وروى مُحَمَّد بن نصر فِي كتاب الصَّلَاة من رِوَايَة الْمنْهَال بن عَمْرو حَدثنَا قيس بن السكن وَأَبُو عُبَيْدَة بن عبد الله حدث عمر بن الْخطاب هَذَا الحَدِيث قَالَ إِذا حشر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة قَامُوا أَرْبَعِينَ عَاما على رؤوسهم الشَّمْس شاخصة أَبْصَارهم إِلَى السَّمَاء ينتظرون الْفَصْل كل بر مِنْهُم وَفَاجِر لَا يتَكَلَّم مِنْهُم بشر
فَذكر حَدِيثا
حَدِيث ابْن عمر تَلا {يَوْم يقوم النَّاس} ثمَّ قَالَ كَيفَ بكم إِذا جمعكم الله كَمَا يجمع النبل فِي الكنانة خمسين ألف سنة لَا ينظر إِلَيْكُم
حَدِيث إِن لله ملكا مَا بَين شفرى عَيْنَيْهِ خَمْسمِائَة عَام
حَدِيث ابْن مَسْعُود إِن الشَّيْطَان قد يئس أَن تعبد الْأَصْنَام بِأَرْض الْعَرَب وَلَكِن سيرضى مِنْكُم بالمحقرات وَهُوَ الموبقات فَاتَّقُوا الظُّلم. . الحَدِيث
وَفِيه مثل المحقرات مثل سفر نزلُوا بِأَرْض فلاة
حَدِيث أنس يحْشر الله الْعباد عُرَاة غبرا بهما. . الحَدِيث
إِنَّمَا هُوَ من حَدِيث عبد الله بن أنيس
حَدِيث ابْن عَبَّاس يبْعَث للأنبياء مَنَابِر من ذهب وَيبقى منبري لَا أَجْلِس عَلَيْهِ قَائِما بَين يَدي رَبِّي. . الحَدِيث فِي الشَّفَاعَة
وَفِيه حَتَّى يَقُول مَالك مَا تركت النَّار لغضب رَبك فِي أمتك من بَقِيَّة
حَدِيث إِن رجلا من أهل الْجنَّة يشرف على أهل النَّار
فيناديه رجل يَا فلَان هَل تعرفنِي(6/386)
فَيَقُول لَا
فَيَقُول أَنا الَّذِي مَرَرْت بِي فاستسقيتني شربة مَاء. . الحَدِيث
حَدِيث إِن فِي جَهَنَّم سبعين ألف وَاد فِي كل وَاد سَبْعُونَ ألف شعب. . الحَدِيث
حَدِيث إِن نَار الدُّنْيَا غسلت بسبعين مَاء من مياه الرَّحْمَة
حَدِيث أنس ارغبوا فِيمَا رغبتكم فِيهِ واحذروا وخافوا ماخوفتكم بِهِ من عَذَابه وعقابه فَإِنَّهُ لَو كَانَت قَطْرَة من الْجنَّة. . الحَدِيث
حَدِيث إِن فِي النَّار لحيات مثل أَعْنَاق البخت. . الحَدِيث
حَدِيث يُؤمر يَوْم الْقِيَامَة بناس من النَّار إِلَى الْجنَّة حَتَّى إِذا دنوا مِنْهَا واستنشقوا روائحها. . الحَدِيث
حَدِيث سُئِلَ عَن تربة الْجنَّة فَقَالَ درمكة بَيْضَاء مسك خَالص
حَدِيث أبي هُرَيْرَة من سره أَن يسْقِيه الله الْخمر فِي الْآخِرَة فليتركها فِي الدُّنْيَا. . الحَدِيث
حَدِيث أبي أُمَامَة قَالَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم. . الحَدِيث
هُوَ فِي الزّهْد لِابْنِ الْمُبَارك من رِوَايَة سليم بن عَامر مُرْسلا لَيْسَ فِيهِ ذكر لأبي أُمَامَة(6/387)
حَدِيث لما أسرِي بِي دخلت فِي الْجنَّة موضعا يُسمى الصرح عَلَيْهِ خيام اللُّؤْلُؤ. . الحَدِيث
وَفِيه مَا هَذَا يَا جِبْرِيل
قَالَ هُوَ المقصورات فِي الْخيام
فطفن يقلن نَحن
الحَدِيث
حَدِيث إِن الرجل من أهل الْجنَّة ليتزوج خَمْسمِائَة حوراء وَأَرْبَعَة آلَاف بكر وَثَمَانِية الآف ثيب. . الحَدِيث
فِي العظمة لأبي الشَّيْخ نَحوه من حَدِيث ابْن أبي أوفى
حَدِيث أبي أُمَامَة مَا من عبد يدْخل الْجنَّة إِلَّا وَيجْلس عِنْد رَأسه وَعند رجلَيْهِ ثِنْتَانِ من الْحور الْعين. . الحَدِيث
حَدِيث أهل الْجنَّة جرد. . الحَدِيث
وَفِيه طولهم سِتُّونَ ذِرَاعا فِي عرض سَبْعَة أَذْرع
حَدِيث نظرت فِي الْجنَّة فَإِذا الرمانة من رمانها كخلف الْبَعِير المقتب. . الحَدِيث
حَدِيث إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة أخرج الله كتابا من تَحت الْعَرْش. . الحَدِيث(6/388)
وَفِيه فَيخرج من النَّار مثل أهل الْجنَّة
695 - مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد أَبُو عبد الله الْمَدِينِيّ
من أهل أَصْبَهَان
تفقه بِبَغْدَاد عَليّ الْحسن بن سُلَيْمَان
وَسمع الْكثير بِنَفسِهِ بِبَغْدَاد وَالْبَصْرَة وخوزستان وأصبهان وطبرستان وخراسان وَغَيرهمَا
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ سمع بِقِرَاءَتِي الْكثير من الفراوي والسيدي والشحامي وَغَيرهم
قَالَ وَتُوفِّي بعسكر مكرم وَهُوَ على الْقَضَاء بهَا فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
696 - مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل أَبُو مَنْصُور الْفَقِيه البروي الطوسي وَمِنْهُم من كناه أَبَا حَامِد وَمِنْهُم من كناه أَبَا المظفر
وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن عبد الله
وَمِنْهُم من قَالَ بل مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سعد(6/389)
هُوَ صَاحب التعليقة فِي الْخلاف والجدل الْمَشْهُور
كَانَ أحد أَئِمَّة الدّين فقها وأصولا وكلاما ووعظا
ولد فِي ذِي الْحجَّة سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة
وتفقه عَليّ مُحَمَّد بن يحيى تلميذ الْغَزالِيّ
زسمع مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْفَارِسِي وَعبد الْوَهَّاب بن شاه الشاذياخي
وَدخل بَغْدَاد وصادف الْقبُول من الْخَاص وَالْعَام
ودرس بِالْمَدْرَسَةِ البهائية
وَعقد حَلقَة للمناظرة ومجلسا للوعظ والتذكير
وَدخل دمشق وَنزل بالخانقاه السميساطية
ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد
قَالَ ابْن الدبيثي كَانَ أحد عُلَمَاء عصره والمشار إِلَيْهِ بالتقدم فِي معرفَة الْفِقْه وَالْكَلَام وَالنَّظَر وَحسن الْعبارَة والبلاغة
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ قدم علينا بَغْدَاد وَجلسَ للوعظ وَأظْهر مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ وناظر عَلَيْهِ وتعصب على الْحَنَابِلَة وَبَالغ
وَقَالَ ابْن الْأَثِير أَصَابَهُ إسهال فَمَاتَ فَقيل إِن الْحَنَابِلَة أهدوا لَهُ حلواء فَأكل مِنْهَا فَمَاتَ هُوَ وكل من أكل مِنْهَا
وَقَالَ سبط ابْن الْجَوْزِيّ يُقَال إِن الْحَنَابِلَة دسوا عَلَيْهِ امْرَأَة جَاءَتْهُ فِي اللَّيْل بِصَحْنِ جلواء مَسْمُوم وَقَالَت هَذَا يَا سَيِّدي من غزلي(6/390)
فَأكل هُوَ وَامْرَأَته وَولد صَغِير فَأَصْبحُوا موتى
مَاتَ بِبَغْدَاد فِي رَمَضَان سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
697 - مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن أَبُو ثَعْلَب الوَاسِطِيّ القَاضِي
تفقه على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ
مَاتَ بواسط فِي شهر رَمَضَان سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
698 - مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي بكر السهلكي
خطيب بسطَام
الْفَقِيه أَبُو الْحُسَيْن
تفقه بِبَغْدَاد على السَّيِّد أبي الْقَاسِم عَليّ بن أبي يعلى الدبوسي
وَكَانَ فَقِيها أديبا
سمع الحَدِيث من رزق الله التَّمِيمِي ونظام الْملك الْوَزير وَغَيرهمَا
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كتبت عَنهُ شَيْئا يَسِيرا
وَكَانَت وِلَادَته فِيمَا أَظن فِي حُدُود سنة خمس وَأَرْبَعمِائَة
وَتُوفِّي فِي شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة ببسطام
699 - مُحَمَّد ين مُحَمَّد بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن الْخَلِيل أَبُو نصر الفاشاني الْمروزِي
وفاشان بِفَتْح الْفَاء والشين الْمُعْجَمَة وَالنُّون من قرى مرو(6/391)
وَكَانَ أحد الْأَئِمَّة
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام مفت أديب مُحدث غزير الْفضل حسن السِّيرَة عفيف ورع
تفقه عَليّ مُحَمَّد الماخواني
سمع من أبي المظفر السَّمْعَانِيّ وَمُحَمّد الماخواني وَمصْعَب بن عبد الرَّزَّاق وَمُحَمّد بن الْحسن المهرنبدقشابي وَغَيرهم
حدث عَنهُ الْحَافِظ أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ
وَقَالَ سَمِعت مِنْهُ الْكثير
قَالَ وَتُوفِّي فِي سَابِع عشر الْمحرم سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَله خمس وَسَبْعُونَ سنة
ذكره فِي التحبير أَيْضا
وَقَالَ إِنَّه أَخذ الْأَدَب عَن أبي مُطِيع الْهَرَوِيّ وَإنَّهُ كَانَ رَاغِبًا فِي بِنَاء الْمَسَاجِد والرباطات والحياض
قلت بِخَط شَيخنَا الذَّهَبِيّ أَنه سمع من مُصعب بن عبد الرَّزَّاق وَفِي تحبير ابْن السَّمْعَانِيّ عبد الرَّزَّاق بن مُصعب وَهُوَ الصَّوَاب فَإِن مُصعب بن عبد الرَّزَّاق بن مُصعب بن بشر المصعبي من مَشَايِخ ابْن السَّمْعَانِيّ ذكر فِي التحبير أَنه توفّي فِي سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة فِي السّنة الَّتِي مَاتَ فِيهَا أَبُو نصر الفاشاني فَمَا أرَاهُ شَيْخه وَإِنَّمَا أرى شَيْخه وَالِده عبد الرَّزَّاق بن مُصعب وَعبد الرَّزَّاق بن مُصعب كَانَ راوية سمع مِنْهُ جمَاعَة(6/392)
700 - مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن أبي الفوارس البراني البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالنجيب أَخُو الْحَلِيمِيّ
والبراني بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء الْمُهْملَة وبالنون نِسْبَة إِلَى قَرْيَة ببخارى يُقَال لَهَا البرانية
ذكره ابْن السَّمْعَانِيّ فِي التحبير وَفِي الْأَنْسَاب وَقَالَ كَانَ فَقِيها صَالحا سديد السِّيرَة
سكن بنج ديه وَكَانَ يرجع إِلَيْهِ بهَا فِي الْفَتَاوَى والوقائع الشَّرْعِيَّة
وَكَانَ يتَكَلَّم فِي الْمسَائِل الخلافية
سمع أَبَاهُ أَبَا عبد الله البراني
سَمِعت مِنْهُ أَجزَاء منتخبة من كتاب السَّفِينَة لأبي حَفْص البجيري
توفّي بمرست سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَأما أَخُوهُ الْحَلِيمِيّ فَعرف بالحليمي فِيمَا أَحسب لِأَن اسْمه عبد الْحَلِيم وَهُوَ أَيْضا من مَشَايِخ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ يكنى أَبَا مُحَمَّد كَانَ أديبا فَقِيها مقرئا(6/393)
701 - مُحَمَّد بن مَحْمُود بن الْحسن بن مُحَمَّد بن يُوسُف أَبُو الْفرج ابْن الشَّيْخ أبي حَاتِم الْقزْوِينِي الْأنْصَارِيّ
من آمل طبرستان
أما أَبوهُ فقد تقدم فِي الطَّبَقَة الرَّابِعَة
وَأما هُوَ فَكَانَ فَقِيها زاهدا صَالحا
سمع أَبَا مَنْصُور بن إِسْحَاق الْحَافِظ وَسَهل بن ربيعَة وَأَبا عَليّ الْحُسَيْنِي وَغَيرهم
روى عَنهُ ابْن نَاصِر والسلفي وَابْن الْخلّ وشهده الإبرية وَآخَرُونَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجِرْجَانِيّ بارع فِي الْفِقْه والفرائض
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فَقِيه فَاضل دين خير
وَهُوَ صَاحب الْكَرَامَة فِي ضيَاع ابْنه فِي طَرِيق الْحَج
وَذَلِكَ أَنه حج سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة فَضَاعَ وَلَده قبل وُصُوله إِلَى المدنية الشَّرِيفَة فَلَمَّا وصل إِلَى الْمَسْجِد الشريف أَخذ يتمرغ فِي الْبَاب ويبكي والخلق مجتمعون حوله وَهُوَ يَقُول يَا رَسُول الله جئْتُك من بلد بعيد زَائِرًا وَقد ضَاعَ ابْني لَا أرجع حَتَّى ترد عَليّ ابْني
فَمَا زَالَ يردد هَذَا القَوْل حَتَّى دخل ابْنه من بَاب الْمَسْجِد فاعتنقا وتباكى الْخلق
توفّي بآمل فِي الْمحرم سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة(6/394)
702 - مُحَمَّد بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن عَليّ بن شُجَاع أَبُو نصر الشجاعي السَّرخسِيّ السره مرد بِفَتْح السِّين وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء الثَّانِيَة بعْدهَا دَال لقب
مولده سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
قدم من خُرَاسَان إِلَى بَغْدَاد
وتفقه على السَّيِّد عَليّ بن أبي يعلى الدبوسي
وَسمع أَبَا نصر مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْقرشِي آخر أَصْحَاب زَاهِر بن أَحْمد وَأَبا الْقَاسِم العبدوسي وَعَمه أَبَا حَامِد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الشجاعي الْفَقِيه وَأَبا الْقَاسِم الفوراني الْفَقِيه ونظام الْملك الْوَزير وَغَيرهم
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَابْن عَسَاكِر وَأَبُو الْفتُوح الطَّائِي وَغَيرهم
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ شيخ مسن كَبِير الْقدر فَاضل ورع كثير التَّهَجُّد وَالصِّيَام وَالذكر
كَانَ يُفْتِي ويناظر ويذب عَن مَذْهَب الشَّافِعِي
توفّي بسرخس فِي ذِي الْحجَّة سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
703 - مُحَمَّد بن مَحْمُود بن عَليّ أَبُو الرضى الطرازي
من أهل بُخَارى
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ إِمَامًا فَاضلا دينا ورعا تقيا بكاء بِاللَّيْلِ بساما بِالنَّهَارِ(6/395)
أنفد أوقاته فِي نشر الْعلم وإلقاء الدُّرُوس
كثير التَّهَجُّد لَا أعرف أحدا أجمع لخصال الْخَيْر مِنْهُ
تفقه ببخارى على وَالِده وَعبد الْعَزِيز بن عمر الْمَعْرُوف بالبرهان
ثمَّ رَحل إِلَى خُرَاسَان وَأقَام بمرو الروذ مُدَّة حَتَّى علق طَريقَة القَاضِي الْحُسَيْن على الْحسن بن مَسْعُود الْفراء أخي مُحي السّنة الْحُسَيْن وَأحكم الطَّرِيقَة عَلَيْهِ
سمع أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الدقاق الْأَصْفَهَانِي الْحَافِظ وأستاذه الْحسن ابْن مَسْعُود الْفراء وَأَبا طَاهِر السنجي وَمُحَمّد بن نَاصِر السلَامِي وَجَمَاعَة ببخارى وهراة ونيسابور ومرو الروذ وبغداد
مولده ببخارى فِي خَامِس شعْبَان سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
هَذَا مُخْتَصر من كرم ابْن السَّمْعَانِيّ
وَلم يُقيد وَفَاته
704 - مُحَمَّد بن مَحْمُود بن مُحَمَّد الشَّيْخ الْعَلامَة الإِمَام شهَاب الدّين الطوسي أَبُو الْفَتْح
ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخَمْسمِائة
وتفقه عَليّ مُحَمَّد بن يحيى وَغَيره من أَصْحَاب الْغَزالِيّ
وَحدث عَن أبي الْوَقْت وَغَيره
روى عَنهُ ابْن الجميزي وَغَيره
برع فِي الْعلم(6/396)
وَقدم إِلَى مصر فنشر الْعلم وَرفع علمه وَوعظ وَذكر
وَكَانَ إِمَامًا جَلِيلًا زاهدا ورعا متقشفا على طَرِيق السّلف مَعَ رياسة تَامَّة وعظمة عِنْد الْخَاصَّة والعامة
كَلمته نَافِذَة ومدار الْفتيا بديار مصر عَلَيْهِ
وَمِمَّا يُؤثر من عَظمته وجلاله أَنه جَاءَ يَوْم عيد وَالسُّلْطَان فِي الميدان فَأقبل وَبَين يَدَيْهِ الغاشية مَحْمُولَة على الْأَصَابِع والمنادى يُنَادي هَذَا ملك الْعلمَاء وَالسُّلْطَان يسمع ويستبشر وَلَا يُنكر
وَكَانَ أمارا بِالْمَعْرُوفِ نهاء عَن الْمُنكر قَائِما بنصره مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ(6/397)
وَكَانَ مَعَ عَظمته يتضاءل للخبوشاني ويعترف بعلو قدره
توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَحمل أَوْلَاد السُّلْطَان نعشه على رقابهم(6/399)
وَمن شعره وملح كَلَامه ومليح فَتَاوِيهِ
أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو العابس بن المظفر بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن يُوسُف المقدسيان وَأَبُو الْحُسَيْن بن اليونيني قَالُوا أخبرنَا الْفَقِيه ابْن الجميزي قَالَ أنشدنا الإِمَام أَبُو الْفَتْح الطوسي لنَفسِهِ
(طلعت على بَغْدَاد وَالْعلم طالع ... كَمَا طلعت شمس من السرطان)
(ومصر كجدي منزل لهبوطه ... كَذَا الْحُوت فِي الْحَالين للحدثان)
وَمعنى هذَيْن الْبَيْتَيْنِ أَنه طلع على بَغْدَاد وَالْعلم فِي ارتفاعه مشابه ارْتِفَاع الشَّمْس فِي أوجها الْمُخْتَص بالسرطان فزاده مَعَ ذَلِك رفْعَة وطلع على مصر وَالْعلم هابط مثل هبوط الشَّمْس فِي برجي الجدي والحوت فرجعه إِلَى ارتفاعه وَأطلق لفظ الجدين
705 - مُحَمَّد بن مَرْزُوق بن عبد الرَّزَّاق بن مُحَمَّد أَبُو الْحسن الزَّعْفَرَانِي الْبَغْدَادِيّ الْجلاب
الْفَقِيه الْمُحدث الْوَرع
تفقه عَليّ الشَّيْخ أبي إِسْحَاق(6/400)
وصنف عدَّة كتب
ورحل إِلَى أَصْبَهَان وَالشَّام ومصر وَالْبَصْرَة
روى الْكثير عَن الْخَطِيب وَأبي جَعْفَر ابْن الْمسلمَة وَابْن الْمَأْمُون وَأبي الْحُسَيْن ابْن المهتدى بِاللَّه وطبقتهم
روى عَنهُ السلَفِي وَطَائِفَة
مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
وَمَات فِي صفر سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة
706 - مُحَمَّد بن منجح بن عبد الله الْفَقِيه أَبُو شُجَاع الصُّوفِي الْوَاعِظ
ولد سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَسمع من قَاضِي المرستان
وَأَجَازَ لَهُ ابْن طَاهِر
وتفقه بالجزيرة على ابْن البزري
وببغداد عَليّ أبي مُحَمَّد عبد الله بن فَخر الْإِسْلَام الشَّاشِي
وَقدم الشَّام وَولى قَضَاء بعلبك ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد
وَله شعر حسن
توفّي بِبَغْدَاد فِي ربيع الأول سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة(6/401)
707 - مُحَمَّد بن الْمُنْتَصر بن حَفْص بن أَحْمد بن حَفْص الْمُتَوَلِي النوقاني الْمَعْرُوف بِمُحَمد ابْن أبي سعد
من أهل طوس
تفقه على فَقِيه الشاش بهراة وَعلي أبي حَامِد الشجاعي ببلخ
وَسمع بنوقان القَاضِي أَبَا سعيد مُحَمَّد بن سعيد الفرخراذي
وبمرو أَبَا بكر مُحَمَّد بن عَليّ بن حَامِد الشَّاشِي
قلت وَهُوَ شَيْخه الْمَعْرُوف بفقيه الشاش
وبهراة أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الْعمريّ وَغَيرهم
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كتبت عَنهُ وَسمعت مِنْهُ تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ الْمُسَمّى بالكشف وَالْبَيَان رِوَايَته عَن الفرخراذي عَنهُ
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وَكَانَ إِمَامًا فَاضلا عفيفا حسن السِّيرَة جميل الْأَمر ورعا زاهدا يحفظ الْمَذْهَب ويفتي
ولد بنوقان
وَبهَا توفّي يَوْم الْأَحَد الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَجَب سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
وَدفن بمقبرة بَاب المنقب
انْتهى الْجُزْء السَّادِس من طَبَقَات الشَّافِعِيَّة الْكُبْرَى لِابْنِ السُّبْكِيّ ويليه الْجُزْء السَّابِع وأوله تَرْجَمَة مُحَمَّد بن مَنْصُور مُحَمَّد تَاج الدّين ابْن السَّمْعَانِيّ من بَقِيَّة الطَّبَقَة الْخَامِس(6/402)
بَقِيَّة الطَّبَقَة الْخَامِسَة فِيمَن توفّي بَين الْخَمْسمِائَةِ والستمائة
708 - مُحَمَّد بن مَنْصُور بن مُحَمَّد بن عبد الْجَبَّار بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أَحْمد ابْن عبد الْجَبَّار بن الْفضل بن الرّبيع بن مُسلم بن عبد الله بن عبد الْمجِيد الإِمَام الْكَبِير أَبُو بكر بن الإِمَام أبي المظفر بن الإِمَام أبي مَنْصُور بن السَّمْعَانِيّ الْفَقِيه الأديب الْمُحدث الْحَافِظ الْوَاعِظ الْخَطِيب المبرز فِي علم الحَدِيث رجَالًا وأسانيد ومتونا وَغير ذَلِك جَامع لأشتات الْعُلُوم
وَهُوَ أَبُو الْحَافِظ الْكَبِير تَاج الْإِسْلَام أبي سعد عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد وَكَانَ هُوَ أَيْضا يلقب تَاج الْإِسْلَام
مولده فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
سمع وَالِده أَبَا المظفر وَعبد الْوَاحِد بن أبي الْقَاسِم الْقشيرِي وَنصر الله بن أَحْمد الخشنامي وأسعد بن مَسْعُود الْعُتْبِي وَأَبا الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد العلاف وَمُحَمّد بن عبد الْكَرِيم بن خشيش الْحَافِظ وَأَبا الْغَنَائِم النَّرْسِي الْحَافِظ وَغَيرهم بمرو ونيسابور والرّيّ وهمذان وبغداد والكوفة وأصبهان وَمَكَّة وَغَيرهَا
روى عَنهُ السلَفِي وَأَبُو الْفتُوح الطَّائِي وَغَيرهمَا
ذكره عبد الغافر فِي السِّيَاق وَقَالَ فِيهِ الإِمَام ابْن الإِمَام ابْن الإِمَام شَاب نَشأ فِي عبَادَة الله وَفِي التَّحْصِيل من صباه إِلَى أَن أرْضى أَبَاهُ حظي من الْعَرَبيَّة وَالْأَدب والنحو وثمرتها نظما ونثرا بِأَعْلَى الْمَرَاتِب(7/5)
ينفث إِذا خطّ بأقلامه عقد السحر وينظم من مَعَاني كَلَامه عُقُود الدّرّ متصرفا فِي الْفُنُون بِمَا يَشَاء كَيفَ يَشَاء مُطيعًا لَهُ على البديهة الْإِنْشَاء ثمَّ برع فِي الْفِقْه مستدرا أخلافه من أَبِيه بَالغا فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف أقْصَى مراميه وَزَاد على أقرانه وَأهل عصره بالتبحر فِي علم الحَدِيث وَمَعْرِفَة الرِّجَال والأسانيد وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من الْجرْح وَالتَّعْدِيل والتحريف والتبديل وَضبط الْمُتُون والمشكلات من الْمعَانِي مَعَ الْإِحَاطَة بالتواريخ والأنساب
وطرز أكمام بمجالس تذكيره الَّذِي تتصدع صم الصخور عِنْد تحذيره وتتجمع أشتات الْعِظَام النخرة عِنْد تبشيره وتصغي آذان الْحفظَة لمجاري نُكْتَة وتختطف الْمَلَائِكَة لفاظه إشاراته من شفته ويخترق حجب الشداد السَّبع صواعد دعواته ويطفئ أطباق الْجَحِيم سوابق عبراته وَهُوَ مَعَ ذَلِك متخلق بِأَحْسَن الْأَخْلَاق مُتَمَكن بتواضعه وتودده من الأحداق رافل فِي جلابيب أهل الصَّفَا مراع لعهود الأسلاف بِحسن الوفا مَجْمُوع لَهُ الْأَخْلَاق الحميده ثَابت لَهُ الْحُقُوق الأكيدة
خلف أَبَاهُ ببلدته فِي مجَالِس التدريس وَالنَّظَر والتذكير وَزَاد عَلَيْهِ فِي الخطابة وَالْقَبُول التَّام بَين الْخَاص وَالْعَام وصبر على مكابدة الْخُصُوم اللد ومقاومة المعاندين(7/6)
والمخالفين ونفق سوق تقواه وورعه عِنْد الْمُلُوك والأكابر حَتَّى عظموا خدمته وتبركوا بِهِ وبنصحه وَكَلَامه وَصَارَ قطب قطره حشمة وَحرمه وجاها ومنزلة مستغنيا بكافة وَمَا آتَاهُ الله من غير منَّة مَخْلُوق عَن التَّعَرُّض لمنال شَيْء من الحطام قاصرا همه وأيامه على الإفادة وَنشر الْعلم مد الله فِي عَزِيز أنفاسه وأبقاه حجَّة على الْعلمَاء
هَذَا كَلَام عبد الغافر
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو سعد رَحمَه الله أمْلى وَالِدي مائَة وَأَرْبَعين مَجْلِسا فِي غَايَة الْحسن والفوائد بِجَامِع مرو واعترف بِأَنَّهُ لم يسْبق إِلَى مثلهَا وصنف تصانيف فِي الحَدِيث
قلت ووقفت على كثير من إمْلَائِهِ وَهُوَ دَال على علو شَأْنه فِي الْفِقْه والْحَدِيث واللغة
قَالَ وَلَده وَكَانَ يملي فِي مجْلِس وعظه الْأَحَادِيث بأسانيدها فَاعْترضَ عَلَيْهِ بعض المنازعين وَقَالَ مُحَمَّد السَّمْعَانِيّ يصعد الْمِنْبَر ويعد الْأَسَامِي وَنحن لَا نَعْرِف وَلَعَلَّه يَضَعهَا فِي الْحَال وَكتب هَذَا الْكَلَام فِي رقْعَة وَأعْطيت لَهُ بعد أَن صعد الْمِنْبَر فَنظر فِيهَا وروى حَدِيث من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار بنيف وَتِسْعين طَرِيقا ثمَّ قَالَ إِن لم يكن فِي هَذَا الْبَلَد أحد يعرف الحَدِيث فنعوذ بِاللَّه من الْمقَام بِبَلَد مَا فِيهَا من يعرف الحَدِيث وَإِن كَانَ فليكتب عشرَة أَحَادِيث بأسانيدها وَيتْرك اسْما أَو اسْمَيْنِ من كل إِسْنَاد ويخلط الْأَسَانِيد بَعْضهَا بِبَعْض فَإِن لم أميز بَينهَا وأضع كل اسْم مِنْهَا مَكَانَهُ فَهُوَ كَمَا يَدعِيهِ
وفعلوا ذَلِك امتحانا فَرد كل اسْم إِلَى مَوْضِعه وَطلب الْقُرَّاء الَّذين يقرءُون فِي مَجْلِسه فِي ذَلِك الْيَوْم شَيْئا فَأَعْطَاهُمْ الْحَاضِرُونَ ألف دِينَار
قَالَ أَبُو سعد هَذَا كُله من مُحَمَّد بن أبي بكر السنجي(7/7)
قَالَ وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم عيدا لأهل السّنة
وَكَانَ وَالِده الإِمَام أَبُو المظفر إِذا جرى شَيْء يتَعَلَّق بالأدب أَو اللُّغَة أَو سُئِلَ عَن شَيْء من ذَلِك يَقُول سلو ابْني مُحَمَّدًا فَإِنَّهُ أعرف باللغة مني
قَالَ صَاحب الْكَافِي سَمِعت أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن المرداخواني وَكَانَ من تلامذة الْأَمَام أبي المظفر بن السَّمْعَانِيّ يَقُول كنت شريك ابْنه أبي بكر مُحَمَّد ومعيدنا أَبُو عبد الله النَّيْسَابُورِي فَتَأَخر حُضُور مُحَمَّد يَوْمًا ثمَّ جَاءَ وَقد احْمَرَّتْ عَيناهُ من الْبكاء فَقَالَ لَهُ أَبُو عبد الله مَا الَّذِي خَلفك وَمَا شَأْنك
فَقَالَ رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام فناولني قدحا مملوءا مَاء وَقَالَ لي اشرب فَأَخَذته وشربته كُله وانتبهت وَقد أثر ذَلِك فِي عروقي وَسَائِر جَسَدِي
فَنَهَضَ الإِمَام أَبُو عبد الله مسرعا إِلَى الصّفة الَّتِي فِيهَا الإِمَام أَبُو المظفر وَهُوَ يَقُول الْبشَارَة الْبشَارَة وَأخْبرهُ بالمنام فَقَالَ الإِمَام أَبُو المظفر الْحَمد لله
وَقَالَ إِنِّي رَأَيْت مثل هَذَا الْمَنَام وَلَكِنِّي مَا شربت جَمِيع المَاء بل بعضه وَهُوَ شرب جَمِيعه فيجتمع عِنْده جَمِيع أَحَادِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَللْإِمَام أبي بكر شعر كثير ويحكى أَنه غسل قبل مَوته جَمِيع المسودات الَّتِي فِيهَا شعره فَلم يُوجد لَهُ إِلَّا مَا كَانَ على ظُهُور الدفاتر من الْأَجْزَاء
ويحكى أَن شخصا كتب إِلَيْهِ رقْعَة وفيهَا أَبْيَات شعر وَأَرَادَ جوابها فَقَالَ أما الأبيات فقد أسلم شَيْطَان شعري فَلَا جَوَاب لَهَا
وَمن مليح شعره
(أقلى النَّهَار إِذا أَضَاء صباحه ... وأظل أنْتَظر الظلام الدامسا)
(فالصبح يشمت بِي فَيقبل ضَاحِكا ... وَاللَّيْل يرثي لي فيدبر عَابِسا)(7/8)
وَله أَيْضا
(وظبي فَوق طرف ظلّ يَرْمِي ... بِسَهْم اللحظ قلب الصب طرفه)
(يُؤثر طرفه فِي الْقلب مَا لَا ... يُؤثر فِي الْحَصَى والترب طرفه)
وَله مَا أورد أَبُو سعد فِي كتاب التحبير فِي تَرْجَمَة أبي حَامِد أَحْمد بن عبد الله الفازي الصُّوفِي الْمَعْرُوف بالأوحد وَذكر أَنه قَالَ فِي قَرْيَة فَازَ إِحْدَى قرى طوس
(نزلنَا بقْعَة تدعى بفاز ... فَكَانَ ألذ من نيل المفاز)
(وقست إِلَى ثراها كل أَرض ... فَكَانَت كالحقيقة فِي الْمجَاز)
وَفِي أبي بكر السَّمْعَانِيّ يَقُول الشَّيْخ الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلَفِي
(هُوَ الْمُزنِيّ إبان الْفَتَاوَى ... وَفِي علم الحَدِيث التِّرْمِذِيّ)
(وجاحظ عصره فِي النثر صدقا ... وَفِي وَقت التشاعر بحتري)
(وَفِي النَّحْو الْخَلِيل بِلَا خلاف ... وَفِي حفظ اللُّغَات الْأَصْمَعِي)
قلت وددت لَو قَالَ
وَفِي الشّعْر الأديب البحتري
وَسلم من لفظ التشاعر وَمن تنكر البحتري
وَقَالَ آخر فِيمَا ذكر السلَفِي
(يَا سائلي عَن علم الزَّمَان ... وعالم الْعَصْر لَدَى الْأَعْيَان)
(لست ترى فِي عَالم العيان ... كَابْن أبي المظفر السَّمْعَانِيّ)
وَقدم القَاضِي يحيى بن صاعد الْهَرَوِيّ نيسابور وَكَانَ أَبُو بكر بن السَّمْعَانِيّ بهَا فَدخل عَلَيْهِ زَائِرًا فَأَطْرَقَ يحيى بن صاعد رَأسه سَاعَة ثمَّ رَفعه وَأنْشد يَقُول
(قل للْإِمَام بن الإِمَام مُحَمَّد بن ... مظفر بن مُحَمَّد السَّمْعَانِيّ)(7/9)
(عشقتك عَيْني مذ رأتك وَكَانَ من ... قبل اللِّقَاء يحبك السمعان)
فَأَجَابَهُ أَبُو بكر على البديهة
(حييت بِيَحْيَى إِذْ رزقت لقاءه ... ونلت بِهِ جدا لأمري مساعدا)
(فَلَا زَالَ يحيى واسْمه فال عمره ... وكاسم أَبِيه نجمه دَامَ صاعدا)
وَالِد أبي بكر اسْمه مَنْصُور وكنيته أَبُو المظفر فَحذف القَاضِي يحيى لفظ الْأَب لمَكَان الْوَزْن
قَالَ الْحَافِظ أَبُو سعد من عَجِيب مَا اتّفق أَن آخر مجْلِس أملاه كَانَ افتتاحه بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن أمامكم عقبَة كئودا لَا يجوزها المثقلون فَأَنا أحب أَن أتخفف لتِلْك الْعقبَة)
وَكَانَ قد وصل فِي التَّفْسِير الَّذِي يذكرهُ فِي مجْلِس الْوَعْظ إِلَى قَوْله {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} الْآيَة
وَتُوفِّي عقيب ذَلِك ابْن ثَلَاث وَأَرْبَعين سنة فِي بوم الْجُمُعَة ثَانِي صفر سنة عشر وَخَمْسمِائة
وَمن الْفَوَائِد والمسائل عَن تَاج الْإِسْلَام أبي بكر
... . .(7/10)
709 - مُحَمَّد بن مكي بن الْحسن الفامي أَبُو بكر البابشامي يعرف بِابْن دوست
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فَقِيه فَاضل تفقه على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَسمع أَبَا بكر مُحَمَّد بن عبد الْملك بن بَشرَان وَأَبا مُحَمَّد الْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي
قلت وَالْقَاضِي أَبَا الطّيب الطَّبَرِيّ وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو طَاهِر السلَفِي وَأَبُو المعمر الْأنْصَارِيّ وَغَيرهمَا وَأَجَازَ لِابْنِ كُلَيْب
مَاتَ فِي شهر ربيع الأول سنة سبع وَخَمْسمِائة(7/12)
710 - مُحَمَّد بن مُوسَى بن عُثْمَان بن مُوسَى بن عُثْمَان بن حَازِم الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي الهمذاني
إِمَام متقن مبرز
ولد سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَقيل سنة تسع وَأَرْبَعين
وَسمع بهمذان من أبي الْوَقْت حضورا وَمن شهردار بن شيرويه وَأبي زرْعَة طَاهِر وَأبي الْعَلَاء الْعَطَّار وَمعمر بن الفاخر وَغَيرهم
ورحل إِلَى بَغْدَاد والموصل وواسط وَالْبَصْرَة وأصبهان والجزيرة والحجاز فَسمع من خلق مِنْهُم خطيب الْموصل أَبُو الْفضل وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ الْحَافِظ وَله إجَازَة من السلَفِي وَابْن السَّمْعَانِيّ وَأبي عبد الله الرستمي
روى عَنهُ أَبُو عبد الله الدبيثي وَابْن أبي جَعْفَر والتقى عَليّ بن ماسويه المقرىء وَغَيرهم
قَالَ ابْن الدبيثي قدم بَغْدَاد عِنْد بُلُوغه واستوطنها وتفقه بهَا على مَذْهَب الشَّافِعِي وجالس علماءها وتميز وَفهم وَصَارَ من أحفظ النَّاس للْحَدِيث وَأَسَانِيده وَرِجَاله مَعَ زهد وَتعبد ورياضة وَذكر صنف فِي علم الحَدِيث مصنفات وأملى عدَّة مجَالِس
قَالَ وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ معرفَة أحاديت الْأَحْكَام وأملى طرق الْأَحَادِيث الَّتِي فِي كتاب الْمُهَذّب للشَّيْخ أبي إِسْحَاق وأسندها وَلم يتمه(7/13)
وَقَالَ ابْن النجار كَانَ من الْأَئِمَّة الْحفاظ الْعَالمين بِفقه الحَدِيث ومعانيه وَرِجَاله ألف النَّاسِخ والمنسوخ وَكتاب عجالة المبتدى فِي الْأَنْسَاب والمؤتلف والمختلف فِي أَسمَاء الْبلدَانِ
قَالَ وَكَانَ ثِقَة حجَّة نبيلا زاهدا ورعا ملازما للخلوة والتصنيف وَنشر الْعلم أدْركهُ أَجله شَابًّا توفّي ثامن عشرى جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
711 - مُحَمَّد بن الْمُوفق بن سعيد بن عَليّ بن الْحسن بن عبد الله الخبوشاني الْفَقِيه الصُّوفِي
أحد الْأَئِمَّة علما ودينا وورعا وزهدا
وخبوشان بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخرهَا نون بليدَة بِنَاحِيَة نيسابور ولد بهَا فِي رَجَب سنة عشر وَخَمْسمِائة
وتفقه بنيسابور على مُحَمَّد بن يحيى ثمَّ قيل إِنَّه كَانَ يستحضر كِتَابه الْمُحِيط وَأَنه عدم الْكتاب فأملاه من خاطره
وَقدم مصر سنة خمس وَسِتِّينَ فَأَقَامَ بمسجده بِالْقَاهِرَةِ مُدَّة ثمَّ تحول إِلَى تربة الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وتبتل لعمارة التربة الْمَذْكُورَة والمدرسة ودرس بهَا مُدَّة
وَكَانَ إِمَامًا جَلِيلًا كَبِير الْمحل فِي الْوَرع قل أَن ترى الْعُيُون مثله زهدا وعلما وأمرا بِالْمَعْرُوفِ وتصميما على الْحق
وَمن تصانيفه كتاب تَحْقِيق الْمُحِيط فِي سِتَّة عشر مجلدا(7/14)
وَحدث بِالْقَاهِرَةِ عَن أبي الأسعد هبة الرَّحْمَن بن الْقشيرِي
وَكَانَ السُّلْطَان صَلَاح الدّين رَضِي الله عَنهُ حسن العقيدة فِي الشَّيْخ الخبوشاني
وَكَانَ الخبوشاني لَهُ حَال غَرِيبَة وَمحل مكين ومقام فِي الدّين وَكَانَ يَقُول بملء فِيهِ أصعد إِلَى مصر وأزيل ملك بني عبيد الْيَهُودِيّ فصعدها وَصرح بلعنهم وحاروا فِي أمره وَأَرْسلُوا إِلَيْهِ بِمَال عَظِيم قيل مبلغه أَرْبَعَة الآف دِينَار فَلَمَّا وَقع نظره على رسولهم وَهُوَ بالزي الْمَعْرُوف نَهَضَ إِلَيْهِ بأشد الْغَضَب وَقَالَ وَيلك مَا هَذِه الْبِدْعَة وَكَانَ الرجل قد زور فِي نَفسه كلَاما يلاطفه بِهِ فأعجله عَن ذَلِك فَرمى عَن الدَّنَانِير بَين يَدَيْهِ فَضَربهُ على رَأسه فَصَارَت عمَامَته حلقا فِي عُنُقه وأنزله من السّلم وَهُوَ يَرْمِي بِالدَّنَانِيرِ على رَأسه ويسب أهل الْقصر
ثمَّ إِن العاضد توفّي وتهيب صَلَاح الدّين خوفًا من الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس وحذرا من الشِّيعَة فَوقف الخبوشاني أَمَام الْمِنْبَر بعصاة وَأمر الْخَطِيب أَن يذكر بني الْعَبَّاس فَفعل وَلم يكن إِلَّا الْخَيْر وَوصل إِلَى بَغْدَاد الْخَبَر فزينوها وأظهروا من الْفَرح فَوق الْوَصْف
وَأخذ الخبوشاني فِي بِنَاء الضريح الشريف وَكَانَ ابْن الكيزاني رجل من المشبهة مَدْفُونا عِنْد الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ الخبوشاني لَا يكون صديق وزنديق فِي مَوضِع وَاحِد وَجعل ينبش وَيَرْمِي عِظَامه وَعِظَام الْمَوْتَى الَّذين حوله من أَتْبَاعه وتعصبت المشبهة عَلَيْهِ وَلم يبال بهم وَمَا زَالَ حَتَّى بنى الْقَبْر والمدرسة ودرس بهَا(7/15)
وَلَعَلَّ النَّاظر يقف على كَلَام شَيخنَا الذَّهَبِيّ فِي هَذَا الْموضع من تَرْجَمَة الخبوشاني فَلَا يحفل بِهِ وَبِقَوْلِهِ فِي ابْن الكيزاني إِنَّه من أهل السّنة
فالذهبي رَحمَه الله متعصب جلد وَهُوَ شَيخنَا وَله علينا حُقُوق إِلَّا أَن حق الله مقدم على حَقه وَالَّذِي نقُوله إِنَّه لَا يَنْبَغِي أَن يسمع كَلَامه فِي حَنَفِيّ وَلَا شَافِعِيّ وَلَا تُؤْخَذ تراجمهم من كتبه فَإِنَّهُ يتعصب عَلَيْهِم كثيرا
وَمن ورع الخبوشاني
انه كَانَ يركب الْحمار وَيجْعَل تَحْتَهُ أكسية لِئَلَّا يصل إِلَيْهِ عرقه
وَجَاء الْملك الْعَزِيز إِلَى زيارته وَصَافحهُ فاستدعى بِمَاء وَغسل يَدَيْهِ وَقَالَ يَا وَلَدي أَنْت تمسك الْعَنَان وَلَا يتوقى الغلمان عَلَيْهِ فَقَالَ اغسل وَجهك فَإنَّك بعد المصافحة لمست وَجهك فَقَالَ نعم وَغسل وَجهه
وَلما خرج صَلَاح الدّين إِلَى الإفرنج نوبَة الرملة جَاءَ الشَّيْخ الخبوشاني إِلَى وداعه وَالْتمس مِنْهُ أمورا من المكوس يُسْقِطهَا عَن النَّاس فَلم يفعل فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ قُم لَا نصرك الله ووكزه بعصاة فَوَقَعت قلنسوة السُّلْطَان عَن رَأسه فَوَجَمَ لَهَا ثمَّ توجه إِلَى الْحَرْب فَكسر وَعَاد إِلَى الشَّيْخ فَقبل يَده وَعرف أَن ذَلِك بِسَبَب دَعوته
وَانْظُر إِلَى كَلَام الذَّهَبِيّ هُنَا فِي تَارِيخه وَقَوله ظن السُّلْطَان أَن ذَلِك بدعوته
وَلَو كَانَت هَذِه الْحِكَايَة لمن هُوَ على معتقده من المبتدعة لهول أمرهَا وَقَالَ جرى على صَلَاح الدّين بدعائه مَا جرى وَاسْتقر كَلَامه يثبت عنْدك مَا نقُوله
وَكَانَ تَقِيّ الدّين عمر بن أخي السُّلْطَان لَهُ مَوَاضِع يُبَاع فِيهَا المزر فَكتب الشَّيْخ ورقة إِلَى صَلَاح الدّين إِن هَذَا عمر لَا جبرة الله يَبِيع المزر
فسيرها صَلَاح الدّين إِلَى عمر وَقَالَ لَا طَاقَة لنا بِهَذَا الشَّيْخ فأرضه فَركب إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ حَاجِبه قف بِبَاب(7/16)
الْمدرسَة حَتَّى أسبقك إِلَيْهِ فأوطئ لَك فَدخل وَقَالَ إِن تَقِيّ الدّين يسلم عَلَيْك
فَقَالَ الشَّيْخ بل شقي الدّين لاسلم الله عَلَيْهِ
فَقَالَ إِنَّه يعْتَذر وَيَقُول لَيْسَ لي مَوضِع يُبَاع فِيهِ المزر
فَقَالَ يكذب
فَقَالَ إِن كَانَ هُنَاكَ مَوضِع مزر فأرناه
فَقَالَ الشَّيْخ ادن وَأمْسك ذؤابتيه وَجعل يلطم على وَجهه وخديه وَيَقُول لست مزارا فأعرف مَوَاضِع المزر فخلصوه من يَده وَخرج إِلَى تَقِيّ الدّين وَقَالَ فديتك بنفسي
وعاش الشَّيْخ نجم الدّين عمره لم يَأْكُل من وقف الْمدرسَة لقْمَة وَلَا أَخذ من مَال الْمُلُوك درهما وَدفن فِي الكساء الَّذِي صَحبه من خبوشان وَكَانَ بِمصْر رجل تَاجر من بَلَده يَأْكُل من مَاله
وَدخل يَوْمًا القَاضِي الْفَاضِل وَزِير السُّلْطَان لزيارة الشَّافِعِي فَوَجَدَهُ يلقِي الدَّرْس على كرْسِي ضيق فَجَلَسَ على طرفه وجنبه إِلَى الْقَبْر فصاح الشَّيْخ فِيهِ قُم قُم ظهرك إِلَى الإِمَام فَقَالَ الْفَاضِل إِن كنت مستدبرة بقالبي فَأَنا مُسْتَقْبلَة بقلبي فصاح فِيهِ أُخْرَى وَقَالَ مَا تعبدنا بِهَذَا فَخرج وَهُوَ لَا يعقل
توفّي الشَّيْخ نجم الدّين فِي ذِي الْقعدَة سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وعَلى يَده كَانَ خراب بَيت العبيديين الرفضة الَّذين يَزْعمُونَ أَنهم فاطميون وَإِنَّمَا هم منتسبون إِلَى شخص اسْمه عبيد قيل إِنَّه يَهُودِيّ وَقيل مَجُوسِيّ من أهل سلمية دخل الْمغرب وملكها وَبنى المهدية وتلقب بالمهدى وَكَانَ زنديقا خبيثا عدوا لِلْإِسْلَامِ قتل من الْفُقَهَاء والمحدثين أمما وَبَقِي هَذِه الْبلَاء على الْإِسْلَام من أول دولتهم إِلَى آخرهَا وَذَلِكَ من ذِي الْحجَّة سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ إِلَى سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة(7/17)
وَقد بَين نسبهم جمَاعَة مِنْهُم القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني فَإِنَّهُ كشف فِي أول كِتَابه الْمُسَمّى بكشف أسرار الباطنية بطلَان نسب هَؤُلَاءِ إِلَى الإِمَام عَليّ كرم الله وَجهه
وهم أَرْبَعَة عشر رجلا مِنْهُم ثَلَاثَة بإفريقية وهم الملقبون بالمهدي والقائم والمنصور
وَأحد عشر بِمصْر وهم الْمعز والعزيز وَالْحَاكِم وَالظَّاهِر والمستنصر والمستعلي والآمر والحافظ والظافر والقائم والعاضد وَهُوَ آخِرهم
ولقدحكي أَن العاضد رأى فِي مَنَامه أَن حَيَّة خرجت من مَسْجِد مَعْرُوف بِمصْر ولسعته فَأرْسل جمَاعَة فِي صَبِيحَة ليلته إِلَى ذَلِك الْمَسْجِد فَمَا رَأَوْا فِيهِ إِلَّا شخصا أعجميا فَقِيرا فَردُّوا إِلَيْهِ وَقَالُوا لم نر إِلَّا فَقِيرا أعجميا وتكررت الرُّؤْيَا وَهُوَ يُرْسل فَلَا يرَوْنَ إِلَّا ذَلِك الأعجمي فَقيل لَهُ هَذِه أضغاث أَحْلَام وَكَانَ الأعجمي هُوَ الخبوشاني
وَكَانَ للعاضد وَزِير يُسمى بِالْملكِ الصَّالح على عَادَة وزراء الفاطميين أخيرا يسمون أنفسهم بالملوك وَهُوَ أَبُو الغارات طلائع بن رزيك فَقتله العاضد ثمَّ استوزر شاور ثمَّ قَتله وَذَلِكَ أَن أَسد الدّين شيركوه دخل الْقَاهِرَة وَقَامَ شاور بضيافته وضيافة عسكره وَتردد إِلَى خدمته فَطلب مِنْهُ أَسد الدّين مَالا يُنْفِقهُ على جَيْشه فماطله فَأرْسل إِلَيْهِ يَقُول قد ماطلت بنفقات الْجَيْش وهم يطالبون فَإِذا أتيتني فَكُن على حذر مِنْهُم فَلم يُؤثر هَذَا عِنْد شاور وَركب على عَادَته وَأتي أَسد الدّين مسترسلا وَقيل إِنَّه تمارض فجَاء شاور يعودهُ فاعترضه صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء النورية فقبضوا عَلَيْهِ فَجَاءَهُمْ رَسُول العاضد يطْلب رَأس شاور فذبح وَحمل رَأسه إِلَيْهِ واستقل أَسد الدّين وَلم يلبث أَن حَضرته الْمنية بعد خَمْسَة وَسِتِّينَ يَوْمًا من ولَايَته فقلد العاضد صَلَاح الدّين(7/18)
يُوسُف ولقبه الْملك النَّاصِر وَكتب تَقْلِيده القَاضِي الْفَاضِل وبدت سَعَادَة صَلَاح الدّين وَضعف أَمر العاضد
وَكَانَ مبدأ ضعفه أَن الفرنج خذلهم الله قصدُوا مصر فِي جمع عَظِيم وجحفل كَبِير واستباحوا بلبيس وأناخوا على مصر وأحرق شاور مصر خوفًا عَلَيْهَا مِنْهُم وَبقيت النَّار تعْمل فِيهَا أَرْبَعَة وَخمسين يَوْمًا ثمَّ عرف الْعَجز وَشرع فِي الْحِيَل وَأرْسل إِلَيْهِم يصالحهم على ألف ألف دِينَار مصرية نصفهَا خَمْسمِائَة ألف دِينَار ليرحلوا عَنهُ وَأرْسل إِلَيْهِم مائَة ألف دِينَار حِيلَة وخداعا وواصل بكتبه الْملك نور الدّين من حَيْثُ لَا يعلم الفرنج يطْلب مِنْهُ الْغَوْث وَيَقُول إِن الفرنج قد استحكم طَلَبهمْ وطمعهم فِي الْبِلَاد المصرية فَجهز نور الدّين أسدا الدّين فِي عَسْكَر عَظِيم فرحلت الفرنج لما سَمِعت بِخَبَر الْعَسْكَر
وَدخل أَسد الدّين مصر وتأكدت الصداقة بَينه وَبَين شاور وَاسْتمرّ الْحَال إِلَى حِين ولَايَة صَلَاح الدّين واستمراره إِلَى مستهل سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة فَخَطب لبنى الْعَبَّاس بِالْقَاهِرَةِ وَسَائِر بلادها وَكَانَت خطبتهم مُنْقَطِعَة مِنْهَا هَذِه الْمدَّة المديدة والدول السخيفة بعد أَن كَانَ جبن عَن ذَلِك واستعظم خطبه
وَكَانَ العاضد لما ضعف أمره وتنسم الخمول أرسل كتابا إِلَى نور الدّين يطْلب الاستقالة من الأتراك فِي مصر خوفًا مِنْهُم والاقتصار على صَلَاح الدّين فَكتب إِلَيْهِ نور الدّين الْخَادِم يهنى بِمَا سناه الله من الظفر الَّذِي أضْحك سنّ الْإِيمَان
يُشِير إِلَى نصْرَة الْمُسلمين على الفرنج فِي نوبَة دمياط وَيَقُول إِن الفرنج لَا تؤمن غائلتهم والرأي إبْقَاء التّرْك(7/19)
بديار مصر فَبَقيت التّرْك إِلَى المستهل من السّنة الْمَذْكُورَة فَقطعت خطبه الفاطميين وخطب لأمير الْمُؤمنِينَ المستضيء وَأرْسل إِلَى بَغْدَاد بالْخبر
وَتُوفِّي العاضد بعد ذَلِك فِي يَوْم عَاشُورَاء بِالْقصرِ وَجلسَ السُّلْطَان صَلَاح الدّين بعد ذَلِك للعزاء وَأغْرب فِي الْحزن والبكاء وتسلم الْقصر بِمَا فِيهِ من خَزَائِن ودفائن وأموال لَا تعد وَلَا تحصى وأمتعته اسْتمرّ البيع فِيهَا بَعْدَمَا أهْدى ووهب وَأطلق وادخر عشر سِنِين
ويحكى أَن صَلَاح الدّين قَالَ لَو علمت أَن العاضد يَمُوت بعد عشرَة أَيَّام مَا قطعت خطبَته وَأَنه قَالَ مارأيت أكْرم من العاضد أرْسلت إِلَيْهِ مُدَّة مقَام الإفرنج على دمياط أطلب مِنْهُ نَفَقَة فَأرْسل إِلَيّ ألف ألف دِينَار مصرية نصفهَا خَمْسمِائَة ألف دِينَار غير الثِّيَاب والأمتعة
ثمَّ أودع صَلَاح الدّين أقَارِب العاضد السجْن وَقرر لَهُم النَّفَقَات وزائد الصلات
واستفحل أمره وَكَانَ على يَده فتح بَيت الْمُقَدّس وَهُوَ الْفَتْح الَّذِي اشْتهر بِهِ شرقا وغربا وَحصل من الْجنَّة والقلوب قربا وَأبقى لَهُ إِلَى يَوْم الدّين ثَنَاء حسنا رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ
وَكتب فِي سنة سبعين وَخَمْسمِائة إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ المستضيء بِأَمْر الله كتابا من إنْشَاء القَاضِي الْفَاضِل يعدد مَاله من الفتوحات وَمن جِهَاد الفرنج مَعَ نور الدّين وفعالهم الْحَسَنَة وإقامتهم الْخطْبَة لأمير الْمُؤمنِينَ وَلَا عهدنا قِيَامهَا مُنْذُ دهر واستيلاءه على الْبِلَاد الْكَثِيرَة من أَطْرَاف الْمغرب إِلَى أقْصَى الْيمن وَأَن فِي هَذِه السّنة كَانَ عندنَا وَفد نَحْو سبعين رَاكِبًا كلهم يطْلب لسلطان بَلَده تقليدا ويرجو منا وَعدا وَيخَاف وعيدا وَأكْثر من ذَلِك إِلَى أَن قَالَ وَالْمرَاد الْآن تَقْلِيد جَامع بِمصْر واليمن وَالْمغْرب وَالشَّام وكل مَا تشْتَمل عَلَيْهِ الْولَايَة النورية يَعْنِي ولَايَة نور الدّين مَحْمُود وكل مَا يَفْتَحهُ الله للدولة(7/20)
العباسية بسيوفنا وَلمن يَنْضَم من أَخ وَولد من بَعدنَا تقليدا يضمن للنعمة تخليدا
وَعظم خطْبَة بِحَيْثُ إِنَّه لما مَاتَ المستضيء وَولى النَّاصِر لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ لم تكن لَهُ قدرَة عَلَيْهِ مَعَ مَا كَانَ النَّاصِر عَلَيْهِ من عَظمَة لَا توازى وخضوع مُلُوك الأَرْض لَهُ شرقا وغربا وقهره الكافة بعدا وقربا وَأرْسل إِلَى صَلَاح الدّين كتابا يعاتبه على أُمُور مِنْهَا تَسْمِيَته بِالْملكِ النَّاصِر وَأَنه لَا يَنْبَغِي لَك يَا صَلَاح الدّين أَن تتسمى باسمي فَإِن مَا يصلح للْمولى على العَبْد حرَام
فَأَجَابَهُ بِأَن هَذِه التَّسْمِيَة من زمن المستضيء قبل أَن يكون مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ خَليفَة وَكَانَ هَذَا الْجَواب من القَاضِي الْفَاضِل وتلاطف بِهِ فَإِن القَاضِي الْفَاضِل كَانَ يهاب العباسيين لَا سِيمَا النَّاصِر لدين الله فَمَا أمكنه أَن يجِيبه إِلَّا بلطف وَقَالَ أخْشَى أَن أذبح على فِرَاشِي وَفِي مأمني وَيكون الذَّابِح لي النَّاصِر لدين الله وَهُوَ بِبَغْدَاد
وَاسْتقر صَلَاح الدّين إِلَّا أَنه تضعضعت تَسْمِيَته بِالْملكِ النَّاصِر بِحَيْثُ إِنَّه إِلَى الْيَوْم لَا يعرف إِلَّا بصلاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب مَعَ جلالته وعظمته وَلَو لم يكن لَهُ إِلَّا الحسنتان العظيمتان اللَّتَان برز بهما على الْأَوَّلين من السلاطين والآخرين وهما فتح بَيت الْمُقَدّس وإبادة الفاطميين وَقد علم النَّاس سيرتهم كَيفَ كَانَت وسبهم الصَّحَابَة وفعالهم القبيحة الَّتِي لَا تعد وَلَا تحصى من عدم مبالاتهم بِأُمُور الدّين وَقلة نظرهم إِلَّا فِي فَسَاد الْمُسلمين وَلَو لم يكن إِلَّا الْحَاكِم وفعاله الَّتِي صَارَت تواريخ وتسويته تَارَة بَين جَمِيع الْأَدْيَان وَحكمه آوانه بِخِلَاف ماأنزل الرَّحْمَن وَحمله النَّاس على مَا يوسوس بِهِ الشَّيْطَان وَلَقَد كَاد يَدعِي الإلهية وَرُبمَا ادَّعَاهَا وَمن أَرَادَ أَن ينظر الْعجب فَلْينْظر إِلَى تَرْجَمته فِي التواريخ المبسوطة
وَلَقَد أطلنا فِي هَذِه التَّرْجَمَة وَلَا بُد من فَائِدَة(7/21)
712 - مُحَمَّد بن نَاصِر بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي عِيَاض أَبُو نصر السَّرخسِيّ العياضي الْفَقِيه الْوَاعِظ
ولد بسرخس سنة أَربع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وَمَات بهَا فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
713 - مُحَمَّد بن نصر بن مَنْصُور أَبُو سعد الْهَرَوِيّ القَاضِي
أحد الْفُقَهَاء الرؤساء وَهُوَ الَّذِي أرْسلهُ الْخَلِيفَة ليخطب لَهُ بنت السُّلْطَان سنجر فَقتلته الباطنية بهمذان
ولي الْقَضَاء بمدن كَثِيرَة من بِلَاد الْعَجم وَولي قَضَاء الشَّام مُدَّة وَقَضَاء بَغْدَاد مُدَّة وترقت بِهِ الْحَال وَعظم رُتْبَة وعلاصيتا
وَمن شعره
(الْبَحْر أَنْت سماحة وفصاحة ... والدر ينثر من يَديك وفيكا)
(والبدر أَنْت صباحة وملاحة ... وَالْخَيْر مَجْمُوع لديك وفيكا)
قتل سنة تسع عشرَة وَخَمْسمِائة وَفِي تَارِيخ شَيخنَا الذَّهَبِيّ سنة ثَمَان عشرَة وَفِي تَارِيخه أَيْضا أَنه حَنَفِيّ(7/22)
714 - مُحَمَّد بن هبة الله بن عبد الله الشَّيْخ سديد الدّين السلماسي
كَانَ إِمَامًا نظارا جدليا تخرج بِهِ جمَاعَة من الْفُضَلَاء وَأعَاد بِالْمَدْرَسَةِ النظامية توفّي فِي شعْبَان سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة
715 - مُحَمَّد بن هبة الله بن مكي الْحَمَوِيّ الإِمَام تَاج الدّين
كَانَ فَقِيها فرضيا نحويا متكلما أشعري العقيدة إِمَامًا من أَئِمَّة الْمُسلمين إِلَيْهِ مرجع أهل الديار المصرية فِي فتاويهم
وَله نظم كثير مِنْهُ أرجوزة سَمَّاهَا حدائق الْفُصُول وجواهر الْأُصُول صنفها للسُّلْطَان صَلَاح الدّين وَهِي حَسَنَة جدا نافعة عذبة النّظم وَفِي خطبتها يَقُول
(فَهَذِهِ قَوَاعِد العقائد ... ذكرت فِيهَا مُعظم الْمَقَاصِد)
وَمِنْهَا
(حكيت مِنْهَا أعدل الْمذَاهب ... لِأَنَّهُ أشهى مُرَاد الطَّالِب)
(جمعتها للْملك الْأمين ... النَّاصِر الْغَازِي صَلَاح الدّين)
(عَزِيز مصر قَيْصر الشَّام وَمن ... ملكه الله الْحجاز واليمن)
(ذِي الْعدْل والجود مَعًا والباس ... يُوسُف محيى دولة الْعَبَّاس)
(ابْن الْأَجَل السَّيِّد الْكَبِير ... أَيُّوب نجم الدّين ذِي التَّدْبِير)(7/23)
وَمن آخرهَا
(ثمَّ انْتهى تحريرها فِي شهر ... ربيع الأول بعد عشر)
(وَقد مضى من هِجْرَة النَّبِي ... مُحَمَّد ذِي الشّرف الْعلي)
(سَبْعُونَ عَاما قبلهَا خَمْسمِائَة ... فاعجب من اللَّفْظ وَفضل منشئه)
وَله أرجوزة أُخْرَى فِي الْفَرَائِض سَمَّاهَا رَوْضَة المرتاض ونزهة الفراض قَالَ فِيهَا
(جمعتها لجامع الْفَضَائِل ... الأوحد القَاضِي الْأَجَل الْفَاضِل)
(محيي موَات الْفضل ذِي الْجد الْعلي ... عبد الرَّحِيم بن أبي الْمجد عَليّ)
(أهدي إِلَيْهِ قَطْرَة من بحره ... إِذْ كل مَا أنظمه من نثره)
(وَهُوَ الَّذِي أجمع كل عَالم ... فِي عصرنا من ناثر وناظم)
بِأَنَّهُ الحبر النسيج وَحده ... فِي علمه وَدينه وزهده)
ووقفت لَهُ على مَا كتبه فِي قَوْله تَعَالَى {وَآتوا النِّسَاء صدقاتهن نحلة} وَكَانَ قد اجْتمع مَعَ الإِمَام أبي مُحَمَّد بن بري النَّحْوِيّ فَقَالَ ابْن بري كَيفَ يكون الصَدَاق نحلة والنحلة فِي اللُّغَة الْهِبَة من غير عوض وَالصَّدَاق تستحقه الْمَرْأَة اتِّفَاقًا لَا على وَجه التَّبَرُّع وَطلب المعني الفقهي فِي ذَلِك على مُقْتَضى مَذْهَب الشَّافِعِي وَسَأَلَ عَن الصَدَاق وَهل هُوَ من أَرْكَان العقد
فَأجَاب الْحَمَوِيّ بِكَلَام وقفت عَلَيْهِ علقه عَنهُ بعض تلامذته فِي سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وجدت بِخَط ابْن القليوبي فِي كِتَابه الْعلم الظَّاهِر كَانَ الشَّيْخ تَاج الدّين الْحَمَوِيّ مدرسا بِالْمَدْرَسَةِ الصلاحية وخطيبا بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَ كثير الِاشْتِغَال بِالْعلمِ دَائِم التَّحْصِيل لَهُ وَسمعت الشَّيْخ الإِمَام الْحَافِظ زكي الدّين عبد الْعَظِيم يَقُول دخلت عَلَيْهِ يَوْمًا وَهُوَ فِي سرب تَحت الأَرْض لأجل شدَّة الْحر وَهُوَ يشْتَغل قَالَ فَقلت لَهُ فِي هَذَا الْمَكَان وعَلى هَذَا الْحَال فَقَالَ إِذا لم أشتغل بِالْعلمِ مَاذَا أصنع(7/24)
وسمعته أَيْضا يَقُول وجد فِي تركته محابر تسع إِحْدَاهُنَّ تِسْعَة أَرْطَال وَالْأُخْرَى أحد عشر رطلا وَالْأُخْرَى ثَمَانِيَة وَوجد فِي تركته أَيْضا خَمْسُونَ ديوانا خطبا وَسمعت أَن لَهُ ديونا لم أَقف عَلَيْهِ
وَكَانَ حسن الْخط جيد الانتقاد رَأَيْت كتاب الْبَيَان للعمراني بِخَطِّهِ وحواشيه أَيْضا بِخَطِّهِ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة يُنَبه عَلَيْهَا تدل عَلَيْهَا وفور علمه وَكَثْرَة اطِّلَاعه
قَالَ الشَّيْخ الْحَافِظ وَكَانَ يَأْخُذ الْكتاب بِالثّمن الْيَسِير فَلَا يزَال يَخْدمه حَتَّى يصير من الْأُمَّهَات انْتهى مَا وجدته ونقلته من خطّ الشَّيْخ كَمَال الدّين بن القليوبي
ونقلت من خطّ الشَّيْخ تَاج الدّين الْحَمَوِيّ من نظمه نفعنا الله بِهِ
(اثْنَان من بعدهمَا تِسْعَة ... وَسَبْعَة من قبلهَا أَربع)
(وَخَمْسَة ثمَّ ثَلَاث وَمن ... بعد ثَلَاث سِتَّة تتبع)
(ثمَّ ثَمَان قبلهَا وَاحِد ... فرتب الْأَعْدَاد إِذْ تجمع)
تكْتب على خرقتين لم يصبهما مَاء وتضعهما الطَّلقَة تَحت قدميها تضع بِإِذن الله تَعَالَى عز وَجل وَهَذِه صورتهَا انْتهى مَا نقلته من خطه على صورته
716 - مُحَمَّد بن يحيى بن مَنْصُور الإِمَام الْمُعظم الشَّهِيد أَبُو سعيد النَّيْسَابُورِي تلميذ الْغَزالِيّ
ولد سنة سِتّ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وتفقه على الْغَزالِيّ وَبِه عرف وعَلى أبي المظفر الخوافي(7/25)
سمع الحَدِيث من أبي حَامِد بن عَليّ بن عَبدُوس وَنصر الله الخشنامي وَجَمَاعَة كَثِيرَة وَخرجت لَهُ أَرْبَعُونَ حَدِيثا وَقعت لنا بِالسَّمَاعِ
وَله تصانيف كَثِيرَة مِنْهَا الْمُحِيط فِي شرح الْوَسِيط والإنصاف فِي مسَائِل الْخلاف وتعليقة أُخْرَى فِي الخلافيات كَثِيرَة التَّحْقِيق
وَكَانَ إِمَامًا مناظرا ورعا زاهدا متقشفا وَكَانَ وَالِده من أهل حيرة قدم نيسابور لأجل الْقشيرِي
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فصحبه مُدَّة وجاور وَتعبد
قَالَ وَأما وَلَده فَكَانَ أنظر الخراسانيين فِي عصره
وَمن شعر مُحَمَّد بن يحيى
(وَقَالُوا يصير الشّعْر فِي المَاء حَيَّة ... إِذا الشَّمْس لاقته فَمَا خلته حَقًا)
(فَلَمَّا التوى صدغاه فِي مَاء وَجهه ... وَقد لسعا قلبِي تيقنته صدقا)
قتل مُحَمَّد بن يحيى فِي شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة قَتله الغز فَمَاتَ شَهِيدا قيل إِنَّهُم دسوا فِي فِيهِ التُّرَاب حَتَّى مَاتَ وَذَلِكَ لما خَرجُوا على السُّلْطَان الْكَبِير أعظم مُلُوك السلجوقية سنجر بن ملكشاه السلجوقي وفعلوا العظائم واقتحموا الجرائم
وَكَانَت واقعتهم من أعظم الوقائع وأغربها وَقتل فِيهَا أُمَم لَا يحصيهم إِلَّا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِي خلقهمْ(7/26)
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ رَأَيْت مُحَمَّد بن يحيى فِي الْمَنَام فَسَأَلته عَن حَاله فَقَالَ غفر لي
وَقَالَ عَليّ بن أبي الْقَاسِم الْبَيْهَقِيّ يرثي مُحَمَّد بن يحيى وَقد قتل
(يَا سافكا دم عَالم متبحر ... قد طَار فِي أقْصَى الممالك صيته)
(بِاللَّه قل لي يَا ظلوم وَلَا تخف ... من كَانَ يحيى الدّين كَيفَ تميته)
وَقَالَ آخر يمدحه
(رفات الدّين وَالْإِسْلَام تحيى ... بمحيى الدّين مَوْلَانَا ابْن يحيى)
(كَأَن الله رب الْعَرْش يلقى ... عَلَيْهِ حِين يلقِي الدَّرْس وَحيا)
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
قَالَ مُحَمَّد بن يحيى فِي مَسْأَلَة الْعينَة بعد مَا ذكر اعْتِرَاض الْخُصُوم بِأَنَّهُ وَسِيلَة إِلَى الرِّبَا ووسيلة إِلَى مَقْصُود الرِّبَا وَهُوَ الْفضل أَو إِلَى عين الرِّبَا وَهُوَ مُقَابِله الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ الثَّانِي مَمْنُوع وَهُوَ الْمحرم فِي سَائِر الْمعاصِي أَعنِي وَسِيلَة الْقَتْل وَالزِّنَا وَمَا يُفْضِي بِالآخِرَة إِلَى حَقِيقَة تِلْكَ الْجِنَايَة وَالْأول مُسلم وَلَا تَحْرِيم فِيهِ فَإِن النِّكَاح يُفِيد مثل مَقْصُود الزِّنَا وَهُوَ مَشْرُوع وَجوز الْحَنَفِيَّة بيع صبرَة بصبرة كل حفْنَة بحفنتين وَهُوَ مُحَصل لمقصود الرِّبَا
وَهَذَا كَلَام حسن كَانَ الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى يبديه تفقها وَأَصله مَوْجُود فِي كَلَام الْغَزالِيّ حَيْثُ يَقُول وَلَا نظر إِلَى الزِّيَادَة عِنْد عدم الْمُقَابلَة(7/27)
اسْتِئْجَار البياع على كلمة لَا تتعب ذكر الرَّافِعِيّ أَنه فَاسد وَأَنَّهُمْ لم يَجْعَلُوهُ من صور الْوَجْهَيْنِ ثمَّ قَالَ لَكِن المحكي عَن الإِمَام مُحَمَّد بن يحيى أَن ذَلِك فِي الْمَبِيع المستقر قِيمَته فِي الْبَلَد كالخبز وَاللَّحم وَأما الثِّيَاب وَالْعَبِيد وَمَا يخْتَلف قدر الثّمن فِيهِ باخْتلَاف قدر الْمُتَعَاقدين فَلَا
717 - مُحَمَّد بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عبد الله الطيان الْمروزِي الرَّمَادِي أَبُو عبد الله
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فِي التحبير فَقِيه فَاضل زاهد حَافظ لِلْقُرْآنِ كثير التِّلَاوَة قَرَأَ بالروايات وَكَانَ من الأخيار الزاهدين الورعين
يعرف بالفقيه الزَّاهِد
سمع بمرو جدي أَبَا المظفر وأسعد بن أبي سعيد الميهني وبنيسابور أَبَا بكر السروي وَإِسْمَاعِيل بن عبد الغافر الْفَارِسِي وَغَيرهم
سَمِعت مِنْهُ وقرأت عَلَيْهِ الْقُرْآن ختمات بِحرف ابْن ذكْوَان عَن عبد الله بن عَامر
توفّي فِي الْمحرم سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَدفن بسنجدان(7/28)
718 - مُحَمَّد بن أبي عَليّ بن أبي نصر بن أبي سعيد الشَّيْخ فَخر الدّين النوقاني
من أهل نوقان طوس
درس الْفِقْه بنيسابور على مُحَمَّد بن يحيى ثمَّ قدم بَغْدَاد واستوطنها ودرس بِالْمَدْرَسَةِ القيصرية بهَا مُدَّة إِلَى أَن أنشأت أم الإِمَام النَّاصِر لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ مدرسة بالجانب الغربي فَجَعَلته مدرسا بهَا
قَالَ ابْن النجار كَانَ من كبار الْأَئِمَّة وأعيان فُقَهَاء الْأمة عَالما كَامِلا نبيلا بارعا لَهُ الْيَد الباسطة فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف والباع الممتد فِي حسن الْكَلَام فِي المناظرة وإيراد مَا يُورِدهُ من الجدل والمنطق وَله معرفَة تَامَّة بالتفسير
قَالَ وَأكْثر الْفُقَهَاء والمدرسين بِبَغْدَاد من الشَّافِعِيَّة والحنابلة تلامذته
قَالَ وَكَانَ مَعَ فَضله صَالحا متدينا حَافِظًا لأوقاته لَا يذهب سَاعَة من عمره إِلَّا فِي أشغال أَو اشْتِغَال أَو نسخ أَو مطالعة
حدث بِبَغْدَاد بِكِتَاب الْأَرْبَعين لشيخه مُحَمَّد بن يحيى عَنهُ
قَالَ وَسمعت الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر بن الدباس يَقُول فِيهِ كَانَ وليا لله وَيذكر أَشْيَاء من كَلَامه كَانَ يعده بهَا وَرَآهَا
مولده بنوقان فِي شَوَّال سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة
وَتُوفِّي فِي صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة(7/29)
719 - مُحَمَّد بن أبي سعيد بن مُحَمَّد السَّعْدِيّ الإِمَام أَبُو المظفر الخواري
صَاحب التعليقة فِي الْخلاف الْمُسَمَّاة الْمُعْتَرض
720 - مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن عبيد الغولقاني الْمروزِي من قَرْيَة غولقان
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ ولد بهَا فِي حُدُود سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ وَكَانَ فَقِيها فَاضلا عَالما زاهدا ورعا حسن الْمعرفَة بِالْمذهبِ حَافِظًا لَهُ
سمع أَبَا الْخَيْر مُحَمَّد بن مُوسَى الصفار وَالْإِمَام أَبَا المظفر وَأَبا بكر مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي تَوْبَة الْخَطِيب الْكشميهني وَأَبا الْفتُوح عبد الغافر بن الْحُسَيْن الألمعي الكاشغري الْحَافِظ وَغَيرهم
كتبت عَنهُ بمرو وَسمعت مِنْهُ كتاب دور من ذكر مرو لأبي الْفَتْح الألمعي الْحَافِظ بروايته عَنهُ وَغير ذَلِك توفّي بغولقان فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
مُحَمَّد الماخواني
هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق
تقدم فِي هَذِه الطَّبَقَة(7/30)
721 - إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عَطاء المروروذي الإِمَام أَبُو إِسْحَاق
ولد فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَكَانَ أحد أَئِمَّة الْمُسلمين وَمن كبار الْعلمَاء العاملين
تفقه على الْحسن النيهي وَالْإِمَام أبي المظفر السَّمْعَانِيّ
وَسمع الحَدِيث الْكثير وَحدث بالكتب الْكِبَار
وَأَصله من قَرْيَة يُقَال لَهَا فلخار من قرى مرو الروذ
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ سمع بمرو الروذ أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْعَلَاء الْبَغَوِيّ وَسمع أَيْضا أَبَا المظفر بن السَّمْعَانِيّ وَأَبا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الدقاق الْحَافِظ الْأَصْبَهَانِيّ وَغَيرهم بمرو وَغَيرهَا
حدث عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَقَالَ سَمِعت مِنْهُ الْكثير
قَالَ وَكَانَ إِمَامًا متقنا مفتيا مصيبا ومناظرا ورعا محتاطا فِي الْمَأْكُول والملبوس حاد الخاطر حسن المحاورة كثير الْمَحْفُوظ ذَا رَأْي ونباهة وإصابة فِي التَّدْبِير وَكَانَ الأكابر يصادقونه ويستضيئون بِرَأْيهِ ويزورونه(7/31)
قَالَ وَكَانَ وَالِدي لما توفّي فوض النّظر فِي مصالحي إِلَيْهِ وَفِي مصَالح أخي وَجعله وَصِيّا
قَالَ وَكَانَ إِذا دخل مدرستنا لَا يشرب المَاء فِي زاويتنا وَلَا فِي دَارنَا ويحتاط فِي ذَلِك
قَالَ وَقتل فِي الْوَقْعَة الخوارزمشاهية فِي شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة أَصَابَهُ سَهْمَان فَبَقيَ بعدهمَا ثَلَاثَة أَيَّام وَمَات
722 - إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن طَاهِر أَبُو طَاهِر الْحَمَوِيّ الْمَعْرُوف بالحصني
من فُقَهَاء دمشق
ولد فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة بحماة
وتفقه بِبَغْدَاد وَسمع أَبَا عَليّ بن نَبهَان الْكَاتِب وَأَبا طَالب الزَّيْنَبِي وَأَبا طَاهِر الحنائي وَابْن الموازيني وَغَيرهم
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَابْن عَسَاكِر وَابْنه الْقَاسِم بن عَسَاكِر وَأَبُو الْقَاسِم بن صصرى وَأَبُو نصر بن الشِّيرَازِيّ وَغَيرهم
وَقدم دمشق وَاجْتمعَ بِالْملكِ الْعَادِل نور الدّين وَحكى عَن نَفسه أَنه كَانَ عِنْده يَوْمًا(7/32)
بقلعة دمشق وَأَن نور الدّين الْتفت إِلَى كَاتبه وَقَالَ اكْتُبْ إِلَى نائبنا بمعرة النُّعْمَان ليقْبض على جَمِيع أَمْلَاك أَهلهَا فقد صَحَّ عِنْدِي أَن أهل المعرة يتقارضون الشَّهَادَة فَيشْهد أحدهم لصَاحبه فِي ملك ليشهد لَهُ ذَلِك فِي ملك آخر فَجَمِيع مَا فِي أَيْديهم بِهَذَا الطَّرِيق
قَالَ فَقلت لَهُ اتَّقِ الله فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر أَن يتمالأ أهل بلد على شَهَادَة الزُّور
فَقَالَ صَحَّ عِنْدِي ذَلِك
فَكتب الْكَاتِب الْكتاب وَدفعه إِلَيْهِ ليعلم عَلَيْهِ وَإِذا بصبي رَاكب بَهِيمَة على نهر بردى وَهُوَ ينشد
(اعدلوا مَا دَامَ أَمركُم ... نَافِذا فِي النَّفْع وَالضَّرَر)
(واحفظوا أَيَّام دولتكم ... إِنَّكُم مِنْهَا على خطر)
(إِنَّمَا الدُّنْيَا وَزينتهَا ... حسن مَا يبْقى من الْخَبَر)
قَالَ فَاسْتَدَارَ إِلَى الْقبْلَة وَسجد واستغفر الله ثمَّ مزق الْكتاب وتلا قَوْله تَعَالَى {فَمن جَاءَهُ موعظة من ربه فَانْتهى فَلهُ مَا سلف وَأمره إِلَى الله}
توفّي الحصني بِدِمَشْق فِي صفر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
723 - إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن مَحْفُوظ بن مَنْصُور ابْن معَاذ بن يحيى(7/33)
724 - إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ الطَّبَرِيّ(7/34)
725 - إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن إِبْرَاهِيم بن مهْرَان الْجَزرِي أَبُو طَاهِر
مولده فِي الْمحرم سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة
وَكَانَ فَقِيها زاهدا من كبار تلامذة ابْن البزري
سمع الحَدِيث بِبَغْدَاد من أبي الْفَتْح الكروخي وَغَيره
قَالَ ابْن باطيش فِي الفيصل عَاد من بَغْدَاد إِلَى الجزيرة فِي أَيَّام شَيْخه أبي الْقَاسِم بن البزري ولازم التدريس والإفادة إِلَى أَن صَار إِمَام وقته مشارا إِلَيْهِ فِي التدريس وَالْفَتْوَى وَتخرج بِهِ جمَاعَة وَظَهَرت بركته عَلَيْهِم
وَتُوفِّي بالجزيرة لَيْلَة الْخَمِيس خَامِس الْمحرم سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة(7/35)
726 - إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن نَبهَان بن مُحرز أَبُو إِسْحَاق الغنوي الرقي الصُّوفِي
ولد سنة تسع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَسمع رزق الله التَّمِيمِي وَغَيره
وتفقه على حجَّة الْإِسْلَام الْغَزالِيّ وفخر الْإِسْلَام الشَّاشِي
وَكتب الْكثير من تصانيف الْغَزالِيّ
وروى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَأَبُو الْيمن زيد بن الْحسن الْكِنْدِيّ وَعمر بن طبرزد وَآخَرُونَ
توفّي فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
727 - إيراهيم بن المطهر أَبُو طَاهِر الشباك الْجِرْجَانِيّ
حضر دروس إِمَام الْحَرَمَيْنِ بنيسابور ثمَّ صحب الْغَزالِيّ وسافر مَعَه إِلَى الْعرَاق والحجاز وَالشَّام ثمَّ عَاد إِلَى وَطنه بجرجان وَأخذ فِي التدريس والوعظ وَظهر لَهُ الْقبُول وبنيت لَهُ مدرسة ثمَّ قتل بَغْتَة وَمَات شَهِيدا سنة ثَلَاث عشرَة وَخَمْسمِائة(7/36)
728 - إِبْرَاهِيم بن مَنْصُور بن مُسلم أَبُو إِسْحَاق الْعِرَاقِيّ الْفَقِيه الْمصْرِيّ
شَارِع الْمُهَذّب
إِمَام الْجَامِع الْعَتِيق بِمصْر وخطيبه
كَانَ فِي مبدأ عمره يعْمل النشاب فِي الْقَاهِرَة
قَالَ ابْن القليوبي فِي مَنَاقِب الْفَقِيه أبي الطَّاهِر سَمِعت وَالِدي يَقُول كَانَ سَبَب اشْتِغَاله بِالْعلمِ أَنه اشْترى جَارِيَة وباتت عِنْده فَلَمَّا أصبح أَتَى إِلَى حانوته على عَادَته فَقَالَ لَهُ بعض جِيرَانه كَيفَ وجدت جاريتك البارحة فَقَالَ لَهُ آخر كَيفَ يجْتَمع مَعهَا قبل أَن يَسْتَبْرِئهَا
فَقَالَ وَمَا الِاسْتِبْرَاء
فَقَالَ أَن تحيض فِي ملكك
فتجرد لطلب الْعلم ورحل إِلَى الْعرَاق وَفتح عَلَيْهِ هُنَاكَ وَأقَام مُدَّة ثمَّ قدم مصر وَمن ثمَّ عرف بالعراقي
قلت تفقه بالعراق على أبي بكر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الأرموي صَاحب أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وعَلى أبي الْحسن بن الْخلّ وبمصر عَليّ القَاضِي مجلي
ولد سنة عشر وَخَمْسمِائة من تصانيفه شرح الْمُهَذّب الَّذِي أَشَرنَا إِلَيْهِ وَغَيره
وَكَانَ مُعظما فِي الْقَاهِرَة وَعنهُ أَخذ فقهاؤها مِنْهُم الْفَقِيه أَبُو الطَّاهِر خطيب مصر وَغَيره(7/37)
وَكَانَ رجلا ورعا ذَا حَال حَسَنَة
حكى تِلْمِيذه الْفَقِيه أَبُو الطَّاهِر قَالَ اشتهت نَفسِي لَيْلَة قطائف وَلم يكن عِنْدِي شَيْء واشتدت مُطَالبَة النَّفس بهَا فَقلت لَا شَيْء عِنْدِي فَقَالَت البياع الَّذِي تستجر مِنْهُ مجاور صَاحب القطايف يَأْخُذ لَك مِنْهُ مَا تحب ويعطيك الْعَسَل على جاري عَادَته فَخرجت بِهَذَا الْقَصْد لأقول لَهُ ذَلِك فَبينا أَنا وَاقِف عَلَيْهِ والشهوة تبْعَث على الطّلب وَالنَّفس تأبى وَإِذا بالشيخ أبي إِسْحَاق الْعِرَاقِيّ ناولني كاغدة وَقَالَ لي لطائف أحلى من القطائف
فأخرجت مِنْهَا مَا قضيت بِهِ حَاجَتي
كَذَا أسْند هَذِه الْحِكَايَة ابْن القليوبي فِي مآثر أبي الطَّاهِر
وَكَانَ أَبُو إِسْحَاق الْعِرَاقِيّ من الْفضل بِحَيْثُ لَا يتعجب من مثل هَذِه الْوَاقِعَة مِنْهُ
توفّي فِي إِحْدَى الجماديين سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
وَولى الخطابة بعده وَلَده ولولده ديوَان خطب مَشْهُور
قَالَ ابْن القليوبي يُقَال إِن وَلَده كَانَ فِي جَنَازَة وَالِده ينشىء الْخطْبَة الَّتِي يخْطب بهَا وَكَانَ مفتتحها الْحَمد لله الَّذِي شتت بِالْمَوْتِ شَمل الأحبا وأورث الْبَنِينَ مناصب الآبا
قَالَ وَقَرَأَ فِيهَا {إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله حَنِيفا وَلم يَك من الْمُشْركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين}
قلت وَولى الخطابة بعد ابْن أبي إِسْحَاق الْفَقِيه أَبُو الطَّاهِر الْمحلى الرجل الصَّالح وَكَانَ قبل ذَلِك يؤم بِالْمَسْجِدِ الْمُعَلق بسوق الْغَزل بِمصْر الَّذِي يُقَال من أم فِيهِ خطب فِي هَذَا الْجَامِع(7/38)
قَالَ ابْن القليوبي وَرَأَيْت من الِاتِّفَاق العجيب أم فِيهِ الشَّيْخ أَبُو الطَّاهِر فَأم بالجامع وخطب وَأم فِيهِ الشَّيْخ أَبُو الْمجد فَأم بالجامع وخطب وَأم فِيهِ الْكَمَال عبد الرَّزَّاق خَليفَة الحكم بِمصْر فَأم بالجامع وخطب قَالَ وَرَأَيْت من هَذَا الاستقراء عجبا
وَمن الْفَوَائِد عَن أبي إِسْحَاق
حكى فِي شرح الْمُهَذّب فِي مَسْأَلَة اشْتِبَاه الْإِنَاء الطَّاهِر بِالنَّجسِ وَجها أَنه يعْتَبر الْملك فَإِن كَانَ الإناءان ملكا لرجل تحرى فيهمَا وَإِن كَانَا لِرجلَيْنِ لم يجب التَّحَرِّي وَجَاز لكل وَاحِد أَن يتَوَضَّأ بإنائه من غير تحر لِأَن الأَصْل الطَّهَارَة وَقد شكّ فِي نَجَاسَته فَلَا يزَال تَيَقّن الطَّهَارَة بِالشَّكِّ
كَمَا لَو قَالَ رجل إِن كَانَ هَذَا الطَّائِر غرابا فَأَنت طَالِق وَقَالَ آخر إِن لم يكن غرابا فامرأتي طَالِق ثمَّ طَار وَلم يعلم
وَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن التوضي بِملك الْغَيْر كالتوضي بِملكه فَلَيْسَ يستدعى صِحَة الْوضُوء ملكا بِخِلَاف الْوَطْء فَإِنَّهُ لَا يحل إِلَّا فِي ملك فَافْتَرقَا هَذِه عِبَارَته فِي شرح الْمُهَذّب
وفيهَا بعض المدافعة فَأول كَلَامه يدل على أَن الْوَجْه فِي تحري الرجلَيْن فِي إنائهما وَهَذَا غير غَرِيب بل هُوَ الْحق فَلَا يجب على كل وَاحِد أَن يتحَرَّى فِي إِنَاء نَفسه لنَفسِهِ وَآخر يدل على أَن مُرَاده أَنه فِي تحري الرجلَيْن فِي إناءين يملك أَحدهمَا وَالْآخر ملك لغيره فَإِن كَانَ فِي هَذِه الصُّورَة فَهُوَ وَجه غير بعيد وَالَّذِي أَحْسبهُ أَنه سقط من الْكَلَام شَيْء لَعَلَّ آفته النَّاسِخ(7/39)
729 - إِدْرِيس بن حَمْزَة بن عَليّ الشَّامي الرَّمْلِيّ أَبُو الْحسن
من أهل الرملة
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ فَقِيها فَاضلا مبرزا فصيحا عَالما من فحول الْأمة
تفقه أَولا بِبَيْت الْمُقَدّس على الْفَقِيه نصر بن إِبْرَاهِيم لمقدسي ثمَّ بِبَغْدَاد على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَدخل خُرَاسَان وَخرج إِلَى مَا وَرَاء النَّهر وَسكن سمر قند وفوض إِلَيْهِ التدريس لأَصْحَاب الشَّافِعِي فِي مَسْجِد المنارة وسكنها إِلَى أَن توفّي بهَا
قَالَ وَسمعت جمَاعَة من عُلَمَاء سَمَرْقَنْد يفخمون أمره ويذكرونه بالتعظيم وَيَقُولُونَ كَانَ عُلَمَاء سَمَرْقَنْد مثل السَّيِّد الْأَشْرَف والكاسي يهابون الْكَلَام مَعَه فِي الْمسَائِل(7/40)
لفصاحته وفضله وجريه
ذكره الْحَافِظ أَبُو حَفْص عمر بن مُحَمَّد النَّسَفِيّ وَقَالَ كَانَ من فحول المناظرين
وَذكر الْحَافِظ أَبُو الْفضل بن طَاهِر أَنه سمع أَبَا الْحسن إِدْرِيس بن حَمْزَة هَذَا بمرو يَقُول لما دخلت بَغْدَاد واشتغلت بالدرس فِي حَلقَة الشَّيْخ أبي إِسْحَاق دخل عَليّ فِي بعض الْأَيَّام فَرَأى فِي يَدي شَيْئا مِمَّا علقته عَن الشَّيْخ نصر فأعجب بِهِ وَقَالَ لم أكن أَظن أَنه بِهَدِّهِ الدرجَة
وَذكر النَّسَفِيّ أَنه توفّي فِي يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن عشر من شهر رَمَضَان سنة أَربع وَخَمْسمِائة
730 - أسعد بن أَحْمد بن يُوسُف بن أَحْمد بن يُوسُف أَبُو الْغَنَائِم البامنجي الْخَطِيب
ولد فِي صفر سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
وروى عَن عمر بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْخَلِيل الْبَغَوِيّ
روى عَنهُ عبد الرَّحِيم بن السَّمْعَانِيّ
تفقه عَليّ مُحي السّنة الْبَغَوِيّ والموفق الْهَرَوِيّ مَاتَ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة(7/41)
731 - أسعد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي سعد بن عَليّ أَبُو سعد الثابتي
من أهل بنج ديه
ولد سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
732 - أسعد بن مُحَمَّد بن أبي نصر أَبُو الْفَتْح الميهني
بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء المنقوطة من تحتهَا بِاثْنَتَيْنِ وَفِي آخرهَا النُّون بعد الْهَاء نِسْبَة إِلَى ميهنة قَرْيَة بَين سرخس وأبيورد
هُوَ الإِمَام الْكَبِير النظار صَاحب الطَّرِيقَة الْمُتَّفق على أَنه الْفَرد فِي علم الْخلاف
كنيته أَبُو الْفَتْح
تفقه على الإِمَام أبي المظفر مَنْصُور بن مُحَمَّد السَّمْعَانِيّ وعَلى الْمُوفق الْهَرَوِيّ بمرو(7/42)
وَقَالَ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ برع فِي الْفِقْه وفَاق أقرانه فِي حِدة الخاطر والاعتراض وَجرى اللِّسَان وقهر الْخُصُوم وَكَانَ وَالِدي استنابه فِي التدريس بالنظامية بمرو فَتَوَلّى ذَلِك وتفقه عَلَيْهِ جمَاعَة ثمَّ خرج من مرو إِلَى غزنة وَأكْرم مورده وَبلغ إِلَى لوهور وشاع ذكره بِالْفَضْلِ وَالنَّظَر فِي تِلْكَ الديار وَحصل لَهُ مبلغ من الْأَمْوَال العبيد والخدم وَانْصَرف مِنْهَا وَقصد الْعرَاق فورد الْعرَاق ودرس بالنظامية بهَا وعلق عَلَيْهِ تعليقة الْخلاف وانتشر ذكره فِي الأقطار ورحل إِلَيْهِ طلبة الْعلم من الْأَمْصَار وَصَارَ مقصدا للْكُلّ
قَالَ وَسمع بنيسابور بِقِرَاءَة وَالِدي
قَالَ وَمَا أَظُنهُ روى شَيْئا من الحَدِيث
قَالَ وَرجع من خُرَاسَان إِلَى الْعرَاق يَعْنِي بعد أَن أنفذ إِلَيْهَا رَسُولا من جِهَة السُّلْطَان مَحْمُود إِلَى مرو وَكَانَ قد فتر سوقه وَمَا زَالَ حَاله يصعد وَينزل إِلَى أَن أَدْرَكته منيته بهمذان بعد الْعشْرين وَخَمْسمِائة
قَالَ وَسمعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن عَليّ بن عمر الْخَطِيب يَقُول سَمِعت فَقِيها من أهل قزوين وَكَانَ يخْدم الإِمَام أسعد فِي آخر عمره بهمذان قَالَ كُنَّا مَعَه فِي بَيت وَقت أَن قرب ارتحاله فَقَالَ لنا اخْرُجُوا من هَا هُنَا فخرجنا فوقفت على الْبَاب وتسمعت فَسَمعته يلطم وَجهه وَيَقُول واحسرتا على مَا فرطت فِي جنب الله وَجعل يبكي ويلطم وَجهه ويردد هَذِه الْكَلِمَة إِلَى أَن مَاتَ
رَحمَه الله تَعَالَى(7/43)
733 - إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن الْحُسَيْن الخسروجردي شيخ الْقُضَاة أَبُو عَليّ
ولد الإِمَام الْجَلِيل الْحَافِظ أبي بكر الْبَيْهَقِيّ
مولده بخسروجرد سنة ثَمَان وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة
وَسمع أَبَاهُ وَأَبا حَفْص بن مسرور وَأَبا عُثْمَان الصَّابُونِي وَعبد الغافر بن مُحَمَّد الْفَارِسِي وناصر بن الْحُسَيْن الْعمريّ وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو الْقَاسِم بن السَّمرقَنْدِي وإِسْمَاعِيل بن ابي سعد الصُّوفِي وَغَيرهمَا
تفقه على أَبِيه وَتخرج بِهِ فِي الحَدِيث وسافر الْكثير وَدخل خوارزم فسكن بهَا مُدَّة وَولى بهَا الخطابة وتدريس الشَّافِعِيَّة وَالْقَضَاء من وَرَاء جيحون الَّذِي كَانَ برسم أَصْحَاب الشَّافِعِي ثمَّ سَافر إِلَى بَلخ وَأقَام بهامدة ثمَّ عَاد إِلَى بيهق بعد مَا غَابَ عَنْهَا نَحْو ثَلَاثِينَ سنة وَتُوفِّي بهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَخَمْسمِائة
734 - إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن عبد الْملك بن عَليّ بن عبد الصَّمد النَّيْسَابُورِي أَبُو سعد بن أبي صَالح الْمُؤَذّن
أما وَالِده أَبُو صَالح الْمُؤَذّن فمحدث شهير وَأما أَبُو سعد ففقيه كَبِير إِمَام من الْأَئِمَّة ولد سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة أَو سنة اثْنَتَيْنِ(7/44)
وتفقه على إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَأبي المظفر السَّمْعَانِيّ وَسمع أَبَاهُ وَأَبا حَامِد أَحْمد بن الْحسن الْأَزْهَرِي وَأَبا الْقَاسِم الْقشيرِي وَأَبا الْعَلَاء صاعد بن مَنْصُور بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْأَزْدِيّ الْهَرَوِيّ والفقيه ابا الْحسن عَليّ بن يُوسُف الْجُوَيْنِيّ وَأَبا سهل مُحَمَّد بن أَحْمد الحفصي وَغَيرهم
وَأَجَازَ لَهُ أَبُو سعد الكنجروذي
وروى عَنهُ مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي مَعَ تقدمه وَأَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ وَأَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ وقاضي الْقُضَاة أَبُو سعد بن أبي عصرون وَآخَرُونَ
قَالَ ابْن عَسَاكِر كَانَ إِمَامًا فِي الْأُصُول وَالْفِقْه حسن النّظر مقدما فِي التَّذْكِير وجيها عِنْد سُلْطَان كرمان مُعظما بَين أَهلهَا مُحْتَرما بَين الْعلمَاء وَسَائِر الْبِلَاد قَرَأَ الْإِرْشَاد على مُصَنفه إِمَام الْحَرَمَيْنِ
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ ذَا رَأْي وعقل وتدبير وَفضل وافر وَعلم غزير ظهر لَهُ الْعِزّ والجاه والثروة وَبَقِي مكرما بكرمان
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ توفّي لَيْلَة عيد الْفطر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ توفّي فِي آخر يَوْم من شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة ببردسير كرمان وَدفن يَوْم الْفطر(7/45)
735 - إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن عمر بن أبي الْأَشْعَث السَّمرقَنْدِي الْحَافِظ الْمسند أَبُو الْقَاسِم بن السَّمرقَنْدِي
ولد بِدِمَشْق فِي رَمَضَان سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَسمع أَبَا بكر الْخَطِيب وَأَبا نصر بن طلاب وَعبد الْعَزِيز الْكِنَانِي وَابْن هزار مرد الصريفيني وَابْن النقور وَأَبا نصر الزَّيْنَبِي وَابْن البسرى وخلقا بِالشَّام وَالْعراق
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَابْن عَسَاكِر وَعمر بن طبرزد وَأَبُو الْيمن الْكِنْدِيّ وَعبد الْعَزِيز بن الْأَخْضَر وخلائق فَإِنَّهُ عمر وَعلا سَنَده
قَالَ أَبُو شُجَاع عمر البسطامى أَبُو الْقَاسِم إِسْنَاد خُرَاسَان كُله وَالْعراق وَإسْنَاد بنُون يَعْنِي مُسْنده
توفّي فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
ذكره ابْن الصّلاح فتابعناه فِي إِيرَاده(7/46)
736 - إِسْمَاعِيل بن عبد الْملك بن عَليّ أَبُو الْقَاسِم الحاكمى
من أهل طوس من تلامذة إِمَام الْحَرَمَيْنِ
سمع أَبَا حَامِد أَحْمد بن الْحسن الْأَزْهَرِي وَأَبا صَالح الْمُؤَذّن وَعَمه نصر بن عَليّ
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ برع فِي الْفِقْه وَكَانَ إِمَامًا ورعا بارعا حسن السِّيرَة سَافر إِلَى الْعرَاق وَالشَّام مَعَ الْغَزالِيّ وَكَانَ شَرِيكا لَهُ فِي الدَّرْس وَكَانَ أكبر سنا مِنْهُ
قَالَ وَسمعت أَن الْغَزالِيّ كَانَ يُكرمهُ غَايَة الْإِكْرَام ويقدمه على نَفسه وَفِي بعض الْأَوْقَات يَخْدمه وأظن أَنَّهُمَا خرجا متعادلين من بَغْدَاد إِلَى الْحجاز
توفّي سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَدفن إِلَى جَانب الْغَزالِيّ
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا مُحَمَّد بن قايماز وَفَاطِمَة بنت إِبْرَاهِيم قَالَا أخبرنَا الْحسن بن الزبيدِيّ زَاد ابْن قايماز وَأَبُو المنجا بن اللتي قَالَا أخبرنَا أَبُو الْفتُوح الطَّائِي أخبرنَا الشَّيْخ الْجَلِيل أَبُو الْقَاسِم الحاكمي أخبرنَا عمي الزكي الْحَاكِم أَبُو الْفَتْح نصر بن عَليّ بن أَحْمد أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو عَليّ الرُّوذَبَارِي أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن بكر بن مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق التمار الْمَعْرُوف بِابْن داسة الْبَصْرِيّ قَالَ أخبرنَا(7/47)
أَبُو دَاوُد السجسْتانِي قَالَ حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن سلمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ قيل لَهُ لقد علمكُم نَبِيكُم كل شَيْء حَتَّى الخراءة قلت أجل لقد نَهَانَا أَن نستقبل الْقبْلَة بغائط أَو بَوْل وَأَن لَا نستنجي بِالْيَمِينِ وَأَن لَا يستنجى أَحَدنَا بِأَقَلّ من ثَلَاثَة أَحْجَار أَو نستنجى برجيع أَو عظم وَفِي رِوَايَة بروث أَو رمة
نقلت من خطّ الْحَافِظ أبي سعد بن السَّمْعَانِيّ فِي كِتَابه لفتة المشتاق إِلَى سَاكِني الْعرَاق مَا صورته سَمِعت أَبَا الْفتُوح نصر بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم المراغي مذاكرة بآمل طبرستان يَقُول اجْتمع الإِمَام أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ وَإِسْمَاعِيل الحاكمي وَأَبُو الْحسن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم الشباك الْجِرْجَانِيّ وَجَمَاعَة كَثِيرَة من الغرباء والصلحاء فِي مهد عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِبَيْت الْمُقَدّس فَأَنْشد قَوَّال هذَيْن الْبَيْتَيْنِ
(فديتك لَوْلَا الْحبّ كنت فديتني ... وَلَكِن بِسحر المقلتين سبيتني)
(أَتَيْتُك لما ضَاقَ صَدْرِي من الْهوى ... وَلَو كنت تَدْرِي كَيفَ شوقي أتيتني)
فتواجد أَبُو الْحسن الْبَصْرِيّ وجدا أثر فِي الْحَاضِرين وَتُوفِّي مُحَمَّد الكازروني من بَين الْجَمَاعَة فِي الوجد
قَالَ المراغي وَكنت مَعَهم حَاضرا وشاهدت ذَلِك
737 - إِسْمَاعِيل بن عبد الْوَاحِد بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد البوشنجي الإِمَام أَبُو سعيد بن أبي الْقَاسِم
نزيل هراة(7/48)
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْخلْع من الشَّرْح إِمَام غواص من الْمُتَأَخِّرين لقِيه من لقيناه وَقَالَ عبد الغافر الْفَارِسِي شَاب نَشأ فِي عبَادَة الله تَعَالَى مرضِي السِّيرَة والطريقة جَار على منوال أَبِيه أبي الْقَاسِم البوشنجي الْفَقِيه وَهُوَ فَقِيه مدرس مناظر ورع زاهد دخل نيسابور وَحضر مجَالِس النّظر فارتضاه الْأَئِمَّة وَالْفُقَهَاء
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام فَاضل غزير الْفضل حسن الْمعرفَة بِمذهب الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ جميل السِّيرَة مرضِي الطَّرِيقَة كثير الْعِبَادَة دَائِم الذّكر خشن الْعَيْش قَانِع باليسير رَاغِب فِي نشر الْعلم لَازم للسّنة غير ملتفت إِلَى الْأُمَرَاء وَأَبْنَاء الدُّنْيَا
ورد بَغْدَاد حَاجا فَسمع من أبي عَليّ بن نَبهَان وَأبي الْقَاسِم بن بَيَان الرزاز وَغَيرهمَا وَسمع مِنْهُ الحَدِيث
قَالَ وَقدم علينا مرو وَنزل الْمدرسَة النظامية وَسمعت مِنْهُ وَسمع هُوَ بنيسابور أَبَا صَالح الْمُؤَذّن وَأَبا بكر بن خلف الشِّيرَازِيّ وَسكن هراة إِلَى حِين وَفَاته وصنف فِي الْمَذْهَب وَكَانَ مفتيهم
قَالَ وقرأت بِخَط زَاهِر بن طَاهِر أَن مولد إِسْمَاعِيل البوشنجي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ وَسمعت مُحَمَّد بن أبي نصر الْهَرَوِيّ بِالريِّ يَقُول إِنَّه توفّي بهراة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
قلت البوشنجي بِضَم الْبَاء بعْدهَا وَاو سَاكِنة ثمَّ شين مُعْجمَة مَفْتُوحَة ثمَّ نون سَاكِنة ثمَّ الْجِيم نِسْبَة إِلَى بوشنج بَلْدَة قديمَة على سَبْعَة فراسخ من هراة وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا بوشنجي وفوشنجي بِالْفَاءِ وَالْبَاء الْمُوَحدَة من تَحت(7/49)
وَإِسْمَاعِيل هَذَا مَشْهُور عِنْد الْفُقَهَاء بالبوشنجي وَعند الْمُحدثين على مَا رَأَيْته فِي تصانيف الإِمَام أبي سعد بن السَّمْعَانِيّ بالخرجردي بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَكسر الْجِيم وَسُكُون الرَّاء الْأُخْرَى وَكسر الدَّال الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى خرجرد بَلْدَة من بِلَاده بوشنج هراة
وَهَؤُلَاء الخرجردية البوشنجية بَيت فضل أَبُو الْقَاسِم وَالِد إِسْمَاعِيل هَذَا وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِسْمَاعِيل صَاحب التَّرْجَمَة وَهُوَ واسطه العقد وَابْن عمته أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد تقدم وقرابتهم أَبُو نصر عبد الرَّحْمَن بن يُوسُف سَوف يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
نقل الرَّافِعِيّ عَن البوشنجي فِي رجل قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق للسّنة وَهِي طَاهِر ثمَّ اخْتلفَا فَقَالَ جامعتك فِي هَذَا الطُّهْر فَلم يَقع طَلَاق فِي الْحَال وَقَالَت لم تجامعني وَقد وَقع أَن مُقْتَضى الْمَذْهَب أَن القَوْل قَوْله لِأَن الأَصْل بَقَاء النِّكَاح وكما لَو قَالَ الْمولى والعنين وطِئت
قلت وَهَذَا يصير من الْمسَائِل المستثناه من قَوْلنَا القَوْل قَول نافى الْوَطْء لاعتضاده بِالْأَصْلِ وَقد قَالَ الرَّافِعِيّ إِن الْأَصْحَاب استثنوا مَوَاضِع أَحدهَا إِذا ادَّعَت عنته وَقَالَ أصبتها فَالْقَوْل قَوْله بِيَمِينِهِ
وَالثَّانِي إِذا طالبته فِي الْإِيلَاء بالفيئة أَو الطَّلَاق فَقَالَ وَطئتك فَالْقَوْل قَوْله اسْتِدَامَة للنِّكَاح
وَالثَّالِث إِذا أَتَت بِولد يُمكن أَن يكون مِنْهُ وَادعت الْوَطْء وَأنكر هُوَ فَهَل القَوْل(7/50)
قَوْله أَو قَوْلهَا فِيهِ قَولَانِ مشهوران فِي التَّنْبِيه وَغَيره أصَحهمَا أَن القَوْل قَوْلهَا وَلم يحك الرَّافِعِيّ سواهُ
وَالرَّابِع إِذا اتفقَا على الْخلْوَة وَاخْتلفَا فِي الْإِصَابَة فَقَوْلَانِ أظهرهمَا أَنه الْمُصدق وَالثَّانِي تصدق هِيَ وعَلى هَذَا يَصح الِاسْتِثْنَاء وَلم يذكر الرَّافِعِيّ إِلَّا هَذِه الْمَوَاضِع وأغفل مَوَاضِع غَيرهَا فَنَقُول
الْخَامِس إِذا قُلْنَا إِن خِيَار الْأمة فِي الْعتْق يسْقط بِالْوَطْءِ فَادّعى الزَّوْج أَنه وطئ وَأنْكرت هَل القَوْل قَوْله أَو قَوْلهَا فِيهِ وَجْهَان
وَالسَّادِس مَا قدمْنَاهُ عَن البوشنجي
وَالسَّابِع مَا فِي الرَّافِعِيّ عَن فَتَاوَى الْبَغَوِيّ من أَنه لَو تزَوجهَا بِشَرْط الْبكارَة فَوجدت ثَيِّبًا ثمَّ اخْتلفَا فَقَالَت كنت بكرا فافتضني فَقَالَ بل كنت ثَيِّبًا فَالْقَوْل قَوْلهَا بِيَمِينِهَا لدفع الْفَسْخ وَقَوله لدفع كَمَال الْمهْر(7/51)
738 - إِسْمَاعِيل بن عَمْرو بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر ابْن مُحَمَّد الْبُحَيْرِي النَّيْسَابُورِي أَبُو سعيد بن أبي عبد الرَّحْمَن
من بَيت الحَدِيث وَالْفضل
تفقه على نَاصِر الْعمريّ وَكَانَ يقْرَأ دَائِما صَحِيح مُسلم للغرباء والرحالة على عبد الغافر الْفَارِسِي قَرَأَهُ عَلَيْهِ أَكثر من عشْرين مرّة وكف بَصَره بِأخرَة
سمع من أبي بكر بن منجوية الْحَافِظ وَأبي حسان الْمُزَكي وَغَيرهمَا
روى عَنهُ أَبُو شُجَاع البسطامي
ولد سنة تسع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَمَات فِي آخر سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة وَقد أمْلى مجَالِس بنيسابور
739 - إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْقَاسِم أَبُو الْفضل الجنزوي أصلا الدِّمَشْقِي مولدا ودارا الْفَقِيه الشُّرُوطِي الفرضي وَيُقَال فِيهِ أَيْضا الجنزي(7/52)
ولد سنة ثَمَان وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
وتفقه على جمال الْإِسْلَام أبي الْحسن بن الْمُسلم وَنصر الله المصِّيصِي وَسمع مِنْهُمَا وَمن هبة الله بن الْأَكْفَانِيِّ وَجَمَاعَة كثيرين
روى عَنهُ أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم ابْن الْحَافِظ وَعبد الْعَزِيز بن الْأَخْضَر وَعبد الْقَادِر وَغَيرهم
توفّي فِي سلخ جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
740 - إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن عبيد الْموصِلِي أَبُو الْفِدَاء الْوَاعِظ الشَّافِعِي
سَافر الْكثير وَسمع
مَاتَ بالموصل فِي شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
741 - بدر بن أَحْمد أَبُو النَّجْم الإستراباذي
تفقه بواسط على القَاضِي أبي عَليّ الفارقي
وَمَات بهَا فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة ذكره ابْن باطيش(7/53)
742 - جَعْفَر بن ابي طَالب أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عوَانَة أَبُو الْفَخر القايني
من أهل هراة
ولد فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من صفر سنة تسع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
سمع من أبي إِسْمَاعِيل الْأنْصَارِيّ
وروى عَنهُ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ وَابْنه عبد الرَّحِيم
وَولى الْقَضَاء بغورج قَرْيَة على بَاب هراة وَمَات بهَا سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
743 - الْجُنَيْد بن مُحَمَّد بن عَليّ القايني الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم بن أبي مَنْصُور الْفَقِيه الصُّوفِي
شَارك فِي الِاسْم والكنية وَاسم الْأَب والصوفية والتفقه سيد الطَّائِفَة أَبَا الْقَاسِم الْجُنَيْد رَحمَه الله تَعَالَى
وَكَانَ وَالِده يعرف بالدباغ
مولد هذاسنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
سمع بطبس أَبَا الْفضل مُحَمَّد بن أَحْمد الطبسي الْحَافِظ وبقاين وَالِده أَبَا مَنْصُور الدّباغ وَسمع أَيْضا نظام الْملك الْوَزير وَمُحَمّد بن عبد الرَّزَّاق الماخواني الْفَقِيه وَأَبا الْفَتْح المطهر بن مُحَمَّد بن جَعْفَر البيع وخلائق بأصبهان ونيسابور ومرو وهراة
روى عَنهُ الْحَافِظ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ والحافظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر والحافظ أَبُو الْفضل بن نَاصِر وَغَيرهم
تفقه على الشَّيْخَيْنِ الإِمَام أبي المظفر السَّمْعَانِيّ وَالشَّيْخ أبي الْفرج الزاز وَغَيرهمَا
وَصَحب فِي التصوف عبد الْعَزِيز بن عبد الله القايني(7/54)
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ إِمَامًا فَاضلا متقنا ورعا عَالما عَاملا بِعِلْمِهِ كثير الْعِبَادَة دَائِم التَّهَجُّد والتلاوة
قَالَ وَكَانَ الشَّيْخ الصُّوفِيَّة فِي رِبَاط فيروزاباد بِظَاهِر هراة أَرْبَعِينَ سنة ومقدمهم واطنب فِي وَصفه فِي كتاب التحبير
وَقَالَ توفّي بهراة لَيْلَة الِاثْنَيْنِ وَدفن من الْغَد الرَّابِع عشر من شَوَّال سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة بِبَيْت الرّيح وَصلى عَلَيْهِ فِي الْجَامِع
أخبرنَا غير وَاحِد إِذْنا عَن أبي الْفضل بن عَسَاكِر عَن أبي الطّيب بن سعد بن السَّمْعَانِيّ أخبرنَا الْجُنَيْد بن مُحَمَّد الصُّوفِي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن أَحْمد الطبسي الْحَافِظ بقاين أخبرنَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْفَارِسِي سَمِعت أَحْمد بن يَعْقُوب بن عبد الْجَبَّار الْقرشِي يَقُول دخلت مَعَ خَالِي بَغْدَاد سنة ثَلَاث وثلاثمائة وبغداد تغلى بالعلماء والأدباء وَالشعرَاء وَأَصْحَاب الحَدِيث وَأهل الْأَخْبَار والمجالس عامرة وَأَهْلهَا متوافرون فَأَرَدْت أَن أَطُوف الْمجَالِس كلهَا وَأخْبر أَخْبَارهَا فَقيل لي إِن هَاهُنَا شَيخا يُقَال لَهُ أَبُو العبر طز أَمْلَح النَّاس يحدث بالأعاجيب فَقلت لخالي مل بِنَا ندخل على الشَّيْخ فَقَالَ إِنَّه مهوس يضْحك مِنْهُ النَّاس فارتحلنا من بَغْدَاد وَلم ندخل عَلَيْهِ وَكنت أجد فِي الْقلب من ذَلِك مَا أجد حَتَّى إِذا كَانَ انحداري من الشَّام بعد طول من الْمدَّة فَلَمَّا دخلت بَغْدَاد سَأَلت عَنهُ فَقيل إِنَّه يعِيش وَله مجْلِس فَقُمْت وعمدت إِلَى الكاغد والمحبرة وقصدت الشَّيْخ فَإِذا الدَّار مَمْلُوءَة من أَوْلَاد الْمُلُوك والأغنياء بِأَيْدِيهِم الأقلام يَكْتُبُونَ وَإِذا مستمل قَائِم فِي صحن الدَّار وَإِذا شيخ فِي صحن الدَّار ذُو جمال(7/55)
وهيبة قد وضع فِي رَأسه طاق خف مقلوب مُشْتَمل بِفَرْوٍ أسود وَجعل الْجلد مِمَّا يَلِي بدنه فَجَلَست فِي أخريات الْقَوْم وأخرجت الكاغد وانتظرت مَا يذكر من الْإِسْنَاد فَلَمَّا فرغوا قَالَ الشَّيْخ حَدثنَا الأول عَن الثَّانِي عَن الثَّالِث أَن الزنج والزط كلهم سود وحَدثني حرياق عَن يقاق عَن رياق قَالَ مطر الرّبيع مَاء كُله وحَدثني دُرَيْد عَن وريد عَن رشيد قَالَ الضَّرِير يمشي رويد
قَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن يَعْقُوب فتعجبت من أمره وتطلبت بِهِ خلْوَة فِي أَيَّام أَعُود إِلَيْهِ كل يَوْم فَلَا أصل إِلَيْهِ حَتَّى كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي يخرج فِيهَا النَّاس إِلَى الغدير اجتزت بِبَاب دَاره فَإِذا الدَّار لَيْسَ فِيهَا أحد فَدخلت فَإِذا أَنا بالشيخ وَحده جَالس فِي صدر الدَّار فدنوت مِنْهُ فَسلمت عَلَيْهِ فَرَحَّبَ بِي وأدناني وَجعل يسألني وَرَأَيْت مِنْهُ من جميل المحيار وَالْعقل والظرافة وَالْأَدب مَا تحيرت فَقَالَ لي هَل من حَاجَة فَقلت نعم تحيرت فِي أَمر الشَّيْخ وَمَا هُوَ مَدْفُوع إِلَيْهِ مِمَّا لَا يَلِيق بعقله وَحسن أدبه وفصاحته فتنفس تنفسا شَدِيدا ثمَّ قَالَ يَا بني إِن الِاضْطِرَار رفع الِاخْتِيَار إِن السُّلْطَان أرادني على عمل لم أكن أُطِيقهُ وحبسني فِي المطبق أَيَّام حَيَاته فَلَمَّا ولى ابْنه عرض عَليّ مَا عرضه أَبوهُ فأبيت فردني إِلَى أَسْوَأ حَال وَذهب من يَدي مَا كنت أملكهُ فاخترت سَلامَة الدّين وَلم أتعرض لشَيْء من الدُّنْيَا بِشَيْء من ديني وصنت الْعلم عَمَّا لَا يَلِيق بِهِ وَلم أجد وَجها للخلاص فتحامقت ونجوت فها أَنا ذَا فِي رغد من الْعَيْش(7/56)
744 - الْحسن بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن برهون القَاضِي أَبُو عَليّ الفارقي
من أهل ميافارقين
ولد فِي عَاشر ربيع الأول سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وتفقه فِي صباه على أبي عبد الله مُحَمَّد بن بَيَان الكازروني ثمَّ على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَأبي نصر بن الصّباغ ولازمهما حَتَّى برع فِي الْمَذْهَب وَصَارَ من أحفظ أهل زَمَانه لَهُ
وَسمع الحَدِيث من أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْمسلمَة وَعبد الله بن مُحَمَّد الصريفيني وَأبي الْحُسَيْن بن النقور وَغَيرهم
روى عَنهُ الصائن ابْن عَسَاكِر وَأَبُو سعد بن أبي عصرون وَغَيرهمَا
وَولى الْقَضَاء بواسط وأعمالها فَأَقَامَ بهَا مُدَّة مديدة ثمَّ عَزله فَأَقَامَ بواسط بعد عَزله إِلَى حِين وَفَاته يدرس الْفِقْه ويروي الحَدِيث
وَكَانَ ورعا زاهدا وقورا مهيبا لَا تَأْخُذهُ فِي الْحق لومة لائم وَلَا يُرَاعِي أحدا فِي حُكُومَة
قَالَ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ سَمِعت ...(7/57)
وَمن الْمسَائِل عَن القَاضِي أبي عَليّ الفارقي
ذكر فِي فَتَاوِيهِ أَنه يرى حلق القزع من الْمَيِّت وَإِن لم يقل بحلق رَأسه جَمِيعه قَالَ لِأَنَّهُ يكره تَركه من الْحَيّ فَكَذَلِك من الْمَيِّت
وَفِي فَتَاوِيهِ أَيْضا إِذا تولد بَين مَأْكُول وَحشِي وَغَيره كالضبع وَالذِّئْب وَالْحمار الوحشي والأهلي حَيَوَان وَجب ضَمَانه تَغْلِيبًا لجَانب الْحُرْمَة وتغليب بَرَاءَة الذِّمَّة(7/59)
أولى ثمَّ إِذا وَجب الضَّمَان يَنْبَغِي أَن يضمن مَا يُقَابل الْمَضْمُون وَهُوَ النّصْف أما الْجَمِيع فَلم. . هَذَا لَفظه وَفِي النُّسْخَة نقص وَحَاصِله أَنه تردد فِي وجوب الضَّمَان وبتقديره قَالَ يَنْبَغِي النّصْف لَا الْجَمِيع وَهَذَا غَرِيب بل المجزوم بِهِ فِي الرَّافِعِيّ وَغَيره إِطْلَاق وجوب الْجَزَاء وَهُوَ الْوَجْه
745 - الْحسن بن أَحْمد بن عبد الله أَبُو عَليّ الوَاسِطِيّ
درس بواسط بمدرسة ابْن ورام وَبهَا مَاتَ فِي حادي عشر الْمحرم سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة
746 - الْحسن بن سعد بن الْحسن الخونجي أَبُو المحاسن
تفقه على إِلْكيَا الهراسي
وَكَانَ يَنُوب عَن الْوَزير أبي نصر بن نظام الْملك فِي نظر النظامية
مَاتَ فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة
747 - الْحسن بن سعيد بن أَحْمد بن عَمْرو بن الْمَأْمُون ابْن عَمْرو بن الْمَأْمُون بن المؤمل
أَبُو عَليّ الْقرشِي
من أَوْلَاد عتبَة بن أبي سُفْيَان بن حَرْب(7/60)
من أهل الجزيرة
تفقه بِبَغْدَاد وَسمع من أَبَوي الْقَاسِم بن الْأنمَاطِي وَابْن البسري وَغَيرهمَا ثمَّ عَاد إِلَى بِلَاده
وَولي الْقَضَاء بِجَزِيرَة ابْن عمر مُدَّة ثمَّ عزل وَسكن آمد
مولده فِي سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة وَتُوفِّي بهَا فِي شهر رَمَضَان سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
748 - الْحسن بن سعيد بن عبد الله بن بنْدَار أَبُو عَليّ الديار بكري الشاتاني
وشاتان قلعة من ديار بكر
كَانَ مُقيما بالموصل
تفقه بِبَغْدَاد على أبي عَليّ الْحسن بن سُلَيْمَان ثمَّ على أبي مَنْصُور الرزاز وَالْقَاضِي أبي عَليّ الفارقي
وَسمع الحَدِيث من هبة الله بن الْحصين وَمُحَمّد بن عبد الْبَاقِي الْأنْصَارِيّ وَأبي مَنْصُور الْقَزاز وَغَيرهم وَمن شعره
(أهْدى إِلَى جَسَدِي الضني فأعله ... وَعَسَى يرق لعَبْدِهِ وَلَعَلَّه)
(مَا كنت أَحسب أَن عقد تجلدي ... ينْحل بالهجران حَتَّى حلّه)(7/61)
(يَا وَيْح قلبِي أَيْن أطلبه وَقد ... نَادَى بِهِ دَاعِي الْهوى فأضله)
(وَأَشد مَا يلقاه من ألم الْهوى ... قَول العواذل إِنَّه قد مله)
مولده بشاتان سنة عشر وَخَمْسمِائة وَمَات فِي شعْبَان سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة
749 - الْحسن بن سلمَان بن عبد الله بن الْفَتى النهرواني أَبُو عَليّ الْأَصْبَهَانِيّ
قَالَ الْحَافِظ فِي التَّبْيِين إِنَّه تفقه على أبي بكر مُحَمَّد بن ثَابت الخجندي مدرس النظامية بأصبهان وعَلى غَيره وَولى قَضَاء خوزستان ثمَّ تدريس النظامية بِبَغْدَاد
قَالَ كَانَ مِمَّن يمْلَأ الْعين جمالا وَالْأُذن بَيَانا ويربي على أقرانه فِي النّظر لِأَنَّهُ كَانَ أفصحهم لِسَانا
سُئِلَ فِي بعض مجالسه الَّتِي كَانَ يجلس فِيهَا للتذكير عَن عَلامَة قبُول الصَّوْم فَقَالَ أَن يَمُوت فِي شَوَّال قبل التَّلَبُّس بسيىء الْأَعْمَال فَمَاتَ فِي شَوَّال بعد تأدية فرض رَمَضَان يَوْم الِاثْنَيْنِ الْخَامِس من شَوَّال سنة خمس وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَدفن بتربة الشَّيْخ أبي إِسْحَاق
وَقَالَ ابْن النجار سمع الحَدِيث من أَبِيه وَمن الْقَاسِم بن الْفضل الثَّقَفِيّ وَغَيرهمَا روى عَنهُ أَبُو المعمر الْمُبَارك بن أَحْمد الْأنْصَارِيّ وَقَالَ لم ترعيناي مثله وَأَبُو بكر الْمُبَارك(7/62)
ابْن كَامِل الْخفاف والحافظ وَغَيرهم
750 - الْحسن بن صافي بن عبد الله أَبُو نزار الملقب بِملك النجَاة
هكذاكان يلقب نَفسه
تفقه على أَحْمد الأشنهي وَقَرَأَ أصُول الدّين على أبي عبد الله القيرواني وأصول الْفِقْه على أبي الْفَتْح بن برهَان وَالْخلاف على أسعد الميهني والنحو على أبي الْحسن عَليّ بن أبي زيد الفصيحي وبرع فِيهِ
وسافر إِلَى خُرَاسَان وكرمان وغزنة ثمَّ استوطن دمشق إِلَى حِين وَفَاته
ولد بِبَغْدَاد سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَمن مصنفاته فِي النَّحْو الْحَاوِي والعمد والمنتخب وَله مُصَنف فِي الْفِقْه سَمَّاهُ الْحَاكِم ومختصر فِي أصُول الْفِقْه ومختصر فِي أصُول الدّين وَشعر كثير مَجْمُوع فِي ديوَان
قَالَ ابْن النجار كَانَ من أَئِمَّة النُّحَاة غزير الْفضل متفننا فِي الْعُلُوم وَسمع الحَدِيث من الشريف أبي طَالب الزَّيْنَبِي(7/63)
توفّي يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّامِن من شَوَّال سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَدفن بمقبرة الْبَاب الصَّغِير
751 - الْحسن بن الْعَبَّاس بن عَليّ بن الْحسن بن عَليّ بن الْحسن بن مُحَمَّد ابْن الْحسن بن عَليّ بن رستم أَبُو عبد الله الرستمي
من أهل أَصْبَهَان
قَالَ ابْن النجار أحد الْأَئِمَّة الْفُقَهَاء على مَذْهَب الشَّافِعِي درس وَأفْتى أَكثر من خمسين سنة وَكَانَ من الزهاد الورعين الخاشعين البكائين عِنْد الذّكر
سمع من عبد الْوَهَّاب بن مندة وخلائق كثيرين وَعمر حَتَّى حدث بالكثير وانتشرت عَنهُ الرِّوَايَة
روى عَنهُ أَبُو مَسْعُود عبد الْجَلِيل بن مُحَمَّد الْحَافِظ الْمَعْرُوف بكوتاه فِي مُعْجم شُيُوخه وَهُوَ من أقرانه والحفاظ ابْن السَّمْعَانِيّ وَابْن عَسَاكِر وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ وَغَيرهم
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام فَاضل ورع مفتي الشَّافِعِيَّة وَله السِّيرَة الْحَسَنَة والطريقة المرضية يذهب أَكثر أوقاته فِي نشر الْعلم وإلقاء الدُّرُوس على أَصْحَابه وَهُوَ على طَريقَة السّلف فِي طرح التَّكَلُّف والتواضع
وَقَالَ السلَفِي سَمِعت بعض أَصْحَابنَا الأصبهانيين يَحْكِي عَنهُ أَنه كَانَ فِي كل جُمُعَة ينْفَرد فِي مَوضِع ويبكي فِيهِ فَبكى حَتَّى ذهبت عَيناهُ(7/64)
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى مُحَمَّد بن أبي بكر الْمَدِينِيّ توفّي أستاذنا الإِمَام أَبُو عبد الله الرستمي فِي ثَانِي صفر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَكنت سَأَلته عَن مولده فَقَالَ فِي صفر سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
752 - الْحسن بن عَليّ بن الْحسن بن عَليّ بن الْحسن بن عمار الْموصِلِي الشَّيْخ أَبُو البركات شيخ ابْن صَلَاح
ولد بالموصل سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
وتفقه بِبَغْدَاد على إِلْكيَا والشاشي وأسعد الميهني
وَمَات بالموصل فِي جُمَادَى الأولى سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة
753 - الْحسن بن عَليّ بن الْقَاسِم الشهرزوري أَبُو عَليّ القَاضِي
ولد فِي شعْبَان سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
وتفقه على الشَّيْخ أبي مَنْصُور الرزاز ودرس بالموصل
وَمَات فِي ثَالِث ذِي الْحجَّة سنة ارْبَعْ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
تَرْجمهُ ابْن باطيش
754 - الْحسن بن عَليّ بن مُحَمَّد الْمُتَوَلِي النَّيْسَابُورِي
معيد الْمدرسَة النظامية بِبَغْدَاد عِنْد أسعد المهني
سمع أَبَا عَليّ الْحداد وَغَيره(7/65)
755 - الْحسن بن الْفضل بن الْحسن بن الْفضل بن الْحسن بن عَليّ الأدمِيّ أَبُو عَليّ
من أهل أَصْبَهَان فَقِيه مُحدث واعظ شَاعِر
مَاتَ بأصبهان سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
756 - الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن أَحْمد بن يحيى بن وثاب الْوَركَانِي من وركان بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الرَّاء بعْدهَا كَاف وَفِي آخرهَا النُّون الشَّيْخ فَخر الدّين أَبُو الْمَعَالِي
مدرس نظامية أَصْبَهَان نِيَابَة عَن أَوْلَاد الخجندي
ذكره ابْن السَّمْعَانِيّ فِي التحبير والعماد الْكَاتِب فِي الخريده
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ إِمَامًا فَاضلا مناظرا أصوليا عَارِفًا بالأدب لِأَن أَبَاهُ كَانَ أديبا
سمع أَبَا بكر مُحَمَّد بن ثَابت الخجندي وَالقَاسِم بن الْفضل الثَّقَفِيّ وَأَبا بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحسن بن مَاجَه الْأَبْهَرِيّ وَغَيرهم وَلَقي الْأَئِمَّة واقتبس مِنْهُم
وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ فصيحا لَا يشق غباره فِي المناظره وَلَا يلْحق شاره فِي المجادلة بِعِبَارَة يصبو الصابي إِلَيْهَا ويصحبه الصاحب لَدَيْهَا مفت لَو رَآهُ الشَّافِعِي فِي زَمَانه(7/66)
لتبجح بمكانه ألْقى إِلَيْهِ الْخُصُوم فِي الْعلم مقاليد السّلم
توفّي فِي سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة عَن نَيف وَثَمَانِينَ سنة(7/67)
757 - الْحسن بن مَسْعُود الْفراء أَبُو عَليّ الْبَغَوِيّ أَخُو مُحي السّنة
مولده سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَسمع من أبي بكر بن خلف وَأبي الْقَاسِم الواحدي الْمُفَسّر وَأبي تُرَاب المراغي وَالْحسن بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي وَغَيرهم
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فِي التحبير كَانَ إِمَامًا فَاضلا ظريفا لطيفا رَقِيق الطَّبْع كثير الْمَحْفُوظ
قَالَ وَكَانَ أَخُوهُ الْحُسَيْن قد رباه وَأحسن تَرْبِيَته ولقنه الْفِقْه حَتَّى حفظ الْمَذْهَب وَكَانَ مصيبا فِي الْفَتَاوَى
قَالَ وَأَجَازَ لي جَمِيع مسموعاته
قلت ثمَّ روى عَنهُ فِي التحبير حِكَايَة بِالْإِجَازَةِ رَوَاهَا فِي الذيل بِالسَّمَاعِ عَن رجل عَنهُ
وَقَالَ توفّي فِي صفر سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة بمرو الروذ
وَقيل كَانَت وَفَاته سنة ثَمَان وَعشْرين وَالْأَشْبَه مَا قَالَه ابْن السَّمْعَانِيّ
قيل وَكَانَ النَّاس يَمْشُونَ فِي تشييع جنَازَته حفاه على الثَّلج(7/68)
758 - الْحسن بن مَنْصُور بن عبد الْجَبَّار السَّمْعَانِيّ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد بن الإِمَام أبي المظفر
ذكره ابْن أَخِيه الْحَافِظ أَبُو سعد فَقَالَ كَانَ إِمَامًا زاهدا ورعا كثير الْعِبَادَة والتهجد نظيفا منورا مليح الشيبة منقبضا عَن الْخلق قَلما يخرج من دَاره إِلَّا فِي أَيَّام الْجمع للصَّلَاة
تفقه على وَالِده وَكَانَ تلو وَالِدي وَسمع مَعَه الحَدِيث وظني أَنه ولد بعده بِسنتَيْنِ ورحل مَعَه إِلَى نيسابور
سمع بمرو أَبَاهُ وَغَيره وبنيسابور أَبَا الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَدِينِيّ وَأَبا سعيد عبد الْوَاحِد بن الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي وَأَبا عَليّ نصر الله بن أَحْمد الخشنامي وَجَمَاعَة سواهُم
سمع مِنْهُ ابْن أَخِيه الْحَافِظ أَبُو سعد وَغَيره
قَالَ أَبُو سعد ورزق ثَوَاب الشَّهَادَة فِي آخر عمره دخل عَلَيْهِ اللُّصُوص لوديعة كَانَت لإِنْسَان عِنْد زَوجته وخنقوه لَيْلَة الِاثْنَيْنِ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة(7/69)
759 - الْحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الْحُسَيْن الشَّافِعِي الشَّيْخ الصَّالح أَبُو مُحَمَّد بن أبي الْحُسَيْن وَالِد حَافظ الْإِسْلَام ابْن عَسَاكِر
صحب نصر الْمَقْدِسِي وَسمع مِنْهُ
مَاتَ فِي شهر رَمَضَان سنة تسع عشرَة وَخَمْسمِائة
وبيته الْبَيْت الْمَعْمُور بالأئمة فَمنهمْ ولداه الْفَقِيه الْحَافِظ الصائن هبة الله بن الْحسن يَأْتِي ذكره
وحافظ الْإِسْلَام عَليّ بن الْحسن وَهُوَ واسطه العقد يَأْتِي
وَالقَاسِم بن الْحَافِظ يَأْتِي أَيْضا
وَأَخُوهُ أَبُو الْفَتْح الْحسن بن الْحَافِظ عَليّ بن الْحسن سمع عَليّ وَالِده الْحَافِظ أبي الْقَاسِم وَعَمه الْفَقِيه الصائن وَحَمْزَة بن عَليّ بن الحبوبي وَغَيرهم مَاتَ سنة إِحْدَى وسِتمِائَة
وتاج الْأُمَنَاء أَبُو الْفضل أَحْمد بن القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بن هبة الله بن عبد الله ابْن الْحُسَيْن مولده فِي صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَسمع من عَمه الْحَافِظ أبي الْقَاسِم والفقيه أبي الْحُسَيْن وَغَيرهمَا وَحدث وَكَانَ كثير الدّيانَة يحضر الْغَزَوَات وَكَانَ مُعظما مُحْتَرما وصنف كتاب الْأنس فِي فضل الْقُدس وَتُوفِّي فِي رَجَب سنة عشر وسِتمِائَة
وزين الْأُمَنَاء الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن سبق
وَأَبُو المظفر عبد الله بن مُحَمَّد بن الْحسن يَأْتِي(7/70)
وفقيه أهل الشَّام فَخر الدّين عبد الرَّحْمَن يَأْتِي
وَأَبُو نصر عبد الرَّحِيم بن القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بن هبة الله مولده سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة وَسمع الْكثير على عَمه الْحَافِظ توفّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْفضل أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن بن هبة الله حَافظ نسابه مؤرخ شَاعِر سمع من عَم أَبِيه الْحَافِظ وَغَيره(7/71)
760 - الْحسن بن هبة الله بن يحيى بن الْحسن بن أَحْمد البوقي من أهل وَاسِط
قَالَ ابْن النجار كَانَ من أَعْيَان الْفُقَهَاء الْكِبَار سديد الْفَتَاوَى حَافِظًا لمَذْهَب الشَّافِعِي حسن الْكَلَام فِي المناظرة غزير الْفضل حسن الْأَخْلَاق
سمع بِبَغْدَاد من أبي زرْعَة الْمَقْدِسِي وَأبي الْفَتْح ابْن البطي وَغَيرهمَا
قَالَ وَبَلغنِي أَنه توفّي فِي عَشِيَّة الثُّلَاثَاء لست خلون من شعْبَان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
761 - الْحُسَيْن بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن محموية أَبُو عَليّ
من أهل يزدْ(7/72)
استوطن بَغْدَاد حدث عَن أبي الْقَاسِم السَّمرقَنْدِي وَغَيره
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره
قَالَ ابْن النجار وَكَانَ من أَئِمَّة الْفُقَهَاء الورعين المتعبدين
توفّي سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة
762 - الْحُسَيْن بن أَحْمد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن فطيمة أَبُو عبد الله الْبَيْهَقِيّ
تفقه على أبي المظفر السَّمْعَانِيّ
مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
763 - الْحُسَيْن بن أَحْمد أَبُو عبد الله بن الشقاق الْبَغْدَادِيّ الفرضي
سمع من أبي الْحُسَيْن بن الْمُهْتَدي بِاللَّه وَغَيره
روى عَنهُ ابْن نَاصِر وخطيب الْموصل وَغَيرهمَا
وَأخذ الْفِقْه والفرائض عَن عبد الْملك بن إِبْرَاهِيم الهمذاني وَعَلِيهِ تفقه أَبُو حَكِيم الخبري
قَالَ السلَفِي كَانَ آيَة من آيَات الزَّمَان ونادرة من نَوَادِر الدَّهْر
مَاتَ فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى عشرَة وَخَمْسمِائة عَن إِحْدَى وَتِسْعين سنة
764
- الْحُسَيْن بن الْحسن أَبُو عبد الله الشهرستاني
قَاضِي دمشق(7/73)
سمع بنيسابور من الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي وبجرجان من إِسْمَاعِيل بن مسْعدَة وبالعراق من ابْن هزارمرد الصريفيني
قَالَ ابْن عَسَاكِر حَدثنَا عَنهُ هبة الله بن طَاوس وَكَانَ حسن السِّيرَة فِي الْأَحْكَام شَدِيدا على من خَالف الْحق وَاسْتشْهدَ بِظَاهِر أنطاكية بيد الفرنج
765 - الْحُسَيْن بن حمد بن مُحَمَّد بن عمرويه العمروي من أهل أَصْبَهَان
ذكره ابْن السَّمْعَانِيّ فِي التحبير وَقَالَ فَقِيه الشَّافِعِيَّة كَانَ إِمَامًا فَاضلا مناظرا حسن السِّيرَة متوددا
قَالَ وَكَانَت وِلَادَته فِي حُدُود سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة إِن شَاءَ الله
وَسمع أَبَا عِيسَى عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى بن زِيَاد وَأَبا بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن من مَاجَه الْأَبْهَرِيّ وَغَيرهمَا
كتبت عَنهُ بأصبهان
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ توفّي بأصبهان فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة(7/74)
766 - الْحُسَيْن بن عَليّ بن الْقَاسِم بن المظفر بن عَليّ بن الشهرزوري أَبُو عبد الله
من أهل الْموصل استوطن بَغْدَاد وولاه الإِمَام المستنجد بِاللَّه الْقَضَاء بحريم دَار الْخلَافَة وَحدث بِبَغْدَاد عَن أبي البركات مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن خَمِيس الْجُهَنِيّ
توفّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة
767 - الْحُسَيْن بن مَسْعُود الْفراء الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْبَغَوِيّ
صَاحب التَّهْذِيب الملقب مُحي السّنة
من مصنفاته شرح السّنة والمصابيح وَالتَّفْسِير الْمُسَمّى معالم التَّنْزِيل وَله فَتَاوَى مَشْهُورَة لنَفسِهِ غير فَتَاوَى القَاضِي الْحُسَيْن الَّتِي علقها هُوَ عَنهُ
كَانَ إِمَامًا جَلِيلًا ورعا زاهد فَقِيها مُحدثا مُفَسرًا جَامعا بَين الْعلم وَالْعَمَل سالكا سَبِيل السّلف لَهُ فِي الْفِقْه الْيَد الباسطة
تفقه على القَاضِي الْحُسَيْن وَهُوَ أخص تلامذته بِهِ
وَكَانَ رجلا مخشوشنا يَأْكُل الْخبز وَحده فعذل فِي ذَلِك فَصَارَ يَأْكُلهُ بالزيت وَكَانَ لَا يلقِي الدَّرْس إِلَّا على طَهَارَة
سمع الحَدِيث من جماعات مِنْهُم أَبُو عمر عبد الْوَاحِد المليحي وَأَبُو الْحسن عبد الرَّحْمَن(7/75)
ابْن مُحَمَّد الدَّاودِيّ وَأَبُو بكر يَعْقُوب بن أَحْمد الصَّيْرَفِي وَأَبُو الْحسن عَليّ بن يُوسُف الْجُوَيْنِيّ وَأَبُو الْفضل زِيَاد بن مُحَمَّد الْحَنَفِيّ وَأحمد بن أبي نصر الكوفاني وَحسان بن مُحَمَّد المنيعي وَأَبُو بكر مُحَمَّد بن الْهَيْثَم الترابي وَأَبُو الْحسن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الشيرزي وَشَيْخه القَاضِي الْحُسَيْن وَغَيرهم
وسماعاته بعد السِّتين وَأَرْبَعمِائَة
وروى عَنهُ أَبُو مَنْصُور مُحَمَّد بن أسعد العطاري الْمَعْرُوف بحفدة وَأَبُو الْفتُوح مُحَمَّد بن مُحَمَّد الطَّائِي وَجَمَاعَة آخِرهم أَبُو المكارم فضل الله بن مُحَمَّد النوقاني روى عَنهُ بِالْإِجَازَةِ وَبَقِي إِلَى سنة سِتّمائَة وَأَجَازَ للشَّيْخ الْفَخر بن البخارى فلنا رِوَايَة تصانيف الْبَغَوِيّ عَن أَصْحَاب الْفَخر عَنهُ عَنهُ
وَكَانَ الْبَغَوِيّ يلقب بمحيي السّنة وبركن الدّين وَلم يدْخل بَغْدَاد وَلَو دَخلهَا لاتسعت تَرْجَمته وَقدره عَال فِي الدّين وَفِي التَّفْسِير وَفِي الحَدِيث وَفِي الْفِقْه متسع الدائرة نقلا وتحقيقا كَانَ الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله يجل مِقْدَاره جدا ويصفه بالتحقيق مَعَ كَثْرَة النَّقْل
وَقَالَ فِي بَاب الرَّهْن من تَكْمِلَة شرح الْمُهَذّب اعْلَم أَن صَاحب التَّهْذِيب قل أَن رَأَيْنَاهُ يخْتَار شَيْئا إِلَّا وَإِذا بحث عَنهُ وجد أقوى من غَيره هَذَا مَعَ اخْتِصَار كَلَامه وَهُوَ يدل على نبل كَبِير وَهُوَ حري بذلك فَإِنَّهُ جَامع لعلوم الْقُرْآن وَالسّنة وَالْفِقْه رَحمَه الله ورحمنا بِهِ إِذا صرنا إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ
انْتهى(7/76)
توفّي الْبَغَوِيّ فِي شَوَّال سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة بمرو الروذ وَبهَا كَانَت إِقَامَته وَدفن عِنْد شَيْخه القَاضِي الْحُسَيْن
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَلم يحجّ قَالَ وَأَظنهُ جَاوز الثَّمَانِينَ
قلت هما إمامان من تلامذة القَاضِي صَاحب التَّتِمَّة لم يتَجَاوَز اثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة وَصَاحب التَّهْذِيب أَظُنهُ أشرف على التسعين
وَمن غرائب الْفَرْع عَن الْبَغَوِيّ
قَالَ الْبَغَوِيّ فِي مسائلة الَّتِي خرجها فِي صَلَاة الْجِنَازَة لَو لم يكن إِلَّا النِّسَاء لم تجب عَلَيْهِنَّ
وَذهب فِي فَتَاوِيهِ إِلَى أَن من لَا جُمُعَة عَلَيْهِ أَو أَرَادَ أَن يُصَلِّي الظّهْر خلف من يُصَلِّي الْجُمُعَة فَإِن كَانَ صَبيا جَازَ وَإِن كَانَ بَالغا لم يجز قَالَ لِأَنَّهُ مَأْمُور بِالْجمعَةِ
وَذهب كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي التَّهْذِيب إِلَى وجوب مسح قدر الناصية من الرَّأْس فِي الْوضُوء وَنَقله فَخر الدّين عَنهُ فِي المناقب ظَانّا أَنه مَذْهَب أبي حنيفَة وَلَا شكّ أَن ذَلِك مُتَوَقف على أَن الْبَغَوِيّ يُصَرح بِتَقْدِير الناصية بِالربعِ كَمَا فعلت الْحَنَفِيَّة وَإِلَّا فاختياره خَارج عَن الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَهُوَ أقرب من مَذْهَب أبي حنيفَة
قَالَ الْبَغَوِيّ فِي التَّهْذِيب فِي بَاب الْأَوَانِي وتطهير النَّجَاسَات فِي أثْنَاء فصل فِي بَيَان النَّجَاسَات وَفِي البلغم وَجْهَان أَحدهمَا طَاهِر كالنخامة وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّانِي نجس كالمرة وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف انْتهى
وَقَالَ شَيْخه القَاضِي الْحُسَيْن فِي الْفَتَاوَى النخامة النَّازِلَة من الرَّأْس أَو من الْحلق طَاهِرَة وَإِن خرجت من الْمعدة نَجِسَة(7/77)
قَالَ وَلَا تخرج من الْمعدة إِلَّا بالاستقاءة والتكلف واما مَا يخرج على الْعَادة فَهُوَ طَاهِر ذكره فِي مسَائِل الصَّلَاة
وَذكر الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ مَسْأَلَة غَرِيبَة من بَاب الْخلْع وَهِي أَنَّهَا إِذا قَالَت لوكيلها اختلعني بِمَا استصوبت لم يكن لَهُ أَن يخالع على عين من أَعْيَان مَالهَا لِأَن كل مَا يُفَوض إِلَى الرَّأْي ينْصَرف إِلَى الذِّمَّة عَادَة وَهُوَ فرع غَرِيب وَفقه جيد
وَذكر فِي فَتَاوِيهِ أَيْضا مَسْأَلَة تعم البلوي بهَا من كتاب النِّكَاح وَهِي امْرَأَة تحضر إِلَى القَاضِي تستدعي تَزْوِيجهَا وَقَالَت كنت زوجا لفُلَان الْغَائِب فطلقني وَانْقَضَت عدتي أَو مَاتَ قَالَ القَاضِي حُسَيْن لَا يُزَوّجهَا حَتَّى تقيم الْحجَّة على الطَّلَاق أَو الْمَوْت لِأَنَّهَا أقرب بِالنِّكَاحِ لفُلَان
قلت وَفِي كتاب أدب الْقَضَاء لأبي الْحسن الدبيلي من أَصْحَابنَا مانصه مَسْأَلَة إِذا جَاءَت غَرِيبَة إِلَى القَاضِي فَقَالَت كَانَ لي زوج بِبَلَد آخر فطلقني ثَلَاثًا أَو مَاتَ فاعتددت فَزَوجنِي من هَذَا الرجل فَإِنَّهُ يقبل قَوْلهَا وَلَا يَمِين عَلَيْهَا وَلَا بَيِّنَة لِأَنَّهَا مالكة لأمرها بَالِغَة عَاقِلَة فَلَا تمنع التَّصَرُّف فِي نَفسهَا بِعقد التَّزْوِيج فَإِن كَانَت صَادِقَة فَذَاك وَإِن ورد زَوجهَا وَصحح التَّزْوِيج وَحلف أَنه لم يُطلق فسخنا النِّكَاح ورددناها عَلَيْهِ بعد الْعدة إِن كَانَ دخل بهَا وَقُلْنَا يصحح النِّكَاح لِأَن إِقْرَار الْمَرْأَة بعد عقد الثَّانِي لَا يسمع وكل امْرَأَة قَالَت لَا ولي لي يجب أَن يقبل قَوْلهَا وَإِن كُنَّا نعلم أَنه لَا تَخْلُو امْرَأَة من أَب وجد فِي غَالب الْأَحْوَال فَلم يلْزمنَا مطالبتها بِمَوْت أَبِيهَا أَو جدها وَكَذَلِكَ فِي سَائِر الْأَوْلِيَاء(7/78)
وَكَذَلِكَ لَو أَن رجلا قَالَ اشْتريت هَذِه الْجَارِيَة من فلَان جَازَ أَن يَشْتَرِي مِنْهُ وَلم يجز أَن يُقَال قد اعْترفت أَن الْجَارِيَة كَانَت لفُلَان فصحح شراءك مِنْهُ فَكَذَلِك لَا يُقَال للْمَرْأَة صححي طَلَاقك من زَوجك أَو مَوته بل يعْقد لَهَا على مَا ذَكرْنَاهُ
فَأَما إِذا كَانَ الزَّوْج فِي الْبَلَد وَلَيْسَت بغريبة تَدعِي الطَّلَاق أَو الْمَوْت فَلَا يعْقد الْحَاكِم حَتَّى تصحح ذَلِك انْتهى
نقلته من أَوَائِل الْكتاب بعد نَحْو سبع وَرَقَات من أَوله وَقد حَكَاهُ ابْن الرّفْعَة عَنهُ مُقْتَصرا عَلَيْهِ وَلم يحك كَلَام الْبَغَوِيّ
وَالَّذِي يظْهر لي أَنه لَا مُخَالفَة بَينهمَا بل كَلَام الْبَغَوِيّ الَّذِي قدمْنَاهُ فِيمَا إِذا ذكرت زوجا معينا وَكَلَام الدبيلي فِيمَا إِذا ذكرت مَجْهُولا وَفرق بَين الْمعِين والمجهول غير أَن قَول الدبيلي آخرا فَأَما إِذا كَانَ الزَّوْج فِي الْبَلَد ... إِلَى آخِره قد يفهم أَنه لَا فرق فِيمَا ذكره بَين الْمَجْهُول والمعين فَإِن لم يكن كَذَلِك فَكَلَام القَاضِي الَّذِي نَقله الْبَغَوِيّ يُخَالِفهُ وَالْوَجْه مَا قَالَه القَاضِي الْحُسَيْن
ثمَّ رَأَيْت الْوَالِد رَحمَه الله قد ذكر فِي شرح الْمِنْهَاج كلا من كَلَام الدبيلي وَالْقَاضِي وَقَالَ كَلَام القَاضِي أولى ثمَّ قَالَ إِن كَلَام القَاضِي فِي الْمعِين وَكَلَام الدبيلي فِي الْمَجْهُول كَمَا قلته سَوَاء ثمَّ قَالَ وتفرقته بَين الْغَائِب الْحَاضِر فِي الْبَلَد لَا وَجه لَهُ بل إِن كَانَ غير معِين قبل قَوْلهَا مُطلقًا وَإِن كَانَ معينا لم يقبل مُطلقًا إِلَّا بنيه انْتهى
فرع من بَاب صَلَاة الْمُسَافِر قَالَ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة فِي آخر هَذَا الْبَاب لَو نوى الْكَافِر وَالصَّبِيّ السّفر إِلَى مَسَافَة الْقصر ثمَّ أسلم وَبلغ فِي أثْنَاء الطَّرِيق فَلهُ الْقصر فِي بَقِيَّته
انْتهى
وَهُوَ فِي الصَّبِي مُشكل فَإِنَّهُ كَانَ من أهل الْقصر قبل الْبلُوغ وَقد غلط من فهم عَن الْبَيَان أَنه لَا يَصح من الصَّبِي الْقصر وَالصَّوَاب أَنه من أهل(7/79)
ثمَّ قَالَ فِي التَّعْزِير بِالْحَبْسِ إِن من النَّاس من يحبس يَوْمًا وَمِنْهُم من يحبس إِلَى غَايَة لَا تقدر لَكِن بِحَسب تأدية الِاجْتِهَاد وَيُرَاد بهَا الْمصلحَة
وَقَالَ الزبيرِي من أَصْحَابنَا تقدر غَايَته بشهور الِاسْتِبْرَاء والكشف وبستة أشهر للتأديب والتقويم
والمرتبة الثَّالِثَة النَّفْي اخْتلف فِي غَايَته ظَاهر الْمَذْهَب أَن أَكْثَره مَا دون السّنة انْتهى
وَهَذَا مِنْهُ وَمن الشَّاشِي قبله تَصْرِيح بِجَوَاز التَّعْزِير بِالنَّفْيِ والإخراج عَن الْبَلَد وَقد صنعه عمر رَضِي الله عَنهُ وَلَا شكّ فِي جَوَازه وَأَشَارَ إِلَى جَوَازه أَيْضا القَاضِي الْحُسَيْن غير أَنه وَقع فِي عبارَة الرَّافِعِيّ أما جنسه يَعْنِي التَّعْزِير من الْحَبْس أَو الضَّرْب جلدا أَو صفعا فَهُوَ إِلَى رَأْي الإِمَام وَلم يُصَرح بِالنَّفْيِ فَصَارَ كثير من الطّلبَة يستغرب مَسْأَلَة النَّفْي وَلَا غرابة فِيهَا وَالْحق أَن ولي الْأَمر إِذا رَآهُ مصلحَة جَازَ لَهُ التَّعْزِير بِهِ وَقد صرح بِهِ الشَّاشِي ومجلي وَهُوَ وَاضح ثمَّ رَأَيْته مُصَرحًا بِهِ أَيْضا فِي الْحَاوِي للماوردي وَالْبَحْر للروياني وَكلهمْ صَرَّحُوا بِأَن ظَاهر الْمَذْهَب أَن النَّفْي ينقص عَن سنة قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي حَتَّى لَا يصير مُسَاوِيا للتغريب فِي الزِّنَا
قَالَ فِي الذَّخَائِر بعد أَن ذكر قبُول رجل وَامْرَأَتَيْنِ فِي المَال فِي كتاب الشَّهَادَات مَا نَصه وَيقبل الرجل والمرأتان مَعَ وجود الرجلَيْن وَمَعَ عدمهما وَحكى فِي الْحَاوِي أَنه لَا يقبل الرجل والمرأتان إِلَّا مَعَ عدم الرجلَيْن وَالْمذهب الأول انْتهى
والواقف على هَذَا يتَوَهَّم أَن صَاحب الْحَاوِي حَكَاهُ عَن مَذْهَبنَا لقَوْله وَالْمذهب الأول وَذَلِكَ غير مَعْرُوف فِي مَذْهَبنَا وَلَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ عَنهُ إِنَّمَا حَكَاهُ عَن مَالك(7/79)
الْقصر وَالْجمع نعم إِذا جمع تَقْدِيمًا ثمَّ بلغ وَالْوَقْت بَاقٍ قد يحْتَمل أَن يُقَال يُعِيدهَا وَالْمَنْقُول أَنه لَا يُعِيدهَا أَيْضا
وَكَلَام الرَّوْضَة هَذَا مَأْخُوذ من كَلَام العمراني أَو الرَّوْيَانِيّ فَإِن العمراني حَكَاهُ عَن الرَّوْيَانِيّ وَلَعَلَّ المُرَاد بِهِ الْكَافِر وَذكر الصَّبِي مَعَه خشيَة أَن يُقَاس أَحدهمَا بِالْآخرِ فَإِن الْمُذكر فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيّ أَن الصَّبِي يقصر دون من أسلم وَلَعَلَّ الْفرق أَن الصَّبِي من أهل الصَّلَاة وَمن أهل الْقصر فَلم يَتَجَدَّد بِبُلُوغِهِ شَيْء بِخِلَاف الْكَافِر وَكَأن الْبَغَوِيّ إِنَّمَا ذكر مَسْأَلَة الصَّبِي ليفصل بَينهَا وَبَين مَسْأَلَة الْكَافِر ثمَّ لما خَالفه الرَّوْيَانِيّ فِي الْكَافِر ذكر الصَّبِي مَعَه كَأَنَّهُ مستشهد بِهِ فَصَارَ مَفْهُوم الْكَلَام أَنه لَا يقصر قبل بُلُوغه وَلَكِن لَيْسَ الْمَفْهُوم بِصَحِيح لِأَن الصَّبِي إِنَّمَا ذكر لما ذَكرْنَاهُ لَا لِأَنَّهُ لَا يقصر مَا دَامَ صَبيا
768 - الْحُسَيْن بن نصر بن عبيد الله بن مُحَمَّد بن عَلان بن عمرَان النهاوندي أَبُو عبد الله بن أبي الْفَتْح
تفقه بِبَغْدَاد على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ
وَسمع الحَدِيث من أبي يعلى بن الْفراء وَأبي الْحُسَيْن بن النقور وَأبي مُحَمَّد الصريفيني والخطيب وَغَيرهم
روى عَنهُ السلَفِي وَغَيره وَولي قَضَاء نهاوند
مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعمِائَة وَمَات بنهاوند سنة تسع وَخَمْسمِائة(7/80)
769 - الْحُسَيْن بن نصر بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم ابْن خَمِيس بن عَامر الْجُهَنِيّ الكعبي
أَبُو عبد الله بن خَمِيس
من أهل الْموصل
تفقه على الْغَزالِيّ وَسمع من طراد الزَّيْنَبِي وَابْن البطر وَغَيرهمَا وَولي قَضَاء رحبة مَالك بن طوق
قَالَ فِيهِ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام فَاضل دين قَالَ وَسَأَلته عَن مولده فَقَالَ فِي الْعشْرين من الْمحرم سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة بالموصل
وَقَالَ أَبُو عَليّ الْحسن بن عَليّ بن عمار الْوَاعِظ توفّي ابْن خمسين فِي ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة
قَالَ وَله من المصنفات مَنْهَج التَّوْحِيد مَنْهَج المريد تَحْرِيم الْغَيْبَة فَرح الموضح على مَذْهَب زيد بن ثَابت وَذكر غير ذَلِك(7/81)
770 - حمد بن عبد الْوَاحِد بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن مُحَمَّد أَبُو الْقَاسِم ابْن الإِمَام الْكَبِير أبي المحاسن صَاحب الْبَحْر الرَّوْيَانِيّ
تفقه على وَالِده بآمل طبرستان وَسمع مِنْهُ الحَدِيث وَمن عَمه أبي مُسلم مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَجَمَاعَة وسافر فِي طلب الْعلم وَسمع بجرجان ونيسابور وبسطام والري وَغَيرهَا
وَسمع مِنْهُ الْحَافِظ ابْن نَاصِر وَغَيره لم أعلم وَقت وَفَاته وَالله أعلم
771 - الْخضر بن ثروان بن أَحْمد بن أبي عبد الله الثَّعْلَبِيّ أَبُو الْعَبَّاس الضَّرِير
من بعض بِلَاد الجزيرة
تفقه بِبَغْدَاد وَله شعر جيد فَمِنْهُ
(سلوا صُدْغه المسكي كَيفَ ثباته ... على جمر خديه وَكَيف يكون)
(أيشرب من مَاء الرضاب مُعَلّقا ... على لَهب إِن الْجُنُون فنون)
مَاتَ ببخارى فِي سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة(7/82)
772 - الْخضر بن شبْل بن عبد الْفَقِيه أَبُو البركات الْحَارِثِيّ الدِّمَشْقِي
خطيب دمشق ومدرس الغزالية والمجاهدية
كَانَ من أكَابِر الْفُقَهَاء بنى لَهُ نور الدّين مدرسة ودرس بهَا
سمع من ابْن الموازيني وَجَمَاعَة
روى عَنهُ ابْن عَسَاكِر وَابْنه وزين الْأُمَنَاء وَغَيرهم
توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
773 - الْخضر بن نصر بن عقيل أَبُو الْعَبَّاس الإربلي
تفقه بِبَغْدَاد على الشَّاشِي وإلكيا وَكَانَ من الْأَئِمَّة وصنف فِي التَّفْسِير وَالْفِقْه
مَاتَ سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
774 - خلف بن أَحْمد
إِمَام فَاضل من أَصْحَاب الْغَزالِيّ لَهُ عَنهُ تعليقة
ذكره ابْن الصّلاح فِي شرح مُشكل الْوَسِيط وَقَالَ بَلغنِي أَنه توفّي قبل الْغَزالِيّ(7/83)
775 - ذَاكر بن أبي بكر بن أبي أَحْمد السنجي الغرابيلي أَبُو أَحْمد
من أهل قَرْيَة سنج
ولد فِي حُدُود سنة خمس وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
ذكره ابْن باطيش فِي الطَّبَقَات تبعا لِابْنِ السَّمْعَانِيّ فَإِنَّهُ ذكره فِي التحبير وَمن عَادَة ابْن باطيش اسْتِيعَاب مَا فِي التحبير وَابْن السَّمْعَانِيّ لم يصف هَذَا الشَّيْخ بالفقه وَإِنَّمَا قَالَ كَانَ شَيخا صَالحا من أهل الْقُرْآن حسن الصَّلَاة وَالطَّهَارَة تفقه على وَالِدي وَسمع مِنْهُ الحَدِيث وَمن أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الدقاق وَغَيرهمَا
قلت فَأخذ ابْن باطيش من قَوْله تفقه على وَالِدي أَنه فَقِيه وَلَو فتحنا هَذَا الْبَاب لذكرنا وقر بعير من الْأَسْمَاء
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ مَاتَ بقرية سنج فِي أحد الربيعين سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
776 - رستم بن سعد بن سلمك الخواري ... .(7/84)
777 - زيد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مَيْمُون بن عبد الله بن عبد الحميد ابْن أَيُّوب الْيَمَانِيّ الفايشي
جمع علوما فِي التَّفْسِير وَالْقُرْآن الحَدِيث واللغة والنحو وَالْكَلَام وَالْفِقْه وَالْخلاف والدور والحساب وَكَانَ كثير الْحَج والمجاورة
تفقه ببلدة المشيرق بِأَسْعَد بن الْهَيْثَم وببلدة سير بِإسْحَاق الصردفي وبأبي بكر المخائي بالظرافة وَهِي بالظاء الْمُعْجَمَة المضمومة قَرْيَة قريبَة من الْجند وبيعقوب ابْن أَحْمد وَابْن عبدويه بِبِلَاد تهَامَة وبالحسين الطَّبَرِيّ وَأبي نصر الْبَنْدَنِيجِيّ بِمَكَّة وبخير ابْن ملامس ومقبل بن زُهَيْر بِبَلَد ذِي أشرق
وَكَانَ شيخ الشَّافِعِيَّة وَكَانَ شيخ الْفُقَهَاء بِبِلَاد الْيمن فِي زَمَانه وَعَلِيهِ تفقه صَاحب الْبَيَان وَأَوْلَاده أَحْمد وَعلي وقاسم بَنو زيد بن الْحسن(7/85)
مولده فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة ودرس بالجعامي مُدَّة حَيَاته وَبهَا توفّي فِي شهر رَجَب سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة
778 - زيد بن عبد الله بن جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم اليفاعي شيخ صَاحب الْبَيَان وَقد ذكره فِي أَوَائِل بَاب الْهِبَة وَأَصله من المعافر ثمَّ سكن الْجند
تخرج فِي الْفَرَائِض والحساب بصهره إِسْحَاق الصردفي ثمَّ بِأبي بكر بن جَعْفَر فِي الْفِقْه ثمَّ ارتحل إِلَى مَكَّة فلقي بهَا الْحُسَيْن بن عَليّ الطَّبَرِيّ صَاحب الْعدة وَأَبا نصر الْبَنْدَنِيجِيّ صَاحب الْمُعْتَمد فَقَرَأَ عَلَيْهِمَا ثمَّ عَاد إِلَى الْيمن ودرس فِي حَيَاة شَيْخه أبي بكر بالجند فَاجْتمع عَلَيْهِ بهَا أَكثر من مِائَتي طَالب فَخرج هُوَ وَأَصْحَابه لدفن ميت عَلَيْهِم الثِّيَاب الْبيض فَرَآهُمْ الْمفضل بن أبي البركات بن الْوَلِيد الْحِمْيَرِي من فَوق سطح لَهُ فخشي مِنْهُم وَذكر خُرُوج الْفَقِيه عبد الله بن عمر المصوع على المكرم وَقَتله لِأَخِيهِ خَالِد بن أبي البركات مَعَ مَا فِي بَاطِنه من الْعَدَاوَة للسّنة فكادهم بِأَن عزل قَاضِي الْجند فتحزبوا حزبين الْفَقِيه زيد وَالْقَاضِي الْمَعْزُول مُسلم بن أبي بكر بن أَحْمد(7/86)
ابْن عبد الله الصعبي ووالداه مُحَمَّد وأسعد وَإِمَام الْمَسْجِد حسان بن أَحْمد بن عمر حزب فَصَارَ يُولى أحد الحزبين شهرا ويعزله بِالْآخرِ وحصلت الْفِتْنَة بَين الفقيهين فَخرج زيد اليفاعي إِلَى مَكَّة وجاور بهَا اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَله نَفَقَة تَأتيه من أطيان لَهُ بِالْيمن فاتجر وَحصل مَالا كثيرا بالمقارضة حَتَّى كَانَ لَهُ بضعَة عشر مقارضا
وانتهت إِلَيْهِ رياسة الْفَتْوَى بِمَكَّة ثمَّ عَاد إِلَى الْيمن سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَقيل ثَلَاث عشرَة وَقد مَاتَ الْمفضل فعلا شَأْنه وارتحل إِلَيْهِ النَّاس فِي طلب الْعلم
وَمَات بالجند سنة أَربع عشرَة وَقيل خمس عشرَة وَخَمْسمِائة
أفادنا هَذِه التَّرْجَمَة عفيف الدّين عبد الله بن مُحَمَّد المطري نقلا عَن الْحَافِظ قطب الدّين عبد الْكَرِيم بن عبد النُّور الْحلَبِي عَن الشَّيْخ قطب الدّين أبي بكر مُحَمَّد بن أَحْمد الْقُسْطَلَانِيّ فِيمَا علقه من تَارِيخ الْيمن(7/87)
779 - زيد بن عبد الله بن حسان بن مُحَمَّد بن زيد بن عَمْرو
ولى قَضَاء الْجند وَكَانَ وزيرا للأمير أَحْمد بن مَنْصُور بن الْمفضل بن أبي البركات وَملك حصن تعز مُدَّة مَعَ حصن صَبر إِلَى أَن سلمه إِلَى عبد النَّبِي بن عَليّ بن مهْدي سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة
مَاتَ بالجند وَكَانَ فَقِيها نبيلا
780 - زيد بن نصر بن تَمِيم الْحَمَوِيّ
فَقِيه مُتَكَلم على مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ وَقد ولى حسبَة دمشق ومصر
وكما سميناه سَمَّاهُ أَبُو الْمَوَاهِب بن صصرى
وَقَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ إِنَّمَا هُوَ أَبُو زيد أَحْمد بن نصر
توفّي بِدِمَشْق فِي شعْبَان سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة
781 - سَالم بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سَالم الْفَقِيه
ولد فِي شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وتفقه على أَبِيه
وَمَات فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة بِبَلَدِهِ ذِي أشرق من بِلَاد الْيمن وَكَانَ إِمَام جَامعهَا(7/88)
أفادنا هَذِه التَّرْجَمَة الْحَافِظ عفيف الدّين المطري
782 - سَالم بن عبد السَّلَام بن علوان بن عبدون أَبُو المرجا الصُّوفِي الْمَعْرُوف بالبوازيجي
تفقه بِبَغْدَاد وَصَحب الشَّيْخ أَبَا النجيب السهروردي
وَكَانَ رجلا صَالحا عَالما فَاضلا آمُر بِالْمَعْرُوفِ ناهيا عَن الْمُنكر عابدا زاهدا
سمع من زَاهِر بن طَاهِر الشحامي وَغَيره
مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
783 - سَالم بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ الْموصِلِي أَبُو المرجا
سمع بِبَغْدَاد من أبي الْفضل مُحَمَّد بن عمر بن يُوسُف الأرموي وَغَيره
مَاتَ فِي ذِي الْحجَّة سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة
784 - سَالم بن مهْدي بن قحطان بن حمير بن حَوْشَب الأخضري الْفَقِيه
تفقه بمشايخ أَرض الخصيب فَمنهمْ رَاجِح بن كهلان(7/89)
وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
أفادنا ذَلِك الْحَافِظ المطري
785 - سعد الْخَيْر بن مُحَمَّد بن سهل بن سعد أَبُو الْحسن الْأنْصَارِيّ المغربي الأندلسي الْمُحدث
رَحل إِلَى أَن دخل الصين وَلِهَذَا كَانَ يكْتب الأندلسي الصيني وَركب الْبحار وقاسى المشاق
وتفقه بِبَغْدَاد على الْغَزالِيّ وَسمع بهَا أَبَا عبد الله النعالي وَابْن البطر وطراد بن مُحَمَّد وبأصبهان أَبَا سعد الْمُطَرز وسكنها وَتزَوج بهَا وَولدت لَهُ فَاطِمَة ثمَّ سكن بَغْدَاد
روى عَنهُ ابْن عَسَاكِر وَابْن السَّمْعَانِيّ وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ وَأَبُو الْيمن الْكِنْدِيّ وَأَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ وَابْنَته فَاطِمَة بنت سعد الْخَيْر ووالد الإِمَام الرَّافِعِيّ وَآخَرُونَ
وتأدب عَليّ أبي زَكَرِيَّا التبريزي
توفّي فِي عَاشر الْمحرم سنة إحدي وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
786 - سعد بن مُحَمَّد بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن أَحْمد أَبُو الْفَضَائِل المشاط
فَقِيه مُتَكَلم واعظ مُفَسّر مُذَكّر عَارِف بِالْمذهبِ وَالْخلاف
ذكره عَليّ بن عبيد الله بن الْحسن صَاحب تَارِيخ الرّيّ فِي كِتَابه وَذكر أَنه سمع القَاضِي أَبَا المحاسن الرَّوْيَانِيّ وأباه أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن مَحْمُود المشاط وَأَبا الْفرج مُحَمَّد بن مَحْمُود(7/90)
ابْن الْحسن الْقزْوِينِي الطَّبَرِيّ وَغَيرهم
قَالَ وَتُوفِّي لَيْلَة الثُّلَاثَاء رَابِع عشر رَمَضَان سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وروى عَنهُ حَدِيثا قَرَأَهُ عَلَيْهِ
787 - سعد بن مُحَمَّد بن سعد بن صَيْفِي الشَّيْخ شهَاب الدّين أَبُو الفوارس التَّمِيمِي الشَّاعِر الْمَشْهُور
كَانَ يلقب بالحيص بيص ومعناهما الشدَّة والاختلاط قيل إِنَّه رأى النَّاس فِي شدَّة وحركة فَقَالَ مَا للنَّاس فِي حيص بيص فَلَزِمَهُ ذَلِك لقبا
تفقه بِالريِّ على القَاضِي مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الْوزان وَسمع الحَدِيث من أبي طَالب الْحُسَيْن ابْن مُحَمَّد الزَّيْنَبِي وَغَيره
قَالَ بَعضهم كَانَ صدارا فِي كل علم مناظرا محجاجا ينصر مَذْهَب الْجُمْهُور وَيتَكَلَّم فِي مسَائِل الْخلاف فصيحا بليغا يتبادى فِي لغته ويلبس زِيّ أُمَرَاء الْعَرَب ويتقلد بسيفين ويعقد الْقَاف
وَله ديوَان شعر مَشْهُور وَمن شعره وَقد وضع كريم من قدره(7/91)
(لَا تضع من عَظِيم قدر وَإِن كنت ... مشارا إِلَيْهِ بالتعظيم)
(فالشريف الْكَرِيم يصغر قدرا ... بِالتَّعَدِّي على الشريف الْكَرِيم)
(ولع الْخمر بالعقول رمى الْخمر ... بتنجيسها وبالتحريم)
توفّي الحيص بيص سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة
788 - سعيد بن عبد الله بن الْقَاسِم بن المظفر الشهرزوري أَبُو الرِّضَا
من أهل الْموصل من الْبَيْت الْمَشْهُور بالرياسة وَالْفضل وَهُوَ أَخُو مُحَمَّد بن عبد الله الْمُتَقَدّم
سمع بِبَغْدَاد زَاهِر بن طَاهِر الشحامى وَمُحَمّد بن عبد الْبَاقِي الْأنْصَارِيّ وَإِسْمَاعِيل بن أَحْمد ابْن عمر السَّمرقَنْدِي وَغَيرهم وسافر إِلَى خُرَاسَان وتفقه هُنَاكَ على مُحَمَّد بن يحيى
وَسمع من أبي عبد الله الفراوي ووجيه بن طَاهِر وَغَيرهمَا
حدث عَنهُ جمَاعَة
توفّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة(7/92)
789 - سعيد بن مُحَمَّد بن عمر بن مَنْصُور الإِمَام أَبُو مَنْصُور ابْن الرزاز
من كبار أَئِمَّة بَغْدَاد فقها وأصولا وَخِلَافًا
ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
وتفقه على الْغَزالِيّ وَصَاحب التَّتِمَّة وَأبي بكر الشَّاشِي وإلكيا الهراسي وأسعد المهيني
وَسمع الحَدِيث من رزق الله التَّمِيمِي وَنصر بن البطر وَغَيرهمَا
روى عَنهُ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ وَعبد الْخَالِق بن أَسد وَجَمَاعَة
وَولى تدريس نظامية بَغْدَاد مُدَّة ثمَّ عزل
توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَدفن بتربة الشَّيْخ أبي إِسْحَاق
790 - سعيد بن هبة الله بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن ... .(7/93)
791 - سُلْطَان بن إِبْرَاهِيم بن الْمُسلم أَبُو الْفَتْح الْمَقْدِسِي
أحد الْأَئِمَّة
كَانَ يعرف بِأبي رشا
ولد بالقدس سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
وتفقه على الْفَقِيه نصر الْمَقْدِسِي
وَسمع بالقدس أَبَا بكر الْخَطِيب وَأَبا عُثْمَان بن وَرْقَاء ثمَّ بِمصْر أَبَا إِسْحَاق الحبال والخلعي
روى عَنهُ السلَفِي وَعبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن حُسَيْن السبيي ثمَّ الْمصْرِيّ وَأَبُو الْقَاسِم البوصيري وَآخَرُونَ
دخل الديار المصرية وشغل أَهلهَا وَبهَا ظهر علمه
قَالَ السلَفِي كَانَ من أفقه الْفُقَهَاء بِمصْر وَعَلِيهِ قَرَأَ أَكْثَرهم
قلت وَعَلِيهِ تفقه صَاحب الذَّخَائِر
قَالَ ابْن نقطة مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة(7/94)
792 - سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن مُحَمَّد أَبُو سعد الْبَلَدِي القصاري الْمَعْرُوف بالكافي الْكَرْخِي
من أهل بلد الكرخ وَكَانَ قَاضِيا بهَا
كَانَ أحد الْأَئِمَّة فَقِيها مناظرا متكلما أصوليا
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ ولد تَقْديرا فِي حُدُود سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
سمع أَبَا سهل غَانِم بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الْحَافِظ وَأَبا المحاسن الرَّوْيَانِيّ وَأَبا بكر مُحَمَّد بن احْمَد بن مُحَمَّد بن الْحسن بن مَاجَه الْأَبْهَرِيّ وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ وَذكره فِي التحبير
وتفقه على أبي بكر مُحَمَّد بن ثَابت الخجندي وتناظر هُوَ وأسعد الميهني
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ غزير الْفضل حسن الْكَلَام فِي الْمسَائِل الخلافية رأى الْأَئِمَّة الْكِبَار وناظرهم وَظهر كَلَامه عَلَيْهِم وَهُوَ مَشْهُور فِيمَا بَين الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة بِحسن الْإِيرَاد وَالتَّحْقِيق وَمَا كَانَ أحد يجرى مجْرَاه فِي التَّحْقِيق بالعراق
مَاتَ بالكرخ لَيْلَة السبت وَدفن يَوْم السبت الْحَادِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة(7/95)
793 - سلمَان بن نَاصِر بن عمرَان بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل ابْن إِسْحَاق بن يزِيد بن زِيَاد بن مَيْمُون بن مهْرَان الشَّيْخ الْمُتَكَلّم أَبُو الْقَاسِم الْأنْصَارِيّ
مُصَنف شرح الْإِرْشَاد فِي أصُول الدّين وَكتاب الغنية
كَانَ إِمَامًا بارعا فِي الْأَصْلَيْنِ وَفِي التَّفْسِير فَقِيها صوفيا زاهدا من أهل نيسابور
أَخذ عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَحدث عَن أبي الْحُسَيْن بن مكي وَفضل الله بن أَحْمد الميهني وَعبد الغافر بن مُحَمَّد الْفَارِسِي وكريمة المروزية وَأبي صَالح الْمُؤَذّن وَأبي الْقَاسِم الْقشيرِي وَغَيرهم
روى عَنهُ بِالْإِجَازَةِ ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره
قَالَ عبد الغافر كَانَ نحرير وقته فِي فنه زاهدا ورعا صوفيا من بَيت صَلَاح وتصوف وزهد
صحب الْأُسْتَاذ أَبَا الْقَاسِم الْقشيرِي مُدَّة وَحصل عَلَيْهِ من الْعلم طرفا صَالحا ثمَّ سَافر الْحجاز وَعَاد إِلَى بَغْدَاد ثمَّ قدم الشَّام فصحب الْمَشَايِخ وزار الْمشَاهد ثمَّ عَاد إِلَى نيسابور واستأنف تَحْصِيل الْأُصُول على الإِمَام
قَالَ وَكَانَت مَعْرفَته فَوق لِسَانه وَمَعْنَاهُ أَكثر من ظَاهره وكَانَ ذَا قدم فِي التصوف والطريقة عَفا فِي مطعمه يكْتَسب بالوراقة وَلَا يخالط احدا وَلَا يباسطه فِي مطعم دُنْيَوِيّ وأقعد فِي خزانَة الْكتب بنظامية نيسابور اعْتِمَادًا على دينه وأصابه فِي آخر عمره ضعف فِي بَصَره ويسير وقر فِي أُذُنه(7/96)
وَقَالَ أَبُو نصر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الخطيبي سَمِعت مَحْمُود بن أبي تَوْبَة الْوَزير يَقُول مضيت إِلَى بَاب بَيت أبي الْقَاسِم الْأنْصَارِيّ فَإِذا بِالْبَابِ مَرْدُود وَهُوَ يتحدث مَعَ وَاحِد فوقفت سَاعَة وَفتحت الْبَاب فَمَا كَانَ فِي الدَّار غَيره فَقلت مَعَ من كنت تَتَحَدَّث فَقَالَ كَانَ هُنَا وَاحِد من الْجِنّ كنت ُأكَلِّمهُ
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ أجَاز لي مروياته وَسمعت مُحَمَّد بن أَحْمد النوقاني يَقُول سَمِعت أَبَا الْقَاسِم الْأنْصَارِيّ يَقُول كنت فِي الْبَادِيَة فأنشدت
(سرى يخبط الظلماء وَاللَّيْل عاسف ... حبيب بأوقات الزِّيَارَة عَارِف)
(فَمَا راعني إِلَّا سَلام عَلَيْكُم ... أَأدْخل قلت ادخل وَلم أَنْت وَاقِف)
فجَاء بدوي وَجعل يطرب ويستعيدني
قلت وَهَذَانِ البيتان مذكوران فِي تَرْجَمَة الإِمَام أبي المظفر السَّمْعَانِيّ
مَاتَ هَذَا الشَّيْخ سنة إِحْدَى عشرَة أَو اثْنَتَيْ عشرَة وَخَمْسمِائة
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
حكى فِي شرح الْإِرْشَاد إِجْمَاع الْمُسلمين على أَنه تجب التَّوْبَة من الصَّغَائِر كَمَا تجب من الْكَبَائِر وَلَعَلَّه اتبع فِي هَذَا النَّقْل إِمَامه
وَمَسْأَلَة التَّوْبَة من الصَّغَائِر مَعْرُوفَة بِالْخِلَافِ بَين شَيخنَا أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَأبي هَاشم بن الجبائي
كَانَ شَيخنَا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَقُول تجب التَّوْبَة(7/97)
من كل ذَنْب وَخَالفهُ أَبُو هَاشم وَرُبمَا ادّعى بعض أَئِمَّتنَا أَن أَبَا هَاشم خرق فِي ذَلِك إِجْمَاعًا سَابِقًا عَلَيْهِ وَلَعَلَّ أَبَا الْقَاسِم جرى على هَذَا
وَفِي هَذَا الْموضع فضل نظر قد كَانَ الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله يتَرَدَّد فِي وجوب التَّوْبَة عينا من الصَّغَائِر وَيَقُول لَعَلَّ وُقُوعهَا يكفر بِالصَّلَاةِ وباجتناب الْكَبَائِر فَيَقْتَضِي أَن الْوَاجِب فِيهَا أحد الْأَمريْنِ من التَّوْبَة أَو فعل مَا يكفرهَا وَبِتَقْدِير الْوُجُوب فَيحْتَمل أَن لَا تجب على الْفَوْر بل حَتَّى يمْضِي مُدَّة لَا يكفرهَا ويجتمع لَهُ فِي الْمَسْأَلَة احتمالات وجوب التَّوْبَة مِنْهَا عينا على الْفَوْر كالكبيرة وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ ووجوبها عينا لَكِن لَا على الْفَوْر بِخِلَاف الْكَبِيرَة وَوُجُوب أحد الْأَمريْنِ من التَّوْبَة أَو فعل الْمُكَفّر لَهَا
ثمَّ الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله فِيمَا أَحسب لَا يسلم أَنه خَارج عَن مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ فِي هَذَا بل يرد الْخلاف بَينه وَبَين أبي هَاشم إِلَى هَذَا وَيَقُول لَيْسَ مُرَاد الْأَشْعَرِيّ تعين التَّوْبَة بل محو الذَّنب إِمَّا بِالتَّوْبَةِ النصوح أَو فعل المكفرات لَهُ وَهَذَا على حَسَنَة غير مُسلم عِنْدِي بل الَّذِي أرَاهُ وجوب التَّوْبَة عينا على الْفَوْر وَعَن كل ذَنْب نعم إِن فرض عدم التَّوْبَة عَن الصَّغِيرَة ثمَّ جَاءَت المكفرات كفرت الصغيرتين وهما تِلْكَ الصَّغِيرَة وَعدم التَّوْبَة مِنْهَا وَهَذَا مَا أرَاهُ قَاطعا بِهِ
كَانَ أَبُو الْقَاسِم الْأنْصَارِيّ يَقُول سَمِعت شَيخنَا الإِمَام يَعْنِي إِمَام الْحَرَمَيْنِ يَقُول التَّكْفِير إِنَّمَا هُوَ السّتْر فَمَعْنَى كَون الصَّلَوَات وَاجْتنَاب الْكَبَائِر مكفرات أَنَّهَا تستر عُقُوبَة الذَّنب فتغمرها وتغلبها كَثْرَة لَا أَنَّهَا تسقطها فَإِن ذَلِك إِلَى مَشِيئَة الله قَالَ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ إِجْمَاع الْأمة على وجوب التَّوْبَة من الصَّغَائِر كالكبائر
قلت الإِمَام اقْتصر على لفظ التَّكْفِير فَإِن مدلولة لُغَة لَا يزِيد على السّتْر لَكنا نقُول إِذا سترت غفرت وطوى أَثَرهَا بِالْكُلِّيَّةِ وإجماعهم على وجوب التَّوْبَة مِنْهَا لَا يُنَافِي ذَلِك(7/98)
بل أَقُول لَو اجْتنبت الْكَبَائِر كَانَت الصَّغَائِر ممحوة ثمَّ التَّوْبَة عَنْهَا حتم
ثمَّ أغرب أَبُو الْقَاسِم الْأنْصَارِيّ فَقَالَ وَيحْتَمل أَن يُقَال الَّتِي يكفرهَا هَذِه القربات من الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالصَّدَََقَة وَالْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة وَاجْتنَاب الْكَبَائِر إِنَّمَا هِيَ الصَّغَائِر الَّتِي وَقعت من العَبْد وَذهل عَنْهَا ونسيها دون غَيرهَا
قلت وَهَذَا غير مُسلم بل كل الصَّغَائِر يمحوها اجْتِنَاب الْكَبَائِر كَمَا دلّت عَلَيْهِ الْأَحَادِيث من غير تَخْصِيص وَلَا دَلِيل على التَّخْصِيص بِمَا ذكره نعم مَا كَانَ مِنْهَا حق آدَمِيّ فَلَا بُد من إِسْقَاطه لَهُ إِذا أمكن التَّوَصُّل إِلَى إِسْقَاطه فَإِن تعذر بِمَوْت وَنَحْوه فالمرجو الْمُسَامحَة كَمَا قيل
794 - سَلامَة بن إِسْمَاعِيل بن جمَاعَة الْمَقْدِسِي الضَّرِير
صَاحب شرح الْمِفْتَاح لِابْنِ الْقَاص
وَفِيه حكى خلافًا لِأَصْحَابِنَا فِي صِحَة بيع الْعين الْمُسْتَأْجرَة من الْمُسْتَأْجر وَكَذَلِكَ نقل الْخلاف فِيهَا مُحَمَّد بن يحيى وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْغَزالِيّ فِي الْوَسِيط
ولسلامة أَيْضا مُصَنف مُفْرد فِي التقاء الختانين وَمَا علمت من حَال هَذَا الشَّيْخ شَيْئا
795 - سهل بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن سهل بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد ابْن عبد الله بن مُحَمَّد بن حمدَان بن مُحَمَّد السراج أَبُو الْقَاسِم بن أبي نصر بن أبي بكر(7/99)
من بَيت الْعلم وَالدّين
تفقه على الإِمَام أبي نصر الْقشيرِي
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وبرع فِي الْفِقْه وَالْكَلَام واللغة واشتغل بِالْعبَادَة وَترك مُخَالطَة النَّاس وَكَانَ دَائِم الذّكر شَدِيد الِاجْتِهَاد ثمَّ ترك مقَام نيسابور وَأقَام بطوس
سمع وَالِده وأستاذه أَبَا نصر الْقشيرِي وَأَبا عَليّ بن نَبهَان وَغَيرهم
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ توفّي بِالريِّ فِي آخر ذِي الْقعدَة سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
796 - سهل بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن مَحْمُود بن الْفضل البراني أَبُو الْمَعَالِي بن أبي سهل
قَالَ فِيهِ ابْن السَّمْعَانِيّ من الْعلمَاء العاملين بعلمهم جاور بِمَكَّة مُدَّة وَكَانَ كثير الْعِبَادَة وَالِاجْتِهَاد
والبراني بِفَتْح الْبَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء الْمُهْملَة مَنْسُوب إِلَى قَرْيَة بوراني ببخارى
مَاتَ ببخارى فِي سلخ جُمَادَى الأولى سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة(7/100)
797 - شَافِع بن عبد الرشيد بن الْقَاسِم أَبُو عبد الله الجيلي
تفقه على إِلْكيَا الهراسي وَأبي حَامِد الْغَزالِيّ
وَسمع بِالْبَصْرَةِ أَبَا عمر النهاوندي القَاضِي وبطبس فضل الله بن أبي الْفضل الطبسي
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَقَالَ سَأَلته عَن مولده فَقَالَ دخلت بَغْدَاد سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة ولي نَيف وَعِشْرُونَ سنة
وَكَانَ من أَئِمَّة الْفُقَهَاء لَهُ بِجَامِع المنصورة حَلقَة للمناظرة يحضرها الْفُقَهَاء كل جُمُعَة
توفّي فِي الْعشْرين من الْمحرم سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
798 - الشَّافِعِي بن أبي الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن أَحْمد ابْن عبد الْعَزِيز السياري الصيدلاني
ذكره عبد الغافر فِي السِّيَاق
799 - شبيب بن الْحُسَيْن بن عبيد الله بن الْحُسَيْن بن شباب القَاضِي أَبُو المظفر البروجردى
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ قدم بَغْدَاد بعد السّبْعين وَأَرْبَعمِائَة وتفقه على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وبرع فِي الْعلم وَهُوَ إِمَام مناظر مفت أديب شَاعِر مليح المعاشرة حُلْو الْمنطق متواضع
سمع الْفَقِيه أَبَا إِسْحَاق وَإِسْمَاعِيل بن مسْعدَة الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبا نصر الزَّيْنَبِي وبأصبهان وبروجرد من جمَاعَة(7/101)
وَكَانَ قَاضِي بروجرد وَبهَا ولد فِي شهر رَجَب سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ قَرَأت عَلَيْهِ أَجزَاء بهَا
وَتُوفِّي بعد رُجُوعه من حجَّته الثَّالِثَة لأَرْبَع خلون من ربيع الأول سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
800 - شُرَيْح بن عبد الْكَرِيم بن الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد الرَّوْيَانِيّ القَاضِي الإِمَام أَبُو نصر
من بَيت الْقَضَاء وَالْعلم وَهُوَ أَيْضا من كبار الْفُقَهَاء
وَذكره الرَّافِعِيّ فِي غير مَوضِع وَهُوَ ابْن عَم صَاحب الْبَحْر فِيمَا يظْهر
كَانَ أَبُو الْعَبَّاس الرَّوْيَانِيّ صَاحب الجرجانيات وَهُوَ أَبُو عماد الدّين فِيمَا أَحسب لَهُ ولدان أَحدهمَا إِسْمَاعِيل وَهُوَ أَبُو صَاحب الْبَحْر وَالْآخر عبد الْكَرِيم وَهُوَ أَبُو شُرَيْح وَلَعَلَّ وَفَاة شُرَيْح تَأَخَّرت عَن صَاحب الْبَحْر وَمَا قد يَقع فِي ذهن بعض الطّلبَة من أَن صَاحب الْبَحْر جد شُرَيْح غير صَوَاب بل الْأَمر فِيمَا أَظن على مَا وصفت
وَقد وقفت على كتاب لَهُ فِي الْقَضَاء وسمه بروضة الْحُكَّام وزينة الْأَحْكَام وَهُوَ مليح
وَفِي خطبَته يَقُول لما كثرت تصانيفي فِي الْفُرُوع وَالْأُصُول والمتفق والمختلف وأنفقت عَلَيْهَا عنفوان شبيبتي وَأَيَّام كهولتي إِلَى أَن جَاوَزت السِّتين وَرَأَيْت آدَاب الْقُضَاة
وَوصف ذَلِك إِلَى أَن قَالَ وَكنت ابْن بجدة عمل الْقَضَاء وَالْأَحْكَام اجتهدت فِيهَا للإمضاء والإحكام من أول شبيبتي إِلَى شيخوختي وَرَثَة عَن أسلافي الْأَعْلَام وقدوة الْأَنَام
(فَإِن المَاء مَاء أبي وجدي ... وبئري ذُو حفرت وَذُو طويت)(7/102)
وَقد أمعنت فِي الْكَشْف عَن تَرْجَمَة هَذَا الرجل فَمَا أحطت بأزيد مِمَّا ذكرت
وَكنت قد كتبت فَوَائِد من كِتَابه أدب الْقَضَاء هَذَا وَأَنا ذَاكر هُنَا بعض مَا كتبت إِذا جَوَّزنَا قَضَاء قاضيين فِي بلد من غير تعْيين بقْعَة فَلَو أَرَادَ الْمُدَّعِي التحاكم إِلَى أَحدهمَا وَالْمُدَّعِي عَلَيْهِ إِلَى الآخر فَثَلَاثَة أوجه الأول مِنْهَا يُجَاب الْمُدَّعِي وَالثَّانِي الْمُدَّعِي عَلَيْهِ لمساعدة الظَّاهِر إِيَّاه وَلِهَذَا كَانَ القَوْل قَوْله وَالثَّالِث يقرع بَينهمَا
فِي اللحمان ثَلَاثَة أوجه من ذَوَات الْقيم من ذَوَات الْأَمْثَال يفرق فِي الثَّالِث بَين يابسها فَيكون مثلِيا ورطبها فَيجْعَل مُتَقَوّما
قلت الثَّالِث غَرِيب
لَو قَالَ لَهُ على ألف دِرْهَم فِيمَا أَظن أَو فِيمَا أَحسب لم يلْزمه أَو فِيمَا أعلم أَو أشهد لزمَه لِأَن الْعلم معرفَة الْمَعْلُوم
لَو قَالَ على أَكثر الدَّرَاهِم رَجَعَ إِلَى بَيَانه لِأَن اللَّفْظ لَيْسَ نصا فِي الْقدر وَحكى جدي عماد الدّين عَن بعض أَصْحَابنَا أَن عَلَيْهِ عشرَة دَرَاهِم لِأَن الدِّرْهَم يَنْتَهِي إِلَى الْعشْرَة وَلَا يزِيد عَلَيْهَا وَأكْثر اسْم الدَّرَاهِم يبلغ عشرَة فَيُقَال ثَلَاثَة دَرَاهِم إِلَى عشرَة ثمَّ يُقَال أحد عشر درهما
القَاضِي لَا يملك الشوارع وَقيل يجوز بِبَدَل
هَل للسفية إجَازَة نَفسه فِيهِ قَولَانِ(7/103)
قلت وَكَذَا حَكَاهُمَا فِي الإشراف قَوْلَيْنِ من كَلَام الْعَبَّادِيّ وَقد قدمْنَاهُ فِي تَرْجَمَة أبي عَاصِم
هَل يجوز تَنْفِيذ الابْن مَا حكم بِهِ الْأَب وَجْهَان وَهل تقبل شَهَادَته بِأَن أَبَاهُ حكم بذلك وَجْهَان
لَو كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لفُلَان على فلَان كَذَا هَل للسامع أَن يشْهد لفُلَان على فلَان كَذَا وَجْهَان
إِذا كَانَ فِي يَد رجل وقف فَأقر بِأَنَّهُ وقف على فلَان وَلم يذكر واقفه وَلم يعرف واقفه سمع مِنْهُ
لَو سمع الْحَاكِم شَهَادَتهمَا وَتوقف فَسَأَلَهُمَا الْمُدَّعِي إِعَادَتهَا ثَانِيًا فَفِي وُجُوبه وَجْهَان
قَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة لَا تلْزمهُ إِعَادَتهَا عِنْد القَاضِي الأول فَإِن مَاتَ أَو عزل قبل الحكم لزمَه إِعَادَتهَا عِنْد قَاض ثَان
تقبل شَهَادَة المختبئ فِي مَوضِع لَا يرَاهُ أحد وَهل يكره ذَلِك وَجْهَان فَإِن قُلْنَا لَا يكره فَهَل ينْدب وَجْهَان أَحدهمَا ينْدب لِأَن فِيهِ إحْيَاء الْحق وَالثَّانِي لَا ينْدب
لَا تقبل شَهَادَة من لم تكمل فِيهِ الْحُرِّيَّة وَهل تقبل مِنْهُ شَهَادَة رُؤْيَة رَمَضَان وَجْهَان
اثْنَان على دَابَّة أَحدهمَا رَاكب سرج دون الآخر فادعياها فَهِيَ بَينهمَا وَقيل لصَاحب السرج(7/104)
اشْترى شَيْئا من رجل ثمَّ قَالَ لآخر اشتره مني فَإِنَّهُ لَا عيب فِيهِ فَلم يشتره ثمَّ وجد بِهِ عَيْبا فقد قيل لَيْسَ لَهُ الرَّد على بَائِعه لاعْتِرَافه بِأَنَّهُ لَا عيب فِيهِ
وَقيل لَهُ الرَّد لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِنَاء على ظَاهر الْحَال وَقيل إِن عين الْعَيْب فَقَالَ لَا شلل بِهِ لم يكن لَهُ الرَّد بِهِ وَإِلَّا فَلهُ الرَّد
ذكر الْإِصْطَخْرِي أَنه لَو اسْتَأْجر رجلا ليحمل لَهُ كتابا إِلَى مَوضِع وَيَأْتِي بجوابه فَذهب وأوصل الْكتاب وَلم يكْتب الْمَكْتُوب إِلَيْهِ الْجَواب فللحامل الْأُجْرَة كَامِلَة لِأَنَّهُ لَا يلْزمه أَكثر مِمَّا عمل وَكَانَ الِامْتِنَاع من غَيره
قَالَ وَكَذَا لَو مَاتَ الرجل فأوصل الْكتاب إِلَى نَائِبه من وَارِث أَو وصّى أجابوه أم لم يُجِيبُوهُ
قَالَ فَإِن قدم وَالرجل ميت وَلَا وَارِث لَهُ فَذهب إِلَى حَاكم الْبَلَد وأوصل الْكتاب وَأمره أَن يعلم أَنه أوصل الْكتاب وَكَانَ مَيتا أَجَابَهُ الْحَاكِم إِلَى ذَلِك وَكتب لَهُ واخذ جَمِيع الْكِرَاء
قَالَ جدي وَقد قيل لَهُ كِرَاء الذّهاب
من عُيُوب الْجَارِيَة الَّتِي ترد بهَا أَن لَا تنْبت عانتها وَحدث ذَلِك فِي زمَان القَاضِي أبي عمر الْمَالِكِي
قلت وَهَذَا أَخذه من كتاب الإشراف لأبي سعد
إِذا كَانَ الْوَصِيّ بتفرقه مَال فَاسِقًا فَفرق فَإِن كَانَ لغير مُعينين ضمن وَإِن كَانُوا مُعينين قَالَ جدي عماد الدّين يجوز فِي أظهر الْوَجْهَيْنِ
قلت جزم الرَّافِعِيّ بِعَدَمِ الضَّمَان
إِذا شهدُوا على القَاضِي أَنه أَمن كَافِرًا وَلم يتذكره سَمِعت لِأَنَّهَا شَهَادَة عَلَيْهِ بِعقد(7/105)
قلت وَهُوَ وَاضح فَإِنَّهُ فِي الْأمان كآحاد النَّاس وَلَيْسَ هُوَ بِحكم حَتَّى يحْتَاج إِلَى التَّذْكِير
إِذا ادّعى مُتَوَلِّي الْوَقْف صرف الْغلَّة فِي مصارفها قبل إِلَّا أَن يكون لقوم بأعيانهم فَادعوا أَنهم لم يقبضوا فَالْقَوْل قَوْلهم وَيثبت لَهُم الْمُطَالبَة بِالْحِسَابِ وَإِن لم يَكُونُوا مُعينين فَهَل للْإِمَام مُطَالبَته بِالْحِسَابِ فِيهِ وَجْهَان حَكَاهُمَا جدي
قلت وَجزم شُرَيْح بعد ذَلِك بِأَنَّهُ لَيْسَ للْحَاكِم مُطَالبَة الْأُمَنَاء بِالْحِسَابِ فَقَالَ فِي الرجل يُطَالب أمينة بِالْحِسَابِ إِنَّه لَا يسمع دَعْوَاهُ وَلَا يُجَاب قَالَ لِأَنَّهُ لَيْسَ للْحَاكِم ذَلِك مَعَ الْأُمَنَاء وَإِنَّمَا القَوْل قَول الْأمين مَعَ يَمِينه وَأَنه لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء
وَمَا جزم بِهِ من أَنه لَيْسَ للْقَاضِي مُطَالبَة الْأمين بِالْحِسَابِ سبقه إِلَيْهِ القَاضِي أَبُو سعد فِي كتاب الإشراف وموضعه إِن شَاءَ الله من لم يحصل للْحَاكِم فِيهِ رِيبَة فَإِنَّهُ الْأمين أما من يرِيبهُ مِنْهُ شَيْء فَيَنْبَغِي أَن يُطَالِبهُ بِالْحِسَابِ
لَو قَالَ القَاضِي صرفته عَن الْقَضَاء أَو رجعت عَن تَوليته فَهَل يكون ذَلِك صَرِيحًا فِي عزل النَّائِب وَجْهَان
إِذا جعل لرجل التَّزْوِيج وَالنَّظَر فِي أَمر الْيَتَامَى لم يكن لَهُ أَن يَسْتَنِيب غَيره
إِذا كَانَ الْموضع الَّذِي يجلس فِيهِ القَاضِي غير مَسْجِد فَإِذا انْتهى إِلَيْهِ قيل لَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَقيل يُصَلِّي
إِذا كَانَ يقْضِي برزق من بَيت المَال يلْزمه أَن يقْضِي فِي كل نَهَاره إِلَّا فِي وَقت قَضَاء الْحَاجة وَالصَّلَاة الْمَفْرُوضَة وَالطَّهَارَة والنافلة الْمُؤَكّدَة وَتَنَاول الطَّعَام على الْوَجْه الَّذِي للْأَجِير أَن يشْتَغل فِيهِ عَن الْعَمَل وَقيل يلْزم ذَلِك على حسب الْعَادة وَالْعرْف فِيمَا بَين الْقُضَاة(7/106)
وَإِذا كَانَ مُتَبَرعا بِالْقضَاءِ فقد قيل يجلس أَي وَقت أَرَادَ وَالصَّحِيح أَنه يقْعد على عَادَة الْحُكَّام ثمَّ هَل يعْتَبر عَادَة سَائِر حكام الْبِلَاد أَو عَادَة حكام تِلْكَ الْبَلَد فِيهِ وَجْهَان
هَل للْقَاضِي تَخْصِيص بعض الرعايا بإنفاذ الْهَدِيَّة إِلَيْهِ وَجْهَان
إِذا امْتنع من الْحُضُور أدبه إِذا صَحَّ عِنْده وَقيل يقبل فِيهِ شَاهِدَانِ وَإِن لم يعرف عدالتهما وَقيل لَا بُد من الْعَدَالَة قَالَ جدي وَهُوَ الْقيَاس
وَإِذا بعث رَسُولا ليستحضره يقبل قَول الرَّسُول أَنه امْتنع لِأَنَّهُ من بَاب الْخَبَر ويؤدب بقوله وَإِذا تغيب هجم عَلَيْهِ وَلَا هجوم فِي الْحُدُود إِلَّا فِي حد قَاطع الطَّرِيق
لَو قضى الْحَاكِم بِمَا طَرِيقه الْعِبَادَات وَالْأَحْكَام يجوز أَن يحكم بِوُجُوب النِّيَّة فِي الْوضُوء وَالتَّرْتِيب فِيهِ وَأَن الْجد لَا يَرث مَعَ الْأَخ
لم يكن لحكمه معنى إِذا نفذ حكم من قبله يَقُول نفذت حكم فلَان القَاضِي وأمضيته وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا لَو قَالَ أجزته كَانَ تنفيذا وَلَو قَالَ هَذَا الحكم جَائِز أَو صَحِيح فَهَل يكون تنفيذا فِيهِ وَجْهَان
إِذا أَرَادَ نقض الحكم يَقُول نقضته أَو فسخته أَو أبطلته وَلَو قَالَ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح اَوْ بَاطِل فَوَجْهَانِ
وَهل يجوز تَنْفِيذ الابْن حكم الْأَب وَجْهَان
وَهل تقبل شَهَادَة الابْن أَن أَبَاهُ حكم فِيهِ وَجْهَان حَكَاهُمَا جدي وَقيل يجوز قولا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَا يعود النَّفْع فِي الحكم إِلَيْهِ
إِذا ادّعى على الشُّهُود أَنهم شهدُوا عَلَيْهِ بزور وأثبتوا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِم كذبا فَفِي التَّحْلِيف وَجْهَان(7/107)
إِذا تبين الْحق للْحَاكِم لم يجز لَهُ تَأْخِير الحكم إِلَّا برضاهما
وَقيل يجوز تَأْخِيره يَوْمًا وَأَكْثَره ثَلَاثًا وَقيل وَإِن ثَبت الْحق لَا يُبَادر لَكِن يُؤَجل ثَلَاثًا أَو ثَلَاث مجَالِس وَقيل لَا يَفْعَله إِلَّا إِذا سَأَلَهُ الْمُدعى عَلَيْهِ لِأَن النَّفْع فِيهِ يعود إِلَيْهِ
قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ واحب للْحَاكِم إِذا أَرَادَ الحكم أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يستخير الله فِيهِ ويستكشف غَايَة الاستكشاف
قَول الْحَاكِم حكمت بِكَذَا مُحكم وَكَذَا قضيت فِي أظهر الطَّرِيقَيْنِ
هَل يجوز للْحَاكِم أَن يحكم بِقِطْعَة أَرض فِي غير مَوضِع عمله قَولَانِ
وَلَا يجوز أَن يكْتب بتزويج امْرَأَة فِي غير مَوضِع عمله
قَالَ جدي وَغلط من جوزه
إِذا قُلْنَا يجب على القَاضِي أَن يشْهد على حكمه فَلَو أشهد فاسقين لم يخرج عَن الْوَاجِب فِي أظهر الْقَوْلَيْنِ وأصلهما الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذا طُولِبَ الْفَاسِق بأَدَاء الشَّهَادَة عِنْده هَل يلْزمه أَدَاء الشَّهَادَة
لَيْسَ للْحَاكِم تعْيين الشُّهُود فِي الْبَلَد لِأَن فِيهِ تضييقا وَجوزهُ بعض أَصْحَابنَا
وَله أَن يعين من يكْتب الوثائق فِي أصح الْوَجْهَيْنِ
وإِلَى الْحَاكِم تعْيين المعدلين والمزكين
قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَإِذا رد الْمُدعى عَلَيْهِ الْيَمين فَقلت للْمُدَّعِي احْلِف فَقَالَ الْمُدعى عَلَيْهِ أَنا أَحْلف لما أجعَل لَهُ ذَلِك
قَالَ جدي وَهَذَا يُفِيد أَنه إِذا قَالَ الْحَاكِم للْمُدَّعِي احْلِف كَانَ حكما فِيهِ بتحويل الْيَمين(7/108)
قلت وَلم أر هَذَا فِي الْبَحْر إِنَّمَا حكى نَص الشَّافِعِي ثمَّ قَالَ وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا بخراسان وَذكر مَا سَنذكرُهُ
قَالَ شُرَيْح قَالَ جدي وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا بُد من قَول الْحَاكِم حولت الْيَمين أَو رددت أوحكمت بِالرَّدِّ أَو يقبل على الْمُدعى عَلَيْهِ فَيَقُول احْلِف
قلت وَهَذَا فِي الْبَحْر للروياني كَمَا نَقله شُرَيْح وَعَزاهُ إِلَى بعض أَصْحَابنَا بخراسان كَمَا عرفت وَقَالَ فِي آخِره وَعِنْدِي إِذا قَالَ للْمُدَّعِي أتحلف أَنْت ثمَّ قَالَ الْمُدعى عَلَيْهِ أَنا أَحْلف لَهُ ذَلِك وَهُوَ الْأَظْهر هَذَا لفظ الْبَحْر
ثمَّ قَالَ شُرَيْح وَإِذا قُلْنَا يكْتَفى برد الْمُدعى عَلَيْهِ فَلَو قَالَ رددت إِن شَاءَ فَهَل يَصح الرَّد وَجْهَان حَكَاهُمَا جدي كَمَا لَو قَالَ بِعْتُك هَذَا المَال إِن شِئْت
قلت وَلم ار هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فِي الْبَحْر كل هَذَا مِمَّا يدل على أَن جده لَيْسَ هُوَ صَاحب الْبَحْر وَلَو كَانَ مَا يَنْقُلهُ شُرَيْح فِي هَذَا الْموضع من الْبَحْر لنقل زيادات هُنَا فِي الْبَحْر لَيست فِي كتاب شُرَيْح
لَو قَالَ البَائِع نقدني الْمُشْتَرى ثمن هَذِه الدَّار فَلم أقبضهُ وَوصل بِهِ كَلَامه فَفِي قبُوله وَجْهَان وَلَو قَالَ أَعْطَانِي الثّمن فَلم أقبضهُ
فَقيل كَمَا لَو قَالَ نقدني وَقيل يقبل وَجها وَاحِدًا
لَو أعتق عبدا ثمَّ أقرّ أَنه قبض مِنْهُ ألفا قبل عتقه وَقَالَ العَبْد بعده فَالْقَوْل قَول الْمولى وَفِيه وَجه
وَلَو قطع يَده وَأعْتقهُ وَقَالَ قطعته وَهُوَ عبد فَقَالَ العَبْد بل وَأَنا حر فَهَل القَوْل قَول السَّيِّد أَو العَبْد وَجْهَان حَكَاهُمَا جدي
إِذا أَرَادَ المسافرة بامرأته فأقرت بدين فللمقر لَهُ حَبسهَا وَلَا يقبل قَول الزَّوْج إِن قَصدهَا منع المسافرة فَإِن أَقَامَ الزَّوْج بَينه أَن إِقْرَارهَا كَانَ قصدا إِلَى منع المسافرة فَهَل يقبل وَجْهَان(7/109)
أقرّ رجل أَنه وجد ثَوْبه فِي دَار فلَان فَأَخذه وَقَالَ صَاحب الدَّار الثَّوْب لي أَمر برد الثَّوْب على صَاحب الدَّار إِلَى أَن يُقيم الْبَيِّنَة على أَنه لَهُ وَقيل لَا يُؤمر برده لاحْتِمَال أَنه لَهُ وَكَذَا لَو قَالَ أخذت دهنا فِي قَارُورَة فلَان فعلى وَجْهَيْن
801 - شرفشاه بن ملكداد
تفقه بالنظامية بِبَغْدَاد حَتَّى برع وَصَارَ من أنظر الْفُقَهَاء ثمَّ سَافر إِلَى مُحَمَّد بن يحيى إِلَى نيسابور وَأقَام بهَا يدرس ويفتي وَله تَعْلِيقه فِي الْخلاف فِي سفرين
توفّي بنيسابور فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
802 - شهردار بن شيرويه بن شهردار بن شيرويه بن فناخسره ابْن خشد كَانَ بن رينويه بن خسره بن ورداد بن دَيْلَم بن الدياس بن لشكري ابْن داجي بن كبوس بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الضَّحَّاك بن فَيْرُوز الديلمي أَبُو مَنْصُور بن الْمُحدث المؤرخ أبي شُجَاع الهمذاني
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ حَافِظًا عَارِفًا بِالْحَدِيثِ فهما عَارِفًا بالأدب ظريفا خَفِيفا(7/110)
لَازِما مَسْجده مُتبعا أثر وَالِده فِي كِتَابه الحَدِيث وسماعه وَطَلَبه رَحل إِلَى أَصْبَهَان مَعَ وَالِده ثمَّ إِلَى بَغْدَاد
سمع أَبَاهُ وَأَبا الْفَتْح عَبدُوس بن عبد الله ومكى بن مَنْصُور الكرجي وَحمد بن نصر الْأَعْمَش وفيد بن عبد الله الشعراني وَأَبا بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن زَنْجوَيْه وَله إجَازَة من أبي بكر بن خلف الشِّيرَازِيّ وَأبي مَنْصُور بن الْحُسَيْن المقومي
روى عَنهُ ابْنه أَبُو مُسلم أَحْمد وَأَبُو سهل عبد السَّلَام السرقولي وَطَائِفَة
مَاتَ فِي رَجَب سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة
803 - شيرويه بن شهردار بن شيرويه بن فناخسره الْحَافِظ أَبُو شُجَاع الديلمي
مؤرخ همذان ومصنف كتاب الفردوس
ولد سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
وَسمع أَبَا الْفضل مُحَمَّد بن عُثْمَان القومساني ويوسف بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْمُسْتَمْلِي وَأَبا الْفرج عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ الْجريرِي البَجلِيّ وَأحمد بن عِيسَى بن عباد الدينَوَرِي وَأَبا مَنْصُور عبد الْبَاقِي بن عَليّ الْعَطَّار وَأَبا الْقَاسِم بن البسري وَأَبا عَمْرو بن مندة وَغَيرهم بِبِلَاد كَثِيرَة(7/111)
روى عَنهُ ابْنه شهردار وَمُحَمّد بن الْفضل الإسفرايني وَأَبُو الْعَلَاء أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْفضل الْحَافِظ وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ وَآخَرُونَ
وَكَانَ يلقب إِلْكيَا
مَاتَ فِي تَاسِع شهر رَجَب سنة تسع وَخَمْسمِائة
804 - صَالح بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن دوذين أَبُو مَنْصُور البروجردي
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فَقِيه صَالح من أهل بروجرد سمع بِبَغْدَاد أَبَا أَحْمد عبيد الله بن مُحَمَّد ابْن أبي مُسلم الفرضي
سمع مِنْهُ هبة الله بن عبد الْوَارِث الشِّيرَازِيّ
ذكره ابْن باطيش
805 - صَدَقَة بن الْحُسَيْن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن وَزِير أَبُو حسن الْوَاعِظ
كَانَ وَالِده من الْمُتَقَدِّمين فِي الدُّنْيَا بواسط وَترك هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَالِده وَأَهله وَطلب الْعلم وتزهد وسلك طَرِيق الْفقر والتجريد وَأكل الجشب ومجاهدة النَّفس
وَسمع الحَدِيث من أبي الْوَقْت السجْزِي وَأبي الْفَتْح مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن البطي وَخلق كثير(7/112)
وَكَانَ يعرف التَّفْسِير وَالْفِقْه وَالْأَدب وَحدث باليسير وَله شعر جيد
توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة
806 - الضَّحَّاك بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن أَحْمد بن عبد القاهر أَبُو الْمَعَالِي الشَّيْبَانِيّ بن الكيال
الْمُتَكَلّم على مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ
توفّي سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ مولده سنة خَمْسمِائَة
807 - طَاهِر بن سعيد بن فضل الله بن أبي الْخَيْر أَبُو الْفَتْح بن أبي طَاهِر بن أبي سعيد الميهني الصُّوفِي
من بَيت التصوف والمشيخة وَكَانَ هُوَ ذَا قدم راسخ فِي التصوف وسافرالكثير وَلَقي الشُّيُوخ
سمع جده فضل الله والأستاذ ابا الْقَاسِم الْقشيرِي وَأَبا الْغَنَائِم بن الْمَأْمُون وَأَبا الْحُسَيْن ابْن النقور وخلقا سواهُم
روى عَنهُ أَبُو الفتيان الرواسِي وَغَيره
توفّي سنة ثِنْتَيْنِ وَخَمْسمِائة
قَالَ طَاهِر هَذَا أَنبأَنَا جدي سَمِعت أَبَا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ يَقُول سَمِعت أَبَا سهل الصعلوكي يَقُول الْإِعْرَاض ترك الِاعْتِرَاض
وَقَالَ طَاهِر أَيْضا أخبرنَا أَبُو عَليّ الْحسن بن غَالب بِبَغْدَاد سَمِعت أَبَا الْقَاسِم عِيسَى بن(7/113)
عَليّ بن عِيسَى الْوَزير يَقُول كَانَ ابْن مُجَاهِد يَوْمًا عِنْد أبي فَقيل لَهُ الشبلي على الْبَاب فَقَالَ يدْخل فَقَالَ ابْن مُجَاهِد سأسكته السَّاعَة بَين يَديك وَكَانَ من عَادَة الشبلي إِذا لبس شَيْئا خرق فِيهِ موضعا فَلَمَّا جلس قَالَ ابْن مُجَاهِد يَا أَبَا بكر أَيْن فِي الْعلم إفسادا مَا ينْتَفع بِهِ فَقَالَ لَهُ الشبلي فَأَيْنَ فِي الْعلم {فَطَفِقَ مسحا بِالسوقِ والأعناق} فَسكت ابْن مُجَاهِد فَقَالَ لَهُ أبي أردْت أَن تسكت أَبَا بكر فأسكتك
ثمَّ قَالَ لَهُ الشبلي لقد أجمع النَّاس أَنَّك مقرئ الْوَقْت أَيْن فِي الْقُرْآن الحبيب لَا يعذب حَبِيبه فَسكت ابْن مُجَاهِد فَقَالَ أبي قل يَا أَبَا بكر فَقَالَ قَوْله تَعَالَى {وَقَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه قل فَلم يعذبكم بذنوبكم} فَقَالَ ابْن مُجَاهِد كَأَنِّي مَا سَمعتهَا قطّ
808 - طَاهِر بن مُحَمَّد بن طَاهِر بن سعيد البروجردي أَبُو المظفر القَاضِي
تفقه على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَسمع من ابْن هزارمرد وَابْن النقور وَغَيرهمَا ثمَّ انْتقل إِلَى مَكَّة وسكنها وَولى قضاءها وَأقَام بهَا إِلَى حِين وَفَاته
مولده سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة ببروجرد
وَذكر أَبُو المظفر مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن الطَّبَرِيّ الْمَكِّيّ أَبَا المظفر طَاهِر بن مُحَمَّد البروجردى وَقَالَ أَقَامَ بِمَكَّة ثمَّ رَحل عَنْهَا قَاصِدا الْعرَاق فَمَاتَ فِي الطَّرِيق سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَذكر أَنه كَانَ فَاضلا عَالما بِالْحَدِيثِ وَالْأَدب والنحو وَالشعر(7/114)
809 - طَاهِر بن مهْدي بن طَاهِر بن عَليّ بن نصر أَبُو مُضر الطَّبَرِيّ
ولد بنيسابور سنة ثَلَاث وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَمَات بمرو فِي صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
810 - طَاهِر بن يحيى بن أبي الْخَيْر العمراني الْفَقِيه ابْن صَاحب الْبَيَان
ولد سنة ثَمَان عشرَة وَخَمْسمِائة
كَانَ فَقِيها فصيحا تفقه بِأَبِيهِ وَخَلفه فِي حلقته وجاور بِمَكَّة لماوقعت فتْنَة ابْن مهْدي بِالْيمن وَسمع بهَا من أبي عَليّ الْحسن بن عَليّ بن الْحسن الْأنْصَارِيّ وَأبي حَفْص الميانشي وَعبد الدَّائِم الْعَسْقَلَانِي وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي مشيرح الْحَضْرَمِيّ المقرىء ووصلته إجازات جَيِّدَة من يحيى بن سعدون الْأَزْدِيّ وخطيب الْموصل
ثمَّ توجه إِلَى الْيمن فظفر بِهِ ابْن مهْدي قبل دُخُوله زبيد فَأحْضرهُ وأحضر القَاضِي مُحَمَّد بن أبي بكر المدحدح وَكَانَ حنفيا فتناظر بَين يَدَيْهِ مرَارًا فَقَطعه طَاهِر(7/115)
وولاه فضلان وَذي جبلة من سنة سبع وَسِتِّينَ إِلَى بعض أَيَّام شمس الدولة
وَله مصنفات حَسَنَة وَكَلَام جيد يشْعر بغزارة فِي الْعلم وَالْفضل وَلما نبغ فِي الْيمن أَبُو بكر الْعَبْسِي وَكَانَ فَقِيها أديبا لَا يرى جَوَاز طَلَاق التَّنَافِي وَلَا مَسْأَلَة الْعينَة وشدد فِي إنكارهما ونظم قصيدتين فيهمَا صنف طَاهِر فِي الرَّد عَلَيْهِ كتاب الِاحْتِجَاج الشافي على المعاند فِي طَلَاق التَّنَافِي
وَكَانَت القصيدتان قد اشتهرتا واستهوتا كثيرا من النَّاس فَلَمَّا ردهما طَاهِر حصل الانكفاف برده وَمن إِحْدَى القصيدتين
(طَلَاق التَّنَافِي قد نفى الْحق طَاهِر ... وَإِنِّي لَهُ وَالله يشْهد لي أنفى)
(إِذا طلق الزَّوْج الْمُكَلف زوجه ... وَلَيْسَ بمجبور ثَلَاثًا فقد أوفى)
(وَلَيْسَت حَلَالا دون تنْكح غَيره ... بِشَرْط كتاب الله مَا قلته حيفا)
(نصحح شَرط الله دون أشتراطكم ... وننفيه نفيا ثمَّ نصرفه صرفا)
(فَكل اشْتِرَاط لَيْسَ فِي الشَّرْع بَاطِل ... وَشرط كتاب الله حق فَلَا يخفى)
(وَلَا ينتفى حكم الطَّلَاق بحيلة ... وحيلتكم فِيهِ أَحَق بِأَن تنفى)(7/116)
مِنْهَا
(تحلونها فِيهِ وتحريمها بِهِ ... فَصَارَت بِمَا بَانَتْ محبسه وَقفا)
(فَأَيْنَ يَقُول الله وقف نِسَائِكُم ... وَتَصْحِيح مَا قُلْتُمْ فنعرفه عرفا)
(لَئِن كَانَ للتدقيق هَذَا فَتَركه ... من الْفَرْض وَالتَّحْقِيق والأوضح الأصفي)
(فكم من أنَاس دققوا فتزندقوا ... فصاروا بِهِ عَن علم فهم على الإشفا)
وَمِنْهَا
(فَأبْطل بهَا من حِيلَة مستحيلة ... وَأعظم بِحكم صَار من أجلكم حتفا)
(وَأعظم بهَا من فتْنَة ومصيبة ... لَهَا تذرف العينان فِي دمعها ذرفا)
وَمن قصيدته فِي إبِْطَال الْعينَة
(الْحق أضحى غَرِيبا لَيْسَ يفتقد ... فَكل من قَالَه فِي النَّاس يضطهد)
(لَا يقبل النَّاس قَول الْحق من أحد ... حَتَّى يَمُوت ويفنى الْكبر والحسد)
(مَا كل قَول لأهل الْعلم منتفع ... بِهِ وَلَا كل قَول مِنْهُم زبد)
(هم هم خير من فِيهَا إِذا صلحوا ... وَشر دَاء من الأدوا إِذا فسدوا)
(فَمنهمْ كل مَعْرُوف وصالحة ... وَمِنْهُم تفْسد الأقطار والبلد)
(فَمَا شقَّتْ أمة إِلَّا بشقوتهم ... يَوْمًا وَلَا سعدت إِلَّا إِذا سعدوا)
(أضحى الرِّبَا قد فَشَا من أجل حيلتهم ... فِي كل أَرض سوى أَرض بهَا فقدوا)
(وَالله حرم مَعْنَاهُ وباطنه ... ومالهم فِيهِ برهَان وَلَا سَنَد)(7/117)
(يَا بَائِعا ثَوْبه حَتَّى يُعَاد لَهُ ... أَلَيْسَ يعلم هَذَا الْوَاحِد الصَّمد)
(سُبْحَانَهُ من حَلِيم بعد قدرته ... وعالم مَا أرادوه وَمَا قصدُوا)
(هَل قَالَ هَذَا رَسُول الله وَيحكم ... أَو قَالَ ذَلِك من أَصْحَابه أحد)
(أم غَالب عَنْهُم دَقِيق الْعلم دونكم ... أم فِي اكْتِسَاب حَلَال الرِّبْح قد زهدوا)
وَفِي القصيدتين طول وَفِيمَا ذكرته مِنْهُمَا كِفَايَة
مَاتَ طَاهِر وَترك وَلدين مُحَمَّدًا وأسعد
وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
811 - طَلْحَة بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن طَلْحَة أَبُو مُحَمَّد الإسفرايني. .
