائل المتاحة، ثم يعمد إلى إصلاح سلوك الناس وتقويم أخلاقهم، وتزكية نفوسهم، وإبطال التقاليد المخالفة للشريعة، وإعلان الحرب على البدع والخرافات، والمنكرات
_________
(1) التجديد في الفكر الإسلامي صـ46.
(2) فيض القدير للمناوي (1/ 14).
(3) عون المعبود (11/ 319).
(4) موجز تاريخ تجديد الدين للمودودي صـ52 ..(1/93)
المتفشية في حياة الناس، ومواجهة الفساد بمختلف أشكاله وصوره، وخاصة الفاسد في الحكم والإمارة، بهذا يكون المجدد قد جمع بين القول والفعل، والعلم والعمل، قد أثار السلف إلى هذا الشرط بقولهم عن المجدد إنه ينصر السنة ويقمع البدعة (1).
د ـ أن يعم نفعه أهل زمانه:
وذلك لأن المجدِّد رجل مرحلة زمنية، تمتد قرناً من الزمن، فلابد إذن من أن يكون منارة يستضيء بها الناس ويسترشدون بهداها، حتى مبعث المجدد الجديد على الأقل، وهذا يقتضي أن يعم علم المجدد ونفعه أهل عصره، وأن تترك جهوده الإصلاحية أثراً بيناً في فكر الناس وسلوكهم، وغالباً ما يتم تحقيق ذلك عبر من يربيهم من تلامذة، وأصحاب أوفياء، يقومون بمواصلة مسيرته الإصلاحية وينشرون كتبه وأفكاره ويؤسسون مدارس فكرية تترسم خطاه في الإصلاح والتجديد (2).
3 ـ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (3). والدروس والعبر والفوائد المستنيطه منه:
يعد هذا الحديث إحدى البشائر بحفظ الله لهذا الدين مهما تقادم الزمان وبكفالته سبحانه إعزاز هذه الأمة ببعثة المجددين الربانيين الذين يحيونها بعد موات، ويوقظونها من سبات، بما يحملونه من الهدى والنور، وأن هذا الحديث يمنح المسلم طاقة من الأمل الأكيد، بأن المستقبل للإسلام مهما تكاثرت قوى الشر، وتعاظم طغيان أهل الباطل، وبأن النور سيسطع مهما احلولك الليل، واشتد الظلام، ونحن في الوقت الحاضر بحاجة ماسّة لتأكيد هذا المعنى، ونشره بين الناس، حتى نقاوم موجات اليأس والقنوط التي عمَّت النفوس، فجعلتها تستسلم للذل والخضوع والخنوع، بحجة أننا في آخر الزمان وأنه لا فائدة ولا رجاء من كل جهود الإصلاح التي تبذل لأن، الإسلام في إدبار والكفر في إقبال، وها قد ظهرت علامات الساعة الصغرى، ونحن في انتظار العلامات الكبرى التي
_________
(1) عون المعبود (11/ 391)، التجديد في الفكر الإسلامي صـ48.
(2) التجديد في الفكر الإسلامي صـ48.
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 151).(1/94)
سيعقبها قيام الساعة، وقد يستدل أصحاب هذا الاتجاه ببعض الأحاديث، ويفهمونها على غير الوجه المراد منها، من ذلك استدلا لهم ببعض الأحاديث، ويفهمونها على غير الوجه المراد منها (1). من ذلك استدلا لهم بحديث أنس رضي الله عنه عند البخاري: لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شرُّ منه حتى تلقوا ربكم (2)، وحديث بدأ الإسلام غريباً وسيعود قريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء (3). وينسون أنه لا يجوز أن نفهم هذه الأحاديث بمعزل عن الأحاديث الأخرى التي تحمل البشرة والأمل للأمة، مثل حديث: مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أو آخره (4)، وفي قوم دون غيرهم، وفي زمن دون زمن، كما ذكر ابن القيم (5) ولذلك شهد التاريخ الإسلامي حقباً من الظهور والإشراق كعهد عمر بن عبد العزيز (6)،
ونور الدين، وصلاح الدين، ويوسف بن تاشفين، ومحمد الفاتح، وغيرهم، وتجب الشارة هنا إلى أن حديث التجديد الذي نحن بصدد شرحه، وكذا الأحاديث التي تحمل البشرى بعودة الإسلام إلى واجهة الحياة، وإن كانت أخباراً يقينية صدرت عن الصادق المعصوم، ولابد أن تتحقق كما أخبر، إلا أنها تحمل في مضمونها تكليفاً واستنهاضاً لعزمات المسلمين بوجوب السعي الدؤوب لتحقيق نصر الله لهذا الدين وإعزاز أهله كما هي سنة الله في ترتيب المسببات على الأسباب (7).
أـ في قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة (8): إن هذا المبعوث لم يعد همه نفسه فقط، بل تجاوز ذلك ليعيش لهذه الأمة، فهو صاحب عزيمة وهمة يعيش هموم أمته ويبذل قصارى جهده مواصلاً عمل النهار بالليل، لينقذ هذه الأمة من وهدتها، ويعيد لها ثقتها بدينها، ويردها إلى المنهج الصحيح، مصابراً على ما يعترض سبيله من عقبات ومغالباً كل المشقات والتحديات، ليصل إلى رفعة هذه الأمة وعودة مجدها (9).
_________
(1) التجديد في الفكر الإسلامي صـ55.
(2) البخاري رقم 6541، ك الفتن.
(3) مسلم، ك الإيمان رقم 208.
(4) سنن الترمذي رقم 2795 صحيح.
(5) مدارج السالكين (3/ 196).
(6) التجديد في الفكر الإسلامي صـ56 ..
(7) الاجتهاد للتجديد، عمر عبيد حسنة صـ7.
(8) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 151).
(9) التجديد في الإسلام نقلاً عن التجديد في الفكر الإسلامي صـ57.(1/95)
ب ـ قوله: على رأس كل مائة سنة (1)
الرأس في اللغة يمكن أن يراد به أول الشيء، كما أن يمكن أن يراد به آخره (2)، وقد اختلف العلماء في المراد من الرأس في هذا الحديث، فقال بعضهم: المراد: أول المائة وقال آخرون: المراد آخرها (3)، وهذا ما اختاره ابن حجر (4)، والطيبي (5)، والعظيم آبادي (6)، وقد احتج العظيم آبادي لاختياره بكون الإمامين الزهري وأحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة المتقدمين والمتأخرين، اتفقوا على أن من المجددين على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وعلى رأس المائة الثانية الإمام الشافعي رحمه الله، وقد توفي عمر بن عبد العزيز سنة احدى ومائة، وله أربعون سنة، ومدة خلافته سنتان ونصف، وتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين (7)، ولا يمكن عد عمر بن عبد العزيز مجدد المائة الأولى اعتباره أولها لأنه لم يكن مولوداً أولها فضلاً عن أن يكون مجددها وكذا الإمام الشافعي لم تكن ولادته بداية المائة الثانية فضلاً عن أن يكون مجددها (8).
ج ـ هل يشترط لعد المجدد أن تقع وفاته على رأس المائة؟
يشترط بعض العلماء لاستحقاق المجدد هذا الوصف أن تقع وفاته على رأس القرن، إلا أن هذا الرأي مرجوح لأن كلمة (البعث) في الحديث تدل على الإرسال والإظهار والموت قبض وزوال، فالمقصود من الحديث: أن المجدد من تأتي عليه نهاية القرن وقد ظهرت أعماله التجديدية، واشتهر بالصلاح وعمّ نفعه، ولا يشترط أن تقع وفاته قبيل نهاية القرن أو أن يبقى حياً حتى يدخل عليه القرن التالي (9).
س ـ هل مجدد القرن واحد أو متعدد؟
أثار قوله صلى الله عليه وسلم: من يجدد لها دينها سؤالاً في الماضي والحاضر، هو: هل المقصود بلفظة (من) الواردة في الحديث فرداً واحداً من أفراد الأمة وأفذاذها يحي الله بها دينها، أم المراد بها ما هو أوسع من ذلك فيشمل الأفراد والجماعات، وذهب كثير من العلماء إلى أن المجدد فرد واحد، ونسب السيوطي هذا الرأي إلى الجمهور فقال في أرجوزته عن المجددين:
_________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 151).
(2) عون المعبود (11/ 386).
(3) المصدر نفسه (11/ 386).
(4) فتح الباري (13/ 295).
(5) عون المعبود (11/ 389).
(6) المصدر نفسه (11/ 387).
(7) المصدر نفسه (11/ 387).
(8) التجديد في الفكر الإسلامي صـ58.
(9) التجديد في الفكر الإسلامي ص61.(1/96)
وكونه فرداً هو المشهور ... قد نطق الحديث والجمهور (1)
وذهب فريق آخر من العلماء إلى أن كلمة (من) في الحديث للعموم في أصل وضعها اللغوي (2)، فتشمل الواحد والجماعة على حد سواء (3)، ومن هؤلاء العلماء ابن حجر وابن الأثير والذهبي وابن كثير والمناوي والعظيم آبادي (4)، ويتبين من خلال البحث أن حمل لفظة (من) في الحديث عن العموم أولى، لأن التاريخ والواقع يثبت وجود أكثر من مجدد رأس كل قرن من القرون الخوالي، ولأن مهمة التجديد مهمة ضخمة واسعة لكونها لا تقتصر على جانب من جوانب الدين، ولأن رقعة الأمة الإسلامية تمتد على مساحة شاسعة يصعب معها على فرد بل مجموعة أفراد أن يقوموا بعملية التجديد الشامل المطلق (5).
ك ـ المجدد هو دين الأمة وليس الدين نفسه:
يلاحظ المتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم (من يجدد لها دينها) أنه أضاف الدين إلى الأمة ولم يقل يجدد لها الدين، وذلك لأن الدين بمعنى المنهج الإلهي الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وما إشتمل عليه من عقائد وعبادات وأخلاق وشرائع تنظم علاقة العبد بربه وعلاقته بغيره من بني جنسه، ثابت كما أنزله الله لا يقبل التغيير ولا التجديد، وأما دين الأمة بمعنى علاقة الأمة بالدين ومدى تمسكها وتخلقها به وترجمتها له واقعاً ملموساً على الأرض، فهو المعنى القابل للتجديد ليعيد الناس إلى المستوى الذي ينبغي أن يكونوا عليه بعلاقتهم مع الدين (6).
_________
(1) عون المعبود (11/ 394).
(2) التجديد في الفكر الإسلامي صـ61.
(3) المصدر نفسه صـ61.
(4) المصدر نفسه صـ62، 63.
(5) المصدر نفسه صـ65.
(6) من أجل صحوة إسلامية للقرضاوي صـ26 ـ 27.(1/97)
المبحث الثالث: اهتمام عمر بن عبد العزيز بعقائد أهل السنة:
اهتم عمر بن عبد العزيز بعقائد أهل السنة وحرص على تعلمها وتعليمها وبثها بين الناس، وتناثرت أقواله في عقائد أهل السنة بين المراجع والمصادر الإسلامية من عقائد وتفسير وحديث وفقه وغيرها، وقام الأستاذ حياة بن محمد بن جبريل بجمع الكثير منها ونال بهذا الجهد العلمي رسالة الماجستير والكثير ممن كتب عن حياة عمر بن عبد العزيز لم يسلط الأضواء على هذا البعد المهم في حياته والمتعلق بحرصه على توعية الناس وتعليمه المعتقد الصحيح الذي جاء ذكره في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أهم الجوانب العقائدية التي تحدث فيه عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
أولاً: توحيد الألوهية: توحيد الألوهية أساس دين الإسلام، بل هو أساس كل دين سماوي، به أرسل جميع الرسل وأنزلت عليهم جميع الكتب، وهو الذي دعا إليه كل رسول من آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بل هو الغاية من خلق الجن والإنسان، قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) (الذاريات، الآية: 56). وكان سلف هذا الأمة رحمهم الله يهتمون بهذا النوع من التوحيد وممن كان له إسهام في هذه المسألة عمر بن عبد العزيز (1)، وقبل بيان ما اثر عنه فمن الأهمية بمكان بيان المقصود من توحيد الألوهية عند إطلاقه: فعرف بأنه: استحقاق الله سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له (2). وعرفه بعض الباحثين بأنه: توحيد الله بأفعال العباد وهو المعبر عنه بتوحيد الطلب والقصد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ومحبته وخوفه ورجاءه والتوكل عليه والرهبة والرغبة منه وإليه وحده، والتقرب إليه بسائر العبادات البدنية والمالية دون إشراك أحد أو شيء من خلقه (3)،
_________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 199).
(2) شرح العقيدة الطحاوية (1/ 29).
(3) رسالة توحيد الألوهية أساس الإسلام للباحث حامد عبد القادر الأحمدي صـ7 مطبوع على الآلة الكاتبة نقلاً عن الآثار الواردة عن عمر في العقيدة (1/ 200).(1/99)
وقد ورد عن عمر بن عبد العزيز آثار في الدعاء والتبرك والخوف والرجاء والتوكل والشكر:
1 ـ الدعاء:
أـ مر عمر بن عبد العزيز برجل في يده حصاة يلعب بها وهو يقول: اللهم زوجني من الحور العين، فقام إليه فقال: بئس الخاطب أنت، ألا ألقيت الحصاة، وأخلصت إلى الله الدعاء (1). وفي هذا الأثر بين عمر بن عبد العزيز أن من شروط الدعاء الإخلاص وحضور القلب وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: ((فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) (غافر: آية: 14) وقال صلى الله عليه وسلم: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه (2).
ب ـ قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر فاغفر لي ما بينهما (3). فهنا توسل عمر بن عبد العزيز بالطاعة والتوحيد وطلب الغفران من الله تعالى، ولا شك أن التوسل بالأعمال الصالحة مشروع كحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار (4)، فإنهم توسلوا بأعمالهم الصالحة ليجيب الله دعاءهم ويفرج كربتهم وقد توسل المؤمنون بأعمالهم الصالحة من الإيمان وقدموه قبل الدعاء قال تعالى: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)) (آل عمران، الآية: 193)، فإنهم قدموا الإيمان قبل الدعاء وأمثال ذلك كثير (5).
ج ـ حصلت زلزلة بالشام، فكتب عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن هذا الرجف شيء يعاتب الله به العباد، وقد كتب إلى أهل الأمصار أن يخرجوا يوم كذا من شهر كذا، فمن كان عنده شيء فليتصدق (6). قال الله عز وجل: ((قَدْ
_________
(1) الحلية (5/ 287) سيرة عمر لابن الجوزي صـ84.
(2) سنن الترمذي (5/ 483) صحيح سنن الألباني رقم 2766.
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن القيم الجوزية صـ242.
(4) مسلم رقم 2743.
(5) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 219).
(6) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ64 الحلية (5/ 304، 305).(1/100)
أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)) (الأعلى، آية: 14 ـ 15) وقولوا كما قال آدم: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (الأعراف، الآية: 13)، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: ((وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (هود، الآية: 47) قولوا كما قال يونس عليه السلام: ((لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) (الأنبياء، الآية: 87)، فقد أمر رحمه الله الرعية بالالتجاء إلى الله تعالى والتصدق والاستغفار والخروج إلى المصلى عندما حصلت الزلزلة بالشام (1).
س ـ قال ميمون بن مهران: كنت عند عمر بن عبد العزيز: فكثر بكاؤه ومسالته ربه الموت، فقلت: لم تسأل الموت، وقد صنع الله على يديك خيراً كثيراً، أحيا بك سنناً، وأمات بك بدعاً، قال: أفلا أكون مثل العبد الصالح حين اقر الله عينه وجمع له أمره قال: ((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) (يوسف، الآية: 101). وقد طلب الدعاء له بالموت على الإيمان ودعا به إقتداء بالصالحين، فهذا الدعاء من سنن المرسلين وهو من شعار الصالحين، وقد يكون أيضاً دعا به ـ رحمه الله ـ خوفاً من الفتنة في الدين لاسيما عند وفاة أعوانه ابنه عبد الملك ومولاه مزاحم وأخيه سهل، كما جاءت في بعض الروايات (2)
2 ـ الشكر: عن يحي بن سعيد قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: ذكر النعم شكرها (3)، وقال عمر بن عبد العزيز: شيدوا نعم الله عز وجل بالشكر لله تعالى (4)،، وكتب إلى بعض عماله فقال: .. أوصيك بتقوى الله وأحثك على الشكر فيما عندك من نعمته وآتاك في كرامته فإن نعمه يمدها شكره ويقطعها كفره (5) حث عمر بن عبد العزيز على شكر الخالق فتبارك وتعالى على نعمه الكثيرة وآلائه الجسيمة، وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة،، قال تعالى: ((وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون)) (البقرة، الآية: 172) وقال عز وجل: ((وَاشْكُرُوا لِي وَلَا
_________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 220).
(2) العقد الفريد (4/ 396) الآثار الواردة (1/ 224).
(3) مصنف ابن أبي شيبة (8/ 240).
(4) ابن أبي الدنيا، كتاب الشكر لله تعالى صـ19.
(5) ابن أبي الدنيا ذم الدنيا صـ81.(1/101)
تَكْفُرُونِ)) (البقرة، الآية: 152). والشكر يستلزم المزيد قال تعال: ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)) (إبراهيم، الآية: 7) وما أثر عن عمر ـ رحمه الله تعالى ـ في هذا الجانب يبين منهج السلف في التعامل مع النعم التي ينعمها الخالق على عباده (1).
3 ـ التوكل: قال الحكم بن عمر: كان لعمر بن عبد العزيز ثلاثمائة حرسيّ وثلاثمائة شرطي فشهدته يقول لحرسه: إن لي عندكم بالقدر حاجزاً، وبالأجل حارساً من أقام منكم فله عشرة دنانير ومن شاء فليلحق بأهله (2). ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة نظر مولاه مزاحم إلى القمر فإذا القمر في الدبران (3)، قال: فكرهت أن أقول ذلك له فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة فنظر عمر فإذا هو بالدبران فقال: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران يا مزاحم إنا لا نخرج بشمس ولا قمر ولكننا نخرج بالله الواحد القهار (4). يظهر حرص عمر على التوكل مع الأخذ بالأسباب المشروعة، والتوكل هو الاعتماد على الله مع الأخذ بالأسباب، وهو أصل من أصول التوحيد قال تعالى: ((فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)) وقال عز وجل: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ)) (الفرقان، الآية: 58). والتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويدفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب. وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها وحال بدنه قيامه بها (5).
4 ـ في الخوف والرجاء: عن يزيد بن عياض بن جعدبة، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى سليمان بن أبي كريمة: إن أحق العباد بإجلال الله والخشية منه من ابتلاه بمثل ما ابتلاني به، ولا أحد أشد حساباً ولا أهون على الله إن عصاه مني فقد ضاق بما أنا فيه ذرعي وخفت أن تكون منزلتي التي أنا بها هلاكاً إلا أن يتداركني الله منه برحمة، وقد بلغني أنك تريد الخروج في سبيل الله، فأحب يا
_________
(1) الآثار الواردة (1/ 230).
(2) سير أعلام النبلاء (5/ 136).
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 235).
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ32.
(5) مدارج السالكين (2/ 125).(1/102)
أخي إذا أخذت موقفك أن تدعو الله أن يرزقني الشهادة فإن حالي شديدة وخطري عظيم، فأسأل الله الذي ابتلاني بما ابتلاني به أن يرحمني ويعفو عني (1). وقال ربيع بن سبرة لعمر بن عبد العزيز وقد هلك ابنه وأخوه ومولاه مزاحم في أيام ـ: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلاً أصيب في أيام متوالية بأعظم من مصيبتك، ما رأيت مثل ابنك ابناً، ولا مثل أخيك أخاً، ولا مثل مولاك مولى، قال: فنكس ساعة ثم قال لي: كيف قلت يا ربيع؟ فأعدتها عليه. فقال: لا والذي قضى عليهم الموت ما أحب أن شيئاً من ذلك كان لم يكن من الذي أرجو من الله فيهم (2)، وعن قتادة أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ولي العهد من بعده: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى يزيد بن عبد الملك: السلام عليك: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد: فإني كتبت إليك وأنا دنف (3)
من وجعي وقد علمتني أني مسؤول عما وليت يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة ولست أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئاً يقول: ((فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)) (الأعراف، الآية: 7) فإن يرضى عني الرحيم فقد أفلحت ونجوت من الهول الطويل، وإن سخط علي فيا ويح نفسي إلى ما أصير، أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجيرني من النار برحمته وأن يمن علي برضوانه والجنة (4). ومن كلام عمر يتبين لنا جمعه بين الخوف والرجاء ولا شك أن الجمع بين الخوف والرجاء هو من عقيدة السلف الصالح، وهو توسط المؤمن بين الأمن من مكر الله واليأس من روح الله، فالسلف كانوا يخافون ربهم، ويرجون رحمته (5) وهم سائرون على ما قال تعالى: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)) (الأسراء، الآية: 57). وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: ((أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)) (الزمر، الآية: 9).
_________
(1) الطبقات (5/ 394 ـ 395) الآثار الواردة (1/ 240).
(2) المعرفة والتاريخ للفسوي (1/ 610) الآثار الواردة (1/ 241).
(3) دنف الرجل من مرضه براه المرض حتى أشفى على الهلاك ..
(4) سيرة عمر لابن الجوزي صـ244.
(5) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 245).(1/103)
ثانياً: معتقد عمر بن عبد العزيز في أسماء الله الحسنى:
أسماء الله الحسنى: هي كلماته الدالة على ذاته المتضمنة إثبات صفات الكمال له بلا مماثلة وتنزيهه عن صفات النقص والعيب (1). والأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها، وهي التي جاءت في الكتاب والسنة، وهي تقتضي المدح والثناء بنفسها (2)، ولا شك أن كل قاري للقرآن الكريم، وللأحاديث النبوية يجد أن الله تبارك وتعالى في كتابه قد سمى نفسه بأسماء، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم قد سمى ربه بأسماء ومن المعلوم أن السلف الصالح يثبتون لله تعالى من الأسماء ما أثبته الله نفسه أو أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا أحد أعلم بالله من الله، ولا أحد أعلم بالله بعد الله من رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء الله تعالى كلها حسنى، وهي أعلام، وأوصاف وهي أسماؤه حقيقة دالة على ذاته وصفاته وهي توقيفية، وغير محصورة بعدد معين، وغير مخلوقة، ولا يجوز الإلحاد فيها (3)، ومن خلال رسائل وخطب عمر بن عبد العزيز نوضح بعض أسماء الله تعالى التي ذكرها في رسائله وخطبه ومنهج عمر بن عبد العزيز هو منهج الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وقد قعد أهل السنة قواعد في أسماء الله تعالى يمكن استنتاج بعضها من كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله فمن هذه القواعد ما يلي:
ـ ... أن أسماء الله تعالى أزلية، قال عمر بن عبد العزيز: .. ولقد أعظم بالله الجهل من زعم أن العلم كان بعد الخلق بل لم يزل الله وحده بكل شيء عليماً، وعلى كل شيء شهيداً قبل أن يخلق شيئاً وبعد ما خلق (4) فبين عمر أن الله له الأسماء الحسنى وهي العليم، والشهيد أزلاً وهذا معتقد أهل السنة والجماعة (5).
ـ ... أن أسماء الله تعالى توقيفية، وهذا منهج أهل السنة والجماعة وهو ما تبين بالاستقراء من كلامه حيث لم يذكر حسب إطلاعي إلا أسماء الله الواردة في الكتاب والسنة، وهو الحق إذ لا يجوز أن يسمى الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم (6).
_________
(1) منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله، خالد عبد اللطيف (2/ 391).
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 276).
(3) المصدر نفسه (1/ 287).
(4) الحلية (5/ 348)، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 304).
(5) الآثار الواردة (1/ 305).
(6) المصدر (1/ 305).(1/104)
ـ ... أن أسماء الله تعالى أعلام وأوضاف، أعلام باعتبار دلالتها على الذات وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني وهي بالاعتبار الأول ـ أي أعلام ـ مترادفة، وبالاعتبار الثاني ـ أي أنها أوصاف ـ متباينة للدلالة كل واحد منها على معناه الخاص، فالحي الرحمن الرحيم كلها أسماء لمسمى واحد لكن معنى الحي غير معنى الرحمن هكذا (1). وقد خالف معتقد السلف الصالح في توحيد الأسماء الحسنى بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام فالجهمية (2)، أنكرت الأسماء الحسنى وذلك لظنهم أن التوحيد نقي محض، وأن إثبات الأسماء الحسنى إثبات لأعراض حادثة ولم يثبتوا من الأسماء الحسنى غير اسم (القادر والخالق) لأن الجهم لا يسمى أحداً من المخلوقين قادراً لنفيه استطاعة العباد ولا يسمي أحداً خالقاً غير الله تعالى، لأن عنده أن كل صفة أو اسم يجوز أن يسمي أو يتصف به غير الله فلا يجوز إطلاقه على الله تعالى (3)، وعلى هذا يجب على المسلم الوقوف عندما ثبت وترك الابتداع، والتحريف والتأويل المفضي إلى الإلحاد (4) فإن الله تعالى قال: ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (الأعراف، الآية: 180).
وقد وردت في رسائل عمر بن عبد العزيز وخطبه كثير من أسماء الله الحسنى، كالله عز وجل، والرب، والرحمن والرحيم، المليك والخبير، والكريم، والحي، والرقيب، والشهيد والواحد القهار، والعلي العظيم، والعفو الغفور، والعزيز الحكيم، والوارث، والخالق، والعليم (5)، ونتحدث عن بعض هذه الأسماء.
1 ـ في أسمه تعالى ((الرب)): كان عمر يقول: يا رب انفعني بعقلي (6) والرب من اسماء الله الحسنى، قال تعالى: ((بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)) (سبأ، آية: 15). ومعنى الرب: المصلح للشيء. ورب الشيء: مالكه فالله عز وجل مالك العباد ومصلحهم ومصلح شئونهم (7) ومصدر الرب الربوية، وكل من ملك شيئاً فهو
_________
(1) القواعد المثلى صـ8.
(2) الجهمية: سيأتي الحديث عنها في محاورات عمر لأهل الفرق.
(3) منهاج السنة (2/ 526) الآثار الواردة (1/ 306).
(4) الآثار الواردة (1/ 306).
(5) الآثار الواردة (1/ 279 إلى 306).
(6) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ68 الآثار الواردة (1/ 281).
(7) الآثار الواردة (1/ 281).(1/105)
ربه، يقال: هذا رب الدار، ورب الصنيعة ولا يقال: الرب: معرفاً بالألف واللام مطلقاً إلا لله عز وجل لأنه مالك كل شيء (1).
2 ـ في اسمه تعالى ((الحي)): كان لعمر بن عبد العزيز صديق، فأخبر أنه قد مات فجاء إلى أهله يعزيهم، فصرخوا في وجهه، فقال لهم عمر: إن صاحبكم هذا لم يكن يرزقكم، وإن الذي يرزقكم حي لا يموت (2) فالحي اسم من اسماء الله الحسنى. قال تعالى: ((اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) (البقرة، الآية: 255). وحياته تعالى لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، الحياة المستلزمة لكمال الصفات في العلم والقدرة والسمع والبصر، وغيرها (3).
3 ـ في اسميه: الواحد القهار: قال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: يا مزاحم إنا لا نخرج بشمس ولا قمر، ولكنا نخرج بالله الواحد القهار (4). من أسماء الله الحسنى الواحد القهار قال تعالى: ((يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)) (إبراهيم، الآية: 48)، والواحد القهار أي: المتفرد بعظمته واسمائه وصفاته وأفعاله العظيمة وقهره لكل العوالم، فكلها تحت تصرفه وتدبيره، فلا يتحرك منها متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه (5).
4 ـ في اسميه تعالى: العلي العظيم: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد رسالة واختتمها بقوله: .. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (6)، العلي العظيم من الأسماء الحسنى قال تعالى: ((وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)) (البقرة، الآية: 255). والعلي: بذاته فوق عرشه، العلي بقهره لجميع المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته، (7) والعظيم: الذي تتضاءل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة، فسبحان من له العظمة العظيمة (8).
_________
(1) اشتقاق أسماء الله الحسنى للزجاجي صـ32، 33، الآثار الواردة (1/ 281).
(2) الحلية (5/ 330)، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 288).
(3) اشتقاق أسماء الله الحسنى صـ102 للزجاجي.
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ32.
(5) تفسير السعدي صـ428.
(6) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ81.
(7) تفسير السعدي صـ110.
(8) تفسير السعدي صـ110.(1/106)
فهذه بعض أسماء الله الحسنى التي جاءت في رسائل أو الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز وهي للمثال وليست للحصر.
ثالثاً: معتقد عمر بن عبد العزيز في صفات الله تعالى:
صفات الله عز وجل هي نعوت الكمال القائمة بالذات الإلهية، كالعلم والحكمة، والسمع، والبصر، واليدين والوجه، وغيرها مما أخبر الله تعالى بها عن نفسه في كتابه وعلى لسانه نبيه صلى الله عليه وسلم وتوحيد الله عز وجل في صفاته هو أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم نفياً وإثباتاً، فيثبت ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه (1). فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً فيثبت ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه، مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى: ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (الأعراف، الآية: 180). وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)) (فصلت، الآية: 40). فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله: ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) رد للإلحاد والتعطيل (2).
وقد جاءت الآثار عن عمر بن عبد العزيز في باب الصفات، فأثبت ما أثبته الله لنفسه، وتحدث عن إثبات صفة النفس، والوجه، والعلم، والكبرياء والقدرة، والعلو، والمعية والقرب، وصفة المشيئة والإرادة وصفة الغضب، والرضى، وصفة الرحمة (3)، وإليك الحديث عن بعضها:
_________
(1) أقوال التابعين في مسائل التوحيد والإيمان (3/ 874).
(2) مجموع القناوي (3/ 8).
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 313 إلى 359).(1/107)
1 ـ صفة النفس: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الضحاك بن عغبد الرحمن رسالة فقال: أما بعد فإن الله عز وجل جعل الإسلام الذي رضي به لنفسه ومن كرم عليه من خلقه لا يقبل دنيا غيره (1). وهذا الأثر يبين إثبات صفة النفس وهو ما دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: ((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) (آل عمران، الآية: 28). وقال صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربه: (( .. لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (2)، فنفسه تعالى هي ذاته المقدسة، كما تبين ذلك من الكتاب والسنة (3). فنفسه تعالى هي ذاته المتصفة بصفاته وليس المراد بها ذاتاً منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفة الذات (4).
2 ـ صفة الوجه لله تعالى: كتب عمر إلى الخوارج رسالة وفيها: .. وإني أقسم لكم بالله لو كنتم أبكاري من ولدي .. لدفقت دماءكم ألتمس بذلك وجه الله والدار الآخرة (5). صفة الوجه من الصفات الخبرية الذاتية دل عليها الكتاب والسنة، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)) (الرعد، الآية: 22). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه ما لا يجوز، ففي سؤاله ربه لذة النظر إلى وجهه يقول: وأسألك لذة النظر إلى وجهك (6).
3 ـ صفة القدرة لله تعالى: كتب عمر إلى بعض عماله: أما بعد، فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم، فاذكر قدرة الله عليك في نفاذ ما يأتي إليهم وبقاء ما يأتي إليك (7). وقال في رسالته في الرد على القدرية وفيها: .. فالله أعز في قدرته وأمنع من أن يملك أحداً إبطال علمه (8). يتبين من خلال الأثرين السابقين إثبات عمر بن عبد العزيز صفة القدرة لله تبارك وتعالى وهي من الصفات التي دل عليها السمع والعقل قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ86، الآثار الواردة (1/ 313)
(2) مسلم رقم 486.
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 314).
(4) الفتاوى نقلاً عن الآثار الواردة (1/ 314).
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ75.
(6) صححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/ 280 ـ 281).
(7) سيرة عمر صـ125 لابن الجوزي.
(8) الحلية (5/ 347).(1/108)
(البقرة، الآية: 20). ومن السنة حديث أبي مسعود البدري لما ضرب غلامه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اعلم يا أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام (1).
هذه بعض الأثار التي تدل على إثبات عمر بن عبد العزيز لصفات الله تعالى على أصول منهج أهل السنة والجماعة.
رابعاً: نهيه عن اتخاذ القبور مساجد: عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقى ـ أو قال: لا يجتمع: دينان بأرض العرب (2)، حدثنا حصين، أن عمر بن عبد العزيز نهى أن يبنى القبر بآجر وأوصى بذلك (3). والحديث الذي أرسله عمر رحمه الله ـ يبين تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته من اتخاذ القبور مساجد وبين أن ذلك فعل اليهود والنصارى والمسلم منهي عن الاقتداء بهؤلاء الضلال المغضوب عليهم بنص القرآن، ولا شك أن اتخاذ القبور مساجد والبناء عليها وتجصيصها مما أجمع على منعه سلف هذه الأمة كما مر عن عمر بن عبد العزيز حيث نهى أن يبني القبر بآجر وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبر (4)، ولما أمر الوليد بن عبد الملك ببناء المسجد النبوي حين كان عمر عاملاً له على المدينة وإدخال حجرات الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها حجرة عائشة رضي الله عنه ـ التي فيه قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه كان عمر بن عبد العزيز هو الذي جعل مؤخر القبر محدداً بركن، لئلا يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي إليه جعل ذلك حين إنهدم جدار البيت فبناه على هذا فصار للبيت خمسة أركان (5)،
والمقصود أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قد سد منافذ الشرك بعلمه وحكمته كما تبين من نقل من شاهدوا بناء المسجد النبوي في عهد ولايته على المدينة النبوية، ولا شك أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً كان خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، بل ربما أدى ذلك
_________
(1) مسلم رقم 1659.
(2) البخاري رقم 1330 مصنف عبد الرزاق (10/ 359 ـ 360).
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ346.
(4) الآثار الواردة عن عمر في العقيدة (1/ 264).
(5) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 265) ..(1/109)
إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية (1). وقد منع عمر من اتخاذ البناء لقبره وأوصى بذلك مع أنه كان في الزمن الذي فيه العقيدة صافية نقية إذا قورن ذلك الزمان بما بعده، ولكن لفهمه الصحيح لمقاصد السنة ولاتباعه المنهج الصحيح منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفقه الله تعالى للوصية بأن لا يبني على قبره خشية أن يتخذ مسجداً فحسم الموقف قبل أن يستفحل، ولا شك أن ما ذهب إليه عمر هو ما يدل عليه الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه (2).
خامساً: مفهوم الإيمان عند عمر بن عبد العزيز: قال عدي بن عدي. قال: كتب إليّ عمر بن عبد العزيز أما بعد: فإن الإيمان فرائض وشرائع وحدوداً، وسنناً فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص (3)،، وعن جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز أما بعد: فإن عرى الدين وقوائم الإسلام الإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فصلوا الصلاة لوقتها (4). بين عمر بن عبد العزيز أن الإيمان فرائض أي: أعمالاً مفروضة كالصلاة والحج والصوم، وشرائع أي: عقائد دينية كالإيمان بالله وملائكته، وحدوداً أي: منهيات ممنوعة كشرب الخمر والزنا، وسنناً أي مندوبات كإماطة الأذى عن الطريق، وغيرها من المندوبات فهذه الأمور كلها من الإيمان (5)، وهذا المأثور عن عمر هو الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، فالإيمان عند أهل الحق: قول اللسان، وتصديق بالجنان وعمل بالأركان (6)، فمن الأدلة الدالة على أن الإيمان قول باللسان قوله تعالى: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ)) (البقرة: آية: 136). وقوله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني
_________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 185).
(2) مسلم رقم 970.
(3) فتح الباري على صحيح البخاري (1/ 45).
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ72، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 543).
(5) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 545).
(6) المصدر نفسه (1/ 544).(1/110)
نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله (1). ومن الأدلة على أن أعمال القلوب من الإيمان قوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ .. )) (الأنفال: آية: 3). والوجل من أعمال القلوب.
وقد سمي في الآية إيماناً، ومن الأدلة على أن أعمال الجوارح من الإيمان قوله تعالى: (( .. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ... )) (البقرة: آية: 143). يبين ذلك سبب نزول الآية حين سئل عليه السلام أرأيت الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله عز وجل (( ... وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ .. )). وفي هذا دلالة على أنه تعالى سمى صلاتهم إلى بيت المقدس إيماناً، فإذا ثبت ذلك في الصلاة ثبت ذلك في سائر الطاعات (2)، وكتب عمر بن عبد العزيز رسالة وفيها .. أسأل الله برحمته وسعة فضله أن يزيد المهتدي هدى، وأن يرجع بالمسيء التوبة في عافيته (3)، وفي قوله عن الحديث عند الإيمان، ... فمن استكملهن فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملهن لم يستكمل الإيمان (4). فهذه الآثار تبين أن الإيمان يزيد وينقص وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة والآثار عن السلف الصالح. قال تعالى: ((تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)) (الأنفال: آية: 2). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إيمان لمن لا أمانة له (5)، ومن أقوال سلف الأمة قول البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص (6).
سادساً: الإيمان باليوم الآخر:
الحديث عن الإيمان باليوم الآخر يشتمل على أمور كثيرة، فكل ما أخبر به الله ورسوله مما يكون بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه، وما يكون من البعث والنشور، وما يكون في يوم القيامة من ثواب وعقاب وجنة ونار ... الخ وقد تحدث عمر بن عبد العزيز عن هذه الأمور منها:
_________
(1) مسلم رقم 32.
(2) الاعتقاد للبيهقي صـ95ـ 96 الآثار الواردة (1/ 545).
(3) الطبقات (6/ 313)، الآثار الواردة (1/ 550).
(4) فتح الباري (1/ 45).
(5) الإيمان لابن أبي شيبة صـ5 وصححه الألباني، الآثار الواردة عن عمر (1/ 553).
(6) البخاري مع الفتح (1/ 47).(1/111)
1 ـ عذاب القبر ونعيمه: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: يا فلان قرأت البارحة سورة فيها زيارة ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)) (التكاثر: الآيتان: 1، 2). فكم عسى يلبث عند المزور حتى ينكفي إما إلى جنة وإما إلى نار (1). وخطب مرة فقال: أيها الناس ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وفي بيوت الميتين وفي دور الظاعنين جيراناً كانوا معكم بالأمس أصبحوا في دور خامدين، بين آمن روحه إلى يوم القيامة وبين معذب روحه إلى يوم القيامة (2). وخطب مرة أخرى بخناصرة فقال: .. في كل يوم تشيعون غادياً إلى الله ورائحاً قد قضى نحبه وانقضى أجله ثم تغيبونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد قد فارق الأحباب وخلع الأسباب وواجه الحساب وسكن التراب مرتهناً بعمله غنياً عما ترك فقيراً إلى ما قدم (3)، وما قاله عمر بن عبد العزيز يدل على أثبات عذاب القبر ونعيمه وهو معتقد أهل السنة والجماعة وبهذا دلت النصوص من الكتاب والسنة قال تعالى: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)). فقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر (4). وقال تعالى: ((النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)) (غافر: آية: 45).
2 ـ الإيمان بالمعاد ونزول الرب لفصل القضاء: خطب عمر بن عبد العزيز بخناصرة فقال: أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله تبارك وتعالى للحكم فيه والفصل بينكم (5). وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله، أما بعد: فكأن العباد قد عادوا إلى الله فينبئهم بما عملوا ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى (6)، وعن جرير بن حازم قال قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عدي: ... اعلم أن أحداً لا يستطع إنفاذ قضايا ما بين الناس حتى لا يبقى منها شيء لابد أن تتأخر قضايا ليوم الحساب (7). وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة، أما بعد: فإني أذكرك ليلة تمخض بالساعة وصباحها القيامة فيالها من ليلة وياله من صباح
_________
(1) الحلية (5/ 317)، الكتاب الجامع لسيرة عمر (1/ 336).
(2) سيرة عمر صـ259 ـ260 لابن الجوزي.
(3) سيرة عمر صـ259 ـ260 لابن الجوزي.
(4) الروح لابن القيم صـ144.
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ42.
(6) ذم الدنيا 81 لابن أبي الدينا.
(7) في الزهد، هناد السرى (1/ 299ـ300)، الآثار الواردة (1/ 448).(1/112)
كان على الكافرين عسرين (1). وكتب إلى بعض الأجناد أما بعد: أوصيكم بتقوى الله ولزوم طاعته .. فمن كان راغباً في الجنة أو هارباً من النار، فالآن في هذه الأيام الخالية، والتوبة مقبولة، والذنب مغفور قبل نفاذ الأجل وانقضاء المدة وفراغ الله عز وجل للثقلين ليدينهم بأعمالهم في موطن لا تقبل فيه فدية، ولا تنفع فيه الحيلة تبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يرده الناس جميعاً بأعمالهم، ويتفرقون منه أشتاتاً إلى منازلهم، فطوبى يومئذ لمن أطاع الله عز وجل وويل يومئذ لمن عصى الله عز وجل (2)
, إن الإيمان بالمعاد والبعث والنشور وأن الله تبارك وتعالى يجمع كل الخلائق وبيان الحكمة من ذلك وبيان شدة هذا اليوم على الكفار هو مدلول الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى هنا، ولا شك أن الإيمان بالمعاد من أهم العقائد التي تميز بها الإسلام، وقد تحدث القرآن الكريم عن الإيمان بالمعاد، إما تصريحاً وتأكيداً أو تلميحاً وإشارة وقد بين الله تبارك في كثير من آيات الكتاب وجوب الإيمان بالبعث وبين في بعضها الرد على من ينكر حشر الأجساد بحجج عقلية لا يمكن للمنكرين إلا الإذعان لها أو المكابرة (3)، قال تعالى ((اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) (الروم، آية: 11) وقال عز وجل: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)) (المؤمنون، الآيات: 16) وقال في منكري البعث ((أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)) (ياسين، آية: 77ـ79). وقال تعالى: ((أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)) (القيامة، الآيات: 36ـ40).
كما ثبت في الأحاديث الإيمان بالبعث منها ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد
_________
(1) سيرة لابن الجوزي صـ115 أبو حفص الملاء (1/ 206).
(2) سيرة ابن الجوزي صـ115ـ116 أبو حفص الملاء (1/ 266) ..
(3) الآثار الواردة في العقيدة (1/ 451).(1/113)
فسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولداً (1). ومضمون هذه النصوص هو المأثور عن عمر (2).
3 ـ الميزان: قال عمر بن عبد العزيز: أو ما رأيتم حالات الميت؟ وجهه مفقود وذكره منسي، وبابه مهجور، كأن لم يخالط إخوان الحفاظ ولم يعمر الديار: واتقوا يوماً لا يخفي فيه مثقال ذره في الموازين (3). قال: .. أعوذ بالله أن أمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عولتي وتبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغنى والفقر، والموازين منصوبة (4).
وعن بجدل الشامي عن أبيه وكان صاحباً لعمر بن عبد العزيز قال: رأيت عمر بن عبد العزيز يتلو على هذه الآية ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) (الأنبياء، الآية: 47) حتى ختمها فمال على أحد شقيه يريد أن يقع (5). فهذه الآثار تدل على أن بعد القيام من القبور والذهاب إلى المحشر، ونزول الرب تبارك وتعالى ـ يليق بجلاله ـ لفصل القضاء ينصب الميزان، وهو ميزان حقيقي توزن به أعمال العباد، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة (6)، قال ابن حجر: قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن به يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكِفَّتان ويميل بالأعمال. وأنكرت المعتزلة الميزان وغيرهم وقالوا: هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة، لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال ليري العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين (7)، وهذا الميزان دقيق لا يزيد ولا ينقص قال تعالى: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) (الأنبياء، الآية: 47).
4 ـ الحوض: كتب عمر بن عبد العزيز إلى صاحب دمشق أن سل أبا سلام عما سمع من ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحوض فإن كان يثبته فاحمله على
_________
(1) البخاري رقم 3093.
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 452).
(3) سيرة عمر صـ255 لابن الجوزي.
(4) الحيلة (5/ 291) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ234ـ 244.
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ248).
(6) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 457).
(7) فتح الباري (13/ 538).(1/114)
مركبة من البريد (1). وفي رواية: بعث عمر بن عبد العزيز إلى أبي سلام الحبشي يحمل على البريد، فلما قدم عليه قال: لقد شق علي، قال: عمر: ما أردنا ذلك، ولكنه بلغني عنك حديث ثوبان في الحوض، فأحببت أن أشافهك به فقال: سمعت ثوبان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء (2) ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأكوابه عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، أول الناس ورووداً عليه فقراء المهاجرين (3). ولا شك أن الإيمان بالحوض هو عقيدة أهل السنة والجماعة استناداً إلى النصوص الصريحة بذلك وأدلة إثبات الحوض في السنة بلغت حد التواتر.
5 ـ الصراط: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أخ له: يا أخي إنك قد قطعت عظيم السفر وبقي أقله، فاذكر يا أخي المصادر والموارد، فقد أوحي إلى نبيك صلى الله عليه وسلم في القرآن أنك من أهل الورود ولم يخبر أنك من أهل الصدور والخروج، وإياك أن تغرك الدنيا فإن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له (4)، وهذا الأثر الوارد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يدل على الإيمان بالصراط، وذلك أنه بعد الخروج من عرصات القيامة في اليوم العصيب يمر الناس على الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم، أدق من الشعرة، وأحد من السيف، يردوه الأولون والآخرون من أتباع الرسل الموحدون وفيهم أهل الذنوب والمعاصي، وفيهم أهل النفاق فتلقى عليهم الظلمة قبل الصراط وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين ويتخلفون عنهم ويسبقهم المؤمنون ويُحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم، ويعطي كل مؤمن نوره بقدر عمله يضيء له الطريق فيمرون على الصراط، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، وكالريح، ومنهم من يرمل رملاً حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه تَخِرّ يدُ وتعلق يد وتخر رجل وتصيب جوانبه النار (5) وقد دل الكتاب والسنة على المرور على الصراط. قال تعالى: ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)) (مريم، الآية: 72) وقال تعالى: ((ثُمَّ نُنَجِّي
_________
(1) البداية والنهاية نقلاً عن الآثار الواردة (1/ 462).
(2) الآثار الواردة (1/ 463).
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ37.
(4) سيرة عمر لابن الجوزي، صـ257.
(5) شرح الطحاوية صـ470، الآثار الواردة (1/ 468).(1/115)
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)). وقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة قالت حفصة: فقلت يا رسول الله أليس الله يقول: ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)) فقال ألم تسمعه قال: ((ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)) (مريم، الآية: 72).
أشار إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله. فالمؤمنون يمرون فوق النار على الصراط ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا، فبين صلى الله عليه وسلم أن الورود هو الورود على الصراط (1)، والحق أن الورود على النار ورودان: ورود الكفار أهل النار، فهذا ورود دخول لا شك في ذلك، كما قال تعالى: ((يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)) (هود، الآية: 98). أي بئس المدخل المدخول، والورود الثاني: ورود الموحدين وهو مرورهم (2) على الصراط وهو ما عناه عمر بن عبد العزيز رحمه الله في الأثر الماضي.
6 ـ الجنة والنار: بكى عمر بن عبد العزيز، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلى عنهم الصبر قالت فاطمة بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه (3). وعن سفيان قال: كان عمر بن عبد العزيز يوماً ساكتاً وأصحابه يتحدثون فقالوا له: مالك لا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت مفكراً في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها وفي أهل النار كيف يصطرخون فيها ثم بكى (4). وكتب إلى بعض الأجناد .. واعلم أنه ليس يضر عبداً صار إلى رضوان الله وإلى الجنة ما أصابه في الدنيا من فقر وبلاء، وأنه لن ينفع عبداً صار إلى سخط الله وإلى النار ما أصاب في الدنيا من نعمة أو رخاء. وما يجد أهل الجنة من مكروه أصابهم في دنياهم وما يجد أهل النار طعم لذة نعموا بها في دنياهم كل شيء من ذلك لم يكن (5) وعن الفضل بن ربيع قال: سمعت فضيل بن عياض يقول: بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكا
_________
(1) شرح الطحاوية صـ471.
(2) القيامة الكبرى للأشقر صـ278.
(3) الرقة والبكاء صـ76.
(4) سيرة عمر لابن الجوزي صـ154.
(5) المصدر نفسه صـ250 ـ 251، الآثار الواردة (1/ 473).(1/116)
إليه فكتب إليه عمر: يا أخي أذكر طول سهر أهل النار مع خلود الأبد وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء، فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر فقال له ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك. لا أعود إلى ولاية أبداً حتى ألقى الله تعالى (1)، ومعتقد عمر بن عبد العزيز في الجنة والنار هو ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)) الانفطار، الآيتان: 13 ـ 14)، وقال تعالى: ((وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى)) (طه، الآيتان: 75 ـ 76). وقال صلى الله عليه وسلم: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة (2).
7 ـ رؤية المؤمنين ربهم في الجنة: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمراء الأجناد: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله والتمسك بأمره والمعاهدة على ما حملك الله من دينه،، واستحفظك من كتابه، فإن بتقوى الله نجا أولياؤه من سخطه، وبها تحقق لهم ولايته، وبها وافقوا (3) أنبياءه وبها نضرت وجوههم ونظروا إلى خالقهم (4). وهذا المعتقد الذي كان يعتقده عمر بن عبد العزيز في رؤية الله تعالى في الجنة من أعظم النعم بعد نعمة التوفيق والهدايا قال تعالى في وصف المؤمنين في ذلك اليوم: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) (القيامة، الآيتان: 22 ـ 23) وقال جل شأنه ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) (يونس، الآية: 26)، وعن صهيب قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) قال" إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ينادي منادٍ يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فقالوا: ألم تبيض وجوهنا وتثقل موازيننا وتجرنا من النار. قال: فيكشف الحجاب فينظروا إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل (5).
_________
(1) سيرة عمر صـ124 ـ 125 لابن الجوزي، الآثار الواردة (1/ 474) ..
(2) مسلم رقم 2866.
(3) في الحلية وابن الجوزي والملاء: رافقوا بدل وافقوا.
(4) الرد على الجهمية للدارمي صـ103، الآثار الواردة م\عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 479).
(5) مسلم رقم 297.(1/117)
سابعاً: الاعتصام بالكتاب والسنة وسنة الخلفاء الراشدين:
1 ـ إتباع الكتاب والسنة: لما ولي عمر بن عبد العزيز كتب: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله ولزوم كتابه والإقتداء بسنة نبيه وهديه (1)، وليس لأحد في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أمر ولا رأى إلا إنفاذه والمجاهدة عليه (2) ... فإن الذي في نفسي وبقيتي في أمر أمة محمد صلى الله عليه ومسلم أن تتبعوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن تجتنبوا ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد، من عمل بغيرهما فلا كرامة ولا رفعة له في الدنيا والأخرى، وليعلم من عسى أن يذكر له ذلك، ولعمري لأن تموت نفسي في أول نفس أحب إلى من أن أحملهم على غير إتباع كتاب ربهم وسنة نبيهم إلتي عاش عليها من عاش وتوفاه الله عليها حين توفاه ـ إلا أن يأتي علي وأنا حريص على إتباعه ـ وإن أهون الناس علي تلفاً وحزناً لمن عسى أن يريد خلاف شيء من تلك السنة (3). وقال عمر بن عبد العزيز: إن الله فرض فرائض وسنّ سنناً من أخذ بها لحق ومن تركها محق (4). وقال: يا ليتني عملت فيكم بكتاب الله وعملت به، فكلما عملت فيكم بسنة وقع مني عضو، حتى يكون آخر شيء منها، خروج نفسي (5)، واكتب إلى الخوارج: ... فإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم (6).
وقال: سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً، الأخذ بها، الاعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، من اهتد بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاّه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً (7). فهذه الآثار توضح إتباع عمر للكتاب والسنة ولزومهما، وبذل الجهد، والطاقة في تطبيقها، وإن أدى ذلك إلى قطع الأعضاء، وإزهاق النفس وما ذهب إليه عمر هو أصل الدين واساسه قال تعالى: ((فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ65، الكتاب الجامع لسيرة عمر (1/ 284).
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ68، الكتاب الجامع لسيرة عمر (1/ 287).
(3) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ71 الآثار الواردة (2/ 601).
(4) محق: أهلكه وأباده، سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ39.
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ130، الآثار الواردة (2/ 602).
(6) الآثار الواردة (2/ 602).
(7) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ40.(1/118)
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) (النساء، الاية: 65) وقال صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس: إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي (1).
2 ـ الاعتصام بسنة الخلفاء الراشدين: عن حاجب بن خليفة البرجمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو خليفة فقال في خطبته: ألا إن ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه وما سن سواهما فإنا نرجئه (2)، وكتب إلى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: من عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله أما بعد: فقد ابتليت بما ابتليت به من أمر هذه الأمة من غير مشاورة مني، ولا إرادة يعلم الله ذلك، فإذا أتاك كتابي هذا، فاكتب به سيرة عمر بن الخطاب في أهل القبلة وأهل العهد، فإني سائر بسيرته إن أعانني على ذلك والسلام (3)، وعن عون بن عبد الله، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز أعدلان عندك عمر وابن عمر؟ قال: قلت نعم، قال: إنهما لم يكونا يكبران هذا التكبير (4). وعن الأزهري، قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقت امرأتي وأنا سكران، قال الزهري، فكان رأي عمر بن عبد العزيز أن يجلده ويفرق بينه وبين امرأته حتى حدثه أبان بن عثمان (عن أبيه): ليس على المجنون ولا السكران طلاق، فقال عمر: تأمروني وهذا يحدثني عن عثمان بن عفان؟ فجلده وردّ إليه امرأته (5)، وقال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها اعتصام بكتاب الله، قوة على دين ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولّى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً (6)،
إن عمر بن عبد العزيز تمسك بسنة رسول الله وخلفائه الراشدين وأعاد للخلافة الراشدة معالمها وملامحها وسار على هديها وعض على سننهم بالنواجز ورجع إلى أقوالهم عند النزاع وأخذ بها في الحكم على أهل القبلة وأهل العهد، كما أخذ بها في العبادات والمعاملات وقد أولى الخليفة الأول
_________
(1) موطأ مالك (3/ 93) والحاكم (1/ 93).
(2) الحلية (5/ 298) جامع العلوم والحكم صـ288.
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ108.
(4) مصنف عبد الرزاق (2/ 66) الآثار الواردة (2/ 66).
(5) المصدر (4/ 31) الآثار الواردة (2/ 633).
(6) سيرة عمر لابن عبد الحكيم صـ40 ..(1/119)
والثاني أبا بكر وعمر جل اهتمامه، وعدّ الأخذ بسنتهم أخذاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخذ بسنة الخليفة الثالث فور سماعه وطبّق تلك السنة، واعتصم بسنة الخليفة الرابع في معاملة الخوارج حيث ناظرهم وكتب إليهم فلما تمادوا حاربهم، وحكم على أموالهم وذراريهم وأسراهم بقضاء الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنهم (1)، بل يرى عمر بن عبد العزيز أن من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين رضي الله عنهم فهو خارج عن سبيل المؤمنين، وهو من الفرقة الهالكة، وكل ما سنه الخلفاء الراشدون فإنه من سنته صلى الله عليه وسلم لأنهم إنما سنوه بأمره ولا يكون في الدين واجباً إلا ما أوجبه ولا حراماً إلا ما حرمه ولا مستحباً إلا ما استحبه ولا مكروهاً إلا ما أكرهه ولا مباحاً إلا ما أباحه واتباع سنة الخلفاء الراشدين في العقائد والأحكام هو ما عليه السلف الصالح وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى: ((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)) (النساء، الآية: 115). وقال صلى الله عليه وسلم: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة (2).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال: إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر (3).
3 ـ التمسك بما تدل عليه الفطرة:
عن جعفر بن رقان، قال: جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فسأله عن شيء من الأهواء فقال: الزم دين الصبي في الكُتّاب والأعرابي، والْهَ عما سوى ذلك (4). وعمر بن عبد العزيز هنا يرى أن العباد مخلوقون على الدين القويم، وأن الانحراف عنه طاريء وحادث، وهذا ما دل عليه القرآن الكريم، قال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)) (الروم، الآية: 30)، وقال صلى الله عليه وسلم: ما من
_________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/ 637).
(2) سنن الترمذي (5/ 44) حديث حسن صحيح.
(3) سنن الترمذي (5/ 610) صحيح سنن الترمذي للألباني (3/ 200).
(4) الطبقات (5/ 374) شرح اعتقاد أهل السنة رقم 250.(1/120)
مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء (1)، هل تحسون فيها من جدعاء (2)، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنهـ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم (3). فالفطرة السليمة تقر بخالقها وتحبه وتتذلل له وتخلص له الدين وفيها قوة موجبة لذلك، وكذلك تقرّ بشرعه وتؤثر هذا الشرع على غيره، فهي تعرف هذا الشرع وتشعر به مجملاً ومفصلاً بعض التفصيل فجاءت الرسل تذكرها بذلك وتنبهها عليه وتفصله لها وتبينه وتعرفها الأسباب المعارضة لموجب الفطرة المانعة من اقتضائها أثرها (4).
ثامناً: موقفه من الصحابة والخلاف بينهم: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أنه قال:: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة (5). قال أبو عمر رحمه الله هذا فيما كان طريقه الاجتهاد (6)، وسئل عمر بن عبد العزيز عن علي وعثمان وصفين وما كان بينهم فقال: تلك دماء كف الله يدي عنها وأنا أكره أن أغمس لساني فيها (7) وعن محمد بن النضر قال: ذكروا اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عند عمر بن عبد العزيز فقال: أمر أخرج الله أيديكم منه ما تعملون ألسنتكم فيه (8). وعمر بن عبد العزيز كغيره من علماء السلف الصالح حريص على إبراز فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم لا يكون ذلك وقد قال الله تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباًً)) (الفتح، الآية: 18) ومعتقد أهل السنة: بأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن
_________
(1) جمعاء: سليمة من العيوب الأعضاء كاملتها فلا جدع ولا كي.
(2) جدعاء: أي مقطوعة الأطراف أو واحدها.
(3) البخاري رقم 1358.
(4) شفاء العليل صـ629 ـ 630.
(5) جامع بيان العلم (2/ 901 ـ 902) الآثار الواردة (1/ 410).
(6) الآثار الواردة (1/ 410).
(7) الطبقات (5/ 394) الآثار الواردة (1/ 412).
(8) الطبقات (5/ 382) الآثار الواردة (5/ 382).(1/121)
المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب (1)، وقال ابن حجر: واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً وأن المصيب يؤجر أجرين (2)، ومضمون الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز توضح معتقده في الصحابة وهو معتقد أهل السنة والجماعة.
تاسعاً: موقفه من أهل البيت: قال ابن القيم أن العلماء اختلفوا في تحديد المراد بأهل البيت على أقوال، قال رحمه الله واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال: فقيل هم الذين حرمت عليهم الصدقة وفيهم ثلاثة أقوال:
1 ـ أنهم بنو هاشم وبنو المطلب.
2 ـ أنهم بنو هاشم خاصة.
3 ـ أنهم بنو هاشم ومن فوقهم إلى غالب.
والقول الثاني: أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة.
والقول الثالث: أن آله أتباعه إلى يوم القيامة.
والقول الرابع: أن آله هم الأتقياء من أمته (3). ثم رجح رحمه الله القول الأول وهو أن آله صلى الله عليه وسلم هم الذين حرمت عليهم الصدقة (4). هذا ويرى الشيعة أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم: علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهما، وقولهم هذا مخالف للنصوص الصحيحة ولا تؤيده اللغة ولا العرف، لأن لفظة أهل البيت وردت في القرآن الكريم في سياق الخطاب لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) (الأحزاب، الآية: 28) وقد تحدثت عن هذه الآية ورددت على أفهام الشيعة الإمامية لها في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. هذا وقد عرف عمر بن عبد العزيز حقوق أهل البيت المادية
_________
(1) الثمر الداني في تقريب المعاني شرح رسالة أبي زيد صـ23.
(2) فتح الباري (13/ 34) ..
(3) جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام صـ109.
(4) المصدر نفسه صـ110 ـ 119 الآثار الواردة (1/ 428).(1/122)
والمعنوية وأداها إليهم كافة مستوفاة كاملة بدون بخس ولا شطط (1)، وأزال عنهم المظالم التي وقعت عليهم وأحسن إليهم غاية الإحسان المعنوي والمادي، فعن جويرية بن أسماء قال: سمعت فاطمة بنت علي بن أبي طالب ذكرت عمر بن عبد العزيز، فأكثرت الترحم عليه، وقالت: دخلت عليه وهو أمير المدينة يومئذ فأخرج عني كل خصي وحرسي، حتى لم يبق في البيت غيري وغيره ثم قال: يا بنت علي والله ما على ظهر الأرض أهل بيت أحب إلى منكم ولأنتم أحب إلي من أهل بيتي (2)،
وعن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال: أول مال قسمه عمر بن عبد العزيز لمال بعث به إلينا أهل البيت فأعطى المرأة منا مثل ما يعطي الرجل وأعطى الصبي مثل ما تعطي المرأة قال: فأصابنا أهل البيت ثلاثة آلاف دينار وكتب لنا: إني إن بقيت لكم أعطيتكم جميع حقوقكم (3)، وعن حسين بن صالح قال: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز فقال قائلون فلان وقال قائلون فلان، فقال عمر بن عبد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب رضي الله عنه (4)، فعمر بن عبد العزيز كغيره من السلف الصالح كان قائماً بأداء حقوق أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم امتثالاً لما أمر به صلى الله عليه وسلم: ... وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي (5)، وقال ابن تيمية: وإن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم (6). والحقوق التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله هي التي حرص عمر بن عبد العزيز رحمه الله على أدائها على الوجه المطلوب شرعاً فرد على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدك كما قام برد خمس الخمس عليهم كما أطعمهم في الفيء (7)، وقام رحمه الله بالاهتمام
_________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 429).
(2) الطبقات (5/ 388) ..
(3) المصدر نفسه (5/ 392).
(4) سيرة عمر صـ292 لابن الجوزي.
(5) مسلم رقم 2408.
(6) الفتاوى (3/ 407).
(7) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/ 433).(1/123)
بحقوق أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم المادية والمعنوية، حرصاً منه على إتباع ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه وحباً منه لإتباع السلف الصالح (1)
رضوان الله عليهم وأما ما تذكره كتب التاريخ أن ولاة بني أمية قتل عمر بن عبد العزيز كانوا يشتمون علي وهذا الأثر الذي ذكره ابن سعد لا يصح، قال ابن سعد: أخبرنا علي بن محمد، عن لوط بن يحي قال: كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضي الله عنه، فلما ولي هو ـ عمر بن عبد العزيز ـ أمسك عن ذلك فقال كثير عزة الخزاعي:
وليت فلم تشتم علياً ولم تخف
برياً ولم تتبع مقالة مجرم
تكلمت بالحق المبين وإنما
تبين آيات الهدى بالتكلم
فصدَّقت معروف الذي قلت
بالذي فعلت فأضحى راضياً كل مسلم (2)
فهذا الأثر واهٍ، فعلي بن محمد هو المدائني فيه ضعف وشيخه لوط بن يحي واهٍ بمرة، قال عنه يحي بن معين: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: متروك الحديث وقال الدارقطني أخباري ضعيف ووصفه صاحب الميزان: أخباري تالف لا يوثق به (3). وعامة رواته عن الضعفاء والهلكى والمجاهيل (4) وقداتهم الشيعة معاوية رضي الله عنه بحمل الناس على سب علي رضي الله عنه ولعنه فوق منابر المساجد، فهذه الدعوة لا أساس لها من الصحة، والذي يقصم الظهر أن الباحثين قد التقطوا هذه الفرية على هوانها دون إخضاعها للنقد والتحليل، حتى صارت عند المتأخرين من المُسلَّمات التي لا مجال لمناقشتها علماً بأنها ولم تثبت قط في رواية صحيحة، ولا يعول على ما جاء في كتب الدميري، واليعقوبي، وأبي الفرج الأصفهاني، علماً بأن التاريخ الصحيح يؤكد خلاف ما ذكره هؤلاء (5)،
ومن احترام وتقدير معاوية لأمير المؤمنين علي وأهل بيته الأطهار، فحكاية لعن علي على منابر بني أمية لا تتفق مع منطق الحوادث ولا طبيعة المتخاصمين، فإذا رجعنا إلى الكتب التاريخية المعاصرة لبني أمية، فإننا لا نجد فيها ذكراً لشيء من ذلك
_________
(1) المصدر نفسه (1/ 435) ..
(2) سير أعلام النبلاء (5/ 147).
(3) الميزان (3/ 419).
(4) دفاعاً عن السلفية صـ 187.
(5) الحسن والحسين، محمد رضا صـ18 كلام المحقق د. أحمد أبو الشباب ..(1/124)
أبداً، وإنما نجده في كتب المتأخرين الذين كتبوا تاريخهم في عصر بني العباس بقصد أن يسيئوا إلى سمعة بني أمية في نظر الجمهور الإسلامي وقد كتب ذلك المسعودي في مروج الذهب وغيره من كتّاب الشيعة وقد تسربت تلك الأكذوبة إلى كتب تاريخ أهل السنة ولا يوجد فيها رواية صحيح، فهذه دعوة مفتقرة إلى صحة النقل، وسلامة السند من الجرح، والمتن من الاعتراض، ومعلوم وزن هذه الدعوة عند المحققين والباحثين، ومعاوية رضي الله عنه بعيد عن مثل هذه التهم بما ثبت من فضله في الدين، وكان محمود السيرة في الأمة أثنى عليه بعض الصحابة ومدحه خيار التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم، وسائر خصال الخير (1). وقد ثبت هذا في حق معاوية ـ رضي الله عنه ـ كما أنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته، أن يحمل الناس على لعن علي رضي الله عنه على المنابر، وهو من هو في الفضل، ومن علم سيرة معاوية ـ رضي الله عنه في الملك وما اشتهر به من الحلم والصفح، وحسن السياسة للرعية ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه، فقد بلغ معاوية رضي الله عنه في الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال (2). وقد تحدثت عن هذه الفرية بنوع من التوسع في كتابي خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي بن أبي طالب.
وقد بينت فيه علاقة معاوية بأولاد علي رضي الله عنه بعد استقلاله بالخلافة وما كان بينهم من الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم، كما أن المجتمع في عمومه مقيد بأحكام الشريعة حريصاً على تنفيذها ولذلك كانوا أبعد الناس عن الطعن واللعن والقول الفاحش والبذيء. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الأموات المشركين، فكيف بمن يسب أولياء الله المصلحين، فعن عائشة رضي الله عنها ـ مرفوعاً ـ لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا (3).
_________
(1) الانتصار للصحب والآل صـ367 للرحيلي.
(2) خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي بن أبي طالب صـ303.
(3) البخاري رقم 6516.(1/125)
المبحث الرابع: موقف عمر بن عبد العزيز من الخوارج والشيعة والقدرية، والمرجئة والجهمية:
أولاً: الخوارج:
برزت هذه الفرقة أثناء خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبالتحديد عام 37هـ بعد معركة صفين وقبول علي رضي الله عنه تحكيم الحكمين وقد تحدثت عن هذه الفرقة بشيء من التفصيل في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن أهم آرائهم الاعتقادية:
1 ـ تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعثمان بن عفان رضي الله عنه والحكمين رضي الله عنهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص.
2 ـ القول بالخروج على الإمام الجائر.
3 ـ قولهم بتكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في النار (1).
هذه المباديء الثلاثة هي جوهر اعتقاد الخوارج، وليس بينهم في ذلك خلاف إلا خلافاً لبعضهم في تطبيق هذه المباديء (2). يقول أبو الحسن الأشعري في حكاية ما أجمع عليه الخوارج من الآراء: أجمعت الخوارج على إكفار علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حكم وهم مختلفون هل كفره شرك أم لا؟
وأجمعوا على: أن كل كبيرة كفر إلا النجدات (3)، فإنها لا تقول ذلك. وأجمعوا على أن الله سبحانه وتعالى يعذب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلا النجدات أصحاب نجدة (4)، وقال المقدسي في ذلك: وأصل مذهبهم: إكفار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والتبرؤ من عثمان بن عفان، والتكفير بالذنب، والخروج على الإمام الجائر (5).
_________
(1) وسطية أهل السنة بين الفرق صـ291.
(2) المصدر نفسه صـ291.
(3) النجدات: اتباع نجدة بن عامر الحنفي المقتول 69هـ فرقة من فرق الخوارج.
(4) المقالات (1/ 167 ـ 168).
(5) البدء والتاريخ (5/ 135) وسطية أهل السنة في الفرق صـ292.(1/127)
استمر الخوارج في حربهم للدولة الأموية أحياناً ينشطون وفي الغالب، تتغلب عليهم الدولة بالقوة وتكسر شوكتهم إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز فدخل معهم في محاورات ونقاشات واستخدم معهم القوة عند اللزوم، وكان عمر بن عبد العزيز يذم الجدال المذموم ويناظر ويجادل بالتي هي أحسن، فقد قال: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل (1). وقال: احذروا المراء فإنه لا تؤمنه فتنة ولا تفهم حكمته (2)، وقال قد أفلح من عصم من المراء والغضب والطمع (3)، فقد كان رحمه الله ينهى عن المراء العقيم ويحث على الجدال بالتي هي أحسن وقد كان لعمر بن عبد العزيز مواقف مشهورة واقوال مأثورة في التعامل مع الخوارج ومناظرتهم ودحض شبهاتهم بالحجة وآرائهم بالدليل وإيضاح الحق لهم ودليله حباً منه للسنة وإتباعاً للسلف الصالح رحمة الله عليهم (4).
1 ـ موقفه من خروج الخوارج عليه: عن هشام بن يحي الغساني، عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه في الخوارج إن كان من رأي القوم أن يسيحوا في الأرض من غير فساد على الأئمة ولا على أحد من أهل الذمة، ولا يتناولون أحداً، ولا قطع سبيل من سبل المسلمين فليذهبوا حيث شاءوا وإن كان رأيهم القتال فوالله لو أن أبكاري من ولدي خرجوا رغبة عن جماعة المسلمين لأرقت دماءهم ألتمس بذلك وجه الله والدار الآخرة (5). وجاء في رواية: أقسم بالله لو كنتم أبكاري من أولادي ورغبتم عما فرشنا للعامة فيما ولينا لدفقت دماءكم ابتغي بذلك وجه الله الدار الآخرة، فإنه يقول: ((تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين)) (القصص، الآية: 83)، فهذا النصح إن أحببتم وإن تستغشوني فقديماً ما استغش الناصحون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (6)، يتبين من الآثار السابقة منهج عمر بن عبد العزيز في التعامل مع
_________
(1) ابن أبي الدنيا، ك الصمت وآداب اللسان صـ116 الطبقات (5/ 371).
(2) سيرة عمر لابن الجوزي صـ293، الحلية (5/ 325).
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ291 الآثار الواردة (2/ 671).
(4) الآثار الواردة عن عمر في العقيدة (2/ 693).
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ75، سيرة عمر لابن الجوزي صـ99 ـ 100.
(6) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/ 695).(1/128)
الخوارج، فمع خروجهم عليه وهو الخليفة الحق لم يحركهم، وإنما كتب إليهم وحذرهم من الخروج عن الجماعة الذين هم أهل الحق، لقد أمر الله تبارك بالاجتماع ونهى عن التفرق وأمر بلزوم الجماعة ونهى عن الخروج عنها وجعل إجماع هذه الأمة حجة فإذا اجتمعوا على أمير وجب طاعته وحرم الخروج عليه ما لم يأمر بمعصية ولم يظهر كفراً بواحاً (1)، والآثار المروية عن عمر بن عبد العزيز هنا تبين منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع الخوارج الذين هم أوائل الفرق ظهوراً في الإسلام فمع خروجهم عليه وهو الخليفة الحق لم يحركهم، ولم يرسل عليهم الحملة تلو الحملة، وإنما عاملهم معاملة أتاحت لهم الفرصة في الرجوع إلى الحق مستناً بسنن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في معاملة الخوارج حين خرجوا عليه (2).
2 ـ مناظرته للخوارج: تبين موقف عمر ابن عبد العزيز من الخوارج عموماً فيما سبق وفي هذا المبحث يتضح موقفه من الذين كتبوا إليه وكتب إليهم طالباً المناظرة معهم، إذا كانوا مستعدين لذلك، وقد وجد من بعضهم استجابة قال ابن عبد الحكم: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الخوارج: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى هذه العصابة، أما بعد: أوصيكم بتقوى الله فإنه ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًاً * ويََرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ * وَمَنْ يَتَوكّلْ عَلَى الله فَهَوَ حَسَبُه إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)) (الطلاق، الآيتان: 2، 3). أما بعد: فقد بلغني كتابكم والذي كتبتم فيه إلى يحي بن يحي، وسليمان بن داود الذي أتى إليهما وإن الله تبارك وتعالى يقول: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) (الصف، الآية: 7)، وقال تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) (النحل، الآية 125)، وقال تعالى ((فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)) (محمد، الآية: 35). وإني أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إن
_________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/ 695) ..
(2) المصدر نفسه (2/ 696، 697).(1/129)
شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وادعوكم أن تدعو ما كانت تهراق عليه الدماء قبل يومكم هذا بغير قوة ولا تشنيع، وأذكركم بالله أن تشبهوا علينا كتاب الله وسنة نبيه، ونحن ندعوكم إليهما.
هذه نصيحة منا نصحنا لكم فإن تقبلوها فذلك بغيتنا، وإن تردوها على من جاء بها فقديماً ما استغش الناصحون، ثم لم نر ذلك وضع شيئاً من حق الله قال العبد الصالح لقومه: ((وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)) (هود، الآية: 3). وقال الله عز وجل: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) (يوسف، الآية: 108) (1). وجاء في رواية وكتب عمر كتاب إلى الخوارج فلما قرؤوها قالوا نوجه رجلين يكلمانه فإن أجابنا فذاك، وإن أبا كان الله من ورائه، فأرسلوا مولى لبني شيبان يقال له عاصم ورجلاً من بني يشكر من أنفسهم فلما دخلا عليه قالا: السلام عليكم وجلسا، وقال لهما عمر: أخبراني ما أخرجكما مخرجكما هذا؟ وأي شيء نقمتم علينا؟ قال عاصم وكان حبشياً: ما نقمنا عليك في سيرتك لتحري العدل والإحسان فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر أعن رضا من المسلمين ومشورة أم ابتززتهم إمرتهم؟، قال ما سألتهم الولاية عليهم ولا غلبتهم على مشيئتهم وعهد إليّ رجل عهداً لم أسأله قط لا في سر ولا علانية فقمت به ولم ينكره عليّ أحد ولم يكرهه غيركم وأنتم ترون الرضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس فأنزلوني ذلك الرجل فإن خالفت الحق وزغت عنه فلا طاعة لي عليكم، قالا: بيننا وبينك أمر إن أعطيتناه فأنت منا ونحن منك، وإن منعتنا فلست منا ولسنا منك.
قال عمر: وما هو؟ قالا: رأيتك خالفت أعمال أهل بيتك وسلكت غير طريقهم وسميتها مظالم، فإن زعمت إنك على هدى وهم على ضلال فابرأ منهم وألعنهم، فهو الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق، قال: فتكلم عمر عند ذلك، فقال: إني قد عرفت أو ظننت أنكم لم تخرجوا لطلب الدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها. وأنا سائلكم عن أمر فبالله لتصدقاني عنه فيما بلغكم علمكما. قالا: نفعل. قال: أرأيتم أبا بكر وعمر أليسا من أسلافكم وممن
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ79 ـ 80 وسيرة عمر لابن الجوزي صـ99، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/ 701).(1/130)
تتولون وتشهدون لهما بالنجاة؟ قالا: بلا. فقال: هل تعلمون أن العرب ارتدت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم أبا بكر فسفك الدماء وسبى الذراري وأخذ الأموال؟ قالا: قد كان ذاك. قال: فهل تعلمون أن عمر لما قام بعده رد تلك السبايا إلى عشائرهم؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل بريء أبو بكر من عمر أو عمر من أبي بكر؟ قالا: لا قال: فهل تبرأون من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: أخبراني عن أهل النهروان أليسوا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهم بالنجاة؟ قالا: بلا.؟ قال: فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا إليهم كفوا أيديهم فلم يخيفوا أمناً، ولم يسفكوا دماً، ولم يأخذوا مالاً؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل تعلمون أن أهل البصرة حين خرجوا إليهم مع عبد الله بن وهب الراسبي (1)، واستعرضوا الناس فقتلوهم وعرضوا لعبد الله بن خباب (2)، صاحب رسول الله فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم صبحوا حياً من العرب يقال لهم بنو قطيعة فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء والولدان حتى جعلوا يلقون الأطفال في قدور الإقط وهي تفور بهم، قالا: قد كان ذلك. قال: فهل بريء أهل الكوفة من أهل البصرة؟ أو أهل البصرة من أهل الكوفة؟ قالا: لا. قال: فهل تبرأون من طائفة منهما. قالا: لا. قال عمر: أخبراني أرأيتم الدين واحداً أم أثنين؟ قالا: بل واحد. قال: فهل يسعكم فيه شيء يعجز عني؟ قال: لا.
قال: فكيف وسعكم أن توليتم أبا بكر وعمر وتولى كل واحد منهما صاحبه وقد اختلفت سيرتهما؟ أم كيف وسع أهل الكوفة أن تولوا أهل البصرة واهل البصرة أهل الكوفة وقد اختلفوا في أعظم الأشياء: في الدماء والفروج الأموال، ولا يسعني بزعمكما إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم، فإن كان لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة لابد منها فأخبرني عنك أيها المتكلم متى عهدك بلعن فرعون، ويقال: بلعن هامان؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال: ويحك فيسعك ترك لعن فرعون، ولا يسعني بزعمك إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم؟ ويحك أنهم قوم جهال. أردتم أمراً فأخطأتموه، فأنتم تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتردون عليهم ما قبل منهم، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده. قال: ما نحن كذلك.
_________
(1) الآثار الواردة (2/ 703).
(2) المصدر نفسه.(1/131)
قال: بلى تقرون بذلك الآن. هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس وهم عبدة أوثان فدعاهم إلى أن يخلعوا الأوثان، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمن فعل ذلك حقن دمه وأمن عنده، وكان أسوة المسلمين ومن أبى ذلك جاهده؟ قالا: بلى. قال: أفلستم أنتم اليوم تبرأون ممن يخلع الأوثان وممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وتلعنونه وتقتلونه وتستحلون دمه وتلقون من يأبى ذلك من سائر الأمم من اليهود والنصارى فتحرمون دمه ويأمن عندكم؟ فقال الحبشي: ما رأيت حجة أبين ولا أقرب مأخذاً من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق وأنني بريء ممن خالفك. وقال للشيباني فأنت ما تقول؟ قال: ما أحسن ما قلت وأحسن ما وصفت ولكن أكره أن أفتات على المسلمين بأمر لا أدري ما حجتهم فيه حتى أرجع إليهم فلعل عندهم حجة لا أعرفها. قال: فأنت أعلم. قال: فأمر للحبشي بعطائه وأقام عنده خمس عشرة ليلة ثم مات ولحق الشيباني بقومه فقتل معهم (1).
وجاء في رواية ودخل رجلان من الخوارج على عمر بن عبد العزيز فقالا: السلام عليك يا إنسان، فقال وعليكما السلام يا إنسانان قالا: طاعة الله أحق ما اتبعت. قال: من جهل ذلك ضل. قالا: الأموال لا تكون دولة بين الأغنياء. قال: قد حرموها. قالا: مال الله يقسم على أهله. قال: الله بين في كتابه تفصيل ذلك. قالا: تقام الصلاة لوقتها. قال: هو من حقها. قالا: إقامة الصفوف في الصلوات. قال: هو من تمام السنة. قالا: إنما بعثنا إليك. قال: بلغا ولا تهابا. قالا: ضع الحق بين الناس. قال: الله أمر به قبلكما. قالا: لا حكم إلا لله. قال: كلمة حق إن لم تبتغوا بها باطلاً. قالا: ائتمن الأمناء. قال: هم أعواني. قالا: احذر الخيانة. قال السارق محذور. قالا: فالخمر ولحم الخنزير. قال: أهل الشرك أحق به. قالا: فمن دخل في الإسلام فقد أمن. قال: لولا الإسلام ما أمنا. قالا: أهل عهود رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لهم عهودهم. قالا: لا تكلفهم فوق طاقاتهم. قال: ((لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)) (البقرة، الآية: 286). قالا: ذكرنا بالقرآن. قال: ((وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)) (البقرة، الآية: 281). قالا: تردنا
_________
(1) أنساب الأشراف (8/ 211 ـ 215) الآثار الواردة (2/ 704).(1/132)
على دواب البريد. قال: لا هو من مال الله لا نطيبه لكما. قالا: فليس معنا نفقة. قال: أنتما إذن إبنا سبيل على نفقتكما (1)، وعن أرطأة بن المنذر قال: سمعت أبا عون يقول: دخل ناس من الحرورية على عمر بن عبد العزيز فذاكروه شيئاً، فأشار إليه بعض جلسائه أن يرعبهم، ويتغير عليهم فلم يزل عمر بن عبد العزيز يرفق بهم حتى أخذ عليهم ورضوا منه أن يرزقهم ويكسوهم ما بقي فخرجوا على ذلك فلما خرجوا ضرب عمر ركبة رجل يليه من أصحابه فقال: يا فلان إذا قدرت على دواء تشفي به صاحبك دون الكي فلا تكوينه أبداً (2). وجاء في رواية: عندما خرج شوذب واسمه بسطام من بني يشكر على عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكان مخرجه بجوخي (3) في ثمانين فارساً أكثرهم من ربيعة، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد ألا تحركهم إلا أن يسفكوا دما، أو يفسدوا في الأرض، فإن فعلوا فحل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلاً صليباً حازماً فوجهه إليهم، ووجه معه جندا. وأوصه بما أمرتك به، فعقد عبد الحميد لمحمد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين من أهل الكوفة، وأمره بما أمره به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه. وقد قدم عليه محمد بن جرير، فقام بإزائه لا يحركه ولا يهيجه، فكان في كتاب عمر إليه: إنه بلغني أنك خرجت غضباً لله ولنبيه، ولست بأولى بذلك مني.
فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك، فلم يحرك بسطام شيئاً وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك قال أبو عبيدة: معمر بن المثنى: الرجلين اللذين بعثهما شوذب إلى عمر مخدوج مولى بني شيبان، والآخر من صليبة بني يشكر ـ قال: فيقال: أرسل نفراً فيهما هذان، فأرسل إليهم عمر: أن اختاروا رجلين فاختاروهما، فدخلا عليه فناظره، فقالا له: أخبرنا عن يزيد لم تقره خليفة بعدك؟ قال: صيره غيري، قالا: أفرأيت لو وليت مالا لغيرك، ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أديت
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ147، الآثار الواردة (2/ 677) ..
(2) سيرة عمرة لابن الجوزي صـ81، الآثار الواردة (2/ 705).
(3) جُوخي: بضم والكسر وقد يفتح: نهر بالجانب الشرقي من بغداد.(1/133)
الأمانة إلى من ائتمن (1)، وتذكر الروايات تخميناً: إن بني مروان خافوا أن يخرج عمر ما عندهم وما في أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد بن عبد الملك، فدسوا عليه من سقاه سماً، فلم يلبث أن مات في اليوم الذي تقرر أن يعطي فيه جوابه للمتفاوضين (2). يتضح من الآثار السابقة أن عمر بن عبد العزيز سلك معهم المسلك الصحيح الذي تبعه سلفنا الصالح كابن عباس وأمير المؤمنين علي رضي الله عنهما ويبدو أن عمر قد طمع في رجوع هؤلاء الخوارج ولذلك لم يترك لهم شبهة إلا كسرها وبين زيفها وكشف عوارها (3)،
ولم يجادلهم في الحق الذي معهم ولكنه طلب مهلة إلا أنه مات قبل انتهائها، وعندما استخدم خوارج العراق القوة ضد واليه عبد الحميد وتمكن الخوارج من دحر جيش الوالي، أسرع عمر بن عبد العزيز فأرسل إلى الخوارج مسلمة بن عبد الملك على رأس جيش من أهل الشام، وكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعله جيشك، جيش السوء، وقد بعثت مسلمة فخل بينه وبينهم، وتقدم مسلمة على رأس قواته إلى حيث عسكر الخوارج ودارت معركة بين الطرفين انتهت بانتصار جيش الخلافة (4). إن اضطرار عمر إلى استخدام القوة إزاء فئة من الخوارج، لم يدفعه أبداً إلى تطبيق أسلوب الشدة تجاه كل الخوارج، فما دام خصمه مستعد للحوار، فلا داعي أبداً لإراقة الدماء (5).
3 ـ السبب المفضي لقتال الخوارج: لم يأمر عمر بن عبد العزيز بقتال الخوارج لما اختلفوا معه في الرأي ولا عندما عارضوه وسبوه، بل صبر عليهم لعل الله أن يهديهم إلى الصواب، ثم لما وصلوا إلى مرحلة خطيرة وهي أخذ المال وإخافة السبيل وسفك الدماء عند ذلك أمر بقتالهم (6).
4 ـ رد متاع الخوارج إلى أهليهم: لم يسب عمر بن عبد العزيز نساء الخوارج وذراريهم ولم يستحل أموالهم، بل أمر برد متاعهم إلى أهليهم، فقد كتب إلى
_________
(1) تاريخ الطبري (7/ 460).
(2) المصدر نفسه (7/ 460) ملامح الانقلاب الإسلامي صـ97.
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (2/ 711) ..
(4) الطبقات (5/ 358) ملامح الانقلاب الإسلامي صـ94.
(5) ملامح الانقلاب الإسلامي صـ94.
(6) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 469) د. محمد شقير.(1/134)
عامله في الخوارج: فإن أظفرك الله بهم وأدالك عليهم فرد ما أصبت من متاعهم إلى أهليهم (1)، وهذا رأي علي بن أبي طالب فيهم في عدم سبي ذرية ونساء الخوارج وعدم استحلال أموالهم (2).
5 ـ حبس أسرى الخوارج حتى يحدثوا خيراً: فلما قاتلهم، فقتل منهم من قتل، واسر منهم من أسر، أمر عمر بن عبد العزيز بسجنهم حتى يحدثوا خيراً، من الرجوع إلى الحق والتخلي عن أفكارهم الضالة (3)، فلقد مات عمر بن عبد العزيز وفي حبسه منهم عدة (4). فهذا منهج وفقه عمر بن عبد العزيز في التعامل مع المعارضين من الخوارج.
ثانياً: الشيعة: تذكر في الإصلاح كإسم لكل من فضل علياً رضي الله عنه على الخلفاء الراشدين قبله رضي الله عنهم جميعاً ورأى أهل بيته أحق بالخلافة (5)، وقد تحدثت عن الشيعة بالتفصيل في كتابي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. والشيعة فرق عديدة منهم الغلاة الذين خرجوا عن الإسلام وهم يدعونه ويدعون التشيع، ومنهم دون ذلك ومن أهم فرقهم: الكسيانية، والسبئية والإمامية وغيرها. وكان لعمر بن عبد العزيز أقوال في الشيعة الغلاة، فقد قال عمر بن عبد العزيز: إني لا أعرف صلاح بني هاشم وفسادهم بحب كُثير (6)، فمن أحبه منهم فهو فاسد، ومن أبغضه فهو صالح لأنه كان خشبياً يؤمن بالرجعة (7)، وجاء عمر بن عبد العزيز كتاب من عامله على الكوفة يخبره بسوء طاعة أهلها فرد عمر: لا تطلب طاعة من خذل علياً رضي الله عنه وكان إماماً مرضياً (8)، وعن إسحاق بن طلحة بن أشعث قال: بعثني عمر بن عبد العزيز إلى العراق فقال: أقرئهم ولا تستقرئهم وحدثهم ولا سمع منهم، وعلمهم ولا تتعلم منهم. فقد كان عمر بن
_________
(1) المصدر نفسه (2/ 471).
(2) المصدر نفسه (2/ 471).
(3) المصدر نفسه (2/ 473).
(4) الطبقات (5/ 5/358 ـ 359) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 473).
(5) مقالات الإسلاميين صـ65، الآثار الواردة (2/ 727).
(6) تاريخ الإسلام نقلاً عن الآثار الواردة (2/ 728).
(7) المصدر نفسه (2/ 728).
(8) تاريخ دمشق نقلاً عن الآثار الواردة (2/ 729).(1/135)
عبد العزيز على معرفة بعقيدة كثير الشاعر ويؤيدها ما يروى أن كثير عزة له أبيات يثبت فيها عقيدته الفاسدة في الغلو في أهل البيت مثل قوله: ألا إن الأئمة من قريش
ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه
هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبر
وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الخيل يقدمها اللواء (1)
قال الذهبي قال الزبير بن بكار عن كثير: كان شيعياً يقول بتناسخ الأرواح ويقرأ ((فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)) (الانفطار، الآية: 8) قال: وكان خشبياً يؤمن بالرجعة يعني رجعة علي رضي الله عنه إلى الدنيا (2). ولم يهتم عمر بالرد على ما كان يراه كثير وغيره من الشيعة الغلاة كما اهتم بالرد على القدرية والخوارج، وحذر عمر بن عبد العزيز من مخالطة ومجالسة أصحاب البدع والأهواء (3)، ومن أشهر آراء الشيعة الغلاة:
ـ ... القول بوجوب إمامة علي رضي الله عنه، وتقديمه وتفضيله على سائر الصحابة وأن الرسول نص على إمامته.
ـ ... القول بعصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر.
ـ ... القول بالتولي والتبري قولاً وفعلاً، أي تولي علي رضي الله عنه والتبري من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاسيما الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم (4) , ومن أراد الرد على هذه المعتقدات فليراجع كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ثالثاً: القدرية في عهد عمر بن عبد العزيز:
1 ـ تعريف القدرية في الاصطلاح: للقدرية إطلاقات، خاص وعام.
_________
(1) الفرق بين الفرق نقلاً عن الآثار الواردة (2/ 734).
(2) تاريخ الإسلام نقلاً عن الآثار الواردة (2/ 734) والخشبية فرقة من الشيعة سموا بذلك لقولهم إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم فقاتلوا بالخشب منهاج السنة (1/ 36).
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (2/ 733، 734).
(4) وسطية أهل الشيعة بين الفرق صـ293، 294.(1/136)
أـ فالقدرية بالمعنى الخاص: هم المنكرون للقدر: أي المكذبون بتقدير الله تعالى لأفعال العباد أو بعضها أي: الذين قالوا: لا قدر (من الله) والأمر أنف أي مستأنف ليس لله فيه تقدير سابق كما سيأتي بيانه بإذن الله.
ب ـ القدرية بالمعنى العام: هم الخائضون في علم الله تعالى وكتابته ومشيئته وتقديره وخلقه بغير علم، وبخلاف مقتضى النصوص وفهم السلف (1)
2 ـ نشأة القول بالقدر في الإسلام:
عن جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث أخاف على أمتي الاستسقاء بالأنوار، وحيف السلطان، وتكذيب بالقدر (2)، كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من المراء والجدل في الدين عموماً وفي القدر على جهة الخصوص، وعن ضرب آيات الله والأحاديث الصحيحة بعضها ببعض، وعن إثارة الشبهات والمعارضات في نصوص القدر من ذلك ما رواه أحمد في المسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حبّ الرمان من الغضب قال: فقال لهم: مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم (3).
ب ـ تتابع الفرق ومقالاتها في القرن الأول إلى ظهور القدرية:
بعد ظهور الفرق الأولى سنة (37 ـ 40هـ) الخوارج والشيعة بقي الحال على هذا إلى ما بعد سنة (62هـ) حيث بزغ نجم القدرية النصرانية والمجوسية حين نبغ بها بعد معبد الجهني ثم توالت المقولات على منوالها تترى، أو كما قال ابن تيمية: فالبدع تكون في أولها شبراً ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذراعاً وأميالاً وفراسخ (4).
ج ـ ظهور القدرية الأولى: وتتمثل في مقولات معبد الجهني ت (80) هـ وأتباعه، ثم غيلان الدمشقي وأتباعه (105) هـ وتتلخص بأن الله تعالى (بزعمهم) لم بقدِّر أفعال العباد ولم يكتبها، وأن الأمر أنف (أي مستأنف) لم يكن في علم الله
_________
(1) القدرية والمرجئة د. ناصر العقل صـ19.
(2) مسند أحمد (5/ 90) صححه الألباني في سلسلة الصحيحة رقم 1127.
(3) مسند أحمد (2/ 178، 196) قال صاحب الزوائد: هذا إسناد رجاله ثقات.
(4) الفتاوى (8/ 425).(1/137)
ولا تقديره السابق، وكانت بدايات كلامهم في هذا بعد سنة 63هـ وهو تاريخ نشأة القدرية الأولى، إذن فالقدرية الأولى هم: الذين أنكروا علم الله السابق، وزعموا أنه تعالى لم يقدر أفعال العباد سلفاً ولم يعلمها ولم يكتبها في اللوح المحفوظ، وأن الأمر أنف (أي مستأنف) ليس بتقدير سابق من الله تعالى مما استقل العباد بفعلها وهذه مقولة غالية في القدر حيث تنكر العلم والكتابة وتقدير عموم أفعال المكلفين خيرها وشرّها فيما يظهر، هذا أول أمرهم، فلما أنكر الأئمة هذا القول صار جمهور القدرية يقرون بالعلم المتقدم والكتاب السابق، لكن ينكرون عموم مشيئة الله وقدرته وخلقه لأفعال العباد فأنكروا أن يكون الله خالقاً لأفعال العباد أو بعضها وقالوا: إن الله لا يخلق الشر، هذا ما استقرت عليه القدرية الثانية وعلى رأسهم المعتزلة (1).
وكانت مقالات القدرية الأولى تتخلص في قولين.
ـ ... إن الأمر أنف ((أي مستأنف)) ويعنون بذلك أفعال المكلفين (2) فيزعمون أن الله تعالى لم يقدرها ولم يعلمها إلا أثناء حدوثها من المكلف ويفسره الثاني.
ـ ... قولهم: إن الله تعالى لم يقدر الكتابة (أي في اللوح المحفوظ) ولا الأعمال (3)،، في السابق.
س ـ رؤوس القدرية الأولى:
ـ ... معبد الجهني ت (80) هـ: ساق ابن حجر في تهذيب التهذيب أقوال بعض أهل الجرح والتعديل فيه فقال: وقال أبو حاتم: كان صدوقاً في الحديث وكان أول من تكلم في القدر بالبصرة وكان رأساً في القدر، قدم المدينة فأفسد بها ناساً (4).
وقال الدارقطني: حديثه صالح ومذهبه ردي (5)، وقال محمد بن شعيب بن شابور عن الأوزاعي: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن، وكان نصرانياً، فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلا
_________
(1) القدرية والمرجئة، ناصر العقل صـ25.
(2) الفتاوى (7/ 385).
(3) المصدر السابق نقلاً عن القدرية والمرجئة صـ30.
(4) تهذيب التهذيب (10/ 225).
(5) تهذيب التهذيب (10/ 225) سير أعلام النبلاء (4/ 186).(1/138)
عن معبد (1). وكان مسلم بن يسار يقعد على هذه السارية فقال: إن معبداً يقول بقول النصارى
ـ ... غيلان الدمشقي المقتول (105) هـ:
غيلان الدمشقي هو الرجل الثاني بعد معبد الجهني من رؤوس بدعة القدرية وقد ظهرت مقولته بالشام وافتتن بها خلق (2)، ولم يقتصر غيلان على مقولات معبد، بل تكلم في الصفات فنفى بعض الصفات، كالاستواء (3)، ونسب إليه كذلك: القول بأن الإيمان هو المعرفة، وأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان والقول بخلق القران (4)، وهي أصول الجعد بن درهم بعده، ثم أصول الجهمية والمعتزلة، حيث وضعوا بها القواعد والأصول وناطروا فيها وتوسعوا في هذه البدع (5)، ويقال إن أول من أنكر استواء الله على عرشه وأوله بالاستيلاء. غيلان الدمشقي (قتل 105هـ) أو الجعد بن درهم (قتل 124هـ)، وقيل الجهم بن صفوان ((قتل 128هـ). وإنكار الاستواء ينسجم مع قاعدة الجعد الخبيثة في التعطيل التي أنكر بها الكلام والخلة، والأرجح أن أول من حفظ عنه أنه قال بأن الله ـ تعالى. ليس على العرش حقيقة: الجعد، ثم أخذها عنه الجهم وأظهرها (6)، وإنكار الاستواء وتأويله هو الشرارة الأولى لأهل الأهواء والتي فيها خاضوا في صفات الله ـ تعالى ـ نفياً وتعطيلاً وتأويلاً، ذلك أن الاستواء مرتبط بالعلو والفوقية، فالرؤية، ثم صفات الله الفعلية، ومنها تجرؤوا على بقية الصفات الخبرية كاليد والعين والوجه وهلم جرا (7).
3 ـ موقف عمر بن عبد العزيز من غيلان الدمشقي:
عن عمرو بن مهاجر قال: بلغ عمر بن عبد العزيز أن غيلان بن مسلم يقول في القدر، فبعث إليه فحجبه أياماً، ثم أدخله عليه فقال: غيلان ما هذا الذي بلغني
_________
(1) المصدر نفسه.
(2) القدرية والمرجئة، ناصر العقل صـ32.
(3) دراسات في الأهواء والفرق والبدع صـ251.
(4) المصدر نفسه صـ250.
(5) المصدر نفسه صـ251.
(6) الفتاوى (5/ 20) دراسات في الأهواء والفرق صـ251.
(7) دراسات في الأهواء والفرق والبدع صـ251.(1/139)
عنك؟ قال عمرو بن مهاجر. فأشرت إليه أن لا يقول شيئاً، قال: فقال: نعم يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال: ((هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)) (الإنسان، الآية 1 ـ 3). قال إقرأ آخر السورة ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) (الإنسان، الآيتان: 30 ـ 31) ثم قال: ما تقول يا غيلان؟ قال: أقول: قد كنت أعمى فبصرتني وأصم فأسمعتني وضالاً فهديتني (1). وفي رواية: دعا عمر بن عبد العزيز غيلان فقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر فقال: يا أمير المؤمنين إنهم يكذبون علي؟ فقال يا غيلان إقرأ أول ((يس)) فقرأ ((يس والقرآن الحكيم)) حتى قول: ((إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)) (يس، آيات: 1: 10).
فقال غيلان: يا أمير المؤمنين، والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فثبته وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين (2)، وجاءت روايات كثيرة في محاورة عمر بن عبد العزيز لغيلان الثقفي وكان له حديث طويل في معتقد أهل السنة في مسالة الإيمان بالقدر، وقد ناقش عمر بن عبد العزيز القدرية وسألهم عن العلم وذلك بسؤالهم عن علم الله، فإذا أقروا به خصموا وإن جحدوا كفروا فقال لغيلان الدمشقي: ما تقول في العلم. قال: قد نفد العلم. قال: فأنت مخصوم اذهب الآن فقل ما شئت ويحك يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت وإن جحدته كفرت، إن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر (3). ولعل عمر بن عبد العزيز أول من نهج هذا النهج في سؤال القدرية عن العلم، ثم صار هذا المنهج منهجاً لأهل السنة بعده، وقد استدل رحمه الله في ردوده على غيلان بآيات صريحة في الرد على المكذبين بالقدر كما جاء في بعض الروايات ـ
_________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/ 750).
(2) الإبانة (2/ 235) الآثار الواردة (2/ 749).
(3) السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل (2/ 429).(1/140)
وهي قوله تعالى: ((فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ)) (الصافات، الآيات: 161 ـ 163). قال ابن حجر رحمه الله في تفسير هذه الآيات: يقول تعالى: فإنكم أيها المشركون بالله وما تعبدون من الآلهة والأوثان ما أنتم عليه بفاتنين أي بمضلين أحداً إلا من سبق في علمي أنه صال الجحيم (1). وقد بين عمر في خطبه ورسائله أن الله تبارك وتعالى هو الهادي وهو المضل، وهذا ما جاء في الكتاب العزيز قال تعالى: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (الأنعام، الآية 39). وغيرها من الآيات وقد كانت القدرية تنكر أن يكون الله تعالى هو الهادي وهو الفاتن.
وإنما العبد هو الذي يهدي نفسه إذا شاء ويضلها إذا شاء فلعل رسائل عمر وخطبه في الجمع من الردود على هؤلاء المبتدعة وسواء قصدهم عمر بخطبه أو ألقاها بدون قصد الرد عليهم تبقى ردوداً قوية على كل من انحرف في باب القدر عن منهج الكتاب والسنة، وقد بين عمر بن عبد العزيز أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى مقدرة له مكتوبة على عباده، وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) (الصافات، الآية: 96). وقال صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس (2)). وقد بين عمر بن عبد العزيز ـ كما جاء في خطبه ـ أن العبد إذا أذنب فعليه أن يتوب ويستغفر الله تعالى ولا يحتج على الله بالقدر ولا يقول أي ذنب لي وقد قدر علي هذا الذنب، بل يعلم أنه هو المذنب العاصي الفاعل للذنب وإن كان ذلك كله بقضاء الله وقدره ومشيئته، إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وخلقه، كما رد عمر على القدرية القائلين بأن العبد له مشيئة مستقلة يستطيع بها رد علم الله فبين أن العبد له قدرة ومشيئة ولكنها تابعة لمشيئة الله تعالى (3).
4 ـ بيان مراتب القدر:
إن الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تدل بمجموعها على الإيمان بالقدر، كما تدل على الإيمان بمراتب القدر الأربعة التي اتفق السلف الصالح رحمهم الله تعالى ومن سار على نهجهم على أنه لا يتم الإيمان بالقدر، إلا بالإيمان بها كلها. وهي: العلم، والكتابة والمشيئة والخلقَ، وكانت القدرية
_________
(1) تفسير الطبري (23/ 109).
(2) مسلم رقم 2655.
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/ 769، 770).(1/141)
الموجودون في زمن عمر بن عبد العزيز ينكرون العلم والكتابة وهؤلاء هم الذين تبرأ منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب بقوله: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني (1). ومن كلام عمر بن عبد العزيز في بيان مراتب القدر رده على الرجل الذي كتب إليه فجاء في رسالته: .. كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير بإذن الله وقعت، وما أعلم ما أحدث الناس من محدثة ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرا ولا أثبت أمرا من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته، وبعد وفاته يقيناً وتسليماً، لربهم وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه ولم يحصه كتابه ولم يمض فيه قدره وأنه مع ذلك لفي محكم كتابه: منه اقتبسوه ومنه تعلموه، ولئن قلتم لم أنزل الله آية كذا ولم قال كذا، لقد قرأوا منه ما قرأتم وعلموا من تأوليه ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك كله بكتاب وقدر وكتب الشقاوة وما يقدر يكن وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا (2). ومن خلال رسائل وخطب عمر بن عبد العزيز يتضح معتقد عمر بن عبد العزيز في القدر وفي بيانه لمراتبه، فأول مراتبه:
أـ العلم: والمقصود أن الله تبارك وتعالى قد علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون قبل أن يخلقهم بعلمه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته وأنه يعلم أهل الجنة وأهل النار قال تعالى: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا)) (الأنعام، آية: 59).
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم لرجل سأله بقوله يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: كل مسير لما خلق له (3).
_________
(1) مسلم، ك الإيمان، باب القدر (1/ 36، 37).
(2) الإبانة لابن بطة (2/ 231، 232، 233)، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 510).
(3) مسلم رقم 2649.(1/142)
ب ـ مرتبة الكتابة: خطب عمر بن عبد العزيز فقال: أيها الناس من عمل منكم خيراً فليحمد الله تعالى ومن أساء فليستغفر الله، ثم إن عاد فليستغفر الله فإنه لابد لأقوام أن يعملوا أعمالاً وضعها الله في رقابهم وكتبها عليهم (1). وخطب يوماً فقال: إن الدنيا ليست بدار قرار، دار كتب الله عليها الفناء وكتب على أهلها منها الظعن (2). فهذا هو المأثور عن عمر من كتابة الله مقادير الخلائق قبل خلقهم وإحصائه كل ذلك وعلمه جزائيات كل (3) شيء. قال تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)) (الحديد، آية: 22) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء (4).
ج ـ المشيئة: والمقصود لها: أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا حركة ولا سكون في السماوات والأرض إلا بمشيئته سبحانه وتعالى فلا يكون في ملكه إلا ما يريد، وقد حرص عمر بن عبد العزيز على توضيح هذه المرتبة والرد على من أنكرها ففي رسالته إلى عامله يقول: وما يقدر يكن وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وكان يقول: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس (5)، وناظر غيلان الدمشقي وأفحمه حين بين له خطأ، في الإحتجاج بأوائل الآيات من سورة الإنسان فطلب منه أن يقرأ آخر السورة وقال له: ويحك أما تسمع الله يقول: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)). وقال تعالى: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (الأنعام، آية:) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء. ثم قال: يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك (6).
س ـ الخلق: المقصود بها: إن الله تعالى هو خالق الخلق وخالق كل شيء، فهو الذي خلق الكون وأوجده، فهو الخالق وما سواه مربوب مخلوق (7)، ولعمر بن
_________
(1) الآثار الواردة (1/ 519) نقلا عن الشريعة الآجري.
(2) سيرة عمر لابن الجوزي صـ244.
(3) الآثار الواردة (1/ 519).
(4) مسلم رقم 2653.
(5) الآثار الواردة (1/ 524).
(6) مسلم رقم 2654.
(7) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 525).(1/143)
عبد العزيز في تقرير هذه المرتبة أبلغ البيان، فقد كتب في قوله تعالى: ((وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)) (هود، الآيتان: 118 ـ 119). قال: الذين لا يختلفون خلقهم لله للرحمة (1). فهذه الآية تضمن خلق العباد وأعمالهم (2)، ولذلك قال تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ .. )) (هود، الآيتان: 118 ـ 119). وكتب إلي عدي بن أرطأة أما بعد: فإن استعمالك سعد بن مسعود على عمان من الخطايا التي قدر الله عليك وقدر أن تبتلي بها (3)، وهذا الذي قررّه عمر بن عبد العزيز دلّ عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) (الزمر، الآية: 6) وقال: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) (الصافات، الآية: 96) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس (4).
5 ـ الفرق بين القضاء والقدر في الاصطلاح:
قيل المراد بالقدر: التقدير، وبالقضاء الخلق، كقوله تعالى: ((فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)) (فصلت، الآية: 12). أي خلقهن في القضاء والقدر أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس، وهو القدر والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه (5). وقيل: إن القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق (6)، وقال ابن حجر: وقالوا ـ أي العلماء: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله (7). وقيل: إذا اجتمعا افترقا بحيث يصبح لكل واحد منهما مدلول يحسب ما مر في القولين السابقين، وإذا افترقا اجتمعا، بحيث إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر (8)، قياساً على ما جاء في التفريق بين الإيمان والإسلام والفقير والمسكين ونحو ذلك ولعل هذا التعريف توفيق بين من يرى التفرقة بين القضاء والقدر وبين من
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ74.
(2) مصنف عبد الرازق (11/ 122).
(3) مصنف عبد الرزاق (11/ 122).
(4) مسلم رقم 2655.
(5) النهاية لابن الأثير (4/ 78).
(6) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 494).
(7) فتح الباري (11/ 486).
(8) القضاء والقدر لمحمد بن إبراهيم الحمد صـ29، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 494).(1/144)
لا يرى ذلك. والذي يظهر أنه ليس هناك فرق واضح بين القضاء والقدر (1) ولا فائدة من هذا الخلاف، لأنه قد وقع الاتفاق على أن أحدهما يطلق على الآخر وعند ذكرهما معاً فلا مشاحة من تعريف أحدهما بما يدل على الآخر (2).
6 ـ الرضا بالقضاء والقدر: قال عمر بن عبد العزيز: ما أصبح لي اليوم في الأمور هوى إلا في مواقع قضاء الله فيها (3)، وكان يدعو بهذا الدعاء: اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت. وكان عمر يقول: ما برح بي هذا الدعاء حتى لقد أصبحت ومالي في شيء من الأمور هوى إلا في موضع القضاء (4). وقال حين دفن ابنه عبد الملك: رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره والحمد لله رب العالمين (5). ولما عزي في ابنه عبد الملك قال: وأنا أعوذ بالله أن يكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله فإن ذلك لا يصلح لي في بلائه عندي وإحسانه إلي (6). تحث الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في هذا المبحث على الرضا بالقضاء والمقصود بالقضاء الذي قدره الله على عبده من المصائب التي ليست ذنوباً، فإن الصبر على المصائب واجب وأما الرضا بها فهو مشروع لكن هل هو واجب أو مستحب؟ على قولين لأصحاب أحمد وغيرهما أصحها أنه مستحب ليس بواجب (7). ولا شك أن الرضا بالقضاء من تمام الإيمان بالقضاء والقدر وهو دليل على الثقة بما عند الله تعالى، فلا يندم على ما فات، ولا يفرح بما هو آت مما قدره الله تعالى له، فهو يرضى به على وفق قضاء الله له (8).
رابعاً: المرجئة:
نسبة إلى الإرجاء، وهو تأخير العمل عن الإيمان (9).
_________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/ 494).
(2) القضاء والقدر عبد الرحمن المحمود صـ44.
(3) الطبقات (5/ 372) الآثار الواردة (1/ 535).
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ97.
(5) الآثار الواردة (1/ 536).
(6) الحلية (5/ 358، 357) الآثار الواردة (1/ 537).
(7) مجموع الفتاوى (8/ 191).
(8) الآثار الواردة (1/ 538).
(9) الفرق بين الفرق للبغدادي صـ202 وسطية أهل السنة صـ294.(1/145)
والإرجاء على معنيين:
أحدهما: بمعنى التأخير في قوله تعالى: ((قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ)) أي: أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء (1)
والمرجئة في الاصطلاح فقد عرفهم الإمام أحمد بقوله: هم الذين يزعمون أن الإيمان مجرد النطق باللسان وأن الناس لا يتفاضلون في الإيمان وأن إيمانهم وإيمان الملائكة والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم واحد، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأن الإيمان ليس فيه استثناء وأن من آمن بلسانه ولم يعمل فهو مؤمن حقاً (2). والمرجئة الخالصة: وهم الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ومن هؤلاء جهم وأصحابه (3)، وأول من تكلم في الإرجاء الذي هو تأخير الأعمال عن الإيمان غيلان الدمشقي، كما يقول الشهرستاني (4)، وأما الإرجاء المنسوب إلى أبي محمد الحسن بن محمد المعروف بابن الحنفية فليس هو الإرجاء في الإيمان، وإنما هو إرجاء أمر المقاتلين من الصحابة إلى الله عز وجل (5)، وقال ابن سعد في ترجمته وهو أول من تكلم في الإرجاء ـ ويذكر كذلك ـ أن زاذان وميسرة دخلا عليه فلاماه على الكتاب الذي وضع في الإرجاء فقال لزاذان: يا أبا عمر لوددت أني كنت مت ولم أكتبه (6)، فهذا الكتاب إنما فيه إرجاء أمر المشتركين في الفتنة التي حدثت بعد خلافة أبي بكر وعمر إلى الله عز وجل (7)، وقد ذكر ابن حجر: أنه أطلع على هذا الكتاب الذي ألفه الحسن بن محمد وقال: المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد في غير الإرجاء الذي عيبه أهل السنة: المتعلق بالإيمان (8) ,
_________
(1) الملل والنحل للشهرستاني (1/ 139).
(2) موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع (1/ 152).
(3) وسطية أهل السنة بين الفرق صـ294.
(4) الملل والنحل (1/ 139).
(5) وسطية أهل السنة بين الفرق صـ295.
(6) الطبقات (5/ 328) قضية الثواب والعقاب، د. السميري صـ30.
(7) قضية الثواب والعقاب للسميري صـ30.
(8) تهذيب التذهيب (2/ 320)، قضية الثواب والعقاب صـ30.(1/146)
وأهم أقوالهم التي فاقوا فيها أهل السنة:
ـ قولهم بتأخير الأعمال عن مسمى الإيمان.
ـ وقول الخالصة منهم: أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة (1).
وقد جاءت عن عمر بن عبد العزيز آثار خاصة تدل على زيادة الإيمان وإدخال الأعمال فيه. وهذه الآثار رد على المرجئة ولاسيما وأن أهل العلم قد ذكروا هذه الآثار في معرض ردودهم على المرجئة. كما ورد عنه ـ رحمه الله تعالى ـ التحذير عن البدع كلها ولا بدعة أظهر من بدعة الإرجاء (2)، وهاهي الآثار الواردة عنه في هذا المبحث، فقد مرّ معنا قوله: إن للإسلام حدوداً وشرائع وسنناً فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان فإن أعشى أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص (3). وقال: لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها يحسب أنها هدى (4). وقال: فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيرا (5). يتبين مما سبق أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كان حريصاً على رد البدع كلها. حتى ولو أدى ذلك إلى أن يضحي بأعضائه كلها وقد بين في تلك الآثار القول الصحيح في الإيمان وأنه يشمل العبادات كلها وأولى عناية خاصة بشعبه، ووعد بأنه إن عاش فسيحمل رعيته عليها، ففي هذا المأثور عنه بيان للقول الصحيح في الإيمان، وقد وضحت مفهومه للإيمان عند الحديث عن اهتمامه بعقائد أهل السنة، كما أن فيه الرد على بدعة الإرجاء لأن إحقاق الحق إبطال للباطل، وهذا المأثور عنه هو الحق الثابت عنه في مسألة الإيمان (6).
وأما ما رواه ابن سعد في الطبقات أن عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة جاءه راحلاً إليه عون بن عبد الله وموسى بن أبي كثير وعمر بن حمزة وفي بعض المراجع عمر بن ذر فكلموه في الإرجاء وناظروه فزعموا أنه وافقهم ولم يخالفهم في شيء منه (7). فهذا لا يثبت عنه لما يلي:
_________
(1) وسطية أهل السنة بين الفرق صـ295.
(2) الآثار الواردة (2/ 813).
(3) سيرة عمر لابن الحكم صـ40، الآثار الواردة (2/ 813).
(4) الآثار الواردة (2/ 814).
(5) الطبقات (5/ 343).
(6) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/ 814).
(7) الطبقات (6/ 339) سير أعلام النبلاء (5/ 104).(1/147)
ـ لأن ابن سعد رواه بدون سند فهو إذا منقطع.
ـ ولأنه زعموا فيه صيغة التمريض (زعموا).
ـ وأيضاً إن مثل هذا الزعم والادعاء لا يعول عليه لأن رواته متهمون بالإرجاء (1).
هذا وعلى فرض تسليم تلك الرواية فإن عون بن عبد الله قد تاب عن الإرجاء. وقد روى ذلك اللالكائي بسنده عن نوفل الهذلي عن أبيه قال: كان عون بن عبد الله بن مسعود من آداب أهل المدينة وأفقههم وكان مرجئاً ثم رجع فأنشد يقول:
لأول ما نفارق غير شك
نفارق ما يقول المرجئونا
وقالوا مؤمن من أهل جور
وليس المؤمنون بجائرينا
وقالوا مؤمن دمه حلال
وقد حرمت دماء المؤمنين (2)
فثبت أن عون بن عبد الله رحمه الله قد رجع عن القول بالإرجاء ولعل قوله بالإرجاء كان قبل اتصاله بعمر رحمه الله تعالى اتصالاً وثيقاً وكونه من المقربين عنده (3).
خامساً: الجهمية: تنتسب الجهمية إلى الجهم بن صفوان من أهل خراسان ومولى لبني راسب، تتلمذ على الجعد بن درهم وكان كاتباً للحارث بن سريح (4)، الذي أثار الفتن ضد الدولة الأموية في خراسان، وكان جهم يقرأ سيرته ويدعو إلى توليته (5)، ويحرص الناس على الخروج معه وفي سنة 128هـ وقعت معركة بين جيش أمير خراسان ـ نصر بن سيار ـ وجيش الحارث بن سريح، وكان جهم بن صفوان
_________
(1) الآثار الواردة (2/ 815).
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 1077).
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (2/ 816).
(4) حقيقة البدعة وأحكامها (1/ 115).
(5) الكامل في التاريخ نقلاً عن حقيقة البدعة (1/ 115).(1/148)
في جيش الحارث، فطعنه رجل في فمه فقتله، وقيل بل اسر وأوقف بيت يدي سلم بن أحوز (1) فأمر بقتله (2)، وأهم أصول الجهمية:
1 ـ تبنى الجهم آراء الجعد بن درهم والتي هي نفي صفات الله عز وجل، والقول بخلق القرآن ثم زاد عليها بدعاً أخرى.
2 ـ القول بالجبر، حيث زعم أن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور على أفعاله.
3 ـ القول بأن الإيمان هو المعرفة حيث زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى فقط وأن الكفر هو الجهل به فقط.
4 ـ القول بفناء الجنة والنار حيث زعم أنهما تفنيان بعد دخول أهلها فيهما، إذا لا يتصور على حسب زعمه حركات لا تتناهى.
5 ـ القول بأن علم الله حادث، حيث زعم أنه لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه (3). فنفي الصفات أخذها الجهم من الجعد ومن الفلاسفة، والسمنية (4)، وذلك أن الجهم كان فصيح اللسان ولم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم فكلم السمنية فقالوا له: صف لنا ربك عز وجل الذي تعبده، فدخل البيت ولم يخرج ثم خرج إليهم بعد أيام فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء، وروى الإمام أحمد يرحمه الله مناظرة وقعت بين الجهم والسمنية في إثبات الله عز وجل انتهى فيها الجحم إلى أن شبه الله فيها الروح التي لا ترى ولا تحس ولا تسمع (5). ويقول ابن تيمية: إن الجعد بن درهم قيل أنه من أهل حران وكان فيهم خلق كثير من الصائبة والفلاسفة ... ومذهب النفاه من هؤلاء في الرب: إنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منها ... فيكون الجعد قد أخذها من الصائبة والفلاسفة (6)، وكان الجهم قد أخذ
_________
(1) البداية والنهاية نقلاً عن حقيقة البدعة وأحكامها (1/ 115).
(2) البداية والنهاية نقلاً عن حقيقة البدعة (1/ 116).
(3) تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة (1/ 131).
(4) السمنية: قوم من الزنادقة الهنود لهم فلسفة خاصة ومدرسة فكرية ضالة. طاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي (2/ 392).
(5) الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد صـ44، 45.
(6) الفتاوى (5/ 21، 22) تناقض أهل الأهواء والبدع (1/ 131).(1/149)
بمعتقدات الجعد (1). وأما القول بالجبر فقد قاله المشركون من العرب قبله، قال تعالى: ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)) (النحل: آية: 35).
فيخبر الله تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك محتجين بالقدر، فمضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهاً لما فعلناه لأنكره علينا بالعقوبة ولما مكننا منه (2)، وأما القول بأن الإيمان هو المعرفة فقد قالت بهذا القول المرجئة قبله، وأما القول بفناء الجنة والنار فمصدره الإسماعيلية (3) والباطنية وأهل الكلام واليهود، يقول ابن أبي العز يرحمه الله عن الجهم بن صفوان: وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة وليس له سلفاً قط لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين ولا من أهل السنة ... وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث وهو عمدة أهل الكلام المذموم (4). وأهل الكلام المذموم عامتهم لا يرون قطيعة شيء من دلالة الكتاب والسنة، دلالتها كلها عندهم ظنية، فالمتكلمون قد أخذوا علومهم ومصطلحاتهم من الفلاسفة والمناطقة (5)، الذين يرجعون في أصولهم إلى المجوس والنصارى واليهود. وأم القول بأن علم الله حادث فقد اقتبسه الجهم من معبد، ومعبد أخذه من سوسن النصراني، فدل ذلك على مدى تأثر كبار الفرق وأخذه من الأمم الهالكة، فما بالك بمن جاء بعدهم (6). وما جاء من الآثار عن عمر بن عبد العزيز تعتبر ردوداً عامة على الجهمية وقد أوردها علماء السلف ضمن ردودهم عليهم كالإمام أحمد والدارمي، وغيرهما من علماء السلف.
فعن جعفر بن برقان، قال: جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فسأله عن بعض الأهواء فقال: انظر دين الإعرابي والغلام في الكتاب فاتبعه وإله عما سوى ذلك (7). وقال: سن رسول
_________
(1) تناقض أهل الأهواء والبدع (1/ 131).
(2) تفسير القرآن العظيم (2/ 626).
(3) الإسماعيلية: منسوبون إلى محمد بن إسماعيل وهو ابن جعفر الصادق، يقولون بالتفسير الباطني وإن الله عز وجل اختص بالعلم علي بن أبي طالب، ويقولون بكفر من خالف علياً الفرق بين الفرق صـ42، تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة (1/ 132).
(4) شرح العقيدة الطحاوية صـ420.
(5) تناقض أهل الأهواء والبدع (1/ 133).
(6) المصدر نفسه (1/ 133).
(7) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (2/ 819).(1/150)
الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها اعتصام بكتاب الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً (1). قال عبد الله بن عبد الحكم، فسمعت مالكاً يقول: وأعجبني عزم عمر في ذلك (2). وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل (3). وهذه الآثار عن عمر بن عبد العزيز أوردها علماء السلف في ردهم على الجهمية، ولا شك أنها تعتبر رداً على جميع المبتدعة، وذلك في أمره رحمه الله بالتمسك بما تدل عليه الفطرة من إثبات ما للخالق من صفات الكمال ونعوت الجلال، كإثبات الفوقية والعلو، وغير ذلك مما تدل عليه الفطرة السليمة. وكذلك أمره بالنهي عن الخصومات في الدين بغير علم، ولم يقع جهم فيما وقع فيه إلا بسبب الخصومات فيما لا علم له به، فضل وأضل وكان السلف الصالح يستدلون بما أثر عن عمر بن عبد العزيز في الأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن الخلفاء الراشدين من بعده في ردهم على الجهمية مثلما فعله ابن تيمية في الفتوى الحموية حيث ذكر أن أبا القاسم الأزجي روى بإسناده عن طرف بن عبد الله، قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز ويذكر الأثر سن رسول الله ولاة الأمر من بعده ..
وقال الشاطبي متحدثاً عن هذا الأثر: إنه كلام مختصر جمع أصولاً حسنة من السنة منها قطع مادة الابتداع جملة. ومنها المدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها ومنها أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله فقد جمع كلام عمر أصولاً حسنة وفوائد مهمة (4)، وقد أورد الإمام أحمد في كتابه ((الرد على الجهمية)) أثر عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر (5) التنقل، وقد أخذت المعتزلة من الجهمية نفي صفات الله
_________
(1) المصدر نفسه (2/ 820).
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ40.
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 425).
(4) الاعتصام نقلاً عن الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/ 822).
(5) الرد على الجهمية الإمام أحمد صـ69.(1/151)
والقول بخلق القرآن وهذا الاتفاق بين الجهمية والمعتزلة على نفي صفات الله والقول بخلق القرآن جعل كثيراً من محققي علماء المسلمين يسمون المعتزلة جهمية ولهذا لا بد من الحذر عند اطلاق أسماء الفرق بعضها على بعض، لأنه لا يكاد توجد فرقة إلا وتشترك مع أخرى في جانب من الاعتقاد، فلو تجوزنا في إطلاق اسم هذه الفرقة على من شاركها لحصل الإلتباس وما استقام المنهج أبداً، إذن لا بد من إطلاق اسم الفرقة على المسمى الصحيح بحيث لا يستعار لغيرها البتة وهذا من ناحية علمية أدق وأسلم (1).
سادساً: المعتزلة: اسم يطلق على تلك الفرقة التي ظهرت في الإسلام في أوائل القرن الثاني على يد واصل بن عطاء (2)، وسلكت منهجاً عقلياً صرفاً في بحث العقائد، وقررت أن المعارف كلها عقلية حصولاً، ووجوباً، قبل الشرع وبعده، وهم أرباب الكلام، وأصحاب الجدل (3).
1 ـ نشأة المعتزلة وسبب التسمية:
دخل رجل على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون مصير أصحاب الكبائر لأمر الله تعالى، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ ففكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام لفوره، واعتزل حلقة شيخة إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من اصحاب الحسن فقال الحسن: اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة (4)، وهذا القول يكاد يجمع عليه مؤرخي الفرق (5)،
_________
(1) قضية الثواب والعقاب بين مدارس الإسلاميين صـ34.
(2) أبو حذيفة واصل بن عطاء البصري، الغزّال المتكلم، كان من أجلاد المعتزلو سمع الحسن البصري، له من التصانيف كتاب: أضاف المرجئة، وكتاب: معاني القرآن وهو من الطبقة الرابعة من طبقات المعتزلة ت 131هـ.
(3) التنبيه والرد للملطي صـ50، تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة، عبد اللطيف الحفطي صـ
(4) الفرق بين الفرق صـ118.
(5) آراء المعتزلة الأصولية د. علي الضويحي صـ71.(1/152)
ولا علاقة بتسمية المعتزلة بالصحابة الكرام لا من قريب ولا بعيد، فالصحابة الذين اعتزلوا الفتنة بين علي ومعاوية وفي الجمل رضي الله عنهم لم يسموا معتزلة بالمعنى الاصطلاحي الذي يفهم من مدلول هذه الكلمة وإنما بالمعنى اللغوي، يؤيد ذلك أن المعتزلة الذين نحن بصدد الحديث عنهم إنما سموا بذلك لاعتزالهم مذهب أهل السنة والجماعة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أئمة أهل السنة والجماعة، فكيف يُجعلون سلفاً للمعتزلة الذين اقتفوا أثر العقل دون الشرع؟ وبذلك يعلم خطأ من جعل أصحاب رسول الله سلفاً لهؤلاء المعتزلة فإن المعتزلة جعلوا الاعتزال ديناً لهم يتعبدون الله تعالى على أساس تعاليمه، وأما أولئك الصحابة اعتزلوا الفتنة طلباً للسلامة من الإثم وصوناً للدماء (1). وقد تميز المعتزلة عن أهل السنة والجماعة بمدرسة منهجية فكرية خاصة، الهيمنة فيها للعقل وحده بلا منازع وتركوا التمسك بالنصوص الشرعية، التي فيها محض الهدى والعصمة من الانحراف والضلال (2).
2 ـ فرق المعتزلة: فلمّا كانت القاعدة الرئيسة التي اعتمد عليها المعتزلة هي العقل به يثبتون وبه ينفون، وبسبب انغماس المعتزلة في الفلسفة اليونانية القائمة على الجدل والخصومة دبَّ الخلاف بين رجال هذه الفرقة، وتشعبت أراؤهم، وتفرقوا إلى اثنتين وعشرين فرقة منها: الواصلية والعمروية والهذلية والنظامية ... الخ. ولكل فرقة من هذه الفرقة بدع خاصة بها، وكلهم يجتمعون على الأصول الخمسة في الجملة، لكنهم يختلفون في جزئيات داخل هذه الأصول، ولا عجب في ذلك ما دام العقل هو المحكِّم عندهم ولكل اهتماماته المختلفة عن الآخر (3).
3 ـ دور المعتزلة في إحياء عقائد الفرق التي سبقتها:
أخذت المعتزلة عن ثلاث فرق سابقة عليها، وأحييت بدورها تلك العقائد ولكن بشكل آخر، فأخذت عن الخوارج، وعن القدرية الغلاة، وعن الجهمية (4).
- ما أخذته من الخوارج:
أـ حكم مرتكب الكبيرة في الآخر:
يقول البغدادي: ثم إن واصلاً وعمراً، وافقا الخوارج في تأييد عقاب صاحب الكبيرة في النار مع قولهما بأنه موحِّد، وليس
_________
(1) المصدر نفسه صـ72.
(2) آراء المعتزلة الأصولية صـ76.
(3) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ18.
(4) المصدر نفسه صـ19.(1/153)
بمشرك ولا كافر (1). من هذا النص يظهر لنا أن المعتزلة أحيت عقيدة الخوارج في صاحب الكبيرة في الآخرة، ولكن لم تحكم عليه بالكفر في الدنيا (2).
ب ـ الخروج على أئمة الجور:
إن مما أجمعت الخوارج: وجوب الخروج على الإمام الجائر بالقوة والسلاح لإزالة الظلم والبغي، وإقامة العدل والحق كما يقولون (3)، وصرفوا نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى منازعة الأئمة والخروج عليهم وقتال المخالفين (4). وقد أخذت المعتزلة هذا المبدأ عن الخوارج وأحيوه نظرياً تحت أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول أبو الحسن الأشعري: أجمعت المعتزلة إلاّ الأصم على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان، واليد، والسيف، كيف قدروا على ذلك (5). وقال في موطن آخر: وأوجبوا الخروج على السلطان على الإمكان والقدرة (6).
ج ـ قضية التأويل (7): الخوارج هم أول من فتح باب التأويل الباطل في تاريخ الأمة، فأعملوا التأويل في نصوص الحكم بغير ما أنزل الله، ونصوص الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم جاءت الفرق بعدها فورثت هذا المنهج وطبقته في الاستدلال على بدعها التي أحدثتها، ومن تلك الفرق: المعتزلة التي أعملت التأويل في نصوص الصفات لتقرر التعطيل، بينما لم يكن استعماله في نصوص الصفات عند الخوارج (8). وقال ابن تيمية: ولم يعرف فيهم ـ الخوارج ـ الكلام وتأويل الصفات إلا بعد ظهور المعتزلة (9).
_________
(1) الفرق بين الفرق صـ119، تأثير المعتزلة صـ20.
(2) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ20.
(3) مقالات الإسلاميين (1/ 204) الملل والنحل (1/ 115).
(4) الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام ناصر العقل صـ37.
(5) مقالات الإسلاميين (1/ 337) تأثير المعتزلة صـ21.
(6) مقالات الإسلاميين (2/ 157) تأثير المعتزلة صـ21.
(7) التأويل البدعي: صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره من غير قرينة.
(8) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ22.
(9) المصدر نفسه صـ22.(1/154)
واستخدم المعتزلة التأويل في نصوص القدر، ولم يكن هذا عند الخوارج أيضاً وهكذا، فالخلاصة: أن المعتزلة ورثت منهج التأويل من الخوارج، وعضّت عليه بالنواجذ، وأصبح عندهما قاعدة للتعامل مع نصوص الكتاب والسنة.
* ـ ... القدرية: وأما عن القدرية، فأخذ المعتزلة القول بنفي القدر وأحيته، ولكن ليس بشكله الغالي الذي يتضمن نفي علم الله تعالى وهو الذي كان عليه القدرية الأوائل، فإن هذا القول قد تلاشى وسقط لسببين:
ـ ... قلة عدد القائلين بالقدر على هذا النحو.
ـ ... وقوف الصحابة الذين أدركوا هذه المقالة وعلماء التابعين ضد هذه المقولة بحزم، تارة بالبراءة من أهلها كما فعل ابن عمر رضي الله عنه، فقد قال لمن جاء بخبرهم: فأخبرهم إني بريء منهم، وإنهم برآء مني (1)، أو بإهانتهم واحتقارهم، كما فعل طاووس بن كيسان مع معبد الجهني حين رآه في المطاف حيث التفت إلى الناس وقال: هذا معبد فأهينوه (2)، أو بقتلهم وقطع دابر فتنتهم بعد تكفيرهم كما فعل بغيلان الدمشقي حين أصر على هذه العقيدة الفاسدة (3). لكن المعتزلة أحيت هذه العقيدة بطريقة خفضت فيها من غلو السابقين فأثبتت لله تعالى العلم والكتابة، وأنكرت مرتبتي الإرادة والخلق حيث قرروا أن العباد هم الخالقون بأفعالهم، وأنهم يفعلونها بمحض مشيئتهم دون مشيئة الله تعالى (4). ولهذا لم يكفرهم العلماء كما كفروا القدرية الغلاة السابقين، قال ابن تيمية: وأما القدرية الذين ينفون الكتابة والعلم فكفروهم ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال (5).
* ـ ... الجهمية: مهد التعاصر والتزامن بين الفرقتين والاتصالات الشخصية التي كانت بين جهم وبعض أصحاب واصل لأخذ المعتزلة من الجهمية عقيدتهم في التوحيد والتي تضمنت:
أـ ... نفي الصفات: يقول ابن تيمية: ثم أن أصل هذه المقالة ـ مقالة التعطيل للصفات ـ إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين .. فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام .. هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه (6). ثم إن المعتزلة ورثت هذه البدعة من
_________
(1) مسلم، شرح النووي، ك الإيمان (1/ 156).
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 637).
(3) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ24.
(4) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس صـ117.
(5) الفتاوى نقلاً عن تأثير المعتزلة صـ24.
(6) الفتوى الحموية الكبرى تحقيق شريف هزاع صـ47، 48.(1/155)
الجهمية وأحيتها ولكن بشكل خفضت فيه من غلو الجهمية، فإن الجهمية كانت تنفي عن الله الأسماء والصفات (1)، كما ذكر ابن تيمية: أن الجهم زاد نفي الأسماء على نفي الصفات (2)، أما المعتزلة فإنهم يثبتون الأسماء وينفون الصفات (3).
ب ـ القول بخلق القرآن، ونفي رؤية الله تعالى مطلقاً: قال ابن تيمية في المعتزلة: وتوحيدهم هو توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات وغير ذلك، قالوا: إن الله لا يرى وأن القرآن مخلوق (4). فهذه جملة ما أخذه المعتزلة عن الفرق السابقة عليها وهم الخوارج والقدرية والجهمية، وقد ظهر دورهم في إحيائها وقد غير المعتزلة في كثير منها حتى تخف الوطأة عليها، كما أنها جمعت لتلك العقائد الأدلة العقلية الفلسفية ثم جاءت الفرق فأخذت تلك العقائد بصورتها عن المعتزلة واستدلت بأدلة المعتزلة عليها (5).
4 ـ أصول المعتزلة الخمسة: اتفق جميع المعتزلة فيما بينهم على أصول خمس عقدية، جعلوها أساساً مهماً لمذهبهم الإعتزالي، وهذه الأصول هي: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (6) ومصطلح الأصول الخمسة لم يظهر عند واصل بن عطاء، وإنما أخذ عن تلاميذه واكتمل عند أبي الهذيل العلاف، والذي وصلت به الفرقة إلى ذروة الاعتزال، واكتملت على يديه موضوعاته، وقد كتب في الأصول الخمسة بعض فصول كتبه، ثم تتالت الكتب التي تحمل هذا المصطلح على يد جعفر بن حرب، والقاضي عبد الجبار وغيرهما من رجال المعتزلة (7)، ومع بداية الدولة العباسية نشطت حركة المعتزلة، وبدأوا يرسلون الرسل في الآفاق للدعوة إلى مذهبهم ومعتقدهم، وقد حظي مذهبهم بتأييد بعض الخلفاء العباسيين وخاصة في عهد المأمون، ونترك مناقشة أصول الاعتزال وموقف أهل السنة منها عند حديثنا عن الدولة العباسية بإذن الله تعالى.
_________
(1) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ25.
(2) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ25 نقلاً عن الفتاوى.
(3) المصدر نفسه صـ25.
(4) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ26 نقلاً عن الفتاوى.
(5) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ26.
(6) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ26، آراء المعتزلة الأصولية صـ79.
(7) نشأت الفكر الفلسفي في الإسلام د. النشار (1/ 417) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ27.(1/156)
المبحث الخامس: حياته الاجتماعية والعلمية والدعوية:
أولاً: الحياة الاجتماعية:
ـ إهتمامه بأولاده وأسرته:
أشرف عمر بن عبد العزيز على تربية وتعليم أولاده بنفسه ولم تشغله مسئولياته عن تنشئتهم التنشئة الصالحة، المستمدة من تعاليم الدين الإسلامي ونستشف ذلك من خلال رسائله لهم، ولمن أوكل إليه تأديبهم.
1 ـ ربطهم بالقرآن الكريم: ربط عمر بن عبد العزيز أولاده بالقرآن الكريم وكان يأذن لهم يوم الجمعة بالدخول عليه قبل أن يأذن للناس ليتدارس معهم القرآن الكريم: فإذا قال: إيها (1) قرأ الأكبر منه ثم إذ قال: إيها، قرأ الذي يليه حتى يقرأ طائفة منهم (2)
2 ـ تعهدهم بالنصيحة: فقد أرسل في العام الذي استخلف فيه إلى أبنه عبد الملك، وهو إذ ذاك في المدينة يقول فيما قال فيها: ... فمن كان راغباً في الجنة وهارباً من النار ـ يقصد عبد الملك وأخوته ـ فالآن التوبة مقبولة، والذنب مغفور، قبل نفاذ الأجل، وانقضاء العمل، وفراغ من الله للمنقلبين ليدنيهم بأعمالهم في موضع لا تقبل فيه الفدية، ولا تنفع فيه المعذرة، تبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يردُدُه الناس بأعمالهم، ويصدرون عنه أشتاتاً إلى منازلهم، فطوبى يومئذ لمن أطاع الله، وويل يومئذ لمن عصى الله (3). وفي موضع آخر من هذه الوصية يحث ولده على ذكر الله وشكره عز وجل ومراقبته في القول والعمل، فيقول: .. فاذكر فضل الله عليك وعلى أبيك، وإن استطعت أن تكثر تحريك لسانك بذكر الله تحميداً، وتسبيحاً، وتهليلاً فافعل، فإن
_________
(1) قوله: (إيها) إشارة البدء في القراءة وكذلك الذي يليه.
(2) سياسة عمر بن عبد العزيز في رد المظالم صـ52.
(3) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ298.(1/157)
أحسن ما وصلت به حديثاً حسناً حمد الله وشكره، وإن أحسن ما قطعت به حديثاً سيئاً حمداً لله وذكره (1).
3 ـ الحث على التسامح وحسن الظن: كان رحمه الله يحثهم على التسامح وحسن الظن في الناس، فإن بعض الظن إثم، فيروى قال مرة لابنه عبد العزيز: إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم، فلا تحملها على شيء من الشر،
4 ـ الأسلوب اللين والمحاورة العاقلة: كان رحمه الله يتعامل معهم بالأسلوب اللين، دون أن ينصرف إلى التدليل الذي يفسد الأبناء ويحاورهم محاورة العقلاء ويستخدم أسلوب الإقناع والمنطق في التفاهم معهم، وتلبية طلباتهم (2)، فيروى أن أبنه عبد الله استكساه ذات مرة وهو خليفة، فأرسله إلى الخيار بن رباح البصري وقال له: خذ مما عنده لي من ثياب. فلم تعجبه فعاد إلى أبيه وقال: يا أبتاه استكسيتك، فأرسلتني إلى الخيار بن رباح، فأخرج لي ثياباً ليست من ثيابي ولا من ثياب قومي، فقال: ذاك ما لنا عند الرجل. فأنصرف عبد الله، فما كان عمر رضي الله عنه الأب المربي، إلا أن اتخذ موقفاً وسطاً مقنعاً، فجمع بين إجابة طلب ولده، وأنه لا يتوفر كل مطلوب أو مرغوب دائماً: فناداه قبل أن ينصرف وقال له مخيراً إياه: هل لك أن أسلفك من عطائك مئة درهم؟ قال: نعم يا أبتاه: فأسلفه مائة درهم فلما خرج عطاؤه حُوسب بها فأخذت منه (3)، ومما يروى أيضاً في حسن إجابته لأولاده وإقناعهم، أن ابنة له بعثت إليه بلؤلؤة وقالت له: إن رأيت أن تبعث لي بأخت لها، حتى أجعلها في أذني فلم يرد عليها بالإجابة ولا بالرفض، وإنما الأمر مرتبط بصبرها على الجمر، إذ أرسل لها بجمرتين وقال لها: إن استطعت أن تجعلي هاتين الجمرتين في إذنيك بعثت إليك بأخت لها (4)، فكان جواب مقنع لها (5).
5 ـ حرصه على العدل بينهم:
وما يذكر من حسن معاملته رحمه الله لأولاده، حرصه على العدل بينهم مع كثرتهم، حتى لا يحقد أحدهم على الآخر أو
_________
(1) المصدر نفسه صـ298.
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز صـ101.
(3) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ312.
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ134.
(5) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ101.(1/158)
يبغضه، فقد تحرى رحمه الله العدل حتى إيثاره لابن الحارثية أن ينام معه، إذ تركه خشية أن يكون جوراً (1)، وفي هذا الصدد يروى عن عبد العزيز ابن عمر بن عبد العزيز قوله: كان عمر بن عبد العزيز له ابن من امرأة من بلحارث بن كعب، وكان يحبه وينام في بيته، قال: فتعرضت له ذات ليلة، فقال: أعبد العزيز؟ قلت: نعم. قال: شرٌ ما جاء بك؟ ادخل، فجلست عند شاذكونته (2)، وهو يصلي .. فأتاني فقال: مالك؟ فقلت: ليس أحد أعلم بولد الرجل منه، وإنك تصنع بابن الحارثية ما لا تصنع بنا، فلست آمن أن يقال ما هذا إلا من شيء تراه عنده ولا تراه عندنا. فقال: أعلمك هذا أحد؟ فقلت: لا. قال: فأعد عليّ. فأعدت عليه. فقال: أرجع إلي بيتك. فرجعت، فكنت أنا وإبراهيم وعاصم وعبد الله ـ وهم من أخوانه ـ نبيت جميعاًُ فإذا نحن بفراش يحمل وتبعه ابن الحارثية ـ وهو أخوهم ـ فقلنا: ما شأنك؟ قال: شأني ما صنعت بي، قال: كأنه خشي أن يكون جوراً (3).
6 ـ تنمية الأخلاق الفاضلة عندهم: كان يحرص على تنمية الأخلاق الفاضلة عند أولاده ويتحين الفرص لتحقيق ذلك ما استطاع، ففي سياق رسالته رحمه الله إلى ولده عبد الملك، وهو في المدينة ينهاه عن التفاخر والمباهاة في الكلام، والإعجاب بالنفس، والغرور والتعالي على الناس، فيقول له: .. وإياك أن تفحر بقولك، وأن تعجب بنفسك أو يخيل إليك إن ما رزقته لكرامة لك على ربك، وفضيلة على من لم يرزق مثل غناك (4).
7 ـ تربية أولاده على الزهد والاقتصاد في المعيشة: تتجلى شخصية عمر رحمه الله التربوية بقدرته على جعل أولاده يتقبلون التحول من فترة النعيم إلى فترة الزهد والتقشف، وأن يقنعهم بالعيش كعامة الناس، بدلاً من حياة الترف والرفاهية، فمن أول إجراءاته إن جاء في سياق رسالته التربوية لابنه عبد الملك وهو في المدينة والتي جاء فيها: .. فإن ابتلاك الله بغنى اقتصد في غناك، وضع لله نفسك، وأد إلى الله فرائض حقه من مالك ـ يقصد الزكاة والصدقة وعدم الإسراف ـ وقل كما قال العبد الصالح: ((هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ
_________
(1) المصدر نفسه صـ102.
(2) الشاذكونة: هي ثياب غلاظ مضربة تعمل باليمن.
(3) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ52، 53.
(4) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز صـ314.(1/159)
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)) (النمل، الآية: 40). وكانت هذه الرسالة عقب توليه الخلافة مباشرة، في حين لا تزال فترة النعيم والرفاهية قائمة، إذ إتبع أسلوباً تربوياً رائعاً في ذلك، حيث أخذ الأمر بالتدرج، فأشعره بأن الغنى وكثرة المال ابتلاء من الله عز وجل، ثم أمره بالاقتصاد فيما هو فيه من الغنى، ثم قرن الأمر بالتواضع لله وأخيراً أكد على ضرورة أداء حق الله، من زكاة الأموال والصدقات وامتثال أمر الله عز وجل (1). وفي موقف آخر، إذ بلغه رحمه الله إن ابناً له إتخذ خاتماً، واشترى لهذا الخاتم فصاً بألف درهم، فكتب إليه عمر: أما بعد: فقد بلغني أنك اشتريت فصَّاً بألف درهم، فبعه، وأشبع ألف جائع، واتخذ خاتماً من حديد صيني، واكتب عليه: رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه (2). ونلاحظ أن عمر ربط أمره ببيع الفص بوجود جائعين وحاجتهم للإشباع ليكون ذلك أجدى لإدراك مغزى الأمر، والتحري في إنفاق الأموال مستقبلاً، وليكن أمر الفقراء والمساكين نصب أعين أبنائه دائماً (3)،
وذات يوم طلب أحد أبناء عمر بن عبد العزيز إلى أبيه أن يزوجه، وأن يُصدق عنه من بيت المال ـ وقد كان لابنه ذلك امرأة ـ فغضب رضي الله عنه لذلك، وكتب يقول: لقد أتاني كتابك تسألني أن أجمع لك بين الضرائر من بيت المال، وأبناء المسلمين لا يجد أحدهم امرأة يستعف بها، فلا أعرفن وما كتبت بمثل هذا .. ثم كتب إليه أن أنظر إلى ما قبلك من نحاسنا ومتاعنا فبعه، واستعن بثمنه على ما بدا لك (4). ولم يقتصر الأمر على الذكور من أولاده، بل شمل الذكور والإناث على ذلك أن ابنة لعمر بن عبد العزيز يقال لها ((أمينة)) مرت به يوماً، فدعاها عمر: يا أمينة، فلم تجبه فأمر بها، فقال: ما منعك أن تجيبي؟ فقالت إني عارية ـ أي ملابسها ليست حسنة ـ فقال: يا مزاحم: انظر إلى تلك الفرش التي فتقناها، فاقطع لها منها قميصاً (5)، هذا عن كساء بنات عمر، أما عن طعامهن، فيروى ابن
_________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز صـ106.
(2) سيرة عمر ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ298.
(3) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ106 ..
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ106.
(5) حلية الأولياء (5/ 261) النموذج الإداري صـ108.(1/160)
عبد الحكم أن عمر: كان يصلي العتمة (1)، ثم يدخل على بناته فيسلم عليهن، فدخل عليهن ذات ليلة فلما أحسنَّه وضعن أيديهن على أفواههن ثم تبادرن الباب، فقال للحاضنة: ما شأنهن؟ فقالت: إنه لم يكن عندهن شيء يتعشينه إلا عدس وبصل فكرهن أن تشم ذلك من أفواههن فبكى عمر. ثم قال لهن: يا بناتي ما ينفعكن أن تعشين الألون، ويمر بأبيكن على النار، فبكين حتى علت اصواتهن ثم انصرفن (2) وكان عمر بدأ الانتقال بأهل بيته من فترة الرفاه والتنعيم إلى فترة القناعة والزهد في الدنيا، بأن وضع حلي ومجوهرات زوجه فاطمة بنت عبد الملك في بيت المال، إذ قال لها: اختاري، إما أن تردي حليَّك إلى بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت واحد.
قالت: لا بل أختارك يا أمير المؤمنين عليه وعلى أضعافه إن كان لي (3).
ـ اهتمامه بتعليم أولاده: أولى عمر رحمه الله تعليم وتأديب أولاده جانباً من الاهتمام، إذ اتبع إجراءات تعليمية جعل منها منهجاً جديراً يلبي حاجات الناشئ المسلم، ليكون موحد الذات والأهداف، غير منقسم على نفسه بين القول والعمل، أو بين الواقع والمثال (4)، حيث تتضح معالم ذلك المنهج في رسالته رضي الله عنه إلى معلمهم ومؤدبهم مولاه سهل بن صدقة، إذ قرر اختياره وتكليفه بمهام تعليم وتأديب أولاده، ثم حدد الطريقة المثلى للتأديب (5)، فقد قال: من عبد الله عمر، أمير المؤمنين، إلى سهل مولاه. أما بعد: فإني اخترتك على علم منيّ بك لتأديب ولدي، فصرفتهم إليك من غيرك من مواليّ وذوي الخاصة بي، فحدثهم بالجفاء، فهو أمعن لإقدامهم، وترك الصحبة فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلة الضحك، فإن كثرته يميت القلب، وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم، أن
_________
(1) العتمة: هي الثلث الأول من الليل، والعتمة: وقت صلاة العشاء.
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ48، 49.
(3) الطبقات (5/ 330) النموذج الإداري صـ109.
(4) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ110.
(5) المصدر نفسه صـ110.(1/161)
حضور المعازف (1) واستماع الأغاني، واللهج (2) بها ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشْبَ الماء ولعمري لتوقي ذلك، بترك حضور تلك المواطن، أيسر على ذي الذهن من الثبوت على النفاق في قلبه، وهو حين يفارقها لا يعتقد مما سمعت أذناه على شيء مما ينتفع به، وليفتتح كل غلام منهم بجزء من القرآن يثبت في قراءته، فإذا فرغ، تناول قوسه ونبله وخرج إلى الغرض (3) حافياً، فرمى سبعة أرشاق (4).
ثم أنصرف إلى القائلة (5)، فإن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: يا بَني قيلوا، فإن الشياطين لا تقيل (6). ونلاحظ على هذه التوجيهات الأمور الآتية:
1 ـ اختيار المعلم والمؤدب الصالح: فالمعلم أو المربي يعد حجر الزواية في عملية التعليم، فقد اختار معلم أولاده من خاصته ومواليه وعلى علم به وثقة فيه، ولم يكتف عمر بمولاه سهل لتأديبهم وتعليمهم بل عهد بتأديبهم أيضاً إلى أستاذه ومؤدبه الأول صالح بن كيسان (7). ولم يقف حرص عمر رحمه الله على تعليم أولاده وأدبهم عند هذا الحد، بل اختار من كبار علماء عصره من يختبر عقل أولاده وأدبهم عند هذا الحد، بل وجدناه يختار من كبار عصره من يختبر عقل أولاده وأدبهم، فقد كلف ميمون بن مهران أن يأتي ابنه عبد الملك فيستشيره وينظر إلى عقله. قال ميمون: فأتيناه ـ يعني عبد الملك بن عمر ـ فاستأذنت عليه فقعدت عنده ساعة، فأعجبت به (8).
2 ـ تحديد المنهج التعليمي: حدد عمر بن عبد العزيز المنهج التعليمي والمقررات الدراسية التي يريد لأولاده أن يتعلموها، حيث يتكون من القرآن الكريم وعلومه وبقية العلم من العلوم الأخرى، والتدريب على الجهاد والقتال والصبر عليه، وكذلك التمرين على الرماية ودقة الإصابة وممارسة الرياضة البدنية بالسير إلى
_________
(1) المعازف: هي الملاهي والآلات مما يضرب. العازف: اللاعب والمغني.
(2) اللهج بالشيء: الولوع به والاعتماد عليه.
(3) الغرض: هو الهدف الذي ينصب فيرمي فيه والجمع أغراض.
(4) الرشق: هو الرمي بالسهم والنبل، والرشق: هو الشوط من الرمي.
(5) القائلة: هي الظهيرة أو نصف النهار والقيلولة: الإستراحة عند نصف النهار.
(6) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ296، 297.
(7) تذكرة الحفاظ (1/ 148).
(8) سيرة ومناقب عمر بن العزيز لابن الجوزي صـ302.(1/162)
الأهداف حفاة ليعتادوا على ذلك مع ما يحتويه المنهج من أوقات للراحة، أما حجم المقرر اليومي فجزء واحد من القرآن الكريم بتثبت ووعي بالإضافة إلى ما يتناسب مع ذلك الجزء من علوم الدين الأخرى وكذلك الرمي بسبعة أرشاق مع ما يتطلبه ذلك من السير إلى أغراض والسير بينها فكان منهج ذا أهداف سامية، إذ يجمع بين الدين والدنيا، ويراوح بين البدن والروح، والقول والعمل (1) تلك أهداف ارتدت عنها خائبة، جلّ برامج التعليم والتربية الحديثة (2).
3 ـ تحديد طريقة التأديب والتعليم: لم يقف عمر بن عبد العزيز عند اختيار معلم أولاده، وتحديد مواد المنهج التعليمي، بل امتد الأمر إلى رسم الطريقة التي ينبغي لمؤدب أولاده إتباعها، وكيفية التنفيذ ودقة الأداء وإتقان العمل، ففي سياق رسالته رحمه الله. طلب إلي سهل أن يلتزم الجد في قوله لهم، فذلك أمعن لإقدامهم وأحرز لانتباههم، وطلب إليه كمؤدب لهم أن يترك صحبتهم، فإن عادتها تكسب الغفلة، ولتبقى مكانته عندهم، فليس للمعلم أن يتخذ من تلاميذه أصدقاء وأصحاب له يودعهم أسراره، ويشاركهم وقته وحياته، فقد لا تعجبهم مواقفه، فيكون ذلك، أدعى للاستهانة به، وعدم الاستجابة لما يطلب منهم (3) وربما يؤدي ذلك إلى عدم الإكتراث بالمعلم، والغفلة عما يقوله من العلم، كما طلب عمر إلى مؤدب أولاده أن يكون في أدبه لهم ما يصرفهم عن الملاهي وحضور المعازف وسماع الغناء، لما لها من الأثر السيء في حياة المسلم ويلاحظ أن عمر لا يصدر أمراً، أو يحدد طريقة أو أسلوباً حتى يوضح ما دفعه لذلك، وما فائدته وجدواه (4).
4 ـ تحديد أوقات وأولويات التعليم:
ومما اشتمل عليه المنهج الذي حدده عمر بن عبد العزيز في رسالته لمؤدب أولاده ما يسمى بإدارة الوقت، إذ حدد برنامجاً يومياً يبدأ الأولاد ومؤدبهم في تنفيذه من الصباح الباكر بجزء من القرآن الكريم، فكان البدء بالقرآن في الفترة الصباحية، ولما فيها من صفاء ذهن التلميذ، بعد أخذ قسطاً من الراحة في ليلته، فجعل أولوية القرآن الكريم في وقت صفاء الذهن
_________
(1) النموذج الإداري صـ113.
(2) النموذج الإداري صـ114.
(3) النموذج الإداري صـ114.
(4) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ117.(1/163)
والاستعداد الجيد للمتعلم كما ربط الانتقال إلى المادة الأخرى من البرنامج اليومي بالتثبت والإتقان ثم جاء توقيت الخروج بين الأغراض وممارسة متطلبات الرماية، ويكون الخروج للرمي بعد العلم، وهم في شوق إليه، فيتحقق لهم بذلك أعلى درجات الكفاءة والإتقان، ويأتي في ختام البرنامج اليومي فترة القيلولة، تلك الفترة الضرورية لراحة البدن والنفس والعقل (1).
5 ـ مراعاة المؤثرات التعليمية: راعى عمر بن عبد العزيز كل ما له ارتباط بالعلم، ومال له تأثير على الفهم وحسن التلقي، وما يزيد من إدراك العقل من قريب أو بعيد، فكان أول أمر اهتم به وبتأثيره على علم أولاده وأخلاقهم وأدبهم هو: معلمهم وجدوى علمه، واقتداؤهم بأدبه وخلقه، والأمر الثاني: مراعاة ما قد يسببه اللين وعدم التزام الجد في القول، وإكثار الضحك، والهزل واللعب أحياناً، من التباطؤ في أداء متطلبات التعليم، من إقدام وعلوِّ همه، وفهم وإدراك بالكفاءة المطلوبة، والثالث: ما ينجم عن تيار المجون والملاهي والغناء، وحضور المعازف، من ضياع وقت أولى أن يكون للعلم، وتبلد الإحساس العلمي، ورابعها: مراعاة النواحي النفسية للناشئين، وما قد يصيبهم من الملل، وتأثير ذلك على المستوى المطلوب من الفهم، وضرورة الترويح عن النفس ساعة بعد ساعة، وجعل وقتاً للراحة بين الحين والآخر، وأخير الإهتمام بالمردود الإيجابي للرياضة وممارسة الرماية والسير بين الأغراض على الجسم وصحته والعقل وسلامته والذهن وصفائه (2)
ـ من نتائج منهج عمر بن عبد العزيز في تربية أولاده: ابنه عبد الملك:
من نتائج منهج عمر في تربية أولاده ذلك النموذج الرباني المتمثل في ابنه عبد الملك، ويعتبر عبد الملك نموذج للشباب الذي عاش في رغد العيش، وسعة الرزق، ورفاهية الحياة، فحياته مثال لكثير من أبناء المسلمين الذين كانوا على شاكلته وإليك شيء من مواقفه:
1 ـ عبادته وبكاؤه: عن عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان وهو ابن أخي عمر بن عبد العزيز قال: وفدت إلى سليمان بن عبد الملك، ومعنا عمر بن
_________
(1) المصدر نفسه صـ118.
(2) المصدر نفسه صـ119.(1/164)
عبد العزيز، فنزلت على ابنه عبد الملك وهو عزب، فكنت معه في بيت فصلينا العشاء، وأوى كل رجل منا إلى فراشه، ثم قام عبد الملك إلى المصباح فأطفأه، ثم قام يصلِّي، حتى ذهب بي النوم، فاستيقظت فإذا هو في هذه الآية: ((أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ .. )) (الشعراء، الآيتان: 205 ـ 206). فبكى، ثم يرجع إليها، فإذا فرغ منها فعل مثل ذلك، حتى قلت: سيقتله البُكاءُ، فلما رأيت ذلك قلت: لا إله إلا الله والحمد لله كالمستيقظ من النوم لأقطع ذلك عليه، فلما سمعني سكت فلم أسمع له حِسَّا (1) رحمه الله.
2 ـ علمه وفقهه وفهمه: جمع عمر بن عبد العزيز الناس واستشارهم في رد مظالم الحجّاج، فكان كلما استشار رجلاً قال له: يا أمير المؤمنين، ذاك أمر كان في غير سلطانك ولا ولايتك، فكان كلما قال له رجل ذلك أقامه، حتى خلص بابنه عبد الملك، فقال له ابنه عبد الملك: يا أَبَهْ ما من رجل استطاع أن يردَّ مظالم الحجَّاج إن لم يردها أن يشركه فيها. فقال عمر: لولا أنك ابني، لقلت أنك أفقه الناس، وهذا الذي قاله عبد الملك، ومدحه عليه أبوه، وهو الصواب، فإن الإمام إذا قدر على رد مظالم من قبله من الولاة وجب عليه وهو ذلك بحسب الاستطاعة (2).
وقد كان عمر بن عبد العزيز وأبنه عبد الملك من العلماء الذين جمعوا بين العلم بالله الذي يقتضى خشيته ومحبته والتبتل إليه، وبين العلم بالله الذي يقتضي معرفة الحلال والحرام والفتاوى والأحكام (3).
3 ـ تذكيره والده بالموت: مات ابن لعمر بن عبد العزيز، فجاء عمر فقعد عند رأسه، وكشف الثوب عن وجهه فجعل ينظر إليه ويستدمع، فجاء عبد الملك ابنه فقال: أشغلك يا أمير ما أقبل من الموت إليك؟ بل هو في شغل عما حل لديك، فكأن قد لحقت به وساويته تحت التراب بوجهك. فبكى عمر ثم قال: رحمك الله يا بني، فوالله، إنك لعظيم البركة ما علمتك على أبيك نافع الموعظة
_________
(1) مجموعة رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي (2/ 479).
(2) المصدر نفسه (2/ 481).
(3) المصدر نفسه (2/ 481).(1/165)
لمن وعظت، وأيم الله، إن كان الذي رأيت من جزعي على أخيك، ولكن لما علمت أن ملك الموت دخل داري فراعني دخوله، فكان الذي رأيت، ثم أمر بجهازه (1).
4ـ صلابته في الدين وقوته في تنفيذ الحق: قال ميمون بن مهران قال: بعث إليّ عمر بن عبد العزيز وإلى مكحول وإلى أبي قلابة فقال: ما ترون في هذه الأموال التي أخذت من الناس ظلماً فقال مكحول يومئذٍ قولاً ضعيفاً، فكرهه فقال: أرى أن تستأنف فنظر إليَّ عمر كالمستغيث بي، فقلت: يا أمير المؤمنين، ابعث إلى عبد الملك، فأحضره. فإنه ليس بدون من رأيت. فلما دخل عليه قال: يا عبد الملك، ما ترى في هذه الأموال التي أخذت من الناس ظلماً، وقد حضروا يطلبونها وقد عرفنا مواضعها؟ قال: أرى ((أن تردّها)) فإن لم تفعل كنت شريكاً لمن أخذها (2).
5 ـ مرضه وموته رحمه الله: دخل عمر بن عبد العزيز على أبنه في وجعه ـ من الطاعون ـ فقال: يا بني، كيف تجد؟ قال: أجدني في الحق. قال: يا بني، إن تكن في ميزاني أحبُّ علي من أن أكون في ميزانك. فقال ابنه: وأنا يا أبه لئن أكون ما تحب أحب إليّ من أن يكون ما أُحب (3). وحين دفن ابنه خطب على قبره فقال: رحمك الله يا بني، فلقد كنت برَّاً بأبيك، وما زلت منذ وهبك الله لي مسروراً، ولا والله ما كنت أشدَّ سروراً ولا أرجى لحظي من الله فيك، منذ وضعتك في الموضع الذي صيرك الله إليه، فرحمك الله وغفر ذنبك وجزاك الله بأحسن عملك وتجاوز عن مسيئه، ورحم كلَّ شافع يشفع لك بخير من شاهد وغائب، رضينا بقضاء الله وسلّمنا لأمره، والحمد الله رب العالمين. ثم انصرف (4). ثم كتب إلى نائبه على الكوفة كتاباً ينهى أن يناح على ابنه، كما كانت عادة الناس حينئذٍ في الناحية على الملوك وأولادهم وفي ذلك الكتاب كان فيه: أن عبد الملك ابن أمير المؤمنين كان عبداً من عباد الله، أحسن الله إليه في نفسه، وأحسن إلى أبيه فيه، أعاشه الله ما أحبّ أن يعيشه، ثم قبضه إليه حين أحب أن يقبضه، وهو فيما علمت بالموت مرتبط، نرجو فيه من الله رجاء حسناً، فأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله فإن خلاف ذلك لا يصح في بلائه عندي وأحسانه إلي ونعمته علي ثم قال: أحببت أن أكتب إليك بذلك
_________
(1) مجموعة رسائل الحافظ بن رجب الحنبلي (2/ 487).
(2) المصدر نفسه (2/ 488).
(3) المصدر نفسه (2/ 495).