812 - عَامر بن دعش بن حصن بن دعش أَبُو مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ
من أهل السويداء من حوران الأَرْض الْمَشْهُورَة بِالشَّام
رَحل إِلَى بَغْدَاد وتفقه على الْغَزالِيّ وَسمع من طراد وَغَيره روى عَنهُ الْحَافِظ
مولده سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة وَمَات سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
813 - عبد الله بن أَحْمد بن الْحسن بن طَاهِر ...(7/118)
814 - عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر بن هِشَام الْخَطِيب أَبُو الْفضل بن أبي نصر الطوسي ثمَّ الْبَغْدَادِيّ
خطيب الْموصل
ولد فِي صفر سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَسمع حضورا من طراد الزَّيْنَبِي وَأبي عبد الله بن طَلْحَة النعالي وَسمع من ابْن البطر والطريثيثي وجعفر السراج وَأبي عَليّ الْحداد وَأبي غَالب بن الباقلاني وَجَمَاعَة تفرد بالرواية عَن أَكْثَرهم
روى عَنهُ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ وَعبد الْقَادِر الرهاوي وَأَبُو مُحَمَّد بن قدامَة والبهاء عبد الرَّحْمَن وَالْقَاضِي أَبُو المحاسن يُوسُف بن شَدَّاد وَآخَرُونَ
وتفقه على إِلْكيَا الهراسي وَأبي بكر الشَّاشِي وَقَرَأَ الْأَدَب على أبي زَكَرِيَّا التبريزي وَأبي مُحَمَّد الحريري
والفرائض والحساب على الْحُسَيْن الشقاق
وَخرج لنَفسِهِ المشيخة الْمَشْهُورَة(7/119)
وَمن شعره
(لما رَآنِي وَلَدي مدنفا ... مقلقل الأحشاء مِسْكينا)
(قَالَ أبن لي مَا الَّذِي تَشْتَكِي ... قلت لَهُ أَشْكُو الثمانينا)
815 - عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي عبد الله الْهَمدَانِي
تفقه بِأبي بكر المخائي وَزيد اليفاعي ورحل إِلَى ابْن عبدويه فَقَرَأَ عَلَيْهِ
وَكَانَ يسكن زبران من بادية الْجند وَبهَا مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَخَمْسمِائة تَرْجمهُ المطري
816 - عبد الله بن أسعد بن عَليّ بن مهذب الدّين ...(7/120)
817 - عبد الله بن بري بن عبد الْجَبَّار الْمَقْدِسِي الإِمَام أَبُو مُحَمَّد النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ
نزيل الْقَاهِرَة
ولد فِي رَجَب سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
وَقَرَأَ الْأَدَب على الإِمَام أبي بكر مُحَمَّد بن عبد الْملك النَّحْوِيّ وَسمع من أبي صَادِق الْمَدِينِيّ وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الرَّازِيّ وَأبي الْعَبَّاس بن الحطية وَغَيرهم(7/121)
روى عَنهُ ابْن الجميزي وَابْن الْمفضل والوجيه القوصي والزاهد أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن عَليّ بن مُحَمَّد الْقُسْطَلَانِيّ وَخلق
وَكَانَ إِمَامًا مقدما فِي النَّحْو واللغة تصدر بِجَامِع مصر للإقراء فِي الْعَرَبيَّة وَتخرج بِهِ جمع كثير
قلت رحلت إِلَيْهِ الطّلبَة وَله حواش مفيدة على صِحَاح الْجَوْهَرِي وَله أَيْضا جَوَاب الْمسَائِل الْعشْر الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا ملك النُّحَاة ومقدمة سَمَّاهَا اللّبَاب
قَالَ جمال الدّين القفطي كَانَ عَالما بِكِتَاب سِيبَوَيْهٍ وَعلله قيمًا باللغة وشواهدها وَكَانَ إِلَيْهِ التصفح فِي ديوَان الْإِنْشَاء لَا يصدر كتاب عَن الدولة إِلَى مُلُوك النواحي إِلَّا بعد أَن يتصفحه
قلت كَانَت هَذِه عَادَة الْخُلَفَاء والملوك إِذا صدر عَنْهُم تصفحه إِمَام من أَئِمَّة اللِّسَان وَكَانَ القَاضِي الْفَاضِل يتصفح الْكتب الَّتِي يَكْتُبهَا الْعِمَاد الْكَاتِب وَمن كَانَ دونه وَكَانُوا يستعظمون صُدُور كتاب عَن السُّلْطَان غير معروض على أَئِمَّة اللِّسَان وأئمة الْفَتْوَى
قَالَ القفطي وَكَانَ ابْن بري ينْسب إِلَى الْغَفْلَة الغريبة ويحكى عَنهُ حكايات(7/122)
وَقَالَ الْمُوفق عبد اللَّطِيف كَانَ ابْن بري شَيخا محققا صحفيا ساذج الطباع أبله فِي أُمُور الدُّنْيَا مبارك الصُّحْبَة مَيْمُون الطلعة وَفِيه تغفل عَجِيب يستبعد من سَمعه أَن يجْتَمع فِي رجل متقن للْعلم
توفّي فِي شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
818 - عبد الله بن حيدر بن أبي الْقَاسِم الْقزْوِينِي أَبُو الْقَاسِم
سَافر إِلَى خُرَاسَان وتفقه على أئمتها
وَسمع الحَدِيث بنيسابور من أبي عبد الله الفراوي وَغَيره وبمرو من يُوسُف بن أَيُّوب الهمذاني وَعَاد إِلَى همذان فاستوطنها وَحدث بِصَحِيح مُسلم وَجمع أَرْبَعِينَ حَدِيثا
توفّي بهمذان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
819 - عبد الله بن الْخضر بن الْحُسَيْن الْفَقِيه أَبُو البركات بن الشيرجي الْموصِلِي
كَانَ إِمَامًا مقدما مناظرا انْتفع بِهِ جمَاعَة
سمع أَبَا بكر الْأنْصَارِيّ وَأَبا مَنْصُور الشَّيْبَانِيّ وَجَمَاعَة
روى عَنهُ القَاضِي بهاء الدّين بن شَدَّاد وَمُحَمّد بن علوان الْفَقِيه وَغَيرهمَا
وَكَانَ زاهدا متقشفا
مَاتَ فِي جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة(7/123)
820 - عبد الله بن رِفَاعَة بن غَدِير بن عَليّ بن أبي عمر الذَّيَّال بن ثَابت بن نعيم أَبُو مُحَمَّد السَّعْدِيّ القَاضِي الْمصْرِيّ
ولد فِي ذِي الْقعدَة سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وَلزِمَ القَاضِي الخلعي فتفقه عَلَيْهِ وَسمع مِنْهُ الْكثير وَهُوَ آخر من عَنهُ بسيرة ابْن هِشَام الَّتِي وَقعت لنا من طَرِيقه وبغيرها
روى عَنهُ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن المَسْعُودِيّ وَأَبُو الْجُود المقرىء وَعبد الْقوي بن الْجبَاب وصنيعة الْملك هبة الله بن حيدرة وَمُحَمّد بن عماد وَابْن صباح وَآخَرُونَ وَكَانَ فَقِيها فرضيا حيسوبا دينا ورعا
ولى الْقَضَاء بِمصْر بالجيزة مُدَّة ثمَّ استعفى فأعفي واشتغل بِالْعبَادَة إِلَى أَن توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة(7/124)
821 - عبد الله بن عبد الرَّزَّاق بن حسن بن زَاهِر
قَالَ المطري سمع عبد الْملك بن أبي ميسرَة وتفقه بِأبي بكر بن جَعْفَر المخائي وَكَانَ يدرس بِجَامِع ذِي أشرق وَعَلِيهِ دارت الْفتيا فِي أَيَّامه وَبِه وتفقه أَبُو بكر بن سَالم
مَاتَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَله سِتّ وَسِتُّونَ سنة
822 - عبد الله بن عَليّ بن سعيد أَبُو مُحَمَّد القصري الْفَقِيه
قَالَ الْحَافِظ فِي التَّارِيخ تفقه بِبَغْدَاد وَأدْركَ أَبَا بكر الشَّاشِي وإلكيا وعلق الْمَذْهَب وَالْخلاف والأصولين على الشَّيْخ أسعد الميهني وَأبي الْفَتْح بن برهَان وَأبي عبد الله القيرواني
وَسمع الحَدِيث من أبي الْقَاسِم بن بَيَان الرزاز وَأبي عَليّ بن نَبهَان وَأبي طَالب الزَّيْنَبِي وَأقَام بالعراق مُدَّة ثمَّ قدم دمشق وَحلق فِي الْمَسْجِد الْجَامِع مُدَّة وَكَانَ نظارا جيدا(7/125)
ثمَّ انْتقل إِلَى حلب ليفقه أَهلهَا فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن مَاتَ سَمِعت درسه
قَالَ وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة بحلب
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فِي الْأَنْسَاب توفّي سنة سبع أَو ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
823 - عبد الله بن عمر بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن عَليّ أَبُو الْقَاسِم بن الظريف
من أهل بَلخ وَكَانَ مدرس النظامية بهَا
مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة وَلم أعلم تَارِيخ وَفَاته
824 - عبد الله بن الْقَاسِم بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري أَبُو الْقَاسِم
كَانَ فَقِيها متميزا مَاتَ بالموصل فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة
تَرْجمهُ ابْن باطيش
825 - عبد الله بن الْقَاسِم بن مظفر بن عَليّ الشهرزوري أَبُو مُحَمَّد المرتضى
ولد فِي سادس شعْبَان سنة خمس وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وَمَات بالموصل لَيْلَة الْخَمِيس لتسْع بَقينَ من شهر ربيع الأول سنة إِحْدَى عشرَة وَخَمْسمِائة(7/126)
826 - عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن عمر الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد بن فَخر الْإِسْلَام الشَّاشِي
مولده سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
تفقه على أَبِيه وبرع مذهبا وَخِلَافًا وَأفْتى وناظر وَوعظ النَّاس وَسمع الحَدِيث من الْحُسَيْن بن أَحْمد بن طَلْحَة النعالي وَمِمَّنْ فِي طبقته وَحدث باليسير
وَله شعر حسن من ذَلِك مَا ذكره وَقد حضر يَوْمًا آخر النَّهَار فِي الْمدرسَة التاجية بِبَغْدَاد للوعظ وَكَانَ يَوْمًا مغيما فَأَنْشد ارتجالا لنَفسِهِ
(قَضِيَّة أعجب بهَا قضيه ... جلوسنا اللَّيْلَة فِي التاجيه)
(والجو فِي حليته الفضيه ... صقالها قعقعة الرعديه)
(أعلامها شعشعة برقيه ... تنثر من أردانها العطرية)
(ذائب تبر ينشر البريه ... وَالشَّمْس تبدو تَارَة خفيه)
(ثمَّ ترَاهَا مرّة جليه ... كَأَنَّهَا جَارِيَة حييه)
(حَتَّى إِذا حانت لنا العشيه ... قصت لِبَاس الْغَيْم بالكليه)
(وأسفرت فِي الْجِهَة الغربيه ... صفراء فِي محلفة ورسيه)
(كَرَامَة أعرفهَا شاشيه ... )
وَتُوفِّي فِي الْمحرم سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَدفن على أَبِيه(7/127)
827 - عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْمعلم أَبُو الْقَاسِم العكبري الأديب
تفقه على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَسمع الحَدِيث من جمَاعَة وصنف الِانْتِصَار لِحَمْزَة الزيات فِيمَا نسبه إِلَيْهِ ابْن قُتَيْبَة فِي مُشكل الْقُرْآن
وَله شعر جيد
توفّي سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة
828 - عبد الله بن مُحَمَّد بن الْحسن بن هبة الله بن عبد الله الْفَقِيه أَبُو المظفر بن عَسَاكِر
أَخُو زين الْأُمَنَاء
ولد سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وتفقه على القطب النَّيْسَابُورِي وَغَيره وسمع من عميه الْحَافِظ والصائن هبة الله وَحدث بِمصْر ودمشق وَغَيرهمَا ودرس بِدِمَشْق بالتقوية وَكَانَ أحد الْفُقَهَاء المناظرين وَجمع أَرْبَعِينَ حَدِيثا
قتل غيله بِظَاهِر الْقَاهِرَة فِي ربيع الأول سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
829 - عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحسن بن عَليّ الميانجي أَبُو الْمَعَالِي بن أبي بكر
من أهل خُرَاسَان يعرف بِعَين الْقُضَاة
قَالَ فِيهِ ابْن السَّمْعَانِيّ أحد فضلاء الْعَصْر وَمن بِهِ يضْرب الْمثل فِي الذكاء الْفضل(7/128)
كَانَ فَقِيها فَاضلا شَاعِرًا مفلقا رَقِيق الشّعْر وَكَانَ يمِيل إِلَى الصُّوفِيَّة ويحفظ من كَلَامهم وإشاراتهم مَا لَا يدْخل تَحت الْوَصْف صنف فِي فنون من الْعلم وَكَانَ حسن الْكَلَام وَالْجمع فِيهَا
قَالَ وَكَانَ النَّاس يعتقدونه ويتبركون بِهِ وَظهر لَهُ الْقبُول التَّام عِنْد الْخَاص وَالْعَام حَتَّى حسد وأصابته عين الْكَمَال وَكَانَ الْعَزِيز يعْتَقد فِيهِ اعتقادا خَارِجا عَن الْحَد وَلَا يُخَالِفهُ فِيمَا يُشِير بِهِ وَكَانَت بَينه وَبَين أبي الْقَاسِم الْوَزير مُنَافَسَة فَلَمَّا نكب الْعَزِيز قَصده الْوَزير وَكتب عَلَيْهِ محضرا والتقط من أثْنَاء تصانيفه ألفاظا شنيعة تنبو عَن الأسماع وَيحْتَاج من كشفها إِلَى الْمُرَاجَعَة لقائلها فَكتب جمَاعَة من الْعلمَاء خطوطهم بِإِبَاحَة دَمه نسْأَل الله الْحِفْظ فِي إِطْلَاق الْقَلَم بِمَا يتَعَلَّق بالدماء من غير بحث والمسارعة إِلَى الْفَتْوَى بِالْقَتْلِ فَقبض عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِم وَحمل إِلَى بَغْدَاد مُقَيّدا وَرَأَيْت رسَالَته الَّتِي كتبهَا من بَغْدَاد إِلَى أَصْحَابه وإخوانه بهمذان الَّتِي لَو قُرِئت على الصخور لانصدعت من الرقة والسلاسة فَرد إِلَى همذان وصلب
قلت ثمَّ ذكر ابْن السَّمْعَانِيّ قِطْعَة صَالِحَة من رسَالَته أعجبني مِنْهَا هَذَا الْبَيْت
(أسجنا وقيدا واشتياقا وغربة ... ونأى حبيب إِن ذَا لعَظيم)
ثمَّ قَالَ صلب عين الْقُضَاة أَبُو الْمَعَالِي ظلما ببلدة همذان لَيْلَة الْأَرْبَعَاء السَّابِع من جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَعشْرين وَخَمْسمِائة
قَالَ وَسمعت أَبَا الْقَاسِم مَحْمُود بن أَحْمد الرَّوْيَانِيّ بأندرابه يَقُول لما قرب قتل(7/129)
عين الْقُضَاة وَقدم إِلَى الْخَشَبَة ليصلب قَالَ {وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون}
830 - عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي عقامة أَبُو الْفتُوح القَاضِي
صَاحب كتاب الخناثي أَكثر عَنهُ النَّقْل صَاحب الْبَيَان
قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ من فضلاء أَصْحَابنَا الْمُتَأَخِّرين لَهُ مصنفات حَسَنَة من أغربها وأنفسها كتاب الخناثي مُجَلد لطيف فِيهِ نفائس حَسَنَة وَلم يسْبق إِلَى تصنيف مثله انْتهى
وَابْن أبي عقامة تغلبي ربعي بغدادي ثمَّ يمني
تفقه على جده أبي الْحسن عَليّ وعَلى أبي الْغَنَائِم الفارقي وَذكره عمر بن عَليّ بن سَمُرَة الْجَعْفَرِي اليمني فِي كتاب طَبَقَات فُقَهَاء الْيمن قَالَ ابْن سَمُرَة وفضائل بني أبي عقامة مَشْهُورَة وهم الَّذين نشر الله بهم مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي تهَامَة وقدماؤهم جهروا بالبسملة فِي الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَات ونسبهم فِي بني الأرقم من تغلب بن ربيعَة
قلت وَقد ذكر الرَّافِعِيّ أَبَا الْفتُوح فِي كتاب الدِّيات فِي الْكَلَام على قطع حلمه الْمَرْأَة(7/130)
وَمن فَوَائِد أبي الْفتُوح قَالَ فِي كتاب الخناثي إِذا عقد النِّكَاح بِشَهَادَة خنثيين ثمَّ بانا رجلَيْنِ احْتمل أَن يكون فِي انْعِقَاده وَجْهَان بِنَاء على مالو صلى رجل خلف الخنثي فَبَان رجلا
قَالَ النَّوَوِيّ والانعقاد هُنَا هُوَ الْأَصَح لِأَن عدم جزم النِّيَّة يُؤثر فِي الصَّلَاة
831 - عبد الله بن مُحَمَّد بن غَالب أَبُو مُحَمَّد الجيلي
تفقه بِبَغْدَاد على إِلْكيَا ثمَّ انْتقل إِلَى الأنبار واستوطنها وَمَات بهَا سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة
832 - عبد الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو الْفَتْح الْبَيْضَاوِيّ
مولده سنة تسع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَمَات سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
833 - عبد الله بن مُحَمَّد بن المظفر بن عَليّ أَبُو مُحَمَّد بن أبي بكر الْمُتَوَلِي الهاجري الْبَغَوِيّ
تفقه على الْبَغَوِيّ(7/131)
834 - عبد الله بن مُحَمَّد بن هبة الله بن عَليّ بن المطهر بن أبي عصرون ابْن أبي السّري
القَاضِي الإِمَام أَبُو سعد التَّمِيمِي الْموصِلِي قَاضِي الْقُضَاة الشَّيْخ شرف الدّين
نزيل دمشق وقاضي الْقُضَاة بهَا وعالمها ورئيسها
مولده فِي شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
تفقه أَولا على القَاضِي المرتضى ابْن الشهرزوري وَأبي عبد الله الْحُسَيْن بن خَمِيس الْموصِلِي وتلقن على الْمُسلم السرُوجِي
وَقَرَأَ بِبَغْدَاد بالسبع على أبي عبد الله الْحُسَيْن بن مُحَمَّد البارع وبالعشر على أبي بكر المزرقي ودعوان وسبط الْخياط
وَتوجه إِلَى وَاسِط فتفقه بهَا على القَاضِي أبي عَليّ الفارقي ولازمه وَعرف بِهِ وعلق بِبَغْدَاد عَن أسعد الميهني وَأخذ الْأُصُول عَن أبي الْفَتْح بن برهَان وَسمع من أبي الْقَاسِم(7/132)
ابْن الْحصين وَأبي البركات ابْن البُخَارِيّ وَإِسْمَاعِيل بن أبي صَالح الْمُؤَذّن وَسمع قَدِيما فِي سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة من أبي الْحسن بن طوق
روى عَنهُ أَبُو الْقَاسِم بن صصري وَأَبُو نصر ابْن الشِّيرَازِيّ وَأَبُو مُحَمَّد بن قدامَة وَخلق آخِرهم موتا الْعِمَاد أَبُو بكر عبد الله بن النّحاس وَعَاد من بَغْدَاد إِلَى بَلَده الْموصل بِعلم كثير فدرس بالموصل سنة ثَلَاث وَعشْرين وَخَمْسمِائة ثمَّ أَقَامَ بسنجار مُدَّة وَدخل حلب فِي سنة خمس وَأَرْبَعين ودرس بهَا وَأَقْبل عَلَيْهِ صَاحبهَا إِذْ ذَاك الْملك نور الدّين الشَّهِيد فَلَمَّا انْتقل إِلَى دمشق سنة تسع وَأَرْبَعين استصحبه مَعَه ودرس بالغزالية وَولى نظر الْأَوْقَاف ثمَّ ارتحل إِلَى حلب ثمَّ ولى قَضَاء سنجار وحران وديار ربيعَة وتفقه عَلَيْهِ هُنَاكَ خلائق ثمَّ عَاد إِلَى دمشق فِي سنة سبعين فولى بهَا الْقَضَاء سنة ثَلَاث وَسبعين وعظمت رياسته ومكانته ونفذت كَلمته وَألقى بهَا عَصا السّفر وَاسْتقر مستوطنا
وَكَانَ من أَعْيَان الْأمة وأعلامها عَارِفًا بِالْمذهبِ وَالْأُصُول وَالْخلاف مشارا إِلَيْهِ فِي تحقيقات الْفِقْه دينا خيرا متواضعا سعيد الطلعة مَيْمُون النقيبة مَلأ الْبِلَاد تصانيف وتلامذة وَعنهُ أَخذ الْفِقْه شيخ الْإِسْلَام فَخر الدّين ابْن عَسَاكِر وَغَيره وَبنى لَهُ الْملك نور الدّين الْمدَارِس بحلب وحماة وحمص وبعلبك وَبنى هُوَ لنَفسِهِ مدرستين بِدِمَشْق وبحلب
وَمن تصانيفه صفوة الْمَذْهَب على نِهَايَة الْمطلب فِي سبع مجلدات وَكتاب الِانْتِصَار فِي أَربع مجلدات وَكتاب المرشد فِي مجلدين وَكتاب الذريعة فِي معرفَة(7/133)
الشَّرِيعَة وَكتاب التَّيْسِير فِي الْخلاف وَكتاب مَأْخَذ النّظر ومختصر فِي الْفَرَائِض وَله كتاب الْإِرْشَاد فِي نصْرَة الْمَذْهَب لم يكمله وَذهب فِيمَا نهب لَهُ بحلب وَله أَيْضا فَوَائِد الْمَذْهَب والتنبيه فِي معرفَة الْأَحْكَام وَكتاب الْمُوَافق والمخالف مذعنا لدينِهِ وورعه وسعة علمه وَكَثْرَة رياسته وسؤدده
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَقد سُئِلَ عَنهُ الشَّيْخ الْمُوفق فَقَالَ كَانَ إِمَام أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي عصره وَكَانَ يذكر الدَّرْس فِي زَاوِيَة الدولعي وَيُصلي صَلَاة حَسَنَة وَيتم الرُّكُوع وَالسُّجُود ثمَّ تولى الْقَضَاء فِي آخر عمره وَعمي وَسَمعنَا درسه مَعَ أخي أبي عمر وانقطعنا عَنهُ فَسمِعت أخي يَقُول دخلت عَلَيْهِ بعد انقطاعنا فَقَالَ لم انقطعتم عني فَقلت إِن أُنَاسًا يَقُولُونَ إِنَّك أشعري فَقَالَ وَالله مَا أَنا بأشعري هَذَا معنى الْحِكَايَة
انْتهى كَلَام الذَّهَبِيّ نقلته من خطه وأخشى أَن تكون الْحِكَايَة مَوْضُوعَة للْقطع بِأَن ابْن أبي عصرون أشعري العقيدة وَغَلَبَة الظَّن بِأَن أَبَا عمر لَا يجتريء أَن يذكر هَذَا القَوْل وَلَا أحد يتجرأ فِي ذَلِك الزَّمَان على إِنْكَار مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ لِأَنَّهُ جادة الطَّرِيق وَلَا أَظن أَن ابْن أبي عصرون يفتخر إِذْ ذَاك بهما ويعاتبهما على الِانْقِطَاع وَلَيْسَ فِي الْحِكَايَة من قَوْله فَسمِعت أخي إِلَى آخرهَا مَا يقرب عِنْدِي صِحَّته غير أَنَّهُمَا انقطعا عَنهُ لكَونه مُخَالفا لَهما فِي العقيدة وَالله يعلم سَبَب الِانْقِطَاع
وَكَانَ الْمُوفق وَأَبُو عمر من أهل الْعلم وَالدّين لَا ننكر ذَلِك وَلَا ندفعه وَإِنَّمَا ننكر وندفع من شَيخنَا تعرضه كل وَقت لذكر العقائد وفتحه لأبواب مقفلة وَكَلَامه فِيمَا لَا يدريه وَكَانَ السُّكُوت عَن مثل هَذَا خيرا لَهُ فِي قَبره وآخرته وَلَكِن إِذا أَرَادَ الله أمرا بلغه(7/134)
وَيُقَال إِن القَاضِي ابْن أبي عصرون لما عمي اسْتمرّ على الْقَضَاء وصنف فِي جَوَاز قَضَاء الْأَعْمَى
وَمن شعره
(أومل أَن أَحْيَا وَفِي كل سَاعَة ... تمر بِي الْمَوْتَى تهز نعوشها)
(وَمَا أَنا إِلَّا مِنْهُم غير أَن لي ... بقايا لَيَال فِي الزَّمَان أعيشها)
وَمن شعره
(كل جمع إِلَى الشتات يصير ... أَي صفو مَا شانه تكدير)
(أَنْت فِي اللَّهْو والأماني مُقيم ... والمنايا فِي كل وَقت تسير)
(وَالَّذِي غره بُلُوغ الْأَمَانِي ... بسراب وخلب مغرور)
(ويك يَا نفس أخلصي إِن رَبِّي ... بِالَّذِي أخفت الصُّدُور بَصِير)
ذكر فَوَائِد ومسائل عَن ابْن أبي عصرون
قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب نقل الْجُوَيْنِيّ فِي الفروق نَص الشَّافِعِي على أَن الْجَمَاعَة إِذا اغتسلوا فِي قُلَّتَيْنِ لَا يصير مُسْتَعْملا وَصرح بِهِ خلائق وَإِنَّمَا نبهت عَلَيْهِ لِأَن فِي الِانْتِصَار لِابْنِ أبي عصرون أَنه لَو اغْتسل جمَاعَة فِي مَاء لَو فرق على قدر كفايتهم استوعبوه أَو ظهر تغيره لَو خَالفه صَار مُسْتَعْملا فِي أصح الْوَجْهَيْنِ وَهَذَا شَاذ مُنكر وَنَحْوه نقل صَاحب الْبَيَان عَن الشَّامِل أَنه لَو انغمس جنب فِي قُلَّتَيْنِ أَو أَدخل يَده فِيهِ بنية غسل الْجَنَابَة فَفِيهِ وَجْهَان وَهَذَا غلط من صَاحب الْبَيَان وَلم يذكر صَاحب الشَّامِل هَذَا وَإِنَّمَا فِي عِبَارَته بعض الخفاء فأوقع صَاحب الْبَيَان(7/135)
ثمَّ بَين النَّوَوِيّ رَحمَه الله الْحَامِل لصَاحب الْبَيَان على الْغَلَط وَلم يزدْ ابْن الرّفْعَة على أَن نصر مقَالَة ابْن أبي عصرون بالبحث لَا بِالنَّقْلِ فِي حَالَة انغماسهم دفْعَة وَاحِدَة بنيه رفع الْجَنَابَة قَالَ لأَنا نقدر أَن مالاقي كل وَاحِد مِنْهُم من المَاء كالمنفصل عَن بَاقِيه الَّذِي لَاقَى غَيره على القَوْل الْأَصَح فِيمَا إِذا انغمسوا دفْعَة وَاحِدَة فِي المَاء الْقَلِيل فَلذَلِك جعل مُسْتَعْملا حَتَّى لَا يحصل بِهِ تَطْهِير بَاقِي بدن كل مِنْهُم وَإِن كَانَ الْوَاحِد يطهر جَمِيع بدنه وَإِذا كَانَ كَذَلِك اتجه القَوْل بِمثلِهِ فِي الْقلَّتَيْنِ فَيكون الصَّحِيح أَنه لَا يطهر بَاقِي أبدانهم وَيَأْتِي فِيهِ وَجه مستمد من تَقْدِير عدم الِانْفِصَال وتنزيله منزلَة الِاتِّصَال
قلت والبحث جيد وَرَأَيْت الْجُوَيْنِيّ نَفسه فِي كِتَابه التَّبْصِرَة قَالَ فِيمَا إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ وَالِاحْتِيَاط أَن تغترف مِنْهُ فَيحصل لَك الْغسْل بِالْإِجْمَاع فَإِن انغمست فِيهِ فَفِي صِحَة الْغسْل خلاف بَين مَشَايِخنَا هَذَا كَلَامه وَفِيه تأييد لِابْنِ أبي عصرون وَابْن أبي عصرون إِنَّمَا تلقى مَا ذكره من شَيْخه القَاضِي أبي عَليّ الفارقي فَإِنَّهُ جزم بِهَذَا الشاذ الْمُنكر وَلَعَلَّ أَصله مَا وَقع فِي كتاب التَّبْصِرَة
ذهب أَبُو إِسْحَاق إِلَى حل وَطْء الرَّاهِن لِلْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَة إِذا كَانَت مِمَّن لَا تحبل وَخَالفهُ ابْن أبي هُرَيْرَة وَهُوَ الْمُصَحح فِي الْمَذْهَب وَقيد ابْن أبي عصرون مَحل الْخلاف بِمن لَهَا تسع سِنِين فَمَا زَاد أما من دونهَا قَالَ فَيجوز وَطْؤُهَا إِذا لم يضر بهَا قطعا
قَالَ الْوَالِد فِي تَكْمِلَة شرح الْمُهَذّب وَهُوَ فقه من عِنْد نَفسه وَلَيْسَ نقلا قَالَ وَهُوَ جيد
قلت أما إِنَّه تفقه وَلَيْسَ مَنْقُولًا فَالْأَمْر كَذَلِك فقد تصفحت كتب الْمَذْهَب فَلم أر من قيد الْخلاف بل كلهم مُصَرح حَتَّى الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي تعليقته فِي بَابي الرَّهْن(7/136)
والاستبراء صرح بِأَنَّهُ لافرق بَين من لَا تحبل لصِغَر أَو إِيَاس أَو غير ذَلِك وَإِنَّمَا نصصت على الشَّيْخ أبي حَامِد لِأَن بعض النَّاس قَالَ إِنَّه وجد فِي بَاب الِاسْتِبْرَاء من تعليقته مَا نَصه إِن الِاسْتِمْتَاع بالمرهونة حَلَال لِأَن لَهُ أَن يقبلهَا أَو يلمسها بِشَهْوَة حَتَّى قَالَ أَصْحَابنَا إِن كَانَ صَغِيرَة لَا يحمل مثلهَا فَلهُ أَن يَطَأهَا
انْتهى
فَكشفت تَعْلِيقه الشَّيْخ أبي حَامِد من خزانَة الناصرية بِدِمَشْق وَمن نسخه الشَّيْخ فَخر الدّين الْمصْرِيّ وَكِلَاهُمَا قديم فَلم أجد فِي بَاب الِاسْتِبْرَاء من نُسْخَة الناصرية إِلَّا مَا نَصه أَلا ترى أَن من أَصْحَابنَا من قَالَ إِن الْمَرْهُونَة إِذا كَانَت مِمَّن لَا تحبل صَغِيرَة أَو كَبِيرَة جَازَ للرَّاهِن وَطْؤُهَا انْتهى
وَكَذَا فِي نُسْخَة الْفَخر الْمصْرِيّ سَوَاء بِسَوَاء وَهِي نُسْخَة قديمَة فِي بعض مجلداتها تعليقة الْبَنْدَنِيجِيّ عَن الشَّيْخ أبي حَامِد وَبَعضهَا بِخَط سليم
وَمرَاده قَول أبي إِسْحَاق قطعا بل الَّذِي فِي تعليقة الشَّيْخ أبي حَامِد فِي بَاب الرَّهْن أَنه وضع الْوَجْهَيْنِ فِي الِاسْتِخْدَام فَقَالَ فِي وَجه لَا يستخدمها مَخَافَة أَن يطَأ وَفِي وَجه يستخدمها وَلَا يضر الْوَطْء إِذا بعد حبلها وَلم يقل إِذا تعذر هَذَا مَا فِيهِ مُلَخصا
اخْتِلَاف حرفي الإِمَام وَالْمَأْمُوم قَالَ فِي الِانْتِصَار وَلَا تبطل الصَّلَاة باخْتلَاف حرفي الإِمَام وَالْمَأْمُوم على أصح الْوَجْهَيْنِ لِأَن الْجَمِيع قُرْآن انْتهى
وَهُوَ كَلَام مظلم لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ فَلَا يَقُول أحد من الْمُسلمين فِيمَا أَحسب بِاشْتِرَاط توَافق حرفي الإِمَام وَالْمَأْمُوم بل إِذا كَانَ كل حرف مِنْهُمَا متواترا بالقراءات الْعشْر صَحَّ اقْتِدَاء أَحدهمَا بِالْآخرِ إِجْمَاعًا فِيمَا لَا أَشك فِيهِ فَلَعَلَّ مَحل الْوَجْهَيْنِ إِن صَحَّ لَهما وجود فِيمَا إِذا كَانَ كل وَاحِد لَا يرى الْقِرَاءَة بِحرف الآخر أَو قَرَأَ أَحدهمَا بالشاذ المغير للمعنى وَمَسْأَلَة الشاذ مَعْرُوفَة(7/137)
835 - عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي سَالم القريضي الْفَقِيه
ولد فِي رَمَضَان سنة ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَتُوفِّي فِي ذِي الْحجَّة سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة ذكره المطري
836 - عبد الله بن مَيْمُون بن عبد الله القَاضِي أَبُو مُحَمَّد المالكاني الكوفني
وكوفن بِضَم الْكَاف وَسُكُون الْوَاو ثمَّ النُّون بليدَة صَغِيرَة من أبيورد
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ فَقِيها فَاضلا مبرزا لَهُ بَاعَ طَوِيل فِي المناظرة والجدل وَمَعْرِفَة تَامَّة بهما تفقه على الإِمَام وَالِدي وَسمع الحَدِيث مَعَه وَمِنْه سمع بنيسابور عبد الْغفار بن مُحَمَّد الشيروي وَغَيره سَمِعت مِنْهُ حَدِيثا وَاحِدًا
ولد فِي حُدُود سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ ابْن باطيش وَمَات بأبيورد لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ من ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة(7/138)
837 - عبد الله بن نصر بن عبد الْعَزِيز المرندي أَبُو مُحَمَّد الْخَطِيب
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ أَقَامَ بمرو مُدَّة وَكَانَت لَهُ يَد باسطة فِي اللُّغَة وَسُرْعَة النّظم والنثر مَعَ الْجَوْدَة فيهمَا وَله الْخط الْحسن الْمليح
قَالَ بِبَغْدَاد مُدَّة فِي الْمدرسَة زمن أسعد بن أبي نصر الميهني ثمَّ سكن مرو قَرِيبا من خمس عشرَة سنة وَخرج إِلَى مرو الروذ وَأقَام بهَا شَيْئا يَسِيرا وَمَات بهَا يَوْم عَاشُورَاء سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
838 - عبد الله بن يحيى بن مُحَمَّد بن بهْلُول الأندلسي أَبُو مُحَمَّد السَّرقسْطِي
وسرقسطة بِفَتْح السِّين وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَضم الْقَاف وَبعدهَا سين أُخْرَى سَاكِنة وَفِي آخرهَا الطَّاء الْمُهْملَة بَلْدَة من بِلَاد الأندلس
كَانَ فَقِيها فَاضلا مليح الشّعْر قدم بَغْدَاد ثمَّ خرج إِلَى خُرَاسَان وَورد مرو ثمَّ استوطن مرو الروذ إِلَى أَن توفّي سنة عشر وَخَمْسمِائة(7/139)
839 - عبد الله بن يحيى بن أبي الْهَيْثَم بن عبد السَّمِيع الصعبي
كَانَ إِمَامًا فَاضلا ورعا زاهدا من أهل الْيمن من أَقْرَان صَاحب الْبَيَان وَكَانَ صَاحب الْبَيَان يعظمه وَيَقُول عبد الله بن يحيى شيخ الشُّيُوخ
وَمن تصانيفه احترازات الْمُهَذّب والتعريف فِي الْفِقْه
قَالَ ابْن سَمُرَة كَانَ الصعبي وَصَاحب الْبَيَان متصاحبين يتزاوران قَالَ وروى أَن نَاسا ضربوا الصعبي بِالسُّيُوفِ فَلم تقطع سيوفهم فِيهِ فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ كنت أَقرَأ سُورَة يس
قَالَ ابْن سَمُرَة وَالْمَشْهُور أَن الصعبي قَالَ وَقد سُئِلَ عَن ذَلِك كنت أَقرَأ {وَلَا يؤوده حفظهما وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم} {فَالله خير حَافِظًا وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} {وحفظا من كل شَيْطَان مارد} {وحفظا ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} {إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} {إِن بَطش رَبك لشديد إِنَّه هُوَ يبدئ وَيُعِيد وَهُوَ الغفور الْوَدُود ذُو الْعَرْش الْمجِيد فعال لما يُرِيد} إِلَى آخر السُّورَة(7/140)
قَالَ وَكَانَ الصعبي يَقُول كنت خرجت يَوْمًا مَعَ جمَاعَة فَرَأَيْنَا ذئبا يلاعب شَاة عجفاء وَلَا يَضرهَا بِشَيْء فَلَمَّا دنونا نفر عَنْهَا الذِّئْب فَوَجَدنَا فِي رَقَبَة الشَّاة كتابا مربوطا فحللناه فقرأنا فِيهِ هَذِه الْآيَات
مَاتَ الصعبي سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة وَهُوَ ابْن ثَمَان وَسبعين سنة وَكَانَ يَقُول لأَصْحَابه لَئِن بلغت الثَّمَانِينَ لأصنعن الضِّيَافَة وَقيل إِنَّه جَاوز الثَّمَانِينَ وَحضر صَاحب الْبَيَان جنَازَته وَشهد دَفنه
840 - عبد الله بن يزِيد بن عبد الله اللعفي الْحرَازِي
قَالَ المطري فَقِيه مُحَرر لَهُ تصنيف يُسمى السَّبع الْوَظَائِف فِي أصُول الدّين على مَذْهَب السّلف
مَاتَ بعد الْخَمْسمِائَةِ
841 - عبد الله بن يزِيد القسيمي الْمَعْرُوف بالميتمي الْفَقِيه(7/141)
قَالَ المطري روى كتاب بَدَائِع الحكم والآداب فِي الحَدِيث
توفّي سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة
842 - عبد الله بن يُوسُف بن عبد الْقَادِر أَبُو المظفر
من أذربيجان
تفقه بِبَغْدَاد على المجير الْبَغْدَادِيّ وَمُحَمّد بن أبي عَليّ النوقاني وَتَوَلَّى إِعَادَة النظامية
843 - عبد الله بن أبي الْفتُوح بن عمرَان الإِمَام أَبُو حَامِد الْقزْوِينِي
رَحل إِلَى نيسابور
وتفقه على مُحَمَّد بن يحيى وتفقه بِبَغْدَاد على أبي المحاسن يُوسُف بن بنْدَار الدِّمَشْقِي وَسمع من أبي الْفضل الأرموي وَابْن نَاصِر الْحَافِظ وَجَمَاعَة وَحدث بقزوين
سمع مِنْهُ الإِمَام أَبُو الْقَاسِم الرَّافِعِيّ وَغَيره
توفّي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
844 - عبد الْبَاقِي بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الْغَزالِيّ الْفَقِيه أَبُو مَنْصُور
تفقه على إِلْكيَا الهراسي وَسمع الحَدِيث من أبي الْغَنَائِم بن الْمَأْمُون وَغَيره
روى عَنهُ السلَفِي(7/142)
مَاتَ فِي رَجَب سنة ثَلَاث عشرَة وَخَمْسمِائة
845 - عبد الْجَبَّار بن عبد الْجَبَّار بن مُحَمَّد بن ثَابت بن أَحْمد أَبُو أَحْمد الثابتي الْخرقِيّ
من أهل مرو وخرق بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالرَّاء ثمَّ الْقَاف من قراها ولد بهَا فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فِي التحبير كَانَ فَقِيها فَاضلا تفقه على وَالِدي ولازمه وَقَرَأَ الْمَذْهَب على إِبْرَاهِيم المروروذي ثمَّ اشْتغل بِالْحِسَابِ والمقدمات وَحصل بهما طرفا صَالحا وجاوزهما إِلَى الْعُلُوم المهجورة من الفلسفة وَغَيرهَا وَكَانَ حسن الصَّلَاة نظيف الثِّيَاب اشْتغل بِالْحَدِيثِ مُدَّة وَسمع الْكثير وَجمع تَارِيخا غير مُسْند ذكر فِيهِ أَحْوَال الْمُحدثين وَالْعُلَمَاء أستحسنه
سمع وَالِدي وَعَمه الإِمَام أَبَا مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن ثَابت الْخرقِيّ وَأَبا عَليّ إِسْمَاعِيل بن أَحْمد الْبَيْهَقِيّ وَغَيرهم سَمِعت مِنْهُ انْتهى
قَالَ وَتُوفِّي بمرو صباح يَوْم الْفطر وَهُوَ يَوْم الْأَحَد من سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة(7/143)
846 - عبد الْجَبَّار بن مُحَمَّد بن أَحْمد الخواري
من خوار بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة بعْدهَا وَاو ثمَّ ألف ثمَّ رَاء قَرْيَة ببيهق وَوهم شَيخنَا الذَّهَبِيّ فحسبه من خوار الْبَلدة الْمَشْهُورَة على ثَمَانِيَة عشر فرسخا من الرّيّ
وَهَذَا هُوَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْبَيْهَقِيّ إِمَام جَامع المنيعي بنيسابور وَأحد تلامذة إِمَام الْحَرَمَيْنِ
ولد سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
وَسمع أَبَا بكر الْبَيْهَقِيّ وَأَبا الْحسن الواحدي وَأَبا الْقَاسِم الْقشيرِي وَشَيخ الْحجاز أَبَا الْحسن عَليّ بن يُوسُف الْجُوَيْنِيّ وَابْن أَخِيه إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبَا الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وَأَبا سهل مُحَمَّد ابْن أَحْمد بن عبد الله الحفصي الْمروزِي وَنصر بن عَليّ الحاكمي الطوسي
حدث عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام فَاضل عَارِف بِالْمذهبِ مفت مُصِيب تفقه على إِمَام الْحَرَمَيْنِ وعلق الْمَذْهَب عَلَيْهِ وبرع فِيهِ وَكَانَ سريع الْقَلَم نسخ بِخَطِّهِ الْمَذْهَب الْكَبِير للجويني أَكثر من عشْرين مرّة وَكَانَ يَكْتُبهُ ويبيعه
قلت الْمَذْهَب الْكَبِير هُوَ النِّهَايَة
قَالَ فِي التحبير وَتُوفِّي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشر شعْبَان سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة(7/144)
847 - عبد الْجَلِيل بن عبد الْجَبَّار بن بيل ...
848 - عبد الْجَلِيل بن أبي بكر الطَّبَرِيّ أَبُو سعد
تفقه عَليّ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَسمع أَبَا نصر الزَّيْنَبِي وَغَيره ثمَّ سكن جرجان وَحدث فِيهَا بِشَيْء يسير
روى عَنهُ أَبُو عَامر سعد بن عَليّ العصاري
وَتُوفِّي بجرجان بعد سنة خمس وَعشْرين وَخَمْسمِائة
849 - عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن أَحْمد بن سهل بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن مُحَمَّد بن حمدَان
أَبُو نصر بن أبي بكر السراج
ولد سنة أَربع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة(7/145)
وتفقه على إِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وَسمع أَبَاهُ وَأَبا عُثْمَان سعيد بن مُحَمَّد الْبُحَيْرِي وَأَبا سعد الكنجروذي وَأَبا الْقَاسِم الْقشيرِي وَأَبا بكر مُحَمَّد بن الْحسن ابْن عَليّ الْخَبَّازِي الطَّبَرِيّ وَأَبا يعلى إِسْحَاق بن عبد الرَّحْمَن الصَّابُونِي وَغَيرهم
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ أحضرني وَالِدي عِنْده وسمعني مِنْهُ الحَدِيث
قَالَ وَهُوَ الْفَقِيه ابْن الْفَقِيه من بَيت الْعلم والورع وَالصَّلَاح نَشأ فِي الْعِبَادَة من صغره وَاخْتلف إِلَى الإِمَام أبي الْمَعَالِي وبرع فِي الْفِقْه وَصَارَ من خَواص أَصْحَابه والمعيدين فِي درسه على الشادين وَجرى على منوال أسلافه فِي الْوَرع والستر وَالْأَمَانَة والاجتزاء بالحلال من الْقُوت الْيَسِير وَقلة الِاخْتِلَاط
توفّي لَيْلَة السبت الْخَامِس من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان عشرَة وَخَمْسمِائة
850 - عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن نصير البروجردي القَاضِي أَبُو سعد
تفقه بِبَغْدَاد على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَسمع الحَدِيث من ابْن المهتدى وَابْن الْمَأْمُون وَغَيرهمَا وَكَانَ حَيا سنة إِحْدَى وَعشْرين وَخَمْسمِائة
851 - عبد الرَّحْمَن بن إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن أَبُو بكر بن الإِمَام أبي عُثْمَان الصَّابُونِي
سمع بنيسابور أَبَاهُ وَعبد الغافر بن مُحَمَّد الْفَارِسِي وَأَبا عُثْمَان سعيد بن مُحَمَّد الْبُحَيْرِي وَغَيرهم
ولي قَضَاء أذربيجان وَسمي قَاضِي الْقُضَاة(7/146)
مَاتَ بأصبهان فِي حُدُود سنة خَمْسمِائَة
852 - عبد الرَّحْمَن بن الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن طَاهِر بن مُحَمَّد أَبُو طَالب بن العجمي الْحلَبِي
من بَيت حشمة وَتقدم رَحل إِلَى بَغْدَاد وتفقه بهَا على الشَّاشِي وأسعد الميهني وَسمع من أبي الْقَاسِم بن بَيَان وَعَاد إِلَى بَلَده وَقدم دمشق رَسُولا من صَاحب حلب
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره وَبنى بحلب مدرسة تعرف بِهِ
توفى فِي شعْبَان سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
853 - عبد الرَّحْمَن بن الْحُسَيْن بن عَليّ الطَّبَرِيّ أَبُو مُحَمَّد ابْن صَاحب الْعدة الإِمَام أبي عبد الله
ولد بِبَغْدَاد وتفقه على وَالِده وعَلى الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشيرازى وَسمع الحَدِيث من ابْن البطر وجعفر السراج وَغَيرهمَا وَولى التدريس بالنظامية وعزل أسعد الميهنى ثمَّ عزل عَن التدريس
قَالَ ابْن السمعانى أنْفق الْأَمْوَال والذخائر حَتَّى ولى التدريس بالنظامية وَقيل خرج عَنهُ فِي الرِّشْوَة للأكابر ليحصل الْمدرسَة مَا لَو أَرَادَ لبنى مدرسة كَامِلَة ورد علينا مرو وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى الْوَزير مَحْمُود بن أبي تَوْبَة وَكَانَ يُكرمهُ وَكَانَ شَيخا بهى المنظر مليح الشيبة حسن الْكَلَام فِي الْمسَائِل
قلت روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَذكر أَنه خرج إِلَى خوارزم وَبهَا توفى سنة ثَلَاثِينَ أَو إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة(7/147)
854 - عبد الرَّحْمَن بن خِدَاش بن عبد الصَّمد الْمَعْرُوف بِالْقَاضِي الخداشي
ولد بالموصل وتفقه على أبي سعد بن أبي عصرون وَأبي مَنْصُور الرزاز
مَاتَ فِي سَابِع شعْبَان سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة
855 - عبد الرَّحْمَن بن خير بن مُحَمَّد بن حريز أَبُو الْقَاسِم الرعيني الْمعلم الْأَشْعَرِيّ الْمَعْرُوف بِابْن العمورة
من أهل القيروان دخل بَغْدَاد وتفقه على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَأبي نصر بن الصّباغ وَسمع الحَدِيث من ابْن النقور وَأبي الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن مسْعدَة الْإِسْمَاعِيلِيّ الْجِرْجَانِيّ وَحدث باليسير
روى عَنهُ ابْن بوش
مَاتَ فِي شهر رَمَضَان سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة
856 - عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن ابْن عمر بن حَفْص بن زيد اللَّيْثِيّ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد النيهي
ونيه بِكَسْر النُّون وَإِسْكَان آخر الْحُرُوف وَبعدهَا الْهَاء(7/148)
وَهُوَ ابْن أخي الْحسن بن عبد الرَّحْمَن النيهي تلميذ القَاضِي الْحُسَيْن وَقد تقدم ذكر الْحسن وَأما عبد الرَّحْمَن فَكَانَت وِلَادَته وإقامته ووفاته بمرو الروذ وَهُوَ من تلامذة الْبَغَوِيّ تفقه عَلَيْهِ وَسمع مِنْهُ الحَدِيث وَمن أبي مُحَمَّد عبد الله بن الْحسن الطبسي الْحَافِظ وَأبي الْفضل عبد الْجَبَّار بن مُحَمَّد الْأَصْبَهَانِيّ وَعبد الرَّزَّاق بن حسان المنيعي وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الدقاق الْحَافِظ وَغَيرهم
سمع مِنْهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَذكره فِي مشيخته وَآخَرُونَ وَكَانَ شيخ الشافعيه بِتِلْكَ النَّاحِيَة
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام فَاضل مفت ورع دين حَافظ لمَذْهَب الشَّافِعِي مُصِيب فِي الْفَتَاوَى رَاغِب فِي الحَدِيث ونشره حسن الْأَخْلَاق مبارك لنَفس كَثِيرَة الصَّلَاة وَالْعِبَادَة جمع بَين الْعلم وَالْعَمَل كَانَ يملي بكر الْجُمُعَات ويذنب إملاءه بالوعظ النافع الْمُفِيد وَتخرج عَلَيْهِ جمَاعَة كَثِيرَة من الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء لَقيته بمرو الروذ وقرأت عَلَيْهِ المعجم الصَّغِير للطبراني وَحَضَرت مجَالِس أَمَالِيهِ ثمَّ ورد هُوَ إِلَى مرو وَحدث بِهِ المعجم الصَّغِير عَن أبي الْفضل الْأَصْبَهَانِيّ عَن أبي بكر بن ريذه عَن الطَّبَرَانِيّ
وَتُوفِّي بمرو الروذ فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
ذكره ابْن السَّمْعَانِيّ فِي الْأَنْسَاب والتحبير(7/149)
857 - عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الحصيري أَبُو سعد
من أهل الرّيّ
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فَقِيه إِمَام صَالح دين خير حسن السِّيرَة مشتغل بِمَا يعنيه
تفقه على أبي بكر الخجندي بأصبهان وَتخرج عَلَيْهِ وَرجع إِلَى الرّيّ وأضر على كبر السن
ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة بِالريِّ
وَسمع من جمَاعَة كثيرين وَمَات فِي شَوَّال سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
858 - عبد الرَّحْمَن بن عبد الْجَبَّار بن عُثْمَان بن مَنْصُور بن عُثْمَان الْمعدل الْهَرَوِيّ أَبُو نصر الفامي
مؤرخ هراة
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَلَيْسَ تَارِيخه بمستوعب(7/150)
ولد فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة بهراة وَكَانَ حَافِظًا أديبا يلقب ثِقَة الدّين
سمع أَبَا إِسْمَاعِيل عبد الله بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ وَأَبا عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ العميري ونجيب ابْن مَيْمُون الوَاسِطِيّ وَأَبا عَامر الْأَزْدِيّ وَأَبا عَطاء عبد الْأَعْلَى بن عبد الْوَاحِد المليحي وببغداد من ابْن الْحصين وَآخر من روى عَنهُ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر وَأَبُو روح الْهَرَوِيّ وَأَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ وَقَالَ حَافظ فَاضل مقدم الْمُحدثين بهراة لَهُ معرفَة بِالْحَدِيثِ وَالْأَدب كثير الصَّدَقَة وَالصَّلَاة دَائِم الذّكر كتب عني الذيل فِي ثَمَان مجلدات وَقرأَهَا عَليّ
مَاتَ بهراة لَيْلَة الْخَمِيس الْخَامِسَة وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
859 - عبد الرَّحْمَن بن عبد الصَّمد بن أَحْمد بن عَليّ النَّيْسَابُورِي أَبُو الْقَاسِم الأكاف السختني
من أهل نيسابور
كَانَ من الْعلمَاء الصَّالِحين من تلامذة الْأُسْتَاذ أبي نصر بن الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي
سمع أَبَا سعد بن أبي صَادِق الْحِيرِي وَأَبا بكر الشيروى وَإِسْمَاعِيل بن عبد الغافر الْفَارِسِي وَغَيرهم وَقَرَأَ بِنَفسِهِ الْكثير
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَقَالَ إِمَام ورع عَالم عَامل يضْرب بِهِ الْمثل فِي السِّيرَة الْحَسَنَة والخصال الحميدة ودقيق الْوَرع وَحسن السِّيرَة والتجنب عَن السُّلْطَان(7/151)
تفقه على أبي نصر بن أبي الْقَاسِم الْقشيرِي وَصَحب الشَّيْخ عبد الْملك الطَّبَرِيّ بِمَكَّة ودرس مُخْتَصر أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ بِمَكَّة وعلق عَنهُ جمَاعَة بهَا وَقدم بَغْدَاد مُتَوَجها وعائدا وَتكلم فِي الْمسَائِل الخلافية وَأحسن الْكَلَام فِيهَا وَرجع إِلَى نيسابور فاعتزل النَّاس وَحكى أَنه أوصى إِلَيْهِ شخص أَن يفرق طَائِفَة من مَاله على الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَكَانَ فِيهِ مسك فَكَانَ إِذا فرقه على الْفُقَرَاء أَخذ عِصَابَة فشدها على أَنفه حَتَّى لَا يجد رَائِحَته وَيَقُول لَا ينْتَفع بِهِ إِلَّا برائحته وَمثل هَذَا رُوِيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ توفّي فِي فتْنَة الغز ضاحي نَهَار يَوْم الْجُمُعَة غرَّة ذِي الْقعدَة سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَدفن بِالْحيرَةِ عِنْد رجل وَالِده
وَقَالَ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ لما استولى الغز على نيسابور قبضوا عَلَيْهِ وأخرجوه ليعاقبوه فشفع فِيهِ السُّلْطَان سنجر وَقَالَ كنت أمضي إِلَيْهِ متبركا بِهِ وَلَا يمكنني من الدُّخُول عَلَيْهِ فاتركوه لأجلي فَتَرَكُوهُ فَدخل شهر ستان وَهُوَ مَرِيض فَبَقيَ أَيَّامًا وَمَات
860 - عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن أبي الْعَبَّاس بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن الْمُوفق النعيمي الموقفي الْمَعْرُوف بالبارباباذي
وبارباباذ بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف رَاء سَاكِنة ثمَّ بَاء أُخْرَى ثمَّ بعد الْألف(7/152)
بَاء ثَالِثَة مَفْتُوحَة أَيْضا تتلوها ألف ثمَّ ذال مُعْجمَة محلّة بِمَدِينَة مرو عِنْد بَاب شارستان
خطب بالجامع الأقدم بمرو وَأم النَّاس
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ فَقِيها فَاضلا عَارِفًا بِالْمذهبِ مناظرا ورعا كثير التِّلَاوَة وَالصَّلَاة يسكن الْجَامِع الأقدم ويؤم النَّاس فِي الصَّلَوَات الْخمس ولي الخطابة مُدَّة نِيَابَة عَن عمي وتفقه على جدي أبي المظفر ثمَّ خرج إِلَى بُخَارى ولقى بهَا الْأَئِمَّة وَخرج إِلَى طوس وَأقَام عِنْد أبي حَامِد الْغَزالِيّ مُدَّة وَعند الْحُسَيْن بن مَسْعُود الْفراء مُدَّة
سمع أَبَا المظفر السَّمْعَانِيّ وَغَيره كتب عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَقَالَ قَرَأت عَلَيْهِ مسندات كتاب الِانْتِصَار للْإِمَام جدي
قَالَ وَتُوفِّي سحر لَيْلَة الْخَمِيس لست لَيَال خلون من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَدفن بسنجدان
861 - عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن الْمُسلم بن الْحُسَيْن الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد اللَّخْمِيّ الدِّمَشْقِي الْخرقِيّ السّلمِيّ
ولد فِي نصف شعْبَان سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
وَسمع أَبَا الْحسن بن الموازيني وَعبد الْكَرِيم بن حَمْزَة وَعلي بن أَحْمد بن قيس(7/153)
وَأَبا الْحسن بن الْمُسلم الْفَقِيه وطاهر بن سهل الإسفرايني وَنصر الله المصِّيصِي وخلقا
روى عَنهُ الْمُوفق بن قدامَة والبهاء عبد الرَّحْمَن والحافظ الضياء ويوسف بن خَلِيل وخطيب مردا وَإِبْرَاهِيم بن خَلِيل وَأحمد بن عبد الدَّائِم وَخلق
قَالَ عمر بن الْحَاجِب كَانَ فَقِيها عدلا صَالحا يقْرَأ كل يَوْم وَلَيْلَة ختمة
وَقَالَ أَبُو حَامِد بن الصَّابُونِي إِن أَبَا مُحَمَّد بن الْخرقِيّ أعَاد فِي الأمينية بِدِمَشْق لجمال الْإِسْلَام أبي الْحسن السّلمِيّ فَإِنَّهُ أضرّ فِي الآخر وأقعد فَاحْتَاجَ يَوْمًا إِلَى الْوضُوء وَلم يكن عِنْده فِي الْبَيْت أحد وَكَانَ لَيْلًا فَذكر عَنهُ أَنه قَالَ فَبَيْنَمَا أَنا أتفكر إِذا بِنور من السَّمَاء دخل الْبَيْت فبصرت بِالْمَاءِ فَتَوَضَّأت وَأَنه حدث بذلك بعض إخوانه وأوصاه أَن لَا يخبر بهَا إِلَّا بعد مَوته
مَاتَ سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
862 - عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مَنْصُور بن جِبْرِيل الخطيبي الْفَقِيه أَبُو نصر الخرجردى
ولد بخرجرد من نَاحيَة بوشنج سنة نَيف وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وَسكن مرو مُدَّة وتفقه بنيسابور وهراة ومرو وَكَانَ فَقِيها صَالحا متعبدا
تفقه على إِسْمَاعِيل الخرجردى وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ الْفُقَهَاء الرَّافِعِيّ وَغَيره إِسْمَاعِيل البوشنجي وخرجرد من بِلَاد بوشنج
وتفقه أَيْضا على إِبْرَاهِيم المروروذي وَقَرَأَ الْخلاف على عمر بن مُحَمَّد السَّرخسِيّ وَسمع الحَدِيث من أبي نصر بن أبي الْقَاسِم الْقشيرِي(7/154)
وَالْفضل بن مُحَمَّد الأبيوردي وَالسَّيِّد بن أبي الْغَنَائِم حَمْزَة بن هبة الله بن مُحَمَّد الْعلوِي وَغَيرهم وَخرج لنَفسِهِ جزأين حدث بهما
روى عَنهُ عبد الرَّحِيم بن السَّمْعَانِيّ وَذكره وَالِده أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ فِي التحبير وَقَالَ كَانَ فَقِيها فَاضلا برع فِي الْفِقْه وَكَانَ يحفظ الْمَذْهَب ويناظر وَقَرَأَ طرفا من الْأَدَب وأمعن فِي حفظ التواريخ والفتوح والملاحم وَكَانَ يحفظ شَيْئا كثيرا من النتف والطرف نظما ونثرا ومواليد النَّاس ووفياتهم
توفّي فِي وَاقعَة الغز بمرو وَهُوَ أَنه كَانَ على المنارة بِأَسْفَل الماجان فرمت الغز لمنارة بالنَّار فَاحْتَرَقَ من فِيهَا مِنْهُم أَبُو نصر الخرجردي وَابْنه عبد الرَّزَّاق وَكَانَ ذَلِك فِي الثَّانِي عشر من رَجَب سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
863 - عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبيد الله مصغر بن أبي سعيد كَمَال الدّين أَبُو البركات ابْن الْأَنْبَارِي النَّحْوِيّ
صَاحب التصانيف المفيدة وَله الْوَرع المتين وَالصَّلَاح والزهد
سكن بَغْدَاد وتفقه على أبي مَنْصُور بن الرزاز وَقَرَأَ النَّحْو على أبي السعادات ابْن الشجري واللغة على أبي مَنْصُور بن الجواليقي وَصَارَ شيخ الْعرَاق فِي الْأَدَب غير مدافع لَهُ التدريس(7/155)
فِيهِ بِبَغْدَاد والرحلة إِلَيْهِ من سَائِر الأقطار ثمَّ انْقَطع فِي منزلَة مشتغلا بِالْعلمِ وَالْعِبَادَة والإفادة قَالَ الْمُوفق عبد اللَّطِيف لم أر فِي الْعباد والمنقطعين أقوى مِنْهُ فِي طَرِيقه وَلَا أصدق مِنْهُ فِي أسلوبه جد مَحْض لَا يَعْتَرِيه تصنع وَلَا يعرف السرُور وَلَا أَحْوَال الْعَالم وَكَانَ لَهُ من أَبِيه دَار يسكنهَا وَدَار وحانوت مِقْدَار أجرتهما نصف دِينَار فِي الشَّهْر يقنع بِهِ وَيَشْتَرِي مِنْهُ وَرقا وسير إِلَيْهِ المستضيء خَمْسمِائَة دِينَار فَردهَا فَقَالُوا لَهُ اجْعَلْهَا لولدك فَقَالَ إِن كنت خلقته فَأَنا أرزقه وَكَانَ لَا يُوقد عَلَيْهِ ضوء وَتَحْته حَصِير قصب وَعَلِيهِ ثوب وعمامة من قطن يَلْبسهُمَا يَوْم الْجُمُعَة وَكَانَ لَا يخرج إِلَّا للْجُمُعَة ويلبس فِي بَيته ثوبا خلقا وَكَانَ مِمَّن قعد فِي الْخلْوَة عِنْد الشَّيْخ أبي النجيب
قلت سمع الحَدِيث من أبي مَنْصُور مُحَمَّد بن عبد الْملك بن خيرون وَأبي البركات عبد الْوَهَّاب بن الْمُبَارك الْأنمَاطِي وَأبي نصر أَحْمد بن نظام الْملك وَمُحَمّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عطاف الْموصِلِي وَغَيرهم وَحدث باليسير
روى عَنهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي وَابْن الدبيثي وطائفه
وَمن تصانيفه فِي الْمَذْهَب هِدَايَة الذَّاهِب فِي معرفَة الْمذَاهب وبداية الْهِدَايَة وَفِي الْأُصُول الدَّاعِي إِلَى الْإِسْلَام فِي أصُول الْكَلَام والنور اللائح فِي اعْتِقَاد السّلف الصَّالح واللباب وَغير ذَلِك وَفِي الْخلاف التَّنْقِيح فِي مَسْلَك التَّرْجِيح والجمل فِي علم الجدل وَغير ذَلِك وَفِي النَّحْو واللغة مَا يزِيد على الْخمسين مصنفا وَله شعر حسن كثير
توفّي لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع شعْبَان سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة وَدفن فِي تربة الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ(7/156)
864 - عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى أَبُو الْقَاسِم بن أبي سعد الْفَارِسِي ثمَّ السَّرخسِيّ
فَقِيه ورع تفقه على محيى السّنة الْبَغَوِيّ وَبعده على عبد الرَّحْمَن بن عبد الله النيهي
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وَكَانَ حَافِظًا للْمَذْهَب وَتُوفِّي كهلا سنة سِتّ أَو خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة
865 - عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد أَبُو الْفتُوح السلمويي اللباد
من أهل نيسابور
تفقه على أبي نصر الْقشيرِي بنيسابور وَأبي بكر السَّمْعَانِيّ بمرو
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ إِمَامًا فَاضلا ورعا تقيا نظيفا محتاطا كثير الْعِبَادَة دَائِم المجاهدة اقْتصر على خشونة الْعَيْش ولازم الْعُزْلَة
مَاتَ بأصبهان فِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
866 - عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن مَحْمُود بن الْحسن الْقزْوِينِي أَبُو حَامِد بن أبي الْفرج بن الشَّيْخ أبي حَاتِم الْأنْصَارِيّ
كَانَ إِمَامًا مفتيا مناظرا من بَيت الْفضل وَالدّين
ورد خُرَاسَان وَدخل إِلَى مَا وَرَاء النَّهر وتفقه بِتِلْكَ الديار(7/157)
توفّي بآمل فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة
ووالده أَبُو الْفرج مُحَمَّد بن أبي حَاتِم فَقِيه صَالح حج وَضاع لَهُ ابْن يشبه أَن يكون هَذَا قبل وُصُوله إِلَى الْمَدِينَة قَالَ بَعضهم فَجعل يتمرغ فِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التُّرَاب ويتشفع بِهِ عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي لَقِي وَلَده والخلق حوله فَبينا هُوَ فِي تِلْكَ الْحَال إِذْ دخل ابْنه من بَاب الْمَسْجِد
وجده الشَّيْخ أَبُو حَاتِم من أَعْلَام الْمَذْهَب
867 - عبد الرَّحْمَن بن هبة الرَّحْمَن بن عبد الْوَاحِد بن عبد الْكَرِيم الْقشيرِي أَبُو خلف بن أبي سعد النَّيْسَابُورِي
ولد بهَا فِي الْمحرم سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
وَولى خطابة نيسابور بعد وَالِده وَكَانَ ضريرا وَكَانَ ورعا عَالما مليح الْوَعْظ
سمع من عبد الْغفار الشيروي وَإِسْمَاعِيل بن عبد الغافر الْفَارِسِي وَخلق
وروى عَنهُ عبد الرَّحِيم بن السَّمْعَانِيّ
توفّي بنيسابور يَوْم عَاشُورَاء سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة
868 - عبد الرَّحِيم بن رستم أَبُو الْفَضَائِل الزنجاني
تفقه بِبَغْدَاد على أبي مَنْصُور الرزاز وَقدم دمشق فدرس بالمجاهدية ثمَّ بالغزالية ثمَّ ولى قَضَاء بعلبك وَقتل بهَا شَهِيدا(7/158)
قَالَ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر كَانَ عَالما بِالْمذهبِ وَالْأُصُول وعلوم الْقُرْآن قتل بيعلبك فِي شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
869 - عبد الرَّحِيم بن عبد القاهر بن عبد الله بن عموية السهروردي أَبُو الرِّضَا بن أبي النجيب الْوَاعِظ الصُّوفِي مَاتَ بعد السِّتين والخمسمائة
870 - عبد الرَّحِيم بن عبد الْكَرِيم بن هوزان الْأُسْتَاذ أَبُو نصر بن الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي
الإِمَام الْعلم بَحر مغدق زخار وَحبر هُوَ فِي زَمَانه رَأس الْأَحْبَار إِذا قيل كَعْب لأحبار وَهَمَّام مقدم وَإِمَام تقتدي بِهِ الهداة وتأتم نما من تِلْكَ الْأُصُول الطاهرة غصنه المورق عَليّ الأنجم الزاهرة بدره الْمشرق ورع يأنف أَن يعد غير دَار السَّلَام دَارا ويستقل الجوزاء إِذا هُوَ جاوزها أَن يتَّخذ فِيهَا قرارا مجل مَا ادلهم ليل المشكلات وأمسي ومصل يسمع النَّاس لكَلَامه فَلَا تسمع لَهُم إِلَّا همسا تلْتَقط الدُّرَر من كلمة ويتناثر الْجَوْهَر من حكمه ويؤوب المذنب عِنْد وعظه وَيَتُوب العَاصِي بِمُجَرَّد سَماع لَفظه ينطبع فِي الْقلب من كَلِمَاته صُورَة وَيحدث للأنفس الزكية مِنْهُ(7/159)
عظات إِذا مدها لم تكن على أهل الطَّاعَة مَقْصُورَة كم من فَاسق تَابَ فِي مَجْلِسه وَدخل فِي الطَّاعَة وَكم من كَافِر آب إِلَى الْحق سَاعَة وعظه وآمن فِي السَّاعَة بِمن بعث بَين يَدي السَّاعَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو اسْتمع لَهُ الصخر لانفلق وَلَو فهم كَلَامه الْوَحْش لاستحسنه وَقَالَ صدق يصدع الْقلب القاسي خطابه ويكاد يجمع عِظَام ذَوي الْغَفْلَة النخرة عتابه ويشتت شَمل الشَّيَاطِين مَا يَقُول ويفتت الأكباد مَا يجمعه من الْحق المقبول
هُوَ الرَّابِع من أَوْلَاد الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم وَأَكْثَرهم علما وأشهرهم اسْما وَالْكل من السيدة الجليلة فَاطِمَة بنت الْأُسْتَاذ أبي عَليّ الدقاق
تحرج بوالده ثمَّ على إِمَام الْحَرَمَيْنِ
وَسمع أَبَاهُ وَأَبا عُثْمَان الصَّابُونِي وَأَبا الْحُسَيْن الْفَارِسِي وَأَبا حَفْص بن مسرور وَأَبا سعد الكنجروذي وَأَبا بكر الْبَيْهَقِيّ وَأَبا الْحُسَيْن بن النقور وَأَبا الْقَاسِم الزنجاني وَغَيرهم بخراسان وَالْعراق والحجاز وَحدث بالكثير
روى عَنهُ سبطه أَبُو سعد عبد الله بن عمر الصفار وَأَبُو الْفتُوح الطَّائِي وخطيب الْموصل أَبُو الْفضل الطوسي وَغَيرهم وَأَبُو سعد الصفار آخر من حدث عَنهُ
وَمن الْغَرِيب أَنه سمع مِنْهُ وَهُوَ ابْن أَربع سِنِين وَكتب الطَّبَقَة بِخَطِّهِ وَبَقِي إِلَى سنة سِتّمائَة
ذكر صَاحب السِّيَاق وأفصح المؤرخين على الْإِطْلَاق عبد الغافر الْفَارِسِي الْأُسْتَاذ أَبَا نصر فَقَالَ إِمَام الْأَئِمَّة وَحبر الْأمة وبحر الْعُلُوم وَصدر القروم قَالَ وَهُوَ أشبه أَوْلَاد أَبِيه بِهِ خلقا حَتَّى كَأَنَّهُ شقّ مِنْهُ شقا رباه وَالِده أحسن تربية وزقه الْعَرَبيَّة فِي صباه زقا حَتَّى برع فِيهَا وكمل فِي النّظم والنثر فحاز فيهمَا قصب السَّبق(7/160)
وَكَانَ ينفث بِالسحرِ أقلامه على الرّقّ استوفى الْحَظ الأوفى من علم الْأُصُول وَالتَّفْسِير تلقنا من وَالِده ورزق السرعة فِي الْكِتَابَة بِحَيْثُ كَانَ يكْتب كل يَوْم طاقات على الاعتياد لَا يلْحقهُ فِيهِ كَبِير مشقة وَحصل أنواعا من الْعُلُوم الدقيقة والحساب
وَلما توفّي أَبوهُ انْتقل إِلَى مجْلِس إِمَام الْحَرَمَيْنِ وواظب على درسه وصحبته لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَزِمَه عشيا وإبكارا حَتَّى حصل طَرِيقَته فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وجدد عَلَيْهِ الْأُصُول وَكَانَ الإِمَام يعْتد بِهِ ويستفرغ أَكثر أَيَّامه مَعَه مستفيدا مِنْهُ بعض مسَائِل الْحساب فِي الْفَرَائِض والدور والوصاية
فَلَمَّا فرغ من تَحْصِيل الْفِقْه تأهب لِلْخُرُوجِ لِلْحَجِّ وَحين وصل إِلَى بَغْدَاد وَعقد لَهُ الْمجْلس وَرَأى أهل بَغْدَاد فَضله وكماله وعانيوا خصاله بداله من الْقبُول عِنْدهم مَا لم يعْهَد مثله لأحد قبله وَحضر مَجْلِسه الْخَواص وَلزِمَ الْأَئِمَّة مثل أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ الَّذِي هُوَ فَقِيه الْعرَاق فِي وقته عتبَة منبره
وأطبقوا على أَنهم لم يرَوا مثله فِي تبحره وَخرج إِلَى الْحَج وَلما عَاد كَانَ الْقبُول عَظِيما وزائدا على مَا كَانَ من قبل وَبلغ الْأَمر فِي التعصب لَهُ مبلغا يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَة وقلما كَانَ يَخْلُو مَجْلِسه عَن إِسْلَام جمَاعَة من أهل الذِّمَّة
وَخرج بعد من قَابل رَاجعا إِلَى الْحَج فِي أكمل حرمه وترفه فِي خدمَة من أَمِير الْحَاج وَأَصْحَابه وَعَاد إِلَى بَغْدَاد وَأمر الْقبُول بِحَالهِ والفتنة مشرئبة تكَاد تضطرم فَبعث إِلَيْهِ نظام الْملك يستحضره من بَغْدَاد إِلَى أَصْبَهَان فَأكْرم مورده وَبَقِي أهل بَغْدَاد عطاشا إِلَيْهِ وَإِلَى كَلَامه مِنْهُم من لم يفْطر عَن الصَّوْم سِنِين بعده وَمِنْهُم من لم يحضر من بعده مجْلِس(7/161)
تذكير قطّ وَأَشَارَ الصاحب عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى خُرَاسَان وَوَصله بصلات سنية وَدخل قزوين وَلَقي بهَا قبولا تَاما وَلما عَاد استقبله الْأَئِمَّة والصدور وَكَانَ يواظب بعد مَا لَقِي من الْقبُول على درس إِمَام الْحَرَمَيْنِ ويشتغل بِزِيَادَة التَّحْصِيل وَكَانَ أَكثر صغوة فِي أَوَاخِر أَيَّامه إِلَى الرِّوَايَة قَلما يَخْلُو يَوْم من أَيَّامه عَن مجْلِس للْحَدِيث أَو مجلسين وَتُوفِّي عديم النظير فريد الْوَقْت بَقِيَّة أكَابِر الدُّنْيَا انْتهى
قلت وَأعظم مَا عظم بِهِ أَبُو نصر أَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ نقل عَنهُ فِي كتاب الْوَصِيَّة من النِّهَايَة وَهَذِه مرتبَة رفيعة
والفتنة الْمشَار إِلَيْهَا فِي كَلَام عبد الغافر فتْنَة الْحَنَابِلَة فَإِن الْأُسْتَاذ أَبَا نصر قَامَ فِي نصْرَة مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ وباح بأشد النكير على مخالفيه وغبر فِي وُجُوه المجسمة فِي كائنه لَا يَخْلُو هَذَا الْكتاب عَن شرحها
وَكَانَ الْأُسْتَاذ أَبُو نصر قد اعتقل لِسَانه فِي آخر عمره إِلَّا عَن الذّكر فَلَا يتَكَلَّم إِلَّا بآي الْقُرْآن وَكَانَ يحفظ من الْأَشْعَار والحكايات مَالا يُحْصى كَثْرَة وَقيل إِنَّه كَانَ يحفظ خمسين ألف نصف بَيت قيل وَكَانَ يحب الْعُزْلَة والانزواء فَلَمَّا انقرضت الجوينية وَصَارَ مقدما احْتَاجَ إِلَى الْخُرُوج وَحُضُور المحافل إِذْ كَانَ قد بَقِي عين أهل مَدِينَة نيسابور والمشار إِلَيْهِ فِي صُدُور محافل العزاء والهناء بَعْدَمَا انقرض بَيت الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَولده إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ رجلا معظماحتى عِنْد مشايخه فَلَقَد أطنب شَيْخه الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ شَيْخه إِمَام الْحَرَمَيْنِ(7/162)
وَدخل الْأُسْتَاذ أَبُو نصر مرّة على الإِمَام أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ فَأَنْشَأَ الإِمَام ارتجالا
(يميس كغصن إِذا مَا بدا ... ويبدو كشمس ويرنو كريم)
(مَعَاني النجابة مَجْمُوعَة ... لعبد الرَّحِيم بن عبد الْكَرِيم)
وَمن شعر الْأُسْتَاذ أبي نصر
(ليَالِي وصال قد مضين كَأَنَّهَا ... لآلي عُقُود فِي نحور الكواعب)
(وَأَيَّام هجر أعقبتها كَأَنَّهَا ... بَيَاض مشيب فِي سَواد الذوائب)
وَقَالَ
(تَقْبِيل خدك أشتهى ... أمل إِلَيْهِ أنْتَهى)
(لَو نلْت ذَلِك لم أبل ... بِالروحِ منى أَن تهي)
(دنياي لَذَّة سَاعَة ... وعَلى الْحَقِيقَة أَنْت هِيَ)
وَقَالَ أَيْضا
(شَيْئَانِ من يعذلني فيهمَا ... فَهُوَ على التَّحْقِيق مني بَرى)
(حب أبي بكر إِمَام التقى ... ثمَّ اعتقادي مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ)
وَقَالَ فِي وَلَده فضل الله
(كم حسرة لي فِي الحشا ... من وَلَدي وَقد نشا)(7/163)
(كُنَّا نشَاء رشده ... فَمَا نشا كَمَا نشا)
وَقَالَ
(رَمَضَان أرمضني بصادات على ... عدد الطبائع والفصول الْأَرْبَعَة)
(صَوْم وَصوب مَا يغيب سَحَابَة ... وصبابة وصدود من قلبِي مَعَه)
وَوَقعت إِلَيْهِ رقْعَة استفتاء فِيهَا
(مَا على عاشق رأى الْحبّ مختا ... لَا كغصن الْأَرَاك يحمل بَدْرًا)
(فَدَنَا نَحوه يقبل خديه ... غراما بِهِ ويلثم ثغرا)
(وَعَلِيهِ من العفاف رَقِيب ... لَا يداني فِي سنة الْحبّ غدرا)
(أعليه جِنَايَة توجب الْحَد م ... أجبنا لقِيت رشدا وَبرا)
فَأجَاب من أَبْيَات
(مَا على من يقبل الْحبّ حد ... غير أَنِّي أرَاهُ حاول نكرا)(7/164)
(لَا تشوق للثم خد وثغر ... لَو تعففت كَانَ ذَلِك أَحْرَى)
(فاخش مِنْهُ إِذا تسامحت فِيهِ ... غائلات تجر إِثْمًا ووزرا)
توفّي الْأُسْتَاذ أَبُو نصر يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة بنيسابور
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
قَالَ أبونصر سَمِعت وَالِدي يَقُول ليكن لَك فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة سَاعَة تحضر فِيهَا بقلبك وتخلو بِرَبِّك وَتقول تدارك قلبِي بشظية من إقبالك بذره من أفضالك
من نذر أَن لَا يكلم الْآدَمِيّين أَو الصمت فِي صَوْمه قَالَ الرَّافِعِيّ فِي آخرباب النّذر فِي تَفْسِير أبي نصر الْقشيرِي أَن الْقفال قَالَ من الْتزم بِالنذرِ أَن لَا يكلم الْآدَمِيّين يحْتَمل أَن يُقَال يلْزمه لِأَنَّهُ مِمَّا يتَقرَّب بِهِ وَيحْتَمل أَن يُقَال لَا لما فِيهِ من التَّضْيِيق(7/165)
وَالتَّشْدِيد وَلَيْسَ ذَلِك من شرعنا كَمَا لَو نذر الْوُقُوف فِي الشَّمْس
قلت وَقد رَأَيْت ذَلِك فِي تَفْسِير أبي نصر الْمَذْكُور قَالَ وعَلى هَذَا يكون نذر الصمت يَعْنِي فِي قَوْله {إِنِّي نذرت للرحمن صوما} فِي تِلْكَ الشَّرِيعَة لَا فِي شريعتنا
ذكره فِي تَفْسِير سُورَة مَرْيَم وَمرَاده بالقفال فِيمَا أَحسب الْقفال الْكَبِير صَاحب التَّفْسِير لَا الْقفال الْمروزِي فَليعلم ذَلِك
وَرَأَيْت صَاحب الْبَحْر قد ذكر فِي كتاب الصَّوْم مَا نَصه فرع جرد عَادَة النَّاس بترك الْكَلَام فِي رَمَضَان وَلَيْسَ لَهُ أصل فِي الشَّرْع وَالرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة لم يفعلوه إِلَّا أَن لَهُ أصلا فِي شرع من قبلنَا قَالَ تَعَالَى لزكريا عَلَيْهِ السَّلَام {أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سويا} وَقَالَت مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام {إِنِّي نذرت للرحمن صوما فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسيا} وَقد قَالَ بعض أَصْحَابنَا شرع من قبلنَا يلْزمنَا فَيكون هَذَا قربَة تسْتَحب وَمن قَالَ لَا يلْزمنَا شرع من قبلنَا قَالَ لَا يسْتَحبّ انْتهى
قلت وعَلى هَذَا تتخرج الْمَسْأَلَة السَّابِقَة فَإِن قُلْنَا قربَة صَحَّ الْتِزَامه بِالنذرِ وَإِلَّا فَلَا
871 - عبد الرَّحِيم بن عَليّ بن الْحسن بن احْمَد بن المفرج بن أَحْمد القَاضِي الْفَاضِل مُحي الدّين أَبُو عَليّ بن القَاضِي الْأَشْرَف اللَّخْمِيّ البيساني الْعَسْقَلَانِي مولد الْمصْرِيّ(7/166)
إِمَام الأدباء وقائد لِوَاء أهل الترسل وَصَاحب صناعَة الْإِنْشَاء أجمع أهل الْأَدَب على أَن الله تَعَالَى لم يخلق فِي صناعَة الترسل من بعده مثله وَلَا من قبله بِأَكْثَرَ من مِائَتي عَام وَرُبمَا زادوا وَهُوَ بَينهم كالشافعي وَأبي حنيفَة بَين الْفُقَهَاء بل هم لَهُ أخضع لِأَن أَصْحَاب الْإِمَامَيْنِ قد يتنازعون فِي الأرجحية فَكل يدعى أرجحية إِمَامه وَأما هَذَا فَلَا تنَازع بَين أهل صناعته فِيهِ
وَكَانَ صديق السُّلْطَان صَلَاح الدّين وعضده ووزيره وَصَاحب ديوَان إنشائه ومشيره وخليطه وسميره
ولد فِي نصف جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة
وَسمع الحَدِيث من الْحَافِظ أبي الْقَاسِم بن عَسَاكِر وَأبي طَاهِر السلَفِي وَأبي مُحَمَّد العثماني وَأبي الطَّاهِر بن عَوْف وَغَيرهم
وَكَانَ ذَا دين وتقوى وتقشف مَعَ الرياسة التَّامَّة والإغضاء والصفح والحلم وَالْعَفو والستر صَاحب أوراد من صَلَاة وَصِيَام وَغَيرهمَا مَعَ التَّمَكُّن الزَّائِد فِي الدولة وَذكر الْعِمَاد الْكَاتِب أَنه كَانَ يخْتم كل يَوْم الْقُرْآن الْمجِيد ويضيف إِلَيْهِ مَا شَاءَ الله وبلغنا أَن كتبه الَّتِي ملكهَا مائَة ألف مُجَلد وَكَانَ كثير الْبر وَالصَّدَََقَة مقتصدا فِي ملبسه وَطَعَامه كثير التشييع للجنائز وعيادة المرضى لَهُ تهجد فِي اللَّيْل لَا يخل بِهِ وَعَادَة فِي زِيَارَة الْقُبُور لَا يقطعهَا مَعَ كَونه أحدب ضَعِيف البنية كثير الِاشْتِغَال وَكتب من الْإِنْشَاء الْفَائِق الرَّائِق الَّذِي خضعت لَهُ الرّقاب مَا يَرْبُو على مائَة مُجَلد
قيل وَكَانَ يدْخل لَهُ فِي السّنة نَحْو خمسين ألف مِثْقَال من الذَّهَب غير مَا يدْخل لَهُ من فَوَائِد المتجر وَكَانَت متاجره فِي الْهِنْد والغرب وَمَا بَين ذَلِك(7/167)
مَاتَ سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
872 - عبد الرَّزَّاق بن عبد الله بن عَليّ بن إِسْحَاق الطوسي أَبُو الْمَعَالِي وَقيل أَبُو المحاسن الْمَعْرُوف بالشهاب الْوَزير وَزِير السُّلْطَان سنجر
ولد سنة تسع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة بنيسابور
وَسمع أَبَا بكر بن خلف الشِّيرَازِيّ وَأَبا المظفر السَّمْعَانِيّ وَغَيرهمَا
روى عَنهُ السَّمْعَانِيّ وَغَيره وتفقه على إِمَام الْحَرَمَيْنِ
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فِي التحبير أَخذ عَن الإِمَام أبي الْمَعَالِي حَتَّى صَار من فحول المناظرين وَكَانَ إِمَام نيسابور فِي عصره وَمن مشاهير الْعلمَاء ولى التدريس بمدرسة عَمه نظام الْملك مُدَّة ثمَّ ارْتَفَعت دَرَجَته إِلَى أَن صَار وَزِير السُّلْطَان سنجر ابْن ملكشاه وَبَقِي على الوزارة مُدَّة وَكَانَ يجْتَمع عِنْده الْأَئِمَّة ويناظرهم وَيظْهر كَلَامه عَلَيْهِم وَكَانَ فصيحا جرئيا
قَالَ وَتُوفِّي بسرخس يَوْم الْخَمِيس التَّاسِع عشر من الْمحرم سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة وَحمل إِلَى نيسابور وَدفن بداره بِرَأْس القنطرة
قلت وَأَجَازَ لِابْنِ السَّمْعَانِيّ(7/168)
873 - عبد الرَّزَّاق بن مُحَمَّد الماخواني
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فِي التحبير كَانَ دهقانا لَا يعرف شَيْئا وَأما وَالِده فَكَانَ إِمَام عصره وَقد سمع هُوَ من وَالِده
وَمَات فِي صفر سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
874 - عبد السَّلَام بن الْفضل أَبُو الْقَاسِم الجيلي
أَقَامَ بِبَغْدَاد مُدَّة متفقها بِالْمَدْرَسَةِ النظامية على إِلْكيَا وَولي قَضَاء الْبَصْرَة وَسمع بِمَكَّة صَحِيح مُسلم من الْحُسَيْن الطَّبَرِيّ وَكَانَ فَقِيها أصوليا
توفّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
875 - عبد السَّلَام بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد أَبُو شُجَاع الْخَطِيب
من أهل البندنيجين
صحب أَبَا النجيب السهروردي بِبَغْدَاد وتفقه عَلَيْهِ وَسمع الحَدِيث من أبي الْوَقْت السجْزِي وَغَيره وَتَوَلَّى قَضَاء البندنيجين
وَتُوفِّي بهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة(7/169)
876 - عبد السَّلَام بن مُحَمَّد الشَّيْخ ظهير الدّين الْفَارِسِي
أحد الْأَئِمَّة المعتبرين
قَالَ ابْن باطيش قدم الْموصل فصادف من صَاحبهَا قبولا وفوض إِلَيْهِ تدريس الْفَرِيقَيْنِ الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة وَبَقِي بهَا مُدَّة يدرس وافر الْحُرْمَة ثمَّ توجه إِلَى حلب على عَزِيمَة الْعود إِلَى الْموصل ثمَّ مَاتَ بهَا سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
877 - عبد الصَّمد بن الْحُسَيْن بن عبد الْغفار الكلاهيني الزنجاني أَبُو المظفر بن أبي عبد الله الصُّوفِي الملقب بالبديع وكلاهين من نواحي زنجان
تفقه فِي بَغْدَاد بالنظامية على أسعد الميهني
وَسمع الحَدِيث من هبة الله بن مُحَمَّد بن الْحصين وزاهر بن طَاهِر الشحامي وَأبي غَالب مُحَمَّد بن الْحسن الْمَاوَرْدِيّ وَغَيرهم
وَصَحب الشَّيْخ أَبَا النجيب السهروردي وَانْقطع إِلَى الْعِبَادَة وَالْخلْوَة والرياضة ومواصلة الصّيام وَالْقِيَام حَتَّى ظَهرت عَلَيْهِ أنوار الطَّاعَة وَظهر لَهُ الْقبُول من النَّاس وَصَارَ مِمَّن(7/170)
يشار إِلَيْهِ بالزهد وَالْعِبَادَة ويقصده النَّاس للتبرك بِهِ وَاتخذ بعد موت الشَّيْخ أبي النجيب رَحمَه الله لنَفسِهِ رِبَاطًا وَكَانَ يعْقد بِهِ مجْلِس الْوَعْظ ويحضره النَّاس وَحدث بالكثير
روى عَنهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي وَغَيره وَقد سُئِلَ عَن مولده فَذكر أَنه قبل الْخَمْسمِائَةِ
وَتُوفِّي يَوْم الْأَحَد لأَرْبَع عشرَة خلت من ربيع الآخر سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
878 - عبد الْعَزِيز بن عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن الْحُسَيْن الشَّيْخ أَبُو الْفضل الأشنهي
صَاحب الْفَرَائِض الْمَشْهُورَة بِضَم الْألف وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَضم النُّون وَكسر الْهَاء نِسْبَة إِلَى قَرْيَة أشنه بليدَة بِأَذربِيجَان
تفقه على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَسمع أَبَا جَعْفَر بن الْمسلمَة وَغَيره
سمع مِنْهُ الْفضل بن مُحَمَّد النوقاني
هَذَا كَلَام ابْن السَّمْعَانِيّ وَلم يزدْ شَيْئا إِلَّا أَنه أسْند لَهُ حَدِيثا وَلم يذكرهُ ابْن النجار
879 - عبد الغافر بن إِسْمَاعِيل بن عبد الغافر بن مُحَمَّد بن عبد الغافر الْحَافِظ أَبُو الْحسن الْفَارِسِي ثمَّ النَّيْسَابُورِي حفيد رَاوِي صَحِيح مُسلم أبي الْحُسَيْن عبد الغافر بن مُحَمَّد
ولد سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة(7/171)
وَسمع من جده لأمه أبي الْقَاسِم الْقشيرِي وَأحمد بن مَنْصُور المغربي وَأحمد بن الْحسن الْأَزْهَرِي وَأبي الْفضل مُحَمَّد بن عبيد الله الصرام وَعبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن الْبُحَيْرِي وَأبي بكر بن خلف وجدته فَاطِمَة بنت الدقاق وخلائق
وَأَجَازَهُ أَبُو سعد مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الكنجروذي وَأَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي مُسْند بَغْدَاد وَغَيرهمَا
روى عَنهُ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر وَأَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ وَأَبُو الْعَلَاء الهمذاني
وَذكر شَيخنَا الذَّهَبِيّ أَن ابْن عَسَاكِر لم يرو عَنهُ إِلَّا بِالْإِجَازَةِ لَكِن روى عَنهُ بِالسَّمَاعِ أَبُو سعد عبد الله بن عمر الصفار
وتفقه على إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَلَزِمَه مُدَّة وَكَانَ إِمَامًا حَافِظًا مُحدثا لغويا فصيحا أديبا ماهرا بليغا آدب المؤرخين وأفصحهم لِسَانا وَأَحْسَنهمْ بَيَانا أورثته صُحْبَة الإِمَام فَنًّا من الفصاحة وأكسبته ملازمته إِيَّاه سهرا حمد صباحه وَكَانَ خطيب نيسابور وإمامها وفصيحها الَّذِي أَلْقَت إِلَيْهِ البلاغة زمامها وبليغها الَّذِي لم يتْرك مقَالا لقَائِل وأديبها الْآتِي بِمَا لم يستطعه كثير من الْأَوَائِل
رَحل إِلَى خوارزم وَإِلَى غزنة وجال فِي بِلَاد الْهِنْد وصنف السِّيَاق لتاريخ نيسابور(7/172)
وَكتاب مجمع الغرائب فِي غَرِيب الحَدِيث وَكتاب الْمُفْهم لشرح غَرِيب مُسلم
توفّي سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة بنيسابور
880 - عبد الغافر السروستاني
من أهل فَارس
وَيعرف بالركن
تفقه بِالْمَدْرَسَةِ النظامية بِبَغْدَاد وَكَانَ أديبا فَاضلا عفيفا مَسْتُورا
قَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب إِنَّه غلب عَلَيْهِ الْعِشْق حَتَّى حمل إِلَى البيمارستان وَقيد ثمَّ إِنَّه عوفي مِمَّا ابتلى بِهِ وَلم يقم بعد ذَلِك بِبَغْدَاد خجلا وكتبت عَنهُ أبياتا من شعره مليحة
881 - عبد القاهر بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عمويه
واسْمه عبد الله بن سعد بن الْحُسَيْن بن عَلْقَمَة بن النَّضر بن معَاذ بن عبد الرَّحْمَن(7/173)
الشَّيْخ أَبُو النجيب السهروردي
الصُّوفِي الزَّاهِد الْفَقِيه الإِمَام الْجَلِيل أحد أَئِمَّة الطَّرِيقَة ومشايخ الْحَقِيقَة من هداة الدّين وأئمة الْمُسلمين
ولد فِي صفر سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة وَسمع أَبَا عَليّ بن نَبهَان وزاهر بن طَاهِر وَالْقَاضِي أَبَا بكر الْأنْصَارِيّ وَغَيرهم
روى عَنهُ ابْن عَسَاكِر وَابْنه الْقَاسِم وَابْن السَّمْعَانِيّ وَأَبُو أَحْمد بن سكينَة وَابْن أَخِيه الشَّيْخ شهَاب الدّين ابْن أخي أبي النجيب السهروردي وزين الْأُمَنَاء أَبُو البركات وَخلق
كَانَ من أهل سهرورد ثمَّ قدم بَغْدَاد وتفقه بِالْمَدْرَسَةِ النظامية على أسعد الميهني وعلق عَنهُ التَّعْلِيق وبرع فِي الْمَذْهَب وتأدب على الفصيحي وَسمع الحَدِيث مِمَّن ذكرنَا ثمَّ ولي تدريس النظامية فدرس بهامدة ثمَّ انْصَرف عَنْهَا وَصَحب الشَّيْخ أَحْمد الْغَزالِيّ وهب لَهُ نسيم التَّوْفِيق ودله على سَوَاء الطَّرِيق فَانْقَطع عَن النَّاس وآثر الْعُزْلَة وَالْخلْوَة واشتملت المريدون عَلَيْهِ وعمت بركته وَبَقِي عدَّة سِنِين يَسْتَقِي بالقربة على ظَهره بِالْأُجْرَةِ ويتقوت بذلك ويقوت من عِنْده من الْأَصْحَاب وَكَانَت لَهُ خربة على(7/174)
دجلة يأوي إِلَيْهَا هُوَ وَأَصْحَابه واشتهر اسْمه وَبعد صيته واستفاضت كراماته وَبنى تِلْكَ الخربة رِبَاطًا وَبنى إِلَى جَانبهَا مدرسة فَصَارَ حمى لمن التجأ إِلَيْهِ من الْخَائِفِينَ يجير من السُّلْطَان والخليفة وَغَيرهمَا وأفلح بِسَبَبِهِ خلق وأملى مجَالِس وصنف مصنفات واتفقت لَهُ فِي بدايته مجاهدات كَثِيرَة وَاجْتمعَ بسادات
وَحكى عَن نَفسه قَالَ كنت أَدخل على شَيْخي وَرُبمَا يكون اعْتَرَانِي بعض الفتور عَمَّا كنت عَلَيْهِ من المجاهدة فَيَقُول لي أَرَاك قد دخلت وَعَلَيْك ظلمَة فَأعْلم سَبَب ذَلِك وكرامة الشَّيْخ وَكنت أبقى الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة لَا أستطعم بزاد وَكنت أنزل إِلَى دجلة وأتقلب فِي المَاء ليسكن جوعى حَتَّى دعتني الْحَاجة إِلَى أَن اتَّخذت قربَة أستقي بهَا المَاء للقوت فَمن أَعْطَانِي شَيْئا أَخَذته وَمن لم يُعْطِنِي تركته وَلما تعذر عَليّ ذَلِك فِي الشتَاء خرجت يَوْمًا إِلَى بعض الْأَسْوَاق فَوجدت رجلا وَبَين يَدَيْهِ طبرزد وَعِنْده جمَاعَة يدقون الْأرز فَقلت هَل لَك أَن تستأجرني فَقَالَ أَرِنِي يَديك فأريته فَقَالَ هَذِه يَد لَا تصلح إِلَّا للقلم ثمَّ ناولني قرطاسا فِيهِ ذهب فَقلت مَا آخذ إِلَّا أُجْرَة عَمَلي فاستأجرني على النّسخ إِن كَانَ لَك نسخ وَإِلَّا انصرفت وَكَانَ رجلا يقظا فَقَالَ اصْعَدْ وَقَالَ لغلامه نَاوَلَهُ المدقة فناولني فدققت مَعَهم وَلَيْسَ لي عَادَة وَصَاحب الدّكان يلحظني فَلَمَّا عملت سَاعَة قَالَ تعال فَجئْت إِلَيْهِ فناولني الذَّهَب وَقَالَ هَذِه أجرتك فَأَخَذته وانصرفت ثمَّ أوقع الله فِي قلبِي الِاشْتِغَال بِالْعلمِ فاشتغلت حَتَّى أتقنت الْمَذْهَب وقرأت أصُول الدّين وأصول الْفِقْه وحفظت وسيط الواحدي فِي التَّفْسِير وَسمعت كتب الحَدِيث الْمَشْهُورَة
توفّي الشَّيْخ أَبُو النجيب فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة(7/175)
882 - عبد الْكَرِيم بن أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن عَليّ البياري الأزناوي أَبُو الْفضل
من أهل همذان
تفقه بِبَغْدَاد على أسعد الميهني وَسمع الحَدِيث من أبي الْقَاسِم بن بَيَان وَغَيره ثمَّ سَافر إِلَى الْموصل ولازم عَليّ بن سَعَادَة بن السراج الْفَقِيه وعلق عَنهُ الْخلاف وَسمع من أبي البركات بن خَمِيس وَعَاد إِلَى بَغْدَاد
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ
ولد فِي ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَمَات فِي رَجَب سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
883 - عبد الْكَرِيم بن شُرَيْح بن عبد الْكَرِيم بن أَحْمد بن مُحَمَّد الرَّوْيَانِيّ أَبُو معمر الطَّبَرِيّ
قَاضِي آمل طبرستان
وَوَقع فِي نُسْخَتي من كتاب ابْن باطيش إِسْقَاط شُرَيْح بن عبد الْكَرِيم وَأحمد(7/176)
وَهُوَ غلط تَبعته عَلَيْهِ فِي الطَّبَقَات الْوُسْطَى وَالصُّغْرَى وَالصَّوَاب مَا ذكرته هُنَا
وَشُرَيْح وَالِده هُوَ صَاحب أدب الْقَضَاء الْمُسَمّى بروضة الْحُكَّام وَعبد الْكَرِيم جده لَا أعرفهُ وَأحمد وَالِد جده هُوَ أَبُو الْعَبَّاس الرَّوْيَانِيّ الإِمَام الْكَبِير صَاحب الجرجانيات
ذكر ابْن السَّمْعَانِيّ عبد الْكَرِيم هَذَا فِي كتاب التحبير وَقَالَ إِمَام فَاضل مناظر فَقِيه حسن الْكَلَام فصيح الْمنطق ورد نيسابور وَأقَام بهاوسمع ببسطام أَبَا الْفضل مُحَمَّد ابْن عَليّ بن أَحْمد السهلكي وَسمع أَيْضا بطبرستان وساوة ونيسابور وأصبهان وَعدد ابْن السَّمْعَانِيّ جمَاعَة من مشايخه ثمَّ قَالَ لَقيته بمرو سنة نَيف وَعشْرين وَكَانَ قدمهَا طَالبا لقَضَاء بَلَده حضر يناظرنا وَتكلم فِي مَسْأَلَة الْقَتْل بالمثقل فَأكْرم الْوَزير مَحْمُود بن أبي تَوْبَة مورده وفوض إِلَيْهِ الْقَضَاء وَلم يتَّفق لي أَن أسمع مِنْهُ شَيْئا وَكتب إِلَيّ الْإِجَازَة بِجَمِيعِ مسموعاته من آمل وَمَات بهَا فِي شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
884 - عبد الْكَرِيم بن عبد الرَّزَّاق بن عبد الْكَرِيم بن عبد الْوَاحِد ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان الحسناباذي
أَبُو طَاهِر من أهل أَصْبَهَان
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ أحد المعروفين بالخصال الجميلة والأخلاق المرضية وَكَانَ(7/177)
فَاضلا يرجع إِلَى معرفَة بالفقه والعربية ولسان أهل الْمعرفَة
تفقه على أبي بكر مُحَمَّد بن ثَابت الخجندي سمع أَبَاهُ وَأَبا عُثْمَان سعيد بن ابي سعيد الصُّوفِي وَابْن هزار مرد الصريفيني وَابْن الْمُهْتَدي بِاللَّه وَغَيرهم
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ سمع مِنْهُ وَالِدي ولى عَنهُ إجَازَة صَحِيحَة
توفّي فِي شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخَمْسمِائة
885 - عبد الْكَرِيم بن عبد الْوَهَّاب بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن عَليّ الْجُوَيْنِيّ أَبُو المظفر
تفقه على أبي بكر بن السَّمْعَانِيّ
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وَولي الْقَضَاء بِنَاحِيَة جُوَيْن وَسمع عبد الْوَاحِد بن عبد الْكَرِيم الْقشيرِي وَإِسْمَاعِيل بن الْبَيْهَقِيّ وَالْحسن بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي الْحَافِظ وَغَيرهم
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ
مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَلم يذكر وَفَاته فِي الذيل(7/178)
886 - عبد الْكَرِيم بن عَليّ بن أبي طَالب الْأُسْتَاذ أَبُو طَالب الرَّازِيّ تلميذ الْغَزالِيّ
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام ظريف عفيف حسن السِّيرَة قَالَ وَأقَام بهراة بَين الصُّوفِيَّة
وَسمع بِبَغْدَاد أَبَا بكر بن الخاضبة وَغَيره وتفقه على الْغَزالِيّ وإلكيا وَمُحَمّد بن ثَابت الخجندي
روى عَنهُ أَبُو النَّصْر الفامي مؤرخ هراة وَغَيره
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ سَمِعت أَبَا نعيم عبد الرَّحْمَن بن عمر الْأَصْفَر البامنجي يَقُول لما فرغت من التفقه على الإِمَام الْحُسَيْن بن مَسْعُود الْفراء وَرجعت إِلَى بامئين كَانَ أحد الْفُقَهَاء دخل عَليّ وَجرى بَيْننَا مذاكرة علمية فوقعنا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة رجل لَهُ امْرَأَتَانِ طلق إِحْدَاهمَا فَسئلَ أَيهمَا طلقت فَقَالَ هَذِه بل هَذِه فَقلت وَهَذِه مَسْأَلَة مشكلة وَكَانَ الإِمَام يَقُول لنا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِشْكَال فَحمل بعض الْفُقَهَاء هَذِه اللَّفْظَة إِلَى الإِمَام وَزَاد فِيهِ حسد أَنه قَالَ مَا علم الْأُسْتَاذ هَذِه الْمَسْأَلَة وَمَا فهمها كَمَا يجب فَدَعَا الشَّيْخ عَليّ وَأظْهر الْكَرَاهَة فَقُمْت ومضيت إِلَى مرو الروذ رَاجِلا ووصلت إِلَيْهَا بالباكر فَلَمَّا قصدت الشَّيْخ كَانَ فِي الدَّرْس وَالْفُقَهَاء حُضُور فَألْقى عَلَيْهِم الدُّرُوس وَالْإِمَام عبد الْكَرِيم الرَّازِيّ بجنبه قَاعد وَكَانَ يحضر درسه للتبريك لِأَنَّهُ كَانَ من الْأَئِمَّة الْكِبَار فَصَبَرت حَتَّى فرغ الإِمَام من الدَّرْس وَخرج الْفُقَهَاء وَلم يبْق إِلَّا الإمامان الْحُسَيْن(7/179)
وَعبد الْكَرِيم فَدخلت وسلمت فَرد الإِمَام الْحُسَيْن السَّلَام وَمَا رفع رَأسه إِلَيّ فَقَعَدت وشرحت الْحَال بَين يديهما فَقَالَ الإِمَام الْحُسَيْن لَيْسَ الْفِقْه إِلَّا حل الْإِشْكَال
وَلم يطب قلب الإِمَام فَقَالَ الإِمَام عبد الْكَرِيم الرَّازِيّ لَهُ إِن للفقهاء شرطا وللصوفية شرطا وَمن شَرط الْفَقِيه أَن يعْتَرض على أستاذه وَيصير إِلَى حَاله يُمكنهُ أَن يَقُول لأستاذه لم وَيحسن الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ وَمن شَرط الصُّوفِيَّة أَن لَا يعْتَرض على شَيْخه أصلا وَيكون كالميت بَين يَدي الْغَاسِل ثمَّ قَالَ وهب أَن تلميذك اعْترض عَلَيْك فَهَذَا من شَرط الْفُقَهَاء فتعفو عَنهُ فَرضِي الشَّيْخ وأدناني من نَفسه وَقبلت رجلَيْهِ وعانقني وَقمت وَرجعت فِي الْحَال إِلَى بلدي وَلم أقِم بمرو والروذ
وَكَانَ الرَّازِيّ يحفظ الْإِحْيَاء للغزالي وَكَانَ صَالحا دينا
توفّي بِفَارِس سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخَمْسمِائة ظنا أَو قبلهَا بِسنة أَو بعْدهَا بِسنة
887 - عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد بن مَنْصُور بن مُحَمَّد بن عبد الْجَبَّار الْحَافِظ أَبُو سعد بن الإِمَام أبي بكر بن الإِمَام أبي المظفر ابْن الإِمَام أبي مَنْصُور بن السَّمْعَانِيّ
تَاج الْإِسْلَام بن تَاج الْإِسْلَام
مُحدث الْمشرق وَصَاحب التصانيف المفيدة الممتعة والرياسة والسؤدد والأصالة(7/180)
قَالَ مَحْمُود الْخَوَارِزْمِيّ بَيته أرفع بَيت فِي بِلَاد الْإِسْلَام وأعظمه وأقدمه فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والأمور الدِّينِيَّة قَالَ وأسلاف هَذَا الْبَيْت وأخلافه قدوة الْعلمَاء وأسوة الْفُضَلَاء الْإِمَامَة مدفوعة إِلَيْهِم والرياسة مَوْقُوفَة عَلَيْهِم تقدمُوا على أَئِمَّة زمانهم فِي الْآفَاق بِالِاسْتِحْقَاقِ وترأسوا عَلَيْهِم بِالْفَضْلِ وَالْفِقْه لَا بالبذل والوقاحة انْتهى
ولد فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة سِتّ وَخَمْسمِائة بمرو وَحمله وَلَده الإِمَام أَبُو بكر إِلَى نيسابور سنة تسع وأحضره السماع عَليّ عبد الْغفار الشيروي وَأبي الْعَلَاء عبيد بن مُحَمَّد الْقشيرِي وَجَمَاعَة وَكَانَ قد أحضرهُ بمرو على أبي مَنْصُور مُحَمَّد بن عَليّ الكراعي وَغَيره ثمَّ مَاتَ أَبوهُ سنة عشر وَأوصى إِلَى الإِمَام إِبْرَاهِيم الْمَرْوذِيّ صَاحب التعليقة فتفقه أَبُو سعد عَلَيْهِ وتهذب بأخلاقه وتربى بَين أَعْمَامه وَأَهله فَلَمَّا راهق أقبل على الْقُرْآن وَالْفِقْه وعني الحَدِيث وَالسَّمَاع واتسعت رحلته فعمت بِلَاد خُرَاسَان وأصبهان وَمَا وَرَاء النَّهر وَالْعراق والحجاز وَالشَّام وطبرستان وزار بَيت الْمُقَدّس وَهُوَ بأيدي النَّصَارَى وَحج مرَّتَيْنِ
سمع بِنَفسِهِ من الفراوي وزاهر الشحامي وَهبة الله السيدي وَتَمِيم الْجِرْجَانِيّ وَعبد الْجَبَّار الخواري وَإِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن الْفضل الْحَافِظ وَعبد الْمُنعم بن الْقشيرِي وَأبي بكر مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْأنْصَارِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الشَّيْبَانِيّ الْقَزاز وخلائق يطول سردهم
وَألف مُعْجم الْبلدَانِ الَّتِي سمع بهَا وَعَاد إِلَى وَطنه بمرو سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ فَتزَوج وَولد لَهُ أَبُو المظفر عبد الرَّحِيم فَرَحل بِهِ إِلَى نيسابور ونواحيها وهراة ونواحيها وبلخ وسمرقند وبخارى وَخرج لَهُ معجما ثمَّ عَاد بِهِ إِلَى مرو وَألقى عَصا السّفر بَعْدَمَا شقّ الأَرْض شقا وَأَقْبل على التصنيف والإملاء والوعظ والتدريس(7/181)
قَالَ ابْن النجار سَمِعت من يذكر أَن عدد شُيُوخه سَبْعَة آلَاف شيخ وَهَذَا شَيْء لم يبلغهُ أحد
سمع مِنْهُ جمَاعَة من مشايخه وأقرانه
وروى عَنهُ الْحَافِظ الْأَكْبَر أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر وَابْنه الْقَاسِم بن عَسَاكِر وَأَبُو أَحْمد ابْن سكينَة وَعبد الْعَزِيز بن منينا وَأَبُو روح عبد الْمعز الْهَرَوِيّ وَابْنه أَبُو المظفر عبد الرَّحِيم بن السَّمْعَانِيّ ويوسف بن الْمُبَارك الْخفاف وَآخَرُونَ
عَاد بعد مَا دوخ الأَرْض سفرا إِلَى بَلَده مرو وَأقَام مشتغلا بِالْجمعِ والتصنيف والتحديث والتدريس بِالْمَدْرَسَةِ العميدية وَنشر الْعلم إِلَى أَن توفّي إِمَامًا من أَئِمَّة الْمُسلمين فِي كثير من الْعُلُوم أَمسهَا بِهِ الحَدِيث على اخْتِلَاف فنونه
وَمن تصانيفه الذيل فِي أَرْبَعمِائَة طَاقَة
تَارِيخ مرو وَكتب مِنْهُ خَمْسمِائَة طَاقَة
طراز الذَّهَب فِي أدب الطّلب مائَة وَخَمْسُونَ طَاقَة
الْإِسْفَار عَن الْأَسْفَار خمس وَعِشْرُونَ طَاقَة
الْإِمْلَاء والاستملاء خمس عشرَة طَاقَة
التَّذْكِرَة والتبصرة مائَة وَخَمْسُونَ طَاقَة
مُعْجم الْبلدَانِ خَمْسُونَ طَاقَة
مُعْجم الشُّيُوخ ثَمَانُون طَاقَة
تحفة الْمُسَافِر مائَة وَخَمْسُونَ طَاقَة
التحف والهدايا خمس وَعِشْرُونَ طَاقَة(7/182)
عز الْعُزْلَة سَبْعُونَ طَاقَة
الْأَدَب فِي اسْتِعْمَال الْحسب خمس طاقات
الْمَنَاسِك سِتُّونَ طَاقَة
الدَّعْوَات الْكَبِيرَة أَرْبَعُونَ طَاقَة
الدَّعْوَات المروية عَن الحضرة النَّبَوِيَّة خمس عشرَة طَاقَة
الْحَث على غسل الْيَد خمس طاقات
أفانين الْبَسَاتِين خمس عشر طَاقَة
دُخُول الْحمام خمس عشرَة طَاقَة وَكَانَ هذب فِيهِ كتاب أَبِيه أبي بكر فِي دُخُول الْحمام
فَضَائِل صَلَاة التَّسْبِيح عشر طاقات
التحبير فِي المعجم الْكَبِير ثَلَاثمِائَة طَاقَة
الْأَنْسَاب ثَلَاثمِائَة طَاقَة وَخَمْسُونَ
الأمالي سِتُّونَ طَاقَة
صَلَاة الصُّبْح عشر طاقات
الْمُسَاوَاة والمصافحة
مقَام الْعلمَاء بَين يَدي الْأُمَرَاء
لفتة المشتاق إِلَى سَاكِني الْعرَاق
سلوة الأحباب وَرَحْمَة الْأَصْحَاب
الأخطار فِي ركُوب الْبحار
النُّزُوع إِلَى الأوطان(7/183)
صَوْم الْأَيَّام الْبيض
تحفة الْعِيدَيْنِ
التحايا والهدايا
الرسائل والوسائل لم تكمل
فَضَائِل الديك
ذكرى حبيب يرحل وبشرى مشيب ينزل
كتاب الْحَلَاوَة
فَضَائِل الْهِرَّة
الهريسة
تَارِيخ الْوَفَاة للمتأخرين من الروَاة
بخار بخور البخارى
تَقْدِيم الجفان إِلَى الضيفان
الصدْق فِي الصداقة
الرِّبْح والخسارة فِي الْكسْب وَالتِّجَارَة
الارتياب عَن كِتَابَة الْكتاب
حث الإِمَام على تَخْفيف الصَّلَاة مَعَ الْإِتْمَام
فرط الغرام إِلَى سَاكِني الشَّام
الشد وَالْعد لمن اكتنى بِأبي سعد
فَضَائِل سُورَة يس
فَضَائِل الشَّام وَغير ذَلِك من التصانيف والتخاريج(7/184)
ذكره صَاحِبَة ورفيقه الْحَافِظ الْكَبِير أَبُو الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر واثنى عَلَيْهِ وَقَالَ هُوَ الْآن شيخ خُرَاسَان غير مدافع عَن صدق وَمَعْرِفَة وَكَثْرَة سَماع للأجزاء وَكتب مصنفة وَالله يبقيه لنشر السّنة ويوفقه لأعمال أهل الْجنَّة
توفّي الْحَافِظ أَبُو سعد فِي الثُّلُث الْأَخير من لَيْلَة غرَّة ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة بِمَدِينَة مرو وَدفن بسنجدان مَقْبرَة مرو
888 - عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور الرماني الدامغان
من أهل الدَّامغَانِي ولد بهَا يَوْم الْجُمُعَة عِنْد طُلُوع الشَّمْس سادس عشر ربيع الأول سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَدخل إِلَى نيسابور وتفقه على إِمَام الْحَرَمَيْنِ ثمَّ عَاد إِلَى بَلَده وَولى الْقَضَاء بهَا
سمع الْوَزير نظام الْملك وَأَبا الْقَاسِم بن مسْعدَة وَأَبا بكر أَحْمد بن عَليّ الشِّيرَازِيّ وكامل بن إِبْرَاهِيم الخندقي والمظفر بن حَمْزَة التَّمِيمِي وَأَبا الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن زَاهِر النوقاني وَإِسْمَاعِيل بن الْفضل الفضلي وأستاذه أَبَا الْمَعَالِي وَغَيرهم بالدامغان وجرجان ونيسابور وهراة(7/185)
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره
توفّي بالدامغان فِي غرَّة ذِي الْقعدَة سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
889 - عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد بن أبي الْفضل بن الحرستاني الْفَقِيه أَبُو الْفَضَائِل الدِّمَشْقِي أَخُو قَاضِي الْقُضَاة عبد االصَّمد
ولد سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة
وَسمع جمال الْإِسْلَام السّلمِيّ وَغَيره وَحضر فِي بَغْدَاد درس ابْن الرزاز وَفِي خُرَاسَان درس مُحَمَّد بن يحيى ودرس بالأمينية بِدِمَشْق نِيَابَة عَن ابْن أبي عصرون
وَتُوفِّي فِي رَمَضَان سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
890 - عبد اللَّطِيف بن مُحَمَّد بن عبد اللَّطِيف بن مُحَمَّد بن ثَابت ابْن الْحسن الخجندي
أَبُو الْقَاسِم الملقب صدر الدّين
من أهل أَصْبَهَان
كَانَ يتَوَلَّى الرياسة بهَا على قَاعِدَة أبائة وَكَانَت لَهُ المكانة عِنْد السلاطين
سمع الحَدِيث من أبي الْوَقْت السجْزِي وَغَيره وَكَانَ فَقِيها أديبا واعظا وَله شعر جيد
ولد فِي شهر رَجَب سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَمَات فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة(7/186)
891 - عبد المحسن بن عبد الْمُنعم بن عَليّ الكفرطابي ثمَّ الشِّيرَازِيّ أَبُو مُحَمَّد الْفَقِيه الشَّافِعِي
تفقه بِبَغْدَاد وَسمع الحَدِيث من أبي الْقَاسِم بن الْحصين وَأبي الْعِزّ بن كادش وَأبي غَالب بن الْبناء وَإِسْمَاعِيل بن أبي صَالح الْمُؤَذّن وَغَيرهم
توفّي فِي شهر رَمَضَان سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة
892 - عبد الْملك بن زيد بن ياسين بن زيد بن قايد بن جميل التغلبي أَبُو الْقَاسِم الدولعي
خطيب دمشق والمدرس بهَا الْفَقِيه ضِيَاء الدّين الأرقمي الْموصِلِي
والدولعية من قرى الْموصل
ولد سنة سبع وَخَمْسمِائة وَقدم دمشق فِي شبيبته فتفقه بهَا وَسمع من أبي الْفَتْح نصر الله المصِّيصِي وتفقه أَيْضا بِبَغْدَاد وَسمع بهَا التِّرْمِذِيّ من عبد الْملك بن أبي الْقَاسِم الكروخي وَالنَّسَائِيّ من عَليّ بن أَحْمد بن محمويه اليزدي(7/187)
روى عَنهُ أَبُو الطَّاهِر إِسْمَاعِيل الْأنمَاطِي وَابْن خَلِيل والشهاب القوصي والتقى ابْن أبي الْيُسْر وبالإجازة أَبُو الْغَنَائِم بن عَلان وَأَبُو الْعَبَّاس بن أبي الْخَيْر
وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا متفننا عَارِفًا بِالْمذهبِ دينا على طَريقَة حميدة
ولي خطابة دمشق وَأقَام بهَا مُدَّة طَوِيلَة ودهرا طَويلا ودرس بالغزالية زَمَانا كَبِيرا وتفقه عَليّ ابْن أبي عصرون أَيْضا
893 - عبد الْملك بن سعد بن تَمِيم بن أَحْمد بن عنبر التَّمِيمِي أَبُو الْفضل
من أهل أسداباذ ورد بَغْدَاد وتفقه على الإِمَام أبي بكر الشَّاشِي وَأقَام بهَا مُدَّة وَرجع إِلَى بَلَده أسداباذ ثمَّ خرج مِنْهَا إِلَى جرباذقان وَولي بِهِ تدريس الْمدرسَة
كتب عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَقَالَ سَأَلته عَن مولده فَقَالَ فِي شَوَّال سنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَلم يذكر وَفَاته
894 - عبد الْملك بن نصر الله بن جهبل أَبُو الْحُسَيْن
من أهل حلب كَانَ يدرس بمدرسة الزجاجين بهَا(7/188)
قَالَ ابْن النجار كَانَ فَقِيها فَاضلا حسن الْمعرفَة بِمذهب الشَّافِعِي وَكَانَ زاهدا ورعا توفّي بحلب فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسعين وخسمائة
895 - عبد الْملك بن أبي نصر بن عمر أَبُو الْمَعَالِي
من أهل جيلان
سكن بَغْدَاد وَكَانَ رجلا صَالحا يأوي الخراب
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فَقِيه صَالح دين خير عَامل بِعِلْمِهِ كثير الْعِبَادَة وَالصَّلَاة لَيْسَ لَهُ مأوى مَعْلُوم ومنزل مَشْهُور يسكنهُ يبيت أَي مَوضِع اتّفق
قَالَ وتفقه على أسعد الميهني وَسمع من القَاضِي أبي المحاسن بن الرَّوْيَانِيّ وَغَيره وَذكر ابْن السَّمْعَانِيّ أَنه سَمعه مذاكرة يَقُول سَمِعت أَرْبَاب الْقُلُوب تَقول من عرف أَن جَمِيع اللَّذَّات المتفرقة على الْأَعْضَاء تنطوي تَحت هَذِه اللَّذَّة ثمَّ أنشأ يَقُول
(كَانَت لقلبي أهواء مفرقة ... فاستجمعت مذ رأتك الْعين أهواى)
(فظل يحسدني من كنت أحسده ... فصرت مولى الورى مذ صرت مولَايَ)
(تركت للنَّاس دنياهم وَدينهمْ ... شغلا بحبك ياديني ودنياي)
قَالَ وسمعته يَقُول سَمِعت إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبَا مخلد الْفَزارِيّ قَالَ كنت بِمَكَّة فَرَأَيْت شَيخا من أهل الْمغرب يطوف وَيَقُول
(تمتّع بالرقاد على شمال ... فَسَوف يطول نومك بِالْيَمِينِ)(7/189)
(ومتع من يحبك من تلاق ... فَأَنت من الْفِرَاق على يَقِين)
مَاتَ فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة بفيد
896 - عبد الْملك بن مُحَمَّد بن هبة الله بن سهل بن عمر بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن البسطامي
سبط إِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ
كَانَ يعرف بالفخر وَهُوَ من بَيت الْإِمَامَة وَالْعلم
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فِي التحبير صَار مقدم الْأَصْحَاب بنيسابور مُدَّة وَكَانَ يرجع إِلَى فضل وذكاء وفطنة يناظر وَيذكر
سمع معي من جده هبة الله بن سهل السيدي وَوصل إِلَى نعيه وَأَنا بِبَغْدَاد فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
قلت كَذَا فِي التحبير وَفِي كتاب ابْن باطيش وَابْن باطيش من التحبير يَأْخُذ
وَفِي هَذِه السّنة توفّي جده هبة الله بن سهل
897 - عبد الْملك الطَّبَرِيّ
صَاحب الْأَحْوَال والكرامات وَالْجد فِي الْعِبَادَات نزيل مَكَّة وَشَيخ الْحرم فِي وقته
كَانَ أحد الْمَشْهُورين بالزهد والورع
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ أَقَامَ بِمَكَّة قَرِيبا من أَرْبَعِينَ سنة على الْجد وَالِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة والرياضة وقهر النَّفس وَكَانَ ابْتِدَاء أمره أَنه كَانَ يتفقه بِالْمَدْرَسَةِ(7/190)
قلت أحسبها النظامية فلاح لَهُ شَيْء فَخرج على التَّجْرِيد إِلَى مَكَّة وَبَقِي بهَا إِلَى أَن توفّي وَكَانَ يلبس الخشن وَيَأْكُل الجشب ويزجي وقته على ذَلِك صَابِرًا فِيهِ وَسمعت بَعضهم يَقُول إِنَّه كَانَ لَا يدْخل الْمَسْجِد الْحَرَام فِي وَقت الْمَوْسِم واجتماع النَّاس إِلَّا على سَبِيل الندرة وَإنَّهُ كَانَ يدْخل الْحرم وَعَلِيهِ إِزَار خشن مشدود بالليف على وَسطه وَمَعَهُ مكتل يلتقط البعر من الْمَسْجِد الْحَرَام ويطرحه فِي المكتل ويخرجه من مَكَّة ويرميه خَارِجا مِنْهَا
وَسمعت هبة الله الْقشيرِي بنيسابور يَقُول لما كنت بِمَكَّة أردْت أَن أَزور الشَّيْخ عبد الْملك الطَّبَرِيّ فدللت إِلَيْهِ فمضيت عَلَيْهِ فَوَجَدته محموما منطرحا فلمادخلت عَلَيْهِ تكلّف وَجلسَ وَقَالَ أَنا إِذا حممت أفرح بذلك لِأَن النَّفس تشتغل بالحمى فَلَا تشغلني عَمَّا أَنا فِيهِ وأخلو بقلبي كَمَا أُرِيد
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ قَرَأت بِخَط الأديب أبي الْحسن عَليّ بن حسكويه المراغي سَمِعت الْحُسَيْن الزغنداني يَقُول رَأَيْت حوضا يُقَال بِهِ عنبر وَالْمَاء فِي أَسْفَله بِحَيْثُ لَا تصل إِلَيْهِ الْيَد فَرَأَيْت غير مرّة الشَّيْخ عبد الْملك تَوَضَّأ مِنْهُ وارتفع المَاء إِلَى أَن وصلت يَده إِلَيْهِ ثمَّ عَاد المَاء بعد فَرَاغه قَالَ الْحُسَيْن وَغَابَ الشَّيْخ وقتا عَن نَفسه فدنوت مِنْهُ وأسندته إِلَى صَدْرِي بِحَيْثُ كَانَ رَأسه عِنْد صَدْرِي وَكَانَ النَّاس يتزاحمون عَلَيْهِ وَكنت أذبهم عَنهُ فَدخل وَاحِد فَسَأَلَهُ عَن مَسْأَلَتَيْنِ فَمَا أجَاب ثمَّ سَأَلَهُ مَسْأَلَة ثَالِثَة فَأجَاب فَبعد مُدَّة سَأَلت الشَّيْخ عَن السُّكُوت عَن الْمَسْأَلَتَيْنِ وَالْجَوَاب عَن الثَّالِثَة فَقَالَ لَقَّنَنِي الثَّالِثَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسكت عَن الْأَوليين فَمَا أجبْت عَنْهُمَا(7/191)
وَقَالَ الْحُسَيْن قصدت الشَّيْخ عبد الْملك يَوْمًا فَلم أصادفه فِي مَوْضِعه وَكنت أسمع صَوتا فطلبته فِي خربة فَوَجَدته وَكَانَ ذَلِك الصَّوْت من غليان صَدره
وَقَالَ الْحُسَيْن كنت مَعَ الشَّيْخ عبد الْملك لَيْلَة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَكَانَت لَيْلَة بَارِدَة وَكَانَ ظهر الشَّيْخ قد تشقق من الْبرد وَكَانَ عُريَانا فَنَامَ على بَاب الْمَسْجِد فَوضع يَده الْيُمْنَى تَحت خَدّه وَالْيَد الْيُسْرَى على رَأسه وَكَانَ يذكر الله تَعَالَى فَقلت لَو نمت فِي زَاوِيَة من زَوَايَا الْمَسْجِد كَانَ أصلح وَكَانَ يكنك من الْبرد فَقَالَ نمت فِي بعض اللَّيَالِي فِي الْمَسْجِد فَرَأَيْت شَخْصَيْنِ دخلا الْمَسْجِد وتقدما إِلَى وَقَالا لَا تنم فِي الْمَسْجِد
فَقلت لَهما من أَنْتُمَا فَقَالَا نَحن ملكان
فانتبهت وَمَا نمت بعد ذَلِك فِي الْمَسْجِد
قَالَ الْحُسَيْن وَكَانَ أَكثر ذكر الشَّيْخ عبد الْملك سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ الله الْعَظِيم وَبِحَمْدِهِ
قَالَ الْحُسَيْن سَأَلت الشَّيْخ هَل رَأَيْت فِي الْحرم عجبا قَالَ رَأَيْت حمامة بَيْضَاء طافت أسبوعا بِالْكَعْبَةِ فِي الْهَوَاء ثمَّ جَاءَت فوقفت على بَاب الْكَعْبَة
هَذَا مُخْتَصر من كَلَام ابْن السَّمْعَانِيّ رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا ورضوانه
898 - عبد الْمُنعم بن عبد الْكَرِيم بن هوَازن الْقشيرِي الشَّيْخ أَبُو المظفر بن الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم
سمع أَبَاهُ وَأَبا عُثْمَان سعيد بن مُحَمَّد الْبُحَيْرِي وَأَبا بكر الْبَيْهَقِيّ وَغَيرهم وسافر بعد وَفَاة وَالِده مَعَ أَخِيه أبي نصر عبد الرَّحِيم إِلَى الْحَج فَسمع بِبَغْدَاد أَبَا الْحُسَيْن بن(7/192)
النقور وَأَبا نصر الزَّيْنَبِي وَغَيرهمَا وَحج وَسمع بِمَكَّة ثمَّ ورد بَغْدَاد كرة بعد كرة وَحدث بهَا وروى عَنهُ من أَهلهَا عبد الْوَهَّاب الْأنمَاطِي وَالْمبَارك بن كَامِل الْخفاف وَغَيرهمَا وَعَاد إِلَى نيسابور وَحدث بهَا أَكثر من عشْرين سنة وروى عَنهُ من أَهلهَا الْمُؤَيد ابْن مُحَمَّد الطوسي وَغَيره
مولده فِي صفر سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَتُوفِّي فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
899 - عبد الْوَاحِد بن أَحْمد بن عمر بن الْوَلِيد الدَّارَانِي أَبُو سعد من أهل أَصْبَهَان
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ تفقه وبرع فِي الْفِقْه حَتَّى صَار يُفْتِي بأصبهان وَيرجع إِلَيْهِ فِي الوقائع 2 3 أَبُو المحاسن الرَّوْيَانِيّ
صَاحب الْبَحْر(7/193)
أحد أَئِمَّة الْمَذْهَب
ولد فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس عشرَة وَأَرْبَعمِائَة
وتفقه على أَبِيه وجده بِبَلَدِهِ وعَلى نَاصِر الْمروزِي بنيسابور وَمُحَمّد بن بَيَان الكازروني بميافارقين
وَسمع عبد الله بن جَعْفَر الْخَبَّازِي وَأَبا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد المطهري وَأَبا حَفْص بن مسرور وَمُحَمّد بن بَيَان الكازروني شَيْخه وَأَبا غَانِم أَحْمد ابْن عَليّ الكراعي وَأَبا عُثْمَان الصَّابُونِي وجده أَبَا الْعَبَّاس الرَّوْيَانِيّ وَأَبا مَنْصُور مُحَمَّد ابْن عبد الرَّحْمَن الطَّبَرِيّ وَغَيرهم بآمل ونيسابور وبخارى وغزنة ومرو وَغَيرهَا
روى عَنهُ زَاهِر الشحامى وابو الْفتُوح الطَّائِي وابو رشيد إِسْمَاعِيل بن غَانِم وَأَبُو طَاهِر السلَفِي وَإِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد التَّيْمِيّ الْحَافِظ وَخلق كَثِيرُونَ
وَكَانَ يلقب فَخر الْإِسْلَام وَله الجاه العريض فِي تِلْكَ الديار وَالْعلم الغزيز وَالدّين المتين والمصنفات السائرة فِي الْآفَاق والشهرة بِحِفْظ الْمَذْهَب يضْرب الْمثل باسمه فِي ذَلِك حَتَّى يحْكى أَنه قَالَ لَو احترقت كتب الشَّافِعِي لأمليتها من حفظي
قلت وَلَا يَعْنِي بكتبه منصوصاته فَقَط بل منصوصاته وَكتب أَصْحَابه هَذَا هُوَ الَّذِي يُرَاد عِنْد إِطْلَاق كتب الشَّافِعِي
وَكَانَ نظام الْملك كثير التَّعْظِيم لَهُ
قَالَ فِيهِ القَاضِي أَبُو مُحَمَّد الْجِرْجَانِيّ نادرة الْعَصْر إِمَام فِي الْفِقْه(7/194)
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ من رُءُوس الْأَئِمَّة والأفاضل لِسَانا وبيانا لَهُ الجاه العريض وَالْقَبُول التَّام فِي تِلْكَ الديار وَحميد المساعي والْآثَار والتصلب فِي الْمَذْهَب والصيت فِي الْبِلَاد الْمَشْهُورَة والأفضال على المنتابين والقاصدين إِلَيْهِ
وَقَالَ الْعِمَاد مُحَمَّد بن أبي سعد وَهُوَ صدر الرّيّ فِي زَمَانه أَبُو المحاسن الرَّوْيَانِيّ شَافِعِيّ عصره
قلت ولي القَاضِي أَبُو المحاسن قَضَاء طبرستان ورويان من قراها وَهِي بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْوَاو وَالْفُقَهَاء يهمزون الرَّوْيَانِيّ وَالْمَعْرُوف أَنه بِغَيْر همز وَكَانَ القَاضِي فِيمَا أَحسب مدرس نظامية طبرستان ثمَّ انْتقل إِلَى آمل وَهِي وَطن أَهله فَأَقَامَ بهَا إِلَى يَوْم الْجُمُعَة عِنْد ارْتِفَاع النَّهَار حادي عشر الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة فَقتلته الْمَلَاحِدَة حسدا وَمَات شَهِيدا بعد فَرَاغه من الْإِمْلَاء وَهُوَ مِمَّن دخل بَغْدَاد وَذكره ابْن السَّمْعَانِيّ فِي الذيل وأخل بِهِ ابْن النجار
وَمن تصانيفه الْبَحْر وَهُوَ وَإِن كَانَ من أوسع كتب الْمَذْهَب إِلَّا أَنه عبارَة عَن حاوي الْمَاوَرْدِيّ مَعَ فروع تلقاها الرَّوْيَانِيّ عَن أَبِيه وجده ومسائل أخر فَهُوَ أَكثر من الْحَاوِي فروعا وَإِن كَانَ الْحَاوِي أحسن ترتيبا وأوضح تهذيبا
وَمن تصانيفه أَيْضا الفروق والحلية والتجربة والمبتدا وَحَقِيقَة الْقَوْلَيْنِ ومناصيص الشَّافِعِي وَالْكَافِي وَغير ذَلِك(7/195)
وَهَذِه نحب وفوائد وغرائب عَن الرَّوْيَانِيّ
قَالَ فِي الْحِلْية فِي بَاب الرَّهْن إِذا رأى الْمُحْتَسب فِي دَار خمرًا علم أَنَّهَا مُحْتَرمَة يجوز أبقاؤها فَلَا يريقها فِي قَول أَكثر أَصْحَابنَا خلافًا للقفال
وَقَالَ فِي الْبَحْر فِي مَسْأَلَة من تَيَقّن طَهَارَة وحدثا وَجَهل الأول تَفْرِيعا على الْوَجْه الْمَشْهُور وَهُوَ أَنه يحكم الْآن بضدما كَانَ قبلهمَا وَهُوَ رأى ابْن الْقَاص وَالْأَكْثَر وَإِن قَالَ عرفت قبل هَاتين الْحَالَتَيْنِ حَدثا وطهارة وَلَا أَدْرِي أَيهمَا كَانَ الأول اعْتبرنَا مَا كَانَ مُسْتَقْبل هَاتين الْحَالَتَيْنِ الْأَوليين فَإِن عرف الطَّهَارَة من نَفسه قبلهمَا جَازَ لَهُ أَن يُصَلِّي الْآن وَإِن عرف الْحَدث قبلهمَا لم يجز لَهُ أَن يُصَلِّي الْآن مَا لم يتَطَهَّر قَالَ فجواب هَذِه الْمَسْأَلَة بعكس مَا ذكرنَا وهما سَوَاء فِي الْمَعْنى إِذا تأملته وَهَذَا على قَول ابْن أبي أَحْمد
انْتهى
يَعْنِي ابْن الْقَاص وَالْحَاصِل أَنه فِي الأوتار يحكم بضد مَا كَانَ قبل وَفِي الأشفاع بِمثلِهِ وَهُوَ وَاضح للمتأمل
وَحكي فِي الْبَحْر وَجها فِيمَا إِذا اشتبهت نَجَاسَة مَكَان من بَيت أَنه يتحَرَّى فِيهِ كالثوبين والبيتين قَالَ وَالصَّحِيح لَا يتحَرَّى بل يغسل الْكل كبعض مَجْهُول من ثوب
قلت وبالصحيح جزم الْوَالِد فِي شرح الْمِنْهَاج
قَالَ فِي الْبَحْر قبيل كتاب الشَّهَادَات إِذا اعْتقد الشَّاهِد أَن الْحَاكِم لَا يصلح للْقَضَاء لكنه يُوصل الْمَشْهُود لَهُ إِلَى حَقه بِشَهَادَتِهِ لزمَه أَن يشْهد عِنْده ذكره أَصْحَابنَا انْتهى
وأصل هَذَا الْفَرْع فِي تَعْلِيقه الشَّيْخ أَبُو حَامِد فَإِن فِيهَا مَا نَصه فرع إِذا سَأَلَهُ الْمَشْهُود لَهُ أَن يشْهد لَهُ عِنْد سُلْطَان أوحاكم وَالشَّاهِد يعْتَقد أَن الْحَاكِم أَو السُّلْطَان لَيْسَ من أهل الْولَايَة وَيعلم أَنه إِن شهد عِنْده أوصل الْمَشْهُود لَهُ إِلَى حَقه فَإِنَّهُ يلْزمه أَن يشْهد عِنْده(7/196)
لِأَن الشَّهَادَة حق للْمَشْهُود لَهُ ويمكنه أَن يتَوَصَّل بِهِ إِلَى حَقه انْتهى
وَعبارَته كَمَا ترى السُّلْطَان أَو الْحَاكِم وَلَا يَعْنِي بالحاكم القَاضِي أما القَاضِي الَّذِي لَا يصلح فسنذكر مَا فِيهِ عَن حِكَايَة الرَّافِعِيّ عَن أبي الْفرج وَقد ذكر الرَّافِعِيّ اخْتِلَاف ابْن الْقطَّان وَابْن كج فِي شَاهد دعِي لأَدَاء الشَّهَادَة عِنْد أَمِير أووزير هَل تلْزمهُ الْإِجَابَة وَصحح النَّوَوِيّ قَول ابْن كج وَهُوَ أَنه تلْزمهُ إِذا علم أَنه يصل بِهِ إِلَى الْحق
قلت وَالْقَاضِي غير الصَّالح كالأمير أَو خير حَالا لِأَن اسْم الْقَضَاء وَسَمَاع الشَّهَادَة يخْتَص بمنصبه أَو شَرّ حَالا لِأَن منصبه احْلِف كل ذَلِك مُحْتَمل فَلَا يبعد أَن يطرقه الْخلاف بل قد طرقه أَلا ترى أَن الرَّافِعِيّ ذكر أَن الشَّيْخ أَبَا الْفرج حُكيَ وَجْهَيْن فِي أَنه هَل يجب الْحُضُور عِنْد قَاض جَائِر أَو متعنت وَأَدَاء الشَّهَادَة عِنْده لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن أَن يرد شَهَادَة فيتغير
قَالَ الرَّافِعِيّ وعَلى هَذَا فعداله القَاضِي واستجماعه الصِّفَات الشَّرْعِيَّة شَرط آخر من شَرَائِط الْوُجُوب يَعْنِي فِي الْأَدَاء وَمُرَاد ابْن الْقطَّان وَابْن كج بالأمير غير مُرَاد ابْن الْحداد بِهِ فِي قَوْله وَلَو أَن وَصِيّا على يَتِيم ولي الحكم إِلَى قَوْله لم يكن لَهُ أَن يحكم حَتَّى يصير إِلَى الإِمَام أَو الْأَمِير فيدعي الْمَسْأَلَة فَإِن مُرَاده بالأمير من جعل لَهُ الحكم من الْأُمَرَاء وَمُرَاد ابْن الْقطَّان وَابْن كج من لَا حكم لَهُ مِنْهُم بل يقدم على الحكم ظلما وَكَذَلِكَ كَانَت عبارَة الشَّيْخ أبي عَليّ فِي شرح الْفُرُوع على غير مُرَاد ابْن الْحداد مَا نَصه أَو الْأَمِير الَّذِي ولاه القَاضِي على أَن الرَّوْيَانِيّ ذكر فِي الْبَحْر فِي بَاب من تجوز شَهَادَته وَمن لَا تجوز مَسْأَلَة ابْن الْقطَّان وَفصل فِيهَا فَقَالَ إِن كَانَ الْأَمِير مِمَّن يجوز لَهُ الْإِلْزَام بالحقوق لَزِمت تأدية الشَّهَادَة عِنْده والإ فَلَا وَصُورَة مَسْأَلَة ابْن الْقطَّان فِيمَن لَيْسَ لَهُ ذَلِك فَإِذا الرَّوْيَانِيّ مُرَجّح لمقالة ابْن الْقطَّان وَلَكِن يُرِيد باللزوم أَن الشَّاهِد المشتهر بِالْفِسْقِ(7/197)
يلْزمه تأدية الشَّهَادَة كَمَا سننقله عَن تَصْرِيح الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ للإيصال إِلَى الْحق فَكَذَلِك من يُؤَدِّي عِنْد من لَا يصلح بل وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي هَذَا الْمَكَان أَيْضا إِذا أَرَادَ النّظر إِلَى أَجْنَبِيَّة للشَّهَادَة مرّة وَاحِدَة وَهُوَ يعلم أَنه لَا تقع لَهُ الْمعرفَة بالكرة الْوَاحِدَة فأبصرها على وَجه لَو رَآهَا ثَانِيًا علم أَنَّهَا تِلْكَ الْمَرْأَة يحْتَمل أَن يُقَال لَا يفسق لِأَن لهَذِهِ الرُّؤْيَة تَأْثِيرا فِي شَهَادَته لِأَن الرُّؤْيَة لَو تَكَرَّرت حَتَّى وَقعت الْمعرفَة على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ كَانَ الْمُؤثر فِي ذَلِك جَمِيع مَا تقدم وَإِن كَانَ هَذَا الْقدر غير كَاف فِي جَوَاز الشَّهَادَة بذلك لَا يفسق لجَوَاز أَدَاء الشَّهَادَة بِهَذِهِ الرُّؤْيَة بعد الْحُرِّيَّة وَإِن كَانَت لَا تقبل فِي الْحَال وَيحْتَمل أَن يُقَال يفسق لِأَن التَّحَمُّل لَا يَقع بِهَذِهِ الرُّؤْيَة فَهِيَ إِذا غير مُعْتَبرَة فَصَارَ كالرؤية لَا لغَرَض صَحِيح وَيُفَارق مَسْأَلَة العَبْد فَإِن التَّحَمُّل هُنَاكَ يَقع بِتِلْكَ الرُّؤْيَة على وَجه الصِّحَّة فَصَارَت الرُّؤْيَة مُعْتَبرَة
وَقَالَ فِي بَاب من تجوز شَهَادَته وَمن لَا تجوز شَهَادَته من يستبيح دم مُسلم لَا يقتل عَلَيْهِ وَإِن كَانَ متأولا وَقد قدمْنَاهُ هَذَا فِي الطَّبَقَة الأولى فِي تَرْجَمَة أَحْمد بن صَالح الْمصْرِيّ
وَجزم بِأَن الْكَذِب عَن قصد يرد الشَّهَادَة قَالَ لِأَنَّهُ حرَام بِكُل حَال قَالَ قَالَ الْقفال إِلَّا أَن يكون على عَادَة الْكتاب وَالشعرَاء فِي الْمُبَالغَة
قَالَ وَقيل إِذا ترك صَلَاة وَاحِدَة بالاشتغال بِشَيْء هَل تسْقط عَدَالَته فِيهِ وَجْهَان وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء انْتهى يَعْنِي وَالصَّوَاب الْقطع بالسقوط لتعمده وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ اقْتصر على عزو وَجه عدم سُقُوط الْعَدَالَة إِلَى التَّهْذِيب وَهُوَ فِي(7/198)
تعليقة القَاضِي الْحُسَيْن وَغَيرهَا فَرَأَيْت بِهِ أَن كَلَام الْبَحْر مِمَّا يَقْتَضِي جعل الْمَسْأَلَة على طَرِيقين إِحْدَاهمَا الْقطع بالسقوط
وَقَالَ فِي الْفَاسِق يدعى إِلَى أَدَاء شَهَادَة تحملهَا إِن كَانَ ظَاهر الْفسق لم يلْزمه أَدَاؤُهَا وَإِن كَانَ فسقه بَاطِنا لزمَه لِأَن رد شَهَادَته بِالْفِسْقِ الظَّاهِر مُتَّفق عَلَيْهِ وبالباطن مُخْتَلف فِيهِ وَعَزاهُ إِلَى الْحَاوِي وَهِي مَسْأَلَة مليحة وَالَّذِي فِي الرَّافِعِيّ أَنه إِذا كَانَ مجمعا عَلَيْهِ ظَاهرا أَو خفِيا لم يجز لَهُ أَن يشْهد فضلا عَن الْوُجُوب وَقَضِيَّة كَلَام الْحَاوِي وَالْبَحْر أَن الْخَفي غير مجمع على الرَّد بِهِ وَهُوَ حسن وَيخرج مِنْهُ فَاسق لَا يرد لعدم علم القَاضِي بِفِسْقِهِ
قَالَ فِي الْبَحْر فِي الْفُرُوع المنثورة آخر كتاب الْأَقْضِيَة مانصه
فرع إِذا زنى بأَمْره وَعِنْده أَنه لَيْسَ ببالغ فبأن أَنه كَانَ بَالغا هَل يلْزمه الْحَد فِيهِ وَجْهَان انْتهى وَقد غلط بعض الْمُتَأَخِّرين كَمَا نبه ابْن الرّفْعَة عَلَيْهِ فنسب إِلَى صَاحب الْبَحْر حِكَايَة وَجْهَيْن فِي وجوب الْحَد على الصَّبِي وَهَذَا لَا حَكَاهُ صَاحب الْبَحْر وَلَا غَيره وَإِنَّمَا الَّذِي حَكَاهُ مَا ذَكرْنَاهُ
قلت وَقد قَالَ فِي الْبَحْر قبيل بَاب اخْتِلَاف نِيَّة الإِمَام وَالْمَأْمُوم فِي صَلَاة الصَّبِي وَأَوْمَأَ فِي الْأُم إِلَى أَنَّهَا تجب قبل بُلُوغه وَلكنه لَا يُعَاقب على تَركهَا عُقُوبَة الْبَالِغ وَرَأَيْت كثيرا من الْمَشَايِخ يرتكبون هَذَا القَوْل فِي المناظرة وَلَيْسَ بِمذهب لِأَنَّهُ غير مُكَلّف أصلا وَإِنَّمَا هَذَا قَول أَحْمد فِي رِوَايَة أَنَّهَا تجب على الصَّبِي إِذا بلغ عشرا انْتهى
قلت وَهُوَ مَا يحْكى عَن ابْن سُرَيج أَن الصَّلَاة تجب على الصَّبِي إِذا بلغ عشرا وجوب مثله وَإِن لم يَأْثَم بِتَرْكِهَا إِذْ لَو لم تجب لما ضرب عَلَيْهَا وَقد ذكر أَن الشَّافِعِي أَشَارَ إِلَيْهِ(7/199)
الْكَلْب يلغ فِي مَاء يشربه الْمَرْء ثمَّ يبوله
اخْتَار الرَّوْيَانِيّ فِي الْحِلْية الِاكْتِفَاء بِمرَّة وَاحِدَة فِي الْغسْل من ولوغ الْكَلْب وَزعم فِيهِ أَن الْأَخْبَار فِيهِ متعارضة وَلَيْسَ كَمَا زعم ثمَّ اسْتدلَّ على اخْتِيَاره بِأَنَّهُ لَو شرب المَاء الَّذِي ولغَ فِيهِ الْكَلْب ثمَّ بَال قَالَ الشَّافِعِي يغسل من بَوْله مرّة وَيغسل فَاه سبعا قَالَ الرَّوْيَانِيّ وَقد زَادَت النَّجَاسَة باستحالته بولا وَعَلِيهِ الْعَمَل فِي جَمِيع بِلَاد الْإِسْلَام وتشكيك النَّفس فِيهِ من الوسواس انْتهى
فَأن تجزى مرّة وَاحِدَة وَلم يسْتَحل أولى وأجدر وَمَا حَكَاهُ عَن النَّص مَسْأَلَة حسنه
الدُّخُول فِي صَلَاة الصُّبْح بِغَلَس وَالْخُرُوج مِنْهَا بِغَلَس قَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي التجربة يسْتَحبّ أَن يدْخل فِي صَلَاة الصُّبْح بِغَلَس وَيخرج مِنْهَا بِغَلَس نَص عَلَيْهِ وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ يدْخل بِغَلَس وَيخرج بالإسفار جمعا بَين الْأَخْبَار وَهُوَ حسن لكنه خلاف الْمَذْهَب
الشَّاهِد الْوَاحِد يشْهد بِطُلُوع فجر رَمَضَان أَو غرُوب شمسه قَالَ فِي الْبَحْر قبيل بَاب الْأَيَّام الَّتِي نهى عَن الصّيام فِيهَا فِي فروع نقلهَا عَن أَبِيه فرع إِذا شهد عدل بِطُلُوع الْفجْر فِي رَمَضَان هَل يلْزمه الْإِمْسَاك عَن الطَّعَام أَو يعْتَبر قَول اثْنَيْنِ إِذا لم يُمكنهُ معرفَة الْحَال قَالَ يَعْنِي أَبَاهُ يحْتَمل وَجْهَيْن وهما مبنيان على قبُول شَهَادَة الْوَاحِد فِي هِلَال رَمَضَان وَهَذَا لِأَن مُقْتَضَاهُ وجوب الصَّوْم والإمساك كَذَلِك وَفِي الشَّهَادَة على غرُوب الشَّمْس لَا بُد من اثْنَيْنِ كَالشَّهَادَةِ على هِلَال شَوَّال انْتهى وَاخْتَارَ الْوَالِد رَحمَه الله بعد مَا حكى هَذَا الْكَلَام اعْتِمَاد الْوَاحِد فِي الْمَوْضِعَيْنِ(7/200)
901 - عبد الْوَاحِد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مخلد أَبُو الْفَتْح الباقرحي
من أَوْلَاد الْمُحدثين
تفقه على إِلْكيَا الهراسي بِبَغْدَاد وعَلى أبي حَامِد الْغَزالِيّ وَأبي نصر الْقشيرِي بنيسابور وَسمع من أبي عبد الله بن طَلْحَة وَأبي الْحُسَيْن بن الطيوري وبنيسابور من عبد الْغفار الشيروي وَغَيره
وَكَانَ فَقِيها أديبا قدم بَغْدَاد فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة وَمَعَهُ كتاب السُّلْطَان سنجر بن ملكشاه بِتَسْلِيم الْمدرسَة النظامية إِلَيْهِ فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَقَامَ الْفُقَهَاء عَلَيْهِ وَلم يفد وَاسْتمرّ يدرس بهَا إِلَى أَن جَاءَ أسعد الميهني بِكِتَاب السُّلْطَان فعزل وَاسْتقر أسعد(7/204)
وَعَن ابْن الباقرحي بت لَيْلَة متفكرا فِي قلَّة حظي من الدُّنْيَا فَرَأَيْت فِي الْمَنَام مغنيا يُغني فَالْتَفت إِلَيّ وَقَالَ لي اسْمَع يَا شيخ
(أَقْسَمت بِالْبَيْتِ الْعَتِيق وركنه ... والطائفين ومنزل الْقُرْآن)
(ماالعيش فِي المَال الْكثير وَجمعه ... بل فِي الكفاف وَصِحَّة الْأَبدَان)
توفّي بغزنة سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة
902 - عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن عبد الْجَبَّار بن عبد الْوَاحِد الإِمَام أَبُو مُحَمَّد الْمروزِي التوثي
وتوث من قرى مرو
وَكَانَ من تلامذة أبي المظفر السَّمْعَانِيّ وَسمع مُحَمَّد بن الْحسن المهربندقشايي وَشَيْخه أَبَا المظفر وَغَيره
سمع مِنْهُ عبد الرَّحِيم بن السَّمْعَانِيّ وَغَيره
مولده فِي حُدُود سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة وَعمر الْعُمر الطَّوِيل هلك فِي معاقبة الغز فِي الْخَامِس من شعْبَان سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
903 - عبد الْوَهَّاب بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد الْفَارِسِي القَاضِي أَبُو مُحَمَّد الفامي الشِّيرَازِيّ
من أهل شيراز(7/205)
قدم بَغْدَاد وَالْحُسَيْن الطَّبَرِيّ يدرس بالنظامية فتقرر أَن يدرس كل وَاحِد مِنْهُمَا يَوْمًا مناوبة
وَحدث عَن أَبَوي بكر أَحْمد بن الْحسن بن اللَّيْث الْحَافِظ وَمُحَمّد بن أَحْمد بن عَبدك الحبال وَجَمَاعَة
روى عَنهُ عبد الْوَهَّاب الْأنمَاطِي وَأَبُو الْفضل بن نَاصِر وَغَيرهمَا وَكَانَ من أفقه أهل زَمَانه وأفضلهم
وَله كتاب الْآحَاد وَقيل إِنَّه صنف سبعين تأليفا وَأَنه ألف تَفْسِيرا ضمنه مائَة ألف بَيت من الشواهد وَكَانَ يملي الحَدِيث إِلَّا أَنه رُبمَا صحف التَّصْحِيف الشنيع فَرد عَلَيْهِ فَلم يرجع وَرُبمَا أسقط من الْإِسْنَاد وَحَاصِل أمره أَنه ذُو وهم بَالغ فِي الْكَثْرَة حدا عَالِيا وَلكُل فن رجال يعرفونه وَهُوَ لم يكن مُحدثا وَلكنه كَانَ لَا يرى تنقيص نَفسه فَيدْخل فِي الْإِمْلَاء وَقد كَانَ غَنِيا عَن ذَلِك
وَمن مصنفاته كتاب تَارِيخ الْفُقَهَاء
قَالَ فِيهِ ابْن السَّمْعَانِيّ أحد الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة وَكَانَ لَهُ يَد فِي الْمَذْهَب وَنقل أَن أَبَا زَكَرِيَّا يحيى بن أبي عَمْرو بن مَنْدَه قَالَ فِي تَارِيخ أصفهان أَبُو مُحَمَّد الفامي أحفظ من رَأَيْنَاهُ لمَذْهَب الشَّافِعِي
توفّي بشيراز فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة خَمْسمِائَة(7/206)
904 - عبد الْوَهَّاب بن هبة الله بن عبد الله السيبي القَاضِي أَبُو الْفرج
من بَيت جلالة وَهُوَ من أَشْيَاخ السلَفِي وَكَانَ يقْضِي فِي الْجَانِب الشَّرْقِي فِي الْحَرِيم وَفِي دَار الْخلَافَة مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ كَمَا يقْضِي ابْن الدَّامغَانِي فِي الْجَانِب الغربي
وَسمع الحَدِيث من أبي مُحَمَّد الصريفيني وَغَيره أسندنا حَدِيثه
قَالَ السلَفِي سَأَلته عَن مولده فَقَالَ سنة سبع وَعشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَتُوفِّي فِي ثَالِث الْمحرم سنة أَربع وَخَمْسمِائة
905 - عبيد الله بن عبد الْكَرِيم بن هوَازن أَبُو الْفَتْح بن الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم الصُّوفِي الْقشيرِي النَّيْسَابُورِي
كَانَ فاضلاكثير الْعِبَادَة لَهُ مصنفات فِي الطَّرِيقَة وَسكن أسفراين إِلَى حِين وَفَاته
وَسمع الحَدِيث من وَالِده وَعبد الغافر الْفَارِسِي وَأبي عُثْمَان سعيد بن مُحَمَّد الْبُحَيْرِي وَأبي حَفْص بن مسرور وَغَيرهم
توفّي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَخَمْسمِائة
906 - عَتيق بن عَليّ بن عمر أَبُو بكر البامنجي الْهَرَوِيّ
نزيل الْموصل أَقَامَ بهَا يدرس ويفتي إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة(7/207)
907 - عَتيق بن مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق بن عبد الْملك الماخواني من أهل مرو
وَتقدم ذكر وَالِده مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق وَأما هَذِه فكنيته أَبُو بكر وولادته بمرو لَيْلَة الثُّلَاثَاء لثلاث لَيَال بَقينَ من الْمحرم سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
وَحدث عَن أَبِيه بِجُزْء من أمالي الشَّيْخ أبي عَليّ السنجي سَمعه مِنْهُ أَبُو سعد ابْن السَّمْعَانِيّ وَذكره فِي التحبير وَقَالَ كَانَ فَقِيها واعظا سخي النَّفس مُسَددًا وَهُوَ صهرنا
قَالَ وَتُوفِّي ببلخ يَوْم السبت الْخَامِس من جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
908 - عُثْمَان بن عَليّ بن شراف بن أَحْمد
الْعجلِيّ الشرافي نِسْبَة إِلَى جده شراف بِفَتْح الشين وَالرَّاء المخففة وبالفاء المرستى الكالمستي من أهل بنج دِيَة
ولد سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة(7/208)
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ إِمَامًا فَاضلا زاهدا ورعا محتاطا فِي الْوضُوء وَالصَّلَاة والتنظف مفتيا مصيبا من تلامذه القَاضِي الْحُسَيْن تفقه عَلَيْهِ وبرع فِي الْفِقْه واشتغل بِالْعبَادَة وَلزِمَ منزله
وَسمع الحَدِيث من أستاذه القَاضِي الْحُسَيْن وَمن أبي مَسْعُود أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله البَجلِيّ الرَّازِيّ الْحَافِظ وَأبي حَامِد أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الخليلي الْبَغَوِيّ وَأبي عُثْمَان سعيد بن أبي سعيد الْعيار وَغَيرهم
كتب إِلَى الْإِجَازَة بِجَمِيعِ مسموعاته وَعمر الْعُمر الطَّوِيل
قَالَ وَلم يكن يغتاب أحدا وَلَا يُمكن أحدا من الْغَيْبَة فِي منزله وَإِذا لامه أحد على الوسواس فِي وضوئِهِ وَغسل ثِيَابه قَالَ أَنا لَا ألومكم على لبس الثِّيَاب الفاخرة فَلَا تلوموني على هَذَا
توفّي ببنج ديه فِي شعْبَان سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة
ذكره ابْن السَّمْعَانِيّ فِي التحبير وَابْن باطيش فِي الفيصل
909 - عُثْمَان بن مُحَمَّد بن أبي أَحْمد المصعبي
شَارِح مُخْتَصر الْجُوَيْنِيّ
أرَاهُ فِيمَا أَحسب من أهل أذربيجان وَقد وقفت على النّصْف الأول من هَذَا الشَّرْح فِي مُجَلد وَهُوَ شرح مُخْتَصر كَمَا قَالَ مُصَنفه فِي خطبَته نَازل عَن حد التَّطْوِيل مترق عَن دَرَجَة الِاخْتِصَار والتقليل
قَالَ وسميته شرح مُخْتَصر الْجُوَيْنِيّ لِأَنِّي جريت على تَرْتِيب مُخْتَصر الشَّيْخ أبي مُحَمَّد فصلا فصلا وزدت مَالا يَسْتَغْنِي الْفَقِيه عَن مَعْرفَته فَمن تَأمله عرف صرف همتي إِلَيْهِ(7/209)
وبذل جهدي فِيهِ هَذَا ملخص مَا فِي الْخطْبَة وينقل فِي هَذَا الشَّرْح كثيرا عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ ومأ أَظُنهُ أدْركهُ وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا أَحسب وأظن ظنا وَلَيْسَ بالمتيقن فِي أثْنَاء هَذَا الْقرن لَعَلَّه فِي حُدُود الْخمسين والخمسمائة أَو بعْدهَا
910 - عُثْمَان بن المسدد بن أَحْمد الدربندي أبوعمرو بن أبي الْقَاسِم
ذكر ابْن السَّمْعَانِيّ أَنه يعرف بفقيه بَغْدَاد وتفقه على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَسمع أَبَوي الْحُسَيْن ابْن الْمُهْتَدي وَابْن النقور وَغَيرهمَا كَانَت وَفَاته بعد الْخَمْسمِائَةِ
911 - عَسْكَر بن أُسَامَة بن جَامع بن مُسلم أَبُو عبد الرَّحْمَن الْعَدوي
من أهل نَصِيبين
قدم بَغْدَاد وَسمع أَبَا الْقَاسِم بن الْحصين وَأَبا الْعِزّ بن كادش وَمُحَمّد بن عبد الْبَاقِي الْأنْصَارِيّ وَأَبا الْقَاسِم بن السَّمرقَنْدِي وَطَائِفَة ثمَّ عَاد إِلَى نَصِيبين وَأقَام بهَا يُفْتِي ويدرس
وَكَانَ فَقِيها صَالحا دينا
توفّي بنصيبين سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة ومولده سنة اثْنَتَيْنِ أَو ثَلَاث وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة(7/210)
912 - عَليّ بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن محمويه أَبُو الْحسن المقرىء الْفَقِيه من أهل يزدْ
سمع أَبَا بكر مُحَمَّد بن مَحْمُود الثَّقَفِيّ وَأَبا المكارم مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحسن النسوي المقرىء وَأَبا عَليّ الْحسن بن أَحْمد الْحداد وَمُحَمّد بن عبد الْكَرِيم بن خشيش وَأَبا الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن العلاف وَأَبا عَليّ بن نَبهَان وَغَيرهم
وتفقه على فَخر الْإِسْلَام الشَّاشِي وَالْقَاضِي أبي عَليّ الفارقي سَافر إِلَيْهِ إِلَى وَاسِط
وصنف الْكثير حَدِيثا وفقها وزهدا وَكَانَ من الْفُقَهَاء المتعبدين وَكَانَ لَهُ عِمَامَة وقميص بَينه وَبَين أَخِيه إِذا خرج ذَاك قعد هَذَا فِي الْبَيْت وَبِالْعَكْسِ وَدخل إِلَيْهِ زائر فَوَجَدَهُ عُريَانا فَقَالَ نَحن إِذا غسلنا ثيابنا نَكُون كَمَا قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ
(قوم إِذا غسلو ثِيَاب جمَالهمْ ... لبسوا الْبيُوت إِلَى فرَاغ الْغَاسِل)
وَقيل إِنَّه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام وَهُوَ يَقُول لَهُ يَا عَليّ صم رجبا عندنَا
فَمَاتَ لَيْلَة رَجَب سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة(7/211)
عَليّ بن أَحْمد بن عَليّ بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الطَّبَرِيّ الرَّوْيَانِيّ
سكن بُخَارى
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ إِمَامًا فَاضلا عَارِفًا بِمذهب الشَّافِعِي
تفقه على الإِمَام أبي الْقَاسِم الفوراني وَأبي سهل أَحْمد بن عَليّ الأبيوردي وَغَيرهمَا
روى لنا عَنهُ أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن عَليّ البيكندي
وَمَات ببخارى فِي شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
913 - عَليّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عمر بن مُسلم الْعلوِي الْحُسَيْنِي الزيدي
يتَّصل نسبه بزيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ
كَانَ من الْمشَار إِلَيْهِم فِي الزّهْد وَالْعِبَادَة وَحسن الطَّرِيقَة وَصِحَّة العقيدة وَطلب الْعلم ودرسه وَالسَّعْي فِي تَحْصِيله وَحصل لَهُ الْقبُول التَّام من النَّاس وَهُوَ فِي غَايَة التَّوَاضُع وَنِهَايَة التمسكن وأقصى الْمُرُوءَة من كرم وَحسن وأخلاق وأفضال
سمع الْكثير وَقَرَأَ بِنَفسِهِ وَكتب واستكتب ووقف كتبا كَثِيرَة هُوَ وَصَاحب لَهُ يُسمى صبيحا كَانَا على طَريقَة حميدة وصحبة أكيدة ووقفا كتبهماجملة
سمع أَبَا الْفضل بن نَاصِر وَأَبا الْوَقْت السجْزِي وخلائق كثيرين وَبَالغ فِي الطّلب حَتَّى كتب عَن أقرانه وَعَمن هُوَ دونه وَحدث باليسير لِأَنَّهُ مَاتَ شَابًّا قبل وَقت التحديث(7/212)
ولد سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَمَات سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَمن كَلَامه اجْعَل النَّوَافِل كالفرائض والمعاصي كالكفر والشهوات كالمسموم ومخالطة النَّاس كالنار والغذاء كالدواء
914 - عَليّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد أَبُو المكارم البُخَارِيّ
تفقه بِبَغْدَاد على إِلْكيَا الهراسي
وَولى قَضَاء وَاسِط وَكَانَ يدرس الْفِقْه بِجَامِع وَاسِط
مَاتَ فِي شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
915 - عَليّ بن حسكويه بن إِبْرَاهِيم أَبُو الْحسن المراغي الأديب
تفقه بِبَغْدَاد على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ برع فِي الْفِقْه وَكَانَ عَارِفًا باللغة وَالشعر سكن مرو إِلَى حِين وَفَاته وَسمع من الْخَطِيب أبي بكر وَالشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَابْن هزارمرد وَغَيرهم
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره
توفّي بمرو فَجْأَة بَينا هُوَ يمشي وَقع مَيتا سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة
وَمن شعره
(رجائي عناني وروحني الياس ... وَمَا لِمَعْنى الْقلب كاليأس إيناس)
(فَكل طموع مستهان رجائه ... وَذُو الْيَأْس فِي روض القناعة مياس)(7/213)
(أَلا كل عز نيل بالذل ذلة ... وكل ثراء حيّز بالهون إفلاس)
وَكَانَ السَّبَب فِي قَوْله هَذِه الأبيات أَنه حضر دَار الْوَزير فَلم يُمكن من الدُّخُول فالتزم أَن لَا يدْخل بعْدهَا إِلَى أحد من الْعَسْكَر وَمن شعره
(لست بآت بَاب ملك لَهُ ... بِالْبَابِ نواب وحجاب)
(وَإِنَّمَا آتِي المليك الَّذِي ... لَا يغلق الدَّهْر لَهُ بَاب)
916 - عَليّ بن الْحسن بن الْحسن بن أَحْمد الْكلابِي أَبُو الْقَاسِم بن أبي الْفَضَائِل الْكلابِي الدِّمَشْقِي
الْفَقِيه الفرضي النَّحْوِيّ الْمَعْرُوف بِجَمَال الْأَئِمَّة ابْن الماسح من عُلَمَاء دمشق
ولد سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
سمع خلقاوتفقه على نصر الله المصِّيصِي وجمال الْإِسْلَام السّلمِيّ وَكَانَ معيدا لجمال الْإِسْلَام بالأمينية ودرس بالمجاهدية
مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
917 - عَليّ بن الْحسن بن عَليّ أَبُو الْحسن الرميلي
كَانَ فَاضلا فِي الْفِقْه وَالْأُصُول وَالْخلاف واللغة والنحو وَله الْخط البديع على طَريقَة ابْن البواب(7/214)
تفقه على يُوسُف الدِّمَشْقِي
وَسمع من عَليّ بن عبد السَّيِّد بن الصّباغ وَأبي الْفضل مُحَمَّد بن عمر الأرموي وَغَيرهمَا وَأعَاد بالنظامية
من شعره مَا كتب بِهِ إِلَى بعض النَّاس وَقد ارتعشت يَدَاهُ وَتغَير خطه
(طول سقمي وَالَّذِي يعتادني ... صير الرَّائِق من خطي كَذَا)
(كل شَيْء هدر مَا سلمت ... مِنْك لي نفس ووقيت الْأَذَى)
مَاتَ فِي جُمَادَى الأولى سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
918 - عَليّ بن الْحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الْحُسَيْن الإِمَام الْجَلِيل حَافظ الْأمة أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر
وَلَا نعلم أحدا من جدوده يُسمى عَسَاكِر وَإِنَّمَا هُوَ اشْتهر بذلك
هُوَ الشَّيْخ الإِمَام نَاصِر السّنة وخادمها وقامع جند الشَّيْطَان بعساكر اجْتِهَاده وهادمها إِمَام أهل الحَدِيث فِي زَمَانه وختام الجهابذه الْحفاظ وَلَا يُنكر أحد مِنْهُ مَكَانَهُ مَكَانَهُ محط رحال الطالبين وموئل ذَوي الهمم من الراغبين الْوَاحِد(7/215)
الَّذِي أَجمعت الْأمة عَلَيْهِ والواصل إِلَى مالم تطمح الآمال إِلَيْهِ وَالْبَحْر الَّذِي لَا سَاحل لَهُ والحبر الَّذِي حمل أعباء السّنة كَاهِله قطع اللَّيْل وَالنَّهَار دائبين فِي دأبه وَجمع نَفسه على أشتات الْعُلُوم لَا يتَّخذ غير الْعلم وَالْعَمَل صاحبين وهما مُنْتَهى أربه حفظ لَا تغيب عَنهُ شاردة وَضبط أستوت لَدَيْهِ الطريفة والتالدة وإتقان سَاوَى بِهِ من سبقه إِن لم يكن فاقه وسعة علم أثري بهَا وَترك النَّاس كلهم بَين يَدَيْهِ ذَوي فاقة
لَهُ تَارِيخ الشَّام فِي ثَمَانِينَ مجلدة وَأكْثر أبان فِيهِ عَمَّا لم يَكْتُمهُ غَيره وَإِنَّمَا عجز عَنهُ وَمن طالع هَذَا الْكتاب عرف إِلَى أَي مرتبَة وصل هَذَا الإِمَام واستقل الثريا وَمَا رَضِي بدر التَّمام وَله الْأَطْرَاف وتبيين كذب المفترى فِيمَا نسب إِلَى الإِمَام أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ وعدة تصانيف وتخاريج وفوائد مَا الْحفاظ إِلَيْهَا إِلَّا محاويج ومجالس إملاء من صدرة يخرلها البُخَارِيّ وَيسلم مُسلم وَلَا يرْتَد أَو يعْمل فِي الرحلة إِلَيْهَا البزل المهارى
ولد فِي مستهل سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
وَسمع خلائق وعدة شُيُوخه ألف وثلاثمائة شيخ وَمن النِّسَاء بضع وَثَمَانُونَ امْرَأَة وارتحل إِلَى الْعرَاق وَمَكَّة وَالْمَدينَة وارتحل إِلَى بِلَاد الْعَجم فَسمع بأصبهان ونيسابور ومرو وتبريز وميهنة وبيهق وخسروجرد وبسطام ودامغان والري وزنجان وهمذان وأسداباذ وجي وهراة وبون وبغ وبوشنج وسرخس ونوقان وسمنان وأبهر ومرند وخوى وجرباذقان ومشكان وروذراور وحلوان وأرجيش
وَسمع بالأنبار والرافقة والرحبة وماردين وماكسين وَغَيرهَا من الْبِلَاد الْكَثِيرَة(7/216)
والمدن الشاسعة والأقاليم المتفرقة لَا يَنْفَكّ نائي الديار يعْمل مَطِيَّة فِي أقاصي القفار وحيدا لَا يَصْحَبهُ إِلَّا تَقِيّ اتَّخذهُ أنيسه وعزم لَا يرى غير بُلُوغ المآرب دَرَجَة نفيسة وَلَا يظلله إِلَّا سَمُرَة فِي رباع قفراء وَلَا يرد غير إداوة لَعَلَّه يرتشف مِنْهَا المَاء
وَسمع مِنْهُ جمَاعَة من الْحفاظ كَأبي الْعَلَاء الهمذاني وَأبي سعد السَّمْعَانِيّ وروى عَنهُ الجم الْغَفِير وَالْعدَد الْكثير وَرويت عَنهُ مصنفاته وَهُوَ حَيّ بِالْإِجَازَةِ فِي مدن خُرَاسَان وَغَيرهَا وانتشر اسْمه فِي الأَرْض ذَات الطول وَالْعرض
وَكَانَ قد تفقه فِي حداثته بِدِمَشْق على الْفَقِيه أبي الْحسن السّلمِيّ وَلما دخل بَغْدَاد لزم بهَا التفقه وَسَمَاع الدُّرُوس بِالْمَدْرَسَةِ النظامية وَقَرَأَ الْخلاف والنحو وَلم يزل طول عمره مواظبا على صَلَاة الْجَمَاعَة ملازما لقِرَاءَة الْقُرْآن مكثرا من النَّوَافِل والأذكار وَالتَّسْبِيح آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَله فِي الْعشْر من شهر رَمَضَان فِي كل يَوْم ختمة غير مَا يَقْرَؤُهُ فِي الصَّلَوَات وَكَانَ يخْتم كل جُمُعَة وَلم ير إِلَّا فِي اشْتِغَال يُحَاسب نَفسه على سَاعَة تذْهب فِي غير طَاعَة
وَلما حملت بِهِ أمه رأى وَالِده فِي الْمَنَام أَنه يُولد لَك ولد يحيى الله بِهِ السّنة ولعمر الله هَكَذَا كَانَ أَحْيَا الله بِهِ السّنة وأمات بِهِ الْبِدْعَة يصدع بِالْحَقِّ لَا يخَاف فِي الله لومة لائم ويسطو على أَعدَاء الله المبتدعة وَلَا يُبَالِي وَإِن رغم أنف الراغم لَا تَأْخُذهُ رأفة فِي دين الله وَلَا يقوم لغضبه أحد إِذا خَاضَ الْبَاغِي فِي صِفَات الله
قَالَ لَهُ شَيْخه أَبُو الْحسن بن قبيس وَقد عزم على الرحلة إِنِّي لأرجو أَن يحيى الله تَعَالَى بك هَذَا الشَّأْن فَكَانَ كَمَا قَالَ وعدت كَرَامَة للشَّيْخ وَبشَارَة لِلْحَافِظِ
وَلما دخل بَغْدَاد أعجب بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَقَالُوا مَا رَأينَا مثله وَكَذَلِكَ قَالَ مشايخه الخراسانيون
وَقَالَ شَيْخه أَبُو الْفَتْح الْمُخْتَار بن عبد الحميد قدم علينا أَبُو عَليّ بن الْوَزير فَقُلْنَا مَا رَأينَا مثله ثمَّ قدم علينا أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ فَقُلْنَا مَا رَأينَا مثله حَتَّى قدم علينا هَذَا فَلم نر مثله(7/217)
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْعَلَاء الهمذاني لبَعض تلامذته وَقد استأذنه أَن يُسَافر إِن عرفت أستاذا أعلم مني أَو يكون فِي الْفضل مثلي فَحِينَئِذٍ آذن لَك أَن تُسَافِر إِلَيْهِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تُسَافِر إِلَى الشَّيْخ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر فَإِنَّهُ حَافظ كَمَا يجب
وَقَالَ شَيْخه الْخَطِيب أَبُو الْفضل الطوسي مَا نَعْرِف من يسْتَحق هَذَا اللقب الْيَوْم سواهُ
يَعْنِي لَفظه الْحَافِظ وَكَانَ يُسمى بِبَغْدَاد شعلة نَار من توقده وذكائه وَحسن إِدْرَاكه لم يجْتَمع فِي شُيُوخه مَا اجْتمع فِيهِ من لُزُوم طَريقَة وَاحِدَة مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة يلازم الْجَمَاعَة فِي الصَّفّ الْمُقدم التطلع إِلَّا من عذر ومانع وَالِاعْتِكَاف والمواظبة عَلَيْهِ فِي الْجَامِع وَإِخْرَاج حق الله وَعدم التطلع إِلَى أَسبَاب الدُّنْيَا وإعراضه عَن المناصب الدِّينِيَّة كالإمامة والخطابة بعد أَن عرضتا عَلَيْهِ
قَالَ وَلَده الْحَافِظ بهاء الدّين أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم قَالَ لي أبي لما حملت بِي أُمِّي رَأَتْ فِي منامها قَائِلا يَقُول لَهَا تلدين غُلَاما يكون لَهُ شَأْن فَإِذا ولدتيه فاحميله إِلَى المغارة يَعْنِي مغارة الدَّم بجبل قاسيون يَوْم الْأَرْبَعين من وِلَادَته وتصدقي بِشَيْء فَإِن الله تَعَالَى يُبَارك لَك وللمسلمين فِيهِ فَفعلت ذَلِك كُله وصدقت الْيَقَظَة منامها ونبهه السعد فأسهره اللَّيَالِي فِي طلب الْعلم وَغَيره سهرها فِي الشَّهَوَات أَو نامها وَكَانَ لَهُ الشَّأْن الْعَظِيم والشأو الَّذِي يجل عَن التَّعْظِيم
وَذكره الْحَافِظ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ فِي تَارِيخه فوصفه بِالْحِفْظِ وَالْفضل والإتقان
وَذكره الْحَافِظ ابْن الدبيثي فِي مذيلة عَليّ ابْن السَّمْعَانِيّ لِأَن وَفَاته تَأَخَّرت عَن وَفَاة ابْن السَّمْعَانِيّ ومدحه أَيْضا مدحا كثيرا
وَقَالَ ابْن النجار هُوَ إِمَام الْمُحدثين فِي وقته وَمن انْتَهَت إِلَيْهِ الرياسة فِي الْحِفْظ والإتقان والمعرفة التَّامَّة بعلوم الحَدِيث والثقة والنبل وَحسن التصنيف والتجويد وَبِه ختم هَذَا الشَّأْن(7/218)
قَالَ وَسمعت شَيخنَا عبد الْوَهَّاب بن الْأمين يَقُول كنت يَوْمًا مَعَ الْحَافِظ أبي الْقَاسِم بن عَسَاكِر وَأبي سعد بن السَّمْعَانِيّ نمشي فِي طلب الحَدِيث ولقاء الشُّيُوخ فلقينا شَيخا فاستوقفه ابْن السَّمْعَانِيّ ليقْرَأ عَلَيْهِ شَيْئا وَطَاف على الْجُزْء الَّذِي هُوَ سَمَاعه فِي خريطته فَلم يجده وضاق صَدره فَقَالَ لَهُ ابْن عَسَاكِر مَا الْجُزْء الَّذِي هُوَ سَمَاعه فَقَالَ كتاب الْبَعْث والنشور لِابْنِ أبي دَاوُد سَمعه من أبي نصر الزَّيْنَبِي فَقَالَ لَهُ لَا تحزن وَقَرَأَ عَلَيْهِ من حفظه أَو بعضه قَالَ ابْن النجار الشَّك من شَيخنَا
وَصَحَّ أَن أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْفضل الفراوي قَالَ قدم ابْن عَسَاكِر يَعْنِي الْحَافِظ فَقَرَأَ عَليّ ثَلَاثَة أَيَّام فَأكْثر وأضجرني فآليت على نَفسِي أَن أغلق بَابي فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قدم عَليّ شخص فَقَالَ أَنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْك فَقلت مرْحَبًا بك فَقَالَ قَالَ لي فِي النّوم امْضِ إِلَى الفراوي وَقل لَهُ قدم بلدكم شخص شَامي أسمر اللَّوْن يطْلب حَدِيثي فَلَا تمل مِنْهُ قَالَ الحاكي فوَاللَّه مَا كَانَ الفراوي يقوم حَتَّى يقوم الْحَافِظ
وَقَالَ فِيهِ الشَّيْخ مُحي الدّين النَّوَوِيّ وَمن خطه نقلت هُوَ حَافظ الشَّام بل هُوَ حَافظ الدُّنْيَا الإِمَام مُطلقًا الثِّقَة الثبت
وَحكى وَلَده الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم قَالَ كَانَ أبي قد سمع كتبا كَثِيرَة لم يحصل مِنْهَا نسخا اعْتِمَادًا مِنْهُ على نسخ رَفِيقَة الْحَافِظ أبي عَليّ بن الْوَزير وَكَانَ مَا حصله ابْن الْوَزير لَا يحصله أبي وَمَا حصله أبي لَا يحصله ابْن الْوَزير فَسَمعته لَيْلَة من اللَّيَالِي وَهُوَ يتحدث مَعَ صَاحب لَهُ فِي ضوء الْقَمَر فِي الْجَامِع فَقَالَ رحلت وَمَا كَأَنِّي رحلت وحصلت وَمَا كَأَنِّي حصلت كنت أَحسب أَن رفيقي ابْن الْوَزير يقدم بالكتب الَّتِي سَمعتهَا مثل صَحِيح البُخَارِيّ وَمُسلم وَكتب الْبَيْهَقِيّ وعوالي الْأَجْزَاء فاتفقت سكناهُ بمرو(7/219)
وإقامته بهَا وَكنت أُؤَمِّل وُصُول رَفِيق آخر يُقَال لَهُ يُوسُف بن فاروا الجياني ووصول رفيقنا أبي الْحسن الْمرَادِي فَإِنَّهُ يَقُول لي رُبمَا وصلت إِلَى دمشق وتوجهت مِنْهَا إِلَى بلدي بالأندلس وَمَا أرى أحدا مِنْهُم جَاءَ إِلَى دمشق فَلَا بُد من الرحلة ثَالِثا وَتَحْصِيل الْكتب الْكِبَار والمهمات من الْأَجْزَاء العوالي فَلم يمض إِلَّا أَيَّام يسيرَة حَتَّى جَاءَ إِنْسَان من أَصْحَابه إِلَيْهِ ودق عَلَيْهِ الْبَاب وَقَالَ هَذَا أَبُو الْحسن الْمرَادِي قد جَاءَ فَنزل أبي إِلَيْهِ وتلقاه وأنزله فِي منزله وَقدم علينا بأَرْبعَة أسفاط مَمْلُوءَة من الْكتب المسموعات ففرح أبي بذلك فَرحا شَدِيدا وشكر الله سُبْحَانَهُ على مَا يسره لَهُ من وُصُول مسموعاته إِلَيْهِ من غير تَعب وَكَفاهُ مؤونة السّفر فَأقبل على تِلْكَ الْكتب فنسخ واستنسخ حَتَّى أَتَى على مَقْصُودَة مِنْهَا وَكَانَ كلما حصل على جُزْء مِنْهَا كَأَنَّهُ حصل على ملك الدُّنْيَا
قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَظِيم بن عبد الله الْمُنْذِرِيّ سَأَلت شَيخنَا الْحَافِظ أَبَا الْحسن عَليّ ابْن الْمفضل الْمَقْدِسِي فَقلت لَهُ أَرْبَعَة من الْحفاظ تعاصروا أَيهمْ أحفظ قَالَ من هم قلت الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر وَابْن نَاصِر قَالَ ابْن عَسَاكِر أحفظ قلت الْحَافِظ أَبُو الْعَلَاء وَابْن عَسَاكِر قَالَ ابْن عَسَاكِر أحفظ قلت الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلَفِي وَابْن عَسَاكِر فَقَالَ السلَفِي أستاذنا السلَفِي أستاذنا
قَالَ الْحَافِظ زكي الدّين وَغَيره من الْحفاظ الْأَثْبَات كشيخنا الذَّهَبِيّ وَأبي الْعَبَّاس بن المظفر هَذَا دَلِيل على أَن عِنْده ابْن عَسَاكِر أحفظ إِلَّا أَنه وقر شَيْخه أَن يُصَرح بِأَن ابْن عَسَاكِر أحفظ مِنْهُ
قَالَ الذَّهَبِيّ وَإِلَّا فَابْن عَسَاكِر أحفظ مِنْهُ وَقَالَ وَمَا أرى ابْن عَسَاكِر رأى مثل نَفسه(7/220)
قلت وَقد كنت أتعجب من الْمُنْذِرِيّ فِي ذكره هَؤُلَاءِ وإهماله السُّؤَال عَن الْحَافِظ أبي سعد بن السَّمْعَانِيّ ثمَّ لَاحَ لي أَنه اقْتدى بِالْحَافِظِ أبي الْفضل مُحَمَّد بن طَاهِر حَيْثُ يَقُول فِيمَا أخبرنَا الْحَافِظ ابْن المظفر بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ اُخْبُرْنَا الْحَافِظ أَبُو الْحُسَيْن بن اليونيني بِقِرَاءَتِي أخبرنَا الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ أخبرنَا الْحَافِظ ابْن الْمفضل قَالَ سَمِعت الْحَافِظ السلَفِي يَقُول سَمِعت الْحَافِظ ابْن طَاهِر يَقُول سَأَلت سَعْدا الزنجاني الْحَافِظ بِمَكَّة وَمَا رَأَيْت مثله قلت لَهُ أَرْبَعَة من الْحفاظ تعاصروا أَيهمْ أحفظ قَالَ من قلت الدَّارَقُطْنِيّ بِبَغْدَاد وَعبد الْغَنِيّ بِمصْر وَأَبُو عبد الله بن مَنْدَه بأصبهان وَأَبُو عبد الله الْحَاكِم بنيسابور فَسكت فألححت عَلَيْهِ فَقَالَ أما الدَّارَقُطْنِيّ فأعلمهم بالعلل وَأما عبد الْغَنِيّ فأعلمهم بالأنساب وَأما ابْن مَنْدَه فأكثرهم حَدِيثا مَعَ معرفَة تَامَّة وَأما الْحَاكِم فأحسنهم تصنيفا
وَلَكِن بَقِي على هَذَا أَنه لم أهمل ذكر ابْن السَّمْعَانِيّ وَذكر غَيره كَابْن نَاصِر وَأبي الْعَلَاء وَالَّذِي نرَاهُ أَن ابْن السَّمْعَانِيّ أجل مِنْهُمَا وَقد يُقَال فِي جَوَاب هَذَا إِن ابْن السَّمْعَانِيّ لم يكن حِين سُؤال الْمُنْذِرِيّ قد عرف الْمُنْذِرِيّ قدره فَإِن تصانيفه فِيمَا يغلب على الظَّن لم تكن وصلت إِذْ ذَاك إِلَى هَذِه الديار بِخِلَاف هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة فَإِنَّهُم متقاربون ابْن عَسَاكِر بِالشَّام والسلفي بالإسكندرية وَابْن نَاصِر بِبَغْدَاد وَأَبُو الْعَلَاء بهمذان وَأما ابْن السَّمْعَانِيّ فَفِي مرو وَهِي من أقاصي بِلَاد خُرَاسَان وَأَبُو الْعَلَاء الْمشَار إِلَيْهِ هُوَ الْحسن بن أَحْمد بن الْحسن الْعَطَّار الهمذاني الْحَافِظ توفّي سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة بهمذان وَلَيْسَ هُوَ أَبَا الْعَلَاء أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْفضل الْأَصْفَهَانِي الْحَافِظ المتوفي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة بأصبهان فَليعلم ذَلِك
وَقَالَ أَبُو الْمَوَاهِب بن صصري أما أَنا فَكنت أذاكره يَعْنِي الْحَافِظ فِي خلواته عَن الْحفاظ الَّذين لَقِيَهُمْ فَقَالَ أما بِبَغْدَاد فَأَبُو عَامر الْعَبدَرِي وَأما بأصبهان فَأَبُو نصر اليونارتي لَكِن إِسْمَاعِيل الْحَافِظ كَانَ أشهر مِنْهُ
فَقلت لَهُ على هَذَا مَا رأى سيدنَا(7/221)
مثله
فَقَالَ لَا تقل هَذَا قَالَ الله تَعَالَى {فَلَا تزكوا أَنفسكُم} قلت وَقد قَالَ تَعَالَى {وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث} فَقَالَ نعم لَو قَالَ قَائِل إِن عَيْني لم تَرَ مثلي لصدق
قلت إِنَّا لَا نشك أَن عينه لم تَرَ مثله وَلَا من يدانيه
وللحافظ شعر كثير قَلما أمْلى مَجْلِسا إِلَّا وختمه بِشَيْء من شعره وَكَانَ بَينه وَبَين حَافظ خُرَاسَان أبي سعد بن السَّمْعَانِيّ مَوَدَّة أكيدة كتب إِلَيْهِ أَبُو سعد كتابا سَمَّاهُ فرط الغرام إِلَى ساكنى الشَّام وَكتب هُوَ إِلَى ابْن السَّمْعَانِيّ يعاتبه فِي إِنْفَاذ كتاب إِلَيْهِ
(ماكنت أَحسب أَن حاجاتي إِلَيْك ... وَإِن نأت دَاري مضاعه)
(أنسيت ثدي مودتي ... بيني وَبَيْنك وارتضاعه)
(وَلَقَد عهدتك فِي الْوَفَاء ... أَخا تَمِيم لَا قضاعه)
قَالَ المُصَنّف رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْبَيْت الأول من هَذِه فِيهِ زِيَادَة جُزْء وَلَعَلَّه قَالَ
(مَا كنت أَحسب حَاجَتي ... لَك إِن نأت دَاري مضاعه)(7/222)
توفّي الْحَافِظ فِي حادي عشر شهر رَجَب الْفَرد سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة بِدِمَشْق وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
وَكَانَ الْملك الْعَادِل مَحْمُود بن زنكي نور الدّين قد بنى لَهُ دَار الحَدِيث النورية فدرس بهَا إِلَى حِين وَفَاته غير ملتفت إِلَى غَيرهَا وَلَا متطلع إِلَى زخرف الدُّنْيَا وَلَا نَاظر إِلَى محَاسِن دمشق ونزهها بل لم يزل مواظبا على خدمَة السّنة والتعبد باخْتلَاف أَنْوَاعه صَلَاة وصياما واعتكافا وَصدقَة وَنشر علم وتشييع جنائز وصلات رحم إِلَى حِين قبض رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ
919 - عَليّ بن الْحُسَيْن بن عبد الله بن عَليّ أَبُو الْقَاسِم الربعِي الْمَعْرُوف بِابْن عريبة
تفقه عَليّ القَاضِي أبي الطّيب وَالْمَاوَرْدِيّ وَأبي الْقَاسِم مَنْصُور بن عمر الْكَرْخِي
وَقَرَأَ الْكَلَام على أبي عَليّ بن الْوَلِيد أحد أَشْيَاخ الْمُعْتَزلَة
وَسمع من أبي الْحسن بن مخلد وَأبي عَليّ بن شَاذان وَأبي الْقَاسِم بن بَشرَان وَغَيرهم
روى عَنهُ مُحَمَّد بن نَاصِر وَأَبُو الْفَتْح بن شاتيل وَغَيرهمَا وَمن شعره
(إِن كنت نلْت من الْحَيَاة وطيبها ... مَعَ حسن وَجهك عفة وشبابا)
(فاحذر لنَفسك أَن ترى متمنيا ... يَوْم الْقِيَامَة أَن تكون تُرَابا)(7/223)
وَحكي أَنه رَجَعَ عَن الاعتزال وَأشْهد على نَفسه بِالرُّجُوعِ
ولد سنة أَربع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَقيل سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمَات فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة
920 - عَليّ بن سَعَادَة أَبُو الْحسن الْجُهَنِيّ الْموصِلِي السراج
أحد عُلَمَاء الْموصل
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام ورع عَامل بِعِلْمِهِ تفقه على أبي حَفْص الباغوساني إِمَام الجزيرة وارتحل إِلَى بَغْدَاد وَسمع من أبي نصر الزَّيْنَبِي وعلق التعليقة عَن أبي حَامِد الْغَزالِيّ
حدث عَنهُ جمَاعَة
توفّي بالموصل سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة
921 - عَليّ بن سُلَيْمَان بن أَحْمد بن سُلَيْمَان الأندلسي أَبُو الْحسن الْمرَادِي الْقُرْطُبِيّ الشقوري الفرغليطي
وفرغليط من أَعمال شقورة
الْحَافِظ الْفَقِيه
ولد قبل الْخَمْسمِائَةِ بقريب وَخرج من الأندلس بعد الْعشْرين وَخَمْسمِائة ورحل إِلَى بَغْدَاد وَدخل خُرَاسَان وَسكن نيسابور مُدَّة(7/224)
وتفقه على الإِمَام مُحَمَّد بن يحيى صَاحب الْغَزالِيّ وَسمع من أبي عبد الله الفراوي وَهبة الله السيدي وَأبي المظفر بن الْقشيرِي وَجَمَاعَة
روى عَنهُ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر وَأَبُو الْقَاسِم بن الحرستاني وَجَمَاعَة
وَصَحب الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الأكاف الزَّاهِد وَقدم دمشق بعد الْأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَفَرح بقدومه رَفِيقه حَافظ الدُّنْيَا أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر لما كَانَ مَعَه من مسموعاته وَحدث بِدِمَشْق بالصحيحين
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كنت آنس بِهِ كثيرا وَكَانَ أحد عباد الله الصَّالِحين خرجنَا جملَة إِلَى نوقان لسَمَاع تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ فلمحت مِنْهُ أَخْلَاقًا وأحوالا قَلما تَجْتَمِع فِي أحد من الورعين
وَقَالَ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر ندب للتدريس بحماه فَمضى إِلَيْهَا ثمَّ ندب للتدريس بحلب فَمضى ودرس بهَا الْمَذْهَب بمدرسة ابْن العجمي وَكَانَ ثبتا صلبا فِي السّنة
توفّي بحلب فِي ذِي الْحجَّة سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا توفّي القَاضِي عِيَاض وَالْقَاضِي الأرجاني الشَّاعِر
922 - عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن مبادر أَبُو الْحسن الْأَزجيّ
قَاضِي وَاسِط من كبار الشَّافِعِيَّة
توفّي فِي ربيع الأول سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة(7/225)
923 - عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن بابويه الحديثي أَبُو الْحسن السمنجاني
أَصله من حَدِيثَة الْموصل
تفقه ببخارى على أبي سهل الأبيوردي وَسمع مِنْهُ الحَدِيث وَمن أبي عبد الله إِبْرَاهِيم بن عَليّ الطيوري وَأبي الْقَاسِم بن مَيْمُون بن عَليّ بن مَيْمُون الْمَيْمُونِيّ وَغَيرهم
حدث عَنهُ أَبُو نصر المعمري مُحَمَّد بن الْحُسَيْن البيع وَغَيره
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ إِمَامًا فَاضلا متبحرا فِي الْعلم حسن السِّيرَة كثير الْعِبَادَة دَائِم التِّلَاوَة وَالذكر وَظَهَرت بركاته على أَصْحَابه وَتخرج بِهِ جمَاعَة من أهل الْعلم
وَقَالَ يحيى بن عبد الْوَهَّاب بن مندة قدم أَصْبَهَان وَهُوَ أحد فُقَهَاء الشافعيين صلب فِي مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ
مَاتَ فِي شعْبَان سنة اثِنْتَيْنِ وَخَمْسمِائة
924 - عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن أبي الْوَفَاء أَبُو طَالب الْحِيرِي
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام فَاضل زاهد من بَيت الْعلم تفقه على إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَكَانَ يسكن صومعة بِالْحيرَةِ
حدث عَن أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَأبي الْحسن أَحْمد بن عبد الرَّحِيم الْإِسْمَاعِيلِيّ وَجَمَاعَة
سَمِعت مِنْهُ أَكثر سنَن أبي دَاوُد
مَاتَ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة(7/226)
925 - عَليّ بن عُثْمَان بن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم بن يُوسُف القَاضِي السعيد أَبُو الْحسن الْقرشِي المَخْزُومِي الْمصْرِيّ
ولد سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَخَمْسمِائة
وَحدث عَن عبد الْعَزِيز بن عُثْمَان التّونسِيّ وَأحمد بن الحطيئة وَإِسْمَاعِيل بن الْحَارِث القَاضِي
قَالَ الْحَافِظ عبد الْعَظِيم حدثونا عَنهُ
توفّي فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
926 - عَليّ بن بن عَليّ بن الْحسن النَّيْسَابُورِي أَبُو تُرَاب
من فُقَهَاء وَاسِط أَصله نيسابوري استوطن بَغْدَاد وَكَانَ فَقِيها عَارِفًا بِالْمذهبِ كتب الْخط الْمليح
توفّي فِي رَجَب سنة إحدي وَسبعين وَخَمْسمِائة
927 - عَليّ بن عَليّ بن هبة الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن البُخَارِيّ أَبُو طَالب بن أبي الْحسن ابْن أبي البركات
من أَوْلَاد الْمُحدثين
ولد بِبَغْدَاد وتفقه بهَا على أبي الْقَاسِم بن فضلان وَسمع الحَدِيث من أبي الْوَقْت وَغَيره(7/227)
وَخرج من بَغْدَاد إِلَى بِلَاد الرّوم ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد وولاه الإِمَام النَّاصِر لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَضَاء وخوطب بأقضى الْقُضَاة ولميزل على ذَلِك إِلَى أَن توفّي قَاضِي الْقُضَاة أَبُو الْحسن الدَّامغَانِي فقلد ابْن البُخَارِيّ قَاضِي الْقُضَاة وخلع عَلَيْهِ وقرىء عَهده بالجوامع وناب فِي الوزارة
توفّي فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
قلت هَذَا كَلَام ابْن النجار وَهُوَ يدل على أَن اسْم قَاضِي الْقُضَاة فِي الِاصْطِلَاح من ذَلِك الزَّمَان أكبر من اسْم أقضى الْقُضَاة كَمَا هُوَ الْيَوْم وَفِي ذهن كثير من النَّاس أَنه كَانَ يَنْبَغِي أَن يعكس هَذَا الِاصْطِلَاح فَإِن أقضى الْقُضَاة أبلغ من قَاضِي الْقُضَاة لما فِيهَا من أفعل التَّفْضِيل وَكتب أسمع الشَّيْخ الإِمَام يخطىء من يَقُول هَذَا وَيَقُول بل لفظ قَاضِي الْقُضَاة أبلغ فَإِن لفظ الأقضى وَإِن دلّ على كَونه أَشد قَضَاء فَفِي لفظ قَاضِي الْقُضَاة مَا يدل على ذَلِك من جِهَة أَنه قَاض على كل قَاض وَلَا كَذَلِك أقضى الْقُضَاة إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَنه قَاض على كل قَاض وَإِذا كَانَ قَاضِيا على كل قَاض كَانَ أَشد قَضَاء وَزِيَادَة أَن لَهُ الْقَضَاء عَلَيْهِم فوضح أَن لفظ قَاضِي الْقُضَاة يدل على مَا دلّ عَلَيْهِ أقضى الْقُضَاة وَزِيَادَة وَأَن مصطلح النَّاس هُوَ الصَّوَاب الَّذِي يدل لَهُ وضع اللَّفْظ
928 - عَليّ بن الْقَاسِم بن المظفر بن عَليّ بن الشهرزوري من أهل الْموصل
سمع بِبَغْدَاد أَبَا غَالب مُحَمَّد بن الْحسن الباقلاني وَغَيره وَولى قَضَاء وَاسِط ثمَّ قَضَاء الْموصل والبلاد الجزيرية والشامية
توفّي فِي شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
وَرَأَيْت فِي بعض المجاميع الْمَكْتُوبَة فِي حُدُود سنة تسعين وَخَمْسمِائة مَا نَصه إِذا قَالَ الرجل لامْرَأَته أَنْت طَالِق على سَائِر الْمذَاهب فللكلام هَذَا أَرْبَعَة احتمالات(7/228)
أَحدهَا أَن يَقُول أردْت إِيقَاع الطَّلَاق ناجزا فِي الْحَال وَقَوْلِي على سَائِر الْمذَاهب جرى على لساني من غير قصد أَو قصدته وَلَكِنِّي أفهم مِنْهُ تَنْجِيز الطَّلَاق والوقوع
الثَّانِي أَن يَقُول أردْت إِيقَاع الطَّلَاق ناجزا وَأَرَدْت بِهَذِهِ الزِّيَادَة وُقُوع الطَّلَاق على أَي مَذْهَب اقتضي وُقُوعه فَفِي هذَيْن الِاحْتِمَالَيْنِ يَقع الطَّلَاق ناجزا وَتبين بِهِ وَهُوَ كَمَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِن كلمت زيدا وَقَالَ لم أرد التَّعْلِيق بالصيغة وَإِنَّمَا سبق إِلَيْهِ لساني من غير قصد فَإِنَّهُ يَقع الثَّلَاث كَذَلِك هَاهُنَا
وَالثَّالِث أَن يَقُول قصدت إِيقَاع طَلَاق بِوَجْه يتَّفق النَّاس على وُقُوعه أَو على وَجه لَا يخْتَلف النَّاس فِيهِ وَظَاهر الصِّيغَة اقْتضى أَن هَذَا الْقَصْد أقوى فَإِن أَرَادَ عِنْد تلفظه بذلك امْتنع وُقُوع الثَّلَاث لِأَن قَوْله على سَائِر الْمذَاهب فِيهِ معنى الشَّرْط لم يَقع وَإِذا لم يُوجد الشَّرْط لم يَقع
وَالرَّابِع أَن يَقُول تلفظت بذلك مُطلقًا وَلم يقْتَرن لي بِهِ قصد إِلَى شَيْء لَا إيقاعا فِي الْحَال وَلَا شرطا فِي الْوُقُوع فَمَا الَّذِي يلْزمه فِيهِ فَهُنَا يحْتَمل إِيقَاع الثَّلَاث فِي الْحَال وَيحْتَمل أَن لَا يَقع الطَّلَاق أصلا لِأَن الصِّيغَة ظَاهِرَة فِي تنَاول جَمِيع الْمذَاهب على اتِّفَاق الْوُقُوع وَلم يُوجد ذَلِك وَالله أعلم هَذَا تَخْرِيج الشَّيْخ الإِمَام أبي الْحسن عَليّ بن الْمُسلم الشهرزوري انْتهى
وَعلي بن الْمُسلم الشهرزوري لَا أعرفهُ إِنَّمَا هُوَ عَليّ بن الْقَاسِم هَذَا أَو عَليّ بن الْمُسلم لَا الشهرزوري وَهُوَ جمال الْإِسْلَام الْآتِي قَرِيبا
وَهَذِه الْمَسْأَلَة حدثت فِي زمَان ابْن الصّباغ وَله فِيهَا كَلَام نَقله عَنهُ ابْن أَخِيه أَبُو مَنْصُور وَقد قدمْنَاهُ
وَالَّذِي وجدته هُنَا وَفِي فَتَاوَى ابْن الصّباغ أَنْت طَالِق على سَائِر الْمذَاهب وَلم يقل ثَلَاثًا وَكنت أَظن سُقُوط لَفظه ثَلَاثًا من النَّاسِخ فَلَمَّا توافقت عَلَيْهَا الْكتب(7/229)
تعجبت من ذَلِك وسأذكر مَا عِنْدِي فِيهِ وَقد قدمنَا أَن القَاضِي أَبَا الطّيب الطَّبَرِيّ قَالَ لَا يَقع وَقَالَ غَيره يَقع فِي الْحَال وَالْمَسْأَلَة فِي فَتَاوَى الْغَزالِيّ أَيْضا
وَهَذِه صُورَة مَا فِي فَتَاوِيهِ السَّابِقَة بِهِ إِذا قَالَ لزوجته أَنْت طَالِق للسّنة ثَلَاثًا على سَائِر الْمذَاهب وَكَانَت فِي الْحَال طَاهِرا هَل يَقع الثَّلَاث أَو يَقع فِي كل قرء طَلْقَة لتوافق بعض النَّاس
الْجَواب إِن يكون للمطلق نِيَّة فِيمَا يذكرهُ فِيهَا وَإِلَّا فَالْأولى أَن يتفرق على الْأَقْرَاء الثَّلَاث لِأَنَّهُ لَو وَقع الثَّلَاث لم تقع الثَّانِيَة على سَائِر الْمذَاهب
إِذا قَالَ لَهَا أَنْت طَالِق فِي سَائِر الْمذَاهب هَل يَقع فِي الْحَال الثَّلَاث فَإِن كَانَ يَقع فَمن النَّاس من يَقُول إِنَّه لَا يَقع إِلَّا فِي كل قرء طَلْقَة فَهَلا كَانَ الحكم كَذَلِك ليَقَع طَلَاقه بِالْإِجْمَاع
الْجَواب أَن هَذَا وَإِن كَانَ أشبه الْمَذْكُور بِذكر السّنة من وَجه وَلَكِن الْفرق ظَاهر لِأَنَّهُ إِذا ترك السّنة الَّتِي ينْصَرف إِلَيْهَا ذكر الْمذَاهب فهم مِنْهُ شدَّة الْعِنَايَة بالتخيير وَقطع العلائق وحسم تأويلات الْمذَاهب فِي رد الثَّلَاث عَنْهَا وَلَا سِيمَا وَالْمذهب المحكي فِي أَن الثَّلَاث لَا يتنجز فِي غَايَة الْبعد
انْتهى
929 - عَليّ بن مُحَمَّد بن حمويه بن مُحَمَّد بن حمويه أَبُو الْحسن بن أبي عبد الله الصُّوفِي
صحب الإِمَام أَبَا حَامِد الْغَزالِيّ بطوس وتفقه عَلَيْهِ وروى الحَدِيث عَن عبد الْغفار الشيروي(7/230)
930 - عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عَاصِم أَبُو الْحسن الْجُوَيْنِيّ الأديب
سمع إِسْمَاعِيل بن الْحُسَيْن الْفَرَائِضِي وَغَيره
روى عَنهُ ابْن عَسَاكِر
مَاتَ بعد سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة بنيسابور
931 - عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ
الإِمَام شمس الْإِسْلَام أَبُو الْحسن إِلْكيَا الهراسي الملقب عماد الدّين أحد فحول الْعلمَاء ورءوس الْأَئِمَّة فقها وأصولا وجدلا وحفظا لمتون أَحَادِيث الْأَحْكَام
ولد فِي خَامِس ذِي الْقعدَة سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة
وتفقه على إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ أجل تلامذته بعد الْغَزالِيّ(7/231)
وَحدث عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَأبي عَليّ الْحسن بن مُحَمَّد الصفار وَغَيرهمَا
روى عَنهُ السلَفِي وَسعد الْخَيْر بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ وَآخَرُونَ
قَالَ فِيهِ عبد الغافر الإِمَام الْبَالِغ فِي النّظر مبلغ الفحول ورد نيسابور فِي شبابه وَكَانَ قد تفقه وَكَانَ حسن الْوَجْه مليح الْكَلَام فَحصل طَريقَة إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَتخرج بِهِ فِيهَا وَصَارَ من وُجُوه الْأَصْحَاب ورءوس المعيدين فِي الدَّرْس وَكَانَ ثَانِي الْغَزالِيّ بل أَمْلَح وَأطيب فِي النّظر وَالصَّوْت وَأبين فِي الْعبارَة والتقرير مِنْهُ وإِن كَانَ الْغَزالِيّ أحد وأصوب خاطرا وأسرع بَيَانا وَعبارَة مِنْهُ وَهَذَا كَانَ يُعِيد الدَّرْس على جمَاعَة حَتَّى تخْرجُوا بِهِ وَكَانَ مواظبا على الإفادة والاشتغال انْتهى
وَعَن إِلْكيَا قَالَ كَانَت فِي مدرسة سرهنك بنيسابور قناة لَهَا سَبْعُونَ دَرَجَة وَكنت إِذا حفظت الدَّرْس أنزل الْقَنَاة وأعيد الدَّرْس فِي كل دَرَجَة مرّة فِي الصعُود وَالنُّزُول قَالَ وَكَذَا كنت أفعل فِي كل درس حفظته
وَفِي بعض الْكتب أَنه كَانَ يُكَرر الدَّرْس على كل مرقاة من مراقي درج الْمدرسَة النظامية بنيسابور سبع مَرَّات وَأَن المراقي كَانَت سبعين مرقاة وَكَانَ يحفظ الحَدِيث ويناظر فِيهِ وَهُوَ الْقَائِل إِذا جالت فرسَان الْأَحَادِيث فِي ميادين الكفاح طارت رُءُوس المقاييس فِي مهاب الرِّيَاح
وَمن مصنفاته شِفَاء المسترشدين وَهُوَ من أَجود كتب الخلافيات وَله كتاب نقض مُفْرَدَات الإِمَام أَحْمد وَكتاب فِي أصُول الْفِقْه وَغير ذَلِك(7/232)
وَمن غَرِيب مَا اتّفق لَهُ أَنه أشيع أَن إِلْكيَا باطني يرى رأى الإسماعيلية فَنمت لَهُ فتْنَة هائلة وَهُوَ برىء من ذَلِك وَلَكِن وَقع الإشتباه على النَّاقِل فَإِن صَاحب الألموت ابْن الصَّباح الباطني الْإِسْمَاعِيلِيّ كَانَ يلقب بالكيا أَيْضا ثمَّ ظهر الْأَمر وفرجت كربَة شمس الْإِسْلَام رَحمَه الله وَعلم أَنه أُتِي من توَافق اللقبين
وَكَانَت فِي إِلْكيَا لطافة عِنْد مناظرته رُبمَا نَاظر بعض عُلَمَاء الْعرَاق فأنشده
(ارْفُقْ بعبدك إِن فِيهِ يبوسة ... جبلية وَلَك الْعرَاق وماؤه)
وَذكر ابْن النجار فِي أَوَائِل تَارِيخه هَذَا الْبَيْت فَجعل مَوضِع يبوسة فهاهة وَمَوْضِع مَاؤُهُ مَاؤُهَا وَأرى الصَّوَاب مَا أنشدته أَنا
وَذكر ابْن النجار أَن ابْن الْجَوْزِيّ ذكر أَن إِلْكيَا قد أنْشد ذَلِك لأبي الْوَفَاء بن عقيل الْحَنْبَلِيّ فِي مناظرة بَينهمَا
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
قَالَ فِي كِتَابه شِفَاء المسترشدين فِي مَسْأَلَة سُجُود التِّلَاوَة قد قيل لَا يسْجد يَعْنِي الْمُصَلِّي
للتلاوة قبل الْفَاتِحَة إِذْ لَا نَص فِيهِ للشَّافِعِيّ انْتهى
وَهُوَ مَأْخُوذ من كَلَام إِمَامه إِمَام الْحَرَمَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الأساليب فِي مَسْأَلَة سُجُود السَّهْو لَو قَرَأَ الْمُنْفَرد آيَة سَجْدَة قبل الْفَاتِحَة فَالَّذِي يظْهر مَنعه من سُجُود التِّلَاوَة لكَونه قَرَأَ فِي غير أَوَانه وَلَو كَانَ لَا يحسن الْفَاتِحَة وَيحسن بدلهَا آيَات فِيهَا سُجُود(7/233)
فَهَذِهِ صُورَة لَا نَص فِيهَا وَلَا يبعد مَنعه من سُجُود التِّلَاوَة فِيهَا حَتَّى لَا يَنْقَطِع الْقيام الْمَفْرُوض انْتهى مُخْتَصرا
وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِك الْبَحْث مَعَ الْحَنَفِيَّة فِي وجوب سَجْدَة التِّلَاوَة والمجزوم بِهِ فِي زيادات الرَّوْضَة فِي الْمَسْأَلَة الأولى مَسْأَلَة إِلْكيَا أَنه يسْجد وَأما الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة وَهِي سُجُود من لَا يحسن إِلَّا آيَات فِيهَا سُجُود فَغَرِيبَة
932 - عَليّ بن مُحَمَّد بن عِيسَى بن المؤمل أَبُو الْحسن بن كراز
من أهل وَاسِط(7/234)
تفقه بِبَغْدَاد على إِلْكيَا الهرسي وَسمع الحَدِيث من طراد الزَّيْنَبِي وَغَيره
توفّي سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
933 - عَليّ بن مُحَمَّد بن يحيى بن عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن عَليّ بن الْحُسَيْن أَبُو الْحسن بن أبي الْمَعَالِي القَاضِي زكي الدّين
قَاضِي دمشق
سمع من هبة الله بن الْأَكْفَانِيِّ وَعبد الْكَرِيم بن حَمْزَة الْحداد وَأبي الْحسن عَليّ بن الْحسن ابْن الْحُسَيْن السّلمِيّ وَغَيرهم
ولد بِدِمَشْق سنة سبع وَخَمْسمِائة وَكَانَ قد استعفى من قَضَاء دمشق وَحج وَدخل بَغْدَاد وَمَات بهَا سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
934 - عَليّ بن الْمُسلم بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْفَتْح أَبُو الْحسن السّلمِيّ الْفَقِيه الفرضي جمال الْإِسْلَام
أحد مَشَايِخ الشَّام الْأَعْلَام
سمع أَبَا نصر بن طلاب وَأَبا الْحسن بن أبي الْحَدِيد وَعبد الْعَزِيز الكتاني وغانم بن أَحْمد ابْن عَليّ بن مُحَمَّد المصِّيصِي والفقيه نصر الْمَقْدِسِي وَجَمَاعَة
روى عَنهُ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر وَابْنه الْقَاسِم والسلفي وَإِسْمَاعِيل الجنزوي وبركات الخشوعي وَجَمَاعَة آخِرهم وَفَاة القَاضِي عبد الصَّمد الحرستاني
وتفقه جمال الْإِسْلَام أَولا على القَاضِي أبي المظفر عبد الْجَلِيل بن عبد الْجَبَّار الْمروزِي فَلَمَّا قدم الْفَقِيه نصر الْمَقْدِسِي انْتقل إِلَيْهِ ولازمه وَلزِمَ الْغَزالِيّ مُدَّة مقَامه بِدِمَشْق وَهُوَ(7/235)
الَّذِي أمره بالتصدر بعد موت الْفَقِيه نصر وَكَانَ يثني على علمه وفهمه وَكَانَ جمال الْإِسْلَام معيدا للفقه نصر وَحكى أَن الْغَزالِيّ قَالَ بعد خُرُوجه من الشَّام خلفت بِالشَّام شَابًّا إِن عَاشَ كَانَ لَهُ شَأْن يَعْنِي جمال الْإِسْلَام فَكَانَ كَمَا قد تفرس فِيهِ
وَكَانَ جمال الْإِسْلَام مدرسا بالزاوية الغزالية بِدِمَشْق مُدَّة ثمَّ ولي تدريس الأمينية سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة وَكَانَ عَالما بِالْمذهبِ والفرائض وَالتَّفْسِير وَالْأُصُول إِمَامًا متقنا ثِقَة ثبتا ذكره الْحَافِظ فِي التَّارِيخ وَفِي كتاب التَّبْيِين وَأحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ وَقَالَ كَانَ يحفظ كتاب تَجْرِيد التَّجْرِيد لأبي حَاتِم الْقزْوِينِي وَكَانَ حسن الْخط موفقا فِي الْفَتَاوَى كَانَ على فَتَاوِيهِ عُمْدَة أهل الشَّام وَكَانَ يكثر عِيَادَة المرضى وشهود الْجَنَائِز ملازما للتدريس والإفادة حسن الْأَخْلَاق لَهُ مصنفات فِي الْفِقْه وَالتَّفْسِير وَكَانَ يعْقد مجْلِس التَّذْكِير وَيظْهر السّنة وَيرد على الْمُخَالفين وَلم يخلف بعد مثله
وَقَالَ فِي كتاب التَّبْيِين كَانَ عَالما بالفقه وَالتَّفْسِير وَالْأُصُول والتذكير والفرائض والحساب وتعبير المنامات
توفّي سَاجِدا فِي صَلَاة الْفجْر فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
وَمن الْمسَائِل والفوائد عَن جمال الْإِسْلَام
لَهُ مُصَنف فِي أَحْكَام الخناثي قَالَ فِيهِ إِذا أقرّ الخنثي بالرجولية قبل إِقْرَاره وَحكم بِهِ فَلَو شهد قبلناه فِيمَا تقبل فِيهِ شَهَادَة الرِّجَال وَلَو شهد بذلك قبل أَن يقر بِزَوَال الْإِشْكَال فَردَّتْ شَهَادَته ثمَّ أقرّ بالرجولية قبل فَلَو أعَاد الشَّهَادَة الْمَرْدُودَة حَال الْإِشْكَال لم تقبل لِأَنَّهُ مُتَّهم فِي الْإِقْرَار لترويج الشَّهَادَة كالفاسق يُعِيدهَا بعد الْعَدَالَة وَلَو شهد فَردَّتْ(7/236)
ثمَّ زَالَ الْإِشْكَال بعلامة تدل على رجوليته ثمَّ أَعَادَهَا قبلهَا لِأَنَّهُ غير مُتَّهم بِالرَّدِّ أَولا كَالْعَبْدِ يُعِيدهَا بعد الْعتْق وَسَوَاء كَانَت الْعَلامَة قَطْعِيَّة أم ظنية انْتهى
وَلم يزدْ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ على قَوْلهمَا شَهَادَة الخنثي كَشَهَادَة الْمَرْأَة
935 - عَليّ ابْن المطهر بن مكي بن مِقْلَاص أَبُو الْحسن الدينَوَرِي
كَانَ من تلامذة حجَّة الْإِسْلَام أبي حَامِد الْغَزالِيّ وَسمع الحَدِيث من نصر بن البطر وطبقته
روى عَنهُ ابْن عَسَاكِر
توفّي لَيْلًا سَابِع عشْرين من رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
936 - عَليّ بن مَعْصُوم بن أبي ذَر المغربي أَبُو الْحسن
من أهل الْمغرب قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام فَاضل عَالم بِالْمذهبِ ولد سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَمَات بأسفراين فِي شعْبَان سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة
937 - عَليّ بن نَاصِر بن مُحَمَّد بن أبي الْفضل بن حَفْص النوقاني من أهل نوقان
ولد بهَا فِي رَمَضَان سنة سِتّ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام فَاضل جَامع لمَذْهَب الشَّافِعِي مُصِيب فِي الْفَتَاوَى حسن(7/237)
السِّيرَة كثير الْعِبَادَة حاد الخاطر متصرف فِي الْفِقْه اشْتهر بذلك اجْتمع عَلَيْهِ جمَاعَة من الْفُقَهَاء البلديين والغرباء وتفقهوا عَلَيْهِ وَظَهَرت بركته عَلَيْهِم كتبت عَنهُ كتاب الْأَرْبَعين لِلْحسنِ بن شعْبَان
سمع أَبَا الْحسن عَليّ بن الْحسن بن عَليّ بن حَمْزَة النوقاني
قَالَ وَتُوفِّي بمشهد الرضى لَيْلَة الثُّلَاثَاء الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَدفن هُنَاكَ قيل إِن مرارته انشقت من خوف الغز وأحاطتهم بالمشهد
938 - عَليّ بن هبة الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن البُخَارِيّ أَبُو الْحسن بن أبي البركات
وَالِد قَاضِي الْقُضَاة أبي طَالب عَليّ
تفقه على أسعد الميهني وَأبي مَنْصُور الرزاز
وَسمع الحَدِيث من أبي الْقَاسِم بن بَيَان وَأبي عَليّ بن نَبهَان وَطَائِفَة وَدخل بِلَاد الرّوم وَولي الْقَضَاء بِمَدِينَة قونية
مولده سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وَمَات بقونية وَهُوَ على قَضَائهَا فِي سنة خمس وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
939 - عَليّ بن أبي الْحسن بن أبي هَاشم بن مُحَمَّد الآملي الطَّبَرِيّ ثمَّ الْجِرْجَانِيّ الْمَعْرُوف بإلكيا
من أهل جرجان
تفقه على عمر السُّلْطَان
وَتُوفِّي بقرية بشق لَيْلَة الْجُمُعَة الْحَادِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
ذكره ابْن باطيش(7/238)
940 - عَليّ بن أبي المكارم بن فتيَان أَبُو الْقَاسِم الدِّمَشْقِي أحد أَعْيَان الشَّافِعِيَّة بِمصْر
قَالَ النَّوَوِيّ وَأعَاد بالنظامية بِبَغْدَاد وَله معرفَة بفنون
تفقه على الإِمَام أبي المحاسن يُوسُف الدِّمَشْقِي مدرس النظامية
توفّي سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة
941 - عمر بن أَحْمد بن الْحُسَيْن الشَّاشِي أَبُو حَفْص
أَخُو الإِمَام فَخر الْإِسْلَام أبي بكر مُحَمَّد
تفقه هُوَ أَيْضا على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَسمع من أبي الْحُسَيْن بن الْمُهْتَدي وَغَيره
توفّي سنة خمسين وَخَمْسمِائة
942 - عمر بن أَحْمد بن عمر ...(7/239)
934 - عمر بن أَحْمد بن اللَّيْث الطَّالقَانِي أَبُو حَفْص
من أهل بَلخ
فَقِيه أصولي صوفي أدْرك بغزنة أَبَا خلف السّلمِيّ الطَّبَرِيّ وَكَانَ معيد الْمدرسَة النظامية ببلخ
توفّي فِي شعْبَان سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَاسم جده رَأَيْته مَكْتُوبًا فِي بعض نسخ الذيل اللَّيْث وَفِي بَعْضهَا الْمسيب
944 - عمر بن أَحْمد بن مَنْصُور بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن حبيب بن عَبدُوس الصفار أَبُو حَفْص بن أبي نصر بن أبي سعد بن أبي بكر
من أهل نيسابور
كَانَ ختن أبي نصر الْقشيرِي على ابْنَته
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام فَاضل بارع مبرز من بَيت الْعلم والْحَدِيث يُفْتِي ويناظر(7/240)
وَكَانَ يكثر من الحَدِيث كتبت عَنهُ بنيسابور وَسَأَلته عَن مولده فَقَالَ فِي ذِي الْقعدَة سنة سبع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
وَقَالَ ابْن النجار سمع الْكثير بإفادة جده لأمه إِسْمَاعِيل بن عبد الغافر الْفَارِسِي من أبي المظفر مُوسَى بن عمرَان الْأنْصَارِيّ وَأبي بكر أَحْمد بن عَليّ بن خلف الشِّيرَازِيّ وَأبي تُرَاب عبد الْبَاقِي بن يُوسُف المراغي وَعبد الْوَاحِد بن الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي وَغَيرهم وَقدم بَغْدَاد حَاجا فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَحدث بهَا بِكِتَاب التَّيْسِير فِي التَّفْسِير لأبي نصر بن الْقشيرِي وبحكايات الصُّوفِيَّة لِابْنِ باكويه وَبِغير ذَلِك من الْأَجْزَاء وَألقى بهَا الدُّرُوس فِي الْمَذْهَب وَالْأُصُول
سمع مِنْهُ يُوسُف بن مُحَمَّد الدِّمَشْقِي وَأحمد بن صَالح بن شَافِع الجيلي وَغَيرهمَا هَذَا مُخْتَصر كَلَام ابْن النجار
توفّي سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة بنيسابور يَوْم عيد الْأَضْحَى
945 - عمر بن أَحْمد بن أبي الْحسن المرغيناني الإِمَام أَبُو مُحَمَّد الفرغاني
نزيل سَمَرْقَنْد
إِمَام ورع متواضع
سمع من جمَاعَة روى عَنهُ عبد الرَّحِيم بن السَّمْعَانِيّ
مَاتَ سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة(7/241)
946 - عمر بن الْحُسَيْن بن الْحسن الإِمَام الْجَلِيل ضِيَاء الدّين أَبُو الْقَاسِم الرَّازِيّ
خطيب الرّيّ وَالِد الإِمَام فَخر الدّين
كَانَ أحد أَئِمَّة الْإِسْلَام مقدما فِي علم الْكَلَام لَهُ فِيهِ كتاب غَايَة المرام فِي مجلدين وقفت عَلَيْهِ وَهُوَ من أنفس كتب أهل السّنة وأسدها تَحْقِيقا وَقد عقد فِي آخِره فصلا حسنا فِي فَضَائِل أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ وَأَتْبَاعه
أَخذ الإِمَام ضِيَاء الدّين علم الْكَلَام عَن ابْن الْقَاسِم الْأنْصَارِيّ تلميذ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَقَالَ فِي آخر كتاب غَايَة المرام هُوَ شَيْخي وأستاذي وَأخذ الْفِقْه عَن صَاحب التَّهْذِيب وَكَانَ فصيح اللِّسَان قوى الْجنان فَقِيها أصوليا متكلما صوفيا خَطِيبًا مُحدثا أديبا لَهُ نثر فِي غَايَة الْحسن يكَاد يَحْكِي أَلْفَاظ مقامات الحريري من حَسَنَة وحلاوته ورشاقة سجعه وَمن نظر كِتَابه غَايَة المرام وجد برهَان ذَلِك
947 - عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب بن شاد الْملك المظفر تَقِيّ الدّين
صَاحب الْأَوْقَاف بحماه ومصر والفيوم وَله بالفيوم مدرستان بناهما لما كَانَت الفيوم إقطاعا لَهُ وَبنى بِمَدِينَة الرها مدرسة وَكَانَ رجلا فَاضلا أديبا شجاعا
سمع الحَدِيث من الْحَافِظ السلَفِي وَأبي الطَّاهِر بن عَوْف وَغَيرهمَا(7/242)
وَفِي الْملك المظفر تَقِيّ الدّين يَقُول الأسعد بن مماتي
(وافي سحر ... طيف سحر)
(ثمَّ نفر ... من الخفر)
(فَلَا خبر ... وَلَا أثر)
(وَلَو صَبر ... نلْت الوطر)
(فيا قمر ... ليلِي السقر)
(طَال السهر ... وَلَا سمر)
(إِلَّا الْفِكر ... فَلم هجر)
(وَلم غدر ... هَل من قدر)
(يُنجي الحذر ... شيبي ظهر)
(لَا من كبر ... بل من خطر)
(ريم خطر ... ثمَّ زجر)
(هلا اغتفر ... لما اقتدر)
(مثل عمر ... ابْن الظفر)
(نعم الْوزر ... لَيْث زأر)
(بَحر زخر ... إِذا اختصر)
(أَو اقْتصر ... أعْطى الْبَدْر)
(مثل الْمَطَر ... ثمَّ اعتذر)
(وَلَو نظر ... إِلَى الْحجر)
(أبدى الزهر ... بل الثَّمر)
(وَإِن شعر ... قلت الدُّرَر)(7/243)
(طيف ألم ... بذى سلم)
(بعد العتم ... يطوي الأكم)
(جاد بِفَم ... وملتزم)
وَتَبعهُ الباخرزي فَقَالَ
(باري الديم ... بِذِي سلم)
(وَهنا ألم ... فَلم ينم)
(حَتَّى التيم ... فِيهِ ازْدحم)
(فَلَا جرم ... صَافح ثمَّ)
(نعمى ... النعم)
وَهِي قصيدة طَوِيلَة
وَقيل بل أول من ابتدعه سلم الخاسر حَيْثُ يَقُول فِي الْهَادِي
(مُوسَى الْمَطَر ... غيث بكر)
(ثمَّ انهمر ... ألوى المرر)
(كم اعتسر ... ثمَّ ايتسر)(7/245)
(وَكم قدر ... ثمَّ غفر)
وَهِي أَيْضا طَوِيلَة
فتبع الأسعد بن مماتي شَاعِر عصرنا ابْن نباتة فَقَالَ يمدح صَاحب حماة وأنشدنيه بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ إِذْ يَقُول
(أفدي قمر ... عَقْلِي قمر)
(ثمَّ غدر ... لما قدر)
(فَلَا وزر ... وَلَا مفر)
(يَا من شهر ... سيف الْحور)
(على الْبشر ... فَمَا فتر)
(حَتَّى استعر ... وهج الْفِكر)
(وَلَو أَمر ... ذَاك الخفر)
(يَحْكِي بدر ... ملك عمر)
(بِمَا نشر ... نشر الْخَبَر)
(من الْخَبَر ... والمختبر)
(لله در ... تِلْكَ السّير)
(كم من غرر ... وَمن دُرَر)
فِيهَا سمر ... إِلَى السحر)(7/246)
(وَلَا ضجر ... وَلَا ضَرَر)
(علم مهر ... فضل ظهر)
(ثمَّ انْتَشَر ... فكم غفر)
(وَكم نصر ... على الْغَيْر)
(جدا عثر ... وَكم قهر)
(من ذِي بطر ... وَذي أشر)
(در الْخمر ... يَا من ستر)
(أهل الْحَضَر ... مِمَّن شكر)
(ثمَّ عذر ... سد من حضر)
(وَمن عبر ... وَلَا تذر)
(فِيمَن نذر ... من مفتخر)
(إِلَّا مُضر ... )
948 - عمر بن عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله الْخَطِيب الأرغياني الْمَعْرُوف بالأحدث
وَهُوَ أَخُو الإِمَام أبي نصر الأرغياني وَكَانَ الْأَكْبَر
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَت وِلَادَته سنة نَيف وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة(7/247)
قَالَ وَكَانَ فَقِيها صَالحا سديدا كثير الْخَيْر ورد نيسابور وتفقه على إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَسمع الْأُسْتَاذ أَبَا الْقَاسِم الْقشيرِي وَأَبا الْحسن الواحدي وَأَبا حَامِد أَحْمد بن الْحسن الْأَزْهَرِي وَأَبا بكر بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم الصفار وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ توفّي بنيسابور فِي ثامن عشر من شهر رَمَضَان سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة بنيسابور
949 - عمر بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عبد الله الهمذاني أَبُو حَفْص الْمَعْرُوف بالزاهد
من أهل همذان
تفقه على أسعد الميهني
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وَكَانَ ورعا صَالحا متدينا سكن مرو وَصَحب يُوسُف الهمذاني وريض نَفسه وداوم الصّيام والتهجد وَأكل الْحَلَال وَكَانَ يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر
مَاتَ سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة
950 - عمر بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن نصر
بِفَتْح النُّون وَالصَّاد الْمُهْملَة
أَبُو شُجَاع البسطامي ثمَّ الْبَلْخِي
إِمَام مَسْجِد راعوم
فَقِيه مُحدث رَفِيق الْحَافِظ الْكَبِير أبي سعد بن السَّمْعَانِيّ وَصديقه(7/248)
ولد سنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فَسمع ببلخ أَبَاهُ وَأَبا الْقَاسِم بن مُحَمَّد الخليلي وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْأَصْبَهَانِيّ وَأَبا جَعْفَر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن السمنجاني وَعَلِيهِ تفقه وَأَبا حَامِد أَحْمد بن مُحَمَّد الشجاعي وَأَبا نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد الماهاني وَجَمَاعَة
روى عَنهُ أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ وَابْنه عبد الرَّحِيم وَابْن الْجَوْزِيّ والافتخار عبد الْمطلب الْهَاشِمِي وَالشَّيْخ تَاج الدّين الْكِنْدِيّ وَأَبُو أَحْمد بن سكينَة وَأَبُو الْفَتْح المندآئي وَأَبُو روح عبد الْمعز الْهَرَوِيّ وَآخَرُونَ
ذكره صَاحبه ابْن السَّمْعَانِيّ فَقَالَ مَجْمُوع حسن وَجُمْلَة مليحة مفت مناظر مُحدث مُفَسّر واعظ أديب شَاعِر حاسب
قَالَ وَكَانَ مَعَ هَذِه الْفَضَائِل حسن السِّيرَة جميل الْأَمر مليح الْأَخْلَاق مَأْمُون الصُّحْبَة نظيف الظَّاهِر وَالْبَاطِن لطيف الْعشْرَة فصيح الْعبارَة مليح الْإِشَارَة فِي وعظه كثير النكت والفوائد وَكَانَ على كبر السن حَرِيصًا على طلب الحَدِيث وَالْعلم مقتبسا من كل أحد
ثمَّ قَالَ كتبت عَنهُ الْكثير بمرو وهراة وبخارى وسمرقند وَكتب عني الْكثير وَحصل نُسْخَة بِهَذَا الْكتاب يَعْنِي ذيل تَارِيخ بَغْدَاد
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر لَا نَعْرِف للفضائل أجمع مِنْهُ مَعَ الْوَرع التَّام
وَقَالَ فِي الذيل كتب إِلَيّ من بَلخ أبياتا وَهِي
(يَا آل سمْعَان مَا أنسى فضائلكم ... قد صرن فِي صحف الْأَيَّام عنوانا)(7/249)
(معاهدا ألفتها النازلون بهَا ... فَمَا وهت بمرور الدَّهْر أركانا)
(حَتَّى أَتَاهَا أَبُو سعد فشيدها ... وزادها بعلو الشَّأْن تبيانا)
(كَانُوا ملاذ بنى الآمال فانقرضوا ... مخلفين بِهِ مثل الَّذِي كَانَا)
(لَوْلَا مَكَان أبي سعد لما وجدوا ... على مفاخرهم للنَّاس برهانا)
(كَانُوا رياضا فأهدوا من خلائقه ... إِلَى طبائعنا روحا وريحانا)
فِي أَبْيَات أخر يمتدح بهَا الذيل ذكرهَا أَبُو سعد
وَحكي أَن كلا من أبي شُجَاع وَأبي سعد كَانَ يسْأَل الله أَن لَا يسمعهُ نعي صَاحبه فماتا فِي شَهْرَيْن أَبُو شُجَاع ببلخ وَأَبُو سعد بمرو وَلم يسمع أَحدهمَا نعي الآخر
توفّي أَبُو شُجَاع ببلخ فِي شهر ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
951 - عمر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي نصر أَبُو حَفْص السَّرخسِيّ الشيرزي
وشيرز من أَعمال سرخس
ولد سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة كَذَا فِي كتابي وَفِي تحبير ابْن السَّمْعَانِيّ سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة بسرخس
وتفقه على الإِمَام أبي المظفر بن السَّمْعَانِيّ وَالشَّيْخ أبي حَامِد الشجاعي
وَسمع بسرخس أَبَا الْحسن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن زيد الْعلوِي وبمرو أَبَا المظفر السَّمْعَانِيّ وببلخ أَبَا عَليّ الوخشي وَسمع من آخَرين بأصبهان وَغَيرهَا
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَقَالَ أستاذنا وَشَيخنَا قَالَ وَكَانَ على سيرة السّلف(7/250)
من ترك الكلف والتواضع وَكَانَ فَقِيها محققا موفقا حسن السِّيرَة كثير الدَّرْس لِلْقُرْآنِ وَكَانَ من وُجُوه تلامذة الْجُوَيْنِيّ
قَالَ وصنف التصانيف فِي الْخلاف وَالنَّظَر مثل الاعتصار والاعتصام والأسولة وَغَيرهَا
قَالَ وَصَارَ فِي علم النّظر بِحَيْثُ يضْرب بِهِ الْمثل
قَالَ وَكَانَ الشهَاب الْوَزير يَقُول لَو فصد عمر السَّرخسِيّ لجرى مِنْهُ الْفِقْه مَكَان الدَّم
قَالَ وَأقَام بمرو إِلَى أَن توفّي بهَا فِي مستهل رَمَضَان سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة
952 - عمر بن مُحَمَّد بن عِكْرِمَة الْجَزرِي الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم بن البزري
والبزر الْمَنْسُوب إِلَيْهِ بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الزَّاي المنقوطة ثمَّ رَاء مُهْملَة اسْم للدهن الْمُسْتَخْرج من بزر الْكَتَّان بِهِ يستصبح أهل تِلْكَ الْبِلَاد
إِمَام جَزِيرَة ابْن عمر ومفتيها ومدرسها
مولده سنة إِحْدَى وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة(7/251)
وتفقه على الْغَزالِيّ والشاشي وَأبي الْغَنَائِم الفارقي واختص بِصُحْبَة أبي الْغَنَائِم
وَكَانَ ينعَت بزين الدّين جمال الْإِسْلَام وَكَانَ من أَعْلَام الْمَذْهَب وحفاظه قَصده الطّلبَة من الْبِلَاد لعلمه الْكثير وَدينه وورعه وَكَانَ يُقَال إِنَّه أحفظ أهل الأَرْض بِمذهب الشَّافِعِي وصنف كتابا شرح فِيهِ إشكالات الْمُهَذّب وَله فَتَاوَى مَشْهُورَة
توفّي فِي ثَالِث عشرى ربيع الأول سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة
وَمن الْفَتَاوَى والغرائب عَن ابْن البزري
رَأَيْت فِي فَتَاوِيهِ من أفطر فِي صَوْم الْكَفَّارَة عَامِدًا وَهُوَ جَاهِل بِقطع التَّتَابُع لَا يَنْقَطِع التَّتَابُع قَالَ وَهَذَا وَقع لي وَلَا أحفظ فِيهِ مسطورا
الرجل يُجَامع زَوجته ويتفكر وَقت جِمَاعهَا فِي غَيرهَا مِمَّن لَا تحل لَهُ سُئِلَ ابْن البزري عَن ذَلِك هَل يحرم أَو يكره أجَاب مَا نَصه لَا يَأْثَم بجماع زَوجته وجودا وعدما وفكره فِي امْرَأَة أَجْنَبِيَّة لَا تحل لَهُ مَمْنُوع فَإِن لم يحرم قطعا فَلَا شكّ فِي كَرَاهَته وَالْمُبَالغَة فِي اجتنابه والإعراض عَنهُ انْتهى
قلت وَقعت الْمَسْأَلَة بِدِمَشْق فِي زمَان الشَّيْخ برهَان الدّين بن الفركاح فَذكر فِي كتاب الشَّهَادَات من تَعْلِيقه أَنه استفتى فِيمَن استحضر بِقَلْبِه وَهُوَ يواقع زَوجته محَاسِن أَجْنَبِيَّة يعرفهَا مثلهَا فِي قلبه واستحضر أَنه يُجَامع الْأَجْنَبِيَّة هَل يَأْثَم أَو يسْتَحبّ(7/252)
لحَدِيث إِذا أبْصر أحدكُم امْرَأَة فليأت أَهله فَإِن ذَلِك يرد مَا فِي نَفسه قَالَ الشَّيْخ برهَان الدّين وَلم أجد فِيهَا نقلا مَخْصُوصًا
قلت وَلَو اطلع على فتيا ابْن البزري لذكرها ثمَّ ذكر من كَلَام النَّوَوِيّ مَذْهَب القَاضِي أبي بكر فِي تأثيم من عزم على مَعْصِيّة وَحَدِيث إِن الله تجَاوز لي عَن أمتِي مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم تَتَكَلَّم أَو تعْمل
قلت وَلمن يَدعِي التَّحْرِيم أَن يَقُول قد عمل فَإِن قَوْله أَو تعْمل أَعم من ذَلِك الْعَمَل الَّذِي يحدث بِهِ النَّفس أَو غَيره فَهَذَا غير مقترن بِعَمَل لكنه لَيْسَ الْعَمَل الَّذِي عزم عَلَيْهِ
وللشيخ الإِمَام فِي بَاب إحْيَاء الْموَات نَظِير هَذَا الْبَحْث لكني لَا أرَاهُ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيث آخر أَو يعْمل بِهِ
اسْتِحْبَاب إِجَابَة المؤذنين للصَّلَاة الْوَاحِدَة وَإِن تعاقبوا سُئِلَ ابْن البزري هَل نجيب مُؤذنًا بعد مُؤذن فَأجَاب جَاءَ فِي رِوَايَة إِذا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذّن وَالْألف وَاللَّام إِذا لم يكن عهد سَابق للْعُمُوم وَإجَابَة كل وَاحِد
قلت وَبِذَلِك أفتى شيخ الْإِسْلَام أَبُو مُحَمَّد بن عبد السَّلَام وَفصل الرَّافِعِيّ بحثا لنَفسِهِ فِي كِتَابه أخطار الْحجاز بَين أَن يكون صلى أَولا
وَقد بسطنا الْمَسْأَلَة فِي أصُول الْفِقْه فِي مَسْأَلَة أَن الْأَمر هَل يَقْتَضِي التّكْرَار
إخصاء الْحَيَوَان الْمَأْكُول لتطييب لَحْمه وَقد أَكثر النَّاس فعله فِي الديكة قَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا بِأَنَّهُ يجوز إِذا كَانَ صَغِيرا وَحرم ذَلِك ابْن الْمُنْذر وَبِه أفتى ابْن البزري وَقَالَ لَو جَازَ إخصاؤه للسمن لجَاز لنا للتبتل وَالْعِبَادَة انْتهى وَلَيْسَت الْمُلَازمَة أَلْبَتَّة
ضرب الرجل زَوجته على ترك الصَّلَاة أفتى ابْن البزري بِأَنَّهُ يجب على الرجل أَمر زَوجته بِالصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتهَا وَأَنه يجب عَلَيْهِ ضربهَا عَلَيْهَا إِذا لم تفعل(7/253)
953 - عمر بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُوسَى الشَّاشِي أَبُو حَفْص
نزيل فاشان
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ تفقه على الإِمَام أبي المظفر التَّمِيمِي
قَالَ وَكَانَ فَقِيها ورعا كثير الْعِبَادَة سمع بمرو أستاذه أَبَا الْفضل التَّمِيمِي وخلقا وبفوشنج أَبَا الْحسن الدَّاودِيّ وَغَيره وببغداد والكوفة وَغَيرهمَا من جمَاعَة
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَقَالَ توفّي فِي أول يَوْم من شهر رَمَضَان سنة سبع وَعشْرين وَخَمْسمِائة
954 - عمر السُّلْطَان هُوَ أَبُو سعد عمر بن عَليّ بن سهل الدَّامغَانِي
وَالسُّلْطَان لقب عَلَيْهِ
سمع أَبَا بكر بن خلف وَأَبا تُرَاب عبد الْبَاقِي المراغي وَالْحسن بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي الْوَاعِظ وَأحمد بن مُحَمَّد الشجاعي
لقِيه عبد الرَّحِيم بن السَّمْعَانِيّ بمرو سمع مِنْهُ وَكَانَ إِمَامًا مناظرا عَالما كَبِيرا
توفّي سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة(7/254)
955 - عوض بن أَحْمد الإِمَام أَبُو خلف الشرواني
من مَدِينَة شرْوَان بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة بعْدهَا رَاء ثمَّ وَاو ثمَّ ألف ثمَّ نون من بِلَاد دربند ينْسب إِلَى كسْرَى أنو شرْوَان
وَهُوَ مُصَنف الْمُعْتَبر فِي تَعْلِيل الْمُخْتَصر للجويني وقفت عَلَيْهِ
توفّي بعد الْخمسين وَخَمْسمِائة
956 - عِيسَى بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْأَمِير ضِيَاء الدّين الهكاري الْفَقِيه الْمُحَقق أَبُو مُحَمَّد
أكبر أُمَرَاء الدولة الصلاحية
تفقه بالجزيرة على الإِمَام أبي الْقَاسِم بن البزري ثمَّ انْتقل لحلب وَسمع الحَدِيث من الحافظين أبي طَاهِر السلَفِي وَأبي الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر وَحدث
سمع مِنْهُ القَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ الْأنْصَارِيّ وَغَيره
وَكَانَ من مبادي سعده أَنه اتَّصل بِخِدْمَة الْملك أَسد الدّين شيركوه وَصَارَ إِمَامه فِي الصَّلَوَات وَتوجه مَعَه إِلَى مصر وَكَانَ أحد الْأَسْبَاب المعنية على سلطنة صَلَاح الدّين بعد عَمه فَمن ثمَّ رعى لَهُ السُّلْطَان هَذِه الْخدمَة وَكَانَ ذَا شجاعه وشهامة فَأمره أَسد الدّين(7/255)
ثمَّ رفع صَلَاح الدّين مَنْزِلَته وَنَقله من إمرة إِلَى إمرة حَتَّى صَار أكبر أُمَرَاء الدولة وَأسر مرّة وخلص بستين ألف دِينَار
توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
مَاتَ بمخيمة على حِصَار عكا وَهُوَ مُجَاهِد للفرنج
957 - غَانِم بن الْحُسَيْن أَبُو الْغَنَائِم الموشيلي
بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْوَاو وَكسر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء المنقوطة بِاثْنَتَيْنِ من تحتهَا وَفِي آخرهَا اللَّام نِسْبَة إِلَى مشيلا وَهُوَ كتاب لِلنَّصَارَى جد الْمَذْكُور وَكَانَ نَصْرَانِيّا
وَهُوَ من أهل أرمية من بِلَاد أذربيجان
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فَقِيه فَاضل ورع مفت مناظر ورد بَغْدَاد وَأقَام بهَا متفقها على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَسمع ابْن هزارمرد الصريفيني وتفقه بنيسابور على إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَقد نَاظر أَبَا سعد الْمُتَوَلِي وَظهر كَلَامه فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق لغانم كَانَ كلامك أَجود من كَلَام أبي سعد
توفّي بأرمية فِي حُدُود سنة خمس وَعشْرين وَخَمْسمِائة(7/256)
958 - الْفَتْح بن أَحْمد بن عبد الْبَاقِي أَبُو نصر
من أهل بعقوبا
سَافر إِلَى خُرَاسَان وَأقَام بنيسابور يتفقه على مُحَمَّد بن يحيى
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ علقت عَنهُ أبياتا من الشّعْر
قَالَ وَقتل بنيسابور سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ قد بَات عِنْد بعض التُّجَّار فَوَجَدَهُ مقتولا
959 - الْفرج بن عبيد الله بن أبي نعيم بن الْحسن الخويي
تفقه على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق ثمَّ على أبي سعد الْمُتَوَلِي
مَاتَ بِبَلَدِهِ فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَخَمْسمِائة
960 - الْفضل أَبُو مَنْصُور الإِمَام المسترشد بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ
ابْن المستظهر بِاللَّه أَحْمد بن المقتدى بِأَمْر الله عبد الله بن مُحَمَّد بن الْقَائِم بن الْقَادِر بن المقتدر ابْن المعتضد بن الْمُوفق بن المتَوَكل بن المعتصم بن هَارُون الرشيد بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور أخي السفاح
(نسب كَأَن عَلَيْهِ من شمس الضُّحَى ... نورا وَمن فلق الصَّباح عمودا)(7/257)
وَهُوَ الَّذِي صنف لَهُ الشَّاشِي كتاب الْعُمْدَة وباسمه اشْتهر الْكتاب فَإِنَّهُ كَانَ يلقب عُمْدَة الدُّنْيَا وَالدّين وعدة الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين
بُويِعَ لَهُ بالخلافة لَيْلَة الْخَمِيس الرَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَخَمْسمِائة فَأول من بَايعه إخْوَته أَبُو عبد الله مُحَمَّد وَأَبُو طَالب الْعَبَّاس وَأَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم وَأَبُو نصر مُحَمَّد وَأَبُو الْقَاسِم إِسْمَاعِيل وَأَبُو الْفضل عِيسَى ثمَّ تلاهم عمومته أَبُو جَعْفَر مُوسَى وَأَبُو إِسْحَاق وَأَبُو أَحْمد وَأَبُو عَليّ أَوْلَاد الْمُقْتَدِي ثمَّ جلس بكرَة الْخَمِيس جُلُوسًا عَاما وَدخل النَّاس لمبايعته وَكَانَ الْمُتَوَلِي لأخذ الْبيعَة قَاضِي الْقُضَاة أَبُو الْحسن الدَّامغَانِي فَأول من بَايع أَبُو الْقَاسِم الزَّيْنَبِي ثمَّ أَرْبَاب الدولة ثمَّ أسعد الميهني مدرس النظامية ثمَّ النَّاس على طبقاتهم ثمَّ أخرجت جَنَازَة المستظهر فصلى عَلَيْهَا المسترشد
وَكَانَ المسترشد وَقت الْمُبَايعَة لَهُ ابْن سبع وَعشْرين سنة لِأَن مولده فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشر شعْبَان سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وخطب لَهُ أَبوهُ بِولَايَة الْعَهْد وَنقش اسْمه على السِّكَّة فِي شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَذكر أَن المسترشد كَانَ تنسك فِي أول زَمَنه وَلبس الصُّوف وَتفرد فِي بَيت لِلْعِبَادَةِ
وَكَانَ مليح الْخط مَا كتب أحد من الْخُلَفَاء قبله مثله يسْتَدرك على كِتَابه وَيصْلح أغاليط فِي كتبهمْ
وَأما شهامته وهيبته وشجاعته وإقدامه فَأمر أشهر من الشَّمْس وَقت الزَّوَال وأوضح من الْبَدْر لَيْلَة الْكَمَال وَلم تزل أَيَّامه مكدرة بِكَثْرَة التشويش والمخالفين وَكَانَ يخرج بِنَفسِهِ لدفع ذَلِك إِلَى أَن خرج الخرجة الْأَخِيرَة إِلَى الْعرَاق فَكسر وَأخذ ورزق الشَّهَادَة على يَد الْمَلَاحِدَة
وَحكي أَن الْوَزير عَليّ بن طراد أَشَارَ إِلَيْهِ أَن ينزل فِي منزل اخْتَارَهُ وَقَالَ إِن ذَلِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أصون للحريم الشريف فَقَالَ كف يَا عَليّ فوَاللَّه لَأَضرِبَن بسيفي حَتَّى يكل ساعدي ولألقين الشَّمْس بوجهي حَتَّى يشحب لوني وانشد(7/258)
(وَإِذا لم يكن من الْمَوْت بُد ... فَمن الْعَجز أَن تكون جَبَانًا)
وَله الشّعْر الْحسن فَمِنْهُ قَوْله لما استؤسر
(وَلَا عجبا للأسد إِن ظَفرت بهَا ... كلاب الأعادي من فصيح وأعجم)
(فحربه وَحشِي سقت حَمْزَة الردى ... وَمَوْت عَليّ من حسام ابْن ملجم)
وَمن شعره
(أَنا الْأَشْقَر الْمَوْعُود بِي فِي الْمَلَاحِم ... وَمن يملك الدُّنْيَا بِغَيْر مُزَاحم)
(ستبلغ أَرض الرّوم خيلي وتنتضي ... بأقصى بِلَاد الصين بيض صوارمي)
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ ذَا رَأْي وهيبة ومضاء وشجاعة أَحْيَا رمائم الْخلَافَة وشدر أَرْكَان الشَّرِيعَة وَضبط أُمُور الْخلَافَة وردهَا ورتبها أحسن التَّرْتِيب
والمسترشد أبلغ مِمَّا يُوصف بِهِ وَقد آل أمره إِلَى أَن خرج فِي سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة إِلَى همذان للإصلاح بَين السلاطين السلجقية وَكَانَ مَعَه كثير من الأتراك فغدر بِهِ أَكْثَرهم وَلَحِقُوا بالسلطان مَسْعُود بن مُحَمَّد بن ملكشاة ثمَّ التقى الْجَمْعَانِ فَلم يَلْبَثُوا إِلَّا قَلِيلا وانهزموا عَن المسترشد وَذَلِكَ فِي شهر رَمَضَان وَقبض على المسترشد بِاللَّه وعَلى خَواص دولته وحملوا إِلَى قلعة هُنَاكَ بِقرب همذان فحبسوا فِيهَا وَبَقِي المسترشد مَعَ السُّلْطَان مَسْعُود إِلَى النّصْف من ذِي الْقعدَة من السّنة وَحمل مَعَهم إِلَى مراغة من بِلَاد أذربيجان ثمَّ إِن الباطنية ألقوا عَلَيْهِ جمَاعَة من الْمَلَاحِدَة وَكَانَ قد أنزل نَاحيَة من الْعَسْكَر فَدَخَلُوا عَلَيْهِ يَوْم الْخَمِيس سادس عشر ذِي الْقعدَة وفتكوا بِهِ وبجماعة مَعَه كَانُوا على بَاب خر كاهه(7/259)
وَقتلُوا جَمِيعًا ضربا بالسكاكين وَحمل هُوَ إِلَى مراغة وَدفن هُنَاكَ
ويحكى أَن المسترشد كَانَ إِذْ ذَاك صَائِما وَقد صلى الظّهْر وَهُوَ يقْرَأ فِي الْمُصحف فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ ثمَّ أضرمت عَلَيْهِم النَّار فَبَقيت يَد أحدهم لم تحترق وَهِي خَارِجَة من النَّار مَضْمُومَة كلما ألقوا النَّار عَلَيْهَا وَهِي لَا تحترق ففتحوا يَده وَإِذا فِيهَا شَعرَات من كريمته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخذهَا السُّلْطَان مَسْعُود وَجعلهَا فِي تعويذ ذهب
ثمَّ إِن السُّلْطَان جلس للعزاء وَخرج وَمَعَهُ الْمُصحف وَعَلِيهِ الدَّم إِلَى السُّلْطَان وَخرج أهل المراغة وَعَلَيْهِم المسوح وعَلى وُجُوههم الرماد وهم يستغيثون وَدفن فِي مدرسة هُنَاكَ وَبَقِي العزاء فِي مراغة أَيَّامًا فَرضِي الله عَنهُ لقد عَاشَ حميدا وَمَات شَهِيدا فقيدا
وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته ثَمَان عشرَة سنة وَسِتَّة أشهر
وَحكي عَن أبي المظفر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن قزمي الإسكافي إِمَام الْوَزير عَليّ بن طراد الزَّيْنَبِي قَالَ لما كُنَّا مَعَ الإِمَام المسترشد بِاللَّه يَعْنِي بالمعسكر بِبَاب همذان كَانَ مَعنا إِنْسَان يعرف بِفَارِس الْإِسْلَام وَكَانَ يقرب من خدمه الْخَلِيفَة قَالَ فجَاء لَيْلَة من اللَّيَالِي قبل طُلُوع الْفجْر فَدخل على الْوَزير فَسلم عَلَيْهِ قَالَ مَا جَاءَ بك فِي هَذَا الْوَقْت قَالَ مَنَام رَأَيْته السَّاعَة وَهُوَ كَأَن خَمْسَة نفر قد توجهوا للصَّلَاة وَاحِد يؤمهم فَجئْت فَصليت مَعَهم ثمَّ قلت لوَاحِد مِنْهُم من هَذَا الَّذِي يُصَلِّي بِنَا فَقَالَ هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت وَمن أَنْت فَقَالَ أَنا عَليّ بن أبي طَالب وَهَؤُلَاء أَصْحَابه فَقُمْت وَقبلت يَده الشَّرِيفَة وَقلت يَا رَسُول الله مَا تَقول فِي هَذَا الْجَيْش وعنيت عَسْكَر الْخَلِيفَة فَقَالَ هَذَا جَيش مكسور مقهور
وَأُرِيد أَن تطالع الْخَلِيفَة بِهَذَا الْمَنَام(7/260)
فَقَالَ الْوَزير يَا فَارس الْإِسْلَام أَنا أَشرت على الْخَلِيفَة لَا يخرج من بَغْدَاد فَقَالَ لي يَا عَليّ أَنْت عَاجز ارْجع إِلَى بَيْتك وَأَقُول لَهُ هَذِه الرُّؤْيَا فَرُبمَا تطير بهَا ثمَّ يَقُول قد جَاءَنِي بترهات قَالَ أَفلا أنهِي ذَلِك إِلَيْهِ قَالَ بلَى تَقول لِابْنِ طَلْحَة صَاحب المخزن فَذَاك منبسط وَيُنْهِي مثل هَذَا
قَالَ فَخرج من عِنْد الْوَزير ثمَّ دخل إِلَى صَاحب المخزن فأورد عَلَيْهِ الرُّؤْيَا فَقَالَ مَا أشتهي أَن أنهِي إِلَيْهِ مَا يتطير بِهِ قَالَ فَيجوز أَنِّي أذكر هَذَا قَالَ اكْتُبْ إِلَيْهِ واعرضها وأخل مَوضِع مقهور قَالَ فكتبتها وَجئْت إِلَى بَاب السرادق فَوجدت مرتجا الْخَادِم فِي الدهليز وَرَأَيْت الْخَلِيفَة وَقد صلى الْفجْر والمصحف على فَخذه وَهُوَ يقْرَأ وَمُقَابِله ابْن سكينَة إِمَامه والشمعة بَينهمَا فَدخل وَسلم الرقعة إِلَيْهِ وَأَنا أنظرهُ فقرأها ثمَّ رفع رَأسه إِلَى الْخَادِم ثمَّ قَرَأَهَا ثَانِيًا ثمَّ نظر إِلَيْهِ ثمَّ قَرَأَهَا ثَالِثا ثمَّ قَالَ من كتب هَذِه الرقعة فَقَالَ فَارس الْإِسْلَام فَقَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ بِبَاب السرادق قَالَ فَأحْضرهُ فجَاء فَقبض عَليّ يَدي فَبَقيت أرعد خيفة من تطيره فَدخلت وَقبلت الأَرْض فَقَالَ وَعَلَيْكُم السَّلَام ثمَّ قَرَأَ الرقعة ثَلَاث مَرَّات أُخْرَى وَهُوَ ينظر إِلَيّ ثمَّ قَالَ من كتب هَذِه الرقعة فَقلت أَنا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ وَيلك لم أخليت مَوضِع الْكَلِمَة الْأُخْرَى فَقلت هُوَ مَا رَأَيْت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ وَيلك هَذَا الْمَنَام أريته السَّاعَة أَنا فَقلت يَا مَوْلَانَا لَا يكون أصدق من رُؤْيَاك نرْجِع من حَيْثُ جِئْنَا فَقَالَ وَيلك ونكذب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا وَالله مَا بَقِي لنا رَجْعَة وَيَقْضِي الله مَا يَشَاء
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي أَو الثَّالِث وَقع المصاف وَتمّ مَا تمّ وَكسر وَأسر وَقتل وروى أَنه رأى فِي نَومه فِي الْأُسْبُوع الَّذِي اسْتشْهد فِيهِ كَأَن على يَده حمامة مطوقة(7/261)
وَأَتَاهُ آتٍ وَقَالَ لَهُ خلاصك فِي هَذَا فَلَمَّا أصبح قصّ على ابْن سكينَة الإِمَام مَا رأى فَقَالَ يكون خيرا ثمَّ قَالَ مَا أولته يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ بِبَيْت أبي تَمام حَيْثُ يَقُول
(هن الْحمام فَإِن كسرت عيافه ... حاء الْحمام فَإِنَّهُنَّ حمام)
وخلاصي فِي حمامي وليت من يَأْتِي فيخلصني مِمَّا أَنا فِيهِ من الذل وَالْحَبْس فَقتل بعد أَيَّام
وَمن شعره لما كسر وأشير عَلَيْهِ بالهزيمة
(قَالُوا تقيم وَقد أحَاط ... بك الْعَدو وَلَا تَفِر)
(فأجبتهم الْمَرْء مَا ... لم يتعظ بالوعظ غر)
(لَا نلْت خيرا مَا حييت ... وَلَا عداني الدَّهْر شَرّ)
(إِن كنت أعلم أَن غير ... الله ينفع أَو يضر)
سمع المسترشد بِاللَّه الحَدِيث من أبي الْقَاسِم عَليّ بن احْمَد الرزاز وَمن مؤدبه أبي البركات أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب بن هبة الله بن السيبي وَحدث وَقد أسندنا حَدِيثه
كتب إِلَيّ أَحْمد بن أبي طَالب عَن مُحَمَّد بن مَحْمُود أخبرنَا أَبُو أَحْمد عبد الْوَهَّاب ابْن عَليّ بن عَليّ بن عبيد الله قِرَاءَة عَلَيْهِ أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن عمر السَّمرقَنْدِي قِرَاءَة عَلَيْهِ قَالَ قَرَأت على السَّيِّد الْأَجَل الرِّضَا نقيب النُّقَبَاء(7/262)
شرف الدّين خَالِصَة الْخلَافَة وَزِير أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي الْقَاسِم عَليّ بن طراد بن مُحَمَّد بن عَليّ الزَّيْنَبِي أدام الله سعادته وتوفيقه قلت لَهُ قرئَ على سيدنَا ومولانا الإِمَام المسترشد بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ أدام الله أَيَّامه وأعانه على مَا استرعاه وأيده بنصره وجنده وبلغه نِهَايَة أمله فِي ولي عَهده وَجَمِيع وَلَده بمنة وَكَرمه وَأَنت تسمع فِي يَوْم الْأَحَد عَاشر الْمحرم سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة فِي عودة من قتال المارقين مظفر منصورا قيل لَهُ أخْبركُم عَليّ ابْن أَحْمد بن مُحَمَّد الرزاز أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الرزاز حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الصفار حَدثنَا الْحسن بن عَرَفَة حَدثنَا عُبَيْس بن مَرْحُوم الحَدِيث الْفضل بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الزيَادي أَبُو مُحَمَّد
من أهل سرخس
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ ولي الْقَضَاء بهَا مُدَّة ثمَّ صرف عَنْهَا
قَالَ وَكَانَ فَقِيها فَاضلا حسن السِّيرَة كثير الْعِبَادَة متزهدا مولده فِي رَجَب سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَذكره أَبُو الْفَتْح نَاصِر بن أَحْمد العاصمي فِي كتاب الرسَالَة فَقَالَ الشَّيْخ الإِمَام الزَّاهِد نجيب عَجِيب وللفتاوى فِي الْحَال مُجيب أربى على أقرانه فِي الزّهْد والتورع قَائِم بالأسحار على قدم التذلل والتضرع(7/263)
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ توفّي الزيَادي بسرخس يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس عشر شَوَّال سنة خمسين وَخَمْسمِائة
962 - فضل الله بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الدلغاطاني
بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَفتح الْغَيْن الْمُعْجَمَة والطاء الْمُهْملَة بَين الْأَلفَيْنِ وَفِي آخرهَا النُّون نِسْبَة إِلَى دلغاطان قَرْيَة من قرى مرو
يكنى أَبَا نصر
قَالَ فِيهِ ابْن السَّمْعَانِيّ صاحبنا وصديقنا قَالَ وَكَانَ من أهل الْعلم وَالْفضل رَاغِبًا فِي تَحْصِيل الْعلم محبا لَهُ أفنى عمره فِي طلبه يعرف اللُّغَة وَالْأُصُول وَالْفِقْه وَرغب فِي طلب الحَدِيث وَبَالغ فِيهِ على كبر السن
قَالَ وَكَانَ يحثني على إتْمَام هَذَا الْكتاب يَعْنِي الْأَنْسَاب ولد بدلغاطان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة أَو سنة تسعين قَالَه ظنا
قلت مَاتَ بمرو فِي الْمحرم سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة
963 - فضل الله بن مُحَمَّد بن أبي الشريف أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الساوي أَبُو مُحَمَّد الْوَاعِظ سبط أبي طَاهِر مُحَمَّد بن دوستوية بن مُحَمَّد الْوَاعِظ الْمَعْرُوف بالقصار
من أهل همذان(7/264)
كَانَ يلقب بالناصح
سمع من أبي الْوَقْت وَأبي زرْعَة وشهردار وَأبي الْعَلَاء الْعَطَّار وَأبي مُوسَى الْمَدِينِيّ وَخلق
ولد فِي ذِي الْقعدَة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
964 - فضل الله بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن الْحسن بن روح الخطيبي أَبُو مُحَمَّد الدندانقاني
سكن بَلخ وتفقه على أبي بكر السَّمْعَانِيّ بمرو وعَلى الْبُرْهَان ببخارى
ولد فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَمَات ببلخ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة
965 - الْقَاسِم بن أَحْمد بن مَنْصُور بن الْقَاسِم الصفار أَبُو بكر
من أحفاد أبي بكر بن فورك وَمن أَسْبَاط زين الْإِسْلَام أبي الْقَاسِم الْقشيرِي
تفقه على أبي نصر الْقشيرِي
قتل شَهِيدا ظهر يَوْم الْجُمُعَة سادس شَوَّال سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة(7/265)
966 - الْقَاسِم بن عبد الله بن الْقَاسِم بن المظفر بن عَليّ بن الشهرزوري أَبُو أَحْمد بن أبي مُحَمَّد بن أبي أَحْمد
من أهل الْموصل من بَيت مَشْهُور بِالْفَضْلِ والتقدم
توفّي فِي رَابِع شَوَّال سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة بالموصل
967 - الْقَاسِم بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الحريري
صَاحب المقامات
من أهل الْبَصْرَة ولد سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
وَسمع الحَدِيث من أبي تَمام مُحَمَّد بن الْحسن بن مُوسَى المقرى وَأبي الْقَاسِم الْفضل القصباني الأديب وَأبي الْقَاسِم الْحُسَيْن بن أَحْمد بن الْحُسَيْن الباقلاني وَغَيرهم(7/266)
وَحدث بِبَغْدَاد بِجُزْء من حَدِيثه وبمقاماته الَّتِي أَنْشَأَهَا
روى عَنهُ أَبُو الْفضل بن نَاصِر وَأَبُو بكر عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن النقور والوزير عَليّ بن طراد وَأَبُو المعمر الْمُبَارك بن أَحْمد الْأَزجيّ وَأَبُو الْعَبَّاس المندائي وَخلق وَآخر من روى عَنهُ بِالْإِجَازَةِ بَرَكَات بن إِبْرَاهِيم الخشوعي
وتفقه على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَأبي نصر بن الصّباغ
وَقَرَأَ الْفَرَائِض والحساب على أبي الْفضل الهمذاني وَأبي حَكِيم الخبري
وَأخذ الْأَدَب عَن أبي الْحسن عَليّ بن فضال الْمُجَاشِعِي وَأبي الْقَاسِم القصباني
وَكَانَ من البلاغة والفصاحة بِالْمحل الرفيع الَّذِي تشهد بِهِ مقاماته الَّتِي لانظير لَهَا رَشِيق النّظم والنثر حُلْو الْأَلْفَاظ عذب الْعبارَة إِمَام مقدم فِي الْأَدَب وفنونه
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ لَو قلت إِن مفتتح الْإِحْسَان فِي شعره كَمَا أَن مختتم الإبداع بنثره وَأَن مسير الْحسن تَحت لِوَاء كَلَامه كَمَا أَن مخيم السحر عِنْد أقلامه لما زلقت من شَاهِق الْإِنْصَاف إِلَى حضيض الاعتساف
وَقَالَ أَيْضا فِيهِ أحد الْأَئِمَّة فِي الْأَدَب واللغة وَمن لم يكن لَهُ فِي فنه نَظِير فِي عصره فاق أهل زَمَانه بالذكاء والفصاحة وتنميق الْعبارَة وتجنيسها وَكَانَ فِيمَا يذكر غَنِيا كثير المَال
وَكَانَ من سَبَب إنشائه المقامات مَا حَكَاهُ عَن نَفسه من أَن أَبَا زيد السرُوجِي واسْمه فِيمَا ذكر بَعضهم المطهر بن سلار من أهل الْبَصْرَة كَانَ شَيخا شحاذا أديبا بليغا فصيحا قَالَ الحريري ورد علينا الْبَصْرَة فَوقف فِي مَسْجِد بني حرَام فَسلم ثمَّ سَأَلَ وَكَانَ بعض الْوُلَاة حَاضرا وَالْمَسْجِد غاص بالفضلاء فأعجبتهم فَصَاحَته وَحسن كَلَامه(7/267)
وَذكر اسر الرّوم وَلَده كَمَا ذكرنَا فِي المقامة الحرامية فَاجْتمع عِنْدِي عَشِيَّة جمَاعَة فحكيت مَا شاهدت من ذَلِك السَّائِل وَمَا سَمِعت من ظرافته فحكي كل وَاحِد عَنهُ نَحْو مَا حكيت فأنشات المقامة الحرامية ثمَّ بنيت عَلَيْهَا سَائِر المقامات
قيل وَأما تسميه الرَّاوِي عَنهُ بِالْحَارِثِ بن همام فَإِنَّمَا عني بِهِ نَفسه لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كلكُمْ حَارِث وكلكم همام) فالحارث الكاسب والهمام الْكثير الاهتمام وكل أحد كاسب ومهتم بأموره
ثمَّ انتشرت هَذِه المقامات فِي زَمَانه وَكَثُرت النّسخ بهَا وَزَاد إقبال الْخلق عَلَيْهَا بِحَيْثُ قَالَ القَاضِي جَابر بن هبة الله قَرَأت المقامات على الحريري فِي سنة أَربع عشرَة وَكنت أَظن أَن قَوْله
(يَا أهل ذَا المغنى وقيتم شرا ... وَلَا لَقِيتُم مَا بَقِيتُمْ ضرا)
(قد دفع اللَّيْل الَّذِي اكفهرا ... إِلَى ذراكم شعثا مغبرا)
فَقَرَأت سغبا معترا
ففكر ثمَّ قَالَ وَالله لقد أَجدت فِي التَّصْحِيف وَإنَّهُ لأجود فلرب شعث مغبر غير مُحْتَاج والسغب المعتر مَوضِع الْحَاجة وَلَوْلَا أَنِّي قد كتبت خطي إِلَى هَذَا الْيَوْم على سَبْعمِائة نُسْخَة قُرِئت على لغيرته كَمَا قلت(7/268)
وَمن شعره
(لَا تخطون إِلَى خطء وَلَا خطأ ... من بعد مَا الشيب فِي فوديك قد وخطا)
(وَأي عذر لمن شابت ذوائبه ... إِذا سعى فِي ميادين الصِّبَا وخطا)
واقتصرت على ذكر هذَيْن الْبَيْتَيْنِ لِأَنِّي لم لَهُ نظما وَلَا نثر إِلَّا ونظمه ونثره فِي المقامات أحسن مِنْهُ
وَله ديوَان رسائل وَشعر وَله أَيْضا ملحة الْإِعْرَاب ودرة الغواص وَغير ذَلِك
توفّي فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن رَجَب سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة
وَمن الْفَوَائِد الْمُتَعَلّقَة بالمقامات
سَأَلَ يعِيش النَّحْوِيّ زيد بن الْحسن الْكِنْدِيّ عَن قَول الحريري فِي المقامة الْعَاشِرَة حَتَّى إِذا لألأ الْأُفق ذَنْب السرحان وآن انبلاج الْفجْر وحان مَا يجوز فِي قَوْله الْأُفق ذَنْب السرحان من الْإِعْرَاب وأشكل عَلَيْهِ الْجَواب حُكيَ ذَلِك ابْن خلكان وَذكر أَن البندهي جوز فِي شرح المقامات رفعهما ونصبهما(7/269)
وَرفع الأول وَنصب الثَّانِي وَعَكسه قَالَ ابْن خلكان وَلَوْلَا خوف الإطالة لأوردت ذَلِك قَالَ وَالْمُخْتَار نصب الْأُفق وَرفع ذَنْب
قلت وَقَالَ الشَّيْخ جمال الدّين ابْن هِشَام رَحمَه الله وَمن خطه نقلته كَانَ يرفعهما على حذف مفعول لألأ وَتَقْدِير ذَنْب بَدَلا أَي حَتَّى إِذا لألأ الْوُجُود الْأُفق ذَنْب السرحان وَهُوَ بدل اشْتِمَال وَنَظِيره سرق زيد فرسه ويضعفه أَو يردهُ عدم الضَّمِير وَقد يُقَال إِن أل خلف عَن الْإِضَافَة أَي ذَنْب سرحانه وَمثله {قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود النَّار} أَي ناره أَو على حذف الضَّمِير كَمَا قَالُوا فِي الْآيَة أَي ذَنْب السرحان فِيهِ وَالنَّار فِيهِ وَأما نصبهما فعلى أَن الْفَاعِل ضمير اسْمه تَعَالَى والأفق مفعول بِهِ وذنب بدل مِنْهُ أَي لألأ الله الْأُفق ذَنْب السرحان أَي سرحانة أَو السرحان فِيهِ وَرفع الذَّنب وَنصب الْأُفق وَاضح وَعَكسه مُشكل جدا إِذْ الْأُفق لم ينور الذَّنب نعم إِن كَانَ تجويزه على أَنه من بَاب المقلوب اتجه كَمَا قَالُوا كسر الزّجاج الْحجر وخرق الثَّوْب المسمار لأمن الإلباس
968 - الْقَاسِم بن فيره بن أبي الْقَاسِم خلف بن أَحْمد الرعيني الأندلسي الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم الشاطبي الْمُقْرِئ الضَّرِير
ويكنى أَيْضا أَبَا مُحَمَّد وَمِنْهُم من جعل كنيته أَبَا الْقَاسِم وَلم يَجْعَل لَهُ اسْما سواهَا(7/270)
كَذَلِك نقل أَبُو الْحسن السخاوي وَالصَّحِيح أَن اسْمه الْقَاسِم وَله كنيتان أَبُو مُحَمَّد وَأَبُو الْقَاسِم
ولد فِي آخر سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَقَرَأَ القرآات بشاطبة على أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي الْعَاصِ النفزي الْمَعْرُوف بِابْن اللاية وارتحل إِلَى بلنسية فَقَرَأَ القراآت وَعرض التَّفْسِير حفظا على أبي الْحسن بن هُذَيْل وَسمع مِنْهُ وَمن أبي الْحسن بن النِّعْمَة وَأبي عبد الله بن سَعَادَة وَجَمَاعَة وارتحل ليحج فَسمع من السلَفِي وَغَيره
روى عَنهُ أَبُو الْحسن عَليّ بن هبة الله بن الجميزي وَأَبُو بكر بن وضاح وَجَمَاعَة آخِرهم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الْوَارِث الْمَعْرُوف بِابْن فار اللَّبن
وَقَرَأَ عَلَيْهِ القرآات جماعات فَإِنَّهُ تصدر للإقراء بِمصْر وَعظم شَأْنه وَبعد صيته وانتهت إِلَيْهِ رياسة الإقراء وَقصد من الْبِلَاد وَألف القصيدة الْمُبَارَكَة الْمَشْهُورَة الْمُسَمَّاة بحرز الْأَمَانِي(7/271)
وَكَانَ ذكي القريحة قوي الحافظة وَاسع الْمَحْفُوظ كثير الْفُنُون فَقِيها مقرئا مُحدثا نحويا زاهدا عابدا ناسكا يتوقد ذكاء وَكَانَ تصدر للإقراء بِالْمَدْرَسَةِ الْفَاضِلِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ
قَالَ السخاوي أقطع بِأَنَّهُ كَانَ مكاشفا وَأَنه سَأَلَ الله كتمان حَاله مَا كَانَ أحد يعلم أَي شَيْء هُوَ
وَمن شعره
(قل للأمير نصيحة ... لَا تركنن إِلَى فَقِيه)
(إِن الْفَقِيه إِذا أُتِي ... أَبُو أبكم لَا خير فِيهِ)
توفّي فِي ثامن عشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسعين وَخَمْسمِائة عَن اثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة وَخلف بِنْتا وابنا عمر بعده
969 - الْقَاسِم بن يحيى بن عبد الله بن الْقَاسِم بن الشهرزوري أَبُو الْفَضَائِل بن أبي طَاهِر من الْبَيْت الْمَشْهُور بالرياسة وَالْفضل
تفقه بِبَغْدَاد على يُوسُف الدِّمَشْقِي ثمَّ قدم الشَّام واتصل بخدمه السُّلْطَان صَلَاح الدّين(7/272)
ونفذه مرَارًا رَسُولا إِلَى دَار الْخلَافَة المعظمة فِي الْأَيَّام المستضوية والناصرية فارتفع شَأْنه وحصلت لَهُ معرفَة بالديوان الْمُعظم وَولي قَضَاء الشَّام ثمَّ انْتقل إِلَى الْموصل وَولي قضاءها وَبَقِي على ذَلِك إِلَى أَن ورد مرسوم الْخَلِيفَة من بَغْدَاد بِطَلَبِهِ وقلد قَضَاء الْقُضَاة شرقا وغربا وفوض إِلَيْهِ النّظر على أوقاف الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة وقرىء عَهده بِجَامِع مَدِينَة السَّلَام وَلم يزل على أكمل جاه إِلَى أَن استعفى من الْقَضَاء وَسَأَلَ العودة إِلَى بِلَاده فَأُجِيب إِلَى ذَلِك فَلَمَّا وصل إِلَى حماة ألزمهُ صَاحبهَا الْمقَام بهَا فَأَقَامَ بهَا وولاه الْقَضَاء فَلم يزل هُنَاكَ إِلَى أَن أدْركهُ أَجله
وَكَانَ فَقِيها عادلا فَاضلا مهيبا ذَا ثروة ونعمة وَله النثر وَالنّظم قد سمع الحَدِيث من أبي طَاهِر السلَفِي
وَمن شعره
(فِي كل يَوْم يرى للبين آثَار ... وَمَاله فِي التئام الشمل إِيثَار)
(يَسْطُو علينا بتفريق فواعجبا ... هَل كَانَ للبين فِيمَا بَيْننَا ثار)
ولد فِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَمَات فِي منتصف رَجَب سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
970 - كتايب بن عَليّ الفارقي أَبُو عَليّ التَّاجِر
نزيل الْإسْكَنْدَريَّة
سمع بِمصْر أَبَا طَاهِر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن سعدون الْموصِلِي فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ كَبِير السن ذَاك الْوَقْت وَسمع أَيْضا من الْقُضَاعِي والشريف بن حَمْزَة(7/273)
سمع مِنْهُ أَبُو طَاهِر السلَفِي وَعبد الله العثماني وَعلي بن مهْرَان القرميسني وَغَيرهم
توفّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة وَقد جَاوز الْمِائَة
971 - مبادر بن الْأَجَل أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن مبادر بن عبد الله الْأَزجيّ
تفقه وناظر وَتكلم فِي مسَائِل الْخلاف وَحدث عَن أبي الْفَتْح بن البطي وَأبي الْقَاسِم ابْن بَيَان وَأبي عَليّ بن نَبهَان وَخلق
توفّي فِي تَاسِع عشر شعْبَان سنة ثَمَان وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
972 - الْمُبَارك بن الْمُبَارك بن أَحْمد بن أبي يعلي الرفاء الْفَقِيه أَبُو نصر الْمَعْرُوف بِابْن روما
كَانَ أَولا حنبليا ثمَّ انْتقل إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي وتفقه على أسعد الميهني ثمَّ على أبي مَنْصُور بن الرزاز وبرز فِي الْفِقْه وَسمع الحَدِيث من أبي الْغَنَائِم النَّرْسِي وَغَيره
ولد سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ حسن السِّيرَة جميل الظَّاهِر وَالْبَاطِن يُبَالغ فِي الْوضُوء وَالطَّهَارَة كثير الْعِبَادَة
توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة(7/274)
973 - الْمُبَارك بن الْمُبَارك بن الْمُبَارك أَبُو طَالب الْكَرْخِي
صَاحب أبي الْحسن بن الْخلّ وَأحد الْأَئِمَّة
قَالَ فِيهِ ابْن النجار إِمَام وقته فِي الْعلم وَالدّين والزهد والورع تفقه على أبي الْحسن بن الْخلّ ولازمه حَتَّى برع فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَولي تدريس النظامية
قَالَ وَكَانَ أكتب أهل زَمَانه لطريقة ابْن البواب عَليّ بن هِلَال وَأَحْسَنهمْ خطا
قَالَ وَكَانَ ضنينا بِخَطِّهِ لَا يسمح بِشَيْء مِنْهُ لأحد حَتَّى إِنَّه كَانَ إِذا شهد أَو كتب جَوَاب فتيا لأحد كسر الْقَلَم وَكتب بِهِ خطا رديئا
سمع من أبي الْقَاسِم بن الْحصين وَأبي بكر مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي وَحدث باليسير
وَقَالَ الْمُوفق عبد اللَّطِيف رَأَيْته يلقِي الدُّرُوس فَسمِعت مِنْهُ فصاحة فَقلت مَا أفْصح هَذَا الرجل فَقَالَ شَيخنَا ابْن عُبَيْدَة النَّحْوِيّ كَانَ أَبوهُ عوادا وَكَانَ هُوَ معي فِي الْمكتب وَضرب بِالْعودِ فأجاد وتحذق فِيهِ حَتَّى شهدُوا لَهُ أَنه فِي طبقَة معبد ثمَّ أنف واشتغل بالخط إِلَى أَن شهدُوا لَهُ أَنه أكتب من ابْن البواب وَلَا سِيمَا فِي الطومار وَالثلث ثمَّ أنف مِنْهُ واشتغل بالفقه فَصَارَ كَمَا ترى
توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة(7/275)
974 - الْمُبَارك بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن أَبُو الْعِزّ الْوَاعِظ الْمَعْرُوف بالواسطي الْقصار وَيعرف بالبصري أَيْضا وَهُوَ بغدادي وَكَانَ يلقب سيف السّنة وَقد دونت مجَالِس وعظة
سمع من أبي الْحُسَيْن بن النقور وَأبي جَعْفَر بن الْمسلمَة وَأبي الْحُسَيْن بن الْمُهْتَدي وَغَيرهم وَحدث روى عَنهُ جمَاعَة
مولده سنة أَربع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
975 - الْمُبَارك بن يحيى بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري الْمَعْرُوف بِالْقَاضِي ظهير الدّين
ولد بالجزيرة فِي سنة خمس وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَمَات بالموصل فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
976 - مُبشر بن أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن عَمْرو الرَّازِيّ أَبُو الرشيد الحاسب
الإِمَام فِي الْجَبْر والمقابلة والمساحة وَقد سمع الحَدِيث على أبي الْوَقْت السجْزِي وَغَيره وَله كتاب الْفَرَائِض على مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك
مَاتَ فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة(7/276)
977 - مثاور بن فزكوه أَبُو مقَاتل الديلمي اليزدي يلقب عماد الدّين
ذكر أَبُو حَامِد مَحْمُود التركي أَنه كَانَ فَقِيها وأديبا شَاعِرًا وَأَنه من أزهد أهل عصره وأعلمهم
تفقه على الْبَغَوِيّ وَهُوَ من كبار تلامذته
مَاتَ سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
978 - مجلي بن جَمِيع بِضَم الْجِيم بن نجا المَخْزُومِي قَاضِي الْقُضَاة أَبُو الْمَعَالِي
صَاحب الذَّخَائِر وَغَيره من المصنفات لَهُ إِثْبَات الْجَهْر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَالْكَلَام على مَسْأَلَة الدّور وَغَيرهمَا
كَانَ من أَئِمَّة الْأَصْحَاب وكبار الْفُقَهَاء وَإِلَيْهِ ترجع الْفتيا بديار مصر
قَالَ ابْن القليوبي فِي كتاب الْعلم الظَّاهِر سَمِعت الشَّيْخ الْحَافِظ زكي الدّين عبد الْعَظِيم يَقُول عَن الشَّيْخ أبي الْمَعَالِي مجلي إِنَّه تفقه من غير شيخ قَالَ وَقَالَ الشَّيْخ يَعْنِي الْحَافِظ عبد الْعَظِيم وَكَانَ يَعْنِي القَاضِي مجليا يمشي فِي جبانة القرافة وَهُوَ يطالع ويزور فَإِذا كَانَ بعد الْعَصْر أسْند ظَهره إِلَى المقطم واستقبل الْبركَة وَأمر على خاطره مَا طالعه فِي نَهَاره(7/277)
قَالَ عبد الْعَظِيم وَكَانَ القَاضِي مجلي اسْتعَار كتاب الْبَسِيط عَارِية مُؤَقَّتَة وَهِي مده قريبَة جدا ولعلها لكل جُزْء يَوْمَانِ وَكَانَ يُصَلِّي الْفَرَائِض خَاصَّة ويشتغل بالنسخ وَيُقَال إِنَّه بِسَبَب هَذِه السرعة جَاءَ فِي بعض الْمَوَاضِع من كتاب الذَّخَائِر خلل فِي النَّقْل عَن الْبَسِيط وَكَانَ جيد الْحِفْظ حسن التَّعْلِيق
قَالَ ابْن القليوبي وَرَأَيْت هَذِه النُّسْخَة وابتيعت بِثمن كثير لنسبتها إِلَيْهِ
قَالَ ابْن القيلوبي وَكَانَ مجلي قبل الْقَضَاء يسكن قليوب
قَالَ وَسمعت وَالِدي يَقُول إِنَّه لما ولى الْقَضَاء توجه إِلَى زيارته الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وَابْن أبي الأشبال فوجداه وَقد قدم لَهُ مركوب من جِهَة الْخَلِيفَة على هَيْئَة تخص الْحُكَّام وَكَانَ لحكام المصريين هَيْئَة خَاصَّة وَكَذَلِكَ لشهودهم فَلَمَّا خرج نفض السرج بكمه وَقَبله وَركب فَلَمَّا رَأيا ذَلِك مِنْهُ رجعا وَلم يجتمعا بِهِ فاتصل بِهِ ذَلِك عَنْهُمَا فَقَالَ وَالله لم أَدخل فِي الحكم إِلَّا الضَّرُورَة وَلَقَد بعد عهد أَهلِي بِاللَّحْمِ فَأخذت لَهُم مِنْهُ فَمَا هُوَ إِلَّا أَن وضعُوا أَيْديهم مرّة ثمَّ لم يضعوها ثَانِيَة يُشِير إِلَى كَثْرَة الْعِيَال وَقلة الطَّعَام
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ كَانَت ولَايَته قَضَاء مصر فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة بتفويض من الْعَادِل ابْن السلار سُلْطَان مصر ووزيرها ثمَّ عزل قبل مَوته وَمَات فِي ذِي الْقعدَة سنة خمسين وَخَمْسمِائة
وَمن الْمسَائِل عَنهُ
وَقد رتب كِتَابه الذَّخَائِر على سلك لم يسْبق إِلَيْهِ وَبَاب التَّفْلِيس فِيهِ وَبَاب الْحجر بعد كتاب الْقَضَاء
قَالَ فِي الذَّخَائِر وَمِنْه فِي كتاب التَّعْزِير نقلته وَأما قدره يَعْنِي التَّعْزِير قَالَ الشَّاشِي فِي الْحِلْية النَّاس على أَربع رتب التَّعْزِير بالْكلَام ثمَّ بِالْحَبْسِ ثمَّ بِالنَّفْيِ ثمَّ بِالضَّرْبِ(7/278)
فَقَالَ فِي بَاب الْأَقْضِيَة وَالْيَمِين مَعَ الشَّاهِد مدعي المَال إِذا قدر على إِثْبَات حَقه بِالْخِيَارِ بَين ثَلَاثَة أَشْيَاء إِحْدَاهَا أَن يُثبتهُ بِشَاهِدين وَهُوَ أقوالها فَيحكم لَهُ المَال
وَالثَّانِي أَن يُثبتهُ بِشَاهِد وَامْرَأَتَيْنِ فَيحكم لَهُ بِالْمَالِ وَإِن قدر على الشَّاهِدين
وَقَالَ مَالك لَا يجوز أَن يحكم لَهُ المَال بِالشَّاهِدِ والمرأتين إِلَّا مَعَ عدم الشَّاهِدين انْتهى
وَنقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على عدم اشْتِرَاط فقدان الشَّاهِدين
قَالَ فِي الذَّخَائِر فِي كتاب الشَّهَادَات مَا يثبت بِشَاهِد وَاحِد هِلَال رَمَضَان لَيْسَ سواهُ قَالَ القَاضِي شهَاب الدّين بن شَدَّاد لقد عجبت من صَاحب الذَّخَائِر فِي هَذَا الْكَلَام وَقد تقدم تَقْرِيره أَنه إِذا أَقَامَ شَاهدا وَاحِدًا اسْتحق الْحَيْلُولَة وَالْوَقْف بِهِ فِي صور مُتعَدِّدَة وَهُوَ حق يثبت بِالشَّاهِدِ الْوَاحِد وَلَعَلَّه أَرَادَ بذلك أَن هَذِه أُمُور تَابِعَة لحقوق لَا أَنَّهَا مَقْصُودَة انْتهى
قلت لقد عجبت من ابْن شَدَّاد فِي هَذَا الْكَلَام فَإِن الشَّاهِد الْوَاحِد على القَوْل بالحيلولة وَالْوَقْف بِهِ لَا يثبت بِهِ الْحق الْمُدعى إِنَّمَا هِيَ حيولة ووقف عين وَهَذَا لم ينْفَرد بِهِ صَاحب الذَّخَائِر فَإِن كَانَ ابْن شَدَّاد ظن أَنه تقدم من صَاحب الذَّخَائِر الحكم بِشَاهِد وَاحِد فِي صور مُتعَدِّدَة فَلَيْسَ كَمَا ظن وَإِنَّمَا تقدم فِيهِ الْحَيْلُولَة بِشَاهِد وَاحِد وَلَيْسَ هُوَ من الحكم بِشَيْء وَكَلَامه قويم وتعجب ابْن شَدَّاد عَجِيب وَمَا قَالَه مجلي قَالَه النَّاس كلهم ثمَّ طَرِيق الرَّد عَلَيْهِ بِبَيَان صور يحكم فِيهَا بِشَاهِد وَاحِد إِمَّا على الصَّحِيح أَو على رَأْي ضَعِيف وَقد أوردناها فِي كتَابنَا التوشيح عِنْد كلامنا على قَول الْمِنْهَاج لَا يحكم بِشَاهِد وَاحِد إِلَّا فِي هِلَال رَمَضَان فِي الْأَظْهر
مِنْهَا لَو شهد عدل وَاحِد بِإِسْلَام من عهدناه(7/280)
ذِمِّيا قبل مَوته فَإِنَّهُ لَا يحكم بِإِسْلَامِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمِيرَاث فَلَا يَرث مِنْهُ الْمُسلم وَلَا يحرم مِنْهُ الْكَافِر وَهل يثبت بِالنِّسْبَةِ إِلَى وجوب الصَّلَاة عَلَيْهِ وَجْهَان بناهما الْمُتَوَلِي على الْخلاف فِي لُزُوم رَمَضَان بِوَاحِد لتضمن ذَلِك إِيجَاب عبَادَة وَمِنْهَا هِلَال ذِي الْحجَّة على وَجه وَمِنْهَا هِلَال شَوَّال على قَول أبي ثَوْر وَقَالَ صَاحب التَّقْرِيب لَو قلت بِهِ لم أكن مُبْعدًا وَرَأى الإِمَام اتجاهه
وَمِنْهَا قَالَ الْبَغَوِيّ فِي التَّهْذِيب وَتَابعه غَيره إِن الْعَيْب يقبل فِيهِ الرجل الْوَاحِد وَيثبت بِهِ الرَّد لَكِن فِي التَّتِمَّة خِلَافه
وَمِنْهَا إِذا نذر صَوْم شعْبَان فَشهد وَاحِد باستهلال هلاله فَوَجْهَانِ عَن الْبَحْر يبنيان على أَن النّذر يسْلك بِهِ مَسْلَك وَاجِب الشَّرْع أم جَائِزَة وَمِنْهَا العون إِذا أخبر الْحَاكِم بامتناع الْغَرِيم من الْحُضُور اكْتفى بِهِ فِي تأديبه
وَمِنْهَا إِذا ادّعى الْخصم امْتِنَاعه فَشهد بِهِ وَاحِد فقد قيل يكْتَفى بِهِ وَالْأَشْبَه فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ أَن ذَلِك من بَاب الْخَبَر لَا الشَّهَادَة فَلَا يكون مِمَّا نَحن فِيهِ
وَمِنْهَا صُورَة أوردهَا الشَّيْخ برهَان الدّين بن الفركاح فِي تعليقته على التَّنْبِيه وَفِي حَوَاشِيه على الْمِنْهَاج ونقلها عَن الْحَاوِي فَقَالَ ذكر الْمَاوَرْدِيّ فِي الْبَاب الثَّانِي من كتاب الشَّهَادَة فِي الْكَلَام على مَا يكون بِهِ عدلا مَا لَفظه وَالثَّالِث أَن يشْهد بِبُلُوغِهِ شَاهد عدل فَيحكم بِبُلُوغِهِ وَتَكون شَهَادَة لَا خَبرا انْتهى
وَقد رَأَيْته فِي الْحَاوِي فِي النُّسْخَة الَّتِي نقل مِنْهَا الشَّيْخ برهَان الدّين وَهِي وقف الْمدرسَة البادرائية وَلَفظه كَمَا ذكره وَهَا أَنا أحكيه مَعَ مَا قبله وَمَا بعده لوُقُوع(7/281)
الِاضْطِرَاب فِيهِ قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَمن النُّسْخَة الَّتِي نقل مِنْهَا ابْن الفركاح نقلته فِي التَّوَصُّل إِلَى معرفَة الْبلُوغ مَا نَصه علم الْحَاكِم بِبُلُوغِهِ يكون من أحد أَرْبَعَة أوجه أَحدهَا أَن تظهر عَلَيْهِ شَوَاهِد الْبلُوغ بالإنبات إِذا جعل الإنبات فِي الْمُسلمين بلوغا
وَالثَّانِي أَن يعرف الْحَاكِم سنة فَيحكم بِبُلُوغِهِ إِذا اسْتكْمل سنّ الْبلُوغ
وَالثَّالِث أَن يشْهد بِبُلُوغِهِ عِنْده شَاهد عدل فَيحكم بِبُلُوغِهِ وَيكون شَهَادَة لَا خَبرا
وَالرَّابِع أَن يَقُول الْغُلَام قد بلغت فَيحكم بِبُلُوغِهِ بقوله لِأَنَّهُ قد يبلغ بالاحتلام الَّذِي لَا يعلم من جِهَته لِأَنَّهُ تتغلظ أَحْكَامه بتوجه التَّكْلِيف إِلَيْهِ فَكَانَ غير مُتَّهم فِيهِ انْتهى
وَقد ذكره الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ شَاهدا عدل فَمن ثمَّ جَوَّزنَا أَن تكون الْألف سَاقِطَة من لفظ الْحَاوِي لكوننا وجدناها ثَابِتَة فِي لفظ الْبَحْر وَهَذَا يكَاد يَحْكِي لَفظه كثيرا وَسُقُوط ألف وَاحِدَة هَين لَكِن أوقفنا عَن ذَلِك أَن فِي الْحَاوِي وَالْبَحْر كليهمَا وَيكون شَهَادَة لَا خَبرا وَمَعَ قيام الشَّاهِدين لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا الْكَلَام وَبِالْجُمْلَةِ فِي اللَّفْظ اضْطِرَاب وَلَا يَتَأَتَّى إِيرَاد الشَّيْخ برهَان الدّين إِلَّا على تَقْدِير سُقُوط الْألف وَفِيه وَقْفَة
قَالَ فِي الذَّخَائِر فِي أَوَائِل بَاب تحمل الشَّهَادَة بَعْدَمَا حكى الْوَجْهَيْنِ فِي أَن تحملهَا فِي غير النِّكَاح هَل هُوَ فرض كِفَايَة أَو سنة مَا لَفظه قَالَ بعض أَصْحَابنَا وَوجه التَّرَدُّد نَشأ من الْآيَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا يأب الشُّهَدَاء إِذا مَا دعوا} فَمنهمْ من حملهَا على الْأَدَاء وَمِنْهُم من حملهَا على التَّحَمُّل قَالَ القَاضِي مجلي وَهَذَا فِيهِ نظر ثمَّ لقَائِل(7/282)
أَن يَقُول إِنَّهَا عَامَّة فيهمَا لِأَنَّهُ قد يحْتَاج إِلَى دُعَائِهِ فيهمَا فَهُوَ مَأْمُور بإجابته فِي الْحَالَتَيْنِ
انْتهى
وَقد يَقُول من يَدعِي تخصيصها بِالْأَدَاءِ إِن اسْم الشَّاهِد حَقِيقَة لَا يُطلق على من لم يتَحَمَّل
قَالَ فِي الذَّخَائِر فِي مسح الْخُف أَنه لَا يجوز الْمسْح على الْخُف الَّتِي أَصَابَته نَجَاسَة حَتَّى يطهر لِأَنَّهُ لَا تجوز الصَّلَاة مَعَه فَلَا يجوز الْمسْح عَلَيْهِ وَهَذَا أَيْضا ذكره النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَلَعَلَّه أَخذه من الذَّخَائِر وَهُوَ شَيْء عَجِيب لَا يساعده مَنْقُول وَلَا مَعْقُول وَإِنَّمَا الَّذِي مَنعه الْأَصْحَاب الْمسْح على نجس الْعين أم الْمُتَنَجس فَلَا يمْنَع الْمسْح عَلَيْهِ بل يَصح ثمَّ يصير الْمَانِع من الصَّلَاة بِوُجُود مُتَنَجّس فيغسله وَيُصلي فِيهِ وَبِذَلِك صرح الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد فِي التَّبْصِرَة فَقَالَ وَإِذا كَانَ الْخُف نجسا فَلَا تصح الصَّلَاة مَعَه لنجاسته وَالْمسح عَلَيْهِ صَحِيح حَتَّى إِذا مسح عَلَيْهِ أَولا ثمَّ أَرَادَ حمل الْمُصحف أومسه كَانَ ذَلِك مُبَاحا وَلَكِن الصَّلَاة لَا تُبَاح وعَلى الْخُف نَجَاسَة لِأَن النَّجَاسَة على الْبدن أَو الثَّوْب لَا تتداعى إِلَى فَسَاد الْوضُوء فَكَذَلِك الْخُف انْتهى
وَلَيْسَ فِي الرَّافِعِيّ إِلَّا أَن الْخُف من كلب أَو ميتَة قبل الدّباغ لَا يجوز الْمسْح عَلَيْهِ وَذَلِكَ مَخْصُوص بِنَجس الْعين لَا الْمُتَنَجس بل لَو قَالَ قَائِل لَا مُنَافَاة بَين صِحَة الْمسْح والنَّجَاسَة وَلَو عَيْنَيْهِ فَيصح الْمسْح ثمَّ تمنع الصَّلَاة للنَّجَاسَة لساعدته عبارَة التَّبْصِرَة(7/283)
979 - مَحْمُود بن أَحْمد بن عبد الْمُنعم بن أَحْمد بن مَحْمُود بن ماشاده أَبُو مَنْصُور بن أبي نصر
من أهل أَصْبَهَان وَمن أَعْيَان الْعلمَاء ومشاهير الْفُضَلَاء ذَوي الحشمة والجاه
تفقه على أبي بكر الخجندي وَعبد الْوَهَّاب بن مُحَمَّد الفامي وَسمع مِنْهُمَا الحَدِيث وَمن الإِمَام أبي المظفر السَّمْعَانِيّ وَمن خلق وَحدث وأملى عدَّة مجَالِس
روى عَنهُ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر فِي مُعْجم شُيُوخه
توفّي فَجْأَة لَيْلَة الْجُمُعَة ثَانِي عشر ربيع الآخر سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة(7/285)
980 - مَحْمُود بن إِسْمَاعِيل بن عمر بن عَليّ الإدريسي الطريثيثي أَبُو الْقَاسِم
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام فَاضل مفت مناظر أصولي حسن السِّيرَة أفنى عمره فِي الْوحدَة والقنوع وَنشر الْعلم وَطَلَبه وتفقه على وَالِدي وَسمع الحَدِيث من عبد الْغفار الشيروي وَغَيره كتبت عَنهُ شَيْئا يَسِيرا بمرو
981 - مَحْمُود بن الْحسن بن بنْدَار بن مُحَمَّد بن عبد الله الْأَصْبَهَانِيّ الطلحي أَو نجيح
من أهل أَصْبَهَان وَهُوَ من الوعاظ الَّذين لَهُم الْقبُول الزَّائِد من الْعَامَّة
سمع مكى بن مَنْصُور بن عَلان وَهبة الله بن الْحصين وَأَبا الْعِزّ بن كادش وَغَيرهم
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ
ولد فِي رَجَب سنة إِحْدَى وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَتُوفِّي فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة بعد عوده من الْحَج
982 - مَحْمُود بن عَليّ بن أبي طَالب بن عبد الله بن أبي الرَّجَاء التَّمِيمِي الْأَصْبَهَانِيّ أَبُو طَالب
صَاحب الطَّرِيقَة فِي الْخلاف وَهُوَ أحد تلامذة مُحَمَّد بن يحيى وَكَانَ ذَا تفنن فِي الْعُلُوم وَله فِي الْوَعْظ الْيَد الطُّولى(7/286)
تفقه بِهِ جمَاعَة بأصبهان
توفّي فِي شَوَّال سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
983 - مَحْمُود بن الْمُبَارك بن عَليّ بن الْمُبَارك بن الْحسن ابْن بقيرة بِفَتْح الْبَاء الوَاسِطِيّ
أَبُو الْقَاسِم بن أبي الْفَتْح الْعِرَاقِيّ المجير الْبَغْدَادِيّ
قَرَأَ الْمذَاهب وَالْخلاف على أبي بكر الأرموي صَاحب أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَعلي أبي مَنْصُور الرزاز وَقَرَأَ الْأُصُول وَالْكَلَام على أبي الْفتُوح الإسفرايني وَعبد السَّيِّد بن عَليّ بن الزيتوني حَتَّى صَار من أجلاء الْأَئِمَّة
قَالَ ابْن النجار برع فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع وَالْخلاف والجدل وَعلم الْكَلَام وَعلم الْمنطق حَتَّى صَار شيخ وقته وعلامة عصره يَقْصِدهُ الطّلبَة من الْبِلَاد الْبَعِيدَة
قَالَ وصنف كتبا كَثِيرَة فِي الْأُصُول والجدل وَغَيرهمَا وعلق عَنهُ النَّاس تعاليق كَثِيرَة
قَالَ وَأعَاد بالنظامية وَهُوَ شَاب فِي أَيَّام أبي النجيب السهروردي ثمَّ سَافر إِلَى الشَّام وَأقَام بِدِمَشْق مُدَّة يدرس فِي عدَّة مَوَاضِع ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد وَخرج إِلَى بِلَاد فَارس وَنزل شيراز فَأَقَامَ بهَا مُدَّة يدرس بهَا سِنِين ثمَّ قدم واسطا فِي آخر سنة سبع وَثَمَانِينَ(7/287)
وَخَمْسمِائة فَأَقَامَ بهَا نَحوا من أَربع سِنِين يدرس ويحضر عِنْده الْفُقَهَاء ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد وَتَوَلَّى تدريس النظامية فِي شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين ثمَّ ندب إِلَى الْخُرُوج فِي رِسَالَة من الدِّيوَان إِلَى خوارزمشاه وَكَانَ يؤمئذ بأصبهان فَخرج من بَغْدَاد يَوْم الْخَمِيس الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي صحبته وَلَده وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء فَانْتهى إِلَى همذان وَقد مرض وَاشْتَدَّ مَرضه فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن توفّي
سمع من أبي الْقَاسِم هبة الله بن الْحصين وَأبي بكر مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي وَعبد الْوَهَّاب ابْن الْأنمَاطِي وَإِسْمَاعِيل بن السَّمرقَنْدِي وَعلي بن عبد السَّيِّد بن الصّباغ وَغَيرهم وَحدث باليسير
ولد فِي رَمَضَان سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة
أخبرنَا وَالِدي رَضِي الله عَنهُ قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الدمياطي أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن خَلِيل الدِّمَشْقِي أخبرنَا الإِمَام أَبُو الْقَاسِم مَحْمُود بن أبي الْفَتْح الْمُبَارك بن أبي الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن بن الْحُسَيْن الوَاسِطِيّ الْفَقِيه الْمَعْرُوف بالمجير قدم بَغْدَاد قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع بهَا قيل لَهُ حَدثكُمْ أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن مُحَمَّد ابْن عبد الْوَاحِد الشَّيْبَانِيّ إملاء من لَفظه وَأَنت تسمع أخبرنَا القَاضِي أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن المحسن التنوخي قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن سعيد الْمعدل حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن الْمقري حَدثنَا جدي حَدثنَا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن مَحْمُود بن الرّبيع عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ مرّة أُخْرَى إِنَّه حدث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب(7/288)
984 - مَحْمُود بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس بن أرسلان أَبُو مُحَمَّد العباسي مظهر الدّين الْخَوَارِزْمِيّ
صَاحب الْكَافِي فِي الْفِقْه
من أهل خوارزم
كَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْه والتصوف فَقِيها مُحدثا مؤرخا لَهُ تَارِيخ خوارزم قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وقفت على الْجُزْء الأول مِنْهُ
ولد بخوارزم فِي خَامِس عشر شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
سمع أَبَاهُ وجده الْعَبَّاس بن أرسلان وَإِسْمَاعِيل بن أَحْمد الْبَيْهَقِيّ بخوارزم وَمُحَمّد بن عبد الله الحفصوي بمرو وَأحمد بن عبد الْوَاحِد الْفَارِسِي بسمرقند وَمُحَمّد بن عَليّ المطهري ببخارى وَابْن الطلاية بِبَغْدَاد وتفقه على الْحسن بن مَسْعُود الْبَغَوِيّ وَدخل بَغْدَاد وَوعظ بهَا بالنظامية وَحدث
سمع مِنْهُ يُوسُف بن مقلد وَأحمد بن طاروق
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ فَقِيها عَارِفًا بالمتفق والمختلف صوفيا حسن الظَّاهِر وَالْبَاطِن قَالَ أَيْضا وَطلب الحَدِيث بِنَفسِهِ وعلق مِنْهُ طرفا صَالحا
قَالَ وبيته بَيت الْعلم وَالصَّلَاح قَالَ وَأقَام بخوارزم يُفِيد النَّاس وينشر الْعلم
قلت ووقفت على المجلد الأول من تَارِيخه وَهُوَ الَّذِي وقف عَلَيْهِ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَهُوَ من قسْمَة ثَمَانِيَة أَجزَاء ضخمة وَفِيه دلَالَة على أَن الرجل كَانَ متبحرا فِي صناعَة الحَدِيث يُطلق عَلَيْهِ الْحَافِظ الْمُطلق وَلَا حرج وَقد أَكثر فِيهِ من الْأَسَانِيد والفوائد وَالْكَلَام على(7/289)
الحَدِيث وابتدأ بعد مَا ذكر أَخْبَار خوارزم وَهِي الَّتِي وسمها فِي كِتَابه منصورة بالمحمدين وَذكر فِي خطبَته أَن الْحَاكِم أَبَا عبد الله سَمَّاهَا بِهَذَا الِاسْم بِحَدِيث مَوْضُوع ورد فِيهَا سَاقه بِإِسْنَاد فِي المجلد الأول جمع المحمدين وَأكْثر فِيهِ الحَدِيث عَن زَاهِر بن طَاهِر بِالْإِجَازَةِ وَإِذا ذكر أَبَا سعد بن السَّمْعَانِيّ أَو شهردار بن شيرويه قَالَ أخبرنَا وَكَثِيرًا مَا يروي عَن أبي سعد بِالْإِجَازَةِ
توفّي فِي شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
وَله بخوارزم عقب عُلَمَاء محدثون
وَمن الْفَوَائِد وغرائب الْمسَائِل عَن صَاحب الْكَافِي
ذكر فِي مُقَدّمَة تَارِيخ خوارزم أَن خوارزم كَانَت مَدِينَة تسمى المنصورة لحَدِيث ورد كَمَا ذَكرْنَاهُ وَأَن الْوَادي حطمها وَأَخذهَا
قَالَ وَسمعت عدَّة من الْمَشَايِخ يَقُولُونَ كَانَ بمنصورة اثْنَا عشر ألف مَسْجِد فَإِن فِيهَا اثنى عشر ألف سكَّة فِي كل سكَّة مَسْجِد وفيهَا ألف وَمِائَتَا حمام ثمَّ حولت إِلَى الْمَدِينَة الَّتِي هِيَ الْيَوْم كائنة وَذكر من تعظيمها وتعظيم أَهلهَا الشَّيْء الْكثير وَحكى من سعادتهم الْأَمر العجيب وَذكر مِنْهُم أَبَا نصر مَنْصُور بن عَليّ بن عراق الْجَعْدِي وَأَنه كَانَ مُقيما بقرية على بَاب الْبَلَد وَله بهَا قصر مشيد وَأَن جمَاعَة جَاءُوا من الْبَلَد فَمروا يضيعته فأبصروه فنزلوا عِنْد دوابهم وَجَاءُوا يسلمُونَ عَلَيْهِ فَأمر وَكيله أَن ينزلهم فِي مَوضِع يَلِيق بهم وَأمره بضيافتهم وتعهد دوابهم وَكَانُوا عصارين دهانين من منصورة أَي زياتين خَرجُوا(7/290)
يطْلبُونَ شِرَاء سمسم وَكَانُوا تِسْعمائَة نفس سوى من يتبعهُم من أشياعهم فَلَمَّا أَصْبحُوا ركب جمَاعَة مِنْهُم لينتشروا فِي الْقرى فَأخْبر أَبُو نصر بذلك فَقَالَ إِن لم يكن عندنَا مَا يكفيهم فليطلبوا حِينَئِذٍ من غَيرنَا فَجَلَسَ الْمُسْتَوْفى والوزان والنقاد يُوزن عَنْهُم مَا كَانَ من النَّقْد عِنْدهم والمستوفى يثبت فِي الجريدة مَا يُؤَدِّي كل وَاحِد مِنْهُم باسمه فَلَمَّا فرغوا من أَخذ مَا كَانَ مَعَهم من النَّقْد وَالْمَتَاع أَمر أَبُو نصر بِفَتْح بَاب الْآبَار والكيل لَهُم حَتَّى وفاهم بالتمام وَقد فضل عِنْده سمسم كثير وَأمر أَن يكتال عَلَيْهِم مَا اشتروه وأَمر لَهُم بعجلان لتحمل مَعَهم فوصل الطّرف الأول مِنْهَا إِلَى وسط الْبَلدة والطرف الآخر إِلَى دَار الْوَقْف لَا يخرج من الْقرْيَة
قَالَ صَاحب الْكَافِي وَكَانَ ذَلِك فِي آخر أَيَّام المنصورة حَتَّى لم يبْق مِنْهَا بِالْإِضَافَة إِلَى مَا كَانَت إِلَّا شَيْء يسير يخرج مِنْهَا تِسْعمائَة عصار سوى من تَأَخّر فِي الْبَلَد
قَالَ وَأَبُو نصر هَذَا هُوَ الَّذِي نزل عِنْده السُّلْطَان أَبُو الْقَاسِم مَحْمُود حِين دخل خوارزم فِي ضيعته هَذِه فأضافه وأضاف جنده وَلم يحْتَج فِي ضيافتهم إِلَى إِحْضَار شَيْء من مَوضِع آخر
قَالَ وَسمعت الثِّقَات أَنه أخرج لكل فرس كَانَ مَعَهم وَقت الْعشَاء مخلاة بِالشَّعِيرِ وغراران جديدان
قَالَ غير أَن السُّلْطَان اتهمه بِسوء الِاعْتِقَاد فَإِنَّهُ لم ير فِي ضيعته مَسْجِدا فَلَمَّا دخل الجرجانية أَمر بصلبه فصلب مَعَ من صلب من المتهمين بِسوء الِاعْتِقَاد فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعمِائَة
وَأطَال صَاحب الْكَافِي فِي ذكر مَنَاقِب خوارزم وَهِي جرجانية الْمَدِينَة الْمَوْجُودَة الْيَوْم وهما بلدان عظيمان من بِلَاد الْمُسلمين حولا عَن مكانهما خوارزم كَانَت تسمى المنصورة فحولت لما حطمها الْوَادي إِلَى قريب مِنْهَا يُسمى الجرجانية ونيسابور لما هدمتها الزلازل وَكَانَت من إِحْدَى قَوَاعِد بِلَاد خُرَاسَان حولت إِلَى قريب مِنْهَا هُوَ الْآن يُسمى بنيسابور أَيْضا(7/291)
985 - مَحْمُود بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن مَنْصُور بن أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد بن ماشادة
كَذَا قَرَأت نِسْبَة بِخَطِّهِ على كِتَابه الْمُسَمّى فقه الْقُلُوب وَهَذَا الْكتاب عِنْدِي بِخَط مُصَنفه هَذَا الرجل وَهُوَ غَرِيب النَّوْع مبوب على أَبْوَاب الْفِقْه يفْتَتح الْبَاب بِذكر مسَائِله الْفِقْهِيَّة ثمَّ يذكر بعْدهَا أَقْوَال الصُّوفِيَّة على ذَلِك النَّحْو قَالَ فِي خطبَته وَقد أجزت فِي هَذَا الْكتاب وَأمرت بِهِ وَلَوْلَا الْأَمر لما أفصحت بِهِ
قَالَ وَقد صنف شَيخا أَبُو طَالب الْمَكِّيّ قوت الْقُلُوب وصنف شَيخنَا أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي نَحْو الْقُلُوب وَهَذَا فقه الْقُلُوب إِن شَاءَ الله
وَالْمَذْكُور لم يدْرك الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورين وَلكنه يَقُول شَيخنَا إِشَارَة إِلَى الطَّرِيقَة كَمَا يَقُول مُتَقَدم الأشاعرة ومتأخرهم شَيخنَا أَبُو الْحسن ويعنون شيخ الطَّرِيقَة
وَهَذَا الْكتاب حسن فِي نَوعه وَهُوَ مُجَلد ضخم ومصنفه هَذَا يكنى أَبَا الْقَاسِم وَيعرف بِابْن المشرف من أهل أَصْبَهَان
قَالَ ابْن النجار كَانَ من أَعْيَان مَشَايِخ الصُّوفِيَّة مَوْصُوفا بالزهد وَالْعِبَادَة وَالْفضل وَالْعلم وَحسن السمت وَجَمِيل السِّيرَة
قَالَ وَله قدم فِي الطَّرِيقَة وَكَلَام حسن على مَذْهَب أهل الْحَقِيقَة وَقد صنف عدَّة كتب فِي التصوف وَسمع الْكثير من زَاهِر بن طَاهِر وَأبي غَالب أَحْمد بن الْحسن بن الْبناء وَأبي الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي وَأبي الْقَاسِم عَليّ بن عبد السَّيِّد بن الصّباغ وَأبي الْفضل مُحَمَّد بن عمر الأرموي وَخلق كثير وَحدث بِيَسِير من مروياته ومصنفاته(7/292)
سمع مِنْهُ القَاضِي أَبُو المحاسن عمر بن عَليّ الْقرشِي وَمُحَمّد بن بَقَاء السرسفي
قلت وَخلق آخَرُونَ سمعُوا عَلَيْهِ كتاب فقه الْقُلُوب فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة
كتب إِلَيّ أَحْمد بن أبي طَالب من الشَّام قَالَ كتب إِلَيّ مَحْمُود بن مُحَمَّد عَن مَحْمُود ابْن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن ماشادة قِرَاءَة عَلَيْهِ قَالَ حَدثنَا أَبُو الْقَاسِم صَدَقَة بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن أخبرنَا أَبُو عَليّ إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن الْحُسَيْن أخبرنَا أَبُو عَليّ إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن أبي الْحسن الْبَيْهَقِيّ قدم علينا أخبرنَا أبي أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا مُحَمَّد بن يَعْقُوب أخبرنَا الرّبيع بن سُلَيْمَان أخبرنَا الشَّافِعِي أخبرنَا عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ حَدثنَا أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن أبي الْمُهلب عَن عمرَان بن الْحصين قَالَ بَيْنَمَا رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَره وَامْرَأَة من الْأَنْصَار على نَاقَة لَهَا فضجرت فلعنتها فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خلوا عَنْهَا وعروها فَإِنَّهَا ملعونة) قَالَ وَكَانَ لَا يَأْوِيهَا أحد
986 - مَحْمُود بن المظفر بن عبد الْملك بن أبي تَوْبَة الْمروزِي الْوَزير الْكَبِير أَبُو الْقَاسِم
من أهل مرو
ولد آخر يَوْم من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وتفقه على أبي المظفر ابْن السَّمْعَانِيّ ثمَّ خرج إِلَى مَا وارء النَّهر وَلَقي الْأَئِمَّة(7/293)
قَالَ أَبُو سعد وَكَانَ مناظرا فحلا فَقِيها مدققا نظر فِي عُلُوم الْأَوَائِل واشتغل بتحصيل تِلْكَ الْعُلُوم مَعَ كَثْرَة الصَّلَاة وَالصَّدَََقَة والمواظبة على الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَات وَحُضُور مجَالِس الذّكر ثمَّ ترقت حَاله إِلَى الوزارة وَهُوَ مَعَ النّظر فِي الوزارة يناظر الْخُصُوم وَيظْهر كَلَامه عَلَيْهِم لدقة نظره وَحسن إِيرَاده ثمَّ عزل عَن الوزارة وانزوي مُدَّة ثمَّ فوض إِلَيْهِ الِاسْتِيفَاء مُدَّة والإشراف مُدَّة ثمَّ قبض عَلَيْهِ بنيسابور وَحمل إِلَى مرو وَمِنْهَا إِلَى الْمحبس وَحبس فِي قلعة بنواحي جيحون وَيُقَال لَهَا بانكر وَقتل بهَا
سمع بمرو أَبَا المظفر السَّمْعَانِيّ وببخارى القَاضِي أَبَا الْيُسْر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْحسن الْبَزْدَوِيّ وَغَيره
روى عَنهُ أَبُو سعد وَقَالَ مَاتَ أَو خنق فِي شهر رَمَضَان سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَدفن على بَاب قلعة بانكر
987 - مَحْمُود بن يُوسُف بن الْحُسَيْن التفليسي البرزندى أَبُو الْقَاسِم
من أهل تفليس
تفقه بِبَغْدَاد على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَسمع الحَدِيث مِنْهُ وَمن أبي يعلى بن الْفراء وَأبي الْحُسَيْن بن الْمُهْتَدي وَأبي الْغَنَائِم بن الْمَأْمُون وَغَيرهم(7/294)
روى عَنهُ الطّيب بن مُحَمَّد الغضائري
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ توفّي بعد سنة خمسين وَخَمْسمِائة
988 - مَرْوَان بن عَليّ بن سَلامَة بن مَرْوَان الطنزي بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفِي آخرهَا الزَّاي نِسْبَة إِلَى طنزة وَهِي قَرْيَة من ديار بكر
يكنى أَبَا عبد الله
ورد بَغْدَاد وتفقه على الْغَزالِيّ والشاشي وَسمع من طراد الزَّيْنَبِي ورزق الله التَّمِيمِي وَغَيرهمَا
ثمَّ عَاد إِلَى بَلَده واتصل بِالْملكِ زنكي بن آق سنقر صَاحب الْموصل وَصَارَ وزيرا لَهُ وَحدث
روى عَنهُ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر وَغَيره
توفّي بعد سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة
989 - مَسْعُود بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن المظفر الخوافي أَبُو الْمَعَالِي بن الإِمَام أبي المظفر
من أهل نيسابور
قَالَ فِيهِ ابْن السَّمْعَانِيّ الإِمَام بن الإِمَام فَقِيه مناظر عَاقل ذُو رَأْي حسن(7/295)
وتدبير صائب أحد مدرسي الْمدرسَة النظامية بنيسابور سمع أسعد بن مَسْعُود الْعُتْبِي وَعبد الْغفار الشيروي وَغَيرهمَا
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَقَالَ سَأَلته عَن مولده فَقَالَ فِي ذِي الْحجَّة سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
قلت تفقه على إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَمَات بخواف فِي شَوَّال سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة
990 - مَسْعُود بن أَحْمد بن يُوسُف بن أَحْمد بن يُوسُف أَبُو الْفَتْح البامنجي
ولد ببامئين فِي سَابِع ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
وتفقه بمرو الروذ على الْبَغَوِيّ وَمَات فِي رَابِع شعْبَان سنة نَيف وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
991 - مَسْعُود بن عَليّ
الْوَزير نظام الْملك الْمُتَأَخر وَزِير السُّلْطَان خوارزمشاه وَأحد المتعصبين للشَّافِعِيَّة وَقد بنى لَهُم جَامعا بمرو شرفا على جَامع الْحَنَفِيَّة فتعصبوا وأحرقوه ونمت فتْنَة هائلة وكادت بهَا الجماجم تطير عَن الغلاصم
ونظام الْملك هَذَا هُوَ الَّذِي بنى الْمدرسَة النظامية بخوارزم وَقد اشْترك نظام الْملك هَذَا ونظام الْملك الْمُتَقَدّم ذكره الَّذِي هُوَ سيد الوزراء اشْتَركَا فِي اللقب والوزارة والتعصب(7/296)
للشَّافِعِيَّة وَبِنَاء الْمدَارِس وأنهما قَتلهمَا جَمِيعًا الْمَلَاحِدَة وَقد قتلت الْمَلَاحِدَة هَذَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وتأسف عَلَيْهِ السُّلْطَان خوارزمشاه واستوزر وَلَده وَهُوَ صبي فأشير على الصَّبِي بالاستعفاء فَقَالَ لَهُ خوارزمشاه لست أعفيك وَأَنا وزيرك لَكِن راجعني فِي الْأُمُور
ولنظام الْملك هَذَا آثَار حَسَنَة وَلَكِن هُوَ بعيد من ذَلِك الْمُتَقَدّم رحمهمَا الله
992 - مَسْعُود بن مُحَمَّد بن مَسْعُود الطريثيثي الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي قطب الدّين النَّيْسَابُورِي
صَاحب كتاب الْهَادِي الْمُخْتَصر الْمَشْهُور فِي الْفِقْه
كَانَ إِمَامًا فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأُصُول وَالتَّفْسِير والوعظ أديبا مناظرا
مولده فِي رَجَب سنة خمس وَخَمْسمِائة
وتفقه على وَالِده وعَلى مُحَمَّد بن يحيى وَعمر السُّلْطَان وَإِبْرَاهِيم المروروذي وَرَأى الْأُسْتَاذ أَبَا نصر بن الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي وَسمع الحَدِيث من هبة الله السيدي وَعبد الْجَبَّار الْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا
حدث عَنهُ أَبُو الْمَوَاهِب بن صصرى وَأَبُو الْقَاسِم بن صصرى وتاج الدّين عبد الله ابْن حمويه وَآخَرُونَ وتخرجت بِهِ الْأَصْحَاب وَعظم شَأْنه
قَالَ ابْن النجار وَكَانَ يُقَال إِنَّه بلغ حد الْإِمَامَة على صغر سنة ودرس بنظامية نيسابور ثمَّ ورد بَغْدَاد وَحصل لَهُ بهَا الْقبُول التَّام ثمَّ جَاءَ إِلَى دمشق وسكنها مُدَّة ودرس بِالْمَدْرَسَةِ المجاهدية مُدَّة ثمَّ بالزاوية الغزالية بعد موت أبي الْفَتْح نصر الله المصِّيصِي ثمَّ خرج إِلَى حلب وَولى بهَا تدريس المدرستين اللَّتَيْنِ بناهما نور الدّين وَأسد الدّين ثمَّ سَافر إِلَى بَغْدَاد وَمِنْهَا إِلَى همذان وَولي التدريس بهمذان وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ عَاد إِلَى دمشق(7/297)
واستوطنها ودرس بالغزالية والجاروخية وَتفرد برئاسة الشَّافِعِيَّة وسافر إِلَى بَغْدَاد رَسُولا إِلَى ديوَان الْخلَافَة ثمَّ عَاد
وَكَانَ مَعْرُوفا بالفصاحة والبلاغة وَتَعْلِيم المناظرة
توفّي بِدِمَشْق فِي شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة وَدفن بتربة أَنْشَأَهَا غربي مَقَابِر الصُّوفِيَّة وَبنى مَسْجِدا على الصخرات الَّتِي بمقبرة طاحون الميدان ووقف كتبهَا ومقرها بخزانة كتب الْمدرسَة العادلية الْكُبْرَى بِدِمَشْق
وَمن فَوَائِد
حكة فِي الْهَادِي طَريقَة فِي ولَايَة الْفَاسِق فِي النِّكَاح غير الطّرق الْمَشْهُورَة وَهِي أَنه إِن كَانَ غيورا فيلى وَإِلَّا فَلَا(7/298)
993 - المظفر بن أردشير بن أبي مَنْصُور الْعَبَّادِيّ أَبُو مَنْصُور الْوَاعِظ
من أهل مرو
وَكَانَ يعرف بالأمير كَانَ من أحسن النَّاس كلَاما فِي الْوَعْظ وأرشقهم عبارَة
وَقد سمع من نصر الله بن أَحْمد الخشنامي وَإِسْمَاعِيل بن عبد الغافر الْفَارِسِي وَعبد الْغفار الشيروي وزاهر بن طَاهِر وَعبد الْمُنعم بن الْقشيرِي وَغَيرهم
وَقدم بَغْدَاد رَسُولا من جِهَة السُّلْطَان سنجر فَسمع مِنْهُ أَبُو مُحَمَّد الْأَخْضَر وَغَيره
وَمن كَلَامه لَا تظنوا أَن حيات تَجِيء إِلَى الْقُبُور من خَارج إِنَّمَا أفعالكم أَفْعَى لكم وحياتكم مَا أكلْتُم من الْحَرَام أَيَّام حَيَاتكُم
قَالَ أَبُو سعد فِيهِ لَهُ الْيَد الباسطة فِي الْوَعْظ والتذكير والعبارة الرائقة الرشيقة وَكَانَ نشؤة من صغره إِلَى أَن ترعرع فِي هَذَا الْفَنّ إِلَى أَن صَار مِمَّن يضْرب بِهِ الْمثل فِي حسن الصَّنْعَة وإيراد الْكَلَام وَهُوَ حُلْو الْعبارَة فصيح اللهجة لطيف الْإِشَارَة مليح الِاسْتِعَارَة شهد لَهُ الْكل بِأَنَّهُ حَاز قصب السَّبق فِي هَذَا النَّوْع انْتهى(7/299)
وَقَالَ أَيْضا سَأَلته عَن مولده فَقَالَ فِي رَمَضَان سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
وَمَات فِي سلخ ربيع الآخر سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة بعسكر مكرم كَانَ قد توجه إِلَيْهَا رَسُولا
994 - المظفر بن الْحُسَيْن بن المظفر بن عبيد الله المفضلي أَبُو غَانِم
من أهل بروجرد
تفقه بِبَغْدَاد على السَّيِّد أبي الْقَاسِم الدبوسي وَسمع قَاضِي الْقُضَاة أَبَا بكر الشَّامي وَأَبا نصر الزَّيْنَبِي وَغَيرهمَا
كتب عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَقَالَ سَأَلته عَن مولده فَقَالَ فِي عَاشر جُمَادَى الأولى سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ وَتُوفِّي بعد سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة(7/300)
995 - مظفر بن الْقَاسِم بن المظفر بن عَليّ الشهرزوري أَبُو مَنْصُور بن أبي أَحْمد
ولد بإربل وَنَشَأ بالموصل وتفقه بِبَغْدَاد على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَرجع إِلَى الْموصل ثمَّ ولى قَضَاء سنجار على كبر سنه وسكنها وَكَانَ قد أضرّ
وَسمع أَبَا نصر الزَّيْنَبِي وَأَبا إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَغَيرهمَا
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ
مولده سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَلم أعلم تَارِيخ وَفَاته وَقَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ توفّي تَقْرِيبًا سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
996 - مكي بن عَليّ بن الْحسن الْعِرَاقِيّ الْحَرْبِيّ أَبُو الْحرم الضَّرِير
تفقه بِبَغْدَاد على أبي مَنْصُور الرزاز وبدمشق على أبي الْحسن السّلمِيّ ودرس فِي دمشق
وَمَات فِي شعْبَان سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة(7/301)
997 - ملكداد بن عَليّ بن أبي عَمْرو والعمركي أَبُو بكر
من أهل قزوين
وَرُبمَا سمى نَفسه عبد الله
كَانَ من أَئِمَّة الْمَذْهَب تفقه على مُحي السّنة الْبَغَوِيّ وَكَانَ من جلة المتورعين
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ مفت ورع حسن السِّيرَة سمع بنيسابور أَبَا بكر بن خلف وبهراة أَبَا عَطاء المليحي وبأصبهان أَبَا عَليّ الْحداد وببغداد البانياسي كتب لي بِجَمِيعِ مسموعاته وَسمعت أَبَا الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن جَعْفَر الْكَاتِب يَقُول كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يكْتب الْفَتْوَى استخار الله تَعَالَى وَقَرَأَ آيَات من الْقُرْآن وَسَأَلَ الْإِصَابَة هَذَا كَلَام ابْن السَّمْعَانِيّ وَابْن النجار أخل بِذكرِهِ فِي الذيل
وَقد ذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي كِتَابه الأمالي بعد أَن أسْند رِوَايَة وَالِده عَنهُ وَقَالَ إِمَام خطير قنوع ملازم لسيره السّلف الصَّالِحين وهديهم وَأفْتى بقزوين سِنِين على الصَّوَاب وَقَالَ كَانَ يكْتب فِي كل صفحة على الْحَاشِيَة الْعليا رب يسر لَا يغْفل ذَلِك على كَثْرَة مَا كتب على تعاليقه من الْأُصُول وَالْفُرُوع مذهبا وَخِلَافًا وَمن كتب الحَدِيث واللغة وَغَيرهَا وَمَات ابْنه مُحَمَّد بن ملكداد فِي عنفوان الشَّبَاب وَهُوَ فَاضل حسن المنظر والمخبر قَالَ فبلغني من قُوَّة الشَّيْخ وتسليمه أَنه حضر الْجَامِع بكرَة على عَادَته لإلقاء الدُّرُوس فَأَتَتْهُ زليخا بنت القَاضِي أبي سعد الطَّالقَانِي وَهِي جدتي أم أبي وَكَانَت تَحْتَهُ حِينَئِذٍ فَأَخْبَرته بوفاته فَأمرهَا بتجهيزه وَلم يذكر الْحَال للحاضرين حَتَّى فرغ من درسه ثمَّ قَالَ إِن مُحَمَّدًا قد دعِي فَأجَاب فَمن أَرَادَ فليحضر الصَّلَاة عَلَيْهِ(7/302)
وَذكر الرَّافِعِيّ أَيْضا أَن الشَّيْخ ملكداد علق عَن صَاحب التَّهْذِيب مَجْمُوعَة بِعِبَارَة أَكثر مِمَّا يُوجد فِي التصنيف وَبِزِيَادَة فروع ومسائل
قَالَ وتفقه أَيْضا على القَاضِي أبي سعد الْهَرَوِيّ
قَالَ وَكَانَ محصلا طول عمره حَافِظًا كثير الْبركَة تخرج بِهِ جمَاعَة من أهل الْبَلَد وَغَيرهم ومدحه مُحَمَّد بن أبي الرّبيع الغرناطى بقصيده قَالَ فِيهَا
(إِذا قَرَأَ التَّنْزِيل أذعن حَاسِد ... لخير إِمَام لَا يُنَوّه بِالدَّعْوَى)
(وَإِن أسْند الْأَخْبَار عَن سيد الورى ... يَقُول لَهُ الْإِسْلَام فخرا كَذَا يرْوى)
(وَإِن قَامَ فِي محرابه بَادِي الضنا ... وَطول قلت الْغُصْن جف فَمَا يلوى)
(يمد يَدَيْهِ شاكيا سوء ماجنى ... إِلَى خير مَرْفُوع إِلَيْهِ يَد الشكوى)
(يَقُول إلهي هَب لي الْآن زلتي ... وَمَا استدرج الشَّيْطَان منى وَمَا استهوى)
(فَذَاك الْفَتى كل الْفَتى لَيْسَ عِنْده ... يسود لَدَى التَّحْصِيل إِلَّا فَتى التَّقْوَى)
توفّي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
وَكَانَ وَالِدي يديم ذكره وَالثنَاء عَلَيْهِ وَيَقُول رباني كَمَا يُربي الْوَالِد الشفيق وَلَده وَكَانَ أستاذه فِي الْأَدَب وَجَمِيع السّير فِي الْأَخْلَاق كَمَا كَانَ أستاذه فِي الْفِقْه والْحَدِيث وَلم يُسَافر مُدَّة حَيَاته احتراما لَهُ وتبركا بأنفاسه
هَذَا كُله كَلَام الرَّافِعِيّ
998 - مَنْصُور بن أَحْمد بن الْمفضل بن نصر بن عِصَام المنهاجي الإسفزاري أَبُو الْقَاسِم
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ فَقِيها متورعا حسن السِّيرَة ظهر لَهُ الْقبُول التَّام(7/303)
بالجبال وَبنى بهمذان ونواحيها خانقاهات وَكثر عَلَيْهِ المريدون وازدحم عَلَيْهِ النَّاس
تفقه بمرو على الإِمَام أبي المظفر السَّمْعَانِيّ وَقتل فتكا على بَاب الخانقاه يَوْم الِاثْنَيْنِ وَقت الْإِسْفَار رَابِع عشر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة بهمذان
999 - مَنْصُور بن الْحسن بن عَليّ بن عَادل بن يحيى بن البوازيجي
من أهل البوازيج بِفَتْح الْبَاء المنقوطة بِوَاحِدَة وَفتح الْوَاو وَكسر الزَّاي بعد الْألف وَبعدهَا الْيَاء الساكنة المنقوطة بِاثْنَتَيْنِ من تحتهَا وَبعدهَا الْجِيم بَلْدَة قديمَة على دجلة فَوق بَغْدَاد
وَهَذَا الشَّيْخ بجلي ينْسب إِلَى جرير بن عبد الله البَجلِيّ
وَكَانَ فَقِيها فَاضلا تفقه على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَكَانَ خصيصا بِهِ وَسمع أَبَا الْحُسَيْن ابْن الْمُهْتَدي وَغَيره وَتَوَلَّى قَضَاء البوازيج وَتُوفِّي بعد استهلال سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة
1000 - مَنْصُور بن الْحسن بن مَنْصُور الإِمَام أَبُو المكارم الزنجاني
نزيل بَغْدَاد ومعيد النظامية ومدرس الْمدرسَة الثقتية بهَا إِمَام مناظر عَارِف بِالْمذهبِ
توفّي فِي رَمَضَان سنة سبع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة(7/304)
1001 - مَنْصُور بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن المظفر المَخْزُومِي الطَّبَرِيّ الصُّوفِي الْوَاعِظ
ولد بآمل طبرستان وَنَشَأ بمرو وتفقه على الإِمَام أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْمروزِي وبنيسابور عَليّ مُحَمَّد بن يحيى وَكَانَ مليح الْكَلَام فِي المناظرة وَأَقْبل على الْوَعْظ والتصوف
وَسمع من زَاهِر بن طَاهِر وَعبد الْجَبَّار بن مُحَمَّد الخواري وَعلي مُحَمَّد الْمروزِي
سمع مِنْهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي ويوسف بن خَلِيل الْحَافِظ وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيم وَطَائِفَة
مولده سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة وَمَات بِدِمَشْق فِي ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
1002 - مَنْصُور بن مُحَمَّد بن سعيد بن مَسْعُود بن عبد الله بن مَسْعُود ابْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مَسْعُود المَسْعُودِيّ أَبُو المظفر بن أبي الْفضل
من أهل مرو
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ أحد الْفُضَلَاء المبرزين وَأحد الزهاد الأجلاء قَرَأَ الْأَدَب وبرع فِيهِ وَكَانَ حسن الْخط كثير الْمَحْفُوظ مليح الشّعْر والنثر يعظ فِي عشيات الثُّلَاثَاء اقْتِدَاء بوالده وَكَانَ من المختصين بعمى الإِمَام رَحمَه الله
انْتهى(7/305)
سمع بمرو أَبَا المظفر بن السَّمْعَانِيّ وَغَيره وبنيسابور عبد الْغفار الشيروي وَغَيره
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره
مولده بمرو فِي منتصف رَجَب سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَتُوفِّي بساوة فِي رَجَب سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة
1003 - مَنْصُور بن مُحَمَّد بن عَليّ أَبُو المظفر الطَّالقَانِي
نزيل مرو
تفقه على الإِمَام أبي المظفر بن السَّمْعَانِيّ وَسمع مِنْهُ وَمن الْفضل بن أَحْمد بن متويه الصُّوفِي وَإِسْمَاعِيل بن الْحُسَيْن الْعلوِي وَغَيرهم
روى عَنهُ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر والحافظ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ
توفّي فِي رَمَضَان سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة بنواحي أبيورد
1004 - مَنْصُور بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الطّيب الْعلوِي الفاطمي الْعمريّ الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم
الْفَقِيه المناظر الرئيس
مولده سنة أَربع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة فِي شهر ربيع الأول بِمَدِينَة هراة وَسمع بهَا من جده لأمه أبي الْعَلَاء صاعد حفيد أبي مَنْصُور الْأَزْدِيّ وَغَيره وبنيسابور من أبي الْقَاسِم الْقشيرِي وَغَيره وَحدث(7/306)
روى عَنهُ ابْن نَاصِر والسلفي وَيحيى بن بوش
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ جليل الْقدر عَظِيم الْمنزلَة فَقِيها مناظر أحد الدهاة الأذكياء حسن الْكَلَام مليح المحاورة
وَذكره الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْجِرْجَانِيّ وعظمه وَقَالَ فِيهِ رَئِيس الْعلمَاء بهراة وَقد مَاتَ الْجِرْجَانِيّ قبله بقريب من أَرْبَعِينَ سنة وَكَانَ أَبُو الْقَاسِم ذَا مَال وثروة قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ يُقَال كَانَ لَهُ ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ طاحونه
توفّي بهراة فِي شهر رَمَضَان سنة سبع وَعشْرين وَخَمْسمِائة
1005 - مَنْصُور بن مُحَمَّد بن مَنْصُور بن عبد الله بن أَحْمد أَبُو المظفر الْغَازِي الْمروزِي الْوَاعِظ
من أهل مرو
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ فَقِيها زاهدا ورعا واعظا حسن الْوَعْظ عفيفا حسن السِّيرَة سمع جدي أَبَا المظفر وَأَبا الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن ثَابت الْخرقِيّ وَغَيرهمَا
كتب عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَقَالَ فِي التحبير توفّي لَيْلَة الْأَحَد وَدفن يَوْم الْأَحَد الرَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة(7/307)
1006 - المؤتمن بن أَحْمد بن عَليّ بن الْحسن بن عبيد الله السَّاجِي الْحَافِظ أَبُو نصر الربعِي الدَّيْر عاقولي ثمَّ الْبَغْدَادِيّ
أحد أَعْيَان الحَدِيث وأثباته وَاسع الرحلة كثير الْكِتَابَة حسن الْحِفْظ زاهد ورع
ولد فِي صفر سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
وَسمع أَبَا الْحُسَيْن بن النقور وَعبد الْعَزِيز بن عَليّ الْأنمَاطِي وَأَبا الْقَاسِم بن البسري وَأَبا نصر الزَّيْنَبِي وَإِسْمَاعِيل بن مسْعدَة وَأَبا بكر الْخَطِيب وَأَبا عَمْرو عبد الْوَهَّاب بن مَنْدَه وَأَبا بكر بن خلف وَأَبا إِسْمَاعِيل الْأنْصَارِيّ وخلقا بِبِلَاد كَثِيرَة
روى عَنهُ سعد الْخَيْر الْأنْصَارِيّ وَأَبُو الْفضل بن نَاصِر وَأَبُو طَاهِر السلَفِي وَأَبُو بكرا بن السَّمْعَانِيّ وَآخَرُونَ
قَالَ ابْن عَسَاكِر سَمِعت أَبَا الْوَقْت عبد الأول يَقُول كَانَ الإِمَام عبد الله بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ يَقُول لَا يُمكن أحدا أَن يكذب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مادام هَذَا حَيا
وَسُئِلَ السلَفِي عَنهُ فَقَالَ حَافظ متقن لم أر أحسن قِرَاءَة مِنْهُ للْحَدِيث
قلت كتب الشَّامِل عَن ابْن الصّباغ بِخَطِّهِ وتفقه على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق يداعبه وَيَقُول(7/308)
(وَشَيخنَا الشَّيْخ أَبُو نصر ... لَا زَالَ فِي عز وَفِي نصر)
توفّي فِي صفر سنة سبع وَخَمْسمِائة بِبَغْدَاد
1007 - مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن سِنَان بن عَطاء ابْن عبد الْعَزِيز بن عَطِيَّة بن ياسين بن عبد الْوَهَّاب بن سحنان بن عَاصِم القحطاني المغربي الأغماتي أَبُو هَارُون
وأغمات آخر مَدِينَة بالمغرب بَينهَا وَبَين بَحر الظُّلُمَات مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام
رَحل مُوسَى من بِلَاده إِلَى ديار مصر والحجاز وَالْعراق وَالْجِبَال وخراسان إِلَى أَن ورد بِلَاد مَا وَرَاء النَّهر
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وَكَانَ إِمَامًا فَاضلا مناظرا أَقَامَ بنيسابور مُدَّة تفقه على أبي نصر الْقشيرِي
وَذكره أَبُو حَفْص السَّمرقَنْدِي فِي كتاب القند وَقَالَ قدم علينا سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة وَهُوَ شَاب فَاضل فَقِيه مناظر بليغ شَاعِر مُحدث محَاضِر(7/309)
وَذكر أَنه قَالَ فِيهِ هَذَا
(لقد طلع الشَّمْس من غربها ... على خافقيها وأوساطها)
(فَقُلْنَا الْقِيَامَة قد أَقبلت ... فقد جَاءَ أول أشراطها)
وَمن شعر مُوسَى هَذَا
(لعمر الْهوى إِنِّي وَإِن شطت النَّوَى ... لذُو كبد حرى وَذُو مدمع سكب)
(فَإِن كنت فِي أقْصَى خُرَاسَان نازحا ... فجسمي فِي شَرق وقلبي فِي غرب)
1008 - مُوسَى بن حمود بن أَحْمد أَبُو عمرَان القَاضِي عز الدّين الماكسيني قَاضِي ماكسين
قَالَ ابْن باطيش درس بهاوأفتى وَحكم مُدَّة
قَالَ وَله اختيارات فِي الْمَذْهَب وترجيحات
مَاتَ بماكسين فِي حُدُود سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
قَالَ القَاضِي أَبُو عمرَان الماكسيني فِيمَا جمع من كَلَامه حَادِثَة ذهب السَّيِّد الْأَجَل كَمَال الدّين حرس الله علوة فيهاإلى مقَالَة وَوَافَقَهُ عَلَيْهَا جَمِيع فُقَهَاء الْموصل وتاج الْإِسْلَام وتاج الدّين وَالشَّيْخ الإِمَام جمال الْإِسْلَام أَبُو الْقَاسِم بن البزري وَهُوَ الباز الْأَشْهب فِي علم الْمَذْهَب وَصورتهَا رجل أقرّ بِأَن جَمِيع مَا فِي يَده ملك لزيد(7/310)
فَلَا خلاف فِي صِحَة الْإِقْرَار وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي انتزاع مَا فِي يَد الْمقر من غير رُجُوع إِلَى تَفْسِيره وَذَلِكَ نبوة الحسام وكبوة الْجواد وزلة الْعَالم وَقلت فِي الْجَواب لَا يجوز انتزاع مَا فِي يَده حَتَّى الْخَاتم الَّذِي فِي إصبعه إِلَّا إِذا أقرّ بذلك وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَنه أقرّ بِمَجْهُول غير معِين وَلَا مَعْلُوم وَالدَّلِيل على أَنه مَجْهُول مسَائِل أَرْبَعَة لَا تسمع دَعْوَاهُ بِاسْتِحْقَاق جَمِيع مَا فِي يَده لِأَن الدَّعْوَى لَا تسمع بِمَجْهُول وَلَو وَكله فِي الْإِبْرَاء لم يجز حَتَّى يبين الْجِنْس الَّذِي يُبرئ مِنْهُ وَالْقدر نَص على هَذِه صَاحب الْمَذْهَب وَنَصّ الْغَزالِيّ فِي الْوَجِيز أَن التَّوْكِيل فِي الْإِبْرَاء يَسْتَدْعِي علم الْمُوكل بمبلغ الدّين المبرأ مِنْهُ لَا علم الْوَكِيل وَلَا علم من عَلَيْهِ الْحق
الرَّابِع إِذا قَالَ أَبْرَأتك من ديني وَقدره وَصفته هَذَا من حَيْثُ الحكم وَمن حَيْثُ الْمَعْنى إِن قَوْله جَمِيع مَا فِي يَدي شَامِل لجَمِيع مَا فِي يَده من ملكه وَملك غَيره فمراده جَمِيع مَا فِي يَدي غير ملكي وَملكه من ملك غَيره لَا يعلم إِلَّا من جِهَته فَهُوَ مَجْهُول
طَريقَة أُخْرَى
وَهِي أَن الْيَد مُتَرَدّد بَين الْيَد الحسية والحكمية فاليد الحسية إِن أرادها فَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ يَده الْحَقِيقِيَّة واحتوت عَلَيْهِ رَاحَته ملك للْمقر وَكَانَ مَعْلُوما للْمقر وَإِن قَالَ أردْت الْحكمِيَّة فَهُوَ مَجْهُول لِأَنَّهَا تشْتَمل على حَاضر وغائب فَدلَّ ذَلِك على الْجَهَالَة وَوَجَب الرُّجُوع إِلَيْهِ فِي تَفْسِيره انْتهى(7/311)
قلت السَّيِّد الْأَجَل كَمَال الدّين وتاج الْإِسْلَام وتاج الدّين لم أعرفهم وخطر لي أَن كَمَال الدّين هُوَ ابْن يُونُس وَلَكِن يُعَارض هَذَا أَن كَمَال الدّين بن يُونُس كَانَ صَغِيرا فِي زمَان القَاضِي الماكسيني ثمَّ خطر لي أَن يكون هَذَا كَلَام مُوسَى بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن حمود حفيد مُوسَى ابْن حمود وَسَيَأْتِي فِي الطَّبَقَة السَّادِسَة وَلَكِن هَذَا إِنَّمَا هُوَ من جمع مُوسَى بن حمود نَفسه وَذكر ابْن البزري فِيهِ دَلِيل على ذَلِك فَإِن ابْن البزري مَاتَ سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة
ثمَّ أَقُول هَذَا الَّذِي أفتى القَاضِي الماكسيني بِهِ يُؤَيّدهُ قَول الْأَصْحَاب إِذا قَرَأَ بِجَمِيعِ مَا فِي يَده صَحَّ قَالُوا ثمَّ إِذا قَالَ لَيْسَ لي مِمَّا فِي يدى إِلَّا الْألف صَحَّ وَعمل بِمُقْتَضَاهُ لَكِن قد يُنَازع فِيهِ أَن الصَّوَاب عِنْد النَّوَوِيّ وَالشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله فِي مَسْأَلَة القَاضِي أبي سعد عدم الْقبُول وَهِي مَا إِذا أقرّ أَنه لَا دَعْوَى لَهُ على زيد وَلَا طلبة ثمَّ قَالَ إِنَّمَا أردْت فِي عمَامَته أَو قَمِيصه لَا فِي ذكره ونسائه
وَأَقُول الْحق أَنَّهَا أَربع مسَائِل إِحْدَاهَا أَن يَقُول لم أرد بِمَا فِي يَدي إِلَّا كَيْت وَكَيْت وَهِي مَسْأَلَة القَاضِي أبي سعد الَّتِي رجح فِيهَا الْقبُول وَالصَّوَاب خِلَافه لِأَنَّهُ خُرُوج عَن ظَاهر اللَّفْظ بِلَا دَلِيل
الثَّانِي أَن يَقُول أردْت الْكل وَلم تكن هَذِه الْعين فِي يَدي وَقت الْإِقْرَار فَالْقَوْل قَوْله وَبِه جزم الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهمَا وَقدمنَا عَن القَاضِي الْحُسَيْن فِي تَرْجَمته مَا يُنَازع فِيهِ
وَالثَّالِثَة أَن يَقُول الَّذِي فِي يَدي لَيْسَ مِنْهُ إِلَّا ألف
فَيَنْصَرِف الْإِقْرَار إِلَيْهَا دون غَيرهَا وَكَأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة ادّعى أَن اللَّفْظ وَإِن شَمل شَيْئا فالشرع لم يساعده بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا ينْصَرف فِي مَال الْغَيْر بِالْإِقْرَارِ وَهنا وَقْفَة وَهِي أَن إِطْلَاق الرَّافِعِيّ وَغَيره فِيمَا إِذا(7/312)
قَالَ لَيْسَ لي مِمَّا فِي يَدي إِلَّا ألف أَنه يَصح وَيعْمل بِمُقْتَضَاهُ فَظهر مِنْهُ فِي بادىء الرَّأْي أَنه يَصح الْإِقْرَار بِالْألف دون غَيرهَا وَفِيه إِشْكَال من جِهَة أَن الْإِقْرَار لَا يُصَادف مَمْلُوكا للْمقر وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن حق سَابق فَلَا بُد أَن يكون الْمقر بِهِ غير مَمْلُوك وَقت الْإِقْرَار فَكيف يَصح فِي الْألف دون غَيرهَا وَالَّذِي يَنْبَغِي أَن يُقَال وَيحمل عَلَيْهِ كَلَام الرَّافِعِيّ وَغَيرهَا أَنه يَصح فِي غَيرهَا دونهَا وَتَقَع هِيَ مستثناه من الْمقر بِهِ لِأَن الْمقر بِهِ مَقْصُور عَلَيْهَا فَلْيتَأَمَّل ذَلِك
وَالصُّورَة الرَّابِعَة أَن يقر بِمَا فِي يَده وَلَا يدعى بعد ذَلِك شَيْئا بل يسكت أَو يَمُوت فَهَل يقدم على انتزاع مَا فِي يَده أَو يتَوَقَّف إِلَى أَن يُفَسر بِمَا يَشَاء هَذِه مَسْأَلَة القَاضِي الماكسيني وَالَّذِي يظْهر فِيهِ الْخلاف قَوْله وَأَنه ينتزع نعم إِن تنَازع الْمقر لَهُ وَالْوَرَثَة فِي شَيْء هَل كَانَ فِي يَده وَقت الْإِقْرَار فِيهَا خلاف بَين القَاضِي الْحُسَيْن وَالْبَغوِيّ قدمْنَاهُ فِي تَرْجَمَة القَاضِي
وَقَوله إِنَّه أقرّ بِمَجْهُول مَمْنُوع إِنَّمَا هَذَا اللَّفْظ عَام لَا جَهَالَة فِيهِ واستشهاده بِأَنَّهُ لَا تصح الدَّعْوَى بِاسْتِحْقَاق جَمِيع مَا فِي يَده مَمْنُوع أَيْضا وَلكنه بناه على مَا فِي ذهنه من أَن هُوَ إِقْرَار بِمَجْهُول وَلَيْسَ كَذَلِك هُوَ مَعْلُوم فِي نَفسه مَدْلُول عَلَيْهِ بِلَفْظ عَام وَيصِح الْإِقْرَار بِهِ وَالدَّعْوَى بِهِ
وَقَوله لَا تسمع الدَّعْوَى بِمَجْهُول إِلَّا فِي الْوَصِيَّة قُلْنَا أَولا هَذَا لَيْسَ بِمَجْهُول وَثَانِيا هَذَا اقْتِصَار على عبارَة التَّنْبِيه وَالصَّحِيح سَماع الدَّعْوَى بِالْمَجْهُولِ إِذا أقرّ بِهِ بتاتا لمجهول صَحِيح وَهُوَ الْمَذْهَب وَقد صَرَّحُوا باستثناء الْإِقْرَار بِالْمَجْهُولِ ومسائل أخر عَن الْوَصِيَّة(7/313)
من قَوْلهم الدَّعْوَى بِمَجْهُول لَا تسمع وَنَصّ الْأَصْحَاب على أَنه لَو قَالَ جَمِيع مَا لي صَدَقَة صَار جَمِيعه صَدَقَة وَلَو نذر التَّصَدُّق بِجَمِيعِ مَاله لزمَه كُله
وَأما قَوْله لَو وَكله فِي الْإِبْرَاء لم يجز حَتَّى يبين وَنَظِير مَسْأَلَتنَا أَن يَقُول وَكلتك فِي الْإِبْرَاء من ديوني وَالْمذهب صِحَة الْوكَالَة
وَأما قَوْله إِذا قَالَ أَبْرَأتك من ديني أَو من جَمِيع ديوني لم يَصح مَا لم يعين جنس الدّين وَقدره وَصفته فَالْفرق أَن ذَلِك عقد تمْلِيك وَكَذَلِكَ يَقُول فِي وَهبتك جَمِيع مَا فِي يَدي وَعقد التَّمْلِيك يشْتَرط فِيهِ مَا يشْتَرط فِي البيع من الْعلم بِخِلَاف الْإِقْرَار وَنَحْوه
1009 - الْمهْدي بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن الْمهْدي أَبُو البركات الْعلوِي
ولد بأصبهان وَنَشَأ بِبَغْدَاد
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وَكَانَ واعظا مليح الْوَعْظ حسن الْعبارَة سمع بِبَغْدَاد ابْن البطر وَالْحُسَيْن بن أَحْمد بن طَلْحَة النعالي وشجاع بن فَارس الذهلي وَغَيرهم
ولد سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ خسف بجنزه فِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَهلك فِيهَا عَالم كثير وَخلق من الْمُسلمين مِنْهُم الْمهْدي بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل(7/314)
1010 - الْمهْدي بن هبة الله بن الْمهْدي الخليلي أَبُو المحاسن
من أهل قزوين
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِمَام فَاضل ورع متدين دَائِم الْعِبَادَة كثير التِّلَاوَة قَوَّال بِالْحَقِّ دَاع إِلَيْهِ مبالغ فِي الْوضُوء والنظافة
تفقه بِبَغْدَاد على أسعد الميهني وعلق بِالْبَصْرَةِ التعليقة عَن القَاضِي عبد السَّلَام ابْن الْفضل الجيلي وَقَرَأَ المقامات على منشئها أبي مُحَمَّد الحريري
قَالَ وَورد علينا خُرَاسَان فتفقه على شَيخنَا عمر بن عَليّ الشيرزي ثمَّ ترك مُخَالطَة الْفُقَهَاء وانزوى عِنْد الإِمَام يُوسُف بن أَيُّوب الهمذاني
قَالَ وكتبت عَنهُ حَدِيثا وَاحِدًا عَن الْحُسَيْن بن مَسْعُود الْفراء الْبَغَوِيّ
توفّي فِي شعْبَان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
1011 - الْمُوفق بن عَليّ بن مُحَمَّد بن ثَابت بن أَحْمد الْخرقِيّ الثابتي الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد
تفقه على الْبَغَوِيّ صَاحب التَّهْذِيب وعَلى أبي بكر بن أبي المظفر بن السَّمْعَانِيّ وَقَرَأَ الْخلاف ببخارى على أبي بكر الطَّبَرِيّ
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ فَقِيها فَاضلا ورعا زاهدا متواضعا لم أر فِي أهل الْعلم مثله خلقا وسيرة وَكَانَ إِذا جلس بَين الْخَواص والعوام لَا يعرف بِهِ أحد من الْعلمَاء وَكَانَ(7/315)
يَصُوم أَكثر أَيَّامه فَإِذا دخل إِلَيْهِ من يزوره يقدم إِلَيْهِ مَا حضر من مَأْكُول وَيُوَافِقهُ وَيَأْكُل وَلَا يرى أَنه كَانَ صَائِما
قَالَ وَكَانَ يحفظ الْمَذْهَب كتبت عَنهُ شَيْئا يَسِيرا بخرق وَتُوفِّي بهَا يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة
1012 - مودود بن مُحَمَّد بن مَسْعُود النَّيْسَابُورِي الْفَقِيه الإِمَام
وَهُوَ أَخُو الإِمَام قطب الدّين النَّيْسَابُورِي
تفقه بخراسان ثمَّ وَفد على أَخِيه بِدِمَشْق ثمَّ خرج إِلَى نَاحيَة الْموصل وَجلسَ يَوْمًا على نهر يتوضا فغرق وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة
أرخه ابْن باطيش
1013 - المؤمل بن مسرور بن أبي سهل بن مَأْمُون الشَّاشِي الشَّيْخ الصَّالح أَبُو الرَّجَاء الخمركي المأموني
من أهل الشاش
وِلَادَته فِيمَا يظنّ ابْن السَّمْعَانِيّ قبل الْأَرْبَعين والأربعمائة وَسكن مرو إِلَى حِين وَفَاته(7/316)
وَكَانَ تفقه ببخارى على أبي الْخطاب الطَّبَرِيّ وَعلي فَقِيه الشاش أبي بكر مُحَمَّد بن عَليّ الشَّاشِي بغزنة وَسمع الرئيس أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الرقي وَأَبا يَعْقُوب يُوسُف ابْن مَنْصُور السياري الْحَافِظ وَأَبا عبد الله إِبْرَاهِيم بن عَليّ الطَّبَرِيّ وَالِد أبي الْخطاب وَأَبا مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد النخشبي الْحَافِظ وَأَبا المظفر بن السَّمْعَانِيّ وَغَيرهم
وَتُوفِّي بمرو لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لثلاث بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة
وَكَانَ من الصَّالِحين أَرْبَاب الْعِبَادَات والمجاهدات مُقيما فِي رِبَاط يَعْقُوب الصُّوفِي بمرو يَقْصِدهُ النَّاس للتبرك بِهِ
1014 - نَاصِر بن سلمَان بن نَاصِر بن عمرَان بن مُحَمَّد أَبُو الْفَتْح بن أبي الْقَاسِم الْأنْصَارِيّ النَّيْسَابُورِي
مولده سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
سمع أَبَاهُ وَأَبا الْحسن الْمَدِينِيّ الْمُؤَذّن وَالْفضل بن عبد الْوَاحِد التَّاجِر وَغَيرهم
روى عَنهُ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ وَولده عبد الرَّحِيم بن أبي سعد
قَالَ أَبُو سعد كَانَ إِمَامًا مناظرا بارعا فِي الْكَلَام حَاز قصب السَّبق فِيهِ على أقرانه وَصَارَ فِي عصره أوحد ميدانه وصنف التصانيف وَترسل من جِهَة السُّلْطَان سنجر إِلَى الْمُلُوك وَكَانَ صَاحب أوقاف الممالك وَكَانَ لَا يتورع عَن مَال الْوَقْف
مَاتَ فِي جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة بمرو(7/317)
1015 - نبا بن مُحَمَّد بن مَحْفُوظ الْقرشِي الْمَعْرُوف بِابْن الحوراني الشَّيْخ أَبُو الْبَيَان
شيخ الطَّائِفَة البيانية المنسوبة إِلَيْهِ بِدِمَشْق
سمع أَبَا الْحسن عَليّ بن الموازيني وَأَبا الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن قبيس الْمَالِكِي وَغَيرهمَا
روى عَنهُ يُوسُف بن عبد الْوَاحِد بن وَفَاء السّلمِيّ وَالْقَاضِي أسعد بن المنجا والفقيه أَحْمد الْعِرَاقِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن الْحُسَيْن بن عَبْدَانِ وَغَيرهم وَكَانَ إِمَامًا عَالما عابدا قَانِتًا زاهدا ورعا يعرف اللُّغَة وَالْفِقْه وَالشعر لَهُ نظم كثير ومجاميع حسان وتصانيف مفيدة وَله ذكر حسن يذكر إِلَى الْآن فِي الرِّبَاط الْمَنْسُوب إِلَيْهِ بِدِمَشْق ومناقبه كَثِيرَة وفضائله مَشْهُورَة وَبَرَكَاته مَعْرُوفَة
وَعَن الشَّيْخ عبد الله البطائحي قَالَ رَأَيْت الشَّيْخ أَبَا الْبَيَان وَالشَّيْخ رسْلَان مُجْتَمعين بِجَامِع دمشق فَسَأَلت الله أَن يحجبني عَنْهُمَا حَتَّى لَا يشغلا بِي وتتبعتهما حَتَّى صعدا إِلَى أَعلَى مغارة الدَّم وقعدا يتحدثان فَإِذا بشخص قد أَتَى كَأَنَّهُ طَائِر فِي الْهَوَاء فَجَلَسَا بَين يَدَيْهِ كالتلميذين وسألاه عَن أَشْيَاء من جُمْلَتهَا أَعلَى وَجه الأَرْض بلد مَا رَأَيْته فَقَالَ لَا فَقَالَا هَل رَأَيْت مثل دمشق قَالَ مَا رَأَيْت مثلهَا
وَكَانَا يخاطبانه يَا أَبَا الْعَبَّاس فَعلمت أَنه الْخضر(7/318)
توفّي الشَّيْخ أَبُو الْبَيَان وَقت الظّهْر يَوْم الثُّلَاثَاء فِي ربيع الأول سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة وَدفن بِبَاب الصَّغِير وقبره هُنَاكَ يزار
وَهَذَا الرِّبَاط الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ إِنَّمَا أنشىء بعد مَوته بِأَرْبَع سِنِين اجْتمع أَصْحَابه على بنائِهِ ويحكى أَنهم لما اجْتَمعُوا لذَلِك أرسل إِلَيْهِم الْملك نور الدّين الشَّهِيد يمنعهُم فَلَمَّا جَاءَ رَسُوله خرج إِلَيْهِ وَاحِد يُقَال لَهُ الشَّيْخ نصر فَقَالَ لَهُ أَنْت رَسُول مَحْمُود تمنع الْفُقَرَاء من الْبناء قَالَ نعم قَالَ ارْجع إِلَيْهِ وَقل لَهُ بعلامة مَا قُمْت فِي جَوف اللَّيْل وَسَأَلت الله فِي باطنك أَن يرزقك ولدا ذكرا من فُلَانَة لَا تتعرض إِلَى جمَاعَة الشَّيْخ وَلَا تمنعهم فَعَاد الرَّسُول إِلَى نور الدّين وَحكى لَهُ ذَلِك فَقَالَ وَالله الْعَظِيم مَا تفوهت بِهَذَا لمخلوق ثمَّ أَمر بِعشْرَة الآف دِرْهَم وَمِائَة حمل خشب فَبنى بهَا الرِّبَاط ووقف عَلَيْهِ مَكَانا بحرين
ووقفت من مصنفاته على قصيد نظم فِيهَا الصَّاد وَالضَّاد وعَلى قصيدة عزز فِيهَا بَيْتِي الحريري اللَّذين أَولهمَا سم سمة بِأَبْيَات أخر وَذكر فِيهَا أَن الْحَامِل لَهُ على ذَلِك تجْرِي الحريري ومبالغته فِي الدَّعْوَى وَشَرحهَا شرحا مطولا مِنْهَا
(لَا فَمه زينه بَائِن ... وَلَا حجاه إِن يقل لَا فَمه)
(لَا عَمه يملكهُ أَو هدى ... فَقل من الدُّنْيَا لمن لاع مَه)(7/319)
ثمَّ ذكر أبياتا فِي اسْتِحْسَان هذَيْن وتفضيلهما على بَيْتِي الحريري ثمَّ قَالَ
(بل سمه مِنْك عَن الْمَكْر مَحْمُود ... وَلَو مَعَ سمه بلسمه)
1016 - نصر بن نصر بن عَليّ بن يُونُس العكبري أَبُو الْقَاسِم الْوَاعِظ
سمع أَبَا الْقَاسِم عَليّ بن أَحْمد بن البسري وَأَبا الْحُسَيْن عَاصِم بن الْحسن العاصمي والوزير نظام الْملك وَغَيرهم
مولده فِي منتصف الْمحرم سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وَتُوفِّي فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة
1017 - نصر الله بن مُحَمَّد بن عبد الْقوي الشَّيْخ أَبُو الْفَتْح المصِّيصِي ثمَّ اللاذقي ثمَّ الدِّمَشْقِي الإِمَام فقها وأصولا وكلاما(7/320)
مولده سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
وَنَشَأ بصور وَسمع بهَا من أبي بكر الْخَطِيب وَعمر بن أَحْمد الْعَطَّار الْآمِدِيّ والفقيه نصر الْمَقْدِسِي وتفقه عَلَيْهِ وَسمع بِدِمَشْق أَبَا الْقَاسِم بن أبي الْعَلَاء وَغَيره وببغداد عَاصِم بن الْحسن ورزق الله بن عبد الْوَهَّاب وبأصبهان نظام الْملك الْوَزير وَغَيره
وبالأنبار أَبَا الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الْأَخْضَر
روى عَنهُ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم وَولده الْقَاسِم بن عَسَاكِر وَابْن السَّمْعَانِيّ ومكي ابْن عَليّ الْعِرَاقِيّ والخطيب أَبُو الْقَاسِم الدولعي وَالْخضر بن كَامِل الْمعبر وَأَبُو الْقَاسِم عبد الصَّمد بن الحرستاني وَهبة الله بن الْخضر بن طَاوس وَجَمَاعَة آخِرهم أَبُو المحاسن بن أبي لقْمَة
وَقَرَأَ بصور علم الْكَلَام على أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَتيق القيرواني ثمَّ سكن دمشق ودرس بالزاوية الغربية وَهِي الغزالية بعد وَفَاة شَيْخه الْفَقِيه نصر وَبِه كثرت أوقافها لِأَن كثيرا من النَّاس وقفُوا عَلَيْهِ ثمَّ بعده عَلَيْهَا وَمِنْهُم من وقف عَلَيْهَا ابْتِدَاء بواسطته وَهُوَ أَيْضا وقف شَيْئا جيدا(7/321)
1018 - نصر الله بن مَنْصُور بن سهل الجنزي أَبُو الْفَتْح الدويني بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَكسر الْوَاو وَسُكُون الْيَاء المنقوطة بِاثْنَتَيْنِ من تحتهَا وَفِي أَخّرهَا النُّون نِسْبَة إِلَى دوين بَلْدَة من أذربيجان
وَكَانَ هَذَا الشَّيْخ يلقب بالكمال
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ فَقِيها صَالحا مَسْتُورا تفقه بِبَغْدَاد على أبي حَامِد الْغَزالِيّ وانتقل إِلَى خُرَاسَان وَسكن نيسابور ثمَّ مرو ثمَّ بَلخ إِلَى أَن توفّي بهَا سمع بنيسابور أَبَا الْحسن عَليّ بن أَحْمد الْمَدِينِيّ وَأَبا بكر أَحْمد بن سهل السراج وَعبد الْوَاحِد الْقشيرِي وَغَيرهم
وَحدث ببلخ
كتب عَنهُ أَبُو سعد بن السَّمْعَانِيّ وانتخب عَلَيْهِ جزأين وَقَالَ مَاتَ ببلخ فِي أَوَاخِر رَمَضَان سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
1019 - واثق بن عَليّ بن الْفضل بن هبة الله
الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم ابْن فضلان وَرُبمَا قيل فِي اسْمه يحيى وَذَلِكَ أَنه غير اسْمه فِي آخر الْأَمر بِيَحْيَى وَابْن النجار أوردهُ فِيمَن اسْمه يحيى وَأوردهُ ابْن باطيش والحافظ أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن خَلِيل الدِّمَشْقِي فِي مُعْجَمه كَمَا أوردناه(7/322)
كَانَ من أَئِمَّة الْفُقَهَاء وأعلام الْعلمَاء وفرسان الجدل
سمع إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن عمر السَّمرقَنْدِي وَمُحَمّد بن نَاصِر وَأَبا الْكَرم بن الشهرزوري وَغَيرهم
روى عَنهُ يُوسُف بن خَلِيل وَغَيره
وتفقه بِبَغْدَاد على أبي مَنْصُور بن الرزاز ثمَّ بخراسان على مُحَمَّد بن يحيى وَأقَام عِنْده بنيسابور مُدَّة يتفقه عَلَيْهِ وَكَانَ مُحَمَّد بن يحيى يُعجبهُ كَلَامه ويستحسن إِيرَاده
مولده فِي سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي فِي شعْبَان سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
1020 - هَاشم بن عَليّ بن إِسْحَاق بن الْقَاسِم الأبيوردي أَبُو الْقَاسِم من أهل أبيورد
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فَقِيه فَاضل عَالم تفقه على الإِمَام أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وَسمع بِبَغْدَاد ابْن البطر وبمكة الْحُسَيْن بن عَليّ الطَّبَرِيّ وبنيسابور أَبَا بكر بن خلف وبآمل أَبَا المحاسن الرَّوْيَانِيّ وَغَيرهم
ولد بعد الْخمسين وَأَرْبَعمِائَة بأبيورد وَتُوفِّي فِي الْخَامِس من شهر ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخَمْسمِائة بأبيورد(7/323)
1021 - هبة الله بن أَحْمد بن عبد الله بن عَليّ بن طَاوس أَبُو مُحَمَّد بن أبي البركات المقرىء
إِمَام جَامع دمشق
سمع أَبَاهُ وَنصر الْمَقْدِسِي وَجَمَاعَة بِدِمَشْق وسافر فَسمع رزق الله والبانياسي وَغَيرهمَا بالعراق وأصبهان وَكَانَ قد خرج من دمشق إِلَى الْعرَاق وأصبهان صَحبه أَبِيه والفقيه نصر الله فِي رِسَالَة من تَاج الدولة تتش إِلَى السُّلْطَان ملك شاه
روى عَنهُ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر والسلفي وَابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيرهم
وَكَانَ مولده فِي صفر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
1022 - هبة الله بن الْحسن بن هبة الله بن عبد الله الإِمَام صائن الدّين بن عَسَاكِر وَهُوَ أَخُو الْحَافِظ وَكَانَ الْأَكْبَر ولد فِي رَجَب سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَقَرَأَ الْقُرْآن بالروايات وَسمع أَبَا الْقَاسِم النسيب وَأَبا طَاهِر الحنائي وَأَبا الْحسن(7/324)
ابْن الموازيني وَأَبا عَليّ بن الْمهْدي وَأَبا الْغَنَائِم الْمُهْتَدي بِاللَّه وَأَبا طَالب الزَّيْنَبِي وخلقا
وَوجد لَهُ سَماع من أبي الْحسن بن أبي الْخَيْر والراوي عَن أبي الْحسن ابْن السمسار فَلم يحدث بِهِ ورعا وَقَالَ لَا أَحَق هَذَا الشَّيْخ
روى عَنهُ أَخُوهُ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم وَابْنه الْقَاسِم بن أبي الْقَاسِم وَأَبُو سعد بن بن الْأُمَنَاء الْحسن وَشَيخ الشَّافِعِيَّة فَخر الدّين وتاج الْأُمَنَاء أَحْمد وَأَبُو نصر عبد الرَّحِيم وَأَبُو الْقَاسِم بن صصرى وَآخَرُونَ
تفقه بِدِمَشْق على أبي الْحسن بن الْمُسلم وعَلى الْفَقِيه نصر الله بن مُحَمَّد وعلق بِبَغْدَاد الْخلاف عَليّ أسعد الميهني وَأخذ الْأُصُول عَن أبي الْفَتْح بن برهَان وَأعَاد بالأمينية لشيخه أَبَا الْحسن السّلمِيّ ودرس بالغزالية وَأفْتى وَكتب الْكثير وَعرضت عَلَيْهِ الخطابة وَغَيرهَا فَامْتنعَ وَكَانَ خَاله أَبُو الْمَعَالِي ابْن الزكي يجْتَهد فِي أَن يَنُوب عَنهُ فِي الْقَضَاء فَلَا يفعل وَكَانَ إِمَامًا ثِقَة ثبتا دينا ورعا وَله شعر كثير
توفّي فِي شعْبَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة(7/325)
1023 - هبة الله بن سعد بن طَاهِر أَبُو الفوارس
سبط أبي المحاسن الرَّوْيَانِيّ صَاحب الْبَحْر
من أهل آمل طبرستان
سمع جده أَبَا المحاسن وَأَبا عَليّ الْحسن بن أَحْمد الْحداد وَغَيرهمَا
سمع مِنْهُ أَبُو بكر الْمُبَارك بن كَامِل الْخفاف وَأخرج عَنهُ مُعْجَمه ودرس بالنظامية الَّتِي بآمل
ولد سنة سبعين وَأَرْبَعمِائَة وَتُوفِّي سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
قَالَ أَبُو الفوارس سَمِعت جدي أَبَا المحاسن الرَّوْيَانِيّ يَقُول الشُّهْرَة آفَة وكل يتحراها والخمول رَاحَة وكل يتوقاها
1024 - هبة الله بن سهل بن عمر بن القَاضِي أبي عمر البسطامي النَّيْسَابُورِي
الْمَعْرُوف بالسيدي نِسْبَة إِلَى السَّيِّد أبي الْحسن مُحَمَّد بن عَليّ الهمذاني الْمَعْرُوف بالوصي كَانَ هبة الله حفيده ينْسب إِلَيْهِ
وَكَانَ هبة الله يكنى أَبَا مُحَمَّد وَكَانَ ختن إِمَام الْحَرَمَيْنِ على ابْنَته
ولد فِي شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فَقِيه عَالم خير كثير الْعِبَادَة والتهجد لكنه عسر الرِّوَايَة لصعوبة خلقه(7/326)
سمع أَبَا حَفْص عمر بن مسرور وَأَبا الْحُسَيْن عبد الغافر الْفَارِسِي وَأَبا عُثْمَان الْبُحَيْرِي وَأَبا سعد الكنجروذي وَأَبُو سعيد مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد الخشاب وَأَبا بكر الْبَيْهَقِيّ وَأَبا يعلى إِسْحَاق بن عبد الرَّحْمَن الصَّابُونِي وَأَبا الْقَاسِم الْقشيرِي وجده أَبَا الْمَعَالِي عمر بن مُحَمَّد البسطامي وَغَيرهم
روى عَنهُ الحافظان ابْن عَسَاكِر وَابْن السَّمْعَانِيّ والمؤيد الطوسي وَغَيرهم وَأَجَازَ لأبي الْقَاسِم بن الحرستاني وَغَيره
توفّي بنيسابور وَقت الصُّبْح يَوْم الثُّلَاثَاء الْخَامِس وَالْعِشْرين من صفر سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَدفن بِالْحيرَةِ
1025 - هبة الله بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد
1026 - هبة الله بن أبي نصر مُحَمَّد بن هبة الله بن مُحَمَّد البُخَارِيّ
أَبُو المظفر ابْن عَم قَاضِي الْقُضَاة أبي طَالب
فَقِيه مُتَكَلم ولاه أَمِير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر لدين الله نِيَابَة الوزارة
مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة(7/327)
1027 - هبة الله بن أبي الْمَعَالِي معد بن عبد الْكَرِيم الْفَقِيه أَبُو الْقَاسِم بن البوري الْقرشِي الدمياطي
تفقه بِدِمَشْق على ابْن أبي عصرون وببغداد على أبي طَالب صَاحب بن الْخلّ ودرس بالإسكندرية بمدرسة السلَفِي مُدَّة
توفّي سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
وبورة بليدَة صَغِيرَة بِقرب دمياط ينْسب إِلَيْهَا السّمك البوري
1028 - هبة الله بن يحيى بن الْحسن أَبُو جَعْفَر بن البوقي الوَاسِطِيّ الْعَطَّار
تفقه على القَاضِي أبي عَليّ الفارقي وَسمع أَبَا بكر الْأنْصَارِيّ وَغَيره وَكَانَ فَقِيها مناظرا بارعا فِي الْمَذْهَب والفرائض وَالْخلاف وَحدث بِبَغْدَاد
روى عَنهُ ابْن الْأَخْضَر وَغَيره
قَالَ فِيهِ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ إِمَامًا فَاضلا سديد الفتاوي قيمًا بِمذهب الشَّافِعِي متدينا كثير الْعِبَادَة صَامَ أَرْبَعِينَ سنة دَائِما مولده فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَتُوفِّي فِي ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة بواسط(7/328)
1029 - هبة الرَّحْمَن بن عبد الْوَاحِد بن عبد الْكَرِيم بن هوَازن ابْن مُحَمَّد بن عبد الْملك الْقشيرِي أَبُو الأسعد بن الشَّيْخ أبي سعيد بن الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ خطيب نيسابور ومقدم القشيرية بهَا أحضر على جده أبي الْقَاسِم وَسمع أَبَاهُ وعميه أَبَا مَنْصُور عبد الرَّحْمَن وَأَبا سعد عبد الله وَأَبا صَالح الْمُؤَذّن وجدته فَاطِمَة بنت الدقاق وَطَائِفَة
روى عَنهُ السَّمْعَانِيّ وَابْنه أَبُو المظفر عبد الرَّحِيم بن السَّمْعَانِيّ والحافظ ابْن عَسَاكِر والمؤيد بن مُحَمَّد الطوسي وَآخَرُونَ
مولده فِي الْعشْرين من جُمَادَى الأولى سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ أسْند من بَقِي بخراسان فِي زَمَانه
توفّي فِي ثَالِث عشر شَوَّال سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة(7/329)
1030 - هبة الْكَرِيم بن خلف بن الْمُبَارك بن البطر أَبُو نصر الْمَعْرُوف بِابْن الْحَنْبَلِيّ الْبَغْدَادِيّ البيع
تفقه على أسعد الميهني وَسمع أَبَا الْخطاب بن البطر
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ
توفّي فِي ثامن شهر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
1031 - يحيى بن سَلامَة بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد أَبُو الْفضل الطنزي الْخَطِيب الحصكفي الأديب الْفَقِيه
ولد بطنزة بليدَة صَغِيرَة بديار بكر وَنَشَأ بحصن كيفا فنسب إِلَيْهَا
دخل بَغْدَاد وتفقه بهَا وَقَرَأَ الْأَدَب على الْخَطِيب التبريزي ثمَّ رَجَعَ إِلَى بِلَاده واستوطن ميافارقين وَولى الخطابة بهَا وَأفْتى النَّاس وشغلهم بِالْعلمِ وصنف عُمْدَة الاقتصاد فِي النَّحْو وَغَيرهَا
ذكره الْعِمَاد الْكَاتِب فَقَالَ كَانَ عَلامَة عصره ومعرى الْعَصْر فِي نظمه ونثره وَله الترصيع البديع والتجنيس النفيس وَعدد من محاسنه وَمن شعره
(أَشْكُو إِلَى الله من نارين وَاحِدَة ... فِي وجنتيه وَأُخْرَى مِنْهُ فِي كَبِدِي)(7/330)
(وَمن سقامين سقم قد أحل دمي ... من الجفون وسقم حل فِي جَسَدِي)
(وَمن نمومين دمعي حِين أذكرهُ ... يذيع سرى وواش فِيهِ بالرصد)
(وَمن ضعيفين صبري حِين أندبه ... ووده وَيَرَاهُ النَّاس طوع يَدي)
(مهفهف رق حَتَّى قلت من عجب ... أخصره خنصرى أم جلده جلدي)
وَقَالَ جَامعا أَسمَاء الْقُرَّاء السَّبْعَة فِي بَيت وَالْأَئِمَّة السِّتَّة فِي بَيت
(جمعت لَك الْقُرَّاء لما أردتهم ... بِبَيْت ترَاهُ للأئمة جَامعا)
(أَبُو عَمْرو عبد الله حَمْزَة عَاصِم ... على وَلَا تنس الْمَدِينِيّ نَافِعًا)
(وَإِن شِئْت أَرْكَان الشَّرِيعَة فاستمع ... لتعرفهم واحفظ إِذا كنت سَامِعًا)
(مُحَمَّد والنعمان مَالك أَحْمد ... وسُفْيَان وَاذْكُر بعد دَاوُد تَابعا)(7/331)
1032 - يحيى بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري أَبُو طَاهِر القَاضِي تَاج الدّين
ولد يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشر شهر رَجَب سنة خمس وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ ابْن باطيش وتفقه وبرع فِي الْفِقْه وَمَات لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ تَاسِع عشر شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة
1033 - يحيى بن عَليّ بن الْحسن الْحلْوانِي الْبَزَّار أَبُو سعد
وَرُبمَا قيل فِي اسْم وَالِده بنْدَار
كَانَ من أَئِمَّة الْفُقَهَاء
قَرَأَ الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأُصُول على الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وصنف كتابا سَمَّاهُ التَّلْوِيح فِي الْمَذْهَب وَولى حسبَة بَغْدَاد ثمَّ عزل عَنْهَا وَولى تدريس النظامية
وَسمع الحَدِيث من أبي جَعْفَر بن الْمسلمَة وَأبي الْحُسَيْن بن النقور وَأبي الْخطاب بن البطر وَشَيْخه أبي إِسْحَاق وَغَيرهم
روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره
وَكَانَ مولده فِي ذِي الْحجَّة سنة خمسين أَو إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وأرسله(7/333)
أَمِير الْمُؤمنِينَ المسترشد بِاللَّه إِلَى الخاقان مُحَمَّد بن سُلَيْمَان صَاحبهَا مَا وَرَاء النَّهر ليفيض عَلَيْهِ الْخلْع فَتوفي هُنَاكَ بسمرقند فِي شهر رَمَضَان سنة عشْرين وَخَمْسمِائة
انْتهى وَمن شعره
(مَرَرْت بخباز أحاول حَاجَة ... مدلا عَلَيْهِ أَي بِأَنِّي عَالم)
(فَلَمَّا رَآنِي قَالَ أَهلا ومرحبا ... ظَفرت بِمَا تهوى فَأَيْنَ الدَّرَاهِم)
(فَقلت معي كيس وَنقص وخاطري ... يَجِيش فصولا كُلهنَّ لَوَازِم)
(فَقَالَ وَمن هذي الذَّخَائِر عِنْده ... يحاول عِنْدِي حَاجَة ويساوم)
(لعمرك لَو بِعْت الْجَمِيع بلقمة ... لما كنت مِمَّن فِي الشِّرَاء يُخَاصم)
1034 - يحيى بن عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن عَليّ بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن القَاضِي أَبُو الْفضل
قَاضِي دمشق وَيعرف بِابْن الصَّائِغ
ولد سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة ذكره فِي تبينيه الْحَافِظ الْكَبِير أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر وَذكر أَنه تفقه بِدِمَشْق على القَاضِي الْمروزِي وَصَحب الْفَقِيه نصر الْمَقْدِسِي ثمَّ تفقه بِبَغْدَاد على أبي بكر الشَّاشِي وَسمع عبد الْعَزِيز الكتاني وحيدرة بن عَليّ(7/334)
وَأَبا الْقَاسِم بن أبي الْعَلَاء وَعبد الْعَزِيز بن طَاهِر التَّمِيمِي وَغَيرهم
روى عَنهُ الْقَاسِم بن الْحَافِظ وَعبد الْخَالِق بن أَسد وَجَمَاعَة
1035 - يحيى بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد أَبُو طَاهِر الضَّبِّيّ الْمحَامِلِي الْبَغْدَادِيّ
كَانَ فَقِيها كَبِيرا وَله مُصَنف فِي الْفِقْه وَكَانَ ورعا كثير الْعِبَادَة
سمع أَبَا جَعْفَر بن الْمسلمَة وَأَبا الْحُسَيْن بن النقور وَغَيرهمَا
روى عَنهُ جمَاعَة جاور بِمَكَّة وَتوفى بهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة
1036 - يحيى بن المفرج أَبُو الْحُسَيْن اللَّخْمِيّ الْمَقْدِسِي(7/335)
1037 - يحيى بن أبي الْخَيْر بن سَالم بن سعيد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن عمرَان العمراني الْيَمَانِيّ الشَّيْخ الْجَلِيل أَبُو الْحُسَيْن
شيخ الشافعيين بإقليم الْيمن صَاحب الْبَيَان وَغَيره من المصنفات الشهيرة
سَاق ابْن سَمُرَة فِي تَارِيخ اليمنيين نِسْبَة إِلَى آدم عَلَيْهِ السَّلَام
ولد سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
تفقه على جماعات مِنْهُم خَالَة الإِمَام أَبُو الْفتُوح بن عُثْمَان العمراني وَمِنْهُم الإِمَام زيد ابْن عبد الله اليفاعي وَسمع الحَدِيث من جمَاعَة من أهل الْيمن
وَكَانَ إِمَام زاهدا ورعا عَالما خيرا مَشْهُور الِاسْم بعيد الصيت عَارِفًا بالفقه وَالْأُصُول وَالْكَلَام والنحو أعرف أهل الأَرْض بتصانيف أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ الْفِقْه وَالْأُصُول وَالْخلاف يحفظ الْمُهَذّب عَن ظهر قلب وَقيل كَانَ يَقْرَؤُهُ فِي لَيْلَة وَاحِدَة
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَ ورده فِي اللَّيْلَة أَكثر من مائَة رَكْعَة بِسبع من الْقُرْآن الْعَظِيم(7/336)
وانتقل إِلَى ذِي أشرق فِي سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة وَتزَوج بهَا أم وَلَده القَاضِي طَاهِر وابتدأ بتصنيف الْبَيَان فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَفرغ من تصنيفه سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وابتدأ بتصنيف الزَّوَائِد فِي سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة فَمَكثَ فِيهَا أَربع سِنِين إِلَّا قَلِيلا وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ بِإِشَارَة شَيْخه زيد اليفاعي وَحج من ذِي أشرق وناظر بِمَكَّة الشريف مُحَمَّد بن أَحْمد العثماني فِي مسَائِل من علمي الْفِقْه وَالْكَلَام ثمَّ زار قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ عَاد إِلَى الْيمن
وَهَذَا الشريف العثماني نقل عَنهُ فِي الْبَيَان فِي مَوَاضِع وَهِي غَرِيبَة
وَأقَام بِذِي أشرق يدرس الْمَذْهَب وينشر الْعلم إِلَى سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَكَانَ من أحسن الْعلمَاء تَعْلِيما قيل كَانَ يُقرر للطَّالِب الْفَصْل من الْمُهَذّب ثمَّ يُعِيدهُ هُوَ على الطَّالِب حفظا ثمَّ ينبهه على خلاف مَالك وَأبي حنيفَة خَاصَّة وَقد يذكر مَعَهُمَا غَيرهمَا ثمَّ يذكر احترازات الْمُهَذّب ثمَّ يذكر الْأَدِلَّة ويقرر الأقيسة بأوضح عبارَة ويكررها بعبارات مُخْتَلفَة إِلَى أَن ترسخ فِي ذهن الطَّالِب
ثمَّ فِي أخر سنة تسع وَأَرْبَعين تعذر سكناهُ بالبلدة الَّتِي كَانَ فِيهَا أَظن أَن اسْمهَا سير لفتن وحروب اتّفقت هُنَاكَ وانتقل إِلَى ذِي السفال ثمَّ إِلَى ذِي أشرق فَأَقَامَ بِذِي أشرق سبع سِنِين
قَالَ ابْن سَمُرَة فَجرى فِي السّنة الرَّابِعَة من هَذِه السَّبع بَين الْفُقَهَاء تباغض وتحاسد وتكفير من فُقَهَاء ذِي أشرق لفقهاء زبيد حكى ابْن سَمُرَة بَعْضهَا ثمَّ ذكر أَن صَاحب الْبَيَان انْتقل إِلَى ذِي السفال فَمَاتَ بهَا مبطونا شَهِيدا فِي ربيع الآخر قبل الْفجْر(7/337)
من لَيْلَة الْأَحَد سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة وَلم يتْرك صَلَاة فِي مرض مَوته وَكَانَ نَزعه لَيْلَتَيْنِ وَيَوْما بَينهمَا يسْأَل عَن كل وَقت صَلَاة وَيُصلي بِالْإِيمَاءِ
وَفِيه يَقُول بَعضهم
(لله شيخ من بني عمرَان ... قد سادنا بِالْعلمِ بالأركان)
(يحيى لقد أَحْيَا الشَّرِيعَة هاديا ... بفوائد وغرائب وَبَيَان)
(هُوَ درة الْيمن الَّذِي مَا مثله ... من أول فِي عمرنا أَو ثَانِي)
وَمن تصانيفه الْبَيَان والزوائد والاحترازات وغرائب الْوَسِيط ومختصر الْإِحْيَاء وَله فِي علم الْكَلَام كتاب الِانْتِصَار فِي الرَّد على الْقَدَرِيَّة
1038 - يعِيش بن صَدَقَة بن عَليّ أَبُو الْقَاسِم الفراتي الضَّرِير
صَاحب أبي الْحسن بن الْخلّ
قَالَ ابْن النجار كَانَ من أَئِمَّة أَصْحَاب الشَّافِعِي وَمن الْعلمَاء العاملين بعلمهم وَمِمَّنْ يقْتَدى بِهِ فِي الزّهْد والورع وَحسن الطَّرِيقَة تفقه على ابْن الْخلّ وَسمع أَبَا الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن عمر بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي وَأَبا الْقَاسِم نصر بن نصر بن العكبري وَأَبا بكر مُحَمَّد(7/338)
ابْن عبيد الله بن نصر بن الزاغواني وَغَيرهم
روى عَنهُ القَاضِي أَبُو المحاسن عمر بن عَليّ الْقرشِي
قَالَ وَتُوفِّي فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
1039 - يُوسُف بن أَيُّوب بن شاذي بن مَرْوَان الدويني الأَصْل التكريتي المولد
ودوين بِضَم الدَّال وَكسر الْوَاو بعْدهَا آخر الْحُرُوف سَاكِنة ثمَّ نون(7/339)
بِطرف أذربيجان من جِهَة أران أَهلهَا أكراد
وَهُوَ السُّلْطَان الْملك النَّاصِر التقى النقي الْعَالم الذكي الْعَادِل الزكي فاتح الْفتُوح بركَة أهل زَمَانه صَلَاح الدّين المظفر ابْن الْأَمِير الْملك الْأَفْضَل نجم الدّين
ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة بتكريت إِذْ أَبوهُ واليها
وَسمع الحَدِيث من الْحَافِظ أبي طَاهِر السلَفِي وَأبي طَاهِر بن عَوْف وَالشَّيْخ قطب الدّين النَّيْسَابُورِي وَعبد الله بن بري النَّحْوِيّ وَجَمَاعَة
روى عَنهُ يُونُس بن مُحَمَّد الفارقي والعماد الْكَاتِب وَغَيرهمَا