(4) المصدر نفسه (2/ 495).(1/166)
وأعلمكه من قضاء الله فلا أعلم، من ينوح عليه في شيء من قبلك، ولا اجتمع على ذلك أحد من الناس، ولا رخصت فيه لقريب ولا بعيد، واكفني في ذلك بكفاية الله ولا ألو منَّك فيه ـ إن شاء الله ـ والسلام عليك (1). وجاء في رواية: لما هلك عبد الملك بن عمر قال أبوه: يا بني، لقد كنت كما قال الله عز وجل: ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) (الكهف، آية: 146).
وإني لأرجو أن تكون اليوم من الباقيات الصالحات التي هي خير ثواباً وخير أملاً. والله ما يسرني أني دعوتك فأجبتني (2). وقد توفي عبد الملك بن عمر وكان عمره تسع عشرة سنة (3). وكان عمر بن عبد العزيز يثني على ولده وقال لابنه ذات يوم: يا عبد الملك إني أخبرك خبراً: لا والله ما رأيت فتى ماشياً قط أنسك منك نسكاً ولا أفقه فقهاً ولا أقرأ منك، ولا أبعد في صبوة في صغير ولا كبير (4). وقال عمر بن عبد العزيز والله لولا أن يكون بي زينة من أمر عبد الملك ما يُزين في عين الوالد من ولده لرأيت أنه أهل للخلافة (5)، وجاء في رواية: إن عبد الملك لما توفي جعل أبوه يثني عليه عند قبره، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، لو بقي كنت تعهد إليه؟ قال: لا، قال: لم؟ وأنت تثني عليه؟ قال: أخاف أن يكون زُيِّن في عيني منه ما يُزيِّن في عين الوالد من ولده (6)، وقال ميمون بن مهران: ما رأيت ثلاثة في بيت خيراً من عمر بن العزيز، وابنه عبد الملك، ومولاهم مزاحم (7). هذا من نتائج المنهج التربوي والعلمي الذي سار عليه عمر في تربية أولاده.
ـ حياته مع الناس:
1 ـ اهتمامه بإصلاح المجتمع:
كان اهتمامه بإصلاح المجتمع كبيراً وعمل على إزالة ما يتفشى فيه من المنكرات، وقد كتب في ذلك إلى أحد ولاته كتاباً طويلاً بليغاً، فورد بعض فقراته للأهمية وعظيم الفائدة، وفيه يقول:
_________
(1) مجموع رسائل الحافظ بن رجب (2/ 496).
(2) المصدر نفسه (2/ 496).
(3) المصدر نفسه (2/ 498).
(4) المصدر نفسه (2/ 499).
(5) المصدر نفسه (2/ 499).
(6) المصدر نفسه (2/ 499).
(7) المصدر نفسه (2/ 499).(1/167)
أما بعد فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح منهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده ... أو بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنِّقمات ما قمع فيهم أهل الباطل، واستخفي فيهم بالمحارم، فلا يظهر من أحد منهم محرَّم إلا انتقموا ممن فعله، فإذا ظهرت فيهم المحارم فلم ينههم أهل الصلاح نزلت العقوبات من السماء إلى الأرض على أهل المعاصي والمداهنين لهم، ولعل أهل الإدهان أن يهلكوا معهم وإن كانوا مخالفين لهم، فإني لم أسمع الله تبارك وتعالى فيما نزَّل من كتابه عند مَثُلَة أهلك بها أحداً نجَّى أحداً من أولئك، إلا أن يكونوا الناهين عن المنكر، ويسلط الله على أهل تلك المحارم إن هو لم يُصبهم من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل والنِّقم، فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر وبالظالم من الظالم، ثم صار كلا الفريقين بأعمالهما إلى النار، فنعوذ بالله أن يجعلنا ظالمين، أو أن يجعلنا مداهنين للظالمين، وإنه قد بلغني أنه قد كثر الفجور فيكم وأمن الفسَّاق في مدائنكم وجاهروا من المحارم بأمر لا يحب الله تعالى من فعله، ولا يرضى المداهنة فيه، كان لا يُظهرِ مثلَه علانية قوم يرجون لله وقاراً ويخافون منه غيراً، وهم الأعزون الأكثرون من أهل الفجور، وليس بذلك مضى أمر سلفكم، ولا بذلك تمت نعمة الله تعالى عليهم، بل كانوا كما قال تعالى ((أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) (الفتح، آية: 19). ((أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)) (المائدة، آية: 24).
ولعمري إن من الجهاد في سبيل الله الغلظة على أهل محارم الله تعالى بالأيدي والألسن والمجاهدة لهم فيه، وإن كانوا الآباء، وإنما سبيل الله طاعته ولقد بلغني أنه بطأ بكثير من الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء التلاوم أن يقال: فلان حسن الخلق قليل التكلفُّ، مقبل على نفسه، وما يجعل الله أولئك أحسانكم أخلاقاً، بل أولئك أسوأكم أخلاقاً، وما أقبل على نفسه من كان كذلك، بل أدبر عنها، ولا سلم من الكلفة لها بل وقع فيها، إذ رضي لنفسه من الحال غير ما أمر الله أن يكون عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1).
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ160.(1/168)
ففي هذا الكتاب المهم يبين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سنة الله جل وعلا التي لا تتخلف، وهي أن أيَّ مجتمع يجاهر فيه أهل الفساد بمعاصيهم، ثم لا ينهاهم أهل الصلاح ولا ينكرون عليهم فلا بد أن يصيبهم الله تعالى بإحدى ثلاث ـ أن يصيبهم الله بعذاب من عنده، أو أن يصيبهم بعذاب على أيدي من يشاء من عباده، وقد يكون هؤلاء من الظلمة الجبارين فينتقم الله بهم من العصاة الفجار، أو يصيبهم الله بالخوف والجوع والذل وأنواع النِّقم والمصائب. ويبين عمر في هذا الكتاب أن السكوت عن أهل المعاصي المجاهرين ليس من عمل الصحابة رضي الله عنهم، بل قد وصفهم الله تعالى بالشدة والغلظة على المخالفين المجاهرين بالمعاصي، ويذكر أن من الجهاد في سبيل الله تعالى الغلظة على منتهكي محارم الله والإنكار عليهم بالأيدي والألسن وإن كانوا من أقرب الأقارب، وهذا التوسع في معنى الجهاد له أدلته الشرعية مثل قول الله جل وعلا ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِير)) (التحريم، آية: 9). وإنما يكون جهاد المنافقين بالإنكار عليهم والشدة في معاملتهم (1)
ويصحح عمر في هذا الكتاب مفهوماً خاطئاً عند بعض الناس، وهو وصفهم القاعد عن إنكار المنكر بأنه حسن الخلق قليل التكلف مقبل على نفسه، حيث يبين أن هذا سيء الخلق، حيث يتعامل مع المخالفين بالسلبية وعدم المبالاة مع أنهم بحاجة إلى الشفقة والرحمة، وإنما يظهر ذلك بمحاولة إصلاحهم، ويرد على قولهم بأنه قليل التكلف مقبل على نفسه بأنه لم يقبل على نفسه بمحاولة إنقاذها من النار ورفع درجتها في الجنة بل أقبل على هلكتها، حيث أن السكوت عن الإنكار معصية يحاسب عليها مرتكبها وقد تورده إلى النار، وإذا كان في مفهوم الناس أن الساكت قليل التكلف فإنه قد تكلف أمراً عظيماً حيث خالف أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بما وجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2)، وكانت كتب عمر بن عبد العزيز كلها في إصلاح المجتمع كما جاء في خبر إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: ما كان يقدم على أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم كتاب من عمر إلا فيه رد مظلمة أو إحياء سنة أو إطفاء بدعة أو قَسْم أو تقدير عطاء أو خير، حتى خرج من الدنيا (3).
_________
(1) التاريخ الإسلامي (15، 16/ 130) ..
(2) المصدر نفسه (15، 16/ 130).
(3) طبقات ابن سعد (5/ 342).(1/169)
2 ـ تذكيره الناس بالآخرة: خطب عمر بن عبد العزيز ذات يوم فقال: إني لم أجمعكم لأمر أحدثته، ولكني نظرت في أمر معادكم وما أنتم أليه صائرون فوجدت المصدِّق به أحمق، والمكذب به هالكاً ثم نزل (1). وهذه خطبة بليغة على قصرها، فإنها تذكرة حية بمصير الإنسان بعد الموت، فالذي يؤمن بالبعث بعد الموت وما قبله من عذاب القبر ونعيمه وما بعد ذلك من الحساب والمصير إلى النعيم الدائم أو إلى الشقاء الدائم، ثم لا يعد العدة الكافية لذلك اليوم يعتبر حقاً أحمق حيث لم يستعمل عقله في الإعداد لمستقبله بعد الموت مع إيمانه بما سيكون فيه (2)، ومن خطبه في تذكير الناس بالموت والآخرة، فقد بين عمر في بعض خطبه أن الإنسان خلق للأبد ولكنه من دار إلى دار قال عمر: إنما خلقتم للأبد، ولكنكم من دار إلى دار تنقلون (3). وقال في إحدى خطبه: يا أيها الناس، لا تغرنكم الدنيا والمهلة فيها، فعن قليل عنها تنقلون وإلى غيرها ترحلون، فالله الله عباد الله في أنفسكم فبادروا بها الفوت قبل حلول الموت، ولا يطل بكم الأمد، فتقسوا قلوبكم فتكونوا كقوم دعو إلى حظهم فقصروا عنه بعد المهلة، فندموا على ما قصروا عند الآخرة (4)، وقد تحدث عمر بن عبد العزيز عن الموت والآخرة والاستعداد للقاء الله كثيراً في خطبه ومواعظه رحمه الله.
3 ـ تصحيح المفاهيم الخاطئة: قال عمر في إحدى خطبه: أما بعد أيها الناس فلا يطولن عليكم الأمد، ولا يبعدن عليكم يوم القيامة، فإن من وافته منيته فقد قامت قيامته، لا يستعتب من شيء ولا يزيد في حسن، ألا لا سلامة لا مرئ في خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا وإنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصياً، ألا وأن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم، ألا وإني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره ثم قال: إنه لحبيب عليّ أن أوفر أموالكم
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ42.
(2) التاريخ الإسلامي (15، 16/ 118).
(3) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (2/ 448).
(4) المصدر نفسه (2/ 449).(1/170)
وأعراضكم إلا بحقها ولا قوة إلا بالله (1). ففي هذه الخطبة يُذكر عمر بن عبد العزيز المسلمين بقرب يوم القيامة، فإن من وافته منيته قامت قيامته، فلينظر إلى الموت الذي قد يفاجئه في أية لحظة، وحينها لا يستطيع أن يعتذر من أعماله السيئة التي سوّد بها صحيفته، ولا يستطيع أن يستزيد من عمل صالح بيضّ به صحيفته، ويندم حينما لا ينفع الندم على ما فاته في حياته يوم أن كان قادراً على التوبة النصوح والتزود بالعمل الصالح، ثم يبين أن السلامة كل السلامة من إتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بيان لأحد عنصري العمل الصالح وهم الإخلاص لله تعالى ومتابعة السنة، وهو بهذا يعالج واقعاً لا ينقص العمل فيه الإخلاص وإنما ينقصه إتباع السنة، حيث فشت البدع بعد انقراض عهد الصحابة رضي الله عنهم، وفساد بعض الولاة الذين يحاربون بعض السنن التي لا تتفق مع أهوائهم، ثم بين أحد العواصم التي تعصم من انتشار البدع وفساد أمور الأمة حيث قال: ولا طاعة لمخلوق في معصية الله.
فإذا كان بعض الولاة قد تسوّل لهم نفوسهم الأمارة بالسوء أو مجاملة الآخرين بأن يأمروا الناس بمعصية الله، أو يمهدوا السبل لذلك، فأنه لا طاعة لهم، وبهذا ينقطع سبب مهم من أسباب سريان تلك المخالفات وهو ما لولاة الأمر من طاعة على الأمة، فإذا تحددت هذه الطاعة بطاعة الله تعالى لم يكن لهوى النفوس تأثير على انتشار الفساد في المجتمع وتصبح الكلمة لأهل الإصلاح.
ثم يبين أن ما جرى عليه العرف من اعتبار الهارب من إمامه الظالم عاصياً ليس له اعتبار في النظر الشرعي لأن تصرفه هذا هو أحد الأسباب التي يتخذها للخلاص من الظلم، وأولى من يوصف بالمعصية من وقع منه الظلم، وكون عمر يبين هذا وهو في أعلى موقع من المسئولية ـ كخليفة ـ دليل على تجرده من حظ النفس ومن العصبية للقرابة، وإخلاصه لله تعالى ثم يصف الواقع الاجتماعي الذي اختلطت فيه العادات بالدين والبدع بالسنن، ونشأ عليه أفراد المجتمع، وتربّى على توجيهه من أسلم من العجم، ومن هاجر من الأعراب حتى حسبوه هو الدين، وحينما يختلط العرف الاجتماعي فيتسرب إلى العرف الإسلامي بعض الأعراف الجاهلية فإن ذلك يؤثر على تربية أفراد المجتمع
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ43.(1/171)
وتتشربه قلوبهم لأن الأعراف الجاهلية تميل إلى تلبية أهواء النفوس وإن كانت منحرفة جائرة، فيصعب بعد ذلك على المصلحين أن يخلّصوا العرف الاجتماعي الإسلامي من تلك الأخلاط المتسرّبة المتراكمة على مر الزمن، لأن كل انحراف له أنصاره ومؤيدوه، وليس كل أفراد المجتمع يفهمون الأمور على حقيقتها، وحينما يقوم المصلحون بمحاولة التنقية يقوم دعاة السوء بتشويه إصلاحهم ودعوة الناس إلى البقاء على الموروثات، لأن كونها موروثات يعطيها في نظر بعض الناس شيئاً من القداسة، ولكن حينما ينبع الإصلاح من أعلى قمة في المسئولية كما هو الحال في عهد عمر بن عبد العزيز فإن نتائج الإصلاح تكون كبيرة وسريعة المفعول، لأن معه ما خولّه الله تعالى من طاعة الرعية ما دام في طاعة الله تعالى إلى جانب قوة السلطان المعهودة (1).
4 ـ إنكاره العصبية القبلية: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الضحاك بن عبد الرحمن وكان مما جاء في كتابه: إن ما هاجني على كتابي هذا أمر ذكر لي عن رجال من أهل البادية، ورجال أمروا حديثاً، ظاهر جفاؤهم قليل علمهم بأمر الله اغتروا فيه بالله غرة عظيمة، ونسوا فيه بلاءه نسياناً عظيماً، وغيروا فيه نعمه تغييراً لم يكن يصلح لهم أن يبلغوه وذكر لي أن رجالاً من أولئك يتحاربون إلى مُضر وإلى اليمن، يزعمون أنهم ولاية على من سواهم، وسبحان الله وبحمده ما أبعدهم من شكر نعمة، وأقربهم من كل مهلكة ومذلة وصُغُر، قاتلهم الله أية منزلة نزلوا، ومن أي أمان خرجوا، أو بأي أمر لصقوا ولكن قد عرفت أن الشقي بنيته يشقى، وأن النار لم تخلف باطلاً. أو لم يسمعوا إلى قول الله في كتابه: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) (الحجرات، آية: 10). وقوله: ((الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (المائدة، آية: 3).
وقد ذكر لي مع ذلك أن رجالاً يتداعون إلى الحلف، لا حلف في الإسلام قال: وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فكان يرجو أحد من الفريقين حفظ حلفه الفاجر الآثم الذي فيه معصية الله ومعصية رسوله، وقد ترك الإسلام حين
_________
(1) التاريخ الإسلامي (15، 16/ 121).(1/172)
انخلع منه وأنا أحذر كل من سمع كتابي هذا ومن بلغه أن يتخذ غير الإسلام حصناً أو دون الله ودون رسوله ودون المؤمنين وليجة، تحذيراً بعد تحذير، وأذكرهم تذكيراً بعد تذكير وأشهد عليهم الذي آخذ بناصية كل دابَّة، والذي هو أقرب إلى كل عبد من حبل الوريد، وإني لم آلُكم بالذي كتبت به إليكم نصحاً مع إني لو أعلم أن أحداً من الناس يحرّك شيئاً ليُخذ له به أو ليدفع عنه ـ أحرص ـ والله المستعان ـ على مذلته من كان: رجلاً أو عشيرة أو قبيلة أو أكثر من ذلك، فادع إلى نصيحتي وما تقدمت إليكم به، فإنه هو الرشد ليس له خفاء ثم ليكن أهل البر وأهل الإيمان عوناً بألسنتهم، وإن كثيراً من الناس لا يعلمون: نسأل الله أن يخلف فيما بيننا بخير خلافة في ديننا وأُلفتنا وذات بيننا والسلام (1).
في هذا الكتاب يعالج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز انحرافاً خطيراً طرأ على المجتمع الإسلامي آنذاك، وهو أن طائفة من المسلمين الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ولم تعمر أفكارهم بالعلم الشرعي، فقد اتخذوا لأنفسهم علاقات من روابط الجاهلية التي تقوم على القبائل والعشائر، فيعطي الواحد منهم ولاءه لقبيلته سواء بالحق أو بالباطل وسواء بالعدل أو بالظلم، ويجعل من قبيلته قضية يهتم لها ويدافع عنها ويدعو لها، حتى أصبحوا بها إخوة في الله متحابين بعد أن كانوا أعداء متحاربين، وسادوا بجماعتهم العالم وقد استفحلت هذه القضية حتى أصبح بعض المجاهدين يتحاربون بينهم بدعوى قبلِّية، مما سبب تأخراً في تقدم الجهاد، وجرأ أصحاب البلاد المفتوحة على الانتقاض على المسلمين مرة بعد مرة، ووصلت الحال في بعض البلاد إلى أنه كلما تولى رجل له قبيلة في تلك البلاد قرب أفراد قبيلته وقواهم وتقوى بهم، فتحدث الفتنة وتثور القبائل الأخرى، وما ذاك إلا بسبب طرح رابطة الإسلام التي هي نعمة كبرى على المسلمين، وإتخاذ الروابط الجاهلية بديلاً عنها (2).
5 ـ رفضه للقيام بين يديه: لما ولي عمر بن عبد العزيز قام الناس بين يديه، فقال: يا معشر المسلمين إن تقوموا نقم وإن تقعدوا نقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين، وإن الله فرض
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكم صـ103 ـ 106.
(2) التاريخ الإسلامي (15، 16/ 124).(1/173)
فرائض وسن سنناً، من أخذ بها لحق ومن تركها مُحِق (1). أراد عمر أن يقضي على العادات الموروثة التي أشبه بها الولاة آنذاك الأكاسرة والقياصرة، وعزم صارم على العودة بالأمة إلى منهج الخلفاء الراشدين، وعمر هنا يحجِّم دافعين قويين يدفعانه إلى مجاراة عشيرته في مظاهرهم .. أولهما طموح النفس نحو الظهور وفرض السلطة والهيبة في قلوب الناس، وثانيهما رغبة عشيرته الملحة في الإبقاء على هذه المظاهر، وتشنيعهم عليه في مخالفة ما كان عليه أسلافه ولكنه تغلب على هذين الدافعين بحزم وإيمان قوي، وكان الدافع الذي يدفعه إلى التواضع ورفض المظاهر الدنيوية هو خوفه من الله تعالى ورغبته فيما عنده، وطموح فكره نحو الآخرة وتجاوز المستقبل الدنيوي، وكان هذا الدافع أقوى بكثير من الجواذب الأرضية، فنجح في إلجام نفسه عن هواها وإسكات أصحاب المظاهر الخادعة، وتصحيح مفاهيم المجتمع فيما يجب أن تكون عليه الولاة والعلاقة بينهم وبين الرعية. وفي قوله: إن الله فرض فرائض. بيان لأسباب السعادة والشقاوة الحقيقية في الدنيا والآخرة، فمن طبقها لحق بركب المتقين في الدنيا، وأكرم به من رفقة صالحة، وسيق يوم القيامة إلى رضوان الله تعالى والجنة وأكرم به من مآل وعاقبة (2).
6 ـ تقديره أهل الفضل: ذكر الحافظ ابن كثير أن ولد قتادة بن النعمان وفد على عمر بن عبد العزيز فقال له: من أنت؟ فقال مرتجلاً:
أنا ابن الذي سالت على الخدِّ عينه
فرُدَّت بكفِّ المصطفى أحسن الرَّدِّ
فعادت كما كانت لأول أمرها
فيا حُسْنَها عيناً ويا حُسْنَ ما رَدِّ
فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك:
تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيباً بماء فعادا بعد أبوالا
ثم وصله وأحسن جائزته رضي الله عنه (3). ففي هذا الخبر موقف لأمير عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في إكرام ولد قتادة بن النعمان لما وفد عليه حينما
_________
(1) تاريخ دمشق نقلاً عن التاريخ الإسلامي (15/ 114).
(2) التاريخ الإسلامي (15، 16/ 115).
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ96 التاريخ الإسلامي (15، 16/ 22).(1/174)
عرف نفسه بما حدث لأبيه رضي الله عنه في هذا الخبر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على تفوق عمر بن عبد العزيز في المجال الأخلاقي، وذلك بتقدير أهل الفضل، والتقدم في خدمة الإسلام والمسلمين، فإن ما حدث لقتادة رضي الله عنه من اقتلاع عينه بتلك الصورة شاهد على إيغاله في القتال وتعرضه للمهالك، كما أنه شرف له أن تمثلت فيه تلك المعجزة النبوية (1). ومن تقديره لأهل الفضل ما قام به لزياد مولى ابن عياش، فقد قدم عليه زياد مولى ابن عياش، وأصحاب له، فأتى الباب وبه جماعة من الناس فأذن له دونهم، فدخل عليه فنسي أن يسلم عليه بالخلافة، ثم ذكر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له عمر: والأُولى لم تضرني، ثم نزل عمر عن موضع كان عليه إلى الأرض وقال: إني أعظم أن أكون في موضع أعلو فيه على زياد، فلما قضي زياد ما يريد خرج، فأمر عمر خازن بيت المال أن يفتحه لزياد ومن معه يأخذون منه حاجتهم، فنظر إليه خازن بيت المال فاقتحمته عينه أن يكون يُفتح لمثله بيت المال ويسلَّطُ عليه ـ وهو به غير عارف ـ ففعل الخازن ما أمر به، فدخل زياد فأخذ لنفسه ولأصحابه بضعاً وثمانين درهماً أو بضعاً وتسعين درهماً، فلما رأى ذلك الخازن قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يسلط على بيت المال (2).
ففي هذا الخبر صور من تواضع عمر بن عبد العزيز رحمه الله وتقديره للعلماء الربانيين فهو أولاً لم يبال بلقب الخلافة وهو أعلى لقب عند المسلمين، والمناصب لها فتنة يقع في حبائلها من اغتروا بالجاه والمنزلة الدنيوية، أما أقوياء الإيمان فإن شخصيتهم لا تتغير بعد المنصب بل يظلون على ما هم عليه من التواضع، وربما زادوا تواضعاً في مقابلة احترام الناس لهم. ثم هو ثانياً نزل من مكانه حتى لا يعلو ذلك العالم الرباني زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وكون ذلك العالم من الموالي لا ينزل من قدره ابن عمر، فإن العبرة بالعلم والتقوى لا بشرف النسب، وموقف كريم لهذا العالم الرباني حيث لم يأخذ من بيت المال إلا ذلك القدر الزهيد مع أنه قد مكن منه، وهذا مثال رفيع من أمثلة الزهد والورع، وحين ما تكون النفوس كبيرة والعقول راجحة فإنها تعف عن متاع
_________
(1) التاريخ الإسلامي (15، 16/ 23).
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ53 التاريخ الإسلامي (15/ 24).(1/175)
الدنيا الذي يتنافس عليه الصغار، وتطمح ببصرها نحو نعيم الآخرة الخالد الذي يتنافس فيه الكبار (1).
7 ـ المرء بأصغريه قلبه ولسانه: كان بين وفد المهنئين لعمر بالخلافة من أهل الحجاز غلام صغير وكان الوفد قد اختار الغلام ليتكلم عنهم، وهو أصغرهم، فلما بدأ بالكلام قال له عمر: مهلاً يا غلام ليتكلم من هو أسن منك، فقال الغلام: مهلاً يا أمير المؤمنين، المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لساناً لافظاًُ وقلباً حافظاً، فقد إستجاد له الحلية (2)، يا أمير المؤمنين لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أسن منك ـ أي أحق بمجلسك هذا ممن هو أكبر منك سناً (3) ـ. فقال عمر: تحدث يا غلام، قال: نعم يا أمير المؤمنين، نحن وفود التهنئة لا وفود المرزئة (4)، قدمنا إليك من بلدنا، نحمد الله الذي منَّ بك علينا لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتانا منك إلي بلدنا، وأما الرهبة فقد أمّننا الله بعدلك من جورك (5) فأعجب عمر بفصاحة الغلام وعلمه، وسداد رأيه، فما كان من عمر إلا أن شجعه على ذلك، وزاده ثقة بنفسه وجراءة ليكون هذا الحادث موقفاً تربوياً يتعلم فيه الغلام في حضرة خليفة المسلمين، فطلب منه الموعظة فقال: عظنا يا غلام وأوجز، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، إن أناساً من الناس غرهم حلم الله عنهم، وطول أملهم وحسن ثناء الناس عليهم، فلا يغرنك حلم الله عنك، وطول أملك وحسن ثناء الناس عليك فتزل قدمك ثم نظر عمر في سن الغلام فإذا هو قد أتت عليه بضع عشرة سنة، فأنشأ يقول:
تعلم فليس المرء يولد عالماً
وليس أخو علم كمن بات جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده
صغير إذا التفت عليه المحافل (6)
_________
(1) التاريخ الإسلامي (15/ 24).
(2) إستجاد له الحلية: استحق أن يتكلم.
(3) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز صـ79.
(4) الإرتزاء: انتقاص الشيء: والمرزئة: الرزيئة وهي المصيبة.
(5) مروج الذهب (3/ 197).
(6) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز, ص (98).(1/176)
8 ـ امرأة مصرية مسكينة تشتكي لعمر: كان عمر يتابع أمور المسلمين ويفتح الأبواب على مصرعيها لسماع أخبارهم: فقد كان بريد عمر بن عبد العزيز لا يعطيه أحداً من الناس إذا خرج كتاباً إلا حمله، فخرج بريد من مصر فدفعت إليه فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح كتاباً تذكر فيه أن لها حائطاً قصيراً، وأنه يقتحم عليها فيسرق دجاجها، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح، بلغني كتابك وما ذكرتي من قصر حائطك وأنه يدخل عليك فيسرق دجاجك، فقد كتبت كتاباً إلى أيوب بن شرحبيل ـ وكان أيوب عامله على صلاة مصر وحربها ـ آمره بأن يبني لك ذلك يحصنه لك مما تخافين إن شاء الله، وكتب إلى أيوب بن شرحبيل: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى ابن شرحبيل، أما بعد: فإن فرتونة مولاة ذي أصبح كتبت تذكر قصر حائطها، وأنه يسرق منه دجاجها وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب أنت بنفسك إليه حتى تحصنه لها، فلما جاء الكتاب إلى أيوب ركب ببدنه حتى أتى الجيزة يسأل عن فرتونة حتى وقع عليها، وإذا هي سوداء مسكينة، فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين وحصنه لها (1).
9 ـ اهتمامه بفداء الأسرى: كتب إلى الأسارى بالقسطنطينية: أما بعد: فإنكم تعدون أنفسكم أسارى، معاذ الله بل أنتم الحبساء في سبيل الله، واعلموا أنني لست أقسم شيئاً بين رعيتي إلا خصصت أهليكم بأوفر نصيب وأطيبه وأني قد بعثت إليكم خمسة دنانير ولولا إني خشيت إن زدتكم أن يحبسه طاغية الروم عنكم لزدتكم، وقد بعثت إليكم فلان بن فلان يفادي صغيركم وكبيركم، ذكركم وأنثاكم، حركم ومملوككم بما سئل به، فأبشروا ثم أبشروا والسلام عليكم (2). وفي هذا الكتاب يتجلى سمو أخلاق عمر وعظم شعوره بالمسئولية كنموذج راقي لحاكم مسلم الذي يخاف الله فيراعيه، ويتقى الله في حقوق رعيته بمنتهى الإخلاص والأمانة حيث واسى أسرى المسلمين لدى الروم، حيث شبههم بالمرابطين الذين
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ163 ـ 164، التاريخ الإسلامي (15/ 77).
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ163، 164.(1/177)
حبسوا أنفسهم في سبيل الله تعالى، فهم بهذا ينالون أجر المرابطين وإلى جانب هذه المواساة المعنوية فإنه قد واساهم بالمال الذي أمدهم به، وأزاح الهمّ عنهم وبما أخبرهم به من كفالة أسرهم في حال غيبتهم، كما أنه وعدهم جميعاً بمفاداتهم لفك أسرهم، وهذه معاملة كريمة يستحقها هؤلاء الأسرى الذين خرجوا بأنفسهم لحماية الإسلام ونصره (1).
10 ـ قضاء ديون الغارمين: كتب إلى عماله: أن اقضوا عن الغارمين فكتب إليه: إن نجد الرجل له المسكن والخادم، وله الفرس، وله الأثاث في بيته، فكتب عمر: لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، ومع ذلك فهو غارم، فاقضوا عنه ما عليه من الدين (2)، ففي هذا الخبر يأمر أمير المؤمنين عمر بقضاء الديون عن الغارمين وإن كانوا يملكون المسكن والأثاث والخادم والفرس، وهو مظهر عظيم من مظاهر الرحمة والمواساة، والاهتمام بشئون الرعية، وهكذا يتصرف الأئمة العادلون بأموال الأمة، حيث يغنون بها فقيرها ويجبرون به كسيرها، ويفكون بها أسيرها، ويقضون به عن معسرها، ويسدون به خلة معوزها (3).
11 ـ خبر الأسير الأعمى عند الروم: أرسل عمر بن عبد العزيز إلى صاحب الروم رسولاً، فأتاه وخرج من عنده يدور، فمر بموضع فسمع فيه رجلاً يقرأ القرآن ويطحن، فأتاه فسلم عليه فلم يرد عليه السلام ـ مرتين أو ثلاث ـ ثم سلم عليه فقال له: وأنىّ بالسلام في هذا البلد، فاعلمه أنه رسول عمر إلى صاحب الروم، قال له: ما شأنك؟ فقال: وإني أسرت في موضع كذا وكذا، فأتى بي إلى صاحب الروم، فعرض علي النصرانية فأبيت، وقال لي: إن لم تفعل سملت عينيك، فاخترت ديني على بصري، فسمل عيني وصيرني إلى هذا الموضع، يرسل إلي كل يوم بحنطة أطحنها وبخبزة آكلها، فسار الرسول إلى عمر بن عبد العزيز فأخبره، خبر الرجل، قال: فما فرغت من الخبر
_________
(1) التاريخ الإسلامي (15/ 77).
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ163، 164.
(3) التاريخ الإسلامي (15/ 77).(1/178)
حتى رأيت دموع عمر قد بلّت ما بين يديه ثم أمر، فكتب إلى صاحب الروم: أما بعد: فقد بلغني خبر فلان بن فلان فوصف له صفته، وأنا أقسم بالله لئن لم ترسله إلي لأبعثنَّ إليك من الجنود جنوداً يكون أولها عندك وأخرها عندي. ولما رجع إليه الرسول قال: ما أسرع ما رجعت! فدفع إليه كتاب عمر بن عبد العزيز، فلما قرأه قال: ما كنا لنحمل الرجل الصالح على هذا، بل نبعث إليه به قال: فأقمت انتظر متى يخرج به، فأتيته ذات يومٍ فإذا هو قاعد قد نزل عن سريره أعرف في وجهه الكآبة، فقال: تدري لم فعلت هذا؟ فقلت: لا ـ وقد أنكرت ما رأيت ـ فقال: إنه قد أتاني من بعض أطرافي أن الرجل الصالح قد مات، ولذلك فعلت ما فعلت، ثم قال: إن الرجل الصالح إذا كان بين القوم السوء لم يترك بينهم إلا قليلاً حتى يخرج من بين أظهرهم. فقلت له: أتأذن لي أن أنصرف ـ وأيست من بعثه الرجل معي فقال: ما كنا لنجيبه إلى ما أمر في حياته ثم نرجع فيه بعد مماته، فأرسل معه الرجل (1).
12 ـ المرأة العراقية التي فرض لبناتها من بيت المال: قدمت امرأة من العراق على عمر بن عبد العزيز فلما صارت إلى باباه قالت: هل على أمير المؤمنين حاجب؟ فقالوا: لا فلجي إن أحببت، فدخلت المرأة على فاطمة وهي جالسة في بيتها، وفي يدها قطن تعالجه، فسلمت فردت عليها السلام وقالت لها: أدخلي، فلما جلست المرأة رفعت بصرها ولم تر شيئاً له بال، فقالت: إنما جئت لأعمر بيتي من هذا البيت الخرب فقالت لها فاطمة: إنما خرب هذا البيت عمارة بيوت أمثالك، قال: فأقبل عمر حتى دخل الدار، فمال إلى بئر في ناحية الدار فانتزع منها دلاء فصبها على طين كان بحضرة البيت ـ وهو يكثر النظر إلى فاطمة ـ فقالت لها المرأة: استتري من هذا الطيّان فإني أراه يديم النظر إليك، فقالت: ليس هو بطيان، هو أمير المؤمنين. قال: ثم اقبل عمر فسلم ودخل بيته، فمال إلى مصلى كان له في البيت يصلي فيه، فسأل فاطمة عن المرأة، فقالت: هي هذه، فأخذ مكتلاً له فيه شيء من عنب فجعل يتخير لها خيره يناولها إياه ثم اقبل عليها وقال: ما حاجتك؟ فقالت: امرأة من أهل العراق لي خمس
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ168.(1/179)
بنات كُسْلٌ كٌسْد، فجئتك أبتغي حسن نظرك لهنَّ، فجعل يقول: كسل كسد، ويبكي، فأخذ الدواة والقرطاس فكتب إلى والي العراق، فقال: سمي كبراهنّ، فسمتها ففرض لها، فقالت المرأة: الحمد لله، ثم سأل عن الثانية والثالثة والرابعة، والمرأة تحمد الله ففرض لها، فلما فرض للأربعة استفزها الفرح فدعت له فجزته خيراً، فرفع يده وقال: كنا نفرض لهنّ حيث كنت تولين الحمد أهله، فمري هؤلاء الأربع يفضنّ على هذه الخامسة. فخرجت بالكتاب حتى أتت به العراق، فدفعته إلى والي العراق، فلما ذهبت إليه بالكتاب بكى واشتد بكاؤه، وقال: رحم الله صاحب هذا الكتاب، فقالت: أمات؟ قال: نعم، فصاحت وولولت، فقال: لا بأس عليك، ما كنت لأرد كتابه في شيء، فقضى حاجتها وفرض لبناتها (1).
13 ـ إحياؤه لسنة العطاء: قال عمر بن عبد العزيز: إنه لا يحل لكم أن تأخذوا لموتاكم فارفعوهم إلينا واكتبوا لنا كل منفوس (2) نفرض له (3). وفي رواية أخرجها ابن سعد من خبر أبي بكر بن حزم قال: كنا نخرج ديوان أهل السجون فيخرجون إلى أعطياتهم بكتاب عمر بن عبد العزيز، وكتب إليّ: من كان غائباً قريب الغيبة فأعط أهل ديوانه، ومن كان منقطع الغيبة، فأعزل عطاه إلى أن يقدم أو يأتي نعيه، أو يوكل عندك بوكالة ببينة على حياته فادفعه إلى وكيله (4). وبهذا أحيا عمر بن عبد العزيز سنة العطاء الإسلامي التي كانت في عهد الخلفاء الراشدين وعهد معاوية رضي الله عنهم ثم اندثرت بعد ذلك واقتصر العطاء على بعض وجهاء الأمة، وكان بنو أمية يأخذون من ذلك الشيء الكثير على مراتبهم، فلما قسم عمر بن عبد العزيز ذلك على الأمة شمل جميع أفرادهم، وهذا من ابرز مواقفه (5) وإصلاحاته التجديدية.
14 ـ إغناؤه المحتاجين عن المسألة: قدم على عمر بن عبد العزيز بعض أهل المدينة فجعل يسأله عن أهل المدينة: فقال: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ قال: قد قاموا
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ169.
(2) أي مولود في حال نفاس أمه.
(3) طبقات ابن سعد (5/ 346).
(4) المصدر نفسه (5/ 348).
(5) التاريخ الإسلامي (15، 16/ 138).(1/180)
منه يا أمير المؤمنين، قال: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ قال: قد قاموا منه وأغناهم الله. قال: وكان من أولئك المساكين من يبيع الخبط للمسافرين (1)، فالتمس ذلك منهم بعد، فقالوا: قد أغنانا الله عن بيعه بما يعطينا عمر بن عبد العزيز (2). وهذا من نتائج المنهج العادل الذي سلكه عمر بن عبد العزيز في توزيع أموال المسلمين، حيث حُرِمَت القلة المتمكنة من الإسراف وأصبح ما يصرف لفرد من هذه الفئة يصرف لعشرات المسلمين،، فوصل المال العام إلى فئات من لم يكن يصل إليها قبل فاستغنوا به عن بعض الأعمال الشاقة التي كانت تُدِرُّ عليهم مبالغ زهيدة (3).
15 ـ دفع المهور من بيت المال: اهتمّ عمر بن عبد العزيز بأداء مهور الزواج من بيت المال لمن لم يستطع توفير ذلك، فقال أبو العلاء: قُرِئَ كتاب عمر بن عبد العزيز رحمه الله في مسجد الكوفة وأنا أسمع: من كانت عليه أمانة لا يقدر على أدائها فأعطوه من مال الله ومن تزوج امرأة لا يقدر أن يسوق إليها صداقها فأعطوه من مال الله (4). وهذا قرار مهم في إصلاح المجتمع، لأن صلاحه يتوقف علىتحصين أبنائه بالزواج وظفرهم بالسعادة الزوجية، وقد يكون المهر عائقاً لبعض الفقراء دون الزواج، خصوصاً في حال غلاء المهور، فإذا كانت الدولة توفر ذلك لمن لا يستطيع ذلك فإنها تسهم في تكوين المجتمع الصالح وحفظه من أسباب الفساد والاضطراب (5).
16 ـ جهوده في التقريب بين طبقات المجتمع: قال يونس بن أبي شبيب: شهدت عمر بن عبد العزيز في بعض الأعياد وقد جاء أشراف الناس حتى حُفُّوا بالمنبر وبينهم وبين الناس فرجة، فلما جاء عمر صعد المنبر وسلم عليهم، فلما رأى الفرجة أومأ إلى الناس: أن تقدموا فتقدموا حتى اختلطوا بهم (6). لقد دأب الولاة من بعد عهد أمير المؤمنين معاوية رضي الله
_________
(1) الخبط نوع من ورق الشجر تأكله الإبل.
(2) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/ 151).
(3) التاريخ الإسلامي (15/ 138).
(4) طبقات ابن سعد (5/ 374).
(5) التاريخ الإسلامي (15/ 139).
(6) طبقات ابن سعد (5/ 387).(1/181)
عنه على رفع طبقات من الناس وتمييزهم على غيرهم بالعطاء والمجالس وغير ذلك، وسرى ذلك في الأمة حتى أصيب بعض أفرادها بالضعف وأصبحوا يرون أنهم ليسوا أهلاً للجلوس مع أفراد الطبقات المميزة الذين أصبح الناس يطلقون عليهم اسم ((الأشراف)) ولقد بلغ الضعف بعامة المجتمع إلى عدم التجاسر على الاقتراب من أفراد الطبقة الخاصة حتى في المساجد التي من المفترض فيها أن يتنافس المصلون على القرب من الإمام لما في ذلك من زيادة الثواب، فلما تولى الخلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز كان من أجلِّ اهتماماته أن يقارب بين فئات المجتمع فذلك بأن يضع من سمعة الطبقات العالية وأن يزيل كبرياءهم، وأن يرفع من شأن الطبقات المستضعفة وأن يقوي معنوياتهم ويزيل شعورهم بالضعف، فكان من جهوده في ذلك المساواة بينهم في العطاء ولا شك أن المال له أهمية كبرى في الرفع من شأن الناس وخفضهم، وفي هذا الخبر تبين لنا اهتمامه في هذا المجال بالإشارة إلى عموم الناس ليقتربوا من الخاص، ويختلطوا بهم حتى تزول تلك الفجوة بين المسلمين التي خلفها ظلم الولاة وسوء إدارتهم (1).
17 ـ شعوره الكبير بالمسئولية اتجاه أفراد المجتمع:
قالت فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر: .. إن عمر رحمة الله عليه كان قد فَرَّغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه، وكان إذا أمسى مساء لم يفرغ فيه من حوائج يومه وصل يومه بليلته، إلى أن أمسى مساء وقد فرغ من حوائج يومه، فدعا بسراجه الذي كان من ماله، فصلى ركعتين ثم أقعى واضعاً رأسه على يديه، تسيل دموعه على خديه، يشهق الشهقة يكاد ينصدع قلبه لها، وتخرج لها نفسه حتى برق الصبح فأصبح صائماً، فدنوت منه فقلت: يا أمير المؤمنين أليس كان منك ما كان؟ قال: أجل فعليك بشأنك وخلِّيني وشأني، قالت: فقلت إني أرجو أن أتَّعظ، قال: إذاَ أخبرك، إني نظرت فوجدتُني قد وليت أمر هذه الأمة أسودها وأحمرها، ثم ذكرت الفقير الجائع، والغريب الضائع، والأسير المقهور، وذا المال القليل والعيال الكثير، وأشباه ذلك في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم، فخفت أن لا يقبل الله
_________
(1) التاريخ الإسلامي (15/ 140).(1/182)
تعالى مني معذرة فيهم، ولا تقوم لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة، فرحمت والله يا فاطمة نفسي رحمة دمعت لها عيني، ووجع لها قلبي، فأنا كلما ازددت لها ذكراً ازددت منها خوفاً، فاتَّعظي إن شئت أو ذَرِي (1).
وهذا تقدير بالغ من عمر رحمه الله للمسئولية التي تحملها حيث تذكر ضعفاء المسلمين وأصحاب الحاجات، بالرغم مما يبذله من جهد متواصل في التعرف على أحوال الأمة، ولكن لما كان هذا الأمر غير محصور خشي أن يكون قد لقي من المسلمين من لم تُرفع إليه حاجته، فيكون مسئولاً عنه في تذكره للحساب والجنة والنار دليل على عمق إيمانه بالغيب حتى أصبح أمامه كالمشاهد، فأصبح ذلك دامعاً له إلى العدل والرحمة، والمبالغة في تفقد أحوال الأمة وفي بكائه الشديد دلالة على عظمة خوفه من الله عز وجل، وقد عصمه الله تعالى لهذا الخوف، فارتفع بفكره وسلوكه عن المغريات، وقوى أمام جميع التحديات، فكلما عظم عليه خطب مجابهة الناس تذكر النار والحساب فهان عليه كل خطب عظيم وصغر في نظره كل أمر جسيم (2).
18 ـ في الإنفاق على الذمي إذا كبر ولم يكن له مال:
الإسلام دين العدالة والسماحة والاهتمام بالضعيف والإسلام يهتم بكل من يعيش على أرضه ولو كان على غير دين الإسلام، وعمر بن عبد العزيز يُجَسِّد هذه القيم الرفيعة بتطبيقه أحكام هذا الدين فيقرر أن الذمي إذا كبر ولم يكن له مال ولا حميم ينفق عليه فإن نفقته في بيت مال المسلمين (3)، فقد روى ابن سعد: قال عمر بن بهرام الصرّاف: قرئ كتاب عمر بن عبد العزيز علينا بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عدي بن أرطأة ومن قبله من المسلمين والمؤمنين سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فانظر أهل الذمة فأرفق بهم، وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفق عليه، فإن كان له حميم فمر حميمه ينفق عليه (4)
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ170، التاريخ الإسلامي (15/ 107).
(2) التاريخ الإسلامي (15/ 108).
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 353).
(4) الطبقات الكبرى (5/ 380).(1/183)
19 ـ أكله مع أهل الكتاب: كان عمر بن عبد العزيز يجعل كل يوم من ماله درهماً في طعام المسلمين ثم يأكل معهم، وكان ينزل بأهل الذمة فيقدمون له من الحلبة المنبوتة والبقول وأشباه ذلك مما كانوا يضعون من طعامهم فيعطيهم أكثر من ذلك ويأكل معهم، فإن أبوا أن يقبلوا ذلك منه لم يأكل منه (1).
20 ـ عمر والشعراء: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه فأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم، فبينما هم كذلك وقد أزمعوا على الرحيل إذ مر بهم رجاء بن حيوة ـ وكان من خطباء أهل الشام ـ فلما رآه جرير داخلاً على عمر أنشأ يقول:
يا أيها الرجل المرخي عمامته
هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئاً، ثم مرّ بهم عدي بن أرطأة، فقال له جرير:
يا أيها الرجل المرخي مطيته
هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه
أنَّي لدى الباب كالمصفود في قرن
لا تنس حاجتنا لقّيت مغفرة
قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
فدخل عدي على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي مالي وللشعراء، قال: أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، قال: كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه، قال: أو تروي من قوله شيئاً؟ قال: نعم، فأنشده يقول:
رأيتك يا خير البرية كلها
نشرت كتاباً جاء بالحق معلماً
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا
عن الحق لما أصبح الحق مظلماً
ونورت بالتبيان أمراًَ مدلساً
وأطفأت بالقرآن ناراً تضرماً
_________
(1) حلية الأولياء (5/ 315 ـ 316) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 356).(1/184)
قال: ويحك يا عدي، من بالباب منهم، فذكر له أسماء الشعراء، عمر بن عبد الله بن ربيعة، والفرزدق، والأخطل وجرير، فرد الجميع إلا جرير فسمح له بالدخول، فدخل جرير وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمداً
جعل الخلافة للإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه
حتى أرعوى فأقام ميل المائل
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً
والنفس مولعة بحب العاجل
فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير، اتق الله ولا تقل إلا حقاً (1)، نشأ جرير يقول:
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت
أم قد كفاني بما بُلِّغْتَ من خيري
كم باليمامة من شعثاءَ أرملة
ومن يتيم ضعيف الصوت والنَّظَرِ
ممن يعدُّكَ تكِفي فقد والِدِه
كالفَرخَ في العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوة ملهوف كأنَّ به
خبلاً من الجِنَّ أو مساّ من البشر
خليفة الله ماذا تأمرون بنا
لسنا إليكم ولا في حار منتظر
ما زلت بعدك في هم يُؤرقني
قد طال في الحيِّ إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا
ولا يعود لنا بادٍ على حضر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا
من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدراً
كما أتى ربَّهُ موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضَّيت حاجتها
فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حياً لا يفارقنا
بوركت يا عمر الخيرات من عمر
فقال: يا جرير ما أرى لك فيما ها هنا حقاً، قال: بلى يا أمير المؤمنين أنا ابن سبيل ومنقطع. فأعطاه من صلب ماله مائة درهم ... ثم خرج، فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراضٍ، ثم أنشأ يقول:
_________
(1) المنتظم (7/ 37).(1/185)
رأيت رُقَي الشيطان لا تستفزه
وقد كان شيطاني من الجن راقيا (1)
وهذا منهج جديد في عهد الدولة الأموية للتعامل مع الشعراء فقد كان الشعراء يمدحون الملوك والأمراء طلباً لرفدهم، ويدخلون في قصائدهم المبالغات والكذب إلى أن تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز، فقصدوه، فكان موقفه من الشعراء كما تبين من الخبر المذكور، فقطع تلك العادة التي تفسد بنية المجتمع وتشجع على سيادة الأخلاق السيئة من الكذب والتغرير والنفاق، فقطع تلك العادة السيئة ولم تعد إلى الظهور إلا بعد وفاته (2) ولقد اعترف جرير بأن الشياطين كانوا من وراء الشعراء في استفزاز الأمراء الممدوحين، وأن عمر بن عبد العزيز قد تميز بحصانته من أولئك الشياطين (3):
21 ـ تأثره بشعر الزهد وعلاقته بسابق البربري:
قرّب عمر بن عبد العزيز من الشعراء من التزم شعر الزهد وذكر الموت والخوف من الآخرة ويبدو أن أقرب الشعراء لقلب عمر هو سابق البربري (4)، فكان يعظ عمر وينشده الشعر فيتأثر عمر ويبكي وذات يوم دخل سابق البربري وهو ينشد شعراً فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمناً
أتته المنايا بغتة بعدما هَجَع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة
فراراً ولا منه بقوَّتِهِ امتنع
فأصبح تبكيه النساء مُقَنَّعاً
ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع
وقُرّبَ من لحدٍ فصارَ مقيله
وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
قال الرواي: ميمون بن مهران: فلم يزل عمر يبكي ويضطرب حتى غشي عليه فقمنا، فانصرفنا عنه (5).
وقد قال سابق البربري قصيدة طويلة فيها مواعظ وحكم، تأثر بها عمر بن عبد العزيز تأثراً بالغاً. وهي:
_________
(1) المنتظم (7/ 99).
(2) التاريخ الإسلامي (15/ 174).
(3) التاريخ الإسلامي (15/ 174).
(4) شاعر من الزهاد له كلام في الحكمة والرقائق وهو من موالي بني أمية، والبربري لقلب له ولم يكن من البربر سكن الرقة، وكان يفد على عمر بن عبد العزيز الأعلام (3/ 69).
(5) الكتاب الجامع لسيرة عمر (2/ 612) سيرة عمر بن عبد العزيز، عفت وصال حمزة صـ184.(1/186)
بسم الذي أنزلت من عنده السُّوَرُ
والحمد لله أما بعد يا عمر
إن كنت تعلم ما تأتي وما تذر
فكن على حذر قد ينفع الحذر
واصبر على القدر المجلوب وارض به
وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرئٍ عيش يُسَرُّ به
إلا سيتبع يوماً صفوه كدر
واستخبر الناس عما أنت جاهله
إذا عميت فقد يجلو العمى الخبر
قد يرعوي المرء يوماً بعد هفوته
وتحكم الجاهلَ الأيام والعبر
من يطلب الجور لا يظفر بحاجته
وطالب الحق قد يُهدى له الظَّفرُ
وفي الهدى عبرٌ تشفى القلوبُ بها
كالغيث ينضُر عن وسميِّه (1) الشجر
وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها
ولا البصير كأعمى ماله بَصرُ
والرُّشد نافلة تُهدى لصاحبها
والغيُّ يكره منه الوِرْدُ والصَّدر (2)
وقد يوبق (3) المرءَ أمرٌ وهو يحقره
والشيءُ يا نفسُ ينمى وهو يُحَتَصرُ
لا يشبع النفس شيء حين تحرزه
ولا يزال لها في غيره وطر
ولا تزال، وإن كانت لها سعة
كما تُعيِّرُ لون اللمة الغِير (4)
_________
(1) الوسمي: المطر في أول الربيع.
(2) الورد: الماء الذي يورد والقوم يردون الماء: الصّدر: الرجوع عن الماء.
(3) يوبق: يُهلك من وبق.
(4) الغِير: كما تغير الأحداث.(1/187)
وكل شيء له حال تغيره
لها إلى الشيء لم تظفر به نظر
والذكرُ فيه حياة للقلوب كما
يحيي البلاد إذا ما ماتت المطر
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه
كما يُجلّي سوادَ الظلمةِ القَمَرُ
لا ينفع الذكر قلباً قاسياً أبداً
وهل يلين لقول الواعظ الحجر؟
والموت جسرٌ لمن يمشي على قدم
إلى الأمور التي تخشى وتُنتظَرُ
فهم يمرّون أفواجاً وتجمُعُهم
دار إليها يصير البدو والحَضَرُ
من كان في معقل للحِرز (1) أسلمه
أو كان في خمر لم ينجه خَمَرُ
حتى متى أنا في الدنيا أخو كَلَفٍ
في الخير مني لَذَّاتِها صَعَرُ (2)
ولا أرى أثراً للذكرِ في جسدي
والماء في الحجر القاسي له أثَرُ
لو كان يسهر عيني ذكر آخرتي
كما يُؤرِقني للعاجل الشَّهَرُ
إذا لداويت قلباً قد أضرّ به
طول السقام ووهن العظم ينجبرُ
ما يلبثُ الشيءُ أن يبلى إذا اختلفت
يوماً على نقضه الروحات والبَكَرُ (3)
والمرءُ يصعد ريعان الشباب به
وكل مصعدة يوماً ستنحدر (4)
وكل بيت خراب بعد جِدًَّتِهِ
ومن وراء الشباب الموت والكَبَرُ
بينا يُرى الغُصن لَدْنا (5) في أرومته
ريان أضحى خُطاماً جوفه نَخِرُ
وكم من جميع أَشَتَّ الدهر شملَهُمُ
وكل شمل جميع سوف ينتثِرُ
وربَّ أصيد سامي الطرف معتصب
بالتاج نيرانه للحرب تستعر
يظل مفترِشَ الديباج محتجباً
عليه تبني ثباب الملكِ والحَجرُ
قد غادرته المنايا وهو مستلب
مُجَدَّل ترب الخدين منعفِر (6)
أبعد آدم ترجون البقاء وهل
تبقى فروع لأصل حين ينعقر
لهم بيوت بمستن السيول وهل
يبقى على الماء بيت أُسُّه مَدَرُ
إلى الفناءِ ـ وإن طالت سلامتهم
مصير كل بني أنثى وإن كثروا
إنَّ الأمور إذا استقبلتَها اشتبهت (7)
وفي تدبرها التبيان والعِبَرُ
والمرء ما عاش في الدنيا له أملٌ
إذا انقضى سفر منها أتى سفر
_________
(1) الحِرز: المكان المنيع يُلجأ إليه.
(2) صَعَر: صعر خده: أماله كبراً.
(3) الروحات والبكر: روحة من الرواح ويقابله الصباح البكر: أول النهار.
(4) أي بعد كل صعود نزول: ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.
(5) لدنا: طرياً ليناً.
(6) مُجَدَّلُ: جَدَّل: صرع وفي حديث علي رضي الله عنه: يعز علي أبا محمد أن أراك مجدّلاً تحت النجوم.
(7) اشتبهت: اشتبه اختلط الأمر عليه.(1/188)
لها حلاوةُ عيشٍ غيرُ دائمة
وفي العواقب منها المرُّ والصَّبُرُ
إذا انقضت زمر آجالها نزلت
على منازلها من بعدها زُمر (1)
وليس يزجرُكُم ما توعظون به
والبُهْمُ يزجرها الراعي فتنزجر (2)
أصبحتم جَزَراً للموت يقبضكم
كما البهائم في الدُّنيا لها جزر
لا تبطروا واهجروا الدُّنيا فإن لها
غِباً وخيماً، وكفر النعمة البطر
ثم اقتدوا بالأُلى كانوا لكم غُرَرا
وليس من أمة إلا لها غُرَرُ (3)
حتى تكونوا على منهاج أو لكم
وتصبروا عن هوى الدنيا كما صبروا
مالي أرى الناس والدنيا مولية
وكل حبل عليها سوف ينبتر (4)
لا يشعرون بما في دينهم نَقَصوا
جهلاً وإن نقصا دنياهم شعروا (5)
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يتمثل بالشعر كثيراً ومن تلك الأبيات التي ترنّم بها:
ولا خير في عيش امرئ لم يكن له
من الله في دار القرار نصيب (6)
ومن ذلك أيضاً:
تُسَرُّ بما يَبْلى (7) وتفرح بالمنى
كما اغتر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلُكُ نوم والرّدَى لك لازم
وسعيك فيما سوف تكره غبَّه
كذلك في الدنيا تعيش البهائم (8)
وذات يوم نظر عمر بن عبد العزيز، وهو في جنازة إلى قوم قد تلثَّموا من الغبار والشمس، وانحازوا إلى الظلِّ، فبكى وأنشد:
_________
(1) الزمر: مفردها زمرة وهي الفوج والجماعة.
(2) انزجر: انقاد ـ أي أن الحيوانات تنقاد لراعيها إذا دعاها.
(3) الغُرر: غُرّة: وغرة القوم: شريفهم وسيدهم.
(4) ينبتر: انبتر: انقطع.
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز، عفت وصال صـ187 الكتاب الجامع لسيرة عمر (1/ 81).
(6) البداية والنهاية (12/ 707).
(7) يبلى: يفنى.
(8) البداية والنهاية (12/ 707).(1/189)
من كان حين تصيب الشمسُ جبهته
أو الغبارُ يخاف الشَّينَ والشعثا
ويألف الظلَّ كي تبقى بشاشته
فسوف يسكن يوماً راغماً جدَثا
في قعر مُظلمةٍ غبراء موحشةٍ
يطيل في قعرها تحت الثَّرى لُبْثا
تجهَّزي بجهاز تبلُغين به
يا نفس قبل الرّدى لم تُخلقى عبثا (1)
22 ـ بين الشاعر دكين بن رجاء وعمر بن عبد العزيز:
قال دكين: امتدحت عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة، فأمر لي بخمس عشرة ناقة كرائم صعاب (2)، فكرهت أن أرمي بها الفجاج فتنتشر عليَّ، ولم تطب نفسي ببيعها، فقدمت علينا رفقة من مُضر، فسألتهم الصحبة، فقالوا: إن خرجت في ليلتك، فقلت: إنّي لم أودِّع الأمير، ولا بدَّ من وداعه، قالوا: إنّه لا يحتجب عن طارق ليل، فأتيته، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت وعنده شيخان أعرفهما، فودّعته. فقال لي: يا دكين، إنَّ لي نفساً توّاقة فإن أنا صرت إلى أكثر ممّا أنا فيه، فبعَيْنٍ ما أرَيَنَّك، فقلت: أشهد لي عليك بذلك، فقال: أُشهد الله به، قلت: ومن خلقه؟ قال: هذين الشخصين، فأقبلت على أحدهما فقلت: من أنت أَعرفُك؟ قال: سالم بن عبد الله، قلت: لقد استسمنت الشاهد وقلت للآخر: من أنت؟ قال: أبو يحي مولى الأمير (3)، فخرجت بهنَّ إلى بلدي، فرمى الله في أذنابهنَّ بالبركة حتى اعتقدت منهنَّ الإبل والغلمان فإني لبصحراء فلج (4)، إذ ناعٍ ينعى سليمان بن عبد الملك، قلت: فمن القائم بعده؟ قال: عمر بن عبد العزيز، فتوجهت نحوه، فلقيني جرير بالطريق جائياً من عنده، فقلت: يا أبا حزرة من اين؟ فقال: من عند من يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، ولكن عوِّل عليه في مال ابن السبيل، فانطلقت فإذا هو في عرصة داره (5) قد أحاط به الناس، فلم يمكنِّي الرِّجْل إليه، فناديت:
يا عمر الخيرات والمكارم
وعُمر الدَّسائع العظائم (6)
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 706).
(2) الصعاب: جمع صعبة، وهي نقيض الذلول: والصعبة التي لم
(3) الشعر والشعراء لابن قتيبة (2/ 611).
(4) فلج: موضع في الصحراء.
(5) عرصة الدار: وسطها.
(6) الدسائع: العطايا والراغب الواسعة.(1/190)
إنِّي امرءُ من قطن بن دارم
أطلب دَيْنٍ من أخ مكارم
إذ ننتجي والله غير نائم
في ظلمة الليل وليل عاتم (1)
عند أبي يحيي وعند سالم
فقام أبو يحيي فقال: يا أمير المؤمنين، لهذا البدوي عندي شهادة عليك، قال: أعرفها: ادنُ منِّي يا دُكين، أنا كما ذكرت لك، إنَّ نفسي لم تنل أمراً إلا تاقت إلى ما هو فوقه، وقد نلت غاية الدنيا، فنفسي تتوق إلى الآخرة، والله ما رزأت من أموال الناس شيئاً فأعطيك منه، وما عندي إلا ألفا درهم، أعطيك أحدهما، فأمر لي بألف، فوالله ما رأيت ألفاً كان أعظم بركة منه (2). ودكين هو القائل:
إذا المرء لم يدنس من اللُّؤم عِرضُهُ
فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يُضْرِع عن الُّلؤم نَفْسَهُ
فليس إلى حسن الثَّناء سبيل (3)
ـ من معالم عمر بن عبد العزيز في التغيير الإجتماعي:
ومن خلال حياة عمر بن عبد العزيز الإجتماعية يمكننا معرفة معالم منهجه في التغيير الإجتماعي والتي من أهمها:
1 ـ القدوة:
حيث ضرب من نفسه مثالاً رائعاً في الزهد والورع ومحاسبة النفس والأهل والعشيرة وإقامة الشرع على نفسه ومن حوله.
2 ـ التدرج والمرحلية:
حيث أخذ بسنة التدرج في الإصلاح الإجتماعي، وإماتة البدع وإحياء السنن، كما مرّ معنا.
3 ـ فهم النفوس البشرية: ولهذا كان يتبع مع الناس أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، ويرّغب ويرهب، ويعطي شيئاً من الدنيا لتهدئة النفوس ثم أخذها للحق وإقامة العدل وإزالة الظلم.
4 ـ ترتيب الأولويات: فقد قدم رد المظالم على غيرها من الأعمال، ولهذا انتهج سياسة واضحة في رد المظالم، بدأ بنفسه، ثم أهله وعشيرته، وعزل الولاة
_________
(1) ننتجي: نتناجى.
(2) الشعر والشعراء لابن قتيبة (2/ 612).
(3) المصدر نفسه (2/ 612).(1/191)
الظلمة وعين الأخيار من أهل الكفاءة والأمانة والعلم، لإقامة العدل وتطبيق الشرع .. الخ.
5 ـ وضوح الرؤية في خطواته الإصلاحية: حيث جدّد مفهوم الشورى وبيعة الحاكم وحق الأمة في الإختيار، عمل على توكيل الأمناء على الولايات، نشره للعدل في كافة الدولة، إحياؤه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرصه على سلامة معتقد الأمة الصحيح ومحاربته للمعتقدات الفاسدة، إهتمامه بالعلماء وتوظيفه لخدمة الإسلام من خلال الدعوة والعلم والتعليم والتزكية، ... الخ من الأعمال في مجال الاقتصاد، والسياسة والإجتماع حيث كان يملك رؤية إصلاحية تجديدية شاملة ـ كما سوف يتضح من خلال هذا الكتاب.
6 ـ التقيد بالقرآن الكريم والسنة النبوية: وهدي الخلفاء الراشدين في رؤيته الإصلاحية، وبذلك يمكننا القول بأن وضوح الرؤية انبثق من خلال ثوابت راسخة متمثلة في المرجعية الشرعية للرؤية الإصلاحية الشاملة التي قام بها عمر بن عبد العزيز، والتي من جوانبها الحياة الإجتماعية.
ثانياً: عمر بن عبد العزيز، والعلماء:
كانت أيام سليمان بن عبد الملك بداية لمشاركة العلماء في مسؤوليات الدولة وقربهم من مصدر القرار السياسي وتأثيرهم فيه، فلما جاء عهد عمر بن عبد العزيز ـ أصبحت مشاركة العلماء في إدارة شؤون الدولة قوية فعالة، وشاملة متنوعة، فعلى رأس الدولة عمر وهو يعد من أبرز العلماء وكبار الفقهاء وساس الدولة، كعالم وليس كملك، وتوسعت دائرة مشاركة العلماء في عهده فبدأت في مركز اتخاذ القرار في العاصمة حيث أحاط عمر نفسه بجملة من العلماء للإشارة عليه ومعاونته وأبعد من سواهم، فأصبحوا فرسان الحلبة وحدهم، فساهموا في صياغة سياسة الدولة صياغة شرعية خالصة، وامتدت مشاركتهم في المسئولية إلى بقية مرافق الدولة، فأسندت إليهم مختلف المناصب والأعمال، ولا يعدو القول الحقيقة إذا قلنا إن الدولة في عهد عمر بن عبد العزيز كانت دولة العلماء، فهي نموذج لما ينبغي أن تكون عليه الدولة الإسلامية اتحدت فيها السلطة(1/192)
التشريعية مع السلطة التنفيذية على أحسن حال (1)، وقد اتسعت مشاركة العلماء في عهد عمر بن عبد العزيز بشكل لم يسبق له مثيل في الدولة الأموية، ويرجع السبب في ذلك إلى أمور، أهمها حرص عمر على تقريب العلماء وجعلهم بطانته ووزراءه وأعوانه، ويتعلق السبب الآخر بالعلماء حيث لم ير أحد من العلماء لنفسه أي مبرر في البعد عن عمر والمشاركة في أعماله، فمن كان منهم اعتزال الخلفاء والأمراء من منطلق أن على العلماء أن يصونوا العلم ولا يذهبوا للسلاطين ابتداء بل على السلاطين أن يقدروا العلم والعلماء ويسعوا إليهم، من كان يرى ذلك فقد تحقق له شرطه حيث كان عمر يقصد العلماء ويبعث إليهم، ومن كان يرى اعتزال الخلفاء والأمراء خوفاً على دينه من مخالطتهم لم يعد لهذا المحذور وجود حيث إن مجالس عمر ومخالطته تعين المرء على دينه، لهذا أخبر العلماء على عمر ورأوا أن من الواجب عليهم تحمل عبْ المسئولية الملقاة على عاتقه، ولم يعد لمعتذر عذر، بل اقبلوا عليه (2)، وقالوا كما ذكر ابن عساكر: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله (3). فهذا ميمون بن مهران الذي يقول: لا تدخل على سلطان وإن قلت آمره بطاعة والذي يقول: لا تعرف الأمير ولا تعرف من يعرفه ومع هذا لا يجد لنفسه بداً من العمل عند عمر بن عبد العزيز ومشاركته (4). وتتجلى مشاركة العلماء في عهد عمر في عدة مظاهر أهمها:
1 ـ قربهم من الخليفة وشد أزره للسير في منهجه الإصلاحي:
أسهم العلماء في مساعدة عمر بن عبد العزيز في السير في منهجه الإصلاحي حيث أيدوه فيما اتخذه من قرارات إصلاحية، كما كان لبعضهم أثر في اتخاذ عمر لبعض تلك القرارات. فمن ذلك ما أثر على العالم العامل عراك بن مالك (5)، فقد ذكر ابن عمه أنه كان من اشد أصحاب عمر بن عبد العزيز على بني مروان في انتزاع ما حازوا من الفيء والمظالم من أيديهم، وقد تعرض بسبب هذا الموقف
_________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ114 ..
(2) المصدر نفسه صـ196.
(3) مختصر تاريخ ابن عساكر نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية صـ197.
(4) البداية والنهاية نقلاً عن أثر العلماء صـ197.
(5) عراك بن مالك الغفاري المدني، أحد العلماء العاملين.(1/193)
لغضب بني أمية فيما بعد فنفاه يزيد بن عبد الملك بعد توليه الخلافة إلى دهلك (1). وكان عراك بن مالك الغفاري شيخاً كبيراً ومحدثاً تابعي ثقة من خيار التابعين وكان زاهداً عابداً وقد انتفع به أهل تلك الجزيرة التي نفي إليها (2)، وكان هذا التابعي الجليل يسرد الصوم قال فيه عمر بن عبد العزيز: ما أعلم أحداً أكثر صلاة من عراك بن مالك، وقد مات في منفاه رحمه الله في إمرة يزيد بن عبد الملك عام 104هـ (3)، وكان ميمون بن مهران من المقربين من عمر بن عبد العزيز فقد روى ابنه عمر بن ميمون بن مهران عن أبيه قال: ما زلت ألطف في أمر الأمة وأنا وعمر بن عبد العزيز حتى قلت له: ما شأن هذه الطوامير التي تكتب فيها بالقلم الجليل وهي من بيت المال، فكتب إلى الآفاق لتركه فكانت كتبه نحو شبر (4). وميمون بن مهران قال عنه الذهبي الإمام الحجة عالم الجزيرة ومفتيها (5)، وقال عنه عمر بن عبد العزيز: إذا ذهب هذا وضرباؤه، صار الناس بعده رجراجة (6)،
وكان يكبر عمر بن عبد العزيز بعشرين سنة (7)، وكان ميمون بن مهران من علماء السلف ومن له مواقف وأقوال في نصرة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن أقواله: لا تجالسوا أهل القدر، ولا تسبوا أصحاب محمد صلى اله عليه وسلم، ولا تَعَلَّموا النجوم (8). وكتب ذات يوم إلى عمر بن عبد العزيز: إني شيخ كبير رقيق، كلَّفتني أن أقضي بين الناس، وكان على الخراج والقضاء بالجزيرة، فكتب إليه: إني لم أُكَلِّفك ما يُعنِّيك اجْب الطَّيَِبَ من الخراج، واقضي بما استبان لك، فإذا لُبس عليك شئ، ارفعه إليّ، فإن الناس لو كان إذا كبُر عليهم أمرٌ تركوه لم يقم دين ولا دنيا (9). ومن أقوال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه (10).
_________
(1) جزيرة في بحر اليمن ضيقة حرجة كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفوه إليها، سير أعلام النبلاء (5/ 64).
(2) انتشار الإسلام في القرن الإفريقي خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة صـ38، 39.
(3) سير أعلام النبلاء (5/ 64).
(4) سير أعلام النبلاء (5/ 133).
(5) سير أعلام النبلاء (5/ 71).
(6) رجراجة: رعاع الناس وجهالهم، سير أعلام النبلاء (5/ 72) ..
(7) سير أعلام النبلاء
(8) المصدر نفسه (5/ 73).
(9) المصدر نفسه (5/ 74).
(10) المصدر نفسه (5/ 74).(1/194)
وقال: ثلاثة تُؤدَّى إلى البرِّ والفاجر: الأمانة، والعهد وصلة الرحم (1). قال رجل لميمون بن مهران: يا أبا أيوب، ما يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم، قال: أقبل على شأنك: ما يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم (2)، وقال: من أساء سراً، فليتب سراً، ومن أساء علانية، فليتب علانية، فإن الناس يعيرون ولا يغفرون، والله يغفر ولا يعيّر (3). وعن جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: يا جعفر قل في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره (4)، وعن أبي المليح قال: قال ميمون: إذا أتى رجل باب سلطان، فاحتجب عنه، فليأت بيوت الرحمن، فليصلي ركعتين، وليسأل حاجته (5)،
وعن ميمون بن مهران قال: ثلاث لا تبلون نفسك بهنَّ: لا تدخل على السلطان، وإن قلت: آمره بطاعة الله، ولا تصغين بسمعك إلى هوى، فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه، ولا تدخل على امرأة ولو قلت: أعلمها كتاب الله (6). وقال: ما نال رجل من جسيم الخير ـ نبي ولا غيره ـ إلا بالصبر (7). وتوفي ميمون رحمه سنة سبع عشرة ومائة (8)، وقيل سنة ست عشرة (9).
2 ـ تعهدهم عمر بالنصح والتذكير بالمسئولية: يعتبر عمر بن عبد العزيز أكثر خليفة وجهت إليه النصائح والتوجيهات في عهد بني أمية فقد شهد أكبر عدد من الرسائل بين الخليفة والعلماء ولو إستعرضنا أولئك العلماء الذين وجهوا النصح والتذكير لعمر وما كتبوه من رسائل لطال بنا الحديث، ولكن نذكر منهم على سبيل المثال، سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ومحمد بن كعب القرظي، وأبا حازم سلمة بن دينار، والقاسم بن مخيمرة وحسن البصري وغيرهم، وكانت نصائح العلماء تتضمن عدداً من التوجيهات التي لها صلة بمنهج عمر السياسي، مما يؤكد أن عمر بن عبد العزيز استقى منهجه من المنهل الذي نبعث منه هذه التوجيهات (10)، فمما جاء في موعظة محمد بن كعب القرظي: .. يا أمير المؤمنين أفتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصر المظلوم، ورد الظالم (11)،
_________
(1) المصدر نفسه (5/ 74).
(2) المصدر نفسه (5/ 75).
(3) المصدر نفسه (5/ 75).
(4) المصدر نفسه (5/ 75).
(5) المصدر نفسه (5/ 75) ..
(6) المصدر نفسه (5/ 77).
(7) سير أعلام النبلاء (5/ 78).
(8) المصدر نفسه (5/ 78).
(9) المصدر نفسه (5/ 78).
(10) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ199.
(11) المصدر نفسه صـ199.(1/195)
وبمثل هذا المعنى جاءت موعظة القاسم بن مخيمرة حيث قال لعمر: .. بلغنا أن من ولي على الناس فاحتجب عن فاقتهم وحاجتهم احتجب الله عن فاقته وحاجته يوم يلقاه. قال عمر: فما تقول: ثم أطرق طويلاً وبرز للناس (1)، وجاء في إحدى رسائل الحسن البصري لعمر: ... أما بعد يا أمير المؤمنين فكن للمثل أخاً وللكبير ابناً وللصغير أباً، وعاقب كل واحد منهم بذنبه على قدر جسمه، ولا تضربن لغضبك سوطاً واحداً فتدخل النار (2)، وقد كان عمر كما سلف يحرص على تطبيق مثل هذا التوجيه ويأمر عماله بذلك (3)، ومما جاء في رسالة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ المليئة بالتوجيهات: ..
فإنه قد كان قبلك رجال عملوا وأحيوا ما أحيوا وأتوا ما أتوا حتى ولد في ذلك رجال ونشؤوا فيه وظنوا أنها السنة فسدوا على الناس أبواب الرخاء، فلم يسدوا منها باباً إلا فتح الله عليهم باب بلاء، فإن استطعت ـ ولا قوة إلا بالله ـ أن تفتح على الناس أبواب الرخاء فافعل، فإنك لن تفتح باباً إلا سد الله الكريم عنك باب بلاء يمنعك من نزع عامل أن تقول لا أحد يكفيني عمله، فإنك إذا كنت تنزع لله وتستعمل لله أتاح الله لك أعواناً فأتاك بهم. وجاء فيها أيضاً: .. فمن بعثت من عمالك إلى العراق فأنهه نهياً شديداً بالعقوبة عن أخذ الأموال وسفك الدماء إلا بحقها المال. المال يا عمر والدم فإنه لا نجاة لك من هول جهنم من عامل بلغك ظلمه ثم لم تغيره (4). وهذه التوجيهات هي عين سياسة عمر في السعي لإغناء رعيته وإنتقائه لعماله ومحاسبته لهم (5).
3 ـ مشاركتهم في تولي مختلف مناصب الدولة وأعمالها: لم تقتصر مشاركة العلماء لعمر بن عبد العزيز على الإشارة عليه وتقديم النصح له، بل تعدت ذلك إلى تولي عدد من المناصب في مختلف الأقاليم وأهم هذه المناصب وأكثرها أثراً في سياسة الدولة: الإمارة على الأقاليم، وبيت المال (6)،
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ113، لابن الجوزي.
(2) المصدر نفسه صـ103.
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ199.
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ103.
(5) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ199.
(6) المصدر نفسه صـ200.(1/196)
وحين نتتبع ولاة عمر على الأقاليم نجد أن جلهم من العلماء فمن ذلك: الإمام الثقة والأمير العادل عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب على ولاية الكوفة (1)، والعالم القدير أبو بكر بن عمر بن حزم على المدينة (2)، والإمام الكبير إسماعيل بن أبي المهاجر على إفريقية (3)، والفقيه المحدث عدي بن عدي الكندي على الجزيرة الفراتية وأرمينية وأذربيجان (4)، والإمام القاضي عبادة بن نسي على الأردن (5)، والثقة الصالح عروة بن عطية السعدي على اليمن (6)، والقاضي الفاضل سالم بن وابصة العبدي على الرقة (7)، وأما بيت المالفقد تولى العمل فيه عدد من العلماء ومنهم: العالم الجليل ميمون بن مهران على خراج الجزيرة (8)، والثقة الصالح صالح بن جبير الصدائي على الخراج لعمر بن عبد العزيز (9)، والعالم وهب بن منبه على بيت مال اليمن وأبو زناد وتولى عمر بن ميمون البريد لعمر بن عبد العزيز (10).
ولا شك أنه كان لهذه المشاركة الواسعة من العلماء بتوليهم الإمارة، وبيوت الأموال في مختلف الأقاليم الأثر الكبير في ضبط شئون الدولة الإدارية والمالية وما ترتب على ذلك من آثار حسنة في الحياة السياسية في عهد عمر بن عبد العزيز (11).
ثالثاً: المدارس العلمية في عهد عمر بن عبد العزيز والدولة الأموية:
تحدثت في كتابي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المدارس العلمية واتخاذه من عاصمة الدولة مدرسة يتخرج منها العلماء والدعاة والولاة والقضاة فنشطت المدارس العلمية في مكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام ومصر وغيرها وأشرف الصحابة الكرام على تعليم وتربية الناس فيها، واستطاعت تلك المدارس أن تخرج كوادر علمية وفقهية ودعوية متميزة ساندت المؤسسة العسكرية التي قامت بفتح العراق وإيران والشام ومصر وبلاد المغرب، واستطاع علماء الصحابة الذين تفرغوا لدعوة الناس وتربيتهم أن ينشئوا جيلاً من العارفين للدين الإسلامي
_________
(1) سير أعلام النبلاء (5/ 149).
(2) المعرفة والتاريخ (1/ 645).
(3) سير أعلام النبلاء _5/ 213).
(4) مختصر تاريخ دمشق (16/ 32).
(5) سير أعلام النبلاء (5/ 323).
(6) تهذيب التهذيب (6/ 186).
(7) تاريخ دمشق نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية صـ201.
(8) سيرة عمر لابن الجوزي صـ78.
(9) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ202.
(10) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ202.
(11) المصدر نفسه صـ202.(1/197)
من أبناء المناطق المفتوحة، وقد استطاعوا أن يتغلبوا على مشكلة إعاقة الحاجز اللغوي، بل تعلم الكثير من الأعاجم لغة الإسلام، وأصبح كثير من رواد حركة العلم بعد عصر الصحابة من العجم، لقد أثرت المدارس العلمية والفقهية في المناطق المفتوحة، وشكلت جيلاً من التابعين نقلوا إلى الأمة علم الصحابة وأصبحوا من ضمن سلسلة السند التي نقلت للأمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويرجع الفضل ـ بعد الله ـ في نقل ما تلقاه الصحابة من علم من الرسول بالدرجة الأولى بعد الله إلى مؤسسي المدارس العلمية بمكة والمدينة والبصرة والكوفة وغيرها من الأقطار (1). وقد استمرت مدارس التابعين في النشاط العلمي في عهد الدولة الأموية وكثير من العلماء الذين تخرجوا من تلك المدارس أعانوا عمر بن عبد العزيز على مشروعه الإصلاحي التجديدي الراشدي المنضبط بمنهاج النبوة، ومن أهم تلك المدارس:
1 ـ مدرسة الشام:
تأسست في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأشهر مؤسسيها من الصحابة، معاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وعباد بن الصامت رضي الله عنهم وحمل التابعون الراية العلمية والتربوية والدعوية بعد الصحابة ومن أشهرهم:
أـ الإمام الفقيه أبو إدريس الخولاني، عائذ بن عبد الله:
قاضي دمشق وعالمها، روى عن أبي الدرداء، وأبي هريرة وابن عباس وخلق غيرهم، كان أبو إدريس عالم الشام بعد أبي الدرداء قال: أدركت أبي الدرداء ووعيت عنه، وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس ووعيت عنهما (2). كان أبو إدريس ثقة من أهل الفقه في الدين وعلم الحلال والحرام، وكان من أحسن الناس تلاوة للقرآن، فعن يزيد بن عبيدة أنه رأى أبا إدريس في زمن عبد الملك ابن مروان، وأن حلق المسجد بدمشق يقرؤون القرآن، يدرسون جميعاً، وأبو إدريس جالس إلى بعض العمد، فكلما مرت حلقة بآية سجدة بعثوا إليه يقرأ بها، وانصتوا له وسجد بهم جميعاً ... حتى إذا فرغوا من قراءتهم قام أبو إدريس يقصُ (3). وعن يزيد بن أبي مالك، قال: كنا
_________
(1) الدور السياسي للصفوة صـ462 إلى 463.
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 275).
(3) سير أعلام النبلاء (4/ 274).(1/198)
نجلس إلى أبي إدريس الخولاني فيحدثنا، فحدث يوماً عن بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استوعب الغزاة، فقال له رجل من ناحية المجلس: أحضرت هذه الغزوة؟ فقال: لا وقال الرجل: قد حضرتها مع رسول الله، ولأنت أحفظ لها مني (1)، وقد عزل عبد الملك بن مروان بلال بن أبي الدرداء عن القضاء ـ وولى أبا إدريس (2). ثم أن عبد الملك عزل أبا إدريس عن القصص، وأقره على القضاء، فقال أبو إدريس: عزلتموني عن رغبتي وتركتموني في رهبتي (3). توفي عام 80هـ (4).
ب ـ الفقيه قبيصة بن ذؤويب الدمشقي:
روي عن عمر بن الخطاب، وأبي الدرداء وعبد الرحمن بن عوف وخلق غيرهم. كان قبيصة من علماء التابعين ثقة مأموناً كثير الحديث، قال الشعبي: كان أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت (5)، قال عنه مكحول: ما رأيت أحداً أعلم من قبيصة (6)، وعن ابن شهاب، قال: كان قبيصة بن ذؤويب من علماء هذه الأمة (7)، توفي سنة 86هـ وقيل 87هـ، وقيل88هـ (8). وقد توسعت في ترجمته عند حديثي عن عبد الملك.