وَكَانَ فَقِيها يُقَال إِنَّه كَانَ يحفظ الْقُرْآن والتنبيه فِي الْفِقْه والحماسة فِي الشّعْر
وَملك الْبِلَاد ودانت لَهُ الْعباد وأحبه الْخلق وَنصر الْإِسْلَام وغزا الفرنج وكسرهم مَرَّات وَفتح المدن الْكِبَار وَأقَام فِي السلطنة أَرْبعا وَعشْرين سنة يُجَاهد فِي سَبِيل الله بِنَفسِهِ وَمَاله
وَكَانَ ملكا عَظِيما شجاعا مهيبا عادلا يمْلَأ الْعُيُون روعة والقلوب محبَّة قَرِيبا بَعيدا عابدا قَانِتًا لله لَا تَأْخُذهُ لومة لائم مَجْلِسه يجمع الْفُضَلَاء والفقراء وَأَصْحَابه كَأَنَّمَا هم على قلب رجل وَاحِد محبَّة فِيهِ واعتقادا وطواعية
وَلَقَد صنف فِي سيرته القَاضِي ابْن شَدَّاد كتابا مُسْتقِلّا وصنف ابْن وَاصل كتابا فِي سيرته وسيرة أهل بَيته وصنف أَبُو شامة فِي سيرته وسيرة الْملك نور الدّين وصنف الْعِمَاد الْكَاتِب فِي فتوحاته وصنف آخَرُونَ فِي شَأْنه وَمَا عَسى الَّذِي نورده بعد مَا أَطَالَ هَؤُلَاءِ ثمَّ اعْتَرَفُوا بالقصور وَالتَّقْصِير فِي حق هَذَا السَّيِّد الْكَبِير ولنأت بِمَا فِيهِ مقنع وبلاغ(7/340)
ذكر ابْتِدَاء أمره قبل ملكه
قدم بِهِ أَبوهُ إِلَى دمشق وَهُوَ رَضِيع فناب أَبُو ببعلبك لما أَخذهَا أتابك زنكي فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَقيل إِن أَبَاهُ خرج من تكريت فِي اللَّيْلَة الَّتِي ولد فِيهَا صَلَاح الدّين فتطيروا بِهِ وَقَالَ بَعضهم لَعَلَّ فِيهِ الْخيرَة وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ فَكَانَ كَذَلِك ثمَّ اتَّصل وَالِده نجم الدّين أَيُّوب بِالْملكِ نور الدّين الشَّهِيد فخدمه هُوَ وَولده صَلَاح الدّين هَذَا خدمَة بَالِغَة وَكَانَ أَسد الدّين شيركوه أَخُو نجم الدّين عِنْد نور الدّين قبلهمَا وَكَانَ أرفع عِنْده مِنْهُمَا منزلَة فَإِنَّهُ كَانَ مقدم جيوشه فَلَمَّا تخلخل حَال المصريين الفاطميين وضعفوا عَن مقاواة الفرنج وكادت الفرنج تملك الْقَاهِرَة وملكوا بلبيس وصيروا لَهُم بِالْقَاهِرَةِ شحنة يحكم وَضعف أَمر الْإِسْلَام بديار مصر جدا وَكَانَ الفاطميون قد بلغُوا فِي سوء السِّيرَة إِلَى الْحَد الْمَعْرُوف وَأفْتى عُلَمَاء الْإِسْلَام بِإِبَاحَة دِمَائِهِمْ وَوُجُوب قِتَالهمْ لما هم عَلَيْهِ من الزندقة والإلحاد وَوصل شاور وَزِير العاضد خَليفَة مصر إِلَى دمشق إِلَى نور الدّين يستنجده ثمَّ عَاد إِلَى مصر فَجهز نور الدّين إِلَيْهِم عسكرا أَمر عَلَيْهِم أَسد الدّين شيركوه وجهز مَعَه أَخَاهُ نجم الدّين وَابْن أَخِيه صَلَاح الدّين فدخلو مصر آمِنين وَقتلُوا شاور وَولى شيركوه وزارة الْخَلِيفَة العاضد إِلَى أَن مَاتَ بعد نَيف وَسبعين يَوْمًا فولى بعده صَلَاح الدّين الوزارة وَهِي فِي ذَلِك الْوَقْت كالسلطنة فاستقل بسلطنة مصر ولقب بِالْملكِ النَّاصِر لقبه بذلك الْخَلِيفَة العاضد فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَصَارَ للعاضد مَعَه الِاسْم فَقَط وَصَارَ صَلَاح الدّين هُوَ السُّلْطَان فاستمر إِلَى أول سنة سبع وَسِتِّينَ فَقطع صَلَاح الدّين الْخطْبَة للعاضد وخطب للمستضيء خَليفَة بَغْدَاد واستقل بِالْملكِ وَمَات العاضد وَقبض صَلَاح الدّين على الفاطميين بأسرهم وَاسْتولى على الْقصر وخزائنه وَهِي أَمْوَال لَا تحصى وَلَا تعرف لملك قبل الفاطميين
وَكَانَ صَلَاح الدّين من حِين اتَّصل بِخِدْمَة نور الدّين قد طلق اللَّذَّات وَكَانَ محببا إِلَيْهِ(7/341)
خَفِيفا على قلبه وَلما افْتتح مَعَ عَمه مصر ثمَّ اسْتَقل بالوزارة عظمت سطوته واتفقت لَهُ وقْعَة مَعَ السودَان سنة بضع وَسِتِّينَ وَكَانُوا نَحْو مئتي ألف فنصر عَلَيْهِم وَقتل أَكْثَرهم وهرب الْبَاقُونَ وابنتي سور مصر والقاهرة على يَد قراقوش واستفحل أمره جدا إِلَى أَن أباد بَيت الفاطميين وأهان الرَّفْض وَغَيرهم من بدع المبتدعين
ذكر يسير من أخباره بعد استقلاله بالسلطنة وَمَوْت العاضد
وَقد كَانَ لما قبض على الفاطميين أَخذ فِي نصْرَة السّنة وإشاعة الْحق وإهانة المبتدعة وَالْقَبْض على الفاطمية والانتقام من الروافض وَكَانُوا بِمصْر كثيرين ثمَّ تجردت همته إِلَى الفرنج وغزوهم وَكَانَ من أمره مَعَهم مَا ضَاقَتْ بِهِ التواريخ وَكَانَ من أول فتوحاته برقة ونفوسة افتتحها على يَد أَخِيه شمس الدولة فِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ ثمَّ فِي سنة تسع افْتتح الْيمن وَقبض على المتغلب عَلَيْهَا عبد النَّبِي بن مهْدي ثمَّ فِي سنة سبعين سَار من مصر إِلَى دمشق بعد وَفَاة نور الدّين مظْهرا أَنه يُقيم نَفسه أتابكا لولد نور الدّين لكَونه صَبيا فَدَخلَهَا يلاطفه وَنزل بِالْبَلَدِ بدار أَبِيه الْمَعْرُوفَة بدار العقيقي الَّتِي هِيَ الْيَوْم الْمدرسَة الظَّاهِرِيَّة ثمَّ تسلم القلعة وَصعد إِلَيْهَا وَأخرج الصَّبِي من الْملك وَصَارَ هُوَ سُلْطَان مصر وَالشَّام واليمن والحجاز ثمَّ سَار قَاصِدا حماة وحمص وَلم يشْتَغل بِأخذ قلعتها(7/342)
ثمَّ نَازل حلب وَهِي الْوَقْعَة الأولى وفيهَا سير السُّلْطَان غَازِي بن مودود أَخَاهُ عز الدّين مسعودا فِي جَيش كَبِير لحربه وَكَانَ بهَا ولد نور الدّين فترحل عَن حلب وَنزل على قلعة حمص فَأَخذهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِك يظْهر حسن الْمَقَاصِد وَأَنه قَاصد إعزاز الدّين وإنقاد الْبِلَاد من الفرنج وتسهيل أُمُور الْمُسلمين
وَجَاء عز الدّين مَسْعُود فَأخذ مَعَه عَسْكَر حلب وَصَارَ إِلَى قُرُون حماة وَأخذ صَلَاح الدّين يراسلهم دواما للصلح كَيْلا يَقع سيف بَين الْمُسلمين وهم يراسلونه وَهُوَ يظنون أَنه يطْلب الصُّلْح لضَعْفه عَنْهُم وهم لَا يعْرفُونَ مَا عَلَيْهِ الرجل من حسن النِّيَّة وحقق عِنْدهم مَا ظنوه كَثْرَة عساكرهم وَقلة من كَانَ مَعَ صَلَاح الدّين من الْعَسْكَر فِي ذَلِك الْوَقْت فَلَمَّا أَبَوا إِلَّا المشاجرة معتقدين أَن المصاف مَعَهم يحصل غرضهم وأعجبتهم كثرتهم لاقاهم صَلَاح الدّين فَكَانَت الْهَزِيمَة عَلَيْهِم وَأسر صَلَاح الدّين مِنْهُم خلقا ثمَّ سَاق وَرَاءَهُمْ وَنزل على حلب ثَانِيًا فَصَالَحُوهُ وَأَعْطوهُ المعرة وَكفر طَابَ وبارين
وَجَاء صَاحب الْموصل غَازِي فحاصر أَخَاهُ عماد الدّين زنكي صَاحب سنجار لكَونه انْتَمَى إِلَى صَلَاح الدّين ثمَّ صَالحه لما بلغ غَازِي كسر أَخِيه مَسْعُود وَنزل بنصيبين وَجمع العساكر وَأنْفق الْأَمْوَال وَعبر الْفُرَات وَقدم حلب فَخرج إِلَى تلقيه ابْن عَمه الصَّالح إِسْمَاعِيل بن نور الدّين وَأقَام على حلب مُدَّة
ثمَّ كَانَت وقْعَة تل السُّلْطَان وَهِي منزلَة بَين حلب وحماة جرت بَين صَلَاح الدّين وَصَاحب الْموصل فِي سنة إِحْدَى وَسبعين فنصر صَلَاح الدّين وَرجع غَازِي وعدي الْفُرَات بَعْدَمَا استأصل صَلَاح الدّين كثيرا من خيامه وأمواله وفرقها فِي جماعته ثمَّ سَار(7/343)
(وَإِن نثر ... خلت الحبر)
(نهى أَمر ... صم الْبشر)
(كف الْغَيْر ... فكم أسر)
(علجا كفر ... فَلَا مقرّ)
(إِلَّا سقر ... ذَات الشرر)
(ملك بهر ... إِذا اعتكر)
(ليل الْغرَر ... أَو انهمر)
(دم همر ... سَاءَ وسر)
(نفعا وضر ... خيرا وَشر)
(كم اعْتبر ... مِنْهُ النّظر)
(فضل السّير ... إِذا ظهر)
(قَالَ الْبشر ... كم لعمر)
(يَوْم ... أغر)
وَقد قيل أول من أبدع هَذَا الْمَعْنى فنظم قصيدة على حرف وَاحِد أَبُو النَّجْم حَيْثُ يَقُول(7/344)
صَلَاح الدّين فتسلم منبح وحاصر قلعة أعزاز ثمَّ نَازل حلب ثَالِثا وَأقَام عَلَيْهَا مُدَّة فأخرجوا ابْنة صَغِيرَة لنُور الدّين إِلَى صَلَاح الدّين فَسَأَلته أعزاز فَوَهَبَهَا لَهَا ثمَّ عَاد إِلَى الديار المصرية واستناب بِدِمَشْق أَخَاهُ شمس الدولة تورانشاه وَكَانَ قد عَاد من الْيمن وَكَانَت هَذِه السفرة مِنْهُ إِلَى الشَّام مِمَّا نقم عَلَيْهِ ظَاهرا للإساءة فِيهَا إِلَى ولد نور الدّين وَهُوَ ابْن مخدومه الَّذِي انشأه وَأحسن إِلَيْهِ وقيامه على بَيت الْملك والعز قبله وهما صَاحب الْموصل وَأَخُوهُ غير أَن الْحَال بِالآخِرَة تبين أَن الله تَعَالَى قد أَرَادَ إعزاز دينه على يَد هَذَا الرجل وَأَنه لَا يتم للْمُسلمين أَمر بِدُونِ سُلْطَان قاهر قَادر على استئصال شأفة الفرنج فِي ذَلِك الْوَقْت يجْتَمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ وَلَا تتفرق عَنهُ كلمتهم وَيكون هُوَ فِي نَفسه جَدِيرًا بذلك وأبى الله أَن يكون فِي ذَلِك الْعَصْر إِلَّا صَلَاح الدّين
فَلَمَّا وصل إِلَى الْقَاهِرَة عَائِدًا من الشَّام بعد مَا فعل مَا رَأَيْت مجمله دون مفصله وَفِي تفاصيله شرح كَبِير أحلناك على كتبه خرج إِلَى الفرنج فِي سنة ثَلَاث والتقاهم على الرملة فانكسر الْمُسلمُونَ يَوْمئِذٍ وَثَبت صَلَاح الدّين وتحيز بِمن مَعَه ثمَّ دخل إِلَى مصر وَلم شعث الْعَسْكَر ثمَّ عَاد إِلَى الشَّام وَملك حلب وَغَيرهَا من الْبِلَاد وعظمت الشَّوْكَة ثمَّ توجه لمحاصرة الفرنج بالكرك وَجَاء أَخُوهُ الْعَادِل من مصر وَكَانَ قد استنابه عَلَيْهَا فسير صَلَاح الدّين تَقِيّ الدّين عمر ابْن أَخِيه ليحفظ مصر وَأعْطى أَخَاهُ الْعَادِل حلب بعد أَن كَانَ بهَا وَلَده الظَّاهِر بن صَلَاح الدّين وَقدم الظَّاهِر من حلب ثمَّ أعَاد الْعَادِل إِلَى مصر وَالظَّاهِر إِلَى حلب ثمَّ نزل على الْموصل وترددت الرُّسُل بَينه وَبَين صَاحبهَا عز الدّين ثمَّ مرض صَلَاح الدّين فَرجع إِلَى حران وَاشْتَدَّ مَرضه بِحَيْثُ أيسوا مِنْهُ وحلفوا لأولاده(7/344)
بإمرة وَالله يُرِيد حَيَاته ليتم إعزاز دينه فَعُوفِيَ وَمر بحمص وَقد مَاتَ بهَا ابْن عَمه مُحَمَّد بن شيركوه فأقطعها لوَلَده شيركوه ثمَّ استعرض التَّرِكَة فَأخذ أَكْثَرهَا وَكَانَ عمر شيركوه اثْنَتَيْ عشرَة سنة ثمَّ إِن شيركوه هَذَا الشَّاب حضر بعد سنة عِنْد صَلَاح الدّين فَقَالَ لَهُ أَيْن بلغت فِي الْقُرْآن فَقَالَ إِلَى قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا} فَعجب الْحَاضِرُونَ من ذكائه وَقيل إِن صَلَاح الدّين إِنَّمَا أَخذ الْأَمْوَال ليحفظها لهَذَا الشَّاب
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ افْتتح صَلَاح الدّين بِلَاد الفرنج وَأسر مُلُوكهمْ وكسرهم على حطين وتوالت عَلَيْهِ الفتوحات وأنقذ الْبَيْت الْمُقَدّس مِنْهُم وافتتحه وأعز الدّين
وَمِمَّا اقتلعه من يَد الفرنج طبرية وَقتل وَأسر فِي ذَلِك الْيَوْم أَكثر من أَرْبَعِينَ ألفا وتسلم قلعتها وأحضر إِلَيْهِ صَلِيب الصلبوب وَضرب بَين يَدَيْهِ فِي مخيمه أَعْنَاق مِائَتي فَارس من عُظَمَاء الفرنج
ثمَّ افْتتح مَدِينَة عكا وَكَانَت من أعظم حصونهم وَأكْثر مدنهم وَأقَام بهَا الْخطْبَة الإسلامية ثمَّ افْتتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَغَيره وأخلى مَا بَين الشَّام ومصر من الفرنج وَهَذَا عداد مَا يحضرنا من فتوحاته من أَيدي الفرنج قلعة أَيْلَة
طبرية
عكا
الْقُدس
الْخَلِيل
الكرك
الشوبك
نابلس
عسقلان
بيروت
صيدا
غَزَّة
لد
حيفا
صفورية
الفولة
معليا
الطّور
إسكندرونة
قلنسوة
يافا
أرسوف
قيسارية
جبلة
يَبْنِي(7/345)
صرفند
عفربلاد
اللجون
نجدقاقون
مجدل
يابا
تل الصافية
بَيت نوبا
النطرون
الجيب
البيرة
بَيت لحم
ديخاوزاوا
حصن الدَّيْر
دمرا
قلقيلية
هريث
الزيب
الوعيرة
الهرمز
بعلب
العازرية
نقوع
الكرمل
مجدل
الطار
الْمعبر فِي جبل عاملة
والشقيف
سبسطية
وَيُقَال بهَا قبر زَكَرِيَّا
وجبيل
وكوكب
وأنطرطوس
واللاذقية
وبكسرائيل
وصهيون
وحبلة(7/346)
وقلعة الْعِيد
وقلعة الجماهرية
وبلاطنس
والشغر
وبكاس
وسرمانية
وبرزية
ودربساك
وبغراس
وَكَانَا كالجناحين لأنطاكية ومدينة صفد
وكل هَذِه مَدَائِن منيعة وأكثرها الْيَوْم قرى كبار وَمِنْهَا مَدَائِن كَثِيرَة بَاقِيَة إِلَى الْآن
ونازل صور مُدَّة وَلم يقدر لَهُ فتحهَا وَله مصافات يطول شرحها وافتتح كثيرا من بِلَاد النّوبَة من يَد النَّصَارَى
وَمن تَأمل الرسائل الْفَاضِلِيَّةِ رأى الْعجب من تأثيرات هَذِه الرجل فِي الْإِسْلَام وَمن شدَّة بأسه وشجاعته
وَكَانَت مَمْلَكَته من الغرب إِلَى تخوم الْعرَاق وَمَعَهَا الْيمن والحجاز فَملك ديار مصر بأسرها مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَيْهَا من بِلَاد الْمغرب وَالشَّام بأسرها مَعَ حلب وَمَا والاها وَأكْثر ديار ربيعَة وَبكر والحجاز بأسره واليمن بأسره وَنشر الْعدْل فِي الرّعية وَحكم بِالْقِسْطِ بَين الْبَريَّة مَعَ الدّين المتين والورع والزهد وَالْعلم كَانَ يحفظ الْقُرْآن والتنبيه والحماسة
قَالَ الْمُوفق عبد اللَّطِيف رَأَيْت السُّلْطَان صَلَاح الدّين على الْقُدس فَرَأَيْت ملكا عَظِيما يمْلَأ الْقُلُوب روعة والعيون محبَّة قَرِيبا وبعيدا سهلا محببا وَأَصْحَابه يتشبهون بِهِ يتسابقون إِلَى الْمَعْرُوف كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل} وَأول لَيْلَة(7/347)
حَضرته وجدت مَجْلِسا حفلا بِأَهْل الْعلم يتذاكرون فِي أَصْنَاف الْعُلُوم وَهُوَ يحسن الِاسْتِمَاع والمشاركة وَيَأْخُذ فِي كَيْفيَّة بِنَاء الأسوار وحفر الْخَنَادِق ويتفقه فِي ذَلِك وَكَانَ مهتما فِي بِنَاء سور الْقُدس وحفر خندقه يتَوَلَّى ذَلِك بِنَفسِهِ وينقل الْحِجَارَة على عَاتِقه ويتأسى بِهِ جَمِيع الْأَغْنِيَاء والفقراء فيركب لذَلِك قبل طُلُوع الشَّمْس إِلَى وَقت الظّهْر وَيَأْتِي دَاره فيمد السماط ثمَّ يستريح ويركب الْعَصْر وَيرجع فِي ضوء المشاعل وَيصرف أَكثر اللَّيْل فِي تَدْبِير مَا يعمله نَهَارا وَكَانَ يحفظ الحماسة ويظن أَن كل فَقِيه يحفظها انْتهى مُخْتَصرا
وَقد وَثَبت عَلَيْهِ الإسماعيلية مرّة فجرحوه وَسلمهُ الله وَهُوَ الَّذِي ابتنى قلعة الْقَاهِرَة على جبل المقطم
وَفتح من بِلَاد الْمُسلمين حران وسروج والرها والرقة والبيرة وسنجار ونصيبين وآمد وَملك حلب والبوازيج وشهرزور وحاصر الْموصل إِلَى أَن هادنه صَاحبهَا عز الدّين مَسْعُود وَدخل فِي طَاعَته وَكَانَت هَذِه عَادَته إِذا دخل أحد فِي طَاعَته لَا يُقَابله إِلَّا بِالْإِحْسَانِ
وَفتح أَيْضا من بِلَاد الشرق خلاط على يَد ابْن عَمه تَقِيّ الدّين فَهَذَا مَا افتتحه من بِلَاد الشرق
وَاسْتولى أَيْضا على طَائِفَة وَفتح عسكره مَدِينَة طرابلس الغرب وَكسر عَسْكَر تونس وخطب بهَا لبني الْعَبَّاس وافتتح بِلَاد الْيمن قيل وَلَو لم يَقع الْخلف بَين عسكره الَّذين جهزهم إِلَى الغرب لملك الغرب بأسره
وَلم يخْتَلف عَلَيْهِ مَعَ طول مدَّته أحد عسكره على كثرتهم
وَكَانَ النَّاس يأمنون ظلمه لعدله ويرجون رفده لكثرته
وَلم يكن لمبطل وَلَا لصَاحب هزل عِنْده نصيب
وَكَانَ إِذا قَالَ صدق وإِذا وعد وفى وَإِذا عَاهَدَ لم يخن وَإِذا نَازل بَلَدا وأشرف على أَخذه ثمَّ يطْلب أَهله الْأمان يؤمنهم وَكَانَ جَيْشه يتألمون لذَلِك لفَوَات حظهم وَلَا يسعهم إِلَّا وفاقه وامتثال أمره(7/348)
وَكَانَ رَقِيق الْقلب جدا وَرُبمَا حلق على مَدِينَة وأحاط بهَا فَسمع بكاء الْحَرِيم فَتَركهَا وَإِنَّمَا يفعل ذَلِك مَعَ الْمُسلمين
فَمن كتاب فاضلي فِي فتوح حمص لما أحدقت العساكر المنصورة بالسور العاصم إحداق السوار بالمعاصم وطارت السِّهَام إِلَى أوكارها من الضلوع وَبَرقَتْ الأسنة وَكَأَنَّهَا زبد بحار الدُّمُوع حصحص الْحق واتسع الْخرق وَعلم أَن مَا أَرَادَهُ الْخَالِق لَا يردهُ الْخلق فارتفع الضجيج وَعلا تَحت العجاج العجيج وأدركتنا رقة رفضت من أَيْدِينَا الرقَاق وخشية عنت لنا أَعِنَّة الْفُسَّاق فرفعنا على الأسوار أعلاما منشورة بالكف والإمساك مأمورة وَوضعت الْحَرْب أَوزَارهَا وحلت الأمنة أزرارها وشفعنا الْوُجُوه المستورة بالخفر من نسوانها فِي الْوُجُوه المكشوفة بالمعصية من فرسانها
وَرُبمَا حاصر قوما وَلم يمْنَع الْميرَة عَنْهُم وَجرى مَعَهم على كذبهمْ ليأخذهم بالسهولة ثمَّ يتَبَيَّن لَهُ غدرهم وكذبهم وَهُوَ مَعَ ذَلِك يحلم عَنْهُم ويراعي مصلحَة الدّين كَمَا اتّفق لَهُ فِي حمص وَقد افْتتح الْمَدِينَة وعصت عَلَيْهِ القلعة وَلم يمْنَع الْميرَة عَن أَهلهَا ثمَّ لما تبين لَهُ حَالهم لم يُبَادر إِلَى الْهدم مَعَ مَا فِيهِ من سرعَة نصرته خشيَة على القلعة لكَونهَا من حصون الْمُسلمين وطاول بهم الْأَمر إِلَى أَن تيَسّر لَهُ فتحهَا
فَمن كتاب فاضلي عَن السُّلْطَان وَهُوَ محاصر قلعة حمص وَقد بلغه أَن أَهلهَا استنجدوا عَلَيْهِ بالفرنج وأمرنا فِي القلعة بِأَن لَا يضيق لَهَا خناق وَلَا يضعف لأَهْلهَا أرماق وَلَا يمْنَع البيع وَالشِّرَاء والانتقال وَيفتح لَهَا مَا لَا يفسح فِيهِ من يُرِيد تثقيل وَطْأَة الْحصار وَكَانَ من استدعائهم الفرنج مَا كَانَ وَهَان بِفضل الله تَعَالَى من أَمرهم ماهان
ثمَّ أَخذ يصف القلعة الْمشَار إِلَيْهَا بِكَوْنِهَا نجما فِي سَحَاب وعقابا فِي عِقَاب(7/349)
وَهَامة لَهَا الغمامة عِمَامَة وأنملة إِذا خضبها الْأَصِيل كَانَ الْهلَال مِنْهَا قلامة عاقدة حبوة صالحها الدَّهْر على أَن لَا يحلهَا بفزعه عاقدة عصمَة صافحها الزَّمن على أَن لَا يروعها بخلعة فاكتنفت بهَا عقارب لَا تطبع طبع حمص فِي العقارب وضربتها بِالْحِجَارَةِ فأظهرت الْعَدَاوَة الْمَعْلُومَة بَين الْأَقَارِب وَلم تكن غير ثالثه من الْجد إِلَّا وَقد أثرت فِيهَا جدريا بضربها وَلم نصل إِلَى السَّابِع إِلَّا وَالْبَحْر أَتَى ينذر بنقبها واتسع الْخرق على الراقع وَسقط سعدها عَن الطالع إِلَى مولد من هُوَ إِلَيْهَا طالع وَفتحت الأبراج فَكَانَت أبوابا(7/350)
وسيرت الْجبَال مِنْهَا فَكَانَت سرابا فهنالك بَدَت نقوب
(يرى قَائِم من دونهَا مَا وَرَاءَهَا ... )
وَمن الْكتب والمراسيم عَنهُ
كتب فِي النَّهْي عَن الْخَوْض فِي الْحَرْف وَالصَّوْت {لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض} الْآيَة خرج أمرنَا إِلَى كل قَائِم فِي صف أَو قَاعد فِي أَمَام وَخلف أَن لَا يتَكَلَّم فِي الْحَرْف بِصَوْت وَلَا فِي الصَّوْت بِحرف وَمن يتَكَلَّم بعْدهَا كَانَ الجدير بالتكليم {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم}
وَسَأَلَ النواب الْقَبْض على مخالفي هَذَا الْخطاب وَبسط الْعَذَاب وَلَا يسمع لمتفقه فِي ذَلِك تَحْرِير جَوَاب وَلَا يقبل عَن هَذَا الذَّنب متاب وَمن رَجَعَ إِلَى هَذَا الْإِيرَاد بعد الإعلان وَلَيْسَ الْخَبَر كالعيان(7/351)
رَجَعَ أخسر من صَفْقَة أبي غشبان وليعلن بِقِرَاءَة هَذَا الْأَمر على المنابر ليعلم بِهِ الْحَاضِر البادي وَيَسْتَوِي فِيهِ البادي الْحَاضِر وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل
قلت لَا أَشك أَن هَذَا الْفَصْل من كَلَام القَاضِي الْفَاضِل
وَهَذِه وقائع شَتَّى
من ابْتِدَاء دُخُوله إِلَى مصر قبل أَن يتسلطن وإِلَى أَن اسْتَأْثر الله بِرُوحِهِ الطاهرة مختصرة مُقْتَصرا فِيهَا على عُيُون الْأَخْبَار
فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة كَانَ مسير أَسد الدّين شركوه عَم السُّلْطَان صَلَاح الدّين إِلَى مصر الْمسير الثَّالِث
وَذَلِكَ أَن الفرنج قصدت الديار المصرية فِي جموع كَثِيرَة وَكَانَ الْملك نور الدّين من جِهَة الشمَال ونواحي الْعرَاق فطلعوا من عسقلان وَأتوا إِلَى بلبيس فحاصروها وملكوها واستباحوها ثمَّ نزلُوا على الْقَاهِرَة فحاصروها فَأحرق شاور مصر خوفًا من الفرنج وَبقيت النَّار فِيهَا أَرْبَعَة وَخمسين يَوْمًا فَلَمَّا ضايقوا الْقَاهِرَة وَضعف الْمُسلمُونَ عَنْهُم بعث إِلَى ملكهم يطْلب الصُّلْح على ألف ألف دِينَار يعجل لَهُ بَعْضهَا فَأَجَابَهُ ملك الفرنج واسْمه مري إِلَى ذَلِك وَحلف لَهُ فَحمل إِلَيْهِ شاور مائَة ألف دِينَار وماطله بِالْبَاقِي وَكَاتب فِي ذَلِك الْملك الْعَادِل نور الدّين يستنجد بِهِ وسود كِتَابه وَجعل فِي طيه ذوائب النِّسَاء وواصل كتبه يستحثه وَكَانَ بحلب فساق أَسد الدّين من حمص إِلَى حلب فِي لَيْلَة
قَالَ القَاضِي بهاء الدّين ابْن شَدَّاد قَالَ لي السُّلْطَان صَلَاح الدّين كنت أكره النَّاس لِلْخُرُوجِ إِلَى مصر هَذِه الْمرة وَهَذَا معنى قَوْله {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم}(7/352)
وَقَالَ ابْن الْأَثِير إِن صَلَاح الدّين قَالَ لما وَردت الْكتب من مصر إِلَى نور الدّين أحضرني وأعلمني الْحَال وَقَالَ تمْضِي إِلَى عمك أَسد الدّين بحمص مَعَ رَسُول إِلَيْهِ تحثونه على الْحُضُور فَفعلت فَلَمَّا سرنا عَن حلب ميلًا لقيناه قادما فَقَالَ لَهُ نور الدّين تجهز فَامْتنعَ للخوف من غدرهم أَولا وَعدم مَا يُنْفِقهُ فِي العساكر آخرا فَأعْطَاهُ نور الدّين الْأَمْوَال وَالرِّجَال وَقَالَ لَهُ إِن تَأَخَّرت عَن مصر سرت أَنا بنفسي فَإِنَّهَا إِن ملكهَا الفرنج لَا يبْقى مَعَهم بِالشَّام مقَام فَالْتَفت إِلَى عمي وَقَالَ تجهز يَا يُوسُف
فَكَأَنَّمَا ضرب قلبِي بسكين فَقلت وَالله لَو أَعْطَيْت ملك مصر مَا سرت إِلَيْهَا فَلَقَد قاسيت بالإسكندرية من المشاق مَالا أنساه
فَقَالَ عمي لنُور الدّين لَا بُد من مسيره معي وارسم لَهُ فَأمرنِي نور الدّين وَأَنا أستقيله
فانفض الْمجْلس
ثمَّ قَالَ نور الدّين لَا بُد من مسيرك مَعَ عمك فشكوت الضائقة فَأَعْطَانِي مَا تجهزت بِهِ وكأنما أساق إِلَى الْمَوْت
وَكَانَ نور الدّين رجلا مهيبا فسرت مَعَ عمي فَلَمَّا توفّي أَعْطَانِي الله من الْملك مَا لَا كنت أتوقعه انْتهى
فَجمع أَسد الدّين الجيوش وَسَار إِلَى دمشق وَعرض بهَا الْجَيْش وَتوجه إِلَى مصر فِي جَيش عَرَمْرَم فَقيل كَانُوا سبعين ألف فَارس وراجل فتقهقر الفرنج لمجيئه وَدخل الْقَاهِرَة فِي سَابِع ربيع الآخر وَجلسَ فِي الدست وخلع عَلَيْهِ العاضد خلع السلطنة وولاه وزارته وَقَامَ شاور بضيافته عسكره وَتردد إِلَى خدمته فَطلب مِنْهُ أَسد الدّين مَالا يُنْفِقهُ على جَيْشه فماطله فَبعث إِلَيْهِ الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى بن مُحَمَّد الهكاري يَقُول إِن الْجَيْش طلبُوا نَفَقَتهم وَقد مَا ظلتهم بهَا وَقد تَغَيَّرت قُلُوبهم فَإِذا أتيتني فَكُن على حذر مِنْهُم(7/353)
فَلم يُؤثر هَذَا عِنْد شاور وَركب على عَادَته وأتى أَسد الدّين مسترسلا وَقيل إِنَّه تمارض فجَاء شاور يعودهُ فاعترضه صَلَاح الدّين وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء النورية فقبضوا عَلَيْهِ فَجَاءَهُمْ رَسُول العاضد يطْلب رَأس شاور فذبح وَحمل إِلَيْهِ فِي سَابِع عشر ربيع الآخر ثمَّ لم يلبث أَسد الدّين أَن حَضرته الْمنية بعد خَمْسَة وَسِتِّينَ يَوْمًا فقلد العاضد السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين بن يُوسُف السلطنة ولقب الْملك النَّاصِر وَكتب بتقليده القَاضِي الْفَاضِل بعد مَا كَانَ وَقع خلف كَبِير عِنْد الْفَرَاغ من عزاء أَسد الدّين فِيمَن يكون سُلْطَانا ثمَّ اتّفقت كلمة الْأُمَرَاء النورية على صَلَاح الدّين قَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب وألزموا صَاحب الْقصر يَعْنِي العاضد بتوليته
وَقَالَ القَاضِي كَانَت الْوَصِيَّة إِلَى صَلَاح الدّين من عَمه فَلبس خلعة السلطنة بِالْقصرِ بَين يَدي العاضد وَقبل يَده وَجَاء إِلَى دَار الوزارة وَإِن شِئْت قلت دَار السلطنة فَإِن الوزارة عِنْد الفاطميين هِيَ السلطنة اسْما وَمعنى وَجلسَ فِي دست الْملك وَشرع فِي تركيب السلطنة وترتيبها فَأول مَا دهمه أَمر الْخَادِم الْخصي الَّذِي كَانَ يلقب مؤتمن الْخلَافَة فَإِنَّهُ شقّ الْعَصَا بَاطِنا وائتمر وتنمر وانضمت إِلَيْهِ طوائف من أَخبث الروافض وكاتبوا الفرنج خُفْيَة فاتفق أَن تركمانيا عبر بالبئر الْبَيْضَاء فَرَأى نَعْلَيْنِ جديدين مَعَ إِنْسَان فَأَخذهُمَا وَجَاء بهما إِلَى صَلَاح الدّين فَوجدَ فِي البطانة خرقَة مَكْتُوب فِيهَا إِلَى الفرنج من الْقصر فَقَالَ دلوني على كَاتب هَذَا الْخط فَدلَّ على يَهُودِيّ(7/354)
فَلَمَّا حضر تلفظ بِالشَّهَادَتَيْنِ واعترف أَنه كتب ذَلِك بِأَمْر الطواشي الْمشَار إِلَيْهِ واستشعر الطواشي الْخَبَر فَلَزِمَ الْقصر وَأعْرض عَنهُ صَلَاح الدّين إِلَى أَن خرج إِلَى قَرْيَة لَهُ فأنهض لَهُ السُّلْطَان صَلَاح الدّين من أَخذ رَأسه فِي ذِي الْقعدَة وَقرر مَكَانَهُ بهاء الدّين قراقوش فَصَارَ مَخْتُومًا على الْقصر لَا يدْخل الْقصر شَيْء وَيخرج إِلَّا بمرأى مِنْهُ ومسمع
فَلَمَّا قتل الْخَادِم غَار السودَان وثاروا وَكَانُوا أَكثر من خمسين ألف مقاتلة وَقد قدمنَا أَنهم كَانُوا نَحْو مائَة ألف وكل قَالَه المؤرخون وَلَعَلَّ الْجمع بَينهمَا أَن الْخمسين ألفا كَانُوا مقاتلة فُرْسَانًا وَالْبَاقُونَ كَانُوا رجالة لَا يضمهم ديوَان وَأَقْبلُوا كَقطع اللَّيْل المظلم فَخرج إِلَيْهِم من عَسْكَر صَلَاح الدّين الْأَمِير أَبُو الهيجاء واتصل الْحَرْب بَين القصرين ودأب الْحَرْب بَينهم يَوْمَيْنِ ثمَّ كَانَت الدائرة على السودَان وأخرجوا إِلَى الجيزة وَكَانَت لَهُم محلّة تسمى المنصورة فخربت وَحرقت ثمَّ بلغ نور الدّين نبأ هَذِه الْأَخْبَار الطّيبَة فانشرح صَدره وأمد صَلَاح الدّين بأَخيه شمس الدولة تورانشاه
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
وفيهَا نزل الفرنج على دمياط فِي صفر وحاصروها أحدا وَخمسين يَوْمًا ثمَّ رحلوا خائبين لِأَن نور الدّين وَصَلَاح الدّين أجلبا عَلَيْهِم برا وبحرا وَأنْفق صَلَاح الدّين أَمْوَالًا كَثِيرَة وَقَالَ مَا رَأَيْت أكْرم من العاضد أرسل لي مُدَّة مقَام الفرنج على دمياط ألف ألف دِينَار مصرية سوى الثِّيَاب وَغَيرهَا
وفيهَا دخل نجم الدّين أَيُّوب أَبُو صَلَاح الدّين مصر فَخرج العاضد بِنَفسِهِ إِلَى لِقَائِه وتأدب ابْنه صَلَاح الدّين مَعَه وَعرض عَلَيْهِ منصبه(7/355)
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
وفيهَا عمل صَلَاح الدّين بِمصْر مدرستين للشَّافِعِيَّة والمالكية وَخرج بجيوشه فَأَغَارَ على الرملة وعسقلان وهجم على ربض غَزَّة وَرجع إِلَى مصر وجهز بعض جنده إِلَى قلعة أَيْلَة فغزوها فِي المراكب وافتتحوها واستباحوا الفرنج فِيهَا قتلا وسبيا وَكَانَ فتح هَذِه القلعة واستعادتها من الفرنج أعظم النعم على الْمُسلمين فَإِنَّهَا كَانَت قلعة منيعة وَكَانَت الفرنج قد اتَّخَذُوهَا هِيَ والكرك سَبِيلا إِلَى الْإِحَاطَة بالحرمين الشريفين فَقدر الله فتحهما على يَد هَذَا السُّلْطَان رَحمَه الله
وَمن كتاب فاضلي من السُّلْطَان إِلَى الْخَلِيفَة يعدد فِيهِ مَا للسُّلْطَان من الفتوحات وَمن جِهَاد الفرنج وَمِنْهَا قلعة بثغر أَيْلَة بناها الْعَدو فِي الْبَحْر وَمِنْهَا المسلك إِلَى الْحَرَمَيْنِ الشريفين بِحَيْثُ كَادَت الْقبْلَة يستولي على أَصْلهَا والمشاعر يسكنهَا غير أَهلهَا ومضجع الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَطَرَّق إِلَيْهِ الْكفَّار
فِي كَلِمَات قَالَهَا
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
فَاسْتَفْتَحَ السُّلْطَان الْخطْبَة فِي الْجُمُعَة الأولى مِنْهَا بِجَامِع مصر لبني الْعَبَّاس وأقيمت الْخطْبَة العباسية فِي الْجُمُعَة الثَّانِيَة بِالْقَاهِرَةِ وأعقب ذَلِك موت العاضد فِي يَوْم عَاشُورَاء بِالْقصرِ وَجلسَ السُّلْطَان للعزاء وَأغْرب فِي الْحزن والبكاء وانقرضت دولة الفاطميين وَكَانَ لَهَا أَكثر من مِائَتي سنة وتسلم السُّلْطَان الْقصر بِمَا فِيهِ من خزائنه وذخائره واحتاط على آل الْقصر فجعلهم فِي مَكَان برسمهم وقررت لَهُم المؤونة وجمعت رِجَالهمْ وَاحْترز عَلَيْهِم وَمنعُوا من النِّسَاء لِئَلَّا يتناسلوا وَذكر المؤرخون من نفائس الْقصر وذخائره مَالا نطيل بِذكرِهِ وانتقل الْملك الْعَادِل سيف الدّين أَبُو بكر إِلَى الْقصر بمرسوم أَخِيه فاستقر فِي نِيَابَة السُّلْطَان وكتبت الْكتب إِلَى بَغْدَاد بالبشارة وَأعَاد الْجَواب والخلعة الفائقة العباسية إِلَى السُّلْطَان صَلَاح الدّين(7/356)
وفيهَا قَالَ ابْن الْأَثِير حدث مَا أوجب نفرة نور الدّين عَن صَلَاح الدّين وَذَلِكَ أَن نور الدّين أرسل إِلَيْهِ يَأْمر بِجمع الْجَيْش والمسير لمنازلة الكرك ليجيء هُوَ بجيشه ويحاصرانها فَكتب إِلَى نور الدّين يعرفهُ أَنه قادم فَرَحل على قصد الكرك وأتاها وانتظر وُصُوله فَأَتَاهُ كِتَابه يعْتَذر باختلال الْبِلَاد فَلم يقبل عذره وَكَانَ خَواص صَلَاح الدّين خوفوه من الِاجْتِمَاع بِهِ وهم نور الدّين بِالدُّخُولِ إِلَى مصر وَإِخْرَاج صَلَاح الدّين عَنْهَا فَبلغ ذَلِك صَلَاح الدّين فَجمع أَهله وأباه وخاله الْأَمِير شهَاب الدّين الحارمي وَسَائِر الْأُمَرَاء وأطلعهم على نِيَّة نور الدّين واستشارهم فَسَكَتُوا فَقَالَ ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين عمر إِذا جَاءَ قَاتَلْنَاهُ وَوَافَقَهُ غَيره من أَهله فشتمهم نجم الدّين أَيُّوب واحتد وَكَانَ ذَا رَأْي ومكر وَقَالَ لتقي الدّين اسْكُتْ وزبره وَقَالَ لصلاح الدّين أَنا أَبوك وَهَذَا خَالك أتظن أَن فِي هَؤُلَاءِ من يُرِيد لَك الْخَيْر مثلنَا فَقَالَ لَا فَقَالَ وَالله لَو رَأَيْت أَنا وَهَذَا نور الدّين لم يمكنا إِلَّا أَن ننزل ونقبل الأَرْض وَلَو أمرنَا بِضَرْب عُنُقك لفعلنَا فَمَا ظَنك بغيرنا فَكل من ترَاهُ من الْأُمَرَاء لَو رأى نور الدّين لما وَسعه إِلَّا التَّرَجُّل وَهَذِه الْبِلَاد لَهُ وَإِن أَرَادَ عزلك فَأَي حَاجَة لَهُ إِلَى الْمَجِيء بل يطلبك بِكِتَاب
وَتَفَرَّقُوا وَكتب أَكثر الْأُمَرَاء لنُور الدّين بمأتم وَلما خلا بولده قَالَ أَنْت جَاهِل تجمع هَذَا الْجمع وتطلعهم على سرك وَلَو قصدك نور الدّين لم تَرَ أحدا مِنْهُم ثمَّ كتب إِلَى نور الدّين بِإِشَارَة وَالِده نجم الدّين يخضع لَهُ ففتر عَنهُ(7/357)
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
فَأرْسل السُّلْطَان فِيهَا قراقوش مَمْلُوك ولد أَخِيه تَقِيّ الدّين عمر إِلَى جبال نفوسه وَمَعَهُ طَائِفَة من الأتراك فَلَمَّا وصل إِلَى الْجبَال استصحب مَعَه مِنْهَا بعض الْمُتَقَدِّمين وَنزل على طرابلس الغرب فحاصرها ثمَّ فتحت فاستولى عَلَيْهَا قراقوش وسكنها وَكَثُرت عساكره
وفيهَا جهز السُّلْطَان شمس الدولة إِلَى برقة فافتتحها على يَد غُلَام لَهُ تركي
ثمَّ بلغ السُّلْطَان أَمر ابْن مهْدي الْخَارِج بِالْيمن وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من اختلال العقيدة فَجهز أَخَاهُ شمس الدولة فَافْتتحَ الْيمن وتملكها
ثمَّ سَار السُّلْطَان بِنَفسِهِ من مصر يُرِيد اقتلاع مَدِينَة الكرك من الفرنج وَبَدَأَ بهَا لقربها إِلَيْهِ وَكَانَ من الوهن فِي الْإِسْلَام وَالْعَظَمَة فِي الدّين اسْتِيلَاء الملاعين على الكرك وعَلى قلعة أَيْلَة فَإِنَّهُم يمْنَعُونَ الْحَاج وَأَشد من ذَلِك مَا يخْشَى على الْحَرَمَيْنِ الشريفين مِنْهُم إِذْ لم يكن بَينهم وَبَينهمَا حاجز غير لطف الله وقصدوهما مَرَّات ثمَّ يندفعون بِمَشِيئَة الله من غير دفاع من الْبشر وَكَانَت الكرك تزيد على قلعة أَيْلَة بِمَنْع القوافل السائرة بَين الشَّام ومصر فَإِنَّهَا كَانَت الدَّرْب وَأما غَزَّة والرملة وَمَا حواليهما فَكَانَ الفرنج لَا يمكنون مُسلما أَن يمر بهما فورد عَلَيْهِمَا وحاصرهما وَقَاتل الفرنج وَلم يفتحهما فِي هَذِه السّنة وَرجع إِلَى مصر
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
قَالَ ابْن الْأَثِير جهز السُّلْطَان أَخَاهُ توران شاه إِلَى بِلَاد النّوبَة فَافْتتحَ مِنْهَا مَا شَاءَ الله فَلَمَّا عَاد جهزه إِلَى الْيمن بِقصد عبد النَّبِي صَاحب زبيد فطرده عَن الْيمن وَملك زبيد وَأسر عبد النَّبِي وَزَوجته الْحرَّة وَكَانَت صَالِحَة كَثِيرَة الصَّدَقَة وعذب عبد النَّبِي واستخرجت مِنْهُ أَمْوَاله
ثمَّ سَار توران شاه إِلَى عدن وملكها يَاسر فَأسر وَهزمَ
ثمَّ سَار فَافْتتحَ(7/358)
من حصون الْيمن قلعة تعرف بقلعة الْجند قَالَ أَبُو المظفر بن الْجَوْزِيّ يُقَال افْتتح ثَمَانِينَ حصنا ومدينة بِالْيمن وَمَا حواليها
وَقد تقدم فِي السّنة قبلهَا إرْسَال تورانشاه وَهُوَ شمس الدولة إِلَى الْيمن ووقعة النّوبَة فَقتل وَالله أعلم فِي أَي السنتين كَانَ إرْسَاله
وَفِي هَذِه السّنة وصل الْمُوفق ابْن القيسراني إِلَى مصر رَسُولا من الْملك نور الدّين يُطَالب السُّلْطَان صَلَاح الدّين بِحِسَاب جَمِيع مَا حصله من أرياع الْبِلَاد وَلم يعلم نور الدّين بتفاصيل علو شَأْن صَلَاح الدّين وَأَنه مستول على أعظم مَا فِي يَد نور الدّين فصعب ذَلِك على صَلَاح الدّين وَقيل إِنَّه أَرَادَ شقّ الْعَصَا ثمَّ ذكر لنُور الدّين حُقُوقه وإحسانه وَأمر النواب بِالْحِسَابِ وَعرضه على ابْن القيسراني وَأرَاهُ جرائد العساكر بالإقطاعات وَأَعَادَهُ إِلَى نور الدّين وَمَعَهُ الْفَقِيه عِيسَى وهدية عَظِيمَة وَهِي ختمة بِخَط ابْن البواب وختمه بِخَط مهلهل وختمه بِخَط الْحَاكِم الْبَغْدَادِيّ وربعة مَكْتُوبَة بِالذَّهَب بِخَط فَارسي وربعة عشرَة أَجزَاء بِخَط رَاشد وَثَلَاثَة أَحْجَار بلخش وَسِتَّة قضبان زمرد وَقطعَة ياقوت وزن سَبْعَة مَثَاقِيل وَحجر أَزْرَق سِتَّة مَثَاقِيل وَمِائَة عقد جَوْهَر وَزنهَا ثَمَانمِائَة وَسَبْعَة وَخَمْسُونَ مثقالاوخمسون قَارُورَة دهن بِلِسَان وَعِشْرُونَ قِطْعَة(7/359)
بلور وَأَرْبع عشرَة قِطْعَة جزع وإبريق يشم وطشت يشم وصحون صيني وزبادي أَرْبَعُونَ وكرتان عود قماري وزن إِحْدَاهمَا ثَلَاثُونَ رطلا بالمصري وَالْأُخْرَى أحد وَعِشْرُونَ وَمِائَة ثوب أطلس وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ بقيارا مذهبَة وَخَمْسُونَ ثوب حَرِير وحلة فلفي مَذْهَب وحلة مرايش صفراء وَغير ذَلِك من القماش الَّذِي يكثر عده وَقِيمَة القماش على مَا ذكر مِائَتَان وَخمْس وَعِشْرُونَ ألف مِثْقَال ذهب وَمن الْخَيل وَالْبِغَال والجواري وَالسِّلَاح شَيْء كثير وَمن المَال خَمْسَة أحمال وَلم يصل شَيْء من ذَلِك إِلَى نور الدّين لِأَنَّهُ مَاتَ قبل وُصُوله
وَلما مَاتَ نور الدّين طمعت الفرنج وتحركوا بالسواحل وسلطن الشاميون الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بن نور الدّين وَكَانَ عمره نَحْو عشر سِنِين فاستنجد بالسلطان صَلَاح الدّين صَاحب مصر وَنزل الفرنج على بانياس وصالحهم أُمَرَاء دمشق على مَال وأسارى يطلقون فَلَمَّا بلغ ذَلِك صَلَاح الدّين انزعج لَهُ وَكتب إِلَى الشاميين يوبخهم وَكتب إِلَى شيخ الشَّافِعِيَّة شرف الدّين ابْن أبي عصرون يُخبرهُ أَنه لما أَتَاهُ كتاب الْملك الصَّالح تجهز للْجِهَاد وَخرج وَسَار أَربع مراحل فَجَاءَهُ الْخَبَر بالهدنة المؤذنة بذل الْإِسْلَام على يَد من اقتلعها(7/360)
من دفع القطيعة وَالْأسَارَى وَسَيِّدنَا الشَّيْخ أول من جرد لِسَانه الَّذِي تغمد لَهُ السيوف وتجرد
وَلما بَالغ صَلَاح الدّين فِي توبيخ الْأُمَرَاء وَكَانَ ابْن الْمُقدم أكبر أُمَرَاء دمشق خشى من قدوم صَلَاح الدّين إِلَى الشَّام وأشاع أَن صَلَاح الدّين يُرِيد انتزاع دمشق من ولد مخدومه نور الدّين وَكتب إِلَى صَلَاح الدّين لَا يُقَال عَنْك إِنَّك طمعت فِي بَيت من غرسك ورباك وأسسك وَفِي دست ملك مصر أجلسك ثمَّ تعطف لَهُ وترفق وَيَقُول وَمَا يَلِيق بحالك غير فضلك واتصالك
فَكتب إِلَيْهِ صَلَاح الدّين إِنَّا لَا نؤثر لِلْإِسْلَامِ وَأَهله إِلَّا مَا جمع شملهم وَألف كلمتهم وَلَا نَخْتَار للبيت الأتابكي أَعْلَاهُ الله إِلَّا مَا حفظ أَصله وفرعه فالوفاء إِنَّمَا يكون بعد الْوَفَاة وَنحن فِي وَاد والظانون بِنَا سوء الظَّن فِي وَاد
ثمَّ دخلت سنة سبعين وَخَمْسمِائة
وَقد تزايد طمع الفرنج فِي دمشق بِمَوْت نور الدّين فَرَأى صَلَاح الدّين من الحزم جمع الْمُسلمين على سُلْطَان وَاحِد يُقيم الْملَّة وينصر الشَّرِيعَة وَإنَّهُ ذَلِك الْوَاحِد الَّذِي تعقد عَلَيْهِ الخناصر وَأَن الْإِسْلَام مُحْتَاج إِلَيْهِ وَصَارَ الحاسدون والجاهلون بِأَحْكَام الشَّرِيعَة يعيبون مِنْهُ قَصده لأخذ دمشق وَيَقُولُونَ كَيفَ يسلب ولد أستاذه نعْمَته وَينْزع ملكه وهم كَمَا قَالَ فِي وَاد فَإِنَّهُ فِيمَا يغلب على الظنون الصادقة إِنَّمَا قصد لم شعث(7/361)
الْإِسْلَام وَقيام الدّين وَظهر ذَلِك على يَده من بعد فَخرج من مصر بجيوش لَا يُحْصى عَددهَا واستخلف أَخَاهُ الْملك الْعَادِل نَائِبا بهَا وَوصل إِلَى بصرى رَابِع عشري ربيع الآخر فَخرج إِلَيْهِ صَاحبهَا منقادا لخدمته ثمَّ تتَابع عَسْكَر الشَّام ملاقين مستبشرين وَنزل بجسر الْخشب فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين وَقد تكاثرت العساكر وازدحم الملاقون وَأصْبح لدُخُول دمشق فعارضه عدد من الرِّجَال فدعستهم عساكره المنصورة وصدمتهم خيوله وعزماته الْمَأْمُورَة وَدخل الْبَلَد وملكها بِلَا قتال ونادى من سَاعَته بإطابة النُّفُوس وَإِزَالَة المكوس وَكَانَت الْولَايَة فِي دمشق قد ساءت والمكوس الَّتِي رَفعهَا نور الدّين قد أُعِيدَت فَأَعَادَ صَلَاح الدّين الْحق إِلَى نصابه وَصَارَت دمشق مثل مصر وَكِلَاهُمَا فِي مَمْلَكَته
ثمَّ خرج إِلَى حمص فنازلها وَنصب المجانيق على قلعتها وَلم يملكهَا وترحل عَنْهَا إِلَى حماة فملكها فِي جُمَادَى الْآخِرَة ثمَّ سَار إِلَى حلب وحاصرها إِلَى آخر الشَّهْر وَبهَا الصَّالح إِسْمَاعِيل ولد نور الدّين وَاشْتَدَّ بهَا الْحصار وَهَذِه هِيَ الفعلة الَّتِي نقمت على صَلَاح الدّين فَالله أعلم بنيته وَأَنه أَسَاءَ الْعشْرَة فِي حق الصَّالح ابْن نور الدّين بِحَيْثُ اسْتَعَانَ الصَّالح عَلَيْهِ بالباطنية وَوَعدهمْ بالأموال فَقتلُوا من أُمَرَاء صَلَاح الدّين الْأَمِير خمارتكين وخلقا وجرحوا صَلَاح الدّين ثمَّ أمسكهم وقتلهم عَن آخِرهم وَرجع إِلَى حمص فحاصرها بَقِيَّة رَجَب وتسلمها بالأمان فِي شعْبَان ثمَّ عطف إِلَى بعلبك فاستلمها ثمَّ رد إِلَى حمص وَقد اجْتمع عَسْكَر حلب وَكَتَبُوا إِلَى صَاحب الْموصل يستعينون بِهِ على صَلَاح الدّين فَجهز إِلَيْهِم جَيْشه وأمدهم بأَخيه عز الدّين مَسْعُود بن مودود بن زنكي فَأقبل الْكل إِلَى حماة وَقد اسْتَقَرَّتْ لصلاح الدّين فحاصروها فَسَار إِلَيْهِم صَلَاح الدّين(7/362)
فالتقاهم على قُرُون حماه فكسرهم أقبح كسرة ثمَّ سَار إِلَى حلب فَوَقع الصُّلْح بَينه وَبَين ابْن زنكي على أَن يكون لَهُ آخر بلد حماة والمعرة وَأَن يكون لولد نور الدّين حلب وَجَمِيع أَعمالهَا وتحالفوا ورد إِلَى حماة وجاءته رسل الْخَلِيفَة المستضيء بِالْخلْعِ والهدايا والتهنئة بِالْملكِ ثمَّ سَار إِلَى حصن بارين فحاصره ثمَّ تسلمه
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا كَانَ وقْعَة تل السُّلْطَان بنواحي حلب وَذَلِكَ أَن عَسْكَر الْموصل نكثوا أَيْمَانهم ووافوا تل السُّلْطَان فِي جموع كَثِيرَة وَعَلَيْهِم السُّلْطَان سيف الدّين غَازِي ابْن مودود بن زنكي فالتقاهم السُّلْطَان صَلَاح الدّين فِي جمع قَلِيل فَهَزَمَهُمْ وَأسر كثيرا مِنْهُم وحقن الدِّمَاء ثمَّ أحضر الْأُمَرَاء الَّذين أسرهم فَمن عَلَيْهِم وأطلقهم
ثمَّ سَار صَلَاح الدّين إِلَى منبج وَأَخذهَا فِي شَوَّال من ينَال بن حسان المنبجي وَكَانَ نور الدّين قد أَعْطَاهَا لينال عِنْدَمَا انتزعها من أَخِيه غَازِي بن حسان وَصعد الْحصن وَجلسَ يستعرض أَمْوَال ابْن حسان صَاحبهَا وذخائر فَكَانَت ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار وَمن أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة والذخائر والأسلحة مَا يناهز ألفي ألف دِينَار وَرَأى على بعض الأكياس والآنية مَكْتُوبًا يُوسُف فَسَأَلَ عَن هَذَا الِاسْم فَقيل ولد لَهُ يُحِبهُ اسْمه يُوسُف وَكَانَ يدّخر لَهُ هَذِه الْأَمْوَال فَقَالَ السُّلْطَان أَنا يُوسُف وَقد أخذت مَا خبىء لي(7/363)
ثمَّ سَار إِلَى عزاز فنازل قلعتها ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وقفز عَلَيْهِ وَهُوَ محاصرها قوم من الفداوية وجرح فِي فَخذه وَأخذُوا فَقتلُوا ثمَّ افْتتح عزاز
وَمن كتاب مِنْهُ إِلَى أَخِيه الْعَادِل وَلم ينلني من الحشيشي الملعون إِلَّا خدش قطرت مِنْهُ دم قطرات خَفِيفَة انْقَطَعت لوَقْتهَا واندملت لسعاعتها
ثمَّ سَار من عزاز فنازل مَدِينَة حلب كرة أُخْرَى فِي نصف ذِي الْحجَّة وَقَامَت القلعة فِي حفظهَا بِكُل مُمكن وصابرها صَلَاح الدّين شهرا
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا ترددت الرُّسُل فِي الصُّلْح بَين السُّلْطَان صَلَاح الدّين وَالْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل ابْن نور الدّين فَرَحل صَلَاح الدّين عَن حلب وأبقاها لِابْنِ نور الدّين ورد عَلَيْهِ عزاز وَتوجه إِلَى مصياف بلد الباطنية فنصب عَلَيْهَا المجانيق وأباح قَتلهمْ وَخرب بِلَادهمْ فتشفعوا بِصَاحِب حماة شهَاب الدّين خَال السُّلْطَان فَسَأَلَ السُّلْطَان الصفح عَنْهُم وَتوجه عَائِدًا إِلَى مصر فوصلها وَأمر بِبِنَاء السُّور الْأَعْظَم الْمُحِيط بِمصْر والقاهرة وَجعل على بنايته الْأَمِير قراقوش وَلم يزل الْعَمَل فِيهِ إِلَى أَن مَاتَ صَلَاح الدّين وصرفت عَلَيْهِ أَمْوَال جزيلة(7/364)
وفيهَا أَمر بإنشاء قلعة الْجَبَل المقطم الَّتِي هِيَ الْآن دَار سلاطين مصر وَجعل على بنائها أَيْضا قراقوش وَلم يكن السلاطين قبلهَا يسكنون إِلَّا دَار الوزارة بِالْقَاهِرَةِ
ثمَّ سَافر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَتردد إِلَى السلَفِي فَسمع مِنْهُ الحَدِيث ثمَّ عَاد إِلَى مصر وَبنى تربة الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا كَانَت وقْعَة الرملة
سَار السُّلْطَان من الْقَاهِرَة إِلَى عسقلان فسبى من الفرنج كثيرا وغنم وَسَار إِلَى الرملة وَقد تجمعت عَلَيْهِ الفرنج وحملوا على الْمُسلمين فَانْهَزَمُوا وَثَبت السُّلْطَان وَابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين عمر وَدخل اللَّيْل واحتوى الفرنج على أثقال الْمُسلمين وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد ولد تَقِيّ الدّين عمر وَلم يبْق للْمُسلمين قدرَة على مَاء وَلَا زَاد وتعسفوا الرمال رَاجِعين إِلَى مصر
وَفِي هَذِه الْوَاقِعَة أسر الْفَقِيه عِيسَى الهكاري أكبر الْأُمَرَاء فافتداه السُّلْطَان بستين ألف دِينَار
وَدخل السُّلْطَان الْقَاهِرَة بعد ثَلَاثَة عشر يَوْمًا وتواصلت خَلفه العساكر ثمَّ عَاد السُّلْطَان إِلَى الشَّام
وَدخلت سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا اجْتمعت الفرنج عِنْد حصن الأكراد فَسَار إِلَيْهِم السُّلْطَان وَلم يَقع قتال ثمَّ أَغَارُوا على أَعمال دمشق وجهز لحربهم فرخشاه ابْن أخي السُّلْطَان فالتقاهم وكسرهم وَقتل من مقدميهم جمَاعَة مِنْهُم هنفري
قَالَ ابْن الْأَثِير وَمَا أَدْرَاك مَا هنفري بِهِ كَانَ يضْرب الْمثل فِي الشجَاعَة
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا ضربت الطبول بِبَغْدَاد وزفت البشائر بانتصار السُّلْطَان صَلَاح الدّين على الفرنج وأسره لصَاحب الرملة وَصَاحب طبرية الْكَافرين وَهِي وقْعَة مرج الْعُيُون(7/365)
وَمن حَدِيثهَا أَن صَلَاح الدّين كَانَ نازلا تل بانياس بِبَيْت بسراياه فَلَمَّا اسْتهلّ الْمحرم ركب فَرَأى رَاعيا فَسَأَلَهُ عَن الفرنج فَأخْبرهُ بقربهم فَعَاد إِلَى مخيمه وَأمر الْجَيْش بالركوب فَرَكبُوا وَسَار بهم حَتَّى أشرف على الفرنج وهم فِي ألف قنطارية وَعشرَة آلَاف مقَاتل فَارس وراجل فحملوا على الْمُسلمين فثبتوا لَهُم وحملت الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم فَوَلوا الأدبار فَقتل أَكْثَرهم وَأسر مِنْهُم مِائَتَان وَسَبْعُونَ أَسِيرًا مِنْهُم بادين وأود مقدم الداوية وَابْن القومصة وأخوا صَاحب جبيل وَابْن صَاحب مرقية وَصَاحب طبرية فَأَما بادين بن بيرزان فاستفك نَفسه بمبلغ وبألف أَسِير من الْمُسلمين واستفك الآخر نَفسه بجملة وَأما أود فجن فِي حبس قلعة دمشق وَانْهَزَمَ من الْوَقْعَة ملكهم مجروحا وأبلى فِي هَذِه الْوَقْعَة عز الدّين فرخشاه بلَاء حسنا
وَاتفقَ أَنه فِي يَوْم الْوَقْعَة ظفر أسطول مصر ببطستين وأسروا ألف نفس فَللَّه الْحَمد على نَصره
وَكَانَ قليج أرسلان سُلْطَان الرّوم طلب حصن رعبان وَزعم أَنه من بِلَاده وَإِنَّمَا أَخذه مِنْهُ نور الدّين على خلاف مُرَاده وَأَن وَلَده الصَّالح إِسْمَاعِيل قد أنعم بِهِ عَلَيْهِ فَلم يفعل السُّلْطَان فَأرْسل قليج عشْرين ألفا لحصار الْحصن فالتقاهم تَقِيّ الدّين عمر صَاحب حماة(7/366)
وَمَعَهُ سيف الدّين عَليّ المشطوب فِي ألف فَارس فَهَزَمَهُمْ لِأَنَّهُ حمل عَلَيْهِم بَغْتَة وهم على غير تعبية فَضربت كوساته وَعمل عسكره كراديس فَلَمَّا سَمِعت الرّوم الضجة ظنُّوا أَنهم قد دهمهم جَيش عَظِيم فَرَكبُوا خيولهم عريا وطلبوا النجَاة وَتركُوا الْخيام بِمَا فِيهَا وَأسر مِنْهُم عددا ثمَّ من عَلَيْهِم بِأَمْوَالِهِمْ وسرحهم وَلم يزل تَقِيّ الدّين يدل بِهَذِهِ النُّصْرَة وَلَا ريب أَنَّهَا عَظِيمَة
وَورد بَغْدَاد رَسُول صَلَاح الدّين وَهُوَ مبارز الدّين كشطغاي وَجلسَ لَهُ ظهير الدّين أَبُو بكر ابْن الْعَطَّار وَبَين يَدَيْهِ أَرْبَاب الدولة فجَاء وَبَين يَدَيْهِ اثْنَا عشر أَمِيرا عَلَيْهِم الخوذ والزرديات وَمَعَ كل وَاحِد قنطارية وعَلى كتفه طارقة ملك الفرنج على القنطاريات سعف الفرنج وَبَين يَدَيْهِ أَيْضا من التحف والنفائس من ذَلِك صنم حجر طَوِيل ذراعين فِيهِ صناعَة عَجِيبَة قد جعل سبابته على شفته كالمتبسم عجبا وَمن ذَلِك صينية ملآنة جَوَاهِر وضلع آدَمِيّ نَحْو سَبْعَة أشبار فِي عرض أَربع أَصَابِع وضلع سَمَكَة طوله عشرَة أَذْرع فِي عرض ذراعين
وفيهَا جهز السُّلْطَان القَاضِي أَبَا الْفَضَائِل بن الشهرزوري إِلَى الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد أَيْضا بجواهر مثمنة وَعشرَة أسرى من الفرنج
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا توجه السُّلْطَان قَاصِدا بِلَاد الأرمن وبلاد الرّوم ليحارب قليج أرسلان بن مَسْعُود ابْن قليج أرسلان عِنْدَمَا استجار مُحَمَّد بن أرسلان بن دَاوُد صَاحب حصن كيفا بالسلطان على حموة قليج الْمَذْكُور ثمَّ صلح الْحَال بَينهمَا فَنزل السُّلْطَان على حصن من بِلَاد الأرمن فَأَخذه وهدمه ثمَّ رَجَعَ فَعِنْدَ وُصُوله إِلَى حمص جَاءَهُ التَّقْلِيد وَالْخلْع من الْخَلِيفَة النَّاصِر فَركب بهَا بحمص وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وَجَاء إِلَى دمشق وَولى عز الدّين فرخشاه(7/367)
نِيَابَة السلطنة بِالشَّام وَهُوَ ابْن أَخِيه ثمَّ توجه السُّلْطَان إِلَى مصر وَتوجه مِنْهَا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَشَاهد مَا تجدّد بهَا من السُّور وَسمع بهَا الْمُوَطَّأ على أبي الطَّاهِر ابْن عَوْف
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا قصد نَائِب الشَّام عز الدّين فرخشاه بمرسوم السُّلْطَان بِلَاد الكرك بالعساكر فخربها وَذَلِكَ عِنْدَمَا بلغ السطان أَن اللعين صَاحب الكرك سَوَّلت لَهُ نَفسه قصد الْمَدِينَة الشَّرِيفَة ليتملكها فَمَا نهبت بِلَاده عَاد بالخيبة
وفيهَا ظَهرت الوحشة بَين الْخَلِيفَة النَّاصِر وَالسُّلْطَان وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان لما اشْتهر اسْمه بِالْعَدْلِ وَشدَّة الْوَطْأَة وخافته النُّفُوس الْفَاجِرَة واستبشرت بِهِ الْأَرْوَاح الطاهرة وحسده مُلُوك الْأَطْرَاف وأحبوا أَن يوقعوا بَينه وَبَين الْخَلِيفَة سولوا للخليفة أمورا أوجبت أَن يكْتب للسُّلْطَان يَأْخُذ عَلَيْهِ فِي أَشْيَاء مِنْهَا تَسْمِيَته بِالْملكِ النَّاصِر مَعَ علمه أَن الإِمَام اخْتَار هَذِه التَّسْمِيَة لنَفسِهِ وَهَذِه الْوَاحِدَة على ندورتها مدفوعة بِأَن السُّلْطَان لقب بالناصر من أَيَّام الْخَلِيفَة المستضيء قبل أَن يَلِي النَّاصِر الْخلَافَة فَكتب لَهُ السُّلْطَان جَوَابا فاضليا مِنْهُ وَالْخَادِم وَللَّه الْحَمد يعدد سوابق فِي الْإِسْلَام والدولة العباسية لَا يعدها أولية أبي مُسلم لِأَنَّهُ وَالِي ثمَّ وارى وَلَا آخرية طغرلبك لِأَنَّهُ نصر ثمَّ حجر
وَالْخَادِم بِحَمْد الله خلع من كَانَ يُنَازع الْخلَافَة رداءها وأساغ الغصة الَّتِي ذخر الله للإساغة فِي سَيْفه ماءها فَرجل الْأَسْمَاء الكاذبة الراكبة على المنابر وأعز بتأييد إبراهيمي فَكسر الْأَصْنَام الْبَاطِنَة بِسَيْفِهِ الظَّاهِر لَا السَّاتِر وَفعل وَمَا فعل للدنيا وَلَا معنى للاعتداد بِمَا هُوَ متوقع الْجَزَاء عَنهُ فِي الْيَوْم الآخر
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة
فِيهَا افْتتح السُّلْطَان حران وسروج وسنجار ونصيبين والرقة والبيرة وآمد(7/368)
ونازل الْموصل وحاصرها وبهره مَا رأى من حصانتها وجاءه شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين من قبل الْخَلِيفَة يتشفع فِي صَاحب الْموصل فَرَحل عَنْهَا
وفيهَا بعث السُّلْطَان أَخَاهُ سيف الْإِسْلَام طغتكين على نِيَابَة السلطنة بإقليم الْيمن بأسره وَأمره بِإِخْرَاج نواب أَخِيه توران شاه بهَا فَرَحل إِلَيْهَا وَقبض على مُتَوَلِّي زبيد حطَّان بن منقذ وَأخذ مِنْهُ أَمْوَالًا جزيلة وَسكن سيف الْإِسْلَام فِي الْيمن
وفيهَا مَاتَ عز الدّين فرخشاه بن شاهنشاه ابْن أَيُّوب نَائِب الشَّام فَبعث السُّلْطَان على نِيَابَة دمشق شمس الدّين مُحَمَّد بن الْمُقدم
وفيهَا خرج السُّلْطَان بِنَفسِهِ من مصر غازيا وَمَا تهَيَّأ لَهُ الْعود إِلَيْهَا وَقد عَاشَ بعد ذَلِك اثنتى عشرَة سنة
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة
ورسل الْخَلِيفَة فِي كل سنة تَجِيء غير مرّة بالتودد ظَاهرا واستعلام أَخْبَار السُّلْطَان بَاطِنا فَلَا يرَوْنَ إِلَّا إِمَامًا عادلا لَا يصطلى لَهُ بِنَار وغضنفرا باسلا لَا يقوم لغضبه إِلَّا الْوَاحِد القهار وَكتب لَهُ السُّلْطَان كتابا فاضليا فِيهِ من أَخْبَار الفرنج كَانَ الفرنج قد ركبُوا من الْأَمر نكرا وافتضوا من الْبَحْر بكراذ وعمروا مراكب حربية شحنوها بالمقاتلة والأسلحة آخر الطَّبَقَة الْخَامِسَة(7/369)
الطَّبَقَة السَّادِسَة فِيمَن توفّي بَين الستمائة والسبعمائة
1040 - أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن جَعْفَر بن أَحْمد بن هِشَام الْأمَوِي علم الدّين القمني
الْفَاضِل الذكي الَّذِي كَانَ يُقَال إِنَّه إِذا سمع قصيدة حفظهَا ويحكى عَنهُ فِي هَذَا النَّوْع عجائب
مولده سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة
سمع الحَدِيث من ابْن الجميزي وَكَانَ معيدا بِالْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّة
توفّي بِالْقَاهِرَةِ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
1041 - أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن حيدرة الْقرشِي القاهري الشَّيْخ علم الدّين
الْفَقِيه الأديب وَالِد شَيخنَا شمس الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن القماح
سمع الحَدِيث من ابْن الجميزي والحافظ الْمُنْذِرِيّ وَغَيرهمَا وَكَانَ يدرس بمدرسة ابْن زين التُّجَّار بِمصْر(8/5)
وَمن شعره
(رفقا بهَا فشوقها قد سَاقهَا ... يَا حبذا الْوَادي الَّذِي قد شاقها)
(حجازها من حبها قد شاقها ... وَفِي هوى نجد حدت عراقها)
توفّي سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة
1042 - أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عمر بن الْفرج بن أَحْمد بن سَابُور أَبُو الْعَبَّاس الوَاسِطِيّ الشَّيْخ عز الدّين الفاروثي
ولد بواسط فِي ذِي الْقعدَة سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة وَقَرَأَ الْقُرْآن على وَالِده وعَلى الْحُسَيْن بن أبي الْحسن بن ثَابت الطَّيِّبِيّ
وَسمع بِبَغْدَاد من عمر بن كرم الدينَوَرِي وَالشَّيْخ شهَاب الدّين السهروردي وَأبي الْحسن الْقطيعِي وَأبي عَليّ الْحسن بن الزبيدِيّ وَأبي المنجا بن اللتي(8/6)
والأنجب بن أبي السعادات وَأبي الْحسن بن روزبة وَخلق وبواسط من أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي الْفَتْح بن المندآئي والمرجي بن شقير وبأصبهان من الْحُسَيْن بن مَحْمُود الصالحاني وبدمشق من إِسْمَاعِيل بن أبي الْيُسْر وَغَيره
وَحدث بالحرمين وَالْعراق ودمشق وَكَانَ فَقِيها مقرئا عابدا زاهدا صَاحب أوراد
قدم دمشق من الْحجاز بعد مجاورة مُدَّة سنة تسعين تولى مشيخة الحَدِيث بالظاهرية وإعادة الناصرية وتدريس النجيبية ثمَّ ولي خطابة الْجَامِع ثمَّ عزل مِنْهَا فسافر إِلَى وَاسِط وَبهَا توفّي(8/7)
وَقيل لَهُ لما قدمهَا كَيفَ تركت الأَرْض المقدسة فَقَالَ رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول تحول إِلَى وَاسِط لتَمُوت بهَا وتدفن عِنْد والدك
توفّي فِي مستهل ذِي الْحجَّة سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ حكى لنا صاحبنا ابْن يُونُس الوَاسِطِيّ الْمقري أَن الشَّيْخ عز الدّين أظهر أَنه يُرِيد سفرا وَطلب الْأَصْحَاب وَبَقِي يَقُول قد عرض لنا سفر فاجعلونا فِي حل فيتعجبون وَقَالَ لَهُم أُرِيد السّفر إِلَى شيراز يَوْم الثُّلَاثَاء وأظنني أَمُوت ذَلِك الْيَوْم فَمَاتَ يَوْمئِذٍ
وَأخْبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا أَن عَلَاء الدّين الْكِنْدِيّ ذكر لَهُ أَن الشَّيْخ عز الدّين الفاروثي شَاهد بالعراق رجلا مكث سِنِين لَا يَأْكُل وَلَا يشرب
قَالَ شَيخنَا أَبُو عبد الله وَقد حَدثنِي عدد أَثِق بهم أَن امْرَأَة كَانَت بالأندلس بقيت نَحوا من عشْرين سنة لَا تَأْكُل شَيْئا وأمرها مَشْهُور
ذكر شَيخنَا ذَلِك فِي تَرْجَمَة أبي الْعَبَّاس عِيسَى بن مُحَمَّد بن عِيسَى الطهماني اللّغَوِيّ وَقد أورد مَا ذكره الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ فِي تَارِيخ نيسابور من أَنه سمع أَبَا زَكَرِيَّا الْعَنْبَري يَقُول سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس فَذكر قصَّة الْمَرْأَة الَّتِي لَا تَأْكُل وَلَا تشرب
قلت وَأَنا مورد هَذِه الْقِصَّة لغرابتها من تَارِيخ الْحَاكِم وَآت بهَا على الصُّورَة الَّتِي ذكرهَا فَأَقُول قَالَ الْحَاكِم سَمِعت أَبَا زَكَرِيَّاء يحيى بن مُحَمَّد الْعَنْبَري يَقُول سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس عِيسَى بن مُحَمَّد بن عِيسَى الطهماني الْمروزِي يَقُول إِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يظْهر إِذا شَاءَ مَا شَاءَ من الْآيَات والعبر فِي بريته فيزيد الْإِسْلَام بهَا عزا وَقُوَّة وَيُؤَيّد مَا أنزل من الْهدى والبينات وينشر أَعْلَام النُّبُوَّة ويوضح دَلَائِل الرسَالَة ويوثق عرى الْإِسْلَام وَيثبت حقائق الْإِيمَان منا مِنْهُ على أوليائه وَزِيَادَة فِي الْبُرْهَان بهم(8/8)
يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس وَابْن الرّفْعَة كَانَ سَاكِنا بِمصْر وقاضي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين بِالْقَاهِرَةِ
1072 - مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ
الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح الْوَرع الزَّاهِد أَبُو الطَّاهِر الْمحلي خطيب جَامع مصر الْعَتِيق وَهُوَ جَامع عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ
قدم من الْمحلة إِلَى مصر وتفقه بهَا على الشَّيْخ تَاج الدّين مُحَمَّد بن هبة الله الْحَمَوِيّ واختص بِصُحْبَتِهِ وعَلى أبي إِسْحَاق الْعِرَاقِيّ شَارِح الْمُهَذّب وعَلى ابْن زين التُّجَّار هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة أشياخه فِي الْفِقْه
وَسمع الحَدِيث من إِبْرَاهِيم بن عمر الإسعردي وَغَيره(8/8)
وَحجَّة على من عِنْد عَن طَاعَته وألحد فِي دينه {ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة وَيحيى من حَيّ عَن بَيِّنَة} فَلهُ الْحَمد لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ذُو الْحجَّة الْبَالِغَة والعز القاهر والطول الباهر وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد نَبِي الرَّحْمَة وَرَسُول الْهدى وَعَلِيهِ وعَلى آله الطاهرين السَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته
وَإِن مِمَّا أدركناه عيَانًا وشاهدناه فِي زَمَاننَا وأحطنا علما بِهِ فزادنا يَقِينا فِي ديننَا وَتَصْدِيقًا لما جَاءَ بِهِ نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودعا إِلَيْهِ من الْحق فَرغب فِيهِ من الْجِهَاد من فَضِيلَة الشُّهَدَاء وَبلغ عَن الله عز وَجل فيهم إِذْ يَقُول جلّ ثَنَاؤُهُ {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين} أَنِّي وَردت فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ مَدِينَة من مَدَائِن خوارزم تدعى هزاراسب وَهِي فِي غربي وَادي جيحون وَمِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة الْعُظْمَى مَسَافَة نصف يَوْم فخبرت أَن بهَا امْرَأَة من نسَاء الشُّهَدَاء رَأَتْ رُؤْيا كَأَنَّهَا أطعمت فِي منامها شَيْئا فَهِيَ لَا تَأْكُل شَيْئا وَلَا تشرب شَيْئا مُنْذُ عهد أبي الْعَبَّاس بن طَاهِر وَالِي خُرَاسَان وَكَانَ توفّي قبل ذَلِك بثمان سِنِين رَضِي الله عَنهُ ثمَّ مَرَرْت بِتِلْكَ الْمَدِينَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ فرأيتها وحدثتني بحديثها فَلم أستقص عَلَيْهَا لحداثة سني ثمَّ إِنِّي عدت إِلَى خوارزم فِي آخر سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ فرأيتها بَاقِيَة وَوجدت حَدِيثهَا شَائِعا مستفيضا وَهَذِه الْمَدِينَة على مدرجة القوافل وَكَانَ الْكثير مِمَّن نزلها إِذا بَلغهُمْ قصَّتهَا أَحبُّوا أَن ينْظرُوا إِلَيْهَا فَلَا يسْأَلُون عَنْهَا رجلا وَلَا امْرَأَة وَلَا غُلَاما إِلَّا(8/9)
عرفهَا وَدلّ عَلَيْهَا فَلَمَّا وافيت النَّاحِيَة طلبتها فَوَجَدتهَا غَائِبَة على عدَّة فراسخ فمضيت فِي أَثَرهَا من قَرْيَة إِلَى قَرْيَة فأدركتها بَين قريتين تمشي مشْيَة قَوِيَّة وَإِذا هِيَ امْرَأَة نصف جَيِّدَة الْقَامَة حَسَنَة الْبدن ظَاهِرَة الدَّم متوردة الْخَدين ذكية الْفُؤَاد فسايرتني وَأَنا رَاكب فعرضت عَلَيْهَا مركبا فَلم تركبه وَأَقْبَلت تمشي معي بِقُوَّة وَحضر مجلسي قوم من التُّجَّار والدهاقين وَفِيهِمْ فَقِيه يُسمى مُحَمَّد بن حَمْدَوَيْه الْحَارِثِيّ وَقد كتب عَنهُ مُوسَى بن هَارُون الْبَزَّار بِمَكَّة وكمل لَهُ عبَادَة وَرِوَايَة للْحَدِيث وشاب حسن يُسمى عبد الله بن عبد الرَّحْمَن وَكَانَ يخلف أَصْحَاب الْمَظَالِم بناحيته فسألتهم عَنْهَا فَأحْسنُوا الثَّنَاء عَلَيْهَا وَقَالُوا عَنْهَا خيرا وَقَالُوا إِن أمرهَا ظَاهر عندنَا فَلَيْسَ فِيهَا من يخْتَلف فِيهَا
قَالَ الْمُسَمّى عبد الله بن عبد الرَّحْمَن أَنا أسمع حَدِيثهَا مُنْذُ أَيَّام الحداثة ونشأت وَالنَّاس يتفاوضون فِي خَبَرهَا وَقد فرغت بالي لَهَا وشغلت نَفسِي للاستقصاء عَلَيْهَا فَلم أر إِلَّا سترا وعفافا وَلم أعثر مِنْهَا على كذب فِي دَعْوَاهَا وَلَا حِيلَة فِي التلبيس وَذكر أَن من كَانَ يَلِي خوارزم من الْعمَّال كَانُوا فِيمَا خلا يستخصونها ويحضرونها الشَّهْر والشهرين وَالْأَكْثَر فِي بَيت يغلقونه عَلَيْهَا ويوكلون بهَا من يراعيها فَلَا يرونها تَأْكُل وَلَا تشرب وَلَا يَجدونَ لَهَا أثر بَوْل وَلَا غَائِط فيبرونها ويكسونها ويخلون سَبِيلهَا
فَلَمَّا تواطأ أهل النَّاحِيَة على تصديقها استقصصتها عَن حَدِيثهَا وسألتها عَن اسْمهَا وشأنها كُله فَذكرت أَن اسْمهَا رَحْمَة بنت إِبْرَاهِيم وَأَنه كَانَ لَهَا زوج نجار فَقير معيشته من عمل يَده يَأْتِيهِ رزقه يَوْمًا وَيَوْما لَا فضل فِي كَسبه عَن قوت أَهله وَأَنَّهَا ولدت مِنْهُ عدَّة أَوْلَاد وَجَاء الأقطع ملك التّرْك إِلَى الْقرْيَة فَعبر الْوَادي عِنْد جموده إِلَيْنَا فِي زهاء ثَلَاثَة آلَاف فَارس وَأهل خوارزم يَدعُونَهُ كسرة(8/10)
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس والأقطع هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ كَافِرًا عاتيا شَدِيد الْعَدَاوَة للْمُسلمين قد أثر على أهل الثغور والح على أهل خوارزم بِالسَّبْيِ وَالْقَتْل والغارات وَكَانَت وُلَاة خُرَاسَان يتألفونه وأنسابه من عُظَمَاء الْأَعَاجِم ليكفوا غارتهم عَن الرّعية ويحقنوا دِمَاء الْمُسلمين فيبعثون إِلَى كل وَاحِد مِنْهُم بأموال وألطاف كَثِيرَة وأنواع من فاخر الثِّيَاب وَأَن هَذَا الْكَافِر انساب فِي بعض السنين على السُّلْطَان وَلَا أَدْرِي لم ذَاك أستبطأ المبار عَن وَقتهَا أم اسْتَقل مَا بعث إِلَيْهِ فِي جنب مَا بعث إِلَى نظرائه من مُلُوك الجريجية والثغرغدية
فَأقبل فِي جُنُوده وتورد الثغر واستعرض الطّرق فعاث وأفسد وَقتل وَمثل فعجزت عَنهُ خُيُول خوارزم وَبلغ خَبره أَبَا الْعَبَّاس عبد الله بن طَاهِر رَحمَه الله فأنهض إِلَيْهِم أَرْبَعَة من القواد طَاهِر بن إِبْرَاهِيم بن مدرك وَيَعْقُوب بن مَنْصُور بن طَلْحَة وميكال مولى طَاهِر وَهَارُون القباض وشحن الْبَلَد بالعساكر والأسلحة ورتبهم فِي أَربَاع الْبَلَد كل فِي ربع فحموا الْحَرِيم بِإِذن الله تَعَالَى
ثمَّ إِن وَادي جيحون وَهُوَ الَّذِي فِي نهر بَلخ جمد لما اشْتَدَّ الْبرد وَهُوَ وَاد عَظِيم شَدِيد الطغيان كثير الْآفَات وَإِذا امْتَدَّ كَانَ عرضه نَحوا من فَرسَخ وَإِذا جمد انطبق فَلم يُوصل مِنْهُ إِلَى شَيْء حَتَّى يحْفر فِيهِ كَمَا تحفر الْآبَار فِي الصخور وَقد رَأَيْت كثيف الجمد عشرَة أشبار وأخبرت أَنه كَانَ فِيمَا مضى يزِيد على عشْرين شبْرًا وَإِذا هُوَ انطبق صَار الجمد جِسْرًا لأهل الْبَلَد تسير عَلَيْهِ العساكر والعجل والقوافل فينطم مَا بَين الشاطئين وَرُبمَا دَامَ الجمد مائَة وَعشْرين يَوْمًا وَإِذا قل الْبرد فِي عَام بَقِي سبعين يَوْمًا إِلَى نَحْو ثَلَاثَة أشهر(8/11)
قَالَت الْمَرْأَة فَعبر الْكَافِر فِي خيله إِلَى بَاب الْحصن وَقد تحصن النَّاس وضموا أمتعتهم فضجوا بِالْمُسْلِمين وخربوهم فحصر من ذَلِك أهل النَّاحِيَة وَأَرَادُوا الْخُرُوج فَمَنعهُمْ الْعَامِل دون أَن تتوافى عَسَاكِر السُّلْطَان وتتلاحق المطوعة فَشد طَائِفَة من شُبَّان النَّاس وأحداثهم فتقاربوا من السُّور بِمَا أطاقوا حمله من السِّلَاح وحملوا على الْكَفَرَة فتهارج الْكَفَرَة واستجروهم من بَين الْأَبْنِيَة والحيطان فَلَمَّا أصحروا كرّ التّرْك عَلَيْهِم وَصَارَ الْمُسلمُونَ فِي مثل الحرجة فتخلصوا وَاتَّخذُوا دارة يُحَاربُونَ من وَرَائِهَا وَانْقطع مَا بَينهم وَبَين الْخصم وبعدت الْمُؤْنَة عَنْهُم فحاربوا كأشد حَرْب وثبتوا حَتَّى تقطعت الأوتار والقسي وأدركهم التَّعَب ومسهم الْجُوع والعطش وَقتل عامتهم وأثخن الْبَاقُونَ بالجراحات وَلما جن عَلَيْهِم اللَّيْل تحاجز الْفَرِيقَانِ
قَالَت الْمَرْأَة وَرفعت النَّار على المناظر سَاعَة عبور الْكَافِر فاتصلت بالجرجانية وَهِي مَدِينَة عَظِيمَة فِي قاصية خوارزم وَكَانَ ميكال مولى طَاهِر من أبياتها فِي عَسْكَر فَحَث فِي الطّلب هَيْبَة للأمير أبي الْعَبَّاس عبد الله بن طَاهِر رَحمَه الله وركض إِلَى هزاراسب فِي يَوْم وَلَيْلَة أَرْبَعِينَ فرسخا بفراسخ خوارزم وفيهَا فضل كثير على فراسخ خُرَاسَان وعد التّرْك الْفَرَاغ من أَمر أُولَئِكَ النَّفر فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ ارْتَفَعت لَهُم الْأَعْلَام السود وسمعوا أصوات الطبول فأفرجوا عَن الْقَوْم ووافى ميكال مَوضِع المعركة فوارى الْقَتْلَى وَحمل الْجَرْحى(8/12)
قَالَت الْمَرْأَة وَأدْخل الْحصن علينا عَشِيَّة ذَلِك أَرْبَعمِائَة جَنَازَة فَلم تبْق دَار إِلَّا حمل إِلَيْهَا قَتِيل وعمت الْمُصِيبَة وارتجت النَّاحِيَة بالبكاء
قَالَت وَوضع زَوجي بَين يَدي قَتِيلا فأدركني من الْجزع والهلع علية مَا يدْرك الْمَرْأَة الشَّابَّة على زوج أبي الْأَوْلَاد وَكَانَت لنا عِيَال
قَالَت فَاجْتمع النِّسَاء من قراباتي وَالْجِيرَان يسعدنني على الْبكاء وَجَاء الصّبيان وهم أَطْفَال لَا يعْقلُونَ من الْأَمر شَيْئا يطْلبُونَ الْخبز وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أعطيهم فضقت صَدرا بأَمْري ثمَّ إِنِّي سَمِعت أَذَان الْمغرب فَفَزِعت إِلَى الصَّلَاة فَصليت مَا قضى لي رَبِّي ثمَّ سجدت أَدْعُو وأتضرع إِلَى الله وأسأله الصَّبْر بِأَن يجْبر يتم صبياني
قَالَت فَذهب بِي النّوم فِي سجودي فَرَأَيْت فِي مَنَامِي كَأَنِّي فِي أَرض حسناء ذَات حِجَارَة وَأَنا أطلب زَوجي فناداني رجل إِلَى أَيْن أيتها الْحرَّة قلت أطلب زَوجي فَقَالَ خذي ذَات الْيَمين قَالَت فَأخذت ذَات الْيَمين فَرفع لي أَرض سهلة طيبَة الرّيّ ظَاهِرَة العشب وَإِذا قُصُور وأبنية لَا أحفظ أَن أصفها أَو لم أر مثلهَا وَإِذا أَنهَار تجْرِي على وَجه الأَرْض عبر أخاديد لَيست لَهَا حافات فانتهيت إِلَى قوم جُلُوس حلقا حلقا عَلَيْهِم ثِيَاب خضر قد علاهم النُّور فَإِذا هم الَّذين قتلوا فِي المعركة يَأْكُلُون على مَوَائِد بَين أَيْديهم فَجعلت أتخللهم وأتصفح وُجُوههم أبغي زَوجي لكَي ينظرني فناداني يَا رَحْمَة يَا رَحْمَة فيممت الصَّوْت فَإِذا أَنا بِهِ فِي مثل حَال من رَأَيْت من الشُّهَدَاء وَجهه مثل الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر وَهُوَ يَأْكُل مَعَ رفْقَة لَهُ قتلوا يَوْمئِذٍ مَعَه فَقَالَ لأَصْحَابه إِن هَذِه البائسة جائعة مُنْذُ الْيَوْم أفتأذنون لي أَن أناولها شَيْئا تَأْكُله فأذنوا لَهُ فناولني كسرة خبز قَالَت وَأَنا أعلم حِينَئِذٍ أَنه خبز وَلَكِن لَا أَدْرِي كَيفَ يخبز هُوَ أَشد بَيَاضًا(8/13)
من الثَّلج وَاللَّبن وَأحلى من الْعَسَل وَالسكر وألين من الزّبد وَالسمن فأكلته فَلَمَّا اسْتَقر فِي جوفي قَالَ اذهبي كَفاك الله مُؤنَة الطَّعَام وَالشرَاب مَا حييت الدُّنْيَا فانتبهت من نومي شبعى ريا لَا أحتاج إِلَى طَعَام وَلَا شراب وَمَا ذقتهما مُنْذُ ذَلِك الْيَوْم إِلَى يومي هَذَا وَلَا شَيْئا يَأْكُلهُ النَّاس
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس وَكَانَت تحضرنا وَكُنَّا نَأْكُل فتتنحى وَتَأْخُذ على أنفها تزْعم أَنَّهَا تتأذى من رَائِحَة الطَّعَام فسألتها هَل تتغذى بِشَيْء أَو تشرب شَيْئا غير المَاء فَقَالَت لَا
فسألتها هَل يخرج مِنْهَا ريح أَو أَذَى كَمَا يخرج من النَّاس فَقَالَت لَا عهد لي بالأذى مُنْذُ ذَلِك الزَّمَان
قلت وَالْحيض وأظنها قَالَت انْقَطع بِانْقِطَاع الطّعْم
قلت فَهَل تحتاجين حَاجَة النِّسَاء إِلَى الرِّجَال قَالَت أما تستحيي مني تَسْأَلنِي عَن مثل هَذَا قلت إِنِّي لعَلي أحدث النَّاس عَنْك وَلَا بُد أَن استقصي قَالَت لَا أحتاج
قلت فتنامين قَالَت نعم أطيب نوم
قلت فَمَا تَرين فِي مَنَامك قَالَت مثل مَا ترَوْنَ
قلت فتجدين لفقد الطَّعَام وَهنا فِي نَفسك قَالَت مَا أحسست بجوع مُنْذُ طعمت ذَلِك الطَّعَام
وَكَانَت تقبل الصَّدَقَة فَقلت لَهَا مَا تصنعين بهَا قَالَت أكتسي وأكسو وَلَدي
قلت فَهَل تجدين الْبرد وتتأذين بِالْحرِّ قَالَت نعم
قلت فَهَل تدرين كلل اللغوب والإعياء إِذا مشيت قَالَت نعم أَلَسْت من الْبشر
قلت فتتوضئين للصَّلَاة قَالَت نعم قلت لم قَالَت أَمرنِي بذلك الْفُقَهَاء فَقلت إِنَّهُم أفتوها على حَدِيث لَا وضوء إِلَّا من حدث أَو نوم(8/14)
وَذكرت لي أَن بَطنهَا لاصق بظهرها فَأمرت امْرَأَة من نسائنا فَنَظَرت فَإِذا بَطنهَا كَمَا وصفت وَإِذا قد اتَّخذت كيسا فضمت الْقطن وشدته على بَطنهَا كي لَا ينقصف ظهرهَا إِذا مشت
ثمَّ لم أزل أختلف إِلَى هزاراسب بَين السنتين وَالثَّلَاث فتحضرني فأعيد مسألتها فَلَا تزيد وَلَا تنقص وَعرضت كَلَامهَا على عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الْفَقِيه فَقَالَ أَنا أسمع هَذَا الْكَلَام مُنْذُ نشأت فَلَا أجد من يَدْفَعهُ أَو يزْعم أَنه سمع أَنَّهَا تَأْكُل أَو تشرب أَو تتغوط
1043 - أَحْمد بن أَحْمد بن نعْمَة بن أَحْمد الْخَطِيب شرف الدّين أَبُو الْعَبَّاس النابلسي الْمَقْدِسِي خطيب دمشق
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ كَانَ إِمَامًا فَقِيها محققا متقنا للْمَذْهَب وَالْأُصُول والعربية حاد الذِّهْن سريع الْفَهم بديع الْكِتَابَة
قَالَ وناب فِي الحكم عَن ابْن الخويي وَأَجَازَ لَهُ الْفَتْح بن عبد السَّلَام وَأَبُو عَليّ الجواليقي وَأَبُو حَفْص السهروردي
وَسمع من ابْن الصّلاح والسخاوي وَغَيرهمَا
وصنف كتابا فِي أصُول الْفِقْه جمع فِيهِ بَين طريقتي الإِمَام فَخر الدّين والآمدي وتفقه على ابْن عبد السَّلَام بِالْقَاهِرَةِ
توفّي فِي شهر رَمَضَان سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة(8/15)
1044 - أَحْمد بن الْخَلِيل بن سَعَادَة بن جَعْفَر بن عِيسَى الْبَرْمَكِي قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين أَبُو الْعَبَّاس الخويي
ولد فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَدخل إِلَى خُرَاسَان وَقَرَأَ بهَا الْكَلَام وَالْأُصُول على الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ فِيمَا قَالَه بَعضهم وَقيل إِنَّمَا قَرَأَ على القطب الْمصْرِيّ تلميذ الإِمَام وَقَرَأَ الْفِقْه على الرَّافِعِيّ وَعلم الجدل على عَلَاء الدّين الطاووسي وَسمع هُنَاكَ من الْمُؤَيد الطوسي
وَسمع بِدِمَشْق من ابْن الزبيدِيّ وَابْن الصّلاح وَغَيرهمَا
سمع مِنْهُ تَاج الدّين بن أبي جَعْفَر وَأَبُو عَمْرو بن الْحَاجِب وَالْجمال مُحَمَّد بن الصَّابُونِي وَولده قَاضِي الْقُضَاة شهَاب الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين وَغَيرهم
وَكَانَ فَقِيها أصوليا متكلما مناظرا دينا ورعا ذَا همة عالية حفظ الْقُرْآن على كبر
وَكَانَ وَهُوَ قَاضِي الْقُضَاة يَجِيء إِلَى الْجَامِع بِدِمَشْق وَرُبمَا كَانَ بالطيلسان يَتَلَقَّن على من يقرئه الْقُرْآن كَمَا يَتَلَقَّن الْأَطْفَال(8/16)
ولي قَضَاء الْقُضَاة بِالشَّام فَحدث بسيبويه
وَفِيه يَقُول الشَّيْخ شهَاب الدّين أَبُو شامة وَقد وقف على مُصَنف لَهُ فِي الْعرُوض
(أَحْمد بن الْخَلِيل أرشده الله ... لما أرشد الْخَلِيل بن أَحْمد)
(ذَاك مستخرج الْعرُوض وَهَذَا ... مظهر السِّرّ مِنْهُ وَالْعود أَحْمد)
وللقاضي شمس الدّين مصنفات كَثِيرَة ونظم كثير
توفّي فِي سَابِع شعْبَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة بِدِمَشْق وَدفن بسفح قاسيون
1045 - أَحْمد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن علوان ابْن عبد الله بن علوان بن رَافع الْحلَبِي الْأَسدي
الشَّيْخ كَمَال الدّين بن القَاضِي زين الدّين بن الْمُحدث أبي مُحَمَّد بن الْأُسْتَاذ شَارِح الْوَسِيط
كَانَ فَقِيها حَافِظًا للْمَذْهَب ولد سنة إِحْدَى عشرَة وسِتمِائَة
سمع جده وثابت بن مشرف وَابْن روزبة وَسمع حضورا من الافتخار الْهَاشِمِي وَمن غَيرهم(8/17)
روى عَنهُ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الدمياطي قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وكاني يَدْعُو لَهُ لما أولاه من الْإِحْسَان
ولي الْقَضَاء بحلب بعد عَمه وَكَانَ وافر الْحُرْمَة عِنْد النَّاصِر صَاحب الشَّام فَلَمَّا أخذت حلب توجه بِنَفسِهِ إِلَى مصر بعد مَا أَخذ مَاله وَأُصِيب فِي أَهله ودرس هُنَاكَ بمنازل الْعِزّ والكهارية ثمَّ تولى قَضَاء حلب فَسَار إِلَيْهَا وَأقَام بهَا أشهرا وَتُوفِّي فِي نصف شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة عَن نَيف وَخمسين سنة
وَله حواش على فَتَاوَى ابْن الصّلاح هِيَ عِنْدِي بِخَطِّهِ على نُسْخَة على فتاوي ابْن الصّلاح فِيهَا فَوَائِد وَكَلَامه يدله على فضل كَبِير واستحضار للْمَذْهَب جيد
1046 - أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس محب الدّين الطَّبَرِيّ ثمَّ الْمَكِّيّ
شيخ الْحرم وحافظ الْحجاز بِلَا مدافعة
مولده سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة فِي جُمَادَى الْآخِرَة(8/18)
سمع ابْن المقير وَابْن الجميزي وَغَيرهمَا
روى عَنهُ البرزالي وَغَيره
وتفقه بقوص على الشَّيْخ مجد الدّين الْقشيرِي وَالِد شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين
وصنف التصانيف الجيدة مِنْهَا فِي الحَدِيث الْأَحْكَام الْكتاب الْمَشْهُور الْمَبْسُوط دلّ على فضل كَبِير وَله مُخْتَصر فِي الحَدِيث أَيْضا رتبه على أَبْوَاب التَّنْبِيه وَله كتاب فِي فضل مَكَّة حافل وَله شرح على التَّنْبِيه مَبْسُوط فِيهِ علم كثير
استدعاه المظفر صَاحب الْيمن ليسمع عَلَيْهِ الحَدِيث فَتوجه إِلَيْهِ من مَكَّة وَأقَام عِنْده مُدَّة وَفِي تِلْكَ الْمدَّة نظم قصيدة يتشوق إِلَى مَكَّة مِنْهَا
(مريضك من صدودك لَا يُعَاد ... بِهِ ألم لغيرك لَا يُعَاد)
(وَقد ألف التَّدَاوِي بالتداني ... فَهَل أَيَّام وصلكم تُعَاد)
(لحا الله العواذل كم يلحوا ... وَكم عذلوا فَمَا أصغى وعادوا)
(وَلَو لمحوا من الأحباب معنى ... لما أبدوا هُنَاكَ وَلَا أعادوا)
وَمِنْهَا
(أُرِيد وصالها وتريد بعدِي ... فَمَا أَشْقَى مرِيدا لَا يُرَاد)
وَهِي طَوِيلَة خمسها بعض الأدباء لاستحسانه لَهَا(8/19)
فَوَائِد ومسائل عَن الْحَافِظ الطَّبَرِيّ
ذكر فِي شرح التَّنْبِيه أَنه يجوز قطع مَا يتغذى بِهِ من نَبَات الْحرم غير الْإِذْخر كالبقلة الْمُسَمَّاة عِنْد أهل مصر بالرجلة وَنَحْوه لِأَنَّهُ فِي معنى الزَّرْع
1047 - أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْكِنْدِيّ الشَّيْخ جلال الدّين الدشناوي
كَانَ إِمَامًا عَالما فَقِيها أصوليا زاهدا ورعا
ولد سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة بدشنا من صَعِيد مصر وَسمع الحَدِيث من الْفَقِيه بهاء الدّين ابْن الجميزي والحافظ عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ وَالشَّيْخ مجد الدّين الْقشيرِي وَالشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام
تفقه وتأصل وَقَرَأَ الْأُصُول على الشَّيْخ شمس الدّين الْأَصْفَهَانِي شَارِح الْمَحْصُول حِين كَانَ حَاكما بقوص وَقَرَأَ النَّحْو على الشَّيْخ شرف الدّين المرسي
وَحدث سمع مِنْهُ شَيخنَا شمس الدّين بن القماح وَغَيره وانتهت إِلَيْهِ رياسة الْمَذْهَب بِمَدِينَة قوص وتفقه عَلَيْهِ خلائق(8/20)
وَحكي أَن النصير بن الطباخ الْمَشْهُور بالفقيه قَالَ للشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام مَا أَظن فِي الصَّعِيد مثل هذَيْن الشابين يَعْنِي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن دَقِيق الْعِيد وَالشَّيْخ جلال الدّين الدشناوي فَقَالَ لَهُ ابْن عبد السَّلَام وَلَا فِي المدينتين وصنف الشَّيْخ جلال الدّين شرحا على التَّنْبِيه وصل فِيهِ إِلَى الصّيام ومناسك ومقدمة فِي النَّحْو
وَله شعر متوسط مِنْهُ هَذَا
(يَا لائمي كف عَن ملامي ... عَن انعزالي عَن الْأَنَام)
(إِن نذيري الَّذِي نهاني ... يخبر حَالي على التَّمام)
(رأى مشيبي ووهن عظمي ... قد أدنياني من الْحمام)
وَكَانَ يُقَال إِنَّه من الأبدال لشدَّة ورعه وتقواه
توفّي يَوْم الِاثْنَيْنِ مستهل شهر رَمَضَان سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة بقوص
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
سُئِلَ عَن عبد بَيت المَال إِذا أَرَادَ أَن يعْتق وَلَا وَلَاء عَلَيْهِ فَقَالَ يَشْتَرِي نَفسه من وَكيل بَيت المَال فَفعل ذَلِك ثمَّ رفعت الْقَضِيَّة إِلَى قَاضِي قوص فَلم يمض البيع وَقَالَ نَص الْفُقَهَاء على أَن ابتياع العَبْد نَفسه عقد عتاقة وَلَيْسَ لوكيل بَيت المَال أَن يعْتق أرقاء بَيت المَال(8/21)
قلت وَمَا ذكره الشَّيْخ جلال الدّين من جَوَاز هَذَا الْعتْق صَحِيح فَإِن هَذَا الْعتْق وَاقع بعوض فَلَا يمْنَع على الْوَكِيل فعله بل هُوَ أولى من البيع لتشوف الشَّارِع إِلَى الْعتْق وحصوله بعوض لَا يفوت على الْمُسلمين شَيْئا وَأما الْعتْق على الْمُسلمين مجَّانا فَلَيْسَ لوكيل بَيت المَال فعله لَا لكَون عبد بَيت المَال لَا يعْتق فَإِن للْإِمَام عتق بَيت المَال كَمَا لَهُ تمْلِيك من شَاءَ بِالْمَصْلَحَةِ وَقد نَص الشَّافِعِي فِي بَاب الْهُدْنَة على أَن للْإِمَام الْعتْق وَلَكِن لِأَن مُجَرّد التَّوْكِيل لَا يسوغ الْعتْق فَإِن وَكله الإِمَام فِي الْعتْق كَانَ لَهُ ذَلِك بِالْمَصْلَحَةِ كَمَا هُوَ للْإِمَام
وَأما قَول الشَّيْخ جلال الدّين إِنَّه إِذا اشْترى نَفسه من وَكيل بَيت المَال فَلَا يثبت عَلَيْهِ وَلَاء فَفِيهِ نظر بل صرح الرَّافِعِيّ فِي بَاب الْهُدْنَة أَن الْوَلَاء للْمُسلمين وَيُؤَيِّدهُ أَن الْأَصَح ثُبُوت الْوَلَاء على العَبْد وَيَشْتَرِي نَفسه من مَوْلَاهُ وَالظَّاهِر أَن الْخلاف يجْرِي فِي عبد بَيت المَال حَتَّى يكون الْوَلَاء للْمُسلمين
1048 - أَحْمد بن عبد الْمُنعم بن مُحَمَّد بن أبي طَالب الشعيري(8/22)
1049 - أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب بن خلف بن مَحْمُود بن بدر العلامي الْبَصْرِيّ عَلَاء الدّين ابْن بنت الْأَعَز
كَانَ فَقِيها أديبا رَئِيسا درس فِي الْقَاهِرَة بالقطبية والكهارية وبدمشق بالظاهرية والقيمرية وَله شعر كثير مِنْهُ
1050 - أَحْمد بن عِيسَى بن رضوَان بن القليوبي
شَارِح التَّنْبِيه لقبه كَمَال الدّين وكنيته أَبُو الْعَبَّاس وَكَانَ يكْتب بِخَطِّهِ ابْن الْعَسْقَلَانِي وَهُوَ ولد الشَّيْخ ضِيَاء الدّين
كَانَ كَمَال الدّين هَذَا فَقِيها صَالحا سليم الْبَاطِن حسن الِاعْتِقَاد كثير المصنفات أَخذ عَن وَالِده وَغَيره وروى عَن ابْن الجميزي
وَعِنْدِي بِخَطِّهِ من مصنفاته نهج الْوُصُول فِي علم الْأُصُول مُخْتَصر صنفه(8/23)
فِي أصُول الْفِقْه والمقدمة الأحمدية فِي أصُول الْعَرَبيَّة وَكتاب طب الْقلب وَوصل الصب تصوف وَكتاب الْجَوَاهِر السحابية فِي النكت المرجانية جمع فِيهِ كَلِمَات سَمعهَا من أَخِيه فِي الله على مَا ذكر الشَّيْخ الْجَلِيل الْمِقْدَار أبي عبد الله بن مُحَمَّد بن الْمرْجَانِي وَكَانَ اجْتمع بِهِ بعد قفول ابْن الْمرْجَانِي من حجه سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَكتب عَنهُ هَذِه الْفَوَائِد وَكتاب الْعلم الظَّاهِر فِي مَنَاقِب الْفَقِيه أبي الطَّاهِر جمع فِيهِ مَنَاقِب شيخ وَالِده أبي الطَّاهِر خطيب مصر وكتبت من هَذَا الْكتاب فَوَائِد تتَعَلَّق بتراجم جمَاعَة نقلتها عَنهُ فِي هَذَا الْكتاب وَكتاب الْحجَّة الرابضة لفرق الرافضة وكل هَذِه مختصرات عِنْدِي بِخَطِّهِ
وَولي قَضَاء الْمحلة مُدَّة زمانية اجْتمع بِالْحَافِظِ زكي الدّين الْمُنْذِرِيّ وَحدث عَنهُ بفوائد
وَقَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ إِنَّه توفّي سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
قلت وَلَيْسَ كَذَلِك بل قد تَأَخّر عَن هَذَا الْوَقْت فقد رَأَيْت طباق السماع عَلَيْهِ فِي الْعلم الظَّاهِر مؤرخة بِسنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة بَعْضهَا فِي جُمَادَى الأولى وَبَعضهَا فِي رَجَب وَعَلَيْهَا خطه بالتصحيح وَكَانَ حَاكما بِمَدِينَة الْمحلة إِذْ ذَاك
وَلابْن القليوبي شرح على التَّنْبِيه مَبْسُوط وَفِيه يَقُول فِيمَا رَأَيْته مَنْقُولًا عَنهُ إِنَّه استنبط من قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك وبناتك وَنسَاء الْمُؤمنِينَ يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن ذَلِك أدنى أَن يعرفن فَلَا يؤذين} أَن مَا يَفْعَله عُلَمَاء هَذَا الزَّمَان فِي ملابسهم من سَعَة الأكمام وَكبر الْعمة وَلبس الطيالس حسن وَإِن لم يَفْعَله السّلف لِأَنَّهُ فِيهِ تَمْيِيز لَهُم يعْرفُونَ بِهِ ويلتفت إِلَى فتاويهم وأقوالهم(8/24)
1051 - أَحْمد بن عمر بن مُحَمَّد الشَّيْخ الإِمَام الزَّاهِد الْكَبِير نجم الدّين الْكُبْرَى
أَبُو الجناب - بِفَتْح الْجِيم ثمَّ نون مُشَدّدَة - الخيوقي الصُّوفِي شيخ خوارزم
والكبرى على صِيغَة فعلى كعظمى وَمِنْهُم من يمد فَيَقُول الكبراء جمع كَبِير
كَانَ إِمَامًا زاهدا عَالما طَاف الْبِلَاد وَسمع بهَا الحَدِيث سمع بالإسكندرية أَبَا طَاهِر السلَفِي وبهمذان الْحَافِظ أَبَا الْعَلَاء وبنيسابور أَبَا الْمَعَالِي الفراوي
روى عَنهُ عبد الْعَزِيز بن هلالة وناصر بن مَنْصُور الفرضي وَالشَّيْخ سيف الدّين الباخرزي وَآخَرُونَ
قَالَ ابْن نقطة هُوَ شَافِعِيّ الْمَذْهَب إِمَّا فِي السّنة
وَقَالَ ابْن هلالة جَلَست عِنْده فِي الْخلْوَة مرَارًا فَوجدت من بركته شَيْئا عَظِيما(8/25)
وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْحَاجِب طَاف الْبِلَاد وَسمع بهَا الحَدِيث واستوطن خوارزم وَصَارَ شيخ تِلْكَ النَّاحِيَة وَكَانَ صَاحب حَدِيث وَسنة وملجأ للغرباء عَظِيم الجاه لَا يخَاف فِي الله لومة لائم
وَقَالَ غَيره إِنَّه فسر الْقُرْآن الْعَظِيم فِي اثْنَتَيْ عشرَة مجلدة وَاجْتمعَ بِهِ الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ
1052 - أَحْمد بن فَرح بِالْفَاءِ والحاء الْمُهْملَة ابْن أَحْمد الإشبيلي الْمُحدث أَبُو الْعَبَّاس اللَّخْمِيّ
نزيل دمشق ولد سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وأسره الْعَدو ونجاه الله تَعَالَى
وَأخذ عَن شيخ الْإِسْلَام عز الدّين بن عبد السَّلَام والكمال الضَّرِير وَغَيرهمَا بِالْقَاهِرَةِ ثمَّ بِدِمَشْق عَن ابْن عبد الدَّائِم وَعمر الْكرْمَانِي وَابْن أبي الْيُسْر وَخلق
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَأَقْبل على تجويد الْمُتُون وفهمها فَتقدم فِي ذَلِك وَكَانَت لَهُ حَلقَة إقراء فِي جَامع دمشق يقْرَأ فِيهَا فنون الحَدِيث حضرت مجالسه وَأخذت عَنهُ(8/26)
وَنعم الشَّيْخ كَانَ سكينَة ووقارا وديانة واستحضارا مَاتَ بتربة أم الصَّالح فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا أَحْمد بن فَرح وعدة قَالُوا أخبرنَا ابْن عبد الدَّائِم
ح وَأخْبرنَا عَن ابْن عبد الدَّائِم إجَازَة إِن لم يكن سَمَاعا أخبرنَا يحيى بن مَحْمُود أخبرنَا أَبُو عَليّ الْحداد حضورا أخبرنَا أَبُو نعيم أخبرنَا عبد الله بن جَعْفَر حَدثنَا أَحْمد بن الْفُرَات حَدثنَا يعلى بن عبيد حَدثنَا الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَجِد من شرار النَّاس ذَا الْوَجْهَيْنِ قَالَ الْأَعْمَش الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْه وَهَؤُلَاء بِوَجْه // حَدِيث صَحِيح // // أخرجه التِّرْمِذِيّ //
أنشدنا الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن المظفر بن أبي مُحَمَّد النابلسي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قلت لَهُ أنْشدكُمْ الشَّيْخ الإِمَام الْحَافِظ الزَّاهِد شهَاب الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن فَرح لنَفسِهِ
(غرامي صَحِيح والرجا فِيك معضل ... وحزني ودمعي مُرْسل ومسلسل)
(وصبري عَنْكُم يشْهد الْعقل أَنه ... ضَعِيف ومتروك وذلي أجمل)
(وَلَا حسن إِلَّا سَماع حديثكم ... مشافهة يملى عَليّ فأنقل)(8/27)
(وأمري مَوْقُوف عَلَيْك وَلَيْسَ لي ... على أحد إِلَّا عَلَيْك الْمعول)
(وَلَو كَانَ مَرْفُوعا إِلَيْك لَكُنْت لي ... على رغم عذالي ترق وتعدل)
(وعذل عذولي مُنكر لَا أسيغه ... وزور وتدليس يرد ويهمل)
(أَقْْضِي زماني فِيك مُتَّصِل الأسى ... ومنقطعا عَمَّا بِهِ أتوصل)
(وَهَا أَنا فِي أكفان هجرك مدرج ... تكلفني مَا لَا أُطِيق فأحمل)
(وأجريت دمعي بالدماء مدبجا ... وَمَا هِيَ إِلَّا مهجتي تتحلل)
(فمتفق جفني وسهدي وعبرتي ... ومفترق صبري وقلبي المبلبل)
(ومؤتلف شجوي ووجدي ولوعتي ... ومُخْتَلف حظي وَمَا فِيك آمل)
(خُذ الوجد عني مُسْندًا ومعنعنا ... فغيري بموضوع الْهوى يتجمل)
(وَذي نبذ من مُبْهَم الْحبّ فَاعْتبر ... وغامضه إِن رمت شرحا أطول)
(غَرِيب يقاسي الْبعد عَنْك وَمَا لَهُ ... وحقك عَن دَار القلى متحول)
(عَزِيز بكم صب ذليل لعزكم ... ومشهور أَوْصَاف الْمُحب التذلل)(8/28)
(فرفقا بمقطوع الْوَسَائِل مَا لَهُ ... إِلَيْك سَبِيل لَا وَلَا عَنْك معدل)
(وَلَا زلت فِي عز منيع ورفعة ... وَلَا زلت تعلو بالتجني وَأنزل)
(أوري بسعدى والرباب وَزَيْنَب ... وَأَنت الَّذِي تعنى وَأَنت المؤمل)
(فَخذ أَولا من آخر ثمَّ أَولا ... من النّصْف مِنْهُ فَهُوَ فِيهِ مكمل)
(أبر إِذا أَقْسَمت أَنِّي بحبه ... أهيم وقلبي بالصبابة مشعل)
وَهَذِه القصيدة بليغة جَامِعَة لغالب أَنْوَاع الحَدِيث
1053 - أَحْمد بن الْمُبَارك بن نَوْفَل الإِمَام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس النصيبيني الخرفي
وخرفة بخاء مُعْجمَة ثمَّ رَاء سَاكِنة ثمَّ فَاء مَفْتُوحَة من قرى نَصِيبين
كَانَ إِمَامًا عَالما فَقِيها نحويا مقرئا يشغل النَّاس بالموصل وسنجار ودرس بهما مَذْهَب الشَّافِعِي
وَله مصنفات كَثِيرَة مِنْهَا شرح الدريدية وَشرح الملحة وَكتاب خطب وَكتاب فِي الْعرُوض
انْتقل بِالآخِرَة إِلَى الجزيرة فَتوفي بهَا فِي رَجَب سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة(8/29)
1054 - أَحْمد بن كشاسب
بِفَتْح الْكَاف وشين مُعْجمَة مَفْتُوحَة ثمَّ ألف سَاكِنة ثمَّ سين مُهْملَة ثمَّ بَاء مُوَحدَة ابْن عَليّ الدزماري بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة بعْدهَا زَاي سَاكِنة ثمَّ مِيم ثمَّ ألف ثمَّ رَاء مَكْسُورَة ثمَّ يَاء النّسَب الشَّيْخ كَمَال الدّين الْفَقِيه الصُّوفِي أَبُو الْعَبَّاس
لَهُ شرح التَّنْبِيه وَكتاب فِي الفروق
قَالَ الشَّيْخ شهَاب الدّين أَبُو شامة وَهُوَ أحد من قَرَأت عَلَيْهِ فِي صباي قَالَ وَهُوَ الَّذِي ذكره شَيخنَا أَبُو الْحسن - يَعْنِي السخاوي - فِي خطْبَة التَّفْسِير وَأثْنى عَلَيْهِ كَانَ يلازم حَلقَة الشَّيْخ لسَمَاع التَّفْسِير وَفِي وَقت ختمات الطّلبَة
توفّي فِي سَابِع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
وَحكى فِي شرح التَّنْبِيه وَجْهَيْن فِي ضبط الصَّغِير وَالْكَبِير فِي ضبة الذَّهَب وَالْفِضَّة أَن الْكَبِير قدر نِصَاب السّرقَة وَالصَّغِير دونه وَهُوَ غَرِيب(8/30)
1055 - أَحْمد بن محسن
بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر السِّين الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة ابْن ملي بِاللَّامِ أَيْضا الشَّيْخ نجم الدّين الْمَعْرُوف بِابْن ملي
الْمَشْهُور بِحسن المناظرة والقادر على إبداء الْحجَّة المسرعة وإلجام الْخُصُوم والذهن المتوقد كشعلة نَار والوثوب على النظراء فِي مجَالِس النّظر كَأَنَّهُ صَاحب ثار
سمع من الْبَهَاء عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الْمَقْدِسِي وَالْحُسَيْن بن الزبيدِيّ وَأبي المنجا بن اللتي وَغَيرهم
وَحدث بِدِمَشْق وحلب وَقَرَأَ بِدِمَشْق النَّحْو على ابْن الْحَاجِب وتفقه على شيخ الْإِسْلَام ابْن عبد السَّلَام وَأحكم الْأُصُول وَالْكَلَام والفلسفة
وَأفْتى وناظر وشغل مُدَّة وَدخل مصر غير مرّة وناظر وَشهد لَهُ أَهلهَا بِالْفَضْلِ وَكَانَ يَقُول فِي الدَّرْس عينوا آيَة لنتكلم عَلَيْهَا فَإِذا عينوها تكلم بِعِبَارَة فصيحة وَعلم غزير كَأَنَّمَا يقْرَأ من كتاب وَكَانَ قوي الحافظة تقْرَأ عَلَيْهِ الأوراق مرّة وَاحِدَة فيعيدها بِأَكْثَرَ لَفظهَا وَإِذا حضر عِنْد أحد درسا سكت إِلَى أَن يفرغ ذَلِك الْمدرس وَيَقُول مَا عِنْده مِمَّا بَيته فيبتدىء ابْن ملي وَيَقُول ذكر مَوْلَانَا كَيْت وَكَيْت وَيذكر جَمِيع مَا ذكره ثمَّ يَأْخُذ فِي الِاعْتِرَاض والبحث(8/31)
وَقد دخل بَغْدَاد وَأعَاد بالنظامية
ولد ببعلبك فِي رَمَضَان سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة وَتُوفِّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة
أخبرنَا الْمسند عز الدّين أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن عمر بن الْمُسلم الْحَمَوِيّ قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع أخبرنَا الإِمَام الْعَلامَة الأصولي ذُو الْفُنُون نجم الدّين أَو الْعَبَّاس أَحْمد بن محسن بن ملي الشَّافِعِي البعلبكي قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الْمَقْدِسِي أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن عبد الْحق بن عبد الْخَالِق ابْن أَحْمد بن يُوسُف قِرَاءَة عَلَيْهِ أخبرنَا أَبُو سعد بن عبد الْملك بن عبد القاهر الْأَسدي أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم عبد الْملك بن مُحَمَّد بن بَشرَان حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد دعْلج حَدثنَا معَاذ بن الْمثنى حَدثنَا عَمْرو بن مَرْزُوق أخبرنَا شُعْبَة عَن قيس بن مُسلم عَن طَارق بن شهَاب قَالَ خطب مَرْوَان فَقدم الْخطْبَة قبل الصَّلَاة - يَعْنِي يَوْم الْعِيد - فَقَامَ رجل فَقَالَ خَالَفت السّنة فَقَامَ أَبُو سعيد فَقَالَ أما هَذَا الْمُتَكَلّم فقد قضى مَا عَلَيْهِ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رأى مِنْكُم مُنْكرا فلينكره بِيَدِهِ فَإِن لم يسْتَطع فبلسانه فَإِن لم يسْتَطع فبقلبه وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان(8/32)
1056 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي بكر بن خلكان الْبَرْمَكِي قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين ابْن شهَاب الدّين
تفقه على وَالِده بِمَدِينَة إربل ثمَّ انْتقل بعد موت أَبِيه إِلَى الْموصل وَحضر دروس الإِمَام كَمَال الدّين بن يُونُس ثمَّ انْتقل إِلَى حلب وَأقَام عِنْد الشَّيْخ بهاء الدّين أبي المحاسن يُوسُف بن شَدَّاد وتفقه عَلَيْهِ وَقَرَأَ النَّحْو على أبي الْبَقَاء يعِيش بن عَليّ النَّحْوِيّ ثمَّ قدم دمشق واشتغل على ابْن الصّلاح ثمَّ انْتقل إِلَى الْقَاهِرَة وناب فِي الحكم عَن قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين السنجاري ثمَّ ولي قَضَاء الْمحلة ثمَّ ولي قَضَاء الْقُضَاة بِالشَّام ثمَّ عزل ثمَّ وَليهَا ثَانِيًا ثمَّ عزل
وَمن مصنفاته كتاب وفيات الْأَعْيَان وَهُوَ كتاب جليل
توفّي بِدِمَشْق فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة فِي شهر رَجَب
وَله فِي الْأَدَب الْيَد الطُّولى وشعره أرق من أعطاف ذِي الشَّمَائِل لعبت بِهِ الشُّمُول وأعذب فِي الثغور لعسا من ارتشاف الضَّرْب وَإنَّهُ لفوق مَا نقُول(8/32)
فَمِنْهُ
(يَا من كلفت بِهِ فعذب مهجتي ... رفقا على كلف الْفُؤَاد معذب)
(إِن فَاتَهُ مِنْك اللِّقَاء فَإِنَّهُ ... يرضى بلقيا طيفك المتأوب)
(قسما بوجدي فِي الْهوى وبحرقتي ... وبحيرتي وتلهفي وتلهبي)
(لَو قلت لي جدلى بروحك لم أَقف ... فبمَا أمرت وَإِن شَككت فجرب)
(مولَايَ هَل من عطفة تصغي إِلَى ... قصصي وَطول شكايتي وتعتبي)
(قد كنت تَلقانِي بِوَجْه باسم ... وَالْيَوْم تَلقانِي بِوَجْه مقطب)
(مَا كَانَ لي ذَنْب إِلَيْك سوى الْهوى ... فعلام تهجرني إِذا لم أذْنب)
(قل لي بِأَيّ وَسِيلَة أدلي بهَا ... إِن كنت تبعدني لأجل تقربي)
(وحياة وَجهك وَهُوَ بدر طالع ... وجمال طرتك الَّتِي كالغيهب)
(وفتور مقلتك الَّتِي قد أذعنت ... لكَمَال بهجتها عُيُوب المعتب)
(وَبَيَان مبسمك النقي الْوَاضِح العذب ... الشهي اللؤلئي الأشنب)
(وبقامة لَك كالقضيب ركبت من ... أخطارها فِي الْحبّ أصعب مركب)
(لَو لم أكن فِي رُتْبَة أرعى لَهَا الْعَهْد ... الْقَدِيم صِيَانة للمنصب)
(لهتكت ستري فِي هَوَاك ولذ لي ... خلع العذار ولج فِيك مؤنبي)
(قد خانني صبري وَضَاقَتْ حيلتي ... وتقسمت فكري وعقلي قد سبي)
(وَلَقَد سمحت بمهجتي وحشاشتي ... وبحالتي ووجاهتي وبمنصبي)
(حَتَّى خشيت بِأَن يَقُول عواذلي ... قد جن هَذَا الشَّيْخ فِي هَذَا الصَّبِي)(8/34)
1059 - أَحْمد بن مَحْمُود بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي الهيجاء ابْن حمدَان أَبُو الْعَبَّاس
من أهل وَاسِط
درس الْفِقْه على عَمه أبي عَليّ الْحسن بن أَحْمد وعَلى يحيى بن الرّبيع وَأبي الْقَاسِم ابْن فضلان وَقَرَأَ الْأُصُول على المجير الْبَغْدَادِيّ والقراءات بالروايات على أبي بكر الباقلاني وَسمع من أبي الْفَتْح بن شاتيل وَأبي الْفرج بن كُلَيْب وَطَائِفَة
وَولي الْقَضَاء بالجانب الغربي بِبَغْدَاد
قَالَ ابْن النجار وَكَانَ فَقِيها فَاضلا عَالما عَاملا حَافِظًا لمَذْهَب الشَّافِعِي سديد الْفَتَاوَى حسن الْكَلَام فِي مسَائِل الْخلاف لَهُ يَد حَسَنَة فِي الْأُصُول والجدل وَيقْرَأ الْقُرْآن قِرَاءَة حَسَنَة وَيفهم طرفا صَالحا من الحَدِيث وَالْأَدب وَكتب بِخَطِّهِ كثيرا من كتب الْفِقْه والْحَدِيث وَغير ذَلِك وَوصف بِالْخَيرِ كثيرا إِلَى أَن قَالَ مَا رَأَيْت أجمل طَريقَة مِنْهُ وَلَا أحسن سيرة مِنْهُ
مولده فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة بواسط وَمَات بِبَغْدَاد فِي شهر ربيع الآخر سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة(8/34)
1057 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَبَّاس بن جعوان الْفَقِيه شهَاب الدّين الدِّمَشْقِي
كَانَ ورعا أَخذ عَن النَّوَوِيّ وروى عَن ابْن عبد الدَّائِم
توفّي فِي شعْبَان سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة بِدِمَشْق
1058 - أَحْمد بن مُحَمَّد الشَّيْخ الصَّالح أَبُو الْعَبَّاس الملثم
كَانَ من أَصْحَاب الكرامات وَالْأَحْوَال والمقامات العاليات ويحكى عَنهُ عجائب وغرائب
وَكَانَ مُقيما بِمَدِينَة قوص لَهُ بهَا رِبَاط وَعرف بالملثم لِأَنَّهُ كَانَ دَائِما بلثام
وَكَانَ من الْمَشَايِخ المعمرين بَالغ فِيهِ قوم حَتَّى قَالُوا إِنَّه من قوم يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّه صلى خلف الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَإنَّهُ رأى الْقَاهِرَة أخصاصا قبل بنائها
وَمن أخص النَّاس بِصُحْبَتِهِ تِلْمِيذه الشَّيْخ الصَّالح عبد الْغفار بن نوح صَاحب كتاب الوحيد فِي علم التَّوْحِيد وَقد حكى فِي كِتَابه هَذَا كثيرا من كراماته(8/35)
وَذكر أَنه كَانَ عَادَته إِذا أَرَادَ أَن يسْأَل أَبَا الْعَبَّاس شَيْئا أَو اشتاق إِلَيْهِ حضر وَإِن كَانَ غَائِبا سَاعَة مُرُور ذَلِك على خاطره
قَالَ وسألني يَوْمًا بعض الصَّالِحين أَن أسأله عَمَّا يُقَال إِنَّه من قوم يُونُس وَمن أَنه رأى الشَّافِعِي قَالَ فَجَاءَنِي غُلَام عمي وَقَالَ لي الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس فِي الْبَيْت وَقد طَلَبك وَكنت غسلت ثوبي وَلَا ثوب لي غَيره فَقُمْت واشتملت بِشَيْء ورحت إِلَيْهِ فَوَجَدته مُتَوَجها فَسلمت وَجَلَست وَسَأَلته عَمَّا جرى بِمَكَّة وَكنت أعتقد أَنه يحجّ فِي كل سنة فَإِنَّهُ كَانَ زمَان الْحَج يغيب أَيَّامًا يسيرَة ويخبر بأخبارها فَلَمَّا سَأَلته أَخْبرنِي بِمَا جرى بِمَكَّة ثمَّ تفكرت مَا سَأَلَهُ ذَلِك الرجل الصَّالح فحين خطر لي الْتفت إِلَيّ وَقَالَ لي يَا فَتى مَا أَنا من قوم يُونُس أَنا شرِيف حسيني وَأما الشَّافِعِي فَمَتَى مَاتَ مَا لَهُ من حِين مَاتَ كثير نعم أَنا صليت خَلفه وَكَانَ جَامع مصر سوقا للدواب وَكَانَت الْقَاهِرَة اخصاصا
فَأَرَدْت أَن أحقق عَلَيْهِ فَقلت صليت خلف الإِمَام الشَّافِعِي مُحَمَّد بن إِدْرِيس فَتَبَسَّمَ وَقَالَ فِي النّوم يَا فَتى فِي النّوم يَا فَتى وَهُوَ يضْحك
وَكَانَ يَوْم الْجُمُعَة فاشتغلنا بِالْحَدِيثِ وَكَانَ حَدِيثه يلذ بالمسامع فَبَيْنَمَا نَحن فِي الحَدِيث والغلام يتَوَضَّأ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ إِلَى أَيْن يَا مبارك فَقَالَ إِلَى الْجَامِع فَقَالَ وحياتي صليت فَخرج الْغُلَام وَجَاء فَوجدَ النَّاس خَرجُوا من الْجَامِع
قَالَ عبد الغافر فَخرجت فَسَأَلت النَّاس فَقَالُوا كَانَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس فِي الْجَامِع وَالنَّاس تسلم عَلَيْهِ
قَالَ عبد الغافر وفاتتني صَلَاة الْجُمُعَة ذَلِك الْيَوْم
قَالَ وَلَعَلَّ قَوْله صليت من صِفَات الْبَدَلِيَّة فَإِنَّهُم يكونُونَ فِي مَكَان وشبههم(8/36)
1060 - أَحْمد بن مُوسَى بن يُونُس بن مُحَمَّد بن مَنْعَة الإربلي الْموصِلِي
الشَّيْخ شرف الدّين ابْن الشَّيْخ كَمَال الدّين بن يُونُس شَارِح التَّنْبِيه
ولد سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة وتفقه على وَالِده وبرع فِي الْمَذْهَب
وَاخْتصرَ كتاب الْإِحْيَاء للغزالي مرَّتَيْنِ وَكَانَ يلقِي الْإِحْيَاء دروسا من حفظه وَكَانَ كثير الْمَحْفُوظ غزير الْمَادَّة متفننا فِي الْعُلُوم وَتخرج بِهِ خلق كثير
توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة
وَوَقع فِي شرح التَّنْبِيه لِابْنِ يُونُس حِكَايَة وَجه أَنه إِذا خلط الطَّعَام الْمُوصى بِهِ بأجود مِنْهُ لَا يكون رُجُوعا وَقد قَالَ الرَّافِعِيّ لم يذكرُوا خلافًا فِي أَنه رُجُوع وَفِيه وَجه أَنه إِذا وَجب عَلَيْهِ فِي زَكَاة الْفطر نوع فَلَا يجوز لَهُ الْعُدُول إِلَى أَعلَى مِنْهُ وَهَكَذَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي والشاشي فِي الْحِلْية وَهُوَ يرد على دَعْوَى الرَّافِعِيّ الِاتِّفَاق على الْجَوَاز
وَفِيه وَجه أَنه يشْتَرط قبُول الْمُوصى لَهُ بعد الْمَوْت على الْفَوْر وَالَّذِي جزم بِهِ الرَّافِعِيّ خِلَافه قَالَ وَإِنَّمَا يشْتَرط ذَلِك فِي الْعُقُود الناجزة الَّتِي يعْتَبر فِيهَا ارتباط الْقبُول بِالْإِيجَابِ وَفِي وَجه عَن الشَّاشِي فِيمَا إِذا مَاتَ الْمُوصى لَهُ بعد موت الْمُوصي أَنه لَا يقوم وَارثه مقَامه فِي الْقبُول وَالرَّدّ بل تبطل الْوَصِيَّة قَالَ وَلَيْسَ هُوَ بِشَيْء وَهَذَا أَيْضا لَيْسَ فِي الرَّافِعِيّ(8/36)
فِي مَكَان آخر وَقد تكون تِلْكَ الصّفة الْكَشْف الصُّورِي الَّذِي ترْتَفع فِيهِ الجدران وَيبقى الاستطراق فَيصَلي كَيفَ كَانَ وَلَا يَحْجُبهُ الاستطراق
قَالَ عبد الغافر وَكنت عزمت على الْحجاز وَحصل عِنْدِي قلق زَائِد فَأَنا أَمْشِي فِي اللَّيْل فِي زقاق مظلم وَإِذا يَد على صَدْرِي فَزَاد مَا عِنْدِي من القلق فَنَظَرت فَوَجَدته الشَّيْخ أَبَا الْعَبَّاس فَقَالَ يَا مبارك الْقَافِلَة الَّتِي أردْت الرواح فِيهَا تُؤْخَذ والمركب الَّذِي يُسَافر فِيهِ الْحجَّاج يغرق فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك
قَالَ وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس لَا يَخْلُو عَن عبَادَة يَتْلُو الْقُرْآن نَهَارا وَيُصلي لَيْلًا قَالَ وَكَانَ أَبوهُ ملكا بالمشرق
قَالَ وَقلت لَهُ يَوْمًا يَا سَيِّدي أَنْت تَقول فلَان يَمُوت الْيَوْم الْفُلَانِيّ وَهَذِه المراكب تغرق وأمثال ذَلِك والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام لَا يَقُولُونَ وَلَا يظهرون إِلَّا مَا أمروا بِهِ مَعَ كمالهم وقوتهم وَنور الْأَوْلِيَاء إِنَّمَا هُوَ رشح من نور النُّبُوَّة فَلم تَقول أَنْت هَذِه الْأَقْوَال
فاستلقى على ظَهره وَجعل يضْحك وَيَقُول وحياتي وحياتك يَا فَتى مَا هُوَ باختياري
توفّي الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع عشْرين من شهر رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وسِتمِائَة وَهُوَ مدفون برباطه بِمَدِينَة قوص مَقْصُود للبركة(8/37)
وَحكى وَجْهَيْن فِي أَنه هَل يجب على الْوَلِيّ أَن يعلم الصَّبِي الطَّهَارَة وَالصَّلَاة أَو يسْتَحبّ وَكَذَلِكَ حَكَاهُمَا الدَّارمِيّ فِي الاستذكار وَغَيره وَالْمَشْهُور عِنْد الْأَئِمَّة الْوُجُوب
وَحكى وَجها عَن الخراسانيين أَنه لَا تجب الْكَفَّارَة على السَّيِّد فِي قتل عَبده وَهُوَ غَرِيب
وَفِي ابْن يُونُس غرائب كَثِيرَة لَيست فِي الرَّافِعِيّ إِلَّا أَن ابْن الرّفْعَة جد واجتهد فِي ايداعها الْكِفَايَة فَلم أر للتطويل بهَا مَعَ وجدانها فِي الْكِفَايَة كَبِير معنى
1061 - أَحْمد بن عِيسَى بن عجيل اليمني
الإِمَام الْعَالم الْعَامِل الْوَلِيّ الزَّاهِد الْعَارِف صَاحب الْأَحْوَال والكرامات
وَمِمَّا يُؤثر من كراماته أَن بعض النَّاس جَاءَ إِلَيْهِ وَفِي يَده سلْعَة فَقَالَ لَهُ ادْع الله أَن يزِيل عني هَذِه السّلْعَة وَإِلَّا مَا بقيت أحسن ظَنِّي بِأحد من الصَّالِحين
فَقَالَ لَهُ لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَمسح على يَده وربط عَلَيْهَا بِخرقَة وَقَالَ لَهُ لَا تفتحها حَتَّى تصل إِلَى مَنْزِلك
فَخرج من عِنْده فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الطَّرِيق أَرَادَ أَن يتغدى فَفتح يَده ليَأْكُل(8/40)
وَكَانَت فِي كَفه الْيُمْنَى فَلم ير لَهَا أثرا وَذَهَبت عَنهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَكَأن الشَّيْخ أَرَادَ ستر الْكَرَامَة بالخرقة لِئَلَّا تظهر فِي الْحَال
وَمن الْمَشْهُور أَن بعض فُقَهَاء الْيمن الصَّالِحين من قرَابَة ابْن العجيل هَذَا سَمعه فِي قَبره يقْرَأ سُورَة النُّور
1062 - أَحْمد بن يحيى بن هبة الله بن الْحسن
قَاضِي الْقُضَاة صدر الدّين بن قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين بن سني الدولة(8/41)
1063 - أَحْمد بن يُوسُف بن حسن بن رَافع الشَّيْبَانِيّ الشَّيْخ موفق الدّين أَبُو الْعَبَّاس الْموصِلِي
الْمُفَسّر الرجل الصَّالح الزَّاهِد الْوَرع ذُو الْأَحْوَال والكرامات الْمَعْرُوف بالكواشي
ولد بكواشة وَهِي قلعة من أَعمال الْموصل سنة تسعين أَو إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
وَقَرَأَ الْقُرْآن على وَالِده وَسمع الحَدِيث من أبي الْحسن السخاوي وَغَيره ثمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَده ولازم الإقراء وَالْعِبَادَة والتصنيف صنف التَّفْسِير الْكَبِير وَالتَّفْسِير الصَّغِير
وَكَانَ السُّلْطَان وَمن دونه يزورونه وَلَا يعبأ بهم وَكَانَ لَا يقبل من أحد شَيْئا وَكَانَ يُقَال إِنَّه يعرف الِاسْم الْأَعْظَم ولازم جَامع الْموصل نيفا وَأَرْبَعين سنة
وَقيل إِنَّه كَانَ ينْفق من الْغَيْب قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَلَا أعتقد صِحَة ذَلِك ويحكى عَنهُ من الكرامات مَا يطول شَرحه(8/42)
1064 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي سعد بن الإِمَام أبي الْخطاب
رَئِيس الشَّافِعِيَّة ببخارى هُوَ وَأَبوهُ وجده وجد جده
كَانَ عَالم تِلْكَ الْبِلَاد وإمامها ومحققها وزاهدها وعابدها
وَقَالَ فِيهِ صاحبنا وَشَيخنَا الشَّيْخ الْحَافِظ عفيف الدّين المطري هُوَ مُجْتَهد زَمَانه وعلامة أقرانه لم تَرَ الْعُيُون مثله وَمَا رأى مثل نَفسه انْتهى
قلت وَهُوَ مُصَنف كتاب الملخص وَكتاب الْمِصْبَاح كِلَاهُمَا فِي الْفِقْه والمصباح أكبرهما حجما
مَاتَ سنة أَربع وسِتمِائَة
1065 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عبد الله بن أَحْمد
ابْن الميمون الْقَيْسِي التوزري الشَّيْخ قطب الدّين بن الْقُسْطَلَانِيّ
الْفَقِيه الْمُحدث الأديب الصُّوفِي العابد
ولد فِي ذِي الْحجَّة سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة
وَسمع من وَالِده وَمن الشَّيْخ شهَاب الدّين السهروردي وَلبس مِنْهُ خرقَة التصوف وَسمع الْكثير بِمصْر ودمشق من أَصْحَاب السلَفِي وَأَصْحَاب ابْن عَسَاكِر وببغداد من جمَاعَة(8/43)
ولي مشيخة دَار الحَدِيث الكاملية بِالْقَاهِرَةِ وَحدث كثيرا وَأفَاد
وَمن شعره
(إِذا طَابَ أصل الْمَرْء طابت فروعه ... وَمن غلط جَاءَت يَد الشوك بالورد)
(وَقد يخْبث الْفَرْع الَّذِي طَابَ أَصله ... ليظْهر صنع الله فِي الْعَكْس والطرد)
توفّي فِي الْمحرم سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
1066 - مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي بكر بن خلكان
وَالِد القَاضِي شمس الدّين
1067 - مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْفضل السهلي معِين الدّين الجاجرمي
صَاحب الْكِفَايَة فِي الْفِقْه نَحْو التَّنْبِيه أَو دونه وَله طَريقَة فِي الْخلاف وَشرح أَحَادِيث الْمُهَذّب وإيضاح الْوَجِيز
حدث عَن عبد الْمُنعم بن عبد الله الفراوي(8/44)
وَمن الْمسَائِل عَنهُ
حكى وَجْهَيْن فِي جَوَاز اسْتِئْجَار الرياحين للشم
1068 - مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْخَطِيب أَبُو عبد الله الغساني الْحَمَوِيّ وَيعرف بِابْن الجاموس
تفقه بحماة ثمَّ توجه إِلَى الْقَاهِرَة وَولي خطابة الْجَامِع الْعَتِيق بِمصْر والتدريس بمشهد الْحُسَيْن
توفّي فِي ربيع الأول سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة
1069 - مُحَمَّد بن إِسْحَاق الشَّيْخ الزَّاهِد صدر الدّين القونوي
صَاحب التصانيف فِي التصوف
توفّي سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة(8/45)
1070 - مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي الصَّيف اليمني
فَقِيه الْحرم الشريف أَقَامَ بِمَكَّة مُدَّة يدرس ويفتي إِلَى أَن توفّي سنة تسع وسِتمِائَة
1071 - مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن رزين بن مُوسَى بن عِيسَى
ابْن مُوسَى العامري الْحَمَوِيّ قَاضِي الْقُضَاة بالديار المصرية تَقِيّ الدّين أَبُو عبد الله
ولد سنة ثَلَاث وسِتمِائَة بحماة وَحفظ من التَّنْبِيه فِي صغره جانبا صَالحا ثمَّ انْتقل إِلَى الْوَسِيط فحفظه كُله وَحفظ الْمفصل كُله والمستصفى للغزالي كُله وكتابي أبي عَمْرو بن الْحَاجِب فِي الْأُصُول والنحو وسافر إِلَى حلب فَقَرَأَ الْمفصل على موفق الدّين ابْن يعِيش ثمَّ قدم دمشق فلازم الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن الصّلاح وَأخذ عَنهُ وَقَرَأَ بالقراءات على السخاوي وَسمع مِنْهُمَا وَمن كَرِيمَة
حَدثنَا عَنهُ قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين بن جمَاعَة وَحدث عَنهُ آخَرُونَ
وَولي بِدِمَشْق إِمَامَة دَار الحَدِيث الأشرفية ثمَّ تدريس الشامية البرانية ثمَّ وكَالَة بَيت المَال بِدِمَشْق(8/46)
ثمَّ انْتقل إِلَى الْقَاهِرَة وَأعَاد بقبة الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ثمَّ درس بالظاهرية ثمَّ ولي قَضَاء الْقُضَاة وتدريس الشَّافِعِي وَامْتنع أَن يَأْخُذ على الْقَضَاء مَعْلُوما
وَكَانَ فَقِيها فَاضلا حميد السِّيرَة كثير الْعِبَادَة حسن التَّحْقِيق مشاركا فِي عُلُوم غير الْفِقْه كَثِيرَة مشارا إِلَيْهِ بالفتوى من النواحي الْبَعِيدَة
توفّي فِي ثَالِث رَجَب سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة
فَوَائِد عَن قَاضِي الْقُضَاة ابْن رزين
كَانَ يذهب إِلَى الْوَجْه الَّذِي حَكَاهُ صَاحب التَّتِمَّة أَن الرشد صَلَاح المَال فَقَط ويرتفع الْحجر عَمَّن بلغ رشيدا فِي مَاله وَإِن بلغ سَفِيها فِي دينه
قَالَ ابْن الرّفْعَة سَمِعت قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين فِي مجْلِس حكمه بِمصْر يُصَرح بِاخْتِيَارِهِ وَيحكم بِمُوجبِه ويستدل لَهُ بِإِجْمَاع الْمُسلمين على جَوَاز مُعَاملَة من تَلقاهُ الْغَرِيب من أهل الْبِلَاد مَعَ أَن الْعلم مُحِيط بِأَن الْغَالِب على النَّاس عدم الرشد فِي الدّين والرشد فِي المَال وَلَو كَانَ ذَلِك مَانِعا من نُفُوذ التَّصَرُّفَات لم تجر الأقلام عَلَيْهِ
قلت كَانَ قَاضِي الْقُضَاة بالديار المصرية إِذا جمعُوا بَين قَضَاء الْقَاهِرَة ومصر كَمَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ الْقَاعِدَة من الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة يتوجهون يَوْم الِاثْنَيْنِ وَيَوْم الْخَمِيس إِلَى مصر فَيَجْلِسُونَ بِجَامِع عَمْرو بن الْعَاصِ لفصل الْقَضَاء بَين النَّاس ويحضر عِنْدهم عُلَمَاء مصر وَكَانَ ابْن الرّفْعَة يحضر عِنْد قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين مجْلِس حكمه إِذا ورد عَلَيْهِم مصر(8/47)
وَصَحب الشَّيْخ الْجَلِيل السَّيِّد الْكَبِير أَبَا عبد الله الْقرشِي واختص بِهِ وبرع فِي الْعلم وَلزِمَ طَريقَة السّلف فِي التقشف والورع وَكَانَ يلقِي على الطّلبَة كل يَوْم عدَّة دروس من الْفِقْه وَالْأُصُول وَلَا يقبل لأحد شَيْئا
وَكَانَ أول أمره شرابيا يعْمل الشَّرَاب ثمَّ انْتَهَت بِهِ الْحَال إِلَى أَن صَار شيخ الديار المصرية علما وَعَملا وَسُئِلَ فِي ولَايَة الْقَضَاء فَامْتنعَ أَشد الِامْتِنَاع
مولده سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة بجوجر
وَقد نقل عَنهُ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب فِي بَاب الْوكَالَة فِي الْكَلَام على أَن الْوَكِيل بِالْبيعِ هَل يملك التَّسْلِيم وَالْقَبْض فَقَالَ تَفْرِيعا على القَوْل بِأَنَّهُ لَا يملك إِذا كَانَ التَّوْكِيل فِي البيع وَالشِّرَاء فِي مصر غير الْمصر الَّذِي فِيهِ الْمُوكل هَل تجْعَل الْغَيْبَة مسلطة على التَّسْلِيم حَيْثُ لَا نقُول يثبت ذَلِك فِي حَالَة كَون الْمُوكل فِي الْمصر الَّذِي فِيهِ الْوَكِيل أَو لَا وَكَانَ بعض مَشَايِخنَا يَحْكِي عَن الشَّيْخ الْعَلامَة الْوَرع الْفَقِيه الزَّاهِد أبي الطَّاهِر خطيب الْمُسلمين بِمصْر الأول وتوجيهه ظَاهر للْعُرْف
وَعَن صَاحب التَّقْرِيب مَا يدل عَلَيْهِ بِزِيَادَة لِأَنَّهُ قَالَ إِذا دفع إِلَيْهِ قدرا من الإبريسم ليحمله إِلَى غَرِيمه ليَشْتَرِي بِهِ جَارِيَة فَفعل لم يلْزمه نقلهَا وَقَالَ الإِمَام إِنَّهَا تحصل فِي يَده فِي حكم الْوَدِيعَة وَللْإِمَام احْتِمَال فِي لُزُوم رد الْجَارِيَة قَالَ وَلَكِن الأَصْل خِلَافه لِأَن من الْتزم رد مَال إِنْسَان وَلم يسْتَأْجر عَلَيْهِ لَا يلْزمه الْوَفَاء بِهِ انْتهى(8/49)
قلت وَأَظنهُ يُشِير بِبَعْض مشايخه إِلَى السديد التزمنتي فَإِنَّهُ شَيْخه وَهُوَ أَعنِي السديد تلميذ الْخَطِيب أبي الطَّاهِر
وكرامات الْخَطِيب أبي الطَّاهِر مَشْهُورَة وَقد دخل دمشق رَسُولا أرْسلهُ الْملك الْكَامِل إِلَى أَخِيه الْأَشْرَف مُوسَى فِي الصُّلْح بَينهمَا
وَله أَصْحَاب كَثِيرُونَ عَمت عَلَيْهِم بركاته وَعِنْدِي بِخَط القَاضِي الْفَقِيه كَمَال الدّين أَحْمد بن عِيسَى بن رضوَان الْعَسْقَلَانِي صَاحب شرح التَّنْبِيه وَغَيره من المصنفات وَهُوَ الْمَعْرُوف بِابْن القليوبي مُصَنف فِي مَنَاقِب أبي الطَّاهِر سَمَّاهُ الظَّاهِر فِي مَنَاقِب أبي الطَّاهِر قَالَ فِيهِ إِن الْفَقِيه أَبَا الطَّاهِر قصد مصر للاشتغال وَكَانَ على حَالَة من الْقلَّة وَنزل الْمدرسَة الصلاحية الْمُجَاورَة للجامع الْعَتِيق وَلم يحصل لَهُ بَيت بل خزانَة يضع فِيهَا كِتَابه وثوبه وكوزا وإبريقا وَكَانَ مَعَه شَيْء من العنبر قَالَ فَكنت أبخر ذَلِك الْكوز وَإِذا جَاءَ المعيد وَالْتمس مَاء أَتَيْته بذلك الْكوز تقربا إِلَيْهِ وخدمة لَهُ ثمَّ حكى الْكثير من قلَّة ذَات يَده
وَحكى أَن الْفَقِيه ضِيَاء الدّين ولد الشَّيْخ أبي عبد الله الْقُرْطُبِيّ قَالَ أَرْسلنِي وَالِدي إِلَى الْفَقِيه أبي الطَّاهِر يَوْمًا فصادفته فِي الْمِحْرَاب فَسلمت عَلَيْهِ فَرد عَليّ السَّلَام وَلم يقم وَكَانَ عَادَته غير ذَلِك فأبلغته الرسَالَة وَبَقِي فِي نَفسِي شَيْء فَلَمَّا رَأَيْته فِي وَقت آخر فسلك عَادَته فِي الْقيام فَقلت لَهُ فَقَالَ أتيتني فِي مَوضِع لَا يُقَام فِيهِ إِلَّا لله تَعَالَى(8/50)
وَحكى أَنه جَاءَهُ بعض خدم السُّلْطَان وَهُوَ فِي الميعاد وَبَين يَدَيْهِ شمعة يقْرَأ الْقَارئ عَلَيْهَا الميعاد فَتقدم الرَّسُول ليقْرَأ الرسَالَة على الشمعة فاعترضه الشَّيْخ بِيَدِهِ فانجمع ثمَّ سكت سَاعَة وَعَاد لِيَقْرَأهَا فَفعل الشَّيْخ مثل ذَلِك فَرجع ثمَّ عَاد فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ هَذِه الشمعة إِنَّمَا أرصدت لقِرَاءَة الميعاد
وَحكى من ورعه أَيْضا أَنه سمع الْخَطِيب عز الدّين عبد الْبَاقِي يذكر أَنه دخل يَوْمًا إِلَى منزله وَكَانَ طعامهم إسفيدناج فَسَأَلَهُمْ هَل غسل الْبيض أم لَا فَأَجَابُوهُ أَنه لم يغسل فاستدعى مَمْلُوكه حطلح وَقَالَ خُذ هَذَا الطَّعَام وألقه فِي مَكَان كَذَا فاحتمله إِلَى مَوضِع أَرَادَ إلقاءه فِيهِ فَوجدَ فَقِيرا فَقَالَ لَهُ بِاللَّه عَلَيْك أَنا أَحَق فَقَالَ أعرف الشَّيْخ فَأتى إِلَيْهِ فَأخْبرهُ فَقَالَ هَذَا الطَّعَام فِيهِ لحم بِكَذَا وبيض بِكَذَا وحاجة بِكَذَا وَحسب جملَة مَا صرفه عَلَيْهِ فوزنها وَأَعْطَاهَا لَهُ وَقَالَ اطبخ بهَا غير هَذَا وَلَا تَأْكُل هَذَا فَإِنَّهُ نجس
قَالَ ابْن القليوبي هَذَا مَعَ أَن لأَصْحَاب الشَّافِعِي وَجْهَيْن فِي نَجَاسَة الْبيض يَنْبَنِي على الْخلاف فِي رُطُوبَة فرج الْمَرْأَة
قلت الصَّحِيح الطَّهَارَة وَلَعَلَّ أَبَا الطَّاهِر كَانَ يرى النَّجَاسَة وَإِلَّا فَكيف يذهب هَذَا المَال
وَنَحْو هَذَا مَا حكى عَنهُ أَيْضا أَنه رأى فِي دارة برنية شراب لَهُ فِيهِ على وَجهه وزغة صَغِيرَة فَأمر بإلقائه فِي الْبَحْر(8/51)
وَحكى أَنه لما توجه السُّلْطَان الْملك الْكَامِل لبَعض أَسْفَاره سَأَلَهُ الدُّعَاء فَقَالَ وفْق الله السُّلْطَان فَشَغلهُ بِالْحَدِيثِ ثمَّ أعَاد عَلَيْهِ القَوْل فَقَالَ وفْق الله السُّلْطَان ثمَّ عِنْد انْفِصَاله مِنْهُ سَأَلَهُ الدُّعَاء فَقَالَ وفْق الله السُّلْطَان فَلَمَّا خلا السُّلْطَان بِأَصْحَابِهِ تعجب مِنْهُ فَلَمَّا اتَّصل ذَلِك بالشيخ قَالَ يُرِيدنِي أَدْعُو لَهُ بالنصر كَأَنَّهُ مُتَوَجّه إِلَى غَزْو عدوه
وَحكى أَن الشَّيْخ خرج مَعَ الْعَسْكَر فِي غَزْو الفرنج على المنصورة وَأَنه لما حمي الْوَطِيس نزل عَن فرسه وَقَاتل مَعَهم وَأُصِيب بسهام كَثِيرَة قَالَ وَلم يجرح بِشَيْء مِنْهَا
وَذكر أَنه كَانَ يسْرد الصَّوْم لَا يفْطر إِلَّا الْعِيدَيْنِ وَأَيَّام التَّشْرِيق وَأَنه كَانَ يمْكث الْأَيَّام الْكَثِيرَة لَا يتَنَاوَل فِيهَا إِلَّا الْيَسِير من المَاء للسّنة
وَحكى من اهتمامه بحوائج الْخلق أَن شخصا سَأَلَهُ حَاجَة فَقَالَ ذَكرنَاهَا البارحة سبعين مرّة وَأَن قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين ابْن عين الدولة سَأَلَهُ أَن يَدْعُو لَهُ عِنْد طلوعه الْمِنْبَر وَأَنه بعد مُدَّة طَوِيلَة رأى الشَّيْخ ذَاكِرًا لذَلِك الْأَمر قَالَ فَسئلَ الشَّيْخ فَقَالَ لم أنسه فِي جُمُعَة قطّ
وَحكى من كراماته الْكثير فَمن ذَلِك قَالَ ابْن القليوبي أَخْبرنِي شَيْخي - يَعْنِي وَالِده - قَالَ أخذت مرّة كتابا من كتب الشَّيْخ فَأصَاب ظَاهر جلده نَجَاسَة فَخَشِيت أَن يضع الشَّيْخ يَده عَلَيْهَا وَبهَا رُطُوبَة فيتنجس قَالَ فَصَبَبْت المَاء على الْجلد بِحَيْثُ طهر ومررت بِالْكتاب بعد مُدَّة فَقَالَ لي من أذن لَك أَن تغسل الْجلد(8/52)
قَالَ وَأَخْبرنِي الشَّيْخ عماد الدّين بن سِنَان الدولة قَالَ كَانَت لي نُسْخَة من التَّنْبِيه يَعْنِي مليحة حَفظتهَا خلا بَاب الْقَرَاض وَكَانَ الشَّيْخ تقدم إِلَى الْجَمَاعَة أَن يعرضُوا فِي الْغَد وَكَانَ من عَادَة الشَّيْخ أَن يَأْخُذ كتاب الطَّالِب فيفتحه ويستقرئه مِنْهُ وخطر لي أَن أشرط الورقة من الْكتاب فَإِذا فَتحه لم ير ذَلِك الْبَاب فَلَمَّا أصبح واستعرض الْجَمَاعَة وانتهت النّوبَة إِلَيّ تقدّمت وناولته الْكتاب فَقَالَ دَعه مَعَك اقْرَأ بَاب الْقَرَاض فَقلت وَالله يَا سَيِّدي أحفظ الْكتاب كُله خلا هَذَا الْبَاب فَقَالَ مَا حملك على قطع الورقة وإفساد الْمَالِيَّة
قَالَ وَكَانَ إِذا لحظ شخصا انْتفع بألحاظه وَإِذا أعرض عَنهُ خيف عَلَيْهِ مغبة إعراضه
وَحكى أَن بعض فُقَهَاء الْمَذْهَب - مِمَّن ذكر لَهُ وَالِده أَنه كَانَ إِذا تحدث فِي الْفِقْه كَانَ يَقُول لغلامه اشْتَرِ كَذَا وَكَذَا لسُهُولَة الْفِقْه عَلَيْهِ وَخِفته على لِسَانه جلس مَعَ الشَّيْخ فِي مجْلِس قَالَ وَكَانَ الشَّيْخ إِذا حضر مَجْلِسا أَكثر من ذكر كرامات شَيْخه الْقرشِي قَالَ فاتفق حضورهما عِنْد الْفَقِيه شرف الدّين ابْن التلمساني شَارِح التَّنْبِيه فسلك الشَّيْخ عَادَته فِي حكايات شَيْخه الْقرشِي وَغَيره من الصَّالِحين لينْتَفع بهَا سامعها وتشغله عَن الْغَيْبَة فَقَالَ لَهُ ذَلِك الْفَقِيه أخبرنَا عَن نَفسك فَقَالَ لَهُ أخْبركُم عَن نَفسِي مَرضت مرضة أشرفت فِيهَا على الْمَوْت فَدخل عَليّ الشَّيْخ الْقرشِي عَائِدًا فَذهب عني مَا كنت أجد وَصليت الصُّبْح بسورتين طويلتين فَأخذ ذَلِك الْفَقِيه يتحدث فَأَعْرض عَنهُ الشَّيْخ فَقتل بعد أَيَّام بِبَعْض بساتين دمشق(8/53)
وَحكى أَن بعض طلبته نعس فِي الدَّرْس فَضرب الشَّيْخ إِحْدَى يَدَيْهِ على الْأُخْرَى فانتبه الشَّخْص فَقَالَ لَهُ سَالم سَالم وَإِذا بِهِ قَارب أَن يَحْتَلِم فَلَمَّا أيقظه الشَّيْخ سلم
قَالَ وَأَخْبرنِي شَيْخي قَالَ كنت أُصَلِّي خلف الشَّيْخ فأصابتني حقنة شَدِيدَة وَاشْتَدَّ ألمي بِسَبَبِهَا بِحَيْثُ كنت مفكرا إِذا خرجت من الصَّلَاة أَي الْجِهَات أنتحيها لإزالتها وَإِذا بالشيخ عرض لَهُ حَال بكاء شَدِيد وأهوى إِلَى سجادته وَأَخذهَا وَقد خرج من الصَّلَاة وقدمني مَكَانَهُ فَلم يبْق بِي شَيْء مِمَّا كَانَ بِي وَكَأَنَّهُ حمل عني مَا كنت أَجِدهُ فانتقل إِلَيْهِ وَزَالَ عني
وَأَخْبرنِي شيخ قَالَ كَانَ الشَّيْخ مرّة فِي الدَّرْس فِي بَاب الْهِبَة فَانْتهى إِلَى أَنه يسْتَحبّ لمن وهب لأولاده أَن يُسَوِّي بَينهم ثمَّ أَخذ يمثل بِابْني السطحي وهما أَخَوان طالبان فِي الدَّرْس فَقَالَ كَمَا لَو وهب وَالِد هذَيْن لأَحَدهمَا دَوَاة وَترك الآخر فَقَالَ أَحدهمَا وَالله يَا سيدنَا هَكَذَا اتّفق
ثمَّ حكى ابْن القليوبي من اعْتِقَاد أهل عصره فِيهِ حَتَّى الْيَهُود وَالنَّصَارَى وتبركهم بِخَطِّهِ واستشفاء مرضاهم مِمَّا ينقلونه من خطه شَيْئا كثيرا
وَحكى أَنه أُرِيد على الْقَضَاء فَامْتنعَ فَقيل لَهُ استخر فَقَالَ إِنَّمَا يستخار فِي أَمر خفيت مصْلحَته وجهات عاقبته وَأَن الطّلبَة اجْتَمعُوا فِي الْبَلَد وَكَانَ قد شاع فِي أثْنَاء المراددة بَينه وَبَين السُّلْطَان أَنه ولي فَجَاءَهُمْ وَقَالَ بنراي بنراي يُشِير إِلَى أَنه على الْحَالة الْمَعْهُودَة مِنْهُ(8/54)
وَحكى أَنه كَانَ لَا يحب مقامات الحريري وَلم تكن فِي كتبه مَعَ كثرتها لما فِيهَا من الْأَحَادِيث المختلقة وَأَنه كَانَ لَا يرى نُسْخَة من ملخص الإِمَام فَخر الدّين ابْن الْخَطِيب إِلَّا اشْتَرَاهَا حَتَّى لَا تقع فِي أَيدي النَّاس فَقيل لَهُ هَذَا مِنْهُ نسخ كَثِيرَة فَقَالَ فِيهِ تقليل للمفسدة
وَحكى أَن كتبه كَانَت كَثِيرَة وَأَنه كَانَ يعيرها لمن يعرف وَلمن لَا يعرف سَافر بهَا الْمُسْتَعِير أم لم يُسَافر بهَا وَكَانَ يَقُول مَا أعرت كتابا إِلَّا ظَنَنْت أَنه لَا يرجع إِلَيّ فَإِذا عَاد عددت ذَلِك نعْمَة جَدِيدَة
ثمَّ عدد ابْن القليوبي جمَاعَة من أَصْحَاب الشَّيْخ أبي الطَّاهِر ابْتَدَأَ مِنْهُم بِذكر وَالِده الشَّيْخ ضِيَاء الدّين أبي الرّوح عِيسَى بن رضوَان
توفّي الْفَقِيه أَبُو الطَّاهِر سحر يَوْم الْأَحَد سَابِع ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة بِمصْر وَدفن بسفح المقطم
قَالَ ابْن القليوبي وقبره مَشْهُور بإجابة الدُّعَاء عِنْده وَالنَّاس يقصدونه لذَلِك سَمِعت وَالِدي يَقُول قبر الشَّيْخ الدرياق المجرب
وَسمعت أَنه لم يشْهد بِمصْر جَنَازَة كجنازته لِكَثْرَة الْعَالم بهَا وَكَانَ الْملك الْكَامِل غَائِبا فِي الشَّام فَحَضَرَ الْجِنَازَة وَلَده السُّلْطَان الْملك الْعَادِل وصادف ذَلِك شدَّة حر فَيُقَال إِنَّه صحب الْجِنَازَة عدَّة إبل كَثِيرَة لأجل المَاء وَقيل إِنَّه لم يشْهد بِمصْر بعد جَنَازَة الْمُزنِيّ صَاحب الشَّافِعِي مثل جَنَازَة الْفَقِيه أبي الطَّاهِر(8/55)
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْحُسَيْن يحيى بن الْعَطَّار الْقرشِي سَمِعت الْفَقِيه أَبَا الطَّاهِر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْأنْصَارِيّ الْمحلي يَقُول سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الله الْقرشِي يَعْنِي مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الأندلسي الْعَارِف يَقُول كنت لَيْلَة عِنْد الشَّيْخ أبي إِسْحَاق بن طريف فَقدم لنا عِنْد الْإِفْطَار ثريدة بحمص فَلَمَّا اجْتَمَعنَا لنأكل أمسك عَن الْأكل وَاعْتَزل فَلم يقدر أحد أَن يمد يَده إِلَى الطَّعَام ثمَّ قَالَ يَا مُحَمَّد بَلغنِي الْآن أَن حصن فلَان قد أَخذه الْعَدو وَأسر من فِيهِ وَبلغ من حَالهم أَنهم مكتفون يَأْكُلُون الْحَشِيش بأفواههم فاعتزلنا فَلَمَّا كَانَ بعد وَقت قَالَ لنا كلوا فقد فرج الله عَنْهُم فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك - يَعْنِي بِحِين - جَاءَ الْخَبَر بِأَن الْعَدو قد أَخذ ذَلِك الْحصن وَأَن أَهله الْمُسلمين بلغ من حَالهم مَا ذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وَأَن الْعَدو جَاءَتْهُم فِي تِلْكَ اللَّيْلَة صَيْحَة ظنُّوا أَنهم أحيط بهم فَانْهَزَمُوا وَفرج الله عَن الْمُسلمين وتخلصوا
قلت الْقرشِي هَذَا كَانَ من كبار العارفين وَهُوَ صَاحب القصيدة الْمُسَمَّاة ب الْفرج بعد الشدَّة المجربة لكشف الكروب وأولها
(اشتدي أزمة تنفرجي ... قد آذن ليلك بالبلج)
(وظلام اللَّيْل لَهُ سرج ... حَتَّى يَغْشَاهُ أَبُو السرج)
(وسحاب الْخَيْر لَهَا مطر ... فَإِذا جَاءَ الإبان تجي)(8/56)
(وفوائد مَوْلَانَا جمل ... لسروح الْأَنْفس بالمهج)
(وَلها أرج مُحي أبدا ... فاقصد محيا ذَاك الأرج)
(ولربتما فاض الْمحيا ... ببحور الموج من اللجج)
(والخلق جَمِيعًا فِي يَده ... فذوو سَعَة وذوو حرج)
(ونزولهم وطلوعهم ... فَإلَى دَرك وعَلى درج)
(ومعايشهم وعواقبهم ... لَيست فِي الْمَشْي على عوج)
(حكم نسجت بيد حكمت ... ثمَّ انتسجت بالمنتسج)
(فَإِذا اقتصدت ثمَّ انعرجت ... فبمقتصد وبمنعرج)
(شهِدت بعجائبها حجج ... قَامَت بِالْأَمر على الْحجَج)
(ورضا بِقَضَاء الله حجى ... فعلى مركوزته فعج)
(وَإِذا انفتحت أَبْوَاب هدى ... فاعجل لخزائنها ولج)
(وَإِذا حاولت نهابتها ... فاحذر إِذْ ذَاك من العرج)
(لتَكون من السباق إِذا ... مَا سرت إِلَى تِلْكَ الْفرج)
(فهناك الْعَيْش وبهجته ... فلمبتهج ولمنتهج)
(فهج الْأَعْمَال إِذا ركدت ... فَإِذا مَا هجت إِذا تهج)(8/57)
(ومعاصي الله سماجتها ... تزدان لذِي الْخلق السمج)
(ولطاعته وصباحتها ... أنوار صباح منبلج)
(من يخْطب حور الْخلد بهَا ... يظفر بالحور وبالغنج)
(فَكُن المرضي لَهَا بتقى ... ترضاه غَدا وَتَكون نجي)
(واتل الْقُرْآن بقلب ذِي ... حزن وبصوت فِيهِ شجي)
(وَصَلَاة اللَّيْل مسافتها ... فَاذْهَبْ فِيهَا بالفهم وجي)
(وتأملها ومعانيها ... تأت الفردوس وتنفرج)
(واشرب تسنيم مفجرها ... لَا ممتزجا وبممتزج)
(مدح الْعقل الآتيه هدى ... وَهوى متول عَنهُ هجي)
(وَكتاب الله رياضته ... لعقول الْخلق بمندرج)
(وَخيَار الْخلق هداتهم ... وسواهم من همج الهمج)
(فَإِذا كنت الْمِقْدَام فَلَا ... تجزع فِي الْحَرْب من الرهج)
(وَإِذا أَبْصرت منار هدى ... فاظهرفردا فَوق الثبج)(8/58)
(وَإِذا اشتاقت نفس وجدت ... ألما بالشوق المعتلج)
(وثنايا الحسنا ضاحكة ... وَتَمام الضحك على الفلج)
(وعياب الْأَسْرَار اجْتمعت ... بأمانتها تَحت الشرج)
(والرفق يَدُوم لصَاحبه ... والخرق يصير إِلَى الْهَرج)
(صلوَات الله على الْمهْدي ... الْهَادِي النَّاس إِلَى النهج)
(وَأبي بكر فِي سيرته ... ولسان مقَالَته اللهج)
(وَأبي حَفْص وكرامته ... فِي قصَّة سَارِيَة الخلج)
(وَأبي عَمْرو ذِي النورين المستحيي ... المستحيى البهج)
(وَأبي حسن فِي الْعلم إِذا ... وافى بسحائبه الخلج)(8/59)
وَرَأَيْت فِي كتاب الْغرَّة اللائحة لأبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ التوزري الْمَعْرُوف بِابْن الْمصْرِيّ أَن هَذِه القصيدة لأبي الْفضل يُوسُف بن مُحَمَّد النَّحْوِيّ التوزري قَالَ وَذَلِكَ أَن بعض المتغلبين عدا على أَمْوَاله وَأَخذهَا فَبَلغهُ ذَلِك وَكَانَ بِغَيْر مَدِينَة توزر فأنشأها فَرَأى ذَلِك الرجل فِي نَومه تِلْكَ اللَّيْلَة رجلا فِي يَده حَرْبَة وَقَالَ لَهُ إِن لم ترد على فلَان أَمْوَاله وَإِلَّا قتلتك بِهَذِهِ الحربة فَاسْتَيْقَظَ مذعورا وَأعَاد عَلَيْهِ أَمْوَاله
قلت وَكثير من النَّاس يعْتَقد أَن هَذِه القصيدة مُشْتَمِلَة على الِاسْم الْأَعْظَم وَأَنه مَا دَعَا بهَا أحد إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ وَكنت أسمع الشَّيْخ الْوَالِد رَحمَه الله إِذا أَصَابَته أزمة ينشدها
1073 - مُحَمَّد بن سَام أَبُو المظفر الغزنوي
السُّلْطَان شهَاب الدّين صَاحب غزنة
أحد المشكورين من الْمُلُوك الموصوفين بمحبة الْعلمَاء وإحضارهم للمناظرة عِنْده
وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُ الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ فِي موعظة وعظها لَهُ على الْمِنْبَر يَا سُلْطَان الْعَالم لَا سلطانك يبْقى وَلَا تلبيس الرَّازِيّ يبْقى {وَأَن مردنا إِلَى الله}(8/60)
ملك غزنة والهند وَكَثِيرًا من بِلَاد خُرَاسَان وَكَانَ شَافِعِيّ الْمَذْهَب أشعري العقيدة لَهُ بلَاء حسن فِي الْكفَّار
قتلته الباطنية اغتيالا جهزهم الْكفَّار عَلَيْهِ لشدَّة مَا أنكى فيهم فَإِنَّهُ كَانَ جَاهد فِي الْكفَّار وأوسعهم قتلا ونهبا وأسرا فجهزوا عَلَيْهِ الباطنية فَقَتَلُوهُ بعد عوده من لهاور فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة
1074 - مُحَمَّد بن سعيد بن يحيى بن عَليّ بن الْحجَّاج بن مُحَمَّد بن الدبيثي
الْحَافِظ أَبُو عبد الله الوَاسِطِيّ
ولد فِي رَجَب سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَسمع من أبي طَالب مُحَمَّد بن أَحْمد بن على الكتاني وَعلي بن الْمُبَارك الْآمِدِيّ(8/61)
وَأبي الْفَتْح بن شاتيل وَأبي الْفرج مُحَمَّد بن أَحْمد بن نَبهَان والحافظ أبي بكر مُحَمَّد بن مُوسَى الْحَازِمِي وَخلق
روى عَنهُ ابْن النجار وَابْن نقطة والزكى البرزالي والخطيب عز الدّين الفاروثي وتاج الدّين أَبُو الْحسن الْعِرَاقِيّ وَآخَرُونَ
رَحل إِلَى بَغْدَاد وتفقه بهَا على الإِمَام هبة الله بن البوقي وعلق الاصول وَالْخلاف وعني بِالْحَدِيثِ أتم عناية
وصنف فِي تَارِيخ وَاسِط والذيل على ذيل ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيرهمَا
قَالَ ابْن النجار هُوَ أحد الْحفاظ المكثرين مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مثله فِي حفظ التواريخ وَالسير وَأَيَّام النَّاس
وَقَالَ ابْن نقطة لَهُ معرفَة وَحفظ
قَالَ ابْن النجار أضرّ ابْن الدبيثي بِأخرَة
وَتُوفِّي بِبَغْدَاد فِي ثامن شهر ربيع الآخر سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1075 - مُحَمَّد بن سعيد بن ندى أَبُو بكر الطَّحَّان(8/62)
1076 - مُحَمَّد بن طَلْحَة بن مُحَمَّد بن الْحسن الشَّيْخ كَمَال الدّين أَبُو سَالم الْقرشِي الْعَدوي النصيبيني
مُصَنف كتاب العقد الفريد
ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
تفقه وبرع فِي الْمَذْهَب وَسمع الحَدِيث بنيسابور من الْمُؤَيد الطوسي وَزَيْنَب الشعرية وَحدث بحلب ودمشق
روى عَنهُ الْحَافِظ الدمياطي ومجد الدّين ابْن العديم
وَكَانَ من صُدُور النَّاس ولى الوزارة بِدِمَشْق يَوْمَيْنِ وَتركهَا وَخرج عَمَّا يملكة من ملبوس ومملوك وَغَيره وتزهد
توفّي ابْن طَلْحَة فِي سَابِع عشْرين رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة
1077 - مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن عَليّ بن أبي الْقَاسِم بن صَدَقَة
ابْن حَفْص الصفراوي الاسكندراني القَاضِي شرف الدّين بن عين الدولة
مولده فِي مستهل جُمَادَى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة بالإسكندرية
وتفقه بِمصْر على أبي إِسْحَاق الْعِرَاقِيّ شَارِح الْمُهَذّب وَسمع الحَدِيث من قَاضِي الْقُضَاة عبد الْملك بن درباس وَغَيره(8/63)
وروى عَنهُ الحافظان الْمُنْذِرِيّ وَابْن مسدى
وناب فِي الحكم بِالْقَاهِرَةِ عَن قَاضِي الْقُضَاة عماد الدّين بن السكرِي وَكَانَ يُوقع عَنهُ فَلَمَّا توفّي ولي ابْن عين الدولة قَضَاء الْقُضَاة بِالْقَاهِرَةِ وَالْوَجْه البحري وَولي تَاج الدّين ابْن الْخَرَّاط مصر وَالْوَجْه القبلي ثمَّ لما صرف ابْن الْخَرَّاط جمع لِابْنِ عين الدولة العملان وَذَلِكَ فِي سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة فَلم يزل إِلَى أَن عزل عَن مصر وَالْوَجْه القبلي بِالْقَاضِي بدر الدّين ابْن السنجاري فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَبَقِي قَاضِيا بِالْقَاهِرَةِ وَالْوَجْه البحري فَقَط
وَكَانَ فَقِيها فَاضلا عَارِفًا بِالشُّرُوطِ أديبا يحفظ كثيرا من الْأَشْعَار والحكايات مزوحا يحْكى عَنهُ نَوَادِر كَثِيرَة دينا مصمما وَكَانَت نوادره لَا يُخرجهَا إِلَّا بِسُكُون وناموس
وَفِي زَمَنه اتّفقت الْحِكَايَة الَّتِي اتّفقت فِي زمن الإِمَام مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَهُوَ أَن أمْرَأَة كَادَت زَوجهَا فَقَالَت لَهُ إِن كنت تحبني فاحلف بطلاقي ثَلَاثًا مهما قلت لَك تَقول مثله فِي ذَلِك الْمجْلس فَحلف فَقَالَت لَهُ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا قل كَمَا قلت لَك فَأمْسك وارتفعا إِلَى ابْن عين الدولة فَقَالَ خُذ بعقصتها وَقل أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِن طَلقتك(8/64)
قلت وكأنهما ارتفعا إِلَيْهِ فِي الْمجْلس وَقد قدمنَا الْمَسْأَلَة فِي تَرْجَمَة ابْن جرير فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة مستوفاة
وَمن شعره
(وليت الْقَضَاء وليت الْقَضَاء ... لم يَك شَيْئا تَوليته)
(وَقد ساقني للْقَضَاء القضا ... وَمَا كنت قدما تمنيته)
توفّي بِمصْر فِي سَابِع عشر ذِي الْقعدَة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
ذكر الْحِكَايَة العجيبة الْمَشْهُورَة عَنهُ فِي عَجِيبَة
وعجيبة مغنية كَانَت بِمصْر على عهد السُّلْطَان الْملك الْكَامِل بن أَيُّوب وَيذكر أَن الْكَامِل كَانَ مَعَ تصميمه بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبنَاء جنسه تحضر إِلَيْهِ لَيْلًا وتغنيه بالجنك على الدُّف فِي مجْلِس بِحَضْرَة ابْن شيخ الشُّيُوخ وَغَيره وأولع الْكَامِل بهَا جدا ثمَّ اتّفقت قَضِيَّة شهد فِيهَا الْكَامِل عِنْد ابْن عين الدولة وَهُوَ فِي دست ملكه فَقَالَ ابْن عين الدولة السُّلْطَان يَأْمر وَلَا يشْهد فَأَعَادَ عَلَيْهِ السُّلْطَان الشَّهَادَة فَأَعَادَ القَاضِي القَوْل فَلَمَّا زَاد الْأَمر وَفهم السُّلْطَان أَنه لَا يقبل شَهَادَته قَالَ أَنا أشهد تقبلني أم لَا فَقَالَ القَاضِي لَا مَا أقبلك وَكَيف أقبلك وعجيبة تطلع إِلَيْك بجنكها كل لَيْلَة وتنزل ثَانِي يَوْم بكرَة وَهِي تتمايل سكرا على أَيدي الْجَوَارِي وَينزل ابْن الشَّيْخ(8/65)
من عنْدك أنجس مِمَّا نزلت فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان يَا كنواخ وَهِي كلمة شتم بِالْفَارِسِيَّةِ فَقَالَ مَا فِي الشَّرْع يَا كنواخ اشْهَدُوا عَليّ أَنِّي قد عزلت نَفسِي ونهض فجَاء ابْن الشَّيْخ إِلَى الْملك الْكَامِل وَقَالَ الْمصلحَة إِعَادَته لِئَلَّا يُقَال لأي شَيْء عزل القَاضِي نَفسه وَتَطير الْأَخْبَار إِلَى بَغْدَاد ويشيع أَمر عَجِيبَة فَقَالَ لَهُ صدقت ونهض إِلَى القَاضِي وترضاه وَعَاد إِلَى الْقَضَاء
قلت وَهَذِه حِكَايَة يستحسنها المؤرخون لما فِيهَا من تصميم القَاضِي غافلين عَن وَجههَا الفقهي وَقد يُقَال إِن كَانَ الْفسق عِنْد ابْن عين الدولة مخرجا للسُّلْطَان عَن الْأَهْلِيَّة فَذَلِك يعود على ولَايَته الْقَضَاء الَّتِي وَليهَا من قبله بالإبطال
وَجَوَاب هَذَا أَن الْفسق لَا يَنْعَزِل بِهِ السُّلْطَان على الصَّحِيح من الْمَذْهَب
ثمَّ قَالَ القَاضِي حُسَيْن وجماعات آخِرهم الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله أما وَإِن لم يعزله فَلَا يصحح مِنْهُ مَا يُمكن تَصْحِيحه من غَيره فَلَا يقْضِي وَلَا يُزَوّج الْأَيَامَى لِأَن فِيمَن يقيمه من الْقُضَاة مغنيا عَنهُ فِيهِ بِخِلَاف تَوْلِيَة الْقَضَاء وَغَيره مِمَّا لَا يتهيأ إِلَّا من الإِمَام وَيبين مُخَالفَته فِيهِ فَإِنَّهُ يَصح مِنْهُ فعلى هَذَا القَوْل لَا على غَيره تتخرج هَذِه الْحِكَايَة(8/66)
1078 - مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الله بن مَالك الطَّائِي الجياني
الْأُسْتَاذ الْمُقدم فِي النَّحْو واللغة جمال الدّين أَبُو عبد الله صَاحب التصانيف السائرة
ولد سنة سِتّمائَة أَو إِحْدَى وسِتمِائَة
وَسمع بِدِمَشْق من أبي صَادِق الْحسن بن صباح وَأبي الْحسن السخاوي وَغَيرهمَا
حَدثنَا عَنهُ شَيخنَا الْمسند مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم
وَأخذ الْعَرَبيَّة عَن غير وَاحِد وَهُوَ حبرها السائرة مصنفاته مسير الشَّمْس ومقدمها الَّذِي تصغي لَهُ الْحَواس الْخمس وَكَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَة إِمَامًا فِي حفظ الشواهد وضبطها إِمَامًا فِي الْقرَاءَات وعللها وَله الدّين المتين وَالتَّقوى الراسخة
توفّي فِي ثانى عشر شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وسِتمِائَة(8/67)
أخبرنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الخباز بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا الإِمَام جمال الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الله بن مَالك النَّحْوِيّ أخبرنَا أَبُو الْحسن على بن مُحَمَّد بن عبد الصَّمد السخاوي أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو طاهرالسلفي أخبرنَا أَبُو الْعَلَاء مُحَمَّد بن عبد الْجَبَّار بن مُحَمَّد الفرساني بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قلت لَهُ حَدثكُمْ أَبُو الْحسن عَليّ بن يحيى بن جَعْفَر بن عبدكويه إملاء حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا حَدثنَا سَلمَة حَدثنَا أَبُو الْمُغيرَة حَدثنَا أَبُو بكر ابْن أبي مَرْيَم حَدثنَا الْقَاسِم بن سعيد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله يطلع على عباده فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان فَيغْفر لخلقه كلهم غير الْمُشرك والمشاحن وفيهَا يوحي الله إِلَى ملك الْمَوْت يقبض كل نفس يُرِيد قبضهَا فِي تِلْكَ السّنة
أنشدنا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا أنشدنا أَبُو عبد الله بن أبي الْفَتْح أنشدنا ابْن مَالك لنَفسِهِ فِي أَسمَاء الذَّهَب
(نضر نضير نضار زبرج سيرا ... وزخرف عسجد عقيان الذَّهَب)
(والتبر مَا لم يذب وأشركوا ذَهَبا ... وَفِضة فِي نسيك هَكَذَا الغرب)
نسيك بِفَتْح النُّون ثمَّ سين مُهْملَة مَكْسُورَة ثمَّ آخر الْحُرُوف ثمَّ كَاف والغرب بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وهما من أَسمَاء كل من الذَّهَب وَالْفِضَّة(8/68)
1079 - مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد السّلمِيّ شرف الدّين ابْن أبي الْفضل المرسي
ولد بمرسية سنة سبعين وَخَمْسمِائة وَسمع الحَدِيث بهَا ثمَّ قدم بَغْدَاد وَسمع من شيوخها ثمَّ سَافر إِلَى خُرَاسَان وَسمع بنيسابور وهراة ومرو وَعَاد إِلَى بَغْدَاد ثمَّ قدم دمشق ثمَّ مصر ثمَّ قوص ثمَّ مَكَّة ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد وَحدث ب سنَن الْبَيْهَقِيّ عَن مَنْصُور الفراوي وب صَحِيح مُسلم عَن الْمُؤَيد الطوسي
وَكَانَ فَقِيها مُحدثا أصوليا نحويا أديبا زاهدا متعبدا صنف تَفْسِيرا حسنا
توفّي بَين الْعَريش وغزة سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة(8/69)
أنشدنا شَيخنَا أَبُو حَيَّان النَّحْوِيّ إِذْنا أنشدنا أَبُو الْهدى عِيسَى السبتي أَنْشدني ابْن أبي الْفضل لنَفسِهِ
(من كَانَ يرغب فِي النجَاة فَمَا لَهُ ... غير اتِّبَاع الْمُصْطَفى فِيمَا أَتَى)
(ذَاك السَّبِيل الْمُسْتَقيم وَغَيره ... سبل الضَّلَالَة والغواية والردى)
(فَاتبع كتاب الله وَالسّنَن الَّتِي ... صحت فَذَاك إِذا اتبعت هُوَ الْهدى)
(ودع السُّؤَال بكم وَكَيف فَإِنَّهُ ... بَاب يجر ذَوي البصيرة للعمى)
(الدّين مَا قَالَ النَّبِي وَصَحبه ... والتابعون وَمن مناهجهم قفا)
أنشدنا أَحْمد بن أبي طَالب إِذْنا عَن الْحَافِظ ابْن النجار أَن المرسي أنْشدهُ لنَفسِهِ بالمستنصرية
(قَالُوا فلَان قد أَزَال بهاءه ... ذَاك العذار وَكَانَ بدر تَمام)
(فأجبتهم بل زَاد نور بهائه ... وَلذَا تزايد فِيهِ فرط غرامي)
(استقصرت ألحاظه فتكاتها ... فَأتى العذار يمدها بسهام)(8/70)
وَمن الْفَوَائِد عَن ابْن أبي الْفضل المرسي
قَالَ النُّحَاة فِي إِعْرَاب قَوْله تَعَالَى {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} من قَوْله تَعَالَى {وإلهكم إِلَه وَاحِد لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} إِن {إِلَه} فِي مَوضِع رفع مَبْنِيّ على الِابْتِدَاء وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي لنا أَو فِي الْوُجُود
وَاعْترض صَاحب الْمُنْتَخب تَقْدِير الْخَبَر فَقَالَ إِن كَانَ لنا فَيكون معنى قَوْله {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} معنى قَوْله {وإلهكم إِلَه وَاحِد} فَيكون تَكْرَارا مَحْضا وَإِن كَانَ فِي الْوُجُود كَانَ نفيا لوُجُود الْإِلَه وَمَعْلُوم أَن نفي الْمَاهِيّة أقوى فِي التَّوْحِيد الصّرْف من نفي الْوُجُود فَكَانَ إِجْرَاء الْكَلَام على ظَاهره والإعراض عَن هَذَا الْإِضْمَار أولى
وَأجَاب أَبُو عبد الله المرسي فِي ري الظمآن فَقَالَ هَذَا كَلَام من لَا يعرف لِسَان الْعَرَب فَإِن {إِلَه} فِي مَوضِع الْمُبْتَدَأ على قَول سِيبَوَيْهٍ وَعند غَيره اسْم {لَا} وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُد من خبر للمبتدأ أَو للا فَمَا قَالَه من الِاسْتِغْنَاء عَن الْإِضْمَار فَاسد وَأما قَوْله إِذا لم يضمر كَانَ نفيا للماهية فَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن نفي الْمَاهِيّة هُوَ نفي الْوُجُود لِأَن الْمَاهِيّة لَا تتَصَوَّر عندنَا إِلَّا مَعَ الْوُجُود فَلَا فرق بَين لَا مَاهِيَّة وَلَا وجود وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة خلافًا للمعتزلة فَإِنَّهُم يثبتون الْمَاهِيّة عَارِية عَن الْوُجُود انْتهى(8/71)
قلت مَا ذكر صَاحب الْمُنْتَخب من عدم تَقْدِير خبر يشبه مَا يَقُوله الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله فِي إِعْرَاب {الله} من قَوْله تَعَالَى {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلقهمْ ليَقُولن الله} كَمَا سنحكيه إِن شَاءَ الله فِي تَرْجَمته لَكِن يبْقى عَلَيْهِ أَن لَا يَجْعَل هُنَا مُبْتَدأ بل يَجْعَل {إِلَه} كلمة مُفْردَة لَا معربة وَلَا مَبْنِيَّة وَحِينَئِذٍ فَلَا يُقَال لَهُ لَا بُد للمبتدأ من خبر إِذْ لَا مُبْتَدأ حَتَّى يَسْتَدْعِي خَبرا ويقوى هَذَا على رَأْي بني تَمِيم فَإِنَّهُم لَا يثبتون الْخَبَر وَأكْثر الْحِجَازِيِّينَ على حذفه
فَإِن قلت هَب أَنهم لَا يثبتونه وَلَكِن يقدرونه
قلت إِن سلمنَا أَنهم يقدرونه فَذَلِك لجعلهم الِاسْم مُبْتَدأ وَمن لَا يَجعله مُبْتَدأ لَا يسلم التَّقْدِير ثمَّ أَقُول الْمَفْهُوم من كَلَام صَاحب الْمُنْتَخب رد هذَيْن الإضمارين وهما إِضْمَار لنا وإضمار فِي الْوُجُود لَا رد مُطلق الْإِضْمَار فَلَو أضمر متصورا وَنَحْو ذَلِك من التَّقْدِير الْعَام لم يُنكره ففهم المرسي عَنهُ أَنه لَا يقدر الْخَبَر فِيهِ نظر وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يقدره هَذَا الْإِضْمَار لَا مُطلق الْخَبَر
وَأما قَوْله لَا فرق بَين نفي الْمَاهِيّة وَنفي الْوُجُود فَصَحِيح لَكِن قَول المرسي إِن الْمَاهِيّة لَا تتَصَوَّر عندنَا إِلَّا مَعَ الْوُجُود مُسْتَدْرك فَإِن الْمَاهِيّة عندنَا معاشر الأشاعرة نفس وجودهَا وَلَا نقُول إِنَّه لَا تتَصَوَّر إِلَّا مَعَ وجودهَا وَهَذَا مُقَرر فِي أصُول الديانَات(8/72)
1082 - مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر بن عبد الْخَالِق بن خَلِيل بن مقلد
قَاضِي الْقُضَاة بِالشَّام عز الدّين ابْن الصَّائِغ
ولد سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة وَسمع أَبَا المنجا ابْن اللتي والحافظ يُوسُف بن خَلِيل وَغَيرهمَا
وَحدثنَا عَنهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الخباز
ولازم القَاضِي كَمَال الدّين التفليسي وَصَارَ من أَعْيَان أَصْحَابه ثمَّ ولي تدريس الشامية البرانية مشاركا للْقَاضِي شمس الدّين ابْن الْمَقْدِسِي ثمَّ اسْتَقل بهَا ابْن الْمَقْدِسِي وانفصل عز الدّين ثمَّ ولي وكَالَة بَيت المَال ثمَّ قَضَاء الْقُضَاة فباشره مُبَاشرَة جَيِّدَة وحمدت سيرته ثمَّ عزل وَولي ابْن خلكان ثمَّ أُعِيد فاستمر إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ فتضافرت عَلَيْهِ الْأَعْدَاء وامتحن محنة شَدِيدَة وسجن فِي القلعة ثمَّ أطلق من الْحَبْس وَاسْتمرّ معزولا إِلَى أَن مَاتَ فِي ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة عَن خمس وَخمسين سنة(8/74)
1083 - مُحَمَّد بن عبد الْكَافِي بن عَليّ بن مُوسَى القَاضِي شمس الدّين الربعِي الصّقليّ ثمَّ الدِّمَشْقِي
مدرس الأمينية
سمع من الْأَمِير أُسَامَة بن منقذ
روى عَنهُ الْحَافِظ الدمياطي وَغَيره وَولي قَضَاء حمص وَتُوفِّي سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
1084 - مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن أبي سعد الْمَدِينِيّ أَبُو عبد الله الْوَاعِظ
ولد فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة بِمَدِينَة جي
وَسمع الحَدِيث من أبي الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن عَليّ الحمامي وَأبي الْوَقْت السجْزِي وَأبي الْخَيْر مُحَمَّد بن أَحْمد الباغباني وَغَيرهم(8/75)
حدث عَنهُ الْحَافِظ ضِيَاء الدّين الْمَقْدِسِي والحافظ ابْن النجار وَقَالَ هُوَ واعظ ثَبت شَافِعِيّ لَهُ معرفَة بِالْحَدِيثِ قتل بأصبهان شَهِيدا على يَد التتر فِي رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1085 - مُحَمَّد بن عُثْمَان بن بنت أبي سعد القاهري الشَّيْخ شرف الدّين
شيخ شُيُوخنَا فَقِيه أصولي نحوي أديب
توفّي فِي الْمحرم سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة
حدثونا عَنهُ وَمن شعره
(إِن شعري قد حط سعري حَتَّى ... صَار قدري كَمثل قدر الْهلَال)
(ذؤابة النَّعْل ... )
(ثمَّ نحوي جر المكارم نحوى ... فاعتراني مِنْهَا كلسع الْهلَال)
(ضرب من الأفاعي ... )
(وأصول الْفُرُوع حَيْثُ وصولي ... لمرامي فبعده كالهلال)
(هِلَال السَّمَاء ... )
(وأصول الْكَلَام مِنْهَا كَلَامي ... فتخلفت فِي الورى كهلال)
(هِلَال رايته ... )(8/76)
(ثمَّ زجري قد جر رجزي حَتَّى ... ربط الذل بِي كربط الْهلَال)
(مَا يجمع حَنى الرحل ... )
(وعروضي قد حط قدر عروضي ... فَرَمَانِي صحبي كرمي الْهلَال)
(قِطْعَة من الرَّحَى الْمَكْسُورَة ... )
(ثمَّ طبي لأَجله زَالَ طبي ... وأتاني بِمثل طعن الْهلَال)
(حَرْبَة لَهَا شعبتان ... )
(وبياني قد جب كسب بناني ... بعد صيدي بِهِ كصيد الْهلَال)
(حَدِيدَة الصَّائِد ... )
(ثمَّ نثري مثل النثار وَمِنْه ... خف رِزْقِي عِنْدِي بِمثل الْهلَال)
(مَا أطاف حول الإصبع ... )
(علم الإنساب حَاز الْأَسْبَاب عني ... فَأبى الدَّهْر لي بطحن الْهلَال)
(بالرحى الْمَكْسُورَة ... )
(ثمَّ خطي قد حط حظي حَتَّى ... فَاتَنِي فِي الورى جَمِيع الْهلَال)
(الْغُبَار والهبا ... )(8/77)
(وَكَذَا الرَّمْي أثقل الرمى مني ... وكساني ثوبا كَمثل الْهلَال)
(جمع هلة وَهِي المقرضة ... )
(ونجومي تَحت النُّجُوم رمتني ... بعد وردي مِنْهَا كورد الْهلَال)
(سلخ الأفعى ... )
(وَلَقَد كنت أنشر الْعلم دهرا ... لست فِيهِ مؤاخرا كالهلال)
(بَقِيَّة المَاء فِي الْحَوْض ... )
(فَتركت الْعُلُوم مِمَّا دهاني ... بعد سَمْعِي كل الورى فِي الْهلَال)
(مقاولة الْأَجِير على الشُّهُور ... )
(وتصوفت إِذْ سبقت البرايا ... بخشوعي دفعتهم فِي الْهلَال)
(المماراة فِي رقة السنح ... )
(ثمَّ إِنِّي زهدت فِي الدَّهْر أَيْضا ... بعد أَن كنت لاحقا بالهلال)
(سُفْيَان بن عُيَيْنَة الْهِلَالِي ... )(8/78)
1086 - مُحَمَّد بن عَليّ بن عَليّ بن الْمفضل الْحلِيّ مهذب الدّين أَبُو طَالب ابْن الخيمي
أديب شَاعِر سمع بِبَغْدَاد من ابْن الزَّاغُونِيّ وَحدث عَنهُ الْمُنْذِرِيّ وَغَيره
وَمن شعره
(أَرْبَعَة من شكّ فِي فَضلهمْ ... فَهُوَ عَن الْإِيمَان فِي معزل)
(فضل أبي بكر وتقديمه ... وصاحبيه وأخيهم عَليّ)
(فَقل لَهُم عني كَذَا أخبر ... الثِّقَات عَنْهُم وَكَذَا قيل لي)
(وَإِن من أقبحها شنعة ... تَأْخِير من قدم فِي الأول)
ولد بالحلة سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي فِي ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَقيل إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة(8/79)
1087 - مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن الخلاطي الْفَقِيه أَبُو الْفضل القَاضِي
لَهُ كتاب قَوَاعِد الشَّرْع وضوابط الأَصْل وَالْفرع على الْوَجِيز وَله مصنفات غير ذَلِك
سمع بِبَغْدَاد من الشَّيْخ شهَاب الدّين عمر بن مُحَمَّد السهروردي وبدمشق من أبي المنجا عبد الله بن عمر ابْن اللتي وَحدث وانتقل إِلَى الْقَاهِرَة فولي قَضَاء الشَّارِع بظاهرها
توفّي فِي شهر رَمَضَان سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة بِالْقَاهِرَةِ
1088 - مُحَمَّد بن علوان بن مهَاجر بن عَليّ بن مهَاجر الإِمَام شرف الدّين أَبُو المظفر الْموصِلِي
ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وتفقه بالموصل على أبي البركات ابْن السرُوجِي وببغداد على أبي المحاسن يُوسُف بن بنْدَار
وبرع فِي الْمَذْهَب وَسمع الحَدِيث من الْحُسَيْن بن المؤمل وَمُحَمّد بن عَليّ بن يَاسر الجياني وَجَمَاعَة(8/80)
روى عَنهُ الزكي البرزالي وَغَيره
وَله تعليقة فِي الْفِقْه
درس بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا أَبوهُ علوان بالموصل وبمدارس أخر
مَاتَ بالموصل ثَالِث الْمحرم سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة
1089 - مُحَمَّد بن عمر بن الْحسن بن الْحُسَيْن التَّيْمِيّ الْبكْرِيّ الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ ابْن خطيب الرّيّ
إِمَام الْمُتَكَلِّمين ذُو الباع الْوَاسِع فِي تَعْلِيق الْعُلُوم والاجتماع بالشاسع من حقائق الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم والارتفاع قدرا على الرفاق وَهل يجْرِي من الأقدار إِلَّا الْأَمر المحتوم(8/81)
بَحر لَيْسَ للبحر مَا عِنْده من الْجَوَاهِر وَحبر سما على السَّمَاء وَأَيْنَ للسماء مثل مَا لَهُ من الزواهر وروضة علم تستقل الرياض نَفسهَا أَن تحاكي مَا لَدَيْهِ من الأزاهر
انتظمت بِقَدرِهِ الْعَظِيم عُقُود الْملَّة الإسلامية وابتسمت بدره النظيم ثغور الثغور المحمدية تنوع فِي المباحث وفنونها وترفع فَلم يرض إِلَّا بنكت تسحر ببيونها وأتى بجنات طلعها هضيم وكلمات يقسم الدَّهْر أَن الملحد بعْدهَا لَا يقدر أَن يضيم
وَله شعار أَوَى الْأَشْعَرِيّ من سنَنه إِلَى ركن شَدِيد وَاعْتَزل المعتزلي علما أَنه مَا يلفط من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد
وخاض من الْعُلُوم فِي بحار عميقة وراض النَّفس فِي دفع أهل الْبدع وسلوك الطَّرِيقَة
أما الْكَلَام فَكل سَاكِت خَلفه وَكَيف لَا وَهُوَ الإِمَام رد على طوائف المبتدعة وهد قواعدهم حِين رفض النَّفس للرفض وشاع دمار الشِّيعَة وَجَاء إِلَى الْمُعْتَزلَة فاغتال الغيلانية وأوصل الواصلية النقمات الواصبية وَجعل العمرية أعبدا لطلْحَة وَالزُّبَيْر وَقَالَت الهذلية لَا تَنْتَهِي قدرَة الله على خير وصبر وأيقنت النظامية بِأَنَّهُ أذاق بَعضهم بَأْس بعض وَفرق شملهم وصيرهم قطعا وعبست البشرية لما جعل معتزلهم سبعا وهشم الهشامية والبهشمية بِالْحجَّةِ الْمُوَضّحَة وقصم الْكَعْبِيَّة فَصَارَت تَحت الأرجل(8/82)
1080 - مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن بختيار بن عَليّ الهمامي أَبُو عبد الله ولد بالهمامية من قرى وَاسِط
قَالَ ابْن النجار كَانَ حَافِظًا للْمَذْهَب سديد الْفَتَاوَى ورعا دينا كثير الْعِبَادَة أُرِيد على أَن يَلِي الْقَضَاء بواسط فَلم يجب
توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1081 - مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْأَزْدِيّ أَو الْكِنْدِيّ الْمصْرِيّ
كَانَ يُفْتِي مَعَ شيخ الْإِسْلَام عز الدّين بن عبد السَّلَام
وَاخْتصرَ الْمَذْهَب فِي مُصَنف سَمَّاهُ الْهَادِي وَفِيه يَقُول فِيمَن سَهَا وَسلم وَلم يسْجد مَا نَصه فَإِن سلم فأحدث فَعَن لَهُ فَسجدَ بطلت صلَاته على الصَّحِيح انْتهى
وَمرَاده بعن لَهُ فَتطهر وَهَذَا غَرِيب وَالْمَعْرُوف أَنا إِذا قُلْنَا يسْجد عِنْد قرب الْفَصْل قَول الإِمَام وَلَو سلم وأحدث ثمَّ انغمس فِي مَاء على قرب الزَّمَان فَالظَّاهِر أَن الْحَدث فاصل وَإِن لم يطلّ الزَّمَان انْتهى فَأخذ مِنْهُ صَاحب الْهَادِي أَنه إِذا تطهر وَسجد صَار عَائِدًا ثمَّ فرع عَلَيْهِ أَنه إِذا عَاد بطلت لِأَنَّهَا صَلَاة تخللها حدث فَتبْطل على الْمَذْهَب(8/83)
مجرحة وَعلمت الجبائية مذ قطعهَا أَن الْإِسْلَام يجب مَا قبله وَانْهَزَمَ جَيش الأحيدية فَمَا عَاد مِنْهُم إِلَّا من عَاد إِلَى الْقبْلَة وعرج على الْخَوَارِج فَدَخَلُوا تَحت الطَّاعَة وَعلمت الْأزَارِقَة مِنْهُم أَن فتكات أبيضه المحمدية ونار أسمره الأحمدية لَا قبل لَهُم بهَا وَلَا استطاعة وَقَالَت الميمونية الْيمن من الله وَالشَّر وخنست الأخنسية وَمَا فيهم إِلَّا من تحيز إِلَى فِئَة وفر والتفت إِلَى الروافض فَقَالَت الزيدية ضرب عَمْرو وخَالِد وَبكر زيدا وَقَالَت الإمامية هَذَا الإِمَام وَمن حاد عَنهُ فقد جَاءَ شَيْئا إدا وأيقنت السليمانية أَن جنها حبس فِي القناني وَقَالَت الأزلية هَذَا الَّذِي قدر الله فِي الْأَزَل أَن يكون فَردا وعوذه بالسبع المثاني وَقَالَ المنتظرون هَذَا الإِمَام وَهَذَا الْيَوْم الْمَوْعُود وَجعلت الكيسانية فِي ظلال كيسه وسجل عَلَيْهِم بِالطَّاعَةِ فِي يَوْم مشهود وَنظر إِلَى الجبرية شزرا فَمشى كل مِنْهُم على كره الهوينا كَأَنَّهُ جَاءَ جبرا وَعلمت النجارية أَن صنعها لَا يُقَابل هَذَا الْعَظِيم النجار وَنَادَتْ الضرارية لَا ضَرَر فِي الْإِسْلَام وَلَا ضرار وتطلع على الْقَدَرِيَّة فعبس كل مِنْهُم وَبسر ثمَّ أقبل واستصغر وَكَانَ من الذُّبَاب أقل وأحقر فَقتل كَيفَ قدر وانعطف إِلَى المرجئة وَمَا أرجأهم وَجعل العدمية مِنْهُ خالدية فِي الْهون وساءهم بنارهم ودعا الحلولية فَحل عَلَيْهِم مَا هُوَ أَشد من الْمنية(8/83)