ج ـ رجاء بن حيوة الفلسطيني:
من أجلة التابعين وشيخ أهل الشام حدث عن معاذ بن جبل وأبي الدرداء وعباد بن الصامت وطائفة (9)، كان شامياً ثقة فاضلاً كثير العلم (10)، ويروى عن رجاء بن حيوة أنه قال: من لم يؤاخ إلا من لا عيب فيه قلَّ صديقه، ومن لم يرضى من صديقه بالإخلاص له دام سخطه ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوُّه (11). كان رجاء كبير المنزلة عند سليمان بن عبد الملك وعند عمر بن عبد العزيز وأجرى الله على يديه الخيرات، ثم أنَّه بعد ذلك أُخِّر، فأقبل على شأنه (12)، توفي سنة 112 (13).
س ـ مكحول الشامي الدمشقي:
عالم أهل الشام عداده في أواسط التابعين من أقران الزهري سمع من واثلة بن الأسقع وواثله آخر من مات من الصحابة
_________
(1) المصدر نفسه (4/ 275).
(2) المصدر نفسه (4/ 275).
(3) المصدر نفسه (4/ 275).
(4) المصدر نفسه (4/ 276).
(5) المصدر نفسه (4/ 283).
(6) المصدر نفسه (4/ 283).
(7) المصدر نفسه (4/ 283).
(8) المصدر نفسه (4/ 283).
(9) المصدر نفسه (4/ 559).
(10) الفتوى: نشأتها وتطورها د. حسين الملاح صـ85.
(11) سير أعلام النبلاء (4/ 558).
(12) المصدر نفسه (4/ 560).
(13) المصدر نفسه (4/ 561).(1/199)
بدمشق (1)، وتوفي عام 85هـ وله ثمان وتسعون سنة (2)، قال عنه الزهري: العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالمدينة والشعبي بالكوفة، والحسن بالبصرة، ومكحول بالشام (3). وكان مكحول أفقه أهل الشام، ولم يكن في زمنه أبصر بالفتيا منه (4) توفي 112هـ وقيل 113هـ وقيل غير ذلك (5).
ع ـ عمر بن عبد العزيز: ومن علماء المدرسة الشامية والمدينة وذلك بعد انتقاله إلى الشام وقيامه بأعباء الخلافة، وكان معروفاً بالفقه بصير بالسنة، يرجع إليه القضاة في الأمور التي يختلفون فيها (6). وقد بدأت بالمدرسة الشامية لأنها ترعرعت في عاصمة الخلافة الأموية.
س ـ بلال بن سعد السكوني: الإمام الرباني الواعظ أبو عمرو الدمشقي شيخ أهل دمشق كان لأبيه صحبة، كان بليغ الموعظة، حسن القصص نافعاً للعامة وكان لأهل الشام كالحسن البصري بالعراق وكان قارئ أهل الشام جهير الصوت (7) يقول الأوزاعي: لم أسمع واعظاً قط أبلغ من بلال بن سعد (8)، ومن مواعظه العميقة: يا أهل التُقى إنكم لم تُخلقوا للفناء وإنما تُنقلون من دار إلى دار، كما نُقلتم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الخلود في جنة أو نار (9). ومن أقواله: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن أنظر من عصيت (10). وقال الأوزاعي سمعته يقول: والله لكفى به ذنباً أن الله يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها (11). وقد توفي سنة نيف وعشرة ومائة.
2 ـ المدرسة المدنية:
لما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كانت المدينة عاصمة الدولة الإسلامية وموطن الخلافة، وفيها تفتق عقل الصحابة في استخراج أحكام إسلامية، تصلح لما جد من شئون في المجتمعات الإسلامية، بعد الفتوح التي كثرت وفي عهد عمر
_________
(1) المصدر نفسه (3/ 386).
(2) المصدر نفسه (3/ 386).
(3) المصدر نفسه (5/ 158).
(4) المصدر نفسه (5/ 159).
(5) المصدر نفسه (5/ 159، 160).
(6) الدعوة إلى الله في العصر العباسي الأول (1/ 54).
(7) سير أعلام النبلاء (5/ 90، 91).
(8) المصدر نفسه (5/ 91).
(9) المصدر نفسه (5/ 91).
(10) المصدر نفسه (5/ 91).
(11) المصدر نفسه (5/ 92).(1/200)
بن الخطاب بلغ فقهاء الصحابة المفتون 130 مائة وثلاثين صحابياً وكان المكثرون منهم سبعة: عمر وعلي وعبد الله بن مسعود، وعائشة، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر (1)، وورث علماء التابعين الفقه والعلم والتربية والدعوة، وأما أشهر علماء التابعين: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن بن سعد الأنصارية، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسليمان بن يسار، ونافع مولى ابن عمر (2)، وقد تحدثت عن دور فقهاء وعلماء التابعين بالمدينة في نشأة عمر بن عبد العزيز.
3 ـ المدرسة المكية:
احتلت هذه المدرسة المكانة في قلوب المؤمنين، الساكنين والثائبين على بلد الله الحرام، الحجاج والعمار والزوار، بل أخذت مكة بألباب كل مؤمن رآها أو تمنى أن يراها، ولقد كان العلم بمكة يسير زمن الصحابة، ثم كثر في أواخر عصرهم وكذلك في أيام التابعين، وزمن أصحابهم، كابن أبي نجيح، وابن جريج (3)، إلا أن مكة اختصت زمن التابعين بحبر الأمة وترجمات القران ابن عباس رضي الله عنهما الذي صرف جل همه، وغاية وسعه إلى علم التفسير، وربى أصحابه على ذلك، فنبع منهم أئمة كان لهم قصب السبق بين تلاميذ المدارس في التفسير، وقد ذكر العلماء مجموعة من الأسباب أدت إلى تفوق المدرسة المكية في هذا العلم وأهم هذه الأسباب والأساس فيها إمامة ابن عباس رضي الله عنهما وأستاذيته لها (4)، ومن أشهر علماء التابعين في المدرسة المكية.
أـ مجاهد بن جبر المكي:
أخذ الفقه والتفسير عن ابن عباس وغيره من الصحابة، كان فقيهاً عالماً ثقة من أوعية العلم (5)، وعن مجاهد قال: عرضت القرآن ثلاث عرضات على ابن عباس، أَقِفُه عند كل آية، اسأله فيم نزلت، وكيف كانت (6)، وقال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد (7)، وقال مجاهد: صحبت ابن عمر
_________
(1) المدينة النبوية فجر الإسلام والعصر الراشدي (2/ 45).
(2) الفتوى، د. حسين الملاح صـ81، 82.
(3) المدينة النبوية فجر الإسلام والعصر الراشدي (2/ 48).
(4) تفسير التابعين (1/ 371) د. محمد الخضري.
(5) الفتوى، د. حسين الملاح صـ80.
(6) سير أعلام النبلاء (4/ 451).
(7) المصدر نفسه (4/ 451).(1/201)
وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني (1)، وقدم مجاهد على سليمان بن عبد الملك ثم على عمر بن عبد العزيز، وشهد وفاته وعن مجاهد قال. قال لي عمر بن عبد العزيز في مرض وفاته: يا مجاهد ما يقول الناس فيّ قلت: يقولون مسحور، قال: ما أنا بمسحور، ثم دعا غلاماً له فقال: ويحك، ما حملك على أن سقيتني السُّمُّ؟ قال: ألف دينار أُعطيتها وأن أُعتق، قال: هاتها، فجاء بها، فألقاها في بيت المال وقال: اذهب حيث لا يراك أحد (2)، وقال مجاهد: ما أدري أي النعمتين أعظم، أن هداني للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء (3). قال الذهبي معلقاً على قول مجاهد: مثل الرّفض والقدر والتجهّم (4). وعن عبد الوهاب بن مجاهد، قال: كنت عند أبي فجاء ولده يعقوب فقال: يا أبتاه، إن لنا أصحاب يزعمون أن إيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد. فقال: يا بني ما هؤلاء بأصحابي، لا يجعل الله من هو منغمس في الخطايا كمن لا ذنب له (5)، ومات مجاهد سنة اثنتين ومائة وهو ساجد (6)، وكان عمره ثلاث وثمانين سنة (7).
ب ـ عكرمة مولى ابن عباس:
كان مكياً تابعياً ثقة من أعلم التابعين، روى عن ابن عباس، وعائشة وأبي هريرة وابن عمر، وابن عمرو، وعقبة بن عامر، وعلي بن أبي طالب (8)، قال: طلبت العلم أربعين سنة، وكنت أفتي بالباب وابن عباس بالدار وعن عكرمة أن ابن عباس رضي الله عنه قال له: انطلق فأفت الناس وأنا لك عون، قلت: لو أن هذا الناس ومثلهم مرتين لأفتيتهم. قال ابن عباس: انطلق فأفتهم فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته ومن سألك عما لا يعنيه فلا تُفته، فإنك تطرح عنك ثلثي مؤونة الناس (9)، وكان عكرمة كثير الأسفار ونزل على عبد الرحمن الحسّاس الغافقي، وصار إلى إفريقية (10)، وقد اتهم عكرمة بالصفرية فرقة من فرق الخوارج ولم تثبت هذه التهمة بسند صحيح وإنما بصيغة يقال (11)، وقد
_________
(1) المصدر نفسه (4/ 452).
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 453).
(3) المصدر نفسه (4/ 455).
(4) المصدر نفسه (4/ 455).
(5) المصدر نفسه (4/ 455).
(6) طبقات ابن سعد (5/ 467) سير أعلام النبلاء (4/ 455).
(7) سير أعلام النبلاء (4/ 456).
(8) المصدر نفسه (5/ 13).
(9) المصدر نفسه (5/ 15).
(10) المصدر نفسه (5/ 15).
(11) براءة السلف مما نسب إليهم من انحراف في الاعتقاد صـ39.(1/202)
دافع علماء الجرح والتعديل عن عكرمة، كابي حاتم الرازي، وابن حبان، والعجلي، وابن منده وابن عبد البر ونقل ذلك ابن حجر في مقدمة الفتح وقال: لا تثبت عنه بدعة (1). وقال البخاري: ليس أحد من أصحابنا إلا هو يحتج بعكرمة (2)، توفي سنة 105هـ (3).
ج ـ عطاء بن أبي رباح:
مفتي الحرم وأحد الفقهاء الأئمة روى عن ابن عباس وأبي هريرة وأم سلمة وعائشة ورافع بن خديج وزيد بن أرقم وابن الزبير، وابن عمرو وابن عمر وجابر ومعاوية وأبي سعيد وعدة من الصحابة (4). وكان ثقة فقيهاً عالماً كثير الحديث انتهت إليه فتوى أهل مكة. قال عنه ابن عباس: يا أهل مكة تجتمعون علي وعنكم عطاء، ولسعة علمه وجلالة قدره كانوا في عهد بني أمية يأمرون في الحج منادياً يصيح لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح توفي سنة 115 هـ (5). هؤلاء بعض علماء التابعين من المدرسة المكية الذين نهضوا بعبء الدعوة والتعليم وإتمام البناء العلمي (6).
4 ـ المدرسة البصرية:
وهي منافسة للكوفة في كل الفنون، وقد نزلها من الصحابة جمع كثير، منهم أبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين وأنس بن مالك وغيرهم، ويعتبر أنس بن مالك رضي الله عنه شيخ السادة من علماء التابعين أمثال الحسن البصري، وسليمان التيمي، وثابت البناني، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وإبراهيم بن أبي ميسرة، ومحمد بن سيرين، وقتادة وغيرهم (7). ومن أشهر علماء المدرسة البصرية:
أـ محمد بن سيرين البصري:
كان مولى أنس بن مالك، سمع من ابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة وخلق سواهم (8)، وعن حبيب بن الشهيد قال: كنت عند
_________
(1) مقدمة الفتح صـ428.
(2) سير أعلام النبلاء (5/ 31).
(3) المصدر نفسه (5/ 34).
(4) المصدر نفسه (5/ 79).
(5) الفتوى د. حسين الملاح صـ81، سير أعلام النبلاء (5/ 78).
(6) الدعوة إلى الله في العصر العباسي الأول (1/ 41).
(7) تفسير التابعين (1/ 4239 عمر بن الخطاب للصَّلاَّبيِّ صـ260.
(8) سير أعلام النبلاء (4/ 606).(1/203)
عمرو بن دينار فقال: والله ما رأيت مثل طاووس، فقال أيوب السختياني وكان جالساً: والله لو رأى محمد بن سيرين لم يقله (1)، وقال عثمان البتي: لم يكن بالبصرة أعلم بالقضاء من ابن سيرين (2). وكان الحسن البصري يقدمه على غيره، فعن ثابت البُناني، قال: كان الحسن متوارياً من الحجّاج فماتت بنت له، فبادرت إليه رجاء أن يقول لي صلّ عليها، فبكى حتى ارتفع نحيبه، ثم قال لي: اذهب إلى محمد بن سيرين، فقل له ليُصل عليها، فعرف حين جاء الحقائق، أنه لا يعدل بابن سيرين أحداً (3). وكان محمد بن سيرين يصوم يوماً ويفطر يوماً (4)، وكان قد أشتهر بتفسير الأحلام وهو اشهر من أن يعرف في هذا الباب قال عنه الذهبي: قد جاء عن ابن سيرين في التعبير عجائب، وكان له في ذلك تأييد الهي (5). وكان يلبس الثياب الثمينة والطيالس والعمائم (6)، وكان صاحب ضحك ومزاح (7) وكان باراً بأمه قالت حفصة بنت سيرين: كانت والدة محمد حجازية وكان يعجبها الصبغ، وكان محمد إذا أشترى لها ثوباً أشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد، صبغ لها ثياباً وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي إليها (8)، وعن ابن عون، أن محمداً كان إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها (9). وقال ابن عون: كانوا إذا ذكروا عند محمد رجلاً بسيئة ذكره هو بأحسن ما يعلم. وجاءه ناس فقالوا: إنا نلنا منك فاجعلنا في حلّ، قال: لا أُحلّ لكم شيئاً حرّمه الله (10).
توفي ابن سيرين بعد الحسن البصري بمئة يوم، سنة عشر ومئة (11).
ب ـ قتادة بن دعامة السدوسي:
كان من أوعية العلم، روى عن بعض الصحابة وكبار التابعين وكان ثقة حجة في الحديث (12)، قال عنه أحمد بن حنبل: كان قتادة عالماً بالتفسير وباختلاف العلماء ثم وصفه بالفقه والحفظ وقال: قلما تجد من يتقدمه (13). وقال: كان قتادة أحفظ أهل البصرة لا يسمع شيئاً إلا حفظه
_________
(1) المصدر نفسه (4/ 608).
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 608).
(3) المصدر نفسه (4/ 610).
(4) المصدر نفسه (4/ 615).
(5) المصدر نفسه (4/ 618).
(6) المصدر نفسه (4/ 619).
(7) المصدر نفسه (4/ 613).
(8) المصدر نفسه (4/ 619).
(9) المصدر نفسه (4/ 620).
(10) المصدر نفسه (4/ 620).
(11) المصدر نفسه (4/ 621).
(12) الفتوى د. حسين الملاح صـ84.
(13) سير أعلام النبلاء (4/ 276).(1/204)
قرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها (1). قال سلام بن مطيع: كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث (2). قال عنه الذهبي: حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين (3)، كان رأساً في العربية والغريب وأيام العرب وأنسابها (4)، وكان من تلاميذ الحسن البصري، وجالسه اثنتي عشرة سنة وصلى معه الصبح ثلاث سنين (5)، توفي سنة ثماني عشرة ومائة (6).
5 ـ المدرسة الكوفية:
نزل الكوفة ثلاثمائة من أصحاب الشجرة، وسبعون من أهل بدر رضي الله عنهم أجمعين، وقد اهتم عمر بالكوفة ووجه عبد الله بن مسعود واجتهد ابن مسعود في إيجاد جيل يحمل دعوة الله فهماً وعلماً وكان له الأثر البالغ في نفوس الملازمين له، أو من جاء بعدهم، وقد اشتهر مجموعة من تلاميذ ابن مسعود بالفقه والعلم والزهد والتقوى منهم، علقمة بن قيس، مسروق بن الأجدع، عبيدة السلماني، الأسود بن يزيد، ومرة الجعفي (7) وغيرهم، ومن أشهر علماء التابعين في المدرسة الكوفية:
أـ عامر بن شرحبيل الشعبي:
كان علامة عصره ومن أفقههم، روى عن عائشة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر وجمهرة غيره حتى قيل أنه أدرك خمسمائة من الصحابة (8)، لذلك كان صاحب آثار كثير العلم والفقه. قال محمد بن سيرين: لقد رأيته يستفتى والصحابة متوافرون بالكوفة ورغم هذا العلم الواسع فقد كان ينقبض عند الفتوى، وكثيراً ما يقول لا أدري، لأنه كان يعتبرها نصف العلم (9).، وقد قال الشعبي: إنا لسنا بالفقهاء، ولكنّا سمعنا الحديث فرويناه ولكن الفقهاء من إذا علم عمل (10)، ومن نكاته اللاذعة، ما رواه الأعمش قال: أتى رجل الشعبيَّ، فقال: ما اسم امرأة أبليس؟ قال: ذاك عرس ما شهدته (11)، توفى سنة أربع ومائة وقيل ست ومائة وقيل خمس ومائة (12).
_________
(1) المصدر نفسه (4/ 277).
(2) المصدر نفسه (4/ 276).
(3) المصدر نفسه (4/ 270).
(4) المصدر نفسه (4/ 277).
(5) المصدر نفسه (4/ 283).
(6) المصدر نفسه (4/ 283).
(7) فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صـ264.
(8) سير أعلام النبلاء (4/ 298).
(9) الفتوى د. الملاح صـ83.
(10) سير أعلام النبلاء (4/ 303).
(11) المصدر نفسه (4/ 312).
(12) المصدر نفسه (4/ 318).(1/205)
ب ـ حمّاد بن أبي سلمة:
فقيه أهل العراق، روى عن أنس بن مالك وتتلمذ على يدي إبراهيم النخعي وهو أنبل أصحابه وأفقههم وأقيسهم وأبصرهم بالمناظرة (1). وكان أحد العلماء الأذكياء والكرام الأسخياء، له ثروة وحشمة وتجمُّل (2)، وكان أفقه أهل الكوفة عليّ وابن مسعود وأفقه أصحابها علقمة، وكان أفقه أصحابه إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم حماد، وأفقه أصحاب حماد أبو حنيفة، وأفقه أصحابه أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبي يوسف في الآفاق، وأفقههم محمد، وأفقه أصحاب محمد أبو عبد الله الشافعي (3) رحمهم الله تعالى. وقد توفي حماد سنة عشرين ومائة (4).
6 ـ المدرسة اليمنية:
من أشهر علمائها من الصحابة الذين ساهموا في دخول الإسلام فيها معاذ بن جبل، علي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري وغيرهم، ومن أراد التوسع فليراجع الرسالة العلمية للدكتور عبد الله الحميري، الحديث والمحدثون في اليمن في عصر الصحابة، ومن أشهر علماء التابعين في المدرسة اليمنية:
أـ طاووس بن كيسان:
فقيه أهل اليمن وقدوتهم، وأعلمهم بالحلال والحرام من سادات التابعين، روى عن ثلة من الصحابة الكرام، كزيد بن ثابت وأبي هريرة، وزيد بن أرقم، وابن عباس وهو معدود من كبراء أصحابه (5). وروى عن معاذ مرسلاً (6). كان من أبناء الفرس الذين جهزهم كسرى لأخذ اليمن له (7)، كان فقيهاً جليلاً بركة لأهل اليمن (8). أدرك خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (9). قال له عمر بن عبد العزيز في عهد سليمان: أرفع حاجتك إلى أمير المؤمنين. قال: ما لي إليه حاجة فكأن عمر عجب من ذلك (10). ومن أقواله: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج (11). وقال: البخل أن يبخل الرجل بما في يديه، والشح أن
_________
(1) الفتوى د. الملاح صـ83.
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 231).
(3) المصدر نفسه (4/ 236).
(4) المصدر نفسه (4/ 236).
(5) المصدر نفسه (5/ 39).
(6) المصدر نفسه (5/ 39).
(7) المصدر نفسه (5/ 38).
(8) الفتوى نشأتها وتطورها ـ أصولها وتطبيقاتها صـ85.
(9) سير أعلام النبلاء (5/ 43).
(10) المصدر نفسه (5/ 41).
(11) المصدر نفسه (5/ 42).(1/206)
يحب أن يكون له ما في أيدي الناس (1). وقال عنه قيس بن سعد الطاووس فينا مثل ابن سيرين فيكم. وقال بن المديني: كان سفيان لا يعدل من أصحاب ابن عباس بطاووس أحد (2). وكان رحمه معتزلاً الأمراء والسلاطين إلا إذا أكره على عمل لهم، وإذا طلب أداء نصيحة فإنه لا يجامل أحداً ويصدع بالحق، توفي بمكة سنة ست ومائة للهجرة (3).
ب ـ وهب بن منبه:
أبو عبد الله وهب بن منبه من أبناء فارس كان ينزل ذمار (4). وكان ممن قرأ الكتب ولزم العبادة وواظب على العلم وتجرد للزهادة (5). وقال عنه الذهبي: الإمام العلامة، الأخباري القصصي. وقال العجلي: تابعي ثقة كان على قضاء صنعاء وذكره شيرازي في فقهاء التابعين باليمن (6). وكان صاحب حكمة وفطنة، وكان له أثر في محاربة الخوارج في اليمن وتحذير الناس من آرائهم (7)، وإليك حواره مع أبي شمَّر الخولاني لما دخل على وهب بن منبه برفقة داود بن قيس، وتكلم داود لوهب وقال عن صاحبه أبي شمّر الخولاني إنه من أهل القرآن والصلاح، والله أعلم بسريرته، فأخبرني أنه عرض له نفر من أهل حروراء ـ يعني الخوارج ـ فقالوا له: زكاتك التي تؤديها إلى الأمراء لا تجزئ عنك، لأنهم لا يضعونها في موضعها، فأدها إلينا، ورأيت يا أبا عبد الله أن كلامك أشفى له من كلامي، فقال: يا ذا خولان أتريد أن تكون بعد الكبر حرورياً تشهد على من هو خير منك بالضلالة؟ فماذا أنت قائل لله غداً حين يقفك الله؟ ومن شهدت عليه، فالله يشهد له بالإيمان، وأنت تشهد عليه بالكفر، والله يشهد له بالهدى وأنت عليه بالضلالة، فأين تقع إذا خالف رأيك أمر الله وشهادتك شهادة الله؟ أخبرني يا ذا خولان ماذا يقولون لك؟ فتكلم عن ذلك وقال لوهب: إنهم يأمرونني أن لا أتصدق إلا على من يرى رأيهم ولا أستغفر إلا له، فقال: صدقت، هذه محنتهم الكاذبة، فأما قولهم في الصدقة، فإنه قد بلغني
_________
(1) المصدر نفسه (5/ 48).
(2) الطبقات (5/ 541) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ666.
(3) سير أعلام النبلاء (5/ 49).
(4) ذمار: مدينة باليمن على مرحلتين من صنعاء.
(5) علماء الأمصار للبستي صـ123.
(6) طبقات الفقهاء صـ66.
(7) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ667.(1/207)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن امرأة من أهل اليمن دخلت النار في هرة ربطتها (1)، أفإنسان مما يعبد الله يوحده ولا يشرك به أحب إلى الله أن يطعمه من جوع أو هرة؟ واله يقول: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)) (الإنسان، الآية: 8). وأما قولهم لا يستغفر إلا لمن يرى رأيهم أهم خير أم الملائكة، والله يقول: ((وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ)) (الشورى، الآية: 5) فوالله ما فعلت الملائكة ذلك حتى أمروا به ((لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)) (الأنبياء، الآية: 27). وجاء ميسراً ((وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) (غافر، الآية: 7)، واستمر معه في الحوار والنقاش إلى أن قال ذو خولان: فما تأمرني؟ قال: انظر زكاتك فأدها إلى من ولاه الله أمر هذه الأمة، وجمعهم عليهم، فإن الملك من الله وحده وبيده يؤتيه من يشاء فإذا أديتها إلى والي الأمر برئت منها، وإن كان فضل فصل به أرحامك ومواليك وجيرانك والضيف، فقال: أشهد إني نزلت عن رأي الحرورية (2). توفي وهب رحمه الله سنة عشر ومائة في خلافة هشام بن عبد الملك (3)، وقيل إن يوسف بن عمر والي اليمن ضربه حتى قتله (4)، ولعل ذلك بسبب موقف وهب من جور يوسف بن عمر المشهور بعنفه وظلمه (5).
7 ـ المدرسة المصرية:
تكونت في مصر مدرسة كان شيوخها من الصحابة الذين رحلوا إليها أيام الفتح ونزلوا في موضع الفسطاط والأسكندرية، ومن هؤلاء عمرو بن العاص، عبد الله بن عمرو بن العاص، الزبير بن العوام، وكان من أكثر الصحابة تأثيراً في مصر عقبة بن عامر رضي الله عنه (6)، وغير ذلك من الصحابة يرجع إليهم الفضل في دعوة الناس وتوجيههم نحو دينهم (7)، وجاءت طبقة التابعين، وكان منهم أئمة ودعاة، ومن هؤلاء:
_________
(1) مسلم رقم 2242 ..
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 555) الحرورية: الخوارج.
(3) سير أعلام النبلاء (4/ 556) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ667.
(4) سير أعلام النبلاء (4/ 556).
(5) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ667.
(6) عمر بن الخطاب للصلاّبّيّ صـ270.
(7) الدعوة إلى الله في العصر العباسي الأول (1/ 57).(1/208)
يزيد بن أبي حبيب: الإمام الحجة، مفتي الديار المصرية أبو رجاء الأزدي كان من جلة العلماء العاملين، ارتفع بالتقوى مع كونه مولى أسود (1). قال عنه الليث بن سعد: يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا (2). توفي سنة ثمان وعشرين ومائة (3).
8 ـ مدرسة شمال إفريقيا:
دخل القادة الفاتحون شمال إفريقيا وكان على رأسهم عمرو بن العاص ثم عبد الله بن سعد بن أبي السرح رضي الله عنهم ثم تابع معاوية بن حديج فتح إفريقية، وولى معاوية بن أبي سفيان على مصر وإفريقية، وجاء بعده عقبة بن نافع الفهري فاختط مدينة القيروان، وسار في الناس سيرة حسنة وكان من خيار الولاة والدعاة، الذين جاهدوا ودعوا بالسيف والكلمة ثم قام على إفريقية ولاة صالحون ساروا على النهج نفسه (4). وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز بعث إسماعيل بن أبي المهاجر والياً على إفريقية سنة مائة، فكان داعية إلى الإسلام بلسانه وأعماله وأخلاقه، فأحبه الناس، وأحبوا دينه، وحرص على دعوة البربر إلى الإسلام، فاستجابوا لدعوته، وأسلموا على يديه، واهتم إسماعيل بتعليم الناس أحكام الشريعة، وتفقيههم في الحلال والحرام وكان عمر بن عبد العزيز بعث معه عشرة من التابعين من أهل العلم والفضل، وأهل إفريقية يومئذ من الجهل بحيث لا يعرفون أن الخمر حرام حتى وصل هؤلاء فعلموا الناس الحلال والحرام (5)، وسيأتي الحديث عن الفقهاء العشرة في محله بإذن الله ومن خلال ما سبق من الحديث عن المدارس العلمية يظهر أهمية توريث العلم والخبرات الدعوية عند السلف وامتداد ذلك يشمل أقاليم الدولة الإسلامية ونستفيد أيضاً أهمية تفريغ مجموعة من أذكياء الأمة للتعلم والتعليم والافتاء والإرشاد والوعظ ونشره بين الناس.
رابعاً: منهج التابعين في تفسير القرآن الكريم:
سلك التابعون منهاجاً واضحاً في تفسير القرآن الكريم، فكانوا يفسرون القرآن بالقرآن، والقرآن بالسنة، والقرآن بأقوال الصحابة، واللغة العربية، والاجتهاد وقوة الاستنباط
_________
(1) سير أعلام النبلاء (6/ 31).
(2) المصدر نفسه (6/ 32).
(3) المصدر نفسه (6/ 32).
(4) البيان المغرب للمراكشي (1/ 19) الدعوة إلى الله (1/ 61).
(5) المصدر نفسه (1/ 48) الدعوة إلى الله في العصر العباسي الأول (1/ 62).(1/209)
1 ـ تفسير القرآن بالقرآن:
تعددت طرق التابعين في تفسير القرآن بالقرآن ومن هذه الطرق:
أـ نظائر القرآن الكريم: كتفسير الآية بآية أخرى تحمل الموضوع نفسه وإن اختلف اللفظ وقد أكثر التابعون من ذلك ومن ذلك ما ورد عن مجاهد في تفسير الكلمات في قوله تعالى: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ)) (البقرة، الآية: 37). قال: قوله ((قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا)) (الأعراف، الآية23). حتى فرغ منها (1). وجاء عن عكرمة، والحسن في تفسير قوله تعالى: ((وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)) (الإسراء، الآية: 110). قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى يجهر بصلاته، فآذى ذلك المشركين بمكة حتى أخفى صلاته هو وأصحابه، فلذلك قال: ((وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)). وقال في الأعراف: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)) (الأعراف، الآية: 205). وفي تفسير قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) (البقرة، الآية: 94). قال قتادة: وذلك أنهم قالوا: ((لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)) (البقرة، الآية: 111). وقالوا: ((نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)) (المائدة، الآية: 18). فقيل لهم ((فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) (2) (البقرة، الآية: 94).
ب ـ الأشباه: والمراد بالأشباه تفسير الآية بما يشبهها من الآيات كتفسير الآية بالآيات التي تحمل بعض معناها مع تقارب اللفظ (3)، فمن ذلك ما ورد عن مجاهد في تفسير النفس بالغير، فإنه قال في تفسير قوله تعالى: ((لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)) (النور، الآية: 12). قال لهم خيراً، ألا ترى أنه يقول ((وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)) (النساء، الآية: 29). يقول: بعضكم بعضا و ((فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) (النور، الآية: 61). قال يسلم بعضكم على بعض (4). ففسر مجاهد هنا
_________
(1) تفسير الطبري (1/ 545) زاد المسير (1/ 69).
(2) فتح القدير (1/ 116) تفسير التابعين (2/ 614).
(3) تفسير التابعين (2/ 615).
(4) تفسير الطبري (18/ 96) تفسير التابعين (2/ 615).(1/210)
النفس بالغير واستدل بورود ذلك في آيات متشابهة في القرآن تدل على هذا الجزء من المعنى (1).
ج ـ الدلالة على التفسير بالسياق: وفي هذا النوع يلحظ المفسّر منهم سياق الآية فيربطها بما قبلها، أو بما بعدها سواء كان ذلك في الآية نفسها، أو في مجموعة من الآيات (2)، مثل تفسير قوله تعالى: ((وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)) (الأنعام، الآية: 83). قال مجاهد في تفسيرها: هي ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ (3)) (الأنعام، الآية: 82).
ح ـ بيان المجمل: وفي هذا الطريق يقوم المفسر بالنظر في آيات القرآن التي فيها إجمال، وينظر في الآيات الأخرى التي يمكن أن تكون بياناً لهذا الإجمال، كحمل المجمل على المبين ومن ذلك ما ورد عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: ((خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)) (نوح، الآية: 14): قال: من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم ما ذكر حتى يتم خلقه (4). فأشار بقوله إلى الآيات التي فيها ذكر ذلك مثل قوله تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)) (المؤمنون، الآيات 12، 14).
خ ـ تفسير العام بالخاص: وفي هذا يعمد المفسر منهم إلى آية ظاهرها العموم فيحملها على معنى آخر ذكرت فرداً من أفراد العموم (5)، كقوله تعالى: ((مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) (النساء، الآية: 123). قال الحسن البصري: الكافر ثم قرأ: ((وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)) قال: من الكفار (6). وفي رواية عنه قال: (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)) يعني الكفار، لا يعني بذلك أهل الصلاة (7). فالآية الأولى جاء فيها العموم في لفظة ((من)) ليعم المؤمن والكافر، فجاء الحسن فبين أنها
_________
(1) تفسير التابعين (2/ 616).
(2) المصدر نفسه (2/ 617).
(3) تفسير الطبري (11/ 505).
(4) تفسير الطبري (29/ 26) الدر المنثور (8/ 291).
(5) تفسير التابعين (2/ 621).
(6) تفسير الطبري (9/ 237) زاد المسير (2/ 210).
(7) تفسير الطبري (9/ 238).(1/211)
خاصة بالكافر مستدلاً بأسلوب الحصر في الآية الثانية (1). وأصرح من ذلك ما جاء عنه في تفسير الآية نفسها أنه قال: ((مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) (النساء، الآية: 123) إنما ذلك لمن أراد الله هوانه، فأما من أراد كرامته، فإنه من أهل الجنة ((وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)) (الأحقاف، الآية: 16 (2).
ر ـ التفسير باللازم: المراد بالتفسير باللازم أن المفسر لا يذكر صراحة تفسيراً للآية التي هو بصددها، بل يذكر شيئاً من لوازم ذلك، ويربطه بآية أخرى، فمن ذلك ما جاء عن سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: ((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) (البقرة، الآية 156)، فقد قال: لو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب، ألم تسمع: ((يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ (3)) (يوسف، الآية: 84). أنه لم يكن يعرف ((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ))، وإلا لقالها، بدلاً من تأسفه على ذهاب يوسف (4).
ز ـ توضيح المبهم: ومن طرق التفسير التي اتبعها التابعون ـ أيضاً ـ إيضاح مبهم آية بآية أخرى لإزالة الإبهام (5)، ومن ذلك ما قام به عكرمة من رفع الإبهام الواقع في لفظه ((الحين)) استدل بالآية التي تبين أن المراد منه سنة فعنه أنه قال: أرسل إليّ عمر بن عبد العزيز فقال: يا مولى ابن عباس: إني حلفت أن لا أفعل كذا وكذا حيناً، فما الحين الذي تعرف به؟ قلت: إن من الحين حيناً لا يدرك، ومن الحين حين يدرك، وأما الحين الذي لا يدرك فقول الله: ((هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)) (الإنسان، الآية: 1). والله ما يدري كم أتى له إلى أن خلق، وأما الذي يدرك فقوله: ((تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)) (إبراهيم، الآية: 25). فهو ما بين العام إلى العام المقبل، فقال: أصبت يا مولى ابن عباس، ما أحسن ما قلت (6).
س ـ بيان معنى (لفظ)، أو إيضاح مشكلة: وقد كثر هذا النوع في تفسير التابعين فصاروا يتناولون آيات القرآن بالتفسير بآيات أخرى تبين هذا المعنى، وتلكم
_________
(1) تفسير التابعين (2/ 623).
(2) تفسير التابعين (2/ 623).
(3) تفسير الطبري (3/ 224).
(4) تفسير التابعين (2/ 623).
(5) المصدر نفسه (2/ 624).
(6) تفسير الطبري (16/ 581).(1/212)
الألفاظ (1)، ومثال ذلك كتفسير الحسن البصري ((يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ)) (النازعات، الآية: 6). قال: النفختان، أما الأولى فتميت الأحياء، وأما الثانية فتحي الموتى ثم تلا الحسن: ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (2)) (الزمر، الآية: 68). والأمثلة كثيرة على تفسير التابعين للقرآن بالقرآن، ومن أراد المزيد فليراجع تفسير التابعين (3).
2 ـ تفسير القرآن بالسنة: لا شك أن السنة مبينة للقرآن موضحة له قال الشاطبي: وهي راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله وبيان مشكله، وبسط مختصره (4)، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعلم بكلام الله وأكثر قدرة على فهم نصوص الآيات من غيره مع ما أوحاه الله تعالى من المعاني، فهو صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) (النجم، الآية: 3)، وقال صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه (5). يقول ابن تيمية: فإن قال قائل، فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن ... إلى أن يقول ـ فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال تعالى: ((إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)) (النساء، الآية: 105). وقال تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (النحل، الآية: 44). وقال تعالى: ((وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) (النحل، الآية: 64 (6). وقد اتفق العلماء على أن الأخذ بالسنة واجب والعمل بها حتم وتحكيمها فرض بل جاء عن مكحول التابعي أنه قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن (7).
وقد كثر عن التابعين النقول التي تدل على شدة
_________
(1) تفسير الطبري (2/ 626).
(2) تفسير الطبري (30/ 31)، تفسير التابعين (2/ 627).
(3) تفسير التابعين (2/ 608 إلى 627).
(4) المصدر نفسه (2/ 628) الموافقات (4/ 12).
(5) سنن أبي داود رقم 4604.
(6) الفتاوى (13/ 363).
(7) تفسير التابعين (2/ 629) تفسير القرطبي (1/ 30).(1/213)
متابعتهم للسنة، قال ربيعة للزهري: إذا سُئلت عن مسألة فكيف تضع؟ قال: أحدث فيها بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم فعن أصحابه، فإن لم يكن عن أصحابه اجتهدت رأيي (1)، ومما يدل على عظيم احتفائهم وعنايتهم بالمروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قل أن نجدهم يخالفون ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من تفسيره وفيما يلي بعض الأمثلة الدالة على ذلك:
أـ فمن هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)) (الفاتحة، آية: 6). قال صلى الله عليه وسلم: اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضلال (2). وبذلك فسرها: مجاهدٍ (3)، وسعيد بن جبير (4) وغيرهما. قال ابن حاتم: لا أعلم خلافاً بين المفسرين في تفسير ((الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)) باليهود، و ((الضَّالِّينَ)) بالنصارى (5).
ب ـ ومنه أيضاً ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في بيان قوله: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)) (البقرة، الآية 187). قال صلى الله عليه وسلم: هو سواد الليل وبياض النهار (6)، ولم يخالف في ذلك أحد من التابعين وبه قال الحسن (7)، وقتادة (8).
جـ ـ من ذلك ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في تفسير معنى الظلم الذي ورد في قوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) (الأنعام، الآية: 82). قال صلى الله عليه وسلم حين شق ذلك على أصحابه فقالوا: أيُّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس بذلك ألم تسمعوا قول لقمان: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم (9)). وهذا هو المنقول عن التابعين قال به: إبراهيم النخعي، وقتادة، ومجاهد، وسعيد بن جبير (10).
س ـ ومنه ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في تفسير للسبع المثاني في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)) (الحجر، الآية: 87). قال صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد بن المعلى: ألا
_________
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 75) تفسير التابعين (2/ 637).
(2) موار الظمآن في زوائد ابن حبان رقم 224.
(3) تفسير الطبري (1/ 188).
(4) الدر المنشور (1/ 41).
(5) تفسير ابن أبي حاتم رقم22، تفسير التابعين (2/ 638).
(6) البخاري، ك التفسير الفتح (8/ 182).
(7) تفسير الطبري (3/ 510).
(8) تفسير الطبري (3/ 510).
(9) البخاري، ك التفسير الفتح (8/ 294).
(10) تفسير التابعين (2/ 639).(1/214)
أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟ فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرته، فقال: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته (1). وهذا التفسير هو المروي عن سعيد بن جبير والحسن، ومجاهد، وقتادة (2).
ش ـ ومن ذلك بيانه صلى الله عليه وسلم لمعنى: الأمة الوسط، التي وردت في قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)) (البقرة، آية: 143). ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) قال ((عَدُولاً)) (3) وبهذا التفسير قال: مجاهد، وعطاء وقتادة (4). هذه بعض الأمثلة التي اعتمدها التابعون في تفسير القرآن الكريم بالسنة النبوية.
3 ـ تفسير القرآن بأقوال الصحابة:
إن التابعين ما علموا كيفية التلقي من الكتاب والسنة وكذلك الاجتهاد، ونحو ذلك إلا بسبب تربيتهم على أيد الصحابة وخبرتهم بمناهجهم الاستدلالية، وتعلمهم لطرق الاستنباط وتلقيهم الرواية النبوية، ورؤيتهم التطبيق العملي لذلك كله ولقد استوعب التابعون رسالة الصحابة وعرفوا فضلهم، فها هو مجاهد يقول: العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (5)، وكان التابعون يقدمون قول الصحابي على قولهم يقول الشعبي: إذا اختلف الناس في شيء فانظر كيف صنع عمر؟ فإن عمر لم يكن يصنع شيئاً حتى يشاور، فقال أشعث ـ راوي الأثر ـ فذكرت ذلك لابن سيرين فقال: إذا رأيت الرجل يخبرك أنه أعلم من عمر فأحذره (6)، وكان منهج التابعين في الأخذ عن الصحابة يدور حول:
أـ إذا كان تفسير الصحابي يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المطلب الرئيس، والغاية القصوى، وليس بعده قول، وكذلك ما كان من تفسير الصحابي، وهو وارد في سبب النزول بالصيغة الصريحة (7)، وكذلك فيما لا مجال للرأي فيه، فهذا يقف
_________
(1) البخاري، ك التفسير الفتح (8/ 381).
(2) تفسير التابعين (2/ 641).
(3) مجمع الزوائد (6/ 316) رواه أحمد (3/ 9) صحيح.
(4) تفسير التابعين (2/ 641).
(5) إعلام الموقعين (1/ 15)، تفسير التابعين (2/ 651).
(6) الحلية (4/ 320)، تفسير التابعين (2/ 653).
(7) أي سبب نزول كذا هو كذا وكذا أو حدث كذا ونزل كذا.(1/215)
عنده لا يجاوزونه، لأن الصحابي شاهد التنزيل، ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ)) (الأنعام، آية: 61). فقد قال فيها ابن عباس رضي الله عنهما: إن لملك الموت أعواناً من الملائكة رواه عنه إبراهيم (1). ولذ جاءت الرواية من تفسير إبراهيم نفسه بالاقتصار على قول ابن عباس ولم يزد عليه شيئاً فقال: أعوان ملك الموت (2)، وكذا جاء عن قتادة، ومجاهد والربيع (3).
ب ـ وإذا كان التفسير الوارد عن الصحابي من باب الاجتهاد، وجار على مقتضى اللغة، فإنهم في الغالب لا يخالفونه، فإن الصحابة أهل اللسان والبيان والفهم، ولأجل ذلك اعتمد مجاهد تفسير ابن عباس دون غيره عندما تعرض لتفسير قوله تعالى: ((فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)) (الأنعام، آية: 98). فقد قال ابن عباس: المستقر بالأرض والمستودع عند الرحمن (4). وجاءت رواية عن ابن عباس: أن المستقر في الرحم، والمستودع في الصلب (5)، موافقة للرواية الثانية لشخصية، وهكذا كان حال ابن جبير في تفسير الآية (6).
ج ـ إذا تعارضت الأقوال المنقولة في الصحابة، فإن التابعين يسلكون مسلك الترجيح بينها، والترجيح قد يكون باللغة، أو بالحديث أو بقول صحابي آخر يجمع بين الأقوال، فمن الأول ما جاء في تفسير قوله تعالى: ((أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)) (الإسراء، آية: 78). جاء عن ابن عباس في تفسيرها أن دلوكها غروبهاً (7)، وجاء عنه أن دلوكها: زيغها بعد نصف النهار (8)، وجاء عن ابن مسعود أن دلوكها غروبها (9)، وجاء عنه أيضاً أن دلوكها ميلها يعني: الزوال (10). فاختار قتادة أن دلوكها زوالها، ففسرها به (11)، مع أنه نقل القول بغروبها عن ابن مسعود (12)، ولعل سبب هذا الاختيار هو أن اللغة تدل على أن الدلوك هو الميل، فيكون المراد
_________
(1) تفسير الطبري (11/ 410)، زاد المسير (3/ 55).
(2) تفسير الطبري (11/ 410).
(3) تسير التابعين (2/ 658).
(4) تفسير التابعين (2/ 658).
(5) تفسير الطبري (11/ 570)، زاد المسير (3/ 92).
(6) تفسير الطبري (11/ 570).
(7) تفسير الطبري (15/ 134).
(8) فتح القدير (3/ 254).
(9) زاد المسير (5/ 72).
(10) فتح القدير (3/ 254).
(11) زاد المسير (5/ 72).
(12) زاد المسير (5/ 72).(1/216)
صلاة الظهر، ورجحه ابن جرير، وناقش الأول (1)، وقد يكون الترجيح لأثر مرفوع، ومنه ما جاء عن قتادة وهو يحدث عن سعيد بن المسيب، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى، وشبك بين أصابعه (2)، فرجح الحسن أنها صلاة العصر (3)، متابعاً في ذلك عدداً من الصحابة رضي الله عنهم، والمرجح هنا هو الأثر المرفوع الذي رواه الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر (4). وقد يكون الترجيح بقول صحابي آخر يقدِّم به عموم الآية على ما. ما ورد في خصوصها، ويجمع به بين الأقوال، فمن ذلك تفسيرهم لقوله تعالى: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) (الكوثر، الآية: 1). فقد جاء تفسير الكوثر عن جمع من الصحابة أنه نهر في الجنة (5)،
وعن ابن عباس أنه الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه (6)، وتابعه على ذلك سعيد بن جبير، فقال أبو بشر لسعيد: إنا كنا نسمع أنه نهر في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه (7) فهنا رجح ابن جبير العموم في الآية مستنداً لقول ابن عباس، ولم يذهب إلى الخصوص الأثر الوارد في ذلك، أما إذا لم يكن ثمة مروي عن الصحابة في ذلك، فعندئذ يدخل منهم من يدخل في باب الاجتهاد (8). وقد أدت الرواية عن الصحابة والاعتماد عليها في التفسير إلى ظهور نتائج وآثار ترتبت على ذلك منها، حفظ أخبار الصحابة ومعرفة دقيق أحوالهم والتمييز بينهم، والالتزام بمناهجهم والإفادة منها، وتبني أقوالهم (9).
4 ـ اللغة العربية: لقد تنوعت مشارب التابعين في اعتمادهم على اللغة وجعلها مصدراً من مصادر التفسير وذلك لعدة أسباب منها معرفة لغة العرب ومعرفة عادات العرب وأخبارهم، والإلمام بأشعار العرب، ومعرفة فقه اللغة من الاشتقاق، والإيجاز والحذف، والتقديم والتأخير، وغير ذلك من الأسباب (10).
5 ـ الاجتهاد: ظهرت اجتهادات التابعين في التفسير، حتى إبان عهد الصحابة، وشملت إجتهاداتهم مواطن كثيرة، غالبها مما سكت عنه الصحابة ومن أهمها:
_________
(1) تفسير الطبري (15/ 136، 137).
(2) زاد المسير (1/ 282).
(3) تفسير التابعين (2/ 661).
(4) تفسير الطبري (5/ 194) رقم 5438.
(5) زاد المسير (9/ 248) ..
(6) الدر المنثور (8/ 649).
(7) زاد المسير (9/ 248).
(8) تفسير التابعين (2/ 661).
(9) المصدر نفسه (2/ 672 إلى 677).
(10) المصدر نفسه (2/ 689 إلى 707).(1/217)
أـ بيان المراد من النص، وذلك، إذا كان النص خفي الدلالة بسبب إجمال في اللفظ أو التركيب.
ب ـ استنباط بعض الأحكام من النصوص القرآنية.
ج ـ بيان الفروق بين ما تشابه من الكلمات، والمعاني، والتفسير بين النظائر.
س ـ العناية الفائقة بدقائق من علم الكتاب العزيز، كمباحث عد الآيات، والكلمات في القرآن الكريم (1) وغيرها، وقد كان لاجتهاد التابعين في تفسير الآيات مميزات منها:
ـ ... تنوع عبارات الاجتهاد وتعددها.
ـ ... الإيجاز غير المخل.
ـ ... عمق التأمل ودقة التفسير.
ـ ... قوة الاستنباط.
خامساً: جهود عمر بن عبد العزيز والتابعين في خدمة السنة:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في أول الأمر، مخافة اختلاط غير القرآن به، واشتغال الناس عن كتاب ربهم بغيره، ثم جاء بعد ذلك الإذن النبوي بالكتابة والإباحة المطلقة لتدوين الحديث الشريف فنسخ الأمر، وصار الأمر إلى الجواز (2). وقد ثبت أن كثيراً من الصحابة قد أباحوا تدوين الحديث وكتبوه لأنفسهم، وكتب طلابهم بين أيديهم، وأصبحوا يتواصلون بكتابة الحديث وحفظه (3). وقام الجهابذة من أهل العلم، والغيورين من المسلمين بجهود جبارة لتدوين السنة المطهرة وجمع الحديث النبوي، وتنقيته من شوائب الوضع، وبذلوا في ذلك مهجهم وأوقاتهم، فأسهروا ليلهم، وضربوا في الأرض نهارهم، وأصَّلوا لذلك أصولاً، وقعّدوا قواعد، حتى أثمرت تلك الجهود المباركة هذه الدواوين العظيمة، التي يعكف المسلمون على قراءتها وحفظها والعمل بها والفضل كل الفضل لله ـ ثم لأولئك البررة الذين كانوا السبب في جمعها، وليس لهم مكافأة
_________
(1) تفسير التابعين (2/ 711).
(2) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ74.
(3) المصدر نفسه صـ75.(1/218)
أعظم من أجر الله الجزيل لهم يوم القيامة إن شاء الله تعالى (1)، ولعل طلائع التدوين الرسمي للحديث النبوي، الذين قامت به جهة مسؤولة في الدولة الإسلامية، كان على يدي عبد العزيز بن مروان ـ والد عمر ـ عندما كان أميراً على مصر كما مرّ معنا، بيد أن التدوين الذي آتى ثماره هو ما قام به أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وقد تجلى ذلك في إرشاداته لكتابة العلم وتدوين الحديث، وأوامره للخاصة والعامة بذلك، فمن إرشاداته قوله: أيها الناس قيدوا العلم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتابة (2)،
لكن أمير المؤمنين عمر لم يكتف بهذا الإرشاد العام والحض على حفظ العلم بكتابته، بل سعى ـ بحكمه خليفة المسلمين ـ إلى إصدار أوامره إلى بعض الأئمة العلماء بجمع سنن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حمله على ذلك ما رآه عند كثير من التابعين في إباحة كتابة الحديث، وهم قد حملوا علماً كثيراً، فخشي عمر على ضياعه، خاصة وأنه ليس دائماً تتوفر الحفظة الواعون لنقله، دونما احتياج إلى كتابة الكتب والرجوع إليها للاستذكار وثمة سبب آخر يضاهي سابقه في الأهمية، وهو فشوّ الوضع ودسّ الأحاديث المكذوبة، وخلطها بالصحيح من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب الخلافات المذهبة والسياسية، وإلى هذا يشير كلام الإمام الزهري: لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها، ما كتبت حديثاً ولا أذنت في كتابه (3). ورأي الزهري هذا كان رأي كثير من أئمة ذلك العصّر، حيث خافوا على الحديث النبوي من الضياع، واختلاطه بالمكذوب، مما حفز العلماء ... على حفظ السنة بتدوينها، وجاء رأي السلطة العليا ممثلاً بالخليفة الورع العالم المجتهد أمير المؤمنين عمر، فاتخذ خطوة حاسمة بتدوين سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل من مسؤوليات الدولة حفظ السنة المطهرة (4). وإليك خطواته ومجهوداته في هذا الشأن:
1 ـ كتب إلى الإمام الثبت أمير المدينة وأعلم أهل زمانه بالقضاء، أبي بكر بن حزم، يأمره بذلك، ففي صحيح البخاري: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاكتبه، فإن خفت دروس العلم
_________
(1) المصدر نفسه صـ75.
(2) المصدر نفسه صـ76 ..
(3) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار، الشيخ صـ77.
(4) أصول الحديث، محمد عجّاج الخطيب صـ176 ـ 177ـ 186.(1/219)
وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم ما لم يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً (1)، وروى ابن سعد عن عبد الله بن دينار ـ قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أنظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنّة ماضية أو حديث عمرة بن عبد الرحمن، فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله (2).
2 ـ كذلك وجه كتاباً بهذا الشأن إلى الإمام الحجة ابن شهاب الزهري، فقد ذكر ابن عبد البر عن ابن شهاب قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز، بجمع السنن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً (3)، وروى أبو عبيد أن عمر أمر ابن شهاب أن يكتب له السنّة في مصارف الزكاة الثمانية، فلبى الزهري أمره، وكتب له كتاباً مطولاً يوضح ذلك بالتفصيل (4). ومن هنا قال ابن حجر: وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد (5).
3 ـ بل إن عمر وجه أوامره إلى أهل المدينة جميعاً يأمرهم ويحثهم على جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشارك في هذا كل من لديه علم، ولو كان بضعة أحاديث، فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة: أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه، فإني قد خفت دروس العلم وذهاب أهله (6).
4 ـ ولم يقف عمر عند ذلك، بل عمَّمَ أوامره إلى جميع الأمصار في الدولة الإسلامية، ليقوم كل عالم بجمع وتدوين ما عنده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سمعه من أصحابه الكرام (7)، وروى: انظروا حديث رسول الله صلى اله عليه وسلم فاجمعوه واحفظوه، فإني أخاف دروس العلم وذهاب العلماء (8).
وقد اهتم عمر رضي الله عنه باللغة العربية: فشجع أهل البلاد المفتوحة على تعلمّها وإتقانها، وكان يغدق عليهم ـ لذلك ـ العطايا، كما أنه يعاقب من يلحن
_________
(1) فتح الباري (1/ 194 ـ 195).
(2) الطبقات، أصول الدين صـ177 ـ 179.
(3) جامع بيان العلم (1/ 91 ـ 92).
(4) الأموال صـ231 ـ 232.
(5) فتح الباري (1/ 208)، أصول الحديث صـ178، 180.
(6) سنن الدارمي (1/ 137).
(7) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ79.
(8) فتح الباري (1/ 195)، أصول الحديث صـ178.(1/220)
بالعربية وينقص من عطائه، لما يعلم من أهمية العربية في فهم كتاب الله والسنة النبوية الشريفة (1).
* ـ ... منهج عمر بن عبد العزيز وطريقته في التدوين:
اتبع عمر في جمع الحديث النبوي وتدوينه منهجاً سديداً قويماً وسلك فيه شروطاً صارمة ووضع له أبعاداً هادفة مفيدة. ويتجلى ذلك في أربع أمور:
1 ـ حسن اختياره للقائمين بهذا الأمر: فأبو بكر بن حزم هو أحد أوعية العلم ومن أعلام عصره قال فيه الإمام مالك: ما رأيت مثل ابن حزم أعظم مروءة ولا أتمَّ حالاً، ولا رأيت من أوتي مثل ما أوتي: ولاية المدينة، والقضاء، والموسم. وقال: كان رجل صدق، كثير الحديث. وقال ابن سعد: كان ثقة عالماً كبير الحديث توفي 120هـ (2). وأما الزهري، فهو العالم العَلَم، حافظ زمانه، وشهرته ملأت الآفاق، قال فيه الليث بن سعد: ما رأيت عالماً قط أجمع من ابن شهاب، محدث في الترغيب والترهيب، فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدَّث عن العرب والأنساب، قلت: لا يحسن إلا هذا. وإن حدّث عن القرآن والسنة، كان حديثه وقال عمر بن عبد العزيز: عليكم بابن شهاب، فإنه ما بقي أحد أعلم بسنة ماضية منه (3).
2 ـ أنه طلب ممّن يدوّن له السنة جمع الأحاديث مطلقاً وتدوينها، وتتبع أناس مخصوصين لما امتازوا بتدوين أحاديث معينة لأهميتها: فقد أمر ابن حزم بتدوين حديث عًمْرَة بنت عبد الرحمن لأنها من أثبت الناس بأم المؤمنين عائشة والسيدة عائشة هي أعلم الناس بأحوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشؤونه الخاصة داخل بيته ومع أهله (4)، وعمرة هذه هي: عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة الأنصارية النّجارية المدينة الفقيهة، تربية عائشة وتلميذتها، وجدّها سعد من قدماء الصحابة، وهو أخو النقيب الكبير أسعد بن زرارة، ذكرها ابن المديني فضخَّم
_________
(1) عمر بن عبد العزيز للشرقاوي صـ178.
(2) سير أعلام النبلاء (5/ 313 ـ 314).
(3) سير أعلام النبلاء (5/ 328)، عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ80.
(4) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ81.(1/221)
أمرها وقال: عمرة إحدى الثقات العلماء بعائشة، الإثبات فيها (1). وقال الزهري: أتيتها فوجدتها بحراً لا يُنْزَف (2). توفيت عام 98هـ وقيل 106هـ (3). وذكرت إحدى الروايات أنه أمر ابن حزم بجمع التدوين حديث عمر بن الخطاب. وذلك لما يقصده ابن عبد العزيز من تتبع سيرة الفاروق وأقضيته وسياسته في الصدقات، وكتبه إلى عماله فيها وقد طلب ذلك أيضاً من سالم بن عبد الله بن عمر. وكل ذلك واضح من النهج الذي سلكه عمر بن عبد العزيز في الإقتداء بجده رضي الله عنهما (4). كذلك كتب إلى آل عمرو بن حزم أن ينسخوا له كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الصدقات، كي يسير عليه في خلافته وفي تسيير أمور رعيته (5).
3 ـ أنه ألزم من يدوّن السنة النبوية أن يميز الصحيح من السقيم، ويتحرى الثابت من الحديث، وذلك واضح في رواية الدارمي حيث يقول عمر لابن حزم: اكتب إليَّ بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحديث عمر. وعند الإمام أحمد في العلل: أكتب إلي من الحديث بما ثبت عندك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث عَمْرَة (6). وهذه نقطة عظيمة الأهمية في تأسيس منهج التدوين على أسس راسخة، ثابتة صحيحة، قويمة مستقيمة (7).
4 ـ تثبته من صحة الحديث والتحديث: فعمر من كبار العلماء، وليس بأقل شأناً في العلم ممن أمرهم بالتدوين، لذلك قام بمشاركة العلماء في مناقشة بعض ما جمعوه، زيادة في التثبيت (8)، من ذلك ما رواه أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي قال: رأيت عمر بن عبد العزيز جمع الفقهاء، فجمعوا له أشياء من السنن، فإذا جاء الشيء الذي ليس العمل عليه قال: هذه زيادة ليس العمل عليها (9).
* ـ ... ثمرة هذا التدوين:
لقد آتت هذه الجهود الباكرة المباركة بعض أكلها، وتمثل ذلك بتلك الدفاتر التي جمعها الإمام الزهري، فأمر عمر بن عبد العزيز بنسخها
_________
(1) المصدر نفسه صـ81 تهذيب التهذيب (12/ 466).
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 508) نساء لها تاريخ صـ155.
(3) المصدر نفسه (4/ 508).
(4) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ81.
(5) المصدر نفسه صـ81.
(6) نقلاً عن مقدمة المسند صـ20، 23.
(7) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ82.
(8) المصدر نفسه صـ82.
(9) أصول الحديث صـ82.(1/222)
عدة نسخ، ثم أرسل إلى كل بلد في دولته الكبيرة دفتراً منها، ويلاحظ أن كثيراً من العلماء جمع لنفسه مسموعاته، ليعود إليها كلما وجد في نفسه الحاجة إلى إتقان حفظها، أما التدوين الرسمي الذي تولّته الدولة، وعممت ثمرته على الأمصار، فكان بأمر عمر بن عبد العزيز، ومن الثمرات الطيبة ـ أيضاً ـ ذلك المنهج السديد الذي اتبعه أمير المؤمنين عمر، بوضع الأسس والنقاط الهامة أثناء التدوين، فكانت نواة لمنهج واسع متكامل جاء بعده، وهذا كله ناتج من دقة فهمه، وغزارة علمه، ونفاذ بصيرته، وقبل ذلك وبعده توفيق الله تعالى له، ولئن كان عمر بن الخطاب قد أشار على الصديق بجمع القرآن، ففعل، فكان لهما الفضل الكبير على الأمة. ثم جاء عثمان فجمع الناس على مصحف واحد، وحرف واحد، ولهجة واحدة هي لهجة قريش، فإن الله سبحانه قد ادّخر لعمر بن عبد العزيز ـ نحسب ذلك ولا نزكي على الله أحد ـ تلك المنقبة العظيمة، والمكرمة الجليلة، في إصدار أوامر الخلافة بجمع السنة وتنقيحها وتدوينها، وجعل من الدولة حماية السنة التي هي المصدر الثاني للتشريع. وهذا من توفيق الله للعظماء، وكبار المصلحين، عندما تخلص سرائرهم، لله يوفقهم الله للحق ويدلهم على الخيرات، ويسدّد خطواتهم، ويهيء لهم من أمرهم رشداً (1).
قال الشعر الليبي أحمد رفيق المهدوي:
فإذا أحب الله باطن عبده
ظهرت عليه مواهب الفتّاح
وإذا صفت لله نية مصلح
مال العباد عليه بالأرواح (2)
ويعتبر ((التدوين الرسمي)) بحق أحد الأعمال العظيمة والإنجازات الكبيرة التي تحققت في عهد عمر بن عبد العزيز (3) رحمه الله.
* ـ ... جهود التابعين في خدمة السنة النبوية الشريفة:
تحمل التابعون الحديث النبوي عن الصحابة وضبطوا الإسناد مع الدقة والإتقان، وأصبح الحديث أمانة في أعناقهم عليهم أن يجتهدوا في تبليغها وإيصالها إلى من
_________
(1) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ83.
(2) الثمار الزكية للحركة السنوسية صـ198.
(3) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ83.(1/223)
وراءهم لاسيما وقد ظهر في عصرهم بسبب الخلافات السياسية والكلامية وبسبب الزندقة المتمثلة في التظاهر بالإسلام مع كراهيته، ديناً، ودولة، وبسبب التعصب للجنس، واللغة والقبيلة، والبلد، وبسبب التكسب والارتزاق عن طريق القصاص والوعظ وبسبب الجهل من بعض الزهاد والعباد وغير ذلك من الأسباب، ظهر الكذب والوضع في الحديث، فانبرى هؤلاء يؤدون الأمانة ويقومون بواجبهم في مواجهة الكذابين والوضاعين، وكانت لهم في ذلك جهود ضخمة مشكورة (1) يمكن تلخيصها في الآتي:
1 ـ الالتزام بالإسناد ومطالبة الغيرية:
أـ قال ابن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم (2).
ب ـ جاء عن عتبة بن أبي الحكم: أنه كان عند إسحاق بن أبي فروة وعنده الزهري، قال: فجعل ابن أبي فروة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... فقال له الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة ما أجرأك على الله لا تسند حديثك، تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة (3).
2 ـ عقد الحلقات العلمية:
يقول ابن سيرين: قدمت الكوفة، وللشعبي حلقة علمية عظيمة، والصحابة يومئذ كثير (4). وعن ابن شهاب قال: كان يقص لنا سعيد بن جبير كل يوم مرتين: بعد الفجر، وبعد العصر (5).
3 ـ الحرص على أداء الحديث على وجهه: يعني روايته بلفظه، فإن لم يتيسر ذلك رووه بالمعنى مراعين شروطه وضوابطه المعروفة (6). فعن ابن عون قال: كان
_________
(1) التابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي للشايجي صـ54 هذه الرسالة مع صغر حجمها ولكنها قيمة.
(2) مسلم في مقدمته، باب بيان الإسناد من الدين (1/ 15).
(3) معرفة علوم الحديث للحاكم صـ6.
(4) تاريخ الإسلام صـ126 حوادث 104هـ.
(5) سير أعلام النبلاء (4/ 336).
(6) التابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي صـ58.(1/224)
إبراهيم، والشعبي، والحسن، يأتون بالحديث على المعاني، وكان القاسم، وابن سيرين، ورجاء يعيدون الحديث على حروفه (1). وقال ليث بن أبي سليم: كان طاووس يعد الحديث حرفا حرفا (2)، وقال جرير بن حازم: سمعت الحسن يحدث بالحديث: الأصل واحد، والكلام مختلق (3).
4 ـ وضع معايير علمية لمعرفة حال الرواة تجريحاً وتعديلاً:
ـ مثل مقابلة روايات الضابطين ببعضها، كقول ابن شهاب الزهري: إذا حدثني عَمْرَة ثم حدثني عروة صدق عندي حديث عمرة حديث عروة، فلما تبحرتهما إذا عروة بحر لا ينزف (4).
ـ أو مقابلة حديث الراوي بحديث نفسه ولكن على فترات متباعدة: كما جاء أن هشام بن عبد الملك أراد التأكد من حفظ الزهري، فاختبره بنفسه حيث سأله أن يملي على بعض ولده فدعا بكتاب، فأملى عليه أربعمائة حديث، ثم إن هشاماً قال له بعد شهر أو نحوه، يا أبا بكر إن ذلك الكتاب ضاع، فدعا، بكتاب فأملاها عليه، ثم قابله هشام بالكتاب الأول فما غادر حرفاً (5).
ـ أو بقلب الأسانيد والمتون: كما جاء عن حماد بن سلمة قال: كنت أسمع أن القصاص لا يحفظون الحديث، فكنت أقلب الأحاديث على ثابت: أجعل أنسا لابن أبي ليلى وبالعكس أشوشها عليه فيجئ بها على الاستواء (6).
ـ ومن معرفة المبتدع بإعراضه عن السنة إلى القرآن: عن أبي قلابة: قال: إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا، وهات كتاب الله فأعلم أنه ضال (7).
ـ ومن ضرورة حفظ القرآن قبل الاشتغال بالحديث: عن حفص بن غياث قال: أتيت الأعمش فقلت: حدثني، قال: أتحفظ القرآن؟ قلت: لا قال: أذهب، فاحفظ القرآن، ثمّ هلمّ أحدثك، قال: فذهبت فحفظت القرآن، ثم جئته فاستقرآني، فقرأته، فحدثني.
_________
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 559).
(2) سير أعلام النبلاء (5/ 465).
(3) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 21).
(4) سير أعلام النبلاء (4/ 436).
(5) السنة ومكانتها في التشريع صـ209.
(6) سير أعلام النبلاء (5/ 222).
(7) المصدر نفسه (4/ 742).(1/225)
5 ـ إجابة المستفتين، والقضاء بين الناس:
كان من جهود التابعين في خدمة أداء: إجابة المستفتين، والقضاء به بين الناس، هذا علقمه بن قيس النخعي يتفقه به أئمة، كإبراهيم، والشعبي، ويتصدى للإمامة والفتيا بعد علي وابن مسعود، وكان يشبه بابن مسعود في هديه، ودله، وسمته وكان طلبته يسألونه ويفقهون به، والصحابة متوافرون (1). وعن أبي الزناد قال: كان الفقهاء السبعة الذين يسألون بالمدينة، وينتهي إلى قولهم: سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعروة، والقاسم، وعبيد الله بن عبد الله وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار (2). ولا شك أن إجابة المستفتين والقضاء بين الناس ما كان لهما أن يظهرا على أرض الواقع مع الدعة والراحة والنوم، وإنما تتطلبا جهداً ووقتاً ونفقة للإعداد والتحضير، ثم الأداء (3).
6 ـ بيان حال الرواة لمعرف من يحتج بحديثه ومن لا يحتج (4):
كان من جهود التابعين في خدمة الحديث النبوي أداء بيان حال الرواة لمعرفة من يحتج بحديثه ومن لا يحتج.
أـ عن محمد بن سيرين قال: أدركت أهل الكوفة وهم يقدمون خمسة: من بدأ بالحارث الأعور ثنى بعبيدة السلماني، ومن بدأ بعبيدة ثنى بالحارث، ثم علقمة، ثم مسروق، ثم شريح (5).
ب ـ وعن قتادة قال: إذا اجتمع لي أربعة لم ألتفت إلى غيرهم، ولم أبال من خالفهم: الحسن، وابن المسيب، وإبراهيم، وعطاء هؤلاء أئمة الأمصار (6).
هذه هي أهم الجهود التي بذلوها في خدمة الحديث النبوي ومن أراد التوسع فليراجع السنة قبل التدوين (7) للدكتور محمد عجاج الخطيب، والتابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي.
_________
(1) المحدث الفاصل: باب أوصاف الطالب وآدابه صـ203.
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 438).
(3) التابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي صـ64.
(4) التابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي.
(5) سير أعلام النبلاء (4/ 91).
(6) المصدر نفسه (5/ 83).
(7) السنة قبل التدوين صـ144 إلى 199.(1/226)
سادساً: منهج التزكية والسلوك عند التابعين مدرسة الحسن البصري مثالاً:
- ـ الحسن البصري في عهد عمر بن عبد العزيز والدولة الأموية:
يعتبر الحسن البصري من المعاصرين لعمر بن عبد العزيز، كما أنه كان له تأثير واضح في الحياة الدينية والإجتماعية في عهد الدولة الأموية والحسن البصري هو أبو سعيد الحسن بن يسار ـ مولى زيد بن ثابت رضي الله عنه، من كبار التابعين، وإمام أهل البصرة، وحبر الأمة وقتها، وأمه ((خيرة)) مولاة أم المؤمنين أم سلمة ـ رضي الله عنها. ولد عام 21هـ في المدينة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ويقال الحسن أرضعته ـ أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ حيث كانت أمه ـ خيرة ـ تخرج لشراء بعض الحاجيات، فيبكي الطفل فتأخذه أم سلمة بين يديها، وتضعه في حجرها، وتلقمه ثديها، فيدر الثدي لبناً، فيرضع الحسن، وبذلك تكون أمه من الرضاعة، وقد كانت فصاحته وعلمه من هذه البركة ومن البديهي أن يتعرف الطفل الصغير على بيوت أمهات المؤمنين وينهل من معينهن، ويتأدب بأدبهن ويتخلق بأخلاقهن، ومن جهة أخرى يتتلمذ على كبار الصحابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأبي موسى الأشعري، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، وانتقل مع أبويه فيما بعد إلى ((البصرة)) وإليها ينسب فيقال الحسن البصري، وكان عمره وقتها أربع عشرة سنة، فلزم مسجد البصرة ينهل من معين علمائها وخاصة حلقة حبر الأمة وعالمها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وما هو إلا قليل حتى التف الناس حوله، وقصدوه من كل حدب وصوب، وكما قيل فيه كان قوله كفعله، لا يقول ما لا يفعل. سريرته كعلانيته، إذا أمر بمعروف كان أعمل الناس به، وإذا نهى عن منكر كان أنزل الناس له، مستغنياً عما في أيدي الناس، زاهداً به، والناس محتاجون إليه بما عنده (1).
1 ـ أسباب تأثيره في قلوب الناس: جمع الله فيه من الفضائل والمواهب ما استطاع به أن يؤثِّر في قلوب الناس، ويرفع به قيمة الدين وأهل الدين في
_________
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 563 إلى 588)، حياة الحسن البصري د. روضة الحضري، الحسن البصري إمام عصره وعلامة زمانه، مرزوق على إبراهيم، الحسن البصري، مصطفى سعيد الخن، الزهد للحسن البصري. د .. محمد عبد الرحيم محمد.(1/227)
المجتمع، فقد كان واسع العلم غزير المادة في التفسير والحديث، ولم يكن لأحد في ذلك العصر أن ينشر دعوته ويقوم بالإصلاح، إلا إذا كان متوفراً على هذين العلمين وقد أدرك الصحابة وعاصر كثيراً منهم ويظهر من حياته ومواعظه أنه درس هذا العصر دراسة عميقةـ وأدرك روحه وعرف كيف تطور المجتمع الإسلامي، ومن أين انحرف، وكان واسع الإطلاع، دقيق الملاحظة للحياة ومختلف الطبقات وعوائدها وأخلاقها وعِللها وأدوائها، كطبيب مارس العلاج مدة (1)، وكان مع ذلك غاية في الفصاحة وحلاوة المنطق والتأثير في مستمعيه يقول أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري، والحجاج بن يوسف والحسن أفصح منه (2)، وكان آية في اتساع المعلومات ووفور العلم، قال الربيع بن أنس: اختلفت إلى الحسن عشر سنين، وما من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع قبله. وقال محمد بن سعد: كان الحسن جامعاً عالماً رفيعاً فقيهاً، ثقة مأموناً، عابداً ناسكاً، كثير العلم، فصيحاً، جميلاً وسيماً، وقدم مكة فأجلس على سرير، واجتمع الناس إليه، وقالوا: لم نرَ مثل هذا قط، وقد وصفه ثابت بن قُرة ـ كما نقل عنه أبو حيان التوحيدي. فقال: كان من ذراري النجوم علماً وتقوى، وزهداً وورعاً، وعفة ورقَّة، وفقهاً ومعرفة، يجمع مجلسه ضروباً من الناس، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يًلقفُ منه التأويل (3)،
وهذا يسمع منه الحلال والحرام، وهذا يحكي به الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الوعظ وهو في جميع ذلك كالبحر اللَّجاج تدفقاً، وكالسِّراج الوهاج تألقاً ولا تُنسَ مواقفه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عند الأمراء وأشباه الأمرء، بالكلام الفصل واللفظ الجزل (4)، وكان فوق ذلك كله وهو سر تأثيره في القلوب، وسحره في النفوس، وخضوع الناس له ـ أنه كان صاحب عاطفة قوية، وروح ملتهبة وكان من كبار المخلصين، وكان الذي يقول يخرج من القلب فيدخل في القلب وكان إذا ذكر الصحابة أو وصف الآخرة، أدمع العيون وحرك القلوب (5)، قال عنه مطر
_________
(1) رجال الفكرة والدعوة (1/ 67).
(2) نظرات في التصوف الإسلامي د. محمد القهوجي صـ221.
(3) التأويل: التفسير ..
(4) رجال الفكر والدعوة (1/ 68).
(5) المصدر نفسه (1/ 68).(1/228)
الوراق: لما ظهر الحسن جاء كأنَّما كان في الآخرة فهو يخبر عمَّا عاين (1). وقال عوف: ما رأيت رجلاً أعلم بطريق الجنة من الحسن (2). فقد كان يتذوق الإيمان، ويتكلم عن عاطفة ووجدان، لذلك كانت حلقته في البصرة أوسع الحلقات، وانجذب الناس إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس ـ وذلك شأن أهل القلوب والإخلاص في كل زمان ـ وكان من أعظم ما امتاز به هو أنَّ كلامه كان أشبه ما سمع الناس بكلام النبوة وقال الغزالي في إحياء علوم الدين: ولقد كان الحسن البصريُّ رحمه الله أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأقربهم هدياً من الصحابة رضي الله عنهم، اتّفقت الكلمة في حقه على ذلك (3)، وكانت نتيجة المواهب العظيمة والفضائل الكثيرة، أنه كان صاحب شخصية قوية جذابة حبيبة إلى النفوس، وكان الناس مأخوذين بسحرها، خاضعين لعظمتها، حتى قال ثابت بن قرّة الحكيم الحرّاني: إن الحسن من أفراد الأمة المحمدية التي تتباهى بهم على الأمم الأخرى (4).
وكان من أعظم أسباب تأثير الحسن البصري في المجتمع، ونفوذه في القلوب والعقول، أنه ضرب على الوتر الحساس، ونزل أعماق المجتمع، ووصف أمراضه، وانتقده انتقاد الحكيم الرفيق، والناصح الشفيق، لقد كان عصره يغُصُّ بالدعاة والوعاظ، ولكنََّ المجتمع لم يتأثر لأحد كتأثره بالحسن، لأنه كان يَمسُّ قلبه وينزل في صميم الحياة، ويعارض التيار، لإنه كان ينعى على الإخلاد إلى الحياة والإنهماك في الشهوات، وقد انتشر هذا المرض في الحياة، إنه كان يذكر بالموت ويستحضر الآخرة، والمترفون يتناسون ذلك ويُعلِّلون نفوسهم بالأماني الكذابة والأحلام اللذيذة، ويتضايقون بذكر ما يكدِّر عليهم الحياة ويُعكرِّ صفو عيشهم، فكان دائماً في صراع مع الجاهلية، والجاهلية لا تخضع إلا لمن صارعها، ولا تعترف إلا بوجود الرجل الذي يحاربها وكان الحسن البصري هو ذاك الرجل، فعظم تأثيره وكثر التائبون والمُقْلعون عن المعاصي والحياة الجاهلية التي كانوا يعيشونها وانطلقت موجة الإصلاح قوية مؤثرة، لأن الحسن لم يقتصر على مواعظ وخطب كان يُلقيها، بل كان يُعني بتربية من يتصل به ويجالسه. فكان
_________
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 573).
(2) المصدر نفسه (4/ 575).
(3) رجال الفكر والدعوة (1/ 68).
(4) المصدر نفسه (1/ 68).(1/229)
جامعاً بين الدعوة والإرشاد، وبين التربية العملية والتزكية الخُلقية والروحية فاهتدى به خلائق لا يحصيهم إلا الله، وذاقوا حلاوة الإيمان وتحلوا بحقيقة الإسلام (1).
2 ـ ملامح التصوف السني عند الحسن البصري:
يعتبر الحسن البصري من علماء السلوك النادرين وممن اهتموا بأمراض النفوس وعلاجها، وإحياء القلوب وإمدادها بالإيمان والمعاني الربانية السامية، وكان رحمه الله سليم العقيدة، متقيد بالكتاب والسنة في تعليمه وتربيته، ولا شك أن الأساس في التصوف السني هو الالتزام بالكتاب والسنة وفق منهج السلف الصالح في العقيدة والعبادة والسلوك والمعاملة وسنرى ذلك من خلال سيرة الحسن ومن الأمور التي اهتم بها الحسن رحمه الله.
أـ قسوة القلب ومواته وإحياؤه:
قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي قال: أدنه من الذكر (2)، وقال: إن القلوب تموت وتحيا، فإذا ماتت فاحملوها على الفرائض، فإذا هي أحييت فأتبعوه بالتطوع (3)، إن قسوة القلب ذمها المولى عز وجل قال تعالى: ((ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)) (البقرة، الآية: 74)، ثم بين وجه كونها أشد قسوة، بقوله ((وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)) (البقرة، الآية: 74). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي (4). وأما أسباب القسوة كثيرة منها: كثرة الكلام بغير ذكر الله، نقض العهد مع الله ((فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)) (المائدة، الآية: 13)، ومنها كثرة الضحك، ومنها كثرة الأكل لاسيما من الحرام، ومنها كثرة الذنوب (5) ,
_________
(1) المصدر نفسه (1/ 75).
(2) الزهد للحسن البصري صـ123.
(3) المصدر نفسه صـ124.
(4) سنن الترمذي رقم 2411 حسن غريب.
(5) مجموع رسائل الحفاظ بن رجب (1/ 261، 262).(1/230)
وغيرها وقد ذكر الكثير منها الحسن البصري في كلامه. وأما مزيلات القسوة فمتعددة منها:
ـ كثرة ذكر الله يتواطأ عليه القلب واللسان. قال تعالى: ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) (الزمر، الآية 23) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه القلوب لتصد كما يصدأ الحديد، قيل: فما جلاؤها يا رسول الله قال: تلاوة كتاب الله وكثرة ذكره (1). وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: أيها الناس أني أعظكم ولست بخيركم ولا أصلحكم وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لها، ولا حاملها على الواجب في طاعة ربها، ولو كان المؤمن لا يعظ أخاه إلا بعد إحكام أمر نفسه لعدم الواعظون، وقل المذكرون، ولما وجد من يدعو إلى الله جل ثناؤه، ويرغب في طاعته وينهى عن معصيته ولكن في اجتماع أهل البصائر ومذاكرة المؤمنين بعضهم بعضاً حياة لقلوب المتقين وأذكار من الغفلة، وأمن من النسيان، فالزموا عافاكم الله مجلس الذكر، فرب كلمة مسموعة، ومحتقر نافع، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (2). وكان يقول: سبحان من أذاق قلوب العارفين من حلاوة الانقطاع إليه، ولذة الخدمة، له ما علق همهم بذكره وشغل قلوبهم عن غيره فلا شيء ألذ عندهم من مناجاته، ولا أقر إلى أعينهم من خدمته ولا أخف على ألسنتهم من ذكره سبحانه وتعالى مما يقول الظالمون علواً كبيراً (3)، وكان يقول: تفقد الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة والقراءة والذكر، فإن وجدت ذلك فامض وأبشر وإلا فاعلم أن بابك مغلق فعالج فتحه (4)،
ومن أفضل الذكر العمل بالقرآن وتلاوته وكان الحسن البصري يقول: من أحب أن يعلم ما هو فيه، فليعرض عمله على القرآن، ليتبين الخسران من الرجحان (5)، وكان يقول رحم الله عبداً عرض نفسه على كتاب الله، فإن وافق أمره حمد الله وسأله المزيد وإن خالف إستعتب ورجع من قريب (6)، وكان يقول: أيها الناس إن هذا القرآن شفاء للمؤمنين، وإمام للمتقين فمن اهتدى به هُدي، ومن صرف عنه شقي وابتلي (7) وكان يقول: قراء القرآن ثلاثة نفر: قوم اتخذوه بضاعة يطلبون به ما عند الناس، وقوم أجادوا حروفه وضيعوا
_________
(1) البيهقي في الشعب رقم 2ز14، العلل المتناهية لابن الجوزي (2/ 832) الحديث فيه ضعف.
(2) الزهد للحسن البصري صـ79.
(3) المصدر نفسه صـ79.
(4) المصدر نفسه صـ79 ..
(5) المصدر نفسه صـ142.
(6) المصدر نفسه صـ142.