وأصبحت الباطنية تَأْخُذ أَقْوَاله وَلَا تتعدى مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة وَأما الحشوية قبح الله صنعهم وفضح على رُؤُوس الأشهاد جمعهم فَشَرِبُوا كأسا قطع أمعاءهم وهربوا فِرَارًا إِلَى خسي الْأَمَاكِن حَتَّى عدم النَّاس محشاهم وَصَارَ الْقَائِل بالجهة فِي أخس الْجِهَات وَعرض عَلَيْهِ كل جسم وَهُوَ يضْرب بِسيف الله الْأَشْعَرِيّ وَيَقُول {هَل من مزِيد} هَات حَتَّى نادوا بالثبور وَزَالَ عَن النَّاس افتراؤهم ومكرهم {ومكر أُولَئِكَ هُوَ يبور} وَأما النَّصَارَى وَالْيَهُود فَأَصْبحُوا جَمِيعًا وَقُلُوبهمْ شَتَّى ونفوسهم حيارى وَرَأَيْت الْفَرِيقَيْنِ {سكارى وَمَا هم بسكارى} وَمَا من نَصْرَانِيّ رَآهُ إِلَّا وَقَالَ أَيهَا الْفَرد لَا نقُول بالتثليث بَين يَديك وَلَا يَهُودِيّ إِلَّا سلم وَقَالَ {إِنَّا هدنا إِلَيْك}
هَذَا مَا يتَعَلَّق بعقائد العقائد وفرائد القلائد
وَأما عُلُوم الْحُكَمَاء فَلَقَد تدرع بجلبابها وتلفع بأثوابها وتسرع فِي طلبَهَا حَتَّى دخل من كل أَبْوَابهَا وَأقسم الفيلسوف إِنَّه لذُو قدر عَظِيم وَقَالَ الْمنصف فِي كَلَامه هَذَا {من لدن حَكِيم} وآلى ابْن سينا بِالطورِ إِلَيْهِ من أَن قدره دون هَذَا الْمِقْدَار وَعلم أَن كَلَامه المنثور وَكتابه المنظوم يكَاد سنا برقهما يذهب بالأبصار وَفهم صَاحب أقليدس أَنه اجْتهد فِي الْكَوَاكِب وأطلعها سوافر وجد حَتَّى أبرزها فِي ظلام الضلال غرر نَهَار لَا يتَمَسَّك بعصم الكوافر
وَأما الشرعيات تَفْسِيرا وفقها وأصولا وَغَيرهَا فَكَانَ بحرا لَا يجارى وبدرا(8/84)
إِلَّا أَن هداه يشرق نَهَارا هَذَا هُوَ الْعلم كَيفَ يَلِيق أَن يتغافل الْمُؤمن عَن هَذَا وَهَذَا هُوَ دوا الذِّهْن الَّذِي كَانَ أسْرع إِلَى كل دَقِيق نفاذا وَهَذَا هُوَ الْحجَّة الثَّابِتَة على قَاضِي الْعقل وَالشَّرْع وَهَذِه هِيَ الْحجَّة الَّتِي يثبت فِيهَا الأَصْل وَيتَفَرَّع الْفَرْع مَا القَاضِي عِنْده إِلَّا خصم هَذَا الجلل إِن ماثله إِلَّا مِمَّن تلبس بِمَا لم يُعْط وَلم يقف عِنْد حد لَهُ وَلَا رسم وَمَا الْبَصْرِيّ إِلَّا فَاقِد بَصَره وَإِن رام لحاق نظره فقد فقد نظر الْعين وَلَا أَبُو الْمَعَالِي إِلَّا مِمَّن يُقَال لَهُ هَذَا الإِمَام الْمُطلق إِن كنت إِمَام الْحَرَمَيْنِ
وَلَقَد أَجَاد ابْن عنين حَيْثُ يَقُول فِيهِ
(مَاتَت بِهِ بدع تَمَادى عمرها ... دهرا وَكَاد ظلامها لَا ينجلي)
(وَعلا بِهِ الْإِسْلَام أرفع هضبة ... ورسا سواهُ فِي الحضيض الْأَسْفَل)
(غلط امْرُؤ بأبى عَليّ قاسه ... هَيْهَات قصر عَن هداه أَبُو على)
(لَو أَن رسطاليس يسمع لَفْظَة ... من لَفظه لعرته هزة أفكل)
(ولحار بطليموس لَو لاقاه من ... برهانه فِي كل شكل مُشكل)
(وَلَو أَنهم جمعُوا لَدَيْهِ تيقنوا ... أَن الْفَضِيلَة لم تكن للْأولِ)
ولد الإِمَام سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَقيل أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة(8/85)
واشتغل على وَالِده الشَّيْخ ضِيَاء الدّين عمر وَكَانَ من تلامذة محيى السّنة أبي مُحَمَّد الْبَغَوِيّ وَقَرَأَ الْحِكْمَة على الْمجد الجيلي بمراغة وتفقه على الْكَمَال السمناني وَيُقَال إِنَّه حفظ الشَّامِل فِي علم الْكَلَام لإِمَام الْحَرَمَيْنِ
وَكَانَ أول أمره فَقِيرا ثمَّ فتحت عَلَيْهِ الأرزاق وانتشر اسْمه وَبعد صيته وَقصد من أقطار الأَرْض لطلب الْعلم
وَكَانَت لَهُ يَد طولى فِي الْوَعْظ بِلِسَان الْعَرَبِيّ والفارسي ويلحقه فِيهِ حَال وَكَانَ من أهل الدّين والتصوف وَله يَد فِيهِ وَتَفْسِيره ينبىء عَن ذَلِك
وَعبر إِلَى خوارزم بعد مَا مهر فِي الْعُلُوم فَجرى بَينه وَبَين الْمُعْتَزلَة مناظرات أدَّت إِلَى خُرُوجه مِنْهَا ثمَّ قصد مَا وَرَاء النَّهر فَجرى لَهُ أَشْيَاء نَحْو مَا جرى بخوارزم فَعَاد إِلَى الرّيّ ثمَّ اتَّصل بالسلطان شهَاب الدّين الغوري وحظي عِنْده ثمَّ بالسلطان الْكَبِير عَلَاء الدّين خوارزمشاه مُحَمَّد بن تكش ونال عِنْده أَسْنَى الْمَرَاتِب وَاسْتقر عِنْده بخراسان
واشتهرت مصنفاته فِي الْآفَاق وَأَقْبل النَّاس على الِاشْتِغَال بهَا ورفضوا كتب الْمُتَقَدِّمين
وَأقَام بهراة وَكَانَ يلقب بهَا شيخ الْإِسْلَام وَكَانَ كثير الإزراء بالكرامية فَقيل إِنَّهُم وضعُوا عَلَيْهِ من سقَاهُ سما فَمَاتَ(8/86)
وَكَانَ خوارزمشاه يَأْتِي إِلَيْهِ وَكَانَ إِذا ركب يمشي حوله نَحْو ثَلَاثمِائَة نفس من الْفُقَهَاء وَغَيرهم
وَكَانَ شَدِيد الْحِرْص جدا فِي الْعُلُوم وَأَصْحَابه أَكثر الْخلق تَعْظِيمًا لَهُ وتأدبا مَعَه لَهُ عِنْدهم المهابة الوافرة
وَمن تصانيفه التَّفْسِير والمطالب الْعَالِيَة وَنِهَايَة الْعُقُول وَالْأَرْبَعِينَ والمحصل وَالْبَيَان والبرهان فِي الرَّد على أهل الزيغ والطغيان والمباحث الْعمادِيَّة والمحصول وعيون الْمسَائِل وإرشاد النظار وأجوبة الْمسَائِل البخارية والمعالم وتَحْصِيل الْحق والزبدة وَشرح الإشارات وعيون الْحِكْمَة وَشرح الْأَسْمَاء الْحسنى
وَقيل شرح مفصل الزَّمَخْشَرِيّ فِي النَّحْو ووجيز الْغَزالِيّ فِي الْفِقْه وَسقط الزند لأبي الْعَلَاء وَله طَريقَة فِي الْخلاف ومُصَنف فِي مَنَاقِب الشَّافِعِي حسن وَغير ذَلِك
وَأما كتاب السِّرّ المكتوم فِي مُخَاطبَة النُّجُوم فَلم يَصح أَنه لَهُ بل قيل إِنَّه مختلق عَلَيْهِ
حكى الأديب شرف الدّين مُحَمَّد بن عنين أَنه حضر درسه مرّة وَهُوَ شَاب وَقد وَقع ثلج كَبِير فَسَقَطت بِالْقربِ مِنْهُ حمامة وَقد طردها بعض الْجَوَارِح فَلَمَّا وَقعت رَجَعَ عَنْهَا الْجَارِح فَلم تقدر الْحَمَامَة على الطيران من الْخَوْف وَالْبرد فَلَمَّا قَامَ الإِمَام من الدَّرْس وقف عَلَيْهَا ورق لَهَا وَأَخذهَا قَالَ ابْن عنين فَقلت فِي الْحَال(8/87)
(يَا ابْن الْكِرَام المطعمين إِذا شتوا ... فِي كل مسغبة وثلج خاشف)
(العاصمين إِذا النُّفُوس تطايرت ... بَين الصوارم والوشيج الراعف)
(من أنبأ الورقاء أَن محلكم ... حرم وَأَنَّك ملْجأ للخائف)
(وفدت إِلَيْك وَقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستأنف)
(لَو أَنَّهَا تحبى بِمَال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف)
(جَاءَت سُلَيْمَان الزَّمَان بشكوها ... وَالْمَوْت يلمع من جناحي خاطف)
(قدم لواه الْفَوْت حَتَّى ظله ... بإزائه يجْرِي بقلب واجف)
وَاعْلَم أَن شَيخنَا الذَّهَبِيّ ذكر الإِمَام فِي كتاب الْمِيزَان فِي الضُّعَفَاء وكتبت أَنا على كِتَابه حَاشِيَة مضمونها أَنه لَيْسَ لذكره فِي هَذَا الْمَكَان معنى وَلَا يجوز من وُجُوه عدَّة أَعْلَاهَا أَنه ثِقَة حبر من أَحْبَار الْأمة وَأَدْنَاهَا أَنه لَا رِوَايَة لَهُ فَذكره فِي كتب الروَاة مُجَرّد فضول وتعصب وتحامل تقشعر مِنْهُ الْجُلُود
وَقَالَ فِي الْمِيزَان لَهُ كتاب أسرار النُّجُوم سحر صَرِيح
قلت وَقد عرفناك أَن هَذَا الْكتاب مختلق عَلَيْهِ وَبِتَقْدِير صِحَة نسبته إِلَيْهِ لَيْسَ بِسحر فليتأمله من يحسن السحر وَيَكْفِيك شَاهدا على تعصب شَيخنَا عَلَيْهِ ذكره إِيَّاه فِي حرف الْفَاء حَيْثُ قَالَ الْفَخر الرَّازِيّ وَلَا يخفى أَنه لَا يعرف بِهَذَا وَلَا هُوَ اسْمه أما اسْمه فمحمد وَأما مَا اشْتهر بِهِ فَابْن الْخَطِيب وَالْإِمَام فَإِذا نظرت أَيهَا الطارح رِدَاء(8/88)
العصبية عَن كَتفيهِ الجانح إِلَى جعل الْحق بمرأى عَيْنَيْهِ إِلَى رجل عمد إِلَى إِمَام من أَئِمَّة الْمُسلمين وَأدْخلهُ فِي جمَاعَة لَيْسَ هُوَ مِنْهُم أَعنِي رُوَاة الحَدِيث فَإِن الإِمَام لَا رِوَايَة لَهُ وَدعَاهُ باسم لَا يعرف بِهِ ثمَّ نظرت إِلَى قَوْله فِي آخر الْمِيزَان إِنَّه لم يتَعَمَّد فِي كِتَابه هوى نفس وأحسنت بِالرجلِ الظَّن وأبعدته عَن الْكَذِب أوقعته فِي التعصب وَقلت قد كرهه لأمور ظَنّهَا مقتضية الْكَرَاهَة وَلَو تأملها الْمِسْكِين حق التَّأَمُّل وأوتي رشده لأوجبت لَهُ حبا عَظِيما فِي هَذَا الإِمَام وَلكنهَا الحاملة لَهُ على هَذِه الْعَظِيمَة والمردية لَهُ فِي هَذِه الْمُصِيبَة العميمة نسْأَل الله السّتْر والسلامة
وَذكر أَن الإِمَام وعظ يَوْمًا بِحَضْرَة السُّلْطَان شهَاب الدّين الغوري وحصلت لَهُ حَال فاستغاث يَا سُلْطَان الْعَالم لَا سلطانك يبْقى وَلَا تلبيس الرارزي يبْقى {وَأَن مردنا إِلَى الله}
وَبلغ من أَمر الحشوية أَن كتبُوا لَهُ رِقَاعًا فِيهَا أَنْوَاع السَّيِّئَات وصاروا يضعونها على منبره فَإِذا جَاءَ قَرَأَهَا فَقَرَأَ يَوْمًا رقْعَة ثمَّ اسْتَغَاثَ فِي هَذِه الرقعة أَن ابْني يفعل كَذَا فَإِن صَحَّ هَذَا فَهُوَ شَاب أَرْجُو لَهُ التَّوْبَة وَأَن امْرَأَتي تفعل كَذَا فَإِن صَحَّ هَذَا فَهِيَ امْرَأَة لَا أَمَانَة لَهَا وَأَن غلامي يفعل كَذَا وجدير بالغلمان كل سوء إِلَّا من حفظ الله وَلَيْسَ فِي شَيْء من الرّقاع - وَللَّه الْحَمد - أَن ابْني يَقُول إِن الله جسم وَلَا يشبه بِهِ خلقه وَلَا أَن زَوْجَتي تعتقد ذَلِك وَلَا غلامي فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أوضح سَبِيلا(8/89)
قَالَ أَبُو عبد الله الْحسن الوَاسِطِيّ سَمِعت الإِمَام بهراة ينشد على الْمِنْبَر عقيب كَلَام عَاتب فِيهِ أهل الْبَلَد
(الْمَرْء مَا دَامَ حَيا يستهان بِهِ ... ويعظم الرزء فِيهِ حِين يفتقد)
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا أخبرنَا الْكَمَال عمر بن إلْيَاس بن يُونُس المراغي أخبرنَا التقي يُوسُف بن أبي بكر النَّسَائِيّ بِمصْر أخبرنَا الْكَمَال مَحْمُود بن عمر الرَّازِيّ قَالَ سَمِعت الإِمَام فَخر الدّين يُوصي بِهَذِهِ الْوَصِيَّة لما احْتضرَ لتلميذه إِبْرَاهِيم بن أبي بكر الْأَصْبَهَانِيّ
يَقُول العَبْد الراجي رَحْمَة ربه الواثق بكرم مَوْلَاهُ مُحَمَّد بن عمر بن الْحسن الرَّازِيّ وَهُوَ أول عَهده بِالآخِرَة وَآخر عَهده بالدنيا وَهُوَ الْوَقْت الَّذِي يلين فِيهِ كل قَاس وَيتَوَجَّهُ إِلَى مَوْلَاهُ كل آبق أَحْمد الله بالمحامد الَّتِي ذكرهَا أعظم مَلَائكَته فِي أشرف أَوْقَات معارجهم ونطق بهَا أعظم أنبيائه فِي أكمل أَوْقَات شهاداتهم وأحمده بالمحامد الَّتِي يَسْتَحِقهَا عرفتها أَو لم أعرفهَا لِأَنَّهُ لَا مُنَاسبَة للتراب مَعَ رب الأرباب
وصلواته على مَلَائكَته المقربين والأنبياء وَالْمُرْسلِينَ وَجَمِيع عباد الله الصَّالِحين
اعلموا أخلائي فِي الدّين وإخواني فِي طلب الْيَقِين أَن النَّاس يَقُولُونَ إِن الْإِنْسَان إِذا مَاتَ انْقَطع عمله وتعلقه عَن الْخلق وَهَذَا مُخَصص من وَجْهَيْن الأول أَنه إِن بَقِي مِنْهُ عمل صَالح صَار ذَلِك سَببا للدُّعَاء وَالدُّعَاء لَهُ عِنْد الله تَعَالَى أثر الثَّانِي مَا يتَعَلَّق بالأولاد وَأَدَاء الْجِنَايَات(8/90)
أما الأول فاعلموا أَنِّي كنت رجلا محبا للْعلم فَكنت أكتب من كل شَيْء شَيْئا لأقف على كميته وكيفيته سَوَاء كَانَ حَقًا أَو بَاطِلا إِلَّا أَن الَّذِي نطق بِهِ فِي الْكتب الْمُعْتَبرَة أَن الْعَالم الْمَخْصُوص تَحت تَدْبِير مدبره المنزه عَن مماثلة التحيزات مَوْصُوف بِكَمَال الْقُدْرَة وَالْعلم وَالرَّحْمَة وَلَقَد اختبرت الطّرق الكلامية والمناهج الفلسفية فَمَا رَأَيْت فِيهَا فَائِدَة تَسَاوِي الْفَائِدَة الَّتِي وَجدتهَا فِي الْقُرْآن لِأَنَّهُ يسْعَى فِي تَسْلِيم العظمة والجلال لله وَيمْنَع عَن التعمق فِي إِيرَاد المعارضات والمناقضات وَمَا ذَاك إِلَّا للْعلم بِأَن الْعُقُول البشرية تتلاشى فِي تِلْكَ المضايق العميقة والمناهج الْخفية فَلهَذَا أَقُول كل مَا ثَبت بالدلائل الظَّاهِرَة من وجوب وجوده ووحدته وبراءته عَن الشُّرَكَاء كَمَا فِي الْقدَم والأزلية وَالتَّدْبِير والفعالية فَذَلِك هُوَ الَّذِي أَقُول بِهِ وَألقى الله بِهِ وَأما مَا يَنْتَهِي الْأَمر فِيهِ إِلَى الدقة والغموض وكل مَا ورد فِي الْقُرْآن والصحاح الْمُتَعَيّن للمعنى الْوَاحِد فَهُوَ كَمَا قَالَ وَالَّذِي لم يكن كَذَلِك أَقُول يَا إِلَه الْعَالمين إِنِّي أرى الْخلق مطبقين على أَنَّك أكْرم الأكرمين وأرحم الرَّاحِمِينَ فَكل مَا مده قلمي أَو خطر ببالي فأستشهد وَأَقُول إِن علمت مني أَنِّي أردْت بِهِ تَحْقِيق بَاطِل أَو إبِْطَال حق فافعل بِي مَا أَنا أَهله وَإِن علمت مني أَنِّي مَا سعيت إِلَّا فِي تقديس اعتقدت أَنه الْحق وتصورت أَنه الصدْق فلتكن رحمتك مَعَ قصدي لَا مَعَ حاصلي فَذَاك جهد الْمقل وَأَنت أكْرم من أَن تضايق الضَّعِيف الْوَاقِع فِي زلَّة فأغثني وارحمني واستر زلتي وامح حوبتي يَا من لَا يزِيد ملكه عرفان العارفين وَلَا ينقص ملكه بخطأ الْمُجْرمين وَأَقُول ديني مُتَابعَة الرَّسُول مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكتابي الْقُرْآن الْعَظِيم وتعويلي فِي طلب الدّين عَلَيْهِمَا اللَّهُمَّ يَا سامع الْأَصْوَات وَيَا مُجيب الدَّعْوَات وَيَا مقيل العثرات(8/91)
أَنا كنت حسن الظَّن بك عَظِيم الرَّجَاء فِي رحمتك وَأَنت قلت أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي وَأَنت قلت {أم من يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ} فَهَب أَنِّي مَا جِئْت بِشَيْء فَأَنت الْغَنِيّ الْكَرِيم فَلَا تخيب رجائي وَلَا ترد دعائي واجعلني آمنا من عذابك قبل الْمَوْت وَبعد الْمَوْت وَعند الْمَوْت وَسَهل عَليّ سَكَرَات الْمَوْت فَإنَّك أرْحم الرَّاحِمِينَ
وَأما الْكتب الَّتِي صنفتها واستكثرت فِيهَا من إِيرَاد السؤالات فَلْيذكرْنِي من نظر فِيهَا بِصَالح دُعَائِهِ على سَبِيل التفضل والإنعام وَإِلَّا فليحذف القَوْل السيء فَإِنِّي مَا أردْت إِلَّا تَكْثِير الْبَحْث وشحذ الخاطر والاعتماد فِي الْكل على الله
الثَّانِي وَهُوَ إصْلَاح أَمر الْأَطْفَال فالاعتماد فِيهِ على الله
ثمَّ إِنَّه سرد وَصيته فِي ذَلِك إِلَى أَن قَالَ وَأمرت تلامذتي وَمن لي عَلَيْهِ حق إِذا أَنا مت يبالغون فِي إخفاء موتِي ويدفنوني على شَرط الشَّرْع فَإِذا دفنوني قرأوا عَليّ مَا قدرُوا عَلَيْهِ من الْقُرْآن ثمَّ يَقُولُونَ يَا كريم جَاءَك الْفَقِير الْمُحْتَاج فَأحْسن إِلَيْهِ
هَذَا آخر الْوَصِيَّة
وَقَالَ الإِمَام فِي تَفْسِيره وَأَظنهُ فِي سُورَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَالَّذِي جربته من طول عمري أَن الْإِنْسَان كلما عول فِي أَمر من الْأُمُور على غير الله صَار ذَلِك سَببا للبلاء والمحنة والشدة والرزية وَإِذا عول على الله وَلم يرجع إِلَى أحد من الْخلق حصل ذَلِك الْمَطْلُوب على أحسن الْوُجُوه فَهَذِهِ التجربة قد استمرت لي من أول عمري إِلَى هَذَا الْوَقْت الَّذِي بلغت فِيهِ إِلَى السَّابِع وَالْخمسين فَعِنْدَ هَذَا أَسْفر قلبِي على أَنه لَا مصلحَة للْإنْسَان فِي التعويل على شَيْء سوى فضل الله وإحسانه انْتهى(8/92)
قلت وَمَا ذكره حق وَمن حاسب نَفسه وجد الْأَمر كَذَلِك وَإِن فرض أحد عول فِي أَمر على غير الله وَحصل لَهُ فَاعْلَم أَنه لَا يَخْلُو عَن أحد رجلَيْنِ إِمَّا رجل ممكور بِهِ وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَإِمَّا رجل يطْلب شرا وَهُوَ يحْسب أَنه خير لنَفسِهِ وَيظْهر لَهُ ذَلِك بعاقبة ذَلِك الْأَمر فَمَا أسْرع انقلابه فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة إِلَى أَسْوَأ الْأَحْوَال وَمن شَاءَ اعْتِبَار ذَلِك فليحاسب نَفسه
وَاعْلَم أَن هَذِه الْجُمْلَة من كَلَام الإِمَام دَالَّة على مراقبته طول وقته ومحاسبته لنَفسِهِ رَضِي الله عَنهُ وقبح من يسبه أَو يذكرهُ بِسوء حسدا وبغيا من عِنْد نَفسه
توفّي الإِمَام رَحمَه الله بهراة فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ يَوْم عيد الْفطر سنة سِتّ وسِتمِائَة
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
إِذا بَاعَ صَاعا من صبرَة مَجْهُولَة الصيعان وجوزناه أَو مَعْلُومَة وَقُلْنَا إِنَّه لَا ينزل على الإشاعة فالخيرة فِي الْجَانِب الَّذِي يُوجد مِنْهُ الصَّاع الَّذِي وَقع عَلَيْهِ العقد إِلَى البَائِع
قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب فِي الْجراح فِي الْكَلَام على مَا إِذا كَانَ رَأس الشاج أكبر وَفِي الْمُنْتَخب المعزى لِابْنِ الْخَطِيب أَنَّهَا للْمُشْتَرِي وَقد نُوقِشَ فِيهِ انْتهى(8/93)
قلت وَقد أَجَاد فِي قَوْله المعزى لِابْنِ الْخَطِيب لِأَن كثيرا من النَّاس ذكرُوا أَنه لبَعض تلامذة الإِمَام لَا للْإِمَام
اخْتَار الإِمَام فِي التَّفْسِير فِي سُورَة الْإِسْرَاء أَن الجمادات وَغير الْمُكَلف من الْبَهَائِم أَنَّهَا تسبح الله بِلِسَان الْحَال وَلَا تسبح لَهُ بِلِسَان الْمقَال وَاحْتج بِمَا لم ينْهض عندنَا
وَفصل قوم فَقَالُوا كل حَيّ ونام يسبح دون مَا عداهُ وَعَلِيهِ قَول عِكْرِمَة الشَّجَرَة تسبح والأسطوانة لَا تسبح
وَقَالَ يزِيد الرقاشِي لِلْحسنِ وهما يأكلان طَعَاما وَقد قدم الخوان أيسبح هَذَا الخوان أَبَا سعيد فَقَالَ قد كَانَ يسبح ثمره يُرِيد أَن الشَّجَرَة فِي زمن ثَمَرهَا واعتدالها ذَات تَسْبِيح وَأما الْآن فقد صَار خوانًا مدهونا
ويستدل لهَذَا بِمَا ثَبت من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بقبرين فَقَالَ إنَّهُمَا ليعذبان وَفِيه أَنه دَعَا بعسيب رطب وَشقه بِاثْنَيْنِ وغرس على هَذَا وَاحِدًا وعَلى هَذَا وَاحِدًا ثمَّ قَالَ لَعَلَّه يُخَفف عَنْهُمَا مَا لم ييبسا فَإِن فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّهُمَا مَا داما رطبين يسبحان وَإِذا يبسا صَارا جمادا
وَذهب قوم إِلَى أَن كل شَيْء من جماد وَغَيره يسبح بِلِسَان الْمقَال وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَح عندنَا لِأَنَّهُ لَا اسْتِحَالَة فِيهِ وَيدل لَهُ كثير من النقول قَالَ تَعَالَى {إِنَّا سخرنا الْجبَال مَعَه يسبحْنَ بالْعَشي وَالْإِشْرَاق} وَقَالَ تَعَالَى {وتخر الْجبَال هدا أَن دعوا للرحمن ولدا}(8/94)
) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا روى ابْن ماجة لَا يسمع صَوت الْمُؤَذّن جن وَلَا إنس وَلَا شجر وَلَا حجر وَلَا مدر وَلَا شَيْء إِلَّا شهد لَهُ يَوْم الْقِيَامَة وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ أَنهم كَانُوا يسمعُونَ تَسْبِيح الطَّعَام وَهُوَ يُؤْكَل عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي صَحِيح مُسلم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِنِّي لأعرف حجرا بِمَكَّة كَانَ يسلم عَليّ قبل أَن أبْعث وَخبر الْجذع فِي هَذَا الْبَاب مَشْهُور وروى ابْن الْمُبَارك فِي رقائقه أَن ابْن مَسْعُود قَالَ إِن الْجَبَل ليقول للجبل هَل مر بك الْيَوْم ذَاكر لله فَإِن قَالَ نعم سر بِهِ إِلَى غير ذَلِك من أَخْبَار وآيات تشهد لمن يحمل قَوْله تَعَالَى {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ} على عُمُومه غير أَنا نقُول لَا نسلم من تسبيحها بِلِسَان الْمقَال أَنا نسمعها وَإِنَّمَا يكون ذَلِك على سَبِيل المعجزة كَمَا كَانُوا يسمعُونَ تَسْبِيح الطَّعَام عِنْد الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو على وَجه الْكَرَامَة
ذهب الإِمَام إِلَى أَنه إِذا قَالَ لامرأتيه إِحْدَاكُمَا طَالِق لَا يَقع الطَّلَاق على وَاحِدَة مِنْهُمَا لِأَن الطَّلَاق تعْيين فيستدعى محلا معينا
حكى الإِمَام فِي المناقب أَن الْحُسَيْن الْفراء مَال إِلَى مَذْهَب أبي حنيفَة فِي مسح الرَّأْس فِي الْوضُوء فَأوجب الرّبع وتعجب الإِمَام من الْبَغَوِيّ فِي ذَلِك
قلت وَهَذَا أَخذه من كَلَامه فِي التَّهْذِيب فَإِن فِيهِ بعد مَا حكى مَذْهَب الشَّافِعِي(8/95)
وَأبي حنيفَة وَجب أَن لَا يسْقط الْفَرْض عَنهُ إِذا مسح أقل من الناصية لِأَن ظَاهر الْقُرْآن يُوجب التَّعْمِيم وَالسّنة خصته بِقدر الناصية انْتهى وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي مَذْهَب أبي حنيفَة بل فِي التَّقْدِير بِقدر الناصية أما تَقْدِير الناصية بِالربعِ فَذَاك قَول الْحَنَفِيَّة فَإِن صَحَّ أَنه يوافقهم على تقديرها بِالربعِ فقد صَحَّ نقل الإِمَام وَإِلَّا فرأي الْبَغَوِيّ خَارج عَن الْمذَاهب الْأَرْبَعَة
وَمن شعر الإِمَام
(نِهَايَة إقدام الْعُقُول عقال ... وَأكْثر سعي الْعَالمين ضلال)
(وأرواحنا فِي غَفلَة من جسومنا ... وَحَاصِل دُنْيَانَا أَذَى ووبال)
(وَلم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أَن جَمعنَا فِيهِ قيل وَقَالُوا)
(وَكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا وَالْجِبَال جبال)
(وَكم قد رَأينَا من رجال ودولة ... فبادوا جَمِيعًا مزعجين وزالوا)
1090 - مُحَمَّد بن عمر بن عَليّ بن مُحَمَّد بن حمويه بن مُحَمَّد
شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين أَبُو الْحسن ابْن شيخ الشُّيُوخ عماد الدّين الْجُوَيْنِيّ الصُّوفِي(8/96)
ولد بجوين وتفقه على أبي طَالب الْأَصْبَهَانِيّ صَاحب التعليقة الْمَشْهُورَة وَقدم الشَّام مَعَ وَالِده وتفقه على القطب النَّيْسَابُورِي وَسمع من أَبِيه وَيحيى الثَّقَفِيّ
وَولي المناصب الْكِبَار وَتخرج بِهِ جمَاعَة ودرس وَأفْتى
وزوجه القطب النَّيْسَابُورِي بابنته فأولدها الْإِخْوَة الْأَرْبَعَة الْأُمَرَاء الصُّدُور عمر ويوسف وَأحمد وَحسن
وَعظم جاهه فِي الدولة الكاملية ودرس بقبة الشَّافِعِي ومشهد الْحُسَيْن وَغير ذَلِك
وسيره الْكَامِل رَسُولا إِلَى الْخَلِيفَة يستنجده على الفرنج فِي نوبَة دمياط فَمَرض بالموصل وَمَات سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة
1091 - مُحَمَّد بن عِيسَى بن أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أَحْمد ابْن أبي عبد الله الْقرشِي الْعَبدَرِي أَبُو عِيسَى المروروذي
من أهل بنج ديه من أَعمال مروالروذ
فَقِيه فَاضل من بَيت الْفضل والتقدم
مولده سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة ببنج ديه
قَالَ ابْن النجار بَلغنِي أَن بعض غلمانه الهنود اغتاله فَقتله وَقتل وَلَده مَعَه وَكَانَ من أجمل الشَّبَاب وأظرفهم وَلم يعين تَارِيخ وَفَاته(8/97)
1092 - مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مَالك الشَّيْخ بدر الدّين
شَارِح ألفية وَالِده الشَّيْخ جمال الدّين
نحوي خَبِير بالمعاني وَالْبَيَان والمنطق ذكي
توفّي كهلا فِي الْمحرم سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
1093 - مُحَمَّد بن مَحْمُود بن الْحسن بن هبة الله بن محَاسِن
الْحَافِظ الْكَبِير الثِّقَة محب الدّين أَبُو عبد الله ابْن النجار الْبَغْدَادِيّ
مُصَنف تَارِيخ بَغْدَاد الَّذِي ذيل بِهِ على تَارِيخ الْخَطِيب فجَاء فِي ثَلَاثِينَ مجلدا دَالا على سَعَة حفظه وعلو شَأْنه وَله مُصَنف حافل فِي مَنَاقِب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وتصانيف أخر كَثِيرَة فِي السّنَن وَالْأَحْكَام وَغَيرهَا
ولد فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة وَسمع من عبد الْمُنعم بن كُلَيْب وَيحيى بن بوش وذاكر بن كَامِل وَأبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ وَأَصْحَاب ابْن الْحصين وَالْقَاضِي أبي بكر فَأكْثر(8/98)
وَأول سَمَاعه وَله عشر سِنِين وَأول عنايته بِالطَّلَبِ وَله خمس عشرَة سنة
وَله الرحلة الواسعة إِلَى الشَّام ومصر والحجاز وأصبهان ومرو وهراة ونيسابور
لَقِي أَبَا روح الْهَرَوِيّ وَعين الشَّمْس الثقفية وَزَيْنَب الشعرية والمؤيد الطوسي والحافظ أَبَا الْحسن عَليّ بن الْمفضل وَأَبا الْيمن الْكِنْدِيّ وَأَبا الْقَاسِم ابْن الحرستاني فَمن بعدهمْ
قَالَ ابْن السَّاعِي كَانَت رحلته سبعا وَعشْرين سنة واشتملت مشيخته على ثَلَاثَة آلَاف شيخ
روى عَنهُ الْجمال مُحَمَّد بن الصَّابُونِي والخطيب عز الدّين الفاروثي وَعلي بن أَحْمد الغرافي وَالْقَاضِي تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان وَخلق
وَأَجَازَ لِأَحْمَد بن أبي طَالب بن الشّحْنَة رَاوِي الطَّحَاوِيّ شَيخنَا بِالْإِجَازَةِ
توفّي بِبَغْدَاد فِي خَامِس شعْبَان سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة(8/99)
1094 - مُحَمَّد بن مَحْمُود بن عبد الله الْجُوَيْنِيّ
قَاضِي الْبَصْرَة أَبُو عبد الله
تفقه بالنظامية بِبَغْدَاد
وَتَوَلَّى قَضَاء الْبَصْرَة وَبهَا مَاتَ سنة خمس وسِتمِائَة
1095 - مُحَمَّد بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن عباد أَبُو عبد الله القَاضِي شمس الدّين الْأَصْبَهَانِيّ
شَارِح الْمَحْصُول
كَانَ إِمَامًا فِي الْمنطق وَالْكَلَام وَالْأُصُول والجدل فَارِسًا لَا يشق غباره متدينا لبيبا ورعا نزها ذَا نعْمَة عالية كثير الْعِبَادَة والمراقبة حسن العقيدة
خرج من أَصْبَهَان شَابًّا وَدخل بَغْدَاد فاشتغل بهَا ثمَّ قدم حلب وَولي الْقَضَاء بمنبج ثمَّ قدم الْقَاهِرَة فولاه قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين ابْن بنت الْأَعَز قَضَاء قوص فباشرها مُبَاشرَة حَسَنَة(8/100)
وَكَانَ مهيبا قَائِما فِي الْحق على أَرْبَاب الدولة يخافونه أتم الْخَوْف بَلغنِي أَن الْحَاجِب بِمَدِينَة قوص تعرض إِلَى بعض الْأُمُور الشَّرْعِيَّة فَطَلَبه وضربه بِالدرةِ وَلم ينتطح فِيهَا عنزان
وَكَانَ وقورا فِي درسه أَخذ عَنهُ الْعلم جمَاعَة وَذكروا أَن شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين الْقشيرِي كَانَ يحضر درسه بقوص وَكَانَ من دينه أَن الطَّالِب إِذا أَرَادَ أَن يقْرَأ عَلَيْهِ الفلسفة ينهاه وَيَقُول لَا حَتَّى تمتزج بالشرعيات امتزاجا حَقِيقِيًّا جيدا فَللَّه دره
وشَرحه للمحصول حسن جدا وَإِن كَانَ قد وقف على شرح الْقَرَافِيّ وأودعه الْكثير من محاسنه لكنه أوردهَا على أحسن أسلوب وأجود تَقْرِير بِحَيْثُ إِنَّك ترى الْفَائِدَة من كَلَام الْقَرَافِيّ وَإِن كَانَ هُوَ المبتكر لَهَا كالعجماء وتراها من كَلَام هَذَا الشَّيْخ الْأَصْبَهَانِيّ قد تنقحت وَجَرت على أسلوب التَّحْقِيق وَلَكِن الْفضل للقرافي
وللأصبهاني أَيْضا كتاب الْقَوَاعِد مُشْتَمل على الْأَصْلَيْنِ والمنطق وَالْخلاف
دخل الْقَاهِرَة بعد قَضَاء قوص ودرس بالمشهد الْحُسَيْنِي وَأعَاد بالشافعي وَلما ولي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الْقشيرِي تدريس الشَّافِعِي عزل نَفسه من الْإِعَادَة وَبَلغنِي أَنه قَالَ بطن الأَرْض خير من ظهرهَا وَنحن نُقِيم عذره من جِهَة مشيخته وَقدم هجرته وَإِلَّا فحقيق بِهِ وبأمثاله الاستفادة من إِمَام الْأَئِمَّة الشَّيْخ تَقِيّ الدّين
وَبَلغنِي أَنه حِين فر من قوص إِلَى مصر اقْترض عشْرين درهما حَتَّى تزَود بهَا(8/101)
وَسمعت الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد يحْكى أَنه قَالَ فِي الِاسْتِدْرَاك مرّة وَائِل بن حجر بِفَتْح الْحَاء وَالْجِيم فَقلت لَهُ حجر بِضَم الْحَاء وَإِسْكَان الْجِيم فَقَالَ حجر حجر صَحَابِيّ وَالسَّلَام
وَحضر إِلَيْهِ فِي قوص طَالب يشكو على شَاعِر هجاه وَسَأَلَ مِنْهُ تعزيره فَقَالَ أخْشَى يبغى يَعْنِي يهجوني أَيْضا
وَكَانَ يعْتَقد كرامات الْأَوْلِيَاء قَالَ لَهُ مرّة بعض الطّلبَة يَا سَيِّدي أيصح أَن فِي هَذِه الْأمة من يمشي على المَاء ويطير فِي الْهَوَاء فَقَالَ يَا بني هَذِه الْأمة أكرمها الله بنبيها صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانف عَن أوليائها مقَام النُّبُوَّة والرسالة وَأثبت مَا شِئْت من الخوارق
ولد بأصبهان سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وَتُوفِّي بِالْقَاهِرَةِ فِي الْعشْرين من رَجَب سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
فصل يشْتَمل على عقيدة مختصرة من كَلَامه مَعَ الْإِشَارَة فِيهَا إِلَى الْأَدِلَّة وَهِي
الْحَمد لله حق حَمده وصلواته على مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله
الْعَالم الْخَالِق وَاجِب الْوُجُود لذاته وَاحِد عَالم قَادر حَيّ مُرِيد مُتَكَلم سميع بَصِير(8/102)
فالدليل على وجوده الممكنات لِاسْتِحَالَة وجودهَا بِنَفسِهَا واستحالة وجودهَا بممكن آخر ضَرُورَة اسْتغْنَاء الْمَعْلُول بعلته عَن كل مَا سواهُ وافتقار الْمُمكن إِلَى علته
وَالدَّلِيل على وحدته أَنه لَا تركيب فِيهِ بِوَجْه وَإِلَّا لما كَانَ وَاجِب الْوُجُود لذاته ضَرُورَة افتقاره إِلَى مَا تركب مِنْهُ وَيلْزم من ذَلِك أَن لَا يكون من نَوعه اثْنَان إِذْ لَو كَانَ للَزِمَ وجود الِاثْنَيْنِ بِلَا امتياز وَهُوَ محَال
وَالدَّلِيل على علمه إيجاده الْأَشْيَاء لِاسْتِحَالَة إِيجَاد الْأَشْيَاء مَعَ الْجَهْل بهَا
وَالدَّلِيل على قدرته أَيْضا إيجاده الْأَشْيَاء وَهِي إِمَّا بِالذَّاتِ وَهُوَ محَال وَإِلَّا لَكَانَ الْعَالم وكل وَاحِد من مخلوقاته قَدِيما فَتعين أَن يكون فَاعِلا بِالِاخْتِيَارِ وَهُوَ الْمَطْلُوب
وَالدَّلِيل على أَنه حَيّ علمه وَقدرته لِاسْتِحَالَة قيام الْعلم وَالْقُدْرَة من غير حَيّ
وَالدَّلِيل على إِرَادَته تَخْصِيصه الْأَشْيَاء بخصوصيات واستحالة التَّخْصِيص من غير مُخَصص
وَالدَّلِيل على كَونه متكلما أَنه آمُر ناه لِأَنَّهُ بعث الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام لتبليغ أوامره ونواهيه وَلَا معنى لكَونه متكلما إِلَّا ذَلِك
وَالدَّلِيل على كَونه سميعا بَصيرًا السمعيات
وَالدَّلِيل على نبوة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام المعجزات وعَلى نبوة سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُرْآن المعجز نظمه وَمَعْنَاهُ
ثمَّ نقُول كل مَا أخبر بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَذَاب الْقَبْر ومنكر وَنَكِير وَغير ذَلِك من أَحْوَال يَوْم الْقِيَامَة والصراط وَالْمِيزَان والشفاعة وَالْجنَّة وَالنَّار فَهُوَ حق لِأَنَّهُ مُمكن وَقد أخبر بِهِ الصَّادِق فَيلْزم صدقه وَالله الْمُوفق(8/103)
1096 - مُحَمَّد بن معمر بن عبد الْوَاحِد بن رَجَاء الْقرشِي العبشمي
الْفَقِيه الْمُحدث مخلص الدّين أَبُو عبد الله بن الْحَافِظ أبي أَحْمد بن الشَّيْخ أبي الْقَاسِم ابْن الفاخر الْأَصْبَهَانِيّ
ولد فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة عشْرين وَخَمْسمِائة
وَحضر على فَاطِمَة الجوزدانية وجعفر بن عبد الْوَاحِد الثَّقَفِيّ وَإِسْمَاعِيل بن الإخشيد
وَسمع من سعيد بن أبي الرَّجَاء الصَّيْرَفِي وَإِسْمَاعِيل بن أبي صَالح الْمُؤَذّن وزاهر الشحامي وَخلق
روى عَنهُ ابْن خَلِيل والضياء وَغَيرهمَا
قَالَ ابْن النجار كَانَ حسن الْمعرفَة بِمذهب الشَّافِعِي لَهُ معرفَة بِالْحَدِيثِ وَيَد باسطة فِي الْأَدَب وتفنن فِي كل علم يكْتب خطا حسنا وَكَانَ من ظراف النَّاس ومحاسنهم ثِقَة متدينا لَهُ مكانة رفيعة عِنْد الْمُلُوك
خرج إِلَى شيراز فَتوفي بهَا فِي ربيع الأول سنة ثَلَاث وسِتمِائَة(8/104)
1097 - مُحَمَّد بن ناماور بن عبد الْملك القَاضِي أفضل الدّين الخونجي
ولد فِي جُمَادَى الأولى سنة تسعين وَخَمْسمِائة
وَله الْيَد الطُّولى فِي المعقولات وَهُوَ صَاحب الموجز فِي الْمنطق وَغَيره
ولي قَضَاء قُضَاة الْقَاهِرَة
وَكَانَ كثير الإفكار بِحَيْثُ يسْتَغْرق وقتا صَالحا فِي ذَلِك حُكيَ عَنهُ أَنه فكر فِي مجْلِس السُّلْطَان ثمَّ خشِي الْإِنْكَار فَقَالَ أَنا فَكرت فِي هَذَا الْفراش فَظهر لي أَنه إِذا فرش على هَيْئَة كَذَا توفر بِسَاط فَفعل مَا قَالَ فتوفر بِسَاط
ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية بِالْقَاهِرَةِ وَغَيرهَا
توفّي فِي الْخَامِس من شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَدفن بسفح المقطم(8/105)
ورثاه عز الدّين الإربلي بقصيدة أَولهَا
(قضى أفضل الدُّنْيَا نعم وَهُوَ فَاضل ... وَمَات بِمَوْت الخونجي الْفَضَائِل)
1098 - مُحَمَّد بن هبة الله بن مُحَمَّد بن هبة الله بن يحيى بن بنْدَار بن مميل بِفَتْح الْمِيم وَمَعْنَاهُ مُحَمَّد القَاضِي شمس الدّين أَبُو نصر بن الشِّيرَازِيّ
ولد فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَأَجَازَ لَهُ أَبُو الْوَقْت السجْزِي وَنصر بن سيار الْهَرَوِيّ وَآخَرُونَ وَسمع من أبي يعلى بن الحبوبي والصائن هبة الله بن عَسَاكِر وأخيه الْحَافِظ أبي الْقَاسِم وخلائق
وَطَالَ عمره وَتفرد عَن أقرانه
روى عَنهُ الْمُنْذِرِيّ وَابْن خَلِيل والبرزالي والشرف ابْن النابلسي وَالْجمال ابْن الصَّابُونِي وَأَبُو الْحُسَيْن بن الزَّيْنَبِي وَأحمد بن هبة الله بن عَسَاكِر وخلائق
وَتفرد بالحضور عَلَيْهِ حفيده أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد وَأَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن عَسَاكِر(8/106)
ولي قَضَاء الْقُدس ثمَّ قَضَاء الشَّام اسْتِقْلَالا بمدرسة الْعِمَاد الْكَاتِب ثمَّ تَركهَا ثمَّ ولي تدريس الشامية البرانية
وَكَانَ مَوْصُوفا بالرئاسة والنبل ونفاذ الْأَحْكَام وَعدم الْمُحَابَاة
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ أَخذ الْفِقْه عَن القطب النَّيْسَابُورِي وَابْن أبي عصرون فِيمَا أرى
توفّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1099 - مُحَمَّد بن واثق بن عَليّ بن الْفضل بن هبة الله قَاضِي الْقُضَاة محيي الدّين أَبُو عبد الله بن فضلان الْبَغْدَادِيّ
مدرس المستنصرية
وَقد ولي قَضَاء الْقُضَاة للْإِمَام النَّاصِر لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنهُ فِي آخر دولته
ولد سنة ثَمَان وسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
وتفقه على وَالِده الْعَلامَة أبي الْقَاسِم بن فضلان ورحل إِلَى خُرَاسَان وناظر علماءها(8/107)
وَكَانَ عَارِفًا بِالْمذهبِ وَالْخلاف وَالْأُصُول والمنطق مَوْصُوفا بِحسن المناظرة ودرس بالنظامية
وَسمع من أَصْحَاب أبي الْقَاسِم بن بَيَان الرزاز وَأبي طَالب الزَّيْنَبِي
توفّي فِي شَوَّال سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1100 - مُحَمَّد بن يحيى بن مظفر بن عَليّ بن نعيم
القَاضِي أَبُو بكر الْبَغْدَادِيّ ابْن الحبير بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة
ولد سنة تسع وَخمسين وَسمع من شهدة وَأبي الْفَتْح بن الْمَنِيّ وَعبد الله بن عبد الصَّمد السّلمِيّ وَغَيرهم
روى عَنهُ ابْن النجار وَأَبُو الْحسن الْعِرَاقِيّ وَغَيرهمَا ومشايخ شُيُوخنَا
وَكَانَ إِمَامًا عَارِفًا بِالْمذهبِ دينا خيرا وقورا كثير التِّلَاوَة لَهُ الْيَد الطُّولى فِي الجدل والمناظرة صَاحب ليل وتهجد
تفقه على الشَّيْخ المجير الْبَغْدَادِيّ وَأبي المفاخر النوقاني وناب فِي الْقَضَاء عَن أبي عبد الله بن فضلان
وَكَانَ أَولا حنبلي الْمَذْهَب ثمَّ انْتقل ودرس فِي النظامية
توفّي فِي سَابِع شَوَّال سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة(8/108)
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا أخبرنَا عبد الله بن أَحْمد الْعلوِي أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن يحيى الْفَقِيه أنبأتنا شهدة أخبرنَا طراد أخبرنَا هِلَال أخبرنَا ابْن عَيَّاش الْقطَّان حَدثنَا أَبُو الْأَشْعَث حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر أَن رجلا أَتَى الْمَسْجِد وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب يَوْم الْجُمُعَة فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصليت يَا فلَان قَالَ لَا قَالَ قُم فاركع
1101 - مُحَمَّد بن يُونُس بن مُحَمَّد بن مَنْعَة بن مَالك الشَّيْخ عماد الدّين بن يُونُس الإربلي
أحد الْأَئِمَّة من عُلَمَاء الْموصل يكنى أَبَا حَامِد
ولد سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
وتفقه بالموصل على وَالِده ثمَّ رَحل إِلَى بَغْدَاد فتفقه بهَا على السديد السلماسي وَأبي المحاسن يُوسُف بن بنْدَار الدِّمَشْقِي وَسمع الحَدِيث من أبي حَامِد مُحَمَّد بن أبي الرّبيع الغرناطي وَعبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْكشميهني
وَعَاد إِلَى الْموصل ودرس بهَا فِي عدَّة مدارس وَعلا صيته وشاع ذكره وقصده الْفُقَهَاء من الْبِلَاد(8/109)
وصنف الْمُحِيط فِي الْجمع بَين الْمُهَذّب والوسيط وَشرح الْوَجِيز وصنف جدلا وَسَماهُ التَّحْصِيل وعقيدة لَا بَأْس بهَا
قَالَ ابْن خلكان كَانَ إِمَام وقته فِي الْمَذْهَب وَالْأُصُول وَالْخلاف وَكَانَ لَهُ صيت عَظِيم فِي زَمَانه وَكَانَ شَدِيد الْوَرع والتقشف فِيهِ وَسْوَسَة لَا يمس الْقَلَم للْكتاب إِلَّا وَيغسل يَده وَلم يرْزق سَعَادَة فِي تصانيفه فَإِنَّهَا لَيست على قدر فضائله
قَالَ وَتوجه رَسُولا إِلَى الْخَلِيفَة غير مرّة وَولي قَضَاء الْموصل خَمْسَة أشهر ثمَّ عزل فولي بعده ضِيَاء الدّين الْقَاسِم بن يحيى الشهرزوري
توفّي بالموصل فِي سلخ جُمَادَى لآخرة سنة ثَمَان وسِتمِائَة
وَمن الْمسَائِل والفوائد عَنهُ
تَقْسِيم أَظُنهُ من صَنعته أَدِلَّة الشَّرْع منحصرة فِي النَّص وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن الحكم الْمُدعى لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مستفادا من نقل أَو لَا من نقل فَإِن كَانَ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون بِوَاسِطَة أهل الْحل وَالْعقد أَو لَا فَإِن كَانَ فَهُوَ الْمُسَمّى إِجْمَاعًا وَإِن لم يكن فَهُوَ الْمُسَمّى نصا وَإِن لم يكن مستفادا من نقل فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مستفادا من معنى مَعْقُول أَو لَا فَإِن كَانَ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون ذَلِك الْمَعْنى رَاجعا إِلَى أحد هذَيْن الْقسمَيْنِ أَو لَا فَإِن كَانَ رَاجعا فَهُوَ الْمُسَمّى قِيَاسا وَإِن لم رَاجعا كَانَ مناسبا مُرْسلا وَهُوَ غير مَعْمُول بِهِ عندنَا وَعِنْدهم وَإِن لم يكن لَا من نقل وَلَا معنى معَارض من جَانب وجوده وَعَدَمه فَلَا يثبت فَثَبت أَن الْأَدِلَّة منحصرة فِي النَّص وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس(8/110)
نِكَاح الجنية
قَالَ الشَّيْخ نجم الدّين الْقَمُولِيّ فِي شرح الْوَسِيط إِنَّه حكى عَنهُ أَنه كَانَ يَجْعَل من مَوَانِع النِّكَاح اخْتِلَاف الْجِنْس وَيَقُول لَا يجوز للآدمي أَن ينْكح الجنية
قَالَ الْقَمُولِيّ وَفِيه نظر
قَالَ الْأَصْحَاب الْأَفْضَل تَقْدِيم الغائبة على الْحَاضِرَة إِلَّا إِذا ضَاقَ وَقت الْحَاضِرَة وَيحرم بهَا
زَاد صَاحب التَّعْجِيز قبل بَاب شُرُوط الصَّلَاة أَو أدْرك جمَاعَة وَعلله فِي شَرحه بخشية فَوَات الْجَمَاعَة قَالَ وَهَذَا قَالَه جدي
قلت وَسَبقه إِلَيْهِ الْغَزالِيّ فَقَالَ فِي الْبَاب السَّادِس من بَاب أسرار الصَّلَاة من كتاب إحْيَاء عُلُوم الدّين فَقَالَ من فَاتَهُ الظّهْر إِلَى وَقت الْعَصْر فَليصل الظّهْر أَولا ثمَّ الْعَصْر إِلَى أَن قَالَ فَإِن وجد إِمَامًا فَليصل الْعَصْر ثمَّ ليصل الظّهْر بعده فَإِن الْجَمَاعَة بِالْأَدَاءِ أولى انْتهى
وَهُوَ خلاف المجزوم بِهِ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة قبل الْبَاب الْخَامِس فِي شُرُوط الصَّلَاة فَإِنَّهُ قَالَ وَلَو تذكر فَائِتَة وَهُنَاكَ جمَاعَة يصلونَ الْحَاضِرَة وَالْوَقْت متسع(8/111)
فَالْأولى أَن يُصَلِّي الْفَائِتَة أَولا مُنْفَردا لِأَن التَّرْتِيب مُخْتَلف فِي وُجُوبه وَالْأَدَاء خلف الْقَضَاء مُخْتَلف فِي جَوَازه فاستحب الْخُرُوج من الْخلاف انْتهى
وَمن أَجله وَالله أعلم غير القَاضِي شرف الدّين الْبَارِزِيّ فِي كتاب التَّمْيِيز عبارَة التَّعْجِيز فَإِن عبارَة التَّعْجِيز أَو أدْرك جمَاعَة وَعبارَة التَّمْيِيز قيل أَو أدْرك جمَاعَة فَكَأَنَّهُ لما وجد مَا نَقله ابْن يُونُس عَن جده خلاف المجزوم بِهِ فِي الرَّوْضَة زَاد لَفْظَة قيل لينبه على ضعفه وَقد بَينا أَن الْغَزالِيّ سبقه إِلَيْهِ وَله اتجاه ظَاهر وعَلى القَاضِي شرف الدّين مُؤَاخذَة فَإِن قَوْله قيل كَمَا يُشِير بِهِ إِلَى ضعف الْمَقُول كَذَلِك يُشِير بِهِ إِلَى أَنه وَجه كَمَا ذكره فِي خطبَته وَمن أَيْن لَهُ أَنه وَجه فِي الْمَذْهَب وَهل عِنْده غير كَلَام الشَّيْخ الْعِمَاد وَلَيْسَ من أَصْحَاب الْوُجُوه وَمَا أَظُنهُ وقف على كَلَام الْغَزالِيّ وَبِالْجُمْلَةِ كَلَام ابْن يُونُس مُتَّجه ظَاهر وَقد تأيد بِكَلَام الْغَزالِيّ وَالْقلب إِلَيْهِ أميل مِنْهُ إِلَى مَا فِي الرَّوْضَة
نقل صَاحب التَّعْجِيز فِي كتاب نِهَايَة النفاسة عَن جده الشَّيْخ عماد الدّين أَنه لَا يرى قطع السَّارِق بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَة لِأَنَّهُ حق الله تَعَالَى فَأشبه حد مكره الْأمة على الزِّنَا
قلت وَهُوَ الَّذِي يظْهر تَرْجِيحه وَعَزاهُ الرَّافِعِيّ إِلَى ابْن الصّباغ وَصَاحب الْبَيَان وَغَيرهمَا وَذكر أَن لفظ الْمُخْتَصر يدل لَهُ
سُئِلَ الشَّيْخ عماد الدّين عَمَّن لَهُ أَب صَحِيح قوي فَقير لَا تجب نَفَقَته(8/112)
هَل يجوز أَن يدْفع لَهُ من سهم الْفُقَرَاء فِي الزَّكَاة فَأجَاب النَّقْل أَنه لَا يجوز وَأجَاب أَخُوهُ الشَّيْخ كَمَال الدّين بِالْجَوَازِ
1102 - مُحَمَّد بن أبي بكر بن عَليّ الشَّيْخ نجم الدّين بن الخباز الْموصِلِي(8/113)
1103 - مُحَمَّد بن أبي بكر بن مُحَمَّد الْفَارِسِي الشَّيْخ شمس الدّين الأيكي
1104 - مُحَمَّد بن أبي فراس
1105 - مُحَمَّد بن أبي الْفرج بن معالي بن بركَة بن الْحُسَيْن أَبُو الْمَعَالِي الْموصِلِي
قَالَ ابْن النجار تفقه بِالْمَدْرَسَةِ النظامية حَتَّى برع فِي الْخلاف وَالْفِقْه وَالْأُصُول وَصَارَ أحد المعيدين بهَا
سمع بالموصل من خطيبها أبي الْفضل عبد الله الطوسي(8/114)
مولده فِي ذِي الْحجَّة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَمَات فِي شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَعشْرين وسِتمِائَة
1106 - إِبْرَاهِيم بن سعد الله بن جمَاعَة بن عَليّ بن جمَاعَة ابْن حَازِم بن صَخْر الْكِنَانِي الْحَمَوِيّ برهَان الدّين
فَقِيه صوفي
ولد بحماة فِي منتصف رَجَب سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
وَسمع فَخر الدّين بن عَسَاكِر وَغَيره ودرس
وَكَانَت لَهُ عبَادَة ومراقبة
قصد التَّوَجُّه إِلَى الْقُدس وَأخْبر أَنه لَا يعود فَمضى إِلَى الْقُدس وَمَات فِي يَوْم الْأَضْحَى سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة
1107 - إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن عبد الْمُنعم بن عَليّ بن مُحَمَّد ابْن فاتك بن مُحَمَّد بن أبي الدَّم القَاضِي أَبُو إِسْحَاق
ولد بحماة فِي حادي عشْرين جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة(8/115)
وَدخل بَغْدَاد فَسمع بهَا من ابْن سكينَة وَغَيره وَحدث بحلب والقاهرة
وَله شرح الْوَسِيط وَكتاب أدب الْقَضَاء وتاريخ
توفّي فِي منتصف جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
ذكر ابْن أبي الدَّم أَن الشَّاهِد إِذا كَانَ مُسْتَنده فِي شَهَادَته الاستفاضة حَيْثُ صَارَت الشَّهَادَة بهَا فَبين ذَلِك وَقَالَ مستندي الاستفاضة لَا تسمع شَهَادَته على الْأَصَح وَهَذَا خلاف غَرِيب
وَقد قَالَ الرَّافِعِيّ فِي الْجرْح إِذا جَازَت الشَّهَادَة فِيهِ بالاستفاضة إِن الشاهدد يبين ذَلِك فَيَقُول سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ فِيهِ كَذَا لَكِن ذكر الرَّافِعِيّ فِي الشَّهَادَة بِالْملكِ أَنه تجوز الشَّهَادَة فِيهِ بالاستفاضة فَلَو بَين ذَلِك فَقَالَ أشهد لَهُ بِالْملكِ استصحابا فَقطع القَاضِي بِالْقبُولِ وَالْغَزالِيّ بِالْمَنْعِ وَهَذَا شَاهد للْخلاف الَّذِي حَكَاهُ ابْن أبي الدَّم
وللوالد رَحمَه الله على الْمَسْأَلَة كَلَام نَفِيس ذكره فِي فَتَاوِيهِ وَذَكَرْنَاهُ نَحن مَعَ زيادات عَلَيْهِ فِي كتاب ترشيح التوشيح
مَسْأَلَة الشَّهَادَة بِالْإِقْرَارِ
قَالَ ابْن الرّفْعَة قد اشْتَدَّ نَكِير ابْن أبي الدَّم على من يَقُول وَقد تحمل الشَّهَادَة بِالْإِقْرَارِ أشهد على إِقْرَار فلَان بِكَذَا وَإِنَّمَا يَقُول أشهد على فلَان بِأَنَّهُ أقرّ بِكَذَا لِأَن إِقْرَار زيد لَيْسَ بمشهود عَلَيْهِ بل زيد هُوَ الْمَشْهُود عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمقر(8/116)
وَقد أُجِيب بِأَن ذَلِك جَائِز أَيْضا قَالَ الله تَعَالَى {قَالَ بل ربكُم رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض الَّذِي فطرهن وَأَنا على ذَلِكُم من الشَّاهِدين} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مثل هَذَا فاشهد
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَفِي كَلَام الشَّافِعِي نَظِير ذَلِك وَقَوله حجَّة فِي اللُّغَة كَمَا قَالَ الْأَزْهَرِي(8/117)
1108 - إِبْرَاهِيم بن عبد الْوَهَّاب بن أبي الْمَعَالِي الزنجاني
من أَصْحَابنَا لَهُ شرح على الْوَجِيز مُخْتَصر من شرح الرَّافِعِيّ سَمَّاهُ نقاوة الْعَزِيز وَفِي خطبَته يَقُول مُشِيرا إِلَى الرَّافِعِيّ وَشَرحه جمع بعض أَئِمَّة الْعَصْر(8/119)
مجموعا حاويا لجَمِيع أَنْوَاع المطالب شَامِلًا لجملة أَصْنَاف الْمذَاهب فَأتى بِمَا يُنَادى على رُؤُوس الأشهاد بجودة قريحته وحدة ذكائه وفطنته ووفور فَضله وغزارة علمه فَإِنَّهُ جَاءَ بِالْيَدِ الْبَيْضَاء وَالْحجّة الزهراء والمحجة الغراء حائزا بِهِ قصب السَّبق وآتيا بِمَا لم يستطعه الْأَوَائِل لكنه صرف الله عين الْكَمَال عَنهُ قد بسط فِيهِ الْكَلَام بسطا أربى على همم أهل الزَّمَان وَكَاد يُفْضِي بِهِ وبالناظر فِيهِ إِلَى الملال
إِلَى أَن يَقُول أردْت اختصاره بعض اخْتِصَار مَعَ جَوَاب مَا أزيده من السؤالات وَالْإِشَارَة إِلَى حل بعض مَا وَجه عَلَيْهِ من الإشكالات
إِلَى أَن يَقُول وَكَانَ حفظه الله سمى شَرحه الْعَزِيز فسمينا شرحنا هَذَا نقاوة الْعَزِيز
وَكَلَامه هَذَا يَقْتَضِي أَنه بَدَأَ فِي تصنيفه فِي حَيَاة الرَّافِعِيّ وَالنُّسْخَة الَّتِي وقفت عَلَيْهَا من هَذَا الشَّرْح بِخَط المُصَنّف وَذكر فِي آخِره أَنه فرغ مِنْهُ فِي شعْبَان سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة
قَالَ فِي هَذَا الشَّرْح فِي كتاب البيع عِنْد ذكر المعاطاة مثلُوا المحقرات بالباقة من البقل والرطل من الْخبز وَقيل مَا دون نِصَاب السّرقَة وَقيل يرجع فِيهِ إِلَى الْعرف
وَأَقُول لَو ضبط بِمَا يأنف أوساط النَّاس المكاس فِي بَيْعه وشرائه لم يكن بَعيدا(8/120)
قلت وَالْقَوْل بتقديره بِمَا دون نِصَاب السّرقَة هُوَ الْوَجْه الَّذِي ذكر الرَّافِعِيّ أَنه الْأَشْبَه وَمَا ذكره هَذَا الشَّارِح من الضَّبْط يؤول إِلَى الرُّجُوع إِلَى الْعرف
1109 - إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن مُحَمَّد السّلمِيّ المغربي
الْحَكِيم القطب الْمصْرِيّ الإِمَام فِي العقليات
رَحل إِلَى خُرَاسَان إِلَى حَضْرَة الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ وَقَرَأَ عَلَيْهِ وَصَارَ من كبار تلامذته وَشرح كليات القانون وصنف كتبا كَثِيرَة
وَلَا يعْتَبر بِكَلَام أبي عَليّ بن خَلِيل السكونِي المغربي صَاحب كتاب التَّمْيِيز الَّذِي صنفه على كشاف الزَّمَخْشَرِيّ حَيْثُ تكلم فِي هَذَا الشَّيْخ القطب الْمصْرِيّ وَسَماهُ قطب الدّين الْكُوفِي وَهُوَ إِنَّمَا تكلم فِيهِ بعد مَا تكلم فِي الإِمَام نَفسه فَكَلَامه فِي حق الإِمَام مَرْدُود وَهُوَ وبال عَلَيْهِ وَقد عَابَ الإِمَام بِمَا لَا يعاب بِهِ عَالم فَإِنَّهُ جعل محط كَلَامه دائرا على أَن الإِمَام دأبه اعْتِرَاض كَلَام الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين كالشيخ أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ شيخ السّنة وَالْقَاضِي أبي بكر والأستاذ أبي إِسْحَاق وَابْن فورك وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَمثل هَذَا لَا يعاب بِهِ الْعَالم ثمَّ لَيْسَ الْأَمر على مَا ذكره من أَن دأبه(8/121)
اعتراضهم وَإِنَّمَا هُوَ بَحر لَا ينزف وذكي لَا يلْحق فَرُبمَا شكك على كَلَام هَؤُلَاءِ على عَادَة الْعلمَاء والمغاربة لَا يحْتَملُونَ أحدا يُعَارض الْأَشْعَرِيّ فِي كَلَامه وَلَا يعْتَرض عَلَيْهِ وَالْإِمَام لَا يُنكر عَظمَة الْأَشْعَرِيّ كَيفَ وَهُوَ على طَرِيقَته يمشي وَبِقَوْلِهِ يَأْخُذ وَلَكِن لم تَبْرَح الْأَئِمَّة يعْتَرض متأخرها على متقدمها وَلَا يشينه ذَلِك بل يزينه
قتل القطب الْمصْرِيّ بنيسابور فِيمَن قتل ظلما على يَد التتار سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة
1110 - إِبْرَاهِيم بن عِيسَى الْمرَادِي الأندلسي ثمَّ الْمصْرِيّ ثمَّ الدِّمَشْقِي
قَالَ فِيهِ النَّوَوِيّ الْفَقِيه الإِمَام الْحَافِظ المتقن الْمُحَقق الضَّابِط الزَّاهِد الْوَرع الَّذِي لم تَرَ عَيْني فِي وقتي مثله
كَانَ رَحمَه الله بارعا فِي معرفَة الحَدِيث وعلومه وَتَحْقِيق أَلْفَاظه لَا سِيمَا الصحيحان ذَا عناية باللغة والنحو وَالْفِقْه ومعارف الصُّوفِيَّة حسن المذاكرة فِيهَا وَكَانَ عِنْدِي من كبار المسلكين فِي طَرِيق الْحَقَائِق حسن التَّعْلِيم صحبته نَحْو عشر سِنِين لم أر مِنْهُ شَيْئا يكره وَكَانَ من السماحة بِمحل عَال على قدر وجده وَأما الشَّفَقَة على الْمُسلمين ونصيحتهم فَقل نَظِيره فيهمَا
توفّي بِمصْر فِي أَوَائِل سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
وَهَذَا كَلَام النَّوَوِيّ رَضِي الله عَنهُ(8/122)
1111 - إِبْرَاهِيم بن معضاد بن شَدَّاد بن ماجد الجعبري
الشَّيْخ الصَّالح الْمَشْهُور بالأحوال والمكاشفات
مولده بجعبر فِي سَابِع عشر ذِي الْحجَّة سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
وتفقه على مَذْهَب الشَّافِعِي وَسمع الحَدِيث بِالشَّام من أبي الْحسن السخاوي وَقدم الْقَاهِرَة وَحدث بهَا فَسمع مِنْهُ شَيخنَا أَبُو حَيَّان وَغَيره
وَكَانَ يعظ النَّاس وَيتَكَلَّم عَلَيْهِم وَتحصل فِي مجالسه أَحْوَال سنية وتحكى عَنهُ كرامات بهية
وَمنعه قَاضِي الْقُضَاة ابْن رزين مرّة من الْكَلَام على النَّاس بِسَبَب أَلْفَاظ ذكرت عَنهُ ثمَّ عَاد إِلَى الْكَلَام وَظَهَرت بَرَاءَته وَحسن اعْتِقَاده وامتداد حَاله
وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاس الْعِرَاقِيّ يُنكر عيه إنكارا كثيرا وَكَانَت فِي الشَّيْخ حِدة وَرُبمَا شتم فِي الْوَعْظ ونال من بعض الْحَاضِرين وَطلب مرّة إِلَى مجْلِس بعض الْقُضَاة وادعي عَلَيْهِ بِأَلْفَاظ قيل إِنَّهَا بدرت مِنْهُ فَقَالَ لَهُ القَاضِي أجب فَأخذ يَقُول شقع بقع يَا الله بقع يُكَرر ذَلِك وَخرج من الْمجْلس عجلا لم يقدر أحد أَن يردهُ فَقَامَ القَاضِي وَركب بغلته فَوَقع وانكسرت يَده
وَمن شعر الشَّيْخ إِبْرَاهِيم الجعبري
(وأفاضل النَّاس الْكِرَام أبوة ... وفتوة مِمَّن أحب وتاها)(8/123)
(عشقوا الْجمال مُجَردا بِمُجَرَّد الرّوح ... الزكية عشق من زكاها)
(متجردين عَن الطباع ولؤمها ... متلبسين عفافها ونقاها)
فِي أَبْيَات كَثِيرَة
وَلما دنت وَفَاته جَاءَ بِنَفسِهِ إِلَى مَوضِع يدْفن فِيهِ وَقَالَ هَذَا قبير جَاءَك دبير وَتُوفِّي عقيب ذَلِك يَوْم السبت رَابِع عشري الْمحرم سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
1112 - إِبْرَاهِيم بن نصر بن طَاقَة الْمصْرِيّ الْحَمَوِيّ الأَصْل برهَان الدّين الْمَعْرُوف بِابْن الْفَقِيه نصر
فَقِيه أديب رَئِيس وجيه
مولده سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَأَجَازَ لَهُ ابْن الْجَوْزِيّ وَجَمَاعَة وَحدث سمع مِنْهُ الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ وَغَيره
وَولي نظر الأحباس بالديار المصرية وَنظر الدِّيوَان بِالْأَعْمَالِ القوصية
ومدح الْملك الْكَامِل بقصيدة مطْلعهَا هَذَا
(إِلَيْك وَإِلَّا دلَّنِي كَيفَ أصنع ... وفيك وَإِلَّا فالثناء مضيع)
(ومنك استفدنا كل مجد وسؤدد ... وعنك أَحَادِيث المكارم تسمع)(8/124)
وَمن شعره رَحمَه الله
(يَا زماني كلما ... حاولت أمرا تتمنع)
(إِن تعصبت فَإِن ... باصطباري أتقنع)
وَمِنْه أَيْضا
(وبقلبي من الهموم مديد ... وبسيط ووافر وطويل)
(لم أكن عَالما بِذَاكَ إِلَى أَن ... قطع الْقلب بالفراق الْخَلِيل)
وَقَالَ أَيْضا
(أَشْكُو إِلَيْك وَأَنت أرْحم ... من شَكَوْت إِلَيْهِ حَالي)
(ضَاقَتْ عَليّ ثَلَاثَة ... رِزْقِي وصدري واحتمالي)
(وعدمت حسن ثَلَاثَة ... جلدي وصبري واحتيالي)
امتحن ابْن الْفَقِيه نصر فِي أَيَّام الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب وصودر وَسلم إِلَى من عاقبه فَضَربهُ حَتَّى مَاتَ فِي لَيْلَة ثَانِي جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1113 - إِبْرَاهِيم بن يحيى بن أبي الْمجد الأميوطي القَاضِي أَبُو إِسْحَاق
مدرس الْجَامِع الظافري بِمصْر كَانَ فَقِيها كَبِيرا ولي الْقَضَاء بِبَعْض أقاليم مصر وَله شعر لَا بَأْس بِهِ
ولد فِي حُدُود السّبْعين وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة(8/125)
1114 - إِسْحَاق بن أَحْمد المغربي
1115 - أسعد بن مَحْمُود بن خلف بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْعجلِيّ
الْعَلامَة منتخب الدّين أَبُو الْفتُوح بن أبي الْفَضَائِل الْأَصْبَهَانِيّ
من أَئِمَّة الْفُقَهَاء الوعاظ
مولده فِي أحد الربيعين سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة(8/126)
وَسمع الحَدِيث من فَاطِمَة الجوزدانية وَأبي الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن الْحَافِظ وَالقَاسِم بن الْفضل الصيدلاني وَابْن البطر وَغَيرهم
أجَاز لَهُ إِسْمَاعِيل بن الْفضل السراج وَغَيره
روى عَنهُ أَبُو نزار ربيعَة اليمني وَابْن خَلِيل والضياء مُحَمَّد وَآخَرُونَ
وَكَانَ أحد الْفُقَهَاء الْأَعْيَان
قَالَ ابْن الدبيثي كَانَ زاهدا لَهُ معرفَة تَامَّة بِالْمذهبِ وَكَانَ ينْسَخ وَيَأْكُل من كسب يَده وَعَلِيهِ الْمُعْتَمد فِي الْفَتْوَى بأصبهان انْتهى
قلت ترك الْوَعْظ فِي آخر عمره وَجمع كتابا سَمَّاهُ آفَات الوعاظ وَله كتاب شرح مشكلات الْوَسِيط وَالْوَجِيز وَكتاب تَتِمَّة التَّتِمَّة وَقد ذكره الرَّافِعِيّ فِي مَسْأَلَة الدّور من كتاب الطَّلَاق
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ أجَاز لِابْنِ أبي الْخَيْر وَالْفَخْر عَليّ
توفّي فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من صفر سنة سِتّمائَة(8/127)
1116 - أسعد بن يحيى بن مُوسَى بن مَنْصُور بن عبد الْعَزِيز بن وهب السّلمِيّ الْمَعْرُوف بالبهاء السنجاري
شَاعِر فَقِيه تفقه على أبي الْقَاسِم بن فضلان بِبَغْدَاد وَأبي الْقَاسِم المجير(8/129)
وبالموصل على الْحُسَيْن بن نصر وَأبي الرِّضَا سعيد بن عبد الله
1117 - إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن عبد الله بن إِسْمَاعِيل بن مَيْمُون
الشَّيْخ الإِمَام الْوَرع الزَّاهِد الْوَلِيّ الْكَبِير الْعَارِف قطب الدّين الْحَضْرَمِيّ شَارِح الْمُهَذّب وَله مصنفات غير ذَلِك كَثِيرَة
قَالَ الشَّيْخ الْحَافِظ عفيف الدّين المطري أبقاه الله مصنفاته فِيمَا يتَعَلَّق بِالْمذهبِ بِبِلَاد الْيمن شهيرة وكراماته ظَاهِرَة كَادَت تبلغ التَّوَاتُر
سمع من الْفَقِيه تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي الصَّيف اليمني وَأَجَازَ لَهُ وَسمع جمَاعَة من أهل الْيمن غَيره
وتفقه بِهِ خلائق وروى عَنهُ جلة
قَالَ وَحدثنَا عَنهُ شَيخنَا شهَاب الدّين أَحْمد بن الْفَقِيه بن أبي الْخَيْر بن مَنْصُور اليمني
قَالَ وَكَأَنَّهُ توفّي فِي حُدُود سنة سِتّ أَو سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة
قلت وَمِمَّا حُكيَ من كراماته واستفاض أَنه قَالَ يَوْمًا لِخَادِمِهِ وَهُوَ فِي سفر(8/130)
تَقول للشمس لتقف حَتَّى نصل إِلَى الْمنزل وَكَانَ فِي مَكَان بعيد وَقد قرب غُرُوبهَا فَقَالَ لَهَا الْخَادِم قَالَ لَك الْفَقِيه إِسْمَاعِيل قفي فوقفت حَتَّى بلغ مَكَانَهُ ثمَّ قَالَ للخادم مَا تطلق ذَلِك الْمَحْبُوس فَأمرهَا الْخَادِم بالغروب فغربت وأظلم اللَّيْل فِي الْحَال
وَرُوِيَ أَنه مر يَوْمًا على مَقْبرَة وَمَعَهُ جمَاعَة فَبكى بكاء شَدِيدا ثمَّ ضحك فِي الْحَال فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ رَأَيْت أهل هَذِه الْمقْبرَة يُعَذبُونَ فَبَكَيْت لذَلِك ثمَّ سَأَلت رَبِّي أَن يشفعني فيهم فشفعني فَقَالَت صَاحِبَة هَذَا الْقَبْر - وَأَشَارَ إِلَى قبر بعيد الْعَهْد بِالْحفرِ - وَأَنا مَعَهم يَا فَقِيه إِسْمَاعِيل أَنا فُلَانَة الْمُغنيَة فَضَحكت وَقلت وَأَنت مَعَهم قَالَ ثمَّ أرسل إِلَى الحفار وَقَالَ هَذَا قبر من فَقَالَ قبر فُلَانَة الْمُغنيَة
1118 - إِسْمَاعِيل بن مَحْمُود بن مُحَمَّد بن عَبَّاس بن أرسلان الْكِنَانِي
1119 - إِسْمَاعِيل بن أبي البركات هبة الله بن أبي الرِّضَا سعيد بن هبة الله بن مُحَمَّد
الشَّيْخ عماد الدّين أَبُو الْمجد ابْن باطيش الْموصِلِي الْفَقِيه الْمُحدث اللّغَوِيّ
صنف طَبَقَات الْفُقَهَاء وَالْمُغني فِي شرح غَرِيب الْمُهَذّب وَالْكَلَام على رِجَاله وكناه(8/131)
ولد سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَسمع بِبَغْدَاد من ابْن الْجَوْزِيّ وَأبي أَحْمد بن سكينَة وَجَمَاعَة وبحلب من حَنْبَل وبدمشق من الْكِنْدِيّ وَابْن الحرستاني وَغَيرهمَا وبحران من الْحَافِظ عبد الْقَادِر
روى عَنهُ الدمياطي وَابْن الظَّاهِرِيّ وَطَائِفَة
درس بالنورية بحلب وَغَيرهَا وَكَانَ من أَعْيَان الْفُضَلَاء
توفّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة
1120 - أَمِيري بن بختيار
الْفَقِيه الزَّاهِد أَبُو مُحَمَّد قطب الدّين الأشنهي نزيل إربل
كَانَ من الْأَئِمَّة علما ودينا حدث عَن عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْموصِلِي
وَتُوفِّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة وَله سَبْعُونَ إِلَّا سنة(8/132)
1121 - بارسطغان بِالْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ ألف سَاكِنة ثمَّ رَاء مَفْتُوحَة ثمَّ سين مُهْملَة سَاكِنة ثمَّ طاء وغين ثمَّ ألف ثمَّ نون بن مَحْمُود بن أبي الْفتُوح الْفَقِيه أَبُو طَالب الْحِمْيَرِي القوى
سمع بالإسكندرية من أبي الطَّاهِر بن عَوْف وبدمشق من أَحْمد بن حَمْزَة بن الموازيني
روى عَنهُ الزكي الْمُنْذِرِيّ وَغَيره
ولي قَضَاء غَزَّة من الشَّام ثمَّ انْتقل إِلَى إربل فَمَاتَ بهَا سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة
1122 - بشير بن حَامِد بن سُلَيْمَان بن يُوسُف بن سُلَيْمَان بن عبد الله الإِمَام نجم الدّين أَبُو النُّعْمَان الْجَعْفَرِي التبريزي
ولد بأردبيل فِي سنة سبعين وَخَمْسمِائة
وَسمع من عبد الْمُنعم بن كُلَيْب وَيحيى الثَّقَفِيّ وَابْن سكينَة وَابْن طبرزد وَجَمَاعَة(8/133)
روى عَنهُ الْحَافِظ شرف الدّين عبد الْمُؤمن بن خلف الدمياطي وَغَيره
وَكَانَ قد تفقه بِبَغْدَاد على أبي الْقَاسِم ابْن فضلان وَيحيى بن الرّبيع وبرع مذهبا وأصولا وَخِلَافًا وَأفْتى وناظر وَأعَاد بالنظامية وصنف تَفْسِيرا فِي عدَّة مجلدات
وانتقل بِالآخِرَة إِلَى مَكَّة فجاور بهَا إِلَى أَن مَاتَ فِي ثَالِث صفر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
1123 - توران شاه بن أَيُّوب بن مُحَمَّد بن الْعَادِل
السُّلْطَان الْملك الْمُعظم غياث الدّين ولد السُّلْطَان الْملك الصَّالح نجم الدّين كَانَ فَقِيها شافعيا على قَاعِدَة سلاطين بني أَيُّوب أديبا شَاعِرًا مجمعا للفضلاء
وَكَانَ صَاحب حصن كيفا مُقيما بهَا فَلَمَّا توفّي الصَّالح جمع الْأَمِير فَخر الدّين ابْن الشَّيْخ الْأُمَرَاء وحلفهم لتوران شاه وَكَانَ بحصن كيفا فنفذوا فِي طلبه الْفَارِس أقطايا فساق على الْبَرِيد وَأخذ بِهِ على الْبَريَّة لِئَلَّا يَعْتَرِضهُ أحد من مُلُوك الشَّام فكاد(8/134)
يهْلك هُوَ وَمن مَعَه من الْعَطش وَكَانُوا خمسين فَارِسًا سَارُوا أَولا إِلَى جِهَة عانة وعدوا الْفُرَات وغربوا على بِئْر السماوة وَدخل دمشق بأبهة السلطنة وَنزل القلعة وَأنْفق الْأَمْوَال وأحبه النَّاس وأنشده بعض الشُّعَرَاء قصيدة أَولهَا هَذَا
(قل لنا كَيفَ جِئْت من حصن كيفا ... حِين أرغمت للأعادي أنوفا)
فَأَجَابَهُ السُّلْطَان على البديهة
(الطَّرِيق الطَّرِيق يَا ألف نحس ... مرّة آمنا وطورا مخوفا)
فاستظرفه النَّاس واشتهر ذَلِك
ثمَّ سَار إِلَى الديار المصرية فاتفق كسرة الفرنج خذلهم الله عِنْد قدومه ففرح النَّاس وتيمنوا بطلعته وَاسْتقر فِي السلطنة فنفذت مِنْهُ أُمُور نفرت عَنهُ الْقُلُوب مِنْهَا إبعاد حَاشِيَة أَبِيه واللعب المفرط وَأشيع عَنهُ الْخمر وَالْفساد والشباب والتعرض لحظايا أَبِيه وَأَنه كَانَ يشرب وَيجمع الشموع وَيضْرب رؤوسها بِالسَّيْفِ وَيَقُول هَكَذَا أفعل بمماليك أبي فعملوا عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم السَّابِع وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ضربه بعض البحرية وَهُوَ على السماط فَتلقى الضَّرْبَة بِيَدِهِ فَذهب بعض أَصَابِعه فَقَامَ وَدخل إِلَى برج من خشب كَانَ قد عمل لَهُ وَصَاح من جرحني فَقيل بعض الحشيشية فَقَالَ لَا وَالله إِلَّا البحرية وَالله لأقتلنهم(8/135)
وخيط المزين يَده وَهُوَ يهددهم فَقَالُوا وهم مماليك أَبِيه تمموه وَإِلَّا أبادنا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فهرب إِلَى أَعلَى البرج فرموا النَّار فِي البرج ورموا بالنشاب فَرمى بِنَفسِهِ وهرب إِلَى النّيل وَهُوَ يَصِيح مَا أُرِيد ملكا دَعونِي دَعونِي أرجع إِلَى الْحصن فَمَا أَجَابَهُ أحد وَتعلق بذيل الْفَارِس أقطايا فَمَا أَجَابَهُ وَقتل
وَكَانَ من أهل الْعلم على الْجُمْلَة فقد بحث مَعَه ابْن وَاصل فِي قَول ابْن نباتة الْحَمد لله الَّذِي إِن وعد وفى وَإِن أوعد تجَاوز وَعَفا بحثا طَويلا دلّ على فَضله وَعلمه
1124 - ثَعْلَب بن عبد الله بن عبد الْوَاحِد
القَاضِي رَضِي الدّين أَبُو الْعَبَّاس الْمصْرِيّ الْفَقِيه الْخَطِيب
تفقه على شيخ الشُّيُوخ أبي الْحسن بن حمويه الْجُوَيْنِيّ
وَولي الْقَضَاء بالجيزة والخطابة بالجامع المجاور لضريح الشَّافِعِي رضوَان الله عَلَيْهِ
مَاتَ فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1125 - ثَعْلَب بن عَليّ بن نصر بن عَليّ
أَبُو نصر الْبَغْدَادِيّ الْمَعْرُوف بِابْن المحارية وسمى نَفسه نصرا
قَالَ ابْن النجار كَانَ أحد الْفُقَهَاء على مَذْهَب الشَّافِعِي وَتَوَلَّى الْإِعَادَة بمدرسة ابْن الْمطلب وَكَانَت لَهُ معرفَة بالأدب وَقد سمع الحَدِيث من جمَاعَة وَمَا أَظُنهُ روى شَيْئا(8/136)
بَلغنِي أَن مولده كَانَ سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي يَوْم الْجُمُعَة لست عشرَة لَيْلَة خلت من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة وَدفن بِبَاب حَرْب
1126 - جَامع بن بَاقِي بن عبد الله بن عَليّ التَّمِيمِي أَبُو مُحَمَّد الأندلسي
الْفَقِيه قَاضِي إخميم
ولد بالجزيرة الخضراء من الأندلس ورحل فَسمع من السلَفِي بالإسكندرية وَمن الْحَافِظ أبي الْقَاسِم وَجَمَاعَة بِدِمَشْق
روى عَنهُ ابْن خَلِيل والشهاب القوصي وَغَيرهمَا
مَاتَ بِدِمَشْق فِي سَابِع عشر ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة
1127 - جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن أَحْمد الشريف أَبُو الْفضل صدر الدّين الْحُسَيْنِي الْمصْرِيّ الإِمَام ضِيَاء الدّين الْمَعْرُوف بِابْن عبد الرَّحِيم
كَانَ إِمَامًا عَارِفًا بِالْمذهبِ أصوليا أديبا(8/137)
أَخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ بهاء الدّين القفطي وَالشَّيْخ مجد الدّين الْقشيرِي
وَسمع الحَدِيث من أبي الْحسن عَليّ بن هبة الله بن الجميزي وَأبي الْحُسَيْن يحيى ابْن عَليّ الْعَطَّار الْحَافِظ وَغَيرهمَا
ورحل إِلَى دمشق فَسمع من الْحَافِظ زين الدّين خَالِد وَغَيره
ثمَّ عَاد إِلَى الْقَاهِرَة وَولي قَضَاء قوص ثمَّ وكَالَة بَيت المَال بِالْقَاهِرَةِ وتدريس المشهد الْحُسَيْنِي بهَا واشتهر اسْمه بِمَعْرِِفَة الْمَذْهَب وَبعد صيته
مولده بقنا سنة تسع عشرَة أَو ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة وَتُوفِّي سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة
حدث عَنهُ شَيخنَا أَبُو حَيَّان النَّحْوِيّ وَغَيره
1128 - جَعْفَر بن مكي بن عَليّ بن سعيد أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ
قَرَأَ الْفِقْه وَالْخلاف والأصلين واشتغل بالأدب وسافر إِلَى الْموصل فتفقه عِنْد أبي حَامِد بن يُونُس ثمَّ رد إِلَى بَغْدَاد وَأقَام بالنظامية ثمَّ مدح أَمِير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر لدين الله وتسامت دَرَجَته إِلَى أَن صَار حاجبا
قَالَ ابْن النجار سَأَلته عَن مولده فَقَالَ فِي يَوْم عَاشُورَاء سنة ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي صفر سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة(8/138)
1129 - جَعْفَر بن يحيى بن جَعْفَر المَخْزُومِي
الشَّيْخ الإِمَام ظهير الدّين التزمنتي نِسْبَة إِلَى تزمنت بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوْقهَا وَهِي من بِلَاد الصَّعِيد
كَانَ شيخ الشَّافِعِيَّة بِمصْر فِي زَمَانه
أَخذ عَن ابْن الجميزي وَأخذ عَنهُ فَقِيه الزَّمَان ابْن الرّفْعَة وَعم وَالِدي الشَّيْخ صدر الدّين يحيى بن عَليّ السُّبْكِيّ وخلائق
وَله شرح مُشكل الْوَسِيط وَقد سمع الحَدِيث من فَخر الْقُضَاة أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن الْجبَاب إِلَّا أَنه لم يَقع لي حَدِيثه
مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة(8/139)
1130 - حَامِد بن أبي العميد بن أَمِيري الْقزْوِينِي
1131 - الْحسن بن عَليّ بن عبد الله أَبُو عبد الله الشهرزوري
ذكر أَنه ولد سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة تَقْرِيبًا وَقدم بَغْدَاد وَسمع من المؤتمن بن قميرة وغره
وَكَانَ إِمَامًا عَالما عَاملا زاهدا
قَالَ الْقُرْطُبِيّ أفتى عدَّة سِنِين قَالَ وَكَانَ يحفظ كتاب الْمُهَذّب للشَّيْخ أبي إِسْحَاق
توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة(8/140)
1132 - الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن هبة الله بن عبد الله زين الْأُمَنَاء أَبُو البركات ابْن عَسَاكِر الدِّمَشْقِي
أحد أَئِمَّة الْإِسْلَام علما ودينا وورعا وزهدا
ولد فِي سلخ ربيع الأول سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَسمع من عبد الرَّحْمَن بن الْحسن الدَّارَانِي وَأبي العشائر مُحَمَّد بن خَلِيل وَعَمه الصائن هبة الله والحافظ أبي الْقَاسِم وَأبي الْقَاسِم الْحسن بن الْحُسَيْن بن البن وَالْخضر بن شبْل الْحَارِثِيّ وَأبي النجيب السهروردي وخلائق
روى عَنهُ البرزالي والحافظ الزكي الْمُنْذِرِيّ والكمال بن العديم والزين خَالِد والشرف النابلسي وَأحمد بن هبة الله بن عَسَاكِر وَأحمد بن إِسْحَاق الأبرقوهي وَغَيرهم
وَكَانَ فَقِيها صَالحا ورعا كثير الصَّلَاة متجرد لِلْعِبَادَةِ جزأ اللَّيْل ثَلَاثَة أَجزَاء ثلثا للتلاوة وَالتَّسْبِيح وَثلثا للنوم وَثلثا لِلْعِبَادَةِ والتهجد وَكَذَلِكَ مُعظم نَهَاره وَكَانَ لذَلِك يُقَال لَهُ السَّجَّاد وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ من الْأَئِمَّة الْأَوَّابِينَ وَقد رأى بَعضهم عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ يعتنقه وَيسلم عَلَيْهِ فَقيل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أهكذا تسلم على زين الْأُمَنَاء فَقَالَ نعم إِنَّه من الْأَوَّابِينَ وَقد أهديت لَهُ تَمرا صيحانيا وَكَانَ أَخُوهُ أَبُو الْفضل فِي الْحجاز فَلَمَّا قدم من الْحَج قَالَ لَهُ يَا أخي قد جئْتُك بعلبة(8/141)
فِيهَا تمر قيل إِنَّه من غرس عُثْمَان أَو عَليّ فَقَالَ زين الْأُمَنَاء بل من غرس عُثْمَان وقص عَلَيْهِ الْقِصَّة
وَكَانَ يَقُول مَا أفطرت فِي رَمَضَان مُنْذُ صمت قطّ لَا بِمَرَض وَلَا غَيره بل كنت أمرض قبله أَو بعده وَسلم لي نَيف وَسَبْعُونَ رَمَضَان فَلم أفطر فِيهَا يَوْمًا
وَأخذ زين الْأُمَنَاء الْفِقْه عَن جمال الْأَئِمَّة أبي الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن بن الماسح
وَولي نظر الخزانة وَنظر الْأَوْقَاف بِدِمَشْق ثمَّ أعرض عَنْهَا وَأَقْبل على شَأْنه وَأجْمع النَّاس على عظم قدره فِي الدّين
وَقد بتر الذَّهَبِيّ تَرْجَمته وَذكر أَن أَبَا عَمْرو بن الْحَاجِب وَصفه بأَشْيَاء من الْمَدْح لم يذكرهَا فليت شعري مَا باله لم يذكرهَا وَلَا يخفى على عَاقل أَن سَبَب تَركه لذكرها كَون زين الْأُمَنَاء أشعريا ثمَّ ذكر أَن السَّيْف يَعْنِي ابْن الْمجد ضرب على بَعْضهَا وَالسيف من جهال المشبهة لَا يعْتَبر بِهِ فِي ورد وَلَا صدر
وأقعد زين الْأُمَنَاء بِأخرَة فَصَارَ يحمل فِي محفة إِلَى الْجَامِع من أجل الصَّلَاة وَإِلَى دَار الحَدِيث النورية من أجل إسماع الحَدِيث
مَاتَ فِي سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة
1133 - الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أَحْمد(8/142)
1134 - الْخضر بن الْحسن بن عَليّ
الْوَزير الْكَبِير قَاضِي الْقُضَاة برهَان الدّين السنجاري الْجد من قبل الْأُم(8/143)
1135 - دَاوُد بن بنْدَار بن إِبْرَاهِيم الْفَقِيه معِين الدّين أَبُو الْخَيْر الجيلي
قدم بَغْدَاد فِي صباه وتفقه بالنظامية على أبي المحاسن يُوسُف بن بنْدَار وَأعَاد بهَا مُدَّة طَوِيلَة
وَحدث عَن أبي الْوَقْت السجْزِي وَغَيره
روى عَنهُ ابْن الدبيثي وَغَيره
وَمَات فِي رَجَب سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة وَقد نَيف على الثَّمَانِينَ
1136 - ربيعَة بن الْحسن بن عَليّ بن عبد الله بن يحيى أَبُو نزار الْحَضْرَمِيّ اليمني الصَّنْعَانِيّ الذمارِي
الْفَقِيه الْمُحدث
ولد سنة خمس وَعشْرين وَخَمْسمِائة وتفقه بظفار على الْفَقِيه مُحَمَّد بن عبد الله بن حَمَّاد وَغَيره(8/144)
وَركب فِي الْبَحْر وَدخل بَغْدَاد وأصبهان وَأقَام بأصبهان مُدَّة تفقه بهَا على بعض أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة
سمع أَبَا المظفر الْقَاسِم بن الْفضل الصيدلاني ورجاء بن حَامِد المعداني وَإِسْمَاعِيل بن شهريار صَاحب رزق الله التَّمِيمِي وَمعمر بن الفاخر وَأَبا مُوسَى الْمَدِينِيّ وَغَيرهم
وَدخل إِلَى ديار مصر وَسمع من السلَفِي
وَحج وَسمع من الْمُبَارك بن عَليّ الطباخ
وَحدث روى عَنهُ أَبُو البركات وَالْمُنْذِرِي والبرزالي والضياء وَابْن خَلِيل والشهاب القوصي وَجَمَاعَة
وَسكن مصر بِأخرَة وَكَانَ فَقِيها صَالحا عَارِفًا باللغة كثير التِّلَاوَة وَالْعِبَادَة أديبا شَاعِرًا حسن الْخط
توفّي فِي ثامن عشر من جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وسِتمِائَة(8/145)
1137 - زَاهِر بن رستم بن أبي الرَّجَاء
1138 - زكي بن الْحسن بن عمر أَبُو أَحْمد البيلقاني
فَقِيه مناظر مُتَكَلم أصولي مُحَقّق(8/146)
ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَدخل خُرَاسَان وَقَرَأَ على الإِمَام فَخر الدّين وعَلى تِلْمِيذه القطب الْمصْرِيّ وَسمع الحَدِيث من الْمُؤَيد الطوسي وَغَيره
وَقدم دمشق فَحدث بهَا
روى عَنهُ الشَّيْخ جمال الدّين الصَّابُونِي والمحدث نور الدّين عَليّ بن جَابر الْهَاشِمِي وشهاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد الإسعردي وَغَيرهم
وسلك سَبِيل المتجر وَأقَام بالإسكندرية مُدَّة على هَيْئَة التُّجَّار ثمَّ دخل الْيمن واشتهر بهَا وشغل النَّاس بِالْعلمِ
قَالَ ابْن جَابر كَانَ فريد دهره علما وزهدا وورعا
قَالَ وَتُوفِّي بثغر عدن سنة سِتّ وَسبعين وسِتمِائَة
1139 - سعد بن مظفر بن المطهر أَبُو طَالب الصُّوفِي
من أهل يزدْ
تفقه بِبَغْدَاد وَصَحب عمر بن مُحَمَّد السهروردي وسلك طَرِيق الزّهْد وَالْخلْوَة والرياضة
توفّي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة(8/147)
1140 - سُلَيْمَان بن مظفر بن غَانِم بن عبد الْكَرِيم أَبُو دَاوُد من أهل جيلان
قَالَ ابْن النجار قدم بَغْدَاد وَأقَام بالنظامية متفقها على أحسن طَريقَة وأجمل سيرة حَتَّى برع فِي الْمَذْهَب وصنف فِيهِ كتابا يشْتَمل على خمس عشرَة مجلدة
وَكَانَ متدينا عفيفا نزها ملازما لبيته حَافِظًا لأوقاته عرضت عَلَيْهِ الْإِعَادَة والتدريس بِبَعْض الْمدَارِس فَلم يجب
توفّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1141 - سُلَيْمَان بن رَجَب بن مهَاجر الراذاني المقرىء الضَّرِير
تفقه بالنظامية وَسمع من شهدة وَحدث
مَاتَ فِي ربيع لاأول سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة(8/148)
1142 - سلار بن الْحسن بن عمر بن سعيد الشَّيْخ كَمَال الدّين أَبُو الْفَضَائِل الإربلي
تلميذ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن الصّلاح وَشَيخ الشَّيْخ محيي الدّين النَّوَوِيّ
قَالَ النَّوَوِيّ هُوَ شَيخنَا الْمجمع على إِمَامَته وجلالته وتقدمه فِي علم الْمَذْهَب على أهل عصره بِهَذِهِ النواحي
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر هُوَ إِمَام الْمَذْهَب فِي عصره والمرجوع إِلَيْهِ فِي حل مشكلاته وتعرف خفياته والمتفق على إِمَامَته وجلالته ونزاهته
تفقه على جمَاعَة مِنْهُم الإِمَام أَبُو بكر الماهاني انْتهى
وَكَانَ البادرائي قد جعله معيدا بمدرسته فَلم يزل على ذَلِك إِلَى أَن مَاتَ لم يرد منصبا آخر
قَالَ الشريف عز الدّين وَكَانَ عَلَيْهِ مدَار الْفَتْوَى بِالشَّام فِي وقته وَلم يتْرك بعده فِي بِلَاد الشَّام مثله
توفّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبعين وسِتمِائَة عَن بضع وَسِتِّينَ سنة(8/149)
وَمن فَتَاوِيهِ
فِيمَن حلف بِالطَّلَاق وَله زوجتان وَلم ينْو شَيْئا أَنه يتَخَيَّر بَينهمَا فَمن أَرَادَ مِنْهُمَا جعله وَاقعا عَلَيْهَا
فَإِن قلت بل فِي هَذَا مُخَالفَة لما نَقله الرَّافِعِيّ عَن القَاضِي الْحُسَيْن فِيمَن قَالَ حَلَال الله على حرَام إِن دخلت الدَّار وَله امْرَأَتَانِ أَنه تطلق كل مِنْهُمَا طَلْقَة وَأفْتى الْبَغَوِيّ بِمثلِهِ
قلت لَا فَإِن حَلَال الله عَليّ حرَام مُفْرد مُضَاف فَيعم كل حَلَال لَهُ وَهُوَ الْمَرْأَتَانِ
فَإِن قلت وَكَذَلِكَ الطَّلَاق فَإِنَّهُ عَام من حَيْثُ تحليته بِاللَّامِ قلت اللَّام من الطَّلَاق لَا تحمل على الْعُمُوم لشيوع الْعرف فِيهِ وَيُمكن أَن يُقَال أَيْضا الْحَلَال مفرداته للنِّسَاء فَعم فيهمَا وَالطَّلَاق مفرداته الطلقات لَا المطلقات فَلَا يَقع عَلَيْهِمَا بل على وَاحِدَة مِنْهُمَا فَقَط إِذْ لَا عُمُوم فِي الْمُطلق بل فِي نفس الطَّلَاق بِخِلَاف حَلَال الله عَليّ حرَام ثمَّ نفس الطَّلَاق لَا يعم لمعارضته الْعرف كَمَا ذَكرْنَاهُ وَهَذَا تَحْرِير الْجَواب فِي الْحَقِيقَة(8/150)
1143 - شبلي بن الْجُنَيْد بن إِبْرَاهِيم بن خلكان القَاضِي أَبُو بكر الزرزائي
ولد بإربل سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة
وروى بِالْإِجَازَةِ عَن ابْن كُلَيْب وَغَيره
ولي قَضَاء إخميم وَبهَا مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة
1144 - شُعَيْب بن أبي طَاهِر بن كُلَيْب بن مقبل أَبُو الْغَيْث الضَّرِير
من أهل الْبَصْرَة تفقه بِبَغْدَاد على أبي طَالب الْكَرْخِي وَأبي الْقَاسِم الفراتي صَاحب ابْن الْخلّ
وَله شعر جيد
مَاتَ فِي الْمحرم سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة(8/151)
1145 - صَالح بن بدر بن عبد الله الْفَقِيه تَقِيّ الدّين الْمصْرِيّ الزفتاوي
وزفتا بِكَسْر الزَّاي بعْدهَا الْفَاء الساكنة ثمَّ التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق ثمَّ الْألف الساكنة بليدَة من بحري الْفسْطَاط
تفقه على الشَّيْخ شهَاب الدّين الطوسي وَسمع بالإسكندرية من أبي طَاهِر بن عَوْف وبمصر من البوصيري
وَولي الْقَضَاء نِيَابَة
توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَهُوَ من أَبنَاء السّبْعين
1146 - صَالح بن عُثْمَان بن بركَة أَبُو مُحَمَّد الضَّرِير المقرىء
من أهل وَاسِط
قَرَأَ الْقرَاءَات على أبي بكر بن الباقلاني وَسمع مِنْهُ الحَدِيث وَمن غَيره كَأبي الْفرج ابْن كُلَيْب وأنظاره وتفقه بِبَغْدَاد
مولده سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة(8/152)
1147 - صقر بن يحيى بن سَالم بن يحيى بن عِيسَى بن صقر الإِمَام ضِيَاء الدّين أَبُو المظفر الْكَلْبِيّ الْحلَبِي
ولد سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة فِيمَا يظنّ الذَّهَبِيّ
وتفقه فِي الْمَذْهَب وبرع وَسمع من يحيى الثَّقَفِيّ والخشوعي وَابْن طبرزد وحنبل وَغَيرهم
روى عَنهُ الدمياطي وَابْن الظَّاهِرِيّ وسنقر القضائي وَغَيرهم
درس بحلب مُدَّة
وَمَات فِي سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة
1148 - الطَّاهِر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن يحيى
قَاضِي قُضَاة الشَّام زكي الدّين أَبُو الْعَبَّاس بن قَاضِي الْقُضَاة محيي الدّين بن قَاضِي الْقُضَاة زكي الدّين بن قَاضِي الْقُضَاة المنتجب
ولي الْقَضَاء مرَّتَيْنِ قبل ابْن الحرستاني وَبعده
وَكَانَ الْملك الْمُعظم لَا يُحِبهُ وَفِي قلبه مِنْهُ أُمُور يمنعهُ مِنْهَا حياؤه من وَالِده الْملك الْعَادِل(8/153)
وَاتفقَ مرض سِتّ الشَّام عمَّة السُّلْطَان الْملك الْمُعظم لما وصت بدارها مدرسة وأحضرت قَاضِي الْقُضَاة زكي الدّين الطَّاهِر وَالشُّهُود وأوصت إِلَى القَاضِي فَبلغ الْمُعظم فَتغير عَلَيْهِ وَقَالَ يدْخل دَار عَمَّتي بِغَيْر إذني وَيسمع كَلَامهَا ثمَّ اتّفق أَن القَاضِي أحضر جابي العزيزية وطالبه بِالْحِسَابِ فَأَغْلَظ الجابي فِي الْجَواب فَأمر بضربه فَضرب بَين يَدَيْهِ كَمَا يفعل أهل الْولَايَة فَأرْسل إِلَيْهِ الْمُعظم قبَاء حَرِير وكلوته وَأمره أَن يَلْبسهُمَا وَيحكم فيهمَا فَلم يَسعهُ إِلَّا فعل ذَلِك ثمَّ لزم بَيته وَلم تطل حَيَاته بعْدهَا وَصَارَ يَرْمِي قطعا من كبده وَمَات فِي صفر سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة
1149 - عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن قفل(8/154)
1150 - عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي بكر الْخَطِيب أَبُو مُحَمَّد من أهل همذان
سمع أَبَا الْوَقْت السجْزِي وَغَيره وتفقه بِأبي الْخَيْر الْقزْوِينِي وَأبي طَالب الْكَرْخِي وَأعَاد بالنظامية
قَالَ ابْن النجار كَانَ حَافِظًا للْمَذْهَب سديد الْفَتَاوَى عفيفا نزها ورعا متدينا متقشفا على منهاج السّلف كتبت عَنهُ وَكَانَ صَدُوقًا
قَالَ وَسَأَلته عَن مولده فَقَالَ فِي شهر ربيع الأول سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة بهمذان وَتُوفِّي فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة
1151 - عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن علوان بن رَافع الْأَسدي أَبُو مُحَمَّد
من أهل حلب
أسمعهُ وَالِده فِي صباه من يحيى بن مَحْمُود الثَّقَفِيّ وَغَيره ثمَّ سمع هُوَ بِنَفسِهِ وَكتب بِخَطِّهِ
وتفقه على قَاضِي حلب أبي المحاسن يُوسُف بن رَافع بن تَمِيم وعني القَاضِي أَبُو المحاسن بِهِ لما رأى من نجابته ومخايل الْفَلاح اللائحة عَلَيْهِ فاستفرغ جهده فِي تَعْلِيمه واتخذه ولدا وصاهره وَجعله معيد مدرسته وَله نَيف وَعِشْرُونَ سنة(8/155)
ثمَّ ولي التدريس بعده بمدارس ونبل مِقْدَاره عِنْد الْمُلُوك والسلاطين وارتفع شَأْنه وَعظم جاهه وَدخل بَغْدَاد وناظر بهَا
ولد سنة ثَمَان وَسبعين وخسمائة وَتُوفِّي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1152 - عبد الله بن عمر بن أَحْمد بن مَنْصُور بن الإِمَام مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن حبيب الإِمَام أَبُو سعد بن الصفار النَّيْسَابُورِي
ولد الإِمَام أبي حَفْص
ولد سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَسمع من جده لأمه الْأُسْتَاذ أبي نصر بن الْقشيرِي وَهُوَ آخر من حدث عَنهُ وَسمع من الفراوي وزاهر الشحامي وَعبد الغافر بن إِسْمَاعِيل الْفَارِسِي وَعبد الْجَبَّار ابْن مُحَمَّد الخواري وَغَيرهم
روى عَنهُ بدل بن أبي المعمر التبريزي وَإِسْمَاعِيل بن ظفر النابلسي وَنجم الدّين الْكُبْرَى أَبُو الجناب أَحْمد بن عمر الخيوقي وَغَيرهم
وَكَانَ إِمَامًا عَالما بالأصول وَالْفِقْه ثِقَة صَالحا مجمعا على دينه وأمانته(8/156)
1153 - عبد الله بن عمر بن مُحَمَّد بن عَليّ أَبُو الْخَيْر القَاضِي نَاصِر الدّين الْبَيْضَاوِيّ
صَاحب الطوالع والمصباح فِي أصُول الدّين والغاية القصوى فِي الْفِقْه والمنهاج فِي أصُول الْفِقْه ومختصر الْكَشَّاف فِي التَّفْسِير وَشرح المصابيح فِي الحَدِيث
كَانَ إِمَامًا مبرزا نظارا صَالحا متعبدا زاهدا(8/157)
ولي قَضَاء الْقُضَاة بشيراز وَدخل تبريز وناظر بهَا وصادف دُخُوله إِلَيْهَا مجْلِس درس قد عقد بهَا لبَعض الْفُضَلَاء فَجَلَسَ القَاضِي نَاصِر الدّين فِي أخريات الْقَوْم بِحَيْثُ لم يعلم بِهِ أحد فَذكر الْمدرس نُكْتَة زعم أَن أحدا من الْحَاضِرين لَا يقدر على جوابها وَطلب من الْقَوْم حلهَا وَالْجَوَاب عَنْهَا فَإِن لم يقدروا فالحل فَقَط فَإِن لم يقدروا فإعادتها فَلَمَّا انْتهى من ذكرهَا شرع القَاضِي نَاصِر الدّين فِي الْجَواب فَقَالَ لَهُ لَا أسمع حَتَّى أعلم أَنَّك فهمتها فخيره بَين إِعَادَتهَا بلفظها أَو مَعْنَاهَا فبهت الْمدرس وَقَالَ أعدهَا بلفظها فَأَعَادَهَا ثمَّ حلهَا وَبَين أَن فِي تركيبه إِيَّاهَا خللا ثمَّ أجَاب عَنْهَا وقابلها فِي الْحَال بِمِثْلِهَا ودعا الْمدرس إِلَى حلهَا فَتعذر عَلَيْهِ ذَلِك فأقامه الْوَزير من مَجْلِسه وَأَدْنَاهُ إِلَى جَانِبه وَسَأَلَهُ من أَنْت فَأخْبرهُ أَنه الْبَيْضَاوِيّ وَأَنه جَاءَ فِي طلب الْقَضَاء بشيراز فَأكْرمه وخلع عَلَيْهِ فِي يَوْمه ورده وَقد قضى حَاجته
1154 - عبد الله بن عمر القَاضِي جمال الدّين بن الدِّمَشْقِي
قَاضِي الْيمن
ولد بِدِمَشْق فِي حُدُود سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
وَسمع بالإسكندرية من السلَفِي وَغَيره
وَتوجه من دمشق صُحْبَة شمس الدولة توران شاه بن أَيُّوب إِلَى الْيمن وَتقدم عِنْده فولاه قَضَاء الْيمن ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وَحدث
مَاتَ سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة(8/158)
1155 - عبد الله بن عِيسَى بن أَيمن المري
شيخ الْأَحْنَف قَالَ الْأَحْنَف مَا رَأَيْت أعرف مِنْهُ بِالْمذهبِ
ذكر ذَلِك المطري
1156 - عبد الله بن أبي الْوَفَاء مُحَمَّد بن الْحسن الإِمَام نجم الدّين أَبُو مُحَمَّد البادرائي الْبَغْدَادِيّ
ولد سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
وَسمع من عبد الْعَزِيز بن منينا وَأبي مَنْصُور الرزاز
وتفقه وبرع ودرس بالنظامية بِبَغْدَاد وَترسل عَن الدِّيوَان الْعَزِيز غير مرّة وَحدث بِبَغْدَاد ومصر وحلب
بنى بِدِمَشْق الْمدرسَة الْمَعْرُوفَة بِهِ وَولي قَضَاء الْقُضَاة بِبَغْدَاد خَمْسَة عشر يَوْمًا
توفّي فِي أول ذِي الْقعدَة سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة(8/159)
1157 - عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ الفِهري الشَّيْخ شرف الدّين أَبُو مُحَمَّد
شَارِح المعالم فِي أصُول الدّين والمعالم فِي أصُول الْفِقْه
كَانَ أصوليا متكلما دينا خيرا من عُلَمَاء الديار المصرية ومحققيهم
أدْركهُ بعض مَشَايِخ شُيُوخنَا وَذكره ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب مثنيا على فَضله
قَالَ الْوَالِد رَحمَه الله وَهُوَ لم يُدْرِكهُ قَالَ وَهُوَ حمو شَيخنَا ابْن بنت أبي سعد
1158 - عبد الْجَبَّار بن عبد الْغَنِيّ بن عَليّ بن أبي الْفضل بن عَليّ بن عبد الْوَاحِد ابْن عبد الضَّيْف الْأنْصَارِيّ بن الحرستاني كَمَال الدّين أَبُو مُحَمَّد
سمع أَبَا الْقَاسِم الْحَافِظ وَأَبا سعد بن أبي عصرون وَأَجَازَهُ خطيب الْموصل والحافظ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ
سمع مِنْهُ الزكي البرزالي وَخرج لَهُ جُزْءا وَغَيره
مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة(8/160)
1159 - عبد الحميد بن عِيسَى بن عمويه بن يُونُس بن خَلِيل الخسروشاهي
وخسروشاه بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء بعْدهَا وَاو سَاكِنة ثمَّ شين مُعْجمَة وَآخِرهَا الْهَاء من قرى تبريز
ولد سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بهَا وَسمع الحَدِيث من الْمُؤَيد الطوسي
حدث عَنهُ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الدمياطي وَغَيره
وَكَانَ فَقِيها أصوليا متكلما محققا بارعا فِي المعقولات
قَرَأَ على الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ وَأكْثر الْأَخْذ عَنهُ ثمَّ قدم الشَّام بعد وَفَاة الإِمَام ودرس وَأفَاد ثمَّ توجه إِلَى الكرك فَأَقَامَ عِنْد صَاحبهَا الْملك النَّاصِر دَاوُد فَإِنَّهُ استدعاه ليقْرَأ عَلَيْهِ ثمَّ عَاد إِلَى دمشق فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن توفّي
وَمن مصنفاته مُخْتَصر الْمُهَذّب فِي الْفِقْه ومختصر المقالات لِابْنِ سينا وتتمة الْآيَات الْبَينَات وَغير ذَلِك(8/161)
وَكَانَ يعظم الإِمَام كثيرا على عَادَة تلامذة الإِمَام فِي حَقه وَحقّ لَهُ ويحكى أَنه ورد عَلَيْهِ دمشق أعجمي وَمَعَهُ كتاب عَلَيْهِ خطّ الإِمَام فَأخذ يقبله ويضعه على رَأسه وَيَقُول هَذَا خطّ الإِمَام(8/162)
1160 - عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن ضِيَاء بن سِبَاع الْفَزارِيّ الشَّيْخ تَاج الدّين الْمَعْرُوف بالفركاح
فَقِيه أهل الشَّام كَانَ إِمَامًا مدققا نظارا
صنف كتاب الإقليد لدر التَّقْلِيد شرحا على التَّنْبِيه لم يتمه وَشرح وَرَقَات إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي أصُول الْفِقْه وَشرح من التَّعْجِيز قِطْعَة وَله على الْوَجِيز مجلدات
تفقه على شيخ الْإِسْلَام عز الدّين أبي مُحَمَّد بن عبد السَّلَام وروى البُخَارِيّ عَن ابْن الزبيدِيّ وَسمع من ابْن اللتي وَابْن الصّلاح
حدث عَنهُ جمَاعَة وَخرج لَهُ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد البرزالي مشيخة
توفّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسعين وسِتمِائَة وَهُوَ على تدريس الْمدرسَة البادرائية
أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن عمر الْحَمَوِيّ قِرَاءَة عَلَيْهِ أخبرنَا الشَّيْخ تَاج الدّين ابْن الفركاح وَالشَّيْخ فَخر الدّين ابْن البُخَارِيّ قِرَاءَة عَلَيْهِمَا قَالَ الأول أخبرنَا(8/163)
الإِمَام شرف الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد المرسي قِرَاءَة عَلَيْهِ أخبرنَا مَنْصُور بن عبد الْمُنعم الفراوي وَقَالَ الثَّانِي أخبرنَا مَنْصُور الْمَذْكُور إجَازَة أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْفَارِسِي وَقَالَ الثَّانِي أَيْضا أخبرنَا عبد الله بن عمر الصفار إجَازَة أخبرنَا مُحَمَّد بن الْفضل الفراوي قِرَاءَة عَلَيْهِ قَالَا أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن بَالَوَيْهِ أخبرنَا أَبُو مُسلم حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب حَدثنَا شُعْبَة عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن أبي أُمَامَة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما نزلت بَنو قُرَيْظَة على حكم سعد بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِ وَكَانَ قَرِيبا فجَاء على حمَار فَلَمَّا دنا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قومُوا إِلَى سيدكم
حكى الشَّيْخ تَاج الدّين فِي الإقليد وَجها أَنه يكبر إِذا جلس للاستراحة تَكْبِيرَة يفرغ مِنْهَا فِي الْجُلُوس ثمَّ يكبر أُخْرَى للنهوض
وَقَالَ وَلَده الشَّيْخ برهَان الدّين إِنَّه قوي مُتَّجه لحَدِيث كَانَ يكبر لكل خفض وَرفع
والرافعي وَالنَّوَوِيّ نفيا الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة وَالِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث عَلَيْهَا صَعب وَمَا يَنْبَغِي أَن يُزَاد فِي الصَّلَاة تَكْبِير بِمُجَرَّد تَعْمِيم ظَاهره الْخُصُوص فَإِن الظَّاهِر أَن المُرَاد كل رفع وخفض من غير جلْسَة الاسْتِرَاحَة(8/164)
1161 - عبد الرَّحْمَن بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان
الشَّيْخ الإِمَام المفنن شهَاب الدّين الْمَقْدِسِي الدِّمَشْقِي أَبُو شامة
وَأَبُو شامة لقب عَلَيْهِ
كَانَ أحد الْأَئِمَّة تَلا على السخاوي وعني بِالْحَدِيثِ فَسمع بِنَفسِهِ من دَاوُد ابْن ملاعب وَأحمد بن عبد الله الْعَطَّار وَالشَّيْخ الْمُوفق وَطَائِفَة
وبرع فِي فنون الْعلم وَقيل بلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد
وَاخْتصرَ تَارِيخ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر وصنف كتاب الروضتين فِي أَخْبَار الدولتين النورية والصلاحية وَله أرجوزة حَسَنَة فِي الْعرُوض ونظم مفصل الزَّمَخْشَرِيّ وَمن محاسنه كتاب الْبَسْمَلَة الْأَكْبَر وَكتاب الْبَسْمَلَة الْأَصْغَر والباعث على إِنْكَار الْبدع والحوادث وَكتاب ضوء الْقَمَر الساري إِلَى معرفَة الْبَارِي وَكتاب نور المسرى فِي تَفْسِير آيَة الْإِسْرَاء
وَاخْتَارَ فِيهِ أَن الْإِسْرَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَإِلَى السَّمَوَات(8/165)
وَقع مرَّتَيْنِ أَو مرَارًا تَارَة فِي الْمَنَام وَتارَة فِي الْيَقَظَة قَالَ وعَلى ذَلِك يخرج جَمِيع الْأَحَادِيث على اخْتِلَاف عباراتها وَالِاخْتِلَاف فِي الْمَكَان الَّذِي وَقع مِنْهُ الْإِسْرَاء قَالَ وَهَذَا القَوْل نَصره الإِمَام أَبُو نصر ابْن الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي فِي تَفْسِيره وَاخْتَارَهُ أَيْضا أَبُو الْقَاسِم السُّهيْلي وَحَكَاهُ عَن شَيْخه أبي بكر بن الْعَرَبِيّ وَحَكَاهُ الْمُهلب بن أبي صفرَة فِي شرح البُخَارِيّ عَن طَائِفَة من الْعلمَاء
وَتعقب فِيهِ قَول السُّهيْلي مستدركا قَول أهل اللُّغَة إِن أسرى وسرى لُغَتَانِ بِمَعْنى وَاحِد اتّفقت الرِّوَايَات على تَسْمِيَته إسراء وَلم يسمه أحد سرى فَدلَّ على أَن أهل اللُّغَة لم يتحققوا الْعبارَة إِلَى آخر مَا ذكر السُّهيْلي فَقَالَ أَبُو شامة إِنَّمَا أطبق النَّاس على تَسْمِيَته إسراء مُحَافظَة على لفظ الْقُرْآن وَإِلَّا فقد جَاءَ فِي صَحِيح مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقد رَأَيْتنِي فِي الْحجر وقريش تَسْأَلنِي عَن مسراي
وَمن فَوَائده فِي هَذَا الْكتاب
قَالَ افْتتح الله سُبْحَانَهُ سور كِتَابه الْعَزِيز بِعشْرَة أَنْوَاع من الْكَلَام
الأول الثَّنَاء فِي أَربع عشرَة سُورَة إِمَّا بِالْإِشَارَةِ إِلَى إِثْبَات صِفَات الْكَمَال فِي سور سبع {الْحَمد لله} فِي خمس سور و {تبَارك} فِي سورتين وَإِمَّا بِالْإِشَارَةِ إِلَى نفي صِفَات النَّقْص فِي سبع أُخْرَى {سُبْحَانَ} {سبح} {يسبح} {سبح}(8/166)
الثَّانِي حُرُوف الهجاء فِي تسع وَعشْرين سُورَة
الثَّالِث النداء فِي عشر سور
الرَّابِع الْجمل الخبرية نَحْو {بَرَاءَة} {أَتَى أَمر الله} فِي ثَلَاث وَعشْرين
الْخَامِس الْقسم فِي خمس عشرَة
السَّادِس الشَّرْط بإذا فِي سبع
السَّابِع الْأَمر بقل واقرأ فِي سِتّ
الثَّامِن الِاسْتِفْهَام ب مَا فِي {عَم} وَهل والهمزة فِي سِتّ
التَّاسِع الدُّعَاء ب {ويل} و {تبت} فِي ثَلَاث
الْعَاشِر التَّعْلِيل فِي سُورَة وَاحِدَة وَهِي {لِإِيلَافِ قُرَيْش} ثمَّ نظم أَبُو شامة هَذِه الْأَنْوَاع فِي بَيْتَيْنِ وهما
(أثنى على نَفسه سُبْحَانَهُ بِثُبُوت ... الْمَدْح وَالسَّلب لما استفتح السورا)
(وَالْأَمر شَرط الندا التَّعْلِيل أقسم وَالدُّعَاء ... حرف الهجا استفهم الخبرا)
ولد أَبُو شامة سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَأخذ عَن شيخ الْإِسْلَام عز الدّين ابْن عبد السَّلَام وَولي مشيخة دَار الحَدِيث الأشرفية ومشيخة الإقراء بالتربة الأشرفية
وَدخل عَلَيْهِ اثْنَان إِلَى بَيته فِي صُورَة المستفتين فضرباه ضربا مبرحا فاعتل بِهِ إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَكتب هُوَ فِي تَارِيخه المحنة الَّتِي اتّفقت لَهُ وَذكر تَفْوِيض أمره إِلَى الله تَعَالَى وَعدم مُؤَاخذَة من فعل ذَلِك وَأنْشد لنَفسِهِ(8/167)
(قل لمن قَالَ أما تَشْتَكِي ... مَا قد جرى فَهُوَ عَظِيم جليل)
(يقيض الله تَعَالَى لنا ... من يَأْخُذ الْحق ويشفي الغليل)
(إِذا توكلنا عَلَيْهِ كفى ... فحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل)
وَمن شعره فِي السَّبْعَة الَّذين يظلهم الله بظله
(وَقَالَ النَّبِي الْمُصْطَفى إِن سَبْعَة ... يظلهم الله الْعَظِيم بظله)
(محب عفيف ناشىء متصدق ... وَبَاكٍ مصل وَالْإِمَام بعدله)
وَمن شعره
(أَرْبَعَة عَن أَحْمد شاعت وَلَا ... أصل لَهَا من الحَدِيث الْوَاصِل)
(خُرُوج اذار وَيَوْم صومكم ... ثمَّ أَذَى الذمى ورد السَّائِل)
مُرَاده بِحَدِيث رد السَّائِل حَدِيث ردوا السَّائِل وَلَو جَاءَ على فرس لَا حَدِيث ردوا السَّائِل وَلَو بظلف محرق فَإِنَّهُ روى بِإِسْنَاد جيد روينَاهُ فِي جُزْء البطاقة(8/168)
1162 - عبد الرَّحْمَن بن إِسْمَاعِيل بن يحيى الزبيدِيّ أَبُو مُحَمَّد
سمع من مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن البطي وَغَيره
روى عَنهُ ابْن النجار وَكَانَ يعرف الْفَرَائِض والحساب
مولده سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة وَمَات سنة عشْرين وسِتمِائَة
1163 - عبد الرَّحْمَن بن الْحسن بن عَليّ بن بصلا أَبُو مُحَمَّد الصُّوفِي
من أهل البندنيجين
تفقه بِبَغْدَاد وَسمع أَبَا بكر أَحْمد بن المقرب الْكَرْخِي وَأَبا الْقَاسِم يحيى بن ثَابت ابْن بنْدَار وَغَيرهمَا وَقَرَأَ الْأَدَب وَكَانَ صوفيا مفتنا ناظما
كتب عَنهُ ابْن النجار وَقَالَ سَأَلته عَن مولده فَقَالَ فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَمَات فِي ذى الْحجَّة سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة(8/169)
1164 - عبد الرَّحْمَن بن عبد الْعلي الْمصْرِيّ الشَّيْخ عماد الدّين ابْن السكرِي
قَاضِي الْقُضَاة بِمصْر لَهُ حواش على الْوَسِيط مفيدة ومصنف فِي مَسْأَلَة الدّور
ولد سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة
وتفقه على الشَّيْخ شهَاب الدّين الطوسي والفقيه ظافر بن الْحُسَيْن
وَولى قَضَاء القاهره وخطابة جَامع الحكم وَكَانَ من البارعين فِي الْفِقْه
حدث عَن إِبْرَاهِيم بن سماقة وَأبي الْحسن عَليّ بن خلف الْكُوفِي وَغَيرهمَا وَصَحب الشَّيْخ الْقرشِي وَجَمَاعَة من الصَّالِحين
وَكَانَ قد صرف عَن الْقَضَاء لِأَنَّهُ طلب مِنْهُ قرض شَيْء من مَال الْأَيْتَام فَامْتنعَ رَحمَه الله
وبلغنى أَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن النويري وَهُوَ رجل صَالح كَانَ فِي زَمَانه كثير المكاشفات وَالْحكم بهَا وَكَانَ القَاضِي عماد الدّين يُنكر عَلَيْهِ فَبلغ القَاضِي أَنه أَكثر الحكم بالمكاشفات فَعَزله فَقَالَ النويري عزلته وَذريته فَكَانَت
وبلغنى أَن الشَّيْخ ظهير الدّين التزمنتي شيخ ابْن الرقعة قَالَ زرت قبر(8/170)
القَاضِي عماد الدّين بعد مَوته بأيام وَكنت شَابًّا أَمْرَد فَوجدت عِنْده فَقِيرا قلندريا فتواريت مِنْهُ فَقَالَ تعال يَا فَقِيه فَجئْت إِلَيْهِ فَقَالَ يحْشر الْعلمَاء وعَلى رَأس كل وَاحِد مِنْهُم لِوَاء وَهَذَا القَاضِي مِنْهُم وطلبته فَلم اره
وَسمعت الْوَالِد رَحمَه الله يَقُول توفّي القَاضِي عماد الدّين بعد الْعشْرين وسِتمِائَة
قلت وَكَانَ فِي ثامن عشر أَو تَاسِع عشر شَوَّال سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة
وَمن فَوَائده
إِذا أكرهه على صعُود شَجَرَة فزلقت رجله وَمَات قَالَ الْغَزالِيّ الْقصاص على الْمُكْره وَلم يَجْعَل كشريك المخطىء
وَقَالَ الرَّافِعِيّ الْأَظْهر مَا ذكره الرَّوْيَانِيّ وَصَاحب التَّهْذِيب والفوراني أَنه عمد خطأ لَا يتَعَلَّق بِهِ قصاص لِأَن هَذَا العفل لَيْسَ مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ هَلَاك
قَالَ القَاضِي عماد الدّين فِي الحواشى وَنَقله عَنهُ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب التَّحْقِيق أَن للمسألة صُورَتَيْنِ إِحْدَاهمَا أَن يكون صعُود تِلْكَ الشَّجَرَة مهْلكا غَالِبا فَيجب الْقصاص وَالثَّانيَِة أَن يكون سليما فِي الْغَالِب فَيكون عمد خطأ قَالَ فلينزل الْخلاف على الصُّورَتَيْنِ
ثمَّ أورد سؤالا فَقَالَ إِن كَانَ الْغَالِب العطب وتعاطاه فَهُوَ مكره على قتل نَفسه(8/171)
فَلَا يجب الْقصاص على الصَّحِيح لعدم تصَوره وَأجَاب بِأَن الْمُكْره عَلَيْهِ ثمَّ قتل مُحَقّق وَلَيْسَ كَذَلِك هُنَا فَإِنَّهُ يَرْجُو السَّلامَة
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَأَيْضًا فقد لَا يعرف الْمُكْره بِأَن ذَلِك مهلك فيتصور الْإِكْرَاه عَلَيْهِ
1165 - عبد الرَّحْمَن بن عبد الْوَهَّاب بن خلف بن بدر العلامي
قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين ابْن قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين ابْن بنت الْأَعَز روى عَن الحافظين الْمُنْذِرِيّ والعطار
وَكتب عَنهُ الْحَافِظ الدمياطي وَشَيخنَا أَبُو حَيَّان
وَقَرَأَ الْأُصُول على الْقَرَافِيّ وتعليقة الْقَرَافِيّ على الْمُنْتَخب إِنَّمَا صنعها لأَجله
وَكَانَ فَقِيها نحويا أديبا دينا من أحسن الْقُضَاة سيرة جمع بَين الْقَضَاء(8/172)
والوزارة وَولى مشيخة الخانقاه وخطابة جَامع الْأَزْهَر وتدريس الشريفية وتدريس الشَّافِعِي والمشهد الْحُسَيْنِي بِالْقَاهِرَةِ
وَقد جرت لَهُ محنة حاصلها أَن ابْن السلعوس وَزِير السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف كَانَ يكرههُ فَعمل عَلَيْهِ وجهز من شهد عَلَيْهِ بالزور بِأُمُور عِظَام بِحَيْثُ وصل من بَعضهم أَنهم أحضروا شَابًّا حسن الصُّورَة واعترف على نَفسه بَين يَدي السُّلْطَان بِأَن القَاضِي لَاطَ بِهِ وأحضروا من شهد بِأَنَّهُ يحمل الزنار فِي وَسطه فَقَالَ القَاضِي أَيهَا السُّلْطَان كل مَا قَالُوهُ يُمكن لَكِن حمل الزنار لَا يعتمده النَّصَارَى تَعْظِيمًا وَلَو أمكنهم تَركه لتركوه فَكيف أحملهُ
وَكَانَ القَاضِي بَرِيئًا من ذَلِك بَعيدا عَنهُ من كل وَجه رجلا صَالحا لَا يشك فِيهِ وَآخر الْأَمر أَنه نزل مَاشِيا من القلعة إِلَى الْحَبْس وعزل وَخيف عَلَيْهِ أَن يُجهز الْوَزير من يقْتله فَنَامَ عِنْده تِلْكَ اللَّيْلَة شَيخنَا أَبُو حَيَّان ثمَّ أخرج من الْحَبْس أَقَامَ بالقرافة مُدَّة ثمَّ توجه إِلَى الْحجاز ومدح سيدنَا رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقصيدة دالية مِنْهَا
(النَّاس بَين مرجز ومقصد ... ومطول فِي مدحه ومجود)
(ومخبر عَمَّن روى ومعبر ... عَمَّا رَآهُ من العلى والسؤدد)(8/173)
وَمِنْهَا
(مَا فِي قوى الأذهان حصر صفاتك ... الْعليا وَمَالك من كريم المحتد)
(وتفاوت المداح فِيك بِقدر مَا ... بصروا بِهِ من نورك المتوقد)
وَسمعت من يَقُول إِن هَذَا القَاضِي كشف رَأسه ووقف بَين يَدي الْحُجْرَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام واستغاث بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقسم عَلَيْهِ أَن لَا يصل إِلَى موطنه إِلَّا وَقد عَاد إِلَى منصبه فَلم يصل إِلَى الْقَاهِرَة إِلَّا وَالسُّلْطَان الْأَشْرَف قد قتل وَكَذَلِكَ وزيره فأعيد إِلَى الْقَضَاء وَوصل إِلَيْهِ الْخَبَر بِالْعودِ قبل وُصُوله إِلَى الْقَاهِرَة
أنشدنا من لَفظه الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله قَالَ أنشدنا شَيخنَا الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الدمياطي قَالَ أنشدنا الشَّاب الْفَاضِل تَقِيّ الدّين عبد الرَّحْمَن ابْن بنت الْأَعَز لنَفسِهِ
(وَمن رام فِي الدُّنْيَا حَيَاة خلية ... من الْهم والأكدار رام محالا)
(وهاتيك دَعْوَى قد تركت دليلها ... على كل أَبنَاء الزَّمَان محالا)
ثمَّ أنْشد الْوَالِد رَحمَه الله لنَفسِهِ مضمنا هذَيْن الْبَيْتَيْنِ ونقلت ذَلِك من خطه
(يَقُول امْرُؤ ياضيعة النَّحْو عِنْد من ... يرى خفض تَمْيِيز ويجزم حَالا)
(وَمن رام فِي الدُّنْيَا حَيَاة خلية ... من الْهم والأكدار رام محالا)
(وهاتيك دَعْوَى قد تركت دليلها ... على كل أَبنَاء الزَّمَان محالا)
(نعم هَذِه حَال الَّتِى هِيَ همه ... فتعطيه دَارا تغتذيه محالا)
(وَذُو الزّهْد فِيهَا ناعم الْعَيْش فى رضى ... وَفِي كل مَا يهوى بأنعم حَالا)
(وَلَا سِيمَا من صَحَّ عَنهُ توكل ... أتجدنى ابرام تقدم حَالا)(8/174)
(وَلَيْسَ كمن فِي بَحر دنيا غريقها ... يطرحه موج ويلقم حَالا)
(يَدُور مَعَ الرَّحْمَن فِي كل أمره ... عَسى قَالَ حل فِيمَا أقسم حَالا)
توفّي بِالْقَاهِرَةِ فِي سادس عشر جُمَادَى الأولى سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة
1166 - عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان بن مُوسَى صَلَاح الدّين أَبُو الْقَاسِم
وَالِد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن الصّلاح
تفقه على ابْن عصرون وَسكن حلب ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الأَسدِية بهَا
مَاتَ فِي ذى الْقعدَة سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة
1167 - عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن حمدَان أَبُو الْقَاسِم الطَّيِّبِيّ
تفقه بواسط على المجير مَحْمُود الْبَغْدَادِيّ وَقدم بَغْدَاد ودرس بِبَعْض مدارسها وصنف مُخْتَصرا فِي الْفَرَائِض
مولده سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي فِي صفر سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة(8/175)
1168 - عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن حَامِد الإِمَام أَبُو الْقَاسِم ضِيَاء الدّين الْقرشِي الْمصْرِيّ ابْن الْوراق
تفقه على الشَّيْخ شهَاب الدّين الطوسي وَأعَاد عِنْده بمنازل الْعِزّ بِمصْر وَسمع من عبد الله بن بري وَغَيره
قَالَ الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ سَمِعت مِنْهُ وتفقهت عَلَيْهِ مُدَّة
قَالَ وَكَانَ عَالما صَالحا حسن الْأَخْلَاق تَارِكًا لما لَا يعنيه كتب الْكثير بِخَطِّهِ قيل كتب أَرْبَعمِائَة مُجَلد
توفّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة
1169 - عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن بدر بن سعيد بن جَامع أَبُو الْقَاسِم البرجوني
من أهل وَاسِط وبرجون محلّة بالجانب الشَّرْقِي مِنْهَا
كَانَ يعرف بِابْن الْمعلم
قَالَ ابْن النجار تفقه على ابْن فضلان وَابْن الرّبيع بِبَغْدَاد حَتَّى برع فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأُصُول وَسمع الحَدِيث من أَبى الْفَتْح بن شاتيل
وَتُوفِّي فِي رَجَب سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة وَقد نَيف على الْخمسين(8/176)
1170 - عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن هبة الله ابْن عبد الله بن الْحُسَيْن الدِّمَشْقِي
الشَّيْخ الإِمَام الْكَبِير أَبُو مَنْصُور فَخر الدّين ابْن عَسَاكِر
شيخ الشَّافِعِيَّة بِالشَّام وَآخر من جمع لَهُ الْعلم وَالْعَمَل
ولد سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة
وتفقه بِدِمَشْق على الشَّيْخ قطب الدّين النَّيْسَابُورِي وزوجه بابنته واستولدها
وَسمع الحَدِيث من عميه الْإِمَامَيْنِ الْحَافِظ الْكَبِير أبي الْقَاسِم والصائن هبة الله وَجَمَاعَة
وَحدث بِمَكَّة ودمشق والقدس روى عَنهُ الْحَافِظ زكي الدّين البرزالى وزين الدّين خَالِد وضياء الدّين الْمَقْدِسِي وَآخَرُونَ
وَله تصانيف فِي الْفِقْه والْحَدِيث وَغَيرهمَا وَبِه تخرج الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام(8/177)
وَكَانَ إِمَامًا صَالحا قَانِتًا عابدا ورعا كثير الذّكر قيل كَانَ لَا يَخْلُو لِسَانه عَن ذكر الله
وَأُرِيد على الْقَضَاء فَامْتنعَ طلبه الْملك الْعَادِل لَيْلًا وَبَالغ فِي استعطافه وألح عَلَيْهِ فَقَالَ حَتَّى استخير الله وَخرج فَقَامَ ليلته فِي الْجَامِع يتَضَرَّع ويبكي إِلَى الْفجْر فَلَمَّا صلى الصُّبْح وطلعت الشَّمْس أَتَاهُ جمَاعَة من جِهَة السُّلْطَان فأصر على الِامْتِنَاع وجهز أَهله للسَّفر وَخرجت المحابر إِلَى نَاحيَة حلب فَردهَا السُّلْطَان ورق عَلَيْهِ وأعفاه وَقَالَ عين غَيْرك فعين لَهُ ابْن الحرستاني وَاتفقَ أهل عصره على تَعْظِيمه فِي الْعقل وَالدّين(8/178)
الْجمع بَين وظيفتين فِي بلدين متباعدين
كَانَ الشَّيْخ فَخر الدّين ابْن عَسَاكِر مدرسا بِالْمَدْرَسَةِ العذراوية وَهُوَ أول من درس بهَا والنورية والجاروخية وَهَذِه الثَّلَاث بِدِمَشْق والمدرسة الصلاحية بالقدس يُقيم بالقدس أشهرا وبدمشق أشهرا وَقد وَقع فِي زَمَاننَا الترافع فِي رجل ولي التدريس فِي بلدين متباعدين حلب ودمشق وَأفْتى جمَاعَة من أهل عصرنا بِالْجَوَازِ على أَن يَسْتَنِيب فِيمَا غَابَ عَنْهَا فَمن أَصْحَابنَا القَاضِي بهاء الدّين أَبُو الْبَقَاء السُّبْكِيّ ابْن الْعم وَالشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الله البعلبكي وَالْقَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن خلف الْغَزِّي وَالشَّيْخ عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن خَليفَة الحسباني وَمن الْحَنَفِيَّة والمالكية والحنابلة آخَرُونَ وَزَاد شمس الدّين الْغَزِّي فَقضى بذلك وَأذن فِيهِ وحاولني صَاحب الْوَاقِعَة على موافقتهم فأبيت وَالَّذِي يظْهر أَن هَذَا لَا يجوز وَأَنا الَّذِي ذكرت لَهُم مَا فعل ابْن عَسَاكِر ومني سَمعه صَاحب الْوَاقِعَة وَلَيْسَ لَهُم فِيهِ دَلِيل لِأَن وَاقِف الصلاحية جوز لمدرسها أَن يَسْتَنِيب على عذر وَهَذَا وَإِن كَانَ لَا ينْهض عذرا لِأَن ابْن عَسَاكِر كَانَ يُقيم بِهَذِهِ الْبَلَد أشهرا وبهذه الْبَلَد أشهرا ومسألتنا فِيمَن يعرض(8/179)
عَن إِحْدَى البلدين بِالْكُلِّيَّةِ ويقتصر على الِاسْتِنَابَة وَمَا ذكرت وَإِن لم يكن فِيهِ دَلِيل لِأَن وَاقِف الصلاحية إِن سوغ الِاسْتِنَابَة فَمَا يسوغ ذَلِك واقفو العذراوية والنورية والجاروخية وَلَا يجوز ترك بعض الشُّهُور كَمَا لَا يجوز ترك كلهَا وَبِالْجُمْلَةِ فِي وَاقعَة ابْن عَسَاكِر مَا يهون عِنْده واقعتنا وَالْمَسْأَلَة اجتهادية وَابْن عَسَاكِر رجل صَالح عَالم وَالَّذِي فعله دون مَا فعل فِي عصرنا وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ نَظَرِي أَنه لَا يجوز وَأكل المَال فِيهِ أكل بَاطِل وغيبته عَن وَاحِدَة ليحضر أُخْرَى لَيْسَ بِعُذْر فَمَا ظَنك بِمن يغيب بِالْكُلِّيَّةِ
وَقد اعتل بعض هَؤُلَاءِ الْمُفْتِينَ بِأَن الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله أفتى بِمَا إِذا مَاتَ فَقِيه أَو معيد أَو مدرس وَله زَوْجَة وَأَوْلَاد أَنهم يُعْطون من مَعْلُوم تِلْكَ الْوَظِيفَة الَّتِي كَانَت لَهُ مَا تقوم بِهِ كفايتهم ثمَّ إِن فضل من الْمَعْلُوم شَيْء عَن قدر الْكِفَايَة فَلَا بَأْس بإعطائه لمن يقوم بالوظيفة ذكره فِي شرح الْمِنْهَاج فِي بَاب قسم الْفَيْء أخذا من قَول الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب أَن من مَاتَ من الْمُقَاتلَة أَعْطَيْت زَوجته وَأَوْلَاده قَالُوا فَإِذا كَانَ هَذَا رَأْي الشَّيْخ الإِمَام مَعَ مَا فِيهِ من تَوْلِيَة من لَا يسْتَحق وتعطيل الْوَظِيفَة فَمَا ظَنك بتولية مُسْتَحقّ يَنُوب عَنهُ يقوم بالوظيفة
وَأَنا أَقُول إِن هَذَا مِمَّا اغتفره الْوَالِد رَحمَه الله بالتبعية وَقد صرح بِأَنَّهُ لَا يجوز ابْتِدَاء تَوْلِيَة من لَا يصلح فَكيف يجوز تَوْلِيَة من لَا تمكنه الْمُبَاشرَة وَلَا هُوَ مغتفر فِي جَانب أَب لَهُ أَو جد قد تقدّمت مُبَاشَرَته وسابقته فِي الْإِسْلَام
وَقد أفتى ابْن عبد السَّلَام وَالنَّوَوِيّ فِي إِمَام مَسْجِد يَسْتَنِيب فِيهِ بِلَا عذر أَن الْمَعْلُوم لَا يسْتَحقّهُ النَّائِب لِأَنَّهُ لم يتول وَلَا المستنيب لِأَنَّهُ لم يُبَاشر وَخَالَفَهُمَا الشَّيْخ الإِمَام فِيمَا إِذا كَانَ النَّائِب مثل المستنيب أَو أرجح مِنْهُ فِي الْأَوْصَاف الَّتِي تطلب لتِلْك(8/180)
الْوَظِيفَة من علم أَو دين وَقَالَ فِي هَذِه الصُّورَة تصح الِاسْتِنَابَة لحُصُول الْغَرَض الشَّرْعِيّ وَاقْتضى كَلَامه حِينَئِذٍ جَوَاز الِاسْتِنَابَة بِلَا عذر وَعِنْدِي فِيهِ توقف
وَقد أشاع كثير من النَّاس أَن الْوَالِد كَانَ يرى تَوْلِيَة الْأَطْفَال وظائف آبَائِهِم مَعَ عدم صلاحيتهم إِذا قَامَ بالوظائف صَالح ويرجحهم على الصَّالِحين وتوسعوا فِي ذَلِك وَنحن أخبر بأبينا وبمقاصده وَلم يكن رَحمَه الله رأى ذَلِك على الْإِطْلَاق إِنَّمَا كَانَ رَأْيه فِيمَن كَانَت لَهُ يَد بَيْضَاء فِي الْإِسْلَام من علم أَو غَيره قد أثر فِي الدّين آثارا حَسَنَة وَترك ولدا صَالحا أَن يُبَاشر وظيفته من يصلح لَهَا وَتَكون الْوَظِيفَة باسم الْوَلَد وَيَقُول التَّوْلِيَة توليتان تَوْلِيَة اخْتِصَاص وتولية مُبَاشرَة فالصبي يتَوَلَّى تَوْلِيَة الِاخْتِصَاص بِمَعْنى أَن تكون لَهُ خُصُوصِيَّة بهَا وَيصرف لَهُ بعض الْمَعْلُوم والصالح يتَوَلَّى تَوْلِيَة مُبَاشرَة يَعْنِي أَنه يَأْتِي بِالْمَعْنَى الْمَقْصُود من الْوَظِيفَة فَيحصل غَرَض الْوَاقِف ومراعاة جَانب الصَّغِير إِعَانَة لحق أَبِيه وَيَقُول أَنا فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا أولي الْمُبَاشر وَهُوَ ذُو الْولَايَة الْحَقِيقِيَّة
فَقلت لَهُ فَلم لَا تصرح لَهُ بِالْولَايَةِ
فَقَالَ أخْشَى على الطِّفْل مِنْهُ فَإِنَّهُ مَتى اسْتَقَرَّتْ لَهُ لم يُعْط الصَّغِير شَيْئا
فَقلت لَهُ اجْعَل الْمُبَاشر هُوَ الْمُتَوَلِي وَاشْترط عَلَيْهِ بعض الْمَعْلُوم للطفل
قَالَ يتأهل الطِّفْل فَلَا يُسلمهُ الْوَظِيفَة وَأَنا مرادي أَن الطِّفْل إِذا تأهل يسلم الْوَظِيفَة لَهُ
فَقلت لَهُ فَمَا الَّذِي يثبت للطفل الْآن(8/181)
قَالَ ولَايَة الِاخْتِصَاص بِمَعْنى أَنه يصير أَحَق بِهَذِهِ الْوَظِيفَة اسْتِقْلَالا من غير احْتِيَاج إِلَى تَجْدِيد ولَايَة مَتى تأهل وآكلا لبَعض الْمَعْلُوم مَا دَامَ عَاجِزا
فَقلت لَهُ أتفعل ذَلِك فِيمَن لَا يُمكنهُ التأهل كَزَوْجَة وَبنت وَابْن أيس من أَهْلِيَّته
فَقَالَ لَا بل الَّذين تَركهم الْمَيِّت أَقسَام
مِنْهُم من يُمكن أَن يتأهل فَهَذَا نوليه ولَايَة الِاخْتِصَاص ثمَّ أَنا فِي النَّائِب الَّذِي أقيم لَهُ على قدر مَا يظْهر لي من أَمَانَته إِن عرفت من ثقته وَدينه أَنه مَتى تأهل الصَّبِي سلمه وظيفته فقد أصرح لَهُ بِالْولَايَةِ المترتبة فَأَقُول وليتك مُسْتقِلّا مُدَّة عدم صَلَاحِية هَذَا الطِّفْل للمباشرة على أَن تصرف عَلَيْهِ بعض الْمَعْلُوم وَوليت هَذَا الطِّفْل ولَايَة معلقَة بالصلاحية
قَالَ وَأَنا أرى تَعْلِيق الولايات وَقد لَا أصرح لَهُ خشيَة أَن يَمُوت والوظيفة باسمه فيأخذها من لَا يُعْطي ذَلِك الطِّفْل شَيْئا وَهَذِه أُمُور تخرج عَن الضَّبْط يُرَاعِي فِيهَا الْحَاكِم اجْتِهَاده الْحَاضِر وَدينه وَنَظره فِي كل جزئية
وَمِنْهُم من لَا يُمكن أَن يتأهل كَبِنْت أَو زَوْجَة فِي إِمَامَة مَسْجِد أَو ابْن أَيِست أَهْلِيَّته فَهَؤُلَاءِ لَا أوليهم مُطلقًا لَا مُعَلّقا وَلَا ولَايَة اخْتِصَاص وَإِنَّمَا أَقُول لمن أوليه الْتزم بِالنذرِ الشَّرْعِيّ أَن تدفع لهَذَا كَيْت وَكَيْت مَا دَامَ كَذَا من مَعْلُوم هَذِه الْوَظِيفَة فَيصير لَهُ اسْتِحْقَاق بعض الْمَعْلُوم عَلَيْهِ بِهَذِهِ الطَّرِيق(8/182)
فَقلت لَهُ فَهَذَا كُله فِيمَن سبقت لِأَبِيهِ سَابِقَة فَمَا قَوْلك فِيمَن لَا سَابِقَة لِأَبِيهِ
قَالَ إِن كَانَ فَقِيرا أفهم من نَص الشَّارِع طلب إِعَانَة مثله فعلت مَعَه ذَلِك أَيْضا وَلَا أتركه يبيت جائعا قد عدم أَبَاهُ والرزق الَّذِي كَانَ يدْخل عَلَيْهِ مَعَ أَبِيه
إِلَى غير ذَلِك من تفاصيل كَانَ يذكرهَا تقصر عَنْهَا الأوراق الله أعلم بنيته فِيهَا وَقد كَانَ الرجل متضلعا بِالْعلمِ وَالدّين وغرضنا مِمَّا سقناه أَنه لم يُطلق القَوْل إطلاقا وَلَا فتح للجهال بَاب التطرق إِلَى وظائف أهل الْعلم حاشاه ثمَّ حاشاه لقد كَانَ يتألم من ولَايَة الْجُهَّال تألما لم أجد من غَيره المعشار مِنْهُ وَيذكر من مفاسد ولَايَة الْجَاهِل وَمن لَا يُبَاشر مَا يطول شَرحه وَله فِيهِ كَلَام مُسْتَقل
هَذَا مَا أعرفهُ مِنْهُ وَلَيْسَ هُوَ من الْوَاقِعَة الَّتِي ذَكرنَاهَا وَقد كنت أعرفهُ ينكرها بِعَينهَا غَايَة الْإِنْكَار فَإِن الْجَامِع بَين التدريسين الْمَذْكُورين جمع بَينهمَا فِي حَيَاة الشَّيْخ الإِمَام وَأنكر الشَّيْخ الإِمَام ذَلِك وَلم تكن لَهُ قدرَة على دَفعه لِأَنَّهُ ذُو جاه خطير
وَمن شعر الشَّيْخ ابْن عَسَاكِر
(خف إِذا مَا بت ترجو ... وارج إِن أَصبَحت خَائِف)
(كم أَتَى الدَّهْر بعسر ... فِيهِ لله لطائف)(8/183)
خبر وَفَاته رَحمَه الله
وَقد كَانَت مُصِيبَة عَامَّة فِي الشَّام سائرة فِي بِلَاد الْإِسْلَام توفّي فِي الْعَاشِر من رَجَب سنة عشْرين وسِتمِائَة وَكَانَت جنَازَته مَشْهُودَة قل أَن وجد مثلهَا
قَالَ أَبُو شامة أَخْبرنِي من حضر وَفَاته أَنه صلى الظّهْر ثمَّ جعل يسْأَل عَن الْعَصْر فَقيل لَهُ لم يقرب وَقتهَا فَتَوَضَّأ ثمَّ تشهد وهوجالس ثمَّ قَالَ رضيت بِاللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دينا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَبيا لَقَّنَنِي الله حجتي وأقالني عثرتي ورحم غربتي ثمَّ قَالَ وَعَلَيْكُم السَّلَام فَعلمنَا أَنه حَضرته الْمَلَائِكَة فَانْقَلَبَ على قَفاهُ مَيتا
ذكر بقايا من تَرْجَمته
وَكَانَ الشَّيْخ فَخر الدّين ابْن عَسَاكِر قد وَقع بَينه وَبَين الْملك الْمُعظم لِأَنَّهُ أنكر عَلَيْهِ تضمين المكوس وَالْخُمُور فَانْتزع مِنْهُ التقوية والصلاحية
وَكَانَ بَينه وَبَين الْحَنَابِلَة مَا يكون غَالِبا بَين رعاع الْحَنَابِلَة والأشاعرة فيذكر أَنه كَانَ لَا يمر بِالْمَكَانِ الَّذِي يكون فِيهِ الْحَنَابِلَة خشيَة أَن يأثموا بالوقيعة فِيهِ وَأَنه رُبمَا مر بالشيخ الْمُوفق بن قدامَة فَسلم فَلم يرد الْمُوفق السَّلَام فَقيل لَهُ فَقَالَ إِنَّه يَقُول بالْكلَام النَّفْسِيّ وَأَنا أرد عَلَيْهِ فِي نَفسِي فَإِن صحت هَذِه الْحِكَايَة فَهِيَ مَعَ مَا ثَبت عندنَا من ورع الشَّيْخ موفق الدّين وَدينه وَعلمه غَرِيبَة فَإِن ذَلِك لَا يَكْفِيهِ جَوَاب سَلام وَإِن كَانَ ذَلِك مِنْهُ لِأَنَّهُ يرى أَن الشَّيْخ فَخر الدّين لَا يسْتَحق جَوَاب السَّلَام(8/184)
فَلَا كيد لمن يرى هَذَا الرَّأْي وَلَا كَرَامَة وَلَا تظن ذَلِك بالشيخ الْمُوفق وَلَعَلَّ هَذِه الْحِكَايَة من تخليقات متأخري الحشوية
وجدت بِخَط الْحَافِظ صَلَاح الدّين خَلِيل بن كيكلدي العلائي رَحمَه الله رَأَيْت بِخَط الشَّيْخ شمس الدّين الذَّهَبِيّ رَحمَه الله أَنه شَاهد بِخَط سيف الدّين أَحْمد بن الْمجد الْمَقْدِسِي لما دخلت بَيت الْمُقَدّس والفرنج إِذْ ذَاك فِيهِ وجدت مدرسة قريبَة من الْحرم - قلت أظنها الصلاحية - والفرنج بهَا يُؤْذونَ الْمُسلمين ويفعلون العظائم فَقلت سُبْحَانَ الله ترى أَي شَيْء كَانَ فِي هَذِه الْمدرسَة حَتَّى ابْتليت بِهَذَا حَتَّى رجعت إِلَى دمشق فحكي لي أَن الشَّيْخ فَخر الدّين ابْن عَسَاكِر كَا يقرئ بهَا المرشدة فَقلت بل هِيَ المضلة انْتهى مَا نقلته من خطّ العلائي رَحمَه الله
ونقلت من خطه أَيْضا وَهَذِه العقيدة المرشدة جرى قَائِلهَا على الْمِنْهَاج القويم وَالْعقد الْمُسْتَقيم وَأصَاب فِيمَا نزه بِهِ الْعلي الْعَظِيم ووقفت على جَوَاب لِابْنِ تَيْمِية سُئِلَ فِيهِ عَنْهَا ذكر فِيهِ أَنَّهَا تنْسب لِابْنِ تومرت وَذَلِكَ بعيد من الصِّحَّة أَو بَاطِل لِأَن الْمَشْهُور أَن ابْن تومرت كَانَ يُوَافق الْمُعْتَزلَة فِي أصولهم وَهَذِه مباينة لَهُم انْتهى
وَأطَال العلائي فِي تَعْظِيم المرشدة والإزراء بشيخنا الذَّهَبِيّ وَسيف الدّين ابْن الْمجد فِيمَا ذكرَاهُ
فَأَما دَعْوَاهُ أَن ابْن تومرت كَانَ معتزليا فَلم يَصح عندنَا ذَلِك والأغلب أَنه كَانَ أشعريا صَحِيح العقيدة أَمِيرا عادلا دَاعيا إِلَى طَرِيق الْحق
وَأما قَول السَّيْف ابْن الْمجد إِن الَّذِي اتّفق إِنَّمَا هُوَ بِسَبَب إقراء المرشدة فَمن التعصب الْبَارِد وَالْجهل الْفَاسِد وَقد فعلت الفرنج دَاخل الْمَسْجِد الْأَقْصَى العظائم فَهَلا نظر فِي ذَلِك نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان
وَنحن نرى أَن نسوق هَذِه العقيدة المرشدة وَهِي
اعْلَم أرشدنا الله وَإِيَّاك أَنه يجب على كل مُكَلّف أَن يعلم أَن الله عز وَجل وَاحِد فِي ملكه خلق الْعَالم بأسره الْعلوِي والسفلي وَالْعرش والكرسي وَالسَّمَوَات(8/185)
وَالْأَرْض وَمَا فيهمَا وَمَا بَينهمَا جَمِيع الْخَلَائق مقهورون بقدرته لَا تتحرك ذرة إِلَّا بِإِذْنِهِ لَيْسَ مَعَه مُدبر فِي الْخلق وَلَا شريك فِي الْملك حَيّ قيوم {لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم} {عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} {لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء} {وَيعلم مَا فِي الْبر وَالْبَحْر وَمَا تسْقط من ورقة إِلَّا يعلمهَا وَلَا حَبَّة فِي ظلمات الأَرْض وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين} {أحَاط بِكُل شَيْء علما} {وأحصى كل شَيْء عددا} {فعال لما يُرِيد} قَادر على مَا يَشَاء لَهُ الْملك والغناء وَله الْعِزّ والبقاء وَله الحكم وَالْقَضَاء وَله الْأَسْمَاء الْحسنى لَا دَافع لما قضى وَلَا مَانع لما أعْطى يفعل فِي ملكه مَا يُرِيد وَيحكم فِي خلقه بِمَا يَشَاء لَا يَرْجُو ثَوابًا وَلَا يخَاف عقَابا لَيْسَ عَلَيْهِ حق وَلَا عَلَيْهِ حكم وكل نعْمَة مِنْهُ فضل وكل نقمة مِنْهُ عدل {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} مَوْجُود قبل الْخلق لَيْسَ لَهُ قبل وَلَا بعد وَلَا فَوق وَلَا تَحت وَلَا يَمِين وَلَا شمال وَلَا أَمَام وَلَا خلف وَلَا كل وَلَا بعض وَلَا يُقَال مَتى كَانَ وَلَا أَيْن كَانَ وَلَا كَيفَ كَانَ وَلَا مَكَان كَون الأكوان ودبر الزَّمَان لَا يتَقَيَّد بِالزَّمَانِ وَلَا يتخصص بِالْمَكَانِ وَلَا يشْغلهُ شَأْن عَن شَأْن وَلَا يلْحقهُ وهم وَلَا يكتنفه عقل وَلَا يتخصص بالذهن وَلَا يتَمَثَّل فِي النَّفس وَلَا يتَصَوَّر فِي الْوَهم وَلَا يتكيف فِي الْعقل لَا تلْحقهُ الأوهام والأفكار {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير}
هَذَا آخر العقيدة وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُنكره سني(8/186)
مَسْأَلَة كتاب الصَدَاق فِي الْحَرِير
كَانَ الشَّيْخ ابْن عَسَاكِر رَحمَه الله يُفْتِي بِجَوَاز كِتَابَة الصَدَاق على الْحَرِير وَخَالفهُ تِلْمِيذه شيخ الْإِسْلَام عز الدّين بن عبد السَّلَام فَأفْتى بِالْمَنْعِ وَبِه أفتى النَّوَوِيّ إِلَّا أَنه عزا ذَلِك إِلَى تَصْرِيح أَصْحَابنَا وَلم أجد ذَلِك فِي كَلَام وَاحِد مِنْهُم
1171 - عبد الرَّحْمَن بن مقبل بن عَليّ بن مقبل أَبُو الْمَعَالِي الطَّحَّان
من أهل وَاسِط تفقه بِبَغْدَاد على عَليّ بن أبي عَليّ الفارقي
قَالَ ابْن النجار برع فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَسمع الحَدِيث من ابْن كُلَيْب وَابْن الْجَوْزِيّ وَغَيرهمَا
واستنابه قَاضِي الْقُضَاة أَبُو صَالح الجيلي على الْقَضَاء بحريم دَار الْخلَافَة وقلده الإِمَام الْمُسْتَنْصر بِاللَّه قَضَاء الْقُضَاة شرقا وغربا وَنظر الْأَوْقَاف وتدريس المستنصرية وقرىء عَهده بِجَامِع مَدِينَة السَّلَام وَاسْتمرّ على ذَلِك مُدَّة ثمَّ عزل
ولد سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة وَمَات فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة(8/187)
1172 - عبد الرَّحْمَن بن نوح بن مُحَمَّد شمس الدّين الْمَقْدِسِي
مدرس الرواحية بِدِمَشْق
تفقه على ابْن الصّلاح وَسمع من ابْن الزبيدِيّ وَغَيره
توفّي فِي ربيع الآخر سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة
1173 - عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن الرّبيع بن سُلَيْمَان أَبُو الْقَاسِم بن الشَّيْخ أبي عَليّ بن الرّبيع
من أهل وَاسِط
قَرَأَ الْفِقْه وَالْخلاف على وَالِده وعَلى أبي الْقَاسِم ابْن فضلان
وَتوجه رَسُولا من جِهَة الْخَلِيفَة إِلَى غزنة ثمَّ إِلَى خوارزم وَحدث هُنَاكَ بِالْإِجَازَةِ عَن أبي الْفَتْح ابْن البطي وَأبي زرْعَة الْمَقْدِسِي
مولده سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي فِي شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة(8/188)
1174 - عبد الرَّحْمَن بن أبي الْحسن بن يحيى الدمنهوري عماد الدّين
مولده بدمنهور الْوَحْش من أَعمال الديار المصرية فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وسِتمِائَة
وَتَوَلَّى إِعَادَة الْمدرسَة الصالحية بِالْقَاهِرَةِ
وَتُوفِّي فِي رَمَضَان سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
وَهُوَ المغرى بالاعتراض على الشَّيْخ فِي الْمُهَذّب والتنبيه لَا جرم أَن الله أخمل ذكره
1175 - عبد الرَّحِيم بن إِبْرَاهِيم بن هبة الله بن الْمُسلم بن هبة الله بن حسان القَاضِي نجم الدّين الْجُهَنِيّ الْحَمَوِيّ ابْن الْبَارِزِيّ قَاضِي حماة وَأَبُو قاضيها
ولد بهَا سنة ثَمَان وسِتمِائَة وَحدث عَن مُوسَى ابْن الشَّيْخ عبد الْقَادِر(8/189)
سمع مِنْهُ ابْنه وَغَيره
قَالَ الذَّهَبِيّ كَانَ إِمَامًا فَاضلا فَقِيها أصوليا أديبا شَاعِرًا لَهُ خبْرَة بالعقليات وَنظر فِي الْفُنُون
قَالَ وَكَانَ مشكورا فِي أَحْكَامه وافر الدّيانَة محبا للصالحين
درس وَأفْتى وصنف وَتوجه ليحج فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة فَمَاتَ فِي ذِي الْقعدَة بتبوك وَحمل إِلَى الْمَدِينَة ودقن بِالبَقِيعِ
1176 - عبد الرَّحِيم بن عمر بن عُثْمَان جمال الدّين أَبُو مُحَمَّد الباجربقي الْموصِلِي
قَالَ الذَّهَبِيّ شيخ فَقِيه مُحَقّق نقال مهيب سَاكِت كثير الصَّلَاة ملازم للجامع والاشتغال
شغل بالموصل وَأفَاد ثمَّ قدم دمشق وخطب بجامعها نِيَابَة ودرس بالغزالية نِيَابَة وبالمدرسة الفتحية أَصَالَة وَله نظم ونثر
وَهُوَ أَبُو مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم الباجربقي الْمَحْكُوم بإراقة دَمه
توفّي هَذَا الشَّيْخ جمال الدّين فِي شَوَّال سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة(8/190)
1177 - عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن ياسين أَبُو الرِّضَا سبط أبي الْقَاسِم بن فضلان
قَرَأَ الْفِقْه على جده ثمَّ سَافر إِلَى الْموصل وَقَرَأَ على أبي حَامِد مُحَمَّد بن يُونُس ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد وَتَوَلَّى إِعَادَة النظامية ثمَّ تولى أنظارا وأوقافا وَرَأس
مولده سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي فِي صفر سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1178 - عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن يُونُس بن ربيعَة الْموصِلِي تَاج الدّين بن رَضِي الدّين بن عماد الدّين
صَاحب التَّعْجِيز مُخْتَصر الْوَجِيز والنبيه فِي اخْتِصَار التَّنْبِيه ومختصر الْمَحْصُول فِي أصُول الْفِقْه وَشرح التَّعْجِيز لم يكمل وَشرح الْوَجِيز وَلم يكمل أَيْضا فِيمَا أَظن والتنويه بِفضل التَّنْبِيه
وَكَانَ آيَة فِي الْقُدْرَة على الِاخْتِصَار وَمن أحسن مُخْتَصر لَهُ فِي الْفِقْه كتاب سَمَّاهُ نِهَايَة النفاسة قل أَن رَأَيْت مثله فِي عذوبة مَنْطِقه وَكَثْرَة الْمَعْنى وَصغر الحجم وَسَأَلَهُ الْحَنَفِيَّة أَن يختصر لَهُم الْقَدُورِيّ فَاخْتَصَرَهُ اختصارا حسنا وَهُوَ عِنْدِي(8/191)
مولده بالموصل سنة ثَمَان وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ بهَا إِلَى أَن استولت عَلَيْهِ التتار فانتقل إِلَى بَغْدَاد وَولي قَضَاء الْجَانِب الغربي بهَا وببغداد مَاتَ سنة إِحْدَى وَسبعين وسِتمِائَة
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
ذكر فِي شرح التَّعْجِيز فِيمَا لَو أدخلت الصائمة أصبعها فِي فرجهَا أَنَّهَا تفطر وَكَذَلِكَ ذكر ابْن الصّلاح فِي الْفَتَاوَى وَوَجهه أَنَّهَا عين وصلت من الظَّاهِر إِلَى الْجوف فِي منفذ وَحكى صَاحب الْبَحْر فِي الْمَسْأَلَة خلافًا ذكره قبل بَاب صَوْم التَّطَوُّع
وَأفْتى فِي كتاب نِهَايَة النفاسة بِخِلَاف الْمَذْهَب فِي مسَائِل
مِنْهَا قَالَ لَا يجوز للزَّوْج النّظر إِلَى الْفرج وَالْمذهب خِلَافه
وَمِنْهَا قَالَ فِي الْعدة الثَّالِث اسْتِبْرَاء أمته تحل لَهُ وَلَو حَامِلا خلافًا للروياني وَهَذَا وهم انْقَلب عَلَيْهِ وَالَّذِي قَالَ الرَّوْيَانِيّ تبعا للمزني أَنه إِنَّمَا يجب اسْتِبْرَاء الْحَامِل والموطوءة فَلَا خلاف فِي وجوب اسْتِبْرَاء الْحَامِل
وَحكى أَن القَاضِي نجم الدّين البادرائى اجتاز بالموصل رَسُولا إِلَى حلب فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فَسَأَلَ فقهاءها هَذِه الْمَسْأَلَة
(أيا فُقَهَاء الْعَصْر هَل من مخبر ... عَن امْرَأَة حلت لصَاحِبهَا عقدا)
(إِذا طلقت بعد الدُّخُول تربصت ... ثَلَاثَة أَقراء حُدُود لَهَا حدا)
(وَإِن مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا فاعتدادها ... بقرء من الْأَقْرَاء تأتى بِهِ فَردا)(8/192)
فَأَجَابَهُ صَاحب التَّعْجِيز
(وَكُنَّا عهدنا النَّجْم يهدى بنوره ... فَمَا باله قد أتهم الْعلم الفردا)
(سَأَلت فَخذ عَنى فَتلك لقيطة ... أقرَّت برق بعد أَن نكحت عمدا)
وَذكر فِي التَّعْجِيز أَن الزَّوْج إِذا قَالَ لزوجته أَنْت طَالِق على ألف إِن شِئْت وَقبلت كفى أَحدهمَا وَقد تكفى الْمَشِيئَة وَتعقبه القَاضِي شرف الدّين ابْن الْبَارِزِيّ فِي التَّمْيِيز وفخر الدّين الصّقليّ فِي التَّخْيِير
وَقَالَ هُوَ - أَعنِي ابْن يُونُس - فِي شرح التَّعْجِيز إِن الِاكْتِفَاء بِأَحَدِهِمَا رَأْي لفقه الغزالى من وَجْهَيْن حَكَاهُمَا إِمَامه أَحدهمَا تعين شِئْت وَالثَّانِي تعين قبلت وَهُوَ كَمَا قَالَ
ثمَّ قَالَ ابْن يُونُس وَيَكْفِي فِي صُورَة الْمَسْأَلَة أَن يَقُول أَنْت طَالِق إِن شِئْت أما قَوْله وَقبلت ففرضه فِي الْوَجِيز والوسيط دون الْبَسِيط وَالنِّهَايَة والتتمة وَغَيرهَا وَعِنْدِي أَنه يَقْتَضِي الْجمع بَين الْقبُول والمشيئة وَجها وَاحِدًا لِأَنَّهُ صرح بشرطها انْتهى
قلت وَهُوَ عَجِيب فَلم أر فِي شَيْء مِمَّا وقفت عَلَيْهِ من نسخ الْوَجِيز والوسيط لفظ وَقبلت وَلَيْسَ إِلَّا أَنْت طَالِق بِأَلف إِن شِئْت كَمَا فِي الْبَسِيط وَالنِّهَايَة والتتمة
وَقَول ابْن يُونُس إِن وَقبلت يَقْتَضِي الْجمع بَينهمَا مُتَّجه وَيحْتَمل أَن يطرقه خلاف لِأَن لفظ الْمَشِيئَة يتَضَمَّن الْقبُول وَبِالْعَكْسِ غير أَنه يكون خلافًا مُرَتبا على الْخلاف فِي الصُّورَة المنقولة(8/193)
وَقَالَ فِي شرح التَّعْجِيز فِي بَاب الْخلْع أَيْضا إِن جده عماد الدّين صحّح فِي شرح الْوَجِيز أَن الْإِقْبَاض يَقْتَضِي التَّمْلِيك كالإعطاء
قلت وَأَنا أميل إِلَى هَذَا التَّرْجِيح غير أَن الْمُرَجح فِي الْمَذْهَب أَن الْإِعْطَاء يَقْتَضِي التَّمْلِيك بِخِلَاف الْإِقْبَاض
قَالَ ابْن يُونُس والإيتاء كالإعطاء
قلت وَفِي هَذَا نظر بل الَّذِي يظْهر أَن الإيتاء كالدفع والإقباض قَالَ الله تعالي {وَآتوا الْيَتَامَى أَمْوَالهم} وَأَرَادَ بالإيتاء الدّفع بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم}
قَالَ فِي شرح التَّعْجِيز فِي موقف الإِمَام وَالْمَأْمُوم الْمدَارِس والربط كالدور عِنْد المراوزة وكالمساجد عِنْد الْعِرَاقِيّين انْتهى
وَهَذَا شَيْء غَرِيب لَعَلَّه سبق قلم وَالْمَعْرُوف أَن حكم الْمدَارِس والربط حكم الدّور من غير خلاف
1179 - عبد الرَّحِيم بن نصر بن يُوسُف بن مبارك
الْفَقِيه الْمُحدث صدر الدّين أَبُو مُحَمَّد البعلبكي قَاضِي بعلبك كَانَ فَقِيها زاهدا ورعا مُحدثا نبيلا لَهُ يَد فِي النّظم والنثر
تفقه على ابْن الصّلاح وَسمع من الْكِنْدِيّ وَالشَّيْخ الْمُوفق وَجَمَاعَة
وَصَاحب الشَّيْخ الصَّالح عبد الله اليونيني(8/194)
وَكَانَ لَهُ حَال ومكاشفة وَقيل إِنَّه لما ولي قَضَاء بعلبك كَانَ يحمل الْعَجِين إِلَى الفرن ويحكى عَنهُ كرامات كَثِيرَة
وَكَانَ يؤم بمدرسة بعلبك
مَاتَ وَهُوَ فِي السَّجْدَة الثَّانِيَة من الرَّكْعَة الثَّالِثَة من الظّهْر سجدها فانتظره من خَلفه أَن يرفع رَأسه ثمَّ رفعوا رؤوسهم وحركوه فوجدوه مَيتا وَذَلِكَ سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة
ورثاه ابْن الْمَقْدِسِي بقوله
(لنقدك صدر الدّين أضحت صدورنا ... تضيق وَجَاز الوجد غَايَة قدره)
(وَمن كَانَ ذَا قلب على الدّين منطو ... تفتت أكبادا على فقد صَدره)
1180 - عبد السَّلَام بن عَليّ بن مَنْصُور
قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين ابْن الْخَرَّاط قَاضِي الديار المصرية أَبُو مُحَمَّد الكتاني الدمياطي
مولده سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة
قَرَأَ الْقُرْآن بدمياط بالروايات على السَّيِّد الْكَبِير عبد السَّلَام بن عبد النَّاصِر بن عديسة
ورحل إِلَى بَغْدَاد وتفقه بالنظامية وَسمع من ابْن كُلَيْب وَابْن الْجَوْزِيّ وَأبي طَاهِر الْمُبَارك بن الْمُبَارك بن المعطوش
ورحل إِلَى وَاسِط فَقَرَأَ بهَا الْقرَاءَات على أبي بكر بن الباقلاني(8/195)
وَعَاد إِلَى دمياط وَولي الْقَضَاء بهَا والتدريس مُدَّة ثمَّ قَضَاء الْقُضَاة بِمصْر وأعمالها من الْجَانِب القبلي
وَحدث بدمياط ومصر روى عَنهُ الْحَافِظ زكي الدّين عبد الْعَظِيم وَخرج لَهُ جُزْءا
وَقد عزل بِالآخِرَة عَن قَضَاء مصر وَولي قَضَاء دمياط
مَاتَ سنة تسع عشرَة وسِتمِائَة
1181 - عبد الصَّمد بن مُحَمَّد بن أبي الْفضل بن عَليّ بن عبد الْوَاحِد قَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين أَبُو الْقَاسِم بن الحرستاني الْأنْصَارِيّ الخزرجي الْعَبَّادِيّ السَّعْدِيّ الدِّمَشْقِي
أحد الأجلة من الْفُقَهَاء البارعين فِي الْمَذْهَب الزاهدين الورعين وَكَانَ من قُضَاة الْعدْل رَحمَه الله
ولد فِي أحد الربيعين سنة عشْرين وَخَمْسمِائة
وَسمع الحَدِيث من عبد الْكَرِيم بن حَمْزَة وطاهر بن سهل بن بشر الإسفرايني وجمال الْإِسْلَام أبي الْحسن عَليّ بن الْمُسلم وَنصر الله المصِّيصِي وَهبة الله بن أَحْمد بن طَاوس وَأبي الْقَاسِم الْحُسَيْن بن البن وَأبي الْحسن عَليّ بن سُلَيْمَان الْمرَادِي وخلائق وَتفرد بالرواية عَن أَكثر شُيُوخه(8/196)
وَحدث بِالْإِجَازَةِ عَن أبي عبد الله الفراوي وَهبة الله بن السيدي وزاهر الشحامي وَعبد الْمُنعم الْقشيرِي وَغَيرهم
سمع مِنْهُ أَبُو الْمَوَاهِب بن صصرى وَغَيره من القدماء
وروى عَنهُ البرزالي وَابْن النجار والحافظ الضياء وَابْن خَلِيل والحافظ زكي الدّين عبد الْعَظِيم وَابْن عبد الدَّائِم وَأَبُو الْغَنَائِم بن عَلان وخلائق يطول سردهم
وروى عَنهُ من القدماء الحافظان عبد الْغَنِيّ وَعبد الْقَادِر الرهاوي
تفقه بحلب على أبي الْحسن الْمرَادِي ورحل إِلَيْهِ
وَولي الْقَضَاء بِدِمَشْق نِيَابَة عَن أبي سعد بن أبي عصرون ثمَّ ولي قَضَاء الشَّام فِي آخر عمره سنة اثْنَتَيْ عشرَة(8/197)
وَعمر دهرا طَويلا وَكَانَ أسْند شيخ فِي هَذِه الديار
وَيُقَال إِن شيخ الْإِسْلَام عز الدّين بن عبد السَّلَام قَالَ لم أر أفقه مِنْهُ
قَالَ أَبُو شامة وَسَأَلته أَيهمَا أفقه الشَّيْخ فَخر الدّين بن عَسَاكِر أَو ابْن الحرستاني فرجح ابْن الحرستاني وَقَالَ إِنَّه كَانَ يحفظ وسيط الْغَزالِيّ
قَالَ أَبُو شامة لما ولي الْقَضَاء محيي الدّين بن الزكي لم ينب عَنهُ وَبَقِي إِلَى أَن ولاه الْملك الْعَادِل الْقَضَاء وعزل قَاضِي الْقُضَاة زكي الدّين الطَّاهِر وَأخذ مِنْهُ الْمدرسَة العزيزية والتقوية وَأعْطى العزيزية مَعَ الْقَضَاء لِابْنِ الحرستاني والتقوية للشَّيْخ فَخر الدّين بن عَسَاكِر
وَكَانَ ابْن الحرستاني يجلس للْحكم بالمجاهدية وناب عَنهُ وَلَده عماد الدّين ثمَّ شمس الدّين أَبُو نصر بن الشِّيرَازِيّ وشمس الدّين بن سني الدولة وَبَقِي فِي الْقَضَاء سنتَيْن وَسَبْعَة أشهر وَتُوفِّي وَكَانَت لَهُ جَنَازَة عَظِيمَة
وَكَانَ قد امْتنع من الْولَايَة لما طلب إِلَيْهَا فألحوا عَلَيْهِ واستغاثوا بولده حَتَّى أجَاب(8/198)
وَكَانَ صَارِمًا عادلا على طَريقَة السّلف فِي لِبَاسه وعفته اتَّفقُوا أَنه لم تفته صَلَاة بِجَامِع دمشق فِي جمَاعَة إِلَّا إِن كَانَ مَرِيضا
1182 - عبد الْعَزِيز بن أَحْمد بن سعيد الدَّمِيرِيّ الديريني
الشَّيْخ الزَّاهِد الْقدْوَة الْعَارِف صَاحب الْأَحْوَال والكرامات والمصنفات وَالنّظم الْكثير نظم التَّنْبِيه وَالْوَجِيز وغريب الْقُرْآن وَغير ذَلِك وَله تَفْسِير فِي مجلدين منظوم
قَالَ شَيخنَا أَبُو حَيَّان كَانَ متقشفا مخشوشنا يتبرك بِهِ النَّاس انْتهى
وَكَانَ الشَّيْخ عبد الْعَزِيز مترددا فِي الرِّيف والنواحي من ديار مصر لَيْسَ لَهُ مُسْتَقر
مولده سنة اثْنَتَيْ عشرَة أَو ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة وَتُوفِّي سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة(8/199)
وَكَانَ سليم الْبَاطِن حسن الْأَخْلَاق حُكيَ أَنه دخل إِلَى الْمحلة الغربية فِي بعض أَسْفَاره وَعَلِيهِ عِمَامَة متغيرة اللَّوْن فظنها بعض من رَآهُ زرقاء فَقَالَ قل أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله فَقَالَهَا فَنزع الْعمة من رَأسه وَقَالَ لَهُ اذْهَبْ إِلَى القَاضِي لتسلم على يَدَيْهِ فَمضى مَعَه وتبعهم صبيان وَخلق كثير على عَادَة من يسلم فَلَمَّا نظره القَاضِي عرفه فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا يَا سَيِّدي الشَّيْخ قَالَ قيل لي قل الشَّهَادَتَيْنِ فقلتهما فَقيل امْضِ مَعنا إِلَى القَاضِي لتنطق بهما بَين يَدَيْهِ فَجئْت
وَله كتاب طَهَارَة الْقُلُوب فِي ذكر علام الغيوب كتاب حسن فِي التصوف وَكَانَ يعرف علم الْكَلَام على مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ
وَمن كَلَامه فِي طَهَارَة الْقُلُوب إلهي عرفتنا بربوبيتك وغرقتنا فِي بحار نِعْمَتك ودعوتنا إِلَى دَار قدسك ونعمتنا بذكرك وأنسك
إلهي إِن ظلمَة ظلمنَا لأنفسنا قد عَمت وبحار الْغَفْلَة على قُلُوبنَا قد طمت فالعجز شَامِل والحصر حَاصِل وَالتَّسْلِيم أسلم وَأَنت بِالْحَال أعلم
إلهي مَا عصيناك جهلا بعقابك وَلَا تعرضا لعذابك وَلَكِن سَوَّلت لنا نفوسنا وأعانتنا شِقْوَتنَا وغرنا سترك علينا وأطمعنا فِي عفوك برك بِنَا فَالْآن من عذابك من يستنقذنا وبحبل من نعتصم إِن قطعت حبلك عَنَّا واخجلتنا من الْوُقُوف غَدا بَين يَديك وَا فضيحتنا إِذا عرضت أَعمالنَا القبيحة عَلَيْك
اللَّهُمَّ اغْفِر مَا علمت وَلَا تهتك مَا سترت
إلهي إِن كُنَّا عصيناك بِجَهْل فقد دعوناك بعقل حَيْثُ علمنَا أَن لنا رَبًّا يغْفر الذُّنُوب وَلَا يُبَالِي
وَله مُنَاجَاة حَسَنَة(8/200)
وَمن شعره
(اقتصد فِي كل حَال ... واجتنب شحا وغرما)
(لَا تكن حلوا فتؤكل ... لَا وَلَا مرا فترمى)
وَمِنْه وَكنت أسمع الْحَافِظ تَقِيّ الدّين أَبَا الْفَتْح السُّبْكِيّ ابْن الْعم رَحمَه الله ينشده وَأَحْسبهُ روى لنا عَن جده عَم أبي الشَّيْخ صدر الدّين يحيى السُّبْكِيّ عَنهُ
(الله رَبِّي وحسبي ... الله أَرْجُو وَأحمد)
(وشافعي يَوْم حشري ... خير الْخَلَائق أَحْمد)
(صلى عَلَيْهِ إلهي ... أوفى صَلَاة وَأحمد)
(وَمَالك والحنيفي ... وَالشَّافِعِيّ وَأحمد)
(وسيدي ابْن الرِّفَاعِي ... قطب الْحَقِيقَة أَحْمد)
(هَذَا مقَال الدَّمِيرِيّ ... عبد الْعَزِيز بن أَحْمد)
وَمن شعره
(إِذا مَا مَاتَ ذُو علم وتقوى ... فقد ثلمت من الْإِسْلَام ثلمه)
(وَمَوْت الْعَادِل الْملك المرجى ... حَكِيم الْحق منقصة ووصمه)
(وَمَوْت الصَّالح المرضي نقص ... فَفِي مرآه لِلْإِسْلَامِ نسمه)
(وَمَوْت الْفَارِس الضرغام ضعف ... فكم شهِدت لَهُ فِي النَّصْر عزمه)
(وَمَوْت فَتى كثير الْجُود مَحل ... فَإِن بَقَاءَهُ خصب ونعمه)
(فحسبك خَمْسَة تبْكي عَلَيْهِم ... وَمَوْت الْغَيْر تَخْفيف ورحمه)(8/201)
وَمِنْه تخميس أَبْيَات التهامي
(سلم أمورك للحكيم الْبَارِي ... تسلم من الأوصاب والأوزار)
(وَانْظُر إِلَى الأخطار فِي الأقطار ... حكم الْمَشِيئَة فِي الْبَريَّة جَار)
(مَا هَذِه الدُّنْيَا بدار قَرَار ... )
(لذات دُنْيَانَا كأحلام الْكرَى ... وبلوغ غايتها حَدِيث مفترى)
(وسرورها بشرورها قد كدرا ... بَينا يرى الْإِنْسَان فِيهَا مخبرا)
(ألفيته خَبرا من الْأَخْبَار ... )
(ازهد فَكل الراغبين عبيدها ... والزاهد الحبر التقي سعيدها)
(وَلَقَد تشابه وعدها ووعيدها ... طبعت على كدر وَأَنت تريدها)
(صفوا من الأقذار والأكدار ... )
(لَا تغترر بوميضها وخداعها ... فوراء مبسمها نيوب سباعها)
(إِذْ لم تعرف فترها من بَاعهَا ... ومكلف الْأَيَّام ضد طباعها)
(متطلب فِي المَاء جذوة نَار ... )
(لَا ترج من حَرْب المطالب مغنما ... ولربما جر التخيل مغرما)
(وَإِذا رضيت الحكم عِشْت مكرما ... وَإِذا رَجَوْت المستحيل فَإِنَّمَا)
(تبني الرَّجَاء على شَفير هار ... )
(الدَّهْر يمْضِي والحوادث جمة ... والرفق هَين والتكالب لَحْظَة)
(وَالصَّبْر لين والتسخط غلظة ... والعيش نوم والمنية يقظة)
(والمرء بَينهمَا خيال سَار ... )(8/202)
(أعماركم تمْضِي بسوف وَرُبمَا ... لَا تغنمون سوى عَسى ولعلما)
(هم المسوف كالتعلق بالسما ... أيامكم تمْضِي عجالا إِنَّمَا)
(أعماركم سفر من الْأَسْفَار ... )
(وترقبوا قرب الرحيل وحاذروا ... فَوت المرام فللورود مصَادر)
(ودعوا التعلل والفتور وَصَابِرُوا ... وتراكضوا خيل الشَّبَاب وَبَادرُوا)
(أَن تسترد فَإِنَّهُنَّ عوار ... )
(طمس الزَّمَان معاهدا ومعالما ... ومحا بغيهبه البهيم مكارما)
(وأذال مَا بَين الْأَنَام مراحما ... لَيْسَ الزَّمَان وَإِن حرصت مسالما)
(خلق الزَّمَان عَدَاوَة الْأَحْرَار ... )
وَمن شعره فِي المثلث مربع
(أراعي النبت من أَب وَحب ... وَأشْهد فِي الْوُجُود جمال حب)
(وأذهل سكرة من فرط حب ... وَكم أهْدى النسيم إِلَيّ عطرا)
(بقاعهم سقيت غزير قطر ... وَلَا سقيت عداتك غير قطر)
(لقد أهْدى نسيمك كل قطر ... فَبَثَّ مَسَرَّة وأزال عذرا)
(تجافاني الْكرَى لما جفاني ... كَأَن بالكرا أحزان عانى)(8/203)
الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد عَنهُ قَالَ أَبُو الْحسن بن الجميزي ألبسني شَيْخي ابْن أبي عصرون الطيلسان وشرفني بِهِ على الأقران وَكتب لي لما ثَبت عِنْدِي علم الْوَلَد الْفَقِيه الإِمَام بهاء الدّين أبي الْحسن عَليّ بن أبي الْفَضَائِل وَفقه الله وَدينه وعدالته رَأَيْت تَمْيِيزه من بَين أَبنَاء جنسه وتشريفه بالطيلسان وَالله يرزقنا الْقيام بِحقِّهِ وَكتبه عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي عصرون
وَكَانَ قد قَرَأَ على ابْن أبي عصرون الْقرَاءَات الْعشْر بِمَا تضمنه كتاب الإيجاز لأبي يَاسر مُحَمَّد بن عَليّ الْمُقْرِئ الحمامي قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَهُوَ آخر تلامذة أبي سعد فِي الدُّنْيَا وَالْعجب من الْقُرَّاء كَيفَ لم يزدحموا عَلَيْهِ وَلَا تنافسوا فِي الْأَخْذ عَنهُ فَإِنَّهُ كَانَ أَعلَى إِسْنَادًا من كل أحد فِي زَمَانه
توفّي فِي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشري ذِي الْحجَّة سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة بِمصْر وَقد كمل التسعين
قَالَ ابْن القليوبي حضرت دَفنه وَكَانَ مشهدا عَظِيما قل أَن شهد مثله وَكَانَ هُنَاكَ قَارِئ يعرف بِابْن أبي البركات حسن الصَّوْت جيد الْقِرَاءَة فَقَرَأَ عِنْد قبر الْفَقِيه بهاء الدّين بعد تَسْوِيَة التُّرَاب عَلَيْهِ {إِن هُوَ إِلَّا عبد أنعمنا عَلَيْهِ} الْآيَات الَّتِي فِي سُورَة الزخرف وَقَرَأَ بالشاذ فِي قَوْله {وَإنَّهُ لعلم للساعة} بِفَتْح الْعين(8/203)
(أردد كالكرى بَين الْمعَانِي ... حَلِيف الشوق لَا يحتال فكرا)
(ثملت وَمَا مدامي غير ظلم ... وجوب البيد مختلطا بظُلْم)
(لَئِن حكمت عواذلنا بظُلْم ... لقد جَاءُوا بِمَا أبدوه نكرا)
(جراح فِي الْفُؤَاد كلذع مِنْهُ ... وأنفاس الرِّجَال أحل مِنْهُ)
(وَمَا أبقى الْهوى للصب مِنْهُ ... لقد تلفت بِهِ العشاق طرا)
(حَدِيثك فِي اللها والسمع أحلى ... فَخفف فِي اللهى مَا الهجر سهلا)
(فعادتك اللهى والجود هلا ... وعادتي الثَّنَاء عَلَيْك شكرا)
(خلوت مَعَ الرشا من بَين أَهلِي ... وَقد وصل الرشا مِنْهُ بحبلي)
(وَمَا قبل الرشا فِي ترك وَصلي ... وَلَقي من أَتَى باللوم هجرا)
(دَعونِي إِنَّنِي بِعْت العقارا ... وراقبت المحبين العقارا)
(وَبِي سكر وَلم أشْرب عقارا ... وعاينت الْهوى خَبرا وخبرا)
(ذَروا من شَأْنه نشر الزّجاج ... وجافى بالصوارم والزجاج)
(وَلم يحْتَج إِلَى بنت الزّجاج ... وَلم يبعد عَن العزمات حذرا)(8/204)
وَاللَّام فوَاللَّه لكأن الْآيَات نزلت فِيهِ لما مثله النَّاس من أَن موت الْعلمَاء من أَعْلَام السَّاعَة وأشراطها ثمَّ قَالَ عقب ذَلِك أَخْبرنِي شَيْخي وسيدي سَاكن هَذَا الضريح إِلَى آخر مَا ذكره من نعوته وَسَنَده الْمُتَّصِل برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله لَا ينْزع الْعلم انتزاعا وَإِنَّمَا يَنْزعهُ بِقَبض الْعلمَاء الحَدِيث بِطُولِهِ فَكَانَ من الْبكاء والنحيب الْكثير أَمر غَرِيب انْتهى
1205 - عَليّ بن يُوسُف بن عبد الله بن بنْدَار(8/204)
(رضاكم جنتي يَا أهل ودي ... فداووا جنتي بِصَحِيح وعد)
(فَأنْتم جنتي من كل بعد ... ومنكم أرتجي رفقا وجبرا)
(زماني للقرا قد ضرّ وَهنا ... وَقد منع الْقرى فَبَقيت مضنى)
(وَمَالِي فِي الْقرى يَا صَاح سُكْنى ... وَفِي ليلِي أراعي النَّجْم فكرا)
(سلكت من التغرب كل عرس ... وَلم أسكن إِلَى إنس بعرسي)
(وَلَيْسَ مسرتي بِحُضُور عرس ... وَهل يدعى الْغَرِيب سوى ابْن بجرا)
(شغفت بِمَجْلِس مَا فِيهِ لجة ... وخل مسعف مَا فِيهِ لجه)
(يَخُوض من المكارم كل لجه ... ويسلك فِي الوفا برا وبحرا)
(صَحَابِيّ أدلجوا حبا وحبوه ... وَلم يُعْطوا الْجَوَارِح غير حبوه)
(وَمن زفت رليه الْبكر حبوه ... فَلَا يرضى بِغَيْر الرّوح مهْرا)
(ضلال الْحبّ إرشاد ورمه ... وَلَو عَادَتْ بِهِ الأوصال رمه)
(فَإِن سمح الحبيب بوصل رمه ... فَلَا أَشْكُو من الْأَيَّام فقرا)(8/205)
(طلول الْحبّ إِن عمرت فعندي ... عهود صبَابَة عمرت بوجدي)
(وَإِن عمرت مَنَازلنَا بهند ... لقد شرحت من الصدرين صَدرا)
(ظمئت إِلَى وَفِي الْعَهْد بر ... يعاملني بِمَعْرُوف وبر)
(وَمن يطْمع من الصما ببر ... يجد فِي الكد حُلْو الْعَيْش مرا)
(عهِدت ببانة الجرعاء ثله ... وَلم أَعهد بِذَاكَ الْحَيّ ثله)
(وَكم سكنت بوادي الشيح ثله ... وَقد عَايَنت ذَاك الْحَيّ قفرا)
(غَدَوْت وَقد أصَاب الرَّسْم وقر ... وأثقلني من الأشواق وقر)
(وَقوم لم يَذُوقُوا الْحبّ وقر ... يضيق بهم فؤاد الصب حرا)(8/206)
(جنى وجد بِهِ قد هام قلبِي ... وصيرني الغرام كَمثل قلب)
(فيا شغف الْفُؤَاد بِذَات قلب ... وَلَا فِي الشَّيْخ للأشواق مسرى)
(قنعت من الزَّمَان بسد خله ... ووكز فِي الفلاة بِغَيْر خله)
(وَإِن ألفيت ذَا ود وخله ... بذلت لَهُ الوفا علنا وسرا)
(كتبت بأدمعي فِي الخد خطه ... وَلم أسلك إِلَى السلوان خطه)
(ولي فِي مَذْهَب العشاق خطه ... حلت لَهما سويدا الْقلب خدرا)
(لمحبوبي عَليّ الدَّهْر حق ... رضَا إِذْ سَار فِي الْبَيْدَاء حق)
(إِذا مَا غَابَ فالأوطان حق ... وَلَو أَنِّي ملكت بِلَاد بصرى)
(مضى زمني وَقد عَايَنت خلفا ... ترى ضرعى وَلم تحْتَاج خلفا)
(وَإِن وعدوا ترى مينا وخلفا ... وَإِن حكمُوا ترى فِي الحكم أمرا)
(نَصِيبي من وفا الإخوان خرص ... كَلَام طيب والسر خرص)(8/207)
(كَأَن الْعذر فِي الآذان خرص ... معَاذ الله لَا أخْتَار عذرا)
(هِيَ الدُّنْيَا أشبههَا بِخَبَر ... وَأَرْض ذَات أَشجَار وَخبر)
(وَإِن عاينتها بِصَحِيح خبر ... تَجِد شاماتها يَا صَاح حمرا)
(وَهل يرضى الْفَتى سمنا بِذبح ... وَلم ير فِي حماها غير ذبح)
(وَمن يقنع كفيت برعي ذبح ... يجد عقباه تعنيفا وزجرا)
(لأحبابي بوادي الأثل ربع ... ووردي مَاء ذَاك الْحَيّ ربع)
(فحظي كل يَوْم مِنْهُ ربع ... ظمئت فليته لَو كَانَ شطرا)
(يساعدني على العزمات رسل ... ويكفيني من الأقوات رسل)
(وَمَالِي نَحْو أهل الْحَيّ رسل ... فيا مولَايَ هَب عفوا ونصرا)
(وجد وَارْحَمْ وصل على الرَّسُول ... مُحَمَّد الْمُؤَيد بِالدَّلِيلِ)
(وعترته أولي الْقدر الْجَلِيل ... وَسَائِر صَحبه السامين قدرا)
(وجد بِالْعَفو يَا مولى الموَالِي ... على عبد الْعَزِيز فَلَا يُبَالِي)
(إِذا أَنْعَمت يَوْمًا بالنوال ... تبدل كل هَذَا الْعسر يسرا)(8/208)
1183 - عبد الْعَزِيز بن عبد السَّلَام بن أبي الْقَاسِم بن حسن بن مُحَمَّد ابْن مهذب السّلمِيّ
شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وَأحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام سُلْطَان الْعلمَاء إِمَام عصره بِلَا مدافعة الْقَائِم بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر فِي زَمَانه المطلع على حقائق الشَّرِيعَة وغوامضها الْعَارِف بمقاصدها لم ير مثل نَفسه وَلَا رأى من رَآهُ مثله علما وورعا وقياما فِي الْحق وشجاعة وَقُوَّة جنان وسلاطة لِسَان
ولد سنة سبع أَو سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة
تفقه على الشَّيْخ فَخر الدّين ابْن عَسَاكِر وَقَرَأَ الْأُصُول على الشَّيْخ سيف الدّين الْآمِدِيّ وَغَيره وَسمع الحَدِيث من الْحَافِظ أبي مُحَمَّد الْقَاسِم بن الْحَافِظ الْكَبِير أبي الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر وَشَيخ الشُّيُوخ عبد اللَّطِيف بن إِسْمَاعِيل بن أبي سعد الْبَغْدَادِيّ وَعمر بن مُحَمَّد بن طبرزد وحنبل بن عبد الله الرصافي وَالْقَاضِي عبد الصَّمد بن مُحَمَّد الحرستاني وَغَيرهم وَحضر على بَرَكَات بن إِبْرَاهِيم الخشوعي
روى عَنهُ تلامذته شيخ الْإِسْلَام ابْن دَقِيق الْعِيد وَهُوَ الَّذِي لقب الشَّيْخ عز الدّين سُلْطَان الْعلمَاء وَالْإِمَام عَلَاء الدّين أَبُو الْحسن الْبَاجِيّ وَالشَّيْخ تَاج الدّين ابْن الفركاح والحافظ أَبُو مُحَمَّد الدمياطي والحافظ أَبُو بكر مُحَمَّد بن يُوسُف بن مسدي(8/209)
والعلامة أَحْمد أَبُو الْعَبَّاس الدشناوي والعلامة أَبُو مُحَمَّد هبة الله القفطي وَغَيرهم
روى لنا عَنهُ الختني
درس بِدِمَشْق أَيَّام مقَامه بهَا بالزاوية الغزالية وَغَيرهَا وَولي الخطابة والإمامة بالجامع الْأمَوِي
قَالَ الشَّيْخ شهَاب الدّين أَبُو شامة أحد تلامذة الشَّيْخ وَكَانَ أَحَق النَّاس بالخطابة والإمامة وأزال كثيرا من الْبدع الَّتِي كَانَ الخطباء يفعلونها من دق السَّيْف على لمنبر وَغير ذَلِك وأبطل صَلَاتي الرغائب وَنصف شعْبَان وَمنع مِنْهُمَا
قلت وَاسْتمرّ الشَّيْخ عز الدّين بِدِمَشْق إِلَى أثْنَاء أَيَّام الصَّالح إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بِأبي الخيش فاستعان أَبُو الخيش بالفرنج وَأَعْطَاهُمْ مَدِينَة صيدا وقلعة الشقيف فَأنْكر عَلَيْهِ الشخ عز الدّين وَترك الدُّعَاء لَهُ فِي الْخطْبَة وساعده فِي ذَلِك الشَّيْخ أَبُو عَمْرو ابْن الْحَاجِب الْمَالِكِي فَغَضب السُّلْطَان مِنْهُمَا فَخَرَجَا إِلَى الديار المصرية فِي حُدُود سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة فَلَمَّا مر الشَّيْخ عز الدّين بالكرك تَلقاهُ صَاحبهَا وَسَأَلَهُ الْإِقَامَة عِنْده فَقَالَ لَهُ بلدك صَغِير على علمي ثمَّ توجه إِلَى الْقَاهِرَة فَتَلقاهُ سلطانها الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب بن الْكَامِل وأكرمه وولاه خطابة جَامع عَمْرو ابْن الْعَاصِ بِمصْر وَالْقَضَاء بهَا وبالوجه القبلي مُدَّة فاتفق أَن أستاذ دَاره فَخر الدّين عُثْمَان بن شيخ الشُّيُوخ وَهُوَ الَّذِي كَانَ إِلَيْهِ أَمر المملكة عمد إِلَى مَسْجِد بِمصْر فَعمل على ظَهره بِنَاء لطبل خانات وَبقيت تضرب هُنَالك فَلَمَّا ثَبت هَذَا عِنْد الشَّيْخ عز الدّين حكم بهدم ذَلِك الْبناء وَأسْقط فَخر الدّين ابْن الشَّيْخ وعزل نَفسه من الْقَضَاء وَلم تسْقط بذلك منزلَة الشَّيْخ(8/210)
عِنْد السُّلْطَان وَلكنه لم يعده إِلَى الْولَايَة وَظن فَخر الدّين وَغَيره أَن هَذَا الحكم لَا يتأثر بِهِ فَخر الدّين فِي الْخَارِج فاتفق أَن جهز السُّلْطَان الْملك الصَّالح رَسُولا من عِنْده إِلَى الْخَلِيفَة المستعصم بِبَغْدَاد فَلَمَّا وصل الرَّسُول إِلَى الدِّيوَان ووقف بَين يَدي الْخَلِيفَة وَأدّى الرسَالَة خرج إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ هَل سَمِعت هَذِه الرسَالَة من السُّلْطَان فَقَالَ لَا وَلَكِن حملنيها عَن السُّلْطَان فَخر الدّين ابْن شيخ الشُّيُوخ أستاذ دَاره فَقَالَ الْخَلِيفَة إِن الْمَذْكُور أسْقطه ابْن عبد السَّلَام فَنحْن لَا نقبل رِوَايَته فَرجع الرَّسُول إِلَى السُّلْطَان حَتَّى شافهه بالرسالة ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد وأداها
ثمَّ بنى السُّلْطَان مدرسة الصالحية الْمَعْرُوفَة بَين القصرين بِالْقَاهِرَةِ وفوض تدريس الشَّافِعِيَّة بهَا إِلَى الشَّيْخ عز الدّين فباشره وتصدى لنفع النَّاس بِعُلُومِهِ وَلما اسْتَقر مقَامه بِمصْر أكْرمه حَافظ الديار المصرية وزاهدها عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ وَامْتنع من الْفتيا وَقَالَ كُنَّا نفتي قبل حُضُور الشَّيْخ عز الدّين وَأما بعد حُضُوره فمنصب الْفتيا مُتَعَيّن فِيهِ
سَمِعت الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله يَقُول سَمِعت شَيخنَا الْبَاجِيّ يَقُول طلع شَيخنَا عز الدّين مرّة إِلَى السُّلْطَان فِي يَوْم عيد إِلَى القلعة فشاهد العساكر مصطفين بَين يَدَيْهِ ومجلس المملكة وَمَا السُّلْطَان فِيهِ يَوْم الْعِيد من الأبهة وَقد خرج على قومه فِي زينته على عَادَة سلاطين الديار المصرية وَأخذت الْأُمَرَاء تقبل الأَرْض بَين يَدي السُّلْطَان فَالْتَفت الشَّيْخ إِلَى السُّلْطَان وناداه يَا أَيُّوب مَا حجتك عِنْد الله إِذا قَالَ لَك ألم أبوئ لَك ملك مصر ثمَّ تبيح الْخُمُور فَقَالَ هَل جرى هَذَا فَقَالَ نعم الحانة الْفُلَانِيَّة يُبَاع فِيهَا الْخُمُور(8/211)
وَغَيرهَا من الْمُنْكَرَات وَأَنت تتقلب فِي نعْمَة هَذِه المملكة يُنَادِيه كَذَلِك بِأَعْلَى صَوته والعساكر واقفون فَقَالَ يَا سَيِّدي هَذَا أَنا مَا عملته هَذَا من زمَان أبي فَقَالَ أَنْت من الَّذين يَقُولُونَ {إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة} فرسم السُّلْطَان بِإِبْطَال تِلْكَ الحانة