(7) المصدر نفسه صـ147.(1/231)
حدوده استدروا به أموال الولاة واستطالوا به على الناس ـ وقد كثر هذا الجنس من حملة القرآن ـ فلا كثر الله جمعهم ولا أبعد غيرهم، وقوم قرءوا القرآن فتدابروا آياته وتداووا به (1)، وأما قيام الليل فكان يقول فيه: إذا لم تقدر على قيام الليل ولا صيام النهار فاعلم أنك محروم، قد كبلتك الخطايا والذنوب (2). وقال له رجل: يا أبا سعيد: أعياني قيام الليل فما أطيقه؟ فقال: يا ابن أخي، استغفر الله وتب إليه، فإنها علامة سوء (3)، وقال: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل (4).
ـ كثرة ذكر الموت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكثروا ذكر هاذم اللذات (5). وقال الحسن البصري: فضح الموت الدنيا، فلم يترك فيها لذي لب فرحا (6). وعن صالح بن رسم قال: سمعت الحسن يقول: رحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من كثرة الناس: ابن آدم إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك وتحاسب وحدك، ابن آدم وأنت المعنّى وإياك يراد (7). وقال الحسن: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا رأى ذلك في عمله، ولا طال أمل عبد قط إلا أساء العمل (8). وقيل: رأى الحسن شيخاً في جنازة فلما فرغ من الدفن، قال له الحسن يا شيخ، أسألك بربك: أتظن أن هذا الميت يود أن يرد إلى الدنيا فيتزيد من عمله الصالح، ويستغفر الله من ذنوبه السالفة، فقال الشيخ اللهم نعم، فقال الحسن: فما بالنا لا نكون كهذا الميت، ثم انصرف وهو يقول: أي موعظة؟ ما أنفعها لو كان بالقلوب حياة؟ ولكن لا حياة لمن تنادي (9). وقال: حقيق على من عرف أن الموت مورده والقيامة موعده، والوقوف بين يدي الجبار مشهده أن تطول في الدنيا حسرته وفي العمل الصالح رغبته (10). وكان يقول: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أصبح شكاً لا يقين فيه من يقيننا بالموت وعملنا لغيره (11). وكان يقول: عباد الله إن الله سبحانه لم يجعل لإعمالكم أجلاً دون الموت، فعليكم بالمداومة، فإنه جل ثناؤه يقول: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) (الحجر، الآية: 99).
وكان يقول: ابن آدم إنك تموت وحدك، وتحاسب وحدك، ابن آدم، لو أن الناس كلهم أطاعوا الله وعصيت أنت
_________
(1) المصدر نفسه صـ148.
(2) المصدر نفسه صـ146.
(3) الزهد للحسن البصري صـ146.
(4) المصدر نفسه صـ146.
(5) سنن الترمذي رقم 2307، سنن ابن ماجة رقم 4258.
(6) الزهد للحسن البصري صـ20.
(7) المصدر نفسه صـ21.
(8) المصدر نفسه صـ21.
(9) المصدر نفسه صـ21.
(10) المصدر نفسه صـ22.
(11) المصدر نفسه صـ22.(1/232)
لم تنفعك طاعتهم، ولو عصوا الله وأطعت أنت لم تضرك معصيتهم، ابن آدم: ذنبك ذنبك، فإنما هو لحمك ودمك، فإن سلمت من ذنبك سلم لك لحمك ودمك، وإن تكن الأخرى فإنما هي نار لا تطفأ وجسم لا يبلى، ونفس لا تموت (1). وكان يقول: لولا ثلاثة ما طأطأ ابن آدم رأسه: الموت والمرض والفقر وإنه بعد ذلك لوثاب (2). وكان الحسن إذا تلا هذه الآية: ((فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الغَرُور)) (لقمان، الآية: 33) قال: من قال ذا؟ قال: من خلقها وهو أعلم بها (3). وقال: إياكم وما شغل من الدنيا، فإن الدنيا كثيرة الاشتغال لا يفتح رجل على نفسه باب شغل، إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب (4).
ـ زيارة القبور بالتفكر في حال أهلها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم زوروا القبور، فإنها تذكِّر الموت (5)، وفي رواية: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة (6)، وكان الحسن البصري كثير الزيارة للقبور، فلما ماتت النوار بنت أعين بن ضبعية المجاشعي امرأة الفرزدق، وكانت قد أوصت أن يصلي عليها الحسن البصري، فشهدها أعيان أهل البصرة مع الحسن والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيره، فسار فقال الحسن للفرزدق، ماذا يقول الناس؟ قال يقولون: شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس يعنونك، وشر الناس يعنوني، فقال له: يا أبا فراس، لست بخير الناس، ولست أنت بشر الناس، ثم قال الحسن: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها فأنشأ الفرزدق يقول:
أخاف وراء القبر إن لم يعافني
أشد من القبر التهاباً وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد
عنيف وسوّاق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد دار من مشى
إلى النار مغلولا القلادة أزرقا
يساق إلى نار الجحيم مسربلا
سرابيل قطران لباساً مخرقا
إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم
يذوبون من حرّ الصديد تمزقا
_________
(1) الزهد للحسن البصري صـ23.
(2) المصدر نفسه صـ24.
(3) المصدر نفسه صـ25.
(4) المصدر رقم صـ26.
(5) مسلم رقم 976.
(6) مسلم (2/ 672) سنن الترمذي 1869.(1/233)
قال: فبكى الحسن حتى بلّ الثرى، ثم التزم الفرزدق وقال: لقد كنت من أبغض الناس إليَّ، وإنك اليوم من أحب الناس إلي (1). وكان الحسن يتعظ بالمقابر ويتدبر في أحوالها، فعن عوانه قال: قال الحسن: قدم علينا بشر بن مروان ـ أخو عبد الملك بن مروان الخليفة ـ أمير المصرين، وأشب الناس، وأقام عندنا أربعين يوماً، ثم طعن في قدميه فمات،، وأخرجناه إلى قبره، فلما صرنا إلى الجبان فإذا نحن بأربعة سودان يحملون صاحباً لهم إلى قبره، فوضعنا السرير فصلينا عليه، ووضعوا صاحبهم فصلوا عليه، ثم حملنا بشراً إلى قبره وحملوا صاحبهم إلى قبره، ودفنا بشراً ودفنوا صاحبهم ثم انصرفوا وانصرفنا، ثم التفت التفاتة فلم أعرف قبر بشر من قبر الحبشي، فلم أر شيئاً قط كان أعجب منه (2). وقد ذكر العلماء أمور أخرى تزيل قسوة القلوب كالإحسان إلى اليتامى والمساكين، والنظر في ديار الهالكين والاعتبار بمنازل الغابرين (3).
ب ـ حثه على الإخلاص، وطاعة الله وإصلاح ذات البين والتفكر:
ـ الإخلاص: إن لإخلاص العمل تأثيراً عظيماً في مكارم الأخلاق، فهو يمد قلب صاحبه بقوَّة، تجعله ينهض للمكارم ابتغاء وجه الله، غير منتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً يشرح صدره للحلم والعفو ومعالي الأخلاق امتثالاً لأمر الله، وطلباً لرضاه والفوز بنعيم الآخرة، فهو إن أبغض فبغضه لله وهكذا في شأنه كله (4)، قال تعالى: ((قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)) (الأنعام، الآيتان: 162 ـ 163). فكان الحسن يقول: من تزين للناس بما لا يعلمه الله منه شانه ذلك (5). وكان يقول: روي عن بعض الصالحين أنه كان يقول: أفضل الزهد إخفاء الزهد (6) وقيل وعظ يوماً، فتنفس رجل الصعداء، فقال: يا ابن أخي ما عساك أردت بما صنعت؟ إن كنت صادقاً فقد شهرت نفسك، وإن كنت كاذباً فقد أهلكتها ولقد كان الناس
_________
(1) الحسن البصري د. مصطفى الخن صـ345 نقلاً عن البداية والنهاية.
(2) البيان والتبيين (3/ 147) الحسن البصري د. مصطفى الحن صـ349.
(3) مجموع رسائل الحافظ بن رجب (1/ 264 إلى 270).
(4) الأخلاق بين الطبع والتطبع صـ21.
(5) حياة الحسن البصري، روضة الحصري صـ170.
(6) المصدر نفسه صـ170.(1/234)
يجتهدون في الخفاء وما يسمع لأحدهم صوت، ولقد كان الرجل ممن كان قبلكم يستكمل القرآن فلا يشعر به جاره، ولقد كان الآخر يتفقه في الدين ولا يطلع عليه صديقه، ولقد قيل لبعضهم، ما أقل التفاتك في صلاتك وأحسن خشوعك؟ فقال: يا ابن أخي وما يدريك أين كان قلبي (1)؟ وكان يقول: نظر رجاء بن حيوة إلى رجل يتناعس بعد الصبح، فقال: انتبه عافاك الله لا يظن ظان أن ذلك عن سهر وصلاة فيحبط عملك (2). وقال الحسن: ولقد حُدثت أن رجلاً مر برجل يقرأ: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)) (مريم، الآية: 96).
فقال: والله لأعبدن الله عبادة أذُكَر بها في الدنيا، فلزم الصلاة واعتكف على الصيام حتى كان لا يفطر ولا يرى مصلياً وذاكراً، وكلما مر على قوم قالوا: ألا ترون هذا المرائي ما أكثر رياءه، فأقبل على نفسه وقال: ثكلتكِ أمك لا أراك تذكري إلا بِشرَ ولا أراك أُصِبتِ إلا بفساد نيتكِ وفساد معتقدكِ، وأنك لم تردى الله بعملك، ثم بقى على عمله لم يزد عليه شيئاً إلا إن نيته انقلبت (3)، فتغير الحال ووضع الله له القبول ـ ولا يمر بقوم إلا قالوا: يرحم الله هذا، ثم يقولون: الآن الآن وكان الحسن يقول: أخلصوا لله أعمالكم (4)، وكان يقول: ابن آدم تلبس لُبسة العابدين، وتفعل أفعال الفاسقين، وتخبت أخبات المريدين، وتنظر نظر المغترين، ويحك! ما هذا خصال المخلصين، إنك تقوم يوم القيامة بين يدي من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (5)، وكان يقول روي أن سعيد بن جبير رأى رجلاً متماوتاً في العبادة فقال يا ابن أخي إن الإسلام حيّ فأحيه ولا تمته أماتك الله ولا أحياك وكان يقول: من ذم نفسه في الملأ فقد مدحها وبئس ما صنع (6).
ـ الحث على طاعة الله: قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تأْوِيلا)) (النساء، الآية: 59)، وقال تعالى: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى
_________
(1) الزهد للحسن البصري صـ159.
(2) المصدر نفسه صـ159.
(3) انقلبت: صارت على الضد مما كانت عليه أي حسنت.
(4) الزهد للحسن البصري صـ160.
(5) المصدر نفسه صـ160.
(6) المصدر نفسه صـ160.(1/235)
اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) (الشورى، الآية: 10). وكان الحسن يقول: في قول الله عز وجل، ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا)) (المؤمنون، الآية: 60) قال: يعطون ما أعطوا ((وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)) قال: يعملون ما عملوا من أعمال البر وهم يخشون أن لا ينجيهم من عذاب ربهم عز وجل (1). وعنه أنه قال: إذا نظر إليك الشيطان فراك مداوماً في طاعة الله فبغاك وبغاك ـ أي طلبك مرة بعد مرة ـ فرآك مداوماً ومّلك ورفضك، وإذا كنت مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك (2) وعن الحسن قال: هرم بن حيان: ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها (3).
ومن القصص التي حدثت للحسن: لما ولى عمر بن هبيرة العراق أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي فأمر لهما بيت وكانا فيه شهراً ـ أو نحوه ـ ثم إن الخادم غداً ذات يوم فقال إن الأمير دخل عليكما، فجاء عمر يتوكأ على عصا له، فسلم ثم جلس معظماً لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك ينفذ كتاباً أعرف أن في انفاذها الهلكة فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله عز وجل، فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجاً؟ فتكلم الشعبي فانحط في حبل ابن هبيرة، فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد فقال: أيها الأمير، قد قال الشعبي ما قد سمعت، قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فقال: أقول يا عمر بن هبيرة يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله تعالى فظ غليظ لا يعصى الله ما أمره فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، يا عمر بن هبيرة إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله عز وجل، يا عمر بن هبيرة لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظر تمقت فيغلق بها باب المغفرة دونك، يا عمر بن هبيرة لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة، يا عمر بن هبيرة إني أخوفك مقاما خوفكه الله تعالى فقال ((ذلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)) يا عمر بن هبيرة إن تك مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكلك الله إليه، قال فبكى عمر وقام بعبرته، فلما كان من
_________
(1) الزهد للحسن البصري صـ74.
(2) المصدر نفسه صـ75.
(3) المصدر نفسه صـ75.(1/236)
الغد أرسل إليهما بإذنهما وجوائزهما، وكثر منه ما للحسن وكان في جائزته للشعبي بعض الإقتار، فخرج الشعبي إلى المسجد، فقال: يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله تعالى على خلقه فليفعل فوالذي نفسي بيده ما علم الحسن منه شيئاً فجهلته ولكن أردت وجد ابن هبيرة، فأقصاني الله منه (1).
وقال الحسن: لا تخالفوا الله عن أمره، فإن خلافاً، عن أمره عمران دار قد قضى الله عليها بالخراب (2). وقال الحسن في قوله عز وجل ((فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا)) قال: المتوجه بقلبه وعمله إلى الله عز وجل (3). وكان يقول: رحم الله امرءاً كان قوياً فاعمل قوته في طاعة الله، أو كان ضعيفاً فكّف عن معاصي الله (4).
ـ الاعتبار والتفكر: قال تعالى: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)) (آل عمران، آية: 190). وقال تعالى: ((وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)) (الذاريات، آية: 21). فالتأمل والتفكر في الكون والنفس وآيات الله المنظورة داع قوي للإيمان، لما في هذه الموجدات من عظمة الله الخالق الدالة على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها: من الحسن والانتظام والإحكام الذي يحير الألباب، الدال على علم سعة الله، وشمول حكمته، وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، الدالة على سعة رحمة الله، وجوده وبره، وذلك يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره واللهج بذكره، وإخلاص الدين له وهذا هو روح الإيمان وسره (5)، فعبادة التفكر والاعتبار دعا إليهما الحسن البصري وحث الناس عليها، فقال رحمه الله: إن من أفضل العمل الورع والتفكر (6)، وقال: من عرف ربه أحبه، ومن أبصر الدنيا زهد فيها، والمؤمن لا يلهو حتى يغفل، وإذا فكر حزن (7). وكان يقول: رحم الله امرءاً نظر ففكر، وفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر وأبصر فصبر، لقد أبصر أقوام ثم لم يصبروا فذهب الجزع بقلوبهم، فلم يدركوا ما طلبوا ولا رجعوا إلى ما فارقوا فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران
_________
(1) الزهد، الحسن البصري صـ76.
(2) المصدر نفسه صـ76.
(3) المصدر نفسه صـ77.
(4) المصدر نفسه صـ77.
(5) شجرة الإيمان للسعدي صـ49، الوسطية في القرآن صـ239.
(6) الزهد، الحسن البصري صـ82.
(7) المصدر نفسه صـ83.(1/237)
المبين (1)، وقال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة (2)، وكان يقول: الفكرة مرأة تريك حسناتك من سيئتك، فمن اعتمد عليها أفلح ومن أغفلها افتتضح (3).
ـ العلم والعلماء: وكان يقول: الفهم وعاء العلم، والعلم دليل العمل، والعمل قائد الخير، والهوى مركب المعاصي والمال داء المتكبرين، والدنيا سوق الآخرة، والويل كل الويل لمن قوى بنعم الله على معاصيه (4)، وقال: قد كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه، وفي لسانه وبصره وبره (5).
ج ـ النهي عن طول الأمل وذم الكبر:
ـ ... النهي عن طول الأمل: قال الحسن: إن المؤمن في الدنيا غريب لا يجزم ذلها ولا ينافس أهلها في غرها، الناس منه في راحة، ونفسه منه في شغل طوبى لعبدٍ كسب طيباً، وقدم الفضل ليوم فقره وفاقته ووجهوا هذا الفضل حيث وجهه الله، ولا تلقوها هاهنا فيما يضركم (6). وكان يقول: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل (7)، ومن درر كلامه قوله: يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك (8).
ـ ... النهي عن الكبر: قال الحسن: يا ابن آدم، كيف تتكبر وأنت من سبيل البول مرتين (9)، وقيل رأى الحسن نعيم بن رضوان يمشي مشية المتكبر فقال: انظروا إلى هذا ليس فيه عضو إلا ولله تعالى فيه نعمة وللشيطان لعنة (10).
3 ـ من تلاميذ الحسن البصري الذين اشتهروا بعلم السلوك:
كان الحسن البصري من علماء أهل السنة واهتم رحمه الله بعلم السلوك، وكان له مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك (11)، وقد تأثر بمدرسة الحسن البصري مجموعة خيرة، لكوكبة نيرة، ونجوماً ساطعة من علماء أهل السنة، منهم:
_________
(1) المصدر نفسه صـ83.
(2) المصدر نفسه صـ83.
(3) الزهد للحسن البصري صـ83.
(4) المصدر نفسه صـ92.
(5) المصدر نفسه صـ92.
(6) المصدر نفسه صـ81.
(7) المصدر نفسه صـ82.
(8) المصدر نفسه صـ81.
(9) المصدر نفسه صـ90.
(10) المصدر نفسه صـ90.
(11) سير أعلام النبلاء (4/ 579).(1/238)
أـ أيوب السختياني:
هو الإمام الحافظ سيد العلماء، أبو بكر بن أبي تميمة كيسان (1)، كان ثقة ثبتاً في الحديث، جامعاً عدلاً، ورعاً، كثير العلم (2)، وكان إذا سئل عن شيء ليس عنده فيه شيء قال: أسأل أهل العلم وكان كثيراً ما يقول: لا أدري. حتى قال حماد بن زيد: ما رأيت أحداً أكثر من قول: لا أدري من أيوب ويونس، وكان يحب ستر زهده ويقول: لأن يستر الرجل زهده خير له من أن يظهره (3)، وحج أيوب أربعين حجة، وكان عبيد الله بن عمر يرتاح قلبه في موسم الحج بلقاء أقوام نور الله قلوبهم بالإيمان، منهم أيوب (4)، وكان صديقاً ليزيد بن الوليد بن عبد الملك، فلما تولى يزيد الخلافة قال أيوب: اللهم أنسه ذكري (5)، وكان شديد التبسم في وجوه الناس (6).
* ـ ... من مواقف وكلمات أيوب:
ـ تعظيمه لأهل السنة: قال أيوب: انه ليبلغني موت الرجل من أهل السنة فكأنما يسقط عضو من أعضائي (7).
ـ موقفه من أهل الأهواء والبدع: قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعد (8). وعن أيوب قال: قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن من أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون (9). قال أيوب: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب (10).
ـ محبته للقاء إخوانه في الله: قال: إنه يزيدني في حب الموسم وحضوره أن ألقى أخوانا لي فيه لا ألقاهم في غير (11).
ـ عبادته: كان من العباد المشهورين بحسن العبادة وكثرتها وكان شديد الحرص على إخفائها عن الناس وتصفيتها وإخلاصها لرب الناس (12)، وكان من سادات
_________
(1) سير أعلام النبلاء (6/ 15).
(2) الطبقات (7/ 246).
(3) تاريخ التصوف الإسلامي د. بدوي صـ189.
(4) الحلية (3/ 4).
(5) الحلية (3/ 6).
(6) تاريخ التصوف الإسلامي صـ189.
(7) الحلية (3/ 9).
(8) الحلية (3/ 9).
(9) الإمام أيوب السختياني صـ47 د. سليمان العربي.
(10) البدع والنهي عنها صـ48 لابن وضاح.
(11) الإمام أيوب السختياني صـ48.
(12) المصدر نفسه صـ50.(1/239)
أهل البصرة، وعبّاد أتباع التابعين وفقهائهم ممن اشتهر بالفضل والعلم والنسك (1)، وكان كثير الحج والعمرة رحمه الله لوصية رسول الله بذلك: تابعوا بين الحج والعمرة (2)، وحج أيوب أربعين سنة (3)،، وكان يقوم الليل يخفي ذاك، فإذا كان قبل الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة (4)
ـ ... الزهد: قال أيوب: الزهد في الدنيا ثلاث أشياء، أحبها إلى الله وأعلاها عند الله وأعظمها عند الله تعالى، الزهد في عبادة من عبد دون الله من كل ملك وصنم وحجر ووثن، ثم الزهد فيما حرم الله تعالى من الأخذ والإعطاء ثم يقبل علينا فيقول: زهدكم هذا يا معشر القراء فهو أخسه عند الله، الزهد في حلال الله عز وجل، (5).
ـ ... شهادة الحسن البصري فيه: قال فيه الحسن: هذا سيد الفتيان (6)، قال: أيوب سيد شباب أهل البصرة (7)، وأما شهادة أيوب في شيخه الحسن فقد قال: كان الحسن يتكلم بكلام كأنه الدر، فتكلم قومٌ من بعده بكلام يخرج من أفواههم كأنه القيء (8). وقال: جالست الحسن أربع سنين فما سألته هيبة له (9).
ـ ... وفاته: بعد عمر قضاه في عبادة الله تعلماً وتعليماً وتربية وخشية لله، وتمسكاً بالسنة وتعظيماً بأهلها وقمعاً لأهل البدع والأهواء وإخلاص العلم والعمل لله توفي في مرض الطاعون بالبصرة عام 131هـ (10)، وروى أبو نعيم بسنده إلى حماد بن زيد قال: غدا علي ميمون أبو حمزة يوم الجمعة قبل الصلاة، وقال: فقال إني رأيت البارحة أبا بكر وعمر في النوم فقلت لهما: ما جاء بكما؟ قالا: جئنا نصلى على أيوب السختياني: قال: ولم يكن علم بموته فقلت له: قد مات أيوب البارحة (11).
_________
(1) مشاهير علماء الأمصار صـ150 رقم 1183.
(2) مسند أحمد رقم 167 الحديث صحيح بشواهد.
(3) حلية الأولياء (3/ 5).
(4) المعرفة والتاريخ (2/ 241) الإمام أيوب السختياني صـ52.
(5) حلية الأولياء (3/ 7).
(6) طبقات ابن سعد (7/ 247) الإمام أيوب صـ75.
(7) حلية الأولياء (3/ 3) الإمام أيوب صـ75.
(8) سير أعلام النبلاء (4/ 577).
(9) حلية الأولياء (3/ 11)، الإمام أيوب صـ75.
(10) الوافي بالوفيات (10/ 54، 55)، الإمام أيوب صـ96.
(11) سير أعلام النبلاء (6/ 23).(1/240)
ب ـ مالك بن دينار: علم العلماء الأبرار، معدود من ثقات التابعين، ومن أعيان كتبة المصاحف، كان من ذلك بلغته (1).
ـ ... من مواقفه وأقواله:
ـ ... عدم تأثره بالمدح والذم: قال: مذ عرفت الناس لم أفرح بمدحهم ولم أكره ذمهم لأن حامدهم مفرط، وذامهم مفرط، إذا تعلم العالم العلم للعمل كسره، وإذا تعلمه لغير العمل زاده فخراً (2).
ـ ... حزن القلب: قال: إذا لم يكن في القلب حزن خرب. وقال: من تباعد من زهرة الدنيا، فذاك الغالب هواه (3).
ـ ... جاء يسرق فسرقناه: قيل دخل عليه لص، فما وجد ما يأخذ، فناداه مالك: لم تجد شيئاً من الدنيا فترغب في شيء من الآخرة؟ قال: نعم. قال: توضأ، وصل ركعتين، ففعل ثم جلس وخرج إلى المسجد، فسأل من ذا؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه (4).
ـ ... أطيب شيء من الدنيا معرفة الله: قال: خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب شيء فيها، قيل: وما هو؟ قال: معرفة الله.
ـ ... محبة أنس بن مالك له: قال مالك بن دينار: أتينا أنساً أنا وثابت ويزيد الرقاشي، فنظر إلينا فقال: ما أشبهكم بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لأنتم أحب إلي من عدة ولدي إلا أن يكون في الفضل مثلكم، إني لأدعو لكم في الأسحار (5).
ـ ... مصدر كسبه: كان ينسخ المصحف في أربعة أشهر، فيدع أجرته عند البقال فيأكله، وكان أدم مالك بن دينار في كل سنة بفلسين ملح (6).
ـ ... وفاته: توفي سنة 127هـ وقيل 130هـ (7). فمالك بن دينار من علماء أهل السنة ولا ينظر لمن ألصق به آثار واهية نسبها إليه وزعم أنه خلط الروحية الإسلامية بعناصر غير إسلامية وكتابية على وجه التخصيص (8). بل الثابت من
_________
(1) سير أعلام النبلاء (5/ 362).
(2) المصدر نفسه (5/ 362).
(3) المصدر نفسه (5/ 363).
(4) المصدر نفسه (5/ 363).
(5) المصدر نفسه (5/ 364).
(6) المصدر نفسه (5/ 364).
(7) المصدر نفسه (5/ 364).
(8) تاريخ التصوف الإسلامي صـ207.(1/241)
سيرته بأنه من أعلام السلوك ومن تلاميذ الحسن البصري، وأنس بن مالك والأحنف بن قيس وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، والقاسم بن محمد (1) وغيرهم من علماء أهل السنة.
ج ـ محمد بن واسع: الإمام الرباني، القدوة (2)، ترجمت له في حديثي عن الفتوحات في عهد عبد الملك، وكان من ضمن جيش قتيبة بن مسلم وقد قام مدة في خراسان (3). قال عنه مالك بن دينار: القراء ثلاث: فقاريء للرحمن، وقاريء للدنيا، وقاريء للملوك، ويا هؤلاء محمد بن واسع عندي من قراء الرحمن (4)، وكان الحسن البصري يسميه زين القراء (5)، ومن أقواله: إذا أقبل العبد بقلبه على الله أقبل الله بقلوب العباد عليه. وقال: يكفي من الدعاء مع الورع يسير (6) العمل هؤلاء هم أشهر تلاميذ الحسن البصري في علم السلوك والذين كان لهم تأثير كبير في حياة الناس، واليوم نحن في أشد الحاجة لإحياء هذا العلم الذي أصبح نادراً وتصدر له بعد المحسوبين على العلم من أصحاب العقائد الفاسدة والتصورات السقيمة والأفكار المنحرفة، فالأمة في حاجة ماسة لمنهج تربوي سني تستلهم أصوله وفروعه من كتاب الله وسنة رسوله وهدي الصحابة الكرام ومن سار على نهجهم من العلماء الراسخين لكي تقف أمام الهجمة المادية، والطغيان الشهواني، الذي يبث في وسائل الإعلام العالمية والإقليمية والقُطرية، كما أن من عوامل نهوض الأمة كبح شهواتها، وتطهير نفوسها من أمراضها وإحياء القلوب بالمعاني الرفيعة والأعمال القلبية، كالرجاء والخوف والإخلاص والإنابة لله رب العالمين.
4 ـ براءة الحسن البصري من الاعتزال:
يزعم المعتزلة أن الحسن البصري قال بالقدر على مذهبهم وإنه منهم فيروون عند داود بن أبي هند أنه قال: سمعت الحسن يقول: كل شيء بقضاء وقدر إلا المعاصي (7). ويوردون رسائل أرسلها إلى عبد الملك بن مروان وفيها قوله بالقدر
_________
(1) سير أعلام النبلاء (5/ 362).
(2) المصدر نفسه (6/ 119).
(3) تاريخ التصوف الإسلامي صـ217، الحلية (2/ 353).
(4) الحلية (2/ 345) تاريخ التصوف الإسلامي صـ214.
(5) تاريخ التصوف الإسلامي صـ214.
(6) سير أعلام النبلاء (6/ 121).
(7) المنية والأمل لابن المرتضى صـ12، القضاء والقدر د. المحمود صـ185.(1/242)
على مذهب المعتزلة، ويقولون: إن رسائله مشهورة (1). وقد تحمس الشيخ محمد أبو زهرة ليثبت أن الحسن البصري كان يقول بالقدر على مذهب المعتزلة (2)، والرد على هذه الدعاوي الخالية من الحجج والبراهين والأدلة كتالي:
أـ أن المعتزلة أنفسهم لا يقطعون بنسبة الحسن إليهم، ولذا نرى ابن المرتضى لما ذكر الحسن وقوله في القدر قال: ((فإن قلت: فقد روى أيوب، أتيت الحسن، فكلمته في القدر فكف عن ذلك، قلت: فقد روى أنه خوفه بالسلطان فكف عن الخوض فيه (3). وهل يخاف الحسن السلطان وهو الرجل الذي يجهر بالحق دائماً.
ب ـ أما بالنسبة للرسالة المنسوبة إليه فيقول عنها الشهرستاني: ورأيت رسالة نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبد الملك بن مروان، وقد سأله بالقول بالقدر والجبر فأجبه فيها بما يوافق مذهب القدرية، واستدل فيها بآيات من القرآن الكريم ودلائل من العقل، ولعلها لواصل بن عطاء، فما كان الحسن ممن يخالف السلف في أن القدر خيره وشره من الله ـ تعالى ـ فإن هذه الكلمات المجمع عليها عندهم (4). وهذه الرسالة لم تصح نسبتها إلى الحسن والمعتزلة ينسبون إلى الحسن أقوالاً بروايات منقطعة، فالمرتضى حين ذكر أهل العدل والتوحيد عد منهم الحسن البصري وترجم له ترجمة طويلة، ولما أراد أن يثبت أنه من أهل العدل قال: فمن تصريحه بالعدل، ما رواه علي بن الجعد قال: سمعت الحسن يقول: من زعم أن المعاصي من الله عز وجل جاء يوم القيامة مسوداً وجهه وقرأ: ((وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ)) (الزمر، الآية: 60). وعلى بن الجعد الذي يقول: سمعت الحسن لم يسمع منه ولم يلقه (5)، فهذه رواية منقطعة (6).
ج ـ وابن قتيبة يذكر عن الحسن البصري أنه تكلم في شيء من القدر، ثم رجع عنه، ولكنه يذكر بعد ذلك مباشرة أن عطاء بن يسار ومعبداً الجهني كانا يأتيان الحسن، فيسألانه ويقولان: يا أبا سعيد إن الملوك يسفكون دماء المسلمين،
_________
(1) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس صـ186.
(2) تاريخ الجدل صـ321 ـ 322.
(3) المنية والأمل صـ15.
(4) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة صـ186.
(5) المصدر نفسه صـ187.
(6) المصدر نفسه صـ187.(1/243)
ويأخذون الأموال، ويفعلون ويفعلون، ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فقال: كذب أعداء الله (1)، قال ابن قتيبة: فتعلق عليه بمثل هذا وأشباهه (2). ويشبه هذا ما يورى عن الحسن أنه قال ـ وهو محق في قوله ـ إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله ويقولون: إن الله سبحانه قد شاء ما نحن فيه وحملنا عليه وأمرنا به، فقال عز وجل: ((وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)) (الأعراف، الآية 28) (3). فهل كلام الحسن ـ رحمه الله ـ في الروايتين دل على أنه قدري؟ إن الجواب على ذلك واضح بداهة لأنه يرد على الذين يحتجون بالقدر على كفرهم ومعاصيهم ولا شك أن هذا الاحتجاج باطل وكلام الحسن حق (4). وقد أشار ابن تيمية إلى أنه قال: قد اتهم بمذهب القدر غير واحد، ولم يكونوا قدرية، بل كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر، كما قيل للإمام أحمد: كان بن أبي ذؤيب قدرياً، فقال: الناس كل من شدد عليهم بالمعاصي قالوا: هذا قدري. وقد قيل: لهذا السبب نسب إلى الحسن القدر (5).
د ـ وهناك روايات تنفي هذا الزعم، فعن عمر مولى غفرة قال: كان أهل القدر ينتحلون الحسن بن أبي الحسن، وكان قوله مخالفاً لهم كان يقول: يا ابن آدم، لا ترض أحداً بسخط الله ولا تطيعنّ أحداً في معصية الله، ولا تحمدن أحداً على فضل الله، ولا تلومن أحداً فيما لم يؤتك الله، إن الله خلق الخلق والخلائق، فمضوا على ما خلقهم عليه فمن كان يظن أنه مزداد بحرصه في رزقه فليزداد بحرصه في عمره، أو يغير لونه، أو يزيد في أركانه أو بنانه (6).
هـ ومعلوم أن المعتزلة أجمعوا على اصولهم الخمسة، والحسن البصري يعتبر القول بالمنزلة بين المنزلتين بدعة تخرج صاحبها عن عقيدة الجماعة، ولذلك اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن لما خالفه في هذا الأصل، فكيف مع هذا يعتبر الحسن من علمائهم المنتسبين إليهم (7)؟.
_________
(1) المصدر نفسه صـ187.
(2) المصدر نفسه صـ187.
(3) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس صـ188.
(4) المصدر نفسه صـ188.
(5) منهاج السنة (1/ 362) القضاء والقدر صـ188.
(6) الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 175).
(7) موقف المعتزلة من السنة النبوية صـ27.(1/244)
وـ وقد اشتهر عن بعض المعتزلة القدرية أنهم يكذبون على الحسن البصري، فقد ذكر عبد الله بن أحمد في كتاب السنة عدة روايات تدل على ذلك، فمن ذلك ما رواه عن حميد قال: قدم الحسن مكة فقال فقهاء مكة: الحسن بن مسلم وعبد الله بن عبيد: لو كلمت الحسن فأخلانا يوماً. فكلمت الحسن فقلت: يا أبا سعيد إخوانك يحبون أن تجلس لهم يوماً، قال: نعم ونعمة عين، فواعدهم يوماً فجاءوا فاجتمعوا، وتكلم الحسن وما رأيته قبل ذلك اليوم ولا بعده أبلغ منه ذلك اليوم، فسألوه عن صحيفة طويلة فلم يخطئ فيها شيئاً إلا في مسألة، فقال له رجل: يا أبا سعيد من خلق الشيطان؟ قال: سبحان الله، سبحان الله، وهل من خالق غير الله ثم قال: إن الله خلق الشيطان وخلق الشر والخير فقال رجل منهم: قاتلهم الله يكذبون على الشيخ (1). وقال حميد لمن نقل عن عمرو بن عبيد حديثاً رواه الحسن: لا تأخذ عن هذا فإنه يكذب على الحسن (2). وروى عبد الله بن أحمد عن حماد بن زيد قال: قيل لأيوب: إن عمراً ((أي عمرو بن عبيد)) روى عن الحسن أنه قال: لا يجلد السكران من النبيذ، قال: كذب، أنا سمعت الحسن يقول: يجلد السكران من النبيذ (3). فهذه الروايات وغيرها، تدل على أن دعوى أن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ كان قدرياً أو كان يقول بقولهم ليست صحيحة (4). وإنما غرض المعتزلة هو التشرف بانتسابه إليهم، وإلا فكيف عدّوه منهم (5). والمعتزلة ذكروا مع الحسن غيره، بل وعدّوا من الطبقة الأولى من طبقاتهم الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة (6). وواضح إن إدراج هؤلاء ضمن المعتزلة إنما قصد به بيان أن المعتزلة هي أتقى الفرق وأبرها (7).
ومعلوم لدى طلاب العلم وعموم المسلمين أن الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام براء من تهمة الإعتزال وإنما هم سادة علماء أهل السنة والجماعة الذين ساروا على منهاج النبوة ..
5 ـ الإمام العادل في نظر الحسن البصري:
عندما جاء عمر بن عبد العزيز للخلافة نجد الحسن البصري قريباً من الخليفة الجديد يتعهده بالوعظ والإرشاد ويرسم له منهاجاً للإمام العادل وهذا دور
_________
(1) السنة لعبد الله بن الإمام أحمد (2/ 126).
(2) المصدر نفسه (2/ 131).
(3) المصدر السابق (2/ 132).
(4) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة صـ191.
(5) المصدر نفسه صـ189.
(6) المصدر نفسه صـ189.
(7) مذاهب الإسلاميين، عبد الرحمن بدوي (1/ 40).(1/245)
إيجابي من الحسن ـ رحمه الله ـ يبين العمل المطلوب من العالم الرباني الذي يسعى لمساعدة المصالحين من أصحاب القرار لنصرة الإسلام وهذا يدلنا على تكامل شخصية الحسن الإسلامية فقد شارك في الجهاد والتعليم والتربية، وكان رائد المدرسة الإصلاح الاجتماعي بين الناس في حياتهم، واهتم بأمراض القلوب، وعلاجها، وكانت له مواقفه السياسية من الثورات، ومن الحكام الظالمين، وهنا تتجلى شخصيته السياسية أكثر من قربه من عمر بن عبد العزيز وشد أزره والوقوف بجانبه والتنظير لمعالم الإصلاح والتجديد الراشدي الذي قاده عمر بن عبد العزيز، فقد جاء في رسالته التي كتبها إلى عمر بن عبد العزيز: أعلم يا أمير المؤمنين: أن الله جعل الإمام العادل قوَّام كل مائل وقصد كل جائر، وصلاح كل مفسد، وقوة كل ضعيف ونصفة (1) كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المرعى ويزودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر (2).
والإمام العدل، يا أمير المؤمنين، كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغيراً، ويعلمهم كباراً، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العدل، يا أمير المؤمنين، كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها: حملته كرهاً ووضعته كرهاً، وربته طفلاً تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة، وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته. والإمام العادل، يا أمير المؤمنين وصي اليتامة، وخازن المساكين: يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح: تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده، والإمام العادل، يا أمير المؤمنين، هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملكك الله كعبد إئتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدل المال وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله. وأعلم يا أمير المؤمنين إن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها؟ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟ واذكر، يا أمير المؤمنين، الموت وما بعده وقلة أشياعك
_________
(1) النصفة: اسم من الإنصاف.
(2) القر: البرد.(1/246)
عنده، وأنصارك عليه: فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر واعلم يا أمير المؤمنين، أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، ويُسلمونك في قعره فريداً وحيداً، فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه واذكر، يا أمير المؤمنين، إذا بعثر ما في القبور، وحُصل ما في الصدور، فالأسرار ظاهرة والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فالآن، يا أمير المؤمنين، وأنت في مهل قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل ـ لا تحكم، يا أمير المؤمنين، في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلاّ (1)،
ولا ذمة فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك، وأثقالاً مع أثقالك، ولا يغُرنّك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيّباتك في آخرتك. لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غداً وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين وقد عنت الوجوه للحي القيوم، إني يا أمير، وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي، فلم آلك (2) شفقة ونصحك فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له من ذلك من العافية والصحة والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته (3). والمعاني الرئيسية في هذه الرسالة:
أـ أن أهم صفة في الإمام هي العدل ولكنه عدل ممزوج بالرحمة الأبوية.
ب ـ وأن أولى الناس بإتباع حدود الله هو الإمام، لأنه إن لم يتبعها، فأجدر بالرعية ألا يتبعوها.
ج ـ وأن الإمام هو المنفذ للقصاص، فلا يحق له أن يقتل أحداً بغير حق، إن في القصاص حياة، فكيف يقضي على الحياة من وُكل إليه أمر توفير الحياة؟.
ح ـ أن صلاح الرعية بصلاح الإمام وفسادها بفساده، فمسئوليته عن أفعاله هي في الوقت نفسه مسئوليته عن أفعال كل رعيته، فما أعظم مسئوليته إذن.
_________
(1) الإل: العهد ..
(2) أي لم اقصر.
(3) الحسن البصري لابن الجوزي صـ56، العقد الفريد لابن عبد ربه (1/ 12) تاريخ التصوف السني صـ179.(1/247)
س ـ وتظهر هذه المسئولية خصوصاً في تعيين الولاة، فما يرتكبه ولاة الإمام وعُمّاله الإمام هو أول مسئول عنها، ولهذا يجب على الإمام ألا يسلط المستكبرين على المستضعفين، لأن المتكبرين لا يرعون الحرمات ولا يراقبون الله في أعمالهم وأحكامهم، فإذا عيّن الإمام واحداً من هؤلاء، فقد تحمّل مع أوزاره الخاصة أوزارهم (1).
6 ـ الحسن البصري يصف الدنيا لعمر بن عبد العزيز:
كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز واصفاً له الدنيا: أما بعد: يا أمير المؤمنين فإن الدنيا دار ظعن وانتقال وليست بدار إقامة على حال، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فأحذرها، فإن الراغب فيها تارك، والغني فيها فقير، والسعيد من أهلها من لم يتعرض لها، إنها إذا اختبرها اللبيب الحاذق وجدها تذل من أعزها، وتفرق من جمعها، فهي كالسم يأكله من لا يعرفه ويرغب فيه من يجهله، وفيه والله حتفه، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جراحه يحتمي قليلاً، مخافة ما يكره طويلاً، الصبر على لوائها، أيسر من احتمال بلائها، واللبيب من حذرها، ولم يغتر بزينتها، فإنها غدارة ختالة خداعة، قد تعرضت بآمالها وتزينت لخطابها، فهي كالعروس العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، وهي والذي بعث محمداً بالحق لأزواجها قاتلة، فاتق يا أمير المؤمنين صرعتها، واحذر عثرتها، فالرخاء فيها موصول بالشدة والبلاء، والبقاء مؤد إلى الهلكة والغناء واعلم يا أمير المؤمنين أن أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وتاركها موفق، والمتمسك بها هالك غرق، والفطن اللبيب من خاف ما خوفه الله، وحذر ما حذره، وقدر من دار الفناء إلى دار البقاء فعند الموت يأتيه اليقين، الدنيا يا أمير المؤمنين دار عقوبة، لها يجمع من لا عقل له، وبها يغتر من لا علم عنده، والحازم اللبيب من كان فيها كالمداوي جراحه، يصبر على مرارة الدواء، لما يرجو من العافية، ويخاف من سوء عاقبة الدار والدنيا وأيم الله، يا أمير المؤمنين حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، والعباد في أضغاث أحلام، وإني قائل لك يا أمير المؤمنين ما قال الحكيم:
_________
(1) تاريخ التصوف الإسلامي صـ180.(1/248)
فإن تنج من ذي عظيمة
وإلا فإني لا أخالك ناجيا
ولما وصل كتابه إلى عمر بن عبد العزيز بكى وانتحب حتى رحمه من كان عنده وقال: يرحم الله الحسن فإنه لا يزال يوقظنا من الرقدة، وينبهنا من الغفلة، ولله دره من مشفق ما أنصحه وواعظ ما أصدقه وأفصحه. وكتب إليه عمر بن عبد العزيز: وصلت مواعظك النافعة فاستشفيت بها، ولقد وصفت الدنيا بصفتها، والعاقل من كان فيها على وجل، فكأن كل من كتب عليه الموت من أهلها قد مات والسلام عليك ورحمة الله، وبركاته، فلما وصل كتابه إلى الحسن قال: لله درّ أمير المؤمنين من قائل حق وقابل وعظاً لقد أعظم الله جل ثناؤه بولايته المنة، ورحم بسلطانه الأمة، وجعله بركة ورحمة (1). وكتب إليه: أما بعد: فإن الهول الأعظم، والأمر المطلوب أمامك، ولا بد من مشاهدتك ذلك، إما بنجاة أو بعطب (2).
7 ـ موقفه من الثورات التي حدثت في عهده:
كان يرى أن تغيير الفساد لا يكون بالسيف وإنما يكون بالتوبة والرجوع إلى الله والنصح لأصحاب الأمور وقد قال: وما أعجب أمر من يحاول أن يغير بالسيف، فإن التغيير لا يكون إلا بالتوبة (3) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب الصبر على ما تكرهه منهم: من رأى من أمير شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية (4). ويرى بعد فقهه لهذا الحديث وأمثاله أن تسلط الحكام عقوبة من الله تعالى تحتاج لصبر ويقول: لو أن الناس إذا ابتلوا من قِبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يُفرج عنهم، ولكنهم يجزعون إلى السيف فيوكلون إليه فوالله ما جاءوا بيوم خير قطّ (5). وكان موقفه من ثورة ابن الأشعث كما مر معنا وكان يرى أن ولاة الأمور طالما أنهم يقيمون الجمعة والجماعة والفيء، والثغور (6) والحدود، فلا يجوز الخروج عليهم (7)، وقد علق
_________
(1) الزهد للحسن البصري صـ169.
(2) المصدر نفسه صـ169.
(3) الطبقات الكبرى (7/ 125، 131).
(4) البخاري رقم 6724، مسلم رقم 1849.
(5) شذرات الذهب (1/ 137) حياة الحسن البصري د. روضة صـ191.
(6) حياة الحسن البصري صـ194، روضة الحصري.
(7) المصدر نفسه صـ194.(1/249)
المودودي على منهج الحسن البصري في التعامل مع الثورات بأنه كان يشك بجدوتها (1)، وكان موقفه من ثورة يزيد بن المهلب ينظر إليها بقلق شديد خصوصاً وأن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز كان قد حبس يزيد بن المهلب لفساده ولأنه إن تولى أموال المسلمين (2) فسينفقها في ملذاته، ويرى الحسن أن غضبة ابن المهلب غضبة لنفسه ومطامعه، فيذهب الحسن إلى حيث اجتمع الناس في الجامع يتوكأ على عاتق معاذ بن سعد وهو يقول له: انظر هل ترى رجلاً نعرفه؟ وسر الحسن عندما لم ير في المجموع رجلاً من أصحابه (3). وتزداد جرأة الحسن وصدعه بالحق، ويتقدم من المنبر ويزيد يخطب.
وقال بصوت مرتفع يخاطب ابن المهلب: ((والله لقد رأيناك والياً ومولى عليك فما ينبغي لك ذلك. ويقف موقفاً أشد جرأة من سابقه فقد خرج على الناس وقد نصبوا الرايات، واصطفوا صفين، وهم ينتظرون خروج يزيد بن المهلب، ويقولون: يدعونا لسنة العمرين، فقال الحسن: إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون، ثم يسرح بهم إلى بني مروان يريد بهلاك هؤلاء رضاهم، فلما غضب غضبة نصب قصباً، ثم وضع عليها خرقاً ثم قال: إني قد خالفتهم فخالفوهم وقال: أدعوكم إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله ثم يرد إلى السجن ويوضع في جبة (4). وتزداد مواعظ الحسن وكراهيته للثورة فيخطب الناس ويقول: أيها الناس، الزموا رحالكم وكفوا أيديكم، واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضاً على دنيا زائلة وطمع فيها يسير، ليس لأهلها بباق، وليس عنهم فيما اكتسبوا براض، إنه لم يكن إلا كان أكثر أهلها الخطباء، والسفراء والسفهاء، وأهل التيه والخيلاء، وليس يسلم منها إلا المجهول الخفي، والمعروف التقي (5). وعلى أثر هذه الخطبة، يهدد مروان ابن المهلب خليفة يزيد في الثورة فيقول: لقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي يثبط الناس، والله لو أن جاره نزع من خص داره قصبة لظل يرعف أنفه، والله ليكُفنّ عن ذكرنا وعن وجهه علينا سقاط الأبلة (6)، وعلوج فرات البصرة، أو لأنخين عليه مبرداً خشناً (7). ووقف الناس
_________
(1) الخلافة والملك للمودودي صـ149.
(2) حياة الحسن البصري صـ196 للحصري.
(3) تاريخ الطبري (7/ 491).
(4) وفيات الأعيان (3/ 280) حياة الحسن البصري صـ197.
(5) تاريخ الطبري (7/ 498).
(6) أُبُلّته: بضمتين مشددة أصحابه وقبيلته.
(7) تاريخ الطبري (7/ 498).(1/250)
مع الحسن وقالوا له: لو أرادوك ثم شئت لمنعناك، فأجابهم بقوله: فقد خالفتكم إذا إلى ما نهيتكم عنه، آمركم ألا يقتل بعضكم بعضاً مع غيري وأدعوكم إلى أن يقتل بعضكم بعضاً دوني (1)؟
هذا هو موقف الحسن من كل فتنة يسعى لجمع شمل المؤمنين وينهى عن كل فرقة بينهم (2) وعن سلم ابن أبي الذّيّال قال: سال رجل الحسن وهو يسمع وأناس من أهل الشام فقال: يا أبا سعيد ما تقول في الفتن مثل يزيد بن المهلب وابن الأشعث؟ فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل من أهل الشام، ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد، نعم ولا مع أمير المؤمنين (3) وقد سلك الحسن منهج السلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يؤيد الثورة المسلحة لأسباب:
أـ أن الدعوة إلى الخروج عليهم يتبعها فوضى في أمور، واضطراب الأمن وفساد الأحوال، وفوضى ساعة يرتكب فيها المظالم ما لا يرتكب في استبداد السنين.
ب ـ رأى أن كثرة الخروج على الولاة يضعف الدولة الإسلامية ويجعل بأس المسلمين بينهم شديداً، فيكلب فيهم عدوهم، ويخرب عليهم حقوقهم.
ج ـ ولأنه رأى أن الدماء تراق في الخروج بدون حق يقام، ومظلمة تدفع والناس يخرجون من يد ظالم إلى أظلم.
س ـ وجد أن الطريق المعبّد لإصلاح هذا، إصلاح فساد المحكومين إذا تعذر عليه إصلاح فساد الحاكم، رأى أن الفساد عمّ الاثنين وتغلغل في الفريقين، فاعتقد أن الحكام ما لم يتغير الشعب والملازمة ثابتة بينهما (4).
8 ـ كيف يضل قوم هذا فيهم؟
قال خالد بن صفوان: لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال: يا خالد، أخبرني عن حسن أهل البصرة؟ قلت: أصلحك الله، أُخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جانبه وجليسه في مجلسه وأعلم من قبلي به: أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبهه قولاً
_________
(1) المصدر نفسه (7/ 499) ..
(2) حياة الحسن البصري صـ198 للحصري.
(3) الطبقات الكبرى (7/ 121) حياة الحسن صـ198.
(4) تاريخ الجدل صـ323.(1/251)
بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أشرك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك، كيف يضل قوم هذا فيهم (1). ومن أقوال الحسن البصري ما رواه هشام بن حسّان: سمعت الحسن يحلف بالله، ما أعز أحد الدرهم إلا أذلهُ الله (2)، وقال: بئس الرفيقات، الدينار والدرهم، لا ينفعانك حتى يُفارقاك (3).
9 ـ وفاة الحسن البصري:
مرض الحسن البصري مرض الموت وابنه إلى جانبه يمرضه ويعنى به وهو على سريره يسترجع ويكثر من الاسترجاع فيقول له ابنه: أمثلك يسترجع على الدنيا؟ فيجيبه بقوله: يا بني لا استرجع إلا على نفسي التي لم أصب بمثلها (4)، وعن أبان بن محبر عن الحسن أنه لما حضره الموت دخل عليه رجال من أصحابه فقالوا له: يا أبا سعيد زودنا منك كلمات تنفعنا بهن. قال: إني مزودكم ثلاث كلمات، ثم قوموا عني ودعوني ولما توجهت له، ما نهيتهم عنه من أمر، فكونوا من أترك الناس له، وما أمرتم به من معروف فكونوا من أعمل الناس به، واعلموا أن خطاكم خطوتان، خطوة لكم وخطوة عليكم، فانظروا أين تغدون وأين تروحون (5). وقبل أن يسلم الحسن روحه أغمى عليه ثم أفاق إفاقة فقال: لقد نبهتموني من جنان وعيون ومقام كريم (6). وفي ليلة الجمعة وفي مستهل رجب سنة عشر ومائة (7)، أسلم الروح إلى بارئها وعاش نحواً من ثمان وثمانين سنة. كما قال ابنه عبد الله (8)، وقبيل وفاته قال رجل لابن سيرين: رأيت كأن طائراً أخذ أحسن حصاة في المسجد فقال: إن صدقت رؤياك مات الحسن، فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن (9). وقام بتغسيله تلميذاه: أيوب السختياني، وحميد الطويل، وصلى عليه عقيب الجمعة النضر بن عمر المقري (10)،
قال حميد
_________
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 576).
(2) المصدر نفسه (4/ 576).
(3) المصدر نفسه (4/ 576).
(4) سير أعلام النبلاء (4/ 587).
(5) حلية الأولياء (2/ 154).
(6) سير أعلام النبلاء (4/ 587).
(7) تذكرة الحفاظ صـ72، حياة الحسن البصري صـ202.
(8) سير أعلام النبلاء (4/ 587).
(9) وفيات الأعيان (2/ 72)، الطبقات الكبرى (7/ 129).
(10) تاريخ الذهبي، نقلاً عن حياة الحسن البصري د. روضة صـ202 ..(1/252)
الطويل: توفي الحسن عشية الخميس وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره وحملناه بعد صلاة الجمعة ودفناه، فتبع الناس كلهم جنازته، واشتغلوا به، فلم تقم صلاة العصر بالجامع، ولا أعلم أنها تركت منذ كان الإسلام إلا يومئذ، لأنهم تبعوا كلهم الجنازة، حتى لم يبق بالمسجد من يصل العصر (1). رحم الله الحسن البصري النموذج الرفيع لورثة الأنبياء والعلماء الربانيين، فقد كان من الرجال العظماء، قلما تجد له مثيلاً زهداً، وورعاً، وعلماً، وحكماً، وشجاعة، وأدباً (2)، وكان من العلماء الذين نشطوا في دولة الفقهاء التي قادها عمر بن عبد العزيز ولم يبخل بوقت ولا نصيحة ولا موعظة ولا توجيه ولا إرشاد.
سابعاً: عمر والفتوح ورفع الحصار عن القسطنطينية:
عندما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كان من أول أعماله إيقاف التوسع في المناطق النائية في أطراف الدولة، ومحاولة سحب القوات الإسلامية من مناطق القتال، وأول أعماله في هذا المضمار كان في القوات التي عُني الخليفة سليمان بحشدها وإنفاذها بقيادة أخيه مسلمة لفتح القسطنطينية وظلت تحاصرها مدة سنتين لاقت فيها مصاعب كثيرة دون أن تفلح في تحقيق هدفها، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة: كتب بقفل مسلمة بن عبد الملك من القسطنطينية وقد كان سليمان أغزاه إياها برّاً وبحراً. فأشتد عليهم المقام وجاعوا حتى أكلوا الدواب من الجهد والجوع، حتى يتنح الرجل عن دابته فتقطع بالسوق .. ولجّ سليمان في أمرهم، فكان ذلك يغم عمر، فلما ولي، رأى أنه لا يسعه فيها بينه وبين الله عز وجل شيء من أمور المسلمين ثم يؤخر فعله ساعة، فذلك الذي حمله على تعجيل الكتاب (3)، وقد وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، فوجه إليهم خيلاً عتاقاً وطعاماً كثيراً وحث الناس على معونتهم، فكان الذي وجه إليه الخيل العتاق فيما قيل خمسمائة رأس (4). ويروي خليفة أنه في سنة 99هـ حمل عمر بن عبد العزيز الطعام
_________
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 587).
(2) حياة الحسن البصري صـ503.
(3) ابن عبد الحكم صـ32.
(4) تاريخ الطبري نقلاً عن عمر بن عبد العزيز للعلي صـ140.(1/253)
والدواب إلى مسلمة بن عبد الملك إلى بلاد الروم وأمر من كان له هناك حميم أنه يبعث إليه وبعث معه بعثاً فأغاث الناس، وأذن لهم بالقفول (1)، وفي الأندلس ولىّ عمر بن عبد العزيز السمح بن مالك الخولاني، وعهد إليه: بإخلاء الأندلس من الإسلام إشفاقاً عليهم، إذ خشى تغلب العدو عليهم .. لانقطاعهم من وراء البحر من المسلمين (2).
غير أن السمح لم ير الانسحاب الكامل في الأندلس، وكتب إلى الخليفة يقول: إن الناس قد كثروا بها وانتشروا في أقطارها، فاضرب عن ذلك، وأزال الأندلس عن عمالة أفريقية (3). وفي المشرق، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الرحمن والي خراسان يأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم، فأبوا وقالوا: لا يسعنا مرو (قاعدة خراسان). فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر، اللهم إني قد قضيت الذي عليّ فلا تغزُ بالمسلمين، فحسبهم الذي فتح الله عليهم (4) ويقتصر خليفة بن خياط على القول بأن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الجراح بن عبد الله الحكمي: ((لا تغزُ، وتمسكوا بما في أيديكم (5)) وفي جبهة بلاد السند: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه، فأسلم جيشه والملوك، وتسموا بأسماء العرب وكان عمرو بن مسلم الباهلي عامل عمر على ذلك الثغر (6).
إن إيقاف عمر بن عبد العزيز التوسع القائم على استخدام المُقاتلة في الأطراف النائية للدولة وعمله على إحلال الحوار السلمي في إخماد الحركات المسلحة للمعارضة، لا يعني أنه أراد إلغاء المؤسسة العسكرية التي تمتد جذورها إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لها الدور الأكبر في حماية الدولة وتوسيعها وتثبيت الأمن والاستقرار فيها، والواقع أن التنظيمات المتصلة بالمُقاتِلة كانت تمسُّ صميم الحياة المدنية، ولا غنى لأي دولة عن مؤسسة الجيش في حفظ حدودها والمخاطر التي قد
_________
(1) تاريخ خليفة صـ326، تاريخ الإسلام للذهبي نقلاً عن العلي صـ140.
(2) تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية صـ12 ـ 13
(3) فجر الأندلس لحسين مؤنس صـ136 ـ 137، عمر بن عبد العزيز، صالح العلي صـ140.
(4) تاريخ الطبري نقلا عن عمر بن عبد العزيز للعلي صـ141.
(5) تاريخ خليفة صـ326، عمر بن عبد العزيز عمر بن عبد العزيز للعلي صـ141.
(6) فتوح البلدان صـ42.(1/254)
تتعرض لها لذلك كان لا بد من إبقاء الجند والمؤسسات المتصلة به، فظلت الأمصار، وهي مراكز إقامة المقاتلة العرب، قائمة دون أن يلغيها، أو يبدلها، أو يدخل تعديلات في تنظيماتها السكانية والإدارية وقضت الأحوال أن يتابع خلال مدة خلافته القصيرة، استمرار الحركات العسكرية المحدودة النطاق في عدد من الجبهات. ففي أذربيجان أغار الترك على المسلمين: فقتلوا من المسلمين جماعة ونالوا منهم، فَوَجَّه إليهم عمر بن عبد العزيز حاتم بن النعمان الباهلي، فقتل أولئك الترك، فلم يفلت منهم إلا اليسير، فقدم منهم على عمر بخناصرة خمسون أسيراً (1). وفي سنة 100 هـ أغارت الروم في البحر على ساحل اللاذقية، فهدموا مدينتها وسَبَوْا أهلها، فأمر ببنائها وتحصينها (2). وفي 101 هـ: أغزى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطي، وعمرو بن قيس الكندي من أهل حمص، الصائفة (3). وأمر بترحيل أهل طرندة (4) وهم كارهون، وذلك لإشفاقه عليهم من العدو (5).
وأراد أن يهدم المصيصة لتعُّرضها لغارات الروم، ثم أمسك عن ذلك وبنى لأهلها مسجداً جامعاً من ناحية كفرييا واتخذ فيه صهريجاً وكان اسمه عليه مكتوباً (6). وجعلها مركزاً متقدماً لدرء الخطر عن انطاكية من غزوات الروم المتكررة (7)، ورغم أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كان قد حد من النشاط العسكري مع الروم وسحب الجيش الذي كان يحاصر القسطنطينية وبعض الحصون المتقدمة في بلد الروم، إلا أنه كان حازماً شديداً في أخذ الحق والدفاع عنه، وهذا ما تشير إليه رواية ابن عبد الحكم، حيث يذكر أنه عندما أرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز رسولاً إلى ملك الروم، وقص عليه قصة رجل أسير في بلد الروم ـ وقد مرت معنا ـ أجبر على ترك الإسلام وإعتناق النصرانية، قائلين له: إن لم تفعل سملت عينك، فاختار دينه على بصره فسملت عيناه، فأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى ملك الروم وقال له: أقسم بالله، لأن لم ترسله إلي لأبعثن إليك من الجنود جنوداً يكون أولهم عندك وآخرهم عندي (8)، فاستجاب ملك الروم لطلبه، وبعث بالرجل إليه (9). وكان سياسة عمر بن عبد العزيز المرحلية تقوم على ضبط الثغور
_________
(1) تاريخ خليفة صـ326، عمر بن عبد العزيز للعلي صـ142.
(2) فتوح البلدان صـ20.
(3) تاريخ الطبري نقلا عن عمر بن عبد العزيز للعلي صـ142.
(4) طرندة: من الأماكن القريبة من الدولة الرومانية.
(5) فتوح البلدان صـ220.
(6) المصدر نفسه صـ163.
(7) العلاقات العربية البيزنطية صـ119.
(8) المصدر نفيه صـ131.
(9) المصدر نفيه صـ131.(1/255)
وحدود الدولة الإسلامية والإهتمام بفتح العقول، وأحياء القلوب وتطهير النفوس للشعوب الجديدة التي دخلت في الإسلام ولذلك بدأ يرسل سرايا الدعاة والعلماء للبدو القاطنين داخل الدولة الإسلامية وللشعوب التي كانت في أشد حاجة لتعاليم الإسلام.
ثامناً: الإهتمام بالدعوة الشاملة:
ركز عمر جهوده بالبناء الداخلي للدولة لترسيخ وحدتها وأمنها ونشر العلم وتوصيله لكل أفراد الأمة ما أمكن لذلك سبيلا، كما اهتم على نشر العدل بين الرعية وإزاحة الضغائن والأحقاد من بين المسلمين وقد استهدف عمر بن العزيز قلوب الناس وعقولهم ونفوسهم بتعاليم الإسلام ووضع مشروعاً كبيراً لتحقيق ذلك الهدف العظيم ولم يكن عمر بالإنسان الذي تستهويه المشاريع الكبرى، فيقف عند حدود الخيال لا يتعداه، بل حوّل مشروعه إلى برنامج عملي قابلاً للتطبيق، بعدما مهد الظروف، وأحاط برامجه بالضمانات العملية وهيَ له الأسباب مما جعله يحيله إلى واقع مشهود وقد ساعده على نجاح مشروعه الدعوي التربوي العلمي أمور منها:
1ـ وضع قانون التفرغ للدعاة: حيث الزم الدولة بكفالة عدد من العلماء والدعاة والمفكرين، كي تتيح لهم التفرغ الكامل لا نجاز مشاريع فكرية دعوية التي يعكفون عليها باختيار أو بتوجيه من الدولة، فأجرى الأرزاق على العلماء ورتب لهم الرواتب يتفرغوا لنشر العلم ويكفوا مؤونة الاكتساب (1)، فقارئ القرآن الذي حفظه وقام يقرئه للناس ويعلمهم أحكامه والمحدث الذي يعقد مجالس الإملاء وينشر الحديث النبوي، والفقيه الذي ينظر في الكتب ويستنبط منها ويعلم الناس أمور دينهم ليعبدوا الله على بصيرة، والطالب الذي يتفرغ للعلم أو البحث والدرس، كل أولئك قد يشغلهم أمر ذويهم وأبنائهم وسدّ حاجتهم وتدبير أمور معاشهم، فقام عمر بقطع هذا الهاجس عنهم، وكفل لهم ولمن يعولون ما يعيشون به حياة كريمة، تتكفل به الدولة، ويؤخذ من بيت المال، ونعمّا ما فعل رضي الله عنه، فبذلك شجع كل من وجد في نفسه الإمكانية لنشر العلم وخدمة الدين
_________
(1) ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز صـ184.(1/256)
والأمة (1). وكان يمنح من بيت المال مبلغاً قدره مائة دينار لكل من انقطع إلى مسجد جامع في أي بلد إسلامي، لغرض التفقه ونشر العلم، وتدريس القرآن وتلاوته (2) وعن أبي بكر بن أبي مريم قال: كتب عمر بن عبد العزيز على والي حمص: مُرْ لأهل الصلاح من بيت المال بما يُغنيهم لئلا يشغلهم شيء عن تلاوة القرآن وما حملوا من الأحاديث (3). وعن أبي مريم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي حمص: ((انظروا إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه، وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، فأعط كل رجل منهم مائة دينار، يستعينون بها على ما هم عليه، من بيت مال المسلمين، حين يأتيك كتابي هذا، وإن خير الخير أعجله.
والسلام عليك (4). وفرض الرزق لمن يحدث الناس بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناقب أصحابه، وللقصّاص والواعظين كذلك، وذكر ابن شبة" أن عمر بن عبد العزيز أمر رجلاً ـ وهو بالمدينة ـ أن يقص على الناس، وجعل له دينارين كل شهر، فلما قدم هشام بن عبد الملك جعل له ستة دنانير كل سنة (5). ومما جاء في كتبه بشأن إجراء الرزق على طلبة العلم لينقطعوا عن الشواغل، ما ذكره ابن عبد البر عن يحي بن أبي كثير قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن أجْرُوا على طلبة العلم الرزق، وفرّغوهم للطلب (6).
2 ـ حض العلماء على نشر العلم وعلنيته، وإتخاذ المساجد مراكز لتعليم الناس أمور دينهم، وإقراء طلبة العلم وإسماعهم، وإملاء الحديث النبوي، وإحياء السنة (7). قال عكرمة بن عمار وهو من أهل اليمن ـ سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقول: أما بعد: فأمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت (8)، وأسند ابن عبد البر عن جعفر بن برقان الرَّقي ـ نسبة إلى
_________
(1) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ72.
(2) ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر صـ184.
(3) أصول الحديث صـ178، عمر بن عبد العزيز عبد الستار صـ72.
(4) البداية والنهاية، نقلا عن عمر بن عبد العزيز عبد الستار صـ72.
(5) أخبار المدينة نقلاً عن عمر بن عبد العزيز عبد الستار صـ73.
(6) جامع بيان العلم (1/ 228) عمر بن عبد العزيز عبد الستار صـ73.
(7) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار صـ73.
(8) أصول الحديث صـ178، عمر بن عبد العزيز صـ73.(1/257)
الرقة شمال شرقي سورية ـ قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز: أما بعد فَمُرْ أهل الفقه والعلم من عندك، فلينشروا ما علمهم الله في مجالسهم، ومساجدهم (1).
3 ـ توجيه الأمة إلى أهمية العلم: وفي ذلك يقول: إن استطعت فكن عالماً فإن لم تستطع، فكن متعلماً، فإن لم تستطع فأحبهم، فإن لم تستطع فلا تبغضهم. ثم قال: لقد جعل الله له مخرجاً إن قبل (2).
4 ـ إرسال العلماء الربانيين في شمال أفريقيا:
كان عمر بن عبد العزيز يرسل العلماء إلى الأمصار بل البوادي ليعلّموا أهلها شرع الله، ويفقهوهم فيه، فقد بعث يزيد بن أبي مالك والحارث بن محمد إلى البادية ليعلما الناس السنة، وأجرى عليهم الرزق، فقبل يزيد ولم يقبل الحارث وقال: ما كنت لآخذ على علم علمنيه الله أجراً. فذكر ذلك لعمر فقال: ما نعلم بما صنع يزيد بأساً، وأكثر الله فينا مثل الحارث (3). وقد عبر عمر بهذا الجواب عما يجب أن يتحلى به الحاكم المسلم من مرونة فكرية، وعدم جمود على الأشكال، حيث أعلن أن أخذ الأموال لقاء لخدمات العلمية أمر لا بأس به، وسأل الله ـ من جهة أخرى ـ أن يكثر أولئك الذين يقومون بهذه الخدمات دون أجر إلا أجر الله (4). وقد بعث عمر إلى مصر الإمام المفتي الثبت، عالم المدينة (نافعاً) مولى ابن عمر، وراويته، فعن عبد الله بن عمر: بعث عمر بن عبد العزيز نافعاً مولى ابن عمر إلى أهل مصر يعلمهم السنن (5)، وأرسل عشرة من فقهاء المدرسة المصرية من رجال التابعين على أفريقية، ليفقهوا أهلها ويعلموهم، وينشروا بينهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينالهم من الخير مثل الذي عمّ إخوانهم من أهل الحجاز والشام والعراق، وكانت معاقل العلم (6)، وتطلع إلى شمال أفريقيا، ليغزو القلوب والعقول والنفوس بدين الله، فأرسل العلماء الربانيين العشرة بعد أن وضع أهدافاً لخطته التعليمية في ذلك الإقليم منها:
_________
(1) جامع بيان العلم (1/ 149).
(2) ابن عبد الحكم نقلاً عن عمر للزحيلي صـ74.
(3) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ160، ملامح الانقلاب صـ184.
(4) ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر صـ184.
(5) سير أعلام النبلاء (5/ 979 تذكرة الحفاط (1/ 100).
(6) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ69.(1/258)
أـ ... اختيار علماء ربانيين اشتهروا بالعلم والفقه والدعوة والتجرد للإشراف على التربية والتعليم.
ب ـ وضع خطة بعيدة المدى لنشر تعليم اللغة العربية، ومحو الأمية في أوساط القبائل البربرية، حتى يسهل عليها بعد ذلك فهم القرآن والسنة والتعامل معهما.
ج ـ الاهتمام بربط الناس بالقرآن المجيد الذي هو حبل الله المتين، ويكون ذلك بفتح الكتاتيب، وجمعيات تحفيظ القرآن وتجويده.
ح ـ البلاغ الواضح البين لعقائد أهل السنة.
س ـ تعليم الناس الحلال والحرام (1).
ولقد بدأت بركات عهد عمر بن عبد العزيز على الشمال الإفريقي بتعيين أمير صالح عليه وبإرسال الفقهاء والعلماء الربانيين وإليك ترجمة الأمير والفقهاء:
ـ ... إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر:
ولاه عمر بن عبد العزيز على إفريقية في المحرم سنة 99 ـ 100هـ فكان خير أمير، قال ابن خلدون: وأسلم جميع البربر في أيامه، وأرسل معه عشرة من فقهاء التابعين وعلمائهم يفقهون الناس في أمور الدين، ويبينون لهم الحلال والحرام (2). وكان هذا الأمير في غاية الزهد والتواضع حريصاً على نشر العلم وسار في أهل البلاد بسيرة العدل، وكان شديد الحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى عنه ابن عساكر إنه قال: ينبغي لنا أن نحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسيلم كما نحفظ القرآن، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد، وغيرهم. ومكث في القيروان معلماً للناس، ناشراً للسنة، لمدة ثلاث وثلاثين سنة حيث توفي بها سنة 131هـ (3)، وقد جمعت شخصية إسماعيل رحمه الله، الكفاءة، والعلم والورع، فأنتجت هذه الثمار التي ساهمت في ترسيخ الإسلام في شمال إفريقيا وينبغي لنا أن نهتم بتحقيق هذه الصفات وغيرها في نفوس القادة والولاة.
_________
(1) الشرف والتسامي بحركة الفتح الإسلامي للصَّلاَّبِّي صـ306، 307.
(2) تاريخ الفتح العربي في ليبيا صـ148.
(3) مدرسة الحديث بالقيروان ((2/ 14 إلى 22)).(1/259)
ـ بكر بن سوادة الجذامي، أبو ثمامة (ت128 هـ بإفريقية):
أقام في الشمال الإفريقي أكثر من ثلاثين سنة محدثاً ومفتياً، وفقيهاً وقد انتفع به أهلها، ورووا عنه، أدخل على القيروان حديث عدد من الصحابة، منهم: عقبة بن عامر، وسهل بن سعد الساعدي، وسفيان بن وهب الخولاني، كما روى عن جماعة من التابعين منهم: سعيد بن المسيب وابن شهاب الزهري، وقد قارب شيوخه الأربعين، وروى عنه كثير من أهل القيروان منهم عبد الرحمن بن زياد، وأبو زرعة الإفريقي وكان ثقة في حديثه، أخرج له مسلم والأربعة، والبخاري تعليقاً، وأحمد، والطبراني، وغيرهم، وعداده في المصريين رغم طول مكثه بالقيروان ووفاته بها (1).
ـ جُعثلُ بن عاهان الرُّعيني القتباني، أبو سعيد (ت حوالي 115 هـ)
عده أبو العرب وابن حجر وغيرها في التابعين، ولم يذكروا عمن روى من الصحابة، وكان محدثاً، فقيهاً مقرئاً، تولى قضاء الجند بالقيروان وبث فيها علماً كثيراً لمدة زادت عن خمسة عشر عاماً، وروى عنه من أهل القيروان عبيد الله بن زحر، وعبد الرحمن بن زياد، وبكر بن سوادة وهو زميله في البعثة العلمية، وثقه أكثر النقاد، وأخرج له الأربعة وأحمد وغيرهم: توفي في خلافة هشام بن عبد الملك سنة 115 هـ (2).
ـ حبان بن جبلة القرشي: مولاهم، ودفع الوهم بأن عمر رضي الله عنه أرسله لتفقيه أهل مصر ت 125 هـ وقيل 122 هـ بالقيروان أدخل في الشمال الإفريقي حديث جملة من الصحابة منهم: ابن عباس وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، ووالده عمرو، وبقي يبث العلم في عاصمة الشمال الإفريقي في مدينة القيروان أكثر من خمس وعشرين سنة، أنتفع به أهلها، وروى عنه كثيراً منهم، كعبد الرحمن بن زياد، وعبيد الله بن زحر، وموسى بن علي بن رباح وغيرهم، وهو عند النقاد ثقة في حديثه، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وابن سنجر في مسنده والحاكم في المستدرك وغيرهم (3).
ـ سعد بن مسعود التجيبي: أبو مسعود (ت بالقيروان): يروي عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو الدرداء، ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً حتى وهم بعضهم
_________
(1) المصدر نفسه.
(2) المصدر نفسه.
(3) مدرسة الحديث بالقيروان (2/ 14 إلى 22).(1/260)
فعده في الصحابة، ولذلك نبهت معظم المصادر على أنه لا صحبة له، وقد سكن القيروان وبث في الشمال الإفريقي علماً كثيراً وكانت مجالسه مليئة بالحكم والمواعظ البليغة، وكان شديداً على الأمراء، روى عنه من أهل القيروان: مسلم بن يسار الإفريقي، وعبيد الله بن زحر، وعبد الرحمن بن زياد، في جامع ابن وهب وغيره، وذكر الدباغ أنه توفي بالقيروان بعد أن بث فيها علماً كثيراً، ولم يذكر تاريخ وفاته (1).
ـ طلق ابن جعبان الفارسي، وقيل: جابان، والصواب الأول كما في الإكمال، تابعي، لقي عمر وسأله، وأكثر روايته عن التابعين كان فقيهاً عالماً، وروى عنه من أهل القيروان: موسى بن علي، وابن أنعم، ولم يذكروا مدة إقامته بها ولا تاريخ وفاته (2).
ـ عبد الرحمن بن رافع التنوخي، أبو الجهم (ت بالقيروان سنة 113 هـ): دخل القيروان في وقت مبكر، سنة 80هـ، وهو أجل قضاتها، وذلك على عهد حسان بن النعمان واستمر يبث فيها العلم ما يقارب ثلاثاً وثلاثين سنة، حتى إنتفع به خلق كثير من أهلها وقد أدخل إلى القيروان حديث جماعة الصحابة عرفنا منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص، وحدث عنه من القرويين: عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وعبد الله بن زحر الكناني، وبكر بن سواد الجذامي وغيرهم ... وهو أول من ولي قضاء القيروان وتوفي بها سنة 113هـ (3).
ـ ... عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني:
كان مقيماً في القيروان قبل زمن بعثة عمر بن عبد العزيز بمدة طويلة معروفاً لدى أهلها مشهوراً بينهم بالعدالة والتقى، وقد ولاه عمر بن عبد العزيز قضاء القيروان سنة 99هـ، لما علمه من فضله ودينه وعلمه فاستمر في منصبه إلى أن استقال منه سنة 123هـ، وكان زاهداً ورعاً عالماً، سار في أهل القيروان بالكتاب والسنة ونشر العلم بينهم لمدة طويلة زادت عن خمس وعشرين سنة، ذكره ابن حبان في الثقات وأثنى عليه المصنفون بالفضل والعلم والدين (4).
_________
(1) المصدر نفسه (2/ 14 إلى 22).
(2) عصر الدولتين الأموية والعباسية وظهور فكر الخوارج صـ45.
(3) عصر الدولتين الأموية والعباسية وظهور فكر الخوارج صـ45.
(4) المصدر نفسه صـ46.(1/261)
ـ ... عبد الله بن يزيد المعافري الحبلي، أبو عبد الرحمن ت بالقيروان 100هـ: دخل القيروان في زمن مبكر، ولعل ذلك كان مع موسى بن نصير سنة 86هـ لأنه شهد فتح الأندلس، ثم عاد إلى القيروان وسكنها وبنى بها داراً ومسجداً ثم عين ضمن أفراد البعثة العلمية إلا أن وفاته كانت سنة 100هـ، أي بعد سنة واحدة من التكليف الرسمي، ومع ذلك فقد قال عنه المالكي: فانتفع به أهل إفريقية وبث فيها علماً كثيراً وأدخل القيروان حديث جماعة من الصحابة ممن لم يدخلها، وزاد في إفشاء حديث من دخلها منهم، حدث عن ابن عمر وعقبة بن عامر، وابن عمرو، وأبو ذر، وروى عنه من أهلها عبد الرحمن بن زياد، وأبو كريب جميل بن كريب القاضي (ت 139) هـ وغيرهما، كان رجلاً صالحاً ورعاً شديد الإقبال على نشر السنة، وكان تأثيره في الحياة العلمية ـ خاصة الجانب الحديثي منها ـ بالقيروان كبيراً، وقد بنى فيها مسجداً لمجالسه العلمية أجمع النقاد على توثيقه، وحديثه عند مسلم، والأربعة، وابن وهب في جامعه وأحمد وغيرهم (1).
ـ ... وهب بن حي المعافري: وقد ذكر ابن أبي حاتم أن هناك من قلبه إلى: حي بن موهب، وأن أبا زرعة قد صحح ذلك، غزا إفريقية قديماً، لأنه سأل ابن عباس المتوفى سنة 68هـ عن آنية أهل المغرب كما في الرياض والمعالم، وهو من أفراد بعثة عمر، وقد سكن القيروان، وبث فيها علماً كثيراً وبها كانت وفاته، وقد أدخل إلى القيروان حديث ابن عباس وغيره، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وروى عنه من أهل القيروان عبد الرحمن بن زياد الإفريقي ولم تظهر المصادر حاله من حيث التعديل والجرح (2)، هؤلاء الفقهاء العشرة من خيرة فقهاء التابعين أرسلهم عمر بن عبد العزيز إلى الشمال الإفريقي ليفقهوا ويعلموا الناس دينهم فكانوا عند حسن ظنه بهم وكانوا للناس قدوة صالحة، وقد سبق هؤلاء العشرة كثير من التابعين الذين قاموا بتعليم أهل البلاد أحكام الدين علماً وعملاً (3). وكان لهؤلاء العشرة آثار هامة في القرآن الكريم وتفسيره والحديث وفي نشر السنة العملية والإعتقادية الصحيحة،
_________
(1) عصر الدولتين الأموية والعباسية صـ46.
(2) مدرسة الحديث بالقيروان (2/ 14 إلى 22).
(3) عصر الدولتين الأموية والعباسية صـ47.(1/262)
وساعدوا ولاة أمور المسلمين على مقاومة النحل الخارجية وتركيز أحكام الإسلام بين البربر فقد روى المالكي أنه لما ثارت الخوارج على حنظلة ابن صفوان بطنجة سنة 122هـ جمع حنظلة علماء إفريقية وهم الذين بعثهم عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية ليفقهوا أهلها فكتبوا هذه الرسالة ليقتدي بها المسلمون ويعتقدوا ما فيها: ...
فإن أهل العلم بالله وبكتابه وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم يعلمون أنه يرجع جميع ما أنزل الله عز وجل إلى عشر آيات: آمرة وزاجرة ومبشرة، ومنذرة، ومخبرة، ومحكمة، ومتشابهة، وحلال وحرام وأمثال، فآمرة بالمعروف وزاجرة عن المنكر، ومبشرة بالجنة، ومنذرة بالنار ومخبرة بخبر الأولين، والآخرين، ومحكمة يعمل بها، ومتشابهة يؤمن بها، وحلال أمر أن يؤتى، وحرام أمر أن يجتنب، وأمثال واعظة فمن يطع الآمرة وتزجره الزاجرة فقد استبشر بالمبشرة وأنذرته المنذرة، ومن يحلل الحلال ويحرم الحرام، ويرد العلم فيما اختلف فيه الناس إلى اله، مع طاعة واضحة ونية صالحة فقد فاز وأفلح وأنجح وحيا حياة الدنيا والآخرة والسلام (1)، إن هذه الرسالة تعتبر وثيقة عظيمة الأهمية إذ تدل على أصالة علم هذه البعثة العلمية، ووضوح أهدافهم الشرعية أمامها، حتى أنهم أوجزوا فحوى الرسالة ونظراً لعظيم فائدتها عممت على أن تقرأ على منابر المساجد في جميع ضواحي إفريقية (2).
5 ـ رسائله الدعوية إلى الملوك في الهند وغيرها:
كتب عمر بن عبد العزيز إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام على أن يملكهم بلادهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وقد كانت سيرته بلغتهم، فأسلم جيشبة بن داهر (3)، والملوك تسموا له بأسماء العرب ... وبقي ملوك السند مسلمين على بلادهم أيام عمر ويزيد بن عبد الملك (4). وقد أرسل عليهم عمر من يعلمهم دينهم (5)، كما أرسل عمر برسائل إلى ملوك ما وراء النهر
_________
(1) رياض النفوس للمالكي (1/ 102، 103).
(2) عصر الدولتين الأموية والعباسية صـ48.
(3) فتوح البلدان صـ428، عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ173.
(4) الكامل في التاريخ نقلاً عن عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ173.
(5) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ173.(1/263)
يدعوهم فيها إلى الإسلام فأسلم بعضهم (1)، وأما أليون قيصر الروم فقد بعث إليه عمر وفداً برئاسة عبد الأعلى بن أبي عمرة لدعوته إلى الإسلام (2).
6 ـ تشجيع غير المسلمين على الدخول في الإسلام:
قام عمر بتشجيع غير المسلمين على الدخول في الإسلام عن طريق إعطائهم الأموال لتألفة قلوبهم، وذلك إتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذكر ابن سعد عن عيس بن أبي عطاء رجل من أهل الشام كان على ديوان أهل المدينة عن عمر بن عبد العزيز أنه ربما أعطى المال من يستألف على الإسلام (3). كذلك ذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه أعطى بطريقاً ألف دينار إستألفه على الإسلام (4).
7 ـ تصحيح الوضع الخاص لأهل الذمة:
لقد كان لإنصافه لأهل الذمة الذين أسلموا بوضع الجزية عنهم أثر واضح في زيادة إقبال الذميين على الدخول في الإسلام برغم كل ما ترتب على ذلك بالنسبة لبيت المال مثل ما فعل مع واليه على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي حيث أرسل إليه يقول: انظر من صلى قبلك إلى القبلة، فضع عنه الجزية (5)، ثم أرسل بدعوة أهل الذمة إلى الدخول في الإسلام، فمثلاً أرسل إلى عامله الجراح بن عبد الله الحكمي يأمره بدعوة أهل الجزية إلى الدخول في الإسلام فإن أسلموا قبل إسلامهم، وأن يضع الجزية عنهم، ثم كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين (6). وقد ترتب على هذه الدعوة دخول عشرات الألوف من الناس في الإسلام طائعين ففي خراسان أسلم نحو من أربعة آلاف ذمي على يد واليه الجراح بن عبد الله (7)، أما في المغرب فقد أسلم عامة البربر على يد والي عمر على المغرب إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر (8).
_________
(1) فتوح البلدان صـ415.
(2) البداية والنهاية نقلاً عن عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ173.
(3) الطبقات (5/ 350) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ174.
(4) المصدر (5/ 350).
(5) تاريخ الطبري، نقلاً عن عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ174.
(6) الطبقات (5/ 386).
(7) المصدر السابق (5/ 386).
(8) فتوح البلدان صـ232 ـ 233 للبلاذري، عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ174.(1/264)
وكان ذلك دليلاً على بعد نظر عمر في الإهتمام بالدعوة إلى الإسلام عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، إذ كانت نتائجها لا تقل عن نتائج غيرها إيجابية بل تتعدى ذلك إلى أنه اكتسب مسلمون جدد دون أن يتكلف شهيداً، أو نفقة لإعداد جيوش وهم رعاياه ويعيشون بين أظهر المسلمين، وبالتالي أولى من غيرهم بالدعوة إلى الإسلام. وبهذا يكون الإسلام قد انتشر على عهد عمر بن عبد العزيز بالحكمة والموعظة الحسنة، والاستمرار في أسلوب الجهاد الدعوي على أيدي علماء ربانيين ترخجوا من المدارس العلمية التي نضجت في عهد الدولة الأموية وهؤلاء العلماء الدعاة هم الذين نفذوا مشروع عمر بن عبد العزيز الدعوي العلمي.(1/265)
المبحث السادس: الإصلاحات المالية في عهد عمر بن عبد العزيز:
لم تكن سياسة عمر المالية ارتجالية فهو مسئول عن دولة وكان يحسب حساباً لكل خطوة يخطوها ويضع الضمانات لكل عمل يعتزم تنفيذه (1). ولقد سار في سياسته على أمور منها:
ـ العزم على الاعتصام بالكتاب والسنة، والتضحية قي سبيل ذلك، وهذا ما يبدوا واضحاً من كتبه للعمال وخطبه إلى رعيته ومثال ذلك قوله: سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها (2).
ـ ترسيخ قيم الحق والعدل ودفع الظلم: وهذا هو أساس سياسة عمر، فجميع الأهداف والوسائل التي اتبعها كانت تنسجم مع هذا الأساس، وإحقاق الحق ودفع الظلم هو أصل من أصول الشريعة، ومقصد رئيسي من مقاصدها قال تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) (الحديد، الآية: 25). يقول ابن القيم: فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة (3). ولقد كان عمر يرجع للحق إذا تبين له الخطأ، ويقول في ذلك: ما من طينة أهون عليّ فتّاً ولا كتاب أيسر عليّ رداً من كتاب قضيت به، ثم أبصرت أن الحق في غيره ففتتها (4).
أولاً: أهداف السياسة الاقتصادية عند عمر:
1 ـ إعادة توزيع الدخل والثروة بشكل عادل:
لقد سعى عمر بن عبد العزيز لإعادة توزيع الدخل والثروة بالشكل العادل، الذي يرضى الله تعالى ويحقق قيم الحق والعدل والظلم، والتي وضعها عمر نصب عينيه
_________
(1) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز صـ27.
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ38.
(3) أعلام الموقعين (3/ 3).
(4) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ113.(1/267)
فقد كان يراقب الانحرافات السابقة قبل خلافته ويلاحظ آثارها السلبية على نفوس الرعية ولقد انتقد سياسة سليمان بن عبد الملك التوزيعية فقال له: لقد رأيتك زدت أهل الغنى وتركت أهل الفقر بفقرهم (1). فقد أدرك عمر بن عبد العزيز أن التفاوت الاجتماعي هو نتيجة لسوء توزيع الثروة، فرسم سياسته الجديدة لإنصاف الفقراء والمظلومين ولقد استخدم عمر للوصول إلى هذا الهدف بعض الوسائل العملية منها:
ـ منع الأمراء والكبراء من الاستئثار بثروة الأمة، ومصادرة الأملاك المغصوبة ظلماً، والتي استولى عليها الأمراء والكبراء، وإعادة هذه الأموال إلى أصحابها إذا عرفوا أو إلى بيت المال، إذا لم يعرف أصحابها، أو كانت من الأموال العامة.
ـ زيادة الإنفاق على الفئات الفقيرة والمحرومة ورعايتها وتأمين مستوى الكفاية لها عن طريق الزكاة وموارد بيت المال الأخرى (2). وقد قام بتنفيذ هذه السياسة، كما مرّ معنا في سياسته في رد المظالم ولقد كانت سياسة عمر التوزيعية تهدف على إيصال الناس إلى حد الكفاية: يلاحظ ذلك من خطبه، فقد خطب الناس يومياً فقال: وددن أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم حتى نستوي نحن وهم وأكون أنا أولهم (3). وفي خطبة أخرى: .. ما أحد منكم تبلغني حاجته إلا حرصت أن أسدّ من حاجته ما قدرت عليه وما أحد لا يسعه ما عندي إلا وددت أنه بُدِئ بي وبلحمتي الذي يلونني حتى يستوي عيشنا وعيشكم (4) وقد طبق عمر هذا التطور علمياً عندما أمر بقضاء دين الغارمين فكتب إليه عامله: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم، وله الفرس والأثاث في بيته، فأجاب عمر: لا بدّ للرجل من المسلمين من مسكن يأوي إليه رأسه وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، فهو غارم فاقضوا عنه (5)، فسياسة عمر
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ135.
(2) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز صـ35.
(3) الإدارة الإسلامية في عز العرب، محمد كرد علي صـ103.
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ42.
(5) المصدر نفسه صـ171.(1/268)
التوزيعية تهدف إلى كفاية الناس من حيث المسكن والمركب والأثاث، وهي عبارة عن حاجات أساسية، وضرورية للإنسان تصعب الحياة بدونها (1).
2 ـ تحقيق التنمية الاقتصادية والرفاه الإجتماعي:
سعى عمر بن عبد العزيز عن طريق العديد من الوسائل لتحقيق هذا الهدف، فقد أوجد المناخ المناسب للتنمية عن طريق حفظ الأمن والقضاء على الفتن، ورد الحقوق لأصحابها، وبذلك باتت الرعية مطمئنة على حقوقها، آمنة في أوطانها كذلك أمر ببناء المرافق العامة، والتي تسمى اليوم بمشاريع البنية التحتية، ولا تقوم التنمية إلا بهذه المرافق الضرورية من أنهار وترع ومواصلات وطرق، وقد أكد عمر على مبدأ الحرية الاقتصادية المقيدة بضوابط الشريعة، فانتشر الناس في تجارتهم وتثمير أموالهم واهتم كذلك إهتماماً بالغاً بالزراعة، حيث كان القطاع الزراعي من أكبر القطاعات على المستوى الفردي، وله مردود كبير على ميزانية الدولة وقد جنى عمر والأمة كلها ثمرات هذه السياسة، فقد عمّ الرخاء البلاد والعباد (2)، قال رجل من ولد زيد بن الخطاب: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً وذلك ثلاثون شهراً فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: أجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيهم فما يجده، فيرجع بماله قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس (3).
ثانياً: وسائل عمر بن عبد العزيز لتحقيق الأهداف الاقتصادية لدولته:
سعى عمر بن عبد العزيز لتحقيق أهدافه الاقتصادية بوسائل منها:
1 ـ توفير المناخ المناسب للتنمية: وقد عمل عمر على توفير المناخ المناسب للتنمية، وقام بالآتي:
أـ رد الحقوق لأصحابها: فتوفرت أجواء الأمن والطمأنينة، وترسخت قيم الحق والعدالة وردّ الحقوق المغتصبة إلى أبناء الأمة وسمّاها مظالم (4) , وقد تحدثت عن سياسته في رد المظالم والحقوق إلى أهلها وذكرت الكثير من المواقف في هذا الشأن.
_________
(1) السياسية المالية والاقتصادية لعمر صـ38.
(2) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر صـ41.
(3) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ128.
(4) السياسة الاقتصادية والمالية صـ43.(1/269)
ب ـ فتح الحرية الاقتصادية بقيود: فقد أكد عمر على مفهوم الحرية الاقتصادية المقيدة، وكتب إلى العمال: .. وإن من طاعة الله التي أنزل في كتابه أن يدْعى الناس إلى الإسلام كافة وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر ولا يمنعون، ولا يحبسون (1). وقدم في موضوع آخر: ... أطلق الجسور المعابر للسابلة يسيرون عليها دون جُعْل (2)، لأن عمال السوء تعدوا غير ما أمروا به (3). ولم يتدخل عمر بن عبد العزيز في الأسعار، فعن عبد الرحمن بن شوبان قال: قلت لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين ما بال الأسعار غالية في زمانك وكانت في زمان ما قبلك رخيصة؟ قال: إن الذين كانوا قبلي كانوا يكفلون أهل الذمة فوق طاقتهم فلم يكونوا يجدون بُداً من أن يبيعوا ويكسروا ما في أيديهم، وأنا لا أكلف أحداً إلا طاقته، فباع الرجل كيف شاء، قال: فقلت: لو أنك سعَّرت، قال: ليس إلينا من ذلك شيء إنما السعر إلى الله (4)، وتشدد عمر في أمر السلع المحرومة ومنع التعامل بها فالخمر من الخبائث التي لا يجوز التعامل فيها بين المسلمين لحرمتها ولضررها حيث يؤدي شربها إلى استحلال الدم الحرام وأكل المال الحرام. ويقول عمر: فإن من نجده يشرب منه شيئاً بعد تقدمنا إليه فيه نوجعه عقوبة في ماله ونفسه ونجعله نكالاً لغيره (5).
وقد أثمرت سياسة عمر في رد الحقوق وإطلاق الحرية الاقتصادية المنضبطة، حيث وفرت للناس الحوافز للعمل والانتاج، وأزالت العوائق التي تحول دون ذلك وهذا أدى إلى نمو التجارة، وبالتالي إلى زيادة حصيلة الدخل الخاضع للزكاة، وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة الزكاة ممّا يؤدي إلى رفع مستوى الطبقات الفقيرة وارتفاع قوتها الشرائية والتي ستتوجه إلى الاستهلاك، وبالتالي إلى زيادة الطلب على السلعة، والخدمات وهذا كله يؤدي إلى انتعاش الاقتصاد وارتفاع مستوى المعيشة وزيادة الرفاه (6).
2 ـ إتباع سياسة زراعية جديدة: فقد إتبع خطوات ترمي إلى زيادة الإنتاج الزراعي للأمة وإليك تفصيل هذه الخطوات:
_________
(1) سيرة عمر لابن الحكم صـ94، السياسة الاقتصادية والمالية لعمر صـ47.
(2) الجعل: هو ما يجعل للشخص على عمله.
(3) الإدارة الإسلامية، محمد كرد صـ105.
(4) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر صـ48.
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ103.
(6) سياسة الإنفاق العام في الإسلام، عوف الكفراوي صـ372.(1/270)
أـ منع بيع الأرض الخراجية: سأل الناس عبد الملك بن مروان والوليد وسليمان أن يأذنوا في شراء الأرض من أهل الذمة، فأذنوا لهم شريطة أن يضعوا أثمانها في بيت المال، فلما ولي عمر بن عبد العزيز، ترك هذه الأشرية على حالها، وذلك لما وقع فيها من المواريث ومهور النساء وقضاء الديون ولم يقدر على تخليصه، وكتب كتاباً قريء على الناس سنة المائة: أن من اشترى شيئاً بعد سنة مائة فإن بيعه مردود وسميت سنة مائة سنة المدة، فتناهي الناس بعدها عن الشراء (1). ولقد طلب أهل الأرض أن يضع عليهم الصدقة بدل الخراج، فأجاب عمر: إني لا أعلم شيئاً أثبت لمادة الإسلام من هذه الأرض التي جعلها الله لهم فيئاً .. قال أبو عبيدة فكأن مذهب عمر بن عبد العزيز في الأرض أنه كان يراها فيئاً، ولهذا كان يمنع أهلها من بيعها (2). وكتب إلى ميمون بن مهران: أما بعد، فحُل بين أهل الأرض وبين بيعها ما في أيديهم، فإنهم إنما يبيعون فيء المسلمين (3). كذلك رفض عمر تحويل الأرض التي دخل أهلها في الإسلام من أرض خراج إلى أرض عشر (4)، وأبقى الخراج عليهم والعشر وقال: الخراج على الأرض والعشر على الحب (5). وبذلك حافظ على المورد الرئيس للإنتاج وجعله ملكاً عاماً للأمة بدلاً من تحويله إلى ملكيات صغيرة (6)
ب ـ العناية بالمزارعين وتخفيف الضرائب عنهم:
اعتاد بعض الخلفاء الأمويين قبل عمر بن عبد العزيز على إرهاق المزارعين بالضرائب، فكثرت الضرائب وتنوعت، واشتد الأمر على أهل الأرض فهجروها، فخرجت، فأضرّ ذلك بمالية الدولة، ولقد لجأوا إلى أساليب العذاب في الجباية فاضطر المزارعون إلى بيع دوابهم أو كسوتهم لشديد ما عليهم (7)، وعندما تولى عمر سعى إلى إلغاء جميع الضرائب المخالفة للشريعة، وكتب بذلك إلى العمال كتاباً منها: فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله،
_________
(1) الخراج للريس صـ390، السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ49.
(2) الأموال لأبي عبيد صـ121 رقم 256.
(3) المصدر نفسه رقم 257 صـ122.
(4) السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ50.
(5) الأموال رقم 235 صـ114 لأبي عبيد.
(6) الخراج صـ239 الريس، السياسة المالية والاقتصادية صـ50.
(7) الضرائب في السواد صـ57 للدوري.(1/271)
وسنة خبيثة استنها عليهم عمال السوء .. ولا تأخذن في الخراج إلا وزن سبعة (1)، ليس لها آيين ولا أجور الضرابين (2)، ولا هدية النيروز والمهرجان (3)، ولا ثمن الصحف ولا أجور البيوت (4). وقد ألغى القبالة وكانت مألوفة في البصرة، وألغى أسلوب الخرص (5). حيث كان العمال يقدرون الثمار بسعر عالٍ ويقبضونه نقداً، وبذلك يرهقون الزراع، فقرر عمر وضع الضريبة حسب الأسعار الفعلية وكتب لعامله: بلغني أن عمالك بفارس يخرصون الثمار ثم يقومونها على أهلها بسعر فوق سعر الناس الذي يتبايعون ثم يأخذون ذلك ورقاً على قيمتهم التي قوموها ..
وقد بعثت بشر بن صفوان وعبد الله بن عجلان للنظر في ذلك ورد الثمن الذي أخذ من الناس إلى ما باع أهل الأرض به غلاتهم (6). ولقد أمر عمر بالغاء ضريبة ثابتة على أهل اليمن، كالخراج مع أن أرضها أرض عشرية، وكتب إلى عامله على اليمن: أما بعد، فإنك كتبت إليَّ أنك قدمت اليمن فوجدت على أهلها ضريبة من الخراج مضروبة ثابتة في أعناقهم كالجزية يؤدونها على كل حال، أخصبوا أو أجدبوا أو حيوا أو ماتوا، فسبحان الله رب العالمين ثم سبحان الله رب العالمين .. إذا أتاك كتابي هذا فدع ما تنكره من الباطل إلى ما تعرفه من الحق ثم ائتنف الحق فاعمل به بالغاً بي وبك وإن أحاط بمهج أنفسنا، وإن لم ترفع إليّ من جميع اليمن إلا حفنة من كتم (7)، فقد علم الله إني بها مسرور إذا كانت موافقة للحق (8) والسلام. ويلاحظ من كتب عمر إلى عماله الانحرافات السابقة الظالمة وإنكار عمر لها، وقد كان لها أثر اقتصادي سيء حيث جعلت أصحاب الأرض يضعفوا عن
_________
(1) الدرهم الذي ضربه عبد الملك وجعل كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل من الذهب.
(2) الآيين: أصول إدارية ساسانية وهي رسوم المسَّاحين أرض الخراج وأجور الضرابين: هي أجور المختصين بالنقد من الصرافين.
(3) النيروز والمهرجان: عيدان عند الفرس كانوا يحضرون فيهما الهدايا.
(4) الصحف: عبارة عن أوراق تعطي براءة بالدفع. والفيوج جمع فيج وهو رسول السلطان الذي يسعى بالكتب، وأجور البيوت هي أجور المخازن المحلية التي توضع فيها المواد العينية قبل نقلها للمركز.
(5) القبالة من التقبل والتقبيل: أي شخصاً كفيلاً ذلك لتحصيل الخراج مقابل قدر معلوم يأخذه لنفسه: الخرص: الحرز.
(6) الضرائب في السواد صـ65.
(7) الكتم: نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر.
(8) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ126، الخراج للريس صـ229.(1/272)
أرضهم ويتركوها فضعف الإنتاج وترتب على ذلك خسارة للبلاد ولبيت المال، وأما عمر بن عبد العزيز فكان مصراً على تطبيق الحق وعدم إهتمامه بالكم بل بالكيف، فهو لا يريد إيراداً كثيراً ظالماً (1)، وقد ساهمت إصلاحات عمر في إلغائه للضرائب الجائرة إلى انتعاش اقتصاد الدولة.
ج ـ الإصلاحات والإعمار وإحياء أرض الموات:
شجع عمر على إحياء الأرض الموات وعلى إصلاح الأراضي للزراعة، وكتب بذلك إلى عامله على الكوفة: لا تحمل خراباً على عامر ولا عامراً على خراب (2)، انظر إلى الخراب فخذ منه ما أطاق، وأصلحه حتى يعمر، ولا تأخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض (3). وكتب عمر: من غلب الماء على شيء فهو له، وعن حكيم بن زريق قال: قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي من أحيا أرضاً ميتة ببنيان أو حرث، ما لم تكن من أموال قوم إبتاعوها من أموالهم، أو أحيوا بعضاً وتركوا بعضاً، فاجز للقوم أحياءهم الذي أحيوا ببنيان أو حرث (4)، وحرص عمر على استغلال أرض الصوافي (5)، ورأى أن ملكيتها لبيت المال، ومنع الإقطاع منها وأمر بإعطائها مزارعة على النصف فإن لم تزرع فعلى الثلث، فإن لم تزرع فأمر بإعطائها حتى تبلغ العشر فإن لم يزرعها أحد فأمر بمنحها، فإن لم يزرعها أحد فأمر بالإنفاق عليها من بيت المال (6). وقد اهتم عمر بالمزارعين ورفع الضرر عنهم ويروى في ذلك أن جيشاً من أهل الشام مر بزرع رجل فأفسده، فأخبر الرجل عمر بذلك، فعوضه عشرة آلاف درهم (7)، وكان يقدم القروض للمزارعين، فقد جاء في رسالته لواليه على العراق: أن انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين (8).
_________
(1) السياسة الاقتصادية المالية لعمر صـ52.
(2) المصدر نفسه صـ53، العامر: الأرض المزروعة.
(3) الأموال لأبي عبيدة رقم 120 صـ57.
(4) الأموال رقم 717 صـ369، البنيان هو البناء والحرث هو الزرع.
(5) الصوافي: ما يستخلصه السلطان لخاصته: وقيل: الأملاك والأرضي التي جلا عنها أهلها وماتوا ولا وارث لها واحدها صافية.
(6) الخراج صـ99، يحيي بن آدم، السياسة المالية والاقتصادية صـ54.
(7) سيرة ومناقب عمر صـ117 لابن الجوزي.
(8) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ202.(1/273)
د ـ عمر والحمى: منع عمر الحمى الخاص وأباح هذه الأراضي للمسلمين جميعاً، لا تختص بها طائفة على أخرى وفي ذلك يقول: ونرى أن الحمى يباح للمسلمين عامة، وكانت تحمى وتجعل فيها نعم الصدقات، فيكون في ذلك قوة ونفع لأهل فرائض الصدقات، وأدخل فيها وطعن فيها طاعن من الناس، فنرى في ترك حماها والتنزه عنها خيراً، إذا كان ذلك من أمرها، وإنما الإمام فيها كرجل من المسلمين، وإنما هو الغيث ينزله الله لعباده فهم فيه سواء (1)، وعندما أباح الإحماء كلها استثنى النقيع (2) الذي حماه الرسول عليه الصلاة والسلام لإبل الصدقة (3). فبالحمى تصبح الأرض لجماعة المسلمين، ونفعها مصروف لهم، فالحمى نقل الأرض من الإباحة إلى الملكية العامة، لتبقى موقوفة على جماعة المسلمين (4).
هـ ـ توفير مشاريع البنية التحتية:
سعى عمر بن عبد العزيز لتوفير هذه المشاريع منذ كان أميراً على المدينة حتى أصبح خليفة للمسلمين، فاهتم بالمشاريع التي تخدم التجار والمزارعين والمسافرين وعندما كان والياً على المدينة كتب إليه الوليد بن عبد الملك كتاباً في تسهيل الثنايا وحفر الآبار في المدينة فحفر منها بئر الحفير وكانت طيبة الماء (5). كذلك عمل عمر بأمر الوليد فوّارة ماء، وأجرى ماءها ووسع المسجد النبوي ورفع منارته وجوّف محاربيه، وأنشأ الخانات والفنادق ودار الضيافة للحجاج والمسافرين (6). كما استمر حفر خليج أمير المؤمنين بين النيل والبحر الأحمر لتسهيل نقل الطعام من مصر إلى مكة حتى أيام عمر بن عبد العزيز (7). وكتب إليه عامله على البصرة يعرض طلب أهلها بحفر نهر لهم، فأذن له عمر وحفر النهر، وسمي نهر عدي (8).
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ98.
(2) النقيع: موضع لبلاد مزينة على ليلتين من المدينة وهو نقيع الخضمات الذي حماه عمر بن الخطاب لنعم الفيء وخيل المجاهدين. انظر: السياسة الاقتصادية والمالية صـ54.
(3) فتح الباري (5/ 34).
(4) الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي صـ242.
(5) الحياة الاقتصادية والاجتماعية في نجد والحجاز في العصر الأموي صـ56.
(6) خامس الخلفاء الراشدين للبدري صـ170.
(7) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز صـ55.
(8) المصدر نفسه صـ57.(1/274)
ثالثاً: سياسة عمر بن عبد العزيز المالية في الإيرادات:
إن السياسة المالية بإراداتها ونفقاتها تعتبر أداة هامة لتحقيق الأهداف الاقتصادية (1)، لذلك بدأ عمر سياسته المالية بزيادة الإنفاق على عامة الشعب، فأنفق في رد المظالم حتى أنفذ بيت مال العراق، وجلب إليه من الشام (2)، وأنفق على المشاريع الزراعية، ومشاريع البنى الأساسية، كما أنفق على الرعاية الاجتماعية لجميع طبقات الشعب وفي جانب الإيرادات، سعى إلى إلغاء الضرائب الظالمة، فرفع الجزية عمن أسلم، وألغى الضرائب الإضافية التي كانت تؤخذ من المزارعين، وألغى المكوس والقيود، كما حافظ على حقوق بيت المال المسلوبة، فأعاد إليه القطائع، والمظالم، وأوقف إمتيازات الأمراء والموظفين، وبالغ في الاقتصاد في الإنفاق الإداري والحربي (3)، كل ذلك أدى إلى إطلاق الطاقات، فنمت الزراعة والتجارة، وجنى ذلك بزيادة ونمو الإيرادات، فزادت إيرادات الزكاة والخراج والعشور وفاضت ميزانية الدولة، فوجّه عمر الفائض لزيادة الإنفاق العام لتحقيق الأهداف الإقتصادية ونلاحظ في التاريخ كلما استقام أمر الدولة وسارت على نهج الشريعة الإسلامية الغرّاء فاض ميزانها المالي، ولم يشعر أفرادها بعسف ولا إرهاق، ولم تهمل مصلحة من مصالحها، وكلما أعوج أمر الدولة، وحادت عن سبيل الشريعة، اختل التوازن المالي، فميزانية الدولة مرآة عدلها وجورها ونظامها وفوضاها (4).
هذا وقد تكونت إيرادات بيت المال زمن عمر بن عبد العزيز من الزكاة والجزية والخراج والعشور والخمس والفيء.
1 ـ الزكاة:
اهتم عمر بالزكاة وحرص عليها لأنها حق فرضه الله للفقراء والمساكين والمنقطعين، والمستعبدين، ولا يجوز التهاون فيه، واهتمّ بتوزيعها على مستحقيها (5)، فأمر ولاته بالبحث عنهم وإعطائهم حقهم وفي حالة عدم وجود فقراء أو مساكين أو محتاجين وأمر عمر بشراء رقاب المستعبدين وإعتقاهم من مال
_________
(1) المصدر نفسه صـ57.
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ129.
(3) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر صـ58.
(4) المصدر نفسه صـ58.
(5) المصدر نفسه صـ60.(1/275)
الزكاة (1). وعزم عمر على إتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة وكان الولاة قبله قد تهاونوا فيها، فأخذوها من غير حقها، وصرفوها في غير مصارفها (2)، ومن مظاهر إتباعه للسنة فيها طلبه لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات، ولكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ وأمره بأن تنسخ هذه الكتب فنسخت له وكانت تشتمل على صدقة الإبل والبقر والغنم، والذهب، والورق، والتمر، والحب، والزبيب وبيّنت الأنصبة لكل هذه الأصناف (3) واتبع عمر السنة في مصارف الزكاة، فاستشهد بقوله تعالى: ((إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)) (التوبة، الآية: 60) ثم أمر أن توضع الصدقات كما أمر الله تعالى في كتابه (4)، كما اتّبع عمر السنة في جباية الزكاة فعين عمالاً ثقاة مؤتمنين وأمرهم بجبابتها دون ظلم أو تعدِّ وأمرهم بكتابة براءة إلى الحول لدافعها (5). وأمر عمر بأخذ الزكاة من جميع الأموال التي تجب فيها، فأخذت من عطاء العمال ومن المظالم إذا رُدّت لأصحابها، ومن الأعطية إذا أخرجت لأهلها (6). وأكد عمر على أحقية كل قوم بزكاتهم إذا لم يستغنوا (7)
وعندما أحضر العمال الزكاة إلى عمر أمرهم بردّها وتوزيعها في البلاد التي جمعت منها (8). وكانت لهذه الإصلاحات الاقتصادية في جباية الزكاة أثر على زيادتها ولقد ساهمت سياسته الاقتصادية إلى زيادة تحصيل الزكاة، فتوفيره لأجواء الأمن والطمأنينة، واهتمامه بإقامة المشاريع، الأساسية للزراعة والتجارة وأتّباعه لسياسة الحرية الاقتصادية المقيدّة، وإلغاؤه للضرائب الظالمة، أدّت جميعاً إلى ازدهار التجارة والزراعة وإلى زيادة حصيلة الزكاة (9)، ولقد كان عمر من الموسعين لإيتاء الزكاة برز هذا من خلال فقهه في زكاة الثروة الزراعية، وزكاة الإبل العامة، وزكاة السمك، وزكاة العسل، وهذا الفقه من شأنه أن يزيد الأموال الخاضعة
_________
(1) المصدر نفسه صـ60.
(2) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ129.
(3) الأموال لأبي عبيد صـ447 رقم 934، السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ61.
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ94.
(5) المصدر نفسه صـ99.
(6) الأموال لأبي عبيد رقم 1226 صـ529.
(7) فتح الباري (3/ 322)، السياسة المالية والاقتصادية صـ61 ..
(8) الأموال رقم 1917 صـ712.
(9) ملامح الانقلاب صـ135.(1/276)
للزكاة، مما يؤثر على زيادة جبايتها وأما زيادة الدعوة زمن عمر، ودخول أهل الذمة في الإسلام أفواجاً فالراجح أنه رفع من حصيلة الزكاة، لأن هؤلاء المسلمين الجدد فيهم الأغنياء وفيهم الفقراء، وسيدفع الأغنياء حقاً مفروضاً عليهم وهو الزكاة وأما سيرة عمر وتقواه فقد أثرت على دفع الزكاة للدولة مباشرة لزيادة الثقة بين الحاكم والمحكوم وهذا واضح من تدافع الناس لأداء الزكاة عندما سمعوا بخلافة عمر، وهذا يؤدي إلى زيادة حصيلة أموال الزكاة وزيادة آثارها الاقتصادية عند إنفاقها في مصارفها (1). وتؤكد الروايات التاريخية أن الزكاة كانت فائضة عن حاجات الناس في ذلك الزمن، فكان الرجل يأتي بزكاته، فلا يجد من يأخذها (2)، ومن أسباب هذا الفائض اندفاع أفراد المجتمع للعمل والإنتاج، فكثر عدد المؤدِّين للزكاة، وانخفاض عدد القابضين لها (3).
2 ـ الجزية:
والجزية في الاصطلاح: هي الوظيفة (الضريبة) المأخوذ من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع (4)، وقد قام عمر بن عبد العزيز بإتباع السنة في إيراد الجزية، فقد أسقطها عمّن أسلم، لأن الجزية فرضت على الكافرين وتسقط بالإسلام (5)، ومع ذلك فقد استمر بعض خلفاء بني أمية في أخذ الجزية ممن أسلم، فأخذها الحجّاج لظنِّه أنهم دخلوا الإسلام هربا من الجزية، ولقد أدى ذلك إلى زيادة النقمة على الحجّاج وعلى الأمويين (6)، وعندما تولى عمر الخلافة سارع إلى إلغاء الجزية عن المسلمين (7)، وتشدّد في ذلك، وكتب إلى العمال كتاباً جاء فيه ((من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا واختتن فلا تأخذوا منه الجزية (8). ولما سمع أهل الذمة عن عدالة عمر وسيرته سارعوا للدخول في الإسلام، فشكا عامله ذلك، لأنه أدى إلى نقصان الجزية، فأجابه عمر: أما بعد، فإن الله قد بعث محمداً داعياً ولم يبعثه جابياً (9). ولأن عمر اعتمد في سياسته
_________
(1) ملامح الانقلاب صـ135.
(2) سير أعلام النبلاء (5/ 131)، السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ69.
(3) السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ69.
(4) المغنى لابن قدامة (10/ 557).
(5) السياسة المالية والاقتصادية صـ70.
(6) الضرائب في السواد صـ58.
(7) الطبقات (5/ 345) الخراج للريس صـ230.
(8) الأموال رقم 127، صـ61.
(9) الطبقات (5/ 384).(1/277)
على ترسيخ قيم الحق والعدل، ورفع الظلم عن أهل الذمة ورفق بمزارعيهم وفرض الجزية عليهم حسب المقدرة المالية للفرد، فجعلها على ثلاث طبقات للغني وللمتوسط وللفقير، وجعل صاحب الأرض يعطي جزيته من أرضه والصانع يخرجها من كسبه والتاجر من تجارته (1)، وفرض الجزية حسب طاقة البلاد المالية، فجعلها على أهل الشام أكثر منها على أهل اليمن بسبب غناهم ويسارهم (2)، ورفع الجزية عن الفقراء الذين لا يستطيعون دفعها، وأجرى عليهم رزقاً من بيت المال، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3)،
وخفَّضَ عمر الجزية عن أهل نجران حيث أمر بإحصائهم، فتبين له أن عددهم نقص إلى العشر، وجزيتهم بقيت كما هي، فأخذ منهم مئتي حلة بدلاً من ألفين، وأسقط جزية من مات أو أسلم (4)، وقد كانت للإصلاحات في جباية الجزية آثار مالية لصالح بيت المال، فإسقاط الجزية عمن أسلم أدّى إلى زيادة الثقة بين الحاكم والمحكوم والشعور بالعدل والإنصاف، وبالتالي أدّى إلى إيقاف القلاقل والفتن التي كلفت الدولة نفقات طائلة، كما إن إسلام كثير من أهل الذمة جعلهم يدفعون الزكاة بدل الجزية والزكاة مقدارها أكبر هذا مع استمرار دفع الخراج على الأرض، أما انتشار أجواء الأمن والعدل فقد زاد الإنتاج حيث اندفع الناس للإنتاج والتنمية (5).
3 ـ الخراج:
هو ما تأخذه الدولة من ضرائب على الأرض المفتوحة عنوة أو الأرض التي صالح أهلها عليها (6). لقد ارتفع إيراد الخراج في زمن عمر بن عبد العزيز وبلغ مائة وأربعة وعشرين مليون درهم (7). وكانت هذه الزيادة في إيراد الخراج نتيجة لسياسته الإصلاحية فقد منع بيع الأرض الخراجية فحافظ على المصدر الرئيسي للإنتاج، كما اعتنى بالمزارعين، ورفع عنهم الضرائب والمظالم التي كانت تعوق إنتاجهم واتبع سياسة الإصلاح والإعمار وإحياء الأرض الموات، كما اهتم ببناء
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ99.
(2) الأموال لأبي عبيد رقم 107، صـ51.
(3) السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ71 ..
(4) الخراج صـ232 للريس.
(5) الخراج صـ259 للريس، السياسة المالية والاقتصادية صـ72.
(6) معجم لغة الفقهاء صـ194.
(7) الخراج للريس صـ238.(1/278)
مشاريع البنية الأساسية للقطاع الزراعي فبنى الطرق والقنوات (1)، فمشاريع الطرق سهلت على المزارعين تسويق إنتاجهم، ومشاريع القنوات والآبار سهلت عليهم سقي محاصيلهم بكلفة أقل، كل هذه الإصلاحات الخراجية أثمرت في النهاية وأدت إلى ارتفاع الخراج زمن عمر، فقد بلغ خراج العراق في عهده مائة وأربعة وعشرين مليون درهم، وهذا المقدار أكبر مما جبى في العهود السابقة، فقد بلغ خراج العراق زمن الحجاج أربعين مليون درهم، وفي عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مائة مليون درهم (2). أما خراج خراسان زمن عمر بن عبد العزيز فقد كان فائضاً عن حاجات الدولة وبلغ الخراج زمن عمر أقصى قدر ممكن أن يبلغه في الأحوال العادية (3). وهذا الارتفاع في مقدار الخراج يشير إلى قوة الدولة المالية، لأن خراج العراق كان يشكل أكبر نصيب من إيراداتها (4)،
مما ساعد على تحقيق الأهداف الاقتصادية من دعم مشاريع البنية التحتية والمشاريع الإنتاجية والإنفاق على الطبقات الفقيرة والعاجزة، ذلك لأن إيراد الخراج يتسم بالمرونة من حيث مصارفه بعكس الزكاة فهي محددة المصارف (5).
4 ـ العشور:
في الإصطلاح: ما يؤخذ على تجار أهل الحرب وأهل الذمة عندما يجتازون بها حدود الدولة الإسلامية (6)، فتؤخذ العشور من تجارة الحربي العُشر ومن تجارة الذمي نصف العشر، ولا تؤخذ في السنة لنفس المال إلا مرة واحدة ونصابها عشرون ديناراً للذمي، وعشره للحربي (7)، وقد اهتم عمر بن عبد العزيز بإيراد العشور فوضح مبادئها للعمال، وأمر بكتابة كتاب لدافعها لإعفائه منها للحول القادم، كما منع قبض العشور، والتي كانت تفرض على الناس بغير حق (8)، وقد نشطت التجارة في عهده وتوافرت موارد جديدة للدولة واستطاع أن يوظفها للإنفاق العام وكانت الإجراءات التي اتخذها عمر لتنشيط الحركة التجارية كالآتي:
_________
(1) السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ74.
(2) الخراج للريس صـ237، 238، السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ75.
(3) الخراج صـ237، 238 للريس.
(4) السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ76 ..
(5) المصدر نفسه صـ76.
(6) معجم الفقهاء صـ312.
(7) المغني (10/ 589)، السياسة المالية والاقتصادية صـ76.
(8) السياسة المالية والاقتصادية صـ77.(1/279)
أـ إلغاء الضرائب الإضافية التي كانت مفروضة على القطاع الزراعي (1) وقد انعكس هذا إيجاباً على القطاع التجاري في صورة انخفاض ملحوظ في أسعار السلع الزراعية، فزاد في الطلب عليها، وأحدث رواجاً في تجارتها، وفي ظل اقتصاد قوامه الزراعة فإن زيادة عرض السلع الزراعية وانخفاض أثمانها على النحو الذي واكب السياسة الرشيدة لعمر بن عبد العزيز أحدث رواجاً لا في التجارة فحسب، ولكن في بقية قطاعات الاقتصاد الإسلامي (2).
ب ـ إلغاء الضرائب على القطاع التجاري، والاقتصار على العشور (3)، وكان لهذا تأثير ايجابي على قطاع التجارة، وقد أدى إلى تشجيع مزاولة التجارة، وزاد من أرباح التجارة فزاد معها حجم المبادلات التجارية (4).
ج ـ إلغاء أسلوب العنف في تحصيل مستحقات الدولة المالية (5) على التجار وغيرهم، وهذا أيضاً من عوامل تشجيع التجارة وتنميتها.
ح ـ عمل استراحات (6) على طريق التجارات مع بلاد الشرق، ومطالبة الولاة على البلاد التي توجد بها هذه الاستراحات بأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين المسافرين (7) يوماً وليلة، وأن يتعاهدوا دوابهم على حساب الدولة ومضاعفة هذه المدة لمن يشكو منهم علة، وبالنسبة لمن مر بهذه الاستراحات وكان منقطعاً أو سرقت تجارته أو تلفت لأي سبب، فكان يعطي من المال ما يكفيه للوصول إلى بلده، ولا يخفى ما كان بهذه التسهيلات والضمانات من عوامل تشجيع للتجار وللتبادل التجاري (8).
د ـ منع العطاء عن التجار، حتى تكون التجارة مصدر رزقهم الوحيد فيهتموا بها أكثر وينشطوا فيها، لاسيما وأن التجارة كانت في ذلك الوقت متعبة من حيث السفر، والترحال، لعدم توفر وسائل المواصلات المريحة التي نشاهدها اليوم.
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ141.
(2) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ218.
(3) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ218.
(4) المصدر نفسه صـ218.
(5) المصدر نفسه صـ218.
(6) سير عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ439.
(7) كان معظم السفر لناحية المشرق لقصد التجارة.
(8) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ219.(1/280)
ذ ـ قضاء ديون كل من أدان في غير سفه ولا سرف (1)، ويدخل ضمنهم التجار إن لم يكونوا جلهم، وقد أدى هذا القرار إلى إقالة عثرات التجار الذين أفلسوا ومكنهم من العودة إلى مزاولة التجارة، وخاصة تلك الفئة من التجار الذين بدأوا تجارتهم عن طريق اقتراض رأس المال المطلوب.
ر ـ الحرص على ضبط ومعايرة وتوحيد المكاييل والموازين في كافة أنحاء الدولة، وجعل ذلك من مواد القانون الأساسي للدولة.
ز ـ منع الولاة والأمراء من الاشتغال بالتجارة، حتى لا يكون في دخولهم السوق أفساد للمنافسة الشريفة بين التجار، أو تأثير على الأسعار لصالحهم، وهي محاولة من عمر بن عبد العزيز بالبعد بالأسواق عن أي مؤثرات غير طبيعية تؤثر في تلقائية تحديد السعر (2).
ط ـ منع الاحتكار ومن ذلك أعادته دكاكين بحمص كانت في يد مجموعة من أهل السوق، وكان ابن الوليد بن عبد الملك قد استولى عليها، وحولها إلى ملكية خاصة له، فنزعها وأعادها إلى أصحابها (3)، وبهذا يعد بهذا الموقف الاحتكاري وجود (4) هذه الإجراءات الإصلاحية ساهمت في ازدهار الحركة التجارية في عهد عمر بن عبد العزيز وبذلك زادت حصيلة إيرادات العشور وتوافرت موارد جديدة للدولة استطاع عمر أن ينفقها على الصالح العام.
5 ـ خمس الغنائم والفيء:
فالغنيمة في الإصطلاح: ما استولى عليه من أموال الكفار المحاربين عنوة وقهراً حين القتال (5)، والفيء في الإصطلاح: كل مال وصل من المشركين من غير قتال ولا بإيجاف خيل ولا ركاب (6)، فعندما تولى عمر الخلافة توجه لإصلاح الأوضاع الداخلية للدولة لذلك لم تكثر الفتوحات في ومنه حيث استعاض عنها بالدعوة والقدوة الحسنة، فقد بعث بكتب للملوك والشعوب فدخل البربر في الإسلام
_________
(1) الأموال لأبي عبيد صـ234، 235.
(2) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ219.
(3) المصدر نفسه صـ220.
(4) المصدر نفسه صـ220.
(5) الأموال لأبي عبيد صـ323 رقم 626.
(6) الأحكام السلطانية للمارودي صـ199.(1/281)
بدون قتال (1)، ولهذا لم تتحقق موارد كثيرة من خمس الغنائم زمن عمر، وما كان موجوداً في بيت المال منه كان مصدره الفتوحات السابقة (2). ومع ذلك فقد سعى لإصلاح موازنة خمس الغنائم، فقد جعل للخمس بيت مال مستقل عن الأموال الأخرى (3)، وأمر بوضعه في مواضعه المذكورة في سورة الأنفال، وآثر به أهل الحاجة منهم حيث كانوا (4). وقد أمر بعشرة آلاف دينار من سهم ذوي القربى فقسمها في بني هاشم وساوى بين الذكر والأنثى، والصغير والكبير، فكتبت إليه فاطمة بنت الحسين تشكر له ما صنع وتقول: يا أمير المؤمنين قد أخدمت من كان لا خادم له واكتسى منهم من كان عارياً، واستنفق من كان لا يجد ما يستنفق (5)، ولقد تمسك عمر في حق الخمس، فلما فتحت الأندلس قبل خلافة عمر لم يخمسوها، فأمر عامله عليها أن يبين العنوة من أرضها ويأخذ منها الخمس (6).
وأما في تصرفه في الفيء، فقد كان متبعاً للقرآن والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين، فقد كتب كتاباً ذكر فيه عن الأموال والقرى التي أفاء الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب واستدل بآيات سورة الحشر التي نزلت في ذلك، وبين أن ما من أحد من المسلمين إلا له حق في الفيء، فقد ذكرت الآيات المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم من المسلمين بعد الهجرة الأولى حتى تنقضي الدنيا (7). وهو بذلك كان موافقاً لاجتهاد عمر بن الخطاب في جعل الفيء موقوفاً على أجيال المسلمين (8). ونظر عمر في مصارف الخمس فوجدها موافقة لمصارف الفيء، فرأى أن يضمه إليه كما فعل عمر بن الخطاب (9)، ويصرف منها على جميع مصالح المسلمين، وكتب في ذلك كتاباً: .. وأما الخمس فإن من مضى من الأئمة اختلفوا في موضعه .. ووضع مواضع شتى فنظرنا فإذا هو على سهام الفيء في كتاب الله لم تخالف واحدة من الاثنتين الأخرى، فإذا عمر بن الخطاب رحمه الله قد
_________
(1) السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ81.
(2) المصدر نفسه صـ81.
(3) المصدر نفسه صـ81.
(4) الطبقات (5/ 350)، سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ72، السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ82.
(5) الطبقات (5/ 390)، السياسة المالية والاقتصادية صـ82.
(6) تاريخ الإسلام، حسن إبراهيم (1/ 320).
(7) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ97.
(8) الخراج، أبو يوسف صـ25، السياسة المالية والاقتصادية صـ82.
(9) السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ83.(1/282)
قضى في الفيء قضاءً قد رضي به المسلمون، فرض للناس أعطية وأرزاقاً جارية لهم، ورأى أن لن يبلغ بتلك الأبواب ما جمع من ذلك، ورأى أن فيه لليتيم والمسكين، وابن السبيل، فرأى أن يُلحق الخمس بالفيء وأن يوضع مواضعه التي سم الله وفرض ... فاقتدوا بإمام عادل فإن الآيتين متفقتان آية الفيء وآية الخمس ... فنرى أن يُجمعا جميعاً فيُجعلا فيئاً للمسلمين ولا يستأثر عليهم (1).
لقد ساعدت إصلاحات عمر في إيرادات الخمس والفيء على تحقيق أهداف سياسته الاقتصادية، فتوزيعه للخمس على الأسهم المذكورة في القرآن مع إيثاره لذوي الحاجة أينما وجدوا ساعد على تحقيق إعادة توزيع الدخل والثروة، وشعر الناس بالعدل وزوال الظلم، بسبب هذه السياسة الرشيدة السديدة.
رابعاً: سياسة الإنفاق العام لعمر بن عبد العزيز:
1 ـ إنفاق عمر على الرعاية الاجتماعية:
لتحقيق هدف إعادة توزيع الدخل والثروة سعى عمر إلى زيادة الإنفاق على الفقراء والمحتاجين، وتأمين الرعاية الصحية والاجتماعية لهم وهذه مطالب شرعية جاءت في القرآن الكريم والسنة النبوية ولقد اهتم منذ الأيام الأولى لخلافته بإتباع الشرع والتزام الحق والعدل، فأرسل إلى العلماء يستفسر وقد كتب ابن شهاب الزهري لعمر كتاباً عن مواضع السنة في الزكاة ليعمل خلافته فذكر فيها: إن فيها نصيباً للزمنى والمقعدين (أصحاب العجز الأصلى) ونصيباً لكل مسكين به عامة لا يستطيع عَيْلة وتقليباً في الأرض (أصحاب العجز الطارئ كالعامل الذي يصاب في عمله والمجاهد الذي يصاب في الحرب). ونصيباً للمساكين الذين يسألون ويستطعمون الغنى حتى يأخذوا كفايتهم ولا يحتاجون بعدها إلى سؤال) .. ونصيباً لمن في السجون من أهل الإسلام ممن ليس له أحد ... ونصيباً لمن يحضر المساجد الذين لا عطاء لهم ولا سهم ((أي ليست لهم رواتب ومعاشات منتظمة)) ولا يسألون الناس ... ونصيباً لمن أصابه فقر وعليه دين ولم يكن شيء منه في معصية الله، ولا يُتهم في دينه .. ونصيباً لكل مسافر ليس له مأوى، ولا أهل يأوي إليهم، فيؤوى ويُطعم وتُعلف دابته حتى يجد منزلاً أو تقضى حاجته (2).
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ97، الأموال رقم 838.
(2) السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ83.(1/283)
أـ الإنفاق على الفقراء والمساكين: فقد كان يفكر في الفقراء والمساكين، ويسعى إلى اغنائهم، فقد مرت معنا قصته مع زوجته فاطمة وسألته عن سر بكائه فقال لها: تقلّدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم ـ فخشيت ألا تثبت حجتي عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت (1). هذه الحادثة تلخص سياسة عمر في الإنفاق على الفئات المحتاجة، والحادثة مليئة بالمعاني وتحتاج إلى وقفات فقد شعر عمر بعظم المسئولية الملقاة على عاتقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته (2). وقد عمل عمر على سد احتياجات الناس، جاء رجل لعمر فقام بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين اشتدت بي الحاجة وانتهت بي الفاقة، والله سائلك عن مقامي غداً بين يديه، وكان عمر قد اتكأ على قضيب، فبكى حتى جرت دموعه على القضيب، ثم فرض له ولعياله، ودفع له خمسمائة دينار حتى يخرج عطاؤه (3)، وكان رحمه الله يهتم بشأن الأرامل وبناتهن كما حدث مع المرأة العراقية التي مرّ ذكرها وقد قال صلى الله عليه وسلم: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالذي يصوم النهار ويقم الليل (4). وقد خصصّ عمر داراً لإطعام الفقراء والمساكين وأبناء السبيل (5)،
ولم يكتف عمر بالاعتناء بالفقراء فحسب، بل امتدت رعايته إلى المرضى وذوي العاهات والأيتام، فقد كتب كتاباً إلى أمصار الشام: ادفعوا إليّ كل أعمى في الديوان أو مقعد، أو من به فالج، أو من به زمانة، تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة، فرفعوا إليه، فأمر لكل أعمى بقائد، وأمر لكل اثنين من الزمنى بخادم .. ثم كتب ارفعوا إليّ كل يتيم، ومن لا أحد له ... فأمر لكل خمسة بخادم يتوزعون بينهم بالسوية (6).
ب ـ الإنفاق على الغارمين: من الفئات التي اهتم بها عمر الغارمون، فقد كتب ابن شهاب الزهري لعمر عن سهم الغارمين: لمن يصاب في سبيل الله في ماله ..
_________
(1) سير أعلام النبلاء (5/ 132)، سيرة ومناقب عمر لابن عبد الحكم صـ248.
(2) البخاري رقم 893.
(3) حيلة الأولياء (5/ 289).
(4) البخاري رقم 6006.
(5) الطبقات (5/ 378) ..
(6) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ202.(1/284)
ولمن أصابه فقر، وعليه دين لم يكن شيء منه في معصية الله، ولا يُتهم في دينه (1). ولذلك أمر عمر بقضاء الدين عن الغارمين، فكتبوا إليه، إنا نجد الرجل له المسكن، والخادم، وله الفرس والأثاث في بيته، فكتب عمر: لابد للرجل من المسلمين من سكن يأوي إليه رأسه، وخادم يكفيه مهنته وفرس يجاهد عليه عدوّه، وأثاث في بيته، فهو غارم فاقضوا عنه (2). وكتب إلى والي الكوفة وقد اجتمعت عنده أموال فسأل عمر عنها فأجاب: كتبت تذكر أنه قد اجتمعت عندك أموال بعد أعطية الجند، فأعط منهم من كان عليه دين في غير فساد، أو تزوّج فلم يقدر على نقد والسلام (3) وكتب كتاباً قُرء في مسجد الكوفة: من كانت عليه أمانة لا يقدر على أدائها فأعطوه من مال الله، ومن تزوج إمرأة فلم يقدر أن يسوق إليها صداقها فأعطوه من مال الله (4).
ج ـ الإنفاق على الأسرى: قال تعالى: ((ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً *إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً * إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا)) (الإنسان، الآية: 8 ـ10). اهتم عمر بن عبد العزيز بالأسرى وبالإنفاق عليهم من بيت مال المسلمين، فقد كتب كتاباً إلى أسرى المسلمين في القسطنطينية (5) وقد تحدثت عن الكتاب في كلامي عن الحياة الاجتماعية واهتم بالسجناء في سجون المسلمين بسبب جرم أو قصاص، فقد أمر عمر برعايتهم والإنفاق عليهم وكتب عمر إلى العمال: لا تدعُنِّ في سجونكم أحداً من المسلمين في وثاق لا يستطيع أن يصلي قائماً، ولا يبيتنّ في قيد إلا رجل مطلوب بدم، وأجروا عليهم من الصدقة ما يصلحهم في طعامهم وإدامهم (6). وأمر لأهل السجون برزق وكسوة في الصيف والشتاء (7).
_________
(1) الأموال، أبو عبيدة رقم 1850، السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ92.
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ171، السياسة المالية والاقتصادية صـ92.
(3) المصدر نفسه لابن عبد الحكم صـ67.
(4) الطبقات (5/ 374).
(5) السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ93.
(6) الخراج، أبو يوسف صـ315.
(7) الطبقات (5/ 356).(1/285)
ح ـ الإنفاق على المسافرين وأبناء السبيل:
اهتم عمر بالمسافرين وأبناء السبيل، فأمر عماله ببناء بيوت الضيافة على الطرق لرعاية المسافرين والاهتمام بهم، وكتب إلى أحد عمّاله: اعمل خانات في بلادك، فمن مرّ بك من المسلمين فأقروهم يوماً وليلة وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علَّة فأقروه يومين وليلتين، فإن كان منقطعاً به فقوّوه بما يصل به إلى بلده (1)، وأمر عمر بالاهتمام بالحجّاج، والإنفاق عليهم ورعاية ضعيفهم وإغناء فقيرهم (2).
د ـ الإنفاق لفك الرقاب:
بعد أن أنفق عمر على الفقراء والمساكين، والعاجزين، والغارمين وأبناء السبيل وجه الأموال لفك رقاب المستعبدين، وقال عامل صدقات افريقية: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات افريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيراً .. فاشتريت بها رقاباً وولاؤهم للمسلمين (3)،
وقد مرّ معنا إنفاق عمر على العلماء لكي يتفرغوا لدعوة الناس وتعليمهم، واتسعت رعايته الاجتماعية لتشمل جميع فئات الأمة حتى الأطفال الصغار وحدّد لهم مبلغاً من المال ليستعين به ذووهم على تربيتهم، واهتم بمواطنيه من أهل الذمة، فكان ينفق على فقرائهم ومحتاجيهم من بيت المال (4)، كما أنه لا بد من الإشارة إلى أن سياسة عمر بن عبد العزيز الراشدة ساهمت في إغناء عدد كبير من المسلمين وزيادة ثرواتهم في المجال التجاري والزراعي وغيرها وساهمت في سريان روح التدين وحب الآخرة في نفوس الناس ورغبوا في الإكثار من فعل الخيرات ابتغاء مرضات الله تعالى والرغبة فيما عند الله، فكثر الإنفاق في سبيل الله لمساعدة الفقراء والمساكين والأرامل وبناء المرافق العامة وحفر الآبار، وتشييد المساجد وغير ذلك، وهذا يخفف الأعباء المالية على بيت مال المسلمين في العاصمة وأقاليمها الواسعة.
_________
(1) تاريخ الطبري نقلا عن السياسة المالية والاقتصادية صـ94.
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ65.
(3) السياسة المالية والاقتصادية صـ94.
(4) المصدر نفسه صـ95، 96.(1/286)
2 ـ ترشيد الإنفاق في مصالح الدولة:
كانت سياسة عمر بن عبد العزيز في ميدان الإنفاق تقوم على أساس مبدأ الرشد الاقتصادي أو ما يعبر عنه بمبدأ القوامة في الإنفاق ومقتضاه البعد عن الإسراف والتبذير والبعد عن الشح والتقتير (1). ومن الخطوات التي اتخذها في مجال ترشيد الإنفاق في مصالح الدولة:
أـ قطع الإمتيازات الخاصة بالخليفة وبأمراء الأمويين:
أعاد عمر القطائع والحقوق الخاصة إلى أصحابها والحقوق العامة إلى بيت المال، وبدأ بنفسه وبآل بيته ـ كما مرّ معنا ـ وكان عمر لا يأخذ من بيت المال شيئاً فقالوا له: لو أخذت ما كان يأخذ عمر بن الخطاب، قال: كان عمر لا مال له، وأنا مالي يغنيني (2). وعندما أُحضرت مراكب الخلافة لعمر بعد موت سليمان، طلب بغلته وأمر بوضع المراكب والفرش والزينة في بيت المال وكانت عادة الخلفاء قبله أن يأخذ ورثة الخليفة الميت ما استعمل من ثيابه وعطوره ويُردّ الباقي إلى الخليفة الجديد، فلما استخلف عمر قال: ما هذا لي ولا لسليمان، ولا لكم ولكن يا مزاحم ضُمّ هذا كله إلى بيت مال المسلمين (3)، وكان عمر لا يستعمل الأموال العامة لحاجته الخاصة مطلقاً. فمرة بعث أمير الأردن بسلتي رطب إلى عمر، وقد جيء على دواب البريد، فلما وصلت عمر أمر ببيعها وجعل ثمنها في علف دواب البريد (4)، ومرة طلب من عامله أن يشتري له عسلاً فحمل له على دواب البريد، فأمر ببيع العسل وجعل ثمنه في بيت المال، وقال له: أفسدت علينا عسلك (5).
ب ـ ترشيد الإنفاق الإداري:
سعى عمر على تعويد أعوانه وولاته على الاقتصاد في أموال المسلمين، فعندما طلب والي المدينة أن يصرف له شمع فأجابه عمر: لعمري لقد عهدتك يا ابن أم حزم وأنت تخرج من بيتك في الليلة الشاتية المظلمة بغير مصباح، ولعمري لأنت يومئذ خير منك اليوم، ولقد كان في فتائل
_________
(1) المصدر نفسه صـ96.
(2) العقد الفريد (5/ 22)، السياسة المالية والاقتصادية صـ97.
(3) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ35، السياسة المالية صـ97.
(4) السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ98.
(5) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ210.(1/287)
أهلك ما يغنيك والسلام (1). وكتب إليه أيضاً وقد طلب قراطيس للكتابة: ... إذا جاءك كتابي هذا فأدق القلم واجمع الخطّ، واجمع الحوائج الكثيرة في الصحيفة الواحدة، فإنه لا حاجة للمسلمين في فضل قول أضرّ بيت مالهم (2). يلاحظ حرص عمر على المال العام ويرشد ولاته للاستغلال الأمثل لموارد الدولة، فعمر يريد من العامل أن يستغل الأوراق في الرسائل إلى أقصى درجة.
ج ـ ترشيد الإنفاق الحربي:
خاضت الدولة الأموية حروباً خارجية وداخلية فكلّفت ميزانية الدولة الشيء الكثير منها حملة القسطنطينية زمن سليمان بن عبد الملك، حيث كلفت الكثير من الأموال والشهداء دون جدوى، فما كان من عمر بعد استخلافه إلا أن أرسل كتاباً يأمر فيه مسلمة بن عبد الملك قائداً الحملة بالعودة بعد أن أصاب الجيش ضيق شديد وقد أدّت سيرة عمر وسياسته إلى استقرار الأوضاع الداخلية وتوقفت الحروب والفتن، ولما بلغت سيرته الخوارج، اجتمعوا وقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل (3)، ولقد ساهم إيقاف الحروب والفتن في إيجاد مناخ عام من الراحة والطمأنينة والاستقرار ساهم في النمو الاقتصادي للدولة وتحسن أوضاع الطبقات الفقيرة والمحتاجة بفضل الله ثم سياسة عمر الرشيدة.
_________
(1) الوالي: هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ64.
(2) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ121.
(3) المصدر نفسه صـ86 السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ100.(1/288)
المبحث السابع: المؤسسة القضائية في عهد عمر بن عبد العزيز وبعض إجتهاداته الفقهية:
أولاً: في الأقضية والشهادات:
1 ـ في صفات القاضي:
كان عمر بن عبد العزيز يدقق في اختيار القضاة حتى لا يُبتلى الناس بقاض يتخبط فيهم بغير حق، ولهذا فقط اشترط عمر بن عبد العزيز في القاضي خمسة شروط ولا يجوز له أن يلي القضاء حتى تكتمل فيه هذه الشروط وهي: العلم، والحلم، والعفة، والاستشارة، والقوة في الحق (1). فعن مزاحم بن زفر قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز في وفد أهل الكوفة فسألنا عن بلدنا وأميرنا وقاضينا، ثم قال: خمس إن أخطأ القاضي منهن خصلة كانت فيه وصمة، أن يكون فهيماً، وأن يكون حليماً وأن يكون عفيفاً وأن يكون صليباً وأن يكون عالماً يسأل عما لا يعلم (2)، وفي رواية عن يحيى بن سعيد عن عمر بن عبد العزيز قال: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الرأي، لا يبالي ملامة الناس (3). وقد قال بهذا المعنى عمر بن الخطاب (4)، وعلي بن أبي طالب (5) رضي الله عنهما، وذهب الأئمة الأربعة إلى موافقة عمر بن عبد العزيز في كل أو جل هذه الصفات (6).
2 ـ في حكم القاضي في ما استبان له ويرفع ما التبس عليه:
قد يكون هناك بعض القضايا المتشابكة والتي أمرها يحيّر القاضي فهل يحكم القاضي فيها وإن لم يظهر
_________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 285) د. محمد شقير.
(2) الطبقات الكبرى (5/ 369).
(3) المصدر نفسه (5/ 369 ـ 370).
(4) المصنف لعبد الرزاق (8/ 299) شذرات الذهب (1/ 120).
(5) المغني (9/ 3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 485).
(6) حاشية ابن عابدين (4/ 305) روضة الطالبين (11/ 95 ـ97) جواهر الإكليل (2/ 221) المغني (9/ 39ـ 43، 50).(1/289)
له الحق أم يتركها لمن هو أعلم منه؟ لقد قرر عمر بن عبد العزيز قراراً هو درس في القضاء يجب أن يعمل به إلى يوم القيامة، ذلك أنه يرى أن القاضي إن تبين له الحق حكم به وإن لم يظهر له فلا يترك القضية وإنما يرفعها إلى من هو فوقه لينظرها (1)، عن ميمون بن مهران أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز يشكو شدة الحكم والجباية ـ وكان قاضي الجزيرة وعلى خراجها ـ قال: فكتب إليه عمر: إني لم أكلفك ما يُعنتك، أجب الطيب، واقضي بما استبان لك من الحق، فإذا التبس عليك أمر فارفعه إليّ، فلو أن الناس إذا ثقل عليهم أمر تركوه، ما قام دين ولا دنيا (2). وهذا الأثر يبين أن الله ـ سبحانه وتعالى لم يجعل الناس في العلم ولا في الفهم سواء بل هم درجات في ذلك والذي يولي القضاء عليه أن يحكم بين الناس الذين ولي أمرهم وذلك فيهم ظهر له من الحق، فإذا شق عليه أمر من هذه القضايا فعليه أن يستشير أهل العلم في بلاده، فإن لم يجد عندهم معرفة لهذا الأمر رفعه إلى من هو أعلم منه أو إلى الأمر ليحوِّل هذه القضية إلى غيره، أو ليحكم فيها إن كان من أهل العلم (3)،
وكان عمر بن عبد العزيز له مجالس علمية يستشير فيها العلماء والفقهاء وأصحاب الرأي في أمور الدين والدنيا، وكان يقتطع من أوقات راحته في الليل، الذي أدرك عمر كم هو حيوي للتوصل إلى الحقائق وقد أعرب عن إدراكه العميق لما يأتي عن التقاء الأفكار من نتائج فكرية إيجابية، عندما سأله رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين نهارك كله مشغول، وهذا جزء من الليل وأنت تسمر معنا؟ فقال عمر: يا رجاء، إن ملاقاة الرجال تلقيح لألبابها، وإن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة، لا يضل معهما رأى ويقعد معهما حزم (4). وجدت ملاقاة الرجال تلقيح لألبابها (5).
3 ـ في الرفق بالحمقى والنهي عن العقوبة في الغضب:
كتب عمر بن عبد العزيز: من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى أمراء الأجناد. أما بعد .. فإذا حضرك الخصم الجاهل الخرق ممن قدر الله أن يوليك أمره، وأن تبتلي به فرأيت منه
_________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 487).
(2) الخراج لأبي يوسف صـ240، 241.
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 488) ..
(4) ملامح الانقلاب الإسلامي صـ186 عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ124.
(5) ملامح الانقلاب الإسلامي صـ186.(1/290)
سوء رِعة، وسوء سيرة في الحق عليه، والحظ له، فسدده ما استطعت وبصره وأرفق به وعلمه، فإن اهتدى وأبصر وعلم كانت نعمة من الله وفضلاً، وإن هو لم يبصر ولم يعلم كانت حجة اتخذت بها عليه، فإن رأيت أنه أتى ذنباً استحل فيه عقوبة فلا تعاقبه بغضب من نفسك ولكن عاقبه وأنت تتحرى الحق على قدر ذنبه بالغاً ما بلغ وإن لم يبلغ ذلك إلا قدر جلدة واحدة تجلده إياها، وإن ذنبه فوق ذلك، ورأيت عليه من العقوبة قتلاً فما دونه فأرجعه إلى السجن، ولا يسرعن بك إلى عقوبته حضور من يحضرك (1)، وكان عمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه ثلاثة أيام، ثم عاقبه كراهة أن يعجل في أول غضبه (2).
إن العقوبة أثناء الغضب يحتمل أن يتجاوز القاضي فيها الحق تحت تأثير الغضب فيظلم المذنب، وخوفاً من التعدي في العقوبة فقد طلب عمر بن عبد العزيز من القاضي أن يحبس المذنب حتى يذهب غضب القاضي، ثم يحكم عليه وهو في هدوء على قدر ذنبه (3).
4 ـ خطأ الوالي في العفو خير من تعديه في العقوبة:
عن أبي عقبة أن عمر بن عبد العزيز قال: ادرؤوا الحدود ما استطعتم في كل شبهة، فإن الوالي إذا أخطأ في العفو خير من أن يتعدى في العقوبة (4).
5 ـ في ترك العمل بالظن: ولى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطي على جند قنسرين، والفرات بن مسلم على خراجها، فتباغيا .. ولم قدم قابل، وقدم الوليد ومع رؤوس أنباط قنسرين كتب عمر إلى الفرات أن أقدم فقدم، وإنه لقاعد خلف سرير عمر إذ دخل الأنباط فقال لهم عمر: ماذا أعددتم لأميركم في نُزله لمسيره إليّ. قالوا: وهل قدم يا أمير المؤمنين، قال: ما علمتم به. قالوا: لا والله يا أمير المؤمنين، فأقبل عمر بوجهه على الوليد، فقال: يا وليد: إن رجلاً ملك قنسرين وأرضها خرج يسير في سلطانه وأرضه حتى انتهى إليَّ لا يعلم به أحد، ولا ينفر أحداً ولا يروعه، لخليق أن يكون متواضعاً عفيفاً، قال الوليد: أجل والله
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ68، 69.
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي صـ236.
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 490).
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ123، فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 491).(1/291)
يا أمير المؤمنين، إنه لعفيف وإني له لظالم، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقال عمر: ما أحسن الاعتراف، وأبين فضله على الإصرار وردهما عمر على عملهما: فكتب إليه الوليد ـ وكان مرائياً ـ خديعة لعمر وتزينا بما هو ليس عليه: إني قدرت نفقتي لشهر فوجدتها كذا وكذا درهماً، ورزقي يزيد على ما أحتاج إليه، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحط فضل ذلك، فقال عمر: أراد الوليد أن يتزين عندنا بما لأظنه عليه، ولو كنت عازلاً أحداً على ظن لعزلته، ثم أمر بحط رزقه الذي سأله، ثم أمر بالكتاب إلى يزيد بن عبد الملك وهو ولي عهده: إن الوليد بن هشام كتب إلي كتاباً ظني أنه تزين بما ليس هو عليه ولو أمضيت شيئاً على ظني ما عمل لي أبداً، ولكني آخذ بالظاهر وعند الله علم الغيوب، فأنا أقسم عليك إن حدث بي حادث وأفضى هذا الأمر إليك فسألك أن ترد إليه رزقه وذكر أني نقضته فلا يظفر منك بهذا أبداً فإنما خادع بالله والله خادعه، فلما مات عمر واستخلف يزيد كتب الوليد: إن عمر نقصني وظلمني، فغضب يزيد وبعث إليه فعزله، وأغرمه كل رزق جرى عليه في ولاية عمر ويزيد كلها فلم يلِ له عملاً حتى هلك (1).
6 ـ في الهدية لولاة الأمر:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى اعتبار الهدية لولاة الأمر من خلفاء وولاة الأقاليم وقضاة وغيرهم رشوة وقد رفض الهدية مع شدة حاجته إليها وأمر الناس بعدم تقديم الهدايا لولاة الأمر كما أمر الولاة بأن لا يقبلوا شيئاً من الهدايا (2)، عن فرات بن مسلم قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فبعث فلم يجد شيئاً يشترون له به، فركب وركبنا معه فمر بدير فتلقاه غلمان للديرانيين معهم أطباق فيها تفاح، فوقف على طبق منها فتناول تفاحة فشمها ثم أعادها إلى الطبق، ثم قال: ادخلوا ديركم لا أعلمكم بعثتم إلى أحد من أصحابي بشيء قال: فحركت بغلتي فلحقته فقلت: يا أمير المؤمنين، اشتهيت التفاح فلم يجدوه لك فأُهدي لك فرددته قال: لا حاجة لي فيه، فقلت: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية. قال: إنها لأولئك هدية وهي للعمال بعدهم رشوة (3).
7 ـ في نقض الأحكام إذا خالفت النصوص الشرعية:
كتب عمر بن عبد العزيز برد أحكام من أحكام الحجاج مخالفة لأحكام الناس (4). وقد وافق عمر بن عبد العزيز في
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ129 ـ 131.
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 495).
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 377).
(4) حلية الأولياء (5/ 270).(1/292)
رد الأحكام إذا خالفت كتاب الله أو سنة نبيه أو الإجماع، الشورى وذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد أنه ينقضي الحكم إذا خالف الكتاب والسنة أو الإجماع (1).
8 ـ فيمن ضيع أمانته فعليه اليمين بعدم التفريط:
كتب وهب بن منبه إلى عمر بن عبد العزيز: إني فقدت من بيت مال اليمن دنانير. فكتب إليه عمر: أما بعد فإني لست أتهم دينك ولأمانتك ولكن أتهم تضييعك وتفريطك، وإنما أنا حجيج المسلمين في مالهم، وإنما لأشحهم يمينك (2) فاحلف لهم والسلام (3).
9 ـ في أثر البينة الغائبة على تأخير القضاء:
كان عند عمر بن عبد العزيز نفر من قريش يختصمون إليه فقضى بينهم فقال: المقضي عليه: أصلحك الله! إن لي بينة غائبة فقال عمر: إني لأؤخر القضاء بعد أن رأيت الحق لصاحبه، ولكن انطلق أنت فإن أتيتني بينة وحق هو أحق من حقهم فأنا أول من رد قضاءه على نفسه (4).
10 ـ نفقة البعير الضال:
عن الشعبي قال: أضل رجل بعيراً فوجده عند رجل قد أنفق عليه، أعلفه وأسمنه، فاختصما إلى عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ أمير على المدينة فقضى لصاحب البعير ببعيره وقضى عليه بالنفقة (5).
11 ـ في حرية اللقيط:
جاء كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أهل مكة أن اللقيط حر (6).
12 ـ شهادة الرجل لأخيه أو لأبيه:
إن عمر بن عبد العزيز كتب: أن أجز شهادة الرجل لأخيه إذا كان عدلاً (7).
ثانياً: في الدماء والقصاص:
1 ـ تخيير الأوفياء في قتل العهد بين العفو والدية والقتل:
كتب عمر بن عبد العزيز في امرأة قتلت رجلاً: إن أحب الأولياء أن يعفو عفواً، وإن أحبوا أن يقتلوا قتلوا، وإن أحبوا أن يأخذوا الدية أخذوها وأعطوا امرأته ميراثها من الدية (8).
_________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 499).
(2) أي، لابد من حلف اليمين بأنه لم يفرط فإن حلف فلا ضمان عليه لأنه مؤتمن.
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ104، 105.
(4) الطبقات الكبرى (5/ 386).
(5) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 312).
(6) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 531).
(7) المصدر نفسه (8/ 342 ـ 343).
(8) المحلى (10/ 361) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 11).(1/293)
2 ـ في التأني حتى يبلغ ولي المقتول:
كتب عمر بن عبد العزيز في رجل قُتل وله ولد صغير، فكتب أن يتأنى بالصغير حتى يبلغ (1).
3 ـ في عفو بعض الأولياء يسقط القود:
عن الزهري قال: وكتب به عمر بن عبد العزيز أيضاً: إذا عفا أحدهم فالدية (2).
4 ـ في القتل بعد أخذ الدية:
قال عمر بن عبد العزيز: والاعتداء الذي ذكر الله أن الرجل يأخذ العقل، أو يقتص، أو يقضي السلطان فيما بين الجارح والمجروح أو يعدو بعضهم بعد أن يستوعب حقه، فمن فعل ذلك فقد اعتدى والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة، ولو عفا عنه لم يكن لأحد من طلبة الحق أن يعفو عنه بعد اعتدائه إلا فإذن السلطان، وعلى تلك المنزلة كل شيء من هذا النحو فإنه بلغنا أن هذا الأمر الذي أنزل الله فيه: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) (النساء، آية 59) الآية، وما كان من جرح فوق الأدنى ودون الأقصى فهو يرى فيه بحساب الدية (3).
5 ـ في القتيل يوجد في السوق:
كتب عدي بن أرطأة قاضي البصرة إلى عمر بن عبد العزيز إني وجدت قتيلاً في سوق الجزارين قال: أما القتيل فديته من بيت المال (4).
6 ـ في القتل في الزحام:
إذا قتل الإنسان بسبب إزدحام الناس ولم يعلم من قتله فهل يذهب دمه هدراً؟ إن عمر بن عبد العزيز يرى أن مات بهذا السبب فديته في بيت المال (5). فعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب في رجلين ماتا في الزحام: أن يؤديا من بيت المال فإنما قتله يد أو رجل (6)
ثالثاً: في الديات:
1: مقدار الدية:
كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد أن الدية كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بعير (7).
_________
(1) مصنف عبد الرزاق (10/ 11).
(2) المصدر نفسه (9/ 318).
(3) المصدر نفسه (10/ 16، 17).
(4) المصدر نفسه (9/ 459).
(5) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 36).
(6) المحلى (10/ 418).
(7) مصنف ابن شيبة (9/ 128).(1/294)
2 ـ في دية اللسان:
عن سليمان بن موسى قال: في كتاب عمر بن عبد العزيز في الأجناد: ما قطع في اللسان فبلغ أن يمنع الكلام كله ففيه الدية كاملة وما نقص دون ذلك فبحسابه (1).
3 ـ في دية الصوت والحنجرة:
حيث إن الصوت مصدره الحنجرة وأن إتلافها قد يذهب بالصوت ومن ثم فلا كلام فقد رأى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن فيها الدية كاملة إذا انقطع الصوت من ضربة (2)، عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: في الحنجرة إذا كسرت فانقطع الصوت الدية كاملة (3).
4 ـ في دية الذكر:
وأما الذكر فلأهميته للرجل ولأنه إذا ذهب انقطعت شهوته وذهب نسله فقد رأى عمر بن عبد العزيز أنه إذا ذهب كله ففيه الدية كاملة، وما كان دون ذلك فيحاسبه، فعن عبد العزيز عن عمر بن عبد العزيز في الذكر الدية، فما كان دون ذلك فبحسابه (4).
5 ـ في دية إفضاء المرأة:
إذا أصاب الرجل المرأة فأفضاها فقد ينتج عن ذلك منع اللذة والجماع، وقد نتج عنه عدم حبس الحاجتين والولد، ونظراً لخطورة هذا الأمر فقد جعل فيه عمر بن عبد العزيز الدية كاملة وفي رواية عنه أنه جعل فيه ثلث الدية (5)، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن عمر بن عبد العزيز يجعل في إفضاء المرأة الدية كاملة إذا لم يحبس الحاجتين والولد، وثلث الدية إذا حبس الحاجتين والولد (6).
6 ـ في دية الأنف:
نظراً للمصالح المترتبة على وجود الأنف من التنفس عن طريقه ومعرفة الروائح والتمييز بينها، إضافة إلى جمال الوجه بوجود الأنف، والتشويه الحاصل بقطعه كما أن العرب ترى في جدع الأنف إهانة لا يعدلها إهانة، لذلك فقد جعل عمر بن عبد العزيز فيه الدية كاملة إذا جدع من أصله، وأن ما كان دون ذلك فبحسابه (7).
_________
(1) المصنف لعبد الرزاق (9/ 357) فقه عمر (2/ 66).
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 69).
(3) مصنف ابن أبي شيبة (9/ 170) فقه عمر (2/ 69).
(4) مصنف عبد الرزاق (9/ 372).
(5) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 71).
(6) مصنف عبد الرزاق (9/ 377).
(7) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 76).(1/295)
7 ـ في دية الأذن:
حيث إن الأذن تؤدي نصف منفعة السمع ولأنها مهما يكون في الإنسان منه اثنتان فإن عمر بن عبد العزيز يرى إذا استؤصلت أو ذهبت منفعتها ففيها نصف الدية حيث إن قوله في الأذن نصف الدية يتناول ذهاب سمعها ويتناول استئصالها (1).
8 ـ في دية الرجل:
لما كان الإنسان لا يستطيع المشي إلا بالرجلين وأنه بالرجل الواحدة يكون قعيداً ولأن الرجل مما يكون في الإنسان منه اثنتان، فقد جعل عمر بن عبد العزيز في الرجل نصف الدية (2).
9 ـ في دية ما بين الحاجبين:
هناك بعض الجزئيات في الديات لم يتعرض لها العلماء وقبل عمر بن عبد العزيز، وهاهو عمر بن عبد العزيز يرى فيها رأيه، من هذه الأمور دية الكسر إذا وقع بين الحاجبين وشان الوجه ولم ينقل منها العظام (3)، فقد قال: .. فإن كان بين الحاجبين كسر شان الوجه ولم ينقل منها العظام فربع الدية (4).
10 ـ في دية الجبهة إذا هشمت:
قال عمر بن عبد العزيز: في الجبهة إذا هشمت وفيها غوص من داخل مائة وخمسون ديناراً (5).
11 ـ في دية الذقن:
وأما الذقن إذا كسرت فإن عمر بن عبد العزيز يرى أن فيها ثلث الدية، فقد قال: في الذقن ثلث الدية (6). هكذا يقرر عمر بن عبد العزيز باجتهاده وبرأيه السديد أموراً لم يسبق إليها منها دية الذقن إذا كسرت فإنه جعل فيها ثلث الدية نظراً لأهميتها حيث يمتنع مع كسرها مضغ الطعام وفتح الفم. ويبدو أن هذا القول تفرد به (7).
12 ـ في دية الأصابع:
نظراً لأهمية الأصابع وخاصة أصابع اليد، فقد رأى عمر بن عبد العزيز أن في كل أصبع من أصابع اليد أو الرجل عشر الدية وفي كل
_________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 80).
(2) مصنف ابن أبي شيبة (9/ 209).
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 88).
(4) مصنف عبد الرزاق (9/ 320).
(5) المصدر نفسه (9/ 291).
(6) مصنف عبد الرزاق (9/ 361) مصنف ابن أبي شيبة (9/ 179).
(7) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 96).(1/296)
قصبة من قصب الأصابع ثلث دية الأصبع إلا الإبهام لأنه قصبتان ففي كل قصبة منه نصف دية الأصبع، فعن عمر بن عبد العزيز: في كل أصبع عشر من الإبل أو عدل ذلك من ذهب أو ورق (1).
13 ـ في دية الظفر:
حتى الظفر لم يغفل عنه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقد جعل فيه إذا اسود أو سقط عشر دية الأصبع عشرة دنانير، فعن عمر بن عبد العزيز أنه اجتمع له في الظفر إذا نزع فعرّ (2)، أو سقط أو اسود، العشر في دية الأصبع، عشرة دنانير (3).
رابعاً: في الحدود:
1 ـ أهمية إقامة الحدود:
حيث إن إقامة الحدود سبب في حفظ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم واستتباب الأمن في بلادهم، فقد أكد عمر بن عبد العزيز على إقامة الحدود حتى جعلها من حيث الأهمية كإقامة الصلاة والزكاة (4)، فقد كتب عمر بن عبد العزيز: إن إقامة الحدود عندي كإقامة الصلاة والزكاة (5).
2 ـ في منع الرجوع عن الحدود بعد بلوغها الإمام:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى مسائل الحدود إذا رفعت إلى الإمام أو القاضي فإنها تكون قد بلغت حداً لا يمكن الرجوع فيه بل يجب تنفيذ ما ثبت من الحدود (6).
3 ـ في اجتماع أكثر من حد على رجل واحد:
قد يأتي الرجل بعدة جرائم قبل أن يقام عليه الحد مثل أن يزني ويسرق ويقتل، فهل قتل كاف عن الحدود الأخرى فيأتي عليها؟ أم أنها تقام عليه الحدود ثم يقتل؟ إن الرواية عن عمر بن عبد العزيز تدل على أنه يقيم الحدود أولاً ثم يقتله (7).
4 ـ في عدم القطع أو الصلب إلا بعد مراجعة الخليفة:
رأى عمر بن عبد العزيز أن على الولاة مراجعة الخليفة في قضايا القتل والصلب، وأن يُقتل أحد ولا يُصلب إلا بعد موافقة الخليفة على ذلك (8).