سَمِعت الشَّيْخ الإِمَام يَقُول سَمِعت الْبَاجِيّ يَقُول سَأَلت الشَّيْخ لما جَاءَ من عِنْد السُّلْطَان وَقد شاع هَذَا الْخَبَر يَا سَيِّدي كَيفَ الْحَال فَقَالَ يَا بني رَأَيْته فِي تِلْكَ العظمة فَأَرَدْت أَن أهينه لِئَلَّا تكبر نَفسه فتؤذيه فَقلت يَا سَيِّدي أما خفته فَقَالَ وَالله يَا بني استحضرت هَيْبَة الله تَعَالَى فَصَارَ السُّلْطَان قدامي كالقط
وَرَأَيْت فِي بعض المجاميع أَن الَّذِي سَأَلَهُ هَذَا السُّؤَال تِلْمِيذه الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن النُّعْمَان فَلَعَلَّ الْبَاجِيّ وَابْن النُّعْمَان سألاه
سَمِعت الشَّيْخ الإِمَام يَقُول كَانَ الشَّيْخ عز الدّين فِي أول أمره فَقِيرا جدا وَلم يشْتَغل إِلَّا على كبر وَسبب ذَلِك أَنه كَانَ يبيت فِي الكلاسة من جَامع دمشق فَبَاتَ بهَا لَيْلَة ذَات برد شَدِيد فَاحْتَلَمَ فَقَامَ مسرعا وَنزل فِي بركَة الكلاسة فَحصل لَهُ ألم شَدِيد من الْبرد وَعَاد فَنَامَ فَاحْتَلَمَ ثَانِيًا فَعَاد إِلَى الْبركَة لِأَن أَبْوَاب الْجَامِع مغلقة وَهُوَ(8/212)
لَا يُمكنهُ الْخُرُوج فطلع فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ من شدَّة الْبرد أَنا أَشك هَل كَانَ الشَّيْخ الإِمَام يَحْكِي أَن هَذَا اتّفق لَهُ ثَلَاث مَرَّات تِلْكَ اللَّيْلَة أَو مرَّتَيْنِ فَقَط ثمَّ سمع النداء فِي الْمرة الْأَخِيرَة يَا ابْن عبد السَّلَام أَتُرِيدُ الْعلم أم الْعَمَل فَقَالَ الشَّيْخ عز الدّين الْعلم لِأَنَّهُ يهدي إِلَى الْعَمَل فَأصْبح وَأخذ التَّنْبِيه فحفظه فِي مُدَّة يسيرَة وَأَقْبل على الْعلم فَكَانَ أعلم أهل زَمَانه وَمن أعبد خلق الله تَعَالَى
سَمِعت الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول سَمِعت الشَّيْخ صدر الدّين أَبَا زَكَرِيَّا يحيى ابْن عَليّ السُّبْكِيّ يَقُول كَانَ فِي الرِّيف شخص يُقَال لَهُ عبد الله البلتاجي من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وَكَانَت بَينه وَبَين الشَّيْخ عز الدّين صداقة وَكَانَ يهدي لَهُ فِي كل عَام فَأرْسل إِلَيْهِ مرّة حمل جمل هَدِيَّة وَمن جملَته وعَاء فِيهِ جبن فَلَمَّا وصل الرَّسُول إِلَى بَاب الْقَاهِرَة انْكَسَرَ ذَلِك الْوِعَاء وتبدد مَا فِيهِ فتألم الرَّسُول لذَلِك فَرَآهُ شخص ذمِّي فَقَالَ لَهُ لم تتألم عِنْدِي مَا هُوَ خير مِنْهُ قَالَ الرَّسُول فاشتريت مِنْهُ بدله وَجئْت فَمَا كَانَ إِلَّا بِقدر أَن وصلت إِلَى بَاب الشَّيْخ وَلم يعلم بِي وَلَا بِمَا جرى لي غير الله تَعَالَى وَإِذا بشخص نزل من عِنْد الشَّيْخ وَقَالَ اصْعَدْ بِمَا جِئْت فناولته شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن سلمته ذَلِك الْجُبْن فطلع ثمَّ نزل فَقلت أَعْطيته للشَّيْخ فَقَالَ أَخذ الْجَمِيع إِلَّا الْجُبْن ووعاءه فَإِنَّهُ قَالَ لي ضَعْهُ على الْبَاب فَلَمَّا طلعت أَنا قَالَ لي يَا وَلَدي ليش تفعل هَذَا إِن الْمَرْأَة الَّتِي حلبت لبن هَذَا الْجُبْن كَانَت يَدهَا متنجسة بالخنزير ورده وَقَالَ سلم على أخي(8/213)
وَحكى قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين بن جمَاعَة رَحمَه الله أَن الشَّيْخ لما كَانَ بِدِمَشْق وَقع مرّة غلاء كَبِير حَتَّى صَارَت الْبَسَاتِين تبَاع بِالثّمن الْقَلِيل فَأَعْطَتْهُ زَوجته مصاغا لَهَا وَقَالَت اشْتَرِ لنا بِهِ بستانا نصيف بِهِ فَأخذ ذَلِك المصاغ وَبَاعه وَتصدق بِثمنِهِ فَقَالَت يَا سَيِّدي اشْتريت لنا قَالَ نعم بستانا فِي الْجنَّة إِنِّي وجدت النَّاس فِي شدَّة فتصدقت بِثمنِهِ فَقَالَت لَهُ جَزَاك الله خيرا
وَحكى أَنه كَانَ مَعَ فقره كثير الصَّدقَات وَأَنه رُبمَا قطع من عمَامَته وَأعْطى فَقِيرا يسْأَله إِذا لم يجد مَعَه غير عمَامَته وَفِي هَذِه الْحِكَايَة مَا يدل على أَنه كَانَ يلبس الْعِمَامَة وَبَلغنِي أَنه كَانَ يلبس قبع لباد وَأَنه كَانَ يحضر المواكب السُّلْطَانِيَّة بِهِ فَكَأَنَّهُ كَانَ يلبس تَارَة هَذَا وَتارَة هَذَا على حسب مَا يتَّفق من غير تكلّف
قَالَ شيخ الْإِسْلَام ابْن دَقِيق الْعِيد كَانَ ابْن عبد السَّلَام أحد سلاطين الْعلمَاء
وَعَن الشَّيْخ جمال الدّين ابْن الْحَاجِب أَنه قَالَ ابْن عبد السَّلَام أفقه من الْغَزالِيّ
وَحكى القَاضِي عز الدّين الهكاري ابْن خطيب الأشمونين فِي مُصَنف لَهُ ذكر فِيهِ سيرة الشَّيْخ عز الدّين أَن الشَّيْخ عز الدّين أفتى مرّة بِشَيْء ثمَّ ظهر لَهُ أَنه خطأ فَنَادَى فِي مصر والقاهرة على نَفسه من أفتى لَهُ فلَان بِكَذَا فَلَا يعْمل بِهِ فَإِنَّهُ خطأ
وَذكر أَن الشَّيْخ عز الدّين لبس خرقَة التصوف من الشَّيْخ شهَاب الدّين السهروردي وَأخذ عَنهُ وَذكر أَنه كَانَ يقْرَأ بَين يَدَيْهِ رِسَالَة الْقشيرِي فحضره مرّة الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس المرسي لما قدم من الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى الْقَاهِرَة فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ(8/214)
عز الدّين تكلم على هَذَا الْفَصْل فَأخذ المرسي يتَكَلَّم وَالشَّيْخ عز الدّين يزحف فِي الْحلقَة وَيَقُول اسمعوا هَذَا الْكَلَام الَّذِي هُوَ حَدِيث عهد بربه
وَقد كَانَت للشَّيْخ عز الدّين الْيَد الطُّولى فِي التصوف وتصانيفه قاضية بذلك
ذكر وَاقعَة التتار وَمَا كَانَ من سُلْطَان الْعلمَاء فِيهَا
وحاصلها أَن التتار لما دهمت الْبِلَاد عقيب وَاقعَة بَغْدَاد الَّتِي سنشرحها إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي تَرْجَمَة الْحَافِظ زكي الدّين وَجبن أهل مصر عَنْهُم وَضَاقَتْ بالسلطان وعساكره الأَرْض استشاروا الشَّيْخ عز الدّين رَحمَه الله فَقَالَ اخْرُجُوا وَأَنا أضمن لكم على الله النَّصْر فَقَالَ السُّلْطَان لَهُ إِن المَال فِي خزانتي قَلِيل وَأَنا أُرِيد أَن أقترض من أَمْوَال التُّجَّار فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ عز الدّين إِذا أحضرت مَا عنْدك وَعند حريمك وأحضر الْأُمَرَاء مَا عِنْدهم من الْحلِيّ الْحَرَام وضربته سكَّة ونقدا وفرقته فِي الْجَيْش وَلم يقم بكفايتهم ذَلِك الْوَقْت اطلب الْقَرْض وَأما قبل ذَلِك فَلَا فأحضر السُّلْطَان والعسكر كلهم مَا عِنْدهم من ذَلِك بَين يَدي الشَّيْخ وَكَانَ الشَّيْخ لَهُ عَظمَة عِنْدهم وهيبة بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُونَ مُخَالفَته فامتثلوا أمره فانتصروا
وَمِمَّا يدل على مَنْزِلَته الرفيعة عِنْدهم أَن الْملك الظَّاهِر بيبرس لم يُبَايع وَاحِدًا من الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر والخليفة الْحَاكِم إِلَّا بعد أَن تقدمه الشَّيْخ عز الدّين للمبايعة ثمَّ بعده السُّلْطَان ثمَّ الْقُضَاة وَلما مرت جَنَازَة الشَّيْخ عز الدّين تَحت القلعة وَشَاهد الْملك الظَّاهِر كَثْرَة الْخلق الَّذين مَعهَا قَالَ لبَعض خواصه الْيَوْم اسْتَقر أَمْرِي فِي الْملك لِأَن هَذَا الشَّيْخ لَو كَانَ يَقُول للنَّاس اخْرُجُوا عَلَيْهِ لانتزع الْملك مني(8/215)
ذكر وَاقعَة الفرنج على دمياط
وَكَانَت قبل ذَلِك وصلوا إِلَى المنصورة فِي المراكب واستظهروا على الْمُسلمين وَكَانَ الشَّيْخ مَعَ الْعَسْكَر وقويت الرّيح فَلَمَّا رأى الشَّيْخ حَال الْمُسلمين نَادَى بِأَعْلَى صَوته مُشِيرا بِيَدِهِ إِلَى الرّيح يَا ريح خُذِيهِمْ عدَّة مرار فَعَادَت الرّيح على مراكب الفرنج فكسرتها وَكَانَ الْفَتْح وغرق أَكثر الفرنج وصرخ من بَين يَدي الْمُسلمين صارخ الْحَمد لله الَّذِي أرانا فِي أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا سخر لَهُ الرّيح
(ذكر كائنة الشَّيْخ مَعَ أُمَرَاء الدولة من الأتراك)
وهم جمَاعَة ذكر أَن الشَّيْخ لم يثبت عِنْده أَنهم أَحْرَار وَأَن حكم الرّقّ مستصحب عَلَيْهِم لبيت مَال الْمُسلمين فَبَلغهُمْ ذَلِك فَعظم الْخطب عِنْدهم فِيهِ وأضرم الْأَمر وَالشَّيْخ مصمم لَا يصحح لَهُم بيعا وَلَا شِرَاء وَلَا نِكَاحا وتعطلت مصالحهم بذلك وَكَانَ من جُمْلَتهمْ نَائِب السلطنة فاستشاط غَضبا فَاجْتمعُوا وَأَرْسلُوا إِلَيْهِ فَقَالَ نعقد لكم مَجْلِسا وينادى عَلَيْكُم لبيت مَال الْمُسلمين وَيحصل عتقكم بطرِيق شَرْعِي فَرفعُوا الْأَمر إِلَى السُّلْطَان فَبعث إِلَيْهِ فَلم يرجع فجرت من السُّلْطَان كلمة فِيهَا غلظة حاصلها الْإِنْكَار على الشَّيْخ فِي دُخُوله فِي هَذَا الْأَمر وَأَنه لَا يتَعَلَّق بِهِ فَغَضب الشَّيْخ وَحمل حَوَائِجه على حمَار وأركب عائلته على حمَار آخر وَمَشى خَلفهم خَارِجا من الْقَاهِرَة قَاصِدا نَحْو الشَّام فَلم يصل إِلَى نَحْو نصف بريد إِلَّا وَقد لحقه غَالب الْمُسلمين لم تكد امْرَأَة وَلَا صبي(8/216)
وَلَا رجل لَا يؤبه إِلَيْهِ يتَخَلَّف لَا سِيمَا الْعلمَاء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم فَبلغ السُّلْطَان الْخَبَر وَقيل لَهُ مَتى رَاح ذهب ملكك فَركب السُّلْطَان بِنَفسِهِ ولحقه واسترضاه وَطيب قلبه فَرجع وَاتَّفَقُوا مَعَهم على أَنه يُنَادى على الْأُمَرَاء فَأرْسل إِلَيْهِ نَائِب السلطنة بالملاطفة فَلم يفد فِيهِ فانزعج النَّائِب وَقَالَ كَيفَ يُنَادي علينا هَذَا الشَّيْخ ويبيعنا وَنحن مُلُوك الأَرْض وَالله لأضربنه بسيفي هَذَا فَركب بِنَفسِهِ فِي جماعته وَجَاء إِلَى بَيت الشَّيْخ وَالسيف مسلول فِي يَده فطرق الْبَاب فَخرج ولد الشَّيْخ أَظُنهُ عبد اللَّطِيف فَرَأى من نَائِب السلطنة مَا رأى فَعَاد إِلَى أَبِيه وَشرح لَهُ الْحَال فَمَا اكترث لذَلِك وَلَا تغير وَقَالَ يَا وَلَدي أَبوك أقل من أَن يقتل فِي سَبِيل الله ثمَّ خرج كَأَنَّهُ قَضَاء الله قد نزل على نَائِب السلطنة فحين وَقع بَصَره على النَّائِب يَبِسَتْ يَد النَّائِب وَسقط السَّيْف مِنْهَا وأرعدت مفاصله فَبكى وَسَأَلَ الشَّيْخ أَن يَدْعُو لَهُ وَقَالَ يَا سَيِّدي خبر أيش تعْمل قَالَ أنادي عَلَيْكُم وأبيعكم قَالَ فَفِيمَ تصرف ثمننا قَالَ فِي مصَالح الْمُسلمين قَالَ من يقبضهُ قَالَ أَنا فتم لَهُ مَا أَرَادَ ونادى على الْأُمَرَاء وَاحِدًا وَاحِدًا وغالى فِي ثمنهم وَقَبضه وَصَرفه فِي وُجُوه الْخَيْر وَهَذَا مَا لم يسمع بِمثلِهِ عَن أحد رَحمَه الله تَعَالَى ورضى عَنهُ(8/217)
ذكر الْبَحْث عَمَّا كَانَ بَين سُلْطَان الْعلمَاء وَالْملك الْأَشْرَف مُوسَى بن الْملك الْعَادِل بن أَيُّوب
وَذَلِكَ بِدِمَشْق قبل خُرُوجه إِلَى الديار المصرية ولنشرحه مُخْتَصرا
ذكر الشَّيْخ الإِمَام شرف الدّين عبد اللَّطِيف ولد الشَّيْخ فِيمَا صنفه من أَخْبَار وَالِده فِي هَذِه الْوَاقِعَة أَن الْملك الْأَشْرَف لما اتَّصل بِهِ مَا عَلَيْهِ الشَّيْخ عز الدّين من الْقيام لله وَالْعلم وَالدّين وَأَنه سيد أهل عصره وَحجَّة الله على خلقه أحبه وَصَارَ يلهج بِذكرِهِ ويؤثر الِاجْتِمَاع بِهِ وَالشَّيْخ لَا يُجيب إِلَى الِاجْتِمَاع وَكَانَت طَائِفَة من مبتدعة الْحَنَابِلَة الْقَائِلين بالحرف وَالصَّوْت مِمَّن صحبهم السُّلْطَان فِي صغره يكْرهُونَ الشَّيْخ عز الدّين ويطعنون فِيهِ وقرروا فِي ذهن السُّلْطَان الْأَشْرَف أَن الَّذِي هم عَلَيْهِ اعْتِقَاد السّلف وَأَنه اعْتِقَاد أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ وفضلاء أَصْحَابه وَاخْتَلَطَ هَذَا بِلَحْم السُّلْطَان وَدَمه وَصَارَ يعْتَقد أَن مُخَالف ذَلِك كَافِر حَلَال الدَّم فَلَمَّا أَخذ السُّلْطَان فِي الْميل إِلَى الشَّيْخ عز الدّين دست هَذِه الطَّائِفَة إِلَيْهِ وَقَالُوا إِنَّه أشعري العقيدة يخطىء من يعْتَقد الْحَرْف وَالصَّوْت ويبدعه وَمن جملَة اعْتِقَاده أَنه يَقُول بقول الْأَشْعَرِيّ أَن الْخبز لَا يشْبع وَالْمَاء لَا يروي وَالنَّار لَا تحرق فاستهال ذَلِك السُّلْطَان واستعظمه ونسبهم إِلَى التعصب عَلَيْهِ فَكَتَبُوا فتيا فِي مَسْأَلَة الْكَلَام وأوصلوها إِلَيْهِ مريدين أَن يكْتب عَلَيْهَا بذلك فَيسْقط مَوْضِعه عِنْد السُّلْطَان وَكَانَ الشَّيْخ قد اتَّصل بِهِ ذَلِك كُله فَلَمَّا جَاءَتْهُ الْفتيا قَالَ هَذِه الْفتيا كتبت امتحانا لي وَالله لَا كتبت فِيهَا إِلَّا مَا هُوَ الْحق(8/218)
فَكتب العقيدة الْمَشْهُورَة وَقد ذكر وَلَده بَعْضهَا فِي تصنيفه وَأَنا أرى أَن أذكرها كلهَا لتستفاد وَتحفظ
قَالَ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وعنا بِهِ الْحَمد لله ذِي الْعِزَّة والجلال وَالْقُدْرَة والكمال والإنعام والإفضال الْوَاحِد الْأَحَد الْفَرد الصَّمد الَّذِي لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد لَيْسَ بجسم مُصَور وَلَا جَوْهَر مَحْدُود مُقَدّر وَلَا يشبه شَيْئا وَلَا يُشبههُ شَيْء وَلَا تحيط بِهِ الْجِهَات وَلَا تكتنفه الأرضون وَلَا السَّمَوَات كَانَ قبل أَن كَون الْمَكَان ودبر الزَّمَان وَهُوَ الْآن على مَا عَلَيْهِ كَانَ خلق الْخلق وأعمالهم وَقدر أَرْزَاقهم وآجالهم فَكل نعْمَة مِنْهُ فَهِيَ فضل وكل نقمة مِنْهُ فَهِيَ عدل {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} اسْتَوَى على الْعَرْش الْمجِيد على الْوَجْه الَّذِي قَالَه وبالمعنى الَّذِي أَرَادَهُ اسْتِوَاء منزها عَن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال فتعالى الله الْكَبِير المتعال عَمَّا يَقُوله أهل الغي والضلال بل لَا يحملهُ الْعَرْش بل الْعَرْش وَحَمَلته محمولون بلطف قدرته مقهورون فِي قَبضته أحَاط بِكُل شَيْء علما وأحصى كل شَيْء عددا مطلع على هواجس الضمائر وحركات الخواطر حَيّ مُرِيد سميع بَصِير عليم قدير مُتَكَلم بِكَلَام قديم أزلي لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت وَلَا يتَصَوَّر فِي كَلَامه أَن يَنْقَلِب مدادا فِي الألواح والأوراق شكلا ترمقه الْعُيُون والأحداق كَمَا زعم أهل الحشو والنفاق بل الْكِتَابَة من أَفعَال الْعباد وَلَا يتَصَوَّر فِي أفعالهم أَن تكون قديمَة وَيجب احترامها لدلالتها على كَلَامه كَمَا يجب احترام أَسْمَائِهِ لدلالتها على ذَاته وَحقّ لما دلّ عَلَيْهِ وانتسب إِلَيْهِ أَن يعْتَقد عَظمته وترعى حرمته وَلذَلِك يجب احترام الْكَعْبَة والأنبياء والعباد والصلحاء
(أَمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذَا الْجِدَار وَذَا الجدارا)
(وَمَا حب الديار شغفن قلبِي ... وَلَكِن حب من سكن الديارا)(8/219)
ولمثل ذَلِك يقبل الْحجر الْأسود وَيحرم على الْمُحدث أَن يمس الْمُصحف أسطره وحواشيه الَّتِي لَا كِتَابَة فِيهَا وَجلده وخريطته الَّتِي هُوَ فِيهَا فويل لمن زعم أَن كَلَام الله الْقَدِيم شَيْء من أَلْفَاظ الْعباد أَو رسم من أشكال المداد
واعتقاد الْأَشْعَرِيّ رَحمَه الله مُشْتَمل على مَا دلّت عَلَيْهِ أَسمَاء الله التِّسْعَة وَالتِّسْعُونَ الَّتِي سمى بهَا نَفسه فِي كِتَابه وسنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأسماؤه مندرجة فِي أَربع كَلِمَات هن الْبَاقِيَات الصَّالِحَات
الْكَلِمَة الأولى قَول سُبْحَانَ الله وَمَعْنَاهَا فِي كَلَام الْعَرَب التَّنْزِيه وَالسَّلب فَهِيَ مُشْتَمِلَة على سلب النَّقْص وَالْعَيْب عَن ذَات الله وَصِفَاته فَمَا كَانَ من أَسْمَائِهِ سلبا فَهُوَ مندرج تَحت هَذِه الْكَلِمَة كالقدوس وَهُوَ الطَّاهِر من كل عيب وَالسَّلَام وَهُوَ الَّذِي سلم من كل آفَة
الْكَلِمَة الثَّانِيَة قَول الْحَمد لله وَهِي مُشْتَمِلَة على إِثْبَات ضروب الْكَمَال لذاته وَصِفَاته فَمَا كَانَ من أَسْمَائِهِ متضمنا للإثبات كالعليم والقدير والسميع والبصير فَهُوَ مندرج تَحت الْكَلِمَة الثَّانِيَة فقد نَفينَا بقولنَا سُبْحَانَ الله كل عيب عَقَلْنَاهُ وكل نقص فهمناه وأثبتنا بِالْحَمْد لله كل كَمَال عَرفْنَاهُ وكل جلال أدركناه ووراء مَا نفيناه وَأَثْبَتْنَاهُ شَأْن عَظِيم قد غَابَ عَنَّا وجهلناه فنحققه من جِهَة الْإِجْمَال بقولنَا الله أكبر وَهِي الْكَلِمَة الثَّالِثَة بِمَعْنى أَن أجل مِمَّا نفيناه وَأَثْبَتْنَاهُ وَذَلِكَ معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك فَمَا كَانَ من أَسْمَائِهِ متضمنا لمدح فَوق مَا عَرفْنَاهُ وأدركناه كالأعلى والمتعالى فَهُوَ مندرج تَحت قَوْلنَا الله أكبر فَإِذا كَانَ فِي الْوُجُود من هَذَا شَأْنه نَفينَا أَن يكون فِي الْوُجُود من يشاكله أَو يناظره فحققنا ذَلِك بقولنَا لَا إِلَه إِلَّا الله وَهِي الْكَلِمَة الرَّابِعَة(8/220)
فَإِن الألوهية ترجع إِلَى اسْتِحْقَاق الْعُبُودِيَّة وَلَا يسْتَحق الْعُبُودِيَّة إِلَّا من اتّصف بِجَمِيعِ مَا ذَكرْنَاهُ فَمَا كَانَ من أَسْمَائِهِ متضمنا للْجَمِيع على الْإِجْمَال كالواحد والأحد وَذي الْجلَال وَالْإِكْرَام فَهُوَ مندرج تَحت قَوْلنَا لَا إِلَه إِلَّا الله وَإِنَّمَا اسْتحق الْعُبُودِيَّة لما وَجب لَهُ من أَوْصَاف الْجلَال ونعوت الْكَمَال الَّذِي لَا يصفه الواصفون وَلَا يعده العادون
(حسنك لَا تَنْقَضِي عجائبه ... كالبحر حدث عَنهُ بِلَا حرج)
فسبحان الله من عظم شَأْنه وَعز سُلْطَانه {يسْأَله من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} لافتقارهم إِلَيْهِ {كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن} لاقتداره عَلَيْهِ لَهُ الْخلق وَالْأَمر وَالسُّلْطَان والقهر فالخلائق مقهورون فِي قَبضته {وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ} {يعذب من يَشَاء وَيرْحَم من يَشَاء وَإِلَيْهِ تقلبون} فسبحان الأزلي الذَّات وَالصِّفَات ومحيي الْأَمْوَات وجامع الرفات الْعَالم بِمَا كَانَ وَمَا هُوَ آتٍ
وَلَو أدرجت الْبَاقِيَات الصَّالِحَات فِي كلمة مِنْهَا على سَبِيل الْإِجْمَال وَهِي الْحَمد لله لاندرجت فِيهَا كَمَا قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ لَو شِئْت أَن أوقر بَعِيرًا من قَوْلك الْحَمد لله لفَعَلت فَإِن الْحَمد هُوَ الثَّنَاء وَالثنَاء يكون بِإِثْبَات الْكَمَال تَارَة وبسلب النَّقْص أُخْرَى وَتارَة بالاعتراف بِالْعَجزِ عَن دَرك الْإِدْرَاك وَتارَة بِإِثْبَات التفرد بالكمال والتفرد بالكمال من أَعلَى مَرَاتِب الْمَدْح والكمال فقد اشْتَمَلت هَذِه الْكَلِمَة على مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاقِيَات الصَّالِحَات لِأَن الْألف وَاللَّام فِيهَا لاستغراق جنس الْمَدْح وَالْحَمْد مِمَّا علمنَا وجهلناه وَلَا خُرُوج للمدح عَن شَيْء مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَلَا يسْتَحق الإلهية إِلَّا من اتّصف بِجَمِيعِ مَا قَرَّرْنَاهُ وَلَا يخرج عَن هَذَا الِاعْتِقَاد ملك مقرب وَلَا نَبِي مُرْسل وَلَا أحد من أهل الْملَل إِلَّا من خذله الله فَاتبع هَوَاهُ وَعصى مَوْلَاهُ أُولَئِكَ قوم قد غمرهم ذل الْحجاب وطردوا عَن الْبَاب وبعدوا عَن ذَلِك(8/221)
الجناب وَحقّ لمن حجب فِي الدُّنْيَا عَن إجلاله ومعرفته أَن يحجب فِي الْآخِرَة عَن إكرامه ورؤيته
(أَرض لمن غَابَ عَنْك غيبته ... فَذَاك ذَنْب عِقَابه فِيهِ)
فَهَذَا إِجْمَال من اعْتِقَاد الْأَشْعَرِيّ رَحمَه الله تَعَالَى واعتقاد السّلف وَأهل الطَّرِيقَة والحقيقة نسبته إِلَى التَّفْصِيل الْوَاضِح كنسبة القطرة إِلَى الْبَحْر الطافح
(يعرفهُ الباحث من جنسه ... وَسَائِر النَّاس لَهُ مُنكر)
غَيره
(لقد ظَهرت فَلَا تخفى على أحد ... إِلَّا على أكمه لَا يعرف القمرا)
والحشوية المشبهة الَّذين يشبهون الله بخلقه ضَرْبَان أَحدهمَا لَا يتحاشى من إِظْهَار الحشو {وَيَحْسبُونَ أَنهم على شَيْء أَلا إِنَّهُم هم الْكَاذِبُونَ} وَالْآخر يتستر بِمذهب السّلف لسحت يَأْكُلهُ أَو حطام يَأْخُذهُ
(أظهرُوا للنَّاس نسكا ... وعَلى المنقوش داروا)
{يُرِيدُونَ أَن يأمنوكم ويأمنوا قَومهمْ} وَمذهب السّلف إِنَّمَا هُوَ التَّوْحِيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه وَلذَلِك جَمِيع المبتدعة يَزْعمُونَ أَنهم على مَذْهَب السّلف فهم كَمَا قَالَ الْقَائِل
(وكل يدعونَ وصال ليلى ... وليلى لَا تقر لَهُم بذاكا)
وَكَيف يدعى على السّلف أَنهم يَعْتَقِدُونَ التجسيم والتشبيه أَو يسكتون عِنْد ظُهُور الْبدع ويخالفون قَوْله تَعَالَى {وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتموا الْحق وَأَنْتُم تعلمُونَ}(8/222)
وَقَوله {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه} وَقَوله {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم}
وَالْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء فَيجب عَلَيْهِم من الْبَيَان مَا وَجب على الْأَنْبِيَاء
وَقَالَ تَعَالَى {ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر} وَمن أنكر الْمُنْكَرَات التجسيم والتشبيه وَمن أفضل الْمَعْرُوف التَّوْحِيد والتنزيه وَإِنَّمَا سكت السّلف قبل ظُهُور الْبدع فَوَرَبِّ السَّمَاء ذَات الرجع وَالْأَرْض ذَات الصدع لقد تشمر السّلف للبدع لما ظَهرت فقمعوها أتم القمع وردعوا أَهلهَا أَشد الردع فَردُّوا على الْقَدَرِيَّة والجهمية والجبرية وَغَيرهم من أهل الْبدع فجاهدوا فِي الله حق جهاده
وَالْجهَاد ضَرْبَان ضرب بالجدل وَالْبَيَان وَضرب بِالسَّيْفِ والسنان فليت شعري فَمَا الْفرق بَين مجادلة الحشوية وَغَيرهم من أهل الْبدع وَلَوْلَا خبث فِي الضمائر وَسُوء اعْتِقَاد فِي السرائر {يستخفون من النَّاس وَلَا يستخفون من الله وَهُوَ مَعَهم إِذْ يبيتُونَ مَا لَا يرضى من القَوْل} وَإِذا سُئِلَ أحدهم عَن مَسْأَلَة من مسَائِل الحشو أَمر بِالسُّكُوتِ عَن ذَلِك وَإِذا سُئِلَ عَن غير الحشو من الْبدع أجَاب فِيهِ بِالْحَقِّ وَلَوْلَا مَا انطوى عَلَيْهِ بَاطِنه من التجسيم والتشبيه لأجاب فِي مسَائِل الحشو بِالتَّوْحِيدِ والتنزيه وَلم تزل هَذِه الطَّائِفَة المبتدعة قد ضربت عَلَيْهِم الذلة أَيْنَمَا ثقفوا {كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا وَالله لَا يحب المفسدين} لَا تلوح لَهُم فرْصَة إِلَّا طاروا إِلَيْهَا وَلَا فتْنَة إِلَّا أَكَبُّوا عَلَيْهَا وَأحمد بن حَنْبَل وفضلاء أَصْحَابه وَسَائِر عُلَمَاء السّلف بُرَآء إِلَى الله مِمَّا نسبوه إِلَيْهِم واختلقوه عَلَيْهِم وَكَيف يظنّ بِأَحْمَد بن حَنْبَل وَغَيره من الْعلمَاء أَن يعتقدوا أَن وصف الله الْقَدِيم الْقَائِم بِذَاتِهِ هُوَ غير لفظ اللافظين ومداد(8/223)
الْكَاتِبين مَعَ أَن وصف الله قديم وَهَذِه الأشكال والألفاظ حَادِثَة بضرورة الْعقل وصريح النَّقْل وَقد أخبر الله تَعَالَى عَن حدوثها فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع من كِتَابه
أَحدهَا قَوْله {مَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم مُحدث} جعل الآتى مُحدثا فَمن زعم أَنه قديم فقد رد على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنَّمَا هَذَا الْحَادِث دَلِيل على الْقَدِيم كَمَا أَنا إِذا كتبنَا اسْم الله تَعَالَى فِي ورقة لم يكن الرب الْقَدِيم حَالا فِي تِلْكَ الورقة فَكَذَلِك إِذا كتب الْوَصْف الْقَدِيم فِي شىء لم يحل الْوَصْف الْمَكْتُوب حَيْثُ حلت الْكِتَابَة
الْموضع الثَّانِي قَوْله {فَلَا أقسم بِمَا تبصرون وَمَا لَا تبصرون إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} وَقَول الرَّسُول صفة للرسول وَوصف الْحَادِث حَادث يدل على الْكَلَام الْقَدِيم فَمن زعم أَن قَول الرَّسُول قديم فقد رد على رب الْعَالمين وَلم يقْتَصر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الْإِخْبَار بذلك حَتَّى أقسم على ذَلِك بأتم الْأَقْسَام فَقَالَ تَعَالَى {فَلَا أقسم بِمَا تبصرون} أَي تشاهدون {وَمَا لَا تبصرون} أَي مَا لم تروه فاندرج فِي هَذَا الْقسم ذَاته وَصِفَاته وَغير ذَلِك من مخلوقاته
الْموضع الثَّالِث قَوْله تَعَالَى {فَلَا أقسم بالخنس الْجوَار الكنس وَاللَّيْل إِذا عسعس وَالصُّبْح إِذا تنفس إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم}
وَالْعجب مِمَّن يَقُول الْقُرْآن مركب من حرف وَصَوت ثمَّ يزْعم أَنه فِي الْمُصحف وَلَيْسَ فِي الْمُصحف إِلَّا حرف مُجَرّد لَا صَوت مَعَه إِذْ لَيْسَ فِيهِ حرف مَكْتُوب عَن صَوت فَإِن الْحَرْف اللَّفْظِيّ لَيْسَ هُوَ الشكل الكتابى وَلذَلِك يدْرك الْحَرْف اللَّفْظِيّ بالآذان وَلَا يُشَاهد بالعيان ويشاهد الشكل الْكِتَابِيّ بالعيان وَلَا يسمع بالآذان وَمن توقف فِي ذَلِك فَلَا يعد من الْعُقَلَاء فضلا عَن الْعلمَاء فَلَا أَكثر الله فِي الْمُسلمين من أهل الْبدع والأهواء والإضلال والإغواء(8/224)
وَمن قَالَ بِأَن الْوَصْف الْقَدِيم حَال فِي الْمُصحف لزمَه إِذا احْتَرَقَ الْمُصحف أَن يَقُول بِأَن وصف الله الْقَدِيم احْتَرَقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ علوا كَبِيرا وَمن شَأْن الْقَدِيم أَن لَا يلْحقهُ تغير وَلَا عدم فَإِن ذَلِك منَاف للقدم
فَإِن زَعَمُوا أَن الْقُرْآن مَكْتُوب فِي الْمُصحف غير حَال فِيهِ كَمَا يَقُوله الأشعرى فَلم يلعنون الْأَشْعَرِيّ رَحمَه الله وَإِن قَالُوا بِخِلَاف ذَلِك فَانْظُر {كَيفَ يفترون على الله الْكَذِب وَكفى بِهِ إِثْمًا مُبينًا} {وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على الله وُجُوههم مسودة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين}
وَأما قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {إِنَّه لقرآن كريم فِي كتاب مَكْنُون} فَلَا خلاف بَين أَئِمَّة الْعَرَبيَّة أَنه لَا بُد من كلمة محذوفة يتَعَلَّق بهَا قَوْله {فِي كتاب مَكْنُون} وَيجب الْقطع بِأَن ذَلِك الْمَحْذُوف تَقْدِيره (مَكْتُوب فِي كتاب مَكْنُون) لما ذَكرْنَاهُ وَمَا دلّ عَلَيْهِ الْعقل الشَّاهِد بالوحدانية وبصحة الرسَالَة وَهُوَ منَاط التَّكْلِيف بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَإِنَّمَا لم يسْتَدلّ بِالْعقلِ على الْقدَم وَكفى بِهِ شَاهدا لأَنهم لَا يسمعُونَ شَهَادَته مَعَ أَن الشَّرْع قد عدل الْعقل وَقبل شَهَادَته وَاسْتدلَّ بِهِ فِي مَوَاضِع من كِتَابه كالاستدلال بالإنشاء على الْإِعَادَة وَكَقَوْلِه تَعَالَى {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} وَقَوله {وَمَا كَانَ مَعَه من إِلَه إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق ولعلا بَعضهم على بعض} وَقَوله {أولم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا خلق الله من شَيْء}
فيا خيبة من رد شَاهدا قبله الله وَأسْقط دَلِيلا نَصبه الله فهم يرجعُونَ إِلَى الْمَنْقُول فَلذَلِك استدللنا بالمنقول وَتَركنَا الْمَعْقُول كمينا إِن احتجنا إِلَيْهِ أبرزناه وَإِن لم نحتج إِلَيْهِ(8/225)
أخرناه وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح من قَرَأَ الْقُرْآن وأعربه كَانَ لَهُ بِكُل حرف عشر حَسَنَات وَمن قَرَأَهُ وَلم يعربه فَلهُ بِكُل حرف مِنْهُ حَسَنَة وَالْقَدِيم لَا يكون معيبا باللحن وكاملا بالإعراب وَقد قَالَ تَعَالَى {وَمَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَإِذا أخبر رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنا نجزى على قِرَاءَة الْقُرْآن دلّ على أَنه من أَعمالنَا وَلَيْسَت أَعمالنَا قديمَة وَإِنَّمَا أُتِي الْقَوْم من قبل جهلهم بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسخافة الْعقل وبلادة الذِّهْن فَإِن لفظ الْقُرْآن يُطلق فِي الشَّرْع وَاللِّسَان على الْوَصْف الْقَدِيم وَيُطلق على الْقِرَاءَة الْحَادِثَة قَالَ الله تَعَالَى {إِن علينا جمعه وقرآنه} أَرَادَ بقرآنه قِرَاءَته إِذْ لَيْسَ لِلْقُرْآنِ قُرْآن آخر {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه} أَي قِرَاءَته فالقراءة غير المقروء وَالْقِرَاءَة حَادِثَة والمقروء قديم كَمَا أَنا إِذا ذكرنَا الله عز وَجل كَانَ الذّكر حَادِثا وَالْمَذْكُور قَدِيما فَهَذِهِ نبذة من مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ رَحمَه الله
(إِذا قَالَت حذام فصدقوها ... فَإِن القَوْل مَا قَالَت حذام)
وَالْكَلَام فِي مثل هَذَا يطول وَلَوْلَا مَا وَجب على الْعلمَاء من إعزاز الدّين وإخمال المبتدعين وَمَا طولت بِهِ الحشوية ألسنتهم فِي هَذَا الزَّمَان من الطعْن فِي أَعْرَاض الْمُوَحِّدين والإزراء على كَلَام المنزهين لما أطلت النَّفس فِي مثل هَذَا مَعَ إيضاحه وَلَكِن قد أمرنَا الله بِالْجِهَادِ فِي نصْرَة دينه إِلَّا أَن سلَاح الْعَالم علمه وَلسَانه كَمَا أَن سلَاح الْملك سَيْفه وسنانه فَكَمَا لَا يجوز للملوك إغماد أسلحتهم عَن الْمُلْحِدِينَ وَالْمُشْرِكين لَا يجوز للْعُلَمَاء إغماد ألسنتهم عَن الزائغين والمبتدعين فَمن ناضل عَن الله وَأظْهر دين الله كَانَ جَدِيرًا أَن يَحْرُسهُ الله بِعَيْنِه الَّتِي لَا تنام ويعزه بعزه الَّذِي لَا يضام ويحوطه بركنه الَّذِي(8/226)
لَا يرام ويحفظه من جيمع الْأَنَام {وَلَو يَشَاء الله لانتصر مِنْهُم وَلَكِن ليبلو بَعْضكُم بِبَعْض} وَمَا زَالَ المنزهون والموحدون يفتون بذلك على رُؤُوس الأشهاد فِي المحافل والمشاهد ويجهرون بِهِ فِي الْمدَارِس والمساجد وبدعة الحشوية كامنة خُفْيَة لَا يتمكنون من المجاهرة بهَا بل يدسونها إِلَى جهلة الْعَوام وَقد جهروا بهَا فِي هَذَا الأوان فنسأل الله تَعَالَى أَن يعجل بإخمالها كعادته وَيَقْضِي بإذلالها على مَا سبق من سنته وعَلى طَريقَة المنزهين والموحدين درج الْخلف وَالسَّلَف رضى الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ
وَالْعجب أَنهم يذمون الْأَشْعَرِيّ بقوله إِن الْخبز لَا يشْبع وَالْمَاء لَا يروي وَالنَّار لَا تحرق وَهَذَا كَلَام أنزل الله مَعْنَاهُ فِي كِتَابه فَإِن الشِّبَع والري والإحراق حوادث انْفَرد الرب بخلقها فَلم يخلق الْخبز الشِّبَع وَلم يخلق المَاء الرّيّ وَلم تخلق النَّار الإحراق وَإِن كَانَت أسبابا فِي ذَلِك فالخالق هُوَ الْمُسَبّب دون السَّبَب كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} نفى أَن يكون رَسُوله خَالِقًا للرمى وَإِن كَانَ سَببا فِيهِ وَقد قَالَ تَعَالَى {وَأَنه هُوَ أضْحك وأبكى وَأَنه هُوَ أمات وَأَحْيَا} فاقتطع الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء عَن أَسبَابهَا وأضافها إِلَيْهِ فَكَذَلِك اقتطع الْأَشْعَرِيّ رَحمَه الله الشِّبَع والري والإحراق عَن أَسبَابهَا وأضافها إِلَى خَالِقهَا لقَوْله تَعَالَى {خَالق كل شَيْء} وَقَوله {هَل من خَالق غير الله} {بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله} {أكذبتم بآياتي وَلم تحيطوا بهَا علما أم مَاذَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ}(8/227)
(وَكم من عائب قولا صَحِيحا ... وآفته من الْفَهم السقيم)
فسبحان من رَضِي عَن قوم فأدناهم وَسخط على آخَرين فأقصاهم {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون}
وعَلى الْجُمْلَة يَنْبَغِي لكل عَالم إِذا أذلّ الْحق وأخمل الصَّوَاب أَن يبْذل جهده فِي نصرهما وَأَن يَجْعَل نَفسه بالذل والخمول أولى مِنْهُمَا وَإِن عز الْحق فَظهر الصَّوَاب أَن يستظل بظلهما وَأَن يَكْتَفِي باليسير من رشاش غَيرهمَا
(قَلِيل مِنْك يَنْفَعنِي وَلَكِن ... قليلك لَا يُقَال لَهُ قَلِيل)
والمخاطرة بالنفوس مَشْرُوعَة فِي إعزاز الدّين وَلذَلِك يجوز للبطل من الْمُسلمين أَن ينغمر فِي صُفُوف الْمُشْركين وَكَذَلِكَ المخاطرة بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر ونصرة قَوَاعِد الدّين بالحجج والبراهين مَشْرُوعَة فَمن خشِي على نَفسه سقط عَنهُ الْوُجُوب وَبَقِي الِاسْتِحْبَاب وَمن قَالَ بِأَن التَّغْرِير بالنفوس لَا يجوز فقد بعد عَن الْحق ونأى عَن الصَّوَاب
وعَلى الْجُمْلَة فَمن آثر الله على نَفسه آثره الله وَمن طلب رضَا الله بِمَا يسْخط النَّاس رضى الله عَنهُ وأرضى عَنهُ النَّاس وَمن طلب رضَا النَّاس بِمَا يسْخط الله سخط الله عَلَيْهِ وأسخط عَلَيْهِ النَّاس وَفِي رضَا الله كِفَايَة عَن رضَا كل أحد
(فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترْضى والأنام غضاب)
غَيره
(فِي كل شَيْء إِذا ضيعته عوض ... وَلَيْسَ فِي الله إِن ضيعته عوض)(8/228)
وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احفظ الله يحفظك احفظ الله تَجدهُ أمامك وَجَاء فِي حَدِيث ذكرُوا الله بِأَنْفُسِكُمْ فَإِن الله ينزل العَبْد من نَفسه حَيْثُ أنزلهُ من نَفسه حَتَّى قَالَ بعض الأكابر من أَرَادَ أَن ينظر مَنْزِلَته عِنْد الله فَلْينْظر كَيفَ منزلَة الله عِنْده
اللَّهُمَّ فانصر الْحق وَأظْهر الصَّوَاب وأبرم لهَذِهِ الْأمة أمرا رشدا يعز فِيهِ وليك ويذل فِيهِ عَدوك وَيعْمل فِيهِ بطاعتك وَينْهى فِيهِ عَن معصيتك
وَالْحَمْد لله الَّذِي إِلَيْهِ استنادي وَعَلِيهِ اعتمادي وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم
فَهَذِهِ الْفتيا الَّتِي كتبهَا قَالَ وَلَده الشَّيْخ شرف الدّين عبد اللَّطِيف فَلَمَّا فرغ من كِتَابَة مَا راموه رَمَاه إِلَيْهِم وَهُوَ يضْحك عَلَيْهِم فطاروا بِالْجَوَابِ وهم يَعْتَقِدُونَ أَن الْحُصُول على ذَلِك من الفرص الْعَظِيمَة الَّتِي ظفروا بهَا ويقطعون بهلاكه واستئصاله واستباحة دَمه وَمَاله فأوصلوا الْفتيا إِلَى الْملك الْأَشْرَف رَحمَه الله فَلَمَّا وقف عَلَيْهَا استشاط غَضبا وَقَالَ صَحَّ عِنْدِي مَا قَالُوهُ عَنهُ وَهَذَا رجل كُنَّا نعتقد أَنه متوحد فِي زَمَانه فِي الْعلم وَالدّين فَظهر بعد الاختبار أَنه من الْفجار لَا بل من الْكفَّار وَكَانَ ذَلِك فِي رَمَضَان عِنْد الْإِفْطَار وَعِنْده على سماطه عَامَّة الْفُقَهَاء من جَمِيع الأقطار فَلم يسْتَطع أحد مِنْهُم أَن يرد عَلَيْهِ بل قَالَ بعض أعيانهم السُّلْطَان أولى بِالْعَفو والصفح وَلَا سِيمَا فِي مثل هَذَا الشَّهْر وموه آخَرُونَ بِكَلَام موجه يُوهم صِحَة مَذْهَب الْخصم ويظهرون أَنهم قد أفتوا بموافقته فَلَمَّا انفصلوا تِلْكَ اللَّيْلَة من مَجْلِسه بالقلعة اشْتغل النَّاس فِي الْبَلَد بِمَا جرى فِي تِلْكَ اللَّيْلَة عِنْد السُّلْطَان وَأقَام الْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الشَّيْخ الْعَلامَة جمال الدّين أَبَا عَمْرو بن الْحَاجِب الْمَالِكِي وَكَانَ عَالم مذْهبه فِي زَمَانه وَقد جمع بَين الْعلم وَالْعَمَل رَحمَه الله تَعَالَى فِي هَذِه الْقَضِيَّة وَمضى إِلَى الْقُضَاة وَالْعُلَمَاء الْأَعْيَان الَّذين حَضَرُوا هَذِه الْقَضِيَّة عِنْد السُّلْطَان(8/229)
وشدد عَلَيْهِم النكير وَقَالَ الْعجب أَنكُمْ كلكُمْ على الْحق وغيركم على الْبَاطِل وَمَا فِيكُم من نطق بِالْحَقِّ وسكتم وَمَا انتخبتم لله تَعَالَى وللشريعة المطهرة وَلما تكلم مِنْكُم من تكلم قَالَ السُّلْطَان أولى بالصفح وَالْعَفو وَلَا سِيمَا فِي مثل هَذَا الشَّهْر وَهَذَا غلط يُوهم الذَّنب فَإِن الْعَفو والصفح لَا يكونَانِ إِلَّا عَن جرم وذنب أما كُنْتُم سلكتم طَرِيق التلطف بإعلام السُّلْطَان بِأَن مَا قَالَه ابْن عبد السَّلَام مذهبكم وَهُوَ مَذْهَب أهل الْحق وَأَن جُمْهُور السّلف وَالْخلف على ذَلِك وَلم يخالفهم فِيهِ إِلَّا طَائِفَة مخذولة يخفون مَذْهَبهم ويدسونه على تخوف إِلَى من يستضعفون علمه وعقله وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتموا الْحق وَأَنْتُم تعلمُونَ} وَلم يزل يعنفهم ويوبخهم إِلَى أَن اصْطلحَ مَعَهم على أَن يكْتب فتيا بِصُورَة الْحَال ويكتبوا فِيهَا بموافقة ابْن عبد السَّلَام فوافقوه على ذَلِك وَأخذ خطوطهم بموافقته وَالْتمس ابْن عبد السَّلَام من السُّلْطَان أَن يعْقد مَجْلِسا للشَّافِعِيَّة والحنابلة ويحضره الْمَالِكِيَّة وَالْحَنَفِيَّة وَغَيرهم من عُلَمَاء الْمُسلمين وَذكر لَهُ أَنه أَخذ خطوط الْفُقَهَاء الَّذين كَانُوا بِمَجْلِس السُّلْطَان لما قُرِئت عَلَيْهِ الْفتيا بموافقتهم لَهُ وَأَنَّهُمْ لم يُمكنهُم الْكَلَام بِحَضْرَة السُّلْطَان فِي ذَلِك الْوَقْت لغضبه وَمَا ظهر من حِدته فِي ذَلِك الْمجْلس وَقَالَ الَّذِي نعتقد فِي السُّلْطَان أَنه إِذا ظهر لَهُ الْحق يرجع إِلَيْهِ وَأَنه يُعَاقب من موه الْبَاطِل عَلَيْهِ وَهُوَ أولى النَّاس بموافقة وَالِده السُّلْطَان الْملك الْعَادِل تغمده الله برحمته ورضوانه فَإِنَّهُ عزّر جمَاعَة من أَعْيَان الْحَنَابِلَة المبتدعة تعزيرا بليغا رادعا وبدع بهم وأهانهم
فَلَمَّا اتَّصل ذَلِك بالسلطان استدعى دَوَاة وورقة وَكتب فِيهَا
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وصل إِلَيّ مَا التمسه الْفَقِيه ابْن عبد السَّلَام أصلحه الله(8/230)
من عقد مجْلِس وَجمع الْمُفْتِينَ وَالْفُقَهَاء وَقد وقفنا على خطه وَمَا أفتى بِهِ وَعلمنَا من عقيدته مَا أغْنى عَن الِاجْتِمَاع بِهِ وَنحن فنتبع مَا عَلَيْهِ الْخُلَفَاء الراشدون الَّذين قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَقهم عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي وعقائد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِيهَا كِفَايَة لكل مُسلم يغلب هَوَاهُ وَيتبع الْحق ويتخلص من الْبدع اللَّهُمَّ إِلَّا إِن كنت تَدعِي الِاجْتِهَاد فَعَلَيْك أَن تثبت ليَكُون الْجَواب على قدر الدَّعْوَى لتَكون صَاحب مَذْهَب خَامِس وَأما مَا ذكرته عَن الَّذِي جرى فِي أَيَّام وَالِدي تغمده الله برحمته فَذَلِك الْحَال أَنا أعلم بِهِ مِنْك وَمَا كَانَ لَهُ سَبَب إِلَّا فتح بَاب السَّلامَة لَا لأمر ديني
(وجرم جَرّه سُفَهَاء قوم ... فَحل بِغَيْر جانيه الْعَذَاب)
وَمَعَ هَذَا فقد ورد فِي الحَدِيث الْفِتْنَة نَائِمَة لعن الله مثيرها وَمن تعرض إِلَى إثارتها قَاتَلْنَاهُ بِمَا يخلصنا من الله تَعَالَى وَمَا يعضد كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ استدعى رَسُولا وصير الرقعة مَعَه إِلَيْهِ
فَلَمَّا وَفد بهَا عَلَيْهِ فضها وَقرأَهَا وطواها وَقَالَ للرسول قد وصلت وقرأتها وفهمت مَا فِيهَا فَاذْهَبْ بِسَلام
فَقَالَ قد تقدّمت الْأَوَامِر المطاعة السُّلْطَانِيَّة إِلَيّ بإحضارجوابها
فَاسْتَحْضر الشَّيْخ دَوَاة وورقة وَكتب فِيهَا مَا مِثَاله
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ} أما بعد حمد الله الَّذِي جلت قدرته وعلت كَلمته وعمت رَحمته وسبغت نعْمَته(8/231)
فَإِن الله تَعَالَى قَالَ لأحب خلقه إِلَيْهِ وَأكْرمهمْ لَدَيْهِ {وَإِن تُطِع أَكثر من فِي الأَرْض يضلوك عَن سَبِيل الله إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن هم إِلَّا يخرصون} وَقد أنزل الله كتبه وَأرْسل رسله لنصائح خلقه فالسعيد من قبل نصائحه وَحفظ وَصَايَاهُ وَكَانَ فِيمَا أوصى بِهِ خلقه أَن قَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} وَهُوَ سُبْحَانَهُ أولى من قبلت نصيحته وحفظت وَصيته
وَأما طلب الْمجْلس وَجمع الْعلمَاء فَمَا حَملَنِي عَلَيْهِ إِلَّا النصح للسُّلْطَان وَعَامة الْمُسلمين وَقد سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الدّين فَقَالَ الدّين النصحية قيل لمن يَا رَسُول الله قَالَ لله ولكتابه وَرَسُوله وأئمة الْمُسلمين وعامتهم فالنصح لله بامتثال أوامره وَاجْتنَاب نواهيه ولكتابه بِالْعَمَلِ بمواجبه وَلِرَسُولِهِ بِاتِّبَاع سنته وللأئمة بإرشادهم إِلَى أَحْكَامه وَالْوُقُوف عِنْد أوامره ونواهيه ولعامة الْمُسلمين بدلالتهم على مَا يقربهُمْ إِلَيْهِ ويزلفهم لَدَيْهِ وَقد أدّيت مَا عَليّ فِي ذَلِك
والفتيا الَّتِي وَقعت فِي هَذِه الْقَضِيَّة يُوَافق عَلَيْهَا عُلَمَاء الْمُسلمين من الشَّافِعِيَّة والمالكية وَالْحَنَفِيَّة والفضلاء من الْحَنَابِلَة وَمَا يُخَالف فِي ذَلِك إِلَّا رعاع لَا يعبأ الله بهم وَهُوَ الْحق الَّذِي لَا يجوز دَفعه وَالصَّوَاب الَّذِي لَا يُمكن رَفعه وَلَو حضر الْعلمَاء مجْلِس السُّلْطَان لعلم صِحَة مَا أَقُول وَالسُّلْطَان أقدر النَّاس على تَحْقِيق ذَلِك وَلَقَد كتب الْجَمَاعَة خطوطهم بِمثل مَا قلته وَإِنَّمَا سكت من سكت فِي أول الْأَمر لما رأى من غضب السُّلْطَان وَلَوْلَا مَا شاهدوه من غضب السُّلْطَان لما أفتوا أَولا إِلَّا بِمَا رجعُوا إِلَيْهِ آخرا(8/232)
وَمَعَ ذَلِك فتكتب مَا ذكرته فِي الْفتيا وَمَا ذكره الْغَيْر وتبعث بِهِ إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام ليكتب فيهاكل من يجب الرُّجُوع إِلَيْهِ ويعتمد فِي الْفتيا عَلَيْهِ وَنحن نحضر كتب الْعلمَاء المعتبرين ليقف عَلَيْهَا السُّلْطَان
وَبَلغنِي أَنهم ألقوا إِلَى سمع السُّلْطَان أَن الْأَشْعَرِيّ يستهين بالمصحف وَلَا خلاف بَين الأشعرية وَجَمِيع عُلَمَاء الْمُسلمين أَن تَعْظِيم الْمُصحف وَاجِب وَعِنْدنَا أَن من استهان بالمصحف أَو بِشَيْء مِنْهُ فقد كفر وانفسخ نِكَاحه وَصَارَ مَاله فَيْئا للْمُسلمين وَيضْرب عُنُقه وَلَا يغسل وَلَا يُكفن وَلَا يصلى عَلَيْهِ وَلَا يدْفن فِي مَقَابِر الْمُسلمين بل يتْرك بالقاع طعمة للسباع
ومذهبنا أَن كَلَام الله سُبْحَانَهُ قديم أزلي قَائِم بِذَاتِهِ لَا يشبه كَلَام الْخلق كَمَا لَا يشبه ذَاته ذَات الْخلق وَلَا يتَصَوَّر فِي شَيْء من صِفَاته أَن تفارق ذَاته إِذْ لَو فارقته لصار نَاقِصا تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا وَهُوَ مَعَ ذَلِك مَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف مَحْفُوظ فِي الصُّدُور مقروء بالألسنة وَصفَة الله الْقَدِيمَة لَيست بمداد للكاتبين وَلَا أَلْفَاظ اللافظين وَمن اعْتقد ذَلِك فقد فَارق الدّين وَخرج عَن عقائد الْمُسلمين بل لَا يعْتَقد ذَلِك إِلَّا جَاهِل غبي {وربنا الرَّحْمَن الْمُسْتَعَان على مَا تصفون}
وَلَيْسَ رد الْبدع وإبطالها من بَاب إثارة الْفِتَن فَإِن الله سُبْحَانَهُ أَمر الْعلمَاء بذلك وَأمرهمْ بِبَيَان مَا علموه وَمن امتثل أَمر الله وَنصر دين الله لَا يجوز أَن يلعنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأما مَا ذكر من أَمر الِاجْتِهَاد وَالْمذهب الْخَامِس فأصول الدّين لَيْسَ فِيهَا مَذَاهِب فَإِن الأَصْل وَاحِد وَالْخلاف فِي الْفُرُوع وَمثل هَذَا الْكَلَام مِمَّا اعتمدتم فِيهِ قَول من لَا يجوز أَن يعْتَمد قَوْله وَالله أعلم بِمن يعرف دينه وَيقف عِنْد حُدُوده وَبعد ذَلِك(8/233)
فَإنَّا نزعم أَنا من جملَة حزب الله وأنصار دينه وجنده وكل جندي لَا يخاطر بِنَفسِهِ فَلَيْسَ بجندي
وَأما مَا ذكر من أَمر بَاب السَّلامَة فَنحْن تكلمنا فِيهِ بِمَا ظهر لنا من أَن السُّلْطَان الْملك الْعَادِل رَحمَه الله تَعَالَى إِنَّمَا فعل ذَلِك إعزازا لدين الله تَعَالَى ونصرة للحق وَنحن نحكم بِالظَّاهِرِ وَالله يتَوَلَّى السرائر وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم
وَكَانَ يَكْتُبهَا وَهُوَ مسترسل من غير توقف وَلَا تردد وَلَا تلعثم فَلَمَّا أنهى كتَابَتهَا طواها وختمها وَدفعهَا إِلَى الرَّسُول
وَكَانَ عِنْده حَالَة كتَابَتهَا رجل من الْعلمَاء الفضلاد وَمِمَّنْ يحضر مجْلِس السُّلْطَان فَوَقفهُ على الرقعة الَّتِي وَردت من الْملك الْأَشْرَف فَتغير لَونه واعتقد أَن الشَّيْخ يعجز عَن الْجَواب لما شَاهد فِي ورقة السُّلْطَان من شَدِيد الْخطاب فَلَمَّا خطّ الشَّيْخ الْكتاب مسترسلا عجلا وَهُوَ يُشَاهد مَا يَكْتُبهُ بَطل عِنْده مَا كَانَ يحسبه وَقَالَ لَهُ ذَلِك الْعَالم لَو كَانَت هَذِه الرقعة الَّتِي وصلت إِلَيْك وصلت إِلَى قس بن سَاعِدَة لعجز عَن الْجَواب وَعدم الصَّوَاب وَلَكِن هَذَا تأييد إلهي
فَلَمَّا عَاد الرَّسُول إِلَى السُّلْطَان رَحمَه الله وأوصله الرقعة فعندما فضها وقرئت عَلَيْهِ اشتدت استشاطته وَعظم غَضَبه وتيقن الْعَدو تلف الشَّيْخ وعطبه ثمَّ استدعى الغرز خَلِيلًا وَكَانَ إِذْ ذَاك أستاذ دَاره وَكَانَ من المحبين للشَّيْخ والمعتقدين فِيهِ فَحَمله رِسَالَة إِلَى الشَّيْخ وَقَالَ لَهُ تعود إِلَيّ سَرِيعا بِالْجَوَابِ(8/234)
فَذهب الغرز إِلَيْهِ وَجلسَ بَين يَدَيْهِ بِحسن تودد وتأدب وتأن ثمَّ قَالَ لَهُ أَنا رَسُول {وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} وَالله لقد تعصبوا عَلَيْك وأعنتهم أَنْت على نَفسك بِعَدَمِ اجتماعك فِي مبدإ الْأَمر بالسلطان وَلَو كَانَ رآك وَلَو مرّة وَاحِدَة لما كَانَ شَيْء من هَذِه الْأُمُور أصلا وَكنت أَنْت عِنْده الْأَعْلَى فَقَالَ لَهُ أد الرسَالَة كَمَا قيلت لَك وَلَا تسْأَل فَقَالَ لَا تسْأَل مَا حصل عِنْد السُّلْطَان عِنْد وُقُوفه على ورقتك وَلَا سِيمَا أَنه وجد فِيهَا مَا لَا يعهده من مُخَاطبَة النَّاس للملوك مُضَافا إِلَى مَا ذكرته من مُخَالفَة اعْتِقَاده فَقَالَ لي اذْهَبْ إِلَى ابْن عبد السَّلَام وَقل لَهُ إِنَّا قد شرطنا عَلَيْهِ ثَلَاثَة شُرُوط أَحدهَا أَنه لَا يُفْتى وَالثَّانيَِة أَنه لَا يجْتَمع بِأحد وَالثَّالِثَة أَنه يلْزم بَيته
فَقَالَ لَهُ يَا غرز إِن هَذِه الشُّرُوط من نعم الله الجزيلة عَليّ الْمُوجبَة للشكر لله تَعَالَى على الدَّوَام أما الْفتيا فَإِنِّي كنت وَالله متبرما بهَا وأكرهها وأعتقد أَن الْمُفْتِي على شَفير جَهَنَّم وَلَوْلَا أَنِّي أعتقد أَن الله أوجبهَا عَليّ لتعينها عَليّ فِي هَذَا الزَّمَان لما كنت تلوثت بهَا والآن فقد عذرني الْحق وَسقط عني الْوُجُوب وتخلصت ذِمَّتِي وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَأما ترك اجتماعي بِالنَّاسِ ولزومي لبيتي فَمَا أَنا فِي بَيْتِي الْآن وَإِنَّمَا أَنا فِي بُسْتَان وَكَانَ فِي تِلْكَ السّنة اسْتَأْجر بستانا متطرفا عَن الْبَسَاتِين وَكَانَ مخوفا فَقَالَ لَهُ الغرز الْبُسْتَان هُوَ الْآن بَيْتك
واتفقت لَهُ فِيهِ أعجوبة وَهُوَ أَن جمَاعَة من المفسدين قصدوه فِي لَيْلَة مُقْمِرَة وَهُوَ فِي جوسق عَال ودخلوا الْبُسْتَان واحتاطوا بالجوسق فخاف أَهله خوفًا شَدِيدا فَعِنْدَ ذَلِك نزل إِلَيْهِم وَفتح بَاب الْجَوْسَقِ وَقَالَ أَهلا بضيوفنا(8/235)
وأجلسهم فِي مقْعد حسن وَكَانَ مهيبا مَقْبُول الصُّورَة فهابوه وسخرهم الله لَهُ وأخرجوا لَهُم من الْجَوْسَقِ ضِيَافَة حَسَنَة فتناولوها وطلبوا مِنْهُ الدُّعَاء وعصم الله أَهله وجماعته مِنْهُم بِصدق نِيَّته وكرم طويته وَانْصَرفُوا عَنهُ
عدنا إِلَى مجاوبته للغرز خَلِيل
فَقَالَ لَهُ يَا غرز من سعادتي لزومي لبيتي وتفرغي لعبادة رَبِّي والسعيد من لزم بَيته وَبكى على خطيئته واشتغل بِطَاعَة الله تَعَالَى وَهَذَا تسليك من الْحق وهدية من الله تَعَالَى إِلَيّ أجراها على يَد السُّلْطَان وَهُوَ غَضْبَان وَأَنا بهَا فرحان وَالله يَا غرز لَو كَانَت عِنْدِي خلعة تصلح لَك على هَذِه الرسَالَة المتضمنة لهَذِهِ الْبشَارَة لخلعت عَلَيْك وَنحن على الْفتُوح خُذ هَذِه السجادة صل عَلَيْهَا فقبلها وَقبلهَا وودعه وَانْصَرف إِلَى السُّلْطَان وَذكر لَهُ مَا جرى بَينه وَبَينه فَقَالَ لمن حَضَره قُولُوا لي مَا أفعل بِهِ هَذَا رجل يرى الْعقُوبَة نعْمَة اتركوه بَيْننَا وَبَينه الله
ثمَّ إِن الشَّيْخ بَقِي على تِلْكَ الْحَالة ثَلَاثَة أَيَّام
ثمَّ إِن الشَّيْخ الْعَلامَة جمال الدّين الحصيري شيخ الْحَنَفِيَّة فِي زَمَانه وَكَانَ قد جمع بَين الْعلم وَالْعَمَل ركب حمارا لَهُ وَحَوله أَصْحَابه وَقصد السُّلْطَان فَلَمَّا بلغ الْملك الْأَشْرَف دُخُول الحصيري إِلَى القلعة أرسل إِلَيْهِ خاصته يتلقونه وَأمرهمْ أَن يدخلوه إِلَى دَار الْإِمَارَة رَاكِبًا على حِمَاره فَلَمَّا رَآهُ السُّلْطَان وثب قَائِما وَمَشى إِلَيْهِ وأنزله عَن حِمَاره(8/236)
وَأَجْلسهُ على تكرمته واستبشر بوفوده عَلَيْهِ وَكَانَ فِي رَمَضَان قريب غرُوب الشَّمْس فَلَمَّا دخل وَقت الْمغرب وَأذن الْمُؤَذّن صلوا صَلَاة الْمغرب وأحضر للسُّلْطَان قدح شراب فتناوله وناوله للشَّيْخ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ مَا جِئْت إِلَى طَعَامك وَلَا إِلَى شرابك فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان يرسم الشَّيْخ وَنحن نمتثل مرسومه فَقَالَ لَهُ أيش بَيْنك وَبَين ابْن عبد السَّلَام وَهَذَا رجل لَو كَانَ فِي الْهِنْد أَو فِي أقْصَى الدُّنْيَا كَانَ يَنْبَغِي للسُّلْطَان أَن يسْعَى فِي حُلُوله فِي بِلَاده لتتم بركته عَلَيْهِ وعَلى بِلَاده ويفتخر بِهِ على سَائِر الْمُلُوك
قَالَ السُّلْطَان عِنْدِي خطه باعتقاده فِي فتيا وخطه أَيْضا فِي رقْعَة جَوَاب رقْعَة سيرتها إِلَيْهِ فيقف الشَّيْخ عَلَيْهِمَا وَيكون الحكم بيني وَبَينه ثمَّ أحضر السُّلْطَان الورقتين فَوقف عَلَيْهِمَا وقرأهما إِلَى آخرهما وَقَالَ هَذَا اعْتِقَاد الْمُسلمين وشعار الصَّالِحين ويقين الْمُؤمنِينَ وكل مَا فيهمَا صَحِيح وَمن خَالف مَا فيهمَا وَذهب إِلَى مَا قَالَه الْخصم من إِثْبَات الْحَرْف وَالصَّوْت فَهُوَ حمَار
فَقَالَ السُّلْطَان رَحمَه الله نَحن نَسْتَغْفِر الله مِمَّا جرى ونستدرك الفارط فِي حَقه وَالله لأجعلنه أغْنى الْعلمَاء وَأرْسل إِلَى الشَّيْخ واسترضاه وَطلب محاللته ومخاللته
وَكَانَت الْحَنَابِلَة قد استنصروا على أهل السّنة وعلت كلمتهم بِحَيْثُ إِنَّهُم صَارُوا إِذا خلوا بهم فِي الْمَوَاضِع الخالية يسبونهم ويضربونهم ويذمونهم فعندما اجْتمع الشَّيْخ جمال الدّين الحصيري رَحمَه الله بالسلطان وَتحقّق مَا عَلَيْهِ الجم الْغَفِير من اعْتِقَاد أهل الْحق تقدم إِلَى الْفَرِيقَيْنِ بالإمساك عَن الْكَلَام فِي مَسْأَلَة الْكَلَام وَأَن لَا يُفْتِي فِيهَا أحد بِشَيْء سدا لباب الْخِصَام فَانْكَسَرت المبتدعة بعض الانكسار وَفِي النُّفُوس مَا فِيهَا(8/237)
وَلم يزل الْأَمر مستمرا على ذَلِك إِلَى أَن اتّفق وُصُول السُّلْطَان الْملك الْكَامِل رَحمَه الله إِلَى دمشق من الديار المصرية وَكَانَ اعْتِقَاده صَحِيحا وَهُوَ من المتعصبين لأهل الْحق قَائِل بقول الْأَشْعَرِيّ رَحمَه الله فِي الِاعْتِقَاد وَكَانَ وَهُوَ فِي الديار المصرية قد سمع مَا جرى فِي دمشق فِي مَسْأَلَة الْكَلَام فرام الِاجْتِمَاع بالشيخ فَاعْتَذر إِلَيْهِ فَطلب مِنْهُ أَن يكْتب لَهُ مَا جرى فِي هَذِه الْقَضِيَّة مستقصى مُسْتَوفى فَأمرنِي وَالِدي رَحمَه الله بِكِتَابَة مَا سقته فِي هَذَا الْجُزْء من أول الْقَضِيَّة إِلَى آخرهَا
فَلَمَّا وصل ذَلِك إِلَيْهِ ووقف عَلَيْهِ أسر ذَلِك فِي نَفسه إِلَى أَن اجْتمع بالسلطان الْملك الْأَشْرَف رَحمَه الله وَقَالَ لَهُ يَا خوند كنت قد سَمِعت أَنه جرى بَين الشَّافِعِيَّة والحنابلة خصام فِي مَسْأَلَة الْكَلَام وَأَن الْقَضِيَّة اتَّصَلت بالسلطان فَمَاذَا صنعت فِيهَا فَقَالَ يَا خوند منعت الطَّائِفَتَيْنِ من الْكَلَام فِي مَسْأَلَة الْكَلَام وَانْقطع بذلك الْخِصَام
فَقَالَ السُّلْطَان الْملك الْكَامِل وَالله مليح مَا هَذِه إِلَّا سياسة وسلطنة تَسَاوِي بَين أهل الْحق وَالْبَاطِل وتمنع أهل الْحق من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَأَن يكتموا مَا أنزل الله عَلَيْهِم كَانَ الطَّرِيق أَن تمكن أهل السّنة من أَن يلحنوا بحججهم وَأَن يظهروا دين الله وَأَن تشنق من هَؤُلَاءِ المبتدعة عشْرين نفسا ليرتدع غَيرهم وَأَن تمكن الْمُوَحِّدين من إرشاد الْمُسلمين وَأَن يبينوا لَهُم طَرِيق الْمُؤمنِينَ
فَعِنْدَ ذَلِك ذلت رِقَاب المبتدعة وانقلبوا خائبين وعادوا خَاسِئِينَ {ورد الله الَّذين كفرُوا بغيظهم لم ينالوا خيرا وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال} وَكَانَ ذَلِك على يَد(8/238)
السُّلْطَان الْملك الْكَامِل رَحمَه الله وانقشعت الْمَسْأَلَة للسُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف وَصرح بخجله وحيائه من الشَّيْخ وَقَالَ لقد غلطنا فِي حق ابْن عبد السَّلَام غلطة عَظِيمَة وَصَارَ يترضاه وَيعْمل بفتاويه وَمَا أفتاه وَيطْلب أَن يقْرَأ عَلَيْهِ تصانيفه الصغار مثل الملحة فِي اعْتِقَاد أهل الْحق الَّتِي ذكر بَعْضهَا فِي الْفتيا وقرئت عَلَيْهِ مَقَاصِد الصَّلَاة فِي يَوْم ثَلَاث مَرَّات تقْرَأ عَلَيْهِ وَكلما دخل عَلَيْهِ أحد من خواصه يَقُول للقارئ اقْرَأ مَقَاصِد الصَّلَاة لِابْنِ عبد السَّلَام حتي يسْمعهَا فلَان يَنْفَعهُ الله بسماعها حَتَّى قَالَ وَالِدي رَحمَه الله لَو قُرِئت مَقَاصِد الصَّلَاة على بعض مَشَايِخ الزوايا أَو على متزهد أَو مُرِيد أَو متصوف مرّة وَاحِدَة فِي مجْلِس لما أَعَادَهَا فِيهِ مرّة أُخْرَى
وَلَقَد دخل على السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف الشَّيْخ شمس الدّين سبط ابْن الْجَوْزِيّ وَكَانَ واعظ الزَّمَان وَكَانَ لَهُ قبُول عَظِيم وشاهدت مِنْهُ عجبا كَانَ يطلع على الْمِنْبَر فِي بعض الْأَيَّام ويحدق النَّاس إِلَيْهِ وينتحب ويبكي ويبكى النَّاس مَعَه وَيقْتلُونَ أنفسهم وَيذْهب هائما على وَجهه وَيذْهب النَّاس من مَجْلِسه وهم سكارى حيارى وَكَانَ يجلس الثَّلَاثَة الْأَشْهر رَجَب وَشَعْبَان ورمضان فِي كل سبت وَالنَّاس يتأهبون لحضور مَجْلِسه قبل السبت بِثَلَاثَة أَيَّام فَلَمَّا دخل على السُّلْطَان نَاوَلَهُ مَقَاصِد الصَّلَاة وَقَالَ اقرأها فقرأها بَين يَدَيْهِ واستحسنها وَقَالَ لم يصنف أحد مثلهَا فَقَالَ لَهُ طرز مجلسك الْآتِي بذكرها وحرض النَّاس عَلَيْهَا فَلَمَّا جَاءَ الميعاد صعد الْمِنْبَر وَحمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَصلى على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ اعلموا أَن أفضل الْعِبَادَات الْبَدَنِيَّة الصَّلَاة وَهِي صلَة بَين العَبْد وربه فَعَلَيْكُم بمقاصد الصَّلَاة تصنيف ابْن عبد السَّلَام فاسمعوها وعوها واحفظوها وعلموها أَوْلَادكُم وَمن يعز عَلَيْكُم وَكَانَ لَهَا وَقع عَظِيم فِي ذَلِك الْمجْلس وَكتب مِنْهَا من النّسخ مَا لَا يُحْصى عدده(8/239)
وَلم يزل وَالِدي مُعظما عِنْد السُّلْطَان إِلَى أَن مرض مرضة الْمَوْت قَالَ لأكبر أَصْحَابه اذْهَبْ إِلَى ابْن عبد السَّلَام وَقل لَهُ محبك مُوسَى ابْن الْملك الْعَادِل أبي بكر يسلم عَلَيْك ويسألك أَن تعوده وَتَدْعُو لَهُ وتوصيه بِمَا ينْتَفع بِهِ غَدا عِنْد الله فَلَمَّا وصل الرَّسُول إِلَيْهِ بِهَذِهِ الرسَالَة قَالَ نعم إِن هَذِه العيادة لمن أفضل الْعِبَادَات لما فِيهَا من النَّفْع الْمُتَعَدِّي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَتوجه إِلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ فسر بِرُؤْيَتِهِ سُرُورًا عَظِيما وَقبل يَده وَقَالَ يَا عز الدّين اجْعَلنِي فِي حل وادع الله لي وأوصني وانصحني فَقَالَ لَهُ أما محاللتك فَإِنِّي كل لَيْلَة أحالل الْخلق وأبيت وَلَيْسَ لي عِنْد أحد مظْلمَة وَأرى أَن يكون أجري على الله وَلَا يكون على النَّاس عملا بقوله تَعَالَى {فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على الله} وَأَن يكون أجري على الله وَلَا يكون على خلقه أحب إِلَيّ وَأما دعائي للسُّلْطَان فَإِنِّي أَدْعُو لَهُ فِي كثير من الأحيان لما فِي صَلَاحه من صَلَاح الْمُسلمين وَالْإِسْلَام وَالله تَعَالَى يبصر السُّلْطَان فِيمَا يبيض بِهِ وَجهه عِنْده يَوْم يلقاه وَأما وصيتي ونصيحتي للسُّلْطَان فقد وَجَبت وتعينت لقبوله وتقاضيه وَكَانَ قبيل مَرضه قد وَقع بَينه وَبَين أَخِيه السُّلْطَان الْملك الْكَامِل وَاقع ووحشة وَأمر وَهُوَ فِي ذَلِك الْمَرَض بِنصب دهليزه إِلَى صوب مصر وَضرب منزلَة تسمى الْكسْوَة وَكَانَ فِي ذَلِك الزَّمَان قد ظهر التتر بالشرق فَقَالَ الشَّيْخ للسُّلْطَان الْملك الْكَامِل أَخُوك الْكَبِير ورحمك وَأَنت مَشْهُور بالفتوحات والنصر على الْأَعْدَاء والتتر قد خَاضُوا بِلَاد الْمُسلمين تتْرك ضرب دهليزك إِلَى أَعدَاء الله وأعداء الْمُسلمين وتضربه إِلَى جِهَة أَخِيك فينقل السُّلْطَان دهليزه إِلَى جِهَة التتار وَلَا تقطع رَحِمك فِي هَذِه الْحَالة وتنوي مَعَ الله نصر دينه وإعزاز كَلمته فَإِن من الله بعافية السُّلْطَان رجونا من الله إدالته على الْكفَّار وَكَانَت فِي مِيزَانه هَذِه الْحَسَنَة الْعَظِيمَة فَإِن قضى الله تَعَالَى بانتقاله إِلَيْهِ كَانَ السُّلْطَان فِي خفارة نِيَّته(8/240)
فَقَالَ لَهُ جَزَاك الله خيرا عَن إرشادك وَنَصِيحَتِك وَأمر وَالشَّيْخ حَاضر فِي الْوَقْت بِنَقْل دهليزه إِلَى الشرق إِلَى منزلَة يُقَال لَهَا الْقصير فَنقل فِي ذَلِك الْيَوْم ثمَّ قَالَ لَهُ زِدْنِي من نصائحك ووصاياك
فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان فِي مثل هَذَا الْمَرَض وَهُوَ على خطر ونوابه يبيحون فروج النِّسَاء ويدمنون الْخُمُور ويرتكبون الْفُجُور ويتنوعون فِي تمكيس الْمُسلمين وَمن أفضل مَا تلقى الله بِهِ أَن تتقدم بِإِبْطَال هَذِه القاذورات وبإبطال كل مكس وَدفع كل مظْلمَة فَتقدم رَحمَه الله للْوَقْت بِإِبْطَال ذَلِك كُله وَقَالَ لَهُ جَزَاك الله عَن دينك وَعَن نصائحك وَعَن الْمُسلمين خيرا وَجمع بيني وَبَيْنك فِي الْجنَّة بمنه وَكَرمه وَأطلق لَهُ ألف دِينَار مصرية فَردهَا عَلَيْهِ وَقَالَ هَذِه اجتماعة لله لَا أكدرها بِشَيْء من الدُّنْيَا
وودع الشَّيْخ السُّلْطَان وَمضى إِلَى الْبَلَد وَقد شاع عِنْد النَّاس صُورَة الْمجْلس وتبطيل الْمُنْكَرَات وباشر الشَّيْخ بِنَفسِهِ تبطيل بَعْضهَا ثمَّ لم يمض الصَّالح إِسْمَاعِيل تبطيل الْمُنْكَرَات لِأَنَّهُ كَانَ الْمُبَاشر لتدبير الْملك والسلطنة يَوْمئِذٍ نِيَابَة وَالسُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف بعد فِي الْحَيَاة ثمَّ اسْتَقل بِالْملكِ بعده وَكَانَ أعظم مِنْهُ فِي اعْتِقَاد الْحَرْف وَالصَّوْت وَفِي اعْتِقَاده فِي مَشَايِخ الْحَنَابِلَة ثمَّ لم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى قدم السُّلْطَان الْملك الْكَامِل من الديار المصرية بعساكره وجحافله وجيوشه إِلَى دمشق وحاصر أَخَاهُ إِسْمَاعِيل بِدِمَشْق يَسِيرا ثمَّ اصْطلحَ مَعَه وَحضر الشَّيْخ عِنْد السُّلْطَان الْملك الْكَامِل فَأكْرمه غَايَة الْإِكْرَام وَأَجْلسهُ على تكرمته والصالح إِسْمَاعِيل يُشَاهد ذَلِك وَهُوَ وَاقِف على رَأسه فَقَالَ الْملك الْكَامِل للشَّيْخ إِن هَذَا لَهُ غرام برمي البندق فَهَل يجوز لَهُ ذَلِك(8/241)
فَقَالَ الشَّيْخ بل يحرم عَلَيْهِ فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَنهُ وَقَالَ إِنَّه يفقىء الْعين وَيكسر الْعظم
وَأَعْطَاهُ بعلبك فَتوجه إِلَيْهَا وملكها وَولى الْملك الْكَامِل رَحمَه الله الشَّيْخ تدريس زَاوِيَة الْغَزالِيّ بِجَامِع دمشق وَذكر بهَا النَّاس ثمَّ ولاه قَضَاء دمشق بعد مَا اشْترط عَلَيْهِ الشَّيْخ شُرُوطًا كَثِيرَة وَدخل فِي شُرُوطه ثمَّ عينه للرسالة إِلَى الْخلَافَة المعظمة ثمَّ اختلسته الْمنية رَحمَه الله فَكَانَ بَين موت الْملك الْأَشْرَف وتملك الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل لدمشق ثمَّ تملك الْملك الْكَامِل لدمشق وَمَوته سنة وَكسر
ثمَّ تملك الْملك الْجواد دمشق مُدَّة ثمَّ كَاتب الْملك الْجواد الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب رَحمَه الله وَكَانَ بالشرق على أَن ينزل لَهُ عَن دمشق ويعوضه الرقة وَمَا والاها فَفعل لَهُ ذَلِك وَقدم الْملك الصَّالح نجم الدّين رَحمَه الله دمشق وملكها وعامل الشَّيْخ بِأَحْسَن مُعَاملَة ثمَّ توجه بعسكره إِلَى نابلس بعد اتفاقه مَعَ الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل على أَنه يستخدم رجالة من بعلبك وينجده على المصريين فاستخدم الرجالة لنَفسِهِ وخان السُّلْطَان وَكَاتب النواب بِدِمَشْق وَقدم عَلَيْهِم فسلموها إِلَيْهِ فَلَمَّا اتَّصَلت الْأَخْبَار بِالْملكِ الصَّالح نجم الدّين تخلت عَنهُ العساكر وَتَفَرَّقُوا عَنهُ وقصده جمَاعَة من المغتالين فَحمل عَلَيْهِم ونجاه الله مِنْهُم فالتجأ إِلَى الْملك النَّاصِر دَاوُد فَأسرهُ وَأقَام عِنْده مُدَّة ثمَّ أخرجه واصطلح مَعَه على المصريين
وَأما الصَّالح إِسْمَاعِيل فَإِنَّهُ كَانَ قد شَاهد مَا اتّفق للشَّيْخ مَعَ الْملك الْأَشْرَف وَمَا عَامله بِهِ فِي آخر الْأَمر من الْإِكْرَام والاحترام ثمَّ شَاهد أَيْضا مَا عَامله بِهِ السُّلْطَان الْملك الْكَامِل رَحمَه الله فولاه الصَّالح إِسْمَاعِيل خطابة دمشق وَبَقِي على ذَلِك مُدَّة(8/242)
ثمَّ إِن المصريين حلفوا للْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب وكاتبوه بذلك فوصل إِلَيْهِم وَملك الديار المصرية وَسَار فِي أَهلهَا السِّيرَة المرضية فخاف مِنْهُ الصَّالح إِسْمَاعِيل خوفًا مَنعه الْمَنَام وَالطَّعَام وَالشرَاب واصطلح مَعَ الفرنج على أَن ينجدوه على الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب وَيسلم إِلَيْهِم صيدا والشقيف وَغير ذَلِك من حصون الْمُسلمين وَدخل الفرنج دمشق لشراء السِّلَاح لِيُقَاتِلُوا بِهِ عباد الله الْمُؤمنِينَ فشق ذَلِك على الشَّيْخ مشقة عَظِيمَة فِي مبايعة الفرنج السِّلَاح وعَلى المتدينين من المتعيشين من السِّلَاح فاستفتوا الشَّيْخ فِي مبايعة الفرنج السِّلَاح فَقَالَ يحرم عَلَيْكُم مُبَايَعَتهمْ لأنكم تتحققون أَنهم يشترونه لِيُقَاتِلُوا بِهِ إخْوَانكُمْ الْمُسلمين وجدد دعاءه على الْمِنْبَر وَكَانَ يَدْعُو بِهِ إِذا فرغ من الْخطْبَتَيْنِ قبل نُزُوله من الْمِنْبَر وَهُوَ اللَّهُمَّ أبرم لهَذِهِ الْأمة أمرا رشدا تعز فِيهِ وليك وتذل فِيهِ عَدوك وَيعْمل فِيهِ بطاعتك وَينْهى فِيهِ عَن معصيتك وَالنَّاس يبتهلون بالتأمين وَالدُّعَاء للْمُسلمين والنصر على أَعدَاء الله الْمُلْحِدِينَ
فكاتب أعوان الشَّيْطَان السُّلْطَان بذلك وحرفوا القَوْل وزخرفوه فجَاء كِتَابه باعتقال الشَّيْخ فَبَقيَ مُدَّة معتقلا ثمَّ وصل الصَّالح إِسْمَاعِيل وَأخرج الشَّيْخ بعد محاورات ومراجعات فَأَقَامَ مُدَّة بِدِمَشْق ثمَّ انتزح عَنْهَا إِلَى بَيت الْمُقَدّس فوافاه الْملك النَّاصِر دَاوُد فِي الْفَوْر فَقطع عَلَيْهِ الطَّرِيق وَأَخذه وَأقَام عِنْده بنابلس مُدَّة وَجَرت لَهُ مَعَه خطوب ثمَّ انْتقل إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَأقَام بِهِ مُدَّة ثمَّ جَاءَ الصَّالح إِسْمَاعِيل وَالْملك الْمَنْصُور صَاحب حمص وملوك الفرنج بعساكرهم وجيوشهم إِلَى بَيت الْمُقَدّس يقصدون الديار المصرية فسير الصَّالح إِسْمَاعِيل بعض خواصه إِلَى الشَّيْخ بمنديله وَقَالَ لَهُ تدفع منديلي إِلَى الشَّيْخ وتتلطف بِهِ غَايَة التلطف وتستنزله وتعده بِالْعودِ إِلَى مناصبه على أحسن حَال فَإِن وَافَقَك فَتدخل بِهِ عَليّ وَإِن خالفك فاعتقله فِي خيمة إِلَى جَانب خَيْمَتي(8/243)
فَلَمَّا اجْتمع الرَّسُول بالشيخ شرع فِي مسايسته وملاينته ثمَّ قَالَ لَهُ بَيْنك وَبَين أَن تعود إِلَى مناصبك وَمَا كنت عَلَيْهِ وَزِيَادَة أَن تنكسر للسُّلْطَان وَتقبل يَده لَا غير فَقَالَ لَهُ وَالله يَا مِسْكين مَا أرضاه أَن يقبل يَدي فضلا أَن أقبل يَده يَا قوم أَنْتُم فِي وَاد وَأَنا فِي وَاد وَالْحَمْد لله الَّذِي عافاني مِمَّا ابتلاكم بِهِ
فَقَالَ لَهُ قد رسم لي إِن لم توَافق على مَا يطْلب مِنْك وَإِلَّا اعتقلتك
فَقَالَ افعلوا مَا بدالكم
فَأَخذه واعتقله فِي خيمة إِلَى جَانب خيمة السُّلْطَان
وَكَانَ الشَّيْخ يقْرَأ الْقُرْآن وَالسُّلْطَان يسمعهُ فَقَالَ يَوْمًا لملوك الفرنج تَسْمَعُونَ هَذَا الشَّيْخ الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن قَالُوا نعم قَالَ هَذَا أكبر قسوس الْمُسلمين وَقد حَبسته لإنكاره عَليّ تسليمي لكم حصون الْمُسلمين وعزلته عَن الخطابة بِدِمَشْق وَعَن مناصبه ثمَّ أخرجته فجَاء إِلَى الْقُدس وَقد جددت حَبسه واعتقاله لأجلكم فَقَالَت لَهُ مُلُوك الفرنج لَو كَانَ هَذَا قسيسنا لغسلنا رجلَيْهِ وشربنا مرقتها
ثمَّ جَاءَت العساكر المصرية وَنصر الله تَعَالَى الْأمة المحمدية وَقتلُوا عَسَاكِر الفرنج ونجى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الشَّيْخ فجَاء إِلَى الديار المصرية فَأقبل عَلَيْهِ السُّلْطَان الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب رَحمَه الله وولاه خطابة مصر وقضاءها وفوض إِلَيْهِ عمَارَة الْمَسَاجِد المهجورة بِمصْر والقاهرة وَاتفقَ لَهُ فِي تِلْكَ الولايات عجائب وغرائب ثمَّ عزل نَفسه عَن الحكم فتلطف السُّلْطَان رَحمَه الله فِي رده إِلَيْهِ فباشره مُدَّة ثمَّ عزل نَفسه مِنْهُ مرّة ثَانِيَة وتلطف مَعَ السُّلْطَان فِي إِمْضَاء عَزله لنَفسِهِ فأمضاه وَأبقى جَمِيع نوابه من الْحُكَّام وَكتب لكل حَاكم مِنْهُ تقليدا ثمَّ ولاه تدريس الْمدرسَة الصالحية بِالْقَاهِرَةِ المعزية(8/244)
ثمَّ مَاتَ الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب بالمنصورة رَحمَه الله تَعَالَى وَهُوَ مُجَاهِد نَاصِر للدّين ثمَّ وصل ابْنه الْمُعظم توران شاه من الشرق إِلَى الديار المصرية بالمنصورة فملكها وانكسرت الفرنج فِي دولته وعامل الشَّيْخ بِأَحْسَن مُعَاملَة ثمَّ انْتقل إِلَى الله سُبْحَانَهُ فسبحان مَالك الْملك ومقدر الهلك
ثمَّ انْقَضى ملك بني أَيُّوب وَكَانَ كأحلام الْقَائِل أَو كظل زائل لَا يغتر بِهِ عَاقل
ثمَّ سَارَتْ الدولة إِلَى الأتراك وكل مِنْهُم عَامل الشَّيْخ بِأَحْسَن مُعَاملَة وَلَا سِيمَا السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر بيبرس ركن الدّين رَحمَه الله فَإِنَّهُ كَانَ يعظمه ويحترمه وَيعرف مِقْدَاره وَيقف عِنْد أَقْوَاله وفتاويه وَأقَام الْخَلِيفَة بِحَضْرَتِهِ وإشارته
وَكَانَت وَفَاة الشَّيْخ فِي تَاسِع جُمَادَى الأولى فِي سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة فَحزن عَلَيْهِ كثيرا حَتَّى قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مَا اتّفقت وَفَاة الشَّيْخ إِلَّا فِي دَوْلَتِي وشيع أمراءه وخاصته وأجناده لتشييع جنَازَته وَحمل نعشه وَحضر دَفنه
انْتهى مَا ذكره الشَّيْخ شرف الدّين عبد اللَّطِيف ولد الشَّيْخ وَقد حكيناه بجملته لاشْتِمَاله على كثير من أَخْبَار الشَّيْخ رَحمَه الله
وَحكي أَن شخصا جَاءَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ رَأَيْتُك فِي النّوم تنشد
(وَكنت كذي رجلَيْنِ رجل صَحِيحَة ... وَرجل رمى فِيهَا الزَّمَان فشلت)(8/245)
فَسكت سَاعَة ثمَّ قَالَ أعيش من الْعُمر ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ سنة فَإِن هَذَا الشّعْر لكثير عزة وَلَا نِسْبَة بيني وَبَينه غير السن أَنا سني وَهُوَ شيعي وَأَنا لست بقصير وَهُوَ قصير وَلست بشاعر وَهُوَ شَاعِر وَأَنا سلمي وَلَيْسَ هُوَ بسلمي لكنه عَاشَ هَذَا الْقدر
قلت فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَه رَحمَه الله
أنشدنا قَاضِي الْقُضَاة شيخ الْمُحدثين عز الدّين أَبُو عمر عبد الْعَزِيز بن شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن سعد الله بن جمَاعَة أيده الله من لَفظه بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية بِالْقَاهِرَةِ فِي شهر محرم سنة أَربع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة قَالَ أنشدنا الشَّيْخ الإِمَام فَخر الدّين عُثْمَان بن بنت أبي سعد من لَفظه قَالَ أنشدنا الشَّيْخ عز الدّين من لَفظه لنَفسِهِ قَالَ أَعنِي ابْن بنت أبي سعد وَلَا يعرف للشَّيْخ عز الدّين من النّظم غَيره قَالَ وَقد أنْشدهُ للطلبة وَقَالَ لَهُم أجيزوه وَهُوَ
(لَو كَانَ فيهم من عراه غرام ... مَا عنفوني فِي هَوَاهُ ولاموا)
فَأَجَازَهُ الشَّيْخ شمس الدّين عمر بن عبد الْعَزِيز بن الْفضل الأسواني قَاضِي أسوان فَقَالَ
(لكِنهمْ جهلوا لذاذة حسنه ... وعلمتها وَلذَا سهرت وناموا)
(لَو يعلمُونَ كَمَا علمت حَقِيقَة ... جنحوا إِلَى ذَاك الجناب وهاموا)
(أَو لَو بَدَت أنواره لعيونهم ... خروا وَلم تثبت لَهُم أَقْدَام)(8/246)
مِنْهَا
(فَبَقيت أنظرهُ بِكُل مُصَور ... وَبِكُل ملفوظ بِهِ استعجام)
(وَأرَاهُ فِي صافي الجداول إِن جرت ... وَأرَاهُ إِن جاد الرياض غمام)
وَمِنْهَا
(لم يثنني عَمَّن أحب ذوابل ... سمر وأبيض صارم صمصام)
(مولَايَ عز الدّين عز بك الْعلَا ... فخرا فدون حذاك مِنْهُ الْهَام)
(لما رَأينَا مِنْك علما لم يكن ... فِي الدَّرْس قُلْنَا إِنَّه إلهام)
(جَاوَزت حد الْمَدْح حَتَّى لم يطق ... نظما لفضلك فِي الورى النظام)
وَآخِرهَا
(فَعَلَيْك يَا عبد الْعَزِيز تَحِيَّة ... وَعَلَيْك يَا عبد الْعَزِيز سَلام)
وَأنْشد الأبيات كلهَا للشَّيْخ فِي مجْلِس الدَّرْس وَهُوَ يسمع إِلَيْهَا وَلما قَضَاهَا قَالَ لَهُ أَنْت إِذا فَقِيه شَاعِر
ومدحه الأديب أَبُو الْحُسَيْن الجزاز بقصيدة بديعة أَولهَا
(سَار عبد الْعَزِيز فِي الحكم سيرا ... لم يسره سوى ابْن عبد الْعَزِيز)
(عمنَا حكمه بِفضل بسيط ... شَامِل للورى وَلَفظ وجيز)
وَمن تصانيف الشَّيْخ عز الدّين الْقَوَاعِد الْكُبْرَى وَكتاب مجَاز الْقُرْآن وَهَذَانِ الكتابان شَاهِدَانِ بإمامته وعظيم مَنْزِلَته فِي عُلُوم الشَّرِيعَة وَاخْتصرَ الْقَوَاعِد الْكُبْرَى فِي قَوَاعِد صغرى وَالْمجَاز فِي آخر(8/247)
وَله كتاب شَجَرَة المعارف حسن جدا
وَكتاب الدَّلَائِل الْمُتَعَلّقَة بِالْمَلَائِكَةِ والنبيين عَلَيْهِم السَّلَام والخلق أَجْمَعِينَ بديع جدا
وَالتَّفْسِير مُجَلد مُخْتَصر
والغاية فِي اخْتِصَار النِّهَايَة دلّت على قدره
ومختصر صَحِيح مُسلم
ومختصر رِعَايَة المحاسبي
وَالْإِمَام فِي أَدِلَّة الْأَحْكَام
وَبَيَان أَحْوَال النَّاس يَوْم الْقِيَامَة
وبداية السول فِي تَفْضِيل الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْفرق بَين الْإِيمَان وَالْإِسْلَام
فَوَائِد الْبلوى والمحن
الْجمع بَين الْحَاوِي وَالنِّهَايَة وَمَا أَظُنهُ كمل
الْفَتَاوَى الموصلية
والفتاوى المصرية مَجْمُوع مُشْتَمل على فنون من الْمسَائِل الْفَوَائِد
توفّي فِي الْعَاشِر من جُمَادَى الأولى سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة بِالْقَاهِرَةِ وَدفن بالقرافة الْكُبْرَى رَحمَه الله تَعَالَى(8/248)
ذكر نخب وفوائد عَن سُلْطَان الْعلمَاء أبي مُحَمَّد سقى الله عَهده
قَالَ فِي الْقَوَاعِد الْكُبْرَى لم أَقف على مَا يعْتَمد على مثله فِي كَون الرِّبَا من الْكَبَائِر فَإِن كَونه مطعوما أَو قيمَة الْأَشْيَاء أَو مُقَدرا لَا يقتضى مفْسدَة عَظِيمَة تكون كَبِيرَة لأَجلهَا
وَذكر فِي الْقَوَاعِد الصُّغْرَى أَن الْمَلَائِكَة لَا يرَوْنَ رَبهم
وَقَالَ فِي الْقَوَاعِد الْكُبْرَى إِذا وجد شَخْصَيْنِ مضطرين متساويين وَمَعَهُ رغيف إِن أطْعمهُ أَحدهمَا عَاشَ يَوْمًا وَمَات الآخر وَإِن فضه عَلَيْهِمَا عَاشَ كل وَاحِد نصف يَوْم فَهَل يجوز أَن يطعمهُ لأَحَدهمَا أم يجب الْقصر الْمُخْتَار أَن تَخْصِيص أَحدهمَا غير جَائِز لِأَن أَحدهمَا قد يكون وليا وَكَذَا لَو كَانَ لَهُ ولدان لَا يقدر إِلَّا على قوت أَحدهمَا يجب الْقصر
قلت وأصل التَّرَدُّد فِي هَذَا مَأْخُوذ من تردد إِمَام الْحَرَمَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِي النِّهَايَة فِيمَا لَو أَرَادَ أَن يبْذل ثوبا لمن يُصَلِّي فِيهِ وَحضر عاريان وَلَو قسم الْخِرْقَة وشقها يحصل فِي كل وَاحِد بعض السّتْر وَلَو خص أَحدهمَا حصل لَهُ السّتْر الْكَامِل فَإِن الإِمَام قَالَ هَذِه الْمَسْأَلَة مُحْتَملَة قَالَ وَلَعَلَّ الْأَظْهر أَن يستر أَحدهمَا وَإِن أَرَادَ الْإِنْصَاف أَقرع بَينهمَا اه
وَلَا يبين مجامعة قَوْله الْأَظْهر ستر أَحدهمَا لقَوْله الْإِنْصَاف الإقراع
وَقَالَ إِن من قذف فِي خلوته شخصا بِحَيْثُ لَا يسمعهُ إِلَّا الله والحفظة فَالظَّاهِر أَنه لَيْسَ بكبيرة مُوجبَة للحد
قلت وَأَنا أسلم لَهُ الحكم وَلَكِنِّي أمنع كَون هَذَا قذفا وَالْقَذْف هُوَ الثلب والرمى وَلَا يحصل بِهَذَا الْقدر(8/249)
ذكر الشَّيْخ عز الدّين فِي أَمَالِيهِ أَن الْقَاتِل إِذا نَدم وعزم أَن لَا يعود لكنه امْتنع من تَسْلِيم نَفسه للْقصَاص لم يقْدَح ذَلِك فِي تَوْبَته قَالَ وَهَذَا ذَنْب متجدد بعد الَّذِي عصى بِهِ مُخَالف لما وَقع بِهِ الْعِصْيَان من الْقَتْل وَنحن إِنَّمَا نشترط الإقلاع فِي الْحَال عَن أَمْثَال الْفِعْل الَّذِي وَقع بِهِ الْعِصْيَان
قلت وَهَذِه فَائِدَة جليلة وَالظَّاهِر أَن كل قَاتل ينْدَم على كَونه قتل ويستغفر ويعزم أَن لَا يعود وَالظَّاهِر أَيْضا أَنه لَا يسلم نَفسه فصحة تَوْبَته عَن الْقَتْل وَالْحَالة هَذِه لطف وَرَحْمَة فَإِن تَسْلِيم الْمَرْء نَفسه إِلَى الْقَتْل مشق وَقد لَا يُوقف الشَّارِع تَوْبَته على هَذَا الْمشق الْعَظِيم فَلَمَّا قَالَه الشَّيْخ عز الدّين اتجاه لَكِن صرح الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي بِخِلَافِهِ فَقَالَ إِن صِحَة تَوْبَته مَوْقُوفَة على تَسْلِيم نَفسه إِلَى مُسْتَحقّ الْقصاص يقْتَصّ أَو يعْفُو وَبِه جزم الرَّافِعِيّ وَمن بعده قَالُوا يَأْتِي الْمُسْتَحق ويمكنه من الِاسْتِيفَاء فإمَّا أَن يحمل كَلَامهم على صِحَة التَّوْبَة مُطلقًا عَن ذَنْب الْقَتْل وَغَيره بِمَعْنى أَن الْقَاتِل إِذا أَرَادَ التَّوْبَة عَن كل ذَنْب الْقَتْل وَغَيره فَهَذَا طَرِيقه وَإِمَّا أَن ينظر أَي الْكَلَامَيْنِ أصح وَبِالْجُمْلَةِ مَا قَالَه شيخ الْإِسْلَام عز الدّين مستغرب تنبو عَنهُ ظواهر مَا فِي كتب أَصْحَابنَا وَله اتجاه ظَاهر فَلْينْظر فِيهِ فَإِنِّي لم أشبعه نظرا والأرجح عِنْدِي مَا قَالَه الشَّيْخ عز الدّين لكنه تَرْجِيح من لم يسْتَوْف النّظر فَلَا يعْتَمد ثمَّ ننصرف ونقول هُنَا لَو صدقت تَوْبَة الْقَاتِل وهاجت نيران الْمعْصِيَة فِي قلبه لسلم نَفسه وَلَو سلمهَا لسلمه الله تَعَالَى وَقدر لوَلِيّ الدَّم أَن يعْفُو عَنهُ هَذَا هُوَ المرجو الَّذِي يَقع فِي النَّفس
قَالَ الشَّيْخ عز الدّين فِي الْقَوَاعِد يَنْبَغِي أَن يُؤَخر الصَّلَاة عَن أول الْوَقْت بِكُل مشوش يُؤَخر الْحَاكِم الحكم بِمثلِهِ(8/250)
وَقَالَ فِيهَا أَيْضا الْقطع بِالسَّرقَةِ يكفر مَا يتَعَلَّق بِربع دِينَار فَقَط وَلَا يكفر الزَّائِد
وَقَالَ فِيهَا أَيْضا الْغَالِب فِي الْجِهَاد أفضل من الْقَتِيل
وَهَذِه الْمسَائِل الثَّلَاث مليحة ظَاهِرَة الحكم لَا يَنْبَغِي أَن يطرقها خلاف
شرح حَال صَلَاة الرغائب وَمَا اتّفق فِيهَا بَين الشَّيْخَيْنِ سُلْطَان الْعلمَاء أبي مُحَمَّد بن عبد السَّلَام والحافظ أبي عَمْرو بن الصّلاح
وَقد كَانَ ابْن الصّلاح أفتى بِالْمَنْعِ مِنْهَا ثمَّ صمم على خِلَافه وَأما سُلْطَان الْعلمَاء فَلم يبرح على الْمَنْع
قَالَ سُلْطَان الْعلمَاء أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ
الْحَمد لله الأول الَّذِي لَا يُحِيط بِهِ وصف واصف وَالْآخر الَّذِي لَا تحويه معرفَة عَارِف جلّ رَبنَا عَن التَّشْبِيه بخلقه وكل خلقه عَن الْقيام بِحقِّهِ أَحْمَده على نعمه وإحسانه وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ فِي سُلْطَانه وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الْمَبْعُوث بحججه وبرهانه صلى الله عَلَيْهِ وعَلى أَله وَأَصْحَابه وإخوانه
أما بعد فَإِن الْبِدْعَة ثَلَاثَة أضْرب
أَحدهَا مَا كَانَ مُبَاحا كالتوسع فِي المآكل والمشارب والملابس والمناكح فَلَا بَأْس بِشَيْء من ذَلِك
الضَّرْب الثَّانِي مَا كَانَ حسنا وَهُوَ كل مُبْتَدع مُوَافق لقواعد الشَّرِيعَة غير مُخَالف لشَيْء مِنْهَا كَصَلَاة التَّرَاوِيح وَبِنَاء الرَّبْط والخانات والمدارس وَغير ذَلِك من أَنْوَاع الْبر الَّتِي لم تعهد فِي الصَّدْر الأول فَإِنَّهُ مُوَافق لما جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة من اصطناع(8/251)
الْمَعْرُوف والمعاونة على الْبر وَالتَّقوى وَكَذَلِكَ الِاشْتِغَال بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُ مُبْتَدع وَلَكِن لَا يَتَأَتَّى تدبر الْقُرْآن وَفهم مَعَانِيه إِلَّا بِمَعْرِِفَة ذَلِك فَكَانَ ابتداعه مُوَافقا لما أمرنَا بِهِ من تدبر آيَات الْقُرْآن وَفهم مَعَانِيه وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيث وتدوينها وتقسيمها إِلَى الْحسن وَالصَّحِيح والموضوع والضعيف مُبْتَدع حسن لما فِيهِ من حفظ كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يدْخلهُ مَا لَيْسَ فِيهِ أَو يخرج مِنْهُ مَا هُوَ فِيهِ وَكَذَلِكَ تأسيس قَوَاعِد الْفِقْه وأصوله وكل ذَلِك مُبْتَدع حسن مُوَافق لأصول الشَّرْع غير مُخَالف لشَيْء مِنْهَا
الضَّرْب الثَّالِث مَا كَانَ مُخَالفا للشَّرْع أَو مُلْتَزما لمُخَالفَة الشَّرْع فَمن ذَلِك صَلَاة الرغائب فَإِنَّهَا مَوْضُوعَة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكذب عَلَيْهِ ذكر ذَلِك أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد الطرطوشي إِنَّهَا لم تحدث بِبَيْت الْمُقَدّس إِلَّا بعد ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة من الْهِجْرَة وَهِي مَعَ ذَلِك مُخَالفَة للشَّرْع من وُجُوه يخْتَص الْعلمَاء بِبَعْضِهَا وَبَعضهَا يعم الْعَالم وَالْجَاهِل فَأَما مَا يخْتَص بِهِ الْعلمَاء فضربان
أَحدهمَا أَن الْعَالم إِذا صلاهَا كَانَ موهما للعامة أَنَّهَا من السّنَن فَيكون كَاذِبًا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلِسَان الْحَال ولسان الْحَال قد يقوم مقَام لِسَان الْمقَال
الثَّانِي أَن الْعَالم إِذا فعلهَا كَانَ متسببا إِلَى أَن تكذب الْعَامَّة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيقولوا هَذِه سنة من السّنَن والتسبب إِلَى الْكَذِب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يجوز
وَأما مَا يعم الْعَالم وَالْجَاهِل فَهِيَ وُجُوه
أَحدهَا أَن فعل المبتدع مِمَّا يُقَوي المبتدعين الواضعين على وَضعهَا وافترائها(8/252)
والإغراء بِالْبَاطِلِ والإعانة عَلَيْهِ مَمْنُوع فِي الشَّرْع واطراح الْبدع والموضوعات زاجر عَن وَضعهَا وابتداعها والزجر عَن الْمُنْكَرَات من أَعلَى مَا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة
الثَّانِي أَنَّهَا مُخَالفَة لسنة السّكُون فِي الصَّلَاة من جِهَة أَن فِيهَا تعديد سُورَة الْإِخْلَاص اثْنَتَيْ عشرَة مرّة وتعديد سُورَة الْقدر وَلَا يَتَأَتَّى عده فِي الْغَالِب إِلَّا بتحريك بعض أَعْضَائِهِ فيخالف السّنة فِي تسكين أَعْضَائِهِ
الثَّالِث أَنَّهَا مُخَالفَة لسنة خشوع الْقلب وخضوعه وحضوره فِي الصَّلَاة وتفريغه لله وملاحظة جَلَاله وكبريائه وَالْوُقُوف على مَعَاني الْقِرَاءَة والأذكار فَإِنَّهُ إِذا لاحظ عدد السُّور بِقَلْبِه كَانَ ملتفتا عَن الله معرضًا عَنهُ بِأَمْر لم يشرعه فِي الصَّلَاة والالتفات بِالْوَجْهِ قَبِيح شرعا فَمَا الظَّن بالالتفات عَنهُ بِالْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود الْأَعْظَم
الرَّابِع أَنَّهَا مُخَالفَة لسنة النَّوَافِل فَإِن السّنة فِيهَا أَن فعلهَا فِي الْبيُوت أفضل من فعلهَا فِي الْمَسَاجِد إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْع كَصَلَاة الاسْتِسْقَاء والكسوف وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الرجل فِي بَيته أفضل من صلَاته فِي الْمَسْجِد إِلَّا الْمَكْتُوبَة
الْخَامِس أَنَّهَا مُخَالفَة لسنة الِانْفِرَاد بالنوافل فَإِن السّنة فِيهَا الِانْفِرَاد إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْع وَلَيْسَت هَذِه الْبِدْعَة المختلقة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ
السَّادِس أَنَّهَا مُخَالفَة للسّنة فِي تَعْجِيل الْفطر إِذْ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تزَال أمتِي بِخَير مَا عجلوا الْفطر وأخروا السّحُور
السَّابِع أَنَّهَا مُخَالفَة للسّنة فِي تَفْرِيغ الْقلب عَن الشواغل المقلقة قبل الدُّخُول فِي الصَّلَاة فَإِن هَذِه الصَّلَاة يدْخل فِيهَا وَهُوَ جوعان ظمآن وَلَا سِيمَا فِي أَيَّام الْحر الشَّديد والصلوات المشروعات لَا يدْخل فِيهَا مَعَ وجود شاغل يُمكن دَفعه(8/253)
الثَّامِن أَن سجدتيها مكروهتان فَإِن الشَّرِيعَة لم ترد بالتقرب إِلَى الله سُبْحَانَهُ بِسَجْدَة مُنْفَرِدَة لَا سَبَب لَهَا فَإِن الْقرب لَهَا أَسبَاب وشرائط وأوقات وأركان لَا تصح بِدُونِهَا فَكَمَا لَا يتَقرَّب إِلَى الله بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَة ومزدلفة وَرمي الْجمار وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة من غير نسك وَاقع فِي وقته بأسبابه وشرائطه فَكَذَلِك لَا يتَقرَّب إِلَى الله عز وَجل بِسَجْدَة مُنْفَرِدَة وَإِن كَانَت قربَة إِلَّا إِذا كَانَ لَهَا سَبَب صَحِيح وَكَذَلِكَ لَا يتَقرَّب إِلَى الله عز وَجل بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَام فِي كل وَقت وَأَوَان وَرُبمَا تقرب الجاهلون إِلَى الله بِمَا هُوَ مبعد عَنهُ من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ
التَّاسِع لَو كَانَت السجدتان مشروعتين لَكَانَ مُخَالفا للسّنة فِي خشوعهما وخضوعهما لما يشْتَغل بِهِ من عدد التَّسْبِيح فيهمَا بباطنه أَو ظَاهره أَو بهما
الْعَاشِر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تخصوا لَيْلَة الْجُمُعَة بِقِيَام من بَين اللَّيَالِي وَلَا تخصوا يَوْم الْجُمُعَة بصيام من بَين الْأَيَّام إِلَّا أَن يكون فِي صَوْم يَصُومهُ أحدكُم وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم بن الْحجَّاج فِي صَحِيحه
الْحَادِي عشر أَن فِي ذَلِك مُخَالفَة السّنة فِيمَا اخْتَارَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أذكار السُّجُود فَإِنَّهُ لما نزل قَول الله تَعَالَى {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} قَالَ اجْعَلُوهَا فِي سُجُودكُمْ وَقَوله سبوح قدوس وَإِن صحت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يَصح أَنه أفردها بِدُونِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَلَا أَنه وظفها على أمته وَمن الْمَعْلُوم أَنه لَا يوظف إِلَّا الأولى من الذكرين وَفِي قَوْله سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى من الثَّنَاء مَا لَيْسَ فِي قَوْله سبوح قدوس
وَمِمَّا يدل على ابتداع هَذِه الصَّلَاة أَن الْعلمَاء الَّذين هم أَعْلَام الدّين وأئمة الْمُسلمين من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعي التَّابِعين وَغَيرهم وَمن دون الْكتب فِي الشَّرِيعَة مَعَ شدَّة حرصهم على تَعْلِيم النَّاس الْفَرَائِض وَالسّنَن لم ينْقل عَن أحد مِنْهُم أَنه ذكر هَذِه الصَّلَاة وَلَا دونهَا فِي كِتَابه وَلَا تعرض لَهَا فِي مجالسه وَالْعَادَة تحيل أَن يكون مثل هَذِه سنة وتغيب عَن هَؤُلَاءِ الَّذين هم أَعْلَام الدّين وقدوة الْمُؤمنِينَ وهم الَّذين إِلَيْهِم الرُّجُوع فِي جَمِيع الْأَحْكَام من الْفَرَائِض وَالسّنَن والحلال وَالْحرَام وَهَذِه الصَّلَاة لَا يُصليهَا أهل الْمغرب الَّذين شهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لطائفة مِنْهُم أَنهم لَا يزالون على الْحق حَتَّى تقوم السَّاعَة وَكَذَلِكَ لَا تفعل بالإسكندرية لتمسكهم بِالسنةِ وَلما صَحَّ عِنْد السُّلْطَان الْملك الْكَامِل رَحمَه الله أَنَّهَا من الْبدع المفتراة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبطلها من الديار المصرية فطوبى لمن تولى شَيْئا من أُمُور الْمُسلمين فَأَعَانَ على إماتة الْبدع وإحياء السّنَن وَلَيْسَ لأحد أَن يسْتَدلّ بِمَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الصَّلَاة خير مَوْضُوع فَإِن ذَلِك مُخْتَصّ بِصَلَاة مَشْرُوعَة(8/254)
1184 - عبد الْعَزِيز بن عبد الْكَرِيم بن عبد الْكَافِي الشَّيْخ صائن الدّين الهمامي الجيلي
شَارِح التَّنْبِيه ذكر فِي آخِره أَنه فرغ من تصنيفه فِي يَوْم الثُّلَاثَاء الْخَامِس وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة
وَهَذَا الشَّرْح الْمَشْهُور أَصْغَر من شَرحه على التَّنْبِيه شرح أكبر مِنْهُ لخص مِنْهُ هَذَا وَشرح الْوَجِيز أَيْضا وَكَلَامه كَلَام عَارِف بِالْمذهبِ غير أَن فِي شَرحه غرائب من أجلهَا شاع بَين الطّلبَة أَن فِي نَقله ضعفا وَكَانَ ابْن الرّفْعَة ينْقل عَنهُ فِي الْكِفَايَة ثمَّ أضْرب عَن ذكره فِي الْمطلب على أَن الجيلي قَالَ فِي خطبَته لَا يُبَادر النَّاظر بالإنكار عَليّ إِلَّا بعد مطالعة الْكتب الْمَذْكُورَة وَكَانَ قد ذكر أَنه لخص الشَّرْح من الْوَسِيط والبسيط والشامل والتهذيب والتجريد وَالْخُلَاصَة والحلية وَالْحَاوِي(8/256)
والشافي وَالْكَافِي والتتمة وَالنِّهَايَة ومختصرها وبحر الْمَذْهَب والإفصاح والإبانة وَشرح مُخْتَصر الْمُزنِيّ والمستظهري وَالْمُحِيط وَالتَّلْخِيص وَالْبَيَان وَشرح الْبَيْضَاوِيّ وتبصرة الْجُوَيْنِيّ وتحرير الْجِرْجَانِيّ وَالْمُحَرر ومهذب أبي الْفَيَّاض الْبَصْرِيّ وَغَيرهَا هَذَا كَلَامه
قلت وَفِيمَا ذكر مَا لم أعرفهُ وَهُوَ الْمُحَرر فإنني لَا أعرف فِي الْمَذْهَب كتابا اسْمه الْمُحَرر وقف عَلَيْهِ الجيلي وَشرح مُخْتَصر الْمُزنِيّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ لَا أعرفهُ فَإِن أَكثر المبسوطات شُرُوح الْمُخْتَصر ومهذب أبي الْفَيَّاض الْبَصْرِيّ لَا أعرفهُ أَيْضا
1185 - عبد الْعَزِيز بن عدي بن عبد الْعَزِيز الْبَلَدِي الْموصِلِي القَاضِي عز الدّين أَبُو الْعِزّ(8/257)
1186 - عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن عبد المحسن بن مُحَمَّد بن مَنْصُور بن خلف
شيخ الشُّيُوخ شرف الدّين أَبُو مُحَمَّد الْحَمَوِيّ الأديب الماهر الشَّاعِر المفلق
ولد سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بِدِمَشْق
وتفقه على جمَاعَة وَكَانَ من أذكياء بني آدم
وَسمع من ابْن كُلَيْب وَمن أبي الْيمن الْكِنْدِيّ وَبِه تأدب وَأبي أَحْمد ابْن سكينَة وَيحيى بن الرّبيع الْفَقِيه وَغَيرهم
وبرع فِي الْفِقْه وَالشعر وَحدث كثيرا
روى عَنهُ الدمياطي وَأَبُو الْحُسَيْن اليونيني وَأَبُو الْعَبَّاس بن الظَّاهِرِيّ وَشَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين بن جمَاعَة وَخلق
توفّي فِي ثامن رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
أنشدنا قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين فِي كِتَابه عَنهُ فِيمَا قَالَه من مستحسن شعره(8/258)
1187 - عبد الْعَظِيم بن عبد الْقوي بن عبد الله بن سَلامَة ابْن سعد الْمُنْذِرِيّ
الْحَافِظ الْكَبِير الْوَرع الزَّاهِد زكي الدّين أَبُو مُحَمَّد الْمصْرِيّ
ولي الله والمحدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والفقيه على مَذْهَب ابْن عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترتجى الرَّحْمَة بِذكرِهِ وَيُسْتَنْزَلُ رضَا الرَّحْمَن بدعائه
كَانَ رَحمَه الله قد أُوتِيَ بالمكيال الأوفى من الْوَرع وَالتَّقوى والنصيب الوافر من الْفِقْه وَأما الحَدِيث فَلَا مراء فِي أَنه كَانَ أحفظ أهل زَمَانه وَفَارِس أقرانه لَهُ الْقدَم الراسخ فِي معرفَة صَحِيح الحَدِيث من سقيمه وَحفظ أَسمَاء الرِّجَال حفظ مفرط الذكاء عظيمه والخبرة بأحكامه والدراية بغريبه وَإِعْرَابه وَاخْتِلَاف كَلَامه
ولد فِي غرَّة شعْبَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
تفقه على الإِمَام أبي الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْقرشِي بن الْوراق
وَسمع من أبي عبد الله الأرتاحي وَعبد الْمُجيب بن زُهَيْر وَمُحَمّد بن سعيد المأموني والمطهر بن أبي بكر الْبَيْهَقِيّ وَرَبِيعَة اليمني الْحَافِظ والحافظ الْكَبِير عَليّ بن الْمفضل الْمَقْدِسِي وَبِه تخرج وَسمع بِمَكَّة من أبي عبد الله بن الْبناء وطبقته وبدمشق(8/259)
من عمر بن طبرزد وَمُحَمّد بن وهب بن الزنف وَالْخضر بن كَامِل وَأبي الْيمن الْكِنْدِيّ وَخلق
وَسمع بحران والرها والإسكندرية وَغَيرهَا
وتفقه وصنف شرحا على التَّنْبِيه وَله مُخْتَصر سنَن أبي دَاوُد وحواشيه كتاب مُفِيد ومختصر صَحِيح مُسلم وَخرج لنَفسِهِ معجما كَبِيرا مُفِيدا وانتقى وَخرج كثيرا وَأفَاد النَّاس
وَبِه تخرج الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الدمياطي وَإِمَام الْمُتَأَخِّرين تَقِيّ الدّين ابْن دَقِيق الْعِيد والشريف عز الدّين وَطَائِفَة وعمت عَلَيْهِم بركته وَقد سمعنَا الْكثير ببلبيس على أبي الطَّاهِر إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن سيف بإجازته مِنْهُ
قَالَ الذَّهَبِيّ وَمَا كَانَ فِي زَمَانه أحفظ مِنْهُ
قلت وَأما ورعه فأشهر من أَن يحْكى
وَقد درس بِالآخِرَة فِي دَار الحَدِيث الكاملية وَكَانَ لَا يخرج مِنْهَا إِلَّا لصَلَاة الْجُمُعَة حَتَّى إِنَّه كَانَ لَهُ ولد نجيب مُحدث فَاضل توفاه الله تَعَالَى فِي حَيَاته ليضاعف لَهُ فِي حَسَنَاته فصلى عَلَيْهِ الشَّيْخ دَاخل الْمدرسَة وشيعه إِلَى بَابهَا ثمَّ دَمَعَتْ عَيناهُ وَقَالَ أودعتك يَا وَلَدي لله وفارقه سَمِعت أبي رَضِي الله عَنهُ يَحْكِي ذَلِك وسمعته أَيْضا يَحْكِي عَن الْحَافِظ الدمياطي أَن الشَّيْخ مرّة خرج من الْحمام وَقد أَخذ مِنْهُ حرهَا فَمَا أمكنه الْمَشْي فاستلقى على الطَّرِيق إِلَى جَانب حَانُوت فَقَالَ لَهُ الدمياطي يَا سَيِّدي أما أقعدك على(8/260)
مصطبة الْحَانُوت وَكَانَ الْحَانُوت مغلقا فَقَالَ فِي الْحَال وَهُوَ فِي تِلْكَ الشدَّة بِغَيْر إِذن صَاحبه كَيفَ يكون وَمَا رَضِي
وَسمعت أبي رَضِي الله عَنهُ أَيْضا يَحْكِي أَن شيخ الْإِسْلَام عز الدّين بن عبد السَّلَام كَانَ يسمع الحَدِيث قَلِيلا بِدِمَشْق فَلَمَّا دخل الْقَاهِرَة بَطل ذَلِك وَصَارَ يحضر مجْلِس الشَّيْخ زكي الدّين وَيسمع عَلَيْهِ فِي جملَة من يسمع وَلَا يسمع وَأَن الشَّيْخ زكي الدّين أَيْضا ترك الْفتيا وَقَالَ حَيْثُ دخل الشَّيْخ عز الدّين لَا حَاجَة بِالنَّاسِ إِلَيّ
وَمن شعره
(اعْمَلْ لنَفسك صَالحا لَا تحتفل ... بِظُهُور قيل فِي الْأَنَام وَقَالَ)
(فالخلق لَا يُرْجَى اجْتِمَاع قُلُوبهم ... لَا بُد من مثن عَلَيْك وَقَالَ)
توفّي فِي الرَّابِع من ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة وَهِي السّنة الْمُصِيبَة بأعظم المصائب المحيطة بِمَا فعلت من المعائب المقتحمة أعظم الجرائم الواثبة على أقبح العظائم الفاعلة بِالْمُسْلِمين كل قَبِيح وعار النَّازِلَة عَلَيْهِم بالكفار المسمين بالتتار
وَلَا بَأْس بشرح وَاقعَة التتار على الِاخْتِصَار وحكاية كائنة بَغْدَاد لتعتبر بهَا البصائر وتشخص عِنْدهَا الْأَبْصَار وليجري الْمُسلمُونَ على ممر الزَّمَان دموعهم دَمًا وليدري المؤرخون بِأَنَّهُم مَا سمعُوا بِمِثْلِهَا وَاقعَة جعلت السَّمَاء أَرضًا وَالْأَرْض سما
فَنَقُول استهلت سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة وَخَلِيفَة الْمُسلمين إِذْ ذَاك أَمِير الْمُؤمنِينَ المستعصم بِاللَّه الإِمَام أَبُو أَحْمد عبد الله الشَّهِيد بن الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي جَعْفَر الْمَنْصُور بن الظَّاهِر بِأَمْر الله أبي النَّصْر مُحَمَّد بن النَّاصِر لدين الله أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن المستضيء بِاللَّه أبي مُحَمَّد الْحسن ابْن الإِمَام المستنجد بِاللَّه أبي المظفر يُوسُف ابْن الإِمَام المقتفي لأمر الله(8/261)
أبي عبد الله مُحَمَّد ابْن الإِمَام المستظهر بِاللَّه أَحْمد ابْن الإِمَام الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله أبي الْقَاسِم عبد الله ابْن الْأَمِير ذخيرة الدّين أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد ابْن الإِمَام الْقَائِم بِأَمْر الله أبي جَعْفَر عبد الله ابْن الإِمَام الْقَادِر بِاللَّه أبي الْعَبَّاس أَحْمد ابْن ولي الْعَهْد الْأَمِير إِسْحَاق ابْن الإِمَام المقتدر بِاللَّه أبي الْفضل جَعْفَر ابْن الإِمَام المعتضد بِاللَّه أبي الْعَبَّاس أَحْمد ابْن ولي الْعَهْد أبي أَحْمد طَلْحَة الْمُوفق بِاللَّه ابْن الإِمَام المتَوَكل على الله جَعْفَر ابْن الإِمَام المعتصم بِاللَّه أبي اسحاق مُحَمَّد ابْن الإِمَام أَمِير الْمُؤمنِينَ هَارُون الرشيد ابْن الإِمَام أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي بِاللَّه أبي عبد الله مُحَمَّد ابْن الإِمَام الْمَنْصُور أبي جَعْفَر عبد الله أَمِير الْمُؤمنِينَ أخي أول خلفاء الْعَبَّاس أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي الْعَبَّاس عبد الله السفاح بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس عَم الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي عَنْهُم أَجْمَعِينَ
وَكَانَ الْمُسْتَنْصر وَالِد المستعصم ذَا همة عالية وشجاعة وافرة وَنَفس أبيَّة وَعِنْده إقدام عَظِيم واستخدم جيوشا كَثِيرَة وعساكر عَظِيمَة وَكَانَ لَهُ أَخ يعرف بالخفاجي يزِيد عَلَيْهِ فِي الشجَاعَة والشهامة وَكَانَ يَقُول إِن ملكنى الله الأَرْض لأعبرن بالجيوش نهر جيحون وانتزع الْبِلَاد من التتار وأستأصلهم فَلَمَّا توفّي الْمُسْتَنْصر كَانَ الدويدار والشرابي أكبر الْأُمَرَاء وأعظمهم قدرا فَلم يريَا تَقْلِيد الخفاجي الْأَمر خوفًا مِنْهُ وآثروا المستعصم علما مِنْهُمَا بلينه وانقياده وَضعف رَأْيه لتَكون لَهما الْكِبْرِيَاء فأقاموه واستوزر مؤيد الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَليّ العلقمي وَكَانَ فَاضلا أديبا وَكَانَ شِيعِيًّا رَافِضِيًّا فِي قلبه غل على الْإِسْلَام وَأَهله وحبب إِلَى الْخَلِيفَة جمع المَال والتقليل من العساكر فَصَارَ الْجند يطْلبُونَ من يستخدمهم فِي حمل القاذورات وَمِنْهُم من يكاري على فرسه ليصلوا إِلَى مَا يتقوتون بِهِ(8/262)
وَكَانَ ابْن العلقمي معاديا للأمير أبي بكر بن الْخَلِيفَة وللدويدار لِأَنَّهُمَا كَانَا من أهل السّنة ونهبا الكرخ بِبَغْدَاد حِين سمعا عَن الروافض أَنهم تعرضوا لأهل السّنة وفعلا بالروافض أمورا عَظِيمَة وَلم يتَمَكَّن الْوَزير من مدافعتهما لتمكنهما فأضمر فِي نَفسه الغل وتحيل فِي مُكَاتبَة التتار وتهوين أَمر الْعرَاق عَلَيْهِم وتحريضهم على أَخذهَا وَوصل من تحيله فِي الْمُكَاتبَة إِلَيْهِم أَنه حلق رَأس شخص وَكتب عَلَيْهِ بِالسَّوَادِ وَعمل على ذَلِك دَوَاء صَار الْمَكْتُوب فِيهِ كل حرف كالحفرة فِي الرَّأْس ثمَّ تَركه عِنْده حَتَّى طلع شعره وأرسله إِلَيْهِم وَكَانَ مِمَّا كتبه على رَأسه إِذا قَرَأْتُمْ الْكتاب فاقطعوه فوصل إِلَيْهِم فحلقوا رَأسه وقرءوا مَا كتبه ثمَّ قطعُوا رَأس الرَّسُول
وَكتب الْوَزير إِلَى نَائِب الْخَلِيفَة بإربل وَهُوَ تَاج الدّين مُحَمَّد بن صلايا وَهُوَ أَيْضا شيعي رِسَالَة يَقُول فِيهَا نهب الكرخ المكرم والعترة العلوية وَحسن التَّمْثِيل بقول الشَّاعِر
(أُمُور تضحك السُّفَهَاء مِنْهَا ... ويبكى من عواقبها اللبيب)
فَلهم أُسْوَة بالحسين حَيْثُ نهب حريمه وأريق دَمه
(أَمرتهم أمرى بمنعرج اللوى ... فَلم يستبينوا الرشد إلاضحى الْغَد)
وَقد عزموا لَا أتم الله عزمهم وَلَا أنفذ أَمرهم على نهب الْحلَّة والنيل بل سَوَّلت لَهُم أنفسهم أمرا فَصَبر جميل وَالْخَادِم قد أسلف الْإِنْذَار وَعجل لَهُم الْإِعْذَار(8/263)
(أرى تَحت الرماد وميض نَار ... ويوشك أَن يكون لَهَا ضرام)
(وَإِن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام)
(فَقلت من التَّعَجُّب لَيْت شعرى ... أيقظان أُميَّة أم نيام)
(فَإِن يَك قَومنَا أضحوا نياما ... فَقل هبوا لقد حَان الْحمام)
قلت وَهَذِه الأبيات كلهَا فِي غَايَة الْحسن خَاطب بهَا علوان بن الْمقنع أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهِي
(أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْك مني ... سَلام الله مَا ناح الْحمام)
(تَحِيَّة حَافظ للْعهد رَاع ... كنشر الرَّوْض باكره الْغَمَام)
(أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أَن يكون لَهُ ضرام)
(فَإِن النَّار بالعودين تذكى ... وَإِن الْحَرْب أَوله كَلَام)
(وَإِن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام)
(فَقل لبني أُميَّة لَيْت شعرى ... أيقضان أُميَّة أم نيام)
(وَقد ظهر الْخُرَاسَانِي مَعَه ... بَنو الْعَبَّاس والجيش اللهام)
(فَإِن لم تجمعُوا جَيْشًا يضيق الْعرَاق ... بِهِ عَلَيْهِم والشآم)
(فلاقوهم كَمَا لَاقَى عليا ... بصفين مُعَاوِيَة الْهمام)(8/264)
(وَكَانَ عَليّ أقوى مِنْهُ عزما ... وَأَعْلَى رُتْبَة وَهُوَ الإِمَام)
(وَلَا يأخذكم حذر وَخَوف ... فَمَا يغنى إِذا حام الْحمام)
(فَإِن كَانَت لكم يَوْمًا عَلَيْهِم ... فَذَاك الْقَصْد وَانْقطع الْكَلَام)
(وَإِن ظفروا فَمَا تحمى حَرِيم ... لكم عَنْهُم وَلَا الْبَيْت الْحَرَام)
(وَلَا بمقام إِبْرَاهِيم تعطوا ... أَمَانًا مِنْهُم وَهُوَ الْمقَام)
(فموتوا فِي ظُهُور الْخَيل صبرا ... كَمَا قد مَاتَ قبلكُمْ الْكِرَام)
(وَلَا تتدرعوا أَثوَاب ذل ... وعار قد تدرعها اللئام)
(فَإِن الضيم لَا صَبر عَلَيْهِ ... لمن شهِدت بسؤدده الْأَنَام)
(وَتلك وَصِيَّة من ذِي وَلَاء ... لَهُ فِي حفظ عهدكم ذمام)
(وَإِلَّا فَهُوَ يقتلكم جَمِيعًا ... وَيهْلك مَا لديكم وَالسَّلَام)
فَكَانَ جوابي بعد خطابي لَا بُد من الشنيعة بعد قتل جَمِيع الشِّيعَة وَمن إحراق كتاب الْوَسِيلَة والذريعة فَكُن لما نقُول سميعا وَإِلَّا جرعناك الْحمام تجريعا إِلَى أَن يَقُول فلأفعلن بلبي كَمَا قَالَ المتنبي
(قوم إِذا أخذُوا الأقلام من غضب ... ثمَّ استمروا بهَا مَاء المنيات)
(نالوا بهَا من أعاديهم وَإِن بعدوا ... مَا لَا ينَال بِحَدّ المشرفيات)
ولآتينهم بِجُنُود لَا قبل لَهُم بهَا ولأخرجنهم مِنْهَا أَذِلَّة وهم صاغرون(8/265)
(ووديعة من سر آل مُحَمَّد ... أودعتها إِذْ كنت من أمنائها)
(فَإِذا رَأَيْت الكوكبين تقاربا ... فِي الجدى عِنْد صباحها ومسائها)
(فهناك يُؤْخَذ ثار آل مُحَمَّد ... لطلابها بِالتّرْكِ من أعدائها)
فَكُن لهَذَا الْأَمر بالمرصاد وترقب أول النَّحْل وَآخر صَاد
ذكر أُمُور كَانَت مُقَدمَات لهَذِهِ الْوَاقِعَة
لما كَانَ الْخَامِس من جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه السّنة كَانَ ظُهُور النَّار بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة وَقبلهَا بليلتين ظهر دوى عَظِيم ثمَّ زَلْزَلَة عَظِيمَة ثمَّ ظَهرت تِلْكَ النَّار فِي الْحرَّة قَرِيبا من قُرَيْظَة يبصرها أهل الْمَدِينَة من الدّور وسالت أَوديَة مِنْهَا بالنَّار إِلَى وَادي شظا سيل المَاء وسالت الْجبَال نيرانا وسارت نَحْو طَرِيق الْحَاج الْعِرَاقِيّ فوقفت وَأخذت تَأْكُل الأَرْض أكلا وَلها كل يَوْم صَوت عَظِيم من آخر اللَّيْل إِلَى ضحوة واستغاث النَّاس بِنَبِيِّهِمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأقلعوا عَن الْمعاصِي واستمرت النَّار فَوق الشَّهْر وَهِي مِمَّا أخبر بهَا الْمُصْطَفى صلوَات الله عَلَيْهِ حَيْثُ يَقُول لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى(8/266)
تخرج نَار من أَرض الْحجاز تضىء أَعْنَاق الْإِبِل ببصرى وَقد حكى غير وَاحِد مِمَّن كَانَ ببصرى بِاللَّيْلِ وَرَأى أَعْنَاق الْإِبِل فِي ضوئها
غرق بَغْدَاد
زَاد الدجلة زِيَادَة مهولة فغرق خلق كثير من أهل بَغْدَاد وَمَات خلق تَحت الْهدم وَركب النَّاس فِي المراكب واستغاثوا بِاللَّه وعاينوا التّلف وَدخل المَاء من أسوار الْبَلَد وانهدمت دَار الْوَزير وثلثمائة وَثَمَانُونَ دَارا وانهدم مخزن الْخَلِيفَة وَهلك شَيْء كثير من خزانَة السِّلَاح
حريق الْمَسْجِد النَّبَوِيّ الشريف
وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة مستهل شهر رَمَضَان احْتَرَقَ مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ ابْتِدَاء حريقه من زاويته الغربية فأحرقت سقوفه كلهَا وذاب رصاصها وَوَقع بعض أساطينه وَاحْتَرَقَ سقف الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام(8/267)
ذكر خُرُوج هولاكو بن قان تولى بن جنكزخان
اجْتمع هُوَ وعساكره الَّتِى لَا يُحْصى عَددهَا وَلَا يدْرك مددها وَلَا يعدد عَددهَا وَلَا يدْرك وَإِن تَأمل الطّرف أمدها فِي مجْلِس المشورة وَاتَّفَقُوا على الْخُرُوج فِي يَوْم مَعْلُوم فَسَار فِي المغول من الأردو على مهله يقتلع القلاع وَيملك الْحُصُون وأطاع الله لَهُ الْبِلَاد والعباد وَصَارَ لَا يصبح يَوْم إِلَّا وسعده فِي ازدياد حَتَّى إِنَّه حلق فِي يَوْم على صيد فاصطاد ثَمَانِيَة من السبَاع فَأَنْشد بَعضهم إِذْ ذَاك
(من كَانَ يصطاد فِي يَوْم ثَمَانِيَة ... من الضراغم هَانَتْ عِنْده الْبشر)
وَملك قلاع الإسماعيلية كلهَا وَجَمِيع بِلَاد الرّوم وَصَارَ لَا يمر بِمَدِينَة إِلَّا وصاحبها بَين أَمريْن إِمَّا مُطِيع فَيقدم إِلَى مخيم هولاكو وَهُوَ مخيم عَظِيم المنظر كَبِير الحشمة مَعْمُول من الأطلس الأخمر تحتوشه جنود القندس والقاقم فَيقبل الأَرْض وينعم عَلَيْهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ رَأْيه ثمَّ يخرب بِلَاده الَّتِي كَانَ فِيهَا ويصيرها قاعا صفصفا على قَاعِدَة جده جنكزخان وَيكون المتولى لخرابها هُوَ ذَلِك الْملك وَإِمَّا عَاص وَقل وجدان ذَلِك فَلَا يعْصى عَلَيْهِ غير سَاعَات مَعْدُودَة ثمَّ يُحِيط بِهِ الْقَضَاء الْمَقْدُور ويحول بَين رَأسه وعنقه الصارم الْمَشْهُور(8/268)
وتوجهت الْمُلُوك على اخْتِلَاف ندائها وَامْتِنَاع سلطانها وَعظم مَكَانهَا إِلَى عتباته فَمنهمْ من أَمنه وَأَعْطَاهُ فرمانا ورجعه إِلَى بَلَده وَمِنْهُم من فعل بِهِ غير ذَلِك على مَا يَقْتَضِيهِ البأساء الَّتِي أخبر عَنْهَا شَيْطَان جده وابتدعها من عِنْده كل ذَلِك والخليفة غافل عَمَّا يُرَاد بِهِ
ثمَّ تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار بوصول هولاكو إِلَى أذربيجان بِقصد الْعرَاق وَكَاتب صَاحب الْموصل لُؤْلُؤ الْخَلِيفَة يستنهضه فِي الْبَاطِن وَمَا وَسعه إِلَّا مداراة هولاكو فِي الظَّاهِر وَأرْسل الْخَلِيفَة نجم الدّين البادرائي رَسُولا إِلَى الْملك النَّاصِر صَاحب دمشق يَأْمُرهُ بمصالحة الْملك الْمعز وَأَن يتَّفقَا على حَرْب التتار فامتثلا أَمر الْخَلِيفَة وَفِيمَا بَين ذَلِك تَأتي الْكتب إِلَى الْخَلِيفَة فَإِن وصلت ابْتِدَاء إِلَى الْوَزير لم يوصلها إِلَيْهِ وَإِن وصلت إِلَى الْخَلِيفَة أطلع الْوَزير فيثبطه ويغشه حِين يستنصحه
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة وفيهَا مَاتَ الْملك الْمعز أيبك التركماني صَاحب مصر وتسلطن بعده وَلَده الْملك الْمَنْصُور عَليّ بَين أيبك وترددت رسل هولاكو إِلَى بَغْدَاد وَكَانَت القرابين مِنْهُم واصلة إِلَى نَاس بعد نَاس من غير تحاش مِنْهُم فِي ذَلِك وَلَا خُفْيَة وَالنَّاس فِي غَفلَة عَمَّا يُرَاد بهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة ذَات الداهية الدهياء والمصيبة الصماء وَكَانَ القان الْأَعْظَم هولاكو قد قصد الألموت وَهُوَ معقل الباطنية الْأَعْظَم وَبهَا الْمُقدم عَلَاء الدّين مُحَمَّد بن جلال الدّين حسن الباطني المنتسب فِي مذْهبه إِلَى الفاطميين العبيديين فَتوفي عَلَاء الدّين وَنزل وَلَده إِلَى خدمَة هولاكو وَسلم قلاعه فَأَمنهُ(8/269)
ثمَّ وَردت كتب هولاكو إِلَى صَاحب الْموصل لُؤْلُؤ فِي تهيئة الإقامات وَالسِّلَاح فَأخذ يُكَاتب الْخَلِيفَة سرا ويهيء لَهُم مَا يُرِيدُونَ جَهرا والخليفة لَا يَتَحَرَّك وَلَا يَسْتَيْقِظ فَلَمَّا أزف الْيَوْم الْمَوْعُود وَتحقّق أَن الْعَدَم مَوْجُود جهز رَسُوله يعدهم بأموال عَظِيمَة ثمَّ سير مائَة رجل إِلَى الدربند يكونُونَ فِيهِ ويطالعونه بالأخبار فَقَتلهُمْ التتار أَجْمَعِينَ وَركب السُّلْطَان هولاكو إِلَى الْعرَاق وَكَانَ على مقدمته بايجو نوين وَأَقْبلُوا من جِهَة الْبر الغربي عَن دجلة فَخرج عَسْكَر بَغْدَاد وَعَلَيْهِم ركن الدّين الدويدار فَالْتَقوا على نَحْو مرحلَتَيْنِ من بَغْدَاد وانكسر البغداديون وأخذتهم السيوف وغرق بَعضهم فِي المَاء وهرب الْبَاقُونَ ثمَّ سَاق بايجو نوين فَنزل الْقرْيَة مُقَابل دَار الْخلَافَة وَبَينه وَبَينهَا دجلة وَقصد هولاكو بَغْدَاد من جِهَة الْبر الشَّرْقِي ثمَّ إِنَّه ضرب سورا على عسكره وأحاط بِبَغْدَاد فَأَشَارَ الْوَزير على الْخَلِيفَة بمصانعتهم وَقَالَ أخرج أَنا إِلَيْهِم فِي تَقْرِير الصُّلْح فَخرج وتوثق لنَفسِهِ من التتار ورد إِلَى المستعصم وَقَالَ إِن السُّلْطَان يَا مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد رغب فِي أَن يُزَوّج بنته بابنك الْأَمِير أبي بكر ويبقيك فِي منصب الْخلَافَة كَمَا أبقى صَاحب الرّوم فِي سلطنته وَلَا يُؤثر إِلَّا أَن تكون الطَّاعَة لَهُ كَمَا كَانَ أجدادك مَعَ السلاطين السلجوقية وينصرف عَنْك بجيوشه فمولانا أَمِير الْمُؤمنِينَ يفعل هَذَا فَإِن فِيهِ حقن دِمَاء الْمُسلمين وَبعد ذَلِك يمكننا أَن نَفْعل مَا نُرِيد والرأي أَن تخرج إِلَيْهِ
فَخرج أَمِير الْمُؤمنِينَ بِنَفسِهِ فِي طوائف من الْأَعْيَان إِلَى بَاب الطاغية هولاكو وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا باالله الْعلي الْعَظِيم فَأنْزل الْخَلِيفَة فِي خيمة ثمَّ دخل الْوَزير فاستدعى الْفُقَهَاء والأماثل ليحضروا العقد فَخَرجُوا من بَغْدَاد فَضربُوا أَعْنَاقهم وَصَارَ كَذَلِك يخرج طَائِفَة بعد طَائِفَة فَتضْرب أَعْنَاقهم ثمَّ طلب حَاشِيَة الْخَلِيفَة فَضرب أَعْنَاق الْجَمِيع ثمَّ طلب(8/270)
أَوْلَاده فَضرب أَعْنَاقهم وَأما الْخَلِيفَة فَقيل إِنَّه طلبه لَيْلًا وَسَأَلَهُ عَن أَشْيَاء ثمَّ أَمر بِهِ ليقْتل فَقيل لهولاكو إِن هَذَا إِن أهريق دَمه تظلم الدُّنْيَا وَيكون سَبَب خراب دِيَارك فَإِنَّهُ ابْن عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخَلِيفَة الله فِي أرضه فَقَامَ الشَّيْطَان الْمُبين الْحَكِيم نصير الدّين الطوسي وَقَالَ يقتل وَلَا يراق دَمه وَكَانَ النصير من أَشد النَّاس على الْمُسلمين فَقيل إِن الْخَلِيفَة غم فِي بِسَاط وَقيل رفسوه حَتَّى مَاتَ وَلما جَاءُوا ليقتلوه صَاح صَيْحَة عَظِيمَة وَقتلُوا أمراءه عَن آخِرهم ثمَّ مدوا الجسر وبذلوا السَّيْف بِبَغْدَاد وَاسْتمرّ الْقَتْل بِبَغْدَاد بضعا وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلم ينج إِلَّا من اختفى
وَقيل إِن هولاكو أَمر بعد ذَلِك بعد الْقَتْلَى فَكَانُوا ألف ألف وَثَمَانمِائَة ألف النّصْف من ذَلِك تِسْعمائَة ألف غير من لم يعد وَمن غرق ثمَّ نُودي بعد ذَلِك بالأمان فَخرج من كَانَ مختبئا وَقد مَاتَ الْكثير مِنْهُم تَحت الأَرْض بأنواع من البلايا وَالَّذين خَرجُوا ذاقوا أَنْوَاع الهوان والذل ثمَّ حفرت الدّور وَأخذت الدفائن وَالْأَمْوَال الَّتِي لَا تعد وَلَا تحصى وَكَانُوا يدْخلُونَ الدَّار فيجدون الخبيئة فِيهَا وَصَاحب الدَّار يحلف أَن لَهُ السنين العديدة فِيهَا مَا علم أَن بهَا خبيئة ثمَّ طلبت النَّصَارَى أَن يَقع الْجَهْر بِشرب الْخمر وَأكل لحم الْخِنْزِير وَأَن يفعل مَعَهم الْمُسلمُونَ ذَلِك فِي شهر رَمَضَان فألزم الْمُسلمُونَ بِالْفطرِ فِي رَمَضَان وَأكل الْخِنْزِير وَشرب الْخمر وَدخل هولاكو إِلَى دَار الْخَلِيفَة رَاكِبًا لَعنه الله وَاسْتمرّ على فرسه إِلَى أَن جَاءَ إِلَى سدة الْخَلِيفَة وَهِي الَّتِي تتضاءل عِنْدهَا الْأسود ويتناوله سعد السُّعُود كَالْمُسْتَهْزِئِ بهَا وانتهك الْحرم من بَيت الْخَلِيفَة وَغَيره(8/271)
وَأعْطى دَار الْخَلِيفَة لشخص من النَّصَارَى وأريقت الْخُمُور فِي الْمَسَاجِد والجوامع وَمنع الْمُسلمُونَ من الإعلان بِالْأَذَانِ فَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
هَذِه بَغْدَاد لم تكن دَار كفر قطّ جرى عَلَيْهَا هَذَا الَّذِي لم يَقع مُنْذُ قَامَت الدُّنْيَا مثله وَقتل الْخَلِيفَة وَإِن كَانَ وَقع فِي الدُّنْيَا أعظم مِنْهُ إِلَّا أَنه أضيف لَهُ هوان الدّين وَالْبَلَاء الَّذِي لم يخْتَص بل عَم سَائِر الْمُسلمين وَهَذَا أَمر قدره الله تَعَالَى فثبط لَهُ عزم هَذَا الْخَلِيفَة ليقضي الله مَا قدره
وَلَقَد حُكيَ أَن الْخَلِيفَة كَانَ قَاعِدا يقْرَأ الْقُرْآن وَقت الْإِحَاطَة بسور بَغْدَاد فَرمى شخص من التتار بِسَهْم فَدخل من شرفات الْمَكَان الَّذِي كَانَ فِيهِ وَكَانَت وَاحِدَة من بَنَاته بَين يَدَيْهِ فأصابها السهْم فَوَقَعت ميتَة
وَيُقَال كتب الدَّم على الأَرْض إِذا أَرَادَ الله أمرا سلب ذَوي الْعُقُول عُقُولهمْ وَإِن الْخَلِيفَة قَرَأَ ذَلِك وَبكى وَإِن هَذَا هُوَ الْحَامِل على أَن أطَاع الْوَزير فِي الْخُرُوج إِلَيْهِم
وَللَّه مَا فعلت زَوْجَة أَمِير الْمُؤمنِينَ قيل إِن هولاكو دَعَاهَا ليواقعها فشرعت تقدم لَهُ تحف الْجَوَاهِر وأصناف النفائس تشغله عَمَّا يرومه فَلَمَّا عرفت تصميمه على مَا عزم عَلَيْهِ اتّفقت مَعَ جَارِيَة من جواريها على مكيدة تخيلتها وحيلة عقدتها فَقَالَت لَهَا إِذا نزعت ثِيَابك وَأَرَدْت أَن أقدك نِصْفَيْنِ بِهَذَا السَّيْف فأظهري جزعا عَظِيما فَأَنا إِذْ ذَاك أَقُول لَك افعلي أَنْت هَذَا بِي فَإِن هَذَا سيف من ذخائر أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهُوَ لَا يُؤثر إِذا ضرب بِهِ وَلَا يجرح شَيْئا فَإِذا أَنْت ضربتيني فَلْيَكُن الضَّرْب بِكُل قواك على نفس المقتل(8/272)
ثمَّ جَاءَت إِلَى هولاكو وَقَالَت هَذَا سيف الْخَلِيفَة وَله خُصُوصِيَّة وَهِي أَنه يضْرب بِهِ الرجل فَلَا يجرحه إِلَّا إِذا كَانَ الضَّارِب الْخَلِيفَة ثمَّ دعت الْجَارِيَة وَقَالَت أجرب بَين يَدي السُّلْطَان فِيهَا فَلَمَّا عَايَنت الْجَارِيَة السَّيْف مُصْلِتًا وَالضَّرْب آتِيَا صاحت صَيْحَة عَظِيمَة وأظهرت الْجزع شَدِيدا فَقَالَت السيدة رضى الله عَنْهَا وَيلك أما علمت أَنه سيف أَمِير الْمُؤمنِينَ مَالك أتخشينه أما تعرفينه خذيه واضربيني بِهِ فَأَخَذته فضربتها بِهِ فقدتها نِصْفَيْنِ وَمَاتَتْ وَمَا ألمت بِعَارٍ وَلَا جعلت فرَاش ابْن عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فراشا للْكفَّار فتحسر هولاكو وَعلم أَنَّهَا مكيدة
وَقد رَأَيْت مثل هَذِه الْحِكَايَة جرى فِي الزَّمن الْمَاضِي لبَعض الصَّالِحَات راودها عَن نَفسهَا بعض الفاجرين كَمَا حكى ذَلِك الدبوسي من الْحَنَفِيَّة فِي كِتَابه رَوْضَة الْعلمَاء
ويحكى أَن شخصا من أهل مصر قَالَ كنت نَائِما حِين بلغ خبر بَغْدَاد وَأَنا متفكر كَيفَ فعل الله ذَلِك فَرَأَيْت فِي الْمَنَام قَائِلا يَقُول لَا تعترض على الله فَهُوَ أعلم بِمَا يفعل فَاسْتَيْقَظت واستغفرت الله تَعَالَى
وَأما الْوَزير فَإِنَّهُ لم يحصل على مَا أمل وَصَارَ عِنْدهم أخس من الذُّبَاب وَنَدم حَيْثُ لَا يَنْفَعهُ النَّدَم ويحكى أَنه طلب مِنْهُ يَوْمًا شعير فَركب الْفرس بِنَفسِهِ وَمضى ليحصله لَهُم وَهَذَا يشتمه وَهَذَا يَأْخُذ بِيَدِهِ وَهَذَا يصفعه بعد أَن كَانَت السلاطين تَأتي فَتقبل عتبَة دَاره(8/273)
والعساكر تمشي فِي خدمته حَيْثُ سَار من ليله ونهاره وَأَن امْرَأَة رَأَتْهُ من طاق فَقَالَت لَهُ يَا ابْن العلقمي هَكَذَا كنت تركب فِي أَيَّام أَمِير الْمُؤمنِينَ فَخَجِلَ وَسكت وَقد مَاتَ غبنا بعد أشهر يسيرَة وَمضى إِلَى دَار مقبره وَوجد مَا عمل حَاضرا
وَأما ابْن صلايا نَائِب إربل فَإِن هولاكو ضرب عُنُقه
ثمَّ جَاءَت رسل هولاكو إِلَى الْملك النَّاصِر صَاحب الشَّام وَصُورَة كِتَابه إِلَيْهِ يعلم سُلْطَان ملك نَاصِر أَنه لما توجهنا إِلَى الْعرَاق وَخرج إِلَيْنَا جنودهم فقتلناهم بِسيف الله ثمَّ خرج إِلَيْنَا رُؤَسَاء الْبَلَد ومقدموها فأعدمناهم أَجْمَعِينَ ذَلِك بِمَا قدمت أَيْديهم وَبِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وَأما مَا كَانَ من صَاحب الْبَلدة فَإِنَّهُ خرج إِلَى خدمتنا وَدخل تَحت عبوديتنا فَسَأَلْنَاهُ عَن أَشْيَاء كذب فِيهَا فَاسْتحقَّ الإعدام أجب ملك البسيطة وَلَا تقولن قلاعي المانعات ورجالي المقاتلات فساعة وقوفك على كتَابنَا نجْعَل قلاع الشَّام سماءها أَرضًا وطولها عرضا وَأرْسل غير مَا كتاب فِي هَذَا الْمَعْنى
ثمَّ فِي سنة سبع وَخمسين وسِتمِائَة نزل على آمد وَبعث إِلَى صَاحب ماردين يُطَالِبهُ فَجعل صَاحبهَا يتعلل بِالْمرضِ وَأرْسل أَوْلَاده وهداياه جَهرا إِلَى هولاكو وَأرْسل فِي الْبَاطِن يستحث الْملك النَّاصِر على محاربة التتار ثمَّ عبر لَهُ جَيش عَظِيم إِلَى الْفُرَات بعد أَن استولى على حران والرها والجزيرة فجَاء الْخَبَر إِلَى صَاحب حلب فجفل النَّاس بهَا(8/274)
وَعظم الْخطب وَعم الْبلَاء ثمَّ قاربوا حلب فَخرج إِلَيْهِم جمَاعَة من عسكرها فهزموهم ونازلوا الْبَلدة وَقتلُوا خلقا كثيرا ثمَّ رحلوا عَنْهَا طَالِبين أعزاز وَكَانَ الْمُقدم على هَذَا الْجَيْش أسموط بن هولاكو ثمَّ عبر هولاكو الْفُرَات بِنَفسِهِ فِي الْمحرم سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة ونازلت عساكره حلب وركبوا الأسوار من كل نَاحيَة بعد أَن نقبوا وخندقوا فهرب الْمُسلمُونَ إِلَى جِهَة القلعة وبذلت التتار السَّيْف فِي الْعَالم وامتلأت الطرقات بالقتلى وَبَقِي الْقَتْل والنهب والحريق إِلَى رَابِع عشر صفر ثمَّ نُودي بِرَفْع السَّيْف وَأذن المؤذنون يَوْمئِذٍ بالجامع وأقيمت الْخطْبَة وَالصَّلَاة ثمَّ أحاطوا بالقلعة وحاصروها
وَأرْسل صَاحب حلب إِلَى الْملك النَّاصِر صَاحب الشَّام يستحثه وَوصل الْخَبَر إِلَى دمشق بأخذهم حلب فهرب الْملك النَّاصِر بعد أَن كَانَ جبى الْأَمْوَال وَجمع الجموع وَنزل على بَرزَة بعساكر عَظِيمَة ثمَّ رأى الْعَجز فهرب ووصلت رسل التتار إِلَى دمشق وقرىء الفرمان بِأَمَان أهل دمشق وَمَا حواليها
وَأما حماة فَإِن صَاحبهَا كَانَ حضر إِلَى بَرزَة ليتجهز مَعَ الْملك النَّاصِر فَلَمَّا سمع أهل الْبَلَد فِي غيبته بِأخذ حلب أرْسلُوا إِلَى هولاكو يسْأَلُون عطفه وسلموا الْبَلَد وهرب صَاحب حماة مَعَ الْملك النَّاصِر فسارا نَحْو مصر فَلَمَّا وصلا قطيا تقدم صَاحب حماة وَهُوَ الْملك الْمَنْصُور وَدخل مصر وبقى النَّاصِر فِي عَسْكَر قَلِيل فتوجهوا إِلَى تيه بني إِسْرَائِيل خوفًا من المصريين
وَأما التتار فوصلوا إِلَى غَزَّة واستولوا على مَا خَلفهم وتسلموا قلعة دمشق وَجعلُوا بهَا نَائِبا ثمَّ تفَرقُوا فِي بِلَاد الشَّام يَفْعَلُونَ مَا يختارون وطافوا فِي دمشق بِرَأْس(8/275)
الْملك الْكَامِل الشَّهِيد صَاحب ميافارقين وَقد كَانُوا حاصروه سنة وَنصفا وَمَا زَالَ ظَاهرا عَلَيْهِم إِلَى أَن فنى أهل الْبَلَد لفناء الأقوات
ثمَّ سَار النَّاصِر وَأَخُوهُ وحاشيته إِلَى هولاكو وَكَانَ جَاءَ كتاب هولاكو قبل وُصُوله إِلَى دمشق فقرئ بِدِمَشْق وَصورته أما بعد فَنحْن جنود الله بِنَا ينْتَقم مِمَّن عتا وتجبر وطغى وتكبر وَنحن قد أهلكنا الْبِلَاد وأبدنا الْعباد وقتلنا النِّسَاء وَالْأَوْلَاد فأيها الْبَاقُونَ أَنْتُم بِمن مضى لاحقون وأيها الغافلون أَنْتُم إِلَيْهِم تساقون وَنحن جيوش الهلكة لَا جيوش الملكة مقصودنا الانتقام وملكنا لَا يرام ونزيلنا لَا يضام وعدلنا فِي ملكنا قد اشْتهر وَمن سُيُوفنَا أَيْن المفر
(أَيْن المفر وَلَا مفر لهارب ... وَلنَا البسيطان الثرى وَالْمَاء)
(ذلت لهيبتنا الْأسود وأصبحت ... فِي قبضنا الْأُمَرَاء وَالْخُلَفَاء)
وَنحن إِلَيْكُم صائرون وَلكم الْهَرَب وعلينا الطّلب
(ستعلم ليلى أَي دين تداينت ... وَأي غَرِيم بالتقاضي غريمها)
دمرنا الْبِلَاد وأيتمنا الْأَوْلَاد وأهلكنا الْعباد وأذقناهم الْعَذَاب
وشمخت النَّصَارَى بِدِمَشْق وصاروا يرفعون الصَّلِيب ويمرون بِهِ فِي الْأَسْوَاق وَالْخمر مَعَهم يرشونه على الْمَسَاجِد والمصلين وَمن رأى الصَّلِيب وَلَا يقوم لَهُ عاقبوه(8/276)
وَأما المصريون فَإِنَّهُ سلطنوا الْملك المظفر قطز واجتمعوا وطلبوا شيخ الْإِسْلَام عز الدّين بن عبد السَّلَام وَحضر إِلَيْهِم بيبرس البندقداري يستحثهم ويهون عَلَيْهِم
1188 - عبد الْغفار بن عبد الْكَرِيم بن عبد الْغفار الْقزْوِينِي الشَّيْخ الإِمَام نجم الدّين
صَاحب الْحَاوِي الصَّغِير واللباب وَشرح اللّبَاب الْمُسَمّى ب العجاب وَله أَيْضا كتاب فِي الْحساب
كَانَ أحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام لَهُ الْيَد الطُّولى فِي الْفِقْه والحساب وَحسن الِاخْتِصَار(8/277)
أجازت لَهُ عفيفة الفارفانية من أَصْبَهَان
وَكَانَ من الصَّالِحين أَرْبَاب الْأَحْوَال والكرامات حكى لي الشَّيْخ قطب الدّين مُحَمَّد بن أسفهيد الأردبيلي أعَاد الله علينا من بركته أَنه اتّفق حج الشَّيْخ شهَاب الدّين السهروردي بعد مَا أضرّ فِي الْعَام الَّذِي حج فِيهِ عبد الْغفار الْقزْوِينِي وَلم يكن يعرفهُ فَقَالَ الشَّيْخ شهَاب الدّين لجماعته أَشمّ هُنَا رَائِحَة رجل وَوَصفه فكشفوا خَبره فوافوه وَهُوَ يكْتب فِي الْحَاوِي وَقد أَضَاء لَهُ نور فِي اللَّيْل يكْتب عَلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ إِن الشَّيْخ يطلبك قَالَ فَلَمَّا حضر إِلَى الشَّيْخ شهَاب الدّين قَالَ لَهُ مَا تكْتب قَالَ أصنف هَذَا الْكتاب وَوصف لَهُ الْحَاوِي فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ شهَاب الدّين أسْرع وَعجل ونجز هَذَا الْكتاب وفارقه فَقيل للشَّيْخ فِي هَذَا فَقَالَ إِن أَجله قد دنا فَأَحْبَبْت أَن يفرغ من هَذَا الْكتاب قبل أَن يَمُوت فَكَانَ كَذَلِك مَاتَ بعد فَرَاغه بِيَسِير
وَحكى لي أَيْضا الشَّيْخ قطب الدّين أَن عبد الْغفار كَانَ مَعْرُوفا بَين أهل قزوين بِأَنَّهُ إِذا كتب فِي اللَّيْل تضيء لَهُ أَصَابِعه فَيكْتب عَلَيْهَا
قلت وإضاءة النُّور لأهل قزوين وَقت التصنيف وَغَيره كَرَامَة ذَكرنَاهَا فِي تَرْجَمَة الرَّافِعِيّ وَفِي تَرْجَمَة وَالِد الرَّافِعِيّ وَفِي تَرْجَمَة هَذَا رَحمَه الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ
توفّي فِي الْمحرم سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة(8/278)
1189 - عبد الْقَادِر بن دَاوُد بن أبي نصر واسْمه مُحَمَّد بن النقار أَبُو مُحَمَّد
من أهل وَاسِط
تفقه على أبي الْعَلَاء بن البوقي والمجير الْبَغْدَادِيّ وَالشَّيْخ فَخر الدّين النوقاني
وَكَانَ خيرا دينا أثنى عَلَيْهِ ابْن النجار كثيرا وَقَالَ كَانَت لَهُ معرفَة تَامَّة بِمذهب الشَّافِعِي أصولا وفروعا وَله يَد باسطة فِي الْفَرَائِض والحساب وَمَعْرِفَة حَسَنَة بالأدب وَكَانَ من الْوَرع والنزاهة والديانة والمروءة والتواضع على طَريقَة عرف بهَا واشتهرت عَنهُ سَمِعت مِنْهُ شَيْئا فِي الحَدِيث وَتُوفِّي فِي شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرَة وسِتمِائَة
1190 - عبد الْقَادِر بن أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن شرف الدّين أَبُو مُحَمَّد بن الْبَغْدَادِيّ الْمصْرِيّ
رَحل من الشَّام فِي الصِّبَا وَسكن الْقَاهِرَة وتفقه بهَا على الشَّيْخ شهَاب الدّين الطوسي بعد أَن تفقه بِدِمَشْق على قطب الدّين النَّيْسَابُورِي وَسمع من الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر ودرس بالقطبية بِالْقَاهِرَةِ
روى عَنهُ الْحَافِظ عبد الْعَظِيم وَقَالَ كَانَ فَقِيها حسنا من أهل الدّين والعفاف طارحا للتكلف مُقبلا على مَا يعنيه
توفّي فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة(8/279)
1191 - عبد الْكَافِي بن عبد الْملك بن عبد الْكَافِي بن عَليّ
القَاضِي الْخَطِيب جمال الدّين أَبُو مُحَمَّد الربعِي الدِّمَشْقِي
ولد سنة اثْنَتَيْ عشرَة وسِتمِائَة
وَسمع من ابْن الصَّباح وَابْن الزبيدِيّ وَابْن اللتي وَطَائِفَة
سمع مِنْهُ الْحَافِظ علم الدّين البرزالي وَالْقَاضِي أَبُو مُسلم الجيلي وَآخَرُونَ
وَكَانَ فَقِيها فَاضلا نَاب فِي الْقَضَاء مُدَّة ثمَّ ترك ذَلِك وَاقْتصر على الخطابة بالجامع الْأمَوِي والإمامة
مَاتَ فِي سلخ جُمَادَى الأولى سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة(8/280)
1192 - عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن الْفضل بن الْحسن الْقزْوِينِي الإِمَام الْجَلِيل أَبُو الْقَاسِم الرَّافِعِيّ
صَاحب الشَّرْح الْكَبِير الْمُسَمّى ب الْعَزِيز وَقد تورع بَعضهم عَن إِطْلَاق لفظ الْعَزِيز مُجَردا على غير كتاب الله فَقَالَ الْفَتْح الْعَزِيز فِي شرح الْوَجِيز وَالشَّرْح الصَّغِير وَالْمُحَرر وَشرح مُسْند الشَّافِعِي والتذنيب والأمالي الشارحة على مُفْرَدَات الْفَاتِحَة وَهُوَ ثَلَاثُونَ مَجْلِسا أملاها أَحَادِيث بأسانيده عَن أشياخه على سُورَة الْفَاتِحَة وَتكلم عَلَيْهَا وَقد وقفنا على هَذِه التصانيف كلهَا
وَله كتاب الإيجاز فِي أخطار الْحجاز ذكر أَنه أوراق يسيرَة ذكر فِيهَا مبَاحث وفوائد خطرت لَهُ فِي سَفَره إِلَى الْحَج وَكَانَ الصَّوَاب أَن يَقُول خطرات أَو خواطر الْحجاز وَلَعَلَّه قَالَ ذَلِك وَالْخَطَأ من النَّاقِل(8/281)
وَكتاب الْمَحْمُود فِي الْفِقْه لم يتمه ذكر لي أَنه فِي غَايَة الْبسط وَأَنه وصل فِيهِ إِلَى أثْنَاء الصَّلَاة فِي ثَمَان مجلدات
قلت وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الْكَبِير فِي بَاب الْحيض أَظُنهُ عِنْد الْكَلَام فِي الْمُتَحَيِّرَة وَكَفاهُ بِالْفَتْح الْعَزِيز شرفا فَلَقَد علا بِهِ عنان السَّمَاء مِقْدَارًا وَمَا اكْتفى فَإِنَّهُ الَّذِي لم يصنف مثله فِي مَذْهَب من الْمذَاهب وَلم يشرق على الْأمة كضيائه فِي ظلام الغياهب
كَانَ الإِمَام الرَّافِعِيّ متضلعا من عُلُوم الشَّرِيعَة تَفْسِيرا وحديثا وأصولا مترفعا على أَبنَاء جنسه فِي زَمَانه نقلا وبحثا وإرشادا وتحصيلا وَأما الْفِقْه فَهُوَ فِيهِ عُمْدَة الْمُحَقِّقين وأستاذ المصنفين كَأَنَّمَا كَانَ الْفِقْه مَيتا فأحياه وأنشره وَأقَام عماده بعد مَا أَمَاتَهُ الْجَهْل فأقبره كَانَ فِيهِ بَدْرًا يتَوَارَى عَنهُ الْبَدْر إِذا دارت بِهِ دائرته وَالشَّمْس إِذا ضمهَا أوجها وجوادا لَا يلْحقهُ الْجواد إِذا سلك طرقا ينْقل فِيهَا أقوالا وَيخرج أوجها فَكَأَنَّمَا عناه البحتري بقوله
(وَإِذا دجت أقلامه ثمَّ انتحت ... برقتْ مصابيح الدجا فِي كتبه)
(بِاللَّفْظِ يقرب فهمه فِي بعده ... منا وَيبعد نيله فِي قربه)(8/282)
(حكم سحابتها خلال بَيَانه ... هطالة وقليبها فِي قلبه)
(كالروض مؤتلقا بحمرة نوره ... وَبَيَاض زهرته وخضرة عشبه)
(وَكَأَنَّهَا والسمع مَعْقُود بهَا ... شخص الحبيب بدا لعين محبه)
وَكَانَ رَحمَه الله ورعا زاهدا تقيا نقيا طَاهِر الذيل مراقبا لله لَهُ السِّيرَة الرضية المرضية والطريقة الزكية والكرامات الباهرة
سمع الحَدِيث من جمَاعَة مِنْهُم أَبوهُ وَأَبُو حَامِد عبد الله بن أبي الْفتُوح بن عُثْمَان العمراني والخطيب أَبُو نصر حَامِد بن مَحْمُود الماوراء النَّهْرِي والحافظ أَبُو الْعَلَاء الْحسن بن أَحْمد الْعَطَّار الهمذاني وَمُحَمّد بن عبد الْبَاقِي بن البطي وَالْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان أَحْمد بن حسنويه وَغَيرهم وَحدث بِالْإِجَازَةِ عَن أبي زرْعَة الْمَقْدِسِي وَغَيره
روى عَنهُ الْحَافِظ عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ وَغَيره
قَالَ ابْن الصّلاح أَظن أَنِّي لم أر فِي بِلَاد الْعَجم مثله
قلت لَا شكّ فِي ذَلِك(8/283)
وَقَالَ النَّوَوِيّ الرَّافِعِيّ من الصَّالِحين المتمكنين كَانَت لَهُ كرامات كَثِيرَة
وَقَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد الإسفرايني هُوَ شَيخنَا إِمَام الدّين وناصر السّنة كَانَ أوحد عصره فِي الْعُلُوم الدِّينِيَّة أوصلا وفروعا مُجْتَهد زَمَانه فِي الْمَذْهَب فريد وقته فِي التَّفْسِير كَانَ لَهُ مجْلِس بقزوين للتفسير ولتسميع الحَدِيث
ونقلت من خطّ الْحَافِظ صَلَاح الدّين خَلِيل بن كيكلدي العلائي نقلت من خطّ الْحَافِظ علم الدّين أبي مُحَمَّد الْقَاسِم بن مُحَمَّد البرزالي نقلت من خطّ الشَّيْخ الإِمَام تَاج الدّين بن الفركاح أَن القَاضِي شمس الدّين بن خلكان حَدثهُ أَن الإِمَام الرَّافِعِيّ توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة وَأَن خوارزم شاه يَعْنِي جلال الدّين غزا الكرج بتفليس فِي هَذِه السّنة وَقتل فيهم بِنَفسِهِ حَتَّى جمد الدَّم على يَده فَلَمَّا مر بقزوين خرج إِلَيْهِ الرَّافِعِيّ فَلَمَّا دخل إِلَيْهِ أكْرمه إِكْرَاما عَظِيما فَقَالَ لَهُ الرَّافِعِيّ سَمِعت أَنَّك قَاتَلت الْكفَّار حَتَّى جمد الدَّم على يدك فَأحب أَن تخرج إِلَيّ يدك لأقبلها فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان بل أَنا أحب أَن أقبل يدك فَقبل السُّلْطَان يَده وتحادثا ثمَّ خرج الشَّيْخ وَركب دَابَّته وَسَار قَلِيلا فَعَثَرَتْ بِهِ الدَّابَّة فَوَقع فتأذت يَده الَّتِي قبلهَا السُّلْطَان فَقَالَ الشَّيْخ سُبْحَانَ الله لقد قبل هَذَا السُّلْطَان يَدي فَحصل فِي نَفسِي شَيْء من العظمة فعوقبت فِي الْوَقْت بِهَذِهِ الْعقُوبَة
سَمِعت شَيخنَا شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن النَّقِيب يحْكى أَن الرَّافِعِيّ فقد فِي بعض اللَّيَالِي مَا يسرجه عَلَيْهِ وَقت التصنيف فَأَضَاءَتْ لَهُ شَجَرَة فِي بَيته
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْمُقْرِئ أخبرنَا عبد الْعَظِيم بن عبد الْقوي الْحَافِظ حَدثنَا الشَّيْخ الصَّالح أَبُو الْقَاسِم عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد الْقزْوِينِي لفظا بِمَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبرنَا أَبُو زرْعَة إِذْنا(8/284)
ح وَكتب إِلَيّ أَبُو طَاهِر بن سيف عَن الْمُنْذِرِيّ أخبرنَا الرَّافِعِيّ لفظا
ح وقرأت على أبي عبد الله وَأبي الْعَبَّاس الحافظين أخبركما عبد الْخَالِق القَاضِي أخبرنَا ابْن قدامَة أخبرنَا أَبُو زرْعَة أخبرنَا المقومي إجَازَة إِن لم يكن سَمَاعا أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الْخَطِيب أخبرنَا الْقطَّان أخبرنَا ابْن مَاجَه حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن رَاشد حَدثنَا زَكَرِيَّا بن عدي حَدثنَا عبيد الله بن عَمْرو عَن عبد الْكَرِيم عَن عَطاء عَن جَابر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ صَلَاة فِي مَسْجِدي أفضل من ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أفضل من مائَة ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ
قَالَ الْحَافِظ عبد الْعَظِيم صَوَابه ابْن أَسد
وَهَذِه فَوَائِد من أمالي الرَّافِعِيّ
قَالَ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما مائَة إِلَّا وَاحِدًا من أحصاها دخل الْجنَّة إِنَّمَا قَالَ مائَة إِلَّا وَاحِدًا لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه على التَّقْرِيب وَفِيه فَائِدَة رفع الِاشْتِبَاه فقد يشْتَبه فِي الْخط تِسْعَة وَتسْعُونَ بسبعة وَسبعين
روى بِسَنَدِهِ إِلَى عبد الله المغربي من ادّعى الْعُبُودِيَّة وَله مُرَاد بَاقٍ فَهُوَ كَاذِب فِي دَعْوَاهُ إِنَّمَا تصح الْعُبُودِيَّة لمن أفنى مراداته وَقَامَ بِمُرَاد سَيّده(8/285)
ليَكُون اسْمه مَا سمي بِهِ إِذا دعِي باسم أجَاب عَن الْعُبُودِيَّة وَلَا يُجيب إِلَّا من يَدعُوهُ بالعبودية ثمَّ أنشأ يَقُول
(يَا عَمْرو ثاري عِنْد أَسمَاء ... يعرفهُ السَّامع والرائي)
(لَا تدعني إِلَّا بيا عَبدهَا ... لِأَنَّهُ أشرف أسمائى)
ثمَّ أنْشد الرَّافِعِيّ لنَفسِهِ
(سمني بِمَا شِئْت وسم جبهتي ... بِاسْمِك ثمَّ أسم بأسمائي)
(فسمني عَبدك أَفْخَر بِهِ ... وَيَسْتَوِي عَرْشِي على المَاء)
وَأنْشد لنَفسِهِ أَيْضا
(إِن كنت فِي الْيُسْر فاحمد من حباك بِهِ ... فَلَيْسَ حَقًا قضى لكنه الْجُود)
(أَو كنت فِي الْعسر فاحمده كَذَلِك إِذْ ... مَا فَوق ذَلِك مَصْرُوف ومردود)
(وكيفما دارت الْأَيَّام مقبلة ... وَغير مقبلة فَالْحَمْد مَحْمُود)
وَقَالَ اعْلَم أَن النَّاس فِي الرِّضَا ثَلَاثَة أَقسَام قوم يحسون بالبلاء ويكرهونه وَلَكِن يصبرون على حكمه ويتركون تدبيرهم ونظرهم حبا لله تَعَالَى لِأَن تَدْبِير الْعقل لَا ينطبق على رسوم الْمحبَّة والهوى قَالَ قَائِلهمْ
(لن يضْبط الْعقل إِلَّا مَا يدبره ... وَلَا ترى فِي الْهوى لِلْعَقْلِ تدبيرا)
(كن محسنا أَو مسيئا وابق لي أبدا ... وَكن لدي على الْحَالين مشكورا)(8/286)
وَقوم يضمون إِلَى سُكُون الظَّاهِر سُكُون الْقلب بِالِاجْتِهَادِ والرياضة وَإِن أَتَى الْبلَاء على أنفسهم بل
(يستعذبون بلاياهم كَأَنَّهُمْ ... لَا ييأسون من الدُّنْيَا إِذا قتلوا)
وَلذَلِك قَالَ ذُو النُّون الْمصْرِيّ الرَّجَاء سرُور الْقلب بمرور الْقَضَاء وَقَالَت رَابِعَة إِنَّمَا يكون العَبْد رَاضِيا إِذا سرته البلية كَمَا سرته النِّعْمَة
وَقوم يتركون الِاخْتِيَار ويوافقون الأقدار فَلَا يبْقى لَهُم تلذذ وَلَا استعذاب وَلَا رَاحَة وَلَا عَذَاب قَالَ أَبُو الشيص وَأحسن
(وقف الْهَوِي بِي حَيْثُ أَنْت فَلَيْسَ لي ... مُتَأَخّر عَنهُ وَلَا مُتَقَدم)
(أجد الْمَلَامَة فِي هَوَاك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم)
(أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إِذْ كَانَ حظي مِنْك حظي مِنْهُم)
(وأهنتني فأهنت نَفسِي عَامِدًا ... مَا من يهون عَلَيْك مِمَّن يكرم)
قَالَ فِي الْإِمْلَاء على حَدِيث عَائِشَة كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستفتح الصَّلَاة بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَة بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين حمل الشَّافِعِي ذَلِك فِيمَا نَقله أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ وَغَيره على التَّعْبِير عَن السُّورَة يذكر أَولهَا بعد آيَة التَّسْمِيَة الْمُشْتَركَة كَمَا يُقَال قَرَأت طه وَيس قَالَ ثمَّ هَذَا الِاسْتِدْلَال يَعْنِي اسْتِدْلَال الْخُصُوم على أَنَّهَا لَيست من الْقُرْآن بِهَذَا الحَدِيث لَا يَتَّضِح على قَول من يذهب إِلَى أَن التَّسْمِيَة فِي أَوَائِل السُّور لَيست من الْقُرْآن لِأَن المُرَاد من قَوْله يستفتح الْقِرَاءَة قِرَاءَة الْقُرْآن لَا مُطلق الْقِرَاءَة(8/287)
وَحِينَئِذٍ فالافتتاح بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين لَا ينافى قِرَاءَة الْبَسْمَلَة أَولا كَمَا لَا ينافى قِرَاءَة التَّعَوُّذ وَدُعَاء الاستفتاح
قَالَ الرَّافِعِيّ سَبِيل من أشرف قلبه وَنور بصيرته على الضّيَاع أَن يستغيث بالرحمن رَجَاء أَن يتدارك أمره بِالرَّحْمَةِ والاصطناع ويتضرع بِمَا أنْشد عبد الله بن الْحسن الْفَقِير
(لَو شِئْت داويت قلبا أَنْت مسقمه ... وَفِي يَديك من الْبلوى سَلَامَته)
(إِن كَانَ يجهل مَا فِي الْقلب من حرق ... فدمع عَيْني على خدي علامته)
ثمَّ روى بِسَنَدِهِ أَن سمنون كَانَ جَالِسا على الشط وَبِيَدِهِ قضيب يضْرب بِهِ فَخذه وَسَاقه حَتَّى تبدد لَحْمه وَهُوَ يَقُول
(كَانَ لي قلب أعيش بِهِ ... ضَاعَ مني فِي تقلبه)
(رب فاردده عَليّ فقد ... ضَاقَ صَدْرِي فِي تطلبه)
(وأغث مَا دَامَ بِي رَمق ... يَا غياث المستغيث بِهِ)
وروى عَن مسرور الْخَادِم قَالَ لما احْتضرَ هَارُون أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمرنِي أَن آتيه بأكفانه فَأَتَيْته بهَا ثمَّ أَمرنِي فحفرت لَهُ قَبره ثمَّ أَمر فَحمل إِلَيْهِ وَجعل يتأمله وَيَقُول {مَا أغْنى عني ماليه هلك عني سلطانيه} ثمَّ أنْشد الرَّافِعِيّ لنَفسِهِ
(الْملك لله الَّذِي عنت الْوُجُوه ... لَهُ وذلت عِنْده الأرباب)
(متفرد بِالْملكِ وَالسُّلْطَان قد ... خسر الَّذين تجاذبوه وخابوا)(8/288)
(دعهم وَزعم الْملك يَوْم غرورهم ... فسيعلمون غَدا من الْكذَّاب)
وَقَالَ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّه ليغان على قلبِي فأستغفر الله فِي كل يَوْم مائَة مرّة مِم كَانَ يَتُوب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى م يحمل الْغَيْن فِي قلبه افترق النَّاس فِيهِ فرْقَتَيْن فرقة أنْكرت الحَدِيث واستعظمت أَن يغان قلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى يسْتَغْفر مِمَّا أَصَابَهُ وعَلى ذَلِك جرى أَبُو نصر السراج صَاحب كتاب اللمع فِي التصوف فروى الحَدِيث وَقَالَ عَقِيبه هَذَا حَدِيث مُنكر وَأنكر عُلَمَاء الحَدِيث استنكار السراج وَقَالُوا الحَدِيث صَحِيح وَكَانَ من حَقه أَن لَا يتَكَلَّم فِيمَا لَا يعلم والمصححون لَهُ تحزبوا فتحرج من تَفْسِيره متحرجون(8/289)
عَن شُعْبَة سَأَلت الْأَصْمَعِي مَا معنى ليغان على قلبِي فَقَالَ عَمَّن يرْوى ذَلِك قلت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَو كَانَ عَن غير قلب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسرته لَك وَأما قلب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا أَدْرِي فَكَانَ شُعْبَة يتعجب مِنْهُ
وَعَن الْجُنَيْد لَوْلَا أَنه حَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتكلمت فِيهِ وَلَا يتَكَلَّم على حَال إِلَّا من كَانَ مشرفا عَلَيْهَا وجلت حَاله أَن يشرف على نهايتها أحد من الْخلق وَتمنى الصّديق رضى الله عَنهُ مَعَ علو مرتبته أَن يشرف عَلَيْهَا فَعَنْهُ لَيْتَني شهِدت مَا اسْتغْفر مِنْهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَهَذِهِ طَريقَة المصححين وَتكلم فِيهِ آخَرُونَ على حسب مَا انْتهى إِلَيْهِ فهمهم وَلَهُم منهاجان أَحدهمَا حمل الْغَيْن على حَالَة جميلَة ومرتبة عالية اخْتصَّ بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمرَاد من استغفاره خضوعه وَإِظْهَار حَاجته إِلَى ربه أَو ملازمته للعبودية وَمن هَؤُلَاءِ من نزل الْغَيْن على السكينَة والاطمئنان وَعَن أبي سعيد الخراز الْغَيْن شَيْء لَا يجده إِلَّا الْأَنْبِيَاء وأكابر الْأَوْلِيَاء لصفاء الْأَسْرَار وَهُوَ كالغين الرَّقِيق الَّذِي لَا يَدُوم
وَالثَّانِي حمل الْغَيْن على عَارض يطْرَأ غَيره أكمل مِنْهُ فيبادر إِلَى الاسْتِغْفَار إعْرَاضًا وعَلى هَذَا كثرت التنزيلات والتأويلات فقد كَانَ سَبَب الْغَيْن النّظر فِي حَال الْأمة واطلاعه على مَا يكون مِنْهُم فَكَانَ يسْتَغْفر لَهُم وَقيل سَببه مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من التَّبْلِيغ ومشاهدة الْخلق فيستغفر مِنْهُ ليصل إِلَى صفاء وقته مَعَ الله وَقيل مَا كَانَ يشْغلهُ من تمادي قُرَيْش وطغيانهم وَقيل مَا كَانَ يجد فِي نَفسه من محبَّة إِسْلَام أبي طَالب وَقيل لم يزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مترقيا من رُتْبَة إِلَى رُتْبَة فَكلما رقي دَرَجَة والتفت إِلَى(8/290)
مَا خلفهَا وجد مِنْهَا وَحْشَة لقصورها بِالْإِضَافَة إِلَى الَّتِي انْتهى إِلَيْهَا وَذَلِكَ هُوَ الْغَيْن فيستغفر الله مِنْهَا وَهَذَا مَا كَانَ يستحسنه وَالِدي رَحمَه الله ويقرره انْتهى كَلَام الرَّافِعِيّ ثمَّ أنْشد لغيره هَذَا
(وَالله مَا سهري إِلَّا لبعدهم ... وَلَو أَقَامُوا لما عذبت بالسهر)
(عهدي بهم ورداء الْوَصْل يشملنا ... وَاللَّيْل أطوله كاللمح بالبصر)
(والآن ليلِي إِذْ ضنوا بزورتهم ... ليل الضَّرِير فنومي غير منتظر)
وَهَذِه فَوَائِد من شرح الْمسند للرافعي
ذكر فِيهِ أَن الْأَفْضَل لمن يشيع الْجِنَازَة أَن يكون خلفهَا بالِاتِّفَاقِ وَالَّذِي أوقعه فِي ذَلِك الْخطابِيّ فَإِنَّهُ كَذَلِك قَالَ وَقد ذكر الرَّافِعِيّ نَفسه فِي شرحيه أَنه يكون أمامها وَحكى مَا سبق رِوَايَة عَن أَحْمد
وَمن شعر الرَّافِعِيّ مِمَّا لَيْسَ فِي الأمالي أنشدنا قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد ابْن عبد الرَّحْمَن الْقزْوِينِي فِي كِتَابه عَن وَالِده عَن أبي الْقَاسِم الرَّافِعِيّ رَحمَه الله أَنه أنْشدهُ لنَفسِهِ(8/291)
(تنبه فَحق أَن يطول بحسرة ... تلهف من يسْتَغْرق الْعُمر نَومه)
(وَقد نمت فِي عصر الشبيبة غافلا ... فَهَب نصيح الشيب قد جَاءَ يَوْمه)
وَهَذِه تَنْبِيهَات مهمة تتَعَلَّق بالرافعي رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وعنا بكرمه
تَنْبِيه اشْتهر على لِسَان الطّلبَة أَن الرَّافِعِيّ لَا يصحح إِلَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ أَكثر الْأَصْحَاب وَكَأَنَّهُم أخذُوا ذَلِك من خطْبَة كِتَابه الْمُحَرر وَمن كَلَام صَاحب الْحَاوِي الصَّغِير وَاشْتَدَّ نَكِير الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى على من ظن ذَلِك وَبَين خطأه فِي كتاب الطوالع المشرقة وَغَيره ولخصت أَنا كَلَامه فِيهِ فِي كتاب التوشيح ثمَّ ذكرت أَمَاكِن رجح الرَّافِعِيّ فِيهَا مَا أعرف أَن الْأَكْثَر على خِلَافه وَهَا أَنا أعد مَا يحضرني من هَذِه الْأَمَاكِن
مِنْهَا الْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ هَل هُوَ ركن طَوِيل أَو قصير فِيهِ وَجْهَان أَحدهمَا أَنه طَوِيل قَالَ الرَّافِعِيّ حَكَاهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن ابْن سُرَيج وَالْجُمْهُور وَالثَّانِي أَنه قصير قَالَ الرَّافِعِيّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكره الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد فِي الفروق وَتَابعه صَاحب التَّهْذِيب وَغَيره وَهُوَ الْأَصَح انْتهى
وَلَعَلَّ الرَّافِعِيّ يُنَازع الإِمَام فِي كَون الْجُمْهُور على أَنه طَوِيل
وَمِنْهَا فِي صَلَاة الْخَوْف إِذا دمي السِّلَاح الَّذِي يحملهُ الْمُصَلِّي وَعجز عَن إلقائه أمْسكهُ وَفِي الْقَضَاء حِينَئِذٍ قَولَانِ قَالَ الرَّافِعِيّ نقل الإِمَام عَن الْأَصْحَاب أَنه يقْضِي وَقَالَ النَّوَوِيّ ظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب الْقطع بِهِ قَالَ الرَّافِعِيّ والأقيس أَنه لَا يقْضِي وَوَافَقَهُ الشَّيْخ الإِمَام(8/292)
وَمِنْهَا ذكر أَن الْأَكْثَر لَا سِيمَا الْمُتَقَدِّمين على تَجْوِيز النّظر إِلَى الْأَجْنَبِيَّة وَاقْتضى كَلَامه
1193 - عُثْمَان بن مُحَمَّد بن أبي مُحَمَّد بن أبي عَليّ عماد الدّين أَبُو عَمْرو الْكرْدِي الْحميدِي
تفقه بالموصل على غير وَاحِد ثمَّ رَحل إِلَى أبي سعد بن أبي عصرون وتفقه عَلَيْهِ وَقدم مصر فولى قَضَاء دمياط ثمَّ نَاب فِي القاهر عَن قَاضِي الْقُضَاة عبد الْملك الماراني ودرس بِالْمَدْرَسَةِ السيفية وبالجامع الْأَقْمَر ثمَّ حج وجاور إِلَى أَن مَاتَ فِي ربيع الأول سنة سنة عشْرين وسِتمِائَة
1194 - عَرَفَة بن عَليّ بن الْحسن بن حَمْدَوَيْه أَبُو المكارم الْبَنْدَنِيجِيّ
يعرف بِابْن بصلا اللبني نِسْبَة إِلَى اللَّبن لِأَنَّهُ أَقَامَ سِنِين يتغذى بِاللَّبنِ وَلَا يَأْكُل الْخبز وَكَانَ رجلا صَالحا عَاشَ سبعا وَسبعين سنة(8/293)
تفقه بنظامية بَغْدَاد وَصَحب أَبَا النجيب السهروردي وَسمع من أبي الْفضل الأرموي وَعبد الصبور الْهَرَوِيّ
توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة
1195 - عَليّ بن الْخطاب بن مقلد أَبُو الْحسن الضَّرِير
تفقه على أبي الْقَاسِم بن فضلان وَأبي عَليّ بن الرّبيع
وَكَانَ من أهل وَاسِط وَسمع بِبَغْدَاد أَبَا الْفَتْح بن شاتيل
وَقيل كَانَ يقْرَأ فِي رَمَضَان تسعين ختمة وَفِي بَاقِي السّنة فِي كل يَوْم ختمة وَقد أَقبلت عَلَيْهِ الدُّنْيَا آخر عمره وجالس الإِمَام الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ
وَذكر ابْن النجار أَنه برع فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأُصُول وَقَالَ سَأَلته عَن مولده فَقَالَ فِي آخر سنة سِتِّينَ أَو أول سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة قَالَ وَتُوفِّي فِي شعْبَان سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة
1196 - عَليّ بن روح بن أَحْمد بن الْحسن بن عبد الْكَرِيم النهرواني أَبُو الْحسن الْمَعْرُوف بَان الغبيري
تفقه على أبي النجيب السهروردي وتأدب على أبي مُحَمَّد الجواليقي(8/294)
توفّي فِي شهر رَمَضَان سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة
1197 - عَليّ بن عقيل بن عَليّ بن هبة الله بن الْحسن بن عَليّ الْفَقِيه أَبُو الْحسن بن الحبوبي الثَّعْلَبِيّ الدِّمَشْقِي الْمعدل
إِمَام مشْهد على دَاخل جَامع بني أُميَّة
ولد سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
1198 - عَليّ بن عَليّ بن سعيد بن الجنيس
بِضَم الْجِيم بعْدهَا نون مَفْتُوحَة ثمَّ آخر الْحُرُوف سَاكِنة ثمَّ سين مُهْملَة تَصْغِير جنس
من أهل ميافارقين ولد بهَا بعد الْأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وتفقه بتبريز على ابْن أبي عَمْرو الْفَقِيه وَسمع بهَا من مُحَمَّد بن أسعد العطاري(8/295)
وَقدم بَغْدَاد فَسمع من أبي زرْعَة الْمَقْدِسِي وَصَحب أَبَا النجيب وعلق الْخلاف عَن يُوسُف الدِّمَشْقِي واستوطن بَغْدَاد وَتَوَلَّى إِعَادَة النظامية وناب فِي الحكم ثمَّ عزل نَفسه ودرس بمدرسة أم النَّاصِر لدين الله
قَالَ ابْن النجار كَانَ أحفظ أهل زَمَانه لمَذْهَب الشَّافِعِي سديد الْفَتَاوَى غزير الْفضل
توفّي يَوْم عَرَفَة سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة
1199 - عَليّ بن الْقَاسِم بن عَليّ بن الْحسن بن هبة الله بن عَسَاكِر
الْفَقِيه أَبُو الْقَاسِم بن الْحَافِظ أبي مُحَمَّد بن الْحَافِظ الْكَبِير ولد فِي ربيع الاخر سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَسمع من بَرَكَات بن إِبْرَاهِيم الخشوعي وَأبي الْمَوَاهِب ابْن صصرى وَزيد بن الْحسن الْكِنْدِيّ وَعبد الْملك بن زيد بن ياسين الدولعي وَأَبِيهِ الْحَافِظ أبي مُحَمَّد الْقَاسِم وَإِسْمَاعِيل الجنزوي والمؤيد الطوسي وَأبي روح رَحل إِلَيْهِمَا
وعني بِالْحَدِيثِ أتم عناية خرج لنَفسِهِ أَرْبَعِينَ حَدِيثا وَحدث بهَا سنة سِتّمائَة فَسمع مِنْهُ جمَاعَة من شُيُوخه
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَهُوَ آخر من رَحل إِلَى خُرَاسَان من الْمُحدثين وَقد خرج للكندي وَلابْن الحرستاني وَجَمَاعَة وَكَانَ ذكيا فَاضلا حَافِظًا نبيلا مُجْتَهدا فِي الطّلب(8/296)
تفقه على خَاله الإِمَام الْكَبِير فَخر الدّين أبي مَنْصُور عبد الرَّحْمَن
أدْركهُ أَجله بِبَغْدَاد بعد عوده من خُرَاسَان من أثر جراحات بِهِ من الحرامية فِي ثَالِث عشر جمادي الأولى سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة
1200 - عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الصَّمد أَبُو الْحسن الْهَمدَانِي الشَّيْخ علم الدّين السخاوي الْمصْرِيّ
شيخ الْقُرَّاء بِدِمَشْق
ولد سنة ثَمَان أَو تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَسمع من السلَفِي وَأبي الطَّاهِر بن عَوْف وَأبي الجيوش عَسَاكِر بن عَليّ وَأبي الْقَاسِم البوصيري وَإِسْمَاعِيل بن ياسين وَابْن طبرزد والكندي وحنبل وَغَيرهم
روى عَنهُ الشَّيْخ زين الدّين الفارقي وَخلق
وَكَانَ قد لَازم الشاطبي وَأخذ عَنهُ الْقرَاءَات وَغَيرهَا وَكَانَ فَقِيها يُفْتِي النَّاس وإماما فِي النَّحْو والقراءات وَالتَّفْسِير قَصده الْخلق من الْبِلَاد لأخذ الْقرَاءَات عَنهُ
وَله المصنفات الْكَثِيرَة وَالشعر الْكثير وَكَانَ من أذكياء بني آدم(8/297)
ذكره الْعِمَاد الْكَاتِب فِي كتاب السَّيْل على الذيل وَذكر أَنه مدح السُّلْطَان صَلَاح الدّين بقصيدة مِنْهَا
(بَين الفؤادين من صب ومحبوب ... يظل ذُو الشوق فِي شدّ وتقريب)
وَهِي طَوِيلَة أورد الْعِمَاد مِنْهَا قِطْعَة
وَمن الْغَرِيب أَن هَذَا السخاوي مدح الشَّيْخ رشيد الدّين الفارقي بقصيدة مطْلعهَا
(فاق الرشيد فأمت بحره الْأُمَم ... وَصد عَن جَعْفَر وردا لَهُ أُمَم)
وَبَين وَفَاة الممدوحين أَكثر من مائَة سنة وَلَا أعلم لذَلِك نظيرا
توفّي السخاوي فِي ثَانِي عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
1201 - عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْمُسلم بن مُحَمَّد(8/298)
1202 - عَليّ بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي ابْن الْأَثِير
الْحَافِظ المؤرخ صَاحب الْكَامِل فِي التَّارِيخ لقبه عز الدّين وَهُوَ أَخُو الْأَخَوَيْنِ الْمُحدث اللّغَوِيّ مجد الدّين صَاحب النِّهَايَة وجامع الْأُصُول والوزير الأديب ضِيَاء الدّين صَاحب الْمثل السائر
ولد بالجزيرة العمرية سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة وَنَشَأ بهَا ثمَّ تحول بهم والدهم إِلَى الْموصل
سمع بهَا من خطيب الْموصل أبي الْفضل وَمن أبي الْفرج يحيى الثَّقَفِيّ وَمُسلم بن عَليّ السيحي وَغَيرهم وببغداد من عبد الْمُنعم بن كُلَيْب ويعيش بن صَدَقَة الْفَقِيه وَعبد الْوَهَّاب بن سكينَة
وَأَقْبل فِي أَوَاخِر عمره على لحَدِيث وَسمع العالي والنازل حَتَّى سمع لما قدم دمشق من أبي الْقَاسِم بن صصرى وزين الْأُمَنَاء(8/299)
روى عَنهُ ابْن الدبيثي والشهاب القوصي وَالْمجد ابْن أبي جَرَادَة والشرف ابْن عَسَاكِر وسنقر القضائي وهما من أَشْيَاخ شُيُوخنَا وَغَيرهم
وَمن تصانيفه مُخْتَصر الْأَنْسَاب لِابْنِ السَّمْعَانِيّ وَكتاب حافل فِي معرفَة الصَّحَابَة اسْمه أَسد الغابة وَشرع فِي تَارِيخ الْموصل
قَالَ ابْن خلكان كَانَ بَيته بالموصل مجمع الْفُضَلَاء اجْتمعت بِهِ بحلب فَوَجَدته مكملا فِي الْفَضَائِل والتواضع وكرم الْأَخْلَاق
توفّي فِي رَمَضَان سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1203 - عَليّ بن مَحْمُود بن عَليّ أَبُو الْحسن الشهرزوري شمس الدّين الْكرْدِي
مدرس القيمرية بِدِمَشْق وَأَبُو مدرسها الصّلاح
قَالَ الذَّهَبِيّ شيخ فَقِيه إِمَام عَارِف بِالْمذهبِ مَوْصُوف بجودة النَّقْل حسن الدّيانَة(8/300)
قوي النَّفس ذُو هَيْبَة ووقار بنى الْأَمِير نَاصِر الدّين القيمري مدرسته بالحريميين بِدِمَشْق وفوض تدريسها إِلَيْهِ وَإِلَى أولي الْأَهْلِيَّة من ذُريَّته وَقد نَاب فِي الْقَضَاء عَن ابْن خلكان وَتكلم بدار الْعدْل بِحَضْرَة الْملك الظَّاهِر عِنْدَمَا احتاط على الغوطة فَقَالَ المَاء والكلأ والمرعى لله لَا يملك وكل من بِيَدِهِ ملك فَهُوَ لَهُ فبهت السُّلْطَان لكَلَامه وانفصل الْأَمر على هَذَا الْمَعْنى
توفّي فِي شَوَّال سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة
1204 - عَليّ بن هبة الله بن سَلامَة بن الْمُسلم بن أَحْمد بن عَليّ اللَّخْمِيّ
الْفَقِيه الْوَرع بهاء الدّين ابْن الجميزي
نِسْبَة إِلَى الجميز بِضَم الْجِيم ثمَّ الْمِيم الْمُشَدّدَة الْمَفْتُوحَة ثمَّ آخر الْحُرُوف الساكنة ثمَّ الزَّاي وَهُوَ شجر مَعْرُوف بالديار المصرية
ولد يَوْم عيد الْأَضْحَى سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة بِمصْر وَحفظ الْقُرْآن الْعَزِيز وَهُوَ ابْن عشر سِنِين أَو أقل ورحل بِهِ أَبوهُ فَسمع بِدِمَشْق من أبي الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر فِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ صَحِيح البُخَارِيّ بفوت قَلِيل ورحل مَعَ أَبِيه إِلَى بَغْدَاد فَقَرَأَ بهَا الْقرَاءَات الْعشْر على أبي الْحسن عَليّ بن عَسَاكِر البطائحي بكتابه الَّذِي صنفه فِي الْقرَاءَات وَقَرَأَ الْقرَاءَات الْعشْر أَيْضا على الإِمَام قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين ابْن أبي عصرون(8/301)
وَسمع الحَدِيث بِبَغْدَاد من شهدة الكاتبة وَعبد الْحق اليوسفي وَأبي شَاكر يحيى السقلاطوني وَغَيرهم
وبالإسكندرية من أبي طَاهِر السلَفِي وَتفرد عَنهُ بأَشْيَاء وَمن أبي طَاهِر بن عَوْف وَأبي طَالب أَحْمد بن الْمُسلم التنوخي
وبمصر من ابْن بري والشاطبي وَقَرَأَ عَلَيْهِ عدَّة ختمات بِبَعْض الرِّوَايَات
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَلَا نعلم أحدا سمع من السلَفِي وَابْن عَسَاكِر وشهدة سواهُ إِلَّا الْحَافِظ عبد الْقَادِر بن عبد الله
قلت وَفِي سَماع عبد الْقَادِر من الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر مَا لَا يخفى
روى عَنهُ خلق من أهل دمشق وَأهل مَكَّة وَأهل مصر مِنْهُم الزكيان الْمُنْذِرِيّ والبرزالي وَابْن النجار والدمياطي وَابْن دَقِيق الْعِيد وَأَبُو الْحُسَيْن اليونيني وَالْقَاضِي تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان وخلائق
وَأخذ الْفِقْه عَن ابْن أبي عصرون بِالشَّام وَعَن أبي إِسْحَاق الْعِرَاقِيّ وَالشَّيْخ شهَاب الدّين الطوسي بِمصْر وأكمل قِرَاءَة الْمُهَذّب على ابْن أبي عصرون وَكَانَ ابْن أبي عصرون قد قَرَأَهُ على الفارقي عَن المُصَنّف
وَكَانَ الْفَقِيه بهاء الدّين خطيب الْجَامِع بِالْقَاهِرَةِ ومدرس الديار المصرية وشيخها وَرَئِيس الْعلمَاء بهَا درس وَأفْتى دهرا وَكَانَ كَبِير الْقدر رفيع الجاه وافر الْحُرْمَة مُعظما عِنْد الْخَاص وَالْعَام
وَخرجت لَهُ مشيخة حدث بهَا أخبرنَا بهَا الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس بن المظفر بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا أخبرنَا بهَا الْمُحدث شمس الدّين مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد بن الْحسن بن نباتة بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ أخبرنَا شيخ(8/302)
1206 - عَليّ بن أبي الحزم الْقرشِي الشَّيْخ عَلَاء الدّين بن النفيس
الطَّبِيب الْمصْرِيّ صَاحب التصانيف الفائقة فِي الطِّبّ الموجز وَشرح الكليات وَغَيرهمَا
كَانَ فَقِيها على مَذْهَب الشَّافِعِي صنف شرحا على التَّنْبِيه وصنف فِي الطِّبّ غير مَا ذكرنَا كتابا سَمَّاهُ الشَّامِل قيل لَو تمّ لَكَانَ ثَلَاثمِائَة مجلدة تمّ مِنْهُ ثَمَانُون مجلدة وَكَانَ فِيمَا يذكر يملي تصانيفه من ذهنه وصنف فِي أصُول الْفِقْه وَفِي الْمنطق وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ مشاركا فِي فنون وَأما الطِّبّ فَلم يكن على وَجه الأَرْض مثله قيل وَلَا جَاءَ بعد ابْن سينا مثله قَالُوا وَكَانَ فِي العلاج أعظم من ابْن سينا وَكَانَ شَيْخه فِي الطِّبّ الشَّيْخ مهذب الدّين الدخوار(8/305)
توفّي فِي حادي عشْرين ذِي الْقعدَة سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة عَن نَحْو ثَمَانِينَ سنة وَخلف مَالا جزيلا ووقف كتبه وأملاكه على المارستان المنصوري
1207 - عَليّ بن أبي عَليّ بن مُحَمَّد بن سَالم الثَّعْلَبِيّ الإِمَام أَبُو الْحسن سيف الدّين الْآمِدِيّ
الأصولي الْمُتَكَلّم أحد أذكياء الْعَالم
ولد بعد الْخمسين وَخَمْسمِائة بِيَسِير بِمَدِينَة آمد وَقَرَأَ بهَا الْقُرْآن وَحفظ كتابا فِي مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل ثمَّ قدم بَغْدَاد فَقَرَأَ بهَا الْقرَاءَات أَيْضا وتفقه على أبي الْفَتْح ابْن الْمَنِيّ الْحَنْبَلِيّ وَسمع الحَدِيث من أبي الْفَتْح بن شاتيل ثمَّ انْتقل إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي وَصَحب أَبَا الْقَاسِم بن فضلان وبرع عَلَيْهِ فِي الْخلاف وَأحكم طَريقَة الشريف وَطَرِيقَة(8/306)
أسعد الميهني وتفنن فِي علم النّظر وَأحكم الْأَصْلَيْنِ والفلسفة وَسَائِر العقليات وَأكْثر من ذَلِك