_________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 100).
(2) المصدر نفسه (2/ 102).
(3) المصدر نفسه (2/ 103).
(4) المصدر نفسه (2/ 111).
(5) الطبقات الكبرى (5/ 378).
(6) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 113).
(7) المصدر نفسه (2/ 117).
(8) المصدر نفسه (2/ 120) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ114 ـ 115.(1/297)
5 ـ يشترط في المقذوف لحده أن يكون مسلماً:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أنه لا حد في قذف كافراً، وذلك لأن الكفر أكبر من الزنا المقذوف به، فلا حاجة إلى إثبات براءته من هذا الذنب ما دام فيه أكبر منه وهو الكفر (1)، فعن طارق بن عبد الرحمن ومطرف بن طريف قالا: كنا عند الشعبي فرفع إليه رجلان، مسلم ونصراني، قذف كل واحد منهما صاحبه فضرب النصراني للمسلم ثمانين، وقال للنصراني: لما فيك أعظم من قذف هذا فتركه، فرفع ذلك إلى عبد الحميد بن زيد، فكتب فيه إلى عمر بن عبد العزيز فذكر ما صنع الشعبي، فكتب عمر يحسِّن ما صنع الشعبي (2). هكذا يرى عمر بن عبد العزيز أنه لا حد على قذف الكافر إذ ليس بعد الكفر ذنب، ولأن الكافر فيه الكفر وهو أكبر مما قذف به، إذ لو وجد فيه الزنا فهو أقل من الكفر، إذن فلا حد على من قذف الكافر (3).
6 ـ عدم سقوط الحد بقذف الرجل ابنه:
إذ قذف الرجل ابنه، فهل يقام عليه الحد أم لا يقام؟ وهل من حق الأب على ابنه أن يقذف بما ليس فيه؟ وإذا كان عليه حد فهل يسقط عنه إذا عفا الابن؟ ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن من قذف ابنه يقام عليه الحد، إلا أنه إذا عفا الولد عن والده فلا يقام عليه حد (4)، فعن ابن جريح قال: أخبرني رزيق ـ صاحب أيلة ـ أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل افترى على ابنه، فكتب بحد الأب إلا أن يعفوا عنه أبنه (5).
7 ـ عقوبة قذف النصرانية تحت المسلم:
إذا كانت النصرانية تحت مسلم، ونظراً لأن قذفها يتعدى لزوجها المسلم أو ابنها المسلم فإن عمر بن عبد العزيز يجلد من قذفها دون الحد (6). فعن أبي إسحاق الشيباني عن عمر بن عبد العزيز في رجل قذف نصرانية لها ولد مسلم، فجلده عمر بضعة وثلاثين سوطا (7). وقد وافق عمر بن عبد العزيز في رأيه هذا الزهري، وقال قتادة: يجلد الحد (8). وقد اتفق أصحاب المذاهب الأربعة على أنه لا يحد، وأما المالكية فقالوا: ينكل من أجل أولادها المسلمين (9).
_________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 130).
(2) المصنف لعبد الرزاق (6/ 64 ـ 65) (7/ 130 ـ 131).
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 130).
(4) المصدر (2/ 133).
(5) مصنف ابن أبي شيبة (9/ 504).
(6) فقد عمر بن عبد العزيز (2/ 136).
(7) مصنق عبد الرزاق (7/ 130).
(8) المصدر نفسه (7/ 129ـ130).
(9) المغني (8/ 216)، فقه عمر (2/ 137).(1/298)
8 ـ قذف المرأة للرجل بنفسها:
عن عمر بن عبد العزيز أنه أتته امرأة فقالت: إن فلاناً استكرهني على نفسي، فقال: هل سمعك أحد أو رآك؟ قالت: لا، فجلدها بالرجل (1). هذه مسألة لا تتناول عقوبة الزنا، وإنما هي خاصة بالقذف، فالمرأة التي تدعى على الرجل أنه استكرهها على الزنا، هي بكلامها هذا تعتبر قاذفة له بنفسها وعليه حد القذف إلا أن تأتي ببينة تدرأ عنها هذا الحد، فسماع صياح المرأة هو عند عمر بن عبد العزيز يعفيها من حد القذف أو أن يكون أحد رآها وقد وافق عمر بن عبد العزيز في جلدها إن لم يكن لها بينة وافقه الزهري وقتادة وربيعة ويحي بن سعيد الأنصاري (2).
9 ـ قطع السارق قبل خروجه بسرقته:
ذهب عمر بن عبد العزيز بأنه لا قطع على السارق حتى يخرج بسرقته، فعن عمر بن عبد العزيز قال: لا يقطع حتى يخرج بالمتاع من البيت (3).
10 ـ النباش سارق يستحق القطع:
إن من الناس من يأتي أموراً تشمئز منها النفوس، حتى الميت في قبره لم يسلم من بعض المنحرفين، فهناك سارق يحفر القبر ويأخذ أكفان الميت، وهذا عمر بن عبد العزيز يرى أن النباش سارق يستحق القطع، لأن من سرق من الأموات كما سرق من الأحياء (4)، فعن معمر قال بلغني أن عمر بن عبد العزيز قطع نباشاً (5).
11 ـ عقوبة شرب الخمر للمرّة الثانية:
عن عبادة بن نسي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز يضرب رجلاً حداً في خمر فخلع ثيابه ثم ضربه ثمانين رأيت منها ما بضع ومنها ما لم يبضع ثم قال: إنك إن عدت الثانية ضربتك ثم ألزمتك الحبس حتى تُحدث خيراً. قال يا أمير المؤمنين أتوب إلى الله أن أعود في هذا أبداً فتركه عمر (6).
_________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 140).
(2) المحلى (11/ 291 ـ 292).
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 146).
(4) المصدر نفسه (2/ 147).
(5) مصنف بن أبي شيبة (10/ 34).
(6) الطبقات الكبرى (5/ 365)، فقه عمر (2/ 157).(1/299)
12 ـ عقوبة ساقي الخمر:
إن من يوفر الخمر أو يقدمها لم يشربها ينبغي أن لا تقل عقوبته عن شاربها لأنه تسبب في إيصالها لمن يشربها، ولذلك فقد جلد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ساقي الشراب مع الذين يشربون (1)، فعن ابن التميمي أن عمر بن عبد العزيز وجد قوماً على شراب، ووجد معهم ساقياً، فضربه معهم (2).
13 ـ إتلاف أواني الخمر مع الخمر:
عن هارون بن محمد عن أبيه قال: رأيت عمر بن عبد العزيز بخناصرة يأمر بزقاق الخمر أن تشقق وبالقوارير أن تكسر (3).
14 ـ إدخال الكفار الخمر إلى بلاد المسلمين:
إذا كان الكفار يعتقدون حل الخمر ويشربونها في بلادهم، فإذا جاؤوا إلى بلاد المسلمين ومعهم الخمر فهل يسمح لهم بدخولها معهم؟ أو يسمح بتوفيرها لهم ليشربوها في بلاد المسلمين؟، إن الكفار في بلاد المسلمين أن يصبروا عن الخمر ما داموا يرغبون العيش في بلاد المسلمين، وإذا كان لكل دولة نظمها والداخل إليها يجب أن يراعيها، ولأن هذا نظام دولة الإسلام وهو أيضاً نظام رب العالمين فهو أحق بالرعاية والالتزام، ومن هذا المنطلق نجد عمر بن عبد العزيز يمنع أهل الذمة من إدخال الخمر معهم إلى بلاد المسلمين فقد كتب عمر في خلافته: أن لا يدخل أهل الذمة بالخمر أمصار المسلمين فكانوا لا يدخلونها (4).
15 ـ في عقوبة الساحر:
عن همام عن يحي أن عامل عُمان كتب إلى عمر بن عبد العزيز في ساحرة أخذها، فكتب إليه عمر: إن اعترفت أو قامت عليها البينة فاقتلها (5). وهذا مذهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك وأحمد (6)، وقد كتب عمر بن الخطاب في خلافته إلى الولاة أن اقتلوا كل ساحر وساحرة (7).
_________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 159).
(2) المصنف لعبد الرزاق (9/ 230).
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 365).
(4) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 164).
(5) مصنف ابن أبي شيبة (10/ 135).
(6) حاشية ابن عابدين (1/ 31) المغني (8/ 153)، فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 176).
(7) مصنف ابن أبي شيبة (10/ 136).(1/300)
16 ـ استتابة المرتد:
المسلمون لا يكرهون أحداً على الإسلام ولكنهم أيضاً لا يقبلون التلاعب بالدين، فمن دخل في دين الإسلام طائعاً مختاراً أو ولد في الإسلام ثم كفر بعد إيمانه فإن عمر بن عبد العزيز يرى أن يستتاب ويدعى إلى الإسلام ثلاثة أيام فإن تاب ورجع إلى الإسلام قبل منه فإن أبى ضربت عنقه (1).
17 ـ طريقة استتابة المرتد: عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه قال: كنت عاملاً لعمر بن عبد العزيز فكتبت إليه أن رجلاً كان يهودياً فأسلم ثم تهود فرجع عن الإسلام، فكتب إلى عمر: أن ادعه إلى الإسلام، فإن أسلم فخل سبيله وإن أبى فادع بالخشبة فاضجعه عليها، ثم ادعه، فإن أبى فأوثقه ثم ضع الحربة على قلبه ثم ادعه، فإن رجع فخل سبيله وإن أبى فاقتله. قال: ففعل ذلك به حتى وضع الحربة على قلبه، فأسلم فخلى سبيله (2). قال الدكتور محمد شقير: لم أر قولاً لغير عمر بن عبد العزيز بهذا التفصيل وذهب الأئمة الأربعة إلى أن المرتد يقتل بعد استتابته إذا لم يرجع إلى الإسلام (3).
18 ـ عقوبة المرتدة:
رأى عمر بن عبد العزيز أن تستتاب المرتدة، فإن تابت وإلا تسترق وتباع على غير أهل دينها (4). وهذا رأي قتادة قال: تُسبى وتباع، وكذلك فعل أبو بكر بنساء أهل الردة (5)،، وروي عن الحسن قال: لا تقتلوا النساء إذا هنّ ارتددن عن الإسلام ولكن يدعين إلى الإسلام، فإن هن أبين سبين فيجعلن إماء المسلمين ولا يقتلن (6).
خامساً: في التعزيرات:
1 ـ في الحد الأقصى للضرب تعزيراً:
العقوبة بالجلد تنقسم إلى قسمين: حد وتعزير، فالحد قد نص الشارع الحكيم عليه، فمقداره محدد، لا مجال لأحد أن يزيد عليه أو ينقص منه، وأما الجلد تعزيراً فهو عقوبة لإتيان أمر لا حد فيه، أو أي جناية لا حد فيها فهو متروك للحاكم ليحدد مقداره حسب ما يرى، إلا أن عمر بن عبد العزيز جعل لذلك حداً أقصى لا تجوز الزيادة عليه على قولين (7)،
_________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 351) مصنف عبد الرزاق (10/ 171).
(2) مصنف ابن أبي شيبة (12/ 274).
(3) روضة الطالبين (10/ 75) حاشية ابن عابدين (3/ 289).
(4) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 181).
(5) مصنف عبد الرزاق (10/ 176).
(6) مصنف ابن أبي شيبة (10/ 140).
(7) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 188).(1/301)
الأول، لا تجوز الزيادة على ثلاثين جلدة، فعن محمد بن قيس أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بمصر: لا تبلغ العقوبة أكثر من ثلاثين سوطاً إلا في حد من حدود الله (1). وفي القول الثاني: لا يبلغ بالجلد تعزيراً أقل الحدود فعلى هذه الرواية لا يزاد للحر عن تسع وثلاثين جلدة ولا يزاد للعبد على تسع عشرة جلدة، لأن العشرين للعبد والأربعين للحر هي أقل الحدود (2) وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن عاقبوا الناس على قدر ذنوبهم، وإن بلغ ذلك سوطاً واحداً وإياكم أن تبلغوا بأحد حداً من حدود الله (3).
2 ـ النهي عن أخذ الناس بالمظنة وضربهم على التهمة:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى عدم جواز الأخذ بالظن أو الضرب على التهمة فهو يقرر بهذا مبدأ العدالة وترجيح التحقيق العادل على التحقيق الحازم، وذلك خوفاً من أن يظلم برئ فقد فضل عمر بن عبد العزيز أن يلقوا الله بخيانتهم على أن يلقى الله بدمائهم (4)، عن إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني قال حدثني أبي عن جدي، قال لما ولاني عمر بن عبد العزيز الموصل، قدمتها فوجدتها من أكبر البلاد سرقاً ونقباً (5)، فكتبت إلى عمر أعلمه حال البلد وأسأله أخذ الناس بالمظنة وأضربهم على التهمة أو أخذهم بالبينة وما جرت عليه عادة الناس، فكتب إلي أن أخذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله، قال يحيى ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقله سرقاً ونقباً (6) وكتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز. ... أما بعد أصلح الله أمير المؤمنين فإن قبلي أناساً من العمال قد إقتطعوا من مال الله عز وجل، مالاً عظيماً لست أرجو إستخراجه من أيديهم إلا أن أمسهم بشئ من العذاب، فإن رأى أمير المؤمنين ـ أصلحه الله ـ أن يأذن لي في ذلك أفعل. قال: فأجابه أما بعد: فالعجب كل العجب من إستئذانك إياي في عذاب بشر كأني لك جنة
_________
(1) الطبقات الكبرى لا بن سعد (5/ 365).
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 189).
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لا بن الجوزي صـ (117).
(4) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 212).
(5) النقب: التعب في أي شئ كان.
(6) حلبة الأولياء (5/ 271) وسيرة عمر بن عبد العزيز لا بن الجوزي ص (117ـ118).(1/302)
من عذاب وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل، فانظر من قامت عليه بينة عدول فخذه بما قامت عليه البينة، ومن أقر لك بشئ فخذه بما أقر به، ومن أنكر فأستحلفه بالله العظيم، وخل سبيله، وأيم الله، لأن يلقوا الله عز وجل بخيانتهم أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم (1). وهكذا يقرر عمر بن عبد العزيز الأخذ بالتحقيق العادل لا بالتحقيق الحازم.
وقد قال بعدم الأخذ بالمظنة والضرب على التهمة كل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعطاء (2).
3 - النهي عن المثلة: حلق الرأس جعله الله نسكاً وسنة ـ في الحج والعمرة ـ كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حلق اللحية ولكن بعض الناس خالفوا ذلك كله وجعلوا حلق الرأس واللحية عقوبة، وهذا عمر بن عبد العزيز ينهى عن هذا العمل ويسميه المثلة (3). فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامل له: إياك والمثلة جز الرأس واللحية (4) ومذهب الأئمة، الأربعة أن لا يجوز التعزير بحلق اللحية وعند مالك وأبي حنيفة ولا يحلق الرأس (5).
سادساً: في أحكام السجناء:
1 - تعجيل النظر في أمر المتهمين: أمر عمر بن عبد العزيز بتعجيل النظر في أمور المتهمين، فمن كان عليه أدب فيؤدب ويطلق سراحه ومن لم يثبت عليه قضية يخلي سبيله، ويرى أن إقامة الحدود سبب لقلة السجناء لأنه يكون زاجراً لا هل الفسق والزعارة (6)، فعن جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز. ... فلو أمرت بإقامة الحدود لقلَّ أهل الحبس، ولخاف أهل الفسق والدعارة، ولتناهوا عما هم عليه، إنما يكثر أهل الحبس لقلة النظر في أمورهم، إنما هو حبس وليس نظر، فمر ولاتك جميعاً بالنظر في أمر أهل الحبوس في كل الأيام، فمن كان عليه أدب وأطلق، ومن لم تكن له قضية خلي عنه (7).
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لا بن الحكم صـ (55).
(2) مصنف عبد الرزاق (10/ 217ـ219) فقه عمر (2 ـ 213).
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 215).
(4) الطبقات الكبرى (5/ 380).
(5) مغني المحتاج (4/ 192) جواهر الإكليل (2/ 225).
(6) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 225).
(7) الخراج لأبي يوسف ص (301)، فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 225).(1/303)
2 - في الإهتمام بأمور المسجونين:
قام عمر بن عبد العزيز رحمه الله بالإصلاح على كل طريق، وحقق العدل على كل صعيد، فقد أهتم بأمر المسجونين إهتماماً شديداً، وأصدر تعليماته بتعهدهم بكل ما يحتاجونه من طعام وأدم وكسوة وغير ذلك (1)، وعن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن عبد العزيز:. .... وأجروا عليهم من الصدقة ما يصلحهم في طعامهم وأدمهم. .. فمر بالتقدير لهم مايقوتهم في طعامهم وأدمهم، وصير ذلك دراهم تجري عليهم في كل شهر يدفع ذلك إليهم، فإنك إن أجريت عليهم الخبز ذهب به ولاة السجن والقوام والجلاوزة (2)، وول ذلك رجلاً من أهل الخير والصلاح، ويدفع ذلك إليهم شهراً بشهر، يقعد ويدعو بإسم رجل رجل ويدفع ذلك إليه في يده ... وكسوتهم في الشتاء قميص وكساء وفي الصيف قميص وإزار، وتزاد المرأة مقنعة. ... ومن مات منهم ولم يكن له ولي ولا قرابة يغسل ويكفن من بيت المال ويصلى عليه ويدفن (3). وكتب إلى أمراء الأجناد: وأنظروا من في السجون ممن قام عليه الحق. .. ولاتعد في العقوبة، ويعاهد مريضهم ممن لا أحد له ولا مال. ... وأنظر من تجعل على حبسك ممن تثق به ومن لا يرتشي، فإن من إرتشى صنع ما أمر به (4).
3 - سجن خاص بالنساء:
يمضي عمر بن عبد العزيز قدماً في تنظيم السجون والاهتمام بأمر المسجونين وتعاهدهم، فيأمر بأن يجعل للنساء حبس خاص بعيداً عن الإختلاط بالرجال مما يؤكد على اختيار أهل الدين والأمانة، ليتولوا أمور السجناء (5). فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد: وأنظروا من في السجون ممن قام عليه الحق فلا تحبسه حتى تقيم عليه، ومن أشكل أمره إلي فيه، واستوثق من أهل الزعارات فإن الحبس لهم نكال، ولا تعد في العقوبة، ويعاهد مريضهم ممن لا أحد له ولا مال، وإذا حبست قوماً في دين فلا تجمع بينهم وبين أهل الزعارات في بيت واحد ولا حبس واحد وأجعل للنساء حبساً على حدة، وانظر من تجعل على حبسك ممن تثق به ومن لا يرتشي فإن من
_________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 226).
(2) الجلاوزة: جمع جلاوز وهو الشرطي.
(3) الخراج لأبي يوسف ص (300 ـ301).
(4) الطبقات الكبرى لا بن سعد (5 ـ 356).
(5) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 228).(1/304)
إرتشى صنع ما أمر به (1) ومما سبق نلاحظ إهتمام عمر بن عبد العزيز بالسجناء وحرصه على إقامة العدل فيهم وإصلاح ما أفسده من قبله في التعامل معهم
سابعاً: في أحكام الجهاد:
1 - سن من يشرع له الإشتراك في القتال:
كان شباب الرعيل الأول من المسلمين يتاسبقون ويتنافسون على الإشتراك في القتال، وإذا لم يسمح لا حدهم بالإشتراك في القتال فإنه يتحسر ويحاول إقناع ولي الأمر بأنه لا يستطيع القتال وقد حدد عمر بن عبد العزيز سن من يسمح له بالقتال، والفرض له مع المقاتلة حدده بخمس عشرة سنة ومن كان دون ذلك فيكون فرضة في الذرية ولا يسمح له بالإشتراك في القتال (2).
2 - كيفية بداية قتال غير المسلمين:
عن صفوان ابن عمرو قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز وهو خليفة إلى عامله أن لا تقاتلن حصناً من حصون الروم ولا جماعة من جماعتهم حتى تدعوهم إلى الإسلام فإن قبلوا فاكفف عنهم وإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فانبذ إليهم على سواء (3).
3 ـ في مدة الرباط:
الرباط في سبيل الله من أحب الأعمال إلى الله تعالى ويترتب عليه الأجر الوفير من الله سبحانه وتعالى، وقد ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن مدة الرباط أربعون يوماً، فقد قال: تمام الرابط أربعون يوماً (4).
4 ـ في حكم تصرف المقاتل في ماله:
قال عمر بن عبد العزيز: إذا كان الرجل في الحرب على ظهر فرسه يقاتل فما صنع في ماله فهو جائز (5).
5 - في بيع الخيل للعدو:
بيع السلاح ونقله أو الخيل أو ما يقوى الأعداء ويشد من أزرهم ويقويهم على حرب المسلمين، جريمة في حق من يفعله وينبغي حجز هذه الأشياء وما في حكمها حتى لا تصل إلى العدو ومن هذا المنطلق منع عمر
_________
(1) الطبقات الكبرى (5ـ356) فقه عمر (2/ 228).
(2) فقه عمر (2/ 415) د. شقير.
(3) الطبقات الكبرى (5/ 355).
(4) المصدر نفسه (5/ 355) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 424).
(5) الطبقات الكبرى لا بن سعد (5/ 352).(1/305)
بن عبد العزيز حمل الخيل إلى الهند بإعتبارها بلد من بلدان المشركين في زمن عمر بن عبد العزيز، والعداوة لا تخفى بين أهل الإسلام وأهل الشرك (1).
6 ـ إفتداء أسارى المسلمين ولو كثر الثمن:
أكد عمر بن عبد العزيز على وجوب فك أساري المسلمين في رسائله إلى عماله بأن يغادروا مهما بلغ ذلك من المال، فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله أن فاد بأسارى المسلمين وإن أحاط ذلك بجميع مالهم (2)، وعن ربيعة بن عطاء عن عمر بن عبد العزيز أنه أعطى برجل من المسلمين عشرة من الروم وأخذ المسلم (3). وفي رواية أن فادوا بأساري المسلمين وإن أحاط ذلك بجميع مالهم (4).
7 ـ إفتداء الرجل والمرأة والعبد والذمي: عن ربيعة بن عطاء قال: كتب عمر بن عبد العزيز معي وبعث بمال إلى ساحل عدن أن أفتدي الرجل والمرأة والعبد والذمي (5). مما تقدم يظهر عدل عمر بن عبد العزيز جليا حيث أمر بإفتداء من يعيش على أرض المسلمين حتى ولو كان عبداً أو ذميا لأن الذمي له أن يحفظ ويدافع عنه ويفتد لو وقع في الأسر، وهذا أكبر دليل على وفاء المسلمين بذمتهم إلى أبعد مما يتصوره أحد (6).
8 ـ كراهة قتل الأسرى:
عن معمر قال: أخبرني رجل من أهل الشام ممن كان يحرس عمر بن عبد العزيز ما رأيت عمر بن عبد العزيز قتل أسيراً قط، إلا واحداً من الترك قال: جئ بأسرى من الترك، قال: فأمر بهم أن يسترقوا، فقال رجل ممن جاء بهم يا أمير المؤمنين لو كنت رأيت هذا ـ لأحدهم ـ وهو يقتل في المسلمين لكثر بكاؤك عليهم: قال: فدونك: فأقتله، قال: فقام إليه فقتله (7).
لقد كره عمر بن عبد العزيز قتل الأسرى، ومنع ذلك إلا واحداً قتل كثيراً من المسلمين، ولكنه أذن في أن يسترقون (8).
_________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 427).
(2) حلية الأولياء (5/ 311ـ312).
(3) الطبقات الكبرى لا بي سعد (5/ 354).
(4) سيرة عمر لابن الجوزي صـ (120).
(5) الطبقات الكبرى (5/ 353).
(6) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 436).
(7) مصنف عبد الرزاق (5/ 205ـ206).
(8) فقه عمر بن عبد العزيز (2/ 438).(1/306)
ثامناً: في النكاح والطلاق:
1ـ زواج المرأة بغير ولي:
عن سفيان عن رجل من أهل الجزيرة عن عمر بن عبد العزيز أن رجلاً تزوج إمرأة ولها ولي هو أدنى منه بدروب الروم، فرد عمر النكاح وقال: الولي وإلا فالسلطان (1).
2 - تزويج الوليين للمرأة على رجلين:
عن ثابت بن قيس الغفاري قال: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز في جارية من جهينة زوجها وليها رجلاً من قيس، وزوجها آخر رجلاً من جهينة، فكتب عمر بن عبد العزيز أن أدخل عليها شهودا عدولاً وخيرها فأيهما اختارت فهو زوجها.
3 - زواج الرجل بالمرأة بعد الفجور بها:
إذا زنى رجل بأمرأة ثم بدا له أن يتزوجها فهل يحل له ذلك؟ ذهب عمر بن عبد العزيز إلى جواز ذلك إذا رأى منها خيراً، وهذا رأي رشيد لأنه يسد كثيراً من أبواب الشر لأنه لا فرق بين من فجر بها ومن لم يفجر بها، فلو قلنا لا يجوز ذلك فغير هذا الرجل أولى بأن لا يقبلها، وفي هذا شرور ومفاسد عظيمة (2)، عن يحيى بن سعيد قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز سئل عن إمرأة أصابت خطيئة، ثم رأى منها خيراً، أينكحها الرجل؟ فقال له: الظن كما بلغني، أي إنها له (3).
4 - نكاح أمرأة الأسير:
عن عمر بن عبد العزيز قال: لا تنكح أمرأة الأسير أبداً مادام أسيراً (4). فالأسير المسلم إنما وقع في الأسر نتيجة لا قدامه وبلائه في قتال الإعداء رفعاً لرأية الإسلام، أو دفاعاً عن بلاد المسلمين وتقديراً لهذا الموقف النبيل حيث ضحى بنفسه في سبيل دينه، فإن على أمرأته أن تقدر له ذلك وأن تصبر حتى يفك الله أسره ثم يعود إليها خاصة وأن بقاءه في الأسر وغيبته هذه ليست من إختيا ره، كما أن إطلاق سراحه محتمل في كل وقت ولذلك كله كان من العدل والإنصاف أن لا تتزوج إمرأة الأسير مادام أسيراً (5).
_________
(1) مصنف أبن أبي شيبة (4/ 132) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 405).
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 412).
(3) مصنف إبن أبي شيبة (4/ 250) فقه عمر (1/ 412).
(4) الطبقات الكبرى لا بن سعد (5/ 351).
(5) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 417).(1/307)
5 - نكاح إمرأة المفقود:
إذا فقد الرجل وإنقطعت أخباره، فلا يدرى أحي هو أم ميت فهل تبقى زوجته تنتظره؟ وما مدة الإنتظار؟ ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن إمرأة المفقود تعتد أربع سنين وبعدها تتزوج (1)، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: أن إمرأة المفقود تعتد أربع سنين (2)، والظاهر أن عمر بن عبد العزيز يرى جواز زواج إمرأة المفقود بعد مضي السنين الأربع، والعدة بعدها أربعة أشهر وعشراً (3).
6 - صداق المطلقة قبل الدخول بها في مرض زوجها:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن لها نصف المهر، فلا تأثير لتطليق زوجها في حال المرض (4)، فعن عمر بن عبد العزيز قال: لها نصف الصداق ولاميراث لها ولا عدة عليها (5).
7 - إشتراط الرجل لنفسه شيئاً عند زواج إبنته:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن المهر للمرأة وإن إشترط والدها شيئاً لنفسه فهو للمرأة دون الأب (6)، وعن الأوزاعي أن رجلاً زوج إبنته على ألف دينار وشرط لنفسه ألف دينار فقضى عمر بن عبد العزيز للمرأة بألفين دينار دون الأب (7).
8 ـ في اللعب بالطلاق جد:
يرى عمر بن عبد العزيز، أن الرجل يحاسب على الطلاق سواء كان جاداً أوهازلاً، فعن سليمان بن حبيب المحاربي قال: كتب إليّ عمر بن عبد العزيز: مهما أقلت السفهاء عن شئ فلا تقيلوهم الطلاق والعتاق (8).
9 ـ في طلاق المكره: قد يحصل للإنسان بعض مواقف يكره فيها على الطلاق كأن يستحلف بالطلاق على أن يفعل كذا أو يترك كذا، وقد يكره ويهدد إذا لم يطلق إمرأته، فهل هذا النوع من الطلاق على الصفة يقع؟ ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن طلاق المكره لا يقع (9)، عن عمر بن عبد العزيز قال: لا طلاق ولاعتاق على مكره (10).
10 ـ في تطليق الرجل نصف تطليقة:
قيل لعمر بن عبد العزيز: الرجل يطلق إمرأته نصف تطليقة قال: هو تطليقة (11).
_________
(1) المصدر نفسه (1/ 418).
(2) المحلي (10/ 138).
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 418).
(4) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 423).
(5) مصنف ابن أبي شيبة (4/ 331ـ332).
(6) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 425).
(7) مصنف ابن أبي شيبة (4/ 201).
(8) المصدر نفسه (5/ 106).
(9) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 434).
(10) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 49).
(11) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 53) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 441).(1/308)
11 ـ تطليق المرأة نفسها إذا جعل أمرها بيدها:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن الطلاق يقع وأن هذا الطلاق وإن كان ثلاثاً يعتبر واحدة، وهو أحق بها إن أراد مراجعتها، فقد كتب عمر بن عبد العزيز في رجل من بني تميم جعل أمر إمرأته بيدها، قال: إن ردت الأمر عليه فلا شيء وإن طلقت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها (1).
12 ـ إسلام المرأة تحت الكافر:
إذا أسلمت المرأة تحت الرجل الكافر فإنها تخرج منه، ويفرق بينهما، فعن معمر بن سليمان عن أبيه أن الحسن وعمر بن عبد العزيز قالا في النصرانية تسلم تحت زوجها، قالا: الإسلام أخرجها منه (2). فمتى أسلمت المرأة وبقى الرجل على الكفر فلابد من التفريق بينهما، حتى لا تكون للكافر ولاية على مسلمة، لأن هذا غير مقبول في شرع الله، فعن عمر بن عبد العزيز يرى أنه إذا أسلمت المرأة تحت الرجل الكافر فإنها تخرج منه ويفرق بينهما (3)، وهذا التفريق لا يأتي إلا بعد عرض الإسلام عليه فإن أسلم فهي أمرأته وإن أبى فإن عمر بن عبد العزيز يرى أن ذلك تطليقه بائنة (4). وأما إذا أسلم ولازالت إمرأته في العدة فهو أحق بها (5).
13 ـ مدة إنتظار الغائب:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن هناك حداً أقصى لمدة الغيبة وهو سنتان، وبعدها إما أن يقفل الغائب إلى زوجته، وإما أن يطلقها، فقد كتب: من غاب عن إمرأته سنتين فليطلق أو ليقفل (6) إليها (7).
هذه بعض الإجتهادات الفقهية والفتاوى والأحكام القضائية التي مارسها عمر بن عبد العزيز والتي تدل على تبحره في المسائل الشرعية وقدرته على الإجتهاد وإصدار الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله ومن سبقه من الخلفاء الراشدين وعلماء الأمة، وقد قام الدكتور محمد شقير بجمع فقه عمر بن عبد العزيز، في مجلدين فمن أراد التوسع فليرجع إلى هذه الرسالة العلمية التي نال بها صاحبها درجة الدكتوراة من المعهد العالي للقضاء بالرياض في المملكة العربية السعودية.
_________
(1) مصنف أبن أبي شيبة (5/ 57).
(2) المصدر (5/ 90) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 450).
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 450).
(4) المصدر نفسه (1/ 451).
(5) المصدر نفسه (1/ 452).
(6) المصدر نفسه (1/ 455).
(7) المصدر نفسه (1/ 455).(1/309)
المبحث الثامن: الفقه الإداري عند عمر بن عبد العزيز وأيامه الأخيرة ووفاته رحمه الله:
أولاً: أشهر ولاة عمر بن عبد العزيز:
أختار عمر لسياسة الرعية وأعمال الحق بين الناس الولاة الثقات الخيرين الأبرار ممن إشتهروا بالأمانة والعلم والقوة والتواضع وعفة النفس، والعدالة، وحسن الخلق والرحمة والقدوة الحسنة ومشاورة الآخرين والنصح وعدم الأنانية والكفاءة والذكاء والحكمة وقد قال ابن كثير في ولاة عمر بن عبد العزيز: وقد صرح كثير من الأئمة بأن كل من أستعمله عمر بن عبد العزيز ثقة (1) ومن هؤلاء:
1 ـ الحجاج بن عبد الله الحكمي (ولي خراسان وسجستان):
قال عنه الذهبي: مقدم الجيوش، فارس الكتائب، أبوعقبة الجراح بن عبد الله الحكمي ولي البصرة من جهة الحجاج، ثم ولي خراسان وسجستان لعمر بن عبد العزيز وكان بطلاً شجاعاً مهيباً، عابداً، قارئاً، كبير القدر (2). قال الجراح الحكمي: تركت الذنوب حياءً أربعين سنة، ثم أدركني الورع (3). كان على خراسان كلها حربها وصلاتها ومالها (4). قتل عام 112هـ في خلافة هشام، فعن سليم بن عامر: دخلت على الجراح فرفع يديه، فرفع الأمراء أيديهم، فمكث طويلاً، ثم قال لي: يا أبا يحيى، هل تدري ما كنا فيه؟ قلت: لا، وجدتكم في رغبة فرفعت يدي معكم، قال: سألنا الله الشهادة، فوالله ما بقى منهم أحد في تلك الغزاة حتى أستشهد (5). قال خليفة: زحف الجراح من برذعة (6) سنة اثنتي عشر إلى ابن خاقا، فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل الجراح في رمضان وغلبت الخرز على أذربيجان وبلغوا إلى قريب الموصل (7)، وكان البلاء بمقتل الجراح على المسلمين عظيماً، بكوا عليه في كل جند (8).
_________
(1) البداية والنهاية نقلاً عن عمر بن عبد العزيز عبد الستار صـ270.
(2) سير أعلام النبلاء (5/ 189).
(3) المصدر نفسه (5/ 190).
(4) المصدر نفسه (5/ 190).
(5) المصدر نفسه (5/ 190).
(6) برذعة: قصبة أذربيجان.
(7) سير أعلام النبلاء (5/ 190).
(8) المصدر نفسه (5/ 190).(1/311)
2 ـ عدي بن أرطاة الفزاري (والي البصرة):
كان أمير البصرة لعمر بن عبد العزيز، حدث عن عمرو بن عبسة وأبي أمامة، قال عباد بن منصور: خطبنا عدي على منبر المدائن حتى بكى وأبكانا (1)، وكان عمر بن عبد العزيز يتفقده بالنصائح والمواعظ، قال معمر: كتب عمر إلى عدي بن أرطاة: إنك غررتني بعمامتك السوداء، ومجالستك القراء، وقد أظهرنا الله على كثير مما تكتمون أما تمشون بين القبور (2)؟ قدم عدي على البصرة، فقيد يزيد بن المهلب، ونفذه إلى عمر بن عبد العزيز فلما مات عمر، انفلت، ودعا إلى نفسه وتسمى بالقحطاني، ونصب رايات سوداً، وقال: أدعو إلى سيرة عمر بن الخطاب، فحاربه مسلمة بن عبد الملك، وقتله، ثم وثب ولده معاوية فقتل عديا، وجماعة صبراً، سنة إثنتين ومائة (3). قال الدارقطني: يحتج بحديثه.
3 ـ عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (والي الكوفة):
الإمام الثقة الأمير العادل أبو عمر العدوي الخطابي المدني ولي إمرة الكوفة لعمر بن عبد العزيز، كان قليل الرواية، كبير القدر توفي سنة 115هـ (4).
4 ـ عمر بن هبيرة (والي الجزيرة):
كان من الدهاة الشجعان، وكان رجل أهل الشام ولاه عمر الجزيرة (100هـ) فتوجه إليها وغزا الروم من ناحية أرمينية، فهزمهم وأسر منهم خلقاً كثيراً، واستمر على الجزيرة إلى خلافة يزيد بن عبد الملك فولاه إمارة العراق وخراسان، ثم عزله هشام بخالد القسري فقيده وألبسه عباءة وسجنه، فتحيل غلمانه ونقبوا سربا وأخرجوه منه فهرب وإستجار بالأمير مسلمة بن عبد الملك، فأجاره ثم لم يلبث أن مات سنة سبع ومائة تقريباً (5).
5 ـ أبوبكر محمد بن عمرو بن حزم (والي المدينة): وهو أحد الأئمة الأثبات الثقات أمير المدينة ثم قاضي المدينة، قيل كان أعلم أهل زمانه بالقضاء، روي عن أبيه وعباد بن تميم وعن سلمان الأغر وخالته عمرة بنت عبد الرحمن وطائفة وعداده في صغار التابعين (6)، روى عطاف بن خالد عن
_________
(1) سبر أعلام النبلاء (5/ 53).
(2) المصدر نفسه (5/ 53).
(3) المصدر نفسه (5/ 53).
(4) المصدر نفسه (5/ 149).
(5) المصدر نفسه (4/ 562).
(6) المصدر نفسه (5/ 314).(1/312)
أمه عن زوجة إبن حزم: أنه ما اضطجع على فراشه منذ أربعين سنة (1)، وقيل كان رزقه في الشهر ثلاثة مائة دينار (2).
6 - عبد العزيز بن عبد الله بن أسيد الأموي (والي مكة):
أقر عمر على مكة عبد العزيز بن عبد الله الأموي والي سليمان بن عبد الملك، وثقة النسائي وابن حبان توفي في خلافة هشام بن عبد الملك (3).
7 ـ رفاعة بن خالد بن ثابت الفهمي (والي مصر):
ذكر ابن تغري بردى خبراً انفرد به وهو: أن عمر بن عبد العزيز أقر على مصر عبد الملك بن رفاعة بن خالد بن ثابت الفهمي المصري الذي كان حسن السيرة عفيفاً عن الأموال ثقة فاضلاً عادلاً بين الرعية روى عنه الليث بن سعد وغيره، ثم عزله في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين دون أن يذكر سبب عزله (4) وولي مكانه أيوب بن شرحبيل بن أكسوم بن أبرهة بن الصباح (5).
8 ـ إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي (والي المغرب):
كان صالحاً فاضلاً زاهداً قدم أفريقية سنة (99هـ) ويقال سنة (100هـ) كان حسن السيرة، سار فيهم بالحق فأسلم على يديه عامة البربر وكان حريصاً على إسلامهم وكان عمر يرسل إليه بالرسائل لدعوة أهل الذمة للدخول في الإسلام، فيقرأها عليهم توفى إسماعيل بن عبيد الله سنة (132هـ) (6).
9 - السمح بن مالك (بالأندلس): الأمير الشهير، إستعمله عمر على الأندلس وأمره أن يميز أرضها ويخرج منها ماكان فتحه عنوة فيا خذ منه الخمس وأن يكتب إليه بصفة الأندلس، فقدمها سنة (100هـ) وفعل ما أمره به عمر، واستشهد غازيا بأرض الفرنجة (7).
هؤلاء من أشهر ولاة عمر بن عبد العزيز الذين عينهم على الأقاليم والولايا ت والذين كانوا عند حسن الظن.
_________
(1) سير أعلام النبلاء (5/ 314).
(2) المصدر نفسه (5/ 314).
(3) تاريخ خليفة ص (323)، عمر وسياسته في رد المظالم صـ273.
(4) عمر وسياسته في رد المظالم صـ289.
(5) المصدر نفسه صـ289.
(6) المصدر نفسه صـ293.
(7) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار صـ271.(1/313)
ثانيا: حرص عمر بن عبد العزيز على إنتقاء عماله من أهل الخير والصلاح:
إن عمال الخليفة وأمراء البلدان بخاصة هم نواب الخليفة في أقاليمهم، والواسطة بينه ورعيته ومهما كان الخليفة على درجة من الدراية في تصريف أمور السياسة إلا أنه لا يستطيع تحقيق النجاح إلا إذا أختار عماله بعناية تامة، لذا عني عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ عناية فائقة بإختياره عماله وولاته، وحين نتبع أخباره في هذا الصدد نجد أن له شروطاً لا بد من تحققها فيمن يختار العمل عنده، ومن أهم هذه الشروط: التقوى، الأمانة، وحسن التدين، فلما عزل خالد بن الريا ن الذي كان رئيسا للحرس في عهد الوليد بن سليمان ـ نظر عمر في وجوه الحرس فدعا عمرو بن المهاجر الأنصاري فقال: والله إنك لتعلم يا عمرو أنه مابيني وبينك قرابة إلا الإسلام، ولكني سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظن انه لا يراك أحد فرأيتك تحسن الصلاة، خذ هذا السيف قد وليتك حرسي (1)، وكان يكتب إلى عماله: إياكم أن تستعملوا على شئ من أعمالنا إلا أهل القرآن، فإنه لم يكن عند أهل القرآن خير فغيرهم أحرى بأن لا يكون عندهم خير (2). وإذا شك في أمر من ينوي توليته لم يقدم على توليته حتى يتبين له حاله، فحين ولى الخلافة وفد عليه بلال بن أبي بردة فهنأه وقال: من كانت الخلافة ـ يا أمير المؤمنين ـ شرفته فقد شرفتها، ومن كانت زانته فقد زنتها وإستشهد بأبيات من الشعر في مدح عمر فجزاه عمر خيراً، ولزم بلال المسجد يصلي، ويقرأ ليله ونهاره، فهم عمر أن يوليه العراق، ثم قال: هذا رجل له فضل، فدس إليه ثقة له فقال له: إن عملت لك في ولاية العراق ما تعطيني؟ فضمن له مالاً جليلاً، فأخبر بذلك عمر، فنفاه وأخرجه (3)،
وكان يكره أن يولي أحداً ممن غمس نفسه في الظلم أو عمل مع الظلمة لاسيما الحجاج (4)، وإذا كان من قبل عمر يجعل للعصبية والقرابة من البيت الأموي وزنا في تولية العمل، فإنه لم يكن شئ من ذلك في ميزان عمر فحدث الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز جلس في بيته وعنده أشراف بني أمية، فقال:
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ31.
(2) المصدر نفسه صـ8، سراج الملوك للطرطوشي صـ 255.
(3) تاريخ دمشق نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية صـ182 ..
(4) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ182.(1/314)
أتحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً من هذه الأجناد؟ فقال رجل منهم: تعرض علينا مالا تفعله؟ قال: ترون بساطي هذا؟ إني لا علم أنه يصير إلى بلى، وإني أكره أن تدنسوا علي بأرجلكم، فكيف أوليكم ديني؟ وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم؟ هيهات هيهات (1). وقد كان لهذا النهج الذي تميزت به سياسة عمر بن عبد العزيز في إختيار الولاة والعمال أثر في الإستقرار السياسي في الأقاليم، حيث رضي الناس سير عماله وحمدوا فعالهم، إذ لم يكن في عماله من هو على شاكلة الحجاج يتعامل مع الناس بالشدة ويا خذهم بالتهمة، كما لم يكن منهم صاحب عصبية يرفع أناساً ويضع أخرين فيجدوا عليه في أنفسهم (2).
ثالثاً: الإشراف المباشر على إدارة شئون الدولة:
أشرف عمر بن عبد العزيز بنفسه على ما يتم في دولته من أعمال صغرت أو كبرت، وكان يتابع عماله في أقاليمهم وساعده على ذلك أجهزت الدولة التي طورها عبد الملك بن مروان، كالبريد، وجهاز الإستخبارات الكبير الممتد في أطراف الدولة والذي كان الخلفاء يستخدمونه في جمع المعلومات، وعلى الرغم من عناية عمر بن عبد العزيز في إختيار الولاة، إلا أن هذا لم يمنعه من العمل على متابعة أمر الرعية وتصريف شئون الدولة وقد إشتهر عنه الدأب والجد في العمل حتى أصبح شعاره لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، فقد قيل له: يا أمير المؤمنين لو ركبت فتروحت، قال: فمن يجزي عني عمل ذلك اليوم؟ قيل: تجزيه من الغد قال: فدحني عمل يوم واحد، فكيف إذ اجتمع علي عمل يومين (3). وقال ميمون بن مهران: كنت ليلة في سمر عمر بن عبد العزيز فقلت: يا أمير المؤمنين ما بقاؤك على ما أرى؟ أنت بالنهار في حوائج الناس وأمورهم وأنت معنا الآن ثم الله أعلم ما تخلو عليه (4)، فقد كان ـ رحمه الله ـ يمضي الكثير من وقته لرسم سياسته الإصلاحية التي شملت مختلف الحياة، السياسية والإقتصادية
_________
(1) سير أعلام النبلاء (5/ 132).
(2) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ 183.
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ55 لابن عبد الحكم.
(4) الطبقات (5/ 371).(1/315)
والإدارية، وغيرها .. حتى خلف رحمه الله كماً هائلاً من تلك السياسات التي تمثل مواد نظام حكمه الإصلاحي الشامل، وقد بعث لهذه السياسات إلى عماله لتنفيذها في مختلف الأقاليم وكثيراً ما يردفها بتوجيهات تربوية يذكر فيها عماله بعظم الأمانة الملقاة على عواتقهم، ويخوفهم بالله ويأمرهم بمراقبته وتقواه فيما يعملون ويذرون (1)، وقد كان لمواعظ عمر وتوجيهاته أثر في نفوس عماله أشد من وقع السياط، وأبلغ من أوامر العزل والإعفاء، فكتب مرة إلى أحدهم: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون أخر العهد وإنقطاع الرجاء.
فلما قرأ عامله الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر، فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك لا أعود إلى ولاية أبداً حتى ألقى الله تعالى (2)، ولم يكتف عمر ببعث تلك السياسات والتوجيهات إلى عماله، بل كان يحرص على متابعة تنفيذها، وتحقق آثارها على رعيته. فلا يفتأ يسأل القادمين عن ذلك، فقال زيا د بن أبي زيا د المدني حين قدم على عمر من المدينة: فسألني عن صلحاء أهل المدينة ورجالهم ونسائهم. .. وسألني عن أمور كان أمر بها بالمدينة فأخبرته (3). وخرج عمر بن عبد العزيز يوماً فركب هو ومزاحم، وكان كثيراً ما يركب فيلقى الركبان ويتحسس الأخبار عن القرى، فلقيهما راكب من أهل المدينة وسألاه عن الناس وما وراءه، فقال لهما: إن شئتما جمعت لكما خبري وإن شئتما بعضته تبعيضاً، فقالا: بل أجمعه، فقال: إني تركت المدينة والظالم بها مقهور، والمظلوم بها منصور والغني موفور، والعائل مجبور، فسر عمر بذلك وقال: والله لأن تكون البلدان كلها على هذه الصفة أحب إلي مما طلعت عليه الشمس (4). وحين قدم عليه رجل من خراسان وأراد العودة إلى بلاده طلب من عمر أن يحمله على البريد، فقال له عمر وقد إطمأن لسيرته: هل لك أن تعمل لنا عملاً وأحملك؟ فقال الرجل نعم. فقال عمر: لا تأت على عامل لنا إلا نظرت في سيرته، فإن كانت حسنة لم تكتب بها , وإن كانت قبيحة كتبت بها. قال مزاحم: فمازال كتاب منه يجيئنا في عامل فنعزله حتى قدم خراسان (5).
_________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ186.
(2) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ186.
(3) المصدر نفسه صـ187.
(4) سيرة عمر لا بن عبد الحكم صـ115.
(5) تاريخ دمشق نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية صـ188.(1/316)
ونلاحظ أن عمر بن عبد العزيز كان يهتم بمصادر متنوعة بجمع المعلومات، لعلمه أن المعرفة الدقيقة بأمور الرعية والولاة تحتاج لجمع معلومات صحيحة التي يبني عليها التوجيهات والأوامر والنواهي النافعة للأمة والدولة.
لقد آتت هذه المتابعة الدقيقة من عمر لعماله والتوجيهات التفصيلية لهم ثمارها في إستقرار أحوال الأقاليم، كما أن هذه التوجيهات والمتابعة من عمر جعلت العمال والولاة في حالة تحفز دائمة للعمل حيث كانت تلك التوجيهات تقع في نفوسهم بمكان، فحدث إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: رأيت أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يعمل بالليل كله بالنهار لاستحثاث عمر إياه (1).
وكان رحمه الله يرسل المفتشين في الأقاليم ليا توه بالأخبار: فقد بعث على خراسان ثلاثة مفتشين، يبحثون في ظلامات الناس من نظام خراجها، الذي قرره عدي بن أرطاة على الأهالي وأرسل مفتشاً إلى العراق، ليا تيه بأخبار الولاة والناس فيها (2). ولقد أعلن عمر في إطار متابعته لشؤون الدولة ما يمكن تسميته بالرقابة العامة، إذ كتب لا هل الموسم في يوم الحج الأكبر: ... إني برئ من ظلم من ظلمكم ... ألا وإنه لا إذن على مظلوم دوني، وأنا معوِّل كل مظلوم ألا وأي عامل من عمالي رغب عن الحق، ولم يعمل بالكتاب والسنة فلا طاعة له عليكم. .. ألا وأيما وارد في أمر يصلح الله به , خاصة أو عامة , فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار، على قدر ما نوى من الحسبة (3). فقد أعلن في أكبر تجمع إسلامي، بل شجع ماديا ومعنويا على مراقبته، ومراقبة عماله، والإفصاح عن كل ما لا يوافق الكتاب والسنة، وبطبيعة الحال فالأمة الإسلامية لا تحتاج إلى غير تعاليم الكتاب والسنة، إذا كان الإلتزام بها هدف منشود (4).
رابعاً: التخطيط في إدارة عمر بن عبد العزيز:
يعرف التخطيط في معناه العام بأنه: العملية التي تتخذ لتلبية إحتياجات المستقبل، وتحديد وسائل تحقيقها (5)، كما عرف التخطيط بأنه: الجسر بين الحاضر
_________
(1) الطبقات (5/ 347) أثر العملاء صـ188.
(2) عمر بن عبد العزيز للزحيلي صـ182.
(3) عمر لابن الجوزي صـ90.
(4) النموذج الإداري المستخلص من عمر بن عبد العزيز صـ413.
(5) الإدارة، المنيف صـ147.(1/317)
والمستقبل، ومن هذا التعريف العام يمكن أن نقول: أن التخطيط في الإسلام هو الإستعداد في الحاضر لما يواجهه الإنسان في عمله , أو حيا ته في المستقبل (1). وعمر بن عبد العزيز لم يكن ليتخذ قراراً دونما تخطيط، وتوخ لعواقب الأمور، وأخذها بعين الإعتبار، ولعل من أهم المؤشرات على إدراك عمر لأهمية التخطيط والتفكير في الأمور قوله لرجاء: يا رجاء: إني لي عقلاً أخاف أن يعذبني الله عليه (2) , وكان عمر بن عبد العزيز يعتمد على الله ثم جمع المعلومات والقدرة على حسن قرأتها، واستشراف المستقبل وتحقيق الأهداف المطلوبة، ففي ذلك يقول عمر: من عمل على غير علم كان يفسد أكثر مما يصلح (3)، وقد كان عمر بن عبد العزيز في تخطيطه يضع الأهداف ويختار السياسات، ويحدد الإجراءات ويبلور العمل في خطه ففي إطار بلورة الأهداف كان هناك هدف رئيسي يسعى عمر لتحقيقه ألا وهو الإصلاح والتجديد الراشدي على منهاج النبوة والخلافة الراشده، والقيا م بكل مقومات هذا المشروع الإصلاحي من إقامة العدل والحق وإزالة الظلم، وإعادة الإنسجام بين الإنسان وبين الكون والحياة وخالقهما في إطار الفهم الشمولي للإسلام وأما إختيار السياسات كأحد مقومات التخطيط، فإنه قد تجلى ذلك في تطبيقات عمر للتخطيط الإداري، ولا أدل على ذلك من عزم عمر على الإكتفاء بالكتاب الكريم والسنة الشريفة (4)،
وأنه غير مستعد للإستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع، والدين، على أساس أنه حاكم منفذ وأن الشرع من جانبه على نفسه وعلى رعيته، كما ألزم الرعية بالتمسك بذلك الشرع القويم (5)، هذا في إطار تحديد وإختيار السياسة العامة، أما تحديد الإجراءات كأحد مقومات التخطيط أيضاً، فإن ذلك يتضح من خلال الإجراءات التي حددها لتنفيذ هذه السياسة من اللقاء الأول مع الأمة عند وضع شروطاً لصحبته والتي قد بينتها فيما مضى وأما بلورة طريقة العمل، فإنه قد وضح بأنه منفذ وليس مبتدع ـ أي منفذاً لتعاليم الدين وأن الطاعة لمن أطاع الله (6) ـ وأن يكون أساس العمل إقامة العدل والإصلاح
_________
(1) الإدارة في الإسلام للضحيات صـ71.
(2) عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ266.
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ250 لابن الجوزي.
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ 35 ..
(5) النموذج الإداري المستخلص من عمر بن عبد العزيز صـ397.
(6) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ36، 35.(1/318)
والإحسان بدلاً من الظلم والفجور والعدوان (1) وقد مارس عمر التخطيط من حيث الشمول وشمل تخطيطه كافة المجالات، فلم يترك مجالاً إلا طرق بابه، في أمور السياسة والحكم، والقضاء والإقتصاد والتربية والتعليم والنواحي الإجتماعية فضلاً عن التخطيط للأمور العامة، كما أهتم ببعض الأقاليم بشكل منفصل مثل خراسان والعراق وأهتم بمؤسسات تنظيمية أخرى مثل القضاء، وبيت المال وولاة الخراج وغير ذلك (2).
خامساً: التنظيم في إدارة عمر بن عبد العزيز:
إن التنظيم يأتي مكملاً للتخطيط لبناء المتطلبات الإجرائية لتنفيذ الخطط، وقد جعل عمر بن عبد العزيز التنظيم أهم أولويات العمل الإداري ورسخ مفهوم التنظيم في سلوكه الإداري.
فمن حيث التنظيم الهيكلي للعمل، نجده قد جزأ أعمال الدولة إلى أربعة أجزاء رئيسية، تأتي تحت مسئولية أربعة أركان هم: الوالي والقاضي وصاحب بيت المال والخليفة (3) بالإضافة إلى تنظيمات أخرى مثل: الخراج والجند والكتاب والشرطة والحرس وصاحب الخاتم والحاجب وغير ذلك وفيما يلي اللائحة التنظيمية لمسئوليات العمل في عهد عمر بن عبد العزيز (4) ,
_________
(1) المصدر السابق صـ102.
(2) النموذج الإداري المستخلص من عمر بن عبد العزيز صـ400.
(3) النموذج الإداري المستخلص صـ401.
(4) المصدر نفسه صـ401.(1/319)
رئيس الدولة الخليفة عمر بن عبد العزيز
المستشارون والمعاونون ... الخاتم ... الكاتب ... الحاجب ... الحرس ... الشرطة
الخراج والجند ... الصائغة ... البريد ... الولاة بيت المال المركزي ... دار ضرب العملة الصدقات
القضاة المفتون والمعلمون الكاتب ... الخراج ... الصدقات البريد ... الشرطة الجواز أمور الحرب عند الحاجة
وأما فيما يتعلق بالتنظيم من حيث الإجراءات والعلاقات بين الخليفة والولاة والعمال وتحديد أوجه العمل وأساليب التنفيذ فإنه يمكننا القول أن الكثير من كتب عمر لعماله تسعى لتحقيق هذا الغرض وإيضاح هذا الجانب التنظيمي من العملية الإدارية، فعلى سبيل المثال، أوضح أسلوب التعامل بينه وبين المظلومين وكيفية الإتصال بينه وبينهم، إذ باح دخول المظلومين عليه من غير إذن ومن صور التنظيم إعادة الكثير من الأمور والقضايا إلى ماكانت عليه في عهد الرسول (عليه الصلاة والسلام) والخلفاء الراشدين، ومثال ذلك أمره بإرجاع مزرعته في خيبر إلى ماكانت عليه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وتم الشئ نفسه بشأن (فدك) (1) إذكتب إلى أبي بكر بن حزم واليه على المدينة يقول: إني نظرت في أمر فدك، فإذا هو لا يصلح، فرأيت أن أردها على ما كانت عليه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأبي بكر وعمر وعثمان، فأقبضها وولها رجلاً يقوم فيها بالحق، وسلام عليك (2). كما كتب إلى عماله بكل ما يتعلق بتنظيم الأمور المالية والصدقات والضرائب والأخماس والزكاة في الأموال والممتلكات وتنظيم العمال التجارية ومن ليس له الحق في ممارسة التجارة (3) وغير ذلك، كما أهتم عمر بتنظيم أمور القضاء بإعتباره السبيل الرئيسي للفصل بين الناس في منازعتهم وحماية حقوقهم، فكان لكل مصر أو ولاية قاضي يقضي بما في الكتاب والسنة وكان قضاته في كل مصر أجل وأفقه وأصلح علماء ذلك المصر (4)، كعامر بن شرحبيل الشعبي (5)
بالكوفة والحارث بن يمجد الأشعري (6) بحمص، وعمر بن سليمان بن خبيب المحاربي بدمشق (7) وغيرهم، كما كان عمر يمارس القضاء بنفسه (8)، وكان الإعتبار الأساسي في التنظيم القضائي في نظر عمر هو مراجعة الحق، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل (9)، وعندما إشتكى أهل سمرقند من قتيبة بن مسلم، عين لهم
_________
(1) فدك: هي قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة أفاءها الله على رسوله لما نزل خيبر وهي خالصة لرسول الله، لأنها مما لم يطأ عليه خيل ولا ركاب فيها عين فوَّارة ونحل كثير.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ131 لابن الجوزي.
(3) سيرة عمر لا بن عبد الحكم صـ78ـ83.
(4) النموذج الإداري المستخلص من إدارة صـ403.
(5) عمر بن عبد العزيز وسياسة رد المظالم صـ277 ..
(6) المصدر نفسه صـ284.
(7) المصدر نفسه صـ285.
(8) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ403.
(9) المصدر نفسه صـ403.(1/320)
قاضي ليحكم في هذه القضية وقد مرت معنا، وفي هذه الحادثة أدرك عمر بن عبد العزيز مبدأ الفصل بين السلطات على أتم وجه ذلك بأنه حينما عرف مظلمة أهل سمرقند لم يبث هو بها، مع أنه كان يسعه ذلك، وهو خليفة المسلمين ولم يعهد بذلك إلى عامله على سمرقند سليمان بن أبي السرى، مخافة أن يجمع به الهوى، أو أن تأخذه العزة بالإثم، ولأنه عامل بإسم الخليفة الذي أبى هو نفسه أن يبث بالخلاف، ولم يفوض ذلك إلى القائد العسكري، بل أمر بأن يجلس لهم القاضي لأن القاضي لا يتأثر بالإعتبارات العكسرية أو السياسية، ولا يأبه إلا لحكم الله، يطبق أوامر الشريعة كما وردت، وهكذا تحقق ظن عمر بن عبد العزيز، وحكم القاضي بأن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم، أي أنه أمرهم بالجلاء، لأن الإحتلال وقع بصورة غير مشروعة (1). كما شملت تطبيقات عمر للتنظيم بيت الخلافة، فقد أعاد تنظيمه بما يتوافق مع نظرته في أنه واحد من عامة المسلمين وأنه ليس في حاجة إلى أبهة الملك، فانصرف عن كل مظاهر الخلافة التي سادت قبله، وألغى بعض الوظائف، كصاحب الشرطة الذي يسير بين يدي الخليفة بالحربة، كعادته مع الخلفاء السابقين له وقال له عمر: تنح عني مالي ولك؟ إنما أنا رجل من المسلمين ثم سار وسار معه الناس (2).
سادساً: الوقاية من الفساد الإداري في عهد عمر بن عبد العزيز:
سعى عمر بن عبد العزيز لتحقيق السلامة من الفساد الإداري، بالحرص على سبل الوقاية منه، وسد المنافذ على السموم الإدارية مثل الخيانة، والكذب والرشوة والهدايا للمسئولين والأمراء والإسراف وممارسة الولاة والأمراء للتجارة وإحتجاب الولاة والأمراء عن الناس ومعرفة أحوالهم، والظلم للناس والجور عليهم وغير ذلك وإليك شئ من التفصيل:
1 ـ التوسعة على العمال في الأرزاق:
كان أول إجراء إداري رأى فيه عمر الوقاية من الخيانة أن وسع على العمال في العطاء، رغم تقتيره على نفسه وأهله وأراد بذلك أن يغنيهم عن الخيانة (3)، فقد كان يوسع على عماله في النفقة، يعطي
_________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 407).
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ65 لابن الجوزي.
(3) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ314.(1/321)
الرجل منهم في الشهر مائة دينار، ومائتي دينار وكان يتأول أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لا شغال المسلمين فقيل له: لو أنفقت على عيا لك، كما تنفق على عمالك؟ فقال لا أمنعهم حقاً لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم، وكان أهله قد بقوا في جهد عظيم، فاعتذر بأن معهم سلفاً كثيراً قبل ذلك (1)، وبهذا الإجراء ألا وهو التوسع على عماله يحقق عمر أمرين هامين:
أـ سد منفذ الخيانة، وما يدفع العمال من حاجة إلى الخيانة وسرقة أموال المسلمين.
ب ـ ضمان فراغ الولاة والعمال والأمراء لإشغال المسلمين وحوائجهم (2).
2 ـ حرصه على الوقاية من الكذب: قال ميمون بن مهران: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده عامله على الكوفة، فإذا متغيظ عليه، فقلت: ماله يا أمير المؤمنين قال: أبلغني أنه قال: لا أجد شاهد زور إلا قطعت لسانه: قال: فقلت: يا أمير المؤمنين: إنه لم يكن بفاعل. قال: فقال: أنظروا إلى هذا الشيخ ـ مستنكراً ماقال ميمون ـ إن منزلتين أحسنهما الكذب لمنزلتا سوء (3). والمقصود فإن الكذب أحد منازل السوء وبذلك يسعى عمر إلى قطع دابر الفساد الإداري بالتحذير من الوقاية عما يجر إليه الكذب والتحايل في إتخاذ القرارات (4).
3 ـ الإمتناع عن أخذ الهدايا والهبات:
رد على من قال له: ألم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقبل الهدية؟ قال بلى، ولكنها لنا ولمن بعدنا رشوة (5)، كما أبطل عمر أخذ الهدايا التي كان الولاة الأمويون يا خذونها وبخاصة هدايا النيروز والمهرجان، وهي هدايا تعطي في مناسبات وأعياد الفرس، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله كتاباً، يقرأ على الناس، يبطل فيه أخذ التوابع والهدايا، التي كانت تؤخذ منهم في النيروز والمهرجان وغيرها من الأثمان والأجور (6)، كما أنذر ولاته وعماله من أن يتخذ
_________
(1) البداية والنهاية نقلاً عن النموذج الإداري صـ315.
(2) النموذج الإداري صـ315.
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ134 لابن الجوزي.
(4) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ316.
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ189.
(6) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ136.(1/322)
أحداً منهم تلبية طلبات الخليفة أو أحد أهله شئ مسلم به، ومن ذلك ماحدث عندما أرسلت فاطمة بنت عبد الملك إلى أبن معدي كرب (1)، تطلب عسلاً من عسل سينين أو لبنان، فبعث إليها، وأيم الله لئن عدت لمثلها، لا تعمل لي عملاً أبداً، ولا أنظر إلى وجهك (2).
4 ـ النهي عن الإسراف والتبذير:
فقد إتخذ قرارات تنم على حرص شديد على أموال المسلمين فكان أول إجراء له بعد توليه الخلافة هو إنصرافه عن مظاهر الخلافة، إذ قربت إليه المراكب، فقال ماهذه؟ فقالوا: مراكب لم تركب قط، يركبها الخليفة أول ما يلي فتركها وخرج يلتمس بغلته، وقال: يا مزاحم ـ يعني مولاه ـ ضم هذه إلى بيت مال المسلمين، ونصبت له سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد قط، يجلس فيها الخليفة أول ما يلي، قال يا مزاحم ضم هذه إلى أموال المسلمين، ثم ركب بغلته، وأنصرف إلى الفرش والوطاء الذي لم يجلس عليه أحد قط، يفرش للخلفاء أول مايلون، فجعل يدفع ذلك برجله، حتى يفضي إلى الحصير، ثم قال: يا مزاحم ضم هذه لا موال المسلمين (3). وأخذ إجراء آخر لمحاربة الإسراف في الدولة، فحين قال له ـ ميمون بن مهران ـ وهما ينظران في أمور الناس: ما بال هذه الطوامير (4) التي تكتب فيها بالقلم الجليل، وتمد فيها وهي من بيت مال المسلمين؟ فكتب إلى العمال أن لا يكتبوا في طومار ولا يمد فيه، قال: فكانت كتبه شبراً أو نحو ذلك (5). وقد مر معنا كتابه لا بي بكر بن محمد بن حزم الأنصاري والي المدينة في قصة الشموع، وتوجيه عمر له في ذلك وكيف يكتب له عندما قال: إذا جاءك كتابي هذا فأرق القلم، وأجمع الخط واجمع الحوائج الكثيرة في الصحيفة الواحدة، فإنه لا حاجة للمسلمين في فضل قول أضر ببيت مالهم والسلام عليك (6). ذلك هو شأن عمر في كل أمر يخص مال المسلمين، صغر أو كبر ومع كافة الولاة، فإنه من المسلم به أن عمر لن يكون كذلك مع والي المدينة فحسب
_________
(1) لم تمدنا المصادر ما إذا كان عامل لبنان وسينين (سيناء).
(2) المعرفة والتاريخ للبسوي (1/ 580) النموذج الإداري صـ317.
(3) سيرة عمر لا بن عبد الحكم صـ33.
(4) طوامير: جمع طومار وهو الصحيفة، لسان العرب (1/ 503).
(5) سيرة عمر لابن الجوزي صـ88.
(6) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ55.(1/323)
بل هو كذلك مع غيره من الولاة والعمال فكان يسعى للتوفير والإقتصاد في الإنفاق من بيت المال، ليحول بذلك دون الإسراف والبذخ (1).
5 ـ منع الولاة والعمال من ممارسة التجارة:
قال في كتاب له إلى عماله: نرى أن لا يتجر إمام ولايحل لعامل تجارة في سلطانه الذي هو عليه، فإن الأمير متى يتجر يستأثر ويصيب أموراً فيها عنت وإن حرص أن لا يفعل (2)، وذلك إدراك منه أن ممارسة العمال والولاة للتجارة، لا تخلو من أحد أمرين، إن لم تكن الإثنان معاً: فإما أن ينشغل في تجارته ومتابعتهما عن أمور واحتياجات المسلمين، وإما أن تحدث محاباة له في التجارة لموقعه، ويصيب أموراً ليست له من الحق في شئ، وبهذا القرار سد عمر منفذاً خطيراً قد يؤدي إلى فساد إداري قل ماتتوارى عواقبه (3). وبعد ثمانية قرون جاء ابن خلدون وكتب في مقدمته العظيمة بعد تجارب طويلة ودراسة واسعة، ما يصدق عمر بن عبد العزيزفي نظرته الصادقة، وحكمته البالغة قال: إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا معسرة للجباية (4).
6 ـ فتح قنوات الإتصال بين الوالي والرعية:
كانت الحاشية حول الخلفاء قبل عمر بن عبد العزيز قد حجبت الناس عن الوصل إلى الخليفة وقد بنى الحاشية سياجاً من حديد لا ينفذ منه إليه إلا ما يشتهون وما تسمح به مصالحهم أما عمر بن عبد العزيز، فقد أعلن بالجوائز والمكافأة المالية لمن يخبره بحقيقة الحال، أو يشير عليه بشئ فيه مصلحة المسلمين ومصلحة لدولتهم، وكتب إلى أهل المواسم: أما بعد فأيما رجل قدم إلينا في رد مظلمة أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر الدين، فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة بقدر ما يرى الحسبة وبعد السفر، لعل الله يجيء به حقاً أأو يميت باطلاً، أو يفتح به من ورائه خيراً (5). كما أمر العمال والولاة، بأن يحرصوا على فتح قنوات الإتصال بينهم وبين الرعية ويسمعوا منهم ويتعرفوا على أحوالهم فإن ذلك يمنع ممارسة الظلم
_________
(1) النموذج الإداري المستخلص صـ319.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ83.
(3) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ320.
(4) مقدمة ابن خلدوزن نقلاً عن رجال الفكر والدعوة للندوي (1/ 46).
(5) رجال الفكر والدعوة (1/ 47).(1/324)
والتعدي على حقوق الأخرين ويتيح لكل فرد طلب ما يريد دو ن اللجوء إلى أساليب وطرق لا تمت للإسلام بصلة (1).
7 ـ محاسبته لولاة من قبله عن أموال بيت المال:
لما تولى عمر بن عبد العزيز أمر بالقبض على والي خراسان يزيد بن المهلب، ولما مثل بين يديه، سأله عمر عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك. فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لا سمع الناس به وقد علمت أن سليمان لم يكن ليا خذ بشئ سمًعت، ولا بأمر أكرهه. فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأدَ ماقبلك، فإنها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها، فرده إلى محبسه، وبقي فيه حتى بلغه مرض عمر (2) وقد كان عمر بن عبد العزيز يتحسس أخبار ولاته ويراقبهم ويحاسبهم على تقصيرهم فقد كتب إلى أحدهم يقول: (لقد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما عدلت، وإما أعتزلت (3) والسلام).
سابعاً: المركزية واللامركزية في إدارة عمر بن عبد العزيز:
أخذ عمر بن عبد العزيز بمبدأ الجمع والموازنة بين المركزية واللامركزية خلال إدارته للدولة، بتطبيق أحدهما بحسب الموقف تبعاً لمعايير محددة فإننا نورد بعض المواقف والإجراءات التي توضح ذلك، فقد كان من الأوامر التي تدل على تطبيقه للمركزية ماضمنه رسالته إلى عامله على الكوفة، إذ قال:. .. فإني قد وليتك من ذلك ماولاني الله، ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب حتى تراجعني فيه (4). وهنا رجح عمر أن مصلحة الأمة في تطبيق المركزية في هذه المسألة البالغة الأهمية، فقد يسبق السيف العزل، فلا مصلحة للأمة في التعجيل في أمور القتل والصلب وكل سيلقي جزاءه طال الوقت أم قصر، فقد كان عمر يرجح التحقيق العادل على التحقيق الصارم (5)، فما بالك به في أمر أهم، وهو إزهاق الأرواح (6)، وهناك أمور أخرى أعم وأشمل، أوضح عمر لعماله وولاته وقضاته أنه لا بد من الرجوع
_________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ320.
(2) تاريخ الطبري (7/ 460، 461، 462).
(3) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ275.
(4) تاريخ الطبري نقلاً عن النموذج الإداري صـ322.
(5) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ323.
(6) المصدر نفسه صـ323.(1/325)
إليه فيها متخذاً أسلوب المركزية فيها، وهي كل ما تبتلى به الأمة، وليس لها سابقة في قرآن أو سنة، إذ كتب إلى عماله يبين لهم سياسته، فقال:. .. وأما ما حدث من الأمور التي تبتلى الأمة بها، مما لم يحكمه القرآن ولا سنة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فإن والي أمر المسلمين وإمام عامتهم، لا يقدم فيها بين يديه، ولا يقضي فيها دونه وعلى من دونه رفع ذلك إليه، والتسليم لما قضى (1)، وفي مجال آخر رأى ضرورة أسلوب المركزية، حيث جعل للعراق أكثر من وال، وأصبحت خراسان وسجستان وعمان كل منها مرتبطة بالخليفة مباشرة، كما عين واليا على الأندلس من قبله رغبة منه في الإعتناء بإقليم الأندلس دون الإرتباط بوالي إفريقية (2).
هذا مما يدل على أن عمر بن عبد العزيز كان يا خذ بالمركزية وضرورة الرجوع إليه.
ـ ... وأما مايدل على ممارسته اللامركزية فنورد المواقف التالية:
روي أن عمر كتب إلى عروة بن محمد عامله على اليمن، يقول: أما بعد: فإني أكتب إليك آمرك أن ترد على المسلمين مظالمهم فتراجعني ولا تعرف بعد مسافة مابيني وبينك، ولا تعرف أحداث الموت، حتى لو كتبت إليك أن أردد على مسلم مظلمة شاة، لكتبت أرددها عفراء أو سوداء، فانظر أن ترد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني (3) ويبدو في هذا القرار دقة متناهية في تحديد الشئ المرغوب فيه من المركزية واللامركزية وماحداه هنا إلى تبني اللامركزية من مصلحة للأمة (4)، وهذا موقف آخر فيه دلالة على رغبة عمر في إتباع اللامركزية فقد كتب إلى عدي بن أرطاة يقول: أما بعد: فإنك لن تزال تعنًي إلي رجلاً ـ أي يتعبه بإرساله إليه ـ من المسلمين في الحر والبرد، تسألني عن السنة، كأنك إنما تعظمني بذلك، وأيم الله لحسبك بالحسن، يعني ـ الحسن البصري ـ فإذا أتاك كتابي هذا فسل الحسن لي ولك وللمسلمين (5). فكان عمر يؤثر اللامركزية وعدم مراجعته في المسائل الروتينية طالما هناك من يثق بعلمه، مثل الحسن البصري رحمه الله، فالحسن أهل لا ن يسأل لعمر، ولعدي الوالي وللمسلمين كافة (6)، وفي هذا
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لا بن عبد الحكم صـ63.
(2) الإدارة في العصر الأموي، نجدة الخماش صـ107.
(3) الطبقات (5/ 381).
(4) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ324.
(5) المصدر نفسه صـ324، حلية الأولياء (5/ 307).
(6) المصدر نفسه صـ324.(1/326)
الموقف لفتة عمرية في تقدير وتبجيل وإحترام العلماء الربانيين كالحسن البصري وإنزاله مقامه اللائق به، فالأمم تنهض عندما تحترم علمائها الربانيين وتنزلهم المنازل التي يستحقونها.
لقد مارس عمر مبدأ الموازنة بين المركزية واللامركزية وكانت له معايير وعوامل تدفعه إلى أي شئ منها يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 ـ إرتباط الموقف أو الإجراء بمصلحة عامة أو خاصة.
2 ـ أهمية الأمر الذي سيحدد فيه ممارسة المركزية أو اللامركزية فالإجراء الذي يتعلق بالقتل والصلب مثلاً حري أن تكون المركزية فيه أصلح.
3 ـ مستجدات الأمور مما لم يرد في القرآن أو السنة فهي من الأهمية بمكان.
4 ـ مراعاة البعد الجغرافي بين الخليفة والولاة.
5 ـ مراعاة الوقت وما قد ينجم عن ذلك من ضرر قد يصل إلى الموت.
6 - وجود من يعتمد عليه ويطمئن له ولعلمه ويثق به.
7 - التأثير على سرعة وسلامة الإنجاز في العمل.
8 - مراعاة منح الثقة للقضاة والولاة والعمال (1).
في ظل هذه المعايير جمع عمر بن عبد العزيز في ممارسته الإدارية بين المركزية واللامركزية، بالموازنة بينهما، وتحديد الدرجة الملائمة في ممارسته لكل منهما، وبذلك يتوافق عمر مع منظري وعلماء الإدارة في إدراك أبعاد هذا المبدأ (2).
ثامناً: مبدأ المرونة في إدارة عمر بن عبد العزيز:
مارس عمر بن عبد العزيز المرونة في التفاهم والحوار والفكر وتنفيذ الأوامر والتقيد بها ومن تلك الشواهد، ما روى ميمون بن مهران: أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قال: يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريد من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك. قال: يا بني إنما أروض الناس رياضة الصعب، وإني لا أريد أن أحيي الأمور من العدل، فأوخر ذلك حتى أخرج
_________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ326.
(2) المصدر نفسه صـ326.(1/327)
معه طمعاً من طمع الدنيا فينفروا لهذه ويسكنوا لهذه (1). وقال عمر: ماطاوعني الناس على ما أردت من الحق، حتى بسطت لهم من الدنيا شيئاً (2)، فقد أبدى بهذا الإعلان منذ توليه الخلافة، أن تحقيق الأهداف يتطلب شيئاً من المرونة والتغاضي، فليس الأمر كما يرى ولده بأن لا مانع لديه من أن تغلي بهم القدور في سبيل تحقيق العدل، بصرف النظر عن أي اعتبار أخر (3). وهذا موقف آخر مع إبنه عبد الملك وإليك ما دار بينهم من حوار:
الإبن: مايؤمنك أن تؤتى في منامك، وقد رفعت إليك مظالم لم تقضى حق الله فيها؟
الأب: يا بني إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني، إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا، وإني لا حتسب في نومتي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي، إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لا نزله، ولكنه أنزل الآية والآيتين حتى أسكن الإيمان في قلوبهم. يا بني ... مما أنا فيه أمر هو أهم إلي من أهل بيتك (الأمويين) هم أهل القدرة والعدد وقبلهم ماقبلهم، فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت إنتشاره علي ولكني أنصف من الرجل والإثنين، فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجح له (4) في الآثار السابقة، يقدم لنا عمر فقهه الحاذق في إدارة الحركات الإصلاحية التجديدية وتسيير البرامج التي تستهدف إسقاط الظلم والإستغلال ونشر العدل والمساواة (5). ففي قوله: إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا. فبين رحمه الله: إن طاقة الإنسان محدودة، وأن القابلية على تحمل الجد الصارم لها حدودها هي الأخرى، والإنسان في تقبله لا لتزاماته في حاجة ضرورية إلى وقت كاف لتمثل هذه الإلتزامات من الداخل وتحويلها إلى مبادئ وقيم ممزوجة بدم الإنسان وأعصابه، ومتشكلة في بنيته وخلاياه، وبدون هذا سوف لن تجتاز هذه الإلتزامات حدود الإنسان الباطنبة، وستظل هناك مكدسة على أعتاب الحس الخارجي وطالما ظل هذا التكديس يزداد ثقلاً يوماً بعد يوم، فسوف
_________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي صـ88.
(2) المصدر نفسه صـ88.
(3) النموذج الإداري المستخلص صـ328.
(4) سيرة عمر لابن الجوزي صـ106.
(5) ملامح الانقلاب صـ173.(1/328)
يأتي يوم لا محالة يسقط فيه الإنسان تحت وطأة هذا الثقل المتزايد غير المتمثل (1) ... ومما يلفت النظر عبارته: .. ولكني أنصف الرجل والإثنين فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجح له.
إن عمر هنا يؤكد على أهمية الإنجاز وعلى دوره في تحقيق ـ الإصلاح والتجديد ـ فكثيرون هم أولئك الذين طرحوا أقوالاً أعلنوا فيها عن عزمهم على أحداث ثورة حقيقية إنقلاب يجتث الجذور العفنة ويبدأ الزرع من جديد، ولكن هؤلاء ما لبثوا أن سقطوا وسقطت مبادؤهم لا نهم: طرحوا أقوالاً. .. أما عمر هذا المصلح الكبير والفقيه الحاذق، فإنه يريد أن يطرح أفعالاً، ولا يطرحها بالعنف والإكراه ودونما تخطيط، وإنما لينصف الرجل والإثنين فيبلغ ذلك من وراءهما حتى يسري الإصلاح في نفوس الأمة أنى كانت، سريان الضياء في الظلام. ثم إن عمر هذا الذكي المرن لم يشأ أن يخرج شيئاً إلا ومعه طرف من الدنيا يستلين به القلوب (2)، ولا يمكن لا حد أن يقول أن هذا يمثل تنازلاً من عمر بن عبد العزيز عن أهداف إصلاحاته الشاملة صوب إصلاح جزئي يقوم على الترقيع. .. لأن ما عرفنا عمر منذ حمل مسئولية أمته، يسعى إلى التنازل، ولو شبراً واحداً، عن الأهداف التي طرحها القرآن الكريم والسنة، ولكنه هنا يقدم فقه الأسلوب الحيوي الذي تتأتى به تلك الأهداف كاملة. .. إن الضغط المستمر يولد الإنفجار، ومهما كان سخف هذا الإنفجار وعبثه فإنه لا بد وأن يحرق ويدمر، وإذا كان بإمكان القادة والمسئولين تجاوز هذا الحريق والدمار عن طريق الإلتزام أسلوب حيوي ينسجم وبنية الإنسان النفسية، فلماذا لا يسلكوه (3)؟ فعندما قال له أبنه عبد الملك يا أمير المؤمنين: أنفذ لأمر الله وإني جاشت بي وبك القدور فماذا كان جواب الخليفة المرن: يا بني: إن بادهت الناس بما تقول أحوجوني إلى السيف ولا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف لا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف (4). إن خليفة بهذا المرونة وبهذا الذكاء لا يمكن أن يجزع عن أهدافه يوماً (5)
ومما مضى يتضح أدلة مرونة عمر في إدارته فيما يتعلق بتنفيذ السياسة العامة، سياسة إقامة العدل ونشر الإسلام، وبناء دولة العقيدة (6)، وإليك هذه الشواهد في تنفيذ مبدأ المرونة:
_________
(1) ملامح الانقلاب صـ173.
(2) المصدر نفسه صـ174.
(3) ملامح الانقلاب صـ174.
(4) الكامل في التاريخ نقلاً عن ملامح الإنقلاب صـ175.
(5) ملامح الانقلاب صـ175 ..
(6) النموذج الإداري صـ329.(1/329)
1 ـ فلا يحملنك إستعجالنا إيا ك أن تؤخر الصلاة في ميقاتها:
خرج عمر على حرسه يوماً، فقال: أيكم يعرف هذاالرجل الذي بعثناه إلى مصر؟ قالوا: كلنا نعرفه ـ وكان قد كلف رجلاً بمهمة إلى مصر قبل وقت ليس ببعيد ـ قال: فليذهب إليه أحدثكم سناً فليدعه ـ قال: وذلك في يوم جمعة، فذهب إليه الرجل فظن الرسول أن عمر بن عبد العزيز إستبطأه فقال له: لا تعجلني حتى أشد على ثيابي، فشد عليه ثيابه، فأتى عمر، فقال: لا روع عليك، إن اليوم يوم الجمعة، فلا تبرح حتى تصلي الجمعة، وقد بعثناك لا مر عجلة من أمر المسلمين فلا يحملنك إستعجالنا إياك أن تؤخر الصلاة عن ميقاتها (1)، فأبدى عمر في هذا الموقف مرونة في التنفيذ، رغم أنه رسل مندوبه لا مر يهم المسلمين إنجازه على عجل (2).
2 - هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج:
إستدعى عمر بن عبد العزيز عامله على خراسان، فما كان من العامل إلا أن أسرع بالمغادرة إلى الخليفة تنفيذاً لا مره وعندما وصل إلى مقر الخلافة في دمشق ورأى الخليفة ملامح التعب والإجهاد على وجهه، سأله: متى خرجت؟ فقال: في شهر رمضان، فقال له عمر: قد صدق من وصفك بالجفاء!! هلا أقمت حتى تفطر، ثم تخرج (3).
3 ـ لاتعنت الناس ولا تعسرهم ولا تشق عليهم:
ذكر ابن سعد أن ـ ميمون بن مهران ـ وكان على ديوان دمشق، قال: ففرضوا لرجل زمِن (4)، فقلت: الزمن ينبغي أن يحسن إليه فأما أن يا خذ فريضة رجل صحيح فلا. فشكوني إلى عمر بن عبد العزيز، فقالوا له: إنه يتعنتنا ويشق علينا، ويعسرنا. قال: فكتب إلي: إذا أتاك هذا فلا تعنت الناس ولا تعسرهم، ولا تشق عليهم فإني لا أحب ذلك (5)، فكتب إليه عمر إنطلاقاً من مبدأ المرونة وتسهيل الأمور.
4 ـ المرونة في الحوار والتفاهم:
فقد كان الحوار الهادي ومقارعة الحجة بالحجة أسلوبه في حواره ومناظراته ـ كما مر معنا مع الخوارج ـ فقد حدث أن: دخل على عمر أناس من الحرورية، فذاكروه شيئاً، فأشار إليه بعض جلسائه أن يرعبهم،
_________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي صـ106.
(2) النموذج الإداري صـ330.
(3) تاريخ الطبري نقلاً عن النموذج الإداري صـ330.
(4) الزَمِن: هو المبتلي بالعاهة: لسان العرب (13/ 119).
(5) الطبقات (5/ 380).(1/330)
ويتغير عليهم فلم يزل عمر بن عبد العزيز يرفق بهم حتى أخذ عليهم، ورضوا منه أن يرزقهم ويكسوهم مابقي فخرجوا على ذلك، فلما خرجوا ضرب عمر ركبة رجل يليه من أصحابه، فقال: يا فلان إذا قدرت على دواء تشفي به صاحبك، دون الكي فلا تكوينه أبداً (1)، وأبدى مرونة في كافة أساليب التعامل معهم (2).
5 ـ المرونة الفكرية:
كان عمر يتحلى بالمرونة الفكرية، متجنباً الجمود والتشدد، فقد حدث ـ كما مر معنا ـ أن أرسل عمر يزيد بن أبي مالك، والحارث بن محمد، ليعلما الناس السنة وأجرى عليهم الأرزاق، فقبل يزيد ولم يقبل الحارث وقال: ما كنت لا خذ على علم علمنيه الله أجراً، فذكر ذلك لعمر، فقال: ما نعلم بما صنع يزيد بأساً، وأكثر الله فينا مثل الحارث (3). فلم يتخذ موقفاً محدداً تجاه العالمين، رغم إختلاف موقفهما تجاه قبول الأجر على تعليم الناس، فأيد أخذ الأجر على التعليم، وأنه لا بأس فيه، ثم دعا الله أن يكثر من أمثال الحارث، فاتضحت مرونته في تأييد الموقفين في آن واحد، رغم إختلافهما وياتي ذلك في إطار ماعبر عنه عن قناعته التامة، أن مبدأ المرونة مطلوب وضروري حتى قال: مايسرني لو أن أصحاب (محمد صلى الله عليه وسلم) لم يختلفوا، لا نهم لو لم يختلفوا، لم تكن رخصة (4). وقال: مايسرني بإختلاف أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، حمر النعم (5) فهذه أدلة على تطبيق عمر لمبدأ المرونة في إدارته ولم تكن المرونة عائقاً لتنفيذ القرارات، وتحقيق الأهداف المرسومة، والوصول إلى المرامي والتطلعات (6).
تاسعاً: أهمية الوقت في إدارة عمر بن عبد العزيز:
كان عمر بن عبد العزيز يقضي جل وقته، أن لم يكن كله في تسيير أمور الدولة أوفي عمل فيه مصلحة الأمة أوفي أداء حق الله من العبادة، فكان يقضي ليلته في الصلاة والمناجاة وكان لا يكلم أحداً بعد أن يوتر (7)، وفي إطار إغتنام الوقت نسب إلى عمر قوله: إن الليل والنهار يعملان فيك ـ أي في
_________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي صـ76، 78.
(2) النموذج الإداري صـ331.
(3) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ137.
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ275.
(5) الطبقات (5/ 381).
(6) النموذج الإداري صـ332.
(7) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ210، 211.(1/331)
الإنسان ـ فاعمل فيهما (1)، وكان يغتنم الوقت في الأعمال الصالحة وفي سرعة التوجيه والبت السريع في الأمور وإتخاذ القرارت الإدارية، وتلافي كل من شأنه تأخير أو عمل أو مصلحة، فإن أهم الأدلة على ذلك ما كان منه من سرعة إجراء لإصدار ثلاثة قرارات، تحدث عنها ابن عبد الحكم ورواها قائلاً: فلما دفن سليمان ـ وكان دفنه عقب صلاة المغرب ـ دعا عمر بدواة وقرطاس، فكتب ثلاثة كتب، لم يسعه فيما بينه وبين الله عز وجل أن يؤخرها، فأمضاها من فوره، فأخذ الناس في كتاباته إياها هنالك في همزه يقولون: ما هذه العجلة؟ أما كان يصبر إلى أن يرجع إلى منزله؟ هذا حب السلطان. هذا الذي يكره مادخل فيه، ولم يكن بعمر عجلة ولا محبة لما صار إليه، ولكنه حاسب نفسه ورأى أن تأخير ذلك لا يسعه، وكان الكتاب الأول عن أمر لا يمسه هو شخصيا في شئ، بقدر ما يمس المسلمين المجاهدين في القسطنطينية بعد أن أصابهم من الجوع والضنك، وأشتد بهم الأمر أمام عدوهم فأمر برجوع مسلمة بن عبد الملك من القسطنطينية ورفع الحصار فقد رأى عمر أنه لا يسعه فيما بينه وبين الله عز وجل أن يلبي شيئاً من أمور المسلمين، ثم يؤخر قفلهم ساعة، فذلك الذي حمله على تعجيل الكتاب (2)، حقاً إن الحال الذي كان عليه مجاهدوا القسطنطينية لا يحتمل التأخير في قرار عودتهم على الإطلاق فكان الإجراء المناسب في الوقت المناسب (3)
, وكتب بعزل أسامة بن زيد التنوخي وكان على خراج مصر فعزله لظلمه وغشمه وتسلطه، كما كتب بعزل يزيد بن أبي مسلم عن إفريقية لظلمه (4)، وكان عمر يهتم بالوقت من حيث إختيار الوقت المناسب لإعلان التوجيهات أو القرارات الإدارية وسهولة إبلاغها، فكان حين يستخدم البلاغة لا بلاغ الناس يراعي الوقت الأكثر ملائمة سواء من حيث كثرة المجتمعين أم من حيث قدسية المكان وحرمته، وبالتالي زيادة الإهتمام بما يكون فيه، ألا هو الموسم السنوي موسم الحج ليخطب في المسلمين أو يكتب إلى المسلمين في يوم حجهم الأكبر بما يراه على قدر كبير من الأهمية من أمورهم، إذ يتحقق بإختيار ذلك الوقت المناسب أمرين،
_________
(1) الإدارة في التراث الإسلامي (1/ 279) البرعي وعابدين.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكيم صـ32.
(3) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ337 ..
(4) المصدر نفسه صـ337، 338.(1/332)
أحدهما: نشر التوجيه أو القرار أو الإجراء في أكبر عدد من المسلمين، من كل بلد من بلدانهم، والثاني سرعة الإنتشار الذي يحققها إعلان القرار أو التوجيه في هذا الجمع في ذلك الوقت (1).
ومن ذلك كتابه إلى أهل الموسم الذي جاء فيه: أما بعد: فإني أشهد الله وأبرأ إليه في الشهر الحرام والبلد الحرام، ويوم الحج الأكبر إني برئ من ظلم من ظلمكم، وعدوان من إعتدى عليكم، أن أكون أمرت بذلك أو رضيته أو تعمدته إلا أن يكون وهماً مني، أو أمراً خفي علي لم أتعهده وأرجو أن يكون ذلك موضوعاً عني مغفوراً لي إذا علم مني الحرص والإجتهاد، ألا وإنه لا إذن على مظلوم دوني وأنا معول كل مظلوم، ألا وأي عامل من عمالي رغب عن الحق ولم يعمل بالكتاب والسنة فلا طاعة له عليكم، وقد صيرت أمره إليكم حتى يراجع الحق وهو ذميم، ألا وإنه لا دولة بين أغنيائكم، ولا أثرة على فقرائكم في شئ من فيئكم، ألا وأيما وارد ورد في أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من هذا الدين فله مابين مائتي دينار إلى ثلاث مائة دينار على قدر ما نوى من الحسنة وتجشم من المشقة، رحم الله إمرءاً لم يتعاظمه سفر يجئ الله به حقاً لمن وراءه، ولولا أن أشغلكم عن مناسككم لرسمت لكم أموراً من الحق أحياها الله لكم وأموراً من الباطل أماتها الله عنكم، وكان الله هو المتوحد بذلك فلا تحمدوا غيره، فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري والسلام (2). فهذا كتاب عظيم من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز في محاربة الظلم وإقرار العدل فهو قد سعى جاهداً في رد المظالم التي عرف عنها، ولكنه يتوقع أن هناك مظالم لم تصل إليه، فكتب هذا الكتاب وأعلنه في موسم الحج الذي يضم وفوداً من أغلب بلاد المسلمين، لتبرأ ذمته من مظالم خفية لم تبلغه، وأعلن في هذا الكتاب براءته من الولاة الذين يقع منهم شيء من الظلم، وربط طاعتهم بطاعة الله تعالى، فهو بهذا يجعل كل فرد من أفراد الأمة رقيباً على أمير بلده، يسعى في تثبيته إذا استقام وفي تقويمه إذا أنحرف ...
ومن أروع ما جاء في هذا الكتاب تخصيص مبلغ من المال لمن يسعى في إصلاح أمور الأمة، وفي ذلك ضمان النفقة لمن أراد أن يسافر من أجل ذلك حتى لا يفقد به التفكر في تامين
_________
(1) المصدر نفسه صـ339.
(2) حلية الأولياء (5/ 292 ـ 293).(1/333)
تلك النفقة، ثم يختم كتابه بشكر الله جلا وعلا على ما وفقه إليه من الإصلاح الذي تحقق على يديه، وهذا مثل من الإخلاص القوي لله تعالى بحيث يتلاشى حظ النفس ولا يكون إلا لطف الله جل وعلا وتوفيقه ومعونته (1). فهذا دليل على تطبيق عمر لمبدأ تحري ومراعاة أهمية الوقت، حيث لم يقتصر عمر في إدارته للوقت على أغتنام الوقت وإدراك أهميته، بل كانت إدارة كاملة لكل مقتضيا ت إغتنام الوقت وكل ما يتعلق به من ضرورة سرعة إتخاذ القرارات والتوجيه في الأوقات المناسبة والعمل على تلافي التأخير وأسبابه ودوافعه (2).
عاشراً: مبدأ تقسيم العمل في إدارة عمر بن عبد العزيز:
كان عمر بن عبد العزيز قد أشار بصراحة إلى مبدأ تقسيم العمل ومهام المسئولية للدولة، فقد كان في كتابه كتبه إلى عقبة بن زرعة الطائي، بعد أن ولاه خراج خراسان:. .. إن للسلطان أركاناً لا يثبت إلا بها، فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب بيت المال ركن، والركن الرابع أنا ـ يعني الخليفة (3). هذا من حيث التقسيم الرئيسي العام، فبالإضافة إلى الأركان الرئيسية لا دارته وهي: الولاية ويشملها الوالي للإقليم، والقضاء ويمثله القاضي، ومالية الدولة ويمثلها الوالي للإقليم، والقضاء ويمثله القاضي، ومالية الدولة ويمثلها رجل أو صاحب بيت المال والرابع السلطة العليا للدولة رجل الدولة أو الخليفة ويمثلها أمير المؤمنين، إلا أن هناك تقسيمات فرعية لمهام الدولة منها ما يتعلق بإمارة الجهاد، فقد كان منصور بن غالب على ولاية الحرب (4)، وعلى الصائفة كل من الوليد بن هشام، وعمرو بن قيس السكوني (5). وقسم أخر وهو ما يتعلق بالأمن الداخلي، إذا أستعمل عمر بن يزيد بن بشر الكلبي على الشرطة (6)، وولى الحرس عمر بن مهاجر بن أبي مسلم الأنصاري، وحاجبه حبيش مولاه وأنشأ نقاط العبور وولى عليها، مثل جواز مصر وكان عليها عمر بن رزيق الأيلي، وهي ما يعرف الآن بنقاط الجمارك (7)، وقسم ثالث يختص بالكتابة (الكتاَب)، ومنهم ليث
_________
(1) التاريخ الإسلامي (16/ 151).
(2) النموذج الإداري صـ340.
(3) تاريخ الطبري نقلاً عن النموذج الإداري صـ342.
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ71.
(5) تاريخ خليفة صـ324.
(6) المصدر نفسه صـ324.
(7) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ344.(1/334)
بن أبي رقية أم الحكم بنت أبي سفيان (1) والخاتم، وعليه نعيم بن سلامة (2)، وقسم يتولى متابعة الشؤون المالية، وله تفريعات منها الخراج ومن ولاته على الخراج عقبة بن زرعة الطائي (3)، والصدقات إذ وليها لعمر عبد الله بن عبد الرحمن بن عتبة القرشي (4). وهي تمثل مؤسسة النقد في الوقت الراهن وليها لعمر بن أبي حملة القرشي (5)، وكذلك الخراج المركزي وكان عليه صالح بن جبير الغداني (6)، وأما في مجال التعليم والتثقيف فقد أنشأ عمر مجالس التعليم الدائمة في المساجد، وكلف من يقوم بالتفقيه والتعليم المتنقل في البداية، كما كلف أناساً بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام دور الإفتاء إذ جعل الفتيا في مصر إلى ثلاث فقهاء (7). بالإضافة إلى ما سبق فقد كان هناك ولايا ت أخرى، مثل ولاية الصلاة وولاية الحج وتسيير أموره، والبريد وغير ذلك مما لم يسعفنا المقام بالإحاطة والتفصيل له وهكذا كان عمر بن عبد العزيز يطبق مبدأ تقسيم العمل في دولته (8)، فقد كان رحمه الله رجل دولة من الطراز الأول.
هذا وقد كان عمر بن عبد العزيز في كثير من الأحيان يعطي الولاة الحق في تعيين وزرائهم، وتشكيل مجالس شوراهم، ولهم حق الإشراف على جيش الولاية، والحفاظ على الأمن الداخلي في الولاية، والنفقات اللازمة لكل ولاية مع الأشراف والمتابعة. ... الخ، هذه بعض الملامح والمعالم من فقه عمر بن عبد العزيز في إدارته للدولة.
ـ من أسباب نجاح مشروع عمر بن عبد العزيز الإصلاحي:
كانت هناك عوامل متعددة ساهمت في نجاح مشروعه الإصلاحي منها:
1 - صفاته الشخصية من العلم، والورع والخشية والزهد والتواضع والحلم والصفح والعفو والحزم والعدل مع قدرات إدارية كبيرة في فن التخطيط والتنظيم والقيادة والتوجيه ومعرفة الناس.
_________
(1) تاريخ خليفة صـ324.
(2) تاريخ خليفة صـ325.
(3) تاريخ الطبري نقلاً عن النموذج الإداري صـ344 ..
(4) أمراء دمشق في الإسلام صـ48.
(5) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ295.
(6) تاريخ خليفة صـ324.
(7) البداية والنهاية نقلاً عن النموذج الإداري صـ344.
(8) النموذج الإداري صـ345.(1/335)
2 ـ إمتلاكه لرؤية إصلاحية تجديدية واضحة المعالم، هدفها الرجوع بالدولة والأمة لمنهج الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
3 ـ التفاف الأمة حول هذا المشروع عندما لمست صدق المشرف عليه وإخلاصه.
4 - وجود كوكبة من العلماء الربانيين في عهده كانوا مؤهلين لقيادة الدولة والأمة، فلما جاءت الفرصة بوصول عمر بن عبد العزيز للحكم وأتاح لهم المجال أبدعوا وأثبتوا جدارتهم في ما أسند لهم من مهام كبرى وهذا درس مهم في أهمية تكامل العلم الشرعي، والأمانة والتقوى مع القدرات القيادية في شخصية العلماء الربانيين، فذلك يساعدهم على تحكيم شرع الله من خلال مناصب الدولة وقيادة الجماهير والتفاهم حول المشروع الإسلامي الكبير.
5 - الحرص على تحكيم الشرع في كل صغيرة وكبيرة، على مستوى الدولة والأمة فيأتي بذلك التوفيق الرباني قال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ... )) (الأعراف، الآية: 96).
* ... أثر الإلتزام بأحكام القرآن والسنة الشريفة على دولة عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
إن التأمل في كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وفي حيا ة الأمم والشعوب تعطي العبد معرفة أصيلة بأثر سنن الله في الأنفس والكون والآفات وأوضح مكان لسنن الله وقوانينه كتاب الله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) (النساء، الآية: 26).
وسنن الله تتضح بالدراسة فيما صح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالمطالعة في سنته صلى الله عليه وسلم فقد كان يقتنص الفرص والأحداث ليدل أصحابه على شيء من السنن، ومن ذلك أن ناقته صلى الله عليه وسلم (العضباء) كانت لا تسبق، فحدث مرة أن سبقها أعرابي على قعود له، فشق ذلك على أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال لهم (صلى الله عليه وسلم) كاشفاً عن سنة من سنن الله (حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه) (1) وقد أرشدنا كتاب الله إلى تتبع آثار السنن في الأمكنة بالسعي والسير وفي الأزمنة من التاريخ والسير. قال
_________
(1) البخاري، ك الجهاد والسير رقم 2872.(1/336)
تعالى: ((قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)) (آل عمران، الآيتان: 137ـ138) وأرشدنا القرآن الكريم إلى معرفة السنن بالنظر والتفكر قال تعالى: ((قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)) (يونس، الآيتان: 101ـ102).
ـ من خصائص السنن الإلهية:
1 ـ أنها قدر سابق: قال تعالى: ((مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا)) (الأحزاب، الآية: 38) أي أن حكم الله تعالى وأمره الذي يقدره كائن لا محالة وواقع لا حيد عنه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
2 ـ أنها لا تتحول ولا تتبدل: قال تعالى: ((لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)) (الأحزاب، الآيات: 60ـ61ـ62).
وقال تعالى: ((وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)) (الفتح، الآيتان: 22ـ23).
3 ـ أنها ماضية لا تتوقف: قال تعالى: ((قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)) (الأنفال، الآية: 38).
4 ـ أنها لا تخالف ولاتنفع مخالفتها: قال تعالى: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ)) (غافر، الآيات: 82ـ85).(1/337)
5 ـ لاينتفع بها المعاندون ولكن يتعظ بها المتقون:
قال تعالى: ((قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)). (آل عمران، الآيتان: 137ـ138).
6 ـ أنها تسري على البر والفاجر:
فالمؤمنون ـ والأنبياء أعلاهم قدراً ـ تسري عليهم سنن الله ولله سنن جارية تتعلق بالآثار المترتبة على من إمتثل شرع الله أو أعرض عنه (1).
وللحكم بما أنزل الله آثار دنيوية وأخرى أخروية أما الآثار الدنيوية التي ظهرت في دولة عمر بن عبد العزيز فهي:
1 ـ الإستخلاف والتمكين:
حيث نجد أن عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ مكن الله له في الأرض تمكيناً عظيماً بسبب حرصه على إقامة شرع الله تعالى في نفسه وأهله ومن حوله وقومه وأمته وأخلص لله في مشروعه الإصلاحي الراشدي، فأيده الله عز وجل وشد أزره، فقد أخذ بشروط التمكين وعمل بها فتحقق له وعد الله قال تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)) (النور، الآية: 55). وهذه سنة ربانية نافذه لا تتبدل في الشعوب والأمم التي تسعى جاهدة وجادة لا قامة شرع الله.
2 ـ الأمن والإستقرار:
كانت الثورات في العهد الأموي على أشدها ضد النظام السائد، وخصوصاً من الخوارج إلا أن عمر بن عبد العزيز إستطاع بالحوار والنقاش أن يقنع الكثير منهم ولقد تميز عهده بالأمن والإستقرار بسبب عدله في الحكم ورفعه للمظالم، واحترامه الكبير لكل شرائح المجتمع، وحرصه على تطبيق الشريعة في كافة شؤون الحياة. قال تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)) (الأنعام، الآية: 82).
3 ـ النصر والفتح:
إن عمر بن عبد العزيز حرص على نصرة دين الله بكل ما يملك وتحققت فيه سنة الله في نصرته لمن ينصره، لأن الله ضمن لمن إستقام
_________
(1) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 667، 669).(1/338)
على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته، قال تعالى: ((وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)) (الحج، الآية: 41). فقد وعد الله من ينصره ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ولا يتكلم بما لا يعلم (1). كما نرى في حياتنا المعاصرة.
4 ـ العز والشرف:
إن الشرف الكبير والعز العظيم الذي سطر في كتب التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بسبب تمسكه بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وإن من يعتز بالإنتساب لكتاب الله الذي به تشرف الأمة ويعلو ذكرها وضع رجله على الطريق الصحيح وأصاب سنة الله الجارية في إعزاز وتشريف من يتمسك بكتابه وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) قال تعالى: ((لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)) (الأنبياء، الآية: 10) قال ابن عباس: ـ رضي الله عنه ـ في تفسيره هذه الآية: فيه شرفكم (2). فهذه الأمة لا تستمد الشرف والعزة إلا من استمساكها بأحكام الإسلام.
5 ـ بركة العيش ورغد الحيا ة في عهده:
قال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) (الأعراف، الآية: 96).
إن إقامة شرع الله تعالى وتطبيق أحكامه يجلب للأمة بركات مادية ومعنوية، فمن حقق الإيمان والتقوى يكرمه الله بهذا العطاء الرباني الكبير. والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون في توكيد ويقين، ألوان شتى، لا يفصلها النص ولا يحددها، وإيماء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان، النابع من كل مكان بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان فهي البركات بكل أنواعها وألوانها وبكل صورها وأشكالها وما يعهده الناس وما يتخيلونه، وما لم يتهيأ لهم في واقع الخيال (3). ولقد لا مس الناس وشاهد هذه البركات في عهد عمر بن عبد
_________
(1) صفحات مشرقة من التاريخ الإسلامي للصَّلاَّبيِّ (2/ 306).
(2) تفسير ابن كثير (3/ 170).
(3) في ظلال القرآن (3/ 1339).(1/339)
العزيز سواء كانت مادية أو معنوية، وفوجئ الناس أن بركة العيش ورغد الحياة قد عم جميع الناس ومالية الدولة قويت، وإطمأن الناس في كل رقعه من رقعة خلافة الدولة الأموية الواسعة، حتى عز وجود من يستحق الزكاة ويقبلها، وأصبحت هذه مشكلة للأغنياء وأصحاب الأموال تطلب حلاً سريعاً، قال يحيى بن سعيد: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيراً، ولم نجد من يا خذها مني، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقاباً، فأعتقتهم وولاؤهم للمسلمين (1). وقال رجل من ولد زيد بن الخطاب: " إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنيتين ونصف، فذلك ثلاثون شهراً، فما مات حتى جعل الرجل يا تينا بالمال العظيم فيقولوا: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح بماله يتذكر من يضعه فيهم فما يجده فيرجع بماله، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس (2). فهذه الفوائد العامة من بركات الحكومة الإسلامية التي تطبق شرع الله تعالى.
6 ـ إنتشار الفضائل وانزواء الرذائل:
بين الشريعة وبين الخلق أو ثق الرباط وأمتن العرى، كيف لا، والرسالة من غاياتها العظمى: تزكية الأخلاق وتربية الفضائل. قال تعالى: ((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)) (آل عمران، الآية: 164). فمعنى يزكيهم: أي يا مرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر لتزكوا نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به حال شركهم وجاهليتهم (3). ولقد إهتم عمر بن عبد العزيز بنشر الفضائل وحارب الرذائل وتحركت معه مدرسة الوعظ والإرشاد والتزكية والتربية والتي كان من روادها الحسن البصري، وأيوب السختياني، ومالك بن دينار وغيرهم وقد حققت هذه المدرسة نتائج باهرة في نشر الفضائل وأنزواء الرذائل، وقد حدث في عهد عمر بن عبد العزيز تجديداً كبيراً في توجه الأمة والمجتمع الإسلامي والتطور في الأذواق والأخلاق والميول والرغبات في هذه المدة القصيرة. فقد حدث الطبري في تاريخه:
_________
(1) رجال الفكر والدعوة (1/ 58).
(2) رجال الفكر والدعوة (1/ 58).
(3) تفسير ابن كثير (1/ 401)، الحكم والتحاكم (2/ 691).(1/340)
كان الوليد صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فإنما يسأل بعضهم بعضاً عن البناء والمصانع، فولى سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن التزويج والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل ما وراءك الليلة، وكم تحفظ من القرآن ومتى تختم، ومتى ختمت، وما تصوم من الشهر (1)؟
7 ـ الهداية والتثبيت:
جاء عن عمر بن عبد العزيز في خطابه الذي أرسل ليقرأ على الحجاج في موسم الحج:. .. ولولا أن أشغلكم عن مناسككم لرسمت لكم أموراً من الحق أحيا ها الله لكم، وأموراً من الباطل أماتها الله عنكم، وكان الله هو المتوحد بذلك فلا تحمدوا غيره، فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري والسلام عليكم (2). ولاشك أن عمر بن عبد العزيز حرص على تحكيم شرع الله في دولته وبذلك منحه الله نعمة عظيمة ألا وهي الهداية والتثبيت على الحق، قال تعالى: ((فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) (النساء، الآية: 65). ثم قال سبحانه وتعالى بعدها: ((وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)) (النساء، الآيات: 66، 67، 68) والأمر الذي وعظوا به ووعدوا الخير لا جله: هو تحكيم الشريعة والإنقياد للرسول (صلى الله عليه وسلم)، فلو أنهم إمتثلوا لما أمروا لثبت الله أقدامهم على الحق فلا يضطربون في دينهم، ولآتاهم الهداية التي لا عوج فيها بحيث توصلهم إلى الأجر العظيم (3).
إن الهداية والثبات على الأمر، هبة يهبها الله لمن تمخض قلبه لا مره وانقادت جوارحه لحكمه (4).
إن خلافة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخية على من لا يزال يردد ترديد الببغاء للكلمات والأصوات القائلة: إن الدولة التي تقوم على الأحكام الإسلامية والشريعة
_________
(1) تاريخ الطبري نقلاً عن رجال الفكرة والدعوة (1/ 59).
(2) حلية الأولياء (5/ 292 ـ 293).
(3) فتح القدير (1/ 485).
(4) الحكم والتحاكم (2/ 690).(1/341)
عرضة للمشاكل والأزمات وعرضة للإنهيار في كل ساعة، وأنها ليست إلا حلماً من الأحلام ولا يزال التاريخ يتحدى هؤلاء ويقول لهم (1): ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) (البقرة، الآية: 111).
ومما أدهشني في دراستي التاريخية تواصل الأجيال الإسلامية فيما بينها عبر حلقات متماسكة تؤثر بعضها في بعض فالسلطان نور الدين زنكي المتوفي (568هـ) كتب له الشيخ العلامة أبو حفص معين الدين عمر بن محمد بن خضر الإربلي سيرة عمر بن عبد العزيز لكي يسير نور الدين على منهاجها ولقد آتت معالم الإصلاح والتجديد الراشدي في عهد عمر بن عبد العزيز ثمارها في الدولة الزنكية عندما وجدت العالم الكبير الذي رسم ملامح المشروع الإصلاحي وهو الشيخ أبو حفص معين الدين، وأقتنع القائد العسكري والزعيم السياسي بسلامة المنهج وهو نور الدين زنكي، فقد قال: أبو حفص في مقدمة كتابه ـ عن عمر بن عبد العزيز وتقديمه ذلك الكتاب لنور الدين: .. علماً منه أن الإقتداء عن سلف الفضلاء والعقلاء يكمل الأجر ويبقي الذكر، وإتباع سنن المهديين الراشدين يصلح السريرة ويحسن السيرة، وأن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه (صلى الله عليه وسلم) بالإقتداء عن سلف من الأنبياء فقال عز من قائل: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)) (الأنعام، الآية: 90)، وقال تعالى ((وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)) (هود، الآية: 120). فلذلك إشتد حرصه ـ أدام الله سعادته ـ على جمع السير الصالحة والآثار الواضحة، فحينئذ رأيت حقاً علي بذل الوسع في مساعدته وإستنفاذ القوة في معاضدته بحكم صدق الولاء وأكيد الإخاء فصرفت وجه همتي إلى جمع سيرة السعيد الرشيد عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ والتجأت إلى الله الكريم جل أسمه أن يحسن معونتي ويُيسِّر ما صرفت إليه عزيمتي، فحين شرح الله صدري لذلك ولاحت أمارات المعونة، بادرت إلى جمع هذه السيرة برسم خزانته المعمورة معاونة على البر والتقوى (2).
لقد قدم هذا الشيخ الجليل منهاجاً علميا لنور الدين زنكي من خلال سيرة عمر بن عبد العزيز، فبنى دولة العقيدة، وحكم الشريعة وأقام العدل ورفع الضرائب والمكوس عن الأمة، وعمل
_________
(1) رجال الفكر والدعوة (1/ 59).
(2) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/ 2).(1/342)
على إحياء السنة وقمع البدعة وعمق هوية الأمة وفجر روح الجهاد فيها ونشر العلم وساهم في تحقيق الازدهار والرخاء وكان نسيجاً وحده في زهده وورعه وعبادته وصدقه وإخلاصه ومن أراد التوسع فليراجع الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري، عهد نور الدين وصلاح الدين لمحمد حامد الناصر.
إن آثار تحكيم شرع الله في الشعوب التي نفذت أوامر الله ونواهيه ظاهرة بينة لدارس التاريخ، وإن تلك الآثار الطيبة التي أصابت دولة عمر بن عبد العزيز، ودولة نور الدين زنكي ودولة يوسف بن تاشفين ودولة محمد الفاتح لهي سنن من سنن الله الجارية والماضية والتي لا تتبدل ولا تتغير، فأي قيادة مسلمة تسعى لهذا المطلب الجليل والعمل العظيم مخلفة لله في قصدها مستوعبة لسنن الله في الأرض فإنها تصل إليه ولو بعد حين وترى آثار ذلك التحكيم على أفرادها ومجتمعاتها ودولها وحكامها. إن الغرض من الأبحاث التاريخية الإسلامية الاستفادة الجادة من أولئك الذين سبقونا بالإيمان في جهادهم وعلمهم وتربيتهم وسعيهم الدؤوب لتحكيم شرع الله وأخذهم بسنن الله وفقهه ومراعاة التدرج والمرحلية والارتقاء بالشعوب نحو الكمالات الإسلامية المنشودة، إن التوفيقات الربانية العظيمة في تاريخ أمتنا يجريها الله تعالى على يدي من أخلص لربه ودينه وأقام شرعه وقصد رضاه وجعله فوق كل إعتبار.
ـ الأيام الأخيرة في حيا ة عمر بن عبد العزيز ووفاته رحمه الله:
1 ـ أخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز:
كانت أخر خطبة خطبها بخناصرة، فقال فيها: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدى وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض، ألا وأعلموا أنما الأمان غداً لمن حذر الله وخافه، وباع نافذا بباق، وقليلاً بكثير وخوفاً بأمان ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين؟ وفي كل يوم تشيعون غاديا ورائحاً إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجله، فتعيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحبة، وخلع الأسباب فسكن التراب وواجه(1/343)
الحساب، فهو مرتهن بعمله، فقير إلى ما قدم غني عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقعه وأيم الله إني لا قو لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه، وما منكم من أحد تبلغنا عنه حاجة إلا أحببت أن أسد من حاجته ما قدرت عليه، وما منكم أحد يسعه ما عندنا إلا وودت أنه سداي ولحمتي، حتى يكون عيشنا وعيشه سواء، وأيم الله أن لو أردت غير هذا من الغضارة والعيش، لكان اللسان مني به ذلولاً عالماً بأسبابه، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، يدل فيها على طاعته، وينهى عن معصيته، ثم رفع طرف ردائه فبكى حتى شهق وأبكى الناس حوله، ثم نزل فكانت إياها لم يخطب بعدها حتى مات رحمه الله (1).
2 ـ سقيه السم:
اختلفت الروايات عن سبب مرض وموت عمر بن عبد العزيز فعلى حين تذكر الروايات أن سبب مرضه وموته هو الخوف من الله تعالى والإهتمام بأمر الناس كما روي عن زوجته فاطمة بنت عبد الملك وكما ذكر إبن سعد في الطبقات عن ابن لهيعة (2)، إلا أنه قد ذكر سبب أخر لموته وهو أنه سقي السم وذلك أن بني أمية قد تبرموا وضاقوا ذرعاً من سياسة عمر بن عبد العزيز التي قامت على العدل وحمتهم من ملذاتهم وتمتعهم بميزات لا ينالها غيرهم، بل جعل بني أمية مثل أقصى الناس في أطراف دولة الإسلام ورد المظالم التي كانت في أيديهم وحال بينهم وبين ما يشتهون، فكاد له بعض بني أمية بوضع السم في شرابه (3). وهذا ليس من المستبعد أو المستغرب أن يعمد أحد هؤلاء إلى سقيه السم ليتخلص منه وليكن ذلك عن طريق خادمه الذي يقدم له الطعام والشراب، فقد روي أنهم وعدوا غلامه بألف دينار وأن يعتق إن هو نفذ الخطة فكان الغلام يضطرب كلما هم بذلك، ثم إنهم هددوا الغلام بالقتل إن هو لم يفعل، فلما كان مدفوعاً بين الترغيب والترهيب حمل السم فوق ظفره، ثم لما أراد تقديم الشراب لعمر قذف السم فيه ثم قدمه إلى عمر فشربه ثم حس به منذ أن وقع في بطنه (4). وعن مجاهد قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: ما يقول الناس في؟
_________
(1) تاريخ الطبري (7/ 475).
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 43) الحلية (5/ 342).
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 43).
(4) سيرة عمر لابن الجوزي صـ316، 317.(1/344)
قلت: يقولون إنك مسحور. قال: ما أنا بمسحور ثم دعا غلاماً له فقال له: ويحك ما حملك على أن تسقيني السم؟ قال: ألف دينار أعطيتها وعلى أن أعتق، قال: هات الألف فجاء بها فألقاها عمر في بيت المال. وقال: أذهب حيث لا يراك أحد (1) فالسبب المباشر لمرضه وموته فهو كما ذكرت الروايات كان بسبب سقيه السم (2)،
ففي عفوه عن غلامه الذي وضع له السم وتسبب في قتله وهو قادر على أن يقتله شر قتلة وفي عدم إستفهامه من الغلام عن من أمره بوضع السم وقد كان يستطيع إرغام الغلام والاعتراف بذلك ثم يأمر بالقصاص منهم جميعاً، مثل عجيب في العفو وسبب ذلك لا نه كان يوقن أن ما عند الله خير وأنه إن عفا عنه حصل له الثواب من الله تعالى على عفوه، وإن انتصر منه فأقام عليه الحد لم يا ثم ولكنه لا يحصل على أجر العفو ونظراً إلى أن أغلى شيء عنده في هذه الحياة أن يرتفع رصيده من الحسنات فإنه قد فضل العفو على انتصاره للنفس (3).
3 ـ شراء عمر موضع قبره:
بلغ من تواضع عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه عندما ذكروا له ذلك الموضع الرابع في حجرة عائشة والتي فيها قبر النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر وعمر، فقالوا: لو دنوت من المدينة حتى تدفن معهم قال: والله لا يعذبني الله عذاباً ـ إلا النار فإني لا صبر بي عليها ـ أحب إلي من أن يعلم الله من قلبي أني أراني لذلك أهلاً (4). ويأبى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله تعالى ـ إلا أن يشتري موضع قبره من ماله الخاص وذلك بسبب ورعه ومحاسبته الشديدة لنفسه، فقد جاءت الروايات أنه قال لمن حوله ـ وهو في مرض موته ـ إشتروا من الراهب موضع قبري فقال له النصراني: والله يا أمير المؤمنين إني لأتبرك بقربك وجوارك وإنها لخيرة أن يكون قبرك في أرضي، قد أحللتك ويأبى عمر قائلاً: إن بعتموني موضع قبري وإلا تحولت عنكم ثم دعا بالثمن الذي إختلفت الروايات في مقداره فقيل: دينارين، وقيل ستة، وقيل: ثلاثين، دعا بالثمن فوضعه في يد النصراني فقال أصحاب الأرض: لولا أنا نكره أن يتحول عنا ما قبلنا الثمن (5).
_________
(1) تذكرة الحفاظ (1/ 120).
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 44) ..
(3) التاريخ الإسلامي (16/ 229).
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ321 ـ 324، فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 45).
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ322 ـ 323.(1/345)
4 ـ وصيته لولي عهده يزيد بن عبد الملك:
كتب عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن عبد الملك ـ وهو في مرض الموت ـ قائلا:: بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر ـ أمير المؤمنين ـ إلى يزيد بن عبد الملك، السلام عليك:
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإني كتبت إليك وأنا دنف (1) من وجعي وقد علمت إني مسئول عما وليت يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة ولست أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئاً يقول تعالى فيما يقول: ((فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)): (الأعراف، الآية: 7) فإن يرضى عني الرحيم فقد أفلحت ونجوت من الهول الطويل، وإن سخط علي فيا ويح نفسي إلى ما أصير أسأل الله الذي لا إله إلا هو، أن يجيرني من النار برحمته، وأن يمن علي برضوانه والجنة. وعليك بتقوى الله والرعية الرعية، فإنك لن تبقى بعدي إلا قليلاً حتى تلحق باللطيف الخبير (2). وجاء في رواية:. .. فإن سليمان بن عبد الملك، كان عبداً من عباد الله، قبضه الله واستخلفني وبايع لي من قبله، وليزيد بن عبد الملك إن كان من بعدي، ولو كان الذي أنا فيه لاتخاذ أزواج، أو اعتقاد أموال كان الله قد بلغ بي أحسن ما بلغ بأحد من خلقه ولكني أخاف حساباً شديداً ومسألة لطيفة، إلا ما أعان الله عليه والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. لقد نصح عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ لولي عهده يزيد بن عبد الملك ما وسعه النصح وبذل ما يقدر عليه من التخويف والتهديد من عاقبة الأمر مع ضرب الأمثلة والإعتبار بالسابقين فقد نصح وبلَغ أتم البلاغ (3).
5 ـ وصيته لأولاده عند الموت:
لما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة دخل عليه مسلمة بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين إنك قد أفغرت أفواه ولدك من هذا المال، فلو أوصيت بهم إليَ وإلى نظرائي من قومك فكفوك مؤونتهم، فلما سمع مقالته: قال: أجلسوني فأجلسوه فقال: قد سمعت مقالتك يا مسلمة، أما قولك: إني قد أفغرت أفواه ولدي من هذا المال فوالله ما ظلمتهم حقاً هو لهم
_________
(1) دنف: برأه المرض حتى أشفى على الموت.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ318 ـ 319، فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 47).
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 47).(1/346)
ولم أكن لأعطيهم شيئاً لغيرهم، وأما ما قلت في الوصية فإن وصيتي فيهم: ((إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)) (الأعراف، الآية: 196). وإنما ولد عمر بين أحد رجلين: إما صالح فسيغنيه الله، وإما غير ذلك فلن أكون أول من أعانه بالمال على معصية الله ادع لي بني، فأتوه فلما رآهم ترقرقت عيناه، وقال: بنفسي فتية تركتهم عالة لا شيء لهم ـ وبكى ـ: يا بني إني قد تركت لكم خيراً كثيراً، لا تمرون بأحد من المسلمين وأهل ذمتهم إلا رأوا لكم حقاً يا بني إني قد مثلت بين الأمرين: إما أن تستغنوا وأدخل النار، أو تفتقروا إلى أخر يوم الأبد وأدخل الجنة، فأرى أن تفتقروا إلى ذلك أحب إلي، قوموا عصمكم الله، قوموا رزقكم الله (1). وجاء في رواية: أن عمر وصى مسلمة أن يحضر موته وأن يلي غسله وتكفينه، وأن يمشي معه إلى قبره، وأن يكون مما يلي إدخاله في لحده، ثم نظر إليه وقال: انظر يا مسلمة بأي منزل تركتني، وعلى أي حال أسلمتني إليه الدنيا فقال له مسلمة: هذه مائة ألف دينار، فأوصي فيها بما أحببت، قال: أو خير من ذلك يا مسلمة؟ أن تردها من حيث أخذتها، قال مسلمة: جزاك الله عنا خيراً يا أمير والله لقد ألنت قلوباً قاسية، وجعلت لنا ذكراً في الصالحين (2)
وفي الأثرين الماضيين دروس وعبر ففي الخبر الأول مثل من ورع أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى حتى في وصيته لأولاده بعد موته، حيث لم يرض لنفسه أن يفارق الدنيا وقد حمل ذمته شيئاً لا يدري على أي وضع يكون تنفيذه، فربما تصور أنه لو أوصى بهم أحد أقاربه لأعطاهم من مصدر لا يحل، فيلحقه بذلك شيء من الإثم، فلجأ إلى الله تعالى وفوض أمرهم إليه، لقد تصور في معاملة أولاده وقوعه بين أمرين: أن يغنيهم في الحياة الدنيا، وذلك يمنحهم شيئاً من المال العام للمسلمين، فيتعرض بذلك للفحات النار، أو أن يكتفي بالإنفاق عليهم من المورد القليل الحلال الخالي من الشبهات فيتعرض بذلك لنفحات الجنة، فاختار الطريق الأخير مع ثقته أن لن يضيعهم وقد أشار إلى أنه ترك لهم السمعة العالية، حيث سيكونون موضع إحترام وعطف جميع المسلمين
_________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ115، 116، التاريخ الإسلامي (16/ 220).
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ122، 123، التاريخ الإسلامي (16/ 222) ..(1/347)
وأهل الذمة، وأكرم بذلك من تركة إنها تركة عظيمة لا تقدر بها أموال الدنيا عند أصحاب الأفكار النيرة والعقول المبصرة، وفي قوله: (إنما ولد عمر بين رجلين: إما رجل صالح فسيغنيه الله وإما غير ذلك فلن أكون أول من أعانه بالمال على معصية الله) لفتة جليلة إلى معية الله تعالى لأوليائه بالحفظ أخذاً من قول الله تعالى: ((وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ))، وإشارة إلى أن الأمر المهم أن يبذل الوالد أقصى جهده في تربية أولاده على الصلاح ليحفظهم الله تعالى، وليس المهم أن يسعى في جمع المال لهم حتى يغتنوا من بعده، لا نهم إن لم يكونوا صالحين فسيكون ذلك المال عوناً لهم على معصية الله تعالى (1).
وأما في الأثر الثاني يوجه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ابن عمه مسلمة بن عبد الملك إلى التحري في اكتساب المال، ويبين له أن إنفاق المال بالصدقة أو الهدية لا يجعله حلالاً، بل لا بد من التحري في كسبه، فإذا لم يكن للإنسان حق فيه وجب عليه أن يرده إلى مستحقيه، ولا يبرئ ساحته أن يتصدق به أو يهديه (2).
6 ـ وصيته إلى من يغسله ويكفنه:
عن رافع بن حفص المدني أن عمر قال لرجاء: إذا أنا مت وغسلتموني وكفنتموني وصليتم علي وأدخلتموني لحدي، فاجذب اللبنة من عند رأسي، فإن رأيت وجهي إلى القبلة فاحمدوا الله وأثنوا عليه، وإن رأيت قد زويت عنها، فاخرج إلى المسلمين ماداموا عند لحدي حتى يستوهبوني من ربي، قال: فلما وضع في لحده وقبل باللبن على وجهه جذبت اللبنة من عند رأسه فإذا وجهه إلى القبلة فحمدنا الله وأثنينا عليه (3).
7 ـ كراهته تهوين الموت عليه:
قال عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن يخفف عني سكرات الموت لا نه آخر ما يرفع للمؤمن من الأجر (4). وفي رواية: ما أحب أن يخفف عني سكرات الموت لا نه آخر ما يكفر به عن المرء المؤمن (5).
8 ـ حاله لما احتضر:
لما احتضر عمر بن عبد العزيز، قال: أخرجوا عني فلا يبقين عندي أحد. وكان عنده مسلمة بن عبد الملك، فخرجوا وقعد مسلمة
_________
(1) التاريخ الإسلامي (16/ 222).
(2) المصدر نفسه (16/ 222).
(3) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (2/ 644، 645).
(4) المصدر نفسه (2/ 648).
(5) المصدر نفسه (2/ 648).(1/348)
وفاطمة زوجه أخت مسلمة على الباب فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه ليست وجوه إنس ولا بوجوه جان (1)، وجاء في رواية:. .. قالت فاطمة بنت عبد الملك: كنت أسمع عمر يقول في أيا م مرضه: اللهم أخف عنهم موتي ولو ساعة من نهار، فلما كان اليوم الذي قبض فيه خرجت من عنده، وجلست في بيت بيني وبينه باب، فسمعته يقول: ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) (القصص، الآية: 83). ثم هدأ فجعلت لا أسمع له صوتاً ولاحساً ولا كلاماً. فقلت لوصيف كان يخدمه: لو دخلت على أمير المؤمنين فدخل وصاح، فقمت ودخلت عليه وقد أقبل بوجهه إلى القبلة وأغمض عينيه بإحدى يديه وأغمض فمه بالأخرى، ومات رحمه الله (2). وجاء في رواية: أن عمر بن عبد العزيز لما كان مرضه الذي هلك فيه قال لهم: أجلسوني، فأجلسوه، ثم قال: أنا الذي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه وأحد النظر فقالوا له: إنك لتنظر نظراً شديداً، فقال إني لأرى حضرة ليست بإنس ولا جن ثم قبض (3). وكان نقش خاتمه: عمر بن عبد العزيز يؤمن بالله.
9 ـ تاريخ وفاته:
توفي الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة لعشر ليال بقين من رجب سنة (101هـ) على أصح الروايات وأستمر معه المرض عشرين يوماً وتوفي بدير سمعان من أرض المعرة بالشام بعد خلافة إستمرت سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيا م وتوفي وهو إبن تسع وثلاثين سنة وخمسة أشهر وعلى أصح الروايات وكان عمره لما توفي أربعين سنة (4).
10 ـ الأموال التي تركها عمر بن عبد العزيز:
اختلفت الروايات على مقدار تركة عمر بن عبد العزيز حين توفي، ولكن الروايات متفقة على قلة التركة وانعدامها (5)، ومن هذه الروايات ما رواه عمر بن حفص المعيطي قال: حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت كم ترك لكم من
_________
(1) المصدر نفسه (2/ 652).
(2) المصدر نفسه (2/ 653).
(3) المصدر نفسه (2/ 654).
(4) تاريخ القضاعي صـ363.
(5) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 50) تذكرة الحفاظ (1/ 118).(1/349)
المال؟ فتبسم وقال: حدثني مولى لنا كان يتولى نفقته، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ حين أحتضر: كم عندك من المال؟ قلت أربعة عشر ديناراً، قال: فقال تحتملون بها من منزل إلى منزل، فقلت: كم ترك من النحلة؟ قال: ترك لنا نحلة ستمائة دينار ورثناها عنه عن اختيار عبد الملك، وتركنا إثني عشر ذكراً وست نسوة، فقسمناها على خمس عشرة (1). والصحيح أن الذكور الذين ورثوه هم أحد عشر ذكراً، لوفاة ابنه عبد الملك قبله (2). وقال ابن الجوزي: أبلغني أن المنصور قال لعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: عظني. قال: مات عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ وخلف أحد عشر ابناً، وبلغت تركته سبعة عشر ديناراً كفن منها بخمسة دنانير، وثمن موضع قبره ديناران وقسم الباقي على بنيه وأصاب كل واحد من ولده تسعة عشر درهماً، ومات هشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابناً فقسمت تركته وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف، ورأيت رجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله عز وجل، ورأيت رجلاً من ولد هشام يتصدق عليه (3). وما مضى يظهر لنا جليا أن المال الذي ورثه عمر بن عبد العزيز من أبيه ـ وهو مال كثير ـ أخذ في التناقص حتى توفي ـ رحمه الله ورضي الله عنه (4).
11 ـ ثناء الناس على عمر بن عبد العزيز بعد وفاته:
أـ مسلمة بن عبد الملك: حين توفي عمر ورآه مسجى قال يرحمك الله لقد لينت لنا قلوباً قاسية وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً (5).
ب ـ ... فاطمة بنت عبد الملك: فعن وهيب بن الورد، قال: بلغنا أن عمر بن عبد العزيز لما توفي جاء الفقهاء إلى زوجته يعزونها، فقالوا لها: جئناك لنعزيك بعمر، فقد عمت مصيبة الأمة، فأخبرينا يرحمك الله عن عمر: كيف كانت حاله في بيته؟ فإن أعلم الناس بالرجل أهله. فقالت: والله ما كان عمر بأكثركم صلاة ولا صياماً ولكني والله ما رأيت عبداً لله قط أشد خوفاً لله من عمر، والله إن
_________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي صـ337.
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 55).
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ338.
(4) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 56).
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ329.(1/350)
كان ليكون من المكان الذي ينتهي إليه سرور الرجل بأهله، بيني وبينه لحاف، فيخطر على قلبه الشئ من أمر الله، فينتفض كما ينتفض طائر وقع في الماء، ثم يشجب، ثم يرتفع بكاؤه حتى أقول: والله لتخرجن نفسه فأطرح اللحاف عني وعنه، رحمة له وأنا أقول: يا ليتنا كان بيننا وبين هذه الإمارة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سروراً منذ دخلنا فيها (1).
ج ـ الحسن البصري: لما أتى الحسن موت عمر بن عبد العزيز قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا صاحب كل خير (2).
ح ـ ... مكحول: ما رأيت أزهد ولا أخوف لله من عمر بن عبد العزيز.
دـ ... يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز (3)، كأن النار لم تخلق إلا لهما (4).
س ـ ... بكاء الرهبان عليه: عن الأوزاعي قال: شهدت جنازة عمر بن عبد العزيز، ثم خرجت أريد مدينة قنسرين فمررت على راهب فقال: يا هذا أحسبك شهدت وفاة هذا الرجل قال: فقلت له: نعم فأرخى عينيه فبكى سجاماً، فقلت له: ما يبكيك ولست من أهل دينه؟ فقال: إني لست أبكي عليه، ولكن أبكي على نور كان في الأرض فطفئ (5).
وـ ... ملك الروم وبطارقته: بعث عمر بن عبد العزيز وفداً إلى ملك الروم في أمر من مصالح المسلمين، وحق يدعوه إليه، فلما دخلوا إذا ترجمان يفسر عليه وهو جالس على سرير ملكه، والتاج على رأسه والبطارقة على يمينه وشماله والناس على مراتبهم بين يديه، فأدى إليه ما قصدوه له فتلقاهم بجميل وأجابهم بأحسن الجواب، وانصرفوا عنه في ذلك اليوم، فلما كان في غداة غد أتاهم رسوله، فدخلوا عليه، فإذا هو قد نزل عن سريره ووضع التاج عن رأسه، وقد تغيرت صفاته التي شاهدوه عليها كأنه في مصيبة، فقال: هل تدرون لماذا دعوتكم؟ قالوا: لا قال: إن صاحب مصلحتي التي تلي العرب جاء في كتابه في هذا الوقت: أن
_________
(1) البداية والنهاية نقلاً عن ملامح الانقلاب صـ56.
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 53).
(3) تاريخ الخلفاء للسيوطي نقلاً عن ملامح الانقلاب صـ55.
(4) صفة الصفوة (3/ 156).
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ331.(1/351)
ملك العرب الرجل الصالح قد مات، فما ملكوا أنفسهم أن بكوا، فقال: ألكم تبكون، أو لدينكم أو له؟ قالوا: نبكي لا نفسنا ولديننا وله قال: لا تبكوا له، وأبكوا لا نفسكم ما بدا لكم، فإنه خرج إلى خير مما خلف، وقد كان يخاف أن يدع طاعة الله فلم يكن الله ليجمع عليه مخافة الدنيا ومخافته، لقد بلغني من بره وفضله وصدقه ما لو كان أحد بعد عيسى يحيى الموتى لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطناً وظاهراً فلا أجد أمره مع ربه إلا واحداً بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه، ولم أعجب لهذا الراهب الذي ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعته، ولكني عجبت من هذا الذي صارت الدنيا تحت قدمه فزهد فيها، حتى صار مثل الراهب، إن أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلا قليلاً (1).
12 ـ ما نسب إليه من كرامات عند موته:
يحكى ويقال عن حسين القصار (2) قال: كنت أجلب الغنم في خلافة عمر بن عبد العزيز، فمررت يوماً براع وفي غنمه نحو من ثلاثين ذئباً حسبتها كلاباً، فقلت له: يا راعي ما ترجوه بهذه الكلاب كلها؟ فقال: يا بني إنها ليست كلاباً إنما هي ذئاب. قلت: يا سبحان الله ذئب في غنم لا يضرها، فقال: يا بني إذا صلح الرأس فليس على الجسد من بأس (3). ويبدو أن مثل هذه القصص من المبالغات وإلا في عهد النبوة وقيا م الدولة في المدينة وعهد الخلافة ولم نسمع بأن الذئاب كانت ترعى مع الغنم. وقد رئيت له منامات صالحة وتأسف عليه الخاصة والعامة، لاسيما العلماء والزهاد والعباد (4).
13 ـ ما قيل فيه من رثاء:
أـ كثير عزّة قال فيه:
عمّت صنائعه فعم هلاكه ... فالناس فيه كلهم مأجور
والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار رنَة وزفير
_________
(1) مروج الذهب (3/ 195) فقه عمر بن عبد العزيز (1/ 54).
(2) لعله جسر القصاب: اختلف فيه والأكثرون على تضعيفه.
(3) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (2/ 670).
(4) البداية والنهاية (12/ 718).(1/352)
يثني عليك لسانك من لم توله ... خيراً لأنك بالثناء جدير
ردَت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور (1)
ب ـ وقال جرير:
ينعى النعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمراً عظيماً فاضطلعت به ... وقمت فيه بأمر الله يا عمرا
الشمس كاسفة (2) ليست بطالعة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا (3)
جـ ـ وقال محارب بن دثار:
لو أعظم الموت خلقاً أن يواقعه ... لعدله لم يصبك الموت يا عمر
كم من شريعة عدل قد نعشت لهم ... كادت تموت وأخرى منك تنتظر
يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي ... على العدول التي تغتلها الحفر
وأنت تتبعهم لم تأل مجتهداً ... سقيا لها سنن بالحق تفتقر
لو كنت أملك والأقدار غالبة ... تأتي رواحاً وتبياناً وتبتكر (4)
رحم الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وأعلى ذكره في المصلحين فهذه معالم من سيرته الإصلاحية التجديدية الراشدية التي سار بها على منهاج النبوة، وقد حفظ الله لنا هذه السيرة ولم تهملها الليالي، ولم تفصلها عنا حواجز الزمن ولا أسوار القرون فلعلها تجد من يسير على نهجه من حكامنا وزعمائنا وقادتنا وما ذلك على الله بعزيز في جيلنا أو في غيره.
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 718).
(2) المصدر نفسه (12/ 719).
(3) المصدر نفسه (12/ 719).
(4) المصدر نفسه (12/ 719).(1/353)
مراجع كتاب عمر بن عبد العزيز
1 ـ أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية د. عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد الخرعان، مكتبة الرشد الرياض، الطبعة الأولى 1424هـ.
2 ـ أخبار مكة للفاكهب، عبد الله بن محمد، تحقيق عبد الملك بن دهيش.
3 ـ أدب الدنيا والدين للماوردي، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي.
4 ـ آراء المعتزلة الأصولية د. علي بن سعد بن صالح الضويحي مكتبة الرشد الرياض، الطبعة الثالثة 1421هـ ـ 2000م.
5 ـ أصول الحديث، محمد عجاج الخطيب.
6 ـ إعلام الموقعين، لابن القيم، شمس الدين، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، دار الفكر بيروت الطبعة الثانية 1397م.
7 ـ أقوال التابعين في مسائل التوحيد والإيمان، عبد العزيز عبد الله المبدل، دار التوحيد، الرياض الطبعة الأولى 1424هـ ـ 2003م.
8 ـ الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانية الفرق المذمومة لابن بطة العكبري، تحقيق ودراسة رضا بن نعسان معطي الطبعة دار الراية الرياض.
9 ـ الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة، حياة محمد جبريل، الجامعة الإسلامية، الطبعة الأولى 1423هـ ـ 2002م.
10 ـ الإدارة الإسلامية في عز العرب، محمد علي كرد، الطبعة الأولى، القاهرة، مطبعة مصر 1352هـ ـ 1934م.
11 ـ الإدارة في الإسلام الفكر والتطبيق د. عبد الرحمن إبراهيم الضحيان، دار الشروف 1407هـ.
12 ـ الاعتصام للشاطي ضبطه وصححه أحمد عبد الشافي دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الثانية عام1411 هـ ـ 1991م.
13 ـ الإمام أيوب السختياني، د. سليمان عبد العزيز العريني مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1419هـ ـ 1998م.
14 ـ الأموال لأبي عبيد، القاسم بن سلام الطبعة الثانية تحقيق وتعليق: محمد خليل هراس، بيروت دار الفكر للطباعة1408هـ ـ 1988م.
15 ـ الانتصار للصحب والآل من افتراءات السَّماوي الضّال د. إبراهيم الرحيلي، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة الطبعة الأولى1418 هـ ـ 1997م.
16 ـ البداية والنهاية، وأبو الفداء الحافظ بن كثير الدمشقي دار الريّان الطبعة الأولى 1408هـ ـ 1988م.
17 ـ البدع والنهي عنها لابن وضاح الأندلسي، تحقيق محمد أحمد دهمان، دار الأصفهاني جدة.
18 ـ البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب، أبو عبد الله محمد المرَّاكشي ابن عِذَارى.
19 ـ البيان والتبيين للجاحظ، أبو عمر عثمان بن عمرو بن بحر، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي القاهرة، الطبعة الرابعة، 1395هـ.
20 ـ التابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي' للشايجي، دار اليقين، المنصورة الطبعة الأولى: 2001م.(/)
21 ـ التاريخ الإسلامي،، محمود شاكر، المكتب الإسلامي الطبعة السابعة 1411هـ ـ 1991م.
22 ـ التجديد في الفكر الإسلامي، د. عدنان محمد أسامة دار ابن الجوزي، الرياض، الطبعة الأولى رجب 1424هـ.
23 ـ التطور الاقتصادي في العصر الأموي د. عصام هشام عيدروس الجفري، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى السعودية.
24 ـ الثمار الزكية للحركة السنوسية، د. علي محمد الصَّلاَّبيِّ دار التوزيع والنشر الإسلامية مصر، الطبعة الأولى 1426هـ ـ 2001م.
25 ـ الثمر الداني في تقريب المعاني شرح رسالة أبي زيد.
26 ـ الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، طبعة ثالثة ـ عن طبعة دار الكتب المصرية.
27 ـ الجامع لأخلاق الرواي، للخطيب البغدادي.
28 ـ الجوانب التربوية في حياة الخليفة عمر بن عبد العزيز جامعة اليرموك الأردن، رسالة ماجستير.
29 ـ الحسن البصري، مصطفي سعيد الخن، دار القلم دمشق الطبعة الأولى 1416هـ ـ 1995م.
30 ـ الحسن البصري إمام عصره وعلامة زمانه مرزوق علي إبراهيم، دار الفضيلة، القاهرة.
31 ـ الحسن والحسين، سيدا شباب أهل الجنة، محمد رضا، المكتبة العصرية، لبنان الطبعة الأولى 1422هـ ـ 2001م.
32 ـ الحكم والتحاكم في خطاب الوحي د. عبد العزيز مصطفى كامل، دار طيبة، الطبعة الأولى 1415هـ ـ 1995م.
33 ـ الحياة الاقتصادية والإجتماعية في نجد والحجاز في العصر الأموي، عبد الله محمد السيف، مؤسسة الرسالة 1403هـ ـ 1983م.
34 ـ الخراج لأبي يوسف، يعقوب بن إبراهيم، دار المعرفة بيروت لبنان1399هـ ـ 1979م.
35 ـ الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية محمد ضياء الدين، الطبعة الخامسة القاهرة: مكتبة دار التراث 1985م.
36 ـ الخراج يحي بن آدم القرشي، الطبعة الأولى تحقيق د. حسين مؤنس، القاهرة، بيروت، دار الشروق1987م.
37 ـ الخطط للمقريزي، تقي الدين أحمد بن علي المقريزي مكتبة الثقافة الدينية القاهرة، الطبعة الثانية 1987م.
38 ـ الخوارج، ناصر العقل، دار الوطن، الرياض الطبعة الأولى 1416هـ.
39 ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام السيوطي، الناشر محمد أمين دمج، بيروت، لبنان.
40 ـ الدعوة إلى الله في العصر العباسي الأول د. علي أحمد مشاعل، دار العاصمة، الطبعة الأولى السعودية عام 1414هـ.
41 ـ الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام، السيد عمر، الطبعة الأولى 1417هـ ـ 1996م المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
42 ـ الدولة الأموية، يوسف العش، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثالثة 1406هـ ـ 1985م.(/)
43 ـ الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، الطبعة دار اللواء الثانية عام 1402هـ ـ 1982م.
44 ـ الرقة والبكاء، موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة، دار القلم دمشق، الدار الشامية بيروت الطبعة الثانية 1422هـ ـ 2001م.
45 ـ الروح لابن القيم، دار الكتاب العربي، تحقيق ودراسة الدكتور السيد الجميلي الطبعة الثالثة عام 1408هـ ـ 1988م بيروت لبنان.
46 ـ الزهد للحسن البصري د. محمد عبد الرحيم، دار الحديث مصر.
47 ـ السنة لعبد الله بن أحمد بن حنيل، تحقيق ودراسة د. أكرم محمد سعيد سالم القحطاني، رمادي للنشر الدمام الطبعة الثالثة عام 1416هـ ـ 1995م.
48 ـ السنة ومكانتها في التشريع، للدكتور مصطفى السباعي طبعة أولى مطبعة المدني بمصر 1380هـ ـ 1961م.
49 ـ السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز، بشير كمال بشير عابدين، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك الأردن.
50 ـ الشرف والتسامي بحركة الفتح الإسلامي للصَّلاَّبيِّ، د. علي الصَّلاَّبيِّ، الصحابة، الشارقة.
51 ـ الشريعة للآجري، للإمام المحدث أبي بكر محمد بن الحسين الآجري، وتحقيق عبد الله بن عمر بن سليمان الرميحي دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى 1418هـ ـ 1997م.
52 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة، دار الحديث القاهرة تحقيق أحمد شاكر، الطبعة الثانية 1418هـ ـ 1998م.
53 ـ الضرائب في السواد في العصر الأموي، عبد العزيز الدوري ن في بحوث ودراسات مهداة إلى عبد الكريم محمودغرايبة بمناسبة بلوغه الخامسة والستين، عمان، 1988م.
84 ـ العقد الفريد، أحمد بن محمد ابن عبد ربه، تحقيق أحمد أمين.
85 ـ العلاقات العربية ـ البيزنطية في العصر الأموي، صالح حسن عيد عيسى الشمري، جامعة بغداد رسالة ماجستير، عام 1408هـ ـ 1988م.
86 ـ العلل المتناهية لابن الجوزي، تحقيق خليل الميسي دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ.
87 ـ الفتوى: نشأتها وتطورها، حسين الملاح، المكتبة العصرية، لبنان، الطبعة الأولى 1422هـ ـ 2001م.
88 ـ الفرق بين الفرق، أبو منصور، عبد القاهر بن طاهر البغداي، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ـ طبع مؤسسة الحلبي وشركاه بالقاهرة.
89 ـ القدرية والمرجئة د. ناصر العقل، دار الوطن الرياض الطبعة الأولى 1418هـ ـ 1997م.
90 ـ القضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود، دار الوطن الرياض، الطبعة الثانية 1418هـ ـ 1997م.
91 ـ القضاء والقدر لمحمد بن إبراهيم الحمد.
92 ـ القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى للشيخ محمد الصالح العثيمين.(/)
93 ـ الكامل في التاريخ، أبو الحسن علي بن أبي المكارم الشيباني المعروف، لابن الأثير تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، بيروت الطبعة الأولى 1408هـ ـ 1989م.
94 ـ الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز، لأبي حفص عمر بن الخضر المعروف بالملاء تحقيق د. محمد صدقي اليورنو، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1996م.
95 ـ المجتمع الإسلامي، دعائمه وآدابه د. محمد أبو عجوة، الناشر، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى نوفمبر 1999م.
96 ـ المجددون في الإسلام، عبد المتعال الصعيدي، دار الحامي للطباعة، مصر.
97 ـ المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، للقاضي الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي المتوفي 360هـ، تحقيق د. محمد عجاج الخطيب.
98 ـ المحلي، تأليف علي بن أحمد سعيد بن حزم المتوفي سنة 456هـ، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة وهو أحد منشوراتها: بيروت.
99 ـ المدينة النبوية، فجر الإسلام والعصر الراشدي محمد محمد حسن شُرَّاب، دار القلم دمشق، الدار الشامية بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ ـ 1994م.
100 ـ المعارف لابن قتيبة، تحقيق ثروة عكاشة، الطبعة الثالثة دار المعارف ـ مصر.
101 ـ المعرفة والتاريخ للإمام يعقوب بن سفيان الفسوي تحقيق الدكتور أكرم ضياء العمري، مطبعة الإرشاد بغداد.
102 ـ المغني لابن قدامه للإمام أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي متوفي سنة 620هـ نشر مكتبة الجمهورية العربية بالقاهرة.
103 ـ الملل والنحل للشهرستاني، محمد عبد الكريم، نشر مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة 1956م.
104 ـ المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.
105 ـ المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، باب ذكر المعتزلة لأحمد بن يحي بن المرتضى دار صادر بيروت ـ مصورة عن طبعة 1316هـ.
106 ـ الموطأ للإمام مالك. رواية يحي بن يحي الليثي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ ـ 1984م.
107 ـ النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز محمد بن مشيب بن سلمان القحطاني، منشوارت جامعة أم القرى طبعة عام 1418هـ.
108 ـ النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، تحقيق محمود محمد الطناجي الطبعة الأولى عام 1393هـ ـ 1963م. دار إحياء الكتب.
109 ـ الوسطية في القرآن الكريم، د. علي محمد الصَّلاَّبيِّ دار الصحابة الشارقة.
110 ـ الوافي بالوفيات للصدفي.
111 ـ الولاة وكتاب القضاة للكندي، أبو عمر محمد بن يوسف الكندي، مطبعة الإباء اليسوعيين ـ بيروت ـ 1908م.(/)
112 ـ انتشار الإسلام في القرن الإفريقي خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة، محمود محمد هملان الجبارات ماجستير، جامعة النيلين 1998م ـ 1999م.
113 ـ أنساب الأشراف، أحمد بن يحي بن جابر البلاذري، طبع بيروت، عام 1989م.
114 ـ براءة السلف مما نسب إليهم من إنحراف في الاعتقاد عدنان عبد القادر، دار الإيمان، الإسكندرية.
115 ـ تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة. عبد اللطيف عبد القادر الحفظي، دار الأندلس، الطبعة الأولى 1421هـ ـ 2000م.
116 ـ تاريخ أبي زرعة، تحقيق شكر الله، نعمة الله القوجاني مطبوعات اللغة العربية بدمشق.
117 ـ تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى نهاية القرن الثاني، د. عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات مصر، الكويت، الطبعة الأولى 1975م.
118 ـ تاريخ الجدل، أبو زهرة، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي.
119 ـ تاريخ الخلفاء، لجلال الدين السيوطي، دار صادر بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ ـ 1997م.
120 ـ تاريخ الطبري، المسمى بتاريخ الأمم والملوك لأبي جعفر الطبري، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ ـ 1987م.
121 ـ تاريخ الفتح العربي في ليبيا، للطاهر أحمد الزاوي، دار التراث العربي، ليبيا، الطبعة الثالثة.
122 ـ تاريخ خليفة بن خياط، أبو عمر خليفة بن خياط بن أبي هبيرة الليثي، تحقيق: أكرم ضياء العمري، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة، دار القلم بيروت 1397هـ.
123 ـ تذكرة الحفاظ للذهبي، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
124 ـ تفسير ابن أبي حاتم.
125 ـ تفسير التابعين، د. محمد بن عبد الله بن علي الخضري دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى 1420هـ ـ 1999م.
126 ـ تفسير السعدي، للشيخ عبد الرحمن السعدي دار ابن الجوزي، السعودية.
127 ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير القرشي، دار الفكر، دار القلم، بيروت لبنان.
128 ـ تناقضأهل الأهواء والبدع في العقيدة، د. عفاف بنت بن محمد مختار، مكتبة الرشد، الرياض عام 2000م، الطبعة الأولى.
129 ـ تهذيب الأسماء واللغات، للإمام النووي.
130 ـ تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، حيدر آباد الدكن، نشر دار صادر بيروت سنة 1322هـ.
131 ـ جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم لابن رجب الحنبلي د. يوسف البقاعي الطبعة المكتبة العصرية صيدا بيروت الطبعة الأولى عام 1995م.
132 ـ جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، تصوير دار الكتب العلمية 1398هـ بيروت.
133 ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام لابن القيم الجوزية، دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الأولى 1405هـ ـ 1985م.(/)
134 ـ جواهر الأكليل شرح مختصر خليل في مذهب الإمام مالك للشيخ صالح عبد السميع الآبي الأزهري دار المعرفة، بيروت.
135 ـ حاشية عابدين، مطابع مصطفى البابي وأولاده.
136 ـ حقيقة البدعة وأحكامها، سعيد الغامدي، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى 1992م.
137 ـ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت.
138 ـ حياة الحسن البصري د. روضة الحصري، دار الكلم الطيبة، دمشق، الطبعة الأولى 1422هـ ـ 2002م.
139 ـ خامس الخلفاء الراشدين، حسن بن علي بن أبي طالب، د. علي محمد الصَّلاَّبيِّ، دار ابن كثير، دمشق 2004م الطبعة الأولى.
140 ـ دراسات في الأهواء والفرق والبدع د. ناصر عبد الكريم العقل، مركز الدراسات والإعلام دار أشبيليا، الرياض، الطبعة الأولى 1418هـ ـ 1997م.
141 ـ دفاعاً عن السلفية، عمرو عبد المنعم سليم، مكتبة الصحابة الشارقة الإمارات، الطبعة الرابعة 1420هـ ـ 1999م.
142 ـ دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأبي بكر محمد البيهقي، تحقيق عبد المعطي قلعجي الطبعة الأولى 1405هـ دار الكتب العلمية بيروت.
143 ـ دموع القرّاء، محمد شومان، دار النفائس الأردن، الطبعة الأولى 1423هـ ـ 2003م.
144 ـ ذم الدنيا لابن أبي الدنيا.
145 ـ رجال الفكر للندوي، أبو الحسن، الطبعة الأولى 1420هـ ـ 1999م دار ابن كثير دمشق.
146 ـ رسالة توحيد الألوهية أساس الإسلام للباحث حامد عبد القادر الأحمدي مطبوع على الآلة الكاتبة.
147 ـ روضة الطالبين وعمدة المفتين، للإمام محي الدين بن شرف النووي، نشر المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة الثانية سنة 1405هـ ـ 1985م.
148 ـ رياض النفوس للمالكي، أبو بكر عبد الله المالكي، تحقيق الدكتور حسين مؤنس، القاهرة.
149 ـ زاد المسير في علم التفسير، لأبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي الجوزي القرشي البغدادي، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1384هـ ـ 1965م.
150 ـ سراج الملوك للطرطوشي، أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد القرشي الفهري الأندلس الطرطوشي، طبعة الإسكندرية المطبعة الوطنية 1289هـ ـ 1872م.
151 ـ سنن أبي داوود، للحافظ أبي داوود سليمان بن الأشعث السجستاني، مراجعة وتعليق محمد محي الدين عبد الحميد دار الكتب العلمية.
152 ـ سنن الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي دار الفكر 1398هـ.
153 ـ سياسة الإنفاق العام في الإسلام، عوف محمود الكفراوي الإسكندرية مؤسسة شباب الجامعة 1409هـ ـ 1989م.
154 ـ سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة بيروت، 1402هـ.(/)
155 ـ سيرة عمر بن عبد العزيز، عفت وصال حمزة، دار ابن حزم، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1418هـ ـ 1998م.
156 ـ سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الأولى.
157 ـ سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم، أبو محمد عبد الله دار العلم للملايين، بيروت 1387هـ ـ 1967م.
158 ـ شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، محمد بن محمد مخلوف، دار الكتب العربي، بيروت لبنان.
159 ـ شذرات الذهب، في أخبار من ذهب لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي.
160 ـ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، تحقيق د. أحمد سعد حمدان الغامدي الطبعة دار طيبة الرياض الطبعة الثالثة 1994م.
161 ـ شرح العقيدة الطحاوية، محمد علي الأذرعي، خرّج أحاديثها، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي بيروت، لبنان.
162 ـ الشفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليم لابن القيم الطبعة. دار التراث القاهرة.
163 ـ صحيح الجامع الصغير للألباني، المكتب الإسلامي.
164 ـ صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية 1992م.
165 ـ صفة الصفوة، للعلامة ابن الجوزي، طبعة أولى حيدر آباد الدكن ـ الهند.
166 ـ صفحات من التاريخ الإسلامية في الشمال الإفريقي د. علي محمد الصَّلَّابَّيِّ، دار البيارق، عمّان، الطبعة الأولى، 1998م.
167 ـ طبقات ابن سعد، دار صادر، بيروت لبنان.
168 ـ عبد العزيز بن مروان وسيرته وأثره في أحداث العصر الأموي، بديع محمد إبراهيم الدليمي د. فاروق عباس وهيب، جامعة بغداد، 1998م.
169 ـ عصر الدولتين الأموية والعباسية، للصَّلاَّبيِّ، مكتبة الصحابة، الشارقة، الطبعة الأولى 1422هـ ـ 2001م.
170 ـ عمر بن عبد العزيز، صالح العلي، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، الطبعة الأولى 2000م.
171 ـ عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ، دار القلم دمشق.
172 ـ عمر بن عبد العزيز للزحيلي، وهب الزحيلي، دار قتيبة الطبعة الثالثة 1419هـ ـ 1998م.
173 ـ عمر بن عبد العزيز للشرقاوي، دار الكتاب العربي الطبعة الأولى 1407هـ ـ 1987م.
174 ـ عمر بن عبد العزيز وسياسة رد المظالم، ماجدة فيصل مكتبة الطالب الجامعي، مكة، الطبعة الأولى 1407هـ ـ 1987م.
175 ـ عون المعبود شرح مسنن أبي داوود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، ضبط وتحقيق د. عبد الرحمن محمد عثمان، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
176 ـ فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، دار المعرفة بيروت، لبنان.
177 ـ فتح القدير الجامع بين فني الرِّواية والدِّواية من علم التفسير. محمد بن علي الشوكاني، دار الفكر.(/)
178 ـ فتوح البلدان للبلاذري، أحمد بن يحي بن جابر، بيروت، دار الكتب العلمية 1403هـ ـ 1983م.
179 ـ فجر الأندلس لحسين مؤنس، القاهرة 1959.
180 ـ فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، الشيخ محمد صالح أحمد الغرسي، دار السلام، مصر الطبعة الأولى 1416هـ ـ 1996م.
181 ـ فقه عمر بن عبد العزيز، محمد شبير، دار الرشد الطبعة الأولى، 1424هـ ـ 2003م.
182 ـ في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق الطبعة التاسعة 1400هـ ـ 1980م.
183 ـ فيض القدير شرح الجامع الصغير، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان الطبعة الأولى 1994م.
184 ـ قضية الثواب والعقاب د. جابر زايد عبد السميري، الدار السودانية، الخرطوم، الطبعة الأولى 1416هـ ـ 1995م.
185 ـ كتاب الورع لابن أبي الدنيا.
186 ـ لسان العرب، جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور صادر بيروت.
187 ـ مجموعة الفتاوى لتقي الدين أحمد بن تيمية الحرّاني، دار الوفاء، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى 1418هـ ـ 1997م.
188 ـ مجموعة رسائل الحافظ بن رجب الحنبلي، تحقيق أبو مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني، الفاروق للنشر القاهرة، الطبعة الأولى 1423هـ ـ 2002م.
189 ـ مدارج السالكين، بين منازل ((أياك نعبد وأياك نستعين)) لابن القيم الجوزية، تحقيق محمد حامد الفقي.
190 ـ مدرسة الحديث في القيروان، الحسين بن محمد شواط، الدار العالمية للكتاب الإسلامي، الطبعة الأولى 1411هـ.
191 ـ مذاهب الإسلاميين، عبد الرحمن بدوي، د. عبد الرحمن بدوي، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى 1996م.
192 ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر، لأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي، دار المعرفة بيروت لبنان، طبعة1402هـ ـ 1982م.
193 ـ مستدرك الحاكم على الصحيحين، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله النِّيسابوري، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1411هـ.
194 ـ مسند أحمد، المكتب الإسلامي، بيروت.
195 ـ مشاهير علماء الأمصار تأليف محمد بن حبان، القاهرة مطبعة لجنة التأليف والترجمة 1379هـ.
196 ـ مصنف ابن أبي شيبة، للإمام أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي، دار القرآن والعلوم الإنسانية كراتشي باكستان 1406هـ.
197 ـ مصنف عبد الرزاق، عبد الرزاق بن همام الضعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، طبع: المكتب الإسلامي ـ بيروت الطبعة الثانية 1403هـ.
198 ـ معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري.
199 ـ مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، الطبعة الثانية 1389هـ النهضة المصرية.
200 ـ مقدمة ابن خلدون.
202 ـ ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز د. عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، الطبعة السابعة 1405هـ ـ 1985م.(/)
203 ـ من أجل صحوة إسلامية راشدة تجدد وتنهض بالدنيا، يوسف القرضاوي، المكتب الإسلامي بيروت لبنان الطبعة الأولى 1998م.
204 ـ مناهج السنة، لابن تميمة، تحقيق: محمد رشاد سالم مؤسسة قرطبة.
205 ـ منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله خالد، عبد اللطيف بن محمد نور مكتبة الغرباء الأثرية المدينة النبوية الطبعة الأولى 1416هـ ـ 1995م.
206 ـ موجز تاريخ تجديد الدين للمودودي أبو الأعلى، دار الفكر، بيروت، لبنان 1968م.
207 ـ موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع د. إبراهيم عامر الرحيلي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة الطبعة الأولى لعام 1422هـ.
208 ـ ميزان الاعتدال البيجاوي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة الطبعة الأولى، 1382هـ.
209 ـ نشأت الفكر الفلسفي في الإسلام، د. علي سامي النشار، دار المعارف الطبعة السابعة.
210 ـ نظام الإسلام، الحكم والدولة، محمد المبارك، بيروت، دار الفكر 1401هـ.
211 ـ نظام الحكم في الإسلام بين النظرية والتطبيق، د. أحمد عبد الله مفتاح، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
212 ـ نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ظافر القاسمي دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة 1407هـ ـ 1987م.
213 ـ وسطية أهل السنة بين الفرق د. محمد باكريم، دار الراية ـ الرياض، الطبعة الأولى 1415هـ ـ 1994م.
214 ـ وفيات الأعيان وأبناء الزمان، لأبي خلكان أبي العباس شمس الدين أحمد تحقيق، إحسان عباس، دار صادر، بيروت.(/)