ثمَّ دخل الديار المصرية وتصدر للإقراء وَأعَاد بدرس الشَّافِعِي وَتخرج بِهِ جمَاعَة ثمَّ وَقع التعصب عَلَيْهِ فَخرج من الْقَاهِرَة مستخفيا وَقدم إِلَى حماة فَأَقَامَ بهَا ثمَّ قدم دمشق ودرس بِالْمَدْرَسَةِ العزيزية ثمَّ أخذت مِنْهُ وبدمشق توفّي
وَيُقَال إِنَّه حفظ الْوَسِيط وَحمل عَنهُ الأذكياء الْعلم أصولا وكلاما وَخِلَافًا
وصنف كتاب الْأَبْكَار فِي أصُول الدّين والإحكام فِي أصُول الْفِقْه والمنتهى ومنائح القرائح وَشرح جدل الشريف وَله طَريقَة فِي الْخلاف وتعليقة حَسَنَة وتصانيفه فَوق الْعشْرين تصنيفا كلهَا منقحة حَسَنَة
ويحكى أَن شيخ الْإِسْلَام عز الدّين ابْن عبد السَّلَام قَالَ مَا سَمِعت أحدا يلقِي الدَّرْس أحسن مِنْهُ كَأَنَّهُ يُخَاطب وَإِذا غير لفظا من الْوَسِيط كَانَ لَفظه أمس بِالْمَعْنَى من لفظ صَاحبه وَأَنه قَالَ مَا علمنَا قَوَاعِد الْبَحْث إِلَّا من سيف الدّين الْآمِدِيّ وَأَنه قَالَ لَو ورد على الْإِسْلَام متزندق يشكك مَا تعين لمناظرته غير الْآمِدِيّ لِاجْتِمَاع أَهْلِيَّة ذَلِك فِيهِ
ويحكى أَن الْآمِدِيّ رأى فِي مَنَامه حجَّة الْإِسْلَام الْغَزالِيّ فِي تَابُوت وكشف عَن وَجهه وَقَبله فَلَمَّا انتبه أَرَادَ أَن يحفظ شَيْئا من كَلَامه فحفظ الْمُسْتَصْفى فِي أَيَّام يسيرَة وَكَانَ يعْقد مَجْلِسا للمناظرة(8/307)
1208 - عمر بن إِبْرَاهِيم بن أبي بكر نجم الدّين بن خلكان الإربلي
أَخُو بهاء الدّين مُحَمَّد
سكن إربل ودرس بهَا إِلَى أَن مَاتَ فِي رَمَضَان سنة تسع وسِتمِائَة بهَا
1209 - عمر بن أسعد بن أبي غَالب القَاضِي عز الدّين أَبُو حَفْص
1210 - عمر بن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود بن سعد بن سعيد بن أبي الْكَتَائِب الأديب الْعَلامَة أَبُو حَفْص الربعِي رشيد الدّين الفارقي
مولده سنة ثَمَان وَتِسْعين وَخَمْسمِائة(8/308)
وَسمع من أبي عبد الله بن الزبيدِيّ وَعبد الْعَزِيز بن باقا وَجَمَاعَة
روى عَنهُ من شعره الْحَافِظ الدمياطي وَشَيخنَا أَبُو الْحجَّاج الْمزي وَآخَرُونَ وَكَانَ يدرس بِالْمَدْرَسَةِ الناصرية ثمَّ بالظاهرية بِدِمَشْق وَله مقدمتان فِي النَّحْو
1211 - عمر بن بنْدَار بن عمر بن عَليّ القَاضِي أَبُو الْفَتْح كَمَا الدّين التفليسي
أحد الْعلمَاء الْمَشْهُورين
ولد بتفليس سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة تَقْرِيبًا وتفقه وبرع فِي الْمَذْهَب والأصلين ودرس وَأفْتى
وَسمع الحَدِيث من أبي المنجى بن اللتي وجالس أَبَا عَمْرو بن الصّلاح واستفاد مِنْهُ ثمَّ ولى الْقَضَاء بِدِمَشْق نِيَابَة فَلَمَّا تملكت التتار الشَّام جَاءَهُ التَّقْلِيد من هولاكو بِقَضَاء الشَّام اسْتِقْلَالا والجزيرة والموصل فباشر وذب عَن الْمُسلمين وَأحسن إِلَيْهِم بِكُل مُمكن وَكَانَ نَافِذ الْكَلِمَة عِنْد التتار لَا يخالفونه فَحصل للْمُسلمين بِهِ خير كثير من حقن كثير من الدِّمَاء وكف أيد ظالمة عَن الْأَمْوَال وَغير ذَلِك وَمَعَ ذَلِك لما زَالَت التتار كذب عَلَيْهِ وافتري عَلَيْهِ أَشْيَاء برأه الله مِنْهَا وَكَانَ غَايَة مقَالَة أعدائه فِيهِ أَن سَافر إِلَى الديار المصرية وتركهم وَأفَاد النَّاس هُنَاكَ(8/309)
وَكَانَ ابْن الزكي قد سَافر إِلَى هولاكو وَجَاء بِقَضَاء الشَّام وَتوجه كَمَال الدّين إِلَى قَضَاء حلب وأعمالها ثمَّ بعد توجه التتار ألزم بِالسَّفرِ إِلَى الديار المصرية فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن توفّي لَيْلَة رَابِع عشر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وسِتمِائَة بِالْقَاهِرَةِ
1212 - عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عمر بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْقزْوِينِي
قَاضِي الْقُضَاة إِمَام الدّين
ولد بتبريز سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة وانتقل واشتغل فِي الْعَجم وَالروم ثمَّ قدم دمشق فِي الدولة الأشرفية هُوَ وَأَخُوهُ قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين فدرس بِبَعْض الْمدَارِس ثمَّ ولي قَضَاء الْقُضَاة بِالشَّام فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَصرف القَاضِي بدر الدّين بن جمَاعَة فَأحْسن إِمَام الدّين السِّيرَة وساس الْأُمُور وَاسْتمرّ إِلَى أَن جَاءَ التتار وبلغه هزيمَة الْمُسلمين فانجفل إِلَى الْقَاهِرَة فِيمَن انجفل من النَّاس ودخلها وَأقَام بهَا جُمُعَة وَتُوفِّي سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة
1213 - عمر بن عبد الْوَهَّاب بن خلف
قَاضِي الْقُضَاة صدر الدّين ابْن بنت الْأَعَز
ولد سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة(8/310)
وَسمع من الْحَافِظ عبد الْعَظِيم والرشيد الْعَطَّار
وَكَانَ فَقِيها عَارِفًا بِالْمذهبِ نحويا دينا صَالحا ورعا قَائِما فِي نصْرَة الْحق وَولي قَضَاء الْقُضَاة بالديار المصرية فَمشى على طَريقَة وَالِده قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين فِي التَّحَرِّي والصلابة بل أربى عَلَيْهَا قَالَ شَيخنَا أَبُو حَيَّان مَا سَمِعت بِأحد من الْقُضَاة فِي عصره كَانَ أكبر هَيْبَة مِنْهُ لَا يمزح وَلَا يضْحك وَلَا ينبسط قَالَ وَكَانَ مُعظما عِنْد وَالِده قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين يعْتَقد فِيهِ الدّيانَة ويتبرك بِهِ قَالَ وَلَا يعلم أهل بَيت بالديار المصرية أَنْجَب من هَذَا الْبَيْت كَانُوا أهل علم ورياسة وسؤدد وجلالة
قلت ثمَّ عزل نَفسه وَاقْتصر على تدريس الصالحية إِلَى أَن توفّي فِي يَوْم عَاشُورَاء سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة
1214 - عبد اللَّطِيف بن أَحْمد بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري
أَبُو الْحسن القَاضِي
ولي قَضَاء الْموصل عدَّة نوب وتفقه بِالْقَاضِي فَخر الدّين بن سعيد بن عبد الله الشهرزوري
ولد فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَمَات لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثامن جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة(8/311)
1215 - عبد اللَّطِيف بن عبد الْعَزِيز بن عبد السَّلَام
الْفَقِيه ولد الشَّيْخ عز الدّين
ولد سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة فَطلب الحَدِيث بِنَفسِهِ وَقصد الشُّيُوخ وروى عَن ابْن اللتي وتفقه على وَالِده وتميز فِي الْفِقْه وَالْأُصُول وَكَانَ يعرف تصانيف وَالِده معرفَة حَسَنَة
توفّي بِالْقَاهِرَةِ فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة
1216 - عبد اللَّطِيف بن عبد القاهر بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عمويه أَبُو مُحَمَّد بن الشَّيْخ أبي النجيب السهروردي
ولد سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة بِبَغْدَاد
وتفقه على أَبِيه ثمَّ سَافر إِلَى خرسان وَدخل مَا وَرَاء النَّهر ولقى الْأَئِمَّة وَحصل وَعَاد إِلَى بَغْدَاد ثمَّ خرج مِنْهَا إِلَى الشَّام فوفد على الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين فولاه قَضَاء كل بلد افتتحه من السواحل وَغَيرهَا ثمَّ سَافر إِلَى بَغْدَاد فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ سَافر إِلَى إربل وَأقَام بهَا إِلَى حِين وَفَاته
سمع من أبي الْبَدْر الْكَرْخِي وَأبي الْقَاسِم عَليّ بن عبد السَّيِّد بن الصّباغ وَأبي الْفضل مُحَمَّد بن عمر الأرموي وَغَيرهم
توفّي فِي جُمَادَى الأولى سنة عشر وسِتمِائَة(8/312)
1217 - عبد اللَّطِيف بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي سعد أَبُو مُحَمَّد بن الشَّيْخ أبي الْعِزّ الْموصِلِي وَهُوَ الشَّيْخ موفق الدّين الْبَغْدَادِيّ
نحوي لغَوِيّ مُتَكَلم طَبِيب خَبِير بالفلسفة
ولد بِبَغْدَاد سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَسمع من ابْن البطي وَأبي زرْعَة الْمَقْدِسِي وشهدة وَخلق
روى عَنهُ الزكيان الْمُنْذِرِيّ والبرزالي وَابْن النجار وَغَيرهم
وَله تصانيف كَثِيرَة فِي اللُّغَة والطب والتاريخ وَغير ذَلِك
وَكَانَت إِقَامَته بحلب وسافر مِنْهَا ليحج على درب الْعرَاق فَدخل حران وَحدث بهَا وَدخل بَغْدَاد مَرِيضا فتعوق عَن الْحَج وَمَات بهَا فِي ثانى عشرالمحرم سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة
1218 - عبد المحسن بن نصر الله بن كثير زين الدّين بن البياع الشَّامي الأَصْل الْمصْرِيّ
تفقه على أبي الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن سَلامَة(8/313)
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ كَانَ طلق الْعبارَة جيد القريحة من أَعْيَان الشَّافِعِيَّة خطب بقلعة الْجَبَل وناب فِي الحكم بأعمال مصر وتقلب فِي الخدم الديوانية
مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وسِتمِائَة
1219 - عبد المحسن بن أبي العميد بن خَالِد بن عبد الْغفار بن إِسْمَاعِيل الشَّيْخ حجَّة الدّين أَبُو طَالب الخفيفي الْأَبْهَرِيّ الصُّوفِي
ولد فِي رَجَب سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة
وتقفه بهمذان على أبي الْقَاسِم بن حيدر الْقزْوِينِي وعلق التعليقة عَن فَخر الدّين النوقاني
وَسمع بأصبهان من أبي مُوسَى الْمَدِينِيّ وَغَيره وببغداد من أبي الْفَتْح ابْن شاتيل وَغَيره وبهمذان ودمشق ومصر وَمَكَّة وَغَيرهَا من الْبِلَاد وَكَانَ كثير الْأَسْفَار وَالْحج ذَا صَلَاة وتهجد وَصِيَام وَعبادَة عَارِفًا بِكَلَام الْمَشَايِخ وأحوال الْقَوْم حج وجاور وَتُوفِّي فِي صفر سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة(8/314)
1220 - عبد الْمُنعم بن أبي بكر بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن مَحْمُود
القَاضِي جلال الدّين أَبُو مُحَمَّد الْمصْرِيّ ثمَّ الشَّامي
ولد سنة تسع عشرَة وسِتمِائَة بِالْقَاهِرَةِ وَقدم الشَّام
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وروى لنا مجْلِس معمر عَن ابْن المقير وَولى قَضَاء السلط وعجلون والقدس وخطابة صفد وناب فِي الحكم بِدِمَشْق ثمَّ عَاد إِلَى الْقُدس إِلَى أَن توفّي بهَا وَله تعليقة على التَّنْبِيه
توفّي فِي حادي وَعشْرين ربيع الآخر سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة
1221 - عبد الْوَاحِد بن إِسْمَاعِيل بن ظافر الْأَزْدِيّ(8/315)
1222 - عبد الْوَاحِد بن عبد الْكَرِيم بن خلف الشَّيْخ كَمَال الدّين أَبُو المكارم ابْن خطيب زملكا
قَالَ أَبُو شامة كَانَ عَالما خيرا متميزا فِي عُلُوم عدَّة ولى الْقَضَاء بصرخد ودرس ببعلبك
قلت وَهُوَ جد الشَّيْخ كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الْوَاحِد الزملكاني وَكَانَت لَهُ معرفَة تَامَّة بالمعاني وَالْبَيَان وَله فِيهِ مُصَنف وَله شعر حسن
توفّي بِدِمَشْق سنة إِحْدَى وَخمسين وسِتمِائَة
1223 - عبد الْوَاسِع بن عبد الْكَافِي بن عبد الْوَاسِع ابْن عبد الْجَلِيل الْأَبْهَرِيّ(8/316)
1224 - عبد الْوَدُود بن مَحْمُود بن الْمُبَارك بن عَليّ أَبُو المظفر بن أبي الْقَاسِم
الْمَعْرُوف وَالِده بالمجير الْبَغْدَادِيّ
قَرَأَ الْمَذْهَب وَالْأُصُول على وَالِده وَقَرَأَ الْخلاف والجدل وزاحم بالركب فِي مصَاف الْفُقَهَاء وناظر وَتَوَلَّى الْإِعَادَة بِالْمَدْرَسَةِ النظامية حِين كَانَ وَالِده مدرسا بهَا ودرس بِبَعْض مدارس بَغْدَاد
وَتُوفِّي فَجْأَة فِي أول يَوْم من رَجَب سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة
1225 - عبد الْوَهَّاب بن الْحُسَيْن بن عبد الْوَهَّاب المهلبي القَاضِي وجيه الدّين البهنسي
قَاضِي مصر أَبُو مُحَمَّد
كَانَ فَقِيها أصوليا نحويا متدينا متعبدا
ولي قَضَاء الديار المصرية ثمَّ عزل عَن الْقَاهِرَة وَالْوَجْه البحري وَاسْتمرّ على قَضَاء مصر وَالْوَجْه القبلي إِلَى أَن توفّي ودرس بالزاوية المجدية بالجامع الْعَتِيق بِمصْر وتناظر هُوَ والضياء بن عبد الرَّحِيم مرّة فَصَارَ يَعْلُو كَلَامه عَلَيْهِ وَكَانَ يتأكل فِي كَلَامه وَيدل بفضله
وَحكي أَن بعض الطّلبَة جلس بَين يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ انْظُر فِي أَمْرِي لي أَربع سِنِين فِي هَذَا الْموضع وحفظت أَرْبَعَة كتب وجامكيتي أَرْبَعَة دَرَاهِم وَكسر الْهَاء فِي الْجَمِيع فَقَالَ لَهُ يَا فَقِيه من بنى أربعتك على الْكسر(8/317)
وَحضر عِنْده الشَّيْخ شهَاب الدّين الْقَرَافِيّ مرّة وَقت التدريس وَهُوَ يتَكَلَّم فِي الْأُصُول فشرع الْقَرَافِيّ يناظره والوجيه يَعْلُو بِكَلَامِهِ عَلَيْهِ فَقَامَ طَالب يتَكَلَّم بَينهمَا فأسكته الْوَجِيه وَقَالَ لَهُ فروج يَصِيح بَين الديكة
توفّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
1226 - عبد الْوَهَّاب بن خلف بن بدر العلامي قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين ابْن بنت الْأَعَز
ولد فِي مستهل رَجَب سنة أَربع وسِتمِائَة وَسمع من جَعْفَر الهمذاني وَقَرَأَ سنَن أبي دَاوُد على الْحَافِظ زكي الدّين وَحدث
وَكَانَ رجلا فَاضلا ذكي الْفطْرَة حاد القريحة صَحِيح الذِّهْن رَئِيسا عفيفا نزها جميل الطَّرِيقَة حسن السِّيرَة مقدما عِنْد الْمُلُوك ذَا رَأْي سديد وذهن ثاقب وَعلم جم
ولي قَضَاء الْقُضَاة بالديار المصرية والوزارة وَالنَّظَر وتدريس قبَّة الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ والصالحية والخطابة والمشيخة وَاجْتمعَ لَهُ من المناصب مَا لم يجْتَمع لغيره وَكَانَ يُقَال إِنَّه آخر قُضَاة الْعدْل وَاتفقَ النَّاس على عدله وخيره وَكَانَ الشَّيْخ عَلَاء الدّين الْبَاجِيّ يصفه بِصِحَّة الذِّهْن(8/318)
وَعَن شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد أَنه قَالَ لَو تفرع ابْن بنت الْأَعَز للْعلم فاق ابْن عبد السَّلَام
وَعَن بعض الْكِبَار فِي عصره أَنه قَالَ قاضيان حجَّة الله على الْقُضَاة ابْن الْأَعَز وَابْن الْبَارِزِيّ قَاضِي حماة يَعْنِي جد قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين هبة الله
وَفِي أَيَّامه جدد الْملك الظَّاهِر الْقُضَاة الثَّلَاثَة فِي الْقَاهِرَة ثمَّ فِي دمشق وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَنه سَأَلَ القَاضِي تَاج الدّين فِي أَمر فَامْتنعَ من الدُّخُول فِيهِ فَقيل لَهُ مر نائبك الْحَنَفِيّ وَكَانَ القَاضِي وَهُوَ الشَّافِعِي يَسْتَنِيب من شَاءَ من الْمذَاهب الثَّلَاثَة فَامْتنعَ من ذَلِك أَيْضا فَجرى مَا جرى وَكَانَ الْأَمر متمحضا للشَّافِعِيَّة فَلَا يعرف أَن غَيرهم حكم فِي الديار المصرية مُنْذُ وَليهَا أَبُو زرْعَة مُحَمَّد بن عُثْمَان الدِّمَشْقِي فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى زمَان الظَّاهِر إِلَّا أَن يكون نَائِب يستنيبه بعض قُضَاة الشَّافِعِيَّة فِي جزئية خَاصَّة وَكَذَا دمشق لم يلها بعد أبي زرْعَة الْمشَار إِلَيْهِ فَإِنَّهُ وَليهَا أَيْضا وَلم يلها بعده إِلَّا شَافِعِيّ غير التلاشاعوني التركي الَّذِي وَليهَا يويمات وَأَرَادَ أَن يجدد فِي جَامع بني أُميَّة إِمَامًا حنفيا فأغلق أهل دمشق الْجَامِع وعزل القَاضِي وَاسْتمرّ جَامع بني أُميَّة فِي يَد الشَّافِعِيَّة كَمَا كَانَ فِي زمن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَلم يكن يَلِي قَضَاء(8/319)
الشَّام والخطابة والإمامة بِجَامِع بني أُميَّة إِلَّا من يكون على مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ إِلَى أَن انْتَشَر مَذْهَب الشَّافِعِي فَصَارَ لَا يَلِي ذَلِك إِلَّا الشَّافِعِيَّة
وَقَالَ أهل التجربة إِن هَذِه الأقاليم المصرية والشامية والحجازية مَتى كَانَت الْبَلَد فِيهَا لغير الشَّافِعِيَّة خربَتْ وَمَتى قدم سلطانها غير أَصْحَاب الشَّافِعِي زَالَت دولته سَرِيعا وَكَأن هَذَا السِّرّ جعله الله فِي هَذِه الْبِلَاد كَمَا جعل مثله لمَالِك فِي بِلَاد الْمغرب وَلأبي حنيفَة فِيمَا وَرَاء النَّهر
وَسمعت الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد يَقُول سَمِعت صدر الدّين ابْن المرحل رَحمَه الله يَقُول مَا جلس على كرْسِي ملك مصر غير شَافِعِيّ إِلَّا وَقتل سَرِيعا وَهَذَا الْأَمر يظْهر بالتجربة فَلَا يعرف غير شَافِعِيّ إِلَّا قطز رَحمَه الله كَانَ حنفيا وَمكث يَسِيرا وَقتل وَأما الظَّاهِر فقلد الشَّافِعِي يَوْم ولَايَة السلطنة ثمَّ لما ضم الْقُضَاة إِلَى الشَّافِعِيَّة اسْتثْنى للشَّافِعِيَّة الْأَوْقَاف وَبَيت المَال والنواب وقضاة الْبر والأيتام وجعلهم الأرفعين وَمَعَ ذَلِك قيل إِنَّه نَدم وَقَالَ أندم على ثَلَاث ضم غير الشَّافِعِيَّة إِلَيْهِم والعبور بالجيوش إِلَى الْفُرَات وَعمارَة الْقصر الأبلق بِدِمَشْق
وَحكي أَن الظَّاهِر رأى الشَّافِعِي فِي النّوم لما ضم إِلَى مذْهبه بَقِيَّة الْمذَاهب وَهُوَ يَقُول تهين مذهبي الْبِلَاد لي أَو لَك أَنا قد عزلتك وعزلت ذريتك إِلَى يَوْم الدّين فَلم يمْكث إِلَّا يَسِيرا وَمَات وَلم يمْكث وَلَده السعيد إِلَّا يَسِيرا وزالت دولته وَذريته إِلَى الْآن فُقَرَاء وَجَاء بعده قلاوون وَكَانَ دونه تمَكنا وَمَعْرِفَة وَمَعَ ذَلِك مكث الْأَمر فِيهِ وَفِي(8/320)
ذُريَّته إِلَى هَذَا الْوَقْت وَللَّه تَعَالَى أسرار لَا يُدْرِكهَا إِلَّا خَواص عباده وللأئمة رَضِي الله عَنْهُم عِنْده مقامات لَا يَنْتَهِي إِلَيْهَا عقول أمثالنا فَكَانَ الرَّأْي السديد لمن رأى قَوَاعِد الْبِلَاد مستمرة على شَيْء غير بَاطِل أَن يجْرِي النَّاس على مَا يعهدون وَلَكِن إِذا أَرَادَ الله أمرا هيأ أَسبَابه وَلَعَلَّ سَبَب زَوَال دولة الْمَذْكُور بِهَذَا السَّبَب
وَقد حُكيَ أَنه رئي فِي النّوم فَقيل مَا فعل الله بك قَالَ عذبني عذَابا شَدِيدا بِجعْل الْقُضَاة أَرْبَعَة وَقَالَ فرقت كلمة الْمُسلمين وَلَا يخفى على ذِي بَصِيرَة مَا حصل من تفرق الْكَلِمَة وتعدد الْأُمَرَاء واضطراب الآراء
وَقد قَالَ أَبُو شامة لما حكى ضم الْقُضَاة الثَّلَاثَة إِنَّه مَا يعْتَقد أَن هَذَا وَقع قطّ وَصدق فَلم يَقع هَذَا فِي وَقت من الْأَوْقَات وَبِه حصلت تعصبات الْمذَاهب والفتن بَين الْفُقَهَاء ويحكى أَن القَاضِي تَاج الدّين ركب وَتوجه إِلَى القرافة وَدخل على الْفَقِيه مفضل حَتَّى تولى عَنهُ الشرقية فَقيل لَهُ تروح إِلَى شخص حَتَّى توليه فَقَالَ لَو لم يفعل لقبلت رجله حَتَّى يقبل فَإِنَّهُ يسد عني ثلمة من جَهَنَّم
وَكَانَ الْأُمَرَاء الْكِبَار يشْهدُونَ عِنْده فَلَا يقبل شَهَادَتهم فَيُقَال إِن ذَلِك أَيْضا من جملَة الْحَوَامِل على ضم الْقُضَاة الثَّلَاثَة إِلَيْهِ
وَمِمَّا يحْكى من رياسة قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين وذكائه وَسُرْعَة إِدْرَاكه أَن أَبَا الْحُسَيْن(8/321)
الجزار الأديب كَانَ يَصْحَبهُ وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاة لشدَّة تصلبه فِي الدّين يعرف النَّاس مِنْهُ أَنه لَا يرخص لأحد فظفر بعض أَعدَاء الجزار بِوَرَقَة بِخَط الجزار يَدْعُو فِيهَا شخصا إِلَى مجْلِس أنس وَوصف الْمجْلس وَوضع الورقة فِي نُسْخَة من صِحَاح الْجَوْهَرِي فِي الْقَائِمَة الأولى مِنْهَا وَأعْطى الْكتاب لدلال الْكتب وَقَالَ اعرضه على قَاضِي الْقُضَاة فَأحْضرهُ لَهُ فَقَرَأَ الورقة وَعرف خطّ الجزار وَقَالَ للدلال رد الْكتاب إِلَى صَاحبه فَإِنَّهُ مَا يَبِيعهُ فقد فهمنا مقْصده فَلَمَّا حضر الجزار نَاوَلَهُ قَاضِي القَاضِي الورقة ففهم وَقَالَ يَا مولَايَ هَذَا خطي من ثَلَاثِينَ سنة ثمَّ اشْتهى الجزار أَن يعرف مَا عِنْد القَاضِي وَهل تأثر بِالْوَرَقَةِ فأغفله أَيَّامًا ثمَّ حكى لَهُ فِي أثْنَاء مجْلِس أَن شخصا كَانَ يصحب قَاضِي الْقُضَاة عماد الدّين ابْن السكرِي فَوَقَعت لَهُ شَهَادَة على شخص فسابقه ذَلِك الشَّخْص وَادّعى عَلَيْهِ أَنه اسْتَأْجرهُ من مُدَّة كَذَا ليغني لَهُ فِي عرس بِكَذَا وَقبض الْأُجْرَة وَلم يغن فَأنْكر وانفصلت الْخُصُومَة ثمَّ وَقعت لَهُ الدَّعْوَى على الْمُدعى الْمَذْكُور وَشهد ذَلِك الشَّاهِد فَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين مَا صنع ابْن السكرِي فَقَالَ لَهُ الجزار لم يقبل شَهَادَته فَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين مَا أنصف ابْن السكرِي فَعرف الجزار أَنه لم يتأثر بِالْوَرَقَةِ
توفّي رَحمَه الله لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر رَجَب سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة بِالْقَاهِرَةِ ورثاه بَعضهم بِأَبْيَات مِنْهَا(8/322)
(يَا دهر بِعْ رتب الْمَعَالِي بعده ... بيع السماح ربحت أم لم تربح)
(قدم وَأخر من تشَاء وتشتهي ... مَاتَ الَّذِي قد كنت مِنْهُ تَسْتَحي)
والأعز الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ قَرَأت بِخَط قَاضِي الْقُضَاة عَلَاء الدّين الْآجُرِيّ رَحمَه الله أَن الْأَعَز ابْن شكر وَزِير الْملك الْكَامِل بن أبي بكر بن أَيُّوب قَالَ وَهُوَ أَبُو أم قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين
والعلامي بِالتَّخْفِيفِ نِسْبَة إِلَى عَلامَة وَهِي قَبيلَة من لخم(8/323)
1227 - عبد الْوَهَّاب بن عَليّ بن عَليّ بن عبيد الله أَبُو أَحْمد الْأمين ابْن سكينَة
مُسْند الْعرَاق ومحدثه ضِيَاء الدّين الصُّوفِي الْفَقِيه
وسكينة جدته أم أَبِيه
ولد فِي شعْبَان سنة تسع عشرَة وَخَمْسمِائة
وَسمع الْكثير من أَبِيه وَأبي الْقَاسِم بن الْحصين وَأبي غَالب مُحَمَّد بن الْحسن الْمَاوَرْدِيّ وزاهر بن طَاهِر الشحامي وَالْقَاضِي أبي بكر الْأنْصَارِيّ وَأبي مَنْصُور ابْن زُرَيْق الْقَزاز وَأبي الْقَاسِم بن السَّمرقَنْدِي وَغَيرهم
روى عَنهُ الشَّيْخ الْمُوفق بن قدامَة وَأَبُو مُوسَى ابْن الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ وَالشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح وَابْن خَلِيل والضياء وَابْن النجار وَابْن الدبيثي والنجيب عبد اللَّطِيف وَابْن عبد الدَّائِم وخلائق
وَصَحب الحافظين ابْن عَسَاكِر وَابْن السَّمْعَانِيّ واستفاد بصحبتهما وَقَرَأَ الْمَذْهَب وَالْخلاف على أبي مَنْصُور ابْن الرزاز وَكَانَ على مَا يُقَال دَائِم التّكْرَار لكتاب التَّنْبِيه(8/324)
كثير الِاشْتِغَال بالمهذب والوسيط وَقَرَأَ الْأَدَب على أبي مُحَمَّد بن الخشاب وَتخرج فِي الحَدِيث بِابْن نَاصِر وَمد الله لَهُ فِي الْعُمر حَتَّى قصد من الأقاليم وَكَانَ شيخ وقته فِي علو الْإِسْنَاد قَالَ ابْن النجار وَفِي الْمعرفَة والإتقان والزهد وَالْعِبَادَة وَحسن السمت وموافقة السّنة وسلوك طَرِيق السّلف الصَّالح
قَالَ وَكَانَت أوقاته مَحْفُوظَة وكلماته مَعْدُودَة فَلَا تمْضِي لَهُ سَاعَة إِلَّا فِي قِرَاءَة الْقُرْآن أَو الذّكر أَو الحَدِيث أَو التَّهَجُّد وَكَانَ كثير الْحَج وَالْعمْرَة والمجاورة بِمَكَّة مُسْتَعْملا للسّنة فِي جَمِيع أَحْوَاله وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا ثمَّ قَالَ لقد طفت شرقا وغربا وَرَأَيْت الْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء والزهاد فَمَا رَأَيْت أكمل مِنْهُ وَلَا أحسن حَالا
وَقَالَ القَاضِي يحيى بن الْقَاسِم مدرس النظامية كَانَ ابْن سكينَة لَا يضيع شَيْئا من وقته وَكُنَّا إِذا دَخَلنَا عَلَيْهِ يَقُول لَا تَزِيدُوا على سَلام عَلَيْكُم لِكَثْرَة حرصه على المباحثة وَتَقْرِير الْأَحْكَام
وَقَالَ أَبُو شامة كَانَ ابْن سكينَة من الأبدال
توفّي فِي تَاسِع عشر ربيع الآخر سنة سبع وسِتمِائَة بِبَغْدَاد
1228 - عُثْمَان بن سعيد بن كثير
القَاضِي شمس الدّين أَبُو عَمْرو الصنهاجي الفاسي
قدم مصر فِي صباه وسكنها وتفقه على الشَّيْخ شهَاب الدّين الطوسي وبرع فِي الْمَذْهَب وَسمع هبة الله البوصيري وَغَيره(8/325)
ولي قَضَاء قوص ودرس بالجامع الْأَقْمَر بِالْقَاهِرَةِ
مولده سنة خمس وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة ظنا وَتُوفِّي بِالْقَاهِرَةِ فِي جُمَادَى الأولى سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1229 - عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن مُوسَى بن أبي نصر الْكرْدِي الشهرزوري
الشَّيْخ الْعَلامَة تَقِيّ الدّين أحد أَئِمَّة الْمُسلمين علما ودينا أَبُو عَمْرو بن الصّلاح ولد سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَسمع الحَدِيث بالموصل من أبي جَعْفَر عبيد الله بن أَحْمد الْبَغْدَادِيّ الْمَعْرُوف بِابْن السمين وَهُوَ أقدم شيخ لَهُ
وَسمع بِبَغْدَاد من ابْن سكينَة وَابْن طبرزد وبنيسابور من مَنْصُور الفراوي والمؤيد الطوسي وَغَيرهمَا وبمرو من أبي المظفر السَّمْعَانِيّ وَمُحَمّد بن عمر المَسْعُودِيّ وَغَيرهمَا وبدمشق من القَاضِي عبد الصَّمد بن الحرستاني وَالشَّيْخ الْمُوفق ابْن قدامَة وَغَيرهمَا
روى عَنهُ الْفَخر عمر بن يحيى الكرجي وَالشَّيْخ تَاج الدّين الفركاح وَأحمد بن هبة الله بن عَسَاكِر وَخلق(8/326)
وتفقه عَلَيْهِ خلائق وَكَانَ إِمَامًا كَبِيرا فَقِيها مُحدثا زاهدا ورعا مُفِيدا معلما
استوطن دمشق يُعِيد زمَان السالفين ورعا وَيزِيد بهجتها بروضة علم جنى كل طَالب جناها ورعا ويفيد أَهلهَا فَمَا مِنْهُم إِلَّا من اغترف من بحره واعترف بدره وَحفظ جَانب مثله ورعا
جال فِي بِلَاد خُرَاسَان واستفاد من مشايخها وعلق التَّعَالِيق المفيدة وَورد دمشق ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الصلاحية بالقدس ثمَّ عَاد إِلَى الْبِلَاد ثمَّ ورد دمشق مُقيما مستوطنا وَولي تدريس الرواحية والشامية الجوانية ومشيخة دَار الحَدِيث الأشرفية
قَالَ ابْن خلكان كَانَ أحد فضلاء عصره فِي التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه وَله مُشَاركَة فِي فنون عدَّة
وَذكر غَيره أَن ابْن الصّلاح قَالَ مَا فعلت صَغِيرَة فِي عمري قطّ وَهَذَا فضل من الله عَلَيْهِ عَظِيم
توفّي سحر يَوْم الْأَرْبَعَاء خَامِس عشري ربيع الآخر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين(8/327)
وسِتمِائَة وازدحم عَلَيْهِ الْخلق فَصلي عَلَيْهِ بالجامع وشيعوه إِلَى بَاب الْفرج فَصلي عَلَيْهِ بداخله ثَانِيًا وَرجع النَّاس لأجل حِصَار الْبَلَد بالخوارزمية وَخرج بِهِ دون الْعشْرَة مشمرين مخاطرين بِأَنْفسِهِم فدفنوه بِطرف مَقَابِر الصُّوفِيَّة وقبره على الطَّرِيق فِي طرفها الغربي ظَاهر يزار ويتبرك بِهِ قيل وَالدُّعَاء عِنْد قَبره مستجاب
وَمن الْمسَائِل والفوائد عَنهُ
أفتى ابْن الصّلاح فِي امْرَأَة حاضنة أَرَادَ الْأَب أَن ينْزع مِنْهَا الْوَلَد مُدعيًا أَنه يُسَافر سفر نقلة وَأنْكرت هِيَ أصل السّفر بِأَن القَوْل قَوْله فِي السّفر مَعَ يَمِينه
وَأفْتى رَحمَه الله فِي جَارِيَة اشترتها مغنية وحملتها على الْفساد أَنَّهَا تبَاع عَلَيْهَا واستند فِيهِ إِلَى نقل نَقله عَن القَاضِي الْحُسَيْن أَن السَّيِّد إِذا كلف عَبده من الْعَمَل مَا لَا يطيقه يُبَاع عَلَيْهِ وَالنَّقْل غَرِيب وَالْمَسْأَلَة مليحة وَكَلَامه مَحْمُول على مَا إِذا تعين بَيْعه طَرِيقا لخلاصه من الظُّلم وَإِلَّا فَلَا يتَعَيَّن البيع
وَقد نازعه الشَّيْخ برهَان الدّين بن الفركاح وَقَالَ قد صَحَّ فِي صَحِيح مُسلم وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ فَإِن كلفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ وَلم يقل فبيعوهم وَفِي التَّتِمَّة فِي الْبَاب الْخَامِس فِي أَحْكَام المماليك لَو امْتنع من الْإِنْفَاق على مَمْلُوكه فالحاكم يجْبرهُ على الْإِنْفَاق وَفِي الرَّافِعِيّ قبيل كتاب الْخراج فِي كَلَامه على المخارجة وَإِن ضرب عَلَيْهِ خراجا أَكثر مِمَّا يَلِيق بِحَالهِ وألزمه أداءه مَنعه السُّلْطَان فَدلَّ أَنه يمْنَع وَلَا يُبَاع عَلَيْهِ وَهَذَا ملخص كَلَام الشَّيْخ برهَان الدّين(8/328)
جزم الرَّافِعِيّ فِي بَاب النّذر فِي أَوَائِل النّظر الثَّانِي فِي أَحْكَامه بِأَنَّهُ لَو نذر أَن يُصَلِّي قَاعِدا جَازَ أَن يقْعد كَمَا لَو صرح فِي نَذره بِرَكْعَة لَهُ الِاقْتِصَار عَلَيْهِ قَالَ وَإِن صلى قَائِما فقد أَتَى بالأفضل ثمَّ قَالَ بعد ثَلَاث وَرَقَات إِن الإِمَام حكى عَن الْأَصْحَاب أَنه لَو قَالَ عَليّ أَن أُصَلِّي رَكْعَة لم يلْزمه إِلَّا رَكْعَة وَاحِدَة وَأَنه لَو قَالَ عَليّ أَن أُصَلِّي كَذَا قَاعِدا يلْزمه الْقيام عِنْد الْقُدْرَة إِذا حملنَا الْمَنْذُور على وَاجِب الشَّرْع وَأَنَّهُمْ تكلفوا فرقا بَينهمَا قَالَ وَلَا فرق فَيجب تنزيلهما على الْخلاف انْتهى
وَقد رَأَيْته فِي النِّهَايَة كَمَا نَقله وَلابْن الصّلاح مَعَ تبحره فِي الْمَنْقُول حَظّ وافر من التَّحْقِيق وسلوك حسن فِي مضايق التدقيق وَقد أَخذ يحاول فرقا بَين الرَّكْعَة وَالْقعُود بِأَن الْقعُود صفة أفردها بِالذكر وقصدها بِالنذرِ وَلَا قربَة فِيهَا فلغت الصّفة وَبَقِي قَوْله أُصَلِّي فالتحق بِمَا لَو قَالَ أُصَلِّي مُقْتَصرا عَلَيْهِ فَيلْزمهُ الْقيام على أحد الْقَوْلَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِك قَوْله رَكْعَة فَإِنَّهَا نفس الْمَنْذُور وَهِي قربَة وَصفَة إفرادها بِالذكر لَيست مَذْكُورَة وَلَا منذورة هَذَا كَلَامه
وَلست بموافق لَهُ فِيهِ كَمَا سأذكر غير أَنِّي قبل مشاقته أَقُول لَك أَن تزيد هَذَا الْفرق تحسينا بِأَن تَقول وَقَوله رَكْعَة مفعول أُصَلِّي وَهُوَ وَإِن كَانَ فضلَة لَكِن مَتى حذف لفظا قدر صناعَة بِخِلَاف رَكْعَة قَاعِدا فَإِنَّهُ حَال من الْفَاعِل لَو حذف لفظا لم يقدر فَكَانَ التَّلَفُّظ بِهِ دَلِيل الْقَصْد إِلَيْهِ بِخِلَاف رَكْعَة فَرُبمَا كَانَ التَّلَفُّظ(8/329)
بهَا ذكرا للْمَفْعُول لِأَنَّهُ لَو حذف لم يتَعَيَّن تَقْدِير رَكْعَة بل جَازَ تَقْدِير رَكْعَتَيْنِ لأَنا نتطلب بالصناعة مُطلق كَونه رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ وَنَحْوهمَا لَا خُصُوص واحدمنهما فَكَانَ قَوْله قَاعِدا مَعَ قَوْله أُصَلِّي فِي قُوَّة قضيتين وجملتين مستقلتين فلغا مِنْهُمَا مَا لَيْسَ بقربة بِخِلَاف قَوْله رَكْعَة فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي قُوَّة قَضِيَّة أُخْرَى بل هُوَ من تَمام الْقَضِيَّة الأولى لَو لم يلفظ بِهِ لقدره سامعه وانتقل ذهنه إِلَى الْمُطلق مِنْهُ إِن لم يتَعَيَّن لَهُ الْخَاص فَلم يزدْ قَوْله رَكْعَة على قَوْله أُصَلِّي من حَيْثُ الصِّنَاعَة بِخِلَاف قَاعِدا هَذَا مُنْتَهى مَا خطر لي فِي تحسينه
ثمَّ أَقُول مَا الْفرق بِمُسلم وَتَقْرِير ذَلِك عِنْد سامعه يَسْتَدْعِي مِنْهُ تمهلا عَليّ فِيمَا ألقيه
فَأَقُول مَا الرَّكْعَة بمطلوبة للشارع أبدا من حَيْثُ إِنَّهَا رَكْعَة بل من حَيْثُ إِنَّهَا توتر مَا تقدم فهناك يطْلب انفرادها وَهَذَا أَمر لَا يكون فِي الْوتر فَلَا تكون الرَّكْعَة من حَيْثُ انفرادها قربَة إِلَّا فِي الْوتر فَلَا يلْزم بِالنذرِ وَهِي وَالْقعُود سَوَاء كِلَاهُمَا مَطْلُوب الْعَدَم إِلَّا فِي الْوتر فيطلب وجودهَا ليوتر الْمُتَقَدّم وَذَلِكَ كركعتين خفيفتين يُصَلِّيهمَا بعْدهَا عَن قعُود وَقد روى ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقيل إنَّهُمَا سنة الْوتر كالركعتين بعد الْمغرب سنة الْمغرب وَجعلت رَكعَتَا الْوتر بعد جَائِزَة عَن قعُود إِشَارَة إِلَى أَنه غير وَاجِب وَقيل إِن ذَلِك مَنْسُوخ
فَإِن قلت لَو كَانَت رَكْعَة الْوتر لَا تطلب إِلَّا لكَونهَا توتر مَا تقدم لما صَحَّ الِاقْتِصَار عَلَيْهَا لَكِن الصَّحِيح صِحَة الِاقْتِصَار على رَكْعَة وَاحِدَة
قلت هُوَ مَعَ صِحَّته على تلوم فِيهِ خلاف الْأَفْضَل فَلَيْسَ بقربة من حَيْثُ إِنَّه رَكْعَة مُنْفَرِدَة(8/330)
فَإِن قلت لَو تمّ لَك ذَلِك لما جَازَ النَّفْل فِي غير الْوتر بِرَكْعَة مُنْفَرِدَة لكنه يجوز على الصَّحِيح
قلت إِنَّمَا جَازَ لمُطلق كَونه صَلَاة لَا لخُصُوص كَونه رَكْعَة فَفِي الرَّكْعَة المنفردة عُمُوم وخصوص فعموم كَونهَا صَلَاة صيرها قربَة وخصوص كَونهَا رَكْعَة لَيْسَ من الْقرْبَة فِي شَيْء إِلَّا فِي الْوتر فالتزامها فِي غير الْوتر بِالنذرِ من حَيْثُ خصوصها لَا يَصح كالقعود سَوَاء وَهَذَا تَحْقِيق يَنْبَغِي أَن يكْتب بسواد اللَّيْل على بَيَاض النَّهَار وبماء الذَّهَب على نَار الأفكار
وَقد رد ابْن الرّفْعَة كَلَام ابْن الصّلاح بِمَا لَا أرتضيه فَقَالَ دَعْوَاهُ أَنه لَا قربَة فِي الْقعُود قد يمْنَع إِذا قُلْنَا بالأصح وَهُوَ جَوَاز التَّنَفُّل مُضْطَجعا مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام
قلت وَفِيه نظر فجواز التَّنَفُّل مُضْطَجعا لَا يَقْتَضِي أَنا جعلنَا نفس الْقعُود قربَة بل غَايَة الْأَمر أَنا قُلْنَا إِنَّه خير من الِاضْطِجَاع وَالتَّحْقِيق أَن يُقَال عدم الِاضْطِجَاع خير مِنْهُ وَإِن صَحَّ ووراءه صُورَتَانِ الْقيام وَهُوَ مَطْلُوب للشارع بِخُصُوصِهِ وَالْقعُود وَلَيْسَ هُوَ مَطْلُوبا من حَيْثُ خصوصه بل من حَيْثُ عُمُومه وَهُوَ أَنه لَيْسَ باضطجاع فَخرج من هَذَا أَن خُصُوص الْقعُود لَيْسَ بمقصود قطّ وَإِن وَقع تسمح فِي الْعبارَة فَلَا يعبأ بِهِ
ثمَّ قَالَ ابْن الرّفْعَة وَإِن قُلْنَا لَا يجوز الِاضْطِجَاع مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام فقد يُقَال الْوَفَاء بِالنذرِ لَيْسَ على الْفَوْر وَقد يعجز عَن الْقيام فَيكون الْقعُود فِي حَقه فَضِيلَة فَيصير كَمَا لَو نذر الصَّلَاة قَاعِدا وَهُوَ عَاجز وَالصَّحِيح يعْتَمد الْإِمْكَان
قلت وَقد عرفت بِمَا حققت اندفاعه وَأَن الْقعُود لَا يكون فَضِيلَة أبدا ثمَّ يزْدَاد(8/331)
هَذَا ويقوى بِأَن الِاعْتِبَار فِي النّذر بِوَقْت الْإِلْزَام وَإِلَّا فَلَو تمّ مَا ذكره واكتفي بِاحْتِمَال الْعَجز مصححا فِي الْمُسْتَقْبل مصححا فِي الْحَال لصَحَّ نذر الْمُفلس وَالسَّفِيه عتق عبديهما وَإِن لم ينفذ إعتقاهما فِي الْحَال لاحْتِمَال رفع الْحجر مَعَ بَقَاء العَبْد وَقد وَافق هُوَ على أَنه لَا ينفذ
ثمَّ قَالَ ابْن الرّفْعَة ثمَّ قَول ابْن الصّلاح وَلَيْسَ كَذَلِك قَوْله رَكْعَة إِلَى آخِره قد يمْنَع وَيُقَال مَا قدمه النَّاذِر من قَوْله أُصَلِّي إِذْ نزلناه على وَاجِب الشَّرْع مَحْمُول على رَكْعَتَيْنِ وَقَوله بعده رَكْعَة مُنَاقض لَهُ وَحِينَئِذٍ فقد يُقَال بإلغاء قَوْله رَكْعَة أَو بإلغاء جَمِيع كَلَامه وَيلْزم مثل ذَلِك فِي نذر الصَّلَاة قَاعِدا
قلت وَفِيه نظر فَإِن الِاخْتِلَاف فِي الْحمل على وَاجِب الشَّرْع أَو جائزه إِنَّمَا هُوَ حَالَة الْإِطْلَاق لَا حَالَة التَّقْيِيد بجائزه وَهنا قد قيد بِرَكْعَة فَلَا يُمكن إلغاؤه وَهُوَ كالتقييد بِأَرْبَع وَقد قدمنَا أَن قَوْله رَكْعَة مفعول أُصَلِّي فَلَا بُد مِنْهُ تَقْديرا إِن لم يكن منطوقا فَكيف يحكم بإلغائه
أفتى ابْن الصّلاح فِي وَرَثَة اقتسموا التَّرِكَة ثمَّ ظهر دين وَوجد صَاحب الدّين عينا مِنْهَا فِي يَد بعض الْوَرَثَة بِأَن للْحَاكِم أَن يَبِيع تِلْكَ الْعين فِي وَفَاء الدّين وَلَا يتَعَيَّن أَن يَبِيع على كل وَاحِد من الْوَرَثَة مَا يَخُصُّهُ من الدّين وَهُوَ فرع حسن وَفقه مليح
وَمن الْوَاقِعَات بَين ابْن الصّلاح وَأهل عصره وَلَا نذْكر مَا اشْتهر بَينه وَبَين ابْن عبد السَّلَام فِي مَسْأَلَة صَلَاة الرغائب وَمَسْأَلَة الصَّلَاة بِحَسب السَّاعَات وَنَحْوهمَا وَإِنَّمَا نذْكر مَا يستحسن وَهُوَ عندنَا فِي مَحل النّظر(8/332)
فرع تعم بِهِ الْبلوى امْرُؤ يَقُول اشْهَدُوا عَليّ بِكَذَا هَل يكون بِهِ مقرا أفتى ابْن الصّلاح بِأَنَّهُ لَا يكون مقرا كَذَا ذكر فِي بَاب الْإِقْرَار من فَتَاوِيهِ وَذكر أَن تَقْرِيره سبق مِنْهُ وَكَانَ ذَلِك بِاعْتِبَار مَا كَانَ يكْتب فِي فَتَاوِيهِ على غير تَرْتِيب وَهِي الْآن مرتبَة
وَالْمَسْأَلَة الَّتِي أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا سبقت فِي آخر الْفَتَاوَى ذكر فِيهَا ذَلِك وَأَنه مَذْهَبنَا وَأَن الْمُخَالف فِيهِ أَبُو حنيفَة وَأَن الْمَسْأَلَة مُصَرح بهَا فِي الْعدة للطبري وَفِي الإشراف للهروي وَذكر أَنه وقف على الْمَسْأَلَة بعض من يُفْتِي بِدِمَشْق من أَصْحَابنَا فَأرْسل إِلَيْهِ مستنكرا يذكر أَن هَذَا خلاف مَا فِي الْوَسِيط فَإِن فِيهِ لَو قَالَ أشهدك عَليّ بِمَا فِي هَذِه القبالة وَأَنا عَالم بِهِ فَالْأَصَحّ جَوَاز الشَّهَادَة على إِقْرَاره بذلك
قَالَ ابْن الصّلاح فَقلت إِن تِلْكَ مَسْأَلَة أُخْرَى مباينة لهَذِهِ فَفرق بَين قَوْله أشهدك عَليّ مُضَافا إِلَى نَفسه وَبَين قَوْله اشْهَدْ عَليّ غير مضيف إِلَى نَفسه شَيْئا ثمَّ يَنْبَغِي أَنه إِذا وجد ذَلِك مِمَّن عرفه اسْتِعْمَال ذَلِك فِي الْإِقْرَار يَجْعَل إِقْرَارا وَفِي الْبَيَان أَن اشْهَدْ لَيْسَ بِإِقْرَار لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِك غير الْإِذْن فِي الشَّهَادَة عَلَيْهِ وَلَا تعرض فِيهِ للإقرار هَذَا كَلَامه
ولسنا نوافقه عَلَيْهِ فَإِن حَاصله أَمْرَانِ أَحدهمَا أَنه يَقُول اشْهَدْ عَليّ بِكَذَا أَمر وَلَيْسَ بِإِقْرَار وَهَذَا مُحْتَمل لَكنا نقُول هُوَ مُتَضَمّن للإقرار تضمنا ظَاهرا شَائِعا
وَالثَّانِي أَنه يفرق بَين أشهدك عَليّ واشهد عَليّ وَهَذَا غير مُسلم لَهُ وَغَايَة مَا حاول فِي الْفرق مَا ذكر وَمَعْنَاهُ أَن أشهدك فعل مُسْند إِلَى الْفَاعِل وَمَعْنَاهُ أصيرك شَاهدا بِخِلَاف اشْهَدْ عَليّ وَالْأَمر كَمَا وصف غير أَنه لَا يجديه شَيْئا لِأَن الْأَمر(8/333)
بِأَن يشْهد عَلَيْهِ فَوق الْإِقْرَار وَعَلِيهِ أَلْفَاظ كَثِيرَة من الْكتاب وَالسّنة مثل {واشهد بِأَنا مُسلمُونَ} وأمثلته تكْثر وَمَا ذكره من النَّقْل عَن الإشراف وَالْعدة صَحِيح لكنه قَول من يَقُول اشْهَدْ عَليّ لَيْسَ بِإِقْرَار وَهُوَ أحد الْوَجْهَيْنِ ومأخذه جَهَالَة الْمَشْهُود بِهِ لَا صِيغَة اشْهَدْ أما تَسْلِيم أَن أشهدك إِقْرَار مَعَ منع أَن اشْهَدْ لَيْسَ بِإِقْرَار فَلَا ينتهض وَلَا قَالَه الْغَزالِيّ وَلَا غَيره وَمَا كَاف الْخطاب فِي قَول الْغَزالِيّ أشهدك يُفِيد قَصده الْفَصْل بَينه وَبَين اشْهَدْ كَمَا يظْهر لمن تَأمل الْمَسْأَلَة فِي كَلَام الْأَصْحَاب وَهِي مَذْكُورَة فِي بَاب الْقَضَاء على الْغَائِب فِي كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي ومأخذ الْمَنْع فِيهَا الْجَهَالَة بالمشهود بِهِ لَا غير
وَمن تَأمل كَلَام الإشراف وَالْعدة وَالْإِمَام وَالْغَزالِيّ والرافعي وَمن بعدهمْ أَيقَن بذلك بل قد صرح الْغَزالِيّ نَفسه فِي فَتَاوِيهِ بِمَا هُوَ صَرِيح فِيهَا بقوله فَإِنَّهُ أفتى فِيمَن قَالَ اشْهَدُوا عَليّ أَنِّي وقفت جَمِيع أملاكي وَذكر مصرفها وَلَكِن لم يحددها بِأَن الْجَمِيع يصير وَقفا وَلَيْسَ هُنَا أشهدكم وَالظَّن بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة أَنَّهَا مفروغ مِنْهَا وَمن حاول أَن يَأْخُذ من كَلَام الْأَصْحَاب فرقا بَين اشْهَدْ وأشهدك فقد حاول الْمحَال نعم لَو عمم ابْن الصّلاح قَوْله أشهدك واشهد كلا مِنْهُمَا لَيْسَ بِإِقْرَار لم يكن مُبْعدًا وَكَانَ مُوَافقا لوجه وجيه فِي الْمَذْهَب وَأما مَا نَقله عَن صَاحب الْبَيَان أَن اشْهَدْ لَيْسَ فِيهِ غير الْإِذْن فَلم أجد هَذَا فِي الْبَيَان وَالَّذِي وجدته فِيهِ فِي بَاب الْإِقْرَار مَا نَصه فرع لَو كتب رجل لزيد عَليّ ألف دِرْهَم ثمَّ قَالَ للشُّهُود اشْهَدُوا عَليّ بِمَا فِيهِ لم يكن إِقْرَارا وَقَالَ أَبُو حنيفَة يكون إِقْرَارا دليلنا أَنه سَاكِت عَن الْإِقْرَار بالمكتوب فَلم يكن إِقْرَارا كَمَا لَو كتب عَلَيْهِ غَيره فَقَالَ(8/334)
اشْهَدُوا بِمَا كتب فِيهِ أَو كَمَا لَو كتب على الأَرْض فَإِن أَبَا حنيفَة وَافَقنَا على ذَلِك انْتهى
وَأَحْسبهُ أَخذه من عدَّة الطَّبَرِيّ فَإِنَّهُ فِيهَا كَذَلِك من غير زِيَادَة ذكره أَيْضا فِي بَاب الْإِقْرَار وَهُوَ أَيْضا فِي الإشراف لأبي سعد الْهَرَوِيّ كَمَا نقل ابْن الصّلاح وَلَيْسَ فِي وَاحِد من هَذِه الْكتب الْفَصْل بَين أشهدك واشهد وَلَا تحدثُوا عَن هَذِه الْمَسْأَلَة من حَيْثُ لفظ الشَّهَادَة أصلا إِنَّمَا كَلَامهم من حَيْثُ الْإِقْرَار بِالْمَجْهُولِ المضبوط وَمن ثمَّ أَقُول الْإِنْصَاف أَن مَسْأَلَة الْغَزالِيّ فِي الْفَتَاوَى أَيْضا لم يقْصد بهَا إِلَى صِيغَة اشْهَدُوا بل إِلَى أَن الشَّهَادَة تصح على جيمع الْأَمْلَاك وَإِن لم يحدد أما الْفرق بَين اشْهَدُوا وأشهدكم فَلم يتَكَلَّم فِيهِ أحد غير ابْن الصّلاح وَلَيْسَ بِمُسلم نعم يُؤْخَذ من كَلَام الْغَزالِيّ عدم الْفرق لِأَن اشْهَدُوا لَو لم يكن إِقْرَارا لقَالَ الْغَزالِيّ إِنَّه لَيْسَ بِإِقْرَار لِأَن جِهَة عدم التَّحْدِيد تكون من جِهَة الصِّيغَة فَلَمَّا لم يقل ذَلِك دلنا ذَلِك مِنْهُ على إِن عِنْده أَن كَون الصِّيغَة صِيغَة الْإِقْرَار أَمر مفروغ مِنْهُ وَهُوَ الْغَالِب على الظَّن حَقِيقَة فِيمَا عِنْدِي وَيشْهد لَهُ أَيْضا قَول أَصْحَابنَا فِي الاسترعاء إِذا قَالَ الشَّاهِد للْمقر أشهد عَلَيْك بذلك فَقَالَ الْمقر نعم كَانَ استرعاء صَحِيحا وَإِن قَالَ اشْهَدْ فَثَلَاثَة أوجه وَهُوَ أوكد من نعم لما فِيهِ من لفظ الْأَمر وَالثَّانِي لَا يكون استرعاء صَحِيحا وَالثَّالِث إِن قَالَ اشْهَدْ عَليّ كَانَ استرعاء صَحِيحا لنفى الِاحْتِمَال بقوله عَليّ وَإِن اقْتصر على اشْهَدْ لم يكن استرعاء صَحِيحا أما لَو قَالَ اشْهَدْ عَليّ بِكَذَا فاسترعاء صَحِيح قطعا قَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر لانْتِفَاء وُجُوه الِاحْتِمَال عَنهُ
وَهَذِه الْمسَائِل فِي الْحَاوِي وَالْبَحْر وَمن تأملها علم أَن اشْهَدْ استرعاء صَحِيح(8/335)
وَإِقْرَار مُعْتَبر لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ الْخلَل من لَفظه بل من جَهَالَة مَا سلط عَلَيْهِ وَلذَلِك جزموا فِي اشْهَدْ عَليّ بذلك أَنه استرعاء صَحِيح وَبِه جزم الرَّافِعِيّ أَيْضا وَلَفظه أَو يَقُول اشْهَدْ عَليّ شهادتي بِكَذَا أَو يَقُول إِذا استشهدت على شهادتي فقد أَذِنت لَك فِي أَن تشهد انْتهى
وَمَا قَالَه ابْن الصّلاح يشبه مَا قَالَه ابْن أبي الدَّم فِي الشَّهَادَة على الْإِقْرَار وَقد قدمْنَاهُ فِي تَرْجَمته فِي هَذِه الطَّبَقَة
1230 - عُثْمَان بن عبد الْكَرِيم بن أَحْمد بن خَليفَة الصنهاجي أَبُو عَمْرو بن أبي مُحَمَّد الشَّيْخ الْعَلامَة سديد الدّين التزمنتي
ولد بتزمنت سنة خمس وسِتمِائَة وبرع فِي الْفِقْه ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الْفَاضِلِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ وناب فِي الْقَضَاء
وَكَانَت لَهُ الْيَد الطُّولى فِي معرفَة الْمَذْهَب وَفصل الْخُصُومَات وَكَانَ أحد معيدي الشَّيْخ الْفَقِيه أبي الطَّاهِر الْأنْصَارِيّ خطيب مصر صَاحب الكرامات وَأحد معيدي الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام
قَالَ القَاضِي أَحْمد بن عِيسَى بن رضوَان بن الْعَسْقَلَانِي فِي كِتَابه الَّذِي أَلفه فِي مَنَاقِب الْخَطِيب أبي الطَّاهِر شهدته يَوْمًا يَعْنِي السديد التزمنتي وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخ عز الدّين بِإِعَادَة درسه بعد فَرَاغه فشرع فِي إِعَادَته وَأخذ فِي إِيرَاده فأجاد فِي عِبَارَته بِحَيْثُ كَانَ الأفاضل مِمَّن حضر يعْجبُونَ ويطربون وَإِذا حاوله الحاسدون تَلا لِسَان الْحَال {قل للَّذين كفرُوا ستغلبون} انْتهى(8/336)
وَكَانَ الشَّيْخ السديد كَمَا وصف وأزيد
وَعنهُ أَخذ الْفِقْه فَقِيه الزَّمَان أَبُو الْعَبَّاس ابْن الرّفْعَة
ويحكى أَنه كَانَ يحب الْقَضَاء وَأَنه كَانَ يَدْعُو فِي سُجُوده {رب هَب لي حكما}
توفّي بِالْقَاهِرَةِ حَاكما
1231 - عُثْمَان بن عِيسَى بن درباس القَاضِي ضِيَاء الدّين أَبُو عَمْرو الهدباني الماراني ثمَّ الْمصْرِيّ
صَاحب الِاسْتِقْصَاء فِي شرح الْمُهَذّب وَشرح اللمع فِي أصُول الْفِقْه وَغَيرهمَا من التصانيف
تفقه بإربل على الْخضر بن عقيل ثمَّ بِدِمَشْق على ابْن أبي عصرون وَسمع الحَدِيث من أبي الجيوش عَسَاكِر بن عَليّ وناب فِي الحكم عَن أَخِيه قَاضِي الْقُضَاة صدر الدّين عبد الْملك وَكَانَ من أعلم الشَّافِعِيَّة فِي زَمَانه بالفقه وأصوله(8/337)
قَالَ التفليسي ثمَّ عزل عَن نِيَابَة أَخِيه وَعَن تدريس كَانَ بِيَدِهِ بِظَاهِر الْقَاهِرَة ووقف عَلَيْهِ جمال الدّين خشترين مدرسة أَنْشَأَهَا بِالْقصرِ
مَاتَ بِمصْر سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة وَقد قَارب التسعين سنة
1232 - عمر بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عمويه ابْن سعيد بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن نصر بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق عبد الله ابْن أبي قُحَافَة رَضِي الله عَنهُ
أَبُو عبد الله وَقيل أَبُو نصر وَقيل أَبُو الْقَاسِم الصُّوفِي ابْن أخي الشَّيْخ أبي النجيب
هُوَ الشَّيْخ شهَاب الدّين السهروردي صَاحب عوارف المعارف(8/338)
ولد فِي رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ وخمسائة بسهرورد وَقدم بَغْدَاد فصحب عَمه الشَّيْخ أَبَا النجيب عبد القاهر وَأخذ عَنهُ التصوف والوعظ وَصَحب أَيْضا الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَصَحب بِالْبَصْرَةِ الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد بن عبد
وَسمع الحَدِيث من عَمه وَمن أبي المظفر هبة الله بن الشبلى وَأبي الْفَتْح بن البطي وَمعمر بن الفاخر وَأبي زرْعَة الْمَقْدِسِي وَأبي الْفتُوح الطَّائِي وَغَيرهم
روى عَنهُ ابْن الدبيثي وَابْن نقطة والضياء والزكي البرزالي وَابْن النجار والقوصي وَأَبُو الْغَنَائِم بن عَلان وَالشَّيْخ الْعِزّ الفاروثي وَأَبُو الْعَبَّاس الأبرقوهي وَخلق(8/339)
وَكَانَ فَقِيها فَاضلا صوفيا إِمَامًا ورعا زاهدا عَارِفًا شيخ وقته فِي علم الْحَقِيقَة وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي تربية المريدين وَدُعَاء الْخلق إِلَى الْخَالِق وتسليك طَرِيق الْعِبَادَة وَالْخلْوَة
أَخذ التصوف عَمَّن ذَكرْنَاهُ وَالْفِقْه عَن عَمه أبي النجيب أَيْضا وَعَن أبي الْقَاسِم ابْن فضلان
قَالَ ابْن النجار كَانَ شيخ وقته فِي علم الْحَقِيقَة وانتهت إِلَيْهِ الرياسة فِي تربية المريدين وَدُعَاء الْخلق إِلَى الله وتسليك طَرِيق الْعِبَادَة والزهد صحب عَمه وسلك طَرِيق الرياضات والمجاهدات وَقَرَأَ الْفِقْه وَالْخلاف والعربية وَسمع الحَدِيث ثمَّ انْقَطع ولازم الْخلْوَة وداوم الصَّوْم وَالذكر وَالْعِبَادَة
قَالَ ثمَّ تكلم على النَّاس عِنْد علو سنه وَعقد مجْلِس الْوَعْظ بمدرسة عَمه على دجلة
قَالَ وَقصد من الأقطار وَظَهَرت بَرَكَات أنفاسه على خلق من العصاة فتابوا وَوصل بِهِ خلق إِلَى الله وَصَارَ لَهُ أَصْحَاب كَالنُّجُومِ
قَالَ وَرَأى من الجاه وَالْحُرْمَة عِنْد الْمُلُوك مَا لم يره أحد
قَالَ ثمَّ أضرّ فِي آخر عمره وأقعد وَمَعَ هَذَا فَمَا أخل بالأوراد ودوام الذّكر وَحُضُور الْجمع فِي محفته والمضي إِلَى الْحَج إِلَى أَن دخل فِي عشر الْمِائَة
قَالَ وَمَات وَلم يخلف كفنا مَعَ مَا كَانَ يدْخل لَهُ
قَالَ ابْن نقطة كَانَ شيخ الْعرَاق فِي وقته صَاحب مجاهدة وإيثار وَطَرِيق حميدة ومروءة تَامَّة وأوراد على كبر سنه(8/340)
وَمن الْمسَائِل والفوائد عَنهُ
قَالَ السهروردي فِي عوارف المعارف اتّفق أَصْحَاب الشَّافِعِي أَن الْمَرْأَة غير الْمحرم لَا يجوز الِاسْتِمَاع إِلَيْهَا سَوَاء كَانَت حرَّة أَو مَمْلُوكَة مكشوفة الْوَجْه أَو من وَرَاء حجاب
قلت وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب الْمُصَحح عِنْد الْمُتَأَخِّرين أَن الِاسْتِمَاع إِلَى الْأَجْنَبِيَّة مَكْرُوه غير محرم
وَقَالَ السهروردي أَيْضا إِن الإِمَام إِذا قَالَ آمين فَافْتتحَ الْمَأْمُوم فِي قِرَاءَة الْفَاتِحَة لَا يسكت بل يشْتَغل الإِمَام بِمَا رُوِيَ اللَّهُمَّ نقني من الْخَطَايَا والذنُوب الحَدِيث إِلَى أَن يتم الْمَأْمُوم الْفَاتِحَة
وَهَذَا تبع فِيهِ الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ كَذَلِك ذكر فِي الْإِحْيَاء وَهُوَ غَرِيب والْحَدِيث يشْهد لِأَن مَوضِع ذَلِك قبل الْفَاتِحَة
1233 - عمر بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن علوان القَاضِي عز الدّين أَبُو الْفَتْح ابْن الْأُسْتَاذ
ولد سنة إِحْدَى وَعشْرين وسِتمِائَة وَسمع من ابْن اللتي وَغَيره
قَالَ الذَّهَبِيّ وَكَانَ فَقِيها صَالحا دينا متزهدا متميزا درس بِالْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّة البرانية وَهُوَ آخر من روى بِدِمَشْق سنَن ابْن مَاجَه كَامِلا
توفّي فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة(8/341)
1234 - عمر بن مُحَمَّد بن عمر بن عَليّ بن مُحَمَّد بن حمويه الْجُوَيْنِيّ الأَصْل شيخ الشُّيُوخ الصاحب الرئيس عماد الدّين أَبُو الْفَتْح بن شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين أبي الْحسن بن شيخ الشُّيُوخ عماد الدّين أبي الْفَتْح
ولد فِي شعْبَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَنَشَأ بِمصْر ودرس بمدرسة الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ومشهد الْحُسَيْن وَولي خانقاه سعيد السُّعَدَاء
وَكَانَ صَدرا رَئِيسا مُعظما عِنْد الْخَاص وَالْعَام فَاضلا أشعري العقيدة
وَحدث بِدِمَشْق والقاهرة وَهُوَ الَّذِي قَامَ بسلطنة الْملك الْجواد بن الْعَادِل بِدِمَشْق عِنْد موت الْملك الْكَامِل
1235 - عمر بن مكي بن عبد الصَّمد الشَّيْخ زين الدّين ابْن المرحل
خطيب دمشق(8/342)
تفقه على الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام وَقَرَأَ الْكَلَام وَالْأُصُول على الخسروشاهي وَسمع الحَدِيث من الْحَافِظ عبد الْعَظِيم وَغَيره
وَكَانَ من عُلَمَاء زَمَانه وَهُوَ وَالِد الشَّيْخ صدر الدّين مُحَمَّد الْمُتَقَدّم
توفّي هَذَا فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة
1236 - عمر بن مكي الخوزي
قَرَأَ الْمَذْهَب وَالْأُصُول وَالْخلاف والجدل وَكَانَ متألها متعبدا ناسكا سالكا طَرِيق الزّهْد والرياضة والمجاهدة وَالْخلْوَة ودوام الصّيام وَالصَّلَاة زاهدا فِي المناصب والتقدم مَعَ اشتهار اسْمه وعلو مرتبته
مضى إِلَى مَكَّة وَحج وَأقَام بهَا مجاورا على أحسن طَريقَة وأجمل سريرة وسيرة إِلَى أَن توفّي بهَا فِي صفر سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة هَذَا كَلَام ابْن النجار قَالَ وَأَظنهُ جَاوز السِّتين(8/343)
1237 - عمر بن يحيى بن عمر بن حمد الشَّيْخ فَخر الدّين الكرجي
نزيل دمشق
ولد بالكرج سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَقدم إِلَى دمشق وَلزِمَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن الصّلاح وتفقه عَلَيْهِ وَسمع من ابْن الزبيدِيّ وَابْن اللتي والبهاء عبد الرَّحْمَن الْمَقْدِسِي
حدث عَنهُ أَبُو الْحسن بن الْعَطَّار وَغَيره
وَقد زوجه ابْن الصّلاح بابنته
مَاتَ هُوَ والمسند أَبُو الْحسن عَليّ بن البُخَارِيّ فِي يَوْم وَاحِد وَهُوَ ثَانِي ربيع الآخر سنة تسعين وسِتمِائَة(8/344)
1238 - عِيسَى بن رضوَان بن الْعَسْقَلَانِي الشَّيْخ ضِيَاء الدّين القليوبي
وَالِد القَاضِي كَمَال الدّين أَحْمد
1239 - عِيسَى بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن هبة الله بن أبي عِيسَى أَبُو الْفَتْح
كَانَ معيدا بِالْمَدْرَسَةِ النظامية وشيخا بالرباط الناصري بِبَغْدَاد
مولده فِي صفر سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
وَمَات فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة
1240 - عِيسَى الْعِرَاقِيّ الضَّرِير
نزيل دمشق
مدرس الكلاسة والمدرسة الأمينية(8/345)
مَاتَ لَيْلَة الْجُمُعَة سَابِع ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة أصبح مصلوبا فَحَضَرَ الْوَالِي واستكشف عَن أمره وجد فِي الْبَحْث عَنهُ فَلم يعلم كَيفَ خَبره
1241 - الْعِرَاقِيّ بن مُحَمَّد بن الْعِرَاقِيّ الإِمَام ركن الدّين أَبُو الْفضل الهمذاني الطاوسي
صَاحب التعليقة فِي الْخلاف
وَكَانَ إِمَامًا مبرزا فِي النّظر وَله ثَلَاث تعاليق وَقد تخرج بِهِ فُقَهَاء همذان ورحلت إِلَيْهِ الطّلبَة
مَاتَ فِي رَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّمائَة
1242 - فتح بن مُحَمَّد بن عَليّ بن خلف نجيب الدّين أَبُو الْمَنْصُور السَّعْدِيّ الدمياطي(8/346)
1243 - الْفَتْح بن مُوسَى بن حَمَّاد نجم الدّين أَبُو نصر الجزيري القصري
ولد بالجزيرة الخضراء فِي رَجَب سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَنَشَأ بقصر عبد الْكَرِيم بالمغرب وَسمع مُقَدّمَة الْجُزُولِيّ عَلَيْهِ
وَكَانَ فَقِيها أصوليا نحويا
قدم دمشق واشتغل على السَّيْف الْآمِدِيّ وَدخل حماة ودرس بمدرسة ابْن المشطوب ونظم السِّيرَة لِابْنِ هِشَام والمفصل للزمخشري والإشارات لِابْنِ سينا
وَدخل مصر ودرس بالفائزية بأسيوط وَولى قَضَاء أسيوط وَبهَا توفّي فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
1244 - فضل الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد الإِمَام أَبُو المكارم ابْن الْحَافِظ أبي سعد النوقاني
مولده سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة
وَأَجَازَهُ محيي السّنة الْبَغَوِيّ استجازه لَهُ أَبوهُ
وَسمع من عبد الْجَبَّار الخواري وَغَيره
تفقه بِمُحَمد بن يحيى
وَقد أجَاز لِابْنِ البُخَارِيّ وَابْن أبي عمر وَغَيرهمَا من أَشْيَاخ أشياخنا فلنا رِوَايَة(8/348)
تصانيف الْبَغَوِيّ بِالْإِجَازَةِ عَن مَشَايِخنَا عَن ابْن أبي عمر وَالْفَخْر عَنهُ عَن الْبَغَوِيّ وَهُوَ علو عَظِيم
مرض بنيسابور وَحمل إِلَى نوقان وَهِي طوس فَمَاتَ بهَا سنة سِتّمائَة
1245 - فضل الله التوربشتي
وتوربشت بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعْدهَا وَاو سَاكِنة ثمَّ رَاء مَكْسُورَة ثمَّ بَاء مُوَحدَة مَكْسُورَة ثمَّ شين مُعْجمَة سَاكِنة ثمَّ تَاء مثناة من فَوق
رجل مُحدث فَقِيه من أهل شيراز
شرح مصابيح الْبَغَوِيّ شرحا حسنا وروى صَحِيح البُخَارِيّ عَن عبد الْوَهَّاب بن صَالح بن مُحَمَّد بن المعزم إِمَام الْجَامِع الْعَتِيق عَن الْحَافِظ أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ أخبرنَا أَبُو الْخَيْر مُحَمَّد بن مُوسَى الصفار أخبرنَا أَبُو الْهَيْثَم الْكشميهني أخبرنَا الْفربرِي
وأظن هَذَا الشَّيْخ مَاتَ فِي حُدُود السِّتين والستمائة وواقعة التتار أوجبت عدم الْمعرفَة بِحَالهِ(8/349)
وَمن فَوَائده
مَا ذكره فِي آخر شرح المصابيح قَالَ وَلَقَد استبهم عَليّ قَوْله بنت لبون أُنْثَى ففتشت بطُون الدفاتر وفاوضت فِيهِ من صادفته بصدد الْفَهم من أهل الْعلم فَلم أصدر عَن تِلْكَ الْمَوَارِد ببلة ثمَّ إِن الله تَعَالَى ألهمني فِيهِ وَجه الصَّوَاب على مَا قَرّرته فِي بَاب الزَّكَاة من الْكتاب وَبعد بُرْهَة كنت أتصفح كتابا لبَعض عُلَمَاء الْمغرب فَوَجَدته قد سبقني بالْقَوْل فِيهِ عَن نَفسه أَو عَن غَيره على شاكلة مَا جِئْت بِهِ
وَالَّذِي قَالَ فِي الزَّكَاة فَأَما وَجه قَوْله بنت مَخَاض أُنْثَى وَبنت لبون أُنْثَى فَلم أجد أحدا من أَصْحَاب الْمعَانِي ذكر فِيهِ مَا شفى الغليل وَقد سُئِلت عَنهُ فَكَانَ جوابي فِيهِ أَن الابْن وَالْبِنْت إِنَّمَا يختصان بِالذكر وَالْأُنْثَى عِنْد الْإِطْلَاق فِي بني آدم وَأما فِي غير بني آدم فقد اسْتعْمل على غير هَذَا الْوَجْه فَقيل ابْن عرس وَابْن آوى وَابْن دأية وَابْن قترة وَابْن المَاء وَابْن الْغَمَام وَابْن ذكاء وَابْن الأَرْض وَبنت الأَرْض وَبنت الْجَبَل وَبنت الْفِكر وَمَا أشبه ذَلِك من الْأَسْمَاء وكل ذَلِك مستعار لمعان غير الَّتِي تخْتَص بالانسان وَكَذَلِكَ تَقول فِي ابْن مَخَاض وَابْن لبون وَبنت مَخَاض وَبنت لبون
وَيدل على صِحَة مَا ادعيناه قَوْلهم بَنَات مَخَاض وَبَنَات لبون وَبَنَات آوى وَلم يَقُولُوا أَبنَاء مَخَاض أَبُو بَنو مَخَاض وَقد ذكر عَن الْأَخْفَش بَنو عرس وَبَنُو نعش فَأَما ابْن مَخَاض وَابْن لبون فَلم يذكر فِي جَمعهمَا اخْتِلَاف فالتقييد الَّذِي ورد فِي الحَدِيث بنت مَخَاض أُنْثَى وَبنت لبون أُنْثَى لرفع الِاشْتِبَاه بِمَا ذَكرْنَاهُ من النَّظَائِر انْتهى(8/350)
قلت وَلَعَلَّ المغربي الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُوَ السُّهيْلي فَلهُ تصنيف فِي ذَلِك وَلابْن الْحَاجِب أَيْضا فِيهِ كَلَام أَو لَعَلَّه الإِمَام أَبُو عبد الله الْمَازرِيّ الْمَالِكِي فَإِنَّهُ نقل ذَلِك فِي شرح التَّلْقِين وَزَاد شَيْئا رَآهُ هُوَ فَقَالَ فِي ابْن لبون ذكر وَبنت مَخَاض أُنْثَى يُقَال حُكيَ عَن بَعضهم أَن لفظ الذّكر وَالْأُنْثَى هُنَا جَاءَ تَأْكِيدًا وَحسنه اخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وغرابيب سود} والغربيب لَا يكون إِلَّا أسود وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ احْتِرَاز من قَوْلهم ابْن عرس وَابْن آوى وَنَحْو ذَلِك مِمَّا ينطبق على الذّكر وَالْأُنْثَى
قَالَ الْمَازرِيّ وَهَذَا إِنَّمَا يُفِيد فِي قَوْله ابْن لبون ذكر وَأما قَوْله بنت مَخَاض أُنْثَى فَيحْتَاج إِلَى ثُبُوت اسْتِعْمَال بنت كَذَا كَمَا فِي ابْن عرس وَنَحْوه وَمَا أرَاهُ يُوجد قلت قد وجد وَذكر التوربشتي بنت النقلَة وَبنت الْجَبَل
ثمَّ قَالَ الْمَازرِيّ والمرضي عِنْدِي أَن هَذَا ورد للتّنْبِيه على مَشْرُوعِيَّة كل مِنْهُمَا فِي هَذَا النّصاب الْوَاحِد وهما مُخْتَلِفَانِ فِي السن على خلاف قَاعِدَة بَقِيَّة النَّصِيب لتبين أَنَّهُمَا كالمتفقين إِذا توصل حَالهمَا لِأَن بنت الْمَخَاض وَإِن كَانَت صَغِيرَة حِينَئِذٍ لَا يحمل عَلَيْهَا فلهَا فَضِيلَة الْأُنُوثَة المتوقع مِنْهَا الدّرّ والنسل وَهُوَ مَقْصُود وَلكنه اخْتصَّ عَنْهَا فِي(8/351)
هَذِه الْحَالة ينَال الشّجر وَيَأْكُل الْكلأ وَيرد الْمِيَاه وَيمْنَع من صغَار السبَاع وَيحمل عَلَيْهِ فهما كالمتوارثين فَأَشَارَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ذَلِك بتقييد كل مِنْهُمَا بوصفه الْخَاص بِهِ الْمشعر بِتِلْكَ الخصوصية
قَالَ وَهَذَا مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْفَرَائِض فَلأولى رجل ذكر فَإِنَّهُ تَنْبِيه على عِلّة الحكم لِأَن العاصب قد يكون أبعد من بنت الْعم والعمة وَيَقْتَضِي الرَّأْي أَن الْأَقْرَب أقوى لفضيلة الْقرب لَكِن لما كَانَت الذُّكُورَة يسْتَحق بهَا العصب وَالنِّكَاح نبه على الْوَجْه الَّذِي من أَجله قدم العاصب فِي الْمِيرَاث على مَا هُوَ أقرب مِنْهُ
1246 - الْقَاسِم بن عَليّ بن الْحسن بن هبة الله الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد بن الْحَافِظ أبي الْقَاسِم بن عَسَاكِر
ولد سنة سبع وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَسمع بِدِمَشْق من أبي الْحسن السّلمِيّ وَنصر الله المصِّيصِي وَالْقَاضِي أبي الْمَعَالِي مُحَمَّد بن يحيى الْقرشِي وَعَمه الصائن وجد أَبَوَيْهِ وَخلق وَأَجَازَهُ أَكثر شُيُوخ وَالِده وَكتب الْكثير حَتَّى إِنَّه كتب تَارِيخ وَالِده مرَّتَيْنِ وَكَانَ حَافِظًا
وَله كتاب فضل الْمَدِينَة وَكتاب فضل الْمَسْجِد الْأَقْصَى وأملى كثيرا وَحدث(8/352)
وَسمع مِنْهُ خلق وَكَانَ نَاصِر السّنة مجدا فِي إماتة الْبِدْعَة وَدخل مصر وانتفع بِهِ أَهلهَا
مَاتَ سنة سِتّمائَة
1247 - الْقَاسِم بن عبد الله بن عمر بن أَحْمد
الشَّيْخ الإِمَام شهَاب الدّين أَبُو بكر بن الإِمَام أبي سعد بن الإِمَام أبي حَفْص الصفار
شيخ ابْن الصّلاح
ولد سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَسمع من جده وَمن عَم أَبِيه وَمن وجيه الشحامي وَعبد الله الفراوي وَهبة الرَّحْمَن بن الْقشيرِي وَجَمَاعَة
روى عَنهُ ابْن الصّلاح والزكي البرزالي وَأَبُو إِسْحَاق الصريفيني والضياء الْمَقْدِسِي والصدر الْبكْرِيّ وَعمر الْكرْمَانِي وَآخَرُونَ
وَحدث عَنهُ بِالْإِجَازَةِ أَبُو الْفضل ابْن عَسَاكِر والتاج ابْن أبي عصرون
وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا إِمَامًا نبيلا فَقِيه خُرَاسَان ومفتيها ومدرسها مُحدثا مكثرا عالي الْإِسْنَاد رَئِيسا محتشما من وُجُوه نيسابور وسراة أَهلهَا مواظبا على نشر الْعلم قيل إِنَّه درس وسيط الْغَزالِيّ أَرْبَعِينَ مرّة درس الْعَامَّة تدريس الْخَاصَّة
اسْتشْهد بنيسابور لما دَخلهَا التّرْك وَقتلُوا الرِّجَال وَالنِّسَاء فَكَانَ فِي من اسْتشْهد سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة(8/353)
1248 - الْمُبَارك بن الْمُبَارك بن سعيد بن أبي السعادات أَبُو بكر بن الدهان النَّحْوِيّ الضَّرِير
من أهل وَاسِط
صحب أَبَا البركات بن الْأَنْبَارِي وَأخذ عَنهُ وَكَانَ جيد القريحة حاد الذِّهْن متضلعا فِي عُلُوم كَثِيرَة إِمَامًا فِي النَّحْو واللغة والتصريف وَالْعرُوض ومعاني الشّعْر وَالتَّفْسِير وَالْإِعْرَاب وتعليل الْقرَاءَات عَارِفًا بالفقه والطب وَعلم النُّجُوم وعلوم الْأَوَائِل وَله النثر الْحسن وَالنّظم الْجيد
وَكَانَ فِي أول أمره على مَذْهَب أبي حنيفَة ثمَّ انْتقل إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي
سمع الحَدِيث من أبي زرْعَة الْمَقْدِسِي وَغَيره
ولد سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْ عشرَة وسِتمِائَة(8/354)
1249 - الْمُبَارك بن مُحَمَّد بن عَليّ الموسوي التفليسي
تفقه على يحيى بن الرّبيع
وَله كتاب رتبه على قسمَيْنِ ذكر أَنه فرغ من تصنيفه فِي ربيع الآخر سنة أَربع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
1250 - يحيى بن عبد الْمُنعم بن حسن الشَّيْخ جمال الدّين الْمصْرِيّ
وَهُوَ الْمَعْرُوف عِنْد أهل مصر بالجمال يحيى
كَانَ فَقِيها كَبِيرا حَافِظًا للْمَذْهَب دينا خيرا
أَخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ الْجَلِيل أبي الطَّاهِر الْمحلي وَبعد صيته واشتهر اسْمه وَولي قَضَاء الْمحلة مُدَّة ثمَّ درس بمشهد الْحُسَيْن بِالْقَاهِرَةِ وناب فِي الحكم وَكَانَ يحضر الدَّرْس فينقل بعض الطّلبَة من النِّهَايَة وَبَعْضهمْ من الْبَحْر وَنَحْو ذَلِك فَيَقُول لكل مِنْهُم صدقت هُوَ فِي الْمَكَان الْفُلَانِيّ فِي الْفَصْل الْفُلَانِيّ لقُوَّة استحضاره مَعَ علو سنه
وَحكي أَن قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين ابْن بنت الْأَعَز حضر عِنْده جمَاعَة من الْفُقَهَاء المتعينين فَسَأَلَ عَن مَسْأَلَة فَلم يستحضر أحد مِنْهُم فِيهَا نقلا فَأقبل الْجمال يحيى فَقَالَ أنقلها من سَبْعَة عشر كتابا وسردها
وَكَانَ يَنُوب فِي الحكم لِابْنِ رزين فَوَقَعت محاكمة فِي الْحَضَانَة فشرع قَاضِي الْقُضَاة يَقُول شَيْئا فَقَالَ الْجمال يحيى النَّقْل خلاف ذَلِك فَقَالَ لَهُ احكم بَينهمَا
وَكَانَ قوي النَّفس وَقيل إِنَّه كَانَ لَا يدْرِي أصولا وَلَا نَحوا وَلَا علما غير الْفِقْه
وَقَالَ مرّة مستنيبه قَاضِي الْقُضَاة ابْن رزين لَو أردْت لعزلتك فَقَالَ لَهُ مَا تقدر فَقَالَ لم من يَمْنعنِي فَقَالَ كُنَّا عِنْد الْفَقِيه أبي الطَّاهِر يَوْمًا فحصلت لَهُ حَالَة(8/355)
فَقَالَ كل من كَانَت لَهُ حَاجَة يذكرهَا فَقلت أَنا أُرِيد أَن أكون نَائِب حكم وَلَا يعزلني أحد فَقَالَ لَك ذَلِك
توفّي فِي عَاشر رَجَب سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَقد قَارب الثَّمَانِينَ
1251 - يحيى بن عَليّ بن سُلَيْمَان أَبُو زَكَرِيَّا الْمَعْرُوف بِابْن الْعَطَّار
ولد بالموصل فِي سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وتفقه على القَاضِي عبد الرَّحْمَن بن خِدَاش وعَلى الشَّيْخ يُونُس بن مَنْعَة ودرس فِي بعض مدارس الْموصل وَبهَا مَاتَ فِي سَابِع عشري جُمَادَى الأخرة سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة
1252 - يحيى بن الْقَاسِم بن المفرج بن درع بن الْخضر بن الْحسن بن حَامِد الثَّعْلَبِيّ أَبُو زَكَرِيَّا التكريتي
من أهل تكريت
تفقه بتكريت فِي صباه على وَالِده ثمَّ سَافر إِلَى الحديثة فتفقه بهَا على قاضيها أبي مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن عبدويه الشَّيْبَانِيّ الْبَلْخِي وَمضى إِلَى الْموصل(8/356)
وتفقه على سعيد بن الشهرزوري ثمَّ قدم بَغْدَاد وتفقه على الشَّيْخَيْنِ أبي النجيب السهروردي ويوسف الدِّمَشْقِي وَقَرَأَ الْأَدَب على أبي مُحَمَّد الخشاب وبرع فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأُصُول وَسمع الحَدِيث من أبي الْفَتْح بن البطي وَأبي زرْعَة الْمَقْدِسِي وَشَيْخه أبي النجيب وَغَيرهم وَعَاد إِلَى بَلَده وَولي الْقَضَاء بِهِ مُدَّة ودرس ثمَّ قدم بَغْدَاد فِي سنة سبع وسِتمِائَة وَولي تدريس النظامية
قَالَ ابْن النجار كَانَ آخر من بَقِي من الْمَشَايِخ الْمشَار إِلَيْهِم فِي معرفَة مَذْهَب الشَّافِعِي وَله الْكَلَام الْحسن فِي المناضرة والعبارة الفصيحة بالأصولين وَله الْيَد الطُّولى فِي معرفَة الْأَدَب والباع الممتد فِي حفظ لُغَات الْعَرَب وَكَانَ أحفظ أهل زَمَانه لتفسير الْقُرْآن وَمَعْرِفَة علومه وَكَانَ من المجودين لتلاوته وَمَعْرِفَة الْقرَاءَات ووجوهها وصنف فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأَدب وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا
كتب إِلَيّ أَحْمد بن أبي طَالب عَن ابْن النجار قَالَ أَنْشدني يحيى التكريتي لنَفسِهِ
(لَا بُد للمرء من ضيق وَمن سَعَة ... وَمن سرُور يوافيه وَمن حزن)
(وَالله يطْلب مِنْهُ شكر نعْمَته ... مَا دَامَ فِيهَا ويبغي الصَّبْر فِي المحن)
(فَكُن مَعَ الله فِي الْحَالين معتنقا ... فرضيك هذَيْن فِي سر وَفِي علن)
(فَمَا على شدَّة يبْقى الزَّمَان فَكُن ... جلدا وَلَا نعْمَة تبقى على الزَّمن)
مولده فِي مستهل الْمحرم سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة بتكريت وَمَات فِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة بِبَغْدَاد(8/357)
1253 - يحيى بن مَنْصُور بن يحيى بن الْحسن الْفَقِيه أَبُو الْحُسَيْن السُّلَيْمَانِي الْيَمَانِيّ الْمُقْرِئ
من أَعْيَان شُيُوخ الْقَاهِرَة
تفقه على الشَّيْخ شهَاب الدّين الطوسي وَقَرَأَ الْقرَاءَات على أبي الْجُود ولازم الْحَافِظ عَليّ بن الْمفضل مُدَّة بِالْقَاهِرَةِ
توفّي فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1254 - يحيى بن هبة الله بن الْحسن بن يحيى بن مُحَمَّد
قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين أَبُو البركات ابْن سني الدولة
أَبُو قَاضِي الْقُضَاة صدر الدّين
ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة وتفقه على القَاضِي أبي سعد بن أبي عصرون وَأخذ الْخلاف عَن الإِمَام قطب الدّين النَّيْسَابُورِي وَسمع الحَدِيث من أبي الْحُسَيْن بن الموازيني وَيحيى الثَّقَفِيّ وَابْن صَدَقَة الْحَرَّانِي وَعبد الرَّحْمَن بن عَليّ الْخرقِيّ والخشوعي وَحدث بِمَكَّة والقدس ودمشق وحمص(8/358)
روى عَنهُ الْمجد بن الحلوانية والشرف ابْن عَسَاكِر وَابْن عَمه الْفَخر إِسْمَاعِيل وَجَمَاعَة
وَكَانَ إِمَامًا فَاضلا جَلِيلًا مهيبا ولي قَضَاء الشَّام وحمدت سيرته
توفّي فِي خَامِس ذِي الْقعدَة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1255 - يحيى بن أبي السعادات بن سعد الله بن الْحُسَيْن بن أبي تَمام القَاضِي أَبُو الْفتُوح التكريتي
ولد يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشري صفر سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة بتكريت
وَسمع من أَبِيه وَجَمَاعَة وَسمع بِبَغْدَاد من أبي المظفر هبة الله بن الشبلي وَابْن البطي وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر وَالشَّيْخ أبي النجيب وَجَمَاعَة وَحدث بِبَلَدِهِ وَخرج لنَفسِهِ أَحَادِيث
روى عَنهُ ابْن الدبيثي والبرزالي والضياء وَآخَرُونَ
مَاتَ فِي صفر سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة
1256 - يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن بن القَاضِي أبي سعد بن أبي عصرون الشَّيْخ سعد الدّين أَبُو يُوسُف التَّمِيمِي
روى بِالْإِجَازَةِ عَن أبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ
وَله مسَائِل جمعهَا على كتاب الْمُهَذّب وَكَانَ فَقِيها فَاضلا درس بِالْمَدْرَسَةِ القطبية بِالْقَاهِرَةِ مُدَّة ثمَّ توفّي بِمَدِينَة الْمحلة فِي ثَالِث عشر رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة(8/359)
1257 - يُوسُف بن رَافع بن تَمِيم بن عتبَة بن مُحَمَّد بن عتاب الْأَسدي الْحلَبِي
قَاضِي الْقُضَاة بحلب بهاء الدّين أَبُو المحاسن ابْن شَدَّاد
وَابْن شَدَّاد جده لأمه فنسب إِلَيْهِ
ولد فِي رَمَضَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة بالموصل وَحفظ الْقُرْآن وَلزِمَ يحيى بن سعدون الْقُرْطُبِيّ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآن والعربية وَسمع مِنْهُ وَمن مُحَمَّد ابْن أسعد حفدة العطاري صَاحب الْبَغَوِيّ وَمن ابْن يَاسر الجياني وَأبي الْفضل خطيب الْموصل وأخيه عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد وَالْقَاضِي أبي الرِّضَا سعيد بن عبد الله الشهرزوري وَأبي البركات عبد الله بن الْخضر الشيرجي الْفَقِيه وَيحيى الثَّقَفِيّ وببغداد من شهدة الكاتبة وَأبي الْخَيْر الْقزْوِينِي وَجَمَاعَة وَحدث بِدِمَشْق ومصر وحلب
روى عَنهُ أَبُو عبد الله الفاسي الْمُقْرِئ والحافظ الْمُنْذِرِيّ وَكَمَال الدّين ابْن العديم وَابْنه مجد الدّين وجمال الدّين ابْن الصَّابُونِي والشهابان القوصي والأبرقوهي وسنقر القضائي وَجَمَاعَة(8/360)
وَكَانَ إِمَامًا فَاضلا ثِقَة عَارِفًا بِالدّينِ وَالدُّنْيَا رَئِيسا مشارا إِلَيْهِ متعبدا متزهدا نَافِذ الْكَلِمَة وَكَانَ يشبه بِالْقَاضِي أبي يُوسُف فِي زَمَانه
دبر أُمُور الْملك بحلب وَاجْتمعت الألسن على مدحه والقلوب على حبه لمكارمه وأفضاله ونفعه الطّلبَة فِي الْعلم وَالدُّنْيَا
وَله المصنفات الْكَثِيرَة مِنْهَا كتاب ملْجأ الْحُكَّام عِنْد التباس الْأَحْكَام وَكتاب دَلَائِل الْأَحْكَام وَكتاب الموجز الباهر فِي الْفِقْه وَكتاب سيرة السُّلْطَان صَلَاح الدّين وَكتاب فَضَائِل الْجِهَاد صنفه للسُّلْطَان صَلَاح الدّين
وَكَانَ من بَدْء سعادته أَنه حج وَورد إِلَى الشَّام فَاسْتَحْضرهُ السُّلْطَان صَلَاح الدّين وأكرمه وَسَأَلَهُ عَن جُزْء حَدِيث ليسمع مِنْهُ فَأخْرج لَهُ جُزْءا فقرأه عَلَيْهِ بِنَفسِهِ ثمَّ جمع كِتَابه فِي فَضَائِل الْجِهَاد وَقدمه للسُّلْطَان ولازمه فولاه قَضَاء الْعَسْكَر وَقَضَاء الْقُدس وَهُوَ أول قَاض ولي الْقُدس بعد فتوح صَلَاح الدّين وَكَانَ حَاضرا موت صَلَاح الدّين وخدم بعده وَلَده الْملك الظَّاهِر فولاه قَضَاء مَمْلَكَته وَنظر أوقافها سنة نَيف وَتِسْعين وَكَانَ القَاضِي بهاء الدّين لَا ولد لَهُ وَلَا قرَابَة وَزَاد إقبال الْملك الظَّاهِر عَلَيْهِ وأقطعه الإقطاعات الهائلة وَكَانَ ينعم عَلَيْهِ بعد ذَلِك بالأموال الجزيلة فتكاثرت أَمْوَاله فعمر بحلب مدرسة ثمَّ دَار حَدِيث ثمَّ أنشأ بَينهمَا تربة وَصَارَ يكثر الأفضال على طلبة الْعلم والطلبة تقصده من الْبِلَاد لثلاث اجْتَمعْنَ فِيهِ الْعلم وَالْمَال والجاه وَهُوَ(8/361)
لَا يبخل بِشَيْء مِنْهَا وَطعن فِي السن واستولت عَلَيْهِ البرودات والضعف فَكَانَ يتَمَثَّل بقول الشَّاعِر
(من يتمن الْعُمر فليدرع ... صبرا على فقد أحبائه)
(وَمن يعمر يلق فِي نَفسه ... مَا يتمناه لأعدائه)
وَقدم مصر رَسُولا غير مرّة
وَقد أَطَالَ ابْن خلكان فِي تَرْجَمته وَقَالَ إِنَّه توفّي بحلب يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَدفن بتربته
قيد ابْن شَدَّاد فِي كتاب دَلَائِل الْأَحْكَام قَول الْأَصْحَاب إِن السُّلْطَان أولى بِالْإِمَامَةِ من صَاحب الْمنزل وَإِمَام الْمَسْجِد بالجمعات والأعياد لتَعلق هَذِه الْأُمُور بالسلاطين قَالَ وَأما بَقِيَّة الصَّلَوَات فأعلمهم أولى بِالْإِمَامَةِ إِلَّا أَن تجمع الْخِصَال الْمَذْكُورَة فِي الإِمَام فَيكون حِينَئِذٍ أولى وَلَعَلَّه أَخذه من كَلَام الْخطابِيّ
1258 - يُوسُف بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم أَبُو الْحجَّاج الدِّمَشْقِي وجيه الدّين الوجيزي
أحد الْأَئِمَّة من مَشَايِخ الْقَاهِرَة نسب إِلَى كتاب الْوَجِيز لحفظه إِيَّاه(8/362)
1259 - يُوسُف بن شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين أبي الْحسن مُحَمَّد بن عمر بن عَليّ بن مُحَمَّد بن حمويه
الْأَمِير الْكَبِير الْوَزير مقدم جيوش الْإِسْلَام الصالحية فَخر الدّين أَبُو الْفضل الْجُوَيْنِيّ أحد من دَان لَهُ الْعباد والبلاد
ولد بِدِمَشْق سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَسمع مَنْصُور بن أبي الْحسن الطَّبَرِيّ وَمُحَمّد بن يُوسُف الغزنوي وَغَيرهمَا وَحدث
وَكَانَ رَئِيسا عَاقِلا مُدبرا سمح الْيَدَيْنِ بالأموال محببا إِلَى النَّاس حَبسه السُّلْطَان نجم الدّين ثَلَاث سِنِين وقاسى ضرا وشدائد وَكَانَ لَا ينَام من الْعَمَل ثمَّ أخرجه وأنعم عَلَيْهِ وَجعله نَائِب السلطنة فَلَمَّا توفّي السُّلْطَان سُئِلَ فَخر الدّين على أَن يتسلطن فَلم يفعل وَلَو أجَاب لتم لَهُ الْأَمر
وَقيل إِنَّه قدم دمشق مَعَ السُّلْطَان فَنزل دَار أُسَامَة فَدخل عَلَيْهِ الْعِمَاد النّحاس فَقَالَ لَهُ يَا فَخر الدّين إِلَى كم مَا بَقِي بعد الْيَوْم شَيْء فَقَالَ يَا عماد الدّين(8/363)
وَالله لأسبقنك إِلَى الْجنَّة فَصدق إِن شَاءَ الله قَوْله وَاسْتشْهدَ على يَد الإفرنج يَوْم وقْعَة المنصورة
وَقيل إِن فَخر الدّين أنْفق مرّة فِي الْعَسْكَر مِائَتي ألف دِينَار وَكَانَ يركب بالشاويشية وَكَانَ فِي الْحَقِيقَة هُوَ السُّلْطَان يقف على بَابه ويركب فِي خدمته سَبْعُونَ أَمِيرا غير مماليكه وخدمه وأبطل كثيرا من المكوس وَجَرت على يَده خيرات حسان
ثمَّ اتّفق مَجِيء الإفرنج وَانْقِطَاع الْمُسلمين بَين أَيْديهم منهزمين فَركب فَخر الدّين وَقت السحر ليكشف الْخَبَر وَأرْسل النُّقَبَاء إِلَى الْجَيْش وسَاق فِي طلبه فصادف الْعَدو فحملوا عَلَيْهِ فَانْهَزَمَ أَصْحَابه وَطعن هُوَ فَسقط وَقتل وَنهب غلمانه مَاله وَضرب بِالسَّيْفِ فِي وَجهه ضربتين وَكَانَ قد بنى دَارا فاخرة بالمنصورة فخربت من يَوْمهَا
وَكَانَ قَتله يَوْم رَابِع ذِي الْقعدَة سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
وَمن شعره
(إِذا تحققتم مَا عِنْد صَاحبكُم ... من الغرام فَذَاك الْقدر يَكْفِيهِ)
(أَنْتُم سكنتم فُؤَادِي وَهُوَ منزلكم ... وَصَاحب الْبَيْت أدرى بِالَّذِي فِيهِ)(8/364)
1260 - يُوسُف بن يحيى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن يحيى
قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين ابْن الزكي أَبُو افضل
ولد فِي ذِي الْحجَّة سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ فَقِيها فَاضلا مفتيا متوقد الذِّهْن سريع الحافظة مناضرا محجاجا
أَخذ الْعُلُوم عَن القَاضِي كَمَال الدّين التفليسي وَعَن وَالِده قيل وَكَانَ أفضل من أَبِيه
وَسمع الحَدِيث بِمصْر من ابْن رواج وَابْن الجميزي وبدمشق من إِبْرَاهِيم ابْن خَلِيل وَجَمَاعَة
سمع مِنْهُ الْحَافِظ علم الدّين البرزالي وَغَيره وَولي قَضَاء دمشق بعد ابْن الصَّائِغ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَاسْتمرّ حَاكما إِلَى أَن مَاتَ فِي حادي عشر ذِي الْحجَّة سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة عَن خمس وَأَرْبَعين سنة(8/365)
1261 - يُونُس بن بدران بن فَيْرُوز بن صاعد الْجمال الْمصْرِيّ
هُوَ قَاضِي الْقُضَاة بِالشَّام جمال الدّين الشيبي الْحِجَازِي المليجي الْمَعْرُوف بالجمال الْمصْرِيّ
سمع من السلَفِي وَغَيره وَاخْتصرَ الْأُم للشَّافِعِيّ وصنف فِي الْفَرَائِض
توفّي فِي شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة
1262 - الْمُبَارك بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن عبد الْوَاحِد الشَّيْبَانِيّ الْعَلامَة مجد الدّين أَبُو السعادات الْجَزرِي ابْن الْأَثِير
صَاحب جَامع الْأُصُول وغريب الحَدِيث وَشرح مُسْند الشَّافِعِي وَغير ذَلِك
ولد بِجَزِيرَة ابْن عمر سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَنَشَأ بهَا ثمَّ انْتقل إِلَى الْموصل فَسمع من يحيى بن سعدون الْقُرْطُبِيّ وخطيب الْموصل الطوسي وَسمع بِبَغْدَاد من ابْن كُلَيْب
روى عَنهُ وَلَده والشهاب القوصي وَجَمَاعَة وَآخر من روى عَنهُ بِالْإِجَازَةِ فَخر الدّين ابْن البُخَارِيّ(8/366)
واتصل بِخِدْمَة الْأَمِير الْكَبِير مُجَاهِد الدّين قايماز إِلَى أَن مَاتَ فاتصل بِخِدْمَة صَاحب الْموصل عز الدّين مَسْعُود وَولي ديوَان الْإِنْشَاء
وَله ديوَان رسائل وَمن تصانيفه غير مَا ذَكرْنَاهُ كتاب الْإِنْصَاف فِي الْجمع بَين الْكَشْف والكشاف تفسيري الثَّعْلَبِيّ والزمخشري والمصطفى الْمُخْتَار فِي الْأَدْعِيَة والأذكار والبديع فِي شرح فُصُول ابْن الدهان فِي النَّحْو والفروق والأبنية وَكتاب الأذواء والذوات وَشرح غَرِيب الطوَال
وَكَانَ بارعا فِي الترسل وَحصل لَهُ مرض مزمن أبطل يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وَعجز عَن الْكِتَابَة وَأقَام بداره وَأَنْشَأَ رِبَاطًا بقرية من قرى الْموصل ووقف أملاكه عَلَيْهِ وَكَانَ فَاضلا رَئِيسا مشارا إِلَيْهِ
توفّي سنة سِتّ وسِتمِائَة
1263 - الْمُبَارك بن يحيى بن أبي الْحسن بن أبي الْقَاسِم الْمصْرِيّ الشَّيْخ نصير الدّين بن الطباخ
ولد فِي خَامِس عشر ذِي الْقعدَة سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَ بارعا فِي الْفِقْه مَشْهُور الِاسْم فِيهِ
درس بِالْمَدْرَسَةِ القطبية بالبندقانيين بِالْقَاهِرَةِ وَأعَاد عِنْد شيخ الْإِسْلَام عز الدّين ابْن عبد السَّلَام بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية(8/367)
وَكَانَ ذكي القريحة حاد الذِّهْن كثير الاعتناء بِكِتَاب التَّنْبِيه نوزع مرّة فِي مَسْأَلَة وَقيل لَهُ لَيست هَذِه فِي التنيبه فَغَضب وَقَالَ مَا من مَسْأَلَة إِلَّا وَهِي فِي التَّنْبِيه فَقيل لَهُ أَيْن فِي التَّنْبِيه إِن لكل جرية حكما فِي المَاء الجارى فَقَالَ فِي قَوْله فِي الطَّلَاق وَإِن قَالَ لَهَا وَهِي فِي مَاء جَار إِن خرجت من هَذَا المَاء فَأَنت طَالِق وَإِن أَقمت فِيهِ فَأَنت طَالِق خرجت أَو أَقَامَت فقد جعل لكل جرية حكما
مَاتَ فِي الْقَاهِرَة فِي حادى عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
1264 - مَحْمُود بن أَحْمد بن مُحَمَّد أَبُو الْفضل الأردبيلي
كَانَ فَقِيها أصوليا
قدم بَغْدَاد ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الكمالية وَسقط فِي بِئْر فِي دَاره فَهَلَك سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة
1265 - مَحْمُود بن أَحْمد بن مَحْمُود
أَبُو المناقب الزنجاني
استوطن بَغْدَاد
قَالَ ابْن النجار وبرع فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأُصُول ودرس بالنظامية وعزل ودرس بالمستنصرية وصنف تَفْسِير الْقُرْآن وَحدث عَن الإِمَام النَّاصِر لدين الله بِالْإِجَازَةِ
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ اسْتشْهد فِي كائنة بَغْدَاد سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة(8/368)
1266 - مَحْمُود بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الشَّيْخ برهَان الدّين أَبُو الثَّنَاء المراغي
مدرس الفلكية بِدِمَشْق
ولد سنة خمس وسِتمِائَة وَسمع بحلب من أبي الْقَاسِم بن رَوَاحَة وَالْقَاضِي زين الدّين بن الْأُسْتَاذ وَغَيرهمَا
روى عَنهُ شَيخنَا الْمزي وَابْن الْعَطَّار وَالشَّيْخ علم الدّين البرزالي وَطَائِفَة
وَكَانَ فَقِيها أصوليا مناظرا محققا صَالحا زاهدا متعبدا عرض عَلَيْهِ قَضَاء الْقُضَاة قامتنع وَعرضت عَلَيْهِ مشيخة الشُّيُوخ فَامْتنعَ وَكَانَت لَهُ حَلقَة بالجامع الْأمَوِي يشْتَغل فِيهَا
توفّي فِي ثَالِث عشرى ربيع الآخر سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
وَمن فَتَاوِيهِ فِي امْرَأَة أشهدت على نَفسهَا أَن هَذَا الرجل ابْن عمي وصدقها أَن الْعُصُوبَة تثبت ويرثها إِذا مَاتَت نَقله الشَّيْخ برهَان الدّين ابْن الفركاح فِي تَعْلِيقه فِي بَاب الْإِقْرَار وَهِي مَسْأَلَة تعم بهَا الْبلوى لَا سِيمَا إِذا كَانَ الْمقر لَهُ غَائِبا فكثيرا مَا يقر مَرِيض بِأَن لَهُ وَارِثا غَائِبا إِمَّا ابْن عَم أَو نَحوه فَيَضَع وَكيل بَيت المَال يَده مُدعيًا(8/369)
أَن بَيت المَال لَا ينْدَفع بِهَذَا القَوْل وَقد أفتى الشَّيْخ تَاج الدّين ابْن الفركاح وَكيل بَيت المَال بذلك على تلوم وَتوقف عِنْده وَعند وَلَده الشَّيْخ شهَاب الدّين فِيهِ وَأما أَنا فَلَا وَقْفَة عندى فِيهِ وَالصَّوَاب عِنْدِي اندفاع بَيت المَال بِهَذَا الْإِقْرَار وَحفظ هَذَا المَال بِمُجَرَّد هَذَا الْإِقْرَار حَتَّى يحضر الْغَائِب أَو يثبت خلاف مَا قَالَه الْمَرِيض وَقد أشبعنا الْكَلَام على هَذِه الْمَسْأَلَة وَقُلْنَا إِن فِي كَلَام القَاضِي الْحُسَيْن وَشَيْخه الْقفال وَفِي فَتَاوَى ابْن الصّباغ مَا يرشد إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ
1267 - مَحْمُود بن عبيد الله بن أَحْمد بن عبد الله أَبُو المحامد ظهير الدّين الزنجاني الْفَقِيه الصُّوفِي الزَّاهِد
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ ولد سنة سبع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة ظنا وَسمع الشَّيْخ شهَاب الدّين السهروردي وَصَحبه مُدَّة وَأَبا المعالى صاعد بن عَليّ الْوَاعِظ والمحدث ابْن أبي المعمر بَدَلا التبريزي وَجَمَاعَة(8/370)
حدث عَنهُ أَبُو الْحسن بن الْعَطَّار وَغَيره وَأَجَازَ لشَيْخِنَا الذَّهَبِيّ وَحدث بِكِتَاب العوارف عَن المُصَنّف وَكَانَ إِمَامًا بالتقوية وَأكْثر نَهَاره بهَا ومبيته بالسميساطية
مَاتَ فِي شهر رَمَضَان سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة
1268 - مَحْمُود بن أبي بكر بن أَحْمد الأرموي الشَّيْخ سراج الدّين أَبُو الثَّنَاء
صَاحب التَّحْصِيل مُخْتَصر الْمَحْصُول فِي أصُول الْفِقْه واللباب مُخْتَصر الْأَرْبَعين فِي أصُول الدّين وَالْبَيَان والمطالع فِي الْمنطق وَغير ذَلِك وَقيل إِنَّه شرح الْوَجِيز فِي الْفِقْه
قَرَأَ بالموصل عَليّ كَمَال الدّين بن يُونُس
مولده فِي سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة بِمَدِينَة قونية
1269 - مشرف بن عَليّ بن أبي جَعْفَر بن كَامِل أَبُو الْعِزّ الخالصي المقرىء الضَّرِير
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ ولد تَقْرِيبًا سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَقدم بَغْدَاد فحفظ بهَا الْقُرْآن وتفقه بالنظامية وَقَرَأَ الْقرَاءَات وَسمع من أبي الْكَرم وَأبي الْوَقْت وَأحمد بن مُحَمَّد بن الدباس وَغَيرهم
روى عَنهُ ابْن الدبيثى والبرزالي وَغَيرهمَا(8/371)
توفّي فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الآخر سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة
والخالص الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ اسْم نَاحيَة ونهر شَرْقي بَغْدَاد
1270 - مظفر بن عبد الله بن عَليّ بن الْحُسَيْن الإِمَام تَقِيّ الدّين الْمصْرِيّ المقترح
والمقترح لقب عَلَيْهِ
كَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْه وَالْخلاف وأصول الدّين نظارا على قهر الْخُصُوم وإزهاقهم إِلَى الِانْقِطَاع
صنف التصانيف الْكَثِيرَة وَتخرج بِهِ خلق
قَالَ الْحَافِظ عبد الْعَظِيم سمع بالإسكندرية من أبي الطَّاهِر بن عَوْف وَسمعت مِنْهُ وَحدث بِمَكَّة ومصر وَكَانَ كثير الإفادة منتصبا لمن يقْرَأ عَلَيْهِ كثير التَّوَاضُع حسن الْأَخْلَاق جميل الْعشْرَة دينا متورعا
ولى التدريس بِالْمَدْرَسَةِ الْمَعْرُوفَة بالسلفى بالإسكندرية مُدَّة وَتوجه إِلَى مَكَّة، فأشيعت وَفَاته وَأخذت الْمدرسَة فَعَاد وَلم يتَّفق عوده إِلَيْهَا فَأَقَامَ بِجَامِع مصر يقرىء وَاجْتمعَ عَلَيْهِ جمَاعَة كَثِيرَة ودرس بمدرسة الشريف ابْن ثَعْلَب وَتُوفِّي فِي شعْبَان سنة اثنتى عشرَة وسِتمِائَة(8/372)
1271 - المظفر بن عبد الله بن أبي مَنْصُور
الشريف أَبُو مَنْصُور الْهَاشِمِي العباسي الْوَاعِظ الْمَعْرُوف بالشريف العباسي ولد بإربل
سمع بِبَغْدَاد من ذَاكر بن كَامِل وَغَيره وَحدث بِمصْر ودمشق
قَالَ الْحَافِظ عبد الْعَظِيم توفّي فِي شَوَّال سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1272 - المظفر بن أبي مُحَمَّد وَيُقَال بل أبي الْخَيْر بن إِسْمَاعِيل بن عَليّ الواراني الشَّيْخ أَمِين الدّين التبريزي
صَاحب الْمُخْتَصر الْمَشْهُور فِي الْفِقْه يكنى أَبَا الْخَيْر وَقيل أَبَا الأسعد وَمن تصانيفه أَيْضا التَّنْقِيح اختصر فِيهِ الْمَحْصُول فِي أصُول القفه وَله سمط الْمسَائِل فِي القفه فِي مجلدين وَأكْثر
ولد سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة وَكَانَ من أجل مَشَايِخ الْعلم فِي ديار مصر فَقِيها أصوليا عابدا زاهدا كثير الْعِبَادَة إِمَامًا مناظرا مبرزا
تفقه بِبَغْدَاد على أبي الْقَاسِم بن فضلان وَأعَاد بِالْمَدْرَسَةِ النظامية وَأفْتى وناظر وَسمع الحَدِيث من أبي الْفرج بن كُلَيْب وَأبي أَحْمد بن سكينَة
قَالَ ابْن النجار وانتخب بِخَطِّهِ وَقَرَأَ كثيرا من الْكتب الْكِبَار(8/373)
قلت روى عَنهُ الْحَافِظ زكي الدّين الْمُنْذِرِيّ وَغَيره
وَحج الشَّيْخ أَمِين الدّين من بَغْدَاد ثمَّ قدم مصر ودرس بهَا بِالْمَدْرَسَةِ الناصرية الْمُجَاورَة للجامه الْعَتِيق واستوطنها دهرا طَويلا يُفْتى ويفيد ثمَّ سَافر إِلَى الْعرَاق وَمن الْعرَاق إِلَى شيراز وَمَات بهَا فِي ذى الْحجَّة سنة إِحْدَى وَعشْرين وسِتمِائَة
1273 - الْمعَافي بن إِسْمَاعِيل بن أبي الْحُسَيْن بن أبي السنان القفيه أَبُو مُحَمَّد بن الحدوس
بِفَتْح الْحَاء وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ وَإِسْكَان الْوَاو ثمَّ سين مُهْملَة
لَهُ كتاب الْكَامِل فِي الْفِقْه وَكتاب الموجز فِي الذّكر وَكتاب أنس المنقطعين وَغير ذَلِك من المصنفات
ولد سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة وَسمع من أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن خَمِيس وَمُسلم بن عَليّ السيحي
روى عَنهُ الزكي البرزالي وَالْمجد بن العديم وَالْخضر بن عَبْدَانِ الْكَاتِب وَغَيرهم
وَكَانَ إِمَامًا عَارِفًا بِالْمذهبِ كثير الْعِبَادَة درس وَأفْتى وناظر
توفّي فِي رَمَضَان أَو شعْبَان سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
وَفِي كِتَابه الْكَامِل أَنه يكره الاستياك بالمبرد(8/374)
1274 - مفرج بن الْمُبَارك أَبُو الْفضل القَاضِي يعرف بِابْن الْعَطَّار
من أهل وَاسِط
تفقه على أبي جَعْفَر بن البوقي وَأفْتى وَكَانَ نزها خيرا
ولد فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَمَات فِي حادي عشرى شعْبَان سنة إِحْدَى وسِتمِائَة
1275 - مَنْصُور بن سليم بن مَنْصُور بن فتوح الْمُحدث وجيه الدّين أَبُو المظفر الْهَمدَانِي الإسْكَنْدراني
محتسب الْإسْكَنْدَريَّة
ولد فِي ثامن صفر سنة سبع وسِتمِائَة وَسمع من مُحَمَّد بن عماد الْحَرَّانِي وجعفر الْهَمدَانِي وَابْن رواج وَجَمَاعَة من أَصْحَاب السلَفِي وببغداد من ابْن روزبة والقطيعي وَأبي بكر الخازن وَجَمَاعَة من أَصْحَاب شهدة وبمصر من مرتضى بن أبي الْجُود(8/375)
وَعلي بن عمار وَغَيرهمَا وبدمشق من ابْن اللتي ومكرم وَجَمَاعَة وبحلب من ابْن خَلِيل وَغَيره وَبِغير ذَلِك من الْبلدَانِ من جماعات
كتب عَنهُ الْحَافِظ الدمياطي والشريف عز الدّين وَجَمَاعَة ودرس بالإسكندرية وَخرج وانتقى وعني بفنون الحَدِيث وَجمع المعجم لنَفسِهِ وَخرج الْأَرْبَعين وصنف تَارِيخا للإسكندرية فِي مجلدين
توفّي لَيْلَة الْحَادِي وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة رَحمَه الله
1276 - مُوسَى بن عَليّ بن وهب بن مُطِيع الْقشيرِي القوصي
الشَّيْخ سراج الدّين ابْن الشَّيْخ مجد الدّين وأخو شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين
ولد بقوص سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَسمع الحَدِيث من أَصْحَاب السلَفِي وَحدث
سمع مِنْهُ شَيخنَا أَبُو حَيَّان النَّحْوِيّ
وَكَانَ فَقِيها جيدا ذكي القريحة تصدى بقوص لنشر الْعلم والفتيا
وصنف فِي الْفِقْه كتاب سَمَّاهُ الْمُغنِي وَهَذَا الْكتاب هُوَ الَّذِي نقل عَنهُ ابْن الرّفْعَة، فِيمَا إِذا نوى الْمُتَيَمم بتيممه اسْتِبَاحَة الْفَرْض وَالنَّفْل أَن سراج الدّين ابْن دَقِيق الْعِيد قَالَ: يستبيحهما على أصح الْوَجْهَيْنِ وَالْمَعْرُوف فِي الْمَذْهَب أَنه يستبيحهما بِلَا خلاف قَالَه النَّوَوِيّ وَقَالَ الإِمَام إِن الطّرق اتّفقت عَلَيْهِ(8/376)
قَالَ ابْن لرفعة وَقَضِيَّة مَا نَقله سراج الدّين أَن الْوَجْه الآخر أَنه لَا يستبيحهما بل أَحدهمَا وَقَول الْغَزالِيّ فَالصَّحِيح جوازهما لَا يُنَافِي دَعْوَى الإِمَام اتِّفَاق الطّرق على جوازهما إِذْ مُقَابل الصَّحِيح فِي كَلَامه أَنه لَا بُد من تعين الْفَرِيضَة وَالْمعْنَى فَالصَّحِيح جوازهما وَإِن لم يعين الْفَرِيضَة وَكَلَام ابْن دَقِيق الْعِيد يجوز أَن يؤول بِمثل مَا أول بِهِ كَلَام الْغَزالِيّ
وَمن شعر سراج الدّين
(وحقك مَا أَعرَضت عَنْك ملالة ... وَلَا أَنا مِمَّا تعلمين مُفِيق)
(وَلَكِن خشيت الكاشحين لأنني ... على سرنا من أَن يذاع شفيق)
(فَأَصْبَحت كالظمآن شَاهد مشربا ... قَرِيبا وَلَكِن مَا إِلَيْهِ طَرِيق)
مَاتَ بقوص سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
1277 - مُوسَى بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن حمود الماكسيني(8/377)
1278 - مُوسَى بن أبي الْفضل يُونُس بن مُحَمَّد بن مَنْعَة
الشَّيْخ الْعَلامَة كَمَال الدّين ابْن يُونُس أَبُو الْفَتْح الْموصِلِي
وَالِد شَارِح التَّنْبِيه الشَّيْخ شرف الدّين أَحْمد بن مُوسَى
ولد فِي صفر سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة بالموصل وتفقه على وَالِده الشَّيْخ رَضِي الدّين يُونُس ثمَّ توجه إِلَى بَغْدَاد فتفقه بِالْمَدْرَسَةِ النظامية على معيدها السديد السلماسي وَقَرَأَ الْعَرَبيَّة بالموصل على الإِمَام يحيى بن سعدون وببغداد على الْكَمَال عبد الرَّحْمَن الْأَنْبَارِي ثمَّ عَاد إِلَى الْموصل مُقيما بهَا
وَكَانَ رجلا متبحرا فِي كثير من فنون الْعلم مَوْصُوفا بالذكاء المفرط إِلَيْهِ مرجع أهل الْموصل وَمَا والاها فِي الْفَتَاوَى وَأَصْحَابه يعظمونه كثيرا
وَقد ذكره ابْن خلكان فِي الوفيات وَقَالَ إِنَّه درس بعد وَفَاة وَالِده فِي مَوْضِعه بِالْمَسْجِدِ الْمَعْرُوف بالأمير زين الدّين صَاحب إربل قَالَ وَهَذَا الْمَسْجِد يعرف الْآن بِالْمَدْرَسَةِ الكمالية لِأَنَّهُ نسب إِلَى كَمَال الدّين الْمَذْكُور لطول إِقَامَته بِهِ وَلما اشْتهر فَضله انثال عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وتبحر فِي جَمِيع فنون الْعلم وَجمع من الْعُلُوم مَا لم يجمعه أحد(8/378)
وَتفرد بِعلم الرياضة وَلَقَد رَأَيْته بالموصل فِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة وترددت إِلَيْهِ دفيعات عديدة لما كَانَ بَينه وَبَين الْوَالِد رَحمَه الله من المؤانسة والمودة الأكيدة وَلم يتَّفق لي الْأَخْذ عَنهُ لعدم الْإِقَامَة وَسُرْعَة الْحَرَكَة إِلَى الشَّام
وَكَانَ الْفُقَهَاء يَقُولُونَ إِنَّه يدْرِي أَرْبَعَة وَعشْرين فَنًّا دراية متقنة فَمن ذَلِك الْمَذْهَب وَكَانَ فِيهِ أوحد الزَّمَان وَكَانَ جمَاعَة من الطَّائِفَة الْحَنَفِيَّة يشتغلون عَلَيْهِ بمذهبهم وَيحل مسَائِل الْجَامِع الْكَبِير أحسن حل مَعَ مَا يَجِيء عَلَيْهِ من الْإِشْكَال الْمَشْهُور
وَكَانَ يتقن فن الْخلاف والتجاري وأصول الْفِقْه وأصول الدّين وَلما وصلت كتب فَخر الدّين الرَّازِيّ للموصل وَكَانَ بهَا إِذْ ذَاك جمَاعَة من الْفُضَلَاء لم يفهم أحد مِنْهُم اصْطِلَاحه فِيهَا سواهُ وَكَذَلِكَ الْإِرْشَاد للعميدي لما وقف عَلَيْهَا حلهَا فِي لَيْلَة وَاحِدَة وأقرأها على مَا قَالُوا
وَكَانَ يدْرِي فن الْحِكْمَة والمنطق والطبيعى والإلهي وَكَذَلِكَ الطِّبّ وَيعرف فنون الرياضة من اقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطي وَهِي لَفْظَة يونانية مَعْنَاهَا بِالْعَرَبِيَّةِ التَّرْتِيب ذكر ذَلِك أَبُو بكر فِي كِتَابه وأنواع الْحساب المفتوح مِنْهُ والجبر والمقابلة والأرثماطيقي وَطَرِيق الخطأين والموسيقى والمساحة(8/379)
معرفَة لَا يُشَارِكهُ فِيهَا غَيره إِلَّا فِي ظواهر هَذِه الْعُلُوم دون دقائقها وَالْوُقُوف على حقائقها وَبِالْجُمْلَةِ فَلَقَد كَانَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(وَكَانَ من الْعُلُوم بِحَيْثُ يقْضى ... لَهُ فِي كل علم بِالْجَمِيعِ)
واستخرج فِي علم الأوفاق طرقا لم يهتد إِلَيْهَا أحد وَكَانَ يبْحَث فِي الْعَرَبيَّة والتصريف بحثا تَاما مُسْتَوفى حَتَّى إِنَّه كَانَ يقرئ كتاب سِيبَوَيْهٍ والإيضاح والتكملة لأبي عَليّ الْفَارِسِي والمفصل للزمخشري وَكَانَ لَهُ فِي التَّفْسِير والْحَدِيث وَأَسْمَاء الرِّجَال وَمَا يتَعَلَّق بِهِ يَد جَيِّدَة
وَكَانَ يحفظ من التواريخ وَأَيَّام الْعَرَب ووقائعهم والأشعار والمحاضرات شَيْئا كثيرا
وَكَانَ أهل الذِّمَّة يقرأون عَلَيْهِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل ويشرح لَهما هذَيْن الْكِتَابَيْنِ شرحا يعترفون أَنهم لَا يَجدونَ من يوضحهما لَهُم مثله وَكَانَ فِي كل فن من هَذِه الْفُنُون كَأَنَّهُ لَا يعرف سواهُ لقُوته فِيهِ
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن مَجْمُوع مَا كَانَ يُعلمهُ من الْفُنُون لم نسْمع عَن أحد مِمَّن تقدمه أَنه كَانَ قد جمعه
وَلَقَد جَاءَنَا الشَّيْخ أثير الدّين الْمفضل بن عمر بن الْمفضل الْأَبْهَرِيّ صَاحب التعليقة فِي الْخلاف والزيج والتصانيف الْمَشْهُورَة من الْموصل إِلَى إربل فِي سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة وَقبلهَا فِي سنة خمس وَعشْرين وَنزل بدار الحَدِيث وَكنت أشتغل عَلَيْهِ بِشَيْء من الْخلاف فَبَيْنَمَا أَنا يَوْمًا عِنْده إِذْ دخل عَلَيْهِ بعض فُقَهَاء بَغْدَاد وَكَانَ فَاضلا فتجاريا فِي الحَدِيث زَمَانا وَجرى ذكر الشَّيْخ كَمَال الدّين فِي أثْنَاء الحَدِيث فَقَالَ لَهُ الْأَثِير لما حج الشَّيْخ كَمَال الدّين وَدخل بَغْدَاد كنت هُنَاكَ فَقَالَ نعم فَقَالَ كَيفَ كَانَ(8/380)
إقبال الدُّيُون الْعَزِيز عَلَيْهِ فَقَالَ ذَاك الْفَقِيه مَا أنصفوه على قدر اسْتِحْقَاقه فَقَالَ الْأَثِير مَا هَذَا إِلَّا عجب وَالله مَا دخل بَغْدَاد مثل الشَّيْخ فاستعظمت مِنْهُ هَذَا الْكَلَام وَقلت يَا سيدنَا كَيفَ تَقول كَذَا فَقَالَ يَا وَلَدي مَا دخل بَغْدَاد مثل أبي حَامِد الْغَزالِيّ وَالله مَا بَينه وَبَين الشَّيْخ نِسْبَة
وَكَانَ الْأَثِير على جلالة قدره فِي الْعُلُوم يَأْخُذ الْكتاب وَيجْلس بَين يَدَيْهِ يقْرَأ عَلَيْهِ وَالنَّاس يَوْم ذَلِك يشتغلون فِي تصانيف الْأَثِير وَلَقَد شهِدت هَذَا بعيني وَهُوَ يقْرَأ عَلَيْهِ كتاب المجسطي
وَلَقَد حكى بعض الْفُقَهَاء أَنه سَأَلَ الشَّيْخ كَمَال الدّين عَن الْأَثِير ومنزلته فِي الْعُلُوم فَقَالَ مَا أعلم فَقَالَ وَكَيف هَذَا يَا مَوْلَانَا وَهُوَ فِي خدمتك مُنْذُ سِنِين عديدة يشْتَغل عَلَيْك فَقَالَ لأنني مهما قلت لَهُ تَلقاهُ بِالْقبُولِ وَقَالَ نعم يَا مَوْلَانَا فَمَا جادلني فِي مَبْحَث قطّ حَتَّى أعلم حَقِيقَة فضلَة(8/381)
وَلَا شكّ أَنه كَانَ يعْتَمد هَذَا الْقدر مَعَ الشَّيْخ تأدبا وَكَانَ معيدا عِنْده فِي الْمدرسَة البدرية وَكَانَ يَقُول مَا تركت بلادي وقصدت الْموصل إِلَّا للاشتغال على الشَّيْخ
وَكَانَ شَيخنَا تَقِيّ الدّين أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف بِابْن الصّلاح الْمُتَقَدّم ذكره يُبَالغ فِي الثَّنَاء على فضائله وتعظيم شَأْنه وتوحده فِي الْعُلُوم فَذكره يَوْمًا وَشرع فِي وَصفه على عَادَته فَقَالَ لَهُ بعض الْحَاضِرين يَا سيدنَا على من اشْتغل وَمن كَانَ شَيْخه فَقَالَ هَذَا الرجل خلقه الله إِمَامًا عَالما فِي فنونه لايقال على من اشْتغل وَلَا من كَانَ شَيْخه فَإِنَّهُ أكبر من هَذَا
وَحكى لي بعض الْفُقَهَاء بالموصل أَن ابْن الصّلاح الْمَذْكُور سَأَلَهُ أَن يقْرَأ عَلَيْهِ شَيْئا من الْمنطق سرا فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَتردد إِلَيْهِ مُدَّة فَلم يفتح عَلَيْهِ بِشَيْء فَقَالَ لَهُ يَا فَقِيه الْمصلحَة عِنْدِي أَن تتْرك الِاشْتِغَال بِهَذَا الْفَنّ فَقَالَ لَهُ وَلم ذَلِك يَا مَوْلَانَا فَقَالَ لِأَن النَّاس يَعْتَقِدُونَ فِيك الْخَيْر وهم ينسبون كل من اشْتغل بِهَذَا الْفَنّ إِلَى فَسَاد الِاعْتِقَاد فكأنك تفْسد عقائدهم فِيك وَلَا يحصل لَك من هَذَا الْفَنّ شَيْء فَقبل إِشَارَته وَترك قِرَاءَته
وَمن يقف على هَذِه التَّرْجَمَة فَلَا ينسبني إِلَى المغالاة فِي حق الشَّيْخ وَمن كَانَ من أهل تِلْكَ الْبِلَاد وَعرف مَا كَانَ عَلَيْهِ الشَّيْخ عرف أَنِّي مَا أعرته وَصفا ونعوذ من الغلو والتساهل فِي النَّقْل(8/382)
وَقد ذكره أَبُو البركات ابْن المستوفي الْمُتَقَدّم ذكره فِي تَارِيخ إربل فَقَالَ هُوَ عَالم مقدم ضرب فِي كل علم وَهُوَ فِي علم الْأَوَائِل كالهندسة والمنطق وَغَيرهمَا مِمَّن يشار إِلَيْهِ حل اقليدس والمجسطي على الشَّيْخ شرف الدّين المظفر بن مُحَمَّد بن المظفر الطوسي الفارابي يَعْنِي صَاحب الاسطرلاب الخطي الْمَعْرُوف بالعصا
قَالَ ابْن المستوفي ووردت عَلَيْهِ مسَائِل من بَغْدَاد فِي مشكلات هَذَا الْعلم فَحلهَا واستصغرها وَنبهَ على براهينها بعد أَن احتقرها وَهُوَ فِي الْفِقْه والعلوم الإسلامية نَسِيج وَحده ودرس فِي عدَّة مدارس بالموصل وَتخرج عَلَيْهِ خلق كثير فِي كل فن
ثمَّ قَالَ أنشدنا لنَفسِهِ وأنفذها إِلَى صَاحب الْموصل يشفع عِنْده
(لَئِن شرفت أَرض بِمَالك رقها ... فمملكة الدُّنْيَا بكم تتشرف)
(ومكنت من حفظ البسيطة مثل مَا ... تمكن فِي أَمْصَار فِرْعَوْن يُوسُف)
(بقيت بَقَاء الدَّهْر أَمرك نَافِذ ... وسعيك مَشْهُور وحكمك منصف)
قلت أَنا وَلَقَد أَنْشدني هَذِه الأبيات عَنهُ أحد أَصْحَابه بِمَدِينَة حلب وَكنت بِدِمَشْق سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَبهَا رجل فَاضل فِي عُلُوم الرياضة فأشكل عَلَيْهِ مَوَاضِع من مسَائِل الْحساب والجبر والمقابلة والمساحة واقليدس فَكتب جَمِيعهَا فِي درج(8/383)
وسيرها إِلَى الْموصل ثمَّ بعد أشهر عَاد جَوَابه وَقد كشف عَن خفيها وأوضح غامضها وَذكر مَا يعجز الْإِنْسَان عَن وَصفه ثمَّ كتب فِي آخر الْجَواب فليمهد الْعذر فِي التَّقْصِير فِي الْأَجْوِبَة فَإِن القريحة جامدة والفطنة خامدة قد استولى عَلَيْهَا كَثِيرَة النسْيَان وشغلها حوادث الزَّمَان وَكثير مِمَّا استخرجناه وعرفناه نسيناه بِحَيْثُ صرنا كأنا مَا عَرفْنَاهُ
وَقَالَ لي صَاحب الْمسَائِل الْمَذْكُورَة مَا سَمِعت مثل هَذَا الْكَلَام إِلَّا للأوائل المتقنين لهَذِهِ الْعُلُوم مَا هَذَا من كَلَام أَبنَاء هَذَا الزَّمَان
وَحكى لي الشَّيْخ الْفَقِيه الرياضي علم الدّين قَيْصر بن أبي الْقَاسِم بن عبد الْغَنِيّ بن مُسَافر الْحَنَفِيّ الْمُقْرِئ الْمَعْرُوف بتعاسيف وَكَانَ إِمَامًا فِي عُلُوم الرياضة قَالَ لما أتقنت عُلُوم الرياضة بالديار المصرية وبدمشق تاقت نَفسِي إِلَى الِاجْتِمَاع بالشيخ كَمَال الدّين لما كنت أسمع من تفرده بِهَذِهِ الْعُلُوم فسافرت إِلَى الْموصل قصدا للاجتماع فَلَمَّا حضرت فِي مَجْلِسه وخدمته وجدته على حلية الْحُكَمَاء الْمُتَقَدِّمين وَكنت قد طالعت أخبارهم وحلاهم فَسلمت عَلَيْهِ وعرفته قصدي لَهُ للْقِرَاءَة عَلَيْهِ فَقَالَ لي فِي أَي الْعُلُوم تُرِيدُ تشرع فَقلت فِي الموسيقى فَقَالَ مصلحَة هُوَ فلي زمَان مَا قَرَأَهُ عَليّ أحد فَأَنا أوثر(8/384)
مذاكرته وتجديد الْعَهْد بِهِ فشرعت فِيهِ ثمَّ فِي غَيره حَتَّى شققت عَلَيْهِ أَكثر من أَرْبَعِينَ كتابا فِي مِقْدَار سِتَّة أشهر وَكنت عَارِفًا بِهَذَا الْفَنّ لَكِن كَانَ غرضي الانتساب فِي الْقِرَاءَة إِلَيْهِ وَكَانَ إِذا لم أعرف الْمَسْأَلَة أوضحها لي وَمَا كنت أجد من يقوم مقَامه فِي ذَلِك
وَقد أطلت الشَّرْح فِي نشر علومه ولعمري لقد اختصرت
وَلما توفّي أَخُوهُ الشَّيْخ عماد الدّين مُحَمَّد الْمُتَقَدّم ذكره تولى الشَّيْخ الْمدرسَة العلائية مَوضِع أَخِيه وَلما فتحت الْمدرسَة القاهرية تولاها ثمَّ تولى الْمدرسَة البدرية فِي ذِي الْحجَّة سنة عشْرين وسِتمِائَة وَكَانَ مواظبا على إِلْقَاء الدُّرُوس والإفادة
وَحضر فِي بعض الْأَيَّام دروسه جمَاعَة من المدرسين أَرْبَاب الطيالس وَكَانَ الْعِمَاد أَبُو عَليّ عمر بن عبد النُّور بن يُوسُف الصنهاجي النَّحْوِيّ البجائي حَاضرا فَأَنْشد على البديهة
(كَمَال كَمَال الدّين للْعلم والعلى ... فهيهات ساع فِي مساعيك يطْمع)
(إِذا اجْتمع النظار فِي كل موطن ... فغاية كل أَن تَقول ويسمعوا)
(فَلَا تحسبوهم من غناء تطيلسوا ... وَلَكِن حَيَاء واعترافا تقنعوا)
وللعماد الْمَذْكُور فِيهِ أَيْضا
(تجر الْموصل الأذيال فخرا ... على كل الْمنَازل والرسوم)(8/385)
(بدجلة والكمال هما شِفَاء ... لهيم أَو لذِي فهم سقيم)
(فَذا بَحر تدفق وَهُوَ عذب ... وَذَا بَحر وَلَكِن من عُلُوم)
وَكَانَ الشَّيْخ سامح الله يتهم فِي دينه لكَون الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة غالبة عَلَيْهِ وَكَانَت تعتريه غَفلَة فِي بعض الأحيان لاستيلاء الفكرة عَلَيْهِ بِسَبَب هَذِه الْعُلُوم فَعمل فِيهِ الْعِمَاد الْمَذْكُور
(أجدك أَن قد جاد بعد التعبس ... غزال بوصل لي وَأصْبح مؤنسي)
(وأعطيته صهباء من فِيهِ مزجها ... كرقة شعري أَو كَدين ابْن يُونُس)
انْتهى كَلَام ابْن خلكان
وَرَأَيْت بِخَط الشَّيْخ كَمَال الدّين بن يُونُس على الْجُزْء الأول من اقليدس إصْلَاح ثَابت بن قُرَّة مَا نَصه قَرَأت على الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الزَّاهِد الْوَرع شرف الدّين فَخر الْعلمَاء تَاج الْحُكَمَاء أبي المظفر أدام الله أَيَّامه بعد عوده من طوس هَذَا الْجُزْء وَكنت حللته عَلَيْهِ نَفسِي مَعَ كتاب المجسطي وَشَيْء من المخروطات واستنجزته مَا كَانَ وعدنا بِهِ من كتاب الشكوك فَأحْضرهُ واستنسخته وَكتبه مُوسَى بن يُونُس بن مُحَمَّد بن مَنْعَة فِي تَارِيخه هَذَا صُورَة خطه وتاريخ الْكتاب الْمشَار إِلَيْهِ تَاسِع عشر ربيع الأول سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة هجرية(8/386)
1279 - موهوب بن عمر بن موهوب بن إِبْرَاهِيم الْجَزرِي القَاضِي صدر الدّين
مولده بالجزيرة فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبعين وَخَمْسمِائة وَقدم الشَّام وتفقه على شيخ الْإِسْلَام عز الدّين ابْن عبد السَّلَام وَقَرَأَ على السخاوي
وَكَانَ فَقِيها بارعا أصوليا أديبا قدم الديار المصرية وَولي بهَا الْقَضَاء وَسَار سيرة مرضية وَيُقَال إِن الصاحب بهاء الدّين كَانَ يحط عَلَيْهِ فَرَأى قَاضِي الْقُضَاة صدر الدّين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم وَهُوَ يَقُول لَهُ قل للصاحب بهاء الدّين بأمارة مَا استشفعت بِي فِي قَضِيَّة كَذَا لَا تتعرض لي فحكاه لَهُ فَقَالَ نعم كَذَا جرى ثمَّ ترك التَّعَرُّض لَهُ وَأحسن إِلَيْهِ
توفّي بِالْقَاهِرَةِ فَجْأَة فِي تَاسِع رَجَب سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
1280 - نجم بن أبي الْفرج بن سَالم الْكِنَانِي الْمصْرِيّ
ولد سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة وَسمع من عبد الله بن بري النَّحْوِيّ(8/387)
وَصَحبه مُدَّة وَمن عشير بن عَليّ الْمزَارِع وَفَارِس بن تركي الضَّرِير
روى عَنهُ الْحَافِظ زكي الدّين الْمُنْذِرِيّ وَغَيره
وَكَانَ فَقِيها حسنا من أهل الْخَيْر والعفاف تصدر بالجامع الْعَتِيق بِمصْر مُدَّة وَأعَاد بِالْمَدْرَسَةِ السيفية وَجمع مجاميع فِي الْفِقْه وَغَيره
توفّي فِي شهر ربيع الأول سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
1281 - نصر بن عقيل بن نصر بن عقيل بن نصر أَبُو الْقَاسِم الإربلي
تفقه بإربل على عَمه أبي الْعَبَّاس الْخضر ثمَّ توجه إِلَى بَغْدَاد فتفقه بالنظامية على الْأَمِير أبي نصر بن نظام الْملك ثمَّ عَاد إِلَى إربل ودرس بهَا وَأفْتى ثمَّ قدم الْموصل وَمَات بهَا رَابِع عشر ربيع الآخر سنة تسع عشرَة وسِتمِائَة(8/388)
1282 - نصر بن مُحَمَّد بن مقلد أَبُو الْفَتْح الْقُضَاعِي الشِّيرَازِيّ الملقب بالمرتضى
من عُلَمَاء الديار المصرية
تفقه على أبي حَامِد مُحَمَّد بن مُحَمَّد البروى وَأبي سعد عبد الله بن أبي عصرون وَسمع بِدِمَشْق من الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر وَسكن مصر ودرس بقبة الشَّافِعِي وَلم تقيد وَفَاته
1283 - نصر الله بن يُوسُف بن مكي بن عَليّ
الْفَقِيه أَبُو الْفَتْح بن الْفَقِيه أبي الْحجَّاج الْحَارِثِيّ الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بِابْن الإِمَام
تفقه على وَالِده وعَلى أبي البركات الْخضر بن شبْل بن عبد وَسمع من أبي الْفَتْح نصر الله المصِّيصِي وَهبة الله بن طَاوس ورحل فَسمع بِبَغْدَاد من أبي الْوَقْت وَغَيره وَأَجَازَ لَهُ أَبُو عبد الله الفراوي وزاهر بن طَاهِر وَغَيرهمَا
وَكَانَ يدعى نصرا غير مُضَاف أَيْضا
روى عَنهُ يُوسُف بن خَلِيل الدِّمَشْقِي والزين خَالِد والتقي اليلداني وَأَجَازَ لِلْمُنْذِرِيِّ وَلأبي الْعَبَّاس بن أبي الْخَيْر
توفّي بِدِمَشْق فِي منتصف جُمَادَى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وسِتمِائَة(8/389)
1284 - هبة الله بن عبد الله بن سيد الْكل القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بهاء الدّين القفطي
أحد الْمَشَاهِير من عُلَمَاء الصَّعِيد
كَانَ إِمَامًا عَالما عَاملا
وَقد اخْتلف فِي مولده فَقيل سنة سبع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَقيل سنة سِتّمائَة وَقيل سنة إِحْدَى وسِتمِائَة وَلَعَلَّه الْأَقْرَب
قدم قوص فتفقه على الشَّيْخ مجد الدّين الْقشيرِي وَقَرَأَ الْأُصُول على قاضيها الإِمَام شمس الدّين الْأَصْبَهَانِيّ وبرع فِي الْفِقْه والأصلين والنحو والفرائض والجبر والمقابلة وَسمع الحَدِيث من الْفَقِيه أبي الْحسن عَليّ بن هبة الله بن سَلامَة وَالشَّيْخ مجد الدّين الْقشيرِي وَغَيرهمَا
حدث عَنهُ طَلْحَة بن شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين الْقشيرِي وَغَيره
وَكَانَ قيمًا بِالْمَدْرَسَةِ النجيبية بقوص مَعَ براعة فِي الْعلم وَكَانَ يعلق الْقَنَادِيل والطلبة تقْرَأ عَلَيْهِ ثمَّ انْتَهَت إِلَيْهِ رياسة الْمَذْهَب وَولي أَمَانَة الحكم بقوص
وَاتفقَ أَنه عمل حِسَاب الْأَيْتَام فَوقف عَلَيْهِ ثَمَانمِائَة دِرْهَم فَلم يعرف وَجه المصروف فَبَاتَ على أَنه يَبِيع منزلَة وَيغرم ثمنه فِي ذَلِك فَقَالَ لَهُ أحد الشُّهُود الَّذين مَعَه النقدة الْفُلَانِيَّة فتذكرها ثمَّ قصد التنصل من الْمُبَاشرَة فَقيل لَهُ مَتى تنصلت لم تجب وَلَكِن اجْتمع(8/390)
بفلان وَقل لَهُ إِن القَاضِي فِيمَا بَلغنِي يُرِيد عزلي وَأظْهر التألم من ذَلِك واسأله الحَدِيث مَعَه فِي الِاسْتِمْرَار فَفعل فَقَالَ القَاضِي قد أورثني هَذَا الْحِرْص رِيبَة فَعَزله ثمَّ توجه إِلَى إسنا حَاكما ومعيدا بِالْمَدْرَسَةِ العزية عِنْد النجيب ابْن مُفْلِح أحد تلامذة الْقشيرِي أَيْضا ثمَّ مَاتَ النجيب فأضيف إِلَيْهِ التدريس فَصَارَ حَاكما مدرسا
وَنشر السّنة بإسنا بعد مَا كَانَ التَّشَيُّع بهَا فاشيا وصنف كتابا فِي ذَلِك سَمَّاهُ النصائح المفترضة فِي فضائح الرفضة وهموا بقتْله فحماه الله تَعَالَى مِنْهُم وَتَابَ على يَده خلق
وَأخذ الْعلم عَنهُ خلق كثير مِنْهُم شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد وَالشَّيْخ الضياء بن عبد الرَّحِيم
وصنف فِي التَّفْسِير كتاب وصل فِيهِ إِلَى سُورَة كهيعص وَله شرح الْهَادِي فِي الْفِقْه خمس مجلدات ثمَّ شرح عُمْدَة الطَّبَرِيّ وَشرح مُخْتَصر أبي شُجَاع وَشرح مُقَدّمَة المطرزي فِي النَّحْو وَكتاب الأنباء المستطابة فِي فَضَائِل الصَّحَابَة والقرابة وَغير ذَلِك
وَكَانَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد يجله وسافر إِلَى الصَّعِيد سنة تسعين وسِتمِائَة لمُجَرّد زيارته وَمِمَّا حفظ من عِبَارَته لَوْلَا الْبَهَاء بالصعيد لتحرج أَهله بِسَبَب الْفتيا(8/391)
وَعَن الشَّيْخ بهاء الدّين أعرف عشْرين علما أنسيت بَعْضهَا لعدم المذاكرة
وَكَانَ يستوعب الزَّمَان فِي الْعِبَادَة وَالْعلم والحكومة ثمَّ ترك الْقَضَاء أخيرا وَاسْتمرّ على الْعِبَادَة وَالْعلم إِلَى أَن توفّي وَرَأى رَاء فِي مَنَامه قَائِلا يَقُول لَهُ لقد مَاتَ الشَّافِعِي فانتبه فَإِذا بقائل يَقُول مَاتَ الشَّيْخ بهاء الدّين القفطي
ومناقبه كَثِيرَة وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ من رجال الْعلم وَالدّين
توفّي بإسنا سنة سبع وَتِسْعين وسِتمِائَة فعلى القَوْل بِأَن مولده سنة سبع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة، يكون من أهل الْمِائَة
1285 - هبة الله بن عَليّ بن أبي الْفضل بن سهل أَبُو جَعْفَر الوَاسِطِيّ
تفقه على أبي جَعْفَر بن البوقي وَمَات فِي حُدُود سنة إِحْدَى وسِتمِائَة
1286 - همام بِضَم الْهَاء بن راجى الله بن سَرَايَا بن نَاصِر بن دَاوُد
الْفَقِيه الأصولي جلال الدّين أَبُو العزائم الْمصْرِيّ
إِمَام الْجَامِع الصَّالِحِي بِظَاهِر الْقَاهِرَة وخطيبه(8/392)
ولد بِبِلَاد الصَّعِيد سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة وَقدم الْقَاهِرَة وَقَرَأَ الْعَرَبيَّة على ابْن بري وارتحل إِلَى الْعرَاق فتفقه على المجير الْبَغْدَادِيّ وَابْن فضلان وَسمع من عبد الْمُنعم بن كُلَيْب وَغَيره
روى عَنهُ ابْن النجار والحافظ زكي الدّين الْمُنْذِرِيّ وَغَيرهمَا
وَله مصنفات فِي الْمَذْهَب وَالْأُصُول وَتُوفِّي فِي شهر ربيع الأول سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
وَله شعر كثير وَله من قصيدة
(ياقوت ثغرك قد غَدا متقمعا ... بزمرد لما توشح جوهرا)
(وحباب ريقك كَالنُّجُومِ إِذا بَدَت ... من شَأْنهَا مَاء الحيا أَن يقطرا)
1287 - يحيى بن الرّبيع بن سُلَيْمَان بن حراز بن سُلَيْمَان الْعَدوي الْعمريّ الإِمَام فَخر الدّين أَبُو عَليّ الوَاسِطِيّ ابْن الْفَقِيه أبي الْفضل
ولد بواسط فِي شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَقدم بَغْدَاد فتفقه بالنظامية على مدرسها الإِمَام أبي النجيب السهروردي وَكَانَ قد تفقه قبله على وَالِده وعَلى أبي جَعْفَر بن البوقي ثمَّ رَحل إِلَى نيسابور فتفقه على الإِمَام مُحَمَّد بن يحيى صَاحب الْغَزالِيّ وَمكث عِنْده أَكثر من سنتَيْن
وَسمع الْكثير من أبي الْكَرم نصر الله بن مخلد بن الجلخت وَعبد الْخَالِق اليوسفي وَابْن نَاصِر وَأبي الْوَقْت وَشَيْخه مُحَمَّد بن يحيى وَعبد الله بن الفراوي وَعبد الْخَالِق بن زَاهِر وَغَيرهم بواسط وبغداد ونيسابور وَله إجَازَة من زَاهِر(8/393)
الشحامي وَحدث بالكثير بِبَغْدَاد وبهراة وبغزنة لما توجه إِلَيْهَا رَسُولا من الدِّيوَان الْعَزِيز
روى عَنهُ ابْن الدبيثي والضياء الْمَقْدِسِي وَابْن خَلِيل وَآخَرُونَ
وَولي تدريس النظامية وَكَانَت بَينه وَبَين ابْن فضلان صُحْبَة أكيدة قَالَ الْمُوفق عبد اللَّطِيف لم أر مثلهَا بَين اثْنَيْنِ قطّ وترافقا فِي الرحلة إِلَى مُحَمَّد بن يحيى وَكَانَا يتناظران بَين يَدَيْهِ
قَالَ ابْن الدبيثي كَانَ يَعْنِي ابْن الرّبيع ثِقَة صَحِيح السماع عَالما بِمذهب الشَّافِعِي وبالخلاف من الحَدِيث وَالتَّفْسِير كثير الْفُنُون قَرَأَ بالعشر على ابْن ترْكَان وَكَانَ أَبوهُ من الصَّالِحين وَيُقَال إِنَّهُم من ولد عمر بن الْخطاب رضى الله عَنهُ
وَقَالَ أَبُو شامة كَانَ عَالما عَارِفًا بالتفسير وَالْمذهب والأصولين وَالْخلاف دينا صَدُوقًا
وَقَالَ ابْن النجار كَانَ إِمَامًا كَبِيرا وقورا نبيلا حسن الْمعرفَة بِمذهب الشَّافِعِي محققا مدققا مليح الْكَلَام فِي المناظرة والجدل مجودا فِي علم الْأُصُول وَعلم الْكَلَام والحساب وَقِسْمَة التركات وَله معرفَة حَسَنَة بِالْحَدِيثِ انْتهى
ثمَّ قَالَ إِنَّه توفّي فِي يَوْم الْأَحَد السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وسِتمِائَة وَصلى عَلَيْهِ يَوْم الِاثْنَيْنِ بِالْمَدْرَسَةِ النظامية
قلت هَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي تَارِيخ وَفَاته وَذكر غَيره أَنه توفّي فِي طَرِيق خُرَاسَان(8/394)
لما توجه رَسُولا إِلَى السُّلْطَان شهَاب الدّين الغوري إِلَى غزنة وَهُوَ وهم فَإِنَّهُ عَاد من عِنْد السُّلْطَان الْمَذْكُور إِلَى بَغْدَاد فِي سنة ثَلَاث وسِتمِائَة وَأقَام بهَا إِلَى أَن توفّي فِي سنة سِتّ وسِتمِائَة
1288 - يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حُسَيْن بن حزَام ابْن مُحَمَّد بن جُمُعَة النَّوَوِيّ الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة محيي الدّين أَبُو زَكَرِيَّا
شيخ الْإِسْلَام أستاذ الْمُتَأَخِّرين وَحجَّة الله على اللاحقين والداعي إِلَى سَبِيل السالفين
كَانَ يحيى رَحمَه الله سيدا وَحَصُورًا وليثا على النَّفس هصورا وزاهدا لم يبال بخراب الدُّنْيَا إِذا صير دينه ربعا معمورا لَهُ الزّهْد والقناعة ومتابعة السالفين من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة والمصابرة على أَنْوَاع الْخَيْر لَا يصرف سَاعَة فِي غير طَاعَة هَذَا مَعَ التفنن فِي أَصْنَاف الْعُلُوم فقها ومتون أَحَادِيث وَأَسْمَاء رجال ولغة وتصوفا وَغير ذَلِك
وَأَنا إِذا أردْت أَن أجمل تفاصيل فَضله وأدل الْخلق على مبلغ مِقْدَاره بمختصر القَوْل وفصله لم أَزْد على بَيْتَيْنِ أنشدنيهما من لَفظه لنَفسِهِ الشَّيْخ الإِمَام وَكَانَ من حَدِيثهمَا(8/395)
أَنه أَعنِي الْوَالِد رَحمَه الله لما سكن فِي قاعة دَار الحَدِيث الأشرفية فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة كَانَ يخرج فِي اللَّيْل إِلَى إيوانها ليتهجد تجاه الْأَثر الشريف ويمرغ وَجهه على الْبسَاط وَهَذَا الْبسَاط من زمَان الْأَشْرَف الْوَاقِف وَعَلِيهِ اسْمه وَكَانَ النَّوَوِيّ يجلس عَلَيْهِ وَقت الدَّرْس فأنشدني الْوَالِد لنَفسِهِ
(وَفِي دَار الحَدِيث لطيف معنى ... على بسط لَهَا أصبو وآوي)
(عَسى أَنِّي أمس بَحر وَجْهي ... مَكَانا مَسّه قدم النواوي)
ولد النَّوَوِيّ فِي الْمحرم سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة بنوى وَكَانَ أَبوهُ من أَهلهَا المستوطنين بهَا وَذكر أَبوهُ أَن الشَّيْخ كَانَ نَائِما إِلَى جنبه وَقد بلغ من الْعُمر سبع سِنِين لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان فانتبه نَحْو نصف اللَّيْل وَقَالَ يَا أَبَت مَا هَذَا الضَّوْء الَّذِي مَلأ الدَّار فَاسْتَيْقَظَ الْأَهْل جَمِيعًا قَالَ فَلم نر كلنا شَيْئا قَالَ وَالِده فَعرفت أَنَّهَا لَيْلَة الْقدر
وَقَالَ شَيْخه فِي الطَّرِيقَة الشَّيْخ ياسين بن يُوسُف الزَّرْكَشِيّ رَأَيْت الشَّيْخ محيي الدّين وَهُوَ ابْن عشر سِنِين بنوى وَالصبيان يكرهونه على اللّعب مَعَهم وَهُوَ يهرب مِنْهُم ويبكي لإكراههم وَيقْرَأ الْقُرْآن فِي تِلْكَ الْحَال فَوَقع فِي قلبِي حبه وَجعله أَبوهُ فِي دكان فَجعل لَا يشْتَغل بِالْبيعِ وَالشِّرَاء عَن الْقُرْآن قَالَ فَأتيت الَّذِي يقرئه الْقُرْآن فوصيته بِهِ وَقلت لَهُ هَذَا الصَّبِي يُرْجَى أَن يكون أعلم أهل زَمَانه وأزهدهم وَينْتَفع النَّاس بِهِ فَقَالَ لي منجم أَنْت فَقلت لَا وَإِنَّمَا أنطقني(8/396)
الله بذلك فَذكر ذَلِك لوالده فحرص عَلَيْهِ إِلَى أَن ختم الْقُرْآن وَقد ناهز الِاحْتِلَام(8/397)
فصل
لَا يخفى على ذِي بَصِيرَة أَن لله تبَارك وَتَعَالَى عناية بالنووي وبمصنفاته، وأستدل على ذَلِك بِمَا يَقع فِي ضمنه فَوَائِد حَتَّى لَا تَخْلُو تَرْجَمته عَن الْفَوَائِد فَنَقُول
رُبمَا غير لفظا من أَلْفَاظ الرَّافِعِيّ إِذا تَأمله المتأمل استدركه عَلَيْهِ وَقَالَ لم يَفِ بالاختصار وَلَا جَاءَ بالمراد ثمَّ نجده عِنْد التنقيب قد وَافق الصَّوَاب ونطق بفصل الْخطاب وَمَا يكون من ذَلِك عَن قصد مِنْهُ لَا يعجب مِنْهُ فَإِن الْمُخْتَصر رُبمَا غير كَلَام من يختصر كَلَامه لمثل ذَلِك وَإِنَّمَا الْعجب من تَغْيِير يشْهد الْعقل بِأَنَّهُ لم يقْصد إِلَيْهِ ثمَّ وَقع فِيهِ على الصَّوَاب وَله أَمْثِلَة مِنْهَا
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي كتاب الشَّهَادَات فِي فصل التَّوْبَة عَن الْمعاصِي الفعلية فِي التائب إِنَّه يختبر مُدَّة يغلب على الظَّن فِيهَا أَنه أصلح عمله وسريرته وَأَنه صَادِق فِي تَوْبَته وَهل تتقدر تِلْكَ الْمدَّة قَالَ قَائِلُونَ لَا إِنَّمَا الْمُعْتَبر حُصُول غَلَبَة الظَّن بصدقه وَيخْتَلف الْأَمر فِيهِ بالأشخاص وأمارات الصدْق هَذَا مَا اخْتَارَهُ الإِمَام والعبادي وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحب الْكتاب بقوله حَتَّى يستبرىء مُدَّة فَيعلم إِلَى آخِره وَذهب آخَرُونَ إِلَى تقديرها(8/398)
وَفِيه وَجْهَان قَالَ أَكْثَرهم يستبرأ سنة انْتهى بِلَفْظِهِ
فَإِذا تَأَمَّلت قَوْله قَالَ أَكْثَرهم وجدت الضَّمِير فِيهِ مُسْتَحقّ الْعود على الآخرين الذاهبين إِلَى تقديرها لَا إِلَى مُطلق الْأَصْحَاب فَلَا يلْزم أَن يكون أَكثر الْأَصْحَاب على التَّقْدِير فضلا عَن التَّقْدِير بِسنة بل الْمُقدر بَعضهم وَاخْتلف المقدرون فِي الْمدَّة وَأَكْثَرهم على أَنَّهَا سنة فَهَذَا مَا يُعْطِيهِ لفظ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الْكَبِير وَصرح النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة بِأَن الْأَكْثَرين على تَقْدِير الْمدَّة بِسنة فَمن عَارض بَينهَا وَبَين الرَّافِعِيّ بتأمل قضى بمخالفتها لَهُ لِأَن عبارَة الشَّرْح لَا تَقْتَضِي أَن أَكثر الْأَصْحَاب على التَّقْدِير وَأَنه سنة بل إِن أَكثر المقدرين الَّذين هم من الْأَصْحَاب على ذَلِك ثمَّ يتأيد هَذَا القَاضِي بالمخالفة بِأَن عبارَة الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ لَيْسَ فِيهَا تَقْدِير بِسنة وَلَا بِسِتَّة أشهر وَإِنَّمَا قَالَ أشهر وَأطلق الْأَشْهر رضى الله عَنهُ اطلاقا إِلَّا أَن هَذَا إِذا عاود كتب الْمَذْهَب وجد الصَّوَاب مَا فعله النَّوَوِيّ فقد عزى التَّقْدِير وَأَن مِقْدَاره سنة إِلَى أَصْحَابنَا قاطبة فضلا عَن أَكْثَرهم الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفرايني فِي تَعْلِيقه وَهَذِه عِبَارَته قَالَ الشَّافِعِي ويختبر مُدَّة أشهر ينْتَقل فِيهَا من السَّيئَة إِلَى الْحَسَنَة ويعف عَن الْمعاصِي وَقَالَ أَصْحَابنَا يختبر سنة انْتهى
وَكَذَلِكَ قَالَ القَاضِي الْحُسَيْن فِي تعليقته وَلَفظه قَالَ الشَّافِعِي مُدَّة من المدد قَالَ أَصْحَابنَا سنة انْتهى
وَكَذَلِكَ الْمَاوَرْدِيّ وَلَفظه وَصَلَاح عمله مُعْتَبر بِزَمَان اخْتلف الْفُقَهَاء فِي حَده فاعتبره بَعضهم بِسِتَّة أشهر واعتبره أَصْحَابنَا بِسنة كَامِلَة انْتهى
وَكَذَلِكَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُهَذّب وَقدر أَصْحَابنَا الْمدَّة بِسنة
وَكَذَلِكَ الْبَغَوِيّ فِي التَّهْذِيب وجماعات كلهم عزوا التَّقْدِير بِالسنةِ إِلَى الْأَصْحَاب فضلا عَن أَكْثَرهم وَلم يقل بعض الْأَصْحَاب إِلَّا القَاضِي أَبُو الطّيب وَالْإِمَام وَمن تبعهما فَإِنَّهُم قَالُوا قَالَ بعض أَصْحَابنَا تقدر بِسنة وَقَالَ بَعضهم زَاد الإِمَام أَن الْمُحَقِّقين على عدم التَّقْدِير(8/399)
وَمن تَأمل مَا نَقَلْنَاهُ أَيقَن بِأَن الْأَكْثَرين على التَّقْدِير بِسنة وَبِه صرح الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر ولوح إِلَيْهِ تَلْوِيحًا فِي الشَّرْح الصَّغِير فَظهر حسن صنع النَّوَوِيّ وَإِن لم يَقْصِدهُ عناية من الله تَعَالَى بِهِ
1289 - يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْمُنعم الإِمَام فَخر الدّين أَبُو زَكَرِيَّا الْقَيْسِي الْوَاعِظ المغربي الْمَعْرُوف بالأصبهاني عرف بذلك لدُخُوله أَصْبَهَان
ولد بِدِمَشْق وَدخل أَصْبَهَان وتفقه بهَا وَقَرَأَ الخلافيات وبرع وَسمع الحَدِيث من أبي بكر بن مَا شاده وَعبد الله بن عمر بن عبد الله الْمعدل وَسمع بالثغر من أبي الطَّاهِر السلَفِي
حدث عَنهُ أَبُو جَعْفَر بن عميرَة الضَّبِّيّ وَأَبُو بكر بن مسدي الْحَافِظ وَغَيرهمَا
وَدخل بِلَاد الْمغرب وَأخذ ببجاية عَن الْحَافِظ عبد الْحق الإشبيلي وجال فِي بِلَاد الأندلس واستوطن غرناطة
وَكَانَ فَقِيها فَاضلا زاهدا عابدا مجمعا على دينه وورعه مَشْهُورا بالكرامات وَالْأَحْوَال
صنف كتاب الرَّوْضَة الأنيقة وكتابا فِي الخلافيات بَين الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة
توفّي فِي سادس شَوَّال سنة ثَمَان وسِتمِائَة بغرناطة
قَالَ ابْن مسدي قحطنا بغرناطة فَنزل أميرها إِلَى شَيخنَا أبي زَكَرِيَّا فَقَالَ تذكر النَّاس فَلَعَلَّ الله يفرج عَن الْمُسلمين فوعظ فورد عَلَيْهِ وَارِد سقط وَحمل وَمَات بعد سَاعَة فَلَمَّا كفن وَأدْخل حفرته انفتحت أَبْوَاب السَّمَاء وسالت الأودية زَمَانا(8/400)
1290 - أَبُو بكر بن قوام بن عَليّ بن قوام بن مَنْصُور بن معلا بن حسن ابْن عِكْرِمَة بن هَارُون بن قيس بن ربيعَة بن عَامر ابْن هِلَال بن قصي بن كلاب البالسي
الشَّيْخ الزَّاهِد العابد صَاحب الْأَحْوَال والكرامات الْمجمع على علمه وَدينه
كَانَ شَافِعِيّ الْمَذْهَب أشعري العقيدة
ولد بمشهد صفّين سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ انْتقل إِلَى مَدِينَة بالس وَبهَا رَبِّي
وَقد ألف فِي مناقبه حفيده الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الشَّيْخ عمر بن الشَّيْخ أبي بكر مصنفا حسنا وَأَنا أذكر بعض مَا فِيهِ
قَالَ كَانَ إِمَامًا ورعا عَالما زاهدا لَهُ كرامات وأحوال حسن الْأَخْلَاق لطيف الذَّات وَالصِّفَات وافر الْأَدَب وَالْعقل دَائِم الْبشر مخفوض الْجنَاح كثير التَّوَاضُع شَدِيد الْحيَاء متمسكا بالآداب الشَّرْعِيَّة
قَالَ وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو بكر يَقُول كَانَت الْأَحْوَال تطرقني فِي بداية أَمْرِي فَكنت أخبر بهَا شَيْخي فنهاني عَن الْكَلَام فِيهَا وَكَانَ عِنْده سَوط يَقُول مَتى تَكَلَّمت فِي شَيْء من هَذَا ضربتك بِهَذَا السَّوْط ويأمرني بِالْعَمَلِ وَيَقُول لي لَا تلْتَفت إِلَى شَيْء من هَذِه الْأَحْوَال فَمَا زلت مَعَه كَذَلِك حَتَّى كنت عِنْده فِي بعض اللَّيَالِي وَكَانَت لي أم ضريرة وَكنت بارا بهَا وَلم يكن لَهَا من يخدمها غَيْرِي فاستأذنت الشَّيْخ فِي الْمُضِيّ إِلَيْهَا فَأذن لي وَقَالَ إِنَّه سيحدث لَك فِي هَذِه اللَّيْلَة أَمر عَجِيب فَأثْبت لَهُ وَلَا تجزع فَلَمَّا خرجت من عِنْده(8/401)
وَأَنا مار إِلَى جِهَة أُمِّي سَمِعت صَوتا من جِهَة السَّمَاء فَرفعت رَأْسِي فَإِذا نور كَأَنَّهُ سلسلة متداخل بَعْضهَا فِي بعض فَالْتَفت على ظَهْري حَتَّى أحسست ببردها فِي ظَهْري فَرَجَعت إِلَى الشَّيْخ فَأَخْبَرته بِمَا وَقع لي فَقَالَ الْحَمد لله وقبلني بَين عَيْني وَقَالَ يَا بني الْآن تمت النِّعْمَة عَلَيْك أتعلم مَا هَذِه السلسلة فَقلت لَا فَقَالَ هَذِه سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأذن لي فِي الْكَلَام وَكَانَ قد نهاني عَنهُ
وَكَانَ يَقُول حضرت بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ أَن الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَنِي فِي بعض اللَّيَالِي وَقَالَ قُم يَا أَبَا بكر فَقُمْت مَعَه فَانْطَلق بِي حَتَّى أحضرني بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي والأولياء رَضِي الله عَنْهُم فَسلمت عَلَيْهِم فَردُّوا عَليّ السَّلَام فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أَبَا بكر فَقلت لبيْك يَا رَسُول الله فَقَالَ إِن الله قد اتخذك وليا فاختر لنَفسك وَاشْترط فوفقني الله تَعَالَى وَقلت يَا رَسُول الله أخْتَار مَا اخترته أَنْت لنَفسك فَسمِعت قَائِلا يَقُول إِذا لَا نبعث لَك من الدُّنْيَا إِلَّا قوتك وَلَا نبعثه إِلَّا على يَد صَاحب آخِرَة
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقدم يَا أَبَا بكر فصل بِنَا فَهبت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة والأولياء أَن أتقدم فَقلت فِي نَفسِي كَيفَ أتقدم على جمَاعَة فيهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقدم فَإِن فِي تقدمك سر الْولَايَة ولتكون إِمَامًا يَقْتَدِي بك فتقدمت بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصليت بهم رَكْعَتَيْنِ قَرَأت فِي الأولى بِالْفَاتِحَةِ وَإِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر وَفِي الثَّانِيَة بِالْفَاتِحَةِ وَقل هُوَ الله أحد(8/402)
ذكر مَا أظهره الله تَعَالَى لَهُ من الكرامات وَالْأَحْوَال
سمعته يَوْمًا وَقد دخل إِلَى الْبَيْت وَهُوَ يَقُول لزوجته ولدك قد أَخذه قطاع الطَّرِيق فِي هَذِه السَّاعَة وهم يُرِيدُونَ قَتله وَقتل رفاقه فراعها قَول الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ فَسَمعته يَقُول لَهَا لَا بَأْس عَلَيْك وَإِنِّي قد حجبتهم عَن أَذَاهُ وأذى رفاقه غير أَن مَالهم يذهب وَغدا إِن شَاءَ الله يصل هُوَ ورفاقه فَلَمَّا كَانَ من الْغَد وصلوا كَمَا ذكر الشَّيْخ وَكنت فِيمَن تلقاهم وَأَنا يَوْمئِذٍ ابْن سِتّ سِنِين وَذَلِكَ سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة
وحَدثني الشَّيْخ شمس الدّين الخابوري قَالَ خرجت إِلَى زِيَارَة الشَّيْخ وَوَقع فِي نَفسِي أَن أسألة عَن الرّوح وَلما حضرت بَين يَدَيْهِ أنسيت من هيبته مَا كَانَ وَقع فِي نَفسِي من السُّؤَال فَلَمَّا ودعته وَخرجت إِلَى السّفر سير خَلْفي بعض الْفُقَرَاء فَقَالَ لي كلم الشَّيْخ فَرَجَعت إِلَيْهِ فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ قَالَ لي يَا أَحْمد قلت لبيْك يَا سَيِّدي قَالَ مَا تقْرَأ الْقُرْآن قلت بلَى يَا سَيِّدي قَالَ اقْرَأ يَا بني {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} يَا بني شَيْء لم يتَكَلَّم فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ يجوز لنا أَن نتكلم فِيهِ
وحَدثني الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن الشَّيْخ أبي طَالب البطائحي قَالَ كَانَ الشَّيْخ يقف على حلب وَنحن مَعَه وَيَقُول وَالله إِنِّي لأعرف أهل الْيَمين من أهل الشمَال مِنْهَا وَلَو شِئْت أَن أسميهم لسميتهم وَلَكِن لم نؤمر بذلك وَلَا انْكَشَفَ سر الْحق فِي الْخلق
وحَدثني الشَّيْخ معضاد بن حَامِد بن خَوْلَة قَالَ كُنَّا مَعَ الشَّيْخ فِي حفر النَّهر الَّذِي سَاقه إِلَى بالس فَاجْتمع عندنَا فِي بعض الْأَيَّام خلق كثير فِي الْعَمَل فَبَيْنَمَا نَحن نعمل إِذْ جَاءَنَا راعد قوي فِيهِ برد كبار فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ مُحَمَّد العقى وَكَانَ من أجل أَصْحَابه يَا سَيِّدي قد جَاءَ هَذَا الراعد وَرُبمَا يعطل الْجَمَاعَة عَن الْعَمَل فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ اعْمَلْ(8/403)
وَطيب قَلْبك فَلَمَّا دنا الراعد منا استقبله الشَّيْخ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَيْهِ وَقَالَ خُذ يَمِينا وَشمَالًا بَارك الله فِيك فَتفرق عَنَّا بِإِذن الله وَمَا زلنا نعمل وَالشَّمْس طالعة علينا ودخلنا إِلَى الْبَلَد وَنحن نَخُوض المَاء كَمَا ذكر
وَكَانَ سَبَب عمل هَذَا النَّهر أَنه كَانَ فِي الْبَلَد نهر يعرف بنهر زبيدة وَقد تعطل وَخرب من سِنِين كَثِيرَة وَكَانَ للنَّاس فِيهِ نفع كثير فشكوا ذَلِك إِلَى الْملك النَّاصِر فَأمر باستخراجه واستخرج مِنْهُ جَانب ثمَّ رأى أَنه يغرم عَلَيْهِ مَال كثير فَتَرَكُوهُ ومضوا
فَلَمَّا علم الشَّيْخ ضَرَر النَّاس إِلَيْهِ ونفعهم بِهِ خرج فِي جمَاعَة من الْفُقَرَاء إِلَى الْفُرَات وَجَاء إِلَى مَكَان مِنْهُ وَقَالَ هَاهُنَا أستخرج نَهرا إِلَى بَاب الْبَلَد ينْتَفع النَّاس بِهِ وحفر بِيَدِهِ وحفر الْفُقَرَاء مَعَه فَسمع النَّاس فِي الشط وَغَيره من الْبِلَاد الحلبية فَجَاءُوا أَرْسَالًا يعْملُونَ مَعَه بِحَيْثُ كَانَ يجْتَمع فِي الْيَوْم الْوَاحِد مَا يزِيد على أَربع مائَة رجل فاستخرجه فِي مُدَّة يسيرَة وانتفع النَّاس بِهِ وَهُوَ إِلَى الْآن يعرف بنهر الشَّيْخ
وحَدثني الشَّيْخ الصَّالح مُحَمَّد بن نَاصِر المشهدي قَالَ كنت عِنْد الشَّيْخ وَقد صلى صَلَاة الْعَصْر فِي الْمَسْجِد الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَقد صلى مَعَه خلق كثير فَقَالَ لَهُ بعض الْحَاضِرين يَا سَيِّدي مَا عَلامَة الرجل المتمكن وَكَانَ فِي الْمَسْجِد سَارِيَة فَقَالَ عَلامَة الرجل المتمكن أَن يُشِير إِلَى هَذِه السارية فتشتعل نورا فَنظر النَّاس إِلَى السارية فَإِذا هِيَ تشتعل نورا أَو كَمَا قَالَ
وحَدثني الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن الشَّيْخ أبي طَالب البطائحي قَالَ كنت بِحَضْرَة الشَّيْخ وَقد نازله حَال فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم أَيْن مراكش فَقلت يَا سَيِّدي فِي الغرب قَالَ وبغداد قلت فِي الشرق قَالَ وَعزة المعبود لقد أَعْطَيْت فِي هَذِه السَّاعَة حَالا لَو أردْت أَن أَقُول لبغداد كوني مَكَان مراكش ولمراكش كوني مَكَان بَغْدَاد لكانتا(8/404)
وحَدثني أَيْضا قَالَ سُئِلَ الشَّيْخ وَأَنا حَاضر عَن الرجل المتمكن مَا علامته وَكَانَ بَين يَدَيْهِ طبق فِيهِ شَيْء من الْفَاكِهَة والرياحين فَقَالَ أَن يُشِير بسن إِلَى هَذَا الطَّبَق فيرقص جَمِيع مَا فِيهِ فَتحَرك جَمِيع مَا كَانَ فِي الطَّبَق وَنحن نَنْظُر إِلَيْهِ
وَسمعت الشَّيْخ الصَّالح العابد إِسْمَاعِيل بن أبي الْحسن الْمَعْرُوف بِابْن الْكرْدِي يَقُول حججْت مَعَ أَبَوي فَلَمَّا كُنَّا بِأَرْض الْحجاز وَسَار الركب فِي بعض اللَّيَالِي وَكَانَ أبواي راكبين فِي محارة وَكنت أَمْشِي تحتهَا فَحصل لي شَيْء من القولنج فعدلت إِلَى مَكَان وَقلت لعَلي أستريح ثمَّ ألحق الركب فَنمت فَلم أشعر إِلَّا وَالشَّمْس قد طلعت وَلم أدر كَيفَ أتوجه ففكرت فِي نَفسِي وَفِي أَبَوي فَإِنَّهُ لم يكن مَعَهُمَا من يَخْدُمهُمَا وَلَا من يقوم بشأنهما غَيْرِي فَبَكَيْت عَلَيْهِمَا وعَلى نَفسِي فَبَيْنَمَا أَنا أبْكِي إِذْ سَمِعت قَائِلا يَقُول أَلَسْت من أَصْحَاب الشَّيْخ أبي بكر بن قوام فَقلت بلَى وَالله فَقَالَ سل الله بِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَجَاب لَك فَسَأَلت الله بِهِ كَمَا قَالَ فوَاللَّه مَا استتم الْكَلَام إِلَّا وَهُوَ وَاقِف عِنْدِي وَقَالَ لَا بَأْس عَلَيْك وَوضع يَده فِي يَدي وَسَار بِي يَسِيرا وَقَالَ هَذَا جمل أَبَوَيْك فسمعتهما وهما يَبْكِيَانِ عَليّ فَقلت لَا بَأْس عَلَيْكُمَا وأخبرتهما بِمَا وَقع لي
وحَدثني أَيْضا قَالَ كُنَّا جُلُوسًا مَعَ الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ فِي تربة الشَّيْخ رَافع رَضِي الله عَنهُ وَنحن نَنْظُر إِلَى الْفُرَات إِذْ لَاحَ لنا على شاطئ الْفُرَات رجل فَقَالَ الشَّيْخ أَتَرَوْنَ ذَلِك الرجل الَّذِي على شاطئ الْفُرَات فَقُلْنَا نعم فَقَالَ إِنَّه من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وَهُوَ من أَصْحَابِي وَقد قصد زيارتي من بِلَاد الْهِنْد وَقد صلى الْعَصْر فِي منزله وَتوجه إِلَيّ وَقد زويت لَهُ الأَرْض فخطا من منزله خطْوَة إِلَى شاطئ الْفُرَات وَهُوَ يمشي من الْفُرَات(8/405)
إِلَى هَا هُنَا تأدبا مِنْهُ معي وعلامة مَا أَقُول لكم أَنه يعلم أَنِّي فِي هَذَا الْمَكَان فيقصده وَلَا يدْخل الْبَلَد فَلَمَّا قرب من الْبَلَد عرج عَنهُ وَقصد الْمَكَان الَّذِي فِيهِ الشَّيْخ وَالْجَمَاعَة فجَاء وَسلم وَقَالَ يَا سَيِّدي أَسأَلك أَن تَأْخُذ عَليّ الْعَهْد أَن أكون من أَصْحَابك فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ وَعزة المعبود أَنْت من أَصْحَابِي فَقَالَ الْحَمد لله لهَذَا قصدتك وَاسْتَأْذَنَ الشَّيْخ فِي الرُّجُوع إِلَى الْبَلَد فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَيْن أهلك قَالَ فِي الْهِنْد قَالَ مَتى خرجت من عِنْدهم قَالَ صليت الْعَصْر وَخرجت لزيارتك فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَنْت اللَّيْلَة ضيفنا فَبَاتَ عِنْد الشَّيْخ وبتنا عِنْده
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا من الْغَد قَالَ السّفر فَخرج الشَّيْخ وَخَرجْنَا فِي خدمته لوداعه فَلَمَّا صرنا فِي الصَّحرَاء وَأخذ فِي وداع الشَّيْخ وضع الشَّيْخ يَده بَين كَتفيهِ وَدفعه فَغَاب عَنَّا وَلم نره فَقَالَ الشَّيْخ وَعزة المعبود فِي دفعتي لَهُ وضع رجله فِي بَاب دَاره بِالْهِنْدِ أَو كَمَا قَالَ
وَسمعت الْأَمِير الْكَبِير الْمَعْرُوف بالأخضري وَكَانَ قد أسن يَحْكِي لوالدي قَالَ كنت مَعَ الْملك الْكَامِل لما توجه إِلَى الشرق فَلَمَّا نزلنَا بالس قصدنا زِيَارَة الشَّيْخ مَعَ فَخر الدّين عُثْمَان وَكُنَّا جمَاعَة من الْأُمَرَاء فَبَيْنَمَا نَحن عِنْده إِذْ دخل رجل من الْجند فَقَالَ يَا سَيِّدي كَانَ لي بغل وَعَلِيهِ خَمْسَة آلَاف دِرْهَم فَذهب مني وَقد دللت عَلَيْك
فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ اجْلِسْ وَعزة المعبود قد قصرت على آخذه الأَرْض حَتَّى مَا بقى لَهُ مَسْلَك إِلَّا بَاب هَذَا الْمَكَان وَهُوَ الْآن يدْخل فَإِذا دخل وَجلسَ فأشير إِلَيْك بِالْقيامِ فَقُمْ وَخذ بغلك وَمَالك(8/406)
فَلَمَّا سمعنَا كَلَام الشَّيْخ قُلْنَا لَا تقوم حَتَّى يدْخل هَذَا الرجل فَبَيْنَمَا نَحن جُلُوس إِذْ دخل الرجل فَأَشَارَ الشَّيْخ إِلَيْهِ فَقَامَ وقمنا مَعَه فَوَجَدنَا الْبَغْل وَالْمَال بِالْبَابِ وَأَخذه صَاحبه
فَلَمَّا حَضَرنَا عِنْد السُّلْطَان أخبرناه بِمَا رَأينَا من الشَّيْخ فَقَالَ أحب أَن أَزورهُ فَقَالَ فَخر الدّين عُثْمَان إِن الْبَلَد لَا يحمل دُخُول مَوْلَانَا السُّلْطَان فسير إِلَيْهِ فَخر الدّين عُثْمَان فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان يحب أَن يراك وَإِن الْبَلَد لَا يحمل دُخُوله فَهَل يرى سَيِّدي الشَّيْخ يخرج إِلَيْهِ ليراه
فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ يَا فَخر الدّين إِذا رحت أَنْت عِنْد صَاحب الرّوم يطيب للْملك الْكَامِل فَقَالَ لَا قَالَ فَكَذَلِك أَنا إِذا رحت إِلَى عِنْد الْملك الْكَامِل لَا يطيب لأستاذي وَلم يخرج إِلَيْهِ
وحَدثني الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم شمس الدّين الخابوري قَالَ كنت أَكثر من ذكر الشَّيْخ عِنْد الْفُقَهَاء بِالْمَدْرَسَةِ النظامية بحلب فَقَالُوا يجب أَن نزوره مَعَك ونسأله عَن أَشْيَاء من فقه وَتَفْسِير وَغَيرهمَا فعزمنا على زيارته إِلَى بالس فَبَيْنَمَا نَحن عازمون إِذْ جَاءَ بعض الْفُقَرَاء فَقَالَ الشَّيْخ يَدْعُوك فَقلت أَيْن هُوَ فَقَالَ فِي زَاوِيَة الشَّيْخ أبي الْفَتْح الْكِنَانِي وَكَانَ من أَصْحَابه رَضِي الله عَنهُ فَخرجت أَنا وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء إِلَى زيارته
قَالَ فَلَمَّا حَضَرنَا عِنْده قَالَ الشَّيْخ مُحَمَّد العفتى مَا شَأْن هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاء فَقلت جَاءُوا ليزوروا الشَّيْخ ويسلموا عَلَيْهِ فَقَالَ قد حدث أَمر عَجِيب قلت وَأي شَيْء قد حدث قَالَ قد ألْجم الشَّيْخ كل وَاحِد مِنْهُم بلجام وَقد مثل سره سبع(8/407)
وَهُوَ ينظر فِي وَجه كل وَاحِد مِنْهُم فَلَمَّا طَال بِنَا الْمجْلس وَلم يَجْسُر أحد مِنْهُم أَن يتَكَلَّم فَقَالَ لَهُم الشَّيْخ لم لَا تتكلموا لم لَا تسألوا فَمَا جسر أحد مِنْهُم أَن يتَكَلَّم فَقَالَ لَهُم الشَّيْخ لم لَا تتكلموا لم لَا تسألوا فَمَا جسر أحد مِنْهُم أَن يتَكَلَّم
فَقَالَ الشَّيْخ للَّذي على يَمِينه مسألتك كَذَا وَالْجَوَاب عَنْهَا كَذَا فَمَا زَالَ حَتَّى أَتَى على آخِرهم فَقَامُوا بأجمعهم وَاسْتَغْفرُوا الله تَعَالَى وتابوا
وحَدثني الشَّيْخ شمس الدّين الخابوري قَالَ سَأَلت الشَّيْخ عَن قَوْله تَعَالَى {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ} وَقد عبد الْعَزِيز وَعِيسَى بن مَرْيَم
فَقَالَ تَفْسِيرهَا {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون}
فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي أَنْت لَا تعرف تكْتب وَلَا تقْرَأ فَمن أَيْن لَك هَذَا
فَقَالَ يَا أَحْمد وَعزة المعبود لقد سَمِعت الْجَواب فِيهَا كَمَا سَمِعت سؤالك
وحَدثني بعض التُّجَّار من أهل بلدنا قَالَ خرجنَا مسافرين من بالس إِلَى حماة وَكَانَ قد بلغنَا أَن الطَّرِيق مخيف ووافينا الشَّيْخ فِي خروجنا فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي قد بلغنَا أَن الطَّرِيق مخيف ونشتهي أَن لَا تغفل عَنَّا وَلَا تنام وَتَدْعُو لنا فَقَالَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى(8/408)
وسافرنا فَلَمَّا بلغنَا حماة وَأَنا رَاكب على دَابَّتي وَقد أَخَذَنِي النعاس وَإِذا أَنا بشخص قد وضع يَده فِي عضدي وَقَالَ نَحن مَا نمنا فَلَا تنام أَنْت ففتحت عَيْني فَإِذا أَنا بالشيخ فَسلم عَليّ وَمَشى معي وَقَالَ قد بلغناك إِلَى حماة وَتَرَكَنِي وَمضى
وحَدثني الشَّيْخ تَمام بن أبي غَانِم قَالَ كُنَّا جُلُوسًا مَعَ الشَّيْخ ظَاهر الْبَلَد فِي زمن الرّبيع وَحَوله جمَاعَة من النَّاس فَقَالَ وَعزة المعبود إِنِّي لأنظر إِلَى سَاق الْعَرْش كَمَا أَنِّي أنظر إِلَى وُجُوهكُم
وَحكى الْحَاج أَيُّوب البشمنتي قَالَ حججْت فِي زمن الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا كَانَ ليَالِي منى وَأَنا جَالس على رَاحِلَتي أتلو شَيْئا من الْقُرْآن وَإِذا أَنا بالشيخ رَضِي الله عَنهُ قَائِم إِلَى جَانِبي فَأخذ بعضدي وَسلم عَليّ وَمضى فَلَمَّا قدمنَا بالس أَخْبرنِي الْجَمَاعَة قَالُوا سَأَلنَا عَنْك الشَّيْخ فَقَالَ لنا هُوَ جَالس بمنى على رَاحِلَته وَهُوَ يَتْلُو فِي سُورَة كَذَا وَكَذَا وَهَذِه يَدي فِي عضده فَقلت لَهُم وَالله الْأَمر كَمَا قَالَ
وحَدثني بعض التُّجَّار من أهل بلدنا قَالَ دخلت إِلَى حلب مَعَ عمي وَكنت شَابًّا فأخذني بعض أَهلِي إِلَى مَكَان وأحضر خمرًا وَقَالَ لي اشرب فَلَمَّا تناولت الْقدح لأشرب إِذا أَنا بالشيخ وَاقِف بَين يَدي وضربني فِي صَدْرِي بِيَدِهِ وَقَالَ قُم واخرج وَكنت فِي مَكَان عَال فَسَقَطت مِنْهُ على وَجْهي ورأسي وَخرج الدَّم من وَجْهي ورأسي فَرَجَعت إِلَى عمي وَالدَّم يقطر مني فَسَأَلَنِي من فعل بك هَذَا فَأَخْبَرته بِمَا جرى فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي جعل لأوليائه بك عناية وَعَلَيْك حماية
وحَدثني الشَّيْخ شمس الدّين الخابوري خطيب جَامع حلب قَالَ كُنَّا مَعَ الشَّيْخ فَلَا يمر على صَخْر وَلَا على شَيْء إِلَّا سلم عَلَيْهِ وَكَانَ الشَّيْخ شمس الدّين يَقُول كَانَ فِي نَفسِي أَن أسأَل الشَّيْخ عَن خطاب هَذِه الْأَشْيَاء لَهُ هَل يخلق الله تَعَالَى لَهَا فِي الْوَقْت لِسَانا تخاطبه بِهِ أَو يُقيم الله تَعَالَى إِلَى جَانبهَا من يخاطبه عَنْهَا ففاتني وَلم أسأله عَن ذَلِك(8/409)
وَعنهُ أَيْضا قَالَ كُنَّا مَعَ الشَّيْخ فِي بعض أَسْفَاره فدعي إِلَى مَكَان فَلَمَّا دنونا إِلَى ذَلِك الْمَكَان تغير لَونه وَجعل يسترجع استرجاعا كثيرا فَقلت يَا سَيِّدي أَي شَيْء حدث فَقَالَ إِنَّا لما أَقبلنَا على هَذِه الْقرْيَة جَاءَت أَرْوَاح الْأَمْوَات تسلم عَليّ وَفِيهِمْ شَاب حسن الْوَجْه يَقُول قتلت ظلما قتلني رجلَانِ من أهل هَذِه الْقرْيَة كنت أرعى لَهما غنما وهما أَخَوان فقتلاني فِي زمن الْملك الْعَزِيز وَذَلِكَ أَنَّهُمَا اتهماني ببنت لَهما وَكنت بَرِيئًا مِنْهَا
قَالَ الشَّيْخ شمس الدّين وَكَانَ الرّجلَانِ اللَّذَان فعلا ذَلِك الْفِعْل يسمعان كَلَام الشَّيْخ وَكَانَ بيني وَبَينهمَا معرفَة فَلَمَّا خلوت بهما قَالَا لي يَا فلَان إِن مَا قَالَ الشَّيْخ وَالله إِنَّه لحق وصحيح وَنحن قَتَلْنَاهُ فَقلت لَهما مَا حملكما على ذَلِك قَالَا السَّبَب الَّذِي قَالَه الشَّيْخ ثمَّ تبين لنا أَنه من غَيره وَأَنه كَانَ بَرِيئًا مِنْهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ
وحَدثني الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن الشَّيْخ أبي طَاهِر البطائحي الْمَعْرُوف بالضرير قَالَ توفّي وَالِدي بِدِمَشْق فَقَالَ أَصْحَابه لَا نَدعك تجْلِس على سجادته حَتَّى تَأْتِينَا بِإِجَازَة من بَيت سَيِّدي أَحْمد رَضِي الله عَنهُ فتوجهت لذَلِك وسافرت إِلَى البطائح فَوَافَقَ عبوري على بالس فقصدت زِيَارَة الشَّيْخ وَلم أكن رَأَيْته قبل ذَلِك وَلَا رَآنِي فَلَمَّا أَقبلت عَلَيْهِ رحب بِي وأكرمني وحَدثني بِجَمِيعِ مَا وَقع فِي أسفاري وأحوالي وَمَا قصدته وَقَالَ إِنَّك تقدم الْعرَاق وتقضي حَاجَتك بِهِ وتعود إِلَيّ سرعَة فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي وَمَا هِيَ حَاجَتي فَقَالَ أَن تُعْطى إجَازَة بالمشيخة وَأَن تكون مَكَان أَبِيك وَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ
فَلَمَّا قدمت البطائح وَدفع إِلَيّ إجَازَة وسجادة وَخرجت لأتوضأ للصَّلَاة فأوقع الله تَعَالَى فِي قلبِي الشوق إِلَيْهِ فألقيت الْإِجَازَة فِي المَاء وتوجهت إِلَيْهِ فَلَمَّا قدمت عَلَيْهِ وجدت بِحَضْرَتِهِ خلقا كثيرا وَهُوَ يتَكَلَّم لَهُم فَجَلَست مَعَ النَّاس أسمع كَلَامه فَتكلم طَويلا ثمَّ الْتفت إِلَيّ وَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم قلت لبيْك يَا سَيِّدي قَالَ أَنْت لي ومريدي وَقَالَ لمن فِي حَضرته انْظُرُوا إِلَى جَبهته فنظروا فَقَالَ مَا تَشْهَدُون فِي جَبهته قَالُوا بأجمعهم نشْهد بَين عَيْنَيْهِ هِلَال نور فَقَالَ هَذَا شعار أَصْحَابِي(8/410)
فتقدمت إِلَيْهِ وَأخذ عَليّ الْعَهْد وصرت من أَصْحَابه رَضِي الله عَنهُ
وسمعته أَيْضا قَالَ كنت مُقيما عِنْد الشَّيْخ فخطر لي السّفر إِلَى الْعرَاق فاستأذنته فِي السّفر فَأذن لي وَقَالَ إِبْرَاهِيم أُرِيد أَن أَخْلَع عَلَيْك خلعة لَا تدخل بهَا على أحد إِلَّا ابتهج بك وخدمك بِسَبَبِهَا فَكَانَ كَمَا قَالَ مَا دخلت على أحد إِلَّا خدمني وأكرمني
فَلَمَّا دخلت بَغْدَاد نزلت فِي بعض الرَّبْط فخدموني وأكرموني فدعي أهل الرِّبَاط لَيْلَة إِلَى مَكَان وَكنت فِي صحبتهم فَلَمَّا دَخَلنَا إِلَى الْمَكَان الَّذِي دعينا إِلَيْهِ وَجَلَسْنَا وَكَانَ فِيهِ خلق كثير فَقَامَ مِنْهُم رجل تركي وَقَالَ يَا أَصْحَابنَا على هَذَا الْفَقِير الشَّامي خلعة لم أر مثلهَا فَقلت لَهُم هِيَ من صدقَات شَيْخي عَليّ فَقَالَ الْجَمِيع أعَاد الله علينا من بركته وبركة أَمْثَاله
وَسمعت وَالِدي رَحمَه الله يَقُول لما كَانَ فِي سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة وَكَانَ الشَّيْخ فِي حلب وَقد حصل فِيهَا مَا حصل من فتْنَة التتار وَكَانَ فِي الْمدرسَة الأَسدِية فَقَالَ يَا بني اذْهَبْ إِلَى الدَّار الَّتِي لنا فلعلك تَجِد مَا نَأْكُل قَالَ فَذَهَبت كَمَا قَالَ إِلَى الدَّار فَوجدت الشَّيْخ عِيسَى الرصافي وَكَانَ من أَصْحَابه مقتولا فِي الدَّار وَقد حرق وَعَلِيهِ دلق الشَّيْخ لم يَحْتَرِق وَلم تمسه النَّار فَأَخَذته وَخرجت بِهِ فوجدني بعض بني جهبل وَكَانُوا من أَصْحَابه فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرته بِخَبَر الدلق فَحلف عَليّ بِالطَّلَاق وَأَخذه مني
وحَدثني الشَّيْخ الصَّالح الناسك الشَّيْخ إِسْمَاعِيل بن سَالم الْمَعْرُوف بالكردي قَالَ كَانَ لي غنم وَكَانَ عَلَيْهَا رَاع فسرح بهَا يَوْمًا على عَادَته فَلَمَّا كَانَ وَقت رُجُوعه لم يرجع فَخرجت فِي طلبه فَلم أَجِدهُ وَلم أجد لَهُ خَبرا فَرَجَعت إِلَى الشَّيْخ فَوَجَدته وَاقِفًا على بَاب دَاره فَلَمَّا رَآنِي قَالَ لي ذهبت الْغنم قلت نعم يَا سَيِّدي قَالَ قد أَخذهَا اثْنَا عشر رجلا وهم قد ربطوا الرَّاعِي بوادي كَذَا وَقد سَأَلت الله تَعَالَى أَن يُرْسل عَلَيْهِم النّوم وَقد فعل(8/411)
فَامْضِ إِلَى مَكَان كَذَا تجدهم نياما وَالْغنم ربطا إِلَّا وَاحِدَة قَائِمَة ترْضع سخلتها
قَالَ فمضيت إِلَى الْمَكَان الَّذِي قَالَ فَوجدت الْأَمر كَمَا قَالَ وَاحِدَة قَائِمَة ترْضع سخلتها
قَالَ فسقت الْغنم وَجئْت إِلَى الْبَلَد رَضِي الله عَنهُ
وحَدثني الشَّيْخ شمس الدّين الدبالعي قَالَ حَدثنِي فلك الدّين ابْن الخزيمي قَالَ كنت بِالشَّام فِي السّنة الَّتِي أخذت فِيهَا بَغْدَاد بعد أَن ضَاقَ صَدْرِي من جِهَة مَا أصَاب الْمُسلمين وَأَهلي أَيْضا فسافرت لآخذ خبر أَهلِي وَكَانَ سَفَرِي على بالس فقصدت زِيَارَة الشَّيْخ فَأَتَيْته فَسلمت عَلَيْهِ وَجَلَست بَين يَدَيْهِ فَحَدثني فشرح الله صَدْرِي فَقَالَ لي أهلك سلمُوا إِلَّا أَخَاك مَاتَ وَأهْلك فِي مَكَان صفته كَذَا وَكَذَا والناظر عَلَيْهِم رجل صفته كَذَا وقبالة الدَّرْب الَّذِي هم فِيهِ دَار فِيهَا شجر
فَلَمَّا قدمت بَغْدَاد وجدت الْأَمر كَمَا أَخْبرنِي رَضِي الله عَنهُ وَأَنا سكنت الدَّرْب الَّذِي أخبر عَنهُ الشَّيْخ وَرَأَيْت الدَّار الَّتِي فِيهَا الشّجر وَهِي شَجَرَة رمان وَغَيرهَا
وحَدثني الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن الشَّيْخ أبي طَالب البطائحي قَالَ كنت جَالِسا عِنْد الشَّيْخ فجَاء إِنْسَان فَقَالَ يَا سَيِّدي ذهب البارحة لي جمل وَعَلِيهِ حمل فَلم يرد الشَّيْخ عَلَيْهِ جَوَابا فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي إِن الرجل ملهوف على ذهَاب جمله فَلَعَلَّ أَن تجيبه
فَقَالَ لي يَا إِبْرَاهِيم إِنَّه لما قَالَ لي جملي رَأَيْت رسنه بِيَدِهِ فبرز من القتب سيف فَقلع رسنه من يَده وَمَا بقى لَهُ فِيهِ رزق فأستحيي أَن أوحشه بِالرَّدِّ
وَمِنْه أَنه حضر جَنَازَة وَكَانَ فِيهَا جمَاعَة من أَعْيَان الْبَلَد فَلَمَّا جَلَسُوا لدفن الْمَيِّت جلس القَاضِي والخطيب والوالي فِي نَاحيَة وَجلسَ الشَّيْخ والفقراء فِي نَاحيَة وَتكلم القَاضِي(8/412)
والوالي فِي كرامات الْأَوْلِيَاء وَأَنه لَيْسَ لَهَا حَقِيقَة وَكَانَ الْخَطِيب رجلا صَالحا فَلَمَّا قَامُوا ليعزوا أهل الْمَيِّت جَاءَ الْجَمَاعَة ليسلموا على الشَّيْخ فَقَالَ الشَّيْخ يَا خطيب أَنا لَا أسلم عَلَيْك فَقَالَ وَلم يَا سَيِّدي فَقَالَ إِنَّك لم ترد غيبَة الْأَوْلِيَاء وَلم تنتصر لَهُم
والتفت الشَّيْخ إِلَى القَاضِي والوالي وَقَالَ أَنْتُمَا تنكران كرامات الْأَوْلِيَاء فَمَا تَحت أرجلكما قَالَا لَا نعلم قَالَ تَحت أرجلكما مغارة ينزل إِلَيْهَا بِخمْس دَرَجَات فِيهَا شخص مدفون هُوَ وَزَوجته وَهَا هُوَ قَائِم يخاطبني وَيَقُول كنت ملك هذَيْن البلدين نَحْو ألف عَام وَهُوَ على سَرِير وَزَوجته قبالته وَلَا تَبْرَح من هَذَا الْمَكَان حَتَّى يكْشف عَنْهَا فَدَعَا بفؤوس وكشف الْمَكَان وَالْجَمَاعَة حاضرون فوجدوه كَمَا قَالَ الشَّيْخ والمغارة إِلَى هَذَا التَّارِيخ مَفْتُوحَة ترى وَتشهد على جَانب طَرِيق حلب
وحَدثني الإِمَام الْعَالم الصاحب محيي الدّين ابْن النّحاس رَحمَه الله قَالَ كَانَ الشَّيْخ يتَرَدَّد إِلَى قَرْيَة تريدم وَكَانَ لَهَا مَسْجِد صَغِير من قبلي الْقرْيَة لَا يسع النَّاس فخطر لي أَن أبني مَسْجِدا أكبر مِنْهُ من شمَالي الْقرْيَة فَقَالَ لي الشَّيْخ وَنحن جُلُوس فِي الْمَسْجِد يَا مُحَمَّد لم لَا تبني مَسْجِدا يكون أكبر من هَذَا
فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي قد خطر لي هَذَا الْأَمر إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فَقَالَ لَا تبنه حَتَّى توقفني على الْمَكَان الَّذِي تُرِيدُ أَن تبني فِيهِ
فَقلت نعم
فَلَمَّا أردْت أَن أبني جِئْت إِلَيْهِ فَقلت لَهُ فَقَامَ معي وَجِئْنَا إِلَى الْمَكَان الَّذِي خطر لي فَقلت هَذَا الْمَكَان يَا سَيِّدي فَرد كمه على أَنفه وَجعل يَقُول أُفٍّ أُفٍّ لَا يَنْبَغِي أَن يبْنى هُنَا مَسْجِد فَإِن هَذَا الْمَكَان مسخوط على أَهله ومخسوف بهم فتركته وَلم أبنه
فَلَمَّا كَانَ بعد مُدَّة احتجنا إِلَى اسْتِعْمَال لبن من ذَلِك الْمَكَان فَلَمَّا كشفناه وَجَدْنَاهُ(8/413)
كَمَا قَالَ الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ نواويس مقلبة على وجوهها وَالْمَكَان إِلَى هَذَا التَّارِيخ يعرف بقرية تريدم
وحَدثني الشَّيْخ الصَّالح الناسك الْوَرع عَليّ بن سعيد الْمَعْرُوف بالزريزير قَالَ أَخذ عَليّ الشَّيْخ الْعَهْد وَأَنا شَاب فخطر لي زِيَارَة الْقُدس فاستأذنته فِي ذَلِك فَقَالَ يَا بني أَنْت شَاب وأخشى عَلَيْك فألححت عَلَيْهِ فَإِذن لي وَقَالَ سأجعل سري عَلَيْك كالقفص الْحَدِيد وَقَالَ لي إِذا قدمت قصير دمشق فَادْخُلْ الْقرْيَة واسأل عَن الشَّيْخ عَليّ بن الْجمل وزره فَإِنَّهُ من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى
قَالَ فَلَمَّا دخلت الْقرْيَة سَأَلت عَنهُ فدللت عَلَيْهِ فَلَمَّا طرقت الْبَاب خرج إِلَيّ بعض أَهله وَقَالَ لي ادخل يَا عَليّ باسمي فَإِن الشَّيْخ قد أوصى بك وَقَالَ يقدم عَلَيْكُم فَقير اسْمه عَليّ من أَصْحَاب الشَّيْخ أبي بكر بن قوام فأذنوا لَهُ بِالدُّخُولِ حَتَّى أجيء
قَالَ فَدخلت وَجَلَست حَتَّى جَاءَ الشَّيْخ فَقُمْت وسلمت عَلَيْهِ فَرَحَّبَ بِي وَقَالَ لي يَا عَليّ البارحة جَاءَنِي الشَّيْخ وأوصاني بك وَأَيْضًا فَلَا بَأْس عَلَيْك فَإِن سر الشَّيْخ عَلَيْك كالقفص الْحَدِيد فأقمت عِنْده ثمَّ تَوَجَّهت إِلَى الْقُدس فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِ وجدت إنْسَانا خَارج الْبَلَد وَقد حمي الْحر فَسلمت عَلَيْهِ فَرد عَليّ السَّلَام وَقَالَ يَا بني أَبْطَأت عَليّ فَإِنِّي من الْغَدَاة فِي هَذَا الْموضع أنتظرك فَخفت مِنْهُ وخشيت أَن يكون صَاحب رِيبَة فَقَالَ لي يَا عَليّ لَا تخف فَإِن الشَّيْخ جَاءَنِي وأوصاني بك فسرت مَعَه إِلَى منزله فَوضع لي طَعَاما وَقَالَ كل فَأكلت فَلَمَّا جَاءَ وَقت الصَّلَاة قَالَ قُم حَتَّى نصلي فِي الْحرم فقمنا ودخلنا الْحرم وصلينا الصَّلَوَات الْخمس وعدنا إِلَى الْمنزل فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْل قَامَ وَلم يزل يُصَلِّي حَتَّى طلع الْفجْر(8/414)
وَكلما أحس بِي مستقيضا جلس فَإِذا نمت قَامَ فصلى فأقمت عِنْده أَيَّامًا ثمَّ تَوَجَّهت رإلى زِيَارَة الْخَلِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخرج معي وودعني فَلَمَّا كنت قرب الْخَلِيل خرج عَليّ أَرْبَعَة نفر قطاع طَرِيق فَلَمَّا قربوا مني وَإِذا بهم قد بهتُوا ونظروا إِلَى ورائي فَنَظَرت فَإِذا شخص وَاقِف وَعَلِيهِ ثِيَاب بيض وَهُوَ ملثم فَقَالَ لي امْضِ فِي طريقك فمضيت وَلم يزل معي حَتَّى أشرفت على الْخَلِيل وَرَأَيْت الْبَلَد ورأيته وَاقِفًا يَدْعُو فَدخلت الْبَلَد وزرت
فَلَمَّا عدت إِلَى بالس بدأت بِالسَّلَامِ على الشَّيْخ فَلَمَّا سلمت عَلَيْهِ أَخْبرنِي بِجَمِيعِ مَا وَقع لي فِي سَفَرِي وَقَالَ لَوْلَا ذَلِك الملثم لأخذ قطاع الطَّرِيق ثِيَابك فَعلمت بِأَنَّهُ كَانَ الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ
قلت وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَن يكون الشَّيْخ على المريد فَإِنَّهُ قد قيل الشَّيْخ من جمعك فِي حضورك وحفظك فِي مغيبك وهذبك بأخلاقه وأدبك بإطراقه وأنار باطنك بإشراقه
وَسمعت وَالِدي رَحمَه الله يَقُول كَانَ من أَصْحَاب الشَّيْخ رجل يُقَال لَهُ الْحَاج مهْدي كثير التَّرَدُّد إِلَى دمشق فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ يَا حَاج مهْدي إِذا قدمت دمشق فقف عِنْد بَاب مَسْجِد الْقصب وناد يَا شيخ مظفر فسيجيبك فَقل لَهُ الشَّيْخ أَبُو بكر بن قوام يسلم عَلَيْك وَيَقُول لَك أَنْت من الْأَوْلِيَاء الَّذين لَا يعلمُونَ بِأَنْفسِهِم
وأدركنا نَحن الشَّيْخ مظفرا وزرناه وَكَانَ كَمَا قَالَ الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وَكَانَ يقْصد بالزيارة ورأيته ينتمي إِلَى الشَّيْخ وَيَقُول أَنا من أَصْحَابه فَإِنَّهُ أَخْبرنِي بحالي وَلم يرني(8/415)
وحَدثني الشَّيْخ أَبُو الْمجد بن أبي الثَّنَاء قَالَ كنت عِنْد الشَّيْخ وَقد قدم عَلَيْهِ الشَّيْخ نجم الدّين البادرائي مُتَوَجها إِلَى بَغْدَاد وَقد ولاه الْخَلِيفَة الْقَضَاء فَسَمعته يَقُول للشَّيْخ يَا سَيِّدي قد ولاني الْخَلِيفَة قَضَاء بَغْدَاد وَأَنا كارهه فَقَالَ لَهُ طيب بهَا قَلْبك فَإنَّك لَا تحكم فِيهَا وحدثه أَشْيَاء
وَسمعت الشَّيْخ يَقُول لَهُ يَا شيخ نجم الدّين هَذَا إِنْسَان صفته كَذَا وَكَذَا من أَعْيَان النَّاس وَهُوَ قريب من الْملك النَّاصِر خاطره مُتَعَلق بك وَهُوَ يُشِير إِلَيْك بِخِنْصرِهِ فَقَالَ لَهُ صدقت يَا سَيِّدي هَذَا الشَّخْص دفع إِلَيّ فص خَاتم لَهُ قيمَة وَقَالَ لي يكون عنْدك وَدِيعَة وَالله مَا أعلم أحدا من خلق الله تَعَالَى علم بِهَذَا الفص حِين دَفعه إِلَيّ وَقد حفظته فِي مزدوجتي من حذري عَلَيْهِ وَكَانَ كَمَا قَالَ الشَّيْخ فَإِن الشَّيْخ نجم الدّين قدم بَغْدَاد وَمَات وَلم يحكم بَين اثْنَيْنِ
وحَدثني زكي الدّين أَبُو بكر بن أَيُّوب التكريتي قَالَ كنت فِي السّنة الَّتِي أخذت فِيهَا بَغْدَاد مَعَ عمي الْحَاج عَليّ بياع فِي حلب وَكَانَ الشَّيْخ فِي قَرْيَة علم فَقَالَ عمي وَكَانَ من أَصْحَابه يَا بني اذْهَبْ إِلَى الشَّيْخ فسله عَن أهلنا ومالنا وَعَن وَلَدي حُسَيْن وَعَن سفر بَغْدَاد وَمَا كنت رَأَيْت الشَّيْخ قبل وَكنت أحب أَن أرَاهُ
قَالَ فَخرجت إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآنِي قَالَ أَنْت أَبُو بكر بن أَيُّوب فَقلت نعم قَالَ أرسلك عمك الْحَاج عَليّ تسْأَل عَن الْأَهْل وَالْمَال وَعَن وَلَده حُسَيْن وَعَن السّفر إِلَى بَغْدَاد(8/416)
أما الْأَهْل فَأسر الْبَعْض وَسلم الْبَعْض وَأما المَال فَإِنَّهُ مدفون تَحت عتبَة بَاب الدَّار وَلم أستثبت مَا قَالَ فِيهِ وَأما حُسَيْن فَإِنَّهُ أسر وسوف تَجْتَمِع بِهِ وَفِي جَبينه أثر وَقع وَأما السّفر إِلَى بَغْدَاد وَقَالَ لي أتعرف دَار الشاطبية فَقلت أعرفهَا لَكِن مَا دختلها فَقَالَ فِي هَذِه السَّاعَة قد أخرجُوا التاتار مِنْهَا بركَة ذهب وهم يقتسمونه فأخرجت الدواة وكتبت الْيَوْم والشهر والساعة الَّتِي أَخْبرنِي فِيهَا
قَالَ أَبُو بكر وَكنت شَابًّا حسن الصُّورَة وَكَانَ فِي حلب امْرَأَة قد حصل لَهَا فِي إِرَادَة فظفرت بِي يَوْمًا وراودتني عَن نَفسِي فتمنعت عَلَيْهَا فعضتني فِي كَتِفي فأثرت فِيهِ وَبقيت أَيَّامًا لَا يعلم بهَا أحد إِلَّا الله فَلَمَّا أردْت السّفر من عِنْده خرج معي لوداعي فَلَمَّا خلا بِي قَالَ مَا هَذِه العضة الَّتِي فِي كتفك فَاسْتَحْيَيْت مِنْهُ فَقَالَ تب وَلَا تعد لمثلهَا وسافرنا إِلَى بَغْدَاد فَلَمَّا قدمنَا سَأَلت عَن ذَلِك الذَّهَب الَّذِي أَخذ من دَار الشاطبية فدللت على إِنْسَان كَانَ حَاضرا فَجئْت إِلَيْهِ وَسَأَلته فَقَالَ نعم كنت حَاضرا وكتبت الْيَوْم والشهر والساعة فَقلت لَهُ أخرج لي دستورك فَأخْرجهُ وقابلته على دستور فَوجدت التَّارِيخ التَّارِيخ لَا يزِيد عَلَيْهِ وَلَا ينقص عَنهُ
وحَدثني الشَّيْخ خُزَيْمَة بن نصر البلعرانى قَالَ قدم علينا الشَّيْخ فَاجْتمع النَّاس ليسلموا عَلَيْهِ وَكنت فيهم وَأَنا شَاب فَسَمعته يَقُول قد جَاءَ الْأَمْوَات يسلمُوا عَليّ وَفِيهِمْ شَاب أشقر فِي يَده سكين وَعَلِيهِ قَمِيص ملطخ بِالدَّمِ وَهُوَ يَقُول قتلت بِهَذِهِ السكين أتعرفونه فَسكت الْجَمَاعَة وَلم يجبهُ أحد مِنْهُم فَقَالَ مالكم كأنكم مَا تعرفونه فَقَالُوا نعم فَقَالَ هُوَ يَقُول اسْمِي نصر فَقلت أَنا هُوَ أبي يَا سَيِّدي قَالَ صدقت(8/417)
وَقَالَ الْجَمَاعَة كلهم هُوَ أَبوهُ يَا سَيِّدي الْآن عرفنَا فَإِن أَبَاهُ قتل وَهُوَ شَاب وَقَالَ أَيْضا فيهم شيخ طَوِيل يَقُول أَنا أعرف بِابْن الطَّحَّان مت مُنْذُ أَرْبَعمِائَة سنة فَقَالَ الْجَمَاعَة عندنَا أَمْلَاك تعرف بأملاك بني الطَّحَّان إِلَى الْآن
وَسمعت الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن الشَّيْخ أبي طَالب البطائحي فَقَالَ قصدت زِيَارَة الشَّيْخ فصحبت فِي طريقي أَقْوَامًا فتحدثوا فِي الْخمر ومجالسته وآلته فَلَمَّا دخلت على الشَّيْخ قَالَ مَا هَذِه الْحَالة قلت مَا هِيَ يَا سَيِّدي قَالَ بَين يَديك خمر وآلته فَقلت يَا سَيِّدي صَحِبت أَقْوَامًا فتحدثوا فِي الْخمر فأثر عَليّ مَا قلت قَالَ صدقت يَا بني صَاحب الأخيار وجانب الأشرار مَا اسْتَطَعْت فَإِن صحبتهم عَار فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
قلت هَذَا بعض مَا ذكره جَامع المناقب ثمَّ عقد بعده فصولا لما كَانَ عَلَيْهِ هَذَا الشَّيْخ الْجَلِيل من المجاهدة وَالْعَمَل الدَّائِم ولفرائد كَلَامه وفوائده ولاطراحه للتكلف وتواضعه ورأفته ورقته
ثمَّ ذكر أَنه توفّي يَوْم الْأَحَد سلخ رَجَب سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة بقرية يُقَال لَهَا علم بِالْقربِ من حلب وَدفن هُنَاكَ فِي تَابُوت لأجل النقلَة فَإِنَّهُ أوصِي بذلك وَقَالَ أَنا لَا بُد أَن أنقل إِلَى الأَرْض المقدسة وَكَانَ كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ نقل بعد مَوته باثنتي عشرَة سنة إِلَى جبل قاسيون وَدفن بالزاوية الْمَعْرُوفَة بهم وَقد زرت قَبره مَرَّات(8/418)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الطَّبَقَة السَّابِعَة فِيمَن توفّي بعد السبعمائة(9/6)
1291 - أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن شرف القَاضِي جمال الدّين الديباجي الملوي الْمَعْرُوف بالمنفلوطي
وَهُوَ أَبُو صاحبنا الشَّيْخ ولي الدّين مُحَمَّد نفع الله بِهِ
رجل مبارك صَالح عَالم فَاضل تفقه بالديار المصرية ثمَّ لما ولي الشَّيْخ عَلَاء الدّين القونوي قَضَاء الشَّام قدم مَعَه فولاه قَضَاء بعلبك ثمَّ نَاب فِي الحكم بِدِمَشْق وَأعَاد فِي الْمدرسَة الشامية البرانية
توفّي سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة
1292 - أَحْمد بن الْحسن بن عَليّ بن خَليفَة الْحُسَيْنِي الأنجي
صاحبنا السَّيِّد الإِمَام الْمُحَقق النظار السَّيِّد مجير الدّين أَبُو الْعَبَّاس
ولد سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَقَرَأَ فِي بِلَاد الْعَجم المعقولات فأحكمها عِنْد(9/7)
الشَّيْخ بدر الدّين الششتري وَابْن المطهر وَغَيرهمَا وبرع فِي الْمنطق وَالْكَلَام وَالْأُصُول مَعَ مُشَاركَة فِي الْفِقْه وناظر فِي بِلَاده وشغل بِالْعلمِ
ثمَّ قدم الشَّام سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة واستوطنها وَجَرت لَهُ فِيهَا مبَاحث جليلة مَعَ الْوَالِد رَحمَه الله وَمَعَ غَيره
وَكَانَ ذَا مَال جزيل وَمَعَ ذَاك لَا يفتر عَن طلب الْعلم ويشغل الطّلبَة صَبِيحَة كل يَوْم وَلم يبرح جارنا الْأَدْنَى فِي الْمسكن وصاحبنا الأكيد إِلَى أَن توفّي فِي شهر رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة عَن سِتّ وَسبعين سنة
1293 - أَحْمد بن الْحسن الجاربردي
الشَّيْخ الإِمَام فَخر الدّين نزيل تبريز
كَانَ فَاضلا دينا متفننا مواظبا على الشّغل بِالْعلمِ وإفادة الطّلبَة
شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ فِي أصُول الْفِقْه وتصريف ابْن الْحَاجِب وَقطعَة من الْحَاوِي وَله على الْكَشَّاف حواش مَشْهُورَة وَقد أقرأه مَرَّات عديدة بلغنَا أَنه اجْتمع بِالْقَاضِي نَاصِر الدّين الْبَيْضَاوِيّ وَأخذ عَنهُ(9/8)
توفّي بتبريز فِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة
أنشدونا عَنهُ
(عجبا لقوم ظالمين تستروا ... بِالْعَدْلِ مَا فيهم لعمري معرفه)
(قد جَاءَهُم من حَيْثُ لَا يدرونه ... تَعْطِيل ذَات الله مَعَ نفي الصفه)
وَهَذَانِ البيتان عَارض بهما الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله
(لجَماعَة سموا هواهم سنة ... وَجَمَاعَة حمر لعمري مؤكفه)
(قد شبهوه بخلقه وتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفه)
وَقد عَابَ أهل السّنة بَيْتِي الزَّمَخْشَرِيّ وَأَكْثرُوا القَوْل فِي معارضتهما وَمن أحسن مَا سمعته فِي معارضتهما مَا أنشدناه شَيخنَا أَبُو حَيَّان النَّحْوِيّ فِي كِتَابه عَن الْعَلامَة أبي جَعْفَر بن الزبير بغرناطة إجَازَة لم يكن سَمَاعا أنشدنا القَاضِي الأديب أَبُو الْخطاب مُحَمَّد بن أَحْمد بن خَلِيل السكونِي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ عَن أَخِيه أبي بكر من نظمه ثمَّ رَأَيْتهَا فِي كتاب أبي عَليّ عمر بن مُحَمَّد بن خَلِيل الْمُسَمّى ب التَّمْيِيز لما أودعهُ الزَّمَخْشَرِيّ فِي كِتَابه من الاعتزال فِي الْكتاب الْعَزِيز وَقَالَ أَجَابَهُ عَم(9/9)
وَالِدي وَهُوَ يحيى بن أَحْمد الملقب بخليل بِهَذِهِ القصيدة ولوالدي فِيهَا تَكْمِيل ولي فِيهَا تتميم وتذييل
(شبهت جهلا صدر أمة أَحْمد ... وَذَوي البصائر بالحمير المؤكفه)
(وَزَعَمت أَن قد شبهوا معبودهم ... وتخوفوا فتستروا بالبلكفه)
(ورميتهم عَن نبعة سويتها ... رمي الْوَلِيد غَدا يمزق مصحفه)
(نطق الْكتاب وَأَنت تنطق بالهوى ... فهوى الْهوى بك فِي المهاوي المتلفه)
(وَجب الخسار عَلَيْك فَانْظُر منصفا ... فِي آيَة الْأَعْرَاف فَهِيَ المنصفه)
(أَتَرَى الكليم أَتَى بِجَهْل مَا أَتَى ... وأتى شيوخك مَا أَتَوا عَن معرفه)
(خلق الْحجاب فَمن وَرَاء حجابه ... سمع الكليم كَلَامه إِذْ شرفه)
(خلق الْحجاب بخلقه سُبْحَانَهُ ... فتشوفته الْأَنْفس المستشرفه)
(من لَا يرى قل كَيفَ يحجب خلقه ... نهنه نهى أشياخك المتكلفه)
(الْمَنْع من إِدْرَاكه معنى بِهِ ... حجب النواظر يَا أصبيع زعنفه)
(وَالْمَنْع مُخْتَصّ بدار بعْدهَا ... لَك لَا أَبَا لَك موعد لن تخلفه)
(ملك يهدد بالحجاب عباده ... أَتَرَى محالا أَن يرى بالزخرفه)(9/10)
(وبآية الْأَعْرَاف ويك خذلتم ... فوقعتم دون المراقي المزلفه)
(لَو كَانَ كالمعلوم عنْدك لَا يرى ... ذهب التمدح فِي هَنَات السفسفه)
(عطلت أَو أَيِست يَا مغرور إِذْ ... ضاهيت فِي الْإِلْحَاد أهل الفلسفه)
(إِن الْوُجُوه إِلَيْهِ ناظرة بذا ... جَاءَ الْكتاب فقلتم هَذَا سفه)
(لَو صَحَّ فِي الْإِسْلَام عقدك لم تقل ... بِالْمذهبِ المهجور فِي نفي الصفه)
(وَلما نسبت إِلَى النُّبُوَّة زلَّة ... فِي ص وَالتَّحْرِيم فاسمع مصرفه)
(أَو مَا علمت بِأَن من آل فقد ... ترك الْمُبَاح وكف عَنهُ مصرفه)
(لَا أَنه جعل الْحَلَال محرما ... شرعا فعصمته أَبَت أَن يقرفه)
(فجهلت هَذَا وانصرفت لظلمة ... أعمت عَلَيْك من الطَّرِيق تعرفه)
(لم تعرف الْفِقْه الْجَلِيّ فيكف بِالتَّوْحِيدِ ... فِي تَدْقِيقه أَن تعرفه)
قلت أَظن من قَوْله (وَلما نسبت إِلَى النُّبُوَّة زلَّة ... )
إِلَى آخرهَا تتميم أبي عَليّ عمر بن خَلِيل
وَقد أَكثر النَّاس فِي مُعَارضَة الزَّمَخْشَرِيّ وَهَذِه الأبيات من أجمع مَا قيل
وَقَالَ بَعضهم
(الله يعلم والعلوم كَثِيرَة ... أَي الْفَرِيقَيْنِ اهْتَدَى بالمعرفه)
(ولسوف يعلم كل عبد مَا جنى ... يَوْم الْحساب إِذا وقفنا موقفه)
(فاذكر بِخَير أمة لم تعتقد ... إِلَّا الثَّنَاء عَلَيْهِ ذاتا أَو صفه)
(ودع المراء وَلَا تُطِع فِيهِ الْهوى ... فَالْحق فِي أَيدي الرِّجَال المنصفه)(9/11)
وَقَالَ آخر
(وَجَمَاعَة كفرُوا بِرُؤْيَة رَبهم ... هَذَا ووعد الله مَا لن يخلفه)
(وتلقبوا عدلية قُلْنَا أجل ... عدلوا برَبهمْ فحسبهم سفه)
(وتلقبوا الناجين كلا إِنَّهُم ... إِن لم يَكُونُوا فِي لظى فعلى شفه)
وَقَالَ آخر
(لجَماعَة كفرُوا بِرُؤْيَة رَبهم ... ولقائه حمر لعمرك موكفه)
(فكفاهم علمُوا بِلَا كَيفَ فَنحْن ... نرى فَلم ننعتهم بالبلكفه)
(هم عطلوه عَن الصِّفَات وعطلوا ... مِنْهُ الفعال فيالها من منكفه)
(هم نازعوه الْخلق حَتَّى أشركوا ... بِاللَّه زمرة حاكة وأساكفه)
(هم غلقوا أَبْوَاب رَحمته الَّتِي ... هِيَ لَا تزَال على الْمعاصِي موقفه)
(وَلَهُم قَوَاعِد فِي العقائد رذلة ... ومذاهب مَجْهُولَة مستنكفه)
(يبكي كتاب الله من تأويلهم ... بدموعه المنهلة المستوكفه)
وَقلت أَنا واقتصرت على بَيْتَيْنِ
(لجَماعَة جاروا وَقَالُوا إِنَّهُم ... للعدل أهل مَا لَهُم من معرفه)
(لم يعرفوا الرَّحْمَن بل جهلوا وَمن ... ذَا أَعرضُوا للْجَهْل عَن لمح الصفه)
وَقَالَ آخر
(لجَماعَة رَأَوْا الْجَمَاعَة سبة ... عمياء تاهوا فِي المعامي المتلفه)(9/12)
(وَالسّنة الغراء أضحت عِنْدهم ... مَرْدُودَة مهجورة مستنكفه)
(عميت بصائرهم كَمَا أَبْصَارهم ... عَن رُؤْيَة فاستهزءوا بالبلكفه)
(نفوا الصِّفَات عَن الْإِلَه وأثبتوا ... ذاتا معطلة تعرت عَن صفه)
(فتعينت ذَات الْإِلَه لديهم ... أَن لَا تكون أَو أَن تكون مكيفه)
(هم فرقة زَعَمُوا الْجَمَاعَة فرقة ... هَذَا لعمري بِدعَة مستأنفه)
(قد حاولوا نكرا لجهل فيهم ... عَن غير علم مِنْهُم والمعرفه)
(أَنى لَهُم علم بِهَذَا إِنَّهُم ... حمر لَدَى أهل الْحَقَائِق مؤكفه)
(برهانه لَا شكّ لَوْلَا أَنهم ... حمر لَكَانَ لَهُم عقول منصفه)
(شهواتهم غلبت عُقُولهمْ لذا ... أبدا ترى أَقْوَالهم مستضعفه)
(فتجمعت آراؤهم فِي غيهم ... وَتَفَرَّقَتْ عَن رشدهم متحرفه)
(هم أمة تركُوا الْهِدَايَة وامتطوا ... طرق الضَّلَالَة والهوى متعسفه)
(ركبُوا بحار عماية وغواية ... غرقت مراكبهم برِيح معصفه)
(هم زمرة هامت بهم أهواؤهم ... كالهيم فِي الأَرْض الفلاة مخلفه)
(عزة أذلّهم الْإِلَه بعزة ... ثبة ذووا جبورة متغطرفه)
(لعصابة لعبت بهم أهواؤهم ... عمي تناهت فِي الْعَمى متلهفه)
(فِئَة لقد جَحَدُوا بِرُؤْيَة رَبهم ... وَأتوا بأقوال ترد مزيفه)
(هم عصبَة قد حكمُوا آراءهم ... فِي الدّين تلقاها غَدَتْ متصرفه)
(هم حرفوا كلم الْكتاب وبدلوا الْمَعْنى ... فجَاء حروفهن محرفه)
(هم صحفوا الْقُرْآن فِي تَأْوِيله ... فَلِذَا مصاحفهم تكون مصحفه)(9/13)
(نبذوا كتاب الله خلف ظُهُورهمْ ... جعلُوا أَحَادِيث النَّبِي مضعفه)
(ملأوا صحائفهم بِكُل قبيحة ... من بِدعَة شنعاء غير مُؤَلفه)
(أقولهم أَلْفَاظ زور مَالهَا ... معنى وَصَوت كالطبول مجوفه)
(الله خَالق كل شَيْء وَحده ... سُبْحَانَهُ وَبِه الْعباد مكلفه)
(خير وَشر لَيْسَ يخلق غَيره ... إيَّاهُمَا هذي طَرِيق مزلفه)
(لقد اعتزلتم أمة سنية ... فخفيتم يَا أمة متخوفه)
(وَلَقَد زعمتم أَنكُمْ شركاؤه ... والخالقية لَا تزَال منصفه)
(فكفرتم بِاللَّه ثمَّ نبيه ... فقلوبكم عَن دينه متخلفه)
(فَلِذَا افتضحتم فِي الْأَنَام فَأَصْبَحت ... عوراتكم بَين الورى متكشفه)
(وَأَبَيْتُمْ إِلَّا مُتَابعَة الْهوى ... وأتيم بدلائل المتفلسفه)
(وَلكم عقائد بالهوى معقودة ... وَالْكفْر من أهل الْهوى متلقفه)
(وبنيتم دَارا على مستنقع ... وجعلتموها بالقذاة مسقفه)
(مَا عنْدكُمْ إِلَّا البلادة والقماءة ... والسفاهة والخنا والعجرفه)
(جهلتم مُوسَى كَمَا كَذبْتُمْ ... خبر الرَّسُول أَتَت بِهِ المستخلفه)
(أنكرتم للأولياء كرّ امة ... عمتهم خصت بهَا المتصرفه)
(لله أحباب تكون مصونة ... عَمَّا سواهُ بالجمال مكنفه)
(وهم ضنائن رَبهم وَعَلَيْهِم ... بجلاله أرْخى ستورا مسجفه)
(أخفاهم بِالنورِ ثمَّ خفاهم ... ووجوههم بحلى السنا متلففه)
(هم جفة حفت بِكُل جميلَة ... من رَبهم وَبِمَا يقرب متحفه)(9/14)
(مَلأ لقد مَلأ الْإِلَه صُدُورهمْ ... نورا فَكَانَت بالضياء مزخرفه)
(نصحت جيوبهم كَمَا أذيالهم ... أضحت بأمواه الصفاء منظفه)
(لَهُم عقائد فِي الْقُلُوب صَحِيحَة ... ونفوسهم ملكية متعففه)
(وَلَهُم خلائق بالندى مجبولة ... وعَلى الْخَلَائق بِالْهدى متعطفه)
(وَلَهُم قُلُوب بِالرِّضَا معمورة ... وَلَهُم مَكَارِم بالحوائج مسعفه)
(أجسامهم عَمَّا يشين نقية ... ونفوسهم عَمَّا يذيم مكفكفه)
(مَا استعبدتهم شَهْوَة تَدْعُو إِلَى الصَّفْرَاء ... والبيضاء لَا والزخرفه)
(كفوا الأكف عَن السُّؤَال وَلم ترى ... سألة ممدودة متكففه)
(مَا شَأْنهمْ شرب المدامة لَا وَلَا ... أكل الْحَرَام وَلَا غرام مهفهفه)
(منعُوا النُّفُوس عَن الحظوظ فطاوعت ... وتحرجت عَن نيلها متوقفه)
(كلفت نُفُوسهم بِمَا أمرت بِهِ ... ألفته حبا فِيهِ لَا متكلفه)
(متطلب رتب الْكَمَال ذواتهم ... وصفاهم تعنو لَهَا متلطفه)
(وَلَهُم وظائف من عبَادَة رَبهم ... أضنوا بهَا أبدانهم كالأوظفه)
(سهرت عيونهم إِذا نَام الورى ... فِي فرشهم طول اللَّيَالِي المسدفه)
(أَقْدَامهم تَحت الدجا مصطفة ... وقدودهم كأهلة محقوقفه)
(هجروا الوسائد والموائد والهنا ... قوم بأنواع النَّعيم مسرعفه)(9/15)
(تركُوا الفضول وَقد رَضوا بكفافهم ... أنعم بهم من حوزة متقشفه)
(صقلوا مراياهم بمصقلة التقى ... فصفت وَصَارَت للولاية مألفه)
(أَتَت الْولَايَة وَهِي خاطبة لَهُم ... مرتاحة مشغوفة مستعطفه)
(فَلهم من الله الْكَرِيم كَرَامَة ... وَقُلُوبهمْ لقبولها مستهدفه)
(أبدانهم طافت بكعبة رَبهم ... ونفوسهم بجنابه متطوفه)
(أَرْوَاحهم بسعادة مقرونة ... بدوامها مسرورة متألفه)
(أتنم عبيد بطونكم وفروجكم ... ونفوسكم فِي كل شَرّ مسرفه)
(مَا تعرفُون سوى الْقُدُور وهمكم ... أَن تغرفوا مِنْهَا الطَّعَام بمغرفه)
(فَمَتَى نهضتم للولاية يَا بني اللَّحْم ... السمين وَيَا أُسَارَى الأرغفه)
(أرواحكم مسحورة وعقولكم ... مسلوبة أبصاركم متخطفه)
(وركبتم متن الغواية ثمَّ قد ... قفيتموها بالضلالة مردفه)
(جرتم وقلتم إِنَّكُم عدلية ... لَا وَالَّذِي جعل الْقُلُوب مصرفه)
(زلت بكم أقدامكم بمزلة ... تهوي إِلَى دَرك الشفا متزحلفه)
(صدئت مراياكم فَأنى تجتلى ... فِيهَا عرائس بالجمال مشرفه)
(وَمَتى تكون لكم ولَايَة ربكُم ... وقلوبكم عَن طرقها محرورفه)
(وَلنَا بِحَمْد الله ثمَّ بفضله ... كتب على الْحق الصَّرِيح مُصَنفه)
(قد كَانَت الْحسنى لنا وَزِيَادَة ... وتقر أَعيننَا بهَا المتشوفه)
(أَنا نرى يَوْم الْقِيَامَة رَبنَا ... مستشرقين على قُصُور مشرفه)
(سنراه جَهرا لَا حجاب وَرَاءَنَا ... فِي جنَّة للْمُؤْمِنين معرفه)(9/16)
(أسماعنا لكَلَامه أبصارنا ... لجماله مشتقاة متشوفه)
(إِنَّا نرى لَا فِي جِهَات وَجهه ... إِنَّا لنسمع قَوْله لَا من شفه)
(رغما لأنفكم نرَاهُ ظَاهرا ... كَالشَّمْسِ حَقًا بالعيون المترفه)
(آذاننا بِكَلَامِهِ كعيوننا ... ترنو إِلَيْهِ فِي الْجنان مشنفه)
(جَاءَ الْكتاب بهَا وَجَاءَت سنة ... من رَبنَا وَمن النَّبِي معرفه)
(ثقلت مَوَازِين لنا إِذْ أَصبَحت ... أَعمالكُم يَوْم الْحساب مخففه)
(من لَا يُرِيد لقاءه فَهُوَ الَّذِي ... فِي النَّار يخلد مثل أهل الفلسفه)
(ويذاد عَن حَوْض يروينا إِذا ... وردوا الْقِيَامَة والشفاه مجففه)
(وتعل من عين الْحَيَاة نفوسنا ... وشفاهنا تَغْدُو لنا مترشفه)
(تلقى أئمتهم وأمتهم غَدا ... تلقى طوائف فِي الْجَحِيم مكتفه)
(فتراهم يَوْم اللقا وَقُلُوبهمْ ... محجوبة عَن رَبهَا متأسفه)
(قد جادلونا بِاللِّسَانِ فجدلوا ... بالبيض والسمر الْقَنَاة مثقفه)
(حَتَّى تقصفت الصفاح وأصبحت ... أرماحنا من طعنهم متقصفه)
(فعلى عيونهم سِهَام فوقت ... وعَلى رقابهم سيوف مرهفه)
(صلى الْإِلَه على مُحَمَّد الَّذِي ... أبدى لنا طرق الْهدى والمخرفه)
وصلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين(9/17)
1294 - أَحْمد بن عبد الله بن الشَّيْخ شهَاب الدّين البعلبكي
مدرس العادلية الصَّغِيرَة والمدرسة القليجية بِدِمَشْق وَشَيخ الإقراء بتربة أم الصَّالح والتربة الأشرفية
قيل إِنَّه ولد سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة وَسمع الحَدِيث من أَسمَاء بنت صصرى وَغَيرهَا
وَكَانَ فَقِيها عَارِفًا بالنحو معرفَة جَيِّدَة إِمَامًا فِي الْقرَاءَات وَمَعْرِفَة وجوهها مشاركا فِي كثير من الْعُلُوم صَحِيح الْفِكر والذهن
نَاب فِي الحكم بِدِمَشْق مُدَّة عَن قَاضِي الْقُضَاة شهَاب الدّين ابْن الْمجد عبد الله وَدخل الْقَاهِرَة وَقَرَأَ النَّحْو على شَيخنَا أبي حَيَّان وَقَرَأَ بعض العقليات على شمس الدّين الْأَصْبَهَانِيّ وَكَانَ حسن الاستحضار والضبط الْكثير من شَوَاهِد الْعَرَبيَّة حسن الْخط
توفّي يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة أَربع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة بِالْمَدْرَسَةِ القليجية بِدِمَشْق(9/18)
1295 - أَحْمد بن عمر بن أَحْمد بن أَحْمد بن النشائي الشَّيْخ كَمَال الدّين
هُوَ ولد الشَّيْخ الْفَقِيه الزَّاهِد عز الدّين من أهل نشا بالنُّون والشين الْمُعْجَمَة من الديار المصرية
سمع الحَدِيث من الْحَافِظ شرف الدّين الدمياطي وَولد سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة وَأعَاد بِالْمَدْرَسَةِ الكهارية عِنْد الْوَالِد رَحمَه الله وبرع فِي الْفِقْه
وَكَانَ كثير الاستحضار حسن الِاخْتِصَار صنف جَامع المختصرات ومختصر الْجَوَامِع وَهُوَ مُخْتَصر حافل جدا فِي الْفِقْه وَشَرحه وَله أَيْضا كتاب النكت على التَّنْبِيه وَكتاب الإبريز فِي الْجمع بَين الْحَاوِي وَالْوَجِيز وَكتاب كشف غطاء الْحَاوِي الصَّغِير وَكتاب الْمُنْتَقى فِي الْفِقْه جمع فِيهِ فأوعى وَاخْتصرَ كتاب سلَاح الْمُؤمن فِي الْأَدْعِيَة المأثورة وكل كتبه وجيزة الْعبارَة جدا تشبه الألغاز كثير الْجمع
توفّي فِي حادي عشر صفر سنة ثَمَان وَخمسين وَسَبْعمائة بِالْقَاهِرَةِ(9/19)
1296 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَالم بن أبي الْمَوَاهِب بن صصرى
قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين أَبُو الْعَبَّاس الربعِي التغلبي
حضر على الرشيد الْعَطَّار والنجيب عبد اللَّطِيف وَسمع من ابْن عبد الدَّائِم وَغَيره وتفقه على الشيح تَاج الدّين ابْن الفركاح
وَكَانَ ذَا رياسة وسؤدد حكم بِدِمَشْق نيفا وَعشْرين سنة يصفح ويغضى ويمنح الجزيل وَيَقْضِي
وَقد ذكره الشَّيْخ جمال الدّين بن نباتة فِي سجع المطوق فَأحْسن فِي وَصفه وَأطَال وَمن كَلِمَاته فِيهِ مَا الْغَيْث وَإِن ثجت سحبه وأسف فويق الأَرْض هيديبه وَرمى الْمحل بسهامه وَتَبَسم ثغر برده من لعس غمامه بأسمح من الْغَيْث الَّذِي يُخرجهُ لنا من ردنه وَهُوَ يَده الْمُقبلَة والسحب الَّتِي يجريها بأرزاق عفاته وَهِي أقلامه المؤملة كلا وَلَا الْبَحْر وَإِن جَاشَتْ غواربه وهاجت عجائبه واستمدت من قطرات لجه الدَّائِم الغزار وعلت كل موجة(9/20)
إِلَى منال الشَّمْس فَكَأَنَّهَا على الْحَقِيقَة علم فِي رَأسه نَار بأمد من مواهبه وَمَا سقت وأعجب من علومه وَمَا وسقت
وَمِنْهَا مَا شهِدت الدُّرُوس أسْرع من نَقله وَلَا وَالله النُّفُوس أبرع من عقله وَمَا ظفر بِمثلِهِ زمَان وَإِن حلف ليَأْتِيَن بِمثلِهِ
وَمِنْهَا نظما
(أندى الْبَريَّة والأنواء ماحلة ... وأسبق النَّاس والسادات تزدحم)
(حبر تجَاوز قدر الْمَدْح من شرف ... كالصبح لَا غرَّة يَحْكِي وَلَا رثم)
(لَكِنَّهَا نفحات من منائحه ... تكَاد تحيا بهَا فِي رمسها الرمم)
(مُجَرّد الْعَزْم للعلياء إِذْ عجزت ... عَنْهَا السراة وَقَالُوا إِنَّهَا قسم)
(تصنعوا ليحاكوا صنع سؤدده ... يَا شيب كم جهد مَا قد يكتم الكتم)
(رام الأقاصي حَتَّى جازها وَمضى ... تبَارك الله مَاذَا يبلغ الهمم)
(لَا يطرد الْمحل إِلَّا صوب نائله ... وَلَا يحول على أَفعاله النَّدَم)
(فِي كل يَوْم يُنَادي جود رَاحَته ... هَذَا فَتى الندى لَا مَا ادّعى هرم)
(يمم حماه ودافع كل معضلة ... مهيبة الجرم تعلم أَنه حرم)(9/21)
(واحسن وَلَاء معاليه فَمَا سفلت ... عَزِيمَة بولاء النَّجْم تلتزم)
(لَو أَن للدهر جُزْءا من محاسنه ... لم يبْق فِي الدَّهْر لَا ظلم وَلَا ظلم)
(قَالَت أياديه للحساد عَن كثب ... مَا أقرب الْعِزّ إِلَّا أَنَّهَا همم)
(لما أبان بِهِ للنجم أَن لَهُ ... عزما يرى فرص الْإِحْسَان تغتنم)
(وَالْمجد لَا تنثني يَوْمًا معالمه ... إِلَّا بِنَقص من الْأَمْوَال تنهدم)
(وللسيادة معنى لَيْسَ يُدْرِكهُ ... من طَالب الذّكر إِلَّا باحث فهم)
(تستشرف الأَرْض مَا حلت مواطئه ... كَأَنَّمَا الوهد فِي آثاره أكم)
وَهِي قصيدة غراء اقتصرنا مِنْهَا من الْمَدْح على مَا أوردناه
ولقاضي الْقُضَاة نجم الدّين نظم حسن وَقد ولي الْقَضَاء وَقَبله التوقيع وَعمل فِي ديوَان الْإِنْشَاء مُدَّة
توفّي فِي شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة ورثاه جمَاعَة مِنْهُم الأديب شهَاب الدّين مَحْمُود بِأَبْيَات طَوِيلَة مِنْهَا هَذَا
(قَاضِي الْقُضَاة وَمن حوى رتبا سمت ... عَن أَن تسام سنا وبزت من سعا)
(شيخ الشُّيُوخ العارفين وَمن رقى ... رتب السلوك تعبدا وتورعا)
(حاوي الْعُلُوم بِمَا تفرق فِي الورى ... إِلَّا الَّذِي مِنْهَا إِلَيْهِ تجمعَا)(9/22)
1297 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن عَطاء الله الشَّيْخ تَاج الدّين أَبُو الْفضل
من أهل الْإسْكَنْدَريَّة أرَاهُ كَانَ شَافِعِيّ الْمَذْهَب وَقيل كَانَ مالكيا
كَانَ أستاذ الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد فِي التصوف وَكَانَ إِمَامًا عَارِفًا صَاحب إشارات وكرامات وَقدم راسخ فِي التصوف
صحب الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس المرسي تلميذ الشَّيْخ أبي الْحسن الشاذلي وَأخذ عَنهُ
واستوطن الشَّيْخ تَاج الدّين الْقَاهِرَة يعظ النَّاس ويرشدهم وَله الْكَلِمَات البديعة دونهَا أَصْحَابه فِي كتب جمعوها من كَلَامه وَمن مصنفات الشَّيْخ تَاج الدّين كتاب التَّنْوِير فِي إِسْقَاط التَّدْبِير
وَمن كَلَامه إرادتك التَّجْرِيد مَعَ إِقَامَة الله لَك فِي الْأَسْبَاب من الشَّهْوَة الْخفية وإرادتك الْأَسْبَاب مَعَ إِقَامَة الله إياك فِي التَّجْرِيد انحطاط عَن الذرْوَة الْعلية
مَا أَرَادَت همة سالك أَن تقف عِنْدَمَا كشف لَهَا إِلَّا ونادته هواتف الْحَقَائِق الَّذِي تطلب أمامك وَلَا تبرجت ظواهر الكرامات إِلَّا نادت حقائقها {إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفر}
وَقَالَ كَيفَ يتَصَوَّر أَن يَحْجُبهُ شَيْء وَهُوَ الَّذِي أظهر كل شَيْء كَيفَ يتَصَوَّر أَن يَحْجُبهُ شَيْء وَهُوَ الَّذِي ظهر بِكُل شَيْء كَيفَ يتَصَوَّر أَن يَحْجُبهُ شَيْء وَهُوَ الَّذِي(9/23)
ظهر فِي كل شَيْء كَيفَ يتَصَوَّر أَن يَحْجُبهُ شَيْء وَهُوَ الَّذِي ظهر لكل شَيْء كَيفَ يتَصَوَّر أَن يَحْجُبهُ شَيْء وَهُوَ الظَّاهِر قبل وجود كل شَيْء كَيفَ يتَصَوَّر أَن يَحْجُبهُ شَيْء وَهُوَ أظهر من كل شَيْء
وَمن شعره
(أعندك عَن ليلى حَدِيث مُحَرر ... لإيراده يحيا الرميم وينشر)
(فعهدي بهَا الْعَهْد الْقَدِيم وإنني ... على كل حَال فِي هَواهَا مقصر)
(وَقد كَانَ عَنْهَا الطيف قدما يزورني ... وَلما يزر مَا باله يتَعَذَّر)
توفّي بِالْقَاهِرَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَسَبْعمائة
1298 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُرْتَفع بن صارم بن الرّفْعَة
الشَّيْخ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام نجم الدّين أَبُو الْعَبَّاس
شَافِعِيّ الزَّمَان وَمن أَلْقَت إِلَيْهِ الْأَئِمَّة مقاليد السّلم والأمان مَا هُوَ إِن عدت الشَّافِعِيَّة إِلَّا أَبُو الْعَبَّاس وَلَا أَخْمص قدمه إِلَّا فَوق هامات النَّاس ابْن الرّفْعَة إِلَّا أَن جِنْسهَا انحصر بأنواعه فِي شخصه وَذُو السمعة الَّتِي ولجت الآذان(9/24)
وتعدد مناديها فَلم يحصره الْعَاد وَلم يحصه مَا أخرجت مصر بعد ابْن الْحداد نَظِيره وَلَا سكن ربعهَا وَهُوَ خُلَاصَة الرّبع العامر أروج مِنْهُ وَإِن لم يحضر الحاسب لجين ذَلِك الرّبع ونضيره وَلَقَد كَانَ عصره محتوشا بالأئمة إِلَّا أَنَّهَا سلمت وأذعنت وتطأطأ الْبَدْر وتضاءل السها إِذْ عنت قدر قدره الله لَهُ من قبل أَن يكون مُضْغَة وَفقه لَو رَآهُ ابْن الصّباغ لقَالَ هَذَا الَّذِي صبغ من النشأة عَالما {وَمن أحسن من الله صبغة} سَار اسْمه فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وطار ذكره فَكَانَ ملْء حواضرها وبواديها وقفارها وسباسبها ذُو ذهن لَا يدْرك فِي صرعة الْإِدْرَاك وَمِقْدَار تَقول لَهُ الزهرة مَا أزهرك والسماك مَا أسماك لَا يُقَاوم فِي مجْلِس مناظرة وَلَا يقاوى وَلَا يساوم إِذا ابْتَاعَ الْجَوَاهِر الثمينة وَلَا يساوى أقسم بِاللَّه يَمِينا برة لَو رَآهُ الشَّافِعِي لتبجح بمكانه وترجح عِنْده على أقرانه وترشح لِأَن يكون فِي طبقَة من عاصره وَكَانَ فِي زَمَانه وَلَو شَاهده الْمُزنِيّ لشهد لَهُ بِمَا هُوَ أَهله ولقال ابْن الْبَدْر من دون مَحَله مَحَله وَإِن النّيل مَا أنيل مثله وَلَا سكن إِلَى جَانِبه مثله وَلَو اجْتمع بِهِ البويطيء لقَالَ مَا أخرجت بَعدنَا مثله الصَّعِيد وَلَا وفى النّيل قطّ بِمثل هَذَا الْوَفَاء السعيد وَلَا أَتَى بأصابع لَكِن بأياد فِي أَيَّام عيد وَلَو عاينه الرّبيع لقَالَ هَذَا فَوق قدر الزهر(9/25)
فَمَا قدر الزهر وَأحسن من الرَّوْض باكره الندى أَوْقَات الْبكر وألطف من شمائل النشوان لعبت بِهِ الشُّمُول أَو أعطاف الأغصان حركها نسيم السحر
تفقه على السديد والظهير التزمنتيين والشريف العباسي ولقب بالفقيه لغَلَبَة الْفِقْه عَلَيْهِ
وَسمع الحَدِيث من محيي الدّين الدَّمِيرِيّ أَخذ عَنهُ الْفِقْه الْوَالِد رَحمَه الله وسمعته يَقُول إِنَّه عِنْد أفقه من الرَّوْيَانِيّ صَاحب الْبَحْر
وَقد بَاشر حسبَة مصر ودرس بِالْمَدْرَسَةِ المعزية بهَا وَلم يل شَيْئا من مناصب الْقَاهِرَة
وَمن تصانيفه الْمطلب فِي شرح الْوَسِيط والكفاية فِي شرح التَّنْبِيه وَكتاب مُخْتَصر فِي هدم الْكَنَائِس
توفّي بِمصْر سنة عشر وَسَبْعمائة
وَلَا مطمع فِي استعياب مباحثه وغرائبه لِأَن ذَلِك بَحر زاخر ومهيع لَا يعرف لَهُ أول من آخر وَلَكنَّا نتبرك بِذكر الْقَلِيل ونتبرتك من عطائه الجزيل
جزم الرَّافِعِيّ فِي اسْتِيفَاء قصاص الْمُوَضّحَة بِأَنَّهُ يفعل مَا هُوَ الأسهل من الشق دفْعَة وَاحِدَة أَو تدريجا
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَالْأَشْبَه الْإِتْيَان بِمثل جِنَايَته إِن أوضح دفْعَة فدفعة أَو تدريجا فتدريجا(9/26)
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق طَلْقَة أَو طَلْقَتَيْنِ فَهُوَ مُلْحق بصور الشَّك فِي أصل الْعدَد فَلَا تطلق إِلَّا طَلْقَة
قَالَ فِي التَّتِمَّة
قَالَ ابْن الرّفْعَة لَكِن لَا نقُول فِي هَذِه الْحَالة يسْتَحبّ أَن يطلقهَا الثَّانِيَة كالشاك هَل طلق وَاحِدَة أَو اثْنَتَيْنِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ يحْتَمل وُقُوعهَا فِي نفس الْأَمر وَلَا كَذَلِك هُنَا لِأَنَّهُ لَا يَقع فِي نفس الْأَمر إِلَّا وَاحِدَة
قَالَ وَهَذَا مَا وَقع لي تفقها
سَمِعت الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله يَقُول لما زينت الْقَاهِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسَبْعمائة أفتى شَيخنَا ابْن الرّفْعَة بِتَحْرِيم النّظر إِلَيْهَا قَالَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يقْصد بهَا النّظر
وَمن مُفْرَدَات ابْن الرّفْعَة قَوْله فِي الْمطلب إِن الْمُرْتَد إِذا مَاتَ لَهُ قريب مُسلم ثمَّ عَاد إِلَى الْإِسْلَام وَرثهُ
ورد عَلَيْهِ الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد وَنسبه إِلَى خرق الْإِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة
قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب فِي بَاب حد الزِّنَا ظَاهر كَلَام الْمُخْتَصر أَن الْعقل لَا يشْتَرط فِي الْوَطْء الَّذِي يصير بِهِ مُحصنا وَلَو قيل بِعَدَمِ اعْتِبَاره وَاعْتِبَار الْبلُوغ لم يبعد لِأَن للمجنون وطرا وشهوة نالها بِوَطْئِهِ حَال جُنُونه وَلَا كَذَلِك للصَّبِيّ
قَالَ وَلم أر من تعرض لَهُ
قلت بل الْكل مصرحون بِاشْتِرَاط الْعقل(9/27)
1299 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن قيس
أَبُو الْعَبَّاس ابْن الظهير الشَّيْخ الإِمَام شهَاب الدّين ابْن الْأنْصَارِيّ
شيخ الشَّافِعِيَّة بالديار المصرية
مولده فِي حُدُود السِّتين وسِتمِائَة وتفقه على الظهير وَسمع من ابْن خطيب المزة جُزْء الغطريف وَحدث بِالْقَاهِرَةِ والإسكندرية
وَمَات عَن تدريس المشهد الْحُسَيْنِي بِالْقَاهِرَةِ فِي يَوْم عيد الْأَضْحَى سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة شَهِيدا بالطاعون
وَمن الْفَوَائِد عَنهُ
قَالَ قد يسْتَشْكل تصور قَضَاء القَاضِي بِالْعلمِ فَإِنَّهُ مثلا إِذا رأى رجلا يَزْنِي بِامْرَأَة يحْتَمل أَن يكون وطىء بِشُبْهَة فَلَا يسوغ الحكم بِالْعلمِ هُنَا إِذْ لَا علم حِينَئِذٍ
وصوره صَاحب الشَّامِل فَقَالَ إِذا رَآهُ يغترف من الْبَحْر حكم بِأَن هَذَا ملكه وَهَذَا معترض فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن شخصا اغترفه وألقاه
وَكَانَ ظهير الدّين التزمنتي يصوره بِمَا إِذا أَخذ إِنْسَان من مَاء الْمَطَر فَإِنَّهُ يحكم بِملكه لَهُ وَاعْتَرضهُ(9/28)
بعض الطّلبَة بِأَنَّهُ يَنْبَنِي على أَن الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة هَل يملكُونَ أم لَا فعلى الأول يحْتَمل أَن يكون ملكا أَو جنيا اغترف غرفَة وأرسلها
انْتهى
قلت وَهُوَ عجب أما أَولا فَلِأَن مَسْأَلَة قَضَاء القَاضِي بِالْعلمِ لَيْسَ شَرطهَا الْعلم اليقيني الْقطعِي بل غَلَبَة الظَّن تقوم مقَام الْعلم وَالْفُقَهَاء يطلقون الْعلم على ذَلِك كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَغَيره وَأما ثَانِيًا فتصوير صَاحب الشَّامِل صَحِيح والاعتراض بِأَن شخصا اغترفها وَأَلْقَاهَا فَاسد فَإِنَّهُ إِذا أَلْقَاهَا اخْتلطت بِمَا تستهلك فِيهِ وَتخرج عَن كَونهَا مَالا وَلَيْسَ كَمَا إِذا أطلق الصَّيْد فَإِن الصَّيْد وَإِن اشْتبهَ لَا يخرج عَن ملكه لِأَنَّهُ يتَمَيَّز بِنَفسِهِ لَا يخْتَلط وَلَا يستهلك وَإِنَّمَا يشْتَبه ويجهل عينه وَكَذَلِكَ تَصْوِير الشَّيْخ الظهير صَحِيح والاعتراض بِالْملكِ والجني عَجِيب فَإِن هَذَا الِاحْتِمَال لَا يمْنَع الْعلم وحكاية الْخلاف فِي أَن الْجِنّ وَالْملك هَل يملكُونَ غَرِيبَة وَمن حكى ذَلِك(9/29)
1300 - أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي الحزم مكي بن ياسين أَبُو الْعَبَّاس الشَّيْخ نجم الدّين الْقَمُولِيّ
صَاحب الْبَحْر الْمُحِيط فِي شرح الْوَسِيط وَكتاب جَوَاهِر الْبَحْر جمع فِيهِ فأوعى
كَانَ من الْفُقَهَاء الْمَشْهُورين والصلحاء المتورعين يحْكى أَن لِسَانه كَانَ لَا يفتر عَن قَول لَا إِلَه إِلَّا الله
ولي حسبَة مصر وَقد ولي تدريس الفائزية بهَا والفخرية بِالْقَاهِرَةِ وَتَوَلَّى قَدِيما قَضَاء قمولا وَهِي من مُعَاملَة قوص نِيَابَة عَن قَاضِي قوص ثمَّ ولي الْوَجْه القبلي من مُعَاملَة قوص ثمَّ ولي إخميم مرَّتَيْنِ وَولي أسيوط والمنيا والشرقية الَّتِي قاعدتها بلبيس والغريبة الَّتِي قاعدتها الْمحلة ثمَّ نَاب فِي الحكم بِالْقَاهِرَةِ ومصر وَتُوفِّي عَن نِيَابَة الْقَضَاء بِمصْر والجيزة والحسبة
وَلم يبرح يُفْتِي ويدرس ويصنف وَيكْتب وَرُوِيَ أَنه قَالَ لي أَرْبَعُونَ سنة أحكم فِيهَا مَا وَقع لي حكم خطأ وَلَا أثبت مَكْتُوبًا ظهر فِيهِ خلل
وَكَانَ الشَّيْخ صدر الدّين بن المرحل يَقُول فِيمَا نقل لنا عَنهُ لَيْسَ بِمصْر أفقه من الْقَمُولِيّ(9/30)
وَكَانَ مَعَ جلالته فِي الْفِقْه عَارِفًا بالنحو وَله شرح مُقَدّمَة ابْن الْحَاجِب وَكَانَ عَارِفًا بالتفسير وَله تَكْمِلَة على تَفْسِير الإِمَام فَخر الدّين وصنف أَيْضا شرح أَسمَاء الله الْحسنى فِي مجلدة
توفّي بِمصْر فِي رَجَب سنة سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة عَن ثَمَانِينَ سنة
وقمولا بِفَتْح الْقَاف وَضم الْمِيم وَإِسْكَان الْوَاو بَلْدَة فِي الْبر الغربي من عمل قوص
1301 - أَحْمد بن المظفر بن أبي مُحَمَّد بن المظفر بن بدر ابْن الْحسن بن مفرج بن بكار النابلسي
شَيخنَا الْحَافِظ الثِّقَة الْفَقِيه الثبت شهَاب الدّين أَبُو الْعَبَّاس الْأَشْعَرِيّ عقيدة
ولد فِي رَمَضَان سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة وَسمع زَيْنَب بنت مكي وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين الوَاسِطِيّ وَعمر ابْن القواس والشرف ابْن عَسَاكِر وخلقا كثيرا وعني بِهَذَا الشَّأْن وَكَانَ ثبتا فِيمَا يَنْقُلهُ محررا لما يسمعهُ متقنا لما يعرفهُ حسن المذاكرة أعرف من رَأَيْت بتراجم الأشاعرة والذب عَنْهُم قَائِما فِي نصْرَة السّنة وَأَهْلهَا(9/31)
توفّي بِدِمَشْق فِي شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَخمسين وَسَبْعمائة
أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس المظفر بقراءاتي عَلَيْهِ أخبرتنا زَيْنَب بنت مكي سَمَاعا قَالَت أخبرنَا حَنْبَل بن عبد الله المكبر أخبرنَا هبة الله بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن الْحصين أخبرنَا أَبُو عَليّ الْحسن بن عَليّ بن الْمَذْهَب أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن جَعْفَر بن حمدَان الْقطيعِي أخبرنَا عبد الله بن أَحْمد حَدثنَا أبي حَدثنَا سُفْيَان عَن عبد الله بن دِينَار قَالَ سَمِعت ابْن عمر قَول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من أقتنى كَلْبا إِلَّا كلب مَاشِيَة أَو كلب قنص نقص من أجره كل يَوْم قيراطان)
أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس الْأَشْعَرِيّ سَمَاعا أخبرنَا أَحْمد بن هبة الله بن عَسَاكِر أخبرنَا أَبُو روح إجَازَة أخبرنَا زَاهِر الشحامي حَدثنَا الْأُسْتَاذ أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن عَليّ الْمقري إملاء أخبرنَا أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن الْفضل بن مُحَمَّد ابْن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة أخبرنَا أَحْمد بن حمدون بن رستم الْأَعْمَش حَدثنَا أَبُو سهل عَبدة بن عبد الله الْخُزَاعِيّ حَدثنَا يُونُس بن عبيد الله الْعمريّ أخبرنَا الْمُبَارك بن فضَالة حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الله يحب مَكَارِم الْأَخْلَاق وَيكرهُ سفسافها)
أخبرنَا أَحْمد بن المظفر الْحَافِظ بِقِرَاءَتِي أخبرنَا عمر ابْن القواس أخبرنَا عبد الصَّمد ابْن الحرستاني إِذْنا أخبرنَا نصر الله المصِّيصِي أخبرنَا نصر الْمَقْدِسِي أخبرنَا أَبُو بكر(9/32)
الْخَطِيب أخبرنَا عَليّ بن أَيُّوب القمي أخبرنَا مُحَمَّد بن عمرَان بن مُوسَى أَخْبرنِي إِبْرَاهِيم بن خَفِيف المرثدي أَخْبرنِي مُحَمَّد بن بهنام الْأَصْبَهَانِيّ أخبرنَا يحيى بن مدرك الطَّائِي أخبرنَا هِشَام بن مُحَمَّد الْكَلْبِيّ قَالَ لما حج سُلَيْمَان بن عبد الْملك قدم الْمَدِينَة فَأرْسل إِلَى أبي حَازِم فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان يَا أَبَا حَازِم مَا هَذَا الْجفَاء قَالَ وَأي جفَاء رَأَيْت مني قَالَ أَتَانِي أهل الْمَدِينَة وَلم تأتني
قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكَيف يكون إتْيَان بِلَا معرفَة مُتَقَدّمَة وَالله مَا عَرفتنِي قبل هَذَا الْيَوْم وَلَا أَنا رَأَيْتُك فاعذر
قَالَ فالتف سُلَيْمَان إِلَى الزُّهْرِيّ فَقَالَ أصَاب الشَّيْخ وَصدق
قَالَ سُلَيْمَان يَا أَبَا حَازِم مَا لنا نكره الْمَوْت قَالَ لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أَن تَنقلُوا من الْعمرَان إِلَى الخراب
قَالَ سُلَيْمَان صدقت يَا أَبَا حَازِم كَيفَ الْقدوم على الله قَالَ أما المحسن فكالغائب يقدم على أَهله مَسْرُورا وَأما الْمُسِيء فكالآبق يقدم على مَوْلَاهُ مَحْزُونا
أخبرنَا الشَّيْخ شهَاب الدّين النابلسي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا أَحْمد بن هبة الله بن عَسَاكِر سَمَاعا عَن إِسْمَاعِيل بن عُثْمَان الْقَارِي أخبرنَا أَبُو الأسعد هبة الرَّحْمَن ابْن الإِمَام أبي سعيد عبد الْوَاحِد بن الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي أخبرنَا القَاضِي أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي جَعْفَر الطبسي أخبرنَا القَاضِي أَبُو بكر الْحِيرِي أخبرنَا حَاجِب الطوسي حَدثنَا مُحَمَّد بن حَمَّاد حَدثنَا مُحَمَّد بن الْفضل عَن الْحسن وَمُسلم(9/33)
ابْن أبي عمرَان قَالَا قَالَ سلمَان أضحكني ثَلَاث وأبكاني ثَلَاث
قَالُوا وَمَا هِيَ يَا سلمَان قَالَ أبكاني فِرَاق الْأَحِبَّة مُحَمَّد وَحزبه وهول المطلع عِنْد سكرة الْمَوْت وموقفي بَين يَدي الرَّحْمَن لَا أَدْرِي أساخط عَليّ هُوَ أم رَاض
قَالُوا وَمَا أضْحكك يَا سلمَان قَالَ مُؤَمل الدُّنْيَا وَالْمَوْت يَطْلُبهُ وغافل وَلَيْسَ بمغفول عَنهُ وضاحك ملْء فِيهِ لَا يدْرِي مَا يفعل الله بِهِ
1302 - أَحْمد بن يحيى بن إِسْمَاعِيل الشَّيْخ شهَاب الدّين ابْن جهبل الْكلابِي الْحلَبِي الأَصْل
سمع من أبي الْفرج عبد الرَّحْمَن بن الزين الْمَقْدِسِي وَأبي الْحسن بن البُخَارِيّ وَعمر بن عبد الْمُنعم بن القواس وَأحمد بن هبة الله بن عَسَاكِر وَغَيرهم
ودرس وَأفْتى وشغل بِالْعلمِ مُدَّة بالقدس ودمشق وَولي تدريس البادرائية بِدِمَشْق وَحدث وَسمع مِنْهُ الْحَافِظ علم الدّين الْقَاسِم بن مُحَمَّد البرزالي
مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة(9/34)
ووقفت لَهُ على تصنيف صنفه فِي نفي الْجِهَة ردا على ابْن تَيْمِية لَا بَأْس بِهِ وَهُوَ هَذَا
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله الْعَظِيم شَأْنه الْقوي سُلْطَانه القاهر ملكوته الباهر جبروته الْغَنِيّ عَن كل شَيْء وكل شَيْء مفتقر إِلَيْهِ فَلَا معول لشَيْء من الكائنات إِلَّا عَلَيْهِ
أرسل مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمحجة الْبَيْضَاء وَالْملَّة الزهراء فَأتى بأوضح الْبَرَاهِين وَنور محجة السالكين وَوصف ربه تَعَالَى بِصِفَات الْجلَال وَنفى عَنهُ مَا لَا يَلِيق بالكبرياء والكمال فتعالى الله الْكَبِير المتعال عَمَّا يَقُوله أهل الغي والضلال لَا يحملهُ الْعَرْش بل الْعَرْش وَحَمَلته محمولون بلطيف قدرته مقهورون فِي قَبضته أحَاط بِكُل شَيْء علما وأحصى كل شَيْء عددا مطلع على هواجس الضمائر وحركات الخواطر فسبحانه مَا أعظم شَأْنه وأعز سُلْطَانه {يسْأَله من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} لافتقارهم إِلَيْهِ {كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن} لاقتداره عَلَيْهِ
وصلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سيدنَا مُحَمَّد خَاتم أنبيائه ومبلغ أنبائه وعَلى آله وَصَحبه وَسلم
أما بعد فَالَّذِي دَعَا إِلَى تسطير هَذِه النبذة مَا وَقع فِي هَذِه الْمدَّة مِمَّا علقه بَعضهم فِي إِثْبَات الْجِهَة واغتر بهَا من لم يرسخ لَهُ فِي التَّعْلِيم قدم وَلم يتَعَلَّق بأذيال الْمعرفَة وَلَا كبحه لجام الْفَهم وَلَا استبصر بِنور الْحِكْمَة فَأَحْبَبْت أَن أذكر عقيدة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة ثمَّ أبين فَسَاد مَا ذكره مَعَ أَنه لم يدع دَعْوَى إِلَّا نقضهَا وَلَا أطد قَاعِدَة(9/35)
إِلَّا هدمها ثمَّ أستدل على عقيدة أهل السّنة وَمَا يتَعَلَّق بذلك وَهَا أَنا أذكر قبل ذَلِك مُقَدّمَة يستضاء بهَا فِي هَذَا الْمَكَان فَأَقُول وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان
مَذْهَب الحشوية فِي إِثْبَات الْجِهَة مَذْهَب واه سَاقِط يظْهر فَسَاده من مُجَرّد تصَوره حَتَّى قَالَت الْأَئِمَّة لَوْلَا اغترار الْعَامَّة بهم لما صرف إِلَيْهِم عنان الْفِكر وَلَا قطر الْقَلَم فِي الرَّد عَلَيْهِم وهم فريقان فريق لَا يتحاشى فِي إِظْهَار الحشو {وَيَحْسبُونَ أَنهم على شَيْء أَلا إِنَّهُم هم الْكَاذِبُونَ} وفريق يتستر بِمذهب السّلف لسحت يَأْكُلهُ أَو حطام يَأْخُذهُ أَو هوى يجمع عَلَيْهِ الطغام الجهلة والرعاع السفلة لعلمه أَن إِبْلِيس لَيْسَ لَهُ دأب إِلَّا خذلان أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلذَلِك لَا يجمع قُلُوب الْعَامَّة إِلَّا على بِدعَة وضلالة يهدم بهَا الدّين وَيفْسد بهَا الْيَقِين فَلم يسمع فِي التواريخ أَنه خزاه الله جمع غير خوارج أَو رافضة أَو ملاحدة أَو قرامطة وَأما السّنة وَالْجَمَاعَة فَلَا تَجْتَمِع إِلَّا على كتاب الله الْمُبين وحبله المتين وَفِي هَذَا الْفَرِيق من يكذب على السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَيَزْعُم أَنهم يَقُولُونَ بمقالته وَلَو أنْفق ملْء الأَرْض ذَهَبا مَا اسْتَطَاعَ أَن يروج عَلَيْهِم كلمة تصدق دَعْوَاهُ وتستر هَذَا الْفَرِيق بالسلف حفظا لرياسته والحطام الَّذِي يجتليه {يُرِيدُونَ أَن يأمنوكم ويأمنوا قَومهمْ} وَهَؤُلَاء يتحلون بالرياء والتقشف فيجعلون الروث مفضضا والكنيف مبيضا ويزهدون فِي الذّرة ليحصلوا الدرة
(أظهرُوا للنَّاس نسكا ... وعَلى المنقوش داروا)
وَمذهب السّلف إِنَّمَا هُوَ التَّوْحِيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه والمبتدعة تزْعم أَنَّهَا على مَذْهَب السّلف(9/36)
(وكل يدعونَ وصال ليلى ... وليلى لَا تقر لَهُم بذاكا)
وَكَيف يعْتَقد فِي السّلف أَنهم يَعْتَقِدُونَ التَّشْبِيه أَو يسكنون عِنْد ظُهُور أهل الْبدع وَقد قَالَ الله {وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتموا الْحق وَأَنْتُم تعلمُونَ} وَقَالَ الله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه} وَقَالَ الله تَعَالَى {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم}
وَلَقَد كَانَت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لَا يَخُوضُونَ فِي شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء لعلمهم أَن حفظ الدهماء أهم الْأُمُور مَعَ أَن سيوف حججهم مرهفة ورماحها مشحوذة وَلذَلِك لما نبغت الْخَوَارِج واثبهم حبر الْأمة وعالمها وابنا عَم رسولها أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب وَعبد الله بن عَبَّاس فاهتدى الْبَعْض بالمناظرة وأصر الْبَاقُونَ عنادا فتسلط عَلَيْهِم السَّيْف
(وَلَكِن حكم السَّيْف فِيكُم مسلط ... فنرضى إِذا مَا أصبح السَّيْف رَاضِيا)
وَكَذَلِكَ لما نبغ الْقدر وَنجم بِهِ معبد الْجُهَنِيّ قيض الله تَعَالَى لَهُ زاهد الْأمة(9/37)
وَابْن فاروقها عبد الله عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا وَلَو لم تنبغ هَاتَانِ البدعتان لما تَكَلَّمت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي رد هَذَا وَلَا إبِْطَال هَذَا وَلم يكن دأبهم إِلَّا الْحَث على التَّقْوَى والغزو وأفعال الْخَيْر وَلذَلِك لم ينْقل عَن سيد الْبشر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عَن أحد من أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم أَنه جمع النَّاس فِي مجمع عَام ثمَّ أَمرهم أَن يعتقدوا فِي الله تَعَالَى كَذَا وَكَذَا وَقد صدر ذَلِك فِي أَحْكَام شَتَّى وَإِنَّمَا تكلم فِيهَا بِمَا يفهمهُ الْخَاص وَلَا يُنكره الْعَام وَبِاللَّهِ أقسم يَمِينا برة مَا هِيَ مرّة بل ألف ألف مرّة أَن سيد الرُّسُل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقل أَيهَا النَّاس اعتقدوا أَن الله تَعَالَى فِي جِهَة الْعُلُوّ وَلَا قَالَ ذَلِك الْخُلَفَاء الراشدون وَلَا أحد من الصَّحَابَة بل تركُوا النَّاس وَأمر التعبدات وَالْأَحْكَام وَلَكِن لما ظَهرت الْبدع قمعها السّلف أما التحريك للعقائد والتشمير لإظهارها وَإِقَامَة ثائرها فَمَا فعلوا ذَلِك بل حسموا الْبدع عِنْد ظُهُورهَا
ثمَّ الحشوية إِذا بحثوا فِي مسَائِل أصُول الدّين مَعَ الْمُخَالفين تكلمُوا بالمعقول وتصرفوا فِي الْمَنْقُول فَإِذا وصلوا إِلَى الحشو تبلدوا وتأسوا فتراهم لَا يفهمون بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا بالعجمية كلا وَالله وَالله لَو فَهموا لهاموا وَلَكِن اعْترضُوا بَحر الْهوى فشقوه وعاموا وأسمعوا كل ذِي عقل ضَعِيف وذهن سخيف وخالفوا السّلف فِي الْكَفّ عَن ذَلِك مَعَ الْعَوام وَلَقَد كَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَضِي الله عَنهُ إِذا تكلم فِي علم التَّوْحِيد أخرج غير أَهله وَكَانُوا رَحِمهم الله تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ إِلَّا مَعَ أهل السّنة مِنْهُم إِذْ هِيَ قَاعِدَة أهل التَّحْقِيق وَكَانُوا يضنون بِهِ على الْأَحْدَاث وَقَالُوا الْأَحْدَاث(9/38)
هم المستقبلون الْأُمُور المبتدئون فِي الطَّرِيق فَلم يجربوا الْأُمُور وَلم يرسخ لَهُم فِيهَا قدم وَإِن كَانُوا أَبنَاء سبعين سنة
وَقَالَ سهل رَضِي الله عَنهُ لَا تطلعوا الْأَحْدَاث على الْأَسْرَار قبل تمكنهم من اعْتِقَاد أَن الْإِلَه وَاحِد وَأَن الموحد فَرد صَمد منزه عَن الْكَيْفِيَّة والأينية لَا تحيط بِهِ الأفكار وَلَا تكيفه الْأَلْبَاب وَهَذَا الْفَرِيق لَا يَكْتَفِي من إِيمَان النَّاس إِلَّا باعتقاد الْجِهَة وَكَأَنَّهُ لم يسمع الحَدِيث الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله) الحَدِيث
أَفلا يَكْتَفِي بِمَا اكْتفى بِهِ نَبِيّهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى إِنَّه يَأْمر الزمني بالخوض فِي بَحر لَا سَاحل لَهُ وَيَأْمُرهُمْ بالتفتيش عَمَّا لم يَأْمُرهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتفتيش عَنهُ وَلَا أحد من أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم لَا تنازل وَاكْتفى بِمَا نقل عَن إِمَامه الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ قَالَ لَا يُوسُف الله تَعَالَى إِلَّا بِمَا وصف بِهِ نَفسه أَو وَصفه بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نتجاوز الْقُرْآن والْحَدِيث ونعلم أَن مَا وصف الله بِهِ من ذَلِك فَهُوَ حق لَيْسَ فِيهِ لَغْو وَلَا أُحَاج بل مَعْنَاهُ يعرف من حَيْثُ يعرف مَقْصُود الْمُتَكَلّم بِكَلَامِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِك {لَيْسَ كمثله شَيْء} فِي نَفسه المقدسة الْمَذْكُورَة بأسمائه وَصِفَاته وَلَا فِي أَفعاله فَكَانَ يَنْبَغِي أَن الله سُبْحَانَهُ لَهُ ذَات حَقِيقِيَّة وأفعال حَقِيقِيَّة وَكَذَلِكَ لَهُ صِفَات حَقِيقِيَّة وَهُوَ {لَيْسَ كمثله شَيْء} لَا فِي ذَاته وَلَا فِي صِفَاته وَلَا فِي أَفعاله وكل مَا أوجب نقصا أَو حدوثا فَإِن الله عز وَجل منزه عَنهُ حَقِيقَة فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَحقّ للكمال الَّذِي لَا غَايَة فَوْقه وممتنع عَلَيْهِ الْحُدُوث(9/39)
لِامْتِنَاع الْعَدَم عَلَيْهِ واستلزام الْحُدُوث سَابِقَة الْعَدَم وافتقار الْمُحدث إِلَى مُحدث وَوُجُوب وجوده بِنَفسِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا نَص إِمَامه فَهَلا اكْتفى بِهِ
وَلَقَد أُتِي إِمَامه فِي هَذَا الْمَكَان بجوامع الْكَلم وسَاق أَدِلَّة الْمُتَكَلِّمين على مَا يَدعِيهِ هَذَا المارق بِأَحْسَن رد وأوضح معَان مَعَ أَنه لم يَأْمر بِمَا أَمر هَذَا الْفَرِيق
وَقد قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ سَأَلت مَالِكًا عَن التَّوْحِيد فَقَالَ محَال أَن نظن بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه علم أمته الِاسْتِنْجَاء وَلم يعلمهُمْ التَّوْحِيد وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله) الحَدِيث فَبين مَالك رَضِي الله عَنهُ أَن الْمَطْلُوب من النَّاس فِي التَّوْحِيد هُوَ مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث وَلم يقل من التَّوْحِيد اعْتِقَاد أَن الله تَعَالَى فِي جِهَة الْعُلُوّ
وَسُئِلَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ عَن صِفَات الله فَقَالَ حرَام على الْعُقُول أَن تمثل الله تَعَالَى وعَلى الأوهام أَن تحد وعَلى الظنون أَن تقطع وعَلى النُّفُوس أَن تفكر وعَلى الضمائر أَن تعمق وعَلى الخواطر أَن تحيط إِلَّا مَا وصف بِهِ نَفسه على لِسَان نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَمن تقصى وفتش وَبحث وجد أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالتَّابِعِينَ والصدر الأول لم يكن دأبهم غير الْإِمْسَاك عَن الْخَوْض فِي هَذِه الْأُمُور وَترك ذكرهَا فِي الْمشَاهد وَلم يَكُونُوا يدسونها إِلَى الْعَوام وَلَا يَتَكَلَّمُونَ بهَا على المنابر وَلَا يوقعون فِي قُلُوب النَّاس مِنْهَا هواجس كالحريق المشعل وَهَذَا مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ من سيرهم وعَلى ذَلِك بنينَا عقيدتنا وأسسنا نحلتنا وسيظهر لَك إِن شَاءَ الله تَعَالَى موافقتنا للسلف وَمُخَالفَة الْمُخَالف طريقتهم وَإِن ادّعى الِاتِّبَاع فَمَا سالك غير الابتداع(9/40)
وَقَول الْمُدَّعِي إِنَّهُم أظهرُوا هَذَا وَيَقُول علم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل شَيْء حَتَّى الخرأة وَمَا علم هَذَا المهم هَذَا بهرج لَا يمشي على الصَّيْرَفِي النقاد أَو مَا علم أَن الخرأة يحْتَاج إِلَيْهَا كل وَاحِد وَرُبمَا تَكَرَّرت الْحَاجة إِلَيْهَا فِي الْيَوْم مَرَّات وَأي حَاجَة بالعوام إِلَى الْخَوْض فِي الصِّفَات نعم الَّذِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من التَّوْحِيد قد تبين فِي حَدِيث (أمرت أَن أقَاتل النَّاس) ثمَّ هَذَا الْكَلَام من الْمُدَّعِي يهدم بُنْيَانه ويهد أَرْكَانه فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علم الخرأة تَصْرِيحًا وَمَا علم النَّاس أَن الله تَعَالَى فِي جِهَة الْعُلُوّ وَمَا ورد من الْعَرْش وَالسَّمَاء فِي الاسْتوَاء قد بنى الْمُدَّعِي مبناه وأوثق عرى دَعْوَاهُ على أَن المُرَاد بهما شَيْء وَاحِد وَهُوَ جِهَة الْعُلُوّ فَمَا قَالَه هَذَا الْمُدَّعِي لم يُعلمهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته وعلمهم الخرأة فَعِنْدَ الْمُدَّعِي يجب تَعْلِيم الْعَوام حَدِيث الْجِهَة وَمَا علمهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما نَحن فَالَّذِي نقُوله أَنه لَا يخاض فِي مثل هَذَا ويسكت عَنهُ كَمَا سكت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه ويسعنا مَا وسعهم وَلذَلِك لم يُوجد منا أحد يَأْمر الْعَوام بِشَيْء من الْخَوْض فِي الصِّفَات وَالْقَوْم وَقد جعلُوا دأبهم الدُّخُول فِيهَا وَالْأَمر بهَا فليت شعري من الْأَشْبَه بالسلف
وَهَا نَحن تذكر عقيدة أهل السّنة فَنَقُول
عقيدتنا أَن الله قديم أزلي لَا يشبه شَيْئا وَلَا يُشبههُ شَيْء لَيْسَ لَهُ جِهَة وَلَا مَكَان وَلَا يجْرِي عَلَيْهِ وَقت وَلَا زمَان وَلَا يُقَال لَهُ أَيْن وَلَا حَيْثُ يرى لَا عَن مُقَابلَة وَلَا على مُقَابلَة كَانَ وَلَا مَكَان كَون الْمَكَان ودبر الزَّمَان وَهُوَ الْآن على مَا عَلَيْهِ كَانَ
هَذَا مَذْهَب أهل السّنة وعقيدة مَشَايِخ الطَّرِيق رَضِي الله عَنْهُم(9/41)
قَالَ الْجُنَيْد رَضِي الله عَنهُ مَتى يتَّصل من لَا شَبيه لَهُ وَلَا نَظِير لَهُ بِمن لَهُ شَبيه وَنَظِير
وكما قيل ليحيى بن معَاذ الرَّازِيّ أخبرنَا عَن الله عز وَجل قَالَ إِلَه وَاحِد فَقيل لَهُ كَيفَ هُوَ فَقَالَ مَالك قَادر
فَقيل لَهُ أَيْن هُوَ فَقَالَ بالمرصاد
فَقَالَ السَّائِل لم أَسأَلك عَن هَذَا فَقَالَ مَا كَانَ غير هَذَا كَانَ صفة الْمَخْلُوق فَأَما صفته فَمَا أخْبرت عَنهُ
وكما سَأَلَ ابْن شاهين الْجُنَيْد رَضِي الله عَنْهُمَا عَن معنى مَعَ فَقَالَ مَعَ على مَعْنيين مَعَ الْأَنْبِيَاء بالنصرة والكلاءة قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى} وَمَعَ الْعَالم بِالْعلمِ والإحاطة قَالَ الله تَعَالَى {مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم} فَقَالَ ابْن شاهين مثلك يصلح دَالا للْأمة على الله
وَسُئِلَ ذُو النُّون الْمصْرِيّ رَضِي الله عَنهُ عَن قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} فَقَالَ أثبت ذَاته وَنفى مَكَانَهُ فَهُوَ مَوْجُود بِذَاتِهِ والأشياء بِحِكْمَتِهِ كَمَا شَاءَ
وَسُئِلَ عَنهُ الشبلي رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ الرَّحْمَن لم يزل وَالْعرش مُحدث وَالْعرش بالرحمن اسْتَوَى
وَسُئِلَ عَنْهَا جَعْفَر بن نصير فَقَالَ اسْتَوَى علمه بِكُل شَيْء وَلَيْسَ شَيْء أقرب إِلَيْهِ من شَيْء
وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ من زعم أَن الله فِي شَيْء أَو من شَيْء أَو على شَيْء(9/42)
فقد أشرك إِذْ لَو كَانَ فِي شَيْء لَكَانَ محصورا وَلَو كَانَ على شَيْء لَكَانَ مَحْمُولا وَلَو كَانَ من شَيْء لَكَانَ مُحدثا
وَقَالَ مُحَمَّد بن مَحْبُوب خَادِم أبي عُثْمَان المغربي قَالَ لي أَبُو عُثْمَان المغربي يَوْمًا يَا مُحَمَّد لَو قَالَ لَك قَائِل أَيْن معبودك أيش تَقول قلت أَقُول حَيْثُ لم يزل
قَالَ فَإِن قَالَ فَأَيْنَ كَانَ فِي الْأَزَل أيش تَقول قلت حَيْثُ هُوَ الْآن
يَعْنِي أَنه كَانَ وَلَا مَكَان فَهُوَ الْآن كَمَا كَانَ قَالَ فارتضى ذَلِك مني وَنزع قَمِيصه وأعطانيه
وَقَالَ أَبُو عُثْمَان المغربي كنت أعتقد شَيْئا من حَدِيث الْجِهَة فَلَمَّا قدمت بَغْدَاد زَالَ ذَلِك عَن قلبِي فَكتبت إِلَى أَصْحَابِي بِمَكَّة أَنِّي أسلمت جَدِيدا
قَالَ فَرجع كل من كَانَ تَابعه عَن ذَلِك
فَهَذِهِ كَلِمَات أَعْلَام أهل التَّوْحِيد وأئمة جُمْهُور الْأمة سوى هَذِه الشرذمة الزائغة وكتبهم طافحة بذلك وردهم على هَذِه النازغة لَا يكَاد يحصر وَلَيْسَ عرضا بذلك تقليدهم لمنع ذَلِك فِي أصُول الديانَات بل إِنَّمَا ذكرت ذَلِك ليعلم أَن مَذْهَب أهل السّنة مَا قدمْنَاهُ
ثمَّ إِن قَوْلنَا إِن آيَات الصِّفَات وأخبارها على من يسْمعهَا وظائف التَّقْدِيس وَالْإِيمَان بِمَا جَاءَ عَن الله تَعَالَى وَعَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مُرَاد الله تَعَالَى وَمُرَاد رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والتصديق وَالِاعْتِرَاف بِالْعَجزِ وَالسُّكُوت والإمساك عَن التَّصَرُّف فِي الْأَلْفَاظ الْوَارِدَة وكف الْبَاطِن عَن التفكر فِي ذَلِك واعتقاد أَن مَا خَفِي عَلَيْهِ مِنْهَا لم يخف عَن الله وَلَا عَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَيَأْتِي شرح هَذِه الوضائف إِن شَاءَ الله تَعَالَى فليت شعري فِي أَي شَيْء نخالف السّلف هَل هُوَ فِي قَوْلنَا كَانَ وَلَا مَكَان أَو فِي قَوْلنَا إِنَّه تَعَالَى كَون الْمَكَان أَو فِي قَوْلنَا وَهُوَ الْآن على مَا عَلَيْهِ كَانَ(9/43)
أَو فِي قَوْلنَا تقدس الْحق عَن الجسمية ومشابهتها أَو فِي قَوْلنَا يجب تَصْدِيق مَا قَالَه الله تَعَالَى وَرَسُوله بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَ أَو فِي قَوْلنَا يجب الِاعْتِرَاف بِالْعَجزِ أَو فِي قَوْلنَا نسكت عَن السُّؤَال والخوض فِيمَا لَا طَاقَة لنا بِهِ أَو فِي قَوْلنَا يجب إمْسَاك اللِّسَان عَن تَغْيِير الظَّوَاهِر بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان
وليت شعري فِي مَاذَا وافقوا هم السّلف هَل فِي دُعَائِهِمْ إِلَى الْخَوْض فِي هَذَا والحث على الْبَحْث مَعَ الْأَحْدَاث الغرين والعوام الطغام الَّذين يعجزون عَن غسل مَحل النجو وَإِقَامَة دعائم الصَّلَاة أَو وافقوا السّلف فِي تَنْزِيه الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن الْجِهَة وَهل سمعُوا فِي كتاب الله أَو أثارة من علم عَن السّلف أَنهم وصفوا الله تَعَالَى بِجِهَة الْعُلُوّ وَأَن كل مَالا يصفه بِهِ فَهُوَ ضال مضل من فراخ الفلاسفة والهنود واليونان {انْظُر كَيفَ يفترون على الله الْكَذِب وَكفى بِهِ إِثْمًا مُبينًا}
وَنحن الْآن نبتدئ بإفساد مَا ذكره ثمَّ بعد ذَلِك نُقِيم الْحجَّة على نفي الْجِهَة والتشبيه وعَلى جَمِيع مَا يَدعِيهِ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان فَأَقُول
ادّعى أَولا أَنه يَقُول بِمَا قَالَ الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم ثمَّ إِنَّه قَالَ مَا لم يقلهُ الله وَلَا رَسُوله وَلَا السَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَلَا شَيْئا مِنْهُ فَأَما الْكتاب وَالسّنة فسنبين مُخَالفَته لَهما وَأما السَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فَذكره لَهُم فِي هَذَا الْموضع اسْتِعَارَة للتهويل وَإِلَّا فَهُوَ لم يُورد من أَقْوَالهم كلمة وَاحِدَة لَا نفيا وَلَا إِثْبَاتًا وَإِذا تصفحت كَلَامه عرفت ذَلِك اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون مُرَاده بالسابقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار مَشَايِخ عقيدته دون الصَّحَابَة(9/44)
وَأخذ بعد هَذِه الدَّعْوَى فِي مدحه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي مدح دينه وَأَن أَصْحَابه أعلم النَّاس بذلك وَالْأَمر كَمَا قَالَه وَفَوق مَا قَالَه وَكَيف المدائح تستوفي مناقبه وَلَكِن كَلَامه كَمَا قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ كلمة حق أُرِيد بهَا بَاطِل
ثمَّ أَخذ بعد ذَلِك فِي ذمّ الْأَئِمَّة وأعلام الْأمة حَيْثُ اعْتَرَفُوا بِالْعَجزِ عَن إِدْرَاكه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ أَن سيد الرُّسُل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك) وَقَالَ الصّديق رَضِي الله عَنهُ الْعَجز عَن دَرك الْإِدْرَاك إِدْرَاك وتجاسر الْمُدَّعِي على دَعْوَى الْمعرفَة وَأَن ابْن الْحيض قد عرف الْقَدِيم على مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَا غرور وَلَا جهل أعظم مِمَّن يَدعِي ذَلِك فنعوذ بِاللَّه من الخذلان
ثمَّ أَخذ بعد ذَلِك فِي نِسْبَة مَذْهَب جُمْهُور أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَنه مَذْهَب فراخ الفلاسفة وَأَتْبَاع اليونان والهنود {ستكتب شَهَادَتهم ويسألون}
ثمَّ قَالَ كتاب الله تَعَالَى من أَوله إِلَى آخِره وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَولهَا إِلَى آخرهَا ثمَّ عَامَّة كَلَام الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ثمَّ كَلَام سَائِر الْأَئِمَّة مَمْلُوء بِمَا هُوَ إِمَّا نَص وَإِمَّا ظَاهر فِي الله تَعَالَى أَنه فَوق كل شَيْء وعَلى كل شَيْء وَأَنه فَوق الْعَرْش وَأَنه فَوق السَّمَاء
وَقَالَ فِي أثْنَاء كَلَامه وأواخر مَا زَعمه إِنَّه فَوق الْعَرْش حَقِيقَة
وَقَالَهُ فِي مَوضِع آخر عَن السّلف فليت شعري أَيْن هَذَا فِي كتاب الله تَعَالَى على هَذِه الصُّورَة الَّتِي نقلهَا عَن كتاب ربه وَسنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهل فِي كتاب الله تَعَالَى كلمة مِمَّا قَالَه حَتَّى يَقُول إِنَّه فِي نَص وَالنَّص هُوَ الَّذِي لَا يحْتَمل التَّأْوِيل أَلْبَتَّة وَهَذَا مُرَاده فَإِنَّهُ جعله غير الظَّاهِر لعطفه لَهُ عَلَيْهِ وَأي آيَة فِي كتاب الله تَعَالَى نَص بِهَذَا الِاعْتِبَار فَأول مَا اسْتدلَّ بِهِ قَوْله تَعَالَى {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب} فليت(9/45)
شعري أَي نَص فِي الْآيَة أَو ظَاهر على أَن الله تَعَالَى فِي السَّمَاء أَو على الْعَرْش ثمَّ نِهَايَة مَا يتَمَسَّك بِهِ أَنه يدل على علو يفهم من الصعُود وهيهات زل حمَار الْعلم فِي الطين فَإِن الصعُود فِي الْكَلَام كَيفَ يكون حَقِيقَة مَعَ أَن الْمَفْهُوم فِي الْحَقَائِق أَن الصعُود مَا صِفَات الْأَجْسَام فَلَيْسَ المُرَاد إِلَّا الْقبُول وَمَعَ هَذَا لَا حد وَلَا مَكَان
وأتبعها بقوله تَعَالَى {إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَيّ} وَمَا أَدْرِي من أَيْن استنبط من هَذَا الْخَبَر أَن الله تَعَالَى فَوق الْعَرْش من هَذِه الْآيَة هَل ذَلِك بِدلَالَة الْمُطَابقَة أَو التضمن أَو الِالْتِزَام أَو هُوَ شَيْء أَخذه بطرِيق الْكَشْف والنفث فِي الروع وَلَعَلَّه اعْتقد أَن الرّفْع إِنَّمَا يكون فِي الْعُلُوّ فِي الْجِهَة فَإِن كَانَ كَمَا خطر لَهُ فَذَاك أَيْضا لَا يعقل إِلَّا فِي الجسمية والحدية وَإِن لم يقل بهما فَلَا حَقِيقَة فِيمَا اسْتدلَّ بِهِ وَإِن قَالَ بهما فَلَا حَاجَة إِلَى المغالطة وَلَعَلَّه لم يسمع الرّفْع فِي الْمرتبَة والتقريب فِي المكانة من اسْتِعْمَال الْعَرَب وَالْعرْف وَلَا فلَان رفع الله شَأْنه
وأتبع ذَلِك قَوْله {أأمنتم من فِي السَّمَاء أَن يخسف بكم الأَرْض} وَخص هَذَا الْمُسْتَدلّ من بِاللَّه تَعَالَى وَلَعَلَّه لم يجوز أَن المُرَاد بِهِ مَلَائِكَة الله تَعَالَى وَلَعَلَّه يَقُول إِن الْمَلَائِكَة لَا تفعل ذَلِك وَلَا أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام خسف بِأَهْل سدوم فَلذَلِك اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة ولعلها هِيَ النَّص الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ
وَأتبعهُ بقوله تَعَالَى {تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ} والعروج والصعود شَيْء وَاحِد وَلَا دلَالَة فِي الْآيَة على أَن العروج إِلَى سَمَاء وَلَا عرش وَلَا شَيْء من الْأَشْيَاء الَّتِي(9/46)
ادَّعَاهَا بِوَجْه من الْوُجُوه لِأَن حَقِيقَته المستعملة فِي لُغَة الْعَرَب فِي الِانْتِقَال فِي حق الْأَجْسَام إِذْ لَا تعرف الْعَرَب إِلَّا ذَلِك فليت لَو أظهره واستراح من كِتْمَانه
وأردفه بقوله تَعَالَى {يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم} وَتلك أَيْضا لَا دلَالَة لَهُ فِيهَا عَن سَمَاء وَلَا عرش وَلَا أَنه فِي شَيْء من ذَلِك حَقِيقَة
ثمَّ الْفَوْقِيَّة ترد لمعنيين
أَحدهمَا نِسْبَة جسم إِلَى جسم بِأَن يكون أَحدهمَا أَعلَى وَالْآخر أَسْفَل بِمَعْنى أَن أَسْفَل الْأَعْلَى من جَانب رَأس الْأَسْفَل وَهَذَا لَا يَقُول بِهِ من لَا يجسم وَبِتَقْدِير أَن يكون هُوَ المُرَاد وَأَنه تَعَالَى لَيْسَ لجسم فَلم لَا يجوز أَن يكون {من فَوْقهم} صلَة ل {يخَافُونَ} وَيكون تَقْدِير الْكَلَام يخَافُونَ من فَوْقهم رَبهم
أَي أَن الْخَوْف من جِهَة الْعُلُوّ وَأَن الْعَذَاب يَأْتِي من تِلْكَ الْجِهَة
وَثَانِيهمَا بِمَعْنى الْمرتبَة كَمَا يُقَال الْخَلِيفَة فَوق السُّلْطَان وَالسُّلْطَان فَوق الْأَمِير
وكما يُقَال جلس فلَان فَوق فلَان وَالْعلم فَوق الْعَمَل والصباغة فَوق الدباغة
وَقد وَقع ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى حَيْثُ قَالَ {ورفعنا بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات} وَلم يطلع أحدهم على أكتاف الآخر وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّا فَوْقهم قاهرون} وَمَا ركبت القبط أكتاف بني إِسْرَائِيل وَلَا ظُهُورهمْ
وَأَرْدَفَ ذَلِك بقوله تَعَالَى {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} وَورد هَذَا فِي كتاب الله فِي سِتَّة مَوَاضِع من كِتَابه وَهِي عُمْدَة المشبهة وَأقوى معتمدهم حَتَّى إِنَّهُم كتبوها على بَاب جَامع همذان فلصرف الْعِنَايَة إِلَى إيضاحها فَنَقُول(9/47)
إِمَّا أَنهم يعزلون الْعقل بِكُل وَجه وَسبب وَلَا يلتفتون إِلَى مَا سمي فهما وإدراكا فمرحبا بفعلهم وَبقول {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} وَإِن تعدوا هَذَا إِلَى أَنه مستو على الْعَرْش فَلَا حبا وَلَا كَرَامَة فَإِن الله تَعَالَى مَا قَالَه مَعَ أَن عُلَمَاء الْبَيَان كالمتفقين على أَن فِي اسْم الْفَاعِل من الثُّبُوت مَا لَا يفهم من الْفِعْل
وَإِن قَالُوا هَذَا يدل على أَنه فَوْقه فقد تركُوا مَا التزموه وبالغوا فِي التَّنَاقُض والتشهي والجرأة
وَإِن قَالُوا بل نبقي الْعقل ونفهم مَا هُوَ المُرَاد فَنَقُول لَهُم مَا هُوَ الاسْتوَاء فِي كَلَام الْعَرَب فَإِن قَالُوا الْجُلُوس والاستقرار قُلْنَا هَذَا مَا تعرفه الْعَرَب إِلَّا فِي الْجِسْم فَقولُوا يَسْتَوِي جسم على الْعَرْش
وَإِن قَالُوا جُلُوس واستقرار نسبته إِلَى ذَات الله تَعَالَى كنسبة الْجُلُوس إِلَى الْجِسْم
فالعرب لَا تعرف هَذَا حَتَّى يكون هُوَ الْحَقِيقَة ثمَّ الْعَرَب تفهم اسْتِوَاء الْقدح الَّذِي هُوَ ضد الاعوجاج فوصفوه بذلك وتبرءوا مَعَه من التجسيم وسدوا بَاب الْحمل على غير الْجُلُوس وَلَا يسدونه فِي قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم} وَقَوله تَعَالَى {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} وَلَا تَقولُوا مَعَهم بِالْعلمِ
وَإِن قُلْتُمْ ذَلِك فَلم تحلونه عَاما وتحرمونه عَاما وَمن أَيْن لكم أَن لَيْسَ الاسْتوَاء فعلا من أَفعاله تَعَالَى فِي الْعَرْش فَإِن قَالُوا لَيْسَ هَذَا كَلَام الْعَرَب
قُلْنَا وَلَا كَلَام الْعَرَب اسْتَوَى بِالْمَعْنَى الَّذِي تقولونه بِلَا جسم
وَلَقَد رام الْمُدَّعِي التفلت من شرك التجسيم بِمَا زَعمه من أَن الله تَعَالَى فِي جِهَة(9/48)
وَأَنه اسْتَوَى على الْعَرْش اسْتِوَاء يَلِيق بجلاله
فَنَقُول لَهُ قد صرت الْآن إِلَى قَوْلنَا فِي الاسْتوَاء وَأما الْجِهَة فَلَا تلِيق بالجلال
وَأخذ على الْمُتَكَلِّمين قَوْلهم إِن الله تَعَالَى لَو كَانَ فِي جِهَة فإمَّا أَن يكون أكبر أَو أَصْغَر أَو مُسَاوِيا وكل ذَلِك محَال
قَالَ فَلم يفهموا من قَول الله تَعَالَى {على الْعَرْش} إِلَّا مَا يثبتون لأي جسم كَانَ على أَي جسم كَانَ
قَالَ وَهَذَا اللَّازِم تَابع لهَذَا الْمَفْهُوم وَأما اسْتِوَاء يَلِيق بِجلَال الله فَلَا يلْزمه شَيْء من اللوازم
فَنَقُول لَهُ أتميميا مرّة وقيسيا أُخْرَى إِذا قلت اسْتَوَى اسْتِوَاء يَلِيق بِجلَال الله فَهُوَ مَذْهَب الْمُتَكَلِّمين وَإِن قلت اسْتِوَاء هُوَ اسْتِقْرَار واختصاص بِجِهَة دون أُخْرَى لم يجد ذَلِك تخلصا من الترديد الْمَذْكُور والاستواء بِمَعْنى الِاسْتِيلَاء
وَأشْهد لَهُ فِي هَذِه الْآيَة أَنَّهَا لم ترد قطّ إِلَّا فِي إِظْهَار العظمة وَالْقُدْرَة وَالسُّلْطَان وَالْملك وَالْعرب تكني بذلك عَن الْملك فَيَقُولُونَ فلَان اسْتَوَى على كرْسِي المملكة وَإِن لم يكن جلس عَلَيْهِ مرّة وَاحِدَة ويريدون بذلك الْملك
وَأما قَوْلهم فَإِن حملتم الاسْتوَاء على الِاسْتِيلَاء لم يبْق لذكر الْعَرْش فَائِدَة فَإِن ذَلِك فِي حق كل الْمَخْلُوقَات فَلَا يخْتَص بالعرش
فَالْجَوَاب عَنهُ أَن كل الموجودات لما حواها الْعَرْش كَانَ الِاسْتِيلَاء عَلَيْهِ اسْتِيلَاء على جَمِيعهَا وَلَا كَذَلِك غير وَأَيْضًا فكناية الْعَرَب السَّابِقَة ترجحه وَقد تقدم الْكَلَام عَن السّلف فِي معنى الاسْتوَاء كجعفر الصَّادِق وَمن تقدم
وَقَوْلهمْ اسْتَوَى بمنى استولى إِنَّمَا يكون فِيمَا يدافع عَلَيْهِ
قُلْنَا واستوى بمنى جلس أَيْضا إِنَّمَا يكون فِي جسم وَأَنْتُم قد قُلْتُمْ إِنَّكُم لَا تَقولُونَ بِهِ وَلَو وصفوه تَعَالَى(9/49)
بالاستواء على الْعَرْش لما أَنْكَرْنَا عَلَيْهِم ذَلِك بل نعدهم إِلَى مَا يشبه التَّشْبِيه أَو هُوَ التَّشْبِيه الْمَحْذُور وَالله الْمُوفق
وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى حِكَايَة عَن فِرْعَوْن {يَا هامان ابْن لي صرحا لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَاوَات فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى} فليت شعري كَيفَ فهم من كَلَام فِرْعَوْن أَن الله تَعَالَى فَوق السَّمَوَات وَفَوق الْعَرْش يطلع إِلَى إِلَه مُوسَى أما أَن إِلَه مُوسَى فِي السَّمَوَات فَمَا ذكره وعَلى تَقْدِير فهم ذَلِك من كَلَام فِرْعَوْن فَكيف يسْتَدلّ بِظَنّ فِرْعَوْن وفهمه مَعَ إِخْبَار الله تَعَالَى عَنهُ أَنه زين لَهُ سوء علمه وَأَنه حاد عَن سَبِيل الله عز وَجل وَأَن كَيده فِي ضلال مَعَ أَنه لما سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ وَمَا رب السَّمَوَات لم يتَعَرَّض مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام للجهة بل لم يذكر إِلَّا أخص بِالصِّفَاتِ وَهِي الْقُدْرَة على الاختراع وَلَو كَانَت الْجِهَة ثَابِتَة لَكَانَ التَّعْرِيف بهَا أولى فَإِن الْإِشَارَة الحسية من أقوى المعرفات حسا وَعرفا وَفرْعَوْن سَأَلَ بِلَفْظَة مَا فَكَانَ الْجَواب بالتحيز أولى من الصّفة وَغَايَة مَا فهمه من هَذِه الْآيَة وَاسْتدلَّ بِهِ فهم فِرْعَوْن فَيكون عُمْدَة هَذِه العقيدة كَون فِرْعَوْن ظَنّهَا فَيكون هُوَ مستندها فليت شعري لم لَا ذكر النِّسْبَة إِلَيْهِ كَمَا ذكر أَن عقيدة سَادَات أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذين خالفوا اعْتِقَاده فِي مَسْأَلَة التحيز والجهة الَّذين ألحقهم بالجهمية مُتَلَقَّاة من لبيد بن الأعصم الْيَهُودِيّ الَّذِي سحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(9/50)
وَختم الْآيَات الْكَرِيمَة بالاستدلال بقوله {تَنْزِيل من حَكِيم حميد} {منزل من رَبك بِالْحَقِّ} وَمَا فِي الْآيَتَيْنِ لَا عرش وَلَا كرْسِي وَلَا سَمَاء وَلَا أَرض بل مَا فيهمَا إِلَّا مُجَرّد التَّنْزِيل وَمَا أَدْرِي من أَي الدلالات استنبطها الْمُدَّعِي فَإِن السَّمَاء لَا تفهم من التَّنْزِيل فَإِن التَّنْزِيل قد يكون من السَّمَاء وَقد يكون من غَيرهَا وَلَا تَنْزِيل الْقُرْآن كَيفَ يفهم مِنْهُ النُّزُول الَّذِي هُوَ انْتِقَال من فَوق إِلَى أَسْفَل فَإِن الْعَرَب لَا تفهم ذَلِك فِي كَلَام سَوَاء كَانَ من عرض أَو غير عرض وكما تطلق الْعَرَب النُّزُول على الِانْتِقَال تطلقه على غَيره كَمَا جَاءَ فِي كِتَابه الْعَزِيز {وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد} قَوْله تَعَالَى {وَأنزل لكم من الْأَنْعَام ثَمَانِيَة أَزوَاج} وَلم ير أحد قطّ قِطْعَة حَدِيد نازلة من السَّمَاء فِي الْهَوَاء وَلَا جملا يحلق من السَّمَاء إِلَى الأَرْض فَكَمَا جوز هُنَا أَن النُّزُول غير الِانْتِقَال من الْعُلُوّ إِلَى السّفل فليجوزه هُنَاكَ
هَذَا آخر مَا اسْتدلَّ بِهِ من الْكتاب الْعَزِيز وَقد ادّعى أَولا أَنه يَقُول مَا قَالَه الله وَأَن مَا ذكره من الْآيَات دَلِيل على قَوْله إِمَّا نصا وَإِمَّا ظَاهرا وَأَنت إِذا رَأَيْت مَا ادَّعَاهُ(9/51)
وأمعنت النّظر فِيمَا قُلْنَاهُ واستقريت هَذِه الْآيَات لم تَجِد فِيهَا كلمة على وفْق مَا قَالَه أَولا وَلَا نصا وَلَا ظَاهرا أَلْبَتَّة وكل أَمر بعد كتاب الله تَعَالَى وَالدَّعْوَى عَلَيْهِ خلل
ثمَّ اسْتدلَّ من السّنة بِحَدِيث الْمِعْرَاج وَلم يرد فِي حَدِيث الْمِعْرَاج أَن الله فَوق السَّمَاء أَو فَوق الْعَرْش حَقِيقَة وَلَا كلمة وَاحِدَة من ذَلِك وَهُوَ لم يسْرد حَدِيث الْمِعْرَاج وَلَا بَين الدّلَالَة مِنْهُ حَتَّى نجيب عَنهُ فَإِن بَين وَجه الِاسْتِدْلَال عَرفْنَاهُ كَيفَ الْجَواب
وَاسْتدلَّ بنزول الْمَلَائِكَة من عِنْد الله تَعَالَى وَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَن نزُول الْمَلَائِكَة من السَّمَاء إِنَّمَا كَانَ لِأَن السَّمَاء مقرهم والعندية لَا تدل على أَن الله فِي السَّمَاء لِأَنَّهُ يُقَال فِي الرُّسُل الْآدَمِيّين إِنَّهُم من عِنْد الله وَإِن لم يَكُونُوا نزلُوا من السَّمَاء على أَن العندية قد يُرَاد بهَا الشّرف والرتبة قَالَ الله تَعَالَى {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب} وتستعمل فِي غير ذَلِك كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِكَايَة عَن ربه عز وَجل (أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي)
وَذكر عروج الْمَلَائِكَة وَقد سبق وَرُبمَا شدّ فقار ظَهره وقوى منَّة منته بِلَفْظَة {إِلَى رَبهم} وَأَن {إِلَى} لانْتِهَاء الْغَايَة وَأَنَّهَا فِي قطع الْمسَافَة وَإِذا سكت عَن هَذَا لم يتَكَلَّم بِكَلَام الْعَرَب فَإِن الْمسَافَة لَا تفهم الْعَرَب مِنْهَا إِلَّا مَا تنْتَقل فِيهِ الْأَجْسَام وَهُوَ يَقُول إِنَّهُم لَا يَقُولُونَ بذلك وَقد قَالَ الْخَلِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي} وَلَيْسَ المُرَاد بذلك الِانْتِهَاء الَّذِي عناه الْمُدَّعِي بالِاتِّفَاقِ فَلم يجترئ على ذَلِك فِي كتاب الله تَعَالَى وَلَا يُجَاب بِهِ فِي خبر الْوَاحِد
وَذكر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَلا تأمنوني وَأَنا أَمِين من فِي السَّمَاء يأتيني خبر من فِي السَّمَاء صباحا وَمَسَاء) وَلَيْسَ المُرَاد بِمن هُوَ الله تَعَالَى وَلَا ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك وَلَا خصّه بِهِ وَمن أَيْن للْمُدَّعِي أَنه لَيْسَ المُرَاد بِمن(9/52)
الْمَلَائِكَة فَإِنَّهُم أكبر الْمَخْلُوقَات علما بِاللَّه تَعَالَى وأشدهم اطلاعا على الْقرب وهم يعلمُونَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمِين وَهُوَ عِنْدهم فِي هَذِه الرُّتْبَة فَليعلم الْمُدَّعِي أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يَنْفِي هَذَا وَلَا مَا يثبت مَا ادَّعَاهُ
ثمَّ ذكر حَدِيث الرّقية (رَبنَا الله الَّذِي فِي السَّمَاء تقدس اسْمك أَمرك فِي السَّمَاء وَالْأَرْض كَمَا رزقك فِي السَّمَاء) الحَدِيث
وَهَذَا الحَدِيث بِتَقْدِير ثُبُوته فَالَّذِي ذكره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ (رَبنَا الَّذِي فِي السَّمَاء تقدس اسْمك) مَا سكت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على فِي السَّمَاء فلأي معنى نقف نَحن عَلَيْهِ ونجعل تقديس اسْمك كلَاما مستأنفا هَل فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَكَذَا أَو أَمر بِهِ وَعند ذَلِك لَا يجد الْمُدَّعِي مخلصا إِلَّا أَن يَقُول الله تقدس اسْمه فِي السَّمَاء وَالْأَرْض فَلم خصصت السَّمَاء بِالذكر فَنَقُول لَهُ مَا معنى تقدس إِن كَانَ المُرَاد بِهِ التَّنْزِيه من حَيْثُ هُوَ تَنْزِيه فَذَلِك لَيْسَ فِي سَمَاء وَلَا أَرض إِذْ التَّنْزِيه نفي النقائص وَذَلِكَ لَا تعلق لَهُ بجرباء وَلَا غبراء فَإِن المُرَاد أَن الْمَخْلُوقَات تقدس وتعترف بالتنزيه فَلَا شكّ أَن أهل السَّمَاء مطبقون على تنزيهه تَعَالَى كَمَا أَنه لَا شكّ أَن فِي أهل الأَرْض من لم ينزه وَجعل لَهُ ندا وَوَصفه بِمَا لَا يَلِيق بجلاله فَيكون تَخْصِيص السَّمَاء بِذكر التَّقْدِيس فِيهَا لانفراد أَهلهَا بالإطباق على التَّنْزِيه كَمَا أَنه سُبْحَانَهُ لما انْفَرد فِي الْملك فِي يَوْم الدّين عَمَّن يتَوَهَّم ملكه خصصه بقوله تَعَالَى {مَالك يَوْم الدّين} وكما قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد دمار من ادّعى الْملك وَالْملك {لمن الْملك الْيَوْم لله الْوَاحِد القهار}
وَأعَاد هَذَا الْمُدَّعِي الحَدِيث من أَوله وَوصل إِلَى أَن قَالَ فَلْيقل رَبنَا الَّذِي فِي السَّمَاء(9/53)
قَالَ وَذكره ووقف على قَوْله فِي السَّمَاء فليت شعري هَل جوز أحد من الْعلمَاء أَن يفعل مثل هَذَا وَهل هَذَا إِلَّا مُجَرّد إِيهَام أَن سيد الْمُرْسلين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلَيْهِم قَالَ (رَبنَا الله فِي السَّمَاء)
وَأما حَدِيث الأوعال وَمَا فِيهِ من قَوْله (وَالْعرش فَوق ذَلِك كُله وَالله فَوق ذَلِك كُله) فَهَذَا الحَدِيث قد كثر مِنْهُم إِيهَام الْعَوام أَنهم يَقُولُونَ بِهِ ويروجون بِهِ زخارفهم وَلَا يتركون دَعْوَى من دعاويهم عاطلة من التحلي بِهَذَا الحَدِيث وَنحن نبين أَنهم لم يَقُولُوا بِحرف وَاحِد مِنْهُ وَلَا اسْتَقر لَهُم قدم بِأَن الله تَعَالَى فَوق الْعَرْش حَقِيقَة بل نقضوا ذَلِك وإيضاح ذَلِك بِتَقْدِيم مَا أخر هَذَا الْمُدَّعِي قَالَ فِي آخر كَلَامه وَلَا يظنّ الظَّان أَن هَذَا يُخَالف ظَاهر قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم} وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا قَامَ أحدكُم إِلَى الصَّلَاة فَإِن الله قبل وَجهه)
وَنَحْو ذَلِك قَالَ فَإِن هَذَا غلط ظَاهر وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى مَعنا حَقِيقَة فَوق الْعَرْش حَقِيقَة قَالَ كَمَا جمع الله بَينهمَا فِي قَوْله {هُوَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش يعلم مَا يلج فِي الأَرْض وَمَا يخرج مِنْهَا وَمَا ينزل من السَّمَاء وَمَا يعرج فِيهَا وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} قَالَ هَذَا الْمُدَّعِي بملء مَا ضغتيه من غير تكْتم وَلَا تلعثم فقد أخبر الله تَعَالَى أَنه فَوق الْعَرْش وَيعلم كل شَيْء وَهُوَ مَعنا أَيْنَمَا كُنَّا كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث الأوعال (وَالله فَوق الْعَرْش وَهُوَ يعلم مَا أَنْتُم عَلَيْهِ) فقد فهمت أَن هَذَا الْمُدَّعِي ادّعى أَن الله فَوق الْعَرْش حَقِيقَة وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى {ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} وَجعل أَن ذَلِك من الله تَعَالَى خير أَنه فَوق الْعَرْش وَقد علم(9/54)
كل ذِي ذهن قويم وفكر مُسْتَقِيم أَن لفظ {اسْتَوَى على الْعَرْش} لَيْسَ مرادفا للفظ فَوق الْعَرْش حَقِيقَة وَقد سبق منا الْكَلَام عَلَيْهِ وَلَا فِي الْآيَة مَا يدل على الْجمع الَّذِي ادَّعَاهُ وَلَا بَين التَّقْرِيب فِي الِاسْتِدْلَال بل سرد آيَة من كتاب الله تَعَالَى لَا يدرى هَل حفظهَا أَو نقلهَا من الْمُصحف ثمَّ شبه الْآيَة فِي الدّلَالَة على الْجمع بِحَدِيث الأوعال قَالَ كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ (وَالله فَوق الْعَرْش) وَقد علمت أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على الْمَعِيَّة بل لَا مدْخل لمع فِي الحَدِيث قَالَ وَذَلِكَ أَن مَعَ إِذا أطلقت فَلَيْسَ ظَاهرهَا فِي اللُّغَة إِلَّا للمقارنة الْمُطلقَة من غير وجوب مماسة وَلَا محاذاة عَن يَمِين أَو شمال فَإِذا قيدت بِمَعْنى من الْمعَانِي دلّت على الْمُقَارنَة فِي ذَلِك الْمَعْنى فَإِنَّهُ يُقَال مَا زلنا نسير وَالْقَمَر مَعنا والنجم مَعنا
وَيُقَال هَذَا الْمَتَاع مَعنا وَهُوَ لمجامعته لَك وَإِن كَانَ فَوق رَأسك فَإِنَّمَا الله مَعَ خلقه حَقِيقَة وَهُوَ فَوق الْعَرْش حَقِيقَة ثمَّ هَذِه الْمَعِيَّة تخْتَلف أَحْكَامهَا بِحَسب الْمَوَارِد فَلَمَّا قَالَ {يعلم مَا يلج فِي الأَرْض وَمَا يخرج مِنْهَا وَمَا ينزل من السَّمَاء وَمَا يعرج فِيهَا وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} دلّ ظَاهر الْخطاب على أَن حكم هَذِه الْمَعِيَّة ومقتضاها أَنه مطلع عَلَيْكُم عَالم بكم
قَالَ وَهَذَا معنى قَول السّلف إِنَّه مَعَهم بِعِلْمِهِ
قَالَ وَهَذَا ظَاهر الْخطاب وَحَقِيقَته
قَالَ وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة} الْآيَة وَفِي قَوْله(9/55)
تَعَالَى {لَا تحزن إِن الله مَعنا} {إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون} {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى}
قَالَ وَيَقُول أَبُو الصَّبِي لَهُ من فَوق السّقف لَا تخف أَنا مَعَك
تَنْبِيها على الْمَعِيَّة الْمُوجبَة لحكم الْحَال
فليفهم النَّاظر أدب هَذَا الْمُدَّعِي فِي هَذَا الْمثل وَحسن أَلْفَاظه فِي استثمار مقاصده
ثمَّ قَالَ فَفرق بَين الْمَعِيَّة وَبَين مقتضاها الْمَفْهُوم من مَعْنَاهَا الَّذِي يخْتَلف باخْتلَاف الْمَوَاضِع
فليفهم النَّاظر هَذِه الْعبارَة الَّتِي لَيست بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا بالعجمية فسبحان المسبح باللغات الْمُخْتَلفَة
قَالَ فَلفظ الْمَعِيَّة قد اسْتعْمل فِي الْكتاب وَالسّنة فِي مَوَاضِع يَقْتَضِي فِي كل مَوضِع أمورا لَا يقتضيها فِي الْموضع الآخر
هَذِه عِبَارَته بحروفها
ثمَّ قَالَ فإمَّا أَن تخْتَلف دلالتها بِحَسب الْمَوَاضِع أَو تدل على قدر مُشْتَرك بَين جَمِيع مواردها وَإِن امتاز كل مَوضِع بخاصية فليفهم تَقْسِيم هَذَا الْمُدَّعِي وَحسن تصرفه
قَالَ فعلى التَّقْدِيرَيْنِ لَيْسَ مقتضاها أَن تكون ذَات الرب مختلطة بالخلق حَتَّى يُقَال صرفت عَن ظَاهرهَا
ثمَّ قَالَ فِي مَوضِع آخر من علم أَن الْمَعِيَّة تُضَاف إِلَى كل نوع من أَنْوَاع الْمَخْلُوقَات كإضافة الربوبية مثلا وَأَن الاسْتوَاء على الْعَرْش لَيْسَ إِلَّا الْعَرْش وَأَن الله تَعَالَى يُوصف بالعلو والفوقية الْحَقِيقِيَّة وَلَا يُوصف بالسفول وَلَا بالتحتية قطّ لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا علم أَن الْقُرْآن على مَا هُوَ عَلَيْهِ من غير تَحْرِيف
فليفهم النَّاظر هَذِه الْمُقدمَات(9/56)
القطعية وَهَذِه الْعبارَات الرائقة الجلية وَحصر الاسْتوَاء على الشَّيْء فِي الْعَرْش مِمَّا لَا يَقُوله عَاقل فضلا عَن جَاهِل
ثمَّ قَالَ من توهم أَن كَون الله فِي السَّمَاء بِمَعْنى أَن السَّمَاء تحيط بِهِ وتحويه فَهُوَ كَاذِب إِن نَقله عَن غَيره وضال إِن اعتقده فِي ربه وَمَا سمعنَا أحدا يفهمهُ من اللَّفْظ وَلَا رَأينَا أحد نَقله عَن أحد
فليستفد النَّاظر أَن الْفَهم يسمع
قَالَ وَلَو سُئِلَ سَائِر الْمُسلمين هَل يفهمون من قَول الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى فِي السَّمَاء تحويه لبادر كل أحد مِنْهُم إِلَى أَن يَقُول هَذَا شَيْء لَعَلَّه لم يخْطر ببالنا وَإِذا كَانَ الْأَمر هَكَذَا فَمن التَّكَلُّف أَن يَجْعَل ظَاهر اللَّفْظ شَيْئا محالا لَا يفهمهُ النَّاس مِنْهُ ثمَّ يُرِيد أَن يتأوله
قَالَ بل عِنْد الْمُسلمين أَن الله فِي السَّمَاء وَهُوَ على الْعَرْش وَاحِد إِذْ السَّمَاء إِنَّمَا يُرَاد بِهِ الْعُلُوّ فَالْمَعْنى الله فِي الْعُلُوّ لَا فِي السّفل
هَكَذَا قَالَ هَذَا الْمُدعى فليثن النَّاظر على هَذِه بالخناصر وليعض عَلَيْهَا بالنواجذ وليعلم أَن الْقَوْم {يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ}
قَالَ وَقد علم الْمُسلمُونَ أَن كرسيه تَعَالَى وسع السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَن الْكُرْسِيّ فِي الْعَرْش كحلقة ملقاة بِأَرْض فلاة وَأَن الْعَرْش خلق من مخلوقات الله تَعَالَى لَا نِسْبَة لَهُ إِلَّا قدرَة الله وعظمته وَكَيف يتَوَهَّم متوهم بعد هَذَا أَن خلقا يحصره ويحويه وَقد قَالَ تَعَالَى {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} وَقَالَ تَعَالَى {فسيروا فِي الأَرْض} بِمَعْنى على وَنَحْو ذَلِك وَهُوَ كَلَام عَرَبِيّ حَقِيقَة لَا مجَاز(9/57)
وَهَذَا يُعلمهُ من عرف حقائق معنى الْحُرُوف وَأَنَّهَا متواطئة فِي الْغَالِب
هَذَا آخر مَا تمسك بِهِ
فَنَقُول أَولا مَا معنى قَوْلك إِن مَعَ فِي اللُّغَة للمقارنة الْمُطلقَة من غير مماسة وَلَا محاذاة وَمَا هِيَ الْمُقَارنَة فَإِن لم يفهم من الْمُقَارنَة غير صفة لَازِمَة للجسمية حصل الْمَقْصُود وَإِن فهم غَيره فليتنبه حَتَّى تنظر هَل تفهم الْعَرَب من الْمُقَارنَة ذَلِك أَو لَا
ثمَّ قَوْله فَإِذا قيدت بِمَعْنى من الْمعَانِي دلّت على الْمُقَارنَة فِي ذَلِك الْمَعْنى
فَنَقُول لَهُ وَمن نحا ذَلِك فِي ذَلِك
قَوْله إِنَّهَا فِي هَذِه الْمَوَاضِع كلهَا بِمَعْنى الْعلم
قُلْنَا من أَيْن لَك هَذَا فَإِن قَالَ من جِهَة قَوْله تَعَالَى {مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم} الْآيَة دلّ ذَلِك على الْمَعِيَّة بِالْعلمِ وَأَنه على سَبِيل الْحَقِيقَة
فَنَقُول لَهُ قد كلت بالصاع الوافي فَكل لنا بِمثلِهِ وَاعْلَم أَن فَوق كَمَا يسْتَعْمل فِي الْعُلُوّ فِي الْجِهَة كَذَلِك يسْتَعْمل فِي الْعُلُوّ فِي الْمرتبَة والسلطنة وَالْملك وَكَذَلِكَ الاسْتوَاء فيكونان متواطئين كَمَا ذكرته حرفا بِحرف وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَهُوَ القاهر فَوق عباده} وَقَالَ تَعَالَى {وَفَوق كل ذِي علم عليم} وَقَالَ الله تَعَالَى {يَد الله فَوق أَيْديهم} وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَن قوم فِرْعَوْن {وَإِنَّا فَوْقهم قاهرون} وَقَالَ تَعَالَى {ورفعنا بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات} وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ المُرَاد جِهَة الْعُلُوّ فأعد الْبَحْث وَقل فَوق الْعَرْش(9/58)
بِالِاسْتِيلَاءِ
وَكَذَا فِي حَدِيث الأوعال وَمَا فعلته فِي مَعَ فافعله فِي فَوق وَخرج هَذَا كَمَا خرجت ذَلِك وَإِلَّا اترك الْجَمِيع
ثمَّ قَوْله وَمن علم أَن الْمَعِيَّة تُضَاف إِلَى كل نوع من أَنْوَاع الْمَخْلُوقَات وَأَن الاسْتوَاء على الشَّيْء لَيْسَ إِلَّا الْعَرْش
قُلْنَا حَتَّى نبصر لَك رجلا استعملها يعلم مَا تَقوله من غير دَلِيل فَإنَّك إِن لم تقم دلَالَة على ذَلِك وَإِلَّا أبرزت لَفْظَة تدل على تَحت فَوق للاستواء فِي جِهَة الْعُلُوّ فليت شعري من أَيْن تعلم أَن الْمَعِيَّة بِالْعلمِ حَقِيقَة وَأَن آيَة الاسْتوَاء على الْعَرْش وَحَدِيث الأوعال دالان على صفة الربوبية بالفوقية الْحَقِيقِيَّة اللَّهُمَّ غفرا هَذَا لَا يكون إِلَّا بالكشف وَإِلَّا فالأدلة الَّتِي نصبها الله تَعَالَى لتعرف بهَا ذَاته وَصِفَاته وشرائعه لم يُورد هَذَا الْمُدَّعِي مِنْهَا حرفا وَاحِدًا على وفْق دَعْوَى وَلَا ثَبت لَهُ قدم إِلَّا فِي مهوى
ثمَّ قَوْله لَا يُوصف الله تَعَالَى بالسفول والتحتية لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا لَيْت شعري من ادّعى لَهُ هَذِه الدَّعْوَى حَتَّى يُكَلف الْكَلَام فِيهَا
ثمَّ إِن قَوْله بعد ذَلِك من توهم كَون الله تَعَالَى فِي السَّمَاء بِمَعْنى أَن السَّمَاء تحيط بِهِ وتحويه فَهُوَ كَاذِب إِن نَقله عَن غَيره وضال إِن اعتقده فِي ربه
أَيهَا الْمُدَّعِي قل مَا تفهم وافهم مَا تَقول وكلم النَّاس كَلَام عَاقل لعاقل تفِيد وتستفيد إِذا طلبت أَن تستنبط من لَفْظَة فِي الْجِهَة وحملتها على حَقِيقَتهَا هَل يفهم مِنْهَا غير الظَّرْفِيَّة أَو مَا فِي مَعْنَاهَا وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهَل يفهم عَاقل أَن الظّرْف يَنْفَكّ عَن إحاطة بِبَعْض أَو جَمِيع مَا يلْزم ذَلِك وَهل جرى هَذَا على سمع وَهل من يخاطر أَن فِي على حَقِيقَتهَا فِي جِهَة وَلَا يفهم مِنْهَا احتواء وَلَا إحاطة بِبَعْض وَلَا كل فَإِن كَانَ المُرَاد أَن يعْزل النَّاس عُقُولهمْ وتتكلم أَنْت وهم يقلدون ويصدقون لم تأمن أَن بعض المسئولين(9/59)
من الْمُخَالفين للملة يَأْمُرك بذلك وَيثبت الْبَاطِل عَلَيْك
ثمَّ قَوْلك لَو سُئِلَ سَائِر الْمُسلمين هَل يفهمون من قَول الله تَعَالَى وَرَسُوله أَن الله فِي السَّمَاء تحويه لبادر كل وَاحِد مِنْهُم إِلَى أَن يَقُول هَذَا شَيْء لَعَلَّه لم يخْطر ببالنا
فَنَقُول مَا الَّذِي أردْت بذلك إِن أردْت أَن هَذَا اللَّفْظ لَا يُعْطي هَذَا الْمَعْنى فإياك أَن تسْأَل عَن هَذَا من هُوَ عَارِف بِكَلَام الْعَرَب فَإِنَّهُ لَا يصدقك فِي أَن هَذَا اللَّفْظ لَا يُعْطي هَذَا مَعَ كَون فِي للظرفية وَأَنَّهَا على حَقِيقَتهَا فِي الْجِهَة وَإِن أردْت أَن الْعُقُول تأبى ذَلِك فِي حق الله تَعَالَى فلسنا نَحن مَعَك إِلَّا فِي تَقْدِير هَذَا وَنفي كل مَا يُوهم نقصا فِي حق الله تَعَالَى
ثمَّ قَوْلك عِنْد الْمُسلمين أَن الله فِي السَّمَاء وَهُوَ على الْعَرْش وَاحِد
لَا يَنْبَغِي أَن تضيف هَذَا الْكَلَام إِلَّا إِلَى نَفسك أَو إِلَى من تلقيت هَذِه الوصمة مِنْهُ وَلَا تجْعَل الْمُسلمين يرتبكون فِي هَذَا الْكَلَام الَّذِي لَا يعقل
ثمَّ استدللت على أَن كَون الله فِي السَّمَاء وَالْعرش وَاحِد بِأَن السَّمَاء إِنَّمَا يُرَاد بهَا الْعُلُوّ فَالْمَعْنى أَن الله فِي الْعُلُوّ لَا فِي السّفل
قل لي هَل قَالَ الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ أَن الله تَعَالَى فِي الْعُلُوّ لَا فِي السّفل وكل مَا قلت من أول الْمُقدمَة إِلَى آخرهَا لَو سلم لَك لَكَانَ حَاصِلَة أَن الله تَعَالَى وصف نَفسه بِأَنَّهُ اسْتَوَى على الْعَرْش وَأَن الله تَعَالَى فَوق الْعَرْش
وَأما أَن السَّمَاء المُرَاد بهَا جِهَة الْعُلُوّ فَمَا ظَفرت كَفاك بنقله
ثمَّ قَوْلك قد علم المسلون أَن كرسيه تَعَالَى وسع السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَن(9/60)
الْكُرْسِيّ فِي الْعَرْش كحلقة ملقاة بِأَرْض فلاة
فليت شعري إِذا كَانَ حَدِيث الأوعال يدلك على أَن الله فَوق الْعَرْش فَكيف يجمع بَينه وَبَين طُلُوع الْمَلَائِكَة إِلَى السَّمَاء الَّتِي فِيهَا الله وَكَيف يكون مَعَ ذَلِك فِي السَّمَاء حَقِيقَة ولعلك تَقول إِن المُرَاد بهما جِهَة الْعُلُوّ تَوْفِيقًا فليت شعري أيمكن أَن تَقول بعد هَذَا التَّوْفِيق العاري عَن التَّوْقِيف والتوفيق إِن الله فِي السَّمَاء حَقِيقَة وعَلى السَّمَاء حَقِيقَة وَفِي الْعَرْش حَقِيقَة وعَلى الْعَرْش حَقِيقَة ثمَّ حَقِيقَة السَّمَاء هِيَ هَذِه الْمُشَاهدَة المحسوسة يُطلق عَلَيْهَا هَذَا الِاسْم من لم يخْطر بِبَالِهِ السمو وَأما أصل الِاشْتِقَاق فَذَلِك لَا مزية لَهَا فِيهِ على السّقف والسحاب فَتَبَارَكَ الله خَالق الْعُقُول
ثمَّ قَوْلك بعد ذَلِك الْعَرْش من مخلوقات الله تَعَالَى لَا نِسْبَة لَهُ إِلَّا قدرَة الله وعظمته
وَقع إِلَيْنَا إِلَّا قدرَة الله فَإِن كَانَت بِأَلف لَام ألف كَمَا وَقع إِلَيْنَا فقد نفيت الْعَرْش وَجعلت الْجِهَة هِيَ العظمة وَالْقُدْرَة وَصَارَ معنى كلامك جِهَة الله عَظمته وَقدرته
والآن قلت مَا لَا يفهم وَلَا قَالَه أحد وَإِن كَانَ كلامك بِأَلف لَام يَاء فقد صدقت وَقلت الْحق وَمن قَالَ خلاف ذَلِك ولعمري قد رممنا لَك هَذَا الْمَكَان ولقناك إِصْلَاحه
ثمَّ قلت كَيفَ يتَوَهَّم بعد هَذَا أَن خلقا يحصره أَو يحويه
قُلْنَا نعم وَمن أَي شَيْء بلاؤنا إِلَّا مِمَّن يَدعِي الْحصْر أَو يُوهِمهُ
ثمَّ قلت وَقد قَالَ الله تَعَالَى {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} أَو مَا علمت أَن التَّمَكُّن الاستقراري حَاصِل فِي الْجذع فَإِن تمكن المصلوب فِي الْجذع(9/61)
كتمكن الْكَائِن فِي الظّرْف وَكَذَلِكَ الحكم فِي قَوْله تَعَالَى {قل سِيرُوا فِي الأَرْض} وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ الْجَواب عَن حَدِيث الأوعال وَحَدِيث قبض الرّوح وَحَدِيث عبد الله بن رَوَاحَة رَضِي الله عَنهُ وَحَدِيث أُميَّة بن أبي الصَّلْت وَمَا قَالَ من قَوْله
(مجدوا الله فَهُوَ أهل لمجد ... رَبنَا فِي السَّمَاء أَمْسَى كَبِيرا)
فَيُقَال للْمُدَّعِي إِن كنت ترويه فِي السَّمَاء فَقَط وَلَا تتبعها أَمْسَى كَبِيرا فَرُبمَا يُوهم مَا تدعيه لَكِن لَا يبْقى شعرًا وَلَا قافية وَإِن كَانَ قَالَ رَبنَا فِي السَّمَاء أَمْسَى كَبِيرا فَقل مثل مَا قَالَ أُميَّة وَعند ذَلِك لَا يدرى هَل هُوَ كَمَا قلت أَو قَالَ إِن الله كَبِير فِي السَّمَاء
فَإِن قلت وَهُوَ كَبِير فِي الأَرْض فَلم خصت السَّمَاء
قُلْنَا التَّخْصِيص بِمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ من أَن تَعْظِيم أهل السَّمَوَات أَكثر من تَعْظِيم أهل الأَرْض لَهُ فَلَيْسَ فِي الْمَلَائِكَة من ينحت حجرا ويعبده وَلَا فيهم دهري وَلَا معطل وَلَا مشبه وخطاب أُميَّة لكفار الْعَرَب الَّذين اتَّخذُوا هُبل وَمَنَاة وَاللات والعزى وَغير ذَلِك من الأنداد وَقد علمت الْعَرَب أَن أهل السَّمَاء أعلم مِنْهُم حَتَّى كَانُوا يتمسكون بِحَدِيث الْكَاهِل الَّذِي كَانَ يتلقف من الجني الَّذِي يسترق الْكَلِمَة من الْملك فيضيف إِلَيْهَا مائَة كذبة فَكيف اعْتِقَادهم فِي الْمَلَائِكَة فَلذَلِك احْتج عَلَيْهِم أُميَّة بِالْمَلَائِكَةِ هَذَا لَيْسَ بِبَعِيد وَلَا خِلَافه قَطْعِيّ(9/62)
ثمَّ قَالَ من الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَن الرَّسُول الْمبلغ عَن الله ألْقى إِلَى أمته المدعوين أَن الله تَعَالَى على الْعَرْش وَأَنه فَوق السَّمَاء فَنَقُول لَهُ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح بِالصَّرِيحِ بل ألْقى إِلَيْهِم أَن الله اسْتَوَى على الْعَرْش هَذَا الَّذِي تَوَاتر من تَبْلِيغ هَذَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا ذكره الْمُدَّعِي من هَذَا الْإِخْبَار فأخبار آحَاد لَا يصدق عَلَيْهَا جمع كَثْرَة وَلَا حجَّة لَهُ فِيهَا وَذَلِكَ وَاضح لمن سمع كَلَام الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونزله على اسْتِعْمَال الْعَرَب وإطلاقاتها وَلم يدْخل عَلَيْهَا غير لغتها
ثمَّ قلت كَمَا فطر الله جَمِيع الْأُمَم عربهم وعجمهم فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام إِلَّا من اجتالته الشَّيَاطِين عَن فطرته
هَذَا كَلَام من أَوله إِلَى آخِره معَارض بالميل وَالتَّرْجِيح مَعًا
ثمَّ قلت عَن السّلف فِي ذَلِك من الْأَقْوَال مَا لَو جمعته لبلغت مِائَتَيْنِ ألوفا
فَنَقُول إِن أردْت بالسلف سلف المشبهة كَمَا سَيَأْتِي فِي كلامك فَرُبمَا قاربت وَإِن أردْت سلف الْأمة الصَّالِحين فَلَا حرفا وَلَا شطر حرف وَهَا نَحن مَعَك فِي مقَام مقَام ومضمار مضمار بحول الله وقوته
ثمَّ قلت لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى وَلَا سنة رَسُول وَلَا عَن أحد من سلف الْأمة لَا من الصَّحَابَة وَلَا من التَّابِعين حرف وَاحِد يُخَالف ذَلِك لَا نَص وَلَا ظَاهر
قُلْنَا وَلَا عَنْهُم كَمَا ادعيت أَنْت وَلَا نَص وَلَا ظَاهر وَقد صدرت أَولا أَنَّك تَقول مَا قَالَه الله وَرَسُوله وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار ثمَّ دارت الدائرة على أَن المُرَاد بالسابقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار مَشَايِخ عقيدتك وعزلت الْعشْرَة وَأهل بدر(9/63)
وَالْحُدَيْبِيَة عَن السَّبق وَالتَّابِعِينَ عَن الْمُتَابَعَة وتولي هَؤُلَاءِ لَا غير {الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته}
ثمَّ قَوْلك لم يقل أحد مِنْهُم إِنَّه لَيْسَ فِي غير السَّمَاء وَلَا إِنَّه لَيْسَ على الْعَرْش وَلَا إِنَّه فِي كل مَكَان وَلَا إِن جَمِيع الْأَمْكِنَة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاء وَلَا إِنَّه دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا مُتَّصِل وَلَا مُنْفَصِل
قُلْنَا لقد عممت الدَّعْوَى فَذكرت مَا لم تحط بِهِ علما وَقد ذكرنَا لَك عَن جَعْفَر الصَّادِق والجنيد والشبلي وجعفر بن نصير وَأبي عُثْمَان المغربي رَضِي الله عَنْهُم مَا فِيهِ كِفَايَة فَإِن طعنت فِي نقلنا أَو فِي هَذِه السَّادة طَعنا فِي نقلك وفيمن أسندت إِلَيْهِ من أهل عقيدتك خَاصَّة فَلم يوافقك على مَا ادعيته غَيرهم
ثمَّ إِنَّك أَنْت الَّذِي قد قلت مَا لم يقلهُ الله وَلَا رَسُوله وَلَا السَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَلَا من التَّابِعين وَلَا من مَشَايِخ الْأمة الَّذين لم يدركوا الْأَهْوَاء فَمَا نطق أحد مِنْهُم بِحرف فِي أَن الله تَعَالَى فِي جِهَة الْعُلُوّ وَقد قلت وصرحت وبحثت وفهمت بِأَن مَا ورد من أَنه فِي السَّمَاء وَفَوق السَّمَاء وَفِي الْعَرْش وَفَوق الْعَرْش المُرَاد بِهِ جِهَة الْعُلُوّ فَقل لنا من قَالَ هَذَا هَل قَالَه الله أَو رَسُوله أَو السَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار أَو التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان فَلم تهول علينا بالأمور المغمغمة وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان
ثمَّ اسْتدلَّ على جَوَاز الْإِشَارَة الحسية إِلَيْهِ بالأصابع وَنَحْوهَا بِمَا صَحَّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خطْبَة عَرَفَات جعل يَقُول (أَلا هَل بلغت) فَيَقُولُونَ نعم
فيرفع(9/64)
أُصْبُعه إِلَى السَّمَاء وينكتها إِلَيْهِم وَيَقُول (اللَّهُمَّ اشْهَدْ) غير مرّة
وَمن أَي دلَالَة يدل هَذَا على جَوَاز الْإِشَارَة إِلَيْهِ هَل صدر مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَنه رفع أُصْبُعه ثمَّ نكتها إِلَيْهِم هَل فِي ذَلِك دلَالَة على أَن رَفعه كَانَ يُشِير بِهِ إِلَى جِهَة الله تَعَالَى وَلَكِن هَذَا من عَظِيم مَا رسخ فِي ذهن هَذَا الْمُدَّعِي من حَدِيث الْجِهَة حَتَّى إِنَّه لَو سمع مَسْأَلَة من عويص الْفَرَائِض والوصايا وَأَحْكَام الْحيض لقَالَ هَذِه دَالَّة على الْجِهَة
ثمَّ أَتَى بالطامة الْكُبْرَى والداهية الدهياء وَقَالَ فَإِن كَانَ الْحق مَا يَقُوله هَؤُلَاءِ السَّابِقُونَ النافون من هَذِه الْعبارَات وَنَحْوهَا دون مَا يفهم من الْكتاب وَالسّنة إِمَّا نصا أَو ظَاهرا كَيفَ يجوز على الله تَعَالَى ثمَّ على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ على خير الْأمة أَنهم يَتَكَلَّمُونَ دَائِما بِمَا هُوَ نَص أَو ظَاهر فِي خلاف الْحق ثمَّ الْحق الَّذِي يجب اعْتِقَاده لَا يبوحون بِهِ قطّ وَلَا يدلون عَلَيْهِ لَا نصا وَلَا ظَاهرا حَتَّى يَجِيء أَنْبَاط الْفرس وَالروم وأفراخ الهنود يبينون للْأمة العقيدة الصَّحِيحَة الَّتِي يجب على كل مؤلف أَو فَاضل أَن يعتقدها لَئِن كَانَ مَا يَقُوله هَؤُلَاءِ المتكلمون المتكلفون هُوَ الِاعْتِقَاد الْوَاجِب وهم مَعَ ذَلِك أحيلوا على مُجَرّد عُقُولهمْ وَأَن يدفعوا لمقْتَضى قِيَاس عُقُولهمْ مَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة نصا أَو ظَاهرا لقد كَانَ ترك النَّاس بِلَا كتاب وَلَا سنة أهْدى لَهُم وأنفع على هَذَا التَّقْدِير بل كَانَ وجود الْكتاب وَالسّنة ضَرَرا(9/65)
مَحْضا فِي أصُول الدّين فَإِن حَقِيقَة الْأَمر على مَا يَقُوله هَؤُلَاءِ أَنكُمْ يَا معشر الْعباد لَا تَطْلُبُوا معرفَة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَا يسْتَحق من الصِّفَات نفيا وَلَا إِثْبَاتًا لَا من الْكتاب وَلَا من السّنة وَلَا من طَرِيق سلف الْأمة وَلَكِن انْظُرُوا أَنْتُم فَمَا وجدتموه مُسْتَحقّا لَهُ من الصِّفَات فصفوه بِهِ سَوَاء كَانَ مَوْجُودا فِي الْكتاب وَالسّنة أَو لم يكن وَمَا لم تَجِدُوهُ مُسْتَحقّا لَهُ فِي عقولكم فَلَا تصفوه بهَا
ثمَّ قَالَ هما فريقان أَكْثَرهم مَا يَقُول مَا لم تثبته عقولكم فانفوه وَمِنْهُم من يَقُول بل توقفوا فِيهِ
وَمَا نَفَاهُ قِيَاس عقولكم الَّذِي أَنْتُم فِيهِ مُخْتَلفُونَ ومضطربون اخْتِلَافا أَكثر من جَمِيع اخْتِلَاف على وَجه الأَرْض فانفوه وَإِلَيْهِ عِنْد الشَّارِع فَارْجِعُوا فَإِن الْحق الَّذِي تعبدتكم بِهِ وَمَا كَانَ مَذْكُورا فِي الْكتاب وَالسّنة مِمَّا يُخَالف قياسكم هَذَا أَو يثبت مَا لم تُدْرِكهُ عقولكم على طَريقَة أَكْثَرهم فاعلموا أنني امتحنتكم بتنزيله لَا لِتَأْخُذُوا الْهدى مِنْهُ لَكِن لتجتهدوا فِي تَخْرِيجه على شواذ اللُّغَة وَوَحْشِي الْأَلْفَاظ وغرائب الْكَلَام أَو تسكتوا عَنهُ مفوضين علمه إِلَيّ
هَذَا حَقِيقَة الْأَمر على رَأْي الْمُتَكَلِّمين
هَذَا مَا قَالَه وَهُوَ الْموضع الَّذِي صرع فِيهِ وتخبطه الشَّيْطَان من الْمس فَنَقُول مَا تَقول فِيمَا ورد من ذكر الْعُيُون بِصفة الْجمع وَذكر الْجنب وَذكر السَّاق الْوَاحِد وَذكر الْأَيْدِي فَإِن أَخذنَا بِظَاهِر هَذَا يلْزمنَا إِثْبَات شخص لَهُ وَجه وَاحِد عَلَيْهِ عُيُون كَثِيرَة وَله جنب وَاحِد وَعَلِيهِ أيد كَثِيرَة وَله سَاق وَاحِد فَأَي شخص يكون(9/66)
فِي الدُّنْيَا أبشع من هَذَا وَإِن تصرفت فِيهِ هَذَا بِجمع وتفريق بالتأويل فَلم لَا ذكره الله وَرَسُوله وَسلف الْأمة
وَقَوله تَعَالَى فِي الْكتاب الْعَزِيز {الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض} فَكل عَاقل يعلم أَن النُّور الَّذِي على الْحِيطَان والسقوف وَفِي الطّرق والحشوش لَيْسَ هُوَ الله تَعَالَى وَلَا قَالَت الْمَجُوس بذلك فَإِن قلت بِأَنَّهُ هادي السَّمَوَات وَالْأَرْض ومنورها فَلم لَا قَالَه الله تَعَالَى وَلَا رَسُوله وَلَا سلف الْأمة
وَورد قَوْله تَعَالَى {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون الله دَاخل الزردمة فَلم لَا بَينه الله وَلَا رَسُوله وَلَا سلف الْأمة
وَقَالَ تَعَالَى {واسجد واقترب} وَمَعْلُوم أَن التَّقَرُّب فِي الْجِهَة لَيْسَ إِلَّا بالمسافة فَلم لَا بَينه الله تَعَالَى وَلَا رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا سلف الْأمة
وَقَالَ تَعَالَى {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} وَقَالَ تَعَالَى {وَجَاء رَبك} وَقَالَ تَعَالَى {فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد} وَقَالَ تَعَالَى {مَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم مُحدث}(9/67)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِكَايَة عَن ربه عز وَجل (من تقرب إِلَيّ شبْرًا تقربت إِلَيْهِ ذِرَاعا وَمن تقرب إِلَيّ ذِرَاعا تقربت مِنْهُ باعا وَمن أَتَانِي يمشي أَتَيْته هرولة) وَمَا صَحَّ فِي الحَدِيث (أجد نفس الرَّحْمَن من قبل الْيمن) وَمن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْحجر الْأسود يَمِين الله فِي الأَرْض) وَمن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِكَايَة عَن ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (أَنا جليس من ذَكرنِي)
وكل هَذِه هَل تأمن من المجسم أَن يَقُول لَك ظواهر هَذِه كَثْرَة تفوت الْحصْر أَضْعَاف أَحَادِيث الْجِهَة فَإِن كَانَ الْأَمر كَمَا يَقُول فِي نفي الجسمية مَعَ أَنه لم يَأْتِ فِي شَيْء من هَذِه مَا يبن خلاف ظواهرها لَا عَن الله تَعَالَى وَلَا عَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عَن سلف الْأمة فَحِينَئِذٍ يَكِيل لَك المجسم بصاعك وَيَقُول لَك لَو كَانَ الْأَمر كَمَا قلت لَكَانَ ترك النَّاس بِلَا كتاب وَلَا سنة أهْدى لَهُم
وَإِن قلت إِن العمومات قد بيّنت خلاف ظواهر هَذِه لم نجد مِنْهَا نافيا للجسمية إِلَّا وَهُوَ ناف للجهة
ثمَّ مَا يُؤمنك من تناسخي يفهم من قَوْله {فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك} مذْهبه من معطل يفهم من قَوْله تَعَالَى {مِمَّا تنْبت الأَرْض} مُرَاده فَحِينَئِذٍ لَا تَجِد مساغا لما تغص بِهِ من ذَلِك إِلَّا الْأَدِلَّة الْخَارِجَة عَن هَذِه الْأَلْفَاظ ثمَّ صَار(9/68)
حَاصِل كلامك أَن مقَالَة الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة والمالكية يلْزمهَا أَن يكون ترك النَّاس بِلَا كتاب وَلَا سنة أهْدى لَهُم أفتراهم يكفرونك بذلك أم لَا
ثمَّ جعلت أَن مُقْتَضى كَلَام الْمُتَكَلِّمين أَن الله تَعَالَى وَرَسُوله وَسلف الْأمة تركُوا العقيدة حَتَّى بَينهَا هَؤُلَاءِ فَقل لنا إِن الله وَرَسُوله وَسلف الْأمة بينوها ثمَّ انقل عَنْهُم أَنهم قَالُوا كَمَا تَقول إِن الله تَعَالَى فِي جِهَة الْعُلُوّ لَا فِي جِهَة السّفل وَإِن الْإِشَارَة الحسية جَائِزَة إِلَيْهِ فَإِذا لم تَجِد ذَلِك فِي كتاب الله تَعَالَى وَلَا كَلَام رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا كَلَام أحد من الْعشْرَة وَلَا كَلَام أحد من السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم فعد على نَفسك باللائمة وَقل لقد ألزمت الْقَوْم بِمَا لَا يلْزمهُم وَلَو لَزِمَهُم لَكَانَ عَلَيْك اللوم
ثمَّ قلت عَن الْمُتَكَلِّمين إِنَّهُم يَقُولُونَ مَا يكون على وفْق قِيَاس الْعُقُول فقولوه وَإِلَّا فانفوه
وَالْقَوْم لم يَقُولُوا ذَلِك بل قَالُوا صفة الْكَمَال يجب ثُبُوتهَا لله وَصفَة النَّقْص يجب نَفيهَا عَنهُ
كَمَا قَالَه الإِمَام أَحْمد رَضِي الله عَنهُ قَالُوا وَمَا ورد من الله تَعَالَى وَمن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فليعرض على لُغَة الْعَرَب الَّتِي أرسل الله تَعَالَى مُحَمَّدًا بلغتهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه} فَمَا فهمت الْعَرَب فافهمه وَمن جَاءَك بِمَا يُخَالِفهُ فانبذ كَلَامه نبذ الْحذاء المرقع وَاضْرِبْ بقوله حَائِط الحش
ثمَّ نعقد فصلا إِن شَاءَ الله تَعَالَى بعد إِفْسَاد مَا نزع بِهِ فِي سَبَب وُرُود هَذِه الْآيَات على هَذَا الْوَجْه فَإِنَّهُ إِنَّمَا تلقف مَا نَزغ بِهِ فِي مُخَالفَة الْجَمَاعَة وأساء القَوْل على الْملَّة من حثالة الْمَلَاحِدَة الطاعنين فِي الْقُرْآن وسنبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى ضلالهم وَيعلم إِذْ ذَاك(9/69)
من هُوَ من فراخ الفلاسفة والهنود ثمَّ لَو استحيى الغافل لعرف مِقْدَار عُلَمَاء الْأمة رَحِمهم الله تَعَالَى ثمَّ هَل رأى من رد على الفلاسفة والهنود وَالروم وَالْفرس غير هَؤُلَاءِ الَّذين جعلهم فراخهم وَهل اتكلوا فِي الرَّد على هَذِه الطوائف على قوم لَا عقل لَهُم وَلَا بَصِيرَة وَلَا إِدْرَاك ثمَّ يذرونهم يستدلون على إِثْبَات الله تَعَالَى فِي الْحجَّاج على منكره بِالنَّقْلِ وعَلى منكري النُّبُوَّة بِالنَّقْلِ حَتَّى يصير مُضْغَة للماضغ وضحكة للمستهزئ وشماتة لِلْعَدو وفرحا للحسود وَفِي قصَّة الْحسن بن زِيَاد اللؤْلُؤِي عِبْرَة للمعتبر
ثمَّ أَخذ بعد هَذَا فِي أَن الْأُمُور الْعَامَّة إِذا نفيت عَنْهَا إِنَّمَا يكون دلالتها على سَبِيل الإلغاز
قُلْنَا وَكَذَلِكَ المجسم يَقُول لَك دلَالَة الْأُمُور الْعَامَّة على نفي الجسمية إلغاز
ثمَّ قَالَ بعد هَذَا يَا سُبْحَانَ الله كَيفَ لم يقل الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا مَا الدَّهْر وَلَا أحد من سلف الْأمة هَذِه الْآيَات وَالْأَحَادِيث لَا تعتقدوا مَا دلّت عَلَيْهِ فَيُقَال لَهُ مَا الَّذِي دلّت عَلَيْهِ حَتَّى يَقُولُوا إِنَّه لَا يعْتَقد هَذَا تشنيع بحت
ثمَّ يَقُول لَك المجسم يَا سُبْحَانَ الله لم لم يقل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أحد من سلف الْأمة إِن الله تَعَالَى لَيْسَ بجسم وَلَا قَالُوا لَا تعتقدوا من الْأَحَادِيث الموهمة للجسمية ظواهرها(9/70)
ثمَّ اسْتدلَّ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صفة الْفرْقَة النَّاجِية (هُوَ من كَانَ على مثل مَا أَنا عَلَيْهِ الْيَوْم وأصحابي) قَالَ الْمُدَّعِي فَهَلا قَالَ من تمسك بِظَاهِر الْقُرْآن فِي آيَات الِاعْتِقَاد فَهُوَ ضال وَإِنَّمَا الْهدى رجوعكم إِلَى مقاييس عقولكم
فَليعلم النَّاظر أَنه هَا هُنَا باهت وزخرف وتشبع بِمَا لم يُعْطه فَإِنَّهُ قد ثَبت أَن طَرِيق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم الْكَفّ عَن ذَلِك فَمَا نَحن الآمرون بِهِ وَأَنه هُوَ لَيْسَ بساكت بل طَرِيقه الْكَلَام وَأمر الدهماء بِوَصْف الله تَعَالَى بِجِهَة الْعُلُوّ وتجويز الْإِشَارَة الحسية إِلَيْهِ فليت شعري من الْمُوَافق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَلَكِن صدق الْقَائِل رمتني بدائها وانسلت
ثمَّ المجسم يَقُول لَهُ حَذْو النَّعْل بالنعل مَا قَالَه لنا ونقول لَهُ لم لَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاجِية من قَالَ إِن الله فِي جِهَة الْعُلُوّ وَإِن الْإِشَارَة الحسية إِلَيْهِ جَائِزَة فَإِن قَالَ هَذِه طَريقَة السّلف وَطَرِيقَة الصَّحَابَة قُلْنَا من أَيْن لَك هَذَا ثمَّ لَا تأمن من كل مُبْتَدع أَن يَدعِي ذَلِك
ثمَّ أَفَادَ الْمُدَّعِي وَأسْندَ أَن هَذِه الْمقَالة مَأْخُوذَة من تلامذة الْيَهُود وَالْمُشْرِكين وضلال الصابئين
قَالَ فَإِن أول من حفظ عَنهُ هَذِه الْمقَالة الْجَعْد بن دِرْهَم وَأَخذهَا عَنهُ جهم(9/71)
ابْن صَفْوَان وأظهرا فنسبت مقَالَة الْجَهْمِية إِلَيْهِ قَالَ والجعد أَخذهَا عَن أبان بن سمْعَان وَأَخذهَا أبان من طالوت بن أُخْت لبيد بن الأعصم وَأَخذهَا طالوت من لبيد الْيَهُودِيّ الَّذِي سحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ وَكَانَ الْجَعْد هَذَا فِيمَا يُقَال من أهل حران
فَيُقَال لَهُ أَيهَا الْمُدَّعِي أَن هَذِه الْمقَالة مَأْخُوذَة من تلامذة الْيَهُود قد خَالَفت الضَّرُورَة فِي ذَلِك فَإِنَّهُ مَا يخفى على جَمِيع الْخَواص وَكثير من الْعَوام أَن الْيَهُود مجسمة مشبهات فَكيف يكون ضد التجسيم والتشبيه مأخوذا عَنْهُم وَأما الْمُشْركُونَ فَكَانُوا عباد أوثان وَقد بيّنت الْأَئِمَّة أَن عَبدة الْأَصْنَام تلامذة المشبهة وَأَن أصل عبَادَة الصَّنَم التَّشْبِيه فَكيف يكون نَفْيه مأخوذا عَنْهُم وَأما الصابئة فبلدهم مَعْرُوف وإقليمهم مَشْهُور وَهل نَحن مِنْهُ أَو خصومنا وَأما كَون الْجَعْد ابْن دِرْهَم من أهل حران فالنسبة صَحِيحَة وترتيب هَذَا السَّنَد الَّذِي ذكره سيسأله الله تَعَالَى عَنهُ وَالله من وَرَائه بالمرصاد وليت لَو أتبعه أَن سَنَد دَعْوَاهُ وعقيدته أَن فِرْعَوْن ظن أَن إِلَه مُوسَى فِي السَّمَاء
ثمَّ أضَاف الْمقَالة إِلَى بشر المريسي وَذكر أَن هَذِه التأويلات هِيَ الَّتِي أبطلتها الْأَئِمَّة ورد بهَا على بشر وَأَن مَا ذكره الْأُسْتَاذ أَبُو بكر بن فورك وَالْإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ قدس الله روحهما هُوَ مَا ذكره بشر وَهَذَا بهرج لَا يثبت على محك النّظر القويم وَلَا معيار الْفِكر الْمُسْتَقيم فَإِنَّهُ من الْمحَال أَن تنكر الْأَئِمَّة على بشر أَن يَقُول مَا تَقوله الْعَرَب وَهَذَانِ الإمامان مَا قَالَا إِلَّا مَا قالته الْعَرَب وَمَا الْإِنْكَار على بشر إِلَّا فِيمَا يُخَالف فِيهِ لُغَة الْعَرَب وَأَن يَقُول عَنْهَا مَا لم تقله(9/72)
ثمَّ أَخذ بعد ذَلِك فِي تَصْدِيق عزوته إِلَى الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم وَشرع فِي النَّقْل عَنْهُم فَقَالَ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ كُنَّا والتابعون متوافرون نقُول إِن الله تَعَالَى ذكره فَوق عَرْشه
فَنَقُول لَهُ أول مَا بدأت بِهِ الْأَوْزَاعِيّ وطبقته وَمن بعدهمْ فَأَيْنَ السَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَأما قَول الْأَوْزَاعِيّ فَأَنت قد خالفته وَلم تقل بِهِ لِأَنَّك قلت إِن الله لَيْسَ فَوق عَرْشه لِأَنَّك قررت أَن الْعَرْش وَالسَّمَاء لَيْسَ المُرَاد بهما إِلَّا جِهَة الْعُلُوّ وَقلت المُرَاد من فَوق عَرْشه وَالسَّمَاء ذَلِك فقد خَالَفت قَول الْأَوْزَاعِيّ صَرِيحًا مَعَ أَنَّك لم تقل قطّ مَا يفهم فَإِن قررت أَن السَّمَاء فِي الْعَرْش كحلقة ملقاة فِي فلاة فَكيف تكون هِيَ هُوَ ثمَّ من أَيْن لَك صِحَة هَذَا النَّقْل عَن الْأَوْزَاعِيّ
وَبعد مسامحتك فِي كل ذَلِك مَا قَالَ الْأَوْزَاعِيّ الله فَوق الْعَرْش حَقِيقَة فَمن أَيْن لَك هَذِه الزِّيَادَة
وَنقل عَن مَالك بن أنس وَالثَّوْري وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ أَنهم قَالُوا فِي أَحَادِيث الصِّفَات أمروها كَمَا جَاءَت
فَيُقَال لَهُ لم لَا أَمْسَكت على مَا أمرت بِهِ الْأَئِمَّة بل وصفت الله بِجِهَة الْعُلُوّ وَلم يرد بذلك خبر وَلَو بذلت قرَاب الأَرْض ذَهَبا على أَن تسمعها من عَالم رباني لم تفرح بذلك بل تصرفت ونقلت على مَا خطر لَك وَمَا أمررت وَلَا أَقرَرت وَلَا امتثلت مَا نقلته عَن الْأَئِمَّة
وروى قَول ربيعَة وَمَالك الاسْتوَاء غير مَجْهُول
فليت شعري من قَالَ إِنَّه مَجْهُول بل أَنْت زعمت أَنه لِمَعْنى عينته وَأَرَدْت أَن تعزوه إِلَى الْإِمَامَيْنِ وَنحن لَا نسمح لَك بذلك(9/73)
ثمَّ نقل عَن مَالك أَنه قَالَ للسَّائِل الْإِيمَان بِهِ وَاجِب وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة وَمَا أَرَاك إِلَّا مبتدعا
فَأمر بِهِ فَأخْرج
فَيُقَال لَهُ لَيْت شعري من امتثل منا قَول مَالك هَل امتثلناه نَحن حَيْثُ أمرنَا بالإمساك وألجمنا الْعَوام عَن الْخَوْض فِي ذَلِك أَو الَّذِي جعله دراسته يلقيه ويلفقه ويلقنه ويكتبه ويدرسه وَيَأْمُر الْعَوام بالخوض فِيهِ وَهل أنكر على المستفتي فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِعَينهَا وَأخرجه كَمَا فعل مَالك رَضِي الله عَنهُ فِيهَا بِعَينهَا وَعند ذَلِك يعلم أَن مَا نَقله عَن مَالك حجَّة عَلَيْهِ لَا لَهُ
ثمَّ نقل عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن أبي سَلمَة الْمَاجشون أَنه قَالَ وَقد سُئِلَ عَمَّا جحدت بِهِ الْجَهْمِية أما بعد فقد فهمت فِيمَا سَأَلت فِيمَا للسامعت الْجَهْمِية وَمن خالفها فِي صفة الرب الْعَظِيم الَّذِي فاقت عَظمته الْوَصْف وَالتَّقْدِير وكلت الألسن عَن تَفْسِير صفته وانحسرت الْعُقُول دون معرفَة قدرته ردَّتْ عَظمته الْعُقُول فَلم تَجِد مساغا فَرَجَعت خاسئة وَهِي حسيرة وَإِنَّمَا أمروا بِالنّظرِ والتفكر فِيمَا خلق بالتقدير وَإِنَّمَا يُقَال كَيفَ لمن لم يكن مرّة ثمَّ كَانَ فَأَما الَّذِي لَا يحول وَلَا يَزُول وَلم يزل وَلَيْسَ لَهُ مثل فَإِنَّهُ لَا يعلم كَيفَ هُوَ إِلَّا هُوَ وَكَيف يعرف قدر من لم يبْدَأ وَمن لَا يَمُوت وَلَا يبْلى وَكَيف يكون لصفة شَيْء مِنْهُ حد أَو مُنْتَهى يعرفهُ عَارِف أَو يحد قدره واصف على أَنه الْحق الْمُبين لَا حق أَحَق مِنْهُ وَلَا شَيْء أبين مِنْهُ
وَالدَّلِيل على عجز الْعُقُول عَن تَحْقِيق صفته عجزها عَن تَحْقِيق صفة أَصْغَر خلقه فَلَا تكَاد ترَاهُ صَغِيرا يحول وَيَزُول وَلَا يرى لَهُ سمع وَلَا بصر بل مَا يتقلب بِهِ(9/74)
ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عَلَيْك مِمَّا ظهر من سَمعه وبصره فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ وخالقهم وَسيد السادات وربهم
ثمَّ نقل عَنهُ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الصِّفَات وَذكر قَوْله {وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ} قَالَ فوَاللَّه مَا دلهم على عَظِيم مَا وصف من نَفسه وَمَا تحيط بِهِ قَبضته إِلَّا صغر نظرها مِنْهُم عِنْدهم أَن ذَلِك الَّذِي ألقِي فِي روعهم وَخلق على معرفَة قُلُوبهم فَمَا وصف من نَفسه فَسَماهُ على لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سميناه كَمَا سَمَّاهُ وَلم نتكلف مِنْهُ صفة مَا سواهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا لَا نجحد مَا وصف وَلَا نتكلف معرفَة مَا لم يصف
وَبسط الْمَاجشون كَلَامه فِي تَقْرِير هَذَا
فَنَقُول لهَذَا الحاكي نعم الْحجَّة أتيت بهَا وَلَكِن لنا وَنعم السِّلَاح حملت وَلَكِن للعدى
أما كَلَام عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ وَمَا ذكر من كبرياء الله وعظمته وَأَنَّهَا تحير الْعُقُول وتشده الفهوم فَهَذَا قَالَه الْعلمَاء نظما ونثرا وَأَنت أزريت على سَادَات الْأَئِمَّة وأعلام الْأمة فِي ثَانِي صفحة نزغت بهَا حَيْثُ اعْتَرَفُوا بِالْعَجزِ وَالتَّقْصِير ونعيت عَلَيْهِم ذَلِك وعددته عَلَيْهِم ذَنبا وَأَنت مَعْذُور وهم معذورون وَجعلت قَول عبد الْعَزِيز حجتك وَقد ذكر فِي القبضة مَا يَقُوله المتكلمون فِي كل مَوضِع(9/75)
وَأمر عبد الْعَزِيز أَن يصف الرب بِمَا وصف بِهِ نَفسه وَأَن يسكت عَمَّا وَرَاء ذَلِك وَذَلِكَ قَوْلنَا وَفعلنَا وعقدنا وَأَنت وَصفته بِجِهَة الْعُلُوّ وَمَا وصف بهَا نَفسه وجوزت الْإِشَارَة الحسية إِلَيْهِ وَمَا ذكرهَا وَنحن أمررنا الصِّفَات كَمَا جَاءَت وَأَنت جمعت بَين الْعَرْش وَالسَّمَاء بِجِهَة الْعُلُوّ وَقلت فِي السَّمَاء حَقِيقَة وَفِي الْعَرْش حَقِيقَة فسبحان واهب الْعُقُول وَلَكِن كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطورا
ثمَّ ذكر عَن مُحَمَّد بن الْحسن اتِّفَاق الْفُقَهَاء على وصف الرب مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن وَأَحَادِيث الصِّفَات
فَنَقُول لَهُ نَحن لَا نَتْرُك من هَذَا حرفا وَأَنت قلت أصف الرب تَعَالَى بِجِهَة الْعُلُوّ وأجوز الْإِشَارَة الحسية إِلَيْهِ فَأَيْنَ هَذَا فِي الْقُرْآن وأخبار الثِّقَات مَا أفدتنا فِي الْفتيا من ذَلِك شَيْئا
وَنقل عَن أبي عبيد الله الْقَاسِم بن سَلام رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ إِذا سئلنا عَن تَفْسِيرهَا لَا نفسرها وَأَنه قَالَ مَا أدركنا أحدا يُفَسِّرهَا
فَنَقُول لَهُ الْحَمد لله حصل الْمَقْصُود لَيْت شعري من فسر السَّمَاء وَالْعرش وَقَالَ مَعْنَاهُمَا جِهَة الْعُلُوّ وَمن ترك تفسيرهما وَأَمرهمَا كَمَا جَاءَا
ثمَّ نقل عَن ابْن الْمُبَارك رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ يعرف رَبنَا بِأَنَّهُ فَوق سمائه على عَرْشه بَائِن من خلقه وَلَا نقُول كَمَا تَقول الْجَهْمِية إِنَّه هَاهُنَا فِي الأَرْض
فَنَقُول لَهُ قد نَص عبد الله أَنه فَوق سمائه على عَرْشه فَهَل قَالَ عبد الله إِن السَّمَاء وَالْعرش وَاحِد وَهِي جِهَة الْعُلُوّ(9/76)
وَنقل عَن حَمَّاد بن زيد أَنه قَالَ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِية إِنَّمَا يحاولون أَن يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاء شَيْء
فَنَقُول لَهُ أَيْضا أَنْت قلت بمقالتهم فَإنَّك صرحت بِأَن السَّمَاء لَيْسَ هِيَ ذَاتهَا بل الْمَعْنى الَّذِي اشْتقت مِنْهُ وَهُوَ السمو وفسرته بِجِهَة الْعُلُوّ فَالْأولى لَك أَن تنعى على نَفسك مَا نعاه حَمَّاد على الْجَهْمِية
وَنقل عَن ابْن خُزَيْمَة أَن من لم يقل إِن الله فَوق سمواته على عَرْشه بَائِن من خلقه وَجب أَن يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا ضربت عُنُقه ثمَّ ألقِي على مزبلة لِئَلَّا يتَأَذَّى بِهِ أهل الْقبْلَة وَأهل الذِّمَّة
فَيُقَال لَهُ الْجَواب عَن مثل هَذَا قد تقدم على أَن ابْن خُزَيْمَة قد علم الْخَاص وَالْعَام حَدِيثه فِي العقائد وَالْكتاب الَّذِي صنفه فِي التَّشْبِيه وَسَماهُ بِالتَّوْحِيدِ ورد الْأَئِمَّة عَلَيْهِ أَكثر من أَن يذكر وَقَوْلهمْ فِيهِ مَا قَالَه هُوَ فِي غَيره مَعْرُوف
وَنقل عَن عباد الوَاسِطِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَعَاصِم بن عَليّ بن عَاصِم نَحوا مِمَّا نَقله عَن حَمَّاد وَقد بَيناهُ
ثمَّ ذكر بعد ذَلِك مَا صَحَّ عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَت زَيْنَب تفتخر على أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَقول زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فَوق سبع سموات
فَنَقُول لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث أَن زَيْنَب قَالَت إِن الله فَوق سبع سموات بل إِن تَزْوِيج الله إِيَّاهَا كَانَ من فَوق سبع سموات(9/77)
ثمَّ نقل عَن أبي سُلَيْمَان الْخطابِيّ مَا نَقله عَن عبد الْعَزِيز الْمَاجشون وَقد بَينا موافقتنا لَهُ ومخالفته لذَلِك
وَحَكَاهُ أَيْضا عَن الْخَطِيب وَأبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ وَيحيى بن عمار وَأبي إِسْمَاعِيل الْهَرَوِيّ وَأبي عُثْمَان الصَّابُونِي
وَحكى عَن أبي نعيم الْأَصْبَهَانِيّ أَن الْأَحَادِيث الثَّابِتَة فِي الاسْتوَاء يَقُولُونَ بهَا ويثبتونها من غير تكييف وَلَا تَمْثِيل وَلَا تَشْبِيه وَهُوَ مستو على عَرْشه فِي سمائه دون أرضه
وَحَكَاهُ عَن معمر الْأَصْبَهَانِيّ وَقد بَينا لَك غير مَا مرّة أَنه مُخَالف لهَذَا وَأَنه مَا قَالَ بِهِ طرفَة عين إِلَّا ونقضه لِأَن السَّمَاء عِنْده لَيست هِيَ الْمَعْرُوفَة وَأَن السَّمَاء وَالْعرش لَا معنى لَهما إِلَّا جِهَة الْعُلُوّ
وَحكى عَن عبد الْقَادِر الجيلي أَنه قَالَ الله بِجِهَة الْعُلُوّ مستو على عَرْشه
فليت شعري لم احْتج بِكَلَامِهِ وَترك مثل جَعْفَر الصَّادِق والشبلي والجنيد وَذي النُّون والمصري وجعفر بن نصير وأضرابهم رَضِي الله عَنْهُم
وَأما مَا حَكَاهُ عَن أبي عمر بن عبد الْبر فقد علم الْخَاص وَالْعَام مَذْهَب الرجل وَمُخَالفَة النَّاس لَهُ وَنَكِير الْمَالِكِيَّة عَلَيْهِ أَولا وآخرا مَشْهُور ومخالفته لإِمَام الْمغرب أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ مَعْرُوفَة حَتَّى إِن فضلاء الْمغرب يَقُولُونَ لم يكن أحد بالمغرب يرى هَذِه الْمقَالة غَيره وَغير ابْن أبي زيد على أَن الْعلمَاء مِنْهُم من قد اعتذر عَن ابْن أبي زيد بِمَا هُوَ مَوْجُود فِي كَلَام القَاضِي الْأَجَل أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب الْبَغْدَادِيّ الْمَالِكِي رَحمَه الله
ثمَّ إِنَّه قَالَ إِن الله فِي السَّمَاء على الْعَرْش من فَوق سبع سموات وَلم يعقل مَا معنى فِي السَّمَاء على الْعَرْش من فَوق سبع سموات(9/78)
ثمَّ إِن ابْن عبد الْبر مَا تَأَول هَذَا الْكَلَام وَلَا قَالَ كمقالة الْمُدَّعِي إِن المُرَاد بالعرش وَالسَّمَاء جِهَة الْعُلُوّ
ثمَّ نقل عَن الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله مَا لَا تعلق لَهُ بِالْمَسْأَلَة وَأعَاد كَلَام من سبق ذكره
ثمَّ ذكر بعد ذَلِك شَيخنَا أَبَا الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْأَشْعَرِيّ وَأَنه يَقُول الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى وَلَا نتقدم بَين يَدي الله تَعَالَى فِي القَوْل بل نقُول اسْتَوَى بِلَا كَيفَ
وَهَذَا الَّذِي نَقله عَن شَيخنَا هُوَ نحلتنا وعقيدتنا لَكِن نَقله لكَلَامه مَا أرَاهُ إِلَّا قصد الْإِيهَام أَن الشَّيْخ يَقُول بالجهة فَإِن كَانَ كَذَلِك فَلَقَد بَالغ فِي البهت
وَكَلَام الشَّيْخ فِي هَذَا أَنه قَالَ كَانَ وَلَا مَكَان فخلق الْعَرْش والكرسي فَلم يحْتَج إِلَى مَكَان وَهُوَ بعد خلق الْمَكَان كَمَا كَانَ قبل خلقه
وَكَلَامه وَكَلَام أَصْحَابه رَحِمهم الله يصعب حصره فِي إِبْطَالهَا
ثمَّ حكى ذَلِك عَن القَاضِي أبي بكر وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ
ثمَّ تمسك بِرَفْع الْأَيْدِي إِلَى السَّمَاء وَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لأجل أَن السَّمَاء منزل البركات والخيرات فَإِن الْأَنْوَار إِنَّمَا تنزل مِنْهَا والأمطار وَإِذا ألف الْإِنْسَان حُصُول الْخيرَات من جَانب مَال طبعه إِلَيْهِ فَهَذَا الْمَعْنى الَّذِي أوجب رفع الْأَيْدِي إِلَى السَّمَاء وَقَالَ الله تَعَالَى {وَفِي السَّمَاء رزقكم وَمَا توعدون}
ثمَّ إِن اكْتفى بِمثل هَذِه الدّلَالَة فِي مطَالب أصُول العقائد فَمَا يُؤمنهُ من(9/79)
مُدع يَقُول الله تعال فِي الْكَعْبَة لِأَن كل مصل يُوَجه وَجهه إِلَيْهَا وَيَقُول {وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض}
أَو يَقُول الله فِي الأَرْض فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {كلا لَا تطعه واسجد واقترب} والاقتراب بِالسُّجُود فِي الْمسَافَة إِنَّمَا هُوَ فِي الأَرْض
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أقرب مَا يكون العَبْد فِي سُجُوده)
ثمَّ ذكر بعد ذَلِك مَا أجبنا عَنهُ من حَدِيث الأوعال
وَذكر بعد ذَلِك مَا لَا تعلق لَهُ بالمسئلة وَأخذ يَقُول إِنَّه حكى عَن السّلف مثل مذْهبه وَإِلَى الْآن مَا حكى مذْهبه عَن أحد لَا من سلف وَلَا من خلف غير عبد الْقَادِر الجيلي وَفِي كَلَام ابْن عبد الْبر بعضه وَأما الْعشْرَة وَبَاقِي الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَمَا نبس عَنْهُم بِحرف
ثمَّ أَخذ بعد ذَلِك فِي مواعظ وأدعية لَا تعلق لَهَا بِهَذَا
ثمَّ أَخذ فِي سبّ أهل الْكَلَام ورجمهم وَمَا ضرّ الْقَمَر من نبحه
وَقد تبين بِمَا ذَكرْنَاهُ أَن هَذَا الحبر الْحجَّة يرْجم فتياه أَنه يَقُول مَا قَالَه الله وَرَسُوله وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَلم ينْقل مقَالَته عَن أحد من الصَّحَابَة
وَإِذا قد أَتَيْنَا على إِفْسَاد كَلَامه وإيضاح إيهامه وَإِزَالَة إبهامه وَنقض إبرامه وتنكيس أَعْلَامه فلنأخذ بعد هَذَا فِيمَا يتَعَلَّق بغرضنا وإيضاح نحلتنا فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
على سامع هَذِه الْآيَات وَالْأَخْبَار الْمُتَعَلّقَة بِالصِّفَاتِ مَا قدمْنَاهُ من الْوَظَائِف وَهِي التَّقْدِيس وَالْإِيمَان والتصديق وَالِاعْتِرَاف بِالْعَجزِ وَالسُّكُوت والإمساك عَن التَّصَرُّف فِي الْأَلْفَاظ الْوَارِدَة وكف الْبَاطِن عَن التفكر فِي ذَلِك واعتقاده أَن مَا خَفِي عَنهُ(9/80)
لم يخف عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عَن الصّديق وَلَا عَن أكَابِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
ولنأخذ الْآن فِي إبراز اللطائف من خفيات هَذِه الْوَظَائِف فَأَقُول وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان
أما التَّقْدِيس فَهُوَ أَن يعْتَقد فِي كل آيَة أَو خبر معنى يَلِيق بِجلَال الله تَعَالَى مِثَال ذَلِك إِذا سمع قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الله ينزل كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا) وَكَانَ النُّزُول يُطلق على مَا يفْتَقر إِلَى جسم عَال وجسم سافل وجسم منتقل من العالي إِلَى السافل والزوال انْتِقَال جسم من علو إِلَى سفل وَيُطلق على معنى آخر لَا يفْتَقر إِلَى انْتِقَال وَلَا حَرَكَة جسم كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأنزل لكم من الْأَنْعَام ثَمَانِيَة أَزوَاج} مَعَ أَن النعم لم تنزل من السَّمَاء بل هِيَ مخلوقة فِي الْأَرْحَام قطعا فالنزول لَهُ معنى غير حَرَكَة الْجِسْم لَا محَالة
وَفهم ذَلِك من قَول الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ دخلت مصر فَلم يفهموا كَلَامي فَنزلت ثمَّ نزلت ثمَّ نزلت
وَلم يرد حِينَئِذٍ الِانْتِقَال من علو إِلَى سفل
فليتحقق السَّامع أَن النُّزُول لَيْسَ بِالْمَعْنَى الأول فِي حق الله تَعَالَى فَإِن الْجِسْم على الله محَال
وَإِن كَانَ لَا يفهم من النُّزُول الِانْتِقَال فَيُقَال لَهُ من عجز عَن فهم نزُول الْبَعِير فَهُوَ عَن فهم نزُول الله عز وَجل أعجز
فَاعْلَم أَن لهَذَا معنى يَلِيق بجلاله
وَفِي كَلَام عبد الْعَزِيز الْمَاجشون السَّابِق إِلَى هَذَا مرامز
وَكَذَلِكَ لَفْظَة فَوق الْوَارِدَة فِي الْقُرْآن وَالْخَبَر فَليعلم أَن فَوق تَارَة تكون للجسمية وَتارَة للمرتبة كَمَا سبق فَليعلم أَن الجسمية على الله محَال
وَبعد ذَلِك إِن لَهُ معنى يَلِيق بجلاله تَعَالَى(9/81)
وَأما الْإِيمَان والتصديق بِهِ فَهُوَ أَن يعلم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَادِق فِي وصف الله تَعَالَى بذلك وَمَا قَالَه حق لَا ريب فِيهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ وَالْوَجْه الَّذِي قَالَه وَإِن كَانَ لَا يقف على حَقِيقَته وَلَا يتخبطه الشَّيْطَان فَيَقُول كَيفَ أصدق بِأَمْر جملي لَا أعرف عينه بل يخزي الشَّيْطَان وَيَقُول كَمَا إِذا أَخْبرنِي صَادِق أَن حَيَوَانا فِي دَار فقد أدْركْت وجوده وَإِن لم أعرف عينه فَكَذَلِك هَاهُنَا
ثمَّ ليعلم أَن سيد الرُّسُل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَالَ (لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك) وَقَالَ سيد الصديقين رَضِي الله عَنهُ الْعَجز عَن دَرك الْإِدْرَاك إِدْرَاك
وَأما الِاعْتِرَاف بِالْعَجزِ فَوَاجِب على كل من لَا يقف على حَقِيقَة هَذِه الْمعَانِي الْإِقْرَار بِالْعَجزِ فَإِن ادّعى الْمعرفَة فقد كلف وكل عَارِف وَإِن عرف فَمَا خَفِي عَلَيْهِ أَكثر
وَأما السُّكُوت فَوَاجِب على الْعَوام لِأَنَّهُ بالسؤال يتَعَرَّض لما لَا يطيقه فَهُوَ إِن سَأَلَ جَاهِلا زَاده جهلا وَإِن سَأَلَ عَالما لم يُمكن الْعَالم إفهامه كَمَا لَا يُمكن الْبَالِغ تَعْلِيم الطِّفْل لَذَّة الْجِمَاع وَكَذَلِكَ تَعْلِيمه مصلحَة الْبَيْت وتدبيره بل يفهمهُ مصْلحَته فِي خُرُوجه إِلَى الْمكتب
فالعامي إِذا سَأَلَ عَن مثل هَذَا يزْجر ويردع وَيُقَال لَهُ لَيْسَ هَذَا بعشك فادرجي
وَقد أَمر مَالك بِإِخْرَاج من سَأَلَهُ فَقَالَ مَا أَرَاك إِلَّا رجل سوء وعلاه الرحضاء وَكَذَلِكَ فعل عمر رَضِي الله عَنهُ بِكُل من سَأَلَ عَن الْآيَات المتشابهة وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(9/82)
(إِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بِكَثْرَة السُّؤَال)
وَورد الْأَمر بالإمساك عَن الْقدر فَكيف عَن الصِّفَات
وَأما الْإِمْسَاك عَن التَّصَرُّف فِي هَذِه الْأَخْبَار والآيات فَهُوَ أَن يَقُولهَا كَمَا قَالَهَا الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يتَصَرَّف فِيهَا بتفسير وَلَا تَأْوِيل وَلَا تصريف وَلَا تَفْرِيق وَلَا جمع
فَأَما التَّفْسِير فَلَا يُبدل لفظ لُغَة بِأُخْرَى فَإِنَّهُ قد لَا يكون قَائِما مقَامه فَرُبمَا كَانَت الْكَلِمَة تستعار فِي لُغَة دون لُغَة وَرُبمَا كَانَت مُشْتَركَة فِي لُغَة دون لُغَة وَحِينَئِذٍ يعظم الْخطب بترك الِاسْتِعَارَة وباعتقاد أَن أحد الْمَعْنيين هُوَ المُرَاد بالمشترك
وَأما التَّأْوِيل فَهُوَ أَن يصرف الظَّاهِر وَيتَعَلَّق بالمرجوح فَإِن كَانَ عاميا فقد خَاضَ بحرا لَا سَاحل لَهُ وَهُوَ غير سابح وَإِن كَانَ عَالما لم يجز لَهُ ذَلِك إِلَّا بشرائط التَّأْوِيل وَلَا يدْخل مَعَ الْعَاميّ فِيهِ لعجز الْعَاميّ عَن فهمه
وَأما كف بَاطِنه فلئلا يتوغل فِي شَيْء يكون كفرا وَلَا يتَمَكَّن من صرفه عَن نَفسه وَلَا يُمكن غَيره ذَلِك
وَأما اعْتِقَاده أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم ذَلِك فليعلمه وَلَا يقس نَفسه بِهِ وَلَا بِأَصْحَابِهِ وَلَا بأكابر الْعلمَاء فالقلوب معادن وجواهر
ثمَّ الْكَلَام بعد هَذَا فِي فصلين أَحدهمَا فِي تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن الْجِهَة فَنَقُول
الأول أَن الْقَوْم إِن بحثوا بالأخبار والْآثَار فقد عرفت مَا فِيهَا وَأَنَّهُمْ مَا ظفروا بصحابي وَلَا تَابِعِيّ يَقُول بمقالتهم على أَن الْحق فِي نفس الْأَمر أَن الرِّجَال تعرف بِالْحَقِّ وَلَا يعرف الْحق بِالرِّجَالِ وَقد روى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه عَن معَاذ رَضِي الله عَنهُ(9/83)
أَنه قَالَ اقْبَلُوا الْحق من كل مَا جَاءَ بِهِ وَإِن كَانَ كَافِرًا أَو قَالَ فَاجِرًا واحذروا زيغة الْحَكِيم قَالُوا كَيفَ نعلم أَن الْكَافِر يَقُول الْحق قَالَ إِن على الْحق نورا
وَلَقَد صدق رَضِي الله عَنهُ
وَلَو تطوقت قلادة التَّقْلِيد لم نَأْمَن أَن كَافِرًا يأتينا بِمن هُوَ مُعظم فِي مِلَّته وَيَقُول اعرفوا الْحق بِهَذَا
وَإِذا قد علمت أَن الْقَوْم لَا مستروح لَهُم فِي النَّقْل فَاعْلَم أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يُخَاطب إِلَّا أولى الْعُقُول والألباب والبصائر وَالْقُرْآن طافح بذلك وَالْعقل هُوَ الْمُعَرّف بِوُجُود الله تَعَالَى ووحدته ومبرهن رِسَالَة أنبيائه إِذْ لَا سَبِيل إِلَى معرفَة إِثْبَات ذَلِك بِالنَّقْلِ وَالشَّرْع قد عدل الْعقل وَقبل شَهَادَته وَاسْتدلَّ بِهِ فِي مَوَاضِع من كِتَابه كالاستدلال بالإنشاء على الْإِعَادَة وَقَوله تَعَالَى {وَضرب لنا مثلا وَنسي خلقه} وَلَقَد هدم الله تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَة مبَاحث الفلاسفة فِي إِنْكَار الْمعَاد الجسماني
وَاسْتدلَّ بِهِ على التَّوْحِيد فَقَالَ الله تَعَالَى {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا}
وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ مَعَه من إِلَه إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق ولعلا بَعضهم على بعض}
وَقَالَ تَعَالَى {أولم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض}
وَقَالَ تَعَالَى {انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض}(9/84)
وَقَالَ تَعَالَى {قل إِنَّمَا أعظكم بِوَاحِدَة أَن تقوموا لله مثنى وفرادى ثمَّ تَتَفَكَّرُوا}
وَقَالَ تَعَالَى {سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم}
فيا خيبة من رد شَاهدا قبله الله وَأسْقط دَلِيلا نَصبه الله
فهم يلغون مثل هَذَا ويرجعون إِلَى أَقْوَال مشايخهم الَّذين لَو سُئِلَ أحدهم عَن دينه لم يكن لَهُ قُوَّة على إثْبَاته وَإِذا ركض عَلَيْهِ فِي ميدان التَّحْقِيق جَاءَ سكيتا وَقَالَ سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فقلته
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي حَدِيث الْكُسُوف مَا يعرف بِهِ حَدِيث هَؤُلَاءِ فِي قُبُورهم
وَبعد ذَلِك يَقُول الْعقل الَّذِي هُوَ منَاط التَّكْلِيف وحاسب الله تَعَالَى النَّاس بِهِ وَقبل شَهَادَته ونصبه وَأثبت بِهِ أصُول دينه وَقد شهد بخبث هَذَا الْمَذْهَب وَفَسَاد هَذِه العقيدة وَإِنَّهَا آلت إِلَى وَصفه تَعَالَى بالنقائص تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا
وَقد نبهت مَشَايِخ الطَّرِيق على مَا شهد بِهِ الْعقل ونطق بِهِ الْقُرْآن بأسلوب فهمته الْخَاصَّة وَلم تنفر مِنْهُ الْعَامَّة
وَبَيَان ذَلِك بِوُجُوه
الْبُرْهَان الأول
وَهُوَ المقتبس من ذِي الْحسب الزكي وَالنّسب الْعلي سيد الْعلمَاء ووارث خير الْأَنْبِيَاء جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَو كَانَ الله فِي شَيْء لَكَانَ محصورا(9/85)
وَتَقْرِير هَذِه الدّلَالَة أَنه لَو كَانَ فِي جِهَة لَكَانَ مشارا إِلَيْهِ بِحَسب الْحس وهم يعلمُونَ ذَلِك ويحوزون الْإِشَارَة الحسية إِلَيْهِ
وَإِذا كَانَ فِي جِهَة مشارا إِلَيْهِ لزم تناهيه وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ فِي هَذِه الْجِهَة دون غَيرهَا فقد حصل فِيهَا دون غَيرهَا وَلَا معنى لتناهيه إِلَّا ذَلِك وكل متناه مُحدث لِأَن تَخْصِيصه بِهَذَا الْمِقْدَار دون سَائِر الْمَقَادِير لَا بُد لَهُ من مُخَصص
فقد ظهر بِهَذَا الْبُرْهَان الَّذِي يُبْدِهِ الْعُقُول أَن القَوْل بالجهة يُوجب كَون الْخَالِق مخلوقا والرب مربوبا وَأَن ذَاته متصرف فِيهَا وَتقبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا
الْبُرْهَان الثَّانِي
الْمُسْتَفَاد من كَلَام الشبلي رَضِي الله عَنهُ شيخ الطَّرِيق وَعلم التَّحْقِيق فِي قَوْله الرَّحْمَن لم يزل وَالْعرش مُحدث وَالْعرش بالرحمن اسْتَوَى
وَتَقْرِيره أَن الْجِهَة الَّتِي يخْتَص الله تَعَالَى بهَا على قَوْلهم تَعَالَى الله عَنْهَا وسموها الْعَرْش إِمَّا أَن تكون مَعْدُومَة أَو مَوْجُودَة وَالْقسم الأول محَال بالِاتِّفَاقِ
وَأَيْضًا فَإِنَّهَا تقبل الْإِشَارَة الحسية وَالْإِشَارَة الحسية إِلَى الْعَدَم محَال فَهِيَ مَوْجُودَة وَإِذا كَانَت مَوْجُودَة فَإِن كَانَت قديمَة مَعَ الله فقد وجد لنا قديم غير الله وَغير صِفَاته فَحِينَئِذٍ لَا يدرى أَيهمَا الأولة
وَهَذَا خبث هَذِه العقيدة
وَإِن كَانَت حَادِثَة فقد حدث التحيز بِاللَّه تَعَالَى فَيلْزم أَن يكون الله قَابلا لصفات نفسية حَادِثَة تَعَالَى الله عَن ذَلِك(9/86)
الْبُرْهَان الثَّالِث
الْمُسْتَفَاد من لِسَان الطَّرِيقَة وَعلم الْحَقِيقَة وطبيب الْقُلُوب وَالدَّلِيل على المحبوب أبي الْقَاسِم الْجُنَيْد رَضِي الله عَنهُ قَالَ مَتى يتَّصل من لَا شَبيه لَهُ وَلَا نَظِير بِمن لَهُ شَبيه وَنَظِير هَيْهَات هَيْهَات هَذَا ظن عَجِيب
وَتَقْرِير هَذَا الْبُرْهَان أَنه لَو كَانَ فِي جِهَة فإمَّا أَن يكون أكبر أَو مُسَاوِيا أَو أَصْغَر والحصر ضَرُورِيّ
فَإِن كَانَ أكبر كَانَ الْقدر الْمسَاوِي مِنْهُ للجهة مغايرا للقدر الْفَاضِل مِنْهُ فَيكون مركبا من الْأَجْزَاء والأبعاض وَذَلِكَ محَال لِأَن كل مركب فَهُوَ مفتقر إِلَى جزئه وجزؤه غَيره وكل مركب مفتقر إِلَى الْغَيْر وكل مفتقر إِلَى الْغَيْر لَا يكون إِلَهًا
وَإِن كَانَ مُسَاوِيا للجهة فِي الْمِقْدَار والجهة منقسمة لِإِمْكَان الْإِشَارَة الحسية إِلَى أبعاضها فالمساوي لَهَا فِي الْمِقْدَار منقسم
وَإِن كَانَ أَصْغَر مِنْهَا تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا فَإِن كَانَ مُسَاوِيا لجوهر فَرد فقد رَضوا لأَنْفُسِهِمْ بِأَن إلههم قدر جَوْهَر فَرد
وَهَذَا لَا يَقُوله عَاقل وَإِن كَانَ مَذْهَبهم لَا يَقُوله عَاقل لَكِن هَذَا فِي بادئ الرَّأْي يضْحك مِنْهُ جهلة الزنج
وَإِن كَانَ أكبر مِنْهُ انقسم فانظروا إِلَى هَذِه النحلة وَمَا قد لَزِمَهَا تَعَالَى الله عَنْهَا
الْبُرْهَان الرَّابِع
الْمُسْتَفَاد من جَعْفَر بن نصير رَحمَه الله وَهُوَ أَنه سُئِلَ عَن قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} فَقَالَ اسْتَوَى بِعِلْمِهِ بِكُل شَيْء فَلَيْسَ شَيْء أقرب إِلَيْهِ من شَيْء(9/87)
وَتَقْرِير هَذَا الْبُرْهَان أَن نِسْبَة الْجِهَات إِلَيْهِ على التَّسْوِيَة فَيمْتَنع أَن يكون فِي الْجِهَة
وَبَيَان أَن نسبتها إِلَيْهِ على التَّسْوِيَة أَنه قد ثَبت أَن الْجِهَة أَمر وجودي فَهِيَ إِن كَانَت قديمَة مَعَ الله لزم وجوده قديمين متميزين بذاتيهما لِأَنَّهُمَا إِن لم يتميزا بذاتيهما فالجهة هِيَ الله تَعَالَى وَالله هُوَ الْجِهَة تَعَالَى الله عَن ذَلِك
وَإِن لم تكن قديمَة فاختصاصه بهَا إِمَّا أَن يكون لِأَن ذَاته اقْتَضَت ذَلِك فَيلْزم كَون الذَّات فاعلة فِي الصِّفَات النفسية أَو غير ذاتية فنسبة الْجِهَات إِلَى ذَاته على التَّسْوِيَة فمرجح جِهَة على جِهَة أَو غير ذاتية فنسبة الْجِهَات إِلَى ذَاته على التَّسْوِيَة فمرجح جِهَة على جِهَة أَمر خَارج عَن ذَاته فَلَزِمَ افتقاره فِي اخْتِصَاصه بالجهة إِلَى غَيره والاختصاص بالجهة هُوَ عين التحيز والتحيز صفة قَائِمَة بِذَات المتحيز فَلَزِمَ افتقاره فِي صفة ذَاته إِلَى غَيره وَهُوَ على الله تَعَالَى محَال
ثمَّ اعْلَم أَن هَذِه الْبَرَاهِين الَّتِي سردناها وتلقيناها من مَشَايِخ الطَّرِيق فَإِنَّمَا استنبطوها من الْكتاب الْعَزِيز وَلَكِن لَيْسَ كل مَا فِي الْكتاب الْعَزِيز يعرفهُ كل أحد فَكل يغترف بِقدر إنائه وَمَا نقصت قَطْرَة من مَائه
وَلَقَد كَانَ السّلف يستنبطون مَا يَقع من الحروب وَالْغَلَبَة من الْكتاب الْعَزِيز وَلَقَد استنبط ابْن برجان رَحمَه الله من الْكتاب الْعَزِيز فتح الْقُدس على يَد صَلَاح الدّين فِي سنته واستنبط بعض الْمُتَأَخِّرين من سُورَة الرّوم إِشَارَة إِلَى حُدُوث مَا كَانَ بعد سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة وَلَقَد استنبط كَعْب الْأَحْبَار رَضِي الله عَنهُ من التَّوْرَاة أَن عبد الله بن قلَابَة يدْخل إرم ذَات الْعِمَاد وَلَا يدخلهَا غَيره وَكَانَ يستنبط مِنْهَا مَا يجْرِي من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَمَا يلاقيه أجناد الشَّام وَذَلِكَ مَشْهُور(9/88)
وَالله تَعَالَى أنزل فِي كِتَابه مَا يفهم أحد الْخلق مِنْهُ الْكثير وَلَا يفهم الآخر من ذَلِك شَيْئا وَلَقَد تخْتَلف الْمَرَاتِب فِي استنباط الْأَحْكَام من كَلَام الْفُقَهَاء والمعاني من قصائد الشُّعَرَاء
فَأَما مَا ورد فِي الْكتاب الْعَزِيز مِمَّا يَنْفِي الْجِهَة فتعرفه الْخَاصَّة وَلَا تشمئز مِنْهُ الْعَامَّة فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء} وَلَو حصرته جِهَة لَكَانَ مثلا للمحصور فِي ذَلِك الْبَعْض
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {هَل تعلم لَهُ سميا} قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ هَل تعلم لَهُ مثلا وَيفهم ذَلِك من {القيوم} وَبِنَاء الْمُبَالغَة فِي أَنه قَائِم بِنَفسِهِ وَمَا سواهُ قَائِم بِهِ فَلَو قَامَ بالجهة لقام بِهِ غَيره
وَيفهم من قَوْله تَعَالَى {المصور} لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِي جِهَة لتصور فإمَّا أَن يصور نَفسه أَو يصوره غَيره وَكِلَاهُمَا محَال
وَيفهم من قَوْله تَعَالَى {وَيحمل عرش رَبك فَوْقهم يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَة} وَلَو كَانَ على الْعَرْش حَقِيقَة لَكَانَ مَحْمُولا
وَيفهم من قَوْله تَعَالَى {كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه} وَالْعرش شَيْء يهْلك فَلَو كَانَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا فِي جِهَة ثمَّ صَار فِي جِهَة ثمَّ صَار لَا فِي جِهَة لوجد التَّغَيُّر وَهُوَ على الله محَال(9/89)
وَالْمُدَّعِي لما علم أَن الْقُرْآن طافح بِهَذِهِ الْأَشْيَاء وَبِهَذَا الإشارات قَالَ هَذِه الْأَشْيَاء دلالتها كالإلغاز
أَو مَا علم الْمَغْرُور أَن أسرار العقائد الَّتِي لَا تحملهَا عقول الْعَوام لَا تَأتي إِلَّا كَذَلِك وَأَيْنَ فِي الْقُرْآن مَا يَنْفِي الجسمية إِلَّا على سَبِيل الإلغاز وَهل تفتخر الأذهان إِلَّا فِي استنباط الخفيات كاستنباط الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ الْإِجْمَاع من قَوْله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} وكاستنباط الْقيَاس من قَوْله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وكما استنبط الشَّافِعِي خِيَار الْمجْلس من نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن البيع على بيع أَخِيه
وزبدة الْمَسْأَلَة أَن العقائد لم يُكَلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجُمْهُور مِنْهَا إِلَّا بِلَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله كَمَا أجَاب مَالك الشَّافِعِي رَضِي الله عَنْهُمَا ووكل الْبَاقِي إِلَى الله وَمَا سمع مِنْهُ وَلَا عَن أَصْحَابه فِيهَا شَيْء إِلَّا كَلِمَات معدودات فَهَذَا الَّذِي يخفى مثله ويلغز فِي إفادته
الْفَصْل الثَّانِي
فِي إبِْطَال مَا موه بِهِ الْمُدَّعِي من أَن الْقُرْآن وَالْخَبَر اشتملا على مَا يُوهم ظَاهره مَا يتنزه الله تَعَالَى عَنهُ على قَول الْمُتَكَلِّمين فَنَقُول
قَالَ الله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أنزل عَلَيْك الْكتاب مِنْهُ آيَات محكمات هن أم الْكتاب وَأخر متشابهات فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ} الْآيَة
دلّت هَذِه الْآيَة على أَن من الْقُرْآن محكما وَمِنْه متشابها والمتشابه قد أَمر العَبْد برد تَأْوِيله إِلَى الله وَإِلَى الراسخين فِي الْعلم فَنَقُول بعد ذَلِك إِنَّمَا لم تأت النُّبُوَّة بِالنَّصِّ ظَاهرا على المتشابهة(9/90)
لِأَن جلّ مَقْصُود النُّبُوَّة هِدَايَة عُمُوم النَّاس فَلَمَّا كَانَ الْأَكْثَر محكما وألجمت الْعَامَّة عَن الْخَوْض فِي الْمُتَشَابه حصل الْمَقْصُود لَوْلَا أَن يقيض الله تَعَالَى لَهُم شَيْطَانا يستهويهم ويهلكهم وَلَو أظهر الْمُتَشَابه لضعفت عقول الْعَالم عَن إِدْرَاكه
ثمَّ من فَوَائِد الْمُتَشَابه رفْعَة مَرَاتِب الْعلمَاء بَعضهم على بعض كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَفَوق كل ذِي علم عليم} وَتَحْصِيل زِيَادَة الأجور بالسعي فِي تفهمها وتفهيمها وتعلمها وتعليهما
وَأَيْضًا لَو كَانَ وَاضحا جليا مفهوما بِذَاتِهِ لما تعلم النَّاس سَائِر الْعُلُوم بل هجرت بِالْكُلِّيَّةِ ووضح الْكتاب بِذَاتِهِ وَلما احْتِيجَ إِلَى علم من الْعُلُوم الْمعينَة على فهم كَلَامه تَعَالَى ثمَّ خُوطِبَ فِي الْمُتَشَابه بِمَا هُوَ عَظِيم بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم وَإِن كَانَ الْأَمر أعظم مِنْهُ كَمَا نبه عَلَيْهِ عبد الْعَزِيز الْمَاجشون فِي القبضة وكما قَالَ تَعَالَى فِي نعيم أهل الْجنَّة {فِي سدر مخضود وطلح منضود وظل مَمْدُود وَمَاء مسكوب} الْآيَة
فَهَذَا عَظِيم عِنْدهم وَإِن كَانَ فِي الْجنَّة مَا هُوَ أعظم مِنْهُ كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِكَايَة على الله عز وَجل (أَعدَدْت لعبادي الصَّالِحين مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر)
نسْأَل الله الْعَظِيم أَن يَجْعَل فِيهَا قرارنا وَأَن ينور بصيرتنا وأبصارنا وَأَن يَجْعَل ذَلِك لوجهه الْكَرِيم بمنه وَكَرمه
وَنحن نَنْتَظِر مَا يرد من تمويهه وفساده لنبين مدارج زيغه وعناده ونجاهد فِي الله حق جهاده وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين(9/91)
1303 - مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن حيدرة شَيخنَا فِي صَحِيح مُسلم القَاضِي شمس الدّين أَبُو الْمَعَالِي ابْن القماح
صَاحب المجاميع المفيدة
مولده سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة
وَسمع من إِبْرَاهِيم بن عمر بن مُضر وَإِسْمَاعِيل بن عبد الْقوي بن عزون والنجيب عبد اللَّطِيف والعز عبد الْعَزِيز ابنى عبد الْمُنعم الْحَرَّانِي وَابْن خطيب المزة وَغَيرهم
وَكَانَ ذكي القريحة قوي الحافظة حَافِظًا لكثير من الْفِقْه حسن الْحِفْظ لِلْقُرْآنِ كثير التِّلَاوَة
وَحكم بِالْقَاهِرَةِ مُدَّة نِيَابَة
توفّي فِي ربيع الأول سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة بِالْقَاهِرَةِ
ووالده الشَّيْخ علم الدّين أَحْمد بن إِبْرَاهِيم كَانَ أَيْضا من أهل الْعلم والديانة المتينة وَله النّظم البديع وامتحن مرّة بمحنة ذكر أَنه نظم فِيهَا أبياتا فِي لَيْلَة لم ينفلق فجرها إِلَّا وَقد فرج عَنهُ والأبيات(9/92)